المحرر موضوع: بين الحكومة والبرلمان ضاعت النزاهة  (زيارة 731 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 426
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

بين الحكومة والبرلمان ضاعت النزاهة
لويس إقليمس
بغداد، في 2 تموز 2019
تقاطع الرؤى والإرادة في معضلة كيفية التعامل مع ملف الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية ما بعد كارثة الغزو الأمريكي في 2003، وكذا في مسألة إيجاد أفضل السبل وأسهلها وأقلّها خسارة وإثارة للحساسيات بين الأحزاب والكتل المتسلطة على الحكم، قد وضعت الحكومة الحالية في مأزق كبير، بل في حيرة إزاء كيفية الالتزام بما تعهدت به للشعب. والموضوع بلا شك، له إشكالياتُه وحيثياتُه وتوقيتاتُه بحسب ما مخطَّط له مِن قبل مَن يديرون دفة العراق من خارج الأسوار. أمّا القائمون على حكم البلاد في الظاهر، فليسوا كما يبدو من واقع الحال سوى أدوات لتنفيذ إرادات وتسيير معاملات وتسهيل سرقات البلاد والسماح بإحداث تغييرات دراماتيكية في جغرافية البلاد وديمغرافيتها وفي مواقع وأمكنة ومناطق منتخبة سواء في العاصمة بغداد أم في مناطق ومدن طالها الإرهاب والتدمير والتخريب بهدف إعادة تشكيلها وفق تلك الإرادات والأهداف والسياسات.
في الواقع، إنّ توالي الحكومات المذهبية المتلاحقة منذ سقوط نظام البعث على أيدي الغزاة الأمريكان وأعوانه وأذياله وأدواته بالطريقة المخزية التي شهدها العالم، لم تسعى بصدق وحرص للتأسيس لوطن حرّ ومستقلّ في قراره، وطن له مقوّمات دولة محترمة تقدّس المعايير الدولية في التعامل مع شؤون البلاد وحفظ كرامتها وكرامة شعبها وصيانة النظام الديمقراطي المستورد على الطريقة الأمريكية -الغربية. بل نستطيع القول إن الحكومات السابقة لم تكن لها الإرادة الصادقة والوعي التام للقيام بتلك المهمّة الوطنية أصلاً. والسبب واضح وهو فقدان سمة الولاء لشيء اسمُه الوطن. فالوطن وما فيه وما عليه من حجر وبشر وماء وهواء صارَ، بل تُرك رهنًا لإرادة الجارة إيران وسياساتها الانتقامية التاريخية المتأصلة ضدّ العراق وأهله. وهذا هو التاريخ عينه ينطق بما تشهد عليه أعينُنا وما تسمعه آذانُنا، ولا حاجة للتعب في التحليل والبحث والدراسة والسؤال.
بالعودة إلى موضوع النزاهة ومحاربة الفساد والفاسدين، فإنّ واقع الحال يشير إلى تعمّق الظاهرة "الآفة" أكثر، وإلى استفحالها بحيث أصبحت خارج نطاق السيطرة كالسرطان الخبيث الذي سرى في جسم أجهزة الدولة والعامة على السواء، ليس على عهد الحكومة الحالية فحسب، بل في الحكومات التي سبقتها وكانت السبب في استشرائها واستفحالها. وهذا ما تؤكده المحاولات الخائبة للحكومة الحالية المدّعية القبض على مفاتيح مافيات الفساد من دون أن تقدّم علامات ملموسة عن كيفية محاربة زعامات هذه الآفة المتأصلة في بنية مؤسسات الدولة على أيدي الأحزاب المتسلطة على هذه المفاتيح التي تدرّ عسلاً وذهبًا وتتنافس في كسب وتكديس المزيد من الأموال المسروقة والعقارات المنهوبة بشتى الطرق والوسائل. أمّا ما يجري من علاجات ترقيعية خجولة، فهذه لا تقدّم سوى جرعات من المهدّئات لإسكات صوت الشعب وتخفيف حدّة الغضب وبهدف الاستعراض الإعلامي والسياسيّ وليس من ورائها سوى ذلك.   
لا أحد يخفى عن باله حدّة التصريحات النارية الصاعقة لرئيس الحكومة السابق الذي لم تتوقف تهديداتُه بالضرب بيد من حديد على رؤوس الفساد. وفي الواقع، كانت مجرّد فقّاعات للاستعراض السياسيّ الرخيص وتهدئة الشارع الغاضب وكسب المزيد من التأييد الشعبي لبرنامجه الضبابيّ الذي لم ينضج. وذات الشيء اليوم قريب من واقع الأمس. فرئيس الوزراء التوافقي الحالي لن يكون بمقدوره البتة إشاعة فضيلة النزاهة في صفوف حكومته ومؤسسات الدولة التي تنخرها متلازمةُ سرقة المال العام ومال الغير بأشكاله المتنوعة والذي يجري من دون وازع ضمير ولا شعور بمصلحة البلاد والشعب. فما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات المتلفزة ووسائل الإعلام كفيل بتأييد واقع اليوم من ضعف الأداء الحكومي وعدم قدرته على مواجهة حيتان الفساد، باختصار لكونهم جزء من تركيبة الحكومة وشبه الدولة القائمة بسلطاتها الأربع، التشريفية والحكومية والتشريعية والقضائية.
إنّ العتب كلّ العتب، يقع على عاتق رئيس الحكومة المعروف باتزانه وحكمته وخبرته بالاستفادة من سنيّ إقامته في دولة غربية. لكنه كما توقعنا منذ توليه السلطة كشخصية توافقية، فهو مكبَّل بالتزامات وشروط قطعها على نفسه لصالح كتل وأحزاب ساندت ترشيحه، وهي تضيّق عليه الخناق كلّما سعى لإعادة النظام واتخاذ قرارات وطنية تحدّ من مصالح هذه الأخيرة، ومنها ما يتعلّق بموضوعة قطع أيادي حيتان الفساد. وهذا ما دعاه لطلب السند والعون من المجلس الأعلى للفساد الذي أعاد تشكيله وأراد تفعيله. لكنّ المهمّة صعبة والطريق طويلة والأشواك والعوسج تفترش كلّ أرض البلاد وهي في تزايد كلّما وهنت إرادة الحكومة وأرخت الحبل وتغاضت عن مخالفات وجرائم وتجاوزات هنا وهناك.
والعتب الآخر يقع على عاتق أداء المؤسسة التشريعية المتصارعة التي أقلّ ما يُقالُ عنها في هذه المرحلة، أنها واقعة في حيص بيص بسبب إخفاقها في وضع حدود قاطعة ضدّ سياسة التوافق والمجاملة في اتخاذ القرارات وسنّ القوانين، والتي بانت واضحة منذ تشكيل الحكومة الحالية وفي عدم اكتمال نصابها بعد مضيّ أشهر على تشكيلها. ويأتي سكوتها عن سرقات وعمليات فساد متنوعة تجري في كلّ زاوية وكلّ منطقة وكلّ محافظة وكلّ دائرة من دون أن تقوى على صناعة تاريخ تشريعي مشرّف، بسبب تكبيلها هي الأخرى بسياسة التوافق والمحاصصة وتقاسم الأدوار والغنائم والمكاسب عبر المناصب التي تتصارع عليها. وهذا من الأسباب التي يقف حائلاً دون القدرة على وضع حدود للفساد وإيجاد حلول جادّة لأشكال التراخي القائم في الأداء الحكومي من حيث تطوير المراقبة الجادة وتحسين الخدمات العامة ولاسيّما باتخاذ قرارات صائبة وفورية في معالجة أزمة الكهرباء الأبدية بسبب غرق الوزارة المعنية في أروقة الدراسات والتحليلات والتخمينات بالرغم من قدرة الدولة على اتخاذ قرار مشابه لما أقدمت عليه مصر في توفير طاقات كبيرة في فترة قياسية. والعراق قادر على تنفيذ ذات السياسة وذات القرار بالاستفادة من زيادة أسعار النفط والفائض في الميزانية من الأموال المتحققة. لكنّ الصراع القائم حول منع تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه الصناعة كما يبدو، ليس بيد أهل الوطن، بل تتداخل فيه مصالح دول الجوار من أجل إبقاء الشعب حائرًا وباحثًا دائميًا عن الحاجة والفاقة ومستهلكًا مستميتًا في استيراد كلّ شيء كي لا تقوم له قومة الإنتاج والتصنيع والإبداع. وهذا يعني أنّ الكلّ مثل الكلّ مشارك أو موافق أو ساكت عن كشف الحقيقة بشأن ما يجري من خروقات وتجاوزات كي لا تفتح جهنّم نارها عليهم جميعًا. وحينها لات ساعة مندم! وحتى حينما تحفظت هذه المؤسسة "التحاصصيّة التعبانة" على المهام الموكلة لما سُمّي بالمجلس الأعلى لمكافحة الفساد، بسبب ادّعاء تداخلها مع مهام لجنة النزاهة البرلمانية والتجاوز على مهامها الأخيرة، فإنها لم تبدي ذلك الحرص والجدّية في التكاتف والتناسب والتعامل مع أداء هذا المجلس على أساس مصلحة الوطن العليا بالمضيّ في البرنامج الذي حُدّد له في مجلس الوزراء كفرصة أخرى للقضاء على آفة الفساد. وهذا ما فتح الأبواب لزيادة الشكوك وسط عامة الشعب من مغبّة تقاطع الأجهزة المتعددة التي تدّعي جميعًا مراقبة ومحاربة الفساد وحيتانه، فيما هذه الآفة تتنامى بشكل مستمرّ وتتسع مدياتُها. ويكفي ما نسمعه ونشاهده، وآخرها ما تحدثت به إحدى القنوات الفضائية وكشفها بالوثائق أشخاصًا يتقاضون أكثر من عشرين مرتبًا وبأشكال وصيغ متعددة، فيما أجهزة الدولة المالية صاغرة ولا تحرّك ساكنًا. 
لا شكّ أنّ مثل هذه التجاوزات والخروقات تساهم بشكل أو بآخر في إعاقة عمل الشرفاء من الوطنييّن المتبقين من أصحاب الضمائر الحيّة في أجهزة الدولة الوطنية من حيث البقاء على الحياد أو السكوت أو الخوف من كشف أعمال الفساد المتعددة القائمة. وهذا ممّا خلق هوة كبرى بين الدولة والشعب في مسألة تزايد فقدان مصداقية الحكومة المحصّصاتية الضعيفة القائمة منذ تشكيلها وعدم قدرتها على تنفيذ تعهداتها بتضييق الخناق على الفاعلين الأساسيين في مسألة الفساد ممّن هم ضمن تركيبة السلطة نفسها التي تدّعي مكافحة هذه الآفة. ولا أدري كيف يمكن تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود حينما يكون القاضي والجلاّد والمتهم جزءًا من تشكيلة السلطة ذاتها. لعمري، إنها لأحجية محيّرة حقًا!
لقد تعددت المسميات بوجه مكافحة الفساد وتنوعت لجانُه وتشكيلاتُه، فيما الفعل الحقيقي للأداء والتنفيذ شبه غائب. وإذْ يبدو قرار الاتهام أصعب بسبب تقاطع المصالح، يقف المتهم مهدّدًا بنسف العملية السياسية، ملوّحًا بحصانته ومذكٍّرًا بجهاديته ونضاله وفتاوى مَن يناصرُه. كان الله في عوننا جميعًا!