نحن لسنا أمام سقوط جدرا برلين ابدا، ولن نكون – رد على الأستاذ شوكت توسا
كتب الأستاذ شوكت توسا مقالا نقديا هادئا فيه يستفسر عن موقفي من الانتفاضة في بغداد والمحافظات الجنوبية ضد الطائفية والفساد في العراق (رابط 1).
وإذ أشكره على مقاله (رابط 1) أمل أن يتسع صدره وصدر قرائي الكرام لتوضيح موقفي وإبداء رأي حول ما أتى به الأخ توسا ردا على مقال لي تناول موضوعين مختلفين ولكنهما من وجهة نظري مترابطين (رابط 2).
وللعلم فإن مقال الأخ والصديق شوكت احتل الصدارة في واجهة الموقع هذا شأنه شأن خمس مقالات أخرى (رابط 3) التي أتت كرد مباشر او غير مباشر على مقالي (رابط 2) الذي بقي يتراوح في المنتدى ولم يمنح فرصة الظهور على الواجهة مع ما احتوته هذه المقالات من عشرات التعقيبات جلها هدفه الطعن والشخصنة وتجنب مناقشة النقاط والمحاور المثارة في المقال.
وردي هذا سيتناول محورا واحدا وهو المحور الذي جذب انتباه الأخ العزيز شوكت توسا، ويحتوي ثلاثة أجزاء: (1) توضيح موقفي ورأي من الانتفاضة، (2) لماذا لا يجوز مقارنة ما يحدث بسقوط جدار برلين، (3) خلاصة وتحليل.
أولا، موقفي من الانتفاضة أنا لم يكن ابدا قصدي التقليل من شأن الشباب المنتفض او الانتقاص من نهضتهم في الجزء الذي ورد في مقالي في الرابط 2 في أدناه (رابط 2). حاشى وألف حاشى. وإن فهم الأمر هكذا من قبل أي منتفض وقعت عيناه على مقالي وهو يثور في ساحات الشرف على الظلم والطغيان، الظلم الذي يعاني منه العراق والعراقيين أجمعين بسبب الطائفية المقيتة ونظام المحاصصة والعشائرية والتدخل الخارجي، فأنا أقدم اعتذاري وأطأطئ رأسي امام تضحياته.
قصدي كان أن الشيعة هم وقود هذه التظاهرة وهناك خلافات شيعية-شيعية حد السكين والله يستر "من تاليها" وصارت الأحداث تأخذ منحى دمويا مؤخرا حيث هناك تخريب متعمد (الله يعلم مصدره) للممتلكات الخاصة والعامة وترويع للسكان.
ومهما كان من أمر، وحتى هذه اللحظة، الانتفاضة وقودها الأساسي الشيعة ضد الشيعة ونطاقها المناطق ذات الأغلبية الشيعية حصرا، ولهذا لو غادر الشيعة الساحة لربما رجع كل شيء الى ما كان. هذا واقع لا نستطيع إخفائه بالغربال.
وهناك خشية كبيرة ان تنفلت الأمور من عقالها إن لم تكن قد انفلتت للتو في كثير من المناطق الشيعية في الجنوب.
وهناك استغلال واضح للمتظاهرين ومن قبل رجال الدين والمرجعيات ومن القوى التي تحاول الاستفادة القصوى من الفراغ الذي تركته وستتركه الفوضى في كثير من المناطق.
إيران استغلت الفراغ والفوضى التي رافقت الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. واليوم هناك قوى إقليمية تتربص الفرصة حاليا وتحاول اقتناصها والتغلغل من خلال الفراغ الذي يحدث حتى ولو على جثث العراقيين وخراب ما بقي من دارهم.
هناك تركيا، وهناك السعودية والإمارات وقطر وأمريكا وفرنسا وبريطانيا. بعضها متحالف وبعضها لا يكن ودا للأخر.
أخشى ان الوضع سيتحول الى ما شاهدناه ونشاهده في سوريا حيث الكل يقتل الكل او يعود الى ما كان عليه من فلتان أمني خطير قبل وبعد قدوم داعش. وهناك قوى كبرى ذات مصالح تدير من يدور في فلكها مثل الدمى. كلهم في سوريا ينادون بالمواطنة وإزالة الطائفية والدكتاتورية ولكنهم يقتلون الواحد الأخر مثل الذباب منذ عام 2011.
راقبوا المرجعيات الشيعية وتصريحاتها النارية وكيف أن الوضع صار من الخطورة في مكان حيث أن التفاهم والتقارب وحتى نوع من المساومة صار معدوما.
وأظن أن الشيعية في طريقهم الى ذبح بعضهم بعضا وبالجملة، كما فعل السنة من خلال تنظيماتهم التكفيرية التي ربما قتلت من السنة أكثر من قتلها للذين تراهم أعداء وكفرة وهراطقة ومن المذاهب والأديان الأخرى.
ولا يظن أي منا أن أصحاب المصالح في العراق من الدول الإقليمية وخارج الاقليم وعلى رأسها إيران ستنسحب بسلام وتترك العراق لشأنه. إيران إن بقي الحكم الحالي فيها ستؤجج الأمور وتحرك ميليشياتها المسلحة حتى أسنانها وستحصل مذابح رهيبة.
هناك طبقة مسحوقة كبيرة من الشيعة جرى تهميشها وبشكل بشع في السنين منذ الغزو الأمريكي وتعيش على الكفاف وتحت خط الكفاف، بينما النخبة أتخمت نفسها بالمال والقصور والرفاه على حسابها.
ليس هذا فقط لأن اضطهاد هذه الطبقة وصل الى القتل والذبح في الشهرين الأخرين ما ولد ردا ونقمة عشائرية تغذيه بعض المرجعيات ذات أتباع كثر وهي لا تكن أي ود لإيران.
والكل ينتظر المرجعية الرسمية في النجف. حتى رئيس الوزراء عبد المهدي سقط بتلميح من المرجعية. لم يقدم استقالته رغم الدم البريء الذي أريق وزهق مئات الأرواح البريئة الى يوم الجمعة الماضي بعد تلميح غير مباشر من المرجعية. ومطلب المرجعية مطابق لمطلب مقتدى الصدر الذي له أكبر كتلة برلمانية – أي أنه جزء من السلطة – ولكنه امتطى موجة المظاهرات ودخلها من أوسع الأبواب.
ومقتدى الصدر، شأنه شان أي مرجع او رجل دين او سياسي، يبدو أنه أجاد في ركوب الموجة، كما في كل مرة، حيث استثمر ويستثمر مطالب الناس المشروعة من اجل تحقيق مكاسب شخصية واقتصادية وسياسية، حتى وإن أتت على حساب الناس والوطن وإراقة دماء الأبرياء.
ووصل الأمر بالمرجعيات المعارضة وغيرها الى إرسال اشارات وكأنها هي التي تقود التظاهرات وتهدد وتنصح وتوجه ويبدو أن كلمتها مسموعة رغم أنها كانت ولا تزال جزء من الوضع القائم.
هل نأخذ التهديدات من بعض المرجعيات من أنها ستقلب الطاولة على رأس الكل حتى لو سالت الدماء الى الركب محمل الجد؟ نعم، لأنه فعلتها في السابق ولها أتباع بالملايين على استعداد لعمل أي شيء بمجرد إشارة منها.
لن أدخل في تفاصيل كثيرة أخرى، ولكن أؤكد أن ما طرحته في حينه والذي حث الأخ شوكت على كتابة مقاله كان تحليلا ووجهة نظر قد تصيب او تخطئ. والاعتذار في حينه من قبلي كان موجها الى أي من الشباب المنتفض حبا بالعراق كوطن وهوية ووطنية عابرة للمذاهب والأديان والأعراق إن قرأ مقالي وفهمه على أنني أقلل من شأن ما يقومون به.
وجزء من التحليل الذي قدمته في حينه حتى الآن صحيح وهو أن المناطق السنية الكردية والعربية لم تنتفض رغم أن الطائفية المقيتة متوافرة في المناطق السنية العربية والقبلية القاتلة التي هي أسوا من الطائفية تحكم المناطق الكردية التي الأوضاع فيها عدا شق الأمن لا تقل سوءا عن المناطق المنتفضة.
المصالح الإقليمية والدولية كبيرة في العراق ولن يترك لشأنه في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور وهناك استعداد للدول الخارجية وأذنابها في الداخل أن تدمر العراق حجرا حجرا ولا تتركه لغيرها او لنفسه.
ومن ثم، انت تحتاج الى طاقة جبارة لتغيير الواقع العراقي الطائفي والمذهبي والقبلي الذي استفحل وخرج مارده من قمقمه وهو جزء من الوضع العام في المنطقة ولا أظن هناك قوة تستطيع احتواء هذا المارد.
الصراع والحروب الطائفية مثل هذه عصفت بأوروبا وتركتها أرضا يبابا واستمرت قرونا.
قلبي مع الشباب ولكن كيف سننهي تأثير السيد الصرخي الحسني والسيد الصدر والسيد السيستاني والسيد والسيد فلان الفلاني والى أخره ... والمجموعات السنية الطائفية والمجموعات الكردية القبلية وغيرهم كثير الذين لهم مناصرين بالملايين ومستعدين للموت من أجل مرجعيتهم وشيوخهم ورؤساء قبائلهم ومذاهبمهم وميولهم ومن ثم منهم من هو إيراني الميل والأخر سعودي الميل والأخر تركي الهوى والأخر أمريكي الهوى والأخر امراتي الهوى والأخر قطري الهوى وهلم جرا؟
وهناك امتداد كبير حاليا للإخوان المسلمين لدى السنة وحزبهم ممثل بالبرلمان ولهم حجم كبير في المجموعة العربية السنية في البرلمان وتأثير الإخوان المسلمين صار محسوسا جدا في هذه المناطق بعد دحر داعش؟
والمد الإسلامي الإخواني له حضور في منطقة كردستان ولو بدرجة أقل من تواجده في المناطق العربية السنية، وكلنا نتذكر الأحداث المؤلمة في منطقة دهوك من حرق محلات واضطهاد لشعبنا وترويعه.
الحزب الإسلامي العراقي، الذي له كتلة برلمانية مؤثرة وحضور قوي في المناطق السنية هو امتداد للإخوان المسلمين. والكل يعلم الى أي مدى يمكن أن تذهب تركيا في حمايتهم او قطر في دعمهم ماديا دون حساب.
وهناك تنظيمات في المناطق السنية العربية والكردية وحتى بعض الوسط والجنوب ولاؤها للسعودية والإمارات وتتلقى دعما كبيرا من البلدين.
وماذا تفعل مع الميليشيات الكردية القبلية طلبانية كانت أو برزانية او صدرية او مع عصائب الحق أو حزب الله العراقي وغيرها كثير؟
نحن كثيرا من الأحيان ننطلق مع ميولنا وعواطفنا وذاتيتنا وتحزبنا ومحاباتنا، وهذا أمر بشري، ولكن هل تعلم عزيزي القارئ كم بيان نشرته منظمات حقوق الإنسان المستقلة تدين فيه السلطات الكردية لاضطهادها للأقليات ومنها شعبنا في مناطق سيطرتهم لا سيما في سهل نينوى؟
أظن أن العراق كوطن يسمو فوق الدين والمذهب والميل ويأخذ المواطنة كمعيار قد انتهى منذ أمد بعيد، والعراق الذي عرفناه كوطن يأوي الكل بغض النظر عن الدين والعرق والمذهب والميل أصبح في خبر كان.
ثانيا، جدار برلينوهنا وباختصار شديد أقول نحن لسنا أمام الربيع الذي قدم الى أوروبا الشرقية السوفيتية وسقوط جدار برلين الذي تحتفي الشعوب الأوروبية بذكراه الثلاثين في هذه الأيام.
شتان بين الأمرين.
في سقوط جدار برلين، كان ربيعا نسيمه عليل وكأنه المسك. غاب فيه الانتقام وركوب رجال الدين او الأحزاب الدينية او الطائفية او القبلية في هذه البلدان موجة التظاهرات.
وبقيت المؤسسات كما كانت. لم يحدث أي فراغ. وكانت هناك مصالحة وقبول للأخر والمؤسسات السوفيتية المحلية السابقة من جيش ومخابرات وأمن وغيرها اختضنها الشعب ووقفت مع النظم التي أعقبت النظم الشيوعية السابقة والنظم احتضنتها وقبلت بها وبدورها الأساسي في بناء الوطن من جديد.
في سقوط جدار برلين لم يكن هناك انتقام وفرق الموت والقتل على الهوية او الميل او المذهب او المحاباة او التحزب او الدين او غيره.
ولهذا كان الربيع ربيعا حقا، دون إراقة دماء او استغلال رجال الدين للوضع وصار التحول من وضع مقيت وسيء الى اخر حميد وحسن بشفافية ومصالحة وغفران وقبول الأخر.
ولكن مبدأ المصالحة والغفران وقبول الأخر لا ينطبق في العراق ولن ينطبق ليس في العراق لا بل في الشرق الأوسط برمته.
أنظر ما حدث ويحدث في مصر وكيف امتطى الإخوان المسلمين الموجة وثم عادت الأمور الى سابق عهدها لا بل أسوأ بكثير.
أنظر سوريا، أنظر ليبيا، أنظر اليمن، أنظر فلسطين، أنظر السودان، الجزائر، لبنان ... والحبل على الجرار.
أي تغيير للوضع الحالي في هذه المنطقة التي لا تؤمن بالمصالحة والغفران والتسامح يعقبه فراغ مرعب يؤدي الى وضع أسواء لأن المنطقة والشعوب تحكمها العقلية الطائفية والمذهبية والدينية والقبلية التي تأخذ الانتقام وليس الصلح نهجا ومنهجا.
وأنظر حالنا كشعب صغير مسكين مغلوب على أمره وكيف تتحكم فينا الطائفية والتسموية والمناطقية والمذهبية وكيف يتحكم فينا رجل دين ويأخذنا يمينا ثم يسارا ثم جنوبا وثم شرقا ...
وأنظر ما حدث بعد الغزو الأمريكي من فراغ قاتل حيث ما أن تسلمت الفرق العراقية المختلفة زمام الأمور حتى بدأ الكل يقتل الكل.
وأخير، هناك التباس وغموض وخوف وخشية من المستقبل. أي فراغ في العراق، والعراق على كف عفريت، سيؤدي الى مالا يحمد عقباه.
ثالثا، خلاصة وتحليلالتعاطف مع المظاهرات السلمية واجب ولكن هناك انقسام كبير في المقاربات. ولهذا، القول إن المسألة مسألة عفوية ومحلية بحتة وتمثل العراق برمته بعربه وكرده وسنته وشيعته وغيرهم من المكونات قد لا يعكس الواقع مهما كانت نياتنا سليمة.
ولهذا، لا أظن يجافي الحقيقة الذي يشير بصراحة الى التدخلات في العراق ومن ضمنها في التظاهرات، محلية كانت أم أجنبية.
هناك قوى وجهات مختلفة في العراق وخارجه لها وجهات مختلفة صاحبة مصلحة ومنافع في استخدام أي نشاط في العراق ومنها الاحتجاج الحالي لإحداث تغيير يصب في مصلحتها في نهاية المطاف ومصلحة سياساتها وليس مصلحة العراق والعراقيين.
وهنا تجدر الإشارة الى ان هناك من له علاقات جيدة جدا لا بل استراتيجية غير قابلة للمساومة وعلى الخصوص بين أطياف شيعية مؤثرة وبين إيران.
وكذلك هناك بين الحكم القبلي في كردستان العراق من له علاقات جيدة جدا واستراتيجية مع إيران.
وهناك من له علاقات استراتيجية وجيدة جدا مع أمريكا.
وهناك من له علاقات استراتيجية وجيدة جدا مع السعودية.
وهناك من له علاقات استراتيجية وجيدة جدا مع الإمارات.
وهناك من له علاقات جيدة جدا واستراتيجية مع تركيا وقطر.
ومن دون جهد استثنائي ومن خلال مراقبة عابرة على وسائل الإعلام التابعة لقطر والسعودية والإمارات وإيران وتركيا وأمريكا، لرأيت المقاربة الكبيرة التي أشرت إليها من خلال المواقف المختلفة التي تتبناها والتوصيفات ولأطر الخطابية لا بل اللغة حتى على مستوى المفردات البسيطة التي تستخدمها في توصيفها للمظاهرات.
والقراءة المتأنية تساعدنا على استخلاص بعض النتائج لهذا الحراك والمظاهرات.
فمن الشيعة مثلا من يرحب ومن يحذر ويهدد.
ومن العرب السنة وأحزابهم الطائفية، من لا يكترث او يتمنى الأسواء.
ومن الكرد وأحزابهم القبلية من يصطف في الجانب المعادي للتظاهرات وهناك الآن حديث حول حلف صدري-كردي وهناك خشية من أن أي تغيير قد يلغي ما يمنحهم إياه الدستور الحالي من امتيازات.
وهكذا، تطفو على السطح حاليا قراءات مختلفة للمشهد السياسي في وسط وجنوب العراق من دون أن يعني ذلك أن النتائج ستصب في نهاية المطاف في خانة ما يريده كل واحد منهم او كل واحد منا.
بيد أن القراءة التي أرجحها تقول إن الوضع اليوم في العراق شديد القتامة وأخشى أن البلد ذاهب نحو المجهول وأن كارثة رهيبة في انتظار وسط وجنوب العراق، وقد تلتهم بقية أجزائه او معظمها، والله أعلم.
++++++++++++
رابط 1
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,956576.0.htmlرباط 2
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,955587.0.htmlرابط 3
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,956083.0.htmlhttp://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,958475.0.htmlhttp://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,956151.0.htmlhttp://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,956576.0.htmlhttp://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,957480.0.html