ماذا يجري في صفوف الكلدان ومؤسستهم الكنسية في السويد؟ أسقف كلداني مع ستين شماسا يؤدون صلاة الرمش حسب الطقس الكلداني. مقررات لو طبقت لأحدثت نهضة كلدانية طال انتظارها. هل نحن في حلم؟
لم يكن يوم الخامس عشر من شباط، عام 2020، يوما عاديا في حياة الجالية الكلدانية في السويد وربما في حياة الكلدان في العالم.
فقد تقاطر عشرات الشمامسة والشماسات من أصقاع السويد الشاسعة الى مدينة لينشوبنك السويدية، المشهورة بصناعاتها العسكرية وجامعتها العريقة، كي يبحثوا مع أسقف كلداني شاب طموح سبل الحفاظ على لغة وتراث وطقس وهوية شعبهم وكنيستهم.
والابتسامة لا تفارق وجهه، استقبل المطران سعد سيروب شمامسته بمحبة فائقة وتواضع جم وهو ينتقل من مجموعة الى أخرى ويحيي الكل ويقبل ويحضن كل من يلتقي به.
ابتدأ الاجتماع العام للكهنة والشمامسة الكلدان بتناول فطور بسيط، عقبه محاضرة للقس بول ربان، تلتها فترة استراحة وغداء، وعقبتها فسحة وسيعة طرح فيها الشمامسة همومهم ومشاكلهم وأختتم اللقاء بصلاة الرمش حسب الطقس الكلداني والتي لم أحضر شخصيا مثيلا لها إلا في بغداد في العهد الزاهر للمرحوم البطريرك شيخو في كنيسة أم الأحزان وفي عهد البطريرك المرحوم بيداويذ في كنيسة أم المعونة أيضا في بغداد وقبلهما عندما كنت شابا يافعا في كنيسة المسكينّة في الموصل في مستهل السبعينيات من القرن المنصرم.
*****
وهذا اول اجتماع من نوعه في السويد وأوروبا تجتمع فيه نخبة من الكلدان وتدرس بجدية وعلمية ورصانة الوضع الراهن وتحاول اتخاذ بعض المقررات لكيفية المحافظة على اللغة والتراث والطقس والثقافة والفنون الكنسية الكلدانية في بلد تجتاحه الحداثة ويقبع في أعلى سلم الرقي والتمدن والحضارة والعلمانية.
بطبيعة الحال، وكما أشار القس بول ربان في محاضرته، نحن نبتعد عن الصواب في إطلاق توصيف "الشمامسة" على الحاضرين، لأن درجة الشماسية هي التي يرتقي إليها الشماس الإنجيلي فحسب في كنيسة المشرق الكلدانية الكاثوليكية ولم يكن بين الحاضرين أي شماس يحمل هذه الدرجة.
وأسهب القس ربان في شرحه لتاريخ الشماسية في كنيستنا المجيدة حتى العصر الحالي، الذي فيه أطلقت صفة "الشماس" على كل من يخدم الكنيسة قراءة وتلاوة عند تأدية الخدمة والصلوات والقداديس.
وشرح للحاضرين الريازة في كنيسة المشرق الكلدانية ودور المذبح والريازة الخاصة به ܩܲܢܟܹܐ والترتيلة او التراتيل الخاصة بهذه الخانة في ليتورجيتنا المشرقية الكلدانية.
وعرج على دور المنبر ܒܹܝܡ في الريازة والطقس وما يتبعه من تراتيل وصلوات. والقس ربان يعد واحدا من الكلدان القلائل الذين لهم إلمام كبير وتمكن كبير في لغتنا وأداء الخانات والمقامات والتراتيل الكلدانية؛ وجرى التطرق على هامش الاجتماع حول كيفية الاستفادة من خبرته وما يختزنه من معارف وحفظها من الضياع.
*****
وكانت الفقرة الأخيرة قبل صلاة الرمش بمثابة ندوة أو ورشة، فتح فيها الشمامسة قلوبهم أمام أسقفهم. لن تكفي سطور هذا المقال لإلقاء الضوء على ما جرى في هذه الندوة المهمة، ولكنني سأختصرها بسبع نقاط وأتبعها أحيانا بموقف علمي أكاديمي يمثل وجهة نظري:
أولا، لقد أثلج الأسقف قلوب الحاضرين عند تأكيده ان مسألة الحفاظ على اللغة التراث والطقس الكلداني، الذي يعكس الممارسة الإنجيلية ويعد بحق تعليما مسيحيا قد لا يفوقه أي تعليم اخر، صارت اليوم مهمة كل أسقف في الكنيسة الكلدانية الى أصغر شماس لا بل كل كلداني منتم لهذه الكنيسة المقدسة المجيدة.
ثانيا، حث الأسقف على تعليم اللغة والطقس والتراث الكنسي الكلداني وتدريسه لا سيما للشباب والجيل الثاني الذي يبدو حتى الآن عازفا عن التواصل مع الكنيسة ومتجنبا كل ما له صلة بلغته وتراثه وثقافته وهويته وفنونه الكنسية.
ثالثا، جرى نقاش مطول حول دور اللغة العربية والسويدية. لن أخوص في تفاصيل النقاش، بيد أنني أقول إن التشبث بالعربية او التحول الى السويدية سيعيدنا الى نقطة الصفر أي القعر او الحضيض الذي وصلناه بسبب الحملة او الهجمة التي شنها البعض في بداية الثمانينيات وفتحوا الأبواب على مصراعيها لتعريب الكنيسة ولغتها وتراثها وطقوسها وفنونها وريازتها. الخسارة كانت عظيمة ومؤلمة وأمل الا تتكرر ونحن في المهاجر. نعم هناك كلدان في صفوفنا قدموا من سوريا او تركيا وهم قد نسوا لغتهم وطقوسهم او غادروها لأسباب كثيرة. إن كانت المسألة تتعلق بالمتابعة واستيعاب الطقوس، فإن ذلك يسير جدا في عالمنا الرقمي اليوم وفي إمكان الكلدان المتضلعين تقديم حلول ناجعة والحفاظ على جواهر لغتنا وتراثنا وطقوسنا وفنونا وريازتنا الكنسية. والتحول الى السويدية خطر كبير قد يأتي على كل شيء. أولا، لن يكون هناك تواصل في المستقبل القريب بين الكلدان في السويد او أي بلد أخر. ثانيا، الكلدان كاثوليك وتحويل الطقس الى السويدية أخطر من التعريب الذي جرى في بداية الثمانينات في العراق، لأن أي عاقل لن يفضل تراتيل وطقوس مترجمة او مؤلفة حديثا على ما لدى الكنيسة اللاتينية السويدية الكاثوليكية. لماذا يذهب احفادنا الى كنيسة كلدانية جرى تعريبها او جرى تحويلها الى السويدية وهناك كنيسة كاثوليكية سويدية تنشد فيها روائع موزارت وبيتهوفن وشوبرت وغيرهم من عمالقة الموسيقى الغربية وهي منظمة طقسيا بشكل منقطع النظير؟ التحول الى العربية او السويدية على أي مستوى أراه انتحارا للتراث واللغة والثقافة والهوية الكلدانية للمؤسسة الكنسية وشعبها أيضا.
رابعا، جرى التطرق الى الحاضر والمستقبل. في الحقيقة الاجتماع هذا ادخل البهجة في قلبي، ولكن مع البهجة غامرني الحزن واليأس والخوف على المستقبل ليس البعيد بل القريب. أولا، كل الحاضرين هم من الجيل الأول، اي الذين قدموا الى السويد في العقود الثلاثة الماضية. هذا يعني أن الحاضرين من الجيل الأول فحسب. وهذا يعني أن المؤسسة الكنسية فشلت فشلا ذريعا في كسب الجيل الثاني وضمه الى صفوف الخدمة الكنسية. وهذا يعني أن الكهنة الكلدان الذين كانوا قبل هجمة التعريب في مستهل الثمانينيات من القرن المنصرم بمثابة مدارس متنقلة، لم يعد يمارسوا هذا الدور المهم.
خامسا، اتخذ المجتمعون مع أسقفهم الشاب قرارات مهمة ومنها التدريب وتعليم وتدريس اللغة والتراث والطقس الكلداني. امل الا نقع في فخ المؤتمرات الكلدانية العديدة التي نتخذ فيها قرارات تصل أحيانا حدّ القسم باسم الله والإنجيل وأمام المذبح والصليب ومن ثم وكأن شيئا لم يكن. أمل أن يهب الكل لهذه المهمة وأمل أن تلتزم كل خورنة لديها كاهن في تنشئة في اقل تقدير خمسة شمامسة او شماسات متضلعات بلغتنا وتراثنا وطقسنا وريازتنا وفنونا الكنسية في السنة الواحدة.
سادسا، آن الأوان ان تقوم المؤسسة الكنسية المتمثلة بالرئاسة والأساقفة برعاية واحتضان الكلدان المتضلعين بلغتهم وتراثهم وطقوسهم وفنونهم وريازتهم الكنسية وتقديمهم ومشاركتهم أداء الخدمة حسب طقسنا الكلداني المجيد. لا يجوز ان يغادر المثقفون الكلدان باحات كنائسهم بحثا عن نوافذ او أماكن أخرى حيث نرى هروبا صوب الفضاء الافتراضي مثلا بعد أن ضاق بهم فضائهم الكنسي. اليوم ترى من هم عمدة لغتنا وطقسنا وتراثنا ولغتنا وفنونا الكنسية وهم يؤدون دورهم في مواقع التواصل الاجتماعي، او ضمن مجموعات قد يبلغ اتباعها المئات وهم يلتقون في منصات مثل الفايبر او الواتس أب او الفايسبوك وغيره وهم ينشدون لكنيستهم المجيدة. أليس من الأولى ان تحضنهم وتحتضنهم رئاستها أولا وتقدمهم وترعاهم وتفتح باحات الكنائس لهم وبعدها الأساقفة؟ هذا ما تعهد لنا به أسقفنا الشاب في اول اجتماع من نوعه في أوروبا، وأنا على يقين أنه سيكون عند عهده.
سابعا، أمل إنشاء فرقة كلدانية كنسية على مستوى السويد وأوروبا نجمع فيها المواهب الكلدانية من موسيقيين ومنشدين لأداء الطقس الكلداني. وكذلك أمل أن يتم إنشاء موقع كلداني خاص باللغة والطقس والتراث الكلداني يكون بمثابة مركز تبوب فيه كل النشاطات الحالية وهي كثيرة ولكنها متشتتة. نحن في حاجة الى لجنة طقسية يديرها متضلعون بطقسنا وتراثنا ولغتنا على مستوى الكلدان في العالم. نحن مشتتون. أنظر على سبيل المثال وليس الحصر هناك موقع الشماس القدير النوفلي، وهناك موقع الشماس القدير غانم، والقس فادي ليون له أناشيده، والموسيقار رائد جورج له أناشيده، وليون برخو له أناشيد، وشمعون كوسا، والمطران أفرام بدي، والقس فارس توما، والقس يوحنا جولاغ، والشماس جورج وغيرهم كثير ... وكلنا نعيش عالما افتراضيا. الأساقفة من الأولى أن يحتضنوا هذه الكوكبة ويعيدوها الى باحات الكنائس. وما أحوجنا الى كورال رسولي (بطريركي) كلداني يكون بمثابة قائد الأوركسترا لكل الفرق الإنشادية الكنسية الكلدانية في العالم ويكون أكثر حرصا من كلها في التشبث بلغتنا وطقوسنا وتراثنا وفنونا وريازتنا الكنسية.
*****
وأخيرا، اختتم اللقاء بصلاة الرمش للسابوع السابع والثامن للدنح، وهو السابوع المزدوج الذي يسبق هذه السنة مقدم الصوم الكبير. كان رمشا مهيبا، مع أسقف أدى دوره بإتقان منقطع النظير لحنا ولفظا وأداء وشمامسة وشماسات أغلبهم متضلعون بلغتهم وطقسهم النبوي. مضى لي ستة عقود وانا في أحضان هذه الكنيسة المجيدة ومنذ نعومة أظفاري ولم أحضر صلاة رمش ليوم الأحد بهذه الأبهة والبهجة والأداء الرائع من الكل، ابتداء من الأسقف والكهنة وكل الحاضرين، إلا في العهد المجيد للمرحوم البطريرك شيخو. لأول مرة شعرت وكأنني أعيش الأيام الذهبية لكنيستي الكلدانية المجيدة. صلاة الرمش والصباح وكل الفقرات الأخرى من طقسنا البهي لا مثيل لها بمعانيها، بشعرها، بلغتها، بتعليمها، بألحانها، بموسيقاها. شكرا للأسقف الكلداني الشاب المليء حبا وأملا؛ وزادنا أملا عندما قال إنه يكاد يجزم إن الكل من الرئاسة والأساقفة والكهنة مصممون على الحفاظ على لغتنا وتراثنا وطقسنا وسيكلفون أنفسهم وسعها للحفاظ على هذا التراث الفريد من الضياع. أملنا أن نرى ذلك على أرض الواقع.
*****
ملاحظة: أرجو من الأخوة الذين حضروا هذا اللقاء المهيب تنزيل الصور التي التقطوها وعلى الخصوص مقاطع من صلاة الرمش حسب الطقس المشرقي للكنيسة الكلدانية كي يأخذ المقال مداه.