المحرر موضوع: بأنتظار الأبوذية  (زيارة 753 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل بولص آدم

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1185
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
بأنتظار الأبوذية
« في: 13:29 26/02/2020 »
بأنتظار الأبوذية
 
بولص آدم
 
 الليلة الوحيدة التي، لم يُغني فيها (دعَيّر) مُطرب أبو غريب الريفي، كانت بسبب موت طفله الوحيد. 
 بينما كانت الأم مُنهمكة بالبحث عن فأر عَصي، سقطَ حمَيِّد الذي كان يلعبُ أمامَ الدار في البالوعة.. 
ما بَكى دعَيّر..قالوا بأن قلبهُ تَحَجَر، هل هذامعقول؟   
 قالوا أيضا، بأنه سَيجُن إن لم يبكي، ففي عدم البكاء على فلذة الكبد، دودة تنهش الرأس.. عار، عارٌ أن لايبكي على حمَيّد.. 
 يَبدو أنهم أستُفِزوا أكثر، عندما ذكرَ بأنَّ البُكاء لن يُعيدُهُ حياً، وعندما حاولوا، وحاولوا أن يُعيدَ على مسامعهم أي أبوذية مَجَرّاوية حزينة، من تلك التي كان يُقَطّع قلوب المساجين بها، سكَتَ وخَرَس..
 وبعدَ بُرهة، قال:   
ـ قلبُ الأب يدمع وعينُ الُأم تبكي.   
ـ سجين مُتحمّس، قال هامساً: ماهذه التُرهات التي نسمع، أبٌ سَلَبَ الموتُ طفلُه بهذه القسوة، يبخَل بدَمعة؟! 
 في الزاوية المُقابلة، جَلَسَ دَحام، رأسهُ مُصلَع قليلا وجبهته مُحدَّبة، العينان كانتا، صغيرتين وغائرتين وماكرتين، يظهرُ أحيانا، حقد غريب وتوتر غير طبيعي في نظراته، مشغولاً بهرش رأسه، لاأكثر.
 إلا أن أبو محمد، كان بين الخمسين والستين من عُمره، ومن مسافة قريبة، يبدو من أهل الأحسان والخير. رَبَتَ على كتف دعَيّر وقَبَلَ رأسه ومَدَحَ صَبره وقوة الأيمان، أسمَعَهُ بأن ما يمنحهُ اللهُ لنا، حُر بأسترجاعه في أي وقت يَشاء. وقل للمحتشدين المُنتظرين سَكب الدموع:
ـ أُتركوه أرجوكُم حالياً، وقعت على رأسه مُصيبة.. النياحُ حرام. 
ـ آمنا بالله أخي، لكن البُكاء على الميت العزيز ضروري جداً. 
ـ سجين آخر: ساعدوه ياجماعة الخير، البُكاء يُريحه؟ 
أُحيطَ مُطربُنا المنكوب، بمجموعة سَدّت عليه كوة الهواء، وكانت الزنزانة ساخنة بكل شئ، لم يتبقَ لنا شئ نفعلهُ، سوى تَعذيبِ بعضنا البعض!الذبابُ يوخزُ بأقدامه الباردة رقابنا المُعرَقّة، وبدأ دعيّر أنينُه الا أنه لم يبكي..   
 مُنذُ اليوم الأول لم يغب عن ذهني، أننا تحت سطح القلق المُكَبّل لكل هواجسنا وفقاعاة من مشاعرنا تتصاعد لتنفجر عند المُلامسة بأي سبب، لكننا في الحقيقة خائفون من شئ ما دوماً، نُغَطي خوفَنا بالفضول السالب والغضب. 
  نعرفُ بأن التلفاز في أبو غريب هو للتواصُل من القاع الذي نحنُ فيه مع القائد العام للقوات المُسلحة! كانت فكرة ماكرة لتذكيرنا بأننا خُطاة يومياً.. 
  بيدَ أنَّ، عَرض فيلم (البطل) أثناء هذه اللحظات الجنائزية، مَنَحنا فرصة مُفترضة لملامسة الحُرية، بالتماهي مع ميلودراما حول مُلاكمً مُعتَزِل، مُصاب بمرض عضال، مُطَلَّق، يُقرر العودة الى حلبة الملاكمة للظفر بأي مَبلَغ يتركهُ لولده الصغير.   
 التلفازُ مُثبت بأحكام على جدار صَدر القسم 2، المُكَوّن من طابق أرضي وآخر علوي، حول باحة داخلية بيضوية، وتتوزع الزنازين على الطابقين، زنزانة المٌطرب الريفي كنت أعلى، ونحن نُشاهد الفيلم جالسين في الباحة الداخلية أسفَل، كُل شئ بما يَخُص الترقب كان على مايُرام، حتى مجئ، مُلا كم القسم 2، عْبَيّس، طويل القامة، مَرصوص العَضَل، تَميز بغلاظة عُنق وكَفين، الوشمُ علامتَهُ الفارقة، عقارب و قلوب مصابة بأسهُم وسلاسل، أسماء وتواريخ، كان الجزء العلوي منه، نَصّاً بيوغرافيا يُعبر عن تاريخ شخصي حافل، كَواهُ الوشم على جلده الأسمر، صوته، كان كشخيره عالياً دوماً، لم يَفلَح بفهم الترجمة أسفل الشاشة، يَسألُ في كل مَشهَدٍ عما يَدور، ثُم تخلى عن سماع الشروحات المُتحمّسة من كُل صوب.. عند صعود المُلاكمين في المَشهد الى الحلبة والطفلُ يترقبُ أباهُ، مُنتظراً لحظة الأنتصار.. سَقَطَ البطلُ على أرضية الحَلَبة بالضربة القاضية.. أرادَ مُلاكمنا عبَيّس الأنتقام له، وبدأ البحث عنه على الشاشة، كان المُلاكمُ المُنتصر خارج الكادر والطفلُ يحتضنُ أباهُ المُدمى على الأرض، صَرَخَ عبيس ملوحاً بالمُكعب البلاستيكي الذي كان جالساً عليه: 
 ـ أين أختفيت ياحقير، إظهر ثانية، سأُهَشِّمُ وجهك بقبضتي! 
 قَذَف ما بيده بقوة ليرتطم بالجدار أعلى الشاشة، وصار كالفَهَد المُحاصر في قفص وهو يرى فَريسة خارجه، ولولا أن التلفاز مُثبت على الجدار أعلى، لكان قد هشَّمَهُ، ثم تكورَ على نفسه مُستمراً بمتابعة هيجانية، أضحَكَت كُل الحَزانى على الطفل الراحل حميد.. 
 تجمع المُعزين حول رأس دعَيّر وكأنه في بئر، لم يكفوا عن شد العزم و ترديد الأدعية ورجاء الجنة للفقيد، الشباك الجالس تحته على السرير، يَطُل على قسم المُغلقة الخاصة، سبَقَ وأن تم سدُّه بالطابوق والسمنت، كُنا نَسمَعُ صُراخا طوال النهار في الجهة الأُخرى، ولم نكُن نعلَمُ بأن الشباك يَطلُّ على باحة تعذيب وفضائع.. 
 أصغرُ المسجونين رَحيم، تمكَنَ من زحزحة طابوقة، يسحبها بروية، فيرى المَخفي، وينقُلَ لنا بالبث الحي مايحدُث، كُل من تعرَّضَ لتعذيب سابق، لم يكُن يرغبُ بالسماع بتاتاَ، مُطالباً رَحيم بأعادة الطابوقة الى مكانها مع التحذير من العواقب.. رحيم تغيَّرَ كثيراً بعدَ ذلك، حكى لي كوابيسَ لم أكُن أتخيلها، أمسى لاينامُ الليلَ من أوجاع رأسه، زازته والدته في المواجهة، قال لها بأنه سينتحر! 
 أنتهى الفيلم بموت البطل وأصبح الطفلُ الباكي على جثة أبيه، رمز اليتيم المحروم في هذه الدُّنيا، فما كان من مُلاكمنا وهو يقارن هذا مع قصة حَميد، حتى هَرعَ راكضاً نحو زنزانتنا وأحتضن دعَيّر باكياً على هذين المُصابَين، يكتم أنفاس دعَيّر الذي تحولَ الى مَلجأ أحزان، بنشيجه الهستيري، وأَخيراً، بكى أبو حمَيّد والأبوذية تشتعل في فمه.. أراد أن يَفلُتَ من هذا الأحتضان العنيف، دَفَعَ المُلاكم عبَيّس بيد ويده الأخرى ضَربَت دون قصد طابوقة رَحيم، سقطَت في باحة الشنق الساكنة، تَدحرجَت بصدى مُضاعف، رُبما إستيقَظَ  الحرَسْ.
 
 
 


غير متصل وليد حنا بيداويد

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 3062
    • مشاهدة الملف الشخصي
رد: بأنتظار الأبوذية
« رد #1 في: 01:17 01/03/2020 »
الأخ بولص ادم المحترم
تحية

كنت قبل ان اصل الى صحراء الثقافة العربية التي هي مقبرة الثقافة العربية الدانمارك كنت حينها ابحث واطالع واكتب هذه الخواطر والقصص القصيرة
ماتت الثقافة والابداع فينا هنا
تحية