المحرر موضوع: من وحي عيد نوروز 2020 لا أحد يمكنه أن يحبس الربيع  (زيارة 629 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل المطران مار يوسف توما

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 86
    • مشاهدة الملف الشخصي

من وحي عيد نوروز 2020
لا أحد يمكنه أن يحبس الربيع
المطران يوسف توما
توقّف كل شيء في أنحاء كثيرة من العالم، كل شيء: المدارس، المسارح، العروض، الرياضة، الأسفار، التنزّه، المؤتمرات، كل المشاريع. تم إلغاء كل شيء لأنه ضرورة. تم إلغاء كل شيء ما عدا الربيع...
جاء الربيع هذه السنة ولم يغيّر عاداته. بل وصل كما هو مخطَط له. الربيع لا يحتاج إلى طائرة أو إلى سيارة باص. يحدث من تلقاء نفسه. يهبط دائما في الوقت المحدّد له، إنه الربيع الذي أطرب الشعراء والمغنين والراقصين. لكن الربيع هذه السنة لاحظ أنه لا يوجد أحد لتحيّتِه، ما عدا بعض شعلات النار على أسطح قليلة فقط. وجدها مسألة غريبة بعض الشيء. وقال في نفسه: يجب أن يكون هنالك شيء خطير، لعلهم زعلانين مني، هل لأني وصلتُ متأخراً؟ لا بد أنهم يكذبون. لا بد أن الشتاء حاول اقناعهم بذلك. أو أنهم متعبون. لعلهم نائمين إلى ساعة متأخرة...
يوم 21 آذار هو عيد الربيع منذ آلاف السنين. موعد يتم أمام خطوات أرجلنا، بل تحت أقدامنا على أرض تخضرّ وتتلوّن في أصغر الزهور والشقائق، حيثما نكون يطل من الشباك عادة، على استعداد ليأخذنا بين ذراعيه. لكن لا أحد يريد ذلك خوفا من "فايروس كورونا". بدأ القلق عليه، قال في نفسه: يجب أن يكون السبب المطر! الناس لا يحبّون المطر. هذا هو السبب بأن صديقي الخريف أقل شعبيّة مني لأنه يمطر ويعصِف. حلق الربيع عاليا ليتنزّه في السماء. وفكر: غدا سأجعلها مشمسة. سأجعله ربيعا جميلا لن يتمكنوا من مقاومته، وسيخرجون جميعًا!
في اليوم التالي كان الطقس جيدا. مرّ الربيع عبرَ المدينة وسأل: "لكن أين هم؟ أين هم؟ عادة، يكونون مزدحمين للغاية، سعداء برؤيتي يرقصون على أنغام الطبل والمزمار، حتى لو كان الجو لا يزال باردًا، آه لعله "برد العجوز"؟ يا ويلها مني، سوف أجبرها هي أيضا على الخروج في أول شعاع من شمس الصباح، سيخلع الجميع معاطفهم الثقيلة، ويخرجون في قمصان وتنانير لملء الطرقات. لكن ماذا يحدث؟ لا أحد في أي مكان بالرغم من الشمس؟ هذا مخيف. وبدأ الربيع يقلق بجدّ.
أخيرًا، رأى الربيع سيدة عجوز تخرج في شرفتها. ملفوفة بملابس ثقيلة. اقترب منها. تراجعت العجوز صائحة:
"لا تقترب مني، أيها الأحمق! ألا تعرف التعليمات؟".
- أي تعليمات؟
- يجب أن تكون بعيدا عني لمتر واحد على الأقل!
- لماذا؟ أأنت مريضة؟
- لا أعرف.
- هل تشعرين بشيء ما؟
- نعم.
- إذن دعيني أقبّلك!
- أبدًا! ومن أنتَ أولاً يا ...؟
- أنا الربيع! "
وهنا تمايل الربيع كالطفل الساذج. ثم أضاف:
"أنت تعرفيني بالتأكيد!".
- نعم اعرفك هذا أمر مؤكَد. لكن بصرف النظر عن ذلك، كنت أعرفك لفترة طويلة! فأنا عمري 80 ربيعًا، يا سيدي!
- إذن التقيتِ بي 80 مرة، ألم أوحِشَك؟ لماذا لا نتعانق!
- أنت حقاً عجيب، ألم تسمع الأخبار! هل أنت غريب عن عالمنا هل سقطتَ من السماء؟
- يمكنك قول ذلك، نعم هكذا الأمرُ.
- أليس لديك فيس بوك، أو انستغرام أو تويتر؟ ألا تعرف الانترنت؟
- كلا، لكن لدي الكثير من الطيور.
- ألم تخبرك الطيور أنه في جميع أنحاء العالم، هناك وباءٌ منتشر مخيف: "فايروس كورونا"؟ إنه خطير جدا. لذلك، كي لا نتناقله، ألغينا كل أشكال التجمّع. طلبوا منا البقاء في البيت كالحبس، وخاصة كبار السن مثلي.
- آه! لهذا السبب تبدو المدينة ميتة. ولم يستقبلني أحد عندما وصلت إلى هنا.
- نحن ما زلنا نحبُك، لكن يجب أن نبقى معزولين. لا شيء يجب أن ينتشر ولا شيء يجب أن يمسَك باليَد.
- الآن فهمتُ. أنا عادة عندما آتي إلى هنا، يخرج الجميع للقائي. إنها تشبه حمى المسلسلات، أيام زمان، حين كان الجميع يجلسون أمام أجهزة التلفاز ناسين الخروج والتمتع بقدومي.
- حمّى المسلسلات، انتهت منذ زمن طويل. أتذكرها كنا نعشقها فيحترق حتى الطبيخ، أما الآن لقد أصبحنا مُلقَحين جيدًا منها.
- آه! حسنًا... ولكنني، أتذكر منذ وقت ما، كان الكثير من الناس يحرقون الشعلة، النار الجديدة، نوروز، اليوم الجديد، ويتفاءلون بها.
- كان ذلك في الأعوام الماضية، كان الربيع بحق ربيعًا. يفرشون "الجودلية" وينصبون السماور، ويأكلون "العروق"... أما الآن فنحن في عام 2020، يا له من ربيع بائس!". وأخذت السيدة العجوز بالبكاء. أراد الربيع الاقتراب منها، لكنها أجفلت وابتعدت عنه، فسحب يده، وأضاف:
"لا تبكي سيدتي. انتِ بخير، لكن أليس لديك الحق على الأقل في الخروج قليلاً، والتجوّل؟"
- نعم نستطيع. لكن كلّ لوحده.
- أعدِك بأنك لن تكوني لوحدِك، سأكون أنا معك عندما تمشين. لن ترينَني ولن يراني أحد مَعك. لكنني سأكون هناك. في كل ورقة شجر، في كل عشب، في كل شعاع شمس، في كل سحابة بيضاء، في كل طائر يغنّي، في كل زهرة تتفتح. وعندما أغادر، سأقول لصديقي الصيف أن يرافقَكِ أيضًا. إنه دافئ جدا. سيكون كلُ شيء على ما يرام معه. يمكن لكلّ شيء أن يتوقَف باستثناء الحياة. الحياة لا تتوقّف. الحياة تستمر دائما. وعليكِ أن تفعلي كل جهدِك للتواصل مع الحياة. لذا أنصحك أن تفعلي ما أقوله لك، وسترين في العام المقبل سأكون هنا بالطبع على الموعد، وأنتِ أيضا ستكونين هنا وسوف نتمكنُ أن نتعانق ونلفَ الذراعين حول بعضنا.
ابتسمت السيدة ابتسامة خفيفة، وتركت شرفتها. ودخلت إلى غرفتها.
جلس الربيع في الحديقة لوحده. وهذا لم يحدث له من قبلُ قط، منذ انشاء العالم، ومنذ ظهر الانسان على وجه الأرض!
ستكون الأزمنة صعبة للكثيرين. لكن الربيع سيبقى.
ستكون الأوقات صعبة للعالم كله. لكن الربيع سيعود بالتأكيد وسيمسح كل الآثار السلبية...
كركوك 21 آذار 2020