المحرر موضوع: مرثيات في زمن كورونا  (زيارة 448 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 426
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مرثيات في زمن كورونا
« في: 13:10 13/04/2020 »
مرثيات في زمن كورونا
لويس إقليمس
بغداد، في 11 نيسان 2020

أفرزت جائحة كورونا عن وقائع لا تخلو من يقين بخصوص صانعيها ومنتجيها وناشريها عبر تسريبات أو تصريحات أو تطمينات بشأن أصلها وفصلها وطريقة االخروج منها بما خطّط له مَن سمح بهجماتها اللعينة على كلّ المستويات. وكانت لهذه الجائحة، طاعون العصر الجديد، آثارُها وتداعيتُها على صعيد الأوطان والشعوب في التأثير والتأثر بنتائجها ووقائعها. فقد تعثرت حركة البشر وتوقفت ماكنة الصناعة جزئيًا أو كليًا في بعض البلدان، وزادت من الأزمات الاقتصادية لبعض البلدان التي كانت تعاني أصلاً من أزمات داخلية ومن تراجع في اقتصادياتها. كما كان لانهيار أسعار النفط إلى أقلّ من نصف الأسعار عالميًا بسبب تراجع الطلب على مصادر الطاقة نتيجة لتوقف مصانع ومصافي ومعامل وحركة السير والنقل في العالم، ما أضاف أعباء ثقيلة أخرى على دول تعتمد في معيشتها على الدخل الريعي ببيع نفوطها المتداعية أصلاً. وكان من آثار هذه الجائحة، إعلان غير مرئي باحتمالية سقوط النظام العالمي الذي كانت تحركه قوة القطب الواحد، ما أنذر بصعود قوى طامحة أخرى لقيادة العالم وسط صراع وجوديّ لا يُؤتمن عليه إنسانيًا واجتماعيًا بعد أن ظلّ النظام السابق يهيمن على الساحة السياسية عقودًا من الزمن، لاسيّما بعد نتائج الحربين الكونيتين الأخيرتين.
مما يجدر الإشارة إليه، ذلك التأثير الكبير الذي يمكن أن يطرأ على العالم وبالذات بعض الدول والمناطق التي تعاني من مشاكل داخلية وأزمات في تركيبتها الديمغرافية والسياسية. فهناك إشارات واضحة لتقلّبات في سوق الاقتصاد العالمي، وقناعات بضرورة تغيير النظام الاقتصادي الراهن. وهناك مناطق مهمة من العالم مثل أوربا بأكملها، قد تعرّضت لهزّات سياسية واقتصادية لا تبشّر بالخير، بل هناك مَن يتنبّأ لها بالانحلال والتمزّق والتشرذم بسبب ما خلفته الجائحة من ضعف في التعاون والتضامن والتكاتف. ناهيك عن الأضرار الاجتماعية التي خلفتها هذه الأخيرة من نقص في الإنتاج وتهافت غير مبرّر على اقتاء السلع والمواد من قبل البشر، وكأنّ قيامة العالم حالّة قريبًا، و"يا روح ما بعدك روح"، كما يقول المثل. حتى إن البعض قد تخلّى عن إنسانيته بتخلّيه عن أحبة وقعوا ضحية الطاعون الجديد، فتركوهم إلى رحمة الله من دون وداع ولا حسرة ولا دموع. فيما أثارت هذه الجائحة شعورًا معاكسًا لدى البعض الآخر الذي رأى فيها دروسًا بليغة من السماء كي تعود النفوس إلى هداية الخالق والعقول ‘لى سواء السبيل وتتجه الأفكار والجهود العالمية نحو مزيد من التآزر والتعاضد لحماية المنظومة الإنسانية ونقاء الأرض والبيئة خدمة للصالح العام.
•   موت بلا وداع:
صعبٌ جدًّا أن تخسر أحباء، بالأمس كانوا من ندمائك وأمام ناظريك يمتعونك بالضحك ويسهلون لك الحياة من دون منّة أو ملل أو ضجر. وعندما هاجمتهم الجائحة الملعونة واستقرّوا في مشافٍ أو مراكز حجر ظالمة ومظلمة، لم يكن في يديك ما تستطيعه للنخفيف عنهم من هول الوحشة وآلام الليل والنهار والحرمان من مناجاتهم كأحبة والاستمتاع بالنظر إلى وجوههم الطيبة وأجسادهم النظرة. كلّ شيء انتهى بالنسبة لهؤلاء: لا أمل سواى برحمة السماء، ولا رجاء سوى بجهود أبطال الصحة العامة، ولا أماني سوى الطلب من رب السماء والأرض أن يشمل الباقين من الأحبة القريبين والبعيدين بعافية أصبحت مهددة في كلّ لحظة وكلّ خطوة وكلّ حركة. 
لقد لازم الجميع المنازل إلاّ السفهاء من الذين استخفوا بقدرة الجائحة على استئصالهم من عقر دارهم وتفنيد خرافات مَن شجّعهم وحضّهم على كسر الحجر بحجة قدرة القدسية الموهومة على التصدّي لأي مكروه أو مرضٍ أو وباء. وهذا جزءٌ من من جنون الأقدار وعسرة الإدراك ونقص الفكر والاستعياب بكون الجائحة لا تعرف أن تفرّق بين الغني والفقير، بين الرئيس المسؤول والعاطل المذلول، بين الدين والمذهب والمنصب وبين مَن لا دين له ولا عقيدة ولا إيمان. فجائحة كورونا طبقت العدالة الاشتراكية في ضربها أساطين الدول وشعوب الأمم وأراضي البلدان بالتساوي ومن دون محاباة. تلكم هي حياة الاشتراكية في الإصابة بالأوبئة. ومَن لا يعير للمعايير والمقاييس والإجراءات حسابًا، شملته اشتراكية الإصابة بالوباء من دون تمييز. أمّا المؤسف في كلّ هذا وذاك، ألاّ تستطيع مواساة المصاب عن قرب والنوح والبكاء لفقدانه، والأكثر أن تُحرم من وداع الأحبة والأعزاء. إلى رحمة الله. ما لنا فيهم سوى رحمة السماء وصلاة الغائب.   

•   قناعة من غير شكوك
الشكُّ يولد اليقين، واليقين يقود إلى القناعة، والقناعة كنزٌ لا يفنى. أمّا قناعة العالم في زمن الكورونا، فهي خضوع شعوبه وزعاماته ليقين شبه حاسمٍ بكون البلاء الأخير من صنع الإنسان. ومهما كانت اليد التي أتاحت الفرصة لهذا الوباء كي يأخذ دوره الشرير وسط الأمم والشعوب بفعل فاعل من لدن زعامات تتصارع لأجل سيادة العالم بشتى الوسائل والطرق والتحشيد لأعمال عدائية بإدخال منظومات تسليحية مستجدة في كلّ يوم إيغالاً منها بالرغبة بكسر شوكة دولٍ أخرى واستهدافًا لزعامات تُعدّ منافسة تقف في طريقها، إلاّ أن الشر يبقى شرًا وطريقُه للسيادة والزعامة قصيرٌ جدًا ولا يضاهي ما ينتظر أشرار العالم من عذاب جهنّم ونقمة الطيبين والصالحين المتبقين من أحباب الله في الأرض.
وكما يبدو للعالم أجمع، لم يتنبه البشر وزعماء الأرض بصورة أخصّ، لهول الكارثة التي لم يتحسبوا لها أوبالأحرى لم يترقبوها ولا تهيأوا لها لا من قيرب ولا من بعيد بالرغم من وجود تنبيهات لمتنبئين وأصحاب حدس ودراية بوقوع كارثة قد تأتي على الأخضر واليابس. فهذا بيل غيتس، واحد من أثرى أثرياء العالم، سبق له أن نبّه لشيء شبيه بكارثة فيروس كورونا من غير أن يسمّيه، وهو الملتزم بتمويل برامج إيجاد علاجات لأمراض وأوبئة وأمصال ولقاحات لصالح دول نامية وفقيرة. لقد نبّه هذا الرجل بحصول كارثة وطالب بالاستعداد لنتائجها الكارثية، وليس من مصدّق أو مقيِّمٍ لكلامه في حينها. وإن يكن ثمّة شيء من قناعة بكلامه، إلاّ أن انشغال زعامات العالم بأزمات سياسية واقتصادية ومحلية كانت لها الأولوية على كلّ شيء. ومن عقر هذه الانشغالات الجانبية جاءت الشكوك بكون الطاعون الجديد المستجدّ هو من صنع الإنسان، وايّ إنسان! إن لم يكن من جنس الإنسان الشرّير ذي القلب القاسي الذي لا يعرف الرحمة ولا يحسب حسابًا بشريًا ضعيفًا لعظمة خالق السماء والأرض والعناصر من دون منازع. فأينَ شوكتُكَ يا إنسان؟ وأين جبروتُكِ أيتها النفس البشرية الضعيفة من خليقة الله التي أراد لها أن تكون حسنة وتعمل الصلاح وتعيش في أجواء النعمة الالهية والرحمة السماوية من دون زوغان أو حيد عن طريق الحق والعدل الإلهي الذي خصّ الله به العالم وجعلَ خلائقَه من أفضل ما في الكون. أمّا تبادل التهم فيمن كان السبب في تصنيع الفيروس وانتشاره بقصد أو بغيره، فسيقول التاريخ قولتَه ولن يكون للبشر فيه سيطرة على المدّعي ولا على المدّعى عليه. وسنبقي ذلك لعدالة السماء وكلمة الحقيقة.

•   طقوس باكية وأعياد كئيبة

مرّت ايام الصوم الأربعيني بالنسبة للمسيحيين في العراق والعالم وسط حزن وغمّ وفاقة ولوعة لم يشهد لها التاريخ إلاّ نادرًا. وها هو العالم يستذكر في نيسان الجاري 2020 أعياد موسم الفصح بدءًا من أحد الشعانين ومرورًا بخميس الفصح والجمعة العظيمة وصولاً إلى عيد القيامة يوم الأحد 12 نيسان، فيما البشر محجورون في منازلهم من غير أن يشاركوا حسّيًا وجسديًا في احتفالات وطقوس اعتادوا عليها منذ نشأة الكنيسة، ولاسيّما المشرقية في بلاد الرافدين الغنية بإرثها الطقوسيّ الجميل والمشهود له عالميًا. فقد اضطرت غالبية الكنائس إلغاء طقوسها بهذه المناسبة ابتداءً من تاريخ مناشدة الإعلان الحكومي بموجب توصيات لجنة الأمر الديواني. فقد التزمت الكنائس بإلغاء الصلوات التقليدية لما تبقى من موسم رياضة درب الصليب أيام الجمع التي سبقت يوم خيمس ا موسم أعياد الفصح والقيامة. ومن الجميل أن يُصار إلى نقل بعضٍ من هذه الاحتفالات أو جميعها مباشرة عبر مواقع بعض الكنائس لتنتعش بها نفوس المؤمنين المتلهفين إليها من الذين اعتادوا إكثار الصلاة وطلب المغفرة والتقرّب من رب السماء ومن بعضهم البعض في مثل هذه المناسبات الدينية الجميلة.
سيغلق المسيحيون هذه الصفحة الحزينة من زمن الوباء بعد أن تركوا العذراء تنتحب لوحدها وتندب إبنها يسوع يوم الجمعة العظيمة وهو يُقاد من جنود سفهاء حرّكهم رؤساء الكهنة وطغمة الفريسيين من اليهود وأزلامهم الذين عادوا المسيح وأرادوا له أن يكون قائدًا زمنيًا يخلّصهم من شرّ السلطة الرومانية الجاثمة على صدورهم.  سيغلق المسيحيون في العراق، هذه الصفحة الكئيبة من تاريخ بلادهم وكلُّهم أملٌ بفتح صفحة لاحقة أكثر رخاء وأمنًا وطمأنينة لإخوتهم المسلمين من الذين ينتظرون بلهفة أيضًا قدوم شهر الخير والبركة، شهر الطاعة والغفران، شهر رمضان، ومن بعده عيد الفطر. ليس أجمل من أن يتمنى المسيحيون لغيرهم من شركاء الوطن غيرَ الفرج القريب من آثار طاعون العصر الجديد وابتعاده عن بيوتهم كي يمضوا الشهر الفضيل بين الأحبة والأصدقاء وفي الشوارع والأزقة وليس محجورين بين جدران المنازل وصبات الكونكريت التي تقطّع أوصال المناطق والجسور والأحياء وتمنع الاجتماع على موائد المحبة والرحمة. فطقوسنا أضحت باكية ومبكية وأعيادُنا كالحة ومظلمة وأبناؤُنا وأحفادُنا قد قتلهم الصبر الطويل وأعياهم الملل والضجر: فلا مدارس، ولا تسليات، ولا حدائق، ولا سفرات، ولا لقاءات، ولا مصافحات، ولا عناقات، ولا علاقات... كلُّها بدت ممنوعة ومحظورة إلى ما شاء القدر. عساه لن يطول الانتظار.
أمّا نحن، فلنا في قدرة السماء يقينٌ وإيمان وقناعة بانقشاع قريب للغيمة السوداء وعودة الاباء والأبناء والأحبة إلى الديار والمنازل الدافئة بعد ابتعاد مرغَم وعسرٍ مرير. فإنَّ بعد العسر يسرًا!