شاي أسود ثقيل
بولص آدم بعد ليلة كتَبَت الدبابات والصواريخ والمدافع صخبها العبثي، وأختلطت فيهاالدماء مع مياه الأمطار، و الدخاخين والأطيان التي تغطينا مع كل إرتدادٍ للسرفات في الأوحال، توقفت البنادق من تلقاء رحمتها المستحيلة محشوة بالطين الأحمر. وأنا أتقلبُ محموماً، لاأعرف، هل أُصِبتُ أم لم أُصَب في ذلك الوحل النافر من حولنا، بغريزة لم تَمُت، تفاديت السرفة القبيحة قرب رأسي قبل أن تطمهره تحتها، إنزلق السلاح من بين يَدَيَّ ودَفنَته السرفة، السفري والجعب، الزمزمية وقناع الوقاية، رميتها كُلَّها لتخفيف ثقلٍ لم أعد أحتمله، كان الموت عواء.
عند إستقبال ضياء الفجر الأول، بدأت تلك الظلمة المُندحرة تنكمش، غير أن غمامة صفراء تتقدم على كتف الريح لتمر فوق رؤوسنا، دمع حَليبي ينهمر و كُدتُ أختنق، عُدتُ الى الوراء وركضتُ ماأستطعت بأتجاه البصرة.. تمكنت من إمساك سلسلة مانع الصواعق خلف تانكر عسكري صغير تسحبه آلية قوية تشق طريقها بصعوبة ..
عند التوقف على مشارف بلدة أمامي، نزلت ببطء من على ظهر التانكر، وجثيتُ على رُكبي بُرهة كي أقدر على تكملة المسير..
سألتُ إحدى بائعات التمر على الرصيف عن إسم البلدة، فنظرت الي بإستغراب وقالت:
ـ الدير..
أكملتُ المسير وأنا أبحثُ عن مقهى أو باعة شاي الأرصفة، شاي أسود ثقيل، دواء علاج الصدمة! تَوَسَّلتُ امرأة تجلس على صفيحة وأمامها موقد نفطي صغير فوقه مقلات، تعرُضُ البيض المقلي، يتقافز حولها طفل وطفلة:
ـ هل بأمكاني ياخالة غسل وجهي بقليل من هذا الماء في الصفيحة؟
ـ ولكنه ماء نغسلُ فيه صحون البيض بعد أن ينتهي الجنود من الأكل..
رششت وجهي بماء كوبين معدنيين صدئين وأكملت المسير.. سمعت الطفلة تناديني ثُمَّ لحِقت بي، سألتني وهي تلفُّ أطراف جذيلة قصيرة بسبابتها:
ـ تسأل أُمي، لدينا بدلة عسكرية قديمة للبيع، هل تشتريها بدينار؟!
.. دخلت الى مقهى في سوق الدير، ماأن جلست، حتى فكرت بأنني بحاجة الى نقود، النقود مع أوراق أُخرى في كيس ملفوف، بحثتُ في جيوب بدلتي الخاكية الجديدة، وتذكرتُ بدلتي التي تركتها خلف نخلة ضخمة، نزعتها بأوحالها ورائحتها الكريهة هناك، عُدتُ إليها بأطمئنان من يعرف بأن هكذا مُخلفات لايهتم بها أحد..
وأنا جالس على كرسي خوص النخيل في المقهى المُسقف بالسعف، شعرتُ وكأنني في رحاب الجنة، قطعة تتمثل بهذا الكون العفيف بسلامه الأخاذ، مقهى على الشارع في ناحية الدير. أنا قريبُ من البصرة .. في البصرة ساحة سعد، وفي ساحة سعد نقليات تأخذنا الى بغداد. هكذا بدأتُ تنظيم وجهتي وأنا بأنتظار استكان شاي أسود ثقيل، أستجمع قواي و أصحح لنفسي، كل أوهام الخوف والموت في ظلمة الليلة المُندحرة وأيقنتُ بأنني فعلاً على قيد الحياة.. وأنا أرتشف السائل الدافئ السحري، مَرت حاملة دبابات لوح لي جندي جالس جنب السائق في الكابينة، ثمَّ، مَرَّ باص خِراف خشبي، كانت رؤوس الخراف خارجة من بين فتحات بين الألواح الخشبية.. يمتزج الثغاء بصوت الغناء الريفي و كُل أصوات المُنادات من كُلِّ الجهات.. نظرتُ الى الساعة اليدوية في معصمي، عقارب الساعة متوقفة، سُئِلتُ وأنا أبرُمُ الزُّنبرك:
ـ قُل لي يا أخ ، هل هُناك مُستشفى عسكري هُنا؟
ـ رُبما في البصرة، ليسَ هُنا.
كان جُنديا بملامح صبي قَلِق، مَدَّ إلي مضروف بُرتقالي كبير.. يحوي صورة شُعاعية، صدره مبقع ببقع بيضاء صغيرة.
ـ ياأخي، إذهب الى المستشفى العسكري، إبحث عنهُ..
ـ لكنني جوعان وليس لدي ولو درهم.
نبهتني رائحة اللحم المشوي، بأن هذا المقهى يبيعُ الكباب أيضاً
وبجوعه إستيقض لديَّ كُل الجوع المُحتمَل، نظرت خلفي وأمامي، أشمٌّ رائحة ذلك الكباب، لكنني لاأرى مصدره.
قال عامل المقهى:
ـ منقلة الفحم خلف المقهى، هل ترغبان تناول َنفري كباب؟
.. ونحن نضع صحنين على رُكبتينا ونلفُّ لفافة الخبز الحار الأسمر بأصابع الكباب والبصل الأخضر، تذكرتُ بأنني جُندي يتجول بعد معركة
كيفما أتفق، ليس لدي أي إجازة ( نموذج) ! عَلُقت اللقمة الكبيرة في البلعوم، بلعتها بصعوبة مُرتشفاً آخر قطرة شاي..
.. شكرني الجندي على دفعي ثمن وجبة الكباب الذي أعاد الطمأنينة على وجهه، عبثت يده بمسند كرسي الخوص وكسر بأصبعين عود صغير،جعل ينظف بين أسنانه بقايا اللحم وهو ينظر الي وأنا ساهمُ أفكِّرُ بكيفية تجاوز مفارز الأنضباط العسكري والسيطرات على طريق طويلة حتى بغداد..
ـ أستودعك الله (قال الجندي) ليس لدي ما أُجازيكَ به على الكباب والشاي أخي، لكن عندي نموذج إجازة فارغ، لو أردتَ يُمكنك الحصول عليه!