ألمَطْهَر الأرضي/كورونا مثالاً
د. صباح قيّاتوطئة:يتفق جميع المسيحيين على أننا لن نخطئ في السماء. الخطيئة والتمجيد النهائي غير متوافقين إطلاقاً. لذلك، بين خطيئة هذه الحياة وأمجاد السماء، يجب أن نكون طاهرين. بين الموت والمجد هناك تطهير.
وهكذا، يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية :
(Catechism of the Catholic Church 1030–1)
"إن كل من يموت في نعمة الله وصداقته، رغم كونه غير مكتمل الطهارة هو مضمون حقًا بخلاصه الأبدي؛ ولكن بعد أن يخضع للتطهير بعد الموت لتحقيق القداسة اللازمة لدخول فرح السماء. تعطي الكنيسة اسم "المطهر" لهذا التطهير النهائي للمختارين، والذي يختلف تمامًا عن عقاب الملعونين.
إن مفهوم التطهير بعد الموت من الخطيئة وعواقب الخطيئة مذكور أيضًا في العهد الجديد في مقاطع مثل 1 كورنثوس 3: 11-15 و متى 5: 25-26 ، 12: 31-32
لمحة تاريخية:كانت عقيدة المطهر، أو التطهير النهائي، جزءًا من الإيمان الحقيقي منذ ما قبل عصر المسيح. لقد آمن اليهود بذلك قبل مجيء المسيح، كما هو موضح في العهد القديم (2 ماك .12: 41-45) وكذلك في الأعمال اليهودية السابقة للمسيحية. يؤمن اليهود الأرثوذكس حتى يومنا هذا بالتطهير النهائي، وهم يصلون لأحد عشر شهرًا بعد وفاة أحد الأحباء صلاة الحداد من أجل تطهيره.
لطالما أعلن اليهود والكاثوليك والأرثوذكس الشرقيون تاريخًيا حقيقة التطهير النهائي. لم ينكر أحد هذه العقيدة حتى الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر. كما تظهر الاقتباسات من آباء الكنيسة الأوائل، أن المطهر كان جزءً من الإيمان المسيحي منذ البداية.
أكد البابا "غريغوريوس العظيم الذي شغل منصب البابا من سنة 590 – 604 م, وكما جاء في كتاب "تاريخ العقائد المسيحية", أن نار المطهر عقيدة لا تقبل الشك. وغالباً ما يدعى البابا "مخترع المطهر". أقرت الكنيسة الكاثوليكية في ما بعد تعليمها الرسمي عن المطهر في مجمع ليون عام 1274 م ومجمع فلورنسا عام 1439 م, ثم ثبتته في مجمع ترنت عام 1547 م.
عقيدة المطهر:نشر موقع البابا فرنسيس بتاريخ 11 تشرين الثاني 2014 مقالاً شاملاً عن عقيدة المطهر ولأهمية ما جاء فيه اقتبس بعض لمحاته.
https://popefrancis-ar.org/%D8%B9%D9%82%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%87%D8%B1/ المطهر هو مكان للالم والقصاص، حيث العدالة الإلهية تطهر الأنفس لتصبح مستعدة لدخول الملكوت، إنه مكان وسطي بين السماء حيث الفرح الأبدي، والجحيم حيث الالم الابدي، فهو قريب من الجحيم بآلامه المبرحة، وقريب من السماء بتقديس الأنفس المتألمة، إنه نار آكله، إنما مطهرة.
إنه عقيدة إيمانية (عقيدة يقرها المجمع التردنتيني 1820). وجوهر هذه العقيدة يتلخص بأمرين: إمكانية تكفير التائب عن خطاياه بعد هذه الحياة وفعالية صلاة الأحياء في خلاص الموتى المؤمنين.
إن غفران الخطيئة شيء، وعقاب الخطيئة شيء آخر، فغفران الخطايا لا يمنع من العقاب والتكفير عنها واشتراكنا في آلام المسيح وحيث نتألم معه نتمجد معه, رو 17:8
فالعقاب هو بمثابة تطهير للنفس، كما تطهر النار الحديد من الصدأ ليرجع إلى طبيعته الأولى، هذا العقاب يكون على قدر الخطيئة، يقول السيد المسيح «يكال لكم بما تكيلون» متى1:7
حيث الخطيئة هناك العقاب الّذي يرجع به الإنسان إلى طبيعته الأولى ويتمم الغفران. هذا العقاب الّذي هو بمثابة تكفير إن لم يكتمل في هذه الدنيا، لابد أن يكتمل في الآخرة أي في المطهر قبل الدخول إلى الحياة الأبدية.
ألمطهر الارضي للقديس باترك قد أكون محظوظاً وأنا أبحث في بواطن الكتب المتوفرة في مكتبتي عن معلومة تتلاءم مع العنوان الذي اخترته لمقالي. وبالفعل عثرت ما لم يكن بالحسبان في "كتاب المصدر الكاثوليكي باللغة الإنكليزية" عن "المطهر الأرضي للقديس باترك", وكما هو معروف بأن القديس باترك 385-461م هو شفيع آيرلندا, ويحتفل الإيرلنديون مع محبيهم في جميع انحاء العالم بيوم "القديس باترك" مرتدين الزي الاخضر المميز. ما جاء في إحدى صفحات الكتاب عن ذلك المطهر الأرضي:
يوجد كهف باسم "مطهر القديس باترك" في أيرلندا على جزيرة
Lough Derg, Country Donegal.
وفي العصور الوسطى كانت هناك كنيسة وكهف من صنع الإنسان على هذه الجزيرة والتي أصبحت مكانًا رائعًا للحج.
يقف وراء سمعة هذه الجزيرة الراهب الإنجليزي "هنري سالتري"، الذي كتب عن مغامرات وعقوبات "السير أوين"، أحد فرسان الملك "ستيفانز"، الذي نزل إلى مطهر الجزيرة الإيرلندية, مما أشاع أسطورة ألف سنة من مطهر القديس "باتريك", حيث تقول القصة أن المطهر الأرضي أنشأه القديس نفسه، وأن الرب منحه القدرة على رؤية عقاب الخطأة وإظهاره للآخرين، وبالتالي تعزيز تعليمه بالإستعانة بالقليل من الوسائل المرئية.
يقوم القديس "باترك" بإنزال الخطاة إلى هذا المطهر الأرضي لرؤية الألم والمعاناة التي تلمّ بالنفس في المطهر، وبالتالي يحذر من شر الخطيئة ومخاطر النزوع عن التوبة والصلاح. تتضمن تجربة القديس "باترك" خلوة الخاطئ لمدة ثلاثة أيام في المطهر مصحوبة بالصيام التام مع النوم على الأرض والمصالحة المقدسة.
هل جائحة كورونا هي المطهر الارضي للبشرية اليوم؟هنالك الكثير الكثير مما قيل وكُتب عن وباء أو جائحة كورونا. من وجهة نظري أنها عدالة خالق الكل من ناحية ورحمته من ناحية اخرى. إنها عدالة الرب لما آل إليه إنسان اليوم من معاصٍ وضلال, من استغلال وشذوذ, ومن كل ما هو بعيد عن المواهب والثمار التي حددت ورسمت طريق الفضيلة للإنسان عبر تاريخه الغابر والحاضر. ومن جهة ثانية إنها رحمة الرب ينذر بها عباده بالعودة إليه قبل أن يستفحل الطوفان ويغمر البشرية الفيروس اللعين كما غمرها طوفان نوح.
جائحة كورونا تمثل المطهر الارضي الذي يذكرنا بعدالة الرب للخطأة المختارين, ونحن جميعاً خطأة هذا الزمان, حيث القلق والرعب من المجهول, وحيث العزلة والإكتئاب. كما يذكرنا هذا المطهر الارضي برحمة الرب اللامتناهية بمنحه الفرصة لكل امرءٍ كي يستعيد مع ذاته شطط وبشاعة أفعاله وأقواله ويتوب متعذباً ليسير في الطريق الذي يصل به فرح الملكوت.
لقد أراني الله المطهر في أرض الأحياء, فكيف لي أن أنكر مطهره في الآخرة.