ما هي الامة؟
تعقيب منفصل على ترجمة الكاتب "بولص ادم"
عن " ارنست رينان"
د. عبدالله مرقس رابي
تحية في البدء اقدر الجهود التي يبذلها الكاتب المبدع " بولص ادم " في ترجمة مقالات فكرية للمفكرين لتكون بمتناول ايدينا لقرائتها ،واليوم قدم لنا ترجمة مقال المفكر الاجتماعي "ارنست رينان أو رينه " 1823- 1892 من الالمانية والى العربية "ما هي الامة" ليطلع القارىء عليها لاهمية محتواها الفكري الذي أثر في افكار العديد من علماء الاجتماع الحديثين بخصوص تحديد مفاهيم أشغلت المهتمين في عالم اليوم ،الاثنية والعرق والامة والقومية . وما ينطبق هنا على الامة فهو ينطبق على القومية والاثنية . بالاضافة الى انه موضوع يهم المتابعين والسياسيين من ابناء شعبنا الكلداني والاشوري والسرياني .وان كان قد مضى على المقال فترة طويلة الا كما ذكرت اثرت في افكار الاجتماعيين والانثروبولوجيين ومن بين الذين تاثروا عالم الاجتماع " روبرت برايم " الذي انطلقت من تعريفه لمصطلح الاثنية وتكوينها في دراسة اهم ما شغل سياسي ومفكري شعبنا فيه ولا يزال موضوع " التسمية القومية " اثناء تاليفي لكتابي الاخير " الكلدان والاشوريون والسريان وصراع التسمية،تحليل سوسيولوجي" في تطبيقه لدراسة التغير الحضاري لبلاد النهرين وما نتج عنه عبر العصور وصولا الى يومنا هذا .
االمفكر رينان توصل لتحديد مفهوم الامة من خلال دراسته للتطورات والاحداث التاريخية للحضارات الاوربية منذ القدم والى زمانه في القرن التاسع عشر ولخصه في مقالته هذه ،ان ما جرى من الاحداث قد يكون غريباً على القارىء غير الملم بالتاريخ الاوربي القديم وفي القرون الوسطى.الا انه يمكن الاستنتاج ما يخص فكره عن مفهوم الامة من متابعة المقال.ويمكن مقارنة ما جرى في التاريخ الحضاري لاوربا مع ما جرى في تاريخ الحضارات في بلاد النهرين على مر العصور.وهذه بعض الامثلة :
يؤكد : " ان تقسيم اوربا عميق جداً" وكذلك ما حدث في بلاد النهرين عميق جداً .
" الامم التي نفهمها هي شيء جديد الى حد ما في التاريخ لايعرفون العالم القديم" أي الامم الاوربية .من هم في بلاد النهرين اليوم بما فيهم الاشوريون والكلدان والسريان المعاصرين هم شيء جديد الى حد ما في التاريخ لا يعرفون العالم القديم " لا ياتي احد ويقول نقرأ تاريخ اجدادنا" المسالة اعمق وما يقصد رينان اعمق بكثير من قراءة الكتب التاريخية .المقصود هنا " روح العصر"
"لم تكن الامبراطوريات القديمة وطنية كالاشورية والفارسية والرومانية" فعلا من قراءة مدونات الملوك لتلك الامبراطوريات وغيرها توضح تماما ان ولاء الانسان فيها كان للملك ،ولم تكن كل الاحداث والوقائع في الامبراطورية تحدث الا لاجل الملك وتمجيده ولارضاء الالهة .ولم يحدث لاجل الانتماء الوطني او القومي لان الامبراطورية لاحدود لها ولا حس مشترك لافراها الا واحد هو الخضوع لقوة بطلهم.
" اللغة تتغير بحسب امتزاج الحضارات " فعلا ما حدث في اوربا.وهذا الذي ايضا حدث في بلاد النهرين منذ السومرية والى يومنا هذا الذي نرى انفسنا نتحدث بلغة تخصنا نحن وتقدم لنا وظيفة الاتصال والتواصل الفكري.
" تمتزج العادات والقيم عند غزو حضارة لاخرى" وهذا ما حدث في بلاد النهرين لتلاقح عدة حضارات متعاقبة تاريخياً.
" الامة توجد بدون مبدأ السلالة" وهذه بالطبع توصل اليها من دراسته للتاريخ ،واصبحت الفكرة علمية واقرها علماء الاجتماع والانثروبولوجية وتوصلوا الى القول ان وجود عرق بشري نقي في العالم ضرب من الخيال وبل اسطورة طالما حدث التداخل جراء الغزوات المستمرة للشعوب على بعضها وحدث التلاقح البايولوجي. وعليه الامة تتجدد .
يؤكد ان : العرق، اللغة ، الدين ، الجغرافية، متغيرات لا يمكن اعتمادها لبناء امة.
فالعرق كما اشرنا ضرب من الخيال وقد جاء بامثلة متعددة على عدم نقاوته.
واللغة ، يقول عنها لا يعني ان مجموعة بشرية تتحدث بلغة واحدة مرتبطة بعرق واحد او سلالة واحدة فهم من اعراق مختلفة وجاء بامثلة متعددة عن اوربا ،وبين كيف ان البلدان الحديثة تشكلت كامم وابناؤها يتحدثون اكثر من لغة.وهذا ما نلاحظه اليوم في العراق ومصر وسورية ولبنان هم من اعراق واثنيات مختلفة انما توحدهم لغة واحدة او بالعكس لغات متعددة يتكلمون بها افراد المجتمع انما توحدهم مشاعر الانتماء الى الامة الواحدة مثل كندا والولايات المتحدة الامريكية والهند وروسيا والكثير من البلدان الاوربية.
واما الدين ، فهو الاخر متغير ضعيف في رايه لاعتماده لفرز الامة، بدليل وجود امم يعتقد افرادها مختلف الاديان الا ان عيشهم المشترك يربطهم .
وياتي الى الجغرافية ، فيقول لا الانهار ولا الجبال ولا اي مظهر جغرافي طبيعي او جغرافي سياسي بامكانه تشتيت المشاعر الانتمائية للامة الواحدة قديماً وحديثاً. وهذا ما نلاحظه اليوم فمثلا بالرغم من تشتت الاكراد او العرب او البرتغاليين او الاسبانيين او الاشوريين او الكلدان او السريان في بقاع العالم المختلفة الا ان هذا التباعد الجغرافي لا يمنع من توحيد مشاعرهم للانتماء الى امتهم.
يقول رينان " " ان الاعتبار الحصري للغة بالاضافة الى التركيز المفرط على السلالة له مخاطره وعدم تتحمله اذا ركزت كثيرا على اللغة فانك تُحاصر نفسك في ثقافة معينة تعتبر وطنية ،انت تحد نفسك وتترك الهواء الحر الذي تتنفسه في اتساع الانسانية للتراجع الى اديرة مواطنيك" أي انه يخطو خطوات نحو الانسانية وليس التقوقع على اثنية او قومية معينة.ويستطرد ويقول: " دعونا لا نتخلى عن المبدأ الاساسي القائل بان الانسان كائن معقول واخلاقي قبل ان يتم حصره في لغة أو اخرى.أو في هذا العرق أو ذاك ". وهكذا لايمكن حصرها في جغرافية معينة او ارض أو دين .أنما الامة عنده هي :" مبدأ روحي ينتج عن التشابك العميق في التاريخ والذكريات والاسرة الروحية وليس مجموعة يحددها تصميم ارض،ويشكل التراث المشترك والاتفاق الحالي على اسلوب الحياة روح الامة ،اي الشعور بالانتماء اليها والرغبة في العيش معاً، الرغبة الحقيقية في العيش معاً والاتفاق."يؤكد على الاتفاق على اسلوب للحياة يكون طريقهم للعمل والاداء اي نعمل وفق المستجدات الحضارية مع الاعتزاز بالتراث لا التشبث فيه كما يذكر في حواراته الفكرية بل ان يكون عامل وحدة الشعور .
ويختم فكرته عن الامة بقوله:" هناك شيء متفوق على اللغة والعرق،هي الارادة ،فهي توحد مشاعرهم وافكارهم. بمعنى التضامن والتماسك بين افراد الامة والعمل معاً من اجل الامة والاتفاق على اسلوب الحياة والرغبة الحقيقية وتوحيد الفكر والمواقف هي الكفيلة في استمرار وجود الامة.فاين الاثنيات الثلاث لشعبنا من هذه المشاعر.؟
وكل ما ذكره عن الامة وتكوينها يقول اخيراً: ان وجود الامة استفتاء يومي" اي ان الامم تتشكل بارادة الفرد نفسه لا بالقسر والقوة كما يحدث عند البعض في المجتمعات النامية. فالامة تتغير زمانياً ولا ثبوت لها وهذا ما يؤكده الاتجاه الحديث في علم الاجتماع في دراسته للاثنية او القومية والامة .فيقول " برايم " وغيره، الكندي المهاجر كانت مشاعره الانتمائية الى خلفيته الاثنية الا انه تدريجياً وعند الاجيال الحديثة من ابناء اولئك المهاجرين يعدون امتهم " كندية " وهذا ما يحصل بزيادة نسبة من يُسجل في حقل الانتماء في استمارات الاحصاءات الرسمية الاثنية هي " كندا" وهذا ما يحصل في امريكا واستراليا وغيرها من البلدان. فالانتماء الاثني يتغير وفقاً لمستجدات الحياة المجتمعية وطرق العيش المشترك والمصير المشترك.
بعد هذا العرض اود الاشارة الى بعض من افكار " ارنست رينان" الاخرى استخلصتها من افكاره في حوارته المعروفة لدى الاختصاصيين لمزيد من المعرفة .
له كتابات في اللغة والفلسفة والتاريخ ، وقد تأثر بفلسفة هيكل.يُعد مفكراً اجتماعياً استفاد علماء الاجتماع من افكاره .
كانت معظم افكاره يعبر عنها بالسخرية والفكاهة . واستكثر من الالاعيب اللفظية وكان يتغنى بكل لحن ويتفنن وذلك لحرصه على جذب الجمهور ويترضاه ، كان حافلا بالافكار بالرغم من تناقضاته.( يعني انه صديق نيسان سمو الساخر والفكاهي في التعبير عن افكاره).
لا يُعادي مذهب من المذاهب ،يعطف على كل شيء من بعيد ، لان كل شيء مايبرر وجوده في هذا الكون الذي تجتمع فيه المتناقضات..فهو يسلم بكل المعتقدات لا على انها حقائق ،بل لانها تعبر عن حالات للروح يستطيع ان يتذوقها ويستمتع بها .وعليه كان يؤكد على التسامح والاعتدال ويدعو الى المصافاة بين الاديان.
ولم يكن له موقف سلبي تجاه اي ظاهرة. حيث يؤكد انه يتذوق الوجود قاطبة بمثل الشعور العام فهو مع المدينة الحزينة والمدينة الفرحة .ويرى الجمال في كل شيء .
درس الحضارات العالمية ومنها حضارات بلاد النهرين القديمة ودرس الديانات وقدم تحليلات عنها ومنها الاسلامية وله نقد للاسلامية باعتبارها مُقيدة لفكرة التقدم وانها وسيلة لاحباط العلم والعلماء كما له كتابات عن المسيحية وحياة يسوع ونقد رجال الدين في اوربا.
يرى ان الحضارة شيء متحرك. ويؤكد على التخلص من التقاليد التي لا تخدم المجتمع طالما ان الحضارة متجددة لتلائم الحياة.
يؤكد على ان خلاص البشرية يكون في حكم فئة العلماء .فيؤكد سياتي اليوم الذي ستكون السلطة بيد العلماء بحيث لا تقوم ضدها ثورة ،ولا يمكن الانسان ان يستغني عن العلم فقوتهم العلماء هي في حكم العقل دون الركون الى الاكاذيب ،فالكذب سلاح العاجز يصطنعه في مكان القوة .بمعنى ان السياسة الحالية التي تحكم المجتمعات، الكذب سلاحها .والخوف ينشأ من وعيد حقيقي او خيالي ،فالقوة والمخادعة من هذه الوجهة نظيران.
يقول: حاولت الكنيسة في العصور الوسطى ان تحقق القوة الروحية ، ولكن لم يكن بيدها القوة الكافية وكان سلاحها بدلا من الجيوش التخويف بالجهنم ،وعليه ظلت ضعيفة مُكرهة على الاستعانة بالقوة الدنيوية التي أملت عليها شروطها نظير ذلك انقاص الحقوق الاكليروسية ،وفي رايه القوة الروحية لا تكون قوية الا اذا كانت بيدها قوة مادية لاتخضع الا لها.فهو يؤكد هنا على دور العلم في الفكر الديني وادارة المؤسسة الدينية.
من ارائه: الديمقراطية لا تعمل على اعلاء الشعب وانما ترمي الى الاسفاف به وهي لا تريد العظماء.
يؤكد على ان المادة هي حالة الوجود ، لا سببه ،وعلة الاشياء مصدرها الفكر ،فالعقل يحرك كل شيء.ويؤكد ان الفكرة هي التي تحمي كل شيء والفكر لا يتحقق الا بالتراكيب المادية فيقول مثلا لا فائدة من الحان " بتهوفن" ما لم هناك اهتزاز الاوتار الموسيقية.
يقول" العمل على رفعة الناس قاطبة هو اول واجبات المجتمع ولكن رفع الناس كلهم الى مستوى واحد امر مستحيل.
بالرغم من انتقاده للاكليروس الكنسي الا انه يؤكد: الدنيا بدون الله شديد الفظاعة والنكر. ويقول:اتصور في بعض الاحيان ان الله هو العيد الداخلي العظيم للكون وانه ذلك الشعور المترامي الفياض الذي تعكس فيه كل الاشياء ويتجاوب صداها.
ويستطرد في حواراته ويقول: لا يزال يسوع حياً وشخصيته لا تزال باقية ،بل هي اعظم مما كانت .
تعرض رينان الى الانتقادات لكثرة التناقضات في افكاره وحتى انه كان يشك بما يقوله ،وكان مترددا .وهذا ناشيء عن الصراع النفسي الداخلي الذي كان الكثير يعاني منه ولا يزال ،والناجم عن التناقض بين ما يتلقاه الفرد من افكار دينية وقيمية في اسرته وثم ما يفكر به هو شخصياً .
اكتفي بهذا القدر لعله قد يستفيد القراء من افكاره،والمقال هو عبارة عن تعقيب لمقال المترجم من قبل الكاتب " بولص ادم " الا لطوله وضعته منفصلا فاعتذر من الاخ بولص.
من : كتاب محاورات رينان الفلسفية.
رابط مقال المترجم
https://ankawa.com/forum/index.php/topic,976656.new.html#new