البطريرك ساكو ونداء الإنقاذ
المراقبُ والقارئ الحذق واللبيب والمحلل لواقعِ حالِ شعبنا وكنيستنا في العراق، يستطيع أنْ يقدِّرَ حجمَ الاضراروالنوازل التي لحقت بشعبنا وتضع أمامه تصوراً واضحا للأضرار المحدقة به في هذه الأوقات الصعبة التي يمرُّ بها، وإنَّ أفضلَ تقديرٍ لمدى خطورة هذه الأوضاع والأضرار التي ستنجم عنها، لا يتم تشخيصه الّا على أسسٍ معروفة، منها القرب من الحدث، والوعي وإدراك حجم هذه المخاطر والمسؤولية المُلقاة على عاتق المراقب أو المحلل.
فلو راجعنا التاريخ الحديث لشعبنا المسيحي بكل مكوناته ومسمياته (الدينية منها والقومية) سنتيقَّن أنّ هذا الشعب كان ومازال يعاني كثيرا من صعوبة التعايش والاندماج في اغلب المراحل التي مر بها العراق الحديث، على مستوى الأشخاص والعشائر أو القوانين الدينية والوضعيةوالشرائع.
أفرزتْ هذه المعاناة بنتائجَ كارثية ومرعبة بحقِّ شعبنا، قد تصل الى مستوى التطهير العرقي. فالهجرة والتهجير القسري والاستيلاء على الأملاك والأراضي وقانون الأحوال المدنية الجائر المعمول به حالياً، والتجاوز على المعتقدات والحريات الفكرية من خلال مناهج التعليم المتخلفة التي تزرع الفرقة والتناحر بين ابناء الوطن الواحد، وغياب دولة المواطنة،مل هذه جاءت لتُجهِز على بقايا الأحلام والمشاريع والتطلعات المشروعة لغدٍ أفضل يكون مصدرَ أمانٍ لكل المكونات الوطنية في العراق الموحَّد.
ومن بين كل هذا الركام الهائل من الإحباط وغياب الحلول وضيق الأفق، تظهر في ساحتنا الوطنية شخصيات حزبية أو مستقلة من (الكلدان والسريان والآشوريين والأرمن) تبحث فوق جراحاتِ وآلامِ شعبِنا، عن مجدٍ شخصيٍ أو مصالح ماديةٍ ليُغني عقلَها المريض أو شبقَها للسلطة، وهذا ما يزيدُ الطينَ بِلَّة، فيتضاعف الضرر وتتعقد الأمور وتغيب الحلول، وهذا ما حصل لنا وتحديدا بعد نيسان 2003.
ولدى الحديث عن هذه المرحلة لا ينبغي القول أنَّ هناك محطاتٍ للتوقف والاستعراض والتقييم، فالنتيجة الإجمالية هي حالة مستمرة من الفشل والإحباط. فالشخصيات التي كانت موجودة بعدَ تغيير النظام السابق، كانت جاهزةً لتركبَ سُلَّمَ الهبوط القائم على أسس ٍطائفية ومصلحية وحزبية ، ناهيك عن كونها مُشبعة ب ِالأنا العليا وامراض السلطة والاستحواذ على المناصب ، فجاءت النتائج موالمة لهذه الشخصيات فتوالت الهزائم ، التي كانت تتماهى مع الإخفاقات في عموم البلاد ، فلم يظهر لنا نائبٌ من أبناء شعبنا يقومَ بترجمةِ مطالبه ، بل بالأحرى كان هنالك من لم نسمعْ لهم مداخلةً جادة تحت قبة البرلمان ، واذا ما حصلت، فأنها كانت من أجل التهجم على بعضهم ( الكوتا المسيحية ) ، لانهم حتما كانوا مرتبطين بأجندة غريبة، كانت إما ضامنةً لوصولهم او لبقائهم ، أمّا على المستوى الحكومي فهذا المُنتَج من هذه البضاعة ، فالولاءات والانحناءات كانت دائما للكتل والأحزاب الكبيرة والمتنفذة ، فضاعت بسبب هؤلاء الفاشلين مرحلةٌ هامة من تطلعات شعبنا.
وبين هذا الضجيج المقرف صدرتْ نداءاتٌ صادقة، نبيلة وسامية تحمل عبقَ المحبة والإيمان بأننا شعبٌ واحد وكنيسةٌ واحدة. هذه النداءات كانت ومازالت تصدر من الصرح البطريركي للكنيسة الكلدانية في العراق وعلى رأسها نيافة الكاردينال مار لويس ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم الكلّي الطوبى، فتارةً كانت لتضعَ حلولاً وتارة أخرى لترسمَ خارطةَ طريقٍ يوحد ويقوّي شعبنا، بعيداً عن الانتماءات والانحناءات ، وما النداء الأخير الذي جاء ليلُمَّ الشملَ ويقويَّ الإرادة ويبعد كل الادران العالقة بمسيرة شعبنا .إنْ هي الّا صرخةٌ مُدوية للجلوس الى مائدة مستديرة لمناقشة انقاذ ما يُمكِنُ انقاذُهُ بعدَ ما آلَتْ اليه الأوضاعُ المُزرية لشعبِنا في مختلف النواحي، فمهما اختلفنا، نحن جسدٌ واحد ولنا أهداف مشتركة ، وعلى النُخب الواعية مِن أبناء شعبِنا، تقعُ هذه المسؤولية الجسيمة لِخيرِ شعبنا وكنيستنا الشرقية المقدسة بكل تسمياتها . فالذي يريدُ أنْ يكون قائدا ليكنْ خادماً لشعبِهِ.
نحنُ مع الدعوة الى ما يُمكن أنْ نتفقَ على ما يُمكنُ تسميتُهُ بتجمع قِوى ابناءِ شعبنا الذي مِن حقِّ كلِّ جماعةٍ فيه أنْ تحافِظَ على اسمِها، لنضعَ خطوطاً عريضة للمستقبل الذي نتطلعُ اليه، ليكون بديلاً عن الكوتا المشلولة والعقيمة المعمول بها حالياً، وليكن هذا البديلُ الحلَّ الناجع لتطلعات شعبنا المشروعة بغدٍ أفضل، ضِمنَ شروط ٍوآليات نضعها معاً للخروج من المستنقع الذي نقبعُ فيه. ولتكنْ أصواتُ شعبِنا لنا حصراً، فنكونَ أحراراً في انتمائنا وقراراتِنا وخياراتِنا ضمن القانون، وفاعلينَ في رسمِ مستقبل شعبنا، ونقودَ حملةً لتصحيح المسار الذي سنُحدّدهُ، دون تفرقة عقائدية أو قومية، ونساهمَ في بناءِ دولة مدنية مستقلة، تؤمن بالمواطن والمواطنة.
يقيناً، إنّ نداء غبطة البطريرك مار لويس ساكو يلبي معظم مطالب شعبِنا ويتطابق مع اغلب الشعارات المرفوعة، فَلِما لا نتضامن وندعم ونعمل جميعاً من اجل تلبية هذا النداء الصادق.
سلام مرقس/ باريس
21/06/2020