الترتيلة الملكية: رائعة من روائع كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية – درس في تحليل وتفكيك وترجمة وأداء وتأوين لغة ونصوص تراثنا وفنونا الكنسية
توطئة يتناول المقال هذا رائعة أخرى من روائع كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية (1). وقبل الولوج في تقديم تحليل لخطاب النص الذي نحن في خضمه، سأحاول أولا شرح بعض المصطلحات السريانية الواردة فيه او التي ترتبط به، لأن فهمها واستيعابها يتطلب القاء الضوء على سياقها التاريخي والثقافي واللغوي والفني الذي بدونه يصبح من العسر تفكيك واستيعاب النص وهضمه.
وسأعرج بعدها على أهمية الرائعة هذه في تراث وإرث كنيسة المشرق، مركزا على النص ذاته وتحليله وترجمته وتأوينه كي يصبح في متناول القراء الكرام قراءة وأداء وحفظا وتأوينا ويتخذونه نموذجا لدارسة التراتيل الملكية الأخرى لدى كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية والتي تربو على 50 نشيدا.
لقد استغرق الوقت مني طويلا وبذلت جهدا كبيرا في كتابة وإعداد هذا المقال، بيد أن السعادة غمرتني بعد قراءته للمرة الأخيرة، حيث وجدته بمثابة درس او نموذج يمكن الركون إليه للحفاظ على لغتنا وروائع تراثنا وفنوننا الكنسية التي تشكل ركنا مهما من اركان هويتنا وخصوصيتنا كمسيحيين مشرقيين أينما حل بنا الدهر.
وقبل الدخول في صلب الموضوع، ارجو من القراء الكرام تتبع النص في نهاية المقال قبل الشروع بالقراءة حيث وضعت ثلاثة خطوط: (1) النص بلغته السريانية، (2) الخط الكرشوني، (3) الترجمة الى العربية؛ وكذلك أرجو الاستماع الى الترتيلة الملكية هذه والأداء الشائع لها في الشق الكلداني من كنيسة المشرق وتتبع النص الوارد في الفيديو والذي أيضا يتألف من خطوط ثلاثة: (1) النص بلغته السريانية، (2) الخط الكرشوني، (3) الترجمة الى العربية:
https://youtu.be/elcmWDxy7xo2 المصطلحات وهذا شرح موجز لأهم المصطلحات الخاصة بهذه الترتيلة
2.1 ܕܒܣܠܝܩܐ الترتيلة الملكية هذا المصطلح معناه "الترتيلة الملكية،" ومفردة ܒܣܠܝܩܐ أصلها يوناني اقتبسها الرومان من اللغة اليونانية الى اللغة اللاتينية ومنها دخلت الى اغلب اللغات الأوروبية بصيغة Basalic . للمصطلح اللاتيني معان كثيرة في لغة اليوم إلا ان المعنى الشائع في العصور الأولى للميلاد كان يخص كل ما له علاقة بالملوك، أي أن النشيد خاص بالملوك ويرتل في حضرتهم. ما يهمنا هنا أن لغتنا السريانية استعارت المصطلح وأونته وجرى توطينه لغويا وكنسيا حيث صار يشير الى أهم ترتيلة تنشد في صلاة الرمش ليوم السبت على الأحد. والرمش هذا بحق "ملكي" لغنى ألحانه وتراتيله، ولكن تبقى ܒܣܠܝܩܐ ذات مكانة وأهمية كبيرة، حيث يؤن معناها ملافنة كنيستنا، فبدلا من توجيه اللحن والنص والأداء صوب الملك الدنيوي الذي كانت تتلى في حضرته، منحوها بعدا انجيليا. فنحن المشارقة المسيحيون من أتباع كنيسة المشرق نخصص هذه الترتيلة الملكية لملك الملوك، وهو يسوع المسيح. ܥܘܢܝܬܐ ܕܒܣܠܝܩܐ، أي الترتيلة الملكية، لها خاصية لحنية تميزها عن التراتيل في مضامير شتى لا بل هي جنس لحني قائم بذاته، ويزداد رونقا وبهاء في الفترة التي نحن بصددها ܩܝܛܐ (القيظ) والتي تسبقها ܫܠܝܚܐ (الرسل).
2.2 ܥܘܢܝܬܐ التراتيلܥܘܢܝܬܐ وهي التراتيل الخاصة بكنيسة المشرق، وهي بالمئات ولها خانات لحنية بالعشرات، وهي ليست الا بابا واحدا او فصلا واحدا كبيرا من أبواب التراتيل الشجية التي تخص المكان والزمن واليوم والفصل الذي تقام فيه الصلاة او القداديس (أنظر 3). أكاد أجزم ومن خبرتي المتواضعة أنه قد لا تملك أي كنيسة أخرى في الدنيا ما لكنيسة المشرق من تراتيل. وهنا تجدر الإشارة الى ان أداء التراتيل بمختلف صنوفها يختلف لدى الكلدان عن ما هو عليه لدى الأشوريين، حيث حافظ الكلدان على جواهر الالحان الملائكية البديعة والتي من خبرتي الموسيقية المتواضعة قد ترقى الى سمفونيات لا مثيل لها. وللكلدان أيضا تراث ضخم من التراتيل بلهجتهم المحكية الساحرة، وهي لهجة نقية صافية ألف فيها ملافنة من القسس والشمامسة الكلدان في العصر الحديث.
2.3 ܨܘܪܬܐ (الاقتباس) أقرب ترجمة الى مصطلح ܨܘܪܬܐ كما ترد في الترتيلة الملكية هذه هي "المتن" في إشارة الى محتوى الكتاب المقدس، او "الاقتباس" في إشارة الى اقتباس من الكتاب المقدس؛ شخصيا أميل الى الترجمة الثانية، لأن ما يأتي بعد ܨܘܪܬܐ هو اقتباس من الكتاب المقدس، وعلى الخصوص المزامير وكتابات انبياء العهد القديم او العهد الجديد. وܨܘܪܬܐ هي جزء من مقدمة او مدخل ܥܘܢܝܬܐ. وفي حالتنا هذه تشكل جزءا من المدخل الى الترتيلة الملكية، يستهل بها رأس القراء من الجانب الأخر، لترديد الترتيلة ܬܢܝ. ܨܘܪܬܐ ليست متوافرة في استهلال كل ܥܘܢܝܬܐ. تتوافر على الخصوص في ܒܣܠܝܩܐ، ܠܠܝܐ، ܐܘܢܓܠܝܘܢ، ܐܪܙܐ لأيام الأحاد حصرا، علما أن يوم الأحد في كنيسة المشرق يبدأ من صلاة الرمش مساء السبت على الأحد وينتهي في رمش مساء يوم الأحد على الأثنين، حيث ينقلب النص في الطلبات من ܒܚܫܐ ܘܒܚܦܝܛܘܬܐ الشجن والاجتهاد، في الأيام العادية، الى ܒܚܕܘܬܐ ܘܒܦܨܝܚܘܬܐ الابتهاج والسرور في الأحاد والأعياد. سأعزف عن شرح وتفسير التراتيل الثلاث (ܠܠܝܐ، ܐܘܢܓܠܝܘܢ، ܐܪܙܐ) والدور المركزي للطلبات ܟܪܘܙܬܐ التي لا زالت تتحدث إلينا وتعيش معنا وكأنها كتبت اليوم، وذلك لضيق الوقت واختصارا للمقال، وربما نعرج عليها في التعقيبات او قد يقدم شرحا لها القراء في ردودهم.
2.4 ܩܝܛܐ القيظ الترتيلة الملكية التي نحن في صددها جزء من زمن او أسابيع ܩܝܛܐ القيظ. وتترجم التقاويم الطقسية قيطا الى الصيف، وهذا خطأ شائع، لان مفردة "القيظ" العربية أصلها سرياني ܩܝܛܐ. وتشير الى صميم الصيف. ويرد في التفاسير والشروحات الأجنبية إضافة الى التي سطرها قسس كلدان او أشوريون من كنيسة المشرق ان مصطلح ܩܝܛܐ لا علاقة له مع التراث الكنسي في عهديه القديم والجديد، وهذا خطأ شائع أخر. مفردة ܩܝܛܐ في السريانية تشير ضمن معانيها الشتى، الى بركة الرب التي ترافق قطاف بواكير المحاصيل من حنطة وكروم وتين وزيتون، ولشدة الحر كانت تلزم الناس بيوتها وتشكر الرب على ما وفر لها من المحاصيل، وكانت أغلب الصلوات تقام في باحة الكنيسة او في البساتين. وفي زمن ܩܝܛܐ القيظ تذكارات ومناسبات وأعياد مهمة. وكان ܩܝܛܐ القيظ مناسبة لتجمعات الشباب والشابات في الحدائق والبساتين والغابات وإنشاد التراتيل باللهجة الفصيحة (والمحكية لدى الكلدان).
3 التحليل بعد شرح مختصر لبعض المصطلحات ذات العلاقة المباشرة بالنص الذي نحن في صدده، أقدم في الجزء التالي تحليلا موجزا مبسطا للترتيلة الملكية ܒܣܠܝܩܐ الخاصة بالأحد الرابع من القيظ حسب طقس كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية. والترتيلة هذه واحدة من 52 ترتيلة ملكية ترد في السنة الطقسية. ورغم ان ܒܣܠܝܩܐ لا تمثل الا قطرة في بحر التراتيل الخاصة بكنيسة المشرق من ܥܘܢܝܬܐ وخانات لحنية أخرى مثل ܩܢܘܢܐ، ܗܦܟܬܐ، ܬܫܒܘܚܬܐ، ܩܠܬܐ، ܫܘܪܝܐ، ܡܪܡܝܬܐ، ܡܕܪܫܐ، ܣܘܝܟܐ، ܟܪܘܙܘܬܐ، ܗܘܠܠܐ، وغيرها كثير، الا أنها تعد ذات أهمية كبيرة وهي ربما الأكثر شهرة.
لنتتبع الترتيلة الملكية مركزين على كل قسم من أقسامها السبعة كل على حدة:
3.1 ܕܒܣܠܝܩܐ. ܒܐܠܗܐ ܒܪܚܡܐ. الترتيلة الملكية: بلحن . ܐܠܗܐ ܒܪܚܡܐ لقد شرحنا مصطلح ܒܣܠܝܩܐ في (2.1). ونلاحظ عبارة ܒܐܠܗܐ ܒܪܚܡܐ تتبعه مباشرة. هنا نحن أمام مفتاح لمقام من مقامات كنيسة المشرق وهو السيكا القصير ولكنه ينطبق على وزن شعري محدد مع توزيع محكم يستند على المقاطع الصوتية للأبيات التي يتألف منها النص والتي يختلف عددها حسب الوزن الشعري وتطابقه مع المقام او اللحن. هنا لدينا المفتاح الموسيقي للترتيلة التي يجب إنشادها على نغم ووزن وإيقاع . ܐܠܗܐ ܒܪܚܡܐ وهو لحن نادر قليل التكرار، لكنه يدخل القلب دون طرقه وفيه بهجة وشجن. وهو لحن ثقيل بمعنى أنه من الروعة بمكان لأن المنشد في حوار وتواصل مع المعبود والمسجود له (يسوع المسيح) بدليل تكرار ضمير المتكلم وضمير المخاطب بصيغة منفصلة او متصلة او مستترة (أنظر 3.6 ). لقد أرخ وأرشف كثيرون لمقامات وألحان التراتيل الخاصة بكنيسة المشرق، إلا أننا في حاجة الى المزيد منها وتطويعها وتأوينها مستفيدين من الثورة الرقمية الحالية كي تبقى معنا كأهم مؤشر لهويتنا الوطنية والكنسية. وكل ترتيلة وبأنواعها المختلفة من التي ذكرناها في (3) وغيرها لها مفاتيحها الخاصة بها التي تحمل بعض الشبه بالنوتة الموسيقية الحديثة التي يجب ان تسير عليها الفرقة الموسيقية او المنشدون. ولعمري فإن هذا اختراع مذهل توصل إليه اجدادنا في تأليفهم للنصوص الكنسية وجمعهم للتراث حيث من خلاله حفظنا على لحن وموسيقى ومقام هذه الأناشيد كما وردت من نبعها الأصلي، النبع النهريني لأرض الرافدين Mesopotamia قبل حوالي 1500 سنة من ظهور النوتة الموسيقية الحديثة.
3.2 ܐܠܗܢ ܢܪܚܡܥܠܝܢ ارحمني يا الله هنا يأتي دور المنشد الأول، في أي صف او جوقة ܓܘܕܐ كان، إن من يمين او يسار المذبح. ودور واختيار المنشد الأول في أي صف من على يمين او يسار المذبح او في أي مكان أخر مخصص للمنشدين في ريازة كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية يعتمد على اجادة الألحان والصوت والأداء الجيد وقراءة المفاتيح بصورة صحيحة ولا يجوز ان يكون اعتباطا او يُستفرد به استنادا الى الأقدمية. فطريقة أداء ܐܠܗܢ ܢܪܚܡܥܠܝܢ لها دور محوري في استجابة أعضاء الجوق والحاضرين من المؤمنين في إنشاد الترتيلة الملكية. أشبّه أداء ܐܠܗܢ ܢܪܚܡܥܠܝܢ وأي استهلال لأي ترتيلة بعازف البيانو في الأوبرا الذي يعطي النغمة او التون tone للفرقة او المغني للبدء في الإنشاد، وهذه النغمة تحدد الطبقة، وهذا ركن مهم من أركان اختيار المنشد الأول في أي صف او مكان كان ضمن الريازة الكنسية. وفي الغالب يكرر المنشد الأول أداء استهلال الترتيلة ܐܠܗܢ ܢܪܚܡܥܠܝܢ مرتين.
3.3 ܕܨܘܪܬܐ ܐܠܗܐ ܚܘܢܝܢܝ ܠܚܛܝܐ. ܐܬܦܢ ܥܠ ܨܠܘܬܗ ܕܥܒܕܟ ܘܥܠ ܒܥܘܬܗ ܡܪܝܐ ܐܠܗܝ. ارحمني انا الخاطئ يا الله، والتفت الى صلاة عبدك ودعواته، ربي وإلهي.شرحنا ܕܨܘܪܬܐ في (2.3) . ويجب ملاحظة ان ܕܨܘܪܬܐ لا تشمل ما يأتي بعدها. في الحقيقة هي تبدأ بالذي ما قبلها، وهناك علامة ترقيم خاصة تؤشر الى بدايتها وهي ":" ونشاهدها في ܐܠܗܢ ܢܪܚܡܥܠܝܢ: وما يميز ܕܨܘܪܬܐ كما قلنا إنها اقتباس، فنلحظ اقتباسا من الكتاب المقدس في النص الذي قبلها والنص الذي بعدها ومن اليسر الوصول الى النصوص الأصلية ومرجعها. فالمنشد الأول من الصف المقابل يكرر الترتيلة الملكية مستهلا ب ܕܨܘܪܬܐ ويبدأ مباشرة بعد علامة الترقيم ":". والاقتباس بصنفيه المباشر وغير المباشر (التعبيري) نسق خطابي مهم في نصوص كنيسة المشرق ويبرز بصورة جلية في الترتيلة الملكية هذه. والاقتباس في ܕܨܘܪܬܐ ليس اعتباطا بل يتم بعناية فائقة ويؤشر الى تضلع وتبحر مهولين بالكتاب المقدس، لأن كل اقتباس منسق وسياقه يوائم المناسبة واليوم والذكرى او العيد او غيره، ويتطابق مع قراءة الإنجيل ليوم الأحد. وسأذكر المزيد عن الاقتباس ودوره عند الدخول في صلب الترتيلة.
3.4 ܚܘܢܝܢܝ ܡܪܝ ܐܝܟ ܕܠܡܟܣܐ. ܓܥܢܐ ܠܘܬܟ ܡܪܝܐ ܐܬܪܚܡܥܠܝ: حن علي يا سيدي كما حنت على العشار، وهـأنذا أرفع صوتي إليك فارحمني.ندخل هنا في نص الترتيلة الملكية، ومن اول سطر هناك ربط مباشر بنص الإنجيل الذي يقرأ في قداس يوم الأحد الذي ترد فيه قصة زكا العشار. النص من الانجيل المخصص لهذا اليوم (الأحد الرابع من القيظ) يصبح محور التراتيل التي تشبع النص تفسيرا وشرحا وقربا من حياتنا ووجودنا. وهناك نقطة يجب ان تكون مثار فخر لنا، لأننا نرى في نصوصنا الكنسية التراثية الغارقة في القدم اول ظهور لبوادر الترقيم في لغتنا، وهذا قبل ان تدخل علامات الترقيم اللغة العربية مثلا بحوالي الفي سنة. وهنا أشير على علامة النقطة ( . ) التي تلعب دور الفارزة وعلامة النقطتين الواحدة فوق الأخرى ( : ) والتي تلعب دور النقطة. فوجود علامة ( : ) معناه نهاية ثيمة او جملة تحمل فكرة محددة. وهذا ما يساعد على الفهم والقراءة. وهذا ما ساعدني على تقسيم النص الى أقسام محددة. وهناك خاصية أخرى للغة السريانية حيث لا تحبذ العطف او ادواته كثيرا. أغلب العطف في السريانية الفصيحة والنصوص الكنسية مستتر أي غير ظاهر. عند ترجمة النصوص السريانية التراثية الى العربية مثلا او أي لغة أخرى نحتاج الى أدوات العطف من أجل توصيل المعنى او الفكرة؛ وهذا بالذات باب يحتاج الى البحث ومزيد من التحليل.
3.5 ܡܦܢܐ ܫܐܠܬܐ ܠܕܫܐܠܝܢ ܠܗ. ܘܦܬܚ ܬܪܥܗ ܠܕܢܩܫܝܢ ܒܗ. ܦܬܚܠܝ ܡܪܝ ܬܪܥܗ ܕܚܢܢܟ. ܘܗܒܠܝ ܚܘܣܝܐ ܠܣܟܠܘܬܝ. ܕܥܘܗܕܢܗܝܢ ܡܣܪܕܠܝ:يا ملبي دعوات الذين يسألونه، والفاتح بابه لطارقيه، افتح لي باب حنانك، وامنحني غفران خطاياي لأن ذكراها يفزعني.
كما هو الحال في أغلب نصوصنا الكنسية التراثية هناك نسق مذهل في النص رغم قصره (نص الترتيلة الملكية هذه يتألف من 49 كلمة وحسب). الجملة او الثيمة الأولى من النص (أنظر 3.4) تتألف من ثمان كلمات، وهي تشكل المقدمة، يطلب فيها المنشد او العابد او المصلي الحنان والرحمة والغفران ويخاطب مباشرة المعبود والمسجود له (يسوع المسيح)، دون شفاعة او واسطة، كي يحن عليه وينزل رحمته عليه كما فعل مع زكا العشار الذي تقرأ قصته في الجزء من الإنجيل المخصص للأحد الرابع من القيظ والذي تنشد فيه الترتيلة الملكية هذه. وفي هذا القسم هناك اقتباسين تعبيريين أخرين من الإنجيل يستشهد بهما المصلي او العابد او المنشد في حواره مع المعبود والمسجود له، يسوع المسيح، لتعزيز موقفه ودعوته له كي يغمره برحمته وغفرانه، ويقدمهما دليلا على أن الرب سيقبل الصلاة والدعاء حسب ما يرد في إنجيله حيث يقول إن كل من يسأل سيجاب له والقارع سيفتح له، ويستند النص على هذه الآية من الانجيل ويطلب فتح باب الرحمة وغفران الخطايا.
3.6 ܝܕܥܢܐ ܓܝܪ ܘܥܗܕܢܐ ܠܣܘܪܚܢܝ. ܘܠܐ ܡܨܝܐ ܡܪܝ ܕܐܬܕܟܐ ܕܠܐ ܪܚܡܝܟ: إنني عارف خطاياي وذاكر لها، ولن يكون بمقدوري أن اتطهر منها دون رحمتك.
3.7 ܐܢܬ ܕܝܢ ܒܛܝܒܘܬܟ ܗܒܠܝ ܕܐܬܡܪܩ. ܡܢ ܨܐܬܐ ܕܚܘܒܐ ܕܟܬܡܘܢܝ. ܦܪܘܩܐ ܡܪܚܡܢܐ ܡܪܟܠ ܫܘܒܚܐ ܠܟ. (فتعال) واغسلني بنعمتك من دنس الذنوب التي تلوثني، يا أيها المخلص الرحيم سيد الكل، لك المجد.هنا يعود النص الى مناجاة النفس soliloquy مرة أخرى والتأمل العميق والخشوع والاعتراف بالذنب وثقل الخطايا ومن ثم مناجاة ومخاطبة المعبود والمسجود له لأن الخطايا لن تمحى دون توبة حقيقية تتبعها رحمة منه. ودعنا هنا ندخل في تحليل دقائق اللغة. نحن أمام شخصين، المتكلم (المصلي او المؤمن) من جهة وملك الملوك المسجود له من جهة أخرى، دون شفيع او واسطة. ولهذا يلجأ مقدم الصلاة في هذا الجزء من الترتيلة الملكية لأول مرة الى ضمير المخاطب المنفصل ܐܢܬ "أنت"، بعد ان يأخذ الخشوع منه مأخذه وبعد رحلة في رحاب العهدين القديم والجديد يصبح قريبا من يسوع في جو من التصوف الرباني الذي يذوب فيه العابد مع المعبود. هناك إشارات أخرى الى المعبود ولكن كلها من خلال ضمير المخاطب المتصل او المستتر مثل ܠܘܬܟ، ܪܚܡܝܟ، ܒܛܝܒܘܬܟ، ܡܦܢܐ، ܦܬܚ. في الحقيقة، تشكل الترتيلة الملكية خارطة معجمية ونحوية ودلالية لمناجاة النفس من خلال ضمير المتكلم والحوار مع المعبود من خلال ضمير المخاطب وبأشكالهما المختلفة من ضمير متصل ومنفصل ومستتر. في النص حوارية عجيبة dialogism يتناوب فيها العابد في مخاطبة ومناجاة نفسه ومن ثم المعبود، متكئا على تداخل النصوص intertextualization بصيغة مباشرة في الفقرات التي تسبق الترتيلة والتي تنشد فرادا من قبل المنشد الأقدم ومن ثم بصيغة اقتباس وتداخل نصي غير مباشر في متن الترتيلة التي تنشد جماعيا. ويختتم النشيد الملكي بجملة اسمية تشي بوصول العابد او المنشد او المصلي (نخمن كاتب النص او منشده او قارئه لمجهوليتهم) الى مبتغاه، حيث ترد جهرا وصراحة ثلاثة ألقاب (أسماء حسنى) للمعبود والمسجود له ܦܪܘܩܐ، ܡܪܚܡܢܐ، ܡܪܟܠ، (مخلص – فاروق – رحيم - سيد الكل) – وهذه ألقاب للمسيح تتبعها المجدلة ܫܘܒܚܐ ܠܟ المجد لك، وهي من صيغ المخاطبة الخاصة بالرب (3.7). وعلى ذكر المجدلة ܫܘܒܚܐ او ܫܒܚ (المجد للآب والابن والروح القدس) فإنها تشكل الاستهلال الأخير لتكرار الترتيلة الملكية ܒܣܠܝܩܐ او أي خانة من خانات التراتيل العديدة والمتنوعة التي هي بحق كنز من أثمن الكنوز لدى شعبنا وكنيستنا والتي علينا الحفاظ عليه وتعزيزه وتعميمه وتدريسه وممارسته حيث ما استطعنا الى ذلك سبيلا.
4 خلاصة
هذا كان تحليلا موجزا لركن واوحد من اركان روائع تراث كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية، وكما قلت فإنه لا يمثل الا قطرة في بحرها.
وحاولت شرح المصطلح قدر الإمكان وتقديم تحليل يتضمن المعاني واللغة والأداء والأهمية والترجمة.
وطريقة تقديم النص في حد ذاتها تعد نموذجا للتأوين الذي غايته الحفاظ على الأصيل وتقديمه بحلة تجعله سهل التناول والممارسة والحفظ والفهم.
التأوين هو احياء للتراث وتعزيزه من خلال بعث الحياة فيه وممارسته قدر الإمكان، وإن أتينا بما هو جديد او حديث فيجب ان يجري في ذات العروق ويمتد فيها ويستقي منها ويكون بمستواها او قريب منها لغة وسموا وعلياء وقربا وذوبانا في المسرة والبشارة.
وكما لاحظنا فإن النص محكم ومنظم ومتناسق، وكل جزء او قسم فيه مرتبط بالأخر وينهار النص بمجمله لو رفعنا أي جزء منه او حتى لو غيرنا في تسلسله.
هذا التنسيق والسياق والنسق ميزة ترافق أغلب نصوصنا الكنسية التراثية، التي علينا الحفاظ عليها وإبقائها معنا لأنها العمود الذي عليه تم تشيد هويتنا كشعب وكنيسة.
وفي أدناه نص الترتيلة الملكية وأمل من القراء الكرام، كما رجوتهم في المقدمة، تتبع النص حيث وضعت ثلاثة خطوط: (1) النص بلغته السريانية، (2) الخط الكرشوني، (3) الترجمة الى العربية. وأمل ان يتمكن محبو تراثنا الكنسي، وهم كثر حسب ظني، من متابعة الترتيلة بشعرها الأخاذ ولحنها الجميل من خلال متابعة النص والاستماع الى الأداء المتواضع (الفيديو) الذي من خلاله في الإمكان متابعة الترتيلة باللغة لسريانية الفصيحة ومن ثم بالخط الكرشوني للمساعدة في القراءة واللفظ وأخيرا من خلال الترجمة:
الفيديو بدون موسيقى، فقط مع الصوت الكلمات واللفظ والترجمة:
https://youtu.be/elcmWDxy7xoالفيديو مع موسيقى:
https://www.youtube.com/watch?v=LD5Mo7oHPIAنص الترتيلة الملكية ܒܣܠܝܩܐ لرمش يوم السبت على الأحد، وهي جزء من التراث الكنسي المخصص للأسبوع الرابع من ܩܝܛܐالقيظ:
3.1
ܕܒܣܠܝܩܐ.
ܒܐܠܗܐ ܒܪܚܡܐ واساليقى: بألاها برحمى
الترتيلة ملكية: بلحن ܐܠܗܐ ܒܪܚܡܐ
3.2
ܐܠܗܢ ܢܪܚܡܥܠܝܢ: ܐܬܦܢ ܥܠܝ ܘܪܚܡܥܠܝ. ܡܛܠ ܕܠܘܬܟ ܗܘ ܡܨܠܝܢܐ الاهن نرحمعلين: اثپن علاي ورحمعلي. مطل دلواثاخو مصلينا.
ارحمني يا الله، التفت الي وارحمني، لأنني لك أصلي.
3.3
ܕܨܘܬܐ.
ܐܠܗܐ ܚܘܢܝܢܝ ܠܚܛܝܐ. ܐܬܦܢ ܥܠ ܨܠܘܬܗ ܕܥܒܕܟ ܘܥܠ ܒܥܘܬܗ ܡܪܝܐ ܐܠܗܝ.دصورتا. ألاها حونين لحطايا. اثپن عال صلوثه دعوداخ وعال باعوثه مريا الاه.
ارحمني انا الخاطئ يا الله، والتفت الى صلاة عبدك ودعواته، ربي وإلهي.
3.4
ܚܘܢܝܢܝ ܡܪܝ ܐܝܟ ܕܠܡܟܣܐ. ܓܐܥܢܐ ܠܘܬܟ ܡܪܝܐ ܐܬܪܚܡܥܠܝ:حونين مار أخ دلمخسا. كاعينا لواثخ اثرحمعلي:
حن علي يا سيدي كما حنت على العشار، وهـأنذا أرفع صوتي إليك فارحمني.
3.5
ܡܦܢܐ ܫܐܠܬܐ ܠܕܫܐܠܝܢ ܠܗ. ܘܦܬܚ ܬܪܥܗ ܠܕܢܩܫܝܢ ܒܗ. ܦܬܚܠܝ ܡܪܝ ܬܪܥܗ ܕܚܢܢܟ. ܘܗܒܠܝ ܚܘܣܝܐ ܠܣܟܠܘܬܝ. ܕܥܘܗܕܢܗܝܢ ܡܣܪܕܠܝ:مپنى شئلاثا لذشألينله. وپاثح ترعه لذنقشين به. پثحلي مار ترعه دحنانخ. وهولي حوسايا لساخلواث دعوهدنهين مسرذلي:
يا ملبي دعوات الذين يسألونه، والفاتح بابه لطارقيه، افتح لي باب حنانك، وامنحني غفران خطاياي لأن ذكراها يفزعني.
3.6
ܝܕܥܢܐ ܓܝܪ ܘܥܗܕܢܐ ܠܣܘܪܚܢܝ. ܘܠܐ ܡܨܝܐ ܡܪܝ ܕܐܬܕܟܐ ܕܠܐ ܪܚܡܝܟ:ياذعنا كير وعاهدنا لسورحاني. ولا مصيا مار داتدكى دلا رحميك:
إنني عارف خطاياي وذاكر لها، ولن يكون بمقدوري أن اتطهر منها دون رحمتك.
3.7
ܐܢܬ ܕܝܢ ܒܛܝܒܘܬܟ ܗܒܠܝ ܕܐܬܡܪܩ. ܡܢ ܨܐܬܐ ܕܚܘܒܐ ܕܟܬܡܘܢܝ. ܦܪܘܩܐ ܡܪܚܡܢܐ ܡܪܟܠ ܫܘܒܚܐ ܠܟ ات دين بطيبوثاخ هوالي ديثمرق. من صأثا دحوبين دكتمون. پاروقا مرحمانا ماركل شوحا لاخ.
(فتعال) واغسلني بنعمتك من دنس الذنوب التي تلوثني، يا أيها المخلص الرحيم سيد الكل، لك المجد.
-------------------------
رابط (1)
ظهر او مقال لي يتناول دراسة وتحليل نشيد من روائع تراث كنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية في هذا الموقع وعلى الرابط التالي:
https://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,946125.0.html