المحرر موضوع: لمَ يَمتّ الصائغ يومًا  (زيارة 429 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سـلوان سـاكو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 454
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
لمَ يَمتّ الصائغ يومًا
« في: 07:36 02/09/2020 »
لم يَمتّ الصائغ يومًا
في الطريق بين أنقرة وأدنة كانت صور الجبال والوديان والطُرقّ والسهول الخضراء مُدهشة وساحرة للناظرين إليها، في تلك البقعة من الطبيعة الأخاذة والخلابة كانوا أربعة في سيارة واحدة يقطعون الفَيْفُ والغابات، يسرحون بنعيم جنة عدن الأرضية وتجول بِأفْكَارِهِم الدنيا السعيدة. أبراهيم اليتيم وزوجته، يوسف الصائغ وزوجته جوللي، عائدين من رحلة كانت على تخوم أوروبا الشرقية. ثمة شاب يقف على قارعة الطريق يبيع تفاحً، طلبت السيدة جوللي أن تشتري بعضًا منها وتنعم بثمار هذه النواحي الغنية بفاكهة البساتين الطبيعية، توقف اليتيم واشترت سيدة التفاحات الأربع من الشاب الذي كان يقف تحت ظل شجرة تينة وارفة وأعطت لكل واحد من المسافرين تفاحة، واحتفظت بالأربع الباقية كي تنقلهم إلى بغداد وتهديهم لمن تشاء، ولكن لم تصل الأمانة، ولم يتسنى ليوسف أن يسألها لم سوف تُعطي هذه التفاحات حين تصل عاصمة الرشيد، ظل الجواب لغزا. في منعطف حاد خارج عن إطار الزمن تدهورت أحوال السيارة واختلت السياقة، وأبراهيم فقدّ السيطرة على المقود، فتدحرجت وانقلبت مرتين في وادي منخفض، إلى أن استقرت وأخذت وضعيتها الصحيحية، لم يحدث شيء غير طبيعي، كأنه عبارة عن حادث بسيط، الكل بخير ألا جوللي، ومعها التفاحات الأربع في حضنها، فقد فارقت الحياة إلى الأبد، بكامل زينتها وجمالها وثوبها الأبيض، كأنه كفنها العُرسي الذي ارتدته في رحلتها الآخيرة نحو ديار الخالدين. من ذلك اليوم وبالتحديد في 14 آذار مارس 1976 مات يوسف الصائغ حقاً، يوسف الفنان والشاعر والقاص والروائي والتشكيلي والنحات.
لم يكن موته في سوريا في 12 ديسمير عام 2005 غير استكمالًا للموت الأول، وطريقٌ ثانوياً سارَ عليه الشاعر مرغمًا، والباقي يظل حواشي من حوارًا على هامش السنوات والذكريات الضائعة. بين مادحًا وكاتبًا لِعامود في مجلة ألف باء ومدير دائرة السينما والمسرح، فهو مسجونًا للماضي مهما طالت الأيام والسنون، فهناك نصلاً حاد يمزق الأحشاء.
ماركسيًا أو بعثيًا كان، اشتراكياً او ليبراليًا، متصوفٍ في محراب الفن أم ناسكٍ في الجبال العالية، لا يهم كثيرًا. كاتب إعترافات مالك بن الريب هو، لعبته إنتهت مع أنتهاء شغفه المتجرد بالحياة. دمشق كانت المحطة الأخيرة في قطار العمر الطويل. سنوات من المرض والوهن والعجز، المسافة كانت قريبة بينه وبين الجواهري في مقبرة الغرباء والباب كان مُوَارَب على مصرعيه في الحديث والسمر في ليالي الشتاء الباردة داخل تابوت من خشب رخيص يُزقزق من هزة ارضية خفيفة. أرادَ العوده ولكن هَيْهَات أَنْ تَعُود الْمِيَاه إِلَى مَجَارِيهَا، من يعود من الجُبّ يا يوسف غير يوسف الصديق.
يقينا مات الشاعر الكبير يوسف نعوم الصائغ أبن الموصل الحدباء، ولكن شعره ومؤلفاته لم تمت أبدًا، فهي باقية وشاهدة عليه وعلى إرثه العظيم فهو إمتداد لملك أبن الريب بدون ريب.
ما هذا زمن الشعر
ولا هذا زمني
هذا زمن مسدود
يخرج منه الدود
صار الشعراء قرودا فيه
والعشاق يهود
باركني بيديك الحانيتين
وامنحني
غفرانك ياوطني.