المحرر موضوع: صفقة الواقع ولوعة الممانع  (زيارة 378 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 428
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
صفقة الواقع ولوعة الممانع
لويس إقليمس
بغداد، في 1 أيلول 2020
منذ أن وعينا والحديث عن القضية الفلسطينية  التي أضحت أسطورة الشارع، لم تخلُ منه صحيفة يومية ولا مجلة اسبوعية أو شهرية أو حولية ولا توقفت عنه شبكات الاعلام المسموعة والمرئية والمؤتمرات والاجتماعات واللقاءات متعددة الأشكال والأهداف، ولا غاب يومًا عن الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي بعد أن شهدت هذه طفرات كبيرة في التقنية والاتصال والتمويل والانتاج والإخراج وما سوى ذلك كثير. فيما الواقع يحكي قصة بل قصصُا كاذبة لا تخلو من دجل وتدليس وتبجّح فارغ وضحك على بسطاء البشر والمغرّرين بالشعارات الشعبوية والقومية والدينية واليافطات الكذابة لأجل الدعاية والتغطية على حقائق تُركّبُ في مطابخ مشبوهة لا تمتُّ بصلة إلى معاناة القضية الأسطورة هذه، والتي كما يبدو، أصبحت بقرة حلوب للمتاجرين بها والمزايدين عليها ولمروّجي أفكار أمثال هؤلاء ولمشاريعهم الشخصية والفئوية والدينية والمذهبية والحزبية بل والأممية في آنٍ معًا. وقد أظهرت الحقائق مشاركة هذا النفر، أفرادًا وحكومات ودولًا وشعوبًا وطوائف، بشيء من هذا الدجل وأشكال النفاق التي ساهمت بزيادة مباشرة في معاناة شرائح تعبانة وبسيطة وساذجة في المجتمع الفلسطيني قبل غيره من شعوب المنطقة العربية منها والإسلامية بشكلٍ خاص، فيما طبقة أخرى مرفهة ومترفعة من صفوف هذا الشعب المقهور افترشت وماتزال تفترش القصور والفلل، وتدير مخازن ومتاجر ومحلات وفنادق، وتواصل زيادة إيداعات مستديمة في حساباتها في مصارف وبنوك وزيادة أسهم في شركات مساهمة، سواء في داخل فلسطين نفسها أو في بلدان المهجر. فقد أجاد هؤلاء ومَن آزرهم واصطفّ إلى جانبهم في كيفية إدارة اللعبة التجارية الفلسطينية الماكرة، فأوهموا الشعب الفلسطيني قبل غيره من شعوب ودول العالم بأنهم أفضل مَن يدافع ويساند ويؤازر وينفق عليه أكثر من غيرهم، انطلاقًا من حرص زائف على مصالح "الأمة العربية" الكبرى وضمانًا لديمومة "عروبة" دول المنطقة وحماية ل"الدين الاسلامي الحنيف"، بحسب التصريحات الهوليودية والبوليودية والاعلانات المجانية في وسائل الاعلام المتنوعة الاتجاهات والاهتمامات والسياسات، وبحسب مصالح كل دولة أو فئة أو شخصية.
والحقيقة الماثلة في نتائج هذه جميعًا، أن ضاعت القضية الفلسطينية في هذه المتاهات والتعرّجات والتخريفات والتناقضات والمزايدات، وفقدت المقاومة المعلنة صدقيتها وبدأ بريقها بالخفوت وسط دعوات متناقضة في المواقف والمبادئ والوسائل التي أصبحت قلقة ومتحركة لا تعرف الثبات بسبب تقاطع المصالح والرؤى والانتماء والولاء. فلا الداعون لتحرير القدس بفيالقهم المؤدلجة الجرارة تقدموا بخطوة الصدمة لإفناء مَن أسموهم بعدوّ الإسلام ومغتصب الأرض، ولا المتبجحون فيما أُسميت بالمقاومة اتخذوا القرار الجريء وتواصلوا معه وأداموا زخم الحروب والمعارك التي جرت طيلة العقود المنصرمة. والحقيقة أنّ كلّ تلك المحاولات، سواءً حصلت بتوافق عربيّ ضمن مؤتمرات جمعت العرب فيما بينهم أو ضمّت بين ظهرانيها زعماء دول وأمم اسلامية ادّعت رفضها لقيام دولة اسرائيل، قد حققت تقدمًا في اختراق جدار هذا المسمّى بالعدوّ. والجميع يعلم، كيف انتهت كل تلك المحاولات، والتاريخ جدير بالكشف عن النوايا والرغبات والإرادات وأسرار الصفقات والخيانات والتواطؤات. وقد لا نشهد ذلك نحن الذين عاصرنا تلك الحقبة السوداء من النضال المفتعل والكاذب ضدّ الدولة اليهودية القائمة بالرغم من الجميع! 
من هنا في اعتقادي واعتقاد الكثيرين من الذين أحكموا العقل وتروّوا بالحكمة، لم تعد تنفع لا الشعارات البراقة ولا الدعوات الطنانة ولا التأوهات الباطلة المتباكية على فقدان الوطن أو ما تبقى من أرض وطن يسمّونه بفلسطين، حين يأتي اليوم الذي تخفت فيه تمامًا سمةُ العروبة المزيّفة وتتوارى عنه صفة المقاومة وتنتهي سنّةُ العداء والعداوة بين شعبي فلسطين واسرائيل. فسيأتي اليوم الذي يستفيق فيه الشعب الفلسطيني "العربي" ويدرك كونَ القضية لم تعد سوى لعبة التجارة يتولاها متاجرون ومقاولون كبار رئيسيون وثانويون يتقاضون أجورًا وامتيازات عن كل خطوة سواءً باتجاه التطبيع الواقعي أو باتجاه تأجيج القضية في مناسبات لكسب المزيد من الأموال والعطايا. فكلّ ما يجري ويحصل في هذا وذاك، ليس سوى جرعات تخديرية للناس البسطاء والطيبين ممّن أكلوا الطعم وصدّقوا ما قيل منذ عقود وسنين بالدفاع عن قضية مصيرية تحكي قصة وجود شعب بائس تعرّض مثل غيره في المنطقة لماكنة التغيير في الجغرافيا المتقلبة التي ليس بالضرورة أن يشعر بها البشر في سيرة حياتهم المحدودة. فدولاب التاريخ قد سبق هذا الشعب حين دار على غيره وغيّر مجراه لمراّتٍ وكرّاتٍ عبر الزمن وبفعل الظرف الذي نجهل حدوثه أحيانًا. فهذه هي حركة التاريخ وهذا دولاب الزمن يجري، سواءً شعرنا به أم لا، طالما حياةُ البشر لا تعرف أو تدرك غيرَ صدق وواقع السنوات القليلات التي يعيشُها على الفانية مقارنة بآلاف بل بملايين السنين التي سبقتنا والتي قد تدركنا بعد قضاء مشوار الحياة القصيرة على الأرض. فيما الحكمة توصينا بل تأمرنا أحيانًا بالعيش حسب الواقع المتاح والإيمان بما هو قائم وحاصل وموجود وواقع ممكن ومن دون تكلّف أو مراءاة أو نفاق. فهذه الأخيرة قد أضحت من سمات  العديد من البشر وأخلّت بحياتهم وحياة مَن يجاورهم ومَن يتماهى معهم صدقًا أو تبجحًا أو نفاقًا زائفًا لا ينفع صاحبه ولا غيرَه.
صفقات التطبيع ورنّاتُ التركيع
قد يكون الواقع الحكيم للتطبيع مع اسرائيل في عصرنا المشوَّش هذا، صفقة جيدة ومناسبة لإدامة الحياة ونشر الاستقرار وأشكال الأمان والسلام بسبب التقاطعات في المصالح التي ابتليت بها مجتمعات كثيرة غاصت في وحل النزاعات والحروب العملية والنظرية والأيديولوجية التي لا نهاية لها. وهذه هي حال عموم شعوب الدول الاسلامية التي غرقت في مفاهيم المقاومة ونشر العداء ضدّ كيان سياسيّ زرعته دول عظمى بقوتها وجبروتها وسط دولٍ تنتمي في قوميتها وعراقتها لصفة أخرى تتخذ من الدين والمذهب والطائفة سبيلاً لإثبات الذات والأحقية في الحكم والأرض والنفوذ والسيادة. وهذا يحصل بالرغم من ثبات هوية الشعب اليهودي تاريخيًا هو الآخر على أرض فلسطين إلى جانب غيره من شعوبٍ كانت قائمة بحسب التاريخ والجغرافيا التي لا تكذّبها بطون الكتب ولا يمكن أن تمحوها الآثار الماثلة للعيان. فالتاريخ يتحدث عن شعوبٍ سادت ثمّ بادت عبر حركته المتغيّرة دومًا.هكذا هي حركة الشعوب والأمم عبر التاريخ: تولد وتسكن وتعيش، تسود وتبيد، تثبت وتتنقل، تسالم وتحارب، تتشرّد وتعود إلى أصلها، تنتظر وتترقب، تصبر وتصابر، وهكذا. لكنّ ايادي الشر يبدو عليها صعوبة العيش من دون إبراز أدواتها بوجه الأفضل منها حياةً واحترامًا وتفاعلاً وتعاونًا مع البشر جميعًا. والأنكى من هذا وذاك أنّ مجرّد الاختلاف في النظرة إلى حياة الإنسان ككائن بشري فيما يخصّ احترام خياراته أو الحكم على المجتمعات عمومًا بسبب التقاطع في ثقافات الشعوب، صارَ يشكل إحدى أهمّ السمات التي ترسم له طريقه وخارطتَه وفكرَه وإرادتَه في الحياة، سواءً كانت هذه الأخيرة تتطابق مع الواقع المعاش أو خارجًا عن إطاره الإنساني والواقعي.
    من هنا جاء التدخل السافر في مصير الشعب الفلسطيني من أطراف خارجة عن إرادته أحيانًا، حيث لم تتح التدخلات في شؤونه الوطنية الفرصة المناسبة لمعالجة جروحه بنفسه وإيجاد طريقه لحياة أفضل من دون هذه التدخلات بحجج كثيرة ومختلفة، لاسيّما حين دخلَ الدينُ والمعتقد والأيديولوجية والقومية والمصالح عونًا مشبوهًا في السياسة التي لم تأتي بنتائج إيجابية، ولن تأتي بها البتة طالما الانغلاقُ على التسفيه والعناد قائمٌ، بل وتؤججُه الفتاوى والتفاسير الناقمة والأحاديث والروايات التي انتهى دهرُها وفقدت بريقها الزمني بتقادم الزمن وتغيّرِ المجتمعات وتقدمِ الشعوب وتطور الدول. فالأمم والشعوب لا يمكن أن تبقى أسيرة الماضي السلبي الذي مازال يدمغ أفكار ورؤى مجتمعاتٍ وجهاتٍ تأبى التغيير والانفتاح وفتح صفحات جديدة ناصعة للتاريخ بأشكالٍ أكثر واقعية وقربًا من الواقع الذي تفرضه الظروف الزمانية والمكانية حين تحكيم العقل وترجيح المنفعة العامة التي تأتي بثمار أكثر نضجًا عوض التعنّت والممانعة التسفيهية التي لم تعد تنفع مع تطور العصر وأدواته.
     في الحقيقة، هذا ما أفضت إليه القضية الفلسطينية من تركيع للغير حين وقعَ الشعب الفلسطيني رهينةً بأيادي المتلاعبين بمصيره من مختلف قادة العالم وساسته باختلاف الاتنيات والأديان والمذاهب والطوائف، كلّ بحسب قوة النظام السياسي التي يمسك بها في بلده وطائفته وحزبه وأتباعه وروّاده. وهذا ممّا جعل تفاصيل الادّعاء والمداهنة والتفاوض وفرض الآراء والواقع يتناقض في أغلب الأحيان مع رغبة وإرادة أصحاب القضية أنفسهم. ألم تفتح دولٌ عربية منذ بدء بواكير النزاع العربي-الاسرائيلي بابَ التطوّع لتحرير فلسطين والقدس بسبب ادّعاءات واتهامات من البعض للحكومات بالتخاذل في مواجهة الادّعاءات بمحاولات التدنيس للمقدسات وبحجة تحرير للأرض؟ ولماذا تخلّفَ الأدعياء والمروجون عن خوض الحرب المقدسة التي ادّعوا ودعوا إليها مرارًا وتكرارًا؟ وهل نسي العراقيون فتح نوري السعيد سعيد الذكر باب التطوّع للمتظاهرين الثوريين المطالبين بالتوجه لمحاربة "العدو" دولة اسرائيل في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، بعد اتهام النظام الملكي بالعمالة والتخاذل. فما كان من هؤلاء إلا القلّة القليلة منهم، كي يتواروا عن المشهد الثوري المنافق وترك الميدان لعلمهم المسبق بالنتيجة. وكم من الحروب التي خاضها العرب و"المسلمون" معًا ولم يفلحوا آنذاك في تحرير شبرٍ ممّا اغتصب. بل العكس، حصل الأدهى والأكثر مرارة حين توسعت اسرائيل لتشكّل دولتها الكبرى التي ماتزال في طريقها للاكتمال متى شاءت الأقدار التي لن يكون لنا نصيب برؤية ما قد يحصل لاحقًا. ورحم الله الزعيم المصري الخالد محمد أنور السادات الذي حكّمَ العقل ووضع مصلحة البلاد العليا فوق كلّ منفعة، فنجح في الحصول على سيناء آنذاك مقابل السلام.
صفقات من تحت الكواليس
ما جرى ومايزال يجري من تحت الكواليس وفي الغرف المظلمة بشأن أسطورة القضية الفلسطينية لم يتم الكشف عنه كلّه بعدُ. فالتسريبات التي تتوالى والتي ستشتدّ وتيرتُها في ظروف أخرى أكثر انفتاحًا ومكاشفةً، ستكشف "بلاوي" كثيرة، قد لا يتصورها عقل الفرد المسلم المغرَّر البسيط قبل غيره، "عربيًا" كان أم أجنبيًا أم "أعجميًا" أو "عصمليًا". فهؤلاء جميعًا عبر سياسات زعاماتهم المتهالكة والقائمة كانوا المرتهنين والمقاولين الرئيسيين لما جرى لفلسطين، أرضًا وشعبًا، عبر صفقات من خلف الكواليس درّت عليهم وعلى أعوانهم وأتباعهم مكاسب كثيرة محلية داخلية وأخرى خارجية على حساب حقوق أهل الأرض. ومَن يصرخ اليوم ويعربد ويعاند ويشجب ويهدّد بسبب انصياع العقل البشري لدى دولٍ وشعوبٍ أدرك ساستُها جزءًا من الحقيقة وليس كلَّها، لا ولن ينفعه هذا العناد غير المبرّر، طالما هناك ولو بضعة أفرادٍ من الشعب صاحب الأرض يقبل بالتطبيع وعيش حياة طبيعية طلبًا للأمن والأمان وحياة الاستقرار المفقودة والرفاهية بسبب تبجّح فئات وزعامات ومافيات لا يهدأ لها بال ولا تستقرُّ لها حياة إلاّ بالنبش في أتربة المقابر وتأجيج النيران وتنظيم صفقات التسليح المدمّرة التي تُجنى من ورائها الأموال والامتيازات. أمّا مَن يغرّدُ خارج السرب بالعويل واللطم والبكاء على الحقوق جهارًا وهو في قرارة نفسه يضمر عكس ما يجاهر به، فهذا شيطانٌ أخرس ربيبُه الزيف والكذب والنفاق والضحك على ذقون البسطاء من شعوب المنطقة، سواء في صفوف العرب أو العجم أو العصملّية. فعندما تتناقض الحقيقة والواقع مع الخفي المدسوس سمًا زعافًا بهدف الكسب المشبوه شعبيًا والظهور بزيّ الراعي الحريص لأهداف سياسية زائفة لا تتمتع بالمصداقية، حينئذٍ يُفترضُ قراءة السلام على هذا الصنف من البشر الكاذب المنافق. وخير مثال على ما ذهبنا إليه استنكار دول لها ممثليات أو تبادل دبلوماسيّ رسميّ مع اسرائيل، لكنّها استشاطت غضبًا حين اتخذت دولة الإمارات العربية المتحدة قرارها بتحكيم العقل الذي ينمّ عن رؤية صائبة وحكيمة بعيدة المدى لما يجري من أحداث وما يُحاكُ في الكواليس. وبذلك نالت ما تستحقه من تقدير في قرارها الشجاع الذي يحكي قصة إدارةٍ سياسية محنكة في هذا البلد الذي جذب الأنظار في نقلته التطورية النوعية خلال بضع سنوات بسبب انفتاحه الكبير على العالم وفتحه أبوابًا ونوافذ أدخلته في عالم آخر في التقنية والتقدم والتطور بعد أن عاش معظم طبقات شعبه في غياهب الصحراء وأتربتها مستخدِمَة الجمال والحمير وبيوت الطين والنوم في العراء غير عارفةٍ كيف تقضي حاجاتها طيلة فترة سباتها. وقد عشنا جزءً من تلك الحقيقة حين تمنّى الراحل الشيخ زايد آل نهيان باني البلاد الكبير في إحدى زياراته لبغداد مطلع الثمانينات أن يرى في بلده شارعًا على غرار شارع حيفا. والعاقل مَن يقارن ما وصل إليه البلدان بين الأمس واليوم! 
هناك دولٌ مشهود لها بتاريخها الطويل بل المملّ في المتاجرة بالقضية الفسلطينية، في حين أنها لم تقدّم سوى أدوات الشر والغلّ والحقد والكراهية ضدّ شعوبٍ ودولٍ راغبة بالسلام. والشهادة لله، كلّ ما قامت به لم يكن سوى جرعات تخديرية دائيمة لأصحاب القضية عبر عملائها من مقاولي الشعب الفلسطيني من منظماتٍ تدّعي المقاومة والتصدّي لدولة اسرائيل بألعاب صاروخية بدائية في الكثير من الأحيان وبدالّة اشخاصٍ سذّج توهموا بحملهم شعار المقاومة، بينما زعامات هؤلاء يسرحون ويمرحون في المنتجعات ويسكون الفلل الفارهة ويرفلون بحياة أمراء الحرب. فقد نجحت بعض هذه الكيانات والدول صاحبة الادّعاءات الفارغة، ولاسيّما زعاماتُها الدينية التي تتخذ من السياسة جسرًا لتحقيق المصالح الخاصة وزيادة المكاسب على حساب شعوبها المقهورة، بفرض أجنداتها الدينية والمذهبية والطائفية عبر إثارة المشاعر وزيادة الأحقاد البعيدة عن أية نفحة إنسانية كما أمر بها ربُ السماوات والأرض حينما دعا الأمم والشعوب للعيش بسلام والتعارف فيما بينها على المحبة والوفاق والتضامن. ومثل هذه السلوكيات التحريضية ساهمت بطريقة أو باخرى في تعميق الانقسام في صفوف الشعب الفلسطيني نفسه ووضع العراقيل بوجه أية خطوة إيجابية تساهم في توحيد الصف العربي، حينما ادّعت "الفلسطينية" الزائفة أكثر من أهل البيت الفلسطيني نفسه. فقد تصرّفَ هؤلاء المتبجحون والمنافقون ومازالوا من دون تخويلٍ رسمي من عامة الشعب الفلسطيني المنكوب والمقهور، ربّما إلاّ من أدوات ومنظمات المقاومة المستفيدة من إبقاء الوضع المأساوي على حاله. فإذا كانت الحكومة الفلسطينية ورئاستُها بالذات تتعامل مع دولة إسرائيل رسميًا، فما شأنُ الغرباء والدخلاء والمهووسون أيديولوجيًا ودينيًا ومذهبيًا؟ أليست السياسة إدارة حكيمة تهمّ بتحقيق مصالح ولا تنساق للعواطف التي تدمّر ولا تبني، تعطّل ولا ترمّم؟
شجاعة في الطرح ورجاحة في الحكمة
ومن هذه المنطلقات الإنسانية، جاءت مبادرات السلام العديدة للتطبيع والتعايش البشري المطلوب بين المجتمعات التي تحتضنها المنطقة التي ما تزال تعيش على طبق ساخن منذ بدء الصراع بين الشعبين. وقد جنت الدول التي سبقت غيرها في التطبيع مع اسرائيل بتمثيل مباشر أم غير مباشر، نتائج قرارها السيادي بعيدًا عن تأثيرات خارجية دخيلة. وهذا ما أثبتته الأيام مع كل من مصر والأردن حصريًا، فيما سعت دول أخرى لعقد اتفاقات ثانوية للتخفيف من وطأة العداء بينها وبين الدولة العبرية تفاديًا للآثار غير الطيبة التي قد تترتب في حالة استمرار ذات البين القديم والرضوخ في نهاية المطاف لرنّات التركيع المهين في الشكل والصورة والمصالح. وليس من شك بوصف الخطوة الإيجابية الأخيرة لدولة الامارات بالشجاعة والجرأة حين وعت لضرورة تحقيق تبادل المصالح المشتركة وإرساء السلام في المنطقة الساخنة منذ عقود، لاسيّما عندما أدركت أسرار وحقائق النفاق الأممي والدولي ولاسيّما من داخل الحظيرة الإسلامية، العربية منها والأجنبية، من شرق-أوسطية وأعجمية وعصملية ممّن ساهمت بوضع العراقيل أمام اية مبادرات دولية لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية وذلك بحجة حماية وتحرير المقدسات الاسلامية التي أصبحت شماعة لهذه الأخيرة. بل تشير تسريبات حديثة إلى محاولة دول اسلامية غير عربية متمثلة بباكستان وتركيا وإيران وماليزيا ومَن في دائرتها، لأخذ المبادرة من دول عربية بهدف عزل هذه الأخيرة والتوجه بالعالم الاسلامي لتشكيل منظمة اسلامية بديلة عن المنظمة القائمة حاليًا برعاية السعودية. وكلّ ذلك بسبب وجود تيارات معتدلة تسعى للتطبيع حفاظًا على الأمن الدولي والسلم الأهلي وتحقيقًا لمصالح عليا للمنطقة وبلدانها. وإن صحّت الأخبار، فهذا سيكون بمثابة توجه واضح وخطير يضع دول المنطقة في مواجهة "اسلامية عربية- اسلامية أجنبية"، ستزيد من الهوّة القائمة بين شعوب هذه الدول وحكوماتها. والخاسر الأكبر، سيكون الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف الذي لا تنفكّ الدول والأمم بالتدخل في شؤونه والتحدث باسمه وفي تقرير مصيره بعيدًا عن إقامة الحكمة وإحكام الروية وطول الأناة بغية تحقيق سلام دائم وشامل بعيدًا عن أرباب المتاجرة بمصيره والمقاولين الكبار وفروخهم الثانويين في العالم الاسلامي وفي صفوف الشعب الفلسطيني نفسه من أمثال المنظمات الاسلامية والإخوانية المتشددة الممولة سواء من الصف العربي المشبوه لغاية الساعة أم من زعامات دول إسلامية أجنبية مثل إيران وتركيا تحديدًا. فعندما يكون القرار بيد الشعب الفلسطيني ذاته من دون تدخل في شؤونه ومصيره ومستقبله، سيجد حتمًا طريقه إلى السلام والرفاهة والتعايش المشترك ضمن سيادة دولتين جارتين تنعمان بالأمان والاستقرار. 
هذه هي الواقعية المطلوبة والعقلانية في الدبلومساية والإدارة الحريصة التي ينبغي البحث عنها في التعامل مع اسرائيل. فمن حقّ أية زعامة أو أمة أو دولة أن تبحث عن مصالحها العليا ومصالح شعبها من أجل إسعاده وتحقيق رفاهته بما تراه متوافقًا مع تلك المصلحة، وليس بالبقاء أسيرة مستنقع المقاومة الفارغة وما يترتب عليها من سمات الكراهية البربرية والحقد الأبدي والحروب والنزاعات والخصومات التي لا تنتهي. فالتاريخ لم يثبت أن أرض فلسطين كانت ملكًا لسواه دونه، مثلما هو العراق واية دولة أخرى. هذه مسيرة التاريخ والجغرافيا. شعوب سادت ثمّ بادت، وأخرى عاشت وتنقلت وتهجّرت ونزحت، ثم عادت وعاشت وتعايشت. هكذا هي حركة البشر والحجر. وستكشف الأيام صدق المطاوع ولوعة الممانع، كما  أنها لن تخفي لهفة المقاوم لدخول صفقة الواقع هو الآخر!