المحرر موضوع: قراءة في قصيدة "عيون هيفا" للفنان الشاعر موفق ساوا  (زيارة 955 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل د. موفق ساوا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 187
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني

قراءة في قصيدة "عيون هيفا" للفنان الشاعر موفق ساوا
بين اراغون وساوا ثمة تماثل كبير بين التجربتين
قداس في معبد اسمه "هيفا" أم تجربة نضال

أراغون وساوا يلتقيان، في إيمانهما، بضرورة تحويل الأشياء والكلمات إلى أنغام  تخدم الناس
قداس في معبد اسمه "هيفا" أم تجربة نضال
 
بقلم : الناقدة زينب حداد/ تونس  Sep 2020
 
تقديم
اهدي هذه القراءة المتواضعة إلى اثنين تحابا وترافقا على درب الحياة هما الشاعر والفنان ورئيس تحرير جريدة  "العراقية الاسترالية" د. موفق ساوا والإعلامية نائبة رئيس التحرير هيفا متي تقديرا لجهودهما المضنية في إخراج هذه الجريدة، ثرية المضمون، بهية الشكل على مدى خمسة عشر عاما دون كلل أو ملل.
 
القصيدة : عيون هيفا
 
قل
لمن يسرق عيون هيفا
            من عيوني
 
               في وضح النهار
هل تذبل او تموت
                 جذور الأشجار
                 حين تسرق الثمار
وهل تنطفئ الشمس
                     بالمطر
اويحترق الماء
                    بالنار؟
 
علمتني عيون هيفا
      كيف أرى
           وكيف أهوى
وابحث عن الأعمى
          فأمنحه عيون
                     هيفا
 
يا أيتها العيون التي
           أشعت الضوء على كتابي
أنطقت كل حروفي
ويا أيتها الشمس التي
            مزقت ظلام غربتي
عرفتني  درب الخروج
                    من خريفي
ويا أيتها العيون التي
                 عمدت جسدي
                    طهرت كل ذنوبي
فلاذ فرارًا
                  قلقي وخوفي…
 
 موفق ساوا 18/09/1978 
 
تمثل هذه القصيدة "عيون هيفا" ضمن المجموعة الشعرية لموفق ساوا  قُطْبُ الرَّحَى : ضمن ثلاث  قصائد هي :
"هيفا"   09/11/1976،
"عيون هيفا"  18/09/1978     
"مصباحا خذيني"   26/09/1978
كانت فيها "هيفا" مصدر الوحي والإلهام وتذهب القراءة السريعة إلى أن هذه القصائد وجدانية يتغنى فيها الشاعر بحبه وحبيبته، وما هذا بجديد في الشعر والحياة، لكن القراءة المتمعنة ستبين أن هيفا ليست مجرد إمرأة مَلكتْ عيناها على الشاعر كيانه بل هي لفيف من الدلالات والرموز، وأن الخفي من المعاني أكبر وأعمق مما ظهر منها.
  لن تتردد ذاكرة أي قارىء للقصيدة في مستوى العنوان من استحضار قصيدة  لويس أراغون "عيون إلزا" (1897-1982) شاعر وروائي وناقد فرنسي، كان عضوا بارزا في الحزب الشيوعي الفرنسي والمقاومة الفرنسية، عرف بأعماله السريالية واعتبر شاعر المقاومة والحب) التي كانت حبيبته ورفيقة دربه إلزا تريولي.
ولا أنوي بهذا التذكير إنشاء قراءة مقارنية بين القصيدتين ولكني أحب أن أبين ان التماثل في العناوين والتصوير السريالي ليس من باب توارد الخواطر بل هو إختيار واع ومتعمد من موفق ساوا فللشاعرين نفس الفكر، وقد كتب كل منهما قصيدته في ظروف تاريخية صعبة:
أراغون كتب قصيدته "عيون إلزا" أثناء الحرب العالمية الثانية وساوا كتب"عيون هيفا" في فترة اضطهاد الشيوعيين وملاحقتهم في العراق، كل منهما إذن غاص بعيني الحبيبة في ذاته بأوجاعها وأفراحها، وربط بين معاناته وكلوم الوطن، ولعل هذه المقاصد هي التي جعلت الشاعر ساوا يستعمل صيغة الجمع في لفظة "عيون" بدل المثنى إذ كان يفترض أن يقول "عينا هيفا".
أراغون وساوا يلتقيان في إيمانهما بضرورة تحويل الأشياء والكلمات إلى أنغام  تخدم الناس وترتقي بهم عندما يبلغ  إذلال الانسان والظلم السياسي أوجه فتكون القصيدة بؤرة الأفراح والأوجاع، كوجهي عملة واحدة و تكون  جدارالتصدي للعنف السياسي.
"عيون هيفا" قصيدة قصيرة يمكن أن تقرأ بنفس واحد فهي منسابة كانسياب العاطفة التي صدرت عنها، المقاطع فيها طويلة مفتوحة ومنذ العنوان يستقبلك اسم هيفا في نوعية أصواته وتركيبها كنغم تعزفه قيثارة "أرفي"، يشيع في أجواء النص طربا وسحرا وأناقة، لكأنه أجنحة الفراشة ترفرف بالحلم تحمله إلى الأبعاد، تهدهد به الكائنات أو لكأنه التسابيح تأتيك من بعيد  مع هبات النسيم، ويعدنا العنوان إلى قصيدة نقرؤها بمشاعرنا لأن السحر لا يقرأ بالكلمات بل نحسه أو لا نحسه.
لكن الشاعر لن يتوقف عند الخصائص المادية للعين ولولا وجود المادة الصوتية (ع، ي، ن) لما جزمنا بأن مدار الحديث هو العيون التي تتخذ في العادة الشعرية مدخلا الى وصف الحبيبة وذكر الوجد:
إن العيون التي في طرفها حور.   قتلننا ثم لم يحيين قتلانا.
بل سنتبين بعد  تفكيك آليات القول أن الشاعر لا يكتب نصا في الحب بقدر ما يكتب  نصا ملتزما (ككل نصوصه) وانه لا يستمد مادته الشعرية من العين بل هو يشحن العين بما يريد من المعاني فتتحول من هدف الى وسيلة ويصبح الوجد كعمق للوحة زيتية في الفن التشكيلي يساعد على إبراز الموضوع الرئيسي.
يعمد الشاعر الى المراوحة بين الأسلوبين الانشائي والخبري (الانشاء يؤطر الخبر) وذلك يخدم جمالية النص فالخروج من الانشاء الى الخبر والعودة اليه يضفي ديناميكية على الايقاع  لكن الهدف في الحقيقة يتجاوز الجمالية الى التاكيد على علاقة الانصهار بين عيني "الهو" وال"هي"، أو هي علاقة احتواء يبرهن على قيمة الحبيبة، ألسنا نقول عن كل من يعز علينا فنحفظه ونخشى عليه "يا عيوني"
قل
لمن يسرق عيون هيفا
من عيوني
           في وضح النهار
………………
ويؤكد المعنى البلاغي للانشاء هذا المعنى اي استحالة التفريق بين العيون التي سكنت إلى بعضها البعض وداخل بعضها البعض.
أليست هذه الانطلاقة الشعرية ذات وجهين فعلى قدر التلاحم بين "هو" و "هي" يكمن بين السطور خوف من التفرقة والانفصال ويأتي فعل "يسرق" مكررا في النص ليكشف هذا التضارب في احاسيس الشاعر، وستخرج منه لتعود إليه جملة من الصورالقائمة على الاستعارة التي ستوسع الحقل الدلالي للصور الشعرية كما ستنزاح بها الى الترميز، مرجعيتهاالطبيعة وتنتظم في ثلاثة معاجم :
-  المعجم الاول  : جذور الأشجار- الشمس - الماء: يمثل كل ما هو ثابت وهو أصل الحياة
- المعجم الثاني: الثمار- المطر- النار يمثل ماهو عرضي، زائل (ارتباط هذه العناصر بحرف الجر (ب) يدل انها وسائل للفعل
- المعجم الثالث: معجم الأفعال: تسرق، تذبل، تموت، تنطفئ، تحترق وتذهب الى معنى  القضاء على الحياة.
نستنتج إذن ان عيون هيفا قد اتخذت بعدا آخر في النص فهي  أصل الحياة و هي الأرض التي يتجذر فيها الشاعر، هي الوطن الذي يحويه فيحميه،وخوف الشاعر إنما على وطنه أن يسرق في وضح النهار لكنه - وبما سبق تحديده من علاقته بعيون هيفا-  سيتصدى للسارق ان يأخذ منه حبيبته.
هل تذبل أو تموت
        جذور الأشجار
        حين تسرق الثمار
وهل تنطفئ الشمس
                   بالمطر
أو يحترق الماء
                  بالنار؟
إذا تقدمنا مع النص أكثر نتبين أن لـ "عيون هيفا" دورا تعليميا فهي التي فتحت عيني الشاعرعلى الحقائق وكنه الأشياء، وضعته في دائرة الضوء مما يحيط به، فاذا كان من وجوه هيفا أنها الأرض والوطن فهو سيتعلم منها
"كيف يرى
وكيف يهوى"
يرى ببصيرته ما يحاك للوطن من خيانة وما يعانيه الكادحون من فقر وتجهيل وتبعا لذلك سيرشح لأن يلعب دوره التحسيسي التوعوي باعتباره شاعرا ملتزما (فالشعراء - أصحاب القضية- ليسوا في كل واد يهيمون، يقولون مالا يفعلون)، ولا تخفى في هذا المستوى المرجعية الدينية للقول فقوله:
ابحث عن الأعمى
        فأمنحه عيون
                     هيفا
ترن بين سطوره سيرة "يسوع المسيح" الذي كان  يشفي الأعمى والأكمه فتكون معجزاته دافعا الى الإيمان به ولن يكون إيمان ما دام في النفس علة كذلك لن يؤمن شعب بقضيته ما دام في التبصر والإبصار علة.
هيفا إذن هي العقل الواعي للشاعر
لذلك لا يمكن أن تفاجئنا نبرة الابتهال في استعمال النداء الدال على المناجاة وما يسبغه ذلك على حورية الإلهام هيفا من تقديس يتأكد بظاهرة أسلوبية أخرى هي التناص الصريح  والضمني.
اذ يتداخل مع ملفوظ الشاعر ملفوظ ديني وصور لها أيقاعها في الانجيل وحتى القرآن، فالـ (كتاب) الذي اشعت عليه الأضواء النورانية إنما هو الإنجيل الذي سيعلم الناس الهدى  (فتنطق حروفه) كما نطق المسيح في المهد ليفحم المتشككين والـ (تعميد) والمعمودية انما يتمثل في موت يسوع المسيح وقيامته في الحياة الجديدة، ولم يتعمد المسيح من ذنوبه فقط بل من ذنوب البشرية كلها.
أليس التماثل واضحا؟!.
اصبحت عيون هيفا كالروح القدس عمدت الشاعر وبعثته - وقد كان ميتا- بالكتاب يعلم الناس، متحررا من "قلقه
و خوفه"، متجاوزا  "غربته وخريفه" أي كل المعيقات الذاتية:
يا أيتها العيون التي
عمدت جسدي
تطهيرا
قد لاذ فرارا
قلقي وخوفي
 
هيفا هي القوة الكامنة فيه، هي إيمانه بنفسه، برسالته شاعرا تقدميا ملتزما، هي دافعه إلى التطهر من الجبن والعجز ليخوض معركته المصيرية، معركة الدفاع عن وطن "يسرق في وضح النهار".
سيولد من هيفا ولادة المسيح من مريم ولن يكون له وجود خارج وجود هيفا.
بها يكون ومنها يكون ومن اجلها يكون.
"عيون هيفا". حبلى بالرموز، والرموز حبلى برؤى الشاعر.