المحرر موضوع: ج15 اكتشاف الحب:اوراق من مدونتي الشخصية  (زيارة 529 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل مروان ياسين

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 189
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
موفق

ج15  اكتشاف الحب:اوراق من مدونتي الشخصية

                         
مروان ياسين الدليمي


مراجيح الاميركان في شقق اليرموك   
كنت مطمئنا في تلك الساعة من انها لم تعد تخضع للقلق الذي كان يساورها في الايام الماضية،بينما كنّا ننتظر الى ان يحين دورها لاخذ الجرعة الاولى، لانها بطبيعتها لديها ميل لتطبيق تعليمات الاطباء بحرص شديد، وهذا لانها تحمل شهادة بكالوريوس في الكيمياء من جامعة الموصل،رغم انها لم تنخرط في عالم الوظيفة، لكن اختصاصها العلمي الذي اختارته عن قناعة منحها القدرة على فهم تركيبة الادوية ومعرفة فوائدها ومضارها، حتى انني ذكَّرتُها بذلك اثناء ماكنَّتُ اختلق الاحاديث باية صيغة حتى لاتشعر ببطىء جريان الوقت الى ان يحين دورها، إذ يتوجب علينا ان نكون صبورين لان هناك عشرين امرأة يسبقنها في الترتيب، لذا حاولت  قدر ما استطيع ان الاطف الوقت بمنعطفات تبعث المسرة وتخفف العبء عن الروح المتعبة كي لا نبقى اسرى تلك اللحظات الثقيلة التي امسك بها الزمن بقبضته، فما كان علي الاَّ ان احرِّض ذاكرتها على ان تنتقل معي على اجنحة الكلمات بين ازمنة عَدَّت علينا بحلوها ومُرِّها، وبعد ان اصبحت مطوية في عهدة الماضي، كانت بعض تفاصيلها تأبى ملامحها ان تضمحل  وبقيت تتراقص في مخيلتنا مثل نافورة يعلو فيها الماء وينخفض، فاستدعينا احداثا مرت بنا، خاصة عندما كنا نسكن في شقتنا بمنطقة اليرموك بمدينة الموصل، حيث كانت النساء في العمارة التي فيها شقتنا دائما ما يلجأن اليها لتقرأ لهن مامكتوب باللغة الانكليزية على المصلقات الورقية التي عادة ما يتم بها تغليف علب الادوية، ولم تكن تتثاقل من كثرة الطلبات، بل كانت تشرح لهن مامكتوب فيها من تعليمات تتعلق بفوائد ومضار الدواء، وتطور الامر بعد ان وصلت في الايام الاولى التي اعقبت سقوط بغداد وحدة عسكرية اميركية الى ارض خالية من البناء، كانت تقع في مواجهة العمارة السكنية التي نقيم فيها، ونزل  الجنود من الهمرات وانتشروا بكامل اسلحتهم واخذوا يستطلعونها، ثم بدأوا يرسمون عليها خطوطا بيضاء على شكل مربعات ومستطيلات، وفي فترة الظهيرة جاءت شاحنتان وافرغتا ما تحملانه من اعمدة خشبية وقضبان حديدية، اعقبتها ثلاث سيارات حمل من نوع القلابات محملة بالرمل، وبدأوا باعمال تقطيع الخشب والحديد، وهذا ما دفع سكان الشقق الى ان يتجمهروا على الشرفات والنوافذ واخذوا يراقبون مايجري امامهم ويتساءلون في ما بينهم ولايصلون الى جواب، وجل ماكانوا يخشونه ان يقيم الاميركان قاعدة عسكرية لهم على تلك الارض، فما كان امامهم الا ان يستنجدوا بها حتى تتحدث معهم وتفهم منهم الغرض من هذه الاعمال. وبينما هي تستوضح من العسكري الامريكي عن الغرض مما يجري التف حولهما جمع كبير من النساء،وعدد من الاطفال كانوا قد حشروا اجسادهم الغضة بين النساء ومدوا رؤوسهم نحو الاعلى وكأنهم  كانوا يتابعون امام شاشة التلفزيون فيلما من افلام الرسوم المتحركة باهتمام وشغف،واخذت تترجم لهن ماكان يتحدث به الجندي اجابة على اسئلتها وعلامات الدهشة والابتسامة كانت تعلو وجوههن، لكن دهشتهن لم تكن توازي دهشة الجندي الاميركي عندما وجدها ترتدي العباءة العراقية السوداء التقليدية وتتحدث معه الانكليزية بطلاقة، وتفاجأ اكثر ما أن علم منها بانها ربة بيت وليست موظفة مع انها تحمل شهادة جامعية، ولمّا اخبرتهن بان الاميركان عازمون على ان يقيموا متنزها يضم العابا ومراجيح للاطفال بدل ان تبقى الساحة مكبا للنفايات، ارتفع صوت الصفير والتصفيق من قبل الاطفال، واخذوا يتنططون ويدورون حول الجندي الاميركي وهم يرقصون ويصرخون باصوات عالية " كوود اميركا " وانساق معهم الجندي وهو يردد معهم "كوود اميركا " ولم يترك الفرصة تضيع منه واخذ يرقص معهم، بينما انبطح  بعضهم على الارض وهم يغصّون من الضحك ويؤشرون بايديهم على الجندي.
خلال ثلاثة ايام كان الاميركان يعملون طيلة ساعات النهار مثل خلية نحل، فتمكنوا من اقامة متنزه جميل احتوى على  كل ما يحلم به الاطفال من مراجيح ودولايب دوارة ومزحلقات، في منطقة شعبية تكاد  تكون منسية من قبل السلطة المحلية، كما زرعوا اشجارا بشكل متناسق  حول المتنزه وعلى طول الجزر الوسطية التي كانت تمتد وتقسّم الشوارع الداخلية ما بين العمارات السكنية.
في صباح اليوم الرابع خرجت الى الشرفة كعادتي ولاستمتع بمنظر المتنزه لكني تفاجأت باختفاء الاشجار والمراجيح، ولم يبق سوى القضبان الحديدية المثبتة في الارض، وما ان حل المساء فإذا بالمراجيح يحملها الاطفال وهم يخرجون بها من هذه الشقة وتلك، ويعلقونها بالكلابات المثبته في القضبان ، وبدأوا في التمرجح فيها حتى ساعات متاخرة من الليل وسط صخبهم وغنائهم، وقبل ان يغادروا المتنزه رفعوها من مكانها واخذوها معهم.
وبعد ايام عاد المتنزه الى سابق عهده ليكون مكبّا للنفايات .

الجرعة الاولى
مضت  ثلاث ساعات ولم يتبق الا خمس نساء كن ينتظرن دورهن،عندما نادى باسمها الموظف المسؤول عن تنظيم جدول دخول النساء الى الصالتين المخصصتين لتلقي الجرعات، وكانت الصالة الاولى تستوعب ستة اسرّة، والثانية اثني عشر سريرا. وبينما كانت تستعد للاستلقاء على السرير تذكَّرتْ ما كان قد  حذرها منه الطبيب جمال غفوري بان تتجنب اخذ اي حقنة في ذراعها الايسر حتى لاتتعرض لاي مضاعفات طالما ان العملية كانت في الجانب الايسر من صدرها، فكشفت عن ساعدها الايمن ليتم حقنها اولا وعبر الوريد بسائل لونه يشبه لون الماء كان معبأ بكيس ومعلقًا على حامل حديدي، الغرض منه خلق مناعة دفاعية لديها حتى لاتتقيأ بعد ان تتلقى الجرعة، وبعد ساعة من الزمن نفد ما بداخل الكيس، عندها استدعيتُ الممرضة من غرفة مجاورة فجاءت واستبدلت الكيس الفارغ بكيس آخر معبا بالمادة الكيمائية وكان لونها يشبه لون الدم، وكان يتوجب عليها ان تبقى راقدة في السرير وقتا لايقل عن ثلاث ساعات الى ان ينفد ما بداخل الكيس.
يوسف حنَّا الطفل العملاق
جميع المرضى في الصالة كنَّ من النساء،والى جانبهن تجلس نساء وفتيات يرافقنهن، لذا وجدتني في حالة حرج شديد، وهذا ما منعني من الجلوس بالقرب منها على السرير، وآثرت البقاء حيث كنت اجلس في صالة الانتظار على كرسي بمواجهة باب الصالة المفتوح وفي مقابل السرير الذي كانت ترقد عليه زوجتي، ولاحظت امرأة غير محجبة في العقد السادس من عمرها ترقد على السرير المجاور لها، مصابة بسرطان القولون، ومعها ابنتها التي لم تكن تتجاوز العشرين من عمرها. وكان بامكاني ان اسمع ما كان يدور بينهن من احاديث، فعرفت بانها امرأة مسيحية من الموصل لكنها تقيم منذ ثلاثة اعوام في ناحية عنكاوا التي تقطنها اغلبية مسيحية، وانها على صلة قرابة بعائلة ام يوسف المسيحية التي كانت تقيم مع زوجها وابنيها يوسف وداؤود في شقة مجاورة لنا في نفس العمارة السكنية التي كنا نقيم فيها في منطقة اليرموك، وكانت صلتنا مع عائلة ام يوسف قد إتسمت بالمودة والالفة، ولازلت اذكر ابنهم الاكبر يوسف الذي كان مصابا بمرض السكري ، وغالبًا ما يقضي ساعات النهار في شقتنا يلهو مع ولدي محمد وكان بعمر ستة اعوام، وعلى الرغم من ان يوسف لم يتجاوز السابعة من عمره الا ان ضخامة جسمه مع طول قامته مقارنة باقرانه كان  كافيا حتى يبدو في سن الخامسة عشرة، ودائما ما كان يتعرض للتنمر بشكل وحشي من قبل الاطفال نظرا لتأخره منذ الولادة في النطق حتى انه كان يلفظ الكلمات بشكل غير مفهوم كما لوانه في طفل صغير بعمر ثلاث سنين،وكم من مرة تحايلوا عليه عند خروجهم من المدرسة بحجة اللعب معه ليسقطوه بالتالي في بركة آسنة تقع على الطريق المؤدي الى العمارة السكنية، ورغم كل الجهود التي بذلتها عائلته لمعالجته من مرضه الا انها لم تستطع ان تنقذه من الموت الذي اختطفه مبكرا، وشكل غيابه صدمة قاسية لنا بقدر ماترك اثرًا موجعًا على والديه، فتشابكت الاحداث مع بعضها وابتلعت منّا الشعور بالامان بعد ان شاعت الفوضى في الموصل وبرزت الجماعات المسلحة التي بدأت تنتشر بشكل كبير في منطقة اليرموك بعد العام 2003  فقررت عائلة ام يوسف بيع الشقة بما فيها من اثاث، خوفًا على حياة عائلتها بعد ان انفتحت قروح العنف الديني بكل مايفرزه من كراهية، وغادرت المدينة ولم نعد نعرف عنها اي اخبار، الى ان سمعنا من المرأة المسيحية التي كانت ترقد على السرير بانهم قد وصلوا الى السويد، وان ابنهم الثاني ديفيد الذي كان ايضا مصابا بنفس مرض اخيه قد تمكن الاطباء هناك من معالجته واصبح الان طالبا جامعيا يدرس الهندسة وفي السنة الاخيرة.
نكهة رمضان المفقودة
ونحن نخرج من بوابة المستشفى بحدود الساعة الرابعة عصرا لاحظتُ ان وجهها كان شاحبا جدا، ولما سالتها إذا ما كانت  تشكو من اية اوجاع ،اكدت لي بانها طبيعية جدا، بل اخبرتني بانها تفاجأت لانها لم تشعر بشيء طيلة الثلاث الساعات التي كانت تتلقى فيها الجرعة، بينما كانت قد هيأت نفسها الى انها ستواجه آلامًا ربما لن تستطيع تحمّلها، وما عزز من كلامها انها ما ان دخلنا الى البيت حتى غيرت ملابسها واتجهت مباشرة الى المطبخ لاجل ان تهيء لنا وجبة من الغداء، لانني بقيت طيلة ساعات النهار معتمدا على ماتناولته في وجبة الفطور فقط، واما هي فما كانت قد تناولت حتى وجبة الفطور التزاما بتعليمات الدكتورلقمان الذي كان قد اوصاها بان تمتنع عن الاكل نهائيا في اليوم الذي تتلقى فيه الجرعة،ولما طلبت منها ان تستريح وساتكفل انا بالطبخ رفضت،واعادت على مسامعي مرة اخرى بانها لا تشكو من اعراض ولاشيء يدعو الى القلق.
في اليوم التالي على تناولها للجرعة لم يتبقَّ على انتهاء شهر رمضان سوى خمسة ايام، وكنا قد افتقدنا نكهته الخاصة التي اعتدنا عليها، حيث لم يكن  حضوره في ذاك العام كبقية الاعوام الماضية، بعد ان احاطت بنا الهموم حتى اننا افتقدنا تلك اللحظات التي كانت تظللنا بسحر طقوسها عندما كانت تحين ساعة الافطار، لان الطبيب منعها نهائيا من الصوم واكد عليها بضرورة الاهتمام بنوعية الاكل الذي ينبغي عليها ان تتناوله والاطعمة التي ينبغي ان تتجنبها، إذ يتوجب عليها ان تتناول يوميا انواعا مختلفة من الخضروات والفواكه، وان لاتقترب نهائيا من كافة انواع الحلويات.
 شعرها بدأ يتساقط
كانت تعلم بان شعرها سوف يبدأ بالتساقط في اقرب فرصة، ولكنها في صباح اليوم التالي الذي اعقب تناول الجرعة الاولى كانت قد نسيت ذلك تماما عندما دخلت الى الحمّام، وما ان اخذت تمشط شعرها فإذا بها تنتبه الى ان خصلات كثيفة قد تجمعت بين اسنان المشط ، كما انسلّت من فروة راسها خصلات اخرى وتساقطت على الارض، ولما اعادت تكرار تمشيط شعرها استمر التساقط بشكل كبير، انذاك توقفت عن الحركة، وجمدت في مكانها وهي  تنظر الى الخصلات المتناثرة عند قدميها، ولم تستطع ان تتمالك نفسها، حتى ان دمعة انسابت على خدها، ومن ثم شعرت بتشنجات قوية في معدتها كما لو انها كانت تتمزق، فسقطت مسحوقة تحت احساس عنيف من الالم لم تستطع ان تفلت منه، رغم انها كانت تعد نفسها منذ فترة زمنية لمواجة هذا الموقف باللامبالاة، باعتباره امرًا ثانويًّا ازاء مسالة استجابتها التامة لكل ما تفرضه وصايا العلاج حتى تتماثل للشفاء، كما انها كانت تردِّدُ امامي بان مسالة الشعر اخر ما يمكن ان تضعه في جدول اولوياتها، على الاقل في هذه المرحلة من حياتها، خاصة وانها امرأة محجبة ، لذا لم يكن الشعر ياخذ اي حيز من الوقت  في جدول اهتماماتها الشخصية مثل غالبية النساء، حتى انها رفضت مقترحي قبل ثلاث سنوات بأن تصبغه عندما غزاه الشيب، ولهذا اكدت لي من انها على ثقة تامة بان لا احد سوف ينتبه إذا ما تساقط شعرها، لكن بعد ان وقع الامر، بات من الصعب عليها ان تحظى بلحظة حياد نفسيّة تتحصن خلفها لتتفادى السقوط بتلك الهوة من الاحاسيس المفرطة بالقسوة، لان عقلها الذي دائما ما كانت تراهن عليه في التحكم بقراراتها وانفعالاتها عجز عن اسعافها بالحياد، فادركت انه ليس بوسع المرء ان يتعامل مع انفعالاته مثلما يتعامل مع ازرار المصابيح الكهربائية متى ماشاء ضغط عليها ليتحكم بالظلمة والنور، ولا يستطيع ان يعزل نفسه عما يشعر به في لحظة ما حسب ما يخطط لمشاعره بالصورة التي ينبغي ان تكون عليها كما يشتهي هو ، مهما ارتفع مستوى وعيه بالمشكلة التي يعاني منها، وانحيازه للمنطق والعقل في التفاعل مع مايواجهه من مواقف، ولربما ينجح في الاستعداد مبكرا للمواقف التي يتوقع حدوثها، ويضع خططا مسبقة تجنبه الوقوع في شراك نتائجها، لكنه غير قادر على ان يتحكم بنفسه ما أن تحين ساعة القدر، والأهم من كل هذا ان يمنح نفسه فرصة ان يتسلح بارادة قوية تمكنه من ان لاينجرف ويسقط في دائرة من الاوهام والشكوك والهواجس التي قد تحطم ما لديه من ايمان بامكانية الشفاء او الخلاص من المحنة.

تفكير عميق قبل التنفيذ
في ذلك اليوم نفسه وبعد ان انتهينا من تناول العشاء، وبينما كنا نحتسي الشاي، خيم علينا صمت غريب على غير عادتنا، إذ لم  يحدث ان كانت بيننا مسافات من الصمت المطبق، وكاننا غرباء نجلس في محطة انتظار لانعرف بعضنا، فقد تعودنا على ان تكون لقاءاتنا عند المائدة فرصة ليس لتناول الطعام فقط انما مناسبة لتعميق اواصر المحبة بيننا نحن الثلاثة، ومنح تفاصيل حياتنا ماتستحقه من احتفاء بعفوية مطلقة لانصطنعها ، لاننا عادة لانلتقي معا الاَّ عندما نجتمع لنتناول وجبتي الفطور والعشاء، واحيانا في فترات متباعدة وقت الغداء، اما بقية ساعات النهار فكل واحد منا سيكون مشغولا باعماله واهتماماته، انا منغمس بعملي في القناة الفضائية، وهي في اعمال الشطف والطبخ والتنظيف في البيت، ومحمد في المدرسة، ولهذا شعرتُ بان ثمة امراً ما كان يدور في بالها، وكانت تصارع نفسها بين ان تبوح به او تؤجله لوقت آخر، وما كان صعبا علي ان استشف ذلك، فالعشرة الطويلة التي جمعتنا تكفلت برفع الحواجز التي كانت تفصل بيننا، واصبح كل واحد منا يفهم ما يفكر به الاخر من غير ان تكون هناك حاجة لكي يبوح به، فالنظرة العابرة كانت كافية لان تفك شفرة الايماءة، لكنها في ذلك اليوم كانت تبدو مغلفة بغلالة سميكة من الحيرة جعلتها عاجزة عن الانسياق وراء عفويتها، وقبل ان اسالها استدارت ناحيتي وطلبت مني بأن أحلِق لها شعرها بماكنة الحلاقة وبدرجة صفر مثل حلاقة الجنود المستجدين. ولاني كنت على معرفة مسبقة بمجيء مثل هذه اللحظة، لذا كنت مستعدا لها اكثر منها، ولهذا لم اسالها لماذا، واكتفيت فقط  بان اجبتها بكلمة" حاضر" ولمْ ازد عليها كلمة اخرى، خاصة وانني انتبهت الى انها كانت تبدو مثل شجرة كسرتها ريح عاتية فمالت بجذعها ولامست اغصانها التي مازالت يانعة الارض، فما كان مني الاَّ ان التزم الصمت في محاولة منّي ان يبدو تصرفي طبيعيا، كما لو ان لاشيء يدعوني الى التعجب، لاني كنت مقتنعا في ما اذا حاولت ان اواسيها في تلك اللحظة فإن من الممكن ان ادفعها الى حافة الانهيار والسقوط في نوبة من البكاء، وهذا ما قد يفجر فيها ألمَاً دفينا كانت تسعى طيلة الايام الماضية الى  تجاهله والتهرب منه لعلها بذلك تتغلب عليه، سواء كان ذلك بالصلاة او التسلح بالشجاعة او الايمان بما كتبه الله لها، وربما يتسبب ذلك ايضا في تدهور حالتها الصحية،لان دكتور جمال غفوري كان قد اوصاني بضرورة ان نجنبها اي مؤثرات قد تسبب لها الحزن او الغضب، ويتوجب علينا ابعادها عن اية اجواء قد تولّد في داخلها  انفعالات سلبية، لانها كفيلة بان تمنح السرطان فرصة ان ينتعش مرة ثانية ويبدأ في التمدد من جديد، فليس مثل الحزن ما يمهد الطريق لخيانة جسد الانسان المريض والمساهمة في تدميره خاصة في مثل حالتها، ولهذا كنت شديد الحذر عندما طلبت مني ان احلق شعرها، فتعاملت مع الموضوع باعتباره مسالة طبيعية، لاتستدعي  الاستفسار اوالمناقشة، وكانني لم اسمع امرا مهمًّا يدعوني الى التوقف عنده .

شَعرٌ ومرآة وماكنة حلاقة 
بعد مضي نصف ساعة كانت بيدها مرآة صغيرة وهي جالسة على كرسي وسط صالة الاستراحة في البيت، بينما كنت امسك بيدي ماكنة حلاقة كهربائية، وما أن بدأت في  تشغيلها والبدء بتحريكها عند اسفل مؤخرة راسها حتى طلبت مني أن احلقه تدريجيا وعلى مراحل وليس دفعة واحدة ،لانها لاتستطيع تحمل رؤية نفسها فجأة وقد تحولت الى قرعاء.
تراكمت خصلات شعرها بلونه الكستنائي على الارض، وكأنها كانت تعكس سنوات حياتنا المشتركة التي عشناها معا  لمدة اثنين وعشرين عاما وكانت مشاعر الحب والالفة والاحترام قد منحتها نكهتها وحلاوتها التي جعلتنا لانسقط في دائرة التذمر مما كان يصادفنا في حياتنا من عوز ومشقات وصعوبات في العيش، فكانت المحبة بمثابة الترياق لمواجهة السموم التي ترغمنا الدنيا على تجرعها حتى نستمر في البقاء، ولولاها لما صمدت حياتنا الزوجية كل تلك السنين، دون ان يعكرها شيء سوى خلافات صغيرة عادة ما تنشأ بين اي زوجين بينهما تفاهم كبير، وسرعان ماتنتهي بعد لحظات وكأن شيئا لم يكن، بفعل السحر الذي يمارسه الحب على عقول المحبين قبل عواطفهم ، حتى انه يدفعهم الى ان لايجدوا في الاعتذار لبعضهما تنازلا اواهانة للكرامة الشخصية اذا ما أخطأ احدهما بحق الاخر في لحظة غضب، فالرجل يبقى رجلا في مكانته وحضور هيبته وشخصيته والمراة تبقى محتفظة بانوثتها وجمالها وادميتها وكرامتها، ولن يحدث اي خدش في روح وجوهر علاقتهما ، وبدافع الحب ايضا لايضعان في اعتبارهما ان تخرج اي خلافات قد تحصل بينهما خارج حدود  السقف الذي يجمعها، فلا الاهل ولا الاقارب ولا الاصدقاء يمكنهم ان يلعبوا دورا في حياتهما اكثر من الدور الذي يلعبانه في الحفاظ على حياتهما الزوجية، لان الحب ولوحده يمنحهما طاقة لاحدود لها تجعلهما يستوعبان بعضهما في شتى الازمات النفسية التي قد يمر بها احدهما.
كان ولدي محمد يجلس على الكنبة وهو يراقب المشهد ولم يكن مستوعبا ان يرى امه تفقد شعرها نهائيا، وان تظهر على غير الصورة التي عرفها بها. ولهذا وجدته منزويا في مكانه يراقب مايجري امامه محاولا استيعابه ولم يكن يبدو عليه انه كان مرتاحا .
"ياأمي، لماذا هذا الاستعجال، لربما العلاج الكيميائي لن يؤثر على تساقطه؟".
"لستُ مستعجلة ، انما اريد له ان ينمو بشكل متساوٍ .. لانه صباح هذا اليوم تساقطت الكثير من الخصلات في الحمّام " .
ثم اتى بحركة طريفة بأن غطى وجهه بكفه رغبة منه  في عدم رؤيتها وهي تبدو على هيئتها الجديدة .
بالنسبة لي وجدتها في شكلها الجديد تبدو جميلة جدا ، لانني احب شعر المرأة عندما يكون قصيرا، وكنت قد  طلبت منها مرارا ان تغير من تسريحة شعرها الذي كانت تحرص دائما على ان يكون طويلا .
"صدقيني ، انت الآن بهذه الشكل تبدين اجمل بكثير مما كنت عليه" . 
"انت تجاملني وتحاول ان تخفف عني بهذا الكلام ".
بدت متأثرة من شكلها الجديد، بينما كانت تنظر في المرآة الكبيرة المعلقة على الجدار فوق المغسلة الى رأسها الحليق تماما من الشعر ، ثم مرَّرَت كفها على فروة رأسها  اكثر من مرة تتحسس شعرها الذي اختفى نهائيا .
"انتِ الآن تشبهين المطربة الفلسطينية ريم البنّا التي اصيبت هي الاخرى بهذا المرض، فما كان منها الا ان حلقت شعرها كما انت الان، وظهرت على شاشة التلفاز في عدد من اللقاءات والثقة تملأ نفسها" .
" انا اعلم بانك تحاول ان ترفع من معنوياتي"  .
"ابدا ، هذا الكلام ليس من باب المجاملة ورفع المعنويات، لانك تذكرين جيدا بانني كنت  دائما اعبر لك عن عدم اعجابي بالشعر الطويل ، ودائما ماكنت اقول لك بأنه يذكرني بشعر الغجريات اللواتي يظهرن على شاشة التلفزيون وهن يرقصن متباهيات بشعرهن ". 
اذكر انني وبينما كنت احلق شعرها ،انتبهت الى انها اصبحت تشبه والدها كثيرا ، حتى ان احدى شقيقاتها عندما اتصلت بها في صباح اليوم التالي عبر الهاتف من الموصل ومن خلال خدمة الماسنجر الفديوية قالت لها " انت الان تشبهين بابا كثيرا " . 
لم استغرق وقتا في التفكير عندما وقفت امام المرآة ونظرت لثواني معدودة  الى صورتي المنعكسة عليها ، ثم شغلت الماكنة وبدأت بحلاقة شعري حتى بانت جلدة راسي،بينما كانت الدهشة تعلو وجه ابني وهو ينادي علي"لماذا؟" . اما هي فما كان منها الا ان تمسح دمعة بكفها كانت قد انزلقت على خدها ، ثم تقدمت نحوي وامسكت بكفي ورفعتها الى الاعلى وقبلتها .
                             
 بعد يومين اعتادت على شكلها الجديد،وصارت تتحرك في البيت من غير ان تذهب الى المرآة لتنظر الى رأسها كما كانت تفعل في اول يوم .

انتكاسة في العيد
انتهى شهر رمضان وحل عيد الفطر، وكان صباح اليوم الاول منه مشمسا كبقية ايام الصيف في العراق ، مع ارتفاع كبير في درجة الحرارة وصلت الى مافوق الاربعين. واجتمعنا ثلاثتنا عند مائدة الفطور الصباحي، وكانت تبدو صحتها طبيعية وما من شيء يدل على انها ستنتكس بعد الساعة الثالثة من عصر ذلك اليوم ، حيث بدأت تشعر بالبرد الشديد وجسدها يرتعش اثناء ما  كنا جالسين امام شاشة التلفزيون .
كان من المفروض ان تتناول الجرعة الثانية في الليلة التي تسبق العيد  ،لكن الدكتور لقمان كان قد اجَّل  تناولها الى ما بعد العيد على اعتبار ان لاأحد من الاطباء سيتواجد في المستشفى ابتدأ من ليلة العيد وحتى نهايته، لذلك كنت اخشى ان يكون سبب تراجع وضعها الصحي نتيجة التأخر عن موعد تناول الجرعة،والمفارقة ان حرارتها كانت مرتفعة لكنها كانت تشعر بالبرد. طلبت منها ان تدخل الى غرفتها وتتمدد على السرير، وبدأ محمد يضع كمادات على جبهتها حتى تنخفض درجة حرارتها التي بقيت مرتفعة حتى ساعة نومها في تمام العاشرة ليلا.
"ابي لم لاتأخذها الى الطبيب ؟"
"كان بودي ان آخذها، لكن لاأحد من الاطباء موجود في عيادته الى ان ينتهي عيد الفطر" .
ما كان مني ألاّ أن استسلم للأمر الواقع، لذا عدت الى غرفتي وعاودت قراءة كتاب"قيام وسقوط الرايخ الثالث ونهاية دكتاتور" الذي كنت قد بدأت بقراءته قبل عدة اسابيع لكنني لم استطع ان انتهي منه بسبب انشغالي بمتابعة حالة زوجتي المرضية مابين البيت والمستشفى . 

يتبع ..


غير متصل بولص آدم

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1185
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
واحدة من أجمل السير الذاتية التي قرأتها، حتى أنها فاقت توقعاتي وبعد تفضلك بأطلاعي على الجزء الأول منها.. سرد مؤثر وتجربة هائلة، تحوَّلت على يديك فرقعة الصدمة إلى طاقة إيجابية، رغم أنه مخاض عسير بمواجهة الموت.. صُبت بنقاء إنساني وصراحة كبيرة، كتابة تقدم للقارئ ماهو جدير بالقراءة ويبقى محفوظاً في الذاكرة. تحياتي صديقي مروان..