قبل الأجابة على سؤال حساس وشائك مثل: هل ما زلنا نملك قضية سياسية أم أننا خسرناها؟؟، علينا الإجابة على سؤال استباقي وهو: هل مازال شعبنا يحمل مقومات الأمة القومية؟، أم أننا صرنا مجرد أتباع كنائس ننتفض ونتصارع حتى من أجل قلنسوة بطريركنا (الجالس سعيداً)؟. فعندما نستعرض التاريخ المعاصر لحركة شعبنا القومية ونلقي نظرة عن كثب على مفرداتها ومكونات حراكها السياسي والثقافي والاجتماعي وحتى العسكري، سنرى أنها تأرجحت بين التعامل معها كرقم مهم في الإطار الوطني ومن ثم تأثيراتها على الإطارين الاقليمي والدولي، وبين إعتبارها حركة تمرد تستحق القمع والتنكيل (خصوصاً في العراق). إلا أنها ظلت حركة حية تحمل صفة الكينونة رغم تعرضها للكثير من الانتكاسات ولعقود من الزمن، بدءاً من الهجرة الكبيرة بسبب تداعيات الحرب الكونية الأولى ومروراً بتنصل البريطانيين عن وعودهم ووصولاً إلى الضربة القاصمة التي تعرضت لها حركتنا القومية عام 1933.
وكأي حركة سياسية حققت حركة شعبنا القومية (بالعنوان الأشوري) نتائج جيدة على أرض الواقع، حيث نجحت في إيصال مطالب شعبنا السياسية إلى المحافل الدولية، كما خسرت جولات ودفعت ضريبة تشظي المواقف بين زعاماتها. فقد وصل الاختلاف والخلاف بين زعامات شعبنا في زمن تأسيس الدولة العراقية وما تلاه إلى درجة الاتهام والتخوين. ناهيك عن أن حركتنا القومية تعرضت فعلاً للخيانة من قبل الحلفاء الانكليز الذي نكثوا بوعدهم في ادارة مستقلة لشعبنا في العراق، كما أن الجمود الذي صاحب طروحات القيادات التقليدية (كنسية وعشائرية) زاد من تراجع مكانة قضيتنا القومية، لتأتي مجزرة سميل فتزيد من مآسي شعبنا وتكمل على من نجا منه وتقضي ما تبقى من أمل في الاستقرار.
وأفضل ما يسجل لحركة شعبنا القومية هو إنجابها لعمالقة الفكر وقادة النضال القومي، الذين استبسلوا في الدفاع عن القضية ضد الجهات المعادية على صعيد، وتنوير أبناء شعبنا لزيادة مداركهم وتثقيفهم بالروح القومية على صعيد آخر. ومنهم: الشهيد أشور دخربوت (تركيا - قتل في تركيا)، الأديب نعموم فائق (تركيا - توفي في أميركا)، الصحفي فريد نزهة (سوريا - توفي في الأرجنتين)، المفكر يوسف مالك (العراق - توفي في لبنان)، الثائر فريدون أتورايا (إيران - أعدم في روسيا)، الجنرال أغا بطرس (ولد في تركيا ودرس في إيران وقاتل في العراق وتوفي في فرنسا)، والبطريرك الخالد الشهيد مار بنيامين شمعون (تركيا-أغتيل غدراً). لكن الملفت للنظر والمؤسف أنهم جميعاً تقريباً ماتوا في المنافي أي بعيداً عن وطنهم الأم، حيث بسبب نضالهم القومي دفع بعضهم حياته ثمناً لذلك، كما إضطر الآخرون للهجرة والابتعاد عن مخاطر التصفية الجسدية التي لاحقتهم وعوائلهم من قبل الأنظمة الشوفينية في كل من تركيا وإيران والعراق.
والآن لنعود إلى سؤالنا الجوهري، هل مازال شعبنا يحمل صفة الأمة التاريخية؟، وهل مازلنا أصحاب قضية سياسية قومية؟. نظرياً أعتقد أنه يمكن اعتبار شعبنا أمة حية، فبحسب التعريف العلمي فأن كل شعب يتمتع بمشتركات (الأرض واللغة والتاريخ) يضاف لها الطموح أو الهدف المشترك، هو شعب حي وأمة قائمة بذاتها. لكن لو تفحصنا واقعنا الاجتماعي (أو بصورة أدق تقسيمنا الطائفي) سنرى أن صفة الأمة لا تنطبق علينا، بل أننا وبسبب تعنصرنا المذهبي وإفلاسنا الفكري وجهلنا بالتاريخ ونزعاتنا العشائرية والمناطقية صرنا أقوام وشعوب مختلفة، أو على أحسن تقدير شعوب متآخية. فقد صرنا اليوم نختلف على كل تلك المسائل، فلم نعد نعترف بأن لنا نفس الجغرافيا (الأرض) كما أن لهجاتنا تحولت إلى لغات مختلفة، وصرنا نتفلفس في التاريخ وجعلنا من بعضنا أعداء بعض، والآن ليجيبني أحدكم، هل هكذا تكون الأمة الحية؟؟!!. لابل زدنا على كل ذلك خلافاتنا الشخصية والتي وصلت حد السباب والشتم وحولنا حلقة نقاشنا إلى حلبة مصارعة.
أما قضيتنا القومية السياسية فقد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الزوال وصرنا نفتش عن المنقذ حتى في أحلامنا، والسبب هو أن من بات يحمل لواء القضية اليوم هو أصغر من أن يتحمل مسؤوليتها وأبعد من أن يضحي من أجلها وأضعف من أن يدافع عنها وأجهل من أن ينّظر لها. وأنا هنا أعني أحزاب شعبنا السياسية والتي تحول كل أدائها إلى ردود أفعال بسيطة لا تجدي نفعاً مع الأفعال العدوانية الشرسة التي تمارس بحق شعبنا وقضيته السياسية، ومنها ما يعادي الجانب القومي أو ما يستهدف الخصوصية الدينية. فاليوم نحتاج إلى فعل لابل إلى أكثر من مجرد فعل لقلب الواقع وتغيير بوصلة قضية شعبنا التي من الواضح أن استمراريتها بالشكل الحالي الذي تسير عليه سيوصل فعلاً إلى نهاية قضية شعبنا السياسية وانتهاء وجودنا القومي والديني في الوطن.
نعرف أن أحزابنا السياسية القومية لاتملك العصا السحرية لتغيير الواقع (بتلويحة)، ولا يمكن لها مناطحة (ثيران) الفكر البالي من الشوفينيين والراديكاليين، وهي ليست بالحالة المثالية من الاتحاد والتكاتف لتواجه الغرماء وتتصدى للخصوم. لكن ايضاً ليس من المعقول أن تبقى تراوح في مكانها وتظل قياداتها تمارس مهامها بطبيعية وكأن الأمور كلها بخير، لابل أن بعضهم لايزال يعتقد بأن نجاح قضيتنا القومية من نجاح نشاطه الشخصي في حضور مؤتمر هنا وظهور اعلامي هناك!!. فاليوم باتت أحزاب شعبنا تخجل حتى من ذكر أنصاف الحلول التي تبنتها وطرحتها سابقاً، كمطلب الحكم الذاتي أو محافظة سهل نينوى أو مشروع الإدارة الذاتية في سهل نينوى، لكنها في ذات الوقت أصبحت تعتبر استرداد دار سكنية في قرية صغيرة من متجاوز صلف انتصار قومي عظيم!!.
فبعد كل هذا هل سنستمر بنكران حقنا في الحلم بوطن قومي؟!، وهل سنبقى نصر على أن المطالبة بكيان جيوسياسي بادارة شبه مستقلة هو ضرب من الخيال؟!، وهل سنظل نعتبر المطالبة بتدويل قضيتنا السياسية خيانة وطنية؟!.