إجترار الفشل لن يؤدي إلى النجاح.. قضيتنا القومية بين مفترق طرق
يقول العالم ألبرت إنشتاين "الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد مرة وتتوقع نتيجة مختلفة"، وهذا صحيح 100%، ففي العلم الطبيعي لا يمكن أن تصل إلى نتائج مغايرة إطلاقاً عندما تكرر التجربة بنفس المقادير وبذات الطريقة، لكن هل ينطبق الأمر نفسه على العلوم الإنسانية؟. قد يفرق الأمر مع الإنسانيات بعض الشيء خاصة عند التحول الزمني، فما كان يعتبر فشلاً في زمن ما ممكن أن يكون قد أصبح من بوادر النجاح في وقت آخر، وما لم يكن ممكناً قديما قد يصبح وارداً في الوقت الحالي. أما في السياسية ورغم إدراجها ضمن العلوم الإنسانية لكن مرتكزها طبيعي بحت ألا وهو الإقتصاد وكما يقال (السياسة والإقتصاد وجهان لعملة واحدة)، ففي السياسة قد يقترب الأمر لأن يكون علمي أكاديمي أكثر مما هو إنساني.
وبعيدا عن العموميات ومن أجل الدخول إلى الفكرة التي نسعى إلى تقديمها للقارىء الكريم، سنحاول إلقاء الضوء على ما دأبت أحزابنا القومية على تبنيه من سياسات (داخلية وخارجية)، أي مع تنظيماتها من جهة، وبينها وبين المحيط الخارجي من جهة ثانية، وما تمخضت عنه هذه السياسات من نتائج. ولايهم إن كان الحزب السياسي القومي ينشط في الساحة العراقية أو في بلدان الجوار أو في دول المهجر، فالحالة تكاد تكون واحدة وبنفس المعايير الوطنية ونفس النظم الحزبية التي يتم التعالمل بها، حيث أن النموذج السياسي لما يخص شعبنا هو نفسه في العراق وإيران وسوريا والولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا.
وبما أن الواقع يقول أننا وبعد مرور أكثر من ستة عقود على العمل السياسي القومي المنظم بالمعيار الأكاديمي وما نتج عنه من أحزاب وتشكيلات متشابهة أو مغايرة بالطرح والفكرة، مازلنا نقف عند النقطة (الخاسرة) نفسها التي بدأنا منها أو ربما وفي حالات معينة تراجعنا أكثر. فالنتيجة تشي لنا بأننا بقينا نسلك نفس الطريق ونتبع نفس الأسلوب في التعاطي مع واقعنا القومي والسياسي، وتوقعنا أن نصل إلى نتيجة أفضل مع إجترارنا للخطأ والفشل لسنوات وعقود. وأقصى ما حلمت به أحزابنا القومية هو تغيّر الواقع الدولي الذي سيؤثر على الواقع الوطني ويأتي بالتغيير المراد لقضيتنا وشعبنا، متمنية أن يجعل ذلك التغيير واقعنا القومي أفضل، ونسيت أنه (وما نيل المطالب بالتمني، إنما تؤخذ الدنيا غلابا).
وبنظرة سريعة على أوسع تنظيمات شعبنا القومية إنتشاراً، سنرى مدى مراوحتها في مكانها في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى تراجعها للخلف وثالثة تقوقعها وإنكماشها على نفسها ورابعة خسارتها لموقعها الريادي وجماهيريتها. وهذا كله بسبب تعنتها في التشبث بالآليات الفاشلة نفسها على مدى تجربتها السياسية والتنظيمية الطويلة، وقد سمعتها مرة من أحد أهم قيادات شعبنا القومية حيث قال "إحذروا المخضرمين أمثالنا، فأننا نعارض التجديد". وكما قلت فمن جرد بسيط لتجارب الأمثلة أدناه سنقع على خطورة الوضع الذي تعاني منه أحزاب شعبنا السياسية وبالتالي الأزمة التي تشهدها قضيتنا القومية، والتي يمكن تسميتها بأزمة (القيادة الرشيدة)، أما النماذج وبحسب تسلسلها الزمني فهي:
1- المنظمة الأثوية الديمقراطية (مطكستا)
ويعتبر التنظيم القومي الأقدم بالمعيار الزمني من بين تنظيمات شعبنا السياسية وتأسس عام 1957 في الجوار (سوريا)، ومما يحسب له أنه استطاع السباحة في بحر دكتاتورية حزب البعث السوري المتلاطم لفترة طويلة، ونجح في الموازنة بين الاستراتيج والتكتيك. إلا أنه تعرض لخسائر تنظيمية بسبب مواقفه في بعض الأحيان، كما إضطر إلى تقديم تنازلات سياسية في أحيان أخرى، وبسبب الغموض الذي غلف علاقته بنظام الحكم في سوريا وتأرجحها في فترات زمنية مختلفة، وصل التشكيك بقيادته لحد التخوين من قبل القاعدة والمؤازرين. وفي الوقت الذي نجح فيه هذا التنظيم بضم شرائح شعبنا كافة إلى صفوفه، إلا أن قياداته غالباً ما إقتصرت على اللون السرياني فقط، كما تعرض التنظيم لإشكالية تحديد الهوية خسر فيها العديد من كوادره النشطة. أما في الآونة الأخيرة وتحديداً بعد إندلاع الثورة السورية وقع التنظيم في حيرة بين القبول بمساومات حليفه السابق (النظام السوري) وتصديق وعود حليفه الجديد (فصائل المعارضة)، وتخبط في مواقفه السياسية إلى الدرجة التي فقد فيها مصداقيته عند الطرفين، ولعب الضغط الجماهيري دوراً في ذلك. وبين كل هذا وذاك لم ينجح التنظيم ورغم عمر تجربته السياسية الطويلة في تحقيق أمر كبير لشعبنا لا في الداخل السوري ولا في الإطار القومي العام، والسبب هو (إجترار) السياسات الكلاسيكية ذاتها التي إلتزم بها على مدى عقود.
2- الإتحاد الأشوري العالمي (خويادا)
وهو التنظيم الخارجي من بين تنظيمات شعبنا القومية وتأسس عام 1968 في المهجر (فرنسا) ولكن قياداته تمركزت أكثر في الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم أنه لا يعتبر نفسه تنظيماً بل مظلة لعدد من المؤسسات والأحزاب القومية، إلا أنه لا يمكن التعامل معه كأكثر من تنظيم قائم على عقيدة سياسية تقليدية. فبالرغم من توسعه الجغرافي في بلدان المهجر إضافة إلى إيران، فقد فشلت قيادته في إحتضان التنوع الكنسي لشعبنا وإقتصرت عضويته على مكون وحيد من مكونات شعبنا المجتمعية. كما أنه وعلى مدى تجربته التنظيمية الطويلة لم يتقدم خطوة واحدة باتجاه تحقيق أهدافه المعلنة، وبقي أسير الطروحات الخيالية في (إعادة المجد الأشوري المفقود)، وهو لا يزال (يجتر) الطروحات البالية نفسها منذ أكثر من خمسين سنة من دون أية نتيجة، ومؤخراً تعرض هيكله التنظيمي لتصدعات سيكون من المستحيل رأبها مستقبلاً.
3- الحركة الديمقراطية الأشورية (زوعا)
وهو التنظيم الأكبر والأكثر جدلاً من بين تنظيمات شعبنا القومية، وتأسس نهاية السبعينيات 1979 في الوطن الأم (العراق)، ورغم أن تأسيسه جاء معارضة لنظام دكتاتوري شمولي، إلا أنه في النهاية تحول إلى موالاة لحكم ثيوقراطي فاسد. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود تأرجح التنظيم بين الصعود والنزول وبين الفشل والنجاح في تعاطيه مع مفردات قضيتنا القومية، ومؤخراً لم يعد يشكل أكثر من رقم (عادي) بين عناوين شعبنا القومية في الوقت الذي كان فيه يوماً يتصدر القائمة. ومع أنه حمل صفة الديمقراطية حاله حال بقية الأحزاب، إلا أن ممارساته الديمقراطية تراجعت كثيراً مع تقدم عمره النضالي، وتراجعت معها المساحة المفرودة للرأي المعارض، ليقبع أخيراً في سرداب (دكتاتورية الأغلبية) والتي غُذيت من قبل قياداته المخضرمة الملتصقة بالموقع. واليوم ومع دخول التنظيم عقده الخامس، وهو الأمر الذي من المفترض أن ينتج عنه خبرة تنظيمية عالية وتجربة سياسية محنكة، ورغم الإمكانيات المادية والبشرية التي توفرت للتنظيم ورغم مسيرته الحافلة بالتضحيات، وحتى مع تراجع مكانته النضالية، إلا أننا مازلنا نراه ملتزماً بنفس الطروحات (ومجتراً) لنفس الآليات التي لم تعد تنفع لا التنظيم ولا القضية.
ربما هناك تجارب أخرى لاتقل سياساتها فشلاً عن ما ذكرناه ومنها ما تأسس في سبعينيات القرن الماضي، لكن ورغم عمرها الطويل لم تنجح يوماً في تولي قيادة القضية القومية ولا حتى في المشاركة بادارة ملفاتها، عليه فأن تأثيرها السلبي على القضية لم يكن بمستوى السلبية التي أشرنا إليها في النماذج السابقة أعلاه، لذا لم يتم التطرق إليها بالأسم. كما أن ما تأسس خلال العقدين الماضيين أو أكثر بقليل من أحزاب ومنظمات سياسية لشعبنا لم يصل بعد لمستوى التجربة التي تستحق التمحيص والنقد والدراسة، ومنها من ولد فاشلاً بالأساس إما بسبب خطابه (الكلداني) التقسيمي أو بسبب نزعته (الأشورية) الإقصائية، وكلاهما لايمكن أن يلقى قبولاً من قبل أغلب أبناء شعبنا. أما التي تأسست بعد عام 2003 فأن أغلبها يعيش ويعتاش في ظل الكنيسة، أو بالأحرى أنها لم تنجح في التحرر من طوق الكنيسة الذي فرض عليها أو الذي فرضته هي على نفسها، والتي من الواضح بأنها مرتاحة من إبقاء قرارها بيد (السلطة الأبوية).
وعندما نقول بأن شعبنا بحاجة إلى خلق عوامل نجاح مستحدثة والتخلص من (إجترار) الفشل الذي لازم حركته القومية لعقود، وعندما نقول أن قضيتنا القومية أصبحت بين مفترق طرق وعلينا إختيار الوجهة الصحيحة وتصحيح المسار. فأننا نطالب شبيبتنا والناشطين من أبناء شعبنا بتحمل مسؤولياتهم القومية وإستبدال الإدارة بتشكيلات جديدة ومتجددة، والدعوة موصولة لأحزاب شعبنا القومية لتدارك أخطائها والعودة إلى المسار الصحيح (هذا إذا كان ما يزال هناك مجال ووقت للتدارك!!). أو أننا ببساطة يمكن أن نقرأ على قضيتنا القومية السلام.. والسلام ختام.