عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - عامر صالح

صفحات: [1]
1
بعض من الأطر السايكو ـ سياسية والدينية في الصراع الفلسطيني ـ الأسرائيلي

د.عامر صالح
الهجوم الذي اقدمت عليه حماس في السابع من اكتوبر الماضي سبب لأسرائيل وجع لا يمكن تجاوز آثاره بسهولة, فقد وضع الأمن الأسرائيلي والقدرات الأسرائيلية عموما في تساؤلات من الصعب الأجابة عليها, وممكن اختزالها بأسئلة سريعة: أين القبب الحديدية التي ترد الصواريخ على مطلقيها, وأين الجيش الذي لا يقهر, وأين الأمن الذي لا يخترق. أما التساؤلات التي تطال حماس فهي مختزلة بشدة في الآتي: هل كانت العملية جزء من استراتيجية واضحة لبلوغ الأهداف, ماذا ستجنيه حماس من العملية على مستويات المدى الأقرب والأبعد, أم أن ما جرى هو مجرد مشاغلة للعدو دون حساب لردود افعاله, ودون حساب أن حلفاء اسرائيل هم اكثر وضوحا في التحالف معها من حلفاء القضية الفلسطينية. وعلى مدار الصراع العربي ـ الأسرائيلي ومنذ العام 1948 تحولت القضية الفلسطينية على أيدي الحكام العرب والمتأسلمين الى مادة لتسويق الأجندة العقائدية وتجريدها من بعدها الأنساني, فتارة ارادها البعثيون ان تكون فلسطين بعثية وتارة اخرى ارادها القومجيون ان تكون قومية ثم ارادها الأسلامويون وفقا لسرديتهم المشوهة وبدون حل.
 
لا يمكن النظر الى العملية التي أقدمت عليها حركة حماس الأسلامية بأنها تعبير عن نهج حماس المتشدد فقط اتجاه أسرائيل فأن ذلك مجافي لأبسط قواعد الصراع مع اسرائيل وعنجهيتها خلال 75 عاما من الأحتلال وحرمانها لحقوق الشعب الفلسطيني في أقامة دولته المستقلة وفقا للشرعية الدولية والانسانية, ومن غير المقبول ان يكون شعبا محتلا ومحاصرا ومحروما من حقه في الحياة الحرة الكريمة أن يكون وديعا ومسالما مع من يغتصب أرضه, ولعل في تصريح الأمين العام للأمم المتحدة والذي اغضب اسرائيل" بأن عملية حماس في 7 أكتوبر لم تأتي من فراغ " أنه لخص ذلك لأطروحة سيكولوجية قوامها أن كل كبت مستديم واعادة انتاج الكبت عبر عقود يمكن له أن يعبر عن نفسه في احدى احتمالاته وهو " العدوان " والذي يسري على الأفراد والتجمعات والحركات, ومن هنا ومع طول أمد الكبت وعدم اشباع الحاجة الى وطن في ظل احتلال قاسي لا يمكن التنبؤ بطبيعة ردود الأفعال دفاعا عن النفس وعن البقاء.
 
أن المطالبة الغربية والأمريكية بشكل خاص بأدانة حماس بأعتبارها تنظيم ارهابي او حسب الرواية الأسرائيلية بأنها حركة داعشية هو أمر سقط في الحضيض بل وغبي وخاصة عندما نرى ردود الفعل الأسرائيلية على عملية طوفان الأقصى, كيف يمكن ان تكون ردود فعل بهذا الحجم المدمر في القتل والتشريد والخراب الشامل الذي ارتكبته في غزة بحق المدنيين والنساء والأطفال والبنية التحتية, فكيف يمكن تفسيره بغير ارهاب الدولة ذلك وهي تدعى أنها" دولة " وهي لا تقاتل دولة بل فصائل مسلحة. أن تهمة ألصاق الداعشية بحماس هي محاولة لأستجداء عطف العالم وحرف انظاره عن المأساة التي يرتكبها الأحتلال بجق الشعب الفلسطيني. فالداعشية تنطيم دولي متحرك لا ارض له يستقر عليها وهو يقاتل ويسبي في كل مكان تسنح له فرصة الأستيلاء عليها وهو يقتل ويحتل ويسبي اعراض وارض ومال المسلمين قبل غيرهم, اما حماس وبغض النظر عن اتفاقنا ام اختلافنا مع اجندتها العقائدية ومفهومها للصراع العربي او الفلسطيني ـ الأسرائيلي فهي جزء من مشروع المقاومة المشروعة ضد الأحتلال الأسرائيلي.
 
لا يمكن اقصاء حماس من منظومة التحرر الوطني الفلسطينية وأن ظروف ولادتها على الأرض الفلسطينية المغتصبة هي بدون شك تعبير حقيقي عن حالة الأحباط واليأس التي يمر بها الشعب الفلسطيني منذ عقود وخذلانه من حلفائه الذين يدعون نصرة قضيته او يعتبرونها قضيتهم الأولى الى جانب خذلان العالم له وفي مقدمتهم العالم الغربي وعلى رأسهم امريكا التي تخوض الحرب الآن مع اسرائيل متحالفة معها وتمنحها الضوء الأخضر بما تفعله مع بعض الأستثناءات الخجولة.
 
كل حركات التحرر ضد الأحتلال العربية منها وغير العربية في فترات الأحتلال المباشر وغير المباشر الفرنسية والبريطانية والعثمانية والأمريكية تشكل منظومات فكرية وعقائدية متنوعة من الأفكار والعقائد والأيديولوجيات والممارسات والتي تمتد بتصنيفاتها البنيوية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار وتلتقي جميعها عند هدف واحد هو تحرير الأرض المغتصبة من الأستعمار والأحتلال, ولنا في دروس الأحتلال من النضال في الجزائر وليبيا والعراق ومصر والمغرب وتونس وغيرها من بلدان العالم, فقد حضرت التيارات الدينية الأسلامية والمسيحية وغيرها كجزء من منظومة التحرر الوطني, وحكم على الكثير من قيادتها بالأرهاب وتم اعدامهم وتصفيتهم من قبل المحتل ولكن التاريح ينصفهم والشعوب كذلك بأعتبارهم رموز وطنية ضد المحتل والمغتصب للأرض.
 
أما ما بعد انجاز مرحلة التحرر الوطني والحصول على الأستقلال وعلى الأرض فأن الصراع ينتقل الى بناء شكل النظام السياسي وبناء الدولة وهويتها وتوجهاتها. لا أقول ان حماس تمثل البديل الأفضل للشعب الفلسطيني فهذا أمر يجافي الحقائق وحماس حالها حال الحركات والأنظمة الدينية المتأسلمة في المنطقة التي لا تمتلك مشروعا لبناء الدولة المدنية الحاضنة لكل التنوعات الفكرية والأيديولوجية والمذهبية كما ان موقفها من التعددية الجزبية وديمقراطية التدوال السلمي للسلطة هو موقف هش كما اكدت تجارب صراعها مع منظمة التحرير الفلسطينية.
 
ولاكن لا يمكن الأستهانة بحماس وتضحياتها وقدرة مقاتليها على التضحية والأستبسال بعيدا عن طبيعة ادارتها للصراع مع المحتل الأسرائيلي أو رؤيتها الأستراتيجية الشاملة للعمليات العسكرية التي تقوم بها من منظور الربح والخسارة ومديات الأقتراب في انجاز الهدف النهائي في التحرر والأستقلال, ولا اريد هنا شخصنة الصراع واعطائه صفة حماس ـ اسرائيل بل هو صراع كل الشعب الفلسطيني بأختلاف توجهاته مع المحتل الأسرائيلي.
 
أن الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني وحصرا منظمة التحرير ـ حماس هو من ساهم في اضعاف وحدة الصف الفلسطيني عالميا وقد راهن الأحتلال الأسرائيلي على تغذية هذا الصراع حتى انه في فترات سابقة دعم حماس لأغراض شق الصف الفلسطيني, الى جانب الأنظمة العربية والأسلامية فبعض منها مع حماس كما هي قطر وايران وتركيا¸ والبعض الآخر مترنح بين حماس ومنطمة التحرير, ولكن لايزال الحضور الدولي لمنظمة التحرير هو الأكثر وقعا بأعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية, وبالتالي فأن وجدة الصف الفلسطيني هي المطلب الأساسي لأدارة الصراع مع المحتل الأسرائيلي.
 
لقد حل بأسرائيل خراب غير قليل في بنيته التحتية وخسائر مادية وبشرية الى جانب اسقاط اسطورته الأمنية وتفوقه العسكري وقببه الحديدية واستنزاف للأقتصاد وهجرة معاكسة من اسرائيل الى أوربا وتداعي سمعتها يهوديا بأنها بلد الديمقراطية والأمن وخسائر تقدر بمجملها الآن 50 مليار دولار او اكثر الى جانب قتلى والذين بلغ عددهم في القوات الأسرائيلية اكثر من 410 قتيل وأسرى ومختطفين.
 
كما حل خراب شامل بغزة جراء القصف الوحشي الأسرائيلي أطال كامل البنية التحتية من مستشفيات ومدارس ومصانع وشبكات اتصال وتجمعات سكنية وقد بلغ عدد الضحايا ما يقابرب 17000 ضحية اغلبهم من النساء والأطفال وعدد الجرحى فاق ال 45000 واغلبها اعاقات مميتة الى جانب المأساة الهائلة لنزوح سكان قطاع عزة.
 
فهل يستطيع العالم الأستفادة من كل هذا في التفكير جديا في الضغط على الكيان الأسرائيلي للقبول بحل الدولتين كما نصت عليه القرارات الدولية ام يبقى شعار حل الدولتين مجرد شعار لتصريف الأزمة الحالية والعودة الى نقطة الصفر.
 
ان اكثر ما يلحق الضرر بالقضية الفلسطينة وتجريدها من مضمونها الأنساني هو أسلمة الصراع واضفاء البعد الديني عليه أو تهويده من الجانب الأسرائيلي وحلفائها, وبالتالي نحن كعرب ومسلمين او غيره سنفقد الشرعية في انهاء الأحتلال باعتبار ان قضية فلسطين هي قضية انسانية اولا وأخيرا, اما الأسرائيليون فهم يروجون لأطروحتهم المريضة مستفيدين من بعض سرديات المحارق " الهولوكوست " والأضطهاد التاريخي المفتعل, وكان تصريح وزير خارجية امريكا بلينكن عندما حضر لأسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى مباشرة بقوله " جئتكم يهوديا " هي دعوى صريحة لتهويد الصراع العربي ـ الأسرائيلي وتصوير اسرائيل بأنها الضحية والطرف الآخر هو الجلاد لا العكس !!!!.
 
 

2
قراءة سايكوسياسية في حرق الكتب

د.عامر صالح

لم يكن حرق الكتب, المقدسة منها بعيون معتنقيها كالمصاحف, او غير المقدسة فأنها تتمتع بمكانة خاصة لدى معتنقي محتوياتها الفكرية وأحيانا تتمتع الأخيرة بنفس قدسية ما تتمتع به الكتب المقدسة بأختلاف مصادر تلك الكتب, وأن الأمر يرتبط بتأثير الكتب بالعقائد الأيمانية لدى المعتنقين أو المؤمنين بجوهر المحتوى الذي أتت به وتأثيرها على الحياة الروحية والنفسية والسلوكية لمن تنسجم ممارساتهم مع ما أتت به بطون تلك الكتب والتي يفترض ان تشكل مع الزمن الطقسي والسلوكي مرجعية لا يمكن الأستغناء عنها بسهولة في حل مشاكل الوجود اليومي وتفسير مختلف الظواهر الطبيعية منها والأجتماعية.

وبالتالي وأنطلاقا من تلك الأهمية فأن الأقدام على حرقها تعسفيا من قبل الطرف الآخر الذي لا تعني له تلك القدسية او المكانة كما تعني لمعتنقيها يعبر بأي شكل من الأشكال عن تشوهات سلوكية وعقلية الى جانب أزمة فرديةـاخلاقية تعكس ابعادها في التعدي على حرية الآخرين ورموزهم المكتوبة لأثارة استجابة انفعالية مؤلمة وحادة لدى الطرف الآخر الذي يؤمن بها, والغرض من الحرق او السحق او الأتلاف هو محاولة مقصودة لزرع الألم لدى الطرف الآخر الذي وقع عليه فعل الحرق, ومن هنا تأتي استجابة الطرف المتضرر بأشكال سلوكية متنوعة تستند الى ثقافة المؤمن بها وفهمه لدوافع الحرق بعيدا عن قدسية المحروق, اي بمعنى سايكولوجي هناك " مثير " وهو الحرق وهناك " استجابة " ما للأفراد المستهدفة بفعل الحرق, وقد تتحول الأستجابة ذاتها الى مثير جديد لخلق استجابة ثانية وثالثة وكذلك المثير قد يتكرر, وبالتالي يقع طرفي الفعل في دائرة مغلقة من الأفعال وردودها والأخطر منها ذو النزعة الأنفعالية المدمرة.

وسلوك الحرق أو الأتلاف وغيره من أساليب التجاوز لا تمت بصلة لحرية التعبير, لأن حرية التعبير تكون مكفولة عند حدود عدم التجاوز على حرية الآخرين ومعتقداتهم, وبأمكان الفرد ان يمارس حرية النقد لفكر الآخر ومعتقداته من خلال الكتابة والتحدث وعقد مختلف الأنشطة الفكرية والثقافية من تأليف ونشر وندوات ومجالس ثقافية وغيرها, لأن الحياة بدون ممارسة للنقد البناء هو اقصاء للحياة ذاتها بما فيها من تنوع واختلاف في الثقافات والأفكار, وتلك مهمة التطرف الفكري والسلوكي والتي تصل الى حد تصفية الأفراد والجماعات ومعتقداتهم, وداعش وغيرها هي نماذج حاضرة بكل حمولتها الشرسة في الأقصاء.

وكل اشكال حرية التعبير تبقى مشروعة ومكفولة عندما لا تفضي الى اثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهدد السلم المجتمعي وكذلك الى تهديد أمن المجتمعات المحلية والعالمية وتضعف النسيج الأجتماعي وتشرذمه. ووفقا للمواثيق الأممية فأن حرية التعبير هي إحدى حريات الإنسان الأساسية في الحياة، وقد أكدتها جميع الاتفاقيات الدولية والإقليمية حول العالم، على الرغم من ذلك لا تعتبر حرية التعبير من الحريّات المطلقة، وإنما تحددها مجموعة من القيود والمحددات. ويمكن تعريف حرية التعبير على أنها منح الإنسان الحرية في التعبير عن وجهة نظره، وإطلاق كل ما يجول في خاطره من أفكار بمختلف الوسائل الشفهية أو الكتابية، حيث إن بإمكانه الإفصاح عن أفكاره في قضية معينة سواءً كانت خاصة أو عامة بهدف تحقيق كل ما فيه خير لمصلحة الأفراد والجماعات.

وبشكل عام يمكن القول إن حرية التعبير هي قدرة الإنسان على أن يعلن عن الأفكار التي تجول في خاطره، وعن قناعاته المختلفة التي يعتقد أن فيها مصلحته ومصلحة غيره من الأفراد إزاء أمر معين. وتعتبر حرية التعبير حقاً من الحقوق الأساسية للإنسان، وذلك باعتباره جزءاً أساسياً من المجتمع ومكلفاً ومسؤولاً فيه. ومن المواد التي تنص على حق الإنسان في التعبير المادة رقم 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص "على أن لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، والذي يتمثل في تلقي الأفكار والآراء واستقصائها وإذاعتها دون أدنى تدخل أو تقيد بالحدود الجغرافية ". وبالتالي نفهم من ذلك أن لا حرية للتعبير في التهكم والتهجم على الآخر المغاير لك في المعتقد او الرأي او الفكر, كما أنه لايجوز استخدام حرية التعبير في التنكيل والتشويه الشخصي أو الأفتراء والكذب على الآخر او التحايل عليه وتشويه سمعته الشخصية او الفكرية والأيمانية, فأن حرية الأفراد والجماعات وأمنها وتماسكها يجب ان يكون حاضرا في سياقات حرية التعبير ولا يمكن التأليب والتحريض على ما يحرض المجموعات الدينية والعقائدية الفكرية المختلفة الى الأزدراء والأهانات والفناء, كما ان حرية التعبير لا علاقة لها بتشويه السمعة الفردية والجمعية عبر وسائل التنكيل والأهانة وتزوير الحقائق والكذب ومصادرة حرية الآخرين بواجهات مختلفة وذرائع كاذبة.

لقد عملت الكثير من الأنظمة الدكتاتورية في العالم ومنها في العالم العربي والأسلامي على قمع حرية التعبير بأشكال مختلفة وبما يخالف المواثيق الأممية, كالأعتقال والتصفيات الجسدية وتجفيف الروافد الفكرية والسياسية لمعارضيها عبر اللجوء الى حرق وتمزيق ومصادرة واتلاف الكتب التي تجسد الرؤى الفكرية والفلسفية والسياسية للمعارضة ومنع تداولها وبيعها في المكتبات وتجريم حيازتها في المكتبات الخاصة للأفراد, ونرى الكثير من الأنظمة والحكومات والتي احتجت على حرق المصحف او تمزيقه تمارس شتى صنوف حرق ومصادرة المعارف الفكرية والفلسفية الأخرى بواجهات مختلفة غرضها البقاء على الأوضاع السائدة كما هي وبقاء الأنظمة القمعية المعادية لحرية التعبير, وطبعا مع الأختلافات النوعية بين حرق المقدس في اذهان مقتنعيه وحرق الوضعي, إلا ان الموقف من حرية التعبير واحد لا يتجزأ.

ورغم ان حرق المقدس وبما يمتلكه من اسباب نزول لمعتننقيه هو أخطر لما يمتلكه المقدس من كتلة بشرية ايمانية ذات طابع حشدي  يتجاوز الجغرافيا اشد خطورة من معتنقي الأفكار الوضعية والتي تكون في اغلب الأحيان منظمة ومنضبطة, إلا ان تجاوزات الأنطمة الدكتاتورية والقمعية لديها سجل حافل بالمظالم في التعدي على حقوق الأنسان وحرية التعبير. والكثير من الحكومات القمعية والبوليسية وجدت ضالتها في حرق المصحف في تعبئة الرأي العام وتحشيد الجماهير في محاولة للتخفيف عن مظالمها وسلوكها القمعي والبحث عن انجازات مؤقتىة لتصريف ازمتها المستعصية والتضليل على فسادها المالي والاداري والأجتماعي.. ومن السهل لنظام سياسي منافق او حركة ارهابية كداعش ان يضطهدوا معارضيهم ويقتلوا ابناء جلدتهم من المسلمين وغيرهم ويفصلوا الرأس عن الجسد لآلاف من الأبرياء ويحتجون على حرق المصحف دون اي اكتراث لبعض من نصوصه في قدسية الحياة وحرمتها, وهكذا تختلط الأوراق والمشاعر والنوايا بين مؤمن صادق مدافع عن دينه ومصحفه وبين فاسد سارق للمال العام ومجرم قاتل.

حرق المصحف لأكثر من مرة في السويد في دولة تتمتع بمدى واسع من حرية التعبير في اطار ديمقراطية عريقة وفي مجتمع مشهود له في الأمن والأمان والهدوء كان بمثابة قنبلة موقوته اختلط فيها ما هو قضائي ودستوري وقانوني, السويد من اكثر البلدان تسامحا وانسجاما مع الجاليات والثقافات المختلفة فيه, وخاصة الجالية الأسلامية التي يتجاوز عددها اكثر من 875 ألف مسلم, أي بحدود 8.5% من مجموع سكان البلد البالغ 10 ملايين للعام 2023 " حسب الأحصائيات الواردة من موقع المركز السويدي للمعلومات.كوم, وتقوم السويد وعلى مدى عقود بدعم الثقافة والجالية الأسلامية بكل مستلزمات الحفاظ على رموزها من مؤسسات مختلفة, جوامع ومساجد ومجالس عليا وهيئات تنسيقة واندية ثقافية, وتتلقى الجالية الكثير من الدعم المالي من قروض واعانات بما يدعم ثقافة الأندماج والعيش المشترك.والتسامج الديني, وعلى سبيل المثال فهناك " الرابطة الأسلامية "و " المجلس الأسلامي السويدي " و " ورابطة الجمعيات الأسلامية " و " اتحاد الشباب المسلم السويدي " والكثير من المؤسسات الأخرى المتشابهة, الى جانب انشاء مؤسسات تعليمية خاصة.

ومن الصعب هنا التحدث عن كتلة متحانسة من المسلمين في السويد, بل هناك تنوع داخلي كبير فكريا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا, وقد يلتقون عند مشترك واحد هو هجر بلدانهم الأم لأسباب من انعدام حرية التعبير بمعناها الواسع " السياسي والثقافي والأجتماعي والأقتصادي " والبحث عنها في بلدان المهجر كالسويد, وهم قد يشتركون في ذلك الموروث الديني المتداول في العقل الجمعي القادم من البيئة الأجتماعية والثقافية للعالم الأسلامي عموما, وكذلك يختلفون بطبيعة استجابتهم لمختلف الظواهر والأحداث في محيطهم القريب والبعيد بما فيه عملية حرق المصحف.

ان ما جرى في السويد من حرق للمصحف هو الأستغلال الوقح والنشاز لحرية التعبير الواسعة, وقد ادانت الحكومة السويدية تلك الواقعة واعتبرتها اضرار وتعسفا وتهديدا للأستقرار والأمن المجتمعي, كما ادانها الرأي العام السويدي واعتبره خروجا ومخالفا لحرية التعبير إلا ان المشكلة ذات ابعاد قانونونية ودستورية وتستحق المعالجة في المستقبل, طبعا كما ادانت المنظمات العالمية كافة من امم متحدة واتحاد اوربي الى جانب امريكا وبريطانيا والمنظمات العربية والأسلامية.واصدار قرارات اممية تمنع التجاوز على الكتب المقدسة.

نعتقد ان ما قام به كلا الشخصين وهم. سلوان موميكا من العراق, والدنماركي السويدي المتشدد اليميني راسموس بالودان في ظروف   اشتداد المد اليمني في اوربا عموما وفي السويد ايضا, فأذا كانت اجندة راسموس هي من ضمن امور كثيرة كالأحتجاج على الأشتراطات التركية لأنظمام السويد الى الناتو والطلب من تركيا ذلك, إلا ان اجندة اليمين تتجاوز تلك الجزئية الى ابعد من ذلك هو استهداف التنوع المجتمعي للسويد والتضييق على الهجرة واعادة النظر بكثير من القوانين التي تستهدف الانجازات السويدية في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية الفكرية والثقافية والدينية للسويد, اما اجندة سلوان موميكا سليل المليشيات المسلحة العراقية وينتمي تارة الى المسيحية وتارة الى غيرها فهل كان يستهدف ايضا كصاحبه راسموس الأحتجاج على الأشتراطات التركية لدخول السويد الى الناتو عبر اثارة المشاعر الدينية لأوردغان أم يستهدف اثارة مزيدا من الكراهية الدينية والطائفية في العراق " وخاصة انه تجاوز على القرآن ثانية قرب السفارة العراقية" وخاصة بين المكونيين الاسلامي والمسيحي, ام انه يريد الحصول على الجنسية السويدية بأسرع الطرق عبر ادعائه انه مهدد بالقتل بعد واقعة حرق المصحف, او يستهدف اثارة الأسلاموفوبيا في السويد وفي مجتمع تتضائل فيه تلك الفوبيا الى ادنى مستوياتها وفي مجتمع عرف بتسامحه الديني والعرقي والثقافي, وبالتأكيد فأن كل من راسموس وموميكا ينتميان الى ذات الأعاقة الفكرية ـ المعرفية والسلوكية.

بالتأكيد ان حرق المصحف والكتب المقدسة الأخرى لا يقع في اطار حرية التعبير لأنه يشجع على الكراهية الدينية والثقافية ويهدد السلم المجنمعي في السويد وخارجه ويسيء الى علاقة السويد مع العالم الاسلامي وغيره. ان اللجوء الى الأساليب العنفية من قبل بعض الدول كالعراق وغيره في غلق السفارة السويدية وحرقها او اللجوء الى المقاطعات الأقتصادية ومختلف الوسائل الأخرى التي تدهور علاقة السويد بالعالم العربي والاسلامي فأنه لا يجدي نفعا إلا بالارضاء المؤقت لحالات الانفعال الشديد, ونعتقد ان اللجوء الى المحافل الدولية والمنظمات العالمية للحد من اثار التصعيد واعادة بناء جسور الثقة بين السويد والعالم العربي والاسلامي هو افضل السبل واكثرها في الحد من ظاهرة الأسلاموفوبيا المنتشرة في بعض البلدان الاوربية والتي لم تجد طريقها بذات الحدة في السويد الى الآن وتفويت الفرصة على قوى اليمين احزابا وافراد لأستثمار الأحتقان لأهداف غير انسانية.

ويعتمد الكثير على عقلانية الأستجابة الرسمية والشعبية في العالم العربي والأسلامي لرأب الصدع الذي حصل بينهما وبين السويد, كما ان السويد مطالبة بأتخاذ الخطوات الرادعة الفورية في عدم السماح بحرق المصحف او اي كتاب مقدس له دلالته في نفوس اتباعه, واعتقد ان السويد كرأي حكومي وشعبي ادركت الآن مخاطر ذلك على الأمن والسلم المجتمعي, الى جانب احساس صحافتها المتزايد ان تلك الأفعال لا علاقة لها بحرية التعبير, وبالتالي على السويد ان تتجنب تلك السمعة التي بدأ الأعلام الآخر يروج لها بأنها دولة معادية للأسلام وهي خلاف ذلك لعقود عديدة خلت.







3
في الذكرى ال 65 لثورة 14 تموز في العراق

د.عامر صالح

مرت الذكرى ال 65 لثورة 14 تموز التي قادها مجموعة من الضباط الكبار في الجيش العراقي وفي مقدمتهم قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم والتي أسقطت االحكم الملكي في العام 1958. وأسست للحقبة الجمهورية.ويتفهم القارئ او المحلل السياسي جوهر التقيمات المختلفة للحقب التاريخية في العراق وخاصة في حقبتي الملكية والجمهورية الأولى وتداعيات كل منهما على الآخر وقد عبر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العراق عن نضوج العوامل الذاتية والموضوعية في أحداثه إلا أن نقل الثورة إلى مسارات مستقرة بما يفضي إلى نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة سلميا و ديمقراطيا قد تعثر وفشل بسبب القصور الفكري والسياسي لبعض من قيادات الثورة وتكالب الأعداء عليها في الداخل والخارج مما سهل عملية الأنفراد في الحكم وانحراف مسار الثورة لاحقا.


قراءة الثورة اليوم تختلف عن قرائتها قبل 65 عاما بفعل تراكم المعارف النظرية والممارسات والخبرات العملية في التغير السياسي وجوهره والكيفية التي يتم بها حل أزمة الحكم والنظام السياسي, الى جانب طبيعة الصراع الذي كان سائدا انذاك بين المعسكريين الغربي والشرقي وانعكاس مصالحمهما المتناقضة على الأوضاع في المنطقة  وعلى الوضع في العراق بشكل خاص, حيث ان القراءة الفردية بعيدا عن تأثيرات العقل الجمعي او الهبات السيكولوجية الجماهيرية يضفي بعدا منصفا عادلا لثورة تموز بعيدا عن المزاج المضر والمنحاز, الأمر الذي يحرم تقييم تلك الحقبة بديناميات العقل غير المتحيز والمتأثر " بسيكولوجيا الجماهير ". الهبات الجماهيرية الفاقدة للتفرد والعقلانية هي من افسد مسارات الثورة وحراكها المشروع صوب التغير المنتظر للخلاص من نظام قوامه الأقطاعية والقبلية والطائفية في نظام يقف على قمته ملك ليست عراقي, فكان الشارع العراقي لا ينصاع إلا بتوجيهات من الراعي السياسي او الديني لأحداث خراب في مختلف الاتجاهات وكانت الأندفاعات الضارة ليست دفاعا عن الثورة بل من حيث لا يعلم الجمهور هو حفر في العمق لتسهيل سقوطها بيد اعدائها.


وللأسف ان الحقبة انذاك هي حقبة سايكوـجماهيرية قوامها العزف على الأنفعالات بعيدا عن التأثر الحقيقي بالفكر التقدمي ومشروعه الكبير في تحقيق العدالة الأجتماعية وطموحاته في تحقيق السعادة المجتمعية للخلاص من الفقر والبطالة والفاقة وتحرير العراق وثرواته من السيطرة الاستعمارية. قيادة الثورة بفعل محدودية تفكيرها وهذا ليست عيبا فيها بل بأنتمائها العسكري المعروف الذي من الصعب عليه ان استلم السلطة بواسطة الدبابة ان يسلمها لاحقا الى القوى المدنية,  وكانت قوى قيادة الثورة وخاصة جناحها العسكري مغرمة بالخطابات الرنانة التي تتدغدغ العواطف وتقصي العقل من دائرة الفعل المنطقي للحفاظ على الثورة وزخمها, وكان الأنفراد وعدم الأصغاء من قبل القيادة العسكرية للقوى المحركة للثورة بل العداء لها هنا وهناك احد اسباب انحرافها وفشلها لاحقا, فالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم في لحظات كثيرة لم يفرق بين خصومه وانصاره فكان بالنسبة له الجميع سواسية وكان اخطرها تحت شعار " عفى الله عما سلف " الذي اودى بحياة الزعيم النزيه.


ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم جزء من مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة تموز" شي ما يشبه شي" .


ولتكن ذكرى الثورة درسا في قيمة التداول السلمي للسلطة واحترام ارادة الشعب العراقي في اختيار ممثليه عبر ممارسة ديمقراطية نزيهة لا يكون فيها للسلاح مكانا في أكراه الشعب على الأختيار, الى جانب الأستلهام من دروس الثورة في عمرها القصير وانجازاتها الكبيرة في ميدان الخدمات العامة, كالصحة والتعليم والكهرباء, والتخطيط لبناء بنية تحتية اقتصادية متينة والى جانب التشريعات في ميدان حقوق الأنسان والمرأة بشكل خاص والأحوال المدنية العامة.


4
قراءة سيكولوجية ـ سياسية لبطولة "خليجي 25" لكرة القدم

د.عامر صالح

أنتهت دورة بطولة كأس الخليج العربي " خليجي 25 " لكرة القدم والتي أقيمت في مدينة البصرة العراقية في الفترة الممتدة من 9 ـ 19 كانون الثاني/يناير2023, وقد انتهت بفوز الفريق العراقي ببطولة الكأس, وهي المرة الرابعة التي يفوز بها العراق بعد ثلاث مرات سبقتها في السنوات: 1979, 1984 و 1988. وتتفق اغلب القراءات أن بطولة "خليجي 25" تم انجازها بنجاح من حيث الأعداد لها لوجستيا وفنيا وجماهيريا.

ساهم " خليجي 25 "  في بعث شحنة الأمل لدى الشعب العراقي وشعوب دول الخليج في التفيس المؤقت من الأحتقانات الأقليمية والتي انتجتها دائرة الصراع الأقليمي وبشكل خاص الصراع ألأيراني ـ الخليجي, ذلك الصراع الطائفي ـ السياسي المزمن والقائم على خلفية نهج ايران في تصدير " الثورة الأسلامية " الى دول الجوار والى العالم وهو نهج يستند في مبادئه الأساسية الى اشارات واضحة في دستور " الجمهورية الأسلامية الأيرانية ". وقد وقع العراق ضحية هذا النهج قبل الدول الخليجية بسبب من وجود بيئة سياسية حاضنة له.

فالعراق عانى لأكثر من اربعة عقود من الحروب والخراب الشامل والعزلة الدولية جراء سياسات النظام السابق المتهورة والهوجاء. تبعتها سياسات لاحقة ما بعد سقوط النظام في عام 2003 بفعل عوامل الأحتلال الأمريكي وتداعياته الخطيرة على المجتمع العراقي, وبفعل سلوكيات التمترس الطائفي السياسي والشوفينية العرقية والأثنية, والتي كرست الجهل والتخلف والفقر واهدار طاقات العراق البشرية وموارده الأقتصادية وسرقة عائداته النفطية لعقدين من الزمن وتشويه بنيته التحتية ألأقتصادية والأجتماعية بكل ابعادها, وقد ابعدت العراق عن فرص الأستقرار والنمو والتقدم والأزدهار.

كانت ردود فعل الشعب العراقي ليست ببساطة كما يراها البعض هي فقط في تشجيع فريقه لكرة القدم وتمنيات بالفوز, بل تكمن الأسباب الرئيسية في ردة فعل الشعب على القهر والتعسف والظلم الذي تجاوز حدود اللامعقول على الرغم من امتلاك العراق كل عوامل النهضة والأنطلاقة, البشرية منها والمادية. ولا يمكن فهم تلك الفعالية الى جانب بعدها الترويحي بالطبع , خارج اطار سيكولوجية التعويض الناتج من الأحباط المزمن, حيث البحث عن الأمل والفرح والسعادة في أي مناسبة.

واذا كان الأمر مفهوما لنا من جانب السلطات العراقية والحكومات المتعاقبة في محاولاتها للبحث عن انجاز شعبي يفك طوق العزلة الشعبية الناتج من الفشل في مجمل سياساتها عبر عقدين من الزمن, فأنه من جانب الشعب كان يجسد بوضوح ذلك الميكانزم العقلي والسلوكي الذي تختلط فيه دموع الفرح والحزن وهو يبحث عن فرص مباشرة وغير مباشرة, مؤقتة ومستديمة للخلاص من الظلم وانعدام العدالة الأجتماعية وسوء الأحوال العامة.

أما من جهة دول الخليج الأخرى وشعوبها وجمهورها المشجع " لخليجي 25 " فرغم ما تمتلكه من بحبوحة في العيش ومستويات من الرفاه الأقتصادي وما تمتلكه من بنى تحتية نامية بأطراد تستند الى مفاهيم التنمية المستدامة وتعتمد في جوهرها على تنويع مصادر الدخل القومي وعدم اعتمادها على النفط كمصدر وحيد في نهضتها الأقتصادية والأجتماعية, إلا أن هواجسها ومخاوفها من عدم الأستقرار الأمني الأقليمي والداخلي يشكل لديها وجعا يوميا, وقد لاحظنا ذلك في العديد من الهجومات الصاروخية المتكررة على بعض من دول الخليج الى جانب الأنشطة المزعزعة لها والقادرة على بعث عدم الأستقرار اليومي وتهديد بنائاتها الداخلية وأمنها المجتمعي.

وهنا نرى حجم زخم الحضور الشعبي الخليجي والعراقي والذي بلغ عدده بحدود 650 ألف, حيث شكل الطرف الخليجي فيه اكثر من 70 ألف, فألى جانب بعده الفني والرياضي, يشكل في ثقله محاولة غير مسبوقة لأحتواء الحدث الرياضي سياسا على شكل رسائل ضمنية من قبل الجمهور العراقي والخليجي عبر استمالة العراق الى الجانب الخليجي في خضم الصراع الأقليمي الدائر مع ايران, وحيث العراق متهما في العديد من قواه السياسية في الوقوف مع ايران وتنفيذ اجندتها الأقليمية, فقد اطلق البعض على تلك الأستمالة  بعودة العراق الى حضنه العربي ولكن نعتقد ان عودة الأحضان الى بعضها هو الأصح. وللأمانة الموضوعية نقول ان بعض من دول الخليج العربي ساهمت في عدم استقرار العراق في فترات سابقة عبر دعمها للمنظمات الأرهابية مثل القاعدة وداعش ولعب خطاب بعض من مؤسساتها الطائفية التكفيري دورا كبيرا في عدم استقرار العراق, بل وساهمت في انتكاسة " الربيع العربي " وحرف مخرجاته الطبيعية صوب الخلاص من الأستبداد وحل أزمة الحكم في البلاد العربية.

ولكن يبدوا ان القناعة بأن الارهاب يستهدف امن الجميع وان المصالحة على اسس المصالح والعيش المشترك بسلام بدأت تأخذ حيزا كبيرا في رسم سياسات دول الخليج. وقد جسدت الجماهير الخليجية والعراقية صور جميلة ورائعة من سلوكيات التواصل الأجتماعي والروحي والأحترام المتبادل عكسته انماط من السلوك الحضاري في استقبال الضيوف في كل امكنة البصرة وممارسة طقوس تعكس العمق التاريخي والثقافي لشعوب المنطقة, وقد انعكس ذلك ايضا بدوره في اشكال سلوكيات التشجيع للفرق المتنافسة, والتي اتسمت بالحماس المفعم بالهدوء النسبي خلاف للمتعارف علية عند جمهور فرق كرة القدم.

كان احتجاج أيران الرسمي لدى العراق على تسمية " الخليج العربي " بدلا من " الخليج الفارسي " لمسمى مبارات دول الخليج العربي هو تعبير واضح ليست فقط اعتراض على التسمية وانما كان توقيتها هو رسالة امتعاض وغضب من الجانب الايراني وخوف دفين من الأقتراب الرسمي والشعبي لدول الخليج مع العراق, وايران تدرك على مستوى تهديد مصالحها ولذلك افتعلت تلك المشكلة" التي هي ليست موضوع خلاف جديد " كمقدمات لخلق مشاكل اكبر وعرقلة المسار الايجابي لعلاقة العراق بدول الخليج, والعراق  يمربظروف صعبة يبجث فيها عن بدائل لتعزيز عمليات الاستقلال الداخلي في مختلف المجالات, والأقتصادية والسياسية في مقدمتها. وقد استجاب قادة الأسلام السياسي الشيعي في الامتناع عن ذكر مسمى الخليج العربي حتى في التهاني التي قدمت للفريق العراقي واكتفيت  بمسمى " خليجي 25 " بل البعض منهم امتنع حتى عن تسمية خليجي 25 واكتفى برسائل تهنئة خجولة للفريق العراقي والفرق المشاركة, بل دفع بعضهم التطرف والمحاباة لأيران في البحث عن مسمى " الخليج الأسلامي ". ولا يمكن الأستغراب من مواقف الأسلام السياسي الحاكم في العراق وفي بلد يشكل فيه حجم التجارة الخارجية مع ايران اكثر من 12 مليار دولار في معظمها لكفة الجانب الأيراني في مجال الكهرباء والصناعات والمنتوجات الزراعية الأخرى, الى جانب تهريب العملة الصعبة لها, وفي بلد كالعراق يتدخل فيه الطرف الأيراني في تشكيل الحكومات المتعاقبة بما يخدم اجندتها ومزاجها الطائفي وضمان مصالحها في ارتهان العراق كحديقة خلفية لأيران لتصفية صراعاتها الأقليمية والدولية وفي مقدمتها الصراع الأيراني ـ الأمريكي.

خضعت الرياضة وبشكل خاص كرة القدم وعلى الأخص جمهورها المشجع الى الكثير من البحث السيكولوجي على خلفية ما يقع من احداث عنف وضحايا بشرية اثناء المباراة وبعدها واعتبرت تلك الحشود ينطبق عليها ما قاله غوستاف لوبون ( 1841 ـ 1931 ) في كتابه" سيكولوجيا الجماهير " وهي ان الفرد عندما ينصهر في الحشد يفقد الكثير من مزايا التفرد والذكاء والأبداع وبالتالي يكون مستعدا لأرتكاب الكثير من الأفعال التي تهدد المجتمع وسط بقائه مع الحشد او الجموع. وقد كان للكاتب والروائي والشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ( 1899 ـ 1988 ) من بلد " ميسي ومارادونا " فقد وصف كرة القدم بأنها لعبة غبية جماليا ووصف جمهورها بالتعصب والأنحياز الأعمى وقال عنها انها اكبر جرائم الأنكليز, وقال ان جمهورها شبيه بالجمهور الذى أتى بأعتى الدكتاتوريات الى السلطة وغيرها من النعوت السلبية بحق جمهور كرة القدم, وقد رافقت آرائه انذاك الكثير من ضحايا كرة القدم في مختلف الملاعب.

وقد يغير بورخيس الكثير من آرائه لو كان حيا اليوم, بعد ان تحولت كرة القدم والرياضة عموما الى مشاريع اقتصادية واجتماعية وثقافية ضخمة الى جانب كونها من الأستثمارات الكبيرة في حاضرنا اليوم وخاصة عندما خضعت اللعبة على الدوام الى المزيد من التخطيط وتكريس أمن الجمهور فيها ولكن هذا لا يمنع من وقوع ضحايا بين وقت وآخر. وقد تحولت الرياضة وكرة القدم في مقدمتها, الى جزء لا يتجزأ من القوى الناعمة على الصعيد العالمي, الى جانب عناصر القوى الناعمة الأخرى من سياحة وثقافة وفندقة وآ ثار وتلعب دورا في تصدير القيم والاتجاهات الأيجابية وانتشارها بين الشعوب والمساهمة الفعالة في انجاز السياسات الخارجية بعيدا عن استخدام القوى الصلبة " القوى العسكرية " وتوسيع دائرة التفاعل بين عادات وتقاليد الشعوب وايصال رسائل المودة والسلام على الصعيد العالمي.

وقد انفقت دول العالم الملايين والمليارات من الدولارات على قطاع الرياضة وخاصة كرة القدم ليست فقط من اجل الترفيه بل ان الأستثمار المتبادل اخذ حصته الكبرى في هذا الأنفاق, وعلى سبيل المثال ووفقا لوكالة "بي بي سي عربي" "فقد انفقت دولة قطر ما يقارب 220 مليار دولار لأستضافة كأس موندال 2022 , وهو ما يعادل 60 ضعف الميزانية التي انفقتها جنوب افريقيا على كأس العالم 2010 وقد يعادل ايضا ما انفق على 21 بطولة سابقة. وقد انفقت هذه الأموال من جانب قطر انشاء بنية تحتية, مثل شبكة جديدة للمترو في الدوحة, ومطار دولي, وطرق جديدة, فضلا عن بناء نحو 100 فندق ومرافق ترفيهية". والأمر الذي يجب الأشارة أليه ان هذا الأنفاق الهائل من قبل قطر وبعيدا عن ماذا ارادت قطر ان تسوق في هذه المناسبة للعالم, وهل تستفيد قطر لاحقا من هذه البنية التحتية, أنها نجحت نجاحا كبيرا في  التخطيط والأعداد وانجاز هذه المناسبة وهي رسالة مهمة جدا لدولة صغيرة كقطر. ويجب الأشارة هنا ان هناك تناغم او تكامل ما بين الشعب القطري المترف ذو المستويات العالية في الدخل والخدمات العامة كالصحة والتعليم والأمن المجتمعي وفي النزاهة ومحاربة الفساد" وفقا للتقارير الدولية ", اي هناك اسناد شعبي كبير لهذا المنجز على خلفية نوعية ونمط الحياة السائد والمستوى المرتفع من اشباع الحاجات الأنسانية.

اما بالنسبة للحالة العراقية فقد خصصت الحكومة العراقية لبطولة خليجي 25 ما يقارب 33 مليون دولار انفقت حسب ما يذكر لبناء عدة فنادق وعددها اربعة, وكذلك لأغراض الأستعدادات البرية والجوية, ونشر عدد من شبكات الأتصال على شكل ابراج متنقلة وغيرها من مستلزمات نجاح خليجي 25 . في الحالة العراقية فأن الجمهور العراقي الذي بلغ الأكثر من 500 ألف متفرج هو جمهور غاضب ومحتج على السلطات الحاكمة ودفع في مناسبات عديدة في حركاته الأحتجاجية المئات من الشهداء والجرحى والمعاقين والمغيبين على خلفية الفساد الاداري والمالي وسرقة اموال العراق وازمات البطالة والفقر وانعدام الخمات العامة وتدهور العملة العراقية مقابل الدولار, فأذا اردنا نجاحا مستديما لفعالياتنا الرياضية والترفية ان تستمر ولا تنتهي بعد ايام من نهاية الاحتفالات وان تكون ذات اثر فعال على المستوى الأقليمي والدولي فيجب ان نرفدها بعوامل الاستقرار والنهوض في الجبهة الداحلية, وابرز تلك العوامل: محاربة الفساد المالي والاداري واسترجاع اموال العراق المنهوبة والحديث صراحة عن من يقف ورائها, نزع سلاح المليشيات المنفلته واقصاء الاحزاب السياسية ذات الأذرع المسلحة من العملية السياسية لأنها تشكل خطرا على الديمقراطية, الشروع الجدي ببناء اقتصاد متنوع وليست وحيد الجانب ويعتمد على النفط فقط, فأن كل افراحنا وفعالياتنا ستكون في مهب الريح عندما لا تتوفر لها عوامل ديمومتها. ونحن نرى الآن بأم اعيننا بعد انجاز فعالية خليجي 25 أن الجماهير نفسها التي كانت تشجع في الملاعب عادت الى ساحات الأحتجاج وهي تناضل من اجل لقمة عيش كريم. 

5
الحرب الروسية ـ الأوكرانية "رب كلمة باطل أريد بها حق"


د.عامر صالح

دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الخامس في ظل انسداد أي افق لحلها وتفادي حرب عالمية ثالثة نووية, بل ان كل المعطيات والأستقطابات الدولية تشير الى ان ما يجري هو بروفات تمهيدية لحرب عالمية نووية لم ينجو منها أحد, بل ان كل من ينظم الى احد الفريقين المتقاتليىن يرى ان النار بدأت تأكل اقدامه, وهكذا حروب لا نرى فيها منتصرا ولا مهزوم بل هي حروب استنزاف طويلة الأمد, وبأختصار فهي حرب لأجهاد الغرب ولأستنزاف روسيا, وأن وقعت الصين في فخ الحرب الروسية الأوكرانية عبر تحالفها مع روسيا فأنها هي الأخرى ستستنزف وتفوت على نفسها المزيد من فرص الرخاء والتقدم الصناعي والتكنولوجي والمعلوماتي عبر انفتاحها على السوق العالمية الرأسمالية منذ السبعينيات وبفعل ذلك اصبحت الصين عصب الأقتصاد العالمي والرأسمالي منه بشكل خاص.

الحرب التي ارادها بوتين خاطفة او كما يسموها الروس " عملية خاصة " تبين انها حرب طويلة الأمد وهي حرب عبثية بكل المقاييس الأنسانية مهما تذرع بوتين بحماية الأقليات الروسية في أقليم الدنباس, نعم هناك في اوكرانيا سلوكيات شوفينة واجهزة قمعية مختلفة داخل المؤسسات الأمنية والدفاعية والمخابراتية تعادي الروس والأقليات الروسية هناك وقد ارتكبت بحقهم مجازر بشعة, ولكن هل يجوز لكل دولة لها اقليات في دول اخرى ان تشن حروب ابادة لأنقاذ اقليتها ودولة كروسيا العضو الدائم في مجلس الأمن عليها احترام بأقصى ما يمكن سيادة البلدان وعدم الأعتداء عليها بواجهات مختلفة, وإلا فأن العالم يتحول الى غابة يفترس فيها القوي ضحيته الضعيفة, فلايمكن هنا المقارنة بين قدرات روسيا العسكرية واوكرانيا والتي يضعها بعض الخبراء بنسبة مقارنة 1 الى 12.

الموقف الأنساني لا يتجزأ من الأحتلال واستباحة اراضي الغير وان الموقف من الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا هو محك تتظافر فيه القوانين الدولية التي تدين فيه الأحتلال والحرب وكل اشكال التعسف وأكراه الآخر الى جانب مواقفنا كبشر في كبح غريزة العدوان, ومن هنا لا فرق بين احتلال امريكا للعراق عام 2003 واستباحة اراضيه وبين الأحتلال الروسي لأوكرانيا او الأحتلال الأسرائيلي للأراضي الفلسطينية وبعض من الاراضي العربية بشكل عام, ولا يمكن ان نطلب من العالم ان يتضامن مع قضايانا العادلة ونحن نقف فرحين امام استباحة اراضي الغير, تلك مقاييس يجب ان لا تخضع لمزاج العداوة مع هذا وذاك, فأن كنت لا تحب امريكا وسياستها العدوانية اتجاه بعض الشعوب عليك ايضا ان لا تقف مع بوتين واحتلاله لأوكرانية, وهكذا في كل السياقات والمواقف التي تستدعي منا التجرد الكامل من شد الأنفعالات المفرطه الذي يفقدنا الصواب ويضيق علينا دائرة التضامن مع قضايانا العادلة.

لم تكن هناك مزايا تذكر للحرب الروسية على اوكرانيا, بل انها شددت الخناق على العالم بأجمعه, فقيره وغنيه وتهدد العالم بأمنه وغذائه ولقمة عيشه وحرمت العالم من التواصل مع بقاعه المختلفة جراء العقوبات والعقوبات المضادة حتى تحول العالم الى برميل بارود لا نعرف متى ينفجر في أي لحظة, الى جانب شدة الأستقطابات العسكرية, فحلف الناتو الذي كان ميت سريريا " كما قال ماكرون " انتفض على نفسه ليعيد بناء نفسه من جديد ويروم بضم دولا اخرى الى عضويته كفلندا والسويد تلك الدول التي كانت محايدة نسبيا والتي اغرقتها الفوبيا الروسية في شبح من المخاوف فتسارعت للتوسل في الأنظمام الى الناتو.

الى جانب ما تخلفه الحرب الروسية الأوكرانية من ازمة في الغذاء العالمي جراء تعثر ومنع تصدير الحبوب الأوكرانية الى مختلف بقاع العالم الى جانب استخدام الطاقة من نفط وغاز كسلاح في المعارك الدائرة بين روسيا واوكرانيا وبالتالي وحسب حلفاء كل طرف في الصراع الدائر سيتلقى كل منهم الضربة القاسية, فحلفاء اوكرانيا من امريكا واوربا تلقوا الضربة بما فيه الكفاية من قطع لأمدادات الغاز والنفط الروسي رغم انهم خططوا للأستغناء عنهما ولكنه ليست بالأمر السهل وهي اقوى العقوبات المرتدة على الغرب, اما روسيا وحلفائها فتلقوا الضربة بأطالة امد الصراع الروسي الأوكراني عبر منع روسيا من تحقيق انجاز عسكري على ارض الصراع ومن ثم عزل روسيا شبه الكامل عن المجتمع الأوربي وعدم التعامل معها باعتبارها دولة تقترب من المنبوذية وهذا يضر بطموحات روسيا ورغبتها في البقاء في الحضن الأوربي وبقائها في الناتوا كشريك " كما ارادها بوتين " وليست عضوا, فقد تبخرت طموحات روسيا بعد ان كانت تشكل عصب اوربا في الطاقة, وقد تحولت ايضا بعرف الناتو من شريك الى اكبر تهديد له, الأمر الذي يلقي بظلاله على مزيدا من التعقيد في العلاقات الدولية.

الحرب الدائرة بين الغرب وروسيا هي ليست عقائدية بين معسكرين مختلفين كما هو بين المعسكر الأشتراكي الشيوعي وبين الغربي الرأسمالي سابقا, بل هي حرب بين رأسماليات امبريالية لا يهمها مستقبل الشعوب وهي حرب على السيادة الدولية وقيادة العالم وجميع اطراف الصراع تبحث عن اقطاب موالية لها في المصالح الأقتصادية واقتسام مناطق النفوذ في العالم, والقطبية هنا ليست قطبية عقائدية بل قطبية مصالح اقتصادية في خظم عملية الصراع الدائر للأستحواث على الثروات العالمية, فروسيا اليوم هي ليست روسيا فلاديمير أيليتش لينين بل هي روسيا فلاديمير بوتين والفرق بينهما كفرق بعد السموات عن الأرض. لينين الذي أقر حق الشعوب في تقرير مصيرها بما فيها حق الأنفصال يراها بوتين خطأ تاريخي من لينين, بل ان خطاباته الأخيرة فيها من التحريض الى العودة الى القيصرية الروسية ويرى قضم اراضي الغير وضمها الى روسيا حق مشروع كعودة الفرع الى الأصل. رغم اننا نراها سيكولوجيا جزء من خطاب رفع سقف المطالب لأذلال الطرف الآخر وتخويفه واجباره على الركوع الى الشروط الروسية لحل النزاع.

خطورة الصراع الدائر بين الغرب واوكرانيا من جهة وروسيا من جهة اخرى هو ان القرار الذي يتخذ في الغرب لا زال يعبر او يخرج من المؤسسات الديمقراطية ذات التقاليد العريقة والمستقرة نسبيا وبالتالي هناك قدر من الأجماع المجتمعي او قناعة ما بما يجري في اروقة السياسة الخارجية كما هي الداخلية, اما في روسيا فأن من يتحكم بالقرار السياسي والعسكري هو بوتين وحاشيته, فهو القائد وهو من يقود المعارك ويخطط لها وهو يقرر وقف اطلاق النار او استمرار الحرب الى أجل غير معلوم, ويعتبر كل ما يصيب الشعب الروسي من مأساة وعزلة عن العالم وفقر وجوع هي مفدات لقائد الضرورة والملهم الأوحد.

نعم هناك قدر من الصبر  وتحمل التضحيات في الغرب من اجل اوكرانيا ولكن رغيد العيش عندما يفقد امتيازاته اليومية ويعاني من شحة الخبز والوقود وارتفاع معدلات التضخم فلا ننتظر منه ان يكون مواليا ومناصرا لأوكرانيا كما هي البداية عندما كان في بحبوحة من عيشه, وكما نعلم ان الكثير من العقوبات الأقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا ستفضي الى تدمير وتعطيل الكثير من قطاعاته الأقتصادية ارتدادا, وبالتالي نحن هنا امام موجات من الأحتجاجات والرفض الشامل لضنك العيش المتسبب من العقوبات على روسيا, وبالتالي فأن المواطن الأوربي والأمريكي لا يتحمل فقدان الكثير من امتيازاته اليومية في العيش المرفه والتي يعتبرها من المسلمات غير القابلة على المساومة, وبالتالي فهناك الكثير الذي ينتظر الجبهة الداخلية الاوربية والامريكية من معاناة في تدهور مستوى الحياة المعيشية وان ذلك نذير بالمزيد من موجات الغضب الشعبي والاحتجاجات الرافضة لتدني مستويات العيش, وكذلك في التضييق على الحريات والحقوق المدنية.

 مما هو لاشك فيه ان الخسائر جسيمة بالنسبة لكل اطراف الصراع الدائر بين الغرب واوكرانيا من جهة وروسيا من جهة اخرى, فقد بلغت الكلفة التقديرية لأعادة البناء في اوكرانيا بين 500 الى 750 مليار دولار جراء خراب البنية التحتية, كما ان الغرب بعقوباته على روسيا بلغت خسائره المرتدة بحدود 100 مليار دولار في مختلف القطاعات, اما روسيا فيقدر انفاقها العسكري اليومي على العمليات العسكرية في اوكرانيا مئات الملايين من الدولارات وبالتالي لا فائدة من عوائد النفط الروسي إلا في خدمة الآلة الحربية, اما خسائر العالم كله جراء الصراع الدائر فهي لا تقدر بثمن والناتجة من شحة المواد الغذائية وارتفاع الاسعار والتضخم والبطالة وانهيار الكثير من المشاريع الاقتصادية وتهديد العالم بمجاعة كارثية لم تمر بها من قبل او على الأقل منذ ثمانية عقود.

كثير من العوامل التي ساعدت على ديمومة الحرب دون أفق لأنطفائها, فمد اوكرانيا المستمر بالسلاح الغربي دون نتائج تغير من مسار المعارك لصالح الأوكرانين, سريعا مما يجعل الطرف الروسي اكثر شراسة في التمادي وقضم المزيد من الاراضي الأوكرانية مع انعدام الأفق في التغير السياسي من الداخل الروسي بفعل طبيعة الحكم المستعصية على التغير الآن. كما كان لتحريض دول منظومة المعسكر الأشتراكي السابق وجعلها رأس حربة الناتو او الخط الامامي له لمواجهة روسيا دون استدراك وفهم للعلاقات النفسية والروابط التاريخية المعقدة بين تلك البلدان وروسيا اليوم وكذلك الحال لبعض من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي اختارت الناتو والطريق الغربي كمستقبل لها هي اليوم تقع في ذات الاشكاليات التاريخية رغم حق البلدان جميعا في اختيار مسار تطورها الأقتصادي والسياسي وتقرير شكل انظمة الحكم فيها.

غياب نخب سياسية فاعلة تعي حقيقة اهمية السلام والأمن الدوليين سواء في اوكرانيا او روسيا لتجنب الوقوع في كوارث انسانية جراء ترجمة الأرث التاريخي بشكل خاطئ وعدم الاستفادة منه في بناء مستقبل آمن. وكان يجب على الأوكرانيين والعالم الغربي عدم الأستخفاف بالجانب الروسي فلديه تجربة عقود في الصراع مع الغرب في زمن الأتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الأشتراكي آنذاك وهي ذخيرة غنية تحت تصرف القيادة الروسية الحالية, الى جانب قصور النخبة السياسية الاوكرانية والتي يشار أليها دائما بسياسي الصدفة وعجزها في التعامل الانساني مع الأقليات الروسية في اوكرانيا, الى جانب سوء تقديرها في التعامل مع العقلية المخابراتية الروسية, وكانت استماتة الجانب الغربي ووقوفه غير مدروس العواقب الى جانب اوكرانيا والأنهيال بالعقوبات على روسيا هي مقاربة انتحارية ستفضي الى مزيدا من ابتعاد روسيا عن المجتمع الأوربي والبحث عن حلفاء جدد كما جرى لنفط وغاز روسيا وسيخسر الغرب المزيد من مزايا الأمكانيات الروسية واثرها على الاقتصاد الغربي, طبعا الى جانب تضرر روسيا وعزلتها اوربيا وامريكيا وبالتالي فأن اطراف الصراع جميعا قد اقدمت على تصميم محكم لنموذج فوضى عالمية قادمة.

الحروب لصيقة بنشأة المجتمعات الأنسانية وجزء لا يتجزأ من طبيعة الانسان وفطرته في المنافسة والأستحواذ على الغير ومن هنا جاءت النظم الديمقراطية لأعادة تشكيل وتهذيب الغرائز العدوانية لدى الأنسان عبر رسم حدود فاصلة بين حريتي واحترام حرية الآخرين, ومع هذا فأن الحروب عبر التاريخ تشكل مدخلا لأعادة بناء السلام والحفاظ عليه قدر الأمكان, وقد تنازلات الكثير من الأمبراطوريات عن املاكها لمصلحة ايقاف الحرب واعادة تقسيم ممتلكاتها بين الدول المتصارعة لضمان الأمن وعدم الأقتتال والحال كذلك مع الحرب العالمية الأولى والثانية التي انشأت عالم جديد من جمهوريات جيوبوليتيكة مختلفة والتي فك عقدها بعد انهيار الأتحاد السوفيتي والمعسكر الأشتراكي, ومن هنا يمكن القول ان الجغرافيا الجيوبوليتيكية هي جغرافيا متحركة وكما هي رهينة بظروف نشأتها فهي ايضا رهينة بعوامل انفكاك عقدها, وكما هي سنة الحياة لا يوجد ثابت مطلق ليست فقط في السياسة بل وحتى في الجغرافيا.

وقد استرعى اهتمامي تصريح عميد الدبلوماسية الأمريكية السابق هنري كسينجر في كلمته في منتدى دافوس، في 23من شهر أيار الماضي،حيث لفت كيسنجر إلى"مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي"، مشيراً إلى أن "موسكو كانت جزءاً أساسياً من أوروبا على مدى 400 عام، وكانت الضامن لتوازن القوة في أوروبا في الأوقات الحرجة"، معتبراً أنه "لا بد لأوكرانيا من أن تتخلى عن بعض الأراضي لروسيا" وأضاف الدبلوماسي الأميركي المخضرم أنه "لا يجب أن تغيب تلك العلاقة الطويلة الأمد عن أذهان القادة الأوروبيين، كما لا يجب أن يجازفوا بدفع روسيا إلى الدخول في تحالف دائم مع الصين" وأضاف الدبلوماسي الأميركي أنه "لا يجب أن تغيب تلك العلاقة الطويلة الأمد عن أذهان القادة الأوروبيين، كما لا يجب أن يجازفوا بدفع روسيا إلى الدخول في تحالف دائم مع الصين وحذّر من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، مشدداً على ضرورة دفع كييف إلى العودة إلى التفاوض، مؤكداً أن "الوضع الملائم لها هو الحياد، وأن تكون جسراً بين روسيا وأوروبا". بالتأكيد ان هنري كيسينجر كانت يرى مصلحة امريكا في هذا كله وليست مصلحة العالم وامنه وبالتالي فأن تنازل اوكرانيا عن بعض من اراضيها لروسيا ليست حبا بروسيا فهو ادان العملية العسكرية بأشد العبارات ولكن بالنسبة له مصلحة امريكا فوق كل الأعتبارات الأنسانية فالرجل معروف ببراغماتيته السياسية طوال ممارسته العمل الدبلوماسي.

اعتقد ان قوة الدفع في تصريح هنري كيسينجر تكمن في ضرورة المفاوضات كخيار وحيد بين اطراف الصراع الدولي وكلمة كيسينجر هي اشبه بكلمة باطل اريد بها حق وليست العكس لأن التنازل عن الأرض لا يمكن قبوله إلا وقد اخفى ورائه اهداف اخرى, والحق في كلمته هو الجلوس على طاولة المفاوضات, وبالتأكيد انها مفاوضات صعبة جدا بعد تلك الأصطفافات الدولية ولكن اذا كان السلم العالمي والأمن الدولي مهددا بحرب عالمية ثالثة وفناء شامل فقد تكون تكلفة تجنب ذلك هو اقليم الدنباس ولو كان لأجل مرتهن بالتغيرات المرتقبة في الداخل الروسي والتي قد تشكل ممهدات لأعادة الأمور الى ما قبل العملية العسكرية الروسية التي اندلعت في 24 فبراير الماضي, اما عدا ذلك فأن التنازلات المشروعة للحفاظ على السلم العالمي هي مشروعة بقيمة نتائجها الأيجابية لاحقا في تجنب الكارثة المحدقة بالعالم كله كما يبقى حق الأوكرانيين في استعادة اراضيهم وفق القوانين والمواثيق الدولية عملا مشروعا بكل المقاييس.

 

6
لماذا ممنوع علينا الحديث عن معاناتنا امام المجتمع الدولي؟

د.عامر صالح

اعتادت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق منذ عام 2003 على ممارسة ثقافة التخوين والتشرب في نسيجها السياسي المتهرئ بثقافة المؤامرة وهي آلية سيكولوجية لممارسة الأسقاط وتحميل الآخر كل اخفاقات السياسة, فهي تعودت على احتكار الأنجاز" إن وجد " لها وحدها أما الفشل والأخفاق فهو لصيق بالشعب وحده وبالقوى الخارجية العظمى التي تتآمر على العراق ليل نهار ولا تسمح للقوى الحاكمة بأنجاز مشاريعها في "التنمية الأقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية" حتى وصل الأمر الى اعادة تشكيل معادلة سياسية نفسية مشوهة قوامها أن الظالم مظلوم والمظلوم ظالم, وبالتالي تطالب الطبقة السياسية الظالمة بأنصافها وتخليصها من ظلم الشعب لها, فهو لم يمنحها الفرصة الكافية لأظهار امكانياتها في البناء والتقدم ومحاربة الفساد, وهي الحاكمة منذ 2003 والغارقة في الفساد حد نخاع العظم والتي عاثت فسادا في المال العام والفساد الأداري وتدهور الخدمات الأنسانية ووصولها الى حدودها الدنيا حتى وصل العجز الى تلكؤ السلطات الحكومية بدفع المرتبات الشهرية للمواطنين في دولة تمتلك احتياطي عالمي من النفط والثروات الطبيعية.

لقد حمل العراقيون على كاهلهم عقدين من فساد حكم المحاصصة الملوث بكل الانهيارات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية, سبقتها عقود من الظلم والحروب والفساد, لقد مارس نظام المحاصصة الطائفي والأثني الأسلاموي والعرقي كل ألوان القهر والعبث والنفاق والدجل والكذب وجميعها مظاهر من القهر والأذلال التي تمارسها القوى الحاكمة ضد الشعب, لقد تسممت حياة مجتمع بكامله جراء القهر والقمع الذي يمارسه نظام المحاصصة الفاسد اخلاقيا وسياسيا حتى انتج هذا النظام القمعي دوائر متشعبة ومتداخلة من القهر والقمع المستديم لا يمكن الخلاص منها, فالموظف يقمع المراجع ويضعه امام شروط قاسية لأنجاز احتياجاته, والموظف الأكبر يضع شروط القهر على الموظف الأصغر ويهدده بلقمة عيشه ان لم يستجيب لشروطه, وهكذا وصولا الى اعلى تراتيبية في الحكم والسلطات والصلاحيات, حتى اقتنع الجميع ان الفساد هو المخرج وليست محاربته هو الحل, ولا نستغرب من مواطن لا يجد حل لمعضلة ومشكل العيش في العراق ان يلجأ بعد نفاد صبره الى التجاوز وتدمير الممتلكات العامة وحرق المؤسسات الحكومية بعد احساسه انها ليست ممتلكاته بل هي ممتلكات نخب فاسدة, انها ليست سيكولوجيا مواطن عراقي مخرب بطبيعته كما اراد لها بعض الكتاب ان يصوره ويستسهله على العراقيين, بل انها ردة الفعل على جلاديه وسرقة امواله ومستقبله, وهي ردة فعل لجروح سيكولوجية عميقة تم فيها اذلال الشخصية العراقية, وبالتالي فأن ميكانيزمات الدفاع عن النفس تختلف بأختلاف الوعي والتنظيم الذاتي.

أن ما تعرضه منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان يجسد جزء من مأساة الشعب العراقي خلال ما يقارب اكثرمن عقد والنصف عاما الماضية, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم" تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام ". مليونا أرملة" اعمارهن ما بين 15 و25 عاما". ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة" تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار ".بلغت نسبة البطالة 31%" الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى". 35% من العراقيين تحت خط الفقر" اقل من خمسة دولارات". 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة" بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط". 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2017 بلغت ألف واربعمائة مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.


وقد قدم شعبنا في الاحتجاجات التي اندلعت في اكتوبر عام 2019 ما لا يمكن توقعه في حراك سلمي مشروع بعرف القيم الانسانية او كما يرد في دستور العراق الذي يكفل حق التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي, وقد بلغ شهداء الأحتجاجات اكثر من 750 شهيدا وما يقارب من 30 ألف جريح, من بينهم اكثر من 700 اعاقة منتهية, وكذلك اكثر من 2000 معتقل. وقد استندت السلطات الحاكمة الى اعتمادها القمع الدموي الى افتعال " نظرية المؤامرة " التي تستهدف العراق كما ترويه السلطة الحاكمة, وهي تعرف تماما ان سيادة العراق منتهكة من دول الأقليم وأمريكا, وقد مارست السلطة في سلوكها اسقاطا سيكولوجيا لاحدود له في تحميل المحتجين عيوب النظام وامراضه المزمنة, فتوغلت في القتل والتصفيات الجسدية وممارسة شتى صنوف العنف واساليبه اللأانسانية.


لقد تأكد للجميع أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية خلال ما يقرب من العقدين من الزمن وما أنتجه من تعصب أعمى، ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية، حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد، مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد، وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار، وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية، مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة، وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة، أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

في ظل تلك المأساة المستديمة والمستعصية والتي لا يوجد لها اي حل مشرف في الأفق القريب أن يقوم بعض الناشطين في منظمات المجتمع المدني ومنهم السيدة هناء أدور في تعريف المجتمع الدولي بما يعانيه العراق وشعبه, فذلك ليست عيبا او تدخل في الشأن الداخلي العراقي كما ارادت له قوى الفساد ان تصوره لمحاولة حجب الحقائق عن المجتمع الدولي عن ما يجري في العراق, فالعراق ليست في كوكب آخر ومعزول عن محيطه الأقليمي والدولي, بل ان العراق اليوم اقرب مما مضى في تفاعلاته الخارجية والداخلية.

لم تقل هناء ادور بشيئ يمس السيادة العراقية وأمنها فهي قالت: "إزاء الواقع المرير الذي نعيشه، والمحفوف بالمخاطر، بات الإصلاح والتغيير حاجة آنية ماسة، لتحقيق الاستقرار والأمن والتعايش السلمي بين العراقيين، وفق عقد اجتماعي جديد، يضمن المواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة في إطار دولة مدنية."  وقالت: "أناشد المجتمع الدولي، قبل فوات الأوان، للقيام بمبادرة مدروسة، ضمن سقف زمني محدد، باتجاه الضغط على السلطات العراقية وصناع القرار من السياسيين، للعمل الجدي لتجاوز حالة الجمود السياسي والانقسامات فيما بينهم، وتغليب مصالح الشعب العراقي على مصالحهم الفئوية الضيقة، واحترام التزاماتهم الدولية لاتفاقيات حقوق الإنسان", وقد تحدثت هناء ادور عن فساد الطبقة السياسية والفساد وسرقة المال العام وسيطرة السلاح المنفلت واضطهاد المتظاهرين والاعتقالات الكيفية بحق الرأي المعارض للفساد ونظام الحكم المحصصاتي. وهي مطالب عراقية عجز فيها الشعب العراقي عن تنفيذ الحد الأدنى منها, وجميعها حقائق ميدانية لا تخفى عن الرأي العام المحلي والأقليمي والدولي.

اما ما قالته بلاسخارت الممثلة الأممية في العراق امام مجلس الأمن متزامنا مع ما قالته السيدة هناء ادور فهذا بعض منه: أن الجوانب السلبية من الحياة السياسية العراقية لا تزال تعيد نفسها في حلقة مستمرة على ما يبدو من سياسة المحصلة الصفرية وان العراقيين ما زالوا في انتظار طبقة سياسية تسعى بدل الاكتفاء بمعارك السلطة التي عفا عليها الزمن إلى أن تشمر عن سواعدها لإحراز تقدم في تحقيق القائمة الطويلة من الأولويات المحلية المعلَّقة في البلد, ولفتت الى ان دبلوماسية الصواريخ أفعال متهورة، مع ما قد يترتب عليها من عواقب مدمرة محتملة, وقد اكدت العراق ليس بحاجة إلى حكام مسلحين ينصبون أنفسهم زعماء"، مشددة على الأهمية البالغة لتأكيد سلطة الدولة وتشخيص الجناة".

هذه مطالب عراقية عجز شعبنا عن تنفيذها طوال عقدين الزمن في ظل طبقة سياسية فاسدة ومتهورة ومستهترة, ولا نستغرب من الحملة الشعواء التي تستهدف هناء ادوار والتحريض على القصاص منها لأنها تحدثت بصوت عالمي مسموع عن الفساد في العراق بعد عجز العراقيون فيما بينهم لأيجاد حلول لمحنتهم في العيش الكريم, بل ان من الأسلامويات البرلمانيات يدعون الى محاسبة أدور بحجة من خولها للحديث بأسم العراق, بل ذهبن بعيدا للنبش في دين ادور كونها تنتمي لغير الأسلام وبالتالي كما يقول الفاسدون " مركتنة على زياكنا حلال: اي فسادنا بيننا نحن الأسلامويين حلال ولكن حرام على الملل الأخرى كشفه والحديث عنه.

اما احتجاج الأسلاموين على بلاسخارت فليست بجديد, فهي إن مدحتهم وألتقت بهم فكانت خير ممثل للأمم المتحدة في العراق, وإن اشهرت بفاسدهم واعلنته على الملئ فكانت عميلة للغرب والأمريكان ومبعوثة لتخريب وتأزيم الوضع في العراق, علما ان الممثلة الأممية ألتقت بأغلب القيادات الأسلاموية وعبروا عن ارتياحهم بها ولدورها الأممي, وقد التقت ايضا بالسيد السيستاني وتمت الأشادة بدورها الأممي في خدمة استقرار العراق, والطبقة السياسية الحاكمة في العراق ينطبق عليها المثل: إن اعطيت القرد موزا وضع يده على رأسه شاكرا وإن لم تعطيه وضع يده على مؤخرته مستنكرا.





.




7
السياسي والسيكولوجي في الحرب الروسية ـ الأوكرانية 

د.عامر صالح 
 
تلك هي الحرب عندما تندلع شرارتها الأولى لا يمكن التكهن بسقف زمني لنهايتها مهما بلغت حنكة وقدرات الأطراف المتنازعة, وهنا يتوقف الذكاء الأنساني ونزوعه نحو الحفاظ على النفس الأنسانية, ويسود خطاب النزعة العدوانية المتمادية في البحث عن انتصارات وهمية لأخضاع الطرف الآخر في الصراع من اجل اخضاعه قسرا في اطار عدم توازن قوى اطراف الصراع, وهنا أيضا حيث تتمادى غريزة القتل والتخريب ذات الطابع الحيواني والمجردة من كل بعد انساني ولكنها تستخدم العقل واللغة والخطاب في تسويق العدوان واعتباره مقدسا وان هناك اهدافا نبيلة يدعى تحقيقها ولا يفهمها ويستوعبها إلا من اعلن الحرب, وان الخراب الشامل والهمجية التي ترافق العدوان ونسف البنية التحتية الأقتصادية والاجتماعية وتهجير السكان ونزوحهم ما هي إلا اعراض بسيطة وجانبية لطموحات من اعلن الحرب واشعلها!!!. 
 
الحرب الروسية ـ الأوكرانية هي ليست حرب نظم سياسية ـ اقتصادية متصارعة ومختلفة جذريا على نسق صراعات النظام الرأسمالي والنظام الأشتراكي السابق او هي حرب معسكرين مختلفين ايديولوجيا وسياسيا واقتصاديا, بل حرب زعامات رأسمالية أوليغارشية ناشئة متمثلة بروسيا بعد انهيار المعسكر الأشتراكي ورأسمالية احتكارية امبريالية متمثلة بالمعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية, وبالتالي نحن امام حرب زعامات لقيادة العالم والأنفراد به عبر احياء نماذج من الزعامات الأمبراطورية التي عفى عليها الزمن, تتخذ من الخطاب القومي الماضوي سبيلا لأحياء مجدها والسيطرة على دول صغيره نسبيا كانت تدور في فلكها كما نحن عليه الآن في الحرب الضروس بين روسيا وأوكرانيا. 
 
في روسيا وبعد العام 2000 بعد سيطرة بوتين رجل المخابرات السوفيتية الروسية السابق على دفة الحكم وازاحة يلتسن, بدأت حقبة جديدة ذات طابع ليبرالي مؤقت كان قوامها الأولي اعجاب بوتين بالتجربة الغربيىة وطموحاته للأنظمام الى العالم الأوربي اقتصاديا وسياسيا, بل ان تصريحات بوتين السابقة في مقترحاته للأنظمام الى حلف الناتو والى الاتحاد الأوربي كان مصدر اعجاب وسعادة للقيادات الأوربية الغربية وحتى امريكا, بل انهم اليوم في صدمة من امرهم كيف اختلف هذا الرجل كليا الى معاداة المعسكر الغربي والأقدام على الحرب في اوكرانيا بمبررات الحفاظ على الأمن القومي الروسي والدفاع عن حقوق الأقليات الروسية في اوكرانيا, بل والأعلان عن استحواذ على اراضي اوكرانية واعلانها جمهوريات مستقلة عن اوكرانيا بوصاية روسية. 
 
لقد عانت القيادة الروسية بعد عام 2000 وعلى رأسها بوتين من فراغ ايديولوجي ولم تعد تمتلك   تلك الرؤى التي امتلكها من سبقه من القيادات الشيوعية المتمرسة في الحفاظ على السلم العالمي في اطار صراعها مع العالم الغربي, وبهذا أخليت الساحة الفكرية الروسية للتوجهات القومية اليمينية والشوفينية وعبر تحالفاتها مع قوى اليمين الاوربي والامريكي في تحالفات غير نزيه ومشوهة كان قوامها التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان وحتى العبث في ديمقراطياتها عبر دعم قوى اليمين القومي للوصول الى دفة الحكم, ولكن اللعبة الروسية تصتدم بانعدام التجربة السياسية في الداخل الروسي وفوضى احزابه الموالية في معظمها للزعيم بوتين مع هامش
 
من المعارضة الهشة لا يقوى على خلق واقع جديد يتعايش مع حقبة مابعد الاتحاد السوفيتي والاستفادة قدر الامكان من التجارب الغربية في اجادة فن ادارة الحكم على اساس من قوى ذات صدق نسبي في المعارضة وقوى اخرى تتمتع بقدر من النزاهة في الحكم. 
 
الجزء الآخر من الحكاية ان العالم الغربي وبأرادة روسية محضة دخلوا في عملية الأحتواء المتبادل في اطار الأقتصاد الرأسمالي العالمي حتى باتت روسيا منذ اكثر من عقدين جزء منه وبالتالي شكل الاقتصاد الروسي جزء من منظومة الاقتصاد العالمي الرأسمالي الى جانب الصين التي سبقته منذ السبعينيات, وهنا شكل الأقتصاد الروسي في نفطه وغازه وصناعاته عصب الحياة في اوربا, كما شكل احتمالات الأستغناء عنه في اطار العقوبات الامريكية والاوربية احدى ابرز المعضلات لأوربا, وكان يفترض بروسيا ان تدير الصراع على اساس من المصالح المشنركة بعيدا عن تشنجات الخطاب المؤذي للمصالح الروسية قبل غيرها, ولكن الخطاب القومي المتشنج مؤذي بأنفعالاته للمصالح الروسية قبل غيرها, رغم ارتداته على المصالح الاوربية بدون شك. 
 
الذي غذى الصراع الأوربي ألأمريكي ـ الروسي ليست المشكلة الأوكرانية والدفاع عن الأقليات الروسية فتلك واجهات للصراع لا غير وأختيرت اوكرانيا كمنطقة لأدارة الصراع الجيوبوليتيك مع الغرب ولكن الديمقراطيات الهجينة التي نشأت في اوربا الشرقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي شكلت بؤر متوترة شبه دائمة بين الغرب وروسيا عبر انحياز اوربا الشرقية الى الغرب وامريكا دون حساب لعواقب هذا الانحياز في ضوء الظروف التاريخية والحاضرة الصعبة ودون اكتراث لخصوصية العلاقة التاريخية مع روسيا, وبالتالي نحن امام تشابك من الانفعالات السياسية لأجادة فن الصراع مع الخصوصية الجيواثنيبوليتيك, وهنا يشكل نموذج الرئيس الأوكراني احدى اكثر النماذج عدواة مع الماضي القريب واشكالية الخلاص منه عبر سيكولوجيا العداوة المطلقة مع الروس. 
 
وعلى خلفية ذلك بالتأكيد شكل تمدد حلف الناتو على مقربة من روسيا اليوم في ظل هواجسها المشروعة وغير المشروعة احدى اهم دوافع روسيا في الاندفاع نحو الحرب ضد اوكرانيا, ولو كانت روسيا عضوا في الناتو لما حصل ذلك, ولكن تعمد الخطاب القومي والانكفاء حول الذات القومية المتطرفة هي احد عوامل اشعال الحروب في التاريخ. وللحقيقة والتاريخ نقول لا يمكن للديمقراطية ان تلد معوقا كرئيس اوكرانيا المراهق السياسي, ولا يمكن لروسيا التاريخ والحضارة والأدب والفن ان يتصدر بوتين مشهدها السياسي لكي يلوث تاريخها في ارتكاب حروب عبثية لا مصلحة للروس فيها. 
 
بلغت الخسائر الأوكرانية جراء تهديم البنية التحتية الى ما يقارب 500 الى 600 مليار دولار والى جانب هجرة ونزوح ما يقارب 12 مليون نسمة من السكان في داخل اوكرانيا وشتات بقاع العالم, وقد اصبح العالم اشد قطبية مما كان عليه, وأن دول العالم اليوم تهرول للأنظمام الى حلف الأطلسي خوفا من تداعيات حرب بوتين على اوكرانيا وبات العالم الغربي بفضل بوتين اكثر وحدة وتنسيقا لمواجهة روسيا, فمباذا افلح بوتين, وهل هذا صحيح ان كل ما جرى من اجل " اقليم الدنباس " لأنقاذه من السياسات الشوفينية والعنصرية التي اوجعت الأقليات الروسية هناك, أم أن حسابات الحقل غير حسابات البيدر, ام ان اوهام الأنتصار تدفع القادة لمزيدا من الهزائم. الخسائر الروسية جراء المقاطعة والحصار الغربي عليها وفرض العقوبات بالتأكيد سيفضي الى مزيد من تهالك البنية التحتية الروسية ويشدد من عزلة روسيا عن العالم, فنافذة روسيا الأقتصادية هو العالم الخارجي وبالتالي سيصيبها من الخسائر ما يكفي لعرقلة نموها الأقتصادي, وهي بأمس الحاجة للعوائد المالية من الخارج, نعم الغرب سيتضرر من تلك العقوبات ولكن مكره اخاك لا بطل. 
الأدعاء الروسي انه يعرف كل شيء عن الحرب وانه يتوقع كل ما يصدر من السلوك الغربي اتجاه روسيا هو ادعاء كاذب, الى جانب هل يعرف بوتين ماذا يحل بالعالم من ازمة غذائية وأفقار لمناطق العالم المختلفة بل وتجويع بلدان عدة, واذا كان بوتين يعرف ذلك فأي انسان هذا يريد نهاية العالم من اجل دنباس, ولكن بالتأكيد نرجسيته المرضيه عمته لرؤية ما يدور من حوله, فهو لم يرى إلا نصر قريب وسجود غربي بين يديه يباركه بالأنتصار على اوكرانيا !!!. 
 
لقد وقعت القيادة الروسية وعلى رأسها بوتين في متاهات" الأوهام الأيجابية" بأنه هو ومؤسساته ومن يدور حوله قادر على النصر المبين خلال اسبوع او اسبوعين, ومن هنا أتت التسمية بأنها عملية خاصة, ولكنها على ما يبدو انها عملية عامة حين اندلاعها اشترك العالم كله فيها, ولا نعتقد ان بوتين كان يتوقع حجم الأستجابة العالمية للحدث, بل كان يتوقع ان العالم سيغمض عينيه ويبارك له النصر, تلك هي منظومة الحكم الروسية حيث الاوهام متأصلة في سلوك مؤسساتها المبتلاة بداء العظمة وسرية صنع القرار المناط بشخص " قائد الضرورة " وبالتالي فأن القرار الروسي لا يصاغ في اروقة المؤسسات الديمقراطية بل يصاغ في اروقة حفنة من المتعاونين مع بوتين ومن شلته السياسية والعسكرية. 
 
ان الأفراط في التفاؤل الروسي بحسم الحرب لصالحه هو افراط مرضي يعكس محدودية العقلية الروسية في ادارة الصراع في عالم متغير كليا عن عالم المعسكرين السابقين الاشتراكي والرأسمالي, فحتى الصين التي تدعم وتساند روسيا في الخفاء والعلن لا يكمن لها ان تفرط كليا بمصالها من اجل روسيا, فالصين اليوم ام الدنيا بأقتصادها وفكرها وقيادتها للعالم اقتصاديا وسياسيا. 
 
لا يبدو ان الحرب الروسية الأوكرانية تقترب من نهايتهات بفعل تضخم الأنا لدى طرفي النزاع, فالطرف الأوكراني يراهن على الدعم الغربي له في دحر القوات الروسية, والروس يراهنون على التاريخ في صنع انتصاراتهم, وهذا يجسد الاوهام الايجابية لدى الطرفين في الانتصار وكلاهما سيسبح في مستنقع الهزيمة الى حين الصحوة وتدارك خيار الفناء. كلا الطرفين الروسي والاوكراني سيقعان ضحايا قيادات مريضة, وبالتالي فأن الخلاص من القيادة الروسية المتعجرفة ومن القيادة الأوكرانية المراهقة يشكل مدخلا لازما لأحلال السلام والأمن في المنطقة وفي العالم. 
 
ان مخيلة بوتين المريضة لم ترى ان هناك حربين عالميتين الأولى والثانية والخراب فيهما اكثر مما يتوقع بوتين في انتصاره على اوكرانيا, كما ان هناك معاناة انسانية لشعوب فقدت استقرارها, وعليه فأن فشل بوتين في اوكرانيا لازم وضروري وعلينا ان ندعم هزيمة روسيا في اوكرانيا كي لا نحيي الأمبراطوريات البائدة والمتعفنة بواجهات مريضة من خلال ابعاث الأعراق والشوفينيات المتكلسة والمتحجرة, كما اننا نعيب على ديمقراطيات اوكرانيا الهزيلة والتي تفتقد الى الذكاء والشجاعة في ادارة الصراع مع الجوار الروسي الذي يستدعي من القيادات الاوكرانية الحكمة في التعايش مع مخلفات الماضي بعيدا عن الأنحطاط السلوكي في التعامل مع روسيا, فروسيا بأمكانها ان تكون حاضنة للجوار بعيدا عن الاحتقان والعداواة المفتعلة.
 

8
بين أحتلال "رحيم" وغزو "خبيث" يختبئ الشيطان !!!

د.عامر صالح

عندما اعلنت أمريكا وبريطانيا ومعها العالم الغربي الأطاحة بنظام صدام حسين بحجة امتلاكه اسلحة الدمار الشامل والتي اكتشفت لاحقا انها مجرد كذبة او ذريعة لأحتلال بلد دون تفويض أممي, ولكن كان الصمت العربي مباركا لذلك, بل ان بعض الدول العربية وقفت علنا مع اجتياح العراق انتقاما من نظام دكتاتوري عبث في الأمن الأقليمي بما يكفي" بل وان اولى عمليات القصف الأمريكي انطلقت من قواعد امريكية جاثمة في اراض عربية", دون حسبانا يذكر لتلك الدول ان الاحتلال يعني زرع الفوضى في البلد المحتل بما يفضي الى اختلالات أمنية اقليمية لا تحمد عقباها كما نشهدها اليوم ولكن غباء الأنظمة العربية بطبيعته يعيد انتاج الفوضى اضعافا دون حسبانا للنتائج, والأسوء عندما تستعين بالشيطان للخلاص من شيطان آخر فأنك تقع ضحية حسابات الشيطان الأقوى الذي يبحث عن مصالحه وبالتالي يفرض الشيطان الأقوى شروطه عليك ويدفعك الى دفع فاتورة التكلفة.

أما روسيا العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي فقد سلمت العراق لمصيره الأمريكي أنطلاقا من حسابات المصلحة الأنانية الضيقة وسكتت على احتلاله  حيث رأت ان مصالحها تتقدم على أي مصلحة أخرى, وقد حسبت روسيا كثيرا لتقاسم الكعكة العراقية مع الاحتلال الأمريكي وفي مقدمتها استمرار لعقودها الأقتصادية المبرمة مع نظام صدام حسين, وقد تعطلت لاحقا الشراكة الاقتصادية مع العراق بعد أن كانت موسكو وقعت بالفعل مع بغداد قبل الغزو عقودا قيمتها 40 مليار دولار لإتمام أكثر من مائة مشروع بأيد روسية. كما كانت روسيا المصدر الأول للمعدات الصناعية والزراعية الثقيلة، ومصدر توريد وتشغيل محطات توليد الطاقة في مواقع عراقية ولكن الاحتلال الأمريكي فرض شروطه بأن الدول التي لم تساهم مباشرة في الأحتلال لا يمكن لها ان تساهم في حصة ما في الكعكة العراقية. وبصورة غير مباشرة كان خروج الروس من العراق رسالة قرأ فيها تحالف قوات الاحتلال في العراق أن موسكو لا تملك سوى النقد والدعوة لتسليم السلطة للعراقيين وإقامة حياة "ديمقراطية" دون أن تكون مستعدة لدفع ثمن، رغم انها خسرت كثيرا في الأموال والأرواح في بداية الأحتلال, ولكن مصالحها الأقتصادية مع الغرب وتداخل الأقتصاد الروسي مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي جعلها في موقف المتفرج على ما يجري للعراق من خراب شامل انطلاقا من مصالحها الأقتصادية والجيوبوليتيكية.

وفي فهم طبيعة النظام الروسي اليوم بعد تفكك الأتحاد السوفيتي فأنه لم يكن نظاما اشتراكيا او شيوعيا كما كان بل انه نظام رأسمالي هجين لم تتضح بنيته السياسية الأقتصادية وتوجهاته العامة, وللأسف تلعب ذاكرة الوعي الجمعي السابق دورا كبيرا في الدفاع عن روسيا اليوم بأنه نظام اشتراكي او شيوعي ويجب الوقوف معه ضد "الهجمة الأمبريالية الشرسة" في حربه مع أوكرانيا وهذا أمر غير صحيح ويلقي بظلاله على المزيد من تشوهات الوعي في فهم الصراع الدائر الآن بين روسيا وأوكرانيا, فقد ساهمت المنظومة الأشتراكية سابقا في الحفاظ على السلم العالمي الأمر الذي منع اندلاع اي حرب من هذا النوع وإن كانت قائمة على اساس توازن الرعب, ولكن ثقافة العودة الى الأمبراطورية الروسية التي يجسدها الخطاب القومي والشعبوي الروسي اليوم هي مصادر تهديد السلم العالمي الذي يشهد انتعاش الشعبويات والهويات الأثنية والدينية المتطرفة والقومية الشوفينية المتعجرفة والمتحالفة مع النظام الروسي رغم ادانتها للأحتلال للغزو الروسي لأوكرانيا وخاصة تلك القوى التي تنتعش الآن في اوربا الغربية, لأن ديمقراتياتها لا تسمح لها بالتمادي في استباحة الآخر, ونتذكر جيدا كيف احتج الرأي الغربي العام على احتلال العراق والوقوف ضده.

ولفهم مزيدا من طبيعة النظام الروسي اليوم يقول الكاتب الروسي ميخائيل زيغار في كتابه المعنون" كل جيش الكرملين: تاريخ روسيا المعاصرة " وهو مخصص لدراسة الحقبة البوتينية. يقول الكاتب: " من المتعارف عليه في روسيا، أن جميع القرارات يتخذها شخص واحد: فلاديمير بوتين. هذا صحيح جزئياً. في الحقيقة، جميع القرارات يتخذها بوتين. لكن بوتين ليس شخصاً واحداً. إنه عقل جمعي كبير. عشرات، بل ومئات من الناس يخمّنون يومياً ماهي القرارات التي يجب أن يتخذها بوتين. وفلاديمير بوتين نفسه يخمن طيلة الوقت، ما هي القرارات التي عليه اتخاذها، كي يكون ذا شعبية، كي يكون مفهوماً ويحظى بتأييد "فلاديمير بوتين الجمعي الكبير"
إن هذه أسطورة مهمة جداً: أن كل شيء في روسيا متعلق ببوتين، ومن دونه سيتغير كل شيء وصورة بوتين الحالية – القيصر الروسي الرهيب – قد صيغت له، وغالباً من دون مشاركته: من قبل الحاشية، والشركاء الأجانب، والصحافيين".

"فلاديمير بوتين الجمعي هذا كان يشيد طيلة هذه السنوات ذكرياته، كي يثبت لنفسه أنه على حق. كي يقنع نفسه بأن أفعاله منطقية وأن لديه خطة واستراتيجية، وأنه لم يرتكب أخطاء، بل كان مضطراً إلى التصرف على هذا النحو، لأنه كان يصارع الأعداء، ويخوض حرباً قاسية ومستمرة. ويقول الكاتب ايضا لهذا فإن كتابي هو تاريخ حرب متخيلة. حرب يُحظر عليها أن تنتهي، وإلا سنضطر إلى الاعتراف بأنها لم تكن موجودة أصلاً. نحن جميعاً اخترعنا لأنفسنا شخصية بوتين التي تروقنا. وعلى الأغلب، لن تكون الشخصية الأخيرة".

تلك هي طبيعة الحكم في روسيا كما يشير أليها الكاتب والمتحالفة مع طغمة الأوليغارشية من كبار الأغنياء الروس في الداخل والخارج والذين يبحثون دوما عن بقاء روسيا غير مستقرة وآمنة من خلال البحث الدائم في صناعة الأعداء من المقربين والبعيدين والأندفاع نحو افتعال الحروب والمهاترات مع الجيران تحت ادعاء تهديد امن روسيا القومي من خلال التهديد الأوربي الغربي" أو تهديد الجيران الذين لا يمتلكون الخبرة السياسية في ادارة المعضلات العالقة بين روسيا وبقايا الاتحاد السوفيتي سابقا", وهو المتحالف معهم  وجزء منهم في منظومة الأقنصاد الرأسمالي العالمي وخاصة في ابعاد الطاقة والغاز والتكنولوجيا والمعلومات وغيرها, ولكن الأوليغارشية تبحث عن عوامل اللأستقرار لتجد في شخص بوتين القائد الضرورة الذي يجلب لهم الأمن والأمان ويرضي طموحاتهم في الثراء غير المشروع على حساب رقاب الشعب الروسي. بوتين يقع في دائرة الصراع النفسي لحسم منظومة الحكم في روسيا وتوجهاتها الأساسية وهو يخشى دمج منظومة الحكم كاملة مع المفهوم الغربي للديمقراطية والتعددية واقتصاديات السوق, وهو لم يختار الطريق الصيني لأنه ليست شيوعيا بل وينتقد لينين وغيره من القادة التاريخين في تنازلاتهم المؤقتة السابقة في مختلف الأحلاف العالمية, فالعالم يعرف الصين اليوم بنظامها المزدوج" شيوعية في الداخل ورأسمالية في الخارج " والعالم يتعامل معها على هذا الأساس رغم صراعات العالم الغربي معها وخاصة في جزئية حرية التعبير والتعددية السياسية وحقوق الأنسان.

أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا ورأت في الغزو عملية جراحية سريعة تستسلم فيها اوكرانيا لشروط  روسيا في حل مشاكل الأقليات الروسية التي تتعرض الى خطاب الأقصاء من قبل النخبة الحاكمة في اوكرانيا وهو خطاب يستفز مشاعر الحكم في روسيا منذ سنوات ويستثير لديها استخدام القوة في حل النزاع وهو أمر غير صحيح في ظل موازين القوى الدولية, وهنا التسائل" أين حكمة الدب الروسي" خلال عقود مضت, اما من الطرف الأوكراني فهو يعكس ضعف الأداء في مواجهة هكذا تحديات وهو ناتج بالأصل من هشاشة قياداته السياسية وضعف مقدراتها للمناورة مع القيادة الروسية ذات الجذور المخابراتية, وهنا تبرز مشكلة الديمقراطية وانتخاب نخبها السياسية من قبل الشعب بما يتماشى مع حجم المهمات الملقاة على عاتقها في ادارة الصراع الأقليمي وهو شبيه في الحالة

العراقية التي تفتقد الى النخب السياسية الكفوءة" مع الفارق هنا ان العراق استخدم الدين في اقصى مداياته وزجه في السياسية من خلال المرجعيات الدينية والخطاب الأسلاموي السياسي والاثني المعرقل بطبيعته لأي ديمقراطية ناشئة. في الحالة الأوكرانية تم استنهاض الخطاب المعادي لروسيا وللأقليات الروسية وهو يعكس جهالة القيادة الأوكرانية بنتائج هذا الخطاب مع جار كانت بالأمس اوكرانيا جزء منه, وهنا تتحمل الشعوب جزء من المشكلة في اختيار قياداتها السياسية في ديمقراطيات قيد الممارسة والتهذيب.

لم يكن الغزو عملية جراحية سريعة او كما يسميها الروس عملية خاصة بل هي عملية طويلة الأمد على ما يبدوا وهناك فرق بين سيكولوجيا القوى الغازية والقوى المعتدى عليها فمعنويات الأخيرة على ما يبدوا جيدة انظلاقا من مشروعيتها في الدفاع عن نفسها ووطنها" بعيدا عن التفاصيل " اما الغازي فحلفائه اغلبهم من النظم السياسية المشكوك في امرها وهذا يضعه في دائرة الضعف المستمر, وخاصة ان الطرف المعتدى عليه يتمتع بتحالفات اغلب دول العالم وبالتالي ينتزع الشرعية من القوى الغازية بغض النظر عن ما تمتلك من حق في الدفاع عن الأقليات القومية هناك, لأن استباحة دولة  لأخرى بأسلوب الخراب الشامل يفقدك المشروعية في حق الدفاع عن قضيتك ويجب ان تكون اساليبك تنسجم مع غاياتك المعلنة, وخاصة ان الطرف المعتدى عليه لا يمتلك ربع قوتك, وهنا يطال الشك بنواياك, هل فعلا حماية الأقليات ومحاربة النازيين الجدد أم استباحة بلد وتخريبه بما لا يقف لاحقا على قدميه, تحت هواجس الدفاع والحفاظ على الأمن القومي الروسي.

بالتأكيد ان حسابات روسيا كانت خاطئة ولم تكن بالمستوى الجيد لأستشراف مستقبل العمليات العسكرية والتائج المترتبة عليها, اليوم يحاصر العالم الغربي روسيا اقتصاديا وسياسيا ويستغني تدريجيا عن نفطها وغازها ومنتوجاتها المختلفة رغم ان العقوبات هذه من النوع المرتد فله نتائجه على الغرب نفسه الذي فرضها ولكن فرص الغرب في البحث عن بدائل اوسع بكثير عن وقع اثار الحصار على روسيا, وهناك اعتراف رسمي روسي بأثر العقوبات عليها لأنها غير متوقعة من الجانب الروسي وهو يعبر عن عجز في الرؤيا الروسية لما حصل, فحتى الصين الحليف القوي لروسيا يستثمر الأزمة لمصلحته والاستفادة منها في ايجاد فرص استثمار جديده لدى الغرب جراء العقوبات المفروضة على روسيا " مصائب قوم عند قوم فوائد " 

كما يقال أن الأمور تعرف بخاتمتها فهل استدرج الغرب روسيا الى المستنقع الأوكراني للأنقضاض عليها واضعاف قوتها في حرب استنزاف طويلة الأمد مقرونة بعقوبات اقتصادية وسياسية وذات اثار اجتماعية لا تطاق في الداخل الروسي قد تفضي الى سيناريوهات محتلفة, ام ان روسيا اختارت ظرفا دوليا ليست لمصلحتها وبالتالي تتحمل كل تبعاته, رغم بعض من مشروعيتها في الشكوى من تمدد حلف الناتو المستمر قرب حدودها بما ينذر في تقويضها واضعافها ام هي فوبيا روسيه في تمدد الأطلسي وهي جزء من منظومة الأقتصاد العالمي ومستفيد رئيسي منه اسوة بالغرب الذي لا يستغني عن روسيا وقد اضطر لذلك الآن.

كل السيناريوهات المقبلة صعبة وسوداء بنتائجها: ازمة غذاء عالمية وارتفاع اسعار جنوني في اسعار الطاقة كالنفط والغاز وشحة في المواد الغذائية وازمات اقتصادية واجتماعية وخاصة في المجتمعات الهشة التي تعتمد بشكل اساسي على الاستيراد من الخارج, ومزيدا من الاضطرابات الاجتماعية من اضرابات وبطالة وتدهور الحياة الصحية والمعيشية والتدني الأضطراري للأجور والرواتب وعدم مقابلتها لأرتفاع اسعار السلع والخدمات الى جانب ما يترتب عليه من هشاشة للأمن المجتمعي والأقليمي لمختلف دول العالم, وهنا يصح القول ان العالم قرية في سرائه وضرائه.

اما السيناريوهات الأخرى بين طرفي النزاع منفردة  روسية ـ اوكرانية فهناك اسئلة كثيره بمدى توقعها وجدواها: منها تحول اوكرانيا الى ارض للتنظيمات الأرهابية الدولية, فكلا الطرفين الروسي والأوكراني يرحب بدخول مرتزقة من خارج الحدود ومن الشرق الأوسط خاصة للمقاتلة بجانب اطراف الصراع وبالتالي تتحول اوكرانيا الى ارض خصبة للتنظيمات الارهابية بمختلف الاجندة العقائدية والشلليلة ومجاميع اجرامية وهو سيناريو خطر لا يمكن التحكم به كما هو في داعش, السيناريو الآخر استسلام اوكرانيا للقوات الروسية تحت ضربات الصواريخ والخراب الهائل ولكن الموقف لا يسمح بذلك فهو انهيار لنظام ديمقراطي بتلك الطريقة المفجعة للديمقراطية امر مستبعد ومن هنا يستمر الدعم الغربي العسكري لأوكرانيا وبقائها مقاومة للغزو, من الجانب الآخر هو ان الجيش الروسي  لا يرى جدوى من هكذا حرب وبالتالي يمتنع عن تنفيذ الاوامر ولكنه صعب الآن, استخدام السلاح النووي من قبل روسيا بعد التضيق عليها من قبل الغرب ولكنه خيار مستبعد لأنه يقضي على الجميع وطموحات روسيا في مقدمتها, سقوط بوتين ونهاية حكمه وارتباط بتصاعد الازمات الاقتصادية والاجتماعية داحل روسيا مع تفاقم نسب الفقر والبطالة وانعدام الحريات في الداخل, ولكن تحالف الأوليغارشية مع بوتين قد يطيل امد السقوط. والمعادلة الأكثر حسما بنتائجها هو صمود الجيش والشعب الأوكراني.

اما نحن هنا فنقول ان الحرب الروسية ـ الأوكرانية هي نسخة قذرة ايضا ومكررة من الحرب العراقية ـ الأيرانية وهي نتاج لعقول اطراف الصراع المتحجرة والتي اندفعت نحو تفضيل غريزة الموت والتدمير على غريزة الحب والبناء تحت وطأة تأثير نظرية المؤامرة التي تلغي مكانة العقل وتستفز الانفعالات الى مزيدا من التهور واللاعقلانية, والأنحياز الى حد اطراف الصراع هو انحياز للموت والقتل والخراب, وقد تعلمنا من حروبنا الداخلية والخارجية الكثير من الفضائل وفي مقدمتها حرمة دم الأبرياء من الاطفال والامهات والشيوخ وضرورة الحفاظ على الممتلكات الخاصة والمال العام.

روسيا واوكرانيا اخوة في الدم والثقافة المشتركة وفي الأصول الأثنية والعرقية والمصير المشترك واللعنة على مشعلي الحروب, ومن حفر بئر لأخيه وقع فيه !!!!.




 

9
بعض من مفردات العهر السياسي

د.عامر صالح

كنت متأنيا في استخدام مفردة العهر في السياسة نظرا لدلاتها الخاصة على فعل الجنس من اجل الحصول على المال او المتعة المفرطة دون ضوابط محددة, ولكن حال تتبعي لمفردة العهر السياسي وجدت ان قاعدة النت المعلوماتية تعج بأستخدامات العهر السياسي وهناك مئات الألوف من الكتابات  والمقالات التي تشير الى العهر السياسي العربي وغير العربي وتداعياته في الممارسة العملية, وقد شجعني ذلك في الحديث عن العهر السياسي في العراق, فالعهر يدل في اللغة على فعل الزنى واتيان الفجور..والعاهرة هي من تبيع جسدها للحصول على متعة عابرة اوالمال باسرع طريق خارج الاطار الشرعي..والرجل العاهر هو من ياتي فعلا فاجرا مماثلا ..واتسع المفوم لينطبق ،في عصرنا هذا، على كل شخص - رجلا او امراة- يتبع اساليب منحطة للوصول إلى غايته (كسب المال والمنصب وسرقة المال العام والفساد الأداري والمساهمة في افساد المنظومة القيمية)..وهنا يكون العهر ذا صبغة سلوكية واجتماعية او سياسية وفكرية, واستنادا الى ذلك فهناك مظاهر مختلفة من العهر, ولعل ابرزها هو العهر السياسي والعهر الفكري والعهر الأجتماعي والأقتصادي والثقافي الى جانب العهر الأخلاقي التقليدي, والعهر السياسي هنا هو الأخطر في نتائجه حيث يختلط السقوط الأخلاقي في السياسة ويصبح مصدر تهديد ليست فرديا بل مجتمعيا ويفرض رسم سياسات عامة على أسس من مستنقع السقوط الأخلاقي ويكون الضحايا ليست فردا واحدا كما في العهر الفردي بل مجتمعا بكامله.

العهر السياسي في العراق هي انماط شبه ثابتة من السلوك السياسي الذي شاب المشهد السياسي بعد عام 2003 تمارسه منظومة   الأحزاب السياسية في العراق وخاصة الحاكمة منها والتي ترى في السلطة المطلقة ظالتها في تدوال الحكم بطريقة تعسفية وتتخذ من الديمقراطية المشوهة وصناديق الأقتراع كخدعة لأعادة انتاج نفسها والبقاء في الحكم مهما بلغ مدى الرفض الشعبي لها وعدم احترام المجتمع لها, وهي تتسلح بنمط من الكذب والخداع والتحايل بما لا يقبله الحد الأدنى من الخلق السوي وترفضه ابجديات السياسة, واذا كانت السياسة كما يعرفها الواقعيون بأنها فن الممكن فهي تعني دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيًا وليس الخطأ الشائع، وهو أن فن الممكن هو الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة , وهنا يمكن الأستناد الى تعريف السياسة بالمعنى الهدفى بانها العلم الذي يهدف إلى تقديم السبل والمناهج المختلفة من أجل تدبير شئون الدولة في الداخل وفي علاقاتها مع الخارج(دول، منظمات وغيرها من أجل تحقيق أهدافها على المدى القصير والمتوسط والطويل الدولة).

ويدعي فقهاء الإسلام السياسي من الناحية النظرية , أن سياسة الاحزاب الإسلامية ليست سياسة " ميكافيلية " ترى أن الغاية تبرر الوسيلة آيا كانت صفتها,بل هي سياسة مبادئ وقيم تلتزم بها, ولا تتخلى عنها , ولو في أحلك الظروف , وأحرج الساعات سواء في علاقة الدولة  بمواطنيها داخليا, أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات. ولكن ما يجري الآن من قبل هذه الأحزاب هو ليست عملية صراع سياسي ومنافسة نزيهة يراد بها إبراز الإمكانيات الذاتية والفعلية لهذه القوى وهي تخوض منافسة مع القوى السياسية الأخرى , بل هي " ميكافيلية دينية سياسية " تقوم على قاعدة استخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من إعلام وسلطات واسعة وصحافة ومؤسسات دينية ترغيبا وترهيبا لزرع الرعب في عقول البسطاء وبذريعة حرب أو حملات تشنها القوى الديمقراطية والوطنية ضد الإسلام , ويجب الاستعداد " للانتصار الإلهي" , ويجب أن يمر هذا" الانتصار" وفقا لهم عبر آلية محكمة تبدأ بتأصيل حالة الخوف لدى الناس ( الفوبيا), تعقبها حالة غيبوبة مؤقتة يتم فيها انتزاع أصواتهم في المناسبات الانتخابية , ثم تركهم حفاة الأقدام مكشوفين الرأس أمام الهجمات الانتحارية والأعمال الارهابية , كما تركوهم في كل المناسبات التي تستدعي المشاركة الشعبية لتقرير السياسات العامة.

 ان الخطوط العريضة المعلنة للبعد الأخلاقي والقيمي للأسلام السياسي عبر فقهاء الإسلام والنصوص الكلاسيكية ,ولا ندخل هنا في حوار حول جدوى ذلك وأهميته العملية اليوم في عالم السياسة الدولية والإقليمية والوطنية , حيث لا نرى أثرا لذلك في السياسة الخارجية والداخلية لأي دولة إسلامية في العالم كله ولا في سياسة أحزاب الإسلام السياسي على الإطلاق , إضافة إلى ذلك إن السياسة كي تؤدي إلى نتائج ملموسة, تحتاج في الممارسة العملية إلى المزيد من التوفيق والموائمة بين الأخلاق والمصالح والسياسة , وأن السياسة الخارجية كما نعلم اليوم تبنى على المصالح المشتركة أولا , وأما السياسة الداخلية فتبنى بوضوح أكثر على ثلاثي قوامه الأخلاق والمواطنة والمصلحة المشتركة.

لقد افرز المشهد السياسي في العراق وخاصة بعد الأنتخابات البرلمانية المبكرة التي اجريت في العاشر من اكتوبر 2021 الكثير من الظواهر الشاذة وإن شكلت في مجملها امتداد لأزمة الحكم والنظام في العراق ما بعد 2003 ولكنها كشفت المزيد من عورات القوى السياسية التي اعتادت على الأستحواذ على السلطة بكل الوسائل, وهنا اركز على بعض من ملامحها التي تعكس سلوكيات القوى التي لا تؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وما تفرزه نتائج الأنتخابات وصناديق الأقتراع وتتصرف بمنطق الرابح المطلق حتى وان خسرت الانتخابات, وتستخدم كل الآليات السيكوسياسية لعرقلة نشوء اي ملامح لوضع جديد قد يرسم بعض افق لتغيرات ايجابية قادمة, ولعل ابرز ملامح ذلك السلوك هو:

ـ رفض شرعية الانتخابات البرلمانية الاخيرة من حيث نزاهتها اداريا وفنيا " رغم ضعف المساهمة فيها والتي لا تتجاوز 30% في احسن الأحوال " وتحميل بعض من دول الجوار الأقليمي وامريكا بأدعاء تزوير الأنتخابات واعداد نتائجها سلفا, نظرا لأن نتائجها اضعفت واقصيت من المشهد السياسي بعص القوى السياسية ذات الطابع المسلح وغير المسلح, وتناست دلالة انتفاضة تشرين في فرض بعض من ملامح تغير الخارطة السياسية, ولم تعترض تلك القوى الخاسرة على نتائج الأنتخابات السابقة التي اطالها التزوير وحرق النتائج لأنها كانت فائزة فيها.

ـ اضعاف القدرات المعنوية للقوات المسلحة العراقية وخاصة الجيش في مقاتلة الارهاب وربط ذلك بضعف القيادة السياسية انطلاقا من الخلافات السياسية مع رئيس الوزراء وغيره وتعريض سلامة البلد الضعيف اصلا الى مختلف التهديدات, مع سلوكيات التمني بعودة داعش من خلال تسفيه الحملات العسكرية ضد تنظيم داعش واعتبار هذه الحملات مجرد حركات استعراضية لشخص رئيس الوزراء في محاولاته للحصول على ولاية ثانية لرئاسة مجلس الوزراء.

ـ تجنيد جوقة من " المحلليين الأستراتيجين " من دعاة مراكز ابحاث وهمية والذين ينتمون اغلبهم الى الأحزاب الخاسرة ولا يتمتعون بالحس الحيادي اتجاه الظواهر السياسية وفيهم من المنحازين علنا الى قوى اللادولة, ويقومون هؤلاء بأعادة انتاج خطاب نظرية المؤامرة اضعاف واقعيتها لتمرير اجندة قوى اللادولة في ديمومة الفوضى والاحتراب الداخلي من خلال ربط كل اعمال العنف الداخلي المسلح من قصف للمواقع والمؤسسات الحكومية ومراكز الحكم في المنطقة الخضراء, وقصف منزل رئيس الوزراء, وقصف كردستان والمطار الدولي في بغداد, واعتبار كل هذه الأعمال هي من تدبير امريكا ودول اقليمية لخلط الاوراق السياسية في الداخل العراقي.

ـ محاولة خلط الاوراق بين الموقف الوطني من خروج القوى الاجنبية من العراق والذي لا يختلف عليه اي مواطن غيور وبين اجندة خفية يراد بها الاستحواذ على المؤسسة العسكرية وتسيرها وفق رغبات واجندة داخلية وخارجية لا تسهم في محصلتها النهائية على استقلال البلد وتعزيز قدراته الدفاعية بل الى مزيد من اضعافه, وهنا تكمن الدعوة الى خروج القوات الاجنبية دون معرفة مسبقة او التغاضي عن معرفة مدى حاجة القوات العراقية المسلحة الى الاستشارات والخبرات الفنية والدعم اللوجستي, وهو امر لا يقرره فصيل مسلح, بل تقرره المؤسسة الاختصاص والمتمثلة بوزارة الدفاع العراقية حصرا.

ـ تجنيد آلة اللادولة الاعلامية لأفشال اي جهد حكومي في زرع ملامح الاستقرار والنهوض بالبلد لأعادة بنيته التحتية الاقتصادية والاجنماعية عبر تفريغ محتوى كل المشاريع المحتملة للنهوض الى جانب الفساد الاداري والمالي, واعاقة اي علاقات عربية ودولية متوازنة تضمن للعراق حظوظ افضل في الانفتاح على العالم بعيدا عن سياسات المحاور الاقليمية الضارة, واعتبار اي نشاط بهذا الاتجاه هو عمل مشبوه ومؤامرة على العراق تقودها اسرائيل, وبالتالي فأن هذه القوى تشكل جزء من منظومة الفساد المعوقة لأي نهضة في البلاد.

ـ العمل على اعاقة اي بارقة امل في اصلاح النظام السياسي والذي يفترض ان يقوم على اغلبية برلمانية مريحة تسهم في تشريع مختلف القوانين المعطلة والتي تمس حياة المواطنين وخدماتهم واستقرارهم المجتمعي, عبر تعطيل الآلية الديمقراطية من خلال ممارسة كل الضغوط للأشتراك في الحكم باختلاف نتائج الانتخابات لأبقاء الأوضاع كما هي دون تغير, وبالتالي اعادة وتكريس انتاج نظام المحاصصة الأثنية والطائفية ورفض اي فكرة ان هناك قوى تحكم وهناك معارضة تقوم الأداء.

ـ  الافتعال والترويج لخطاب ان هناك فتنة تحاك ضد المكونات وخاصة ضد" المكون الأكبر" والمقصود هنا صراحة هو المكون الشيعي وهي محاولات لأعادة الفتنة مجددا بين المكونات المجتمعية والتلويح بأشعال الحروب الطائفية والاثنية اذا لم تصب التحالفات بخدمة الخاسرين في الانتخابات, ان ادعاء ان المكونات الطائفية والاثنية في خطر هو ادعاء كاذب يحاول ان يلغي سنة الصراع الطبقي ـ الاجتماعي في داخل المكونات وفرض معادلة شاذة قوامها ان الاحزاب تساوي المكون, ومن الذاكرة القريبة فأن من انتفض على نظام المحاصصة هم من داخل المكونات وفي مقدمتهم المكون الشيعي" ان صح التعبير ديموغرافيا ـ مذهبيا ". انها محاولات ضد التأسيس لثقافة المعارضة خوفا من التفريط بمغانم السلطة ومصادر التمويل غير المشروعة واختراق مؤسسات الدولة وتحويلها الى مؤسسات ريعية للأحزاب الفاشلة, وبالتالي افساد الجدوى من أي انتخابات قادمة وفقدان للأمل في التغير.

ـ ومن الظواهر الشاذة في المشهد السياسي العراقي هو استعانة اغلب القوى السياسية بحلفائهم الأقليمين من الدول والاحزاب للتدخل في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة او التحالفات السياسية, وقد لا توجد دولة ديمقراطية في العالم تستعين بدول اخرى للتدخل في شؤونها الداخلية والاخطر هو في تشكيل حكوماتها إلا في الدول المخترقة.

ـ ومما يزيد الطين بله ان عدم جرئة الحكومة بل وفشلها في وضع حد لمن يرتكب الجرائم ضد الدولة ومؤسساتها وضد عمليات القتل والاغتيالات الممنهجة وفي مقدمتها اغتيال المتظاهرين السلميين, ومنفذي الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة ضد اهداف حكومية او بعثات دبلوماسية وغيرها, رغم ان الحكومة تعلن مرارا وتكرارا وعلى لسان رئيس مجلس الوزراء انه يعرف الجهات المنفذة والمحرضة على هذه الاعمال الارهابية ويعد بتقديمهم للعدالة ولكن لم يحصل ذلك حتى ولمرة واحدة وبالتفصيل الضروري واللازم لأماطة اللثام عن منفذي العمليات والجهات التي تقف ورائهم وسوقهم للعدالة كما ينبغي, مما جعل الكثير من الجهات التي يشار أليها بالشبهات في تنفيذ تلك العمليات تطالب وبصلافة المجرم المحترف الحكومة ورئيسها بالكشف عن القتلة ومرتكبي مختلف الاعمال الارهابية.

ان هذه بعض من مفردات العهر السياسي الذي ساد المشهد السياسي منذ 2003 الى اليوم, فأذا اردت ان تضعها في الميكافليات السياسية المجردة من كل اخلاق والبعيد عن اي تعاليم دينية, فأنها ليست ميكافلية الأمير التي هدفها تسخير كل المشروع من الافعال وغير المشروع منها لخدمة وحدة البلاد وتقوية الدولة, بل هو الانحراف عن الاخلاق السياسية لتخريب الدولة والمجتمع واضعافهما.

وختاما نقول أن التأريخ قد أنصف ميكافيلي واضعا إياه احد مفكري حقبة التنوير الأوربية ومؤسسا لمدرسة التحليل والتنظير السياسي الواقعية, بل مؤسسا للعلوم السياسية, وقد رسم صورة الدولة القوية الموحدة, ولكنه لم يكن بدون أخلاق أبدا,كما تصوره أعدائه, وقد دفع ثمن من قرأ له قراءة متحيزة, كما في حالات هتلر وموسوليني وفرانكو, متكأين على كتابه " الأمير" وعلى مقولته الشهيرة " الوسيلة تبرر الغاية ", إلا إن ميكافيلي لم يوصي بالاعتداء على المواطنين والمجتمع, بل رسم صورة الدولة القوية الآمنة الموحدة وعكس لنا بوضوح, أن السياسة مصالح, كما يجري الآن في الكون كله وعلينا ان نفهم ما هي مصلحة العراق كدولة وما هي حقوق شعبنا في الحياة الحرة الكريمة.
 



10
هل ستكون الخاتمة مسك في العراق 

د.عامر صالح 

 
مخرجات الأنجاز المتدني للعام 2021 في العراق هي امتداد طبيعي لتراكمات الفشل في تجارب بناء دولة المواطنة والرفاه والأستقرار الأجتماعي ما بعد 2003, وهي بالتأكيد امتداد نسبي لحقبة عبثية سبقتها, تجسدت في سياسات النظام السابق في تخريب واهدار للموارد البشرية والثروات المادية على خلفية عسكرة مؤسسات الدولة ومواردها وتوظيفها في خدمة الدكتاتور وطموحاته واحلامه المريضة في ظل نظام شمولي عانى منه شعبنا الأمريين. 
 
ولكن حقبة ما بعد 2003 هي حقبة تسلطت فيها قوى "سياسية معارضة " للنظام السابق عملت على خلفية افتعال ما يسمى بالمظلومية المذهبية الطائفية والأثنية والعرقية, تحول فيها فعل المعارضة المشروع للنظام الأستبدادي الى متلازمة مرضية ما بعد سقوط النظام " وخاصة في ذهنية الأسلامويين وبعض من القوى الأخرى الأثنية الشوفينية والطائفية المناطقية, وكانت ابرز ملامح ذلك التحول هو الانتقال من سلوك المعارضة الى سلوك العداوة والحقد على الدولة والتعامل مع مؤسساتها كغنائم ما بعد السقوط وأحلال الخراب فيها وسرقتها وعدم التمييز المطلق بين النظام السابق وبين الدولة ومؤسساتها, وكذلك الطفح المزمن لتلك لرغبات تلك القوى في بناء دولة بعناوين دينية او مظلوميات مخادعة واحكام السيطرة على العام والخاص في حياة الناس والمجتمع. 
 
وقد أوغلت تلك القوى في تخريب وتحطيم الدولة ومؤسساتها ونهب المال العام وكان ذلك متزامنا مع خراب منظم للقطاع الخاص وتدميره والحيلولة دون نهضته وانهاء دوره, الى جانب تغول القطاع العام وتضخمه دون مخرجات او انتاجية تذكر وغص بالبطالة المقنعة الكلية والجزئية واصبح من قلاع الفساد الأداري والمالي والنهب العام, عبر تحاصص قطاعاته من قبل احزاب السلطة وتحوله الى ميادين مربحة للأحزاب او ما يسمى بظاهرة " الريع السياسي " حيث الحزب المالك للوزارة يحول وزراته الى ميدان خصب للأستثمار الفاسد من منتسبي الحزب وعناصره وتتحول الوزارة الى " باب رزق " ومصدر لتمويل للحزب التي يملكها, فلا نستغرب من تضخم اجهزة الدولة ومؤسساتها والذي تجاوز 7 ملايين موظف في دولة تبيع النفط لتأكل به وتسدد رواتب منتسبيها, وهو ما يسمى اختصارا " بالدولة الريعية ". 
 
فكانت البطالة والفقر وانعدام الخدمات الانسانية في الصحة والتعليم والكهرباء والماء والتدهور الاجتماعي المتواصل وتفكك المنظومة الاخلاقية وانتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة, وتعاطي المخدرات الى جانب التدين الزائف الذي يثقل الحياة اليومية ويشرعن الفساد وسرقة المال وينشر الخرافة كثقافة يومية ويضعف مكانة العلم, الى جانب انتشار السلاح المنفلت الفردي والميليشياوي والعشائري, وفقدت الدولة بوصلتها في السيطرة على مجريات الاحداث وفقد القانون قوته وقيمته التأثيرية في الحد من الجرائم والانفلات الاجتماعي والافلات من العدالة وجميعيها مشاهد يومية تهدد حياة المواطنين, واصبحت قوى اللادولة هي اليد الطولى في فرض اجندتها التخريبية على الدولة والمجتمع, بل ان جزء لا يستهان به من قوى اللادولة محسوب على الدولة ويتقاضى مصادر تمويله منها, وبأختصار فأن ما مافقده العراق واهدره من المال العام تجاوز الألف واربعمائة مليار دولار. 
 
كثيرة هي انتباهات العام 2021 والبدء من خاتمته قد تؤشر على الكثير من بداياته: الأنتباهة الأولى هي الانتخابات البرلمانية المبكرة والتي اجريت في اكتوبر الماضي ثم مصادقة المحكمة الاتحادية العليا عليها, وفتحت المصادقة الباب على مصراعيه لمختلف السيناريوهات في  تشكيل الحكومة المقبلة, وان القوى المتصارعة هي نفسها القوى التي قادت العراق منذ 2003 بشكل مباشر او غير مباشر, باستثناء ظهور قوى معارضة مستقلة نسبيا لا نعرف عن قدراتها الفكرية ورؤيتها المستقبلية في لعب دور المعارضة الفعالة, وقد مثلت قوى انتفاضة تشرين في البرلمان الخامس تمثيلا لا ينسجم مع حجم الانتفاضة التي اندلعت في العام 2019 لأسباب عديدة منها عدم الثقة بالنظام السياسي ومقاطعة الانتخابات في ظروف انتشار السلاح المنفلت وعدم محاسبة قتلة المتظاهرين وعدم تطبيق قانون الأحزاب وغيرها, ومن الجدير بالذكر ان المشاركة كانت في الانتخابات ضعيفة ولا تتجاوز 30% حيث من استلم البطاقة الألكترونية بحدود 40% في ظل عزوف كبير عن المشاركة. ان رفع شعارات الاصلاح من قبل قوى فائزة وفي مقدمتها التيار الصدري وغيره وبعيدا عن نوايا الصدق في ذلك والقدرات الفكرية وآليات التنفيذ واستخدام الشعارات لأغراض التعبئة والتجييش, فأن الأصلاح لن يبدأ فعلا إلا بفك عقدة منظومة المحاصصة الطائفية والأثنية والعرقية ولن توجد اي مؤشرات لذلك وان السباق على الرئاسات الثلاث" البرلمان, رئيس الجمهورية ورئاسة الوزراء " وما يتبعها لاحقا من توزيع للمناصب حسب الاستحقاقات الاثنية والمكوناتية هي ملامح بارزة في المشهد القادم وبالتالي فأن المحاصصة الطائفية والمذهبية والعرقية باقية وستعيد انتاج نفسها استمرارا للنهج السابق. 
 
الأنتباهة الثانية في نهاية مشهد العام الماضي هو تصريح وزير المالية العراقي علي عبد الأمير علاوي والذي قال فيه أن: "مستقبل العراق مرتبط عضوياً أو كلياً مع قطاع النفط ولا توجد دولة في العالم تشبه العراق في هذا الجانب بما فيها الدول النفطية, ورأى أن العراق يواجه تهديداً حقيقياً وخطيراً خلال السنوات العشر المقبلة نتيجة التقلبات العالمية والنوعية في سوق النفط واعتماد القطاع الحكومي كلياً على تمويل الكشوفات المالية من عوائد النفط. وأضاف " إذا حدث ذلك فستضطر الدولة إلى تسريح أعداد كبيرة من الموظفين لعدم إمكانية الدفع لهم". ورغم ان تصريحات الوزير كانت مصدر قلق وامتعاض للشارع العراقي وللعديد من المحللين والسياسيين, ولكن الحقيقة يجب ان تقال وإن كانت مرة: أن الدول الريعية التي تعتمد على النفط كمصدر وحيد للتمويل ولم تذهب الى تنويع مصادر الدخل القومي من الصناعة والزراعة والأستثمارات الخاصة وقطاع المعلومات والخدمات هي دول هشة لا تقاوم ما يتعرض له قطاع النفط من هزات وازمات عالمية, بل هي هي دول زائلة, وهناك الكثير من تجارب الدول بما فيها الجيران الخليجية وصلت الى حدود كبيرة من الموازىة بين النفط والقطاعات الأخرى في التمويل وصل بعضها الى المناصفة. 
 
الأنتباهة الثالثة وهي تنبؤية ومشروطة, فقد اعلنت شركة "سومو" العراقية لتسويق النفط أن الإيرادات المتحققة من مبيعات النفط الخام خلال العام 2021 بلغت 68 مليار و995 مليون دولار، بمعدل 5 مليار و749 مليون دولار شهرياً، موضحة أن معدل سعر البيع الشهري للنفط الخام بلغ 68 دولاراً و366 سنتا للبرميل" طبعا سعر البرميل عبر ال80 دولار. وعلى افتراض استمرار تدفق البيع بنفس المنوال للعشر سنوات القادمة والثبات النسبي للأزمات فأن العراق سيكون له تراكم مالي يقدر من 700 مليار الى 800 مليار دولار, فأذا ما استمرت طبيعة الحكم ذاتها وبنفس سياق السنوات السابقة فأن العراق مقبل على اهدار الأموال المذكورة الى جانب الأموال التي اهدرت في الأعوام ( 2003ـ2020) والتي ذكرناها سابقا والتي بلغت ما يقارب الألف واربعمائة مليار دولار. 
 
الأنتباهة الرابعة هي محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في بداية نوفمبر الماضي والتي استهدفت منزل اقامته في المنطقة الخضراء بطائرات مسيرة محملة بالصواريخ, والعجيب وفي الوقت الذي لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم فأن رئيس الوزراء العراقي يؤكد في خطابه بعد الهجوم أنه يعرف المنفذون حق المعرفة" وسيتم محاسبتهم وتقديمهم للعدالة " وهو خطاب اعتاد عليه العراقيين بعد كل جريمة او محاولة اغتيال او تصفيات جسدية تطال رموز ثقافية وسياسية وصحفية وكتاب ويشمل ايضا قتلة المتظاهرين في احتجاجات اكتوبر وغيرها, ولم يستطيع رئيس الوزراء حتى في حالة واحدة من الأعلان عن الجهات التي تقف وراء مرتكبي الجرائم السياسية ومنفذي الأغتيالات, وقد أكتفي بأضفاء الطابع الفردي على الجرائم المرتكبة وحصرها في افراد منفصلين عن الجهات التي دفعتهم والدوافع التي تقف وراء ذلك. أن العدالة لا تحتاج الى ظرف مناسب او توقيت ما او فرصة سانحة كي تتم ممارستها بوضوح امام الشعب وان تأخير او تسويف تطبيق العدالة بحق القتلة والمجرمين سيعيد انتاج الجرائم اضعافا ويقوي من صلف منفذيها وهو ما يحصل الآن على الساحة العراقية. 
 
اما الأنتباهة الخامسة فهي انفتاح العراق على محيطه الأقليمي والعربي منه بشكل خاص والابتعاد عن سياسات المحاور وكذلك محاولات انفتاحه على العالم وتحسين سمعته الدولية, الى جانب زيارة بابا الفاتيكان التاريخية للعراق , هي محاولات ايجابية تترك انطباعا ان العراق يطمح الى دور ايجابي فعال, ولكن هذا الانفتاح ومدياته يجب ان لا يكون اشبه بمحاولات الهروب الى الامام والرمي بمشاكل الداخل العراقي الى الخارج, ونحن نعلم ان السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية والأستقرار الامني والاقتصادي والاجتماعي الداخلي, وبالتالي فأن فعالية السياسية الخارجية يجب ان تكون استمرار لقدرة النظام في معالجة ازماته الداخلية, وإلا فهي مجرد سلوك يلجأ أليه النظام للتنفيس عن ازمته الخانقة. 
 
أما ابرز ملامح الأزمات الأقتصادية والأجتماعية للعام 2021 فهي في مجملها امتداد لأزمات الأعوام التي سبقته وقد ازدادت استفحالا وبدون حلول وقد اشارت الى تلك الأزمات اغلب المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمات حقوق الأنسان والمؤولين العراقيين وغيرها, ولعل ابرزها هو:   
 
ـ تصاعد نسبة السكان عند خط الفقر والتي بلغت 25% من السكان او اكثر, ومن العيب ان تكون دولة كالعراق والتي تمتلك خامس احتياطي نفط في العالم ان تمتلك هكذا نسبة فقر في العالم, كما شكلت نسبة البطالة اكثر من 15%. وهناك 5 ملايين يتيم في العراق يشكلون نسبة 5% من ايتام العالم. 
 
ـ أما في مجالي التعليم والصحة، فقد كشفت المؤشرات عن واقع مرير يعانيه الطلاب في المدارس من خلال حاجة البلاد إلى 8000 مدرسة، وكشفت أن نسبة التسرب وترك الدراسة بلغت 73% من إجمالي المراحل الدراسية وضمنها الكليات والجامعات (الابتدائية: 91%، المتوسطة: 36%، الثانوية: 18%، الجامعات 14%). وذكرت إحصائية المفوضية العليا لحقوق الأنسان في العراق وجود 1000 مدرسية طينية (مبنية من مادة الطوب اللبِن). كما انخرط نحو مليون طفل في سوق العمل. وهناك 3 ملايين طفل بعمر الدراسة يتواجدون خارج المدرسة. 
 
ـ وقد امتدتالمؤشرات ذاتها لتشمل مجال السكن والعشوائيات، حين أكدت المؤشرات حاجة البلاد إلى 3 مليون ونصف المليون وحدة سكنية للتغلب على أزمة السكن الخانقة، وتحدثت أيضاً عن 4000 مجمع عشوائي يسكنها نحو نصف مليون أسرة، تتركز معظمها في العاصمة بغداد. 
 
ـ ارتفاع نسب العنف الأسري ضد النساء والاطفال وكبار السن وقد سجل العام 2021 على الأقل 14 ألف حالة عنف ضد المرأة, الى جانب زواج القاصرات وغياب قانون العنف الأسري وتداعيات كورونا كعامل ضغط في ازدياد العنف. 
 
ـ ازدياد اعداد النساء الأرامل حيث يقدر عددهن بين 3ـ4 ملايين ارملة او اكثر في احصائيات اخرى, الى جانب ارتفاع نسبة العنوسة بين النساء في الاعمار 18ـ45 لأسباب اقتصادية واجتماعية وهجرة وتهجير وانعدام الاسقرار الفردي والأسري, وبالقابل تزايد نسبة العزوبة لدى الرجال لذات الأسباب, وارتفاع نسب الطلاق حيث تقدر في العام 2021 زيادتها 10 حالات كل ساعة الى جانب ارتفاع نسب الأبتزاز التي يقع ضحيتها النساء وبنسبة اقل الرجال ايضا. 
 
ـ ارتفاع نسب تعاطي المخدرات وقد بلغت نسبة التعاطي بين الشباب الى 50% وهو وضع كارثي حيث الفقر والبطالة بين الشباب بلغت 36%, في بلد يشكل فيه الشباب بين دون عمر 25 سنة نحو 60% من سكانه. 
 
ـ الارتفاع الكبير لعدد الحرائق حيث تجاوز عددها 30 ألف حريق وبدوافع واسباب مختلفة, منها العفوي بفعل تماس كهربائي ومنها الأهمال ومنها الانتقام وتصفية حسابات شخصية ومنها جرائم مقصودة طالت حتى دوائر الدولة ومؤسساتها واستهدفت حرق ملفات بهدف اخفاء جرائم فساد وغيرها, وكان اشد الحرائق وقعا وألما انسانيا هو حريقي مستشفى الحسين في محافظة ذي قار ومستشفى الخطيب في بغداد والذي راح ضحيتهما اكثر من 170 ضحية, وهو نتاج عقود من الفساد وسوء الأدارة في قطاع الصحة وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع حتى بات المواطن يخاف من الذهاب الى المؤسسات الصحية لسوء أدائها وتدهور مكانة الطب والرعاية فيها. 
 
ـ اما في مجال الأمن وضعف استتبابه فقد تمت عشرات الهجمات بالصواريخ والمسيرات على المنطقة الخضراء ومطار بغداد واربيل وقاعدة بلد في صلاح الدين شمال بغداد الى جانب الهجومات المتفرقة على القواعد العسكرية العراقية, وبالمقابل سجل العام 2021 اكثر من 200 هجوم لداعش في مناطق مختلفة من العراق. 
 
نقول ان الاصلاح الشامل لأوضاع البلد المأساوية يحتاج الى قدرات مهنية وعلمية واكاديمية ومستقلة نسبيا عن تأثيرات الايديولوجية العقائدية ذات الطابع المتحجر والتي ترى في الاصلاح هو مجرد خطاب منفعل ومعمد بردود الافعال يستجيب عبر خلق العداوة بين القوى السياسية الاخرى وافتعال الازمات وادعاء الصلاحية المطلقة لكل الاوقات والاوضاع, وهؤلاء حصرا هم من يعرقلو الاصلاح ومدياته مهما بلغ ادعائهم الانفعالي بقدراتهم على الاصلاح, فهو لا يتجاوز سوى رغبات منزوعة الصلة بطبيعة الاصلاح بكونه عملا دقيقا يستدعي الايمان بادوات المنهج العلمي في البحث عن المشكلات المستعصية, الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها, وفق سنة البحث العلمي ومنهجيته المعروفة, وغلق ابواب الاجتهاد أمام الخرافة والدجل والسحر والشعوذة والثقافة الماورائية للبحث عن حلول لمعضلات البقاء والاصلاح. 
ـ 
 
 

11
لعبة الخاسرين في الأنتخابات البرلمانية العراقية والطريق الدائري المغلق

د.عامر صالح 
 
أجريت الأنتخابات البرلمانية العراقية في العاشر من اكتوبر الماضي وقد افرزت نتائجها غير المصادقة عليها لحد اللحظة من قبل المحكمة العليا الأتحادية, خسارة للقوى الموالية في معظمها لأيران الى جانب قوى اخرى انتهازية في اخفاء اعلان ولائها لأيران او لجهات اقليمية, وتلك القوى الخاسرة هي التي تمتلك الأذرع المسلحة والميليشيات والممثلة في كل البرلمانات العراقية السابقة ما بعد 2003 وانتهاء بالبرلمان الأخير الذي ترأسه محمد الحلبوسي, لم تكن تلك الخسارة مطلقة بل هي خسارة نسبية قياسا بما حصلت عليه في الانتخابات البرلمانية السابقة, بل يمكن القول انها فازت ولكن ليست كما تشتهي لأجندتها فأعتبرته خسارة وتصرفت على هذا الأساس برفضها لنتائج الأنتخابات واللجوء الى القضاء العراقي واطلاق المظاهرات المسيسة بأتجاه الضغط المتواصل لأحداث نوع من التغير في نتائج الانتخابات لمصلحتها وبما ينسجم مع اجندتها في الأستمرار في الأمساك بزمام الحكم إن كانت خاسرة أم رابحة. 
 
ففي الوقت الذي لم تعترض تلك القوى على نتائج الأنتخابات السابقة المزورة والمحروقة الصناديق لأنها كانت تصب في مصلحتها وتفضي الى بقائها مهيمنة على المشهد السياسي, نجدها اليوم ترفض وتعبئ كل طاقاتها وقدراتها الديماغوجية والعبثية لقلب نتائج الأنتخابات والعودة الى نقطة الصفر بل وتهدد السلم الأهلي والمجتمعي عبر تلويحها الضمني بأستخدام السلاح عبر تحريض مجاميعها المسلحة لعرقلة الحياة العامة واللجوء الى استعراض العضلات المسلحة متجاوزة في ذلك على صوت الناخب العراقي وعدم احترام ارادته. 
 
مع سلوك تلك القوى السياسية ـ المسلحة والرافضة لمبدأ التدوال السلمي للسلطة عبر نتائج صناديق الأقتراع تأكد أن النظام السياسي في العراق ومنذ عام 2003 هو نظام  دائرة مغلق لا يقبل التجديد والتحديث في القوى الفاعلة فيه استنادا الى الأرادة الشعبية, بل ان النظام يعيد انتاج الازمات السياسية الواحدة تلوى الأخرى عبر اعادة انتاج نفس القوى التقليدية فيه الغير مؤمنة عقائديا وسلوكيا بالديمقراطية والتدوال السلمي للسلطة, ومن هنا فأن كل الأزمات السياسية والأقتصادية والأجتماعية ناتجة من عدم القدرة على اختراق تلك الدائرة التي تهيمن عليها القوى التقليدية والرافضة للتغير والتجديد في الحياة المجتمعية, بل ان قوى تلك الدائرة المغلقة هي من لا يحترم الزمن واهميته في عمليات التغير والتقدم الاجتماعي, وهي من يفسد في المال العام ويسرق ثروات الشعب ويسرق مستقبله, ولن يتوانى على اضفاء القدسية على افعاله لزرع الخوف والرعب في قلوب الأبرياء وحرمانهم من ابسط مقومات الحياة الانسانية المتمثلة في الخدمات الانسانية الاساسية, من صحة وكهربا وتعليم وتوفير فرص كريمة للعيش ومعالجة الفقر والبطالة ووضع حد للتدهور الاجتماعي والقيمي في حياة الناس, ولا نستغرب ان يكون هذا النظام الدائري مقطوع الصلة الدينامية مع محيطه الداخلي والخارجي. 
 
يعرف الجميع ان تلك القوى غير مؤمنة بالديمقراطية فكرا وممارسة وهذا ما ابتلى به المشهد السياسي العراقي بعد 2003 ودفع ثمنه حروبا اهلية وطائفية وتصفيات جسدية وعرقية ومناطقية وتمثلت في ابرز مظاهرها في الاغتيالات العشوائية والمنظمة للكفاءات العلمية والادارية والعسكرية وتخريب مؤسسات الدولة وافراغها من محتواها المهني عبر اقحامها بالطائفية البغيضة لأضعافها المتواصل في خدمة اجندتها الداخلية والخارجية الكارهة للدولة ومؤسساتها عبر تقوية قوى اللادولة المنفلتة كبديل للدولة ووظائفها الاساسية في حفظ الأمن والنظام وضمان تطبيق القانون والحفاظ على ارواح المواطنين وتعزيز الهوية الوطنية. 
 
النظام السياسي الدائري المغلق في العراق بطبيعته العدائية لأرادة الشعب وطموحاته ينتج المزيد من حالات الاغتراب الشديد بينه وبين الشعب ويزيد من فائض الأحباط التراكمي عبر عدم الاذعان لمطالب الناس المشروعة في العيش الكريم والحرية واحترام الرأي, وبالتالي فأن فائض الأحباط لدى شعبنا ينذر بمزيدا من الغضب المشروع قد يتجاوز حدود انتفاضة اكتوبر للعام 2019 وقد يهدد منظومة الحكم بأكملها, ونتذكر جيدا شهدا انتفاضة اكتوبر التي قدم فيها العراقيون اكثر من 700 شهيدا و30 ألف جريحا وفيهم بأعاقات مستديمة, والتي كان من نتائجها اسقاط رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي وتبعته العديد من التشريعات والقوانين الخاصة باجراء الانتخابات المبكرة واعادة النظر بقانون الانتخابات وغيرها رغم ان العديد من تلك الاجراءات كانت مبتورة وغير ناضجة لأنها صادرة من برلمان محصصاتي ويطال الشك الى شرعيته والانتخابات التي جاءت به. 
 
لكل متابع للمشهد السياسي العراقي وللقوى الطائفية والاثنية المكونة له ومنذ عام 2003 تلجأ تلك القوى المهيمنة الى التحايل على الديمقراطية وحرف مسارها عبر شعارات ومسميات فضفاضة تخفي ورائها حقيقة السلوك التخريبي للعراق وقدراته الاقتصادية والمالية والبشرية, فمن شعارات " المظلومية الطائفية " الى "المظلومية الأثنية " الى " دولة الشراكة " و "حقوق المكونات " الى " معالجة "الأنسداد السياسي " عبر تسويات مع القوى الخاسرة وشعارات الحفاظ " على الوطن ومنع تدهوره " عبر تحويل "الخاسر في الانتخابات الى رابح" وبكتلة أكبر, أو اختزال النظام الديمقراطي والدولة والمجتمع بصورة عامة ببيوتات تقليدية: " البيت الشيعي " والبيت السني" والبيت الكردي" وكأن هذه البيوت كتل صماء وذات توجه فكري واجتماعي وثقاقي واحد وبعيدة عن التنوع, في محاولة لألغاء سنة الصراع في داخل البيت الواحد بهدف السيطرة عليه, انها لغة عقيمة ورديئة يفهمها شعبنا وقد جسد رفضه لها في كل احتجاجاته. 
 
لقد فضحت انتخابات 10ـ10ـ2021 البرلمانية العراقية المبكرة زيف القوى الأسلاموية وهي تستخدم في الخفاء سلوكيات " التقية " المعروفة لديها في عدم الأفصاح عن اهدافها وسلوكياتها الحقيقية, فبدلا من ان تقول علنا انها لا تؤمن في الديمقراطية لأنها نموذج غربي وبدعة " وكل بدعة حرام " بالنسبة لها ولكنها تنادي بالانتخابات لأخفاء عدم رضاها بشرط ان تكون النتيجة كما تشتهي هي, وإلا فالسلاح والتهديد حاضر لقلب المشهد السياسي حتى بأراقة الدماء. لقد اكد رفض نتائج الانتخابات من قبل قوى الأسلام السياسي وعدم القبول بنتائج صناديق الأقتراع أن هذه القوى تمارس سلوك المتحايل للأبقاء على نفوذها في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واعادة انتاج نفسها وكأنها البديل الوحيد للكم في العراق, فاذا جاءت نتائج صناديق الأقتراع مطابقة لرغبات بقائهم في نزيهة اما عكس ذلك فالأنتخابات مزورة حتى وان اكتسبت شرعية محلية وعالمية فلا تعني لهم شيئ, وتشتغل القوى الخاسرة على تشتيت شمل الفائزين الأوائل عبر البحث عن كتلة أكبر بديلة لواقع نتائج الانتخابات وتعمل على قاعدة" عين على المحكمة العليا الاتحادية وعين على الكتلة الأكبر " مستخدمة لغة التصعيد والتحشيد والتلويح بأستخدام القوة عند الضرورة. 
 
سلوكيات الأسلام السياسي في التشبث في السلطة والدولة والمجتمع ليست جديدة في تجارب الاسلام السياسي في البلدان العربية وفي العراق فهي تستند الى شرعيات غير مقبولة  اليوم في عالم لا يرضى إلا بالديمقراطية فحتى الانظمة الدكتاتورية في العالم لا تتجرئ في الاعلان عن طبيعتها وتبحث عن غطاء ديمقراطي او إدعاء للديمقراطية, وان قوى الاسلام السياسي تعتبر نفسها اختيار إلهيا وتستمد شرعيتها من السماء, ولا تؤمن بالتدوال السلمي للسلطة لأنها تعتبر نفسها قدرا نهائيا, وعدم الايمان بحق الأختلاف وان مخالفتها يستوجب عقاب الآخر المختلف, ولا تؤمن بالمساواة على اساس المواطنة فهي تفضل المؤمن بدينه ومذهبه, انها لا تؤمن بالحريات فهي تفرض نظاما صارما من الوصايا والتدخل في الشأن العام والخاص للأفراد, ولاتؤمن بدولة القانون لأن القانون بالنسبة لها ما نزل من السماء, وتعتبر الدين وسيلة  للسياسة للسيطرة على الناس وشرعنة ما يقع على الناس من ظلم وبالتالي استخدام السلاح لفرض شرعية سياسية  من نوع تعسفي خاص بعيدا عن ارادة الشعب. ولعل في فكر حركة الأخوان المسلمين التي تأسست عام 1928 تلك الحركة التي نظر لها وأسسها حسن البنا ( 1906ـ1949 ) وقد تأثرت بها لاحقا العديد من حركات الأسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني وتفرعاتهما المتشعبة, فقد أكد حسن البنا وعزز اطروحة ان اركان الدين ليست خمسة " صوم, صلاة, زكاة, الحج وان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " بل اضاف ركنا سادسا هو الحكم واستلام السلطة وتكفير الأنظمة الحاكمة, وكان العنف والارهاب والأكراه احد المصادر الاساسية لفرض البدائل على الارض, ورغم ان ظروف العصر الضاغطة صوب التعددية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة قد اخفى الكثير من الاهداف المعلنة لتلك الحركات, ولكنها لجأت الى استخدام صناديق الأقتراع ليست كوسيلة ديمقراطية بل كلعبة للأنقضاض على السلطة وتكثيف استخدام الخطابات التجيشية " لخلط المقدس في المدنس " التي تعزف على الأنفعالات وخاصة في مجتمعات فقدت الأمل من الانظمة القمعية االحاكمة في نهضة تنموية اقتصادية واجتماعية شاملة ترتقي بعقول الناس وتجنبهم مخاطر الفقر وتداعياته النفسية والفكرية بما فيها الأختيار في الانتخابات, ومن هنا دخل الاسلام السياسي على خط اللعبة الدبمقراطية لأفراغها من محتواها. 
 
نموذج الأسلام السياسي في العراق بعد 18 عشر عاما من تجربة الأستحواذ على السلطة عبر " صناديق الأقتراع السوداء " أفرغ الديمقراطية التوافقية من محتواها كتجربة ممكنة شريطة القناعة بها كأفكار ووعي بعيدا عن المذهبية والطائفية والتعصب القومي والأثني وكما شرحها في كتابه الكاتب ارنب ليبهارت والمعنون " الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد ", حيث تحولت في العراق تلك التوافقية الى هدم للهوية الوطنية في ظل حضور العشائرية والقبلية والتشرذم الأثني والقومي وغياب قانون احزاب الى بديل تجسد في اقبح صوره بعرف المحاصصة الأثنية والطائفية والنعرة القومية المتطرفة, وكان نتاجها هو تأسيس كيان كارتوني يصم شكليا في التوافقات المريضة وينهار امام الأعين عندما يتعرض الى أي اختبار وجود في الداخل او الخارج, وقد تجسد ذلك في اقبح صور العناد التخريبي لأدارة الدولة  وابرزها هو تحاصص الرئاسات الثلاث:  رئيس الوزراء شيعي, ورئيس الجمهورية كردي, ورئيس البرلمان سني وجميعها خالية الذكر في الدستور العراقي, منح المكون السني وزارة الدفاع, والمكون الشيعي وزارة الداخلية, توزيع الوزارات السيادية (الدفاع والداخلية والخارجية والنفط والمالية) بحيث تكون ثلاثة للشيعة وواحدة للسنة وأخرى للكرد, وصلت المحاصصة إلى الجهاز القضائي حيث تم تشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية بحيث تضم المكونات والطوائف. ناهيك عن قادة الجيش والشرطة والمؤسسات الأمنية, وهكذا وصولا الى الدرجات الوظيفية الدنيا,  هذه المحاصصة الطائفية والحزبية أوجدت حالة شاذة تتمثل في جعل الشخص غير المناسب في المناصب والمواقع الحكومية. وتسنم وزراء ووكلاء ومدراء عامون مناصبهم وهم بعيدون عن اختصاصاتها أو يفتقدون لخبرة أولية أو شهادة جامعية حتى أصبح كثيرون من الوزراء ورؤساء الهيئات وغيرهم يشغلون مناصب يجهلون أولياتها ومفرداتها، ناهيك أن يُطلب منهم تطوير الوزارة أو معالجة مشكلاتها, انها حالة شاذة ارتضاها نظام المحاصصة الطائفية والأثنية لهدم الدولة ومقومات نهوضها على أسس عصرية. 
 
فلا نستغرب ان يماطل الأسلام السياسي وفي مقدمته الأطار التنسيقي في العبث بنتائج الانتخابات ومحاولات تغيرها عبر الضغط على القضاء العراقي واستخدام شارعه المسلح لترهيب اجهزة الدولة لفرض اجندته المتمثلة في ابقاء الاوضاع السائدة كما هي ومنع اي بارقة أمل في اعادة الأصطفافات السياسية لصالح قوى الدولة والحراك الاجتماعي المتمثل بقوى تشرين وغيرها الطموحة الى احداث تغير ما ايجابي في المشهد السياسي صوب التأسيس لدولة المواطنة وبدأ خطوة الألف ميل, وبالتأكيد ليست مهمة سهلة في واقع العراق حيث القوى الأخرى خارج القوى الأسلامية هي قوى ليست واضحة المعالم بل وتتأرجح صوب مصالحها القومية والأثنية الضيقة وتنتظر من يدفع لها اكثر لملئ فارغ طموحاتها النرجسية المريضة, وقد تخسر تلك القوى طموحات شعبها في الحصول على الحقوق القومية المشروعة العادلة وعليها ان تختار حلفاء موثوق بهم وليست حلفاء اللحظة والمغانم. السلام للعراق وشعبه ومكوناته بكل اطيافه على اسس من الحق والعدل والكرامة بعيدا عن مكاسب اللحظات العابرة !!!. 


12
كذبة الديمقراطية في العراق

د.عامر صالح

مع الأقتراب من الأعلان النهائي لنتائج الأنتخابات البرلمانية العراقية التي اجريت في العاشر من اكتوبر 2021 والتي افرزت بشكل عام انحسار شديد للتيارات الأسلامية المسلحة والمليشيات الحزبية المسلحة ذات الطابع الأسلاموي, كما افرزت نتائج الأنتخابات في تحسن ملحوظ تجسد في صعود نسبي لقوى الحراك التشريني الى جانب القوى المستقلة, وبعيدا عن نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات فأن مؤشراتها الأولية تؤكد ان هناك تغير نسبي قادم في موازين القوى البرلمانية والسياسية لصالح التيار المدني وقد يؤسس لحالة جديدة في العراق يجسدها بداية الخوض في معترك التأسيس لدولة المواطنة والأبتعاد عن منطق اللادولة والسلاح المليشياوي الذي تعبر عنه قوى اللادولة المافوية التي اغرقت العراق منذ 2003 في بحر من الصراعات الطائفية والأثنية الذي صادر الدولة وارتهنها لأجندته الخارجية والداخلية والتي تستهدف استنزاف الدولة ومواردها والأفساد فيها وفرض سلطة المليشيات بعيدا عن سلطة القانون.

كانت خسارة قوى اللادولة في الانتخابات مؤشرا ايجابيا لتفسير المزاج الشعبي العراقي العام في بداية توديعه لقوى احكمت السيطرة عليه خلال 18 عاما عابثة في مقدرات العراق وامكانياته المادية والبشرية ومستندة الى مختلف المرجعيات الدينية في الخفاء والعلن لأضفاء القدسية المشوهة على افعالها المشينة مستغلة الفاقة والحرمان الذي عاناه شعبنا من دكتاتورية النظام السابق ومفتعلة سلوك المظلومية الطائفية لتخريب الدولة والوطن واحلال العقاب بأبناء "الطائفة المظلومة" قبل غيرهم وحرمانهم من مستلزمات العيش الكريم في ابسط مستوياته الأنسانية في الخدمات العامة من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات الحد الأدنى الأجتماعي للحد من التسول والضياع.

مع هذا التحسن الملحوظ في ما افرزته صناديق الأقتراع في ابعاد القوى الطائفية المسلحة استعدت قوى اللادولة منذ الاعلان الاولي للنتائج عن اشهار سيف الأعتراض الصدئ على نتائج الانتخابات ملوحة في التهديد والوعيد في رفض النتائج واعتبارها مزورة بالضد من كل التصريحات الأممية والدولية والداخلية بتأكيدها بنزاهة الانتخابات وعدالتها النسبية, وبدأت تنشط  بكل قدراتها للحيلولة دون القبول بنتائج الانتخابات وعدم تقبل خسارتهم للأنتخابات بأعتبارها سنة حميدة في الديمقراطية, فهناك خاسر وهناك رابح وهناك منطق تبادل السلطة سلميا على خلفية نتائج الانتخابات, تلك القوى التي لا تؤمن بالخسارة المؤقتة بل تؤمن بالربح المطلق بأختلاف دورة الزمن, أنها قوى لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتدوال السلمي للسلطة, ووجدت في الديمقراطية مجرد صناديق اقتراع اذا لم يفوزون بها يحرقوها كي يفوزوا, تلك هي لعبة الأسلامويين مع صناديق الأقتراع, انها فرصتهم الوحيدة في التجييش وممارسة الدجل المقدس لفرض ارادتهم على مستقبل البلاد.

قوى الأسلام السياسي أسوة بكل القوى التي يفترض أن تقصى من المشهد السياسي بقوة القوانين السائدة " من عدم السماح للفصائل المسلحة والاحزاب الميليشياوية في الاشتراك في الانتخابات وفي العملية السياسية بصورة عامة, واقصاء كل القوى الغير مؤمنة بالتداول السلمي للسلطة, ثم التأكد من مصادر تمويلهم ونزاهة المال الذي يمتلكونه, للأسف ان تلك القوى اليوم تمتلك كل مقومات العبث في النظام وفي العملية الديمقراطية, فهي من يحيط المنطقة الخضراء بالسلاح والمقاتلين ويفرض طوقا محكما على مساحات واسعة من الحكم, وهي من يمتلك الفضائيات الصفراء التي تسهم في تشويه الرأي العام وخداعه, وهي من يمتلك الكثير من مراكز الأبحاث ومعهم جوقة من المحللين السياسيين والأستراتيجين المشوهين فكريا وعقليا, وهؤلاء هم من دعاة ومهندسي الكتلة الأكبر بغض النظر عن نتائج الأنتخابات تقودهم " دولة القانون " بزعامة المالكي مهندس الأستثناءات المريضة, فهو مهما بلغت اصوات الفائزين في الانتخابات يبقى هو الفائز الأكبر.

 تلك القوى التي ترفض المنظومة "السياسـية" و "القانونيـة" المدنية بأي شكل من الأشكال؛ فهـي تـرى أن مـن واجبها إقامة الدولة الإسلامية المتمثلـة في دولـة الخلافـة، بـدل من الدولـة الوطنية الحديثة القائمة خارج اطار التنوعات الدينية والطائفية والاثنية، وتطبيق الشــريعة الإسـلامية بدل القانون "الوضعي"، كـما تـرفض المفهـوم المدني للأمـة، وتنـادي بفكرة الأمة المحددة بالعقيدة والطائفة, والتي تحمل في طياتها مزيدا من الصراعات واراقة الدماء لكل المكونات الاخرى وبالتالي تخلق ارضا خصبة لمزيدا من الاقتتال بين مكونات المجتمع الواحد.

وفي ضوء نتائج الأنتخابات البرلمانية فأن التيار الصدري الفائز الاول والمتنوع في تركيبته الداخلية" من دينية بحتة, ودينية بنصف مدنية ومدنية شبه كاملة عليه ان يبتعد عن التحالفات القادمة التي تسلب منه الفوز الانتخابي وان يبتعد التيار الصدري عن الأنفعالات الآنية التي قد تنقله بين ليلة وضحاها الى المعارضة البرلمانية والتنازل عن استحقاقه الانتخابي جراء ضغوطات الساعين وراء تشكيل الكتلة الاكبر خارج سياق الفوز الانتخابي, وبالتأكيد انها مهمة صعبة امام التيار الصدري كيف يقرر وجهته لأن الطرفان الكردي والسني والراغبين في ابقاء المحاصصة لا يستطيعوا اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب ولم تتجرئ تلك القوى حسم وجهتها القادمة وهي ترفع شعار التحالف مع الشيطان من اجل الحصول على المغانم المؤقتة بمبررهم التقليدي " انهم ينتظرون البيت الشيعي وتحالفاته" كي يحسموا امرهم.

اما رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي" وهو الآن رئيس وزراء تصريف اعمال " وقد تطول مدة بقائه في المنصب على خلفية المجهول القادم في العملية السياسية كان يفترض عليه ان يتمتع بشجاعة استثنائية لتفويت الفرصة على قوى اللادولة وان يعزز من مكانة الدولة وحكم القانون وان يكشف عن قتلة المتظاهرين ومرتكبي الاغتيالات السياسية والجهات التي تقف ورائهم دون الاكتفتاء بأضفاء الشخصنة للجرائم المرتكبة واظهار المجرمين بسيناريوهات مبتورة ومضحكة دون الحديث عن المليشيات التي تقف ورائهم, كان بأمكانه ان يكون شجاعا ومتحديا وغير متساهل مع القتلة كي يمهد الطريق امام قوى الدولة كي تسود المشهد السياسي. ومن تداعيات ضعف رئيس الوزراء اليوم فأن القوى المليشياويه تطالبه بالكشف عن قتلة المتظاهرين وتطلب منه ان يكون شجاعا وجريئا لأنها تعلم انه لا يستطيع وهي اقوى منه ومتحدية له, رغم ان مصطفى الكاظمي غامر بالعديد من المحاولات للتحرش بالمليشيات ولكنه لم يفلح, حتى تطاولوا على محاولة اغتياله !!.

ورغم ان الكاظمي يتجنب المواجهة المباشرة مع قوى اللادولة والمحسوبة على الدولة في بعض منها فهو يخشى من مواجهة شيعية شيعية لا تحمد عقباها ولكن عليه ان يفهم سنة الصراع بين قوى الدولة واللادولة التي تكلف الكثير ولكنها تقرر مستقبل البلد في التخلص من العصابات والقوى المعوقة للديمقراطية وعليه ان يبني تحالفات عميقة مع قوى الدولة ويبتعد عن لغة المغازلة والتهديد الناعم الذي يبرئ المجرم مع مرور الزمن ويجعله يستقوي عليه كما فعلوا بمحاولة اغتياله, بل ويعيدوا انتاج سيناريو اغتياله بأنها محاولة مفبركة من رئيس الوزراء وكذبة منه لتوفير فرص اكبر في حصوله على رئاسة الوزراء للمرة القادمة, بل ويطالبوا بلجان تحقيق لمعرفة ملابسات وفبركة اغتياله, فأي صلافة تتمتع بها تلك المليشيات السائبة خارج سلطة الدولة والقائد العام للقوات المسلحة.

الديمقراطية في العراق تمر بمخاض عسير هذه المرة يفوق ما مرت به في الفترات السابقة ما بعد 2003 حيث ان الحسم اليوم يقرر وجهة البلد القادمة, فأما الاقتناع بالديمقراطية ونتائج الانتخابات هي السبيل الوحيد للتأسيس لنظام ديمقراطي تتمتع فيه القوى الفائزة بحق تشكيل الحكومة استنادا الى قاعدتها الشعبية, واعتراف القوى الخاسرة بمدى التأييد الشعبي لها, وانطلاقا من نلك القناعة فهناك حكومة اغلبية ومعارضة سياسية يفترض ان تؤدي دورها النبيل في تقويم مسار الحكم, وكما يعرف الجميع فأن البدء في ممارسة ديمقراطية واضحة المعالم سيجلب المزيد من اعادة انتاج ديمقراطية واضحة المعالم, اما عدا ذلك فأن العودة مجددا الى المجاصصة والتحايل على مفهوم الكتلة الأكبر هو عودة للبلاد الى المربع الأول وبالتالي فأن الديمقراطية في العراق هو كذبة كبرى لا غير !!!.

13
الديمقراطية في العراق: إن لم تكن لي فلن تكن لغيري


د.عامر صالح

يزخر الأرث الشعبي العراقي بالكثير من ما يدل على واقع حال الديمقراطية في العراق, وينطبق عليها المثل الشعبي بوضوح: " لو ألعب لو أخرب الملعب" أو "تريد ارنب أخذ أرنب .. تريد غزال أخذ أرنب" وجميعها ترجمة وتجسيد لما يجري في واقع السياسية العراقية والتي ينطبق عليه بوضوح: " تريد فاسد أخذ فاسد .. تريد نزيه أخذ فاسد ", وبكل الأحوال فأن خيار العبث في العملية السياسية وتأصيل منطق الفساد فيها والأستحواذ هو سيد اللعبة " الديمقراطية " في العراق, حيث أن القوى المتصارعة على صناديق الأقتراع لم تجد في الديمقراطية سبيل للتدوال السلمي للسلطة ومقدمات لازمة لأرساء أسس نظام يضمن الحقوق المتبادلة لجميع المكونات الاجتماعية والسياسية والأثنية عبر تأكيد الأختيارات الحرة, بل تجد في صناديق الأقتراع لعبة سهلة للأستحواذ على السلطة والدولة واعادة تكريس الأستبداد السياسي والاجتماعي والتشبث في البقاء في السلطة واعادة انتاجها لمصلحة خطاب لا يمت بصلة للحاضر واعادة بنائه على أسس من التقدم العلمي والتكنولوجي والمقترن بتطلعات الفكر الانساني في ارساء أسس العدل والحق والمساواة, بل اعادة لدورات التخلف والفساد واضفاء الشرعية المزيفة على ما يجري واعتبارها اقدارا مقررة سلفا وليست نتاج لقوى الفساد والخراب المهيمنة على مقدرات البلد وامكانياته.

منذ سقوط النظام الدكتاتوري السابق على أيدي المحتل الأمريكي في عام 2003 وبعد تأسيس النظام على أسس من الطائفية والأثنية المحاصصاتية دخل شعبنا في حالة من الأغتراب مع النظام الجديد حيث لم يلبي ادنى متطلباته في العيش الكريم وافتقار شديد للخدمات الانسانية من صحة وتعليم وماء وكهرباء, ورافق ذلك تدهور للبنية التحتية الأقتصادية والاجتماعية ونهب للمال العام واستشراء الفساد الاداري والمالي والاجتماعي وضرب منظومة القيم الاخلاقية  والاجتماعية في ابسط مقوماتها من صدق وامانة وحفاظ على المال العام, حتى باتت القوى السياسية الطائفية والاثنية الحاكمة يضرب بها المثل السيئ على الصعيد الداخلي والدولي في السرقة والفساد والاهدار العام وانعدام الشفافية وغياب دولة القانون, وانتشار للسلاح المنفلت والمليشيات المسلحة وعصابات الجريمة الفردية والمنظمة الى جانب ظواهر اجتماعية لم يعتادها العراق سابقا, من انتشار للمخدرات والسرقات والشللية الفاسدة وارتفاع نسب الطلاق بشكل مروع والازدياد المطرد للأرامل واليتامى والعوانس وحالات الانتحار المتصاعدة الى جانب الارتفاع المخيف لنسب البطالة وانعدام فرص العمل وخاصة بين اوساط الخريجين من حملة الشهادات المختلفة وعدم ايجاد حلول جذرية عبر اعادة احياء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص لحياة وخدمات افضل.

حالة الاغتراب في المشهد الاجتماعي والسياسي وجدت صدى لها في الكثير من مظاهر الاحتراب الداخلي وفي حالات التمزق والتفكك الاجتماعي وقد انعكس ذلك في اقبح وجوهه بالحروب الطائفية والعداوات والكراهية الأثنية والمكوناتية وفي انعدام الأمن المجتمعي الشامل وعدم الايمان بالدولة بأعتبارها حاضنة للجميع والابتعاد في الممارسة العملية عن تطبيق القانون وفرض اللادولة وحكم المليشيات بأعتباره هو المنطق السائد في تصفية الحساب او انتزاع الحقوق, واحلال العشائرية والقيم البالية بديلا عن قيم دولة المواطنة, مما اصبح أمن الفرد والمجتمع في مهب الريح.

في الممارسة السياسية جسدت حالة الاغتراب حضورها الشديد في عدم المساهمة الشعبية في الحياة السياسية العراقية حيث عزوف الشعب عن ممارسته في المشاركة في الأنشطة السياسية ولعل في مقدمتها هو العزوف غن صناديق الأقتراع, وبأستثنا حقبة التجيش والانفعالات والعزف على اوتار خلط المقدس في السياسة وهي حقبة قصيرة نسبيا امتدت من تشكيل بداية النظام حتى الانتخابات البرلمانية الأولى وقد لعبت فيها المرجعيات الدينية دورا كبيرا في العزف على انفعالات ادعاء المظلومية التاريخية الطائفية ولعب دور المعبئ لأنتخاب الاحزاب الأسلاموية في تصور خاطئ وخطير أن الحزب الطائفي يساوي ابناء الطائفة, ولكن سرعان ما تهاوى هذا بعد ان انكشفت حقيقة الأسلامويين في السلطة بأعتبارهم جزء من الأزمة العراقية العامة وليست جزء من الحل, وقد تجلى ذلك في انكسار هيبتهم المفتعلة في عدم مساهمة الشعب في الانتخابات البرلمانية اللاحقة, والتي جسدت اشد حالات الضعف معبرة عن عدم الثقة في النظام السياسي القائم على المحاصصة المعادية لمصالح الشعب الاساسية, وقد كانت اشد حالات الضعف فيه هو المساهمة في الانتخابات البرلمانية للعام 2018 والتي لم تتجاوز 25% من نسبة المؤهلين للأنتخابات الى جانب التزوير وحرق صناديق الأقتراع, ثم الأنتخابات الخامسة الحالية التي اجريت في 10ـ10ـ2021 والتي تتراوح نسبة المشاركة فيها بحدود الثلث فقط من مجموع من يحق لهم التصويت والبالغ عددهم 25 مليون نسمة تقريبا.

ورغم ان هناك مصادقة شكلية دولية من قبل المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الاوربي على نزاهة  الانتخابات البرلمانية الخامسة التي اجريت في العاشر من شهر اكتوبر وعن بيئة أمنية لا بأس بها, ولكن على المنظمات العالمية الدولية ان تقرأحقيقة عدم المساهمة العامة والضعيفة في الانتخابات العراقية استنادا الى البيئة العراقية الأمنية الشاملة الهشة والى الاوضاع العامة في البلاد, لأن بيئة الانتخابات هي بيئة مصطنعة مؤقتة لا تعبر عن البيئة السياسية والأمنية العامة في البلاد, وبالتالي استدرك المواطن عدم المشاركة انطلاقا من فهمه للأزمة السياسية العامة في البلاد والتي تجسدها بوضوح أن معظم القوى السياسية غير مؤمنة بالديمقراطية كسلوك ونهج عام, بل ان بعض من تلك القوى يحمل السلاح بيد ويصوت باليد الأخرى " والكثير من هذه القوى محسوب على الدولة ", فأن لم تأتي نتيجة التصويت كما يشتهي فقد شهر سيفه مشككا بالأنتخابات ومطالبا بألغائها ومهددا للسلم المجتمعي عبر فرضة اجندة الأمر الواقع بقوة السلاح.

فحال اعلان النتائج النهائية لأنتخابات اكتوبر الحالية والتي فاز بها جناح شيعي يمثله مقتدى الصدر الى جانب قوى اخرى سنية وكردية حتى اعلن تجمع شيعي آخر وبمسمى " الأطار التنسيقي للقوى الشيعية " حيث شهر سيف التشكيك في الانتخابات البرلمانية ونتائجها موجها اصابع الأتهام الى شخص رئيس الوزراء بل ومطالبا بمحاكمته بالخيانة العظمى في تزوير الانتخابات, الى جانب ادعائهم بضلوع دول عربية وفي مقدمتها الأمارات العربية المتحدة في عمليات سطو سيبرانتي لتزوير الانتخابات, تلك الأدعاءات التي تتنافى مع التقارير الدولية والمحلية في نزاهة الانتخابات النسبية تجسد في فحواها سلوكية الخاسر في الانتخابات وغير المؤمن في العملية الديمقراطية وهو يشتغل ضمن المنطق العبثي " لو ألعب لو اخرب الملعب " والملعب هنا ليست المقصود به احتجاج شكلي او ردة فعل انفعالية بل يحمل في فحواه تخريب لمنظومة العمل بأكملها وفرض ارادة مشوهة عبر منطق التهديد بالسلاح والوعيد بتحريض الشارع العراقي ودفعه الى حريق شامل عبر ادعاءات كاذبة بأمتلاك الحق, انه سلوك مريض اختبره شعبنا ولم يتفاعل معه, حيث ان مشكلات شعبنا في الحياة الحرة الكريمة اكبر بكثير من أن يعبث بها من لا يؤمن بالديمقراطية, وان شعبنا يستذكر بذكاء من سبب ازهاق ارواح وقتل مواطنين ابرياء في انتفاضة اكتوبر للعام 2019 تجاوز عددهم 700 شهيد وجرح واعاقة اكثر من ثلاثين ألف مواطن.

أفرزت نتائج الانتخابات البرلمانية الخامسة فوز مجموعة برلمانية متعددة المشارب والرؤى الى حانب القوى التقليدية السابقة بأوزان مختلفة نسبيا, وحسب نتائج الانتخابات فهناك حضورا لوجوه جديدة او على الأقل لم تشارك في البرلمان السابق, وهناك مستقلين الى جانب تمثيل ما للحراك الاجتماعي الذي جسدته انتفاضة تشرين, اضافة الى حضور للعنصر النسوي فاق 90 مقعدا وقد فاز اكثر من 50 أمرأة بقوتهن التصويتية وليست عبر نظام" الكوتا ". والحديث هنا عن مدى فاعلية تلك التركيبة وادائها في ظل قانون الانتخابات المتعدد الدوائر الذي حصر التصويت والفوز مناطقيا مما يضعف لحمة الخطاب الوطني الجامع بأعتبار ان عضو البرلمان هو ممثل للشعب وليست لمنطقة او عشيرة او طائفة, وان هموم الوطن العامة تتقدم بالضرورة على هموم اخرى. اما دور المرأة المرتقب فلن يرتبط بكم تمثيلها في البرلمان فقد كانت في البرلمانات السابقة ممثلة بحدود 80 برلمانية ولكن اغلب ادوارهن بقيت معطلة في الدفاع عن قضايا المرأة العادلة في الحرية والمساولة, بل وفي احيان كثيرة ألحقن الضرر بقضيتهن من خلال انتمائهن الى احزاب لا تؤمن بالمساواة بين الجنسين. الى جانب هذا سوف يشهد سيناريو تشكيل الحكومة والكتلة الأكبر الكثير من محاولات الأحتواء وسلب الأدوار والضغوط المختلفة التي ستقع على الكتل الصغيرة التي تتمتع بقدر من الأستقلالية عن الاحزاب الطائفية والأثنية الأكبر, الى جانب ان الكثير من الاحزاب الحاكمة نزل مرشيحها بصفة مستقل وسوف ينكشف ذلك عند تشكيل الكتلة الأكبر. 

لقد شاهدنا كيف ان قانون الانتخابات الجديد أدى إلى تحول في خطاب الكتل والائتلافات والمرشحين، حيث كانت الدعاية في الانتخابات الماضية تتناول الوضع في العراق ككل، مثل ظواهر الفساد الاداري والمالي واهدار المال العام ومحاسبة الفاسدين وفرض الرقابة السياسية على الحكومة وأعمالها والسيطرة على السلاح المنفلت وتعزيز هيبة الدولة والقضاء، أما بالقانون الجديد، فقد وجدوا المرشحون أنفسهم ملزمين بقناعة او لا للتواؤم مع ما فرضه القانون الجديد، حيث أصبحت القضايا المناطقية هي المسيطرة، وأصبحت البرامج محلية تعالج أموراً حتى على أقل من المستوى الجزئي، كالبنية التحتية والخدمية، ولم تعد الصورة تتسع لبرامج تعالج الهموم والتحديات التي تواجه العراق ككل, بل ان العشائرية وضيق الأفق والتكتلات المختلفة اخذت مديات اوسع من ذي قبل.

إن الانتخابات المبكرة كان ينظر إليها على أنها أحدى المخارج الفعالة للخروج من الأزمة السياسية التي رافقت المشهد السياسي منذ احتجاجات تشرين في أكتوبر/تشرين الأول 2019، من أجل إعادة تجديد شرعية النظام السياسي التي انهارت  بعد سلسلة من عمليات الاغتيال والإخفاء القسري التي مورست بحق الناشطين والمحتجين الذين تظاهروا من اجل تحقيق ابسط المطالب الانسانية " رغم ان شرعية النظام وتآكلها بدأت مع نشأته المحصصاتية"، إلا أن الخاسرين في الانتخابات الأخيرة يبدو أنهم يفضلون شرعية وجودهم وكيانتهم السياسية على شرعية النظام ودولة المواطنة، ولذلك بدأوا يشككون بالعملية الانتخابية التي صاغوا قانونها واشتركوا فيها  ووضعوا العراقيل ضد نجاحها, والى اليوم كما نتابع ان الحكومة والاجهزة الأمنية تستطيع بعمليات مخابراتية دقيقة ألقاء القبض على قيادات ارهابية معروفة في داعش وغيرها ولكنها عاجزة عن الكشف عن قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة والاعلان عن الجهات التي تقف ورائهم, ان ذلك يعكس بعض من اوجه التداخل بين قوى الدولة واللادولة المليشياوية. 

ورغم ان الديمقراطية في العراق ومعوقاتها لا تختزل في دورة انتخابية برلمانية واحدة, بل هناك تجذر في اشكالية ممارستها, وللأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقع كبير في عدم الأرتقاء بها وبقائها رهينة الأمزجة السياسية التي تستلم السلطة والتي في غالبيتها تعبر عن غياب الثقافة الديمقراطية عند الاحزاب بل عدم قناعتهم بها لأسباب عقائدية وسلوكية, الى جانب البدايات الاولى القائمة على النهج المحصصاتي العرقي والطائفي والمناطقي واحلال الشرذمة المكوناتية مقابل ثقافة التنوع المبدع في اطار الوحدة الوطنية, الى حانب الثقافة القبلية التي لا صلة لها بالديمقراطية الى جانب حالات استمالة العشائر في الصراعات الطائفية السياسية واحلال ثقافة التحريض القطيعية مقابل ثقافة التفرد والأبداع وتعزيز مكانة الفرد الحر المستقل في خياراته الحياتية والسياسية منها بشك خاص. الى جانب عوامل اخرى افرزتها منظومة الحكم المتعاقبة من تحلل في المنظومة الأخلاقية الفردية والمجتمعية وانعكاساتها على قيمة الديمقراطية وجدوى مساهمة الفرد في صنع القرار, ناهيك عن الخراب الاقتصادي والازمات المتواصلة وتكريس الاقتصاد الريعي الذي حول الدولة الى بائعة نفط لا غير كي تأكل يوما بيوم, مما سبب انعدام الأفق في نهضة اقتصادية اجتماعية وعجز في امتصاص خيرة الخبرات والقوى العاملة الى عجلة التغير الايجابي, وقد انعكس ذلك في حالات اليأس وانعدام الجدوى من المساهمة في الافعال السياسية ومنها السلوك الانتخابي.

وتبدوا ملامح المرحلة المقبلة من خلال ما افرزته صناديق الاقتراع  أن هناك ليست أسابيع تفصل العراق عن تشكيل حكومته الجديدة، بل أشهراً، فتدخل البلاد الآن مرحلة المفاوضات بين الأحزاب. وهذه هي المرحلة الخطرة، التي قد تؤدي إلى مساومات تضر بالمصلحة العامة مقابل مصالح ضيقة. وهذا ما جعل الكثير من العراقيين ينتقدون العملية السياسية برمتها والقائمة على التوافقات على حساب الوطن وأمنه وسلامته. والتحدي أمام الكتل الفائزة " اذا ارادوا ان يتخلوا عن نهج المحاصصة الطائفي والاثني وعقلية الصفقات المريضة وهو امر مستبعد"  أن يراعوا المزاج العام في البلاد ويبذلوا جهوداً لسد الفجوة مع الشعب, وأن لا يفرضوا على الشعب أكثر الخيارات مرارة والتي يجسدها المثل الشعبي العراقي: "تريد فاسد أخذ فاسد .. تريد نزيه أخذ فاسد ", واذا كانت انتفاضة تشرين عبرت عن اكثر النماذج سلمية في الحراكات الاجتماعية الرافضة للمحاصصة والمطالبة في الحقوق الاساسية, فأن حراكات اجتماعية قادمة قد تختلف عن تشرين في الوسائل وطرائق الرفض للمنظومة الفاسدة وبالتالي لا تستدرك مدايات وسقف مطاليبها الى أين !!!.






14
عندما تختزل الديمقراطية فقط بصناديق الأقتراع


د.عامر صالح

 النظام السياسي في العراق يثير جدلا حول مشروعيته  كونه ممثلا لأرادة الشعب أم لا فمنذ انتخابات 2005 والى اليوم فأن المساهمة الشعبية في صياغة النظام وسلطاته الأساسية التشريعية والتنفيذية تسير نحو الأنحدار في المساهمة الشعبية, حيث التدهور في مصداقية النظام من حيث مشاركة الشعب لرسم ملامح تلك السلطات, واذا اردنا في التعبير عن ذلك احصائيا وبنسبة المشاركة فأن انتخابات 2005 بلغت نسبة المشاركة فيها بحدود الأقل من 70% الى آخرها في انتخابات 2018 وقد بلغت المشاركة فيها بحدود 20% أي أن سمعة النظام السياسي تسير نحو الهاوية والتدهور من حيث مصداقية شعبنا بتلك المنظومة السياسية الفاسدة والتي أختبرها شعبنا طوال السنوات الماضية ومنذ العام 2003.

 الديمقراطية مذهب فلسفي يعيد أصل السلطة السياسية إلى إرادة العامة “إرادة الشعب” لأنه مصدر السلطات، وتعود على شكل النظام السياسي إذ نميز بين نظام سلطوي وآخر ديمقراطي، لكن مقصدنا هنا الحديث عن مضامين الديمقراطية كقيم ثقافية واجتماعية، فالقيمة الأولى هي أن الفرد بحد ذاته قيمة، وحريته نقطة الانطلاق فلا يجوز تقييده أو تكبيله باسم السلطة ومن قبلها في مجالات الحياة وفضاءات السلطة، فهي أي الديمقراطية تروج لفكرة الحرية، وحق تقرير المصير، والاختيار، والاستقلال الذاتي المعنوي ومسؤولية الفرد عن اختياره، وحماية مصالحه والخبرات التي يشارك بها الآخرون، ناهيك عن احترام كرامة الإنسان كانسان بغض النظر عن عرقه أو دينه أو جنسه واحترام حرية الرأي والاعتقاد، والتعبير بكافة الإشكال وبقية الحريات كما هي الحقوق من مدنية وسياسية. الحقوق التي ولدت معنا والتي اكتسبت من وجود التنظيم السياسي الذي تطور مع تطور المجتمعات البشرية.

وفي الممارسة العملية فالديمقراطية تعني بأختصار شديد: البرلمان والحكومة مسؤولان عن حماية و تطوير النظام الديمقراطي، و استقلالية السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية، و الفصل بين المهام الحزبية و التعليمات الحكومية، و السلطة السياسية و سلطة المجتمع المدني، و و توزيع وتقسيم السلطات على جميع المستويات الادارية في المناطق, ان البرلمان و الحكومة مسؤولان عن اقامة دولة القانون و احترام سيادة القانون الذين يتوجب تنفيذه على الجميع على نحو متساو، و اتباع المساءلة القانونية دون تمييز بين المناصب و الدرجات الوظيفية في الحكومة او التمييز بسبب الانتماء الحزبي او الاجتماعي, احترام و صيانة الحريات و الحقوق السياسية و المدنية و الحقوق والحريات الفردية، و حرية الاقامة و حرية الضمير و التعبير عن الراي و الفكر و حرية الاعتناق, تكريس ثقافة المعارضة المدنية و المعارضة السياسية و الثقافية و الانتقاد كحق يمثل الوجه الثاني للمسؤولية, وضع نظام انتخابي شفاف ومتحضر، نظام يتسم بكل المعايير القانونية الدولية و التقنية لمنع كل اشكال الخروق والتزوير في عمليات التصويت, تكريس ثقافة القبول بالاختلافات على المستويات السياسية و الاجتماعية و الثقافية، و القبول بالاخفاق الانتخابي و الصراع السلمي و تداول السلطة في جميع المستويات السياسية، و تداول المسؤولية على المستويات الادارية و الاجتماعية بين الاشخاص المناسبين و بين الجنسين و الاعمار المتباينة.

الأسلام السياسي في العراق كما في غيره من البلدان العربية والأسلامية ومنذ عام 2003 استخدم الديمقراطية كوسيلة للأستحواذ على الحكم والهيمنة السياسية على المشهد السياسي والاجتماعي والأقتصادي, سياسيا استخدم الاسلام السياسي صناديق الاقتراع كوسيلة فقط للأستيلاء على السلطة بمختلف الوسائل, من تزوير وأفساد لأرادة الناخبين واشاعة ثقافة اللاجدوى من الديمقراطية بأعتبارها بدعة غربية " وكل بدعة حرام " وان التحايل على صناديق الأقتراع فيه من الجواز الشرعي بعقول المتأسلمين, واجتماعيا اشاعة منظومة الخرافة والدجل وثقافة المسخ بما يحول الحياة الى تراجيديا مأساوية يحول الحياة الاجتماعية الى جحيم مشرعن, واقتصاديا شرعنة الفساد الأداري والمالي في سرقة المال العام وزرع ثقافة الأنحطاط وانعدام الوازع الاخلاقي والقيمي في تحريم الحلال وتحليل الحرام, حتى اصبح تحويل الدولة وممتلكاتها الى غنائم بين احزاب الاسلام السياسي والأثني.

منذ 2003 وما بعد سقوط الدكتاتورية بات مشروع الأسلام السياسي هو ليست الفوز بالأنتخابات ديمقراطيا والأستسلام لأرادة الديمقراطية في التدوال السلمي للسلطة بل هو مشروع للأستحواذ على الحكومة والدولة وتفريغ محتوى الأثنين من كونهما دعامة لحماية المواطن وتأمين الخدمات الأنسانية له وكذك ليست لزرع مفهوم دولة المواطنة والتعايش السلمي لكل التنوعات الأثنية والثقافية والعرقية الجامعة للعراق بكل مكوناته, بل فرض نموذج كسيح للدولة الطائفية والأثنية.

يمارس الأسلام السياسي في العراق منذ 2003 سلوكيات الأنقلاب على الدستور والعملية السياسية وعلى صناديق الأقتراع بممارسة التحايل بكل اشكاله لأفراغ العملية السياسية من كل محتواها والمتمثل اصلا في التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الأقتراع. الأسلام السياسي لا يؤمن بهذا كله استنادا الى مسوغاته الشرعية والدينية في معاداة الديمقراطية الغربية وباعتبارها مخالفة للأحكام الشرعية للأسلام السياسي. ومما يثير الدهشة هو قدرة الاسلام السياسي في قدرته على التلون والتكيف كالحرباء, فهو يدعي الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة اكثر مما يدعيه اصحاب الحق والأيمان في الديمقراطية, ولكن حينما يؤمن الأغلبية الانتخابية سواء بالتزوير أم الأكراه اوبالعنف المسلح سوف يبدأ بمشروعه المعادي لبناء دولة المواطنة وتحويل الحياة الى جحيم على أسس من التخلف ومعاداة الحداثة والديمقراطية. 

الأحباط المزمن لشعبنا منذ 2003 ولحد اليوم يؤكد أن حالة الفقر والفاقة والجوع لاتعالجها دعاة أن "الأسلام السياسي هو الحل", بل أن الأسلام السياسي هو جزء من المشكل وهو يدخل طرفا مستميتا بخطابه او بقوة السلاح لفرض اجندة الفقر والتشرذم, والأسوء من ذلك فرض رؤى وردية لتنظيف ماضيه القريب وسفالته في محاولته للعودة الى المشهد السياسي بأي ثمن ولأعادة نوبات الفساد وسرقة المال العام.

الأسلام السياسي لا يعي اهمية الديمقراطية بفعل غبائه المستحكم او بفعل قناعاته الماورائية المضادة فالديمقراطية أهمية كبيرة على الفرد والمجتمع والدولة بشكل عام ومنها ما يلي: تعمل على تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. عدم وجود الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية في ظل الديمقراطية . تقليل نسبة الفساد السياسي والإداري في الدولة. تؤثر بشكل كبير في تقليل مستويات الفقر والجوع في العالم. تعمل على النهوض بالدول، لذلك نلاحظ أن الدول الديمقراطية هي الدول الأكثر تقدماً في العالم. تعمل على تحسين الاقتصاد الوطني ونموّه بشكل ملحوظ. تحقق المساواة والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع. تحمي حقوق الإنسان وحرياته العامة.

خلال ما يقترب من عقدين من الزمن على التجربة العراقية " الديمقراطية " والتي يفترض ان تسير بمسارات ايجابية اكثر مما هو عليه في مجالات تعزيز قيم وتقاليد الديمقراطية السياسية, بل بالعكس يتصارع اليوم الأسلام السياسي بأقطابه المعروفة من الشيعة والسنة الى جانب القوى الأثنية, ويقرر سلفا بطموحاته المريضة دون احترام للناخب للأستحواذ على المقاعد النيابية ويفترض حصوله على مقاعد برلملنية خيالية تشكل في مقدماتها صراع شرس قادم بين المكونات الطائفية السياسية الواحدة, وهو أمر قد ينذر بمزيد من الفوضى في الشارع العراقي على خلفية التحريض بين جزئيات المكون الواحد.

ما هي جدوى الدعاوى والحماس المفتعل للمشاركة في الانتخابات القادمة في 10ـ10ـ2021 في ظل مراوحات في المكان, وماهو الجديد لكي تكون الانتخابات افضل من سابقاتها, حيث يستعد الأسلام السياسي بكل صلافة في العودة لتصدر المشهد السياسي وهو يستعد لأعادة تدوير نفاياه بواجهات مختلفة, تارة بأنشقاقات وتشظيات مؤقتة لحين الفوز بالأنتخابات, او النشاط من خلال منظمات المجتمع المدني الصفراء.

الدعاوى من قبل الحكومة العراقية للمساهمة في الانتخابات القادمة لتغير واقع موازين القوى السياسية في البرلمان العراقي القادم هي دعاوى مشروعة ولكن عندما تقترن بأجراءات ميدانية تعكس قدرات السلطة التنفيذية لتوفير افضل الأجواء الأمنية لخوض الأنتخابات, فالأمنيات وحدها لا تحقق انتخابات ديمقراطية عادلة وخاصة ان التجارب البرلمانية السابقة فيها من المرارة ما يكفي لعدم الثقة بالحكومات وبالأحزاب المتنفذة في المشهد السياسي.

 أن مطالب شعبنا في خوض انتخابات عادلة نسبيا يكمن في ما تقدمه الحكومة من خطوات جريئة, وفي ابرزها الكشف ومحاسبة عن قتلة المتظاهرين، منع السلاح المنفلت والميليشيات الاجرامية، منع ترشيح الاحزاب ذات الاجنحة المسلحة وتطبيق قانون الاحزاب الذي يمنع ذوي الأجنحة المسلحة لخوض الانتخابات، الأعلان الواضح عن رفض المحاصصة الطائفية والاثنية كنموذج قادم للحكم، خطوات جريئة في مكافحة الفساد والكشف عن رموزه وعدم الأكتفاء بالمطالبة الدولية بمكافحته , فالحكومة يجب ان تقدم للشعب ادلة ملموسة تؤكد مقدرتها في مكافحة الفساد بعيدا عن المراوغات الاعلامية والضحك على الذقون.

النظام " الديمقراطي " في العراق هو ولادة عسرة لتداعيات الاحتلال الامريكي له, حيث لم تكتمل عوامل النضج الذاتي والموضوعي لأختمار تجربة ديمقراطية تعبر عن تفاعلات القوى الداخلية في المجتمع العراقي, وبالتالي مما فسح المجال لقوى نشأت على خلفية انفعالية وليست سياسية, وكان ابرز سلوكياتها هو الثأر وعدم الاكتراث في بناء مستقبل أفضل !!.

 


15
هل يدشن المغرب مرحلة ما بعد الأسلام السياسي وماهي فائدة الدرس عراقيا

د.عامر صالح

كان لهزيمة الأسلام السياسي في المغرب بعد الانتخابات التشريعية التي اجريت في 8 سبتمبر وقعها الكبير على مختلف الأصعدة وخاصة على الصعيد المغربي الداخلي وعلى الصعيدين الأقليمي والعالمي فقد رأى الكثير من المحللين السياسين والخبراء الأستراتيجين أنها بداية حقبة انهيار الاسلام السياسي بعد ان انتعش نسبيا بعد احداث الربيع العربي في العام 2011 والتي جرت في مصر وتونس وليبيا وسبقها قبل ذلك انتعاش الاسلام السياسي في العراق بعد سقوط الدكتاتورية على أيدي الاحتلال الأمريكي في العام 2003 والتي قام على أثرها الأسلام السياسي وبتشجيع من المحتل بملئ الفراغ السياسي الذي تشكل بعد سقوط الدكتاتورية وعدم وجود قوى سياسية مدنية مؤهلة لملئ الفراغ بغعل عوامل القمع والأضطهاد والملاحقات التي مارسها النظام الدكتاتوري مما اخلى الساحة السياسية لبدائل تستنفر عواطف الناس وتدغدغ انفعالاتها عبر توظيف الخطاب الديني وزجه في آتون السياسة والذي ادى في محصلته النهائية الى افساد في السياسة والدين.

مني حزب العدالة والتنمية في المغرب بهزيمة كبيرة اعتبرت صفعة لتنظيم الأخوان المسلمين الدولي, حيث حصل فقط على 12 مقعدا في الوقت الذي حصل فيه في الانتخابات التشريعية السابقة بحدود 125 مقعدا وكان مهيمنا على المشهد السياسي والحكومي لحقبة ما بعد 2011, وكانت الهزيمة عبر انتخابات فيها قدر كبير من النزاهة والشفافية وقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات بحدود 54% ممن يحق لهم المشاركة في التصويت, واذا كانت صناديق الاقتراع هي من اسقطت الأسلامويين في المغرب فأن الأمر مختلف في مصر وتونس حيث تم ازاحتهم من المشهد بعمليات جراحية سريعة لا تخلوا من اشكاليات كثيرة او اخلال للممارسة الديمقراطية ولكن على ما يبدوا ان تسابق الزمن وقدرات الاسلام السياسي على التحايل وتفريغ الديمقراطية من محتواها لم يدع مجالا للأنتظار لتتم ازاحتهم على الطريقة المغربية.

عمل الأسلام السياسي في ما بعد "الربيع العربي " وفي أماكن سيطرته وما قبلها في العراق بعد 2003 على تفريغ الدولة من محتواها ووظائفها الاساسية في الحفاظ على الأمن العام, وتطبيق القانون ونشر العدالة الى جانب الأخلال بوظائفها الاساسية المالية والاقتصادية والاخلال بوظائف الدولة الخارجية من علاقات سليمة والامتناع عن التبعية الأقليمية وتنفيذ اجندة خارجية, وقد غاب مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة وحل مكانها الفساد وسرقة المال العام وانعدام الخدمات الانسانية الاساسية, الى جانب ضعف هيبة الدولة وارتهانها لعصابات الاسلام السياسي والمسلحة منها بشكل خاص, وباتت سرقة المال العام ثقافة شائعة تجد شرعيتها في فتوى المرضى من الاسلامويين الذين يرون في سرقة الدولة واموالها حلال في حلال.

بالتأكيد ان هزيمة الاسلام السياسي في المغرب في الدورة الانتخابية التشريعية لا يمكن قراءتها بأنها خسارة مطلقة وبدون عودة فهذا امر غير صحيح لأن حاضنة الاسلام السياسي موجودة من خلال انشطة الأسلامويين الخفية في كافة القطاعات الاجتماعية ونحن نعرف ان الخطاب الاسلاموي العاطفي له انصاره في اوساط الفقراء والمعدوميين وخاصة عندما لا تقترن الحياة السياسية القادمة بمزيدا من اجراءات محاربة الفقر والبطالة وتحقيق مزيدا من العدالة والمساواة الاجتماعية وتحسين الخدمات, ولا تعني ان هزيمتهم انهم لم يعودوا ثانية بنفس الكثافة الى قبة البرلمان والحكومة, ولكن المهم هو تفويت فرصة عودتهم من خلال الارتقاء بمستوى الحياة العامة واضعاف خطابهم الديني السياسي الذي يحرض على التعبئة القطيعية المضرة للممارسة الديمقراطية, ولكن المطمئن في الامر انهم ازيحوا بعملية ديمقراطية نزيهة بقدر كبير تعكس مدى تبلور الوعي المجتمعي صوب خياراتهم الانتخابية, والاهم من ذلك ان العملية الانتخابية جرت في ظل استتاب الامن المجتمعي ووحدة اجهزة الدولة وأدائها الوطني وفي قدر من عدم زج الدين في السياسية في الدعاية والعملية الانتخابية.

الأستفادة من الدرس الانتخابي المغربي للحد من نفوذ الأسلام السياسي عبر صناديق الأقتراع يرتبط اساسا في توفير مقومات الحدود المعقولة من بيئة انتخابية ملائمة لحرية الاختيار والأدلاء بصوت الناخب بعيدا عن الضغوطات الدينية السياسية والعشائرية والمناطقية والشللية الحزبية الى جانب توفير فرص العدالة لكل القوى السياسية لخوض غمار المنافسة الانتخابية الشريفة وعدم افساد ارادة الناخب في الضغط على خيارته.

في العراق لا تتوفر بيئة انتخابية آمنة رغم الأدعاء الحكومي بتوفيرها فهناك سلاح منفلت يعرف الجميع عائديته, وهناك مال حرام يتم استخدامه من قبل الاحزاب الفاسدة في تمويل الحملات الدعائية للأنتخابات, وهناك قوى اللادولة والمتمثلة في الدولة العميقة التي تنافس الدولة وتصارعها وتفرض اجندتها السياسية والعقائدية وتعمل على حرف مسارات وأداء وظائف الدولة,  بل ان تلك القوى تعمل في سياقات معرقلة لكل استقرار سياسي ولا تؤمن بالديمقراطية ولكنها "تؤمن" فقط بصناديق الاقتراع كغاية لذاتها لممارسة الفرهود الانتخابي.

عدا ذلك وهو الأهم ان العملية السياسية في العراق بنيت على اساس المحاصصة الطائفية والأثنية وتقاسم مناطق النفوذ الأثنو طائفي جغرافي وقد أسس الحكم على ثلاثية قاتلة لا يمكن ان تتغير: " رئيس جمهورية كردي, رئيس وزراء شيعي ورئيس برلمان سني, ويتبع ذلك توزيع لمغانم الدولة ومواردها كتحصيل حاصل, والأقبح من ذلك ان هذا الثلاثي ينبذ المحاصصة في خطاباته المعلنة ولكنه متمسك بها.

الانتخابات العراقية البرلمانية القادمة في 10 اكتوبر لا نعتقد وكما هي توقعات غيرنا ان تسهم في نقلة نوعية نحو اعادة بناء اصطفافات سياسية تنقذ البلاد من من مستنقع الطائفية السياسية والأثنية, وان توقعات عودة الأسلام السياسي بقوة الى المشهد السياسي حاضرة, حيث انعدام مقومات انتخابات نزيهة وعادلة بعيدا عن الترهيب والأكراه والتزوير حاضرة جدا. فالحكومات التي تخشى الكشف عن قتلة المتظاهرين والجهات السياسية والمليشياوية التي تقف ورائهم لا تكون قادرة على حماية العملية الانتخابية, والحكومة التي تمتلك ملفات الفساد ورموزه ولا تستطيع الأجهار بها نعتقد ستكون ضعيفة امام حماية الناخب وصوته, الى جانب ان العملية الانتخابية ستجري في ظل عدم المسائلة عن مصادر تمويل الحملات الانتخابية الى جانب قانون انتخابي غير عادل شرعن لبقاء الكتل الفاسدة واعادة انتاجها, الى جانب مفوضية انتخابات ليست مستقلة كما ينبغي.

انتقال أثر الانتخابات المغربية الايجابي على الانتخابات العراقية غير وارد في اقصاء الأسلامويين من السلطة او اعادة انتاج خارطة سياسية جديدة يضعف فيها الأسلام السياسي, فالدولة في العراق كما هي الحكومات فيها مبنية بكل اجهزتها الدفاعية والأمنية والمخابراتية على اساس المحاصصة الطائفية والأثنية وان التعامل مع الدولة كغنيمة بين الاحزاب هو السائد, الى جانب مخرجات ذلك في فساد ينخر مؤسسات الدولة من اعلاها الى اسفلها وتلك مقومات لا تساعد على التأسيس لعملية ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة, وستفرض ارداة القوي بفساده على الضعيف. المقارنة بين التجربة الانتخابية المغربية والعراقية هي مقارنة في تفاوت الارادات السياسية الحاكمة والبيئات الانتخابية وفي القناعة بالديمقراطية كطريق وحيد للتدوال السلمي للسلطة. نعتقد ان المغرب قطع شوطا في الممارسة الديمقراطية السليمة" بغض النظر عن فلسفة الحكم المغربي العامة " اما في العراق فلا يزال المخاض عسير.

16
الصدمة في كابول والفشل في واشنطن وردة الفعل من بغداد

د.عامر صالح 


على حين غفلة استيقظ العالم رغم المقدمات الاولية لوقوع الحدث, على سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول واسقاط النظام فيها الذي تم تأسيسه من قبل امريكا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001, وبعد عشرين عاما من محاولات اقصاء حركة طالبان واخيرا الحوار معها لأيجاد مخرج لحل سياسي بمساهمة جميع اطراف الصراع وبرعاية دولة قطر, ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي امريكا حيث زحفت الحركة على كل اجزاء البلاد وبسرعة مذهلة فاقت التصور الامريكي الذي ادعى ان الأمر يأخذ شهورا للسيطرة على العاصمة, وقد شعرت امريكا بخيبة الأمل من فشل وعودها في بناء الاستقرار والديمقراطية والتعددية واقصاء التطرف والارهاب في افغانستان, خلال عشرين عاما انفقت فيه المليارات من الدولارات في التأسيس لوضع جديد مختلف وكبديل لنظام طالبان المتشدد والذي كان مرتعا لبؤر الارهاب الدولي والتشدد وتصدير الفكر الظلامي, ولكن الحسابات الامريكية بعد عقدين من الزمن لم تثمر في بناء الدولة الافغانية ومؤسساتها كي تجعلها في حالة الدفاع الممكن والقوي ضد حركة طالبان بشكل خاص والتطرف بشكل عام, فأنهارات القوات الرسمية الافغانية بسرعة مذهلة مستسلمة لأرادة طالبان التي ستقرر شكل الحل القادم للمعضل الافغاني وطبيعة النظام البديل والذي على ما اعتقد لم يختلف عن نهج الامارة الاسلامية في زمنها قبل 2001, ونحن نعرف ان المنتصر في الصراع له استحقاقات بغض النظر عن مشروعيتها أم لا.


وقد وصل الفشل والخيبة والتقهقر الامريكي في افغانسان حد التنصل عن كل اهدافها السابقة في افغانسان وقد جرى ذلك بصلافة القوي المهزوم, حيث استخدم الرئيس الامريكي في خطابه آلية التبرير والاسقاط لتحميل الآخرين مسؤولية فشل امريكا وهزيمتها في افغانستان بزمن قياسي لا يمكن للعقل بالقبول به, وقد اكد بايدن في خطابه أن مهمة أمريكا في أفغانستان التي بدأت قبل عقدين من الزمان " لم يكن من المفترض أن تكون بناء دولة أو خلق ديمقراطية مركزية... مصلحتنا الوطنية الحيوية الوحيدة في أفغانستان تبقى اليوم كما كانت دائمًا، منع هجوم إرهابي على وطننا", واضاف ذهبنا إلى أفغانستان منذ ما يقرب من 20 عامًا بأهداف واضحة: الحصول على أولئك الذين هاجمونا في 11 سبتمبر 2001، والتأكد من أن القاعدة لا يمكنها استخدام أفغانستان كقاعدة لمهاجمتنا منها مرة أخرى. لقد فعلنا ذلك", وكذلك العزف على مشاعر الأمريكين بأنه لا يريد بالمزيد من التضحية بأرواح الجنود ولا يرغب بتولي القادمون من الرؤساء الامريكين ملفات حروب لم تحسم, بالتأكيد انه خطاب المهزوم المثقل بمرارة الاندحار في افغانستان.


بعد عشرين عاما من الصراع مع قوى الارهاب الدولي تعود الادارة الامريكية لتسليم ملف الارهاب بيد قادته ومنتجيه وزعاماته, وقد يدفع العالم مجددا فاتورة ضخمة من خلال اعادة انتاج الارهاب بأشكال اشد شراسة عبر ايواء المنظمات الارهابية الدولية كالقاعدة وداعش وتوفير البيئة الآمنة لتلك التنظيمات الارهابية والتكفيرية لكي تنطلق من جديد وبأشكال اشد شراسة وتلون وخداع وأن التاريخ سيعيد نفسه بصور اشد قتامة وسوداوية, وبالتأكيد فأن الشعب الافغاني سيدفع ثمن فساد وجبن الحكومة الافغانية المهزومة والتي سلمت الامور بيد طالبان دون ان تطلق طلقة واحدة, حيث انها وخلال عشرين عاما لم تستطيع الوقوف بوجه حركة طالبان, فماذا كانت تفعل في عقدين من الزمن. المعطيات الميدانية تؤكد ان الحكومة الافغانية السابقة قبل سقوطها كانت غارقة في الفساد وان اجهزتها الامنية والدفاعية لا تمتلك مقومات الدفاع عن الشعب الافغاني وحمايته من ارهاب طالبان وفي ارساء الامن المجتمعي رغم مظاهر الانفتاح النسبي والبهجة العامة في الانفتاح على العالم الخارجي وبوادر التحسن في سياقات التعامل اليومي ومحاولات التأسيس لسلوك حضاري وخاصة في التعامل مع المرأة واستحقاقتها المشروعة في العيش الكريم والمساواة بعيدا عن التعسف والاذلال والقهر الذكوري المتلبس بلباس الدين في مجتمع متخلف ومثقل بالاضطهاد واللامساواة.


انعكاسات الحدث الافغاني له دلالته في الحياة السياسية العراقية بعد الاحتلال الامريكي في عام 2003 فالأحتلال هو نفسه في تداعياته الخطيرة في تفويت فرص بناء دولة المواطنة, حيث سعى الامريكان وفي الاستناد الى قوى الاسلام السياسي والاثني في بناء دولة هشة لا تقوى في الدفاع عن نفسها امام التحديات الكبيرة, كالارهاب وتجفيف منابعه واعادة بناء الأسس الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع العراقي على اسس من التطور التكنولوجي والتقني ومعايير الكفاءة, وقد استخدمت المحاصصة الطائفية البغيظة كنموذج لأدارة الحكم مما ادى الى اهدار الموارد المالية والبشرية وتمترس الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام حتى فقد العراق كل عوائده من النفط منذ 2003 الى اليوم ولم يشهد البلد اي بوادر نهضة مرتقبة.


نعم هناك دعوى تفائلية بأن العراق ليست افغانستان نسمعها يوميا وقد تكون من باب " تفائلوا بالخير تجدوه " ولكن لا تكتمل تلك الدعوة إلا بتوفر مقوماتها الاساسية ولكي لا نسمع غدا من الرئيس الامريكي بايدن او من يأتي بعده كما فعلها في افغانستان " ان هدف الامريكان في العراق ليست بناء الديمقراطية بل القضاء على الارهاب " ويترك العراق لقمة سائغة بيد التنظيمات الارهابية والمليشياوية وحملة السلاح المنفلت والجريمة المنظمة, وعندها سيفلت بايدن بجلده كمحتل وعليه استحقاقات كبيرة ويترك العراق لقوى اللادولة الظلامية, ولعل في ابرز الخطوات الاتية تشكل مقدمات لعراق آمن:

ـ نبذ نظام المحاصصة الطائفية والاثنية واعادة بناء العملية السياسية على أسس دولة المواطنة العابرة للأنتماءات الفرعية, فأن نظام المحاصصة هو من مخرجات الاحتلال الامريكي الذي ألتقت مصالحه مع كل المصالح الشاذة لقوى الاسلام السياسي والاثني التي تعادي الدولة.
ـ محاربة الفساد الذي طال امد عدم محاربته ونحن نعرف ان الارهاب والفساد كلاهما يغذي الآخر بمقومات بقائه وان الابقاء على ملفاته دون محاسبة هو نذير باعادة انتاج الارهاب والخراب المجتمعي.
ـ لقد تم القضاء على الارهاب الداعشي كقوة عسكرية ولكن لم تعالج اثاره وثقافته وبقيت عودته نتيجة منطقية لعدم معالجة اسبابه, من فقدان للحياة الحرة الكريمة وعودة النازحين بفعل الارهاب الى ديارهم وبشروط انسانية تليق بمواطنتهم.
ـ البدء فورا في السيطرة على السلاح المنفلت والمليشيات السائبة والخارجة عن القانون فأن وجودها يشكل ارضا خصبة لعودة داعش من خلال ضعف الامن المجتمعي وتدهوره والذي يشكل بيئة مواتية لعودة الارهاب.
ـ اذا كان للأنتخابات ان تكون حرة وديمقراطية فعلى الحكومة توفير مستلزمات نجاحها في السيطرة على السلاح المنفلت والمال السياسي والتزوير فلا ديمقراطية مع المليشيات وحملة السلاح وعدم المؤمنين بالتداول السلمي للسلطة ومنع الاحزاب ذات الاجنحة المسلحة من المشاركة في الانتخابات.


نحن نعرف ان ظروف الاحتلال وتداعياته حاضرة بكل مساوئها بدء من التأسيس للعملية السياسية او من القبول في الاحتلال برسم ملامح مستقبل العراق, كما نعرف ان اي نظام سياسي يقام خارج اطار تفاعل العوامل الموضوعية والذاتية لنشأته سيكون ناقصا ومهددا لمستقبل البلاد وخاصة عندما يستند الى قوى غوغاء غير مؤمنة بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة, ولكن لا نستطيع العودة الى نقطة الصفر فالامر مرهون بمعالجة آثار الاحتلال السياسية والاقتصادية والاجتماعية.


هل يمكن للنموذج الافغاني بتداعياته الخطيرة ان يستنسخ على الارض العراقية, الجواب نعم حيث الظروف التي يمر بها العراق ليست سهلة وان صراع قوى اللادولة يشتد للاطاحة بالعملية الديمقراطية وعلى الاقل في اسسها العامة الى جانب عوامل الفقر والفساد وانعدام الخدمات في الصحة والتعليم والكهرباء والامن المجتمعي, وبالتالي فالمسؤولية لردع الارهاب ومنعه هو في اصلاح الحياة العامة لتجفيف منابعه.


اما عدا ذلك فأن لحظات الانهيار الكبرى لا نستطيع التنبؤ بها في ظل فوضى السلاح وتعدد اقطاب امتلاكه الى جانب الارهاب الرسمي المتمثلة بداعش واخواتها, يقابلها حديث عن ضعف الاجهزة الامنية ومهنيتها وتغول قوى الاحزاب والمليشيات فيها وجميعها عوامل لا تضمن صمام الامن والسلام في لحظات الانفجار المفاجئ, يكفي هنا ان نشير الى مقتل اكثر من 700 شهيد في مظاهرات سلمية مطالبة بحقوقها الاساسية دون العثور على القاتل المجرم الى جانب 30 الف جريح ومختلف الاعاقات. ما نستطيع فقط التأكد منه في لحظة السقوط ان بايدن سيعيد خطاب افغانستان بأنه لم يكن هدفه بناء الدولة العراقية والنظام الديمقراطي فيها وان هدفه الحفاظ على ارواح الجنود الامريكين وطز بالعراق وشعبه وعفى الله عما سلف. اذا كانت هناك قوى سياسية مخلصة ومحبة للعراق عليها التنازل عن مصلحتها وامتيازاتها للحفاظ على الوطن من الكارثة المحدقة.


17

السرقات العلمية ولصوص الشهادات العليا على ضوء الأزمة العامة في البلاد 

د.عامر صالح 
 
يعاني العراق والتعليم العالي بشكل خاص من ظاهرة خطيرة تضر بسمعة ومكانة التعليم العالي في العراق وهي ظاهرة تزوير الشهادات العليا والسرقات العلمية بكل مظاهرها, وهي جزء من منظومة الفساد العامة في البلاد التي استفحلت ما بعد سقوط الدكتاتورية على يد المحتل الامريكي, ولكن جذورها تمتد الى حقبة النظام المتردي السابق, حيث الحروب العبثية الطويلة الأمد ثم الحصارات التي ترتبت عليها واستنزاف موارد البلاد في التسليح الى جانب القمع المستديم ومحاصرة الشعب في لقمة عيشه, كل ذلك اسهم في توفير الأسس الاخلاقية السيئة وتدهور المنظومة القيمية والتي وفرت اساسا للتزوير والفساد والرشاوى والاختلاسات والتي اشتدت في منتصف عقد الثمانينات والتسعينات, وكانت سرقة الشهادات وتزويرها انذاك استحوذت على الحصة الاكبر, وكانت الشهادات المزورة تصدر حتى "بالأختام الأصلية" باستثناء كونها غير مسجلة في الجهة التي تدعي الانتساب أليها, وكان سوق " مريدي " الكائن في مدينة صدام " الصدر حاليا " نار على علم ومعروف لدى الغالبية من العراقيين في اصداره لمختلف الوثائق والشهادات بل وحتى الترقيات العلمية والسير الذاتية المصادق عليها " بأختام الأصل ", وكان يتم استخدامها في الغالب خارج العراق بعد هجرة العراقيين في النصف الثاني من التسعينيات لأغراض الحصول على فرصة عمل بأي ثمن.
 
في كل بلدان العالم هناك تزوير او محاولات تزوير للشهادات بمختلف المستويات وخاصة العليا " بكالوريوس, ماجستير, دكتوراه " ولكن هناك فرق ان يكون التزوير والسرقات العلمية هامش بسيط في وسط مجتمع يتمتع بدرجات عالية او مقبولة محليا وعالميا من النزاهة والعدالة وقوة القانون ويتصدى للفاسدين من المزورين وسراق الشهادات الدراسية ويعرضهم للمسائلة الشديدة والعقاب, قد تبدأ من ابسطها والمتمثلة بسحب الشهادة المزورة فورا والطرد من المهنة او موقع المسؤولية التي حصل عليها بالتزوير, وتنتهي الى الحبس والغرامة ودفع التعويضات المالية الباهظة جراء ذلك, الى جانب النبذ المجتمعي للأشخاص مرتكبي جرائم التزوير وقد تصل بصاحبها لاحقا حد تأنيب الضمير ومعاناة من العزلة الاجتماعية وخاصة عندما يرتبط ذلك بأجراءات التعميم والتبليغ لدوائر الدولة والمؤسسات الاجتماعية لتضييق الخناق على المزورين والحد من تماديهم السلوكي. 
 
وقد شهدت دول العالم وخاصة ذات السمعة الطيبة في محاربة الفساد الكثير من حالات سحب الشهادات المزورة والمسروقة والطرد من الوظيفة وقد شمل مسؤولين كبار في الدولة, من وزراء ومدراء عاميين الى جانب موظفين صغار على خلفية التأكد من شهاداتهم المزورة, وفي هذه البلدان يكون الحديث عن النزاهة كسياق عام, وعن التزوير والفساد والسرقة كحالات شاذة وتمثل فسحة ضئيلة لا تهدد النظام والامن والاستقرار العام للدولة والمجتمع ولكن واجبة التصدي لها وحصرها منعا من تسللها وانتشارها, وهنا يمكن القول ان النزاهة قاعدة في مستويات معينة والفساد استثناء, ولكن الأمر مختلف عندما يكون الفساد والسرقة والتزوير قاعدة والنزاهة استثناء. 
 
في عودة سريعة لظاهرة الفساد العام في العراق ومدى انتشاره وتمترسه في مفاصل الدولة والمجتمع بكل قطاعاته" باعتباره خلفية تضع امامنا بعض من الصورة القاتمة لكل الوزرارات والاجهزة الحكومية ومن ضمنها قطاع التربية والتعليم ". ففي أول جلسة للبرلمان العراقي من فصله التشريعي الثاني انذاك، والتي عقدت في 9 من مارس/آذار للعام 2019، كشف رئيس الحكومة المستقيل والمقال عادل عبد المهدي "خارطة للفساد بدعوى مكافحته"، شملت 40 ملفا، غالبها في مفاصل ومؤسسات الدولة. وشملت القائمة: "تهريب النفط، ملف العقارات، المنافذ الحدودية، الجمارك، تجارة الذهب وتهريبه، السجون ومراكز الاحتجاز، النقاط الأمنية الرسمية وغير الرسمية، المكاتب الاقتصادية بالمؤسسات والمحافظات والوزارات، تجارة الحبوب والمواشي، الضرائب والتهرب منها، الأتاوات و الكومشن (العمولة)، مزاد العملة والتحويل الخارجي، التقاعد، ملف السجناء، ملف الشهداء، المخدرات، تجارة الآثار، الزراعة والأسمدة والمبيدات،  تسجيل السيارات والعقود والأرقام،  الإقامة وسمات الدخول".
 
وتضمنت أيضا: " الأيدي العاملة الأجنبية، الكهرباء، توزيع الأدوية، توزيع البطاقة التموينية، الرعاية الاجتماعية، السلف المالية المصرفية، التعيينات، بيع المناصب، العقود الحكومية، تهريب الحديد والخردة وغيرها، الامتحانات وبيع الأسئلة، المناهج التربوية وطباعة الكتب،  المشاريع المتوقفة، المشاريع الوهمية، القروض المالية، شبكة الاتصالات والإنترنت والهواتف النقالة، الإعلام والمواقع الإلكترونية، شبكات التواصل الاجتماعي، ملف النازحين، الاتجار بالبشر".
 
تضاف هذه القطاعات الأربعين الرئيسية إلى الكثير من ملفات الفساد المكتشفة بالأساس سابقا، لكن لم يتم تفعيل الأدوات والمؤسسات القضائية والتنفيذية لمتابعتها. تقدر الحكومة العراقية تلك الملفات بحوالي 13 ألف ملف للفساد، يقدر المتورطين فيها بقرابة مليون مشتبه، بين فاسدين ومتعاونين ومرتشين ومعطلين للقانون العام. تتراوح دائرة المؤسسات والإدارات المتورطة بها من التعليم والقضاء، وتمر بالتهريب والرشاوي، ولا تنتهي بوزارتي النفط والدفاع، اللتان تعتبران من أكثر وزارات العراق فسادا على الإطلاق. خارطة الفساد هذه تعكس بوضوح استباحة العراق شعبا وأرضا ووطنا ومواردا للعيش. فلا نستغرب عنما تشير الأرقام الدولية بأن موقع العراق هو بالمرتبة 166 من أصل 176 دولة على سلم الدول في مستوى الشفافية في العالم. أي أن العراق من أكثر الدول فسادا في العالم, كما لا نستغرب من الأحصائيات  التي تؤكد ان العراق اهدار اكثر من 1400 مليار دولار في الحقبة ما بعد 2003.
 
الفساد في العراق اليوم هو فساد منظومة الحكم السياسية والحاكمة بمنطق المحاصصة الطائفية والأثنية, وبالتالي فأن الحديث عن الاصلاح الجزئي لقطاعات اجتماعية وحكومية هو حديث ليست ذي قيمة تذكر في ظل منظومة سياسية فاسدة, والتعليم العالي والبحث العلمي جزء من الأزمة العامة في البلاد وان الدعوة لأصلاح مؤسسات التعليم العالي وانتشالها من الفساد والتزوير والسرقات هي دعوى غير مستجابة في ظل نظام عام فاسد, وفي هذا السياق أشير الى ابرز ملامح ازمة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق: 
 
ـ الأنتشار الواسع للجامعات الأهلية ذات الطابع الربحي البحت وانعدام تنسيقها مع الجامعات الحكومية والذي يدفع بدوره الى المزيد من الخريجين في مختلف التخصصات وبعيدا عن دراسة سوق العمل والحاجة الى التخصصات" رغم ان العراق لايزال في سبات أو ارض بكر وقد يحتاج الى الجميع لاحقا" ولكنه نذير الى المزيد من البطاله, الى جانب كون هذه الجامعات الأهليه في اغلبها تعود ملكيتها لزعماء احزاب طائفية وأثنية ويعج فيها الفساد اسوة بغيرها, ولاتتمتع مخرجاتها بكفاءة يعهد لها بالجودة والمنافسة مما يجعل منها بيئة طاردة للمعايير والقيم العلمية وارض خصبة لتفشي نمط من الطموحات غير المشروعة التي تنال من قيم البحث العلمي النزيه. 
 
ـ وفقا لقانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية الذي أقره البرلمان في 28 اكتوبر للعام 2020 يقوم القانون بنقل معظم صلاحيات وزارة التعليم العالي وتحجيمها وتوزيعها على جهات عدة غير أكاديمية، ومنها الأمانة العامة لمجلس النواب التي منحت صلاحية معادلة الشهادات التي تصدر من معهد التطوير البرلماني، كما تقوم وزارة التربية بمعادلة شهادات المرحلة الثانوية والدراسات التي تسبقها والشهادات الصادرة من كلية التربية المفتوحة، ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية بمعادلة الشهادات العسكرية والمسلكية، كما تقوم الجامعات المتنوعة ومجلس الخدمة الاتحادي بمعادلة وتقييم الشهادات التدريبية والفنية، فلم تعد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تملك الرأي الأول والأخير في معادلة الشهادات، كما درجت عليه الأعراف العربية، وبات القرار مرتبطاً بالجهات المذكورة، إضافة إلى خروقات علمية أصابت هذا القانون نتيجة قلة الخبرة وضعف الإرادة وتأثير مجلس النواب وابتزازات كثيرة تكتنف عملية المعادلة والتقييم، كما أكد عديد من الأساتذة، فيمكن اعتماد ومعادلة شهادة الدكتوراه من خارج العراق من دون تقديم أطروحة الدكتوراه والاكتفاء بالأمور الإجرائية فقط، وعدم مطالبة وزارة التعليم بتدقيق أطروحة الدكتوراه كما هو متبع حالياً، وهذه سابقة لا يمكن أن تحصر نتائجها أو قبولها، كما شجع القانون الجديد على معادلة شهادات الوزراء والبرلمانيين وأصحاب الدرجات الخاصة الحاصلين عليها أثناء فترة تكليفهم استثناءً من القواعد الجامعية والتعليمات الخاصة بالدراسات العليا التي ألزمت الدارسين جميعاً بالتفرغ التام أثناء فترة الدراسة، لكن الأكثر إغاظة للتعليم العالي وكادره الأكاديمي اعتماد القانون الجديد على الاعتراف بالشهادات عن طريق المراسلة، الأمر الذي ترفضه وزارة التعليم العالي ووزراء التعليم العرب بالإجماع.


ـ حالة الفقر العامة في البلاد, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده صالح لكل الأزمان والأمكنة, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا إلى قمة النظام السياسي, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي إلى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

ـ ويرتبط بالعوامل المذكورة أعلاه غياب ثقافة أهمية البحث العلمي والاكتشافات العلمية والرغبة في الإبداع والاختراع في الوعي والتفاعل الاجتماعيين, وبالتالي يغيب التفكير والتشجيع والدعم عن المسار البحثي والعلمي وعن العلماء والباحثين والمكتشفين في المجتمع, وترتبط جذور ذلك أصلا في غياب القيمة البحثية في مناهج التعليم بمراحله المختلفة والقائمة أصلا على الحفظ والتلقين والاستذكار التقليدي, وهذا النظام التعليمي التلقيني لا يحتاج إلى كفاءات عالية ولا إلى مستلزمات تقيم متطور لقياس مهارات الطلاب في الفهم والتفكير وحل المشكلات, إلى جانب كونه نظام يدفع إلى الكسل والاتكالية والخمول العقلي, ولا يستثير في الطالب فكرا أو تساؤلا بل يقتل فيه ملكة التفكير, وتنتفي في هكذا نظم تعليمية القدرة على صناعة الباحثين في الخطط التعليمية عبر التراكم المعرفي في مراحل التعليم المختلفة.

ـ ضئالة الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي وللباحثين في الجامعات العراقية بصورة عامة بسبب من غياب إستراتيجية واضحة في هذا المجال وتخلف النظرة إلى الإنفاق باعتباره إهدارا واستهلاكا للأموال غير مجدي, وليست استثمارا طويل الأمد يأتي أضعاف ما ينفق عليه, الى جانب ما حملته كورونا وأزمة النفط العالمية من شحة في المال والانفاق.

ـ الفساد الإداري والمالي وضعف معايير الكفاءة والأهلية المهنية والعلمية في انتفاء الكادر القيادي لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي, واللجوء إلى معايير الحزبية والمذهبية والطائفية والموالاة في انتقاء الكوادر الإدارية, وغالبا ما تكون هذه القيادات بعيدة كل البعد عن مفهوم الاستقلالية والنزاهة, بل هي أطراف أساسية في صراعات مصلحيه ضيقة مع غيرها, بل هي أطراف في الفساد بمختلف مظاهره, مما يحرم هذه المؤسسات من الاستقرار والنزاهة والحيادية التي هي شروط لازمة للارتقاء بالعلم والبحث العلمي. ويرتبط بذلك ويرافقه سياسات أبعاد الكوادر العلمية عن مواقعها العلمية والبحثية من خلال التهجير ألقسري والإحالة على التقاعد وانتهاء بالتصفيات الجسدية ومسلسل الاغتيالات للكوادر في مختلف التخصصات العلمية.

ـ الآثار الضارة للمركزية الإدارية الشديدة في التعليم وغياب إستراتيجية إدارية ـ علمية معاصرة, حيث ساهمت الإدارة المتخلفة وعلى مر عقود في غياب تصور علمي دقيق وشامل للعمل البحثي, انتفت فيه عمليات التناسق والتناغم والتخطيط لمكونات العملية البحثية ومقوماتها الأساسية ( الباحثين, التمويل, التطورات العلمية والتقنية, الأولويات البحثية بما يخدم احتياجات المجتمع وتطوره, المعامل والأجهزة والمعدات العلمية وغيرها ), وبين المراكز البحثية المختلفة, وبين البحث واحتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمختلف البحوث.

ـ أن غياب إستراتيجية شاملة للبحث العلمي في العراق تتضح آثاره جليا في ما يسمى بالفوضى البحثية, والتي تتضح أبرز معالمها في العمل البحثي الفردي لأغراض فردية وذاتية بحتة, سواء لأغراض الترقية العلمية فقط أو للحصول على المال في أمكنة النشر, وعدم وجود فرق بحثية تتكامل بين أفرادها, وهو سمة مهمة من سمات تطور وارتقاء البحوث في عالمنا المعاصر, وعدم التنسيق بين المراكز البحثية المنتشرة في البلد الواحد, وانفصال البحوث عن المشكلات الاجتماعية واحتياجات المجتمع, مما أدى بدوره إلى تكرار واجترار البحوث السابقة, فهي لا تخدم في معظمها قطاعات صناعية أو زراعية ولا تواكب حاجات المجتمع في ميادينه الناشئة الحديثة كتقنية المعلومات والتكنولوجيا المتطورة, وكان ذلك سببا في إنتاج كم هائل من المجلات والدوريات ذات الموضوعات المتكررة في البلد الواحد بل وفي القسم و الكلية والجامعة الواحدة في البلد المعني, واغلب هذه الدوريات غير معروف عالميا ولا يضيف قيمة علمية للبحوث العالمية .

ـ عدم وضوح فكرة أن الجامعات هي جزء من آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يجب أن تكون بحوثها على تماس مع مشكلات المجتمع بمختلف قطاعاته, وبسبب غياب الرؤى في هذا المجال نرى أن اغلب بحوث الماجستير والدكتوراه تستهدف تهيئة وتدريب الكادر على طرائق ومنهجية البحث العلمي, وهي بهذا بعيدة كل البعد عن المساهمة في البحث عن الحلول للمشكلات الاجتماعية المختلفة, وبسبب من ذلك تأتي اغلب الأبحاث سواء الأساسية منها أو التطبيقية تكرارا لسابقتها, إن لم يكن تكرارا مملا فهو تكرارا بحلية شكلية ترضي المشرف عليها, وقد تبدو لصاحبها أصيلة وهي بعيدة كل البعد عن الأصالة.

ـ لا يشكل البحث العلمي إلا قدرا هامشيا أو ضئيلا من عمل الأستاذ الجامعي فهو مغرق بالساعات التدريسية مما يشغل جل وقته في التهيئة للمحاضرات النظرية أو أعمال المختبر التقليدية, كما أن الكثير منهم تضعف علاقاته بالبحث العلمي بعد حصولهم على الدكتوراه أو بعد نيل درجة الأستاذية أو الأستاذ مساعد أو أستاذ مشارك, وينصب اهتمامهم في الإشراف على الأبحاث فقط أو أعمال روتينية إدارية كإدارة قسم أو كلية أو جامعة, رغم أن دور الأستاذ يجب أن يكون مستمرا في إنتاج أفضل البحوث المفيدة سواء للمجتمع أم للعملية التعليمية في أروقة الجامعات.

ـ ضعف البنية التحتية للأبحاث النظرية والتطبيقية من مختبرات وأجهزة ومكتبات علمية, فالمختبرات وأجهزتها وصيانتها ونقص المواد الأساسية لها بمختلف التخصصات ونقص الكادر الفني ذات الصلة بذلك هو سمة بارزة لأغلب ما تعانيه الجامعات العراقية وتشكو منه, إلى جانب ضعف قاعدة المعلومات الحديثة, سواء من مطبوعات ودوريات علمية عالمية أو غياب المكتبات الرقمية أو الالكترونية وقواعد البيانات البحثية وغبرها من أدوات التعليم الالكتروني للتواصل مع العالم البحثي.


ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها.

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها. 
 
ـ رغم وضوح شروط الانتساب الى الدراسات العليا من حيث العمر والمعدل والخبرة الوظيفية " في الماجستير لا يتجاوز المتقدم عن 45 عام, والدكنوراه عن 50 عاما ", إلا انه جرت استثناءات من شروط " العمر, والمعدل, والخبرة الوظيفية لذوي الشهداء والمعتقلين في زمن النظام السابق وما بعد 2003 وحددد لهم نسبة 10% من مجموع المقاعد, ولكن الفساد لم يترك تلك الاستحقاقات تسير وفقا لمنطق العدالة, حيث استغلت اشد الاستغلال في تزوير مستندات تؤكد اعتقال المتقدم للدراسة سابقا او مستندات تؤكد استشهاد ذوي المتقدم وغيرها من مظاهر الفساد وبهذا تحولت تلك الاستثناءات الى فرص للبزنزه والفساد, ويذكرنا ذلك بما كان يفعله النظام السابق.

.
ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره. ولا نستغرب من كل هذا ولتلك الأسباب حصرا عدم تبوء الجامعات العراقية لمكانتها العلمية بين الجامعات العالمية رغم الجهود المبذولة من قبل مختلف الجامعات العراقية, فالطموح لتبوء مكانة لائقة في وسط الجامعات العالمية شيء ويبقى طموح مجرد, وفهم أسباب التخلف العلمي والقدرة على تجاوزه شيء آخر. 
 
في تلك البيئة القاتمة أشتد ساعد التزوير والسرقات العلمية ما بعد 2003 فأنتقل من تزوير لأغراض العمل في الخارج الى تزوير من الداخل والخارج لأغراض العمل في الداخل وتبوء المناصب العلمية والسياسية والادارية والمهنية في ظل نظام سياسي فاسد يلغي المنافسة على اساس الكفاءة الفردية والذكاء المتميز ويبقيها على اساس المحاصصة الطائفية والاثنية والتعامل مع مؤسسات الدولة والقطاعات الاجتماعية على اساس غنائم يجب الاستحواذ عليها وتشويه ادائها. 
 
ومع استخدام الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي وفي ظل الانفجار المعرفي والمعلوماتي انتشرت مواقع للتزوير والسرقات العلمية على قدم وساق وبدأت السوق السوداء تفعل فعلها في تلويث سمعة البحث العلمي والشهادة العلمية, وبات كل شيئ بتسعيرة محددة " وبالدفاتر " والدفتر بالعراقي يعني ألف دولار, وقد شاع التزوير وانتحال الشهادت الجامعية والعليا منتشرا في كل مواقع الدولة ومؤسساتها " في البرلمان والحكومة وفي كل المناصب من اسفلها الى اعاليها, بل واقترن ذلك بحملات الدفاع عن المزورين والاعفاء عنهم واعتبارهم مساكين واصحاب عوائل ويجب ان يعيشوا وعفى الله عن ما سلف. ومن ابرز مظاهر التزوير والسرقات العلمية ما يأتي:   
ـ شراء شهادة بأختصاص ما " بكالوريوس, ماجستير ودكنوراه " جاهزة وبالاختام الاصلية دون الحاجة لكتابة اطروحة او رسالة او مشروع بحث دون الحاجة الى الانتظام في الدراسات العليا. 
ـ وعند الانتظام في الدراسة اللجوء الى السرقات العلمية بمختلف اشكالها, كسرقة اطروحة جاهزة اجريت عراقيا او عربيا وعالميا والعبث بمتغيرات الدراسة واحداث بعض التغيرات على المحتوى بما يوحي اصالتها, وقد يساهم بعض من الاساتذة من ضعاف النفوس والعلمية المتدنية بمساعدة الطالب على اعادة تنظيم شغله المزور. 
ـ أنتشر في الآوانة الاخيرة ما يسمى بالمناقشة الصامتة للأطروحة تجنبا لضعف الطالب واخفاء لسرقاته حيث تتم المناقشة في اجواء شبه سرية لايتم فيها تسجيل ما يتحدث فيه " الباحث " ويكتفي بصور ثابتة غير ناطقة. 
ـ السرقة عن طريق الترجمة الكاملة مع التواطؤ مع المشرف واعادة صياغة محتوى الرسالة بطريقة ما قد تتسم بالغموض مما يترك انطباعا مزيفا ان " الباحث " متمكنا بطريقة خاصة تفوق المحيطين به. 
ـ سرقات لتحليلات وتفسيرات الاخرين دون ذكر اسمائهم وقد يستخدمها في التعليق والاستنتاج على الدراسات السابقة او في تفسير النتائج. 
ـ الاقتباس من دراسات اخرى دون ذكر مرجعيتها في محاولة من الباحث لأبراز مقدرته عبر سرقته لجهد الاخرين ولصقها به. 
ـ تكليف استاذ ما قد يكون  "المشرف " لكتابة بحث كاملا مقابل مبلغ من المال ثم يدرب الطالب في الدفاع عنه في عدة لقاءات مصغرة اشبه بجلسات المناقشة. 
ـ تضليل القارئ بذكر قائمة مراجع في نهاية العمل دون ان يستخدمها في محاولة لترك انطباع ان " الباحث " مستفيض في علمه من خلال ما يذكره من مراجع. 
ـ شراء اطروحة جاهزة من مكاتب التزوير تجرى عليها بعض من الحذف والاضافة والتغير لأخفاء جوهر العمل باعتبار المالك ليست هو وبالتالي تقديمها كأطروحة " أصيلة " لم تبحث من قبل. 
 
القانون العراقي للعقوبات والمرقم 111لسنة 1969 والساري المفعول مع تعديلاته تناول جريمة التزوير في المواد 286إلى 298 منه، ويقصد بالتزوير هو تغيير الحقيقة بقصد الغش ماديا ومعنويا وان يؤدي ذلك إلى الأضرار بالمصلحة العامة أو شخص من الأشخاص، ومثاله بصمة الابهام أو ختم مزور أو تغيير واضافة بالحذف والتعديل في المحررات الرسمية أو العادية”.
وقد “عاقبت المواد 289و 298 بالسجن لمدة ١٥ سنة على التزوير، وسبب هذه العقوبات المرتفعة لهذه الجريمة هو اقتران هذه الجرائم بالاحتيال وايضا تؤدي إلى فقدان الثقة في التعامل بين الناس”. وأن “استشراء هذه الجريمة سيؤدي إلى فقدان الثقة وعدم الاطمئنان في التعامل، وبالتالي توقف التعامل بين الناس وتعرقل التعاملات”. وأن “هذه الجريمة تكتشف عن طريق إرسال كتب صحة الصدور من الوزرات إلى الجامعات للتأكد من صحة الشهادات الدراسية المتنوعة”. 
المشكلة هنا ليست في حالات متفرقة من الغش والتزوير والسرقة يتم اكتشافها بل المشكلة مع منظومة فساد كاملة ترتضي لنفسها ممارسة الغش والتزوير كثقافة يومية امام ضعف الدولة والقانون والقضاء وبالتالي فأن الغش والتزوير اصبح ثقافة مجتمعية بديلة للصدق والأئتمان, وبالتالي لا تجدي نفعا هنا الحديث عن تقنيات الكشف عن التزوير والسرقة, فهناك الكثير من المواقع المتخصصة لفضح السرقات والتزوير, ولكن تلك الأدوات مهمة عندما يكون الفساد فسحة ضيقة في ظل نظام عادل ونزيه, ولكن في العراق الأمر مختلف حيث الاصلاح السياسي اولا والبقية تأتي. وفي ختام مقالي فأني أحيي الاساتذة المخلصين الشرفاء والطلبة المبدعين الذين يحصدون شرف التفوق بعرق جبينهم.
 

18
نار المحاصصة تحرق المصابين بكورونا في مستشفى الحسين في الناصرية

د.عامر صالح

للمرة المليون يكشر نظام المحاصصة الطائفية والاثنية في العراق عن انيابه في ارتكاب جرائم مختلفة جراء ادائه الخرب الذي يستهدف حياة الناس الابرياء من خلال خراب مؤسساته القائمة على اساس التحاصص والابتزاز وسرقة المال العام والعبث بأستقرار المواطن وصحته وأمنه, بالأمس كانت جريمة حريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد واليوم جريمة حريق مستشفى الناصرية الذي اودى بحياة العشرات من الضحايا تجاوزت 170 بين موت وجريح, انها جرائم قتل جماعي ترتكبها منظومة الفساد والطائفية الحاكمة في العراق حيث تداخل الأدارة للقطاعات المجتمعية المختلفة مع توجهات المحاصصة في الاستحواذ على كل مرافق الدولة والمجتمع بما يحول الأداء لهذه القطاعات صفريا, وحال الاختلاف والتناحر حول غنائم الدولة يتحول الصراع الى صراع ابادة وانتقام بمختلف الوسائل اللااخلاقية واللاانسانية ويكون ضحيتها المواطن بما يستهدف الانتقام من صحته ورزقه اليومي وتعطيل خدماته اليومية من صحة وكهرباء وماء وتعليم وغيرها.

جريمة مستشفى الحسين في الناصرية مركز المحافظة ذي قار في العراق انه جريمة نكراء بكل المقاييس بغض النظر عن الاسباب المباشرة وما يقال من انفجار قناني الاوكسجين وغيرها فنظام المحاصصة فاقد لأي آلية لحماية المؤسسات المجتمعية من اي طارئ مفاجئ, لأن بنية النطام غير قادرة على توفير الحد الادنى من الضمانات ضد الكوارث المحتملة هذا على افتراض ان لم تكن الجريمة بدوافع سياسية مباشرة تكمن اسبابها في سر نطام المحاصصات البغيض الذي عرض كل البنية التحتية المجتمعية ومؤسساتها لسنة الصراع الطائفي السياسي والاثني القائم على تدمير الدولة ومؤسساتها بهدف احلال الخراب المستديم الذي تقتاد عليه مليشيات اللادولة في صراعها من اجل تدمير العراق وتحويلة الى كانتونات طائفية واثنية مسلحة تعم فيها مزيدا من الفوضى واللاخدمات وتحويل الحياة العامة الى مزيدا من العسكرة العبثية وفوضى السلاح الذي يتنافى مع منطق الدولة التي هي المحتكر الوحيد للسلاح.

كما نسمع فقد تشكلت لجان على مستوى رفيع وتمت اقالة عدد من المسؤولين المباشرين وسوف يجري التحقيق وستعلن نتائجه كما هي الحال في سابقاتها من اللجان دون جدوى باستثناء استقالة وزير الصحة على خلفية حريق مستشفى ابن الخطيب الذي حصل قبل اشهر وبذات الاسباب التي حصل فيها اليوم مستشفى الحسين في الناصرية ثم اختفت لاحقا نتائج التحقيق بالحادث, وهذا يذكرنا بكل اللجان التي شكلت للكشف عن قتلة المتظاهرين ولجان محاربة الفساد وجميعيها لم تكشف ذرة من ما يجري من فساد واستباحة لدم الابرياء.

نظام المحاصصة بفعل تركيبته المافوية السياسية غير قادر على بناء دولة المواطنة والقانون وغير قادر على تشخيص مواقع الخلل في النظام لأنه جزء منه وبالتالي فأن التخادم المشرك بين اطراف المحاصصة يحجب النور عن اي دور للعدالة والقانون ويسهم في تغطية الجرائم المرتكبة من قبل كل الاطراف السياسية المساهمة في ادارة الحكم وفي مقدمتها قوى الاسلام السياسي.

ان هذا النوع من الجرائم المرتكبة وذات الطابع المقصود بسبب بنية النظام المتهالكة والفساد العام المقصود والمخطط له لتخريب مؤسسات الدولة في اطار العبث بمعايير الأداء السليم, وان كانت شرارتها اعمال فردية مقصودة وغير مقصودة, فهي تعكس حجم الهلاك والتردي الداخلي الذي يجسد بوضوح انعكاسات المحاصصة في الأطراف كما في القمة, انه عمل يحمل الكثير من القصدية في نتائجه النهائية لتخريب المجتمع ومؤسساته, وبالتالي فهي جرائم لا يمكن ان تسقط بالتقادم, أسوة بجرائم الحروب الطائفية والتهجير وتدمير المدن وسلب الممتلكات العامة والخاصة وقتل المحتجزين, وان من يحرض عليها ويرتكبها يجب ان يساق للعدالة, فهي جرائم ضد الانسانية, وقد انتهكت في العراق كل حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بكل تفاصيلها بلغت حد تهجيره وقتله ومصادرة ممتلكاته.

لقد عرقل نظام المحاصصة منذ نشأته في 2003 جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد، بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك، أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة، بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية "، وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل، وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.

ان جريمة مستشفى الحسين في الناصرية في حرق اجساد المصابين بكورونا هو جزء من جرائم متصلة والقادم افظع لا محال بفعل طبيعة النظام العاجزة عن حماية ارواح المواطنين وقد سبقتها جرائم مختلفة اطالت الحرث والنسل والخدمات بما فيها تدمير الكهرباء, وبالتالي نحن امام اداء نظام سياسي تكون مخرجاته الخراب والتدمير والحرائق ونسف البنية التحتية.

بالتأكيد ان التغير المرتقب نحو الافضل هو خيار صعب وعسير حيث قوى اللادولة وانتشار السلاح والفساد المتمترس الى جانب احزاب مليشياوية ستدخل من جديد الى العملية السياسية وتراهن على جمهور غوغائي لا يفقه غير لغة الانصياع وراء قائد الضروروة وبالتالي فأن صعوبات تغير موازين القوى لصالح القوى المدنية ليست سهلا ابدا وقد تكون الحقبة القادمة اشد قتامة إن لم يحسمها خيار الشعب الواعي صوب التغير لأنقاذ شعبنا ومجتمعنا من براثن التخلف والظلامية.

المجد والخلود لضحايا مستشفى الحسين في الناصرية والصبر لذويهم والخزي والعار لمرتكبي الجرائم بقصد او اهمال.

19
الخرافة في خدمة انتشار وباء كورونا مع اشارات حول وضع العراق

د.عامر صالح

الخرافة في معناها العام تعني البعد عن الحقيقة، والخرافة هي اعتقاد أو فكرة لا تتفق مع الواقع الموضوعي بشرط أن يكون لهذا الاعتقاد استمرارية وله وظيفة في حياة من يؤمنون بها ويستخدموها في مواجهة بعض المواقف وفي حل بعض المشكلات الخاصة بهم في الحياة رغم عدم عثورهم على الحل الحقيقي والمنطقي الذي ينسجم مع طبيعة العقل في حل المشكلات.

والتفكير الخرافي يفتقد إلى العلية أو السببية العلمية" أي إن لكل ظاهرة اجتماعية أو طبيعية سبب واحد أو مجموعة أسباب ويمكن التحكم فيها عبر حصرها في دائرة أسبابها ثم فهمها فهما صحيحا وصولا إلى التحكم فيها "، ويبحث التفكير الخرافي عن تفسير للظواهر الطبيعية والاجتماعية خارج إطار أسبابها الحقيقة، وغالبا ما يبحث عن أسباب ماورائية ميتافيزيقية غيبية. وتنتشر الخرافة انتشارا واسعا كلما زادت ظروف الحياة صعوبة وكلما زادت الأخطار المختلفة من اقتصادية واجتماعية وأمنية التي تهدد جماعة ما دون العثور على الحلول الطبيعية والممكنة لذلك. وتنتشر الخرافة في أوساط اجتماعية مختلفة ذات ثقافة فرعية سواء كانت مهنية أو دينية أو طائفية في إطار المجتمع العام حيث يعم القلق والاضطراب وعدم الاستقرار وانعدام الحلول الواقعية.

لا اريد هنا استفزاز مشاعر الناس بمختلف معتقداتهم وطقوسهم الدينية والمذهبية وسلوكياتهم الأيمانية في دفع الاخطار المهددة لحياتهم جراء المخاطر المختلفة التي تحدق بوجودهم, من امراض مختلفة وأوبئة او توقعات بكوارث قادمة, ولكن ماهو مجافي لمكانة الانسان وحرمته هو اللجوء الى ما يعقد حياة الانسان ويضعها على حافة الاخطار الجدية جراء فهم مشوه للدين او المعتقد وممارسة طقوس تفضي الى تشديد قبضة الامراض والابئة وانتشارها على خلفية ممارسة طقوس تفضي الى انتشار الوباء كما هو في وباء كورونا, الذي سهل انتشاره وتمعقله وحتى تحوره الى اشكال مختلفة جراء الطعن بمكانة العلم والتشكيك بجدوى اللقاح وعدم اخذه, وحتى التشجيع على عدم اخذه في اعتقاد متخلف انه سبب الوباء.

وقد وصل الامر الى الاستعانة بأنصاف المراجع والفتاوى بل والاستعانة بعامة الناس من يمارسو الطقوس الدينية شكلا بدون مضمون الى الأخذ بوصفات شعبية وتعويذات وطقوس مختلفة للخلاص من الوباء, ولكن كانت نتائجها القريبة هو انتشار الوباء على اشده وتحوله الى كوارث يومية تؤدي بحياة الناس وتيتم الاطفال وتقتل النساء والرجال دون شفاعة من احد, فكانت الزيارات الدينية لمختلف المراقد والامكنة الدينية تأتي بنتائج عكسية حيث طبيعة الزيارات الحشدية تسهم بشكل فعال في انتشار وباء كورونا وتحوره الى اشكال خطيرة وسريعة الانتشار" رغم ان هناك بعض من المراجع الدينية تؤكد الأخذ بنصيحة الطبيب والجهات الصحية والحكومية المختصة وارشاداتها العامة بهذا الخصوص", ولكن الخرافة شقت طريقها بهدوء وعمق الى مخيلة الناس لكي تغزز من استفحال الوباء وانتشاره وتكثر من الضحايا, ومن النماذج المتأصلة في تفكير الكثير من عامة الناس: ان الوباء قدر ألهي وعقاب رباني لما يقترفه الناس من مساوئ وموبقات في الدنيا ونسوا المعتقد السائد ان الله يحاسب في الآخرة على الافعال, وعندما كان الوباء محصورا في الصين كان عقابا للصين على سوء معاملتها للأقلية المسلمة كما يدعون, وعندما انتشر على اراضي المسلمين اختلف الامر واصبح عقابا ربانيا على الافعال وان الاوبئة اقدار من الرب والحكايات كثيرة ومعبئة بزخم انتشار الفكر الخرافي في عقول الناس.

اما علاج كورونا خرافيا فقد تنوعت اشكاله وابرزها رفض اللقاح لانه يقي من الاصابة, وقبل ان يتم اكتشاف اللقاح كان الجميع بأنتظاره, ونشر وعي مزيف بأن كل من اخذ اللقاح او معظمهم في العراق اصيبوا بكورونا, الى جانب الوصفات الشعبية بتناول بعض المأكولات بانتظام طقوسي وشرب بعض السوائل ايضا وقراءة التعويذات بانتطام وبترديد اشد وطأة من المعتاد كي يقف مناعة ضد الفيروس ولعل من الوصفات التي شاعت مؤخرا في العراق هو تناول خمسة حبات من التمر يوميا مع اكل نصف رمانة واضفاء قدسية على تلك الوصفة بأنها "وصفة من الصين وقد عالجت الوباء هناك بسرعة", ولكن النتائج الميدانية في العراق تقول مزيدا من حبات التمر والرمان تقابلها ارتفاع نسبة الاصابة حيث انعدام العلاقة المنطقية بين هذا وذاك والحديث يطول.

استورد العراق اكثر من 16 مليون جرعة لقاح ضد كورونا ولم يبلغ عدد الملقحين لحد المليون ونصف في بلد يقترب او بلغ عدد سكانه 40 مليون نسمة وبقسمة بسيطة لو حصل كل عراقي جرعة واحدة لبلغ عدد الملقحين 16مليون واذا اخذ جرعتين فهناك 8 ملايين ملقح ويصل المجتمع بسرعة مقبولة الى ما يسمى " بمناعة القطيع ". وأرد هنا نموذجا لأحدى دول العالم وهي السويد" رغم ان المقاررنة فيها الكثير من الاجحاف بحق العراق لأن السويد احدى بلدان العالم المتقدم, ولكن العراق يمتلك موارد قد تجعله منافسا للكثير من دول العالم ان توفرت الظروف لذلك, حتى الآن، تلقى ما يقرب من 5.5 مليون من جميع السويديين جرعة واحدة على الأقل من لقاح كوفيد، وتلقى حوالي 3.5 مليون أيضًا جرعتهم الثانية (عدد السكان 10 ملايين), ويقف المواطن في الطابور لتعاطي اللقاح بأنتظام وحسب الفئات العمرية والمهن ذات الخطورة.

لقد شيدت الحضارات الإنسانية المعاصرة بالاستناد إلى التراكم المعرفي العلمي في مختلف المجالات التي نشهدها اليوم، ولم تبني الخرافة أي عالم معاصر لأنها لا تستجيب منطقيا لحاجات الإنسان المتواصلة في العيش الكريم وفي البحث عن حلول لمشكلاته. وفي الوقت الذي تنحسر فيه الخرافة في المجتمعات المتقدمة انحسارا شديدا وتبقى في أطرها الفردية الضيقة، فأنها تشيع شيوعا مذهلا في المجتمعات المتخلفة وتهدد بناء المستقبل تهديدا لا ياستهان به، بل يستعان بها لبناء المستقبل وأي مستقبل يشيد بالخرافة. ويبدو إن الخرافة ستظل تضطلع بدورها الكبير في نفسية الأفراد والجماعات مهما تقدمت العلوم والمعارف وذلك للأسباب الآتية:
1ـ لأن سواد الناس ليس في وسعهم أن يتخلصوا من العقلية البدائية، فكل ما ينهكهم ويوهن أجسادهم ويقض مضاجعهم كالمرض والحزن والفقر والمصيبة وما إلى ذلك، لابد أن يدفعهم إليها طوعا أو أكراها.
2ـ لأن الإنسان يعاني من جوع نفسي، فهو يصعب عليه أن يعترف بجهله وعجزه. انه يؤثر الخداع الذي تشيعه الخرافة على الفراغ النفسي الذي لا يطاق والذي يشعره بالعدم.
3ـ لأن سواد الناس تلم بهم حاجة ملحة إلى المشاركة بالوجود. فهم لا يكفيهم أن يؤمنوا بالقيم أو أن يتقبلوها. أنهم يصبون إلى الاتصال بها.

وهكذا فالخرافة تشيع التوازن بين الإنسان وبيئته، وتنظم زمانه ومكانه، وتمد له في الوجود مدا، على تفاوت في الناس. ففي الوقت الذي يكون فيه تحكم الخرافة هامشيا في حياة الناس في المجتمعات المتقدمة، فأنها تشكل مفتاح الحل في مجتمعاتنا المتخلفة، بل هي العصا السحرية لكل صغيرة وكبيرة.

لقد شاهدنا في بداية انطلاق فيروس كوونا وبفعل محدودية المعارف عنه وقبل اكتشاف اللقاح ان الخرافة اخذت حيزا كبيرا في عقول الناس وفي مختلف مجتمعات العالم بغض النظر عن مستوى تطورها, بدا من رفض وجود هكذا فيروس واعتباره كذبة كبرى على الصعيد العالمي او انه فيروس صيني مصنع لمقاتلة امريكا او بالعكس انه فيروس امريكي لأعلان الحرب على الصين او انه جند الله لمحاربة الغرب الكافر وهكذا, وقد رافق ذلك رفض وتعنت من قبل الناس لوضع الكمامات ورفض فكرة التباعد الاجتماعي, ولكن ما ان انجلت حقيقة الفيروس والمعرفة به ثم اكتشاف لقاحات من عدة شركات عالمية له حتى بدأت النفوس تهدأ واخذ العقل يشق طريقه في ملاحقة الفيروس, وقد لعب هنا دور العلم ومكانته والثقافة العلمية المجتمعية الى جانب متانة المؤسسات الصحية دورا كبيرا ولكنه متفاوت على الصعيد العالمي استنادا الى مستويات التطور الاجتماعي وقد عبر الفيروس بوضوح عن صراع التخلف مع التقدم.

وللأنصاف فأن هناك في اقصى العالم المتقدم فسحة من الخرافة وبالمقابل هناك في العالم الآخر فسحة من التفكير العلمي والعقلانية ولكن الاختلاف في فسحات ذلك في حياة الناس اليومية ورقيها والتعويل على هذا وذاك في بناء المستقبل. ولكن الاخطر في ذلك هو شرعنة الخرافة وزجها في التفكير الديني حتى اصبح من الصعب الفصل بينهما بل اصبحت الخرافة دين والدين خرافة واصبحت الخرافة مقدسة الى درجة ان من يعترض عليها يعترض على الدين واصبحت الخرافة تستمد القوة والثبات من الدين.

في العراق الحال اسوء عن مما ننظر له حيث اختلط الدين في السياسة والخرافة وقد انتج ذلك خلال اكثر من 18 عاما نظاما محاصصتيا منتج للتطرف والخرافة ويسعى لتكريس الخرافة كسلوك تخدم بقائه واعادة انتاجه ولا نستغرب من فساد اداري ومالي استنزف موارد البلاد وانهيار للبنية التحتية والخدمية من صحة وتعليم وغيرها وانعدام ابسط مقومات الحياة الكريمة, ونشير هنا الى انهيار القطاع الصحي وضعف ادائه وعدم توفر ابسط المستلزمات حتى بدت مخاوف المواطن من اخذ اللقاح وعدم ذهابه الى مراكزه واضحة جدا وهي من اسباب العزوف عن التلقيح, وقد تحالف هذا الانهيار مع الخرافة لينتج اشكال خطرة من الاحجام في وقت وصلت فيه الاصابات في بعض الايام بحدود تسعة آلاف اصابة ويقترب مجموع الاصابات الكلية من المليون والنصف.


20
الخلفية السايكولوجية والفكرية لتعديل المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية رقم(188) لسنة 1959 التي انتهكت المرأة والأمومة   

د.عامر صالح 

تتواصل الأحتجاجات الشعبية الى جانب الحراك الشديد لمنظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية المدنية أثر جلسة البرلمان التي انعقدت في الاول من تموز الجاري والتي كرست لتعديل المادة 57 من قانون الاحوال المدنية المرقم(188) للعام 1959, وتركزت الانتقادات، على تعديل المادة، 57 والتي جعلت الحضانة للأم غير المتزوجة قبل بلوغ الطفل سن السابعة، فيما منح الأب حق حضانة ولده بعد ذلك، وفق عدة معايير. كما نصت تلك المادة على أنه إذا أتم المحضون السابعة من عمره، وكان أبوه متوفياً أو مفقوداً أو فقد أحد شروط الحضانة تنتقل الحضانة للجد الصحيح، ثم إلى أمه ما دامت محتفظة بشروط الحضانة دون أن، يكون لإقاربه من النساء أو الرجال حق منازعتها فيه لحين بلوغه سن الرشد" للأطلاع على تفاصيل التعديلات المقترحة انظر الرابط اسفل المقال".


لم يكن هذا الأجراء جديدا ولا وليد الصدفة بل انه يعبر عن عقلية متخلفة يجسدها الجزء الاكبر من احزاب الاسلام السياسي الطائفي في البرلمان العراقي والتي تعكس الموقف المتخلف من المرأة وحقوقها المختلفة, ومن ضمنها حق الأمومة ورعاية اطفالها, وقد انتهجت تلك الاحزاب ومنذ سقوط الدكتاتورية بعد 2003 نهجا معاديا لمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات, ومما يثير غضب الشارع العراقي والنساء بشكل خاص ان هناك برلمانيات نساء يقفن مستميتات ضد المرأة وحقوقها ومعظمهن من كوتة الاسلام السياسي ويجسدن بالملموس الموقف المتخلف من المرأة وابقائها اسيرة لثقافة المجتمع الذكوري الذي يعيد انتاج اضطهاد النساء بواجهات " مقدسة ".


لقد تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة, ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة, وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة, وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية, وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات, وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة, أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%, كما تجاوز عدد الارامل والمطلقات المليونين أمراة, وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان, وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 40%, الى جانب زواج القاصرات دون 18 سنة, وبعضها لا يتجاوز 11, 12 سنة.


الأم هي الحلقة الأولى في حياة الطفل والأسرة، لما لها من دور عظيم في إعداد وتنشئة الأجيال ، ولما يقع على عاتقها من مسئوليات في إعداد الطفل وتربيته، وبعاطفة الأمومة التي لديها تمنحه مشاعر الدفء والحنان، لما تشكله من علاقة نفسية وبيولوجية بينها وبين أولادها وبناتها، والأمومة هي أكبر وظيفة للمرأة وهبتها لها الطبيعة في صراعها للبقاء لتكون بها الحياة، فهي رمز الحياة واستمرارها؛ وتعتبر أقوى الغرائز لدى المرأة وتظهر لديها من طفولتها المبكرة فنجد الطفلة ترعى أخواتها الذكور وتعتني بهم وتجد لديها العديد من الدمى والعرائس التي تمارس من خلالها دور الأم


الأمومة هى علاقة بيولوجية ونفسية بين امرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات. وهذا هو التعريف للأمومة الكاملة التى تحمل وتلد وترضع (علاقة بيولوجية) وتحب وتتعلق وترعى (علاقة نفسية) . وهذا لا ينفى أنواعاً أخرى من الأمومة الأقل اكتمالاً كأن تلد المرأة طفلاً ولا تربيه فتصبح فى هذه الحالة أمومة بيولوجية فقط ، أو تربى المرأة طفلاً لم تلده فتصبح أمومة نفسية فقط. هذه الأدوار للأم عندما تلد وعلى المستويين البيولوجي والنفسي يجب ان تشبع بقدر هادئ ومعقول استجابة لأشباع غريزة الأم البيونفسية في رعاية اطفالها, وفي سياقات طبيعية ومقبولة قد تحل الخالة او العمة او الجدة نسبيا مكان الأم على المستوى النفسي او لصعوبات مؤقتة على المستوى البيولوجي"كالأرضاع", وخلاف ذلك وعلى مستوى اكراه الأم لغير حضانة اطفالها فأنه أمر يهدد بمخاطر واضطرابات نفسية خطيرة وخاصة اذا كانت مؤظرة بكراهية من نوع خاص بين "الشريكيين " وعدم قبول الآخر بفعل عوامل كثيرة ومتعددة.


يالتأكيد هناك عوامل تؤطر استقرار الأسرة ومنعها من التصدع, من بينها الاستقلال الاقتصادي للشريكين وخاصة عن أبوي وأم الشريكيين, وكذلك العمر المقبول للزواج حتى ما بعد 20 عاما, فالنضج الزمني يلعب دورا في انعكاساته على العمر العقلي وخاصة في تفاوت غنى البيئات المختلفة وبالتالي فالشراكة هي عقلية مقترنة بزمن مقبول. وفي عراق ما بعد 2003 ومنفتح على مصرعيه لمختلف التيارات الدينية وغير الدينية والانعتاق من العزلة العالمية التي كان يعيشها العراق مقابل انفتاح على الآخر غير مدروس وصراع قيمي على أشده بين العشيرة والمدينة وقيم الانفتاح التي تهواها النفس بفطرتها في صراعها مع دين سياسي يكرس ازدواجية الأخلاق ويحلل الحرام ويحرم الحلال ويتحالف مع قيم التخلف والردة وفي مقدمتها العشيرة ويتشبث بالسلطة السياسية, فلا نستغرب ان الوضع يؤسس لمختلف الأنهيارات والنكسات والمصائب, والمرأة كعادتها وبفعل استفحال الذكورية وعدوانيتها هي من اسهل الضحايا في القتل والتنكيل وحرمانها من امومتها, الى جانب اصابتها بمختلف الأضطرابات النفسية والعقلية.


أن تقدم المجتمعات يقاس بمدى تقدم المرأة فيه ومساهمتها في الحياة العامة, لقد اصاب المرأة شتى صنوف الأذلال والقهر والأستعباد جراء الظلم الذي وقع عليها تاريخيا وحاضرا, والمرأة العراقية اليوم بين عاطلة عن العمل وأرملة ويتيمة ومطلقه وعانس وحبيسة المنزل, لا نستغرب من تداعيات ذلك على سلوكيتها اتجاه اطفالها, وخاصة عندما تبلغ الحال حدا مرضيا فأن الضحايا الأقرب هم الاطفال. أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين وما يترتب عليه من اقصاء للمرأة هو نزوع ثقافي أولا, يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة, والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية, ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة, وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه,لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها, ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.


اليوم قد يكون من السهل على التنظيمات السياسية الدينية المتطرفة في البحث عن مبررات لأقصاء المرأة من ميادين الحياة المختلفة وانتهاء ضربها في امومتها في ظل بيئات متخلفة تعيد انتاج عورة المرأة ودونيتها كثقافة ذكورية سائدة, وان التذرع بعدم كفاءة الأنثى تربويا في الأمومة والرعاية لغاية الثامنة عشر من عمر الطفل يشكل جزء من منظومة الارهاب الفكري والسلوكي لأضطهاد المرأة الأم وعدم السماح لها بأداء دورها التربوي في الامومة والاعداد الاولي.


لقد فشلت البرلمانات العراقية ما بعد 2003 في التشريع لبناء أسس دولة المواطنة وبناء عراق آمن بعيدا عن المليشيات وقوى اللادولة كما فشل في التشريع لمحاربة الفساد الذي نخر الدولة وأهدر مواردها, واخفق في وضع حد للسلاح المنفلت الذي قتل الابرياء والسلميين في احتجاجات اكتوبر, ولم يشرع بما يضمن سلامة العملية السياسية والديمقراطية في البلاد ولم يستطيع وضع للأحزاب المليشياوية التي تقبع تحت قبة البرلمان وتسهم في صياغة اكثر قوانينه اجحافا بحق الشعب والدولة والمجتمع, ولكن البرلمان شاطر في التعبئة المشوهة لهدم الأسرة والمجتمع والعبث في الطفولة لتعزيز الثقافة الذكورية وبالأستعانة من البرلمانيات النساء ذات الثقافة الذكورية العدوانية اتجاه نساء من بنات جلدتها.


قد لا نستغرب من وجود لوبي عصي ضد المرأة العراقية فأن مقترح تعديل المادة (57) من قانون الأحوال الشخصية لسنة 1959 الذي قدم من قبل عضو اللجنة القانونية النيابية حسين العقابي (عضو كتلة الفضيلة النيابية) مطالبا فيه باسترداد الحضانة من الأم إلى الأب قد إنضمت اليه ابرز الشخصيات الذين خلقوا هذا الحراك البرلماني ضد حقوق الامهات وهم:

النائب الاول لرئيس مجلس النواب حسن كريم الكعبي
النائب الشيخ حسين اليساري رئيس لجنة الاوقاف النيابية
النائب هناء تركي الطائي نائب رئيس لجنة الاوقاف النيابية
النائب محمد الغزي نائب رئيس اللجنة القانونية النيابية
النائب حسن فدعم
النائب خالد الجشعمي
وسائر اعضاء اللجنة القانونية ولجنة المرأة والأسرة والطفولة النيابية (التي اساءت للمرأة والطفل) بأنظمامها الى لوبي استلاب الامومة, وتجدر الإشارة ان المادة (57) من قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة ١٩٥٩ تُعطي الحق للأم المطلقة بالاحتفاظ بحضانة أطفالها بعد زواجها من رجل آخر ، كما سمحت لزوج الأم القيام بدور الولاية على الأطفال المحضونين ، والعيش معهم في بيت واحد.


ولكن في العراق وبعد تجربة 18 عاما من الزمن من تجربة الأسلام السياسي في الحكم ان هناك وعي بديل دخل البيوت العراقية, تتجسد ملامحه في التوق الى المساوة بين الجنسين في مناحي الحياة المختلفة, ويصتدم هذا مع اجندة الأسلام السياسي في اعادة انتاج الثقافة الذكورية لأغراض بقائه, وبالتالي فأن كل التشريعات المتوقعة والمجحفة من قبل السياسين الذكور والسياسيات ذات الثقافة الذكورية لا تعني ابدا تغيرا سريعا في الوعي العراقي صوب الاستسلام بل ان الوعي التراكمي نحو دولة المواطنة والحق والمساواة بين الجنسين سيجد ضالته بعد ان شق طريقة بألاف الضحايا والسشهداء من اجل عراق صالح للجميع إلا القتلة !!!.

الروابط ذات الصلة:
موقع الحوار المتمدن: حملات التمدن, كلا لتعديل المادة 57 من قانون الاحوال الشخصية المرقم 188 لسنة  1959
وكالة ناس نيوز: جدل واسع بشأن تعديل قانون الاحوال الشخصية ... قنبلة ذرية

21
لماذا هكذا الحال في العراق دون آفاق للتغيرـ محاولة سيكوسياسية

د.عامر صالح

في كل بقاع العالم وأنظمته المختلفة تجري حركات احتجاجية للمطالبة بتحسين ظروف الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وقد تختلف مظاهر التعبير عن تلك المطالب استنادا الى طبيعة النظم السياسية التي تجري في ظلها الاحتجاجات, وهي تتراوح بين الكبت والترقب واللجوء الى وسائل التعبير الرمزية او الخفية في ظل نظم القمع والدكتاتورية, الى مظاهر التعبير المباشر في ظل نظم الانفتاح والتعبير عن حرية الرأي والمطالبة في تحسين ظروف العيش في ظل نظم تحمي حق التظاهر بأعتباره حق انساني ودستوري, وهنا تعتبر حماية حياة المتظاهر من التنكيل والقتل مسلمة تعلو فوق كل الاعتبارات, باعتبار ان الانسان والمتظاهر وحياته خطوط حمراء لا يمكن المساس بها مهما اختلفنا او اجتهدنا حول صلاحية وجدوى وسائل التعبير عن المطالب, فالانسان هو الهدف الاسمى والغاية العليا من وراء الاصلاح وتحسين ظروف الحياة, وبالتالي فأن التعرض لحياته وتهديده وقتله وأخفائه قسرا وتغيبه يعتبر مسلمة اساسية في سقوط سمعة النظام السياسي وعدم جدوى بقائه باعتباره حاضنة للقتل والارهاب والتجويع ويجسد اشد الحالات اغترابا بين المواطن والحاكم, ومن هنا فأن ازاحته عن المشهد السياسي تعتبر ضمن اولويات حركات الاحتجاج المطلبية والتي تسعى في حقها المشروع لحماية نفسها وتعزيز السلم المجتمعي القائم على سنة الحوار والتنوع في الانتمائات بعيدا عن لغة السلاح.

في العراق كان بالامكان ورغم ظروف وملابسات الاحتلال الامريكي البغيض ان ينهض البلد من ركام حروب النظام السابق وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في وضع اللبنات الاولى لتأسيس ديمقراطية ناشئة والتأسيس لأجادة اللعبة الديمقراطية  في اساسها الضروري وهو التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع, بشرط توفر القناعة السياسية ان  نتائج ما تفرزه صناديق الاقتراع هو ممهدات لأعادة انتاج العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة ومؤسساتها واضفاء شرعية على الحكومة المنتخبة وتسهيل مهمة ادوارها في الحفاظ على السلم المجنمعي ورعاية مصالح المجتمع وتحسين أداء مؤسساته.

اصتدم العراق وشعبه بمنظومة سياسية لا تؤمن بالديمقراطية السياسية ولا بالتدوال السلمي للسلطة, وهذا ليست اشكاليات فردية او عقم في القيادات السياسية بل هو تعبير عن قناعات ايديولوجية راسخة ان الديمقراطية السياسية هي بدعة غربية وبالتالي فأن محاربتها والعبث في الاستقرار المجنمعي هو واجب شرعي تستدعيه اجندة ما ورائية ويحمل قدسية مزيفة من نوع خاص, وعبر مسيرة 18 عاما ما بعد سقوظ الدكتاتورية في 2003 جرى التحايل والعبث والتخريب لكل مفاهيم الديمقراطية او فهم المكونات المجتمعية المتنوعة للمجتمع العراقي فهما متحايلا يصب في خانة تكريس نظام المحاصصة الطائفية والاثنية واعادة انتاجه قسرا لأبقاء الاوضاع كما هي في مستنقع التحاصص والتغانم للدولة ومؤسساتها, فقد جرى العبث بكل المفاهيم عبر تسويقها في لحظات الاستفادة القصوى من التداعيات الانفعالية او الشحن العاطفي, فمن شعارات المحاصصة الطائفية سيئة السمعة والصيت الى مفهوم الشراكة الوطني الى كتلة وطنية عابرة للطوائف او الاغلبية السياسية وجميعها تخفي ورائها نتن الطائفية والمحاصصة الاثنية عندما تسوق من قبل امراء الطوائف السياسية والاثنية.

ما يجري في العراق هو شيطنة سياسية بين سلوكيات قوى سياسية ليست لها صلة بالديمقراطية لا فكرا ولا ممارسة, بل ان ثقافة الغنيمة هي من يتحكم بمفاصل الدولة ومؤسساتها, وبالتالي الحديث عن الديمقراطية في العراق هو صراع بين مجموعة ثعالب سياسية لا يوجد بينهم أسد حريص على العراق, بل انهم متسولين في السياسة وكل اجماعاتهم المؤقتة هي جزء من دهاء سلوكيات الثعلب الذي يريد الخلاص بجلده والابقاء على مصالحه, ولعل المثل الاقرب هو حين اتفقوا على مجيئ الكاظمي كرئيسا للوزراء ثم تركوه لوحده, وكيف لرئيس وزراء يشتغل دون كتلة نيابية داعمة له, هذا يجري فقط في "العراق الديمقراطي" ان تأتي برئيس وزراء ثم تقول له دبر راسك أو "يطبك مرض".

السياسيون في العراق يجسدهم بشكل واضح الثالوث السيكولوجي المظلم او ما يقال عنه مثلث برمودا والمتكون من السيكوباتيا, والنرجسية والميكافيلية, نجد السياسين العراقيين في سايكبوتيتهم من قسوة وعدم الندم والتعاطف مع الاخرين ويتلذذ بألحاق الاذى بالاخرين وانهم اصحاب تاريخ اسود عند التحري عن سيرتهم الشخصية وهم متهورون ومعتدين بأنفسهم.

ثم صفة النرجسية المفرطة فهم لا يتقبلون النقد بل ويقابلوه بالسلاح والكواتم ويظنون انهم الافضل والاحسن دوما ولا يعجبون بالرضا عن اي شيئ من الآخر وقد يفسر ذلك لجوئهم للسلاح والاغتيالات وهم لا يستسيغوا غير المديح النفرط, ويفتعلوا السحر والجاذبية عبر خطاباتهم المموهة بالكذب والمبالغة والخداع وهم لا يعجبون بشيء على الاطلاق ولذلك يلجئون الى لغة السلاح.

اما الخاصية الميكافيلية فالسياسين العراقيين يجيدون المكر والخداع والازدواجية ولديهم اولوية المال والسلطة والسلاح, وهم يقترفوا ويرتكبوا اشد الجرائم للحفاظ على البقاء في الحكم ولديهم كل الوسائل والدنيئة في مقدمتها انها مشروعة ويجب استخدامها للبقاء والحفاظ على المحاصصة الطائفية والاثنية.

بالتأكيد ان فسحة الأمل لازالت قيد الاختبار في العراق للتغير واحداث نقلة نوعية في موازين القوى السياسية استنادا الى قدرات القوى الحاكمة في التشبث في السلطة بوسائل الترهيب والترغيب, ولكن الأمل معقود على قوى الاحتجاجات السلمية التي دكت قلاع نظام المحاصصة واضعفته بل ووضعته في خيارات محدودة تقوض من بنيته المتهالكة الفاسدة, ومن هنا ومن موقع المسؤولية ان على قوى الحراك ان تنظم نفسها بما يستجيب لحجم مهماتها الصعبة في اختراق نظام المحاصصة واعادة تشكيل القوى السياسية على اساس من خيارات الشعب وارادته الحرة, وعلى الحراك التحالف مع القوى السياسية ذات الارث المشرف في النضال ضد الدكتاتورية وفي مقدمتها قوى اليسار العراقي والقوى المدنية التقدمية, فأن الخلاص لا يأتي عبر بعثرة وتشتت الجهود المناهظة لنطام المحاصصة بل عبر توحيد كل القوى الفاعلة من اجل عراق افضل.

الحل الجذري في العراق ليست سهلا ولا يحل بتعويذة او دعاء ولكن هناك خطوات يعرفها العراقيون قبل غيرهم وهي:  أولاً يجب أن يكون القضاء قوياً وقادراً على فرض القانون في البلاد.. ثانياً، أن تستعد المحكمة الاتحادية لاتخاذ إجراءات صارمة ضد مَن يخطئ ويقصر. واتخاذ هذه الإجراءات يحتاج إلى محاكمات عادلة خالية من الفساد الإداري والسياسي الذي يحول دون المساس بأي شخص مدعوم من جهة سياسية أو ميليشياوية نافذة. وذلك يدل على أهمية الإجراء الثالث المقترح، وهو تغيير النظام السياسي القائم في البلاد، إذ هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في النظام السياسي المبني على المحاصصة، وتفتيت موارد ومقدرات البلاد وتوزيعها على أطراف سياسية مختلفة بدلاً من نظام سياسي يعمل على بناء مؤسسات الدولة.

أما العامل الرابع، فهو يعتمد على تأهيل الكوادر في الوزارات والدوائر الحكومية ووضع منهاج عمل واضح لها بعد أن تراجعت خلال السنوات الماضية. ويجب أن تشمل عمليات التأهيل هذه الصيانة الإلزامية لكل مرافق الدولة ومشاريعها. ففي الوقت الراهن، توقع غالبية العقود من دون إدراج بنود صيانة واضحة، إذ مَن يشرف على العقد عادة ما يكون حصوله على عمولة عالية فوق أي اعتبار آخر.

وهذه القضايا كلها في النهاية تحتاج إلى العامل الخامس والأهم، وهو مكافحة آفة الفساد في البلاد؛ إذ لا يمكن لنجاح أي دولة وهي تعاني من الفساد من أبسط الأمور إلى أكثرها تعقيداً، إلا أن يكون قطع رأس الفساد هو العامل الأهم لديها. وإن لم يتم تبني هذه الإجراءات في العراق، فمن المحتم أن نعلن الحداد فيه وعليه مجددا, فقد اهدر 1400 مليار دولار للفترة ما بعد 2003 وغابت في العراق التنمية الشاملة وتنوع القطاعات الاقتصادية, حتى بات العراق يبيع نفطا ليأكل.

هذه الاراءً يضعها كتاب عراقيون وعرب وليست مني فقط لأحساسهم المرهف بحال العراق وتمنياتهم بأصلاح حاله ولكن الأمر مرهون كله بتغير المنظومة السياسية الحاكمة كي تسنح الفرصة للبدء في عمليات التغير الجذري, فأن موزاين القوى هو من يسمح بأصلاح المنظومة السياسية الفاسدة اما عدا ذلك فأن العراق يسير الى حيث لا تشتهية سفن ابنائه !!!.


22
الأقدام والأحجام في الأنتخابات البرلمانية العراقية القادمة

د. عامر صالح

في سياقات طبيعية وفي ظل الأنظمة الديمقراطية العريقة والمستقرة وحتى الناشئة والمؤمنة قواها السياسية بالتداول السلمي للسلطة تشكل المشاركة الواسعة في الانتخابات والدعوة أليها والتحشيد لها عبر وسائل الاعلام الرسمية والشعبية احدى المهمات الوطنية واغناء لمفهوم حق المواطن في انتخاب السلطات القادمة التي تمثله وتستجيب لمطالب الحياة اليومية ومطالب اخرى ذات افق استراتيجي تجسدها سلامة الخيارات الانتخابية للحفاظ على الوطن وأمنه وسلامته في دائرة علاقاته الداخلية والخارجية مع العالم المحيط به, ومن هنا تكون المشاركة في الانتخابات هي مسؤولية فردية ومجتمعية للحفاظ على مستقبل البلاد واستقراره عبر اعادة ورسم ملامح اصطفافات سياسية لأنتاج حكومات قوية وسلطات تشريعية قادرة على السير بالبلاد الى بر الآمان عبر تجديد العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة, وبالتالي فأن المشاركة الواسعة في الانتخابات من خلال ابداء الصوت الانتخابي هي من اصول النظام الديمقراطي للحفاظ على الوطن وأمنه من خلال المشاركة في اختيار قادته ونخبه السياسية والاجتماعية ومنحها الشرعية للأطلاع بدورها في الحفاظ على امن البلاد وسلامته, وانعكاسات ذلك في تحسين الأداء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

في العراق وما بعد سقوط النظام الدكتاتوري من خلال الاحتلال الامريكي والغربي للبلاد أرسيت هياكل شكلية للعملية الديمقراطية قوامها دستور دائم للبلاد يؤكد على ان العراق بلد التعددية السياسية ويجرى فيه تدوال السلطة عبر انتخابات برلمانية دورية كل اربع سنوات والتي تقوم لاحقا بتقرير شكل سلطاته التنفيذية والمتمثل في اختيار الحكومات المقبلة لتؤدي وظائفها في تحقيق العدالة الاجتماعية وتنفيذ مطالب الشعب في العيش الحر الكريم عبر تطمين الحاجات الاساسية في الأمن والخدمات العامة والسير قدما لأعادة بناء بنيته التحتية الاقتصادية والاجتماعية, ولكن ما جرى في العراق خلال ثمانية عشر عاما هو ان الفراغ السياسي الناتج من سقوط النظام قد تم ملئه من قبل قوى واحزاب سياسية غير مؤمنة في العملية الديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة بل ان جوهر خطابها يستند الى التحريض الطائفي والشوفيني والعرقي مما دفع العراق في اكثر من مناسبة على حافة الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي والذي شكل فرصة سانحة لتنظيم داعش الارهابي لاحقا في احتلال 30% من مساحة العراق وقبلها تنظيم القاعدة الارهابي وفلول مجاميع الجريمة المنظمة.

خلال تجربة ثمانية عشر عاما من حكم القوى غير المؤمنة بالديمقراطية والتي لا تملك مشروع بناء دولة المواطنة الجامعة لكل المكونات غرق العراق في بحر من الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام وتحطيم البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, حتى بلغ ما تم اهداره من اموال يتجاوز 1400 مليار دولار توزعت بين سرقات مباشرة للمال العام ومشاريع وهمية وصفقات من العقود قوامها سرقة المال العام والتحايل على الدولة والإفساد في وزاراتها جميعا عبر ما يسمى بالمكاتب الاقتصادية للأحزاب والمليشيات الحاكمة مباشرة او في الظل, وقد زجت البلاد في آتون البطالة والفقر والخراب الى جانب تفكك منظومته الاجتماعية والنفسية.

على مدى ثمانية عشر عاما وخلال كل الدورات الانتخابية البرلمانية السابقة جرى الاحتكام الى السلاح كلغة فريدة لتقرير وجهة البلاد ومستقبلها عبر هيمنة المليشيات الحزبية والمجاميع الاجرامية, فقد جرت عمليات تزوير واسعة النطاق الى جانب ممارسات ترهيب المواطنين وشراء ذمم شرائح اجتماعية واسعة عبر افتعال اعداء وهميين في الداخل والخارج واضفاء البعد الطائفي والشوفيني والعنصري في عمليات الصراع الاجتماعي الجارية في البلاد وحرف مساراتها الطبقية والسياسية وتشويه التركيبة الاجتماعية عبر استمالتها لعمليات الاستقطاب والشحن الطائفي والمذهبي واقحام بنى اجتماعية في عملية الصراع الدائرة كأستنفار العشائر وتسليحها وزجها في صراعات مختلفة وقد باتت تهدد الاستقرار والامن المجتمعي بل وتهدد الدولة ومؤسساتها.

الاخفاق المزمن للحكومات المتعاقبة ما بعد 2003 ترك المواطن العراقي في حالة اغتراب من النظام القائم وقواه السياسية الحاكمة وقد تجسد ذلك بوضوح في حالة عجز المواطن من التأثير في اي عمل من اعمال الحكومات المتعاقبة, واحساسه بأنعدام المعنى السياسي لأي قرارات متوقعة , والاحساس بانعدام المعايير السياسية وكذلك الاحساس بالعزلة وعدم جدوى المساهمة في التصويت لأي قضية مطروحة للنقاش من قبل الدولة وامؤسساتها, وهذا الاغتراب اليوم تجسده حالات تبلور عدم المشاركة وانتفاء الجدوى من الانتخابات البرلمانية القادمة والتي يقال عنها ستجرى في اكتوبر القادم, والاسباب التي تكمن وراء ذلك يلخصها المهتمون بالشأن السياسي والانتخابي العراقي بما يلي: غياب الثقة ما بين الناخبين والنخب السياسية من احزاب وقوى سياسية التي سيطرت على مفاصل الدولة ومؤسساتها, وعدم ثقة الناخب من جدوى التصويت على اعتبار ان النتائج محسومة من قبل مما يتسبب في اهدار اصواتهم, وعدم ثقة الناخبين بمفوضية الانتخابات التي بنيت على اساس المحاصصة بهذا القدر او ذاك وضعف حياديتها, عدم ضمان نزاهة الانتخابات, وقانون الانتخابات غير العادل والمصمم على اهواء الكتل السياسية المسيطرة على العملية السياسية, والفسادالمستشري في مفاصل الدولة, واعادة ترشيح نفس الوجوه السابقة على الرغم من تورطهم او اشتباه تورطهم بقضايا فساد وعدم محاسبتهم او اقصائهم, وتهميش الفئات الشابة والمثقفة والاكاديمية وعدم تلبية مطالبهم.

اكثر المشاهد دموية في الوضع السياسي الحالي في العراق هو ما رافق انتفاضة اكتوبر العراقية التي انطلقت شرارتها في بداية الشهر العاشر من العام 2019 والتي لازال زخمها يلقي بظلاله على شرعية العملية السياسية في العراق وهي انتفاضة مطلبية سلمية بأمتياز تستهدف اصلاح العملية السياسية ونبذ نظام المحاصصة الطائفي والاثني ومحاربة الفساد الى جانب المطالب المشروعة في تحسين ظروف الحياة العامة, من أمن وخدمات كالصحة والكهرباء والماء وتحسين اداء المؤسسات التربوية والتعليمية وغيرها, ولكن جوبهت هذه الانتفاضة بالقمع والاغتيالات والتغييب القسري, حتى بلغ شهداء الانتفاضة اكثر من 700 شهيد و30 الف جريح ومئات الاعاقات المنتهية, وتحت زخم الانتفاضة وجذواها سقطت حكومة عادل عبد المهدي المتهمة بقتل المتظاهرين, ثم جاءت حكومة الكاظمي ولم تستطيع الى اليوم من الكشف عن قتلة المتظاهرين, بل استمر قتل الناشطين واختطافهم وقتل الاعلامين والمحللين السياسين وتهديد كل من له رأي مغاير وباتت سطوة المليشيات المسلحة واستعراضاتها المستمرة تهدد ما تبقى للدولة من سمعة وهيبة في ذهن المواطنين.

في هذه الظروف بدأت تتبلور في الشارع العراقي افرادا وتيارات سياسية بعدم جدوى المشاركة في الانتخابات القادمة المزمعة اقامتها في اكتوبر القادم, وهي ليست مقاطعة عبثية كما يراد تصويرها من قبل احزاب السلطة, وان دعواهم للمساهمة في الانتخابات هي فقط لأضفاء شرعية نتائج انتخاباتهم والمحسومة سلفا, ولكن الأتجاه المقاطع للأنتخابات يستند الى اسباب وحيثيات رافقت العملية السياسية في العراق منذ ولادتها العسرة في عام 2003 والى اليوم وبالتالي فأن المساهمة في اوضاع محسومة مسبقا هو اشبه في المصادقة على مما تتمخض عنه صناديق الأقتراع في ظل هيمنة المتحاصصين حتى على نسبة مقاعد برلمانهم القادم. ان المقاطعة من قبل اوساط شعبية وسياسية متسارعة في وتيرتها لا يخالف الدستور, ففيه يكمن حق المواطن من المشاركة من عدمها ولكن المشاركة تكون مشاركة فاعلة حين تتوفر اجواء الحد الادنى من النزاهة وتكمن فيما يلي: تشريع قانون انتخابات عادل ومنصف, تشكيل مفوضية مستقلة ومحايدة, تطبيق قانون الأحزاب, توفير بيئة انتخابية سليمة, محاكمة قتلة المتظاهرين, محاكمة حيتان الفساد, حصر السلاح بيد الدولة . بالتأكيد ان المقاطعة المنظمة من قبل قوى الحراك المجتمعي ومن خلال اطر تنظيمية واضحة وبحجم التحديات المطروحة هي مهمة ملحة وذات ابعاد مصيرية تستهدف احداث خلل كبير في منظومة الفساد الجاثمة على صدور العراقيين منذ ثمانية عشر عاما.

وبقدر ما ترى الاحزاب الاسلاموية والاثنية الحاكمة والمتسلطة ان صناديق الاقتراع هي هدف لذاته للأستحواذ على السلطة وليست وسيلة لترسيخ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة فأن قوى المقاطعة المنظمة سوف تسهم في ترسيخ تقاليد ديمقراطية قوامها ان صناديق الأقتراع هي وسيلة من وسائل الديمقراطية لأعادة انتاج حكم سليم وشفاف بعيدا عن التزوير وحرق صناديق الاقتراع.




23
جريمة مستشفى ابن الخطيب لا تسقط في التقادم
د.عامر صالح

فاجعة مستشفى ابن الخطيب في بغداد والتي حصلت جراء حريق هائل اندلع في مخازن الأوكسجين والتي تستخدم في اسعاف مرضى كورونا كوفيد ـ 19 في نهاية الشهر الماضي في ليلة يوم السبت على الأحد من 24 ـ 25 ابريل والذي راح ضحيته اكثر من 200 بين وفاة وجريح كان حدثا مأساويا لا يمكن ان يمر مرورا عابرا أو الوقوف عند حدود الأجراءات الشكلية المعتادة التي تحصل يوميا في العراق اتجاه ما يحصل من قتل واغتيالات وحرائق تكاد تكون دورية الى جانب آفة الفساد والنهب والعبث في المال العام, فجميعها تصب في خانة مخرجات نظام المحاصصة الذي تأسس بعد 2003 والذي على ما يبدوا ان مهمته الأولى هو نسف البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والخدمية على مدار 18 عاما مضت.

ان التعاطف والمواساة مع شعب العراق من قبل اغلب دول العالم العربي والأقليمي والعالمي وكذلك من قبل المنظمة الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة يجسد عمق المأساة التي حصلت, حيث المواطن العراقي الذي يتصرف بسجية عفوية يستنجد للخلاص من كورونا في الذهاب الى المستشفى لتلقي جرعات الأوكسجين ولكن يخرج منه متفحما مشويا. وبحسب تقرير اللجنة النيابية، فإن «مستشفى ابن الخطيب»؛ الذي أنشئ عام 1959، " لا يحتوي على منظومة إطفاء حرائق مركزية، مع عدم وجود مراقبة وفحص نظامي من قبل مديرية الدفاع المدني". وأشار التقرير إلى "عدم سيطرة قوات حماية المنشآت وإدارة المستشفى على أعداد المرافقين الموجودين داخل المستشفى مع مرضاهم، حيث يوجد من 3 إلى 4 مرافقين، إضافة إلى وجود آخر من الزائرين، وتبين قيام بعض المرافقين باستخدام الهيترات (السخانات) لطهي الطعام داخل الردهات". وعلى اثر ذلك أقيل عدد من مسؤولي الصحة المحليين وسبقتها سحب يد وزير الصحة ثم قام الاخير بتقديم استقالته بشروط عدم محاسبته " حسب ما تناقلته بعض وشائل الأعلام ".

ان تشخيص اللجنة النيابية" رغم انتقائيتها " من حيث انعدام السلامة والآمان والتقصير في الواجب يجسد عينة ممثلة لكل الوزارات والمؤسسات والمشاريع الحكومية  بل وكل المؤسسات الرسمية والاهلية, وان انفجار مستشفى ابن الخطيب يعكس عمق التدهور في مؤسسات الدولة ويجسدها بوضوح, وكان حصوله هو اماطة اللثام عن واقع مزري يعيشه البلد منذ سنوات ويعكس حجم المزيد من الكوارث التي تنتظر شعبنا, انها خلاصة مركزة لأداء نظام المحاصصة الطائفية الذي يرتكز على التعامل مع مؤسسات الدولة كغنائم تتقاسمها الاحزاب الحاكمة وتفسد فيها ضمن معايير انعدام الكفاءة النوعية في الأداء, وبالتالي فأن مفاهيم الجودة ومعايير الكفاءة العالية لا دلالة لها في نظام يستند الى الأفساد والرداءة في العمل كخيار وحيد لتحطيم مؤسسات الدولة.

ان هذا النوع من الجرائم المرتكبة وذات الطابع المقصود بسبب بنية النظام المتهالكة والفساد العام المقصود والمخطط له لتخريب مؤسسات الدولة في اطار العبث بمعايير الأداء السليم, وان كانت شرارتها اعمال فردية مقصودة وغير مقصودة, فهي تعكس حجم الهلاك والتردي الداخلي الذي يجسد بوضوح انعكاسات المحاصصة في الأطراف كما في القمة, انه عمل يحمل الكثير من القصدية في نتائجه النهائية لتخريب المجتمع ومؤسساته, وبالتالي فهي جرائم لا يمكن ان تسقط بالتقادم, أسوة بجرائم الحروب الطائفية والتهجير وتدمير المدن وسلب الممتلكات العامة والخاصة وقتل المحتجزين, وان من يحرض عليها ويرتكبها يجب ان يساق للعدالة, فهي جرائم ضد الانسانية, وقد انتهكت في العراق كل حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بكل تفاصيلها بلغت حد تهجيره وقتله ومصادرة ممتلكاته.

 أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى، ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية، حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد، مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد، وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار، وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية، مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة، وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة، أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

وقد عرقل نظام المحاصصة جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد، بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك، أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة، بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية "، وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل، وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه..


لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية، فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها، أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق، وحتى لأتفه الأسباب، وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.

كارثة مستشفى ابن الخطيب في بغداد هي ليست كارثة ميدانية داخل جدار مستشفى وانتهى الأمر عند حدود التحقيقات الميدانية والتصريحات العبثية, لا أنها كارثة جسدت بوضوح طبيعة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ومدى خطورته على حياة الناس كالمؤسسات الصحية مثلا, ومثلها ايضا في قطاع الكهرباء والماء والتعليم ومجمل الخدمات الاجتماعية, انه انعكاس مزمن لتردي البنية التحتية الغارقة في الفساد الاداري والمالي, وبالتالي فأن محاسبة مسؤولين ميدانيين من الصحة والمستشفى " رغم اهمية ذلك في ظروف طبيعية " هو امر عبثي لصرف الانظار عن حجم الازمة المستعصية ومحاولات تنفيسها ببعض الاشخاص .

جريمة مستشفى ابن الخطيب هي توأم لجريمة قتل 700 متظاهر سلمي في احتجاجات اكتوبر خرج للمطالبة بحقوق الحد الادنى من العيش الكريم ولكنه لقى حتفه من قوى الظلام المحاصصاتي كما لقاها راقد مستشفى ابن الخطيب بسبب فساد ذات القوى المجرمة التي تتصدى لكل محاولات الاصلاح وتحسين الحياة كما ونوعا. المجد والخلود لكل ضحايا وشهداء نظام المحاصصة والنصر لقضايا شعبنا في التقدم والحرية والسلم المجتمعي.

24
ألغاء انتخابات الخارج البرلمانية بين دوافع الأقصاء والتبرير

د. عامر صالح

أثار قرار المفوضية العليا المستقل للانتخابات في العراق بحرمان المغتربين في الخارج من التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة في أكتوبر/تشرين الأول القادم، جدلا واسعا بين أوساط عراقية مختلفة، وانقسمت الآراء بين مؤيد للقرار ورافض له.
وقالت مفوضية الانتخابات بالعراق في بيان إنها واجهت عدة معوقات فنية ومالية وقانونية وصحية من ضمنها قصر المدة المتبقية لموعد إجراء الانتخابات، وهي غير كافية لإصدار وتحديث البطاقات البايومترية وسجلات الناخبين بالإضافة إلى اعتذار وزارة الخارجية عن إجراء عمليات تسجيل الناخبين في مقارها الدبلوماسية بالخارج.

أشار البيان أيضاً إلى أن "إجراء العملية الانتخابية في أماكن غير خاضعة للسيادة العراقية يجعلها خاضعة لقوانين تلك الدول، ولا ولاية للقضاء العراقي على المخالفات والتجاوزات، التي قد تحصل خلال إجراء العملية الانتخابية، إضافة إلى أن إرسال موظفي المفوضية إلى دول أخرى في ظل الظروف الصحية الحرجة المتمثلة بانتشار جائحة كورونا يعرض سلامتهم إلى الخطر"، وهو ما أوضحته الأمانة العامة لمجلس الوزراء وفقا لقرار اللجنة العليا للصحة والسلامة رقم (11) لسنة 2021.
وكان مجلس المفوضية أعلن في وقت سابق في بيان أن «قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم (9) لسنة 2020 نص على أن (يصوت عراقيو الخارج لصالح دوائرهم الانتخابية باستخدام البطاقة البايومترية حصراً)». وأضاف البيان أن «المفوضية واجهت عدة معوقات فنية ومالية وقانونية وصحية أهمها أن إكمال عملية تسجيل الناخبين العراقيين في الخارج بايومترياً بمراحلها كافة يحتاج إلى (160) يوماً تقريباً في الظروف المثالية، بينما المدة المتبقية هي (40 يوماً) فقط». وأشار البيان إلى أن (وزارة الخارجية اعتذرت عن إجراء عملية التسجيل والاقتراع في السفارات والقنصليات العراقية لاستحالة إقامتها في المرحلة الراهنة ولهذه الدورة الانتخابية، إضافة إلى ما ستستغرقه عملية فتح حسابات جارية باسم مكاتب المفوضية في خارج العراق، وما يتطلبه ذلك من موافقات أمنية ومالية من تلك الدول).

وكما اكد المحرر السياسي لصحيفة طريق الشعب الصحيفة الناطقة بأسم الحزب الشيوعي العراقي: " ان  المراد من هذه الانتخابات هو ان تكون خطوة في سياق تراكمي لمستلزمات التغيير، وبناء ميزان قوى قادر على فرض إرادة الشعب وتطلعه الى الخلاص مما هو فيه من أزمات، طالت كل شيء في الوطن ووصلت تداعياتها الى الغالبية الساحقة من بيوت المواطنين.
وهذا يستلزم بالضرورة ان تكون الانتخابات عادلة ونزيهة وشفافة، وان يستطيع المواطن داخل الوطن وخارجه الأدلاء بصوته بحرية تامة وفقا لخياراته وقناعاته، بعيدا عن الضغط والاكراه، من أيّة جهة جاءا وتحت أي مسمى وعنوان. وان تجري العملية الانتخابية في جميع مراحلها في أجواء آمنة، وبعيدا عن نفوذ المال السياسي واغراءات الكتل المتنفذة، وبعيدا أيضا عن ضغط السلاح المنفلت الذي يتوجب ان يحصر بيد مؤسسات الدولة، وان تتخذ إجراءات ملموسة في هذا الشأن، ويطبق نص المادة التاسعة/   أولا من الدستور، التي تنص على انه: يحظر تكوين مليشيات عسكرية خارج القوات المسلحة". 
ان من واجب الحكومة والمفوضية توفير مستلزمات تمتع المواطنين جميعا، بالحق في المشاركة في الشؤون العامة وبالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح، كما نصت المادة 20 من الدستور. ولم يميز الدستور ومواده، كذلك قانون الانتخابات، بين المواطنين العراقيين سواء كانوا داخل وطنهم او خارجه. ولهذا يبقى مدى قانونية حرمان العراقيين في الخارج من حق التصويت واختيار ممثليهم، موضع تساؤل مشروع".

في خارج العراق يتواجد اكثر من 5 ملايين عراقي بل واكثر من ذلك متناثرين في شتات العالم اضطرتهم في معظم الحالات ظروف القمع السياسي في زمن النظام الدكتاتوري السابق وما بعده من ظروف الاحتقان والاقتتال الطائفي والاثني والهجرة والتهجير القسري, وبالتالي تواجد خارج حدود العراق الجغرافية ملايين من العراقيين, وكانوا ولا يزالوا اصحاب قضية سياسية واجتماعية, وفيهم من النخب الفكرية والسياسية والأيديولوجية اسهمت في زمن المعارضة للنظام الدكتاتوري في بلورة الرأي العام العراقي وتعبئته في الخارج والداخل في الوقوف ضد القمع والحروب العبثية للنظام السابق الى جانب التثقيف الواسع من اجل احلال بديل ديمقراطي سياسي للعراق كنموذج منقذ للبلاد من وحل النظام السابق وعدوانيته المقيتة.

ان التذرع بأن انتخابات الخارج السابقة كانت مشوبة بالتزوير او التقليل من اهميتها بأنها لا تشكل سوى 4% هي مبررات قائمة على اساس عدم مقدرة الحكومات السابقة والحالية في توفير حدود معقولة من الشفافية والنزاهة, وبالتالي هنا يمكن التساؤل هل تستطيع الحكومة العراقية توفير اجواء انتخابية في الداخل العراقي من حيث النزاهة وردع المليشيات المسلحة من العبث في الانتخابات, وهل تستطيع الحكومة الحد من تأثير المال السياسي الفاسد على مسار العملية الانتخابية وهل تضمن نتائج انتخابية ذات مصداقية عالية, وعندما تقصي مفوضية الانتخابات والحكومة عراقيي الخارج من المشاركة في الانتخابات فعليها اولا ان تقصي حملة السلاح غير الشرعي والمليشيات السائبة والاحزاب ذات التمويل الفاسد الذي يتهيأ بكل قدراته لخوض الانتخابات القادمة وفرض نتائج مقررة سلفا بأعداد مقاعد برلمانية.

تقدر اعداد من يستحق له التصويت في الخارج وقد حرم منه اكثر من مليونين ونصف مواطن, الى جانب من لا يستطيعوا الحصول على البطاقة البايومترية وسيلجأون الى البطاقة الألكترونية وهم اكثر من ثلاثة ملايين وهم عرضة لشراء ذممهم من خلال العبث بأصواتهم وشرائها وتوظيفها في مختلف التحالفات الغير نزيهة, فهناك في المحصلة بحدود خمسة ملايين صوت انتخابي او اكثر تم تغيبهم بمختلف المبررات والصعوبات الفنية والاجرائية المفتعلة للحد من المساهمة الواسعة في الانتخابات القادمة.

لقد ساد خطابا منفعلا وتعبويا ذو مزاج عدوانيا استهدف عراقيي الخارج وقد استمد مسلماته من التجارب المرة لبعض القيادات السياسية الفاسدة والتي تمثل رموز الفساد للأحزاب الحاكمة وقد أتت من الخارج, ولكن الأمر غير منفصل عن آفة الفساد وتجذره في مؤسسات الدولة العراقية ومن " ابناء الداخل " فالفساد العراقي اخطبوطي ومن العبث بمعالجته وتشخيصه عبر تلك التوصيفات المفتعلة. الحديث عن الفساد وتحميله لحملة الجنسية الثانية او المزدوجة هو حديث كذب ورياء يراد به خلط الاوراق وتحميل السياسين القادمون من الخارج مسؤولية ما يحصل من الخراب, فالقضية اكبر من حاملي جنسية اخرى بل من احزاب فاسدة لا تؤمن بمشروع بناء دولة المواطنة, نعم منهم من حملة الجنسية المزدوجة ولكن الجنسية الثانية لم تكن سببا في الفساد إلا بقدر انتمائها الى حزب فاسد يروج للخراب وهلاك الدولة وقد يكون الكثير من اعضائه من حملة الجنسية العراقية الوحيدة ولكنهم لا ينتمون الى العراق بل ينتمون الى مشروع خرابه وارتهانه الى قوى الفساد واللادولة

أن تمترس المحاصصة فــي كل تفاصيل العمليــة السياســية أصبحت تشكل تهديـداً للهويــة الوطنية، وتقدم مصلحة الهويات الفرعية وتحالفــاتها العصبيــة أو الطائفيــة أو القومية على المصلحة العامة. وظلــت التوازنــات مــع المحاصصة مكونــاً أساسياً فــي النظام السياسي بعد 2003. وليــس ســراً تزوير الانتخابــات بسبب المحاصصة والسلاح السائب الحارس لها لــدى بعــض الفصائل والعشائر العراقية لفرض مرشــحيها فــي الانتخابــات البرلمانية والمحلية، بحيــث يلتــزم المنتمــون إلــى العشيرة والقرية والشلل المناطقية وعصابات الشوارع بتأييــد مرشــحهم. ويحــدث ذلــك بغــض النظــر عــن برنامــج المرشــح السياســي؛ كمــا يتجلــى دور المحاصصة فــي حــالات الاستقطاب السياســي أو الطائفي أو القومي, الى جانب اقصاء المكونات العراقية في الخارج للخلاص من تأثيرها في صناديق الأقتراع " رغم ما قيل عنها من ملاحظات ".

مساهمة العراقيون في الخارج في الانتخابات البرلمانية القادمة والتي تم حجبها كان بالأمكان لها ان تسهم في مساهمة فعالة للنخب السياسة والفكرية في رفد ودعم تفاعلات الساحة العراقية الملتهبة بمزيدا من الرؤى الفكرية الصالحة لقيادة البلد في المرحلة القادمة انطلاقا من تفهم واستيعاب الكثير من عراقيي الخارج للتجارب الديمقراطية في دول اقامتهم, الى جانب خبراتهم النضالية المتراكمة في مقارعة انظمة القمع والدكتاتورية والمحاصصة. ان اقصاء عراقيي الخارج من المساهمة في الانتخابات القادمة يجسد قصور الجهات المختصة والمسؤولة عن الانتخابات وتقنياتها في فهم حجم التأثير الايجابي لأصوات الخارج في رسم ملامح عوامل ضغط على المحاصصة السياسية صوب التفتيت الممكن لما هو سائد.





25
ثمانية عشر عاما من غياب الهوية الوطنية وتداعيات سايكواجتماعية


د.عامر صالح

في العراق وما بعد عام 2003 أي بعد سقوط الدكتاتورية بآلية الاحتلال الأمريكي حيث أسس نظاما سياسيا قائم على المحاصصة السياسية العرقية أخل بأنتاج نظام سياسي قائم على اساس الحكم والمعارضة ورفع شعار " الجميع يحكم " ويتقاسم كعكة المحاصصة أو العراق الغنيمة، وهكذا نشأ نظام سياسي شاذ عن اصول اللعبة الديمقراطية يتقاسم مغانم السلطة ويعيد انتاج نفسه عبر انتخابات برلمانية طال الشك بمصداقيتها في كل الدورات الانتخابية وتوجتها سوءا وعدم شرعية الانتخابات البرلمانية الأخيرة من ضعف المشاركة في الانتخابات الى التزوير وحرق صناديق الاقتراع.

جميع القوى السياسية العراقية وخاصة الطائفية منها غير المؤمنة بالديمقراطية اصلا والتي وجدت في تلك البيئة السياسية المريضة ملاذا لاعادة انتاج نفسها عبر الترهيب والترغيب والتحايل، هذه القوى مجتمعة وجدت نفسها في سلة الحكم والمغريات السلطوية وتقاسم النفوذ، اما معارضتها المفتعلة فهي جزء من اساليبها لامتصاص نقمة الشارع الغاضب وغير المتسامح مع الفساد مستندة تلك القوى الى جمهور قطيعي غير معارض بالمعنى السياسي وممتثل لأوامر مرجعيته، فتراه مرة ممتعض منتفض وتارة أخرى خانع مستكن ينتظر نتائج الصفقات الطائفية والأثنية لكي يتلقى الأشارة بالهدوء المؤقت بأنتطار الحصول على المزيد من الغنائم وليست الحقوق المشروعة.

في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003 ، أطاح جنود ألأمريكان بتمثال رأس النظام السابق في بغداد. وبعد مرور ثمانية عشر عاماً، تبين أن الحرب، التي كلفت مئات الآف الضحايا، وأوقعت الشرق الأوسط في حالة من الفوضى "بنيت على أكاذيب أمتلاك النظام السابق لأسلحة الدمار الشامل". لم يستغرق الأمر أكثر من ثلاثة أسابيع على بدء الغزو الأمريكي للعراق، ليظهر مشهد الإطاحة بتمثال صدام حسين في بغداد عبر ملايين الشاشات حول العالم. ودخلت هذه الصورة في الـتاسع من نيسان /أبريل من عام 2003 الى الذاكرة الجماعية. لكن حتى بعد مرور ثمانية عشر عاما عليها، لا تزال هناك العديد من الأسئلة المفتوحة. أولها هو السؤال عن عدد ضحايا حرب العراق عام 2003 والفوضى العارمة التي تلت ذلك بين السكان المحليين. إذ تتحدث معظم التقديرات عن عدد ضحايا يتراوح بين 150 ألف ونصف مليون قتيل. حتى أن بعض الأبحاث الجادة تحدثت عن أرقام أعلى بكثير من هذه الأرقام، إذ سجلت المجلة الطبية الأقدم والأشهر في العالم "لانسيت" في عام 2006 عدد وفيات إضافية تجاوز الـ 650 ألف حالة وفاة. وذلك بالإضافة إلى ضحايا العنف، تم الأخذ بعين الاعتبار أيضاً ضحايا عواقب البنية التحتية المدمرة ونظام الرعاية الصحي المتهالك في البلاد.
.

ومن الطبيعي أن تكون حصيلة تلك الظروف والتحد يات تعثر في مسارات التنمية بعد أن شهد المجتمع العراقي التدهو والشلل التام في جميع المستويات: الفرد، المؤسسات والمجتمع. فعلى مستوى الفرد أدت إلى شيوع حالة من التوتر والصراع الداخلي، و الى الأحساس بالأحباط وعدم الرضا، وفي إقامة علاقات ذات مضامين نفعية ضيقة، والفشل في أداء الدور على النحو المرسوم اجتماعيا. أما على المستوى المجتمعي، فأدت إلى ظهور مشكلات اجتماعية وسلوكية معقدة, في مقد متها توقف عملية التنمية، وانهيار المؤسسات الأجتماعية، وضيق فرص العمل، وتدهور أوضاع الأسرة، وتراجع النظام التعليمي والصحي والخدماتي بصورة عامة، وضعف وسائل الضبط الأجتماعي الرسمية وغير الرسمية، مما فسح المجال واسعا لشتى أشكال العنف والأرهاب والجريمة، وتعاظم أعداد العاطلين والمشردين والمهجرين وأطفال الشوارع، والمتسولين والمرضى والمعوقين، وغير ذلك من الفئات المهمشة ذات القدرات المتدنية التي غالبا ما تفشل في مواجهة تيارات الحياة فتضطر للبقاء في قاع المجتمع خارج الشعور بالأنتماء والمواطنة, كما أدت هذه الاوضاع الى استشراء فئات من المضاربين والسماسرة والمحتالين والطفيلين" من داخل السلطة السياسية ومن خارجها أو بتواطئ منها " الى جانب الصور المتعددة للجريمة المنظمة, من تعاطي المخدرات, والعنف والارهاب, والفساد الاداري والمالي والسياسي والهدر العلمي والمعرفي وغيرها.


لم يكن سقوط النظام الدكتاتوري نتاج لتفاعلات داخلية ذاتية في مؤسسة النظام, رغم أن النظام كان يمر بأزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية خانقة تؤهله للسقوط وعدم البقاء, ولكن القمع والأضطهاد السياسي أضعف القدرات الموضوعية المتمثلة بالقوى المعارضة له مما جعلها غير قادرة أن تتصدر عملية اسقاطه, وجعلها لاحقا متخلفة عن احتواء الفراغ السياسي الذي نتج بعد اسقاطه من خلال القوى العالمية العسكرية بقيادة أمريكا. وكان الفراغ السياسي بعد سقوط النظام ذو شقين, أولهما جماهيري سياسي حيث لا تمتلك القوى السياسية قاعدة شعبية منظمة كافية ومعبئة لكي يؤهلها لقيادة التغير, والشق الآخر هو فكري ايديولجي حيث ان اغلب القوى السياسية التي شغلت الفراغ بعد سقوط النظام لا تمتلك مشروعا وطنيا واضحا ينقذ العراق ويشكل بديلا صالحا عن النظام السابق المنهار, فحل البديل السياسي المحصصاتي الطائفي والأثني المدعي للمظلومية التاريخية والقائم على ردود الأفعال والبعيد عن سنة الصراع الاجتماعي وقوانينه, وقد لقي هذا البديل الدعم الكامل من قوى الاحتلال الامريكي ومتناغما مع اجندته في أضعاف العراق كقدرات ذاتية.

أن تجربة ثمانية عشر عاما من الزمن في الاخفاق المزمن للمطاليب العادلة لشعبنا تعكس بشكل واضح انها ازمة نظام متآكل وليست أزمة تلبية خدمات عامة كان يفترض على النظام تلبيتها في السنوات الأولى من الحكم, أنها أزمة فساد نظام الحكم المتهرئ الذي لا يمتلك أي شرعية للبقاء, وأن شعارات اهلنا في المحافظات المنتفضة في الاستجابة الى المطالب الاساسية ما هي إلا مدخل للمطالبة بتغير النظام المحصصاتي, واهلنا هناك يعرفون تماما فلا كهرباء تأتي ولا ماء صافي سيشرب في ظل نظام معوق وكسيح لا يستطيع تقديم الحد الادنى من مسلمات الحاجات الانسانية, في ظل نظام فاسد لا يتورع عن سرقة لقمة العيش.



أن ما تعرضه منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان يجسد جزء من مأساة الشعب العراقي خلال ما يقارب اكثرمن عقد والنصف عاما الماضية, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم" تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام ". مليونا أرملة" اعمارهن ما بين 15 و25 عاما". ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة" تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار ".بلغت نسبة البطالة 31%" الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى". 35% من العراقيين تحت خط الفقر" اقل من خمسة دولارات". 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة" بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط". 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية.  تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2017 بلغت ألف واربعمائة مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.


وقد قدم شعبنا في  الاحتجاجات التي اندلعت في اكتوبر عام 2019 ما لا يمكن توقعه في حراك سلمي مشروع بعرف القيم الانسانية او كما يرد في دستور العراق الذي يكفل حق التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي, وقد بلغ شهداء الأحتجاجات اكثر من 750 شهيدا وما يقارب من 30 ألف جريح, من بينهم اكثر من 700 اعاقة منتهية, وكذلك اكثر من 2000 معتقل. وقد استندت السلطات الحاكمة الى اعتمادها القمع الدموي الى افتعال " نظرية المؤامرة " التي تستهدف العراق كما ترويه السلطة الحاكمة, وهي تعرف تماما ان سيادة العراق منتهكة من دول الأقليم وأمريكا, وقد مارست السلطة في سلوكها اسقاطا سيكولوجيا لاحدود له في تحميل المحتجين عيوب النظام وامراضه المزمنة, فتوغلت في القتل والتصفيات الجسدية وممارسة شتى صنوف العنف واساليبه اللأانسانية.


 لقد تأكد للجميع أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية خلال 18 عاما وما أنتجه من تعصب أعمى، ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية، حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد، مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد، وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار، وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية، مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة، وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة، أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.
 
كما أن نظام المحاصصة عرقل ويعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد، بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك، أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة، بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية "، وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل، وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.


لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية، فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها، أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق، وحتى لأتفه الأسباب، وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق .


اليوم نحن في العراق أمام واقع استطاع فيه الاسلام السياسي والقوى االسياسية الأثنية ان تنخر العملية السياسية وتشيع الفساد الاداري والمالي في كل مستوياته وتسعى جاهدة لتعزيز الخراب في ما تم تخريبه وتتشبث في البقاء, وقد استفادت من لحظات انفعالات شعببنا بعد سقوط الدكتاتورية لكي يستثمر انفعالات شعبنا في وجهة اضطرابية مرضية صوب التعبئة الانفعالية الحشدية من خلال تحويلها الى قطعان في كل المناسبات الانتخابية منها وغير الانتخابية.

اليوم شعبنا امام مسؤولية تاريخية لأنتاج قوى سياسية قادرة على انتشال ما تبقى من العراق من امكانيات وقدرات ذاتية لأعادة بنائه على اسس من الديمقراطية الحق والتداول السلمي للسلطة, وبالتأكيد انها مهمة ليست سهلة في ظل ظروف سائدة مخيفة تهدد مستقبل العراق حيث فوضى السلاح والمليشيات المنفلتة وقطاعي الطرق, وقتلة المتظاهرين لازالوا احرار طلقاء, وضعف تطبيق القانون واستشراس قوى الدولة العميقة وفي مقدمتها قوى الأحزاب المسلحة التي تستنفر قواها للأستحواذ مجددا على البرلمان عبر اعادة انتاج حجمها اضعافا في الانتخابات القادمة, انها مهمة عسيرة لشعبنا في الخلاص من قوى المحاصصة, ولكن التنظيم ورص الصفوف ووحدة الخطاب قد تمهد لملامح تغير قادم ولعل ذلك يشكل بداية لأزالة اثار الاحتلال وتداعياته ويشكل مدخلا للعراق في بناء علاقات متوازنة وكفوءة مع العالم الخارجي بعيدا عن الضغوطات الأقليمية, الى جانب اعادة انتاج الخطاب الوطني الجامع لوحدة العراقيين.



26
المحاضرون المجانيون جزء من الأزمة العامة للعملية التربوية في العراق

د.عامر صالح

لعله من نافلة القول أن دول العالم تولي اهتماما ورعاية بالتعليم من منطلق أن التعليم هو أساس تقدم الأمم ومعيار تفوقها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وعن طريق التعليم يكتسب الفرد المعرفة وتقنية العصر والقيم والاتجاهات التي تحيط بشخصه من جميع الجوانب وتجعله قادرا على التكيف والتفاعل الايجابي مع البيئة والمجتمع. وأن اتساع القاعدة الشعبية لقطاع التربية والتعليم وتحوله إلى اكبر القطاعات الاجتماعية تجمعا للعنصر البشري دفع العديد من الحكومات المتقدمة والنامية إلى تبني استراتيجيات شاملة تزيل الطلاق التقليدي بين المدرسة والعمل والحياة وإحكام ربط هذا القطاع بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد عززت هذا التوجه الدراسات الكثيرة التي بينت أن التربية ليست " خدمة استهلاكية " تقدم للناس بل هي توظيف مثمر للموارد يؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي إن أحسن استخدامه إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها, وهي ذات اثر طويل الأمد. وقد أكدت دراسات دنيون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين الروسي, أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة, بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية.
 
ولعل من المسلم به القول ايضا إن عملية التربية والتعليم تعد ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وللتقدم والنهضة الحضارية ومجاراة للعصر,حيث أن المواطن المتعلم والمؤهل والمتربي هو ثروة حقيقية لأي مجتمع من المجتمعات,ومن هنا تعكف دول العالم على الاستثمار في العنصر البشري من خلال التعليم والتدريب والرعاية المختلفة, وذلك لقناعات مفادها إن الإنفاق المالي الكبير على قطاعي التربية والتعليم هو ليست من باب الاستهلاك بل هو من باب الاستثمار ذو العوائد طويلة الأمد,والذي تأتي فوائده أضعاف ما ينفق على هذه القطاعات ولسنين طوال ولأجيال متعاقبة.


فالتربية والتعليم تلعب دورا كبيرا في بناء الشخصية الوطنية وتكريس الهوية الحضارية من خلال دورهما في عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية وتكريس قيم التسامح والمصالحة الوطنية,وهما يمثلان الركيزة الأساسية في خلق القوى العاملة المدربة في مختلف الاختصاصات لتلبية احتياجات التنمية الشاملة وسوق العمالة, ومن خلالهما أيضا يتم خلق أجيال قادرة على التواصل مع العالم والتعامل مع مستجدياته في ميادين التقدم الاقتصادي والاجتماعي والتقني لمواكبة ظروف العصر,حيث نحتاج فيه إلى إنسان يمتلك الخبرات والأفكار والأساليب والآليات الجديدة والمستجدة, أي نحتاج إلى إنسان يتصف بالقدرة على الإبداع والابتكار والبصيرة النافذة, ومن هنا تأتي أهمية دور نظام التربية والتعليم في تأهيل هذا الإنسان في ظل تأثر هذا النظام بالعديد من التحديات مثل ثورة المعلومات والاتصالات,وثورة العلم والتكنولوجيا,والتنمية الشاملة والمستديمة, والشركات المتعددة الجنسيات والعولمة, وهذه التحديات تؤثر في أساليب عمل المؤسسات التعليمية كما تؤثر في أهدافها ومناهجها وكادرها التدريسي وطبيعة إعداده وفي تحديد طرائق التدريس وطرائق عمل هذه المؤسسات وأدارتها بصورة عامة.


أن إصلاح حقيقي في مجال التربية والتعليم لا يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة منه إلا إذا جاء كجزء من عملية إصلاح شاملة تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية,وخاصة في ظل التداخل والتأثير المتبادل بين هذه المجالات, وحيث أنجز العراق الخطوة الأولى المتمثلة في التغير السياسي صوب "الديمقراطية السياسية" اللازمة لانتعاش الديمقراطية في قطاع التربية والتعليم " كما يفترض في سياقات صحية", إلا أنه اخل في ترك أي اثر ايجابي في هذا القطاع في الحقبة ما بعد 2003 والى اليوم, حيث ترك هذا القطاع فريسة للمحاصصات السياسية والطائفية وفتح باب الاجتهاد السيئ على مصراعيه في هذا المجال مما حوله إلى ميدان مصدر للتخلف الفكري والتربوي ومكان امن للفساد والتزوير والاستحواذ, وهو استمرار لما حصل من تدهور في العملية التربوية والتعليمية في زمن النظام السابق,بل وفي بعض من وجهوها أشرس مما وقع آنذاك.

في الوقت الذي حقق فيه العراق تقدما ملموسا في عقد السبعينيات على مستوى استيعاب الأطفال, فحسب تقرير اليونسكو أمتلك العراق قبل حرب الخليج الأولى نظام تعليمي من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة قدرت نسبة المسجلين فيه بالتعليم الابتدائي ما يقارب 100% مقارنة بأعداد الأطفال في سن التعليم الابتدائي,وحسب تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1973 فأن معدل التسرب في التعليم الابتدائي قد هبط في العراق إلى ما يقارب 5% بين الصف الأول والخامس الابتدائي,وكان هذا أوطأ معدلات تسرب في الدول النامية.ثم نال العراق في نهاية السبعينيات جائزة اليونسكو على حملة محو الأمية.وقد ساهمت في ذلك الطفرة المالية المتحققة من العوائد النفطية والتي وسعت من حجم الإنفاق على التعليم,وكذلك الدور الكبير والمتميز الذي لعبته الحركة الوطنية وفي مقدمتها قوى اليسار في التعبئة لنشر التعليم والثقافة في صفوف أبناء المجتمع وتعزيز الدور التعبوي عبر نشاطها وصحافتها العلنية, وخاصة في ميدان محو الأمية,ونقل تجارب الشعوب العالمية عبر صحافتها اليومية وخلق المزاج العام المواتي لتنفيذ ذلك. إلا إن الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام العراقي آنذاك وما سببته من استنزاف للموارد المالية والبشرية قد الحق أفدح الإضرار بقطاع التربية والتعليم, ويكفي إن نشير هنا إلى إن نسبة القادرين على القراءة والكتابة في البلاد عام 2003: الذكور 55%, الإناث 23%. وبلغت خسائر هذا القطاع أكثر من أربع مليارات دولار شملت كل عناصر وأبعاد العملية التربوية ومستلزماتها ومؤسساتها ومراحلها المختلفة.

أن مصير العملية التربوية كما هو معروف يرتبط وثيقا بالاستقرار السياسي الذي يبعث الأمل في مؤسسات الدولة وقيامها بأنشطتها على أسس موضوعية وحيادية, ومنها قطاع التربية والتعليم,فالنظام السياسي يلعب دورا مهما في إعادة توليد القيم الأخلاقية والاتجاهات الاجتماعية العامة, والنظام التربوي هو احد أدواته لتكريس هذه القيم ونشرها على نطاق واسع عبر الممارسات اليومية, من خلال المناهج والأنشطة المدرسية, وتشكل في هذا السياق ظاهرة التعصب الديني والطائفي والقومي احد القيم الأخلاقية والتربوية الضاغطة على وحدة نظام التعليم ونسيجه الاجتماعي, ويشكل هنا التسرب من التعليم والابتعاد عنه احد وسائل احتماء الأقليات في حالات الاحتقان الشديد وسببا في انقطاع الكثير من أبناء الأقليات والطوائف عن التعليم والعزوف عنه.


تعرض النظام التربوي جراء سياسات النظام السابق الهوجاء وما تلتها من سياسات عشوائية على أيدي الاحتلال وما تبعتها من تكريس للمحاصصة الطائفية, إلى انهيارات كبرى في مراحله المختلفة, فقد تم تدمير اغلب المؤسسات التربوية من أبنية ومستلزمات وأجهزة, وقد تحول الكثير من المدارس إلى مجرد أربعة جدران وأماكن شكلية لإقامة الدارسين,لا تشد الطالب إلى المجيء والمواظبة, بل إلى طرده من المدرسة, ناهيك عن اقتسام المدارس إلى مناطق نفوذ طائفي أو حزبي, فهي تعتبر في أذهان الكثير أماكن غير آمنه.


بعد مرور 18 عاما على سقوط النظام السابق ولا زال النظام التربوي والتعليمي في العراق يتعرض الى هزات بنيوية تهدد بأنهيار ما تبقى للقطاع من سمعة وطنية ودولية, وتلك الانهيارات تشمل عناصر العملية التربوية بأبعادها المختلفة: من كادر تربوي, ومناهج, مكان الدراسسة, الأدارة والطلاب وفي سياقتها الكمية والكيفية. وفي سياق حديثنا عن الكادر التدريسي والتربوي بصورة عامة حيث يتعرض الى المساوامات اللاانسانية من قبل السلطات التربوية المحصصاتية التي لا تفقه قيمة العيش الكريم للكادر التربوي وآثار ذلك على أدائه اليومي في سياق العملية التربوية, وتلك السلطات تمارس نفس حالات الاستلاب والأكراه التي مارسها النظام السابق لأذلال الناس من خلال سياسة التبعيث والشوفينية وفرض سياسة الرضوخ لشروط الحاكم الجائر لتجويع الكادر التربوي.

هناك عشرات الألوف بل تجاوز العدد 140 ألف كادر تدريسي يعمل في السخرة او على شكل مكافئات مقطوعة او مكرمة مالية كما تعطى للفقراء في الشوارع او المعوزين وذوي الأعانات الاجتماعية, ولا يمكن لعاقل ان يصدق ان هذا الأمر يحصل في العراق, في بلد نفطي بلغت عائداته منذ 2003 اكثر من 1400 مليار دولار ذهبت جميعها في جيوب الفاسدين والسراق من سياسي الصدفة مختلسي المال العام ورافعي شعارات المليشيات المسلحة اولا ولا لدولة المواطنةا, وما انفق على قطاع التربية والتعليم الى اليوم تجاوز 30 مليار دولار بحسب التقديرات, وهذه الاموال لا تستطيع تأمين فرص تعين بشروط انسانية للكادر التربوي, بل تلجأ الى حلول عرجاء وغير محسومة الى ما يسمى بالعقود, في ظل افتراضات اكيدة في توسع التعليم الهائل في العراق استنادا الى البنية السكانية الفتية او في اعمار الدراسة, وبالتالي فالحاجة قائمة الى الكادر التربوي في العراق الى يوم يبعثون, فلماذا هذا التحايل عليهم ومساومتهم بأبخس الشروط.

احتجاجات الكادر التربوي اليوم في مختلف المحافظات العراقية هي جزء لا يتجزأ من الحركة الأحتجاجية في عموم العراق ولمختلف الشرائح الاجتماعية لتحسين ظروف العيش ومحاربة الفساد وسرقة المال العام وتوفير الخدمات الانسانية الضرورية من صحة وتعليم وكهرباء وماء وضمانات للفئات المجتمعية المحرومة, مقرونا بمطالب مشروعة لأعادة بناء العملية السياسية من جديد عبر الأقصاء الديمقراطي للطبقة السياسية الفاسدة كمقدمات لأعادة بناء العراق على اسس دولة المواطنة, وبالتالي نرى ان الحلول الترقيعية والوعود للكادر التربوي عبر تحويلهم الى "مكرمة العقود" هي ذات الوعود التي تحدثت عنها السلطات المتعاقبة في حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية لعموم شعبنا ولم تحل, وقد بلغت ضحايا مطالبات شعبنات منذ انتفاضة اكتوبر اكثر من 700 شهيد و30 ألف جريح ومئات الأعاقات المنتهية غير القابلة للعلاج, ولا زال المجرم القاتل حرا طليقا, والوعود بألقاء القبض عليهم وتقديهم للعدالة كما هي الوعود في الاستجابة لمطالب الشعب.

27
موازنة العراق للعام 2021 واعادة انتاج المحاصصة

د. عامر صالح

ليست من السهل الحديث عن العدالة في توزيع الموارد المالية والمتمثلة في العائدات النفطية اولا واخيرا في ظل نظام ريعي سعى منذ سقوط الدكتاتورية في عام 2003 الى التعامل مع السلطة وأرث الدولة كغنائم يجري تقاسمها دوريا سواء عبر الانتخابات البرلمانية التي تعيد انتاج القوى المتغانمة للسلطة او عبر الميزانيات السنوية التي يعول عليها العراق وشعبه سنويا ولكنه يفاجئ كالعادة بصراع شرس مع كل اقرار للميزانية, حيث الصراع على اقتسام الموارد النفطية وتوزيع الحصص جغروا مذهبيا واثنيا في اطار من المساومات غير المبدئية للحصول على اكثر قدر ممكن من المغانم في ظل بلد غاب فيه الحرص على وحدة البلاد ومكوناته الأثنو دينية والمذهبية, حيث مبدأ الانتفاع في اللحظة الراهنة من الموارد واستنزاف قدرات الدولة والعبث في مستقبل القادم من الأيام, أو كما يقال: " أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".

نظام المحاصصة الأثنية والطائفية ومنذ عام 2003 لم يأتي بجديد أيجابي يسهم بتغير العراق من حال الى حال افضل كما لم يعمل على ازالة ارث الدكتاتورية البغيض بل وجدت فيه مناسبة وبيئة حاضنة لسياستها التي تعيد انتاج الدكتاتورية ولكن برؤوس متعددة لدكتاتوريات تتصارع حول اقتسام العراق وموارده وتفتقد الى المشروع الوطني الجامع والحافظ لسيادة العراق بأعتباره حاضنة ومظلة للجميع, ومن هنا يشتد الخلاف حول الصيرورة التي تجري بها ادارة موارد البلاد كجزء من الغنائم الواجبة التوزيع وفقا لموازين القوى السياسية وبعيدا عن مصلحة العراق, فالجميع يغني على ليلاه.

وما يعبر عن حجم الأزمة المستعصية في صراع المتحاصصين هو استمرار العراق لعدة اشهر بدون موازنة للعام 2021 وقد انتهى ربعه الأول, وحتى العالم الخارجي" وهي حالة نادرة" يتابع بعناية مسارات اقرار الميزانية العراقية, فعادة كل دول العالم تقر ميزانياتها بهدوء ولم يعلم بها أحد من الخارج سوى اخبار عابره, اما ان تهنئ امريكا العراق على اقرار الميزانية وغيرها من الدول الى جانب اهتمام الصحافة الاقليمية والعالمية فهو مؤشر لتفهم العالم الخارجي لعمق الأزمة السياسية  لتي يعاني منها العراق والصراعات السياسية الاثنية والطائفية التي اعتاد عليها المشهد السياسي العراقي منذ سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري وانهيار الدولة العراقية ومؤسساتها على يد المحتل الامريكي الذي أسس لنظام اثني طائفي تتصارع فيه المكونات الأثنية السياسية والطائفية على الموارد المالية ولا تتصارع على ضرورات وحدة العراق بأعتباره أولوية وشرط مسبق للسلم والأمن والحفاظ على المال العام.

لا يمكن الحديث عن نظام يستند الى النفط كمورد اساسي ووحيد او على شاكلة" يبيع ليأكل فقط " ان يمتلك رؤيا للمستقبل, فكل قواه السياسية تتحدث عن صفقات للموارد وليست صفقات لاعادة البناء, تلك هي ضالة القوى السياسية الطائفية والاثنية المتشبثة بالهويات الفرعية, فالموازنات السابقة ومنذ 2003 لم ترى النور منها لا بمشاريع انتاجية واستثمارية ولا فرص عمل ولا اعادة بناء البنية التحتية التي دمرها الاحتلال والصراعات الطائفية الاثنية, بل كانت كانت ملغومة بالفساد واهدار المال العام والمشاريع الوهمية, حتى بلغ ما خسره العراق ما يقارب 1400 مليار دولار في مجمل وارداته النفطية لتلك الفترة, والقوى السياسية هي نفسها التي قادت المشهد بعد السقوط وتقوده الآن وتتصارع على الموارد والميزانية السنوية.

وحسب ما تم التصريح به وافق برلمان العراق الأربعاء، على ميزانية عام 2021 التي يبلغ حجمها 130 تريليون دينار عراقي (89.65 مليار دولار)، في وقت تعاني به البلاد أزمة اقتصادية ومالية بسبب تدني أسعار النفط. وقال مشرعون إنه من المتوقع أن يبلغ عجز الميزانية 28.7 تريليون دينار (19.79 مليار دولار). وتفيد وثائق ومشرعون أن الميزانية موضوعة على أساس سعر نفطي بلغ 45 دولارا للبرميل، وصادرات متوقعة قدرها 3.25 مليون برميل يوميا، منها 250 ألف برميل يوميا من إقليم كردستان العراق. ويعتمد العراق على النفط في تمويل 97 بالمئة من ميزانيته، وأدى التزامه باتفاق أوبك لخفض إنتاج النفط إلى تقليص الموارد المالية لحكومة تكافح من أجل معالجة تداعيات سنوات الحرب والفساد المستشري.


ورغم الفرح الشكلي والذي ابتهجت به القوى السياسية المتحاصصة حيث حصولها على ما تريد من صفقات مالية, والتي جرت المصادقة عليها على طريقة خذ ما تريد واعطني ما اريد, وكذلك ما افرزته عمليات التصويت على الموازنة من صفقات انتخابية مبطنة قادمة قد تبدو ملامحها واضحة لاحقا في شخص رئيس الوزراء القادم ورئيس الجمهورية المحصصاتي, لكن الشارع العراقي قد استوعب اللعبة بوضوح اكبر هذه المرة ولعله يبلور ذلك في صيرورة وعي قادم لأعادة اصطفاف القوى السياسية وتفويت الفرصة على قوى المحاصصة المتخاذلة امام مصلحة البلاد وامنه واستقراره.


الذين تاكتفوا لتمرير الميزانية بهدف الحصول على مكاسب آنية فرحوا لحالهم والذين غضبوا من القوى الاخرى او اضافوا تعديلات على فقرات الميزانية لدوافع مختلفة فقد عرفهم الشعب العراقي خلال 18 عشر عاما بفسادهم وبالتالي فأن الثقة الشعبية بجميع الاطراف المتحاصصة هي ثقة حذرة ان لم نقل معدومة, فالحديث عن الميزانية هو حديث عن صراع مستميت بين قوى السلطة المحاصصاتية وعلى كيفية اغتنام موارد البلاد, فلا تحسن قادم في الظروف العامة الخدمية وتحسين ظروف العيش حيث ان مستلزمات ذلك تكمن من خلال تجربة الحكم ما بعد 2003 في عدم محاربة الفساد ووضع حد له, وبالتالي استنزفت موارد البلاد وميزانياته وسرق قوت الشعب ومستقبله.


يفترض ان فرح السيد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ومباركته في المصادقة على الميزانية ان يكون مشروعا, فليست المباركة في ضخ الاموال المليارية لقوى المحاصصة مفرحا بل انه سيكون اشد حزنا عندما لا يقترن بمحاربة الفساد المالي والاداري ونهب المال العام الذي لم يستطيع السيد الكاظمي محاربته رغم وعوده ولجانه المختلفة لمحاربة الفساد لكنه لم يستطيع بل وخائف في محاربته, في دليل قاطع ان قوى الفساد اقوى من قوى الدولة, وبالتالي فأن المتحاصصين بعد اقرار الموازنة هم بأنتظار ضخ الاموال للأفساد فيها وسرقتها وحجب اي بارقة أمل في انتشال العراق من الوحل الذي يتمرغ فيه, والحديث عن الاستثمارات وفرص العمل وتحسين مستوى الحياة هو حديث مشكوك فيه لتصريف ازمة الحكم والنظام, وينتظر العراقيون مزيدا من شد الأحزم على البطون في ظل سياسات انخفاض سعر الدينار بغياب مظلة الدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة والمحرومة وغياب فرص العمل وارتفاع الاسعار الجنوني الذي سيؤذي منخفضي الدخول ويعرضهم الى مختلف الانتهاكات.


خيارات شعبنا هي خيارات استنفار للمساهمة في اعادة اصطفاف القوى السياسية عبر المساهمة في الانتخابات القادمة على نطاق واسع لأستبدال منظومة الحكم الفاسدة بمنظومة اخرى بديلة, رغم ان الحديث عن ذلك ليست سهلا فمنظومة الفساد تمتلك امكانيات كبيرة للعبث في مسار الانتخابات وتزويرها او تهديد المواطن وتشويه خياراته الانتخابية, ولكن يفترض ان بصمات انتفاضة تشرين تكون حاضرة بوضوح في المعادلة السياسية عبر تسلحها بضرورات الوعي البديل بعيدا عن الصراعات الثانوية التي قد تعرقل بل وتشوه انجازات تشرين, وعلى الكاظمي ان يتحلى بشجاعة اكبر وجرئة في ان يحمي مسار التحولات نحو الأفضل وإلا سيلعنه التاريخ والعراقيين كما لعنوا سابقه, وعلى الأقل ان يكون امينا لما ادعى به وليست مناورا على حساب دماء الشعب.


لا توجد معطيات ان اسقاط النظام عبر انتفاضة مسلحة هي البديل حيث ان موازين القوى غير موجودة كبديل ديمقراطي, بل هو نذير بمزيد من الانقسامات والتشظيات والحروب الداخلية والمقابر الجماعية, ولكن العالم كله مع انتفاضة تشرين السلمية لأزاحة القوى الفاسدة والميليشياوية المدججة بالسلاح, وبالتالي فأن عنصر التنظيم لقوى تشرين سيلعب دورا كبيرا في التأسيس لمرحلة التغير الجذري لأزالة القوى الفاسدة عن المشهد السياسي, وهي مقدمات للحفاظ على موارد العراق المالية والبشرية وانطلاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد واعادة استنهاض العنصر البشري في العراق على اسس الحق والعدل وتكافؤ الفرص.






28
الميليشيات المغلفة بشعارات المطالب الشعبية

د.عامر صالح

لكل متتبع للوضع السياسي في العراق يرى ان خيار الدولة الآمنة  المستقرة في العراق هو خيار صعب وبعيد المنال, حيث صراع قوى الدولة واللادولة على اشده, وان خيار اللادولة يطفح على سطح الأحداث ليؤكد مجددا أنه خيار شرس تجسده قوى سياسية ميليشياوية من داخل البرلمان العراقي وخارجه او بتواطئ الأخير مع قوى برلمانية عرفت بتشددها وكراهيتها للدولة كخيار للأمن المجتمعي الشامل, وان قوى الدولة تعاني الأمريين لفرض ارادتها على التراب العراقي بفعل غياب موازين القوى وضعفها لصالح قوى الميليشيات المدججة بالسلاح التي تستبيح الأمن الفردي والمجتمعي وتبعث على اللااستقرار وتهديد السلم المجتمعي وخلق فوضى مستديمة تستجسيب لأجندة الخراب والارتهان الى القوى والدول الأقليمية التي لا يعنيها ان يكون العراق بلد مستقلا ومعافى من التدخلات الحارجية والأجندة السياسية الداخلية ذات الطبيعة العقائدية المتحجرة والمعادية لفكرة بناء دولة المواطنة وعلى اسس عابرة للأنتماءات الطائفية والأثنية.

ان استعراض ميليشيات ما يسمى " ربع الله " لقواتها يوم الخميس بتاريخ 2021ـ03ـ25 في بغداد يمثل عينة تجسد بوضوح امتداد لأستعراض ميليشيات سابقة هي الأخرى تعبث في الأمن والأستقرار وتهدد حياة الناس اليومية, وللميليشيات المذكوره بأختلاف مسمياتها تاريخ اسود في العراق منذ بداية العملية السياسية في العراق بعد اسقاط نظام الطاغية صدام حسين, من حروب طائفية استنزفت فيها مئات الألولف من ارواح الأبرياء, الى ما تمارسه يوميا من ابتزاز للمواطنين واستلاب اموالهم وحرق محلاتهم  ومصادرة ممتلكاتهم واغتيال اصحاب محلات ومؤسسات مختلفة تمارس مختلف المهن الطبية والرياضية والترويحية العامة الى جانب فرض طقوس الأكراه ومغادرة العادات والتقاليد الخاصة بالتنوع الديني والمذهبي والأثني الى جانب اضفاء السوداوية المقيتة على الحياة العامة في محاولة منها لتحويل العراق وخاصة العاصمة بغداد الى قندهار ثانية, وقد ساهمت تلك الميليشيات بأغتيال اكثر من 700 منتفض تشريني وجرح واعاقة اكثر من 30000 ألف شخص, والمئات منهم يقع ضمن الأعاقات المنتهية وغير القابلة للعلاج.

وفي الوقت الذي تبرأت هيئة الحشد الشعبي من جماعة "ربع الله " وكذلك القوى الأسلاموية البرلمانية مما يضع تلك القوى المستعرضة في عزلة كما ينبغي ويسهل امر محاسبتها من قبل قوى الدولة والحكومة, إلا ان الأمر هنا مختلف تماما عن السياقات الطبيعية والعقلانية عندما ترفع الحصانة عن تلك القوى والتي يفترض ان تساق الى العدالة حالا, ولكن على ما يبدو الأمر في العراق مختلف, فالحكومة تدعو الى التهدئة وعدم الانجرار الى الاقتتال الداخلي, والحكومة تعرف حق المعرفة من هي القوى الاستعراضية المسلحة والى اين تنتمي, وبالتالي فأن رئيس الوزراء العراقي يعرف جيدا ما هي موازين القوى وما هي تحالفات تلك القوى الميليشياوية داخل البرلمان وخارجه, وبالتالي فأن رئيس الوزراء وحكومته هو الحلقة الأضعف في الصراعات السياسية والمليشياوية بحكم كونه لا يمتلك كتلة برلمانية تعينه في تنفيذ برنامجه الحكومي والذي من ضمنه سيادة الدولة وحصر السلاح المنفلت كما يدعي, ولكن الوقائع الميدانية تؤكد ان ضعف رئيس الوزراء متهالك فهو لا يستطيع إلا ان يراهن على انتخابات قادمة سواء كانت مبكرة او في توقيتها الرسمي لتغير موازين القوى السياسية الاجتماعية, ولكنه قد لا يعي او متغافل ان هناك خطوات جذرية يجب العمل بها قبل الشروع بالانتخابات, وابرزها حصر السلاح بيد الدولة وتوفير بيئة انتخابية آمنة بعيدا عن قوى الميليشيات وتأمين رقابة اممية صارمة على الأنتخابات.

مما يثير سخرية الشارع العراقي ان تلك القوى الميليشياوية تنادي بأصلاح الاوضاع الأقتصادية وقد جسدتها جماعة ربع الله في " مطالبها " مثل ارجاع سعر صرف الدولار, واقرار الموازنة, عدم تسليم الموازنة الى البرزاني دون دفع مستحقات النفط والمعابر, وتحذير عملاء امريكا في العراق, تلك المطالبات هي لدغدغة مشاعر الشارع العراقي بعد ان فشل الأسلامويون وفقدوا رصيدهم الجماهيري بعد 18 عشر عاما من الفشل, وهذه الموضوعات تحتاج الى كفاءة سياسية لمعالجتها وليست قوى ميليشياوية لا تفقه غير لغة السلاح والقتل والخراب.

ولكن بالتأكيد فأن مطالب " ربع الله " تتناغم مع مطالب قوى اسلاموية داخل البرلمان العراقي لها تحالفاتها مع القوى الاقليمية الخارجية, ومن هنا يأتي ضعف الكاظمي في مقارعة " ربع الله " وغيرهم حيث التحالفات المستميته لتنفيذ اجندة الجوار الذي يرغب في رهن حياة العراقيين كاملة بدوامة الصراع الأيراني الامريكي ولكي يبقى العراقيون وقودا مستعرا لذلك الصراع العبثي, ويكفي هنا الأشارة الى أن تهريب العملة الذي قضى عليه رفع الدعم عنها سبب خسائر أخرى كبيرة للاقتصاد الإيراني الذي كان يشتري العملة الأميركية الرخيصة بسبب الدعم ويستفيد من فرق السعر الكبير الذي يصل إلى عشرين في المئة من قيمة تلك العملة, فالقضية ليست دعوى للأصلاح الاقتصادي بل هي دعوى لأنقاذ الجار الخاسر من ذلك, وهذا ما يجسد فحوى ومبرر الدعوى المتحايلة للميليشيات المسلحة لعودة سعر صرف الدولار السابق.

وعلى ما يبدو فأن الدولة العراقية لا تتجه نحو استعادة هيبتها وفرض قوانينها رغم ما يدور من حديث بشأن جهود تبذل لتحقيق ذلك، بل إن تحركات الميليشيات بين الحين والآخر على الأرض وأنشطتها المعلنة واستعراضاتها المسلّحة المتحدية للسلطات السياسية والأمنية في قلب العاصمة بغداد تظهر أن الدولة تسلك مسارا عكسيا باتّجاه المزيد من فوضى السلاح وتغول الفصائل ذات الارتباطات والأهداف العابرة لحدود الدولة نفسها, وقد ستشدد تلك الفصائل بهجومها على العملية الديمقراطية حال اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية, وسيدعمها من داخل البرلمان ذات القوى بمزاجها الميليشياوي لتخريب كل شيء مقابل مغانمها السلطوية الانتخابية وتحالفاتها العابرة للحدود العراقية. 

استعراض ربع الله كما غيره من الاستعراضات يجسد اشد الحالات تعسفا وانتهاكا للدولة ومؤسساتها  واشد جرما في اختيار السلاح لغة للحوار عبر استعراض العضلات المسلحة وفرض ارادة القوة المتخلفة عقليا وفكريا مقابل الحوار الوطني السلمي لأنقاذ الوطن من براثن الطائفية والعرقية المتخلفة, اما شعارات الأصلاح الأقتصادي والخلاص من الاحتلال فتلك مهمات يدركها العقل المدني استنادا الى حاجة شعبنا للبقاء الصالح وتحسين ظروف العيش الكريم ولا للسلاح المنفلت دخل في ذلك !!!.


29
على طريق أسلمة المجتمع العراقي وتفتيت مكوناته

د. عامر صالح

منذ نشأة النظام المحاصصاتي الطائفي والأثني بعد سقوط الدكتاتورية في عام 2003 بواسطة الأحتلال الامريكي والزحف جاري من قبل قوى الاسلام السياسي لأضفاء الأسلمة على مظاهر الحياة المختلفة وتكريس قيم الكراهية والأقصاء لمختلف المكونات الأثنية والدينية والمذهبية وفرض لون واحد من الطقوس والممارسات العبثية, والتي تكمن في جوهرها ليست قيم التسامح الديني المتعارف عليها في المجتمع العراقي بمختلف مكوناته الأثنية والدينية والثقافية بل هو فرض ممارسات الأكراه في تبني وفرض طقوس قهرية من قبل احزاب اسلاموية تتدعي انها تجسد الدين الاسلامي بقيمه المتعارف عليها من صدق ووفاء والحفاظ على الأمانة وتقبل الآخر المختلف, ولكنها في الممارسة العملية تجسد اجندة تخريبية تلغي الآخر وتحرض على قتله وتصفيته ان لم يمتثل لأوامر الحزب الاسلاموي المعني او المتلبس برداء المذهبية ذات الكراهية لكل انتماء آخر عبر تأطير وزج المذهب في السياسة وترسيخ ثقافة الأستحواذ في كل مفاصل الدولة.

منذ 2003 بعد سقوط دكتاتورية صدام دخل العراق في شرنقة الطائفية والاثنية البغيضة حتى اصبح جسد الدولة ومؤسساتها بالكامل أسير لثقافة الغنيمة الطائفية والاثنية وباتت اجهزة الدولة معبئة بأقتسام مناطق النفوذ, انه احتلال من نوع اخر للدولة ومؤسساتها, بل انه خراب يخطط له لأنهاء الدولة العراقية ومؤسساتها عبر احتوائها فئويا وألغاء لدورها الوطني الشامل بعيدا عن مختلف الأنتماءات.

هذه المرة تطال المحاصصة المحكمة الاتحادية, وعلى الرغم من الاعتراضات والرفض الذي جوبهت به الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية في البرلمان العراقي منذ العام 2019، في محاولاتها الرامية إلى إدخال رجال الدين ضمن عمل المحكمة الاتحادية العليا ومنحهم صلاحيات واسعة في قراراتها، إلا أنها لم تمنع حصول توافق سياسي يُفترض بعرف المحاصصة السيئ أن يتحول إلى تشريع ملزم خلال الأيام القليلة المقبلة, انها سلطنة المحاصصة النشاز.

وحاولت منظمات المجتمع المدني والناشطين والنقابات خلال العامين الماضيين، من خلال ندوات ومؤتمرات، إيقاف محاولات معظم الكتل السياسية لإدخال المحاصصة إلى عمل المحكمة الاتحادية العليا عبر دخول  فقهاء الدين من المذهبين الشيعي والسني، ومنحهم صلاحيات التصويت ورفض القوانين والقرارات التي يجدونها مخالفة للشريعة الإسلامية في المحكمة الاتحادية.

وبموجب المادة (92) من الدستور العراقي، تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتُنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة، بقانون يُسَن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.

ووفق المادة (93) من الدستور، فإن اختصاصات المحكمة الأساسية تنحصر بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة وتفسير النصوص الدستورية والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين والتعليمات الصادرة من السلطة الاتحادية والفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية والمصادقة على نتائج الانتخابات. وهناك توقعات بأن المحكمة الاتحادية ستسير على خطى المحاصصة الطائفية البغيض بما يلحق الأذى بكل المكونات الدينية والمذهبية ويكرس تصدع الوحدة المجتمعية ويعيد انتاج التحريض على الطائفية والاثنية.

أن معضلة مجتمعنا الكبرى هي ليست مع أشخاص, بل مع الأسلام السياسي الغير مؤمن بالديمقراطية أصلا, والتي يراها لعبة غربية لا تصلح لمجتعاتنا, وأن الاسلام السياسي مكره على ممارستها في ظل الظروف العالمية الضاغطة والتي لا تقبل إلا بالتدوال السلمي للسلطة وفي ظروف طبيعية وصحية. في عودة سريعة لضبط مصطلح الديمقراطية وماهيته والذي يخدمنا كثيرا في هذا المقال, وهو أن الديمقراطية تعني حكم الشعب, أو الحكم للشعب, وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة إلا إن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استخدامه في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة, فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه, فهي تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه, وأن يحكم نفسه بنفسه, ولنفسه, والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس تخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه, وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة, وقد عرفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها و لا ند متفردة بالتشريع الملزم, فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع, فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك, لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها, ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى, والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي الشعب. وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاث جوانب رئيسية على الأقل هي:

ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها, وهذه تمارسه السلطة التشريعية.

ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات, وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.

ـ حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات, وهذه المهمة تمارسها السلطة القضائية, ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.


وعلى خلفية هذه الرؤى فأن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل, والاستقلال في الرأي والتفكير, والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة, وفي القدرة على رفض الحكومات وتغييرهم في حالة عدم صلاحيتهم, وفي حق التملك وحق الأمن والأمان, كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون, والدعوة إلى الآراء وحرية تكوين الأحزاب, وحق المعارضة للسلطة القائمة, وحق الاقتراع العام, وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم, وتداول السلطة بين أفراد الشعب, واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين.


وفي زحمة هذه الصلاحيات الواسعة للشعب في ظل الديمقراطية الحقيقية يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي والسلوكي مع القوى الديمقراطية ومع الشعب, كون هذه الأخيرة مصدر كل السلطات وبالتالي تشكل بديلا عن الشريعة الإسلامية ذات الطابع الإلهي, أي كما يفهمه الإسلام السياسي بأن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى, وهذه الخاصية التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب التجارب والأزمان, تعد من الاختلافات الحقيقية بينها وبين الإسلام, انطلاقا من قاعدة الإسلام التي جوهرها هي توحيد الله تعالى, والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده, وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في كلها من صلاة وصيام وحج, معاملات بين الناس وخصومات, وفي شؤونه نه كلها, وبالتالي أن تحل سلطة الشعب مكان سلطة الإلهة أمر غير مقبول جملة وتفصيلا لدى الإسلام السياسي.

واليوم إذ تتطور الحياة الإنسانية على أسس من معطيات مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية وتزداد مقدرة الإنسان الفعلية في التحكم في الطبيعة والمجتمع, فأنها تقع في صراع مستمر مع الخطاب الديني الذي أريد له أن يكون صالحا في كل زمان ومكان وبين الحياة المتغيرة بدون انقطاع التي تستدعي الاعتماد مزيدا على الذكاء الإنساني ومقدرته على إيجاد مختلف الحلول للمشكلات الإنسانية انسجاما مع ظروف العصر ومكانة الإنسان الريادية في التقدم. هذا لا يعني نهاية للدين, فالدين باقي في أكثر المجتمعات تطورا وله فسحته في حياة الناس التي لا تتعارض مع سنة وقوانين التطور والارتقاء, فالدين باقي هنا كحاجة شخصية وكما هي نشأته الأولى.

اما بخصوص المحكمة الاتحادية وتركز معظم النقاشات وحالات عدم الرضا عن القانون، حول الفقرة المتعلقة بإضافة 4 أعضاء من فقهاء «الفقه الإسلامي» إلى عضوية المحكمة المؤلفة من 11عضواً، ضمنهم الرئيس ونائبه, وانصب معظم مخاوف المعترضين على القانون الجديد حول إمكانية تحول العراق إلى «دولة دينية» بوجود الثقل الذي يمثله الفقهاء الأربعة، أو أن تتحول المحكمة الاتحادية إلى «مجلس لتشخيص مصلحة النظام» على غرار النموذج الإيراني. ولعل ما عزز تلك المخاوف هو أن النسخة الأولى من القانون التي قدمت إلى البرلمان العراقي عام 2015، كانت تتضمن فقيهين اثنين فقط ضمن أعضاء المحكمة، لكن النسخة الجديدة للقانون رفعت سقف تمثيلهم إلى أربعة.

أن الخندقة الدينية للنظام السياسي وما تسوق ورائها بالضرورة من خندقة مذهبية يعني بالتأكيد أن يلحق الغبن والتميز الديني والمذهبي لقسم هام وغير قليل من المواطنين,وهذا ناتج من أن النظام السياسي المتخندق مذهبيا يتخذ من دينه ومذهبه إطارا مرجعيا ومحكا لتقيم دين ومذهب الآخر. وهو خلاف المفهوم العصري للدولة التي لا تعرف المواطن إلا من خلال الأوراق الثبوتية التي تشير إلى اسمه الثلاثي أو الاسم واللقب, أي رمزيته وخصوصيته في سجل الأحوال المدنية.أما خلاف ذلك فنأتي بأفعال تدفعنا إلى البحث (النبش) والتنقيب عن دين الآخر ومذهبه, ونذهب بعيدا في فحص أوراقه الثبوتيه للتأكد من ( سلامته) الدينية والمذهبية من خلال أسمه وأسم عائلته. وفي ذلك تجاوزا على حريته الشخصية وحرية معتقده, والتي يفتخر بهما أي نظام ديمقراطي. ونحن نعرف أن الدين والمعتقد الديني هو حرية شخصية قد تعجبني وقد لا تعجبك, والجميع ورثها من آباءه وأجداده, فأنا شيعي, وأنت سني, وهذا مسيحي, أو صابئي أو يزيدي. ولا اعتقد أن احد منا بذل جهدا استثنائيا لكي يدرس حقيقة انتماءه الديني أو المذهبي لكي يفضي إلى تغيره, إذا ما توفرت القناعة لديه, بل نبحث عن أدلة لتكريسه, لأنه مكون جمعي. وبالتالي نرثه كما نرث خصائصنا الوراثية: لون العينين,شكل الأنف, لون الشعر, طول القامة وهكذا.

المحكمة الأتحادية ليست استثناء من صراع قوى المحاصصة بل انها ستشهد اكثر الصراعات شراسة انطلاقا من خطورة المحكمة الاتحادية في الشأن العام وبالتالي فالصراع عليها هو صراع  حياة او موت لقوى المحاصصة وان الاسلام السياسي سيلوث المحكمة الاتحادية كما لوث كل مؤسسات الدولة وما تبقى منها في عرف المحاصصة وامراضها المستعصية.





30
غادر بابا الفاتيكان العراق وبقى الحل عراقيا

د.عامر صالح

في زيارة تاريخية لبابا الفاتيكان الى العراق استغرقت اربعة ايام أقل ما يقال عنها ومن خلال تصريحات البابا فرنسيس أنها صادقت رسميا على الخراب والدمار الذي حل بالعراق, وكانت اشارته السريعة في لقاءاته وخطبه الرسمية  مع المسؤولين العراقيين وكذلك خطاباته في الكنائس الى الفساد والسلاح المنفلت والأقتتال الداخلي وانعدام الأمن والتهجير القسري الى جانب الفقر وانعدام الحياة الحرة الكريمة, الى جانب مواساته الخاصة لمسيحيي العراق ومحنتهم الانسانية في التهجير ومصادرة الممتلكات والتغير الديموغرافي المذهبي والديني الذي تعرض له العراق, فالمسيحين كمكون عراقي تعرض للتهميش بعد السقوط, وحيث الأحصائيات التي تشير الى وجود اكثر من مليون ونصف مسيحي قبل سقوط الدكتاتورية وقد تبقى منهم اليوم بحدود 250 ألف فقط, طبعا الى جانب الأضطهاد الذي لحق بالمكونات الأخرى جراء الحروب الطائفية والاثنية واحتلال داعش وما قام به من سبي وتنكيل وقتل واغتصاب للمكونات الأخرى وخاصة الأيزيدية, واليوم نحن نتحدث عن غبن كل المكونات دون استثناء.

زيارة البابا كانت ناجحة بأمتياز من حيث الحفاوة والاعداد لها وتنفيذها والاستقبال الشعبي الهادر لها من كل المكونات العراقية دون استثناء, الى جانب الرسالة التي اوصلها البابا للشعب العراقي, ولكن بالتأكيد فالحكومات الغارقة في الفساد وجدت ضالتها في متنفس سريع في زيارة البابا للعراق وأرادت ان تترك انطباعا مزيفا ان ما يجري في العراق برد وسلام ولا يوجد هناك ما يعكر صفو المواطن العراقي, من انعدام الخدمات والأمن وضيق فسحة العيش, وكانت اجراءات الحكومة السريعة في التهيئة للزيارة, من تبليط للشوارع وزرع للملصقات والصور وتعليق الشعارات وتهيئة مختلف الفرق الفنية والفلكلورية للتهيئة لأستقبال البابا أثار تعجب وجنون المواطن العراقي المحروم وقد انعكست في تساؤلات عديدة ابرزها لماذا لا تفعل الحكومة ذلك في سياقات طبيعية يومية استجابة لحاجات المواطن الماسة للكهرباء والخدمات, بالتأكيد ورغم انعكاساته الايجابية على الضيف ولكنه كان نفاقا وتحايلا حكومي وجزء من سلوكيات الفساد المستشري في الدولة, وكانوا يعملون ذلك في الحملات الانتخابية لخداع المواطن العراقي, وكان لتعبئة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والدفاعية دورا كبيرا وفاعلا في توفير الظروف الآمنة لزيارة البابا, فكيف لا يمكنهم العثور على قتلة المتظاهرين في انتفاضة تشرين وقد بلغ عددهم اكثر من 700 شهيد الى جانب آلاف الجرحى والمعوقين.

اذا كانت زيارة البابا بالنسبة للحكومة العراقية هي محاولة لفك طوق العزلة الدولية عن العراق من خلال توفير اجواء مناسبة لزيارته فأن البابا لم يمنح صك الغفران للحكومات العراقية وكانت خطاباته توبيخية للحكومات ولكنها بالتأكيد تستند الى مبدأ اللياقة والاخلاق الدبلوماسية لضيف حل بالعراق وليست مهمته التشخيص للحالة العراقية عبر الاشارة الى رموز العملية السياسية الفاشلة المحاصصاتية, وفي اطار تجنب الحساسيات المفرطة للتدخل في الشأن العراقي.

وعلى المستوى الجماهيري فكان صدى تأثيرات البابا فرنسيس واضحة وعميقة في الشارع العراقي, فقد رحبت به جميع الاطياف والملل والمذاهب, وهنا يلعب الوعي وتفاوتاته دورا كبيرا في فهم الزيارة, فقد رأى البعض انها فرصة الخلاص من نظام المحاصصة دون وعي كافي الى مجريات الصراع الطبقي الدائر في المجتمع العراقي بين فئات المحرومين والفاسدين, وبالتالي لا توجد وصفة سحرية من البابا لحل المشكل العراقي, ورأى البعض الآخر ان البابا رفد الشارع العراقي بطاقة سيكولوجية روحية هائلة عبر ايصال صوت العراقيين الى المجتمع الدولي ونعتقد في ذلك فأن صوت البابا قد فاق صوت الأمم المتحدة في التعريف بمعاناة العراقيين من الجور وظلم النظام الطائفي والأثني, وخاصة عندما تختلط المشاعر الدينية بالسياسسة في المحنة فأنها تضفي هالة وقدسية للخلاص بعيدا عن الطرائق المتبعة وماهيتها والتي قد لا نتفق مع مداخلها في العلاج, اي المساهمة في تحريض الغرائز الجمعية الأولى ذات الطابع الميتافيزيقي واحداث نوع من الصدمة في استيعاب المشكل العراقي.

كان لقاء البابا فرنسيس بالسيد علي السيستاني ليست لقاء شكليا لتتمة مراسيم زيارته أو لقاء بمقلد الطائفة الشيعية" فهناك اكثر من مقلد ومرجع لها" ولكن لقائه بالسيد السيستاني هو لقاء برجل مفصلي في العملية السياسية بعد 2003 فقد ساهم السيستاني ورجالاته بوضع اسس الدستور العراقي كما لعبت المرجعية في الأطوار الاولى من العملية السياسية على تشجيع الناس في انتخاب الاحزاب الاسلامية وحتى عبر فتاوى خاصة, ووقفت لاحقا الى جانب منتفضي تشرين 2019 وشددت على تنفيذ مطالب المحتجين وساهمت بأزاحة عادل عبد المهدي رئيس الوزراء السابق والذي جصلت في زمنه مجازر دموية ضد المتظاهرين, كما سبق ذلك فتوى الجهاد الكفائي للخلاص من داعش, الى جانب ذلك ان اللقاء به ضمنا يعني هو لقاء بمقلد الكتلة السياسة الشيعية التي تقود الحكم والمسؤولة عن أمن البلاد ومستقبله واستقراره وهي نفسها التي عاثت في الارض فسادا وسرقة للمال العام وقادت الحكم الى المجهول خلال ثمانية عشر عاما, فهو لقاء خاص بأمتياز وللتحذير بما هو قادم ودعوى بابوية ضمنية للسيد السيستاني لأستخدام صلاحياته الواسعة في التأثير على مستقبل البلاد السياسي.

بابا الفاتيكان لم يعطينا خارطة طريق لأنقاذ العراق "فتلك ليست مهمته " بل منحنا طاقة للعمل والتفاؤول وتدارك المخاطر المحدقة في البلاد, ونحن نترجمها الى موضوعات فرعية تضمن سلامة العراق باعتباره حاضنة للجميع:
أولاـ الأمن السياسي ويتضمن حماية الكيان السياسي للدولة العراقية كدولة ديمقراطية حرة وذات سيادة، وبما يكفل ديمقراطية الحياة السياسية العراقية في التعددية والانتخابات والعمل والمعارضة السلمية، بعيدا عن الإرهاب السياسي والاستئثار بالسلطة السياسية واستخدامها لتكريس حالات مشوه من الممارسات ألا ديمقراطية لنيل من ا الكيانات أو المعارضة السياسية السلمية.
ثانياـ الأمن الاقتصادي ويعني حماية اقتصاد الدولة العراقية ومواردها وخططها من الفساد والنهب والتزوير وسوء استخدام الموارد المالية، ويشمل ذلك كل من اقتصاد مؤسسات الدولة واقتصاد الأفراد والشركات.
ثالثاـ الأمن القانوني ويضمن حماية الحقوق الإنسانية والوطنية للمواطن العراقي، وبما يكفل تأدية واجباته في أطار منظومة عادلة وواضحة ومتوازنة من الحقوق والواجبات، ويشمل ذلك تأمين قضاء عادل غير متحيز، يحمي الجميع بغض النظر عن الحزب أو الطائفة أو القومية التي ينتمي أليها الفرد.
رابعاـ الأمن الاجتماعي ويشمل كافة الإجراءات التي تضمن وحدة المجتمع العراقي بأطيافه المختلفة من طوائف وأديان ومذاهب وأقليات قومية وعرقية، وبما يؤدي إلى تماسكه واندماج أفراده في الولاء إلى العراق كوطن للجميع، ويشمل ذلك أيضا الأمن الوقائي من التخريب والجريمة والإرهاب والترويع والتهديد بمختلف مظاهره.
خامساـ الأمن القيمي ويتضمن الحفاظ على منظومات المجتمع العقائدية والقيمية والثقافية بكل تنوعاتها الايجابية في أطار مناخ من الانفتاح والتناغم والتواصل مع المجتمعات والحضارة الإنسانية ومعطياتها الايجابية، ويأتي هنا دور الأعلام الحيادي والثقافة المبدعة في تكريس ذلك.
سادساـ الأمن الصحي ويقصد به حماية المواطن وسلامته من الأمراض والأوبئة وكل ما يهدد سلامته، ويأتي ذلك عبر خطط ملموسة لتطوير قطاع الصحة لانتشاله من حالة التدهور المستمر في ظل جائحة كورونا التي استنزفت كل الأمكانيات الى جانب الفساد.
سابعاـ الأمن البيئي ويضمن الحماية من نتائج التلوث الطبيعي والصناعي الذي لحق في البيئة جراء الحروب المتواصلة واستخدام مختلف أنواع الأسلحة المحرمة وغير المحرمة والتي ألحقت دمارا بالبيئة الطبيعية، مما أثر سلبا على صحة الإنسان وبيئته.
لا نتفائل كثيرا فالساحة العراقية تعج بالكثير من المتغيرات الخطيرة والمفاجئة في ظل صراع العراق مع القوى الاقليمية والداخلية المليشياوية, وبالتالي يقف العراق على اعتاب محاذير ومخاطر جمة, منها العبث في الأسس الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة, وفوضى السلاح والمليشيات والعصابات المسلحة وعدم وجود قانون انتخابات عادل وكذلك قانون للأحزاب يمنع المليشيات من العملية السياسية والمشاركة فيها وعدم اقرار قانون المحكمة الاتحادية وفوضى مجتمعية واحتجاجات لا ترتقي الى مستوى تنظيمي يقارع الطغمة الفاسدة. فالبابا فرنسيس ليست عصى سحرية ويبقى الشأن عراقيا.



31
قراءة سيكولوجية سريعة للقاء بنت الدكتاتور العراقي


د.عامر صالح

قد يكون ليس من المفيد الأنشغال بما قالتة بنت الرئيس العراقي السابق صدام حسين في مقابلة لها عبر حلقات متتالية في قناة العربية  التي تمولها وتملكها المملكة العربية السعودية, وهي مقابلة في مجملها تعكس عن ضحالة الفكر والتحليل لدى بنت الدكتاتور صدام حسين للأحداث التي مر بها العراق بعد وقبل سقوط النظام وتعبر اجاباتها عن ثقافة اقطاعية ـ ابوية استمدتها من ثقافة والدها الذي تشبعت خطاباته انذاك بلغة الانشاء الردئ او بأقتباسات لا يعرف معناها حين يستخدمها, ولكن الأعلام الرسمي والصحافة الصفراء سوقت خطاباته كرؤوس اقلام ترسم ملامح مستقبل افضل للعراق, كما عكفت الجامعات العراقية في زمنه الى استخدام العلم لمصلحة الدكتاتور واصبحت خطبه موضوعات للدكتاتوراه والماجستير تنال شرف الأمتياز عن اللاشيئ.

كما عكست قناة العربية وتبنيها لتلك المقابلة والأعداد لها من خلال الأسئلة  ومظاهر الحفاوة والتكريم والاعتزاز ببنت الرئيس" رغد صدام حسين " المقبور أن هناك رسالة خاصة جدا تريد السعودية والاعلام الموالي لها ايصالها الى المعنين بالشأن العراقي اليوم والى الخصم المستفحل المتمثل بأيران وحلفائها في المنطقة, وكعادة البراغماتية السعودية فهي تجيد اللعب على الحبال في قدرات استثنائية لأظهار التعاطف والحب والمودة للشعب الذي يكتوى بالصراعات الأقليمية والطائفية ولكن في اجندتها لامانع من ابادته ارضاء لأجندتها الخاصة كما يحصل في اليمن في صراعها الأقليمي مع ايران بشكل خاص, والطرف الايراني هو الآخر لا مانع لديه من حرق دول مستقرة وزجها في آتون اجندتها العقائدية المتخيلة بالحق الآلهي المطلق.

القناة العربية استخدمت التفاهة في صراعها مع اعدائها الأقليمين وحلفائهم في الداخل, وبالتالي سوقت مقابلة بنت الرئيس وهي الأضعف حلقة من حيث المحتوى والأداء وافتعال الكبرياء والأبهة لمن تقابلهم لأشاعة جو من القناعة لدى المتلقي أن ما تتحدث به بنت الرئيس سوف يلقى آذانا صاغية لدى المتلقي العراقي وتهديدا خفيا للطرف الاقليمي, ولكن ذلك قد يأتي بنتائج عكسية ويشدد من قبضة الكراهية للسعودية, لأن اختيارها لبنت شخصية كان يتمنى السعوديون زوالها بل ووقفوا مع الامريكان لأسقاطه, كما صدرت فتاوى سعودية بتكفيره, وبالتالي فنحن امام نموذج متحايل للتعامل مع الحقائق والمواقف السياسية عبر توظيفها بطريقة تافه على مستوى محتوى المقابلة ام استثمارها في الزمان وأمكنة الصراع المحددة. ولا ننسى احتجاج الكويت التي احتلها الرئيس السابق على قناة العربية وعلى بنت صدام حسين, حيث صادفت المقابلة بعد ايام من تحرير الكويت, وكانت اجابات بنت صدام تسويفية لأدانة احتلال الكويت.

المقابلة أثارت أزمة على المستوى الداخلي، فيما يحتمل أن تُحدث تصريحات رغد بشأن إيران ودورها الخبيث في بلادها أزمة بين ثلاث دول هي العراق والسعودية والأردن، حيث طالب رئيس لجنة الشهداء والضحايا والسجناء السياسيين عبد الإله النائلي، وزارة الخارجية، عبر خطاب رسمي، باستدعاء سفيري مملكتي الأردن والسعودية لتسليمهم مذكرة احتجاج، على هذا اللقاء. اللجنة في خطابها علقت على تصريحات رغد بأنها "تجاوز سافر على الشعب العراقي، وتضحياته في مقارعته لحزب البعث"، فيما أشار النائلي إلى أن استدعاء السفير السعودي نتيجة أن القناة التي خرجت منها رغد هي قناة سعودية وتخضع لإملاءات القيادة السياسية هناك، أما استدعاء سفير الأردن فلكون بلاده هي من تستضيف رغد وعائلتها منذ سنوات طويلة.

ولكن نعتقد ان الاعتراض الرسمي العراقي على مقابلة بنت المقبور هو اسوء من المقابلة ذاتها, فهي يعطي تضخيما للحدث اكبر مما تستحقه المقابلة نفسها, وبالتالي يعكس الخوف المتنامي لدى القوى السياسية العراقية الطائفية وجبهتها الداخلية المتصدعة في احتوائها للتصريحات والانتقادات للأوضاع الحالية في العراق. تحدثت بنت صدام عن سوء الاوضاع اليوم في العراق وهذا صحيح للقاصي والداني, ولكنها اخفت كوارث نظام والدها وحروبه العبثية واستنزاف موارد البلاد في العسكرة والعدوان ثم الحصارات المفروضة بفعل تلك السياسبات التي زرعت الفقر والفاقة والتدهور القيمي والاخلاقي وانهيار البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتي تمادى بخرابها نظام بعد 2003 بالفساد وسرقة المال العام والخراب الشامل.

اما على مستوى السياسية ورغبة بنت المقبور بممارسة دور سياسي ما في العراق, فقد اثار هذا غضبا لدى قوى السلطة, وكان يفترض عكس ذلك تماما استنادا ان هناك قاعدة جماهيرية تحمي النظام الديمقراطي من البعث وشظاياه, ولكن بالتأكيد ان ازمة النظام المحصصاتي اصبحت على درجة من الحساسية والخوف وتستفزها ابسط التصريحات وفي مقدمتها بنت صدام التي لا علاقة لها بالسياسة حسب قولها. والأمر هنا فيه عودة مجددة الى فوبيا البعث التي طالما زرعت الأرق في نظام المحاصصة.

والتعقيد هنا ناتج من أن خبرة البعث السابقة في إدارة الدولة وخباياها بطريقة رجل " منظمة المافيا السرية " الذي يحيا ويموت على عدم الثقة بالآخر, وعلى الانقلاب من داخله وخارجه, مكنت الكثير من كوادره وقياداته أن تشكل خلايا أخطبوطية, سياسية وأخلاقية داخل الدولة والأحزاب الحاكمة, ناهيك عن وجودها المستقل علنا والمعلن بعدائه للعملية السياسية.


وقد سهلت التركيبة الطائفية لأحزاب الإسلام السياسي باحتماء الكثير من عناصر البعث ذات الطبيعة الإجرامية,فقد اندست في صفوفه إما " بلحية قصيرة وخاتم " أو " بلحية طويلة وسروال أو دشداشة قصيرة", وبذلك اختلطت الانتماءات بين شيعي تقي ومؤمن, و شيعي ـ بعثي مجرما, أو بين سني يخاف الله ورسوله, وسني ـ بعثي قاتل. وعلى هذا الأساس تم تشويه صورة الصراع الاجتماعي , وإضفاء الصبغة الدينية عليه, والذي بطبيعته لا صبغة دينية له, وهكذا أيضا بدأت تتشكل ملامح سياسة " مساواة الجلاد بالضحية ", أو وضع الظالم والمظلوم في سلة واحدة وفي الحزب الواحد, وبذلك تحولت الأحزاب التي تدعي المظلومية إلى أحزاب هجينة وبلون رمادي قاتم لاهوية سياسية لها,وبفعل ذلك أيضا فقد أصبحت بعض من أحزاب الإسلام السياسي مصدرا لحماية البعث والكثير من عناصره الدموية, وتشكل هذه العناصر بنفس الوقت جزء لايستهان به من قاعدة تلك الأحزاب " الجماهيرية " سنية أم شيعية.


ونؤكد هنا إن قواعد هذه الأحزاب لا ترغب مطلقا بعودة النظام السابق بأي شكل من الأشكال ولا يرغب بعض منها حتى الحوار مع بعض عناصره, طبعا ليست من منطلق العداء له أو العداء للقديم البالي المتهالك, ولكن هؤلاء يستطيعون العبث بالأمن والاستقرار وممارسة الابتزاز والسلب والنهب وخلق الفوضى والاستئثار بالسلطة بما لا استطاعوا فعله في ظل النظام السابق, حيث كانت تجري الأشياء هناك على قاعدة إن الجاني والمجني عليه كانوا معروفين تماما للجميع, أما الآن فالعلم عند الله. إن هذا التعقيد والتداخل في قواعد هذه الأحزاب يضعنا أمام مهمات عسيرة وتساؤل كبير لا تسهل الإجابة عليه آبدا, وهو: " من يجتث من ", وتلك هي إحدى الصعوبات المفصلية التي ألقت بظلالها منذ البداية على هيئة اجتثاث البعث,وأصبح الحديث عن الاجتثاث أول ما يثير قلق عناصر قوى سياسية تحت قبة البرلمان ويمتد هذا القلق ليشمل قيادات إدارية وحزبية وكوادر في مختلف مستويات الهرم الإداري في مختلف المحافظات, وعلى ما يبدوا فأن العملية ليست ببساطة "جرة القلم " كما تصورها الذين اندفعوا للوهلة الأولى. ولعل اختزال الأرقام المفترض اجتثاثها من عدة آلاف إلى عدة مئات يعكس بعض من صعوبات الواقع في هذا المجال.

ونشير هنا أيضا إلى انسلال جزء كبير من عناصر وقيادات وكوادر البعث السابق إلى مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان المختلفة وغيرها من المنظمات ذات الطابع غير الحكومي, والتي تلعب دورا مهما في بلورة والتأثير على الرأي العام في القضايا الكبرى, كقضية الحرية والديمقراطية والمساواة وغيرها, واغلب هؤلاء من العناصر التكنوقراط وذوي الاختصاصات والكفاءات المختلفة من تعليم وإدارة وإعلام واقتصاد وسياسة, وقد شغل الكثير منهم مراكز القرار في المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية ومؤسسات الدولة بصورة عامة, وعدد غير قليل منهم من أساتذة الجامعات.وهذه الفئة تقع ضمن تعداد المليونين من " النظام السابق " من حملة الخبرات المختلفة والاختصاصات المتنوعة, وتشكل هذه العناصر احتياطي شعبنا ومجتمعنا لمختلف التخصصات, وهم جزء من بنيته التحتية الاقتصادية والاجتماعية, ولا يجوز وضع هذه الفئة على قدم المساواة مع " ذوي الشهادات المزورة".

وبالمناسبة ومن تابع حلقات مقابلة بنت صدام والتعليقات عليها من قبل وسائل التواصل سيجد حجم السخرية منها والشجب والأدانة والتهكم عليها وعلى والدها والسب والشتم والتصدي لها بعكس الأحزاب الأسلاموية الخائفة, فالشعب يعي حقيقة المؤامرة على مستقبله ومن هم حلفائه واعدائه, وبالتالي شكلت انتفاضته احدى الخيارات الاساسية للخلاص من المحاصصة, وليست من خلال مشروع بنت الرئيس السابق الذي اقدم على قتل زوجها وتيتيم اطفالها وهي تقول انه رجل رحيم !!!.

32
هل تسبح " البطة " عكس التيار

د.عامر صالح
"البطة" تسمية محلية لسيارات تويوتا كراون من موديلات 1994 – 2002، استخدمت خلال حقبة الحرب الطائفية التي شهدها العراق (2004 - 2008)، والتي اتهم فيها سياسيون سنة، ميليشيا المهدي التابعة للتيار الصدري بخطف وقتل أبناء المكوّن السني في العراق، في حين قال قياديون في التيار الصدري إن عناصر التيار قضوا على الطائفية والإرهاب بوسائلهم، من بينها استخدام سيارات "البطة". بالتأكيد أنها صفحات من الرعب في تلك السنوات الى جانب وجود التنظيمات الارهابية التي ترعرعت في المناطق الجغروسنية,  تلك هي افرازات نظام المحاصصة الطائفية والاثنية الذي عبث في استقرار البلاد وامنها المجتمعي والذي أسس له الأحتلال الامريكي البغيض لذلك, مما خلق خندقة جغروطائفية وأثنية في عموم العراق, والتي لازال العراق يحصد بفعل ذلك مزيدا من الفوضى واللااستقرار, وكان حصادها المزيد من التدهور الامني والفساد الاداري والمالي وتدهور مكانة الدولة العراقية لتفسح المجال لنشوء الدولة العميقة ذات الباع في الشأن العراقي وعدم استقراره, بل اصبحت صاحبة القرار في العبث في الامن والسيادة الوطنية.

أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد, وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار, وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة, أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس والفوضى المجتمعية.

كان استعراض جزء من سرايا السلام التابعة للتيار الصدري في يوم الأثنين المصادف 2021ـ02ـ08 لم يكن مفاجئة قطعا, حيث استعراض العضلات لمختلف القوى المسلحة جاريا على قدم وساق وفي مختلف المنعطفات والمناسبات السياسية, لطالما ان لغة القوة والسلاح هي البديل عن لغة الحوار. وخاصة ما يجري داخل القوى الشيعية حيث تشظيها المستمر على خلفية تشبثها بحيازة منصب رئيس الوزراء الذي يمتلك الصلاحيات الواسعة بما فيها القائد العام للقوات المسلحة وتشكيل الحكومة وتقرير سياستها الداخلية والخارجية وغيرها من الامتيازات ذات الصلة بأستقرار البلاد وأمنه وسيادته.

لم يكن استعراض التيار الصدري لبعض من قواه المسلحة نشاز عن مما يجري في البلاد سواء انه كان مباشرا في التعبير عن طموحاته وفرض ارادته انطلاقا من قدراته في التعبئة الحشدية لجمهوره والتي صاغها على شكل طموحات معلنة في رغبته في الحصول على 100 مقعد برلماني في الانتخابات البرلمانية القادمة التي ستجري في الشهر العاشر, ورغبته في تسلم رئاسة الوزراء, مادام الأمر محصورا في الطائفة الشيعية بتسمية رئيس الوزراء, فلماذا لا تسنح الفرصة للتيار الصدري بقيادة البلاد اسوة بمن سبقوه وهو من يدعي التعبئة المليونية عند الشدائد, فالمظلة المحصصاتية المثقوبة هي من يدفع القوى الشيعية للصراع المميت فيما بينها للأستحواذ على رئاسة السلطة التنفيذية وتركيبتها, حيث لا يستطيع الآخرون تقرير ذلك رغم عدم دستورية ذلك, حيث لا يوجد نص محصصاتي بتقسيم السلطات التنفيذية والتشريعية والرئاسية وحتى القضائية طبعا ولكنها من اسوء العادات التي تحولت الى عرف لا يمكن مغادرته, وان الذين يتحدثون عن عقد سياسي عراقي جديد والتأسيس لعقد اجتماعي سياسي متصالح مع الذات والمجتمع هم اطراف في المشكل العراقي المستعصي, حتى اصبح الحديث عن ذلك سخافة وتصريف اعلامي, فجميع الناطقون بها هم اطراف مريضة في نظام منهار.

التيار الصدري بأستعراضه العسكري الذي أطره بمخاوف أمنية للنيل من العتبات والرموز الدينية المختلفة فهو يتحدى فيه قوى شيعية سياسية متنافسة معه ورافضة له اصلا والتي يجسدها قطب المالكي, حيث اعلن علانية بعدم السماح للتيار الصدري بقيادة المشهد السياسي, والخلاف هنا ليست خلاف حول ما يعانيه شعبنا من فقر وفاقة وفساد او خلاف في برامج المعالجة لانتشال العراق من المستنقع الذي فيه, من ازمة اقتصادية واجتماعية وصحية, بل الخلاف على من يتزعم المشهد من الطائفة الشيعوسياسية والغارقة في الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام وتوقف المشاريع التنموية, في مجتمع يصل في عدد السكان تحت خط الفقر اكثر من 12 مليون نسمة, انه صراع على السلطة السياسية وليست صراع على برامج اقتصادية اجتماعية لأنقاذ البلاد, حديثي هذا ليست تزكية لفساد الطبقة السنية السياسي, فمن يسرق مخصصات اصلاح مناطقه فهو كافر ظالم ومجرم.

لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية, فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها, أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.

نعم يستطيع التيار الصدري حصاد اكثر من 100 مقعد برلماني, فهو يستنفر الخطاب الشعبوي الذي يؤطره الحرص على العراق وشدة التركيز على العراقوية المفتعلة وعلى استقلال القرار العراقي وعدم التدخل في شؤونه الداخلية لأستهواء مزاج الشارع العراقي الذي تعب ويأس من مختلف التحالفات, فالعزف على الانفعالات المؤقتة قد يؤدي الى مكاسب مؤقتة ذات طابع انفعالي مؤقت وبالتالي الانجرار وراء القطيع الانتخابي يشكل اكثر المخاطر ايذاء للديمقراطية.

ومن التجربة الماضية وعلى خلفية هذه التعبئة المشوهة اندفعت شرائح واسعة من مجتمعنا في البداية إلى الارتماء في أحضان الحركات الأسلاموية على خلفية فهم محدود لإزالة أثار الفقر ومسبباته في تصور خاطئ مفاده إن جرة قلم سوف تنقلهم من فقر مدقع إلى غنى لا حدود له, في ظروف سياسات انفتاح غير مدروسة وعبثية صوب الانتقال إلى اقتصاديات السوق, في وقت توقفت فيه الدولة عن أداء دورها التنموي في بلد غني كالعراق, وتتسع دائرة الظلم الاجتماعي والفساد, ويبدأ الفقر بالضرب بشدة في ما تبقى من صلابة التنظيم الاجتماعي بما فيه العائلة ليفضي إلى تصدع اجتماعي وترهل سياسي مخيف فيخيم على المجتمع شعور طاغ بالاغتراب وفقدان المعنى والمصداقية مع انعدام العدالة والتخلص من كل تخطيط ليقع المجتمع فريسة ضروب الفوضى وارتفاع مخيف لنسبة البطالة وسط غنى هو الأخر مخيف وفاحش, وتتعمد القوى السياسية لتسريع الانتقال إلى الرأسمالية المشوهة والوحشية لتحقيق مكاسب خاصة عبر الوكالات والسماسرة والفساد بكل أنواعه, ونفس هذه القوى تندفع إلى تسويات سياسية غير عادلة يسودها منطق الانهزامية الوطنية في ظروف يبدوا فيها محيط العراق الخارجي أكثر شراسة وعنف في التدخل في شئونه وارتهانه وأضعاف وحدته الداخلية.

وبالتالي فأن التيار الصدري بما يحمله من شرائح اجتماعية متنوعة من فقراء ومتوسطي الدخول بل ومن الاغنياء وملاكي العقارات وغيرهم قد يلعب دورا تمويهيا لجمهوره من خلال دغدغة المشاعر في الوعود لمعالجة الفقر والانتشال من البؤس خارج اطار الوعي الحقيقي للمسببات, ومن خلال تشبثه بمنصب رئيس الوزراء القادم بعيدا عن المخاطر الناتجة من نظام المحاصصة سيئ السمعة, فالمهم في ذلك ليست الفقر لذاته بل الوعي به.

تواصل الكتل الشيعية بتشظيها المتواصل كما هي الكتل السنية والكردية, وقد تكن الاخيرة اقل استنادا الى المزاج القومي والطموح نحو الاستقلال, ولكن الخلاص من نظام المحاصصة هو الحل في عراق آمن يضمن الأمن والتنمية للعراق والسلام لكردستان, ومن هنا فلا يسعد شعبنا الحصول على عدد المقاعد لكتل طائفية بل الخلاص من نظام المحاصصة الى نظام وطني جامع للتنوع العراقي بعيدا عن استئثار الطائفة والعرق.


33
العراق: من صدمة الدكتاتورية الى صدمة المحاصصة الطائفية والعرقية والى الأصلاح بالصدمة


د.عامر صالح

علينا الأعتراف بأن حاضر العراق هو نتاج صدمات لتاريخه القريب, ولا يوجد ما يشير الى ان العراق كان بلد مستقر وهادئ خلال عقوده الماضية وان ما كان فيه هو نعيم وجنة ورخاء, ولكن بالتأكيد المقارنة تكون نسبية, فالأسوء يستنهض فينا ايجابية السيئ رغم مرارة الأخير, إلا ان الفطرة الانسانية تشتغل على سنة من يرى الموت يرضى بالسخونة المرتفعة, والذاكرة الانسانية تنشظ بذكرى الاحداث من حيث تراتيبيتها ووقع الألم فيها ودرجة تلاشيه في مختلف الحقب التاريخية, الشخصية منها والعامة.

في التاريخ الحديث للشعوب توجد عدة أحداث بارزة شكلت صدمة أو رجة في الوعي الجمعي، قادت بدورها إلى تحولات على المستوى السياسي والحضاري، بما في ذلك إجراء مراجعات فكرية مختلفة وممارسة للنقد والنقد الذاتي. باستثناء منطقتنا العربية والاسلامية, والعراق نموذج لذلك العزوف عن نقد الذات وانتاج خطاب يسهم في رسم ملامح حاضر افضل والذي يبدو أنه محصن حتى الآن من تأثير هذا النوع من الصدمات, بل ان مافيه من تفاعلات تعيد احياء السيئ بما هو اسوء منه.

فبالاضافة إلى الاستبداد والقمع والفساد الذي عانى منه ويعاني العراقيون، هناك أيضا حجب كامل للمعلومات واستهتار واضح بقيمة الإنسان العراقي. وهناك ميل دائم للتعامل مع المواطنين كما لو كانوا أطفالا أو قصرا بحاجة دائمة إلى من يفكر عنهم ويتخذ القرارات نيابة عنهم. وهناك حرص سلطوي على جريان السياسات والتعليمات والمعلومات في اتجاه واحد فقط من الأعلى إلى الأسفل وهناك التعامل مع الشعب كقطيع يستحق الرعاية والقيادة الرتيبة الى حين يريد القائد الفذ او الحزب القائد, إن كان دكتاتوريا ام اسلامويا او غيره.

لقد نشأ الظلم والفساد في العراق في عقوده الأخيرة على أرضية قسوة خارقة واستثنائية حيث قائد الضرورة كان على هبة الاستعداد لذبح مئات الألوف من عامة الناس ومن كوادر البلد العلمية والمهنية والسياسية ومن خيرة مفكريه وأدبائه وكتابه وشعرائه, وحتى من أنصاره ومؤازريه,وحرب ضروس استمرت ثماني سنوات لم تلبث أن انتهت بأعجوبة ساهم العناد الإيراني باستمرارها وإراقة الدماء عند كلا الطرفين,حتى لحقت بها حرب احتلال الكويت,ثم تلتها حرب تحرير الكويت ضد العراق وكان في ذلك اشد دمارا للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للدولة العراقية, وقد ساد مناخ من الإعتام واليأس والقنوط والإحباط ارتبط بفقدان الأهل والإخوة والأقارب في الحروب وتصدع العائلة والمدينة والقرية والحي والحارة والجار بتأثير شدة الفقر والحاجة حيث بلغت الرواتب في أفضل الحالات من 5 الى6 دولارات في بلد نفطي كالعراق,إضافة إلى التصدعات القيمية والأخلاقية العامة كمحصلة لهذا كله, وقد قادت هذه الظروف إلى شيوع الجريمة العادية والسرقة ولكنها كانت في معظمها تحت قبضة النظام السابق حيث كان على استعداد لتشجيعها أو القبض على منفذيها بنفس الوقت للتخفيف من أزمته الداخلية, وكذلك تاركا لأجهزته المخابراتية والأمنية حرية ارتكاب الجرائم النوعية ضد مناوئيه.


ثم أتت فترة  الاحتلال الأمريكي عام 2003 واسقاط النظام السابق حيث شيوع وانتشار التنظيمات السياسية الطائفية التي نمت نموا مذهلا وسريعا وبتشجيع من دول الجوار العربي وغير العربي مستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود في ظل النظام السابق جراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي سببها له,وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون فهم قوانينه وأسبابه, والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران والجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على ارض العراق المظلوم ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان واشتراطاتها السياسية, بما فيه حتى شروط تشكيل حكومته القادمة, أنها كارثة حقيقية ضد استقلال البلد وسيادته, وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل, بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده, وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر باليابس.

لقد تواجدت هذه القوى تحت المظلة الأمريكية والجميع غير مؤمن بالديمقراطية السياسية كأسلوب لإدارة الحكم, وإذا كان المحتل صادقا في نيته في بناء نظام ديمقراطي في العراق فتلك هي حالة الاغتراب بين المحتل وبين من يتعامل معهم لإدارة شئون البلاد,وكما يقول المثل " إن كنت تدري فتلك مصيبتي وان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم ", وعلى خلفية ذلك ولد الدستور"رغم مثالبه "معطلا والمؤسسات الديمقراطية الناشئة فارغة المحتوى غير ذات جدوى,والجميع يعمل على شاكلته وبطريقته الخاصة مستلهما من الدكتاتورية السابقة اعتى دروسها في "التبعيث الجديد" والاستحواذ والقمع, وكل من هؤلاء انشأ ميليشياته "الجيش الشعبي الجديد " وحتى منظمات مجتمعه المدني الصفراء,وقواه الأمنية ليدافع عن نفسه وعن امتيازاته وبقائه بعيدا عن الانتماء إلى الوطن والمواطنة.

وعلى خلفية هذه التعبئة المشوهة اندفعت شرائح واسعة من مجتمعنا في البداية إلى الارتماء في أحضان هذه الحركات على خلفية فهم محدود لإزالة أثار الفقر ومسبباته في تصور خاطئ مفاده إن جرة قلم سوف تنقلهم من فقر مدقع إلى غنى لا حدود له, في ظروف سياسات انفتاح غير مدروسة وعبثية صوب الانتقال إلى اقتصاديات السوق,في وقت توقفت فيه الدولة عن أداء دورها التنموي في بلد غني كالعراق,وتتسع دائرة الظلم الاجتماعي والفساد, ويبدأ الفقر بالضرب بشدة في ما تبقى من صلابة التنظيم الاجتماعي بما فيه العائلة ليفضي إلى تصدع اجتماعي وترهل سياسي مخيف فيخيم على المجتمع شعور طاغ بالاغتراب وفقدان المعنى والمصداقية مع انعدام العدالة والتخلص من كل تخطيط ليقع المجتمع فريسة ضروب الفوضى وارتفاع مخيف لنسبة البطالة وسط غنى هو الأخر مخيف وفاحش, وتتعمد القوى السياسية لتسريع الانتقال إلى الرأسمالية المشوهة والوحشية لتحقيق مكاسب خاصة عبر الوكالات والسماسرة والفساد بكل أنواعه, ونفس هذه القوى تندفع إلى تسويات سياسية غير عادلة يسودها منطق الانهزامية الوطنية في ظروف يبدوا فيها محيط العراق الخارجي أكثر شراسة وعنف في التدخل في شئونه وارتهانه وأضعاف وحدته الداخلية.

أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار, وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة, أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد, بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع, أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.

لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية,فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها, أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.


أن إضفاء الصبغة الطائفية والعرقية على الصراع السياسي واللجوء إلى الحلول ذات الطبيعة التوافقية ـ الطائفية والعرقية تسهم في تكريس منظومة قيمية ذات طبيعة تعصبية " شاء الفرد أم أبى" لتشكل بدورها اتجاها نفسيا سلبيا مشحون بشحنة انفعالية ضد الأخر الديني أو الطائفي أو العرقي دون سند علمي أو منطقي أو بمعرفة كافية, ليتحول التعصب إلى مشكلة حقيقية في التفاعل الاجتماعي الإنساني المنفتح, وحاجزا يمنع كل فكر تقدمي جديد, ويفتت مكونات المجتمع الواحد ويحولها إلى أشلاء منغلقة ذاتيا بعيدة كل البعد عن التطورات المتلاحقة التي تحصل في العالم الخارجي في كل المجالات, أنها حالات من الصمم والبكم والعمى الهستيري والتي لا تدرك الأشياء والظواهر إلا من خلال اتجاهات التعصب الأعمى, أنها فرصا مواتية لتشديد قبضة الكراهية والعدوان الاجتماعي, ونحن نعلم من الناحية النفسية أن التعصب والتخندق الطائفي والعرقي هي سلوكيات مكتسبة ومتعلمة في أعمها الأغلب ولا توجد أدلة قاطعة ذات طبيعة غرائزية أو فسيولوجية لوجودها,فهي حالات من التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الأخر المغاير.

استكمالا لذات النهج المريض وتأسيسا عليه يمر العراق اليوم بأزمات مركبة, سياسية, واقتصادية, وصحية وأمنية قد تؤدي الى ما لا يحمد عقباه من انهيارات كبرى, حيث عدم الاستقرار السياسي والصراعات السياسية تفتك بالعملية السياسية وتقود البلاد الى المجهول, وبالمقابل يشتد قمع المتظاهرين المطالبين بتحسين اوضاعهمم الحياتية وتغير العملية السياسية, حيث قوبلت بالقتل العمد والاغتيالات والاختطاف والتغييب حيث تجاوزت اعداد الضحايا اكثر من 700 شهيد واكثر من 30 ألف جريح ومئات الاعاقات المنتهية, دون ان تجري محاسبة القتلة وتقديهم للعدالة.

كما ان الحديث عن انتخابات مبكرة استجابة لمطالب المتظاهرين باتت للأستهلاك الاعلامي ولأمتصاص نقمة المجتمع الغاضب على الطبقة السياسية, وقد تم ترحليها ايضا الى اكتوبر بدلا من حزيران ولازال الصراع على اجرائها والكيفية التي تتم بها هاجس قوى المحاصصة كي تؤمن فوزها القادم, وهناك صعوبات معروفة للجميع بأستحالة قيام انتحابات عادلة ونزيهة, من انتشار السلاح المنفلت وغير المنفلت الذي يستخدم للترهيب, وكذلك المال السياسي, واشكاليات انجاز سريع للبطاقات الانتخابية البايومترية للحد من التزوير, وعدم اكتمال نصاب المحكمة الاتحادية, وعدم تعديل قانون انتخابات مجلس النواب واشكاليات اخرى متعلقة بانتخابات مجالس المحافظات التي يريد مجلس النواب اجرائها متزامنة مع الأنتخابات البرلمانية.

ثم تدهور الاوضاع الأمنية على مستوى عودة العمليات الارهابية والاختراقات للأجهزة الأمنية في مختلف مناطق العراق, وكانت العملية الارهابية التي حصلت في ساحة الطيران بمثابة جرس انذار للجميع, الى جانب الاغتيالات الفردية المستمرة للناشطين المدنيين والمحللين السياسين والجرائم العادية المنتشرة في العراق. وكان تدهور الوضع الصحي بسبب جائحة كورونا وعدم القدرة احتواء نسبي للوباء عكس بشكل جلي المكانة المتدهورة لقطاع الصحة والذي صرفت عليه المليارات من الدولارات في السنوات السابقة دون جدوى ومخرجات تذكر وقد ألتهم الفساد الكثير من هذه الاموال اسوة بالقطاعات الاخرى.

اما في نطاق  العملية الاقتصادية والاجتماعية فأن حقبة مابعد 2003 شهدت فسادا واهدارا وسرقة للمال العام لم يحصل في تاريخ الدولة العراقية, فقد تجاوز اهدار المال العام 1400 مليار دولار في سرقات مباشرة ام تلكأ مشاريع او مشاريع وهمية, وقد رافق ذلك تدهور لقطاع الدولة في مختلف المجالات الانتاجية والخدمية, وتعثر وخراب في القطاع الخاص ونسف للبنية التحتية في كل المجالات, وبات الاقتصاد العراقي ريعيا بأمتياز حيث بيع النفط من اجل الرواتب والأكل والشرب والاستيراد من الخارج ابسط المستلزمات التي كان يصنعها العراق سابقا, والاعتماد على النفط كمورد اساسي ووحيد تصل بنسبة 97%, ومع تداعيات اسعار النفط تم اللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي بما يكبل الدولة ومستقبل البلاد بمزيدا من الارتهانات. ووفقا للتقارير الدولية فأن اعداد السكان التي تحت خط الفقر وصلت الى 12 مليون او تجاوزته بسبب انهيار اسعار النفط ووباء كورنا الى جانب انعدام السياسات البديلة لأحتواء الازمات, ومن الممكن ان تتضاعف معدلات الفقر الى 40% من عدد السكان.

وقد لجأت الحكومة العراقية مؤخرا رفع سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي من 1190 دينار للدولار الواحد إلى 1450 دينار، ما تسبب بصدمة اقتصادية كبيرة في البلاد التي تعاني أساسًا من أزمة مالية كبيرة منذ أشهر نتيجة تبعات فيروس كورونا وما تسبب به من حالة إغلاق عالمية وتأثير ذلك في أسعار النفط التي انهارت إلى مستويات قياسية, الى جانب عدم المقدرة لوضع حد للفساد المالي, وقد رافق ذلك توجه الحكومة الحالية عبر ما يسمى " بالورقة البيضاء للأصلاح " الى جانب موازنة 2021 التي يرى فيها العديد من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين " أنها موازنة بائسة معتمدة على القروض الداخلية والدولية ، وإنها أعدت على عجل ، بأرقام غير دقيقة ، ولم تعرض على وزارة التخطيط ، وأشارات بزيادة الأنكماش الأقتصادي ، وتخلو من برامج تحفيزية حقيقية جعلت الشعب العراقي يستذكر العودة إلى زمن الحصار الأقتصادي ، وان هذه الموازنة البائسة سوف تزيد الفقراء فقراً واللصوصية ثراءاً وفحشاً ، وأن الوطن المنكوب ذاهب إلى الهاوية ، وهذه بعض الملاحظات:
ـ الأرتفاع المفاجيء لسعر الدولارفي مسودة الموازنة ، مما أدى إلى خفض القوّة الشرائية للمواطن والتسبب في كساد السوق
ـ أستقطاع من رواتب الموظفين ، وفر ض رسوم على البنزين.
وفي مشروع موازنة 20-21 تضمنت الأقتراض من أكثر من 50 جهة لتأمين الكهرباء فقط والكارثة بضمانة سيادية. ـ
وفي الموازنة هناك دوائر ووزارات لم تقدم بعد حساباتها الختامية منذ سنوات ربما منذ سنة 2012. ـ
ـ أحتساب أيرادات النفط الخام على ( التخمين ) وذكر رقم 42 دولار للبرميل الواحد ، بالوقت الذي صعد اليوم إلى أكثر من 50 دولار.
ـ التوزيع الغير عادل للثروات بين المحافظات مثلا البصرة المغبونة التي تضخ الميزانية العراقية بأيرادات النفط بنسبة 90% ، وفي
محافظات الوسط والجنوب هناك عشرة ملايين مواطن تحت خط الفقر.
ـ مشروع موازنة 2021 تفرط بعقارات الدولة ، كما ورد في المادة 60 من قانون الموازنة : ” تجيز بيع الأصول المالية للدولة وشركاتها العامة ” ( طريق الشعب).

لن نرى في كل هذا إلا ان يكون تراكم لصدمات سوف تجعل من المجتمع العراقي يقترب من حافة الهاوية والانفجار غير المحسوب العواقب, فأذا كانت احتجاجات اكتوبر سلمية بأمتياز, فمن يضمن السلمية في المرات القادمة على خلفية تعاظم الكبت الناتج من الحرمان في اشباع الحاجات الانسانية الاساسية وبالتالي فنحن امام برميل بارود اذا لم يحكم السيطرة عليه لحيلولة دون انفحاره فأنه قطعا سينفجر !!.
 


34
توأمة الفساد والأرهاب في العراق تريق الدماء البريئة

د.عامر صالح

استيقظت العاصمة العراقية بغداد, وفي منطقة ساحة الطيران وسط العاصمة يوم 21ـ01ـ2021 على وقع تفجير انتحاري أرهابي مزدوج مفاجئ، أيقظ أسوأ كوابيس البلاد التي شهدت هدوءاً نسبياً ومتفرقا لسنوات وجدد المخاوف والهلع والرعب من عودة العنف. وأعلنت السلطات العراقية سقوط 32 قتيلاً على الأقل وأكثر من 110 جرحى وقد تتزايد اعداد القتلى بفعل الكم الهائل من الجرحى.

وأن الطريقة التي تمت بها عملية الهجوم وشرحها المسؤولون الأمنيون في وزارتي الدفاع والداخلية تحمل بصمات تنظيم «داعش الأرهابي»، إذ ادعى الانتحاري الأول أنه مريض فتجمع الناس حوله لمساعدته، ففجر نفسه فيهم. وحين تجمع الناس بأعداد أكبر لينتشلوا الضحايا، فجر الانتحاري الثاني نفسه فيهم. ولاحقا قالت وكالة "أعماق"، التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية الأرهابي داعش، في بيان تبنت فيه العملية الاجرامية إن الهدف كان ضرب المسلمين الشيعة, ورغم غباء البيان او كذبه بعدم معرفته بالتنوع الأثني والمذهبي لسكنة بغداد وتحديدا في منطقة التفجير التي تضم خليطا من الأنتماءات يوحدها الانتماء الى طبقة الكادحين والشغلية والفقراء الذين يبحثون عن لقمة العيش في ممارسة مختلف المهن من بيع للخضار والملابس وتقديم خدمات الشاي والقهوة لسد رمق العيش اليومي, لكن العملية تتجاوز البعد الطائفي " رغم عدم مشروعيته وسفالة تبريره " فهي تستهدف الأمن المجتمعي بعمومه في ظروف حساسة يمر بها العراق أبرزها تفشي الفساد المالي والاداري وعدم المقدرة على وضع حد له الى جانب هشاشة الأمن وضعفه في مختلف مناطق العراق, وكذلك عدم معالجة آثار داعش المتبقية ما بعد القضاء عليه ميدانيا في مناطق تواجده التي احتلها في عام 2014.

ورغم استمرار العمليات الإرهابية التي يقوم بها تنظيم «داعش» في مناطق مختلفة من العراق، لا سيما في غرب البلاد، فضلا عن قيامه قبل نحو أربعة أيام بتفجير محطات طاقة كهربائية بالقرب من منطقة جرف الصخر شمالي محافظة بابل (100 كلم جنوب بغداد)، وكذلك قيامه بعمليات ارهابية من قتل وترويع في مناطق ذات تواجد سني كبير, فإن الأسلوب الذي اتبع في تفجير أمس لم يكن متوقعاً حدوثه، خصوصاً بعد سريان الهدوء الأمني النسبي في العاصمة, رغم بقاء عمليات ذات طابع ارهابي من اغتيال وتصفيات جسدية وخاصة تلك التي طالت المتظاهرين السلميين او من وقف لنصرتهم من السياسين والمحللين وغيرهم, الى جانب مختلف انواع الجرائم.

لعله من نافلة القول بأن التطرف والإرهاب خاصيتان سلوكيتان متصلتان ومنفصلتان بنفس الوقت, أي إن الإرهاب يستدعي تشبع ممارسيه بدرجة عالية من التطرف لكي يندفعوا لارتكاب الفعل الإرهابي, لكن ليست بالضرورة كل متطرف هو إرهابي, إلا إن تحول سلوكيات التطرف إلى فعل إرهابي يرتبط بتأثير السياقات والظروف المجتمعية والأطر التاريخية والعوامل الإيديولوجية والدينية , أي أن التطرف أشبه بحامل فيروس خامل ينشط حين توفر البيئة المواتية لكي يتحول إلى فيروس نشط يجسده فعل الإرهاب, وان سلوك التطرف ـ الإرهابي ليست مقصورة على طائفة بعينها وخاصة عندما تتوفر البيئة الحاضنة له, فبإمكانه أن يكون أراهبا بلباس سني, أو شيعي, أو قومي, أو فاشي وغيره, وخاصة عندما تتشبع هذه المكونات الدينية والاثنية والفكرية بفكرة التطرف والكراهية للآخر المغاير بعيدا عن التسامح والاعتدال والوسطية.

أن كل متابع للمشهد السياسي العراق لم يرى في العمليات الارهابية إلا كونها الذراع المسلح للعملية السياسية في العراق " بقصد وتخطيط او بدونه ", فهي تنطلق فورا في عملياتها الجبانة حال انفراط عقد السياسة في قبة البرلمان لتوغل في العنف وإراقة الدماء ولتحقيق أجندتها عبر التهديد والوعيد. أن العمليات الإرهابية في العراق تنسجم كثيرا مع رؤى البروفسور بروس هوفمان في قوله : " إن الإرهاب هو الخلق المتعمد للخوف واستغلاله في تحقيق التغير السياسي , وبالتالي فهو دون شك شكل من أشكال الحرب النفسية ", ويؤكد أيضا أن الناس كثيرا ما يتعرضون للقتل والإصابات المأساوية في هجمات الإرهابيين, إلا أن الإرهاب بطبيعته يرمي لأحداث آثار نفسية بعيدة المدى بشكل يتجاوز الضحية أو الضحايا المباشرين وما استهدفه عنفهم, فالإرهاب يرمي إلى غرس الخوف في داخل النفوس وبالتالي إلى إرهاب المجموعة التي يستهدفها الإرهابيون وللتأثير على سلوكها. أن الإرهاب في العراق يجسد هذا النمط من التصور للفعل الإرهابي في محاولة لإعادة بناء التحالفات السياسية وفق أجندة خارجية وداخلية وفي ظل ظروف غياب ملموس لسلطة الدولة والقضاء العادل وضعف الممارسة الديمقراطية, يقابلها في الطرف الآخر مواطنا مخترق في الأمن والخدمات والعيش الكريم.

وقد لعب الفساد الاداري والمالي دورا كبيرا في ما بعد 2003 في تغذية الارهاب ومده بعوامل بقائه وديموته واعادة انتاجه بأشكال مختلفة سواء بعمليات واسعة النطاق والتأثير كالارهاب الداعشي والقاعدة التي سبقته وكذلك الارهاب الفردي المتمثل بالقتل العمد على الهوية السياسية والمذهبية والدينية بصورة عامة والاثنية, وحتى بسقوط اجزاء من العراق سابقا بيد داعش والتي تجاوزت اكثر من 30% من اراضي العراق كانت من ضمن اسبابها الرئيسية وسهولة وقوعها هو الفساد في الاجهزة الامنية والعسكريين والقيادات السياسية العليا والميدانية, وقد اريقت مئات الألوف من دماء الأبرياء وسبيهم وتشريدهم وتهجيرهم وتغييبهم وواختطافهم. من يخون وطنه ومواطنيه سواء أكان إرهابياً أم فاسداً ، كمن يخون أهله ، ويهدد أمنهم واستقرارهم ومستقبل أطفالهم . أليس الوطن هو الملاذ الأخير لأي مواطن, أليس الوطن وكما يفترض هو الأمن والأمان وهو مظلة الجميع بتنوعاتهم الثقافية والاثنية والمذهبية, أليس الوطن هو من يحفظ كرامة مواطنيه من الأهانة والذل والفقر والجوع ويضمن حد مقبول من كرامة العيش, فمن يعتبر نفسه مواطناً حقاً سواء سياسيا ام مواطن بسيط ، لا يقبل أبداً المساس بوطنه وتسهيل احتلال ارضه وحتى العمالة للأجنبي . أما من ينظر للأمور من خلال مصالحة الشخصية والآنية ، وما يحققه من ثروات كسبها بالحرام والخداع والسرقات والرشاوى والفتاوى ، فالوطن منه براء بل لا ينطبق عليه مفهوم المواطنة, يقال إن وطناً لا تحميه لا تستحق العيش فيه, ووطن لا يحميك فهو ليست وطن كما يتمناه المواطنون ، فكيف إذن لو كنت تسرقه وتعبث فيه, وتسهم في انهياره وتبديد ثرواته, انها فرص داعش الذهبية لأستغلال المناطق الرخوة تلك.

العمليات الارهابية التي وقعت في بغداد كما غيرها من العمليات السابقة تعيد الى الأذهان نفس التساؤلات التي لم تلقي الأجابة بعد, ولعل ابرزها: كيف يمكننا تنظيم قوات الأمن الوطني والمخابرات والعسكرية والداخلية على اسس غير محصصاتية وكذلك الأجهزة القضائية والقانونية , وكيف يمكن حماية تلك الاجهزة والمؤسسات من قبضة وطغيان وعنف الكتل السياسية وميليشياتها الخاصة, وهل تستطيع هذه الجهات محاسبة القيادات السياسية والحكومية النافذة في البرلمان وخارجه. كيف يمكن تفعيل أجهزة الرقابة المالية والقانونية وهيئة النزاهة وماهي ضمانة إستقلاليتها وما هي قوانينها الخاصة وكيف يتم تعيينها ونفس الشيء بالنسبة الى الدوائر الرقابية في جميع مؤسسات الدولة ووزاراتها. كيف نضمن مجتمع آمن بعيدا عن حكم الميليشيات وتسلطها وهي تقارع الدولة بدولة عميقة اقوى منها. أنها مهمات تستدعي تغير بنية النظام السياسي وموازين القوى السياسة فيه.

وكما يقال " وشهد شاهد من اهلها " وفي جزء من المعضلة, حيث الكاظمي يقول خلال الجلسة الاستثنائية للمجلس الوزاري للأمن الوطني، (22 كانون الثاني 2021)، إن "الأمن ليس مجرد كلمة نتحدث بها في الاعلام، بل مسؤولية، فحياة الناس وحياة اطفالنا ليست مجاملة، ومن لا يرتقي الى مستوى مسؤولية حماية المواطنين وأمنهم عليه ان يتنحى من موقعه". وأضاف، "ما حصل يوم امس هوخرق لا نسمح بتكراره، لقد وعدنا شعبنا بالأمن، وهذا الخرق دليل ومؤشر على ان هناك خللا يجب الإسراع بمعالجته". وقال "ان العراق دولة واحدة ويجب ان تتصرف كل مؤسساته الأمنية والعسكرية بروح واحد، وسنفرض توحيد الجهود الاستخبارية بكل جدية، لا مكان للمجاملة على حساب العراق والعراقيين". من السهل عليه تشخيص الأزمة "وهو يعيها تماما " في محاولة لأمتصاص نقمة الشعب ولكن من الصعب عليه تحديد السبل الواضحة للمعالجة والجرأة الكافية, إن لم يكن هو جزء من الأزمة.


المعضلة الأكبر في هذا كله هو الفساد المالي والسياسي الذي يلعب دورا لوجستيا واخلاقيا خطيرا في تسهيل المهمات الارهابية واختراق الاجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية والتواطئ الميداني مع داعش وغيرها لتنفيذ الأعمال الأجرامية بحق أمن المواطنين وارواحهم, الى جانب الصراع السياسي المستفحل بين القوى السياسية داخل البرلمان والذي يضع الأمن المجتمعي في آخر اهتمامات تلك القوى المتصارعة على السلطة والمال والنفوذ, لا نتحدث هنا عن الفقر وتداعياته المتشعبة بما فيها تغذية الارهاب فهو امر مفرغ منه, وبالتالي فأن كل المعالجات للحد من الارهاب والقضاء عليه تشمل جبهات مختلفة ومتضامنة كما يفترض, اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية ونفسية, وتشكل جزء من عمليات الأصلاح الشامل للمنظومة الاجتماعية وتشعباتها والقائمة اساسا على اساس العدل ودولة القانون لفرض الأمن المجتمعي الشامل.

المجد والخلود لشهداء ساحة الطيران والشفاء العاجل للجرحى والصبر والسلوان لذوي المفقودين, والخزي والعار للقتلة المجرمين مرتكبي الجريمة الشنعاء, من داعش الارهابي الكافر بكل القيم الانسانية وغيرهم سفاكي دماء شعبنا الصابر والمناضل, وكل الأمن والأمان لبغداد الحبيبة واهلها وللعراق اجمع.





35
الترامبية بين الثقافة الديمقراطية وثقافة القطيع

د.عامر صالح

الديمقراطية منذ نشأتها الأولى وبما يؤرخ لها منذ عام 500 قبل الميلاد في أثينا وفي بقاع اخرى من العالم لم تأتي لأطفاء او ألغاء الغرائز الانسانية الفطرية في المنافسة واشباع الدوافع الاساسية من جوع وعطش وجنس وتجنب الألم والارتقاء الى مستويات اعلى من الحاجات في الأمن والثقافة والأبداع, بل اعادة تنطيم اشكال اشباع الغرائز الانسانية استنادا الى الاجماع الاجتماعي في اضفاء البعد الانساني والحيلولة دون وقوع ما يفني العضوية الانسانية بسبب من عوامل المنافسة خارج أطر القيود الاجتماعية المشروعة الناتجة من العقد الاجتماعي, والديمقراطية هنا افضل الحلول النسبية لما توصل له الفكر الانساني لحد الآن على اقل تقدير.

لقد شكلت نقطة التحول الفسيولوجية التشريحية الحاسمة بالنسبة للإنسان وانفصاله النسبي عن مملكة الحيوان هي بامتلاكه الجهاز العصبي المتطور, وبشكل خاص امتلاكه للدماغ ونصفي الكرة المخيين المتخصصين تخصصا عاليا ديناميكيا, وخاصة القشرة الدماغية المتطورة وذات التخصص الدقيق ذو الصلة المباشرة بالعمليات النفسية أو العمليات العقلية العليا أو النشاط العصبي الأعلى " حسب تعبير علم الفسيولوجي " الذي تجسده عمليات التفكير والانتباه والتخيل والتصور والتعلم والإدراك والتذكر والبرمجة والتخطيط, والاهم من ذلك كله هو نشوء الأساس الفسيولوجي التشريحي للغة ونشأة اللغة نفسها التي أضفت على العمليات العقلية بعدا معقدا, حيث لا يمكن تصور العمليات العقلية خارج إطار اللغة,لأنها تلعب دور الممول لمحتوى العمليات العقلية وخاصة عبر عمليتي التجريد والتعميم اللازمتين للعمل الفكري. وفي هذا الانجاز التاريخي أعلن الإنسان انفكاكه عن الغابة وتحوله إلى كائن رمزي منتجا للحضارة المادية والمعنوية وللثقافة بمفهومها الواسع.


هذه النقلة النوعية التي حققها الإنسان في سلم التطور البيولوجي لم تلغي إبقائه مشتركا مع أسلافه في الكثير من العمليات الفسيولوجية التي تضمن له البقاء والاستمرار, أو ما نسميها بعلم النفس بالدوافع الفسيولوجية الأولية وهي فطرية في أساسها ومشتركة بين مختلف أنواع الكائنات العضوية, ومنها دوافع الجوع والعطش والجنس وتجنب الألم وكالحاجة إلى الهواء, والاحتفاظ بحرارة الجسم, والحاجة إلى الراحة والتخلص من التعب وغيرها, إلى جانب طبعا دافعية العدوان" المنازلة والمنافسة ", إلا أن رمزية الإنسان " ثقافته بمعنى اشمل " أضفت على جميع هذه الدوافع بعدا اجتماعيا تطبيعيا يستجيب لمكانة الإنسان الجديدة, وعلى أساس ذلك نشأت ثقافة الأكل والشرب وثقافة الجنس وكذلك " ثقافة " أو " حضارة " العدوان والعنف, وتتنوع هذه الثقافات ومظاهرها متأثرة بعوامل غنى البيئة وثرائها ومدى تطورها الفكري والاقتصادي والاجتماعي والتقني والمعلوماتي.

كانت الديمقراطية ولا زالت هي الأستجابة الانسانية الأولى لأعادة رسم واشباع مختلف الحاجات الانسانية عبر مايسمى بالعقد الأجتماعي الذي يقترن به دستور معبر عن مصالح المكونات المجتمعية الى جانب سيادة  القانون ومجتمع مدني وصحافة حرة ومستقلة للتعبير عن مختلف الأراء. "ولايمكن طبخ الديمقراطية دون الاعتماد على ميزان الاقلية والاكثرية.صحيح ان الديمقراطية ليست نظام مائة في المائة ولانظام 99%99 بالمائة ولكنها نظام 50+ 1 في ابسط تجلياتها عن حكم الاكثرية. لكن نصاب الثلثين هو الميزان الحقيقي للاكثرية ولذلك تصدر اغلب القوانين والتعديلات الدستورية والاستفتاءات بهذه النسبة لكي تعبر عن رأي الاكثرية في المجتمع".

وقد شكلت اركان الديمقراطية الأساسية احد عوامل دعم البنية التحتية للديمقراطية وديمومتها وتجددها, والمتمثلة بأرزها: الأنتخابات النزيهة الحرة والشريفة, والتسامح السياسي, وسيادة القانون, وحرية التعبير, والمساءلة والشفافية, واللامركزية والمجتمع المدني. وقد اثبتت التجربة التاريخية لممارسة الديمقراطية الى أفراز ابرز محاسنها وهي: الاستقرار السياسي, التجاوب الفعال في اوقات الحروب, انخفاض مستوى الفساد, انخفاض مستوى الارهاب, انخفاض الفقر والمجاعة, السلام الديمقراطي" أي ان الديمقراطيات لا تدخل في حروب فيما بينها",  انخفاض نسبة قتل الشعب وارتفاع نسب السعادة.

لقد جاء ترامب ليقلب موازين القوى في دولة عمر الديمقراطية فيها اكثر من مائتي عام بأستناده الى خطاب القطيع الذي يلغي الديمقراطية  كخطاب موجه الى المجتمع بأكمله وبكل تنوعه الأثني والثقافي الى خطاب منفعل قوامه العزف على الأصول العرقية والثقافية والأثنية واستنهاض الغرائز الأولى ذات الصبغة العدوانية والتحريضية على الانقسام المجتمعي وبما يفضي الى تشظيته وتحوله الى كانتونات متعادية ومتخاصمة ولا يمكن الجمع بينها على اساس المواطنة المتساوية, فقد كان غبيا بارعا في العزف على سمفونية افضلية الجنس الابيض,  " لديكم جينات جيدة، تعرفون ذلك، أليس كذلك؟ إنها نظرية سباق الخيل. هل تعتقدون أننا مختلفون جداً؟ نعم لدينا جينات جيدة في مينيسوتا". المتحدث، بالطبع، هو دونالد ترامب، الذي لعب، على ما يبدو، ببطاقة التعصب في تجمعه  الانتخابي ويصف أنصاره البيض بالتفوق الجيني.

المشكلة الأولى: أن دونالد ترامب لم يمثل حزباً سياسياً هُزِم في انتخابات الرئاسة، بقدر ما يُمثل تيارات اجتماعية متعددة وقوية.
كلمة "متعددة" هنا مهمة. ذلك لأن أهم نجاح لترامب كان في جمعِه تيارات مختلفة ورائه.. تيارات لها ليس فقط مصالح مختلفة، ولكن أيضاً أفكار وتصورات متضاربة.
أهم هذه التيارات هي:
أقصى اليمين الرأسمالي، الذي يريد تحجيماً كبيراً لدور الدولة في كل قطاعات الاقتصاد الأمريكي تقريبا.
أقصى اليمين المسيحي، الذي يريد قوانين داخلية يراها متبعة رؤيته لقوانين الله. والذي أيضاً يريد سياسة خارجية تعكس قناعات دينية لذلك التيار.
مجموعات واسعة في أسفل الطبقة الوسطى، خاصة من ذوي البشرة البيضاء، الذين يرون في التغيُرات الاقتصادية في الولايات المتحدة في العقدين الماضيين إفقارا لهم وتراجعاً لمستويات معيشتهم. وعليه يريدون سياسات داخلية وتوجهات خارجية ضد تلك التغيُرات الاقتصادية.
ترامب نجح في جمع هذه المجموعات وراءه. صحيح، أن جغرافيا الولايات المتحدة الشاسعة، وهيكل الإعلام فيها (بتعدديته)، والنظام الانتخابي فيها، يُسهِل على أي سياسي أن يصل لمجموعات مختلفة من الناخبين برسائل مختلفة، وأحيانا متعارضة. لكن ترامب برع في ذلك الوصول المتعدد لتلك المجموعات المختلف.

المشكلة هنا ان ترامب عزف على خطاب ليست واقعي بمسلمات المنافسة الانتخابية حول برامج ما بل عزف على انفعالات خالصة تستنهض العدوان والتحريض واحتمالات القتل. فقد استند ترامب الى الأشاعة بما فيها من تضخيم وتنميق ومبالغة حد الخرافة والدهشة, ويمكن للإشاعة أن تنتقل عبر الجمهور وأيضا بواسطة وسائل الاتصال، أمام التطور التكنولوجي وسرعة انتقال المعلومة التي قد تحمل الصدق أو الكذب، والجمهور ميال بطبعه لتصديق الإشاعة لما تحمله من إثارة وتشويق، من هنا نعتقد أنه يتم استغلال الإشاعة بكثير من الخبث للتأثير في الجمهور النفسي، خاصة إذا كان القائد انتهازيا ميكيافيليا، حساباته دنيئة، فيستغل قوة الجماهير وسذاجتها لتحقيق مآرب قد تبدو ذات نفع عام، وما هي في الحقيقة سوى دسائس شخصية، تروم تحقيق السلطة والمال والضغط على الآخر، ولو أن سيجموند فرويد يرى أن محرضات الجمهور تكون نبيلة أو خبيثة، فالجمهور يتأثر ويندفع ويصدق الإشاعة بسرعة في غياب حس نقدي أو بعد نظر لما قد يأتي من عواقب للأحداث، ويتسم الجمهور بالعواطف البسيطة التي تتأجج بسرعة متلاحمة بين أفراده، فيجد الجمهور نفسه أمام وضعية أو وضعيات تتطلب رد فعل أو مبادرة أو التخلص من موقف أو اتخاذ قرار، وهنا يتجلى أبداع الجمهور ليبدع وينتج الحلول بكيفية لا تخرج عن دائرة الجماعة، وهو بذلك يفكر بعقل الجمهور، وتحت تأثيره النفسي، ويقوم الجمهور بوضع قواعد للاشتغال وخطط، قد تبدو له جامحة لتحقيق أهداف تمت صياغتها من طرفه أو من الخارج، أو من طرف “القائد”، وتبقى طموحات الجمهور غير واضحة المعالم، فقد تتلاشى بفعل الزمن أو امتصاصها من الطرف النقيض، أو قد تصل الذروة لتجد من يحولها في اللحظة الحاسمة لفائدة جهة معينة، لأن البداية، بداية اندفاع الجمهور لم يكن مخطط لها، حكمها اللاوعي واللاشعور، وتلك القوة المكبوتة المقموعة التي دقت ساعة تفجيرها، فالجمهور نزاع لكل ما هو متطرف، وما إن ينفلت من عقاله حتى ينخرط في العنف والتخريب والتكسير، لهذا نجد التعامل معه يتوجب الحذر وعدم مواجهته بالعنف.

ترامب، الذي رفع منذ فترة حملاته الانتخابية عام 2016 شعار «فلنرجع أمريكا عظيمة مجددا» تمكن، خلال «غزوة الكونغرس» من تسديد أكبر الضربات المهينة لصورة الولايات المتحدة الأمريكية كدولة ديمقراطية، بتحريض المتطرّفين من أنصاره على الهجوم على مركز إصدار القوانين وتمثيل الأمة الأمريكية، وأحد أهم المواقع الرمزية للعظمة التي يتغنى بها، وبإهانته كل عناصر هذه العظمة، بدءا من مؤسسة الرئاسة نفسها، التي أصبحت، خلال حكمه، مركزا لإطلاق الأكاذيب، وإثارة الغرائز، وتحريض قسم من الشعب على القسم الآخر، مرورا بالمحكمة العليا، المنوطة بحماية الدستور والقوانين، ومجلسي النواب والشيوخ، اللذين تعرضا للاقتحام، ولمحاولة التلاعب بهما بكافة الأشكال الممكنة، ومرورا بالقضاء والأجهزة الحكومية، والمؤسسات الأمنية، وانتهاء بالإعلام، الذي كان محطا لهجماته وإساءاته.
وبالتالي عمل ترامب على خلق قطيع انتخابي ذو مواصفات غوغائية عدوانية, ابرز ملامحها هو
الشعور باللامسؤولية:
عندما يجد الفرد نفسه في صلب المجموعة «الغوغائية» أو «القطيع»، فإنه يشعر بـ «قوة لا تقهر» ويتخلص بالتالي من كبح النفس والزواجر التي كانت تمنعه من التحرك ويحتمي بالتالي بالمجموعة ويشعر بالأمان في وسط «القطيع». عندها قد يصل به الأمر إلى ارتكاب أفعال لا يجرؤ بمفرده على إتيانها «مواجهة شرطة الشغب، عمليات التخريب، السطو على البنوك والمحلات التجارية، مهاجمة الأملاك الخاصة والعامة وغيرها من الأفعال الغوغائية التي قد يدخل فيها أيضا الاغتصاب الجماعي وهي من أشنع الجرائم التي قد تنجم عن عقلية القطيع.
تنتفي روح المسؤولية والاحساس بالمصلحة العامة تماما وتحل محلها نشوة البطولة الزائفة والانتصار لقضية قد لا يفهمها الغوغائيون وإنما تحركهم أياد وتوجههم مثل قطع الدومينيو أو البيادق فوق رقعة الشطرنج، مجرد أجساد وطاقات جسدية بلا فكر ولا حس ولا روية. إذا ما «غرق» الفرد في القطيع فإنه يفقد ذاته وقد يصعب بعد ذلك الوصول إليه، الأمر الذي يشعره بالأمان وبأن يد العدالة لن تطوله لمحاسبته عما فعله.
الإصابة بالعدوى:
يتحدث غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" عن «انتقال العدوى» بين الغوغاء والقطيع وهو ما يسميه كتاب آخرون في مؤلفاتهم ودراساتهم على غرارديفيد هيوم «التعاطف». قد تبدأ «العدوى» على مستوى فردين اثنين فقط أو أفراد يعدون على أصابع اليد قبل أن تسري بعد ذلك سريان النار في الهشيم ويتم ذلك خاصة عبر «بث الشائعات» و«المبالغة» و«التهويل» الأمر الذي يهيج المشاعر ويخاطب المشاعر وينفي العقل وملكة الفكر التي تسمح بتبيان الحقيقة من الافتراءات. تنقل العدوى من الفرد إلى العائلة فالجيران قبل أن تصل إلى الطريق العام وتشمل القرية فالمدينة ثم البلاد ثم العالم ليحدث بعد ذلك العنف والتخريب لجلب الانتباه. لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورا كبيرا في تغذية «العدوى» وتكريس عقلية «القطيع» وبث «الشائعات» و«الأخبار المفبركة» لكن يجب ألا ننكر جوانبها الايجابية إذا ما أحسن استخدامها.
غيبوبة الفكر:
إن الفرد يذوب في «القطيع» الأمر الذي يصيبه بما يشبه «الغيبوبة الفكرية» ويصبح وكأنه تحت تأثير «التنويم المغناطيسي». عندها لن يكون له أي رأي فوق رأي «القطيع» كما يصبح مجردا من أي عواطف وأحاسيس خاصة به. هذا ما يفسر القرارات التي يتخذها «القطيع» والتي تتناقض تماما مع مصالح «الفرد» أو «الأفراد» الذين يكونون "القطيع".
تذوب «الشخصية الواعية» وتحل محلها «الشخصية غير الواعية» في صلب «القطيع». عندها يسهل على متزعمي «القطيع» توجيه «أعضاء القطيع» عبر «العدو» والأمر «وحتى عبر «الغمز» و«الإشارة» و«الرسالة المشفرة» أو «الايحاء». عندها يسهل تحويل «أفكار القطيع ومشاعره المتشنجة» إلى «أعمال عنف» و«مظاهرات» و«شغب» و"تخريب".

يقول المؤلف جوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجيا القطيع»: «إن الفرد في القطيع لن يكون فردا بل يتحول إلى آلة ميكانيكية مسلوبة الارادة، تسيرها إرادة أخرى خارجة عنها وتوجهها الوجهة التي تريدها». يعتبر المؤلف أن الفرد الذي يتواجد مع المجوعة لا يتحول بالضرورة إلى جزء من «القطيع» - يتطلب هذا الأمر تحلي «الفرد» بروح المسؤولية والوعي والقدرة على النقد الذاتي إضافة إلى إلادراك.

هكذا فعل ترامب بأنصاره بتحويلهم الى كتل هامدة لا قدرة لها على الخيار السليم واخضاعهم لعمليات التنويم المغناطيسي لغسل ادمغتهم بغسيل العنصرية والشوفينية القاتلة للديمقراطية, ولكن الديمقراطيات العريقة يفترض ان تجدد نفسها بأعادة انتاج خطابها المسالم والجامع للحمة الوطنية ومحاسبة مرتكبي جرائم انتهاك الديمقراطية ولعبتها في التدوال السلمي للسلطة. 

الذي فرح لكل ما جرى لديمقراطية أمريكا هم من الأسلامويين والدكتاتوريين من الانظمة الشمولية الذين وجدو في ذلك فرصتهم السانحة للتنفيس عن فشلهم واخفاقهم واستباحة دماء شعوبهم, واعتبروا احداث امريكا هي مؤشر لنهاية الديمقراطية  التعددية في امريكا وفي العالم, بل يوعدون العالم بديمقراطيات لا نعرف منها شيئ إلا عبر التصفيات الجسدية والاغتيالات والفساد الاداري والمالي وانتهاك المال العام.
في الديمقراطيات الهشة والنظم القمعية ستجد ما يجري في أمريكا فرصتها "الذهبية" لتبرير كل أفعالها المشينة للعبث في الأستقرار والتداول السلمي للسلطة وتكريس منطق السلطة الغنيمة وعلى طريقة ما ننطيها. سينتظر الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته وصلاحيته"ترامب" طريق قضائي وقانوني طويل على خلفية تحريضه باستخدام القوة والعصيان ضد الديمقراطيةومؤسساتها الدستورية وتعريض السلم الأهلي والمجتمعي إلى الخطر بل وهناك توجه لمنعه من ممارسة السياسة لاحقا فهل تتم الأستفادة العالمية من تلك التجارب ام تبقى حكرا للأمريكان.

المصادر:
عامر صالح: العدوان عند الأنسان والحيوان
عامر صالح: سيكولوجيا احتجاجات اكتوبر العراقية
روبرت كوهلر: أمريكا 2020 الفوضى المقبلة
طارق عثمان: الوصول لحافة الفوضى
محمد حماس:  غريزة القطيع لدى الجماهير
كوستاف لوبون:  سيكولوجيا الجماهير
موقع موضوع: مفهوم الديمقراطية
نبيل ياسين: تاريخ الديمقراطية




36
الفساد الأداري والمالي بين مزدوجي الجنسية وأحادي " الجنسية الأصل "

د.عامر صالح

أحال القضاء العراقي، السبت، 20 وزيرا عراقيا للمحاكمة بتهم فساد، كما شملت القائمة مئات المسؤولين الآخرين، ضمن حملة لمحاربة الفساد في العراق. وكشف عضو مجلس النواب النائب جمال المحمداوي، عن مناصب المسؤولين المحالين إلى القضاء بتهم فساد. وقال المحمداوي لوكالة الأنباء العراقية (واع): إن "قائمة المتهمين المحالين ضمّت أكثر من 20 شخصية بدرجة وزير تمت إحالتهم إلى محكمة الموضوع"، مشيرا إلى أن "هذا مؤشر يؤكد وجوب ألّا يتم اختيار الشخصيات التي تتسلم المواقع الرئيسة من مزدوجي الجنسية.

وأضاف أن "20 شخصية متهمة بدرجة وزير من أصل 333 أحيلوا للمحكمة غيابيا، أما من هم بدرجة مدير عام فقد أحيلوا غيابياً للمحاكم وعددهم 27 ممن اتهموا بالقضايا الجزائية الخاصة بوزارة الكهرباء". وتابع أن "الفئة الأخرى التي هي أقل من مدير عام، يصل عددهم إلى أكثر من 286 ، وهم أحيلوا غيابيا للمحاكم، فيما تمت كفالة 72 ومن ضمنهم وزيران وأربعة بمنصب مدير عام، و66 من درجة درجات وظيفية أقل". وأشار إلى أن "الإدانات شملت 4 وزراء فقط و7 مدراء عامين من أصل 198 متهما بالقضايا التي تتعلق بملفات الفساد لوزارة الكهرباء".


لطالما وجه الاتهام لمزدوجي الجنسية أي من الجنسية العراقية وحاملي الجنسية الثانية من بلد الأقامة في محاولة لخلط الاوراق في تشخيص رموز الفساد وأضفاء نزاهة مفتعلة على حملة الجنسية الأصل فقط, وهو سلوك اسقاطي سيكولوجي يأمتياز لتحميل حملة الجنسية الأخرى نتائج ما يجري من فساد واهدار للمال العام, نعم هناك من سياسين من حملة الجنسية الثانية متورطين في الفساد بما تزكم له الأنوف, ولكن في التعميم اعاقة فكرية واهداف اريد بها التغطية على فساد اعظم ارتكبه ذو الجنسية الأصل والوحيده لحاملها, وعلى الشعب العراقي ان يعي حقيقة تلك اللعبة المزدوجة التي يرغب الفاسد في لعبها للهروب من القصاص العادل بحق الجميع من مزدودي الجنسية وغيرهم.

ارتبط تفاقم ظاهرة الفساد في العراق بمجمل سياسات النظام السابق الاقتصادية والاجتماعية والحروب المدمرة، والتي أدت بمجملها إلى إفقار المواطن وحرمانه من ابسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة، إضافة إلى ما أدت من تفتيت للبنية الأخلاقية والقيمية وضعف الوازع الداخلي، إلا إن سطوة النظام وقمعه حصرت ظاهرة الفساد، وخاصة الإداري والمالي برأس النظام وأطرافه، وحولت بنفس الوقت الفساد إلى ما يشبه الفيروس الخامل تحمله قطاعات اجتماعية واسعة، وجدت في إسقاط النظام والطريقة أو السيناريو التي هوى فيها النظام فرصة مواتية لينشط هذا الفيروس ويتحول من حالة الكمون أو الخمول إلى حالة الفعالية أو النشاط الكامل ليتحول إلى وباء شامل ينشط بطرائق أخطبوطية وبمدى يصعب التحكم والسيطرة عليه أو تحديد سقف له، وقد وفرت الظروف السياسية ما بعد السقوط وطريقة أداء الحكم بيئة صالحة لنشاط فيروس الفساد ليلتف بدوره حول السياسة ويضربها في الصميم ويعيد بعث ظاهرة الفساد السياسي المتمثلة بالاستئثار بالسلطة واستغلال النفوذ السياسي وتكريس قيم الحزب الواحد عند الكثير من الكيانات السياسية، ولعل المثل الصيني " الماوي " القائل : " رب شرارة أحرقت السهل كله " يلقي مصداقية كبيرة في تفسير الفساد في العراق.

أن إحدى تجليات الخوف من الفساد الإداري والمالي هي تحوله إلى ثقافة سائدة ما بعد 2003 أو ما يسمى " ثقافة الفساد " مضفيا على نفسه الشرعية في الشارع وفي المعاملات الرسمية اليومية، ومن ترسخه كنمط سلوكي لإشباع الحاجات المختلفة والاكتفاء الذاتي، وبالتالي يتحول الفساد من كونه عمل منبوذ اجتماعيا وقيميا إلى عمل يلقي الاستحسان ويندمج ضمن المنظومة الايجابية للأخلاق والأعراف، ويعتبر نوعا من  الشطارة أو الدهاء الشخصي لصاحبه، وأحد معايير الشخصية الدينامية والمتكيفة القادرة على حل المعضلات بطرائق سحرية.

أن القبول بالفساد كأمر واقع شكًل احد عوامل الضغط على المنظومة القيمية والتربوية لدى أفراد المجتمع العراقي وفي تبديد قناعاته الأخلاقية والوطنية، فقد انتشرت اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع، وبروز التطرف والتعصب في الآراء وشيوع الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص، كما شاعت قيم فقدان احترام العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي وتراجع الاهتمام بالحق العام والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي بدوره إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر، وقد جاء ذلك على خلفية التراكمات التي افرزها النظام السابق متبوعة ومعززة بالإفرازات السلبية التي سببتها الاستقطابات السياسية والتحالفات المشوه والاعتبارات الفئوية والطائفية والقبلية حيث غياب مفهوم المواطنة ومصالح البلاد العليا. 

وهكذا لعبت المحاصصة لاحقا بمختلف مظاهرها سببا في شيوع الفساد الإداري والمالي,ولعبت دور الحاضنة الأمينة له ,فلم يتم اختيار أفراد السلطة ولا الوظائف العامة على أساس النزاهة والعصامية والتكنوقراط وإنما جرى ذلك وفقا لتوافقات سياسية واستحقاقات غير متوازنة ولا معقولة, وعلى هذا الأساس استخدم الفساد كطريقة وجزء من منظومة " الحوافز الإيجابية " ," فالمظلوم " من النظام السابق يقوم باسترداد " حقوقه " بطرق غير قانونية كردة فعل على القمع والإقصاء, ويصبح بدوره ظالما وسارقا للمال العام كاحتلاله منصبا سياسيا أو وظيفيا لا يحمل له أي مؤهل وتحت واجهات ومبررات مختلفة: "خطية يستاهل", "وصاحب عائلة وأطفال وين يروح", "خوش آدمي صائم مصلي", "أحسن ما يمد أديه للناس", أو يعتبر نفسه مفصول أو مضطهد سياسيا من النظام السابق فيقوم بتزوير الوثائق والمستندات اللازمة لذلك لكي يسترجع " حقوقه ". أما المظلوم الحقيقي من النظام السابق فيعاني الأمرين لانتزاع حقوقه, بل الكثير تنازل عن جدوى الادعاء بحقوقه تحت وطأة سوء المعاملة’كاصطدامه بموظف كارها له في الفكر أو بعثي سابق احتمى بطائفته ويشغل منصبا جديدا تكريما" لمظلوميته ".

وهكذا وفرت المحاصصة غطاء لسرًاق المال العام وللمفسدين بصورة عامة, والجميع بعمل على قاعدة أضرب(أسرق) وأهرب إلى طائفتك أو قبيلتك أو حزبك أو إلى قوميتك, أو هذا لك وذاك لي, بل وصل الأمر إلى العبث في تفسير النصوص القرآنية التي لا خلاف على تفسيرها, في محاولة لانتزاع "الاعتراف الإلهي" بأهلية الفاسد وفساده, فعلى سبيل المثال لا الحصر مثلا يرون في النص القرآني: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله" لا تشمل العقوبة سرًاق المال العام, وأن السارق له حصة في هذا المال فهو يأخذ من حصته,والسارق يعرف تماما أن السرقة من المال العام يعني السرقة من أكثر من 40 مليون عراقي, وبالتالي يستحق ليس قطع اليد، بل تقطيع الأوصال(حسب بعض المفسرين),أما اللهاث وراء الفتاوى الدينية لتحريم الحلال وتحليل الحرام فلا حدود لها,وعلى قاعدة " ذبه برأس عالم وأخرج منها سالم " وما أكثر العلماء في عراق اليوم.

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن في كل تجارب البلدان التي مرت في محنة الفساد بقيت لديها فسحة من الأمل في بعض من قطاعاتها خالية نسبيا من الفساد, نظرا لارتباط هذه القطاعات بأهداف إنسانية كبرى ذات صلة وطيدة بمستقبل مجتمع بالكامل من حيث الأعداد والتربية والتأهيل وغرس روح المواطنة ونشير منها على سبيل المثال إلى قطاع التربية والتعليم باعتباره قطاعا مصدرا  لنماذج القيم المتقدمة وإعادة توليد ما هو ايجابي ومشرف في ذهنية الدارسين,إلى جانب كون العاملين فيه من النخب الاجتماعية والتربوية التي يفترض أن تكون نماذج ومعايير يقتدى بها ويسمع رأيها, خاصة في الأزمات العامة, إلا انه مع الأسف كان هذا القطاع من الضحايا الأولى للفساد بمختلف مظاهره من تزوير وسرقة أموال الدارسين وإفساد للعملية التربوية والتعليمية,منهجا وطرائفا وكادرا ومؤسسات, بل أن المحاصصات السياسية والحزبية والطائفية والقومية دخلت بكل حمولتها السيئة لهذا القطاع لكي تحي في ذاكرتنا الآثار السيئة للتبعيث, وبهذا حرم هذا القطاع من دوره الحقيقي في محاربة الفساد بتحويله إلى قطاع مُصدر للفساد.

وتبقى محاربة الفساد وتجفيف منابعه إحدى المهمات الصعبة التي تقف عائقا أمام تطور مجتمعنا "وديمقراطيته السياسية الوليدة التي بلغت من العمر 17 عاما " ولازالت تحبو, وأن المدخل اللازم للقضاء عليه يتجسد في بناء دولة المؤسسات ألحقه القائمة على سلطة القانون لا سلطة الحزب أو الطائفة أو القبيلة والقومية, والعمل على تفعيل النزاهة والمسائلة والعدالة ضمن آليات عمل مفوضية النزاهة المستقلة ويجب أن تقوم بدورها بملاحقة المتورطين بقضايا الفساد وتقديمهم للعدالة باختلاف مناصبهم ووظائفهم ومسؤولياتهم وأنتمائاتهم الحزبية والطائفية والقومية, والجرأة الكاملة والواضحة في مكافحة الإرهاب بشدة باعتباره لونا من ألوان الفساد وخاصة عندما يستخدم للوصول إلى أهداف سياسية, والحفاظ على قطاع التربية والتعليم وتخليصه وتحًيده من الصراعات الطائفية والحزبية والسماح له بأداء دوره الإنساني والوطني في محاربة الفساد على نطاق واسع, فهو صمام الآمان لخلق جيل مؤمن بقيم النزاهة والحق والعدالة,وإعادة توليد القيم الايجابية في أذهان رجال المستقبل. 

وبهذا  يتحول الفساد من ظواهر فردية متناثرة هنا وهناك إلى عمل مافيوي مخطط يدخل سوق العمالة ويقدم خدماته من خلال اختراقه كل القطاعات الإنتاجية والخدمية, ويخضع لمبادئ العرض والطلب والمنافسة الكمية والكيفية ويتحكم بمفاصل تشغيل العمالة, وهذا ما نشهده اليوم من تسهيل معاملات على مختلف المستويات, فهناك تسعيرات محددة لشغل مختلف المناصب من مدرس إلى ضابط, إلى شرطي أمن, إلى مدير دائرة والى مدير عام , وتسعيرات للحصول على  مختلف الوثائق والمستندات الشخصية من وثائق دراسية وشهادة جنسية وبطاقة أحوال مدنية وجواز سفر وغيرها,طبعا جنبا إلى جنب مع الفساد الكبير الذي يخترق مختلف العقود والمشاريع والمخصصات والاستثمارات الإنتاجية والخدمية التي تستهدف إحياء البنية التحتية المدمرة.


الحديث عن الفساد وتحميله لحملة الجنسية الثانية او المزدوجة هو حديث كذب ورياء يراد به خلط الاوراق وتحميل السياسين القادمون من الخارج مسؤولية ما يحصل من الخراب, فالقضية اكبر من حاملي جنسية اخرى بل من احزاب فاسدة لا تؤمن بمشروع بناء دولة المواطنة, نعم منهم من حملة الجنسية المزدوجة ولكن الجنسية الثانية لم تكن سببا في الفساد إلا بقدر انتمائها الى حزب فاسد يروج للخراب وهلاك الدولة وقد يكون الكثير من اعضائه من حملة الجنسية العراقية الوحيدة ولكنهم لا ينتمون الى العراق  بل ينتمون الى مشروع خرابه وارتهانه الى قوى الفساد واللادولة.



37
عام 2020 وداعا ولعله بدون عودة

د.عامر صالح

شكل مشهد تفشي وباء كورونا كوفيد ـ 19 أكثر المشاهد العالمية حزنا على المستوى الشخصي الذاتي وعلى المستوى العام المجتمعي وعلى الصعيد الدولي للعام 2020, حيث الخسارة في الارواح والمتمثلة بالوفيات حول العالم وانتشار هذا الوباء بشكل مخيف ومرعب دون سابق انذار او ممهدات تذكر او توقعات مسبقة بحصوله, الى جانب ما احدثه هذا الفيروس من انهيارات كبرى في الاقتصاد العالمي وشبه توقف لعصب الحياة القائم على التبادل الاقتصادي العالمي بسبب الأغلاقات العالمية والمحلية لحركة السوق وانسيابية التواصل بين الاقتصاديات المحلية والعالمية, الى جانب الآثار المزمنة التي فرضتها الجائحة في الاقتصاد حيث ارتفاع نسبة البطالة على الصعيد العالمي, وانهيار في الاقتصاديات الضعيفة في الكثير من دول العالم.

وقد تركت كورونا بصماتها الكبيرة والحاسمة في مجمل العلاقات الاجتماعية فقد فرضت نمطا جديدا من التواصل الاجتماعي لم تعهده البشرية ولم تعتاد عليه, فقد فرضت العزلة القهرية على الأسر والافراد والتجمعات والمجتمعات العالمية  التي اعتادت التواصل اليومي المباشر وجها لوجه وفرضت قيودا وانماطا اجتماعية جديدة قوامها التواصل عن بعد وقد فرضت ذلك على قطاعات التربية والتعليم بشكل اساسي عبر مزيدا من التوجه نحو التعليم عن بعد واستخدام تقنيات الأنترنيت المختلفة للتواصل مع مكونات العملية التربوية والتعليمية وقد اصتدم ذلك بصعوبات كبيرة وخاصة في المجتمعات العالمية غير المهيأة لهذا النمط من التعليم الى جانب ضعف البنية التحتية المعلوماتية في الكثير من دول العالم, الى جانب تقليص المعاملات المباشرة في مختلف القطاعات الاجتماعية الاخرى واللجوء الى الانترنيت لتسهيلها.

وقد لعبت جائحة كورونا دورا فرض نفسه في اعادة صياغة التواصل الاجتماعي على اسس من الابتعاد وعدم التواصل المباشر ففرضت التخلي عن الكثير من العادات الاجتماعية والتي لايمكن لها ان تتغير قطعا بدون اشتراطات كورونا عليها, فقد حذرت الجهات الصحية العالمية والمحلية من التجمعات البشرية في المناسبات المختلفة كالأعراس والاعياد والمناسبات الدينية بما فيها مواسم الحج السنوية, كما دعت الى عدم ضرورة التقبيل والمصافحة والاحتضان ودعت بوضوح الى التباعد الاجتماعي والجسدي في اللقاءات المختلفة لأنها تشكل مصادر العدوى المهمة في نقل الفيروس وانتشاره, ونصحت الى جانب ذلك بالغسيل المستمر للجسم ولليدين بشكل خاص واستخدام التعقيم على نطاق واسع.

وقد افرزت الجائحة وعززت من مظاهر سلبية مختلفة بسبب الحجر المنزلي, منها العنف الأسري وتصاعد نسبته على نحو غير مسبوق في العالم جراء حالات الضيق الاقتصادي الناتجة من فقدان الدخل الاسري بدون دعم اجتماعي من قبل الدول, وكذلك تزايد حالات الانتحار بين الافراد وفي داخل الأسرة جراء ضيق الأقامة الجبرية وتحت وطأة الاحتياج والفاقة والفقر, وقد حذرت منطمة الامم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والمنظمات الاخرى من تداعيات ذلك وخطورته على النهايات المأساوية للأسرة وتفككها من الداخل وتحولها الى بيئة مواتية لارتكاب مختلف الجرائم بحق افرادها. ويكفي هنا ان نشير هنا على سبيل المثال وليست الحصر ان

وزارة الداخلية العراقية سجلت رسميا فقط لهذا العام بحدود 15 ألف حالة عنف اسري تراوحت اسبابها بين الاقتصادي والثقافي وتعاطي المخدرت والكحول والانترنيت وتداعيات استخدامه وغيرها من الاسباب, وقد تنوعت مظاهر العنف بين قتل واضطرار للأنتحار وحرق واحداث اعاقات مختلفة, علما ان العام 2019 سجل 17 ألف حالة عنف اسري, وهي عموما احصائيات فقط تلك المبلغ عنها.

وسط هذه الفوضى وقلق العالم، أثمرت الجهود العلمية عن تطوير لقاحات للعالم ضد مرض لم تكن البشرية على علم به قبل عام. تم تطوير واختبار لقاحات كوفيد-19 بسرعة مذهلة. في آخر إحصاء، في نوفمبر، قالت منظمة الصحة العالمية " إن هناك أكثر من 200 لقاح قيد التطوير، حوالي 50 منها في مراحل مختلفة من التجارب السريرية ". تستخدم أبحاث تطوير اللقاحات مجموعة مذهلة من الأساليب، بداية من المدرسة التقليدية القديمة للقاحات بحقن فيروس كورونا المُستجد والمُعطل كيميائيًا ووصولًا إلى التقنيات الأحدث التي لم يسبق أن تم استخدامها من قبل لإنتاج لقاحات مرخصة.

أظهرت نتائج التجارب ذات الفعالية الكبيرة أن اللقاحات، التي طورتها شركة الأدوية "فايزر" وشركة التكنولوجيا الحيوية الألمانية "بيونتك" وشركة التكنولوجيا الحيوية الأميركية "مودرنا" وشركة الأدوية "أسترازينيكا" وجامعة "أوكسفورد" بالمملكة المتحدة تسهم بشكل فعال في الوقاية من كوفيد-19. وقد بدأت اخيرا امريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الاوربي في تلقيحات ضد كورنا رغم مشاعر الناس المتضاربة حول جدوى اللقاح واحتمالات تداعياته والاسئلة المتكررة حول الاصابة بكورونا بعد اللقاح أو الاصابة بامراض جانبية بعد التلقيح.

اما في بلدي العراق فأن الجائحة كورونا اصطفت الى جانب الازمة الاقتصادية العامة, والتي تجسدها انخفاض اسعار النفط وتشوهات البنية التحتية الاقتصادية التي يجسدها الاقتصاد الريعي والازمة السياسية المزمنة في حلف غير مقدس ليضرب البلاد عرضا وطول ليصل بها الى حد عدم المقدرة بدفع الرواتب واللجوء الى الاقتراض الخارجي والداخلي, الى جانب تراكم فساد مالي واداري لسنوات سبقت كان سبب في اهدار ما يقارب 1400 مليار دولار من عوائد النفط المتراكمة لسنوات ما بعد 2003.

تقلبات سياسية غاية في التعقيد، تلك التي شهدها العراق عام 2020، إذ ومع انطلاق التظاهرات الشعبية التي وصفت بالأوسع في أكتوبر/تشرين الأول 2019 أقيل رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بضغط شعبي في نهاية عام 2019، لتستمر التظاهرات بذات الوتيرة حتى مارس/آذار 2020 عندما بدأ تفشي فيروس كورونا في العراق وفرض حظر التجوال في البلاد, ولكنها استمرت بأشكال اخرى. ولم يستطيع مصطفى الكاظمي الذي جاء خلفا لعادل عبد المهدي أن يوقف مسلسل الأغتيالات والخطف والتغيب الذي اطال المتظاهرين السلميين, ولم يستطيع الأيفاء بوعوده في محاسبة قتلة المتظاهرين, بل أنه ولد في عملية قيصرية من قبل الكتل الشيعية السياسية لملئ الفراغ لا غير ولم يتمتع الرجل بأي دعم من قبل الكتل السياسية التي جاءت به وهي ظاهرة فريدة في " الديمقراطية العراقية ", فكان حصاد ضحايا انتفاضة اكتوبر للعام 2019 وحتى اليوم اكثر من 700 شهيد و 30 ألف جريح واكثر من 7 ألف اعاقة منتهية واستمرار عمليات الأختطاف والاغتيال والتغيب مستمرة الى يومنا هذا.

لم يستطيع السيد الكاظمي خلال مجيئه وحتى نهاية العام 2020 ان يفتح ملفا واحدا من ملفات الفساد الكبرى وقد اثبت عجزه واكتفى بتشكيل لجان مختلفة كسابقه عادل عبد المهدي ولم تثمر عن أي شيء. يتصارع الكاظمي مع مليشيات الدولة العميقة وقد اثبت انه غير قادر على ذلك بسبب سطوة المليشيات من داخل البرلمان وخارجه ومن يتحالف معها من الكيانات السياسية والتي يفترض ان تمنع من ممارسة العمل السياسي لأنها تنشط ضد الدولة وضد العملية الديمقراطية وغير مؤمنة بها.

العراق خلال 2020 ذهب الى مزيدا من المجهول بأفتقاد عوامل استقراره ونهضته من خلال وقوعه اسيرا للصراع الامريكي ـ الايراني وارتهانه للأجندة الاقليمية رغم جهود الكاظمي لأيجاد حالة توفيقية يرضي بها الجميع إلا أن قوى الدولة العميقة والمليشيات لا تترك له خيار الوسط بل تشده الى دائرة استقطاب المحاور وتدفعه الى مغامرات تنهي ما تبقى للدولة من مكانة.

واذا كانت هناك من ايجابية لحكومة السيد الكاظمي فهي العزم على اجراء انتخابات مبكرة في يونيو 2021 رغم ان هناك توقعات بعدم تغير الحال نحو الافضل بسبب سطوة السلاح والمليشيات وعدم نزاهة الجهات المسؤولة عن الانتخابات ثم مخاطر التزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات كما جرت سابقا, الى جانب ان المتظاهرين الى اليوم يشكون من سوء تنظيم صفوفهم وضعف وحدتهم وتباعد وجهات نظرهم رغم هدفهم الموحد لأزالة الطغمة الفاسدة الحاكمة.

العلم يقول ان اللقاح سيحقق انجازات كبيرة على مستوى التصدي لوباء كورونا والحد منه على طريق القضاء عليه, اما السياسة في العراق فمن الصعوبة التكهن بتغير الحال نحو الأفضل. وكل عام والعراق والعالم بأفضل منه.






38
بين ترميم "البيت الصغير" وخراب البيت الأكبر

د.عامر صالح 

أثارت الدعوة التي أطلقها مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري إلى "ترميم البيت الشيعي" وعقد تحالف "عقائدي" جدلا في البلاد، خاصة وأن الصدر انتقد التحالفات الطائفية مرارا خلال السنوات الماضية. ودعا الصدر إلى "ترميم البيت الشيعي"، على خلفية "التعدي الواضح والوقح ضد الله ودينه ورسوله وأوليائه" حسب زعمه، من قبل "ثلة صبيان لاوعي لهم ولا ورع"، في إشارة منه إلى المتظاهرين العراقيين، كما طالب بكتابة ميثاق شرف "عقائدي".

وقال في تغريدة على حسابه عبر "تويتر"، "أجد أن من المصلحة الملحة الإسراع بترميم البيت الشيعي من خلال اجتماعات مكثفة لكتابة ميثاق شرف عقائدي وآخر سياسي لنرفع به راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) .  ورفضت النشطاء وجماعات الحراك دعوة الصدر، وعدّوها مدخلاً جديداً لإعادة البلاد إلى حقبة الاصطفافان الطائفية ومحاولة لجر البلاد إلى مرحلة جديدة من الصراع والاقتتال الطائفي التي بالكاد تجاوزتها. ورغم ان هناك ترحيب شيعي خفي ومعلن عن دعوة الصدر ولكن بالمقابل هناك حذر شديد من دعوته استنادا الى طبيعة شخصيته الانفعالية وغير المستقرة  والتي تتغير على عجالة استنادا الى تصريحات الكتل الشيعية واستجابة السيد الصدر الأنفعالية لذلك. فالسيد الصدر له اعداء في المحور الشيعي وسبق وان حاربوه بقوة السلاح للحد من نفوذه الى جانب اصدقاء حذرين منه.
   
A
A
 ويرى الكاتب مصطفى فحص ان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر يواجه معضلة في المواءمة بين حركة احتجاجات شعبية تطالب بالسيادة الوطنية الكاملة وإصلاح شامل للعملية السياسية، وبين حرصه على الحفاظ على مكتسبات تياره السياسية والشعبية. ومع تمسك الانتفاضة بمطالبها، تتراجع فرص التيار في التماهي مع حركة إصلاحية بطبيعة ثورية ترفع شعارات القطيعة مع مرحلة ما بعد 2003.

 
ويؤكد الكاتب المذكور ان الانتفاضة امكنت من فرض شروطها على الطبقة السياسية التي فشلت في مهمتين؛ الأولى محاولة إخمادها، والثانية في أن تكون جزءاً منها، وقد أدَّت استدارة الصدر الأخيرة إلى قطيعة شبه كاملة مع «انتفاضة الأول من أكتوبر». وقد نجحت سريعاً في تعويض الزخم الشعبي بعد خروج جمهور الصدر من الساحات، وحولت قرار الانسحاب إلى أزمة داخل صفوف التيار، الذي يعاني صعوبة في تحديد خياراته بسبب خطوات ضبابية قام بها زعيمه في الفترة الأخيرة لا تنسجم مع الأدبيات التاريخية للحركة الصدرية وهويتها العقائدية، التي نشأت مع صعود نجم الراحل محمد باقر الصدر، وتبلورت كحالة شعبية جماهيرية على يد الراحل محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر.

أن التيار الصدري وولادته هو تعبير عن حالة الأستعصاء العراقي والفراغ السياسي الذي ولد ما بعد 2003 والتي قام التيار بشغلها مستفيدا من غياب الأحزاب الطبقية ذات المصلحة في التعبير عن ماهية الصراع الطبقي في العراق واطرافه الأساسية, وعلى خلفية ذلك ولد تيار غير متجانس بأنتمائته الأجتماعية والطبقية بل ولد التيار متصارعا مع مكوناته الأساسية وتوجهاتهم المختلفة في التعبير عن مصالح المكونات المجتمعية, ويلخص الدكنور كاظم حبيب جوهر مكونات التيار الصدري الطبقية والأيمانية بما يلي:

أولاً: المجموعة المؤمنة والتي كانت ضمن مريدي والد مقتدى الصدر والكثير من الشبيبة من أبناء وبنات هؤلاء المؤمنين، وهم في الغالب الأعم كادحين وفقراء يعيشون الحرمان والبؤس والفاقة ويحسون الإساءة لكرامتهم الإنسانية في أوضاعهم المعيشية وهامشيتهم السياسية والاجتماعية وعدم عدالة النظام الذي يعيشون تحت وطأته.

ثانياً: مجموعة من القوى الدينية التي لا تختلف عن بقية القوى الدينية التقليدية ولكنها محكومة بتقليد السيد محمد صادق الصدر وبالتبعية لأبنه وتنتظر الحصول على مكاسب من وجودها مع كتلة الصدريين.

ثالثاً: أما المجموعة القيادية الصغيرة الثالثة في الكتلة الصدرية فأعضاؤها من قوى بعثية سابقة وقوة طائفية متطرفة وتتسم بالشراسة والفساد المالي والإداري والتي احتلت مناصب كبيرة وزارية ووكلاء وزارات وعضوية مجلس النواب ومدراء عامون وغيرهم. إنهم يشكلون النواة الصلبة في الكتلة الصدرية التي تأتمر بأوامره وتقود البقية الباقية، وهي مستعدة في كل لحظة إلى الافتراق عن الصدر إن وجدت ذلك في منفعتها، كما حصل مع قيس الخزعلي وغيره، وكما يمكن ان يحصل مع غيره مثل حاكم عباس الزاملي على سبيل المثال لا الحصر. وهذه النواة الصلبة ذات اتجاهات متباينة ولكنها في المحصلة النهائية تخضع لمصالحها وتقترب دوما من إيران ومخططات إيران في العراق.

التجربة المؤذية للتيار الصدري انه كان مفرخة للمليشيات والتنظيمات المسلحة والتي تشكل جزء من بنى الدولة العميقة, وهنا يؤكد الكاتب حيدر الموسوي  أن ابرز الفصائل التي خرجت من رحم التيار الصدري هي: عصائب اهل الحق,  ومليشياء النجباء,  ومليشياء اليغقوبي, ومليشياء ابو درع, ومليشياء الخراساني, ومليشياء ابو فضل العباس ومليشياء مرقد الأمام علي وكربلاء, طبعا الى جانب الفصائل المسلحة الأخرى الأم وهي , جيش المهدي, وسرايا السلام والقبعات الزرقاء وألوية اليوم الموعود.

على التيار الصدري ان يدرك ان نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال السبعة عشر عاما المنصرمة, وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي, إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي, أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية, وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت, وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية, بل لعلها أهم منجزات الحداثة, وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي,ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات, وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية, وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.


لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على مستقبل البلاد,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية, حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد, مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد, وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية, مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.


كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع. أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه

أن إضفاء الصبغة الطائفية والعرقية على الصراع السياسي واللجوء إلى الحلول ذات الطبيعة التوافقية ـ الطائفية والعرقية تسهم في تكريس منظومة قيمية ذات طبيعة تعصبية " شاء الفرد أم أبى" لتشكل بدورها اتجاها نفسيا سلبيا مشحون بشحنة انفعالية ضد الأخر الديني أو الطائفي أو العرقي دون سند علمي أو منطقي أو بمعرفة كافية,ليتحول التعصب إلى مشكلة حقيقية في التفاعل الاجتماعي الإنساني المنفتح,وحاجزا يمنع كل فكر تقدمي جديد,ويفتت مكونات المجتمع الواحد ويحولها إلى أشلاء منغلقة ذاتيا بعيدة كل البعد عن التطورات المتلاحقة التي تحصل في العالم الخارجي في كل المجالات,أنها حالات من الصمم والبكم والعمى الهستيري والتي لا تدرك الأشياء والظواهر إلا من خلال اتجاهات التعصب الأعمى,أنها فرصا مواتية لتشديد قبضة الكراهية والعدوان الاجتماعي,ونحن نعلم من الناحية النفسية أن التعصب والتخندق الطائفي والعرقي هي سلوكيات مكتسبة ومتعلمة في أعمها الأغلب ولا توجد أدلة قاطعة ذات طبيعة غرائزية أو فسيولوجية لوجودها,فهي حالات من التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الأخر المغاير.

أن الدعوى الصادقة لأي تغير في العراق تمر من خلال استيعاب الخطوات التالية في العملية السياسية:


ـ الاصلاح الشامل لأعادة بناء العملية السياسية من خلال اعادة صياغة الدستور على أسس واضحة بعيدا عن الازدواجية والغموض فيه.

ـ التأكيد على النظام الفدرالي بشكل واضح لا لبس فيه في اطار وحدة العراق, وضمان حقوق الشعب الكردي الى جانب المكونات الأخرى دون تميز.

ـ العمل على اعادة صياغة قانون الانتخابات بما يضمن حقوقا متكافئة للجميع للمساهمة في العملية الانتخابية والديمقراطية.

ـ التأكيد على فصل الدين عن الدولة ومنع نظام قائم على اساس الدين او الطائفة او العرق.

ـ الأعمار السريع لكافة المناطق التي تضررت من الارهاب واحتلاله واعادة النازحين والمهجرين ومساعدتهم ماديا ومعنويا لعودتهم للحياة الطبيعية.

ـ مكافحة الارهاب وتجفيف كافة منابعه ومصادر تغذيته المادية والفكرية, والقضاء على المظاهر المسلحة غير الرسمية والمليشيات المسلحة.

ـ تأكيد سياسة العراق الحيادية والابتعاد عن المحاور الاقليمية المتصارعة وتجنب كافة اشكال الدعم الخارجي التي تكبل السيادة الوطنية.

ـ اجراء حوار شامل لنزع سلاح المليشيات وخاصة السائبة منها وذات المصادر المعروفة للجميع دون محاباة او تهاون, فالعراق اليوم مهدد بأمنه المجتمعي وقابل للأنهيار في أي لحظة.

أن الديمقراطية الحقيقية غير المحاصصاتية الطائفية والشوفينية هي التي تنقل العراق الى بر الأمان وتعيد انتاج الخطاب الوطني المتصالح مع الذات ومع الوطن. على التيار الصدري ان يكون بمستوى خطورة الوضع في العراق ويبتعد عن المناورات الضارة وغير المجدية للعراق واستقراره وان يكون بمستوى المسؤولية لأنصاره واتباعه بعيدا عن تسويف مطالبهم في الحياة الحرة الكريمة, وعلى التيار الصدري احترام القاعدة الواسعة والفقيرة والمعدمة من التيار بعيدا عن زجهم في مشاريع قد تفضي بهم الى نهاية مفجعة.





     




39
ناصرية العراق بين سيكولوجيا الترهيب وغياب الدولة

د.عامر صالح

في محاولة لشرعنة القتل وتحميل الضحية مسؤولية الجرائم المرتكبة بحقه بواجهات شرعية ينقصها الدليل والحكمة وتسويف المطالب, اقدمت مليشيات مسلحة تنتمي الى التيار الصدري " حسب ما تناقلته اغلب وسائل الأعلام ومشاهدات الميدان " لإحراق الساحات، بذريعة إقامة تظاهرات وصلاة موحدة لتأييد إعلانه سعيه للحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات المبكرة المقبلة، وتشكيل الحكومة الجديدة, وكانت دعوات مسبقة عن توعد التيار الصدري بالحصول عن ما لايقل عن 100 مقعد نيابي والتعبير عن نيته في تقرير شكل الحكومة القادمة ورئيس وزرائها القادم خلفا للكاظمي.

وبالفعل ما إن انتهت هذه الصلاة، حتى بدأ أنصار التيار الصدري مهاجمة عدد من ساحات الاعتصام والتظاهر جنوبي العراق، والتي قاومت الأشهر الماضية مساعي الحكومة لفضها، على غرار ما حدث في ساحة التحرير ببغداد. وأسفر هجومان في مدينتي الناصرية والرفاعي، امتدا من أولى ساعات مساء الجمعة في 27 نوفمبر وحتى قرابة الساعة الخامسة الفجر من يوم السبت عن استشهاد ثمانية وجرح ما لايقل عن ثمانين متظاهرا على خلفية مهاجمة مسلحين من أنصار الصدر الساحات التي يحتشد المتظاهرون فيها، وفتح النار من أسلحة خفيفة. وجاء هذا وسط حالة من التفرج التام اتخذتها قوات الأمن العراقية التي كانت تحيط بالساحات، مع تسجيل ثلاث هجمات طاولت ناشطين في الكوت مركز محافظة واسط، والعمارة المجاورة، بواسطة عبوات ناسفة استهدفت منازلهم, ومن ثم الى محافظات اخرى متفرقة في الايام التالية لذلك وقد يبدو هناك تحالفا بين السلطة الحكومية والتيار الصدري لفرض الأمن بتلك الطريقة الدموية, او ان الأجهزة الحكومية عاجزة عن السيطرة على المشهد فتركت للآخرين مسؤولية ضبطه بطرائق دموية.

وتزامن الاعتداء الجديد على المتظاهرين في الناصرية، مركز محافظة ذي قار، مع الاستعدادات لإحياء الذكرى الأولى لمجزرة الناصرية التي نفذت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني العام 2019، وأدت إلى مقتل وجرح العشرات من المتظاهرين إبان حكومة عادل عبد المهدي. وكان المتظاهرون يحشدون للمطالبة بالكشف عن قتلة المتظاهرين وإلزام حكومة الكاظمي الإيفاء بوعود تقديمهم للقضاء.

لا نريد هنا الدخول في حيثيات المشهد الدامي الذي رافق انتفاضة تشرين منذ انظلاقتها في في العام الماضي حيث تجاوز عدد الشهداء اكثر من 700 شهيد والجرحى اكثر من 30 ألف الى جانب المئات من المغيبين والمعتقلين وآلاف من ذوي الأعاقات الدائمة. ففي الوقت الذي تدعوا فيه كافة المنظمات الانسانية المحلية والعالمية ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان في الكشف عن قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة كي ينالوا جزائهم, تجري محاولات لشرعنة قتل المتظاهرين بواجهات مزيفة شعارتها الاساسية الحفاظ على الدين ومحاربة الفساد الاخلاقي وغيره من الواجهات العبثية التي لا تمت بصلة للدين النقي, وانما تستهدف الأكراه في اعادة الأصطفافات الاجتماعية وخلق حالة من الحراك المرضي الباثيولجي للعبث في سنة الصراع الطبقي القائمة على اساس القوانين الموضوعية لمسار التحولات الاجتماعية.

أنها من المفارقات الغريبة والشاذة التي اعتمدتها " الديمقراطية العراقية " هو اشاعة "القتل المقدس " للأستحواذ على السلطة الى جانب اساليب سابقة للعبث في نتائج الانتخابات البرلمانية عبر التزوير وحرق صناديق الانتخابات, وبالتالي فأن المخزون والموروث السلوكي والثقافي للحركات الدينية السياسية المتطرفة وانطلاقا من عدم قناعتها بالتدوال السلمي للسلطة وعدم قناعتها بالديمقراطية السياسية يضعها في موقع الهجوم والانتقام على اصحاب الحق الشرعي في المطالب المشروعة لتأمين حياة افضل, مما يجعلها تندفع بقوة السلاح واستخدام جمهورها الغوغائي الذي تسهل عملية اغوائه لارتكاب ابشع الجرائم بحق اصحاب القضية العادلة, وبما ان تلك الجرائم تلقى الاستنكار والأدانة الاجتماعية فأن التشبث في الخطاب المقدس لشرعنة الجرائم المرتكبة هو احدى الآليات النفسية لغسل العار لدى مرتكبيها وتأمين قدر من الراحة النفسية المفتعلة والمؤقتة للتكفير عن الذنوب.

لطالما استخدمت العقيدة الدينية في العراق عبر خصوصية نظام المحاصصة الطائفية في حشد الجماهير في المعارك السياسية والحزبية، وغالباً ما يتمّ حشد الجماهير تجاه اختيارات تبدو دفاعاً عن الله وصحيح دينه، من خلال الدعوة إلى انتخاب ساسة يدافعون عن التقية والإيمان على الأرض شكليا غارقين في الفساد الاداري والمالي ونهب المال العام, ومن هنا تبدوا خطورة انصياع " جمهور الأسلامويين " في ارتكاب افظع الجرائم بحق اصحاب المطالب العادلة للحفاظ على فتات مكتسباتهم اللاشرعية.

حتى وإن لم ينتمِ هؤلاء الساسة بشكل مباشر إلى جماعات دينية ، إلا أن التلويح بالدين وافتعال حالة  الحفاظ عليه واستقراره في المجتمع ضد المعارضين، كان من أكثر الأساليب شيوعا في تطويع سيكولوجية الخوف لدى الجماهير لخدمة الأغراض السياسية.  لكن لم تلجأ السلطة المعاصرة إلى الدين فقط كوسيلة للدعاية، وإنما لجأت كذلك إلى رسائل الخوف المباشرة وغير المباشر، وفي المفارقة حين تجد احزاب في البرلمان تمارس طقوس ديمقراطية وتجد اجنحتها في الظلام تمارس الارهاب والتخويف وخلق الرعب لدى المنتفضين. 
 
ولهذا تعمل تلك المليشيات المدججة بالسلاح على مناهضة اي تغير من خلال استهداف الكتلة الجماهيرية المنتفضة او ما يسمى بالكتلة الحرجة المناوئة للفساد السلطوي والمليشياوي, وهي تمارس طقوس نظام دكتاتوري عبر مايلي:

التفتيت: وذلك بتجريم التجمعات وسلب حق التظاهر او اشتراط تصريحات يصعب الحصول عليها, او التفجير من الداخل بواسطة العملاء المندسين لأثارة الفوضى وترك انطباع ان ما يجري هي افعال ممولة من الخارج وتمس السيادة الوطنية.

الإجهاض: ويتم من خلال المتابعة الدقيقة واللصيقة لأي بادرة تجمع جماهيري أو إثارة من أي شخص أو جماعة فيتم إجهاضها قبل أن تبلغ مرادها. ومع تكرار عمليات الإجهاض تسود لدى قوى التغيير حالة من اليأس والإحباط, فإما أن ينصرفوا عما هم فيه وإما أن يتجهوا إلى العمل السري أو العنف وبهذا يعطوا مبررات لاجتثاثهم بدعاوى جنائية تحرمهم من شرف البطولة الشعبية.

الترغيب والترهيب: حيث يتم احتواء بعض القيادات المؤثرة من خلال الاغراء بالمناصب او المكاسب او المكانة الاجتماعية, ومن لا تنجح معه هذه الوسائل تكفيه العصى الغليظة تهوى على رأسه فتردعه وتردع غيره ممن تساورهم انفسهم بالتفكير فيما فكر هو فيه.

الرقابة: وهي عين ساهرة ترصد بدقة اي بادرة تفكير او نية تغيير فتتعامل معها بأي طريقة من الطرق السابقة, والرقابة تستدعي عيونا في كل مكان لرصد افكار واتجاهات ومشاعر الجماهير, وقد تتم من خلال افراد سريين او من خلال اجهزة وتنطيمات او من من خلال مؤسسات شبه رسمية.

الإبعاد: وهو طريقة للحفاظ على مراكز الرأي والتأثير خالية من أي بادرة تفكير أو تغيير لا يخدم المصالح القائمة, فتوضع اشتراطات ولوائح معينة تحول دون وصول المعارضين للمراكز أو المناصب المؤثرة. وفى بعض الدول التي تقوم على النظام الطائفي يوضع في الاعتبار أن مستويات معينة من الوظائف لا يتقلدها أبناء طائفة معينة حتى تظل السيطرة في يد الطائفة الأكثر سيطرة.

منذ 2003 الى اليوم وبعد مرور 17 عاما على اسقاط النظام الدكتاتوري لم تستطيع الحكومات المتعاقبة في اعادة بناء الدولة وهيبتها, بل اعادت تكريس كل البنى الاجتماعية المتخفلة والتي تستهدف اضعاف الدولة وسلطة القضاء والقانون, وكان نتاج ذلك نشوء دولة عميقة قائمة على الفساد الاداري والمالي والسلاح والعصابات الاجرامية المنفردة والمنظمة والميليشياوية, وتستمد قوتها وبقائها من منظومة الاحزاب الحاكمة غير المؤمنة بالدولة. الدولة العميقة وسلوكها يدب اليوم في شريان الدولة الرسمية ويشد مفاصلها وينساب في كل قطاعاتها ولها هويتها السياسية والاقتصادية والادارية والثقافية ولها من يشرعن افعالها ويقتص من مخالفيها. إن الفساد المتمثلة في الدولة العميقة مكون يقظ وحذر ويملك جهاز مناعة ومقاومة لا نظير له يقيه من كل الضربات ومحاولات النيل منه، ويملك قوة تجديد ذاته أمام كثرة ضعاف النفوس والمغرر بهم والدجالين والمنتفعين، ومن يدور في فلكهم، وكل من يملك صبغيات وكيميا الانغماس في ملذاته، وقد يقوم بحرب استباقية ووقائية ضد كل من يتربص به, ولهم دينهم الخاص, فأخلاقهم عند الاقتراب منهم هي اخلاق داعش في السبي والتنكيل. في الدولة العميقة تنقلب الاخلاق والقيم والمقاييس, فالسارق لديهم مؤمن محصن والمظلوم معتدي على   الحق العام.

ان دولة الفساد العميقة لها استراتيجية محكمة وقوة خارقة لهدم كل القيم النبيلة وزرع بدل ذلك قيم الحط من النفس ووضاعتها ونزع أي بذرة من الاخلاق واقتلاعها من جذورها، وتحويل الفرد الى كائن ذو نوازع مرضية لا يقدر قيمة العمل الا بمقدار التحصيل غير المشروع ويحاول ان يجد لنفسه تبريرات ومسوغات على ان الامر يندرج في خانة الاكراميات او الحق المشاع وليس في بند الرشوة او السرقة والاهدار وسوء الأخلاق، فيصبح الفساد واقع يومي معاش لا محيد عنه وممارسة اعتيادية ودارجة في السلوك اليومي بل وثقافة يومية وشجاعة من نوع خاص يمارسها جبان مختفي وراء طقوس واعراف مشوهة, وقد ابتلى العراق بمنظومة الفساد الاخلاقية المنحطة التي افرزتها قيم الدولة العميقة, وهي نفسها التي تمارس التزوير في الانتخابات البرلمانية والمحلية لأنتاج طغمة فاسدة تسعى لأعادة انتاجها وبقائها ولكي تلقى الدعم والبقاء رسميا.

الناصرية في رفضها لواقع الفساد الاداري والمالي ومطالبها العادلة في الحياة الحرة الكريمة ليست حالة استثنائية عن باقي المحافظات العراقية, وهي تمثل عينة شديدة التركيز وممثلة بصدق لطموحات المجتمع العراقي, ويعينها في ذلك تاريخ المدينة المفعم بالشعر والادب والفنون والسياسة وعمقها التاريخي الذي تشاركه فيه محافظات عراقية اخرى, فقد احتضنت السياسة ونشأتها من اقصى يسارها الى اقصى يمينها فهي ناصرية العراق الوطن عاشقة الشعر والفن والحرف والسياسة، وكان قدرها ان تقدم الشهداء، وتحمي الوطن من مرتكبي جرائم القتل والابادة، داعية كما هي دعاوى كل العراقيين الى وطن خالي من الحكام والمهووسين بالقتل والخطف، لذلك كانت التضحيات بحجم التحدي وصعوبة المهمات الملقاة على عاتق العراقيين للخلاص من نظام المحاصصة البغيض.




40
المفارقات السايكومعرفية والعقلية في أدانة فعل الأرهاب

د.عامر صالح



شهدت فرنسا العديد من العمليات الأرهابية الشنيعة في اساليبها وطرق تنفيذها التي تزرع الرعب في الآمنين من السكان وتستهدف امنهم الشخصي والمجتمعي, وقد تصدرت فرنسا قائمة الدول الأوربية التي يجري استهدافها من قبل المتطرفين الأرهابين في السنوات الأخيرة من هجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة منذ عام 2015 إلى الحوادث الأخيرة في مدينتي باريس ونيس, ولا يوجد أشد هولا وهلعا وخوفا من قطع الرأس والطعن والتمثيل في الضحية. 

 

كانت اعمال القتل مروعة وأجرامية بكل المقاييس الانسانية ولا تستدعي إدانته أي لحظة تردد أو تفكير, فأنسانية السلوك لا تتجزأ إنتقائيا حسب المكان ونوع الضحية وجنسيتها, فالقتل مدان عندما يطال المدنيين والعزل ويعبث بأستقرار الناس ولحظات راحتهم, والقتل فعل جبان عندما يستهدف من لا ناقة ولا جمل لهم من الآمنين الابرياء. إنه عمل خسيس يستهدف إثارة الرعب وعدم الاستقرار ولا يستهدف الضحية بعينها فقط, بل يستهدف عمليات الاستقرار الاجتماعي والامني في المجتمع الذي يقع عليه فعل الارهاب. ومن العيب والخزي ان تسود لغة التشفي والفرح الكامن لما حصل للفرنسيين من مأساة ومحاولة ايجاد أشتراطية لإدانة الجريمة عبر إفتعال قرينة مشوهة وغير دقيقة للمقارنة ووضعها شروطا مسبقة للإدانة. 

 

كيف نطلب من العالم المتمدن أن يقف الى جانب قضايانا العادلة وان يسهم في ايجاد حل لمشكلاتنا المستعصية وان يدعمنا في دحر داعش ونحن نخجل في إدانة فعل قتل جماعي يرتكب بحق الابرياء والعزل من الناس ونضع شروط مسبقة للإدانة. ان الموقف من إنسانية الانسان وتحريم هدر دمه لا تحتمل الاجتهاد ولا الفتاوى, وان السكوت وعدم الادانة والتحايل في التصريحات هو مساهمة في جرائم القتل وإيجاد غطاء شرعي لها مما يسهم في التشجيع عليها واعادة إنتاجها على نطاق واسع. 

 

لقد تركت لنا البشرية ومسيرة الحضارة تراكما ايجابيا لإحكام السلوك الانساني وتقنينه والحكم عليه, وبالتالي وضعت معايير وتصنيفات لتلك الجرائم المرتكبة بحق الانسانية, ومنها بشكل خاص جرائم الإبادة الجماعية, والتي كانت ولاتزال محط اهتمام الكثير من المنظمات الانسانية والدولية, حيث توصف جرائم الإبادة الجماعية بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها "جريمة الجرائم"، فهي وكما تشير بعض المصادر سياسة للقتل المنظم المرتكبة تنفذ بحق مجموعات من الأشخاص على أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي، وقد صنفت كـجريمة دولية في اتفاقية وافقت الأمم المتحدة عليها بالإجماع سنة 1948 ووضعت موضع التنفيذ عام 1951 بعد أن صادقت عليها العديد من الدول. وحتى الآن صادقت عليها أكثر من 133دولة على هذه الاتفاقية بينها الاتحاد السوفييتي " روسيا حاليا " والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأخرى.


وفي هذه الاتفاقية، بموجب المادة الثانية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا فرض تدابير تستهدف تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخرى.

كذلك نصت المادة 18 من مشروع مدونة الجرائم ضد أمن وسلامة البشرية لعام 1996 على تعريف الجرائم ضد الإنسانية وتحديد صورها بأنها "كل فعل من الأفعال التالية عند ارتكابه بشكل منتظم أو على نطاق واسع أو بتحريض أو توجيه من إحدى الحكومات أو من أي منظمة أو جماعة، وتشمل القتل العمد - الإبادة - التعذيب - الاسترقاق - الاضطهاد لأسباب سياسية أو عنصرية أو دينية - التمييز النظامي لأسباب عنصرية أو إثنية أو دينية والذي يشمل انتهاك الحقوق والحريات الأساسية للإنسان ويؤدي إلى ضرر جسيم بجزء من السكان - الإبعاد التعسفي أو القتل القسري للسكان - الاحتجاز التعسفي - الإخفاء القسري للأشخاص - الاغتصاب والدعارة القسرية والأشكال الأخرى من الاعتداء الجنسي - الأعمال اللاإنسانية الأخرى التي تلحق ضررًا جسيمًا بالسلامة الجسدية أو العقلية أو بالصحة العامة أو بالكرامة الإنسانية مثل التشويه والإصابات الجسدية الجسيمة".

وقد جاءت تلك المدونة على ذات نهج مدونة 1991، إلا أنها أضافت لها صور الجرائم التي تتمثل في التحريض أو توجيه من إحدى الحكومات أو أي من المنظمات أو الجماعات، مع استبعاد الحالات التي ترتكب فيها تلك الجرائم بواسطة فرد بتصرف ذاتي منه دون دعم أو تشجيع أو توجيه من حكومته أو جماعته. هذا في ما يعني ضد استباحة كرامة الأنسان وتحريم قتله مهما بلغت الدوافع والمبررات النفسية والفكرية والعقلية لمرتكبي الجرائم, حكومات كانوا أم أفراد. 

 

اما بخصوص حرية المعتقد والتعبير وممارسة الطقوس المختلفة فقد ورد في الإعلان العالمي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة وفرنسا جزء منها،حيث يعد الإعلان وثيقة تاريخية مهمة للإنسانية كافة كونها تؤسس لحقوق الإنسان وقد تولى صياغتها ممثلو الدول وهم يحملون خلفيات القانونية والثقافية متباينة مستقاة من جميع أنحاء العالم، واعتمدت الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في (10 كانون الأول/ 1948) بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار رقم (217)، حيث تؤكد المادة الثانية على أن "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي" وتضيف المادة الثامنة عشر بأن "لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة" والأهم ان المادة السادسة والعشرين ترسي مبدأ غاية بالأهمية يسمى حيادية المؤسسات التعليمية حيث تنص على أن "يجب أن يستهدف التعليمُ التنميةَ الكاملةَ لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، كما يجب أن يعزِّز التفاهمَ والتسامحَ والصداقةَ بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية، وأن يؤيِّد الأنشطةَ التي تضطلع بها الأممُ المتحدةُ لحفظ السلام". 

 

وكذا الأمر في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والتي وقعت في روما عام 1950وورد النص فيها بالمادة العاشرة على أنه "لكل إنسان الحق في حرية التفكير والضمير والعقيدة، هذا الحق يشمل حرية تغيير الدين أو العقيدة، وحرية إعلان الدين أو العقيدة بإقامة الشعائر والتعليم والممارسة والرعاية، سواء على انفراد أو بالاجتماع مع آخرين، بصفة علنية أو في نطاق خاص". 

وكذلك العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966، الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان 1969، وثيقة اليونسكو للمبادئ الأساسية الخاصة بإسهام وسائل الإعلام في دعم السلام والتفاهم الدولي، الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان 1979، مبادئ جوهانسبورغ حول الأمن القومي وحرية التعبير، الميثاق العربي لحقوق الإنسان 2004، وأكدتها وكفلتها الدساتير العالمية وبنصوص صريحة وواضحة لا غموض او لبس فيها، ومنها الدستور الفرنسي "دستور الجمهورية الخامسة لعام 1958 المعدل". 

 

إن العزلة التي يعيشها البعض من الجالية المسلمة جزء من ظروف الأزمة الاقتصادية التي تمر بها فرنسا وحتى دول اوربية اخرى وليست مرتبطًا بالمسلمين فقط. وهو بدلاً من الاندماج في المجتمع الفرنسي او الأوربي عموما يعمل على العزلة عن الثقافة الفرنسية والاوربية. ولا يرتبط ذلك بالإسلاموفوبيا. وتأكيدا على احترامها للجالية المسلمة قامت فرنسا بتأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من أجل الحوار والتفاهم مع تنظيم قانوني يحمي الجالية، ويقدم لها الإطار القانوني اللازم.

 

مما لا شك فيه، أن فرنسا تعاني من أزمة هوية بسبب مشاكل الاندماج لدى جزء كبير من ذوي الأصول المهاجرة. وهناك مَنْ يفهم أن العلمانية تعني الإلحاد، وهو تصور خاطئ بلا شك لما تنادي به فرنسا المستنيرة التي تفصل بين الدين والدولة، أو أنها تمنع ارتداء اللباس الذي يرمز إلى الدين، وتفرض قيودا بالغة على حضور الدين في تفاصيل الحياة العامة. ويصل الحد بالمتطرفين أنهم ينظرون إلى فرنسا كبلد استعماري مسيحي منذ انخراطها في الحرب ضد المتطرفين والإرهابيين. تلك هي مفارقات سلوكية بين دولة انت قادم للأقامة بين ثنايها ولكنك لا تقبل العيش في كنفها الثقافي والاجتماعي ولا ترغب في الاندماج الطبيعي بين المكونات السيكو اجتماعية, بل تختار العيش على هامش وفتات المجتمع, وبالتأكيد له انعكاساته في خلق مزاج للعزلة العدوانية والموجهة صوب المجتمع الأكبر. 

 

بالتأكيد هذا بقدر ما هو ادانة للقتل والذبح بحق المدرس الفرنسي, ولكن بنفس الوقت هو دعوى للحكومة الفرنسية والسلطات التعليمية والاجتماعية لفهم المزاج السائد في اوساط 8 ملايين مسلم في فرنسا, بالرغم من عدم تجانسهم الفكري والايديولوجي ومديات الممارسة الدينية, بل ان من اوساط " المسلمين " ملحدين وقد ورثوا الدين عن ابائهم واجدادهم دون طقوس تذكر, ومن بينهم مفكرين في ارساء أسس الديمقراطية والمجتمعات المدنية القائمة على الفصل بين الدين والدولة والسياسة. 

 

من الناحية السيكولوجية الخالصة فأن جرائم القتل والارهاب وزرع الرعب تعبر عن سلوكا عصابيا مرضيا معمدا بدوافع التركيز الشديد للانتقام من الاخر المغاير في صبغته الدينية والقومية والمذهبية والطائفية والجنسية والثقافية وغيرها من الفروق المختلفة, ومبررة ارتكاب هذه الجرائم بخطاب فكري وديني وثقافي مغاير وذو مسحة اقصائية للاخر. ومن الناحية النفسية فقد نجد في ابرز ملامح ديناميات السلوك التي تكمن ورائه بما يأتي:

ـ سيطرة الغريزة التدميرية والفناء مقابل غريزة الحياة والبقاء, وتتخذ غريزة التدمير مسارين, أحدهما ضد الذات, وقد يكون متزامنا بفناء الاخر كما هي العمليات الانتحارية أو ليست بالضرورة, فيكتفي المرء بفناء نفسه. وتنشأ الغلبة لغريزة الموت على الحياة من خلال تشبع الفرد بثقافة الاقصاء وتحريم الاختلاف وعدم تقبل الاخر , الى جانب اعتناق الافكار والمعتقدات الدينية وغير الدينية بطريقة عقائدية متحجرة, فتلغي بدورها قيمة التنوع والاختلاف, مما يسهل نشوء منظومة سلوكية تدميرية تضعف عوامل البقاء الصالح المتوازن وانهائه, وبالتالي انهاء الحياة كاملة على خلفية الاعتقاد ان كل ما موجود هو خاطئ باستثناء ما يعتقده هو فقط.

ـ ضعف وتداعي "الانا العليا " من أخلاق ومعايير ونماذج مثالية للسلوك, وغياب لدور الانا التوفيقية, وسيطرة سائدة " للهو " الذي تلعب فيه الغرائز البدائية وذات الطبيعية الحيوانية دورا كبيرا في تشكيل ملامح شخصيته. فهو يتصرف هنا بفعل توقف عملية النمو النفسي لديه موئلها رموزه الدينية والسياسية والحياتية, وتسود ملامح شخصية قوامها عقدة النقص وتنشأ على خلفية ذلك وتشتد مشاعر الاثم والاحساس بالضعف وعدم المقدرة الاستقلالية والخضوع التام لرموز دينية وسياسية وقومية يسلم أمره لها, يقابله تحميل الاخر المغاير له كل عوامل ضعفه واسقاطها عليه, وتصل الى حد الانتقام والابادة للاخر المختلف واستأصاله وتدميره.

ـ تضخم الانا العليا والشعور المتزايد بضغوطات الضمير وعدم المقدرة على ايجاد حالة من التوازن في الديناميات النفسية عبر حلول الانا, والاغراق في ممارسة معاقبة النفس وتكريس مشاعر الاحساس بالذنب في اجواء من هيمنة الاكتئاب والاشمئزاز من النفس والسعي المتزايد لانتقاد النفس وتخليصها من الهلاك وصولا الى الهلاك الذاتي المتمثل في محاولات الانتحار أو ممارسة التفجير الذاتي في وسط من يراهم مغايرون له في الدين والمعتقد.

ـ تقاطع هذاءات " بارانويدا " العظمة والاضطهاد في السلوك التدميري في السياسة. وإن كان هذا المصطلح يعني مرضا عقليا خطيرا بشقيه " داء العظمة وداء الاحساس بالاضطهاد " فأنه في السياسة له دلالته الخطيرة, حيث النظم الدكتاتورية والقمعية البوليسية المؤدلجة منها والمتأسلمة والشوفينية والعنصرية والمبتلاة بداء العظمة تستخدم كافة وسائل العنف من خلال اجهزتها العسكرية والامنية المخابراتية القمعية المختلفة لإلحاق الاذى بشعوبها أو شعوب أخرى للتعبير عن الاحساس المفرط بالعظمة وسلوك الهيمنة المطلقة. وعلى مستوى الأفراد فأنه اشد وقعا لأرتكاب أكثر الجرائم بشاعة.

يقابله في الطرف الاخر الاحساس بالمظلومية والاضطهاد المفرط والمنفلت من أي مسحة إنسانية أو فهم لظروف وقوانين الصراع الموضوعية, هو الاخر يحمل في طياته دوافع الخراب والعنف والتدمير الشامل, ويشكل هذا السلوك ردود فعل عنيفة يخرج عن دائرة التغير الايجابي الممكن للاوضاع السائدة, وغالبا ما يكون هذا السلوك مؤطرا بخطاب المذهبية والطائفية والشوفينة العرقية ويكون بيئة صالحة للارهاب المجتمعي والدولي, في ظل غياب خطاب عقلاني انساني سائد مفعم بعوامل البقاء الانساني والذي يحافظ على قيمة الوجود الانساني الحر. وهكذا تتبادل الادوار بين الجلاد والضحية. 

 

أمهل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قادة الدين الإسلامي في فرنسا 15 يوما لوضع ميثاق يؤكد على القيم الجمهورية للدولة، ويحدد "أن الإسلام دين فقط وليس حركة سياسية". وعرض المسؤولون عن الدين الإسلامي على ماكرون، الذي استقبلهم في وقت سابق بقصر الإليزيه، الخطوط العريضة لتشكيل مجلس وطني للأئمة يكون مسؤولا عن إصدار الاعتمادات لرجال الدين المسلمين في فرنسا وسحبها منهم عند الاقتضاء، والذي طلب الرئيس الفرنسي تشكيله. وقالت الرئاسة الفرنسية إن ماكرون طلب أيضا من قادة المسلمين "أن يضعوا في غضون 15 يوما ميثاقا للقيم الجمهورية يتضمن تأكيدا على الاعتراف بقيم الجمهورية، ويحدد أن الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية, كما أوضحت أن الرئيس الفرنسي طلب أيضا أن ينص الميثاق "على إنهاء التدخل أو الانتماء لدول أجنبية".

 

الميثاق أعلاه لا يجدي نفعا وقد تتفاجئ فرنسا بعمليات ارهابية اوسع واكثر صدمة, وأن الاتفاق مع تلك المنظمات لا يعني اتفاق مع خطوط الظل الارهابية والتي تقوم بعمليات القتل خارج اطار كل الاتفاقات والاعراف, وعلى ماكرون ان يعيد قراءة المزاج الأسلاموي خارج اطار كل الاتفاقات. 

 

في ختام ملاحظاتي اسأل هل خرجت تظاهرات مليونية او متواضعة في العالم العربي لأدانة افعال داعش في القتل والذبح والجلد والاستباحة, ولماذا لا تستنفر العقول الاسلاموية اعمال السبي واسواق النخاسة, ولماذا لا تستفز الضمير الاسلامي كل قبح داعش, وحتى المراجع الاسلامية انقسمت على نفسها في ادانة تنظيم الدولة الاسلامية الكافر.

 

 

 


41
في سيكولوجيا التشبث والبقاء في السلطة

د.عامر صالح

تشكل تجربة ترامب في البقاء في السلطة وممارسة الخداع السيكوسياسي من التجارب النادرة في الأنتخابات الأمريكية على مر التجربة الديمقراطية الأمريكية في اكثر من 250 عاما, حيث سلوكيات الرفض وعدم الأعتراف بالآخر المنافس مهما كانت النتائج, بل والتلويح بفوضى عارمة في حالة عدم فوزه, او عبر التشكيك بالتصويت البريدي بسبب كورونا والتلويح بعدم تسليم السلطة سلميا للفائز القادم والمماطلة في في متابعة فرز الأصوات عبر الدعوة الى ايقاف الفرز في بعض الولايات والذهاب الى القضاء وكذلك الأستعانة بتحريض انصاره لخلق حالة من الفوضى لعرقلة مسار الأنتخابات.

هذا يذكرنا في المتناقضات أنه عندما يتحدث أغلب سكان العالم عن الديمقراطية فإن النسخة الأمريكية من الديمقراطية تكون هي المسيطرة على خيالهم في أغلب الأحيان. النموذج الأمريكي هو الأبرز بين باقي النماذج الديمقراطية رغم أنه ليس النموذج الأمثل ولكنَّه ربما يكونُ الأقدر على الترويج والرواج مستغلًا في ذلك سطوة الولايات المتحدة على جميع الأصعدة تقريبًا. فلا يمكن لأحد أن يتجاهل أن الديمقراطية الأمريكية أو النموذج الديمقراطي للولايات المتحدة الأمريكية هو النموذج السياسي الأشهر والأقوى منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم في اطار الممكنات المتاحة الى الآن.

"الأمة الأمريكية" التي يبلغ عمرها قرابة الأربعة قرون استطاعت أن تصنع نموذجًا ديمقراطيًا ناجحًا " حسب الكثير " متفوقة في ذلك على أمم كثيرة أعرق منها حتى في الديمقراطيات الأخرى. لكن الأمر لم يكن يسيرًا ولا كان الطريق ممهدًا أو مرسومًا بوضوح بل كانت هناك العديد من العقبات التي كادت تودي في أحيانٍ كثيرة باتحاد الدولة الوليدة. مفارقة ترامب تضع سلوكياته الفردية بالضد من الديمقراطية المستقرة, وبالتالي يثير في الشارع الأمريكي رعبا من نوع خاص يتجسد في مغامرة ترامب في العبث في التقاليد الديمقراطية المستقرة في امريكا. وهنا حصرا نتحدث عن قصور في السلوكيات الفردية وليست عن التجربة الديمقراطية بذاتها, وهنا فأن تجربة الحكم لاتسمح بصنع دكتاتور بقدر ان الدكتاتورية هنا صناعة ذاتية بأمتياز وللنشأة الاولى للدكتاتور ملابساتها الخاصة بعيدا عن طبيعة الحكم.

واذا كانت تجربة ترامب في رفض التدوال السلمي للسلطة مؤطرة بالمواصفات الشخصية له وليست بالتجربة الديمقراطية ومكوناتها السياسية فأن العالم العربي وعموم بلدان العالم الثالث  الأمر مختلف حيث التداول السلمي للسلطة لاوجود له, بل ومؤطرا بأيديولوجيات وعقائد دينية ووضعية وسياسية  ترفض في عمومها فكرة التدوال السلمي للحكم وتعتبر وجودها خارج اطار الزمان والمكان الذي تحكم فيه وان صلاحيتها ابدية وغير قابلة للأنتهاء, وبالتالي المشكلة هنا هي في الأفكار والقناعات السياسية وجوهر التفكير بمشكلة الحكم وفلسفته وماذا يعني. والمشكلة هنا في البيئة الحاضنة لممارسة الديمقراطية, ونموذج العراق والدول العربية الأخرى حاضرة, فحين سقوط الأنظمة الدكتاتورية سواء بهبات ما يسمى بالربيع العربية ام عبر الأحتلال الأمريكي والغربي فأن البيئة السيكواجتماعية والسياسية لم تكن مواتية لأحتضان بذور الديمقراطية الوليدة, فلا نستغرب من تصدر القوى الأسلاموية والشوفينية من تصدر المشهد السياسي وإدعائها الكاذب في ممارسة السلطة وتداولها سلميا, عبر سلوكيات انتهاك ممارسة الديمقراطية من خلال الترغيب والترهيب واستخدام السلاح لأعاقة ممارسة طقوس الديمقراطية الى جانب ارتهانها للأجندة الأقليمية ذات البنية العقلية والسياسية المتخلفة.
 
ما تمارسه قوى اعاقة التداول السلمي للسلطة هو هوس السلطة والرغبة الشديدة للتمسك بها والاستحواذ على مغانمها، ومحاولة عدم التفريط بها مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك (حروب، فتن، اغتيالات، فقر، فساد بأنواعه، ضياع جزء من الأراضي، وضع البلد في مستقبل مجهول, افلاس الدولة, هدر للمال العام وسرقة مدخرات الشعب)، فالبعض يضحي بوطنه ويضحي بشعبه ويضحي بولده لغرض الاستمرار والبقاء على رأس السلطة. نموذج العراق حاضرا في قتل 700 متظاهر وجرح اكثر من 25000 واعاقة آلاف بأعاقة منتهية هو دليل على ان السلطة مفسدة عند هؤلاء.

لذلك يمكن القول، بأن هوس السلطة في تلك النماذج هو بمثابة مرض نفسي ليست حكرا على شخصا كما في حالة ترامب، لكنه مرضاً عقائديا يلف كل منتسبي تلك الفكرة المريضة لا يمكن علاجه بسهولة البته، كون المصاب به ومجموعته يرفضون التشخيص، إضافة إلى رفضهم الشديد لأخذ العلاج, لهذا السبب نظر أغلب الباحثين والمفكرين إلى السلطة بأنها مفسدة، لذلك سعى كل من يريد تجنب هذه المفسدة إلى تقييدها وتقنينها في إطار المؤسسات القانونية والدستورية, ومع هذا فأن القدرة على اشاعة الخراب وحرف مسار الاستقرار يفوق اضعافا سلوكيات ترامب البسيطة والتي لا تجدي نفعا في المجتمع الامريكي الذي أتقن لعبة الديمقراطية.
ويلعب هنا التلوث السيكوباتي والفساد حيث الشخصية البارانوية والشخصية النرجسية هما أكثر شخصيتين يسعيان نحو السلطة ويتواجدان فيها ويتشبثان بها، والسلطة بالنسبة لهما احتياج شخصي لتدعيم الذات وتضخيمها لذلك نراهما في طريق سعيهما للسلطة ينتهكان الكثير من القيم أو الأعراف أو القوانين تحت زعم "الغاية تبرر الوسيلة"  أو تحت وهم أنها ضرورات مرحلية يتم فيها التجاوز عن بعض المحظورات، وحين تصل هذه الشخصيات إلى السلطة وتذوق طعمها وتتوحد معها تتأكد أنه لا وجود لها بدون السلطة لذلك تستمر في محاولات الاستبداد بالسلطة والتشبث بها وهذا يستدعي ممارسة سلوكيات سيكوباتية للتحايل والالتفاف والتلفيق والخداع والكذب، وتصبح هذه الأشياء من ضرورات الاستمرار في اغتصاب السلطة, وتشكل تجربة الأسلام السياسي في العراق وفي الدول العربية الأخرى نموذج للفساد السياسي من خلال التحايل وحرق صناديق الأقتراع والتسلح ضد العزل والترهيب والتخويف من خلال الخطاب المقدس.

وهكذا يحدث التلوث السيكوباتي لشخصية صاحب السلطة وينتشر هذا التلوث في كافة جوانب المجتمع في صورة فساد عام، والفساد هنا ضرورة بقاء حتى يحدث تناغم بين المنظومة السلطوية والمنظومة العامة لأن المنظومة العامة لو بقيت نقية في حالة فساد وتلوث المنظومة السلطوية فإنها سرعان ما تلفظها, وكل هذا يحدث طبقا للمعايير السيكوباتية التي تهتم بالمبالغة في إعلان عكس ذلك فنجد مبالغة في الحديث عن الشفافية والطهارة والمبالغة في الحديث عن المثاليات الأخلاقية والمبالغة في الطقوس والمظاهر الدينية الخالية من روحانيات الدين، في الوقت الذي يستشري فيه الفساد ويتوحش.
ما يجري هو صراع للسلطة المتأرجحة بين ما تعلنه وما تبطنه.. بين الايديولوجيا (وجهها المعلن) ، وبين السيكولوجيا (وجهها الخفي) الذي في غالب الأحيان يخترق جدار الإيديولوجيا لتحقيق الأهداف، وممارسة السلطة لكسب الخضوع والطاعة بالوسائل التي تريدها، ولا تتوانى لحظة عن ابتلاع الدولة فيما إذا اقتضى الأمر ذلك، فتمسي سلطة ودولة في آن، فتستبد بكل شيء، وتعصف بالمعارضة بحجج شتى، الأمر الذي يوسع الهوة بين السلطة والشعب، فتنشب الأزمة وهكذا نسترخص الضحايا والشهداء, وتبقى معرفة قتلة المتظاهرين لغزا صعبا ولكنه وسهلا حين توفر الأرادة السياسية الصادقة.
الخسارة تبدو طبيعية.. فماذا يمكن أن يحصد رجل لا ينظر أبعد من كرسى حكمه فى نظام سياسى يرتكز على الديمقراطية، ولا يمنح أى فرد مهما كانت مصادر قوته ومهما امتلك من أدوات فرصة الاستمرار فى الحكم إلا بإرادة شعبه؟
وصل "ترامب" إلى البيت الأبيض على سفينة "الشعبوية".تلك "الموضة" التى خلبت عقل المواطن الأمريكى لبعض الوقت، وأحس معها بالانبهار بشخصية «ترامب» الذى يحمل خطاباً جديداً ويؤدى بطريقة شديدة الإثارة، وكأنه شخصية وقعت من أحد أفلام الأكشن.
منذ وصوله إلى البيت الأبيض بدا "ترامب" جريئاً.. فردياً.. لا يعرف الحسابات السياسية ولا يريد أن يفهم شيئاً عنها.. يبيع العقل فى سوق الإثارة.. يضع الأوهام فى علب شديدة الشياكة.. ويبيعها بأغلى الأثمان.. لا يحب المؤسسات لأنه جاء من خارج المؤسسة السياسية.. من يختلف معه فى الرأى يطيح به فى عرض الطريق. سيخسر ترامب مهما بلغ من حنكة في المراوغات وتشويه الحقائق, فالديمقراطية رغم انها لعبة في بعض وجوههها إلا انها تستند الى الذكاء الاجتماعي في الوعي وقراءة المستقبل, وان ترامب لا يمتلك تلك الفطنة في ادارة الصراع مع منافسه بايدن لأنه يستند الى الأنفعلات في كسب الاصوات وقد يخسر الكثير من الاصوات. سيربح بايدن الانتخابات ولكن لا يعني ذلك تغير جوهري في السياسة الامريكية كما يتمناه العرب وغيرهم من الشامتين بخسارة ترامب أو بالعكس, لأن السياسة الامريكية تستند الى ثوابت رغم تغير الوجوه.





42
نظام المحاصصة والعبث في منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق

د.عامر صالح

 البحث العلمي ضرورة ملحة لنظام الحكم ومؤسساته ووزاراته وكل أجهزة المجتمع ومؤسساته ومنظماته, حيث لا يمكن التخطيط واستقراء المستقبل بدون بحث علمي, ولا يمكن أيضا بدونه القيام بعمليات التنفيذ والمتابعة والتطوير وحل المشكلات الطارئة؛ والبحث العلمي أيضا شرطا أساسيا على المستوى الفردي, حيث يحتاج الفرد من اجل حياة موفقة أن يفكر في كل خطواته وتحركاته من إقدام وإحجام, وان يجمع لها البيانات اللازمة ويحسب الخسارة والربح المترتب على ذلك وتأثيره المستقبلي؛ كما أن البحث العلمي بمعناه الواسع يمتد ليشمل جمع المعلومات وتوظيفها في جميع أنشطة الحياة العلمية والعملية, ويمتد ليشمل الأفراد والجماعات والمجتمع, فإذا ما ارتبطت بخطوات محكمة منظمة ومتسلسلة لجمع المعلومات وتحليلها والتأكد من صحتها بغرض الإجابة على سؤال معين أو تفسير علاقة ما أو حل مشكلة ما, كان ذلك يعرف بالبحث العلمي, أنه سلوك المجتمعات المتمدنة والمتحضرة ووسيلتها لحل مشاكلها والتغلب على أزماتها. وعدا ذلك يصبح كل شيء عشوائي, مما يزيد من فرص الفشل والإحباط والتخبط في إيجاد حلول للازمات. أن غياب البحث العلمي في بلادنا هو مصدر أساسي في التخلف والفوضى التي تضرب كل مرافق الحياة, مما يسبب في ضياع الوقت وإهدار المال وشيوع الفساد بمختلف مظاهره, ويشكل فرصا مواتية لشيوع الخرافة بكل ألوانها, السياسة والدينية وانتشار الجهل والغباء في تفسير ما يجري على ارض الواقع وفقا للمنطق المعكوس في وضع العربة أمام الحصان.

يعاني التعليم العالي في العراق من اختلالات هيكلية مرتبطة بفشل الدولة التي سقطت في أتون أزمة عميقة تحولت فيه الدولة ومواردها الى غنيمة بيد احزاب السلطة. وأدّت هذه الأزمة الوجودية إلى اختلال شامل في الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدى المؤسسات التي تصنع القرارات وترسم السياسات. وباتت هذه المؤسسات عاجزة عن إشباع الحاجات الأساسية والإيفاء بالحقوق الإنسانية للأفراد، ما أدّى إلى الإخفاق في تحقيق الاستقرار السياسي ووضع البلاد على طرق التنمية المستدامة والمتكاملة للمجتمع.

ومعالجة أزمة التعليم العالي في العراق تكون عبر معالجة الأزمة بقمة هرم السلطة في النظام الاجتماعي، أي أزمة التوجّه العام للدولة؛ فلا نهوض للتعليم نحو الجودة والجدوى، أو للبحث العلمي نحو الجدّة والجدّية، ولا للمجتمع نحو التجدد الحضاري في دولة تعاني من التفكك في رؤيتها السياسية، والضبابية في نظرتها إلى نفسها ومجتمعها، والفوضوية في إداراتها والعشوائية في سياساتها.

وفي وقت يتجه فيه العالم إلى تعزيز استقلالية الجامعات لما في ذلك من تدعيم مناخات صناعة المعرفة، ولتحريرها من الأطر البيروقراطية باتجاه المزيد من الحريات الجامعية المؤطرة بقيم الرصانة العلمية والانضباط الأكاديمي، فإن ما تفعله النخبة السياسية هو تصدير أزمتها الحزبية والسلطوية إلى الجامعات العراقية.

واستكمالا للهجمة الشرسة على منظومة التعليم العالي والبحث العلمي فقد أثار قانون معادلة الشهادات العلمية الجديد الذي شرَّعه مجلس النواب العراقي سخطاً غير مسبوق من المؤسسات العلمية والتعليمية، وأغضب الجهة المختصة المتمثلة بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، التي تعتمد معايير عالمية رصينة، درجت عليها منذ عقود، جعلت الشهادات العراقية في غاية الاحترام؛ كونها تستوفي معايير دولية باتت سياقات تعتمد عليها أرقى الجامعات في العالم.

وألزمت الهيئة الخاصة بمعادلة الشهادات، بضوابط صارمة وفق التعليمات المعتمدة لمعادلة الشهادات والدرجات العلمية العربية والأجنبية رقم 5 لسنة 1976، التي وُضعت على الرَّف، وخالفها التشريع الجديد المليء بالعيوب والمخالفات لأحكام الدستور، كما أكد عدد كبير من المشرعين. أن قانون معادلة الشهادات جاء كمقترح من لجنة التعليم العالي البرلمانية وليس مشروع قانون من مجلس الوزراء، لذا فهو مخالف لفتوى المحكمة الاتحادية، فضلا عن أنه يعد نكسة حقيقية بحق التعليم العالي في العراق، وينبغي من الجميع الوقوف ضده، إذ إنه سيمنح اللقب العلمي بالاعتماد على معيار (الموهبة أو الجهود المتميزة بالعمل)، وهذا خارج عن معايير الجودة.

ويقوم القانون بنقل معظم صلاحيات وزارة التعليم العالي وتحجيمها وتوزيعها على جهات عدة غير أكاديمية، ومنها الأمانة العامة لمجلس النواب التي منحت صلاحية معادلة الشهادات التي تصدر من معهد التطوير البرلماني، كما تقوم وزارة التربية بمعادلة شهادات المرحلة الثانوية والدراسات التي تسبقها والشهادات الصادرة من كلية التربية المفتوحة، ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية بمعادلة الشهادات العسكرية والمسلكية، كما تقوم الجامعات المتنوعة ومجلس الخدمة الاتحادي بمعادلة وتقييم الشهادات التدريبية والفنية، فلم تعد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تملك الرأي الأول والأخير في معادلة الشهادات، كما درجت عليه الأعراف العربية، وبات القرار مرتبطاً بالجهات المذكورة، إضافة إلى خروقات علمية أصابت هذا القانون نتيجة قلة الخبرة وضعف الإرادة وتأثير مجلس النواب وابتزازات كثيرة تكتنف عملية المعادلة والتقييم، كما أكد عديد من الأساتذة، فيمكن اعتماد ومعادلة شهادة الدكتوراه من خارج العراق من دون تقديم أطروحة الدكتوراه والاكتفاء بالأمور الإجرائية فقط، وعدم مطالبة وزارة التعليم بتدقيق أطروحة الدكتوراه كما هو متبع حالياً، وهذه سابقة لا يمكن أن تحصر نتائجها أو قبولها، كما شجع القانون الجديد على معادلة شهادات الوزراء والبرلمانيين وأصحاب الدرجات الخاصة الحاصلين عليها أثناء فترة تكليفهم استثناءً من القواعد الجامعية والتعليمات الخاصة بالدراسات العليا التي ألزمت الدارسين جميعاً بالتفرغ التام أثناء فترة الدراسة، لكن الأكثر إغاظة للتعليم العالي وكادره الأكاديمي اعتماد القانون الجديد على الاعتراف بالشهادات عن طريق المراسلة، الأمر الذي ترفضه وزارة التعليم العالي ووزراء التعليم العرب بالإجماع.


وقالت الوزارة في بيان لها، إنه "استنادا إلى السلطة العلمية المخولة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومؤسساتها الجامعية بموجب القوانين النافذة، وحفاظا على اشتراطات الشهادة الأكاديمية ومتطلبات معادلتها التي تضمن سلامة الآثار المترتبة عليها في المجتمع العراقي وانطلاقا من خصوصية مؤسسات التعليم العالي ومسؤوليتها الحصرية في تقدير المصلحة بعيدا عن الحسابات الخاصة، تؤكد هيئة الرأي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رفضها قانون أسس تعادل الشهادات".
ودعت، رئيس الجمهورية إلى "التدخل وعدم المصادقة على القانون، وتدارك مخاطره، وإنقاذ الموقف الذي سيجعل القرار العلمي بتقييم الشهادات معطلا، وتأمين مبدأ تكافؤ الفرص وحماية المبادئ الدستورية الضامنة لمساواة الجميع أمام القانون"
استنكرت شبكة العلماء العراقيين في الخارج، الاحد، قانون معادلة الشهادات الذي صوت عليه البرلمان، مبينة ان القانون يقضي بالاعتراف بالشهادات العليا بطرق بعيدة عن العلمية، ويمنح الألقاب العلمية من قبل مؤسسات لا علاقة لها بالجامعات، كما يسمح بمنح الشهادات الجامعية للبرلمانيين والوزراء دون الحاجة الى تفرغ.

وقالت الشبكة في بيان لها اليوم (1 تشرين الثاني 2020) انه "أطلعت شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) وباهتمام بالغ على قانون أسس تعادل الشهادات الذي صوت عليه مجلس النواب العراقي بتاريخ 28 تشرين الأول 2020. كما اطلعت كذلك على بيانات ورسائل الرفض التي أصدرتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ونقابة الأكاديميين العراقيين ونخبة كبيرة من الأكاديميين العراقيين.

وبعد الوقوف عن كثب لمعرفة ابعاد هذا القانون ونتائجه السلبية التي لن تعود بخير على التعليم العالي ولن تصب في مصلحة البلد وتقدمه، وانما ستساهم في تدهور الرصانة العلمية، وبدلا من ان يسعى مجلس النواب العراقي الى التعاون مع وزارة التعليم العالي والجامعات والأكاديميين العراقيين لوضع أسس وضوابط عصرية لمعادلة الشهادات العربية والأجنبية والمعايير العلمية المستخدمة في معادلة هذه الشهادات كما هي معتمدة في الدول المتطورة، نجده ينفرد في اصدار قانون يفتعل الازمات ويقضي بالاعتراف بالشهادات العليا بطرق بعيدة عن العلمية المتعارف عليها عالميا وبمنح الألقاب العلمية الجامعية الخاصة بالتدريسيين في الجامعات لعموم الموظفين من قبل مؤسسات لا علاقة لها بالجامعات، ويسمح بمنح الشهادات الجامعية للبرلمانيين والوزراء واصحاب الدرجات الخاصة بدون الحاجة الى تفرغ، وإلغاء متطلب وجود أطروحة او بحث في شهادة الدكتوراه لأجل معادلتها، بالإضافة الى استثناء فئات كثيرة من اسس تقييم وتعادل الشهادات، ومنح صلاحية تقييم ومعادلة الشهادات الى جهات لا علاقة لها بالتعليم العالي والجامعات. 

"كما دعت الجمعية الطبية العراقية الموحدة في المملكة المتحدة وايرلندا الى المشاركة الفاعلة في حملة لإلغاء قانون معادلة الشهادات الاكاديمية الصادرة خارج العراق والذي أقرّه مجلس النواب العراقي في 28 أكتوبر 2020. وجاء في دعوتها الموجهة الى الرئاسات العراقية الثلاث: 
 
نحن الموقعون ادناه من نقابات وجمعيات مهنية واساتذة واكاديميين وحاملي شهادات علياومن جميع الاختصاصات نعبّر عن رفضنا واستنكارنا الشديدين لاقرار مجلس النواب العراقي قانون معادلة الشهادات سيء الصيت. أن هذا القرار يأتي استمرارا للتدمير الممنهج للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق .
وإستكمالاً لمسلسل زعزعة وتهديم الأسس العلمية الرصينة والأطر الأكاديمية المعروفة عالمياًوفي بادرة غير مسبوقة في العالم ومنها دول الجوار. هذا المسلسل الذي ابتدأه السياسيون والمتصدون للعملية السياسية منذ ٢٠٠٣ ولحد الان. ويأتي هذا القانون بعد قرارات اغراق الساحة العلمية العراقية بالكليات والجامعات الأهلية وبعد فضيحة الشهادات المزورة وآحرها المعدلات الفلكية في امتحانات الدراسة الأعدادية.

ان هذا المسلسل المنهجي والمتواصل يهدف بشكل واضح وجلّي الى تدمير آخر مرتكز للتطور العلمي المستقبلي وسيقضي على أيّ بادرةأمل في ان ينهض العراق واجياله المستقبلية لبناء وطن حديث و متطور.

ان هذا القانون السيء والخبيث في نفس الوقت يهدف الى سحب البساط من الاكاديميين العراقيين وتجريدهم من ابسط أدواتهم للحفاظ علىالرصانة العلمية والاكاديمية المتوقعة من الشهادات العليا التي تصدر من خارج العراق، علاوة على الإضرار الكبير بسمعة الاكاديميالعراقي في المحافل الدولية".

أن أسباب تخلف البحث العلمي وتدهوره هو جزء من تخلف الحياة العامة الذي يعكسها تخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والذي ينعكس بدوره على تخلف المنظومة التربوية والتعليمية والتي يرتبط بها العلم والبحث العلمي والقناعة به كمنهج للحياة وحل المشكلات. وتتضح ابرز أسباب ملامح ضعف البحث العلمي وكفاءته فيما يأتي:

ـ حالة الفقر العامة في البلاد, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده صالح لكل الأزمان والأمكنة, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا إلى قمة النظام السياسي, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي إلى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

ـ ويرتبط بالعوامل المذكورة أعلاه غياب ثقافة أهمية البحث العلمي والاكتشافات العلمية والرغبة في الإبداع والاختراع في الوعي والتفاعل الاجتماعيين, وبالتالي يغيب التفكير والتشجيع والدعم عن المسار البحثي والعلمي وعن العلماء والباحثين والمكتشفين في المجتمع, وترتبط جذور ذلك أصلا في غياب القيمة البحثية في مناهج التعليم بمراحله المختلفة والقائمة أصلا على الحفظ والتلقين والاستذكار التقليدي, وهذا النظام التعليمي التلقيني لا يحتاج إلى كفاءات عالية ولا إلى مستلزمات تقيم متطور لقياس مهارات الطلاب في الفهم والتفكير وحل المشكلات, إلى جانب كونه نظام يدفع إلى الكسل والاتكالية والخمول العقلي, ولا يستثير في الطالب فكرا أو تساؤلا بل يقتل فيه ملكة التفكير, وتنتفي في هكذا نظم تعليمية القدرة على صناعة الباحثين في الخطط التعليمية عبر التراكم المعرفي في مراحل التعليم المختلفة.

ـ ضئالة الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي وللباحثين في الجامعات العراقية بصورة عامة بسبب من غياب إستراتيجية واضحة في هذا المجال وتخلف النظرة إلى الإنفاق باعتباره إهدارا واستهلاكا للأموال غير مجدي, وليست استثمارا طويل الأمد يأتي أضعاف ما ينفق عليه, الى جانب ما حملته كورونا وأزمة النفط العالمية من شحة في المال والانفاق.

ـ الفساد الإداري والمالي وضعف معايير الكفاءة والأهلية المهنية والعلمية في انتفاء الكادر القيادي لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي, واللجوء إلى معايير الحزبية والمذهبية والطائفية والموالاة في انتقاء الكوادر الإدارية, وغالبا ما تكون هذه القيادات بعيدة كل البعد عن مفهوم الاستقلالية والنزاهة, بل هي أطراف أساسية في صراعات مصلحيه ضيقة مع غيرها, بل هي أطراف في الفساد بمختلف مظاهره, مما يحرم هذه المؤسسات من الاستقرار والنزاهة والحيادية التي هي شروط لازمة للارتقاء بالعلم والبحث العلمي. ويرتبط بذلك ويرافقه سياسات أبعاد الكوادر العلمية عن مواقعها العلمية والبحثية من خلال التهجير ألقسري والإحالة على التقاعد وانتهاء بالتصفيات الجسدية ومسلسل الاغتيالات للكوادر في مختلف التخصصات العلمية.

ـ الآثار الضارة للمركزية الإدارية الشديدة في التعليم وغياب إستراتيجية إدارية ـ علمية معاصرة, حيث ساهمت الإدارة المتخلفة وعلى مر عقود في غياب تصور علمي دقيق وشامل للعمل البحثي, انتفت فيه عمليات التناسق والتناغم والتخطيط لمكونات العملية البحثية ومقوماتها الأساسية ( الباحثين, التمويل, التطورات العلمية والتقنية, الأولويات البحثية بما يخدم احتياجات المجتمع وتطوره, المعامل والأجهزة والمعدات العلمية وغيرها ), وبين المراكز البحثية المختلفة, وبين البحث واحتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمختلف البحوث.

ـ أن غياب إستراتيجية شاملة للبحث العلمي في العراق تتضح آثاره جليا في ما يسمى بالفوضى البحثية, والتي تتضح أبرز معالمها في العمل البحثي الفردي لأغراض فردية وذاتية بحتة, سواء لأغراض الترقية العلمية فقط أو للحصول على المال في أمكنة النشر, وعدم وجود فرق بحثية تتكامل بين أفرادها, وهو سمة مهمة من سمات تطور وارتقاء البحوث في عالمنا المعاصر, وعدم التنسيق بين المراكز البحثية المنتشرة في البلد الواحد, وانفصال البحوث عن المشكلات الاجتماعية واحتياجات المجتمع, مما أدى بدوره إلى تكرار واجترار البحوث السابقة, فهي لا تخدم في معظمها قطاعات صناعية أو زراعية ولا تواكب حاجات المجتمع في ميادينه الناشئة الحديثة كتقنية المعلومات والتكنولوجيا المتطورة, وكان ذلك سببا في إنتاج كم هائل من المجلات والدوريات ذات الموضوعات المتكررة في البلد الواحد بل وفي القسم و الكلية والجامعة الواحدة في البلد المعني, واغلب هذه الدوريات غير معروف عالميا ولا يضيف قيمة علمية للبحوث العالمية .

ـ عدم وضوح فكرة أن الجامعات هي جزء من آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يجب أن تكون بحوثها على تماس مع مشكلات المجتمع بمختلف قطاعاته, وبسبب غياب الرؤى في هذا المجال نرى أن اغلب بحوث الماجستير والدكتوراه تستهدف تهيئة وتدريب الكادر على طرائق ومنهجية البحث العلمي, وهي بهذا بعيدة كل البعد عن المساهمة في البحث عن الحلول للمشكلات الاجتماعية المختلفة, وبسبب من ذلك تأتي اغلب الأبحاث سواء الأساسية منها أو التطبيقية تكرارا لسابقتها, إن لم يكن تكرارا مملا فهو تكرارا بحلية شكلية ترضي المشرف عليها, وقد تبدو لصاحبها أصيلة وهي بعيدة كل البعد عن الأصالة.

ـ لا يشكل البحث العلمي إلا قدرا هامشيا أو ضئيلا من عمل الأستاذ الجامعي فهو مغرق بالساعات التدريسية مما يشغل جل وقته في التهيئة للمحاضرات النظرية أو أعمال المختبر التقليدية, كما أن الكثير منهم تضعف علاقاته بالبحث العلمي بعد حصولهم على الدكتوراه أو بعد نيل درجة الأستاذية أو الأستاذ مساعد أو أستاذ مشارك, وينصب اهتمامهم في الإشراف على الأبحاث فقط أو أعمال روتينية إدارية كإدارة قسم أو كلية أو جامعة, رغم أن دور الأستاذ يجب أن يكون مستمرا في إنتاج أفضل البحوث المفيدة سواء للمجتمع أم للعملية التعليمية في أروقة الجامعات.

ـ ضعف البنية التحتية للأبحاث النظرية والتطبيقية من مختبرات وأجهزة ومكتبات علمية, فالمختبرات وأجهزتها وصيانتها ونقص المواد الأساسية لها بمختلف التخصصات ونقص الكادر الفني ذات الصلة بذلك هو سمة بارزة لأغلب ما تعانيه الجامعات العراقية وتشكو منه, إلى جانب ضعف قاعدة المعلومات الحديثة, سواء من مطبوعات ودوريات علمية عالمية أو غياب المكتبات الرقمية أو الالكترونية وقواعد البيانات البحثية وغبرها من أدوات التعليم الالكتروني للتواصل مع العالم البحثي.


  ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها.

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.

.
ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.
ولا نستغرب من كل هذا ولتلك الأسباب حصرا عدم تبوء الجامعات العراقية لمكانتها العلمية بين الجامعات العالمية رغم الجهود المبذولة من قبل مختلف الجامعات العراقية, فالطموح لتبوء مكانة لائقة في وسط الجامعات العالمية شيء ويبقى طموح مجرد, وفهم أسباب التخلف العلمي والقدرة على تجاوزه شيء آخر.

أصدار البرلمان العراقي لقانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية في 28 اكتوبر 2020 هو استمرار للسياسات والسلوكيات التي تستهدف المكانة العلمية والاكاديمية وفي مقدمتها الأخلال بعناصر وشروط جودة الكادر الى جانب اضعاف مكانة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ذات العلاقة المباشرة في الشأن العلمي وجودته, وفسح المجال بعيدا للأجتهاد من قبل الوزارات المختلفة والجهات الأخرى والبرلمان ايضا للعبث وتسيس العلم واعادة تكريس المحاصصة واقتسام مناطق نفوذ الأحزاب. لا يستغرب المرء من برلمان شرعيته اقل من 20% من الشعب أن يصدر هكذا قوانين خدمة لأعضائه وطموحاتهم المريضة.   

روابط المقال:
https://m.ahewar.org/s.asp?aid=695048&r=0&cid=0&u&i=2393&q&fbclid=IwAR1LgX4mlr0YNTpFsrWeJjn_7pl4HfcwwSiHDU0u_jdw0JJPDO2ttQ_KpyQ

https://m.ahewar.org/s.asp?aid=545940&r=100&cid=0&u=&i=2393&q=&fbclid=IwAR04uAdQJAd6IAOIAFpKbzO6dfYCgcStlHo7hh22xPSW44cA5HLsfy29FBk

https://alarab-co-uk.cdn.ampproject.org/c/s/alarab.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%AF%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A9?amp&fbclid=IwAR1ciFqmf-x74QiKVKUXxE743XTdIE5FKygvUyHiogFAIERkOCOuSnt_LhQ

https://ultrairaq.ultrasawt.com/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D8%A7%D9%95%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%A1-%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%8A%D8%B1-%D9%84%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%84-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%AA%D9%85%D8%B1%D9%8A%D8%B1%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%9F/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7-%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9?fbclid=IwAR3yEWP5UhEE6uiKs3Ekv67r5gxXH3TGvGl-Sjpol-uq9W7phBtHKVEWizw

https://www.aredaonline.com/295445?fbclid=IwAR1TWCuWPwF8eUrClvDXyt7gyDDeMEPXUYmjxe9Bg3wmrAHRAfYlC7NJdio
https://mustaqila.com/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87/?fbclid=IwAR0eaE4f8qUTmwfHh4PDlU-XRrJDfS7BHrOS9SwoCliFZIv7CHmu0lak_YU
https://hathalyoum.net/amp/2529423-%D9%85%D8%A4%D8%B3%D8%B3%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D9%86%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%AA%D9%88%D8%B6%D8%AD-?fbclid=IwAR1rymifZmvyCpiYQ0zXurwn_Z4Up0_JAzcWUWWO5uTUvY7OE0qCAtLkDHE

https://www.independentarabia.com/node/165296/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D9%8A%D8%B5%D8%AF%D8%B1-%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86%D8%A7-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A7-%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9?fbclid=IwAR2RGL2HkR4EOXsgUyCc8hMxXiakeH8TO_GQ6gg_fT_x0AHpm8pzAi31XGg






43
المناظرة الرئاسية الأمريكية الأخيرة ودلالتها في سيكولوجيا الأتصال

د.عامر صالح
 
واجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منافسه الديمقراطي جو بايدن في المناظرة الأخيرة بينهما، بمدينة ناشفيل في ولاية تينيسي، وذلك قبل انتخابات الرئاسة المقررة في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وشهدت المناظرة الأولى التي جرت بينهما في 29 سبتمبر/ أيلول الماضي فوضى ومشادات كلامية، وكان من المقرر إجراء 3 مناظرات بينهما لكن تم إلغاء المناظرة الثانية التي كان موعدها في 15 أكتوبر/ تشرين الجاري، إثر جدل حول قرار لجنة المناظرات بتنظيمها افتراضيا بعد إصابة ترامب بفيروس كورونا.


هناك رأي شعبي يستند الى القياس في المناظرة الأولى ولم يستطع تجاوزه استنادا الى الشخصيتين المتحمستين للفوز بالرئاسة وفرط انفعالاتهما وتشبثهما بالخطاب القهري التعسفي, فأن "الفائز" بالمناظرة الأخيرة بين مرشحي الرئاسة الأمريكية، هي كريستين ويلكر " الصحفية التي ادارت الحوار بين بايدن وترامب " وتهديدها باستخدام زر إغلاق المايكرفون أمام المرشح إذا تجاوز حقه في الحديث. لقد تباينت محاور المناظرة الرئاسية التي افتتحت بطلب بتوخي الكياسة في الحوار بين المتنافسين؛ من فيروس كورونا والتغير المناخي إلى الهجرة والعنصرية والضرائب الشخصية غير المدفوعة. وقد بدأت مديرة الجلسة ويلكر المناظرة بالطلب من كلا المرشحين بعدم مقاطعة أحدهما الآخر وأن يتحدث واحد منهما في كل مرة. وقد نجحت في فرض ذلك في الجزء الأكبر من زمن المناظرة.


وقد أثمر تغيير صيغة إدارة المناظرة (بإعطاء مديرتها ويلكر حق استخدام زر يقفل المايكرفون أمام أحد المتنافسين عندما يأتي دور منافسه للكلام) في إنجاح ثاني وآخر مناظرة رئاسية بين الرئيس دونالد ترامب ومنافسه جو بايدن. وبدا كلا المتناظرين أكثر كياسة من المناظرة السابقة في السماح للآخر بالحديث، وحتى في مهاجمتهما لبعضهما البعض التي جرت نسبيا بأسلوب منظم وموقر. وعلى ما يبدو فأن كل من بايدن وترامب لم يركنا الى قدراتهما الذاتية في تأمين فرص للحوار الديمقراطي الهادئ إلا بتدخل طرف ثالث وسيط يمثل سلطة الأعلام والصحافة لقمع جماح تهور الأثنين للفوز في الرئاسة القادمة.


وقد انجزت السيدة ويلكر مستندة الى أرث والديها اليساريين الى جانب ذكائها الفردي والمهني كصحفية في تأمين ظروف افضل لعملية الأتصال لكلا المرشحين من جانب, ومن جانب آخر لأيصال رسالة واضحة للجمهور الناخب ان ما يجري هو ليست عراك شخصي بل خلاف حول الرؤى للبرامج الانتخابية والطموحات القادمة والدفع نحو ممارسة النقد والنقد الذاتي لحقبة سابقة والتأسيس لحقبة قادمة.


وقد ساهمت السيدة ويلكر بتأمين اتصالا ناجحا نسبيا, والذي يتمحور في جوهره في المقدرة على إيصال أي رسالة أو معلومة أو طلب أو أمر ذي هدفٍ وغاية بشكلٍ سَلِسٍ وبسيط؛ بحيث يتمكّن كلا الطرفين من استيعاب الرسالة وتقبُّل كل ما يصدر عن الطرف الآخر من أفعالٍ أو أقوالٍ لأجلِ الهدفِ الذي جاءَ لأجله هذا الاتصال، وهو اتّصال يتميّز بأنّه مريحٌ ومُجدٍ لكلّ من الطرفين، ويُساهم في تقويض جميع العقبات والحواجز بينهما؛ لكونه لا يتمُّ إلا في أجواء من التصالحِ والتفاهم، ويتطلّب جهد كلّ من الطرفين في إنجاحه. وقد ساهمت السيدة ويلكر تأمين شروط الأتصال الناجح من خلال ما يأتي:

 
الوضوح: لا بدّ من توفر عنصر الوضوح كي يستطيع الطرف الآخر وهو المُستقبِل، فهم رسالة الشخص المُرسِل، يجب أن تكون رسالة الأخير واضحةً، ولا تحتمل الكثير من التأويلات الصعبة، لأنّ ذلك سوف يُشكّل حجر عثرةٍ في طريق نجاح العملية الاتصالية، أو أنّ إتمامها سيأخذ وقتاً أكثر من المطلوب.


عدم الإطالة: قد يُراعي الشخص مسألة وضوح رسالته وبساطة المعنى الذي تحمله، لكنه قد يتناسى أو يتجاهل مدى أهمية اختصار كلامه، فُيكثر من التفاصيل المُملّة، والحشو غير الضروري، وهذا ما يضطر الطرف الآخر لتجاوز بعض السطور، إنّ كان الاتصال من خلال رسالةٍ مكتوبة، وإنّ كان مباشراً وجهاً لوجه فإنّ المُرسل إليه سينسحب من الحوار، أو يُشغل نفسه بأيّ أمرٍ آخر غير الاستماع للمرسل إليه، كما يجب أنّ يكون موضوع المضمون الاتصالي مُتمحوراً حول الهدف الأساس من إجراء الاتصال.


البراهين: يجب أنّ يكون كلام المرسل أو ما يُقدّمه مدعوماً بالدلائل والبراهين الواقعية، لأنّ أي ذكر لمعلومات لا تمتّ للواقع بصلة، سيتم تجاهلها بكل بساطة، كما أّن تقديم الإثباتات تُحفّز الطرف الآخر لتبنّي الرسالة أو الحوار وهذا حسب الوسيلة الاتصالية، وبالتالي دفعه لاتخاذ سلوكات إيجابيّة.


مراعاة الأسلوب اللغوي والصياغة: من الضروري أن يحرص الشخص على استخدام الألفاظ المناسبة عند التواصل مع الطرف الآخر، وعند الكتابة مثلاً مراعاة أن يتم استخدم اللغة المناسبة أيضاً، وصياغة المحتوى الاتصالي بصورةٍ لائقةٍ، من شأنها إنجاح العملية الاتصالية، كما من الضروري تفادي كتابة الكلمات العامية، في أشكال التواصل الرسمية خاصة.


الكلمات التي تُشبه الشخص: إنّ الكلمات التي تصدر عن أي شخص، هي بالضرورة تُعبّر عن شخصيته، وقناعاته الداخلية، لذا من الضروري أنّ يُعبر الشخص عن نفسه بطريقةٍ صحيحة، وإنّ وجد نفسه مُفرغاً من الكلمات اللبقة، أو أنّه غير قادر على التصرّف والتعبير بُرقي، عليه أنّ يقوم بمراجعةٍ شاملةٍ لنفسه، قبل الشروع بأي عمليةٍ اتصاليةٍ محكومٌ عليها بالفشل مُسبقاً.




التكامل: ما العبرة من أنّ يُرسل أحدهم رسالةً منقوصةً للآخرين، أو ربما يبدأ حديثه معهم دون أنّ يتمكن من إيصال ما يُريد، ليعود بعد انتهاء الحوار بدقائق مُعبراً عن رغبته في استئناف الحوار، وغالباً ما سُيقابَل هذا التصرف بكثيرٍ من فتور الآخرين، وقناعاتهم بأنّ المُرسل إليه لا يملك السيطرة على أفكاره، وخير دليل أنّه لم يتمكّن من توضيح ما يُريد، في أول فرصةٍ للنقاش مثلاً.


اللطْف: إنّ مراعاة اللطف أو اللطافة في الحديث أو الكتابة، أمر ضروري لمنح الآخر فرصة التفاعل مع الرسالة الاتصالية بكل أشكالها المعروفة، أما إن تمسك الشخص بشرح المصطلحات والمفاهيم بطريقةٍ توحي للناس بالفوقية والتعالي، ناهيك عن تقزيم الطرف الآخر، وتخطيئه، فحتماً سوف يُفشل في اتصاله مع الآخرين.


وبشكل عام، يمكن القول إن مديرة المناظرة ويلكر قد حصلت على إجابات على أسئلتها، وعلى مناقشة أكثر كياسة وثراءً من المناظرة السابقة وقد ساهمت في توفير فرص الأصغاء الممكن للجمهور المستمع والمتابع والذي يشكل القاعدة الانتخابية لكلا المرشحين, الى جانب تأمين شروط الأتصال الجيد نسبيا كما تم ذكره اعلاه.


في الختام هناك نجاح لبايدن قابل للزوال وهناك خسارة لترامب قد تتحول الى نصر تحت ضربات المزاج الترامبوي الأمريكي المتأثر في اللحظة بالخطاب المنفعل وبلحظات العزف على الشعبوية الأمريكية واوراق مختلفة من الكراهية لبعض حكومات العالم الخارجي وفي مقدمتها الصين وروسيا وايران. وبالتالي فأن المزاج العام والأنفعالات تلعب دورا في اختيار الرئيس القادم وليست بالضرورة البرامج الأنتخابية وسعة أفق التفاعل مع المستقبل, فالكثير من الخطابات تخلق قطيعا يساق ولا تخلق تفرد في الأختيار.


 

 







44
هل  الأمومة العراقية في انتكاسة كما يتصورها البعض !!!


د.عامر صالح

اشتعلت الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي بحادثة الأحد 18 أكتوبر, والتي قامت فيها أمرأة برمي طفليها على خلفية خلافات أسرية وحالة طلاق, في نهر دجلة وفي ذات الجسر " جسر الأئمة " الذي حصلت فيه فواجع وغرق للمئات ورمي للأطفال لأكثر من مرة بل مرات عديدة , وكعادتها بعض الفضائيات وبعض من مواقع التواصل الأجتماعي ان ترى في الحدث هو سقوط مدوي للحكومة والدولة العراقية في عدم قدرتها للحفاظ على ارواح العراقيين من أي ضرر كان شخصيا او او جماعيا, في الوقت الذي تبرر فيه حالات غرق جماعي بسبب استخدام سيئ للطقوس الدينية هو عمل مقدس وان ارواح الضحايا في جنات النعيم من خلال منح صكوك الغفران للألتحاق بالجنة, وتتهافت الفضائيات في اسقاط ما تبقى للحكومات المتعاقبة من هيبة, ونحن نعرف كم ان الحكومات متهاوية الهيبة حتى في أعين من شكلها وقرر رئيس وزرائها ما بعد عادل عبد المهدي, ولكن النفاق السياسي للقوى المعادية للدولة من جانب والوقوف الى جانبها في التصريحات كم هو مؤذي وخبيث في افعاله, الى جانب قنوات وصفحات تواصل اجتماعي لا ترضى بأي انجاز للحكومة ان يحصل حتى وان حصل.

الحديث ليست تبرير لجريمة قتل الأطفال, وبالتأكيد انها جريمة بكل المقاييس في اختطاف ارواح طفلين والتخلص منهم تحت وطئة الخلافات الأسرية, وانه نمط من السلوك المرضي للأنتقام من طرف العلاقة وألحاق اشد الأذى به وبأهله من خلال الأنتقام من الأطفال لترك ألم مستديم في نفسية شريكها السابق, وبالتأكيد فأن لحظات ارتكاب فعل الانتقام برمي الاطفال في النهر رافقه تدهور سيكولوجي بل واختلال عقلي دفع بصاحبه " مرتكبة الجريمة " الى ارتكاب هذا الفعل الشنيع الذي يفتقد الى ابسط مقومات وعواطف وغرائز الأمومة, وان الخروج عن الطور في هكذا حوادث لا يمكن إلا أن يكون فعلا مرضيا بلغت صاحبته ذروته ويكون في هكذا حوادث الوازع الداخلي شكليا وغير موجود اصلا بفعل ما حل بالشخصية من تفكك وتداعيات خطيرة للمنظومة الفطرية التي تجسدها الأمومة.

ولا بد للأشارة هنا" وليست من باب الدفاع عن المجرم " أن ارتكاب جرائم محتلفة ضد المرأة وتصفيتها جسديا بقتلها او تعذيبها حتى الموت بدافع الثأر لشرف الشريك او العشيرة واستخدام المرأة في المقايضة بين اطراف عشائر مختلفة متقاتلة لتعويض ضحايا الطرف الآخر في الأقتتالات العشائرية, وحتى يتم قتل المرأة بدوافع الكبت الجنسي من قبل الشريك حال رفضها لأشباع غرائزه في الوقت الذي يرتأيه هو مناسبا بعيدا عن مزاج وحاجة الآخر بنفس التوقيت.

 وهناك عوامل يجري التغاضي عنها عند التحقيق في جرائم الشرف هو وجود اضطراب عقلي. تشير الدراسات إلى أنه إضافة للآثار الاجتماعية فإن بعض الاضطرابات النفسية مثل السادية أو الأذية والشك المرضي والغيرة المفرطة المبنية على تأثيرات بيئية، قد تؤدي إلى الانتقام من حالات الاغتصاب والشرف، يصل المعتدي إلى ذروة المتعة العاطفية والجسدية من خلال أذيته للآخرين، الأمر الذي يؤدي في بعض الحالات إلى الاغتصاب أو القتل، وما يبرر هذا السلوك هو الذهنية الذكورية السلطوية الحاكمة المناهضة للمرأة،
بعض الأفراد يعانون من شك وغيرة مرضية بسبب غرقهم في التفاصيل والتفسيرات السلبية المخالفة للوقائع، مما يؤدي إلى ارتكابهم جرم القتل في بعض الأحيان، ويجب النظر في هذه الحالات بعناية من قبل مختصين مؤهلين.

عندما نقول امرأة فنحن نعني بها الأنثى والزوجة والأم والإنسانة. وغالباً ما تجد المرأة نفسها مجبرة على خلق توازن بين كل هذه الأدوار، ما يخلق ضغطاً إضافياً عليها بالإضافة إلى الضغوط البيولوجية والاجتماعية واليومية. لكن جميع الضغوط تنهار أمام غريزة الأمومة التي تولد مع المرأة التي تسعى طيلة حياتها لإشباع هذه الغريزة. لذا في حالة حرمان المرأة من أمومتها نتيجة عقم مثلاً أو استلاب اطفالها ومصادرتهم بفعل خلاف قهري مستديم، تصاب المرأة بمشاكل نفسية عديدة كالاكتئاب والقلق والتوتر والعصبية بالإضافة إلى أعراضٍ بيولوجية قد تصل إلى درجة شعورها بأعراض "حملٍ كاذب", كما أنه نذير بأرتكاب افعال تخالف فطرتها كردة فعل مرضية لقساوة ظروفها وعدم عثورها على حلول مشروعة في ظل مجتمع ذكوري. 

الأم هي الحلقة الأولى في حياة الطفل والأسرة، لما لها من دور عظيم في إعداد وتنشئة الأجيال ، ولما يقع على عاتقها من مسئوليات في إعداد الطفل وتربيته، وبعاطفة الأمومة التي لديها تمنحه مشاعر الدفء والحنان، لما تشكله من علاقة نفسية وبيولوجية بينها وبين أولادها وبناتها، والأمومة هي أكبر وظيفة للمرأة وهبتها لها الطبيعة في صراعها للبقاء لتكون بها الحياة، فهي رمز الحياة واستمرارها؛ وتعتبر أقوى الغرائز لدى المرأة وتظهر لديها من طفولتها المبكرة فنجد الطفلة ترعى أخواتها الذكور وتعتني بهم وتجد لديها العديد من الدمى والعرائس التي تمارس من خلالها دور الأم.

الأمومة هى علاقة بيولوجية ونفسية بين امرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات. وهذا هو التعريف للأمومة الكاملة التى تحمل وتلد وترضع (علاقة بيولوجية) وتحب وتتعلق وترعى (علاقة نفسية) . وهذا لا ينفى أنواعاً أخرى من الأمومة الأقل اكتمالاً كأن تلد المرأة طفلاً ولا تربيه فتصبح فى هذه الحالة أمومة بيولوجية فقط ، أو تربى المرأة طفلاً لم تلده فتصبح أمومة نفسية فقط. هذه الأدوار للأم عندما تلد وعلى المستويين البيولوجي والنفسي يجب ان تشبع بقدر هادئ ومعقول استجابة لأشباع غريزة الأم البيونفسية في رعاية اطفالها, وفي سياقات طبيعية ومقبولة قد تحل الخالة او العمة او الجدة نسبيا مكان الأم على المستوى النفسي او لصعوبات مؤقتة على المستوى البيولوجي"كالأرضاع", وخلاف ذلك وعلى مستوى اكراه الأم لغير حضانة اطفالها فأنه أمر يهدد بمخاطر واضطرابات نفسية خطيرة وخاصة اذا كانت مؤظرة بكراهية من نوع خاص بين "الشريكيين " وعدم قبول الآخر بفعل عوامل كثيرة ومتعددة.

يالتأكيد هناك عوامل تؤطر استقرار الأسرة ومنعها من التصدع, من بينها الاستقلال الاقتصادي للشريكين وخاصة عن أبوي وأم الشريكيين, وكذلك العمر المقبول للزواج حتى ما بعد 20 عاما, فالنضج الزمني يلعب دورا في انعكاساته على العمر العقلي وخاصة في تفاوت غنى البيئات المختلفة وبالتالي فالشراكة هي عقلية مقترنة بزمن مقبول. والمرأة العراقية التي اقدمت على رمي طفليها وهي كما يتناقل من مواليد 1999 وزوجها كذلك وفي عراق ما بعد 2003 ومنفتح على مصرعيه لمختلف التيارات الدينية وغير الدينية والانعتاق من العزلة العالمية التي كان يعيشها العراق مقابل انفتاح على الآخر غير مدروس وصراع قيمي على أشده بين العشيرة والمدينة وقيم الانفتاح التي تهواها النفس بفطرتها في صراعها مع دين سياسي يكرس ازدواجية الأخلاق ويحلل الحرام ويحرم الحلال ويتحالف مع قيم التخلف والردة وفي مقدمتها العشيرة ويتشبث بالسلطة السياسية, فلا نستغرب ان الوضع يؤسس

لمختلف الأنهيارات والنكسات والمصائب, والمرأة كعادتها وبفعل استفحال الذكورية وعدوانيتها هي من اسهل الضحايا في القتل والتنكيل الى جانب اصابتها بمختلف الأضطرابات النفسية والعقلية.

 أن تقدم المجتمعات يقاس بمدى تقدم المرأة فيه ومساهمتها في الحياة العامة, لقد اصاب المرأة شتى صنوف الأذلال والقهر والأستعباد جراء الظلم الذي وقع عليها تاريخيا وحاضرا, والمرأة العراقية اليوم بين عاطلة عن العمل وأرملة ويتيمة ومطلقه وعانس وحبيسة المنزل, لا نستغرب من تداعيات ذلك على سلوكيتها اتجاه اطفالها, وخاصة عندما تبلغ الحال حدا مرضيا فأن الضحايا الأقرب هم الاطفال.


ما يحدث اليوم في العراق هو بعض من سلوكيات الانتحار الجماعي للأخلاق وللمدنية قبل أن يكون عبورا بمرحلة انتقالية ما. وما يحدث اليوم في العراق هو نتاج لغياب ثقافة الحضارة والتمدن التي تؤمن بسيادة القانون وهيبة الدولة. إنه أمر مريع وبداية لحقبة قد تكن مدياتها قاتمة. فالناس في العراق يقتلون لاختلاف الرؤى والمعتقدات، وكل يرى أنه أحق بالحياة من الآخر، لا لشيء إلا لاعتقاده بأنه أقرب إلى الحق ممن سواه, فماذا يعني قتل 700 متظاهر في مظاهرات سلمية وجرح 30 ألف وتغييب المئات واعاقات مطلقة بالمئات, انها مشاهد مقززة وتجرح حياء الانسانية , وجماعات مسلحة تقتل وتغتال وتجز الأعناق وتهجر الساكنين من مناطقهم الأصلية وتعبث في الديمغرافية المحلية لحسابات دنيئة وفوز مرتقب تافه, وأغلبها ينفذ بشرعية دينية وأثنية ومسوغات روحية بعد ان حصلوا على فتاوى الأنتماء المشرذم للوطن.

السيدة التي اقدمت على فعلتها الشنيعة في رمي اطفالها في نهر دجلة  ستنال جزائها وفقا لقانون العقوبات العراقية في القتل المتعمد, وفي ظل فوضى وانتقائية في تطبيق القوانين فأن "الأم المجرمة" ستنال عقوبتها, ويبقى آلاف القتلة والفاسدين وسراق المال العام ومصاصي دماء العراقيين طلقاء واحياء واعضاء في البرلمان الحالي والقادم.

45
نتائج الأمتحانات العامة للسادس الأعدادي بين ضغوطات كورونا وأزمة التعليم العامة في العراق

د. عامر صالح

أعلنت نتائج الأمتحانات للصفوف السادس الأعدادي في العراق للعام 2019 ـ 2020 وقد أثارت الكثير من الجدل التربوي والعلمي حول مصداقيتها والظروف القسرية التي انتجتها هذا من جهة وكذلك مدى أنسجامها ومطابقتها للمعايير العالمية للحفاظ على جودة الشهادة, ومن جهة أخرى فوزير التربية غير مكترثا بذلك فهو يسعى للأنجاز حتى وأن كان شكليا او محفوفا بالمخاطر على مستقبل العملية التربوية والتعليمية في العراق, فقد بارك الوزير بحسب بيان للوزارة "للطلبة ولذويهم الجهود العالية والواضحة من خلال نسب النجاح التي تحققت في نتائج الطلبة مقارنة بالاعوام السابقة بكافة فروعه، مشيداً وبفخر بطلبتنا الذين قهروا الظروف الاستثنائية من اجل عراقنا الحبيب". وقالت الوزارة في بينها أن "وزير التربية تقدم في كلمة خاصة بهذه المناسبة، الشكر والعرفان لدولة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على مساندته للعملية الامتحانية منذ انطلاقها إلى انتهائها، وكذلك الوزارات الساندة كلًا من الصحة والتعليم العالي، والداخلية، والدفاع، والأمن الوطني، وهيئة الحشد، والاتصالات، كما تقدم الدليمي بالشكر والعرفان لكافة الملاكات التربوية التي أوصلت الامتحانات إلى مبتغاها المطلوب".
 واكدت الوزارة ان نسب النجاح كانت كالآتي:
الفرع العلمي التطبيقي ‎%‎81‎
الفرع العلمي الاحيائي ‎%‎74
الفرع الادبي   %77


ورافق إعلان نتائج امتحانات طلبة السادس الإعدادي، جدلاً واسعاً، بسبب ارتفاع نسبة الطلبة الحاصلين على معدل 90 فأعلى. فقد بلغ عدد الطلبة الذين تراوحت معدلاتهم بين 97 ـ 99  15 ألف و470 طالب وطالبة, وعند مقارنتها بالعام 2018 فقد لبغت النتائج لنفس المعدلات المذكورة 5718 طالبا وطالبة, وفي العام 2019 بلغ العدد 4969 طالبا وطالبة, فما هو السر في تضاعف الأعداد بشكل يثير الشبهات حول طبيعة الأداء الأمتحاني ونزاهته, في ظل التدني المستمر لظروف البلد بصورة عامة وظروف المؤسسات التربوية والعملية التعليمية بشكل خاص. 

 
و هناك شبه اجماع شعبي بعيدا عن حالات الفرح الفردي بالنجاح وشبه اجماع رسمي قد يلخصه الخبير التربوي فالح القريشي أن "وباء كورونا كان له تأثیر كبیر في ارتفاع معدلات النجاح للعام الدراسي الماضي، حيث وبسبب ظروف الجائحة حذفت حوالي 35 %من جمیع المواد المنھجیة".  "كما ان الوزارة امتحنت طلبة السادس الاعدادي وفق أسئلة سھلة ومرنة، الامر الذي ساعد على تحقیق نسب النجاح العالیة وكذلك تحقیق معدلات نھائیة غیر مسبوقة.  وأردف "الا ان ھذا الامر لا يعني ان التعلیم في العراق يتعافى، بل على العكس التعلیم في العراق فاشل وبحاجة الى إعادة ھیكلة"، مشیرا الى انه "ومنذ 2003 كلما جاءت سنة دراسیة جديدة ينحدر التعلیم بشكل اقسى مما كان علیه في العام الماضي". وأكد أن  المحاصصة الحزبیة، وعدم اللجوء للكفاءات في إدارة وزارة التربیة، ھو من أدى بالتعلیم الى الوصول نحو ھذا الفشل والانحدار في مستويات الطلبة العلمیة.


وقد أغفل الكثير من المسؤولين والتربويين الأشارة الى ظواهر خطيرة اخرى متفشية في الوسط التربوي العراقي, كبيع وشراء الأسئلة, والدروس الخصوصية المشبوهة التي تفضي الى البوح في الأسئلة الأمتحانية, ودور المليشيات المسلحة في التهديد الخفي للجهات التربوية للحصول على الأسئلة الامتحانية, والرشاوى المختلفة التي تفسد الأجواء التربوية السليمة, وعدم التفتيش عند الدخول الى القاعات الامتحانية وخاصة عندما تجرى الامتحانات في نفس المناطق والمدارس التي تم تدريس الطالب فيها حيث علاقات التواصل والقربى الفاسدة, واستخدام الأجهزة الألكترونية لتسريب الأجابات والتواصل مع خارج القاعة الامتحانية.


الأمر الآخر الذي يثير الأستغراب هو تصريح وزارة التعليم العالي حيث اكد حيدر العبودي المتحدث بأسم وزارة التعليم العالي:


ان “وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مستعدة لاستيعاب مخرجات الدراسة الاعدادي ونظام القبول المركزي والتعليم المدمج أيضاً سيضيف لحالة الطاقة الاستيعابية للكليات والاقسام العلمية ونعمل بهذا الاتجاه". وأضاف العبودي “توقعاتنا بأن الأعداد ومخرجات الدراسة الاعدادية في زيادة واضحة ولكن خطة العام الدراسي المقبل وخطة الجامعات تم تكييفها لتغطية هذه الزيادة” مشيراً الى “استحداث 7 كليات و20 قسما في 15 جامعة عراقية لتغطية هذه الزيادة والاحتياجات". ونوه العبودي الى ان هذه الخطة وضعت “بغض النظر عن ارتفاع المعدلات وعددها بالنسبة لنتائج السادس الاعدادي” مؤكدا ان التنافس في حجز المقاعد الدراسية يمثل معيارا حاكما فصعود سقوف المعدلات لا يلغي حالة التنافس وحجز المقاعد في مختلف التخصصات".


هذا التناغم بين وزارتي التربية والتعليم العالي وإن بدى من الناحية الشكلية ضروري للتنسيق واستيعاب الخريجيين إلا أنه يعكس جهلا مفتعل ينمي بل ويعكس حجم الفساد المغطى بالتنسيق المشترك بين الوزارتين, وكلا الطرفين يعلم  أن ما يتم استيعابهم من الطلبة في الجامعة هم من حملة المعدلات العالية, وترك البقية الباقية من خريجي الاعدادية تتصارع الجامعات والكليات الأهلية لأبتلاعهم في ظل استغلال واضح وصريح للظروف الأقتصادية والمالية المحدودة للطلبة المتقدمين لها, وبالتالي يتحول الطلبة الى مشاريع ربحية لملاكي الجامعات الأهلية الذين يشكلون جزء من منظومة الفساد المستشري في الدولة والمجتمع.


الجميع يعلم أن تداعيات كورونا كان لها أثر سلبيا كبير على التحصيل الدراسي وتدهوره في العراق في كل مراحله, وخاصة الأعدادي منه, فألى جانب البنية التحتية التقنية والمعلوماتية الضعيفة في العراق والتفاوت المريع لخدمات الأنترنت في العراق والناتج من سوء الخدمة الى جانب التفاوت في دخول الأسرة وقدراتها في الحصول على خدمات النت فأنه لأمر منطق ان يسهم في تدني مستويات التحصيل, ولكن في المقابل لا تتم المعالجة عبر التنازل والأخلال في شروط وجودة الحصول على الشهادة الأعدادية عبر التنازل غير التربوي واعفاء الطلبة من العديد من المواد الدراسية واللجوء الى الأسئلة السهلة, فأن ذلك بالتأكيد سيسهم في ضعف خريجي المرحلة وبالتالي في ضعف قدراتهم في التخصص اللاحق في الجامعات وخاصة ممن حاز على معدلات عالية, فالفشل في الطب والهندسة يعني الفشل في تأمين حياة الناس والعمران. لا توجد أي نقلة ايجابية في قطاع التربية والتعليم ما بعد 2003 لكي تنبؤنا عن نقلة نوعية في النتائج, فالفساد في القطاع وسرقة المال العام فيه والتدهور المستمر للبنية التحتية وعناصر العملية التربوية الأساسية وانتشار الأمية, جميعها ليست مؤشرات لتعافي التعليم من محنته والأرتقاء به الى آداء افضل بما ينعكس على التحصيل في كل المراحل, ومن ضمنها بشكل خاص التعليم الأعدادي, بأعتباره المحطة الأخيرة صوب التعليم العالي. 

أما على مستوى كفاءة مؤسسات التعليم العالي بأعتبارها الحاضنة المرتقبة لخريجي الأعداديات في العراق فأنها هي الأخرى مبتلاة بأزمة مركبة ومتشعبة الأبعاد ويطال الشك فيها لأنتاج خريجين ذو كفاءة بمواصفات عالمية, ولعل المؤشر في ذلك هو تذيل الجامعات العراقية سلم الجودة والكفاءة ووقوعها أسيرة الأجتهاد والمحاصصة والفساد, ولعل ابرز مشكلاتها هي:


ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها.

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.

.

ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.

ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية.

ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.

في الختام نقول أن التحصيل الدراسي وجودته مرتبط بعوامل جودة المؤسسات التربوية  وكفائتها في الأداء, وكذلك الظروف البيئية المحيطة بعملية التحصيل وبسلامة أفق احتواء خريجي المراحل بما ينسجم مع الحاجة الفعلية للسوق, وبالتالي الى جانب الأجتهاد الفردي من عدمه والظروف المحيطة به, فهناك فهم يجب ان يسود ان الطموحات لا تتحقق إلا على اساس الحاجة الفعلية لها, وبالتالي سنفاجئ في اجيال من العاطلين المتعلمين في ظل عراق كسيح تفسد فيه الطائفية والمحاصصة كيفما تشاء, وبالتالي فأن الحل السياسي هو المدخل لحل كل الأزمات وفي مقدمتها الأزمة التربوية والتعليمية.
 














46
مناظرة الرئاسة الأمريكية الأنتخابية من منظور سيكولوجيا الأتصال

د.عامر صالح 

حسب آرون كال الاستاذ في جامعة ميشيغان والمتخصص في المناظرات الرئاسية، فإن "هذه المناظرة " بايدن ـ ترامب " ستبقى إحدى أسوأ المناظرات في التاريخ"، مضيفا لوكالة فرانس برس، أن بايدن تعهد بقبول نتائج الانتخابات، بينما اكتفى ترامب بالتاكيد مرة جديدة وبدون تقديم أدلة على أن التصويت بالمراسلة الذي يبدو أنه سيستخدم بكثرة بسبب وباء كوفيد-19 سيشجع على "التزوير".


تعتبر المناظرة شكل من أشكال الخطاب العام، عبارة عن مواجهة بلاغية بين متحدثين اثنين أو أكثر حول قضية معينة ضمن وقت محدد. وحسب التعاريف الواردة في القاموس بشكل عام، فإن المناظرة نقاش رسمي يدور حول قضية معينة ويتم في جلسة عامة تُقدَّم فيها حجج مُتَعارضة أو مُتصادمة، وغالباً ما تنتهي بتصويت من الجمهور أولجنة تحكيم حيث يُفْضي هذا التصويت إلى ترجيح كفَّة حجج أحد الطرفين.


مما سبق نستخلص أن المناظرة مسابقة رسمية تحكمها ضوابط معينة تقام في إطار محدد ويديرها حكم أو رئيس هيئة تحكيم. وقد تشمل المناظرة متحدثين أفراداً أو فِرقاً تضم عدة متحدثين، كما تخضع المناظرات لأصول وقواعد معينة حيث تعرض قضية المناظرة على الفريقين المتناظرين ويمنح كلا الفريقين وقتًا محددًّا لتقديم حججهم وإثباتاتهم. وعليه، فالمناظرات تجري في جوٍّ مُنظَّمٍ يقَدم فيها متحدِّثو كلا الفريقين حججهم والدفاع عنها.


وينظر الأمريكيون إلى المناظرات باعتبارها فرصة لإحاطة الناخبين بمزيد من المعلومات والمؤشرات حول أسلوب المرشح في التفكير وطريقته المتوقعة لإدارة شؤون البلاد. ويشير باحثون إلى أن المناظرات الأمريكية تختلف عن مثيلاتها في الدول الأخرى، نظراً لارتباط النظام السياسي في الولايات المتحدة بالمرشح الفردي أكثر منه ببرنامج الحزب المنتمي له. وفي العادة تشمل المناظرات المرشحَين اللذين يمثلان الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حيث يتناوبان على الحديث خلال جلسة أسئلة وأجوبة مدتها 90 دقيقة تحت إدارة إعلاميين.




وغالباً ما تخلّد الزلاتُ والتصرفات الغريبة والأجوبةُ الساخرة، مناظرات الرؤساء الأمريكيين، على غرار مناظرة عام 1984، التي اشتهرت بجواب رونالد ريغن عندما كان يوصف حينها بأكبر رؤساء أمريكا سناً (73 عاماً)، رداً على سؤال يلمّح إلى عدم قدرته على تولي مأمورية رئاسية جديدة، حيث أجاب بأسلوب هزلي قلب الأمور لصالحه: "لن أجعل من مسألة السن أحد مواضيع هذه الحملة. لن أستغل، لأسباب سياسية، صغر سن خصمي وقلة تجربته".



وقد تابع نحو 73.1 مليون شخص أول مناظرة بين مرشحي الرئاسة الأميركية الرئيس دونالد ترمب والمرشح الديمقراطي جو بايدن، والتي اجريت يوم الثلاثاء بتاريخ 29 ـ 09 ـ 2020 مساء, وذلك حسبما أعلنت شركة «نيلسن» في وقت لاحق، وهو رقم ضخم، لكنه يقل عن الرقم القياسي المسجل عام 2016. وكانت الفئة العمرية الأكثر متابعة للمناظرة هي للأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 55 عاماً، حيث سجلوا نسبة 42.2 في المائة من التقديرات، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية.



فالمناظرة التي اتسمت بالفوضى العارمة والاضطراب المتكرر لم تكن كسابقاتها من المناظرات الرئاسية التي اعتاد عليها الأميركيون قد تكن هي الأسوء في تاريخ امريكا"، فقد حبس هؤلاء أنفاسهم وهم يشاهدون المرشحّين يقاطعان بعضهما البعض ويتراشقان الاتهامات النارية والإهانات، فيما جلس المحاور كريس والاس على مقعد المتفرج عاجزاً عن السيطرة على النقاش.



وبالفعل فقد عانى المرشحان الديمقراطي والجمهوري من صعوبة فائقة في عرض أفكارهما في الملفات المختلفة التي تؤرق مضجع الأميركيين، فأخفقا في طمأنة الناخب الذي عادة ما ينتظر المناظرات الرئاسية لسماع وجهة نظر المرشحين في ملفات حاسمة في السباق الرئاسي. وعوضاً عن طرح الأفكار، تراشق بايدن وترمب الإهانات والشتائم وهما يقفان بعيداً عن بعضهما البعض على منصة المناظرة، حيث فرضت سياسة التباعد الاجتماعي، لكن هذا التباعد لم يمنع ترمب من نعت بايدن بالغبي، ولم يحول دون طلب بايدن من ترمب بأن «يخرس» أكثر من مرة ويصفه بالمهرج. فالرئيس الأميركي استفز منافسه عبر مقاطعته المستمرة لأجوبته، حتى أن المحاور كريس والاس اضطر لتذكير ترمب أكثر من مرة بقواعد النقاش، لكن من دون جدوى.


وقد أدت الأجواء المشحونة التي خيمت على المناظرة إلى دعوات لإلغاء المناظرتين القادمتين في الخامس عشر والثاني والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) لكن حملة بايدن الانتخابية رفضت هذه الدعوات وقالت المتحدثة باسم الحملة كايت بيدينغفيلد: "نحن سنذهب إلى المناظرات فقد التزمنا بحضورها كلها", ولكن اصابة الرئيس ترامب بفيروس كورنا بعد المناظرة الأولى قد يلقي بظلاله على بعض توقيتات المناظرات القادمة, وقد تفرز بعض الأنحيازات العاطفية وردود الأفعال الأيجابية لصالح الرئيس ترامب, الأمر الذي قاد بعض الأوساط للتشكيك بصدقية اصابته بفيروس كورونا, وانما هي لعبة انتخابية دعائية في زمن الجائحة. وكان يفترض ان تتم مناقشة القضايا المتوقعة والمفصلية في أطار المسؤولية العظمى والحرص على التوصل الى اجابات تقنع الجمهور في المجالات التالية: سجلات ترامب وبايدن, المحكمة العليا, وازمة كورونا, الأقتصاد, العرق والعنف في المدن الأمريكية ونزاهة الأنتخابات.

ما جرى بين المتحاورين هو افساد واعاقة لعملية التواصل  وقد جسدتها ابرز ملامح ذلك في:

الإجهاد والخروج عن السيطرة: يُمكن أن يحصل سوء فهم لما يقوله الأشخاص المتكلمون أو المرسلون للرسائل في حال كان الفرد المتلقي مُرهقاً، أو في حالة نفسية سيئة، كما قد يقوم الشخص المُرهق أو المُجهد بإرسال إشارات غير لفظية مُربكة، أو قد يصدر عنه سلوك غير صحيح، لذا على الأفراد تعلّم كيفية السيطرة على عواطفهم وتهدئة أنفسهم قبل إتمام المحادثة؛ لتجنُّب لسوء الفهم أو الصراعات أحياناً. 

قلّة تركيز: يحدث قلّة التركيز نتيجة تعدُّد المهام التي يقوم بها الفرد بنفس الوقت، ممّا ينتج عنه عدم الانتباه إلى بعض الإشارات غير اللفظية أثناء المحادثات، لذا من المهم تجنّب الأمور التي تؤدي إلى التشتّت وقلّة الرتكيز من أجل تحقيق التواصل بشكل فعّال.

لغة جسد غير المتناسقة: يجب أن يتوافق التواصل غير اللفظي مع الكلام المنطوق، ولا يناقضه، فإذا لاحظ المُستمِع أنّ كلام الفرد الذي يُقابله يدل على شيء وتدل لغة جسده على شيء آخر، فإنّ ذلك قد ُيشعِره بأنّ المتكلم غير صادق بما يقوله، ومثال ذلك لا يجب على المتكلم الإجابة بكلمة نعم وفي نفس الوقت يهز رأسه بطريقة النفي.

لغة الجسد السلبية: تُستخدم لغة الجسد السلبية في حال معارضة ما يقوله الشخص المقابل كدليل على رفض كلامه أو رسالته الموجّهة، ومن سلوكيات اللغة السلبية؛ تجنّب النظر بالعينين، أو هز القدمين، أو عقد الذراعين بشكل متقاطع، وبشكل عام ليس على الفرد الإعجاب بكلّ ما يُقال أو الموافقة عليه في حال لم يعجبه، لكن في نفس الوقت يجب عليه تجنّب إرسال إشارات سلبية لتجنّب وضع الشخص الآخر في موقف دفاعي، وليتمّ التواصل والاتصال بشكل فعّال.

وكان التناغم بين مكونات عملية الأتصال سيئا فلم تنشئ اثناء الحوار وحدة موضوعية قائمة على اساس تفهم عناصر الأتصال وضرورات ايصال رسالة واضحة للمتلقي الناخب الأمريكي, فكان هناك صراع بين منشأ الرسالة " ترامب ـ بايدن ", ومحتوى الرسالة المنفعلة لكلا المتنافسين, والقناة الأعلامية التي اخفقت في ادارة الحوار وبقت متفرجه على صراعات بايدن ـ ترامب, وقد تركت المتلقي الأمريكي في دوامة صراع المتنافسين وبدون تغذية راجعة واضحة تعكس فهم الحوار لكلا المتنافسين, وقد انتفت البيئة الحوارية المناسبة لطرح القضايا المصيرية لحقبة رئاسية قادمة, كما كان سياق كلام كلا الطرفين ليست ديمقراطيا بل معوقا للحوار الديمقراطي, وقد اجواء التشويش والفوضى بين الطرفين من مصادر الأخفاق الرئيسية في اتمام عملية التواصل لبلوغ الأهداف.

ومن المرتقب تنظيم مناظرتين أخريين في 15 و22 تشرين الأول/ أكتوبر على التوالي في ميامي بفلوريدا وناشفيل في تينيسي, ولكن تداعيات كورونا على ترامب قد تغير بعض من مسارات الحملة الانتخابية, فهل تتأثر الديمقراطيات الراسخة بمرض الأشخاص او وفاتهم كما في الأنطمة الفردية والدكتاتورية, وهل تتأثر هذه النظم بمحاولات التدخل او النكاية الخارجية وتغير المسار الديمقراطي عن قواعده الراسخة نحو امنيات من نوع خاص, الأيام القادمة تحسم الخيار الأمريكي نحو الديمقراطية كما هي في سنوات سلفت أم نحو الأسوء, فالشعوب هي المسؤول الاول والاخير عن خيارتها في ظل النظم التي تمرست في التداول السلمي والمريح للسلطة.








47
الحوار مع من لا يؤمن بالديمقراطية والتعددية هو حوار أصم

د.عامر صالح


عندما تتحاور مع أي طرف سياسي أو شريك في عملية سياسية يفترض ان هناك قناعات الحد الأدنى في أن الحوار مبني على مشتركات او مسلمات بين اطراف الحوار وأن الأختلاف في التفاصيل وكيفية بلوغ الأهداف, ولكن عندما يكون الحوار مبنيا على اساس الأختلاف الجذري والعدائي في الرؤى بما لا يؤمن الحد الأدنى من عوامل البقاء الصالح واستمرارية الوجود, وحتى بعدم امتلاك المرونة الضرورية والمشروعة للبقاء الصالح من اجل سلامة الوحدة العضوية, الفردية منها والمجتمعية, وبالتالي تكون هنا ومن المتوقع أن لغة السلاح والكاتيوشا العبثية والمريضة هي لغة الممكن المتاح لأغراض الفناء والخراب الشامل, والناتج في معظم الأحيان من اجندة عقائدية متتحجرة ترى في نفسها الصواب المطلق وفي غيرها الخطأ الكامل, وبالتالي حصيلة ذلك الأستعصاء والتحجر هو مزيدا من الضحايا الأبرياء ومزيدا من الخراب في مؤسسات الدولة وانعدام الاستقرار.


وعندما تكون تلك القوى الغير مؤمنة بالحوار الديمقراطي أو الرافضة اصلا للعملية الديمقراطية في الخفاء والتي تناور فقط لعوامل بقائها, وهي التي جاءت للمؤسسات الديمقراطية العراقية بعوامل الأكراه والضغط والتزوير وتهديد المواطن بأمنه واستقراره ولقمة عيشه, فأن الأمر يبدو ليست حوارا من اجل اصلاح الحال العام بل حوار من اجل تخريب ما تبقى من المخرب وتجزأت المجزء, أنه سيناريو يعكس عمق أزمة سياسية عرفها العراق منذ 2003 حيث الصراع الدائر على المحاصصة واقتسام غنائم السلطة بين قيادات الطوائف الأسلاموية والأثنية والتي تتحايل في اقتسام نفوذ السلطة, أنه مافيا الأستئثار بالسلطة بعيدا عن الأرادة الشعبية الحرة للمواطن.


تصور عندما يختلف المتحاصصون بالأتفاق على قانون الأنتخابات وحيث الشعب يغلي في ساحات الأحتجاجات ويطالب بتعديل قانون أنتخابات عادل ومنصف, وان القوى السياسية المحاصصاتية تتفرج على معاناة شعب أهدرت دمائه وقدم خيرة ابنائه من شهداء وجرحى ومغيبين, فأي طبقة سياسية هذه التي ترعى مصالح الشعب وطموحاته وهي تختلف على جزئيات لا اهمية لها قياسا بالدم العراقي المراق, فقط لأن اهمية ذلك الأختلاف تكمن في الصراع على البقاء واعادة انتاج العملية السياسية برموزها وسياقاتها الفاشلة منذ 17 عاما, بل هو صراع لأعادة تدوير نفايا العملية السياسية الفاشلة وتكريس بقائها خارج اطار الزمان والمكان والمتغيرات التي تعصف بالعراق.


العناد كسلوك متخلف والناتج من أيمان متحجر تغلفه مسبقات وقناعات وهمية يقود العراق الى المجهول, بل ينذر بتفكيك الدولة وما تبقى منها, وينذر بالمزيد من التفكك الأجتماعي والصراعات الاجتماعية المكوناتية وينذر ببوادر حرب اهلية لا تنتهي ولا تحمد عقباها في ظل تربص خارجي للأستفادة من ضعف وانهاك العراق العراق كدولة ومجتمع, وفي ظل تدهور مستمر من خدامات انسانية مختلفة " صحة وتعليم وكهرباء وماء وغياب فرص العمل وبنى تحتية منهارة ودولة نفطية مفلسة ووباء كورنا المستفحل ". 


نقولها بأنصاف ان اغلب مطالب المتظاهرين هي مطالب منصفة وعادلة وتنسجم مع مطالب الحد الأدنى للعيش الكريم, من خدمات اساسية وفرص عمل ومكافحة الفساد الأداري والمالي وسرقة المال العام وتعزيز هيبة الدولة ومكانتها, ووضع حد للسلاح المنفلت ومحاربة الجريمة المنظمة, والكشف عن قتلة متظاهري اكتوبر والاستجابة للمطالب العادلة في ضمان عملية سياسية سليمة وصحية وما يرتبط بها من انتخابات حرة وديمقراطية نزيهة, أنها مسلمات العيش بسلام وطمأنينة ولا يمكن بدونها الحديث عن عراق تعددي وديمقراطي بل وفدرالي آمن وذو أفق مستقر.

نقول أذا اريد لما تبقى للعراق  من فرص للنجاة, وما تبقى للقوى السياسية الحاكمة من ذرة من الحياء وللأحزاب من ضمير في الحرص على العراق, فأن جهد الحد الأدنى من االتضحية يتطلب التنازل عن المصالح الذاتية والتخريبية التي تؤذي استقرار العراق ومستقبله, فأن الأنفتاح على المطالب الآتية يشكل جزء من الحل وهي:

أقرارالقانون الانتخابي: وهو من اختصاص مجلس النواب وقد تم التصويت على أغلبية مواده، وان المتبقي تحديد عدد الدوائر وعدد المقاعد المخصص لكل دائرة، والتي هي محل شد وجذب بين الكتل السياسية حتى هذه اللحظة. وحسب تقديرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لابد من إقرار القانون الانتخابي قبل ستة أشهر من الموعد المحدد للانتخابات، لغرض توفير المواد اللوجستية.


تعديل قانون المحكمة الاتحادية: لقد أصبح تعديل قانون المحكمة الاتحادية حاجة ملحة بعد الاختلال في قوامها، لغرض إعادة النصاب لاجتماعاتها، لأنها هي المعنية بالمصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب، وفق (الفقرة سابعاً، المادة 93 من الدستور العراقي).


حل مجلس النواب: لا يمكن الحديث عن الانتخابات العامة المبكرة دون الاتفاق بين الكتل السياسية على حل مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بطلب من ثلث أعضائه أو من قبل رئيس مجلس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية، وان يكون ذلك قبل شهرين من السادس من حزيران إذا اتفقت الكتل السياسية على هذا الموعد، ليتسنى لرئيس الجمهورية الدعوة للانتخابات العامة المبكرة، وفق (الفقرة ثانيا، المادة64 من الدستور).


تطبيق قانون الاحزاب السياسية: لقد تم إصدار قانون الأحزاب منذ 2015 دون إجراءات حقيقية لتفعيله، وقد جاء ضمن المنهاج الوزاري: التطبيق الكامل لقانون الأحزاب وهو من اختصاص الوزارة والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وكذلك ديوان الرقابة المالية وأيضا يقع من مهام مجلس النواب المعني بالرقابة على أداء هذه المؤسسات. لضمان الحد المقبول من تكافؤ الفرص بين الكيانات السياسية عند خوض الانتخابات.


نزع سلاح المليشيات السائبة والسيطرة على السلاح المنفلت والاستعانة بالمنظمات الدولية لمراقبة الانتخابات وتوفير بيئة آمنة للناخبين الى جانب الجرئة الحكومية في الاعلان عن قتلة المتظاهرين وبما يسهم في خلق مزاج مطمئن للناخب ورسالة للمواطنين ان الحكومة قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية تبعث الامل وتؤسس لنظام سياسي جديد يعبر عن ارادة المواطن بعيدا عن التزوير والتهديد وسلب ارادة الناخب.

 أن فرصة النجاح امام العراق ليست كبيرة بدون تضحيات ولكن هول مشاكل البلد يفترض ان يضع الجميع امام حالة استنفار للحرص على الوطن من الضياع والخراب, وعلى رئيس االوزراء السيد الكاظمي أن يبتعد عن الخطابات الأنشائية كسابقه عادل عبد المهدي, وعليه أن يسمي الأشياء بمسمياتها ويبدأ بأفعال ملموسة, في اهمها محاربة المليشيات المنفلتة علنا والأعلان عن قتلة المتظاهرين ومختطفي الناشطين المدنيين, ومطلقي الكاتيوشا بعناوينهم الرئيسية " والتي يعرفها الكاظمي قبل غيره" فالشعب العراقي مع الكاظمي حين يريد وضده حين لا يفعل, وعلى الكاظمي ان يكون ذكيا وجريئا ويستفيد من مزاج الشعب الذي قد يقف معه في أشد لحظات احراج الأسلامويون له.

 

48
سجاد العراقي ومشروعية القلق على جهاز مكافحة الأرهاب


د.عامر صالح

أعلنت خلية الإعلام الأمني، الاثنين الماضي في 21 أيلول 2020، تكليف قوة من جهاز مكافحة الإرهاب للتوجه إلى محافظة ذي قار والبحث عن الناشط المختطف "سجاد العراقي" والذي تم أختطافه يوم السبت مساء بتاريخ 19 أيلول 2020. وقالت الخلية في بيانها إن "رئيس مجلس الوزراء  القائد العام للقوات المسلحة، وجه قيادة العمليات المشتركة بإجراء فوري للبحث عن الناشط المدني  سجاد العراقي الذي اختطف في مدينة الناصرية". وتابع، "تم تكليف قوة مِن جهاز مكافحة الأرهاب للتوجه الى محافظة ذي قار مسنودة بطيران الجيش للبحث عن المخطوف وتحريره، وانفاذ القانون بالخاطفين وتقديمهم للعدالة، وسنوافيكم التفاصيل لاحقا". وقد تم لاحقا فرض حصار على بعض المناطق والعشائر المشتبهة بأختطاف الناشط المذكور استنادا الى الشهود والمعلومات التي وردت من متابعة الحدث وكذلك من اصدقاء سجاد العراقي الذين كانوا معه في السيارة الخاصة التي كانت تنقلهم, وقد أصيبوا بجراح من عملية الأختطاف التي رافقها اطلاق نار من كواتم.


ويوم الثلاثاء المصادف 22 أيلول 2020، أعلنت خلية الإعلام الأمني، انطلاق عمليية تحرير المختطف سجاد العراقي في ذي قار، مشيرة إلى أن العملية تشمل 6 مناطق. وقالت الخلية في بيانها: “انطلقت وحدات (افواج من جهاز مكافحة الارهاب و فوج من شرطة ذي قار وفوج من لواء مغاوير قيادة عمليات سومر، بتنفيذ واجب مشترك للتفتيش والبحث عن المخطوف (سجاد العراقي) والقاء القبض على الخاطفين". وأضافت أن " الواجب يشمل مناطق ( أم الغزلان وناحية الدواية الشديد والعبيد والعكيكة الهصاصرة وسيد دخيل) بالتزامن مع خروج اللواء الرابع بالرد السريع على الحدود الفاصلة مع محافظة ميسان, ويأتي هذا الواجب بإسناد الأبطال في طيران الجيش".

 وبعد مضي ما يقارب الأسبوع على أختطافه وتجنيد أفضل القوات المسلحة العراقية والمتمثلة بجهاز مكافحة الأرهاب الى جانب قطعات اخرى واسناد جوي, لم تتم عملية تحريره من الخطف وألقاء القبض على الخاطفين المجرمين, حيث كشفت قيادة شرطة محافظة ذي قار, الخميس 24 أيلول 2020 عن آخر التطورات بشأن عملية البحث عن الناشط المختطف سجاد العراقي, وقال المتحدث الرسمي بأسم القيادة العامة العميد فؤاد كريم للأعلام ان " عملية البحث والتفتيش التي تقوم قوة مشتركة من جهاز مكافحة الارهاب والجيش العراقي توقفت منذ يومين" وأوضح  أن " سبب التوقف جاء بعد حدوث اشكالية مع شخصيات ذات ثقل اجتماعي مهم وستستأنف العملية في الساعات المقبلة بعد ان حلت الاشكالية التي حصلت, ولحرص الحكومة والقوات الأمنية على النسيج الاجتماعي ولأثبات نيتها الحسنة توقفت العملية حينها وانسحبت القوة الأمنية للقاعدة الجوية في الناصرية".

بالتأكيد ان خبرة جهاز مكافحة الارهاب وقدراته الاستثنائية يعكس الصورة الحسنة والمتقدمة للقوات العراقية التي تعتبر نموذجا في بناء الاجهزة الحيادية والبعيدة نسبيا عن تأثير السياسات الطائفية الأقصائية وقد مثل الجهاز في بنائه وقيادته مختلف شرائح الكفاءات العلمية والمهنية الميدانية وكذلك مثل مختلف ألوان الطيف العراقي وأنتماءاته المتنوعة, وقد قدم الجهاز في المعارك ضد داعش بحدود اكثر من 40% من قدراته لتحرير الأرض من داعش, وهو قادر بالتأكيد على حسم سريع لموقف ميداني ولوجستي كقضية اختطاف " سجاد العراقي ", ولكن بالتأكيد وعلى ما يبدوا أن سطوة العشائر وخاصة المتحالفة مع الأسلامويين السياسين يريد ان يخرج من العملية بالحفاظ على ماء الوجه وحماية "شرف" العشيرة من ألحاق العار بها بسبب عملية الأختطاف والتي قد تكون انجزت بتواطئ قيادات سياسية عشائرية, وبالتالي تحويل القضية الى قضية جنائية عادية فيها مجرم وضحية, وبعيدا عن التسميات السياسية لمن يقف وراء الأختطاف. وقد قامت بعض العشائر في الناصرية في تحدي بائس امام جهاز مكافحة الارهاب بأستعراض قواتها, ولكن الجهاز المتمرس في المناورات الميدانية اكثر حكمة من عقل متحجر.


بالتأكيد هناك من يتربص للأيقاع وألحاق الأذى بجهاز مكافحة الأرهاب, وخاصة من الأحزاب والمليشيات الأسلأموية وحتى من قوى سياسية طائفية متمرسة في التخريب والأختطاف, وفي واقعة اختطاف سجاد العراقي من مدينة الناصرية والتدخل السريع لجهاز مكافحة الأرهاب للأفراج عنه بدأت بعض القوى المليشياوية والمعروفة بجرائم الأختطاف في تحريض العشائر على جهاز مكافحة الأرهاب, ذلك الجهاز المهني والمحترف في الأداء والذي قاتل داعش وقدم خيرة منتسبيه شهداء لتحرير الأرض المغتصبة من داعش, نعتقد ان عملية تحرير سجاد العراقي لا تحتاج الى تدخل جهاز مكافحة الأرهاب بل الى قوى صغيرة حيادية, لأن الأختطاف هنا سياسي مليشياوي ويحتاج الى المناورة الذكية مع الجهة المختطفة, ما دام لحد الآن لايتجرأ الكاظمي على تسمية الأشياء بمسمياتها ولا يقدر على المواجهة المباشرة, وهناك سوابق لذلك حيث الضحايا بقوا دون تشخيص للمجرم القاتل والجهة التي تقف ورائه ومجرد وعود في ألقاء القبض على القتلة, ويعرفهم الكاظمي بعناوينهم الرئيسية ولكن تلك هي إشكاليات موازين القوى في مختلف المعالجات.


وبالتالي قد يتمكن جهاز مكافحة الأرهاب في ألقاء القبض على مختطفي سجاد العراقي والأفراج عنه, وهو احتمال وارد جدا, ولكن هل يشار الى جهة المختطف بوضوح كما يتمناها الضحايا, الى جانب أن تداعيات تدخل الجهاز في بيئة عشائرية ملغومة بالتحالفات السياسية المليشياوية والفساد قد يترك آثارا ومزاج سيكواخلاقي للنيل من مكانة جهاز مكافحة الأرهاب والتي بدأها عادل عبد المهدي في محاولته لتصفية قيادة الجهاز. أن التحريض المقصود على جهاز مكافحة الأرهاب سيعبد الطريق امام عودة داعش الأجرامي بكل ثقلها وعندها لم تستطيع المليشيات الكارتونية المسلحة " خفافيش الظلام " الدفاع عن نفسها, أما مهمة الدفاع عن العراق كوطن للجميع فهي حصريا تناط بتلك الأجهزة المهنية الحيادية التي تجد في الشعب حليفا ثابتا لها.


ما يجري لقضية الشاب العشريني "سجاد العراقي" الباحث عن لقمة العيش وهو خريج الكلية ـ قسم التاريخ يسري على غيره من ضحايا سلطة الدولة العميقة حيث الشهداء اكثر من 700 والجرحى تجاوزا 30 ألف جريح وفيهم من الاعاقات الدائمة وغير القابلة للعلاج الى جانب المغيبين والذين انظم أليهم الناشط المدني سجاد العراقي وقد تجاوزعددهم 150 مغيب, تلك هي مخرجات نظام المحاصصة الطائفية والاثنية الى جانب الفساد الاداري والمالي والاجتماعي الذي انهارت على  خلفيته الدولة العراقية ووصلت الى حد العجز والشلل التام..


49
رئيس الوزراء العراقي يتصارع مع "الدولة" وتصارعه

د.عامر صالح

جرى الحديث ما بعد 2003 مقترنا بتساؤلات مشروعة هل هناك دولة في العراق, واذا كانت هناك دولة رسمية بكامل مقوماتها فأين هو دورها في تعزيز الأنتماء للعراق كوطن يحتضن الجميع, وهل تقوم الدولة العراقية بكامل وظائفها في الأمن والاقتصاد والسياسة والقضاء وبسط سلطة القانون, وبنفس الوقت يجري التساؤل هل هناك دولة عميقة في العراق تقف خلف الدولة الرسمية وترسم سياستها وتصادر وظائفها  الأساسية, وتفرض منطق القوة على الدولة الرسمية من خلال المليشيات المسلحة  والاحزاب ذات الأجنحة المسلحة والتي تشكل جزء من العملية السياسية الى جانب العصابات الأجرامية المسلحة وسلاح العشائر المنفلت الذي يوازي سلاح الدولة ويقارعها ويهدد الأمن المجتمعي, والأكثر خطورة وتهديد هو التحالف غير المقدس المعلن والخفي للعديد من العشائر مع الأحزاب المليشياوية التي تشكل جزء من العملية السياسية عبر تمثيلها في البرلمان والتي تفرض اجندة مختلفة متعارضة مع السيادة الوطنية للعراق وتقف بالضد من أمنه واستقراره. 

وهناك من الآراء ما ينفي وجود دولة بعد انهيارها في 2003 وكذلك لا وجود للدولة العميقة كمفهوم يقف خلف الدولة الرسمية, وانما ما موجود هو شتات لقوى سياسية لايجمعها جامع ومختلفة بكل شاردة وواردة وذات ارتباطات بقوى اقليمية مختلفة, ولا تؤمن بسلطة الدولة والقانون والقضاء, وغير مؤمنة بالديمقراطية ولا بالتدوال السلمي للسلطة, وان ما يجري على ارض العراق هو صراع شرس لتنفيذ اجندة خارجية عبر عملية سياسية مشوهة أو بقوة السلاح من خلال التهديد المستمر للسلم الأجتماعي, او عبر صفقات من التشويه والتزوير للأنتخابات البرلمانية كما جرى ذلك للأنتخابات التشريعية في عام 2018 حيث حرق صناديق الأقتراع والتزوير وتمثيل شعبي لا يتجاوز 20% من مجموع من يحق لهم التصويت.

في تلك الأجواء والتركيبة المشوهة للبرلمان وضعف شرعيته الشعبية جرى ويجري الصراع مع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي جيئ به في وقت فقدت القوى السياسية الطائفية والاثنية بوصلتها تحت ضغوطات انتفاضة اكتوبر الجماهيرية ووضعتها على المحك, بل وضعت الاحزاب الطائفية الأسلاموية والأثنية امام مواجهة عسيرة وضغوطات لأيجاد مخرج لأزمة البلاد المستعصية منذ سبعة عشر عاما, والتي اهدرت المال وعم الخراب والفساد وانعدام الخدمات الانسانية الاساسية, من صحة وتعليم وكهرباء وانعدام فرص العمل وخاصة للخريجين, وقد قدر اهدار المال العام ما يقارب 1400 مليار دولار, واليوم حيث تجد الحكومة صعوبة في تسديد رواتب المتقاعدين والموظفين الشهرية, أي انه الأعلان عن افلاس الدولة والحكومة للقيام بواجبات الحد الأدنى من العيش الكريم, وهو تأمين حدود لقمة العيش.

رئيس الوزراء الذي أتي به من توافق شيعي شيعي أولا, ومن ثم توافق شيعي سني وكردي ثانيا, وقد جيئ به على مضض من القوى التي رشحته لأنه مثل خيار الفرصة الأخيرة, وخاصة للقوى الأسلاموية الشيعية, وبالتالي كان خياره هو فرصة تلك القوى للتنصل من مسؤلياتها عن ما جرى من فساد وازهاق للأرواح ومن عبث في الأمن والسلم الاجتماعي, وحين الأتفاق عليه تمت ايضا المصادقة على برنامجه الحكومي في محاربة الفساد وسرقة المال العام والكشف عن قتلة المتظاهرين, وعندما بدأ الكاظمي بخطوات صوب محاربة الفساد او محاولاته لوضع حد للسلاح المنفلت, وهي محاولات الحد الأدنى بل بعضها خجول او محاولات جس النبض, حتى بدأت القوى الأسلاموية التي رشحته لرئاسة الوزراء في حملة مسعورة للتشكيك بجهودة في محاربة الفساد والسلاح المنفلت السائب لدى العشائر وغيرها, وقد أتهم من قبل القوى التي أتت به ووافقت على برنامجه الحكومي بأنه يسعى الى تصفية الحساب والانتقام من بعض القوى الأسلاموية, وان محاربته للفساد تخرج عن السياقات القانونية والقضائية, وأنه ينفذ الأجندة الأمريكية في العراق وغيرها من التهم الجاهزة التي يسوقها من لا يرغب الاستقرار والامن في العراق.

وبعيدا عن قدرات السيد الكاظمي وحدود جرئته ووضوحه في معالجة مختلف الملفات, فأنه لا يمكن لرئيس وزراء ان يعمل دون كتلة برلمانية تسنده وتقف الى جانبه, وخاصة تلك القوى التي جاءت به, ولكن بالتأكيد أثبتت الفترة المنصرمة والقصيرة من حكومة الكاظمي أن من أتى به اراد لنفسه الخلاص من ضغط الشارع العراقي المنتفض, ووضع الكاظمي في فم المدفع وأفشاله بمختلف الوسائل بل وتحميله مسؤولية الفوضى والخراب وغياب هيبة الدولة منذ 17 عاما في آتون الصراعات الطائفية والاثنية وتحميله فشل اكثر من عقد ونصف من الخراب والدمار والفساد.

 لقد سعت أحزاب الإسلام السياسي بعد سقوط الدكتاتورية، إلى تشكيل "دولة عميقة" في الظل ومنظومة متكاملة من شبكات المصالح، تمثلها قوى خفية متسلحة بالنفوذ السياسي والمالي ولديها ميليشياتها وإعلامها، شعارها: السلطة والثروة والنفوذ، قامت بتوظيف الفئات الرثة في المجتمع لديها علاقات ومصالح مشتركة مع دول الجوار، واعتمدت البيروقراطية الإدارية والفساد المنظم للاستحواذ على الموارد المالية وتعزيز مشاركتها في رسم سياسة الدولة، وفق مبتغاها.

تجذرت هذه الأحزاب في مفاصل الدولة المختلفة وأجهزتها، وسيطرت على وسائل الإعلام، كقوة إضافية لتعزيز مواقعها ومواقفها على السواء، وفرضت أجنداتها وفق مرامها ونهجها وأهدافها. وهي التي تتحكم اليوم بالموارد المالية والبشرية، وتعتمد على شبكات الفساد المعشعشة في قلب الدولة ومؤسساتها، التشريعية والقضائية، التي تم إنشاؤها أو السيطرة عليها والتغلغل فيها من خلال استخدام الموارد الطفيلية وغير القانونية، وهي تمتلك سلطة مدججة بالمال والسلاح، تستخدمها من أجل بسط نفوذها لقمع المعارضين والحفاظ على النظام العام.

وفي ظل هذا التعقيد والتشابك في الأجندة والمصالح وانهيار الدولة فقد شكلت قوى الدولة العميقة, وخاصة الأحزاب الطائفية المليشياوية والقوى الأثنية جزء اساسي من واجهة الدولة الرسمية في ابرز مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية, مما عقد المشهد الميداني في معالجة الفساد الاداري والمالي والحد من الجرائم وحصر السلاح بيد الدولة وتدهور الأمن حيث تشابك اجندة الدولة الرسمية مع اجندة الدولة العميقة, ومن هنا نفهم صعوبات الكاظمي في الأطاحة بالرؤوس الكبار للفساد والبدأ بالرؤوس الأصغر رغم الصعوبات التي ترافق ذلك والتي ابرزها ضعف الدعم والتشكيك من قبل القوى السياسية الطائفية والمليشياوية ومحاولة افشال جهود الكاظمي وتصويره بالفاشل غير المتمكن او عديم الخبرة.   

قد يدفعنا هذا التشابك بين الدولة العميقة والدولة الشرعية أنه ليس هناك دولة عميقة في العراق إنما دولة سطحية وحكومة ضعيفة تتلاعب بها الأحزاب الشخصيات والميليشيات المتنفذة وهناك حركة انسيابية بين الدولة العميقة والرسمية وسهولة انتقال وخلط اجندة، هذه القوى لا تعمل مثل جماعات الضغط المشروعة في الأنظمة الديمقراطية كما موجود في أمريكا وأوربا إنما تعمل بوسائل مشروعة وغير مشروعة وهي معروفة الصلات والروابط وليست خفية كما في الديمقراطيات العريقة، فمعظم المطلعين يعلمون من هي الجهات التي تقوم بالأعمال الغير مشروعة والتي تصل إلى تنفيذ اغتيالات ضد خصومها وتخريب العملية السياسية وحرفها عن مسارها الديمقراطي والعبث بأصول أللعبة الديمقراطية.

فمصطلح “الدولة العميقة” عراقيا ، يقصد به “صناعة النفوذ” لشخصيات وأحزاب وميليشيات أغلبها مرتبط بإجندة خارجية ويعمل معها لمصلحته الشخصية او لأرضاء الطرف الخارجي وهما ضد مصلحة العراق بالضرورة ، ولا يقتصر ذلك على الفاعل السياسي الشيعي فقط إنما الفاعل السياسي السني والأثني القومي وبعض الأقليات ومن جميع التوجهات التي تبدو متناقضة ، لكن توحدها المصالح الضيقة والتي لها أذرع واسعة وتدخل في جميع المجالات.

وفي وسط تلك التعقيدات في العملية السياسية وبناءات الدولة المشوهة فأن الكاظمي يدخل في لعبة خطرة يفتقد فيها الى حلفاء سياسين من داخل قبة البرلمان, بل أنه يدخل في صراع مع الدولة بملامحها الحالية كما أن الدولة بتشوهاتها تقاتل الكاظمي وتعرقل اقدامه على أية خطوة صغيرة كانت أم كبيرة, بل أنها تخطط لأفشاله, ومن هنا نرى ان تحالفه المرحلي مع المتظاهرين, وتحالف المتظاهرين معه لتقوية عوده هو ضرورة ميدانية وتكتكية لابد منها, وبكل الأحوال تبقى الخطوات القادمة والمتمثلة بالمهام الأتية هي من يعزز فرص النجاح لمصلحة بناء الدولة والتأسيس لظروف اكثر أمنا واستقرار للعملية السياسية, وابرز تلك المهام هي:


أقرارالقانون الانتخابي: وهو من اختصاص مجلس النواب وقد تم التصويت على أغلبية مواده، وان المتبقي تحديد عدد الدوائر وعدد المقاعد المخصص لكل دائرة، والتي هي محل شد وجذب بين الكتل السياسية حتى هذه اللحظة. وحسب تقديرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لابد من إقرار القانون الانتخابي قبل ستة أشهر من الموعد المحدد للانتخابات، لغرض توفير المواد اللوجستية.

تعديل قانون المحكمة الاتحادية: لقد أصبح تعديل قانون المحكمة الاتحادية حاجة ملحة بعد الاختلال في قوامها، لغرض إعادة النصاب لاجتماعاتها، لأنها هي المعنية بالمصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب، وفق (الفقرة سابعاً، المادة 93 من الدستور العراقي).

حل مجلس النواب: لا يمكن الحديث عن الانتخابات العامة المبكرة دون الاتفاق بين الكتل السياسية على حل مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بطلب من ثلث أعضائه أو من قبل رئيس مجلس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية، وان يكون ذلك قبل شهرين من السادس من حزيران إذا اتفقت الكتل السياسية على هذا الموعد، ليتسنى لرئيس الجمهورية الدعوة للانتخابات العامة المبكرة، وفق (الفقرة ثانيا، المادة64 من الدستور).

تطبيق قانون الاحزاب السياسية: لقد تم إصدار قانون الأحزاب منذ 2015 دون إجراءات حقيقية لتفعيله، وقد جاء ضمن المنهاج الوزاري: التطبيق الكامل لقانون الأحزاب وهو من اختصاص الوزارة والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وكذلك ديوان الرقابة المالية وأيضا يقع من مهام مجلس النواب المعني بالرقابة على أداء هذه المؤسسات. لضمان الحد المقبول من تكافؤ الفرص بين الكيانات السياسية عند خوض الانتخابات.

نزع سلاح المليشيات السائبة والسيطرة على السلاح المنفلت والاستعانة بالمنظمات الدولية لمراقبة الانتخابات وتوفير بيئة آمنة للناخبين الى جانب الجرئة الحكومية في الاعلان عن قتلة المتظاهرين وبما يسهم في خلق مزاج مطمئن للناخب ورسالة للمواطنين ان الحكومة قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية تبعث الامل وتؤسس لنظام سياسي جديد يعبر عن ارادة المواطن بعيدا عن التزوير والتهديد وسلب ارادة الناخب.



50
الدولة العراقية بين هيبتها وتآكلها 

د.عامر صالح

ما بعد سقوط الدكتاتورية في 2003 أنتقلت معاناة العراقيين من الحديث عن الدولة القمعية البوليسية المتمثلة بجمهورية الخوف والأضطهاد والحرمان والحروب الى الحديث والتساؤل عن هيبة الدولة وفقدانها, وأين هي الدولة عن مما يجري من انفلات وفوضى وقتل واهدار للمال العام والارواح, وأين هو القضاء العادل الذي يقتص من المجرمين والقتلة والفاسدين ولماذا الاساءة الى هيبة الدولة ولماذا هذا التراجع في دور الدولة الذي وصل في الكثير من مظاهر التدهور والانحلال وضعف السيادة الى حد الأضمحلال, الى جانب المطالب اليومية في استعادة هيبة الدولة رسميا وشعبيا, بل وحتى على ألسنة اعداء الدولة العراقية واستقرارها, لأن المساس بهيبة الدولة هو خط احمر مجتمعيا وعالميا, وبالتالي فأن اعداء الدولة بالأفعال, لا يستطيعوا الأفصاح عن عدائهم في العلن وبالأقوال بذلك, ولكنهم يسعون الى "دولة خفافيش" من طراز خاص في الخفاء.


تتعرض الدولة العراقية الى مخاطر داخلية وخارجية تهدد أنهيارها, وابرزها تلك المخاطر والضغوطات هو ارتهان العراق الى التطلعات غير المشروعة للدول الأقليمية والمجاورة: تركيا, ايران, السعودية والدول الخليجية الأخرى, منها الراغب في جعل العراق ساحة للصراع الامريكي ـ الأيراني, او سياسات التحريض الخليجي في ظل الصراع الأيراني ـ الخليجي وفي مقدمته الصراع السعودي ـ الايراني " وان اختلفت حدته عن الصراع الأمريكي الأيراني" على الأرض العراقية بسبب اختلاف اجندة الأحتواء وارتهان العراق لتلك الصراعات بفعل حجم التدخل الأيراني والامريكي الكبير في العراق, وبأختلاف حجم مشروعيته ودوافعه.

ومما يعزز تلك الصراعات الأقليمية والدولية هو هشاشة الجبهة الداخلية للعراق وفرقائه السياسيين الذين تجدهم مطابقين لأجندة الصراع الخارجي, فهم منقسمون الى حلفاء لتركيا في العلن والخفاء, وحلفاء لأيران, وكذلك من منهم حلفاء لدول الخليج المختلفة. تلك الجبهة الداخلية التي غذتها شدة الصراعات الطائفية السياسية والمذهبية والأثنية والقومية ما بعد 2003 وكرس استقطابها بنية النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والاثنية, والذي ادى الى استنزاف الموارد والطاقات في عمليات فساد ونهب وقتل غير مسبوقة بتاريخ العراق والدولة العراقية وحروب داخلية وأهلية قائمة على العبث بمشاعر الانتماء المذهبي والقومي.

وقد بات للقاصي والداني أن العراق على مستوى المزاج السيكوسياسي الرسمي والجيوبولتيك مقسم الى ثلاث اقسام او اكثر متناحرة ومتصارعة على الموارد والنفوذ ولا تمت بأي صلة بمفهوم بناء العراق الموحد الفدرالي, حتى بات منطق( رئيس جمهورية ـ كردي, ورئيس وزراء ـ شيعي ورئيس برلمان ـ  سني) وما تحت تلك المناصب وما يتفرع عنها والتي لم ترد في الدستور العراقي, من أكثر الآليات نشازا وعقما لأعادة انتاج الصراع الأثنوطائفي السياسي ومأسسته واعادة تكريسه في كل دورة انتخابية تشريعية. 

من المؤسف وبعد مئة عام من تأسيس الدولة العراقية وما رافق ذلك من تحولات عميقة في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية وظهور ملامح راسخة لأزدهار نسبي للمدن العراقية وفي مقدمتها العاصمة بغداد كضرورة موضوعية لبداية اضمحلال للبنى الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة السابقة, تعود العشيرة والقبيلة لتحل محل الدولة في عمل تراجعي تقهقري ومزودة بالمال والسلاح لفرض اجندتها في اعادة بث منظومة القيم والسلوك القائمة على احياء قيم الثأر والانتقام واضعاف منظومة القيم الاجتماعية الايجابية من خلال اضعاف دولة المواطنة, ومما يزيد الطين بلة دخول الاحزاب الحاكمة وخاصة المتأسلمة على خط الاستعانة بالعشيرة ودعم تسليحها في ادارة صراعها مع قيم الدولة والمجتمع المدني, واستخدام العشيرة في التعبئة الحشدية في العمل السياسي, حتى اصبح تحالف الأحزاب مع العشائر من اشد المخاطر التي تواجه استقرار البلد والمجتمع والدولة وتفككها وتقهقرها, واصبحت العشائر احد الحاضنات الخطرة للسلاح المنفلت الى جانب سلاح الميليشيات المنفلتة التي تستهدف الأضعاف المتواصل للدولة وتشكل معضلة الدولة العميقة في العراق.

مع ضعف الدولة العراقية وتدهور هيبتها وعدم مقدرتها على بسط سلطة القانون بعد ان سقطت مؤسساتها في عمل قسري من خارج الحدود عام 2003 وتزامن ذلك الأنهيار ليست فقط مع سقوط النظام الدكتاتوري الحاكم أنذاك, ولكنه أسقط فيه مؤسسات الدولة العراقية التي امتدت الى عهود تأسيس المملكة العراقية وبدايتها منذ عام 1921, وقد اختلف آداء هذه المؤسسات اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا مع تعاقب الأنظمة السياسية المختلفة على الحكم في العراق وتباين فلسفاتها. أي ان الاحتلال الأمريكي للعراق لم يستهدف التغير النوعي لأداء مؤسسات الدولة العراقية, بل استهدف بنتائجه الميدانية تحطيم البنية التحتية المؤسساتية للمجتمع, والتي هي ثابتة نسبيا بأختلاف من حكم العراق.


وكان من جراء ذلك فقدان الأمن المجتمعي وتفكك الوحدة الجغروأثنية للعراق, فأنتعشت بسبب ذلك كل الاشكال المتخلفة للضبط الاجتماعي والسابقة للمدنية وفي محاولة منها أستغلال تأزم الاوضاع وخروجها عن السيطرة وانهيار مؤسسات الدولة ولتفرض نفسها بديلا عن الحياة المدنية ومؤسساتها المستقرة, وكان من تداعيات ذلك هو التشرذم الديني والمذهبي والاحتماء بالطائفة والمكون الاثني وتشديد قبضة العزلة والانكفاء الجغروطائفي والاثني وتعزيز دور الهويات الفرعية خارج اطار السياق الوطني الجامع, فأنطلق الارهاب الفردي والمنظم وشاعت التنظيمات المسلحة, من سلاح عشائر وسلاح مليشيات وعصابات اجرامية مختلفة تتخذ من من المناطقية والتمترس الجغرو اثني والمذهبي واجهات لفرض نفوذها كبديل عن الدولة وسلطة القانون والقضاء.


في ظل تلك الاجواء اشتد ساعد كل اشكال الضبط والسيطرة البدائية السابقة لنشوء الدولة, والتي اختفت او ضعفت في عهود وحقب سابقة للأحتلال الامريكي, بفعل التغيرات الجذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية والساعية الى بناء نمط من الحياة المدنية بأختلاف طبيعة الأداء الفكري والسياسي لها. وفي ظل هذه الظروف كان حضور العشيرة وتصدرها مشهد الحياة اليومية ما بعد 2003 هو تحصيل حاصل لعملية التفكيك المنظم للبنى المؤسساتية للدولة والرجوع الى بنى اجتماعية سابقة تستند في قوامها الى الانتماء الجغرووراثي لأصول مجاميع من الافراد والعوائل ذات الروابط المحددة في الوراثة والنسل والقربى. 

ومنذ 2003 الى اليوم وبعد مرور 17 عاما على اسقاط النظام لم تستطيع الحكومات المتعاقبة في اعادة بناء الدولة وهيبتها, بل اعادت تكريس كل البنى الاجتماعية المتخلفة والتي تستهدف اضعاف الدولة وسلطة القضاء والقانون, وكان نتاج ذلك نشوء دولة عميقة قائمة على الفساد الاداري والمالي والسلاح والعصابات الاجرامية المنفردة والمنظمة والميليشياوية والعشائر المسلحة بمختلف انواع السلاح, وتستمد قوتها وبقائها من منظومة الاحزاب الحاكمة غير المؤمنة بالدولة. الدولة العميقة وسلوكها يدب اليوم في شريان الدولة العراقية الرسمية ويشد مفاصلها وينساب في كل قطاعاتها ولها هويتها السياسية والاقتصادية والادارية والثقافية ولها من يشرعن افعالها ويقتص من مخالفيها. إن الفساد المتمثلة في الدولة العميقة مكون يقظ وحذر ويملك جهاز مناعة ومقاومة لا نظير له يقيه من كل الضربات ومحاولات النيل منه، ويملك قوة تجديد ذاته أمام كثرة ضعاف النفوس والمغرر بهم والدجالين والمنتفعين، ومن يدور في فلكهم، وكل من يملك صبغيات وكيميا الانغماس في ملذاته، وقد يقوم بحرب استباقية ووقائية ضد كل من يتربص به, ولهم دينهم الخاص, فأخلاقهم عند الاقتراب منهم هي اخلاق داعش في السبي والتنكيل. في الدولة العميقة تنقلب الاخلاق والقيم والمقاييس, فالسارق لديهم مؤمن محصن والمظلوم معتدي على الحق العام.

ان دولة الفساد العميقة لها استراتيجية محكمة وقوة خارقة لهدم كل القيم النبيلة وزرع بدل ذلك قيم الحط من النفس ووضاعتها ونزع أي بذرة من الاخلاق واقتلاعها من جذورها، وتحويل الفرد الى كائن ذو نوازع مرضية لا يقدر قيمة العمل الا بمقدار التحصيل غير المشروع ويحاول ان يجد لنفسه تبريرات ومسوغات على ان الامر يندرج في خانة الاكراميات او الحق المشاع وليس في بند الرشوة او السرقة والاهدار وسوء الأخلاق، فيصبح الفساد واقع يومي معاش لا محيد عنه وممارسة اعتيادية ودارجة في السلوك اليومي بل وثقافة يومية وشجاعة من نوع خاص يمارسها جبان مختفي وراء طقوس واعراف مشوهة, وقد ابتلى العراق بمنظومة الفساد الاخلاقية المنحطة التي افرزتها قيم الدولة العميقة, وهي نفسها التي تمارس التزوير في الانتخابات البرلمانية والمحلية لأنتاج طغمة فاسدة تسعى لأعادة انتاجها وبقائها ولكي تلقى الدعم والبقاء رسميا.

اليوم عنما تحاول الحكومة العراقية الحالية بأعادة هيبة الدولة بمحاولات قد تكون متواضعة قياسا بحجم الأرث البغيض المتراكم فأنها مطالبة بالوضوح والجرأة والشجاعة وعدم الخوف من الدولة العميقة لأن الأخيرة لا يمكن ان تستسلم بسهولة ابدا ولكنها تحمل موتها في احشائها, وقد تستمر هذه المحاولات بين كر وفر ولكن الضمانة هو اتجاه الاحداث لأضعاف عناصر الدولة العميقة, من خلال المصداقية في محاربة الفساد وحصر السلاح المنفلت ووضع المليشيات تحت الحظر وتهديدها دوما لحين القضاء عليها, والتشديد على تطبيق قانون الاحزاب الذي يحظر اي حزب له مليشيات وفصائل مسلحة ومنعه من الدخول في العملية الانتخابية والسياسية بصورة عامة وسوقه الى القضاء.

أن محاولة الحكومة في ارساء ملامح هيبة الدولة والتي تقترب من الانهيار الكامل وفي لحظة ما, هو ان يجري العمل على تأكيد عدم المساومة بممارسة الدولة لوظائفها الأساسية والمتمثلة اولا بحفظ النظام وتطبيق القانون, وهي المسؤلة عن حفظ ارواح المواطنين وممتلكاتهم وبسط الأمن في ربوع البلاد والحفاظ على السلم الأهلي, وهي المسؤل الاول والوحيد في الدفاع عن الوطن وارض البلاد من الاعتداءات الخارجية والحفاظ على امنه من الاختراق الخارجي والداخلي وهي من يقرر سياسته الخارجية.

وكذلك في الميدان المالي والاقتصادي فهي من الوظائف الأساسيّة المنوطة بالدولة في هذا الجانب، وضع السياسة النقديّة العامة، وصك النقود، وتنظيم المؤسسات، والتعاملات الماليّة على أرض الدولة، وتحقيق الرفاه الاقتصادي للمواطنين، وتنظيم الأنشطة الاقتصاديّة في غالب الأحيان، ومن هنا فإن الدولة مسؤولة عن إنشاء العديد من المؤسسات الماليّة، والاقتصاديّة المسؤولة عن القيام بمثل هذه المهام.

وكذلك الوظيفة الدولية من أبرز وظائف الدولة تنظيم العلاقة بينها وبين الدول الأخرى، والتأسيس لشراكات حقيقيّة قائمة على تبادل المنافع، والتعاون المشترك من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، فأي دولة تسعى للتطور والنهوض، تؤمن أنها ليست وحدها على هذه الأرض، وأن عليها السعي لبناء سمعة دوليّة طيبة, ولا يحق لأي حزب او فصيل او ميليشيا فرض اجندتها على سياسة الدولة الخارجية.

ان استعادة هيبة الدولة في كل المجالات هو عمل شاق وطويل الأمد و لكن التأسيس له بشكل سليم هو الضمانة الأكيدة لأنقاذ العراق من براثن الفساد المالي والاداري والسياسي عبر ألتماس أفق الاجراءات الحالية ومدى فعاليتها وحجم ردود الافعال من اقطاب الدولة العميقة الرافضة لهيبة الدولة واستقرارها ومعالجتها في الزمن المناسب, وبالتأكيد ان الانتخابات المبكرة مسبوقة باكمال تشريع المحكمة الاتحادية, وقانون انتخابات جديد, وتطبيق قانون الاحزاب, ومحاسبة قتلة المتظاهرين, وضمان عملية انتخابية نزيهة بعيدة عن تهديد السلاح, ورقابة أممية على سير الانتخابات, تشكل جميعها مقدمات لحسن النوايا في تغير الاوضاع خطوة نحو الافضل, عبر اعادة تشكيل موازين القوى السياسية لصالح بناء دولة المواطنة.

 

 

 




51
ماكرون وسيكولوجيا الحنين( النوستالجيا )

د.عامر صالح

قام الرئيس الفرنسي بزيارة الى عاصمتين منكوبتين هما بيروت وبغداد,  الاولى بكارثة تفجير مرفأ بيروت الذي حول الى اكثر من 30% من العاصمة اللبنانية الى أنقاض وركام الى جانب فساد نظامها المافيوي, والثانية منكوبة في سياقات نظامها الطائفي والاثني من عدم الاستقرار السياسي والفساد الاداري والمالي وتفشي المليشيات المسلحة المنفلتة خارج القانون  ويشكل بعد الدولة العميقة في العراق الحاكم في الظل. وفي كلا الزيارتين تم الترحيب الشعبي والرسمي برئيس جمهورية فرنسا ماكرون, ولو في الحالة العراقية كان الاحتفاء الشعبي ليست كما هو اللبناني, وكان ذلك مرتبطا بقصر زيارة ماكرون الى بغداد وعدم تنقله او تجواله في مناطق بغداد كما فعل في بيروت, وبالتأكيد فأن روابط  لبنان مع فرنسا ذات عمق تاريخي, وكان الاحتفاء عراقيا بماكرون على المستوى الشعبي جرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واضح, وهناك كالعادة سيل جارف من نظريات المؤامرة والتشكيك بنوايا ماكرون وكأن الحياة جنة في كلا العاصمتين وجاء ماكرون ليقلب عاليها اسفلها.

عكست زيارة ماكرون نموذجا من سلوكيات اللبنانين والعراقيين في الحنين الى الماضي وكانت اشد تركيزا في بيروت منه في بغداد, ولكن في بغداد اتخذت من رمزية ماكرون حنينا خاصا الى حقب عراقية سابقة لعام 2003. الى أي حد من الذل والظلم والأضطهاد الذي تمارسه الأنظمة" الوطنية " الحاكمة الجائرة بحيث يندفع المواطن الى الأستغاثة بالمحتل ويبكي بين يديه ويطلب منه عودة الأحتلال من جديد او وضع بلاده تحت الوصاية الدولية في محاولة للخلاص مما اصابه من احباط ويأس, انها مفارقات زمن فساد الانظمة المتعفنة التي تدفع مواطنيها في لحظة ما الى الخلاص او الاستعانة بالشيطان في تلمس أفق المستقبل. بالتأكيد انه حالات من الحنين او عودة الى الماضي مؤطرة بقساوة الحاضر وشراسته, وهي حالات يطلق عليها سيكولوجيا ( نوستالجيا ) او سيكولوجيا الحنين الى الماضي. 

يعود أصل كلمة نوستالجيا إلى اليونانية، فكلمة نوستوس تعني العودة للوطن وكلمة ألغوس تعني الألم، وعلى الرغم من كون الكلمة حملت معنى تاريخياً سلبياً مرتبطاً بالمشاعر الجارفة نحو العودة للوطن، والتي كان يعيشها المغتربون والبعيدون عن عائلاتهم وأوطانهم، إلا أنها مع الوقت اكتسبت معنى جديداً في علم النفس؛ وهو الحالة النفسية التي يشعر فيها الإنسان بالحنين للعودة لمرحلة أقدم من حياة الإنسان؛ إلى طفولته وشبابه وأيامه التي خلت, وكذلك الحنين الى العودة الى حقب وازمنة تاريخية سلفت, وقد يكون الحنين فرديا, اي ان الشخص يحن الى ماضى من احداث او امكنة او الى زمن بكامله, وعلى المستوى المجتمعي او الجماعي فهي مؤشر ان هناك دلالات غير مطمئنة في الحاضر.

وعلى المستوى الفردي فأن الحنين اذا بقى في حدوده الطبيعية فأنه مؤشر ايجابي وممكن ان الشعور في الطمأنينة ويخرج الفرد من حالة الحزن ويجعلها اكثر خفة,كما يعتبر التفكير في الماضي طريقة للتأقلم مع مخاوف المستقبل المتعلقة بسؤال الموت والخلود، وسؤال أهمية الحياة وجدواها, كما تربط النوستالجيا الفرد بالآخرين. ففي العادة ما يكون التفكير بالماضي وأحداثه وتجاربه مليئاً بذكرى الأماكن والروائح والموسيقى التي تكون غالباً مرتبطة بأشخاص معينين، مثل أصدقاء الطفولة وشخصيات مؤثرة التقيتها في العمل الأول والمدرسة والرحلات, وفي احيان كثيرة فأن الحنين الفردي احد مصادر التفريغ لأنفعالات الحاضر مما يبعث نسبيا على الشعور بالدفئ, وحتى كتابة مذكرات الماضي يبعث نوعا من الدفئ العاطفي وحتى الجسدي في لحظات الحاجة القصوى لذلك.

 اما على مستوى الجماعات البشرية او المجتمعات المحلية فهي محاولة الهروب الجماعي من الحاضر،تحت وطأة واقع يعاني ولادات متكررة وصعوبات بالغة الأثر ورداءة ظروف العيش الحاضر. ان أكثر ما يميز النوستالجيا الجماعية في واقعنا وخاصة العراقي هو الحنين الى عودة البعث والحنين الى عودة الملكية او تمنيات بعودة الجمهورية الاولى,  وجميعها تفسر انتكاسة الحاضر, فلا الملكية كانت كما في اذهاننا الحاضرة نموذج السعادة, ولا البعث بمصائبه وكوارثه كان مطمئننا, ولم تكن الجمهورية الاولى نموذجا بدون اخفاقات وارهاصات مختلفة وكانت سبب في انتكاستها. ولكن ما يجري في المجتمع العراقي هو حنين مشروع بيمكانزمه كتعبير عن الاخفاق المستديم ولكن محتوى الحنين يعبر هو الاخر عن صور مشوهة من الواقع وهو اشبه بعملية تدوير النفايات بفعل عوامل اليأس والقنوط وقد تكن الصورة مطابقة للجموع اللبنانية, رغم فرط العواطف الى جانب ماكرون في حالة بيروت, حيث بقايا العمق الثقافي حاضرا في التواصل مع باريس.

حالة الحنين في العراق الى مرحلة سابقة بما فيها الحنين الى المحتل او الى الزائر الفرنسي فهي تجسد بعمق افلاس النظام السياس ما بعد 2003 وعدم مقدرته في حل المشكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتمترسه في الاطر الطائفية والمذهبية والاثنية المتخلفة وغياب دولة المواطنة الى جانب الفساد الاداري والمالي والاخلاقي الذي افقر الشعب خلال سبعة عشر عاماو وعملية سياسية ديمقراطية قائمة على التزوير وشراء الذمم والتهديد والافساد في كل قطاعات المجتمع, كل ذلك شدد من قبضة الحنين لمختلف الازمنة وتمني عودة السيئ بأعتبار الحاضر اسوء, وبالتأكيد انها آلية لا تفضي الى الحل وفقا لظروف العصر والحياة المتجددة, ولكن هذا الحنين يحمل في طياته قدرة استثنائية للخلاص من الظلم والتعسف والجور بأعتبار ذلك آلية خاتمة المطاف وقد جسدتها انتفاضة الاول من اكتوبر التي اندلعت في العام الماضي بوضوح بعد استنفاد كل سبل الاصلاح من داخل بنية النظام المحصصاتي.

52
لماذا التحذير من الحرب الأهلية في العراق ـ ملاحظات سايكواجتماعية

د.عامر صالح
 
طالما حذر العقلاء من سياسي العراق والحريصين على مستقبله من الحرب الأهلية, او من عمليات العنف والعنف المتبادل, لأنها بالنتيجة النهائية ستعقد اي حل مرتقب لأزمة الحكم في العراق, كما انها تزيد الخراب بمزيدا من الخراب وتفقد بصيص الأمل في العثور على حل للمشكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي, الى جانب ما تؤديه تلك الحروب الى مزيدا من الخراب والدمار في البنية التحتية للبلاد أو ما تبقى منها وتضعف النسيج الاجتماعي العراقي وتهشمه, وقد تعرض المجتمع العراقي ما بعد 2003 الى المزيد من محاولات دفعه صوب الحرب الاهلية الشاملة وتكريس تمترسه الطائفي والاثني على حساب وحدة المجتمع وسلامة تنوعه الديني والمذهبي والعرقي بمكوناته المختلفة. والتجارب العالمية والعربية في الحروب الاهلية او استخدام العنف والعنف المتبادل على نطاق واسع تؤكد طيلة استمرارها لا يوجد فيها طرف رابح, وبالتالي لا يوجد غير لغة الحوار بديلا عن لغة السلاح لتجنب المزيد من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والانهيارات الكبرى غير المتوقعة.

وبالتأكيد عندما نتحدث عن لغة الحوار بين اطراف النزاع لا يعني هذا العمل على قاعدة"عفى الله عما سلف" أو" تصفير للمشاكل" لأن مظلة الحوار بين اطراف الصراع يفترض ان يكون القانون والقضاء وسيادة الدولة وهي الثوابت التي تجري في ظلها كل التسويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وان الاستمرار في غياب أجهزة الدولة المسئولة عن إحقاق العدالة وفرض القانون وهيبته على جميع شرائح المجتمع بدون تمييز ستعزز ثقافة التشرذم والانتقام والثأر وتزيد من تغول المجموعات المتناحرة السياسية الحاكمة على النفوذ والموارد والسلطة في ظل زيادة التمترس حول القبيلة والعشيرة والطائفة لحماية مصالحها التي تقف ضد استقرار الدولة وسلطة القانون.

قد يكون خيار الحرب الأهلية او الدفع بأتجاهها والتملص من الحساب والقصاص المجتمعي هو خيار المليشيات المسلحة التي يضيق الخناق عليها مع مرور الوقت ومع الدعم المجتمعي والعالمي لخيار الانتفاضة السلمي, وتزايد مطالب المجتمع الدولي في محاربة مجرمي المليشيات الحاكمة قتلة المتطاهرين السلميين, وبالتالي ترى المليشيات الحاكمة في الظل فرصتها الوحيدة للهروب من العقاب المجتمعي والقانوني هو الدفع بأتجاه خلط الاوراق والوصول الى الذروة في اعلان الحرب الأهلية وهي محاولة بائسة لمساواة المجرم القاتل بصاحب القضية العادلة. نعم الحرب الأهلية اعلنت من طرف واحد وهي المليشيات المسلحة او ما يسمى بالطرف الثالث بأرتكابها عمليات قتل لأكثر من 700 متظاهر سلمي وجرح اكثر من 30 ألف مواطن من بينهم المئات من الأعاقات الدائمة, وكذلك تغييب اكثر من 130 ناشط مدني وكادر اعلامي وصحفي.

معهد السلام العالمي، وهو معهد أمريكي مستقل يتخذ من مدينة نيويورك مركزا له ويعمل على منع الصراعات بين الدول وضمن الدول نفسها، قام بإعداد دراسة موسعة لجميع الحروب الأهلية التي حظيت باهتمام مجلس الأمن الدولي على مدى عقدين من السنين. ووضع في ضوء ذلك بعض المعايير للحكم على طبيعة النزاعات وتصنيفها، وقد ورد تعريف للحرب الأهلية يتلخص في أنها "صراع مسلح يشترك فيه طرفان أو أكثر، يسقط فيه ما لا يقل عن 500 قتيل سنويا، وتكون الحكومة القائمة الطرف الرئيس في هذا الصراع". وقد أولى المعهد اهتماما للحروب الأهلية التي قد تستمر سنوات عديدة قد تهدأ فيها أحيانا، واعتبر أن هذه الحرب تعتبر نشطة وقائمة متى تخللتها معارك دموية، لا يقل عددها عن خمس وعشرين معركة خلال سنة. وفي ضوء تلك المعالجات فأن حالة الحرب الاهلية في العراق هي معلنة من طرف واحد قد يكون حكوميا أو مليشيات الدولة العميقة وبما سببه من ضحايا منذ الاول من اكتوبر الماضي الذي اندلعت فيه الاحتجاجات المطلبية.

معالجة الوضع السياسي العام في العراق لا يحتمل اعلان حرب اهلية من قبل المحتجين السلمين الذين قدموا التضحيات الميدانية الكبيرة لأغناء وترسيخ المفهوم السلمي للحركات الاحتجاجية, وان هناك من يدفع بأتجاهات لجعل انتفاضة اكتوبر انتفاضة مسلحة وتلك اجندة تلحق الضرر بالسلم الاهلي الذي يعاني اصلا من تلكأءات كبيرة ومن بقايا حقب الحرب الاهلية ما بعد 2003 وخاصة ان موازين القوى ومستويات التنظيم الميداني لازالت غير راجحة لجانب المحتجين. وبالتالي أن جوهر الضغوطات الجماهيرية المشروعة بعد اسقاط حكومة عادل عبد المهدي تجري التركيز على ما يلي والذي يسبق اجراء الانتخابات المبكرة:

أقرارالقانون الانتخابي: وهو من اختصاص مجلس النواب وقد تم التصويت على أغلبية مواده، وان المتبقي تحديد عدد الدوائر وعدد المقاعد المخصص لكل دائرة، والتي هي محل شد وجذب بين الكتل السياسية حتى هذه اللحظة. وحسب تقديرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لابد من إقرار القانون الانتخابي قبل ستة أشهر من الموعد المحدد للانتخابات، لغرض توفير المواد اللوجستية.

تعديل قانون المحكمة الاتحادية: لقد أصبح تعديل قانون المحكمة الاتحادية حاجة ملحة بعد الاختلال في قوامها، لغرض إعادة النصاب لاجتماعاتها، لأنها هي المعنية بالمصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب، وفق (الفقرة سابعاً، المادة 93 من الدستور العراقي).

حل مجلس النواب: لا يمكن الحديث عن الانتخابات العامة المبكرة دون الاتفاق بين الكتل السياسية على حل مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بطلب من ثلث أعضائه أو من قبل رئيس مجلس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية، وان يكون ذلك قبل شهرين من السادس من حزيران إذا اتفقت الكتل السياسية على هذا الموعد، ليتسنى لرئيس الجمهورية الدعوة للانتخابات العامة المبكرة، وفق (الفقرة ثانيا، المادة64 من الدستور).

تطبيق قانون الاحزاب السياسية: لقد تم إصدار قانون الأحزاب منذ 2015 دون إجراءات حقيقية لتفعيله، وقد جاء ضمن المنهاج الوزاري: التطبيق الكامل لقانون الأحزاب وهو من اختصاص الوزارة والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وكذلك ديوان الرقابة المالية وأيضا يقع من مهام مجلس النواب المعني بالرقابة على أداء هذه المؤسسات. لضمان الحد المقبول من تكافؤ الفرص بين الكيانات السياسية عند خوض الانتخابات. 

نزع سلاح المليشيات السائبة والسيطرة على السلاح المنفلت والاستعانة بالمنظمات الدولية لمراقبة الانتخابات وتوفير بيئة آمنة للناخبين الى جانب الجرأة الحكومية في الاعلان عن قتلة المتظاهرين وبما يسهم في خلق مزاج مطمئن للناخب ورسالة للمواطنين ان الحكومة قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية تبعث الامل وتؤسس لنظام سياسي جديد يعبر عن ارادة المواطن بعيدا عن التزوير والتهديد وسلب ارادة الناخب.

ان مشكلات العراق الاقتصادية والاجتماعية السياسية والمتراكمة لعقود لا يمكن حلها بحرب اهلية تحرق الأخضر واليابس وتضيع بصيص أمل التغير, وناهيك عن انخفاض اسعار النفط وتداعياته الاقتصادية والمالية الخطيرة على البلاد الى جانب جائحة كورونا وعجز القطاع الصحي عن التخفيف من هول الوباء, فهناك وبالارقام فقط بعيدا عن التفاصيل ما يعكس عمق ازمة مجتمعية تحتاج الى معالجات شاملة:
3 ملايين و400 الف مهجر موزعين على 64 دولة. 4 ملايين و100 ألف نازح داخل العراق. مليون و700 ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. 5 ملايين و 600 ألف يتيم ( اعمارهم بين شهر ـ 17 سنة ). 2 مليون ارملة أعمارهن بين 15 ـ 52 سنة. 6 ملايين عراقي لا يجيد القراءة والكتابة وفي مقدمة المدن التي منتشرة فيها هي: البصرة وبغداد والنجف وواسط والانبار. نسبة البطالة 31% وفي مقدمة المدن: الانبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى. 35% من العراقيين تحت خط الفقر(اقل من 5 دولار يوميا). 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة ( بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط). 9٪‏ نسبة عمالة الأطفال دون ١٥ عاماً. انتشار 39 مرض ووباء ابرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفايروسي وارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و 328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الاراضي الزراعية من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد 75% من المواد الغذائية و91% من المواد الاخرى. التعليم الاساسي في اسوء حالاته( 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة و 800 طينية والحاجة الى ألف مدرسة جديدة). الديون العراقية اكثر من 124 مليار دولار من 29 دولة. بلغت مبيعات النفط للأعوام ( 2003 ـ 2016 ) الف مليار دولار لم تسهم في حل اي مشكلة من مشكلات المجتمع العراقي, بل هناك تقديرات بأن مابلغ من اهدار للمال بلغ 1400 مليار دولار.


الوعي في القضايا المصيريه واتخاذ موقف منها محددا هو ليست سلوك فطري تحمله لنا الوراثة البيولوجية على نسق ما نولد به من صفات جسميه بل انه سلوك وموقف عقلي وفكري يتربى عليه المرء والمجتمع من خلال زرع منظومة قيمية صالحه تكون مخرجاتها النهائية هو تشكيل وعي محدد اتجاه الوطن والمواطنه وادراك حجم المخاطر التي تهدد البلاد وما يتبع ذلك من سهولة وانسيابية في تشكيل رأي عام يصب في مجمله في التعبئة الوطنية الصالحة ووفقا للأمكانيات المتاحة وخلق حالة من التلاحم بين الشعب والحكومة الحالية بما يعزز تماسك الجبهة الداخلية.

في العراق وحيث الجبهة الداخلية تعاني من تصدعات كبرى على مستوى السياسة والأقتصاد والمجتمع وحيث معاناة الشعب وعدم اشباع الحاجات الأساسية التي تشكل بدورها الحد الأدنى من ضرورات تشكيل المناعة الصالحة, نجد اليوم خلاف حاد حول اولويات المواطن العراقي في حياته اليومية وخاصة عندما يرى الفساد الأداري والمالي ينخر في السلطات الحاكمة ومؤسسات الدولة والمجتمع, ولا اريد هنا اعادة التذكير بعقود سبقت سقوط الدكتاتورية والتي أخلت بمفهوم الأنتماء للوطن والمواطنة ومن تأصيل لقيم الدكتاتورية والقمع وربط كل المفاهيم الوطنية بشخص قائد الضرورة فهو الفلتر الأساسي للمنظومة الأخلاقية والقيمية وهو المحك والمصدر الأساسي في الرضى وعدمه ومنه تشتق مفاهيم ماهية الدفاع عن الوطن وتعريف المواطنة وتحديد الأصدقاء والأعداء, في وسط هذا التراكم وتراكم ما بعد سقوط النظام يرى المواطن العراقي نفسه في قلق وجودي يتمثل في فوضى الحاضر وغياب المستقبل الى جانب عدم ثقته في النظام السياسي الحالي. كل هذا التراكم يعزز من صراع الأقدام والأحجام في المواقف المصيرية. 

الطريق للتغير الايجابي ليست سهلا لأن طبيعة وبنية السلطة في العراق واحزابها القائمة على الهويات الفرعية وليست على فكرة المواطنة والولاء للوطن لن تؤمن بالتدوال السلمي للسلطة وديمقراطية الانتخابات, وترى في صناديق الاقتراع وسيلتها للاستحواذ على السلطة والانفراد بها, وبالتأكيد ستتشبث القوى القديمة البالية في البقاء والعناد وسوف تلجأ الى كل الخيارات غير النزيهة لتغير وتشويه مسار ونتائج وعملية الاقتراع, طبعا الى جانب عبثها الحالي بتوقيتات اجراء الانتخابات مبكرا والتحايل على القوانين ذات الصلة, ولكن انها فرصة شعبنا لخوض غمار تجربة الانتخابات لتغير موازين القوى السياسية والبدأ في عملية اعادة بناء النظام السياسي على اسس من العصرنة والديمقراطية الحقة.



53
كورونا بين التداعيات والدفاعات السيكواجتماعية والحرب الباردة

د.عامر صالح

لايزال كوفيد ـ 19 يفاقم قلق الحضارة الانسانية بفعل المخاطر الجدية والكارثية لتداعياته, وتكمن مصادر القلق الأساسية فيما اصاب العالم من خسارة في الارواح, سواء على مستوى الاصابات الكلية أم الوفيات, والتي بلغت حتى كتابة هذا المقال اكثر من 23 مليون اصابة وتجاوز فيها عدد الوفيات اكثر من 800 ألف حالة وفاة, وطبعا تقابلها حالات شفاء تجاوزت 15 مليون حالة, وتتصدر الأصابات في دول تتصدرها أمريكا ومن ثم تباعا البرازيل والهند وروسيا وجنوب افريقيا والبيرو والمكسيك وهكذا تباعا الى العراق في تسلسل 21 عالميا.

ومن دواعي القلق المضاف هو الخسائر الأقتصادية الكبرى في اغلب القطاعات الانتاجية والخدمية, وتقطع الاوصال بين الدوال وغلقها الحدود بين وجه بعضها للآخر, ومن ثم العزلة الاجتماعية في داخل البلد الواحد او المجتمع المحلي, والمكوث في المنازل والتباعد الاجتماعي قسريا والحد من الطقوس والممارسات الاجتماعية المختلفة, الدينية منها والترفيهية العامة وحتى السياسية ذات الطابع الجماعي, وقد رافق توقف وتعثر الانشطة الاقتصادية داخليا وبين الدول تفاقم ظاهرة البطالة الوطنية والعالمية, وانقطاع الأرزاق وتدهور الحياة المعيشية, وخاصة في البلدان التي لايمتلك مواطنيها ضمانات الحد الادنى من الدعم الاجتماعي, وعلى خلفية ذلك أستشرى العنف الاسري والمنزلي بمقاييس اكثر مما سبق كورونا, وارتفاع نسب الطلاق والهجر والأعتداء والعنف الجسدي والنفسي, وألحاق الأذى بالطفولة والمراهقة لمكونات الأسرة, ثم فرض آاليات التعامل عن بعد في التعليم والصحة والمعاملات  المختلفة, وكذلك العمل من داخل المنزل عبر شبكة الأنترنيت كبديل عن السياقات اليومية المعتادة في الخروج من المنزل الى العمل يوميا وفي توقيتات منتظمة, ويكون الأمر اشد صعوبة في الدول التي لا تملك بنية تحتية معلوماتية وتقنية متطورة تحتوي التغيرات التي فرضتها كورونا. 

ومما يفاقم القلق المشروع لدى المجتمعات الانسانسية هو عدم توفر علاج او عدم العثور على لقاح حتى اللحظة تجمع عليه منظمة الصحة العالمية والمجتمع الدولي, ثم ما ترسمه المنظمة الدولية من آفاق لحركة فيروس كورونا في الزمان يضيف على المشهد مزيدا من ضيق الأفق القريب للخلاص او الحد من كورونا, ففي وقت قريب وفي هذا الخصوص أكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم جيبريسوس وأشار الى بعض الحقائق وذكر أن أول 100 ألف إصابة كانت في 67 يوما، وأن ثاني 100 ألف إصابة كانت في 11 يوماً، وثالث 100ألف إصابة حدثت في 4 أيام، ورابع 100 ألف إصابة تمت في يومين.

وهذا يعد مؤشرا خطيرا على ان المجتمعات العالمية لم تزل تعيش الذروة ولم تتمكن من الوصول الى خط الأمان الذي بموجبه تشعر بالراحة وأفق الأمل بعد التداعيات الجسدية والنفسية والسلوكية المؤذية التي سببها الفيروس حين اخذ بالانتشار بصورة مفاجئة، ما سبب ازمة حقيقية لدى الجهات الصحية المتصدية منذ اليوم الأول لدخوله حدود البلدان المختلفة ولم تتوانى لحظة عن تقديم الخدمات العلاجية للمصابين, ولكن المشكلة هي مشكلة كفاءة النظم الصحية ووضوح السياسات الصحية.

وقد قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم جيبريسوس”، إن المنظمة تأمل في انتهاء فيروس كورونا في غضون أقل من عامين. وأضاف جيبريسوس، أن الأنفلونزا الإسبانية التي انتشرت في عام 1918 انتهت في عامين. وتابع: أنه “في وضعنا الآن ومع مزيد من التكنولوجيا، وبالطبع في ظل مزيد من التواصل بين الناس، أمام الفيروس فرصة أكبر للانتشار لأن بإمكانه الانتقال بسرعة". وشدد على أنه “في نفس الوقت لدينا التكنولوجيا والمعرفة لوقفه". وفي السياق، قالت ماريا فان كيرخوف عالمة الأوبئة في منظمة الصحة العالمية إن “هناك حاجة لمزيد من الأبحاث بشأن تأثير التحور على فيروس كورونا", وأضافت خلال إفادة في جنيف شكلنا فريقا خاصا لرصد التحورات وندرس كيف يمكننا أن نفهم بشكل أفضل عملية التحور وتأثيرها.

ومن مؤشرات نشاط الفيروس مجددا هو ان الدول التي اتخذت خطوات الانفتاح النسبي على العالم عادت وانتشرت فيها الأصابات مجددا مما حدى بها الى العودة مجددا الى بعض الاجراءات القسرية السابقة في العزل والتباعد الاجتماعي وفرض ارتداء الكمامات بصورة عامة او جزئية في حالات السفر والتنقل في الوسائط الجماعية. ومما يثير القلق ايضا قالت منظمة الصحة العالمية إن على الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 12 عاما فأكثر وضع الكمامات للإسهام في التصدي لوباء كوفيد-19 بنفس الشروط التي تنطبق على البالغين، في حين ينبغي للأطفال ما بين سن السادسة والحادية عشرة وضعها حسب منهجية قائمة على مواجهة المخاطر.

وذكرت منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) في وثيقة نشرت على موقع منظمة الصحة تحمل تاريخ 21 أغسطس آب، أن الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 12 عاما فأكثر يجب عليهم بالذات وضع الكمامات في الأماكن التي لا يكون فيها ممكنا ضمان الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي لمتر واحد، وعندما يكون هناك انتقال للعدوى واسع النطاق في المنطقة. وهذا تدارك او مؤشر جديد ان قضية الأصابة بأختلاف الفئات العمرية واردة وممكنة ايضا.

وبعيدا عن الافرازات السلبية لكورونا على مستوى الجبهات الداخلية للمجتمعات المحلية ألا انها أحيت مفهوم التضامن والتكافل الداخلي والتعاون المشترك في زمن الأزمات, فقد ساهمت في تجنيد الطاقات الانسانية كافة في ايجاد حلول ميدانية لمشكلات كورونا وتداعياتها على مختلف المستويات, فقد جندت فيها كل الطاقات والموارد الاقتصادية والمالية والطبية والتعليمية والامنية للأستجابة لحالة الطوارئ التي فرضها كوفيد ـ 19, سواء في البحث عن حلول تعليمية بديلة, كالتعليم عن بعد وغيرها, أم الانخراط في معالجة المصابين واعمال الوقاية, او المساهمة في تطبيق الحظر وتوفير بيئة ملائمة للوقاية من اخطار الفيروس وانتشاره, او في توفير ضمانات الحد الادنى من العيش جراء أزمة الاعتكاف في المنزل التي فرضتها كورونا, او تسهيل مهمات العمل عن بعد, الى جانب الدور الكبير الذي قامت به الأسرة والوالدين في تحمل اعباء كورونا, رغم التفاوت في الأداء والأنتكاسات, وكما جرى على الصعيد المجتمعي استنفار لكل الطاقات البحثية الطبية والعلمية وتوجيهها صوب فهم طبيعة كورونا والعمل على العثور لعلاج او لقاح يقي المجتمع الدولي, وخاصة في الدول المرجعية, كدول الاتحاد الاوربي وامريكا والصين وروسيا وغيرها.

أما على صعيد السياسات الخارجية لأحتواء ازمة كورونا بين الدول وخاصة ذات القطبية السياسية, امريكا وروسيا والصين وحتى بين دول الاتحاد الاوربي ذات الانسجام النسبي في التوجهات فلم تكن بمستوى خطورة الازمة وتداعياتها على مستوى العمل المشترك لدرء الأخطار, فقد انسحبت امريكا من منظمة الصحة العالمية وعن دعم المنظمة ماليا وهي في احلك الظروف وكانت المبررات هو تواطئ المنظمة العالمية مع الصين, ثم دخول امريكا في مواجهات مع الصين على خلفية الكثير من العوامل التي سبقت كورونا والتي في جوهرها تعكس الصراع من اجل الحيازة التكنومعلوماتية المتطورة, ثم تهمة امريكا للصين بأخفائها حقيقة المعلومات الاساسية عن كورونا في بداية انتشاره " والتي لم تتأكد بعد ", حتى وصل الحد بترامب ان يطلق على كورونا " بالفيروس الصيني ". ويعلم الجميع ان الصين تشكل عصب الأقتصاد في السوق الرأسمالية وفي مقدمتها دول الاتحاد الاوربي وامريكا وبريطانيا, الى جانب الاسواق العالمية الاخرى في مختلف قارات العالم, وان الدخول معها في هكذا معارك في هذا التوقيت قد يضعف جبهة الحرب ضد كورونا.

أما الصراع مع روسيا فهو امتداد لحقبة الحرب الباردة ولم يهدأ يوما, والتي لازالت امريكا تنظر الى روسيا كنظاما شيوعيا, وهو صراع على مناطق النفوذ في العالم وأشكال التسويات المفروضة في الصراعات العالمية التي يراها كل من القوتيين العظمتين, ولكن ما اثار غضب الامريكان في عز ازمة كورونا هو الأعلان الروسي عن اكتشاف لقاح ضد كورونا والذي اطلق عليه " سبوتنيك في " واعتبرت روسيا أن اللقاح يعد "انتصاراً كبيراً للبشرية على فيروس كورونا" وأطلقت عليه اسم "سبوتنيك في "تيمناً باسم القمر الصناعي سبوتنيك 1 أول قمر صناعي يسبح في الفضاء الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي عام 1957.

وبعد أيام على إعلان روسيا عن التوصل للقاح مضاد لفيروس كورونا الجديد، المسبب لوباء كوفيد-19، ذكرت تقارير إعلامية إن الصين منحت براءة اختراع للقاح جديد مضاد للفيروس الذي أصاب أكثر من 23 مليونا وتسبب بوفاة أكثر من 800 ألفا آخرين. وبعيدا عن كفاءة اللقاحين الروسي والصيني واستيفائهم للشروط العالمية وفي مقدمتها شروط منظمة الصحة العالمية" على الرغم من اقبال دول عالم كثيرة لحيازة اللقاح الروسي تجاوزت عشرين دولة وبلغت جرعات اللقاح المطلوبة اكثر من مليار", إلا انه ما يعنيننا سياسيا هو ما سببه اللقاحين وخاصة الروسي من مفاجئة لأمريكا وكان احد دوافع التشكيك في اللقاح وعدم كفائته, هو على ما يبدوا أن لقاح كورونا امريكيا كان ورقة انتخابية بيد ترامب لأعلان سبق تصنيع لقاح امريكي ضد كورونا في ذروة التصعيد الانتخابي في امريكا وفي زمن يقرره ترامب, إلا انه لم يفلح في ذلك.

وعلى العموم فأننا نترك البعد العلمي في جدوى اللقاحين الروسي والصيني الى ذوي الاختصاص وخاصة منظمة الصحة العالمية التي تبدوا في حيرة من امرها بين صراع الاقطاب المتنافرة, ولكن ما يعني البشرية جمعاء هو ان الازمات الكونية كنموذج كورونا يجب ان تبقي النظم السياسية والاقتصادية المختلفة في دائرة الحس المرهف لمعاناة الانسان في الكوارث والمحن الجماعية, فلا قيمة لهذه النظم مهما بلغت عدالتها بغياب صحة الانسان وفنائه, ولا مبرر لأنانية تلك النظم وصراعها بغياب الانسان المحرك لتلك المنافسة بين المجتمعات العالمية المختلفة, فجميع النظم السياسة في العالم تدعي خدمة الانسان الفرد او خدمة المجتمعات المحلية او التضامن مع المجتمعات العالمية, وكورونا هو من الاختبارات ذات الكفاءة العالية لقياس مصداقية النظم العالمية ومواقفها من مكانة الانسان ودوره في صنع الحضارة العالمية.

 











54
في سيكولوجيا الدفاع عن النفس... حذاري من أراقة الدم العراقي

د.عامر صالح

بات المشهد العراقي اليومي أكثر دموية حيث ضحايا الأحتجاجات التي بدأت في الاول من اكتوبر من العام الماضي بتزايد مستمر وبأنتقائية اجرامية للضحايا, حيث الضحايا من النخب الميدانية والقيادية لأحتجاجات اكتوبر وايضا من الكوادر الطبية والهندسية والتدريسية والاعلامية التي انخرطت في الحراك الاجتماعي دفاعا عن المطالب المشروعة للشعب في الحياة الحرة الكريمة, من خدمات اساسية: صحة وكهرباء وتعليم وفرص عمل, الى جوانب الدعاوى الشرعية في اعادة بناء خريطة النظام السياسي المحصصاتي والطموح المشروع للأنتقال به الى نظام المواطنة الصالحة بعيدا عن الانتماءات الفرعية المذهبية والدينية والمناطقية والعنصرية والشوفينية التي ارهقت العراق وأفلسته خلال 17 عاما وأركنته مع مصافي الدول المعوقة والفاشلة وجعلت شعبه يعاني الأمريين, من بؤس وفقر وجوع وفساد أضاع ثروات العراق ومستقبله وكرست ملامح حاضر تعيس ورسمت ملامح مستقبل غامض عديم الأفق والاستقرار الانساني.

قبل وبعد زيارة رئيس الوزراء العراقي الى الولايات المتحدة الامريكية ازدادت موجات العنف ضد المتظاهرين السلميين, وازدادات معها موجات صواريخ الكاتيوشا الموجهة الى المنظقة الخضراء والى معسكرات الجيش العراقي المختلفة والتي يتواجد في بعض منها أمريكان, وهي كما معروف وسائل ضغظ ليست دبلوماسية بل عسكرية وهدفها واضح للضغط على رئيس الحكومة العراقية للتحاور مع الامريكان كي تنسحب من العراق وتهديد ضمني للكاظمي أنه في حالة عودتك الى العراق ولم تنسحب القوات الامريكية ستكون الارض تحت اقدامك جحيم" من مزيدا من الصواريخ الكاتيوشوية الى مزيدا من قتل المتظاهرين السلميين وتحميلك مسؤولية دمهم المراق" وبما أنك مسؤول مخابرات سابق فأنك تتحمل مسؤولية قتلهم لأنك تعرف بكل شاردة وواردة, وبالتالي خلط الأوراق على الكاظمي ووضعه في موقع المجرم القاتل والمبارك لبقاء القوات الأمريكية. تلك هي لعبة سوداء يجيدها من يسعى الى اللااستقرار في العراق, بل ويجيدها من أتى ودعم مجيئ الكاظمي للخلاص من الضغظ الجماهيري للأفلات من العدالة, ثم التنصل عنه ووضعه في موضع الضعيف وغير القادر على الخروج من مأزق البلاد وتحميله كل اخفاقات الحكومات السابقة. 

أن كل هذه التكتيكات من ضرب القوات الأمريكية، واستخدام البرلمان والحلفاء السياسيين لإصدار قرارات، واستهداف المتظاهرين والاختطاف والجريمة المنظمة، وإيجاد جيوش إلكترونية تثير الهلع والرعب وتبث أخبارا كاذبة، كلها الغرض منها خلق حالة من الاضطراب؛ للضغط على صانع القرار السياسي بالعراق والحكومة العراقية بشكل خاص وحرف مسارات حوار بناء يستجيب للمصلحة العراقية في ظروف صعبة وتهديدات خارجية وداخلية ماثلة امام العراق, ولكن هذه المجاميع تستجيب لأمزجة ومصالح آنانية ضيقة وتستجيب لضغوط اقليمية خارج اطار المصلحة الوطنية العراقية. أن الجماعات المسلحة التي تستهدف الأمريكيين تدرك أن الوجود الأمريكي أكبر بكثير من أن تجعل الولايات المتحدة تغير من منظومة تحالفاتها بضربات متفرقة من صواريخ كاتيوشا، لذلك هم يريدون الضغط على الحكومة العراقية الضعيفة أصلا بطبيعة نشأتها وعدم وجود كتلة برلمانية واضحة تدعمها وعلى طريق اسقاطها.

في هذه الملابسات المعقدة وفي هذا التوقيت الصعب يجري خلط الاوراق وزج المحتجين السلميين في آتون الصراع بين الحكومة والميليشيات المسلحة, واستخدام الأخيرة وعلى نطاق واسع تهم التخوين والعمالة للمحتجين وفبركة مختلف الحجج والروايات للتغطية على الاعمال الاجرامية والقتل التي تستهدف ناشطي الاحتجاجات ورموزهم القيادية, وهي لعبة مزدوجة, تستهدف التخلص من القيادات الميدانية للأحتجاجات الى جانب احراج الكاظمي واضعاف قدرته في اتخاذ خطوات جريئة وملموسة لفضح ما يدور حوله من تحالفات سياسية برلمانية غير نزيهة وشل قدرته على اتخاذ اي قرارات تفضح دور الدولة العميقة ودورها التخريبي في استقرار العراق.

أن تهم العمالة للسفارات الاجنبية وخاصة الامريكية منها هي من اسهل التهم لشرعنة قتل المحتجين بشكل يومي واستباحة دمائهم وتيتيم اطفالهم وترمل زوجاتهم والعبث بمستقبل الأسرة العراقية. وتجربة ما بعد 2003 تؤكد لنا من هو العميل, الذي بارك المحتل وصفق له وفرح لقدومه للخلاص من الدكتاتور دون حسبان لعواقب الاحتلال, وكان جزء من التحركات المكوكية للمحتل في صياغة النظام الطائفي والاثني البغيض والذي فرح لقوات الاحتلال الامريكي بما تفعله في العراق من تحطيم لمؤسسات الدولة والمجتمع بواجهة الخلاص من الدكتاتورية, أم أن العميل هو المحتج السلمي والراغب في اصلاح النظام السياسي وانتشاله من مستنقع الطائفية والاثنية المحصصاتية والفساد الاداري والمالي والداعي الى خروج القوات الاجنبية من العراق في أطر مقننة تضمن سلامته.

منذ اسبوع والمليشيات السائبة وحملة السلاح المنفلت يسرحون ويمرحون في البصرة وبغداد والناصرية وغيرها من المدن المحتجة ويستبيحون الدم العراقي في وضح النهار وبكل صلافة وسقوط اخلاقي, انه استمرار لمسلسل القتل والأغتيالات الذي اشتد منذ الأول اكتوبر من العام المنصرم, وقد عجزت الحكومات عن تحديد هوية القاتل وسوقه للعدالة او تغافلت عن تحديد هوية القاتل لأسباب متعددة ومتشعبة ولكنها غير مبررة بكل الأحوال, وأمام هذا العجز الحكومي قد يضع المحتجين امام خيار حمل السلاح للدفاع عن النفس والرد على اطلاق النار بأطلاق نار مقابل ومشروع في اطار الحق العام للدفاع عن النفس بما يكفله الدستور والقانون, وقد بدأت بوادر ذلك لدى احدى الناشطات في البصره في الدفاع عن نفسها ضد محاولة اغتيالها. تلك ليست دعوى لحمل السلاح من قبل المحتجين ولكن سياق الأحداث قد يفرض مختلف الخيارات للدفاع عن النفس في ظل العجز والشلل التام للحكومات المتعاقبة في وضع حد لقتل الأبرياء وبالتالي فلكل فعل تراكمي ردة فعل مساوية له.

أشكالية السياده العراقية تتحملها جميع الأطراف الدولية والأقليمية والداخلية السياسية والطائفية وان انتهاك الدولة وسيادتها يجري يوميا, وبكل الأحوال لا يجوز تبرير قتل العزل وممارسة الأغتيالات ويفترض بدولة مستقرة وقضاء مستقل قوي يبت في كل الأشكاليات بعيدا عن التصفيات الجسدية. وليست من الأنصاف والعدل والاخلاق ان نضع المسؤولية برقبة المواطن كي يدفع حياته ثمنا لمطالبته بحقوقه اما الخوض في التفاصيل وفرز الطالح من الصالح فلا تحله لغة السلاح.

ان الحاجة لتجنب الألم و الخطر حاجة فطرية بيولوجية يشترك بها الإنسان مع بقية الكائنات الحية في سلم التطور البيولوجي ، أذ يخلق الإنسان و هو مزود ببعض الأساليب التي تمكنه من الابتعاد عن ما يؤذيه و يسبب له الضيق ، و قد نشاهد بداية هذا السلوك لدى الإنسان في مرحلة الرضاعة ، و يظهر في صراخ الوليد و بكائه والتي تشكل احتجاجاته البدائية الأولى ، أو عندما نكبل الطفل بوسادة أو يدنا على وجهه فسرعان ما يدفعها بيديه او حركة رأسه لتجنبها أو دفعها بعيداً عنه . و هكذا مع نمو الإنسان و احتكاكه مع الآخرين من أفراد الأسرة و الأصدقاء و المجتمع واندماجه لاحقا بالنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، يطور الإنسان هذه الحاجة بتعلم الكثير من السلوك الذي يساعده في الدفاع عن نفسه ضد ما يعترضه من مثيرات خطرة و مؤلمة, سواء في بيئته الأصغر أم الأكبر ، و يظهر ذلك في اهتمامه بتحسين ظروف وجوده من خدمات انسانية تليق بأنسانيته.

الأحباط في اشباع الحاجات الاساسية يدفع الفرد الى المزيد من الخيارات جراء الكبت المتواصل وفي ظل غياب سلطة القانون او ضعفها وتدهورها وعدم مقدرتها الاستجابة للمطالبه المشروعه في البقاء الطبيعي, بل وتهديد وجوده بالقتل والتصفيات الجسدية, فمن حق الانسان للدفاع عن نفسه في درء الاخطار التي تهدد وجوده كعضوية بيولوجيةـااجتماعية, وقد كفلت الشرائع السماوية والوضعية حق الدفاع عن النفس ضد المخاطر المجهولة التي تهدد حياته. وقد جاءت المادة (42) من قانون العقوبات العراقي متضمنة الشروط الواجب توافرها لقيام حالة الدفاع الشرعي كسبب من أسباب الإباحة قائلة : (لا جريمة ان وقع الفعل استعمالا لحق الدفاع الشرعي) ويوجد هذا الحق اذا توافرت الشروط الأتية :
1ـ اذا واجه المدافع خطر حال من جريمة على النفس او على المال او اعتقد قيام هذا الخطر وكان اعتقاده مبنيا على أسباب معقولة.
2ـ ان يتعذر عليه الالتجاء الى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب.
3ـ ان لا يكون أمامه وسيلة أخرى لدفع هذا الخطر. ويستوي في قيام هذا الحق ان يكون التهديد في الخطر موجها الى نفس المدافع او ماله او موجها الى نفس الغير او ماله. يتبين من دراسة هذا النص انه يتضمن نوعين من الشروط الأول منهما يتعلق بالخطر المراد رده والدفاع عنه والثاني يتعلق بفعل الدفاع.

أباحة الدم العراقي والذي يهدر أمام قضاء غير مستقل واجهزة امنية غير مهنية نسبيا وعليها ملاحظات كثيرة بفعل تركيبتها التي تعكس طبيعة النظام المحصصاتي الفاسد والتي لا تستطيع حماية المواطن وعدم المقدرة عن الكشف عن الجرائم المرتكبة بحقه, فأنها تضع شعبنا وطلائعه المحتجة امام مسؤولية كبيرة في الدفاع عن النفس ومقارعة المليشيات والعصابات المستهترة بكل الوسائل الممكنة في اطار مشروعية الدفاع عن النفس بما يكفله القانون الدولي والوطني.

لقد اثبتت تجربة اكثر من 17 عاما من الحكم بعد 2003 أن القوى المليشياوية وذات العقائد المتحجرة لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة, بل انها تستخدم الديمقراطية وفسحة الحرية المتاحة للأيغال في القتل والقمع والاختطاف لشعب اعزل, وبالتالي فأن مشروعية الدفاع عن النفس تكتسب شرعية قانونية وانسانية واخلاقية لردع تلك العصابات المتمردة على الدولة وعلى السلم المجتمعي, وبالتالي يصبح أمر ازاحتها من المشهد السياسي واجب وطني واخلاقي. ولعل في المهمات القادمة لحكومة الكاظمي ما يحمل في طياتها من انتخابات مبكرة, وسن قانون انتخابات عادل, وتشكيل مفوضية انتخابات نزيهة عادلة وسن قانون المحكمة الاتحادية واستكمال نصابها, الى جانب ضرورة التنظيم الذاتي للمحتجين والارتقاء بمستوى أدائهم, والمشاركة الفعالة في الانتخابات القادمة المبكرة الى جانب الدعم المعنوي لمصطفى الكاظمي لتشجيعه في تشكيل جرأة استثنائية لخوض المعركة القادمة ضد الفساد والمفسدين ولعل القادم افضل.


 



55
في سيكولوجيا حنين بيروت الى المحتل الفرنسي الذي يشبه حنين بغداد


د.عامر صالح

كانت التفجيرات في مرفأ بيروت ليست حدثا لوجستيا فقط أشاع الخراب فيما حوله وعطل الحياة اليومية بالكامل وأرجعها الى عقود مضت او عودة الى اللاحضرية وتقهقر بيروت الى حياة بدائية سبقت تألقها في محتلف مجالات الحياة الادبية والثقافية والعمرانية والسياسية, بل انه نكوص في الحضارة المادية وما تفرزه من نكوص سيكولوجي يعود بالتفكير الى مراحل سبقت نهضة بيروت الجميلة واستقلالها من الاحتلال الفرنسي, ولكن لا توجد فنتازيا مبتذلة خارج فهم الظروف الموضوعية التي انتجت انساق من التفكير الغرائبي الذي يدفع بأتجاه العودة الى الماضي.

على الرغم من انتهاء الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1943 وانسحاب آخر جندي عام 1946 بعد أكثر من 20 عاما من الاحتلال، ترددت أثناء جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حي الأشرفية اللبناني، أمس الخميس، هتافات باللغة الفرنسية التي يجيدها اللبنانيون جيدا تقول: "تحيا فرنسا"، كما كانت هناك دعوات بعودة الانتداب الفرنسي، تأكيدا على عدم الرضا عن النظام الحالي, وهناك ألحاح شعبي يطلب بعدم تسليم أي مساعدات دولية الى الحكومة اللبنانية مباشرة لأنها" كما يقول البيروتيين " ستسرقها كما هي في سابقاتها من المساعدات, فهل الشعب اللبناني المعروف بحسه المرهف وفطنته كان غبيا في مطالباته !!.

لقد عانى الشعب اللبناني كثيرا، وتغلب على الكثير من المآسي من قبل، ابتداء من المعارك الضارية بالوكالة إلى حرب أهلية كارثية دمرت وسط بيروت. وأظهر الشعب اللبناني قدرة فائقة على التحمل؛ لكن يبدو أن صبره نفد الآن، خاصة بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت يوم الثلاثاء الماضي. اليوم يعيش لبنان حالة اللادولة, بل هو ركام دولة أسست لها المحاصصات الاثنية والطائفية في اطار مشروع ابقاء لبنان ضعيف وأسير للمليشيات الطائفية والكارهة اصلا لبناء دولة المواطنة العابرة للطوائف والاديان, وبالتالي فأن الصراع بين الدولة والفوضى هو صراع لم يستكين, بل ان كفة اللادولة هي الارجح في النموذج اللبناني الذي يسير على سنته النموذج العراقي.

ان الفشل في النهضة الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة وبناء دولة المواطنة هو احد اسباب نكوص المواطن اللبناني بل وحتى العراقي في ترحمهما على الاحتلال والرغبة في عودته, فأنعدام الخدمات الانسانية الاساسية من صحة وتعليم وكهرباء هي مقياس جوهري لجهد الحد الادنى لأي نظام انساني عادل, والعدالة ليست في ابتذال واجترار الشعارات, بل في خطوات ملموسة لتحسين ظروف العيش والارتقاء بها بما يجعله انسانيا غير متؤسف على الاحتلال وعودته, وما يتحقق على الارض اللبنانية والعراقية هو مخزي ومعيب ولن يمت بصلة لنهضة الانسان واشباع حاجاته الاساسية الاولى, فالفساد وسرقة المال العام والرشوة والمحسوبية في كلا  البلدين يستنزف موارد البلدين ويجعلهما في صدارة البلدان الاولى في العالم من حيث الفساد وعدم الاستقرار, فهل تحرير فلسطين يمر عبر بوابة الفساد الاداري والمالي لبيروت وبغداد.

عندما نستنكف من الاحتلال الفرنسي للبنان ونشك بتضامنه, وكذلك في العراق نمتعض ونشك عندما يعلن المحتل الغربي والامريكي وقوفه مع الشعب العراقي " وهو مزاج مشروع في اغلب دوافعه " علينا ان نقدم قوة المثل في بناء دولة المواطنة الجامعة لكل التنوعات الاثنوظائفية بعيدا عن التخندق الميليشياوي, دولة قوية وليست دولة عميقة تنفرد فيها ميليشيات سائبة في ادعاء تحرير فلسطين, ويعرف القاصي والداني أنه اذا اريد تحرير فلسطين فأن اول ما تحتاجه هو دول قوية مساندة ومتماسكة في الداخل, وفيها اشباع الحد المعقول من الامن والحاجات الاساسية الانسانية, من صحة وتعليم وخدمات, وفيها وحدة القرار المصيري وليست كل يقرر مصيره بمفرده, فالدول لا تنتصر على اعدائها إلا بوحدتها وتماسكها الداخلي, وبديمقراتياتها النزيه وليست المزوره, فأرادة الشعوب هي الفصل بين الحق والباطل. 

لقد كان ترحيب اللبنانيون بزيارة ماكرون " المحتل " لا يوصف، حيث وقف في وسط الجماهير في بيروت وتحدث إليهم؛ بل إنه أزاح أحد حراسه جانبا من أجل أن يعانق سيدة لبنانية رغبت في ذلك. لقد اعتبره اللبنانيون "منقذا لهم". لقد بادر بهذه الزيارة غير مبالٍ بالمخاطر، وأقلها إمكانية الإصابة بفيروس "كورونا" وسط جموع اللبنانيين الذين جاء إليهم للإعراب عن تضامنه وتضامن فرنسا معهم. 

لقد كان ماكرون أثناء جولته يرتدي ربطة عنق سوداء، تعبيرا عن الحزن على ضحايا الانفجار المدمر الذي شهده مرفأ بيروت الرئيسي وأسفر عن مقتل من 135 شخصا "حتى لحظة كتابة المقال " على الأقل وإصابة الآلاف، وتشريد حوالى 300 ألف شخص. وتقدر الأضرار بنحو 5 مليارات دولار، وهو مبلغ لا تمتلكه لبنان الآن، حسب بلومبرج. وفي حديثه للصحافيين في نهاية زيارته دعا ماكرون إلى إجراء تحقيق دولي لتحديد أسباب الانفجار، الذي تردد أنه كان نتيجة لوجود شحنة كبيرة من نترات الأمونيوم في أحد مستودعات المرفأ. وقال ماكرون: "نحن في حاجة إلى تحقيق دولي شفاف وصريح، لضمان عدم إخفاء أي شيء أو بقاء أي شكوك", بالتأكيد فهناك من يشكك بنوايا ماكرون ويعتبر سلوكه دعوة لزعزعة لبنان واستقراره" وهو البلد الفاقد للاستقرار اصلا ".

غدا سيأتي مسؤول امريكي او غربي الى العراق على خلفية اي حدث ارهابي او تفجيرات بأسباب مختلفة لا سامح الله " وخاصة للأسلحة والعتاد والمتفجرات السائبة المنتشرة في ارض العراق"  وسنرى كيف يحتضنونه العراقيون ليست محبة به " فالمحتل لا يستساغ مهما كان " ولكن فشل الحكومات العراقية المتعاقبة في تأمين الحد الادنى من العيش الكريم الى جانب اهدار المال العام والفساد الاداري ونخر مؤسسات الدولة العراقية, سيضع العراقيين في موقع المصفق على مضض لمن يأتي لنجدتهم سواء كان امريكي أم غيره, أنها آلية نفسية طبيعية تجسدها العودة الى الاعتزاز والتشبث بمرحلة سابقة برغم سلبياتها واشكالياتها بسبب من تدهور الحاضر وانعدام أفق المستقبل, أنها حالات من من الحنين المشروع وغير المشروع يجسدها عمق ازمة الحاضر غير القابلة للحل في المنظور القريب وما يرافقها من يأس وجزع لدى المواطن العراقي.

تفجيرات بيروت ألقت بظلالها على شكل مخاوف مشروعة لدى الشعب العراقي بسبب من تشابه بنية النظامين السياسيىن القائمين على ضعف الدولة وسيطرة الميليشيات التي تتدخل في اقحام الحكومة العراقية ورسم سياسات غير مستقلة من مختلف القضايا الاقليمية والدولية ودفع العراق الى المزيد من التخندق والارتهان لمختلف المحاور ذات عدم الاستقرار. والحل واحد في بيروت وبغداد والذي يكمن في حصر السلاح بيد الدولة وبسط نفوذ الدولة وان يكون القرار بيد الدولة حصرا. أنها سنة بناء دولة المواطنة الحاضنة للجميع بعيدا عن الاجتهاد المؤذي والمخرب للدولة والمجتمع, وكل الاجتهادات واردة ولكن تحت مظلة الوطن والقرار الوطني.



56
في سيكولوجيا التعذيب في العراق ـ قوات حفظ النظام والفيديو المسرب 

د.عامر صالح
نشر مغردون عراقيون يوم السبت، فيديو يظهر فيه مراهق وقد جرد من ملابسه بالكامل بينما يستجوبه أفراد يرتدون ملابس تبدو عسكرية، موجهين له الإهانات، بينما يقطع أحدهم شعره باستخدام آلة حادة, وكان الفيديو مقرفا ومخدش للحياء بكل ما ورد فيه من تعامل مع الشاب الحدث في عمر 16 سنة, الى جانب استخدام الألفاظ السوقية النابية بحقه, والتي لا تعبر عن اخلاق قوات حفظ النظام كما ينبغي, والذين يجب ان يتحلوا بثقافة حقوق الانسان في التعامل مع حالات الأعتقال  او عموم سلوكياتهم المهنية والتي يجب ان ترتبط اصلا بالحفاظ على ارواح المواطنين والتعامل وفق القانون واللوائح الانسانية التي اقرتها القوانين العراقية ومنظمات حقوق الانسان, ولكن على ما يبدوا ابتلاء هذه الاجهزة الأمنية بالمحاصصة الطائفية والسياسية والاجندة الحزبية في تركيبة تلك الاجهزة لم يترك فسحة انسانية لعمل تلك الاجهزة على اسس من التعامل الانساني النزيه والمهني, مما يضع المواطن ضحية سهلة لأفتراس تلك الاجهزة, التي اصبحت ملاذا لمن لم يحصل على عمل في القطاعات المدنية, كما ان البطالة في القطاعات الأجتماعية الاخرى دفعت الكثير للأنتساب لتلك الاجهزة بعيدا عن النزاهة في المهنية وشروط الاختيار وبعيدا عن دراسة الخلفية الاجتماعية والنزاهة العامة للمتقدم لتلك الاجهزة, مما ترك تلك الاجهزة فريسة لمختلف السلوكيات المنحرفة والسيكوباتية للعديد من منتسبيها.

وقد اكدت وزارة الداخلية، انه تم تدوين أقوال المشتكي المجني عليه الذي طالب بالشكوى وتوجيه الاتهام ضد من قام بهذا الفعل، مؤكدة انه تم التعرف على هوية مرتكبي هذا الفعل الاجرامي، وباشرت فرق العمل بإجراءات القاء القبض عليهم واحتجازهم لاستكمال التحقيق معهم واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لإنجاز التحقيق وعرض النتائج أمام القائد العام للقوات المسلحة. واوضحت الوزارة، انه لثبوت وجود تقصير في القيادة والسيطرة من قبل قائد قوات حفظ القانون وجه القائد العام للقوات المسلحة بإحالته إلى الامرة وإعادة النظر بهذا التشكيل الذي من المفترض أنه تم استحداثه لتعزيز سيادة القانون وحفظ الكرامة الإنسانية ومحاربة كل المظاهر غير القانونية، لا أن يكون هو نفسه أداة خرق للقانون والاعتداء على المواطنين بالصورة البشعة.

هذا الحدث والتعامل المشين يعزز المزيد من التساؤلات والاقتراب من الاجابة عليها, وهي من كان يقف وراء قتل وتعذيب المئات من الابرياء المحتجين منذ اندلاع انتفاضة الاول من اكتوبر في العام الماضي والى اخر الشهداء والضحايا الذين وقعوا في نهاية شهر تموز 2020 ومن يقوم بالاختطاف والاعتقال الكيفي والتغييب للمحتجين, وان اقرب الدلائل الأخيرة تشير الى القتل ببنادق الصيد من قبل أفراد محسوبين على القوات المسلحة الحكومية والذين جرى اعتقالهم وهم قيد التحقيق" حسب المصادر الرسمية ". 

وعلى خلفية تلك الاحداث اصدرت المنظمة العليا لحقوق الانسان في العراق بيان يوم السبت في الاول من آب 2020 جاء فيه  أن المفوضية تعرب عن استهجانها لتصرفات القوات الامنية وفي مقدمتها قوات حفظ القانون بالتمادي في أنتهاك حقوق المواطن العراقي وأمعانها في استخدام العنف اللفظي والتعذيب الجسدي المهين الذي يحط من كرامة المتظاهرين السلميين المطالبين بالحقوق.

 وأكدت المفوضية في بيانها ان الكثير من التصرفات المسيئة رصدتها فرقها الرصدية في العديد من ساحات التظاهر وتم ابلاغ الحكومة العراقية واجهزتها التنفيذية وقواتها الامنية بضرورة الزام منتسبيهم بعدم التمادي في انتهاك حقوق المتظاهرين والالتزام بالمعايير الدولية لفض التظاهرات وأحترام كرامتهم وأعتماد آليات الاشتباك الآمن الذي يضمن حياة المتظاهرين والقوات الامنية على حد سواء. فيما أضافت أن تجاهل قيادة التشكيلات الامنية "لتوصياتنا" شجعت منتسبيها على الاساءة للمواطن وانتهاك حقوقه والحط من كرامته وهي بحد ذاتها جريمة يعاقب عليها القانون.


وطالبت المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق رئيس الوزراء و وزير الداخلية بعدم التسويف والمماطلة وتحمل المسؤولية بالكشف عن "منتسبيها المنتهكين لحق التظاهر وكرامة المواطن" وتقديمهم للقضاء لأنتهاكم حقوق الانسان الدستورية، وانتزاع الاعترافات بالاكراه "خلافا للأتفاقية الدولية" لمناهضة التعذيب المصادق عليها من قبل العراق.

يُعرف التعذيب تعريفات مختلفة، ولكن التعريفَ الأكثر استخداماً ما ورد في المادة الأولى من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984، والتي عرَّفت التعذيب على أنه " أي فعل يُحدَث فيه الألم أو تُسبَّب من خلاله المعاناةُ الشديدة، سواءً الجسدية أو العقلية، قصداً، لشخص ما ". والتعذيب جريمة يعاقب عليها القانون الدولي.

يُعد الألم المزمن من أشيع الآثار التي يعانيها الناجون بسبب مركزية الألم وشدة العديد من ممارسات التعذيب القاسية والمدمرة. ولهذا السبب يمكن أن تستمر الآثار النفسية فترة طويلة، أو أن تتطور بعد مدة معينة من الزمن. ومن المحتمل أن يختبر الناجون من التعذيب ألماً مستمراً ومشكلات نفسية تظهر في سياق صعوبات اجتماعية ومالية. 

وللتعذيب مخاطر بالغةٌ لفهم الأعراض النفسية والجسدية للناجين، فلكل قصة نجاة تفاصيلُها التي تؤثّر في كلِّ حالة خصوصاً. وتتباين هذه المشاعر بين الهزيمة واليأس والكبرياء والبقاء على قيد الحياة والمرونة. تُقسم أنواع التعذيب إلى: الاعتداءات البدنية, والتعذيب النفسي, والحرمان من الظروف الانسانية" مثل الحرمان من الطعام والماء", والتحفيز الحسي المفرط" مثل التعرض المستمر للضوضاء".

آثار التعذيب: الآثار الجسدية الطويلة الأجل: الندبات، والصداع، وآلام العضلات والعظام والقدم، وفقدان السمع، وآلام الأسنان، والمشكلات البصرية، وآلام البطن، واضطرابات القلب والأوعية الدموية، وإصابات الجهاز التنفسي والعصبي. الآثار النفسية الطويلة الأجل: صعوبةُ التركيز، والكوابيس والأرق، وفقدان الذاكرة، والتعب، واضطرابات القلق والاكتئاب وحتى محاولات الانتحار، واضطراب ما بعد الصدمة.

أن بناء الأجهزة الأمنية على اساس القوة وليس على السلطة الشرعية النابعة من المجتمع يعتبر احد مصادر استخدام العنف المفرط واللامسؤول, وعدم الحيادية لهذه الاجهزة يعتبر احد مصادر تهديد السلم الاجتماعي وانتشار الجرائم المنطمة وشيوع المافيات المحمية من قبل اجهزة امنية مخترقة وهي تقترب من اداء الميليشيات وليست الاجهزة الامنية المستقلة, كما ان الطائفية والمحاصصتية في بناء هذه الاجهزة تركها فريسة في عدم اداء مهماتها في حفظ كرامة الفرد والمجتمع, وبالتالي شاعت الانتقائية المريضة والواسطات والمحسوبية والرشاوى في انتقاء الكثير من عناصر تلك الاجهزة, بدلا من ان تكون متاحة للجميع وللعناصر المهنية والوطنية في الانتماء أليها, وبالتالي اصبحت تؤدي وظائف قمعية لا حمائية للمواطن. صحيح ان هذه الاجهزة لها في جذور القمع في العراق تاريخ طويل وليست وليد نظام المحاصصة ما بعد 2003 إلا ان وظاائفها يفترض ان تختلف جذريا عن حقب ماضية وخاصة في المجتمعات التي ترغب في بناء نظام العدالة الاجتماعية والديمقراطية.

وبدل ان تتحول هذه الاجهزة الحساسة الى امكنة مهنية وعادلة وحامية للمواطن, اصبحت هذه الاجهزة امكنة لمن يمارس التعذيب والقتل والاهانة لمن يريد الاحتماء بهم, وبات الكثير من منتسبيها يحمل الصفات السيكولوجية لممارس التعذيب والعنف دون وجه حق, ولعل ابرز تلك الصفات المستواحاة من الادبيات النفسية هي:

1ـ السادية: وهي تعني استمتاع الشخص برؤية الآخرين وهم يتألمون وحصوله على نشوة نفسية من القيام بتعذيب الآخرين، وهذه السادية تعتبر اضطرابا شديدا في الشخصية يجعلها تسعى نحو إذلال الآخرين والتنكيل بهم، والشخصية السادية لا تستطيع العيش إلا بهذا الاسلوب. وهذه الصفة قد تكون في الأمرين بالتعذيب او المنفذين له.

2 ـ  المسايرة: هذه الصفة قد تكون مستغرَبةً ومتناقضةً مع الصفة السابقة، ولكنها ضرورية جدا لمن يقومون بالتعذيب، فهم يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بالاستلاب والخضوع والمسايرة، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا يعرضونها على عقل واع أو ضمير حي، فهم في هذه الحالة يطيعون رؤساءهم طاعة عمياء وينفذون أوامرهم في التعذيب دون بصيرة، وغالبا ما يكون هؤلاء المسايرون المنفذون من أصحاب الذكاء المحدود والثقافة الضحلة أو المنعدمة، ومن الذين يسهل إقناعهم واستهواؤهم والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما.

3 ـ الشخصية السيكوباتية: وهي شخصية مضادة للمجتمع لا تحترم قوانينه ولا قيمه ولا أعرافه، وهي شخصية عدوانية لا تعرف الإحساس بالذنب أو الندم ولا تتعلم من تجاربها السابقة ولا تعرف الشفقة أو الرحمة أو العدل أو الكرامة، وكل ما يهم هذه الشخصية هو تحقيق أكبر قدر من اللذة حتى لو كانت هذه اللذة مبنية على أكبر قدر من الألم الذي يصيب الآخرين. والسيكوباتي ليس بالضرورة لصا بل أحيانا تجد هذه الصفات في رؤساء أعتى الدول وفي مسئولين كبار، وفي هذه الحالة نجد الصفات السيكوباتية مغلفة بقناع من الدبلوماسية والنعومة ولهذا يطلق على هذا النوع السيكوباتي المهذب, هو أخطر من السيكوباتي العنيف الظاهر العنف لأن الأول يحمل كل صفات السيكوباتية مضافة إليها صفات الخداع والتستر وهذه الشخصية تتسم بالانتهازية والبراجماتية، والقانون والأخلاق لديها كلمات ليس لها معنى أو وجود وهي تستخدمها فقط حين تجد  في مصلحتها ذلك.

4 ـ الشخصية البارانوية: وهي شخصية متعالية متغطرسة ترى في الجميع أعداءً لها، وتتوقع النوايا السيئة والأفعال السيئة من الناس، لذلك فهي تتسم بسوء الظن وتلجأ إلى العدوان الاستباقي أو الوقائي وتبرر هذا العدوان بأنه لحماية نفسها أو غيرها من الإرهاب أو الأذى المتوقع من الغير (الأشرار دائما في نظرها)، وهذه الشخصية تحتقر الآخر وتسحقه إذا استطاعت وبالتالي فلن ترعى له حرمة أو كرامة ولن تأخذها الرحمة أو الشفقة بها لأنها تعتبر الجميع شياطين أو حشرات صغيرة تستحق السحق والتعذيب والإذلال.

5ـ التبرير: وهو أحد الدفاعات النفسية التي يستخدمها المعذِّبون" من غير الانواع السابقة " لكي يقوموا بالتعذيب وهم مرتاحو الضمير، فمثلا يعتبرون التعذيب وسيلة مشروعة لتحقيق الأمن لبقية الناس أو لانتزاع اعترافات مهمة تؤدي إلى تحقيق السلام" في نظر امريهم او قادتهم ", فهم في النهاية يربطون التعذيب بقيمة وطنية أو أمنية تسمح لهم بقبوله والتفنن فيه.

قد يكون الأمر مفهوما أن يقترب الفرد من حالات المرض العقلي او اضطراب شخصي فيرتكب افعالا تضر بالأخرين, وتكون هذه الصفات الخمسة اعلاه او بعض منها قد استحوذت على سلوكه ودفعته لأرتكاب جرائم ألحاق الاذى او تعذيب الآخرين, ولكن الاخطر عندما يكون فعل التعذيب والاهانة والمساس بالكرامة عمل مؤسساتي تقوم به اجهزة محسوبة على كيان الدولة, فأن الامر اشد خطورة وتهديدا للدولة والمجتمع, وهنا تلعب العقائد المتحجرة والطاعة العمياء والتصديق على قرارات غير عادلة ومبهمة دورا خطير وكبيرا في حرف مهنية الاجهزة الامنية وتوظيفها لصالح فئات واحزاب ومصالح مختلفة لا صلة لها بالأمن المجتمعي. أن سيطرة الدولة على كافة الاجهزة الامنية والدفاعية كان ولايزال وسيبقى واجبا لا يمكن المساومة عليه ابدا, وسوق من تسول له نفسه في العبث بالاستقرار الاجتماعي او التجاوز على الابرياء الى العدالة لينال جزائه, اما خلاف ذلك فأن القدر المجهول ينتظر الجميع.

 






57
العراقيون بين الداخل والخارج ـ في سيكولوجيا التعصب الأعمى

د.عامر صالح

لا زلت غير مقتنع في التقسيم المتحجر الذي يقسم الشخصيات العربية او الأسلامية او التقسيم القائم على اساس جغرومناطقي الى شخصيات ذات ثبات شبه مطلق وغير قابل للتغير أو التأثر بالظروف او الفترات والحقب التاريخية التي تنتج شخصيات مختلفة في مراحل سياسية وتاريخية مختلفة, وبالتالي عندما نتحدث عن الشخصية المصرية, او الشخصية العراقية, او اللبنانية او المغربية وغيرها يجب ان يكون الحديث مقترنا بسلامة منهجية تعبر عنها الظروف المحيطة والتغيرات السياسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعيىة لكل حقبة زمنية أنتجت شخصيات مختلفة, حتى وأن سميت بأطرها الجغرافية المكوناتية العرقية, وبالتالي يمكن القول أن ما كان عراقيا او مصريا او لبنانيا أن يتبادلا المسميات عندما تتشابه الظروف التي يمرون بها, فما هو عراقي يمكن ان يكون لبناني او مصري او مغربي وبالعكس.

وهنا اتفق نسبيا ان ثبات الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عبر حقب مختلفة ينتج بالضرورة ثباتا نسبيا في الصفات السيكولوجية للشخصية وقد تتأصل الكثير من الصفات السلوكية والشخصية بفعل عوامل التعزيز الدائم والدعم المحيط بما يترك انطباعا اوليا انها صفات وراثية وذات طبيعة تأصلية ويصعب تغيرها او يستحيل حتى اذا تغيرت الظروف التي انتجتها" طبعا هذا غير صحيح " والصح هو ان هناك بطئ شديد او عدم توافق وتطابق دينامي بين التغيرات الحاصلة في البنية الاقتصادية والاجتماعية وبين منظومة القيم والصفات الشخصية حيث الاخيرة تتخلف عنها نسبيا بفعل ارتباطها في البعد الشخصي ومدى تفاعله مع التغيرات الموضوعية الحاصلة على الارض, ولكنه لا يستمر طويلا حتى يلتحق بتلك التغيرات ويكتسب افرازاتها السايكولوجية وحتى بما تفرزه من منظومة اخلاقية.

ما اريد الحديث عنه بتلك المقدمة هو ما افرزته الظروف السياسية في العراق حاليا بعد 2003 وبتأصل جذورها الى مرحلة النظام السابق هو الدعاوى الباطلة والفاقدة للسند العلمي والاخلاقي هو تقسيم العراقيين الى عراقيي الداخل وعراقي الخارج والتفضيل المفتعل لعراقي الداخل على عراقي الخارج, والذي وصل الى مطالبات تفتقد الى الحس الانساني والتي تدعو الى الخلاص او اسكات صوت عراقي الخارج, هذه الدعاوى المبطنة لها جذورها في موقف النظام السابق من المعارضة العراقية ودعواه للخلاص منهم وتصفيتهم وخاصة عندما رفعوا شعار الكفاح المسلح لأسقاط النظام الدكتاتوري, وفشلت اغلب محاولاته لترويض المعارضة العراقية في الخارج وخاصة ذات المزاج والتوجه اليساري, في محاولة منه لأستغلالها في كسب الرأي العام العالمي لدعم النظام وبقائه وفك العزلة الدولية عنه.

وللأسف الشديد ان هذه الدعاوى اليوم امتدت وبأشكال مبطنة الى بعض مجاميع الحراك الجماهيري وبشكل خاص الى جماهير انتفاضة اكتوبر العراقية والتي اندلعت في الاول من اكتوبر للعام الماضي ولا تزال مستمرة, بل وصل الأمر الى ما هو الأسوء ان يتجاوز بعض من " المثقفين او الاساتذة " على عراقي الخارج ويدعوهم الى السكوت عن المطالب العراقية المشروعة في العيش الكريم او تحت دعاوى مبطنه تحت شعار " دعوا شعب الداخل وشأنه " ولا اريد التشكيك بتلك الدعوات إلا من منطلق من استفاد الكثير منهم في اكمال دراساته في ظل النظام السابق والجميع يعرف ضغوطات النظام السابق على ذوي الدراسات العليا وغيرهم, فأن لم يكون مع النظام عليه توقيع تعهد براءة من العمل السياسي المعارض, وفي تلك الاشكالية قد تفسر بعض من عقدة كراهية عراقي الخارج, واليوم في هذا الظرف عندما يحضروا هؤلاء كناشطين مدنيين او دعاة تغير فأن التلوث الأسقاطي اشد حضورا في سلوكياتهم الأضطرابية.

عراقيو الخارج كما يحلو للبعض ان يطلق عليهم هم عراقيون ليس من حق احد ان ينتزع منهم وطنيتهم وولائهم للوطن وليس من حق احد ان يوزع الوطنية كيفما يشاء وينتزعها ممن يشاء. كما لا يمكن أن  يُأخذ ستة  ملايين عراقي في الخارج بجريرة حفنة أساؤوا  التصرف ، فليس من العدل ان يجردوا من وطنيتهم ، ويتم الهجوم عليهم وكأنهم خونة أو متآمرين. ولو قارن المواطن النبيه والفطن: كم من فاسد سياسي قادم من الخارج ساهم في الحكم بمن هم فاسدين من عراقي الداخل, ومن اعلى درجة وظيفية الى ادناها !!!.

ان افتعال الفرقة بين العراقيين و تقسيمهم الى داخل وخارج  وزجهم في معركة خاسرة خطيئة بحق الوطن ، فالعراق عراق الجميع ، وما تحدث به بعض المسؤولين أو سياسين او من  المشعوذين " المثقفين " بأن العراق للعراقيين في الداخل هي كلمة حق يراد بها باطل. ان في عراقيي الخارج كفاءات كبيرة وطاقات مهمة ، يقومون بدور فاعل في بناء البلدان التي يعيشون فيها ولهم سمعة طيبة، فاقصائهم  هو مؤامرة مقصودة ، وانا هنا لا اعني السياسيين بل ، الكفاءات العلمية والاكاديمية والطبية والهندسية والفنية والادبية الأبداعية وفِي بقية المجالات ، ان دول العالم تدفع الأموال الضخمة وتقدم الإغراءات الكبيرة من اجل استقدام العقول والطاقات ونحن في العراق وللاسف نمارس وبجهل طرد العقول البناءة من ابناء الوطن. أن فاسد سياسي قادم من الخارج وينتمي الى حزب لا يؤمن بالديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة لا يمكن تعميمه على عراقي الخارج, ففي ذلك جهل وفتح بوابة جهنم  لتشتيت شمل العراقيين في الداخل والخارج.

يجب على كل شعبنا ومثقفيه وطلائعه السياسية الخيره ان تقف بقوة ضد هذا التصنيف المفتعل: عراقيو الخارج وعراقيو الداخل, وان هذا التقسيم والتجزئة للجسد العراقي الواحد قد يحمل في طياته بوادر سيئة لقتل وتصفيات متبادلة بين مكونات شعبنا وقد تفقده اكثر الناس كفاءة ونزاهة, وفي مجملها تصب في خدمة الأسلامويين غير المؤمنين بالديمقراطية والتعددية, وبقايا ثقافة البعث المنهار وتعيد انتاج العنف المجتمعي بين شرائحه النوعية والأكثر وفاء للوطن.

وبهذا السلوك الاقصائي بين عراقي الداخل والخارج فهو سلوك أناني سلبي قائم على تعميمات وأوهام ومشاعر وانفعالات تجعل المتعصب من عراقي الداخل يتصرف على نحو عاطفي غير منطقي، يتنازعه دافعان متناقضان، الحب الأعمى للذات من جهة، والحقد الأعمى للآخر من جهة ثانية. وكما يمكن الحديث عنه باعتباره سلوكا فرديا، يمكن الحديث عنه باعتباره سلوكا جماعيا، باعتبار الجماعة المتعصبة هي مجموع الأفراد المتعصبين المكونين لها. ولذلك يعد التعصب، بهذا المعنى، مرضا نفسيا واجتماعيا في آن معا. وذلك بالنظر إلى كونه إنتاجا للفرد والجماعة معا، يتأثران به معا. ومن المعاني التي ترتبط بالحقل الدلالي للتعصب التقوقع والتزمت والعمى والعنصرية والتمييز والإقصاء والاستبعاد والتطرف. وهي كلها معاني سلبية. هكذا نجد أن التعصب داء يصيب الأفكار والقناعات والمشاعر فيؤثر سلبيا على معقولية وجودة وحكمة التصرفات التي تصدر عن المتعصب.

في هذا التعقيد من النزوع جراء تعقد الاوضاع الداخلية في العراق, ولكي نكون براء من تلك النزعة اللاانسانية علينا نحن عراقي الداخل ان نكون اكثر وعيا في تشخيص مواطن الضعف واسباب الانهيارات الكبرى في مجتمعنا وان نكون اكثر بعدا عن الانفعالات المدمرة للذات العراقية الواحدة في تجزئتها الى عراقي داخل وخارج, أنها ازمة حضارية ومعبرة عن عزلة شعبنا عن العالم الخارجي لعقود ماضية, تلك ثقافة النظام المقبور والاسلامويين الذين يعزفون على الانفعالات المريضة في محاولة للخلاص من ازماتهم, وبالتالي فأن شعبنا امام مهمة معقدة ومتشابكة وهي الخلاص في ثقافته من التعصب الديني والمذهبي والابتعاد عن الهويات الفرعية الضارة وعدم تجزئة شعبنا الى شعب في الداخل وشعب في الخارج, انها هجمة مفبركة ضد أي تغير مرتقب في الاوضاع الحالية للعراق, بل انها دعوى لأقصاء النخب السياسية النزيهة, بل وللأنفراد بشعبنا مجددا واقحامه في آتون الطائفية والمناطقية والفرعية والمذهبية والشوفينية العرقية.

اعتقد ان تلك التجزئة والفرقة بين عراقيي الداخل والخارج هي ردة فعل حضارية حملها النظام السابق بعزلته العالمية والحضارية عن العالم الخارجي والتي وضع فيها العراقي في موقع القوي المفتعل شكليا ولكنه ضعيفا امام متغيرات الحضارة الانسانية وضعيف الاستيعاب امام ما يجري من منجزات في الفكر والثقافة والعلوم المختلفة, ومن ثم كان مجيئ الاسلامويين اشد وقعا في اعادة انتاج التخلف وفهم ظروف العصر والانفتاح واعادة انتاج خطاب القرون الوسطى الذي لا يصلح للحياة, وعلى شعبنا ان يدرك اللعبة بأمعان وان يستفيد من خبرة اليسار العراقي بكل اطيافه في استعادة اللحمة الوطنية والابتعاد عن خطاب التفرقة والتراجع الى الخلف, فأن العودة الى الصفر يعني ضياع العراق !!.


58
ثورة 14 تموز 1958 وسيكولوجيا الحنين" النوستالجيا "


د.عامر صالح

يحتفل العراقيون كل عام وفي يوم 14 تموز تحديدا بذكرى ثورة تموز التي أسقطت الحكم الملكي في العراق, وتثير ذكرى الثورة جدل واسع, وخاصة على صفحات التواصل الاجتماعي والاعلامي بصورة عامة بما فيها القنوات الفضائية التي تقف بالضد او مع هذا الحدث, انطلاقا من رؤى وتجاذبات ومصالح مختلفة لهذا الحدث في تاريخ العراق, وقد تجاوز الاختلاف حول تقيم الحدث المذكور" والذي تم استذكاره قبل ايام حدود المعقول في احيان كثيرة" سواء من طرف انصار الحكم الملكي أو من انصار ثورة تموز " ووصل في بعض صفحات الأنترنيت حد السب والشتم والغلق المتبادل لصفحات الأصدقاء وانهاء الكثير من العلاقات الاجتماعية عن بعد, مما فوت فرص كثيرة وغنية كان يفترض توظيفها في قراءة الحدث قراءة موضوعية وبعيدة عن التشنجات والرؤى الجامدة لجميع الاطراف, وبما يخدم توظيف الحدث لتشخيص علل الحاضر المستعصية التي يمر بها العراق ويهدد مستقبله. طبعا دون انكار كان هناك العديد من الصفحات الشخصية التنويرية والمواقع الاعلامية المرموقة والتي عكفت على دراسة الحدث دراسة موضوعية وفي اطار زمانية ومكان الحدث وتفاعلاته الوطنية والاقليمية والعالمية. ومما يثير الانتباه والاشمئزاز انظمام بعض الابواق الاعلامية والقنوات الفضائية الى جانب جوقة السب والشتم لأحداث ثورة تموز" واعتبارها يوم اسود في تاريخ العراق" ووقوفهم الى جانب الأشادة بالملكية وهم لم يكونوا يوما من انصار الملكية, بل محسوبين على تيارات الفوضى واللااستقرار والشوفينية في تاريخ العراق عبر عقود. 

اذا كانت الشعوب هي التي تزكي أنظمتها أو تحجب عنها الشرعية فأن ثورة تموز 1958 تمتعت منذ انطلاقتها الأولى وحتى نهايتها على يد النظام الأنقلابي الفاشي في 8 شباط 1963 بزخم جماهيري هائل واستعدادات ذاتية للدفاع عنها, ولم يكن موقف الشعب العراقي أنذاك موقفا انفعاليا عابرا بل استند الى مجمل المعطيات الأقتصادية والاجتماعية والانسانية العامة التي كان برنامح الثورة يتبناها ويسعى الى تحقيقها وكانت بمجملها تستجيب لمطالب الشعب العراقي في تحسين ظروف العيش والحياة العامة والسيطرة على ثروات البلاد, بعد أن أخذ الفقر والبؤس والعوز والفساد وتفشي الاوبئة والامراض مأخذه في حياة الناس في الحقبة الملكية, وبالتالي كانت الثورة استجابة لتفاعلات العوامل الذاتية والموضوعية التي وصلت ذروتها في رحم النظام الملكي, ومن اراد أن يقيم ثورة 14 تموز اليوم عليه ان يقيم الحدث ضمن خصوصية الزمان والمكان الذي وقعت فيه الثورة, واعتقد سيسعفنا منهج البحث التاريخي وادواته في وضع الثورة في سياقها الذي نشأت فيه.

وبالمقابل فأن من يمجد الملكية العراقية اليوم عليه أن لا يتأثر بنموذج مملكة السويد أو الدنمارك أو المملكة المتحدة ويتخذها محكات لأضفاء الهالة على المملكة العراقية. اما اعمال العنف والتصفيات الجسدية المنبوذة والمرفوضة انسانيا سواء لرموز النظام الملكي ولاحقا لرموز اول جمهورية فأنها تعبر جليا عن سلوكيات القطيع الخطيرة في المنعطفات التاريخية, واكثرها خطورة التي يغذيها خطاب الثقافة الشوفينية واالعنصرية الذي يشدد قبضة الكراهية واستباحة الدم والتحريض على القتل.

أن مرور 62 عاما على ذكرى الثورة واستعصاء أزمة الحكم وعدم المقدرة على حل المعضل السياسي وعدم وجود انجازات في الحاضر جعل الناس اكثر نكوصا وتقهقرا وعودة الى الماضي للبحث في ثناياه بما يشبع رغبتنا في الانجاز, ولعل الأفراط في الحنين الى الملكية عند الفريق المناصر واعتبار كل ما حصل فيها هو مثالي ويجب استذكاره ايجابيا وتكراره هو مؤشر لأحباطات الحاضر وعدم القدرة على ألتماس أفق مستقبل أفضل. اما الهجمومات على ثورة تموز فهي اسقاط سيكولوجي بأمتياز في تحميل الآخرين فشل المنظومات السياسية التي أتت ما بعد الثورة الى يومنا هذا, حيث خاتمتها الأحتلال الامريكي عام 2003 واسقاط الدكتاتورية عبر الاحتلال والذي اسقط الدولة ومؤسساتها ولم يسقط النظام ومنظومته الأخلاقية" وقد تم بمباركة من يحن للملكية ويشتم ثورة تموز".

تقييم مصداقية المفاهيم والأحداث تبقى نسبية في اطار البحث عن الحقيقة وتلعب ظروف عصرنا الضاغطه نحو عقلنة الأحداث التاريخيه دورا كبيرا في اعادة تقييم الأحداث.اما ما هو خارج السياق هذا هو اعتبار ثورة" انقلاب" 14 تموز 1958 هو اول محاولة داعشية لقلب نظام الحكم وكأن النظام الملكي لم يشهد انقلابات عسكرية ناهيك عن التعسف في استخدام التوصيف للحدث, هذا النمط من التفكير ذات الأندفاعات المتهوره يحرمنا من الخروج من دائرة التشنجات لفهم الأحداث ووضعها في سياقها الزماني والمكاني الذي نشأت فيه. ادعاء السبق في الوعي وممارسة النقد والنقد الذاتي هو نتاج تحسن ظروفنا الفكرية والحياتية الحاضرة وليست تقدم فطري في بنيتنا الدماغية . 

وما هو ضروري التذكير به هو ان النظام الملكي عانى من احتقانات سياسية وتعثرات جوهرية في السير قدما لأرساء ديمقراطية وتعددية سياسية راسخة بل أنه أسس لديمقراطية ارستقراطية, أتهمت في زمن نوري سعيد بالتزوير والتلاعب والتجاوز على ارادة الشعب, الى جانب القمع المستديم لأحزاب المعارضة والحد من نشاطها ومحاربتها, وقد تشكل على خلفية ذلك اجماعا شعبيا وسياسيا خارج السلطة على خلفية استعصاء ازمة الحكم والسلطة وضرورة رحيلها, الى جانب الازمات الاقتصادية والاجتماعية, من فقر وسوء خدمات وبطالة وفساد اداري ومالي لعقود تركز في رموز السلطة الحاكمة انذاك, وبالتالي فقد النظام قدراته الذاتية على التطور والاصلاح الذاتي.

كانت الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية التي جاء بها حكم عبد الكريم قاسم بعد 14 تموز 1958 مهمة في جوهرها وتستجيب لمصالح السواد الأعظم من الشعب العراقي، لكن الرجل فشل في الإصلاح السياسي، إذ لم يكن مهتماً باستيعاب الأفعال السياسية الحكومية والمعارضة في إطار مؤسساتي وحزبي منظم فضاع سريعاً وعده بالانتخابات واستعادة الحياة البرلمانية في بداية 1960 ليصبح الشارع مكان حسم الخلافات السياسية وتحل تدريجيا فوضى الشارع بدلاً من المؤسسات البرلمانية والحزبية, طبعا جرى ذلك على خلفية محدودية التجربة السياسية لرموز الحكم الجديد وانشغالاتهم بعوامل بقائهم واستحواذهم على السلطة بعيدا عن الاستماع الى صوت الشعب وممثليه في ضروروة الحفاظ على الثورة وتطويرها الى صيغ متقدمة افضل" وهنا ارى التذكير بظروف العصر انذاك والعوامل الدولية وصراع الدول العظمى ومفاهيمها المختلفة بطبيعة الأنظمة السياسية التي تختلف عن اليوم".

اعتقد ان الأجترار في النقاشات حول الحقبة الملكية والجمهورية دون توظيف لها بشكل مثمر لأستنهاض الحاضر المتردي هو جزء من حالات الحنين الى الماضي أو ما يسمى سيكولوجيا وبشكل اوسع هو النوستالجيا, فيتم الأفراط في تجميل الماضي في مواجهة حاضر صعب وقاسٍ، وهذا هو حال الأجيال الأولى من الناس وحتى من السياسيين الذين يستبدلون الحاضر بذاكرة بعيدة لا ترى في الماضي المندثر سوى بديل وهمي لواقع يعجز الفرد عن التعامل معه بإيجابية.

و ان الحنين الى الماضي "  النوستالجيا "  هي الية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، لذا فإنها تكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة خاصة عن اجيال مختلفة تمر بأوضاع صعبة، أي عند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية, وفي السياسة حيث الأمر اكثر تعقيدا من الحالات الفردية فأن استدعاء حقب تاريخية لأغراض الدراسة والنقد والتحليل يختلف عن استدعائها باعتبارها صح مطلق ولا يمكن المساس به, فأن ذلك لا يسهم باعادة تشكيل حاضر افضل, وهنا تأتي الاستفادة من مراحل تاريخية سابقة باعتبارها دروسا للحاضر والمستقبل.

نحن نحب الحنين للماضي ” النوستالجيا “، ولكنها ليست جيدة كما نظن، وليست سيئة أيضاً, من الأسلم أن نقول إننا جميعاً أو أن معظمنا يتمنى العودة إلى الماضي، وأننا جميعاً مررنا ونمر دائماً بذاك الشعور الذي يشبه مشاعر الحزن والسعادة، كلما زاد رضانا عن واقعنا يقل ذلك الشعور ولكنه لا يختفي, فالنوستالجيا جهاز آخر في أجسامنا يمدنا بالسعادة ولحظات الراحة، ومهما أخذنا منه لا نكتفي، شعورٌ يجمعنا ويربطنا بأشخاصٍ معينين وأماكن دافئة وروائح مألوفة، ” النوستالجيا ” تعطينا دفعة نحو المستقبل وتحسن من حالتنا النفسية وتزيد رغبتنا في التواصل الاجتماعي خصوصاً مع الأشخاص الذين يرتبط الماضي بهم كالأهل وأصدقاء الطفولة، الحنين يجعلنا أكثر أمناً وأكثر دفئاً، فهي إذاً حالة نافعة وليست سيئة أبدا.

في الواقع إن الخطر الوحيد وراء ” النوستالجيا ” او الحنين للماضي يكمن عندما نقف عندها، أو عندما نفهمها بشكل غير صحيح، فنظل نرتدي تلك النظارات الوردية عن الماضي بدلاً من أخذ نظرة جادة عن الحاضر، ونغرق أنفسنا في الماضي ونعيش فيه كوسيلة لتجنب الحاضر، ونرفض الانتقال إلى المستقبل أو إلى كل ما هو جديد لأن الماضي هو الأفضل دائماً وأبدا. فالأزياء القديمة رائعة، والمطاعم القديمة مثالية، والأفلام القديمة هي الأفضل, ونظل نحيي صيحات القديم لمجرد إحيائها وندور في دائرةٍ مفرغة لا نجني منها سوى أننا نفقد التعامل مع الحاضر ونهدم المستقبل.

ومن المخاطر السياسية التي تهدد الحاضر والمستقبل في العراق بعد 2003 أن الكثير من القوى السياسية الحاكمة تلجأ في محاولاتها وسياساتها العامة الى استحضار اشكال من الماضي السياسي والسياسي الديني لفرض اجندة على الحاضر والمستقبل لا صلة لها بالديمقراطية والتعددية السياسية, وهذا جزء من نوستالجيا مرضية. وبقدر ما فشل النظام الملكي في اصلاح نفسه من الداخل, وعدم تمكن ثورة تموز من الانتقال الى اشكال اكثر نضجا في الادارة والحكم السياسي نجد صورة تلك الاخفاقات في عدم تطور ونضج ديمقراطية العراق بعد 2003 ومراوحتها في المكان بل واحتمالات فشلها المطلق. وتبقى الدروس المستخلصة من حقبتي الملكية والجمهورية مادة تاريخية غنية لمن يريد رسم ملامح استقرار افضل لعراق آمن.





59
جريمة أغتيال الدكتور هشام الهاشمي ضحية صراع الدولة واللادولة

د.عامر صالح

في ظل احتدام الصراع المتزايد والعنيف من اجل مشروع دولة المواطنة يقدم العراقيون المزيد من الشهداء والضحايا النوعية من الاوساط الفكرية والسياسية والثقافية والتي ناضلت من اجل اعادة بناء الدولة العراقية, دولة المواطنة التي افرغ محتواها جراء عقود من القمع والدكتاتورية وتلتها سنوات ما بعد 2003 حيث انهارت مؤسسات الدولة العراقية وتصدع المنظومة القيمية والاخلاقية والسياسية, واصبح القول الفصل للدولة العميقة, دولة الميليشيات المسلحة والمجاميع الأجرامية والقتلة المأجورين من حملة العقائد المتحجرة والسلوكيات المنحرفة, والتي لا ترى في الأختلاف في الرأي والجمال وتنوع الافكار إلا عدوها اللدود والذي يجب تصفيته رموزه بشرعها الخاص المعادي للحياة والوجود الانساني القائم على ستة الاختلاف والتنوع.

ولكي يبقى العراق أسيرثقافة القبح والتفرد في الرأي وثقافة الكراهية التي طالما نخرت بالجسد العراقي وأقحمته في متاهات فقدان الأمل والمستقبل وغياب دولة القانون, حيث يكون فيها المواطن العراقي عموما والمثقف بشكل خاص هدفا سهلا ومستساغا للتصفية الجسدية والقمع الفكري, وأحلال ثقافة اليأس المتراكم واعادة انتاج ثقافة البقاء لحملة السلاح المنفلت والميليشيات المشرعنة وغير المشرعنة وحملة كواتم القتل, وتحويل الدولة الى حاضنة للموت والفناء اليومي, بعيدا عن مهمتها الأصل في حماية المواطن وأمنه وسلامته ودعم التكافل الاجتماعي وتعزيز السلم المجتمعي. 

لقد أقدم خفافيش الظلام المسلحة بأغتيال الدكتور هشام الهاشمي, المحلل السياسي والخبير الأمني, مساء يوم الأثنين الماضي قرب منزله ولاذوا بالفرار, ويعتبر مراقبون عراقيون، أن اغتيال الهاشمي وفق ما أظهرته كاميرات المراقبة، يكشف مدى ترهل أجهزة الدولة الأمنية، في ظل سهولة تحرك منفذي الجريمة في شوارع بغداد، خاصة وأن التوقيت كان متزامنا، مع بدء ساعات حظر التجول، المفروض للحيلولة دون تفشي وباء كورونا، ويضع هؤلاء علامات استفهام كبيرة، أمام كيفية تحرك منفذي الجريمة بهذه السهولة، ثم تمكنهم من الانسحاب والعودة من حيث أتوا بنفس السهولة، بعد تنفيذ جريمتهم النكراء.

والشهيد الدكتور الهاشمي ولد في بغداد عام 1973, هو مؤرخ وباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية والجماعات المتطرفة، ومختص بملف تنظيم داعش وأنصارها. متابع للجماعات الإسلامية العراقية منذ عام 1997، عَمِل في تحقيق المخطوطات التراثية الفقهية والحديثية، مع أن تحصيله الأكاديمي بكالوريوس إدارة واقتصاد - قسم الإحصاء. وتم اعتقاله وحكم عليه بالسجن من قبل نظام صدام حسين، وقد خرج من السجن عام 2002، وبعد عام 2003 انصرف إلى العمل في الصحافة، وبدأ يشارك في كتابة التقارير والوثائقيات مع الصحف والقنوات الأجنبية، وبدأ يكتب مدونة عن خريطة الجماعات المسلحة في العراق، ولم يكن يوماً عضواً في الجماعات المتطرفة، لا سيما أنصار الإسلام وتنظيم القاعدة وفروعها وداعش . الجماعات المتطرفة تحكم على الهاشمي بأحكام مختلفة، منها الردة والعمالة بسبب مواقفه المناهضة لهم, يعد الهاشمي أول من أماط اللثام عن قيادات تنظيم الدولة - داعش في كُلٍ من العراق و سوريا، حيث افصح عن أسماء ومعلومات تخص قيادات التنظيم وآلية عملهم. وقد ساهم من خلال قدراته الفكرية والتحليلية في تقديم خدمات مهمة للحكومات العراقية أسهما في تفكيك تنظيم داعش من الداخل, ويعتبر الشهيد من صناع القرار والرأي العام في قضايا مختلفة. 

ولدى الدكتور عدد من المؤلفات هي: عالم داعش, ونبذة عن تاريخ القاعدة في العراق, وكتاب تنظيم داعش من الداخل, ولديه اكثر من 500 مقال وبحث منشور في الصحف والمجلات العراقية والاجنبية عن الجماعات المتطرفة. وقد عمل في عدة مراكز ابحاث, أبرزها: 
مدير برنامج الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب في مركز آكد للدراسات والابحاث الاستراتيجية, ومستشار أمني لمرصد الحريات الصحفية العراقي, ومستشار أمني لنقابة الصحفيين العراقيين, وعضو فريق مستشارين لجنة تنفيذ ومتابعة المصالحة الوطنية في مكتب رئيس الوزراء, وعضو اللجنة العلمية لمؤتمر بغداد لمكافحة الأرهاب, ومحاضر لمادة مكافحة الأرهاب في الأكاديميات الأمنية, وباحث زائر في مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية وعضو ملتقى النبأ للحوار وغيرها.

ونددت كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا ودول اخرى باغتيال هشام الهاشمي، ودعت ممثلة بعثة الأمم المتحدة في العراق هينس بلاسخارت في تغريدة الحكومةَ العراقية لتحديد الجناة بسرعة وتقديمهم للعدالة واعتبرت اغتياله عمل خسيس. والهاشمي هو أحد أبرز المحللين السياسيين والأمنيين العراقيين، ولديه العديد من المقالات في مراكز أبحاث عراقية، وهو أحد أبرز الشخصيات العراقية حضورا في منصات التواصل الأجتماعي، ولديه العديد من المتابعين، ويعد من المؤثرين في مسار الرأي العام العراقي.

وقد غرد الدكتور الشهيد هشام العديد من التغريدات لعدة ايام وحتى يوم استشهاده, وبالتأكيد سيغضب وينتقم من شملته التغريدات ضمنا ولم يحترم حرية أبداء الرأي, وابرز هذه التغريدات هي:

الحراك التشريني, بما فيه النخب المعارضة, التي ترفع شعار السلمية, عليها تنظيم نفسها سياسيا للتنافس انتخابيا عبر وسائل الديمقراطية, ومن يرى تأييد الحراك بدون تنظيمه فهو يسعى الى حراك فوضى ووهم, بدون حراك منظم سياسي وقوي ستأكل النخب السياسية الفاسدة الحراك أصلا وفصلا.

"أكثرُ الشباب الذين يطبلون للسياسيين الفاسدين هم باحثون عن فتات وبقايا طعام من موائدهم وأموالهم التي سرقها الفاسدون، لا يعرفون شيئا لحظة التطبيل لسلطة الفاسد، فلا ناقة لهم فيها ولا جمل. وإنّما أنفُسَهم يظلِمون".

‫"مشكلة القوى السياسية التي خسرت مكاسبها باستقالة عادل عبد المهدي، أن معظم الخاسرين من الأحزاب السياسية، فقدوا قدرتهم على التفكير المتوازن. ‬وأصبح الانتقام والعبثية والوهم، رأس الحربة لمهاجمة الكاظمي الذي ساهموا بمنحهِ الثقة والمشروعية من خلال تفاهمات سباعية البيت السياسي الشيعي".

"السياسي الفاسد حينما يقارن مع صديقه الشيطان، قد لا يبدو صديقه على ما هو عليه، ربما نقارن بين سياسي فاسد ومخلوق ورع. سياسي برلماني ينتمي لحزب عنده هيئة اقتصادية مستحوذة على منفذ حدودي وميناء بحري، يزعم أن بيته في البصرة بدون خط كهرباء المولدة الأهلية، ورع كاذب وكذب مكشوف".

"إن قدرة الدولة على فرض سيادتها الداخلية ترتبط بصورة رئيسية بالحد التدريجي من تأثير الفصائل والاحزاب الهجينة، من دون الدخول بصدامات عنيفة ومعارك تكسير عظام لإنهاء وجودهم، ولكن الخطوة التدريجية تكمن في احتواء كيانهم لإصلاحه، وتفكيك نواتهم الصلبة بفتح حوار قانوني وطني، ومن ثم معالجة المتمرد بفرض القانون ولو بالعنف".

تأكدت الانقسامات العراقية ب: 1 ـ عرف المحاصصة الذي جاء به الاحتلال" شيعة, سنة, كرد, تركمان, اقليات " الذي جوهر العراق في مكونات. 2 ـ الاحزاب المسيطرة" الشيعية, السنية, الكردية, التركمانية .." التي ارادت تأكيد مكاسبها عبر الانقسام. 3 ـ الاحزاب الدينية التي استبدلت التنافس الحزبي بالطائفي.

وكذلك ظهوره قبل استشهاده بيوم في احدى الفضائيات متحدثا عن المليشيات المنفلتة وعدمية جدوى صواريخ كاتيوشا التي يقذف بها بين الحين والآخر على مختلف المناطق ولا تصيب الاهداف المعنية بل تلحق الضرر بالمنازل السكنية والاطفال"حسب قوله". الى جانب علاقاته المقربة والاستشارية من رئيس الوزراء الحالي قد اثار ضغن وكراهية من لا يرغب الاستماع لرأي الآخر.


لقد كان اغتيال الخبير الامني والمحلل الاستراتيجي والباحث الدكتور هشام الهاشمي" حسب حديث لأحد السياسين" " ليس فقط جريمة بشعة لشخصية تميزت بمعارفها الواسعة والعميقة بشؤون الجماعات المسلحة المتطرفة والارهابية، ورؤيته الرصينة والمتوازنة للاوضاع السياسية وانحيازه الفكري لخيارات الاعتدال وارساء اسس الدولة مدنية القائمة على المواطنة ولجرأته في التعبير عن افكاره وتشخيص المخاطر التي تتهدد امن البلاد واستقراره ومصادرها، وانما هو حدث صادم يحمل رسائل سياسية تحمل تحذيرا جديا لاكثر من جهة وتمثل تحديا للحكومة ورئيسها ولمنهجه".


وما يؤذي الذات الانسانية ان يكون لدى بعض اوساط "مثقفة" أن  ادانة الجريمة عمل خجول وحذر, ومغلفا برؤى مريضة محتواها" ان الضحية هو نتاج للأوضاع العامة وبالتالي متوقعة هذه العمليات وستزداد, وعلينا معالجة القضية في اطار الصراع الاقليمي والدولي, بل اعتبرها البعض جريمة ارتكبتها اسرائيل وامريكا لتأجيج الصراع الطائفي مجددا", انها محاولات بائسة للتخفيف من هول الجريمة المرتكبة بحق الخبير الامني والسياسي, بل واعطاء الضوء الاخضر للقتلة بارتكاب مزيدا من الجرائم. لقد اهتز الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي لأغتياله, ولم يهتز بعض من الضمائر" المثقفة ".


لقد كان اغتياله نكسة لحرية التعبير, بل ان الهاشمي كان احد رموزها, وقد عانى العراق ومنذ 2003 بفقدان الكثير من الاعلاميين والصحفيين وقد بلغ عددهم اكثر من 240 ضحية في مختلف التخصصات الاعلامية والصحفية والثقافية, حتى صنفت المنظمات الدولية العراق ضمن الدول الخطرة على ارواح الصحفيين والاعلاميين وغيرهم, الى جانب ما استثهد مؤخرا وفقط في احتجاجات اكتوبر الماضي والتي بلغ عددهم اكثر من 700 شهيد وآلاف الجرحى والمعوقين والمغيبين واالمعتقلين, وفي صفوفهم الكثير من يعمل في الصحافة والاعلام.

وكانت أصوات الشعب قد تعالت، مطالبة بكبح جماح الجماعات المسلحة في الشارع العراقي، وضبطها في إطار سلطة الدولة، وقد طالب نشطاء عراقيون إبان انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بالكشف عن مرتكبي عمليات اغتيال واختطاف الناشطين، التي زادت بصورة كبيرة في ذلك الوقت، وكانت تتم بنفس الطريقة في العاصمة بغداد، وعدة مدن ومحافظات أخرى، منها كربلاء والنجف والناصرية. 

تبقى الدروس المستخلصة من استشهاد الهاشمي كما غيره تثير تساؤلات مشروعة لدى الناس والرأي العام, ولعل ابرزها: هل ينجح الكاظمي في منع عودة عمليات الاغتيال للشارع العراقي كما تعهد, واين دور الحكومة الحالية وجهودها في الكشف عن قتلة محتجي اكتوبر وهل سيتم الكشف عنهم فعلا أم اللعب في الوقت الضائع, وهل تمتلك الحكومة اجهزة امنية واستخبارتية حيادية تعمل بدون مساومات وضغوط, هل ستنحدر نحو الأسوء حرية التعبير على خلفية اغتيال الهاشمي ويعود الخوف انتاج نفسه اضعافا بسبب عدم العثور على الجناة المجرمين, وهل هناك سقف زمني لفك الارتباط بالدولة العميقة وجماعاتها المسلحة. انها مهمة ليست سهلة في وجه مصطفى الكاظمي اذا اراد يبدء فعلا بخطوة الآلف ميل ولكن هناك شعب سيقف معه وعلى افتراض صدق نوياه. المجد والخلود لروح الشهيد هشام الهاشمي شهيد الكلمة الحرة والخزي والعار للقتلة الجبناء.
















..


60
فرض هيبة الدولة وسلطة القانون وسيكولوجيا النفاق السياسي

د.عامر صالح

من المفارقات الحادة في المشهد السياسي في العراق ما بعد 2003 هو النفاق السياسي وغياب المشروع الوطني لبناء الدولة العراقية لدى معظم القوى السياسية, فقد تراوحت مواقف القوى السياسية بين مرحب ومبارك ومصاحب للأحتلال الامريكي, وبين رافض له  بخجل وحياء مبتذل, وقد تهافتت اغلب القوى السياسية والاسلاموية السياسية والأثنية على تقاسم كعكة العراق ووضعه على طريق الضعف والتفكك المتواصل والانهيار لمؤسسات الدولة ثم اغراقه في الفساد الاداري والمالي الذي أفلس الدولة العراقية اليوم مما سيدفعها للأقتراض الخارجي والداخلي. ثم لاحقا ممارسة النفاق بمطالبة القوات الامريكية والاجنبية بالخروج من العراق دون قيد او شرط ودون ادنى مسؤولية تقع على عاتق المحتل الذي ساهم الى جانب القوى السياسة بألحاق الأذى والخراب في حاضر العراق ومستقبله, وهذه المطالبات والتي هي مشروعة لمن يدعي بها من القوى الوطنية المخلصة, وليست من يطالب بها تحت ضغوطات واجندة اقليمية واستجابة لمزاج متهور وانفعالات الساعة والتي قد تؤدي بالعراق الى ما لا يحمد عقباه في ظل ضعفه الحالي والتهديدات الاقليمية والارهاب العالمي المتمثل بداعش واخواتها.

ولعل ابرز ملامح الشخصية المنافقة هو: القدرة على المراوغة والتحايل والتقلب في المواقف, التشبث في الخطاب الديني أو السياسي أو الاجتماعي لإسناد تصرفاته المختلفة, الكذب المتواصل في الحديث وفي العلاقات الاجتماعية, خيانة الأمانة, الإخلاف في المواعيد, التحكم في الانفعالات وإظهار نقيضها بما يبعد عنه تهمة النفاق, يحاول المنافق الاهتمام بالمظهر الخارجي كجزء من سيكولوجيا الظهور لاختراق الوسط الاجتماعي الذي يتواجد فيه مقرونا بحلاوة اللسان وإجادة لغة الجسد كتعبيرات الوجه وحركات اليدين وغيرها من الصفات والصفات المضادة ذات الطابع التمويهي . وهناك الكثير من الإدانة للمنافق في الموروث الثقافي الشعبي وتأكيد خطورته, فعلى مستوى الإدانة, عندما تسأل شخصا, ما هو الفرق بين الكلب والمنافق فأن الجواب يكون : أن ذيل الكلب في أعلى " مؤخرته ", وذيل المنافق في أعلى مقدمته "لسانه ", أما على مستوى خطورة المنافق فيقال : أن أفعى لسعت " منافقا " فتسممت...وماتت.

وهذا النوع من النفاق هو نفاق "المؤمن الفاسد", ولا نعني به حصرا فقط على المؤمن الذي يعتنق إحدى الديانات السماوية أو غير السماوية ويبتعد عنها في الممارسة العملية, بل تشمل أيضا كل ما يعتنقه الفرد من أفكار ومعتقدات وإيديولوجيات سياسية ذات طبيعة أخلاقية واجتماعية واقتصادية ايجابية إلى حد ما استنادا إلى معاييرها المعلنة في الخطاب النظري, ولكنه في الممارسة العملية والحياتية يتصرف ويصوغ سلوكياته الفردية وحتى السياسية بالضد من هذا الخطاب, فيتحول هذا الفرد إلى " مؤمن فاسد " يعث في الأرض فسادا وظلما وجورا, متسلحا بتفسيرات ذاتية ومصلحيه للخطاب المعلن لإشباع رغباته الشخصية بما فيها القتل وفساد الأخلاق وحرمان الآخرين من حقوقهم, مستندا إلى سلطة ما " دينية, أو سياسية, أو اجتماعية أو مالية وغيرها " كغطاء تسمح له بذلك, ولذلك فأن المؤمن الفاسد ليست فقط من خرج عن دينه, وان كان الخروج عن الدين هو الفساد الأعظم كما هو شائع شعبيا, وبهذا قد يكون المؤمن الفاسد هو من المتدينين بلباس الدين وطوائفه, أو من دعاة القومية أو الوطنية وغيرها من الانتماءات.

وينخرط " المؤمن الفاسد " في منظومة الفساد المجتمعية: الاقتصادية, والإدارية والمالية, والاجتماعية, والأخلاقية, والثقافية وحتى الدينية وغيرها من منظومات الفساد المختلفة, عبر مختلف أعراض ومظاهر الفساد وأساليبه وألوانه المختلفة, من محسوبية ومنسوبيه, وبيروقراطية إدارية, واستغلال المنصب العام, والغش والتزوير, والنصب والتحايل وسرقة المال العام, والفساد الأخلاقي والقيمي وتغير معالم الثقافة الوطنية ورموزها والتجاوز على الرموز الدينية والإخلال بسمعتها.

أما دولة "المؤمن الفاسد" إن كانت بلباس ديني أو قومي أو "وطني" عام, فهي دولة المعتقلات والسجون والاستبداد ومصادرة الحريات الشخصية والعامة على طريق استعباد مواطنيها وتحطيم نفسيا تهم وإذلالهم, وتجري هذه الممارسات بواجهات مختلفة ومبررات وهمية, منها على سبيل المثال, إن هناك خطر خارجي قادم يهدد الأمن القومي والوطني مما يستدعي "تعبئة الجهود ومصادرة الحريات" لأنها عائق أمام ذلك, أو أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحفاظ على اتجاهاتها لا يحتمل تعدد الآراء والتنوع السياسي وبالتالي فأن القمع والحد من المعارضة السياسية هو من مؤشرات نجاح التنمية وملازم لها وضمانتها الأكيدة.

ودولة المؤمن الفاسد في العراق ليست لها " مناطق عفة محصنة " فهي تضرب كل القطاعات دون رحمة, وهي أشبه بفيروس في جسد بلا مناعة, وهذا الفيروس يتسلل إلى نواة الخلية ( نظام الحكم ومؤسساته وقطاعاته بدون استثناء) فيصيغ برامجها طبقا لاحتياجاته ثم يتسلل إلى المجتمع فينشر المرض وتتغير البرامج كلها طبقا للبرنامج الفيروسي. أن فيروس دولة " المؤمن الفاسد " يفسد عملية التقدم والتطور الاجتماعي المخطط , حيث يفتت المؤسسات اللازمة لذلك ويحولها إلى مؤسسات فئوية ترعى فئة معينة من المجتمع كما هو الحال في نظام المحاصصات الطائفية والعرقية ويعيق تشكيل مؤسسات بحثية وعلمية مستقلة خاصة بذلك؛ كما أن هذا الفيروس يعطل العملية السياسية ويعيق جهود التنمية والأعمار من خلال تعطيله لدور المعارضة الحقيقية باعتبارها تلعب دور الرقيب على الحكومة في الدول الديمقراطية المستقرة, إلا إن هذا الفيروس الذي يتكئ على خلفية نظام المحاصصة الطائفية أو التوافقية يلغي دور المعارضة الحقيقية, لأن هذه " المعارضة " لها يدا في الحكومة تحجم عن دورها الرقابي, وبالتالي يكون الصراع من اجل إفشال الحكومة وليست تقويم عملها, ويسعى الطرف الحاكم أيضا إلى التمادي وتعطيل العملية السياسية وعدم السماح للتداول السلس والسلمي للسلطة, ويدعي كل طرف هو الأفضل على خلفية التعصب والتعنت الديني والطائفي والعرقي.

أن دولة " المؤمن الفاسد " تشكل بيئة مواتية لفيروس الفساد بألوانه المختلفة وللمحسوبية والمنسوبية والولاء الحزبي الضيق, ففي دولة المحاصصة الطائفية والتوافقية كالعراق حيث يقف عالميا في قائمة الدول التي تعاني من الفساد الإداري والمالي, فأن هذا النظام هو أفضل وسيلة لترعرع ونمو الفساد, وان كان في ظاهره يبدو وكأنه ينصر أبناء طائفته ولكنه في الواقع يبقي أبناء الطائفة في فقر مدقع وتبقي الامتيازات حكرا على زعماء الطائفة وأبنائهم أو رؤساء أحزابها.


أن نظام المحاصصة الطائفية والتوافقية باعتباره نموذجا لدولة " المؤمن الفاسد " يشكل عوامل طرد لاستبعاد الكفاءات العلمية والوطنية, حيث يستند في شكلياته إلى الطائفة كمعيار للانتقاء والولاء وليست معايير النزاهة والكفاءة العلمية بعيدا عن الانتماءات الضيقة, وبهذا يحرم المجتمع من الانتفاع بمواهب أفراده المختلفة والتي لا صلة لها بالانتماء الطائفي.كما يخل نظام المحاصصة بالسلم الأهلي والاجتماعي, ويخل بمبدأ المساواة بين المواطنين في الوظائف العامة ويضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة من خلال تخندقه الطائفي في أطره الجغرافية, كما يضعف سياسة الدولة ووحدتها في الخارج كما يتعارض هذا النظام مع حقوق الإنسان وصيانتها والمنصوص عليها في المواثيق الدولية.
 
يعيش العراق حالة من الترقب بعد أن أعتقل جهاز مكافحة الإرهاب العراقي عناصر تابعة لمليشيات في العاصمة بغداد، فيما صار يعرف بـ"حادثة الدورة" نسبة إلى المنطقة التي جرى فيها الاعتقال. وكانت قيادة العمليات المشتركة أعلنت في بيان الجمعة الماضي أن جهاز مكافحة الإرهاب ألقى القبض على "14 متهما" باستهداف مواقع عسكرية ومدنية بالصواريخ. ومباشرة بعد تسريب خبر عملية الاعتقال، انتشر المئات من عناصر ميليشيا كتائب حزب الله في شوارع بغداد وجابوا بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة الأحياء القريبة من المنطقة الخضراء وفقا لوسائل الأعلام المختلفة. وانتشرت مقاطع فيديو تظهر عناصر حزب الله بعجلات مختلفة يتجولون في العاصمة ويرددون هتافات منددة برئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ومتوعدة بالانتقام منه. كما تمكن بعض عناصر هذه المجموعة من الدخول للمنطقة الخضراء "بعجلات حكومية وبدون موافقات رسمية متجهة نحو مقرات حكومية من داخل المنطقة الخضراء وخارجها وتقربت من أحد مقار جهاز مكافحة الارهاب داخل المنطقة الخضراء" في بغداد، كما أفاد البيان العسكري العراقي.

وقد سبقت هذه الاحداث خطاب للسيد مصطفى الكاظمي متوعدا  بحصر السلاح بيد الدولة وعدم السماح للمليشيات المنفلتة لفرض اجندتها على الشارع والسياسة العراقية, وعدم السماح بالمساس بهيبة الدولة وأمنها, الى جانب تطوير القطاع الأمني واصلاحه, ومكافحة الفساد, والتصدي للأزمة الصحية المتمثلة  في جائحة كورونا( كوفيد ـ 19), العمل على اجراء انتخابات برلمانية مبكرة, صون السيادة العراقية, الارتقاء بالمسائلة والعدالة, واطلاق حوار وطني, تعزيز عودة النازحين الى مناطقهم الأصلية وتعزيز الاقتصاد.

لقد كان الهجوم على هذه المجموعة المسلحة بموجب مذكرة قضائية وفقا لقانون الارهاب هو عملية جس نبض قام بها الكاظمي لأستتقراء ردود الافعال لدى القوى السياسية ومدى صدق مواقفها في مطالبتها بتكريس دولة القانون والقضاء والحد من الاستهتار المسلح, وهذه هي بمثابة عينة سلوكية مصغرة اقدمت الحكومة العراقية على فحصها كي ترى ماذا يحصل لو اقدم الكاظمي على ملفات اكبر واعظم من الهجوم على مخابئ صاروخية.

وكانت ردود الافعال مختلفة, ففي الوقت الذي فرح فيه الشارع العراقي وقطاعات واسعة من الشعب العراقي معلنين تأييدهم لخطوة رئيس الوزراء في البدء بخطوات جدية لأن الشعب أذاق الأمريين من السلاح المنفلت وقد دفع ضحيته اكثر من 700 متظاهر في احتجاجات اكتوبر وآلاف الجرحى والمعوقين, جاءت ردود افعال اغلب السياسيين والكتل السياسية البرلمانية والاحزاب انطلاقا من طيبعتها الازدواجية المنافقة بعدم قناعتها بالعملية العسكرية التي قام بها جهاز مكافحة الارهاب, بل شككوا بالتوقيت وربطوها اشتراطا بملفات اخرى.

فالأحزاب غير المسلحة صمتت خوفا من دولة المليشيات العميقة, والاحزاب الاخرى المسلحة وذات المليشيات اعلنت رفضها العملية وتوعدت بمصطفى الكاظمي سوء, كما ان الكتل الأسلاموية الكبيرة والتي تدعو شكليا الى هيبة الدولة ونزع سلاح المجاميع السائبة سكتت دون تأييد للعملية العسكرية ولأنها متحابة في الخفاء مع المليشيات وحاضنة لها, والبعض الآخر لجأ الى تسفيه العمليه واعتبارها صراع تصفية حساب بين جهاز مكافحة الارهاب والحشد, ويتخوف البعض من تصاعد شعبية مصطفى الكاظمي على خلفية الخطوات التي يقوم بها وبالتالي فأن تعزيز هيبة الدولة يشكل تهديدا للقوى التي لايمكنها العيش في ظل نظام وسلطة القانون, وقد اعتقد البعض ان خطوة الكاظمي هذه هي استعراضية ومادة للأستهلاك الأعلامي, فأذا ما اراد الكاظمي الأقدام على معالجة كافة الملفات فعليه اولا الأخذ بأجماع برلماني يشكل الأسلام السياسي الشيعي اساسه, وهذا امر صعب لأن هناك كتل غالبة فيه متهمة بالفساد والسلاح والانفلات المجتمعي. ونقول هنا للحق أن كتل سياسية صغيره دعمت واعلنت عن وقوفها الى جانب خطوات الكاظمي.

خطوة الكاظمي الأستباقية هذه هي مؤشر لمدى صعوبة اقدامه على خطوات اخرى بما فيها مكافحة الفساد طبعا وستكشر الكثير من القوى السياسية عن انيابها في وقوفها علنية ضد محاربة الفساد ورموزه وضد نزع سلاح المليشيات السائبة وضد سلطة الدولة وهيبتها, فالقوى السياسية او الكتل البرلمانية والتي تتمتع بشرعية شعبية تقل عن 20% من الشعب لا يمكن لها ان تمثل طموحات الشعب في برنامجه للأصلاح والتقدم الاجتماعي وبناء دولة المواطنة, وبالتالي نرى ان الاصلاح الجذري للعملية السياسية عبر انتخابات مبكرة واقرار قانون انتخابات جديد وتشكيل مفوضية انتخابات نزيهه تشكل المدخل اللازم والضروري للبدأ في الأصلاح, واعتقد ان السيد الكاظمي يحتاج الى تكاتف من الشعب والمنتفضين معه ولو مرحليا لحين البدأ بأنجاز مهمته الصعبة جدا.






61

كورونا العراق وأنهيار هرم ماسلو السيكواجتماعي للحاجات

د.عامر صالح

خلال منتصف أربعينيات القرن الماضي قدَّم أبرهام ماسلو ( 1908 ـ 1970 ) عالِم النفس الأميركي نظريّة التحفيز الأنساني والتي عرفت بهرم ماسلو للاحتياجات، وهي عبارة عن تسلسل هرمي للدوافع التي تحرك الإنسان في مختلف مراحل حياته. وقد شكل محتوى النظرية نقطة انطلاقة للعديد من الأبحاث العلمية في مجلات متنوعة كالطبّ، التدريس، الإدارة وفن التسويق وحتى في ازمان التراجع والأزمات المستفحلة. ويتجلى المدخل في هذا الهرم في أنّ أيّ حاجة عُليا لا يمكن تلبيتها إلا بعد تلبية الاحتياجات التي تقع أسفل منها في الترتيب. ما يعني أنّه يصعب على الفرد –على الرغم من أنه ليس مستحيلًا- إشباع حاجته في الحبّ/الانتماء على سبيل المثال إلا إذا استطاع أنْ يُشبع ويلبّي احتياجاته الفيسيولوجية والأمنية، وهكذا دواليْك. يفترض ماسلو أن الحاجات أو الدوافع الإنسانية تنتظم في تدرج أو نظام متصاعدمن حيث الأولوية أو شدة التأثير, فعندما تشبع الحاجات الأكثر أولوية أو الأعظم حاجة وإلحاحاً فإن الحاجات التالية في التدرج الهرمي تبرز وتطلب الإشباع هي الأخرى، وعندما تشبع نكون قد صعدنا درجة أعلى على سلم الدوافع، وهكذا حتى نصل إلى قمته. هذه الحاجات والدوافع وفقاً لأولوياتها في النظام المتصاعد كما وصفه ماسلو هي كما يلي:

1 ـ الحاجات الفسيولوجية: مثل التنفس، والشرب، والأكل، والجنس، والنوم، والإخراج، وغيرها من الحاجات التي تخدم البقاء البيولوجي بشكل مباشر.

2 ـ حاجة الأمان: وتشمل مجموعة من الحاجات المتصلة بالحفاظ على الحالة الراهنة، وضمان نوع من النظام والأمان المادي والمعنوي مثل الحاجة إلى الإحساس بالأمن والثبات والنظام والحماية والاعتماد على مصدر مشبع للحاجات. وضغط مثل هذه الحاجات يمكن أن يتبدى في شكل مخاوف مثل الخوف من المجهول,  ومن الغموض ومن الفوضى واختلاط الأمور أو الخوف من فقدان التحكم في الظروف المحيطة.

3 ـ الحاجات الأجتماعية: وتشمل مجموعة من الحاجات النفسية مثل الحاجة إلى الألفة والعلاقة الحميمة مع شخص آخر، والحاجة إلى أن يكون الإنسان عضوا في عائلة أو جماعة منظمة.. الحاجة إلى بيئة أو إطار اجتماعي يحس فيه الإنسان بالألفة مثل الصداقة أو الحي أو الأشكال المختلفة من الأنظمة والنشاطات الاجتماعية. وهنا يمكن الحديث عن:

أ ـ المستوى الأدنى أو مستوى الحب الناشئ عن النقص وفيه يبحث الإنسان عن صحبة أو علاقة تخلصه من توتر الوحدة وتساهم في إشباع حاجاته الأساسية الأخرى مثل الراحة والأمان والجنس... الح.

ب ـ المستوى الأعلى أو مستوى الكينونة وفيه يقيم الإنسان علاقة خالصة مع آخر كشخص مستقل, كوجود آخر يحبه لذاته دون رغبة في استغلاله أو استبداله لصالح احتياجاته هو.

4 ـ حاجات التقدير هذا النوع من الحاجات كما يراه ماسلو له جانبان:
أ ـ جانب متعلق باحترام النفس أو الإحساس الداخلي بالقيمة الذاتية.
ب ـ والآخر متعلق بالحاجة إلى اكتساب الاحترام والتقدير من الخارج ويشمل الحاجة إلى اكتساب احترام الآخرين, السمعة الحسنة, النجاح والوضع الاجتماعي المرموق, الشهرة والمجد… الخ. وماسلو يرى أنه بتطور السن والنضج الشخصي يصبح الجانب الأول أكثر قيمة وأهمية للإنسان من الجانب الثاني.

5 ـ حاجات تحقيق الذات والحاجات العليا تحت عنوان تحقيق الذات يصف ماسلو مجموعة من الحاجات أو الدوافع العليا التي لا يصل إليها الإنسان إلا بعد تحقيق إشباع كاف لما يسبقها من الحاجات الأدنى. وتحقيق الذات هنا يشير إلى حاجة الإنسان إلى استخدام كل قدراته ومواهبه وتحقيق كل إمكاناته الكامنة وتنميتها إلى أقصى مدى يمكن أن تصل إليه. وهذا التحقيق للذات لا يجب أن يفهم في حدود الحاجة إلى تحقيق أقصى قدرة أو مهارة أو نجاح بالمعنى الشخصي المحدود, وإنما هو يشمل تحقيق حاجة الذات إلى السعي نحو قيم وغايات عليا مثل الكشف عن الحقيقة, وخلق الجمال, وتحقيق النظام, وتأكيد العدل.. الخ. مثل هذه القيم والغايات تمثل في رأي ماسلو حاجات أو دوافع أصيلة وكامنة في الإنسان بشكل طبيعي مثلها في ذلك مثل الحاجات الأدنى إلى الطعام, والأمان, والحب, والتقدير. هي جزء لا يتجزأ من الإمكانات الكامنة في الشخصية الإنسانية والتي تلح من أجل أن تتحقق لكي يصل الإنسان إلى مرتبة تحقيق ذاته والوفاء بكل دوافعها أو حاجاتها.

بعد تحقيق الذات يتبقى نوعان من الحاجات أو الدوافع هما الحاجات المعرفية والحاجات الجمالية ورغم تأكيد ماسلو على وجود وأهمية هذين النوعين ضمن نسق الحاجات الإنسانية إلا أنه فيما يبدو لم يحدد لهما موضعا واضحا في نظامه المتصاعد, وهما:

1 ـ الحاجات الجمالية : وهذه تشمل فيما تشمل عدم احتمال الاضطراب والفوضى والقبح والميل إلى النظام, والتناسق, والحاجة إلى إزالة التوتر الناشئ عن عدم الاكتمال في عمل ما أو نسق ما.
2 ـ الحاجات المعرفية:  وتشمل الحاجة إلى الاستكشاف والمعرفة والفهم، وقد أكد ماسلو على أهميتها للإنسان، وهي في تصوره تأخذ أشكالا متدرجة, تبدأ في المستويات الأدنى بالحاجة إلى معرفة العالم واستكشافه بما يتسق مع إشباع الحاجات الأخرى ثم تتدرج حتى تصل إلى نوع من الحاجة إلى وضع الأحداث في نسق نظري مفهوم, أو خلق نظام معرفي يفسر العالم والوجود. وهي في المستويات الأعلى تصبح قيمة يسعى الإنسان إليها لذاتها بصرف النظر عن علاقتها بإشباع الحاجات الأدنى.

في الفئة الأولى من التسلسل الهرميّ, أي قاعدة الهرم, تقع "الاحتياجات الفيسيولوجية" كالعطش والجوع والتنفس والجنس، تليها احتياجات الأمان والسلامة. وتتوسع الحاجة إلى الأمان إلى ما هو أبعد من السلامة الجسدية، لتشمل أيضًا الاستقرار السياسيّ والأمان الاقتصادي والوظيفيّ، والحماية من أيّ خطرٍ قد يهدّد وجود الفرد وبقاءه والذي قد يتجسد في غياب وظيفته، أو عدم القدرة على الحصول على الرعاية الصحية إن احتاج الأمر، أو حتى الأخطار السياسية كالحروب والصراعات والنزاعات الطائفية، وغياب الجيش القوي والحاكم الجيد عن المشهد.

وفي هذا الصدد، تمثّل الديمقراطية طريقًا آخر يمكن أن يساعد في بناء السلامة والأمان للأفراد في مجتمع معين، نظرًا للاعتقاد الشائع الذي يرى بأنّ الديمقراطية تعمل على تحسين العدالة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي، يشعر الأفراد بالأمان في البيئات التي تنتشر فيها الديمقراطية السياسية. وبكلماتٍ أخرى، يمكننا القول أن السمات التي تسهم في إشباع احتياجات الأمن والسلامة للأفراد في المجتمعات الحديثة يمكن تمثّلها في الحُكم/الجيش القويّ والديموقراطية والاستقرار السياسي والاقتصاديّ.

لقد تعرضت نظرية ماسلو كغيرها من النظريات الى انتقادات عديده, ولعل ابرزها أن الفرد ليست بالضرورة أن يمر بتتابعية تقليدية في الهرم ثم يرتقي تدريجيا للوصول الى قمته, بل هناك افراد كثر قد تكون لديهم هذه الهرمية معكوسة او مختلفة المراحل, فالكثير من الناس ابدعوا وتمتعوا بمقدار من تحقيق وتقدير الذات مع تلكؤات في قاعدة الهرم وحتى ما بعده, ولكن والحق يقال ان السياقات الطبيعية تستدعي المرور في هرمية ماسلو, ولكن في بلدان العالم الأدنى تطورا و العالم الثالث يبدوا نسبيا مختلف, ولكنهم قلة في تلك البلدان من يقفز المراحل, فالسياقات الطبيعية وسنة اشباع الحاجات تقتضي المرور بهرم ماسلو, كي يكون الأمر ظاهرة وليست استثناء, وعلى الأقل في ظروف السلم والأستقرار والصحة العامة..

 وفي ظل كورنا وما نعيشه الآن، تأكد لنا ان ابراهام ماسلو في اختياره لهرمه لم يكن مخطأ، وقد تبين ان اسفل الهرم يشكل هو اساسي لكل البشرية وانه في وقت تنحصر فيه الاختيارات وتضيق فيه الحلول، فإن الكل يبحث عن اساسيات الحياة، وكلما نشاهده هو اسفل الهرم فقط، فالكل يصارع من اجل الحاجات الفيسيولوجية: الطعام، الماء، الجنس، الاخراج، التنفس والكل يريد أن يحقق ذلك في اقرب وقت وبشكل مستمر لمدة معينة من اجل تحقيق المرحلة الثانية من الهرم والتي تمس الشعور بالأمان، السلامة الجسدية والصحية، أمن الموارد ثم بعدها الأمن الوظيفي الذي سيكون سببا في تلبية الحاجيات السابقة، أما المرحة الثالثة من الهرم، فيبدو انها بدأت تضعف اهميتها نسبيا وهي الحاجة لأصدقاء والعلاقات الاسرية، بسبب فرض الحظر وبسبب نقص اهميتها مقارنة مع الاحتياجات السابقة، اما مرحلة تقدير الذات واحترام الاخرين، ففي سلوكيات الشعوب جميعها عبر ما نشاهده حول العالم  دون قياس الاقلية، التي نراها، تساعد الاخر لتشعر بتقدير ذاتي يشعرها بالارتياح، فإن أغلب السلوكيات تدل على ابتعادات مفرطة وحب للذات دون التفكير في الاخر" بعضها مشروع ضمن التوجيهات العامة وبعضها ردود افعال عنيفة لما يحل بالمجتمع من كارثة", وبالتأكيد انها سلوكيات أزمة تهتز فيها المقاييس ولا تدخل في اطار عيوب مطلقة, ولعل في وسائل التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية ان يسهم برد الاعتبار لبعض الأختلالات في هرم ماسلو.

واذا كانت الأزمة العالمية لكورنا في العالم المتقدم تأخذ صبغة مؤقتة وان الاستعداد لها رغم المفاجئة هو افضل من الكثير من بلدان العالم النامي او المتخلف, فهناك تعبئة للموارد المالية والبشرية بشكل افضل, وهناك الوعي المجتمعي ومديات من الثقة المتبادلة بين السلطات الحكومية والصحية, وما يعيب على بلداننا قبل جائحة كورونا أن هناك ازمات مستعصية, اقتصادية واجتماعية وسياسية ألقت بحمولتها على أزمة كورونا مما زاد الموقف أكثر تعقيدا وعجزا في محاربة جائحة كورونا.

العراق نموذجا سيئا لأنتكاسته في ملاحقة جائحة كورونا من حيث الامكانيات المتاحة, حيث الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام, وضعف الدولة وهيبتها حيث سيطرة المليشيات المسلحة والسياسية منها بشكل خاص على مراكز القرار السياسي وعبر الترغيب والترهيب, وضعف سلطة القضاء وعدم مقدرة الحكومة والقضاء والبرلمان على حل اكثر الملفات عويصة وهي ملفات الفساد الذي أنهش جسد الدولة والمجتمع. يعاني العراق من أزمات متفاقمة في مجالات الأمن والتعليم والصحة والخدمات العامة، مقابل ارتفاع عدد سكانه إلى 38.1 مليون نسمة وفقا لوزارة التخطيط في الحكومة الحالية. وقد ارتفعت نسبة الفقر في العراق إلى أكثر من 22.5%، وترتفع في المناطق التي استعادتها القوات الحكومية من تنظيم الدولة “داعش الأرهابي” إلى أكثر من 41%. كما أن إن نسب البطالة في العراق ارتفع إلى 14%، بينما يرتفع في محافظة الأنبار بنسبة 20%، وإنها ترتفع في صفوف الشباب وفي صفوف الإناث أكثر من الذكور. كما إن نسبة الأمية في العراق ارتفعت إلى أكثر من 13% في السنوات الأخيرة( طبعا هذه الاحصائيات رسمية من جهات عراقية وهناك من يطعن بصحتها ويدعي ان الاحصائيات اكثر من ذلك بكثير).

ويعاني العراق على المستوى الاقتصادي من اشكاليات كبيرة جدا بسبب الضعف الكبير في القدرات المالية والاقتصادية وعدم الاستقرار الامني،والفساد المالي وسوء الادارة، وهروب رؤوس الاموال الى الخارج,كما إن إحصائيات صندوق النقد الدولي، تبين إن ديون العراق تراكمت وتفاقمت خلال السنوات الماضية، حيث كانت قبل9سنوات 73.1 مليار دولار، وارتفعت في عام 2014 إلى 75.2 مليار دولار، وفي عام 2015 أصبحت 98 مليار دولار، فيما كانت قبل عامين 114.6مليار دولار، لترتفع خلال العام 2017 إلى 122.9 مليار دولار، ثم عام2018 الى (125) مليار دولار، واليوم لا ندري الديون الى كم وصلت؟ كما إن هناك انخفاض كبير في اسعار النفط الى ما دون(30)دولار للبرميل الواحد، مما أدى الى خسارة العراق لنصف ايراداته المالية، هذا بالإضافة الى تأخير الحكومة في ارسال الموازنة الى البرلمان لإقرارها بسبب العجز والترهل الكبير فيها، مما أدى الى عدم إقرار الموازنة العامة لعام 2020 الى يومنا هذا، بالإضافة الى أسباب كثيرة منها التوتر السياسي الحاصل جراء الحراك الشعبي المتواصل منذ أكتوبر/تشرين الاول لعام 2019،والذي أدى الى استقالة الحكومة وتحولها لحكومة تصريف أعمال ،فخرجت الموازنة عن صلاحيتها في ارسالها الى البرلمان علماً أن الموازنة تعاني من عجز كبير يبلغ أكثر من(40)مليار دولار. وفي محصلة رقمية جنونية هائلة فأن العراق اهدر ما بعد 2003 اكثر من تريليون و400 مليار دولار. ثم جيئ  بمصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء حيث استلم ميزانية الدولة فارغة, ولازالت حكومته تراوح في المكان لعدم وجود غطاء داعم لها.

لم يبني العراق بعد 2003 نظاما صحيا قائم على فلسفة أن روح المواطن وصحته هي اثمن رأسمال في المجتمع, بل ترك قطاع الصحة فريسة للمحاصصة الطائفية والاثنية البغيضة وللفساد ونهب اموال صحة المواطن, فلا نستغرب اليوم ان عدد المصابين من قطاع الصحة بكورونا يشكل 20% من مجموع الأصابات الكلية, الى جانب الزيادات السريعة والمضاعفة للأصابة بكورونا في اوساط المواطنين بصورة عامة, وان قطاع الصحة مهدد بالأنهيار التام والعجز. الكامل.

في تلك الظروف القاسية الاقتصادية والاجتماعية وحيث شرائح الفقراء والكادحين والعمالة اليومية يفتقدون الى الدخل جراء الحجر الصحي, فأنهم بمقياس ماسلو وهرمه  يجلسون تحت قاعدته وليست عنده, حيث يعجز المواطن عن سد رمق العيش, وما كورنا وتوقيتها اليوم إلا وان زادت الطين بله, فأن المواطن قبل كورنا يعاني الأمريين أما في زمن كورنا فأن الحياة انقلبت كليا على عقب, وأن هرم ماسلو وتراتيبية حاجاته قد انهارت, فأن العراقي اليوم حائر بلقمة العيش والبقاء.


.









62
على ضوء المؤتمر الصحفي الأول لرئيس الوزراء العراقي الجديد ـ ملاحظات سايكوسياسية
د.عامر صالح 

أستمعت وشاهدت المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي بتاريخ 11ـ06ـ2020 وهذا هو المؤتمر الأول بعد توليه المنصب خلفا لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي قدم استقالته على خلفية الاحتجاجات الشعبية العارمة, والداعية الى إحداث تغيرات جذرية في العملية السياسية الى جانب البعد المطلبي والمتمثل في تأمين الخدمات العامة, والتي اندلعت في الاول من اكتوبر في العام الماضي, وقد راح ضحيتها الألوف من الجرحى والمئات من الشهداء الى جانب الألوف من الاعاقات المنتهية الفير قابلة للشفاء.

لم يكن رئيس الوزراء الجديد في حديثة الصحفي منظرا من الطراز الكلاسيكي خلافا لسابقه, ولم يكن أنشائي الحديث او مسترسلا كسابقيه في حديث ممل ومجتر ولم يتحدث عن انجازات متسقبليه خيالية تضع العراق في موقع خارق غير موقعه الموضوعي الواقعي, بل تحدث عموما بلغة بسيطة تضعه في احتمالين, قد يكون الرجل غير متمكن على الارتجال والطلاقة اللغوية والفكرية, او قد يكون الرجل قد اختار خطابا موجها الى الشارع العراقي والى المنتفضين بشكل خاص وعامة الناس, ليضعهم في تصور دقيق عن الوضع العام وليؤكد للناس على اصراره وقدراته الكامنة ومجازفته لأختراق قواعد اللعبة السياسية المحاصصاتية التي اعتاد عليها السياسيين منذ 2003. وقد لاحظت في الرجل بعض التوقفات في النطق ولا اعرف إن كانت ناتجة من عيوب لغوية أم من لحظات انفعال وغضب مشروع.

في خطابه يستدرك المرء حجم المهام الكبرى التي وضعت في عهدته وفي مقدمتها محاربة الفساد الذي انهارت على خلفيته مؤسسات الدولة واعلنت افلاسها كليا بعد العجز المالي وهبوط اسعار النفط وازمة كورونا, وعجز الدولة عن قدرتها في توفير الرواتب للأشهر القادمة. كان الرجل في حديثة للأعلام اقترن بمشاعر دفينة واحساس بعمق الأزمة وهو رجل المخابرات السابق الذي يعرف ذلك قبل غيره, ويعرف جيدا اعدائه واصدقائه وحجم المعارضة التي وقفت ضد توليه منصب رئيس الوزراء, الى جانب أن الشارع العراقي المنتفض منذ الاول من اكتوبر ضل متوجسا ويتعامل مع مصطفى الكاظمي عن بعد, بل هناك من لا يثق به اصلا بأعتباره نتاجا وخيار طوارئ أقدم عليه نظام المحاصصة عند ختياره وخوفا من عواقب الفراغ السياسي وتداعياته الجماهيريه والتي قد تعصف بالطبقة السياسية الحاكمة بل وبنطام المحاصصة برمته.

وعلى الرغم من جرأته الواضحة وتحديه وتأكيده ان هدفه الأسمى هو خدمة الشعب العراقي الذي يستحق الأفضل" حسب قوله " وتأكيده انه مستعد للتضحية بحياته, بل اشار بوضوح ان جهات تستهدف تصفيته بالقتل ولكنه جاهز لكل الاحتمالات, كما طالب الشعب العراقي بدعمه والوقوف الى جنبه في محاربة الفساد واجتثاثه, وبالتأكيد فأن خطابة استقبل شعبيا بين الشك ونصف اليقين, وخاصة انه لم ينجز لحد الآن أي مطلب من مطالب المتظاهرين, ولكن وعوده وتلويحه بمقدرة كامنة للمواجهة وكذلك هو من يقرر ساعة الصفر قد ينعكس بظلال ايجابية على الشارع, رغم ان الشارع العراقي قد اصابه الملل واليأس وسمع الكثير وبالتالي ان تزرع الثقة بشعب محبط خلال 17 عاما من الوعود أمر ليست هين وخاصة ان مصطفى الكاظمي لم يكن خيارا شعبيا من ساحات التظاهر, وهو ايضا نتاج لعملية سياسية ديمقراطية لا تتجاوز شرعيتها 20% من الشعب العراقي, فيها القول الفصل للجماعات والاحزاب المسلحة داخل البرلمان.

ومما يؤكد بعض من نزاهة الرجل هو استقلاليته النسبية عن الاحزاب السياسية والطائفية منها بشكل خاص, ثم نزعته المدنية والعلمانية وكونه ناشط مدني سابق وفاعل مع المنظمات العالمية المعنية بحقوق الانسان والديمقراطية وعمل في الصحافة في خدمة قضية العراق ونضال الشعب من اجل الديمقراطية وضد الديكتاتورية, الى جانب كون الرجل غير مرغوب فيه من قبل الاحزاب الاسلاموية وكذلك من المليشيات الطائفية المسلحة وسبق له وأن أتهم في المساهمة في اغتيال سليماني والمهندس بالتخطيط مع القوات الامريكية, الى جانب الصراع المستميت من قبل الاحزاب المليشياوية برفضه رئيسا للوزراء, في مقابل ذلك طبعا وفي الجانب الآخر هو التأييد والدعم الدولي والاقليمي لتوليه منصب رئاسة الوزراء, والذي يمكن ان يوظف لمصلحة بناء الدولة المدنية في الاستفادة من الدعم الخارجي.

نجاح حكومة السيد الكاظمي في تحقيق المطالب والاستحقاقات الوطنية المطلوبة منها على صعيد تلبية مطالب المتظاهرين، وتحقيق الاستقرار السياسي على الصعيد الوطني ومحاربة ظواهر الفساد وعدم الاستقرار بشكل عام، ولو بشكل جزئي. قد تكون البداية الحقيقية في بذرة إصلاح العملية السياسية وتصحيح مسار الديمقراطية العراقية، ومعالجة أداء النظام السياسي الحالي, فالأنتخابات القادمة وقانونها ومفوضيتها هي الشاغل الأهم للتأسيس لمرحلة انتقالية سياسية تحمل بذور الصحة والتفاؤل في اعادة بناء العملية السياسية في العراق على اساس المساهمية الفعلية والنزيهة للشعب العراقي بعيدا عن الترهيب واستخدام السلاح وحرق صناديق الأقتراع وضمان مساهمة اوسع للشعب العراقي في انتخاب ممثليه.

كما يشكل ملف الفساد الاداري والمالي من اصعب الملفات امام حكومة السيد مصطفى الكاظمي, واذا ما تمتع بشجاعة كافية ومقدره استثنائية في البدء بفتحه فأنه يشكل بارقة أمل للعراقيين لأسترداد اموالهم المنهوبة. وللتذكير فقط وفي أول جلسة للبرلمان العراقي من فصله التشريعي الثاني، والتي عقدت في 9 من مارس/آذار للعام 2019، كشف رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي "خارطة للفساد"، شملت 40 ملفا، غالبها في مفاصل ومؤسسات الدولة. وشملت القائمة: "تهريب النفط، ملف العقارات، المنافذ الحدودية، الجمارك، تجارة الذهب وتهريبه، السجون ومراكز الاحتجاز، النقاط الأمنية الرسمية وغير الرسمية، المكاتب الاقتصادية بالمؤسسات والمحافظات والوزارات، تجارة الحبوب والمواشي، الضرائب والتهرب منها، الأتاوات و الكومشن (العمولة)، مزاد العملة والتحويل الخارجي، التقاعد، ملف السجناء، ملف الشهداء، المخدرات، تجارة الآثار، الزراعة والأسمدة والمبيدات،  تسجيل السيارات والعقود والأرقام،  الإقامة وسمات الدخول".

وتضمنت أيضا: " الأيدي العاملة الأجنبية، الكهرباء، توزيع الأدوية، توزيع البطاقة التموينية، الرعاية الاجتماعية، السلف المالية المصرفية، التعيينات، بيع المناصب، العقود الحكومية، تهريب الحديد والخردة وغيرها، الامتحانات وبيع الأسئلة، المناهج التربوية وطباعة الكتب،  المشاريع المتوقفة، المشاريع الوهمية، القروض المالية، شبكة الاتصالات والإنترنت والهواتف النقالة، الإعلام والمواقع الإلكترونية، شبكات التواصل الاجتماعي، ملف النازحين، الاتجار بالبشر".

تُضاف هذه القطاعات الأربعين الرئيسية إلى الكثير من ملفات الفساد المُكتشفة بالأساس سابقا، لكن لم يتم تفعيل الأدوات والمؤسسات القضائية والتنفيذية لمتابعتها. تقدر الحكومة العراقية تلك الملفات بحوالي 13 ألف ملف للفساد، يقدر المتورطين فيها بقرابة مليون مشتبه، بين فاسدين ومتعاونين ومرتشين ومعطلين للقانون العام. تتراوح دائرة المؤسسات والإدارات المتورطة بها من التعليم والقضاء، وتمر بالتهريب والرشاوي، ولا تنتهي بوزارتي النفط والدفاع، اللتان تُعتبران من أكثر وزارات العراق فسادا على الإطلاق. خارطة الفساد هذه تعكس بوضوح استباحة العراق شعبا وأرضا ووطنا ومواردا للعيش. فلا نستغرب عنما تشير الأرقام الدولية بأن موقع العراق هو بالمرتبة 166 من أصل 176 دولة على سلم الدول في مستوى الشفافية في العالم. أي أن العراق من أكثر الدول فسادا في العالم. وقد بلغ ما أهدره العراق وخسره شعبه ما بعد 2003 يقدر بتريليون و400 مليار دولار.

وبالتأكيد أنها للكاظمي خطوة المليون ميل لمحاربة الفساد في العراق, ولكن البداية تؤسس لضمانات لاحقة في السير قدما لمحاربته, أنه عمل ليست هين وبسيط فقد تحدى أستعراضيا الذين سبقوا الكاظمي ولم يتمكنوا, وقد كانوا اكثر اذعانا لمنطق المحاصصة الطائفية والقومية والأثنية, ولعل في الكاظمي وطاقمه ما يستطيع فعله والتأسيس له, وهو وبفعل قصرالمدة المتبقية له ليست مطالب بحلول سحرية, ولكن اقدامه على خطوات عملية ملموسة ستضعه امام فرص تاريخية وتوقعات بتلاحم ميداني من المتظاهرين معه, وتلك هي سنة التغير نحو الأفضل: أن تبدأ الآن خير من أن لا تبدأ ابدا. وختاما لقد تحدث الكاظمي في مؤتمره الصحفي عن رواتب وامتيازات السجناء والمعتقلين في زمن النظام السابق والشهداء وضحايا الارهاب وكذلك ازدوواجية او اضعاف الرواتب التي تستلم الى جانب الفضائيين في قطاعات الدولة والعمل على معالجة ذلك جذريا, وهي جميعيها بالتأكيد جزء من سوء التشريع ومصالح المشريعيين ونواياهم الحزبية والطائفية, ولكنها جزئية بسيطة في اطار الفساد الآعظم الذي يجب البدء في مكافحته على طريق اجتثاثه.
 

63
المناسبات العالمية للطفولة ومأساة أطفال العراق

د.عامر صالح

احتفلت العديد من دول العالم في الأول من حزيران بعيد الطفل العالمي علما أن عيد الطفل العالمي حسب مواثيق وتوقيتات الأمم المتحدة هو العشرين من نوفمبر من كل عام, ولكن مرونة الأمم المتحدة تركت الأمر لظروف البلدان وتقاليدها المعتمدة للأحتفال بيوم الطفل العالمي. وهناك مناسبات ذات صلة بيوم الطفل العالي, وهي: اليوم الدولي لضحايا العدوان من الأطفال الأبرياء والمصادف يوم 4 حزيران من كل عام , وكذلك اليوم العالمي لمكافحة عمل الاطفال والمصادف يوم 12 حزيران, ثم اليوم الدولي للطفلة والمصادف في يوم 11 أكتوبر. وقد استحدث اتحاد النساء الديمقراطي العالمي يوم الاول من حزيران للاحتفال بيوم الطفل العالمي منذ عام 1950 وقد اتخذ هذا القرار في مؤتمره الذي انعقد في موسكو في الرابع من نوفمبر في العام 1949 ولا يزال الكثير من دول العالم تحتفل بعيد الطفل العالمي في الاول من حزيران من كل عام, وقد كان زخم الفكر الاشتراكي في انصاف الطفولة وانقاذها من التعسف والاضطهاد قويا آنذاك ولا يزال حتى اليوم تحت وقع فكر العدالة والمساواة والذي ساهم فيه الفكر الماركسي عالميا في التأسيس له كمزاج اجتماعي غير قابل للمساومة.

أقرّت الأمم المتحدة وفقاً لقرار رقم 836 في عام 1954م اليوم العالمي للطفل أو يوم الطفل، حيث يتم الاحتفال به في العشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر سنوياً من أجل دعم وتعزيز الترابط الدولي ونشر الوعي بين الأطفال في جميع أنحاء العالم، إذ يحمل هذا اليوم أهمية بالغة في تاريخ الطفولة، فهو اليوم الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان حقوق الطفل، وتبنّت اتفاقية حقوق الطفل التي صادَقَت عليها معظم دول العالم، وذلك في عام 1989م، فمنذ عام 1990م والعالم يحتفل بالذكرى السنوية لتاريخ اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة للإعلان والاتفاقية المتعلقة بحقوق الطفل.

لاقت اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989موافقة وتأييد معظم دول العالم، لا سيّما أنّها كانت الوسيلة الأساسية لمنح الإنسان كامل حقوقهِ سواءً الحقوق المدنية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو الاجتماعية، إذ تبنت أربعة مبادئ ومتطلبات أساسيّة وتوجيهية في سبيل تحقيق وتطبيق الالتزام بجميع هذه الحقوق، وهي كما يأتي:

المساواة وعدم التميّز: تشمل اتفاقية حقوق الطفل جميع أطفال العالم دون تمييز، ودون النّظر إلى الدين أو العرق، حيث شملتهم على اختلاف ثقافاتهم وأفكارهم وقدراتهم، سواءً كان الطفل ذكراً أم أنثى، أو كان ضمن طبقة الفقراء أم الأغنياء. الحرص على مصلحة الطفل: تتعهّد الاتفاقية على أنّ أيّ قرار أو إجراء قبل اتخاذه يتمّ النظر في أثره على الأطفال ويجب أن يصّب في مصلحة الطفل وفوق جميع المصالح الأخرى. البقاء على قيد الحياة والنّماء: يُعتبر حق الحياة حقاً أساسياً ومُتجذراً لجميع الأطفال، وتقع مسؤولية الحفاظ عليه على عاتق أصحاب القرار في جميع الدول، بالإضافة إلى ضمان نموّهم وتطوّرهم جسدياً وعقلياً بشكلٍ طبيعي. المشاركة وحرية التعبير: لجميع أطفال العالم الحق في حرية التعبير عن آرائهم واتخاذ القرارات المناسبة بشأن حياتهم الخاصة دون إجبار، والالتزام بحماية جميع حقوق الطفل من السّلب وتوفيرها لهمّ قدر المُستطاع.

وقد أستندت اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل على مجموعة من المعايير لتضمن للأطفال حقوقهم، إذ تم وضع 12 حقاً أساسياً لجميع الأطفال، وهي كما يأتي:

ـ العيش في بيئة عائلية وجو أُسري مُستقر يُشعر الطفل بالراحة والآمان والمحبة، والطمأنينة، والانتماء، وتوفير الظروف الملائمة لعيش حياة كريمة سواءً مع أهله أو ضمن بيئة عائلية تُشعره بذلك.

ـ توفير الرعاية الصحية والتغذوية المنتظمة في جميع الأوقات، وغرس مجموعة من العادات الصحية والسليمة والجيدة فيهم، وتزويدهم بأطعمة صحية ذات قيمة غذائية مفيدة.

ـ توفير جميع المُستلزمات الأساسية من مأكل ومشرب ومبيت، والحرص على وجود مصدر ثابت للحصول على مياه نظيفة، وتأمين الطاقة الكهربائية في بيئة آمنة.

ـ تلقّي الأطفال التعليم الذي يتوافق مع قدراتهم واهتماماتهم، إذ إنّه من المُفترض احتواء البرامج التعليمية على برامج إثرائية لتأهيلهم للتعليم العالي أو توجيههم نحو التعليم المهني.

ـ تكافؤ الفرص بين الأطفال، فلكل طفل الحق في الحصول على الفرصة المناسبة دون النظر إلى جنسه، أو عرقه، أو أصله، أو أوضاعه المادية، أو دينه، أو عقيدته، أو حالته الجسدية أو الجسمانية، سواءً كان الطفل سليم الجسد أو من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ـ تقديم الرعاية المناسبة للطفل ودعمه، وذلك على يدّ شخص بالغ مُتدِّرب يهتم بالطفل ويرعاه، ويمتلك القدرة على قيادة الطفل نحو النجاح.

ـ اشراك الطفل في عملية اتخاذ القرارات لجميع الأمور المؤثرة عليهم، وإعطاؤه الحق في التعبير عن آرائه وأفكاره.

ـ غرس المواطنة الصالحة والنشطة، والمسؤولية، والانتماء تجاه مجتمعه أو وطنه، وتعليمه الطُرق المناسبة لخدمة مجتمعه الذي سيعيش فيه مستقبلاً.

ـ تقديم الحماية الفعالة من التأثيرات السلبية عليه، وسوء المعاملة، والإهمال، والإيذاء الجسدي والنفسي، وجميع أشكال الاستغلال.

ـ العيش حياة هانئة وكريمة ضمن ظروف كافية لتعزيز شعوره بالكرامة والحرية، ومعاملته باحترام وتقدير.

تعزيز شعور الطفل بالروحانية وتنمية أخلاقه، وذلك عن طريق التطور الروحي والانتماء الديني. ـ

العراق أحد البلدان ذات التنوع العرقي والاثني والديني, وهو من ضمن دول العالم التي تعهدت لأطفالها بضمان طفولة أفضل وفقا لتوصيات أتفاقية حقوق الطفل الدولية, تعرضت فيه الطفولة العراقية الى انهيارات كبرى جراء الحروب المتواصلة وهيمنة قيم الدكتاتورية والتسلط, ثم أعقبها حروب داخلية بنكهة طائفية مقيتة, وتغيرات في البنى الثقافية والاجتماعية, واشاعة ثقافة فئوية انكفائية مغلقة, وتدهور في العملية التربوية والنفسية للطفولة العراقية, وإشاعة موقف متهاون من ضرورة التعليم والرعاية للطفولة العراقية. وهنا لا بد من تسجيل بعض ما لحق بالطفولة العراقية من أضرار بليغة, تستدعي منا وقفة انسانية لمعالجة مخاطرها, وهي: 

1 ـ التسرب والرسوب المتواصل للاطفال الدارسين في التعليم الابتدائي والمتوسط جراء الضغط المتواصل لظروف العيش وعدم مقدرة الأسرة العراقية للأيفاء بمتطلبات الدراسة وظروف العيش.

2 ـ انخراط اعداد هائلة من الاطفال في سوق العمل الرثة لمساعدة ذويهم وأسرهم في ظروف ضنك العيش, مما حرم الاطفال من فرص النمو الطبيعي, العقلي منه والتربوي.

3 ـ ظاهرة التسكع في الشوارع بين الاطفال كأفراد وكمجاميع شللية مما يعرضهم الى مختلف مشاريع الاستمالة, من جريمة منظمة وانحرافات خلقية وسلوكية, وحتى زجهم في مشاريع انتحارية كالارهاب وغيره.

4 ـ ظاهرة الاطفال اليتامى والذين فقدو والديهم في الحروب المختلفة, أو جراء العمليات الانتحارية كضحايا لها, وعدم تمكن مؤسسات الدولة التربوية والرعائية لأحتضانهم وتوفير الأمن والآمان لهم, مما يجعل طفولتهم في مهب الريح.

5 ـ زج الاطفال وعبر العملية التربوية بثقافة الانحياز الطائفي والتعصب الاثني من خلال تعبئة عقول الاطفال بثقافة التمترس والانغلاق الذهني والفكري في اطار ثقافة احادية الجانب وغير منفتحة على الآخر.

6 ـ النزوح المتعاظم للأطفال مع أسرهم بسبب الحروب الداخلية, أو حروب تحرير الاراضي  العراقية من داعش, أو حروب التصفيات العرقية والاثنية, مما يجعل مستقبل الاطفال مجهولا.

7 ـ انتشار الاوبئة والامراض وسط مجاميع الاطفال وتجمعاتهم الشللية مما ينذر بانتشار محتلف الامراض المعدية وغير المعدية, وفي ظروف انعدام الفحوص الدورية الطبية للتأكد من سلامة الاطفال.

8 ـ أنعدام وسائل الترفيه والتسلية والانشطة الثقافية لأمتصاص الوقت الزائد لدى الاطفال وتوظيفه وجهة مفيدة لنموهم العقلي والجسدي والفكري.

9ـ عدم الالتحاق بالمدارس الابتدائية في العمر المقرر بسبب من صعوبات مادية للأيفاء بمتطلبات النقل او عدم المقدرة في تحمل المستلزمات الدراسية من قبل الوالدين, الى جانب انخفاض الوعي لديهم بضرورة ارسال ابنائهم الى الدراسة, مما يسهم في رفد جيوش الأميين من السكان بالمزيد من الأفراد.

10 ـ تعرض الاطفال للعقاب الجسدي من قبل البيت أو المدرسة أو العنف في خارج المنزل يشكل تهديدا خطيرا للطفولة العراقية, لما يتركه من آثار وخيمة في بناء شخصية ضعيفة تستجيب بشكل خضوعي وسلبي لضغوطات الحياة المختلفة. 

وفي ظل جائحة كورونا فأن الاطفال العراقيين  يتعرضون الى  تهديدات متزايده تستهدف سلامتهم وعافيتهم، بما في ذلك إساءة المعاملة والعنف الجنسي والاستغلال والإقصاء الاجتماعي والانفصال عن مقدمي الرعاية بسبب الإجراءات المتخذة لاحتواء انتشار جائحة كوفيد – 19 وقد تعرض الكثير من الاطفال الى شتى صنوف الاهانات والتعذيب وصلت الى درجة القتل والتصفيات بأشد الاساليب كراهية للخلق الانساني, وقد ساهم في ذلك الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وعدم التمكن الأسري من خلق ظروف استقرار او الخلل في ستيعاب كورونا وتداعياتها السايكو اجتماعية. 

 وقد يساعد تواجد أفراد الأسرة على مساحة مغلقة وضيقة ولفترات طويلة في توتر العلاقات العائلية، كما أن التقارب المكاني الحالي بين أفراد الأسرة يؤدي إلى تماس مباشر بينهم، وهو ما قد يؤدي إلى ضغط نفسي، ربما سيتحول إلى عنف جسدي ضد المرأة والطفل. كما أن مستوى التوتر والقلق يرتفع داخل المنزل في حالات الطوارئ المختلفة كما في كورونا، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة إمكانية تعرض الأطفال في العائلة للاعتداءات والعنف كونهم أكثر الفئات المستضعفة في المجتمع., وبالتالي فأن الاطفال العراقيين معرضين لمختلف صنوف التضييق والأذلال وسيزداد تعنيفهم اكثر مما سبق بأضعاف.
 
ومن هنا وبمناسبة یوم الطفل العالمي نؤكد على ضرورة اتخاذ إلاجراءات العاجلة لأطفال العراق الأكثر حرمانا من حقوقھم الأساسیة ، كما ندعو جمیع الجھات المعنیة في الحكومة والمجتمع المدني والمجتمع الدولي لحمایة الأطفال من الاستغلال احتراما لكرامتھم، ومنحھم الفرص المتساویة لیصبحوا شابات وشباب أصحاء ومنتجین في عراق الغد، ومعالجة كل الانتھاكات لحقوق الطفل في العراق من نقص فرص الحصول على الخدمات الصحیة والتعلیم الجید والحد من التسرب، والعنف ضد الأطفال في المدارس وبین الأسر والتمییز والأثر النفسي من العنف نتیجة الحروب والإرھاب المستمر والاحتجاز في سجون الأحداث وعدم أیلاء الاھتمام الكافي بالأطفال ذوي الاحتیاجات الخاصة والمشردین والذین لیسوا في بیئتھم الأسریة, وبذل كل الوسائل للحد من تأثير كورونا على سوء معاملة الاطفال. 

أن الاعلان العالمي لحقوق الطفل يشكل حافزا قويا للدفاع عن الطفولة العراقية ومحاولة للنهوض بمستلزمات الطفل العراقي في الحرية والتربية والعيش الكريم بعيدا عن الحروب والتعصب الديني والمذهبي والاثني الذي يمزق شخصية الاطفال, وتأمين فرص العيش الذي يليق بالطفولة الانسانية, ولعله يكون حافزا للمزيدا من فهم الطفولة واهيمتها لبناء رجال ونساء المستقبل.











 


64
التأصيل السايكو اجتماعي والتربوي والسياسي للفساد الأداري والمالي في العراق وما يمكن للحكومة أن تقوم به

د.عامر صالح

أصبح الحديث عن محاربة الفساد الاداري والمالي في العراق مادة دسمة "رغم انعدام ثقة المواطن" لمن يرغب ان يفوز في انتخابات برلمانية أو يكون في منصب رئيس وزراء أو حتى ان يكون مسؤول صغير في الدولة لأن حجم مشكلة الفساد وسعته واستعصاء حلها لا يمكن تصديقه, وقد اخفقت كل الحكومات المتعاقبة على الحكم ما بعد 2003 في الحديث عن رموز الفساد علانية, بل ان جميع تلك الحكومات بطواقمها متهمة بالفساد إلا ما ندر. ولأن الأمل معقودا على من يستطيع تقديم الفاسدين الى العدالة واسترجاع المال العام فأن الشعب يترك هامشا من المناورة وزرع ثقة أولية لمن يدعي محاربة الفساد.


ويتحدث الكثير من السياسيين، إن "الفساد المالي والإداري في العراق ليس مسألة ارقام، فما خسره العراق يفوق بأضعاف ما تتحدث عنه هيئة النزاهة والجهات المختصة"، مؤكدًا أن "الموازنات الفلكية ذهبت في جيوب الأحزاب عبر تقسيمها، حيث كل همهم كان، كيف يسرقون أكثر". أن "الفساد لم يترك بابًا إلا وطرقه في كل القطاعات والمؤسسات والملفات، وخلف لنا كمًا هائلًا من المشاريع الوهمية ومليارات الدولارات كديون خارجية، فضلًا عن تحطيم الاستثمار والبنى التحتية وتدمير كل إمكانات الدولة".


تجاوزت الواردات المالية للعراق منذ الغزو الأميركي وسقوط النظام السابق، في نيسان/إبريل 2003، 1000 مليار دولار، ذهب نصفها إلى الموازنة الاستثمارية الوهمية، رمز "الفساد الأعظم"، وفق لجنة النزاهة النيابية. خسر العراق، كما تقول اللجنة، أكثر من 350 مليار دولار من خلال تهريب العملة ومزاد البنك المركزي، والعقود والمشاريع الوهمية والمتلكئة منذ العام 2003 حتى اللحظة. وفي تصريح سابق لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، قال ان "الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار مع وجود ناتح محلي للموظفين الحكوميين بمقدار 6%، أي بمقدار 20 دقيقة عمل في اليوم"، مؤكدًا أن "موازنات العراق منذ العام 2003 وحتى العام الجاري بلغت 850 مليار دولار", وقد سلم ميزانية الحكومة فارغة الى خلفه مصطفى الكاظمي.


يواصل الفساد نخر العراق، حيث كشفت إحصائيات برلمانية في فترة سابقة عن وجود أكثر من 6 آلاف مشروع وهمي منذ عام 2003 كلفت العراق ما قيمته 178 مليار دولار. في هذا السياق، قال مسؤول عراقي في مكتب رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، إن المشاريع الوهمية 30 بالمائة منها تمت برعاية الأميركيين، وهناك ضباط وحلقات أميركية مختلفة إبان الاحتلال تتورط معها. وأضاف  أن النسبة المتبقية من المشروعات الوهمية، البالغة 70 بالمائة، تمت في زمن الحكومات العراقية المتعاقبة بعد رحيل الأميركيين، وأكثر الفترات التي شهدت مشاريع وهمية كانت في عهد حكومتي نوري المالكي الأولى والثانية، بينها مجمعات سكنية وسياحية وأخرى خدمية قام هو بنفسه بوضع حجر الأساس لها لكنها انتهت إلى المجهول ولم تر النور، رغم أن مبالغها تم صرفها من الموازنة العامة. وفي محصلة جنونية رقمية فأن العراق اهدر ما بعد 2003 الى وقتنا الحاضر أكثر من تريليون و 400 مليارد دولار, وهي مبالغ تبنى فيها مدن وعواصم حضارية وتشيد فيها ابراج وناطحات سحاب وتضمن مستقبل اجيال وتؤسس منها صناديق ضمان للمستقبل.


وفي أول جلسة للبرلمان العراقي من فصله التشريعي الثاني، والتي عقدت في 9 من مارس/آذار للعام 2019، كشف رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي "خارطة للفساد"، شملت 40 ملفا، غالبها في مفاصل ومؤسسات الدولة. وشملت القائمة: "تهريب النفط، ملف العقارات، المنافذ الحدودية، الجمارك، تجارة الذهب وتهريبه، السجون ومراكز الاحتجاز، النقاط الأمنية الرسمية وغير الرسمية، المكاتب الاقتصادية بالمؤسسات والمحافظات والوزارات، تجارة الحبوب والمواشي، الضرائب والتهرب منها، الأتاوات و الكومشن (العمولة)، مزاد العملة والتحويل الخارجي، التقاعد، ملف السجناء، ملف الشهداء، المخدرات، تجارة الآثار، الزراعة والأسمدة والمبيدات،  تسجيل السيارات والعقود والأرقام،  الإقامة وسمات الدخول".

وتضمنت أيضا: " الأيدي العاملة الأجنبية، الكهرباء، توزيع الأدوية، توزيع البطاقة التموينية، الرعاية الاجتماعية، السلف المالية المصرفية، التعيينات، بيع المناصب، العقود الحكومية، تهريب الحديد والخردة وغيرها، الامتحانات وبيع الأسئلة، المناهج التربوية وطباعة الكتب،  المشاريع المتوقفة، المشاريع الوهمية، القروض المالية، شبكة الاتصالات والإنترنت والهواتف النقالة، الإعلام والمواقع الإلكترونية، شبكات التواصل الاجتماعي، ملف النازحين، الاتجار بالبشر".

تُضاف هذه القطاعات الأربعين الرئيسية إلى الكثير من ملفات الفساد المُكتشفة بالأساس سابقا، لكن لم يتم تفعيل الأدوات والمؤسسات القضائية والتنفيذية لمتابعتها. تقدر الحكومة العراقية تلك الملفات بحوالي 13 ألف ملف للفساد، يقدر المتورطين فيها بقرابة مليون مشتبه، بين فاسدين ومتعاونين ومرتشين ومعطلين للقانون العام. تتراوح دائرة المؤسسات والإدارات المتورطة بها من التعليم والقضاء، وتمر بالتهريب والرشاوي، ولا تنتهي بوزارتي النفط والدفاع، اللتان تُعتبران من أكثر وزارات العراق فسادا على الإطلاق. خارطة الفساد هذه تعكس بوضوح استباحة العراق شعبا وأرضا ووطنا ومواردا للعيش. فلا نستغرب عنما تشير الأرقام الدولية بأن موقع العراق هو بالمرتبة 166 من أصل 176 دولة على سلم الدول في مستوى الشفافية في العالم. أي أن العراق من أكثر الدول فسادا في العالم.


ترتبط بدايات جذور ظاهرة الفساد في العراق بمجمل سياسات النظام السابق الاقتصادية والاجتماعية والحروب المدمرة, والتي أدت بمجملها إلى إفقار المواطن وحرمانه من ابسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة, إضافة إلى ما أدت من تفتيت للبنية الأخلاقية والقيمية وضعف الوازع الداخلي, إلا إن سطوة النظام وقمعه حصرت ظاهرة الفساد, وخاصة الإداري والمالي برأس النظام وأطرافه, وحولت بنفس الوقت الفساد إلى ما يشبه الفيروس الخامل تحمله قطاعات اجتماعية واسعة, وجدت في إسقاط النظام والطريقة أو السيناريو التي هوى فيها النظام فرصة مواتية لينشط هذا الفيروس ويتحول من حالة الكمون أو الخمول إلى حالة الفعالية أو النشاط الكامل ليتحول إلى وباء شامل ينشط بطرائق أخطبوطية وبمدى يصعب التحكم والسيطرة عليه أو تحديد سقف له, وقد وفرت الظروف السياسية ما بعد السقوط وطريقة أداء الحكم بيئة صالحة لنشاط فيروس الفساد ليلتف بدوره حول السياسة ويضربها في الصميم ويعيد بعث ظاهرة الفساد السياسي المتمثلة بالاستئثار بالسلطة واستغلال النفوذ السياسي وتكريس قيم الحزب الواحد عند الكثير من الكيانات السياسية, ولعل المثل الصيني " الماوي " القائل : " رب شرارة أحرقت السهل كله " يلقي مصداقية كبيرة في تفسير الفساد في العراق.


أن إحدى تجليات الخوف من الفساد الإداري والمالي هي تحوله إلى ثقافة سائدة أو ما يسمى " ثقافة الفساد " مضفيا على نفسه الشرعية في الشارع وفي المعاملات الرسمية اليومية, ومن ترسخه كنمط سلوكي لإشباع الحاجات المختلفة والاكتفاء الذاتي, وبالتالي يتحول الفساد من كونه عمل منبوذ اجتماعيا وقيميا إلى عمل يلقي الاستحسان ويندمج ضمن المنظومة الايجابية للأخلاق والأعراف, ويعتبر نوعا من الشطارة أو الدهاء الشخصي لصاحبه, وأحد معايير الشخصية الدينامية والمتكيفة القادرة على حل المعضلات بطرائق سحرية.


وعلى هذا الأساس يتحول الفاسد من شخص مجرم يجب أن يساق إلى العدالة إلى شخص قاضي حاجات أو "حلاًل مشاكل ". ففي الوقت الذي كان فيه الفاسد يسير منحنيا بإذلال يخشى أن يعلم به احد جيرانه أو أبناء منطقته,ويذكرني ذلك في نهاية الستينات وبداية السبعينات عندما كانت تعلق صور الفاسدين" السرَاق منهم" في مراكز الشرطة ويكتب أعلاهم بخط عريض " أحذروا هؤلاء ", اليوم يفتخر الفاسد بمكتسباته وبمهاراته وماله الحرام, ولم يعد الفاسد يخشى المواطن بل انتقل الخوف إلى المواطن وأصبح الجميع يحسب آلف حسابا له, لأنه يمتلك السلطة والمال والقرار السياسي, فهو الكادر الحزبي أو القيادي في حزب ما,وهو المدير العام,وهو الموظف الصغير والوزير أو عضو البرلمان وهو أيضا حامل المفخخات والأحزمة الناسفة, بل نبحث عن الفاسد لتسهيل معاملاتنا مهما كانت صعبة, وهو الذي يأتي لنا بالماء والكهرباء والخدمات المختلفة, ويضمن لنا التعيين في أي موقع وفي أي دائرة نرغب بعد أن يمنحنا الشهادة المزورة ويصدر لنا أمر التعين ,وكل ذلك مقابل هدية بحجمه, وإذا لم نقبل بشروط الفاسد فأنه قادر على أن يفرض عليك حصارا لا تقوى الأمم المتحدة على رفعه, فلا غرابة من أن 80% من مراجعي دوائر الدولة العراقية يدفع رشوة لانجاز معاملته.


وبالتالي يتحول الفساد كسلوك وأداة تفضي إلى بلورة جماعات واسعة من المنتفعين ورعاة المصالح الذاتية التي تعمل على توطيد دعائم نظام ما بعد 2003 ولكن بشروط الفساد حفاظا على أوضاعها ومكانتها من الانهيار, وبهذا يطرح الفساد نفسه كطريقة وبديل عن التنمية الاقتصادية الشاملة وفقا للضوابط القانونية والأخلاقية, وتعزيز فكرة أن الفساد يعجل بقضاء المصالح والحوائج وتبسيط الإجراءات وتسير المعاملات مع الجهاز الحكومي, كما انه يعمل على إعادة توزيع الثروات بشكل مشوه من خلال خلق طبقة من أصحاب المال الصغار المستفيدين من رشاوى الحيتان الكبار, كما يزج الطبقة الوسطى" الطبقة المطلوبة رقم واحد في المشروع الوطني الكبير, فكرا وثقافة ومهنية " قي آتون الفساد فيحولها من طبقة إنقاذ إلى طبقة متعايشة مع ظروف الفساد ومكملة له,وعلى خلفية ذلك تنشأ قناعات سلوكية واضحة تفضل الاستقرار و " التنمية " مع الفساد على اللااستقرار بدونه.


وبهذا يتحول الفساد من ظواهر فردية متناثرة هنا وهناك إلى عمل مافيوي مخطط يدخل سوق العمالة ويقدم خدماته من خلال اختراقه كل القطاعات الإنتاجية والخدمية,ويخضع لمبادئ العرض والطلب والمنافسة الكمية والكيفية ويتحكم بمفاصل تشغيل العمالة, وهذا ما نشهده اليوم من تسهيل معاملات على مختلف المستويات,فهناك تسعيرات محددة لشغل مختلف المناصب من مدرس إلى ضابط , إلى شرطي أمن, إلى مدير دائرة والى مدير عام , وتسعيرات للحصول على مختلف الوثائق والمستندات الشخصية من وثائق دراسية وشهادة جنسية وبطاقة أحوال مدنية وجواز سفر وغيرها, طبعا جنبا إلى جنب مع الفساد الكبير الذي يخترق مختلف العقود والمشاريع والمخصصات والاستثمارات الإنتاجية والخدمية التي تستهدف إحياء البنية التحتية المدمرة.


أن القبول بالفساد كأمر واقع شكًل احد عوامل الضغط على المنظومة القيمية والتربوية لدى أفراد المجتمع العراقي وفي تبديد قناعاته الأخلاقية والوطنية, فقد انتشرت اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع, وبروز التطرف والتعصب في الآراء وشيوع الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص, كما شاعت قيم فقدان احترام العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي وتراجع الاهتمام بالحق العام والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي بدوره إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر,وقد جاء ذلك على خلفية التراكمات التي افرزها النظام السابق متبوعة ومعززة بالإفرازات السلبية التي سببتها الاستقطابات السياسية والتحالفات المشوه والاعتبارات الفئوية والطائفية والقبلية حيث غياب مفهوم المواطنة ومصالح البلاد العليا.


وهكذا لعبت المحاصصة بمختلف مظاهرها سببا في شيوع الفساد الإداري والمالي, ولعبت دور الحاضنة الأمينة له ,فلم يتم اختيار أفراد السلطة ولا الوظائف العامة على أساس النزاهة والعصامية والتكنوقراط وإنما جرى ذلك وفقا لتوافقات سياسية واستحقاقات غير متوازنة ولا معقولة, وعلى هذا الأساس استخدم الفساد كطريقة وجزء من منظومة " الحوافز الإيجابية " ," فالمظلوم " من النظام السابق يقوم باسترداد " حقوقه " بطرق غير قانونية كردة فعل على القمع والإقصاء, ويصبح بدوره ظالما وسارقا للمال العام كاحتلاله منصبا سياسيا أو وظيفيا لا يحمل له أي مؤهل وتحت واجهات ومبررات مختلفة: خطية يستاهل, وصاحب عائلة وأطفال وين يروح, خوش آدمي صائم مصلي,أحسن ما يمد أديه للناس, أو يعتبر نفسه مفصول أو مضطهد سياسيا من النظام السابق فيقوم بتزوير الوثائق والمستندات اللازمة لذلك لكي يسترجع " حقوقه ". أما المظلوم الحقيقي من النظام السابق فيعاني الأمرين لانتزاع حقوقه, بل الكثير تنازل عن جدوى الادعاء بحقوقه تحت وطأة سوء المعاملة’كاصتدامه بموظف كارها له في الفكر أو بعثي سابق احتمى بطائفته ويشغل منصبا جديدا تكريما" لمظلوميته ". وهكذا وفرت المحاصصة غطاء لسرًاق المال العام وللمفسدين بصورة عامة, والجميع بعمل على قاعدة أضرب(أسرق) وأهرب إلى طائفتك أو قبيلتك أو حزبك أو إلى قوميتك, أو هذا لك وذاك لي, بل وصل الأمر إلى العبث في تفسير النصوص القرآنية التي لا خلاف على تفسيرها,في محاولة لانتزاع "الاعتراف الإلهي" بأهلية الفاسد وفساده,فعلى سبيل المثال لا الحصر مثلا يرون في النص القرآني: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله" لا تشمل العقوبة سرًاق المال العام, وأن السارق له حصة في هذا المال فهو يأخذ من حصته, والسارق يعرف تماما أن السرقة من المال العام يعني السرقة من أكثر من 38 مليون عراقي, وبالتالي يستحق ليس قطع اليد،بل تقطيع الأوصال(حسب بعض المفسرين), أما اللهاث وراء الفتاوى الدينية لتحريم الحلال وتحليل الحرام فلا حدود لها, وعلى قاعدة " ذبه برأس عالم وأخرج منها سالم " وما أكثر العلماء في عراق اليوم.


ويتقاطع الفساد الإداري والمالي مع الفساد السياسي ليشكل مقدرة استثنائية في التحكم في الأمن وبعث " الاستقرار " وفي انهياره أيضا,وتلجأ العديد من الفصائل السياسية في التعبير عن قوتها وقدرتها على العبث في الاستقرار عبر ممارسة الفساد المقترن بالقوة المسلحة لاختراق مؤسسات المال العام وقتل حراسه, ثم إعادة المال واختفاء المجرمين, وهي شبيه بالمناورات العسكرية لاستعراض القوى" ولتأديب " الحليف السياسي عند الضرورة, ناهيك عن الإرهاب المعلن بغير أقنعة والمدعم خارجيا والقائم على خلفية عقائدية في العداء للديمقراطية بدون رتوش. أن اقل ما تتركه هذه الأساليب من آثار تربوية ونفسية سلبية هو فقدان الأمل في الاستقرار والخضوع لتفاعلات الأمر الواقع وعدم الثقة بالنظام السياسي باعتباره بديلا عن النظام الديكتاتوري السابق,إلى جانب ما يتركه من حالات إحباط وقنوط تتضح آثارها بصور مختلفة من الاضطرابات النفسية لعل أبرزها مظاهر الاكتئاب والعدوان وإلحاق الأذى بالذات وبالمصلحة العامة.


ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن في كل تجارب البلدان التي مرت في محنة الفساد بقيت لديها فسحة من الأمل في بعض من قطاعاتها خالية نسبيا من الفساد,نظرا لارتباط هذه القطاعات بأهداف إنسانية كبرى ذات صلة وطيدة بمستقبل مجتمع بالكامل من حيث الأعداد والتربية والتأهيل وغرس روح المواطنة ونشير منها على سبيل المثال إلى قطاع التربية والتعليم باعتباره قطاعا مصدرا لنماذج القيم المتقدمة وإعادة توليد ما هو ايجابي ومشرف في ذهنية الدارسين, إلى جانب كون العاملين فيه من النخب الاجتماعية والتربوية التي يفترض أن تكون نماذج ومعايير يقتدى بها ويسمع رأيها ,خاصة في الأزمات العامة ,إلا انه مع الأسف كان هذا القطاع من الضحايا الأولى للفساد بمختلف مظاهره من تزوير وسرقة أموال الدارسين وإفساد للعملية التربوية والتعليمية, منهجا وطرائفا وكادرا ومؤسسات, بل أن المحاصصات السياسية والحزبية والطائفية والقومية دخلت بكل حمولتها السيئة لهذا القطاع لكي تحي في ذاكرتنا الآثار السيئة للتبعيث,وبهذا حرم هذا القطاع من دوره الحقيقي في محاربة الفساد بتحويله إلى قطاع مُصدر للفساد.


وتبقى محاربة الفساد وتجفيف منابعه إحدى المهمات الصعبة التي تقف عائقا أمام تطور مجتمعنا وديمقراطيته السياسية, وأن المدخل اللازم للقضاء عليه يتجسد في بناء دولة المؤسسات ألحقه القائمة على سلطة القانون لا سلطة الحزب أو الطائفة أو القبيلة والقومية, والعمل على تفعيل النزاهة والمسائلة والعدالة ضمن آليات عمل مفوضية النزاهة المستقلة ويجب أن تقوم بدورها بملاحقة المتورطين بقضايا الفساد وتقديمهم للعدالة باختلاف مناصبهم ووظائفهم ومسؤولياتهم وأنتمائاتهم الحزبية والطائفية والقومية, والجرأة الكاملة والواضحة في مكافحة الإرهاب بشدة باعتباره لونا من ألوان الفساد وخاصة عندما يستخدم للوصول إلى أهداف سياسية, والحفاظ على قطاع التربية والتعليم وتخليصه وتحًيده من الصراعات الطائفية والحزبية والسماح له بأداء دوره الإنساني والوطني في محاربة الفساد على نطاق واسع, فهو صمام الآمان لخلق جيل مؤمن بقيم النزاهة والحق والعدالة,وإعادة توليد القيم الايجابية في أذهان رجال المستقبل.

مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي الحالي و رجل المخابرات العراقية ورئيس جهازها كما يقال عنه, يفترض أنه كان عارفا بكل شاردة وواردة وهو الحارس الأمين للمعلومة الأمنية في حفظ حياة الشعب, وعليه أن يفهم إذا رغب, أن الفساد في العراق وهو نتاج لفساد نظام المحاصصة الدينية السياسية والأثنية, وعليه استغلال الوقت للشروع بالخطوات الفعلية للأصلاح الشامل, بعيدا عن مضيعة الوقت وضغوطات الأحزاب الطائفية والاثنية او الارتهان الى اجندة تفكيك العراق. ومن هنا ومن برنامج الكاظمي عليه البدء بما يلي: إجراء انتخابات مبكرة بعد استكمال القانون الانتخابي، وتفعيل مفوضية الانتخابات وتطبيق كامل لقانون الأحزاب بالتعاون مع الأمم المتحدة. فرض هيبة الدولة من خلال حصر السلاح بيد المؤسسات الحكومية والعسكرية. فتح حوار وطني بهدف الاصغاء لمطالب حركة الاحتجاج السلمي والشروع بحملة شاملة للتقصي والمساءلة بشأن أحداث العنف التي رافقتها وتطبيق العدالة بحق المتورطين بالدم العراقي. إعداد مشروع قانون موازنة استثنائية لمواجهة الأزمة الاقتصادية وتداعيات انهيار النفط، فضلا عن تسخير إمكانات الدولة لمكافحة جائحة كورونا. حماية سيادة العراق وأمنه وإنتاج رؤية وطنية مشتركة للتفاوض بشأن مستقبل وجود القوات الأجنبية ضمن نطاق عمل أمن البلاد واستمرارية مكافحة فلول الإرهاب وخلاياه. إجراء مفاوضات جادة مع قيادات دول التحالف الدولي بما يضمن تحقيق تطلعات الشعب بالسيادة الوطنية الكاملة في ضوء مصالح العراق وعدم المساس بأمنه الداخلي. عدم استخدام أرضي العراق للاعتداء على أي من دول الجوار جيران وعد السماح بتحويلها الى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. تتعاطى الدولة مع مؤسسات رسمية في علاقاتها الخارجية وفي نطاق قواعد الدبلوماسية الدولية وليس مع أشخاص أو جهات غير رسمية. تؤسس الحكومة العراقية مجلسا استشاريا شبابيا تطوعيا مرتبطا بمكتب رئيس الحكومة يمثل المحافظات كافة ويتم التنسيق مع هذا المجلس بشأن الخطوات الحكومية الخاصة بمجال الإصلاح، ويكون له دور في صياغة آليات دائمة لحماية الحق في التظاهر وضمان سلميته. مكافحة الفساد وتفعيل الملفات المعطلة وتطبيق القانون على الفاسدين مهما بلغ نفوذهم. البدء الفوري بتدقيق السجلات المالية للشركات الحزبية والشخصيات وأصحاب رؤوس الأموال المشكوك بحصولها على أموال بطريقة غير مشروعة.

أن البلاد تقف اليوم على مفترق طرق بسبب الازمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية التي انهكتها، وان انتشالها يستلزم الإسراع في معالجة ملفات الإصلاح والتغيير التي طرحتها الانتفاضة وشدد عليها المنهاج الحكومي والمذكورة بعض من نقاطه اعلاه وهي مقدمات لازمة لمحاربة الفساد على نطاق واسع واقتلاع جذوره ورموزه السياسية. فهل هناك غطاء برلماني للسيد الكاظمي كي يفي بوعوده لفتح واثارة مختلف الملفات والتأسيس لمعالجتها موضوعيا, أم ان الأوضاع مفتوحة لمختلف الاحتمالات وان الوقت يجري سريعا ليست لمصلحة الكاظمي فقط, بل لكل العملية السياسية في البلاد, وقد تندفع البلاد الى حافة المجهول وعندها لا يوجد رابح من خيارات لا تحمد عقباها.
.

 







.











65
                               
على ضوء رفع بعثة الاتحاد الأوربي في العراق علم المثلية الجنسية في بغداد ـ الجزء الثاني في المثلية الأنثوية



د.عامر صالح


حذفت بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق، فجر الإثنين بتاريخ 2020ـ05ـ18، تغريدة الاحتفال برفع علم “المثلية الجنسية”، فوق مقرها بالعاصمة بغداد، بعد موجة غضب وتنديد سياسية ودينية. والأحد المصادف 2020ـ05ـ17، قالت بعثة الاتحاد الأوروبي، عبر حسابها بـ”تويتر”: “بالاشتراك مع السفارة الكندية والسفارة البريطانية في العراق، ننضم اليوم في بغداد مع بعثات الاتحاد الأوروبي حول العالم في رفع علم قوس قزح (علم المثليين) للاحتفال باليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية والتحول الجنسي، وتسليط الضوء على حقوق المثليين”.

ولاقى الإعلان الذي تم إرفاقه بصورة لـ”علم المثليين” المرفوع في بغداد، ردود فعل سياسية ودينية غاضبة طالبت بطرد سفراء دول الاتحاد الأووربي وإغلاق مقراتها. وعبّرت وزارة الخارجيّة العراقية الأحد، عن شجبها لخطوة الاتحاد الأوروبي، ودعت كافة البعثات العاملة في البلاد إلى التقيّد بالقوانين، ومراعاة الأعراف الدبلوماسية والقِيَم السائدة في المُجتمَع. كما أدان ديوانا الوقفين السُني والشيعي الإجراء، بالإضافة إلى البرلمان العراقي، ومراجع شيعية، وكتل سياسية.

وقد اعتبر الكثير هذه الخطوة غير مسبوقة في العراق، الذي يعد بلداً محافظاً، وتلعب الأعراف القبلية والدينية فيه دوراً بارزاً. ولكن في 3 مارس/ آذار الماضي، أشادت السفارة البريطانية في العراق عبر “تويتر”، بما قالت إنه “اعتراف” الحكومة بحقوق المثليين في البلاد. فيما نقلت مواقع محلية عن مصادر حكومية “لم تسمها” قولها إن السلطات العراقية لم تتخذ بعد أي خطوة رسمية باتجاه الاعتراف بحقوق المثليين. وتقول المنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق المثليين، إنهم يتعرضون للاختطاف والقتل في العراق على يد مجموعات مسلحة مجهولة الهوية.

 ومن الضروري التذكير أنه في 17 مايو أيار 1990، حذفت منظمة الصحة العالمية المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية، بعد مرور أكثر من 100 عام على تصنيفها كحالة مرضية. وأصبح هذا التاريخ يوميًا عالميًا لمناهضة رهاب المثلية والتحول الجنسي. وعادة ما تشهد مدن عالمية مسيرات دعما للمثليين لتسليط الضوء على معاناتهم في المجتمعات التي لا تتقبلهم، حيث لا تعترف قوانين كثير من الدول بحقوقهم.

ومن الضروري هنا الاشارة في أطار الترابط مع تلك المناسبة العالمية, الى ان منظمة العفو الدولية حثت الحكومة العراقية في فترات سابقة على بذل المزيد من الجهود لحماية المثليين في البلاد, وذلك في اعقاب صدورتقارير عن تزايد حوادث القتل في أوساط الشباب منهم على وجه الخصوص. وجاء في الرسالة أن25 فتى لقوا مصرعهم في العاصمة بغداد لوحدها خلال الأسابيع القليلة المنصرمة, وذلك اما لأنهم كانوا من المثليين الجنسيين, أو أن المهاجمين تصورا بأنهم كانوا كذلك. وقد انتقدت الرسالة ما أسمته"اخفاق الحكومة" العراقية بادانة حوادث القتل تلك,والتي يعتقد بأنها نفذت على أيدي رجال ميليشيات طائفية ,أو من قبل أفراد ينتمون الى عشائروعائلات الضحايا انفسهم.



أن المثلية الجنسية الأنثوية ( السحاق) هي الوجه الآخر للمثلية الجنسية عموما, والتي تشكل المثلية الجنسية الذكورية ( اللواط) وجهها الأول. وقد نشرت على صفحات الانترنيت مقالا مكرسا عن الأخيرة بعنوان: "على ضوء رفع بعثة الاتحاد الأوربي في العراق علم المثلية الجنسية في بغداد ـ الجزء الأول في المثلية الذكورية ". أن المثلية الجنسية الأنثوية بمعناها الشامل تعني الميول والممارسات ذات الطابع أو التنويه الجنسي بين أنثيين أو من أنثى إلى أخرى من جنسها, غير أنها بالمعنى المحدد تعني ممارسة العلاقة الجنسية الفعلية بين أنثى وأخرى.وهذه الحالة الأخيرة هي التي تسمى باللسبية. ولا نعتقد أن هذه الممارسات منعدمة كليا في أي مجتمع, قديم أو حديث, بدائي أو متحضر أو متطور, غير أنه يصعب تحديد نسبة الممارسة في أي مجتمع, وهذه الصعوبات ناتجة عن التستر عليها وعدم الإفضاء, وما يترتب على ذلك من نبذ اجتماعي وعقاب ديني لذوي الممارسة, إضافة إلى صعوبات ناجمة عن تحديد أوجه هذه الممارسة بين أنثى وأخرى, وذلك لأن درجات التماس الجسمي عديدة كما أن أي واحدة منها قد تخدم غرضا جنسيا قد يختلف في طبيعته النفسية والفيزيولوجية عن أي درجة أخرى من التماس.


ففي المجتمعات الأوربية والمتقدمة منها بشكل خاص أصبحت الظاهرة قابلة للقياس والبحث العلمي نسبيا.أما في المجتمعات الأخرى, ومنها العربية والإسلامية بصورة خاصة فهي عصية على الاختراق لأسباب ثقافية ودينية تحجب اختراق الظاهرة ودراستها بشكل موضوعي, على الرغم من وجود الكثير من المؤشرات التاريخية والحاضرة على وجودها واستمرارها, وتشكل رمزية قصة قوم لوط وذكرها في القرآن أحدى المؤشرات الهامة لذلك وتعبر بنفس الوقت عن عمق التأريخ المدون للظاهرة. وتشكل قصة لوط ليست فقط مدخلا لفهم " اللواط", بل لفهم الوجه الأخر من نتائجها وهو "السحاق", وهي تفسر النتائج والأسباب المتبادلة بين الظاهرتين عندما تؤسس الممارسة على قاعدة الانكفاء بين الجنسين, وأن لم يكن قد ورد ذلك صراحة في القرآن, ولكن ورد على ألسنة المفسرين للنص القرآني.


ولأغراض المتعة العقلية فيما ذكرنا أعلاه, نشير هنا إلى ما ذكره الراغب الأصبهاني في كتابه " محاضرات الأدباء" والمحمل على صفحات الانترنيت, بخصوص الجذور الأولى لنشأة السحاق عند العرب. فوفقا للأصبهاني كانت هند بنت عامر زوجة   النعمان بن المنذر بن امرئ ألقيس اللخمي الملقب بأبي قابوس( 582ـ610م ) وهو من أشهر ملوك المناذرة في عصر قبل الإسلام, رائدة السحاق العربي بعد الانقطاع التاريخي الذي نتج عن إهلاك الله لقوم لوط.فقد ذكر الأصبهاني في المحاضرات أن أول من سنت السحاق عند العرب نساء قوم لوط لما شاع بين رجالهن إتيان الذكور وهجرهم النساء, فلما اشتدت شهوتهن أخذن يتضاربن بالأرداف فوجدن لذة في ذلك, ثم ألصقن الردف بالشراح فكانت أكثر لذة, ثم دلكن الشراح بالآخر, فتصدم النواة بالنواة/ والهنات بالهنات, فتنزلان الماء, ولما أهلك الله قوم لوط الرجال والنساء انقطع اللواط والسحق, حتى جاءت رقاش بنت الحسن اليمانية مرة لزيارة هند بنت عامر بن صعصعة زوجة النعمان بن المنذر, وافدة عليها فأنزلتها عندها وكانت ذات حسن ونضارة فشغفت بها وكان النعمان يغزو فيغيب عن امرأته, فتكون هي ورقاش على فراشه, فربما التصق جسداهما, فوجدتا لذة لطول العزوبة حتى استدلتا على طريق المساحقة, فما زالت رقاش تزين لهند وقالت إن في اجتماعنا أمنا من الفضيحة وأدراك الشهوة, فاجتمعتا واستمر بهما ذلك حتى أصبحن كزوج وزوجة وبلغ من شغف كل واحدة بالأخرى أنه لما ماتت ابنة الحسن اعتكفت امرأة النعمان على قبرها واتخذت الدير المعروف بدير هند في طريق الكوفة. وفيها يقول الفرزدق مخاطبا جرير بن عطية يهجوه:

وفيت بعهد كان منك تكرما      كما لأبنة الحسن وفت هند


أن وضع النص المذكور أعلاه في مناظرة مع العلم الحديث يعكس لنا انطباعا دقيقا أن الأصبهاني تحدث عن المثلية الفعلية بين الإناث وليست الميل العام لها, وهو بهذا المفهوم يتفق مع مفهوم اللسبية التي تقابل السحاق في المفهوم العربي الكلاسيكي, وهي حالة التماس الفعلي ذو الممارسة الجنسية. ولا نتفق مع الأصبهاني كون أن الظاهرة انقطعت بعد ما حل بقوم لوط من عقاب حسب" الرواية الدينية", ولكننا نستطيع أن نقول أن الظاهرة اختفت عن الأنظار ولم تنقطع, ولذلك لم تسنح الفرصة لتدوينها أما ما تم تدوينه فهي حالات قريبة من البلاط الحاكم,  وهي حالات سهلة الملاحظة نسبيا قياسا بالحالات العامة المستعصية, ولذا نستطيع أن نقول أن هند بنت عامر قد تكون أحدى رائدات السحاق العربي وليست الرائد الأول. كما نستطيع أن نؤكد أن النص وضع يده على احد أسباب السحاق وهو هجر الزوجة بعيدا وعدم تنظيم العلاقة الزوجية,ولكن النص  من جانب آخر  حصر السحاق فقط في المتزوجات.


ورغم أن هناك أجماع بين فقهاء الدين بأن ممارسة المرأة الجنس مع امرأة أخرى هو حرام ومعصية كبيرة من أشد الكبائر وهو مخالف للفطرة الإنسانية, إلا أن عدم وجود نص قرآني صريح وواضح (على نسق ما جرى لقوم لوط) بهذا الخصوص ترك آثاره على المذاهب الإسلامية المتعددة للاجتهاد حول هذه الظاهرة وشروط اقترانها بالممارسة الدينية, مع العلم أن هناك أحاديث تنقل عن النبي محمد تدين الظاهرة إدانة واضحة كقوله مثلا: "سحاق النساء زنى بينهن" وكذلك قوله" السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال, فمن فعل من ذلك شيئا فاقتلوهما,ثم أقتلوهما", إلا أن هناك خلافا بين الفقهاء حول ما ورد من أحاديث واعتبروها من الأحاديث الضعيفة من حيث استيفائها لشروط انتسابها إلى الأحاديث النبوية.


ونشير هنا إلى موقف المذهب الشيعي من السحاق وتحديدا الشيعة الأنثى عشرية والذي روي عن الأمام جعفر الصادق, والذي تسمى  الشيعة الأنثى عشرية نسبة أليه بالجعفرية, وهو موقفا متشددا, ويستند إلى تفسير بعض النصوص القرآنية, وليست إلى نصوص صريحة. حيث روي عنه أنه دخل عليه نسوة, فسألته امرأة منهن عن السحاق؟ فقال: حدها حد الزنا.فقالت المرأة: ما ذكر الله عزوجل ذلك في القرآن؟ فقال: "بلى".قالت: وأين هو؟ قال : "هن أصحاب الرس, ويقصد بذلك الذين جاء ذكرهم في سورة الفرقان, الآية 38: ( وعاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا), وكذلك ما ورد في سورة قاف, الآية 12: (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود). واستنادا إلى بعض التفسيرات فأن أصحاب الرس هو نسبة إلى نهر أو بئر يعرف بالرس بآذربايحان, وهم قوم كذبوا الأنبياء والرسل, واختاروا الممارسات الجنسية الشاذة والمحرمة كاللواط والسحاق ,فاستغنوا رجالهم بالرجال و نساؤهم بالنساء فأهلكهم الله. وهناك الكثير من التفسيرات لهذه النصوص, يمكن الاطلاع علها في المواقع الالكترونية الخاصة في تفسير القرآن أو كتب التفسير.


أما بالنسبة للمذهب السني فقد أشار بوضوح كون فعل السحاق حرام بإجماع فقهاءه, إلا أن هناك تنوعا مرنا في الرأي عند فرق السنة بقدر ما يتعلق الأمر بصلته بالممارسات الدينية. وهنا نشير إلى ما ورد بخصوص ذلك في الموسوعة الفقهية والمحملة على أوقاف نت الخاصة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت/ في الجزء الرابع والعشرون من هذه الموسوعة . فقد أختلف فقهاء السنة في نقض السحاق للوضوء؛فذهب الحنفية إلى أن تماس الفرجين سواء كان من جهة القبل أو الدبر ينقض الوضوء ولو بلا بلل ـ وهو عندهم ناقض حكمي ـ واشترطوا أن يكون تماس الفرجين من شخصين مشتهيين وهو ما يفهم من مذهب المالكية حيث أن مس امرأة لأخرى بشهوة ينقض الوضوء, لأن كل منهما تلتذ بالأخرى, وصرح الحنابلة بأنه لانقض بمس قبل امرأة لقبل امرأة أخرى أو دبرها, وهو مذهب الشافعي. كما يؤكد مذهب المالكية والحنابلة أن خروج المذي بلمس أو قبلة مباشرة مفسدا للصوم, خلافا للحنفية والشافعية , (يمكن العودة للموسوعة المذكورة للمزيد من التفاصيل). ونعتقد على خلفية هذا الموقف الواضح للمذاهب السنية أنه بإمكان" المرأة السحاقية المسلمة" أن تمارس الطقوس الدينية من صلاة وصوم وفقا للضوابط الشرعية المذكورة أعلاه. ونعتقد كذلك أن هذا الموقف قائم على تصور مفاده أن فعل السحاق ليست بمنزلة فعل اللواط وأن الأول هو أشبه بمقدمات(مداعبات) للفعل الجنسي, وليست عملا جنسيا كاملا كما يجري في اللواط في أغلب الأحيان .


أما بالنسبة لمدى انتشار ظاهرة المثلية الجنسية الأنثوية في العالم العربي والإسلامي في الوقت الحاضر فهي غير معروفة ولا يمكن أن نتوقع إحصاء دقيقا عنها,نظرا للتكتم الشديد عليها, إلا أننا نستطيع أن نلتمس بعض من أبعادها,والذي يعبر بالتأكيد عن وجودها في عالمنا العربي ,فعلى سبيل المثال لا الحصر,ونقلا عن شبكة أبن الخليج الالكترونية يؤكد استشاري الطب النفسي الدكتور عبد الله السبيعي بكلية الطب بجامعة الملك سعود في الرياض بأن ظاهرة المثلية الجنسية الأنثوية في المجتمع السعودي في تزايد مستمر في ظل وجود العوامل المثيرة للرغبات الجنسية كالقنوات الفضائية والانترنيت والهاتف الجوال الذي أصبح الآن للعلاقات غير المشروعة(وفقا لتصوره), وأكد كذلك أن هذه الظاهرة غالبا تحدث بين الشابات في الأماكن المكتظة بهن كالمدارس, وتبرز بشكل أكثر في الجامعات لعدم قوة ضبط وهيبة الإدارة مقارنة بالمدارس ( حسب قوله ) كما أكد أيضا عن أن أكثر من(70%) في الفتيات الشاذات جنسيا(حسب تعبيره) في المملكة العربية السعودية لا يرغبن في تعديل وعلاج سلوكهن خاصة اللاتي مارسن هذه الظاهرة بشكل كبير لاقتناعهن بأنهن لا يحسن غير هذا النوع من الممارسة للحصول على المتعة الجنسية ولا يجدن الإثارة في الرجل.

ومن الجدير بالذكر أن بعض من ملامح هذه الظاهرة بدأت تطفح على السطح من خلال معالجات بعض الأعمال الفنية, فقبل أعوام تم عرض الفلم المصري" حين ميسرة " والذي تم فيه عرض مشاهد ( السحاق ) الذي أدته الفنانتان المصريتان غادة عبد الرزاق وسمية الخشاب, وقد أثار موجة من السخط والغضب في  صفوف بعض من أساتذة الجامعات وعلماء الدين في الأزهر, مطالبين بإحالتهما إلى النيابة المصرية العامة للتحقيق معهما بتهمة الدعوة إلى نشر الشذوذ الجنسي والسحاق والتخريب الأخلاقي, وكالعادة متهمين "الأصابع الأمريكية والصهيونية" بالوقوف وراء مثل هذه الأعمال الفنية الشاذة ضمن مخطط تخريبي كما يدعون لتدمير أخلاق المجتمع, مؤكدين أنه لا يمكن أن نتصور أن" السحاق" وصل عندنا إلى هذا الحد. وقد سبق ذلك فلما ولكنه عن" اللواط" بين رجلين, وهو فيلم( عمارة يعقوبيان ) من بطولة الفنان عادل أمام.


أن المثلية الجنسية الأنثوية هي ظاهرة سايكوأجتماعية معقدة نسبيا قياسا بالمثلية الجنسية الذكورية وذات طابع نمائي, وان الأسباب التي تدفع بالمرأة نحو المثلية كثيرة, وترد في غالبيتها إلى عوامل معقدة تتصل اتصالا وثيقا بشخصية الفتاة وبالعوامل النفسية المختلفة التي تعرضت لها في أدوار الطفولة, ولعل هذه العوامل النفسية في المرأة أكثر تعقيدا منها في الرجل بسبب الرقة التي يتميز بها الكيان النفسي للمرأة مما يجعلها أدق وأعمق من الرجل في حياتها النفسية.


قد تلجأ بعض الإناث إلى التجربة الجنسية مع مثلهن بسبب محدودية الاتصال بالجنس الأخر من الناحية الجنسية وحتى العاطفية.وفي هذه الحالة تعتبر التجربة الجنسية المثلية امتدادا طبيعيا للدور الجنسي المثلي الذي يكثر في المراهقة عند الذكور والإناث. والبعض من الإناث يمارسن ذلك بسبب دافع حب الاستطلاع أو لمجارات بعض التجمعات الشللية. ومعظم الإناث تخلين عن ممارسة المثلية بعد توفر العلاقة الطبيعية مع الجنس الأخر, إلا أن بعضهن يتجهن اتجاها واضحا في ممارسة المثلية حتى بعد توفر العلاقات الجنسية الطبيعية سواء من خلال الزواج أو بدونه, وهذه الحالات هي حالات مثلية صرفة,وهناك العديد من الأسباب لتفسير ذلك, يمكن اختصارها بالشكل الأتي:

1 ـ أن بعض الإناث يثيرهن الإعجاب ببعض الخصائص التي تتحلى بها بعض الفتيات من جنسهن, وقد يبدأ هذا الإعجاب منذ الصغر, وقد ينمو عند بعضهن إلى ما يشبه عاطفة الحب العنيف. ويقع اختيار الفتاة على فتاة تتحلى ببعض المزايا التي تفتقدها في نفسها وطالما تمنتها, سواء كانت هذه الصفات عقلية أو جسمية أو اجتماعية.ويعزز هذا الاتجاه فشل الفتاة في العثور على هذه الصفات في والدتها أو بسبب حرمانها من عطف أم , لها بعض هذه الصفات.مع أن بعض الفتيات يستطعن في الكبر تحويل هذه العاطفة الأعجابية إلى مجالات عاطفية أو أحتماعية أخرى, إلا أن البعض الأخر لا يستطيع الابتعاد عن هذا الارتباط الذي قد ينمو ويتخذ مظهرا جنسيا مثليا.إلا أن بإمكان العلاقة الزوجية القائمة على التفهم العاطفي للزوجة أن يحل ذلك.

2ـ أن بعض من الإناث يعاني مبكرا من عدم الثقة بالنفس, وفي أنوثتهن و يعانين من شعور عام بالنقص وعدم الاطمئنان والقلق. وقد يكون ذلك بسبب عدم اكتمال نمو الحياة العاطفية للفتاة, كما قد ينجم ذلك من أخطاء عاطفية تربط الفتاة بوالديها وخاصة الأم.إذ أن من العسير على الفتاة أن تشعر بمثل هذه الثقة بنفسها إذا كان المصدر الأول لتعرفها بنفسها كأنثى,وهو الأم,لا يعطيها الشعور بذلك.وهناك من يعتقد أن وفاة الأم مبكرا أو الفراق الطويل الأمد, وكذلك العزوف عن الصلات العاطفية بأولادها, وجميع هذه العوامل تدفع صوب المثلية الجنسية الأنثوية كشكل من أشكال التعويض العاطفي عن المصادر الطبيعية, ولكن أذا استطاعت الفتاة من ملء هذا الفراغ بمصادر طبيعية يمكن لها أن تعود إلى العلاقة مع الجنس الآخر.

3ـ أن الفشل في الحياة الزوجية بما في ذلك العلاقة الجنسية قد تكون وراء اندفاع المرأة نحو العلاقة المثلية. وقد يكون هذا الفشل مقررا بسبب البرودة الجنسية للزوجة سواء كان هذا البرود مقررا بالطبيعة التكوينية أو بسبب عوامل أخرى. وقد يتقرر هذا الفشل بسبب الزوج, لأسباب مماثلة, وقد يأتي بنتيجة عدم التوافق بينهما, وهي أمكانية كثيرة الوقوع. ويجب إدراك حقيقة أن الحياة الجنسية للمرأة هي أكثر من الاكتفاء الجسدي أو الغريزي, وهذا الواقع قد يعرضها إلى مختلف الاضطرابات النفسية العميقة إذا لم تراع حاجاتها بدقة وعناية. والخطأ في أدراك ذلك قد يؤدي إلى ردود فعل عنيفة لدى المرأة يبعدها عن أي علاقة مع الرجل,فتندفع نحو علاقات مثلية لتأمين نوع من الأمن النفسي والروحي(طبعا تلعب هنا الثقافات المختلفة دورا كبيرا في تحديد وجهة ذلك ودرجته).

4ـ كما تفسر بعض حالات المثلية الجنسية الأنثوية هي أن ذروة المرأة قد لا تتحقق إلا عن هذا الطريق, ثم أن حصول المرأة على ذروات متعددة في وقت قصير قد لا يأتي إلا عن هذا الطريق, وهذا ما يدفع بعض النساء إلى اللجوء إلى اللسبية تفضيلا عن العلاقة الجنسية مع الرجل. وقد يكون من الأسباب أيضا في بعض الحالات هروب المرأة من الالتزامات التي يترتب على العلاقة الجنسية مع رجل, من تكوين أسرة وحمل وتربية الخ.

5ـ وهناك أيضا التفسيرات التي ترى إن هناك استعدادا تكوينياـ وراثيا نحو الجنسية المثلية وبأن هذا الاستعداد ينتقل على شكل تغيرات هرمونية عصبية,وأن هذه التغيرات تحدث تحسسا  لنواة الهايبوثالموس في الدماغ في وقت دقيق وحرج من مراحل النمو.وكما هو معروف أن هذه النواة تنظم وتتحكم بالفعاليات المختلفة لحياتنا الجنسية. أما بالنسبة للفرويدية فهي ترى أن الإشباع الشديد للغريزة في مرحلة الطفولة إشباعا فمويا يجعل الطفل يجد صعوبة في التخلي عنها أو يجعله يحن إلى العودة إليها حين يكبر, وتشكل المثلية أحد مظاهرها, وهو ما يسمى في علم النفس بالتثبيت.


وهكذا من الناحية العلمية فأن المثلية الجنسية الأنثوية لا يمكن حصرها في عامل واحد, وإنما تتضافر عدة عوامل من نفسية واجتماعية وحضارية وبيولوجية وتكوينية, إضافة إلى توفر متغيرات زمنية نوعية وكمية في كل حالة. وعلى خلفية عدم الوضوح الفكري والديني لظاهرة المثلية الجنسية الأنثوية من حيث أسبابها ومظاهر التعبير عنها, يجري التعامل مع النتائج باعتبارها أسبابا أو كما يقال(وضع العربة أمام الحصان), وبالتالي تصبح محاربة الفعل المثلي مطلوبا لذاته, دون فهم الميكانيزم الذي يقف ورائه, وأن إدراك هذا الأخير يعني في المنهج العلمي تسهيل حصر هذه الظاهرة إلى أدنى مدايات التعبير عنها. وتبقى الحالات المستعصية أو اللسبية الفعلية متروكة لسقف التسامح الاجتماعي في تقبل الأخر, بعيدا عن الاضطهاد والتصفيات الجسدية, والذي يؤدي بدوره إلى مزيدا من الحقد والكراهية الاجتماعية, ولكنها مهمة ليست سهلة في مجتمعاتنا.         

   
وعلى العموم يذكر أن الأشخاص من المثلييين ومزدوجي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيا في العراق يواجهون تحديات قانونية واجتماعية لا يواجهها غيرهم من المغايرين جنسيا ولا يسمح للرجال المثليين بالخدمة بشكل علني في الجيش ويعتبر كل زواج المثليين والشراكات المنزلية غير قانونية مثل زواج المثليين والاتحادات المدنية والشراكات المنزلية غير قانونية ولا يتمتع الأشخاص المثليون بالحماية القانونية ضد التمييز وكثيراً ما يقعون ضحايا لجرائم عدوانية وجرائم الشرف. وتشير احصاءات الى ان 31٪ من الانتهاكات ضد المثليين في العراق تقع من قبل الميليشيات المسلحة و27٪ من أفراد الأسرة و22٪ من قبل الحكومة و10٪من قبل تنظيم داعش و10%من قبل آخرين. وتوضح أن ما يقرب من النصف من أعمال العنف ضد المثليين تحدث في مناطق وسط العراق و32 % في أقليم كردستان العراق و26 % في جنوب البلاد.


    وفي الوقت الذي أعتبر فيه رفع علم المثلية الجنسية" علم قوس قزح " من قبل بعثة الاتحاد الاوربي استفزاز للمشاعر الرسمية ولبعض الاوساط الشعبية والدينية العراقية, إلا أننا نرى ان الموقف منها لا يتجزأ عن مواقف اخرى, كالموقف من الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام, فالعفة هي العفة بأختلاف مظاهر التعبير عنها, وهل يجوز للأخلاق ان تزكى او تسوف حسب الأهواء والمصالح الذاتية.                                                                                                                       


                                                                                                                                     














 

   








   







66
على ضوء رفع بعثة الاتحاد الأوربي في العراق علم المثلية الجنسية في بغداد ـ الجزء الأول في المثلية الذكورية

د.عامر صالح

حذفت بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق، فجر الإثنين بتاريخ 2020ـ05ـ18، تغريدة الاحتفال برفع علم “المثلية الجنسية”، فوق مقرها بالعاصمة بغداد، بعد موجة غضب وتنديد سياسية ودينية. والأحد المصادف 2020ـ05ـ17، قالت بعثة الاتحاد الأوروبي، عبر حسابها بـ”تويتر”: “بالاشتراك مع السفارة الكندية والسفارة البريطانية في العراق، ننضم اليوم في بغداد مع بعثات الاتحاد الأوروبي حول العالم في رفع علم قوس قزح (علم المثليين) للاحتفال باليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية والتحول الجنسي، وتسليط الضوء على حقوق المثليين”.

ولاقى الإعلان الذي تم إرفاقه بصورة لـ”علم المثليين” المرفوع في بغداد، ردود فعل سياسية ودينية غاضبة طالبت بطرد سفراء دول الاتحاد الأووربي وإغلاق مقراتها. وعبّرت وزارة الخارجيّة العراقية الأحد، عن شجبها لخطوة الاتحاد الأوروبي، ودعت كافة البعثات العاملة في البلاد إلى التقيّد بالقوانين، ومراعاة الأعراف الدبلوماسية والقِيَم السائدة في المُجتمَع. كما أدان ديوانا الوقفين السُني والشيعي الإجراء، بالإضافة إلى البرلمان العراقي، ومراجع شيعية، وكتل سياسية.

وقد اعتبر الكثير هذه الخطوة غير مسبوقة في العراق، الذي يعد بلداً محافظاً، وتلعب الأعراف القبلية والدينية فيه دوراً بارزاً. ولكن في 3 مارس/ آذار الماضي، أشادت السفارة البريطانية في العراق عبر “تويتر”، بما قالت إنه “اعتراف” الحكومة بحقوق المثليين في البلاد. فيما نقلت مواقع محلية عن مصادر حكومية “لم تسمها” قولها إن السلطات العراقية لم تتخذ بعد أي خطوة رسمية باتجاه الاعتراف بحقوق المثليين. وتقول المنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق المثليين، إنهم يتعرضون للاختطاف والقتل في العراق على يد مجموعات مسلحة مجهولة الهوية.

 ومن الضروري التذكير أنه في 17 مايو أيار 1990، حذفت منظمة الصحة العالمية المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية، بعد مرور أكثر من 100 عام على تصنيفها كحالة مرضية. وأصبح هذا التاريخ يوميًا عالميًا لمناهضة رهاب المثلية والتحول الجنسي. وعادة ما تشهد مدن عالمية مسيرات دعما للمثليين لتسليط الضوء على معاناتهم في المجتمعات التي لا تتقبلهم، حيث لا تعترف قوانين كثير من الدول بحقوقهم.

ومن الضروري هنا الاشارة في أطار الترابط مع تلك المناسبة العالمية, الى ان منظمة العفو الدولية حثت الحكومة العراقية في فترات سابقة على بذل المزيد من الجهود لحماية المثليين في البلاد, وذلك في اعقاب صدورتقارير عن تزايد حوادث القتل في أوساط الشباب منهم على وجه الخصوص. وجاء في الرسالة أن25 فتى لقوا مصرعهم في العاصمة بغداد لوحدها خلال الأسابيع القليلة المنصرمة, وذلك اما لأنهم كانوا من المثليين الجنسيين, أو أن المهاجمين تصورا بأنهم كانوا كذلك. وقد انتقدت الرسالة ما أسمته"اخفاق الحكومة" العراقية بادانة حوادث القتل تلك,والتي يعتقد بأنها نفذت على أيدي رجال ميليشيات طائفية ,أو من قبل أفراد ينتمون الى عشائروعائلات الضحايا انفسهم.

الكتابة عن هذا الموضوع, لما فيه من خصوصية ومحاذير وتابو عصي على الاختراق والبحث في دائرة ثقافتنا التي لاتفصح عن كل شيئ, لكي يتسنى للناس ممارسة نقد وتقويم الظواهر المختلفة بطريقة بناءة,عبر تفهم ابعادها وتعقيداتها المتشعبة,وبالتالي يكون قبولها او رفضها كليا او جزئيا مبنيا على حيثيات الالمام بها وليست من منظور أقصائي متشنج ازائها, قائم على خلفية الجهل بها فيكون عند ذلك" افضل" الحلول هو لجمها بشتى الوسائل او التعتيم عليها, لكي تنمو الظاهرة اضعافا خلف الكواليس, أن كان طبعا ما يشير الى وجود ذلك المحرم ام لا. والمحرمات لاحصر لها في ثقافتنا, ولكن الخلاف في درجة المحرم وسقف شيوعه. 

أن المثلية الجنسية قديمة قدم التأريخ, بشقيها: المثلية الذكرية (اللواط), والمثلية الأنثوية(السحاق). وكلا الظاهرتين موغلة في التأريخ, فالسحاق الذي يسمى" باللسبية" نسبة الى جماعة من النساء عشن في جزيرة لسبوس اليونانية في القرن السابع قبل الميلاد وأشتهرن بممارسة الجنسية المثلية,وماهذا التأريخ الا هو البداية" الرسمية" أو المعلنة فقط.أما اللواط فلا توجد دلائل تأريخية لبدايته الرسمية,ألا أن آثاره تعكس توغله هو الاخر في عمق التأريخ.


أن من اهم الأمور المتعلقة بالجنسية المثلية عند الذكور هي النظرة الأجتماعية لهذه الظاهرة السلوكية. ويوجد هناك تباينا لهذه النظرة عبر عصور التأريخ والحضارات المتعاقبة والمجتمعات المختلفة.فهي قد عرفت وأنتشرت في الحضارات القديمة لبلاد وادي الرافدين ومصر والهند والصين, ولايبدو أن هذه الحضارات قد أدانت هذه المماراسات, بل أن بعضها, وخاصة اليونانية القديمة قد حظيت بالكثير من التقدير كما يتضح ذلك من بعض محاورات أفلاطون, حيث يحدثنا عن عشق سقراط للغلام اليسباديس, ويذكر ديوجنيس أن سقراط عندما كان غلاما كان معشوقا لمعلمه, وارسطو كذلك المعلم الاول عند الاغريق كان أيضا يمارس الجنسية المثلية,وكذلك من أشراك عدد من آلهة الاغريق مثل"زيوس"و"بوسيدون"و"ابوللووهرميس", في العلاقات المثلية, وما ورد عن تفشي المثلية الجنسية الذكورية في أسبارطة وهي أشد المدن بأسا وشجاعة. أما الأديان السماوية الثلاث(اليهودية والمسيحية والأسلام) فقد أدانت الجنسية المثلية وأعتبرتها مخالفا للفطرة الأنسانية وفناء للبشرية القائمة على الزوجين آصلا.وماحدث لقوم لوط من عقاب يمثل النظرة الدينية لهذه الممارسة.


وبالرغم من التحريم لها فقد أستمرت بالأنتشار في العصور التالية وأن كنا لانعلم بالتأكيد مدى ذلك الأنتشار بالنظر لما يترتب عليه الافضاء من عقاب.غير ان التأريخ الحديث من عصر النهضة وحتى الان قد ترك لنا أسماء مرموقة في تأريخ الفنون والاداب والحياة العامة ممن عرفوا بجنسيتهم المثلية اما في حياتهم أوبعد وفاتهم,ومنهم مايكل أنجلو,وليوناردو دافنشي, وشايكوفسكي, وبيكون, وربما شكسبير, واسكار وايلد, ولورنس, ومارسيل بروست, واللورد كيتشنر وعدد من ملوك الانجليز وغيرهم ممن لم تتناقل اسمائهم لأنهم لم يشتهروا,ولانعلم ان كانت تلك لعنة السماء عليهم ام ميزة لهم كي يتفردو.


أما الأتجاه المعاصر نحو مسألة الجنسية المثلية فهو أتجاه غير ثابت وغير متساوي في الكثير من البلدان والمجتمعات,فهنالك من يدين الممارسة اخلاقيا وبدون تبرير.وهنالك من البلدان ما يفرض عقوبة زجرية وتأديبية شديدة على ممارستها قد تصل الى الحبس المؤبد او القتل كما في البلدان التي تتخذ من الشرع الاسلامي واجهة لها.وهناك من يعتبر المسألة حالة مرضية تقتضي العلاج بالطرق الطبية والنفسية الممكنة,وهناك من يرفض هذه النظرة ولايعتبر الجنسية المثلية مرض من الامراض ولايفرض على الممارس لها ضرورة المعالجة بالأجبار.وفي خضم هذه الاتجاهات الاجتماعية والقانونية والدينية المختلفة يقوم أتجاها أكثر مرونة آزاء الجنسية المثلية. وهذا الاتجاه معمول به في بعض البلدان منها بريطانيا والسويد والدنمارك وهولندا وفرنسا وبعض الولايات المتحدة الامريكية وكلها اجازت الممارسة قانونيا على شرط آن تتم بين فردين راشدين ودون الاخلال بالآداب العامة.


ومن الضروري الأشارة هنا هو أن نسبة الممارسة في البلدان التي تسامحت قانونيا لم يزد على نسبة الممارسة في تلك المجتمعات التي تعاقب عليها وتكبحها بشدة(قد يجري ذلك على قاعدة كل ممنوع مرغوب), كما هو الحال في الكثير من المجتمعات في العالم, ومنها العربية والأسلامية حيث تشير دوائر العلاقات الأجتماعية المغلقة أن هذه الظاهرة متفشية بين أوساط وزراء ومسؤولين وسياسين ومثقفين وكتاب وحتى في أوساط المعلين وممارسي الطقوس الدينية, عدا المنتشر منها في البيئات الأجتماعية ذات الطابع الشللي, والتي تعاني من مظاهر انحراف متعددة كجرائم السرقات والقتل وغيرها.ألا ان عوامل النبذ الاجتماعي لهذه الظاهرة وصرامة العقاب لاتدعنا الى الوقوف على نسب أنتشارها, كما لانتوقع ان تنخفض هذه الظاهرة في ظل الانغلاق الاجتماعي وحالة الأنكفاء بين الجنسين والتخلف العام.وعلى اية حال فهي ظاهرة لها جذورها الممتدة في التأريخ القديم وما قبل الأسلام و ما بعده ,وتشير الى ذلك بوضوح الكثير من الكتابات التأريخية من شعر ونثر ومحاورات وقصص مختلفة, وما كثافة النصوص القرآنية بهذا الخصوص الا دليل دامغ على تفشيها.


ومن الجدير بالذكر هنا, أن النظرة الأجتماعية للعلاقة المثلية الجنسية عبر العصور لم تتميز بالشدة والأدانة التي حظيت بها الجنسية المثلية الذكرية, قياسا بنظيرتها ,الجنسية المثلية الأنثوية, وعلى العكس فأن بعض المجتمعات القديمة,كما كان الحال في اليونان القديم ,فقد رفعت الجنسية المثلية للمرأة الى المرتبة الأسمى من علاقات الحب,غير ان الكثير من الأديان وخاصة السماوية(والأسلام منها) أدانت وأزدرت هذا الأتجاه في المرأة, وجعلتها في منزلة الزنا, غير أنها لم تذهب الى حدود الأدانة الصارمة وما يترتب عليها من عقاب كما هو الحال في اللواطية عند الذكور. وقد يفسر هذا الفارق في الظاهرتين بأن العلاقة المثلية بين الذكور هي في معظمها كاملة من الناحية الجنسية وتشمل أنتقال السائل المنوي الى الطرف الاخر, بينما لايتم هذا الانتقال في العلاقة بين أمرأتين, او قد يفسر من منظور اختلاف الاسباب الداعية الى ذلك عند كلا المثليتين.


اما الموقف الديني التفصيلي من المثلية الذكورية(اللواط) فقد اعتبرها أنتكاسا للفطرة الأنسانية المخالفة للمثلية, وأعتبر اللواط من اعظم الجرائم وأقبح الذنوب وأسوأ الأفعال, وضعف للعقل.ونذكر هنا بشكل خاص قصة قوم لوط ودلالتها الرمزية في أنتشار ظاهرة اللواط,فقد وردت القصة في عشرة سور قرآنية وبزخم هائل من الوعيد والتهديد والعقاب,ونكتفي هنا بما ورد في بعض الايات من سورة الاعراف/الايات:80ـ84,قال: (ولوطا اذ قال لقومه اتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين.انكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا ان قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم أناس يتطهرون.فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطرا فأنظر كيف كان عاقبة المجرمين). وتشير النصوص القرآنية, بما فيها النص المذكور اعلاه,الى أن عقوبتهم كانت قلب ديارهم عليهم,والخسف بهم ورجمهم بالحجارة من السماء,وطمس اعينهم...الخ.تلك اذن هي الدلالات الرمزية لطابع العقوبات القرآنية التي يجب أن تستخدم ضد ممارسي اللواط.وكذلك السنة النبوية,فما جاء على لسان النبي محمد بقوله:( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل والمفعول به). وعلى هذا الأساس المستوحى من النصوص القرآنية والسنة النبوية,فقد اجمع على قتل اللوطي لكن اختلفوا في طريقة القتل,فمنهم من ذهب الى أن يحرق بالنار,ومنهم من قال,يرمى به من اعلى شاهق, ويتبع بالحجارة.وقد عمل في هذ العقوبات من قتل وحرق ورجم بعد النبي محمد وفي فترات تأريخية مختلفة.ويتفق الكثير من الفقهاء أن عقوبة اللواط اغلظ من الزنا,وعقوبته القتل على كل حال,أو يؤكد البعض القليل أن عقوبته وعقوبة الزنى سواء(أي مائة جلده).أما بالنسبة لعقوبة الجنسية المثلية الأنثوية( السحاق),فقد أختلفت العقوبة,فمنهم من يرى أن فعل المرأة للسحاق أخف من فعل الرجل للواط من الناحية العملية,وهو شبيه بمقدمات فعل الزنا مثل التقبيل والمفاخذة والملامسة( أي مانطلق عليه بالمداعبات), ولذلك أختلف فيه الفقهاء بين من يقول أنه زنا أومقدمات للزنا. وفي كلتا الحالتين فهو فاحشة ومحرمة في الدين, وقد يضع قول النبي محمد سقفا لهذا الاجتهاد بقوله:( السحاق زنا النساء بينهن).


وضروري الاشارة هنا أن القرآن آشار ضمنا الى وجود حالات عدم الميل الى الانثى عند بعض الرجال,كما ورد ذلك في سورة النور,في الاية(31), وهي التي تنصح المرأة بعدم اظهار زينتها (الا ماظهر منها) الى الناس,ولكن أستثنى بعض الناس الذين تستطيع ان تظهرلهم زينتها,ومن ضمنهم الاطفال وأولي الأربة.والمقصود هنا بأولي ألاربة, الرجال الذين لايشتهون النساء(أي ليست لديهم ميلا للجنس الاخر).كما أشار النبي محمد الى هذه الظاهرة عند كلا الجنسين بقوله :أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله تعالى,قيل: من هم يارسول الله, قال:( المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والذي يأتي البهيمة, والذي يأتي الذكرـ يعني اللواط). وبالرغم من هذا الاعتراف بوجود هذه الظاهرة إلا ان هناك رفض مطلق لما يترتب عليها من ممارسات سلوكية.


أذن هذا هو الموقف الديني من ظاهرة الجنسية المثلية الذكورية, يعكس لنا أنطباعا, أنه موقف قطعي وذو حد واحد,لايرى الظاهرة في أطارها الدينامي المتغير, ولا في سياق الظروف المحيطة بها,وتلك هي سنة الميتافيزيقيا الدينية وحدودها في بحث الظواهر الاجتماعية,وتلك هي أطر" المعالجة" من هذا المنظور.الا أن المعارف العلمية في ميدان علم النفس تؤكد لنا أن ظاهرة المثلية الجنسية هي ظاهرة مرنة وذات مظاهر مختلفة في التعبير عن نفسها,و قد يتسع او يضيق مقياس المثلية أستنادا الى درجات سلمها المتعددة, وبالتالي فأن أحتواء الظاهرة ووضعها في سياقها الصحيح,هو المدخل الذي يحصر الظاهرة الى حدودها الدنيا أستنادا الى الاسباب.


أن الجنسية المثلية عند الذكور, حالها حال الجنسية المثلية عند الأناث.تعني بحدودها الواسعة حالات الميل أو التوجه نحو أقامة علاقة ذات طابع جنسي بين ذكر وفرد آخر من جنسه.ومن الواضح أن هذا المفهوم الواسع قد ينوه بالتساوي بين حالات الميل وحالات التوجه الفعلي,وهو أمر غير صحيح, ذلك ان توفر الميل لايعني في كل الأحوال الأتجاه نحو الممارسة الفعلية,كما أن ممارستها بالفعل لايؤكد قيام حالة الميل الى الجنسية المثلية.ويتضح الفارق بين الحالتين اذا أمعنا النظر في الدرجات المختلفة للتوجه نحو الأمور الجنسية بين فردين ذكرين, فهناك اولا اولئك الذين يتخذون سمات الانثى من حيث اللباس او الكلام او التعامل الاجتماعي,ولكن بدون ظهور أي دليل على ميل او أهتمام او توجه نحو علاقة جنسية مع ذكر اخر وبأي درجة من التماس. وهنالك البعض من الذكور ممن تعرض لهم الاحلام المثلية في حالات اليقضة, ولكنهم لايبدون اهتماما او اتجاها فعليا نحو هذا النوع من الممارسة الجنسية. وفي درجة اخرى نجد اولئك الذين يداعبون الافكار والميول الجنسية المثلية ويتمنون ممارستها لو يستطيعون. وفي درجة اقوى اولئك الذين تنشط فيهم الميول العاطفية الى فرد من نفس جنسه وتصل الى حدود التعلق سواء اتضح فيها الميل للممارسة الجنسية او لم يتضح. وبالتالي فهنالك اولئك الذين يمارسون العلاقة الجنسية المثلية بالفعل,وحتى في هذه الحالة فهنالك صور ودرجات عدة لهذه الممارسة ومدى التماس بين جسمي الشريكين من مثل اللمس,الى الاحتكاك, والى الاستمناء, والى العملية الكاملة من الولوج.

وعلى اية حال فأن الأهتمام من الناحية النفسية ينصب على تلك الفئة من ممارسي الجنسية المثلية لابسبب ممارستهم الفعلية لها بل بسبب انعدام الأهتمام والتوجه لديهم للعمل الجنسي الطبيعي مع الجنس الاخر. ومع انهم قادرون على مثل هذه العلاقة غير ان ارضائهم الجنسي لايحصل الابعلاقة جنسية مع فرد من نفس الجنس,وهؤلاء ينظر اليهم بأنهم الجنسيون المثليون"الحقيقيون", وهم على العموم لاخيار لديهم فيما يمارسونه"جسميا ونفسيا" بل يقبلون على الجنسية المثلية مطاوعة وبدون عناء الاختيار.


وهناك تفسيرات عديدة للجنسيةالمثلية, وليس لهذه التفسيرات كلها ان تتواجد في كل حالة من حالات الجنسية المثلية, فلكل حالة خلفيتها وظروفها ودوافعها الخاصة.والنظريات النسبية الواردة في تعليل الجنسية المثلية كثيرة بعضها ما يستند الى اسس نفسية وبعضها الى اسس اجتماعية وظرفية,وبعضها يعتمد على افتراضات بايولوجية وراثية او مكتسبة. ومع ما يتوفر في هذه النظريات المختلفة من منطق مقنع,الا ان الرأي الاكثر صوابا هو ان الاتجاه نحو الجنسية المثلية,خاصة الجنسية المثلية"الحقيقية" يتكون بفعل عوامل متعددة يصعب فرز واحد منها عن الاخرى.ويمكن ان نرصد هنا الاتجاهات العامة لهذه النظريات الواردة بخصوص الجنسية المثلية بالشكل التالي:

ـ أن الجنسية المثلية بدرجاتها المختلفة في الاطفال هي امر طبيعي, ولكن غير لازمة له. وتمثل دورا من أدوار النمو والنضوج الجنسي النفسي في حياة الفرد. غير أن هذا الدور ينتهي عادة بظهور الميول الجنسية نحو فرد من الجنس الآخر,غير ان استمرار الميول الجنسية نحو المثل من الجنس,قد يستمر بعد هذه المرحلة من النمو,واذا حدث ذلك فان من اسبابه تخلف الحدث في ادوار نموه الجنسي النفسي وتأخره في النمو العاطفي عما يناسب سنه.
 
ـ ممارسة الجنسية المثلية بشكل او اخر بما في ذلك العلاقة الكاملة منذ سن المراهقة وحتى الكبر قد يحدث احيانا او بشكل متواصل,وقد لايكون في هذه الممارسة اكثر من التعبير عن ضرورات التفريغ الجنسي الذي لايمكن الوصول اليه إلا عن هذه الطريقة كما هو الحال في بعض الظروف المعينة كالدراسة الداخلية(الاقسام الداخلية) والخدمة العسكرية والتجمعات الذكورية المزدحمة وانعدام منافذ التعبير الجنسي كما هو الحال في بعض المجتمعات المحافضة او المغلقة,وكما هو الحال في المجتمعات العربية والاسلامية,وجميع هذه الحالات لايمكن اعتبارها شذوذا جنسيا مطلقا بالمعنى الصحيح,وهي تنتهي عادة بأنتهاء الظروف التي أوجدتها.

ـ يمكن للفرد ان يتمتع بأتجاهين جنسيين في آن واحد فيكون طبيعيا في ميوله وممارساته الجنسية مع فرد من الجنس الاخر,كما أنه يميل الى او يمارس الجنسية المثلية مع فردمن جنسه.وقد يكون اتجاهه نحو ممارسة او اخرى متساويا, او أن تكون الغلبة لواحد او لأخر,ويصح اعتبار هذه المجالات بأنها انحرافا جنسيا اذا لم يتوفر ما يبرره ضرورة الجنسية المثلية بأسباب ظرفية وبتوفر الامكانيات للعلاقات الجنسية الطبيعية.

ـ يمكن للفرد في حالات مرضية معينة كمرض الفصام العقلي(الشيزوفرينيا),والخرف العقلي,وبعض امراض الشيخوخة أن يتراجع (ينكص) الى دور سابق من النمو الجنسي بما في ذلك الدور الجنسي المثلي.

ـ أما الحالات التي يتجه فيها الفرد اتجاها كليا وكاملا نحو الجنسية المثلية,ولاتتوفر لديه الرغبة والميل الى فرد من الجنس الاخر سواء قام بذلك أم لم يقم,فأن هناك العديد من النظريات التي تقدم تفسيرا لذلك,منها أن الفرد عانى منذ طفولته من عقدة الخصاء(الخوف من فقدان العضو التناسلي) وهذا مايدفعه الى تجنب العلاقة الجنسية مع المرأة لما توحي به هذه العلاقة في اللاوعي من أهلاك أو ضياع للعضو التناسلي. ونظرية أخرى تذهب الى ان الطفل كان يكره امه ولهذا يتجنب كل علاقة جنسية مع شاكلتها من نفس الجنس.ونظرية معاكسة ترى بأن السبب يعود الى أن الطفل في طفولته كان يكره والده, وهو بذلك يجد في العلاقة الجنسية مع فرد آخر وسيلة لتحقيق هذه الكراهية في النفس,وبهذا يكون العمل الجنسي المثلي تحقيقا لرغبة كامنة في النفس للتعدي على من هم من جنس ابيه والحاق الاذى بهم.ومن هذا القبيل نظرية ترد الجنسية المثلية الى أن الطفل قد تعلق بأمه في صغره والى حد التقمص لشخصيتها تلقائيا بما في ذلك خضوعها ومطاوعتها للعلاقة الجنسية, وكأن الطفل كان يكره اباه وما يمليه من رجولة وتسلط, وهو بذلك يختار اسلوب امه في الحياة بما فيه من خضوع وتقبل وسلبية. ومن النظريات التي تلاقي قبولا هي ان السلوك المتخنث في الطفولة يبدأ في بعض الاطفال كميل تلقائي نحو الاهتمامات والميول التي تمارسها الأم والابتعاد عن اهتمامات وميول الاب وغيره من ذكور العائلة.

والنظرية التي تلاقي قبولا اعظم في الاوساط العلمية هي ان الجنسية المثلية"الحقيقية والفعلية" تتقرر بفعل عوامل بايولوجية تنتقل بالوراثة اوتحدث في فترة حاسمة من فترات النمو الجنيني ويستشهدون على ذلك بأن هنالك توافق أكبر في الجنسية المثلية بين التوائم المتشابهه اكثر مما هو موجود في غيرهم من التوائم والاخوة, كما يعزز هذه النظرية الفشل في علاج الجنسية المثلية الحقيقية في معظم الحالات, وهناك رأي أكثر تطرفا لأنصار النظرية البايولوجية, وهو أن الجنسية المثلية تمثل وجود"جنس ثالث" غير جنس الذكر والأنثى, وبأن ممارستها هوتعبير عن هذا الجنس.وهو رأي مبالغ فيه الان.

أن هذا التصور الواسع والمرن لظاهرة الجنسية المثلية, والذي يستند الى نتائج البحث العلمي والملاحظات الميدانية الدقيقة يدفع بأتجاه تبني برامج ملموسة تربوية ونفسية ذات طابع وقائي وعلاجي يحصر الظاهرة الى حدودها الدنيا.أما التصور الحدي لظاهرة الجنسية المثلية, والذي نراه من خلال دعاة العقوبة الصارمة والتي لاتخضع للأجتهاد من حيث قساوتها, فهي ممكن أن تستخدم سلاح يطال أناس كثيرون لأنزال التصفيات الجسدية والعقاب بهم في ظل غياب واضح للحدود بين الدين والسياسة وفوضى اختلاط السلطات. وأن القتل على المثلية الجنسية قد يتخذ منه غطاء جديدا في الصراعات السياسية الدائرة في العراق, وهو أدعاء ووسيلة للجم افواه المذاهب والطوائف الأخرى في المطالبة بدماء ضحاياها.وهو خلط غريب يثير الرعب والدموية,عدا كونه تهمة سهلة لألصاقها بالأخر المختلف , الى جانب عقوبتها القاتلة والتي لاتستند الى القانون.


وفي الوقت الذي تعكف فيه مراكز أسلامية عديده في العالم على دراسة التخفيف من عقوبة قتل المثلي فعلا الى عقوبات أخرى اخف من الاولى ,تجنبا للفتنة الأجتماعية في ظروفنا المعاصرة, وأنطلاقا من الفهم الدينى الذي مفاده:" أن الفتنة أشد من القتل وأن كل فتنة حرام", يتصدر العراق قائمة الدول التي تصدر الفتنة الأجتماعية. وفي ظل هذه الفوضى العارمة من يعلم منا, أن الكثيرون من يمارسو القتل على تهمة" المثلية" هم أنفسهم كانوا مثلين في فترة من فترات العمر,أو لايزالوا كذلك بل قد يكون ممارسة القتل هوآلية سايكوعقلية للأنتقام من الأخر والتكفير الذاتي ,عندما لاتتوفر الفرص للأنتقال الى حالة أفضل لدى  صاحبه.


وأذا كانت المثلية الجنسية أستثناء, والاتصال بالجنس الاخر هو القاعدة, فأن الاستثناء يتواجد جنبا الى جنب مع القاعدة ولايمكن أقصاءه بوسائل الابادة الجسدية أن وجد, بل أن الوسائل التربوية أنجع بكثير من الأولى, وتلك هي التجربة التأريخية. وعدا ذلك فأن هذا يشكل مظهرا من مظاهر تشوه القاعدة وتصدعها وعدم مقدرتها على أحتواء الأستثناء.ونحن نعلم أن الاستثناء لايتحول الى قاعدة الا في حالات محدودة جدا, كما هو الحال في السياسة,وكما هي الحالة في العراق. حيث من السهل في ظل "ديقراطيتنا العريقة" أن يتهم الجميع بالجنسية المثلية ,ويستحق القتل, ويخرج الجميع "لاشرف له", وتلك هي على ما يبدو" بدائلنا الناجعة" للكهرباء والماء ومحاربة الفساد وتحسين ظروف الحياة العامة وحقن الدماء. 

كان رفع علم المثلية الجنسية من قبل الاتحاد الاوربي في بغداد ليست اجراء خاص بالعراق بل في بلدان ومجتمعات عدة في العالم, وكان من الأفضل ان نفهم دوافع ذلك بعيدا عن حالات الاسقاط السيكولوجي والعداء المستفحل للغرب في ظروف خطرة يمر بها العراق يختلط فيها فهم اصدقائه من اعدائه ولازال شعبنا  يعاني من انعدام الأفق في ألتماس المستقبل والاستقرار الاجتماعي, وكان من الأفضل والأجدى ان نفهم ونساعد الناس على فهم ظاهرة المثلية الجنسية من منظور نفسي وتربوي وديني بدلا من استغلال الحدث في خلق اعداء للعراق وشعبه وهو بأمس الحاجة للدعم الدولي بعيدا عن مهاترات من لا يريد للعراق خيرا.








.



67
التفاؤل والتشاؤم و تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي في العراق

د.عامر صالح

بعد فراغ دستوري وأزمة سياسية صعبة استمرت لأكثر من خمسة أشهر، صوّت مجلس النواب العراقي، في ساعة متأخرة من يوم  الأربعاء الماضي والمصادف 6ـ 5 ـ 2020، على حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، لتكون سابع الحكومات بعد عام 2003، والتي سيتعيّن عليها التعامل مع ملفات أمنية وسياسية واقتصادية وصحية تضع العراق، بحسب مراقبين، على مفترق طرق خطير.

وبعد ساعات من منحها الثقة، بدعم غير مسبوق داخلياً وخارجياً. وبالإضافة إلى الترحيب الداخلي واسع النطاق الذي حظيت به الحكومة الجديدة، فإنها قوبلت بترحيب إقليمي ودولي مماثل، بعد منح البرلمان ثقته لـ15 وزيراً وحجبها عن 5 مرشحين، فيما بقيت وزارتا الخارجية والنفط شاغرتين.

وكان البرلمان العراقي عقد مساء الأربعاء جلسة للتصويت على تشكيلة حكومة الكاظمي ومنهاجه الوزاري استمرت حتى الفجر، لتنال بعدها الحكومة السابعة منذ 2003 الثقة بصعوبة بعد فقدان 5 وزراء فرصهم لأسباب مختلفة. الجلسة التي حضرها أكثر من 260 نائباً من أصل 329، وهو عدد كبير جداً بالقياس إلى المعدل العادي لحضور الجلسات، لم تشهد توتراً خلال التصويت. وتعهد الكاظمي بعد نيل الثقة مواجهة التحديات التي تمر بها البلاد، بما في ذلك إجراء تحقيق في عملية قتل المتظاهرين خلال مظاهرات أكتوبر ومواجهة جائحة «كورونا» والأزمة الاقتصادية وإجراء انتخابات مبكرة. وشدد على أولوية سيادة العراق وأمنه واستقراره وازدهار.

شكليات هذا الأنجاز وبعيدا عن مقدرته الحقيقية لمعالجة مختلف المعضلات المجتمعية هو انجاز لقوى التظاهر والاحتجاج التي انبثقت في الاول من اكتوبر للعام الماضي وما سبقها ايضا من احتجاجات, والتي عرت نظام المحاصصة الطائفية والاثنية ووضعته في قفص الاتهام, وتوجتها بأسقاط حكومة عادل عبد المهدي المتهم الأول بقتل المتظاهرين بأعتباره رئيس الحكومة والجهاز التنفيذي ورئيس للأجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية بكل صنوفها, وبالتالي فأن تهمة قتل المتظاهرين تساق ضده قبل غيره بأعتباره المسؤول التنفيذي الأول في البلاد, وبالتالي فأن تعهدات مصطفى الكاظمي لمحاسبة قتلة المتطاهرين هي اولا موجهة ضد السيد عادل عبد المهدي, مادام الى حد اللحظة لم يلقى القبض على قناص او قاتل, او على الأقل لم تقم حكومة عبد المهدي بجهد الحد الادنى لحماية ارواح المتظاهرين.

ورغم ان خيار مصطفى الكاظمي شخصيا هو ليست خيار ساحات التظاهر ولا يجسد طموحها الأفضل لحل ازمة البلاد, ولكنه مؤشر ايجابي ان قوى المحاصصة الطائفية التقليدية والاثنية وخاصة من الصف الأول والذين امسكوا بزمام الامور لم تعد تتحكم كليا بأوراق اللعبة السياسية في البلاد كما كان لها سابقا رغم تشبثها في البقاء وعنادها ونفوذها من خلف الكواليس الذي لايستهان بخطورته في العودة للمربع الاول, وهنا يشكل مصطفى الكاظمي مرحلة انتقالية او حلقة وصل بين قوى المحاصصة وقوى الخلاص منها, وقد ينجح نسبيا الكاظمي في مهمته وقد يفشل استنادا الى قوى الردة المحاصصاتية وقدراتها في ابقاء الوضع كما هو عليه, ولكن قوى الاحتجاج الضاغظة لا تسمح للعودة الى المربع الاول, بل وتهدد النظام السياسي برمته اذا اقتضت الضروروة, وبالتالي على قوى المحاصصة التقليدية ان تدرك ان اي انجاز يتحقق وتحت مختلف الظروف ومهما كان حجمه هو استحقاقات مرحلة ويجب ان تتجذر بخطوات تراكمية افضل تقود بالضرورة الى مرحلة الانتقال النوعي في اعادة النظر باعادة بناء العملية السياسية جذريا وعلى طريق الخلاص من نظام الأعاقة الطائفي والاثني البغيض.

لايمكن ان يكون مصطفى الكاظمي عصى سحرية لمعالجة ما وقع بعد 2003 من خراب شامل وفساد, ولا يمكن ان نتوقع نقلة جذرية مفاجئة في الاوضاع السيئة في العراق وفي ظل ازمة تراكمية, ولكن المدخل اللازم لأي مصداقية في فعل الحكومة القادمة يتمحور حول اهم القضايا وفي مقدمتها محاربة الفساد بشكل جاد, وحصر السلاح بيد الدولة, ومحاسبة قتلة المتطاهرين وتقيمهم للمحاكم, والتهيئة لأنتخابات نزيهة قادمة, وهنا نذكر بمأثور القول: هل يصلح العطار ما افسده الدهر.

إن الأزمة الراهنة في العراق " وكما يلخصها الدكتور كاظم حبيب " والمتراكمة منذ سنين هي "أزمة مركبة ذات ثلاثة أبعاد متلازمة ومتفاعلة أساسها واحد، إنها أزمة نظام سياسي غير ديمقراطي، طائفي وأثني محاصصي تابع، متخلف ورث في آن واحد. إنها أزمة اقتصادية تجد تعبيرها في بنية الاقتصاد الوطني المشوهة الوحيدة الجانب واعتماد الدحل القومي على إيرادات النفط الخام المصدر، كمورد أساسي ورئيسي، وغياب الرؤية الاقتصادية العقلانية في عملية التنمية الغائبة أساساً، وفي توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي واستخدامه غير العقلاني لإعادة بناء الاقتصاد الوطني وتأهيله، إضافة إلى غياب كامل للعدالة الاجتماعية في ظل النهب المنظم والمتفاقم للدخل القومي وللنفط الخام والجمارك وتجويع غالبة المجتمع. إنها أزمة اجتماعية متفاقمة بسبب طبيعة بنية المجتمع ومشكلاته الكبيرة وهيمنة فئة اجتماعية طفيلية نهابة ومخاتلة وكذّابة، إذ تستخدم الدين والمرجعيات الشيعية والمؤسسة الدينية لفرض هيمنتها السياسية لمواصلة تعزيز سلطتها وتكريس نفوذها ونهبها للمال العام والخضوع لسيدها الأجنبي. وهناك أزمة رابعة موجعة هي الأزمة البيئية والرثاثة المنتشرة في البلاد نتيجة هيمنة الفئة الطفيلية الرثة على حكم البلاد".

وتشير معلومات البنك الدولي, إلى أن عدد سكان العراق بلغ 38.5 مليون نسمة، وأن خط الفقر محدد بـ3.2 دولار في اليوم. وذكر وزير التخطيط الأسبق سلمان الجميلي في عام 2016 على حسابه في «فيسبوك»، أن الفقر في العراق ازداد بنسبة 30 في المائة، والبطالة 20 في المائة. من جانبها، تشير إحصاءات وزارة التخطيط، إلى أن نسب الفقر في المحافظات العراقية في عام 2018 سجلت 1.2 في المائة في السليمانية، و3.8 في المائة في أربيل، و5.8 في المائة في دهوك، و9.1 في المائة في كركوك، و34.5 في المائة في نينوى، و10.8 في المائة في النجف، و12 في المائة في بغداد، و14.8 في المائة في بابل، و14.8 في المائة في البصرة، و26.1 في المائة في واسط، و42.3 في المائة في ميسان، و44.1 في المائة في الديوانية، و52.5 في المائة في المثنى، و40.8 في المائة في ذي قار.

وبحسب المتحدث الرسمي لوزارة التخطيط عبد الزهرة محمد الهنداوي، فإن إحصاءات العمل تشير إلى المزيد من التدهور في أوضاع سوق العمل، حيث سجل معدل مشاركة الشباب بين 15 - 24 عاماً تراجعاً ملحوظاً، وزاد معدل البطالة نحو الضعفين في المحافظات المنكوبة بالإرهاب، حيث سجلت 21 في المائة مقارنة بباقي المحافظات البالغة 11 في المائة. وتتوجب الإشارة هنا إلى أن الفقر والبطالة ازدادا في المحافظات الجنوبية كذلك بسبب السرقات المليارية وليس الإرهاب الذي لم يمتد إلى الجنوب. وتدل الأرقام بوضوح على تدهور الوضع الاقتصادي في المحافظات الجنوبية، رغم تزعم أحزابها بالبرلمان والوزارات منذ 2003.

وبحسب الهنداوي، فإن دراسة مسح للفقر في العراق لعام 2018 تشير إلى أن نسبة إنفاق الأسرة قد تغيرت ما بين الأعوام 2014 و2018 لتصبح نسبة الإنفاق على المجموعة الغذائية بالمرتبة الأولى (32 في المائة)، تليها مجموعة الوقود والإضاءة (24 في المائة)، ثم النقل بالمرتبة الثالثة (12.1 في المائة)، والملابس والأحذية بالمرتبة الرابعة (6.4 في المائة)، ثم الأثاث والتجهيزات المنزلية بالمرتبة الخامسة (5.2 في المائة).

وتبين كذلك من متوسط إنفاق الأسرة في 2018، أن 31 في المائة من الأسر تنفق أقل من مليون دينار (نحو 838 دولاراً) شهرياً، و48.2 في المائة من الأسر تنفق ما بين مليون ومليوني دينار شهرياً، و14.6 في المائة من الأسر تنفق ما بين مليوني وثلاثة ملايين دينار شهرياً. و5.7 في المائة من الأسر تنفق ثلاثة ملايين دينار فأكثر شهريا. وتشير الإحصاءات، إلى أن نسبة الفقر في العراق وصلت إلى 41.2 في المائة في المناطق المحررة (من إرهابي «داعش» و«القاعدة»)، و30 في المائة في المناطق الجنوبية، و23 في المائة في الوسط، و12.50 في المائة في إقليم كردستان. كما أوضحت الإحصائيات، أن 48 في المائة من سكان العراق أعمارهم أقل من 18 عاماً، منهم 23 في المائة من فئة الفقراء، وتشير معلومات الإحصائية إلى أن (5 في المائة نسبة الأطفال الفقراء في كردستان و50 في المائة نسبة الأطفال الفقراء في المحافظات الجنوبية هذا، ويبلغ أعداد الموظفين في القطاع العام والمتقاعدين أكثر من 5 ملايين شخص تخصص لهم رواتب نصف ميزانية العراق سنوياً؛ مما يعني عدم توفر الأموال اللازمة للاستثمار والتنمية الشاملة. ومما يعني أيضاً ازدياد الدين العام الذي ارتفع من 73.1 مليار دولار في عام 2013 إلى 132.6 مليار دولار في عام 2018، هذا في حين أن الاحتياطي النقدي قد أخذ في الانخفاض من 77.8 مليار دولار عام 2013، بحيث وصل 40.8 مليار دولار في عام 2018).


تعود نسب الفقر العالية في العراق إلى الحروب والنزاعات المسلحة الداخلية والحصار الأممي خلال عقد التسعينات. لكن المشهد الرئيسي لهذا الفقر هو الفوضى والهدر في إدارة الدولة والفساد غير المسبوق خلال العقدين الماضيين، رغم الأسعار القياسية لأسعار النفط خلال هذه الفترة التي فاقت 100 دولار للبرميل والصادرات النفطية الأعلى التي تم تسجيلها والتي فاقت 3 ملايين برميل يومياً.
ازداد مرض سرطان الأطفال في العراق خلال العقدين الماضيين نتيجة التلوث الحربي والإشعاعي منذ عام 1991، حيث ذكر موقع «كاونتر بانغ» الأميركي، أن تزايد التلوث الحربي والإشعاعي قد أدى إلى تراوح الإصابات بالمرض سنوياً إلى نحو 3500 - 4000 إصابة إثر قصف العراق بأكثر من 970 قنبلة وصاروخ أميركي مشع باليورانيوم المنضب؛ ما رفع نسبة الإصابة بالسرطان إلى 600 في المائة.

تلقي الدولة الريعية بظلالها الآن أمام الحكومة والقوى السياسية بعد انخفاض أسعار النفط بشكل غير مسبوق، ليضع تحديات ماثلة تتعلق بكيفية القدرة على تأمين رواتب الموظفين المقدرة شهريا بأكثر من ثلاث مليارات دولار، في حين أن العائدات الحالية لم تتجاوز مليار دولار شهريا، في ظل ذلك أمام الحكومة لمواجهة تراجع أسعار النفط حاليا والركود الحاصل نتيجة تفشي فيروس كورونا ونقص الإيرادات.

أن انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية، تجلب الكارثة الاقتصادية والمجتمعية للعراق ، وقد يسبب هذا الانهيار المتوقع توقف رواتب الموظفين العراقيين ، كون تأمين رواتبهم يعتمد على إيرادات بيع الخام بنسبة اكثر من 90 في المئة ، هذا ما خلفه سوء إدارة الدولة وغياب التخطيط والاستخدام العشوائي للموارد والثروات ، والتنظيم، والتنسيق، والتوجيه، والمتابعة، والرقابة، نتج عن ذلك فوضى وتخبط القرارات من قبل رئاسة الوزراء والبرلمان والمسؤولين والعصابات والفسادين والجهلاء الذي سيقضى على الدولة العراقية.

وتزداد المؤشرات والآثار السلبية لأزمة فيروس كورونا، التي ألقت بظلالها على الجوانب الحياتية والاقتصادية وقد تصل إلى الأمنية بحسب المعطيات المرتبطة بالاجراءات القائمة لمكافحة خطر الوباء. وبسبب حظر التجوال وتمديد أيامه لفترات اضافية بشكل مستمر، يتوقع مراقبون أن يدفع استمرار الحظر واثاره السلبية على الوضع الاقتصادي لدى العوائل التي تعتمد على القوت اليومي، إلى ارتفاع معدل الجريمة والتمرد على حظر التجوال والخروج بشكل غاضب ضد الجهات الحكومية. فيما قد يتسبب الاعتماد على القطعات الامنية والجيش بالسيطرة على الوضع داخل المدن وفرض حظر التجوال إلى تهديد ثانٍ يتمثل بحصول ثغرات على خطوط الصد والجيوب التي تنشط فيها عناصر تنظيم “داعش”، فضلا عن عامل آخر وهو تعليق التحالف الدولي لنشاطاته.

أن المدخل السليم لمعالجة الاحتقان المزمن في العملية السياسية يكمن في الاستجابة السريعة لما يأتي, كمقدمات ضرورية على طريق التغير الجذري وتعزيز المشاركة الحقيقية للشعب في رسم ملامح مستقبله:
اجراء الانتخابات المبكرة في موعد لا يتجاوز السنة كحد اقصى.
مراجعة قانون انتخابات مجلس النواب، واعتماد صيغة منصفة وعادلة.
 مراجعة تشكيل مفوضية الانتخابات بما يضمن ان تكون مستقلة حقا، وقادرة على ادارة عملية انتخابية نزيهة وشفافة وذات صدقية، بعيدا عن المال السياسي والسلاح، وباشراف دولي فاعل.
اعلان ضحايا الانتفاضة والاحتجاجات شهداء للشعب، ووقف القمع ضد المنتفضين وإطلاق سراح المعتقلين منهم وإبطال اجراءات ملاحقتهم والكشف عن مصير المغيبين. كذلك اعلان نتائج التحقيق في قضية قتل المنتفضين والمحتجين، ومحاسبة كل من تورط في الجرائم المرتكبة بحقهم.
مباشرة إجراءات جدية وملموسة لمكافحة الفساد، وتقديم المتهمين بمختلف مستوياتهم، خاصة الكبار، الى القضاء.
انجاز الخطوات الآنية العاجلة لتأمين القوت للشعب، وتطمين حاجاته المعيشية والخدمية الملحة.
 
ان تحقيق هذه الاهداف وغيرها مما يتطلع اليه الشعب والانتفاضة ويطالبان به " وكما تؤكده القوى الوطنية المخلصة"، يستلزم خلق ارادة شعبية وطنية ضاغطة على القوى المتنفذة، عبر توسيع الانتفاضة وتنظيم صفوفها وزيادة مساحة تأثيرها وتوحيد رؤاها وتصوراتها، وفتح حوارات جدية بين المنتفضين وسائر القوى والشخصيات الوطنية الداعمة لهم والتي تحملت معهم الظروف الصعبة التي مرت بها الانتفاضة، وشاركتهم شرف تقديم الشهداء والتضحيات، لتأمين قيام اصطفاف شعبي وسياسي وطني واسع، داعم ومساند للانتفاضة، بما يديم زخمها وحيويتها ومواصلة الضغط لتحقيق اهدافها، وفتح الطريق امام التغيير المنشود الذي بات ضرورة ملحة كما انه  انه حافز نحو التكيف مع نتائج الاحداث الخارجية.

من حق اي مواطن عراقي ان يتفائل أو يتشائم استنادا الى الخطوات الملموسة التي سيقدم عليها مصطفى الكاظمي ومدى استجابتها للطموحات المشروعة لحق الناس في الحرية والكرامة والعيش الكريم, ولكن ايضا ان يكون تفاؤلنا مقرونا بأستراتيجية التفاؤل الايجابي والذي يتمحور ان كل ما حولنا ليست ثابت مطلقا ومتغير ونتاج ظروف محددة وبالتالي يكون تفاؤلنا مبني على ديناميات نفسية مرنه ومتحركه. أما التشاؤم من خطوات الحكومة القادمة فيحب ان يبنى على مبررات الرفض العقلاني لما يصدر من احكام وقرارات وليست رفض كل شيئ مقابل لا شيئ, رغم ان التشاؤم في بعض من وجوهه أنه يعمل كمنطقة عازلة لحماية الذات من الاذى والصدمات اذا ألتمس الفرد نتائج سيئة, كما انه حافز نحو التكيف مع نتائج الاحداث الخارجية. المعضلات امام الكاظمي هي خارج اطار امكانية حكومة مؤقتة ولكن الخطوات الايجابية وصدق الإدعاء قد يؤسس لمزاج عام يمكن ان تستمر به الحكومات القادمة واستنادا الى خيارات الشعب ومن يمثله في الانتخابات القادمة.
.



 








68
داعش العراقية بين أزمة كورونا وأزمة نظام الحكم

د.عامر صالح

•   

رغم خسارة التنظيم الارهابي "الدولة"، المعروف إعلاميًا باسم "داعش ـ التنظيم الأسلامي للعراق وبلاد الشام "، الغالبية العظمى من الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق، إلا أن التنظيم أعاد تنظيم صفوفه إلى حد ما، واستمر في استخدام استراتيجية التمركز في الصحراء ثم شن هجمات خاطفة، خصوصًا أن معاقله اليوم هي البادية السورية غرب الفرات، وكذلك صحراء الأنبار الشاسعة وصحراء نينوى وسلسلة جبال حمرين الممتدة من ديالى إلى كركوك مروراَ بصلاح الدين وجبل مكحول والبعاج والأطراف الشمالية لحزام بغداد، فضلا عن خلاياه النائمة، ويقدر عدد أعضاء التنظيم اليوم في الصحراء السورية - العراقية بأكثر من 20 ألف مقاتل أرهابي، ويعيش عناصر التنظيم في مخابئ بعيدة وملاجئ تحت الأرض، ويستخدمون الطاقة الشمسية لتشغيل أجهزتهم الإلكترونية.


التنظيم بدأ في استغلال تفشي فيروس كورونا، في العراق وسوريا، وبدأ يشن هجمات عسكرية هي الأكبر له منذ انحساره مع هزيمته ونهايته من المناطق التي سيطر عليها في العراق والتي تقدر بأكثر من 30% من مساحات العراق وفي مقدمتها مدينة نينوى الكبرى وغيرها من المدن والأقضية والنواحي والقصبات، حيث اعتبر إعلام التنظيم أن "كورونا" منحة لا بد من استغلالها.

في مطلع الشهر الثاني من هذا العام نشر التنظيم مقالا في صحيفة النبأ وهي الصحيفة الرسمية له، يقول أن فيروس كورونا جاء بسبب عقوبة الهية بسبب ما يعاني منه المسلمون في الصين، مشبها تلك العقوبة كما حدث لقومي عاد وثمود وقوم فرعون وبعض بني اسرائيل. لكن عزى التنظيم أن الأوبئة بإصابتها للمسلمين هو للتكفير عن الذنب بمعنى اختبار للصبر أيضاً.

وفي الشهر الثالث من هذا العام تطور خطاب التنظيم، على خلفية الوباء، رسم داعش خطته التي وصفها "بالكابوس الصليبي" وهذا إن دل على شيء إنما يدل على انتهاز فرصة انتشار الوباء من أجل شن هجماته الارهابية، خاصة في زمن انشغال الجيوش في درء خطر كورونا وتجنب المزيد من الاصابات وخاصة في صفوف القوات العسكرية وخشية من انتشار الوباء بين صفوفها, وهنا قد تجري الاستفادة من قبل التنظيم الارهابي للأوضاع العالمية السائدة, من تعطيل للتعاون الدولي, والاستفادة من العزلة الاجتماعية, والصراعات الاقليمية والدولية, ولكن بالتأكيد فأن التنظيم نفسه ليست بمعزل عن كورونا وقد يصاب بضربات مفصلية تهز اركانه في ظل جهل التنظيم لتداعيات كورونا وانتشاره في كل بقاع الارض.
ومع انتشار فيروس كورونا بشكل واسع في العراق والعديد من دول المنطقة أصدر تنظيم داعش ما زعم أنه روشتة لحماية عناصره من  كورونا حيث تضمن العدد (225) من جريدة النبأ الداعشية توجيهات للحماية من فيروس كورونا لعناصر ومقاتلي التنظيم  تحت عنوان (توجهات شرعية للتعامل مع الأوبئة)، حيث تضمنت 7 ارشادات منطلقة من الجانب الديني علي النحو التالي ( وجوب الإيمان بأن الأمراض لا تعدي بذاتها ولكن بأمر من الله وقدره – وجوب الأخذ بأسباب الوقاية من الأمراض واجتنابها – الوصية بتغطية الفم عند التثاؤب والعطس- الوصية بغسل اليدين قبل غمسهما في الإناء – الوصية بالتوكل علي الله والاستعاذة به من الأمراض – الوصية بعدم دخول الأصحاء الي أرض الوباء وعدم خروج المصابين منها – الوصية بتغطية الإناء ووقاية السقاء )، تلك النصائح السبع التي األن عنها تنظيم داعش لعتاصره ومقاتليه  بعد أسبوعين من مقاله الأول حول أن هذا الوباء هو موجه ضد المجتمع الجاهلي.. هذه النصائح تدل علي أن الفيروس أصاب عددا من عناصر التنظيم  فداعش ليس منعزلا عن المحيط الجغرافي والسكاني بالعديد من دول المنطقة بل هناك تداخل كبير بين عناصر التنظيم والمجتمع المحلي وبشكل خاص في (العراق – سوريا- اليمن – ليبيا) حيث يتمركز العديد من عناصر التنظيم بمدن داخل تلك الدول وهي دول ينتشر بها فيروس كورونا، ومن ثم لجأ التنظيم لاصدار توصيات لعناصره ومقاتليه لمكافحة انتشار فيروس كورونا وهي توصيات ونصائح ذات مفهوم ديني بشكل كبير.

في العراق تشكل الاوضاع العامة السياسية والاقتصادية والامنية ارض خصبة لأنتعاش داعش الى جانب الظروف العالمية بفعل ظروف وباء كورنا, حيث يعاني العراق على المستوى الاقتصادي من اشكاليات كبيرة جدا بسبب الضعف الكبير في القدرات المالية والاقتصادية وعدم الاستقرار الامني، والفساد المالي وسوء الادارة، وهروب رؤوس الاموال الى الخارج, كما إن إحصائيات صندوق النقد الدولي، تبين إن ديون العراق تراكمت وتفاقمت خلال السنوات الماضية، حيث كانت قبل9سنوات 73.1 مليار دولار، وارتفعت في عام 2014 إلى 75.2 مليار دولار، وفي عام 2015 أصبحت 98 مليار دولار، فيما كانت قبل عامين 114.6 مليار دولار، لترتفع خلال العام 2017 إلى 122.9 مليار دولار، ثم عام2018 الى (125) مليار دولار، واليوم لا ندري الديون الى كم وصلت؟ كما إن هناك انخفاض كبير في اسعار النفط الى ما دون(30)دولار للبرميل الواحد، مما أدى الى خسارة العراق لنصف ايراداته المالية، هذا بالإضافة الى تأخير الحكومة في ارسال الموازنة الى البرلمان لإقرارها بسبب العجز والترهل الكبير فيها، مما أدى الى عدم إقرار الموازنة العامة لعام 2020 الى يومنا هذا، بالإضافة الى أسباب كثيرة منها التوتر السياسي الحاصل جراء الحراك الشعبي المتواصل منذ أكتوبر/تشرين الاول لعام 2019،والذي أدى الى استقالة الحكومة وتحولها لحكومة تصريف أعمال ،فخرجت الموازنة عن صلاحيتها في ارسالها الى البرلمان علماً أن الموازنة تعاني من عجز كبير يبلغ أكثر من(40)مليار دولار. وفي محصلة رقمية جنونية هائلة فأن العراق اهدر ما بعد 2003 اكثر من تريليون و400 مليون دولار.

إن سوء الاوضاع السياسية والاقتصادية والامنية في العراق تعني أننا سندخل مرحلة الكساد الذي سيؤدي الى مزيد من معدلات البطالة والفقر وتوقف التنمية والمشاريع وخاصة الاستثمارية، مما يعني إن العراق يعاني من اشكالية حقيقية في القدرات المالية التي تمكن الدولة من تنفيذ المشاريع ومعالجة الازمات التي يمر بها العراق والمنطقة ومنه جائحة كورونا ، ورأينا كيف تبين للجميع هشاشة الاجراءات التي اتخذتها حكومة تصريف الاعمال في مواجهة هذه الازمة من التماهي في غلق الحدود مع دول الجوار ،يضاف اليها قلة المستلزمات الطبية اللازمة للكشف عن المرض فضلا عن معالجته ،وهذا ما سيجعل العراق يعاني الكثير لتجاوز هذه الازمة التي تحتاج الى قيادة واعية ولديها من الارادة السياسية ومن القدرات المادية ما يمكنها من الوقوف بقوة لمعالجة الموقف الراهن الذي يهدد العراق, سواء كان داعش ام كورونا.

ومما ازاد الطين بلة في اوضاع العراق الداخلية هو القمع الشرس الذي تعرضت له التظاهرات السلمية في العراق والتي اندلعت في اكتوبر الماضي والتي تحولت الى انتفاضة شاملة وذات مطاليب جذرية لأصلاح النظام السياسي القائم في البلاد منذ عام 2003 وكان احد اسباب احتلال داعش للاراضي العراقية, ولكن جوبهت الانتفاضة السلمية بالرصاص الحي والقنص والاعتقال والتغييب, وقد بلغ عدد شهداء انتفاضة اكتوبر اكثر من 700 مواطن وجرح اكثر من 30 ألف واعتقال وتغييب المئات منهم والذين لايزال مصير البعض منهم مجهول الى اليوم, الى جانب المئات من الاصابات التي كانت نتائجها اعاقات دائمة. أن هذه الاعمال والجرائم التي ارتكبت بحق المتظاهرين وضعت الحكومة واجهزتها الامنية في موضع الشك من مهنيتها وحياديتها واستقلاليتها عن التدخلات الخارجية والداخلية المليشياوية, وهذا بالتأكيد يسوق تساؤلات عدة في مدى قدرتها على مجابهة عدو شرس كداعش ودحره الى النهاية بدون دعم خارجي, وكيف للقوات الحكومية أن تقتل متظاهرين سلميين واصلاحين وتريد ان تحارب داعش " انه المضحك المبكي في المشهد العراقي المحزن ".

لقد بدأ تنظيم داعش استغلال التوتر والقصف المتبادل بين ميليشيات عراقية والقوات الأمريكية في العراق خصوصًا بعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني في العراق، حيث علّق التحالف الدولي والناتو مهام التدريب والعمليات لمدة شهرين بسبب الفيروس وفي 29 آذار/ مارس، سحبت فرنسا وأستراليا وإسبانيا وبريطانيا والبرتغال ونيوزلندا وهولندا معظم مدربيها من العراق. كما انسحبت القوات الأمريكية في العراق من القواعد العسكرية الأمامية في الموصل والقائم والقيارة وكركوك، وتمركزت في قواعد عسكرية معينة كقاعدة عين الأسد في الأنبار ومطار أربيل، حيث تم نشر منظومة الدفاع الجوي باتريوت. وقد استغل التنظيم كل هذه العوامل وزاد من وتيرة هجماته خلال الأشهر القليلة الماضية وبشكل خاص في المنطقة بين محافظات كركوك وصلاح الدين وديالى، المعروفة باسم "مثلث الموت".

وهنا نؤكد انطلاقا من جذور الأزمة أن نظام المحاصصة في العراق ومنذ 2003 عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.

وقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية,فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها,أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق. كل ذلك سهل لداعش ما قامت به بالأمس واحتمالات ما تقوم به اليوم.

أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال سبعة عشر عاما الماضية من الزمن, وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي ,إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي, أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية, وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت, وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية,بل لعلها أهم منجزات الحداثة,وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي, ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات, وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية,وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.

واليوم اذ يستدعي منا الموقف الوطني الواضح الوقوف بوجه " داعش " لدحر وإفشال مخططات عودتها الإجرامي والإرهابي الذي يستهدف مستقبل واستقرار الجميع باختلاف انتمائهم القومية والدينية والمذهبية والعرقية, نحن بأمس الحاجة لمشروع دفاع وطني عابر للانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية وبعيدا عن الاشتراطات المسبقة قوامه: تعبئة كافة الجهود من اجل نصرة الوطن ومزيدا من التلاحم الصادق مع القوات المسلحة العراقية مع تأكيد حياديتها ونزاهتها وتكريس مواقفها الوطنية , دون إغفال لمحاسبة كافة العملاء والمتواطئين والمقصرين والمتخاذلين من مواطنين عاديين إلى قيادات سياسية وعسكرية في الدفاع عن الوطن وقتلة متظاهرين سلميين. 

أن القضاء على داعش ليست عسكريا فقط وقد اثبتت التجربة العراقية ذلك بوضوح, فقد تم القضاء عليه كقدرات مسلحة ولكن بقت عوامل عودته وانتعاشه مجددا قائمة استنادا الى البيئة التي انتجته وما تزال حاضرة لأعادة دورة انتعاشه, ومن هنا فأن المعالجة الشاملة للأزمة العراقية بكل ابعادها السياسية والاقتصادية والامنية كفيل بأضعاف بؤر داعش الارهابي ومن يقع على شاكلته.





69
أزمة كورونا بين سيكولوجيا الهلع ومسلمات المناعة النفسية
د.عامر صالح
أن مفهوم الأزمة من المفاهيم الواسعة الانتشار في مجتمعاتنا المعاصرة، ويمس كل جوانب الحياة بدءاً من الأزمات الفردية، وانتهاء بالأزمات الدولية، كما أن عالم الأزمات عالم حي ومتفاعل له خصائصه و أسبابه ومكوناته. كما يعد مفهوم الأزمة واحدا من المفاهيم التي يصعب تحديدها لشموليته واتساع نطاق استعماله، ليشمل مختلف صور العلاقات الإنسانية السلبية في كافة مجالات التعامل، وعلى قدر مستوياته، وعادة ما ترتبط الأزمة بالإحساس بالخطر والتوتر وأهمية عنصر الوقت اللازم لاتخاذ قرارات وإجراءات المواجهة. نشأ مفهوم الأزمة في نطاق العلوم الطبية، ثم انتقل بعد ذلك بمعان مختلفة إلى العلوم الإنسانية، وخاصة علم السياسة، والإدارة، وعلم النفس...الخ.

ومفهوم الأزمة في العلوم النفسية عبارة عن ضغوط نفسية داخلية أو تغير الحالة النفسية للفرد، وبالتالي تمثل مشكلة أو صعوبات تحد من أساليبه وقدراته التقليدية للتعامل مع الوضع الجديد وتعيقه من أنجاز أهدافه وتحدث خللا في التوازن النفسي والاجتماعي للفرد، كما تعد موقف أو حادثة غير مرغوبة تؤدي إلى تعطيل الفرد أو الجماعة عن القيام بدورهم بصورة طبيعية. وقد حرص علم النفس على دراسة الآثار النفسية للازمة، والتي قد تتخذ أشكالا متنوعة(كالارتباك، والصدمة، والقلق، والتوتر، وعدم التوازن) وغالبا ما تسبب ارتباكا كبيرا للناس في حياتهم وأساليب تكيفهم مع الضغوط، وعادة ما تثير مشاعر الخوف وتوتر العلاقات المستقرة. أما الأزمة من الناحية الاجتماعية عبارة عن توقف الأحداث المنظمة والمتوقعة واضطراب العادات مما يستلزم التغير السريع لإعادة التوازن وتكوين عادات جديدة أكثر ملائمة.

أزمة كورونا في السياق هي ازمة مركبة ومعقدة وذات ابعاد نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة ضربت المجتمع العالمي دون استثناء, وبعد ان تجاوزت الأصابات بكورونا  الثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف حول العالم وتقترب الوفيات من 235 ألف, فأن الشهور القادمة لا تبدو مشرقة للعالم، وستكون هناك تداعيات سياسية واجتماعية أكثر خطورة من التداعيات الصحية والاقتصادية, وخاصة في ظل القصور العلمي الحالي في المعرفة الدقيقة للفيروس وميكانزم  عمله وطريقة انتشاره ومن هم المستهدفين بهذا الفيروس, وماهي ظروف وملابسات فاشية هذا الفيروس. ولكن هذا ليست مدعاة لليأس والحزن, فالتراكم المعرفي في العلوم الطبية أمر لايستهان به ولا هو مزحة عابرة والبشرية سبق لها وأن مرت بجائحات عدة كانت نهايتها العثور على لقاح مناسب يعيد انطلاق المجتمعات الأنسانية من جديد في خضم صراعها من اجل البقاء.

انطلاقا من آثار الجائحة كورونا (كوفيد 19) فأنها زلزال مدمرا ضرب العالم اجمع وأودع الملايين في المنازل وقد اغلقت المدارس والجامعات وتقيدت الحريات التقليدية المعتادة وعم الاحساس بالضياع والوحدة والقلق، ولم يفرق بين أسود وأبيض وأحمر، وبين مسلم ومسيحي وهندوسي وملحد، وبين قوي وضعيف، او ثري وفقير, فقد توزعت اضراره على البشر أجمعين بعدالة السماء أو عقاب الطبيعة. وخطر هذه الجائحة لا يتوقف عند أضرارها الصحية، بل أن خطرها الحقيقي هو التسونامي الكبير المرافق لها: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا والذي يبدو ان ملامحه النهائية غير واضحة في الوقت الحاضر؛ لأنها تتوقف في محصلتها النهائية على مدة استمرار الجائحة، وعدد المصابين والهالكين بسببها، فكما تذكر معظم التقارير الصحية الواردة من منظمة الصحة العالمية والمؤسسات ذات العلاقة ان العالم لازال بعيدا عن إيجاد لقاح نهائي للفايروس، ولا زال الكثير من البشر في انتظار الإصابة به. 

ولكي نضع الوباء كورونا( كوفيد ـ 19) في خلفية المقارنة بما حصل من وباءات وامراض مزمنة قد يضعنا في صورة من الهدوء النفسي المؤقت وخلق قناعة نفسية عقلية مستمدة من مما سبق للبشرية من اوجاع وآلام وضحايا قد تضع كورنا وحجم المعانات منها في اطارها المعقول والسليم بعيدا عن الأستخفاف بحجم الضحايا, ولكن ذلك سيضعنا في اطار القبول التاريخي للفجائع المختلفة في اطار التفاؤل المقبول للصراعات الطبيعية  التلقائية الى جانب العبث في الطبيعة وسوء استخدامها من قبل المجتمعات العالمية. وهنا سنشير " كما ترده الأدبيات العالمية والعربية" الى حجم الأنتشار والوفيات في مختلف الاوبئة للقرن الحالي والماضي:

الجدري 1901: أدى وباء الجدري في بوسطن إلى إصابة 1500 شخص، ووقعت 270 حالة وفاة.

الطاعون 1910: حدثت أكبر حالات تفشي الطاعون في القرن العشرين في منشوريا بين عامي 1910 و1911، ومات حوالي 60.000 شخص.

وباء الإنفلونزا الكبير 1918: تشير التقديرات إلى أن وباء الإنفلونزا الكبير، الذي حدث في عامي 1918 و1919، قد تسبب في وفاة ما بين 50إلى 100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، من بينهم 675،000 أمريكي.


شلل الأطفال 1952: بلغ شلل الأطفال ذروته في الولايات المتحدة؛ حيث أصيب ما يقرب من 60.000 طفل وتوفي أكثر من .3000


فيروس نقص المناعة البشري 1984: في هذا العام حدد العلماء أن فيروس نقص المناعة البشرية هو سبب الإيدز، وفي نفس العام قتل هذا المرض الفتاك أكثر من 5500 شخص في الولايات المتحدة، واليوم أكثر من 35 مليون شخص حول العالم يعيشون مع عدوى الفيروس، وتوفي أكثر من 25 مليون شخص بسببه منذ الإبلاغ عن الحالات الأولى.


مرض الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم (سارس) 2003: ظهر سارس عام 2003 لأول مرة في الصين أيضاً، رغم أنه يعتقد أن أول حالة حدثت في نوفمبر 2002، وبحلول يوليو تم الإبلاغ عن أكثر من 8000 حالة و774 حالة وفاة، واقترب معدل الوفيات لحوالي 10٪ من المرضى الذين يعانون من العدوى المؤكدة، وكان معدل الوفيات أعلى بكثير لأولئك الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، حيث اقترب من 50٪ لهذه المجموعة الفرعية من المرضى.

إنفلونزا الخنازير 2009: هذا الوباء اعتبرته منظمة الصحة العالمية جائحة عالمية، وكانت الوفيات المؤكدة بسبب المرض 18500 حالة وفاة فقط.


الكوليرا 2010: تسبب وباء الكوليرا في مقتل ما لا يقل عن 10000 شخص في هايتي في عام 2010، بعد الزلزال المميت الذي أصاب البلاد بالشلل، مما أعاق الجهود لإعادة البناء.


الحصبة وأوبئة أخرى 2012: في عام 2012، توفي حوالي 122000 شخص في جميع أنحاء العالم بسبب الحصبة، وهو مرض شديد العدوى يسببه فيروس، وفي نفس العام قتلت حمى التيفود حوالي 216000 شخص، وقتل مرض السل ما يقدر بنحو 1.3 مليون شخص في عام 2012.


الإيبولا 2014: كان وباء حمى الإيبولا النزفية لعام 2014 في غرب أفريقيا أكبر تفشي للإيبولا على الإطلاق. قتل الفيروس أكثر من 11300 شخص قبل الإعلان عنه في عام 2016.


زيكا 2016: في هذا العام أعلنت منظمة الصحة العالمية عن حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًا بشأن فيروس زيكا، حيث توقعت إصابة 3 إلى 4 ملايين شخص بالعدوى خلال العام، ويسبب المرض عيبًا خلقيًا في الأجنة، ويرتبط أيضًا بالإجهاض والإملاص والعجز العصبي.


الوفيات بسبب الإنفلونزا الموسمية: حسب إحصائيات الولايات المتحدة فإنه يموت ما بين 20 ألفا إلى 37 ألف حالة كل عام بسبب الإنفلونزا الموسمية.


حجم الوفيات بسبب أمراض أخرى: حسب الإحصائيات العالمية فإن أكثر من نصف الوفيات العالمية السنوية تحدث بسبب الأسباب العشرة الأولى للوفيات، وهي أمراض القلب الإقفارية والسكتة الدماغية، والتي تتسبب في أكثر من 15 مليون وفاة سنوياً، ثم مرض الانسداد الرئوي المزمن الذي يسبب وفاة عدة ملايين سنوياً، ويتسبب سرطان الرئة في وفاة حوالي مليوني شخص، ومرض السكري يتسبب في وفاة حوالي 1.6 مليون شخص في العام، وتضاعفت الوفيات بسبب الخرف.


والتهابات الجهاز التنفسي السفلي هي أكثر الأمراض المعدية فتكًا، حيث تسببت في وفاة عدة ملايين شخص في جميع أنحاء العالم، كما تسبب إصابات الطرق ما يزيد عن 1.5 مليون شخص في العام، حوالي ثلاثة أرباعهم من الرجال والفتيان. وبالطبع فهذه الإحصائيات تقريبية، ولكنها بمعظمها في إزدياد مطرد. (هذه الإحصائيات من عام 2016).

الوفيات بسبب وباء تدخين التبغ: تشير التقارير الصحية العالمية إلى أن الوفيات التي تحدث نتيجة الإصابة بأمراض مرتبطة بالتدخين تصل إلى 12% من إجمالي الوفيات العالمية، ما يعني أن عدة ملايين يموتون سنويا بسبب عادة ضارة، ويمكن، إذا امتلك الإنسان إرادته أن يتخلص منها.

تلك خارطة الوباءات في التاريخ القريب وهي تضعنا امام حجم الضحايا في اطار المقارنة مع (كوفيد ـ 19) قد تبدو في الأخير اقل من منظور الأعداد المطلقة كثيرا وقياسا بأعداد سكان الأرض أنذاك, ولكنها تشكل فزعا من منظور التقدم العلمي والمعرفي وتسارع الزمن من اجل العثور على علاج او لقاح يحد من الانتشار والفتك, والفزع يأتي ان البشرية في ألفيتها الثالثة وتراكمها العلمي والمعرفي لم تعثر الى حد اللحظة على ما يقف هذه الجائحة عند حدها.

لا شك في أن جائحة كوڤيد-19 وما يرتبط بها من إكراهات اجتماعية واقتصادية (الحجر، فقدان الشغل، شلل الحياة العامة...) تمثل وضعية تنجلي فيها مختلف المحددات التي ترتبط بوضعيات التوتر التي تستدعي لدى الأفراد استجابات سلوكية وذهنية معينة لمواجهتها. فمن وجهة نظر سيكولوجية، في الوضعيات التي تتسم بوجود شروط بيئية (المحيط) تُدرَكُ من طرف الفرد كإكراهات تتطلب موارد نفسية واجتماعية استثنائية لمواجهتها، فإنها تقيم وتحدد عموماً من طرف الفرد كوضعيات توتر تستدعي تفعيل استراتيجيات نفسية-معرفية للتعاطي معها.

يتم التمييز، على وجه العموم، في الاستراتيجيات النفسية-المعرفية والسلوكية لمواجهة وضعيات التوتر بين استراتيجية مركزة على الانفعال وأخرى مركزة على المشكل. فإذا كان الفرد في الفئة الأولى يوجِّه نشاطه الذهني وسلوكه لتدبير الانفعالات المرتبطة بالوضعية، ويتم تصريف ذلك من خلال التعبير المفرط عن هذه الانفعالات (الغضب، القلق...) أو اللوم (لوم الذات ولوم الآخرين) أو التقليل من خطورة الوضعية أو التفكير فيها بكيفية عجائبية؛ فإنه في الفئة الثانية يُوجِّه هذا النشاط للحدِّ من متطلبات هذه الوضعية والرفع من موارده لمواجهتها، ويتضح ذلك من خلال استجابات من قبيل التحليل الموضوعي للوضعية والبحث عن تنمية المعارف في الميادين المرتبة بها أو البحث عن المعلومات ووضع الخطط المناسبة وكذا القيام بالاستشارات الناجعة.

وعلى مستوى التفكير بالمشكل وتجاوز حدود تأثيره والابتعاد عن التركيز حول الانفعالات والتي تسبب مزيدا من الاضطرابات النفسية واستنزاف الطاقة الفردية بل وحتى ألحاق الأذى بالطاقة النفسية للمحيطين بك فهناك بعض من التقنيات والممارسات الصحية التي تضعك في مواجهة ايجابية ومنها: الحفاظ على الصحة البدنية من خلال خذ كفايتك من النوم, والحفاظ على الحركة بشكل يومي, والمحافظة على غذاء صحي متوازن, والتعامل مع المشاعر بطرق صحية, وعدم الاسراف في متابعة الأخبار والتأكد من مصادرها, المحاولة في احتواء افراد الأسرة, والتفكير سوية كفريق, وضع نظام محدد لتنطيم الوقت, والتقليل من المصروفات اليومية, لا ترهق نفسك وتبالغ في توقعاتك, ومحاولات خلق فرص عمل بديلة للحد من الضغوطات الاقتصادية, ضرورة البقاء في تواصل مع الطبيعة للحفاظ على الصحة النفسية والبدنية, ممارسة الهويات والبقاء على صلة مع الأهل والاقارب والاصدقاء.


كورونا ( كوفيد ـ 19 ) في المنظور القريب سيخلف ضحايا في كل بقاع الارض دون استثناء وسينشر الحزن لفقدان الاحبة والاقارب والاهل والاصدقاء والمعارف وغير المعارف عن بعد, وليست من السهل علينا تقبل الموت لسبب من كورونا لقساوته المجحفة "حيث يقطع الانفاس ويهشم الجسد في غفلة", رغم ان الموت قدر يحل بالعضوية الحية حال استنفاد ضرورة بقائها, وحيث تتعدد الاسباب والموت واحد, والمخيف في الامر عندما تستسلم الوحدة العضوية الانسانية الى المخاوف رغم بعض من مشروعيتها, ولكن ما يؤلم هو الخوف الهستيري المفرط والذي يضعك في دائرة التفكير الضيق بالموت فقط دون التفكير في ممارسات ايجابية تقيك شر كورونا وتفتح امامنا بصيص الامل للخلاص منه كما حصل للأوبئة السابقة.
 
وبعيدا عن صراعات القطبية الأمريكية ـ الصينية أو الأوربية ـ الأمريكية فأنها المرة الأولى في التاريخ، يركز فيها علماء العالم على موضوع واحد" هو كورونا "، وقد وضعت أهم دول العالم مثل أميركا والصين ودول أوروبا مكافحة الفيروس أولوية وضرورة وطنية، مما حول الجدل العالمي من عدم جدوى سباق التسلح العسكري " على الأقل الآن " إلى حديث عن سباق تسلح في مجال التكنولوجيا الحيوية.

وفي الوقت الذي أغلقت فيه دول العالم حدودها لمكافحة تفشي الوباء، كان العلماء يحطمون هذه الحدود، ويحققون تعاونا عالميا لا مثيل له في التاريخ من أجل التوصل إلى علاج لهذا الفيروس في أسرع وقت، وهو ما تحقق بإجراء أكثر من 200 تجربة سريرية حتى بداية أبريل الماضي, جمعت بين عديد من المستشفيات والمختبرات من مختلف أنحاء العالم. وبالتالي فأن حدود المعرفة العلمية والعقل الانساني لا سقف لهما في التصدي لأكثر الازمات والكوارث التي مرت وتمر بها البشرية وأن لناظره قريب.
 

 





70
العنف الأسري في زمن كورونا أمتداد لما قبله

د.عامر صالح


من الجدير بالذكر أنّ العنف الأسري يُعَدّ واحداً من أكبر انتهاكات حقوق الإنسان حول العالم قبل تفشّي فيروس كورونا الجديد، وقد زاد تفاقم الوضع مع الجائحة الحالية. وبحسب الأمم المتحدة، فإنّ نحو 243 مليون امرأة (تراوح أعمارهنّ ما بين 15 عاماً و49) حول العالم تعرّضنَ في خلال الأشهر الاثني عشر الماضية لعنف جسدي أو جنسي من قبل شريك أو أحد أفراد العائلة. لكنّ الأرقام الحقيقية، بحسب المتوقّع، قد تكون أعلى بكثير، بسبب التحديات الكبرى المتعلقة بجمع البيانات. فنسبة 40 في المائة فقط من النساء اللواتي يتعرّضن لعنف أسري يتقدّمنَ بطلب مساعدة، وأقلّ من 10 في المائة من النساء اللواتي يطلبنَ المساعدة يتقدّمنَ ببلاغ لدى الشرطة ضدّ من اعتدى عليهنّ. وفي ظلّ الظروف الحالية والعزل المنزلي المعمول به في بلدان كثيرة، فإنّ الإبلاغ والحصول على مساعدة صارا أكثر تعقيداً. وتشير تقارير الأمم المتحدة كذلك إلى أنّ دولة واحدة من بين كلّ أربع دول حول العالم لا تتوفّر فيها أيّ قوانين تحمي النساء من العنف الأسري على وجه التحديد. وتقدّر المنظمة الأممية التكلفة العالمية للعنف ضدّ المرأة قبل الجائحة بنحو 1.5 ترليون دولار أميركي وتتوقع أنّ يتصاعد الرقم في ظلّ زيادة العنف ضدّ النساء في أعقاب تفشّي فيروس كورونا الجديد.

أشارت هيئة الأمم المتحدة للمرأة في بيان لها صادر عن المديرة التنفيذية فومزيل ملامبو-نجوكا، في 20 مارس الماضي، إلى أن الآثار السلبية التي سيحدثها فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، لن تتوقف عند ما يتعلق بالصحة العامة ووقوع الوفيات، وقرارات العزل المنزلي، ولكنه تطرق إلى التأثيرات المتعلقة بأوضاع النساء الاجتماعية، وكان الخوف الأكبر هو "العنف الأسري".


وأوضحت الأمم المتحدة للمرأة أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، التي جاءت نتيجة العزل المنزلي والصحي لفترات طويلة مع مخاوف الأمن والصحة وظروف المعيشة، من الممكن أن تساهم في ارتفاع حالات العنف الأسري المنزلي والاستغلال الجنسي، فهناك 137 امرأة يتم قتلها يوميا على يد أحد أفراد أسرتها، وفي البلاد التي طبقت العزل الاجتماعي كانت حالات العنف المنزلي التي تم الإبلاغ عنها قد تزايدت 3 أضعاف وأكثر من ذلك.
 
إجراءات الإغلاق وحظر التجول ومنع مغادرة المنازل إلا في حالات معينة أو ساعات محددة، تسعى إلى القضاء على انتشار الفيروس في التجمعات, ولكن رئيسة التحالف الوطني ضد العنف المنزلي في الولايات المتحدة، رُوث غلين، قالت "في هذا الوقت بالتحديد، مع كوفيد-19، المنزل قد يكون صعبا جدا بالنسبة لضحايا العنف الأسري والناجين، لأن المعتدين يستطيعون استغلال الوضع للتحكم بشكل أكبر في ضحاياهم". وبحسب التحالف الوطني ضد العنف المنزلي، فإن 10 ملايين شخص في الولايات المتحدة، يتعرضون سنويا للعنف الجسدي من قبل شركائهم. وتعرضت امرأة بين كل أربع نساء، ورجل بين كل سبعة رجال، لعنف جسدي شديد على يد شريك حميم".


و تسجل إحصاءات الأمم المتّحدة أن 37 في المئة من النساء في العالم العربي تعرّضن لعنف جسدي أو جنسي لمرّة واحدة على الأقل في حياتهنّ، وأن ستّاً من كلّ عشر نساء معنّفات، لا يُخبرن أي جهة عن معاناتهنّ. أرقام تنشر ذعراً اجتماعياً، في ظلّ الحجر الصحّي الذي نعيشه، وصرخة إلى الحكومات والجمعيات النسائية في الدول العربية للتحرّك في اتجاه حماية الفئة الأكثر معاناةً في هذه المحنة, فكيف الحال عندما يتزايد العنف اكثر من ثلاثة اضعاف. وهناك صور مروعة للعنف الأسري في البلاد العربية, من قتل وحرق وتعذيب ورمي بالرصاص واغتصاب وتحرش جنسي بقاصرين في ظل غياب قانون مناهضة العنف الأسري" والعراق احدى هذه الدول رغم ادعائه الديمقراطية والتعددية وحق المساواة دستوريا ". ويشكل العنف الأسري ظاهرة كونية لم تستثني قارة أو بلدا إلا وضربته وكانت كورونا تلك الشرارة التي اشعلت السهل كله. والخلاف هنا في مستويات وسقف الحماية الدستورية والقضائية والتشريعية التي تجرم العنف وتحمي ضحاياه.

ونظرا للأحساس المتزايد في المشكلة على الصعيد العالمي وخطورتها فقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش من مقر المنظمة الدولية في الخامس من ابريل 2020، إلى حماية النساء والفتيات، من العنف الأسري، وسط تقارير عن تزايد حالات العنف المنزلي والأسري خلال فترة الحجر الصحي، على خلفية تفشي وباء فيروس كورونا المستجد ( كوفيدـ19).  وقال غوتيريش في بيانه المصور، والذي تم ترجمته إلى عدة لغات، إن "العنف لا يقتصر على ساحات المعارك"، مذكّرًا بندائه الأخير إلى وقف لإطلاق النار في مختلف أنحاء العالم للمساعدة في الحد من تفشي فيروس كورونا. وأضاف الأمين العام للأمم المتحدة، أنه "بالنسبة للعديد من النساء والفتيات، فإن أكثر مكان يلوح فيه خطر العنف هو المكان الذي يُفترض به أن يكون واحة الأمان لهنّ. إنّه المنزل. ولذا، فإنّني أوجّه نداءً جديدًا اليوم من أجل السلام، في المنازل في جميع أنحاء العالم".وأوضح أمين عام الأمم المتحدة "على مدى الأسابيع الماضية، ومع تزايد الضغوط الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتنامي المخاوف، شهدنا طفرة عالميّة مروّعة في العنف المنزلي".

وحث غوتيرش جميع الحكومات على "جعل منع العنف ضدّ المرأة وجبر الضّرر الواقع من جرّاء هذا العنف، جزءًا رئيسيًا من خططها الوطنيّة للتصدّي لكوفيد-19"، كما دعا النظم القضائيّة إلى مواصلة "مقاضاة المعتدين"، مطالبًا بشكل خاصّ بـ"إنشاء أنظمة إنذار طارئة في الصيدليّات ومحلات البقالة" وهي الأماكن الوحيدة التي تزال مفتوحة في بلدان كثيرةن مشددًا على ضرورة "تهيئة سبل آمنة للنساء لالتماس الدعم، دون أن يتنبَّه المعتدون".

ومن الناحية السيكواجتماعية فأن العنف المنزلي ضد المرأة يعد جريمة يرتكبها فرد يشترك مع الضحية بمكان الإقامة،  وأن الدوافع الاجتماعية في العادات والتقاليد التي يرثها الأبناء عن الآباء والأجداد، قد تكون من الأسباب والدوافع الرئيسية للعنف الأسري مع الوضع في الاعتبار اختلاف تلك المعتقدات من مجتمع إلى آخر، لكن العلماء قد اجتمعوا على أن العنف الأسري هو أي سلوك يراد به إثارة الخوف أو التسبب بالأذى سواء كان جسدي أو نفسي، أوتوليد الشعور بالإهانة في نفس الشريك أو إيقاعه تحت أثر التهديد أو الضرر.
وتختلف صور الدوافع الاجتماعية المؤدية إلى العنف باختلاف مستوى تأثر الأسرة بالمحيط الخارجي، وباختلاف شكل الأعمال والتقاليد والأعراف، فتكون درجة العنف إما كبيرة أو صغيرة ويقاس ذلك بمدى انتشار صور الدوافع الاجتماعية المؤدية للعنف المنزلي، والتي منها اختلاف المستويات الفكرية والثقافية والعمرية والدينية والاجتماعية بين الزوجين، إضافة إلى أن التنشئة الخاطئة لأحد الوالدين أو كلاهما تعد من العوامل الرئيسية للعنف الأسري، فضلاً عن فقدان لغة التواصل والحوار بين أفراد الأسرة، وضعف الروابط الأسرية والنزاعات المستمرة حول أساليب تربية الأطفال. كما أن الوضع الاقتصادي المتدهور في حياة الأسرة الناتج عن فقدان الدخل المادي بسبب فقدان الوظيفة أو تراكم الديون من الأسباب الأساسية لوقوع العنف المنزلي ضد المرأة، وذلك نتيجة لظهور مشاعر الخيبة وارتفاع مستويات التوتر بسبب حالة الفقر التي تعيشها الأسرة.

وعلى الرغم من انتشار أفكار العدالة والمساواة بين الجنسين على نطاق واسع في عالمنا المعاصر اليوم, واكتساب المرأة المزيد من الحقوق في مساواتها مع الرجل, وخاصة في أوربا و العالم الغربي المتمدن, واتساع نطاق مساهمتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقريريها لشأنها الخاص دون وصايا, إلا إنها إلى اليوم لا تزال مشروع منافسة غير متكافئ أمام الرجل في مجالات مختلفة, مهنية وقيادية وعلمية وحتى في الحوافز المالية والمرتبات, وتحول شرائح واسعة من النساء إلى قوى عاملة رخيصة يستعان بها في وقت الأزمات الاقتصادية, أو يتم تسريحها من العمل حال دخول المشروع الاقتصادي للمنافسة بين شغيلته. وتتحول العائلة إلى مشروع اقتصادي تندمج بالية السوق وتستجيب لحاجاته وتتأثر بأزماته. وإذا اقتنعنا بتجريد خالص بالفكرة الماركسية القائلة بأن انقسام المجتمع إلى طبقات يقف وراء استغلال المرأة, فأن المجتمعات الأوربية والأمريكية اليوم أكثر المجتمعات طبقية واستقطابا في الثراء والثروة, وهذا يعني أن الحديث عن العدالة بين الجنسين هنا لا يخلوا من تحفظات كثيرة. ناهيك إلى ما تتعرض له المرأة في هذه المجتمعات من مختلف سوء المعاملة من اعتداء وانتهاك لحرمتها وحريتها الشخصية,على الرغم مما قطعته من شوط بعيد في المساواة بين الجنسين, ويكفي أن نشير هنا إلى أن في أمريكا وحدها ترتكب كل ساعة بحدود 80 حالة اغتصاب, إلى جانب ما يتم من حالات اغتصاب كثيرة في دول أوربية مختلفة. 


أما بخصوص مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأسوة بأغلبية بقاع العالم المتخلف, حيث العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لاضطهاد المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الاستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يختلط الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض.

وتتعرض المرأة في مجتمعاتنا إلى شتى مظاهر التضييق والإكراه الجنسي, فحال وجودها بمفردها في الشارع أصبحت مشروعا للتحرش والمضايقات وسوء الظن بها وبطلعتها, فهناك إحصائيات تؤكد أن 60% من الفتيات المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي ابتداء من الملامسة لأجزاء الجسد وانتهاء بأقصاها وهو الاغتصاب التام لها, مرورا بالعنف الجنسي ضدها من الزوج وخاصة في البيئات الفقيرة والمتخلفة, والتي ترى في المرأة موضوعا جنسيا لا غير ويجب أن تستجيب لرغبات الرجل متى ما شاء وكيف ما اتفق بعيدا عن الرغبة للطرف الآخر, إلى جانب ظاهرة الاغتصاب واستخدام القوة وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بالضحية, وتشير التقارير الأمنية المصرية أن هناك ما لا يقل عن 27 حالة اغتصاب يوميا, أي ما يعادل 10000 حالة سنويا " نقلا عن الانترنيت ", كما تنتشر حالات الاغتصاب في دول المغرب العربي وفي لبنان وفي العراق " وخاصة بعد أرث الاحتلال الأمريكي له ", وكذلك في الدول الخليجية حيث ينتشر الاغتصاب في أوساط الدائرة القريبة للضحية, كسائق الأسرة أو الخادم ومن محيط العائلة والأقارب أو ذوي المناصب وغيرها. وعادة لا يجري في مجتمعاتنا التبليغ عن جرائم الاغتصاب نظرا لارتباطها بمفهوم شرف المرأة وأسرتها وعشيرتها, وخاصة في مجتمعات مسلمة تتدعي التدين, وعادة ما يلقى اللوم على المرأة باعتبارها هي مصدر الإغراء والمسبب لذلك.

أن كورونا أماطة اللثام عن المستور والمتستر عليه ودقت جرس الأنذار وفضحت الثقافة الذكورية المبنية على الأزدواجية في الأخلاق والتعامل وخاصة في فترات المحن والازمات, وكشفت كورونا طبيعة العلاقات الهشة القائمة على عقود زواج وأوراق مصدقة من المحاكم وذات طابع هش تنكسر حين تحل الازمات, واثبتت أن «عش الزوجية» أو «القفص الذهبي» ليس سجنا، كما يدعي البعض، بل حلبة ملاكمة يتصارع فيها طرفان غير متساويين، أحدهما مجبر على حماية الأطفال خلال نوبة الجنون التي تصيب الزوج " الذكر " أو "الشريك". ولعل ما بعد كورنا ودروسها المستخلصة ان نكون أكثر رقيا في ديننا واخلاقنا وفهم ذواتنا وأن الشراكة الحقيقية لا تكون إلا بالحب وحده وليست بالأكراه في العيش مع الشريك.







71
كوفيد ـ 19 والتعليم عن بعد: بين ظروف الأضطرار ومستلزمات النهوض

د.عامر صالح

لقد أصبح التعليم الرقمي أو التعليم عن بعد مطلبا ملحا للأساتذة والإداريين التربويين والتلاميذ وطلبة الجامعات بمختلف دول العالم بعدما تفشى فيروس كورونا، وأرغم الجميع على حجر شبه طوعي أو مفروض حسب حالة كل بلد، وهكذا تابعنا كيف تمكنت الصين وبكفاءة عالية من تمكين تلاميذها متابعة دروسهم في بيوتهم عن طريق منصات رقمية تعرض دروسا يومية وتمارين تقويمية بنفس تسلسل منهاج العام الدراسي وكأن المتعلم في قسمه أمام أستاذه وليس في منزله وراء شاشة حاسوب.

وقد حذت حذو الصين بلدان أخرى كالإمارات العربية المتحدة وباقي دول الخليج وسارت على نهجها دول أوروبا كإيطاليا وفرنسا وإسبانيا التي اضطرت لإغلاق مدارسها بعدما ضرب الوباء الجديد بقوة. إنها إذن فرصة تاريخية غير مسبوقة تخرج من رحم الأزمة الوبائية العالمية لتفتح أعيننا على تعليم جديد ومبتكر سيطبع المستقبل القريب لشكل التدريس المستجد من خلال الانتقال من تعليم السبورات والكتب والدفاتر والأقلام إلى تعليم الشاشات والآلات والتطبيقات التفاعلية الذكية والحوسبات السحابية، وسيغير بالتأكيد دور الأستاذ والمتعلم في علاقاتهما التفاعلية داخل الفصول وخارجها ودور المدرسة ككل في منظومة التكوين, ولكن بالتأكيد كل ما يجري في ظروف الأكراه الشديد للأنتقال المفاجئ الى التعليم عن بعد بتلك الكثافة ليست سهلا ولا مريحا على الأطلاق, فالسياقات الطبيعية والانتقال المخطط له هو الضمانة الأكيدة لعمليات التحول الواسع صوب التعليم عن بعد.

  وقد تزامن الحديث عن استخدام التعلم عن بعد؛ لمواصلة مسيرة التربية والتعليم في ظل خوض البشرية معركة شرسة ضد كائن مجهري فرض تأثيره على جميع مناحي حياتنا، ويكمن خطره الحقيقي في أساليب انتقاله، والتي تكون في أغلب الحالات عن طريق التواصل المباشر مع المريض أو ملامسة الأسطح الملوثة، مما ألزم صانعي القرار على اتخاذ القرار الأصعب والمتمثل بمنع التجمعات واللقاءات والمناسبات الاجتماعية المحصورة في الأماكن المحددة جغرافيا، وتُعد المؤسسات التعليمية أحد أكبر التجمعات في عالمنا المعاصر، مما حدا بالدول العالمية إيقاف عمل المؤسسات التعليمية المختلفة، مثل: رياض الأطفال، والمدارس (العامة والخاصة) والجامعات والكليات ومراكز التعليم الخاص ودور الرعاية وغيرها.

وكما تقول الإحصائيات الواردة عن منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونسكو)؛ بأن عدد الطلاب الذين اضطرتهم "كورونا" إلى الانقطاع عن المدارس مليار و344 مليون، و914 ألف طالب وطالبة في 138 دولة حول العالم بنسبة 82.2٪ من الطلاب المقيدين في مدارس، منهم نحو 83 مليون طالب مدرسي في الدول العربية (بالإضافة إلى أعداد المتسربين من التعليم والمتوقفين عنه بفعل الحروب والصراعات الدائرة رحاها). وقالت المديرة العامة لليونسكو، أودرى أزولاى، فى هذا السياق: "لم يسبق لنا أبداً أن شهدنا هذا الحد من الاضطراب في مجال التعليم»، وأضافت قائلة: «إنّ إقامة الشراكات هو سبيلنا الوحيد للمضي قدماً".

والتخوف الكبير يطال الدول الفقيرة، فحسب البنك الدولي تعد البلدان الأكثر ثراءً أفضل استعداداً للانتقال إلى استراتيجيات التعلُّم عبر الإنترنت، وإن اكتنف الأمر قدر كبير من التحديات التي تواجه المعلمين والآباء. لكن الأوضاع في كل من البلدان الفقيرة ومتوسطة الدخل ليست على شاكلة واحدة، وإذا لم نتصرف على النحو المناسب، فإن ذلك الانعدام في تكافؤ الفرص سيزداد تفاقماً. فالعديد من الأطفال لا يملكون طاولات ولا كتباً، فضلاً عن صعوبة اتصالهم بالإنترنت أو عدم امتلاكهم للحواسيب المحمولة، بل هناك منهم من لا يجد مساندة من آبائهم، في حين يحظى آخرون بكل ما سبق.

وفي الدول العربية تتراوح وتختلف الطريقة المُتّبعة في التعليم عن بعد، حسب إمكانيات كل دولة على حدة، وفي داخل كل دولة، حيث فجوات رقمية قومية ووطنية، وجاهزية بنيتها التقنية التحتية، نظرًا لافتقار الكثير من هذه الدول للمستلزمات، والتجهيزات المتعلقة بالتعليم عن بعد، مع عدم توفر تجارب مسبقة لقياس مدى نجاحها في حال تطبيقها، كإجراء احترازي لمواجهة فيروس كورونا. في هذه المرحلة، أصبحت استمرارية التعليم أكثر تحدياً للطلاب والمعلمين والمؤسسات التربوية، أعني أن لا أحد يعرف حقاً ما سيحدث غداً، وكيف ستكون الأمور في الأسبوع القادم أو الأسبوع الذي يليه، هذه تجربة نحاول جميعاً التكّيف معها، علينا فقط تكريس الكثير من الجهود لتعزيز أساليب العمل والتواصل بين الطلاب والمعلمين بهدف استمرارية العملية التعليمية.

وكغيره من استراتيجيات التعليم، يأتي “التعليم عن بعد” مع مجموعة من الإيجابيات والسلبيات، أضف إلى ذلك بالطبع أنه لا يمكننا توقع نتائج مثالية من هذه التجربة نظراً للسرعة الفائقة التي اضطرت فيها المدارس إلى الانتقال إلى هذه الإستراتيجية للحفاظ على استمرارية تعليم الطلبة باعتباره أولوية قصوى في خضم تفشي الفيروس الذي شلّ المنطقة، دون أن يكون هناك أي تحضير أو تدريب مُسبق سواء أكان للإدارة المدرسية، للمعلمين، لأولياء الأمور أو للطلبة على وجه التحديد، دعونا نلقي نظرة على بعض الايجابيات والسلبيات التي ينطوي عليها اعتماد هذه الإستراتيجية. 

ويتمتع التعليم عن بُعد بعددٍ من المزايا التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1- سهولة الوصول للمحتوى التعليمي: فالتعلم عبر الإنترنت هو طريقة مناسبة للأغلبية، حيث يمكن للموظفين والطلاب -بل وربات المنزل أيضًا- الحصول على دورات ومحاضرات في المجالات التي يرغبون فيها، وذلك في الوقت الذي يناسبهم. فالتعليم عن بعد يتميز بمرونة الوقت، على عكس الفصول التقليدية. فمن خلال التعليم عن بعد يُمكن للعديد من الأفراد الحصول على الدورات والدرجات العلمية من خلال حضور المحاضرات على الإنترنت في عطلات نهاية الأسبوع أو في المساء بعد انتهاء أوقات العمل. كما يعمل التعليم عن بعد على كسر حاجز الحدود، حيث لم يعد يتعين على الطلاب الانتقال من دولة إلى دولة أخرى للحصول على درجة علمية أو المشاركة في دورة تعليمية معينة، وأصبح كل ما يحتاجون إليه هو توفر إنترنت بسرعة عالية.

2- دعم عملية الاستيعاب: وذلك من خلال إمكانية تسجيل الفصول الدراسية، وقيام الطالب بمشاهدة المحاضرات أكثر من مرة حتى يستوعب المعلومات بشكل كامل، وهذا ما لا يتوافر في الفصول الدراسية التقليدية، حيث تبدأ المحاضرة وتنتهي في وقت معين، وإذا لم يتمكن الطالب من حضورها فليست هناك إمكانية بالتأكيد لتكرارها مرة أخرى، بعكس التعليم عن بُعد الذي يُمكّن المتعلمين من الوصول إلى المحتوى التعليمي في أي مكان وفي أي وقت، مما يساعد الطلاب بشكل أكبر خلال فترات التحضير والإعداد للاختبارات الدراسية.
وتشير العديد من الدراسات إلى أن الطلاب يفضلون المحتوى التعليمي القائم على التفاعل، وكذلك يفضلون مشاهدة مقطع فيديو بدلًا من قراءة صفحات كتاب. إذن، فالأدوات التي يستخدمها التعليم عن بعد تقدم المحتوى التعليمي بشكل أكثر جاذبية من التعليم التقليدي، مما يُسهّل تلقي الطلاب المعلومات وتطبيقها بشكل أفضل.
3- توفير الوقت وانخفاض التكلفة: ساهم التعليم عن بُعد في خفض الوقت اللازم للتعلم بنسب كبيرة، وهو ما يرجع إلى إلغاء الوقت اللازم لعملية الانتقال للمقر التعليمي والعودة منه إلى المنزل، كما أنه يُساهم في تخفيض التكاليف المالية بسبب عدم وجود تكلفة للانتقال، وعدم تكبد نفقات الإقامة والانتقال من دولة إلى أخرى، أو إلى مدينة أخرى داخل الدولة نفسها.
4- عوائد بيئية إيجابية: نظرًا لأن التعليم عن بعد هو وسيلة غير ورقية للتعلم، فإنه يحمي البيئة من خلال عدم استخدام واستهلاك عدد كبير من الأوراق مقارنةً بأشكال التعليم التقليدي. فضلًا عن أنه -وفقًا للدراسة التي أُجريت على دورات التعليم الإلكتروني- وُجِدَ أن برامج التعليم عن بُعد تستهلك طاقة بنسبة أقل مقارنة بالدورات التعليمية التقليدية القائمة على التواجد في الجامعات أو المؤسسات التعليمية . وبالتالي فإن التعليم عن بعد هو وسيلة صديقة للبيئة مقارنة بأنماط التعليم التقليدي.
5 ـ تعزيز فعالية المعرفة من خلال سهولة الوصول إلى كمية هائلة من المعلومات، فنحن نستخدم الإنترنت الآن لقراءة الأخبار ومشاهدة برامجنا التلفزيونية المفضلة وحجز المواعيد والتسوق وغير ذلك الكثير، بالنظر إلى الراحة التي أضافتها التكنولوجيا إلى حياتنا اليومية، لماذا يجب أن يظل التعليم تقليدياً بدلاً من الاستفادة من المزايا التي توفرها التكنولوجيا.

وايضا هناك سلبيات للتعلم عن بعد ولعل ابرزها ما يأتي:
•   لم يعتد الطالب على استخدام هذا النوع من التعليم الذي يتطلب منه انضباطاً ذاتياً، وذلك نظراً لعدم تقديم برامج توجيهية ودورات تدريبية لإعداد الطلبة قبل البدء بتطبيق هذا النظام، بحيث يجد الطلاب صعوبة في التركيز عندما يكونون محاطين بمشتتات داخل المنزل، ومع عدم وجود المعلمين أو الزملاء للتفاعل وجهاً لوجه داخل الغرفة الصفية فإن فرص التشتت وفقدان المسار الزمني للمواعيد النهائية تكون عالية.
•   الإنصاف هو أكبر عقبة في “التعلم عن بعد”، بالطبع لا ينطوي التحول من التعليم التقليدي إلى التعليم عن بعد على التحديات التقنية فحسب، بل التحديات الاجتماعية والمادية أيضاً، إن افتراض أن كل طالب لديه التكنولوجيا اللازمة والوقت والتحفيز والدعم للمشاركة في التعلم عن بعد يفتقد للعدالة، فلا يزال هناك تفاوت كبير من حيث الدخل والمستوى التعليمي للوالدين، ومن الممكن أن لا يمتلك كل منزل أجهزة كمبيوتر متطورة أو إنترنت عالي السرعة.
•   عدم قدرة أولياء الأمور على المشاركة في تعليم أبنائهم من خلال استخدام هذه الإستراتيجية التي تحتاج تدريباً وإعداداً لأولياء الأمور وذلك لتمكينهم من المشاركة وتفعيل دورهم في استمرارية العملية التربوية قبل تبني تطبيقها، وهذا بالتأكيد يمثل تحدياً حاسماً آخر وخاصة للطلاب في الصفوف الأساسية الأولى، حيث يحتاج الطلاب الأصغر سناً إلى الكثير من المساعدة، حتى الكبار المتمرسين في التكنولوجيا يمكن أن يجدوا هذا الأمر صعباً.
•   كل طالب يمتلك قدرات تعليمية مختلفة عن الآخر فلكل منهم خصوصيته، وبالتأكيد فإن نجاح العملية التعليمية يعتمد على فهم كيفية تعلم الطالب بشكل أفضل من خلال الأدوات المناسبة له، حيث لا يملك جميع الطلاب في نفس الصف نفس القدرات، لذلك سيكون من الصعب على المعلم الاهتمام بالاختلافات بين الطلاب بشكل فردي واختيار الأنشطة والطرق المناسبة التي يتفاعل بها الطلاب مع المحتوى ويتعلمونه من خلال استخدام هذه الإستراتيجية.
•   تُعد المصداقية تحدياً هاماً في التعليم عن بعد حيث سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التحكم في السلوكيات السلبية مثل الغش فيمكن لأي شخص القيام بمشروع بدلاً من الطالب الفعلي نفسه، لذلك لن يكون من السهل تقييم الطالب من خلال هذه الإستراتيجية. 
أما ابرز البدائل المتاحة للتعليم عن بعد لأحتواء الأزمة الكونية فهي:

1- المواقع الالكترونية للمدارس: بحيث تدار عملية التعليم عن بعد باستخدام موقع الكتروني لكل مدرسة حكومية او خاصة، ويلزم ان يكون الموقع مبرمجا ليتوافق مع اجهزة الحاسوب بالاضافة للاجهزة الخلوية، وان يكون مجهزا لاستيعاب المواد التعليمية التي يحضرها المعلمون بطرق سهلة، وان يسمح بالحوارات التفاعلية مع الطلبة والمحتوى التعليمي والمعلم. وعلى الرغم من ان هذه البيئة تمثل الظروف الانسب والامثل لادارة تعليم الكتروني ناجح، الا ان ندرة المدارس المجهزة بذلك تجعل منه محدود الاستخدام في هذه الظروف.


2- طريقة الواتساب: بحيث يدار التعليم عن بعد عن طريق المعلمين انفسهم باستخدام وسيلة موقع التواصل الاجتماعي واتساب. هذه الطريقة مناسبة للعمل مع طلبة الصفوف الثلاث الاولى والروضة، يتطلب العمل ادارة العملية من قبل المعلم/المعلمة بانشاء مجموعات واتساب تشمل طلبة الشعبة الواحدة او جميع شعب الصف الواحد في المدرسة الواحدة التي يدرسها، ويتشارك مع باقي معلمي الصف في الاشراف على مجموعة الواتساب بعرض الفيديوهات والرسائل المرئية والصوتية لتشمل المادة الدراسية واوراق العمل وغيرها، يجب ان يقتصر الارسال على المعلمين (المشرفين)، ويسمح بالنقاش والتفاعل من قبل الطلبة واولياء امورهم وترسل الملاحظات والواجبات بعد تنفيذها على الخاص لكل معلم. يجب ان لا يبتعد الجميع عن تبادل رسائل التحية والتعارف غير التربوي الذي تتخم المجموعة برسائل غير هادفة وتشتت عن الهدف الرئيسي.


3 - طريقة الفيسبوك: بحيث يدار التعليم عن طريق المعلمين انفسهم باستخدام وسيلة موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. هذه الطريقة تعتبر الانسب للظرف الراهن كونها تسمح بان تدار العملية التعليمية للصف الواحد في المدرسة الواحدة بجميع شعبه ولجميع معلميه.
يتطلب نجاح الطريقة ان يتم انشاء صفحة فيسبوك لكل صف دراسي في كل مدرسة ولجميع الشعب، بحيث يقتصر النشر على مشرفي الصفحة وهم معلمي ذلك الصف، بحيث يعرض كل معلم المحتوى الذي سيقدمه للطلبة ضمن جدول محدد ويتابع جميع الطلبة المادة ويطرح كل منهم تساؤلاته ويجيب المعلم على كل تساؤل بمفرده او يمرر الملاحظة والاجابة للجميع، يحدد المعلم الواجبات للمتعلمين ويطرح عليهم او بعضهم اسئلة حوارية، ويلزم لذلك ان يكون جميع المتعلمين والمعلمين على الشبكة بذات التوقيت، ويمكن ان يتم التعليم بوقت مفتوح اطول دون حضور الجميع معا على ان يتم تحديد موعد انهاء التعلم وحل الواجبات حتى موعد الحصة القادمة، يتولى معلم آخر لمادة اخرى لنفس الصف دور التعليم حسب دوره بذات الاسلوب وهكذا.

كما أن استعمال شبكات التواصل الاجتماعي يتيح استعمال سيرفرات بسرعات عالية وامكانات تخزين كبيرة دون صعوبات تقنية، ويجب على المعلمين التنبه في التعليم الالكتروني بعدم نشر محتويات تفوق مستويات الطلبة، وتقليل الاعتماد على المواد الجاهزة المنشورة في شبكة الانترنت والتركيز على جهدهم الذاتي.

يحتاج طلبتنا اليوم للعديد من المهارات الأساسية؛ لتساعدهم على استخدام أدوات التعلم عن بُعد بالصورة الصحيحة، منها:
1 ـ المهارات الأساسية لاستخدام الأجهزة الرقمية، مثل: تشغيل الأجهزة وإغلاقها، تثبيت التطبيقات وإدارتها، القدرة على تسجيل الدخول للتطبيقات التعليمية، وتتضمن: إنشاء مستخدم جديد وإدارة الحساب الشخصي، والانضمام إلى مجموعات التعلم ومشاركة المصادر التعليمية وحفظها، بالإضافة إلى التعامل مع ملحقات الأجهزة الرقمية مثل: السماعات، أجهزة تسجيل الصوت والصورة وغيرها؛ لكي يكونوا قادرين على التعامل مع هذه الأجهزة بصورة صحيحة، وتوظيفها أثناء تعلمهم
2 ـ مهارات البحث عبر شبكات المعلومات الرقمية (الإنترنت)، وتتضمن: قدرتهم على الوصول للمواقع الإلكترونية المناسبة للتعليم، والقدرة على البحث عن المعلومات المطلوبة ومعالجتها أو تخزينها وحفظها، مع قدرتهم على التمييز بين المعلومات الصحيحة والخاطئة.
3 ـ مهارات التعلم الذاتي: لكي يكون الطلبة قادرين على التعلم وحدهم في ظروف انقطاع التعليم.
4 ـ مهارات حلّ المشكلات: وتعد هذه المهارات ذات أهمية لكونها تساعد الطلبة على التعامل مع المواقف غير الاعتيادية (المستحدثة) التي تواجههم، والعمل على تطبيق استراتيجيات لحلّ تلك المشكلات
5 ـ مهارات مواجهة الأزمات: لكي يكون الطلبة قادرين على استيعاب حقيقة المواقف التي تحدث بصورة طارئة، وأخذها على محمل الجدية لا الاستهتار، والقدرة على التصرف في الأوقات الحرجة، وأن يكونوا قادرين على مواصلة تعلمهم في فترات الانقطاع، والاعتماد على أنفسهم.

ليس من السهل القول أن مرحلة التعليم عن بعد في مرحلة كورونا لا تواجه مشاكل وتحديات كبيرة، أو هي من السهل الممتنع، فإلى الآن في بعض الدول التي أطلقت برنامج الدراسة عن بعد بدأ جدل واسع لدى الأوساط الأسرية، حول وضع العائلات غير المجهزة، أو التي ليس لديها اتصال إنترنت قوي بما فيه الكفاية، كما بدأت التساؤلات تطرح بخصوص من لا يملك أجهزة كمبيوتر أو أجهزة لوحية.

الأمور ليست واضحة لأن الظروف كانت مفاجئة، والتعليم الإلكتروني عن بعد يحتاج إلى فترة من الوقت للتكيف مع هذا النمط الجديد على المعلمين والتلاميذ وأوليائهم على حد سواء، كما أنه يحتاج إلى تنظيم ووضع مجموعة من التقنيات والتوجيهات لتوحيد الرؤية التربوية وفق منهج يتناسب مع التعليم الإلكتروني عن بعد. وبالتأكيد فأن ظروف انتشار وباء كورونا الضاغطة وبسرعة جنونية ستضع التعليم عن بعد امام اختبار صعب بأعتباره خيار أزمة وليست حل شامل يرتبط في التخطيط للتعليم في ظروف طبيعية.

روابط المقال:

https://ar.zenit.org/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%B9%D9%86-%D8%A8%D9%8F%D8%B9%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7/?fbclid=IwAR3v5Y0ONHUWILniOPP3Cne7cFZXyBefYeDjKrsI0ZL7bhiiT7u24UF21zc
https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/105945/%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%B9%D9%86-%D8%A8%D8%B9%D8%AF?fbclid=IwAR0aZR4jHm9Jm2I8ct3qOvG3SFYK7RMLI7mHtN1lb40pciHFbPZOrnFg7IU
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5363/%D8%AF%D8%B1%D8%B3-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%B9%D9%86-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9?fbclid=IwAR3PXb62ppYjSoskIpqLkh2cwQLdT9flYxstOemwWZrP6BIumzgYaQMMCRs
https://arabicpost.net/opinions/2020/03/20/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%86%D8%AC%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%B9%D9%86-%D8%A8%D9%8F%D8%B9%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D9%83/?fbclid=IwAR1P_5rGUUV-C57sKCUOyb1zrDJK5DR2u2rnu4GWT2GYNhHzAP9Aa45Mccc
https://www.turkpress.co/node/70457?fbclid=IwAR3DskSK3NEjOzK7TXEsBH2zqG5vBMBC-zc8vOtyYVuHpI3rSpYv4jnOXtM
https://www.hespress.com/writers/463495.html?fbclid=IwAR3v5Y0ONHUWILniOPP3Cne7cFZXyBefYeDjKrsI0ZL7bhiiT7u24UF21zc
https://elaph.com/amp/Web/opinion/2020/03/1286103.html?fbclid=IwAR36Ecyt1XipD2mujO8RGU_JvfC7NR27dlheyyy1RNOaCn9zIEDeSLBLZ2k
https://newturkpost.com/article/3911-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%B1%D9%88%D9%86%D9%8A?fbclid=IwAR2n2ta9G1rsEt97eniaZFJ2VCdzAs4Q3Sw6hcmfzb1gtoWad3h1TPziRFw




72
فيروس كورونا المستجد وسيكولوجيا الصراع بين الشماتة والأنتقام والقيم الانسانية

د.عامر صالح

يشير مصطلح القيم الإنسانية إلى مجموعة الأخلاق السامية والمبادئ التي ترعرع عليها الأفراد من مختلف الأجناس والفئات، فهي القواعد التي يرتكز عليها الشخص عند تعامله مع أعضاء المجتمع الآخرين وهي الأخلاق الفضيلة التي يتحلى بها كالصدق، والأمانة، وحب الآخرين، والتسامح، والعفو عن الخطأ، واجتناب الظلم والحقد، إضافة إلى الحرص على نشر الحب والود بين مختلف الدوائر القريبة للأفراد، وما إلى ذلك من الأُسس التي تدعو إليها جميع الديانات السماوية في خطابها المعلن والفكر الانساني المسالم. وتتفق الانسانية إلى أن هذه القيم هي الطريق الذي يخرج الإنسان من الظلام أو الجهل الفكري إلى العلم والنور، إذ إن التحلي بالقيم الإنسانية يساهم في قرارات الأفراد والمجتمعات وسيطرتهم على حياتهم الفكرية والسلوكية، ومن الممكن تمييز الفرد الذي يتحلى بتلك القيم عن غيره من خلال مساهماته وأفعاله بين أفراد عائلته، وزملائه في الجامعة أو في مكان العمل وفي المجتمع الأكبر وحتى الموقف مع المجتمعات الخارجية، بالإضافة إلى تصرفاته في الطرقات والقطاعات الحكومية والخاصة، إذ يلاحَظ أنه أكثر ميلًا لمساعدة الآخرين والمشاركة في الأعمال الخيرية والتطوعية.

مما لا شك فيه أن عالمنا اليوم يواجه تحديات ومشاكلَ كبيرة كالحروب وما ينتج عنها من كوارث وأضرار جسمية وصراعات، بالإضافة إلى عدد كبير من المشاكل السياسية والاقتصادية التي يعاني منها عدد كبير من الأفراد والمجتمعات في مختلف أنحاء العالم، ولا يمكن التغافل عن المخاطر البيئية التي تهدد صحة الكرة الأرضية في ظل إقبال الإنسان المتزايد على الاستهلاك والاستنزاف المستمر للطبيعة ومواردها . لو أمعن الأفراد والقيادات النظر في معظم تلك المشاكل لوجدوا أن حلها يكمن في التزام البشرية وتحليها بالقيم الإنسانية الغائبة عند العديد منهم، فغياب تلك القيم هو أحد الأسباب الرئيسة التي ساهمت في تفاقم تلك المشكلات ووصولها إلى حد الخطر، لذلك لا بد من نثر بذور القيم من جديد ومحاولة غرسها في الأجيال القادمة للحد من انهيار المجتمعات. ويشكل هنا وباء كورونا المستجد اختبارا حقيقيا للأنسان الفرد والمجتمعات الانسانية ومدى قدرتها على التضامن لدرء هذا الخطر الذي يهدد الانسانية جمعاء.

القيم الإنسانية مجموعة الأخلاق والعادات الاجتماعيّة والسلوكية والمبادئ والمثل التي ينشأ عليها الفرد منذ نعومة أظفاره، وتستمر معه طوال حياته، وتتمّ ممارستها بشكل عفوي وطبيعي في الحياة اليوميّة، في محاولة من الفرد للوصول إلى الرضا الذاتي واحترام المجتمع له، ويعرف علماء النفس القيم الإنسانيّة بأنها مجموعة من الانفعالات وردود الفعل الصادرة عن العقل تجاه موقف معيّن ناتج عما يختزنه الفرد في عقله ووجدانه من تأثر بالمجتمع والعادات والدين والفطرة تجاه هذا الموقف، فيعيش الإنسان وفق قيم معينة يطبقها أو يسعى للوصول إليها، كما تُعتبر نوعاً من أنواع المحدّدات أو الغايات، ويعد الوصول إليها نوعاً من أنواع النّجاح، وعلامة على حسن سير العمل في مراحله السابقة. وهنا يجب الاشارة أن القيم الانسانية وتمثلها كسلوك عقلي ومعرفي يجب ان لا تكون انتقائية ومتجزئة, فالموقف الانساني اتجاه المجتمعات الداخلية غير قابل عن الانفصال عن الموقف من المجتمعات الخارجية.

ولكن في المنعطفات الخاصة والاحداث المفاجئة, بما فيها الكوارث الاجتماعية والطبيعة حيث يختل فيها البعد العقلاني في تفسير الاحداث, ومخالفا لما ذكرناه في السياقات الطبيعية, حيث السلوك الجمعي سيد الموقف, وهو سلوك غير منظم ينشأ تلقائيا, ولا تكون له خطة تحكم مساره مما يجعل التنبؤ بتطوراته صعبا, وهو يعتمد بشكل كبير على التأثير المتبادل بين الافراد المشاركين فيه. وهنا تتراجع الشخصية الواعية عن الانخراط في السلوك الجمعي, في حين يتولى اللاوعي الجمعي توجيه سلوك من يفتقرون للوعي لا سيما وأن الاشاعات تشكل مادة دسمة في ظل هيمنة اجواء الاحتقان والتوتر والغموض, بسبب الاعتماد على تناقل الأخبار غير المؤكدة والمتلونة بالعاطفة, وذلك في ظل غياب المصادر الموثوقة للمعلومات, وبالتالي يتحول هنا جموع من الحشود متقبلون للأيحاء وسريعوا التأثر بالقيادة ولا يحتاجون سوى لدفعة صغيرة ليقتفوا أثر قدوتهم ولا يكونوا المبادرين في الغالب, وتشكل هنا العدوى الاجتماعية في خلق سلوكيات متشابهة على خلفية تشابه الجموع في الحاجات والدوافع والاهداف.

ويشكل وباء كورونا وانتقاله من موطنه الأصلي في الصين ليضرب أوربا ومدنها وعواصمها وقراها بتلك السرعة المخيفة, مادة خصبة للواقعين تحت تأثير السلوك الجمعي والمتأثرين بالخطابات السياسية والدينية العاطفية, وقد رأوا في وباء كورونا وهو يهاجم اوربا مادة للتشفع والشماتة والحقد, ولكن حين ضرب الوباء المجتمعات شرقا وغربا ولم يستثني دعاة " الفرقة الناجية ", ولم يترك الوباء الاماكن المقدسة في اغلب الاديان وخاصة السماوية إلا وضربها, حتى عادوا الى سيمفونية" اختبار صبر المؤمن عندما يبتلى ". وتجري على خلفية اخلاق الشماتة والحقد دعاوى بزوال الغرب ونظامه لكي تكون القيادة بيد الصين  "وحلفائهم " من الأنظمة والحركات المتخلفة والتي لا ترى العالم إلا من خلال مصالحها الآنية الضيقة, وهم لا يعرفون شيئا عن النظام الصيني إلا فقط بجزئية خلافه مع الغرب.

جهلة القوم لا يرغبون ان يفهموا ان الغرب ليس مجرد كيانات عابرة، ليس مجرد حكومات تذهب وتجيء، بل ليس مجرد دول تنشأ وتزول، وأكثر من ذلك؛ الغرب ليس مجرد دورة حضارية سرعان ما تتلاشى، الغرب ليس عرقا يضعف أو يندثر، الغرب ليس تشكلا إرادويا قابلا للتفكك والاضمحلال عند أول أزمة عاصفة، بل إن حضارة الغرب ـ وفي سياق تاريخ الغرب ذاته ـ ليست نتوءا طارئا، ليست صدفة مجانية، الغرب/ حضارة الغرب هي تاريخ طويل من النمو المتعاضد ذي الجذور الراسخة التي يستحيل على العواصف انتزاعها/ اجتثاثها؛ مهما كانت قادرة على مشاكسة الأغصان، بل وعلى تكسير بعضها، إذ البقاء ـ قبل كل شيء، وبعد كل شيء، ـ هو لأصل الشجرة التي لن يضيرها مرور الخريف بها كفصل عابر في دورة حياة تمتد لآلاف السنين. وهذا الرأي هو ليست انتقاص من النموذج الصيني في تقديري الشخصي, بل ان لكل نموذج طريقته في البقاء في عملية الصراع, والحياة تزكي هذا النظام او ذاك على خلفية مخرجاته الاجتماعية والصحية والاقتصادية ومستويات الرفاه الاجتماعي بعيدا عن انحيازتنا العاطفية لهذا النظام او ذاك.

والحقيقة المُرة الغائبة في اسطوانة العقاب الالهي للغرب وشفاء الصين التي تبرز على مواقع التواصل الالكتروني، أنها نوع من التشفي بالآخرين، وجزء من سيكولوجية الشماتة كأحد المكوّنات النفسية للشعوب المأزومة، وأحد ممارسات الأُمم المقهورة، التي تعاني الظلم والاضطهاد، وطال عهدها بالفساد والاستبداد، وضربت عليها حالة العجز والاحباط، وأُصيبت بقلة الحيلة وانعدام الفاعلية، ونزعت منها رسالتها، وانحرفت بوصلتها، فلا زالت تمارس المرواحة في نفس المكان والزمان؛ فانشغلت بالشماتة والتشفي في بعضها البعض: جماعات دينية، وفرق مذهبية، وأحزاب سياسية، وطوائف عرقية. وانهمكت بالشماتة والتشفي بغيرها من الآخرين والمنافسين والخصوم والأعداء، بدلاً من إصلاح حالها، وألتهت بتفسير مصائب الآخرين عوضاً عن تفسير مصائبها، فما أغنى ذلك عنها شيئاً، وهل تُغني الشماتة من تقدم، أم يُسمن التشفي  من تطور الضعيف المقهور.

في النهاية، فإن الشماتة جزء من تركيبتنا البشرية الخالصة، في بعض الأحيان تكون طبيعية، لكن في أحيان أخرى تصبح شيطانية بالفعل كما قال شوبنهاور "أن تشعر بالغيرة، فذلك طبيعي، لكن حينما تشمت، فذلك شيطاني" في حالات التنافس الشديد والصراع السياسي والاجتماعي السياسي والاجتماعي -وما أكثرها في عالمنا المعاصر- تظهر الشماتة لتسيطر على الموقف، وفي مرحلة ما رُبما تُنتزع إنسانيتنا ونتعامل مع الآخرين كحيوانات، لا مشكة أن يتم قتلهم أو اغتصابهم أو اعتقالهم لمجرد أننا نختلف معهم في الآراء السياسية، في تلك النقطة نترك أعظم منجزات البشر إلى الآن خلال 300 ألف سنة من وجودهم وتطورهم، وهو تعظيم الإنسان، وندخل بكل ثقة وعنترية إلى عالم من الفوضى. هذا هو ما نراه الآن، هذا هو العالم الذي تعيش فيه بينما تقرأ هذه الكلمات. 

لكن على الرغم من كل ذلك، فإننا لم نحقق بعد فهما كاملا لهذا السلوك البشري اللافت للانتباه، تحاول بعض الأبحاث أن تربطه بتقدير لشخص لذاته، فكلما كان تقديرك لذاتك أقل كنت أكثر شماتة في الآخرين، ربما لأجل تحقيق الذات في الشعور بالسعادة تجاه مصائب الآخرين، من جهة أخرى فإنها لا شك ترتبط بالصفات المظلمة للطبيعة البشرية، والتي تضم النرجسية والسادية والسيكوباتية والشعور المتضخم بالذات، إلخ، هذا المجال البحثي ما زال في أوج نشاطه، خاصة لأغراض سياسية.

وفي الختام فأن فيروس كورونا ليست فيروسا منحازا لملة او دين او مذهب او جنس او قومية دون اخرى او مجتمع دون آخر او بقعة جغروسياسية دون اخرى, فيروس كورونا يضرب حيث تتوفر البيئة الصالحة لحضوره وحيث قصور الاجراءات لصده, وبالتالي فأن المجتمعات الانسانية جمعاء وبأختلاف نظمها السياسية وطبيعة توجهاتها معنية بتوحيد جهودها على المستوى الرسمي والشعبي للقضاء على هذا الوباء ولكي تنطلق الانسانية من جديد وتستمر في عطائها في مختلف المجالات المعرفية والعلمية والاقتصادية والسياسية, واما النظم والافكار المتخلفة فمصيرها القاع والزوال.







73
في ذكرى أحتلال العراق: أحتلال واحد أم أحتلالين
د.عامر صالح

في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003 ، أطاح جنود ألأمريكان بتمثال رأس النظام السابق في بغداد. وبعد مرور سبعة عشر عاماً، تبين أن الحرب، التي كلفت مئات الآف الضحايا، وأوقعت الشرق الأوسط في حالة من الفوضى "بنيت على أكاذيب أمتلاك النظام السابق لأسلحة الدمار الشامل". لم يستغرق الأمر أكثر من ثلاثة أسابيع على بدء الغزو الأمريكي للعراق، ليظهر مشهد الإطاحة بتمثال صدام حسين في بغداد عبر ملايين الشاشات حول العالم. ودخلت هذه الصورة في الـتاسع من نيسان /أبريل من عام 2003  الى الذاكرة الجماعية. لكن حتى بعد مرور سبعة عشر عاما عليها، لا تزال هناك العديد من الأسئلة المفتوحة. أولها هو السؤال عن عدد ضحايا حرب العراق عام 2003 والفوضى العارمة التي تلت ذلك بين السكان المحليين. إذ تتحدث معظم التقديرات عن عدد ضحايا يتراوح بين 150 ألف ونصف مليون قتيل. حتى أن بعض الأبحاث الجادة تحدثت عن أرقام أعلى بكثير من هذه الأرقام، إذ سجلت المجلة الطبية الأقدم والأشهر في العالم "لانسيت" في عام 2006 عدد وفيات إضافية تجاوز الـ 650 ألف حالة وفاة. وذلك بالإضافة إلى ضحايا العنف، تم الأخذ بعين الاعتبار أيضاً ضحايا عواقب البنية التحتية المدمرة ونظام الرعاية الصحي المتهالك في البلاد.
.

ومن الطبيعي أن تكون حصيلة تلك الظروف والتحديات تعثرات في مسارات التنمية بعد أن شهد المجتمع العراقي التدهو والشلل التام  في جميع المستويات: الفرد، المؤسسات والمجتمع. فعلى مستوى الفرد أدت إلى شيوع حالة من التوتر والصراع الداخلي، و الى الأحساس بالأحباط وعدم الرضا، وفي إقامة علاقات ذات مضامين نفعية ضيقة، والفشل في أداء الدور على النحو المرسوم اجتماعيا.   أما على المستوى المجتمعي، فأدت إلى ظهور مشكلات اجتماعية  وسلوكية معقدة, في مقدمتها توقف عملية التنمية، وانهيار المؤسسات الأجتماعية، وضيق فرص العمل، وتدهور أوضاع الأسرة، وتراجع النظام التعليمي والصحي والخدماتي بصورة عامة، وضعف وسائل الضبط الأجتماعي الرسمية وغير الرسمية، مما فسح المجال واسعا لشتى أشكال العنف والأرهاب والجريمة، وتعاظم أعداد العاطلين والمشردين والمهجرين وأطفال الشوارع، والمتسولين والمرضى والمعوقين، وغير ذلك من الفئات المهمشة ذات القدرات المتدنية التي غالبا ما تفشل في مواجهة تيارات الحياة فتضطر للبقاء في قاع المجتمع خارج الشعور بالأنتماء والمواطنة, كما أدت هذه الاوضاع الى استشراء فئات من المضاربين والسماسرة والمحتالين والطفيلين" من داخل السلطة السياسية ومن خارجها أو بتواطئ منها " الى جانب الصور المتعددة للجريمة المنظمة, من تعاطي المخدرات, والعنف والارهاب, والفساد الاداري والمالي والسياسي والهدر العلمي والمعرفي وغيرها.   

 
 لم يكن سقوط النظام الدكتاتوري نتاج لتفاعلات داخلية ذاتية في مؤسسة النظام, رغم أن النظام كان يمر بأزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية خانقة تؤهله للسقوط وعدم البقاء, ولكن القمع والأضطهاد السياسي أضعف القدرات الموضوعية المتمثلة بالقوى المعارضة له مما جعلها غير قادرة أن تتصدر عملية اسقاطه, وجعلها لاحقا متخلفة عن احتواء الفراغ السياسي الذي نتج بعد اسقاطه من خلال القوى العالمية العسكرية بقيادة أمريكا. وكان الفراغ السياسي بعد سقوط النظام ذو شقين, أولهما جماهيري سياسي حيث لا تمتلك القوى السياسية قاعدة شعبية منظمة كافية ومعبئة لكي يؤهلها لقيادة التغير, والشق الآخر هو فكري ايديولجي حيث ان اغلب القوى السياسية التي شغلت الفراغ بعد سقوط النظام لا تمتلك مشروعا وطنيا واضحا ينقذ العراق ويشكل بديلا صالحا عن النظام السابق المنهار, فحل البديل السياسي المحصصاتي الطائفي والأثني المدعي للمظلومية التاريخية والقائم على ردود الأفعال والبعيد عن سنة الصراع الاجتماعي وقوانينه, وقد لقي هذا البديل الدعم الكامل من قوى الاحتلال الامريكي ومتناغما مع اجندته في أضعاف العراق كقدرات  ذاتية.

لقد قدر للعراق وشعبه أن يمر بظروف تاريخية قاسية ذات طبيعة كارثية أسهمت بشكل كبير في تشكيل مزاج عام أدى إلى تأخير حالات اختمار حقيقية صوب مخاض الديمقراطية, مما فسح المجال إلى نشأة بدائل سياسية ذات طبيعة عقليةـ معرفية معوقة للديمقراطية في غالبيتها,ولكنها انطلقت لتمارس الديمقراطية السياسية استنادا إلى ظروف العصر الضاغطة وظروف العراق بشكل خاص التي لا تقبل بغير الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية كنموذج بديل عن النظم الديكتاتورية الموروثة. وعندما حصل التغير في العراق عام 2003 " رغم ملابساته الكثيرة وصعوبة هضم آلية التغير" فأن الفراغ السياسي شكل سمة مميزة للوضع السياسي, مما مهد الطريق إلى خيار الاستحواذ السياسي متخذا من الطائفية والعرقية واجهة له ومستغلا الظروف التاريخية للاضطهاد ليمعن في سياسته التي لا تلقي الاستحسان والقبول والإجماع والرضا من قبل شعبنا,وبدلا من أن تحل البرجماتية السياسية " أي قياس مصداقية الفعل السياسي بنتائجه العملية على ارض الواقع " فقد حلت البرجماتية المدججة بالسلاح " الحوار بيد والسلاح في اليد الأخرى لقبول أمر الواقع".


بعد مرور سبعة عشر عاما من الفشل تركت أزمة ضعف المشاركة السياسية والشعبية الواسعة إلى أحساس شرائح اجتماعية واسعة بالهامشية واليأس والمنبوذية "خاصة الفئات التي يجب أن تستهدفها عمليات التغيير",مما يدفع إلى شعور مضاد للانتماء,أي العزلة والاغتراب الاجتماعي وضعف الشعور بالمسؤولية ومن ثم التطرف بألوانه والى الفوضى والعنف, وأصبحت إحدى البؤر المولدة للعنف والتطرف الديني وغير الديني, لتشتد الحياة أكثر عنفا لتصبح بيئة مواتية للتحريض وارتكاب الجرائم الكبرى بحق الناس وبواجهات مختلفة( القاعدة,فلول البعث السابق, داعش, ضغط دول الجوار التي لا تعي حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية).أن الجبهة الداخلية السليمة والصحية هي وحدها القادرة على دحر أعداء العراق في الداخل والخارج وعلى خلفية بقائه وطنا صالحا للجميع.


أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما رافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية, ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة ", حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن, وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية, وعلى عدم استقراره, مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.


أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال السبعة عشر المنصرمة, وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي , إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي , أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية , وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت, وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية, بل لعلها أهم منجزات الحداثة, وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي, ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات, وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية, وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.


لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على الوطن,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية, حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار, وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية, مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.


كما أن نظام المحاصصة عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة, بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية", وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع.أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.


لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية,فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها,أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.

ان الأحزاب والقوى الحاكمة اليوم وفي أشد عنف ازمتها تسعى إلى اختزال الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد، في آلية ترشيح هذا المكلف برئاسة الوزراء او ذاك، أو في رفض هذا الاسم وقبول ذاك، او اعتبار تشكيل الحكومة المؤقتة غاية المنى. ابدا، فالمشكلة اكبر من هذا بكثير. انها قضية شعب يعاني ويتطلع الى تغيير يسقط منظومة المحاصصة والفساد ومعها كل الفاشلين والمرتشين، والإتيان ببديل يستحقه هذا الشعب، يؤمن له حياة كريمة آمنة ومستقرة، ومستقبلا وضاء وواعدا. وكان يفترض ان يشكل وباء كورونا الذي يهدد الوجود الانساني بأكمله ويهدر طاقات المجتمعات الأقتصادية والأجتماعية أن يشكل حافزا قويا للقوى والاحزاب الحاكمة للتخلي عن طموحاتها غير المشروعة للتشبث في البقاء بعيدا عن الممارسة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة, ولتوفير افضل الفرص لتعبئة موارد البلاد بعيدا عن الفساد, ووضعها في خدمة التنمية الشاملة والمستديمة لدرء كافة المخاطر الأقتصادية والاحتماعية والطبيعية.




74
الذكرى 86 لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي بين سيكولوجيا الأنتماء ومتغيرات العصر


د.عامر صالح
مما تحسب لقوة الحزب الشيوعي العراقي على مر عقود ومنذ تأسيسة هو انحيازة الكامل للهوية العراقية بعيدا عن الأنتماءات الضيقة الأثنية والطائفية والمناطقية, وبالتالي جسد الحزب في انتمائه وحدة النسيج العراقي بكل أطيافه ومكوناته, وقد تربى داخل الحزب خيرة ونخبة من المثقفين, من كتاب وشعراء وأدباء وصحفيين وأعلاميين الى جانب نخب مناضلة من الكادر التدريس والتربوي والتعليمي والهندسي والطبي والصيدلي, الى جانب الحضور المتميز للطبقة العاملة والكادحين والمحرومين من شعبنا, والتي عمل الحزب دوما للدفاع عن حقوقها في اصعب الظروف واكثرها قسوة على الحزب.

وقد لا نجافي الحقيقة أن الكثير من رفاق الحزب واصدقائه ومناصرية تعلموا في الحزب دروس غنية في الثقافة العامة والأطلاع على التراث العالمي في الآداب والثقافة والعلوم, الى جانب احترام مكانة العلم والبحث العلمي في حل المشكلات الأجتماعية بعيدا عن الخرافة والدجل والتخلف, كما تعلموا ان الحياة لا تبنى إلا بفهم القوانين الموضوعية التي تجسد سنن الصراع الطبقي الأجتماعي, وان العلم والمعارف وحدها كفيلة ببناء مستقبل أفضل. وقد ترك الحزب الشيوعي العراقي أثرا واضحا في شرائح اجتماعية واسعة لم تكن في صفوفه بل تعلمت عن بعد منه, مما اضاف للحزب قوة ونفوذ جماهيري واحترام في قلوب العراقيين لاتزال آثاره واضحة في الشارع العراقي رغم شدة القمع والتنكيل والأرهاب الذي تعرض له طوال العقود الماضية.

تؤكد الدراسات السيكواجتماعية أن هناك دوافع مختلفة للأنتماء السياسي لعل من بينها هي: المصلحة الذاتية, أي الرغبة في الحصول على مكاسب ذاتية للأفراد الذين ينتمون الى حزب ما, كالحصول على المناصب أو الوظائف أو الأموال أو المكافآت والامتيازات؛ أو الأنفعال أي اندفاع المواطنين لتأييد أفكار وبرامج وأهداف وسياسات الحزب دون تحفظ وذلك لأنها تثير عواطفهم ونزعاتهم النفسية وتجعلهم متحمسين لنصرة الحزب والوقوف بجانب قضاياه والدفاع عنها دون خوف وتردد؛ أو الادراك والتعقل والعقيدة أي أن الشخص ينتمي الى الحزب لا بسبب مصلحته أو عاطفته الجياشة وأنفعالاته المفرطة, بل بسبب الأيمان والعقيدة والادراك الثاقب لأفكار وأيديولوجية ومعتقدات الحزب وأهدافه بحيث تكون هذه جزء لا يتجزأ من شخصيته وآماله في الحياة وتطلعاته, والاشخاص الذين يدخلون الحزب لهذه الاسباب هم الحزبيون الحقيقيون الذين يبقون فيه ويدافعون عنه ويناظلون من أجل نصرته مهما كانت الظروف.

وقد أكدت العديد من الأبجاث النفسية أن هناك خمسة عوامل تتوزع عليها سمات الأفراد المنتمين للأحزاب السياسة وهي تتكامل مع بعضها البعض في ظروف صحية في حياة الحزب الداخلية, وهذه العوامل هي: التفكير الأبداعي؛ والتعبير عن وجهات النظر؛ والألتزام؛ والتفكير الناقد؛ والتنظيم الذاتي. وهناك أيضا سمات شخصية للأفراد الذين ينتمون للأحزاب السياسية في الحالات المثالية, وهي: قوة الأنا, واليقظة الذهنية, والثقة بالنفس, والحساسية الأجتماعية , والفاعلية الذاتية, وتقدير الذات الى جانب الصلابة النفسية والصمود.

أن الأنتماء للحزب الشيوعي العراقي هو شبيه في الأنتماء الى التجارب العاطفية الأولى حيث استحضارها بقوة بين الحين والأخر إلى حيز الشعور, نتيجة لارتباطها ببداية تشكيل الخبرات العاطفية, وتعتبر من اللبنات الأولى في بناء الشخصية العاطفي على طريق اكتساب المزيد من الخبرات والتجارب.وهي اختبارات صعبة للتأكد من صلاحية الشخصية في التكيف والبقاء مع الجنس الآخر.

وتشكل تجربة الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي لأول مرة في عمر الفرد لونا من ألوان هذا الانتماء المشحون بالعاطفة الجياشة والانفعال القوي للارتباط به الى جانب الأيمان بالفكر والعقيدة بعيدا عن المصلحة الذاتية. ومن اجبر على ترك الحزب في هذا العمر عانى كثيرا, كما يعاني من اجبر على ترك محبه الأول, حيث تجري الأشياء هنا بالضد من الشعور الذي ينتاب الفرد بأن يكون هذا الحب هو الأول والأخير وبطريقته الخاصة.

أن الخطاب الحزبي في بداية الانتماء وأن كان خطابا عقلانيا يستند إلى مادة فكرية وفلسفية رفيعة المستوى تقدم"للمحبين" له, ألا أن الحزب له القابلية على إضفاء مشاعر وأحاسيس عنيفة معززة رغبة البقاء في صفوفه, وهي نتاج عمل دؤوب سايكوعقلي ـ معرفي , يترك أثرا عميقا أكثر بكثير من وقع الحب الأول في محبيه, يترك في الشخصية شحنة انفعالية موجبة كما تدرك. وبقدر ما يكون الحب الأول فرصة لتأكيد الذات واختبار الشخصية,يكون الانتماء الحزبي هو الآخر فرصة ذهبية لتميز الشخصية ضمن إبعاد جديدة وفي سياقات غير معتادة, تشكل فرصا للنمذجة المثالية للشخصية, تمنح صاحبها امتيازا في بيئة محدودة الإمكانيات, وخاصة في صورة الخروج الايجابي عن المألوف, وتشكل مع الوقت احد المصادر الأساسية في التوافق الذاتي ورسم الملامح العقلية وحتى أحيانا المزاجية للشخصية. أو يأخذ الانتماء شكل المخالفة لما هو سائد أو كما يقال"خالف تعرف" في بيئة غارقة في الممنوعات.

أن الانتماء للحزب والاستمرار فيه إن شاء الفرد يجب أن يرتبط بعقلانية رفيعة المستوى في الدفاع عنه, وهذا يأتي عبر التخلص من غرائز الانتماء الأول المفعمة في اللوازم العصبية والانفعالات المؤذية في أحيان كثيرة للحزب, والتي يعكسها الدفاع المفرط عنه, وبأي ثمن, وبآليات غير موفقة تلحق الضرر به. وفي حالات كثيرة تسبب شحنة الحرص الزائد(الانفعال المفرط) إلى ارتكاب أخطاء ينتظرها من لا يرغب بوجود الحزب كما ينبغي أن يكون.

أن الحزب وبعد مسيرة تجاوز فيها الثمانية عقود تعرض فيها إلى هجمات شرسة من أعدائه وحلفائه, وكذلك انتكاسات كبيرة نتيجة لأخطاء ذاتية وظروف موضوعية, وعلاوة على ذلك تعرض حلفائه "الثابتين" في الخارج إلى انهيارات كبرى تمثلت في انهيار المعسكر الاشتراكي, والتي أدت ضمن ما أدت إليه إلى أن يطال الشك إلى مصداقية الفكر الماركسي. يحتاج الحزب اليوم إلى انتماءات بذهنية جديدة, ترى في الحزب مشروعا عمليا للحياة ومرنا قدر مرونة الحياة...أن عهد" ملائكة" الحزب ودعاة الحرص"المؤذي"لم تزكيهما الحياة. ومن يرى في الحزب ملاذا لتأكيد الذات, لأنه لم يجد في دائرته القريبة الملاذ, فأنه يرتكب أخطاء بحق الحزب, ومن يرى في الحزب وظيفته الدائمة فأنه يخطأ أن يقدم شيئا مفيدا له.

اليوم وبعد هذا الزخم الهائل من التغيرات الدولية والإقليمية والقطرية, فأن الحزب لم يعد حزب"دكتاتورية البرولتارية",ولكنه يستطيع أن يكون بامتياز حزب البرولتارية, ولا حزب التكتيكات من أجل" استلام السلطة", ولكن من حقه أن يتطلع إلى المشاركة الواسعة في السلطة, ولا حزب بناء" الاشتراكية"على نسق مرجعياتها السابقة, ولا حزب الانضباط الحديدي وفقا "للقواعد اللينينية في حياة الحزب الداخلية" ولكن حزبا منضبطا,حيث تنعدم المقومات الموضوعية والذاتية لذلك. أذن لماذا كل هذه الحملات والهجمات عليه, وخاصة عندما تبدأ الرؤيا بهذا الوضوح. أني اعتقد أن المشكلة في التساؤلات الآتية: ماذا نختار, وكيف نختار, ولماذا؟.

علينا أن لا نعطي الظواهر قوة دفع أكثر بكثير من خصوصية الظرف الذاتي والموضوعي الذي تجري فيه.أليست تلك هي سنة الديالكتيك.فمن أراد للحزب خيرا فعليه أن يقلع عن عادات "الحب الأول"في الدفاع عنه, أو عادات أخذ الثأر منه والهجوم عليه عندما ينفض العقد معه. ومن أراد أن يكون الحزب "حبه الأخير"فعليه القبول بشروط الحياة, وعلى الحزب المزيد من الاستجابة والتفحص الذاتي, وخاصة بعد تجربة تجاوزت العقد والنصف من العمل العلني وفي ظروف نوعية جديدة.

أن من يريد أن يكون حزبه حزب الثلاثينيات أوالاربعينيات أو ما يسمى" حزب فهد" فأن ذلك مجافاة للحقائق والتغيرات العميقة على الأرض في الداخل والخارج. وتستحضرني في هذا السياق ليست مقولة لينين(النظرية مرشد للعمل), ولكن من عمق التأريخ مقولة للأمام علي: " لا تقصروا أولادكم على آدابكم فأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ". أذا كان هذا الحديث في التربية, فكيف يكون الأمر في السياسة وهي فن الممكنات. وهل يجوز العودة في السياسة إلى أكثر من ثمانين عاما إلى الوراء, وهل يجوز في السياسة أيضا أن تصاغ سياسات الحاضر واتجاهات المستقبل لحياة الحزب الداخلية والخارجية على ضوء معايير الثلاثينيات والاربعينيات ونحن في الألفية الثالثة. أن مآثر الحزب وتأريخه النضالي هي ملكا للجميع. ولكنني أتساءل :هل كان حزب" فهد" آنذاك بدون انحسارات أو صراعات, وهل كان في برجا عاجيا كي لا يكون كذلك, وهل كان مراقبا للمعارك الوطنية لكي يكون معصوما من الخطأ أم طرفا أساسيا فيها..الإجابات في التأريخ المكتوب والغير منحاز نسبيا للحزب.

أن من يرى في الحزب " حبه" الأول والأخير عليه أن يكيف نفسه لميكانيزم الحياة المتغيرة أبدا وبدون انقطاع. فلا يمكن "السباحة في النهر مرتين", لأن الماء غيره عن المرة الأولى.فالحزب اليوم يؤمن في الديمقراطية الليبرالية على مستوى السياسة والاقتصاد(مع مظلة حقوق اجتماعية واسعة). ويترتب على ذلك أن يكون الحزب واضحا في خطاباته وتحالفاته وحدود انتمائه للعقيدة الكلاسيكية. وعلينا أن نعي حقيقة أن" الحب الأخير" هو ليست صورة طبق الأصل لفلم غير ناطق عن "الحب الأول". وبين" الحبين"تأريخ مشترك يجب العودة أليه ودراسته وتقويمه بعناية وحرص شديدين. وأعتقد أن الحزب الشيوعي ليست حركة ماضوية فهو من الحركات التي تلتصق بالحاضر بشدة . وإذا كان الحب الأول يعبر عن الحاجات الأولى للانتماء, فأن الحب الأخير هو حب الأحاسيس والانفعالات الهادئة...أنه حب الحياة والاستقرار, وكما عرفنا فأن الأنتماء أليه طواعية, ومغادرته أيضا بعرفان وأحسان.

الذكرى ال 86 لميلاد الحزب الشيوعي العراقي هي مناسبة لتشديد الخناق على الفاسدين وهي مناسبة لأعادة بناء العملية السياسية في العراق بعيدا عن المحاصصة الطائفية والأثنية, وهي مناسبة للملمة الصف الداخلي لحزب فهد, وأن نتعلم من الديمقراطية والتعددية الحزبية, أن تحالفات اليوم قد تصلح أو لا تصلح لغدا, ومصالح الناس الأساسية في الخدمات العامة والعيش الكريم هي جوهر ما يطمح له الشيوعيون بعيدا عن الوصفات المتحجرة, فأن ما كان صالحا بالأمس لم يكن صالحا اليوم أو لغد. وكل عام والحزب بأفضل منه.

75
انتفاضة اكتوبر العراقية وفيروس كورونا المستجد  "كوفيد ـ 19 "


د. عامر صالح 

شكلت انتفاضة اكتوبر والتي اندلعت شرارتها في الأول من اكتوبر للعام الماضي أمتدادا طبيعيا وتراكميا لما سبقها من احتجاجات في الأعوام 2011 و2015 . وفِي كل مرة كان يتظاهر فيها أبناء شعبنا، وخاصة شبابه وطلابه، ويحتجون ويعتصمون وينتفضون، كان المتنفذون الحاكمون يلجؤون الى ترسانة القمع والقتل والاغتيال وتزييف الحقائق، والاساءة الى كل من يعارض نهجهم في الحكم وتشبثهم بالمحاصصة ويطالب بالحد الأدنى من مستلزمات العيش الكريم. وقد ظلوا يمارسون ذلك وما زالوا، من اجل ادامة سلطتهم ونفوذهم ومواصلة فسادهم ، وفِي مسعى لتكميم الأفواه ومصادرة الحقوق الدستورية وبضمنها حق التظاهر السلمي، في سبيل انتزاع تلك الحقوق والمطالب المشروعة. وقد كلفت شعبنا تلك الأحتجاجات أكثر من 700 شهيد و30 ألف جريح, من بينهم ما لا يقل عن ألف من الأعاقات المنتهية والغير قابلة للعلاج, الى جانب العشرات من المغيبين ومئات المعتقلين والمفقودين, والذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن. لقد ضاق الخناق على السلطة المحاصصاتية جراء الفعاليات السلمية للمنتفضين, حيث اجبرت عادل عبد المهدي رئيس الوزراء على الاستقالة, ولا زال البحث جاري للعثور على رئيس وزراء بديل لحكومة القتل والقنص وحكومة " الصجم ".

نقطة التحول في الأحتجاجات الميدانية وزخمها هو ظهور الوباء العالمي فيروس كورونا المستجد " كوفيد ـ 19 " الذي يستدعي التقليل من حجم التجمعات البشرية واللقاءات المكثفة لأنها تشكل ارض خصبة لأنتشار الفيروس وبالتالي العدوى السريعة وما تسببه لاحقا من موت واصابات تزهق فيها الأرواح. وكانت استجابة المحتجين لقرارات الحكومة في انهاء التجمعات المكثفة سريعة وتعكس حالة من الوعي والألتزام الحضاري للحد من انتشار الفيروس وأنسجاما مع التوجهات ليست فقط المحلية داخل العراق بل استجابة للنداءات العالمية في ضرورة البقاء في البيت جهد الأمكان لتجنب التواصل والأحتكاك مع الآخرين. بالتأكيد أن الحكومة العراقية  "تتمنى فض هذه الاحتجاجات"، سواء لأسباب من كورونا أو غيرها لكن لا يعني هذا أن النظام العراقي قد تجاوز الأزمة، فما كشفته انتفاضة أكتوبر من فوضى في النظام السياسي العراقي لا يمكن تجاوزه بسهولة، وما يحدث من مشاكل وصعوبة في تسمية رئيس وزراء جديد ما هو إلا ثمرة من ثمار الانتفاضة، ولا نتوقع أن يرجع هذا النظام إلى قوته السابقة قبل انطلاق الانتفاضة قريباً، بل هو سائر صوب التغير الجذري للعملية السياسية, وقد يستغرق ذلك وقتا بالتأكيد جراء تشبث قوى النظام المحصصاتية.

لا شك أنه موقف مسؤول من قبل المحتجين ويجب الأشادة به بأعتباره موقف وطني مسؤول بغض النظر عن الدور الحكومي الهزيل من الامكانيات الصحيه التي اوصلها الفساد العام الى ما هو عليه اليوم . انه لمعروف وعند تعرض الاوطان لكافه اشكال المحن والمصائب والاقدار الطارئه تتظافر جهود كافه ابنائها مهما اختلفت مشاربهم ومواقفهم السياسيه والفكريه والعقائديه والقوميه لدرء وانهاء او اضعاف تلك المخاطر وتبعاتها الى الحد الادنى .وبالتالي فالعراقيين ليست نشاز واستثناءا عن الاخرين الاكثر صوابا بهذه الحالات. وبالتالي فأن هناك حالة من اعادة ترتيب الأولويات أنطلاقا من المصلحة الوطنية والانسانية للحفاظ على ارواح شعبنا, والتي ساهم النظام في ازهاقها في مناسبات عديدة وفي مقدمتها ضحايا وشهداء انتفاضة اكتوبر.

بالتأكيد فأن امكانيات وزارة الصحة العراقية عاجزة عن احتواء حدث كورونا, فالفساد الأداري والمالي نخر المؤسسات الصحية أسوة بغيرها من القطاعات المجتمعية. والقصة التي تظهر فصولها من بين هذه التفاصيل قصة معقدة، فخلال الثلاثين عاما الماضية تعرضت البلاد للخراب بفعل الحروب والعقوبات الدولية والصراع الطائفي وصعود نجم تنظيم الدولة الإسلامية " داعش " الذي أحتل ثلث البلاد.

لكن حتى في أوقات الاستقرار النسبي ضاعت على العراق فرص توسيع نظام الرعاية الصحية وإعادة بنائه، ففي عام 2019 على سبيل المثال، وهو عام شهد هدوءا نسبيا، خصصت الحكومة 2.5 في المئة فقط من موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة. وهذا مبلغ ضئيل مقارنة بما يتم إنفاقه في دول أخرى بالشرق الأوسط.

وفي المقابل حصلت قوى الأمن على 18 في المئة ووزارة النفط على 13.5 في المئة، وتظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن الحكومة المركزية في العراق أنفقت خلال السنوات العشر الأخيرة مبلغا أقل بكثير على الرعاية الصحية للفرد من دول أفقر كثيرا، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الانفاق 161 دولارا في المتوسط بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولارا في لبنان، وقال علاء علوان وزير الصحة العراقي السابق لرويترز في أغسطس آب الماضي ”الوضع الصحي في العراق تراجع بشكل كبير جدا خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. وأحد أسباب هذا التراجع، وليس فقط السبب الوحيد، هو عدم إعطاء أولوية من قبل الحكومات المتعاقبة للصحة في العراق".

خطوات الحكومة وسلوكها العام للتعامل مع وباء كورونا هو استعراضي أكثر منه واقعي ولاينسجم مع امكانياتها الفعلية والواقعية, ولا يخلو من فرصة للتنفيس عن ضغط الاحتجاجات ووقعها القاسي على السلطة, بل رأت الحكومة في كورونا ضالتها للخلاص من الاحتجاجات, وحيث بيانات الحكومة الرسمية اليومية: " انها ألقت القبض على مئات من المواطنين ممن خرقوا حظر التجول الخاص بكورونا, دون ان يستطيعوا ألقاء القبض على قناص واحد قتل المتظاهرين". أنه المضحك المبكي في الوضع السياسي في العراق.

وفي الوقت الذي تتجول فيه سيارات النجدة والشرطة والجيش في كل مكان لفرض والتأكد من حضر التجوال المفروض وهو امر مشروع بشكليته, ولكن أين كانوا من أمن المتظاهرين السلميين والأبرياء. وفي الختام فأن أي جهد حكومي وشعبي لأتقاء شر كورونا وانتشارها يلقي الأستحسان والشكر الجزيل لأنقاذ شعبنا, ولكن أن حقوق شعبنا ومطاليبه المشروعة لا تسقط بالتقادم ولا بضعف ذاكرة السلطة المفتعل ولا بحضور الامراض والوبائات المؤقته, فالتجارب الانسانية تؤكد أن لكل استحقاق سقف زمني وظروف مواتية.
 
.




76
آثار فيروس كورونا وسيكولوجيا خيبة الأمل

د.عامر صالح

لا يوجد سقفا رقميا ولا زمنيا لضحايا مرض فيروس كورونا, وعلى ما يبدو فأنه يحصد المزيد من الأرواح والأصابات والعدوى المستمرة دون تكهنات بالقضاء عليه, سوى تكهنات بعدد ضحاياه المقبلة في ظل استعصاء العثور على علاج له أم سقف نهايته زمنيا, وقد قدر عدد شهداء كورونا بمليون ونصف اذا استمرت الحال بهذا المنحى التصاعدي للأصابات دون العثور السريع على علاج محدد له, فهو ينتقل كالنار في الهشيم, ووفقا لأحصائيات اليوم هناك ربع مليون مصاب واكثر من عشرة ألف وفاة, بل أن بعض الدول المتقدمة اعلنت صراحة أنها لا تستطيع مقارعة هذا الفيروس والقضاء عليه, بل وتبتهل الى السماء لمساعدتها بعد ان تخلت عنها الدول الحليفة والصديقة والمبتلاة بذات الوباء. هذا ليست سيناريو مظلم تفتعله الدوائر المخابرتية والأمنية لزرع الرعب لدى شعوبها, بل أنه علاج الصدمة السيكولوجية الأولى حين تضع الشعب امام هول المأساة لكي يتقبلها ويشد الأحزمة على البطون في محاولة لأمتصاص صدمة كورونا, وهي حالات معروفة في الصراحة مع المريض والمجتمع في امراض اخرى والخطرة منها بشكل خاص, وحتى اعلامه بالموت التقريبي له جراء مرض ما.

وقد قالت منظمة العمل الدولية إن التقييم الأولي لتأثير كورونا على العالم، ستكون آثاره بعيدة المدى، وستدفع الملايين من الناس إلى البطالة والعمل الجزئي وفقر العاملين، وهو ما يتطلب اتخاذ تدابير حاسمة، منسقة وفورية. أشار تقرير صادر عن المنظمة  إلى أن الأزمة الاقتصادية وأزمة الوظائف التي أحدثها انتشار وباء كورونا يمكن أن تؤدي إلى زيادة أعداد العاطلين عن العمل في العالم بنحو 25 مليون شخص، وفقاً لتقييم جديد أجرته منظمة العمل الدولية.

واستناداً إلى السيناريوهات المختلفة لتأثير وباء كورونا على نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى ارتفاع البطالة العالمية بنسب تتراوح بين 5.3 مليون وهو سيناريو "متفائل" و24.7 مليون للسيناريو "المتشائم"، وذلك زيادة على عدد العاطلين عن العمل في عام 2019 وعددهم 188 مليوناً. وللمقارنة، أدت الأزمة المالية العالمية 2008-2009 إلى زيادة البطالة في العالم بمقدار 22 مليون شخص.

ومن المتوقع أن تشهد العمالة الناقصة (البطالة المقنعة) زيادة كبيرة، حيث تترجم العواقب الاقتصادية لتفشي الفيروس إلى تخفيضات في ساعات العمل وفي الأجور. إن العمل الحر في البلدان النامية، الذي يعمل في كثير من الأحيان على تخفيف الأثر السلبي التغييرات، قد لا ينجح هذه المرة في ذلك بسبب القيود المفروضة على حركة الأشخاص (مثل مقدمي الخدمات) وعلى السلع. كما أن تراجع التوظيف يعني أيضاً خسائر كبيرة في دخل العاملين، وتقدر الدراسة هذه الخسائر بين 860 مليار دولار أمريكي و3.4 تريليون دولار مع نهاية عام 2020. وسيترجم هذا إلى انخفاض في استهلاك السلع والخدمات، وهذا بدوره يؤثر على آفاق قطاع الأعمال وعلى الاقتصادات.
ومن المتوقع كذلك أن يزداد عدد العاملين الفقراء زيادة كبيرة أيضاً، لأن "الضغوط على الدخل بسبب تراجع النشاط الاقتصادي ستترك أثراً مدمراً على العمال الذين يعيشون على خط الفقر أو تحته". وتقدر منظمة العمل الدولية أن ما بين 8.8 مليون و35 مليون شخص إضافي من العاملين في العالم سيعيشون في فقر، مقارنة بالتقدير الأصلي لعام 2020 (وهو 14 مليوناً في جميع أنحاء العالم).


وقد كشفت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية "إسكوا"، أن هناك عواقب وخيمة لتفشي فيروس كورونا المستجد فى الدول العربية وأن هناك نحو 1.7 مليون وظيفة ستفقد خلال العام 2020. وقالت "إسكوا"، أن تقديرات الخسائر الاقتصادية في الدول العربية ستبلغ نحو 42 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات في هذه الدول مجتمعة. وأوضح الخبير نيرانجان سارانجي، الذي نشرت اللجنة مقابلة معه على صفحتها بتويتر، حيث قال: "هذا ليس استثنائيا لأن النمو العالمي قد تراجع للنصف عما كان متوقعا للعام 2020"، لافتا على أنه قد يتراجع أكثر نتيجة لانتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وفي الأسواق النامية. ويذكر أن روجر داو، الرئيس والمدير التنفيذي لجمعية السفر الأمريكية قال في تصريحات لشبكة "سي ان ان" إن فيروس كورونا كبد اقتصاد أمريكا خسائر بلغت 800 مليار دولار، مضيفًا أن صناعة السفر وحدها خسرت ما قيمته 355 مليار دولار.


على المستوى النفسي هناك حالة من الهلع والخوف لما ينتاب البشرية من فقدان للأرواح والأموال وفرص العمل وعدم الاستقرار وبالتأكيد الخوف من عدم العودة الى ما قبل كورونا" وخاصة لدى الدول التي اعتادت على مستويات من الترفيه واشباع الحاجات, قد يكون غير متاح بعد كورونا لسنوات قادمة. تطرأ عدوى الخوف تلقائيًا ودون وعي، مما يصعب السيطرة عليها حقا. وتفسر هذه الظاهرة لماذا يمكن أن نرى نوبات من الهلع الجماعي الذي قد يحدث في الحفلات الموسيقية أو الأحداث الرياضية أو التجمعات العامة الأخرىـ فبمجرد أن يثار الخوف في الجموع، ربما ظن أحدهم أنه سمع طلقات نارية، فلا تشعر المجموعة أن هناك وقتا أو فرصة للتحقق من مصدر الخوف. ويتحتم على الناس أن يعتمدوا على بعضهم البعض، تمامًا كما تفعل الظباء. وينتقل الخوف من شخص إلى آخر، مصيبا كل فرد في طريقه. ومن ثم يبدأ الجميع الركض للنجاة بحياتهم، وفي أحيان كثيرة، ينتهي هذه الذعر الجماعي بالمآسي. ولا تتطلب عدوى الخوف لدى البشر، التقارب أو الاتصال الجسدي المباشر مع الآخرين، فتستطيع أن تقوم وسائل الإعلام التي تنشر الصور والمعلومات المرعبة، بمهمة نشر الخوف بفعالية عالية..

علاوة على ذلك، وكما يقول الأستاذ "جيسيك ديبياك" من جامعة ميشيكان بأمريكا" ففي حين أن الظباء تتوقف عن الركض بمجرد أن تكون على مسافة آمنة من الحيوانات المفترسة، فإن الصور المخيفة التي تبثها وسائل الإعلام، يمكنها أن تبقي الإنسان خائفا، فالشعور بالخطر المباشر لا يهدأ، كما تزيد وتيرة عدوى خوف في ظل الظروف التي تعمل دائمًا على "فيسبوك" و"توتير"، ووسائل الإعلام التي تعمل على مدار الساعة يوميا, سواء بحق أم لترويج خطاب غير واقعي لزرع الرعب.

هذا جزء من حقائق السلوك الأنساني الطبيعية في الأزمات, ولكن أزمة كورونا بما أنها تهدد العضوية الأنسانية بالفناء وعدم البقاء وتجريدها من انجازاتها ومكتسباتها عبر السنين فأن الخوف مشروعا استنادا الى مصدر الخطر وحجمه, وخاصة في الدول التي عودت المواطن على اشباع مستمر لحاجات الأمن والصحة ةالدواء, ومن هنا فأن الدول الديمقراطية تأخرت في أخذ الوباء بالجدية اللازمة، وهذا يحسب عليها وليس لها. ولكن ترددها في فرض منع التجوال والتحكم بحياة المواطنين، واستخدام المناشدة في البداية بدلا من الأوامر وغيرها من المعوقات، هي من مزايا "نوعية الحياة" الأفضل في المجتمعات في غير ظروف الطوارئ. الأنظمة السياسية لا تقيم بموجب سلوكها في حالات الطوارئ، خلافا للبشر الذين غالبًا ما يظهر جوهرهم في حالات الطوارئ. علينا أن نميز بين طبيعة الأنظمة وطبيعة البشر. ولكنه، على كل حال، درس كبير لها أن تكون مستعدة لمثل هذه الحالات.

قد يقود كورونا الى العديد من حالات الوفاة النفسية والتي تحدث بسبب حدوث صدمة نفسية يعتقد الشخص أنه ليس هناك مهرب منها، ويعتقد أن الموت هو الحل الوحيد. وغالبا ما تحدث الوفاة في الثلاثة أسابيع الأولى التالية للمرحلة الأولى من الانسحاب من الحياة. "الوفاة نفسية المنشأ هي حقيقة وهي ليست انتحارا ولا ترتبط كذلك بالاكتئاب، ولكن بالرغبة في التخلي عن الحياة ثم الوفاة في خلال أيام، وهي حالة حقيقية تماما تحدث بسبب الصدمة النفسية الحادة".. هكذا يفسر الأمر الباحث جون ليتش الباحث بجامعة بورتسموث. ويضيف "ليتش" أن الدائرة الحزامية الأمامية في المخ هي المسئولة عن التحفيز والشروع في السلوكيات الموجهة نحو الهدف، وأن الصدمة الحادة يمكن أن تعطل الدائرة الحزامية الأمامية، فيتعطل التحفيز الذي هو ضروري للتعامل مع الحياة وأوقات الفشل فيها، وبديلا عن هذه المشاعر الإيجابية تصبح اللامبالاة والأستسلام هي السلوك المسيطر، ومن ثم ينسحب الإنسان من الحياة تماما. اليوم تزرع كورونا حالة من الرعب  "تتجسد ملامحها بعد كم الضحايا " بفقدان المعنى وعدم جدوى العيش, وخاصة بعد العجز شبه الكامل لكل جهود الخلاص من كورونا لحد الآن, وخاصة في دول ذات المرجعية في التقدم العلمي والطبي.
بالتأكيد بعد الخروج من وباء كورنا سيجد العالم نفسه مختلفا عن حقبة ما قبل كورونا وعلى مستويات مختلفة, ولعل ابرزها اعادة النظر بصياغة طابع العلاقة بين المواطن والدولة في ظل الأزمات المستعصية, واعادة النظر في العلاقات بين دول العالم المختلفة, وخاصة بين دول الأتحاد الأوربي, واعادة النظر بجدوى التسليح المنفلت والسلاح النووي" اذ كان فيروس كورونا يكفي عن هذا كله, ويستدعي ذلك اعادة النظر انسانيا في ضرورة تعزيز اللحمة الأنسانية بين الدول والمجتمعات المختلفة بعيدا عن طبيعة أنظمتها المختلفة, اعادة النظر جذريا بأنظمة الوقاية الصحية واعادة بناء النظم الصحية لحالات الطوارئ وليست فقط لحالات الرخاء في سياقات طبيعية كما اثبتته تجربة كورونا, الأستدراك الواعي بعدم جدوى القطبية العالمية والضرورة الملحة لتعدد الأقطاب على اساس المصالح المشتركة للشعوب وخاصة في زمن الكوارث وترك الشعوب تختار نظمها السياسية بعيدا عن التدخلات الخارجية, اعادة النظر في الكثير من المفاهيم الأقتصادية سواء على مستوى الأقتصاد الوطني او الأقتصاديات العالمية والنظر في مدى كفاءتها الداخلية اثناء الأزمات, التركيز على البعد الأنساني في مخرجات النظم الاقتصادية بعيدا عن السلوك الربحي السريع والتراكم غير النفعي للأموال وعدم استثمارها في الأزمات. التركيز على التكامل الأقتصادي العالمي بعيدا عن المنافسة المنفلتة, واعتقد ان اعادة النظر سيطال مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة في ضوء بقاء الأنسان كونه هو القيمة العليا.



 




 





77
فيروس كورونا بين تداعياته والمناعة النفسية

د.عامر صالح

اتسع نطاق تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) حول العالم، وبعد أن كانت بؤرة التفشي محصورة في إقليم هوبي بوسط الصين، باتت هناك عدة بؤر إصابة حول العالم، بينها كوريا الجنوبية، وشمالي إيطاليا، وإيران، وكما هي توقعات منظمة الصحة العالمية فأن الإصابات الجديدة غير مرتبطة ببؤرة الإصابة الأولى في مدينة ووهان الصينية بل انتقلت البؤر الى أوربا وأصبحت البلاد الأوربية تنوء تحت ثقل هجومات فيروس كورونا. استغرب البعض تصريحات المستشارة الألمانية انغيلا ميركل حول احتمال إصابة 70٪ من سكان ألمانيا بفيروس كوفيد 19 (الشهير بكورونا) إذا لم يتم إيجاد علاج أو مصل مضاد، واعتبر مسؤولون كبار، مثل اندري بابيس رئيس حكومة التشيك، جارة ألمانيا، أنها تقوم "بنشر الذعر" بتوصيفها لهذا "السيناريو المظلم", ثم ألحق بها تصريح رئيس وزراء بريطانيا بقوله" أستعدوا لفراق أحبائكم ", وكذلك تصريح ترامب " بأن مركز الوباء أصبح أوربا " ولكن ذلك لم يكن نزهة في عالم التصريحات والأثارة الفارغة, بل أن الوقائع الميدانية لأنتشار كورونا في اوربا وأمريكا وبقية أنحاء العالم لم تدع مجال للشك أن هناك تلمس لأفق مخاطر انتشار الفيروس, مقترنا بعدم المعرفة الدقيقة لحركة الفيروس وطبيعته لحد هذه اللحظات.


وقد انعكست آثار هذا الوباء على أحوال العالم الطبية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الرياضية فطال اغلاق مناسبات وانشطة عديدة, وكذلك إغلاق المدارس في 17 بلدا لأكثر من 400 مليون تلميذ، واقتربت بورصات العالم من أدنى مستوياتها منذ أزمة 2008 العالمية، وتضررت قطاعات السياحة والنقل ودخل الاقتصاد العالمي مرحلة انكماش، ولا يعرف أحد الدرك الذي سيصل إليه.  وقد فرض فيروس كورونا أيقاعه المؤلم على حياة الاوربين وفرض حالة من الترقب لم يسبق لها مثيل, وقد تركزت نصائح المسؤولين الأوربين والقيادات الصحية بالبقاء في البيت قدر الأمكان والابتعاد عن المناطق المزدحمة كالمطاعم والبارات والمسابح والقطارات وباصات النقل العام كلها فارغة تقريبا, كما ونشطت حركة غير طبيعية على التبضع وتخزين المواد الغذائية وكأنها حرب شاملة قادمة, وقد بدأت ملامح خسائر فادحة في كافة القطاعات. الى جانب ذلك بدأت ملامح الألتحاق القسري في التعليم عن بعد عبر الأنترنيت في مراحل التعليم الجامعي والثانوي تحسبا وخوفا من التجمعات الطلابية التي تشكل ارضا خصبة لأنتشار الفيروس.


وقد ضربت هذه الأزمة العالمية اقتصادات المنطقة العربية وجوارها، وكان الأكثر تعرّضا هو قطاعاتها السياحية وخصوصا في الأردن وتونس ولبنان والمغرب ومصر وتركيا بضربات كبيرة، الأمر الذي يدفع شركات طيران كبرى ومكاتب سياحية وفنادق ونقل سياحي نحو شفير إعلان الإفلاس وهو أمر سيتبعه تسريح للموظفين والعمال، كما تعرضت السياحات الدينية إلى ضربة كبيرة مع وقف العمرة إلى السعودية، وزيارة المراقد الشيعية المقدسة في العراق، وكذلك السياحة إلى القدس وكنيسة المهد ومراكز الزيارة المسيحية, الى جانب ان البدان العربية والأسلامية هذه بدأ فيها فيروس كورونا يشق طريقه المؤذي للفتك بالمئات من السكان. 


ونظرا لغموض الاسباب التي رافقت الظهور المفاجئ لهذا المرض وانتشاره السريع ، فقد تعددت النظريات التي حاولت ان تضع اي تفسير يشفي الغليل لظهوره  كمحاولة يائسة  للوصول الى حل مقنع للعلاج ,البعض مازال متمسكا بنظرية المؤامرة التي تعود الى حقبة الحرب الباردة  في تفسير الاحداث وتفكيكها افتراضيا ، وذلك بطرح فكرة  الحرب البيولوجية (المفترضة) التي تشنها الولايات المتحدة  ضد الصين على هامش الحرب التجارية المستعرة بينهما وضمن سياق نظرية المؤامرة الكلاسيكي وفي رمي التهمة على الجانب الصيني مستغلين بعض عادات الواقع الغذائي الشعبي للشعب الصيني مثل ماسمي بحساء الخفافيش ولاسيما بعد ان ثبتت التجارب المختبرية علاقة الفايروس بأمراض الخفافيش ، او بالمقابل ان السبب يعود الى "اهمال " الصين المتعمد  لبعض تجاربها البايلوجية وضمن نفس سياق التسلح الجرثومي بينها وبين الغرب  وفي ذات المدينة التي انطلق منه كورونا المتجدد فخرج الامر عن سيطرتها، وكل هذه الآراء تأتي  كمحاولة لضرب عصفورين بحجر واحد الاول الصاق التهمة بالجانب الصيني وتشويه سمعته والثاني تطويق الصين ومحاربتها اقتصاديا وكسر حدة تفوقها التجاري  ،  ولكن الامر تخطى الصين بكثير فظهر المرض في الكثير من البلدان البعيدة عن الصين وعن  بعض عادات الغذاء المقرفة  فيها ، كما ان ما يطرح من علاجات وامصال تتوصل اليها هذه الجهة او تلك لم تزل ايضا مجرد افتراضات  علمية وتسويق اعلامي قد يكون بعيدا عن الصحة فمازال الفايروس ينتشر على "راحته " في جميع انحاء العام.   


وسائل الاعلام؛ التقليدية منها  والحديثة المتمثلة بمواقع التواصل الاجتماعي، وعموم السوشيال ميديا، يلعب دوراً حاسماً في امتصاص الآثار السلبية لمرض من هذا النوع، ويبذل الجهود لتنمية المشاعر الايجابية في النفوس لمواجهة، ليس المرض فقط، بل والموت ايضاً، على أنه من الناحية التكوينية يعد من السنن الثابتة في الحياة، وليس مدعاة للضعف والانكسار، وقبل أن يكون هذا الفيروس عامل لتكريس المزيد من اليأس في النفوس على ما يعيشه الناس من مشكلات وأزمات، من الجدير الإرشاد الى سبل التعامل الذكي، بأخذ الاحتياطات اللازمة، والأهم منها؛ تقوية جهاز المناعة بالجسم بالمواد الغذائية الغنية بالفيتامينات والمعادن، والتعرض المستمر لشمس الصباح، وممارسة الرياضة لتنشيط الدورة الدموية، مما يجعل الجسم قويا أمام هذا الفيروس البسيط.


ولا بد هنا من الاشارة الى ثنائية الموت والحياة في سياقات طبيعية رغم عدم رغبتنا المطلقة بالموت السهل والسريع من فيروس كورونا, لأنه يمثل قطع مفاجئ وسريع للعضوية الأنسانية في عطائها, الحياة وتشمل الروح أو الحركة والطاقه، والموت أي السكون والتوقف وما بينهما من مراحل وأسرار تعبر عن مرحلة مؤقته أو جسر عبور بين التحول والآخر هذا إذا نظرنا إلى الأمر بشكل كلياتي شامل بدون التوه في تفاصيل وأشكال المراحل المختلفة وخصوصياتها. وكل مفردة تعبر عن الأخرى فالوجه الآخر للحياة هو الموت والعكس صحيح أيضا فالحياة والموت تشكلان ثنائية قطبية في جدلية الحركة والسكون.


وفيها لكل شيئ بداية ونهاية وبنفس الوقت تكون النهاية هي الوجه الآخر للبداية أي أن كل بداية تحمل نهاية وكل نهاية تحمل بداية ولكن بشكل مختلف لأن نهاية العناصر والأشياء تحمل بداية عناصر وأشياء جديدة مختلفة عن العنصر الأم سواء في البداية أو في النهاية وفي الحقيقة فالموت والحياة لاتعبران عن ماهية الطبيعة إنما يشكلان جزء” من سلسلة الطبيعة الكونية ومن الخطأ بمكان أن يتم اختزال التاريخ الكوني بوجود الحياة فقط لأن التاريخ الكوني مليئ بالعناصر المختلفة والمتنوعة عبر عصور بأكملها .
هنا يمكن جمع الحياة والموت تحت سقف واحد وهو التحول أي تحول العناصر الحياتية ذات خاصيات مشتركة إلى عناصر أخرى ذات حيوات مختلفة تماما كانشطار الخلية إلى تكوين خلية جديدة فيها نفس مكونات الحركة من ثنائيات متناقضة ومستمرة.


في تلك الجدلية بين الحياة والموت تؤثر الحالة النفسية للشخص على جهاز المناعة بشكلٍ كبير، إذ أن الشعور بالحزن والاكتئاب والنفسية السيئة المحبطة تُسبب إضعافه وقلة مقاومته للأمراض. تُؤثر الحالة الذهنية العامة على أدائه، فالشخص الذي يحمل أفكاراً محبطة حول مرضه يُساهم في إضعاف مناعته، والعكس صحيح. تُسبب الحالة النفسية الحزينة في الإصابة بأمراض المناعة الذاتية، إذ يعتقد فيها هذا الجهاز أن أجزاء الجسم المختلفة هي أعداء فيبدأ بمهاجمتها، وهذا يُسبب أمراضاً كثيرة، إذ أن الحزن الشديد يُسبب حدوث خلل في هرمونات الجسم، وهذا يؤدي إلى خلل في أداء جهاز المناعة. تُسبب الانفعالات النفسية الشديدة بكثرة انتشار الشوارد الحرة للخلايا، وقلة كفاءة جهاز المناعة في مواجهتها، مما يسبب الإصابة بالسرطان وغيره من الأمراض، بعكس الحالة النفسية المستقرة التي تُساعد في نشاط خلايا الجسم الدفاعية وزيادة كفاءتها. أثبتت الدراسات الحديثة أن الأشخاص المرضى الذين يملكون أفكاراً سلبية حول مرضهم تكون نسبة شفائهم قليلة، والعكس صحيح.


 وبالتأكيد أن هناك ثمة علاقة وطيدة بين الحالة النفسية وصحة الجسم، فإذا سيطر على الإنسان الجزع والخوف والتوتر الزائد جراء الإصابة بمرض ما فإن مناعة الجسم تضعف وقد تتفاقم الحالة الصحية، لذا فإن الطاقة الإيجابية والحالة النفسية للمريض تلعب دوراً فاعلاً في التصدي للمرض، وقد تسهم في التخلص منه أو تكون أحد أهم العلاجات الفعالة في التغلب على المرض لا سيما الأمراض المزمنة كالسكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب بأنواعها، والصداع النصفي وآلام الرأس والمعدة والعظام وكذلك أمراض السرطان، التي تتطلب من المريض التعايش والصبر وقوة الإرادة في مسيرة العلاج.

وأكد الكثير من  ألأطباء  وأخصائي علم النفس العلاجي أن الحالة النفسية لأصحاب الأمراض المزمنة أو المستعصية تمثل نحو 60% من العلاج لأن الجهاز العصبي يؤثر على الجهاز المناعي في الجسم، وكلما ارتفعت نسبة التوتر والقلق والانفعال تدهورت وظائف جهاز المناعة ما يضعف في مقاومة الأمراض وتحديداً الأمراض السرطانية التي تخترق الجسم، وتتيح له الفرصة لكي ينمو ويترعرع، بسبب تراجع نسبة الخلايا الليمفاوية المسؤولة عن توفير الحماية للجسم من الإصابة بهذه الأورام والأمراض بأنواعها المختلفة.

ويرى النفسانيون أن الحالة النفسية التي تصاحب إبلاغ المريض بمرضه خاصة الأمراض المزمنة يجب ألا تدفعه إلى القلق والتوتر بما سيحل به، بل عليه أن يحاول أن يمارس حياته الطبيعية والابتعاد عن هواجس تبعيات المرض، لأنها تؤثر على حالته النفسية من العلاج لأن الجهاز العصبي يؤثر على الجهاز المناعي في الجسم، وكلما ارتفعت نسبة التوتر والقلق والانفعال تدهورت وظائف جهاز المناعة، ما يضعف في مقاومة الأمراض.

ويشكل فيروس كورونا تحديا كبيرا وليست سهلا أمام العالم وقدرات الطب المعاصر للعثور على لقاح او علاج ضد هذا المرض الذي يهدد العالم كله كما يشكل هذا الوباء العالمي اختبارا لمستوى أداء المناعة النفسية للوحدة الانسانية في صراعها من أجل البقاء, حيث تكاتف الثقافة النفسية والطبية من أجل الخلاص من هذا الوباء الذي لم نجد له حتى الساعة ملامح الخلاص منه.



78
الثامن من آذار يوم المرأة العالمي ودلالته للمرأة العراقية
د.عامر صالح 
يأتي موضوع اليوم الدولي للمرأة (8 آذار / مارس 2020) رافعًا شعار " أنا جيل المساواة: إعمال حقوق المرأة " في إطار حملة هيئة الأمم المتحدة للمرأة الجديدة المتعددة الأجيال, وهو جيل المساواة, الذي يأتي بمناسبة  مرور 25 عامًا على اعتماد إعلان ومنهاج عمل بيجين، والذي اعُتمد في عام 1995 في المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بيجين، الصين، باعتباره خارطة الطريق الأكثر  تقدمًا لتمكين النساء والفتيات في كل مكان.                                                                                                                 

يعد عام 2020 عامًا محوريًا للنهوض بالمساواة بين الجنسين في جميع أنحاء العالم، حيث يقوم المجتمع العالمي بتقييم التقدم المحرز في مجال حقوق المرأة منذ اعتماد منهاج عمل بيجين. كما سيشهد العديد من اللحظات الحثيثة في حركة المساواة بين الجنسين: مرور خمس سنوات منذ إعلان أهداف التنمية المستدامة؛ الذكرى العشرين لقرار مجلس الأمن 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن والذكرى العاشرة لتأسيس هيئة الأمم المتحدة للمرأة.                                                                                                               
 
وهناك إجماع عالمي بأنه على الرغم من إحراز بعض التقدم، إلا أن التغيير الحقيقي كان بطيئًا بشكل مؤلم بالنسبة لغالبية النساء والفتيات في العالم. اليوم، لا يمكن لبلد واحدة أن تدعي أنها حققت المساواة بين الجنسين بالكامل. وتبقى العقبات متعددة دون تغيير في القانون، وأما على الجانب الثقافي، فلا تزال النساء والفتيات لا يلقين حق تقديرهن؛ فهن يعملن أكثر ويكسبن أقل وتتاح لهن أيضًا خيارات أقل؛ ويتعرضن لأشكال متعددة من العنف في المنزل وفي الأماكن العامة.علاوة على ذلك، هناك تهديد كبير بتراجع المكاسب التي تحققت بشق الأنفس.                                                                           

يهدف اليوم العالمي للمرأة ويركز على التعجيل بأهداف جدول عام 2030 وبخاصة التركيز على تحقيق المساواة بينها وبين الرجل وبالمثل ضمان تقديم التعليم الجيد لها. والاهداف الرئيسية لجدول اعمال 2030 هي على النحو الآتي: ضمان تعليم ابتدائي وثانوي جيد ومجاني ومنصف للإناث والذكور على حد سواء, للوصول الى نتائج تعليمية فعالة بحلول عام 2030. ضمان فرص حصول كل من البنين والبنات على فرص رعاية جيدة في مرحلة الطفولة المبكرة, وفرص من التعليم الجيد قبل الأبتدائي ليكونوا جاهزين لدخول مرحلة التعليم الأبتدائي بحلول عام 2030. القضاء على كافة اشكال التمييز ضد الأناث في كل مكان. القضاء على كافة اشكال العنف التي تمارس ضد المرأة والبنات بما في ذلك  الإتجار بالبشر والاستغلال الجنسي وكافة انواع الاستغلال الأخرى. القضاء على كافة المماراسات الضارة للإناث مثل الختان أو الزواج المبكر أو الزواج القسري( الأجباري أو بالأكراه ). تمكين المرأة أقتصاديا, أن التغيرات التي تحدث في بيئة العمل بسبب التطور الكبير في ظل التكنولوجية والرقمية وفي ظل وجود العولمة من جهة, ومن جهة اخرى عدم استقرار الدخل والسياسات المالية بالأضافة الى التأثيرات البيئة كل هذه  العوامل مجنمعة تترك آثارا لا يستهان بها على الأناث وعلى الفرص التي تحصل عليها في بيئة العمل, ولذلك فأن اليوم العالمي للمرأة ينادي بضرورة معالجة هذه القضايا في سياق التمكين الأقتصادي للمرأة.   

ويشكل هذا الإعلان قيمة أخلاقية وإنسانية في إعلانه صراحة على الصعيد العالمي بعدمية الفروق بين الجنسين في المساهمة في الحياة والحقوق العامة. ويشكل هذا الإعلان عودة إلى الفطرة الإنسانية والى مرحلة تاريخية ما قبل اللاتساوي بين الجنسين ونبذ الفروق الجسمية والعقلية والنفسية باعتبارها مصدرا بهيميا لعدم المساواة والتي يبنى عليها شتى مظاهر اضطهاد المرأة.

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية والإقليمية بتنوعها الديني والاثني والقومي, وعلى الرغم مما حققته من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وتدريسية وهندسية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها, فهي لازالت مشروع استلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية وتتعرض إلى مسلسل لا حصر له من الممنوعات من صغرها حتى شيخوختها, إلى جانب ما تتعرض له من مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, وكذلك العنف الرمزي غير المرئي الذي يتجسد عبر الثقافة والتربية والموقف المذل منها يوميا عبر معاملتها كجنس من الدرجة الثانية, وفصلها اجتماعيا عن الرجل سواء في البيت أو المدرسة أو الدائرة ومنعها من الاختلاط والتدخل في تفاصيلها اليومية, انطلاقا من مسلمات لا صحة لها " كناقصة عقل ودين ".

في العراق وحيث الهجمة الشرسة على المرأة العراقية منذ عقود سلفت والى ما بعد اسقاط النظام الدكتاتوري في 2003 حيث تتعرض المرأة العراقية الى مختلف صنوف الاضطهاد وتدني المكانة الاجتماعية والاقتصادية جراء هيمنة قيم الدكتاتورية السابقة وما تلاها من تسلط الأسلام السياسي على رقاب النساء وحصر المرأة في دائرة الأضطهاد والأذلال المشرعن. وقد افرز هذا جراء عقود مضت الكثير من الظواهر ولعل ابرزها ما يأتي:

ـ تراجع حقيقي للمرأة عن المشاركة في الحياة الوظيفية والخدمة العامة وفي النشاط الاقتصادي, وبالتالي تبعية فعلية للرجل في تأمين لقمة العيش والملبس والمأوى..

ـ تراجع فعلي في دور المرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية وفي التأثير الإيجابي على المجتمع وفي حياة الأندية الفكرية والرياضية والمحافل الثقافية. وتشير بعض الإحصائيات إلى تنامي الأمية في صفوف المجتمع في الريف والبادية إلى 75 % بين الرجال و98 % بين النساء في الوقت الحاضر.

ـ تراجع شديد في عدد الطالبات في المدارس والمعاهد والجامعات بما يعكس موقف الرجل من المرأة وحالة الإرهاب التي لا تقتصر على الاختطاف والابتزاز المالي والاغتصاب الجنسي فحسب, بل ومعرضة للموت أيضاً. وكل المعطيات المتوفرة تشير إلى ذلك بصراحة كاملة.

ـ انتشار البطالة بشكل واسع في صفوف الإناث ويشكل أضعاف حجم البطالة في صفوف الذكور, إضافة إلى التمييز الصارخ في الأجور. ويشار إلى أن نسبة البطالة في العراق تتجاوز ال 60 % من إجمالي عدد القادرين على العمل, ولكنها متباينة في نسبتها بين الرجال والنساء في غير صالح النساء.

ـ تنامي عدد الأرامل بسبب الحروب الماضية والحاضرة وبسبب الإرهاب الدموي الذي يقتل العشرات يومياً ويحيل الكثير من النساء إلى أرامل والأطفال إلى يتامى ويخل بالتوازن المطلوب في التناسب بين عدد الإناث وعدد الذكور في المجتمع. تنامي عدد النساء العازبات اللواتي تجاوز عمر كل منهن الثلاثين سنة واللواتي لا يحملن شهادات أو عجزن عن الحصول على فرصة عمل شريفة.


ـ تفاقم أزمة السكن التي تسحق يومياً وتحيل الكثير من العائلات الفقيرة والكادحة وخاصة النساء الأرامل والمطلقات مع أطفالهن إلى العيش في ظل ظروف قاسية ومريرة وحرمان مطلق, أو تتكدس أربع إلى خمس عائلات في دار واحدة تزدحم بالأطفال وانعدام الحياة الطبيعية الخالية من المشاكل.

ـ التأثير الصارخ لرجال الدين الرجعيين والمؤسسات الدينية المتخلفة, وليس لبعض علماء الدين الذين يتفاعلون مع العصر الحديث والتغيرات الطارئة على الحياة, وكذلك المشعوذين والسحرة واللاعبين بعقول كثرة من الذكور البسطاء والمسيطرين على عقول نسبة كبيرة من النساء وعلى تصرفاتهن وممارساتهن اليومية.

ـ تضليل المرأة في ضوء العلاقة مع رجال الدين والفتاوى في الغيبيات واعتبار أن ما يصيبها هو قدرها المكتوب عليها وليس في مقدورها رد المكروه عنها.

ـ ارتفاع نسبة الجريمة المرتكبة بحق النسوة من حيث الاختطاف والابتزاز والاغتصاب الجنسي والاعتداء بالضرب والاضطهاد والقمع غير المعهودين. وعلينا أن نؤكد بأن المرأة تعاني من انتشار البغاء النسوي لا لرغبة فيه بل لأسباب اقتصادية واجتماعية قاهرة. وعلينا هنا أن نذكر بأن نسبة السكان الذين يعيشون اليوم تحت خط الفقر المحدد دولياً تصل إلى 40 %, إضافة إلى أن هناك نسبة أخرى عالية تقف على خط الفقر أو ترتفع عنه قليلاً, في بلد يعتبر واحداً من أغنى دول العالم في امتلاكه للنفط الخام.

ورغم أن الدستور العراقي للعام 2005 ضمن لها نسبة من المشاركة" الكوتا " 25% في مجلس النواب وفي مجلس الوزراء ومجالس المحافظات, إلا أن الأسلام السياسي افرغ هذه الممارسة من محتواها الأيجابي وحول " الكوتا " الى كوتا سياسية طائفية واثنية لا تحمل اي اجندة صوب تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها, بل تحولت الكوتا الى مدافع أمين لتكريس اضطهاد المرأة والتصويت على الكثير من القرارات الجائرة والتي تعيد انتاج تخلف المرأة والتضييق عليها.

أن زخم مشاركة المرأة العراقية في احتجاجات اكتوبر والوقوف الى جانب الرجل وتصديها للكثير من القضايا المصيرية التي يمر بها العراق, واهمها البطالة والفساد وسوء استخدام السلطة وتدهور الخدمات هي نقطة تحول حضارية وانطلاقة مميزة تعيد للمرأة العراقية مكانتها التاريخية وليس غريبا ان تخرج نساء العراق للمطالبة بالأصلاح ومحاربة الفساد ومحاربة سراق المال العام. أن وجود المرأة في التظاهرات هو انعكاس لوعي المرأة المتبلور على خلفية الأزمة العامة في البلاد والتي بدون شك تطال كلا الجنسين. لقد اقتحمت النساء العراقيات ساحات الأحتجاج من شابات وطالبات ومثقفات ومعلمات وفنانات وأديبات واعلاميات وربات بيوت وارامل وحتى النازحات والمهجرات وقد ألتقين جميعا على قضية واحدة هي الأصلاح, وقد وصلت نسبة مساهمة العنصر النسوي بمختلف تنوعاته الى ما يقارب 40% من مجموع المتظاهرين قياسا بنسبة مشاركتها في تظاهرات 2015 والتي بلغت 15%.

 يجب أن يبدأ مشروع إقامة الدولة المدنية من نقطة إعادة النظر في مجمل الأسس الدستورية والقانونية والسياسية، والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية السياسية, والذي يضمن المساهمة العادلة لكلا الجنسين وبما ينسجم مع التوجهات الأممية في الأعتراف بحق الآخر في العيش الكريم.

كما تتطلب مهمات مشروع الدولة المدنية ترسيخ جهود الاندماج المجتمعي، وتعزيز الهوية الوطنية، من خلال تأكيد مبدأ التنوع داخل الوحدة، وإدارة التعددية السياسية والثقافية، من خلال التقريب بين قدرات النظام السياسي وقدرات الجماعات الأثنية والطائفية وتنظيمها. والتي تتطلب إيقاف موجات التعصب الطائفي والعنف المرافق له - والذي شل الدولة، وعطل حركتها - والتصدي لاحتمالات انهيارها، وتقسيم البلاد على أسس عرقية ومذهبية. فالدولة المدنية التي تبيح الحريات الأساسية، وتقيم نظام العدالة والمساواة والحريات هي أيضا الدولة القوية التي تقيم سلطتها وهيبتها في فرض النظام العام والأمن والقانون، وإنهاء حالة الانفلات الأمني والإرهاب، وتوفير الأرضية الملائمة لتحرر المجتمع من هيمنة وتدخلات الجماعات السياسية, وان هذا بالتأكيد يضمن أمنا نفسيا واقتصاديا واجتماعيا للمرأة كي تؤسس لأنطلاقة حضارية تستجيب لظروف العصر الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين..
تعد التنمية الاقتصادية، والتوزيع العادل للثروة، وإيجاد فرص العمل، ومأسسة تقديم الخدمات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال نظام للرفاه الاجتماعي، من المهمات الرائدة للدولة المدنية، التي تهدف إلى تحقيق نهضة حقيقية. الركيزة الأساسية لهذه الدولة هي تدعيم نوعية الحياة، وتعزيز حقوق المواطن في التنعم بحياة كريمة وتحقيق العدالة بين الجنسين..

على الدولة المدنية أن تتولى مهمة القضاء على الفساد بكل أنواعه، الذي أصبح إحدى العقبات الأساسية في عملية بناء الدولة العراقية، وإعادة ثقة المجتمع بها وبأجهزتها التي اهتزت خلال سنوات الأخيرة، عن طريق تفعيل بناء المؤسسات الرقابية، وأجهزة المحاسبة، وتعزيز الشفافية، وسلطة الصحافة، وتطبيق القانون بحزم. كما يتناقض جوهر فكرة الدولة المدنية القائم على الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص تماماً مع أساليب الابتزاز والرشاوي والصفقات المشبوهة، والتطفل على النشاط الاقتصادي، وأي مظهر من مظاهر الفساد المالي والإداري, وان الفساد بحد ذاته يفسد العدل ويعيق توزيع الثروات بانصاف بين الجنسين.

أن بناء دولة مدنية في العراق لا تقتصر على إنهاء الصراعات السياسية فحسب، بل إنها تعمل على إطلاق الطاقات الخلاقة لدى المواطنين, وان مدخل ذلك هو اعادة اصلاح منظومة الحكم وأسس بناء النظام من خلال التخلي عن نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, والذي لا تنسجم توجهاته مع لوائح حقوق الانسان في العيش الكريم الى جانب عدم انسجامه مع حق المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات والعيش الكريم. كل التحايا والتقدير لعيد المرأة العالمي والنصر حليف قوى الديمقراطية والسلم والتقدم الاجتماعي.

روابط المقال:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=665634&r=0
https://www.feedo.net/Society/SocialInfluences/ManAndSociety/InternationalWomanDay.htm?fbclid=IwAR0hToKNIFjcSm9r60WxFuBDBzxJH_wP5UINb73HApESd3GSPQYUPptuCPo
http://www.alnukhab.com/index.php?rsid=1053&fbclid=IwAR0FSWVNbJAA4GOMBnzMF1BHu9NBaCmWdWTUt_XxuvutXKre0PylMOYNCQE
https://www.un.org/ar/observances/womens-day?fbclid=IwAR3iuzEoMHazjTBwDzH6TveqpV77gJB8Tw9UjPUP4iwpfmLn8nO-recouIw
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=550455&r=0
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=91148&r=0



 
.


79
احتجاجات اكتوبر العراقية وسنة الصراع السايكوطبقي

د.عامر صالح 

ان الأحتجاجات الشعبية السلمية الشاملة لمختلف الفئات الاجتماعية والعمرية التي اندلعت في الاول من تشرين الأول العام 2019 والتي ستنهي شهرها الخامس قد شكلت نموذجا حيا وملموسا في تاريخ العراق الحديث، انها ثورة شعبية شبابية سلمية وبدون مشاركة الاحزاب السياسية" على الأقل في بدايتها الأولى". اندلعت الأحتجاجات بسبب الفشل الذريع لنظام المحاصصة السياسي والطائفي والقومي المقيت..

لقد قدمت الثورة تضحيات جسيمة لم يشهدها تاريخ العراق المعاصر حيث تجاوز عدد الشهداء ال 700 شهيد  شهيد واكثر من 24 ألف جريح، والمئات المعتقلين والمختطفين من قبل السلطة الحاكمة والمليشيات المسلحة التابعة للأحزاب السياسية المتنفذة في السلطة وغير التابعة للاحزاب والمدعومة من قبل قوي اقليمية.
أن الصراع في العراق، هو صراع طبقي ووطني في ان واحد، هو صراع بين قوى الثورة الشعبية الشبابية السلمية والمتمثلة بالعمال والفلاحين الفقراء والمتوسطين، و شرائح ثورية من الطلبة والطالبات والشباب والمرأة والكسبة من جهة، وبين قوي الثورة المضادة المتمسكة بالسلطة من ممثلي نطام ما بعد 2003، وقادة نظام المحاصصة المقيت واعوانهم من المرتزقة والمافيات ومجموعة اجرامية من قوي اقتصاد الدولة العميقة المافيوي اللاشرعي واللاقانوني والاجرامي والمتوحش وبدعم وإسناد من قبل الميليشيات المسلحة التابعة للأحزاب السياسية المتنفذ في السلطة وغير التابعةللاحزاب والمدعومة من قبل قوي اقليمية.

لقد أفرز النظام ومنظومته المعرقلة للوحدة بين الدولة والمجتمع وادارة الحكم بعض من الملامح النفسية والاعراض المرضية التي تشكل جوهر القطيعة بين النظام وبين الشعب, ولعل ابرزها هو:  وجود تناقض صارخ بين الثقافة التي يرتكز عليها النظام السياسي القائم وبين ثقافة المجتمع؛ وجود قطيعة نفسية وثقافية بين الشعب وتطلعاته، وبين النظام وسياساته ومشاريعه؛ تحول النظام السياسي إلى عائق للمجتمع عن الاستجابة للتحديات الحضارية الكبرى؛ شعور الأغلبية أن النظام فاقد لجميع مبررات وجوده، وأنه لا أمل في إصلاحه من الداخل؛ وجود إجماع وطني على فساد النظام السياسي؛ عدم وجود آلية لتغيير النظام من داخله وبقناعة سلمية بسبب شيوع ثقافة الاستحواذ على السلطة، أو تزوير إرادة الشعب كما جرى في انتخابات سابقة.


فإذا توفرت هذه المعطيات كلها ثم تحولت القطيعة النفسية بين النظام الحاكم وبين الشعب المتذمر إلى إرادة لـ"التغيير الحضاري" تبدأ الثورة تخرج من حيز " الوجود الكامن" إلى حيز " الوجود بالفعل"، بعد أن تستكمل أربعة شروط هي: وجود تحول ثقافي عميق في المجتمع ونظرته إلى السلطة والثروة، وما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم وبين المحكوم؛ وجود إرادة جماعية واحدة تنصهر فيها إرادة جميع الأفراد الطامحين إلى التغيير والإصلاح؛ وجود استعداد لتحويل تلك الإرادة الجماعية من حالة التصور النظري إلى حيز الواقع العملي؛ وجود نواة صلبة من نخبة المجتمع مستعدة للتضحية وقادرة على قيادة الجماهير وإذكاء حماسها. 

 الارقام والمعطيات الدولية تشهد عن ما يجري في العراق من احتجاجات ومظاهرات عارمة ضد الفساد الحكومي والدستور والتدخل الأقليمية والأحزاب الدينية الفاسدة والمليشيات، حيث أن عوائد مالية فلكية تجنيها تلك الأطراف منذ سنوات طويلة، على حساب شعب فقير ومؤسسات بدأت بالتصدع والانهيار، ناهيك عن إهدار المال العالم، في بلد يمتلك “ثاني أكبر احتياطيات نفط في العالم”، حيث تم تصنف البلاد في المركز الـ169 من أصل 180 على مؤشر الفساد حسب منظمة الشفافية الدولية، ووصف تقرير منظمة الشفافية  الدولية العراق و انتشار الفساد السياسي والاقتصادي والإداري داخل مؤسساته المتنوعة.                                                 


كما تؤكد تقارير المنظمة أن حجم المال المنهوب في فترة ما بعد 2003 ، بلغ 300 مليار دولار، وتضيف مصادر عراقية أن نحو 350 مليار دولار أُهدرت وسرقت خلال الأعوام 2003-2014 بمشاريع وهمية وفساد مالي وإداري في البلاد، فضلا عن وجود خمسة آلاف مشروع لم تنفذ بسبب سوء التخطيط، في وقت تمر فيه البلاد بأزمة ديون داخلية وخارجية، حيث انهك الفساد الاقتصاد العراقي رغم كل ما يملكه من ثروات مادية وبشرية.                                                                                         


واشار البنك الدولي الى تصنيف العراق كثاني أكثر دولة بالعالم تعاني من تفشي الفساد، فضلاً عن التصنيفات التي تعده واحداً من أكثر الدول سوءاً من ناحية الأعمال التجارية وضعف البيئة الاستثمارية، نظراً للإشكالات العديدة في البنية القانونية والتشريعية
وهشاشة الوضع الأمني والأخص الأشهر الماضية                                                                                                         


حجم الفساد المتزايد في العراق خلق أزمات معيشية واقتصادية متتابعة للمواطنين، وأربك اقتصاد بلادهم حتى أصبح بين الأسوأ  عالمياً، رغم أن البلاد تملك أكبر احتياطي نفطي بالعالم بعد المملكة العربية السعودية، كما يمثل احتياطي النفط العراقي نحو    10.7% من إجمالي الاحتياطي العالمي .                                                                                                     


العراقيون يعانون من البطالة المستفحلة، وضعف الخدمات العامة، والفقر المدقع، الذي معدلاته “الرسمية” بلغت في العام 2019 22.5%، في حين تشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن نسبة الفقر تصل إلى 41.2% في المناطق المحررة من تنظيم داعش الارهابي ، و30% بالمناطق الجنوبية، و23% في الوسط، و12.5% في إقليم كردستان، وأضاف البنك الدولي أن 50% من الأطفال فقراء في المحافظات الجنوبية بالعراق .                                                                                         

رغم حالة العنف المفرط التي واجهت بها قوات الأمن المحتجين، إلا أن مطالب الاحتجاجات توحي بتغير كبير في نمط الاحتجاجات العراقية التي بدت متجاوزة للمرجعيات الدينية والكتل السياسية، وهو ما يُمكن أن يُهدد القوى السياسية التقليدية التي تصاعد دورها منذ عام 2003، ويتهمها العراقيون بالتورط في الفساد, وهي غارقة فيه فعلا. وتفرض هذه الحالة الجديدة على الشارع السياسي العراقي سيناريوهات قد تتجاوز تغيير رأس الحكومة كما كان يحدث في السابق، إلى محاولة فرض واقع سياسي جديد في منظومة الحكم بأكملها بشرط استمرار حالة الزخم في الاحتجاجات، أو في أضعف التقديرات يُمكن أن تنجح الفئات المشكِّلة للاحتجاجات -خاصة الفئات الشبابية- في تكوين كتلة سياسية جديدة عابرة للمرجعيات
والأحزاب لتكون نواة لحركة معارضة جديدة. وبالتالي فأن ابرز المهمات الملقاة على عاتق الأحتجاجات يكمن في ما يلي:


ان تشكيل حزب أو كيان وحتى مجموعة احزاب عبر تحالفتها مع شرائح اليسار العراقي،اصبح ضرورة موضوعية ملحة تعكسه حالة الصراع الطبقي السائدة في المجتمع العراقي وهي بالضرورة تمثل مصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي وفق برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وطني واضح الاهداف والمعالم وعابر للطائفية، ومن الضروري ان يبدأ العمل به من الان، وعكس ذلك سوف لن يستطيع المتظاهرون السلمييون الابطال من تحقيق الاهداف المشروعة للشعب العراقي، الا عبر البرلمان وبالتالي سيشكلون الاكثرية في البرلمان الجديد، من خلال اشراف مباشر للامم المتحدة على الانتخابات البرلمانية، لان جميع المكونات الطائفية الثلاثة قد فقدت شرعيتها وشعبيتها، بوجودكم كقوة منظمة متراصة ستحققون امال وطموحات الفقراء والمساكين والمضطهدين من الشعب العراقي، وبعكس ذلك سوف يتم ابتلاعكم من قبل حيتان وديناصورات الفساد المالي والإداري من قبل قادة نظام المحاصصة السياسي والطائفي والقومي المقيت والفاشل بامتياز, وبالتالي فأن خيار احتواء الاحتجاجات وارد من قبل الطغمة الفاسدة وهو ما يجري الآن عبر وسائل الترغيب والترهيب.

أوكد على المحتجين السلميين الأبتعاد عن الشعارات الغامضة وغير الواقعية والتي تؤذي الحراك الاجتماعي السلمي وتفضي الى موته بطيئا امام سلطة البطش والمليشيات والاندساسات بين المتظاهرين. والمتظاهرين السلميين ليست مشاريع استشهادية مقابل لا شيء, ويفترض ان يفهم المحتجون السلميون ان الاستشهاد والتضحية دون مقابل او ألتماس أفق صوب التغير هو خسارة للوطن والشعب, وبالتالي أي عملية مجتمعية تضخم مدخلاتها دون مخرجات"انجازات" هي خسارة لا تعوض !!!.









80
المرأة العراقية وأحتجاجات أكتوبر

د.عامر صالح

في دعوى مليونية انطلقت يوم الخميس الماضي تظاهرات حاشدة في بغداد ومدن اخرى جنوب العراق دعت أليها ناشطات عراقيات ردا على الهجمات الإعلامية وحملات التشويه والأعتداءات التي طالت النساء المشاركات في الأحتجاجات المناهظة للحكومة. وتزامنت الدعوة للتظاهرة مع سلسلة تغريدات أطلقها رجل الدين مقتدى الصدر ومقربون منه تدعو لمنع الأختلاط بين الجنسين في ساحات التظاهر, وتتهم بعض النساء المتواجدات هناك بأرتكاب أعمال "منحرفة". كما تزامنت مع سلسلة اعتداءات تعرضت لها فتيات شاركن في الأحتجاجات في الأسبوعيين الماضيين, من بينها حالة طعن بالسكين طالت فتاة كانت تتواجد في احدى الخيام بساحة التحرير.

ويقول بعض الناشطات إن "الهدف الرئيس من هذه التظاهرة هو الرد على الحملات التي تقوم جيوش إلكترونية تابعة لجهات معينة وتعمل على تشويه صورة وسمعة النساء العراقيات المشاركات في الاحتجاجات, وايضا لإدانة الاعتداءات التي تعرضن لها". واشارت اللجنة المنظمة لأنتفاضة تشرين الى أن " هذه المسيرة هي وفاء للعراق وللشهداء وفي طليعتهن: سارة طالب, وهدى خضير, وزهراء القره لوسي, وجنان الشحماني, اللواتي اغتالتهن عناصر مسلحة لنشاطهن في تظاهرات الأحتجاج التي يشهدها العراق منذ الأول من تشرين الأول الماضي ضد الطبقة السياسية الحاكمة".

وبعيدا عن التهم الجزاف التي تستهدف كرامة المرأة العراقية والتي تلجأ أليها قيادات وبعض من قواعد التنظيمات الأسلاموية المتخلفة, والتي ترى في المرأة عورة وناقصة عقل ودين, فأن الهدف الرئيسي لهولاء يكمن في تشويه صورة الأحتجاجات ضد الفساد وحصر ذلك في دائرة الأخلاق الضيقة  التي ليست لها صلة بأهداف التظاهرات المشروعة والتي اندلعت على خلفية أزمة الحكم العامة والمستعصية منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن. فالتظاهر والتظاهرات هو حق دستوري يكفله الدستور العراقي, وكذلك هو من حقوق الانسان الرئيسية التي أقرتها الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الأنسان ومعترف بها دوليا, أي ان لكل انسان سواء كان ذكرا أم أنثى حق في حرية التعبير والتجمع والذي يتضمن مجموعة من الأساليب السلمية التي اكدت عليها العديد من لوائح حقوق الانسان والدساتير التي تنسب حق التظاهر الى حرية التجمع أو حرية التنظيم وحرية الكلام.

لقد تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة, ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة, وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة, وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية, وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات, وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة, أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%, كما تجاوز عدد الارامل والمطلقات  المليونين أمراة, وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان, وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 40%, الى جانب زواج القاصرات دون 18 سنة, وبعضها لا يتجاوز 11, 12 سنة. 

أن زخم مشاركة المرأة العراقية في احتجاجات اكتوبر والوقوف الى جانب الرجل وتصديها للكثير من القضايا المصيرية التي يمر بها العراق, واهمها البطالة والفساد وسوء استخدام السلطة وتدهور الخدمات هي نقطة تحول حضارية وانطلاقة مميزة تعيد للمرأة العراقية مكانتها التاريخية وليس غريبا ان تخرج نساء العراق للمطالبة بالأصلاح ومحاربة الفساد ومحاربة سراق المال العام. أن وجود المرأة في التظاهرات هو انعكاس لوعي المرأة المتبلور على خلفية الأزمة العامة في البلاد والتي بدون شك تطال كلا الجنسين. لقد اقتحمت النساء العراقيات ساحات الأحتجاج من شابات وطالبات ومثقفات ومعلمات وفنانات وأديبات واعلاميات وربات بيوت وارامل وحتى النازحات والمهجرات وقد ألتقين جميعا على قضية واحدة هي الأصلاح, وقد وصلت نسبة مساهمة العنصر النسوي بمختلف تنوعاته الى ما يقارب 40% من مجموع المتظاهرين قياسا بنسبة مشاركتها في تظاهرات 2015 والتي بلغت 15%.

تعرضت المرأة في انتفاضة تشرين الى القتل بنيران القوى القمعية, والأصابات بالرصاص والغاز, والأختطاف من قبل مجهولين. كما تنوعت مشاركة النساء في الاحتجاجات بين تنظيم مطالب نسوية, وتبرعات مادية, واسعافات, وحملات تنظيف تطوعية, واعداد الطعام للمعتصمين ونساطات اخرى كثير, وقد برزت المرأة في الأنتفاضة في مواجهة مخاطر القمع السلطوي, وتعرض الكثير منهن للقتل والاختطاف والاصابات, كما برزت في كسر الاعراف التي تحد من مساهمتها المجتمعية, وأجادة انواع الفنون المختلفة من رسومات على الجدران وغيرها, وقد اثبتت الأمهات وجودهن في الصفوف الامامية الى جانب مختلف النساء المرابطات في الاعتصام وكذلك تركت الطالبات بصمتهن الواضحة في الاحتجاجات.

 لا يستغرب المتابع اليوم بأستهداف المحتجات بشرفهن والطعن بكرامتهن, فتلك هي ثقافة التطرف الديني السياسي والذي يمتد بجذوره الى العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, حيث الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لإضطهاد الفتاة ثم المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الإستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يختلط الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض, وهذا الموروث يجد فيه الأسلامويين مادة خصبة لقمع النساء وتكفيرهن وشيطتنتهن على طريق تصفيتهن جسديا.

أن عملية المساواة هي أولا وقبل كل شيء عملية ذهنية ـ عقلية/اجتماعية, تنشأ بفعل عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المستديمة للفرد اتجاه نفسه واتجاه الجنس الآخر, تلعب الأسرة فيها دورا مهما وعلاقات الوالدين بالطفل ذكرا أم أنثى, ومعاملة الإخوة الذكور للأخوات الإناث, والتربية المدرسية وما تبثه من فلسفة تربوية حيث تعرض الفرد لمختلف وجهات النظر الفكرية والعقلية اتجاه الجنس الآخر, فيتبلور لدى الفرد اتجاها محددا نحو نفسه ونحو الجنس الآخر, وكذلك العادات العامة والتقاليد, ثم المؤسسات الاجتماعية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية, والأحزاب والأيدلوجيات المختلفة ومدى نفوذها في الوسط الاجتماعي . 

أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين وما يترتب عليه من اقصاء للمرأة هو نزوع ثقافي أولا, يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة, والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية, ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة, وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه,لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها, ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.

اليوم قد يكون من السهل على التنظيمات السياسية الدينية المتطرفة في البحث عن مبررات لأقصاء المرأة من ميادين الاحتجاجات في ظل بيئات متخلفة تعيد انتاج عورة المرأة ودونيتها, ولكن في العراق وبعد تجربة اكثر من عقد ونصف من الزمن من تجربة الأسلام السياسي في الحكم ان هناك وعي بديل دخل البيوت العراقية, تتجسد ملامحه في التوق الى المساوة بين الجنسين في مناحي الحياة المختلفة, ويصتدم هذا مع اجندة الأسلام السياسي في اعادة انتاج الثقافة الذكورية لأغراض بقائه.

بالتأكيد ان حقبة ما قبل اكتوبر تختلف عن حقبة ما بعده, والتضحيات لها استحقاقاتها السياسية والاجتماعية, ولكي نحافظ على زخم الاحتجاجات والأنجاز فأن الأحتجاجات من كلا الجنسين مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى لتنظيم الصفوف وفرز قيادات ذات خبره سياسية ومعهود لها بنزاهتها لتشكل طرفا قويا في الحوار مع السلطة التي تجيد فن المراوغة في البقاء, انه عمل شاق بالتأكيد ولكن على المحتجين التنازل عن الرغبات الذاتية والتخلص من العناد المرضي والتسلح بالوعي اللازم الذي يمنح الفرص للأصلاح الجذري في مسارات العملية السياسية المختلفة.



 
 


81
في ذكرى انقلاب 8 شباط 1963 ودلالته لحاضر العراق
د.عامر صالح

تمر في  الثامن من شباط الجاري الذكرى السابعة والخمسين لتنفيذ المؤامرة التي جرت في 1963، ضد النظام الوطني في العراق الذي كان على رأسه الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم, نفذ المؤامرة حزب البعث، وكان المخطط لها شركات النفط العالمية، عن طريق الأستخبارات المركزية الأمريكية. هذه الحقائق عرفها الجميع، وفضحها بشكل أو باخر كثيرون، سواء وافقوا أو لم يوافقوا على ما حصل من مجازر ومظالم في تلك الفترة, الملك حسين، مثلا، قال: أن محطة، (أمريكية) خاصة في قبرص، كانت ترشد حزب البعث، وقطعان الحرس القومي، على عناوين و أماكن تواجد الشيوعيون، من أجل القضاء عليهم. كما فضح جرائم البعثيين هذه، وفي وقتها، الصحفي المعروف المرحوم محمد حسنين هيكل، (وحتى بعدعشرات السنين، ولحد فترات زمنية قريبة من الآن)، وبين إن الجرائم يندى لها الجبين، وقد إضطر جمال عبد الناصر، (الذي أيد – أبتداء- جريمة البعثيين)، أن يندد علنا بجرائمهم، وأن يخبرهم أن يخففوا من جرائمهم.

لم يكن انقلاب 8 شباط انقلابا عسكريا اراد تغيير وجوة واحلال اخرى مكانها والعمل على بناء البلد بطريقة جديدة وبمنظور مغاير لقادة ثورة تموز . انما فجرالانقلابيون في صبيحة ذلك اليوم بركانا من الحقد الاسود والقتل الهمجي والاغتصاب الجماعي والتعذيب الوحشي وفتحت ابواب الملاعب والمدارس ودوائر الدولة كسجون ومعتقلات لعشرات الالوف من العراقيين الشرفاء ومن مختلف القوميات والطوائف وبقاسم مشترك بينهم هو حبهم للعراق وعدم قبولهم لتبعية البلد المذلة للاخرين . وبدأت منذ ساعات الانقلاب الاولى قطعان الحرس القومي ومجرمي المافيات الحزبية وبعض ضباط الجيش المغامرين الانتهازيين تجسيد نظرية الانقلابيين الفعلية والعملية بما يسمى بمصطلح ( المقابر الجماعية ) سيئ الصيت الذي أسسوا لة منذ ذلك التاريخ. وبدأت عملية ابادة منظمة ومعد لها مسبقا وبأطار رسمي اعلن عنة في دار الاذاعة والتلفزيون وهو القرار المشؤوم رقم ( 13 ) الذي دعا الى ابادة كل الوطنيين  والعراقيين الشرفاء من قوى اليسار وغيره وبصورة صريحة ومباشرة لم يشهد العالم لة مثيل. اضافة لما افرزتة ايام حكمهم القصيرة من جرائم بحق الوطن ، منها ما تسبب في ضياع اراضي الوطن وتقليص خياراتة البحرية ، اضافة لهدر حقوقة النفطية بالغاء القانون رقم ( 80 ) ، ونشر ثقافة القتل والكراهية والارهاب ، والغى قانون رقم 188 لسنة 1959 الذي ينص على حقوق المراة ومساواتها بالرجل . لقد كان القطار الامريكي الذي جلبهم لسدة الحكم يخطوا بخطى مسرعة وخارج السكة التي يسير عليها فدمر وسحق وبطش كل من كان في طريقة فاهلك الحرث والنسل وجفت منابع الرافدين واحال ربيع العراق الى صحراء قاحلة.


أن الذكرى الفاجعة السابعة والخمسين لانقلاب 8 شباط الأسود تستحضر في ذاكرتنا كل أوجاع ومعاناة الوطن الجريح,من قتل وتعذيب وسبي وتهجير في الداخل والى الخارج,والذي جرى على الهوية الوطنية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية,مستهدفا كل نماذج النبل ورموز الخلق الرفيع لأبناء شعبنا وحركته الوطنية من سياسيين وتكنوقراط وكفاءات علمية وقيادات اجتماعية, أنها جريمة من الجرائم ضد الإنسانية,وليست جريمة ذات أبعاد قضائية فقط وفي حدود داخل البلد ومفاهيمه للجريمة, أن الجريمة الإنسانية "هي تلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ضد أفراد الذين من دولتهم أو من غير دولتهم,بشكل منهجي وضمن خطة نلاحظها,والتميز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد بالطرف الآخر,وذلك بمشاركة مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أنواع أخرى من الاختلاف".فقد أودت هذه الجريمة بعشرات الآلاف من مواطنينا الأبرياء وبآلاف العائلات في غياهب السجون متعرضين فيه لشتى صنوف القتل والإرهاب والتعذيب والدفن وهم أحياء,والذين لم تسلم رفاتهم إلى اليوم إلى ذويهم  وبدون قبور تزار.

لقد استهدفت هذه الجريمة كل قطاعات مجتمعنا بدون استثناء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال إيقاف عملية تقدمه الاقتصادي والاجتماعي وأرجعاه إلى الوراء, ولأن الشيوعيين العراقيين يستذكروها قبل غيرهم,لأنها ارتبطت برموزهم الوطنية وقيادتهم المخلصة للوطن أولا, إلا إن ما وقع من أثارها على شعبنا لاحقا وبفترات تاريخية جراء تسلط النظم الدكتاتورية المتعاقبة وما سببته من تشوهات في التركيبة الاجتماعية,وما ارتكبت من مجازر وحشية طالت كل الطوائف والأديان والقوميات والأعراق ضربت عمليات الاستقرار الاجتماعي في الصميم, وعلى الجميع تذكرها وأخذ الدروس والعبر منها,لأن ذلك يجنب "العراق الجديد " مخاطر الانزلاق في حصر مفهوم الجريمة وضحاياها في فئة دون غيرها, فالجريمة كسلوك يجب إدانته على نطاق واسع بغض النظر عن الجهة التي وقع عليها فعل الأجرام,وعدم السماح بحصره بأطر ضيقة ومحدودة واستخدامه لأغراض نفعية خاصة,فالضحية هو شعبنا بكل مكوناته, وما ارتكبته لاحقا الديكتاتورية والفاشية من جرائم ضد شعبنا هو شاهد على ذلك.

وبقدر ما كان " لنكسة " الثامن من شباط  من آثار سلبية وانعكاسات خطيرة, إلا إنها شكلت مصدرا أساسيا من مصادر إعادة تشكيل كيان الفرد العراقي أو الجماعات المختلفة المنضوية تحت النسيج الاجتماعي الواحد المتنوع,وفي كافة الأبعاد العقلية, والنفسية والوجدانية والسلوكية للأفراد والجماعات والأحزاب والثقافات الفرعية وعلى خلفية إزالة آثار الصدمة,فقد خلقت أولا لدى الحركة الوطنية دافعا قويا من رباطة الجأش المخضب بالأيمان " لإعادة البناء " تمثل في دافعية التعويض الهائلة في إعادة بناء الكيانات السياسية المعارضة للجبهة الفاشية,ولعل السرعة التي أعيد بها تنظيمات الحزب الشيوعي بعد الهجمة الشرسة عليه كانت من " معجزاته " والتي لا زالت راسخة في ذاكرة الأعداء قبل الأصدقاء, فقد نهض الحزب من جديد بعد إن تصور أعدائه أنها هذه نهايته لا محال.

أن جيلا من الأطفال والشباب ولد وترعرع في خضم أحداث صدمة شباط وما بعده, وقف متسائلا ومتأملا عن أسباب فقدان واستشهاد الأخوة والآباء والأمهات والأقارب, وقد كبر تفكيرهم على أعمارهم أضعافا باحثين عن الذنب الذي اقترفه أهلهم وذويهم لكي تحل بهم هكذا فاجعة...لأنهم لا يتوقعون جنسا ينتمي إلى الإنسانية أن يمارس هذه الممارسات في القتل والتشريد ودفن الأحياء,لقد خلقت حالة من الوعي المضاد لأسباب الكارثة في البحث عن بديل أنساني للخلاص من المحنة وهكذا انطلقت المنظمات الطلابية والشبابية والنسائية والعمالية من جديد, وبزمن قياسي, إلى منابر للأعداد والتثقيف والتنظيم, لقد خاب ظن النظام الفاشي, فقد اتضحت مشاعر روح القوة والعزيمة والإصرار على الكفاح على وجوه الناس ومشاعرهم, لقد خلقت نتائج هذه الأحداث فرصا مواتية لبناء المهارات الفردية والتنظيمية لمواجهة جسامة الحدث وإيجاد أفضل وسائل التكيف مع آثار " النكسة ".

لقد برز أعلام الحزب الشيوعي العراقي آنذاك بقدراته الهائلة الداخلية والخارجية لفضح النظام الفاشي عبر حملات التضامن مع شعبنا, وفرضت على النظام عزلة دولية خانقة, وقد رسخت مزيدا من ثقافة رفض القهر والظلم والذل,  لقد اسقط الشيوعيون العراقيون المفهوم النفسي للسلطة التي لا تقهر, وبهذا أزيحت مفاهيم الاستسلام كمنتوج للصدمة عبر إشاعة مفاهيم العزة والانتصار والإيمان بقضية الشعب العراقي العادلة في الديمقراطية والتقدم والحرية.
يشهد العراق اليوم وبعد مرور سبعة وخمسين عاما على انقلاب شباط زمن أسود في كل تفاصيل حياته اليومية( رغم ما توفرت له من فرصة لتشكيل هياكل ديمقراطية) من طائفية سياسية أغلقت الطريق بوجه مستقبله واستقراره ونهضته المرتقبه, وتفكك اجتماعي واقتصادي أطال الحياة بكل تفاصيلها الدقيقة, من تفكك للنسيج الأجتماعي وتشويه لتنوعه الديني والمذهبي والقومي وتشوه في الأخلاق العامة والوعي العام, ودمار شامل للبنية التحتية الأقتصادية وايقاف لعجلة التنمية الشاملة وما رافقها من فقر وجوع وبطالة وانعدام الخدمات العامة, وتفشي الفساد الأداري والمالي والعبث بالمال العام, واشاعة الجريمة بكل ابعادها, وأنتشار الأختطاف  والقتل اليومي المجاني والتصفيات الجسدية على خلفية الاختلاف في الهوية السياسية والطائفية أو الأختلاف في الرأي, وتهديد السيادة الوطنية والتراب العراقي, وكان في داعش العراقية المتلبسة بقيم ثقافة البعث الساقط أسوء دليل على الجريمة والتحلل الخلقي وأنتهاك الأعراض والسيادة العراقية. إن ما يحصل اليوم هو امتداد مرضي لثقافة الأمس في الإقصاء.

واليوم أذ يمر العراق بأسوء ظروف انسانية تعيد فيه الى الذاكره احداث شباط المأساوية في قطع الطريق على التقدم والسلم الأجتماعي والاستقلال الوطني والاستقرار المجتمعي, فأن كل القوى الخيرة وصاحبة المصلحة في عراق معافى عليها القيام بدورها المخلص والنزيه في اعادة بناء العملية السياسية على أسس واضحة بعيدا عن النظام الطائفي والاثني البغيض, الذي زرعه الأحتلال الأمريكي في العراق ما بعد 2003 وتداخل مع الأجندة المشوهة للأسلام السياسي, وكان اليوم سببا رئيسيا في الخراب والقتل والفساد وانتهاك السيادة الوطنية والذي أودى بمجتمع بكامله في دوامة الصراع والهلاك والانقراض المتواصل للدولة ومؤسساتها على طريق الأضمحلال الشامل. إن بقاء الحال على ما هو عليه سوف يجعل العراقيين كل ايامهم ثامن من شباط, حيث القتل اليومي بدون مناسبة تذكر, إلا لأنهم ينادون بوطن آمن بعيدا عن الصراعات الأقليمية والدولية وبناء دولة المواطنة.



82
في سيكولوجيا انتفاضة اكتوبر العراقية

د.عامر صالح

بدون شك أن ما يجري في العراق اليوم هو أنتفاضة سلمية تعكس اخلاق شعب يحب الحياة ويبتعد عن حمامات الدم وازهاق الارواح, يطالب بحقه في الحياة الحرة الكريمة المشرفة والتي تليق بتضحياته عبر عقود من النضال ضد الدكتاتورية الفاشية ولاحقا ضد الاسلامويين السياسيين الذين سرقوا تضحيات شعب بكامله وشوهوا معالم وعية, في محاولة منهم لحرف ارادته وفرض خطاب الانفعالات المرضي بديلا عن خطاب العقل من خلال دائرة مغلقة في اللف والدوران والطقوس العصابية المأطرة بسلوكيات الهوس الديني في محاولات كاذبة لإمتصاص نقمة شعب قرر ان لا يسكت عن مهضوميته التاريخية.
أن انتفاضة شعبنا اليوم تجسد في حراكها ما ينسجم مع ادبيات الثورة العالمية, حيث ان الثورة هنا تقوم على خلفية التناقض  الذي لا يحتمل الاستمرار بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة, والذي يفرز ظواهر الفقر المدقع, والتدهور للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية, والصحية, والتعليمية والخدمية والامنية بمختلف مظاهرها. ويكون الهدف المتوقع من الثورات والأنتفاضات هو إعادة بناء علاقات سليمة وعادلة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج, بما يفضي إلى إعادة توزيع الثروات بشكل منصف, وإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع, بما يوفر المزيد من فرص العمل عبر إعادة هيكلية الاقتصاد, واستحداث المزيد من المشاريع الإنتاجية والخدمية, ويشكل ذلك ضمانة لتحسين ظروف الحياة الإنسانية العامة والارتقاء بها.

ومن الناحية السيكولوجية فهناك عدة اسباب تدفع الناس للتظاهر, ولعل أبرزها هو: القيمة المتوقعة, أي ما يتوقع المتظاهرون الحصول عليه اذا نزلوا الى الشارع. والحرمان النسبي, أي شعورهم بأنهم يعاملون بطريقة أقل انصافا وعدلا من غيرهم. وكذلك الهوية الاجتماعية, أي انهم يتعاطفون مع افراد يشبهونهم او يشعرون بضرورة الدفاع عنهم. وسرعان ما تختلط المشاعر الناجمة عن الاسباب الثلاثة لتشعل شرارة الدافع, فتبدأ موجة الغضب مع تراجع شعور " الذنب " وتجلي فكرة أن لم يعد لدي ما أخسره بعدما خسرت كل شيء, أما بالنسبة للطبقة العاملة فهي أشد حماسا فهي لا تمتلك غير قوة عملها. كما أن طغيان السلبية على المشاعر الأولى المحركة للتظاهر لا يعني انها تسيطر بالضرورة على مشاعر المحتجين, فقد اثبتت العديد من الدراسات النفسية أن المحتجين بعدما يكسروا الحاجز النفسي الأول يولد لديهم شعور بالسعادة, سببها التواصل مع المحتجين الآخرين والعمل المشترك من اجل قضية واحدة والشعور بالأنتماء للمجتمع الأكبر, وقد جسدت احتجاجات اكتوبر العراقية المغزى السيكولوجي للمسار النفسي لطبيعة الفرد المحتج في السياق الاجتماعي.

لم تكن انتفاضة اكتوبر العراقية والتي امتد لهيبها الى محافظات العراق التسعة ذات التركيبة المذهبية الشيعية عملا عبثيا او نزهة استعراضية أريد به أراقة دماء الشباب, بل هي تراكم كمي لمجمل أزمة نظام الحكم المحصصاتي الطائفي والأثني السيئ الذي لم يعمل شيئ ايجابي خلال اكثر من عقد ونصف من الزمن, بل انه نظام منتج للأزمات واعادة تدوريها انطلاقا من طبيعته المافوية والمؤسسة اصلا على الأستئثار بالسلطة وتقاسمها والمبني على اساس المحاصصة المذهبية السياسية والعرقية المتخلفة التي تشتغل على اضعاف وتفكيك الوطن والمواطنة والأكتفاء في التمترس في الأطر الجغروطائفية والاثنية في فهم مريض منها ان ذلك يكفي لنيل الحقوق والاستئثار بالثروات الوطنية والافساد فيها. أن انتفاضة الوسط والجنوب ثم تضامن ابناء العراق كله هو تجسيد حي وانعكاس لأزمة الحكم الخانقة والتي لم توفر الحد الأدنى الانساني من الحقوق المشروعة والتي عكستها الحاجة الى الماء والكهرباء والصحة والتعليم الصالح وغيرها من مسلمات العيش المعاصر.

أن تجربة أكثر من عقد ونصف من الزمن في الاخفاق المزمن للمطاليب العادلة للمنتفضين تعكس بشكل واضح انها ازمة نظام متآكل وليست أزمة تلبية خدمات عامة كان يفترض على النظام تلبيتها في السنوات الأولى من الحكم, أنها أزمة فساد نظام الحكم المتهرئ الذي لا يمتلك أي شرعية للبقاء, وأن شعارات اهلنا في المحافظات المنتفضة في الاستجابة الى المطالب الاساسية ما هي إلا مدخل للمطالبة بتغير النظام المحصصاتي, واهلنا هناك يعرفون تماما فلا كهرباء تأتي ولا ماء صافي سيشرب في ظل نظام معوق وكسيح لا يستطيع تقديم الحد الادنى من مسلمات الحاجات الانسانية, في ظل نظام فاسد لا يتورع عن سرقة لقمة العيش. 

أن ما تعرضه منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان يجسد جزء من مأساة الشعب العراقي خلال ما يقارب العقد والنصف عاما الماضية, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم" تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام ". مليونا أرملة" اعمارهن ما بين 15 و25 عاما". ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة" تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار ".بلغت نسبة البطالة 31%" الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى". 35% من العراقيين تحت خط الفقر" اقل من خمسة دولارات". 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة" بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط". 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية.  تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2014 بلغت ألف مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام. 

وقد قدم شعبنا في حراكه السلمي منذ بداية اكتوبر ما لا يمكن توقعه في حراك سلمي مشروع بعرف القيم الانسانية او كما يرد في دستور العراق الذي يكفل حق التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي, وقد بلغ شهداء الأحتجاجات اكثر من 750 شهيدا وما يقارب من 30 ألف جريح, من بينهم اكثر من 700 اعاقة منتهية, وكذلك اكثر من 2500 معتقل. وقد استندت السلطات الحاكمة الى اعتمادها القمع الدموي الى افتعال " نظرية المؤامرة " التي تستهدف العراق كما ترويه السلطة الحاكمة, وهي تعرف تماما ان سيادة العراق منتهكة من دول الأقليم وأمريكا, وقد مارست السلطة في سلوكها اسقاطا سيكولوجيا لاحدود له في تحميل المحتجين عيوب النظام وامراضه المزمنة, فتوغلت في القتل والتصفيات الجسدية وممارسة شتى صنوف العنف واساليبه اللأانسانية.

اليوم نحن في العراق أمام واقع استطاع فيه الاسلام السياسي ان ينخر العملية السياسية ويشيع الفساد الاداري والمالي في كل مستوياته ويسعى جاهدا لتعزيز الخراب في ما تم تخريبه ويتشبذ في البقاء, وقد استفاد من لحظات انفعالات شعببنا بعد سقوط الدكتاتورية لكي يستثمر انفعالات شعبنا في وجهة اضطرابية مرضية صوب التعبئة الانفعالية الحشدية من خلال تحويلها الى قطعان في كل المناسبات الانتخابية منها وغير الانتخابية.

اليوم يخوض شعبنا مخاض في ترتيب أولويات مطاليبه من ماء وكهرباء وخدمات وايجاد فرص عمل واعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية المدمرة وايجاد فرص للعيش الكريم, الى جانب مطالب ذات بعد استراتيجي كما يراها شعبنا المتظاهر هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا.

هذه المطالب تضع حراك اكتوبر امام مسؤوليات صعبه ولايمكن تحقيق المطالب دفعة واحدة في ظل تعنت السلطات الحاكمة, وخاصة ان النظام السياسي بهياكله العامة يتمتع بشرعية دولية بأعتباره " نظاما ديمقراطيا " والمشكلة هنا هي مع الحكومات المتعاقبة على دفة الحكم, ومع موازين القوى السياسية في اللحظة الراهنة, وبالتالي فأن فن اجادة الصراع هنا مطلوب للحفاظ على المكاسب من جهة, ولتوسيع قاعدة الرفض المجتمعي لنظام المحاصصة من جهة أخرى.








83
العراق ما قبل عام 2020 وملامح ما بعده 

د.عامر صالح
من مؤشرات التخلف ان العديد من حكومات البلدان لا تحترم الزمن واستحقاقاته في عمليات التغير الايجابية الى الامام وما تفرضه من ضرورة التخطيط للحاضر ورسم ملامح المستقبل, مما تقع تلك المجتمعات أسيرة لاستحضار الماضي, او مايسمى نفسيا بالنكوص الى مرحلة تاريخية سابقة, حتى بات لديها استحضار الماضي سلوك يومي بسبب من قتامة الحاضر وغياب المستقبل, فلا استغرب مثلا ان ترد على صفحات التواصل الاجتماعي يوميا وبشكل مكثف صور واحاديث وتصريحات عن بلدان عربية وقادة قدامى من العشرينات او الخمسينات والستينيات من القرن الماضي وحتى قبل ألف عام, حيث ثقافة الأغراق" في نقل عن فلان أبن فلان " ليتم مقارنتها بكوارث الحاضر وأهواله, ومن حق من لايرى حاضرا ومستقبلا آمنا أن يكون ماضويا بأمتياز.

نستطيع القول هنا ان حقبة ما بعد سقوط الدكتاتورية في عام 2003 والى ما قبل نهاية عام 2019 هي حقبة ذات مواصفات سيكوسياسية راكدة من حيث مظهرها العام ولكنها ذات تفاعلات داخلية كامنة تجسد في ابعادها حراك شعبي متواصل اختلفت حدته ومظاهر التعبير عنه استنادا الى قواه المحركة والأجندة التي تكمن ورائه, وبالتالي والى ما قبل الأول من اكتوبر لم يكتسب الحراك الأجتماعي شعبيته الواسعة كما هو الحال ما بعد الاول من اكتوبر بسبب من تأثره ببعض الأجندة الحزبية الضيقة والتي يعكسها الصراع على الحصول على مكاسب سلطوية ضيقة ومصلحية, وبالتالي كان الحراك ما قبل الاول من اكتوبر متأثرا بأجندة الصراع السياسي داخل قبة البرلمان العراقي, ولكن بالتأكيد ان حراك اليوم استمد جذور نهضته واستمراريته من التفاعلات السابقة لمجمل الحراك الاجتماعي الذي وقع قبل هذا التاريخ, ولا يمكن لنا ان نرى حراك اليوم مقطوع الصلة بما سبقه, فذلك مجافي لسنة الصراع وتراكمه الكمي على طريق أغنائه نوعيا بعوامل البقاء والديمومة لتحقيق المطالب المشروعة لشعبنا. 

أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات خلال ستة عشر عاما وما رافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة ",حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن,وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.


أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال الستة عشر عاما المنصرمة,وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي ,إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي ,أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية ,وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت,وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية,بل لعلها أهم منجزات الحداثة,وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي,ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات ,وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية,وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.

وكانت احتجاجات الاول من اكتوبر 2019 والتي لا تزال مستمرة الى يومنا هذا هي بمثابة ردة الفعل الطبيعية لتراكم الاوضاع السيئة التي يعيشها المواطن العراقي خلال اكثر من عقد ونصف من الزمن والتي جسدها نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لم تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل أسست إلى " إفساد للتنمية ", وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع. أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه. 

أن منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان تعرض جزء من مأساة الشعب العراقي خلال عقد ونصف من الزمن, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم" تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام ". مليونا أرملة" اعمارهن ما بين 15 و25 عاما". ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة" تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار ".بلغت نسبة البطالة 31%" الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى". 35% من العراقيين تحت خط الفقر" اقل من خمسة دولارات". 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة" بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط". 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2014 بلغت ألف مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام. 

وقد جسدت احتجاجات اكتوبر العراقية عمق أزمة النظام السياسي الذي لا يقوى على الخروج من مستنقعه الطائفي والاثني المقيت, بل انه يقاوم الأحتجاجات عبر آلية القمع المتخلف والهستيري في الأبادة الجسدية للمحتجين, والتي تجسدت في قتل اكثر من 500 شهيدا واكثر من 20 ألف جريح, من بينهم 700 حالة أعاقة تامة, الى جانب الأغتيالات الفردية في القنص والكواتم والتغييب والاختطافات للعشرات من الناشطين المدنيين.

سيطل العام 2020 وفي رحمه انتفاضة اكتوبر للعام الماضي, وسيحمل العام الجديد المزيد من القوى الشعبية التي ترفد الانتفاضة بشباب أكثر عزما وأصرارا لأنتزاع حقوقهم من السلطة الأثنوطائفية, في قانون انتخاب عادل وقانون احزاب واضح ومفوضية انتخابات نزيهة, وسلطة انتقالية تمهد لأنتخابات مبكرة يحسم فيها الشعب خياره صوب بدائل الديمقراطية الحق, بعيدا عن التزوير وحرق صناديق الانتخابات. بالتأكيد لن يكون ذلك سهلا إلا عبر تنظيم صفوف الانتفاضة وأعلان قيادتها كي يطمئن شعبنا عليها وعلى التعامل معها بأعتبارها البديل الميداني المرتقب, وان الجماهير المحتجة في ساحات النضال وفي ساحة التحرير اولا معنية بتشخيص حلفائها الثابتين, من قوى اليسار والتيار المدني عموما, والأشارة الى اعدائها بوضوح من القوى الأقليمية والرجعيات العربية, فأن صمام الأمان في السير قدما نحو تحقيق الأهداف هو في القدرة الميدانية على تأمين الحلفاء الأستراتيجين وأبعاد الأعداء من راكبي موجة الأحتجاجات. كل عام والعراق بأفضل من سابقه والى المزيد من تحقيق مصالح شعبنا في الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.

84
طبيعة العشائر ودورها وأستغاثة رئيس الحكومة العراقية بها على ضوء انتفاضة اكتوبر

د.عامر صالح

أثارت خطوة عادل عبد المهدي قبل أيام والتي اقدم عليها بلقائه رؤساء بعض من عشائر الوسط وجنوب العراق مزيدا من السخط الأجتماعي, سواء على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي في الأنترنت, وكذلك ساحات الاحتجاجات الميدانية في المحافظات التي تشهدها, وقد رأى الكثير من المراقبين وكذلك قوى الاحتجاج أنها محاولات لأضعاف واحتواء المد الجماهيري المتعاظم للأنتفاضة الشعبية عبر اقحام بعض العشائر في المحافظات المنتفضة وممارسة سلوك شراء الذمم من قبل الحكومة وأخذ الوعود بعدم المساهمة أو الحد من مشاركة ابناء بعض العشائر في زخم الاحتجاجات او لعب دور المتفرج على ما يجري دون تحريك ساكن. وقد لقيت هذه السلوكيات  الحكومية و العشائرية أشد حالات الاستنكار والاستهجان والسخرية من جماهير الاحتجاجات ووصفتها بأشد العبارات والأهازيج اللاذعة كما وحذرت اشد التحذيرات من مغبة المساومة على دماء شهداء الاحتجاجات.

وأكد مكتب عبدالمهدي إن رئيس الوزراء أكد “أننا نعمل على إصلاح البلد بتلبية متطلبات التنمية الشاملة وليس بالاستجابة للمطالب المشروعة فقط”، وذلك خلال استقباله “جمعا كبيرا من شيوخ ووجهاء العشائر من المحافظات الوسطى والجنوبية، للتداول في الأوضاع التي تمر بها البلاد والأجراءات الأصلاحية والحلول المطروحة".  وأقر مكتب عبدالمهدي بأن شيوخ العشائر عرضوا “خلال اللقاء واقع المحافظات من النواحي الأمنية والخدمية والمعيشية والعديد من الآراء والمطالب والمقترحات المتعلقة بمحاربة الفساد وتشغيل المعامل المتوقفة وتوفير فرص العمل ودعم البطاقة التموينية والتعويضات، إلى جانب الدعوة إلى إجراء تعديلات دستورية وفرض سلطة القانون وهيبة الدولة للحفاظ على موارد الدولة والممتلكات العامة والخاصة والموانئ والمنافذ الحدودية".       

  ورد عبدالمهدي بأن “كل المطالب قابلة للتنفيذ بالتعاون في السراء والضراء وتحمل المسؤولية المشتركة من أجل مصلحة العراق”، مضيفا أن “العشائر كانت في الصف الأول في كل العهود ومدت ساحات القتال ضد داعش بالرجال الشجعان وهي حقا جيش المرجعية والشعب ووقفت مع قواتنا حتى تحقيق النصر".   ووفقا لمكتب عبدالمهدي، فإن اللقاء لم يتطرق إلى مطالب المتظاهرين الرئيسية، وفي مقدمتها إقالة الحكومة والكشف عن القناصين المتورطين في قتل المئات من المحتجين، فضلا عن مصير الآلاف من الجرحى الراقدين في المستشفيات بعد تعرضهم إلى الغازات السامة والرصاص الحي، بالإضافة إلى مصير مئات المغيبين من المتظاهرين والنشطاء والصحافيين الذين اختطفوا من ساحات الاحتجاج أو من منازلهم.                                                                                     
                                                                               
أن هذه اللغة الأستنجادية والأستجدائية التي تمارسها الحكومة تعكس حجم الأزمة في البلاد وهشاشة النظام السياسي الذي يلجأ الى محاولات فك طوق العزلة علية والذي اشتد بفعل الاحتجاجات التي اندلعت من بداية اكتوبر, والتي بلغ شهدائها اكثر من 350 شهيدا واكثر من 15 ألف جريح, فيهم اكثر من 700 حالة أعاقة, والذين اغفل ذكرهم جميعا رئيس الحكومة العراقية عند لقائه العشائر. ومن الغريب والمضحك ان يناقش معهم موضوعات شائكة اختصاصية لا صلة لها بقدرات وقابليات وتخصصات العشائر, كتطوير الأقتصاد الوطني, من صناعة وزراعة, ومحاربة الفساد, وتوفير الخدمات, وفرض سلطة القانون, فمن أين للعشائر تلك الامكانيات التخصصية لمناقشة قضايا تتعلق بمستقبل العراق وحياة ابنائه, إلا أنه بالتأكيد اتخذ من هذه الموضوعات رؤوس اقلام تمويهية لموضوع أشد خطورة هو محاولات انهاء الاحتجاجات واستخدام العشائر لأضعاف مدها. ولكن بالتأكيد لن تستطيع العشائر ذلك إلا في حدود تواجدها في المناطق غير الحضرية, لأن الاحتجاجات اصلا تجري في مراكز المدن الأساسية وخاصة في العاصمة بغداد. 

ماهي العشيرة وكيف نشأت, ولماذا هذا الدور للعشيرة في العراق وخاصة بعد سقوط النظام السابق عام 2003.  وقبل الدخول في تفصيلات الموضوع يجب التأكيد أن وجود العشائر والقبائل ودورها في المجتمع يعكس مرحلة تاريخية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وهي لصيقة مرحلة الإقطاع التاريخية وما قبلها و التي مرت وتمر بها المجتمعات الإنسانية المختلفة, بكل ما تحمله الأخيرة من بنية فكرية وأخلاقية وأدائية متخلفة قياسا بلاحقتها والتي نشأت على أنقاضها ألا وهي الرأسمالية. 

بعد نشوء وبداية نشوء الدولة الوطنية بدأت عملية تحول الأمن والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاجتماعية تنتقل من يد العشيرة باعتبارها الحافظ الفئوي والمناطقي والأسري لمصالح أبنائها, إلى الدولة باعتبارها المؤسسة الحاضنة للجميع والعابرة للعشيرة والقبيلة والطائفة والدين كما يفترض ذلك من سنة التطور التاريخي التي أفرزتها تجارب بناء الدول المدنية المتحضرة, والتي قامت على خلفية تحولات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والأيدلوجية, مما سهل نشأة الأسواق الوطنية والاقتصاد الوطني القومي ونشأة المدن الحضارية, والانتقال من المجتمعات الرعوية والزراعية والريفية المتخلفة إلى مجتمعات المدن الحضارية.

وعلى هذا الأساس وحسب درجة تطور المجتمعات وظروفه الخاصة بدأ الاضمحلال التدريجي لسلطة العشيرة والقبيلة باعتبارها مرحلة متخلفة من مراحل النمو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى خلفية مستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار بقيت العشيرة والقبيلة في علاقة عكسية مع الدولة, فكلما ضعفت الدولة اشتد ساعد العشائرية والقبلية, وبالعكس كلما قويت الدولة واشتد بنائها ضعف الدور ألتأثيري للعشائرية والقبلية. هذه العلاقة بمجملها تدفع العشيرة للتحالف مع الدولة عندما تكون قوية, وتشهر السيف ضد الدولة عندما تكون ضعيفة أو في طور البناء. ومن هنا تنشأ المشكلات بين المركز " الدولة " وبين " الأطراف " التي هي العشائر والقبائل وحلفائها.   

مع ضعف الدولة العراقية وتدهور هيبتها وعدم مقدرتها على بسط سلطة القانون بعد ان سقطت مؤسساتها في عمل قسري من خارج الحدود عام 2003 وتزامن ذلك الأنهيار ليست فقط مع سقوط النظام الدكتاتوري الحاكم أنذاك, ولكنه أسقط فيه مؤسسات الدولة العراقية التي امتدت الى عهود تأسيس المملكة العراقية وبدايتها منذ عام 1921, وقد اختلف آداء هذه المؤسسات اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا مع تعاقب الأنظمة السياسية المختلفة على الحكم في العراق وتباين فلسفاتها. أي ان الاحتلال الأمريكي للعراق لم يستهدف التغير النوعي لأداء مؤسسات الدولة العراقية, بل استهدف بنتائجه الميدانية تحطيم البنية التحتية المؤسساتية للمجتمع, والتي هي ثابتة نسبيا بأختلاف من حكم العراق.

وكان من جراء ذلك فقدان الأمن المجتمعي وتفكك الوحدة الجغروأثنية للعراق, فأنتعشت بسبب ذلك كل الاشكال المتخلفة للضبط الاجتماعي والسابقة للمدنية وفي محاولة منها أستغلال تأزم الاوضاع وخروجها عن السيطرة وانهيار مؤسسات الدولة ولتفرض نفسها بديلا عن الحياة المدنية ومؤسساتها المستقرة, وكان من تداعيات ذلك هو التشرذم الديني والمذهبي والاحتماء بالطائفة والمكون الاثني وتشديد قبضة العزلة والانكفاء الجغروطائفي والاثني وتعزيز دور الهويات الفرعية خارج اطار السياق الوطني الجامع, فأنطلق الارهاب الفردي والمنظم وشاعت التنظيمات المسلحة, من مليشيات وعصابات اجرامية مختلفة تتخذ من من المناطقية والتمترس الجغرو اثني والمذهبي واجهات لفرض نفوذها كبديل عن الدولة وسلطة القانون والقضاء.

في ظل تلك الاجواء اشتد ساعد كل اشكال الضبط والسيطرة البدائية السابقة لنشوء الدولة, والتي اختفت او ضعفت في عهود وحقب سابقة للأحتلال الامريكي, بفعل التغيرات الجذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية والساعية الى بناء نمط من الحياة المدنية بأختلاف طبيعة الأداء الفكري والسياسي لها. وفي ظل هذه الظروف كان حضور العشيرة وتصدرها مشهد الحياة اليومية ما بعد 2003 هو تحصيل حاصل لعملية التفكيك المنظم للبنى المؤسساتية للدولة والرجوع الى بنى اجتماعية سابقة تستند في قوامها الى الانتماء الجغرووراثي لأصول مجاميع من الافراد والعوائل ذات الروابط المحددة في الوراثة والنسل والقربى. 

وفي الوقت الذي كان حضور العشيرة تاريخيا حضورا مشروعا نسبيا باعتبارها تعبر عن مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي وتعبيرا عن الضعف الموضوعي لمفهوم الدولة والمواطنة, وكانت لها اسهاماتها الايجابية في مجريات الاحداث التاريخية التي مرت بها تلك التجمعات للحفاظ على كيانها وتماسكها الداخلي, ولكن ظهورها اليوم هو ظهورا نكوصيا تقهقريا يفرض نفسه بديلا عن دولة المواطنة ومتسلحة ضدها بشتى صنوف الاسلحة الثقيلة والخفيفة وسلوكيات التمرد والانحراف والانفصال عن الدولة, ومتجاوزة الدور التقليدي للعشيرة في الحفاظ على الاعراف والدفاع عن الشرف والكرامة والاستجابة للنخوة ونصرة الضعيف وتحولها الى مليشيات عشائرية تهدد الامن والاستقرار الاجتماعي.

وبفعل تعقيد العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والاثنية والتمترس الجغرو اثني وطائفي والذي يستهدف بطبيعته اضعاف الدولة ومكانتها فقد وجدت العشيرة ضالتها في الصراعات السياسية الطائفية والمذهبية الجغرومكوناتية, فاصبحت العشائر واجهات للأحزاب والمليشيات الطائفية والمذهبية, واستغلت ايضا كواجهات وظهير من قبل عناصر الجريمة الفردية والمنظمة لأرهاب المواطن واستغلاله. كما استغلت العشيرة من قبل الاحزاب الطائفية والاثنية لتشديد قبضة الصراع السياسي على السلطة والاستعانة بسطوتها لفرض اجندة مشوهة تقف بالضد من وحدة وسلامة البلاد وسلطة الدولة. وقد ساعد اندماج الصراع السياسي الطائفي والاثني مع بنية العشيرة على تعزيز شراسة طابع الفساد الاداري والمالي والاقتصادي والاجتماعي, حيث اصبح الفاسد مطلق العنان ومحميا سياسيا وطائفيا وعشائريا في ظل سلطة قانون هشة غير قادرة على لجم الصراعات وبنفس الوقت عاجزة عن الحديث عن رموز الفساد.     

في ظل تلك الاوضاع الشاذة ليست من المستغرب عندما يلجأ برلمانيا او قائد حزب سياسي الى عشيرته لحل نزاع شخصي او سياسي مع برلمانيا آخر وبوسائل عشائرية دون اللجوء الى القضاء, مستخدمين اسلوب المقاضاة العشائرية وفض النزاعات وفرض الغرامات المالية, وليست من المستغرب ايضا ان يقوم البرلمان بمحاولاته الحثيثة لأصدار قانون مجلس قبائل وعشائر العراق " والذي ألغي عام 1959 " في محاولات منه لأستحداث سلطة موازية لسلطة الدولة واشباع المجلس بصلاحيات واهداف ومهمات وارصدة مالية تفوق ما تقدمه اي عشيرة في العالم من دور محدد وليست فقط في العراق, ويتعارض هذا المجلس حتى مع روح الدستور بنصوصه المكتوبة, والتي يدعو فيها الى بناء دولة المؤسسات القانونية والتي حددها بالسلطة التشريعية ومجلس الاتحاد والسلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية والسلطة القضائية ولا وجود للدور العشائري ضمن مؤسسات الدولة, ولكن فساد الطبقة السياسية الحاكمة واجنداتها الطائفية وصراعها على السلطة والمال وعدم اكتراثها ببناء الدولة المدنية وثقافة المواطنة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي هو من يقف وراء ذلك لأبقاء المجتمع في دوامة التخلف وسيطرة القيم البالية التي عفى عليها الزمن.

ومن الناحية السايكولوجية فأن العقل العشائري والقبلي هو عقل وثوقي " أي يثق بما لديه من مواقف ثقة عمياء ويعتبر كل عيوبه مزايا مطلقة ", وهي احد أسباب صراعاته مع التحولات والتغيرات الايجابية التي تجري من حوله, و تزداد وثوقية هذا العقل وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصام هائل في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. فالعقل ألوثوقي والعشائري المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته, فالعقل القبلي والعشائري يرى مثلا أن النصر قريبا على الدولة التي يحيا فيها وأن النصر لا محال للعشيرة والقبيلة.   

لقد اسهمت كل هذه التحولات الخطيرة الى تشكيل ما يسمى " بالدولة العميقة " او ما يسمى شيوعا في بعض وجوهها " دولة بداخل دولة " تشكل قاعدتها كل سراق المال العام والعصابات المسلحة, ورموز الفساد الاداري والمالي والسياسي, وقيادات احزاب مختلفة وجماعات بيروقراطية طفيلية, وأعلام اصفر بل وحتى رموز من السلطات القضائية والدينية وقيادات من السلطات التنفيذية, ورؤساء عشائر, وجميعها تصارع الدولة وتنهش بقدراتها المالية والعسكرية والامنية والاقتصادية وتمنعها من النهوض, وفي احيان كثيرة هي من يتحكم في المشهد السياسي ويديره مثل ما تشهد عليه صراعات اليوم من اجل تشكيل الحكومة أو ما شهدت عليه الانتخابات وتشكيل الرئاسات الثلاث. 

وأذ تستعين وتستنجد اليوم الدولة والحكومة بالعشيرة وتطلب مساعدتها في استتاب " الأمن " أو الاستعانة بها للقضاء على الاحتجاجات الشعبية الجارية لتغير واصلاح النظام السياسي في البلاد والبحث عن حلول لأزمة البلاد, فأن ذلك يعكس حجم التآكل في الدولة والضعف والانهيار في الحكومة وعدم مقدرتها على الحوار الصريح والواضح والصادق مع المحتجين, وبسبب هذا الضعف المتواصل فهي تلجأ الى قنوات اتصال اخرى اكثر ضعفا منها للبحث عن حلول ترقيعية.

أن دراسة العشائر والقبائل كظاهرة سوسيولوجية ونفسية وما تفرزه من سلوكيات خطيرة " كأقحامها للنيل من الحركة الاحتجاجية او توظيف العشيرة لحماية مصالح سياسية ضيقة وليست الحفاظ على الشأن العام" لا يعني أبدا النيل من عشيرة دون غيرها أو إلحاق الأذى بسمعة عشيرة ما ورفع شأن أخرى, فكلنا ننتمي إلى عشائر كتحصيل حاصل, بل هو دراسة لظاهرة موضوعية تشكل مرحلة سابقة من مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولها إبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة, وأن أعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس من التطور والحداثة والتي تستند إلى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور في كل المجالات كفيل ببناء دولة المواطنة العصرية عابرة لجميع الولاءات الضيقة من عشائرية وطائفية ومذهبية وأثنية, وهذا ما تطمح أليه الحركة الاحتجاجية ويجسد مطلبها الرئيسي. 





                                                                                                           
                                                                                                                                       
 

85
سيكولوجيا أحتجاجات أكتوبر العراقية بين الأنفعال الثوري وغضب السلطة الجائر


د.عامر صالح

إن الحركة الاحتجاجية التي عمت الشارع العراقي منذ بداية اكتوبر لهذا العام هو نوع من المعارك التاريخية الفاصلة والحاسمة بين فريقين متناقضين, هما فريق السلطات الحاكمة التي فقدت شرعية وجودها على خلفية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخانقة والمتراكمة عبر اكثر من عقد ونصف من الزمن, ويمثل هذا الفريق منظومة الحكم والاحزاب الحاكمة منذ 2003 والقائمة على اساس المحاصصة الطائفية والاثنية السياسية والتي تعاملت مع الدولة العراقية كغنيمة يجري تقاسمها بين الاحزاب التي توالت على تسيير دفة الحكم, والفريق الثاني هو قوى الاحتجاجات الشعبية ذات المصلحة الأساسية في عملية التغير التقدمي, والمطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولكل فريق " جمهوره " الخاص والذي يتشكل في سياقات الغضب المتراكم في اتجاهين متنافرين: غضب السلطة وسدنتها وأعوانها, وغضب الثوار. ما هي طبيعة الغضب الجمعي لدى الفريقين, وما هي دلالاته, وكيف ينشأ لدى الفريقين, وما هي تداعياته, ذلك ما نطمح إلى تبيان اتجاهاته الرئيسية في هذه المحاولة المتواضعة.


أما الغضب الجمعي و" الثائر " أو الانفعال الثوري منه بشكل خاص فيتشكل من خلال حالة الوعي الجمعي بالمشكلات المشتركة بين أفراد المجتمع والمستعصية على الحل, كالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والتي تبدو بشكل واضح في انتشار الفقر والتفاوت المريع للدخول, وخاصة القائم منه على خلفية الفساد الإداري والمالي والسياسي, والمتمثل بالرشوة والمحسوبية والمحاباة والوساطة والابتزاز والتزوير وسرقة المال العام وغيرها, وخاصة عندما يكون الفساد اكبر حجما من المحاسبة ويصبح ثقافة شائعة تنهك أفراد المجتمع, ويدخل ضمن التركيبية السياسية للدولة, إلى جانب انعدام أو ضعف الخدمات العامة, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات اجتماعية مختلفة,وعدم تفعيل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وانعدام فرص العمل للمواطنين, يقابل ذلك في الطرف الآخر ثراء فاحشا وغير نزيه لشرائح اجتماعية وسياسية وقيادات في الدولة والأحزاب الحاكمة, الأمر الذي يترك انطباعا غير قابل للطعن بأن الدولة وقياداتها وأحزابها هي مصدر الظلم الاجتماعي ومسببه الرئيسي, وهي مصدر اهانة أفراد المجتمع وإذلالهم وتميزهم وتأليبهم على بعضهم سياسيا ومذهبيا وطائفيا واثنيا.


وتولد هذه السياسات بمجملها حالات من الكبت والقمع والحرمان المتواصل, وكلما زادت فترة الكبت للمشاعر المصاحبة فهي تشكل أرضا خصبة لغضبا جمعيا ثائرا محملا بشحنة الانفعال الثوري وهو محمود ومطلوب حيث الحاجة إليه لإثبات ذات الفرد والمجتمع ووجودهما, واخذ الحقوق ممن ظلموه وسلبوا إرادته في الحرية الحقيقية والعيش الكريم, فالغضب الجمعي الثائر أو الانفعال الثوري هنا هو حالة صحية وسوية للتعبير عن كبت المشاعر التي خنقت داخل الذات المجتمعية بفعل عوامل القمع والحرمان وانعدام الحريات والعدالة الاجتماعية, وهكذا جاءت انتفاضة الشعب العراقي ترجمة حية لطول كبت مشاعر الحرمان والفقر والفاقة التي تركها النظام المحاصصاتي البغيض, وهكذا جاءت الاحتجاجات المطلبية تعبيرا حيا وصادقا عن عمق أزمة الفساد السياسي والإداري والمالي الذي لا نلتمس فيه أفقا للحل, وهو نذير بمزيد من الاحتقانات والإعمال الاحتجاجية الناتجة عنه.


أما غضب السلطة الحاكمة وأجهزتها وأعوانها والذي أطلقت عليه بالغضب الجمعي " الجائر " فهو غضب الثورة المضادة, والتي تحاول بكل ما أتت به من بقايا القوة لعرقلة وتأخير اختمار الغضب الجمعي " الثائر ", وغضب السلطة الجمعي الجائر هو من نوع غضب " القطيع " نسبة إلى قطيع الأغنام الذي تتحرك جموعه بإشارة من الراعي الكبير ومن مرجعية سياسية ما او من زعيم أوحد, فهذه الجموع لا تتحرك على خلفية عوامل موضوعية مفهومة في الفكر والسياسة والممارسة, وإنما تتحرك على خلفية العداء لمطالب الجماهير المشروعة, يحركها خطاب قائد الضرورة السياسي أو الديني ذو المسحة الانفعالية الضارة بمصالح الناس, فسلوكها هو سلوك هستيري تجسده حالة الخوف من كل جديد, فهي لا تميز بين الصديق والعدو الحقيقي, ولا بين النافع والضار, ولا بين الخطر الحقيقي وما يشبهه, فسلوكها يخلو دوما من التميز, فهي تندفع تحت وطأة التعصب لإرضاء غريزة القطيع " الحيواني ", دون وعي وتنتشر في صفوف المجتمع كالنار في الهشيم لتخرب كل شيء دون حسبان لتصرفاتها وعواقبه, يحرك سلوكها " فوبيا " هستيرية, فهي لا تمتلك قدرة على التخطيط والحكمة في اللحظات الحرجة, وإنما يحرك سلوكها منطق القطيع الذي يتجمع على شكل حظائر بانتظار إشارة من " القائد" أو " الراعي " أو " المرشد الديني " أو " المفتي ". أن الغضب الجمعي الجائر مجردا من كل الصفات الإنسانية فهو يتحرك فقط على خلفية حاسة الشم القوية التي يمتلكها " القطيع " ويندفع حيثما توجه له الإشارة من فوق, وهذا ما يتعارض مع خصوصية الإنسان وعقله المتفرد, فالإنسان يتميز بالعقل الذي يجعل منه كائنا بيولوجيا اجتماعيا, فردا منتميا للمجتمع أو الجماعة البشرية, يطورها وتطوره, يقدرها وتقدره, يسمعها وتسمعه, يتفق معها ويختلف, ويبقى القضاء والحكم العادل هو الفيصل.


وعلى خلفية ذلك اندفعت الأجهزة المخابراتية والأمنية والميليشياوية وأعوان النظام من خلال الإذعان الأعمى لمشيئة القائد السياسي أو الزعيم الديني أو اي مرجعية سياسية أخرى مرتكبة أبشع جرائم القتل والتصفيات بحق الجماهير الثائرة, حتى بلغ عدد الشهداء اكثر من 350 شهيد وعدد الجرحى تجاوز 12 ألف جريح, مع العلم ان الاحتجاجات كانت بمسحتها العامة سلمية, سواء بتقديرات المنظمات الدولية والانسانية بل وحتى بتقديرات الحكومة العراقية.


البعد الأكثر عمقا في منطق الأحتجاجات العراقية انها ليست سياسية بامتياز بل تخضع لقوانين علم الاجتماع النفسي أي انه سيكولوجي سوسيولوجي يتمظهر أساسا في حالة العنف الجماعي وتكوين سريع لذكاء انفعالي جمعي يكون المحرك الأساسي فيه الازدحام والتحرك الجماعي مما يقلص من حسابات الذكاء الذهني الفردي الذي يدفع صاحبه الى الحيطة وعدم المغامرة وخاصة النفعية. فمن لم ينخرط في الذكاء الانفعالي الجمعي بالمشاركة الحقيقة وليس الشكلية فانه يبقى خارج اطار الحالة الأنفعالية الثورية, وبالتالي ما يجري هو حراك حيوي يعيشه النسيج الاجتماعي من اجل المطالبة بتحسين الاوضاع الانسانية العامة ومنها الاقتصادية بشكل خاص, وبحكم ضعف اصغاء السلطة وعدم أذعانها للمطالب المشروعة خلال عقد ونصف من الزمن فأن سقف المطالب لدى المحتجين ارتفع الى المطالبة بأسقاط المسببات الرئيسية للأزمات الدورية في البلاد والمتمثلة بنظام المحاصصة السياسية والمطالبة بأعادة النظر بكامل بنيته الدستورية والمؤسساتية. 


لازال الحراك الاجتماعي العراقي محصورا في منطقة الانفعال الثوري الشديد ولم ينتقل الى مصافي الثورة الشاملة, بحكم عوامل موضوعية ارتبطت اصلا بغياب او ضعف القوى السياسية والمجتمعية التي تستطيع احتواء الانفعالات الثورية للجماهير وتحويلها الى فعل منظم يستطيع التمهيد لأخذ زمام المبادرة وطرح بديل لأزمة الحكم القائمة منذ عقد ونصف من الزمن. وفي ظل هذا الغياب إن اصبح مزمنا, فأن الأحتجاجات ستكون امام احتمالات التمديد والمراوغة من قبل السلطات والمراهنة على الزمن وتعب المحتجين, أو يتم ركوب موجتها من قبل قوى خارجية او داخلية لاعلاقة لها بمصلحة الشعب العراقي, أواحتمال قيام اجنحة عسكرية بفرض حالة الطوارئ في البلاد والتهيئة الى مرحلة انتقالية" رغم ان الأخير صعب في الحالة العراقية ولكنه غير مستبعد". يحتاج العراقيون الى المزيد من دعم المجتمع الدولي لشرح الأزمة البنيوية للنظام القائم, فالنظام لازال يتمتع بشرعية دولية, ولازال المجتمع الدولي ينظر للأحداث في العراق بأنها أزمة حكومية وممكن اصلاحها بتغير حكومي, وليست أزمة نظام سياسي ويجب اعادة النظر في بنيته الأساسية.


86
المنبر الحر / فائض الغضب العراقي
« في: 19:58 15/10/2019  »
فائض الغضب العراقي الناتج من شدة الأحباط وتداعياته في انتفاضة اكتوبر

د.عامر صالح 

تمر الكثير من الدول الديمقراطية المستقرة بحالات من الانحسار والمراوحة في المكان بسبب عدم الاستجابة السريعة لمطالب المواطنين, ولكن تتم الاستجابة تدريجيا او دفعة واحدة حسب طبيعة المطالب وحجمها ومقدرة الحكومة على تمثلها وامتصاصها لأغراض تنفيذها, وقد يكلف ذلك الأتيان بحكومة جديدة قادرة على استيعاب وتنفيذ المطالب, وقد ينعكس ذلك على اعادة تشكيل الخريطة السياسية للقوى السياسية في البلاد الذي تجسده ضرورة اعادة الانتخابات البرلمانية وما يصحبها من اعادة اصطفاف للقوى السياسية.
 
العراق هو من البلدان التي لا تنطبق عليه سنة الحياة الديمقراطية في استيعاب متغيرات الحياة اليومية والتي تفرز الكثير من المطالب التي تستدعي المزيد من اعادة اصطفاف القوى السياسية, ومع كل انتخابات او اصطفاف جديد  فهو ينتج نفس التحالفات السياسية التي انتجها كل مرة, والتي في جوهرها تدافع عن الفساد وتحميه ولا علاقة لها بالاستجابة لظروف الحياة المتغيره بدون انقطاع, وبالتالي نحن امام منظومة سياسية تشتغل خارج اطار الزمان والمكان الذي تعمل فيه, ومن هنا يأتي اغتراب المواطن عن النظام السياسي وانعدام ثقته به.

بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003 لم تكن القوى السياسية راغبة في المشروع الوطني العراقي, وقد بنيت العملية السياسية على اساس تراكمي, من اخطاء الاحتلال الامريكي, الى جانب أرث الدولة السابق القمعي, توظيف الورقة الطائفية والاثنية في بناء العملية السياسية, الى جانب تدني اداء النخب السياسية والتي لا تمتلك تجربة في بناء الديمقراطية, بل ان معظمها غير مؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة اصلا, الى جانب الفساد الاداري والمالي الناتج من طبيعة النظام, وقد زاد الامر تعقيدا هو الارهاب بمختلف اشكاله, وكانت داعش تلك الخلاصة لما جرى, وكذلك تدخل الدول الاقليمية وعبثها في القرار العراقي وارتهانه لمصالحها الضيقة. واذا كان هناك من انجاز يذكر" من بركات الاحتلال " هو التدوال السلمي للسلطة, ولكن حتى هذا تم تجاوزه والاستعاضة عنه بحرق صناديق الاقتراع وتزوير ارادة الناخب وفرض ارادة اخرى لا تنسجم مع مبدأ التداول السلمي للسلطة.
.
الحالة العراقية تمثل نموذجا للأحباط المزمن، فمع سقف عالي من التوقعات وبعد عهود الاستبداد والدكتاتورية والحروب والحصارات الداخلية والخارجية وجوع مطبق، تولدت لدى المواطن العادي امال عريضة بحياة رغيدة وبمرحلة سياسية يلتقط فيها انفاسه ويعوض ما فاته، وخاصة بعد انفتاحه على العالم الخارجي بكل ما فيه من مغريات وطموحات يدفع العراقي بنفسه للمقارنة مع الآخر خارج الحدود" وهو يمتلك كل الامكانيات المادية والاستعدادات النفسية ", ولكن عندما يجد نفسه محاطا بكم كبير من المشكلات وضغط يومي من الخطابات السياسية والاعلامية التي تشعره بالعجز والاحباط مضافا لها تدني قدرات جهاز الدولة وتراجع امني وضياع سلطة القانون وأستشراء الفساد وتنامي سلطة العشيرة، وانتشار المليشيات المسلحة وحملة السلاح الفردي والعصاباتي, فان حصاد ذلك سيكون خطيرا على الحالة النفسية للفرد تزيده احباطا وتفقده الثقة بالزعامات والاحزاب السياسية وخاصة الطائفية السياسية, التي استغلت المشاعر البدائية للمواطن واستخدمته لتجييش المشاعر السلبية وتوظيفها في خدمة الصراعات الطائفية وتشديد قبضة خطاب الكراهية للآنتقام والانتقام المتبادل بين مكونات المجتمع الواحد.                                                                                       

أن تأزم الاوضاع المستديم يستنهض مشاعر الغضب والقلق والخوف والتوتر والظلم والقهر والضياع والشعور بعدم الأمان، ببعضها البعض، وتختلط بكل ما هو سلبي في حياة الفرد، توصله بكل تأكيد، ورغماً عنه، إلى حالة ذهنية تسمح للإحباط واليأس أن يحتل أوسع مساحاتها، وتشعره بالعجز التام، وتبعده مسافات ومسافات عن تحقيق آماله، فتتقطع به سبل النجاة. حالة الإحباط هذه التي تواجه الإنسان وتقف حائلاً أمام تنفيذ رغباته وتقتل فيه روح الطموح، تنتزع منه، في الوقت نفسه، أسباب الخوف وتحرره من هيمنتها، وتحول الوجه السلبي للإحباط إلى وجه آخر إيجابي وفعال، ينفجر ليصنع غدا آخر حين يجد هذا الفرد نفسه وسط حشد كبير يشترك معه في مشاعره وأهدافه. عند ذاك يتحول الإحباط من قوة سلبية ساحقة ومدمرة للفرد، إلى قوة إيجابية جبارة تدفع نحو التغيير.

أن الجماهير حين تعاني من الفقر طويلا وتستشعر الظلم أو الطغيان أو إهدار الكرامة قد تسكت لبعض الوقت ولكنها عند نقطة تنفجر انفجارا قد يبدو مفاجئا ولكنه ليست كذلك, فتتحول إلى قوة مدمرة للسلطة, وقد يمتد أثره إلى ابعد من السلطة, فالغضب الجماهيري يكون مثل الطوفان لا يعرف احد إلى أين سيتوقف ومتى, فبركان الغضب الخالص يسعى نحو التدمير والتغير ولا يوجد ميزان حساس في هذه الظروف يوازي بين قدرة تدمير النظام الحاكم ومؤسساته القمعية المرفوضة وبين قدرة التميز لحدود التغير المطلوب, ويزداد حدة أكثر عندما تنعدم القيادة الميدانية للأحداث, أي أن الانفجار يحدث في بدايته كبراكين غضب دون ترتيب سابق ودن هدف محدد غير الانتقام ممن قهرها وأذلها وجوعها وخدعها.


أن الثورات والانتفاضات والاحتجاجات اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي المنظم سلفا كما كان يحصل في عقود خلت, حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية, تعقبها " ساعة الصفر ", فالأمر اليوم معكوس تماما, حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان انتفاضها واحتجاجها ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها, فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية, أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة " على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا".


إذا كانت الثورة الاجتماعية تعرف بأنها ذلك التغير الجذري, الذي يشمل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة, وتشكل تغييرا جذريا شاملا في المجتمع يؤدي إلى أحلال تشكيلة اجتماعية اقتصادية بأخرى أرفع مستوى وأكثر تقدما. وأنها تغيير جذري للنظام القديم, وإقامة نظام جديد ومؤسسات جديدة. أي إنها في الإطار العام قفزة للمجتمع من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما وتطورا ورقيا, فأن عوامل إحداثها اليوم يفوق حصرها في عوامل الفقر فقط, وان كان شرطا لازما لها, ولكن الثورة اليوم هي فعل مركب تتضافر فيه الكثير من العوامل في عالم متغير بدون انقطاع, فليست كل من جاع ثار على أوضاعه القائمة, وقد يكون هذا التعقيد في أسباب الثورات اليوم هو احد العوامل الأساسية التي جعلت الأحزاب السياسية تتأخر عن الحدث نسبيا, أما أهم ابرز عوامل الثورات فيمكن إيجازها فيما يأتي: الفقر وسوء توزيع الثروات وانعدام فرص العمل والتشغيل؛ انتشار الفساد المالي والإداري وتأصله في الكثير من المجتمعات وهو جلي في الحالة العراقية؛ الانخراط الواسع في منظومة الاتصالات العالمية الحديثة واستعمال الوسائط الرقمية بكفاءة عالية وخاصة المنتديات الاجتماعية مثل الفايسبوك والتويترر واليوتوب وتشكيل منظومة من الاتصال الجماعي والإعلام الشعبي الموازي والمهدد لأعلام السلطات القمعية؛ الانفجار السكاني الهائل وارتفاع نسبة المواليد والتي تصل في الدول العربية إلى أكثر من 3% " وخاصة في العراق " وهو نذير بمزيد من الفقر والمعاناة في ظروف عدم التوزيع العادل للثروات مما يخلق حالة من الوعي المتوقع بمخاطره كما تشكل فئة الشباب الكتلة الأكبر في التركيبة السكانية وذات المصلحة الأساسية في التغير؛ ازدياد الوعي والحماس اللازمين للتغير والذي يدفع صوب المزيد من الغليان الشعبي والغضب العام وتولد الاستعدادات الكبيرة للتخلص من النظم السائدة وإتباع كافة الوسائل بما فيها غير المعقولة والانفعالية والتي شوهدت في الكثير من التجارب؛ حالات اليأس الشديد من القيادات السياسية والدينية وتعويل الشباب على أنفسهم في قيادة التغير بعد المزيد من الإحباط والوعود الكاذبة في تحسين ظروف العيش والحياة الحرة, والحالة العراقية اليوم نذيره بمزيد من الانتفاضات الشعبية الناتجة من ضنك العيش وفقدان الثقة بالسياسين وخاصة بعد مرور ستة عشر عاما على التغير دون جدوى؛ توظيف الموروث الفكري والسياسي والثقافي المناهض للفقر والحرمان وانعدام الديمقراطيات, ويشكل فكر اليسار الديمقراطي والقوى الوطنية قوة جذب نحو التغير لا يمكن التقليل من شأنها وقد بدأت ملامحها تتضح في الحالة العراقية رغم الصعاب والتعقيد.

أن السياقات السيكولوجية التي يختمر فيها التغير الثوري تمر بمراحل تكاد تكون محكمة , وقد تتداخل فيما بينها استنادا إلى عوامل التعجيل" العامل الذاتي ومستوى التنظيم ", فهي مراحل تجسد علاقة القهر والاستبداد بين الحاكم المتسلط والإنسان المستضعف أو المقهور, وبالتالي فهي علاقات نفسية معقدة, وقد يبدو للبعض أن الأنتفاضة العراقية مثلا هي محض احداث متفرقة " كبطالة الخريجين وأزاحة العشوائيات وغيرها " وان كانت هي شرارة ", ولكن نحن نعرف أن النظم التعسفية والظالمة والمستبدة لا تسقط بزلة لسان أو بخطأ ثانوي تقوم به, بل أن سقوطها يمر عبر تراكمات نفسية ـ اجتماعية يترك أثره البالغ في انضاج الأنتفاضة الاجتماعية, ثم يأتي الحدث المفاجأة ليقرر ساعة صفرها القاتلة, أما ابرز المراحل النفسية والاجتماعية التي يمر بها الفرد المواطن بالمتسلط الحاكم والتي تعكس بمجملها جانبا من الوجود, فأشير إليها بتصرف والتي ذكرها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه " التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور " فهي ما يأتي:

ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلة, التي تدوم فترة طويلة نسبيا, يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع, عصر الانحطاط, وتكون قوى التسلط في أوج سطوتها, وحالة الرضوخ في أشد درجاتها. وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخال) عملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهير, فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله, ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منه. ومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديره, فيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات, وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ " مازوخي " من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته, وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمها: عقدة النقص, وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله, والتي تجعله يحجم عن كل جديد, ويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعه, لذلك فهو لا يحرك ساكنا, وإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيه, وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد, تعلقا يغري بالتسلط والدكتاتورية, إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته, ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمله, فيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخلي, ولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية, وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين. وأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومة, حيث أن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي, وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل, ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار, مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره, ويحس انه لا قدرة له على مجابهتها.

ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين , بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. انه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه, أن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا, وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر, متهما إياه " بشكل توهمي " أنه يحسده ويريد أن يؤذيه, وهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلا. إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور, لكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد, مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة.

ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقه, وهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكالية, وقد يكون العنف والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيم, ولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالات, فأما إعادة دورة العنف أو الانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدمية, وهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير.

ونحن إذ نقف إلى جانب انتفاضة اكتوبر العراقية, والتي تجاوزت الشعارات المطلبية الى التغير الشامل, فنحن بأمس الحاجة إلى دور مميز للفكر والسلوك الاستراتيجيين الذي يغيب كل الغياب عن ساحة الصراع والاحتجاجات, حيث لا تزال قراءتنا للأحداث قراءة انفعالية وذات صبغة إيديولوجية متحيزة, ولكنها صادقة لأنها صادرة من الأعماق في الرغبة للإصلاح الجذري, وتصل بعض الأحيان إلى نمط من القراءة الانتقامية, لأننا نحمل "عقدة الثورة " والتي قد تصل الأمور إلى أبواب موصدة, وهي قراءة نافخة في الجماهير, ولكنها لا تحمل البديل المطمئن, وهذا ما يعزز فسحة الفراغ السياسي والذي قد يؤدي إلى فقدان بوصلة التغير وانحرافها عن أهدافها المتوخاة, وأختزل بما اقصد به بقول نجيب محفوظ: " أن الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء".

ومن هنا يجب فهم انتفاضة اكتوبر العراقية في اطار السياق الذي نشأت فيه, والذي ينعكس اساسا في اكثر من عقد ونصف من فشل تجارب الاسلام السياسي واستحواذه على السلطة وحتى على صناديق الاقتراع, مغيبا ارادة شعب في اختيار الافضل, ومستخدما كل وسائل الترهيب والتزوير والكذب والخداع التي افسدت الديمقراطية في العراق قبل ولادتها. لقد تعرض شعبنا الى كبت طويل الامد مما سبب احباط مستحكم وقد تنتج عنه المزيد من دورات الغضب المشروع. 
.





 

87
أحتجاجات الكرامة في العراق وخطبة المرجعية الدينية

د.عامر صالح


حمل رجل الدين، علي السيستاني، يوم، الجمعة أمس، الحكومة العراقية والأجهزة الأمنية مسؤولية مقتل متظاهرين وعدم حمايتهم في الاحتجاجات الدامية التي شهدتها البلاد، الأسبوع الماضي، وأودت بحياة أكثر من مئة شخص وآلاف الجرحى ومئات المعتقلين. ويعتبر السيستاني  المرجعية الدينية العليا للشيعة في العراق، وقال ممثله عبد المهدي الكربلائي، خلال خطبة صلاة الجمعة في كربلاء، إن "الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولة عن الدماء الغزيرة التي أريقت في مظاهرات الأيام الماضية"، محددًا مهلة أسبوعين للسلطات كي تعلن نتائج تحقيقاتها. 

وأضاف الكربلائي أن ما حصل عبارة عن "مشاهد فظيعة تنم عن قسوة بالغة فاقت التصور وجاوزت كل الحدود"، معتبرا أن الحكومة مسؤولة "عندما تقوم عناصر مسلحة خارجة عن القانون، تحت أنظار قوى الأمن، باستهداف المتظاهرين وقنصهم، وتعتدي على وسائل إعلام معينة بهدف إرعاب العاملين فيها".

بعيدا عن الجدل المستديم والدائر على أشده بخصوص التعقيدات الناتجة من زج الدين والمرجعيات الدينية في السياسية في الوضع العراقي ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري في عام 2003 وما جلبه هذا التدخل من آثار سببت في خلق مزاج غير مواتي لبناء عملية سياسية بعيدة عن زج الدين في دهاليز السياسه, الى جانب اشتداد الطائفية السياسية والأحتقان الجغروطائفي, وأشتداد ساعد الاحزاب الاسلاموية, نرى ان خطبة الجمعة اليوم 11-10-2019 جسدت بوضوح كافي ادانة الحكومة العراقية واجهزتها الأمنية والعسكرية في ارتكابها إراقة الدماء بين شباب انتفاضة أكتوبر, كما طالبت الحكومة بالتحقيق العاجل ومعرفة كل التفاصيل ومن هو المسبب لذلك او ما اسمته المرجعية" بغزارة الدم ", كما اعطت المرجعية الشرعية الكاملة لأحتجاجات الشباب المطلبية بعيدا عن التهم الجاهزة الموجه لهم من قبيل العمالة و تنفيذ اجندات خارجية ورأت في مطالبهم كل الحق, كما أكدت المرجعية انها لم تقف ولا تدعم اي حزب بعينه من الأحزاب الحاكمة.

نعتقد ان هذا الخطاب وبفعل تأثر شرائح اجتماعية فيه اعطى قوة دفع اضافية للمحتجين في الأصرار على انتزاع حقوقهم والكشف عن مرتكبي جرائم القتل والقنص, وأكد عدم وقوف المرجعية الى جانب الحكومة, ومطالبتها بمحاسبة مرتكبي الجرائم, وهذا يعني لدى الشرائح المتأثرة بالمرجعية وخطبها الدوريه سقوط لشرعية افعال الحكومة واحزابها الحاكمة اتجاه المحتجين, وقد يجد موقف المرجعية انعكاساته في استمرارية زخم الأحتجاجات واتساعها في الذهنية المؤمنة بالمرجعية والمساهمة في احتجاجات اكتوبر العراقية. بالتأكيد ان خطاب المرجعية لا يخلو من محاولات امتصاص غضب الشارع الذي يلقي اللوم علبها في عدم وضوح موقفها من الحكومة وضبابيته في مناسبات كثيره وخاصة ان المرجعية لها اليد الطولى في تصميم النظام في بداياته الأولى.

نرى اليوم أن المرجعية وبعد كل الدماء التي سالت والتي سببها الصراعات الطائفية السياسية ونظام حكم بني على اساس المحاصصة الطائفية والاثنية المريضة والذي لا يستجيب لأبسط مستلزمات العيش الكريم, وساهمت المرجعية في ترسيخه ووضع لبناته الاولى بالاتفاق مع قوى الاحتلال الامريكي والاحزاب الاسلاموية الطائفية, ان المرجعية اليوم مسؤولة اخلاقيا ودينيا وشرعيا عن الدماء التي تراق. ومن هنا جاء خطاب المرجعية يوم الجمعة منتفضا على ما هو سائد وعبثي ومنتهكا لكل الحرمات الدينية والانسانية, وبغض النظر عن توقيته ودوافعه ومديات سقفه, إلا انه يشكل محاولة لردع السلطات الحكومية المتمادية والمستهترة بالدم العراقي.

ولعل ابرز ما ورد في خطاب المرجعية هو: ادانتها ورفضها للأعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون وكذلك عدد من القوات الامنية, وصفها للمتظاهرين بأنهم سلميون, حديثها عن سقوط آلاف بين جرحى شهداء في بغداد والناصرية والديوانية وغيرها,  تأكيدها بأطلاق النار على متظاهرين سلميين, اعتداء على قنوات فضائية ووسائل اعلامية لمنعها من نقل ما يقع من احداث في ساحات التظاهر, تحميلها الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولية الدماء الغزيرة التي أريقت في مظاهرات الأيام الماضية، سواء من المواطنين الأبرياء أو من الأجهزة الامنية, تأكيدها مسؤولية الحكومة عن قيام بعض عناصر الأمن باستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، ولو بسبب عدم انضباطهم وانصياعهم للأوامر, مطالبتها بقوة للحكومة والجهاز القضائي بإجراء تحقيق يتسم بالمصداقية حول كل ما وقع في ساحات التظاهر، ثم الكشف أمام الرأي العام عن العناصر التي أمرت أو باشرت بإطلاق النار على المتظاهرين أو غيرهم، وعدم التواني في ملاحقتهم واعتقالهم وتقديمهم إلى العدالة مهما كانت انتماءاتهم ومواقعهم, تأكيدها مجددا على وجوب المضي في المشروع الإصلاحي من مكافحة الفساد المالي والإداري وتحقيق درجة من العدالة الاجتماعية، والذي شرطه أن يتم فرض هيبة الدولة، وضبط الأمن وفق سياقاته القانونية، ومنع التعدي على الحريات العامة والخاصة التي كفلها الدستور, تأكيدها الانحياز للمظلومين والمحرومين من أبناء الشعب، بلا تفريق بين انتماءاتهم وطوائفهم وأعراقهم, تأكيدها عدم انحيازها إلا إلى الشعب، وعدم دفاعها إلا عن مصالحه، وعدم مداهنتها لأحد أو جهة فيما يمس المصالح العامة للشعب العراقي.

بالتأكيد لا اريد القول هنا انها بداية القطيعة بين الاحزاب الاسلامية الحاكمة والمرجعية الدينية في النجف, حيث تتداخل وتشابك المصالح بين عناصر وقيادات من الاحزاب الاسلامية وبين عناصر ورموز من العاملين في المرجعية, وهذا نوع من تشابك المصالح وتداخلها بين الاسلام السياسي وبحثه عن شرعية للبقاء عبر استمالة رموز من المرجعيات, ولكن اقول ان هول الاحداث وما يجري للعراق من خراب شامل وضع المرجعية امام اعلان حالة الطلاق مع الاحزاب الحاكمة" ولو جزئيا " وعلى مرأى ومسمع من الشعب, فهي تبرئة لازمة نفسيا, رغم انها ليست الحل, وانما الحل بيد الشعب وحده صاحب المرجعية الوحيدة في التغير الشامل ونقل العراق الى مصافي الدول المتحضرة, يحترم فيها الدين والسياسة ". وما دامت هناك تأثيرات للمرجعية الدينية في عقول الكثير فأن موقف المرجعية اليوم يضيف الى طاقات الشباب المنتفض طاقات مضاعفة نحو التغير الشامل لنظام الفساد والمحاصصة الطائفية والاثنية.





88


الخلفية السايكو اجتماعية والأقتصادية لأنتفاضة أكتوبر العراقية

د.عامر صالح

عمت اغلب محافظات الوسط والجنوب العراقية احتجاجات سلمية عارمة انطلقت بتاريخ 2019ـ10ـ01 مطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية العامة عبر التغير الجذري للنظام, استخدم فيها العنف المفرط وغير المبرر من قبل الأجهزة الأمنية, مما ادى الى عشرات من الشهداء وجرحى تجاوزت اعدادهم الألف جريح, ولازالت الأحتجاجات مستمرة حتى هذه اللحظات, ومما يميزها هذه المرة أنها خرجت عن الأطر الحزبية والتكتيكات السياسية للقوى المساهمة في العملية السياسية وتتمتع بزخم جماهيري ومؤازرة من الداخل والخارج. 

لم تكن الأنتفاضة عملا عبثيا او نزهة استعراضية أريد بها أراقة دماء الشباب, بل هي تراكم كمي لمجمل أزمة نطام الحكم المحصصاتي الطائفي والأثني السيئ الذي لم يعمل شيئ ايجابي خلال عقد ونصف من الزمن, بل انه نظام منتج للأزمات واعادة تدوريها انطلاقا من طبيعته المافوية والمؤسسة اصلا على الأستئثار بالسلطة وتقاسمها والمبني على اساس المحاصصة المذهبية السياسية والعرقية المتخلفة التي تشتغل على اضعاف وتفكيك الوطن والمواطنة والأكتفاء في التمترس في الأطر الجغروطائفية والاثنية في فهم مريض منها ان ذلك يكفي لنيل الحقوق والاستئثار بالثروات الوطنية والافساد فيها. أن هذه الأنتفاضة  هي تجسيد حي وانعكاس لأزمة الحكم الخانقة والتي لم توفر الحد الأدنى الانساني من الحقوق المشروعة والتي عكستها الحاجة الى الماء والكهرباء والصحة والتعليم الصالح وعدم ايجاد فرص عمل لحملة الشهادات الجامعية والعليا وغيرها من مسلمات ومطالب العيش المعاصر والكريم.


أن تجربة عقد ونصف من الزمن في الاخفاق المزمن للمطاليب العادلة للمنتفضين تعكس بشكل واضح انها ازمة نظام متآكل وليست أزمة تلبية خدمات عامة كان يفترض على النظام تلبيتها في السنوات الأولى من الحكم, أنها أزمة فساد نظام الحكم المتهرئ الذي لا يمتلك أي شرعية للبقاء, وأن شعارات اهلنا في المحافظات التي اندلعت فيها والمطالبة بالحقوق الأساسية ما هي إلا مدخل للمطالبة بتغير النظام المحصصاتي, واهلنا هناك يعرفون تماما فلا كهرباء تأتي ولا ماء صافي سيشرب في ظل نظام معوق وكسيح لا يستطيع تقديم الحد الادنى من مسلمات الحاجات الانسانية, في ظل نظام فاسد لا يتورع عن سرقة لقمة العيش.

 أن نظام المحاصصة عرقل خلال عقد ونصف من الزمن جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية ", وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع, أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.

أن منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان تعرض جزء من مأساة الشعب العراقي خلال الأربعة عشر عاما الماضية, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم" تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام ". مليونا أرملة" اعمارهن ما بين 15 و25 عاما". ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة" تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار ".بلغت نسبة البطالة 31%" الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى". 35% من العراقيين تحت خط الفقر" اقل من خمسة دولارات". 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة" بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط". 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية.  تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2014 بلغت ألف مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.

أما على المستوى السايكولوجي فأن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه, باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن, وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها, متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية, ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة", حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن, وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط, وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالديمقراطية السياسية للتمترس في النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية, وعلى عدم تغييره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.

وتعكس انتفاضة اكتوبر العراقية الحالة المتقدمة والأيجابية للتعبير عن حالة الأغتراب بين النظام السياسي والشعب من حيث مطالبها العادلة واساليبها النضالية المتقدمة ودعواها الواضحة في تغيير الأوضاع القائمة عبر فهم الأسباب, والتي تكمن في أسس نظام المحاصصة الطائفية السياسية والأثنية المنتج لعدم الاستقرار والعاجز عن معالجة الأزمات, وأن الدعوى لتغير أسس النظام وبنيته المؤسساتية هي دعوى لتثبيت الديمقراطية بأطرها المعاصرة وفسح المجال للقوى المؤمنة حقا بالديمقراطية والتدوال السلمي للسلطة والخلاص النهائي من افرازات ما أتى به الاحتلال الامريكي بعد سقوط الديكتاتورية.


أن انتفاضة اكتوبر 2019 الحالية هي انتفاضة تغير النظام بعد كل هذه المعاناة وبعد كل هذا التراكم الكمي من الأزمات في ظل نظام عاجز عن الايفاء بمطالب العيش الكريم ولا يمكن للمرء ان يلدغ من جحر مرتين, ولكي تفضي الانتفاضة الى مرتجاها يجب الانتقال من القيادات المناطقية والتجمعات المتفرقة المتباعدة الى القيادة المدنية التنويرية حفاظا على الاىنتفاضة من المنعطفات الصعبة والتي قد تقوم بها السلطة المحصصاتية في شراء الذمم وترويض بعض القيادات غير المتمرسة لأختراق الانتفاضة واسكاتها, كما أن الاحزاب ذات الصبغة المدنية مطالبة اليوم بالتضامن والتكاتف الواضح مع المنتفضين, فتلك هي لحظات حرجة في حياة شعبنا ومختبر للمواقف بعيدا عن ضيق الأفق أو بانتظار صفقات سياسية سيئة لأحتواء الانتفاضة حفاظا على مصالح انانية ضيقة في طريقها الى الزوال السريع. المجد والخلود لشهداء الأنتفاضة الأبطال والنصر المؤزر لشعبنا المناضل في انتزاع حقوقه المشروعة في بناء حياة حرة كريمة نليق بأنسانيته عبر الخلاص الكامل من نظام المحاصصة وبناء دولة المواطنة الحرة الكريمة.




89
في احتجاجات خريجي الدراسات العليا في العراق وأزمة التعليم العالي


د. عامر صالح

حسب احصائيات وزارة التعليم العالي أن هناك ما يقارب 15000 خمسة عشر ألف من حملة الدكتوراه والماجستير عاطلين عن العمل لا توجد امكانية لأستيعابهم في وزارة التعليم العالي" حسب تصريحات الوزارة" وتؤكد ايضا ممكن استيعابهم من قبل وزارات اخرى او في القطاع الخاص وغيرها, تلك هي اللغة الرسميه لتسويف مطاليبهم وعدم الأكتراث بهم, وقد مهد اهمال مطالبهم المشروعه في الحصول على عمل, بعد أكثر من ثلاثة اشهر من الاحتجاجات, التجاوز عليهم واستخدام مختلف الأساليب القمعيه, من ضرب واستخدام الهراوات وخراطيم المياه الساخن, الى جانب الأعتداء على النساء الخريجات والتجاوز عليهن بأساليب غير مؤدبة وغير حضاريه ولا تليق بالمرأة.                                                                                                               

نقول هنا ان تخلف البنية التحتية الأقتصادية والتقنية والعلمية أضعف فرص امتصاص الطاقه العاملة وخاصة ذوي التحصيل العالي, وكان للمحاصصة الطائفية والأثنية والفساد الأداري والمالي ونهب المال العام الذي يضعف الأمل في أي نهضة شامله افقدت الأمل في حل مشكلة البطالة حل شامل في الأفق المنظور, الى جانب اشتراطات صندوق النقد الدولي بالحد من التعيينات, والى جانب التشوهات البنيويه وفوضى القطاع الخاص وعدم امتلاكه خطط واضحه لحاجته من الشهادات المختلفه الى جانب الفساد والمحسوبية والمنسوبية في.                                                                                                                                 

ومما يزيد الطين بله هو الأنتشار الواسع للجامعات الأهلية ذات الطابع الربحي البحت وانعدام تنسيقها مع الجامعات الحكومية والذي يدفع بدوره الى المزيد من الخريجين في مختلف التخصصات وبعيدا عن دراسة سوق العمل والحاجة الى التخصصات" رغم ان العراق لايزال في سبات أو ارض بكر وقد يحتاج الى الجميع لاحقا" ولكنه نذير الى المزيد من البطاله, الى جانب كون هذه الجامعات الأهليه في اغلبها تعود ملكيتها لزعماء احزاب طائفية وأثنية ويعج فيها الفساد اسوة بغيرها, ولاتتمتع مخرجاتها بكفاءة يعهد لها بالجودة والمنافسة.                                                                                                                 

نحن امام مهمة عصية على التنفيذ وهي استيعاب خريجي الكليات والدراسات العليا في اطار القوى العامله, في ظل نظام لا يمتلك بوادر نهضة.اقتصادية واجتماعية وعلمية وينهش فيه الفساد ويهدر فيه المال العام, وكذلك امام مشكلة اخرى, وهي كيف نربط الطموحات العلمية المشروعه في ضوء الحاجة الماسة لسوق العمل. أن عدم تلبية طموحات خريجي الدراسات العليا والجامعية في الحصول على عمل هو امتداد طبيعي لأوضاع مؤسسات التعليم العالي وأزمتها الخانقة, والتي تتجسد بأرز ملامحها الآتية:         

  ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.                                                         

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.                                                       

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها.                                                                                                                           

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.                                                                               

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.                                                                                                           

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.                                                                                                             

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.                                                                     

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.                                                                                                                                         

.

ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.                 

ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية.                                                                                     

ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.                                                                                                                     

بين أزمة التعليم العالي العامة في داخل مؤسساته وبين استعصاء ايجاد حلول لمخرجاته يعاد انتاج ابقاء الاوضاع كما هي دون جدوى أو مبادرة حكومية مسؤولة تفضي الى معالجة الأزمة البنيوية للتعليم العالي, أسوة بمختلف القطاعات الاجتماعية, ومن هنا سيعاد انتاج نفس الأزمات دون حلول تذكر, مالم ينهض المجتمع والدولة في اعادة بناء البنية التحتية المجتمعية في كل القطاعات, وسيصحبها الاستفادة الكاملة من كل الطاقات العلمية والمهنية.                                                                             

اما ما يعنينا من داخل التعليم العالي فأن الحرية في المجتمع الأكاديمي وتوسيع دائرة الصلاحيات للإدارات الجامعية وعدم اقحامها بالصراعات الأثنو طائفية السياسية, وفصلها وعزلها عن المؤسسات الدينية, سببا مهما في نمو الفاعلية ورفع مستوى الأداء، فالاستقلال النسبي ماديا وإداريا وفكريا وسياسيا سيدفعها إلى البحث عن التميز والشعور بالمسؤولية تجاه جودة المخرجات، لأن الجامعات في هذه الحالة ستعمل على طريقة تحقق فيها متطلبات التنمية لتدخل ضمن مجال تنافسي علمي تحكمه المستجدات العلمية والتقنية المعلوماتية وإبراز الأفكار المبدعة، فسترفع من هذه القيمة باستقطاب المفكرين وتبني الآراء التي تسهم في وصولها إلى مكانة أفضل نسبة إلى غيرها، وهذه الأهداف ستتجاوز ما نخشاه من سيطرة النزعة المناطقية والنفعية والطائفية والأثنية التي تسيطر على الإدارات وعلى السياسات العامة، ويأتي هذا كله مع ضرورة إيجاد نظام يحمي مكتسبات الجامعات من أي تدخل خارجي، والنتيجة تؤدي إلى خلق بيئة ملائمة لنمو المعرفة والإبداع, وبهذا ستكون مؤسسات التعليم العالي بيئة صالحة لجذب افضل الكوادر العلمية, وتقلص بدورها من هجرة الكادر وتسربه من الجامعات الى خارج العراق أو داخله.                                           

قد يبدو الحديث اعلاه مجرد طموحات مجردة لأعادة هيبة ومكانة التعليم العالي وبالتالي مكانة وهيبة الخريجين منه, وبدون شك انها مهمة صعبة في ظل نظام المحاصصة الطائفي والأثني الذي خرب مؤسسات الدولة والمجتمع  وعبث في استقرارها وتطورها وعرقل استجابتها لحاجة العصر والمجتمع, وبالتالي فأن المدخل الواسع للحديث عن الأصلاح هو حديث متصل عن اصلاح بنية النظام السياسي برمته واعادة بناء السياسة التعليمية والتربوية ومن ضمنها سياسة الحاجة الى الكادر الجامعي والعالي من مختلف التخصصات وفي اطار خطط محكمة لبناء المستقبل.                                     



90
اليوم العالمي للديمقراطية ودلالته لديمقراطية للعراق

د.عامر صالح 

تحت شعار " المشاركة " احتفل العالم يوم الأحد، باليوم العالمى للديمقراطية، حيث اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 62/7 خلال سبتمبر 2007، باعتبار يوم 15 سبتمبر يوما دوليا للديمقراطية، والذى يتيح فرصة لاستعراض حالة الديمقراطية فى العالم.  سلط الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى بنده الثالث من المادة 21 منه أن "إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكم، فيجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام، وعلى قدم المساواة بين الناخبين، وبالتصويت السرى أو إجراء مماثل من حيث ضمان حرية التصويت".   

والديمقراطية الحقة كما تؤكد الأمم المتحدة "هي سبيل من اتجاهين، مبنية على الحوار الدائم بين منظمات المجتمع المدني والطبقة السياسية. ولا بد أن يكون لهذا الحوار أثر حقيقي في القرارات السياسية. ولهذا السبب تعتبر كل من المشاركة السياسية والفضاء المدني والحوار الاجتماعي ركائز أساسية للحكم الرشيد. ويصح ذلك في حق أثر العولمة والتقدم التقني كذلك. ومع ذلك، فلم يزل الفضاء المدني يزداد تقلصا في كل أنحاء العالم بصورة تنذر بالخطر. كما أصبح عمل نشطاء المجتمع المدني أصعب بكثير. وغدا المدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان والبرلمانيون والبرلمانيات يتعرضون للهجمات، في حين لم يزل تمثيل المرأة ضعيفا,   ومواجهة الصحفيون لتدخلات في عملهم وتعرضهم للعنف في بعض الحالات. وبالتالي، فاليوم الدولي للديمقراطية هو فرصة لحث جميع الحكومات على احترام حقوق مواطنيها في المشاركة الديمقراطية مشاركة فعالة وجوهرية وهادفة".                             .                                                                               
 وجاء تقرير مؤشر الديمقراطية لعام 2018 الذي نشرته وحدة "إيكونوميست إنتيليغنس " وهي وحدة مستقلة تابعة لمجلة الإيكونوميست, أن تصنيف الديمقراطية يعتمد على 60 معياراً فرعياً مجمعة فى الفئات الخمسة التالية: العملية الانتخابية والتعددية، وعمل الحكومة، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية الديمقراطية، والحريات المدنية . ومن المقرر أن يمنح مؤشر ديمقراطية الدول درجة من 10 اعتمادا على هذه المعايير، ثم يصنف الدول إلى أربعة تصنيفات، تبدأ من دول ديمقراطية كاملة، ثم ديمقراطية منقوصة، يليها نظام هجين يجمع بين الديمقراطية والاستبداد، وأخيراً الدول ذات الأنظمة الاستبدادية. وقد احتل العراق في حينها المرتبة 114 وضمن الدول ذات النظام الهجين الذي يجمع بين الديمقراطية والاستبداد, وضمن قائمة دول تجاوزت ال 165. 

بالتأكيد ان الحديث عن ديمقراطية العراق شائك ومعقد استنادا الى الظروف القسرية التي أنشأتها والمتمثلة بالأحتلال الامريكي في عام 2003 الى جانب تراكمات القمع والدكتاتورية لعقود من الزمن والتي ساهمت في غياب البدائل السياسية الديمقراطية وغياب الفكر الديمقراطي مما سببا فراغا سياسيا كبيرا وعدم المقدرة على احتواء الأحداث ما بعد سقوط الدكتاتورية, ورغم هذه الاشكالية المفصلية والمعوقة للديمقراطية يرى الكثير من المتابعين للشأن العراقي, أن العراق بلدا ديمقراطيا ويستندون في ذلك الى الأسس النظرية او المحكات التي يمكن في ضوئها تأكيد ديمقراطية العراق, ومنها تعريفهم للنظام الديمقراطي كما يرد في الادبيات السياسية: هو نظام حكم من الشعب وإلى الشعب، ودستور يصوت عليه الشعب باستفتاء عام، والذي يمثل العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة. يعني حكم الأغلبية السياسية مع احترام حقوق الأقلية، أي حكومة ينتخبها أبناء الشعب عبر صناديق الاقتراع بشكل دوري، فيختارون ممثليهم، أي النواب (أعضاء البرلمان)، وهؤلاء بدورهم يختارون السلطة التنفيذية، وهم الذين يسنون القوانين وفق الدستور. ومن سمات الدولة الديمقراطية أيضاً، الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ووجود أحزاب سياسية، ومنظمات المجتمع المدني، واحترام حقوق الإنسان، وإعلام حر، وحرية التعبير والتفكير، والتظاهر والإضراب، وحرية المعتقد والأديان, ويرون ان هذا متحقق في العراق. 

ما يعنيننا قي المقام الاول هو الأداء او محتوى العملية السياسية الضامن لبناء الديمقراطية وتنفيذ مقوماتها, فاليوم في العراق وبعد عقد ونصف من سقوط الدكتاتورية تأكد لشعبنا أن الدستور كان محطات ألغام, وأن الشك طال كل الانتخابات البرلمانية السابقة, من تزوير وحرق للصناديق والعبث بأرادة الناخبين وضعف المشاركة في الانتخابات وانعدام متزايد في الثقة باغلب الاحزاب السياسية, كما اصبح الحديث عن الفصل بين السلطات الثلاث ضرب من الخيال, والتجاوز على الحقوق الاساسية للمواطن العراقي لا يمكن حصره في امثلة عابره, التضييق بشتى الوسائل على الاعلام الحر والاعتداء على الصحفيين, الصراعات الاثنوطائفية سياسية اغرقت المشهد السياسي, والمحاصصات الطائفية السياسية والعرقية هي المصدر لتشكيل اغلب السلطات الرئيسية, والفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام واهدار الثروات هو سيد المشهد العام لأكثر من عقد ونصف من الزمن, انتشار الميليشيات والعصابات المسلحة وأقحامها في العمل السياسي أحد مصادر الديمقراطية الهشة في العراق, والفضائيات وسعة انتشارها واجندتها ومصادر تمويلها وخطابها اسئلة تثير الكثير من الشكوك حول الديمقراطية في العراق, فهل هي حرية مرتبطة بضرورات الديمقراطية أم معوقة لها.   

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على الوطن, تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد, وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار, وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية, مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة, أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس..

كما أن نظام المحاصصة عرقل خلال عقد ونصف من الزمن عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية ", وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع, أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه. فالحديث اليوم يجب أن ينصب على الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي " للديمقراطية " لا على مدى توفر الأطر الشكلية لها والمجردة من الكفاءة في الأداء.

أن من ابرز معضلات العراق في بناء ديمقراطية مستقره تنمو بالتقادم هو القوى السياسية التي ترى الديمقراطية وسيلة للأستحواذ على السلطة وترى في الدولة والحكم غنائم بعيدا عن مفهوم التدوال السلمي للسلطة كمدخل لأستقرار العملية الديمقراطية, وهي لا تؤمن في الديمقراطية السياسية ولا في التعددية الحزبية, فكيف من لا يؤمن بالديمقراطية ان يبني الديمقراطية. وكذلك تشوهات الوعي المجتمعي وتعرضه لمحاولات الغسيل الدماغي والتشويه, وهذا ليست وليد اللحظة بل لعقود خلت قبل اسقاط النظام السابق, غاب فيها الفكر النقدي وضاقت فيها خيارات الناس, واليوم يستخدم خلط المقدس بالمدنس واستغلال مشاعر الشعب لزج الدين في السياسية وتحويل خيارات الناس صوب بدائل معوقة للديمقراطية والاستقرار السياسي. وكذلك ارتهان العراق واستقراره للأجندة الاقليمية وفرض ارادات خارجيه عليه وتحويله الى ساحة لتصفية الحساب بين الاطراف الاقليمية والامريكية, وهذا بطبيعته يلغي فرص الاستقرار السياسي والاقتصادي.

وبمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية فأن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى اكثر من خمسة عشر عاما المنصرمة, وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي, إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي, أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية, وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت, وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية,بل لعلها أهم منجزات الحداثة, وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي, ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات, وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية, وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية, ويشكل هنا اعادة بناء أسس العملية السياسية وفي مقدمتها الدستور وقانون الانتخابات وقانون الاحزاب وغيرها مدخلا لازما لتصحيح مسار الديمقراطية وضمان استقرارها وثرائها وتقدمها. وليكن اليوم العالمي للديمقراطية حافزا قويا لمن يعز عليه العراق وبقائه وطن صالح للجميع.


.                                                                                                 





91
اليوم العالمي لمحو الأمية ودلالته للعراق

د.عامر صالح   
أحتفل العالم في يوم 8 سبتمبر، باليوم العالمى لمحو الأمية، وهو اليوم الذى حددته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، للاحتفال به سنويا للتوعية بأهمية محو الأميّة كمسألة تتعلق بالكرامة الإنسانيّة، واحترام حقوق الإنسان، والوصول إلى مجتمعات أكثر إلماماً بمهارات القراءة والكتابة.  وقالت الأمم المتحدة، أن هذا اليوم يُعد فرصة للحكومات ومنظمات المجتمع المدنى وأصحاب المصلحة لإبراز التحسينات التى طرأت على معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، وللتفكير فى بقية تحديات محو الأمية الماثلة أمام العالم. وأشارت إلى أن قضية محو الأمية، هى عنصر جوهرى فى أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وجدول أعمال الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة، وتعزز أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة التى اعتمدتها المنظمة فى سبتمبر 2015، بهدف الحصول على التعليم الجيد وفرص التعلم فى أى المراحل العمرية، كما أن غاية من غايات الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة هى ضمان تعلم الشباب المهارات اللازمة فى القراءة والكتابة والحساب، وإتاحة فرصة اكتسابها أمام البالغين ممن يفتقدون إليها. 

وأعلنت اليونسكو عبر موقعها، أن احتفال هذا العام أن سيقام فى العاصمة الفرنسية "باريس"، تحت شعار "محو الأمية وتعدد اللغات"، ليكون فرصة للتعبير عن التضامن مع احتفالات 2019 بوصفها السنة الدولية للغات الشعوب الأصلية والذكرى السنوية الخامسة والعشرين للمؤتمر العالمى بشأن تعليم ذوى الاحتياجات الخاصة، الذى أُعتمد فيه بينان سالاانكا بشأن التعليم الشامل. ويركز اليوم العالمى لمحو الأمية لعام 2019 على مسألة "محو الأمية وتعدد اللغات"، فعلى الرغم من التقدم المحرز، إلا أنه توجد تحديات ماثلة للعيان فى ما يتصل بمحو الأمية وتفاوتها بين البلدان وسكانها. ويُعد تبنى التعدد اللغوى فى تطوير التعليم ومحو الأمية مسألة أساسية فى مواجهة تحديات محو الأمية وتحقيق أهداف السنة المستدامة. 

 في العراق فأن مشكلة الأمية تتصل بعدم كفاية التعليم وعجزه عن استيعاب الأعداد الهائلة من التلاميذ من هم في سن التعليم الإلزامي, الى جانب عدم الاستقرار السياسي,  رغم أن جهود العراق لحقبة من الزمن قطفت ثمارها فقد حاز العراق عام 1979 على جائزة منظمة اليونسكو في القضاء على الأمية والذي جرى ضمن حملة وطنية شاملة من عمر15-45 سنه، ولكن استمر التعليم بالمعاناة بسبب ما تعرض له العراق من حروب وحصار جائر, وكان أيضا من أسبابها تسييس العملية التربوية من ناحية المناهج والكوادر أو الإفراد وبعد عام 1991 كان المستوى التعليمي في تراجع، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الأمية بين أفراد الشعب العراقي،  رغم أن بداية هذا التراجع كانت في عام 1984  بعد أربع سنوات من بداية الحرب بين العراق وإيران, ففي عام 1997 عاد العراق ليسجل نسب مرتفعة في عدد ألاميين حيث وصلت النسبة بين البالغين إلى 42% ونسبة الأطفال الذين لا يصلون إلى الصف الخامس الابتدائي 28%  بذلك أصبحت ظاهرة خطيرة تهدد كيان المجتمع العراقي. وعقبة كبيرة من العقبات التي ستحول دون إمكانيَّة خروج البلد مما هو فيه وإعادة اعماره؛ نتيجة لما أحدثه الحروب إضافة إلى الأوضاع الأمنية المتدهورة وتهجير ملايين العراقيين مما أدى إلى ارتفاع نسبة الأمية بين أفراد الشعب العراقي، إذ تشير الإحصائيات في 2003 إلى إن نسبة الأمية قد ارتفعت ولاسيما بين الأعمار(15-25) بحدود 65% وقد قامت وزارة التربية بإعداد الخطط الشاملة لمواجهة الأمية في العراق، بعد إصدار قانون محو الأمية رقم 23 لسنة 2011 وبموجبه تأسست الهيأة العليا لمحو الأمية ، والجهاز التنفيذي، وأقسام محو الأمية في المديريات العامة للتربية، ومجالس محو الأمية في المحافظات، وكان يفترض ان تبدأ الحملة الوطنية لمحو الأمية كما كان مقررا رسميا بكل المحافظات وبتاريخ 2012ـ09ـ11 . 

ولكن سنوات ما بعد احتلال أمريكا للعراق (2003 ـ 2018 ) هي سنوات أقتتال داخلي وعدم استقرار سياسي وغياب منظومة حكم قائم على اساس المصالح الوطنية وسنوات انتعاش للأرهاب وخاصة الداعشي منه حيث احتلاله لأكثر من 30بالمائة من الاراضي العراقية في عام 2014 الى جانب الصراعات الأثنوطائفية سياسية بين الاحزاب التي تدير دفة الحكم, الى جانب ما استشرى في البلاد من فساد اداري ومالي وسرقة للمال العام استنزفت موارد البلاد ومنعته من أي نهضة اقتصادية واحتماعية, ويصل اهدار المال العام حسب بعض التقديرات منذ 2004 الى اليوم ما يقارب الألف مليارد دولار, مما ادى كل ذلك الى تدمير البنية التحتية المجتمعية والاقتصادية والى فساد شرس في كل قطاعات الدولة ولا يوجد في الأفق ما يشير الى وضع حد له او معالجته, وما جاء بعد الخلاص من داعش الارهابي من نتائج ديمغرافية تمثلت في النزوح السكاني لملايين من السكان بسبب العمليات الحربية ضد داعش, وينتظر سكان هذه المناطق عودة آمنة الى اراضيهم, الى جانب الخراب شبه الكامل للكثير من مناطق الصراع مع داعش, كل هذا وجد انعكاساته الخطيره على قطاع التربية والتعليم وعلى العملية التربوية والتعليمية على نطاق المجتمع كله, ناهيك عن الخراب في البنية التحتية والمؤسساتية لقطاع التربية والتعليم الى جانب عشعشة الفساد الاداري والمالي فيه.   

ففي الوقت الذي تسلم فيه العراق عام 1979، 5 جوائز من منظمة الأمم المتحدة، للتربية والعلم والثقافة، اليونسكو، بعد أن استطاع خفض نسبة الأمية دون 10%. أما اليوم، فآخر إحصائية نشرتها وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، بيّنت أن نسبة الأمية بين الشباب للفئة العمرية بين 15 و 29 سنة خلال عام 2017 بلغت 8.3%، كانت حصة الذكور منها 6.5% فيما شكلت حصة الإناث منها 10.2%، ولفتت الإحصائية الى أن نسبة 32.5% من الشباب من الفئة العمرية 15 إلى 29 سنة ملتحقون بالتعليم حالياً، وشكلت نسبة الالتحاق من الذكور 35.9%، مقابل 28.8% من الإناث. من جانبها حذرت المفوضية العليا لحقوق الإنسان من اتساع الأمية بين الشباب، وسط تحذيرات من اتساع ظاهرة الأمية عموما.ًوأكدت المفوضية، أن الأمية تركزت في مناطق النزوح والمحافظات المحررة حديثًاً من داعش الإرهابي، حيث تشهد تلك المناطق تسرب الطلاب من المدارس بشكل ملحوظ للعمل وتوفير لقمة العيش. ووفقا لدراسة سابقة اجرتها وزارة الشباب والرياضة اكدت ان هناك 9 ملايين شاب في الاعمار مابين 15 و 29 عاما, ثلاثة ملايين منهم لايعرفون القراءة والكتابة. رغم ان الهيئة العليا للجهاز التنفيذي لمحو الأمية تؤكد انه ومنذ عام 2012 تم تخريج دفعات من الدارسين في مراكز محو الامية تجاوز عددهم 1.5 مليون. واذا اردنا ان نضيف اعداد المتسربين من مختلف المراحل الدراسية والتاركين للدراسة الابتدائية قبل اكمالها وكذلك من لم يصلهم المسح والاحصاء, فأن النسب تبدو كارثية. وهناك احصائيات تؤكد ان نسبة الأمية في العراق على عموم السكان قد تصل الى ربع السكان.

ولعل أبرز المهمات الملحة والتي لا تقبل التأجيل والتي تسهم في مكافحة الأمية هي:

ـ محاربة الفساد في المنظومة التربوية والتعليمية أسوة بمحاربته في كل القطاعات الاجتماعية والحكومية, فمحاربة الفساد هو من يعطي بارقة أمل مفادها ان كل ما ينفق على التعليم والتربية ممكن التأكد منه ومن مخرجاته.

ـ وضع ملامح سياسية تربوية وتعليمية واضحة تستند الى معطيات الفلسفة الانسانية التي تؤكد ان الدارس هو محور العملية التربوية, ومن أجله تصاغ المناهج الدراسية المتطورة بعيدا عن عناصر التربية الطائفية والاثنية الشوفينية الكريهة.

ـ التوعية الشاملة بفوائد برامج محو الامية على المستوى الفردي والمجتمعي.

ـ وضع منهاج شامل لمحو الامية بحيث يكون مناسبا للفئات المستهدفة من المستفيدين ومرتبطا بنطام التعليم الرسمي. 

ـ توفير التمويل الكافي لوضع برامج محو الامية.

ـ التنسيق بين كافة الاطراف الرسمية وغير الرسمية من الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والحكومي.

ـ وضع هيكلية واضحة على المستوى الاتحادي والمحافظات والمجتمع المحلي لوضع المبادرات الملموسة لمحو الأمية.

ـ تفعيل ستراتيجية وطنية شاملة وقانون يحكم مسألة محو الأمية ويوفر القدرة المؤسسية في جمع البيانات الدقيقة لرسم استرايجيات وخطط شاملة. 

ـ دراسة احتياجات الدارسين لوضع برامج مناسبة ومبتكرة تستجيب لعموم حاجات المتعلمين.

ـ التدريب المستمر على افضل المبتكرات ووسائل التعليم الحديثة لمحو الأمية.

ـ ابعاد مراكز محو الأمية عن النشاطات الحزبية والطائفية ومنع تحويل مراكز محو الامية الى مراكز دعاية لتلك الاحزاب.

ـ الاستفادة الحية من تجارب الشعوب المختلفة في محو الأمية.

بالتأكيد ان افضل الامنيات والمقترحات لمحو الامية في العراق تبقى حبر على ورق مالم تعالج جذور الازمة السياسية التي عصفت في البلاد منذ عقد ونصف من الزمن والتي افرزت مختلف الظواهر المرضية, والتي تشكل الأمية احداها. أن البحث عن فلسفة واضحة للتربية والتعليم في العراق يكمن في وضوح هوية النظام السياسي القائم واهدافه في بناء الانسان العراقي والتي يترجمها بمفردات السياسة التعليمية, فعسى ان يكون اليوم العالمي لمحو الأمية حافزا لكل من له ضمير صادق ومخلص للعراق.



                                                                                                                                                     


 



92
الصلافة في الحديث عن الديمقراطية والمعارضة السياسية والتداول السلمي للسلطة

د.عامر صالح 

الحديث عن المشاركة السياسية في الحكم حق مشروع لجميع القوى السياسية المؤمنة بالديمقراطية بعيدا عن الأقصاء والتهميش ومصادرة أرادة الغير في صنع القرار, وخاصة بعد عقود من الحكم الدكتاتوري القمعي الذي أنفرد في السلطة, سواء في العراق الذي عانى شعبه الكثير من مصادرة الحريات والتسلط والحروب العبثية, او معظم الدول العربية, وبالتالي اصبح هاجس المشاركة من قبل الشعب في اختيار الحاكم وتقرير طبيعة الحكم بمثابة عطش مزمن وحاجة لا يمكن النتنازل عن اشباعها مهما بلغت شدة الحرمان.

لم تكن مشاركة الشعب في صنع القرار سهلة كما تصورها الكثير بعد سقوط الدكتاتورية في العراق عام 2003 عبر الأحتلال الامريكي, وكذلك لم تكن سهلة هي الأخرى في تجارب ما يسمى " الربيع  العربي " في 2011, وكلا التجربتين العراقية والعربية والتي كان مخطط لها في اذهان شعوبها ان تكون ديمقراطية وبديل عن أنظمة القمع والتفرد, تحولت الى بلدان مستباحة من الفوضى والميليشيات المسلحة, الى جانب الدخول في مشاريع التشرذم الطائفي والديني والأثني والمناطقي والارتهان الى مرجعيات من خارج البلدان تقرر اتجاهات التغير في الداخل وتتحكم في المعادلات السياسية وصنع القرار, رغم ان السائد الشكلي هو ديمقراطية تعددية عبر صناديق الأقتراع.

كانت حمولة الأسلام السياسي من اكثر الحمولات شحنة للتفريغ بعد سقوط الانظمة القمعية الدكتاتورية, وممكن القول انها انفردت تقريبا في رسم ملامح المشهد السياسي على ارض الواقع مستغلة غياب البدائل السياسية الاخرى وضعفها في الساحة السياسية جراء القمع والتهميش طويل الأمد الذي عانت منه من النظم التسلطية, الى جانب ان حركات الأسلام السياسي بعد التغير لجأت الى استخدام السلاح والتكفير لفرض اجندتها السياسية واضطهاد الآخر المغاير لها في التفكير والتضييق عليه. 

وتشهد اليوم الساحة العربية والعراقية صراع يتخذ طابعا دمويا تصفويا بدرجات مختلفة للأستحواذ على السلطة وتوزيع مغانمها والواجهة الاساسية لذلك هو صناديق الأقتراع وادعاء التداول السلمي للسلطة, فمن يحكم منهم يحكم ومن يختلف يدعي المعارضة السياسية, والواجهة لذلك ايضا الديمقراطية التي تسمح بحضور لمفهوم " المعارضة والموالاة ". فهل يؤمن الأسلام السياسي بالديمقراطية الغربية حقا وبالتداول السلمي للسلطة والأيمان فعلا بنتائج انتخابات نزيهة والركون الى آراء الشعوب في تقرير مصيرها. 

أكدت تجربة العراق منذ اكثر من عقد ونصف وتجارب عربية اخرى أن صناديق الأقتراع لا تتجاوز كونها تقنية شكلية للأستحواذ على السلطة واعادة انتاجها, سواء في تجييش الناس صوب صناديق الاقتراع او تزوير نتائج الانتخابات او حرق صنادق الانتخابات وتأسيس مفوضية انتخابات قائمة على أسس من المحاصصة الطائفية السياسية والاثنية لضمان سقف مقبول من النتائج يضمن بقاء الاوضاع كما هي. 
مفهوم الديمقراطية الحقه والتي تبني مجتمع المواطنة ودولة العدل كما ترد: "هي حالة الترابط العضوي بين جملة قضايا ومسائل ومفاهيم ومقولات تشكل نسيجا” ضاما فيما بينها، ويمثل غياب أو سقوط أي منها ثلما و”شرخا” في هذا النسق مما يؤدي إلى إصابتها أي الديمقراطية بتشوه خلقي وعيب وجودي وصولا إلى خواء المضمون على المستوى الواقعي. ليس بخاف أن لا ديمقراطية حقيقية بدون العلمانية ولا ديمقراطية بدون الأنسية أو الإنسانوية والمرجعية الدنيوية التي تجعل البشر وحدهم مصدر المشروعية ومناط الحقوق والواجبات وإذا “مصدر القانون ومناط الحرية المرتبط بجملة تعينات وتجليات وأشكال مثل حرية التفكير والاعتقاد والإيمان   والتعبير والتمثيل وربما حرية وحق أن يكون الشخص ملحدا”، بوضوح إن الحرية لكذلك على وجه اليقين والتأكيد".                   .                       .                           
 

" كما تعني حق الإنسان على عقله وذهنه ونفسه وجسده وحريته التي تترتب على هذا الحق دون أن يعني ذلك إيذاء “نفسيا” أو ماديا للغير. وحين نقول الإنسان فلا فرق بين الرجل والمرأة التي يشكل حقها وحريتها وطريقة تفكيرها وأسلوب وجودها وعلاقتها بالشريك وسائر أنماط عيشها المرتبطة بكيانها جزءا لا يتجزّأ ولا يقل من حيث المبدأ عن حق الرجل وحريته ومشروعية وجوده التي تبيح له أن يحيا كما يشاء، لا بل  ويقال أكثر من ذلك، أن لا مشروعية ولا حق ولا حرية للرجل بدون حق وحرية وسعادة المرأة، فكيف هو الحال إذا كان مجتمع الرجال سيبني الحق والحرية والسعادة على أنقاض ودونية وابتذال المرأة".                                           
                                       

أن معضلة مجتمعنا الكبرى هي ليست مع أشخاص, بل مع الأسلام السياسي الغير مؤمن بالديمقراطية أصلا, والتي يراها لعبة غربية لا تصلح لمجتعاتنا, وأن الاسلام السياسي مكره على ممارستها في ظل الظروف العالمية الضاغطة والتي لا تقبل إلا بالتدوال السلمي للسلطة وفي ظروف طبيعية وصحية. في عودة سريعة لضبط مصطلح الديمقراطية وماهيته والذي يخدمنا كثيرا في هذا المقال, وهو أن الديمقراطية تعني حكم الشعب, أو الحكم للشعب, وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة إلا إن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استخدامه في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة, فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه, فهي تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه, وأن يحكم نفسه بنفسه, ولنفسه, والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس تخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه, وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة, وقد عرفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها و لا ند متفردة بالتشريع الملزم, فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع, فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك, لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها, ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى, والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي الشعب. وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاث جوانب رئيسية على الأقل هي :

ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها, وهذه تمارسه السلطة التشريعية..

ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات, وهذه تمارسها السلطة التنفيذية..

ـ حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات, وهذه المهمة تمارسها السلطة القضائية, ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث. 

وعلى خلفية هذه الرؤى فأن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل, والاستقلال في الرأي والتفكير, والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة, وفي القدرة على رفض الحكومات وتغييرهم في حالة عدم صلاحيتهم, وفي حق التملك وحق الأمن والأمان, كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون, والدعوة إلى الآراء وحرية تكوين الأحزاب, وحق المعارضة للسلطة القائمة, وحق الاقتراع العام, وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم, وتداول السلطة بين أفراد الشعب, واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين.

وفي زحمة هذه الصلاحيات الواسعة للشعب في ظل الديمقراطية الحقيقية يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي والسلوكي مع القوى الديمقراطية ومع الشعب, كون هذه الأخيرة مصدر كل السلطات وبالتالي تشكل بديلا عن الشريعة الإسلامية ذات الطابع الإلهي, أي كما يفهمه الإسلام السياسي بأن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى, وهذه الخاصية التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب التجارب والأزمان, تعد من الاختلافات الحقيقية بينها وبين الإسلام, انطلاقا من قاعدة الإسلام التي جوهرها هي توحيد الله تعالى, والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده, وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في كلها من صلاة وصيام وحج, معاملات بين الناس وخصومات, وفي شئونه كلها, وبالتالي أن تحل سلطة الشعب مكان سلطة الإلهة أمر غير مقبول جملة وتفصيلا لدى الإسلام السياسي.

في ظل تلك التعقيدات على مستوى قبول الديمقراطية كطريقة في الحكم وكنظام سياسي شامل وليست انتقائي مصلحي يجري صراع شرس بين مكونات قوى الأسلام السياسي من جهة, وبين الاسلام السياسي والقوى المدنية الفتية من جهة اخرى, ويجرى التشبث في البقاء عبر ترقيع ذات الأسلام السياسي وقوى اخرى متحالفة معه لأيجاد مخرج لأزمة البلاد المستعصية, فنجدهم تارة في الحكم وتارة في "المعارضة " عندما يجري الخلاف على توزيع غنائم السلطة, ويتبادلون المواقع عند حاجتهم لذلك, ولا يستغرب المرء من انتشار الفساد الأداري والمالي والميليشيات المسلحة الاجرامية وانعدام االخدمات الاساسية الحياتية حيث انعدام استقرار النظام السياسي.

93
عاشوراء الحسين بين الأسلام السياسي وسيكولوجيا جلد الذات


د.عامر صالح 

عاشوراء مناسبة دينية اسلامية, تحل سنويا في اليوم العاشر من محرم " الشهر الأول في السنة الهجرية " ويختلف التعاطي معها بين المسلمين من السنة والشيعة, ففي الوقت الذي يخصها السنة يومها بالصيام احتفالا بنجاة النبي موسى واصحابه من الطغيان والغرق, فأن الشيعة يحيي فيها استشهاد الأمام الحسين بن علي أبن ابي طالب في " موقعة كربلاء" في معركة الطف سنة 61 هجرية ( 680م ) مع جيش يزيد بن معاوية.   

 ورغم اختلاف القراءة لواقعة كربلاء, سواء من منطلقات دينية او سياسية او انسانية, والتي تراوحت هذه القراءة بين تهويل وتضخيم الحدث وحرفه عن مسار الأحداث الطبيعية الممكنة الحدوث وادخال الحدث في عالم الغيبيات المعرقلة للعقل, وبين دراسة واقعية تجري الاستفادة من الحدث وعناصره الأيجابية في تشخيص الحاضر وتداعياته ورسم ملامح المستقبل من خلال القوة الايجابية الكامنة في الحدث, ظل من المسلم به استحضار سلوكيات المحبة والاحترام وشعائر الاستذكار للأحداث, ليست فقط لدى الشيعة, بل لدى كل الطوائف الإسلامية, والديانات السماوية الأخرى وحتى غير السماوية, و ليست في العراق فقط بل في بقاع مختلفة من العالم العربي والاسلامي, فقد ذكر المفكر والمستشرق الانكليزي ادوارد دبروان: " وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن حين يسمع حديثا عن كربلاء؟ وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار وطهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها ". كما تحتفل قوى وطنية وسياسية كثيرة في العراق وخارجه بكل صدق وإخلاص بذكرى استشهاد الحسين تيمنا وأيمانا بقيم الحق والعدل والمساواة.

وفي الطرف الآخر حيث تقوم أحزاب الإسلام السياسي والمتأسلمين  بتجيش مشاعر محبي الحسين وتعبئة الناس لزجهم في آتون الكراهية والاستفزاز الطائفي والديني وتعطيل مؤسسات الدولة وحرف نضالات الجماهير المطلبية من اجل تحسين ظروف العيش.
وفي الوقت الذي يكرسون فيه صناعة البطالة والكسل و الفقر وانتشاره باعتباره قدر إلهي لا بد منه,  ينغمسون من رأسهم حتى أخمص قدميهم في مباهج الحياة الدنيا, يرفلون في نعيمها وخيراتها ويجرون ملهوفين وراء متاعها وملذاتها ويستحوذون على ارفع المناصب والوظائف, ويعيثون فسادا في الدولة, متناسين قول الحسين " أن الكسل يضر بالدين والدنيا ", وأن العمل النزيه بمنزلة العبادة كما أريد له في الدين, و تقوم هذه القوى بتكريس العداء للآخر المسالم الذي قد يختلف معنا في التفكير, ولكن قد لا نشك في محبته للحسين باختلاف مظاهر التعبير عنها, فكما نعرف جميعا أن حب الحسين والاحتفاء به ليست حكرا على طائفة بعينها أو بحزب سياسي لذاته, فقضية الحسين ابعد بكثير من ارتهانها طائفيا أو حزبيا, انطلاقا من  أبعادها العالمية التي تتجاوز حدود الدين والطائفة والحزب والجغرافيا التي جرت فيها الأحداث. يقول الكاتب المسيحي كرم قنصل: " أن سيرة الحسين مبادئ ومثل وثورة أعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها, وعلى الفكر الإنساني عامة أن يعيد تمثلها واستنباط رموزها من جديد لأنها سر السعادة البشرية وسر سؤددها وسر حريتها وأعظم ما عليها امتلاكه ". لن نسمع في أوساطنا المسيحية والصابئية والسنية أو غيرها أن يذكر الحسين بغير ذكراه الايجابية المناضلة .

واليوم إذ يختلط فيه الديني بالسياسي بعنف, وخاصة في ظروف العراق الحالية التي تأسس فيها نظام الحكم بعد سقوط الدكتاتورية 2003, على أسس من المحاصصات الطائفية  والعرقية, حيث ساعد على استنفار الورقة الطائفية واستخدامها من قبل الإسلام السياسي الطائفي, ويجري التعمد في خلط المشاعر بين حب الحسين ابن علي و ممارسة طقوس الاعتزاز به كما في عاشوراء, و بين ثقافة تعبئة الحشود التي تلجأ إليها هذه القوى في محاولة منها لاستنزاف القوى العقلية والفكرية للجماهير المليونية والمحبة حقا للحسين, وتحويلها إلى كتلة بشرية صماء غير قادرة على تعقل أحداث عاشوراء والطف واستلهام الدروس منها في المحبة والإخاء والعدل والمساواة والكرامة واحترام قيم العمل والتعايش السلمي, بل يجري العزف المكثف على الانفعالات المصاحبة لهذه الذكرى الجليلة لحرفها وإضفاء الصفة السلبية عليها وحصرها في حدود أهداف سياسية أنانية وتعبوية ضيقة, عندها يسهل الترويج للإسلام السياسي الطائفي بغطاء عاطفي ومنفعل ليصب مزيدا من الزيت على نار الصراعات والاحتقانات المتقدة بين أبناء الطائفة الواحدة وبين الطوائف الأخرى, وخاصة عندما تجري هذه الصراعات في بيئة الفقر والحرمان والذي بلغت مداه بحدود 70% في مناطق الوسط وجنوب العراق.

كيف استطاع الإسلام السياسي والطائفي منه بشكل خاص, ذو الخطاب المهيج للانفعالات قبل العقل أن يخترق الوسط الشيعي وأن يؤسس لكانتونات سياسية شديدة التركيز في العدة والمال والسلاح, تلك هي قصة سيكولوجية تراكمت أسسها وتجذرت في اللاوعي الجمعي للوسط الشيعي وفي وجدانه وسلوكياته, ارتبطت جذور شدتها في استشهاد الحسين, وان كانت تمتد بجذورها إلى عدم تولي الإمام علي ابن ابي طالب للخلافة بعد وفاة النبي محمد, وأن آثارها بقيت في أذهان الشيعة وخاصة العوام منهم, حيث أن النخب الشيعية أو الخواص ورموزهم استطاعت أن تجد لها وطأة قدم وتؤسس  سلطاتها الدينية المؤثرة وتضفي على نفسها هالة من القداسة مستفيدة من زخم الأحداث وشدة تكثيفها وإيحائها ورمزيتها الشديدة, وفي أحيان كثيرة كانت موازية للنظم السياسية المقيمة فيها, مدعمة بالمال السخي الذي يمنح لها في السر والعلانية من الهبات والتبرعات والخمس القادمة من الأوساط الشيعية الواسعة والفقيرة أصلا, إلى جانب نسب من العوائد المالية القادمة من زيارة المراقد المقدسة للأئمة من قبل الزوار من داخل الحدود وخارجه.

وقد بقى وقع استشهاد الحسين وآثاره النفسية المتراكمة شديدا على عوام الشيعة, والذي شكل بدوره أرضا خصبة لتسلل وانتعاش الإسلام السياسي الطائفي وقوى التطرف الديني عبر خطابات ذرف الدموع واستحضار مكنونات اللاشعور الفردي والجمعي لدى الوسط الشيعي, وهذا لا يعني أن عوام الشيعة كانوا معتكفين في منازلهم " عملا بمبدأ التقية الشهير لديهم " ولم يمارسون السياسة بمختلف مظاهرها وألونها وكانوا ينتظرون قدوم الإسلام السياسي والطائفي لإنقاذهم, فتلك مجافاة للحقيقة التي يدركها الجميع, فقد انصهروا في الكثير من الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية والرجعية طواعية وبدون ضغوط عليهم " عدا بعض محطات الإكراه في الانتماء " والذي شمل الجميع كما هو الحال في التبعيث سيئ الصيت, وكانوا في أحيان كثيرة من مؤسسي هذه الأحزاب وقيادتها, كما شكلوا جمهورا واسعا للكثير من الأحزاب بما فيها الحاكمة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية والقمعية, واعتقد أن تجربة العراق عبر تاريخه غنية بهذا الجانب وشاهد على ما نقول, فجماهير أحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي لم تكن مستقلة بالأمس عن السياسة, فالكثير منهم له جذور انتماءات قومية وعروبية وبعثية وغيرها.

المهم في ذلك مجددا هو كيف استطاع الإسلام السياسي الطائفي وفي فترة قصيرة جدا لا تتجاوز العقد والنصف من الزمن, وفي ظل غياب مشروعه التنموي والحضاري الشامل,  أن  يستقطب الشارع الشيعي ويعبئ الناس بطريقة " مشجعي فريق كرة قدم خاسر ", بعيدا عن الإعداد والتربية الفكرية والتنظيمية كما هو متعارف عليه في تقاليد عمل الأحزاب في المجتمعات المتمدنة التي تتداول فيها السلطات سلميا, وكذلك بالنسبة للأحزاب التي تمارس العمل السري في أوطانها نتيجة لظروف القهر والاستبداد وكما كان معمول به في العراق في عهد النظام الدكتاتوري. لقد استطاع الإسلام السياسي الطائفي ورموزه المتطرفة  أن تعيد صياغة ذهن المواطن الشيعي من خلال قراءة وجدانية معكوسة لثورة الحسين ولأهدافها الإنسانية الكبرى, قوامها الانفعالات السلبية الضارة المغلفة بمشاعر الإحساس بالدونية والمتلبسة بجريمة قتل الحسين وكأنها تقول القاتل" أنا " دوما ومن هذه الأرض, فيجب أن ادفع الثمن غاليا ويجب أن تتوقف الحياة على مدار السنة والساعة تبريرا وعزاء وعقوبة لذاتنا لما قمنا به من جريمة نكراء, وتصل هذه المشاعر إلى حد التأصيل في عقدة مضخمة تتضح ملامحها في الأبعاد النفسية الآتية:

ـ تشديد قبضة الشعور المستمر بالذنب تجاه الحسين ابن علي من خلال تكريس المشاعر التي تعكس بأننا استمرار لهؤلاء الذين تركوا الحسين بمفرده من دون نصرة بيد الظالمين, ونحن الذين تركناه لوحده مع خيرة آل البيت يواجهون الموت في الصحراء عطشا وجوعا على يد جيش يزيد الظالم, وهو شعور ناتج من قراءة تقطع الصلة بالزمان الذي جرت فيها الاحداث حيث طبيعة الناس آنذاك تختلف وكذلك خصوصية الصراع الذي حصل.

ـ تكريس الحزن والكرب والمعاناة في حياة الناس اليومية وممارسة سلوكيات التكفير عبر التعزيز المستمر لطقوس مؤلمة وحزينة تجلد الذات جلدا مبرحا أكثر مما تيسر حياة الناس وتبعث فيهم الفرح والبهجة بمشروع الحسين الكبير, كتطبير الرأس والضرب بالزناجيل على الظهر واللطم على الوجه والصدر والجبين, وما يصاحبها من مشاعر المزيد من الإحساس بعقدة الذنب والاضطهاد والعدوانية الموجهة إلى الذات والى الآخرين.

ـ  الإحساس العميق بالظلم والغدر والشعور بالمرارة تجاه ما حدث والرغبة في الثأر ممن فعلوا ذلك أو تواطئوا فيه أو سكتوا عنه, وهي آلية تزرع العدوان اتجاه الذات وتهدد التوازن النفسي للإنسان وتسهل الإقدام على مختلف الأعمال المذلة والمدمرة للكيان الشخصي والذاتي وتبخسه وتحط منه, عبر الإحساس الذاتي بعدم جدارتنا في الحياة, ولن يصدر عنا أي فعل خير, ولا يحق لنا أي اعتبار أو تقدير, وهو ميكانزم أساسي في سيكولوجيا الإنسان المقهور وخاصة في بيئة الفقر والتخلف الاجتماعي وانتشار الأمية, إلى جانب توجيه هذه العدوانية تجاه الآخرين المغايرين وخاصة عندما نضعهم بصفة مرتكبي جريمة قتل الحسين اليوم  بغض النظر عن الزمان والمكان الذي جرت فيه الاحداث الحقيقية.

ـ زرع الخوف من الآخر والتشكيك فيه واعتباره قابلا  للغدر في أي لحظة ما, وهي حالات تصل إلى حد بارانويا الاضطهاد, وتكريس سلوك اخذ الحيطة والحذر, ويترتب على ذلك الكثير من الدوافع في امتلاك السلاح وحيازته على نطاق واسع وبعشوائية استجابة لمشاعر الإحساس بالظلم والاضطهاد والعزلة لحماية الذات من العدو بعيدا عن دور الدولة في هذا المضمار, يقابله في الطرف الآخر الصراع  المكثف للانتساب إلى أجهزة الشرطة والجيش والمخابرات وامتلاك ناصية القوة في الوزارات ذات العلاقة استجابة لعدو وهمي قد يهجم في لحظة ما " وهذا لا يعني التقليل من قدرة  الآخر وعدوانيته في الغدر إن كان حاقدا متطرفا داعشيا أو وهابيا ", إلا أن السلاح يجب أن يكون حصرا بيد الدولة الديمقراطية, وقد تفسر ظاهرة التسلح العشوائي في بعض جوانبها استجابة معاكسة وردة فعل لما كان يمتلكه النظام الساقط من سطوة وقوة وأجهزة قمعية, وتتحول بفعل ذلك عملية التسلح إلى كارثة على الطائفة نفسها بسبب من يدعي تمثليها من مختلف الأحزاب الإسلامية والجميع مدجج بالسلاح.

ـ لقد عمل الإسلام السياسي والقوى المتطرفة بتكريس فكرة أن حدث الحسين واستشهاده هو حدث خاص بالطائفة الشيعية ولوحدها فقط , وما تبقى من طوائف ومذاهب خارج البيت الشيعي فأن صلتها ثانوية بالحدث من حيث الاحتفاء والإجلال به والاستفادة من دروسه الايجابية, إن لم تكن مساهمة في مأساوية الأحداث, وهذا التصور الشائع أضفى على الوسط الشيعي مسحة انفعالية سالبة معززة للتشدد ومساهمة في انعزال المجتمع الشيعي عن الوسط المحيط به من طوائف ومذاهب, رغم وجود مشتركات كبيرة بينها في طقوس العبادة والشعائر الدينية, وخاصة مع الطائفة السنية, حيث يشتركون كلا الطرفين في الإيمان بالله وبرسله وبخاتم الرسل والأنبياء محمد وتأدية مناسك العمرة والحج, وهذا ليست من باب ألقاء اللوم على الشيعة في تضييق فرص الحوار مع السنة, ولكن أيضا ومن تجارب الحوار بين الطائفتين أن للسنة بعض من شروطهم التعجيزية في قضايا مفصلية بالنسبة للشيعة كالتقية والعصمة والمرجعية والفهم المغاير للكثير من نصوص القرآن وتفسيره وقضايا فقهية كثيرة, إلا إن الطريقة التي تفهم بها طبيعة أحداث كربلاء وشهادة الحسين, لها ما لها من آثار مسبقة في تضييق فرص الحوار ملقية بضلالها السلبية في التقارب المذهبي, وخاصة عندما يزج الدين في السياسة وتتداخل المصالح الأنانية, فلم يرى كلا الطرفين غير اللون الأسود.

ـ أن تأصيل الشعور بالذنب لدى الوسط الشيعي اتجاه الحسين بسبب من عدم نصرته في معركته العادلة مع يزيد, يقابله في الطرف الآخر الإعجاب الشديد ببطولته وتحديه لسلطة يزيد بدء من مقولته الشهير: " لا بيعة ليزيد, شارب الخمور, وقاتل النفس المحرمة ", وعلى الرغم من الكثير من النصائح والتحذيرات التي قدمت للحسين بعدم الدخول في هذه المعركة بسبب عدم تكافئ الجيشين وتوقعات باستشهاده, إلا انه ترك ارض الحجاز متوجها إلى العراق قائلا: " لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد ", وكان يعي تماما حاجة الأمة الإسلامية لمثل هذا الموقف الشجاع " بغض النظر عن التفاصيل ", وخاصة على اثر بيعة الحسن لمعاوية والتي أثارت الكثير من الالتباسات لدى المؤمنين آنذاك, أن هذا التداخل في المشاعر اتجاه الحسين والتي هي خليط من مشاعر الحسرة والندم لعدم نصرته, إلى جانب الإعجاب بصموده وبطولته أدى إلى حالة من التقديس والتعظيم للحسين, فهو بقدر ما يستحقها بعقلانية الإيمان, إلا أنها تركت لدى أوساط الشيعة استقطابا وجدانيا شديدا, وتحول هذا الاعتزاز والحب إلى موضوع خلاف وكراهية اتجاه الرموز الأخرى في الإسلام, أو كما يقال في الدارج من زاد على حده انقلب إلى ضده, خاصة عندما توظف هذه المحبة في غير مكانها ولتغذية الصراعات المذهبية.

ـ لقد استغل الفراغ الكبير الذي تركه استشهاد الحسين بتكريس السلوك التعويضي بمظهره السلبي, والذي يضعف من قدرة الإنسان العقلية والفكرية على تجاوز مأساوية الأحداث وأتحاذ زمام المبادرة وتأسيس العقل الناقد, مما سهل لاحقا تسليم الأمور ومصائر الناس بيد سلطات دينية مطلقة تمثلت في المرجعيات الدينية وإضفاء عليها صفات القداسة والطاعة والعصمة على نسق ما يضفى على الأمة ألاثني عشر, مما عبر عن حاجاتهم النفسية المستمرة على نسق الحاجات الطفولية إلى شخص راشد يتولى زمام أمورهم ويسلمون لهم قيادتهم, مما أدى بدوره إلى تضخم دور المرجعيات ليتجاوز حدود تأثيرها المجال الديني ليمتد إلى الجانب السياسي والاجتماعي, والتجربة العراقية اليوم دليل على هذا التأثير المتعاظم للمرجعيات على الأحداث السياسية الكبرى كالانتخابات والدستور وتوزيع المناصب الحكومية’ حتى لتبدو وكأنها المصدر المطلق لكل السلطات, مما يحقق لها سيطرة سيكولوجية كاملة تتشكل داخل المنظومة النفسية للإنسان  وتمنعه من الاختلاف معها أو عدم الخضوع التام لها, والمشكلة ليست بوجود مرجعيات, فالمسيحية لها مرجعية يجسدها البابا, واليهودية كذلك لها الحاخام , ولكن المشكلة تكمن بشمولية واتساع نطاق صلاحياتها الذي يتجاوز الديني.

أن الاستفادة من أسباب ودروس ثورة الحسين في مكافحة الظلم ونشر العدل, واستتاب الأمن, والوقوف ضد الحاكم الظالم كائن من كان ومن أي حزب وملة وطائفة, وضد فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومحاربة الفساد بألوانه, ومقارعة الذل والمساومة, وأيقاظ الضمير وتحريك العواطف الإنسانية, وإصلاح حال الوطن وضد تشويه القيم الإنسانية النبيلة, وفي احترام العهود والمواثيق, نحن اليوم بأمس الحاجة لها لإشاعة مجتمع العدل والقانون والحرية والديمقراطية, بعيدا عن قراءة ثورة الحسين بأطر سياسية ومصلحيه ضيقة وتوظيفها لمآرب تجلب الضرر لنا جميعا وتعدم الاستقرار في حياة الناس, أما التعاطف مع مأساة قصة الحسين فأكتفي بقول المؤرخ الانجليزي جيبون بقوله: " إن مأساة الحسين المروعة بالرغم من تقادم عهدها وتباين موطنها لا بد أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القراء إحساسا وأقساهم قلبا ". اليوم نحن في العراق وبعد تجربة اكثر من عقد ونصف من الزمن زج فيها الدين في السياسة بأكثر الاشكال تعسفا وعرقلة للشأن العام, نبقى بأمس الحاجة الى اعادة قراءة واقعة كربلاء وتوظيف طاقتها الايجابية في خدمة الوطن والمواطنة وبناء النسيج المجتمعي الصالح والمترفع فوق الانتماءات الفرعية وفي مسارات تعزز من فكرة " أن الدين لله والوطن للجميع ".

94
أفتعال "قدسية كربلاء" بين فوائد الفنون والموقف الأسلاموي منها


د.عامر صالح 


أثار حفل افتتاح بطولة غرب أسيا بكرة القدم الذي أقيم في مدينة كربلاء العراقية, الثلاثاء الماضي, جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي في العراق وخارجه, وداخل أوساط دينية وسياسية دينية وأخرى تنتمي لعموم التيار المدني. وشهد الحفل الذي اقيم على ملعب كربلاء الأولمبي, فعاليات فنية ومسرحية شاركت فيها مجموعة من الفتيات عبر تقديم عرض راقص وعزف للنشيد الوطني العراقي على آلة الكمان. وقد دعى مسؤولون محليون وقيادات دينية وسياسية الى محاسبة القائمين على الحفل باعتباره يتعارض مع قانون "قدسية كربلاء" الذي " يجرم " أية أجواء احتفالية أو سماع الأغاني في الأماكن العامة كما يحضر دخول النساء غير المحجبات الى المدينة. 

وعلق ديوان الوقف الشيعي, الخميس, على الحفل واعتبره " فعلا شنيعا يتجاوز الحدود الشرعية ويتعدى الضوابط الأخلاقية" وقبل ذلك قال محافظ كربلاء في بيان إن " الحكومة المحلية لم يكن لها أي دور في برنامج افتتاح بطولة غرب آسيا في ملعب كربلاء". فيما طالب رئيس الوزراء الأسبق الأمين العام لحزب الدعوة الاسلامية, نوري المالكي, الحكومة بفتح " تحقيق عاجل ومحاسبة المقصرين, ومن يقف خلف هذا التجتاوز الفاضح على حرمة المدينة المقدسة", ثم توالت قيادات دينية سياسية اخرى بأدانة ما جرى في حفل الأفتتاح ومحاسبة المقيمين على الاحتفال. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي جرت أدانة واسعة من سياسيين وناشطين مدنيين الهجمة التي طالت المنظمين لحفل افتتاح بطولة غرب أسيا, وأدانوا قوى الاسلام السياسي التي سببت الخراب والدمار والفساد للعراق وبددت ثرواته الطبيعية والبشرية, وتدخلها الفاضح والفج في شؤون الحياة العامة والخاصة للناس وزج الدين في السياسة.


وهنا لا اتناول ما حصل في ملعب كربلاء الأولمبي وافتعال الأسلام السياسي لأزمة عامة بهذا الخصوص, فهو جزء من سلوك يترجم فيه الأسلامويين الموقف الديني من مختلف الفنون, ولكني أشير هنا الى ما يثيره زحف التيارات الدينية المتطرفة والتي لا ترغب بفصل شؤون الحياة العامة وحرياتها عن الدين, في الكثير من البلدان ويشكل مصدر قلق لمصادرة المزيد من الحريات الشخصية والعامة, وفتح باب الارتجال والاجتهاد واتخاذ القرارات المنفعلة للهجوم على تراث شعوبها في الموسيقى والغناء والترويح وغيرها من المجالات لتحول حياة الناس الشخصية إلى حياة صماء وجحيم لا تطاق, متجاهلين نتائج العلوم والإرث الفلسفي والفكري لشعوبها  في قيمة الفنون و لمغزى ومعاني الفنون في الحياة اليومية وفي تهذيب وإعادة صقل السلوك الشخصي والاجتماعي, السوي منه والمرضي. فهل هناك من محاولة للتسوية أو لقاء بين الموسيقى والغناء وبين الدين, أم هناك زحف و إقصاء متواصل من قبل التطرف الديني للموسيقى والغناء والفن بصورة عامة, وتحويل الموسيقى والصوت الجميل وبالإكراه في خدمة الشعائر الدينية ذات الطابع الحزين في معظمه, وإلغاء فسحة الترويح الضرورية واللازمة لإعادة بناء النفس.

أن تجربة العراق من التجارب المؤلمة والحزينة في الهجوم والتضييق على الفن ومنها الموسيقى والغناء, والتي تعبر عنها منع إقامة مهرجانات الأغنية العالمية كما حصل لمدينة بابل والبصرة سابقا, وزحفا مستمر لمنع المسرح والسينما, و محاولات غلق الأندية ذات الصلة بالفنون الرفيعة كاتحاد الأدباء العراقيين, وغيرها من الظواهر الشؤم في كليات ومعاهد الفنون الجميلة,  والقادم أسوء في التضييق على الحريات والفنون بمظاهرها المختلفة في ظل ضعف دولة القانون وتكبيل حرية المواطن والتهديد بعودة المليشيات, مما اجبر ويجبر الكثير من الفنانين إلى مغادرة العراق أو العزوف عن الموسيقى والغناء, أو التحول إلى " الغناء " الديني في المناسبات المختلفة, حيث يحتاج هو الآخر إلى مواهب وأصوات جميلة مؤثرة وذات أهداف حشدية ـ  تعبوية وسياسية مختلفة في ظروف عراق اليوم بعيدا عن الذكرى العطرة للرموز الدينية.

أن الموسيقى والغناء هي ألوان من التعبير الإنساني, فقد يتم التعبير فيها عن خلجات القلب المتألم الحزين, وكذلك عن النفس المرتاحة والمسرورة, وفي الموسيقى قد يأتي المرء بشحنة انفعالية فيها ما يكفي من الرموز التعبيرية المتناسقة في مقاطع معزوفة يحس بها مرهف الحس أو من متذوقيه, وينفعل ويتفاعل سماعيا ووجدانيا وفكريا,يحس بها إحساسا عميقا وينفعل به انفعالا متجاوبا, مثله مثل أي من الكائنات الحية. ويقول أفلاطون بهذا الصدد: " أن هذا العلم لم يضعه الحكماء للتسلية واللهو بل للمنافع الذاتية ولذة الروح والروحانية وبسط النفس وترويض الدم. أما من ليس له دراية بذلك فيعتقد انه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بما فيها ".

لقد استخدمت الشعوب القديمة, العربية منها وغير العربية, الموسيقى سواء كانت في نغمات أو مقامات أو أغنيات, كوسيلة من وسائل التطبيب والعلاج, ففي زمن يونان القديمة امن شعوبها بأهمية الموسيقى في الشفاء من الأمراض, وكان " أبي أقراط " أول من استخدم الموسيقى بين اليونانيين إيمانا منه بقدرتها على تخفيف التعب والإرهاق وتعديل المزاج الحاد وشفاء الأمراض النابعة من الإنهاك العقلي والجسمي. أما الأطباء العرب فقد استخدموا الموسيقى في العلاج ومنهم " أبو بكر الرازي " و " الفارابي " و " أبن سينا " و " أخوان الصفا " و " الكندي ". فقد بين أبو بكر الرازي إن للموسيقى آثار سحرية تقي من تأجج أزماتهم النفسية. أما الكندي فكان يعتقد إن للإلحان الموسيقية آثارها الحسنة على صحة الجسم, إذ أنها تستخدم كمقويات للدم وكمسكنات وكمساعدة على التخلص من عسر الهضم. ويقول الكندي كذلك إن لآلة العود قدرة فائقة على التخلص من الآلام جميعها, ولذلك ادخل الآلات الموسيقية كالدفوف والأعواد لمعالجة مرضاه, وهو من أضاف الوتر الخامس للعود ونفذه عمليا زرياب. أما ابن سينا فله في هذا قوله المأثور: " الغناء أحسن رياضة لحفظ الصحة من العناء ". والفارابي الذي بلغ منزلة كبيرة في تضلعه للموسيقى علما ومزاولة, وكان يفخر بنفسه بأنه يضرب على العود, وهو الذي أكد على الأثر الايجابي للموسيقى في الحياة المدنية وخاصة عندما تتلبس بقول الشعر. ويذكر أخوان الصفا في رسائلهم عن استعمال الموسيقى في مشافي " المجانين " التي وجدت في ذلك العصر, حيث كان يلجأ الأطباء العرب لشفاء " المجانين" إلى استخدام الموسيقى لتخفيف الآلام عن مرضاهم أثناء النوبات, ويؤكد أخوان الصفا كذلك إن الموسيقى تؤدي إلى السكينة الكاملة والطبيعية لدى المرضى بعد الاستماع للنغمات الموسيقية.

وفي عالمنا المعاصر إذ تنهال علينا نتائج الأبحاث العلمية في ميادين التربية وعلم النفس والطب وغيرها من العلوم, وجميعها تؤكد على أهمية الموسيقى والغناء في حياة الإنسان وصحته الانفعالية والفكرية والعقلية والجسدية, وتشكل بدورها دليلا ميدانيا محكما في صحته لتلك الأهمية التي تحدث عنها التراث العربي والعالمي. ونستطيع أن نجمل بعض من فوائد الموسيقى والغناء في ضوء نتائج البحث العلمي بما يأتي: أن الموسيقى والغناء الهادئ يفيد الأفراد الذين يعانون من الأرق وتؤدي فعل المهدئات الطبية, كما تساعد على تنظيم النبض والتنفس والدورة الدموية والحد من التوتر العصبي, وتسهم في تخفيف حالات الاكتئاب والقلق, وتساعد على تخفيف آلام الظهر, والنخاع ألشوكي, والأمراض العصبية, وارتفاع الضغط وآلام الرأس, كما تساعد الموسيقى والغناء الذي يحبذه الشخص على زيادة إنتاجه في العمل أو الوظيفة التي يمارسها عند سماعه لذلك أثناء العمل و في ظروف لا تزعج الآخرين, كحمل السماعات في الآذان, كما أكدت الأبحاث أن سماع الموسيقى والغناء من قبل ممارسي رياضة الركض يفيد كثيرا في عدم إحساسهم بالتعب أثناء ممارسة هذا النوع من الرياضة, حيث تساعد الموسيقى على إفراز مادة " الاندروفين " في الدماغ والتي تساعد على عدم الإحساس بالتعب مقارنة بمن لا يستمع إليها أثناء أداءه للتمرينات, كما أبدى المصابين بالسكتة الدماغية والذين تدهورت لديهم القدرة على المشي, مزيدا من التحسن عند تدريبهم وسماعهم لنوع من الإيقاع الموسيقي, وقد أظهرت الأبحاث العلمية أن المرأة الحامل يكون نصيبها في حمل هادئ أكثر من نظيرتها المرأة التي لم تستمع إلى الموسيقى وكذلك أثناء الولادة حيث يكون الألم اقل في فترة المخاض لدى مستمعات الموسيقى, وتساعد الموسيقى والغناء المسنين والعجزة على تحسين الذاكرة واسترجاع المعلومات وحتى بالنسبة للشباب والأطفال. كما أصبح معروفا اثر الموسيقى على النباتات وانتعاشها وزيادة رونقها, وكذلك أثرها الواضح على " نفسية الحيوان ", مثل اثر النغمات الناعمة والهادئة على البقر في إدرارها اللبن, كما ونوعا, وهكذا فأن الموسيقى والغناء يشكلان بيئة مواتية للشفاء والعطاء لكل من الإنسان والحيوان.

أما بالنسبة للدور التربوي الذي تؤديه الموسيقى والغناء فقد عكفت النظم التربوية والتعليمية العالمية والمتطورة على تضمين مناهجها الدراسية بمادة الموسيقى والغناء وإعطاء حقها من المنهج الدراسي, وعدم استلابها لمصلحة المواد الدراسية الأخرى واعتبارها مادة ثانوية عديمة الجدوى كما يجري في نظمنا التربوية. وقد أكدت النظم التربوية المعاصرة أن هذه المادة الدراسية لها دور أساسي في النمو الجسمي, والعقلي, والانفعالي والاجتماعي, ووفقا لذلك فأن التربية الموسيقية تؤدي إلى تنمية التوافق الحركي والعضلي في النشاط الجسمي, والى مجموعة من المهارات الحركية, إضافة إلى تدريب الأذن  على التميز بين الأصوات المختلفة, ويتم ذلك من خلال أنشطة موسيقية متعددة كالتذوق الموسيقي والغناء والإيقاع الحركي والعزف على مختلف الآلات, وكذلك في تنمية الادراك الحسي والقدرة على الملاحظة وعلى التنظيم المنطقي وتنمية الذاكرة السمعية والقدرة على الابتكار, إضافة إلى مساهمة الموسيقى في تسهيل تعلم وتلقي المواد الدراسية الأخرى وارتفاع مستوى التحصيل فيها, إلى جانب تأثير الموسيقى في شخصية الطفل وقدرتها على خفض حالة التوتر والقلق فيصبح أكثر توازنا, إضافة إلى أن الموسيقى تستثير في الطفل انفعالات عديدة كالفرح والحزن والشجاعة والقوة والتعاطف وغيرها, وهو ما يساهم في أغناء عالم الطفل بالمشاعر التي تزيد من إحساسه بإنسانيته, كما تساهم الموسيقى في تنمية الجوانب الاجتماعية لدى الطفل, حيث تشتد أثناء الغناء والألعاب الموسيقية ثقة الطفل بنفسه ويعبر عن أحاسيسه بلا خجل وتسهل توطيد علاقاته بأقرانه, إضافة إلى الجانب الترفيهي في حياته, كما أن الموسيقى والغناء يعيدان إنتاج التراث الثقافي والفني في ذهنية الأطفال.

وأمام كل هذا الكم الهائل من الدراسات العلمية والتربوية والنفسية والتي تؤكد على استجابة الفطرة الإنسانية للموسيقى والغناء,  في صحتها ومرضها, نواجه الموقف الديني الذي يفسر نصوصه فقهاء الدين وتجسده ممارسات الإسلام السياسي على الأرض وبكل وضوح في التضييق على حريات الناس في الاستمتاع بالموسيقى والغناء وغيرها من الفنون, ويجري هذا التضييق ومصادرة حرية الأفراد في الاستمتاع بالفنون على خلفية الفهم المشوه للنصوص الدينية التي ترد في القرآن وكذلك في الأحاديث النبوية, كما لا يوجد خلاف على تحريم الموسيقى والغناء لدى كل المذاهب الإسلامية, إلا في بعض الاختلافات الشكلية والتي تصب جميعها في خدمة المحرم. ويستند هذا التحريم إلى ما ورد, على سبيل المثال لا الحصر , في سورة لقمان/الآية ( 6 ): ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ), وحسب جموع المفسرين فأن " لهو الحديث " يقصد به الغناء وما يلهي عن الخير والأكاذيب, وكذلك ما ورد في سورة الحج/الآية ( 30 ): ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ), ويقصد هنا " بقول الزور " لدى أهل السنة والشيعة هو مجالس الغناء وأيضا شهادة الزور أي شهادة الكاذبة ولا مانع " حسب المفسرين " من أن يكونا مقصودين في الآية المذكورة فتحمل على كلا المعنيين, وقد ورد أيضا في سورة الإسراء/الآية ( 64 ): ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجالك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ), ويلتقي في هذه الآية  كل من أهل السنة وأهل الشيعة على تفسير معنى " بصوتك " والمقصود بها هنا هو الغناء والمزامير واللهو والملاهي, وآيات قرآنية كثيرة تشير إلى تحريم الغناء والعزف على مختلف الآلات الموسيقية لا مجال لذكرها بكثافتها هنا.

أما في السنة النبوية فقد جاء التحريم مطابقا لوروده في القران, والأحاديث النبوية هي الأخرى لا حصر لها, واذكر القارئ هنا ببعض من هذه الأحاديث لكي تسند الحديث عن تحريم الغناء والموسيقى, يقول النبي محمد: ( إياكم  واستماع المعازف والغناء, فإنهما ينبتان النفاق في القلب, كما ينبت الماء البقل ), ويقول أيضا في حديث آخر: ( إن الله بعثني رحمة للعالمين, ولأمحق المعازف والمزامير, وأمور الجاهلية ). كما يدخل الأئمة هنا على خط التحريم ليؤكدوا ذلك, كما في قول الإمام الصادق: ( بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة, ولا تجاب فيه الدعوة, ولا يدخله الملك ), ويدخل على خط التحريم أيضا علي خامئني, مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقوله: ( الغناء محرم شرعا مطلقا, حتى في الدعاء والقرآن والأذان والمراثي وغيرها ).  أما في المملكة العربية السعودية وبعد سلسلة مثيرة من الفتاوى الغريبة لمفتيها العام بتحريم الفنون من غناء وموسيقى وسينما ومسرح بوصفها تلهي القلوب أضاف المفتي الأرجيلة - الشيشة ولعبة الشطرنج الى قائمة المحرمات التي تطول يوما بعد أخر لتكشف عن خطورة هذا النهج المتشدد. وهكذا نجد إجماعا على تحريم الموسيقى والغناء والفنون الاخرى لدى جميع المذاهب الإسلامية, لما يسببه حسب رأيهم من انهيار للقيم والأخلاق وفساد الشباب وضياع الوقت وانهيار المجتمعات, والانحراف عن الدين, والتسبب في الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية والروحية.

وهكذا نجد تعارضا بين معطيات البحث العلمي وتفسير الخطاب الديني, ويثير لدينا تساؤلا: " إذا كان الخطاب الديني لا يقف بالضد من نتائج البحث العلمي كما يدعي كل فقهاء الدين, فعلام هذه الفرقة بين العلم والدين في إحدى قضايا الحياة الروحية والنفسية والجسدية, إلا وهو الفن والموسيقى والغناء, أم هي دعوة مستديمة ومتجددة لفصل الدين عن الدولة وعدم التدخل في الحريات الشخصية, ولكي تأخذ مكونات الحياة الفكرية والثقافية والعقلية نصيبها من الثراء والرقي والتقدم بعيدا عن عبث المتأسلمين.  وتأتي هنا واقعة الهجوم على مهرجان الأفتتاح لبطولة غرب آسيا الذي اقيم في كربلاء ترجمة سلوكية واضحة من قوى الاسلام السياسي وموقفها العدائي من الفنون, وما افتعال قدسية المكان إلا لصب الزيت على نار التدخل في الحياة العامة وإشعال المزيد من الفتن وعدم الاستقرار.       



 





95
" الأشروكية والشراكوة " وسيكولوجيا خطاب الكراهية
 
د.عامر صالح 

في الأزمات المستعصية على الحل لعقود يشتد فيها اعادة انتاج خطاب الكراهية للمكونات الاجتماعية القائمة على أسس من الجغرو طائفية وأثنية, وهو خطاب انتجته السلطة السياسية على شكل اسقاط سايكولجي لأزمتها على الآخرين من المكونات الأثنية والدينية والمذهبية في محاولة بائسة منها لتصريف ازمتها وتحميل الآخرين جوهر فشلها في بناء دولة المواطنة التي تسموا خارج الأنتماءات الفرعية, وبالتالي حصر المكونات في دائرة ضيقة وتشديد الخناق عليها في محاولة لدرء خطر أي مطالبة للتسوية الاجتماعية العادلة والاعتراف بأن المجتمعات الانسانية والعراق منها حصرا ليس حكرا على مكون واحد إن كان قوميا أو دينيا او ثنيا ومذهبيا, وبالتالي فأن اللجوء الى تجزئة المجتمع الواحد الى اجزاء متنافرة, قومية ومذهبية وجغرافية هو جوهر الخطاب الرسمي المعلن منه والمخفي لأثارة العدواة والبغضاء بين المكونات المجتمعية.

وقد استخدم هذا الخطاب لعقود النظام الدكتاتوري المنهار في 2003 ومن ثم اعادة انتاجه من قبل نظام المحاصصة الطائفية والاثنية الذي أتى به الاحتلال الامريكي. وكلا الخطابين نتاج للفشل الذريع في بناء دولة المواطنة الآمنة التي تحتضن الجميع الى جانب الفشل في تأمين مستلزمات العيش الكريم. وللأسف الشديد يقوم " اكاديمين " و " اساتذة " جامعات لترويج هذا الخطاب عبر الاستخدام التعسفي والغبي لبعض الدراسات في علم الاجتماع ومحاولات توظيفها لأضفاء الشرعية في تكريس التجزئة الاجتماعية خدمة لمصالح ابقاء النظم القمعية والاثنوطائفية واعادة انتاج الازمات ورمي مسبباتها على طبيعة المجتمع لا على طبيعة النظام الذي انتجها. 

ينتعش اليوم على خلفية الفشل والازمة العامة للبلاد استخدام مصطلح " الشروكية " ويتم تداوله في الاوساط الأمية وأشباه الأميين وتحميل ازمة العراق ومحنته وتعليقها برقبة " الأشروكين " دون معرفة دقيقية لهذا المفهوم والاستخدام ومن هم الأشروكين وكيف أتوا للعراق واندمجوا فيه بل وشكلوا جزء لا يستهان به من اجهزة النظام السابق القمعية, كقوى الأمن والمخابرات والأقبية السرية, كما يجري خلط جاهل وتعميم سفيه بأن الأشروك هم شيعة والشيعة هم الأشروك.  الى جانب كون نعت الشروكية ليست اكتشافا سنيا أريد به وصم الشيعة.

وهذا ما يؤكده علي الوردي في كتابه " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" حيث يقول: " ينبغي ان نذكر ان قبائل الفرات الاوسط  تنظر الى قبائل دجلة القاطنة الى الشرق منها نظرة لاتخلوا من احتقار.. وهي تطلق عليها اسم "الشروقيين" نسبة الى الشروق اي الشرق"(ص. ١٦١) و" ان قبائل الفرات الاوسط تنظر الى المعدان مثل نظرتها االى الشروقيين" (ص. ١٦١).. وعلي الوردي يضيف بنظرة قِيَميّة شائعة في كتبه ولا تمت لعلم الاجتماع بصلة لمن يريد قراءة الوردي نقديا وليست نصوصا جاهزة انتقامية :" يبدو ان قبائل الفرات الاوسط لها بعض الحق في احتقار المعدان .. فالمعدان لم يستطيعوا ان يحافظوا على القيم البدوية" ويضيف مستشهداً بالكاتب البريطاني ثيسيغر ان "لهم سمعة واسعة باللصوصية" (ص. ١٦٢). وهنا رغم تفصيل الوردي بالفروقات بمعنى الشروك, فأنه يلغي تأثير تحسين ظروف الحياة وانعكاستها في خلق ظروف افضل للعيش عبر تأصيل تلك السلوكيات سيكوفطريا. ولا اريد الخوض في موجات الهجرة التي أتت لجنوب العراق والاهوار أسوة بكل ما تعرضت له المنطقة تاريخيا من مختلف الهجرات.




أنه خطاب كراهية أنتعش في ظروف انتكاسة و يمكن القول ان الكراهية خطاب ذو طاقة انفعالية سلبية تلغي مكانة العقل وقدرته على التحكم منطقيا في الاحداث التي تجري في البيئة القريبة او البعيدة, وهو خطاب رافض للآخر ويسقط كل السلبيات على المختلف ويدعي لنفسه كل الايجابيات وهو يدافع عن العنف الذي يمارسه ضد الآخر ويرفض كل محاولات الدفاع عن النفس من قبل الآخر. وللتفصيل سأضع التعريف الآتي لخطاب الكراهية من عدة مراجع:   

كل ما يشتمل إساءة أو إهانة أو تحقيراً لشخص أو جماعة من منطلق انتمائه أو انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو بسبب اللون أو اللغة أو الجنس أو الجنسية أو الطبقة الاجتماعية أو الانتماء الإقليمي أو الجغرافي أو المهنة أو المظهر أو الإعاقة هو خطاب كراهية ، وكل ما يشتمل تحريضاً أو قولبة لجماعة في إطار يثير التهكم والسخرية أو تقليلاً من قدر جماعة واتهاماً لها بالنقص والدونية وكذلك كل تبرير للعنف ضد جماعة ما وكل تعبير عن التميز والتفوق على الآخرين لأسبابٍ عرقية أو ما شابهها, وكل ما يشتمل معاداة للمهاجرين أو الأقليات أو تحريضاً على منعهم من الإقامة في مدن أو أقاليم بعينها وكل ما يشتمل اقتباسات وإحالات وإشارات فيها ازدراء أو تقبيح لجماعة عرقيّة أو جغرافيّة أو دينية، وكل تزييف أو تزوير أو تحريف للحقائق وكل استعارة أو تعبير مهين, وكل خطاب يفرق ولا يجمع, لا يصل بل يقطع هو خطاب كراهية.                                                                 

ولعل ابرز ما يستخدم اليوم بين صراع مكونات المجتمع العراقي هو مفاهيم تأصل العنف في الشخصية العراقية دون غيرها, وازدواجيتها الأبدية في التعامل اليومي والسياسي, وفطرية العداوة بين العرب والكرد وبين الوسط والجنوب وبين مكونات الوسط والجنوب نفسه الغير قابلة للحل إلا عبر اجتثاث الآخر ونفيه والخلاص منه. ونظرا لتعقد الخلافات الأثنو قومية والجغرو طائفية عبر تاريخ الدولة العراقية ومنذ تأسيسها, وعدم العثور على الحلول الانسانية والناتجة اصلا من غياب البنية السياسية والاقتصادية الحاضنة للمكونات, أصبح من السهل التعميم واللجوء الى الدراسات التي تأصل المشكلة وتبتعد عن الحل. وهو بالتأكيد عجز فكري ومنهجي لفهم السلوك الانساني. السلوك الانساني في معظمه نتاج الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وأن التأصل النسبي فيه هو ناتج من تأصل الظروف التي انتجته تاريخيا وحاضرا.

وكما أن السلوك الفردي قابل للتعديل ويخضع للقياس والتجريب عبر التحكم في الظروف التي انتجته, فأن السلوك المجتمعي والمكوناتي هو الآخر قابل للتحكم فيه واعادة ضبطه وانتاجه أو تغيره عبر التحكم بمجمل الظروف التي تنتج مختلف انماط السلوك. 

وعلى نسق الدراسات السيكولوجية التي تجري لدراسة الوحدات الانسانية المتماثلة بيولوجيا ولكنها تعيش في ظروف متباينة, والتي تؤكد ان حتى التوأم المتطابق والمتماثل عند عزلهما في ظروف مختلفة انتجت لنا سلوكيات وشخصيات متباينة, ولم يجمعها مشترك الا بعض الملامح العامة ذات الطابع الجسمي, وعلى نسق ذلك لو اخذنا توأم كردي أو غير توأم احدهما عاش في المناطق العربية وغير العربية, والآخر بقى في بيئته الأم, فعلى ماذا سنحصل من نتائج لاحقا, وبالمقابل لو فعلنا ذلك مع اطفال عرب وتركناهم يترعرعوا في بيئة كردية مثلا, عن ماذا سنحصل. نتائج ذلك هي التي تدفعنا للتدقيق بعوامل الاختلاف سواء على المستويات الفردية والاجتماعية. 

ويشكل تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأسباب القوية في زرع الكراهية والمناطقية والعنف في البنية المجتمعية, فانتشار الفقر وتدني مستوى الحياة وضعف الخدمات الاجتماعية من صحة وخدمات عامة, وكذلك ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية والحضارية بين مختلف الفئات الاجتماعية وخاصة الفقيرة منها, واستشراء  الفساد بمختلف مظاهره الإدارية والمالية والأخلاقية, وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية واستئثار الحكم وحاشيته بالثروة الوطنية, جميعها عوامل تأسس للكراهية والحقد والعنف بين مكونات المجتمع.

أن العنف والكراهية الناتجة من الأسباب المجتمعة و المذكورة أعلاه تفضي إلى اضطراب في منهجية التفكير النقدي البناء وقصور في الفكر الجدلي الذي تجسده حالة العجز في الجمع في سياق واحد بين الأوجه الموجبة والأوجه السالبة, والعجز في الجمع بين المميزات والعيوب لمسألة ما سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية وسيطرة المستوى السطحي من التفكير الذي يشكل قناعا يخفي الحقيقة, وإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل, وطغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية والعودة إلى المستوى الخرافي, والى الحلول السحرية والغيبية, والى الإرهاب باعتباره واجبا " مقدسا " أو حلا قسريا للأزمة النفسية والسياسية.

96


د.عامر صالح 

كشفت وزارة التربية عن نسب النجاح للمرحلة الوزارية المتوسطة، وقد بلغت 34.69 في المئة. فيما أشار عدد من المسؤولين والمعنيين إلى أسباب عديدة لتدني نسب النجاح في الامتحانات الوزارية، أبرزها سوء الواقع التعليمي وآفة المحاصصة التي نخرت المؤسسة التربوية والتعليمية. وقالت وزارة التربية في بيان مقتضب، إن نسبة النجاح في مرحلة الثالث المتوسط، بلغت 34.69 في المائة، مضيفة أن هذه النسبة غير نهائية، حيث لم يتم احتساب النتائج للدورين الاول والثاني. ويؤكد ذوي الاختصاص في التربية والتعليم، إن" نسب النجاح المعلنة غير حقيقية، كون النسب المعلنة هي للطلبة الذين ادوا الامتحانات فقط، الذين يقرب عددهم من 650 الف طالب، وتم التغاضي عن عدد الطلبة الكلي الذين لم يسمح لهم بأداء الامتحان، بسبب عدم دخولهم الى البكالوريا، ولو تم حساب هذا العدد لكانت النسب تعبر عن كارثة حقيقية". وقد اكد كادر وزارة التربية ان النتائج اكثر كارثية في التعليم الأهلي حيث وصلت بعض نتائج النجاح فيها الى الصفر.

لا يمكن الحديث عن التعليم المتوسط ونتائجه المنخفضة جدا بمعزل عن خلفية التعليم في المراحل التي سبقته, فالتعليم بمراحله المختلفة هو حلقة وصل وتأثير متبادل لما قبلها وبعدها, وبالتالي فأن طالب الثالث متوسط هو من مخرجات مرحلة الابتدائية, وان النظر الى مشكلة انخفاض التحصيل الدراسي وتدني النتائج النهائية بمعزل عن ذلك هو شكل من اشكال العبث والهروب من الاسباب الحقيقية التي ادت الى ذلك, لأن ازمة التربية والتعليم في العراق بكل مراحله هي ازمة متصلة, وان تدني التحصيل في التعليم المتوسط هو انعكاس لتدنيه في المرحلة الأبتدائية التي سبقته ومؤشر لضعف الكفاءة الداخلية للنظام التربوي والتعليمي. 

هناك عموما أنسيابية ضحلة بين مراحل التعليم العام المختلفة والمتمثلة بالانخفاض الشديد لنسب النجاح في كل المراحل الى جانب التسرب دون اكمال المرحلة الدراسية, وهي تشكل احد عوامل الاهدار البشري والمادي في التعليم حيث تكون مخرجات المراحل ضعيفة جدا يقابلها انفاق على التعليم بلغ في السنوات الاخيرة اكثر من 27 مليار دولار, ومن حق المرء ان يتسائل أين هي العوائد والفوائد من هذا الاستثمار المالي في هذا القطاع وأين هي مخرجاته الكمية والنوعية, وحتى من تواصل ما بعد المرحلة المتوسطة الى السادس الاعدادي فهذه هي نتيجته, فالمشكلة أكبر من ان تنحصر في نتائج أداء طلبة الصف الثالث متوسط ونسبتهم الفقيرة.

لقد وقع نظام التربية والتعليم بعد 2003 أسوة بغيره من القطاعات الاجتماعية أسير للمحاصصة الطائفية والاثنية مما أخل بمهمة هذا القطاع الحيوي في التربية والاعداد وتركه فريسة للأجتهاد والفوضى وغياب فلسفة تربوية واضحة للنظام التربوي والتعليمي, الى جانب غياب فوضى في صياغة الاهداف التربوية للمراحل الدراسية المختلفة, والى جانب مالحق بالنظام التربوي والتعليمي جراء الاحتلال من تدمير وخراب شامل في مؤسساته التحتية من أبنية ومعدات ومختبرات ولوازم مدرسية وكادر تعليمي.

اليوم يعاني هذا القطاع من ازمة خانقة تتجسد في ابرز ملامحها: انعدام الابنية اللازمة والمهيئة تربويا للتعليم, ضعف الوسائل التعليمية من مختبرات ووسائل ايضاح واجهزة الكترونية مخصصة للعملية التعليمية, ضعف الكادر التدريسي وانعدام الحوافز التعليمية وعدم توفر الفرص الكافية لأعادة التأهيل وتجديد الخبرات, ضيق الفصول الدراسية بالدارسين من مختلف المراحل مما يثقل كاهل الطالب والمدرس في التركيز والاستفادة القصوى من الحصة الدراسية, التنقلات بين المدرسين وانعكاساتها على العملية التربوية, انتشار الدروس الخصوصية في مختلف المواد مما يرهق الطالب ماديا ويضعف عطاء المدرس في حصته المدرسية, عدم تغطية المدرسين لمفردات المنهج خلال العام الدراسي, غياب عنصر التشويق في المنهج الدراسي, ضعف صلة المنهج بحاجات الطلبة الحياتية, وضعف التنسيق بين المدرسة والمجتمع المحلي, انعدام الامن المجتمعي حيث الارهاب والقتل اليومي والاختطافات تعرقل حركة الدارس من والى المؤسسة الدراسية وغيرها من العوامل ذات الصلة المباشرة بالعملية التربوية.

وهناك عوامل اخرى خاصة بالطالب نفسه وبيئته المحيطة منها ما هو اقتصادي, حيث الطالب اليوم هو معيل في الكثير من الحالات لأسرته بسبب الفقر والعوز, او عدم تمكن الاسرة من الاستجابة لمتطلبات دراسة أبنائها مما يضطر الطالب على العزوف الكلي من الدراسة أو التأجيل, الخوف من الفشل وقلق الامتحان, عدم كفاية الوقت لبعض الطلبة, وصعوبة بعض الاسئلة الامتحانية, المناخ الامتحاني العام وما يسود في القاعات الامتحانية من اجراءات مشددة, انقطاع التيار الكهربائي في الساعات الامتحانية والدراسية العادية وخاصة في اجواء الحر الشديد, وكذلك المستقبل الغامض للطالب بعد انهاء المرحلة الدراسية حيث عدم الحصول على كلية او فرع للدراسة, وانعدام الجدوى من الدراسة في مجتمع كالعراق تزداد فيه بطالة الخريجين.

هذه بعض من العوامل التي تتحكم بالتحصيل الدراسي ونسب النجاح, ومن هنا يجب البحث موضوعيا في تدني مستويات النجاح التي وصلت الى حد يخجل منه تاريخ التربية والتعليم في العراق, بعد ان كان العراق يفتخر عالميا بمستويات انجازه التربوي والتعليمي, وكان يرسل الى الدول العربية خيرة كوادره لبناء انظمة التعليم هناك وسد الشواغر التدريسية.

في الختام يجب التأكيد هنا ان تدني التحصيل الدراسي في مراحل التعليم قد يكون من ضمن مشاكل التعليم ومخرجاته وهي مشكلات تقليدية تقع في كل الدول بنسب مختلفة ولا تشكل ظاهرة تهدد بقاء النظام التعليمي صالحا للأعداد والتربية والتأهيل, وبالتالي يجري حصر الظاهرة في حدودها الضيقة لمعالجتها وتقليصها الى الحدود الدنيا, اما في العراق فأن الامر مختلف وهويشكل ظاهرة في كل المراحل وتهدد النظام التعليمي, وبالتالي فأن المعالجة يجب من خلال معالجة ازمة التربية والتعليم في العراق, ابتداء من فلسفته واهدافه الى تغير المناهج واعداد الكادر التدريسي والعمل على تحديث طرائق التدريس ووضع حد لتعسف التعليم الأهلي ومعالجة خضوعه للربحية والمنافسات غير النزيه والعمل على ربطه محكما بالتعليم الحكومي.

97
أثر الهالة النفسية في تفسير ثورة 14تموزعام 1958في العراق

د.عامر صالح
كثر الحديث في ظروفنا الحالية عن ثورة الرابع عشر من تموز للعام 1958والتي اسقطت النظام الملكي وأسست اول جمهورية فتية في تاريخ العراق السياسي المعاصر, ثم أطيح بالثورة في 8 شباط عام 1963 عند استلام البعث للسلطة وبعدها تحول العراق الى مسرح للأنقلابات والمؤمرات العسكرية والمخابراتية والحزبية وكان آخرها قبل الأحتلال الامريكي للعراق هو انقلاب 17 تموز للعام 1968 الذي أتى بالبعث مجددا للسلطة. وكان الحديث عن ثورة تموز يتداوله بصورة خاصة فريقين: فريق انصار الثورة وحلفائها ومؤازيريها يها والذي يرى ان الانقلاب على الثورة سبب في اهدار فرص تاريخية للعراق واستقراره وتقدمه وازدهاره نعاني منها الى اليوم, والفريق الآخر يرى أن في ثورة تموز هو عمل انقلابي عسكري أسس لمسلسل الانقلابات اللاحقة والذي قطع الطريق على التجربة الملكية الناشئة في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

أذا كانت الشعوب هي التي تزكي أنظمتها او تحجب عنها الشرعية فأن ثورة 14 من تموز/1958 تمتعت منذ انطلاقتها الأولى وحتى نهايتها على يد النظام الأنقلابي البعثي الفاشي في 8 شباط/1963 بزخم جماهيري هائل واستعدادات ذاتية للدفاع عنها, ولم يكن موقف الشعب العراقي انذاك موقفا انفعاليا عابرا بل استند الى مجمل المعطيات الأقتصادية والأجتماعية والأنسانية العامة التي كان برنامج الثورة يتبناها ويسعى الى تحقيقها وكانت بمجملها تستجيب لمطالب الشعب العراقي في تحسين ظروف العيش والحياة العامة والسيطرة على ثروات البلاد بعد ان أخذ الفقر والبؤس والعوز والفساد مأخذه في حياة الناس في الحقبة الملكية وبالتالي كانت الثورة استجابة لتفاعلات العوامل الذاتية والموضوعية التي وصلت ذروتها في رحم النظام الملكي. وقد كانت للثورة انجازات كثيرة وأهمها القضاء على الإقطاع وإلغاء قانون دعاوى العشائر وإصدار قوانين عادلة كثيرة مثل قانون الأحوال الشخصية وقانون الإصلاح الزراعي وقانون مجانية التعليم وقانون تأميم النفط وكذلك التطور الملموس في الاعمار والاسكان والصحة وعموم الخدمات قياسا بعمر الثورة التي لم تكمل الخمس سنوات.

ومن اراد ان يطلق تقيما لثورة 14تموز اليوم عليه ان يقيم ذلك الحدث ضمن خصوصية الزمان والمكان الذي وقعت فيه الثوره واعتقد سيسعفنا منهج البحث التاريخي وادواته في وضع الثورة في سياقها الذي نشأت فيه, وبالمقابل أن من يمجد الملكية العراقية اليوم عليه ان لا يتأثر في تقيمه بنموذج مملكة السويد أو الدنمارك او المملكة البريطانية ويتخذها محكات لأضفاء الهالة على المملكة العراقية, فالملكية في العراق كانت تعكس في طبيعتها تحالفات الأقطاع والعشائر مع سلطة الكومبرادور. كما ان الباحث الموضوعي في هذا الشأن عليه ان يقتفي اثر منهجية البحث العلمي الشاملة في الاحاطة بالظاهرة وملابساتها ومراحل تشكيلها, فعندما تنتقد جوانب عديدة في مسار ثورة تموز القصير عليك انسانيا ان لا تبارك الانقلاب عليها وتشجع على سفك المزيد من دماء الابرياء, او تسكت عن عقود لاحقة من الحروب والظلم الاجتماعي التي سببها نظام البعث الى ما قبل سقوطه في 2003 على يد المحتل الامريكي.

اما ما يشار الى الظواهر اللاانسانية التي حدثت في بداية الثورة من سحل وقتل وتعذيب لرموز النظام الملكي فهي ظواهر يندى لها الجبين وغير مقبولة قيميا واخلاقيا وانسانيا وان السلوك الوحشي اتجاه من يعارضك مرفوض جملة وتفصيلا, ولكن للامانة التاريخية وهناك وقائع جرت في العهد الملكي فاقت اضعافا مضاعفة حجم ضحايا ثورة تموز " ان صح التعبير " وان اعداد من سقطوا في ظل النظام الملكي " على سبيل المثال لا الحصر " في مدينة الحي الصغيرة لوحدها عام 1956 أو في سجن الحلة أو في انتفاضة 1948 يفوق ما حدث في 14 تموز. عدا عن المجزرة التي ارتكبت ضد عمال النفط المضربين في كركوك، وعمال النفط في البصرة، ووثبة كانون عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث، وانتفاضة تشرين عام 1952 في بغداد، ومجزرة عام 1933 ضد الآثوريين في الشمال والتي ذهبت ضحيتها في اقل التقديرات خمسة آلاف ضحية, الى جانب الاعدامات والتصفيات الفردية للكثير من القيادات السياسية المعارضة والنشطاء السياسيين. الى جانب الرعب اليومي للاجهزة السرية والمخابراتية.

اما اعمال العنف والتصفيات الجسدية لرموز النظام الملكي ولاحقا لرموز اول جمهورية فأنها تعبر جليا عن سلوكيات القطيع الخطيرة في المنعطفات التاريخية واكثرها خطورة تلك التي يغذيها خطاب الثقافة الشوفينية والعنصرية الذي يشدد من قبضة الكراهية واستباحة الدم والتحريض على القتل. ان مرور 61 عاما على ذكرى الثوره واستعصاء أزمة الحكم وعدم المقدرة على حل المعضل السياسي وعدم وجود انجازات في الحاضر جعل الناس اكثر نكوصا وتقهقرا وعودة الى الماضي للبحث في ثناياه بما يشبع رغبتنا في الأنجاز ولعل الأفراط في الحنين الى الملكية واعتبار كل ما حصل فيها هو مثالي ويجب استذكاره وتكراره هو مؤشر لأحباطات الحاضر وعدم القدره في ألتماس افق مستقبل افضل. اما الهجومات هنا وهناك على ثورة تموز فهي اسقاط سيكولوجي بأمتياز في تحميل الآخرين فشل المنظومات السياسية التي أتت ما بعد الثوره الى يومنا هذا حيث خاتمتها الأحتلال الأمريكي واسقاط الديكتاتورية عبر الأحتلال والذي اسقط الدولة ومؤسساتها ولم يسقط النظام ومنظومته الأخلاقيه. 

ان البحث المحايد نسبيا في ثورة 14 تموز عام 1958وتناولها في اطار الظروف الوطنية والاقليمية والدولية التي نشأت فيها يضعها في مكانها الصحيح, ولا يمكن لنا ابدا تقيم الثورة انطلاقا اليوم من اسقاط ظروف الحاضر المتغير ومطالبة الثورة ما يجب ان تكون اليوم عليه فهذا مغاير لسنة الحياة المتجددة بدون انقطاع وخاصة في السياسة, ولكن بما لا يقبل الجدل كان قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم وطنيا مخلصا ومحبا لشعبه بفطرته الخالصة, اراد الخير للعراقيين ولكن الشوفينية القومية والتعصب الاعمى والاستحواذ على السلطة لم تدعه يكمل مشواره. كل بلاد العالم وخاصة المتحضر منه تحترم ثوراتها الوطنية والتحررية رغم اختلافاتهم في تقييم الاحداث ولكن يبقى الاعتزاز برموزها قائما الى اليوم وكل حسب ادائه ومهمته في ظروف تختلف نوعيا عن ظروف الحاضر. 

بالتأكيد ان الحديث عن عبد الكريم قاسم اليوم في العراق وخاصة بعد سقوط النظام الدكتاتوري ومرور 16 عاما على ما يسمى النظام الديمقراطية في العراق هو الآخر ذو شقين: الاول يدعو الى الاستفادة من دروس الثورة لأصلاح الحياة العامة في العراق والوقوف ضد الاحترابات القومية والمذهبية التعصبية والشوفينية التي حرفت مسار ثورة الرابع عشر من تموز ويدعو هذا الفريق ايضا الى الذهاب بعيدا وجديا في تنفيذ مشروع الاصلاح الشامل في منظومة الحكم الفاسدة ودرء خطر عودة داعش مجددا, وفريق لا يستطيع تجاوز اخطاء الثورة التي حصلت والارتقاء ببدائل التفكير المنتج لأعادة صياغة الحاضر في مستجدات العصر وضروراته وشعارهم دوما: " لو مو عبد الكريم قاسم لكان أحنة هسه بنعيم الملكية ". انها فعلا ازمة فشلنا في استثمار الماضي ايجابيا وصعوبتنا في بناء حاضر ومستقبل افضل ..

98
رأي تربوي في صعوبة الأسئلة الأمتحانية في العراق

د.عامر صالح   

تداولت وسائل التواصل الأجتماعي صعوبة الأسئلة في بعض المواد الدراسية في الأمتحانات الوزارية في العراق ومنها مادة اللغة العربية لطلبة الثانوية. يبدو الحديث هنا عن جزئية بسيطة في اطار ازمة التربية والتعليم في العراق عموما والتي تجسدها غياب فلسفة تربوية وما يتبعها من غياب لأهداف التربية والتعليم على مستوى المراحل الدراسية وكذلك على مستوى الأهداف الخاصة للمواد الدراسية. فالصعوبة في صياغة اسئلة المواد لا يعني ابدا ان العملية التربوية والتعليمية بخير وتتمتع بكفاءة عالية وتنعكس بدورها على صعوبة الأسئلة الأمتحانية.

المهم في العملية التعليمية هو ان المعارف الأساسية المطلوبة قد وصلت الى ذهن الطالب وتمثلت في سلوكه وعقله كأنماط سلوكية ومعرفيه وبالتالي فأن الأسئلة الواقعية والمعقولة الصعوبة تأتي تتمة لجهد الطالب والمعلم خلال سنة دراسية كاملة. الأمر في الأزمة هو صراع التعليم الحكومي مع التعليم الخاص وتمترس الفساد في كلا المؤسستين وغالبا ما يكون الطالب موضوعا للأبتزاز والأستغلال واخضاعه لألية المنافسة غير النزيهة وشراء جهد الطالب عبر الدروس الخصوصية واخضاعه لمنطق البيع والشراء في اشتراطات النجاح.

الطالب يتحمل جزء من هذا الفشل عبر جريه وراء ملخصات سريعه وسهلة يقدمها سوق بعض المعلمين , وتأتي الأسئلة هنا خلاف لتوقعات الطالب, ولكن اصلاح ذلك يمر عبر اعادة بناء منظمومة التربية والتعليم بعيدا عن المحاصصة والخصخصة الملوثة, والطلبة في النهاية هم ضحية النظام التعليمي والتربوي الذي اصبح ومنذ سقوط النظام الدكتاتوري في 2003 فريسة لنظام المحاصصة الطائفية والأثنية, وانعدمت فيه الفلسفة التربوية الواضحة التي تستقي مصادرها من معطيات التقدم العلمي والتقني والمعلوماتي والبعد الأنساني, وقد فتح فيه باب الأجتهاد والعبثية والارتجال على مصرعيها في تلك المؤسسات التي يعول عليها في بناء الأجيال وتأمين مستقبل عراق آمن قيميا واخلاقيا ومهنيا وعلميا. 

أما من حيث ازمة التقويم التربوي العامة لأداء الطلبة فهي في مجملها تقليدية لا تخرج عن نطاق اعتمادها على الأختبارات التقليدية الدورية الفصلية منها والنهائية, ويتم التركيز فيها على قياس التحصيل المعرفي في المستويات المعرفية الدنيا, والامتحانات بصورتها الحالية تقيس فقط القدرة على الاحتفاظ الميكانيكي بالمعلومات والحقائق الجافة, واهمال كافة اوجه النشاطات المختلفة والاهتمامات المتنوعة التي قد يقوم بها الدارسين خلال العام الدراسي سواء داخل حجرة الدراسة ام خارجها, وبالتالي النظر الى تقويم تعلم الطالب بانها عملية روتينية يتم اجرائها في نهاية الدرس او الفصل او السنة, يختزل فيها جهد الطالب على شكل درجات او تقديرات تمنح للطالب ليعرف موقعه بين اقرانه وكذلك ترفع الى السلطات التربوية بأعتبارهذه الدرجة والتقدير هي الحد الفاصل بين المعرفة من عدمها.

ومن هذه الخلفية المعوقة للتحصيل الدراسي الشامل يجري التكالب على الفوز بالأمتحانات وبأي ثمن, سواء من جانب الدارس او المعلم, فالدارس يريد النجاح بأي ثمن, والمعلم هو الآخر يبحث عن مصادر للدخل في ظل تدهور المنظومة التربوية, وبالتالي تتحول العلاقة بين الدارس والمعلم الى علاقة بين بائع ومستهلك, وعلى مدى ابعد يرتبط بأجندة ارتهان الطالب وتحديد مستقبله في وسط صراع المؤسسات التعليمية وخاصة الخاصة منها التي تنتطر مخرجات سوق العملية التربوية في ظل منافسة غير نزيهة يكون ضحيتها الطالب.   

أن اصلاح نظم الأمتحانات او بصورة اشمل تقويم العملية التربوية والطالب في مقدمتها هو جزء من منظومة الأصلاح الشامل للنظام التربوي وعناصره الاساسية والبنيوية, وفي مقدمتها المنهج والمعلم والطالب وهذا يستدعي بالضرورة التحديث المستمر لوسائل تقويم الطالب الشامل المتعدد الجوانب أو ما يسمى بالتقويم الواقعي الشامل الذي يقوم على مبادئ الفهم الصحيح والواقعي لماهية ووظيفة االأختبارات والتقويم المدرسي عموما, والذي يقوم على مبادئ ابرزها:

ان التقويم الواقعي إجراء يرافق عمليتي التعلم والتعليم ويربطهما معاً بقصد تحقيق كل طالب لمحكّات الأداء المطلوبة وتوفير التغذية الراجعة الفورية حول إنجازاته بما يكفل تصويب مسيرته التعليمية ومواصلة عملية التعلم, فهو تقويم يهتم  بجوهر عملية التعلم ، ومدى امتلاك الطلبة للمهارات المنشودة بهدف مساعدتهم جميعاً على التعلم . وهو بذلك تقويم بنائي يستند إلى عدد من المحكّات ، ويجعل تمكّن الطالب منها هدفاً منشوداً للتعلم والتعليم. وان العمليات العقلية ومهارات التقصي والاكتشاف هي غايات يجب رعايتها عند الطلبة والتأكد من اكتسابهم لها من خلال التقويم . ولا يتسنى ذلك إلا باشغالهم  بنشاطات تستدعي حل المشكلات وبلورة أحكام واتخاذ قرارات تتناسب ومستوى نضجهم .

والتقويم الواقعي الشامل يقتضي أن تكون المشكلات والمهام أو الأعمال المطروحة للدراسة والتقصي واقعية ، وذات صلة بشؤون الحياة العملية التي يعيشها الطالب في حياته اليومية . وبذلك تكون المشكلات المطروحة متداخلة تستدعي توظيف المعارف والمهارات للتوصل  للحلول المناسبة. كما ان إنجازات الطلاب هي مادة التقويم الواقعي وليس حفظهم للمعلومات واسترجاعها ، ويقتضي ذلك أن يكون التقويم الواقعي متعدد الوجوه والميادين ، متنوعاً في أساليبه وأدواته ، ولا تحتل الاختبارات بين هذه الأدوات سوى حيز ضيق. وهذه الاختبارات لا تعدو كونها نشاطات تعلم غير سرية يمارسها الطلاب دون قلق أو رهبة كما هي الحالة في الاختبارات التقليدية .

كما ان مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ في قدراتهم وأنماط تعلمهم وخلفياتهم وذلك من خلال توفير العديد من نشاطات التقويم التي يتم من خلالها تحديد الإنجاز الذي حققه كل طالب  يعد شرطا للتقويم الشامل. وهذه يجب أن تبين بوضوح نقاط القوة والضعف في كل إنجاز، ومستوى الإتقان الذي وصل إليه الطالب بالمقارنة مع محكات الأداء . فهو بالتالي عملية إنتاجية تفاوضية تهيئ للطالب فرصة التقييم الذاتي وفق محكات الأداء المعلومة لديه. ويتطلب هذا التقويم التعاون بين الطلاب . ولذلك فإنه يتبنى أسلوب التعلم في مجموعات متعاونة يعين فيها الطالب القوي زملاءه الضعاف. بحيث يهيئ للجميع فرصة أفضل للتعلم ، ويهيئ للمعلم فرصة تقييم أعمال الطلاب أو مساعدة الحالات الخاصة بينهم وفق الاحتياجات اللازمة لكل حالة.     

 ان هذا النمط من التقويم يركّز على المهارات التحليلية ، وتداخل المعلومات كما أنه يشجع الإبداع ويعكس المهارات الحقيقية في الحياة ويشجع على العمل التعاوني ، وينمي مهارات الاتصال الكتابية والشفوية كما أنه يتوافق مباشرة مع أنشطة التعليم ونتاجاته مؤكداً بذلك على تداخله مع التعليم مدى الحياة كما أنه يؤمن بدمج التقويم الكتابي والأدائي معاً ، ويعتمد على القياس المباشر للمهارة المستهدفة ، ويشجع التشعب في التفكير لتعميم الإجابات الممكنة ، ويهدف إلى دعم تطوير المهارات ذات المعنى بالنسبة للطالب، ويوجه المنهاج ، ويركز على الوصول إلى إتقان مهارات الحياة الحقيقية ويدعم المعلومات التي تعني ب ( كيف ولماذا )، ويوفر رصداً لتعلم الطلبة على مدار الزمن ، ويعد الطالب لمعالجة الغموض والاستثناءات التي توجد في أوضاع حقيقية للمشكلات ، ويعطي الأولوية لتسلسل التعلم أو لعمليات التعلم . ويتطلب تنفيذ التقويم الواقعي الشامل وقتاً لإدارته والرقابة عليه بما يتناسب مع معايير التعليم المفترضة وأن يكون هناك معايير موضوعية للتقويم ، كما يتطلب تدريب المعلمين وتقديمه للطلبة بصورة تدريجية بحيث يصبح مألوفاً لديهم لأنه يحتاج إلى مهارات لتطبيقه .

هذه هي جزء من الاتجاهات الحديثة في العلوم التربوية والنفسية التي تعني بشؤون تقويم الأداء, وهي بالتأكيد لا تصلح إلا في بيئة تربوية صالحة مؤمنة بالأصلاح كنهج للتقويم المستمر في العملية التربوية, وهي لا يمكن تنفيذها إلا في بيئة سياسية عامة هي الاخرى تؤمن باصلاح النظام السياسي والحياة العامة على اسسس من العصرنة والتقدم العلمي وتمثل القيم الانسانية في بناء الدولة والمجتمع, وبالتالي نرى ان مشكلة الامتحانات وصعوبتها المفتعلة في العراق هي جزء من مشهد الفوضى والفساد الاداري والمالي وتعثر العملية السياسية الذي ينعكس على كل القطاعات, وقطاع التربية والتعليم له حصة الأسد من مما يجري من فوضى سياسية مجتمعية.



99
هل يستطيع نظام المحاصصة الطائفية والأثنية في العراق إنتاج معارضة سياسية سليمة


د.عامر صالح
المعارضة بشكل عام هي الفطرة الأنسانية التي تجسدها صراع الأضداد في السلوك والظواهر الأنسانية المختلفة, السياسية منها والاجتماعية العامة وطبعا البيولوجية التي تكمن فيها اسرار سنة التطور والارتقاء في النوع البشري والانساني بشكل خاص, فالمعارضة تنشأ في رحم المكونات الاولى الجنينية سواء في المادة الجامدة أم الحية, ولعل في مخاض ولادة الطفل من رحم أمه تشكل جزء من ملامح تلك الظاهرة الغريزية, التي تجسدها محاولات الطفل الوليد في الخروج الى عالمه الجديد وبين آلية الاحتفاظ به في الأرحام, ولكن الجديد بمواصفات تقدمية يفرض نفسه وينطلق الى رحاب عالمه الأوسع. 

في السياسة وحيث المعارضة السياسية تشكل ركنا جوهريا في أي نظام نظام سياسي  إن كان مستبدا دكتاتوريا قمعيا أم نظام ديمقراطيا تعدديا, ففي النموذج الآول يكون دور المعارضة السياسية الأساسي هو لأسقاط النظام بعد ان تستنفذ مقومات وجوده وصلاحيته للبقاء خارج اطار الأصلاحات الممكنة التي تنقله نقلة جذرية صووب الأفضل, أما في النموذج الثاني حيث المعارضة السياسية الديمقراطية التي تستهدف اصلاح النظام الديمقراطي القائم بوسائل سلمية متاحة عبر موازين القوى السياسية واعادة تشكيلها في مؤسسات الدولة وخاصة البرلمانية منها وعبر استخدام الجماهير والشارع للضغط على الحكومة في الأستجابة للمطاليب الشرعية, في تحسين ظروف العيش والارتقاء بمستويات االحياة نحو الأفضل استنادا الى المعايير الدولية في حدودها المعقولة والدول المرجعية في التقدم والرقي الاجتماعي وفي الاستناد ايضا الى الامكانيات والموارد التي يمتلكها البلد.

في العراق وما بعد عام 2003 أي بعد سقوط الدكتاتورية بآلية الأحتلال الأمريكي حيث أسس نظاما سياسيا قائم على المحاصصة الطائفية السياسية والأثنية العرقية أخل بأنتاج نظام سياسي قائم على اساس الحكم والمعارضة ورفع شعار " الجميع يحكم " ويتقاسم كعكة المحاصصة أو العراق الغنيمة, وهكذا نشأ نظام سياسي شاذ عن اصول اللعبة الديمقراطية يتقاسم مغانم السلطة ويعيد انتاج نفسه عبر انتخابات برلمانية طال الشك بمصداقيتها في كل الدورات الأنتخابية وتوجتها سوءا وعدم شرعية الأنتخابات البرلمانية الأخيرة من ضعف المشاركة في الأنتخابات الى التزوير وحرق صناديق الأقتراع.

جميع القوى السياسية العراقية وخاصة الأسلاموية والأثنية منها الغير مؤمنة بالديمقراطية اصلا والتي وجدت في تلك البيئة السياسية المريضة ملاذا لأعادة انتاج نفسها عبر الترهيب والترغيب والتحايل, هذه القوى مجتمعة وجدت  نفسها في سلة الحكم والمغريات السلطوية وتقاسم النفوذ, اما معارضتها المفتعلة فهي جزء من اساليبها لأمتصاص نقمة الشارع الغاضب وغير المتسامح مع الفساد مستندة تلك القوى الى جمهور قطيعي غير معارض بالمعنى السياسي وممتثل لأوامر مرجعيته, فتراه مرة ممتعض منتفض وتارة أخرى خانع مستكن ينتظر نتائج الصفقات الطائفية والأثنية لكي يتلقى الأشارة بالهدوء المؤقت بأنتطار الحصول على المزيد من الغنائم وليست الحقوق المشروعة.

في النظم الديقراطية الحقة المعارضة مثلها مثل الحكومة فهما وجهان لعلمة واحدة تجسدها الديمقراطية والتدوال السلمي للسلطة وهي حكومة الظل المرتقبة عند تراكم اخطاء الحكومة, فالمعارضة هي ملجأ المواطن الآمن عند الاحساس بالظلم وانتهاك الحقوق وعدم تحقيق المطالب العادلة, والمعارضة السياسية هي حجر الاساس في النظم الديمقراطية والذي افتقده العراق بفعل نظام المحاصصة البغيض والذي افرغ مفهوم الديمقراطية من محتواها الأنساني وحول الصراع على السلطة صراع غابة يسيطر فيه المسلح والمليشياوي وتدخل الأجندة الخارجية لتقرير مستقبل العراق وشعبه.

واليوم حيث لاجديد يذكر في معالجة اوضاع العراق ومعاناته في ظل حكومة عبد المهدي وفي محاولة للتملص من المسؤولية التاريخية تنطلق دعاوى التمويه تحت عباءة المفهوم الجديد للمعارضة التي ابتدعها الأسلامويين على شاكلة "معارضة تقويمية" و"معارضة دستورية" تخفي ورائها ممارسة الضغط لأعادة توزيع غنائم السلطة, فعادل عبد المهدي لم يأتي من كوكب آخر بل أتت به القوى الغير راضية عنه اليوم والتي تروم معارضة حكومته, وجميع القوى التي ستعارضه لم تكن بعيدا عن الفساد وملفاته الشائكة او تقاسم النفوذ في السلطة ابتداء من اصغر موظف الى الوزير وصعودا الى قمة هرم جميع السلطات.

ان الأزدواجية الأخلاقية السياسية التي يمارسها الأسلام السياسي هي محاولات بائسه للظهور بمظهر المتقن والمتعفف لأدارة فن الصراع في الأزمات وتناسوا أن هم انفسهم من أسقط مفهوم المعارضة السياسية من خلال اللجوء الى التوافق سيئ الصيت والذي تم اختيار عادل عبد المهدي على اساسه, وحين يشتد البؤس الأجتماعي والأقتصادي وتسيئ الأحوال العامة فأن الأسلامويين يستنفروا كل قواهم للظهور بمظهر المدافع الأمين عن مصالح الشعب والوقوف معه بواجهات المعارضة ذات المسميات المختلفه ولكن محتواها المعطل لأرادة الأصلاح الجذري هو واحد. أن الأصلاح السياسي والدستوري الشامل هو المدخل للحفاظ على العراق وطنا صالحا للجمبع اما عدا ذلك فأن الجميع ذاهبا الى الجحيم وسيبقى العراق آمنا بما تبقى من الشرفاء.



 
 





100
 
عيد المرأة العالمي في الثامن من آذار مناسبة ضد العنف والأذلال والقهر والتطرف
د. عامر صالح
في العام 1977 وفي القرار (32 / 142 ) دعت الجمعية العامة الدول إلى إعلان يوم من أيام السنة يوما للأمم المتحدة لحقوق المرأة والسلام الدولي, وذلك وفقا لتقاليدها وأعرافها التاريخية والوطنية. وقد دعت الجمعية العامة الدول إلى المساهمة في تعبئة الظروف اللازمة للقضاء على التميز ضد المرأة وضمانة مشاركتها الكاملة في التنمية الاجتماعية وعلى قدم المساواة مع الرجل. وقد اتخذ الإجراء غداة السنة الدولية للمرأة ( 1975 )  وعقد الأمم المتحدة للمرأة ( 1976 ـ 1985 ) اللذين أعلنتهما الجمعية العامة. وقد اتفق على أن يكون الثامن من آذار عيدا عالميا للمرأة. ويشكل هذا الإعلان قيمة أخلاقية وإنسانية في إعلانه صراحة على الصعيد العالمي بعدمية الفروق بين الجنسين في المساهمة في الحياة والحقوق العامة. ويشكل هذا الإعلان عودة إلى الفطرة الإنسانية والى مرحلة تاريخية ما قبل اللاتساوي بين الجنسين ونبذ الفروق الجسمية والعقلية والنفسية باعتبارها مصدرا بهيميا لعدم المساواة والتي يبنى عليها شتى مظاهر اضطهاد المرأة. 

لم يكن الإعلان عن يوم عيد المرأة العالمي من قبل المنظمة الدولية وليد ساعة التفكير به , بل هو نتاج مخاض تاريخي طويل الامد, سبقته إحداث كبرى من الاحتجات ضد اللامساوات, ولم يكن الثامن من آذار إلا خاتمة شكلية لها. فقد أضربت مئات العاملات عام 1857 في نيويورك في إحدى مصانع الغزل والنسيج احتجاجا على انخفاض الأجور وظروف العمل السيئة وسوء المعاملة, ثم تلتها بخمسين عاما, أي عام 1907 إحياء لهذه الذكرى, ثم أعيدت نفس الاحتفالية عام 1908, وتوالت كذلك فعاليات مشابهة قي أعوام لاحقة. أما الطابع العالمي لليوم فقد طرح لأول مرة في عام 1910 من الوفود النسائية الاشتراكية والنسوية المشاركة في مؤتمر الأممية الثانية في كوبنهاكن التي شددت على التضامن العالمي بين عاملات العالم.

كما نشير هنا إلى دور الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي الذي تأسس في عام 1945 ودوره الكبير في التعبئة لقضية المرأة ومساواتها متأثرا بالفكر اليساري للعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين, ولعب الاتحاد المذكور دورا تثقيفيا في مختلف بقاع العالم في تهيئة المزاج الدولي والإقليمي والقطري لإبراز قضية المرأة وتأكيد استحقاقاتها التاريخية في المساواة والعدالة والمساهمة في إبراز منظومة التحديات التي كانت ولا تزال شرائح عريضة من نساء العالم يشعرن أنهن يواجهنها على كافة الأصعدة الحياتية, إلى جانب الإشادة واستعراض الانجازات والمكاسب التي حققتها المرأة على مر العقود المنصرمة في كافة المجالات وضرورة الحفاظ عليها.
 أما بخصوص مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأسوة بأغلبية بقاع العالم المتخلف, حيث العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لإضطهاد الفتاة ثم المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الإستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يختلط الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض.

وتبدأ الفتاة والمرأة كمشروع للاستلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية, خارج إطار والديها, من أخوانها الذكور الصغار والكبار, حتى إذا بلغت اشتدت دائرة الرقابة عليها من الجميع, ثم يستقبلها زوجها فيعيد إنتاج تربيتها وفق لما يرتئيه مناسبا له, بل حتى أطفالها الذكور يساهمون في " تربيتها " وفرض دائرة من الممنوعات على حركتها وحريتها الشخصية, وتتعرض إلى شتى مظاهر الإساءات كامرأة أو زوجة, من الإذلال وجعلها تشعر بعقدة الذنب, وإساءة معاملتها جسديا بالضرب والتهديد والوعيد, ومنعها من التعاطي بالمال وإيجاد فرص عمل لكسب المال وجعلها معتمدة كليا على مال الرجل أو اغتصاب مالها الخاص والتصرف به, وعزلها اجتماعيا ومنعها من الاتصال بالآخرين إلا بموافقات مسبقة وبشروط محكمة في الصرامة ومراقبة تحركاتها عن كثب, إلى أين تذهب ومع من تلتقي, وجعلها تشعر بالذنب أمام أخوانها أو أولادها وتهديدها من عدم رؤية أولادها وحتى ممارسة الضرب والاهانة لها أمامهم, وممارسة الإكراه والتخويف والتهويل لها وإجبارها على القيام بمختلف التصرفات التي قد تؤذي فيها حتى نفسها. 

ورغم تعرض االأنثى, فتاة كانت أم امرأة, في مجتمعاتنا إلى مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, إلا أن العنف الرمزي هو أكثر الأشكال ضررا وإيغالا في معاناة المرأة, وهو عنف غير فيزيائي, ويتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والايديويوجيا, وهو كما يصفه بورديو بأنه " شكل لطيف وغير محسوس من العنف ", وهو غير مرئي بالنسبة للضحايا أنفسهم. كما أن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم, ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف, بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل الاجتماعي. فالتربية "الذكورية " ابتداء من البيت والنشأة الأولى وما تتركه من انطباعات سيئة عن الأنثى بأنها مخلوق ثانوي تلقي بضلالها على الكثير من السلوكيات اليومية المذلة للمرأة, والمدرسة وتخلف مناهجها وما تبثه من معلومات حول الفرو قات بين الجنسين واستخدامها بشكل سيئ لتوجيه الطعون ضد المرأة وأهليتها الاجتماعية, الفصل  بين الجنسين في المدرسة وخاصة في مراحله الأولى يؤسس منذ البدء للريبة وسوء الظن بالجنس الآخر, والاستعانة بالتراث السلبي وانتقاء أحداثه بطريقة متحيزة بما يضفي إلى تصور المرأة كائنا شريرا وناقصا ولا يحمل إلا المنعطفات والأحداث السيئة, الأفكار والإيديولوجيات السائدة التي تكرس الشائع واللامنطقي عن المرأة وعدم مقدرتها على تجاوز الواقع, الاستعانة بتفسيرات الكتاب المقدس والسنة النبوية بما يفضي إلى تكريس اللامساواة وتشويه قدرات المرأة وإمكانياتها, كما يرد في " المرأة ناقصة عقل ودين ", وكذلك الفتاوى الدينية المختلفة التي تتدخل في التفاصيل الدقيقة للمرأة ووضعها في غير مكانها المناسب. أن هذا النمط من العنف الثقافي والتربوي الرمزي والخفي يجد له انعكاساته ليست فقط في ممارسات الرجال ضد المرأة, بل الأخطر من ذلك أن المرأة تعتبره قدرا وتتفاعل معه إلى درجة الدفاع الخفي عنه وعن مرتكبيه " أي الضحية تدافع عن الجلاد ". وهذا الفرق الواسع بين العنف في مجتمعاتنا وبين العالم المتمدن, حيث في الأخير لن يلقى الدعم والإسناد من المنظومة القيمية والفكرية السائد وبالتالي هو مدان على نطاق واسع بما يحد من إعادة توليده, وهو بعكس ما سائد لدينا حيث يلقى التفسير والإسناد والإثابة في أحيان كثيرة.

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية والإقليمية بتنوعها الديني والاثني والقومي, وعلى الرغم مما حققته من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وتدريسية وهندسية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها, فهي لازالت مشروع استلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية وتتعرض إلى مسلسل لا حصر له من الممنوعات من صغرها حتى شيخوختها, إلى جانب ما تتعرض له من مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, وكذلك العنف الرمزي غير المرئي الذي يتجسد عبر الثقافة والتربية والموقف المذل منها يوميا عبر معاملتها كجنس من الدرجة الثانية, وفصلها اجتماعيا عن الرجل سواء في البيت أو المدرسة أو الدائرة ومنعها من الاختلاط والتدخل في تفاصيلها اليومية, انطلاقا من مسلمات لا صحة لها " كناقصة عقل ودين ".

أن عملية المساواة هي أولا وقبل كل شيء عملية ذهنية ـ عقلية/اجتماعية, تنشأ بفعل عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المستديمة للفرد اتجاه نفسه واتجاه الجنس الآخر, تلعب الأسرة فيها دورا مهما وعلاقات الوالدين بالطفل ذكرا أم أنثى, ومعاملة الإخوة الذكور للأخوات الإناث, والتربية المدرسية وما تبثه من فلسفة تربوية حيث تعرض الفرد لمختلف وجهات النظر الفكرية والعقلية اتجاه الجنس الآخر, فيتبلور لدى الفرد اتجاها محددا نحو نفسه ونحو الجنس الآخر, وكذلك العادات العامة والتقاليد, ثم المؤسسات الاجتماعية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية, والأحزاب والأيدلوجيات المختلفة ومدى نفوذها في الوسط الاجتماعي . 

أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين هو نزوع ثقافي أولا, يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة, والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية, ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة, وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه,لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها, ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.

وإذا نحتفل بعيد المرأة العالمي في ظل ظروف إقليمية وعربية وإسلامية تضيق فيها فسحة المساواة ويتعرض فيها فكر المساواة إلى مزيدا من التشكيك والضربات المختلفة, وينتعش فيها الفكر المتطرف الديني والسياسي الذي يرمي المرأة خارج إطار عملية الصراع أو تحيدها أو إجبارها على الوقوف إلى جانبه, وتسفيه دورها اللازم في عمليات التغير واعتبارها تابع لاجدوى من مساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية, فأن الجهود الصادقة والحريصة, الدولية منها والإقليمية والقطرية, يجب أن تتوجه إلى أنقاض المرأة من سلوكيات الإذلال والحط من قيمتها الشخصية والاجتماعية وفسح كافة فرص المساهمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمساهمة في بناء مجتمعات أفضل لا تخضع لمزاج الفتاوى الشخصية والاجتهاد المبتذل, فمكانة المرأة ليست موضوعا للاجتهاد بل هي موضوع للمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين قطبين متكافئين. وكل عام والمرأة نحو الأفضل.














101
الداعشية في كربلاء تنتهك حرمة الدم وتغتال العقل المدني


د.عامر صالح

في مساء يوم السبت المصادف 02ـ02ـ2019  أقدم مسلحون من الظلاميين الأوباش والمتلبسين في الثقافة الداعشية في تصفية الحرث والنسل على اغتيال الناشط المدني والروائي والاكاديمي الدكتور علاء مشذوب وقد امطروه بوابل من الرصاص أمام منزله في مدينة كربلاء والكائن في منطقة محصنة أمنيا, وعلى ما يبدو من فعل الجريمة فأن قرار اعدامه بالرصاص قد أتخذ مع سبق الأصرار في سيناريو أقل ما يقال عنه سيناريو جبان وقد نفذ  من قبل المجرمين من المتشبهين بالرجال بحق ناشط وصحفي يفكر بطريقة حرة, رجل طموح لعراق ديمقراطي يخلو من الأرهاب والطائفية الكريهة والمحاصصة الأثنية والمذهبية المريضة والرعناء ذات الأصول الدموية الغارقة في الفساد الأداري والمالي والأخلاقي, ومتخذة من الطائفة والمذهب والعرق شماعة لأرتكاب جرائم بحق الشعب العراقي وبحق الانسانية جمعاء.

يطال الشك الى مصداقية النصر على داعش وتثبيته عسكريا في مناطق تواجدها سابقا عندما لا يقترن ذلك بثقافة احترام الرأي والرأي الآخر في المناطق التي تتواجد فيها سلطة الدولة الاتحادية في محافظات الوسط والجنوب, لأن محاربة داعش عسكريا يجب ان يتزامن ويقترن حثيثا في القضاء على ثقافة داعش وأمتدادتها في كل التراب العراقي, تلك الثقافة الوسخة التي يجسدها العقل السيكوباتي المريض في وسط العراق وجنوبه وشماله, والتي تدعي أحتكار الحقيقة عبر تسويف المذهب والطائفة والعرق وتوظيفه لمصلحة تفكيك النسيج الاجتماعي واشاعة ثقافة التصفيات الجسدية والنفسية وخلق الفوضى المدمرة, وهي ثقافة داعشية تسعى داعش وحلفائها في الفكر والممارسة لإشاعتها بديلا عن التواجد العسكري المباشر.

لقد أقدم هؤلاء الجبناء على تصفية الناشط والباحث علاء مشذوب ليؤكدوا لنا أن داعش موجودة في كل حتة عراقية وفي كل زمان وبأمكانهم أن يستنسخوا داعش اخرى ذات مواصفات ثقافية وسلوكية تخريبية لاتقل ابدا في جرمها وصلافتها عن داعش الرسمية والمعروفة لدى الغرب والشرق, فالداعشية سلوك إجرامي وهو أرهاب منزوع الصلة بدين أو مذهب بعينه, وبأمكانك ان تكون داعشيا عندما لا تحترم حرية التعبير والصحافة والرأي الآخر, والأسوء من ذلك عندما أقدموا على قتل رجل في ذروة عمر عطائه  كما غيره من شهداء الكلمة الذين تمت تصفيتهم من قبل رواد الثقافة الداعشية.

ان الحرية الاعلامية والصحفية وحرية التعبير تشكل ركنا من أركان الدولة المدنية والديمقراطية وقد تكرست هذه الحرية في جميع المواثيق الدولية, والعراقية ايضا من خلال الدستور, وبالتالي فأن الأقدام على قتل الصحفي والكاتب والروائي علاء مشذوب هو جريمة أسوة بجرائم اختطاف وقتل الصحفين التي ارتكبت سابقا في العراق, وهي ليست آخر الجرائم في بلد يفتقد الى الامن الشامل, وهي جرائم ضد الأنسانية وتهدد بقاء النظام السياسي أي كانت صبغته ومصداقيته في الحفاظ على أرواح المواطنين والصحفيين والكتاب والاعلاميين وأصحاب الكلمة الحرة بشكل عام.

ان ما قام به علاء مشذوب كناشط مدني وصحفي وكاتب في نقل المعلومات الأمينة والصادقة والحيادية والكتابة عن معاناة الناس وفضح الطائفية السياسية, وقد جاءت كل نشاطات الضحية المذكور منسجمة مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان في حرية النقد والتعبير وحق التجمع والتظاهر وابداء الرأي المغاير, كما كانت نشاطاته منسجمة مع روح الدستور العراقي ونصوصه الصريحة في احترام حرية الرأي والتظاهر والتجمع.

لم يكن نشاط الشهيد علاء مشذوب داعيا للحرب, ولا للصراعات الطائفية والاثنية ولا للتميز العرقي والمذهبي والطائفي, ولا للكراهية الوطنية والقومية, ولم يكن في يوم ما داعية لاستخدام العنف والعدائية. ان ما قام به علاء مشذوب يصب في جوهر الحرية الاعلامية والصحفية وفي خدمة المواطن العراقي وصيانة حقوقه المشروعة في العيش الكريم, وممارسة النقد لمختلف الظواهر الاجتماعية ذات المساس بتهديد السلم الأهلي وتهديد كرامة الانسان العراقي.

 والشهيد علاء مشذوب، كاتب عراقي من مواليد 1968 في قمة تراكمه الابداعي وعطائه المعرفي, نال شهادة الدكتوراه في الفنون الجميلة عام 2014، وكتب بحوثاً ودراسات عديدة في مجال إختصاصه.. توالت مجاميعه القصصية: (ربما أعود إليك) عام 2010، و(الحنين إلى الغربة) عام 2011، و(زقاق الأرامل) عام 2012، و(خليط متجانس) عام 2013، و(لوحات متصوفة) عام 2017.. وفي الرواية، بدأ مع روايته (مدن الهلاك ـ الشاهدان) عام 2014، و(فوضى الوطن) عام 2014، و(جريمة في الفيس بوك) عام 2015، و(أدم سامي ـ مور) عام 2015، و(إنتهازيون … ولكن) عام 2016، و(حمام اليهودي) عام 2017، و(شيخوخة بغداد) عام 2017.

فلتتظافر كل الجهود الوطنية المخلصة, من أجهزة أمنية وأستخباراتية ومنظمات أنسانية عالمية ووطنية ومنظمات مجتمع مدني عراقية من اجل تكثيف الجهود " وخاصة في مدينة كربلاء " التي وقع فيها استشهاد علاء مشذوب ومعرفة القتلة المجرمين منفذي الاغتيال ومن يقف ورائهم وانزال اقصى العقوبة بالجناة حثالى المجتمع وأعداء حرية التعبير والأمن المجتمعي, أما ان تسجل الجريمة كعادة الجرائم السابقة " نفذت من قبل مجهول " بعد نقل الضحية الى الطب العدلي لتأكيد الوفاة وتبقى التفاصيل قيد الكتمان والتستر على القتلة, فأن ذلك سيسهم بشكل كبير في انتزاع الثقة المجتمعية في الاجهزة الامنية والاستخباراتية وبالتالي اطفاء اي بصيص أمل في استتاب الامن وترك شعبنا ضحية سهلة بين انياب ميليشا السلاح المنفلت. لروح علاء مشذوب الطمأنينة والسلام والخزي والعار للقتلة اعداء الحياة.





102
على ضوء ما نشره الجهاز المركزي للأحصاء: رأي في معالجة تسرب تلاميذ المدرسة الابتدائية

د.عامر صالح 

كشف الجهاز المركزي للأحصاء التابع لوزارة التخطيط في العراق بتاريخ 20 يناير 2019 عن اعداد التلامذة المتسربين من المدارس الابتدائية والذي بلغ 131 ألف و468 تلميذا وتلميذة للعام الدراسي 2017ـ2018 . وقال الجهاز في احصائية نشرتها الوزارة على موقعها والذي شمل جميع المحافظات العراقية ما عدا أقليم كردستان, وأضاف الجهاز أن " التلاميذ التاركين في المدارس الحكومية تشكل نسبة قدرها 99.0%, في حين لم تتجاوز نسبة التلامذة التاركين في المدارس الأهلية 0.8% والمدارس الدينية 0.2%, مبينا أن" عدد التاركين ارتفع في المدارس الحكومية فقط مقارنة بالعام الدراسي السابق بنسبة 2.7% إذ كان عددهم 126694 تلميذا وتلميذة ".

وأشار الجهاز أن " أن الفترة ما بين ( 2013ـ2014 الى 2017ـ2018 ) شهدت زيادة في اعداد التلاميذ التاركين بنسبة 28.8% حيث كان عددهم 101043 تلميذا وتلميذة في العام الدراسي 2013ـ2014 ". وأوضح التقرير إن اعلى نسبة من التاركين بالمدارس الابتدائية في العاصمة بغداد كان في مديرية تربية الرصافة الثانية حيث بلغت الاعداد فيها 11 ألف و104 تلميذا وتلميذة تليها مدبرية تربية الكرخ الثانية وبعدد 5 آلاف و987 تلميذا وتلميذة ومن ثم مديرية تربية الرصافة الثالثة وبعدد 4 آلاف و372 تلميذا وتلميذة". وبين التقرير أن "محافظة بابل كانت الأعلى من بين المحافظات ما عدا بغداد في اعداد التاركين فيها من تلاميذ المدارس الابتدائية حيث سجلت 17 ألف 12 تلميذ, تليها محافظة صلاح الدين وبعدد 14 ألف و100, وتليها محافظة البصرة وبعدد 11 ألف و938 تلميذا وتلميذة". 

وفي الوقت الذي حقق فيه العراق تقدما ملموسا في عقد السبعينيات على مستوى استيعاب الأطفال, فحسب تقرير اليونسكو أمتلك العراق قبل حرب الخليج الأولى نظام تعليمي من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة قدرت نسبة المسجلين فيه بالتعليم الابتدائي ما يقارب 100% مقارنة بأعداد الأطفال في سن التعليم الابتدائي,وحسب تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1973 فأن معدل التسرب في التعليم الابتدائي قد هبط في العراق إلى ما يقارب 5% بين الصف الأول والخامس الابتدائي, وكان هذا أوطأ معدلات تسرب في الدول النامية.ثم نال العراق في نهاية السبعينيات جائزة اليونسكو على حملة محو الأمية.وقد ساهمت في ذلك الطفرة المالية المتحققة من العوائد النفطية والتي وسعت من حجم الإنفاق على التعليم,وكذلك الدور الكبير والمتميز الذي لعبته الحركة الوطنية وفي مقدمتها قوى اليسار في التعبئة لنشر التعليم والثقافة في صفوف أبناء المجتمع وتعزيز الدور التعبوي عبر نشاطها وصحافتها العلنية, وخاصة في ميدان محو الأمية,ونقل تجارب الشعوب العالمية عبر صحافتها اليومية وخلق المزاج العام المواتي لتنفيذ ذلك. إلا إن الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام العراقي آنذاك وما سببته من استنزاف للموارد المالية والبشرية قد الحق أفدح  الإضرار بقطاع التربية والتعليم, ويكفي إن نشير هنا إلى إن نسبة القادرين على القراءة والكتابة في البلاد عام 2003: الذكور 55%, الإناث 23%. وبلغت خسائر هذا القطاع أكثر من أربع مليارات دولار شملت كل عناصر وأبعاد العملية التربوية ومستلزماتها ومؤسساتها ومراحلها المختلفة.

أن التسرب يمثل مظهرا من مظاهر الهدر التعليمي أو الفاقد في التعليم, إلى جانب مشكلة الرسوب المتكرر,ويعتبر نتيجة لضعف نتاج العملية التربوية وينشأ عن مشكلات تربوية واجتماعية تؤدي إلى عجز النظام التعليمي في الاحتفاظ بالملتحقين به كافة لإتمام دراستهم في مرحلة دراسية ما ( وخاصة في التعليم الابتدائي ).وان التسرب باعتباره انقطاع التلميذ عن المدرسة انقطاعا نهائيا قبل أن يتم المرحلة الإلزامية, فأن سقف التعليم الإلزامي يختلف من دولة إلى أخرى, فمنها من يدين بالإلزام لمدة 9 سنوات دراسية, وبعض أخر يكتفي بإلزامية تعليم أمدها 6 سنوات ( مدرسة ابتدائية ) كما هو الحال في العراق وفقا لقانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976, والذي يشمل الفئة العمرية من( 6ـ11) سنة, والذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم,علما أن إمكانيات العراق المادية والمالية تكفي لمد سقف الإلزام حتى إلى مرحلة التعليم الثانوي كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة والمتمكنة.مع العلم أن الدستور الحالي جاء ليكرس ما ورد في القانون المذكور أعلاه,حيث ينص على أن :" التعليم عامل أساسي لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة, وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية,وتكفل الدولة مكافحة الأمية.والتعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله".

أن مصير العملية التربوية كم هو معروف يرتبط وثيقا بالاستقرار السياسي الذي يبعث الأمل في مؤسسات الدولة وقيامها بأنشطتها على أسس موضوعية وحيادية, ومنها قطاع التربية والتعليم,فالنظام السياسي يلعب دورا مهما في إعادة توليد القيم الأخلاقية والاتجاهات الاجتماعية العامة, والنظام التربوي هو احد أدواته لتكريس هذه القيم ونشرها على نطاق واسع عبر الممارسات اليومية, من خلال المناهج والأنشطة المدرسية, وتشكل في هذا السياق ظاهرة التعصب الديني والطائفي والقومي احد القيم الأخلاقية والتربوية الضاغطة على وحدة نظام التعليم ونسيجه الاجتماعي, ويشكل هنا التسرب من التعليم والابتعاد عنه احد وسائل احتماء الأقليات في حالات الاحتقان الشديد وسببا في انقطاع الكثير من أبناء الأقليات والطوائف عن التعليم والعزوف عنه.

وقد تعرض النظام التربوي جراء سياسات النظام السابق الهوجاء وما تلتها من سياسات عشوائية على أيدي الاحتلال وما تبعتها من تكريس للمحاصصة الطائفية, إلى انهيارات كبرى في مراحله المختلفة,فقد تم تدمير اغلب المؤسسات التربوية من أبنية ومستلزمات وأجهزة, وقد تحول الكثير من المدارس إلى مجرد أربعة جدران وأماكن شكلية لإقامة التلاميذ,لا تشد الطالب إلى المجيء والمواظبة, بل إلى طرده من المدرسة, ناهيك عن اقتسام المدارس إلى مناطق نفوذ طائفي أو حزبي,فهي تعتبر في أذهان الكثير أماكن غير آمنه. أن تشديد قبضة الإرهاب والعمليات الانتحارية أطالت ألاف من الأطفال, وكانت أوقات الدوام الرسمي" بدايته ونهايته" فرصا مواتية لإيقاع الأذى وزرع الخوف لدى الأطفال وأسرهم, مما أدى إلى عزوف التلاميذ عن الدوام وعدم انتظامهم ثم تسربهم.

أن الحد من التسرب والاقتراب من نهايته يستند إلى منظومة متكاملة من الإجراءات,وتشكل النوايا الحسنة والقناعة بالنظام الديمقراطي و قيمه الإنسانية مدخلا لازما لذلك ومظلة تحمي آلية التنفيذ, ولعل ابرز العلاجات الناجحة هي ما يأتي:
ـ الاهتمام بالمرافق والخدمات التعليمية مما يجعلها جذابة وشيقة ومرتبطة بواقع التلاميذ,وتحسين المعاملات والممارسات المتبعة في الاتصال التعليمي وبنائها على مبادئ التربية الحديثة القائمة على أساس أن التلميذ مركز اهتمام العملية التربوية, واستغلال خاصية يتمتع بها الأطفال عامة وهي الفضول والذهن المتفتح لاكتساب ومعرفة كل شيء.

ـ منع تشغيل الأطفال منعا باتا وعبر إجراءات صارمة لعل أبرزها تفعيل العمل بقانون التعليم الإلزامي وتطبيق العقوبات الواردة فيه على أولياء الأمور,ويجب أن يقترن هذا الإجراء بدعم اقتصادي للأسر المعوزة وتحمل المدرسة الإنفاق التربوي على التلاميذ من مستلزمات وملابس وتغذية.

ـ توفير خدمات التوجيه والإرشاد النفسي والتربوي والاجتماعي للتلاميذ وأسرهم والتأكيد من قبل إدارات المدارس على ضرورة وجود المرشد الاجتماعي في المدارس لما يقدمه من مساعدة للإدارة التعليمية وللأهل في المشكلات المختلفة ومنها التسرب,وأن تكون هناك حصص أسبوعية أو شهرية من قبل هذا المرشد للأهل وللتلميذ لمناقشة عوامل التسرب وإمكانية الحد منها, والتأسيس الجيد لمجالس أولياء الأمور في المدارس.

ـ التأهيل المستمر للكادر التربوي وإعادة تأهيله على ضوء ما يستجد من معطيات في العلوم التربوية والنفسية, والتخلص من العناصر ألمزوره, أو التي لا تحمل مؤهلا تربويا وذات أداء ضعيف, والتي تكون معظم الأحيان سببا في التسرب لا في منعه.

ـ العمل على وضع خطط ملموسة لنشر شبكات رياض الأطفال في أرجاء العراق وخاصة في القرى والأرياف, والتي لا تزال ضعيفة جدا,حيث لا تستوعب في أحسن الأحوال 7% من مجموع الأطفال في عمر 4 إلى 5 سنوات في عموم العراق,لما لها من أهمية استثنائية في خلق الاستعداد الايجابي للأطفال اتجاه المدرسة الابتدائية لاحقا والإقبال عليها والاستمرار فيها.

ـ وضع الخطط والمناهج التي تعتمد على المواهب والطموحات والقابليات لدى الأطفال والابتعاد عن مناهج الحشو والمليئة بالمعلومات ذات الطابع الكمي والتي تكره في نفس الطالب المدرسة والمادة الدراسية, ومحاولة ربط المنهج بالبيئة المحيطة عبر تطبيقات للمنهج في مختلف مجالات المجتمع المحلي.

ـ منح فرص إضافية للمتسربين سواء عبر مدارس مسائية أو نهارية أو مدارس متنقلة وخاصة في المناطق النائية والقرى والأرياف, أو مناطق التهجير والإقامة الجديدة للأطفال, وهي وسائل تعين الأطفال على عدم العودة إلى الأمية كاملة.

ـ استخدام الإعلام والصحافة اليومية الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الاجتماعية المختلفة للتثقيف والتوعية بدور التعليم وخاصة الموجه منها إلى ذوي الأطفال والتركيز على ضرورة عودة أطفالهم إلى مقاعد الدراسة.

ـ الاستقرار السياسي والأمني وهو المطلب رقم واحد  لاستقرار العملية التربوية وما يؤدي إليه من انخفاض نسبة العنف وتعزيز ثقة الأسر والأطفال بالنظام السياسي والتربوي, ويضمن يوم مدرسي هادئ خالي من القتل والاختطاف والارتهان.

ـ إنشاء دور لليتامى لإيوائهم وتأمين حياة آمنه لهم يتمتعون فيها بقدر من الرعاية الاجتماعية والاقتصادية وإنشاء مدارس خاصة لهم لتسهيل اندماجهم لاحقا في المدارس المنتشرة على مقربة من إقامتهم,كي يتسنى لهم التحصيل الدراسي في المرحلة الابتدائية على الأقل وحمايتهم من التسرب.

ـ إنشاء مدارس لمختلف المعوقين وتصنيفهم وفقا لدرجة وطبيعة إعاقتهم, كما هو معمول فيه دول العالم المتحضر, وإتاحة الفرصة لهم للحصول على قدر من التعليم والتربية والتي تنسجم مع قدراتهم العقلية والجسدية,ومنع تحولهم إلى أميين بالمطلق.

ومن هنا نرى ان المعالجات الشاملة لمشكلة التسرب بكل ابعادها وفي اطار اصلاح النظام السياسي هو الكفيل بايجاد الحلول الواقعية والمدروسة والبعيدة عن الارتجال وفي ضوء فلسفة تربوية واضحة تستمد اسسها من مختلف المعارف والعلوم للنهوض بقطاع التربية والتعليم. وان علاج مشكلة التسرب هو جزء من البحث عن حلول لأزمة التربية والتعليم في العراق وأنها بالتأكيد جزء لا يتجزأ من ازمة النظام السياسي وعدم استقراره وغياب فلسفة انسانية واضحة تنهض بقطاع التربية التربية والتعليم, وان الفساد في هذا القطاع سيسهم في فساد وتغييب وتجهيل الاجيال القادمة.





103
في سيكولوجيا رمادية الوضع السياسي في العراق


د.عامر صالح

أن تحقق هدفا انسانيا مجتمعيا كالخلاص من نظام دكتاتوري يجب ان تكون لك القدرة الذاتية العالية على التنظيم والأعداد والتنفيذ الجماهيري, الى جانب التسلح برؤية مستقبلية للأحداث ما بعد سقوط النظام واستقراء للبدائل الممكنة ذات المضامين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, الى جانب القدرة العالية على اعداد الشعب وطلائعه السياسية لأحتواء احداث ما بعد السقوط.

ما حصل في العراق هو ان هناك أزمة عامة يعاني منها النظام السابق ولم يكن يستطيع الاستمرار في البقاء إلا عبر القمع الواسع وأخلاء الساحة العراقية من أي فرصة للتنظيم المعارض الواسع للنظام, وعمل النظام عبر عقود بقائه على البطش والأقصاء وتهميش المعارضة والتنكيل بها, حتى اصبح النظام تقريبا هو اللاعب الوحيد في الساحة مقابل معارضة سياسية انتشر معظمها في بقاع الارض المختلفة من دول العالم, وبالتالي نقول هنا انطلاقا من مسلمات علم الثورة: لكي تقوم بثورة ما فهناك مقومين, اولهما موضوعي يتجسد في حالة البؤس والفقر والظلم والطغيان والفساد والاضطهاد التي يمارسها ويعج بها النظام السياسي وتهالك مقومات بقائه كنظام صالح للعيش والبقاء, والمقوم الثاني وهو العامل الذاتي والذي يتضح بمستويات وعي الجماهير واستعدادها للبذل والتضحية والتنظيم الذاتي وتوفر الطليعة والنخب الوطنية القادرة على قراءة اللحظة التاريخية وقيادة الجماهير نحو لحظات مفصلية.

هذه العلاقة الجدلية بين ماهو موضوعي وذاتي في إحداث الفعل الثوري كان مفقودا نسبيا في الحالة العراقية, فالازمة الموضوعية للنظام على الارض العراقية يقابلها عوامل ذاتية تمثلها معارضة مشتتة ومتصارعة فيما بينها لدرجة التصادم وما يجمعها فقط هو اسقاط النظام الدكتاتوري, والى جانب تلك المعارضة فهناك فسحة اجتماعية رمادية واسعة تشكلت في المجتمع العراقي ومعظمها من الطبقة الوسطى والتي كيفت نفسها لتتعايش مع النظام وتفهم مزاجه وماذا يريد, كما تمكن النظام السابق من ترويضها عبر مختلف المغريات الشكلية والتي لا تتجاوز تأمين لقمة العيش في بلد انهكته الحروب والحصار, مما افقد المعارضة العراقية دور هذه الفئات واستلاب دورها المميز في عمليات التغير الجذري.

كان طول أمد بقاء النظام السابق وعدم المقدرة على اسقاطه كهدف للمعارضة من اهم العوامل السيكولوجية التي ألقت بظلالها على قوى المعارضة العراقية في خلق حالة من الأحباط النفسي المتراكم, تجسد في بعض مظاهره بردود افعال العدوان ليست ضد مصدر الأحباط " النظام السابق " بل سلوك عدواني بين اقطاب المعارضة نفسها, عكسته العديد من الصراعات الميدانية المسلحة والدموية بين بعض من قوى المعارضة, الى جانب اساليب العدوان الاخرى, كالخطاب السياسي المعبأ بالكراهية والتحريض والتشكيك والتخوين.

وأنطلاقا من تلك العلاقة الارتباطية الموجبة بين الاحباط والعدوان, والتي تنطبق على الافراد كما تنطبق على الاحزاب والجماعات فقد كان تراكم الاحباط لدى المعارضة العراقية والمتسبب من محاولات بقاء النظام السابق وخروجه " سالما " من حروبه الداخلية والاقليمية, فقد تضاعفت بقدر كبير فرص " العدوان " سيكولوجيا والتي تساوي محاولات اسقاط النظام سياسيا, والبحث عن كل البدائل المتاحة والممكنة لتحقيق هذا الهدف بعيدا عن جدل العلاقة المبدأية بين الوسائل النزيهة والنظيفة لتحقيق غايات سامية.

ومن هنا كان القبول بالاحتلال الامريكي للعراق واسقاط النظام والتناغم مع اجندته في بناء نظام حكم مبني على المحاصصة الاثنية والطائفية سلوكا ميكافيليا بأمتياز للغالبية العظمى من المعارضة العراقية, مرفوضا في المعايير الوطنية والقيم الدينية, واضفيت على الاحتلال صفة المحرر والمنقذ, انه سلوك لأحداث نوع من التوازن النفسي عبر تفريغ طاقة " العدوان " نحو النظام الدكتاتوري السابق بعيدا عن النتائج الكارثية بعد اسقاطه, وان ما ينطبق هنا على ديناميات الفرد السلوكية ينطبق ايضا على ديناميات الصراع بين الجماعات المختلفة.

اما المطالبات اليوم بخروج القوات الامريكية وقواعدها من العراق" ورغم قدسية الهدف المشروع " فيجب على من يرفع شعار او ينادي بمطلبا أن يدرس القدرات الذاتية والموضوعية في ظل واقع مزري ونظام سياسي فاسد ومنافق " بالامس اعتبر أمريكا محررة وفاتحة لعراق جديد واليوم محتلة وعليها الخروج, تلك هي عقدة النقص في السياسة العراقية والزعماء السياسين الذين قبلوا بالاحتلال واجندته ولكنهم أسرى لأجندة الصراع الاقليمي. وبقدر ما احتجت بعض الاحزاب والمليشيات على زيارة الرئيس الامريكي المفاجئة للقواعد الامريكية " وهو احتجاج مشروع " بغض النظر عن التوقيت واجندة الصراع التي تقف ورائه, ولكن كان يفترض وبنفس القدر ان تأخذهم الغيرة والحمية في الاستجابة لمطالب اهل البصرة المنكوبة والمحافظات العراقية الاخرى والاستجابة لمطالب النازحين والمهجرين والمنكوبين وضحايا الحروب والاستجابة لمستلزمات بناء دولة المواطنة التي تستطيع مقارعة الاحتلال الامريكي. 

ان زيارة ترامب السرية الى العراق والتي اثارت موجة تصريحات معادية من قبل اغلب ساسة العراق والفصائل المسلحة لكن هذه التصريحات تناست اتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بين بغداد وواشنطن والتي بموجبها جاء ترامب لتفقد قوات بلاده في قاعدة عين الاسد غربي العراق كون هذه الاتفاقية تسمح للرئيس الامريكي ووزير الدفاع ورئيس هيئة الاركان الامريكية المشتركة تفقد القوات الامريكية المنتشرة خارج ارض الولايات المتحدة وحتى المشاركة ضمن تحالفات عسكرية..

وبعد عقد من الزمن تعود اليوم الاتفاقية الأمنية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة وتتعالى الأصوات الداعية إلى إلغائها بالتزامن مع الزيارة السرية الخاطفة للرئيس الأميركي ولكن وبحسب الاتفاقية التي تم توقيعها من قبل حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عام 2008 فإن قوات الولايات المتحدة المقاتلة والمنسحبة من المدن والمحافظات، ستبقى في المنشآت والمساحات المتفق عليها مع الحكومة العراقية. وهناك حديث عن اكثر من عشرة قواعد عسكرية امريكية منتشرة في مناطق مختلفة من العراق واكثر من عشرة آلاف مقاتل امريكي ولكن المعلومات الدقيقة لاتزال قيد الكتمان من قبل الطرفين العراقي والامريكي.

لقد استغلت زيارة ترامب الى العراق كغطاء للاحزاب الحاكمة لممارسة ديماغوجية منقطعة النظير امام الرأي العراقي العام في محاولة لأضفاء رمادية قاتمة على الوضع ومسبباته, فبدأ اقطاب حزب الدعوة بألقاء التهم على بعضهم من باب التساؤل, فجناح المالكي يقول ان العبادي هو من أتى بالامريكان لمحاربة داعش, والعبادي يقول أن من أتى بهم هو المالكي قبل نهاية ولايته وبعد سقوط المدن الغربية بيد داعش وكان ذلك بتاريخ 24 يونيو عام 2014 وان ذلك مثبتا في وثائق الامم المتحدة واستنادا الى اتفاقية الاطار الاستراتيجي بن العراق وامريكا. ان هذا الجدل البيزنطي هو لذر الرماد في عيون العراقيين ومحاولة لتبرئة الاحزاب الحاكمة من قبول الاحتلال الامريكي كعملية لتحرير العراق كما وصفت انذاك, و كما يقال " فأن دخول الحمام مش زي الخروج منه".
 
أن فشل النظام المحصصاتي المليشياوي نظام الدولة العميقة" إن كانت هناك دولة " خلال عقد ونصف من الزمن والذي أتت به امريكا وباركته ايران, فشل في صياغة علاقة طبيعية للعراق في محيطه الاقليمي والدولي وغير قادر على حسم المسارات الاساسية في سياسة العراق الخارجية وتحديد من هم حلفاء العراق استنادا الى مصلحة الشعب العراقي, كما فشل في مسارات الاصلاح الداخلي على صعيد محاربة الفساد الاداري والمالي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

الامريكان يقولون لا نريد حليف نصفه عدو ونصفه الآخر صديق, والسياسيين العراقيين منقسمون في معظمهم الى نصفين, نصف مع امريكا ونصف آخر مع ايران, وبين النصفين هناك منطقة وسطى يمثلها شعبنا تتجسد في الرغبة في بناء عراق متصالح مع ذاته ومع محيطه الاقليمي والدولي, استنادا الى أولوية المصلحة الوطنية العراقية وبعيدا عن استخدام العراق وارتهانه لتنفيذ أجندة اقليمية ودولية. نقول ختاما لم يستفد العراق من المحتل الامريكي واستنادا الى قرارات مجلس الامن والامم المتحدة بكونه محتل وعليه ألتزامات دولية كتوفير الأمن وبناء الخدمات واعادة بناء الدولة على أسس سليمة, كما لم يستفد من محيطه الاقليمي وخاصة من ايران في بناء علاقة متوازنة تخدم العراق واستقلاليته وعدم التدخل في شؤونه الداخلية.

ومن هنا تأتي مطالبة شعبنا الواضحة في حراكه الشعبي بتوفير مقومات البيئة المواتية للاصلاح الشامل والمتمثلة في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب والذي يمنع تشكيل الاحزاب على أسس دينية وطائفية وقومية, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا. أن التأسيس لذلك والشروع بالعمل فيه هو الضمانة الاكيدة لمستقبل العراق وحماية مستقبل أبنائه وثرواته ودرء خطر الارهاب. وهي بداية التأسيس لوطن معافى يتعايش فيه الجميع بأختلاف دينه وقوميته وطائفته وجنسه وثقافته, أنها المقدمات الضرورية لبناء دولة المواطنة التي تستطيع الخلاص من الاحتلال الامريكي وآثاره ومن التدخلات الاقليمية.

104
المنهج الدراسي في العراق وصناعة الكراهية

د.عامر صالح 

قطاع التربية والتعليم في العراق كغيره من القطاعات الاجتماعية يعاني من التدهور المستمر والتخلف في الأداء وكذلك من تفشي الفساد الاداري والمالي والعجز في في تحقيق المعايير الكمية والكيفية ليست فقط استنادا الى المعايير الدولية بل استنادا الى ما حققه العراق في عقود سابقة, والتي بلغت في بعض منها الى الاقتراب الكامل من محو الأمية وتحقيق ألزامية التعليم ومحاولات التطوير المستمر للمناهج الدراسي, ولكن عبثية النظام السابق وأنشغاله بالحروب الخارجية والداخلية أدت الى ما أدت أليه من استنزاف للموارد البشرية والمادية ووضع البلاد تحت رهينة المجتمع الدولي الذي تقوده امريكا وتفرض اجندتها عليه, وكان العراق ضحية من ضحايا الصفقات والمصالح الدولية التي لم يستطيع النظام السابق من تجاوزها بفعل عنجهيته الهمجية المتخلفة ومحدودية ذكائه. 

واليوم العراق وبعد مرور خمسة عشر على الاحتلال الامريكي واسقاط النظام الدكتاتوري السابق وتسليم مقاليد الحكم للقوى الاسلاموية والاثنية يعاني النظام التعليمي والتربوي من تفشي الفساد وغياب الرقابة وتدهور كبير فيه وارتفاع نسبة الامية الى مستويات كارثية, وبعد ان صنفته اليونسكو في عقود سابقة ضمن نظم التعليم المتطورة في الأداء الكمي والكيفي, عادت لتصنفه اليوم  من ضمن البلدان التي تعاني ارتفاعا في نسب الامية يتجاوز 47% للفئة العمرية بين 6 ـ 55 عاما. 

وفي مسار خطير على مستوى محتوى المناهج الدراسية سواء الاجتماعية منها أم الطبيعية تعاني مفردات المنهج من الارتجال في الصياغة وعدم ملائمتها لقدرات الطلبة في المراحل الدراسية المختلفة وخاصة المرحلة الابتدائية والمتوسطة, ففي مجال مادة الرياضيات هناك غموض وتشدد وارتباك بواجهات تربوية غير معروفة وغامضة لا تستجيب لمستلزمات النمو العقلي والمعرفي المتدرج لمدارك الاطفال كانت محصلته هو العزوف عن التعليم وترك مقاعد الدراسة والرسوب المتكرر والانظمام الى جيش الأميين المتزايد دون انقطاع, ولحد الآن لا تعرف دوافع ذلك ومن هي الجهات التي تقف وراء ذلك وماهي الخبرات العالمية التي تم الاستناد أليها في بناء المنهج المذكور. 

على مستوى المواد الاجتماعية, وعلى سبيل المثال في كتابي التربية الاسلامية للصف الاول الابتدائي والخامس الاعدادي عبارات لا تليق بالعراق كونه شعب متعدد الاديان والمذاهب والثقافات, ولا تليق بقيم التسامح والعيش المشترك, ومنها ما يحرض ضمنا على المسيحين باعتبارهم قوم او ديانة ضالة " حسب ما ورد ", أو التحريض على النساء غير المحجبات بعبارات: "حجابي فريضة واني الصحيحة وغيري المريضة", انها دعوة ضمنية للأساءة الى التنوع العراقي في ثقافته ودياناته, بل هي خطوة مبيتة لتصفية الآخر والانتقام منه. كما وردت في امكنة اخرى من العلوم الاجتماعية مما يؤدي الى تفكيك النسيج الاجتماعي وتعزيز ثقافة الريبة والشكوك في التعاملات اليومية بين الكبار والصغار بديلا عن الثقة المتبادلة والتنشئة الاجتماعية السوية بين الكبار والصغار خارج دائرة المنزل.   

 ويلعب هنا الخطاب الديني المتطرف بشقيه التكفيري والسياسي دورا خطيرا في زرع الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع, سواء من ذات الدين الواحد عبر إشاعة الفرقة بين طوائفه ومذاهبه المتنوعة, وكذلك بين المجتمع المتعدد الديانات عبر فرض أجندة دينية وسياسية ـ دينية وحيدة الرؤى, مما يحرم الآخرين من حق التمتع بممارسة حقوقهم الدينية وحريتهم في المعتقد, و يخلق بيئة مواتية للعنف والعنف المضاد تراق فيه دماء الملايين من مختلف الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة. وبما أن الكراهية والعنف منبوذ ومدان في كل القيم والأديان السماوية وغير السماوية فأن اللجوء إلى تأويلات متشددة ومتحيزة ومزاجية بل ومصلحيه للنص المقدس وللأحداث التاريخية والافتراضات العبثية لنيات الآخرين المغايرين في الدين أو المذهب واستحضار الجانب المؤلم والمشكل في التاريخ, ويجري هذا متزامنا مع الفتاوى التي تصدر يوميا في الخفاء والعلن من دعاة الدين لأيقاظ وإلهاب روح الكراهية والتحريض والعنف بين الناس وضرب وحدتهم الوطنية في الصميم, وهكذا يتحول العنف من قيمة منبوذة في الدين والسياسة إلى واجب ديني " الهي " وسياسي له الأولوية في عقول المتطرفين على بناء الوطن ونهضته, وهنا يتكالب الاسلامويين والمتطرفيين لتجسيد ثقافة الكراهية وتجذيرها في المناهج الدراسية.


ومن منطلق شمولية المنهج لأغلب جوانب الحياة, فأن الدول الديمقراطية تسعى بكل جهودها لتطوير المناهج في مختلف المجالات, والتركيز على فكرة بناء المواطن الصالح من خلال توعيته بفكرة المواطنة,  من خلال تعريف الدارس المواطن بالمفاهيم الأساسية للمواطنة وخصائصها, مثل : مفهوم الوطن, والحكومة, والنظام السياسي, والمجتمع ومؤسساته المدنية, ومفهوم الديمقراطية الحق, والمشاركة السياسية وأهميتها, والمسؤولية الاجتماعية ومظاهرها, وضرورة الاحتماء بالقانون, واحترام الدستور, وضرورة الوعي بالحقوق والواجبات اتجاه الدولة والمجتمع, وغيرها من المفاهيم المعاصرة للمواطنة الصالحة وأسسها.وبالضد من ذلك فأن الحكومات القمعية والاستحواذية والطائفية والعرقية تسعى لتشويه فكرة المواطن والمواطنة, من خلال غرس قيم الولاء للحزب الحاكم, أو الولاء للطائفة أو للدين أو للقومية دون الوطن الذي يجمع كل هذه المكونات في بوتقة واحدة, فالوطن هو الحامي والحارس الأمين لكل هذه المكونات عبر تعزيز ثقافة التسامح والولاء للقانون وللدولة صاحبة الشأن في المجتمعات الديمقراطية, دون العبث بجغرافية وسياسة واثنية وأديان الوطن الكبير. وتشمل فكرة المواطنة من خلال المنهج الدراسي الحديث الأبعاد الآتية :

1ـ البعد المعرفي ـ الثقافي : حيث تمثل المعرفة عنصرا أساسيا وجوهريا في نوعية المواطن الذي تسعى إلى بناءه مؤسسات المجتمع السليم والمعافى, وهذا لا يعني أن المواطن الأمي ليس مواطنا يتحمل مسؤولياته ويدين بالولاء للوطن, ولكن المعرفة والثقافة والتعليم وسائل توفر للمواطن فرص لبناء مهاراته وكفاءاته التي يحتاجها في معترك الحياة, كما أن التربية الوطنية والتعليم تنطلق من ثقافة الناس مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات في التنوع الثقافي للمجتمع.

2ـ البعد ألمهاراتي : ويقصد به المهارات الفكرية والعقلية مثل : التفكير النقدي والقدرة على ممارسة النقد والنقد الذاتي, والتحليل الموضوعي لمختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية, والقدرة في المحاولة على حل المشكلات أو إدراك أولي لماهية الحلول, حيث أن المواطن الذي يتمتع بهذه المقدرة يستطيع التميز بين الطالح والصالح من الأمور ويكون أكثر عقلانية ومنطقية فيما يفعل أو يقول دون الانسياق وراء التجمعات أو الشلل التي تحول فردية الإنسان إلى حشد قطيعي, اقرب جدا إلى الحيوان منه إلى الإنسان .

3ـ البعد الاجتماعي : ويقصد به خلق الكفاءة الاجتماعية لدى الدارسين ـ المواطنين في التعايش مع الآخرين من مختلف الفئات الاجتماعية وتنمية روح التسامح ولغة التواصل مع مختلف المكونات القومية والاثنية في الوطن الواحد والتعايش معهم بسلام, بعيدا عن استخدام لغة الإكراه والتميز والإقصاء والفرقة والكراهية .

4 ـ البعد ألانتمائي : ويقصد به البعد الوطني وما يترتب عليه من غرس انتماء الدارسين لثقافتهم ولمجتمعهم ولوطنهم, وتعزيز ثقافة المصلحة العليا للوطن بعيدا عن التشرذم الجغرافي ـ الطائفي والقومي والديني, وإحلال ثقافة المسؤولية العليا اتجاه الوطني ومصيره, وحمايته من التدخلات الخارجية وأخلاق التفكك الداخلي.

5ـ البعد ألقيمي والديني, مثل : إشاعة قيم التسامح والعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية بين مختلف الأديان السماوية وغير السماوية, وتكريس مبادئ عدم المساس بمقدسات الأقلية الدينية وتوفير الفرص اللازمة للتعبير عن نفسها في إطار وجودها الجغرافي دون إرهاب أو ابتزاز أو ارتهان أو عمليات إرهابية جبانة تطال هؤلاء بفعل ضعف إمكانيتهم في الدفاع عن أنفسهم.

6 ـ البعد الجغرافي ـ المكاني : وهو الإطار المادي والإنساني  الذي يعيش فيه المواطن, أي البيئة المحلية يتعلم فيها ويتعامل مع أفرادها, وليست فقط من خلال النصائح والمواعظ  داخل غرفة الصف, بل من خلال المشاركة التي تحصل في البيئة المحلية والتطوع في العمل البيئي, ومن خلال ربط هذه النشاطات بالبيئة الأكبر " الوطن " من ناحية القيم والأهداف المرجوة من كل نشاط , وعدم الاعتكاف فقط في البيئة الأصغر التي تحجر عقل الدارس وتسهل مراوحته كالصنم في محل إقامته.

ان الابتعاد عن اقحام العملية التربوية وبشكل خاص المناهج الدراسية بثقافة الكراهية  وإعادة بناء نظام التعليم على أسس من الحداثة ومعطيات العلم والتقدم التقني,  وإعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة بما يؤمن احترام الدين وعدم استخدامه في السياسية التربوية والتعليمية كمحفز للعدوان وكذلك إعلان القطيعة مع كل موروث مسبب للفتنة ويسئ للمبادئ العامة للدين ووظيفته الفطرية... إنها مهمات ليست سهلة ولكن يتوقف عليها مستقبل العراق بأسره ومستقبل اجياله القادمة.
 

105
"الدكة العشائرية" بين الأرهاب وإعادة انتاج العشيرة ـ ملاحظات سايكواجتماعية 

د.عامر صالح 

 يتلخص مفهوم "الدكة العشائرية" بإقدام مسلحين ينتمون لعشيرة على تهديد عائلة من عشيرة أخرى، من خلال عملية إطلاق نار بمختلف الأسلحة بما فيها الثقيلة أو إلقاء قنبلة يدوية أحيانا، على منزل المقصود، كتحذير شديد اللهجة لدفعها على الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف. وفي حال عدم موافقة الطرف المستهدف، تتطور الأمور لتؤدي إلى وقوع ضحايا من الطرفين. وبعد شيوع هذه الظاهرة بشكل خطير في المجتمع العراقي ووقوع الكثير من الضحايا بسبب ذلك فقد أعلن مجلس القضاء الأعلى في بيان له بتاريخ الثامن من نوفمبر للعام 2018 "اعتبار الدكات العشائرية من الجرائم الإرهابية، وضرورة التعامل مع مرتكبيها بحزم". وأشار الى أن المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب الذي أقر العام 2005، تنص على أن "التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أياً كانت بواعثه، يعد من الأفعال الارهابية". ومع اعتقال العديد من المتهمين بهذا الخصوص إلا ان " الدكة العشائرية " وبعد صدور بيان المحكة شهدت تزايدا في حدوثها في محافظات مختلفة كالبصرة والعمارة وبغداد وغيرها.

وقبل الدخول في تفصيلات الموضوع يجب التأكيد أن وجود العشائر والقبائل ودورها في المجتمع يعكس مرحلة تاريخية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وهي لصيقة مرحلة الإقطاع التاريخية وما قبلها و التي مرت وتمر بها المجتمعات الإنسانية المختلفة, بكل ما تحمله الأخيرة من بنية فكرية وأخلاقية وأدائية متخلفة قياسا بلاحقتها والتي نشأت على أنقاضها ألا وهي الرأسمالية. 

بعد نشوء وبداية نشوء الدولة الوطنية بدأت عملية تحول الأمن والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاجتماعية تنتقل من يد العشيرة باعتبارها الحافظ الفئوي والمناطقي والأسري لمصالح أبنائها, إلى الدولة باعتبارها المؤسسة الحاضنة للجميع والعابرة للعشيرة والقبيلة والطائفة والدين كما يفترض ذلك من سنة التطور التاريخي التي أفرزتها تجارب بناء الدول المدنية المتحضرة, والتي قامت على خلفية تحولات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والأيدلوجية, مما سهل نشأة الأسواق الوطنية والاقتصاد الوطني القومي ونشأة المدن الحضارية, والانتقال من المجتمعات الرعوية والزراعية والريفية المتخلفة إلى مجتمعات المدن الحضارية.

وعلى هذا الأساس وحسب درجة تطور المجتمعات وظروفه الخاصة بدأ الاضمحلال التدريجي لسلطة العشيرة والقبيلة باعتبارها مرحلة متخلفة من مراحل النمو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى خلفية مستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار بقيت العشيرة والقبيلة في علاقة عكسية مع الدولة, فكلما ضعفت الدولة اشتد ساعد العشائرية والقبلية, وبالعكس كلما قويت الدولة واشتد بنائها ضعف الدور ألتأثيري للعشائرية والقبلية. هذه العلاقة بمجملها تدفع العشيرة للتحالف مع الدولة عندما تكون قوية, وتشهر السيف ضد الدولة عندما تكون ضعيفة أو في طور البناء. ومن هنا تنشأ المشكلات بين المركز " الدولة " وبين " الأطراف " التي هي العشائر والقبائل وحلفائها.   

مع ضعف الدولة العراقية وتدهور هيبتها وعدم مقدرتها على بسط سلطة القانون بعد ان سقطت مؤسساتها في عمل قسري من خارج الحدود عام 2003 وتزامن ذلك الأنهيار ليست فقط مع سقوط النظام الدكتاتوري الحاكم أنذاك, ولكنه أسقط فيه مؤسسات الدولة العراقية التي امتدت الى عهود تأسيس المملكة العراقية وبدايتها منذ عام 1921, وقد اختلف آداء هذه المؤسسات اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا مع تعاقب الأنظمة السياسية المختلفة على الحكم في العراق وتباين فلسفاتها. أي ان الاحتلال الأمريكي للعراق لم يستهدف التغير النوعي لأداء مؤسسات الدولة العراقية, بل استهدف بنتائجه الميدانية تحطيم البنية التحتية المؤسساتية للمجتمع, والتي هي ثابتة نسبيا بأختلاف من حكم العراق.

وكان من جراء ذلك فقدان الأمن المجتمعي وتفكك الوحدة الجغروأثنية للعراق, فأنتعشت بسبب ذلك كل الاشكال المتخلفة للضبط الاجتماعي والسابقة للمدنية وفي محاولة منها أستغلال تأزم الاوضاع وخروجها عن السيطرة وانهيار مؤسسات الدولة ولتفرض نفسها بديلا عن الحياة المدنية ومؤسساتها المستقرة, وكان من تداعيات ذلك هو التشرذم الديني والمذهبي والاحتماء بالطائفة والمكون الاثني وتشديد قبضة العزلة والانكفاء الجغروطائفي والاثني وتعزيز دور الهويات الفرعية خارج اطار السياق الوطني الجامع, فأنطلق الارهاب الفردي والمنظم وشاعت التنظيمات المسلحة, من مليشيات وعصابات اجرامية مختلفة تتخذ من من المناطقية والتمترس الجغرو اثني والمذهبي واجهات لفرض نفوذها كبديل عن الدولة وسلطة القانون والقضاء.

في ظل تلك الاجواء اشتد ساعد كل اشكال الضبط والسيطرة البدائية السابقة لنشوء الدولة, والتي اختفت او ضعفت في عهود وحقب سابقة للأحتلال الامريكي, بفعل التغيرات الجذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية والساعية الى بناء نمط من الحياة المدنية بأختلاف طبيعة الأداء الفكري والسياسي لها. وفي ظل هذه الظروف كان حضور العشيرة وتصدرها مشهد الحياة اليومية ما بعد 2003 هو تحصيل حاصل لعملية التفكيك المنظم للبنى المؤسساتية للدولة والرجوع الى بنى اجتماعية سابقة تستند في قوامها الى الانتماء الجغرووراثي لأصول مجاميع من الافراد والعوائل ذات الروابط المحددة في الوراثة والنسل والقربى. 

وفي الوقت الذي كان حضور العشيرة تاريخيا حضورا مشروعا نسبيا باعتبارها تعبر عن مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي وتعبيرا عن الضعف الموضوعي لمفهوم الدولة والمواطنة, وكانت لها اسهاماتها الايجابية في مجريات الاحداث التاريخية التي مرت بها تلك التجمعات للحفاظ على كيانها وتماسكها الداخلي, ولكن ظهورها اليوم هو ظهورا نكوصيا تقهقريا يفرض نفسه بديلا عن دولة المواطنة ومتسلحة ضدها بشتى صنوف الاسلحة الثقيلة والخفيفة وسلوكيات التمرد والانحراف والانفصال عن الدولة, ومتجاوزة الدور التقليدي للعشيرة في الحفاظ على الاعراف والدفاع عن الشرف والكرامة والاستجابة للنخوة ونصرة الضعيف وتحولها الى مليشيات عشائرية تهدد الامن والاستقرار الاجتماعي.

وبفعل تعقيد العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والاثنية والتمترس الجغرو اثني وطائفي والذي يستهدف بطبيعته اضعاف الدولة ومكانتها فقد وجدت العشيرة ضالتها في الصراعات السياسية الطائفية والمذهبية الجغرومكوناتية, فاصبحت العشائر واجهات للأحزاب والمليشيات الطائفية والمذهبية, واستغلت ايضا كواجهات وظهير من قبل عناصر الجريمة الفردية والمنظمة لأرهاب المواطن واستغلاله. كما استغلت العشيرة من قبل الاحزاب الطائفية والاثنية لتشديد قبضة الصراع السياسي على السلطة والاستعانة بسطوتها لفرض اجندة مشوهة تقف بالضد من وحدة وسلامة البلاد وسلطة الدولة. وقد ساعد اندماج الصراع السياسي الطائفي والاثني مع بنية العشيرة على تعزيز شراسة طابع الفساد الاداري والمالي والاقتصادي والاجتماعي, حيث اصبح الفاسد مطلق العنان ومحميا سياسيا وطائفيا وعشائريا في ظل سلطة قانون هشة غير قادرة على لجم الصراعات وبنفس الوقت عاجزة عن الحديث عن رموز الفساد.     

في ظل تلك الاوضاع الشاذة ليست من المستغرب عندما يلجأ برلمانيا او قائد حزب سياسي الى عشيرته لحل نزاع شخصي او سياسي مع برلمانيا آخر وبوسائل عشائرية دون اللجوء الى القضاء, مستخدمين اسلوب المقاضاة العشائرية وفض النزاعات وفرض الغرامات المالية, وليست من المستغرب ايضا ان يقوم البرلمان بمحاولاته الحثيثة لأصدار قانون مجلس قبائل وعشائر العراق " والذي ألغي عام 1959 " في محاولات منه لأستحداث سلطة موازية لسلطة الدولة واشباع المجلس بصلاحيات واهداف ومهمات وارصدة مالية تفوق ما تقدمه اي عشيرة في العالم من دور محدد وليست فقط في العراق, ويتعارض هذا المجلس حتى مع روح الدستور بنصوصه المكتوبة, والتي يدعو فيها الى بناء دولة المؤسسات القانونية والتي حددها بالسلطة التشريعية ومجلس الاتحاد والسلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية والسلطة القضائية ولا وجود للدور العشائري ضمن مؤسسات الدولة, ولكن فساد الطبقة السياسية الحاكمة واجنداتها الطائفية وصراعها على السلطة والمال وعدم اكتراثها ببناء الدولة المدنية وثقافة المواطنة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي هو من يقف وراء ذلك لأبقاء المجتمع في دوامة التخلف وسيطرة القيم البالية التي عفى عليها الزمن.

ومن الناحية السايكولوجية فأن العقل العشائري والقبلي هو عقل وثوقي " أي يثق بما لديه من مواقف ثقة عمياء ويعتبر كل عيوبه مزايا مطلقة ", وهي احد أسباب صراعاته مع التحولات والتغيرات الايجابية التي تجري من حوله, و تزداد وثوقية هذا العقل وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصام هائل في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. فالعقل ألوثوقي والعشائري المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته, فالعقل القبلي والعشائري يرى مثلا أن النصر قريبا على الدولة التي يحيا فيها وأن النصر لا محال للعشيرة والقبيلة.   

لقد اسهمت كل هذه التحولات الخطيرة الى تشكيل ما يسمى " بالدولة العميقة " او ما يسمى شيوعا في بعض وجوهها " دولة بداخل دولة " تشكل قاعدتها كل سراق المال العام والعصابات المسلحة, ورموز الفساد الاداري والمالي والسياسي, وقيادات احزاب مختلفة وجماعات بيروقراطية طفيلية, وأعلام اصفر بل وحتى رموز من السلطات القضائية والدينية وقيادات من السلطات التنفيذية, ورؤساء عشائر, وجميعها تصارع الدولة وتنهش بقدراتها المالية والعسكرية والامنية والاقتصادية وتمنعها من النهوض, وفي احيان كثيرة هي من يتحكم في المشهد السياسي ويديره مثل ما تشهد عليه صراعات اليوم من اجل تشكيل الحكومة أو ما شهدت عليه الانتخابات وتشكيل الرئاسات. 

في خضم كل هذا التعقيد فأن " الدكة العشائرية " باعتبارها فعلا ارهابيا يزرع الرعب في نفوس المواطنين يستحق كل الأدانة والعقاب وخلق المقومات اللازمة لمكافحته, وقد تمت ادانته من بعض الرموز العشائرية الكريمة, ولكن من جانب آخر يرتبط بمنظومة كاملة من السلوكيات العشائرية البالية والتي تعرقل تنفيذ القوانين وتضع سلطة القضاء في المؤخرة, الى جانب ان " الدكة العشائرية " كسلوك ارهابي يرتبط ارتباطا وثيقا بعموم ظاهرة الارهاب في البلد وبالتالي فان المعالجات الشاملة والجذرية من خلال الاسباب يضمن الحد ثم القضاء على الظاهرة. أن دراسة العشائر والقبائل كظاهرة سوسيولوجية ونفسية وما تفرزه من سلوكيات خطيرة " كالدكة العشائرية " لا يعني أبدا النيل من عشيرة دون غيرها أو إلحاق الأذى بسمعة عشيرة ما ورفع شأن أخرى, فكلنا ننتمي إلى عشائر كتحصيل حاصل, بل هو دراسة لظاهرة موضوعية تشكل مرحلة سابقة من مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولها إبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة, وأن أعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس من التطور والحداثة والتي تستند إلى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور في كل المجالات كفيل ببناء دولة المواطنة العصرية عابرة لجميع الولاءات الضيقة من عشائرية وطائفية ومذهبية وأثنية. وفي الختام فأن " الدكة العشائرية " جزئية بسيطة قياسا بأزمة النظام العامة. ولتتظافر كل الجهود المجتمعية المخلصة كي ينالوا مرتكبي " الدكة العشائرية " العقاب الصارم. 

 


106
دعوة متجددة نحو أصلاح جذري للمناهج الدراسية في العراق

د.عامر صالح 


يرتبط الأصلاح التربوي بالأصلاح السياسي, وقد يبدو من العبث الحديث عن اصلاح العملية التربوية والتعليمية في العراق دون ان تسبقه خطوات جدية في اصلاح المنظومة السياسية العامة, والتي تنعكس بدورها في اصلاح العملية التربوبة والتعليمية عبر رسم ملامح فلسفة تربوية لقطاع التربية والتعليم, قوامها الاستجابة الأكيدة للمنجزات العلمية والتقنية التي تفرزها ظروف العصر المعلوماتي المتغير دون انقطاع الى جانب الاستجابة الماسة الى حيثيات التغير الجارية في المجتمع العراقي, من الحاجة الى صنوف التخصصات والمهارات العالية والوسطى والعمالة الماهرة الى جانب اعادة النظر في المنظومة القيمية والأخلاقية بعيدا عن قيم الدكتاتورية والعبادة الشخصية والتزلف والانتهازية الاخلاقية.


لقد اثار قدوم السلطات " التربوية " في العراق على التغير والعبث في المناهج الدراسية في مختلف المراحل التعليمية وفي مختلف المحافظات الكثير من الجدل والقلق المشروع لدى الأوساط المتخصصة التربوية منها والشعبية والحريصة على هذا القطاع وتطوره  المستقبلي, حيث أن الشكوك تطال إلى آليات التغير ومحتواه, وعلى ما يبدو فان عمليات التغير تهدف إلى مزيدا من التخندق الطائفي والاثني والعرقي عبر نصوص وممارسات منحازة, تنح بقراءة مكررة ومعسولة للتاريخ بهدف إحياء الميت منه لأغراض تشديد قبضة الصراع الطائفي والعرقي, وأحياء للفكر و للحركات الماضوية التي عفي عليها الزمن, والتي لا يمكن القبول بها في بلد يطمح إلى بناء قيم التسامح والديمقراطية والتعددية, وإعادة بناء فكرة  المواطنة على أسس معاصرة, بعد أن مسخها النظام السابق بفكرة الولاء للقائد أولا ثم الوطن في الآخر.


واستنادا إلى أهمية المنهج التربوي باعتباره العنصر الأساسي في العملية التربوية والتعليمية, والذي يقرر إلى درجة كبيرة محتوى هذه العملية وجودتها وكفاءة مخرجاتها من التلاميذ والطلبة في مختلف المراحل والقنوات التعليمية, فقد عكفت النظم العالمية والديمقراطية منها بشكل خاص على الاهتمام  بتطوير المنهج وأغناء  محتواه, لكي يستجيب لظروف الحياة المتغيرة في مختلف الحياة, الاقتصادية, والاجتماعية, والثقافية, والتكنولوجية وكل مستجدات عصرنا المتسارع بدون انقطاع , وخلق خريجين على مستوى عالمي من الجودة, وبالعكس من ذلك فقد قامت النظم المستبدة والمتخلفة على توظيف المنهج لأغراض فئوية ضيقة, سياسية ودينية وطائفية وشوفينية بهدف إعداد مواطن موالي لنظام سياسي أو لدين ما أو لطائفة بعينها أو لقومية دون أخرى, وخلق مواطن لا يفقه قيمة النقد للظواهر الحياتية المختلفة, تسهل قيادته بمختلف الاتجاهات, كما فعل النظام السابق المقبور عندما قاد البلد إلى مختلف الكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحروب المدمرة, وقد اعتمد بذلك على تسييس المنهج الدراسي وتشويه محتواه بما يخدم أغراض توجه النظام وعدوانيته في الداخل والخارج, من خلال إعداد عقليات مطابقة لمنظومته القيمية الفاسدة.

أن المنهج الدراسي أو التربوي في سياق حديثنا لا يقصد به المفهوم التقليدي للمنهج, والذي يقصد به المقررات الدراسية " الكتب " التي تقدمها المدرسة أو الجامعة لدارسيها, بل المقصود به, وكما هو متعارفا عليه عالميا ومحليا " بالمنهج الحديث,  الذي يمكن تعريفه بأنه : " مجموعة الخبرات التربوية التي تهيؤها المؤسسة التعليمية والتربوية لدارسيها سواء داخلها أو خارجها وذلك بغرض مساعدتهم على النمو الشامل المتكامل, أي النمو في كافة الجوانب العقلية والثقافية والدينية والاجتماعية والجسمية والنفسية والفنية نموا يؤدي إلى تعديل سلوكهم ويكفل تفاعلهم بنجاح مع بيئتهم ومجتمعهم وابتكارهم حلول لما يواجههم من مشكلات ".والمنهج بهذا المفهوم يعني ما يأتي :

1ـ إن المنهج يتضمن خبرات مربية وهي خبرات مفيدة تصمم تحت إشراف المدرسة لإكساب الدارس مجموعة من المعلومات والمهارات والاتجاهات والسلوكيات المرغوبة.
2ـ إن هذه الخبرات تتنوع بتنوع الجوانب التي ترغب المدرسة في إحداث النمو فيها ولا تركز على جانب واحد فقط من جوانب النمو كما هو الحال في المنهج الكلاسيكي.
3ـ إن التعليم هنا يحدث من خلال مرور المتعلم بالخبرات المختلفة ومعايشته ومشاركته في مواقف تعليمية متنوعة, أي أن التعليم هنا هو تعليم خبري.
4 ـ أن بيئة التعلم لا تقتصر على حجرة الدراسة أو ما يدور داخل جدران المدرسة, في المعامل أو الملاعب أو الفناء, بل تمتد بيئة التعلم إلى خارج المدرسة فتشمل المصنع, والحقل والمعسكرات, وغيرها وهذا يتضمن تعرض الدارس للخبرات المتنوعة بنوعيها المباشر وغير المباشر.
5 ـ إن الهدف الذي يسعى إليه المنهج عن طريق هذه الخبرات هو النمو الشامل المتكامل للمتعلم والذي يؤدي إلى تعديل سلوكه أي إلى تعلمه, وحصيلة هذا التعلم تساعد على تفاعل المتعلم بنجاح مع البيئة والمجتمع.
6 ـ إن تفاعل المتعلم بنجاح مع البيئة والمجتمع يعني انه يتأثر بما يحدث فيها ويؤثر فيها أيضا والمقصود بتأثير الفرد في البيئة والمجتمع هو استخدام المتعلم لعقله في مواجهة التحديات والمشكلات التي توجد في بيئته ومجتمعه ومحاولة التغلب عليها وحلها, لذا أصبحت تنمية قدرة المتعلم على المشكلات هدفا مهما من أهداف المنهج.
7 ـ في عالم سريع التغير كعالمنا الذي نعيش فيه لا يكفي حل واحد للمشكلة المطروحة, بل هناك ضرورة لابتكار بدائل لهذا الحل لاختيار المناسب فيها وفق الظروف المتغيرة والأفكار المتاحة, لذا أصبح تنمية ابتكار المتعلم هدفا هاما من أهداف المنهج ينبغي إعطاءه الأولوية له من بين الأهداف الأخرى التي يسعى إليها المنهج.

ومن منطلق شمولية المنهج لأغلب جوانب الحياة, فأن الدول الديمقراطية تسعى بكل جهودها لتطوير المناهج في مختلف المجالات, والتركيز على فكرة بناء المواطن الصالح من خلال توعيته بفكرة المواطنة,  من خلال تعريف الدارس المواطن بالمفاهيم الأساسية للمواطنة وخصائصها, مثل : مفهوم الوطن, والحكومة, والنظام السياسي, والمجتمع ومؤسساته المدنية, ومفهوم الديمقراطية الحق, والمشاركة السياسية وأهميتها, والمسؤولية الاجتماعية ومظاهرها, وضرورة الاحتماء بالقانون, واحترام الدستور, وضرورة الوعي بالحقوق والواجبات اتجاه الدولة والمجتمع, وغيرها من المفاهيم المعاصرة للمواطنة الصالحة وأسسها.وبالضد من ذلك فأن الحكومات القمعية والاستحواذية والطائفية والعرقية تسعى لتشويه فكرة المواطن والمواطنة, من خلال غرس قيم الولاء للحزب الحاكم, أو الولاء للطائفة أو للدين أو للقومية دون الوطن الذي يجمع كل هذه المكونات في بوتقة واحدة, فالوطن هو الحامي والحارس الأمين لكل هذه المكونات عبر تعزيز ثقافة التسامح والولاء للقانون وللدولة صاحبة الشأن في المجتمعات الديمقراطية, دون العبث بجغرافية وسياسة واثنية وأديان الوطن الكبير. وتشمل فكرة المواطنة من خلال المنهج الدراسي الحديث الأبعاد الآتية :

1ـ البعد المعرفي ـ الثقافي : حيث تمثل المعرفة عنصرا أساسيا وجوهريا في نوعية المواطن الذي تسعى إلى بناءه مؤسسات المجتمع السليم والمعافى, وهذا لا يعني أن المواطن الأمي ليس مواطنا يتحمل مسؤولياته ويدين بالولاء للوطن, ولكن المعرفة والثقافة والتعليم وسائل توفر للمواطن فرص لبناء مهاراته وكفاءاته التي يحتاجها في معترك الحياة, كما أن التربية الوطنية والتعليم تنطلق من ثقافة الناس مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات في التنوع الثقافي للمجتمع.

2ـ البعد ألمهاراتي : ويقصد به المهارات الفكرية والعقلية مثل : التفكير النقدي والقدرة على ممارسة النقد والنقد الذاتي, والتحليل الموضوعي لمختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية, والقدرة في المحاولة على حل المشكلات أو إدراك أولي لماهية الحلول, حيث أن المواطن الذي يتمتع بهذه المقدرة يستطيع التميز بين الطالح والصالح من الأمور ويكون أكثر عقلانية ومنطقية فيما يفعل أو يقول دون الانسياق وراء التجمعات أو الشلل التي تحول فردية الإنسان إلى حشد قطيعي, اقرب جدا إلى الحيوان منه إلى الإنسان .

3ـ البعد الاجتماعي : ويقصد به خلق الكفاءة الاجتماعية لدى الدارسين ـ المواطنين في التعايش مع الآخرين من مختلف الفئات الاجتماعية وتنمية روح التسامح ولغة التواصل مع مختلف المكونات القومية والاثنية في الوطن الواحد والتعايش معهم بسلام, بعيدا عن استخدام لغة الإكراه والتميز والإقصاء والفرقة والكراهية .

4 ـ البعد ألانتمائي : ويقصد به البعد الوطني وما يترتب عليه من غرس انتماء الدارسين لثقافتهم ولمجتمعهم ولوطنهم, وتعزيز ثقافة المصلحة العليا للوطن بعيدا عن التشرذم الجغرافي ـ الطائفي والقومي والديني, وإحلال ثقافة المسؤولية العليا اتجاه الوطني ومصيره, وحمايته من التدخلات الخارجية وأخلاق التفكك الداخلي.

5ـ البعد ألقيمي والديني, مثل : إشاعة قيم التسامح والعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية بين مختلف الأديان السماوية وغير السماوية, وتكريس مبادئ عدم المساس بمقدسات الأقلية الدينية وتوفير الفرص اللازمة للتعبير عن نفسها في إطار وجودها الجغرافي دون إرهاب أو ابتزاز أو ارتهان أو عمليات إرهابية جبانة تطال هؤلاء بفعل ضعف إمكانيتهم في الدفاع عن أنفسهم.

6 ـ البعد الجغرافي ـ المكاني : وهو الإطار المادي والإنساني  الذي يعيش فيه المواطن, أي البيئة المحلية يتعلم فيها ويتعامل مع أفرادها, وليست فقط من خلال النصائح والمواعظ  داخل غرفة الصف, بل من خلال المشاركة التي تحصل في البيئة المحلية والتطوع في العمل البيئي, ومن خلال ربط هذه النشاطات بالبيئة الأكبر " الوطن " من ناحية القيم والأهداف المرجوة من كل نشاط , وعدم الاعتكاف فقط في البيئة الأصغر التي تحجر عقل الدارس وتسهل مراوحته كالصنم في محل إقامته.

وتحتل عملية تطوير المناهج الدراسية في العراق أهمية استثنائية في ظروف التغير المنشود بعد 2003 وخاصة في نطاق المناهج الإنسانية, بعد ما أصاب المنظومة القيمية والتربوية والاجتماعية من تدهور وتحلل وتفسخ في ظل النظام السابق,  ساق شعبنا إلى مختلف الكوارث الإنسانية والحروب, تلتها سنوات من التمترس الطائفي والديني والعرقي, أدت إلى أن يكون الوطن ضحية لجلاديه في الداخل والخارج, وكأن شعار العداء للوطن أولا هو محك الولاء للمواطنة البغضاء, ومن هنا نذكر الحريصين على العراق ولحمته, و لكي يكون العراق وطنا صالحا للجميع, وليست أرضا خصبة للإرهاب والتهجير والهجرة,  اليوم وغدا, ولكي نمنع من ولادة أجيال قادمة من الإرهابيين, فأن البدء بإصلاح وتطوير المناهج الدراسية هو المدخل الأساسي وصمام الأمان لأجيالنا القادمة وللحفاظ على الديمقراطية الناشئة التي هي وقف التنفيذ, وبعيدا عن الارتجال والتحزب والطائفية والعرقية, ومن هنا تأتي أهمية الحفاظ على أجيالنا عبر اعتماد الأسس العلمية والمهنية والمعتمدة عالميا في تطوير المناهج الدراسية, ولعل أبرزها ما يأتي :

1ـ التكامل بين مؤسسات المجتمع المعاصر:
إن التطوير الشامل والمستمر للمنهج يستدعي التكامل بين مؤسسات المجتمع, بما تتضمنه من موارد بشرية ومادية متنوعة , ولكي تتكامل مؤسسات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية, ومن ثم تسهم في دفع عجلة التنمية بالمجتمع, في بلد توقفت فيه التنمية منذ عقود كالعراق, فأن هذه المؤسسات مطالبة وبحكم ارتباطها بما يجري حولها في المجتمع, بتقديم خبراتها وتوجيهاتها العلمية والفنية ووجهات نظرها حول تحديث المناهج وتطويرها بصورة علمية, والابتعاد عن الارتجال الذي يعبث في المنهج ويحصره بأهداف أنانية ضيقة, فأن العمل الجماعي كفيل بدفع عجلة التنمية في المجتمع بعد وضوح الأهداف من التطوير.
2 ـ الاستفادة من التقدم العلمي التكنولوجي الحديث:
لقد حقق التقدم التكنولوجي والعلمي الكثير من الانجازات وأضاف الكثير من الوسائل التكنولوجية الحديثة, التي يمكن الاستفادة منها في إعداد وتخريج مواطنين على مستوى عالي من الجودة والكفاءة والتأهيل لمواجهة تحديات العصر, ومن هذه الوسائل : الإذاعة, والتلفاز, والأقمار الصناعية, وشبكة الانترنت,  والكمبيوتر, وهذه وسائل وأدوات تكنولوجية تساعد في الحصول على البيانات والإحصاءات والمعلومات من مصادرها الأولى والمتنوعة. ومن الوسائل التكنولوجية التي يمكن الاستفادة منها في العملية التربوية والتعليمية ولتطوير المنهج هي : استخدام التلفزيون التربوي, المواد المطبوعة, وأشرطة سمعية,  وشرائح ضوئية, وأفلام ثابتة, وبرامج الحاسوب الآلي, وهذه الوسائل إن أحسن إتقانها واستخدامها والإفادة منها فسوف ترفع من مستويات الأداء والكفاءة لدى الدارسين والكادر التربوي والتدريسي بشكل عام, وتسهم في معالجة الكثير من المشكلات التعليمية. وفي ظروف العملية التربوية في العراق حيث حرم قطاع التربية والتعليم كما هو الحال في مختلف مجالات الحياة من ثمرة التقدم العلمي والتكنولوجي واستخدامه لأغراض سلمية, فنحن اليوم بأمس الحاجة لتضمين العملية التربوية والتعليمية بهذه المنجزات التي لا يمكن الاستغناء عنها.
3 ـ الاستفادة من التدفق ألمعلوماتي في مختلف المجالات:
لقد حرم العراق ولعقود من التدفق ألمعلوماتي السلس, ومن  كل جديد في العملية التربوية نتيجة لعزلة النظام السابق عن العالم ومخاوفه من الانفتاح المعرفي والمعلوماتي على العالم, مما أوقع البيئة التربوية في نمطية مستديمة, وهو بالضد من النمو السريع لوسائل الاتصال, والتوسع في استخدامها, وتقدم تكنولوجيا المعلومات, ولهذا فمن الضروري عند تطوير المناهج الاستفادة من التدفق ألمعلوماتي في المجالات المختلفة والأخذ بسمات العصر وانجازاته المتعددة لكي يستطيع المنهج استيعابها وترجمتها إلى أهداف تربوية تستجيب لظروف الحياة المتجددة والتخلص من الأمية الحضارية.
4 ـ الاستثمار الأمثل للموارد المالية :
إن عملية تطوير المناهج تتطلب المزيد من الموارد المالية, وهذه الموارد يمكن الاستفادة منها في العديد من المجالات, مثل إقامة المباني المدرسية الحديثة والمتطورة وتجهيزها بأحدث الأجهزة والمعدات, وتأليف الكتب الدراسية الحديثة وطبعها, ونشر شبكة المكتبات المدرسية قي مختلف أنحاء العراق, في المدن والأرياف والقصبات, وتزويدها بكل ما يلزمها من كتب ومراجع ودوريات علمية وتربوية ووسائل تقنية وغيرها, ولا يعقل أن في العراق اليوم الآلاف من مدارس الطين والقصب في ظل إمكانيات نفطية ـ مالية يسرق منها العدو والصديق, والعمل كذلك على زيادة الرواتب والحوافز المادية للقائمين على العملية التربوية من قيادات وكادر تدريسي, والإنفاق على الدورات التدريبية وإعادة التأهيل للكادر التربوي وتنميته مهنيا وتربويا, ولذا فأن عملية تطوير المناهج تستدعي مزيدا من الإنفاق على قطاع التربية والتعليم, شريطة أن يرتبط ذلك بتجفيف مصادر الفساد وسرقة المال العام ووضع حد للتزوير الذي فاق التصورات في هذا القطاع.
5 ـ الاستفادة من التجارب العالمية المعاصرة :
عند تطوير المناهج الدراسية يجب الأخذ بنظر الاعتبار إن النظام التربوي في العراق لا يسبح في فضاء منعزل عن التجارب التربوية والخبرات العالمية, خاصة ونحن في الألفية الثالثة وفي ظروف الانفتاح والعولمة وما يصاحبها من تداعيات اقتصادية, وثقافية, واجتماعية, وإيديولوجية, لم يعد العالم كما عهدناه فيما مضى, شئنا أم أبينا, مغلق بحدوده الجغرافية, فالعراق اليوم منفتح على العالم الخارجي أكثر من أي وقت مضى, وعليه الاستجابة المرنة لأفضل ما ينتجه العالم من نظريات وأفكار جديدة في ميادين التربية والتعليم لاحتوائها عند تطوير المنهج, مع الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية العراق وأهدافه الوطنية الكبرى في قطاع التربية والتعليم.
6 ـ الاستثمار الأقصى للموارد البشرية :
إن عملية تطوير المناهج الدراسية تستدعي المشاركة الفعالة من قبل جميع الأفراد ذوي الصلة في عمليات التطوير, من خبراء, ومتخصصين, وقيادات تربوية, ومربين, وفنيين, ودارسين, وحتى مواطنين عاديين وغيرهم, فالخبراء والمتخصصون هم الفئة التي تقود عمليات التطوير وتقوم بالدور الرئيسي فيها, وهؤلاء يعملون في تخطيط المناهج والبرامج, وفي تقويم الجوانب المختلفة للعملية التربوية, وفي تأليف الكتب الدراسية, وفي إعداد المربي وتدريبه, وفي إجراء البحوث اللازمة, إلى جانب القياديين التربويين بمختلف مستوياتهم فهم يلعبون دورا رئيسيا في إنجاح عمليات التطوير, وكذلك المربين باعتبارهم طرف مهم في العملية التربوية, إلى جانب الدارسين وهم المستهدفين من عمليات التطوير جملة وتفصيلا, والفنيين الذين يقررون كفاءة الأجهزة التعليمية المختلفة, وكلفتها, وصيانتها, وإصلاحها, وتشغيلها وكذلك المواطن العادي الذي قد تكن لديه آراء مختلفة عن العملية التربوية, وهذه الآراء يجب دراستها وتمحيصها وإفراز الصالح منها في ضوء أهداف العملية التربوية. إن العراق اليوم محتاج إلى هذا الجهد الجماعي الكبير بعد سنوات الإهمال في تطوير المنهج, بعيدا عن الانفراد والاستحواذ من قبل الجهات السياسية التي تسيطر على مركز القرار, والتي ترغب في" تطوير " المناهج على خلفية مزاج ديني أو طائفي أو اثني بعيدا عن الفهم الصحيح والعلمي لمفهوم تطوير المنهج والارتقاء به.


قد تكون ملاحظاتي هذه هي ملاحظات رؤوس اقلام في بلد لازال بعيدا عن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي, في بلد لم تستقر فيه العملية السياسية على أسس واضحة, وفي بلد تتجاذبه الصراعات الدينية والطائفية والاثنية, وفي خضم تلك الصراعات تتهاوى افضل فلسفات الاصلاح التربوي والتعليمي. ان استقرار العراق سياسيا وتعزيز الديمقراطية السياسية كوسيلة لتداول الحكم وبما يفرز نهجا واضحا في الحكم والمعارضة تتنوع فيه الرؤى الفلسفية الاصلاحية في كافة الميادين بما يسهم اخراج العراق من ازمته بما فيه ازمة قطاع التربية والتعليم, وعدا ذلك فأن الحديث عن الاصلاح يبقى في اطار المتعة العقلية والمعرفية لألتماس افق المستقبل نظريا, ولعل في محاولاتنا أن تلقى آذانا صاغية من قيادات البلد المشحون بصراعات المصالح الشخصية بعيدا عن مصلحة الوطن.








 
 



 



 




107
أزمة تشكيل حكومة في العراق أم أزمة نظام سياسي   
د.عامر صالح   

الحديث عن ديمقراطية التداول السلمي للسلطة يعني بوضوح هو الحديث عن حكومة ومعارضة, الأولى تحكم والأخرى تراقب الأداء الحكومي للأولى وتشكل الأخيرة ما يسمى بحكومة الظل, وتتناوب الأدوار بينهما عندما تتوفر الشروط الموضوعية لذلك, سواء من خلال الدورات الأنتخابية واعادة تشكيل الحكومة من خلال تناسبات القوى داخل قبة البرلمان, أو تعثر الأداء الحكومي في منتصف الطريق او حتى في البدايات الأولى لتشكيل الحكومة عندما تكون هناك معوقات جدية تعجز فيه الحكومة عن الأستمرار في الأداء.

العملية الديمقراطية في تشكيل الحكومة في العراق فقدت مقوماتها من خلال خرق الدستور والمتمثل في عدم تسمية الكتلة الأنتخابية الأكبر, والتي تقوم بدورها بتسمية رئيس الوزراء لتشكيل كابينته الوزارية, وهي ليست المرة الأولى التي يغيب فيها المفهوم الدقيق للكتلة الأكبر, فقد جرى في الانتخابات البرلمانية السابقة تحديدا خاطئا لمفهوم الكتلة الأكبر والذي لا ينسجم مع الدستور, ولكن هذه المرة وبعد الانتخابات البرلمانية الرابعة التي اجريت في 2018ـ05ـ12 كان الأكثر خطرا على الديمقراطية هو تجاوز مفهوم الكتلة الأكبر وعدم الأعتراف بوجودها, وهو يشكل خطرا في المفهوم المركزي والأساسي للديمقراطية السياسية التي يبنى على اساسها الحكم وتشكيل السلطة الحكومية التنفيذية من خلال تسمية الكتلة الأكبر, مما مهد الطريق " لتعويم " العملية السياسية بالكامل, والعمل بمبدأ " الجميع يحكم " من خلال اجندة الأحزاب الأثنوطائفية السياسية التي اغرقت البلاد في مستنقع الفساد السياسي منذ الوهلة الوهلة الأولى وبعد سقوط النظام الدكتاتوري في عام 2003.

لقد سبق سيناريو " تعويم " العملية السياسية أجواء اضعفت ما تبقى له من شرعية إن وجدت في اذهان الناس, واسهمت في اضعاف بارقة الأمل في اعادة بناء العملية على أسس من تقاليد العمل الديمقراطي السياسي المعمول به في دول العالم المتحضر بعيدا عن نظام المحاصصة البغيض, وقد تجلت تلك في ضعف المساهمة في الانتخابات حيث بلغت نسبة المساهمة ما يقارب 20%, اعقبتها نتائج مشكوك في مصداقيتها في خارج العراق وداخله باعتراف الاجهزة الحكومية العراقية الامنية والأستخباراتية, ثم اعقبتها كارثة حرق صناديق الاقتراع للعبث في مصداقية النتائج واخفاء ما زور منها, ثم استبدال العد والفرز الألكتروني بالعد والفرز اليدوي, والذي لم يستجيب لطموحات الناس والمتضررين من النتائج بشكل خاص ولم يكن شاملا كما كان يجب عليه ان يكون بعد التهم التي وجهت لمفوضية الانتخابات في عدم دقة نتائج الانتخابات, وقد جاءت نتائج العد والفرز اليدوي مطابقا للألكتروني. 

كل هذا جرى على خلفية فشل الأداء الحكومي خلال عقد ونصف من الزمن, في حقبة استشرى فيها الفساد الاداري والمالي الذي اتخذ من الفساد السياسي غطاء يحتمي به, وقد انعدمت خدمات الحد الادنى من مقومات العيش الكريم, من صحة وتعليم وكهرباء وماء, وانتشار للبطالة في اوساط الخريجين وغيرهم, وتعاظم نسب الفقر وما تحت خط الفقر والذي بلغت نسبته ما يقارب 40%, منزامنا مع كوارث بيئية وطبيعية, ابرزها شحة المياه ومخاطر الجفاف الشامل, وكذلك التلوث البيئي وتلوث مياه الأنهر وعدم صلاحيتها للأستخدام اليومي او لعيش الكائنات الحية فيه كالأسماك وغيرها, وكان هذا في مجمله يعكس ضعف الادارة السياسية لأدارة هذه الملفات الخطيرة جسدتها حالة الاحتراب والارتهان لأجندة اثنوظائفية سياسية داخلية واجندة اقليمية عرقلت وضع العراق على طريق السكة الصحيحة. 

 كان خيار السيد عادل عبد المهدي لرئاسة الوزراء هو خيار التسوية المحصصاتية الطائفية والاثنية وليست خيار الديمقراطية السياسية, وقد اتفقت عليه الاحزاب الطائفية السياسية والاثنية بعد فقدان الأمل في التأسيس لمفهوم الكتلة الأنتخابية الأكبر, كان خيار عادل عبد المهدي في ظاهره رحمة شكلية من خلال منحه " الحرية الكاملة " في اختيار كابينته الوزارية, ولكن باطنه مأزوما بقوة الصراعات الطائفية والاثنية التي فرضت اجندتها على الحقائب الوزارية, كما فرضت اجندتها على رئاسة البرلمان ورئيس الجمهورية من قبله.

لقد كان اقرار 14 وزيرا من كابينة مؤلفة من 22 حقيبة وترك 8 للصراعات المحصصاتية السياسية والاثنية مؤشرا سلبي واخلال كبير لمفهوم حكومة التكنوقراط, وهناك من الملاحظات الجدية التي تساق ضد ال 14 وزير الذين تم التصويت عليها, فهم لم يأتوا عبر النافذة الالكترونية التي فتحها السيد عادل عبد المهدي للترشيح لشغل منصب وزير, او ملاحظات خاصة بعدم دقة محتويات السيفي, أو وجودهم في وزارات في غير تخصصاتهم, أو شمول البعض منهم بقانون المسائلة والعدالة, أو تهم وجهت لأخرين منهم بالفساد الاداري والمالي وحتى تهم بالقتل او كانوا في السجون في فترات سابقة لأسباب جنائية, كما ارتبط العديد منهم بعلاقات قربى مع رموز سياسية وعشائرية, الى جانب كونهم عكسوا بهذا القدر او ذاك المسحة العامة للكتل الكبرى المحصصاتية المتخاصمة. 

في إطار البحث الشكلي عن مخرج للازمة المستعصية في البلاد منذ عقد ونصف من الزمن, والتي عصفت في البلاد وأودت بالخراب الشامل لامكانيات البلد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبشرية, يجري البحث عن حلول ترقيعية بعيدا عن البحث عن الاسباب الحقيقية للازمة العامة في البلاد, والتي كان سببها الاول والاخير هو النظام الطائفي المحصصاتي والاثني البغيض الذي شل حركة النهضة والحياة في بلد يمتلك كل المقومات الموضوعية والذاتية للنهضة الحضارية, باستثناء طبيعة النظام السياسي القاصر فكريا وعقليا والعاجز كليا عن استنهاض القوى الكامنة لشعبنا وقدراته وموارده الذاتية صوب التنمية البشرية المستديمة. 
 
أن نظام المحاصصة عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه. 

نقول هنا ان البحث عن حكومة تكنوقراط مؤلفة اعضائها من خبراء ومهنيين ومتخصصين في مختلف المجالات, ومن اساتذة جامعات وباحثين مرموقين, يستندون في نشاطهم الحكومي الى معطيات العلم والمعرفة الحديثة في مختلف المجالات ومستقلين نسبيا عن تأثير الاحزاب السياسية التي تقود البلد في مرحلة ما, هو أمر في غاية الصعوبة في ظل نظام محصصاتي يستند الى معايير الولاء للحزب او الطائفة او الاسرة الحاكمة او القومية والحزب القومي المهيمن, حيث اللجوء في اسناد المناصب الى معايير شاذة لا صلة لها في الكفاءة والمقدرة المهنية والتخصصية, وحيث النظر الى السلطة والمنصب هي استحقاقات محصصاتية وغنائم وفرص لا تعوض.

ومن هنا فأن عملية الحراك الاجتماعي والمتمثلة بكل الفعاليات السلمية المطلبية والطموحة الى التغير الجذري يجب ان تستهدف في نشاطها المتعاظم الى ما يفضي الى التأسيس للحلول الجذرية التي تسهم في فك الارتباط وانهاء العلاقة مع النظام المحصصاتي الطائفي والاثني, واعادة بناء العملية السياسية على اسس دستورية وقانونية جديدة تضمن الوطن والمواطنة والانتماء الى العراق بكل مكوناته الاجتماعية والثقافية والاثنية والدينية. وعندها يكون الحديث عن التكنوقراط وانقاذ البلد واعادة بنائه أمرا ممكنا في ظل مزاج الانتماء الى الوطن الأم.







108
عاشوراء الحسين بين الرمزية الأنسانية والأستغلال السايكوسياسي



د.عامر صالح   

تواردت الكثير من المرويات والقصص في المتخيل الديني حول اليوم العاشر من شهر محرم في التقويم الهجري, يصل الكثير منها الى حد الرفض الكامل وعدم التصديق بها استنادا الى ما يروى نقيضها او عدم القبول المستند الى عدم القناعة العقلية والمنطقية الى ما يتوارد من محتوى، ويراه البعض انه يوماً يستحب الصيام به اتباعاً لسنة النبي محمد، والبعض يراه مستحباً لأن أحداثاً عظيمة حدثت فيه ولو أن ليس هناك ما يؤكد وقوعها في هذا اليوم بالذات، ومن هذه الأحداث أن الكعبة كانت تكسى بهذا اليوم في زمن الجاهلية ، وأن الله قد أنجى يونس من بطن الحوت في هذا اليوم ، وأنجى نوح ومن معه، وأرجع يوسف إلى أبيه، وأنجى موسى وقومه من بطش وملاحقة فرعون وجنوده, والكثير من المنح الإلهية للأنبياء يراها بعض رجالات الدين قد تمت بهذا اليوم ، وقد نقل حديثاً للنبي محمد أن صيام عاشوراء " يمحي ذنوب سنة قبله " ، ولكن الكثير من يرفضون هذه التحليلات ويرون أنه يعتبر يوم مستحب صيامه لما فيه من خصوصية ولكن بدرجة متشابهة مع سائر الأيام .

أما اليوم فأن شرائح واسعة من العالم الاسلامي وغير الاسلامي يرون ان هذا اليوم حصرا هو يوم مقدس بسبب ذكرى استشهاد الامام الحسين ابن علي في العاشر من شهر محرم سنة واحد و ستون من الهجرة ، بعد حصاره هو و أهل بيته ثلاثة أيام في صحراء كربلاء دون ماء و غذاء من قبل جيش يزيد بن معاوية في واقعة الطف ، ثم قتله هناك بحيث لم يبق من أهل بيته أحدا إلا النساء . ويرى الكثير من المؤرخين بأن هذه الواقعة هي واقعة انسانية أكثر منها دينية ، وهي تمثل الثورة ضد الظلم والمغالاة والفساد السياسي والاخلاقي ، وثورة صاحب حق يثأر لحقه ، وقصة الحصار وكيف تمت بأن ينادى الحسين لكي يأخذ حقه بالحكم و من ثم تكون هذه خديعة فتتم محاصرته هو و من معه و قد أعطي الأمان مسبقا ثم تصفيتهم بطريقة غير إنسانية تعبر عن مدى عدالة القضية وخاصة في بعدها الانساني ، وخاصة أن الحسين ابن علي  حفيد النبي محمد كان على علم تام بما سيحصل ومع ذلك ذهب لأنه ذاهب لنيل ما يعتقده حقا ، وبالتالي يجب على الإنسان أن يطالب بالحق حتى لو أودى به ذلك إلى التهلكة.



ومن المسلم به اليوم أن الاعتزاز بآل بيت النبي محمد تحولت إلى فعل مخزن في أعماق اللاوعي, يستحضر كل مرة بنفس العنفوان في سلوكيات المحبة والاحترام وشعائر الاستذكار, ليست فقط لدى الشيعة, بل لدى كل الطوائف الإسلامية, والديانات السماوية الأخرى وحتى غير السماوية, و ليست في العراق فقط بل في بقاع مختلفة من العالم العربي والاسلامي, فكيف الأمر بالنسبة للحسين أبن علي رمز الثورة على الظلم والفقر والتخلف والفساد, فقد ذكر المفكر والمستشرق الانكليزي ادوارد دبروان: " وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن حين يسمع حديثا عن كربلاء؟ وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار وطهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها ". كما تحتفل القوى الوطنية العلمانية واليسارية بكل مكوناتها في العراق وخارجه بكل صدق وإخلاص بذكرى استشهاد الحسين تيمنا وأيمانا بقيم الحق والعدل والمساواة, والتي طالما قدمت هذه القوى خيرة مناضليها شهداء وأبطال على طريق وأهداف ثورة الحسين, وفي الطرف الآخر حيث تقوم أحزاب الإسلام السياسي والمتأسلمين  بتجيش مشاعر محبي الحسين وتعبئة الناس لزجهم في آتون الكراهية والاستفزاز الطائفي والديني وتعطيل مؤسسات الدولة وحرف نضالات الجماهير المطلبية من اجل تحسين ظروف العيش.

وفي الوقت الذي يكرسون فيه صناعة البطالة والكسل و الفقر وانتشاره باعتباره قدر إلهي لا بد منه,  ينغمسون من رأسهم حتى أخمص قدميهم في مباهج الحياة الدنيا, يرفلون في نعيمها وخيراتها ويجرون ملهوفين وراء متاعها وملذاتها ويستحوذون على ارفع المناصب والوظائف, ويعيثون فسادا في الدولة, متناسين قول الحسين " أن الكسل يضر بالدين والدنيا ", وأن العمل النزيه بمنزلة العبادة كما أريد له في الدين, و تقوم هذه القوى بتكريس العداء للآخر المسالم الذي قد يختلف معنا في التفكير, ولكن قد لا نشك في محبته للحسين باختلاف مظاهر التعبير عنها, فكما نعرف جميعا أن حب الحسين والاحتفاء به ليست حكرا على طائفة بعينها أو بحزب سياسي لذاته, فقضية الحسين ابعد بكثير من ارتهانها طائفيا أو حزبيا, انطلاقا من  أبعادها العالمية التي تتجاوز حدود الدين والطائفة والحزب والجغرافيا التي جرت فيها الأحداث. يقول الكاتب المسيحي كرم قنصل: " أن سيرة الحسين مبادئ ومثل وثورة أعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها, وعلى الفكر الإنساني عامة أن يعيد تمثلها واستنباط رموزها من جديد لأنها سر السعادة البشرية وسر سؤددها وسر حريتها وأعظم ما عليها امتلاكه ".  لقد بلغت من العمر ما يقارب الستة عقود ولن اسمع بمسيحي أو صابئي أو سني أو غيره أن يذكر الحسين بغير ذكراه العطرة.

واليوم إذ يختلط فيه الديني بالسياسي بعنف, وخاصة في ظروف العراق الحالية التي تأسس فيها نظام الحكم بعد 2003 على أسس من المحاصصات الطائفية  والعرقية, حيث ساعد على استنفار الورقة الطائفية واستخدامها من قبل الإسلام السياسي الطائفي, ويجري التعمد في خلط المشاعر بين حب الحسين ابن علي و ممارسة طقوس الاعتزاز به كما في عاشوراء, و بين ثقافة تعبئة الحشود التي تلجأ إليها هذه القوى في محاولة منها لاستنزاف القوى العقلية والفكرية للجماهير المليونية والمحبة حقا للحسين, وتحويلها إلى كتلة بشرية صماء غير قادرة على تعقل أحداث عاشوراء والطف واستلهام الدروس منها في المحبة والإخاء والعدل والمساواة والكرامة واحترام قيم العمل والتعايش السلمي, بل يجري العزف المكثف على الانفعالات المصاحبة لهذه الذكرى الجليلة لحرفها وإضفاء الصفة السلبية عليها وحصرها في حدود أهداف سياسية أنانية وتعبوية ضيقة, عندها يسهل الترويج للإسلام السياسي الطائفي بغطاء عاطفي ومنفعل ليصب مزيدا من الزيت على نار الصراعات والاحتقانات المتقدة بين أبناء الطائفة الواحدة وبين الطوائف الأخرى, وخاصة عندما تجري هذه الصراعات في بيئة الفقر والحرمان والذي بلغت مداه بحدود 70% في مناطق الوسط وجنوب العراق.

كيف استطاع الإسلام السياسي والطائفي منه بشكل خاص, ذو الخطاب المهيج للانفعالات قبل العقل أن يخترق الوسط الشيعي وأن يؤسس لكانتونات سياسية شديدة التركيز في العدة والمال والسلاح, تلك هي قصة سيكولوجية تراكمت أسسها وتجذرت في اللاوعي الجمعي للوسط الشيعي وفي وجدانه وسلوكياته, ارتبطت جذور شدتها في استشهاد الحسين, وان كانت تمتد بجذورها إلى عدم تولي الإمام علي ابن ابي طالب للخلافة بعد وفاة النبي محمد, وأن آثارها بقيت في أذهان الشيعة وخاصة العوام منهم, حيث أن النخب الشيعية أو الخواص ورموزهم استطاعت أن تجد لها وطأة قدم وتؤسس  سلطاتها الدينية المؤثرة وتضفي على نفسها هالة من القداسة مستفيدة من زخم الأحداث وشدة تكثيفها وإيحائها ورمزيتها الشديدة, وفي أحيان كثيرة كانت موازية للنظم السياسية المقيمة فيها, مدعمة بالمال السخي الذي يمنح لها في السر والعلانية من الهبات والتبرعات والخمس القادمة من الأوساط الشيعية الواسعة والفقيرة أصلا, إلى جانب نسب من العوائد المالية القادمة من زيارة المراقد المقدسة للأئمة من قبل الزوار من داخل الحدود وخارجه.

وقد بقى وقع استشهاد الحسين وآثاره النفسية المتراكمة شديدا على عوام الشيعة, والذي شكل بدوره أرضا خصبة لتسلل وانتعاش الإسلام السياسي الطائفي وقوى التطرف الديني عبر خطابات ذرف الدموع واستحضار مكنونات اللاشعور الفردي والجمعي لدى الوسط الشيعي, وهذا لا يعني أن عوام الشيعة كانوا معتكفين في منازلهم " عملا بمبدأ التقية الشهير لديهم " ولم يمارسون السياسة بمختلف مظاهرها وألونها وكانوا ينتظرون قدوم الإسلام السياسي والطائفي لإنقاذهم, فتلك مجافاة للحقيقة التي يدركها الجميع, فقد انصهروا في الكثير من الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية والرجعية طواعية وبدون ضغوط عليهم " عدا بعض محطات الإكراه في الانتماء " والذي شمل الجميع كما هو الحال في التبعيث سيئ الصيت, وكانوا في أحيان كثيرة من مؤسسي هذه الأحزاب وقيادتها, كما شكلوا جمهورا واسعا للكثير من الأحزاب بما فيها الحاكمة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية والقمعية, واعتقد أن تجربة العراق عبر تاريخه غنية بهذا الجانب وشاهد على ما نقول, فجماهير أحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي لم تكن مستقلة بالأمس عن السياسة, فالكثير منهم له جذور انتماءات قومية وعروبية وبعثية وغيرها.

المهم في ذلك مجددا هو كيف استطاع الإسلام السياسي الطائفي وفي فترة قصيرة جدا لا تتجاوز العقد والنصف من الزمن, وفي ظل غياب مشروعه التنموي والحضاري الشامل,  أن  يستقطب الشارع الشيعي ويعبئ الناس بطريقة " مشجعي فريق كرة قدم خاسر ", بعيدا عن الإعداد والتربية الفكرية والتنظيمية كما هو متعارف عليه في تقاليد عمل الأحزاب في المجتمعات المتمدنة التي تتداول فيها السلطات سلميا, وكذلك بالنسبة للأحزاب التي تمارس العمل السري في أوطانها نتيجة لظروف القهر والاستبداد وكما كان معمول به في العراق في عهد النظام الدكتاتوري. لقد استطاع الإسلام السياسي الطائفي ورموزه المتطرفة  أن تعيد صياغة ذهن المواطن الشيعي من خلال قراءة وجدانية معكوسة لثورة الحسين ولأهدافها الإنسانية الكبرى, قوامها الانفعالات السلبية الضارة المغلفة بمشاعر الإحساس بالدونية والمتلبسة بجريمة قتل الحسين وكأنها تقول القاتل" أنا " دوما ومن هذه الأرض, فيجب أن ادفع الثمن غاليا ويجب أن تتوقف الحياة على مدار السنة والساعة تبريرا وعزاء وعقوبة لذاتنا لما قمنا به من جريمة نكراء, وتصل هذه المشاعر إلى حد التأصيل في عقدة مضخمة تتضح ملامحها في الأبعاد النفسية الآتية:

ـ تشديد قبضة الشعور المستمر بالذنب تجاه الحسين ابن علي من خلال تكريس المشاعر التي تعكس بأننا استمرار لهؤلاء الذين تركوا الحسين بمفرده من دون نصرة بيد الظالمين, ونحن الذين تركناه لوحده مع خيرة آل البيت يواجهون الموت في الصحراء عطشا وجوعا على يد جيش يزيد الظالم, وهو شعور ناتج من قراءة تقطع الصلة بالزمان الذي جرت فيها الاحداث حيث طبيعة الناس آنذاك تختلف وكذلك خصوصية الصراع الذي حصل.

ـ تكريس الحزن والكرب والمعاناة في حياة الناس اليومية وممارسة سلوكيات التكفير عبر التعزيز المستمر لطقوس مؤلمة وحزينة تجلد الذات جلدا مبرحا أكثر مما تيسر حياة الناس وتبعث فيهم الفرح والبهجة بمشروع الحسين الكبير, كتطبير الرأس والضرب بالزناجيل على الظهر واللطم على الوجه والصدر والجبين, وما يصاحبها من مشاعر المزيد من الإحساس بعقدة الذنب والاضطهاد والعدوانية الموجهة إلى الذات والى الآخرين.

ـ  الإحساس العميق بالظلم والغدر والشعور بالمرارة تجاه ما حدث والرغبة في الثأر ممن فعلوا ذلك أو تواطئوا فيه أو سكتوا عنه, وهي آلية تزرع العدوان اتجاه الذات وتهدد التوازن النفسي للإنسان وتسهل الإقدام على مختلف الأعمال المذلة والمدمرة للكيان الشخصي والذاتي وتبخسه وتحط منه, عبر الإحساس الذاتي بعدم جدارتنا في الحياة, ولن يصدر عنا أي فعل خير, ولا يحق لنا أي اعتبار أو تقدير, وهو ميكانزم أساسي في سيكولوجيا الإنسان المقهور وخاصة في بيئة الفقر والتخلف الاجتماعي وانتشار الأمية, إلى جانب توجيه هذه العدوانية تجاه الآخرين المغايرين وخاصة عندما نضعهم بصفة مرتكبي جريمة قتل الحسين اليوم  بغض النظر عن الزمان والمكان الذي جرت فيه الاحداث الحقيقية.

ـ زرع الخوف من الآخر والتشكيك فيه واعتباره قابلا  للغدر في أي لحظة ما, وهي حالات تصل إلى حد بارانويا الاضطهاد, وتكريس سلوك اخذ الحيطة والحذر, ويترتب على ذلك الكثير من الدوافع في امتلاك السلاح وحيازته على نطاق واسع وبعشوائية استجابة لمشاعر الإحساس بالظلم والاضطهاد والعزلة لحماية الذات من العدو بعيدا عن دور الدولة في هذا المضمار, يقابله في الطرف الآخر الصراع  المكثف للانتساب إلى أجهزة الشرطة والجيش والمخابرات وامتلاك ناصية القوة في الوزارات ذات العلاقة استجابة لعدو وهمي قد يهجم في لحظة ما " وهذا لا يعني التقليل من قدرة  الآخر وعدوانيته في الغدر إن كان حاقدا متطرفا أو وهابيا ", إلا أن السلاح يجب أن يكون حصرا بيد الدولة الديمقراطية, وقد تفسر ظاهرة التسلح العشوائي في بعض جوانبها استجابة معاكسة وردة فعل لما كان يمتلكه النظام الساقط من سطوة وقوة وأجهزة قمعية, وتتحول بفعل ذلك عملية التسلح إلى كارثة على الطائفة نفسها بسبب من يدعي تمثليها من مختلف الأحزاب الإسلامية والجميع مدجج بالسلاح.

ـ لقد عمل الإسلام السياسي والقوى المتطرفة بتكريس فكرة أن حدث الحسين واستشهاده هو حدث خاص بالطائفة الشيعية ولوحدها فقط , وما تبقى من طوائف ومذاهب خارج البيت الشيعي فأن صلتها ثانوية بالحدث من حيث الاحتفاء والإجلال به والاستفادة من دروسه الايجابية, إن لم تكن مساهمة في مأساوية الأحداث, وهذا التصور الشائع أضفى على الوسط الشيعي مسحة انفعالية سالبة معززة للتشدد ومساهمة في انعزال المجتمع الشيعي عن الوسط المحيط به من طوائف ومذاهب, رغم وجود مشتركات كبيرة بينها في طقوس العبادة والشعائر الدينية, وخاصة مع الطائفة السنية, حيث يشتركون كلا الطرفين في الإيمان بالله وبرسله وبخاتم الرسل والأنبياء محمد وتأدية مناسك العمرة والحج, وهذا ليست من باب ألقاء اللوم على الشيعة في تضييق فرص الحوار مع السنة, ولكن أيضا ومن تجارب الحوار بين الطائفتين أن للسنة بعض من شروطهم التعجيزية في قضايا مفصلية بالنسبة للشيعة كالتقية والعصمة والمرجعية والفهم المغاير للكثير من نصوص القرآن وتفسيره وقضايا فقهية كثيرة, إلا إن الطريقة التي تفهم بها طبيعة أحداث كربلاء وشهادة الحسين, لها ما لها من آثار مسبقة في تضييق فرص الحوار ملقية بضلالها السلبية في التقارب المذهبي, وخاصة عندما يزج الدين في السياسة وتتداخل المصالح الأنانية, فلم يرى كلا الطرفين غير اللون الأسود.

ـ أن تأصيل الشعور بالذنب لدى الوسط الشيعي اتجاه الحسين بسبب من عدم نصرته في معركته العادلة مع يزيد, يقابله في الطرف الآخر الإعجاب الشديد ببطولته وتحديه لسلطة يزيد بدء من مقولته الشهير: " لا بيعة ليزيد, شارب الخمور, وقاتل النفس المحرمة ", وعلى الرغم من الكثير من النصائح والتحذيرات التي قدمت للحسين بعدم الدخول في هذه المعركة بسبب عدم تكافئ الجيشين وتوقعات باستشهاده, إلا انه ترك ارض الحجاز متوجها إلى العراق قائلا: " لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد ", وكان يعي تماما حاجة الأمة الإسلامية لمثل هذا الموقف الشجاع " بغض النظر عن التفاصيل ", وخاصة على اثر بيعة الحسن لمعاوية والتي أثارت الكثير من الالتباسات لدى المؤمنين آنذاك, أن هذا التداخل في المشاعر اتجاه الحسين والتي هي خليط من مشاعر الحسرة والندم لعدم نصرته, إلى جانب الإعجاب بصموده وبطولته أدى إلى حالة من التقديس والتعظيم للحسين, فهو بقدر ما يستحقها بعقلانية الإيمان, إلا أنها تركت لدى أوساط الشيعة استقطابا وجدانيا شديدا, وتحول هذا الاعتزاز والحب إلى موضوع خلاف وكراهية اتجاه الرموز الأخرى في الإسلام, أو كما يقال في الدارج من زاد على حده انقلب إلى ضده, خاصة عندما توظف هذه المحبة في غير مكانها ولتغذية الصراعات المذهبية.

ـ لقد استغل الفراغ الكبير الذي تركه استشهاد الحسين بتكريس السلوك التعويضي بمظهره السلبي, والذي يضعف من قدرة الإنسان العقلية والفكرية على تجاوز مأساوية الأحداث وأتحاذ زمام المبادرة وتأسيس العقل الناقد, مما سهل لاحقا تسليم الأمور ومصائر الناس بيد سلطات دينية مطلقة تمثلت في المرجعيات الدينية وإضفاء عليها صفات القداسة والطاعة والعصمة على نسق ما يضفى على الأمة ألاثني عشر, مما عبر عن حاجاتهم النفسية المستمرة على نسق الحاجات الطفولية إلى شخص راشد يتولى زمام أمورهم ويسلمون لهم قيادتهم, مما أدى بدوره إلى تضخم دور المرجعيات ليتجاوز حدود تأثيرها المجال الديني ليمتد إلى الجانب السياسي والاجتماعي, والتجربة العراقية اليوم دليل على هذا التأثير المتعاظم للمرجعيات على الأحداث السياسية الكبرى كالانتخابات والدستور وتوزيع المناصب الحكومية’ حتى لتبدو وكأنها المصدر المطلق لكل السلطات, مما يحقق لها سيطرة سيكولوجية كاملة تتشكل داخل المنظومة النفسية للإنسان  وتمنعه من الاختلاف معها أو عدم الخضوع التام لها, والمشكلة ليست بوجود مرجعيات, فالمسيحية لها مرجعية يجسدها البابا, واليهودية كذلك لها الحاخام , ولكن المشكلة تكمن بشمولية واتساع نطاق صلاحياتها الذي يتجاوز الديني.

أن الاستفادة من أسباب ودروس ثورة الحسين في مكافحة الظلم ونشر العدل, واستتاب الأمن, والوقوف ضد الحاكم الظالم كائن من كان ومن أي حزب وملة وطائفة, وضد فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومحاربة الفساد بألوانه, ومقارعة الذل والمساومة, وأيقاظ الضمير وتحريك العواطف الإنسانية, وإصلاح حال الوطن وضد تشويه القيم الإنسانية النبيلة, وفي احترام العهود والمواثيق, نحن اليوم بأمس الحاجة لها لإشاعة مجتمع العدل والقانون والحرية والديمقراطية, بعيدا عن قراءة ثورة الحسين بأطر سياسية ومصلحيه ضيقة وتوظيفها لمآرب تجلب الضرر لنا جميعا وتعدم الاستقرار في حياة الناس, أما التعاطف مع مأساة قصة الحسين فأكتفي بقول المؤرخ الانجليزي جيبون بقوله: " إن مأساة الحسين المروعة بالرغم من تقادم عهدها وتباين موطنها لا بد أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القراء إحساسا وأقساهم قلبا ". وختاما يقول الامام الحسين ابن علي: " صانع المنافق بلسانك وأخلق مودتك للمؤمن وأن جالسك يهودي فأحسن مجالسته ".





 

   

     


109
العراق: أزمة أخلاقية أم سياسية أم دينية

د. عامر صالح

مر على سقوط النظام السابق عقد ونصف من الزمن ولم يرى العراق الى اليوم فرصة حقيقية لخلق مقومات اعادة بناء هذا البلد, على أسس من الديمقراطية الحقة والعدل والمواطنة والتكافل الاجتماعي, بل بالعكس تماما خسر العراق في هذه الحقبة القصيرة نسبيا ثروة اجيال من العوائد النفطية, والتي تقدر بما يقارب الألف مليارد دولار, وخسر فرصته في تعزيز الديمقراطية السياسية والانتقال الى الحياة البرلمانية المستقرة, وخسر كذلك اثمن الفرص في اعادة البناء والعمران وانتشال المجتمع من الفقر والمرض والجهل وسوء الخدمات, وشيوع الارهاب والمليشيات المسلحة والقتل المجاني واستباحة دم الناس لأتفه الاسباب. 

لقد شاع جو من الاستبداد الخفي شوه كل المثل الخيرة والقيم الإنسانية كي يديم امتيازاته ويحمي مكاسبه فيعمم أخلاق الخنوع والذل والدجل والوشاية، امتدادا لحقبة الدكتاتورية السابقة, وقد نبه الى ذلك عبد الرحمن الكواكبي (1855ـ1902 ) قبل أكثر من مائة عام في نص لا يزال يحتفظ بمصداقيته حتى يومنا هذا "إن الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها, هو يقلب القيم الأخلاقية رأسا على عقب ليغدو طالب الحق فاجرا وتارك حقه مطيعا، والمشتكي المتظلم مفسدا، والنبيه المدقق ملحدا، والخامل المسكين صالحا أمينا. وتصبح تسمية النصح فضولا والغيرة عداوة والشهامة عتوا والحمية حماقة والرحمة مرضا، وأيضا يغدو النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطفا والنذالة دماثة، وأنه -أي الاستبداد- يرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح".

لقد اثار الصراع السياسي بين الأحزاب المختلفة لإدارة الحكم في العراق خلال عقد ونصف إشكالات كثيرة على مستوى الفكر والممارسة, وخاصة عندما يدار هذا الصراع من قبل أحزاب حديثة العهد في الخطاب والممارسة الديمقراطية أو غير مؤمنة بالديمقراطية اصلا, وعلى نسق ما يتعلمه الطفل من مبادئ أساسية ومهارات في رياض الأطفال,حيث يجري التعلم هنا عن طريق المحاولة والخطأ, قد تثبت هذه المهارات أو تضمحل, فيضطر الفرد إلى أعادة التعلم وهكذا دواليك إلى أن تستقر العادات المطلوبة لذلك, كما هو الحال بالنسبة للأحزاب الدينية وبعض من غير الدينية, هذا طبعا في سياقات طبيعية  ويفترض أن تؤدي إلى نتائج ايجابية مع الوقت في حالة توفر حالة النضج والاستعداد للتعلم.

ولكن الظروف الخاصة التي وفرت للبلد فرصة الاختيار السياسي عبر صناديق الاقتراع وإدارة البلد عبر آلية العمل الديمقراطي في تقرير مصيره , وقد تأسست هذه العملية في أجواء الاحتلال الأمريكي وبفضله, والتي يفترض على العقلاء من ألسياسيين العمل على إزالة أثارها سريعا وتحويلها إلى عملية ديمقراطية شاملة وكاملة , وخاصة ألبنية الأساسية والهيكلية للديمقراطية , دستورا وآليات عمل, والتي وفرت غطاء لإقامة نظام سياسي بمسحة دينية وطائفية ,مسببا لإثارة النعرة الطائفية والشوفينية في بلد متنوع الأعراق والاثنيات القومية والدينية , لا تحتمل أدارة الحكم فيه وبناء نهضته الاقتصادية والاجتماعية بهذه الطريقة الانتقائية الخطرة. وبدل من أن تتحول هذه التجربة الوليدة إلى حاضنة حقيقية  للديمقراطية, تحولت إلى هرولة سريعة للاستحواذ السياسي واقتسام مناطق النفوذ جغروطائفيا وأثنيا وسياسيا, وكأن لسان حالها يقول : " اليوم أفضل من غدا فلنضرب ضربتنا الآن " , مما فوت الفرصة على التعلم الجيد وخاصة لهؤلاء الذين أدعوا المظلومية الطائفية والاثنية في عرف ما جرى تأسيسه بعد سقوط النظام السابق مباشرة.

لقد وفرت هذه الأجواء خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة فرصا" ذهبية " وغطاء لاستخدام" الدين" و" الخطاب الديني" إلى أقصى مدى, متخذين من المنافس السياسي الأخر خارج القوى الدينية عدوا وهميا لهم وبنفس الوقت هدفا وضحية. واليوم حيث يجري بنفس السياق تعبئة كافة المؤسسات الدينية من دور للعبادة وسلطات دينية ـ سياسية , ودوائر رسمية وغير رسمية  , وأقلام كتاب, وكذلك محاولات مستمرة للاستنطاق المرجعيات الدينية واستمالتها وزجها مجددا في دائرة الصراع لكسب المعارك السياسية القادمة وعلى طريقة ما جرى في الانتخابات البرلمانية والمحلية السابقة.

وتقوم هذه الحملة المسعورة على إدعاء وهمي ومظلل قوامه إن الدين الإسلامي أو الطائفة أو المذهب في تهديد, وأن الأمة في خطر قادم من قبل القوى الوطنية ( يسارية وعلمانية وغيرها ), ويجب إعلان حالة الطوارئ الدينية والتهيئة لمعركة شرسة ضد عدو يريد الإطاحة بالإسلام وتصوير الطرف الأخر المنافس والمسالم والأعزل من السلاح في غالبيته بأنه عدو للدين. أنها محاولات تجري على خلفية الاستخدام غير النزيه والسيئ لمزاج الناس الديني والعبث بمعتقداتهم الدينية وخاصة في أوساط البسطاء والفقراء والكادحين والمحرومين من الناس الذين عانوا الأمرين من النظام السابق , ويعانون الآن من ضنك العيش وانعدام فرص العمل والخدمات الاجتماعية والمحسوبية والمنسوبية وارتهان للقمة العيش وغيرها.

أن ما يجري الآن من قبل هذه الأحزاب هو ليست عملية صراع سياسي ومنافسة نزيهة يراد بها إبراز الإمكانيات الذاتية والفعلية لهذه القوى وهي تخوض منافسة مع القوى السياسية الأخرى , بل هي " ميكافيلية دينية " تقوم على قاعدة استخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من إعلام وسلطات واسعة وصحافة ومؤسسات دينية ترغيبا وترهيبا لزرع الرعب في عقول البسطاء وبذريعة حرب أو حملات تشنها القوى الديمقراطية والوطنية ضد الإسلام , ويجب الاستعداد " للانتصار الإلهي" , ويجب أن يمر هذا" الانتصار" وفقا لهم عبر آلية محكمة تبدأ بتأصيل حالة الخوف لدى الناس ( الفوبيا), تعقبها حالة غيبوبة مؤقتة يتم فيها انتزاع أصواتهم الانتخابية القادمة , ثم تركهم حفاة الأقدام مكشوفين الرأس أمام الهجمات الانتحارية , كما تركوهم في المرة الأولى , وإلى انتخابات أخرى بعد القادمة.

أن هذه الأجواء التي تستعد هذه القوى إلى بعثها في صفوف الناس, هي بالضد من تعاليم الإسلام الذي نسمعه ونقرأه في الأدبيات الإسلامية من فقه وأحاديث نبوية ونصوص قرآنية, فالغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة, والغاية أذا كانت نبيلة فالوسيلة يجب أن تكون كذلك , والسياسة يجب أن لا تنزع عنها أخلاق الإسلام , وألا كانت برأيهم همجية وغوغاء لامكان فيها للشرفاء, وهم يرون أيضا أن السياسة الداخلية تقوم على العدل والأنصاف والمساواة بين الجميع, فلا عنصرية ولا طائفية, تقوم على الصدق لا الكذب ولا تضليل للشعب, والسياسة الخارجية لديهم أيضا تقوم على احترام العهود والمواثيق فلا غدر, ولا خيانة.

ويرى فقهاء الإسلام من الناحية النظرية , أن السياسة الإسلامية ليست سياسة " ميكافيلية " ترى أن الغاية تبرر الوسيلة آيا كانت صفتها,بل هي سياسة مبادئ وقيم تلتزم بها, ولا تتخلى عنها , ولو في أحلك الظروف , وأحرج الساعات سواء في علاقة الدولة المسلمة بمواطنيها داخليا, أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات.

أن الإسلام ( استنادا إلى نصوص القرآن والسنة النبوية المعلنة ) يرفض كل الرفض الوسيلة القذرة , ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة,يقول النبي محمد :( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) , فالخبث من الوسائل كالخبث من الغايات مرفوض , ولابد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة . أما في علاقة الدولة بمواطنيها فنشير إلى حديث للنبي محمد يقول فيه : (عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة) , أما في القرآن فالنصوص الدينية كثيرة, ونكتفي هنا في الإشارة إلى الآية (  58 ) من سورة النساء,حيث يخاطب النص أولى الأمر : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ).

هذه هي المبادئ العامة والخطوط العريضة المعلنة للبعد الأخلاقي والقيمي للسياسة الإسلامية عبر فقهاء الإسلام والنصوص الكلاسيكية ,ولا ندخل هنا في حوار حول جدوى ذلك وأهميته العملية اليوم في عالم السياسة الدولية والإقليمية والوطنية , حيث لا نرى أثرا لذلك في السياسة الخارجية والداخلية لأي دولة إسلامية في العالم كله ولا في سياسة أحزاب الإسلام السياسي على الإطلاق , إضافة إلى ذلك إن السياسة كي تؤدي إلى نتائج ملموسة, تحتاج في الممارسة العملية إلى المزيد من التوفيق والموائمة بين الأخلاق والمصالح والسياسة , وأن السياسة الخارجية كما نعلم اليوم تبنى على المصالح المشتركة أولا , وأما السياسة الداخلية فتبنى بوضوح أكثر على ثلاثي قوامه الأخلاق والمواطنة والمصلحة المشتركة.ونترك القارئ هنا فقط للتأمل والمقارنة بين ما يتم ممارسته في الميدان العملي لأحزاب الإسلام السياسي ومدى بعده المطلق عن النص الديني,حيث لا نجد أي أثر للدين في السياسة.

أن ما يجري من سلوك لبعض الأحزاب الدينية هو من الخطورة بمكان, يستهدف ضرب الوحدة الوطنية التي نحن اليوم بأمس الحاجة أليها , وكذلك إلحاق الضرر بالنسيج الاجتماعي المتنوع والقائم في العراق على خلفية إنسانية عامة يلتقي عليها الجميع , لا على أساس ديني أو طائفي أو فئوي . أما زج الدين باستمرار في دائرة الصراع السياسي ,فهو ليست من باب أعلاء شأن الدين ومكانته في أذهان الناس أو لتجسيد فكرة الحق والعدل والأمانة والأنصاف والأخوة , بل هو تجسيد معكوس لفكرة " نيقولا ميكافيلي " التي ترى : " أن الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس " وقد أراد ميكافيلي من ذلك تقوية وتوحيد الدولة الايطالية آنذاك في صراعها ضد التفكك والاعتداءات الخارجية , وقد أباح استخدام كافة  الوسائل لتلك المصلحة العليا , وهو صاحب القول " الوسيلة تبرر الغاية " ويعني بذلك استخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من اجل إبقاء الدولة قائمة وموحدة.

أما " المكافيلية الدينية " في العراق تستخدم الدين ليست بالطريقة التي قررها ميكافيلي ورآها في كتابه " الأمير " للحفاظ على وحدة الدولة ,بل تستخدم كجزء من " المكافيلية الشرقية " وهي امتداد لميكافيلية القرون الوسطى الدينية ,التي ترى في الدين الوسيلة وليست الهدف للاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها خدمة لمصالح فئة أو جماعة سياسية على حساب الوحدة الوطنية وجموع الناس ورغما عنهم " رغم وجود صناديق الاقتراع " , وهم بذلك يقومون بفرض لون من النظام السياسي في الممارسة اليومية على الأرض رغم " وجود الدستور الذي يحدد شكل النظام " ,ويرون في هذا النظام على انه الخير العام ,وعلى أساس تصوراتهم تعاد صياغة التسميات والتوصيفات ليصبح كل معارض لهذا الحكم أو منتقد لهذا الحزب أو لدعاة الدين هو شرا مطلقا لا يستحق الوجود وحتى الحياة,وتبدأ " نوبة جديدة " من" الفتاوى البلاوي" وعند ذلك ينتصر الاستبداد مجددا وتغلب " الميكافيلية الدينية " كل المثل الخيرة والقيم الإنسانية والدينية الحقة ,وبهذا يعيد الظلم والاستبداد دورته من جديد مخلفا ورائه أخلاق الخنوع والذل والدجل والوشاية وتشويه صورة الدين.

أن السياسة في العراق بعد كل هذه التضحيات الجسام خلال عقود طويلة من الزمن والتي شارك فيها خيرة أبناء شعبنا وأحزابه الوطنية,وما تلتها في السنوات القريبة الماضية من حصاد لأرواح الناس الأبرياء وإهدار للثروات الوطنية وانهيار للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية,يجب أن لا تكون دهاليز وكواليس ومؤامرات واغتيالات وعمليات انتحارية وواجهة لسرقة المال العام والفساد الإداري واستخدام للدين كواجهة للنفاق السياسي وللكسب الرخيص, وأن كانت كلها حقائق تملأ مسامعنا وأبصارنا يوميا, ولكن بالإمكان أن يكون السياسي صادقا , ونظيف الوسيلة إلى حد ما,عفيف اللسان,طاهر القلب, منصفا لمعارضيه من اليمين واليسار,لا تستبد به الذاتية والاعتداد بالنفس لأنه في السلطة الآن, بل يجب عليه أن ينطلق في البحث عن مصالح الناس الحقيقية وسبل سعادتهم وتجنيبهم الويلات,وهذه كلها لا تتعارض مع قواعد وأساليب الاتصال السياسي مع الطرف الآخر المعارض والتي تبنى على أساس الذكاء السياسي التي تتضمن الفطنة والدهاء والتورية والتعريض والمفاجأة والكتمان والمناورات اللفظية ومصداقية الخطاب السياسي ووسائل الكسب التي تبني اللحمة الوطنية على المدى البعيد وتعزز من مكانة الدين الحقيقية في عقول الناس وغيرها من الأساليب التي تحدثنا عنها كتب العلوم السياسية وتزكيها التجارب العملية.

أن تجربة النظام السابق المؤلمة لا تزال ماثلة أمام أعيننا وقد أكدت لنا بوضوح حقيقة أن تغيب حرية الشعب واستباحة حقوقه  وظلمه ساهمت بشكل كبير في تدهور بناء الإنسان النفسي والتربوي والأخلاقي والإنساني العام, وبالعكس فأن التجارب التاريخية تؤكد أن إرساء عقد اجتماعي على أسس الديمقراطية الحقيقية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان يعتبر المناخ الأمثل لبناء علاقة صحيحة بين الممارسة السياسية والأخلاق ويجعل المسافة بينهما جهد الإمكان مقبولة وخاصة في الأزمات الداخلية, بما يفضي إلى تحسين مكانة الإنسان الاجتماعية التي همشت لعقود من الزمن, و باعتباره قيمة عليا وهدفا لكل مشروع تنموي شامل.

وختاما نقول أن التأريخ قد أنصف ميكافيلي واضعا إياه احد مفكري حقبة التنوير الأوربية ومؤسسا لمدرسة التحليل والتنظير السياسي الواقعية, بل مؤسسا للعلوم السياسية,وقد رسم صورة الدولة القوية الموحدة, ولكنه لم يكن بدون أخلاق أبدا,كما تصوره أعدائه, وقد دفع ثمن من قرأ له قراءة متحيزة, كما في حالات هتلر وموسوليني وفرانكو,متكأين على كتابه " الأمير" وعلى مقولته الشهيرة " الوسيلة تبرر الغاية ", إلا إن ميكافيلي لم يوصي بالاعتداء على الدول, بل رسم صورة الدولة القوية الآمنة الموحدة وعكس لنا بوضوح, أن السياسة مصالح, كما يجري الآن في الكون كله, وأنا لا أوصي رجالنا في الإسلام السياسي الاتكاء عليه كما فعله الآخرون, لكنني أوصي أن يحملوا قصاصة من الورق كما تحمل الأدعية الدينية في الجيب عند الشدائد, وقد كتب عليها مقولة سيف الحق علي ابن أبي طالب : " أن دولة الباطل ساعة , ودولة الحق إلى قيام الساعة ".

اليوم يمر العراق بمنعطف خطير قوامه ازمة مركبة اخلاقية دينية وسياسية, وعملية سياسية متهمة بتدني المعيار الاخلاقي والسياسي والديني في مساراتها, وتداعياتها الاخيرة من تزوير العملية الانتخابية, او تدوير لاعضاء الكتل البرلمانية, والتحايل والالتفاف على من هي الكتلة الأكبر, كلها مؤشرات سيئة لأستعصاءات قادمة قد تؤدي الى المزيد من تآكل العملية السياسة وانهيارها بمفاجئات لا تحمد عقباها لما تبقى للعراق من خيارات في السلم الاهلي والاستقرار المجتمعي.






110
الديناميات النفسية المتحولة في وعي الانتفاضة

د.عامر صالح

اندلعت انتفاضة تموز العراقية في البصرة وامتدت شرارتها الى المحافظات العراقية الاخرى على خلفية فشل النظام المحصصاتي الطائفي والأثني خلال عقد ونصف من الزمن في الاستجابة للمطالب الانسانية والحقوق العادلة, والتي يجسدها الطموح في العيش الكريم وتوفير الخدمات الاساسية اللازمة للحد الادنى من البقاء الصالح, وكان النضال المطلبي للانتفاضة في بدايته ينصب على توفير الضروريات من كهرباء وماء وصحة وتعليم وايجاد فرص للعاطلين عن العمل ومعالجة ظاهرة البطالة والتي بلغت اشدها في اوساط الخريجين من مختلف التخصصات العلمية والانسانية والمهنية. 

ولكن حالة الاحباط المزمن خلال خمسة عشر عاما وعدم الثقة في النظام السياسي الذي أغرق البلاد والعباد في الفساد الاداري والمالي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والاخلاقي, وعبر عن عجزه المطلق في معالجة الازمات المستفحلة, كل ذلك جعل من مطالب المنتفضين ليست نشاطا دوريا او شكليا روتينيا, يبدأ ثم يتم اخماده أو التراجع عن المطالبة بفعل النشاط المساوماتي لقوى السلطة الحاكمة مع المنتفضين, بل هي مطالبة تعكس نقلة نوعية في الوعي العراقي المعارض للنظام المحصصاتي, وهي حالة من التراكم الكمي والذي لا بد ان يجد اشراقات التحول النوعي في الوعي, عبر فهم اسباب الازمة العامة في البلاد, وكان ابرز تلك التحولات في الوعي هو المطالبة بتغير النظام وبنيته المؤسساتية, باعتبارها السبب الرئيسي في ديمومة الازمات واستعصائها عن الحل.

ومما زاد الطين بله هو ضعف المساهمة الشعبية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 12ـ05ـ2018 والتي سبقت الانتفاضة البصرية, وكذلك ما تخلل عملية الانتخابات من تزوير كبير عبث بأرادة الشعب العراقي, وقد اكدت ذلك الحكومة العراقية من خلال اجهزتها الاستخبارتية والامنية والحكومية الاخرى وعلى لسان رئيس وزرائها حيدر العبادي, وقد اعقب ذلك قرارات صدرت من البرلمان المنتهي الصلاحية, بايقاف عمل المفوضية للانتخابات واستبدالها بلجنة من القضاة التي انتدبت للتدقيق في نتائج الانتخابات, من خلال اعادة العد والفرز اليدوي بدل من الالكتروني, ولكن لجنة القضاة فاجئت الشعب العراقي " بأن نتائج العد والفرز اليدوي جاءت مطابقة بنسبة 99% للعد الالكتروني, ثم اعقبتها خطوة سريعة ومستعجلة من المحكمة الاتحادية هي المصادقة على نتائج الانتخابات, وكانت تلك صدمة شعبية وسياسية اخرى لما يجري من شرعنة للنظام المحاصصاتي واعادة انتاجه. وعقب ذلك فورا بدأت الكتل السياسية المتناحرة وليست المتنافسة في الشروع لتشكيل ما يسمى بالكتلة الاكبر ذات الغموض في مفهومها, والجميع يريد الحكم والسلطة ولا يريد المعارضة.

في تلك الاجواء الملبدة بالغموض والاشكاليات تجاوزت الانتفاضة يومها الخمسين وهي تعبر عن تحول نوعي في الوعي والمدارك العراقية في فهم ما يجري في السياسة والاقتصاد والتفاعلات المجتمعية, وهي نقلة نوعية في البعد العقلي ـ المعرفي لفهم اسباب ما يجري, وبالتالي المطالبة بالحلول النوعية لتجاوز الأزمة, ورفع شعارات ذات قيمة مطلبية ملموسة. هذا تطور نوعي في فهم آلية الاسباب في ضوء علاقتها بالنتائج, وتشكل نقلة أستثنائية في فهم الأزمة العامة في البلاد وجذورها على المستويين الذاتي والموضوعي, كما يشكل ذلك نقلة ايجابية في الوعي العراقي, من الحالة الحشدية القطيعية الى حالة التفرد والتمايز الجميل في استدراك ما يجري ورفض الوصاية الرعوية والابوية البطريركية الدينية وغير الدينية على عقول العراقيين.

كما نعرف أن الوضع السياسي في العراق هو نتاج لتراكم سبق سقوط النظام السابق في عام 2003 وما بعده, وما خطط للعراق خلال عقود من الزمن أن يكون ضعيفا مهمشا, لا سيادة له على ارضه ومقدراته وثرواته الطبيعية والثقافية والاجتماعية, مفتتا الى كانتونات طائفية وأثنية, ابتعدت عن تنوعها الجميل الذي عرفناه ومخترقا من الطائفية ـ السياسية والتجمعات المصغرة ذات الطابع الشللي, والمليشياتي, ومستنقع للعصابات الإجرامية, واصبحت الطائفة واجهة ومظلة لحماية المجرمين والفاسدين والسراق والقتلة, حتى باتت تلك التجمعات الشللية الطائفية والطائفية السياسية مرتع للجرائم الكبرى في سرقة المال العام والقتل الجنوني المجاني اليومي والمرتبط بأجندة سياسية وأرهابية, متزامنا مع التفكيك البنيوي التدميري المنظم لمؤسسات الدولة, حتى أخذت تلك الأفعال المدنسة طابعا مقدسا من خلال زج الدين في أقصى مداياته في تفصيلات الخراب اليومي وإضفاء الشرعنة على السلوكيات السيكوباتية المرضية.

أن الخراب الفكري وما تبعه وظيفيا من خراب عقلي ـ معرفي هو أرث عقود من القمع السياسي والاجتماعي والثقافي من خلال غسيل الدماغ بتقنيات الحزب الواحد وسلطته التي حكمت العراق, وألغت فيه قيمة الفرد الذهنية والفكرية والابداعية, فحولت فيه شرائح اجتماعية واسعة الى كتل صماء منفعلة, تحركها اشارات من قائد الضرورة اينما يريد وكيف ما يريد وبأي اتجاه ويسوقها كراعي أغنام. وقد كان انعدام الأمل وضعف العامل الذاتي في التغير أحد اسباب انسياق الناس الى التمسك بدين مفرط زائد عن الحاجة الشخصية والتشبث بالماورائيات لحل ازمة الحياة المستعصية.

كانت تلك أرض خصبة للإسلامويين السياسيين بعد سقوط النظام الدكتاتوري الفاشي في 2003 للاستحواذ على السلطة من خلال استخدام سياسات التجييش والتحشيد القطيعي والافراط في استخدام المراسيم والطقوس الدينية حتى باتت عملا مدمنا وتحشيشيا يصبحوا ويمسوا عليه, وقد تحولت الدولة العراقية الى مجموع طقوس وشعائر دينية, غاب فيها الحديث عن التنمية والتخطط وتحسين مستويات العيش, حتى تحول كل شئيئ الى هالة من الطقوس المقدسة, بما فيها الفساد وسرقة المال العام والقتل الفردي والجماعي. 
لأكثر من عقد من الزمن كان الاسلام السياسي يستخدم جاهزية العقل العراقي المثقل بجراح الوعي لتسويق بضاعته الرخيصة وخطابه المعسول ذو الانفعالات المهيجة للاحتراب بين الاخوة في الوطن, ناسيا مطالب الناس في الخدمات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص العيش الكريم, ومتخذا من معاناة الناس في الفقر والفاقة والاضطهاد في تمويه سياساته في الفساد والجريمة والتحلل الخلقي من خلال اضفاء الشرعية على كل افعاله, وتسويف مطالب الناس من خلال الكذب والرياء والنفاق من خلال خطاب ظاهره مقبول نسبيا وباطنه عفن.

بعد عقود من الزمن كان مخاض شعبنا لتجاوزحالة الحصار السلطوي بشقيه الدكتاتوري والاسلاموي واضحا عبر اختمار آليات التغير في مراحلها الثلاث كما ترد في الادبيات السيكولوجية:

 ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلة, التي تدوم فترة طويلة نسبيا, يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع, عصر الانحطاط, وتكون قوى التسلط في أوج سطوتها, وحالة الرضوخ في أشد درجاتها. وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخال) عملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهير, فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله, ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منه. ومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديره, فيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات, وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ " مازوخي " من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته, وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمها: عقدة النقص, وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله, والتي تجعله يحجم عن كل جديد, ويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعه, لذلك فهو لا يحرك ساكنا, وإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيه, وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد, تعلقا يغري بالتسلط والدكتاتورية, إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته, ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمله, فيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخلي, ولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية, وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين. وأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومة, حيث أن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي, وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل, ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار, مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره, ويحس انه لا قدرة له على مجابهتها.

ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين , بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. انه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه, أن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا, وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر, متهما إياه " بشكل توهمي " أنه يحسده ويريد أن يؤذيه, وهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلا. إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور, لكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد, مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة.

ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقه, وهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكالية, وقد يكون العنف  والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيم, ولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالات, فأما إعادة دورة العنف أو الانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدمية, وهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير.
 
أن المعضلة الكبرى كما يراها شعبنا المنتفض هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن نزاهته حقا. أما عدا ذلك فأن الامر يبدو أكثر تعقيدا, وان محاولات الحكومة هي مجرد امتصاص لغضب شعبنا. وحذاري من تحول احباط شعبنا الى عمل  يتجاوز كل التوقعات , وقد تدك المظاهرات والاعتصامات ابواب المنطقة الخضراء, وعندها ستراق الدماء وسيخسر الجميع, إلا داعش, فسوف تجد لها فضاء لا حدود له للتمدد.

أن الأنتفاضة العراقية اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي " للإنتفاضات المنظمة " كما كان يحصل في عقود خلت, حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية, تعقبها " ساعة الصفر ", فالأمر اليوم معكوس تماما, حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان الانتفاضة ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها, فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية, أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة " على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا ".

111
فاجعة غشاء " البكارة المطاط " وحديث عن العفة واضطهاد المرأة 

د.عامر صالح

علقت منظمة ( هيومن رايتس ووتش ) يوم الاربعاء المصادف 2018ـ08ـ08 على قصة جريمة مروعة وقعت في محافظة النجف بسبب "غشاء بكارة مطاطي", وذكرت المنظمة أن جريمة القتل المروعة لأمرأة عراقية في منزلها يجب أن تدفع البرلمان العراقي القادم فور تشكيله الى اقرار مشروع قانون مناهضة العنف الأسري المعلق منذ عام 2015 وتابعت المنظمة أنه في أحد ايام الأسبوع الماضي أعاد عريس عروسه الى والديها بعد يوم من زفافهما بحجة أنها لم تكن عذراء, وحسب تقارير وسائل الأعلام أنه, عند سماع الأتهام ضربها أحد أفراد أسرتها حتى الموت.

وبحسب المنظمة, فانه على الرغم من أن القاتل سيحاكم على الأرجح على جريمته, وقد تخفف عقوبته بموجب نص في قانون العقوبات العراقي يسمح بأحكام مخففة في اعمال العنف ـ بما في ذلك القتل ـ لما يسمى ب " البواعث الشريفة ", لا يوجد "شرف" في مثل هذا القتل الوحشي الذي لا داعي له, علاوة على ذلك, فأن الضحية لم تكن سوى واحدة من مئات النساء والاطفال الذين يعانون من العنف على أيدي عائلاتهم في العراق كل عام. وحسب المصادر الاعلامية التي صدرت من النجف بتاريخ ( 2018ـ07ـ31 ) أن شقيق الزوجه هو الذي قام بقتلها, كما توفي والدها مباشرة بعد تلقيه الخبر, ولكن والدتها اصرت على تشريح الجثة, والذي تبين أن العروسة كانت باكرا, وأن غشاء بكارتها من النوع المطاطي الصعب الفض ويحتاج الى تدخل جراحي أو يفض تلقائيا بعد الولادة. وللمعلومات فقط, والى جانب تنوع اشكال غشاء البكارة, فهناك 30% من نساء العالم بدون غشاء بكارة  منذ الولادة, أي بيولوجيا وتكونيا لا يمتلكن ذلك, فهل يستحقن القتل !!!.

لا اناقش الحدث لذاته فهو جريمة قتل مع سبق الأصرار, ولكن مهما قيل ويقال من استعباد للمرأة وانتهاك لكرامتها وتنوع أساليب اضطهادها وسوء معاملتها اليومية واستلاب حقوقها في الحرية والكرامة والاستقلال في شؤونها الشخصية وتحويلها إلى موضوع أو شيء تقع عليه أفعال الآخرين دون إرادتها أو فعل منها, إنما هو امتداد للملابسات التاريخية في نشأة عوامل اضطهادها الأولى, وما يحصل اليوم بحقها من ظلم وحيف وقهر ما هو إلا تنوع متردي وسيئ خطير في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بالمرأة والتي تشدد من الخناق على حريتها واستلاب حقوقها, في ظل غياب بدائل إنسانية حقيقية لتوفير مستلزمات أنعتاقها من العبودية والأسر التاريخي الذي وقعت فيه.   

هنا في عالمنا العربي والاسلامي أكثر من عشرين شكلا " للزواج " لا يشترط فيه غشاء البكاره, بل ان عدمها هو السائد, فلماذا يشترط ويتوجب غشاء البكاره على الزواج الدائم " مع استثناءات ", أم ان الاشكال الاولى المؤقتة هو نمط من الدعارة المشرعنة في ذهن ممارسيه, ولهذا الزواج مشرعيه وفقهائه والذين يبحثون دوما عن مظلة شرعية لحماية هذا النمط من الزواجات, فهناك الزواج العرفي والمنتشر في مصر حتى في أروقة الجامعات, وهناك زواج المسيار, وزواج المصياف, وزواج ألويك أند, وزواج الفرند, وزواج المصواب, وزواج المسفار, وزواج المطيار, وزواج المحجاج, وزواج المسياق, وزواج المهراب, وزواج المقراض, وزواج المتعة, وزواج التجربة, وزواج المزار, ونكاح الترزق, ونكاح الخوالي, ونكاح إعارة الفرج, والمتعة غير الجنسية, والمتعة الجماعية, والمتعة من اجل الإنجاب, وزواج المباركة, ونكاح التعدد, وزواج المردان, ونكاح المصاهرة, ونكاح الضيافة, والقائمة تطول, هذا هو نكاح في ظروف " السلم ", أما نكاح زمن الحرب فقد ضربت داعش مثالا سيئ اهتز له ضمير الإنسانية, من جهاد المناكحة, وسبي النساء, ومقايضتهن جنسيا, وبيعهن في أسواق " الدولة الإسلامية ".

ارتبط مفهوم العفة تقليديا في مجتمعات العالم العربي والإسلامي في الحفاظ على المواطن البيولوجية للأعضاء التناسلية للرجل والمرأة, واشتقت منها معايير الشرف والكرامة والشهامة والحفاظ على الأعراض بنسختها الدينية التقليدية, وربطها ربطا محكما بمواثيق شرعية ـ دينية لا يجوز التجاوز عليها أو الإخلال بها تحت أي ظروف متغيرة للحياة, ومفهوم العرض هنا مفهوم ثابت غير قابل للتعديل والحوار رغم تغير ظروف الحياة .

أ ما الأخلاق العامة من صدق وأمانة ونزاهة في التعامل اليومي ونبذ للفساد الأخلاقي خارج أمكنته الجنسية التقليدية فهي متغيرة نسبيا و لا تعني شيئا يذكر, والمهم في ذلك كله أن تكون المرأة حافظة لفرجها والرجل لعورته, وبالتالي ما يحل بالأمة من فساد وسرقة للمال العام وفساد إداري ومالي ومن إرهاب وقتل للنفس وتشويه للحياة العامة ودمار للتراث الإنساني وسبي للنساء ليست ذو قيمة تذكر أمام مفهوم العفة التقليدية.

السلوك الإنساني معقد جدا وتتضافر عوامل مختلفة لتشكيله, منها ما هو موروث أولي في الجينات, ومنها ما هو مكتسب بيئي وثقافي, ومع الوقت يهيمن ما هو مكتسب من الثقافة والتنشئة الاجتماعية على ما هو موروث, ومن هنا تأتي أهمية دراسة العفة في السلوك في ضوء الأداء اليومي العملي في مواجهة المشكلات اليومية للحياة العملية بعيدا عن المفهوم الغريزي التقليدي للعفة الذي لا ينفع كثيرا في ظل تعقيد ظروف الحياة وتشعب منظومتها القيمية.

فالعفة ليست في أمكنتها التقليدية البيولوجية, بل في انعكاس تلك العفة في التعامل اليومي, من نزاهة وصدق وإخلاص وحفاظ على المال العام والمقدرة في الحفاظ على الأمن العام, والشرف ليست في الحفاظ التقليدي على المقدمات والمؤخرات البيولوجية, ولا على التستر في الحجاب والنقاب وأشكال الاختفاء الشكلي الأخرى, بل في الكفاءة العقلية والفكرية في التكيف السليم لظروف العصر ومتغيراته المتلاحقة, فالشرف قطعا في الأداء وليست في إخفاء " العورة ".

التركيز المفرط والشديد على العورة الذكورية والانوثية " وخاصة الأنثوية " باعتبارها مقياسا للشرف المطلق يخفي وراءه اشد إشكال التنكيل والريبة والتحايل على القيم الفطرية الإنسانية وقيم التسامح بين الجنسين, في ظل عالم متطور لا يعرف الحدود بين الأفراد وبين الجنسين إلا من خلال الأداء الفعلي والمنافسة الحرة, وفرز الذكاء بين الجنسين القائم على تنوعهما المفيد في خدمة الحضارة الإنسانية والتقدم. أن عوامل الكبت والحرمان والفصل بين الجنسين وعرقلة نشأة حياة حرة كريمة هي احد عوامل نشأة حياة شاذة, قوامها الكبت والشذوذ والكيد والتحايل وخاتمتها داعش والقادم اسوء.

أن التعرض لهذه الظواهر في العراق او ما يسمى "بجرائم الشرف " والحديث عنها علنا في الإعلام والصحافة, إلى جانب توجه منظمات المجتمع المدني للمساهمة الفعالة في التوعية عن مخاطرها هو جهد ايجابي كبير في ظل بيئة تعصف بها مختلف تيارات التطرف وهيمنة فكر الكراهية للمرأة وللمساواة, وهيمنة السلوك العشائري والقبلي في المنظومة الاخلاقية, وبالتالي فأن الجهود الخيرة يجب أن تكرس صوب انقاد المرأة من سلوكيات الإذلال والحط من قيمتها الشخصية والاجتماعية وفسح كافة فرص المساهمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمساهمة في بناء مجتمع أفضل, لا تخضع فيه المرأة لمزاج الفتاوى الشخصية والاجتهاد المبتذل, فمكانة المرأة ليست موضوعا للاجتهاد حول شكل زواجها إشباعا لغريزة ذكورية, بل هي موضوعا للمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين قطبين متكافئين.




.





112
انتفاضة تموز العراقية 2018 وسيكولوجيا الغضب 


د.عامر صالح   

دخلت المرجعية الدينية في خطبتها في 2018ـ08ـ03 على خط استخدام المصطلحات السيكولوجية في استخدامها لمفردة الغضب المسيطر عليه في محاولة منها لأحتواء الأزمة في البلاد منذ عقد ونصف من الزمن, وكما نعلم فأن المرجعية الدينية تتدخل في الأزمات بخطاب توفيقي بين اطراف الأزمة المستعصية في البلاد, وقد رفعت المرجعية يدها عن تزكية الحكم ورموزه نسبيا بعد إن كانت الداعم الأساسي للنظام وأركانه منذ نشأته الأولى, بل وكانت المرجعية احد الأطراف الأساسية لهندسة النظام المحصصاتي بكل بنيته المؤسساتية, والأمر هنا ليست من باب ألقاء التهم على المرجعية, بل من باب خلط الدين في السياسة واعطاء النظام قدسية وشرعية في عقول العراقين ما لا يستحقها مطلقا, فالنظام الفاسد يفترض ان لا يلقي الاستحسان أو الحديث عنه بلغة رمزية من قبل المرجعية الدينية, وطبعا هذا غير معزول عن تشوهات الوعي العراقي وأزمته في عدم ادراك ضرورة فصل الدين عن السياسية, مما ترك المجال لمزيد من تعقيد دور المرجعية في الشأن العام, حتى باتت شرائح اجتماعية واسعة تتطالب المرجعية بموقف سياسي واضح من النظام كي تترجمه على شكل افعال ميدانية, قد يقع ذلك خارج اختصاص المرجعية نفسها.

إن الانتفاضات والحركات الاحتجاجية التي تعم الشارع العراقي اليوم هي من نوع المعارك التاريخية الفاصلة والحاسمة بين فريقين متناقضين, هما فريق السلطات الحاكمة التي فقدت شرعية وجودها على خلفية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخانقة والمتراكمة عبر عقود من الزمن, ويمثل هذا الفريق قوى السلطة الفاسدة والقمعية المستبدة والقوى التي تسير ورائها وتدعمها من ميليشيات مسلحة وعصابات ومجاميع اجرامية منفلتة ترى في في ضعف الدولة مرتع خصب لها, والفريق الثاني هو قوى الانتفاضات الشعبية ذات المصلحة الأساسية في عملية التغير التقدمي, والمطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولكل فريق " جمهوره " الخاص والذي يتشكل في سياقات الغضب المتراكم في اتجاهين متنافرين: غضب السلطة وسدنتها وأعوانها, وغضب الثوار. ما هي طبيعة الغضب الجمعي لدى الفريقين, وما هي دلالاته, وكيف ينشأ لدى الفريقين, وما هي تداعياته, ذلك ما نطمح إلى تبيان اتجاهاته الرئيسية في هذه المحاولة المتواضعة !!!.

إن الانفعالات بصورة عامة هي من أهم الخصائص والمقومات التي تجعل لحياة الإنسان معنى. وبدون القدرة أو الطاقة على الانفعال تصبح الحياة غير ذات معنى, شبيهة بحياة الجماد الذي لا يحس ولا يشعر ولا ينفعل. إن الحياة بدون انفعالات تصبح لاهي محزنة ولاهي سارة. ولا نستطيع أن نتصور حياة بدون انفعالات. فالحياة والانفعال شيئان متلازمان لا وجود لأحدهما دون الآخر.

والغاية من الانفعالات هو تحقيق السعادة الشخصية والتكيف مع النفس ومع البيئة المحيطة. ويعتبر الانفعال من العناصر المهمة في تفاعلنا مع البيئة المحيطة بنا, وله تأثير قوي في وظائف جسمنا, وفي إدراكنا للعالم المحيط بنا, وفي قدرتنا على التفكير والتعلم والتفاعل مع الآخرين وفي كافة مظاهر حياتنا. وكون الانفعال ضروريا لحياة الإنسان لا ينافي أنه لا بد للإنسان أن يعمل على ضبط انفعالاته والتحكم فيها, لأن عجزه عن ضبطها والتحكم فيها من شأنه أن يؤدي إلى ضروب من الاضطرابات النفسية والعقلية والجسمية ويعرقل عملية التكيف السليم للبيئة الاجتماعية. وحديثنا هنا هو مكرس فقط للغضب باعتباره احد مظاهر الانفعالات التي تبدو واضحة في السلوك الفردي والجمعي للمجتمعات.

الغضب في اللغة: غضب يغضب غضبا, قال ابن فارس: " الغين والضاد والباء أصل صحيح يدل على شدة وقوة. يقال إن الغضبة: الصخرة, ومنه اشتق الغضب, لأنه اشتداد السخط". وفي الاصطلاح: عرفه الجرجاني بأنه: " تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر", وعرفه الغزالي: " غليان دم القلب بطلب الانتقام", وفي المعجم الوسيط: " غضب عليه غضبا سخط عليه وأراد الانتقام منه.... ".

والغضب من الناحية السيكولوجية: هو سلوك متعلم تختلف حدته من الاستثارة الخفيفة وانتهاء إلى الثورة الحادة, وقد يعرف الغضب بأنه حالة انفعال عاطفي حادة طبيعية وصحية وإنسانية, ولكن عندما يخرج الفرد من قدرة السيطرة والتحكم فيه فانه يتحول إلى مشكلة هدامة تؤدي إلى شرخ في العلاقات الاجتماعية والأسرية وحتى الثقافية والاقتصادية, ولكن لكل فعل ردة فعل كما هي فيزياء السلوك الانساني.

وللغضب أعراض مختلفة تظهر واضحة في السلوك الظاهر, والتغيرات الفسيولوجية للجسم وكذلك في المشاعر والادراكات الداخلية, ويمكن تلخيصها عموما بالأعراض التالية: ضربات القلب السريعة, تغير لون البشرة, ضغط الدم المرتفع, زيادة توتر العضلات, اتساق حدقة العين, التنفس السطحي غير العميق, انكماش الجلد, الاتجاه العام للجسم والاستعداد للحركة كالجري والهجوم, تغير الصوت في الطبقة والشدة,التصرفات العشوائية, التدفق الكلامي, طبيعة حكم الشخص على مشاعره وشدتها ونوعيتها, كما يتسم السلوك العام بالتكثيف, والاعتباطية, والاندفاع وعدم التبصر, التناقض وعدم الاتساق, وعدم إقامة أي اعتبار للنتائج.

والغضب على المستوى الفردي ينشأ بفعل عوامل الإرهاق, والجوع, والألم, والمرض, والإحباط, والقلق, والتفسير السلبي للمواقف, وجود قناعات مسبقة عن بعض الأشخاص أو الأحداث أو القضايا, العجز عن الحوار أو عدم الرغبة فيه, استعصاء حل المشكلات واستمرارها, الاستعجال, التغيرات الهرمونية المرتبطة بالدورة الشهرية بالنسبة للمرأة أو الوصول إلى سن انقطاع الطمث, الفشل في ممارسة الجنس, الاعتماد على عقاقير بعينها أو الانسحاب من تأثير مخدر, الاضطرابات النفسية مثل الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطب " الهوس والاكتئاب ", الجينات الوراثية ودورها في تحديد السمات الشخصية ورسم ملامح الطباع والخطوط الأولية لمظاهر السلوك الإنساني, الشعور بالدونية, تباين القيم والتقاليد الاجتماعية, الضغط النفسي, المشاكل الزوجية والأسرية, الخلافات الفكرية والصراعات الطبقية, الصراعات السياسية, الإحساس بالظلم, الإحساس بأن الطريق مسدود أمام الشخص, تقييد الحريات الفردية والتجاوز عليها, النقاط الحساسة بالشخصية, الحرمان من إشباع بعض الحاجات, البطالة, الفقر, الاستغلال, الرفض الاجتماعي للشخصية, والمعاناة من الفساد بمختلف مظاهره في البيئة المحيطة !!!!.

أما الغضب الجمعي و" الثائر " منه بشكل خاص فيتشكل من خلال حالة الوعي الجمعي بالمشكلات المشتركة بين أفراد المجتمع والمستعصية على الحل, كالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والتي تبدو بشكل واضح في انتشار الفقر والتفاوت المريع للدخول, وخاصة القائم منه على خلفية الفساد الإداري والمالي والسياسي, والمتمثل بالرشوة والمحسوبية والمحاباة والوساطة والابتزاز والتزوير وسرقة المال العام وغيرها, وخاصة عندما يكون الفساد اكبر حجما من المحاسبة ويصبح ثقافة شائعة تنهك أفراد المجتمع, ويدخل ضمن التركيبية السياسية للدولة, إلى جانب انعدام أو ضعف الخدمات العامة, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات اجتماعية مختلفة,وعدم تفعيل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وانعدام فرص العمل للمواطنين, يقابل ذلك في الطرف الآخر ثراء فاحشا وغير نزيه لشرائح اجتماعية وسياسية وقيادات في الدولة والأحزاب الحاكمة, الأمر الذي يترك انطباعا غير قابل للطعن بأن الدولة وقياداتها وأحزابها هي مصدر الظلم الاجتماعي ومسببه الرئيسي, وهي مصدر اهانة أفراد المجتمع وإذلالهم وتميزهم وتأليبهم على بعضهم سياسيا ومذهبيا وطائفيا واثنيا.

وتولد هذه السياسات بمجملها حالات من الكبت والقمع والحرمان المتواصل, وكلما زادت فترة الكبت للمشاعر المصاحبة فهي تشكل أرضا خصبة لغضبا جمعيا ثائرا وهو محمود ومطلوب حيث الحاجة إليه لإثبات ذات الفرد والمجتمع ووجودهما, واخذ الحقوق ممن ظلموه وسلبوا إرادته في الحرية الحقيقية والعيش الكريم, فالغضب الجمعي الثائر هنا هو حالة صحية وسوية للتعبير عن كبت المشاعر التي خنقت داخل الذات المجتمعية بفعل عوامل القمع والحرمان وانعدام الحريات والعدالة الاجتماعية, وهكذا جاءت الاحتجاجات المطلبية العراقية تعبيرا حيا وصادقا عن عمق أزمة الفساد السياسي والإداري والمالي الذي لا نلتمس فيه أفقا للحل, وهو نذير بمزيد من الاحتقانات والإعمال الاحتجاجية الناتجة عنه, وبالتالي هنا لا يوجد مقياسا مقننا للغضب كما ارادته المرجعية, ولعل ذلك يذكرنا بالغضب المنفلت بعد سقوط نطام صدام حسين والذي باركته كل القوى السياسية, بل وسكتت عن كل ما جرى من تخريب لمؤسسات الدولة العراقية.

أما غضب السلطة الحاكمة وأجهزتها وأعوانها والذي أطلقت عليه بالغضب الجمعي " الجائر " فهو غضب الردة المضادة, والتي تحاول بكل ما أتت به من بقايا القوة لعرقلة وتأخير اختمار الغضب الجمعي " الثائر ", وغضب السلطة الجمعي الجائر هو من نوع غضب " القطيع " نسبة إلى قطيع الأغنام الذي تتحرك جموعه بإشارة من الراعي الكبير ومن الدكتاتور الأوحد, فهذه الجموع لا تتحرك على خلفية عوامل موضوعية مفهومة في الفكر والسياسة والممارسة, وإنما تتحرك على خلفية العداء لمطالب الجماهير المشروعة, يحركها خطاب قائد الضرورة السياسي أو الديني ذو المسحة الانفعالية الضارة بمصالح الناس, فسلوكها هو سلوك هستيري تجسده حالة الخوف من كل جديد, فهي لا تميز بين الصديق والعدو الحقيقي, ولا بين النافع والضار, ولا بين الخطر الحقيقي وما يشبهه, فسلوكها يخلو دوما من التميز, فهي تندفع تحت وطأة التعصب لإرضاء غريزة القطيع " الحيواني ", دون وعي وتنتشر في صفوف المجتمع كالنار في الهشيم لتخرب كل شيء دون حسبان لتصرفاتها وعواقبه, يحرك سلوكها " فوبيا " هستيرية, فهي لا تمتلك قدرة على التخطيط والحكمة في اللحظات الحرجة, وإنما يحرك سلوكها منطق القطيع الذي يتجمع على شكل حظائر بانتظار إشارة من " القائد" أو " الراعي " أو " المرشد الديني " أو " المفتي ". أن الغضب الجمعي الجائر مجردا من كل الصفات الإنسانية فهو يتحرك فقط على خلفية حاسة الشم القوية التي يمتلكها " القطيع " ويندفع حيثما توجه له الإشارة من فوق, وهذا ما يتعارض مع خصوصية الإنسان وعقله المتفرد, فالإنسان يتميز بالعقل الذي يجعل منه كائنا بيولوجيا اجتماعيا, فردا منتميا للمجتمع أو الجماعة البشرية, يطورها وتطوره, يقدرها وتقدره, يسمعها وتسمعه, يتفق معها ويختلف, ويبقى القضاء والحكم العادل هو الفيصل.

وعلى خلفية ذلك اندفعت بعض من الأجهزة المخابراتية والأمنية وأعوان النظام والمستفيدين منه من خلال الإذعان الأعمى لمشيئة قيادات سياسية مفلسه او مليشيات دموية أو تكتلات عصاباتية أو زعيم ديني مرتكبة أبشع جرائم القتل والتصفيات بحق الجماهير الثائرة,  مستخدمة بذلك سياسة العصا والجزره واطلاق مبادرات بائسة في ظل نظام فاسد لا تنجح فيه افضل المبادرات بسبب من انعدام القوى الخيرة والمؤمنة في التغير من داخل النظام, أنه نظام مافيوي عصي على التغير, وليست من المقبول ان تضع شعب منتفض في بارومتري الغضب وتحدد له سياقات فوقية عبر شعارات وهمية قوامها : غضب مسيطر عليه وغضب غير مسيطر عليه, فالأنتفاضة إن امتلكت قيادة حكيمة مع تطور الاحداث فهي وحدها التي تقرر جرعات الغضب استنادا الى قربها او بعدها من بلوغ اهدافها !!!.


113
انتفاضة تموز العراقية 2018 وخلفيتها السايكواجتماعية

د.عامر صالح

لم تكن الأنتفاضة البصرية والتي امتد لهيبها الى محافظات العراق الأخرى عملا عبثيا او نزهة استعراضية أريد به أراقة دماء الشباب, بل هي تراكم كمي لمجمل أزمة نظام الحكم المحصصاتي الطائفي والأثني السيئ الذي لم يعمل شيئ ايجابي خلال عقد ونصف من الزمن, بل انه نظام منتج للأزمات واعادة تدوريها انطلاقا من طبيعته المافوية والمؤسسة اصلا على الأستئثار بالسلطة وتقاسمها والمبني على اساس المحاصصة المذهبية السياسية والعرقية المتخلفة التي تشتغل على اضعاف وتفكيك الوطن والمواطنة والأكتفاء في التمترس في الأطر الجغروطائفية والاثنية في فهم مريض منها ان ذلك يكفي لنيل الحقوق والاستئثار بالثروات الوطنية والافساد فيها. أن انتفاضة البصرة والجنوب ثم العراق كله هو تجسيد حي وانعكاس لأزمة الحكم الخانقة والتي لم توفر الحد الأدنى الانساني من الحقوق المشروعة والتي عكستها الحاجة الى الماء والكهرباء والصحة والتعليم الصالح وغيرها من مسلمات العيش المعاصر.

أن تجربة عقد ونصف من الزمن في الاخفاق المزمن للمطاليب العادلة للمنتفضين تعكس بشكل واضح انها ازمة نظام متآكل وليست أزمة تلبية خدمات عامة كان يفترض على النظام تلبيتها في السنوات الأولى من الحكم, أنها أزمة فساد نظام الحكم المتهرئ الذي لا يمتلك أي شرعية للبقاء, وأن شعارات اهلنا في البصرة وفي المحافظات الاخرى في الاستجابة الى المطالب الاساسية ما هي إلا مدخل للمطالبة بتغير النظام المحصصاتي, واهلنا هناك يعرفون تماما فلا كهرباء تأتي ولا ماء صافي سيشرب في ظل نظام معوق وكسيح لا يستطيع تقديم الحد الادنى من مسلمات الحاجات الانسانية, في ظل نظام فاسد لا يتورع عن سرقة لقمة العيش. 
                                                     
لقد قدر للعراق وشعبه أن يمر بظروف تاريخية قاسية ذات طبيعة كارثية أسهمت بشكل كبير في تشكيل مزاج عام أدى إلى تأخير حالات اختمار حقيقية صوب مخاض الديمقراطية,مما فسح المجال إلى نشأة بدائل سياسية ذات طبيعة عقليةـ معرفية معوقة للديمقراطية في غالبيتها,ولكنها انطلقت لتمارس الديمقراطية السياسية استنادا إلى ظروف العصر الضاغطة وظروف العراق بشكل خاص التي لا تقبل بغير الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية كنموذج بديل عن النظم الديكتاتورية الموروثة. وعندما حصل التغير في العراق عام 2003 " رغم ملابساته الكثيرة وصعوبة هضم آلية التغير" فأن الفراغ السياسي شكل سمة مميزة للوضع السياسي, مما مهد الطريق إلى خيار الاستحواذ السياسي متخذا من الطائفية والعرقية واجهة له ومستغلا الظروف التاريخية للاضطهاد ليمعن في سياسته التي لا تلقي الاستحسان والقبول والإجماع والرضا من قبل شعبنا, وبدلا من أن تحل البرجماتية السياسية " أي قياس مصداقية الفعل السياسي بنتائجه العملية على ارض الواقع " فقد حلت البرجماتية المدججة بالسلاح " الحوار بيد والسلاح في اليد الأخرى لقبول أمر الواقع".

إن ابرز ملامح ضعف إدارة النظام السياسي هو التدهور المستمر للمساهمة السياسية الحقيقية والفعالة لشعبنا في أدائه وكذلك قي حمايته, مما أضفى على النظام شرعية شكلية قوامها دستور مكتوب غير منتهي بصيغته " رغم إن ثناياه تحمل الكثير من دساتير العالم المعاصر المتمدن", فعلى سبيل المثال لا الحصر يرفض الدستور علنا في مادته (  14 ) في الفصل الأول من الباب الثاني التمييز الطائفي والعرقي,حيث يؤكد( العراقيون متساوون أمام القانون دون تميز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي) إلا إن المشكلة لا تكمن في وضوح النص الجاهز؛ وكذلك برلمانات سابقة معروفة بتركيبتها للجميع " ربما لا يؤتى بأحسن منها في المرة القادمة حسب الكثير من التوقعات " قادر في لحظة ما على إقصاء ما يرغب إقصاءه من خلال استنفار و تعبئة سلوك المحاصصات, التي لا ترى في الوطن مصلحة عليا وخط احمر لا يحتمل عروض المزاد العلني من اجل منافع محدودة الأمد؛ ومن ثم مجلس رئاسة الجمهورية المطابق لتوصيفة البرلمان في الآلية العامة والمكونات .

لقد تركت أزمة ضعف المشاركة السياسية والشعبية الواسعة إلى أحساس شرائح اجتماعية واسعة بالهامشية واليأس والمنبوذية "خاصة الفئات التي يجب أن تستهدفها عمليات التغيير",مما يدفع إلى شعور مضاد للانتماء,أي العزلة والاغتراب الاجتماعي وضعف الشعور بالمسؤولية ومن ثم التطرف بألوانه والى الفوضى والعنف, وأصبحت إحدى البؤر المولدة للعنف والتطرف الديني وغير الديني, لتشتد الحياة أكثر عنفا لتصبح بيئة مواتية للتحريض وارتكاب الجرائم الكبرى بحق الناس وبواجهات مختلفة( القاعدة, فلول البعث السابق, ضغط دول الجوار التي لا تعي حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية), أن الجبهة الداخلية السليمة والصحية هي وحدها القادرة على دحر أعداء العراق في الداخل والخارج وعلى خلفية بقائه وطنا صالحا للجميع. ويذكرنا ذلك تماما بإخفاق جيوش النظام السابق الجرارة والمليونية في الإنابة عن المجتمع دفاعا عنه وعن سيادة البلاد من الاحتلال والتي حصلت على خلفية انعدام الثقة المتبادل بين النظام والشعب وضعف المساهمة السياسية الحقيقية في صنع القرار,فأين الملايين التي كانت تصفق "لقائد الضرورة" كذبا ودفعا للأذى عنها, أن حالات الاستبداد السياسي والطغيان وتكبيل أعناق المواطنين وترويضهم على الخنوع والذل والانشغال بسد رمق العيش هي التي تمرر مشاريع اختراق الوطن من الداخل والخارج.

أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه, باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن, وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها, متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة", حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن, وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط, وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية, وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.

أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال الخمسة عشر عاما المنصرمة, وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي, إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي, أي إعادة  إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية, وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت, وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية,بل لعلها أهم منجزات الحداثة, وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي, ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات, وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية, وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على الوطن, تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد, مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد, وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار, وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية, مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة, أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة عرقل خلال عقد ونصف من الزمن عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ", وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع, أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه. 

أن انتفاضة تموز 2018 هي انتفاضة تغير النظام بعد كل هذه المعاناة وبعد كل هذا التراكم الكمي من الأزمات في ظل نظام عاجز عن الايفاء بمطالب العيش الكريم ولا يمكن للمرء ان يلدغ من جحر مرتين, ولكي تفضي الانتفاضة الى مرتجاها يجب الانتقال من القيادة العشائرية الى القيادة المدنية التنويرية حفاظا على الاىنتفاضة من المنعطفات الصعبة والتي قد تقوم بها السلطة المحصصاتية في شراء الذمم وترويض بعض القيادات غير المتمرسة لأختراق الانتفاضة واسكاتها, كما أن الاحزاب ذات الصبغة المدنية مطالبة اليوم بالتضامن والتكاتف الواضح مع المنتفضين, فتلك هي لحظات حرجة في حياة شعبنا ومختبر للمواقف بعيدا عن ضيق الأفق.





114
في نتائج الأنتخابات البرلمانية العراقية: المعارضة خير من الحكم
   

د.عامر صالح 

لا تشكل نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية/ 2018 منعطفا حاسما في تحول الوعي العراقي صوب التغير عبر ايجاد اصطفافات سياسية جديدة تقطع الصلة بالموروث السابق, ولكنها أشرت الى وجود اختمارات لبدائل لم ترتقي الى حجم أزمة الحكم القائمة وتداعياتها خلال عقد ونصف من الزمن. أي أن الوعي البديل والمنظم أو ما يسمى بالعوامل الموضوعية والتي تجسدها المعارضة ومستوى التنظيم الجماهيري والفكري لم يكن بحجم الازمة العامة لنظام الحكم والتي تعصف في البلاد, والتي شكلت أبرز ملامحها: الفساد الاداري والمالي والسياسي والاخلاقي, وانهيار البنية التحتية الاقتصادية ـ الاحتماعية للدولة العراقية والانتقال العنيف الى الهويات الفرعية والتمترس في الحدود الأثنوطائفية والمذهبية وأحلالها بديلا عن قيم المواطنة, مما ادخل العراق في ديمومة التشظي والارهاب وأحلال لغة السلاح والتهديد بديلا عن لغة الحوار, وتقهقر الحياة المدنية بالعودة الى قيم العشيرة والقبيلة البالية. 

تشير نتائج الانتخابات الى عودة الطاقم القديم والمسبب للأزمة في غالبيته, وكان حضوره في نتائج الانتخابات يتراوح بين 80 ـ 90 %, وأن القوى الجديدة تشكل ما نسبته 10 ـ 20 %, وهي قوى متناثرة من اقصاه الى اقصاه وذات تباينات برنامجية وانتمائية مختلفة يضع بعضها اضداد للبعض. كما أن قوى المقاطعة للانتخابات ألقت بظلالها وتأثيراتها المتشعبة على العملية السياسية بصورة عامة وعلى الانتخابات بشكل خاص, في الشطر الأول عبرت عن رفضها العملية السياسية برمتها, بأسسها القانونية والدستورية وملابساتها التأسيسية من قانون انتخابات وقانون احزاب وداعية اعادة النظر فيها" بأستثناء جزء مهمش يعمل على قاعدة نسف كل شيء مقابل لا شيء. وفي الشطر الثاني فقد تراوحت نسبة المقاطعة للانتخابات بين 55 ـ 75% حسب ما يقابلها من نسبة في المشاركة في الانتخابات, فالمعلومات الرسمية تقول أن نسبة المشاركة بلغت 44.5%, وهناك من يؤكد ان المساهمة تراوحت بين 20 ـ 25%.

هذه المقاطعة أضفت على العملية الانتخابية سمة " مبايعة الأتباع ", فكل ذهب لأنتخاب حزبه او تحالفه أو عشيرته, أي لم يذهب شعبا للأنتخاب في حراك اجتماعي شامل يجسد ارادة التغير الجذري ويعبر عن الطموح الشامل نحو الافضل, وقد ساهمت في الانتخابات شرائح اجتماعية وافرادا مستقلين يحدوهم الأمل في التغير. كما أن غياب الأطر التنظيمية والمعرفية الجامعة لقوى المقاطعة لم يضعها في مستوى المقتدر على احلال بديل الأغلبية عبر المساهمة المباشرة من خلال صناديق الاقتراع, فجزء من قوى المقاطعة يمتلك رؤى واضحة لما يفعله, والآخر يعكس حالة الإحجام على خلفية أثر صدمة الحكم وأزمته المستعصية. وهكذا كانت المقاطعة والمشاركة تعبير شديد عن الأمل في التغير نحو الأفضل برؤى مختلفة. 

أن الانتقال من الدعاية الانتخابية التي أتسمت بالشحن الانفعالي الشديد ودغدغة عواطف الناخب بأفراط وعرض سوبرماني في القدرات والامكانيات لوضع الحلول والقدرات الخارقة في اصلاح ما فسد, الى مرحلة ما بعد الانتخابات للبحث عن حلفاء, هو انتقال من لغة الانفعال الى لغة العقل والممكنات وان كان الانفعال لازما للعقل لتأمين طاقة معقولة من العمل الفكري, ولكن لا ننسى ان الفرد العراقي الذي تأثر بالدعاية الانتخابية وفي مجتمع لازال يبحث عن الحاجات الاساسية ذات الطابع البيولوجي " الأمن والغذاء " يبقى منفعلا لتلبية حاجاته بعد عقد ونصف من الحرمان, وتجعله منتظرا لحكومة قادمة ستحل كل اشكالاته منذ الوهلة الاولى لتشكيلها, مما يشكل تهديدا مبكرا لأفضل حكومة " إن صح ذلك " قادمة في ظروف العراق, عابرة للطائفية والمحاصصة, وطنية الانتماء والتوجه, تستند الى التكنوقراط في أدائها وتمتلك برنامجا تكامليا ومفصليا لمعالجة الازمة. أن أي حكومة قادمة مهما كان لونها وشكلها ستصتدم بمهمات عضال, أبرزها بأختصار شديد:

ـ نسبة البطالة في المجتمع 31%

ـ مستوى خط الفقر اكثر من 35%

ـ أكثر من 5 ملايين طفل يتيم

ـ أكثر من 2 مليون أمرأة أرملة

ـ تراجع مساحة الاراضي الزراعية من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم

ـ أنتشار الحشيشة والمخدرات وتعاطيها بنسبة 6%

ـ اعداد النازحين والمهجرين داخل العراق وخارجه بلغ 7 ملايين ونصف 

ـ الأمية المتفشية على نطاق واسع حيث بلغ عددها 6 ملايين 

ـ استيراد 70% من احتياجات العراق من المواد الغذائية و 91% من الاحتياجات الاخرى 

ـ توقف ما يقارب 13500 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية

ـ تردي قطاع الخدمات وتدهوره المستمر, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وعموم الخدمات الاجتماعية. 

هذه المؤشرات غيض من فيض في بلد بلغت وارداته النفطية للفترة 2003 ـ 2016 أكثر من 1000 مليار دولار, ويتصدر الآن دول العالم في الفساد المالي والأداري.   

أن اول ألتماس لآفاق التغير في العراق ستجد تعبيرها في صدق الحكومة القادمة ومدى نبذها للمحاصصة هو الموقف من الرئاسات الثلاث وأسس اسنادها: رئيس الجمهورية ونوابه, رئيس البرلمان ونوابه, رئيس الوزراء وأسس اختياره وكذلك أسس توزيع الحقائب الوزارية. 

أن حجم الكارثة في العراق قد يضع سائرون " الفائز الأكبر " بمكوناتها الاساسية ذات الصبغة الاجتماعية اليساروية, اذا توفرت لها فرصة تشكيل الحكومة, في موقف حرج قياسا بطموحاتها الانتخابية, وقد يفقدها زخمها الجماهيري الناقم على الفساد والذي حصلت عليه في حراكها الاجتماعي الممتد لسنوات خلت, وقد يفقدها كذلك تعاطف قوى المقاطعة للانتخابات. أن بقاء سائرون في المعارضة مدعوما من قوى المقاطعين والزخم الشعبي الذي تتمتع به سيضعها في موقع حكومة الظل القوية لمراقبة الآداء الحكومي والبرلماني, ويمهد لرسم استراتيجيات طويلة الأمد لأنتشال العراق من مستنقع التخلف الاقتصادي والاجتماعي والفساد, ويوفر فرصا افضل لأعادة بناء العملية السياسية, وهو افضل بكثير من الوقوع بتحالفات تقود الى المحاصصة في النتيجة النهائية, وتبقى سقطة الشاطر بألف !!!.

115
الأغتراب النفسي بين الناخب والمرشح في الانتخابات البرلمانية العراقية 

د.عامر صالح

من المعروف أن ارث النظم الفردية و الدكتاتورية الى جانب تجربة خمسة عشر عاما ما بعد 2003 سيئة جدا ولا يمكن الاستهانة بها أو دفع بلائها وإحلال بدائل القيم الديمقراطية وثقافة الانتخاب في مكانها دفعة واحدة, وضمن ثقافة الهيمنة السابقة والإقصاء والتهميش والعبادة الفردية والعقلية القبلية والولاء الهش لدولة الحزب الواحد أو الفرد أو للطائفة أو القومية, حيث تتحول هذه المكنونات القيمية إلى خزين في اللاوعي يتحكم في الكثير من سلوكيات الحاضر, ويتحول إلى موضوعات استثارة مستديمة وخاصة بعد عمليات التغير الجذري صوب صناديق الاقتراع لتقرير مستقبل الشعب واتجاهات تطوره, قد لا يعلم بها الناخب نفسه في أحيان كثيرة, وتتحول بفعل ذلك لحظات التصويت إلى حالات من غيبوبة العقل لا تتأثر بأحداث الحاضر وأزمته في البحث عن بدائل تضمن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وتفتح الأبواب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة, بل قد تندفع جماهير غفيرة تحت وطأة تأثير تجيشها بالخطابات الانفعالية القوية التي تسرق عقولها قبل عواطفها فتتركها فريسة للانفعالات, كما اعتادت عليها النظم الدكتاتورية والفردية بثقافتها وأغانيها وأهازيجها الممسوخة التي تعزف على أوتار انفعالاتها لتوقظ فيها نزعات الحماس اللاواعي, حيث تعرقل فيه حكمة العقل ومكانته في الخيار الانتخابي الحر, ويترك فيها الناخب مسلوب الإرادة محتكما إلى الهوى والعاطفة والانطباعات الآنية المخيفة وسلطة المزاج التي تعرقل الخيار العقلاني, وخاصة في ظروف أحزاب تمتلك قدرات هائلة من مال حرام وتطفل مذموم على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية واستخدام للماضي الأليم لرسم صورة الحاضر على خلفيته وإثارة النزعات العقلية الانقسامية من دينية وطائفية وقبلية ومناطقية وحتى سلالية وعائلية تعززها الإغراءات المادية والنفعية ذات الفائدة قصيرة الأجل, وخاصة في مجتمع خرج من آتون دكتاتورية وشوفينية عاتية عبثت في المنظومة القيمية وزرعت في أوصاله الجهل والفقر والمرض والتخلف وعدم المساواة, وأعقبتها حقبة عقد ونصف ن الزمن غاب فيها الخطاب الوطني, وهنا نحذر شعبنا من استراتيجيات الشراسة لدى بعض الكيانات الانتخابية في إشاعة الكذب والخداع والوهم والإيهام التي تتدخل بقوة لتصنع رأيا انتخابيا مجافيا للعقل والحكمة مستخدما من العزف على أوتار الماضي الديني والسياسي في ظل مجتمع يعاني من اختلال اقتصادي واجتماعي,فقد تمتلئ أمعاء الناخب بالمال الحرام والهبات ولكنها ستجوع إلى الأبد بعد فرز الأصوات الانتخابية وتتبخر أحلام الناخب البريء وتتجدد دورة الكبت والحرمان والقمع الذاتي.

يثار الجدل حول  الانتخابات البرلمانية القادمة والتي ستعقد في 12ـ5ـ2018 وما تفرزه من نتائج, وقد لا يكون من باب المفاجئة في عدم إيجاد هيكلية جديدة تختلف عن سابقتها لأشغال السلطتين التشريعية والتنفيذية " رغم الانحسار الكبير للخطاب الطائفي والأثني وتصدعه سياسيا وفي عقول الناس وكذلك بروز تحالفات نوعية جديدة ذات خطاب وطني جامع نسبيا", الأمر الذي يؤدي بدوره إلى عدم إحداث نقلة نوعية صوب الديمقراطية الحقة التي تنقل البلاد إلى خيارات واقعية تعزز فيها مكانة الاتجاه العملي ليخرج البلاد من أزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية, وقد يحصل بعض التحسن الشكلي للمكونات الجغرافية والطائفية للاندفاع نحو المشاركة في الانتخابات وخاصة المنطقة التي يطلق عليها " المنطقة الغربية " وكذلك القوى السياسية التي يطلق عليها بذات " الأصول البعثية " نتيجة لإحساسها بعدم جدوى مقاطعة العملية السياسية من منطلق حسابات الربح والخسارة, إلا أن المشكلة لا تكمن  في ضعف أو اتساع نطاق المشاركة الشعبية في الانتخابات فقط, بقدر ما يتعلق أيضا بصدق البرامج الانتخابية المعلنة وبحسن النوايا, إلى جانب القناعة المطلقة بالتداول السلمي والديمقراطي للسلطة السياسية, وإلا فالجميع يخسر العراق, وتصبح البرلمانات القادمة حاضنة للإرهاب وأعمال العنف وداعمة له, وخاصة في ظل الاحتماء الجغرافي ـ الطائفي للكتل السياسية الكبيرة وتشددها في الحصول على المزيد من المكاسب والاستئثار بالسلطة المشرعن, يقابله في الجانب الأخر تكهنات أولية مفادها غياب كيانات سياسية عديدة صغيرة عن البرلمان القادم على خلفية صدور قانون الانتخابات الذي أضفى الشرعية في مصادرة أصواتها في حالة عدم فوزها بالنصاب لصالح الفائزين الكبار, وتلتقي سلوكيات الإقصاء هذه مع الكثير من النوايا غير الحسنة في عدم رؤية العراق بلدا آمنا ومستقرا وديمقراطيا.

قد نجد هنا وهناك من تبرير لخيارات الناخب العراقي على خلفية العوامل والاتجاهات الأنفة الذكر,إلا إن الخلاف حول دوافع هذا الخيار أو ذاك في ظروف عدم الاستقرار السياسي, وفي ظل استمرارية وبقاء آثار صدمة الاحتماء, حيث يلجأ الجميع مكرها إلى طائفته أو قوميته أو منطقته الجغرافية للاحتماء في ظل غياب الأمن الشامل, الذي يفترض على الدولة العراقية توفيره, كي تفسح المجال أمام إرادة المواطن الحرة بالانطلاق والنمو بعيدا عن مختلف الضغوطات, بما فيه إرادته في الانتخاب وإدلاء صوته, وضمن هذه التعقيدات المقترنة بظروف الفاقة والفقر وضنك العيش فأن رموز الطوائف والأحزاب على هبة الاستعداد لتحويل أصوات الناخبين من أبنائها إلى مشاريع استشهاد جماعية قبالة صناديق الاقتراع.

وعلى خلفية ذلك فأن الانتخابات العراقية القادمة سوف تؤسس على قاعدة ناخب مستضعف يبحث عن الأمن ولقمة العيش,ومرشح " ماكر " في غالبيته يمتلك السلطة والمال ومختلف الإمكانيات للفتك "الرحيم" بالناخب واستلاب صوته, وسوف يقوم المرشح بتجيش الجماهير الغفيرة والفقيرة مستندا إلى الخطابات الطنانة التي تسرق قلوب الكادحين والمعدومين وتوقظ فيهم نزعات الحماس اللاواعي فتعطل لديهم منطق العقل وتطلق لديهم العنان للغرائز الأولى والانفعالات البدائية لكي تكون سيدة الموقف الانتخابي.

وفي غمرة الدعاية الانتخابية التي بدأت قبل موعدها المقرر, فأن المرشح السياسي المبرقع بالطائفية والمذهبية والعرقية سوف يقوم باستخدام كافة الوسائل المتاحة لديه للكذب على الجماهير المستضعفة وإعادة إنتاج الإشاعات والخطابات الممسوخة والوعود الممنوحة, وما يصاحب ذلك من شراء للذمم واستخدام المال الحرام والتطفل الصلف على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية المتعارف عليها في الدول الديمقراطية. وقد اقترنت تلك الدعاية بشتى صنوف التسقيط والتشويه وانتهاك الاخلاق والمحرمات وصولا الى حالات من الاغتيال والتهديد والمداهمات.

أن مرشح يختفي وراء الطائفة والمذهب والمنطقة والعرق سوف تكون رسالته الانتخابية مفعمة بمحتوى ينضح بالتمويه والتضليل والدعاية المبتذلة, فيتظاهر في رحاب المساجد والجوامع وأمكنة الحضور العامة بمظهر المنافق المؤدب والمخادع المهذب ويستحضر ما يتمكن عليه  صور من الصراع الإسلامي ـ إسلامي ليدق الآسفين بين مكونات الدين الواحد, ويذرف دموع التماسيح في مناسبات إحياء ذكرى استشهاد الرموز الدينية  بعد التأكد إن ضحيته " ناخبه المرتقب " قد ذرف الدمع في محبة حقيقية وصادقة وعفوية لرموزه الدينية, إلا إننا نعرف أن التماسيح تذرف الدمع بعد التهام ضحيتها, مستغلا صدق مشاعرها ليضعها في جعبة مشروعه الانتخابي, أنها محاولات لترك انطباعا مشوها لدى محبي الدين مفاده أن السلامة الطائفية أولا وبعدها نتحدث عن دولة القانون والمواطنة إذا كان هناك متسعا من الوقت لذلك, وهكذا تنتعش النزعات العصبية ـ الطائفية لتجر ورائها قبائل وأحزاب ومناطق لتكرس العقلية الانقسامية التي تفعل فعلتها في الحراك الانتخابي, فتكون الحملات الانتخابية فرصا عملية لأضعاف مكانة دولة القانون التي يفترض أن تكون سلوكا عمليا غير قابل للمساومة وقاسما مشتركا لكل القوائم الانتخابية.

أن دوافع السلوك الانتخابي ببعديه المرشح والناخب هي دوافع معقدة تتشابك في نسجها العديد من العوامل والخلفيات الواعية واللاواعية, وهي نتاج البيئة السياسية والتنشئة الاجتماعية والأسرية وتراكمات الماضي واستحضار للماضي لمختلف الدوافع والإغراض, وأن التوظيف السيئ لتلك المنظومة من العوامل قادر على حرف الدعاية الانتخابية من سلوك تربوي متقدم لممارسة الديمقراطية إلى ميدان للصراع الطائفي والقبلي والاحتراب الاجتماعي, ولا يمت بصلة لما نسميه باللعبة الديمقراطية, وهكذا يتم حرف سلوك الناخب من حالة التصويت لبرنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي يستهدف أصلاح وإنقاذ مجتمعا وشعبا بالكامل إلى مشروع ولاءات طائفية وقبلية وحزبية ومناطقية ضيقة, يستجيب فيها الناخب البريء إلى ولائم ومآدب العشاء والغداء والتعازي والأفراح والأهازيج ومختلف أشكال الكلام المرتل والمغنى, المبكي منه والمفرح, لتشكل جميعها وسائل نفسية ومادية مغرية وذات نزعة نفعية لا تصمد أمام المشروع الوطني ولا تشكل أي مناعة أخلاقية في ظل مجتمع يعاني من الفقر والجهل والأمية بمختلف مظاهرها الحضارية منها والأبجدية .

أن مرشح انتخابي من هذا النوع سوف يلجأ إلى أعتى الوسائل للاستحواذ على أصوات الجماهير البريئة,أنها عملية افتراس للناخبين بأنياب لطيفة وبيضاء, ما دام الناخب العراقي تتوفر فيه شروط الاختراق والاستلاب والانقياد,لأنه يعيش بظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة لا تؤهله أن يكون حر الإرادة وبمنأى عن أفاعي السياسة الحرباء الذين يجيدون استخدام السلطة الدينية والروحية في اللعب على أوتار العاطفة الدينية والاستنجاد بالرموز الدينية عندما يرون الخسارة تلوح في الأفق, مرورا بسلطة المال والجاه التي تضرب أعناق شعب جاع لعقود خلت .

أن عملية الصراع الشرس بين مختلف الكتل السياسية المتموضعة في مختلف مناطق العراق الجغرا ـ طائفية والاثنية والمؤطرة بنفس الاستحواذ, وليست المنافسة المشروعة المتعارف عليها في تقاليد الممارسة الديمقراطية والقائمة أصلا على مشتركات كثيرة(لعل أبرزها سلامة الوطن وأمنه وتحسين ظروف الحياة العامة), هي من العوامل المعرقلة لبناء سلوك انتخابي موضوعي بهذا القدر أو ذاك لدى الناخب العراقي, فالناخب هنا يفتقد إلى مقومات الناخب ـ الحكم,وسوف يساق إلى الانتخابات القادمة تحت وطأة حمى الاستقطاب الطائفي والمناطقي والاثني والمشحونة بنفس الانتقام وتصفية الحساب في أحيان كثيرة, ونخشى أن لا يكون هذا الاندفاع إلى صناديق الاقتراع واقعا تحت تأثير منطق غرائز الحشود الإنسانية الأولى قبل أن تدجنها الحياة الاجتماعية والسياسية المدنية, حيث يتصرف الإنسان هنا وفقا لانفعالاته الآنية والعاجلة في الزمان والمكان دون حساب دقيق وترتيب لسلم الأولويات, وهي خيارات ينعدم فيها التخطيط وتنعدم فيها الرؤيا للمستقبل وتضعف فيها المسؤولية اتجاه مستقبل البلاد والأجيال القادمة.....والمهم في ذلك كله ليست فرز الأصوات بعد الانتخابات وتحديد الفائز, بل الإتيان بحكومة قادرة على معالجة مختلف الملفات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي لم ترى النور بعد,ولكي لا نعود إلى المربع الأول مع كل دورة انتخابية.


116
سائرون نحوفهم سيكولوجي للقيمة الأخلاقية والتربوية للصوت الأنتخابي

د.عامر صالح

تحتل الانتخابات البرلمانية العراقية والتي ستجرى في 12ـ5ـ2018 أهمية استثنائية في مستقبل العراق, فهي تأتي في أعقاب فشل البرلمانات السابقة في رسم ملامح الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي, وما سجلته من فشل ذريع في إعادة بناء لحمة النسيج المجتمعي العراقي بكل مكوناته وتنوعاته الاثنية والقومية والدينية والمذهبية, والاندحار المذهل في إعادة بناء المنظومة الأخلاقية والقيمية على أسس من الحق والعدل والنزاهة, والتي عمل النظام السابق على تخريبها, ثم إعادة تخريبها ثانية من قبل البرلمانات السابقة التي أدت إلى إنتاج حكومات هشة بعد سقوط النظام الدكتاتوري.

كل هذا التصدع والانهيارات الخطيرة في منظومة الأخلاق الفردية والاجتماعية إلى جانب فشل الحكومات المتعاقبة في انجاز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية البديلة لقيم الانهيار والتشظي والصراعات الفئوية والمصلحية الضيقة, وغياب الأمن المجتمعي الشامل, والذي يؤسس لانهيار الدولة العراقية وتفتيت الوحدة الوطنية, وما يقابله من ردود أفعال في الاحتماء والرجوع إلى القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والاثنية الضيقة للبحث عن الأمن الشكلي عبر التخندق المرضي المشوه للبحث عن بدائل للأمن, هي الأخرى تدق الإسفين في الوطن وتعزز انقساماته وشرذمته وتضعف فيه أي رؤى سليمة لمستقبل العراق ووحدته وحماية ثرواته ومستقبل أبنائه !!!.

يأتي في سياق هذا التراكم اللامعقول البحث عن البدائل الممكنة للخروج والخلاص من الأزمة العامة الشاملة التي تمر بها البلاد خلال عقد ونصف من الزمن. والبحث هنا عن البدائل الممكنة تكمن اليوم وكما أكدته التجارب التاريخية لكل ديمقراطيات العالم المتحضر هو في البحث وتوجيه الصوت الانتخابي وجهة صائبة نحو البرنامج الانتخابي, وليست للكيان الحزبي بعينه. كما إن تعقيدات الوضع السياسي في العراق المثقل بمختلف ألوان الصراعات لا يمكن لحزب بمفرده مهما كانت أكثريته أن ينهض بالبلاد. كما أن التجارب السابقة أكدت بدون شك أن التجمعات والأحزاب الطائفية ـ السياسية والاثنية لا يمكن لها أن تحل أي ملف من الملفات الساخنة والمصيرية العالقة لعقد ونصف من الزمن, كالأمني والاقتصادي والثقافي والسياسي والملف القومي, والكردي منه بشكل خاص.

 قد يبدو من الصعب تفسير آلية السلوك الانتخابي والعلاقة التفاعلية بين الناخب والمرشح والعوامل التي تتحكم في العلاقة بينهما في ضوء سيكولوجيا الاتصال وعلم النفس الاجتماعي المعنيان أكثر من غيرهما بدراسة سيكولوجيا الانتخابات,لأنها تعبر عن مظهرا معقدا من السلوك يصعب التحكم فيه وضبط متغيراته المختلفة, إلا أن البحث في أروقة الفكر السيكولوجي والاجتماعي يضعنا أمام بعض المعايير التي تصلح محكا للتعرف على السلوك الانتخابي المتمثل بين مرسل (مرشح) يبث رسالته الانتخابية إلى مستقبل (ناخب),وهنا يستخدم المرشح مختلف الوسائل والقنوات والتأثيرات (النزيهة وغير النزيهة ) للاستحواذ على صوت الناخب. وقبل الدخول في تفاصيل العلاقة السيكوـ سياسية التي ستهيمن على أجواء الانتخابات العراقية للدفع باتجاه قبول نتائج قهرية مكره عليها المواطن العراقي,أرى من الضروري الإشارة إلى بعض الاتجاهات والمفاهيم الأساسية التي يجب تثبيتها كمؤشرات لدراسة السلوك الانتخابي,وهنا من المسلم به أن عملية الانتخابات تعتبر من الإشكال الرئيسية للمشاركة في المجتمعات الديمقراطية في اتخاذ مختلف القرارات ورسم السياسات العامة وأشغال مختلف المناصب الحساسة ذات الصلة بمصير البلاد ومستقبل العباد,وهناك الكثير من العوامل التي تؤثر على السلوك الانتخابي وتأتي في مقدمتها العوامل السايكوأجتماعية,لذا يميل أخصائي علم النفس الاجتماعي وعلم نفس الاتصال في دراستهم للسلوك الانتخابي إلى الاهتمام بمنظومة العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية المسئولة عن دعم الأحزاب السياسية وملاحظة الصلات والروابط بين الطبقة الاجتماعية والمهنة والانتماء الأسري والجنس والعمر من جهة وسلوك الناخب واندفاعه لخيار ما من جهة أخرى,حيث تشكل العوامل المذكورة أعلاه الغطاء السايكوـ سياسي والعقلي للخيار الانتخابي.

وهناك العديد من الاتجاهات في تفسير السلوك الانتخابي فهناك مثلا الاتجاه البنائي ( أو السوسيولوجي ) التي تركز على تأمل العلاقة التفاعلية بين البناء الفردي والبناء الاجتماعي وتضع الصوت الانتخابي في سياقه الاجتماعي,وتحاول أن تكشف عن تأثير بعض المتغيرات على التصويت, كالطبقة الاجتماعية, أو اللغة القومية, والدين والفرو قات الريفية والحضرية والقبلية؛وهناك أيضا الاتجاه الايكولوجي الذي يربط أنماط التصويت ببعض السمات الأساسية المميزة للمنطقة الجغرافية (الحي,المنطقة,الإقليم أو الدائرة الانتخابية)؛ وكذلك الاتجاهات المنتمية إلى علم النفس الاجتماعي التي تربط الاختيارات الانتخابية بالميول أو الاتجاهات النفسية للناخب مثل الانتماء الحزبي للناخب, واتجاهاته نحو مختلف المرشحين؛ وأخيرا اتجاهات الاختيار النفعي التي تحاول تفسير السلوك الانتخابي كمحصلة لمجموعة من حسابات الربح والخسارة والتي يقوم بها الفرد بشكل نفعي وهي الحسابات التي تحبذ درجة الميل إلى اختيارات انتخابية معينة من واقع القضايا المطروحة والسياسات التي تؤمن بها الأحزاب المختلفة أو المرشحون المختلفون.

في زحمة هذا التوصيف لخيارات الناخب وفي ظل التجارب المؤذية السابقة فأن الناخب العراقي مطالب اليوم أكثر مما مضى بمزيد من اليقظة والتدقيق في الخيارات الانتخابية, والابتعاد عن ما يضر مستقبل الوطن, وعليه ان يتبنى خياراته مقرونة بحسابات الربح والخسارة لمستقبل الوطن الأكبر ـ العراق بعيدا عن لحظات الانفعال المؤذي المتأثر بخطاب طائفي أو فئوي معسول تزول آثار صدقه بعد لحظات من فرز أصوات الناخبين كما أكدته التجارب السابقة.

لا أريد هنا أن أقحم الناخب بخيار ما, فالديمقراطية لها أنياب تخيف ولا ترحم من يتجاوز عليها, ولكن الحكمة تقتضي على الناخب أن يختار للعراق أولا وليست لأي انتماء آخر, ومن هنا كنت متأنيا في قراءتي الدقيقة لبرنامج قائمة تحالف سائرون والمرقمة 156 فوجدت فيه من الاستفاضة ما يكفي لمستقبل العراق ومستقبل أبنائه, فقد رأيت فيه ما يضمن التنوع السياسي والاثني والديني ويحترمه ويعطي للطوائف والأديان كل الحق في ممارسة مختلف طقوس العبادة والبقاء الأفضل, ولم يكن مهددا للدين كما يتصور ضيقي الأفق والفهم بل حافظا له ومصون, كما رأيته بانيا للدولة المدنية الديمقراطية وباني مؤسسات الدولة على أسس من العدالة والنزاهة الاجتماعية والفردية.

وقد تأكدت من برنامج القائمة المذكورة في قدراتها الكامنة لإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية وإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي بما يضمن تنوع مصادره وقاعدته الإنتاجية, كما إن هناك خططا للأعمار وحل أزمة السكن, وتوزيع الثروات بشكل عادل بين إقليم كردستان ومحافظات العراق الأخرى.

وفي محاور الخدمات والصحة والبيئة والتعليم ما يكفي من اتجاهات معاصره للاهتمام بصحة الإنسان وتعليمه, وحمايته من مخاطر التلوث البيئي ومختلف الأمراض وتوفير الخدمات الصحية الأساسية, كما تضمن رؤى واضحة في إعادة بناء المناهج الدراسية على أسس عصرية, والنهوض مجددا بحملات محو الأمية وغيرها.

وفي الثقافة فقد كانت قائمة تحالف سائرون غنية بوضوحها لقطاع الثقافة من تحييد للمؤسسات الثقافية بعيدا عن الصراعات المذهبية والفئوية الضيقة, والحفاظ على آثار العراق التاريخية, وتحرير الثقافة من قيود الفكر وأحادية الاستحواذ.

أن شعبنا الذي اختبر الآثار الوخيمة للتسلط والقمع وشراء الذمم عليه أن يبقى اليوم متمتعا بنفس قوة حواسه في درء الخطر قبل وقوعه مرة أخرى, وعليه أن يندفع إلى صناديق الاقتراع بكثافة شديدة وبعقل متفرد متحملا مسؤوليته الكاملة اتجاه رسم ملامح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القادم. إن شعبنا اليوم لا يقاد إلى صناديق الاقتراع بقوة السلاح والقمع وقبضة الإرهاب لينتخب برلمانا أو قائدا للضرورة وبنسبة فوز مشروطة سلفا ليست بأقل من 99.5% كما اضطرته النظم السابقة لفعل ذلك, فهذه سلوكيات تقترب من فعل سوق القطيع إلى مذبحة جماعية وفقا لاحتياجات الزمان والمكان حيث ينعدم الحس الإنساني على الإطلاق, إن استراتيجيات المستقبل الشامل تستدعي من الناخب كانسانا إن يكون كما قررته طبيعته الإنسانية باعتباره أرقى مخلوقا يتمتع بصفات التقييم والتبوء والتخطيط والتدخل في تقرير النتائج وبناء النظام السياسي الذي يقرره بنفسه دون وصايا.

أن مهمات كبرى اقتصادية واجتماعية وسياسية لازالت تنتظر عراق ما بعد2003 كاستكمال بناء مقومات دولة القانون عبر استقلال القضاء ونزاهته, واستكمال سيادة البلاد,وأشغال مؤسسات الدولة ووظائفها وفقا لمبادئ التكنوقراط والنزاهة الوطنية,وتأمين الخدمات المختلفة للمواطن من صحة وكهرباء ووقود, وتأمين تكافؤ الفرص في مختلف الميادين من تعليم بمختلف مراحله وصحة وضمان اجتماعي, وتكريس المساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة وتأمين حقوق الأمومة والطفولة,وبناء العراق على أسس السلام والديمقراطية والعدالة, وتكريس تصور ايجابي وفعال لمبدأ الفدرالية لكردستان العراق بالشكل الذي يضمن وحدة العراق ويحفظ الحقوق القومية والثقافية والإدارية للمكونات العراقية الأخرى,وحل المشكلات التي تنشأ بين المركز وكردستان بروح من الحرص على النظام الديمقراطي الجديد ووحدته,ومكافحة البطالة وتحسين ظروف العيش الكريم, ووضع آلية لمكافحة الفساد في مفاصل المجتمع واعتبارها مهمة وطنية قبل كل شيء, وغيرها من المهمات العاجلة والإستراتيجية والتي تعني بمصير أجيال قادمة, والتي وجدت لها تعبيرا واضحا في قائمة تحالف سائرون, وعلى الناخب أن لا يضيع الفرص تلو الفرص فهو شريك ومقرر في السراء والضراء. 

أن تحالف سائرون هو نمط من التحالفات الجديدة يحمل في طياته دروس من التحالفات التاريخية التي حصلت في بقاع مختلفة من العالم, حيث القوى المحركة لهذا التحالف هو المسحة اليساروية الاجتماعية بغض النظر عن القناعات الأيديولوجية والفكرية لأطراف التحالف, ولكن القاسم المشترك هو أعظم من الخلاف الفكري, والذي يتجسد في بناء الوطن وتعزيز الانتماء للعراق والاستجابة لطموحات الفقراء من مختلف الانتماءات. أن نجاح سائرون يرتبط أشد الارتباط بكثافة التوجه صوب صناديق الأقتراع للتعبير عن مطالب وطموحات الفقراء من الشعب العراقي. ويبقى القول الفصل لصناديق الأقتراع !!!.

 








117
في الذكرى الخامسة عشر لأحتلال العراق وسيكولوجيا أستعصاء أزمة الحكم
 
د.عامر صالح 

مرت الذكرى الخامسة عشر لأحتلال العراق وأستباحة أراضيه وسقوط النظام الدكتاتوري القمعي من قبل المحتل الأمريكي, ولم يكن سقوط النظام نتاج لتفاعلات داخلية ذاتية في مؤسسة النظام, رغم أن النظام كان يمر بأزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية خانقة تؤهله للسقوط وعدم البقاء, ولكن القمع والأضطهاد السياسي أضعف القدرات الموضوعية المتمثلة بالقوى المعارضة له مما جعلها غير قادرة أن تتصدر عملية اسقاطه, وجعلها لاحقا متخلفة عن احتواء الفراغ السياسي الذي نتج بعد اسقاطه من خلال القوى العالمية العسكرية بقيادة أمريكا.

وكان الفراغ السياسي بعد سقوط النظام ذو شقين, أولهما جماهيري سياسي حيث لا تمتلك القوى السياسية قاعدة شعبية منظمة كافية ومعبئة لكي يؤهلها لقيادة التغير, والشق الآخر هو فكري ايديولجي حيث ان اغلب القوى السياسية التي شغلت الفراغ بعد سقوط النظام لا تمتلك مشروعا وطنيا واضحا ينقذ العراق ويشكل بديلا صالحا عن النظام السابق المنهار, فحل البديل السياسي المحصصاتي الطائفي والأثني المدعي للمظلومية التاريخية والقائم على ردود الأفعال والبعيد عن سنة الصراع الاجتماعي وقوانينه, وقد لقي هذا البديل الدعم الكامل من قوى الاحتلال الامريكي ومتناغما مع اجندته في أضعاف العراق كقدرات ذاتية. 
لقد قدر للعراق وشعبه أن يمر بظروف تاريخية قاسية ذات طبيعة كارثية أسهمت بشكل كبير في تشكيل مزاج عام أدى إلى تأخير حالات اختمار حقيقية صوب مخاض الديمقراطية,مما فسح المجال إلى نشأة بدائل سياسية ذات طبيعة عقليةـ معرفية معوقة للديمقراطية في غالبيتها,ولكنها انطلقت لتمارس الديمقراطية السياسية استنادا إلى ظروف العصر الضاغطة وظروف العراق بشكل خاص التي لا تقبل بغير الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية كنموذج بديل عن النظم الديكتاتورية الموروثة.وعندما حصل التغير في العراق عام 2003 " رغم ملابساته الكثيرة وصعوبة هضم آلية التغير" فأن الفراغ السياسي شكل سمة مميزة للوضع السياسي,مما مهد الطريق إلى خيار الاستحواذ السياسي متخذا من الطائفية والعرقية واجهة له ومستغلا الظروف التاريخية للاضطهاد ليمعن في سياسته التي لا تلقي الاستحسان والقبول والإجماع والرضا من قبل شعبنا,وبدلا من أن تحل البرجماتية السياسية " أي قياس مصداقية الفعل السياسي بنتائجه العملية على ارض الواقع " فقد حلت البرجماتية المدججة بالسلاح " الحوار بيد والسلاح في اليد الأخرى لقبول أمر الواقع".

بعد مرور خمسة عشر عاما من الفشل تركت أزمة ضعف المشاركة السياسية والشعبية الواسعة إلى أحساس شرائح اجتماعية واسعة بالهامشية واليأس والمنبوذية "خاصة الفئات التي يجب أن تستهدفها عمليات التغيير",مما يدفع إلى شعور مضاد للانتماء,أي العزلة والاغتراب الاجتماعي وضعف الشعور بالمسؤولية ومن ثم التطرف بألوانه والى الفوضى والعنف,وأصبحت إحدى البؤر المولدة للعنف والتطرف الديني وغير الديني,لتشتد الحياة أكثر عنفا لتصبح بيئة مواتية للتحريض وارتكاب الجرائم الكبرى بحق الناس وبواجهات مختلفة( القاعدة,فلول البعث السابق, داعش, ضغط دول الجوار التي لا تعي حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية).أن الجبهة الداخلية السليمة والصحية هي وحدها القادرة على دحر أعداء العراق في الداخل والخارج وعلى خلفية بقائه وطنا صالحا للجميع.

أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما رافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن, وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها, متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة ", حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن, وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط , وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم. 


أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي ألتمسه شعبنا بوضوح وأكتوى به طوال العقد والنصف  المنصرم,وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي , إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي ,أي إعادة  إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية ,وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت,وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية,بل لعلها أهم منجزات الحداثة, وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي,ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات ,وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية,وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على الوطن, تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية, حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار, وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة, أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة , بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ", وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع.أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل , وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.

لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية,فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها,أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق.

أنا اليوم وبعد تجربة 15 عاما من الأحباط الأقتصادي والاجتماعي والنفسي لا تختلف مشاعري الشخصية عن مشاعر الملايين من العراقيين بأنه لا توجد هناك عصا سحرية لأنقاذ البلاد من التشرذم والفساد السياسي والاداري والمالي, ولكن هناك بصيص أمل على خلفية الوعي المجتمعي المعارض الذي افرزته التجربة المنصرمة ولعله يجد انعكاساته في الانتخابات البرلمانية القادمة في 12ـ05ـ2018.

118
في سيكولوجيا الأنتماء للحزب الشيوعي العراقي في ذكرى تأسيسه


د.عامر صالح
 

تؤكد الدراسات السيكواجتماعية  أن هناك دوافع مختلفة للأنتماء السياسي لعل من بينها هي: المصلحة الذاتية, أي الرغبة في الحصول على مكاسب ذاتية للأفراد الذين ينتمون الى حزب ما, كالحصول على المناصب أو الوظائف أو الأموال أو المكافآت والامتيازات؛ أو الأنفعال أي اندفاع المواطنين لتأييد أفكار وبرامج وأهداف وسياسات الحزب دون تحفظ وذلك لأنها تثير عواطفهم ونزعاتهم النفسية وتجعلهم متحمسين لنصرة الحزب والوقوف بجانب قضاياه والدفاع عنها دون خوف وتردد؛ أو الادراك والتعقل والعقيدة أي أن الشخص ينتمي الى الحزب لا بسبب مصلحته أو عاطفته الجياشة وأنفعالاته المفرطة, بل بسبب الأيمان والعقيدة والادراك الثاقب لأفكار وأيديولوجية ومعتقدات الحزب وأهدافه بحيث تكون هذه جزء لا يتجزأ من شخصيته وآماله في الحياة وتطلعاته, والاشخاص الذين يدخلون الحزب لهذه الاسباب هم الحزبيون الحقيقيون الذين يبقون فيه ويدافعون عنه ويناظلون من أجل نصرته مهما كانت الظروف.   

وقد أكدت العديد من الأبجاث النفسية أن هناك خمسة عوامل تتوزع عليها سمات الأفراد المنتمين للأحزاب السياسة وهي تتكامل مع بعضها البعض في ظروف صحية في حياة الحزب الداخلية, وهذه العوامل هي: التفكير الأبداعي؛ والتعبير عن وجهات النظر؛ والألتزام؛ والتفكير الناقد؛ والتنظيم الذاتي. وهناك أيضا سمات شخصية للأفراد الذين ينتمون للأحزاب السياسية في الحالات المثالية, وهي: قوة الأنا, واليقظة الذهنية, والثقة بالنفس, والحساسية الأجتماعية , والفاعلية الذاتية, وتقدير الذات الى جانب الصلابة النفسية والصمود.

أن الأنتماء للحزب الشيوعي العراقي هو شبيه في الأنتماء الى التجارب العاطفية الأولى حيث استحضارها بقوة بين الحين والأخر إلى حيز الشعور, نتيجة لارتباطها ببداية تشكيل الخبرات العاطفية, وتعتبر من اللبنات الأولى في بناء الشخصية العاطفي على طريق اكتساب المزيد من الخبرات والتجارب.وهي اختبارات صعبة للتأكد من صلاحية الشخصية في التكيف والبقاء مع الجنس الآخر.

وتشكل تجربة الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي لأول مرة في عمر الفرد لونا من ألوان هذا الانتماء المشحون بالعاطفة الجياشة والانفعال القوي للارتباط به الى جانب الأيمان بالفكر والعقيدة بعيدا عن المصلحة الذاتية. ومن اجبر على ترك الحزب في هذا العمر عانى كثيرا, كما يعاني من اجبر على ترك محبه الأول, حيث تجري الأشياء هنا بالضد من الشعور الذي ينتاب الفرد بأن يكون هذا الحب هو الأول والأخير وبطريقته الخاصة.

أن الخطاب الحزبي في بداية الانتماء وأن كان خطابا عقلانيا يستند إلى مادة فكرية وفلسفية رفيعة المستوى تقدم"للمحبين" له, ألا أن الحزب له القابلية على إضفاء مشاعر وأحاسيس عنيفة معززة رغبة البقاء في صفوفه, وهي نتاج عمل دؤوب سايكوعقلي ـ معرفي , يترك أثرا عميقا أكثر بكثير من وقع الحب الأول في محبيه, يترك في الشخصية شحنة انفعالية موجبة كما تدرك. وبقدر ما يكون الحب الأول فرصة لتأكيد الذات واختبار الشخصية,يكون الانتماء الحزبي هو الآخر فرصة ذهبية لتميز الشخصية ضمن إبعاد جديدة وفي سياقات غير معتادة, تشكل فرصا للنمذجة  المثالية للشخصية, تمنح صاحبها امتيازا في بيئة محدودة الإمكانيات, وخاصة في صورة الخروج الايجابي عن المألوف, وتشكل مع الوقت احد المصادر الأساسية في التوافق الذاتي ورسم الملامح العقلية وحتى أحيانا المزاجية للشخصية. أو يأخذ الانتماء شكل المخالفة لما هو سائد أو كما يقال"خالف تعرف" في بيئة غارقة في الممنوعات.

أن الانتماء للحزب والاستمرار فيه إن شاء الفرد يجب أن يرتبط بعقلانية رفيعة المستوى في الدفاع عنه, وهذا يأتي عبر التخلص من غرائز الانتماء الأول المفعمة في اللوازم العصبية والانفعالات المؤذية في أحيان كثيرة للحزب, والتي يعكسها الدفاع المفرط عنه, وبأي ثمن, وبآليات غير موفقة تلحق الضرر به. وفي حالات كثيرة تسبب شحنة الحرص الزائد(الانفعال المفرط) إلى ارتكاب أخطاء ينتظرها من لا يرغب بوجود الحزب كما ينبغي أن يكون.

أن الحزب وبعد مسيرة تجاوز فيها الثمانية عقود تعرض فيها إلى هجمات شرسة من أعدائه وحلفائه, وكذلك انتكاسات كبيرة نتيجة لأخطاء ذاتية وظروف موضوعية, وعلاوة على ذلك تعرض حلفائه "الثابتين" في الخارج إلى انهيارات كبرى تمثلت في انهيار المعسكر الاشتراكي, والتي أدت ضمن ما أدت إليه إلى أن يطال الشك إلى مصداقية الفكر الماركسي. يحتاج الحزب اليوم إلى انتماءات بذهنية جديدة, ترى في الحزب مشروعا عمليا للحياة ومرنا قدر مرونة الحياة...أن عهد" ملائكة" الحزب ودعاة الحرص"المؤذي"لم تزكيهما الحياة. ومن يرى في الحزب ملاذا لتأكيد الذات, لأنه لم يجد في دائرته القريبة الملاذ, فأنه يرتكب أخطاء بحق الحزب, ومن يرى في الحزب وظيفته الدائمة فأنه يخطأ أن يقدم شيئا مفيدا له.

اليوم وبعد هذا الزخم الهائل من التغيرات الدولية والإقليمية والقطرية, فأن الحزب لم يعد حزب"دكتاتورية البرولتارية",ولكنه يستطيع أن يكون بامتياز حزب البرولتارية, ولا حزب التكتيكات من أجل" استلام السلطة", ولكن من حقه أن يتطلع إلى المشاركة الواسعة في السلطة, ولا حزب بناء" الاشتراكية"على نسق مرجعياتها السابقة, ولا حزب الانضباط الحديدي وفقا "للقواعد اللينينية في حياة الحزب الداخلية" ولكن حزبا منضبطا,حيث تنعدم المقومات الموضوعية والذاتية لذلك. أذن لماذا كل هذه الحملات والهجمات عليه, وخاصة عندما تبدأ الرؤيا بهذا الوضوح. أني اعتقد أن المشكلة في التساؤلات الآتية: ماذا نختار, وكيف نختار, ولماذا؟؟؟ .

علينا أن لا نعطي الظواهر قوة دفع أكثر بكثير من خصوصية الظرف الذاتي والموضوعي الذي تجري فيه.أليست تلك هي سنة الديالكتيك.فمن أراد للحزب خيرا فعليه أن يقلع عن عادات "الحب الأول"في الدفاع عنه, أو عادات أخذ الثأر منه والهجوم عليه عندما ينفض العقد معه. ومن أراد أن يكون الحزب "حبه الأخير"فعليه القبول بشروط الحياة, وعلى الحزب المزيد من الاستجابة والتفحص الذاتي, وخاصة بعد تجربة تجاوزت العقد والنصف من العمل العلني وفي ظروف نوعية جديدة.

أن من يريد أن يكون حزبه حزب الثلاثينيات أوالاربعينيات أو ما يسمى" حزب فهد" فأن ذلك مجافاة للحقائق والتغيرات العميقة على الأرض في الداخل والخارج. وتستحضرني في هذا السياق ليست مقولة لينين(النظرية مرشد للعمل), ولكن من عمق التأريخ مقولة للأمام علي: " لا تقصروا أولادكم على آدابكم فأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ". أذا كان هذا الحديث في التربية, فكيف يكون الأمر في السياسة وهي فن الممكنات. وهل يجوز العودة في السياسة إلى أكثر من ثمانين عاما إلى الوراء!!!, وهل يجوز في السياسة أيضا أن تصاغ سياسات الحاضر واتجاهات المستقبل لحياة الحزب الداخلية والخارجية على ضوء معايير الثلاثينيات والاربعينيات ونحن في الألفية الثالثة. أن مآثر الحزب وتأريخه النضالي هي ملكا للجميع. ولكنني أتساءل :هل كان حزب" فهد" آنذاك بدون انحسارات أو صراعات!!!, وهل كان في برجا عاجيا كي لا يكون كذلك, وهل كان مراقبا للمعارك الوطنية لكي يكون معصوما من الخطأ أم طرفا أساسيا فيها....الإجابات في التأريخ المكتوب والغير منحاز نسبيا للحزب.

أن من يرى في الحزب " حبه" الأول والأخير عليه أن يكيف نفسه لميكانيزم الحياة المتغيرة أبدا وبدون انقطاع. فلا يمكن "السباحة في النهر مرتين", لأن الماء غيره عن المرة الأولى.فالحزب اليوم يؤمن في الديمقراطية الليبرالية على مستوى السياسة والاقتصاد(مع مظلة حقوق اجتماعية واسعة). ويترتب على ذلك أن يكون الحزب واضحا في خطاباته وتحالفاته وحدود انتمائه للعقيدة الكلاسيكية. وعلينا أن نعي حقيقة أن" الحب الأخير" هو ليست صورة طبق الأصل لفلم غير ناطق عن "الحب الأول". وبين" الحبين"تأريخ مشترك يجب العودة أليه ودراسته وتقويمه بعناية وحرص شديدين. وأعتقد أن الحزب الشيوعي ليست حركة ماضوية فهو من الحركات التي تلتصق بالحاضر بشدة . وإذا كان الحب الأول يعبر عن الحاجات الأولى للانتماء, فأن الحب الأخير هو حب الأحاسيس والانفعالات الهادئة...أنه حب الحياة والاستقرار, وكما عرفنا فأن الأنتماء أليه طواعية, ومغادرته أيضا بعرفان وأحسان. 

الذكرى ال 84 لميلاد الحزب الشيوعي العراقي هي مناسبة لتشديد الخناق على الفاسدين وهي مناسبة لأعادة بناء العملية السياسية في العراق بعيدا عن المحاصصة الطائفية والأثنية, وهي مناسبة للملمة الصف الداخلي لحزب فهد, وأن نتعلم من الديمقراطية والتعددية الحزبية, أن تحالفات اليوم قد تصلح أو لا تصلح لغدا, ومصالح الناس الأساسية في الخدمات العامة والعيش الكريم هي جوهر ما يطمح له الشيوعيون بعيدا عن الوصفات المتحجرة, فأن ما كان صالحا بالأمس لم يكن صالحا اليوم أو لغد. وكل عام والحزب بأفضل منه.









119
في سيكولوجيا تزوير الوعي الأنتخابي ومستلزمات النهوض به
   

د.عامر صالح 

على مقربة من الأنتخابات البرلمانية العراقية الرابعة والتصارع المحموم على أشده للأستحواذ على السلطة السياسية وتقاسم النفوذ هو سيد المشهد مؤطرا بسلوكيات التنافس أللانزيه للفوز, من محاولات التزوير وشراء الذمم والخداع وكذب الوعود, وصلت الى حد حجز البطاقات الأنتخابية وعدم توزيعها, أو شراء البطاقة الانتخابية من المواطن بملبغ بخس وصلت قيمته 80 دولارا في بعض المحافظات مقابل استخدامها في التصويت لصالح بعض الأفراد والاحزاب, بل وصلت الى حد مبايعة البطاقة الانتخابية مقابل تجهيزات رياضية, من ملابس وكرة قدم واحذية, واطلاق مشاريع وهمية كتبليط الشوارع برمي التراب والاسفلت في الأحياء الفقيرة من قبل بعض رموز الفساد في إيحاء كاذب لتزوير الوعي العراقي الناقم على الاوضاع وترك الانطباع بأن ملامح إعمار قد بدأ, وسفرات " ترفيهية " تقيمها بعض الكيانات السياسية لتجمعات الأحياء المعدمة واستغلالها لعقد صفقات لشراء أصواتهم الانتخابية.

وقد سبق ذلك كله اعادة تدوير للنفايات السياسية الفاسدة شكل أبرز ملامحها الانقسامات والانشقاقات السياسية والتشظي الواسع في محاولات لأحتواء الشارع الانتخابي, وقد لبس بعضها ثياب المدنية في محاولة لأمتصاص غضب التيار المدني الاجتماعي الديمقراطي الرافض للفساد بمسحته العامة, ورافق ذلك دخول بعض الأفراد المحسوبين على اطراف التجمعات المدنية الى احزاب السلطة الفاسدة, أو ظهور " شباب " من داخل تلك الاحزاب واستخدامها واجهة اجتماعية سياسية في بادرة كاذبة توحي بأن هناك تغير جذري قادم في طبيعة الاوضاع السائدة بما فيه طبيعة الحكم القائم وطبقته السياسية. يرافق ذلك حملات من التسقيط السياسي والشخصي والتكفير والتحريض على القتل للخصم المنافس, وصل حد العبث في السمعة الشخصية والاخلاقية من خلال استخدام الاعلام الأصفر في نشر المعلومة الكاذبة واستخدام تقنيات الفوتوشوب وغيرها في مجتمع كان معزولا لعقود خلت عن العالم وأنفتح على حين غفلة على منظومة التواصل الاجتماعي والمعلوماتي في ظل ضعف الأطر المرجعية لتصديق أو تكذيب المعلومة القادمة. 

أن التجربة السياسية في تعبئة الجماهير ما بعد سقوط الدكتاتورية  " الى جانب أجندة المحتل الأمريكي " قد تعرضت إلى التشويه والمسخ من قبل الكثير من الأحزاب مستفيدة من ارث الدكتاتورية البغيض, لتعيد الكرة في تشكيل وعي الجماهير بما يتفق مع مصالح هذه الأحزاب عبر التزييف وتشويه معالم الوعي الإنساني الفردي للمواطن من خلال ترك الانطباعات المختلفة التي تصور الأهداف الذاتية والمصلحية والنفعية بأنها أهداف عظيمة ومقدسة ومشروعة ويتخيل إلى المواطن بأن هذا الحزب أو ذاك يسعى لصالحه, وبالطبع فأن هذا العمل يتطلب مهارات عالية "وقدرات استثنائية خاصة " للعبث بإحساسات وحواس الجمهور من خلال الإعلام المتنوع والمغريات المختلفة واستخدام للمال الحرام والإسراف في استخدام السلطات الحكومية, وقد تم تزيف الوعي من خلال شخصيات كاريزمية في الأحزاب أو في المجتمع,دينية أو سياسية يتم من خلالها تسويق أفكار الأحزاب إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناء على تقبلها وحبها البريء للشخصية الكاريزمية سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية, وخاصة في مجتمع خرج من نظام دكتاتوري كانت مهمته زرع قيم الذل والخنوع والعبادة الفردية والاستسلام واستلاب أرادة المواطن لتحويله إلى رقم أصم يسهل حسابه بمختلف الاتجاهات دون معنى يذكر!!!. 

ومن هنا تأتي أهمية المسؤولية الأخلاقية والدينية والسياسية الملقاة على عاتق القيادات السياسية والاجتماعية المختلفة وقيادات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في إعادة صياغة وعي المواطن بما ينسجم مع تطلعات وطموحات الناس في بناء مجتمع العدالة والحق والمواطنة الكريمة الذي يستند إلى العقلانية بعيدا عن الانفعالات الجارفة, وضرورة خلق الوعي اللازم لقيمة الانتخابات ومسؤولية الصوت الانتخابي وخطورته في رسم المستقبل.ولعل في الملاحظات الآتية مدخلا مواتيا لذلك :

ـ إعادة صياغة منظومة التربية والتعليم على أسس علمية وعقلانية بعيدا عن تأثيرات التيارات السياسية والدينية المتحاربة والمتجاذبة,لخلق مواطن يتسلح بالوعي المحايد والقدرة على ممارسة النقد البناء للظواهر المختلفة بروح علمية بعيدا عن أشكال التعصب والانفعال في تقبل أو رفض ظاهرة أو رأي ما.

ـ تحديث الخطاب السياسي من حيث المحتوى والأهداف والوسائل,وتحوله من خطاب " حشدي " منفعل إلى خطاب ايجابي يستهدف بناء ثقافة سياسية فردية بناءة وتحويله إلى خطاب سياسي ـ تربوي ذو صبغة واقعية.

ـ ضرورة التثقيف المستمر بالتجربة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للتداول السلمي للسلطة وليست وسيلة للانقضاض عليها واحتكارها ومنع الآخرين من المساهمة فيها.

ـ إشاعة ثقافة الحوار في كل القضايا التي تخص المجتمع السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية,ودفع الناس لإبداء الآراء بخصوصها وتحويل المواطن من مستقبل للمعلومة فقط إلى مواطن مرسل فعال, أي تنشيط قنوات الاتصال بين المواطنين ورموزهم السياسية والاجتماعية لتفعيل مفهوم المشاركة البناءة.

ـ إعادة النظر في المنظومة التشريعية والقانونية التي تحجب و تحد من سقف مشاركة الآخرين في العملية السياسية, وفي مقدمتها قانون الانتخابات وإصدار قانون للأحزاب لضمان مسائلة الأحزاب ورصد آلية عملها,لضمان مزيدا من النزاهة و المشاركة السياسية لبناء نظام سياسي متنوع في العطاء والقدرات الفكرية والعقلية.

ـ العمل التربوي والتثقيفي طويل الأمد لأبعاد ثقافة التشكيك والاتهام وتخليص المواطن من آثار عقلية المؤامرة التي تجعل من المواطن متربصا لأخيه المواطن ومشككا في أفضل عطائه, وتلك هي الحال على مستوى الأحزاب.

ـ محاربة الفساد على نطاق واسع باعتباره وفي احد وجوهه مظهرا من مظاهر الفساد السياسي يسهم في تكريس الأوضاع كما هي, ونظرا لتقاطع صلاته مع السياسة ورموزها فأنه يسهم في تكريس سياسة الصفقات وتجيش الناس حولها لأبعاد شبح المحاسبة والدخول في التفاصيل.

ـ تعزيز ثقافة دولة القانون في سلوك الأفراد والأحزاب والمؤسسات بعيدا عن التمترس الفئوي والطائفي والجغرافي والقبلي الذي يضعف دولة القانون, وتنشيط دور القضاء لتشجيع المواطنين على الاستعانة بالدولة لحل المشكلات المختلفة والمستعصية دون اللجوء إلى القبائل أو الطوائف أو الأحزاب التي تستميل المواطن وتسهل تعبئته بمختلف الاتجاهات باعتباره طرفا ضعيفا يلجا اليها عند الشدة. 

قد تكون الانتخابات البرلمانية القادمة هي بمثابة خطوة الألف ميل على خلفية وعي اجتماعي وشعبي عام في رفض سلطة الفساد والمحاصصة الطائفية والأثنية رغم أن التوقعات الأولية لا تشير الى تحول جذري, ولكن يفترض أن صدمة عقد ونصف من الزمن كافية أن تبلور ملامح وعي بديل صوب صناديق الأقتراع وحصانة كافية لتجنب استمرار الذهاب الى المجهول وللتأسيس للخلاص من الفساد والحروب والارهاب والحفاظ على مستقبل العراق بكل مكوناته الأثنية والعرقية والدينية والثقافية.



120
اليوم الدولي للمرأة وسيكولوجيا التحرش الجنسي 

د.عامر صالح

يحتفل العالم كل عام وفي الثامن من آذار بيوم المرأة العالمي, وهو ليست مناسبة ترفيهية بل هي دعوة عالمية تقودها منظمة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية والأحوال المدنية, وهي دعوة لحماية المرأة من العنف المجتمعي بمحتلف مظاهره, الجسدية والنفسية والأخلاقية. وتحتفل نساء العالم في هذا العام استمرارا لمبادرة الأمم المتحدة قبل عامين تحت أسم " 50 ـ 50 بحلول 2030 خطوة للمساواة بين الجنسين " أو ما يسمى بكوكب مناصفة بين الجنسين, لتركز على المساواة بين الجنسين ورفع الوعي السياسي والاجتماعي في قضايا المرأة وتسليط الضوء على الأوضاع الصعبة التي تواجهها ملايين من النساء حول العالم. 

وبحكم الزخم الهائل الذي تمتعت به قضية المرأة على الصعيدين العالمي والوطني فقد ساعدت على خلق مزاج ايجابي معلن في قضية المساواة بين الجنسين, حتى بات من لا يؤمن بها لا يستطيع التصريح علنا بذلك, بل يبحث عن مبررات في أروقة الخطاب الفكري الديني وغير الديني لأضفاء قدسية من نوع ما على عدم قناعته بجوهر المساواة بين الجنسين في محاولة لتكميم أفواه انصار العدالة الاجتماعية بين الجنسين, وأذا اعترف بذلك تحت تأثيرات الحركات الاجتماعية الفكرية والمدنية المناصرة لقضايا المرأة فأنه يذهب قلقا للبحث عن عدالة خاصة ومشروطة بين الجنسين. 

أن عملية المساواة هي أولا وقبل كل شيء عملية ذهنية ـ عقلية/اجتماعية, تنشأ بفعل عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المستديمة للفرد اتجاه نفسه واتجاه الجنس الآخر, تلعب الأسرة فيها دورا مهما وعلاقات الوالدين بالطفل ذكرا أم أنثى, ومعاملة الإخوة الذكور للأخوات الإناث, والتربية المدرسية وما تبثه من فلسفة تربوية حيث تعرض الفرد لمختلف وجهات النظر الفكرية والعقلية اتجاه الجنس الآخر, فيتبلور لدى الفرد اتجاها محددا نحو نفسه ونحو الجنس الآخر, وكذلك العادات العامة والتقاليد, ثم المؤسسات الاجتماعية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية, والأحزاب والأيدلوجيات المختلفة ومدى نفوذها في الوسط الاجتماعي .   

ويشكل أعلان المساواة بين الجنسين قيمة أخلاقية وإنسانية في التأكيد صراحة على الصعيد العالمي بعدمية الفروق بين الجنسين في المساهمة في الحياة والحقوق العامة. ويشكل هذا الإعلان عودة إلى الفطرة الإنسانية والى مرحلة تاريخية ما قبل اللاتساوي بين الجنسين ونبذ الفروق الجسمية والعقلية والنفسية باعتبارها مصدرا بهيميا لعدم المساواة والتي يبنى عليها شتى مظاهر اضطهاد المرأة.

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية والإقليمية بتنوعها الديني والاثني والقومي, وعلى الرغم مما حققته من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وتدريسية وهندسية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها, فهي لازالت مشروع استلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية وتتعرض إلى مسلسل لا حصر له من الممنوعات من صغرها حتى شيخوختها, إلى جانب ما تتعرض له من مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, وكذلك العنف الرمزي غير المرئي الذي يتجسد عبر الثقافة والتربية والموقف المذل منها يوميا عبر معاملتها كجنس من الدرجة الثانية, وفصلها اجتماعيا عن الرجل سواء في البيت أو المدرسة أو الدائرة ومنعها من الاختلاط والتدخل في تفاصيلها اليومية, انطلاقا من مسلمات لا صحة لها " كناقصة عقل ودين " . 

ولعل من أخطر الظواهر التي تتعرض لها المرأة في بلداننا هي ظاهرة التحرش الجنسي, والتي تعبر عن مزاج عقلي وسلوكي في المجتمع والشارع الذكوري يعكس القناعة السائدة بضعف المرأة وبأمكانية التجاوز على حريتها الشخصية أثناء حركتها وتنقلها وطريقة لباسها, وتصبح حين تواجدها خارج المنزل موضوعا سهلا للأساءة والتجاوز.
ويؤكد " خريطة التحرش " بأن التحرش الجنسي هو أي صيغة من الكلمات غيرمرغوب بها و/أو الأفعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك أو أنه مجرد جسد.
ويمكن للتحرّش الجنسي أن يأخذ أشكالًا مختلفة وقد يتضمن شكلًا واحدًا أو أكثر في وقت واحد:
•   النظر المتفحّص: التحديق أو النظر بشكل غير لائق إلى جسم شخص ما، أجزاء من جسمه و/أو عينيه.

•   التعبيرات الوجهية: عمل أي نوع من التعبيرات الوجهية التي تحمل اقتراحًا ذو نوايا جنسية (مثل اللحس، الغمز، فتح الفم).

•   الندءات (البسبسة): التصفير، الصراخ، الهمس، و أي نوع من الأصوات ذات الإيحاءات الجنسية.

•   التعليقات: إبداء ملاحظات جنسية عن جسد أحدهم، ملابسه أو أو طريقة مشيه/تصرفه/عمله، إلقاء النكات أو الحكايات الجنسية، أو طرح اقتراحات جنسية أو مسيئة.

•   الملاحقة أو التتبع: تتبع شخص ما، سواء بالقرب منه أو من على مسافة، مشيًا أو باستخدام سيارة، بشكل متكرر أو لمرة واحدة، أو الانتظار خارج مكان عمل/منزل/سيارة أحدهم.

•   الدعوة لممارسة الجنس: طلب ممارسة الجنس، وصف الممارسات الجنسية أو التخيلات الجنسية، طلب رقم الهاتف، توجيه دعوات لتناول العشاء أو اقتراحات أخرى قد تحمل طابعًا جنسيًا بشكل ضمني أو علني.

•   الاهتمام غير المرغوب به: التدخل في عمل أو شؤون شخص ما من خلال السعي لاتصال غير مرحب به، الإلحاح فى طلب التعارف والاختلاط، أو طرح مطالب جنسية مقابل أداء أعمال أو غير ذلك من الفوائد والخدمات، وتقديم الهدايا بمصاحبة إيحاءات جنسية، أو الإصرار على المشي مع الشخص أو إيصاله بالسيارة إلى منزله أو عمله على الرغم من رفضه.

•   الصور الجنسية: عرض صور جنسية سواء عبر الإنترنت أو بشكل فعلي.

•   التحرّش عبر الإنترنت: القيام بإرسال التعليقات، الرسائل و/أو الصور والفيديوهات غير المرغوبة أو المسيئة أو غير لائقة عبر الإيميل، الرسائل الفورية، وسائل التواصل الاجتماعي، المنتديات، المدونات أو مواقع الحوار عبر الإنترنت.

•   المكالمات الهاتفية: عمل مكالمات هاتفية أو إرسال رسائل نصية تحمل اقتراحات أو تهديدات جنسية.

•   اللمس: اللمس، التحسس، النغز، الحك، الاقتراب بشكل كبير، الإمساك، الشد وأي نوع من الإشارات الجنسية غير المرغوب بها تجاه شخص ما.

•   التعري: إظهار أجزاء حميمة أمام شخص ما أو الاستمناء أمام أو في وجود شخص ما دون رغبته.

•   التهديد والترهيب: التهديد بأي نوع من أنوع التحرّش الجنسي أو الاعتداء الجنسي بما فيه التهديد بالاغتصاب.

•   التحرش الجنسى الجماعى: تحرش جنسى (شامل الاشكال السالف ذكرها) يرتكبها مجموعة كبيرة من الاشخاص تجاه فرد او عدة افراد.
يعد التحرش الجنسى صورة من صور العنف الجنسى والتى تشمل ايضا:
•   الاعتداء الجنسي: القيام بأفعال جنسية تجاه شخص ما بالإكراه و/أو بالإجبار مثل التقبيل القسري والتعرية.
•   الاغتصاب: استخدام أجزاء الجسم أو غيرها من الأشياء والأدوات لاختراق الفم، أو اختراق الشرج، أو المهبل بالإكراه و/أو الإجبار.
•   الاعتداءات الجماعية: التحرّش أو الاعتداء الجنسي (بما فيه الاغتصاب) الذي ترتكبه مجموعات كبيرة من الناس ضد أشخاص منفردين. 
والتحرش الجنسي خارج اطار الأسباب السيكولوجية المرضية, كالسادية والهستيريا والأدمان على المخدرات التي تستدعي تدخلا خاصا علاجيا للأفراد الذين يرتكبونه, فأن اسباب التحرش الجنسي تكمن في الغالب في الأسباب الآتية:   
1ـ غياب المساحة الحضارية في التفاعلات الاجتماعية بين الجنسين, وهي المساحة الملائمة التي تمكن الفرد من التحرك فيها داخل مجتمعه وكلما قلت هذه المساحة كلما زاد الاحتكاك بين الافراد وزادت معها الميول العدوانية, فالاقتراب بين الاجساد خارج ثقافة أحترام الجنس الآخر يشكل أرضية لدوافع التحرش لمن تتوفر لديهم الاستعداد لممارسته.

2ـ غياب التربية والقيم الاجتماعية والاخلاقية المنطقية التي تغرس في نفوس الاطفال منذ الصغر, هذا الحرمان الاخلاقي تغيب عنه السلوكيات الطبيعية لتحل محلها السلوكيات الشاذة المضطربة, فالافراط في المحرمات نحو الجنس الآخر منذ الصغر يولد حالة من الكبت ينفجر لاحقا في نوبات من العدوان والاعتداء على المرأة, حيث يمارس العدوان على أشده مع الأخت والاقارب ثم على نطاق اوسع في البيئة الخارجية.

3ـ العشوائيات بيئة الفقر والازدحام التي تصدر كافة الآفات الاجتماعية والاخلاقية لكافة قطاعات المجنمع, فهي تشكل الظهير الخلفي للجرائم المنظمة وغير المنظمة, من سرقات واختطاف وقتل وابتزاز وسلوك مافيوي, ويشكل التحرش الجنسي احد مظاهره الصارخه.

4ـ التربية المجتمعية الذكورية الازدواجية الخاطئة التي تنعكس في النظرة السيئة للمرأة والتي يرى فيها الطفل الذكر ان الطفلة الانثى أضعف منه جسديا واقل منه قدرات عقلية, والتركيز في التنشئة على البعد الجنسي باعتباره محرم مطلق لا يجوز الحديث عنه, فيقع الطفل والشاب لاحقا في هوس معرفة كل شيئ عن الجنس الآخر وبأفراط, ونجد هنا المتحرش يحمل في شخصيته كل من الرغبة الجنسية المفرطة والمقترنة بالعدوان اتجاه المرأة, ولا يرى في المرأة سوى كونها مصدرا لأشباع غريزته الجنسية.

وتشير الكثير من الدراسات المسحية والاستطلاعية أن التحرش الجنسي رغم أنه ظاهرة عالمية تختلف اسبابها في البلدان المتخلفة عنه في الدول المتقدمة, إلا أنه متمركز في البلدان المتخلفة بنسب أكبر خطورة وتهديدا للتعايش المجتمعي بين الجنسين, وتتصدر دول عربية واسلامية ودولا اخرى خارج الاقليم قائمة التحرش الجنسي, فيما تنخفض بنسب كبيرة في الدول المتقدمة الى جانب السيطرة عليها قضائيا وحقوقيا.

وإذ تحتفل دول العالم بعيد المرأة العالمي في ظل ظروف إقليمية وعربية وإسلامية تضيق فيها فسحة المساواة ويتعرض فيها فكر المساواة إلى مزيدا من التشكيك والضربات المختلفة, وينتعش فيها الفكر المتطرف الديني والسياسي الذي يرمي المرأة خارج إطار عملية الصراع أو تحيدها أو إجبارها على الوقوف إلى جانبه, وتسفيه دورها اللازم في عمليات التغير واعتبارها تابع لاجدوى من مساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية, فأن الجهود الصادقة والحريصة, الدولية منها والإقليمية والقطرية, يجب أن تتوجه إلى أنقاذ المرأة من سلوكيات الإذلال والحط من قيمتها الشخصية والاجتماعية وفسح كافة فرص المساهمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمساهمة في بناء مجتمعات أفضل لا تخضع لمزاج الفتاوى الشخصية والاجتهاد المبتذل, فمكانة المرأة ليست موضوعا للاجتهاد بل هي موضوع للمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الجنسين وحمايتها من الاعتداء داخل المنزل وخارجه.

121
البعد السيكوسوسيولجي للصوت الأنتخابي العراقي !!! 

د.عامر صالح 


أعلنت مفوضية الانتخابات في الاسبوع الماضي عن تسجيل 88 قائمة و 205 كيانات سياسية و 27 تحالفا انتخابيا للمشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية في 12 أيار المقبل. وقد سبق ذلك الأعلان تحالفات لكيانات سياسية مختلفة ذات طابع اسلاموي في غالبيتها ثم اعقبها انهيارات سريعة لم تدم أيام معدودة, وقبل ذلك كله شهد الاسلام السياسي أنقسامات وانشقاقات مختلفة لبس البعض منها مدعيا ثوب التجديد والمدنية المقرونة بالوعود الكاذبة بعد عقد ونصف من الفشل السياسي المقترن بالخراب الاقتصادي والاجتماعي المتمثل بتدمير البنية التحتية, وكما نفهم ذلك سيكولوجيا فأن التشظي المتعمد هو محاولة لأخفاء العيوب والهروب من الغضب الشعبي العام في محاولة للعودة بوجه آخر يمتص نقمة الشارع العراقي, كما أن السرعة التي انهارت بها بعض التحالفات الاسلاموية يعكس بشكل واضح ان الخلاف ليست برنامجي أبدا بل على اعادة اقتسام النفوذ والسلطة السياسية لما بعد الانتخابات. بل هناك توجه لممارسة تزوير الانتخابات " كما ورد على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي " ولكن عدم جرأته وشجاعته والملتبسة بالمحاصصة تحول دون ذكره للتفاصيل واتخاذ الاجراءات الللازمة لمنع ذلك علنا. ومن هنا تأتي اهمية الدعوة الى اشراف دولي على الانتخابات للحد قدر الممكن من التزوير !!!.

وقد سبب ذلك كله احباطا نفسيا غير قليل للمواطن العراقي مما انعكس في قناعته شبه المطلقة بعدم حصول أي تحسن لاحق في ظروف حياته المعيشية العامة, في ظروف اهدرت فيه السلطة الاسلاموية طوال الفترة المنصرمة ما يقارب 1000 مليار دولار في عمليات الفساد المالي والاداري وخراب مختلف الاوجه لمؤسسات الدولة العراقية, فلا نستغرب أن منظمة الشفافية العالمية تؤكد تصدر العراق والصومال دول الفساد في العالم. وقد أنعكس احباط المواطن العراقي في اتجاهاته النفسية نحو الانتخابات القادمة بين مقاطع لها او الذهاب لتسقيط ورقته الانتخابية أو التصويت وفق قناعات محتلفة لمجمل الكيانات والاحزاب السياسية التي ستخوض الانتخابات وحتى اتجاه نحو انتخاب كيان لا يعرف عنه شيئ. وحيث لا يوجد اليوم في العراق فرصة لحاكم قوي عادل يعيد السيطرة على الامور ويعيد بناء العملية السياسية وأطرها المؤسساتية, من دستور وقانون انتخابات وقانون احزاب ومفوضية انتخابات مهنية نزيهة, فأن خيار المساهمة في الانتخابات يبدو هو الضمانة الآن ولو ألى حين في محاولة لتغير موازين القوى !!!.

في خضم التحالفات السياسية الموجودة الآن والصراع الدائر بين الكتل والتحالفات السياسية تجري الاستعانة بدول الجوار للتدخل للمساعدة في بلورة رأي مسبق والانحياز الى جانب بعض الكتل السياسية وخاصة الاسلاموية منها بشكل خاص, وهو أمر ليست فقط مرفوض ولكن يعبر عن ضحالة الفكر والممارسة الديمقراطية لدى تلك الكتل, قد يشذ عن ذلك عموم التيار المدني بمختلف شرائحه وتوجهاته الفكرية. والديمقراطية تقول ان اصوات الشعب هي التي تقرر خيارات الشعب عبر صناديق الانتخاب وليست الاجندة الخارجية.

أن الاقتراب من صناديق الاقتراع وإيداع ورقة فيها كيفما اتفق ليست نزهة انتخابية عبثية يراد بها الضحك على شعب طال أمد معاناته وحرمانه من ابسط مقومات العيش الكريم, وقد حرم لعقود قبل وبعد سقوط النظام الدكتاتوري من الحرية والتمتع بماله ونفطه وثرواته, وهو الآن يعاني الآمرين من التعسف والظلم والفقر وانعدام الخدمات وتصدع وحدته الوطنية وتمزق نسيجه الاجتماعي والقومي والديني, وكذلك حرمانه من السماح له بحرية اختياراته وقد سلطت على رقابه سيوف الدين المتطرف والخندقة الاثنية والتعصب الممزوجة برائحة الكراهية والعفن من النظام السابق وثقافة الاسلامويين !!!. 

من المعروف أن ارث النظم الفردية والدكتاتورية والاسلاموية كبير جدا ولا يمكن الاستهانة به أو دفع بلائه وإحلال القيم الديمقراطية وثقافة الانتخاب في مكانه دفعة واحدة. وضمن ثقافة الهيمنة السابقة والإقصاء والتهميش والعبادة الفردية والعقلية القبلية والولاء الهش لدولة الحزب الواحد أو الفرد, حيث تحولت هذه المكنونات القيمية إلى خزين في اللاوعي يتحكم في الكثير من سلوكيات الحاضر ويتحول إلى موضوعات استثاره مستديمة, وخاصة بعد عمليات التغير الجذري صوب صناديق الاقتراع لتقرير مستقبل الشعب واتجاهات تطوره, قد لا يعلم بها الناخب نفسه في أحيان كثيرة, وتتحول بفعل ذلك لحظات التصويت إلى حالات من غيبوبة العقل لا تتأثر بأحداث الحاضر وأزمته في البحث عن بدائل تضمن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وتفتح الأبواب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة, بل قد تندفع جماهير غفيرة تحت وطأة تأثير تجيشها بالخطابات الانفعالية القوية التي تسرق عقولها قبل عواطفها فتتركها فريسة للانفعالات, كما اعتادت عليها النظم الدكتاتورية والفردية بثقافتها وأغانيها وأهازيجها الممسوخة التي تعزف على أوتار انفعالاتها لتوقظ فيها نزعات الحماس اللاواعي,حيث تعرقل فيه حكمة العقل ومكانته في الخيار الانتخابي الحر, ويترك فيها الناخب مسلوب الإرادة محتكما إلى الهوى والعاطفة والانطباعات الآنية المخيفة وسلطة المزاج التي تعرقل الخيار العقلاني, وخاصة في ظروف أحزاب تمتلك قدرات هائلة من مال حرام وتطفل مذموم على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية واستخدام للماضي الأليم لرسم صورة الحاضر على خلفيته وإثارة النزعات العقلية الانقسامية من دينية وطائفية وقبلية ومناطقية وحتى سلالية وعائلية تعززها الإغراءات المادية والنفعية ذات الفائدة قصيرة الأجل, وخاصة في مجتمع خرج من آتون دكتاتورية وشوفينية عاتية عبثت في المنظومة القيمية وزرعت في أوصاله الجهل والفقر والمرض والتخلف وعدم المساواة, وهنا نحذر شعبنا من استراتيجيات الشراسة لدى بعض الكيانات الانتخابية في إشاعة الكذب والخداع والوهم والإيهام التي تتدخل بقوة لتصنع رأيا انتخابيا مجافيا للعقل والحكمة مستخدما من العزف على أوتار الماضي الديني والسياسي في ظل مجتمع يعاني من اختلال اقتصادي واجتماعي,فقد تمتلئ أمعاء الناخب بالمال الحرام والهبات ولكنها ستجوع إلى الأبد بعد فرز الأصوات الانتخابية وتتبخر أحلام الناخب البريء وتتجدد دورة الكبت والحرمان والقمع الذاتي !!!!.

ومن الناحية الطبيعية والعقلانية وبعيدا عن دعايات المرشحين ومزاميرهم والتي تفوق أحيانا حتى حجم إمكانياتهم وخبرتهم في إدارة البلاد " رحم الله امرئ عرف قدر نفسه " فان السياقات المنطقية التي تدفع صوب الانتخابات والمشاركة السياسية الفعالة يجب أن تكون أسبابا اقتصادية والتي يكون هدفها تحسين ظروف الوجود والارتقاء بمستوى العيش وطمأنة الحاجات الإنسانية, وأسبابا اجتماعية والهدف منها تحسين أداء الجماعة وانتشالها من براثن الفرقة والتفكك والتعصب بمختلف ألوانه الديني والطائفي والقبلي والمناطقي والاثني. ودوافع أمنية حيث أهميته وضرورته في بعث الطمأنينة لدى المواطن والذي يشكل لبنة لازمة لانطلاق العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية " فالأمن أولا والبقية تأتي ",وكذلك أسباب فكرية قد تدفع الناخب إلى التصويت لتأكيد انحيازه ألمبدأي,وهنا لا نؤكد على ما هو الفكر, ولكن نؤكد على ضرورة الفكر ووجوده,ومن عدم أهلية وجوده استنادا إلى معايير التجارب الإنسانية الغنية, فالانحياز إلى أفكار " الصندوق الأسود المغلق " أثبتت التجارب الماضية إلى فشله باعتباره نموذجا لممارسة القتل الذاتي للوجود وإلحاق المزيد من الدمار والخراب والفساد وفقر الشعب وأهانته وتفرقته, أو على اقل تقدير هو الانحياز إلى مشروع " المراوحة في المكان ".

أن الشعوب والمجتمعات التي خطت خطوات راسخة صوب الديمقراطية تشكلت لديها منظومة عقلية راسخة لا تهزها الدعاية الانتخابية إلا في التفاصيل الثانوية, أي تشكلت لديها استراتيجيات معرفية وعقلية للانتقاء والتصفية والبحث عن البدائل على أسس استقرائية للواقع ورسم الطموحات للنهوض به, وهي استراتيجيات لا تخطئ إلا ما ندر, حيث تقترب من منهجية العقل وطبيعته في حل المشكلات, ابتداء من الإحساس بالمشكلات, وجمع التفاصيل الكافية عنها وعن مسبباتها والياتها, وانتهاء بفرض الفروض عنها وتبيان حجم تأثيرها والعوامل المتداخلة في صنعها,وانتهاء ببرامج وخطط لحلها والتماس الحلول المستقبلية لها, وعلى خلفية ذلك يندفع الناخب لاختيار البدائل الأصلح في السياسة استنادا إلى التجارب السابقة.

ويعزز ذلك كله نشوء منظومة فكرية ـ عقلية تقترب من مستوى الأداء النفسي للفرد غير قابل للمساومة, تقوم على بعض القناعات,لعل أبرزها هو أن الإيمان بالمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة هو مكون أساسي ومقدس ولا يمكن اغتصابه بمختلف الواجهات والممارسات التي ترغب في الإطاحة بالديمقراطية من الداخل أو الخارج, وأدراك المواطن أن تحسين ظروف العيش لا يأتي عبر مقاطعة صناديق الاقتراع والقبول بالأمر الواقع الذي يقرره الآخرين عنه, وتقرر ظاهرة " أنا أقرر " مزاجا نفسيا عاما لدى المجتمعات ذات الديمقراطيات الراسخة, بل أن هذا الاتجاه السلوكي والمعرفي تعززه النظم السياسية والتربوية منذ نعومة الأظافر وفي مظاهر مختلفة ابتداء من طريقة اللبس والشرب والحوار المتكافئ حتى مع الطفل وانتهاء بظاهرة تقرير النخب السياسية, وكذلك دور التنشئة الاجتماعية التربوية والنفسية في نبذ قيم التفرد والدكتاتورية السياسية والسلوكية العامة في مختلف مظاهر الحياة العامة, مما تجعل من المواطن أن يقف متأنيا ومتفحصا لظاهرة السياسة وما تنتج عنها من مظاهر سلوكية, وكذلك نشأة استقطاب واضح على خلفية إدراكية ـ معرفية ولنقل فكرية تجد لها تبريرا جدليا في اعتناق هذا الفكر أو ذاك بعيدا عن حالات الهيجان الانفعالي المدمر, فأنا شيوعي...لماذا, وأنا إسلامي...كيف !!!, وأنا علماني..كيف افهم ذلك, وأنا ملحد...ماهية المبررات, ويجري ذلك على خلفية تلاقح الأفكار بعيدا عن الإقصاء, وعلى خلفية البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المميز لهذه المنظومة العقائدية أو تلك, لا على أساس " أرميها برقبة عالم وأخرج منها سالم دون حسبان للعواقب ".

أن عراق اليوم محتاج أكثر من أي وقت مضى للتحييد الديني والطائفي بشكل خاص في ظل احتراب طوائفه التي تقوم على تكفير بعضها البعض, ونحن نعرف أن أصل الانقسام الطائفي في أسلامنا الحنيف كما في مختلف الأديان هو سياسي من الناحية التاريخية وليس ديني والذي لازال مداره إلى اليوم يرجع إلى مسألتي الخلافة والإمامة وما شابه ذلك, ولئن الإسلام السياسي يشن حربا بسوس على العلمانية وقد تطول أكثر,لأنه يرفض مبدأها في فصل الدين عن الدولة, ومن شأن العلمانية أن تساعد الإسلام وغيره على استرداد أوضاعهما الطبيعية في وجدان الناس وتهذيب مشاعرها وانفعالاتها الدينية. 
أن ألتحالفات القائمة على اساس القناعة ببناء مجنمع مدني هي التي تضمن لنا الدين والمعتقد السياسي في جغرافية العراق المتنوع بدينه وأنتمائته السياسية بعيدا عن الهجرة والتهجير ألقسري وتضمن لنا الحداثة في الديمقراطية والعلمانية وسهولة التفاعل مع منجزات العصر في التقدم العلمي والتكنولوجي, كما تضمن لنا حب المسلم لأخيه المسلم ولأخيه في الإنسانية من الدين الآخر, وتلغي لنا حكم المناطق والمحافظات والشوارع والحارات والأزقة, تضمن لنا عراق فدرالي موحد, وتضمن لمواطنينا صحة موفورة تستند إلى آخر منجزات العلوم الطبية وليست عراق " يتشفى من السرطان ببول السيد وبصاقه " وتضمن قدر معقول من الصحة النفسية في التكيف مع البيئة المحيطة وتقبل الآخر المتنوع, وتضمن لنا مزيدا من تكافؤ الفرص والخدمات التعليمية في مختلف مدن العراق وأريافه ومناطقه النائية.

أن الإتيان ببرلمان منزوع السلاح يتمتع أعضائه بصدق النوايا ومحمي من قبل جماهير الشعب هو السبيل الوحيد لاستقرار العراق وبناء ديمقراطيته التي لا تزال قيد مخاض عسير,أنها مهمة صعبة لا يستوعبها خطاب اللحظة الهش ولا المغريات المؤقتة, أن شعبنا يتطلع إلى سياسيه الأوائل ذوي الحكمة والعزيمة المستديمة والذين ينتظرون الدعم والمساندة من قبل شعبنا أولا لإنفاذ العراق من براثن التخلف والجهل والأمية والتسقيط للأخر ونبذ الطائفية والتوافقية.

العراقي ورغم ضيق فسحة العيش والأمل مطالب اليوم باليقظة والحذر الشديدين من مغريات اللحظة الآنية في الانتخابات وعليه كما عرف عنه بنبذه للظلم والاستهتار بحقوقه أن يتوجه لأنتخاب كيان او حزب او قائمة تضمن له أصلاح النفس والدين والسياسية وتضمن لنا العراق في تنوعه الديني والعرقي والسياسي, عراق منفتح على الجميع في الداخل والخارج !!!.



 

122
الحراك الأجتماعي الإيراني بين المشروعية والآفاق 

د.عامر صالح 

اندلعت الاحتجاجات الشعبية الايرانية في اكثر من عشرة مدن وقد خلفت ورائها لحد الآن اكثر من عشرين قتيل ومئات الجرحى و450 معتقلا سيحالون للمحاكم لأصدار الاحكام بحقهم. مما لاشك فيه ان الاحتقانات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بلغت مدايات واسعة بفعل الازمة الاقتصادية العامة الناتجة من الحصار الخارجي الى جانب السياسات الاقتصادية الداخلية التي يشكل اقتصاد البازار سمة طافحة لها, والذي انعكس بشكل جلي على تدني اشباع المطالب الاساسية اليومية, الى جانب التضييق على الحريات الشخصية والسياسية التي يعاني منها المجتمع الإيراني والناتجة من طبيعة النظام الاثيوقراطي المتشبث بخطاب ديني يضفي على السياسة بعدا دينيا تقهقريا متخلف عنن ظروف الحياة المعاصرة ومتطلباتها المادية والروحية, ورغم ان القياس نسبي هنا, فالكثير من بلدان الاقليم العربي والاسلامي أشد وطأ في ظلمها ورجعيتها واستبدادها واضطهادها من النظام الإيراني, بل هامش الحرية في الشارع الإيراني أوسع بكثير من الكثير من الدول الخليجية, والتي يقف البعض منها محرضا الشارع الإيراني ويدعوه الى الخلاص من نظام الملالي, وهم يفترض ان يوجهوا حرابهم الى صدور انظمتهم قبل توجيها الى النظام الإيراني.

ان الحراك الاجتماعي الشعبي الإيراني يستمد شرعيته من عوامل داخلية موضوعية بحتة تعكس أزمة النظام في مختلف ابعادها, ومطالب الحراك واضحة في تحسين ظروف العيش والنأي عن الصراعات الاقليمية وعدم التدخل في شؤون البلدان الداخلية المجاورة وغيرها, ولكن ليست من المستغرب في خضم الصراع الاقليمي الذي شكلت ايران احد اقطابه, ان تقوم الاطراف الاخرى والسعودية منها بشكل خاص الى جانب بعض من البلدان الخليجية بمحاولات لحرف مسار الاحداث وتوجيهها بما يفضي الى الانتقام ليست من النظام الإيراني بحكم العداء المستديم له, ولكن من الشعب الايراني وعلى شاكلة ما جرى لبلدان " الخريف العربي " حيث عم الخراب في ليبيا وسوريا واليمن وجزئيا في مصر والعراق, وجرى الانتقام من الشعوب وليست الحكام. 

ومن هنا تجري محاولة حرف اهداف ومسار الحركة الاحتجاجية السلمية والمشروعة تمهيدا الى خلق مقدمات لنهج تخريبي يستهدف مؤسسات الدولة وتدمير البنية التحتية الايرانية وخلق الفوضى وبالتالي حرف مسارات الاحداث لخلق بيئة مؤاتية ينتعش فيها الارهاب المدمر كبديل عن الحراك الاجتماعي السلمي.

أن الأمن الاقليمي والهش بطبيعة اقطابه والناتج من الصراعات الطائفية السياسية والاثنية يدخل الآن في مراحله الأشد خطورة من خلال تدخل دول المنطقة في الشأن الإيراني, وان الاجندة الخارجية ذات الصبغة الطائفية السياسية ستصب النار على الزيت لبلوغ الصراع ذروته المدمرة والغير متوقعة. كما ان الموقف الامريكي الداعم شكليا لمطالب الحركة الاحتجاجية الإيرانية يعكس محورية التحالف مع السعودية, وكان من الافضل والاجدر ان تنفذ امريكا ترامب قانون " جاستا " الخاص بالارهاب والذي وضع السعودية وقطر والامارات تحت المسائلة والعقاب الصارم ولتوفير ظروف موضوعية افضل للتغير الشامل في المنطقة, إلا ان صفقة ال 500 مليار دولار التي جنتها امريكا من السعودية والخليج بساعات أعمت بصيرة ترامب ودفعته الى تبني مواقف تغذي الصراع الاقليمي بل وتغذي الارهاب في المنطقة.

ويبقى الحراك الاجتماعي الإيراني مشروعا ومشروطا باهدافه المعلنة لحد الآن وبقواه الداخلية المحركة له وقدراتها الذاتية على خلق حالة من التوازن المطلوب لأحداث التغير الجذري في طبيعة النظام الايراني بما يستجيب للمطالب الشعبية العادلة وبعيدا عن الاجندة الخارجية التي تتربص للحراك الاجتاعي لحرف اهدافه الحقيقية لتنفيذ اهداف الشعب الايراني في الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.

وفي الختام نقول ان في علم الثورة هناك عاملين اساسسين لأحداث التغير السياسي, اولهما موضوعي ازمة اقتصادية وسياسية خانقة لا يستطيع النظام القديم التكيف معها او الاستمرار على طبيعته في الحكم, وهناك عامل ذاتي تجسده القوى الجديدة الناهضة التي تقود التغير ومدى تنظيمها ووعيها وانضباطها وقدراتها الذاتية لقيادة نضالها والاستمرار فيه, والعلاقة المترابطة بين ما هو ذاتي وموضوعي هي التي ستحسم الاحداث والى اي وجهة تسير, ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن !!!.

والتاريخ القريب يحدثنا عن فواجع, فقد جاء النظام الاسلامي الإيراني على خلفية ثورة شعبية ضد نظام الشاه ولم تكن القوى المحركة للثورة اسلامية, بل كان اليسار الاجتماعي قدره غير قليل فيها, وكذلك في العراق وبعد سقوط نظام صدام وبفعل تأخر نضوج العوامل الذاتية وتخلفها عن قيادة التغير فقد اخلت المقاعد الامامية للاسلام السياسي ليتصدر المشهد بديمقراطية عرجاء, وكذلك بلاد " الخريف  العربي " حيث اختفى تأثير القوى ذات المصلحة الحقيقة في التغير عن المشهد السياسي ليحل الخراب والدمار والموت والفتاوى, ويصح هنا مأثور القول لجيفارا " الثورة يخطط لها الأذكياء وينفذها الشجعان ويقطف ثمارها الجبناء " ولكن حكمة التاريخ تقول ان الحكام زائلون مهما بلغوا والشعوب باقية !!!.



 

123
العقلية الذكورية وتعنيف المرأة في مشروع تعديل قانون الاحوال الشخصية
د. عامر صالح 

تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة, ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة, وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة, وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية, وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات, وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة, أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%, كما بلغ عدد الارامل والمطلقات حسب احصائيات 2016 بحدود المليونين, وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان, وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 35%, الى جانب زواج القاصرات حيث تم تسجيل 500 حالة زواج دون 18 سنة, وبعضها لا يتجاوز 11, 12 سنة في بغداد لوحدها من قبل منظمات حقوق الانسان والطفولة في العام الماضي" وهي غير مثبتة لدى الدولة ".

في ظل نظام طائفي ومذهبي محصصاتي تأسس ما بعد عام 2003 لابد ان تكون هناك تداعيات خطيرة وانعكاسات سلبية على مستوى التدخل وصياغة قانون الأحوال الشخصية, كما هي الحال في تداعيات هذا النظام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وثقافيا وتربويا وصحيا وخدميا بصورة عامة, واستنادا الى ذلك جاءت محاولات النظام للعبث في قانون الاحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959 وقد توجت آخر تلك المحاولات بقيام مجلس النواب بتاريخ 31ـ10ـ 2017 بالموافقة من حيث المبدأ في التصويت على مقترح قانون تعديل مشروع قانون الاحوال الشخصية.

وقد اثار ذلك غضبا شعبيا واسعا في اوساط بعض من البرلمانين والمتخصصين بهذا الشأن وكذلك في اوساط منظمات المجتمع المدني والحركات التقدمية النسائية, العراقية منها والعربية والعالمية والمنظمات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان, وقد اعتبر خطوة خطيرة ومحاولة لتفكيك النسيج الاجتماعي والوطني والثقافي, واللجوء الى حكم الطوائف والمذاهب في تقرير شؤون الاحوال الشخصية, من سن زواج " مثلا للطفلة بعمر التسع سنوات وللذكور بعمر 15 سنة " واعطى ضوء اخضر للزواجات المؤقتة, ومنع زواج المسلمات من غير المسلمين, وكذلك اجحافات اخرى في الأرث والشهادة والطلاق واعتناق الدين للمولود الجديد والحرمة من الرضاعة وغيرها من الامور " ممكن للقارئ ان يرجع الى نصوص التعديلات " , وجميعها محاولات تهدف الى اضعاف الدولة والقضاء العراقي في تدخله وحمايته للشؤون الاسرية  والاحوال الشخصية من الانهيارات والابتزازات. 

ومن الناحية البحثية الخالصة والموضوعية لايمكن القول ان قانون الاحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1958 جاء مخالفا للدين الاسلامي وتشريعاته كما يخطئ البعض, بل هو جاء مستفيدا منها بطريقة تضمن السلامة الاجتماعية والوحدة الوطنية وترضي جميع المكونات المذهبية للدين الاسلامي, الى جانب الخصوصيات الاخرى التي منحها القانون للديانات الاخرى كالمسيحية واليهودية, وكل ذلك يخضع للدولة والقضاء, وقد اعتبر القانون في حينها نقلة نوعية في التشريع للأحوال الشخصية وابتعادا عن التمترس الطائفي والمذهبي الذي ساد في العراق حتى نهاية الخمسينيات, وكذلك اعتبر القانون اعلاه انجازا كبيرا في محيطه الاقليمي العربي والاسلامي. وبالتأكيد للقانون عيوبه كأي ظاهرة قانونية يجب ان تخضع لاحقا للتطوير والتغير بما يستجيب للمتطلبات الحياة الاجتماعية المعاصره. ولعل اهم مبادئ القانون هي:

تحريم الزواج الحاصل بالإكراه وعد عقد الزواج الواقع باكراه باطلاً اذا لم يتم الدخول؛ تجريم النهوة العشائرية؛  تحريم الزواج خارج المحكمة واجازة طلب التفريق اذا جري الزواج خارج المحكمة وتم الدخول؛ جواز التفريق لارتكاب أي من الزوجين الخيانة الزوجية؛ جواز التفريق اذا كان عقد الزواج قد تم قبل اكمال أحد الزوجين الثامنة عشرة دون موافقة القاضي؛ اجازة للزوجة بطلب التفريق اذا تزوج الزوج بزوجة ثانية دون اذن من المحكمة؛ عد هجر الزوج لزوجته وعدم مراجعتها مدة سنتين سبباً من أسباب التفريق؛ اعتبار عدم طلب الزوج لزوجته للزفاف خلال سنتين من العقد سبباً من أسباب التفريق؛ اعتبار امتناع الزوج عن تسديد النفقات المتراكمة سبباً في طلب التفريق؛ مساواة البنت بالابن في حجبها ما يحجبه الأبن من ارث أبيها أو أمها؛ تحديد سن الزواج للجنسين ب 18 سنة.

النكسة الأشد مرارة اليوم هو ان مجلس النواب العراقي وبعد مرور على ما يقارب الستين عاما على قانون الاحوال المدنية المرقم 188 لسنة 1959 وفي ظل تغيرات دولية كبيرة على مستوى ضمان حقوق المرأة ومساواتها وحماية الطفولة ورعايتها, يأتي بمشروع تعديل قانون الاحوال الشخصية أقل قيمة اجتماعية وفلسفية وفقهية واخلاقية من القانون الأصل. أنه انتكاس للمرأة العراقية كما عبرت عنه الاوساط المعارضة له واعتبرته دعشنة لحياة المرأة العراقية وتكريس أذلالها, الى جانب ما يلحقه من اضرار نفسية وصحية واجتماعية وتربوية للطفلة العراقية بشكل خاص وللطفولة بصورة عامة.

لقد عكس مشروع تعديل القانون والتصويت المبدئي عليه العقلية الذكورية المنحدرة من ثقافة العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, بأعتبارها المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لاضطهاد المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الاستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يندمج الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض.

وعلى الرغم مما حققته المرأة في مجتمعاتنا من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وهندسية وتعليمية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية أو عضوية برلمان وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها. فهل يعقل " على سبيل المثال " لدولة ترغب في بناء الديمقراطية والتعددية والمساواة, وفي برلمانها 82 عضوا من النساء لا يتبادلن معظمهن التحية بالمصافحة في البرلمان, انطلاقا من مسوغات " شرعية " بعدم الجواز في ملامسة الأيدي, والمشكلة ليست في المصافحة من عدمها, بل المشكلة كيف تؤسس لمزاج المساواة في أعلى هيئات حكومية, وليست لبناء جدار عازل من الريبة والشك بين الجنسين. أن تعليم المرأة ودخولها إلى سوق العمل وتحملها مسؤوليات عليا لا يعني مؤشرا لتحررها, بل يعني في مجتمعاتنا انه إضافة للمرأة لتزيد من قيمتها في المنافسة في الزواج والعمل أو دخلا إضافيا للأسرة يسهل ابتزازه, على الرغم من ضرورة ذلك للارتقاء بها وكخطوة أولى بسيطة على طريق المفهوم الشامل للمساواة بين الجنسين.

وتبدأ المرأة كمشروع للاستلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية, خارج إطار والديها, من أخوانها الذكور الصغار والكبار, حتى إذا بلغت اشتدت دائرة الرقابة عليها من الجميع, ثم يستقبلها زوجها فيعيد إنتاج تربيتها وفق لما يرتئيه مناسبا له, بل حتى أطفالها الذكور يساهمون في " تربيتها " وفرض دائرة من الممنوعات على حركتها وحريتها الشخصية, وتتعرض إلى شتى مظاهر الإساءات كامرأة أو زوجة, من الإذلال وجعلها تشعر بعقدة الذنب, وإساءة معاملتها جسديا بالضرب والتهديد والوعيد, ومنعها من التعاطي بالمال وإيجاد فرص عمل لكسب المال وجعلها معتمدة كليا على مال الرجل أو اغتصاب مالها الخاص والتصرف به, وعزلها اجتماعيا ومنعها من الاتصال بالآخرين إلا بموافقات مسبقة وبشروط محكمة في الصرامة ومراقبة تحركاتها عن كثب, إلى أين تذهب ومع من تلتقي, وجعلها تشعر بالذنب أمام أخوانها أو أولادها وتهديدها من عدم رؤية أولادها وحتى ممارسة الضرب والاهانة لها أمامهم, وممارسة الإكراه والتخويف والتهويل لها وإجبارها على القيام بمختلف التصرفات التي قد تؤذي فيها حتى نفسها.

ورغم تعرض المرأة في مجتمعاتنا إلى مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, إلا أن العنف الرمزي هو أكثر الأشكال ضررا وإيغالا في معاناة المرأة, وهو عنف غير فيزيائي, ويتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والايديويوجيا, وهو كما يصفه بورديو بأنه " شكل لطيف وغير محسوس من العنف ", وهو غير مرئي بالنسبة للضحايا أنفسهم. كما أن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم, ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف, بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل الاجتماعي. فالتربية "الذكورية " ابتداء من البيت والنشأة الأولى وما تتركه من انطباعات سيئة عن الأنثى بأنها مخلوق ثانوي تلقي بضلالها على الكثير من السلوكيات اليومية المذلة للمرأة, والمدرسة وتخلف مناهجها وما تبثه من معلومات حول الفرو قات بين الجنسين واستخدامها بشكل سيئ لتوجيه الطعون ضد المرأة وأهليتها الاجتماعية, الفصل  بين الجنسين في المدرسة وخاصة في مراحله الأولى يؤسس منذ البدء للريبة وسوء الظن بالجنس الآخر, والاستعانة بالتراث السلبي وانتقاء أحداثه بطريقة متحيزة بما يضفي إلى تصور المرأة كائنا شريرا وناقصا ولا يحمل إلا المنعطفات والأحداث السيئة, الأفكار والإيديولوجيات السائدة التي تكرس الشائع واللامنطقي عن المرأة وعدم مقدرتها على تجاوز الواقع, الاستعانة بتفسيرات الكتاب المقدس والسنة النبوية بما يفضي إلى تكريس اللامساواة وتشويه قدرات المرأة وإمكانياتها, كما يرد في " المرأة ناقصة عقل ودين ", وكذلك الفتاوى الدينية المختلفة التي تتدخل في التفاصيل الدقيقة للمرأة ووضعها في غير مكانها المناسب. أن هذا النمط من العنف الثقافي والتربوي الرمزي والخفي يجد له انعكاساته ليست فقط في ممارسات الرجال ضد المرأة, بل الأخطر من ذلك أن المرأة تعتبره قدرا وتتفاعل معه إلى درجة الدفاع الخفي عنه وعن مرتكبيه " أي الضحية تدافع عن الجلاد ", فلا نستغرب ان نجد نساء برلمانيات يتقاتلن للدفاع عن زواج القاصر واذلال شقيقتها المرأة. وهذا الفرق الواسع بين العنف في مجتمعاتنا وبين العالم المتمدن, حيث في الأخير لن يلقى الدعم والإسناد من المنظومة القيمية والفكرية السائد وبالتالي هو مدان على نطاق واسع بما يحد من إعادة توليده, وهو بعكس ما سائد لدينا حيث يلقى التفسير والإسناد والإثابة في أحيان كثيرة.

في تلك البيئة المتخلفة والمختزلة في عقل المشرعن البرلماني يجري التعامل مع قضايا المرأة المصيرية, من حرية واستقلال واكراهها على مسارات للعيش, ولا نستغرب ان الثقافة الذكورية تخترق عقل الكثير من البرلمانيات وتستدمجها في ثقافتها الشخصية, فنجدها تقف الى جانب التصويت على مشروع تعديل قانون الاحوال الشخصية وبشكل خاص مع زواج القاصر وتستميت للدفاع عن اذلال اختها او جارتها وصديقتها بواجهات الدفاع عن مستقبلهن. انه التخلف ينتشر كالنار في الهشيم ويعاد انتاجه بسهولة وخاصة عندما تعالج الازمات الاجتماعية بغير اسبابها الحقيقية.


124
لا لتأصيل سلوك الكراهية بين مكونات المجتمع العراقي


د.عامر صالح
 

في البداية يمكن القول ان الكراهية خطاب ذو طاقة انفعالية سلبية تلغي مكانة العقل وقدرته على التحكم منطقيا في الاحداث التي تجري في البيئة القريبة او البعيدة, وهو خطاب رافض للآخر ويسقط كل السلبيات على المختلف ويدعي لنفسه كل الايجابيات وهو يدافع عن العنف الذي يمارسه ضد الآخر ويرفض كل محاولات الدفاع عن النفس من قبل الآخر. وللتفصيل سأضع التعريف الآتي لخطاب الكراهية من عدة مراجع:   
كل ما يشتمل إساءة أو إهانة أو تحقيراً لشخص أو جماعة من منطلق انتمائه أو انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو بسبب اللون أو اللغة أو الجنس أو الجنسية أو الطبقة الاجتماعية أو الانتماء الإقليمي أو الجغرافي أو المهنة أو المظهر أو الإعاقة هو خطاب كراهية ، وكل ما يشتمل تحريضاً أو قولبة لجماعة في إطار يثير التهكم والسخرية أو تقليلاً من قدر جماعة واتهاماً لها بالنقص والدونية وكذلك كل تبرير للعنف ضد جماعة ما وكل تعبير عن التميز والتفوق على الآخرين لأسبابٍ عرقية أو ما شابهها, وكل ما يشتمل معاداة للمهاجرين أو الأقليات أو تحريضاً على منعهم من الإقامة في مدن أو أقاليم بعينها وكل ما يشتمل اقتباسات وإحالات وإشارات فيها ازدراء أو تقبيح لجماعة عرقيّة أو جغرافيّة أو دينية، وكل تزييف أو تزويرأو تحريف للحقائق وكل استعارة أو تعبير مهين, وكل خطاب يفرّق ولا يجمع، لا يصل بل يقطع، هو خطاب كراهية.                                                                                                                                   

لم تكن الأزمة المستفحلة بين أقليم كردستان والحكومة الاتحادية هي أزمة مكوناتية في المجتمع العراقي كما يراد للاعلام التخريبي والطائفي الشوفيني تصويرها وإعطائها بعدا متأصلا بين المكون الكردي والمكون العربي بشكل خاص وكذلك بين المكونات الاخرى, بل ذهب البعض بعيدا لإضفاء صفة الثبات المطلق على السلوك التقهقري الطائفي والشوفيني واعتباره لصيق في الشخصيتين العربية والكردية, واعطاء انطباع مشوه أنه لا يمكن التعايش بين مكونات المجتمع العراقي, وان الصراع الدائر اليوم بين " مكونات المجتمع العراقي " هو صراع غير قابل للتعديل واعادة الصياغة, أو أنه ثابت كثبات الصفات الجسمية العامة القائمة على اصول الوراثة البيولوجية وقوانينها الاساسية. وقد اسهم الاعلام التضليلي الاصفر والجيوش الالكترونية الفيسبوكية المتحاربة من مختلف الانتماءات السياسية الطائفية والشوفينة برسم صورة قاتمة تهدد القيم الانسانية والديمقراطية في حق الاختلاف بوجهات النظر, وبأستخدام ابشع صور التعبير والحديث والتشنيع والفضح اللااخلاقي وانتهاء في التهديد بالقتل والتصفية الجسدية.

ولتأكيد وجهات النظر تلك يذهب الكثير من المحللين السيكواجتماعيين للأستعانة بالابحاث ذات الصلة بالسلوك والتي أجريت في اطار ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية سابقة وتعميمها على ظروف الحاضر, وكذلك الاستعانة بالابحاث الانثروبولوجيا الاجتماعية التي اجريت في حقب تاريخية ووسط احداث تاريخية كبرى, كالحروب والازمات, واعتبار ما ينتج اليوم من ازمات هو وليد ذاتي وكامن في شخصية المكونات وغير قابل للتعديل مهما اختلفت ظروف الحاضر وما يستجد من ظروف في المستقبل. 

ولعل ابرز ما يستخدم اليوم بين صراع مكونات المجتمع العراقي هو مفاهيم تأصل العنف في الشخصية العراقية دون غيرها, وازدواجيتها الأبدية في التعامل اليومي والسياسي, وفطرية العداوة بين العرب والكرد الغير قابلة للحل إلا عبر اجتثاث الآخر ونفيه والخلاص منه. ونظرا لتعقد الخلاف " العربي ـ الكردي " عبر تاريخ الدولة العراقية ومنذ تأسيسها, وعدم العثور على الحلول الانسانية والناتجة اصلا من غياب البنية السياسية والاقتصادية الحاضنة للمكونات, أصبح من السهل التعميم واللجوء الى الدراسات التي تأصل المشكلة وتبتعد عن الحل. وهو بالتأكيد عجز فكري ومنهجي لفهم السلوك الانساني. السلوك الانساني في معظمه نتاج الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وأن التأصل النسبي فيه هو ناتج من تأصل الظروف التي انتجته تاريخيا وحاضرا.

وكما أن السلوك الفردي قابل للتعديل ويخضع للقياس والتجريب عبر التحكم في الظروف التي انتجته, فأن السلوك المجتمعي والمكوناتي هو الآخر قابل للتحكم فيه واعادة ضبطه وانتاجه أو تغيره عبر التحكم بمجمل الظروف التي تنتج مختلف انماط السلوك. 

وعلى نسق الدراسات السيكولوجية التي تجري لدراسة الوحدات الانسانية المتماثلة بيولوجيا ولكنها تعيش في ظروف متباينة, والتي تؤكد ان حتى التوأم المتطابق والمتماثل عند عزلهما في ظروف مختلفة انتجت لنا سلوكيات وشخصيات متباينة, ولم يجمعها مشترك الا بعض الملامح العامة ذات الطابع الجسمي, وعلى نسق ذلك لو اخذنا توأم كردي أو غير توأم احدهما عاش في المناطق العربية وغير العربية, والآخر بقى في بيئته الأم, فعلى ماذا سنحصل من نتائج لاحقا, وبالمقابل لو فعلنا ذلك مع اطفال عرب وتركناهم يترعرعوا في بيئة كردية مثلا, عن ماذا سنحصل. نتائج ذلك هي التي تدفعنا للتدقيق بعوامل الاختلاف سواء على المستويات الفردية والاجتماعية.

التاريخ الانساني العالمي يحدثنا عن عداوات وكراهية واقتتال وتصفيات جسدية وجرائم ضد الانسانية بين ابناء الدين الواحد كما جرى للمسيحية تاريخيا, او الذي يجري اليوم في بقاع اسلامية بين المسلمين انفسهم, وكراهية اخرى بين الاوربين المتحاربين في الامس في حروب دموية توسعية ونفي لوجود الآخر من العرق والمكون نفسه, فالحروب الاوربية عبر التاريخ لم تخرج عن تلك القاعدة, وفي آخر حربين عالميتين دليل على ذلك, فأسباب الحروب والاقتتال بين المكونات المختلفة وداخل المكون الواحد هي اقتصادية سياسية فكرية تعكس مستوى ادنى من مراحل التطور الانساني, وتتلبس فيها الاديان والاعراق كواجهات لديمومة الحرب واضفاء قدسية على المتحاربين. 

الصراع " العربي ـ الكردي " او المكوناتي اليوم هو امتداد للصراع السياسي الذي ارتبط بنشأ الدولة العراقية وخطابها السياسي والاجتماعي, فهناك حروب وهناك محطات تهدئة, وهناك محاولات لأبرام او انتاج عقد اجتماعي, وهناك فرط للعقود, وجميعها ارتبطت بمديات الصدق وسقفه للتعايش مع الآخر, والكل لم يرتقي الى حل الأزمة حلا جذريا بسبب غياب الخطاب الانساني الجامع لدى المكونات, وبشكل خاص بين " العربي والكردي ", فكلا الخطابين بقى متمترسا في اطار شوفينيته القومية ممثلا باحزابه وقياداته " التاريخية " والذي بقى محصورا في أروقة قبلية وشوفينية تعصبية. 

وقد لعب نسبيا الخطاب الانساني والاشتراكي العالمي والذي تبنته قوى عربية وكردية يسارية واخرى تقدمية اجتماعية دورا كبيرا في خلق مزاج ايجابي تقبلي للآخر استطاع التأثير في خلق اتجاهات قيمية نحو الاعتراف بوجود الآخر المغاير في الانتماء القومي وحقه في تقرير مصيره, ولكنه بقى محصورا ومطاردا جراء هيمنة القرار السياسي والسلطات الشوفينية في المركز وتمركز الثروة والسلاح بيدها, الى جانب بقاء المجتمع الكردي اسير الاستقطاب القومي الشوفيني والقبلي.

اليوم يعاد نفس خطاب الكراهية المؤسس على الطائفية والمذهبية والشوفينية والتعصب, ولكن خطورته تكمن في الجانب المؤسساتي والدستوري, الذي ساعد على انتاجه, والذي ساهمت في صياغته الاطراف المتحاربة اليوم ولنقل " بغداد ـ اربيل ", حيث لم تستقرئ القوى المتحالفة المستقبل وخطورته, بل استقرأت مصالحها الانانية الضيقة في اقتسام السلطة والثروات بعيدا عن النظر الى الوحدة الوطنية التي تجمع تلك المكونات, فكان للطائفية السياسية نصيب في الاستحواذ على سلطة المركز والثروة, كما وجد ممثلي القومية الكردية ضالتهم في الدستور للحصول على مكاسب سريعة ومن هنا لم ينتج الدستور عقدا اجتماعيا يحفظ المكونات وسلامتها الداخلية والخارجية, بل انتج خطابا اجتماعيا محاصصتيا مولدا لأزمات مستديمة تهدد سلامة الدولة والمجتمع. ومن هنا تأتي ضرورة العمل جديا اذا كانت هناك حقا ما تبقى من فرصة سانحة لتفويت الفرصة على اعادة انتاج خطاب الكراهية على نطاق مجتمعي اوسع مما حصل, والمساهمة الفعالة والنزيهة في انتاج خطاب وطني عابر للطائفية والاثنية, ويجب ان يمر من خلال ما يأتي:

ـ الاصلاح الشامل لأعادة بناء العملية السياسية من خلال اعادة صياغة الدستور على أسس واضحة بعيدا عن الازدواجية والغموض فيه.
ـ التأكيد على النظام الفدرالي بشكل واضح لا لبس فيه في اطار وحدة العراق, وضمان حقوق الشعب الكردي الى جانب المكونات الأخرى.
ـ العمل على اعادة صياغة قانون الانتخابات بما يضمن حقوقا متكافئة للجميع للمساهمة في العملية الانتخابية والديمقراطية.
ـ التأكيد على فصل الدين عن الدولة ومنع نظام قائم على اساس الدين او الطائفة او العرق.
ـ الأعمار السريع لكافة المناطق التي تضررت من الارهاب واحتلاله واعادة النازحين والمهجرين ومساعدتهم ماديا ومعنويا لعودتهم للحياة الطبيعية.
ـ مكافحة الارهاب وتجفيف كافة منابعه ومصادر تغذيته المادية والفكرية, والقضاء على المظاهر المسلحة غير الرسمية والمليشيات المسلحة.
ـ تأكيد سياسة العراق الحيادية والابتعاد عن المحاور الاقليمية المتصارعة وتجنب كافة اشكال الدعم الخارجي التي تكبل السيادة الوطنية.

أن الديمقراطية الحقيقية غير المحاصصاتية الطائفية والشوفينية هي التي تنقل العراق الى بر الأمان وتعيد انتاج الخطاب الوطني المتصالح مع الذات ومع الوطن.   

 



125
خطاب الكراهية بين جذوره الفردية واسبابه السوسيوسياسية

د.عامر صالح 

أشتد خطاب الكراهية في السنوات الاخيرة في مجتمعات عدة في العالم, واكثرها وضوحا في العالم العربي والاسلامي بصورة عامة وفي المجتمعات ذات التنوع القومي والاثني والديني وما يتبعه من مذهبي, وبعد ان كنا نتغنى ونفتخر لهذا التنوع الجميل ونعتبره فسيفساء جميل يرفد الثقافة الوطنية والمجتمع بمصادر التنوع والثراء ويعبر عن التسامح في التعايش وقبول الآخر المختلف, أصبح اليوم من الاسباب التي تهدد السلم المجتمعي وينذر بتفكيك المجتمعات وانكفائها دينيا ومذهبيا وأثنيا. وبالتأكيد فأن الاسباب لا تكمن في ذات التنوع, بل في مجمل السياسات والمنعطفات الخطيرة التي تمر بها المجتمعات العربية والاسلامية, والتي ادت في مجملها الى تحويل هذا التنوع الى مجموعات منعزلة تلغي بعضها الآخر عبر التكفير والترهيب والقمع وعدم الاعتراف بالمكونات المجتمعية المختلفة في المجتمع الواحد !!!.


والكراهية كما ترد في احدى تعريفاتها بأنها المشاعر الانسحابية التي يصاحبها اشمئزاز شديد, نفور وعداوة أو عدم تعاطف مع شخص ما أو شيء أو حتى ظاهرة معينة, تعزو عموما إلى رغبة في تجنب, عزل, نقل أو تدمير الشيء المكروه, يمكن أن يبنى على الخوف من غرض معين أو ماضي سلبي نتج عن التعامل مع ذلك الغرض, يمكن للناس أن يشعروا بالنزوع أو المشاعر أو الأفكار التي تستلزم الكره, كعلاقة الكره والحب. أحيانا يستخدم لفظ " الكراهية " عرضا للمبالغة في وصف شيء لا يطيقه شخص ما, مثل شكل معماري معين, حالة طقس, وظيفة معينة وحتى بعض أنواع الطعام. وتستخدم كذلك لفظة الكراهية لوصف إجحاف أو حكم مسبق, تعصب أو إدانة تجاه فئة أو طبقة من الناس وأعضاء هذه الفئة, والكراهية العنصرية والقومية والدينية والمذهبية والسياسية هي من اخطر أشكال هذه الكراهية ومن الممكن أن تسبب في تدمير كل البشر إذا استقرت وتحجرت في عقول الكارهين بدون حل لشفرتها ومسبباتها ووضع برامج شاملة لردعها وحصرها في نطاق محدود !!!.

وإذا كان العنف باعتباره المظهر الصارخ في التعبير عن كراهية الآخر, والذي يقترن باستخدام القوة الفيزيائية, فهو ذلك الآفة الاجتماعية المانعة للوحدة المجتمعية والمحرضة على شيوع القسوة بين الناس ومنع المودة وزرع الأحقاد الفردية والجماعية بين مكونات المجتمع الواحد بكل تنوعانه السياسية والمذهبية والاثنية, وهو لم يكن بشكله هذا يوما ما فطريا ومتأصلا في الطبيعة الإنسانية, بل هو نتاجا معقدا لمنظومة من العوامل الاجتماعية والتربوية والحكومية والإعلامية, والتي تعمل جاهدة في صياغة عقل وحيد الجانب لا يرغب في المعايشة والتكيف مع التنوع الفكري والعقلي والثقافي في البيئة المحيطة, ومن هنا صح قول عالم النفس السلوكي " سكينر " إن العنف يبدأ في الرؤوس قبل استخدام الفؤوس.

وإذا كانت الكراهية في بعض الأحيان مزاجا كامنا غير معبر عنه في العلن بسلوكيات مطابقة له, فأن العنف العيني باعتباره معبرا عن الكراهية بأساليب مختلفة يعتبر لغة التخاطب الأخيرة مع الواقع ومع الآخرين حين يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي في ظل ظروف بيئية غير مواتية للحوار المتبادل يسودها الاحتقان وعدم احترام حرية الرأي والرأي الآخر. والعنف من الناحية النفسية هو صورة من صور القصور الذهني حيال موقف معين, والعنف وجه آخر من أوجه النقص التقني في الأسلوب والإبداع في حل ومواجهة معضلة وقد يصل العنف لمرحلة الانهيار العقلي والجنون " فصام العقل " كما قد يكون وسيلة من وسائل العقوبة والتأديب أو صورة من صور تأنيب الضمير على جرم أو خطيئة مرتكبة ولن يتعدى في كل أحواله القصور الذهني والفكري لدى الإنسان وهو في حالة من حالاته اضطراب في إفرازات الغدد الهرمونية في جسم الفرد وعدم تناسب أو انتظام في التوزيع الهرموني داخل الجسم الذي قد ينتج أحيانا عن سوء في التغذية أو سوء اختيار نوعيتها.

ومن الناحية النشوئية والإنمائية يرى علماء النفس أن الطفل لا يكون قادرا على إتيان أفعال الخير أو الشر إلا بعد أن تشكل الأنا وينمو الوعي بالذات لديه, وطالما لم يكن للأنا عنده معنى ظلت أفعاله محايدة من الناحية الأخلاقية, لا تقبل إصدار أي حكم أخلاقي بشأنها, بحيث يمكن القول أن للطفل طبيعة, ولكنه لا يمتلك مزاجا أخلاقيا. إن الخير والشر هما من  الإمكانيات التي تنطوي عليها طبيعة الطفل, ومع تنامي الوعي بالذات تنتقل من الإمكان إلى الفعل, وتفصح عن نفسها في شكل سمات المزاج الثابتة نسبيا. حينئذ فقط يمكن القول عن الشخص بأنه فاضل أو رزيل, عدواني ومسالم, ويصبح الخير أو الشر وظيفة من وظائف الأنا. ويتوقف تشكل هذه الوظائف ونموها على طبيعة التنشئة الاجتماعية التي خضع لها الطفل, فقد تكون من النوع الذي يساعد على تنامي هذه السمة أو تلك أو من النوع الذي يحول دون ذلك !!!.

وتتأثر عملية التنشئة الاجتماعية بمنظومة من العوامل المتشابكة والمتداخلة, ابتداء من ولادة الطفل ونشأته الأولى في البيت والأسرة متأثرة بعوامل مختلفة كالقسوة وعنف التربية والحرمان الطفولي في إشباع الحاجات المختلفة النفسية منها, كالأمن والأمان والاحترام والاستقلالية, وكذلك الحاجات المادية من تغذية مناسبة وملبس وسكن و الخلو من الإمراض المزمنة وغيرها, ثم الدائرة الثقافية والبيئية ومدى غنائها بعوامل التنشئة الايجابية أو العكس, مرورا بالنظام التربوي والتعليمي باعتباره المصدر لمنظومة القيم والاتجاهات السلوكية المختلفة, ومدى إمكانياته في الاعتراف الفعلي بالشخصية الإنسانية وتنميتها على روح الحوار البناء وتقبل الآراء المغايرة, وكذلك تتأثر عملية التنشئة الاجتماعية بعوامل القهر الاجتماعي العام الذي يتعرض له الأفراد, من اغتصاب للحقوق وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وعدم احترام الأقليات الدينية والعرقية والسياسية والفكرية, وجميعها عوامل مولدة للعنف والعدوان والشر على نطاق واسع وعلى المستوى الفردي والاجتماعي وبمدى خطير يصعب التنبؤ بنتائجه الضارة. ومهما تكن أسباب العنف ودوافعه فهو فعل سلوكي مرفوض حضاريا وأخلاقيا وسلوكيا واجتماعيا, وهو مؤشر خطير للتفكك الاجتماعي وزرع الخوف والقلق في الطرف الآخر الذي يقع عليه فعل العدوان, إلى جانب كونه وسيلة منبوذة لحل المشكلات لأنه يخلق عنفا مضادا فتتسع دائرة العنف كالنار في الهشيم في كل ثنايا ومكونات المجتمع !!!!!.

أما بالنسبة لثقافة العنف والكراهية في مجتمعاتنا العربية والاسلامية اليوم وعلى المستوى الفردي والمجتمعي والسياسي فهو لا يخرج عن الإطار العام الذي تمت الإشارة إليه, ولكن بخصوصية أعمق وتركيز شديد هو نتاج معقد لمنظومة العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتي ألقت بضلالها الكثيف في تشكيل هذا السلوك المعرقل لنهضتها في مختلف المجالات. فإذا استثنينا العمق التاريخي ـ الثقافي في نشأة العنف والعدوان والمتمثل في الصراعات السياسية منذ نشأة الدولة الإسلامية الكبيرة والصراعات التي جرت في أكنافها, وحتى ما قبل ذلك التأريخ, والتي أسست للعنف والعنف المتبادل والتي أدت في مجملها إلى انقسام الأمة الإسلامية والعربية إلى فرق وأحزاب متقاتلة, والتي لا زالت آثارها ماثلة ومؤثرة بشدة اليوم في حاضر الأمة ومشهدها السياسي, وإذا أبعدنا أيضا عن السياق جوهر تأثيرات المجتمعات العربية الأبوية البطريركية وتأسيسها للعنف والتسلط ضد المرأة الزوجة والمرأة الإنسانة والأخت, وإشاعة قيم الذكورة التي تنزل القصاص بقيم الأنوثة وتفرض قيودها وقيمها كيف ومتى ما تشاء, وتفرض قيم الإكراه والقسر والتقيد وعدم المساواة بالعنف والقوة, وهو نقيض قيم المساواة والرحمة, وجميعها تؤسس للعنف وإعادة توليده في رحم الأسرة أولا, ثم لاحقا وعلى أساسه في عقول أفراد المجتمع وقياداته, فأن العنف في العقود الأخيرة نشا مستشريا على خلفية فكرية ودينية وسياسية, وهو ذو أبعاد جمعية خطيرة لرسم صورة المستقبل !!!!.

لقد سيطرت لعقود طويلة حكومات عربية ذات طبيعة اقصائية متمثلة بحكومات الحزب الواحد ذو المسحة القومية الشوفينية والوطنية الزائفة والبعض منها متلبس بلباس الدين, وقد شنت حروبا داخلية ضد كل الأفكار والتنظيمات السياسية المغايرة لتوجهاتها, مستخدمة ذرائع الحفاظ على الوطن والوطنية وانجاز " التنمية " الاقتصادية والاجتماعية تحت قيادتها التاريخية والحكيمة والمخلصة للوطن هي وحدها فقط, مما حصر وكرس مفهوم الوطن والوطنية والبناء الاجتماعي بجهة سياسية واحدة تدعي المقدرة الفريدة في قيادة المجتمع, وقد ترتب على ذلك القيام بحملات العنف والاعتقال والإبادة الجماعية لكل من يخالفها في الآراء والتوجهات السياسية وتخوين المعارضة السياسية والتشكيك بوطنيتها وزجها في غياهب السجون والمعتقلات, مما أسست إلى ظاهرة العنف والعنف المتبادل لحماية النفس من قبل الطرف الآخر الضحية. وقد لعبت لديها الهواجس الأمنية وافتعال الأعداء في الداخل والخارج جل اهتمامها مستنزفة موارد البلاد المالية لزرع الرعب والتنكيل بالشعب لأغراض البقاء في الحكم مهما بلغت تضحيات الشعب, كما استخدمت كافة قدراتها الحكومية من مؤسسات إعلامية ومنظمات سياسية رسمية موالية لها وحتى مؤسساتها الدينية من اجل تعبئة الناس وغسل أدمغتهم لأغراض احتكار السلطة والبقاء فيها وإشاعة الفساد الإداري والأخلاقي والمالي وممارسة الالتفاف والتلفيق والخداع والكذب كآلية للبقاء في الحكم, وخلق منظومة قيمية موالية لمنظومة الحكم, مما أدى هذا إلى خلق حالات من الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع المختلفة, وخاصة بين الشرائح المنتفعة من النظام والشرائح الأخرى المتضررة  منه !!!.

كما يلعب اليوم الخطاب الديني المتطرف بشقيه التكفيري والسياسي دورا خطيرا في زرع الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع, سواء من ذات الدين الواحد عبر إشاعة الفرقة بين طوائفه ومذاهبه المتنوعة, وكذلك بين المجتمع المتعدد الديانات عبر فرض أجندة دينية وسياسية ـ دينية وحيدة الرؤى, مما يحرم الآخرين من حق التمتع بممارسة حقوقهم الدينية وحريتهم في المعتقد, و يخلق بيئة مواتية للعنف والعنف المضاد تراق فيه دماء الملايين من مختلف الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة. وبما أن الكراهية والعنف منبوذ ومدان في كل القيم والأديان السماوية وغير السماوية فأن اللجوء إلى تأويلات متشددة ومتحيزة ومزاجية بل ومصلحيه للنص المقدس وللأحداث التاريخية والافتراضات العبثية لنيات الآخرين المغايرين في الدين أو المذهب واستحضار الجانب المؤلم والمشكل في التاريخ, ويجري هذا متزامنا مع الفتاوى التي تصدر يوميا في الخفاء والعلن من دعاة الدين لأيقاظ وإلهاب روح الكراهية والتحريض والعنف بين الناس وضرب وحدتهم الوطنية في الصميم, وهكذا يتحول العنف من قيمة منبوذة في الدين والسياسة إلى واجب ديني " الهي " وسياسي له الأولوية في عقول المتطرفين على بناء الوطن ونهضته. وقد لعبت آثار ما يسمى " بالربيع العربي " دورا تخريبيا في اشعال نار الفتنة الدينية والمذهبية بين ابناء المجتمع الواحد, وزج هذه المجتمعات في آتون الصراعات الاقليمية ذات الصبغة الطائفية المدمرة !!.

و كذلك نظرية المؤامرة في السلوك اتجاه الآخر هي الأخرى تؤسس للكراهية والتحامل والعنف بين أفراد المجتمع الواحد, وكذلك في النظر إلى العالم الخارجي, دول ومجتمعات وأفراد, وقد نشأ سلوك المؤامرة في داخل المجتمعات الذي تجسده انعدام الثقة بالآخر والشك في نية أفعاله حتى وان كانت  "حسنة " على خلفية انعدام الثقة التاريخي بين النظام السياسي وبين الشعب بصورة عامة, وبين النظام السياسي والأحزاب السياسية خارج النظام, وينشأ نتيجة لذلك فكرا وسلوكا إسقاطيا, أي ما أفكر به أنا هو الصحيح وأتوقعه من الطرف الاخر وبالتالي يجب أن أقوم بضربة استباقية قبل أن يبدأ بها الطرف الاخر, مما يعزز اتجاه الكراهية والعدوان بين المنظومة المجتمعية بمكوناتها المختلفة !!!!.


ويشكل تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأسباب القوية في زرع الكراهية والعنف في البنية المجتمعية, فانتشار الفقر وتدني مستوى الحياة وضعف الخدمات الاجتماعية من صحة وخدمات عامة, وكذلك ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية والحضارية بين مختلف الفئات الاجتماعية وخاصة الفقيرة منها, واستشراء  الفساد بمختلف مظاهره الإدارية والمالية والأخلاقية, وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية واستئثار الحكم وحاشيته بالثروة الوطنية, جميعها عوامل تأسس للكراهية والحقد والعنف بين مكونات المجتمع !!!!.

أن العنف والكراهية الناتجة من الأسباب المجتمعة و المذكورة أعلاه تفضي إلى اضطراب في منهجية التفكير النقدي البناء وقصور في الفكر الجدلي الذي تجسده حالة العجز في الجمع في سياق واحد بين الأوجه الموجبة والأوجه السالبة, والعجز في الجمع بين المميزات والعيوب لمسألة ما سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية وسيطرة المستوى السطحي من التفكير الذي يشكل قناعا يخفي الحقيقة, وإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل, وطغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية والعودة إلى المستوى الخرافي, والى الحلول السحرية والغيبية, والى الإرهاب باعتباره واجبا " مقدسا " أو حلا قسريا للأزمة النفسية والسياسية.

ومن هنا تأتي أهمية العمل على أكثر من صعيد وعلى أكثر من جبهة للحد من العنف وسلوك الكراهية, وخاصة في ظروف التغير العاصف الذي يمر به اليوم العالم العربي ولكي لا نخسر ما تبقى لنا, فهناك جبهة بناء المؤسسات الديمقراطية, وجبهة إعادة البناء الاقتصادي والتأسيس الحديث للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وهناك جبهة الإعلام والتركيز على ما هو مشترك وايجابي بين الأديان وشعوب المنطقة, وكذلك الجبهة التربوية والتعليمية وإعادة بناء نظم التعليم على أسس الحداثة ومعطيات العلم والتقدم التقني, وهناك أيضا إعادة صياغة لعلاقة الدين بالدولة بما يؤمن احترام الدين وعدم استخدامه في السياسية وكذلك إعلان القطيعة مع كل موروث مسبب للفتنة ويسئ للمبادئ العامة للدين ووظيفته الفطرية.





126
استفتاء كردستان .. نعم مع حق الشعب الكردي في تقرير مصيره ولكن !!!


د.عامر صالح

من المسلمات البديهية لدى شرائح اجتماعية وسياسية وثقافية وقانونية وقضائية واسعة في اوساط الشعب العراقي الى جانب احزاب وقوى تقدمية, أن حق تقرير المصير للشعب الكردي بصورة عامة هو حق لا جدال فيه انطلاقا من المواثيق الدولية والفلسفات الانسانية الداعية الى احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها وحتى إقامة كياناتها المستقلة استنادا الى خصوصيتها العرقية والاثنية وحتى الدينية, وخاصة عندما تتعرض الى الانتهاك او الابادة الجماعية او الاحتلال, وعدم السماح بانفراد مكون وتسلطه على مكون آخر, وعلى خلفية ذلك قدمت الكثير من الاحزاب التقدمية والوطنية العراقية  الكثير من التضحيات الجسام, سواء في الارواح أو تحمل شتى صنوف القهر والتعذيب والمضايقات والهجرة والتهجير وفقدان المستقبل, راح ضحية هذا النضال خيرة من سياسي ومثقفي وعامة من المناضلين والذين آمنوا حقا بحق الشعب الكردي بتقرير مصيره وادارة نفسه بنفسه, كان هذا في ظل عراق قبل 2003 والذي ساد فيه القمع والارهاب السياسي والتمترس الشوفيني وعدم الانصياع لحكمة العقل في أن العراق ليست مكون واحد ولا يمثله حزب واحد ولا دين أو مذهب واحد !!!. 

قبل عام 2003 لم يعيش العراق صراعا أثنيا أو دينيا أو مذهبيا بين مكوناته, بل ان الصراع كان سياسيا اجتماعيا له قوانينه الموضوعية مع نظام دكتاتوري قمعي لا يؤمن بالديمقراطية السياسية وقد اعتمد القمع والتهميش والشوفينية وسيلة لبقائه, وساهم النظام من خلال اضطهاده للمكونات المعارضة العربية والكردية وغيرها في تكريس حسا انكفائيا متزايدا بين شرائح واسعة في المكونات المختلفة بسبب تمادي القمع والاضطهاد وما رافقها من غياب للأمل في التغير.

بعد سقوط النظام السابق على يد المحتل الامريكي للعراق قام الاحتلال عبر طريقة الحكم بتكريس حالة الانكفاء المذهبي والديني والاثني من خلال نظام المحاصصة الطائفي والاثني مستخدما الولاءات للجماعات الفرعية, باعتبارها ردود افعال لسياسات النظام السابق,  وتحويلها الى نهج شامل بنيت عليه سياسة الدولة والمجتمع, مما اضعف من الديناميات الايجابية لعملية الصراع السياسي والاجتماعي في فرز القوى الحقيقية ذات المصلحة في التغير, وادخل المجتمع العراقي في طاحونة وتنازع كامل بين مكوناته وهوياته الفرعية وعزز من خطاب الكراهية بفعل غياب الخطاب الوطني الجامع والعابر للمكونات !!!. 

ومما زاد الطين بله ان معظم القوى السياسية التي أتت واستلمت الحكم بعد السقوط لم تحمل في غالبيتها مشروعا وطنيا عابرا للهويات الفرعية وخاصة الطائفية منها والاثنية, ان لم نقل انها لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة, وما صناديق الاقتراع بالنسبة لها الا وسيلة فرضها الاحتلال فرضا, وخاصة القوى الاسلاموية التي رأت في ذلك فرصتها الوحيدة والسانحة لاستغلال ظروف اليأس والاضطهاد السابق واضفاء الصبغة الدينية والمذهبية على الصراع الاجتماعي ولعرقلة الحراك الطبقي في المجتمع العراقي. وحتى القوى والاحزاب الكردية, وخاصة الرئيسية منها فلم يكن هاجسها الرئيسي بناء الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية ودولة المواطنة, بقدر ما تعلق الامر في انتزاع الحقوق القومية الخالصة بطريقتها الخاصة, بعيدا عن الصراع الاجتماعي السياسي العام الذي يؤطر المجتمع العراقي كله, بل ان هذه القوى اختلفت فيما بينها حد التناحر والصدامات المسلحة الدموية عندما سنحت الفرصة والظروف الدولية بعد عام 1991 باستقلال اقليم كردستان !!!.

لقد ساهمت القوى السياسية الرئيسية الشيعية والكردية ثم السنية في تأسيس النظام المحصصاتي القائم وصاغت اركانه الاساسية وفي مقدمتها الدستور وكرسوا كل امكانيات التعبئة الحشدية للتصويت عليه واقراره " وخاصة القوى الشيعية والكردية ", ثم استمرت رحلة توزيع المناصب السيادية والوزارية ومختلف المناصب العليا في الدولة على أسس من المحصصات الطائفية والاثنية, والتي بدأت ادارة مجلس الحكم الانتقالي بالتأسيس لها, حتى باتت تقليدا ثابتا خارج الدستور: رئيس الجمهورية كردي, رئيس الوزراء شيعي, ورئيس البرلمان سني, ويتبع ذلك توزيع الوزارات والمرافق الحيوية واللجان الاختصاصية المختلفة داخل البرلمان وخارجه وصولا الى مفوضية الانتخابات ومنظمات حقوق الانسان وغيرها. 

وعلى هذا الاساس فأن اطراف المحاصصة الشيعية والكردية والسنية تتشبث ببقاء نهج السلطة وتقسيم غنائمها, وان كل ما يصدر من قرارات وقوانين وتشريعات عامة لا تخلو من نكهة الصفقات الطائفية السياسية والاثنية, واذا كانت الطائفية السياسية اشد وضوحا في التعبير عن نفسها, فأن التحالف الكردي لا يتوانى عن تكريسها, وقد ابتلى العراق جراء ذلك ومن اقصى جنوبه الى اقصى كردستانه بفساد ادراي ومالي ونهب للمال العام, تصدر العراق فيه دول العالم. وأن الطرف الكردي الذي  اعتبر في حينها المصادقة على الدستور انتصارا كبيرا للشعب الكردي, وخاصة بما يتعلق بالمادة 140 الخاصة بكركوك والمناطق المتنازع عليها ومواد اخرى ذات الصلة بصلاحيات الاقليم وعلاقته بالحكومة الاتحادية وتوزيع الثروات واعتبروه بديلا عن حلم الدولة الكردية, يتهم حكومة المركز بأنها طائفية وكأن طائفيتها وليدة الخلاف حول الاستفتاء, والجميع يعرف ان النظام السياسي في العراق طائفيا واثنيا محاصصاتيا منذ نشأته الاولى !!!.

واليوم ورغم تذمر التحالف الكردي من حلفائه في الحكم فهو لم ينطق بضرورة تغير او تعديل او اعادة بناء الدستور على أسس سليمة وتصحيح مسارات العملية السياسية " وهم قادرين على ذلك دستوريا ", وهي مطالب مشروعة للشعبين العربي والكردي والشعب العراقي بصورة عامة, طالب بها الحراك الاجتماعي المدني والعديد من الاحزاب والقوى الديمقراطية, فلم يتخلف التحالف الكردي أسوة باحزاب الاسلام السياسي على التصويت على قانون سانت ليغو الانتخابي " 1.9 و 1.7 " الذي يصادر اصوات الناخبين من الكتل السياسية والاحزاب الصغيرة, واذا كان الامر لايعني التحالف الكردي في مناطق وسط وجنوب العراق, فهناك في كردستان ما يقارب 16 حزبا, ولكن الكبيرة والمتنفذة منها هو حزبيين رئيسين فقط " الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني ". 

وتأتي الدعوة اليوم الى اجراء استفتاء كردستان والمزمع تنفيذه في 25 أيلول الجاري, والداعي الى تبيان رأي الكرد في مسألة الانفصال عن العراق من عدمه, ومن الناحية المبدئية فأن الحق لأي شعب ديمقراطيا أن يجري الاستفتاء, فهو أداة لأستقراء المزاج العام لشعب ما في مختلف القضايا المفصلية بما فيها الانفصال وتقرير المصير بغض النظر عن استخدام نتائج الاستفتاء في الممارسة العملية, ولكن خصوصية الاستفتاء الكردي ناتجة من انهم طرف اساسي في العملية السياسية ومساهم في بنائها وانتكاساتها, الى جانب اشكاليات اجراء الاستفتاء في ظل بيئة سياسية كردية تعاني الكثير من عدم الاستقرار والوضوح. ومن هنا لابد من خطوات مفصلية تسبق اجراء الاستفتاء ولعل ابرزها: 

ـ انتخاب رئيس جديد للأقليم بديل عن الرئيس الحالي المنتهية صلاحيته منذ سنتين.

ـ اجراء انتخابات برلمانية ديمقراطية في الاقليم واعادة تفعيل البرلمان الحالي والمغلق منذ فترة طويلة, وان يصدر قرارا من البرلمان بأجراء الاستفتاء.

ـ بدء المفاوضات والحوارات البناءة مع الحكومة الاتحادية والتي يشكل الكرد جزء منها, مع العلم هناك صعوبات جدية في الموقف من حق الشعوب في تقرير مصيرها لدى قوى كثيرة في الحكومة ومنها الشوفينية والطائفية, فلا يوجد في قاموسها شيء اسمه حق الشعوب في تقرير مصيرها بما فيه حق الانفصال.

ـ الالتفاف والتضامن والوقوف الكامل مع عملية الحراك الاجتماعي المدني والاحتجاجي التي ينهض بها ابناء ومناضلين الوسط والجنوب, وهذه الحركة اكثر تفهما مزاجيا وفكريا وسياسيا لمفاهيم الحق والعدالة وتقرير المصير ومحاربة الفساد.

ـ ان تكون القوى الكردية اليوم اكثر التصاقا من اي وقت مضى مع القوى الداعية الى بناء العملية السياسية من جديد على أسس اكثر ديمقراطية وليست محصصاتية. 

ـ القضاء الكامل على الارهاب وعلى داعش بوجه خاص والذي لازال يتحرك اخطبوطيا ويهدد أمن البلاد ويبحث عن متنفس له في بقع اخرى في العراق بما فيها كردستان, واعتقد ان الامن شرط لازم لبناء اي عملية دديمقراطية او القدوم على تنفيذ طموح ما, مثل الاستقلال وتقرير المصير وغيرها.

ـ ان تكون القناعة من وراء الاستفتاء قناعة خالصة بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره, وليست اداة للابتزاز وادارة الصراع مع سلطة المركز وما يخفي من وراءه صراع على الموارد المالية والطبيعية واقتسام مناطق النفوذ بعيدا عن حقوق الشعب الكردي المشروعة في الاستقلال والعيش الكريم والرفاهية وبعيدا عن الفساد الاداري والمالي الذي يعاني منه الاقليم الآن.

ـ الاستعانة بالمنظمات الدولية وخاصة الامم المتحدة لأجراء الاستفتاء لكي تكون نتائجه مصادقة عليها وملزمة للجميع, والابتعاد عن سياسات الاكراه والضغط والتهديد للمكونات الاخرى داخل المناطق المتنازع عليها, وتجنب سياسات فرض الامر الواقع عبر ضربات واجراءات استباقية, وهنا يمكن الاستعانة بالمنظمات الدولية والمدنية المستقلة لتقرير مصير المناطق المتنازع عليها.

اعتقد في الختام ان تعزيز الحياة الديمقراطية في العراق كله والابتعاد عن نهج المحاصصة, وفي كردستان بوجه خاص هنا في قضية الاستفتاء وتقرير المصير, هو الكفيل بتحقيق المطالب العادلة والمشروعة للشعب العراقي كله والشعب الكردي. واذا اراد الاكراد نهاية حقيقية لسايكس بيكو ورسم ملامح تطلعاتهم الحقيقة في الاستقلال فأن الديمقراطية هي الباب الاوسع لتنفيذ الطموحات, وإلا سيفشلوا كما فشل الطموح لتحقيق الوحدة العربية على ايدي اعداء الديمقراطية والقوى القومية العربية الشوفينية !!!.

127
تدهور نتائج امتحانات البكالوريا في العراق للعام 2017 من منظور الازمة العامة للتربية والتعليم 

د.عامر صالح 

أثار تدني نتائج الامتحانات العامة البكالوريا للصفوف السادسة الاعدادي الكثير من التساؤول والامتعاض لدى الشارع العراقي وكذلك لدى الاوساط الرسمية التربوية والسياسية, وقد بلغت نسبة النجاح في الدور الاول 28.4% وهي نسبة خطيرة في تدنيها او هي كارثة حقيقية في تاريخ التعليم في العراق. وعقب ذلك اعلنت لجنة التربية في مجلس النواب عن استضافة مدير المراكز الامتحانية في الايام المقبلة بسبب تدني نسب النجاح لصفوف السادس الاعدادي بكل فروعه، فيما اشارت الى ان كل الظروف والمعوقات لن تكون سببا في هذا الهبوط التربوي. وقد صوت البرلمان العراقي لاحقا وفي يوم السبت والمصادف 19ـ8ـ2017 على قرار يمنح طلبة السادس الاعدادي فرصة تحسين المعدل !!!.

لا يمكن الحديث عن التعليم الاعدادي ونتائجه المنخفضة جدا بمعزل عن خلفية التعليم في المراحل التي سبقته, فالتعليم بمراحله المختلفة هو حلقة وصل وتأثير متبادل لما قبلها وبعدها, وبالتالي فأن طالب السادس اعدادي هو من مخرجات مرحلة المتوسطة والابتدائية, وان النظر الى مشكلة انخفاض التحصيل الدراسي وتدني النتائج النهائية بمعزل عن ذلك هو شكل من اشكال العبث والهروب من الاسباب الحقيقية التي ادت الى ذلك, لأن ازمة التربية والتعليم في العراق بكل مراحله هي ازمة متصلة, وان تدني التحصيل في التعليم الاعدادي هو انعكاس لتدنيه في المراحل التي سبقته ومؤشر لضعف الكفاءة الداخلية للنظام التربوي والتعليمي !!!. 

في دراسة تتبعية لأفواج الطلبة المسجلين في الصف الاول الابتدائي عام 2005 في العراق بلغ مليون تلميذ, اما الذين وصل منهم الى السادس الاعدادي وشاركوا في امتحانات عام 2017 بلغ عددهم 300 ألف طالب فقط, وهذا يعني ان العراق أهدربين متسرب من التعليم وراسب 700 ألف طالب, أي نسبة 70%, وحسب احصائيات وزارة التربية أن الطلبة الذين شاركوا بالامتحانات الوزارية ( البكالوريا )  عام 2017 لم ينجح منهم سوى 28.4% وهذا يعني أن فقط 84 ألف طالب قد تجاوزا السادس الاعدادي من مجموع المليون تلميذ الذين تم تسجيلهم في المدارس عام 2005 , وهذا يعني أن 916 ألف طالب وطالبة لم يتجاوزا السادس الاعدادي بفعل عوامل التسرب النهائي وترك الدراسة أو الرسوب لسنة أو اكثر في المرحلة الدراسية !!!.

هذه الانسيابية الضحلة بين مراحل التعليم العام المختلفة تشكل احد عوامل الاهدار البشري والمادي في التعليم حيث تكون مخرجات المراحل ضعيفة جدا يقابلها انفاق على التعليم بلغ في السنوات الاخيرة اكثر من 24 مليار دولار, ومن حق المرء ان يتسائل أين هي العوائد والفوائد من هذا الاستثمار المالي في هذا القطاع وأين هي مخرجاته الكمية والنوعية, وحتى من تواصل الى السادس الاعدادي فهذه هي نتيجته, فالمشكلة أكبر من تنحصر في نتائج أداء طلبة الصف السادس الاعدادي ونسبتهم الفقيرة.

لقد وقع نظام التربية والتعليم بعد 2003 أسوة بغيره من القطاعات الاجتماعية أسير للمحاصصة الطائفية والاثنية مما أخل بمهمة هذا القطاع الحيوي في التربية والاعداد وتركه فريسة للأجتهاد والفوضى وغياب فلسفة تربوية واضحة للنظام التربوي والتعليمي, الى جانب غياب فوضى في صياغة الاهداف التربوية للمراحل الدراسية المختلفة, والى جانب مالحق بالنظام التربوي والتعليمي جراء الاحتلال من تدمير وخراب شامل في مؤسساته التحتية من أبنية ومعدات ومختبرات ولوازم مدرسية وكادر تعليمي.

اليوم يعاني هذا القطاع من ازمة خانقة تتجسد في ابرز ملامحها: انعدام الابنية اللازمة والمهيئة تربويا للتعليم, ضعف الوسائل التعليمية من مختبرات ووسائل ايضاح واجهزة الكترونية مخصصة للعملية التعليمية, ضعف الكادر التدريسي وانعدام الحوافز التعليمية وعدم توفر الفرص الكافية لأعادة التأهيل وتجديد الخبرات, ضيق الفصول الدراسية بالدارسين من مختلف المراحل مما يثقل كاهل الطالب والمدرس في التركيز والاستفادة القصوى من الحصة الدراسية, التنقلات بين المدرسين وانعكاساتها على العملية التربوية, انتشار الدروس الخصوصية في مختلف المواد مما يرهق الطالب ماديا ويضعف عطاء المدرس في حصته المدرسية, عدم تغطية المدرسين لمفردات المنهج خلال العام الدراسي, غياب عنصر التشويق في المنهج الدراسي, ضعف صلة المنهج بحاجات الطلبة الحياتية, وضعف التنسيق بين المدرسة والمجتمع المحلي, انعدام الامن المجتمعي حيث الارهاب والقتل اليومي والاختطافات تعرقل حركة الدارس من والى المؤسسة الدراسية وغيرها من العوامل ذات الصلة المباشرة بالعملية التربوية.

وهناك عوامل اخرى خاصة بالطالب نفسه وبيئته المحيطة منها ما هو اقتصادي, حيث الطالب اليوم هو معيل في الكثير من الحالات لأسرته بسبب الفقر والعوز, او عدم تمكن الاسرة من الاستجابة لمتطلبات دراسة أبنائها مما يضطر الطالب على العزوف الكلي من الدراسة أو التأجيل, الخوف من الفشل وقلق الامتحان, عدم كفاية الوقت لبعض الطلبة, وصعوبة بعض الاسئلة الامتحانية, المناخ الامتحاني العام وما يسود في القاعات الامتحانية من اجراءات مشددة, انقطاع التيار الكهربائي في الساعات الامتحانية والدراسية العادية وخاصة في اجواء الحر الشديد, وكذلك المستقبل الغامض للطالب بعد انهاء المرحلة الدراسية حيث عدم الحصول على كلية او فرع للدراسة, وانعدام الجدوى من الدراسة في مجتمع كالعراق تزداد فيه بطالة الخريجين.

هذه بعض من العوامل التي تتحكم بالتحصيل الدراسي ونسب النجاح, ومن هنا يجب البحث موضوعيا في تدني مستويات النجاح التي وصلت الى حد يخجل منه تاريخ التربية والتعليم في العراق, بعد ان كان العراق يفتخر عالميا بمستويات انجازه التربوي والتعليمي, وكان يصدر الى الدول العربية خيرة كوادره لبناء انظمة التعليم هناك وسد الشواغر التدريسية !!!.

.


128
" دولة المؤمن الفاسد والمنافق " وفرار محافظ البصرة مجرد غيض من فيض !!!

د.عامر صالح  

اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي قبل ايام وبعض القنوات الفضائية بنقل اخبار حادث فرار محافظ البصرة المدعو ماجد النصراوي الى ايران, والمنتمي الى الاسلام السياسي ـ تنظيم المجلس الاسلامي الاعلى, على خلفية تهم وجهت له بالفساد المالي والاداري. وقد تصدر العراق دول العالم في الفساد المالي والاداري, وصلت التقديرات المالية للفساد والاهدار المالي فيه الى ما يقارب الألف مليار دولار, يقابل ذلك دمار هائل في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويشكل نظام المحاصصة السياسي الطائفي والاثني الحاضنة والمتلازمة الرئيسية لهذا الفساد بكل ابعاده. ولم يستغرب العراقيون من فساد ماجد النصراوي بل من سيناريو هزيمته وغيره كذلك من الفاسدين, وعجز الدولة الكامل عن وضع حد لذلك ومحاسبة الفاسدين في الوقت المناسب قبل الافلات من وجه العدالة !!!.

استشرى النفاق وازدواجية الأخلاق في ظل نظام المحاصصة الطائفية السياسية في التعامل اليومي في المجتمع العراقي وشكل بدوره عائقا كبيرا يهدد صفاء العلاقات الاجتماعية وحسن المعاملة والصدق مع الناس, كما ينخر بجسد المجتمع أفرادا ومؤسسات ودوائر ومنظمات حكومية ومنظمات شعبية ليلقي بظلاله السيئ على كل المنظومة القيمية مهددا مجتمعاتنا بمزيد من التدهور الأخلاقي والاجتماعي, حيث يضيق هامش الممارسة الصادقة الذي يبعث على الأمل في المستقبل, ويشد الناس إلى الإخاء والمودة ودماثة الخلق وحسن المعاشرة, ويرسخ منطق العدالة الاجتماعية في التعامل اليومي.

وإذ نشير هنا إلى مفهوم "المؤمن الفاسد" فلا نعني به حصرا فقط على المؤمن الذي يعتنق إحدى الديانات السماوية أو غير السماوية ويبتعد عنها في الممارسة العملية, بل تشمل أيضا كل ما يعتنقه الفرد من أفكار ومعتقدات وإيديولوجيات سياسية ذات طبيعة أخلاقية واجتماعية واقتصادية ايجابية إلى حد ما استنادا إلى معاييرها المعلنة في الخطاب النظري, ولكنه في الممارسة العملية والحياتية يتصرف ويصوغ سلوكياته الفردية وحتى السياسية بالضد من هذا الخطاب, فيتحول هذا الفرد إلى " مؤمن فاسد " يعث في الأرض فسادا وظلما وجورا, متسلحا بتفسيرات ذاتية ومصلحيه للخطاب المعلن لإشباع رغباته الشخصية بما فيها القتل وفساد الأخلاق وحرمان الآخرين من حقوقهم, مستندا إلى سلطة ما " دينية, أو سياسية, أو اجتماعية أو مالية وغيرها " كغطاء تسمح له بذلك, ولذلك فأن المؤمن الفاسد ليست فقط من خرج عن دينه, وان كان الخروج عن الدين هو الفساد الأعظم كما هو شائع شعبيا, وبهذا قد يكون المؤمن الفاسد هو من المتدينين بلباس الدين وطوائفه, أو من دعاة القومية أو الوطنية وغيرها من الانتماءات !!!!.

النفاق في اللغة هو ضرب من ضروب الكذب والخداع والمكر والغش والرياء, وفيه يظهر المرء خلاف ما يبطن, أي إظهار المرء خلافا لما هو عليه في داخله, فهو يكتم أو يخفي شيئا ويظهر شيئا آخر, فينطوي موقفه على شيء من النفاق, والعمل ألنفاقي المتسم بالنفاق والدال عليه حين يقف المرء موقف نفاقي, فالمنافق يظهر خلافا لما يضمر أو خلافا لما هو عليه في واقع الحال, ويجب الحذر من المنافق وعدم تصديقه, والمنافق في الدين هو من يخفي الكفر ويظهر الإيمان ويتظاهر بالتقوى والورع والتدين, ولعل غزارة النصوص القرآنية حول النفاق والمنافقين ما يشير إلى خطورة هذه الظاهرة , فعلى سبيل المثال لا الحصر, وفي (سورة المنافقين: 4): ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإذا يقولوا نسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ), وكما قال النبي محمد : ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد اخلف, وإذا اؤتمن خان), ولم يخلو دينا سماويا أو غير سماوي من إدانة للنفاق وممارسيه باعتباره سلوكا منبوذ اجتماعيا وأخلاقيا رفضته البشرية عبر مسيرتها الطويلة بعد إن ودع الفرد الغابة ودخل المجتمع الإنساني, والمنافق في الدين يظهر خلافا لما يبطن, كالسياسي المنافق, أو الشخص المرائي والمخادع والكاذب والذي يتظاهر على خلاف ما في باطنه.

ولعل ابرز ملامح الشخصية المنافقة هو: القدرة على المراوغة والتحايل والتقلب في المواقف, التشبث في الخطاب الديني أو السياسي أو الاجتماعي لإسناد تصرفاته المختلفة, الكذب المتواصل في الحديث وفي العلاقات الاجتماعية, خيانة الأمانة, الإخلاف في المواعيد, التحكم في الانفعالات وإظهار نقيضها بما يبعد عنه تهمة النفاق, يحاول المنافق الاهتمام بالمظهر الخارجي كجزء من سيكولوجيا الظهور لاختراق الوسط الاجتماعي الذي يتواجد فيه مقرونا بحلاوة اللسان وإجادة لغة الجسد كتعبيرات الوجه وحركات اليدين وغيرها من الصفات والصفات المضادة ذات الطابع التمويهي . وهناك الكثير من الإدانة للمنافق في الموروث الثقافي الشعبي  وتأكيد خطورته, فعلى مستوى الإدانة, عندما تسأل شخصا, ما هو الفرق بين الكلب والمنافق فأن الجواب يكون : أن ذيل الكلب في أعلى " مؤخرته ", وذيل المنافق في أعلى مقدمته "لسانه ", أما على مستوى خطورة المنافق فيقال : أن أفعى لسعت " منافقا " فتسممت...وماتت !!!!!.

أما النفاق في علم النفس فهو قد يكون صفة متلازمة من صفات شخصية الفرد وقد يطلق النفاق على حال ممارسته, وقد يشير إلى الفعل أو السلوك الذي يظهر فيه الفرد خلافا لما يبطن بداخله بمعنى التظاهر الكاذب بالفضيلة والتمسك في الدين, أو بأيديولوجية سياسية, أو بانتماء قومي أو وطني. وفي علم النفس هناك العديد من الحيل الدفاعية اللاشعورية يمارسها الإنسان لحماية نفسه من الشعور القاسي بالقلق والانزعاج, وهذه الحيل أو العمليات العقلية اللاشعورية كثيرة ومتعددة منها : الإسقاط والتبرير والتقمص أو التوحد والإزاحة العكسية والإبطال والإنكار والنسيان والإبدال والسلبية والرمزية والتقدير المثالي والتعميم والأحلام والعدوان والكبت والنكوص" أي العودة إلى الوراء إلى مراحل نمو سبق للإنسان إن تخطاها.

والنفاق هنا ينطبق على إحدى هذه العمليات العقلية أو الحيل الدفاعية اللاشعورية المسماة بتكوين ردة الفعل" التكوين العكسي " حيث يظهر فيها الإنسان خلافا لما يبطن, حيث يتظاهر الشخص الملحد بالتدين الشديد, والرجل شديد  البخل يتظاهر بالكرم الشديد, والموظف المرتشي يتظاهر بالأمانة المطلقة, والإفراط في الاحتشام كرد فعل لرغبات جنسية مكبوتة, ومهاجمة التفكير الخرافي كرد وتكوين عكسي للأيمان به, والإفراط في الحب كتكوين عكسي للكراهية الشديدة, والإفراط في الضحك نرد فعل عكسي لمصيبة ما, وان هذه الآليات تبدو منطقية بمقدار, ولكنها تشكل ابرز ملامح "شخصية المؤمن الفاسد " عندما تشكل السمة الغالبة والطاغية في سلوكه اليومي !!!!.


أن "المؤمن الفاسد" فردا كان أم دولة أم كيان سياسي حين يفقد المرجعية بأهمية الخطاب الأخلاقي والديني والسياسي في العلاقات المحيطة بة وفي الأحداث الجارية يتحول إلى كيان مراوغ يفتقد إلى ابسط مقومات الأخلاق في السياسة وفي الدين وفي السلوك العملي ويتحول إلى كيان بهيمي ينشد المصلحة الذاتية والغريزية ويبتعد كل البعد عن منطق العقل وتكون صلته بعالم الغابة أكثر من صلته بعالم الإنسان وطموحاته ومستقبله, ويلهث وراء تبريرات لسلوكه, وهكذا يكون "المؤمن الفاسد" بمثابة القوة المدمرة لكل المنظومة الأخلاقية في السياسة والسلوك !!!.

وينخرط " المؤمن الفاسد " في منظومة الفساد المجتمعية: الاقتصادية, والإدارية والمالية, والاجتماعية, والأخلاقية, والثقافية وحتى الدينية وغيرها من منظومات الفساد المختلفة, عبر مختلف أعراض ومظاهر الفساد وأساليبه وألوانه المختلفة, من محسوبية ومنسوبيه, وبيروقراطية إدارية, واستغلال المنصب العام, والغش والتزوير, والنصب والتحايل وسرقة المال العام, والفساد الأخلاقي والقيمي وتغير معالم الثقافة الوطنية ورموزها والتجاوز على الرموز الدينية والإخلال بسمعتها.

وإذا كان " المؤمن الفاسد " ذو الأطر الإيديولوجية والسياسية غير الدينية يخضع بعض الشيء إلى عمليات تعديل السلوك الناتج من ضغوطات دوائر الانتماء الصغيرة المطابقة لعقيدته والاستجابة لضغوط القيم الوضعية والمتمثلة بقيم الحياة, من حياء واحترام للعلاقات الاجتماعية, فقد يبدو خجولا ومتئنبا في بعض من ممارساته, إلا إن " المؤمن الفاسد " والمتلبس بلباس الدين لا يعبه كثيرا بدائرة علاقاته القريبة, بل يسعى جاهدا لإضفاء الشرعية الدينية على فساده المالي والأخلاقي وغيره من مظاهر الفساد عبر البحث عن واسطة " مطمئنة " بينه وبين السماء, ويلجأ هنا إلى مرجعياته ومشايخه الدينية لانتزاع الفتاوى المبنية على تفسيرات تلوي عنق الحقيقة لمصلحة استمرار النفاق والفساد وإعادة توليده ونشره " كقيمة عليا " وكبديل عن قيم التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة, بل الكثير منهم يحصل بعد تزكية ماله الحرام " دفع الزكاة " لمرجعيته على اعتراف من سلطته الدينية بأنه من  " الخواص ", وبالتالي له الحق في  العبث بالمال العام أينما وجد وسبي أعراض العوام وانتهاك حرمتهم.
 

أما دولة "المؤمن الفاسد" والمتوحدة مع مواطنها " المؤمن الفاسد " إن كانت بلباس ديني أو قومي أو وطني عام, فهي دولة المعتقلات والسجون والاستبداد ومصادرة الحريات الشخصية والعامة على طريق استعباد مواطنيها وتحطيم نفسيا تهم وإذلالهم, وتجري هذه الممارسات بواجهات مختلفة ومبررات وهمية, منها على سبيل المثال, إن هناك خطر خارجي قادم يهدد الأمن القومي والوطني مما يستدعي "تعبئة الجهود ومصادرة الحريات" لأنها عائق أمام ذلك, أو أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحفاظ على اتجاهاتها لا يحتمل تعدد الآراء والتنوع السياسي وبالتالي فأن القمع والحد من المعارضة السياسية هو من مؤشرات نجاح التنمية وملازم لها وضمانتها الأكيدة !!!!.

أن دولة " المؤمن الفاسد " هي الدولة القمعية والدكتاتورية والتي تعتمد على إيديولوجية قومية أو وطنية أو دينية تبرر فيها كل سياساتها وتصرفاتها, وتحاول بكل جهودها ترك الانطباع لدى الشعب أن ما يجري في داخلها من إرهاب, وقمع للحريات هو خدمة للأمن العام وإنقاذ البلد من التهديدات الخارجية والداخلية, إنها الدولة الكاريزمية التي يجسدها قائد الضرورة, أو الأب القائد, أو القائد الملهم, أو حجة الإسلام والمسلمين وآية الله العظمى أو حبيب الشعب, والتي تعكس في مجملها الزعيم الأوحد قائد الحزب والدولة والمؤسسة العسكرية والمؤسسة الإعلامية وراعي السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية بدون منافس, والذي تجتمع بيده كل هذه السلطات لاستخدامها في البطش والتنكيل والقسوة عندما يقتضي الأمر وفرض حالة الطوارئ عند الحاجة أو إطلاق شيء من الحريات العامة عند الضرورة !!!!!.

ومن الضروري الإشارة هنا أن دولة " المؤمن الفاسد " ذات الصبغة القومية أو الوطنية وبفعل تمرسها عبر عقود من الزمن, واستنادا إلى خلفية نشأتها الأولى القائمة على مقارعة الاستعمار وانجاز الاستقلال الوطني حافظت بهذا القدر أو ذاك على ما يسمى " بمناطق العفة " في بعض القطاعات الاجتماعية وعدم المساس بها كليا أو إفسادها, لأن التطاول على هذه القطاعات يعني ما يعنيه إدخال الدولة والمجتمع في عنق الزجاجة بما يمهد لانهيارها كليا, ومن هذه القطاعات: التعليم بمختلف مؤسساته وخاصة الجامعي منه, والصحة, والقضاء, والإعلام والثقافة, والشرطة والمؤسسة الدينية, وهناك اتفاقا أخلاقيا قد يكون غير مكتوب في إبعاد هذه القطاعات عن النفاق والفساد ومستنقع التلوث, على أساس أن هذه القطاعات صمام أمان لأي مجتمع وحصون أخيرة يلجا إليها الجميع في اليسر والعسر, ولهذا يصبح اقتراب الفساد من " مواطن العفة"  في المجتمع ظاهرة تثير الكثير من القلق بل قد تتحول إلى زلزال يهز أركان المجتمع وانهياره, ورغم أن الدولة القومية أو الوطنية أضفت على هذه القطاعات الصبغة العقائدية لمنتسيبيها, إلا إن معايير الجودة والكفاءة والأداء ظلت تتمتع بهذا القدر أو ذاك بشيء من عوامل البقاء باعتراف المنظمات الدولية ذات العلاقة وخاصة في بداية العقود الأولى من نشأة هذه النظم !!!!!.

أما دولة " المؤمن الفاسد " والمتلبسة بلباس الدين فليست لها  " مناطق عفة محصنة " فهي تضرب كل القطاعات دون رحمة, وهي أشبه بفيروس في جسد بلا مناعة, وهذا الفيروس يتسلل إلى نواة الخلية ( نظام الحكم ومؤسساته وقطاعاته بدون استثناء) فيصيغ برامجها طبقا لاحتياجاته ثم يتسلل إلى المجتمع فينشر المرض وتتغير البرامج كلها طبقا للبرنامج الفيروسي. أن فيروس دولة " المؤمن الفاسد " يفسد عملية التقدم والتطور الاجتماعي المخطط , حيث يفتت المؤسسات اللازمة لذلك ويحولها إلى مؤسسات فئوية ترعى فئة معينة من المجتمع كما هو الحال في نظام المحاصصات الطائفية والعرقية ويعيق تشكيل مؤسسات بحثية وعلمية مستقلة خاصة بذلك؛ كما أن هذا الفيروس يعطل العملية السياسية ويعيق جهود التنمية والأعمار من خلال تعطيله لدور المعارضة الحقيقية باعتبارها تلعب دور الرقيب على الحكومة في الدول الديمقراطية المستقرة, إلا إن هذا الفيروس الذي يتكئ على خلفية نظام المحاصصة الطائفية أو التوافقية يلغي دور المعارضة الحقيقية, لأن هذه " المعارضة " لها يدا في الحكومة تحجم عن دورها الرقابي, وبالتالي يكون الصراع من اجل إفشال الحكومة وليست تقويم عملها, ويسعى الطرف الحاكم أيضا إلى التمادي وتعطيل العملية السياسية وعدم السماح للتداول السلس والسلمي للسلطة, ويدعي كل طرف هو الأفضل على خلفية التعصب والتعنت الديني والطائفي والعرقي !!!!.

أن دولة " المؤمن الفاسد " تشكل بيئة مواتية لفيروس الفساد بألوانه المختلفة وللمحسوبية والمنسوبية والولاء الحزبي الضيق, ففي دولة المحاصصة الطائفية والتوافقية كالعراق حيث يقف عالميا في قائمة الدول التي تعاني من الفساد الإداري والمالي, فأن هذا النظام هو أفضل وسيلة لترعرع ونمو الفساد, وان كان في ظاهره يبدو وكأنه ينصر أبناء طائفته ولكنه في الواقع يبقي أبناء الطائفة في فقر مدقع وتبقي الامتيازات حكرا على زعماء الطائفة وأبنائهم أو رؤساء أحزابها !!!.

أن نظام المحاصصة الطائفية والتوافقية باعتباره نموذجا لدولة " المؤمن الفاسد " يشكل عوامل طرد لاستبعاد الكفاءات العلمية والوطنية, حيث يستند في شكلياته إلى الطائفة كمعيار للانتقاء والولاء وليست معايير النزاهة والكفاءة العلمية بعيدا عن الانتماءات الضيقة, وبهذا يحرم المجتمع من الانتفاع بمواهب أفراده المختلفة والتي لا صلة لها بالانتماء الطائفي.كما يخل نظام المحاصصة بالسلم الأهلي والاجتماعي, ويخل بمبدأ المساواة بين المواطنين في الوظائف العامة ويضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة من خلال تخندقه الطائفي في أطره الجغرافية, كما يضعف سياسة الدولة ووحدتها في الخارج كما يتعارض هذا النظام مع حقوق الإنسان وصيانتها والمنصوص عليها في المواثيق الدولية !!!!.

كما تزحف دولة " المؤمن الفاسد" على رموز الثقافة الوطنية من أدب ومسرح وسينما وأكاديميات متخصصة ومنع مختلف الفعاليات الفنية في وسط وجنوب العراق في محاولة منها لخلق بيئة مواتية لفيروس اسود في مختلف الفنون وعلى طريقتها الخاصة وعلى نسق الجمهورية الإسلامية أو على هدى طالبان, ولعل آخرها ما تعرض له اتحاد الأدباء والكتاب العراقي من حملة افتراء وكذب مدعمة "بالفتاوى الغوغاء" في الضغط عليه لغلقه أسوة بالأندية الليلة بتهمة تعاطي المنكر ـ الخمور, ولا نعرف أيهما أكثر منكرا شرب الخمور أم أكل أموال الناس بالباطل, شرب الخمور أم المحاصصة الطائفية, شرب الخمور أم الفساد الأخلاقي, شرب الخمور أم الفتاوى بسرقة المال العام, شرب الخمور أم النصب والاحتيال, شرب الخمور أم تزوير الشهادات, شرب الخمور أم انتشار مزارع الحشيش والمخدرات بدلا من مزارع الفواكه, شرب الخمور أم المليشيات المسلحة, شرب الخمور أم المتاجرة بالمخدرات من قبل بعض فصائل الإسلام السياسي و و...... إنه استهتار ومصادرة للحريات العامة التي كفلها الدستور وتجاوز على القضاء صاحب اليد الطول بهذا الشأن, وهي سلوكيات منافقة ومنافية للدين وأضعاف لدور الدولة الديمقراطية والمدنية في العراق.

وفي الخاتمة اقول هنا ان هزيمة وفساد محافظ البصرة هو احدى من مئات الالوف من الامثلة التي تعبر عن فساد النظام السياسي الممحصصاتي والتوافقي حيث الاحزاب الطائفية السياسية والاثنية ورموزها القيادية هي التي تمارس الفساد المالي والاداري, وهي نفسها التي تشرع وتنفذ, وبالتالي اصبح الفساد قرينة النظام وتوأمه وان الخلاص من الفساد يعني الخلاص من النظام اولا واعادة بنائه من خلال تشريع قانون انتخابي عادل, وقانون احزاب واضح ومفوضية انتخابات نزيهة مستقلة لا محاصصاتية !!!.






129

رسالة الى السيد وزير التربية في العراق حول التسرب المدرسي: الأهمية والأسباب والحلول


د.عامر صالح 


أعلنت وزارة التربية العراقية بتاريخ 2ـ8ـ2017 ان 20 % من الطلبة متسربين من المدارس. وقال وزير التربية محمد اقبال في بيان لمكتبه الاعلامي" إن ظاهرة التسرب، تتنافى مع قانون التعليم الالزامي لاسيّما أنه شكل نسبة 20% على وفق عينة الدراسة التي أجرتها وزارة التخطيط". وبين ان "وزارة التربية تسعى الى إعادة التلاميذ المتسربين كافة، الى مقاعد الدراسة، فضلاً على أُولئك الذين اضطروا الى ترك التعليم بسبب العمليات العسكرية، التي شهدتها مناطقهم، مما استدعى الى استيعابهم ضمن مشروع حقك في التعليم، ومن خلال البرنامج الذي ترعاه الوزارة بهذا الصدد " حسب البيان ". وهنا أقول ان هذه النسبة أقل بكثير مما هي في الواقع اذا اخذنا عموم محافظات العراق والمحافظات ذات الظروف الكارثية, ومضيفا الى تلك النسبة ممن لم يلتحقوا اصلا في التعليم, زائدا التسرب في مراحل التعليم الاخرى وليست فقط في المرحلة الابتدائية, علما ولأغراض المقارنة أن العراق في عام 1973 انخفضت فيه نسبة التسرب الى 5% يقابلها ارتفاع نسبة التسرب في عام 2004 الى 24% " أي قبل عقد من دخول داعش والخراب ". وهنا أوجه رسالة الى السلطات التربوية لتبيان حجم الكارثة التربوية ومشيرا الى اسبابها وسبل العلاج !!!.


لعله من نافلة القول أن دول العالم تولي اهتماما ورعاية بالتعليم من منطلق أن التعليم هو أساس تقدم الأمم ومعيار تفوقها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وعن طريق التعليم يكتسب الفرد المعرفة وتقنية العصر والقيم والاتجاهات التي تحيط بشخصه من جميع الجوانب وتجعله قادرا على التكيف والتفاعل الايجابي مع البيئة والمجتمع.وأن اتساع القاعدة الشعبية لقطاع التربية والتعليم وتحوله إلى اكبر القطاعات الاجتماعية تجمعا للعنصر البشري دفع العديد من الحكومات المتقدمة والنامية إلى تبني استراتيجيات شاملة تزيل الطلاق التقليدي بين المدرسة والعمل والحياة وإحكام ربط هذا القطاع بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد عززت هذا التوجه الدراسات الكثيرة التي بينت أن التربية ليست " خدمة استهلاكية " تقدم للناس بل هي توظيف مثمر للموارد يؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي,إن أحسن استخدامه,إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها, وهي ذات اثر طويل الأمد.وقد أكدت دراسات دنيون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين الروسي, أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة, بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية.

وعلى أساس هذه النظرة المتقدمة للتربية يجري رصد المزيد من الأموال لهذا القطاع في دول العالم المتمدن لأغراض تطويره والنهوض به لتحقيق اكبر قدر ممكن من الكفاءة الداخلية والخارجية له. وبالضد من ذلك فأن الإهدار التعليمي في هذا القطاع المتمثل في ابرز مشكلاته كالتسرب والرسوب,يعتبر من المشكلات المعرقلة لكفاءة النظام التربوي وتبديدا للجهود المبذولة لتطويره التي تعوق تحقيق أهدافه وتسبب في ضياع الجهد والوقت والمال, وينعكس أثره السلبي على الفرد والمجتمع وعلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
مفهوم التسرب ودلالته:
تتعدى الآثار الكارثية للتسرب والرسوب إلى جميع نواحي المجتمع فهي تزيد معدلات الأمية والجهل والبطالة وتضعف البنية الاقتصادية للمجتمع والفرد وتزيد الأتكالية وطول أمد الإعالة الأسرية والاعتماد على الغير, كما تفرز في المجتمع ظواهر خطيرة كعمالة الأطفال واستغلالهم وظاهرة الزواج المبكر, كما يؤدي إلى زيادة حجم المشكلات الاجتماعية كانحراف الإحداث وانتشار السرقات والاعتداء على ممتلكات الآخرين مما يؤدي إلى ضعف المجتمع وانتشار الفساد فيه إلى جانب فساد الكبار, وما تسببه أيضا هذه المشكلة من أثار سلبية في نفسية التلميذ وتعطل مشاركته الفعالة والمنتجة في المجتمع.

أن التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لا يعني بكل الأحوال إهمال ما يتم تسربه في مراحل التعليم الأخرى( متوسط, ثانوي وجامعة ) بل هي أكثر بكثير سواء من حيث الإعداد المطلقة الخاصة بالتسرب أو من حيث نسب الاستيعاب التي تقابل الفئة العمرية  في هذه المراحل( وخاصة في ظروف العراق الخاصة جدا), إلا أن هناك ما يبرر التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لاعتبارات نفسية وتربوية وإنسانية.فالطفولة الأولى تؤسس لشخصية الإنسان وتبقى حاضرة بقوة في مراحل تطورها لاحقا مهما اختلفت وتنوعت المتغيرات التي تحيط بها والظروف التي تمر بها,وهي مرآة الفرد في الصحة والمرض. وأن مطلب " الطفولة السعيدة " بالإضافة إلى كونه مطلبا لذاته,إلا انه يسهم في تشكيل مراهقة مقبولة, ويساعد في اختيار نمط دراسي أو عمل يعكس فعلا إمكانيات الفرد الذاتية, بل ويسهم في إرساء ملامح شيخوخة تتمتع بقدر من الهدوء المطلوب والموازنة مع ما تبقى من ديناميات وقدرات وقابليات. والأهم من ذلك تربويا فأن تأمين التعليم الأساسي لهذه المرحلة العمرية المهمة يعتبر جهد الحد الأدنى من " الأمن التربوي " لتزويد الطفل بالمهارات الأساسية اللازمة في القراءة والكتابة والعادات الأساسية اللازمة لتكيفه ضمن هذه المرحلة من التعليم ومنع تسربه وردته وانضمامه إلى جيش الأميين ,وبالتالي يشكل تعميم التعليم وألزاميته والقضاء على التسرب احد العوامل الأساسية لتجفيف منابع الأمية.

ومشكلة التسرب في العراق إلى جانب مشكلات أخرى في قطاع التربية والتعليم, منها ما يتعلق في مشكلات المناهج والإدارة التربوية وطرق التدريس وإعداد الكادر التدريسي ومشكلات التخطيط التربوي لهذا القطاع ومستويات استجابته لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشكلات توزيع الخدمات التربوية جغرافيا وعلى ضوء الحاجة الماسة لمختلف مناطق وأقاليم البلاد,وجميع هذه المشكلات ذات طبيعة متشابهة في البلاد العربية يطلق عليها اصطلاحا " أزمة التربية العربية ", إلا إن العراق في العقود الأخيرة وبسبب تعرضه لعوامل الحروب والحصار والانهيار الاقتصادي والاحتلال وتدمير مؤسسات الدولة وبنيتها التحتية والسياسات الطائفية,انفرد بأزمة خانقة وحادة تنفرد بخصوصية عالية عن نظيرتها في الدول العربية ونستطيع أن نطلق عليها " أزمة التربية العراقية ",سواء من حيث خصوصية الأسباب أو الإبعاد المدمرة لها.

ففي الوقت الذي حقق فيه العراق تقدما ملموسا في عقد السبعينيات على مستوى استيعاب الأطفال, فحسب تقرير اليونسكو أمتلك العراق قبل حرب الخليج الأولى نظام تعليمي من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة قدرت نسبة المسجلين فيه بالتعليم الابتدائي ما يقارب 100% مقارنة بأعداد الأطفال في سن التعليم الابتدائي,وحسب تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1973 فأن معدل التسرب في التعليم الابتدائي قد هبط في العراق إلى ما يقارب 5% بين الصف الأول والخامس الابتدائي, وكان هذا أوطأ معدلات تسرب في الدول النامية.ثم نال العراق في نهاية السبعينيات جائزة اليونسكو على حملة محو الأمية.وقد ساهمت في ذلك الطفرة المالية المتحققة من العوائد النفطية والتي وسعت من حجم الإنفاق على التعليم,وكذلك الدور الكبير والمتميز الذي لعبته الحركة الوطنية وفي مقدمتها قوى اليسار في التعبئة لنشر التعليم والثقافة في صفوف أبناء المجتمع وتعزيز الدور التعبوي عبر نشاطها وصحافتها العلنية, وخاصة في ميدان محو الأمية,ونقل تجارب الشعوب العالمية عبر صحافتها اليومية وخلق المزاج العام المواتي لتنفيذ ذلك. إلا إن الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام العراقي آنذاك وما سببته من استنزاف للموارد المالية والبشرية قد الحق أفدح  الإضرار بقطاع التربية والتعليم,ويكفي إن نشير هنا إلى إن نسبة القادرين على القراءة والكتابة في البلاد عام 2003: الذكور 55%, الإناث 23%. وبلغت خسائر هذا القطاع أكثر من أربع مليارات دولار شملت كل عناصر وأبعاد العملية التربوية ومستلزماتها ومؤسساتها ومراحلها المختلفة.

أن التسرب يمثل مظهرا من مظاهر الهدر التعليمي أو الفاقد في التعليم, إلى جانب مشكلة الرسوب المتكرر,ويعتبر نتيجة لضعف نتاج العملية التربوية وينشأ عن مشكلات تربوية واجتماعية تؤدي إلى عجز النظام التعليمي في الاحتفاظ بالملتحقين به كافة لإتمام دراستهم في مرحلة دراسية ما ( وخاصة في التعليم الابتدائي ).وان التسرب باعتباره انقطاع التلميذ عن المدرسة انقطاعا نهائيا قبل أن يتم المرحلة الإلزامية,فأن سقف التعليم الإلزامي يختلف من دولة إلى أخرى,فمنها من يدين بالإلزام لمدة 9 سنوات دراسية,وبعض أخر يكتفي بإلزامية تعليم أمدها 6 سنوات ( مدرسة ابتدائية ) كما هو الحال في العراق وفقا لقانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976,والذي يشمل الفئة العمرية من( 6ـ11) سنة,والذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم,علما أن إمكانيات العراق المادية والمالية تكفي لمد سقف الإلزام حتى إلى مرحلة التعليم الثانوي كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة والمتمكنة.مع العلم أن الدستور الحالي جاء ليكرس ما ورد في القانون المذكور أعلاه,حيث ينص على أن :" التعليم عامل أساسي لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة, وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية,وتكفل الدولة مكافحة الأمية.والتعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله".

أسباب التسرب:
أن العوامل التي تؤدي إلى التسرب من التعليم الابتدائي في العراق هي ذات خصوصية عالية ارتباطا بظروف العراق الشاذة والاستثنائية, وهنا يمكن فرزها بمنظومة الأسباب الآتية :
1 ـ الأسباب الاجتماعية والثقافية, وتشمل : 
  ـ تصدع وانهيار التركيبة الاجتماعية والقيمية وتعرض الأسر العراقية إلى  انهيارات كبرى تجسدت في : ازدياد نسب الأطفال اليتامى وفقدان الرعاية الأبوية,انتشار ظاهرة التسول والتشرد في الشوارع والطرقات,ازدياد نسب الأطفال الذين يتعاطون المخدرات والمسكرات,محنة الأطفال غير الشرعيين أو مجهولين النسب ,الأطفال المهجرين قسرا من ديارهم ومناطق طفولتهم إلى مناطق أخرى داخل العراق وإشكالية التكيف للبيئة الجديدة, تعرض الأطفال إلى عمليات الخطف والابتزاز واستخدامهم كرهائن مقابل مبالغ مالية أو صفقات أخرى لتصفية حسابات شخصية وسياسية, عمليات التحرش الجنسي والاغتصاب والمتاجرة بالأطفال, الأطفال مرتكبي الجنح والجرائم المختلفة, ازدياد نسب الأطفال ذوي الإعاقات المختلفة العقلية والجسمية وانعدام الرعاية التربوية الخاصة بهم, وجميع هذه الظواهر هي من الإشكاليات المستفحلة وتشكل عوامل طرد وليست جذب للمدرسة وما يترتب على ذلك من انقطاع وعدم مواظبة أو تسرب نهائي من المدرسة.

 ـ تدهور المكانة الاجتماعية للتعليم لدى الأسر أو الوالدين بشكل خاص, واعتباره ليست بتلك الدرجة من الأهمية, وهذا أيضا ناتج من ضغوطات الواقع,وإعادة ترتيب سلم الأوليات,كأن يعتبر الحفاظ على الأرواح أو الشرف أهم بكثير من التعليم ,وبالتالي احد عوامل الانقطاع عنه وعدم الاستمرار فيه والتسرب منه, إلى جانب طبعا عدم توفر الوعي الثقافي اللازم لدى الكثير من الأسر بعدم إدراكهم لمدى الضرر لاحقا من جراء انقطاع أطفالهم عن المدرسة.
 
ـ تدهور الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض المختلفة كأمراض الجهاز التنفسي وأمراض الكلى المزمنة والكبد والسرطان والايدز وحالات ضعف السمع والبصر والتشوهات الخلقية, وجميعها عوامل تدفع  نحو الانقطاع المدرسي كخطوة نحو التسرب منه نهائيا.

 2 ـ الأسباب الاقتصادية:
 وتتلخص أبرز ملامح تأثيرات الوضع الاقتصادي في ظاهرة التسرب فيما يأتي:
 ـ انشغال الأسرة بتغطية متطلبات الحياة الاقتصادية والمعيشية الأساسية, يدفع الكثير منها إلى الاستعانة بأطفالها وزجها في سوق العمالة واستخدامها كدخل إضافي,ونحن نعرف جيدا ضيق فسحة العيش في العراق,حيث تشير الإحصائيات إلى أن 40%  من الشعب العراقي يعيش تحت مستوى الفقر( حسب إحصائية وزارة حقوق الإنسان العراقية ), وأكثر من مليون أسرة تعيش على معونات شبكة الحماية الاجتماعية. وهذا بدوره يشكل عوامل ضغط على الأطفال لترك الدراسة.

ــ ضعف الغطاء الاقتصادي المتمثل بالمدعومات المالية المناسبة والتسهيلات كأجور نقل أو تقديم وجبات طعام أساسية للطلبة الفقراء أو تقديم القرطاسية المدرسية مجانا أو ملابس وتجهيزات مختلفة, مما يسبب إثقال كاهل اسر التلاميذ وخاصة الفقيرة, مما يضطرها إلى سحب أولادها من المدارس.

ـ ضعف مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة,مما يؤدي بدوره إلى ضعف الإنفاق على التعليم الابتدائي لتوفير مستلزماته من كوادر تعليمية وأبنية صالحة وكتب منهجية وقرطاسيه ولوازم مدرسية ولتغطية مختلف نشاطات هذا القطاع, إلى جانب ضياع وإهدار وسرقة أموال هذا القطاع, والتي لا تخضع للتدقيق والمراقبة الكافية,أسوة بغيره من قطاعات الدولة.

3ـ الأسباب التربوية:
ويمكن بلورة أبرز الاتجاهات التربوية التي تدفع باتجاه تسرب التلاميذ وتركهم المدرسة على النحو التالي:
ـ عدم ارتباط المناهج بحاجات المجتمع وعدم تلبيته لميول الأطفال وهواياتهم وكذلك ضعف كفاءة المعلم من حيث الإعداد والتدريب وضعف كفاءة الإدارة التعليمية, وقصور الإشراف والتوجيه, والاعتماد على أساليب التقويم القائمة على الامتحانات التقليدية وقصور الإمكانات التربوية من مبان وتجهيزات وفرص النشاط المختلفة.

ـ عدم احترام شخصية التلميذ وميوله واهتماماته المختلفة وضعف التوجه لدراسة الفروق الفردية بين التلاميذ وتكييف المنهج وطرق التدريس لها, وعدم استغلال أوجه النشاط المدرسي الصفي واللاصفي في جذب التلاميذ إلى المدرسة.

ـ الرسوب المتكرر وعدم متابعته من قبل إدارة المدرسة أو ذوي التلاميذ مما يضعف ثقة التلميذ ويفقده المتعة من وجوده في المدرسة ويثبط حافزه على متابعة الدراسة.
ـ انعدام أو ضعف العمل المشترك بين المدرسة وأهل التلميذ مما يضيع الفرصة للوقوف على المشكلات التي يعاني منها التلاميذ يوميا, وبالتالي لا يترك مجالا لحلها في الوقت المناسب,وأن تراكمها لاحقا يشكل حجر عثرة أمام استمرار التلميذ في المدرسة.

ـ عدم اعتماد الخرائط التربوية في توزيع الخدمات التعليمية جغرافيا ونشر المدارس الابتدائية على مقربة من السكن الأصلي,الأمر الذي يعتبر من المعوقات الأساسية في سهولة انتقال التلاميذ من والى المدرسة, مما يزيد من أعباء الطالب النفسية وتشديد مخاوفه من الإرهاب وإعمال القتل والاختطاف,ويشكل عبئا أخر يزيد من هموم وتفكير الأسرة وقلقهم على سلامة أطفالهم,مما يسهم في إحجام الولدين عن إرسال أولادهم إلى المدرسة.

ـ قصر اليوم المدرسي واعتماد الدوام الثنائي المزدوج أو الثلاثي مما يضعف الارتباط بين الطالب والمدرسة ويقلل من فرص ممارسة التلميذ للأنشطة الصفية والللاصفية لتلبية رغباته واحتياجاته للنمو المتعدد الجوانب, و بالتالي تصبح المدرسة مكانا للإقامة الجبرية أو ثكنة عسكرية يشعر فيها الطفل فيها بالجزع أكثر من الانشراح والموائمة, ويتحين الفرص للهروب منها.

ـ وهناك من الأسباب التربوية ذات الصلة بالنواحي الوجدانية بالتكيف النفسي للتلميذ, كما تتصل باتجاهاته وسلوكياته, وهناك عوامل تتعلق بجوانب شخصية التلميذ,واستعداداته ومهاراته, وقدراته النفسية والعقلية , وقد أثبتت الكثير من الدراسات وجود ارتباط واضح بين بعض السمات الشخصية للتلميذ وتسربه من التعليم.

4 ـ الأسباب السياسية:
ـ أن مصير العملية التربوية كم هو معروف يرتبط وثيقا بالاستقرار السياسي الذي يبعث الأمل في مؤسسات الدولة وقيامها بأنشطتها على أسس موضوعية وحيادية, ومنها قطاع التربية والتعليم,فالنظام السياسي يلعب دورا مهما في إعادة توليد القيم الأخلاقية والاتجاهات الاجتماعية العامة, والنظام التربوي هو احد أدواته لتكريس هذه القيم ونشرها على نطاق واسع عبر الممارسات اليومية, من خلال المناهج والأنشطة المدرسية, وتشكل في هذا السياق ظاهرة التعصب الديني والطائفي والقومي احد القيم الأخلاقية والتربوية الضاغطة على وحدة نظام التعليم ونسيجه الاجتماعي, ويشكل هنا التسرب من التعليم والابتعاد عنه احد وسائل احتماء الأقليات في حالات الاحتقان الشديد وسببا في انقطاع الكثير من أبناء الأقليات والطوائف عن التعليم والعزوف عنه.

ـ تعرض النظام التربوي جراء سياسات النظام السابق الهوجاء وما تلتها من سياسات عشوائية على أيدي الاحتلال وما تبعتها من تكريس للمحاصصة الطائفية, إلى انهيارات كبرى في مراحله المختلفة,فقد تم تدمير اغلب المؤسسات التربوية من أبنية ومستلزمات وأجهزة, وقد تحول الكثير من المدارس إلى مجرد أربعة جدران وأماكن شكلية لإقامة التلاميذ,لا تشد الطالب إلى المجيء والمواظبة,بل إلى طرده من المدرسة, ناهيك عن اقتسام المدارس إلى مناطق نفوذ طائفي أو حزبي,فهي تعتبر في أذهان الكثير أماكن غير آمنه.

ـ أن تشديد قبضة الإرهاب والعمليات الانتحارية أطالت ألاف من الأطفال, وكانت أوقات الدوام الرسمي" بدايته ونهايته" فرصا مواتية لإيقاع الأذى وزرع الخوف لدى الأطفال وأسرهم,مما أدى إلى عزوف التلاميذ عن الدوام وعدم انتظامهم ثم تسربهم.

علاج التسرب:
أن الحد من التسرب والاقتراب من نهايته يستند إلى منظومة متكاملة من الإجراءات,وتشكل النوايا الحسنة والقناعة بالنظام الديمقراطي و قيمه الإنسانية مدخلا لازما لذلك ومظلة تحمي آلية التنفيذ, ولعل ابرز العلاجات الناجحة هي ما يأتي:
ـ الاهتمام بالمرافق والخدمات التعليمية مما يجعلها جذابة وشيقة ومرتبطة بواقع التلاميذ,وتحسين المعاملات والممارسات المتبعة في الاتصال التعليمي وبنائها على مبادئ التربية الحديثة القائمة على أساس أن التلميذ مركز اهتمام العملية التربوية, واستغلال خاصية يتمتع بها الأطفال عامة وهي الفضول والذهن المتفتح لاكتساب ومعرفة كل شيء.

ـ منع تشغيل الأطفال منعا باتا وعبر إجراءات صارمة لعل أبرزها تفعيل العمل بقانون التعليم الإلزامي وتطبيق العقوبات الواردة فيه على أولياء الأمور,ويجب أن يقترن هذا الإجراء بدعم اقتصادي للأسر المعوزة وتحمل المدرسة الإنفاق التربوي على التلاميذ من مستلزمات وملابس وتغذية.

ـ توفير خدمات التوجيه والإرشاد النفسي والتربوي والاجتماعي للتلاميذ وأسرهم والتأكيد من قبل إدارات المدارس على ضرورة وجود المرشد الاجتماعي في المدارس لما يقدمه من مساعدة للإدارة التعليمية وللأهل في المشكلات المختلفة ومنها التسرب,وأن تكون هناك حصص أسبوعية أو شهرية من قبل هذا المرشد للأهل وللتلميذ لمناقشة عوامل التسرب وإمكانية الحد منها, والتأسيس الجيد لمجالس أولياء الأمور في المدارس.

ـ التأهيل المستمر للكادر التربوي وإعادة تأهيله على ضوء ما يستجد من معطيات في العلوم التربوية والنفسية, والتخلص من العناصر ألمزوره, أو التي لا تحمل مؤهلا تربويا وذات أداء ضعيف, والتي تكون معظم الأحيان سببا في التسرب لا في منعه.

ـ العمل على وضع خطط ملموسة لنشر شبكات رياض الأطفال في أرجاء العراق وخاصة في القرى والأرياف, والتي لا تزال ضعيفة جدا,حيث لا تستوعب في أحسن الأحوال 7% من مجموع الأطفال في عمر 4 إلى 5 سنوات في عموم العراق,لما لها من أهمية استثنائية في خلق الاستعداد الايجابي للأطفال اتجاه المدرسة الابتدائية لاحقا والإقبال عليها والاستمرار فيها.

ـ وضع الخطط والمناهج التي تعتمد على المواهب والطموحات والقابليات لدى الأطفال والابتعاد عن مناهج الحشو والمليئة بالمعلومات ذات الطابع الكمي والتي تكره في نفس الطالب المدرسة والمادة الدراسية, ومحاولة ربط المنهج بالبيئة المحيطة عبر تطبيقات للمنهج في مختلف مجالات المجتمع المحلي.

ـ منح فرص إضافية للمتسربين سواء عبر مدارس مسائية أو نهارية أو مدارس متنقلة وخاصة في المناطق النائية والقرى والأرياف, أو مناطق التهجير والإقامة الجديدة للأطفال, وهي وسائل تعين الأطفال على عدم العودة إلى الأمية كاملة.

ـ استخدام الإعلام والصحافة اليومية الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الاجتماعية المختلفة للتثقيف والتوعية بدور التعليم وخاصة الموجه منها إلى ذوي الأطفال والتركيز على ضرورة عودة أطفالهم إلى مقاعد الدراسة.

ـ الاستقرار السياسي والأمني وهو المطلب رقم واحد  لاستقرار العملية التربوية وما يؤدي إليه من انخفاض نسبة العنف وتعزيز ثقة الأسر والأطفال بالنظام السياسي والتربوي, ويضمن يوم مدرسي هادئ خالي من القتل والاختطاف والارتهان.

ـ إنشاء دور لليتامى لإيوائهم وتأمين حياة آمنه لهم يتمتعون فيها بقدر من الرعاية الاجتماعية والاقتصادية وإنشاء مدارس خاصة لهم لتسهيل اندماجهم لاحقا في المدارس المنتشرة على مقربة من إقامتهم,كي يتسنى لهم التحصيل الدراسي في المرحلة الابتدائية على الأقل وحمايتهم من التسرب.

ـ إنشاء مدارس لمختلف المعوقين وتصنيفهم وفقا لدرجة وطبيعة إعاقتهم,كما هو معمول فيه دول العالم المتحضر,وإتاحة الفرصة لهم للحصول على قدر من التعليم والتربية والتي تنسجم مع قدراتهم العقلية والجسدية,ومنع تحولهم إلى أميين بالمطلق.

ومن هنا نرى ان المعالجات الشاملة لمشكلة التسرب بكل ابعادها وفي اطار اصلاح النظام السياسي هو الكفيل بايجاد الحلول الواقعية والمدروسة والبعيدة عن الارتجال وفي ضوء فلسفة تربوية واضحة تستمد اسسها من مختلف المعارف والعلوم للنهوض بقطاع التربية والتعليم. وان علاج مشكلة التسرب هو جزء من البحث عن حلول لأزمة التربية والتعليم في العراق !!!.
 
















                   



130
ليست فقط تجريم التحريض الطائفي والعنصري بل والطائفية السياسية !!!

د.عامر صالح

وافق مجلس الوزراء برئاسة حيدر العبادي بحلسته المنعقدة بتاريخ 2017ـ7ـ18 المصادف يوم الثلاثاء على مقترح مشروع قانون لتجريم التحريض الطائفي والعنصري وخطاب الكراهية بهدف حفظ وحدة وسلامة شعبنا والتعايش بين الجميع " حسب ما ورد ". لقد جاء ذلك بعد مرور اربعة عشر عاما من الخراب والحروب الداخلية والاحتقانات الطائفية والعنصرية والعداوات الأثنية والدينية والمذهبية بين مكونات المجتمع العراقي, ولكن مشروع القانون رغم تأخره يبقى أفضل من عدم مجيئه, فهو يعكس مزاجا متفهما وأوليا لخطورة الخطاب الطائفي والعنصري وآثاره المدمرة على السلامة الوطنية, وكان من الاجدر أيضا ان يشمل مشروع القانون حظر الاحزاب السياسية الطائفية لأنها هي التي تنتج خطاب الكراهية وتسوقه, وأن تجربة الحكم منذ عام 2003 دليل على ذلك. لماذا يتوجب اليوم تجريم التحريض الطائفي والطائفية السياسية. سوف أحاول الاجابة على ذلك !!!. 

لقد قدر للعراق وشعبه أن يمر بظروف تاريخية قاسية ذات طبيعة كارثية أسهمت بشكل كبير في تشكيل مزاج عام أدى إلى تأخير حالات اختمار حقيقية صوب مخاض الديمقراطية,مما فسح المجال إلى نشأة بدائل سياسية ذات طبيعة عقليةـ معرفية معوقة للديمقراطية في غالبيتها,ولكنها انطلقت لتمارس الديمقراطية السياسية استنادا إلى ظروف العصر الضاغطة وظروف العراق بشكل خاص التي لا تقبل بغير الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية كنموذج بديل عن النظم الديكتاتورية الموروثة.وعندما حصل التغير في العراق عام 2003 " رغم ملابساته الكثيرة وصعوبة هضم آلية التغير" فأن الفراغ السياسي شكل سمة مميزة للوضع السياسي,مما مهد الطريق إلى خيار الاستحواذ السياسي متخذا من الطائفية والعرقية واجهة له ومستغلا الظروف التاريخية للاضطهاد ليمعن في سياسته التي لا تلقي الاستحسان والقبول والإجماع والرضا من قبل شعبنا,وبدلا من أن تحل البرجماتية السياسية " أي قياس مصداقية الفعل السياسي بنتائجه العملية على ارض الواقع " فقد حلت البرجماتية المدججة بالسلاح " الحوار بيد والسلاح في اليد الأخرى لقبول أمر الواقع".

إن ابرز ملامح ضعف إدارة النظام السياسي هو التدهور المستمر للمساهمة السياسية الحقيقية والفعالة لشعبنا في أدائه وكذلك قي حمايته,مما أضفى على النظام شرعية شكلية قوامها دستور مكتوب غير منتهي بصيغته " رغم إن ثناياه تحمل الكثير من دساتير العالم المعاصر المتمدن",فعلى سبيل المثال لا الحصر يرفض الدستور علنا في مادته (  14 ) في الفصل الأول من الباب الثاني التمييز الطائفي والعرقي,حيث يؤكد( العراقيون متساوون أمام القانون دون تميز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي) إلا إن المشكلة لا تكمن في وضوح النص الجاهز !!! ؛وكذلك برلمان معروف بتركيبته للجميع, قادر في لحظة ما على إقصاء ما يرغب إقصاءه من خلال استنفار و تعبئة سلوك المحاصصات,التي لا ترى في الوطن مصلحة عليا وخط احمر لا يحتمل عروض المزاد العلني من اجل منافع محدودة الأمد؛ ومن ثم مجلس رئاسة الجمهورية المطابق لتوصيفة البرلمان في الآلية العامة والمكونات .

لقد تركت أزمة ضعف المشاركة السياسية والشعبية الواسعة إلى أحساس شرائح اجتماعية واسعة بالهامشية واليأس والمنبوذية "خاصة الفئات التي يجب أن تستهدفها عمليات التغيير",مما يدفع إلى شعور مضاد للانتماء,أي العزلة والاغتراب الاجتماعي وضعف الشعور بالمسؤولية ومن ثم التطرف بألوانه والى الفوضى والعنف,وأصبحت إحدى البؤر المولدة للعنف والتطرف الديني وغير الديني,لتشتد الحياة أكثر عنفا لتصبح بيئة مواتية للتحريض وارتكاب الجرائم الكبرى بحق الناس وبواجهات مختلفة( القاعدة,فلول البعث السابق, داعش وضغط دول الجوار التي لا تعي حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية), أن الجبهة الداخلية السليمة والصحية هي وحدها القادرة على دحر أعداء العراق في الداخل والخارج وعلى خلفية بقائه وطنا صالحا للجميع.ويذكرنا ذلك تماما بإخفاق جيوش النظام السابق الجرارة والمليونية في الإنابة عن المجتمع دفاعا عنه وعن سيادة البلاد من الاحتلال والتي حصلت على خلفية انعدام الثقة المتبادل بين النظام والشعب وضعف المساهمة السياسية الحقيقية في صنع القرار,فأين الملايين التي كانت تصفق "لقائد الضرورة" كذبا ودفعا للأذى عنها,أن حالات الاستبداد السياسي والطغيان وتكبيل أعناق المواطنين وترويضهم على الخنوع والذل والانشغال بسد رمق العيش هي التي تمرر مشاريع اختراق الوطن من الداخل والخارج !!!!.

أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة ",حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن,وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.

أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال الأربعة عشر عاما المنصرمة, وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي, إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي, أي إعادة  إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية, وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت, وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية, بل لعلها أهم منجزات الحداثة, وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي,ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات, وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية, وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على مستقبل البلاد,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى, ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية, حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد, مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد, وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية, مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة, وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع. أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه!!!!.

أن اشد ما الحق الضرر بمصالح البلاد وأمنه ما بعد 2003 هو إخضاع الأجهزة الأمنية والمخابراتية والدفاعية للمحاصصة الطائفية مما فسح المجال لتأسيس حالة الاختراق الأمني المستديم لهذه الأجهزة عبر تكريس حالة التوجس والريبة وانعدام الثقة بين قيادات ومنتسبين هذه الأجهزة,مما تندفع هذه الأجهزة إلى التناغم مع دول الجوار في البحث عن حليف مطابق لها في الصبغة الطائفية والعقائدية,مما يتركها فريسة للاختراقات الخارجية وفرض أجندة دول الجوار,وهنا يأتي تفعيل واستنفار" الحلقة المفقودة" المتمثلة بكل القوى الداخلية الغير راغبة في التداول السلمي للسلطة لتقوم بدور المنفذ النشط أانطلاقا من تطابق الأهداف والمصالح المشتركة في عدم معافاة العراق, بدلا من تعزيز حالة التوافق والانسجام في عمل هذه الأجهزة لخدمة امن البلاد, رغم ان هناك ملامح مرحلة مهنية في بناء هذه الاجهزة بدأت قبل تحرير الموصل من قبضة داعش, ولكن هناك معوقات كبرى لاستقلال هذه الاجهزة بسبب سياسات الشد والجذب المحصصاتية.

لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية,فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها,أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق !!!!.

أن إضفاء الصبغة الطائفية والعرقية على الصراع السياسي واللجوء إلى الحلول ذات الطبيعة التوافقية ـ الطائفية والعرقية تسهم في تكريس منظومة قيمية ذات طبيعة تعصبية " شاء الفرد أم أبى" لتشكل بدورها اتجاها نفسيا سلبيا مشحون بشحنة انفعالية ضد الأخر الديني أو الطائفي أو العرقي دون سند علمي أو منطقي أو بمعرفة كافية,ليتحول التعصب إلى مشكلة حقيقية في التفاعل الاجتماعي الإنساني المنفتح,وحاجزا يمنع كل فكر تقدمي جديد,ويفتت مكونات المجتمع الواحد ويحولها إلى أشلاء منغلقة ذاتيا بعيدة كل البعد عن التطورات المتلاحقة التي تحصل في العالم الخارجي في كل المجالات,أنها حالات من الصمم والبكم والعمى الهستيري والتي لا تدرك الأشياء والظواهر إلا من خلال  اتجاهات التعصب الأعمى,أنها فرصا مواتية لتشديد قبضة الكراهية والعدوان الاجتماعي,ونحن نعلم من الناحية النفسية أن التعصب والتخندق الطائفي والعرقي هي سلوكيات مكتسبة ومتعلمة في أعمها الأغلب ولا توجد أدلة قاطعة ذات طبيعة غرائزية أو فسيولوجية لوجودها,فهي حالات من التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الأخر المغاير !!!.

ويجب التأكيد هنا إلى أن الصراع الذي يجري في العراق ليست صراعا طائفيا أو عرقيا بالمرة,وقد أكدت السنوات المنصرمة فشل الانسياق ورائه, إلا أن تجيير الصراع السياسي وإضفاء الصبغة الطائفية أو العرقية هو الذي يؤدي قسرا بالسواد الأعظم من شعبنا الذي أتعبته الحروب وأنهكه تأمين شيء من الخدمات العامة إلى " التعصب " و "الخندقة " كحيل دفاعية لتامين لقمة العيش,لأن رموز الطوائف والأعراق والأحزاب تمتلك المال كله , وكما يقول أبو ذر الغفاري :( عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه ) والتخندق الطائفي أو العرقي أشبه بحامل السيف لـتأمين لقمة العيش !!!!.

ونؤكد أن التجربة التاريخية للعديد من المجتمعات المتقدمة التي تتصدر دول العالم في الرفاهة والتقدم الاجتماعي وتكريس حقوق الإنسان,تؤكد أن المساهمة السياسية الفعالة وإطلاق مبادرة المواطنين غير المشروطة هي الشرط اللازم لبناء المجتمع المدني الحديث والدولة الوطنية,والتي تبدو للمواطن العراقي الذي أنهكته الحروب الداخلية والخارجية والأزمات,أنها دولة حق وقانون,لا دولة حزب أو طائفة أو جماعة دينية ولا دولة عرقية,أنها مؤشرات للتحرر من الظلم الاجتماعي والى الأبد.

واليوم وبعد الانتصارات العسكرية على تنظيم داعش وهو انتصار هام ولكنه أولي قياسا بالمهمات الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لمرحلة ما بعد داعش, فأن من ابرز المسائل الملحة للفترة القادمة هو اجراء اصلاحات شاملة للنظام السياسي يشمل قانون الاحزاب وشروط تأسيسها بعيدا عن الطائفية والعنصرية, وقانون انتخابات عادل يضمن المشاركة الواسعة وغير المشروطة لشعبنا, واعادة النظر بالدستور وألغاء الازدواجية فيه وخاصة ما يتعلق بدين الدولة وهويتها وتشريعاتها. أن تجريم الخطاب الطائفي والعنصري والطائفية السياسية تشكل صمام الامان لبداية مرحلة انسانية في حاضر العراق ومستقبله عبر انتاج وتكريس خطاب سياسي ثقافي عابر للطوائف والاثنيات والعنصرية البغيظة, قوامه الولاء للعراق ولقيم الانتماء للمواطنة والوطن !!!.





131
الفن بين التحريم والتجريم والترويح/ كرار نوشي لم يكن الأخير

" من حزن فليستمع للأصوات الطيبة فإن النفس إذا حزنت خمد نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد "
                                                                                                                                 أفلاطون
 
 
د.عامر صالح 
 
 
تناقلت وسائل الاعلام العراقية والعربية والعالمية خبر مقتل شاب عراقي يدعى كرار نوشي, وحسب التصريح الاعلامي لهيئة متابعة قوى وشخصيات تنسيقيات التيار الديمقراطي في الخارج " والذي سبقته عشرات القنوات الفضائية " حيث تم خطفه ببغداد وبعدها بيومين وجدت جثته مرمية في برميل للأزبال بمنطقة شارع فلسطين ببغداد, وقد بدت عليها آثار التعذيب الجسدي الشنيع وكسر ذراعيه وآثار اطلاق ناري في رأسه. وكرار نوشي شاب عشق الفن وأمتهنه, فهو فنان مسرحي وراقص باليه, وهذا يضعه في مكانة متميزة ونادرة خاصة وأن ممارسة الأعمال المسرحية ورقص الباليه من قبل شاب وسيم المظهر يضعه في موقف لا يحسد عليه في مجتمع تسللت إليه مخالب التخلف والرجعية في ظلمة مفاجئة فباتت كل مفاهيم المدنية والحداثة والفنون والحضارة تصنف بكونها أعمال كافرة ومنكرة تستوجب العقاب بطرق وأساليب داعشية جبانة. أن مقتل كرار نوشي وبهذا الاسلوب الفج الذي لا يختلف في مستوى همجيته عن ممارسات الدواعش المجرمين, يدفعنا للمطالبة بضرورة محاربة الفكر الارهابي الداعشي الذي كما يبدو أخذ طريقه لعقول حتى أؤلئك الذين يدعون محاربة الارهاب !!!!. 
 
 
 
يثير زحف التيارات الدينية المتطرفة والتي لا ترغب بفصل شؤون الحياة العامة وحرياتها عن الدين, في الكثير من البلدان مصدر قلق لمصادرة المزيد من الحريات الشخصية والعامة, وفتح باب الارتجال والاجتهاد واتخاذ القرارات المنفعلة للهجوم على تراث شعوبها في الموسيقى والغناء والترويح وغيرها من المجالات لتحول حياة الناس الشخصية إلى حياة صماء وجحيم لا تطاق, متجاهلين نتائج العلوم والإرث الفلسفي والفكري لشعوبها  في قيمة الفنون و لمغزى ومعاني الفنون في الحياة اليومية وفي تهذيب وإعادة صقل السلوك الشخصي والاجتماعي, السوي منه والمرضي. فهل هناك من محاولة للتسوية أو لقاء بين الموسيقى والغناء وبين الدين, أم هناك زحف و إقصاء متواصل من قبل التطرف الديني للموسيقى والغناء والفن بصورة عامة, وتحويل الموسيقى والصوت الجميل وبالإكراه في خدمة الشعائر الدينية ذات الطابع الحزين في معظمه, وإلغاء فسحة الترويح الضرورية واللازمة لإعادة بناء النفس !!!!.
 
أن تجربة العراق من التجارب المؤلمة والحزينة في الهجوم والتضييق على الفن ومنها الموسيقى والغناء, والتي تعبر عنها منع إقامة مهرجانات الأغنية العالمية كما حصل لمدينة بابل والبصرة, وزحفا مستمر لمنع المسرح والسينما, و محاولات غلق الأندية ذات الصلة بالفنون الرفيعة كاتحاد الأدباء العراقيين, وغيرها من الظواهر الشؤم في كليات ومعاهد الفنون الجميلة,  والقادم أسوء في التضييق على الحريات والفنون بمظاهرها المختلفة في ظل ضعف دولة القانون وتكبيل حرية المواطن والتهديد بعودة المليشيات, مما اجبر ويجبر الكثير من الفنانين إلى مغادرة العراق أو العزوف عن الموسيقى والغناء, أو التحول إلى " الغناء " الديني في المناسبات المختلفة, حيث يحتاج هو الآخر إلى مواهب وأصوات جميلة مؤثرة وذات أهداف حشدية ـ  تعبوية وسياسية مختلفة في ظروف عراق اليوم بعيدا عن الذكرى العطرة للرموز الدينية !!!!.
 
أن الموسيقى والغناء هي ألوان من التعبير الإنساني, فقد يتم التعبير فيها عن خلجات القلب المتألم الحزين, وكذلك عن النفس المرتاحة والمسرورة, وفي الموسيقى قد يأتي المرء بشحنة انفعالية فيها ما يكفي من الرموز التعبيرية المتناسقة في مقاطع معزوفة يحس بها مرهف الحس أو من متذوقيه, وينفعل ويتفاعل سماعيا ووجدانيا وفكريا,يحس بها إحساسا عميقا وينفعل به انفعالا متجاوبا, مثله مثل أي من الكائنات الحية. ويقول أفلاطون بهذا الصدد: " أن هذا العلم لم يضعه الحكماء للتسلية واللهو بل للمنافع الذاتية ولذة الروح والروحانية وبسط النفس وترويض الدم. أما من ليس له دراية بذلك فيعتقد انه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بما فيها " !!!!.
 
لقد استخدمت الشعوب القديمة, العربية منها وغير العربية, الموسيقى سواء كانت في نغمات أو مقامات أو أغنيات, كوسيلة من وسائل التطبيب والعلاج, ففي زمن يونان القديمة امن شعوبها بأهمية الموسيقى في الشفاء من الأمراض, وكان " أبي أقراط " أول من استخدم الموسيقى بين اليونانيين إيمانا منه بقدرتها على تخفيف التعب والإرهاق وتعديل المزاج الحاد وشفاء الأمراض النابعة من الإنهاك العقلي والجسمي. أما الأطباء العرب فقد استخدموا الموسيقى في العلاج ومنهم " أبو بكر الرازي " و " الفارابي " و " أبن سينا " و " أخوان الصفا " و " الكندي ". فقد بين أبو بكر الرازي إن للموسيقى آثار سحرية تقي من تأجج أزماتهم النفسية. أما الكندي فكان يعتقد إن للإلحان الموسيقية آثارها الحسنة على صحة الجسم, إذ أنها تستخدم كمقويات للدم وكمسكنات وكمساعدة على التخلص من عسر الهضم. ويقول الكندي كذلك إن لآلة العود قدرة فائقة على التخلص من الآلام جميعها, ولذلك ادخل الآلات الموسيقية كالدفوف والأعواد لمعالجة مرضاه, وهو من أضاف الوتر الخامس للعود ونفذه عمليا زرياب. أما ابن سينا فله في هذا قوله المأثور: " الغناء أحسن رياضة لحفظ الصحة من العناء ". والفارابي الذي بلغ منزلة كبيرة في تضلعه للموسيقى علما ومزاولة, وكان يفخر بنفسه بأنه يضرب على العود, وهو الذي أكد على الأثر الايجابي للموسيقى في الحياة المدنية وخاصة عندما تتلبس بقول الشعر. ويذكر أخوان الصفا في رسائلهم عن استعمال الموسيقى في مشافي " المجانين " التي وجدت في ذلك العصر, حيث كان يلجأ الأطباء العرب لشفاء " المجانين" إلى استخدام الموسيقى لتخفيف الآلام عن مرضاهم أثناء النوبات, ويؤكد أخوان الصفا كذلك إن الموسيقى تؤدي إلى السكينة الكاملة والطبيعية لدى المرضى بعد الاستماع للنغمات الموسيقية !!!!!!.
 
وفي عالمنا المعاصر إذ تنهال علينا نتائج الأبحاث العلمية في ميادين التربية وعلم النفس والطب وغيرها من العلوم, وجميعها تؤكد على أهمية الموسيقى والغناء في حياة الإنسان وصحته الانفعالية والفكرية والعقلية والجسدية, وتشكل بدورها دليلا ميدانيا محكما في صحته لتلك الأهمية التي تحدث عنها التراث العربي والعالمي. ونستطيع أن نجمل بعض من فوائد الموسيقى والغناء في ضوء نتائج البحث العلمي بما يأتي: أن الموسيقى والغناء الهادئ يفيد الأفراد الذين يعانون من الأرق وتؤدي فعل المهدئات الطبية, كما تساعد على تنظيم النبض والتنفس والدورة الدموية والحد من التوتر العصبي, وتسهم في تخفيف حالات الاكتئاب والقلق, وتساعد على تخفيف آلام الظهر, والنخاع ألشوكي, والأمراض العصبية, وارتفاع الضغط وآلام الرأس, كما تساعد الموسيقى والغناء الذي يحبذه الشخص على زيادة إنتاجه في العمل أو الوظيفة التي يمارسها عند سماعه لذلك أثناء العمل و في ظروف لا تزعج الآخرين, كحمل السماعات في الآذان, كما أكدت الأبحاث أن سماع الموسيقى والغناء من قبل ممارسي رياضة الركض يفيد كثيرا في عدم إحساسهم بالتعب أثناء ممارسة هذا النوع من الرياضة, حيث تساعد الموسيقى على إفراز مادة " الاندروفين " في الدماغ والتي تساعد على عدم الإحساس بالتعب مقارنة بمن لا يستمع إليها أثناء أداءه للتمرينات, كما أبدى المصابين بالسكتة الدماغية والذين تدهورت لديهم القدرة على المشي, مزيدا من التحسن عند تدريبهم وسماعهم لنوع من الإيقاع الموسيقي, وقد أظهرت الأبحاث العلمية أن المرأة الحامل يكون نصيبها في حمل هادئ أكثر من نظيرتها المرأة التي لم تستمع إلى الموسيقى وكذلك أثناء الولادة حيث يكون الألم اقل في فترة المخاض لدى مستمعات الموسيقى, وتساعد الموسيقى والغناء المسنين والعجزة على تحسين الذاكرة واسترجاع المعلومات وحتى بالنسبة للشباب والأطفال. كما أصبح معروفا اثر الموسيقى على النباتات وانتعاشها وزيادة رونقها, وكذلك أثرها الواضح على " نفسية الحيوان ", مثل اثر النغمات الناعمة والهادئة على البقر في إدرارها اللبن, كما ونوعا, وهكذا فأن الموسيقى والغناء يشكلان بيئة مواتية للشفاء والعطاء لكل من الإنسان والحيوان !!!!.
 
أما بالنسبة للدور التربوي الذي تؤديه الموسيقى والغناء فقد عكفت النظم التربوية والتعليمية العالمية والمتطورة على تضمين مناهجها الدراسية بمادة الموسيقى والغناء وإعطاء حقها من المنهج الدراسي, وعدم استلابها لمصلحة المواد الدراسية الأخرى واعتبارها مادة ثانوية عديمة الجدوى كما يجري في نظمنا التربوية. وقد أكدت النظم التربوية المعاصرة أن هذه المادة الدراسية لها دور أساسي في النمو الجسمي, والعقلي, والانفعالي والاجتماعي, ووفقا لذلك فأن التربية الموسيقية تؤدي إلى تنمية التوافق الحركي والعضلي في النشاط الجسمي, والى مجموعة من المهارات الحركية, إضافة إلى تدريب الأذن  على التميز بين الأصوات المختلفة, ويتم ذلك من خلال أنشطة موسيقية متعددة كالتذوق الموسيقي والغناء والإيقاع الحركي والعزف على مختلف الآلات, وكذلك في تنمية الادراك الحسي والقدرة على الملاحظة وعلى التنظيم المنطقي وتنمية الذاكرة السمعية والقدرة على الابتكار, إضافة إلى مساهمة الموسيقى في تسهيل تعلم وتلقي المواد الدراسية الأخرى وارتفاع مستوى التحصيل فيها, إلى جانب تأثير الموسيقى في شخصية الطفل وقدرتها على خفض حالة التوتر والقلق فيصبح أكثر توازنا, إضافة إلى أن الموسيقى تستثير في الطفل انفعالات عديدة كالفرح والحزن والشجاعة والقوة والتعاطف وغيرها, وهو ما يساهم في أغناء عالم الطفل بالمشاعر التي تزيد من إحساسه بإنسانيته, كما تساهم الموسيقى في تنمية الجوانب الاجتماعية لدى الطفل, حيث تشتد أثناء الغناء والألعاب الموسيقية ثقة الطفل بنفسه ويعبر عن أحاسيسه بلا خجل وتسهل توطيد علاقاته بأقرانه, إضافة إلى الجانب الترفيهي في حياته, كما أن الموسيقى والغناء يعيدان إنتاج التراث الثقافي والفني في ذهنية الأطفال !!!!!.
 
وأمام كل هذا الكم الهائل من الدراسات العلمية والتربوية والنفسية والتي تؤكد على استجابة الفطرة الإنسانية للموسيقى والغناء,  في صحتها ومرضها, نواجه الموقف الديني الذي يفسر نصوصه فقهاء الدين وتجسده ممارسات الإسلام السياسي على الأرض وبكل وضوح في التضييق على حريات الناس في الاستمتاع بالموسيقى والغناء وغيرها من الفنون, ويجري هذا التضييق ومصادرة حرية الأفراد في الاستمتاع بالفنون على خلفية الفهم المشوه للنصوص الدينية التي ترد في القرآن وكذلك في الأحاديث النبوية, كما لا يوجد خلاف على تحريم الموسيقى والغناء لدى كل المذاهب الإسلامية, إلا في بعض الاختلافات الشكلية والتي تصب جميعها في خدمة المحرم. ويستند هذا التحريم إلى ما ورد, على سبيل المثال لا الحصر , في سورة لقمان/الآية ( 6 ): ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ), وحسب جموع المفسرين فأن " لهو الحديث " يقصد به الغناء وما يلهي عن الخير والأكاذيب, وكذلك ما ورد في سورة الحج/الآية ( 30 ): ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ), ويقصد هنا " بقول الزور " لدى أهل السنة والشيعة هو مجالس الغناء وأيضا شهادة الزور أي شهادة الكاذبة ولا مانع " حسب المفسرين " من أن يكونا مقصودين في الآية المذكورة فتحمل على كلا المعنيين, وقد ورد أيضا في سورة الإسراء/الآية ( 64 ): ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجالك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ), ويلتقي في هذه الآية  كل من أهل السنة وأهل الشيعة على تفسير معنى " بصوتك " والمقصود بها هنا هو الغناء والمزامير واللهو والملاهي, وآيات قرآنية كثيرة تشير إلى تحريم الغناء والعزف على مختلف الآلات الموسيقية لا مجال لذكرها بكثافتها هنا !!!!.
 
أما في السنة النبوية فقد جاء التحريم مطابقا لوروده في القران, والأحاديث النبوية هي الأخرى لا حصر لها, واذكر القارئ هنا ببعض من هذه الأحاديث لكي تسند الحديث عن تحريم الغناء والموسيقى, يقول النبي محمد: ( إياكم  واستماع المعازف والغناء, فإنهما ينبتان النفاق في القلب, كما ينبت الماء البقل ), ويقول أيضا في حديث آخر: ( إن الله بعثني رحمة للعالمين, ولأمحق المعازف والمزامير, وأمور الجاهلية ). كما يدخل الأئمة هنا على خط التحريم ليؤكدوا ذلك, كما في قول الإمام الصادق: ( بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة, ولا تجاب فيه الدعوة, ولا يدخله الملك ), ويدخل على خط التحريم أيضا علي خامئني, مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقوله: ( الغناء محرم شرعا مطلقا, حتى في الدعاء والقرآن والأذان والمراثي وغيرها ).  أما في المملكة العربية السعودية وبعد سلسلة مثيرة من الفتاوى الغريبة لمفتيها العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بتحريم الفنون من غناء وموسيقى وسينما ومسرح بوصفها تلهي القلوب أضاف المفتي المذكور الأرجيلة - الشيشة ولعبة الشطرنج الى قائمة المحرمات التي تطول يوما بعد أخر لتكشف عن خطورة هذا النهج المتشدد, وقد أدخلت المحرمات الجديدة إلى القائمة أثناء لقاء مفتي السعودية بطلبة جامعة الملك سعود.
وهكذا نجد إجماعا على تحريم الموسيقى والغناء والفنون الاخرى لدى جميع المذاهب الإسلامية, لما يسببه حسب رأيهم من انهيار للقيم والأخلاق وفساد الشباب وضياع الوقت وانهيار المجتمعات, والانحراف عن الدين, والتسبب في الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية والروحية !!!!.
 
وهكذا نجد تعارضا بين معطيات البحث العلمي وتفسير الخطاب الديني, ويثير لدينا تساؤلا: " إذا كان الخطاب الديني لا يقف بالضد من نتائج البحث العلمي كما يدعي كل فقهاء الدين ؟؟؟؟ فعلام هذه الفرقة بين العلم والدين في إحدى قضايا الحياة الروحية والنفسية والجسدية, إلا وهو الفن والموسيقى والغناء, أم هي دعوة مستديمة ومتجددة لفصل الدين عن الدولة وعدم التدخل في الحريات الشخصية, ولكي تأخذ مكونات الحياة الفكرية والثقافية والعقلية نصيبها من الثراء والرقي والتقدم بعيدا عن عبث المتأسلمين. أن كرار نوشي هو ضحية لغياب الدولة المدنية, وقد سبقه المئات وسيلحق به المئات والالوف في بلد اختلط به السياسة بالدين بأشد الاشكال تعسفا وحرمانا للحريات العامة والفردية. الرحمة والسلام للشهيد كرار نوشي والصبر والسلوان لأهله ومحبيه.

132
في سيكولوجيا الأنتماء الطائفي " بمناسبة استشهاد الامام علي(ع)"

د.عامر صالح 

توفي الامام علي بن أبي طالب في 21 رمضان 40 هجرية/ 27يناير 661 ميلادية, أي قبل أكثر من ألف وثلاثمئة وخمسين عام, والطائفيين الاسلامويين اليوم يستخدمون ذكرى استشهاده لأعادة انتاج الفتنة بين المكونات المذهبية المختلفة, وبدلا من البحث في التراث الانساني الذي خلفه الامام علي والذي تفرد به بين رجالات الاسلام ومفكريه, أصبح حديث البحث عن قاتله وأصوله " هل كان فارسيا أم من عرب الجزيرة " يتصدر بعض الفضائيات الصفراء والصحافة المعوقة لبث السموم وصرف الأنظار عن ما لحق بشعبنا من خراب ودمار شامل جراء السياسات الطائفية السياسية الرعناء. 

يقول الامام علي " أطفئو ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية, فأنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته, ونزعاته ونفثاته ". وسأتحدث في هذا المقال عن مشروعية الانتماء للطائفة او المذهب, وعدم مشروعية إقصاء الآخر, وتنوع مصادر الانتماء للفرد الواحد, مع الاشارة الى خصوصية الوضع في العراق.

أن الانتماء الطائفي والمذهبي هو نتيجة طبيعية لواقع يولد ويترعرع وينشأ فيه المرء, فإذا ولد في عائلة مسلمة ـ سنية, أو مسلمة ـ شيعية, أو مسيحيةـ كاثوليكية, أو مسيحية ـ بروتستانتية, أو صابئية أو زيديه, فأنه يشعر بطبيعة الحال بانتماء وشعور ما للطائفة وللدين الذي ولد فيه, وهذا أمر طبيعي يقارب في تجلياته صورة من يحمل الخصائص الوراثية لوالديه, من طول القامة ولون الشعر وشكل الأنف والوجه وبعض من مظاهر السلوك النمطي, ولم يفكر احد منا بتغير طائفته أو مذهبه باعتبارها تحصيل حاصل أو مستقر حال.قد ينساق البعض تحت وطأة ظروف التطرف والانهيار ألقيمي في البحث عن أدلة مفرطة في تأكيد صحة انتمائه الطائفي على حساب الطوائف والمذاهب الأخرى, وهي حالات من صور طبق الأصل لعمليات التجميل الجراحي لشكل الأنف, والشفاه, والخدود, والصدر أو لبس العدسات الملونة في محاولات لتغير حقائق الشكل, والذي لا يمكن فيه تجاوز سنة الوراثة, حيث يبقى طفح الصفات الوراثية الحقيقية في الأجيال القادمة دون أن يتغير من الجوهر شيء يذكر, ويبقى الإحساس الداخلي للفرد هو الأهم والفيصل في ذلك !!!!.
 
من الناحية الحيادية الخالصة أن الانتماء الطائفي لا يحتم العداء للطوائف والمذاهب الأخرى, بل يمكن أن يتعايش المرء مع الشعور بمحبة أبناء الطوائف الأخرى ومع احترامهم, وهو خلاف التعصب الطائفي تماما الذي يؤكد على تمجيد وتفضيل للطائفة التي ينتمي إليها الفرد وإقصاء الآخرين أو التميز ضدهم أو اتخاذ موقف معادي لهم. قد يتصور العديد من الناس للوهلة الأولى بأن الانتماء الطائفي هو نوع من الانتماءات المتخلفة والبدائية والضارة, وقد تلحق الأذى بالانتماء القومي والوطني, وهو تصور مستعجل ومنفعل يستند إلى حجم الكوارث والأهوال والاقتتال الذي يحصل بين الطوائف والقائم على خلفية تعصبية ـ طائفية, وليست انتمائية خالصة نزيهة ونظيفة للطائفة بعينها !!!!.

وكما نعرف فأن الإنسان المعاصر يتمتع بدوائر انتماء متعددة منها الانتماء الطائفي والوطني والقومي والسياسي والإقليمي والمهني والجيلي وغيرها من الانتماءات, والشعور بالانتماء لهذه هو دينامي وسياقي, دينامي لأنه يتحرك ويتغير في فضاء الزمان والمكان, وسياقي لأنه يتعلق بالسياق الذي يوجد فيه الفرد, ففي سياق ما مثل أثناء نقاش سياسي مع مجموعة كردية أو عربية يكون الشعور بالانتماء القومي هو الأبرز, بينما يكون الانتماء المهني هو الأبرز أثناء جدال مهني. ومن غير المنصف والأخلاقي أن يطلب من الفرد أن يحصر شعوره بالانتماء إلى دائرة واحدة كالدائرة الوطنية أو القومية أو الأممية أو الطائفية, وان يتخلى عن دوائر الانتماء الأخرى, إذ أن لكل دائرة انتماء دورها النفسي والسلوكي والاجتماعي في حياة الناس, وعليه من غير المنصف وغير المجدي أيضا التعامل مع الانتماء الطائفي باعتباره مرض عضال أو آفة يجب مكافحتها. نحن هنا نكافح التعصب الطائفي الذي يقوم بقتل الإنسان من خلال حصره في دائرة انتمائية ضيقة, كالانتماء الطائفي ـ الديني الضيق, واعتبار الفرد الضحية ممثلا حقيقيا لدائرة الصراع الطائفي ـ الطائفي, متناسيين بغباء انتماءات الإنسان الأخرى الوطنية والقومية والسياسية.فكم من عشرات الألوف من الضحايا في العراق قتلوا ظلما وبهتانا, وعشرات ألوف أخرى ينتظرها القتل بدوافع الانتماء الطائفي قد تنفذ بأيدي قاتل أو مجرم متعصب ـ طائفي, يرى في انتماء هؤلاء الطائفي ذريعة لجرائمه, وهم أبرياء حقا لا يمتلكون من التعصب ـ الطائفي شيئا يذكر, سوا لأنهم انتموا بالأسماء أو الطوائف لهذه الطائفة أو تلك, أو لأنهم ورثوا هذا الدين أو هذه الطائفة عن أبائهم وأجدادهم, وقد لا يحمل الضحايا أي مساحة تذكر في شخصياتهم من التعصب الطائفي, وقد ينتمون إلى دوائر أخرى أوسع بكثير من الطائفية الفطرية " الموروثة " !!!!.

أن بالإمكان للانتماء الطائفي أن يسخر للمصلحة الوطنية, وان التناقض بين الانتماء الطائفي وبين الوطني هو ليس أمرا حتميا, وان تاريخ العراق السياسي يشهد كثيرا من التوظيف المثمر للانتماءات الطائفية في الدفاع عن الوطن وسيادته ضد المحتل الأجنبي, ومن اجل ترسيخ السيادة الوطنية, وخاصة ما حصل في بداية تشكيل الدولة العراقية وما قبلها حيث لعب زعماء الطوائف السنية والشيعية وغيرها دورا مشرفا في مقارعة الاستعمار وردع طموحاته اللامشروعة والحفاظ على الوطن" , وبالإمكان من جانب آخر استغلال الانتماءات الطائفية والمذهبية لأهداف فئوية أو سياسية ضيقة أو لمعاداة القوى الوطنية, كما حصل ذلك في بعض المحطات المؤسفة والمؤذية لبعض فصائل الإسلام السياسي في تحالفها مع انقلابي 8 شباط عام 1963 والعمل بفتوى " الشيوعية كفر والحاد " والذي راح ضحيته عشرات الآلاف من المناضلين الوطنين والضحايا الأبرياء, وعلى العموم يجب عدم معاداة الانتماءات الطائفية, بل يجب تفهم دورها النفسي والاجتماعي في حياة الناس, وفي نفس الوقت التحذير من التعصب الطائفي الذي يقصي أو يعادي الآخرين, أذن هناك فرق بين أن تنتمي إلى طائفة ما وبين أن تتعصب لها !!!!.
 ويبقى الحديث عن مشروعية الانتماء إلى طائفة ما أو قومية ما أو هوية سياسية ما ناقصا بالتأكيد إذا لم يقترن بالحديث عن التعددية والديمقراطية كمنهج وكقيمة اجتماعية, والتعددية تعني قبول الآخرين المختلفين قوميا أو طائفيا أو سياسيا واحترام رأيهم وحقوقهم وطريقة حياتهم طالما أن ذلك لا يمس بحقوق بقية الفئات, ففي الوقت الذي ندعو به إلى حق الناس في ممارسة انتمائهم الطائفي يجب الدعوة بقوة إلى انتهاج التعددية والديمقراطية السياسية لكي يأخذ كل مكون اجتماعي أو ديني حجمه الطبيعي وألا يبقى خطر تحول الانتماء الطائفي إلى تعصب طائفي, كما تشهد على ذلك المظاهر العلنية والخفية للصراع في الساحة السياسية العراقية والمتلبس بثوب الطائفية والذي قام على خلفية نهج الاحتلال في التأسيس لنظام المحاصصة وزرع بذور الفتنة بين المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والاثنية العراقية, والمتمثلة بالعديد من الإجراءات الانتحارية : مثل قانون إدارة الدولة, واجتثاث البعث, وحل القوات المسلحة العراقية, وشكل المنظومة السياسية, والدستور, وقانون مكافحة الإرهاب, ودمج المليشيات في القوات المسلحة وغيرها في العديد من الإجراءات التي تدفع صوب الاحتقان السياسي والطائفي, والذي اتضحت أثارها منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003, والتي تجسدت في الحرب الأهلية السياسية ـ الطائفية, والتي سمحت لتنظيم القاعدة الإرهابي وداعش لاحقا مع فلول النظام المنهار أن تتصدر معارك " الشرف والبطولة " لإبادة شعبنا, والتي كادت تطبق على مكونات شعبنا وسحرها الجميل إلا أن نباهة شعبنا وتقاليده في التسامح الاجتماعي  واللاعصبية ساهمت في تضيق نار الفتنة في محاولة لإخمادها !!!.

واليوم إذ ينبذ شعبنا بشدة الاحتراب والاقتتال الطائفي والصراع السياسي ذو الذرائع الطائفية, نجد أن هناك زحفا آخرا طائفيا منظما لا تقل خطورته عن الزحف الطائفي المسلح" والذي لا تزال بقاياه رهن الإشارة والصفقات السياسية والظروف المحيطة  بين التهديد والوعيد ", حيث يشهد العراق زحفا طائفيا " غير مقدس " بدون رحمة أو رجعة على الوزارات والدوائر الحكومية ومجالس الحكم في المحافظات وغيرها من مرافق الحياة الحكومية, فقد تحولت الوزارات والدوائر الحكومية إلى محميات ومقرات حزبية وخلايا تنظيمية وأصبحت الوزارات مغلقة لجميع المنتسبين والعاملين فيها لجهة حزب الوزير الذي يقود الوزارة, ويشمل ذلك كل الوزارات والدوائر الحكومية بدون استثناء, من أجهزة أمنية, ومخابراتية, وجيش, ووزارة الخارجية وسفاراتها وقنصلياتها الدبلوماسية في الخارج "والتي أصبحت تمثل حزب السفير أو القنصل في الخارج ولا تمثل الوطن", ووزارة الصحة, والتربية والتعليم وغيرها, وعلى خلفية ذلك يستشري الفساد الإداري والمالي والأخلاقي محتميا ومحميا بالمظلة الطائفية والسياسية لتلك الجهة المتربعة في الجهاز الحكومي المعني دون أدنى رقيب, ومؤسسا لأحترابات قادمة لا نعرف مدايات سقفها وخطورتها على الاستقرار السياسي المنشود للبلاد, وخاصة في مرحلة ما بعد داعش.

أن ما يؤذي الناس والشعب عموما وبمختلف أطيافه هو ليست الانتماء إلى طائفة, فذلك واقع حال, حيث عاش العراق فترات من المحبة والمودة بين الطوائف والمذاهب والأديان المختلفة, وهي فترات إنسانية حقه نعتز بها جميعا, لم نعرف فيها دين أو مذهب جارنا وصديقنا,ولم نؤسس تعاملنا الحياتي على أساس هذا الانتماء , ولم نجرئ لأسباب أخلاقية أن نسأل عن انتماءات جارنا وصديقنا المذهبية والطائفية, فكان ذلك من المعيب والمخزي في ثقافة التعامل اليومي, وان عرفنا بذلك فنكن له كل المودة والاحترام, حيث كان الانتماء للوطن هو سيد الموقف والثقافة السائدة !!!!.
 
إننا اليوم نعاني من الفتنة الطائفية القائمة على ذلك السلوك المتمثل في بث روح التعصب الطائفي أو إثارة النعرة المذهبية, وخاصة عندما يستخدم هذا السلوك للنيل والانتقام من طائفة على حساب طائفة أخرى, أيا كانت هذه الطائفة " سنية, شيعية, زيديه, مسلمة, مسيحية, صابئية وغيرها " وهي سلوكيات تستهدف التفرقة الطائفية والمذهبية والدينية حيث المساس المباشر لحياة الناس وأرزاقهم وحقوقهم ومصالحهم وكرامتهم وآمالهم وأمنهم وسلمهم, بل وقتلهم باعتبارهم مرتدين, والتفرقة الطائفية هنا هي جريمة بعينها, يكون ضحاياها شرائح واسعة من المجتمع المدني, وهي سلوكيات تخالف ابسط مقومات الدين الحنيف, وكما ورد على لسان النبي محمد : " لا فرق بين عربي و لا أعجمي إلا بالتقوى " , وهو كذلك بالتأكيد سلوك مخالف للأعراف والتقاليد الدولية, حيث تنص المادة ( 55) من ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على عدم الفوارق بين الناس, حيث تؤكد المادة المذكورة على : ( احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تميز بسبب الجنس أو اللغة والدين, و لا تفرق بين الرجال والنساء, ومراعاة تحقيق تلك الحقوق والحريات فعلا).

أن التعصب بمختلف مظاهره من عنصرية, وطائفية دينية أو مذهبية, أو سياسية, أو قومية أثنية, أو حزبية وفكرية, تمثل اتجاها نفسيا جامدا ومتحجرا مشحون انفعاليا أو عقيدة وحكم مسبق مع أو ضد جماعة أو أي شيء أو موضوع, ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة أو حقائق علمية. أو هو موقف معاد ضد الجماعات الأخرى المختلفة في المعتقد أو المذهب أو الدين أو القومية, وخاصة عندما لا يكون هناك تفاعلا حقيقيا ومعرفة واقعية بين هذه الجماعات, وان هذا التحجر وعدم التفاعل يحول الوطن الأم إلى كانتونات منعزلة تسودها الريبة والشك والبغضاء فيما بعضها البعض, وبالتالي يحرم التعصب هذه المجاميع من فرص التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتنمية المستديمة تحت مظلة الوطن, لأن التعصب بطبيعته يناهض العلم ويحارب التقدم ويعادي الحقيقة ويقاوم المبادرة الفردية ويخاف من الأفكار الجديدة ولا يقبل بالنقد البناء ويرفض التساؤل باعتباره مصدر الحقائق والمعارف, ويترك التعصب لدى أهله انطباعا وهميا بالكمال والامتياز والأهلية في مختلف المجالات, وهو بذلك يغلق أبواب الرحمة والتفاعل مع البيئة الخارجية, وهو بذلك يكتفي بالاسترجاع والاجترار ويغلق قابليات العقل ويخنق فعاليات العلم ويكرس الجهل ويملأ النفوس مسرة وفرحا بالجهل واستماتة في الدفاع عنه.

إن شعبنا في العراق اليوم يطمح إلى بناء حكومة وطنية قوية في المركز, تحترم مصالح وحقوق كل الطوائف والأديان والأعراق والاثنيات, وتحافظ على وحدة البلاد وحمايته من التدخلات الإقليمية, تحظى بثقة العالم في تطبيقها للديمقراطية بعيدا عن المحاصصات, ويكون وزرائها وكادرها في مختلف المواقع من التكنوقراط  والأكفاء والقادرين على محاربة الفساد بمختلف مظاهره. ولعل في ذكرى استشهاد الامام علي تجري الاستفادة الحية من تراثه الانساني للحفاظ على وحدة المجتمع العراقي وتنوعه الجميل, وكما قال الامام علي ان الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق !!!.

 



133
القمة العربية والاسلامية ـ الأمريكية في الرياض وأنتصار العقل المتحجر

د.عامر صالح

أنتهت اعمال مؤتمرات القمم العربية والاسلامية الأمريكية في الرياض, والتي حضرها أكثر من 50 دولة عربية واسلامية, والتي تمخضت عنها العديد من الصفقات والمعاهدات والتي كانت قيمتها اكثر من 500 مليار دولار, وكان للتسليح حصة الأسد في هذه الصفقات حيث بلغت قيمتها اكثر من 380 مليار دولار, الى جانب مشاريع أخرى اقتصادية وغيرها, وكانت واجهة القمم الأساسية هو بذل الجهود لمحاربة والقضاء على الأرهاب وداعش في المقدمة, كما هو معلن, ولكن كانت الجهود الأمريكية والسعودية بشكل خاص هو الدعوة لمحاربة ايران باعتبارها الراعي والداعم الأول للأرهاب على المستوى العالمي حسب ادعائهم, وإنها خطر يهدد استقرار المنطقة ودولها, وما صفقات التسليح الهائلة الامريكية للسعودية إلا هي التهيأ العملي والميداني لأعلان الحرب على ايران ومحوها اذا تمكنوا !!!. 

لقد نجحت امريكا ترامب اقتصاديا في هذه القمم من خلال صفقاتها الاقتصادية ومن خلال استنزاف المال الخليجي والسعودي بشكل خاص, وستسهم هذه الصفقات بأنتعاش التصنيع العسكري الامريكي وايجاد االمزيد من فرص التشغيل في المؤسسة العسكرية, الى جانب المؤسسات الأخرى من خلال صفقات ذات طابع اقتصادي وغيره, كما أنتعشت السعودية وتنفست الصعداء مقابل هذا المال السخي بشراء صك الغفران وتبرئتها من كونها راعية للأرهاب الدولي واعفائها من المحاسبة الامريكية حسب قانون جاستا بخصوص احداث الحادي عشر من سبتمر الارهابية عام 2011, وتبرئتها ضمنا من دورها في زعزعة الاستقرار في المنطقة العربية واساهمها في تدمير دول عربية مختلفة في اطار ما يسمى بالربيع العربي او دورها في تدمير اليمن وسوريا ودعم التنظيمات الارهابية المختلفة في سوريا والعراق, وتغذية الصراعات الطائفية والمذهبية !!!.

لقد اقدمت هذه القمة على عمل خطير وهو اعطاء صبغة شرعية ثنائية للصراع الطائفي في المنطقة وتغذيته من خلال رؤيا سعودية خاصة للصراع, من تقسيم المنطقة الى محورين: سني ـ شيعي, والوقوف الى جانب المحور السني " المظلوم " وأعلان الحرب على المحور الشيعي " الظالم ", وهو عمل خطير بنتائجه اللاحقة في اطار اعادة وتوسيع نطاق الارهاب في المنطقة, واعطاء مشروعية للطرف الاخر " الشيعي " في الدفاع عن نفسه وردود افعاله, وما يقوم به من دفاعات ذاتية للحفاظ على نفسه, مما يؤدي الى تغذية العنف والعنف المتبادل في بيئة مسلحة هذه المرة بأعتى اسلحة الدمار الشامل. وفي الوقت الذي اكدت فيه الكثير من الخطابات على محاربة الارهاب بصورة عامة وداعش في مقدمتها, جاء الخطاب الامريكي والسعودي وكأنه خطاب واحد مركزا على ايران باعتبارها هي السبب في كل ويلات وحروب المنطقة !!!.
ان محاربة الارهاب هو ليست فقط بعقد صفقات سلاح أو بحمل السلاح والقضاء على فصيل ما مسلح جرى تصنيفه ضمن قائمة المنظمات الارهابية, وان كان ذلك ميدانيا ضرورة لا بد منها وخاصة في ظل اجماع دولي على هذا الفصيل او تلك وداعش في المقدمة, ولكن الاهم من كل هذا هو الوقوف ضد منابع الارهاب الفكرية والعقائدية وخاصة الدينية منها, كي لا يعاد انتاج الارهاب ثانية وبمسميات أخرى ما دامت التربة الفكرية والعقائدية والبيئة الاجتماعية صالحة لإعادة نوبات الارهاب. أنا متأكد" على سبيل المثال لا الحصر" ان العراق سيقضي على داعش قريبا ولكن هذا لا يعني الخلاص من الارهاب نهائيا مادامت قنوات الارهاب, من سوء أوضاع وتردي عام وفساد في كل مظاهر الحياة تشكل ارضية خصبة لولادة دواعش جدد, وكذلك التحالف الدولي هو الاخر سيقضي مؤقتا على داعش, ولكن العثور على حلول جذرية لمناطق الصراع المستعرة بفكر التطرف الديني والايديولجي هو أكثر ألحاحا لتأمين المستقبل ومنع الارهاب !!!. 

الإرهاب بدون شك له بيئة حاضنة ومواتية لديمومته وبقائه, ولا يعني أبدا القضاء عليه مباشرة بالحشود العالمية العسكرية يعني اختفائه عن الظهور ثانية, لان سنة البحث العلمي تستدعي معالجة الظاهرة من خلال أسبابها وليست من خلال قطع دابر الأعراض وبقاء الأسباب, ومن هنا تأتي أهمية التزامن في القضاء على الأذرع العسكرية للإرهاب مع مجمل تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في البيئة التي ينتعش فيها الإرهاب بمختلف مسمياته " داعش وأخواتها " !!!.

أسوق هنا بعض من العوامل العامة التي تعتبر بيئة حاضنة للتحجر العقلي وما يفرزه من مظاهر, وفي مقدمتها الارهاب, وأبرز هذه العوامل هي:

1 ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

2 ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده هو صالح لكل زمان ومكان, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

3 ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا الى قمة النظم السياسية القمعية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي الى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته. 

هنا أقول بوضوح ان الكثير من هذه الدول المنظمة الى القمة العربية الاسلامية والامريكية هي دول راعية للارهاب وداعمة له وتقدم كل المستلزمات العسكرية واللوجستية والمالية له, وذات بيئة اقتصادية وسياسية وفكرية قابلة على اعادة انتاج الارهاب ونوباته القادمة, ويكفي ان يطلع القارئ على قائمة الدول الداخلة فيه, وقد تكون واجهة الحلف هو محاربة داعش الشماعة العلنية للارهاب الآن ومادة المزايدة العلنية في القضاء على الارهاب, ولكن الباطن يخفي الكوارث في هذا الحلف, من دعم متزايد لفصائل أخرى ارهابية متطرفة, والى اتخاذ الحلف واجهة شرعية لمحاربة فصائل اخرى تحت واجهة مسميات الارهاب, وعلى العموم فأن هذا الحلف جاء مرتبكا لاخطط فيه ولا استرتيجية ملموسه ولا اهداف واضحة ولا آليات للتنفيذ, باستثناء كونه مشروع اقتصادي كبير لأمريكا مقابل صك غفران للسعودية !!!. 


هل يعقل لبلد مثل السعودية مطابق لداعش في صيرورته ان يقاتل الارهاب بصدق ويدعم بناء ديمقراطية واستقرار حقيقي في بلد عربي ما, حيث يمارس النظام يوميا حد الحرابة, وحد الردة, وقطع الايدي, وتكفير الاخر بفتوى بسيطة ساذجة, وجهاز حسبة يراقب الناس في ملابسهم وتصرفاتهم, وقتل السحرة, والجلد أمام الملئ, وتدمير الاضرحة والتماثيل بحجة الشرك, تمويل الارهاب والمنظمات الجهادية والقاعدة منها. يعلم العالم الغربي وامريكا بشكل خاص ان السعودية هي مصدر اساسي من مصادر الارهاب العالمي عبر فتاوى الوهابية التي تكفر الاوربي والامريكي كما تكفر المذاهب الاسلامية المغايرة لها, وقد اكتوى العالم الاوربي والامريكي والاسلامي بذلك,لقد نطقت منظمات حقوق الانسان بتجازوات السعودية, ولكن النفط والمصالح الامريكية كانت اعلى من صوت حقوق الانسان !!!. 

أن حديثي هذا لا يبرئ ذمة ايران من التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية والاسلامية عبر نهجها المعروف في تصدير الثورة الاسلامية ودعم الحركات والفصائل الاسلامية المطابقة لها في النهج والقناعات الفكرية والمذهبية والمساهمة في زعزعة الاستقرار الامني في المنطقة, ولكن هل يرتقي هذا الى جرائم القتل الجماعي والمجاني اليومي والابادة الانسانية. أن الجبهات الداخلية الوطنية المتماسكة هي وحدها الكفيلة بردع كافة مشاريع التدخل وفرض اجندة خارجية, وهي بالتأكيد شرط سابق لمحاربة الارهاب !!!.








134
حرية التظاهر والاحتجاج واختطاف العقل المدني 

د.عامر صالح 


في بلد اخذت تعلو فيه فوهات البنادق على الكلمات أقدمت مجموعة من خفافيش الظلام المليشياوية في فجر يوم الأثنين بتاريخ 2017 ـ 5ـ 8 على اختطاف سبعة من الناشطين المدنيين في الاحتجاجات السلمية من وسط العاصمة بغداد في منطقة البتاوين, والناشطون هم: احمد نعيم رويعي, حيدر ناشي حسن, علي حسين شناوة, سامر عامر موسى, عبد الله لطيف فرج, زيد يحيى وحمزة العراقي. وقد ارتكب الظلامين والمتلبسين في الثقافة الداعشية في تصفية الحرث والنسل على اختطاف النشطاء السلميين في سيناريو أقل ما يقال عنه سيناريو جبان وقد نفذ من من قبل مجموعة من المتشبهين بالرجال بحق نشطاء من اجل عراق ديمقراطي يخلو من الأرهاب والطائفية الكريهة والمحاصصة الأثنية والمذهبية المريضة والرعناء ذات الأصول الدموية الغارقة في الفساد الأداري والمالي والأخلاقي, ومتخذة من الطائفة والمذهب والعرق شماعة لأرتكاب جرائم بحق الشعب العراقي وبحق الانسانية جمعاء !!!.   

لقد اكدت هذه المجاميع الظلامية المسلحة ومن يقف من ورائها سياسيا وعبر تكرار حالات الاختطاف والتهديد والقتل او الفصل من مقاعد الدراسة الجامعية, ان هذه الجماعات السياسية المليشياوية ضد الاحتجاجات والتظاهر السلمي, وبالتالي فهي ضد الدستور الذي كفل حق التظاهر والاحتجاج وضد توفير الحماية اللازمة للمتظاهرين والنشطاء المدنيين, وانهم ضد كل اشكال التعبير السلمي عن اراء الشعب ومطالبه المشروعة, وانهم ضد الممارسة الديمقراطية وحقوق الانسان الاساسية التي يجب دعمها بكل الوسائل السلمية والقانونية, كما وانهم ضد حق الافراد والجماعات في التظاهر سلميا من اجل حل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المشتركة, كما ان من يقف سياسيا وراء عمليات الاختطاف هو ضد اي عمليات تغير مرتقبة في مسارات العملية السياسية نحو الافضل, وبما ان التظاهرات والاحتجاجات السلمية هي استفتاء يومي لضعف الاداء الحكومي فان اختطاف رموز التظاهر والاحتجاج هو دليل صارخ على رفض التغير.

ان هذا التراكم السيئ في الاحداث يطال الشك فيه الى مصداقية محاربة داعش عسكريا في مناطق تواجدها عندما لا يقترن ذلك بثقافة احترام الرأي والرأي الآخر في المناطق التي تتواجد فيها سلطة الدولة الاتحادية وبغداد بشكل خاص, لأن محاربة داعش عسكريا يجب ان يتزامن ويقترن حثيثا في القضاء على ثقافة داعش وأمتدادتها في كل التراب العراقي, تلك الثقافة الوسخة التي يجسدها العقل السيكوباتي المريض في وسط العراق وجنوبه وشماله, والتي تدعي أحتكار الحقيقة عبر تسويف المذهب والطائفة والعرق وتوظيفه لمصلحة تفكيك النسيج الاجتماعي واشاعة ثقافة التصفيات الجسدية والنفسية وخلق الفوضى المدمرة, وهي ثقافة داعشية تسعى داعش لإشاعتها في مناطق تواجدها عسكريا !!!. 

لقد أقدم هؤلاء الجبناء والمستأسدين بالسلاح على أختطاف النشطاء المدنيين السبعة ليؤكدوا لنا أن داعش موجودة في كل حتة عراقية وفي كل زمان وبأمكانهم أن يستنسخوا داعش اخرى ذات مواصفات ثقافية وسلوكية تخريبية لاتقل ابدا في جرمها وصلافتها عن داعش الرسمية والمعروفة لدى الغرب والشرق, فالداعشية سلوك إجرامي وهو أرهاب منزوع الصلة بدين أو مذهب بعينه, وبأمكانك ان تكون داعشيا عندما لا تحترم حرية التعبير والصحافة والاحتجاج والتظاهر والرأي الآخر !!!.

لقد اكدت الاحداث بما لا يقبل الشك ان هذه المجاميع المسلحة المرتزقة هي مجاميع معروفة وليست مبهمة ودون اصول سياسية طائفية, بل تدخل كما دخلت سابقا على خط التفاوض مع الحكومة في العديد من حالات الاختطاف والقتل, ولهذه المجاميع سجونها الخاصة وامكنة للاعتقال والتعذيب ولها قضائها الخاص واحكامها الشرعية كما ترى, وهي معروفة ضمنا لدى الوسط السياسي الرسمي, كما هي معرفة داعش العلنية, ولهذه المجاميع المسلحة مناطق نفوذ في بغداد وتقتسمه جغروطائفيا !!!. 

ان حرية التظاهر والاحتجاج السلمي تشكل ركنا من أركان الدولة المدنية والديمقراطية وقد تكرست هذه الحرية في جميع المواثيق الدولية, والعراقية ايضا من خلال الدستور, وبالتالي فأن الأقدام على اختطاف النشطاء المدنيين السبعة هو جريمة أسوة بجرائم اختطاف وقتل الصحفين التي ارتكبت سابقا في العراق, وهي جرائم ضد الأنسانية وتهدد النظام السياسي الوطني ومصداقيته في الحفاظ على أرواح المواطنين المحتجين سلميا على تردي الاوضاع المعيشية والسياسية بشكل خاص !!!.

ان ما قام به النشطاء السبعة المختطفين اسوة بكل المتظاهرين والمحتجين سلميا  منسجمة مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان في حرية النقد والتعبير وحق التجمع والتظاهر وابداء الرأي المغاير, كما كانت نشاطاتهم منسجمة مع روح الدستور العراقي ونصوصه الصريحة في احترام حرية الرأي والتظاهر والتجمع, فلم يكن هؤلاء الشباب المختطفين دعاة حرب او فتنة طائفية او مذهبية او كراهية وطنية وقومية, أنهم دعاة سلام وتغير بوسائل حضارية وبحق مشروع !!!.

فلتتظافر كل الجهود الوطنية المخلصة, من أجهزة أمنية وأستخباراتية ومنظمات أنسانية عالمية ووطنية ومنظمات مجتمع مدني عراقية من اجل النضال لأطلاق صراح المختطفين النشطاء المدنيين السبعة ومعرفة مصيرهم وانزال اقصى العقوبة بالجناة المجرمين حثالى المجتمع وأعداء حرية التعبير والأمن المجتمعي !!!.



135
عيد العمال العالمي ودلالته لمحنة العمال العراقيين


د.عامر صالح

العمل خلق الانسان في افضل صورة ونقله نقلة نوعية في سلم التطور البيولوجي لا ترتقي أليه افضل كل الحيوانات على وجه الخليقة, ومنح الانسان مزايا تشريحية وفسيولوجية ومن ثم سيكولوجية غير متوفرة في القرائن الحيوانية الاخرى, رغم اشتراكه معها ببعض السمات التطورية الاساسية, والعمل ميز الافراد فيما بينهم في الكثير من المواصفات النفسية والسلوكية, والانسان العامل بدوره خلق الحضارة ببعديها المادي والمعنوي والثقافي بشكل أعم. ومهما بلغت درجة تعقيد التقدم التقني والمعرفي والتي تخفف من وطأة العمل اليدوي او العضلي, فأن أسس الحضارة الاولى بنيت من عرق العمال الاوائل والذين قدمو تضحيات من اجل بناء الاسس المادية للحضارة الاولى, والتي افرزت لاحقا كل هذا التراكم المادي والذي شكل قوة دفع للفكر والتفكير نحو ايجاد مخارج افضل للحضارة الانسانية عبر التخفيف المستمر لأعباء الجسد من خلال انطلاقة الفكر الذي جسدته لاحقا كل المبتكرات الانسانية وفي كل الحقول المعرفية.

ومن هنا يمكن القول ان العمل هو محور اعمار الارض ومن فيها, والعمل هو القوة المحركة لركود العقل والسواعد، والعمل هو الحالة الطبيعية التلقائية لوجود الانسان فوق هذا الكوكب. لا تنهض امة الا بالعمل، ولا يتحقق انجاز الا بالعمل، ولا ترتقي الانسانية الا بالعمل، ولما كان العمل يحتاج الى عامل، فان العامل اذن هو صانع كل ما تقدم، وهو الذي يحتفي به العالم من خلال يوم اقرته امم الارض كلها عرف بيوم العمال العالمي، اعترافا لا اقول باهمية العامل، بل بمحورية دوره في اثراء الوجود بكل جديد ومفيد. 


 وتاريخيا فأن الأول من أيار يشير إلى العديد من الاحتفالات العمالية المختلفة التي أدت إلى الأول من أيار كذكرى لإحياء النضال من أجل ثمان ساعات عمل في اليوم. وفي هذا الصدد يسمى الأول من أيار بالعطلة العالمية لعيد العمال أو عيد العمال العالمي. وقد بدأت فكرة يوم العمال في استراليا عام 1856, ومع انتشار الفكرة في جميع أنحاء العالم تم اختيار الأول من شهر أيار ليصبح ذكرى للاحتفال بحلول الدولية الثانية للأشخاص المشتركين في قضية هايماركت 1886. وأول عيد للعمال في الولايات المتحدة الأمريكية تم الاحتفال به في الخامس من سبتمر عام 1882 في مدينة نيويورك. وفي أعقاب وفاة عدد من العمال على أيدي الجيش الأمريكي ومارشالات الولايات المتحدة خلال إضراب بولمان عام 1894 , وضع الرئيس جروفر كليفلاند تسويات مصالحة مع حزب العمل باعتباره أولوية سياسية عليا. وخوفا من المزيد من الصراعات, تم تشريع عيد العمال وجعله عطلة وطنية من خلال تمريره إلى الكونغرس والموافقة عليه بالإجماع, فقط بعد ستة أيام من انتهاء الإضراب, وكان كليفلاند يشعر بالقلق لتوائم عطلة عيد العمال مع الاحتفالات بيوم أيار الدولي, والذي قد يثير مشاعر سلبية مرتبطة بقضايا هايماركت عام 1886 , عندما أطلق أفراد شرطة شيكاغو النار على عدد من العمال أثناء إضراب عام مطالبين بحد أقصى لعدد ساعات اليوم الواحد لا يزيد عن ثماني ساعات, وقد راح ضحية تلك الحادثة العشرات من أولئك العمال, وقامت الخمسون ولاية أمريكية بالاحتفال بعيد العمال كعطلة رسمية. وكان إصرار الطبقة العاملة الأمريكية على إبقاء الاحتفال في الأول من أيار هو السائد !!!.
   
أشتد ساعد الحركات العمالية في أوربا بنفوذ أفكار الاشتراكية والشيوعية واليسار عموما, وعلى خلفية ذلك افتتح مؤتمر النواب الاشتراكيين الدولي في باريس الفرنسية في العام 1889 والذي حضره أربعمائة مندوب, وقرر المؤتمر تحديد الأول من أيار من كل سنة عيدا مشتركا لجميع العمال في العالم, وكان المندوب الأمريكي في المؤتمر قد أشاد بقرار رفاقه الفرنسيين. وفي هذا اليوم من عام 1890 بادر العمال في أمريكا وأوربا بتسيير مظاهرات كبيرة للاحتفال بنجاح كفاح العمال ليولد عيد العمال العالمي, ليكون بذلك اختيار هذا التاريخ تخليدا لذكرى من استشهد من العمال والقيادات العمالية. وعلى خلفية ذلك فأن القوى الشيوعية والاشتراكية واليسارية عموما اعتبرت نفسها بفعل دورها التاريخي بمثابة الخط الدفاعي الأول عن حقوق العمال ومطالبيهم الأساسية, وكان شعار " يا عمال العالم اتحدوا " ملهما وقوة دفع لكل العمال في العالم من اجل انتزاع حقوقهم المشروعة. ولا غرابة من أن يتجاوز الاحتفال بالأول من أيار حدود جغرافيته في أمريكا وأوربا إلى بقاع العالم كافة, ومن ضمنها العالم العربي والإسلامي !!!.


تجاوز حدث الأول من أيار أهدافه التقليدية في المطالبة بثماني ساعات عمل فقط في اليوم, إلى أهداف إنسانية كبرى وموضوعات أكثر شمولية من خصوصية الذكرى, وقد نتج هذا بفعل الإطار المرجعي الفكري والسياسي والفلسفي الذي ألقى بظلاله على حركة الطبقة العاملة العالمية, وكان أبرزه نفوذ الفكر الاشتراكي العالمي, فكر المساواة بين الجنسيين في كافة الحقوق, بما فيه حق المرأة في المساهمة في الشأن العام, حق العمل والانخراط في كل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وحق ايحاد فرص عمل للعاطلين, وحق البحث عن ضمانات افضل للعمال, وحق الحصول على تعويضات اثناء فترات البطالة المؤقتة, وحق اعادة التأهيل بما ينسجم مع احتياجات سوق العمل الى مختلف المهارات الفنية وغيرها !!!. 

في العراق اليوم تعاني الطبقة العاملة من شتى صنوف الاضطهاد والحرمان والمعاناة, وان معانتها تختلف نسبيا عن نظيرتها في الدول الاخرى, حيث توقف عمليات التنمية الاقتصادية وتدمير اغلب المشاريع الانتاجية, وما يصاحب ذلك من عزوف وبطالة جماعية دون حقوق تذكر, والحرمان من المخصصات والمكافئات الاولية عند بلوغ سن التقاعد, والتعرض لمخاطر العمليات الانتحارية والتفجيرات العشوائية عند تواجد العمال في الطوابير الصباحية للحصول على فرص للعمل اليومي.

عزوف ابناء العمال عن التعليم وهجر مقاعد الدراسة نظرا لعدم كفاية دخل الاب لتغطية نفقات الدراسة او الحاجة الاسرية لمزيدا من دعم اولادهم المادي مما يسهم في مخاطر جدية على حياة ابناء العمال وتعرضهم لمختلف الضغوطات الخارجية, بل وحتى الاضطرار للتسول. 

تعرض العمال الى الابتزاز وسوء المعاملة في مواقع العمل والتميز بين العمال على اساس الولاء العشائري والطائفي والمذهبي, والتهديدات المستمرة في انهاء عقود العمال مقابل الحصول على الرشوة.

كما ان الطائفية المقيتة والمحصصات المذهبية والاثنية ساهمت بتفكيك النسيج الاجتماعي لوحدة الطبقة العاملة من خلال تعزيز الانتماء للمذهب او الطائفة او الحزب واضعاف الاحساس المشترك بوحدة القضايا المصيرية للطبقة العاملة العراقية. 

انعدام فرص التاهيل واعادة التاهيل للعمال لكي يستجيبوا لحاجات سوق العمل ومتطلباته, مما جعل من العمال ذوي المهارات القديمة عالة على سوق العمل ومهددين دوما بالاستغناء عن خدماتهام وحرمانهم من خدماتهم واستحقاقتهم المالية.

لقد كان لفتح الاستيراد على مصرعيه دون سياسة تنافسية مع منتوج الداخل أثره السلبي في غلق الكثير من المصانع والمعامل وتسريح العمال منها دون الحصول على حقوقهم او العمل على تهيئتهم لفرص عمل جديدة. 

غياب مضلة الدعم المالي والاجتماعي للعمال عند الحوادث كالاعاقات والامراض المزمنة, او فقدان الاسرة لهذا الدعم عند غياب الاب العامل مما يضع اسر عراقية بكاملها في مهب الفقر والجوع والتسول والفاقة.

منذ المصادقة على الدستور العراقي الجديد والى اليوم لا توجد تشريعات واضحة تضمن مبدأ العدالة الاجتماعية, وخاصة بالنسبة للطبقة العاملة من حيث اعادة صياغة متكاملة لحمايتها من حيث الضمانات الاجتماعية والحقوق, وخاصة بعد ما حول النظام السابق العمال الى موظفين وحرمانهام من الضمانات الاجتماعية المختلفة. كما تجري محاربة التنظيم النقابي ومنعه في القطاع العام من خلال الإصرار على إبقاء القرار الجائر 150 لسنة 1987 ، وقانون التنظيم النقابي رقم 52 لسنة 1987 وعدم تشريع قانون للتقاعد والضمان الاجتماعي للعمال وفق معايير العمل الدولية يلبي حاجات ومعيشة عمالنا ويضمن حاضرهم ومستقبلهم ، والتدخل في شؤون تنظيمنا النقابي من قبل البعض.

 ان اللهاث وراء الخصخصة للمشاريع الحكومية الكبرى وذات التركيز الشديد لتواجد القوى العاملة يهدد مستقبل الالوف من القوى العاملة بمستقبل مجهول من خلال التسريح الاعتباطي والعفوي لهم بما يخدم الثراء الفاحش والفساد المستشري. 

النزوح بسبب الحروب الداخلية وما سببته داعش بشكل خاص من دمار للبنية التحتية الاقتصادية ترك اثاره الواضحة في خسارة الكثير لفرص العمل وجعلهم مع عوائلهم في مهب الريح, فقد حول الكثير منهم الى عاطلين وضحايا حروب يستحقون كل الدعم والمساندة.

وفي الختام فان الاحتفال بعيد العمال العالمي يعطي شحنة ايجابية للطبقة العاملة العراقية من مختلف الانتماءات القومية والسياسية والدينية الى توحيد طاقاتهم وجهودهم من جل نبذ الطائفية والمحاصصة المقيتة وبناء العراق الديمقراطي الخالي من العنف والتعسف والاضطهاد, وتسود فيه قيم التسامح والحوار والديمقراطية, وتتوفر فيه فرص العيش الكريم للجميع وللطبقة العاملة العراقية افضل الظروف. وكل عام وانتم بخير !!!.   
 









136
فصل الطلبة المحتجين يضع الجامعات العراقية بين خيار الأستقلال الاكاديمي أو الاحتلال المليشياوي

د.عامر صالح
أقدمت رئاسة جامعة القادسية بفصل اربعة طلبة، بتهمة "الاساءة" الى الجامعة بخصوص حادثة الاحتجاج على زيارة قام بها الأمين العام لعصائب أهل الحق الشيخ قيس الخزعلي مطلع الشهر الجاري, وفقا للأمر الاداري الخاص بفصل الطلبةوالمرقم بالعدد 969 في 2017/4/24 وجاء فيه: "تقرر معاقبة الطلبة المدرجة اسمائهم ادناه بالفصل المؤقت من الكلية لمدة سنة دراسية واحدة لعام 2016-2017 وفق المادة الخامسة الفقرة العاشرة من تعليمات قانون انضباط الطلبة رقم 160 لسنة 2007 والتي تنص على (يعاقب الطالب بالفصل المؤقت من الجامعة لمدة لا تزيد عن سنة دراسية واحدة، اذا ارتكب احدى المخالفات التالية: الاساءة الى سمعة الجامعة او الهيئة بالفعل او القول).

وقد جاء قرار الفصل على خلفية الأحداث التي حصلت بتاريخ 10ـ4ـ2017 وهو احتجاج شهدته الجامعة المذكورة لجموع من طلبة الجامعة على زيارة زعيم احدى الفصائل السياسية الدينية المسلحة والذي يتزعمه السيد قيس الخزعلي, وقد عبر الطلبة عن غضبهم واستنكارهم سلميا لتدخل الأحزاب السياسية الدينية والمسلحة منها بشكل خاص بالشأن الجامعي وتحويل أروقة الجامعة الى مناسبة للعسكرة والتعبئة الحزبية المليشياوية, وقد بادر عناصر من حماية الأمين العام لعصائب أهل الحق  باطلاق النار صوب الطلبة المحتجين". واضافت المصادر في حينها أن اثنين من الطلبة أصيبوا بجروح اثر المناوشات التي حدثت لاحقاً مع أفراد حماية الخزعلي. وسارعت القوات الأمنية لفرض اجراءات مشددة عقب اطلاق الرصاص والمناوشات بين حماية الخزعلي وطلاب جامعة القادسية. 

أن اختيار المؤسسات الجامعية لأفتعال الأزمات والتجاوز على الحرية الأكاديمية والعبث بالأستقلال النسبي للجامعات والتدخل في الشأن الخاص بها من قبل اناس لا صلة لهم من قريب أو بعيد بمؤسسات التعليم العالي, بل من اناس يرون في المدارس الدينية والجوامع والحسينيات هي المصدر الوحيد للمعرفة والعلوم ولديها تكمن الأجابة على كل تساؤلات المجتمع لمختلف المشكلات, ولديها ايضا التفسيرات الجاهزة لكل الظواهر الطبيعية وفي مختلف العلوم, وما الجامعات إلا أمكنة للنزهة والاختلاط بين الجنسين وارتكاب الرذائل, ومن الصعب والعسير والعصي ان تتفاهم مع اناس من هذا النوع وأقناعهم بجدوى نشأة التعليم العالي, وماهي وظائفه الأساسية في البحث والتنقيب وأكتشاف المجهول, وخدمة المجتمع المحلي والوطني, وتزويد الدراسين بآخر مستجدات العلوم والمعارف, ودور الجامعات في خلق الكادر المهني والعلمي بمختلف التخصصات, وأنها من مصادر تشكيل الطبقة الوسطى في المجتمع, تلك الطبقة صاحبة ورائدة التغير الشامل في المجتمع, كما يجب أن يكون, !!!. 

وبحكم كثافة وتركيز العنصر البشري في الجامعات ودورها المتقدم فأنها تكون ارض خصبة للاحزاب والمليشيات التي تبحث عن زج العنصر الطلابي واستغلال دور الجامعات المؤثر وتوظيفه في متاهات العسكرة والاعمال المسلحة خارج اطار مؤسسات الدولة, الأمر الذي رفضة طلبة جامعة القادسية واحتجوا عليه, إلا ان تواطؤ عناصر من رئاسة الجامعة وتسهيلاتها بدعوة هذه الحركات والتنظيمات لأقامة أنشطتها في أروقة الجامعة زاد الطين بله " وشر البلية ما يضحك ويؤلم " أو " حاميه حراميه ", فبدلا من ان تستغل الجامعات في خدمة المجتمعات المحلية في التنوير والتثقيف واشاعة قيم المدنية والديمقراطية الحقة, فأن قيادتها " الاكاديمية " تقوم بالعكس من خلال زرع الفتنة المجتمعية والانصياع لطلبات وأوامر الاحزاب والمليشيات, أنه عمل عبثي بكل المقاييس يهدد صرح مؤسسات التعليم العالي واستقلاليته من خلال انحياز قيادتها للمصالح الفئوية والحزبية والمليشياوية الضيقة !!!.

وبدلا ان تنفذ عقوبة الفصل بحق بعض القيادات الجامعية التي سهلت مثل هذه الأنشطة من خلال دعوتها لتلك المجاميع لأقامة نشاطها في الجامعة, فأن العكس قد حصل فقد تم فصل من اعترض على هذه الأنشطة من الطلبة, وهو يعكس من جانب مدى تأثير هذه الحركات على القيادات الجامعية ونفوذها المبطن في الشأن الجامعي !!!.

أن قرار فصل الطلبة الاربعة تعسفا واجحافا على خلفية ما حدث يوم 10ـ4ـ2017 وهو يتعارض مع حرية التعبير عن الرأي للطبة في رفضهم لعسكرة الجامعة واتخاذها منبرا سياسيا ، اضافة الى ذلك فإن قراراتها قد ضربت عرض الحائط التعليمات التي استندت اليها أما الطلبة فقد كانوا حريصين على استقلالية الجامعة ، بعكس العمادة ورئاسة الجامعة ، حيث كانت انتقائية في تطبيق النصوص لنفس التعليمات ؛ إذ ان المادة رقم 1 وفي الفقرة العاشرة, والحادية عشر, والثانية عشر على التوالي:  تمنع ( الدعوة لتنظيمات تعمق الفرقة او ممارسة أي صنف من صنوف الاضطهاد السياسي ) ( تجنب الدعاية لاي حزب او تنظيم سياسي) ( عدم دعوة شخصيات حزبية لالقاء محاضرات او اقامة ندوات حزبية او دينية داخل الحرم الجامعي).

أن استغلال التعليم العالي لأفتعال الأزمات والتعبئة السياسية الطائفية هو أمتداد لأزمة التعليم العالي في العراق, والتي هي جزء من الأزمة العامة المستعصية, وذات الصلة بالنظام المحاصصاتي, ومن أبرز ملامح هذه الأزمة هو الآتي: 
ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ كما أن الكثير من مؤسسات التعليم العالي تحولت إلى مؤسسات مصغرة للمساجد والحسينيات والجوامع, تجري فيها الشعائر والاحتفالات والطقوس الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع, وكأن لم يكفي الآلاف من المساجد والجوامع المنتشرة خارج الجامعات, حتى أن العديد من المختبرات العلمية تحولت إلى حسينيات لزمرة هذا الحزب السياسي الطائفي أو ذاك, ولكي تتحول بالتدريج إلى بؤر للفساد والاحتقان الطائفي والمذهبي وللتفرقة بين الطلاب, حيث تسيطر كل ميليشيا حزبية على إحدى الكليات ومرافقها داخل الجامعة, وانتشار صور المعممين في أروقة الكليات والجامعات والشعارات الدينية الطائفية الاستفزازية والعبث بمسميات هذه المؤسسات وتسميتها برموز قيادات أحزاب أو طوائف, انه امتهان للحرية الأكاديمية وتسييس للمؤسسات العلمية وزجها في الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية .

وختاما نقول ان اقل ما يجب ان تفعلة رئاسة جامعة القادسية هو سحب القرار الفصل وعدم تنفيذه حفاظا على اسقلالية وسمعة الجامعة, والاعتذار للطلبة المشمولين بالفصل, وعدم الرضوخ والانصياع لضغوطات الاحزاب والحركات والمجاميع المسلحة لأن ذلك سيلحق اشد الضرر بالسمعة الاكاديمية لمن قام باصدار قرار الفصل, وان عودة الطلبة الى مقاعدهم الدراسية هو اختبار لنزاهة الكادر القيادي في الجامعة وللجامعة نفسها, بل ولوزارة التعليم العالي باعتبارها المسؤول الاول عن سمعة ودور مؤسسات التعليم العالي والرقيب الضامن للأداء المهني والاكاديمي المستقل والبعيد عن الصراعات السياسية والطائفية, الى جانب كون سحب قرار الفصل هو احتراما للدستور الذي كفل حرية التعبير والتظاهر !!!.
 
 

137
سيكولوجيا الأرهاب و التدمير والتخريب في البلاد الاوربية والعربية والإسلامية

د. عامر صالح


اعتقد جازما لم تنتهي دورة العنف والقتل والأرهاب في البلاد الأوربية وفي بلداننا العربية والأسلامية, حيث منفذ الجريمة هو نفسه في كل الحالات وفي كل الأمكنة وبنفس المواصفات السيكو ـ عقلية, واذا كان الأمن في بلادنا هشا بطبيعته الموضوعية واسبابه الذاتية التي لم تستطيع القضاء عليه, فأن الأمن الأوربي محصنا وقويا ومدعوما اجتماعيا, وان التعاون بين الأجهزة الأمنية الأوربية والوسط الأجتماعي الذي تعمل فيه هذه الأجهزة وطيدا ومعززا في الثقة المتبادلة بينهما, ولكنه تعود على محاربة الأرهاب والازمات بطرق تقليدية وذات طابع طويل الأمد, قوامها ايجاد حلول اجتماعية وسياسية واقتصادية لتطويق ظاهرة الأرهاب من خلال السيطرة على الأسباب كما يرونها هم, ولكن في المقابل النقيض فقد تنوعت وسائل تنفيذ العمليات الارهابية تنوعا يصعب السيطرة عليه في الأمن التقليدي المعتادة عليه الدول الأوربية, من احزمة ناسفة وتفجيرات مباشرة وارتهان مدنيين او السيطرة على مكان او منطقة او متاجر ومحلات لأغراض تنفيذ مطلب ما, الى الدهس بالسيارات والشاحنات المباغتة والدراجات الهوائية !!!.

هذا التنوع في وسائل تنفيذ العمليات الارهابية والمستفيد من فسحة الحرية والحركة والتنقل والانفتاح, وبقاء الأجهزة الأمنية في أدائها اليومي المعتاد والتقليدي لايمنع ابدا من حصول عمليات مماثلة أخرى في معظم البلاد الأوربية كما حصل مؤخرا في باريس ولندن, وان التدخل الدقيق في حياة الناس وحريتها والتدقيق بكل شاردة وواردة وتضبيط حركة الشارع التفصيلية وما فيها هو أمر عسير بعد منجزات كبيرة على مستوى الحريات الفردية التي حققتها الدول الأوربية. قد يكون هذا الأمر سهلا ووارد في الدول القمعية والدكتاتورية وفي بلداننا حصرا والمعتادة على تجميع ادق التفاصيل عن الفرد وانتمائه الفكري والسياسي وحركته اليومية وتنقلاته وغيرها, ولم يحصل فيها الذي حصل في اوربا إلا بعد انفلات الاوضاع العامة وتداخل طموحات الانسان في التغير نحو الحرية والديمقراطية, وقد اختلط بدخول المنظمات والحركات الارهابية المسلحة فقلبت الأمور بالضد من طموحات الشعوب !!!. 

الإرهاب بدون شك له بيئة حاضنة ومواتية لديمومته وبقائه, ولا يعني أبدا القضاء عليه مباشرة بالحشود العالمية العسكرية يعني اختفائه عن الظهور ثانية, لان سنة البحث العلمي تستدعي معالجة الظاهرة من خلال أسبابها وليست من خلال قطع دابر الأعراض وبقاء الأسباب, ومن هنا تأتي أهمية التزامن في القضاء على الأذرع العسكرية للإرهاب مع مجمل تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في البيئة التي ينتعش فيها الإرهاب بمختلف مسمياته " داعش وأخواتها " !!!.

أسوق هنا بعض من العوامل العامة التي تعتبر بيئة حاضنة للتحجر العقلي وما يفرزه من مظاهر, وفي مقدمتها الارهاب, وأبرز هذه العوامل هي:

1 ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

2 ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده هو صالح لكل زمان ومكان, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

3 ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا الى قمة النظم السياسية القمعية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي الى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

هذه العوامل مجتمعة وعبر إعادة إنتاجها وتكريسها لعقود قادرة على خلق عقل متحجر وبوابة واسعة للعنف والقتل والإرهاب. وهذا التفسير لظاهرة الارهاب مقبول جدا في مجتمعنا, إلا ان تداعيات الارهاب على المستوى النفسي والسلوكي أخطر من ذلك بكثير وخاصة عندما يأخذ طابع التطرف الديني وأستغلال خطاب " السماء " لأضفاء طابع دموي ومقدس على ما هية الصراع ووسائله, ويتجاوز هنا الارهاب حدود المكان الذي نشأ فيه !!!.   

وهنا اتسائل كيف يمكن " للمؤمن " الهادئ القانط ذو  "الاخلاق " الدمثة والمنتحل لصفة الوداعة والطيب والذي يتعامل بأرق المفردات اليومية في سياق التعامل المعتاد أن يتحول الى قاتل دموي يستبيح ارواح المئات ويجيد تكنولوجيا وتكنيك ورسم الخطط الدقيقة في إحكام السيطرة لإحلال الدمار على مناطق كاملة واستباحة دماء ساكنيها بتلك السهولة المجردة عن الحد الادنى من الاخلاق والمشاعر الانسانية. كيف يمكن لذلك المجرم الدموي أن يجيد لغة التسامح في تعامله اليومي: الله يبارك فيك, الله ايخليك, الله يرحم والديك, الله يجنبك كل مكروه و ويقترح عليك أفضل الخدمات للمساعدة, واستعداده المتفاني من أجلك والذي يثير الاستغراب, ولكنه بالمقابل يرتكب أشنع الافعال ضدك في اللحظة عندما يراك مخالفا لسنة تفكيره, إنها سيكوباتيا السلوك المنحرف !!!.

تلك سيكولوجيا الاعتقاد الإيماني المتحجر الذي لا يرى الخير الا في خانته, ولم يرى  في الآخر إلا شرا مطلق يجب تصفيته بأكثر الوسائل بشاعة, حيث إنسانيته هنا لا ترتبط بمبادئ إنسانية عامة متعارف عليها في منع الشر وأباحة الخير, بل ترتبط بمدى قربها او بعدها من قناعته المتحجرة التي ترتبط بخطاب ما ورائي, يحلل الحرام فيه ويحرم الحلال, ويرى في صحته مطلقا بعيدا عن منطق العقل وتراكم الخبرة الانسانية. والابادة الجماعية والفرديه هنا لديه خيرا مطلق يثاب الفاعل ـ المجرم عليها بمزيدا من الأجر والثواب والمزايا التي تراوده في أحلام يقضته ليلقاها في آخرته !!!. 
 
من الناحية السيكولوجية الخالصة فأن جرائم القتل والارهاب وزرع الرعب تعبر عن سلوكا عصابيا مرضيا معمدا بدوافع التركيز الشديد للانتقام من الاخر المغاير في صبغته الدينية والقومية والمذهبية والطائفية والجنسية والثقافية وغيرها من الفروق المختلفة, ومبررة ارتكاب هذه الجرائم بخطاب فكري وديني وثقافي مغاير وذو مسحة اقصائية للاخر. ومن الناحية النفسية فقد نجد في ابرز ملامح ديناميات السلوك التي تكمن ورائه بما يأتي: 

1 ـ سيطرة الغريزة التدميرية والفناء مقابل غريزة الحياة والبقاء, وتتخذ غريزة التدمير مسارين, أحدهما ضد الذات, وقد يكون متزامنا بفناء الاخر كما هي العمليات الانتحارية أو ليست بالضرورة, فيكتفي المرء بفناء نفسه.  وتنشأ الغلبة لغريزة الموت على الحياة من خلال تشبع الفرد بثقافة الاقصاء وتحريم الاختلاف وعدم تقبل الاخر , الى جانب اعتناق الافكار والمعتقدات الدينية وغير الدينية بطريقة عقائدية متحجرة, فتلغي بدورها قيمة التنوع والاختلاف, مما يسهل نشوء منظومة سلوكية تدميرية تضعف عوامل البقاء الصالح المتوازن وانهائه, وبالتالي انهاء الحياة كاملة على خلفية الاعتقاد ان كل ما موجود هو خاطئ باستثناء ما يعتقده هو فقط !!!.

2 ـ ضعف وتداعي "الانا العليا " من أخلاق ومعايير ونماذج مثالية للسلوك, وغياب لدور الانا التوفيقية, وسيطرة سائدة " للهو " الذي تلعب فيه الغرائز البدائية وذات الطبيعية الحيوانية دورا كبيرا في تشكيل ملامح شخصيته. فهو يتصرف هنا بفعل توقف عملية النمو النفسي لديه موئلها رموزه الدينية والسياسية والحياتية, وتسود ملامح شخصية قوامها عقدة النقص وتنشأ على خلفية ذلك وتشتد مشاعر الاثم والاحساس بالضعف وعدم المقدرة الاستقلالية والخضوع التام لرموز دينية وسياسية وقومية يسلم أمره لها, يقابله تحميل الاخر المغاير له كل عوامل ضعفه واسقاطها عليه, وتصل الى حد الانتقام والابادة للاخر المختلف واستأصاله وتدميره !!!. 

 3 ـ تضخم الانا العليا والشعور المتزايد بضغوطات الضمير وعدم المقدرة على ايجاد حالة من التوازن في الديناميات النفسية عبر حلول الانا, والاغراق في ممارسة معاقبة النفس وتكريس مشاعر الاحساس بالذنب  في اجواء من هيمنة الاكتئاب والاشمئزاز من النفس والسعي المتزايد لانتقاد النفس وتخليصها من الهلاك وصولا الى الهلاك الذاتي المتمثل في محاولات الانتحار أو ممارسة التفجير الذاتي في وسط من يراهم مغايرون له في الدين والمعتقد !!!. 

4 ـ تقاطع هذاءات " بارانويدا " العظمة والاضطهاد في السلوك التدميري في السياسة. وإن كان هذا المصطلح يعني مرضا عقليا خطيرا بشقيه " داء العظمة وداء الاحساس بالاضطهاد " فأنه في السياسة له دلالته الخطيرة, حيث النظم الدكتاتورية والقمعية البوليسية المؤدلجة منها والمتأسلمة والشوفينية والعنصرية والمبتلاة بداء العظمة تستخدم كافة وسائل العنف من خلال اجهزتها العسكرية والامنية المخابراتية القمعية المختلفة لإلحاق الاذى بشعوبها أو شعوب أخرى للتعبير عن الاحساس المفرط بالعظمة وسلوك الهيمنة المطلقة !!!.

يقابله في الطرف الاخر الاحساس بالمظلومية والاضطهاد المفرط والمنفلت من أي مسحة إنسانية أو فهم لظروف وقوانين الصراع الموضوعية, هو الاخر يحمل في طياته دوافع الخراب والعنف والتدمير الشامل, ويشكل هذا السلوك ردود فعل عنيفة يخرج عن دائرة التغير الايجابي الممكن للاوضاع السائدة, وغالبا ما يكون هذا السلوك مؤطرا بخطاب المذهبية والطائفية والشوفينة العرقية ويكون بيئة صالحة للارهاب المجتمعي والدولي, في ظل غياب خطاب عقلاني انساني سائد مفعم بعوامل البقاء الانساني والذي يحافظ على قيمة الوجود الانساني الحر. وهكذا تتبادل الادوار بين الجلاد والضحية !!!.

5 ـ فصام " شيزوفرينيا " السلطة وفصام المعارضة. الفصام باعتباره مرضا عقليا يحرم صاحبه من ادراك الواقع الموضوعي والعيش في عالم مرضي خاص يفتقد الى المشاعر والعواطف التي تربطه بالاخرين وغير مكترث بما يحل بالاخرين من هول ومصائب, كما تسيطر الاوهام والهلاوس وأضطرابات الفكر في سياقاته اليومية. النظم القمعية بمختلف مظاهرها وأشكالها المؤدلجة منها والمتأسلمة وبما فيها أيضا الدكتاتوريات العالمية تعاني من ظاهرة الفصام حيث الهوة الواسعة بين الشعب والنظام, من حيث ادراك مشكلاته الحقيقية وظروفه المعاشية ووسائل النهوض به. وبفعل هول الاوهام التي تحيط بالنظام فأنه لا يرى في الشعب أو جيرانه الا مؤامرة كبرى تستهدف استئصاله وعليه ان يبدأ بضربته الاستباقية, من ممارسة واسعة للقمع والارهاب والتعذيب والقتل في الداخل واشعال الحروب الخارجية.

أما المعارضة التي تنتحل خطابا آخرا فصاميا بعيدا عن واقع الحياة وقد عفى عليه الزمن لأقحام مستقبل المجتمع فيه وأكراه الناس على اعتناقه أسوة بما فعلت الدكتاتوريات القمعية بشعوبها, فهو خطاب الانفعالات الضارة التي تعبأ الناس في وجهة انفعالية تدميرية لايمكن التنبوء بحجم الخراب الذي ستفعله في تفتيت وتشويه الينية الاجتماعية والثقافية وتخريب العلاقات الانسانية على نطاق واسع, كما هي الخطابات الاسلاموية المغلفة برحمة السماء وحب الآلهة واليوم الموعود, فقد انتجت تلك الخطابات في العراق وتونس وليبيا ومصر واليمن, وفي زمن قصير جدا, المزيد من التعسف والتهجير والابادة الجماعية والقتل على الهوية الدينية والطائفية والاثنية, واستباحة الجنس الآخر من دعارة وبيع للنساء في سوق النخاسة وأكتشاف اشكال لا تعد ولا تحصى من الزواجات بأسم الدين ومستقبل مجهول !!!.

6 ـ الفشل والاحباط في بلوغ الاهداف, فكلما اشتدت وطأة المشاعر بالاحباط إشتدت هي الاخرى مشاعر الكبت والاحتقان, وهي مؤشرات تنذر سيكولوجيا بعدوان تشتد وطأته كلما كانت الاهداف مهمة واستراتيجية في حياة الفرد والجماعة كما هي في سلوك الحكم و " المعارضة " وهو بمثابة جرح نرجسي كبير لكلا الطرفين مما يدفعهم لتعبئة كافة القوى المتاحة لديهم لاحلال الدمار بالاخر, ويكون ضحيتها شعبا بكامله وسيادة وطنية ونسيج اجتماعي, في ظل حاكم لا يفقه لغة الحوار والاصلاح " ومعارضة خاصة " لا تجيد غير السلاح المعمد بمشروعية السماء, فيكون القتل على أشده بين طرفين لا رحمة فيهم !!!. 

وعلى العموم فأن الارهاب الذي تسبقه عمليات تعصب وتطرف مستميت وعمليات غسيل دماغ  يرى في الاخر الديني والثقافي والاثني والسياسي عدو لدود ويجب تصفيته وازاحته من مشهد الحياة, انه فوبيا الاختلاف مع الاخر وعدم المقدرة على ايجاد لغة مشتركة معه, وبالتالي فأن الطريق السهل هو تصفيته وابادته جسديا وعرقيا وثقافيا للخلاص من كل اثاره. كما ان دخول الافراد من مزاج متعصب ومتطرف في مجاميع وتنظيمات تستجيب لهذا المزاج المضطرب يحول الفرد بضرورة الانتماء الى مستسلم لارادة الجماعة ورهن تصرفها ويتحول الى قنبلة موقوته ممكن ان تتفجر رهن اشارة قيادي من المجموعة, بمختلف الاتجاهات وبمختلف الامكنة في العالم !!!.

كيف نطلب من العالم المتمدن أن يقف الى جانب قضايانا العادلة وان يسهم في ايجاد حل لمشكلاتنا المستعصية وان يدعمنا في دحر داعش ونحن نخجل في إدانة فعل قتل جماعي يرتكب بحق الابرياء والعزل من الناس ونضع شروط مسبقة للإدانة. ان الموقف من إنسانية الانسان وتحريم هدر دمه لا تحتمل الاجتهاد ولا الفتاوى, وان السكوت وعدم الادانة والتحايل في التصريحات هو مساهمة في جرائم القتل وإيجاد غطاء شرعي لها مما يسهم في التشجيع عليها واعادة إنتاجها على نطاق واسع !!!.

إن الموقف الانساني يستدعي من دموعنا أن تذرف على كل طفل وأمرأة ورجل بريء, سوري أم فرنسي أم لبناني أم عراقي أو سعودي, أو بريطاني أم روسي, فالدم الانساني مقدس في برائته, فلا إنسانية لنا بالسكوت على استباحة دم من يختلف معنا في الدين أو العقيدة أو السياسة, وإن دمائنا ستباح أكثر عندما نفرح أو نشمت لاستباحة دماء الآخرين, فيوم لك ويوم عليك !!!.

اما في الداخل الاوربي فنعتقد أن تشبع منفذي العمليات الارهابية, وهم اغلبهم من المقيمين في تلك الدول, بالعوامل النفسية والعقلية" كما شرحناه " في المقال, وهم نسبيا متحررين من ضغوطات العوامل الاقتصادية ومتاحة امامهم ممارسة مختلف الحريات, ولكنهم يخضعون بشكل منظم عبر مؤسساتهم الخاصة الى خطاب تحريضي متطرف يدفعهم الى المزيد من العزلة الاجتماعية في المجتمع الأكبر, الى جانب تواصلهم مع شرائح وحركات متطرفة من مجتمعاتهم الأم مما يسهل اندفاعهم نحو تنفيذ اجندة الحركات الارهابية والاصولية المتطرفة في مجتمعات اقامتهم وبذرائع مشرعنة. قد تكون سياسات الاندماج الايجابي في مجتمع الاقامة جزء من حلول تسهم في ابعادهم عن التطرف, ولكن تجارب العشرة سنوات الاخيرة لم تأتي بنجاح, فهناك وفي الكثير من الدول الاوربية" وخاصة فرنسا وبريطانيا " أحزمة من المهاجرين حول المدن الكبرى, وهي مجتمعات معزولة لاتعرف ما يجري داخل مدنها الكبرى من حياة يومية. ونعتقد هنا ان الضغط القانوني والتشديد على ظروف وطابع اقامة الافراد الى جانب برامج الاندماج الثقافي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي قد تسهم بحلحلة الاوضاع صوب مزيدا من الاستقرار والامن !!!.

 وختاما نقول ان على العالم المتمدن, والاوربي منه بشكل خاص, ان يقف وقفة واضحة واحدة أكثر من أي وقت مضى لفضح النظم السياسية التي تغذي الارهاب العالمي وأدواته المنفذة, داعش والقاعدة وأخواتها, وفي مقدمة هذه النظم السعودية وقطر وتركيا اوردغان, وفضح دورها المتحايل على الصعيد الدولي في التغطية على الارهاب وجرائمه بحق الانسانية, الى جانب فضح وإدانة الجرائم التي ترتكبها النظم الدكتاتورية في المنطقة والعمل على إيجاد حلول مشرفة لبؤر الصراع المستعرة والتي يذهب ضحيتها شعوب ومستقبل أجيال !!!. 


138
الإسلامويين وحصانة التعليم العالي المفقودة وافتعال الأزمات !!!
د.عامر صالح 

 ذكر مصدر في الشرطة العراقية ، يوم الأثنين المصادف 2017ـ04ـ10 ، أن حماية الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي أطلقوا الرصاص داخل الحرم الجامعي لجامعة القادسية بمحافظة الديوانية . وقال المصدر لشبكة رووداو الإعلامية إن "مجموعة من طلاب جامعة القادسية قاموا بترديد هتافات – إيران برة برة – ليبادر عناصر من حماية الأمين العام لعصائب أهل الحق قيس الخزعلي باطلاق النار صوب الطلبة المحتجين". واضاف المصدر أن اثنين من الطلبة أصيبوا بجروح اثر المناوشات التي حدثت لاحقاً مع أفراد حماية الخزعلي . ونظمت حركة عصائب أهل الحق احتفالية جماهيرية لمناصرة الحشد الشعبي اليوم الأثنين داخل الحرم الجامعي لجامعة القادسية . وسارعت القوات الأمنية لفرض اجراءات مشددة عقب اطلاق الرصاص والمناوشات بين حماية الخزعلي وطلاب جامعة القادسية.

وفي تدهور لاحق ذكر مصدر في الشرطة العراقية بمحافظة الديوانية (180 كيلومتر جنوب العاصمة بغداد)، في يوم الثلاثاء المصادف 2017ـ04ـ11، بأن مقر الحزب الشيوعي في المحافظة تعرض الى هجوم مسلح . وقال المصدر لشبكة رووداو الإعلامية، ان "مسلحين مجهولين القوا في ساعة متاخرة من الليلة الماضية، قنابل يدوية على مقر الحزب الشيوعي في محافظة الديوانية". مضيفاً أن "الهجوم ادى إلى حرق مقر الحزب دون وقوع اية اصابات بشرية". وبين المصدر، ان "قوات الشرطة سارعت لتطويق مقر الحزب وفرض اجراءات مشددة ، فيما تم اخماد الحريق"

وكان الاعتداء على مقر الحزب الشيوعي العراقي في المحافظة جاء على أثر شائعات, ان عناصر من الحزب الشيوعي في المحافظة تقف وراء ما حصل في جامعة القادسية, الأمر الذي نفاه الحزب الشيوعي, كما ونفت تأكيده حتى قيادات من عصائب الحق. وعلى ما يبدو فأن توقيت الهجمات على الحزب الشيوعي وأثارة الشائعات والتهم حول دوره في " احداث فتنة " جاء متزامنا مع الدور الذي يلعبه الحزب ونشطائه كجزء من التيار المدني الطامح لإعادة بناء العملية السياسية على أسس من المواطنة وبعيدا عن نظام المحاصصة الأثنوظائفية, وبالتأكيد فأن القوى والاحزاب المنتفعة من بقاء الاوضاع على حالها لا يروق لها مطلقا أن يشتد ساعد التيار المدني الديمقراطي ويأخذ دوره المنتظر في الانتخابات البرلمانية القادمة, كما هو حاضرا اليوم في أذهان الناس كخيار لابد منه لحل أزمة العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستفحلة, ومن هنا تأتي عملية تعرضه من قبل القوى الظلامية وأعداء الحرية والتقدم الاجتماعي الى المزيد من التهديد والوعيد والمضايقات وحتى الأغتيالات المتوقعة !!!.

  أما ان يتم اختيار اروقة الجامعات لأفتعال الأزمات فهذه ليست المرة الأولى التي يتم بها التجاوز على الحرية الأكاديمية والعبث بالأستقلال النسبي للجامعات والتدخل في الشأن الخاص بها من قبل اناس لا صلة لهم من قريب أو بعيد بمؤسسات التعليم العالي, بل من اناس يرون في المدارس الدينية والجوامع والحسينيات هي المصدر الوحيد للمعرفة والعلوم ولديها تكمن الأجابة على كل تساؤلات المجتمع لمختلف المشكلات, ولديها ايضا التفسيرات الجاهزة لكل الظواهر الطبيعية وفي مختلف العلوم, وما الجامعات إلا أمكنة للنزهة والاختلاط بين الجنسين وارتكاب الرذائل, ومن الصعب والعسير والعصي ان تتفاهم مع اناس من هذا النوع وأقناعهم بجدوى نشأة التعليم العالي, وماهي وظائفه الأساسية في البحث والتنقيب وأكتشاف المجهول, وخدمة المجتمع المحلي والوطني, وتزويد الدراسين بآخر مستجدات العلوم والمعارف, ودور الجامعات في خلق الكادر المهني والعلمي بمختلف التخصصات, وأنها من مصادر تشكيل الطبقة الوسطى في المجتمع, تلك الطبقة صاحبة ورائدة التغير الشامل في المجتمع, كما يجب أن يكون, !!!. 
 
 أن استغلال التعليم العالي لأفتعال الأزمات والتعبئة السياسية الطائفية فهو أمتداد لأزمة التعليم العالي في العراق, والتي هي جزء من الأزمة العامة المستعصية, وذات الصلة بالنظام المحاصصاتي, ومن أبرز ملامح هذه الأزمة هو الآتي: 
ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها .

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.

ـ تشير الكثير من المقابلات الميدانية التي أجريت مع أساتذة جامعات وقيادات أدارية وطلابية إلى أن الكثير من مؤسسات التعليم العالي تحولت إلى مؤسسات مصغرة للمساجد والحسينيات والجوامع, تجري فيها الشعائر والاحتفالات والطقوس الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع, وكأن لم يكفي الآلاف من المساجد والجوامع المنتشرة خارج الجامعات, حتى أن العديد من المختبرات العلمية تحولت إلى حسينيات لزمرة هذا الحزب السياسي الطائفي أو ذاك, ولكي تتحول بالتدريج إلى بؤر للفساد والاحتقان الطائفي والمذهبي وللتفرقة بين الطلاب, حيث تسيطر كل ميليشيا حزبية على إحدى الكليات ومرافقها داخل الجامعة, وانتشار صور المعممين في أروقة الكليات والجامعات والشعارات الدينية الطائفية الاستفزازية والعبث بمسميات هذه المؤسسات وتسميتها برموز قيادات أحزاب أو طوائف, انه امتهان للحرية الأكاديمية وتسييس للمؤسسات العلمية وزجها في الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية .

ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.

ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية, وهي تذكرنا بحقبة توظيف " البحث العلمي " لخدمة مصالح الحزب القائد وتمجيد قائد الضرورة.

ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.
 
أن الحرية في المجتمع الأكاديمي وتوسيع دائرة الصلاحيات للإدارات الجامعية وعدم اقحامها بالصراعات الأثنو طائفية السياسية, وفصلها وعزلها عن المؤسسات الدينية, سببا مهما في نمو الفاعلية ورفع مستوى الأداء، فالاستقلال النسبي ماديا وإداريا وفكريا وسياسيا سيدفعها إلى البحث عن التميز والشعور بالمسؤولية تجاه جودة المخرجات، لأن الجامعات في هذه الحالة ستعمل على طريقة تحقق فيها متطلبات التنمية لتدخل ضمن مجال تنافسي علمي تحكمه المستجدات العلمية والتقنية المعلوماتية وإبراز الأفكار المبدعة، فسترفع من هذه القيمة باستقطاب المفكرين وتبني الآراء التي تسهم في وصولها إلى مكانة أفضل نسبة إلى غيرها، وهذه الأهداف ستتجاوز ما نخشاه من سيطرة النزعة المناطقية والنفعية والطائفية والأثنية التي تسيطر على الإدارات وعلى السياسات العامة، ويأتي هذا كله مع ضرورة إيجاد نظام يحمي مكتسبات الجامعات من أي تدخل خارجي، والنتيجة تؤدي إلى خلق بيئة ملائمة لنمو المعرفة والإبداع, وبهذا ستكون مؤسسات التعليم العالي بيئة صالحة لجذب افضل الكوادر العلمية, وتقلص بدورها من هجرة الكادر وتسربه من الجامعات الى خارج العراق أو داخله.

فلا نستغرب والحال هذه ان تكون الجامعات وكافة مؤسسات التعليم العالي وفي ظل هذه الأزمة, بيئة صالحة للتحريض والاحتراب الطائفي واعادة انتاج الكراهية بين مكونات المجتمع واستغلال للعنصر البشري المتمركز في هذه المؤسسات بكثافة وسهولة ألصاق التهم جزافا في الاحزاب الوطنية عبر تجييش المشاعر السلبية نحوها, مما يسهل الاندفاع نحو ارتكاب الجرائم بحق الآخر السياسي المغاير, ويشكل العدوان على الحزب الشيوعي جزء من هذه الآلية المتخلفة !!!.


139
بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في 31 آذار ـ عودة لذاكرتي المؤرشفة
سيكولوجيا الحب الأول في السياسة/ الحزب الشيوعي العراقي أنموذج
محاولة للإجابة على من كان مع أو ضد...!!!



د.عامر صالح


أن التجارب العاطفية الأولى تستحضر بقوة بين الحين والأخر إلى حيز الشعور, نتيجة لارتباطها ببداية تشكيل الخبرات العاطفية, وتعتبر من اللبنات الأولى في بناء الشخصية العاطفي على طريق اكتساب المزيد من الخبرات والتجارب.وهي اختبارات صعبة للتأكد من صلاحية الشخصية في التكيف والبقاء مع الجنس الآخر.

وتشكل تجربة الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي لأول مرة في عمرا لفرد لونا من ألوان هذا الانتماء المشحون بالعاطفة الجياشة والانفعال القوي للارتباط به. ومن اجبر على ترك الحزب في هذا العمر عانى كثيرا, كما يعاني من اجبر على ترك محبه الأول, حيث تجري الأشياء هنا بالضد من الشعور الذي ينتاب الفرد بأن يكون هذا الحب هو الأول والأخير وبطريقته الخاصة.

أن الخطاب الحزبي في بداية الانتماء وأن كان خطابا عقلانيا يستند إلى مادة فكرية وفلسفية رفيعة المستوى تقدم"للمحبين" له, ألا أن الحزب له القابلية على إضفاء مشاعر وأحاسيس عنيفة معززة رغبة البقاء في صفوفه, وهي نتاج عمل دؤوب سايكوعقلي ـ معرفي , يترك أثرا عميقا أكثر بكثير من وقع الحب الأول في محبيه, يترك في الشخصية شحنة انفعالية موجبة كما تدرك. وبقدر ما يكون الحب الأول فرصة لتأكيد الذات واختبار الشخصية,يكون الانتماء الحزبي هو الآخر فرصة ذهبية لتميز الشخصية ضمن إبعاد جديدة وفي سياقات غير معتادة, تشكل فرصا للنمذجة  المثالية للشخصية, تمنح صاحبها امتيازا في بيئة محدودة الإمكانيات, وخاصة في صورة الخروج الايجابي عن المألوف, وتشكل مع الوقت احد المصادر الأساسية في التوافق الذاتي ورسم الملامح العقلية وحتى أحيانا المزاجية للشخصية. أو يأخذ الانتماء شكل المخالفة لما هو سائد أو كما يقال"خالف تعرف" في بيئة غارقة في الممنوعات.

أن الانتماء للحزب والاستمرار فيه إن شاء الفرد يجب أن يرتبط بعقلانية رفيعة المستوى في الدفاع عنه, وهذا يأتي عبر التخلص من غرائز الانتماء الأول المفعمة في اللوازم العصبية والانفعالات المؤذية في أحيان كثيرة للحزب, والتي يعكسها الدفاع المفرط عنه, وبأي ثمن, وبآليات غير موفقة تلحق الضرر به. وفي حالات كثيرة تسبب شحنة الحرص الزائد(الانفعال المفرط) إلى ارتكاب أخطاء ينتظرها من لا يرغب بوجود الحزب كما ينبغي أن يكون.

أن الحزب وبعد مسيرة تجاوز فيها الثمانية عقود تعرض فيها إلى هجمات شرسة من أعدائه وحلفائه, وكذلك انتكاسات كبيرة نتيجة لأخطاء ذاتية وظروف موضوعية, وعلاوة على ذلك تعرض حلفائه"الثابتين" في الخارج إلى انهيارات كبرى تمثلت في انهيار المعسكر الاشتراكي, والتي أدت ضمن ما أدت إليه إلى أن يطال الشك إلى مصداقية الفكر الماركسي. يحتاج الحزب اليوم إلى انتماءات بذهنية جديدة, ترى في الحزب مشروعا عمليا للحياة ومرنا قدر مرونة الحياة...أن عهد" ملائكة" الحزب ودعاة الحرص"المؤذي"لم تزكيهما الحياة. ومن يرى في الحزب ملاذا لتأكيد الذات, لأنه لم يجد في دائرته القريبة الملاذ, فأنه يرتكب أخطاء بحق الحزب, ومن يرى في الحزب وظيفته الدائمة فأنه يخطأ أن يقدم شيئا مفيدا له.

اليوم وبعد هذا الزخم الهائل من التغيرات الدولية والإقليمية والقطرية, فأن الحزب لم يعد حزب"دكتاتورية البرولتارية",ولكنه يستطيع أن يكون بامتياز حزب البرولتارية, ولا حزب التكتيكات من أجل" استلام السلطة", ولكن من حقه أن يتطلع إلى المشاركة الواسعة في السلطة, ولا حزب بناء" الاشتراكية"على نسق مرجعياتها السابقة, ولا حزب الانضباط الحديدي وفقا "للقواعد اللينينية في حياة الحزب الداخلية" ولكن حزبا منضبطا,حيث تنعدم المقومات الموضوعية والذاتية لذلك.أذن لماذا كل هذه الحملات والهجمات عليه, وخاصة عندما تبدأ الرؤيا بهذا الوضوح.أني اعتقد أن المشكلة في التساؤلات الآتية:ماذا نختار, وكيف نختار, ولماذا؟؟؟ .

علينا أن لا نعطي الظواهر قوة دفع أكثر بكثير من خصوصية الظرف الذاتي والموضوعي الذي تجري فيه.أليست تلك هي سنة الديالكتيك.فمن أراد للحزب خيرا فعليه أن يقلع عن عادات "الحب الأول"في الدفاع عنه, أو عادات أخذ الثأر منه والهجوم عليه عندما ينفض العقد معه. ومن أراد أن يكون الحزب "حبه الأخير"فعليه القبول بشروط الحياة, وعلى الحزب المزيد من الاستجابة والتفحص الذاتي, وخاصة بعد تجربة تجاوزت الثماني سنوات من العمل العلني وفي ظروف نوعية جديدة.

أن من يريد أن يكون حزبه حزب الثلاثينيات أوالاربعينيات أو ما يسمى" حزب فهد"فأن ذلك مجافاة للحقائق والتغيرات العميقة على الأرض في الداخل والخارج. وتستحضرني في هذا السياق ليست مقولة لينين(النظرية مرشد للعمل), ولكن من عمق التأريخ مقولة للأمام علي(ع):"لا تقصروا أولادكم على آدابكم فأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".أذا كان هذا الحديث في التربية, فكيف يكون الأمر في السياسة وهي فن الممكنات. وهل يجوز العودة في السياسة إلى أكثر من ثمانين عاما إلى الوراء!!!, وهل يجوز في السياسة أيضا أن تصاغ سياسات الحاضر واتجاهات المستقبل لحياة الحزب الداخلية والخارجية على ضوء معايير الثلاثينيات والاربعينيات ونحن في الألفية الثالثة!!!.أن مآثر الحزب وتأريخه النضالي هي ملكا للجميع. ولكنني أتساءل :هل كان حزب" فهد" آنذاك بدون انحسارات أو صراعات!!!, وهل كان في برجا عاجيا كي لا يكون كذلك!!!, وهل كان مراقبا للمعارك الوطنية لكي يكون معصوما من الخطأ أم طرفا أساسيا فيها!!!....الإجابات في التأريخ المكتوب والغير منحاز نسبيا للحزب.

أن من يرى في الحزب " حبه" الأول والأخير عليه أن يكيف نفسه لميكانيزم الحياة المتغيرة أبدا وبدون انقطاع. فلا يمكن "السباحة في النهر مرتين", لأن الماء غيره عن المرة الأولى.فالحزب اليوم يؤمن في الديمقراطية الليبرالية على مستوى السياسة والاقتصاد(مع مظلة حقوق اجتماعية واسعة). ويترتب على ذلك أن يكون الحزب واضحا في خطاباته وتحالفاته وحدود انتمائه للعقيدة الكلاسيكية. وعلينا أن نعي حقيقة أن" الحب الأخير" هو ليست صورة طبق الأصل لفلم غير ناطق عن "الحب الأول". وبين" الحبين"تأريخ مشترك يجب العودة أليه ودراسته وتقويمه بعناية وحرص شديدين. وأعتقد أن الحزب الشيوعي ليست حركة ماضوية فهو من الحركات التي تلتصق بالحاضر بشدة . وإذا كان الحب الأول يعبر عن الحاجات الأولى للانتماء, فأن الحب الأخير هو حب الأحاسيس والانفعالات الهادئة...أنه حب الحياة والاستقرار, وكما عرفنا فأن الأنتماء أليه طواعية, ومغادرته أيضا بعرفان وأحسان !!!!!.






140
رأي سيكوـ اجتماعي في مشروع قانون تعدد الزوجات !!!

د.عامر صالح

في مجتمع الفقر المدقع والحرمان الشديد من الاحتياجات الانسانية الاساسية, من غذاء ودواء وصحة ومأوى وتعليم صالح ومفيد, وخدمات ماء وكهرباء وأفتقاد للأمن والأمان, وانتشار للفساد بكل روائحه الكريهة, من اداري ومالي وأخلاقي واجتماعي عام, وفي مجتمع يقع اكثر من 30 بالمائة منه تحت خط الفقر والفاقة والعوز والعدم " كالعراق " تشتد فيه الهجمة الشرسة على المرأة ليكرس اضطهادها المزدوج من قبل مجتمع ذكوري أولا والذي أريد لها أن تكون تابعا على مر الازمان, الى جانب اضطهادها الاجتماعي العام وحرمانها من شتى فرص المساواة الاقتصادية والاجتماعية. فكيف تكون حال المرأة في مجتمع يعاني فيه الرجل هو الآخر اشد انواع الإضطهاد والقتل والحرمان من أبسط مقومات الحياة الحرة الكريمة !!!.

من الأعوجاجات الكبرى في العراق وفي العملية السياسية إن بعض من النساء السياسيات أو النائبات البرلمانية يبحثن عن  "حلول " بوعي أو غير وعي أو بوعي مزيف, لأختها أو زميلتها أو جارتها أو قريبتها أو عموم النساء, لتعيد انتاج وتكريس أزمة المرأة الأنسانية وبواجهات دينية اسلاموية, ومن خلال البحث عن مخارج ترقيعية لأزمتها والتي هي بالاساس جزء من الازمة المجتمعية العامة, وبعيدا عن الاصلاح الشامل لأوضاع المرأة في العراق, ومن ضمنها المرأة الأرملة والمطلقة والعزباء ومغتصبات الحروب العبثية بأسم الدين المتطرف والارهاب الدموي, " والتي بلغ تعدادهن أكثر من اربع ملايين أمرأة ", ولتتحول المرأة من جديد الى مشروع متاجرة وعقود بيع وشراء لأجسادهن مقابل لقمة العيش, وفي إدعاء كاذب لأنقاذهن من أوضاعهن المأساوية, وفي مجتمع عجز فيه الرجل عن ايجاد حل لأزمته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعدم تمكنه من تأمين مستلزمات الحياة اليومية البسيطة !!!.
وفي السياق فقد دعت احدى البرلمانيات العراقيات في يوم 2017ـ3ـ12 الى تشريع قانون يشجع الرجال على الزواج بأكثر من إمرأة واحدة من خلال صرف حوافز مالية، فيما طالبت زميلاتها النائبات والنساء عامة الى رفع شعار "نقبل بعضنا شريكات لحماية بعضنا".  أن هذا الكلام والذي ظاهره رحمة بالنساء لكن باطنه جهل تام بأسباب أزمة المجتمع العامة بكل ابعادها, والذي تشكل ازمة المرأة جزء منه, وبقدر ما يغيب عن ذهن النائبة قيمة الاصلاح المجتمعي الشامل لأزمة مستفحلة, اقتصادية واجتماعية وسياسية فلا يستغرب المرء ان تأتي حلول النائبة مبتورة وجزئية ومحصورة فقط بالعثور على شريك معين يطعم المرأة ويشربها ويكسيها, بالتأكيد انه جزء من التفكير الاجتراري والمتخلف لأدراك قيمة المرأة في المجتمع, كونها شريك متساوي كما يفترض, وليست موضوع أشباع غريزي مضاف للرجل مقابل الغذاء والدواء !!!.

الدين الأسلامي يؤمن بتعدد الزوجات فمن اراد ان يتزوج بمحض ارادته وقناعته الشخصية وحاجته الماسه لذلك في مجتمع لم يعلن الطلاق الشرعي بين الدين والدولة, ومازال الدين مصدر اساسي للتشريع, وفي مجتمع يجهل قيمة العلمانية في الحياة العامة, فليذهب ويتزوج, فليست هناك من جديد في الأمر, ولكن الغرابة هو دعوة النائبة لأصدار قانون بذلك تحت واجهات معالجة ظروف المرأة العراقية القاهرة, واذا كان من ضمن الدعوة لتشريع قانون بهذا الخصوص هو لضمان مساعدات مالية وحوافز للزواج, فأنها ستكون بالتأكيد منفذا جديدا للفساد المالي والاداري والنصب والتحايل في بلد يعاني الأمريين من الفساد, الى جانب الابعاد الاجتماعية الخطيرة حيث سيسهم في المزيد من التفكيك الأسري والاجتماعي وتشرد الاطفال لأسر قد تكن كانت مستقرة نسبيا أو للأسرة الثانية, عدا ذلك سيقسم المرأة العراقية الى زوجة أصلية وأخرى تابعة او خدامة وعلى نسق التبعية العراقية في المواطنة " عثماني أو ايراني الأصل أو من أصول آخرى ". 

أن النماذج الاخلاقية للنظام الطائفي والمحصصاتي لا تسمح بمعالجات شاملة لقضية المرأة ومحنتها في العراق, فقد انتشرت من الجانب الآخر في السنوات الأخيرة ظاهرة الزواج خارج المحاكم, وقد انتشرت في أوساط مختلفة من حيث التعليم والثقافة والبيئة الاجتماعية والاقتصادية, وقد أخذت هذه الظاهرة طابعا مستفحلا وتنبئ عن مخاطر جدية على مستقبل المرأة بشكل خاص وعلى المجتمع بصورة عامة, مما يستدعي تدخل القضاء العراقي ومنظمات المجتمع المدني, ومنها بشكل خاص المنظمات النسائية, والبرلمان على وجه الخصوص باعتباره الجهة التشريعية والرقابية. وأن يتخذ الجهد التعبوي الثقافي والتوعية بمخاطر ذلك مسار مهما, من حيث كون هذا النمط من الزواج يغيب حقوق المرأة وأطفالها ويحرمها من الإرث, إلى جانب كون هذا الزواج يستهدف البنات في أعمار مبكرة بما فيها القاصرات إلى جانب مختلف الفئات العمرية من النساء, ويهمش دور القضاء والدولة عموما باعتبارها الراعي والمسئول الأول عن رسم ملامح الاستقرار الأسري والاجتماعي بصورة عامة. هذا النوع من الزواج لم يكن موجودا قبل عقد من الزمن وكان يعاب عليه كل العيب, إلا إن ضعف الدولة وتدهورها وغياب الأمن وانتشار الفقر والبطالة وما رافق ذلك من تفكك للنسيج الاجتماعي والقيمي, جعل من أمراء الطوائف والمليشيات والمذهبية ـ السياسية يخترقون منظومة القيم الاجتماعية لتحل محلها قيم الاجتهاد والابتذال والتفسخ بواجهات دينية وغير دينية !!!.

لقد لعبت عوامل الفقر والحرمان وانعدام فرص العمل والعيش الكريم, الى جانب تمركز المال والفساد بيد زعماء الطوائف والقادة السياسين دورا كبيرا في استمالة المرأة وتحويلها الى موضوع فعل جنسي يتم استغلاله ومن ثم شرعنته. وقد لعبت عوامل أخرى اساسية في تكريس صورة المرأة السيئة في المجتمع واعتبارها موضوعا سهلا تسهل استباحته, وهو غياب نظام تربوي وتعليمي قائم في مناهجه على فكر المساواة الصريحة والواضحة بين الجنسين, لكي يقوم ببث المنظومة القيمية واعادة توليدها في المجتمع. فقد كرست في عهد الاسلامويين اليوم فكرة الفصل بين الجنسيين الى ابعد الحدود وفروض قيود على حركتها وامتهان حقوقها مما يسهل امتهانها كانسان وكجنس !!!. 

أن المدخل السليم لأي اصلاح في اوضاع المرأة العامة وانتشالها من الدخول في مشروعات الأكراه او التي تجبر عليها المرأة ماديا ونفسيا لمختلف الخيارات السيئة خارج ارادتها, يجب أن يمر عبر تحسين اوضاعها العامة والاقتصادية منها بشكل خاص ومن خلال منظومة متكاملة من الحوافز المادية والضمانات الاجتماعية التي تحصن المرأة من الانسياق المكرهة عليه أو الاستمالة, وتوفير فرص عمل استثنائية للنساء المتضررات من الحروب بفعل فقدان عامل الإعالة, اعادة تأهيل النساء القادرات على العمل وتوفير فرص لها, ومنح العاجزات عن العمل مختلف المساعدات الممكنة لأكتفائها الذاتي, واعطاء الاولوية للحصول على العمل للمرأة التي لا تمتلك معيلا وخاصة ذوات التحصيل الدراسي, منح التسهيلات والقروض المالية للمتزوجين من الشباب وغيرهم لتأمين الحد الادنى من العيش الى جانب توفير فرصة عمل للزوج على الاقل, منح مساعدات شهرية لأطفال الارامل وللاطفال عموما للتخفيف من الاعباء الاقتصادية. أن كل هذه الاجراءات تضع المرأة في موقع حسن يليق بمكانتها ويسمح لها في التفكير ايجابيا بمختلف الخيارات بما فيها الزواج بعيدا عن مشروع قانون السيدة النائبة البرلمانية !!!.





141
اليوم العالمي للمرأة هو مناسبة لتحريض المرأة العربية والأسلامية لأنتزاع حقوقها التاريخية

د.عامر صالح
من القضايا المهمة والمدعومة من الأمم المتحدة والتي حظيت بدعم مكثف وواسع النطاق هو ما حظيت به الحملة الرامية إلى تعزيز وحماية الحقوق المتساوية للمرأة. وكان ميثاق الأمم المتحدة، الذي وقع في سان فرانسيسكو في عام 1945، أول اتفاق دولي يعلن المساواة بين الجنسين كحق أساسي من حقوق الإنسان، ومنذ ذلك الوقت، ساعدت المنظمة على وضع مجموعة تاريخية من الاستراتيجيات والمعايير والبرامج والأهداف المتفق عليها دوليا بهدف النهوض بوضع المرأة في العالم.

وعلى مر السنين، اتخذ عمل الأمم المتحدة من أجل النهوض بالمرأة أربعة اتجاهات هي: تعزيز التدابير القانونية؛ وحشد الرأي العام والعمل الدولي؛ والتدريب والبحث، بما في ذلك جمع الإحصاءات المصنفة بحسب نوع الجنس؛ وتقديم المساعدة المباشرة إلى المجموعات المحرومة. واليوم أصبح عمل الأمم المتحدة يستند إلى مبدأ تنظيمي رئيسي يقول بأنه لا يمكن التوصل إلى حل دائم لأكثر المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خطرا إلا من خلال مشاركة المرأة وتمكينها الكاملين على الصعيد العالمي.

كما نشير هنا إلى دور الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي الذي تأسس في عام 1945 ودوره الكبير في التعبئة لقضية المرأة ومساواتها متأثرا بالفكر اليساري للعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين, ولعب الاتحاد المذكور دورا تثقيفيا في مختلف بقاع العالم في تهيئة المزاج الدولي والإقليمي والقطري لإبراز قضية المرأة وتأكيد استحقاقاتها التاريخية في المساواة والعدالة والمساهمة في إبراز منظومة التحديات التي كانت ولا تزال شرائح عريضة من نساء العالم يشعرن أنهن يواجهنها على كافة الأصعدة الحياتية, إلى جانب الإشادة واستعراض الانجازات والمكاسب التي حققتها المرأة على مر العقود المنصرمة في كافة المجالات وضرورة الحفاظ عليها !!!.

وفي سياق لاحق وفي العام 1977 وفي القرار (32 / 142 ) دعت الجمعية العامة الدول إلى إعلان يوم من أيام السنة يوما للأمم المتحدة لحقوق المرأة والسلام الدولي, وذلك وفقا لتقاليدها وأعرافها التاريخية والوطنية. وقد دعت الجمعية العامة الدول إلى المساهمة في تعبئة الظروف اللازمة للقضاء على التميز ضد المرأة وضمانة مشاركتها الكاملة في التنمية الاجتماعية وعلى قدم المساواة مع الرجل. وقد اتخذ الإجراء غداة السنة الدولية للمرأة ( 1975 )  وعقد الأمم المتحدة للمرأة ( 1976 ـ 1985 ) اللذين أعلنتهما الجمعية العامة. وقد اتفق على أن يكون الثامن من آذار عيدا عالميا للمرأة !!!.



وكان الأسم الأصلي لهذا اليوم هو " اليوم العالمي للمرأة العاملة " قبل أن تعتمده الأمم المتحدة رسميا في 8 أذار عام 1975, وتدعو الدول الأعضاء الى الاحتفال بيوم خاص بالمرأة.

وتحتفل نساء العالم في هذا العام استمرارا لمبادرة الأمم المتحدة في العام الماضي تحت أسم " 50 ـ 50 بحلول 2030 خطوة للمساواة بين الجنسين " أو ما يسمى بكوكب مناصفة بين الجنسين, لتركز على المساواة بين الجنسين ورفع الوعي السياسي والاجتماعي في قضايا المرأة وتسليط الضوء على الأوضاع الصعبة التي تواجهها ملايين من النساء حول العالم.

ورغم الاختلافات الدينية والعرقية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية على الصعيد العالمي والأقليمي والوطني, فأن هذه المناسبة تجمع نساء العالم حول الاحتفال بيومهن وأستعراض التاريخ الطويل من النضال من أجل نيل المساواة وغيرها من الحقوق على امتداد عقود من الزمن.

ويشكل هذا الإعلان قيمة أخلاقية وإنسانية في إعلانه صراحة على الصعيد العالمي بعدمية الفروق بين الجنسين في المساهمة في الحياة والحقوق العامة. ويشكل هذا الإعلان عودة إلى الفطرة الإنسانية والى مرحلة تاريخية ما قبل اللاتساوي بين الجنسين ونبذ الفروق الجسمية والعقلية والنفسية باعتبارها مصدرا بهيميا لعدم المساواة والتي يبنى عليها شتى مظاهر اضطهاد المرأة !!!.

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية والإقليمية بتنوعها الديني والاثني والقومي, وعلى الرغم مما حققته من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وتدريسية وهندسية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها, فهي لازالت مشروع استلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية وتتعرض إلى مسلسل لا حصر له من الممنوعات من صغرها حتى شيخوختها, إلى جانب ما تتعرض له من مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, وكذلك العنف الرمزي غير المرئي الذي يتجسد عبر الثقافة والتربية والموقف المذل منها يوميا عبر معاملتها كجنس من الدرجة الثانية, وفصلها اجتماعيا عن الرجل سواء في البيت أو المدرسة أو الدائرة ومنعها من الاختلاط والتدخل في تفاصيلها اليومية, انطلاقا من مسلمات لا صحة لها " كناقصة عقل ودين " !!!.

ورغم مرور عقود على هذا الاعلان الدولي للمساواة فإن الهجمة على المرأة في العالم العربي والإسلامي وبقاع أخرى في العالم المتخلف تزداد شراسة منقطعة النظير جراء هيمنة الفكر المتشدد الرجعي بكل لبوساته المتسترة بالدين والعفن العقلي والفكر المتخلف الذي يحول المرأة إلى مشروع سبي واغتصاب وتهجير ومقايضة وحرمان ولا مساواة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والإنسانية العامة. ففي العراق وسوريا تتحول المرأة إلى مشروع للاغتصاب بواجهات جهاد المناكحة الداعشي والى مشروع تعذيب يومي وحرمان تخجل منه البشرية في ألفيتها الثالثة, إلى جانب اضطهادها التاريخي من قبل نظم اللامساواة واللاانسانية التي جسدتها وأفرزتها حكومات الحزب الواحد الدكتاتوري القمعي, وفي دول الخليج العربي حيث المرأة في اشد قسوة الاضطهاد بمختلف صنوفه, الظاهر منها والرمزي المبطن, ابتداء من الوصايا عليها من زوجها وأولادها وأبيها ودائرتها الذكورية المحيطة وانتهاء بممارسة شتى صنوف الإذلال, من ضرب وأهانه وقسوة في التعامل اليومي, فهي جزء من أدوات المنزل ذو السلطة الذكورية المطلقة, ومطبخه الذي يطمئن البطون قبل العقول, فهي حبيسة الأربعة جدران ولا حوله لها ولا قوة إلا بأذن من راعيها وقوامها الشهم ذو الرجولة المشوهة, وانتهاء بفتوى رجال الطوائف الدينية من زواج مبكر كطفلة أو متعة جنسية مؤقتة, أو مشروع إرضاع للكبير وزواج مؤقت لعطلة نهاية الأسبوع " ويك أند " !!!.

وتستفحل ظاهرة الزواج غير المدني, فالدول العربية والإسلامية تعج بمختلف أنواع الزواجات خارج المحاكم والمنتشر في مصر, والسعودية والعراق والكويت ودول الخليج الأخرى, والمغرب وتونس والأردن وكذلك إيران وتركيا وغيرها من دول العالم الإسلامي, ولهذا الزواج مشرعيه وفقهائه والذين يبحثون دوما عن مظلة شرعية لحماية هذا النمط من الزواجات, فهناك الزواج العرفي والمنتشر في مصر حتى في أروقة الجامعات, وهناك زواج المسيار, وزواج المصياف, وزواج ألويك أند, وزواج الفرند, وزواج المصواب, وزواج المسفار, وزواج المطيار, وزواج المحجاج, وزواج المسياق, وزواج المهراب, وزواج المقراض, وزواج المتعة, وزواج التجربة, وزواج المزار, ونكاح الترزق, ونكاح الخوالي, ونكاح إعارة الفرج, والمتعة غير الجنسية, والمتعة الجماعية, والمتعة من اجل الإنجاب, وزواج المباركة, ونكاح التعدد, وزواج المردان, ونكاح المصاهرة, ونكاح الضيافة, والقائمة تطول, هذا هو نكاح في ظروف " السلم ", أما نكاح زمن الحرب فقد ضربت داعش مثالا سيئ اهتز له ضمير الإنسانية, من جهاد المناكحة, وسبي النساء, ومقايضتهن جنسيا, وبيعهن في أسواق " الدولة الإسلامية " !!!.

وإذا نحتفل بعيد المرأة العالمي في ظل ظروف إقليمية وعربية وإسلامية تضيق فيها فسحة المساواة ويتعرض فيها فكر المساواة إلى مزيدا من التشكيك والضربات المختلفة, وينتعش فيها الفكر المتطرف الديني والسياسي الذي يرمي المرأة خارج إطار عملية الصراع أو تحيدها أو إجبارها على الوقوف إلى جانبه, وتسفيه دورها اللازم في عمليات التغير واعتبارها تابع لاجدوى من مساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية, فأن الجهود الصادقة والحريصة, الدولية منها والإقليمية والقطرية, يجب أن تتوجه إلى أنقاض المرأة من سلوكيات الإذلال والحط من قيمتها الشخصية والاجتماعية وفسح كافة فرص المساهمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمساهمة في بناء مجتمعات أفضل لا تخضع لمزاج الفتاوى الشخصية والاجتهاد المبتذل, فمكانة المرأة ليست موضوعا للاجتهاد بل هي موضوع للمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين قطبين متكافئين !!!!.

كل التهاني القلبية للمرأة في عيدها العالمي, وكل عام والمرأة العربية والأسلامية بأحسن منه, والى المزيد من تشديد الخناق على العابثين بحرية المرأة وكرامتها الشخصية, والى المزيد من الوعي لفهم أسباب تخلف المرأة, والى التأسيس لأنتفاضة الرفض الكامل لعبودية المرأة وأستلابها من خلال الدين السياسي, والإذلال الاخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والقيمي, فأن تقدم مجتمعاتنا ورقيها رهين بتقدم المرأة فيه, وكل عام والمرأة بخير.






142
جذور فالنتين " عيد الحب " بين الحضارة والدين   

د. عامر صالح

فالنتين أو عيد الحب أو عيد العشاق أو " يوم القديس فالنتين " هو احنفال مسيحي يحتفل به كثير من التاس في العالم في 14 فبراير حسب الكنيسة الغربية أو في 6 يوليو حسب الكنيسة الشرقية من كل عام, حيث يحتفلون بذكرى القديس فالنتين ويحتفلون بالحب والعاطفة حيث يعبر فيه المحبون عن حبهم لبعضهم عن طريق ارسال بطاقة معايدة أو اهداء باقة من الزهور أو غيرها لأحبائهم, الى جانب البعد الأقتصادي أسوة ببقية الأعياد وفي كل الأديان كمناسبة لتنشيط السوق الأقتصادية لتصريف الكثير من البضائع وخاصة الورود في هذه المناسبة, فهو مناسبة لحركة تجارية واسعة لتحقيق مزيدا من الأرباح. وتحمل هذه المناسبة أسم أثنين من الأشخاص لهما نفس الأسم " فالنتين " ويعتبرهم المسيحيون شهداء في سبيل المسيحية في بداية ظهورها, بعد ذلك أصبح هذا اليوم مرتبطا بمفهوم الحب الرومانسي في الكثير من بقاع العالم. لاتوجد رواية ثابته لهذا القديس, وهو قديس روماني من القرن الثالث الميلادي, ولكن الرواية الأكثر حضورا هي ان فالنتين هو كاهن مسيحي كان يزوج العشاق المسيحيين وفق التقاليد المسيحية سرا, وبسبب أن المسيحية كانت ممنوعة في الأمبراطورية الرومانية, وكان يعاقب كل من يمارس أسرار الكنيسة, وبسبب ذلك اعتقلته السلطات الرومانية وحكمت عليه بالاعدام, فأشتهر منذ ذلك الوقت بأنه شهيد الحب والعشاق, ومنه اخذت المناسبة في الاحتفال بعيد الحب أو يوم فالنتين !!!.

لقد توارثت الحضارة الإنسانية الحب من أسلافها الحيوانية في سلم التطور البيولوجي وأعادت إنتاجه على نطاق واسع  وبتعقيد لا مثيل له يكاد يغطي كل ثنايا الحياة الإنسانية وتفاصيلها الدقيقة متأثرا بالثقافة واللغة في أشكال التعبير عنه وحدة الإحساس به, حتى باتت مفردة الحب من أكثر المفردات إلهاما في الشعر والموسيقى والغناء والأدب ومختلف الفنون, وحتى في الخطابات السياسية, وان كانت في الأخيرة غير مباشرة وغامضة, ولكنها أيضا تدعي " الحب " لتضفي على السياسة بعدا أكثر آنسنه من المصالح الضيقة, بل حتى حروب الحضارات كلها كانت تحت شعارات إشاعة العدل والحق والمحبة بين الناس, وأصبح الحب شعار معلن في الحرب والسلم وكل حسب طريقته, حتى باتت مفردة " أكرهك " في سلة المهملات, بل أصبح من العيب في اغلب الثقافات استخدامها على الإطلاق حتى مع الأعداء أو مع من تختلف معهم, فكانت كلمة " أكرهك " من العيب أن تنطق في أكثر المناسبات كراهية بين البشر, وكانت تحل محلها في مناسبات الخصام كلمات مثل " لا أرغبك ", أو ليست لدينا " لغة مشتركة ", أو " لا أستطيع التفاهم معك " أو " أشكرك نلتقي مرة ثانية " في محاولات لإعادة بناء الحب من جديد !!!!!. 

وإذا كان الحب لدى الحيوانات الدنيا بدائيا بملامحه وطبيعته البسيطة فأنه لدى الإنسان أكثر تعقيدا, بل هو احد السمات البشرية, أو السمة التي تجعل من الفرد إنسان بشري عاقل, بل هو أكثر العوامل سببا في ديمومة الإنسان وبقاءه على وجه الكرة الأرضية, فيأخذ الحب هنا مظاهرا مختلفة وثيقة الصلة ببقائه واستمراره وتحسين ظروف عيشه, فهناك حب النفس أو العقل ـ حب العمل ـ حب الجسد ـ حب الطبيعة ـ حب الطعام ـ حب المال ـ  حب العلم ـ  حب القوة ـ الحب الجنسي ـ حب الحيوان وتربيته ـ حب احترام الآخرين ـ حب الأطفال ـ حب الوطن ـ حب الفريق الرياضي ـ حب العلم وغيره من مظاهر الحب المختلفة, والحب هنا هو قوة الجذب الايجابية التي تربط أفراد الجنس البشري, بل هو الحافز الايجابي الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش, وتسودها المتعة والسعادة ودقة الانجاز والسعي للحصول على أرقى المعارف الإنسانية وفهم العالم من حولنا كما هو الحال في فهم ذواتنا. وهذا لا يتم إلا من خلال المشاركة مع إنسان آخر نرى فيه شريكا لمختلف أوجه الحب !!!!!.


أما في الأديان السماوية وغير السماوية فقد ورد الحب ودلالته ومجالاته بتفصيلات كثيرة في أطار التوصية به في التعاملات اليومية, أو في ممارسة الطقوس الدينية, أو بالتلويح بعقوبة الحرمان منه. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد ورد ذكر الحب صريحا في القرآن مباشرة في ( 76 ) آية, عدا الحالات الضمنية الغير مباشرة والتي تشير إلى معنى الحب. وأذكر هنا فقط نماذج منتقاة من بعض الآيات: في سورة البقرة, الآية ( 305) " والله لا يحب الفساد ", وفي سورة آل عمران, الآية ( 32 ) " قل أطيعوا الله والرسول فأن تولوا فأن الله لا يحب الكافرين ", وفي سورة النساء, الآية ( 107 ) " أن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ", وغيرها من النصوص الكثيرة التي تشير إلى التعامل بالمحبة والرحمة مع الأولاد والزوجة وذوي القربى., وكره الإسلام فكرة الانفصال بين الزوجين ووضع لذلك شروطا محدد.

وفي المسيحية شكلت رابطة الحب من الروابط القوية في الكتاب المقدس, ولعل من مؤشرات ذلك هو عدم جواز الطلاق والقسم بإبقاء العلاقة بين الزوجين إلى النهاية, وعدم السماح بتعدد الزوجات, والحب في المسيحية من أجمل الروابط البشرية التي تجمع الرجل والمرأة بمباركة من الله, ونجد نظير ذلك في الكثير من الأديان والشرائع السماوية.

وقد ربطت الأديان السماوية ربطا محكما بين الحب والزواج, ولم تسمح بممارسة الحب أو الحب الجنسي خارج أطار شروط المؤسسة الدينية وفي أطار العلاقات الزوجية حصرا, وبهذا اعتبر الحب وممارسته من المحرمات قبل العلاقة الزوجية. يقول النبي محمد " لم يرى للمتحابين مثل التزوج ", وبالتالي فالحب هنا هو حب بين الزوجين والمتزوجين فقط. ومن هنا أيضا اعتبر الامتناع عن الحب قبل الزواج احد مصادر العفة للرجل والمرأة, كما ورد في حديث آخر للنبي محمد بقوله " يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ". ومن هنا دخل الحب في مجتمعنا في دهاليز السرية شبه التامة خوفا من العقاب الديني والاجتماعي !!!.

وتبقى هنا مسألة العفة والطهارة من أكثر الموضوعات حساسية في ضوء ارتباطها بمفهوم إشباع الدوافع الإنسانية ومنها دافع الحب. ففي المجتمعات الأوربية تفهم العفة والطهارة ليست بعدم الإشباع لدافع الحب والجنس, بل في إعادة صياغة هذه العلاقة بين الذكر والأنثى على أسس مقبولة اجتماعيا تنسجم مع جوهر التغيرات الفكرية و الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والحضارية, وقد قطعت هذه المجتمعات شوطا في إيجاد علاقات بين الجنسين تتمتع بزخم وقبول اجتماعي, وإيجاد معايير أخرى للعفة والطهارة خارج أطار الدافعية للحب, كالصدق والأمانة والوفاء واحترام القوانين وعم التجاوز على حقوق الغير وحريتهم والحكم بالعدل والنزاهة الشخصية من الفساد بمختلف مظاهره الضارة للمصلحة العامة !!!.

أما العفة والطهارة في المجتمعات العربية والإسلامية عموما فظلت متأثرة بالمؤسسة الدينية أكثر مما تتأثر بظروف الحياة العامة والتغيرات الجارية وتأثيراتها على إعادة صياغة العلاقة بين الجنسين, ولا يزال النظر إلى الحب و ممارسته من مؤشرات السمعة غير الطيبة, وإفساد للمجتمع وللعلاقات الاجتماعية, ويبعد الفرد عن طريق الصواب ويضيع وقته سدا, وجهل للدين وقلة الحياء من الله باعتباره هو المحبوب الأعظم ومنه تتفرع أنواع المحبة الأخرى " حسب التفسير الديني ". وهكذا يعيش الشباب اليوم في مجتمعاتنا وسط موجات من الصراع والضغوطات النفسية الهائلة في عالم منفتح على مصراعيه, وفي ظل تغيرات عارمة تعيشها, تجرف مجتمعات بكاملها, مع بقاء الكثير من مؤسساتنا الاجتماعية عاجزة عن احتواء هذه التغيرات والإلحاق بها بما فيها المؤسسة الدينية المتشددة, والتي تغذي الإرهاب ولا تغذي الحب !!!!




143
جرائم الثامن من شباط ودلالتها في الحفاظ على ما تبقى من الدم العراقي !!!
 

د.عامر صالح

يشهد العراق اليوم زمن أسود في كل تفاصيل حياته اليومية, من طائفية سياسية أغلقت الطريق بوجه مستقبله واستقراره ونهضته المرتقبه, وتفكك اجتماعي واقتصادي أطال الحياة بكل تفاصيلها الدقيقة, من تفكك للنسيج الأجتماعي وتشويه لتنوعه الديني والمذهبي والقومي وتشوه في الأخلاق العامة والوعي العام, ودمار شامل للبنية التحتية الأقتصادية وايقاف لعجلة التنمية الشاملة وما رافقها من فقر وجوع وبطالة وانعدام الخدمات العامة, وتفشي الفساد الأداري والمالي والعبث بالمال العام, واشاعة الجريمة بكل ابعادها, وأنتشار الأختطاف  والقتل اليومي المجاني والتصفيات الجسدية على خلفية الاختلاف في الهوية السياسية والطائفية أو الأختلاف في الرأي, وتهديد السيادة الوطنية والتراب العراقي, وكان في داعش العراقية المتلبسة بقيم ثقافة البعث الساقط أسوء دليل على الجريمة والتحلل الخلقي وأنتهاك الأعراض والسيادة العراقية. إن ما يحصل اليوم هو امتداد مرضي لثقافة الأمس في الإقصاء !!!.

أن الذكرى الفاجعة الرابعة والخمسين لانقلاب 8 شباط الأسود تستحضر في ذاكرتنا كل أوجاع ومعاناة الوطن الجريح,من قتل وتعذيب وسبي وتهجير في الداخل والى الخارج,والذي جرى على الهوية الوطنية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية,مستهدفا كل نماذج النبل ورموز الخلق الرفيع لأبناء شعبنا وحركته الوطنية من سياسيين وتكنوقراط وكفاءات علمية وقيادات اجتماعية, أنها جريمة من الجرائم ضد الإنسانية,وليست جريمة ذات أبعاد قضائية فقط وفي حدود داخل البلد ومفاهيمه للجريمة, أن الجريمة الإنسانية "هي تلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ضد أفراد الذين من دولتهم أو من غير دولتهم,بشكل منهجي وضمن خطة نلاحظها,والتميز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد بالطرف الآخر,وذلك بمشاركة مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أنواع أخرى من الاختلاف".فقد أودت هذه الجريمة بعشرات الآلاف من مواطنينا الأبرياء وبآلاف العائلات في غياهب السجون متعرضين فيه لشتى صنوف القتل والإرهاب والتعذيب والدفن وهم أحياء,والذين لم تسلم رفاتهم إلى اليوم إلى ذويهم  وبدون قبور تزار.

لقد استهدفت هذه الجريمة كل قطاعات مجتمعنا بدون استثناء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال إيقاف عملية تقدمه الاقتصادي والاجتماعي وأرجعاه إلى الوراء, ولأن الشيوعيين العراقيين يستذكروها قبل غيرهم,لأنها ارتبطت برموزهم الوطنية وقيادتهم المخلصة للوطن أولا,إلا إن ما وقع من أثارها على شعبنا لاحقا وبفترات تاريخية جراء تسلط النظم الدكتاتورية المتعاقبة وما سببته من تشوهات في التركيبة الاجتماعية,وما ارتكبت من مجازر وحشية طالت كل الطوائف والأديان والقوميات والأعراق ضربت عمليات الاستقرار الاجتماعي في الصميم,وعلى الجميع تذكرها وأخذ الدروس والعبر منها,لأن ذلك يجنب "العراق الجديد " مخاطر الانزلاق في حصر مفهوم الجريمة وضحاياها في فئة دون غيرها...فالجريمة كسلوك يجب إدانته على نطاق واسع بغض النظر عن الجهة التي وقع عليها فعل الأجرام,وعدم السماح بحصره بأطر ضيقة ومحدودة واستخدامه لأغراض نفعية خاصة,فالضحية هو شعبنا بكل مكوناته...وما ارتكبته لاحقا الديكتاتورية والفاشية من جرائم ضد شعبنا هو شاهد على ذلك !!!!.

وبقدر ما كان " لنكسة " الثامن من شباط  من آثار سلبية وانعكاسات خطيرة, إلا إنها شكلت مصدرا أساسيا من مصادر إعادة تشكيل كيان الفرد العراقي أو الجماعات المختلفة المنضوية تحت النسيج الاجتماعي الواحد المتنوع,وفي كافة الأبعاد العقلية ,والنفسية,والوجدانية والسلوكية للأفراد والجماعات والأحزاب والثقافات الفرعية وعلى خلفية إزالة آثار الصدمة,فقد خلقت أولا لدى الحركة الوطنية دافعا قويا من رباطة الجأش المخضب بالأيمان " لإعادة البناء " تمثل في دافعية التعويض الهائلة في إعادة بناء الكيانات السياسية المعارضة للجبهة الفاشية,ولعل السرعة التي أعيد بها تنظيمات الحزب الشيوعي بعد الهجمة الشرسة عليه كانت من " معجزاته " والتي لا زالت راسخة في ذاكرة الأعداء قبل الأصدقاء,فقد نهض الحزب من جديد بعد إن تصور أعدائه أنها هذه نهايته لا محال!!!.

أن جيلا من الأطفال والشباب ولد وترعرع في خضم أحداث صدمة شباط وما بعده, وقف متسائلا ومتأملا عن أسباب فقدان واستشهاد الأخوة والآباء والأمهات والأقارب...وقد كبر تفكيرهم على أعمارهم أضعافا باحثين عن الذنب الذي اقترفه أهلهم وذويهم لكي تحل بهم هكذا فاجعة...لأنهم لا يتوقعون جنسا ينتمي إلى الإنسانية أن يمارس هذه الممارسات في القتل والتشريد ودفن الأحياء,لقد خلقت حالة من الوعي المضاد لأسباب الكارثة في البحث عن بديل أنساني للخلاص من المحنة وهكذا انطلقت المنظمات الطلابية والشبابية والنسائية والعمالية من جديد,وبزمن قياسي, إلى منابر للأعداد والتثقيف والتنظيم ...لقد خاب ظن النظام الفاشي !!!, فقد اتضحت مشاعر روح القوة والعزيمة والإصرار على الكفاح على وجوه الناس ومشاعرهم, لقد خلقت نتائج هذه الأحداث فرصا مواتية لبناء المهارات الفردية والتنظيمية لمواجهة جسامة الحدث وإيجاد أفضل وسائل التكيف مع آثار " النكسة ".

لقد برز أعلام الحزب الشيوعي العراقي بقدراته الهائلة الداخلية والخارجية لفضح النظام الفاشي عبر حملات التضامن مع شعبنا, وفرضت على النظام عزلة دولية خانقة, وقد رسخت مزيدا من ثقافة رفض القهر والظلم والذل,  لقد اسقط الشيوعيون العراقيون المفهوم النفسي للدولة التي لا تقهر, وبهذا أزيحت مفاهيم الاستسلام كمنتوج للصدمة عبر إشاعة مفاهيم العزة والانتصار والإيمان بقضية الشعب العراقي العادلة في الديمقراطية والتقدم والحرية.

واليوم أذ يمر العراق بأسوء ظروف انسانية تعيد فيه الى الذاكره احداث شباط المأساوية في قطع الطريق على التقدم والسلم الأجتماعي والاستقلال الوطني والاستقرار المجتمعي, فأن كل القوى الخيرة وصاحبة المصلحة في عراق معافى عليها القيام بدورها المخلص والنزيه في اعادة بناء العملية السياسية على أسس واضحة بعيدا عن النظام الطائفي والاثني البغيض, الذي زرعه الأحتلال الأمريكي في العراق, وكان اليوم سببا رئيسيا في الخراب والقتل والفساد وانتهاك السيادة الوطنية والذي أودى بمجتمع بكامله في دوامة الصراع والهلاك والانقراض المتواصل للدولة ومؤسساتها على طريق الأضمحلال الشامل. إن بقاء الحال على ما هو عليه سوف يجعل العراقيين كل ايامهم ثامن من شباط, حيث القتل اليومي بدون مناسبة تذكر !!!!.


144
لماذا يتهالك البحث العلمي في بلادنا وما هو المخرج من الأزمة !!!
 

د.عامر صالح 


البحث العلمي هو نافذة البشرية الوحيدة إلى التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والفكري, بل أن كل الثورات العلمية والصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية ما هي إلا ثمرة من ثمرات التراكم المعرفي والعلمي القائم على أسس تطوير منهجية البحث العلمي, وما عدا ذلك فأن حياتنا لا تعدو إلا أن تكون طقوس من التنجيم والخرافة والسحر والشعوذة والاجتهاد العبثي, يعاد فيها إنتاج التخلف وتوليده على نطاق واسع في كل مفاصل الحياة العامة والخاصة, حيث يتم فيه تعطيل قيمة العقل الإنساني, الذي لا سلطة تعلو عليه, في البحث عن الحلول العلمية لمختلف مشكلات الحياة, وعندها يتوقف الزمن, حيث لا نشعر بقيمة التقدم وجدواه وتبقى حياتنا تكرارا مبتذلا لأسلافنا, وفي أحسن الصور يكون وجودنا محاكاة مشوهة لما ينجزه الآخرين دون القدرة على استنبات العلم والتقدم التقني والاجتماعي في البيئة الوطنية !!!.

أن البحث العلمي كآلية هو العملية الفكرية المنظمة التي يقوم فيها الباحث إن كان فردا أو مؤسسة بحثية أو جامعية من اجل تقصي الحقائق بشأن مسألة أو مشكلة معينة تسمى ( موضوع البحث ), بأتباع طريقة علمية منظمة تسمى ( منهج البحث ) بغية الوصول إلى حلول ملائمة للعلاج أو إلى نتائج صالحة للتعميم على المشاكل المماثلة تسمى ( نتائج البحث ). فالبحث العلمي هو الطريقة الوحيدة للمعرفة حول العالم بكل تنوعاته وغناه, ولفهم الحقائق الواقعية بعبارات القوانين والمبادئ العامة. والبحث العلمي كمنهج يطال كل مفاصل الحياة بدون استثناء, الروحية منها والمادية, ولا توجد فرصة للخيار بين البحث العلمي أو عدمه, فالمراوحة في الخيار هي نوع من الباطل, وعدم الأخذ بالمنهج العلمي يعني اختيار التخلف كطريقة للبقاء والعيش, وهو ما يرفضه علنا وحياء حتى أكثر دعاة ورموز الأمم تخلفا, فأما الحياة أو الموت !!!.

ومن هنا نستطيع القول بما لا خلاف عليه بين من يلتمسوا تشخيص الحاضر ويبنوا المستقبل أن البحث العلمي هو الطريقة لمعرفة وحصر مشاكل المجتمع, وتحديد درجاتها من الأهمية, وأولويات وطرق التعامل معها, وهو السبيل الوحيد لحل تلك المشاكل بما ينسجم مع إمكانيات المجتمع وقدراته وطموحاته؛ وهو الطريق للحفاظ على القدرة التنافسية للمجتمع في عالم متحرك ومتطور بسرعة فائقة؛ وهو الطريق لتشخيص وتلبية حاجات المجتمع المستمرة والمتزايدة في كافة مجالات الحياة, عن طريق تطوير طرق الإنتاج والأداء وأدواته وخاماته ووسائله في مختلف مجالات الحياة في, في الزراعة والصناعة والخدمات وحسن استخدام الثروات الطبيعية وغيرها, بما يؤدي إلى تحقيق الكفاية أو يقترب منها ويضع السياسات الحكيمة للموائمة بين تلك الحاجات وبين الإنتاج والاستيراد, ويحقق معدلات مرتفعة من التشغيل للفئات الاجتماعية المختلفة حسب المؤهلات والكفاءات المهنية والعلمية المتاحة, مما يؤدي بدوره إلى نوع من الانسجام والتوائم الاجتماعي !!!.

والبحث العلمي ضرورة ملحة لنظام الحكم ومؤسساته ووزاراته وكل أجهزة المجتمع ومؤسساته ومنظماته, حيث لا يمكن التخطيط واستقراء المستقبل بدون بحث علمي, ولا يمكن أيضا بدونه القيام بعمليات التنفيذ والمتابعة والتطوير وحل المشكلات الطارئة؛ والبحث العلمي أيضا شرطا أساسيا على المستوى الفردي, حيث يحتاج الفرد من اجل حياة موفقة أن يفكر في كل خطواته وتحركاته من إقدام وإحجام, وان يجمع لها البيانات اللازمة ويحسب الخسارة والربح المترتب على ذلك وتأثيره المستقبلي؛ كما أن البحث العلمي بمعناه الواسع يمتد ليشمل جمع المعلومات وتوظيفها في جميع أنشطة الحياة العلمية والعملية, ويمتد ليشمل الأفراد والجماعات والمجتمع, فإذا ما ارتبطت بخطوات محكمة منظمة ومتسلسلة لجمع المعلومات وتحليلها والتأكد من صحتها بغرض الإجابة على سؤال معين أو تفسير علاقة ما أو حل مشكلة ما, كان ذلك يعرف بالبحث العلمي, أنه سلوك المجتمعات المتمدنة والمتحضرة ووسيلتها لحل مشاكلها والتغلب على أزماتها. وعدا ذلك يصبح كل شيء عشوائي, مما يزيد من فرص الفشل والإحباط والتخبط في إيجاد حلول للازمات. أن غياب البحث العلمي في بلادنا هو مصدر أساسي في التخلف والفوضى التي تضرب كل مرافق الحياة, مما يسبب في ضياع الوقت وإهدار المال وشيوع الفساد بمختلف مظاهره, ويشكل فرصا مواتية لشيوع الخرافة بكل ألوانها, السياسة والدينية وانتشار الجهل والغباء في تفسير ما يجري على ارض الواقع وفقا للمنطق المعكوس في وضع العربة أمام الحصان !!!!!. 

وفي ضوء تلك الاعتبارات لا نستغرب من الصراع الذي يجري اليوم في العالم من اجل حيازة المعرفة العلمية لتحسين ظروف العيش والارتقاء بها ومن اجل صناعة الحياة وتحقيق التطور والنهوض, بل أن الكثير من دول العالم وفي مقدمتها أمريكا تسعى بطموحاتها المشروعة وغير المشروعة عبر الاستحواذ على المعرفة لقيادة العالم, لأن ذلك يشكل المدخل لامتلاك كل شيء, من تكنولوجيا و سلاح متطور إلى إنتاج نوعي في مختلف المجالات الحياتية, وهذا الجهد بطبيعته جهدا منظما لا يمكن أن يجري في الفراغ, حيث ينبغي توفير الحرية والدعم والأموال وبناء المنشآت والمعامل والأدوات, وتأهيل الكوادر البشرية, وخلق الحوافز المادية والمعنوية, التي تجعل من الإنتاج الفكري عملا يستحق المعاناة والجهد المتواصل. بل أن الكثير من الدول المتطورة تعلن عن طموحاتها في تصدر عالم المعلومة الرصينة, ولا نستغرب من المؤسسة الوطنية للعلوم في أمريكا تحدد لنفسها الأهداف الثلاثة الآتية:

ـ النهوض بالاكتشافات والنشر المتكامل وتوظيف المعلومات الجديدة في خدمة المجتمع.

ـ تحقيق التمايز في العلوم والرياضيات والهندسة وتدريس التكنولوجيا في جميع المستويات التعليمية.

ـ تمكين الولايات المتحدة من التمسك بقيادة العالم في جميع مجالات العلوم والرياضيات والهندسة.

أن أسباب تخلف البحث العلمي وتدهوره هو جزء من تخلف الحياة العامة الذي يعكسها تخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والذي ينعكس بدوره على تخلف المنظومة التربوية والتعليمية والتي يرتبط بها العلم والبحث العلمي والقناعة به كمنهج للحياة وحل المشكلات. وتتضح ابرز أسباب ملامح ضعف البحث العلمي وكفاءته فيما يأتي:

ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده صالح لكل الأزمان والأمكنة, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا إلى قمة النظم السياسية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي إلى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

ـ ويرتبط بالعوامل المذكورة أعلاه غياب ثقافة أهمية البحث العلمي والاكتشافات العلمية والرغبة في الإبداع والاختراع في الوعي والتفاعل الاجتماعيين, وبالتالي يغيب التفكير والتشجيع والدعم عن المسار البحثي والعلمي وعن العلماء والباحثين والمكتشفين في المجتمع, وترتبط جذور ذلك أصلا في غياب القيمة البحثية في مناهج التعليم بمراحله المختلفة والقائمة أصلا على الحفظ والتلقين والاستذكار التقليدي, وهذا النظام التعليمي التلقيني لا يحتاج إلى كفاءات عالية ولا إلى مستلزمات تقيم متطور لقياس مهارات الطلاب في الفهم والتفكير وحل المشكلات, إلى جانب كونه نظام يدفع إلى الكسل والاتكالية والخمول العقلي, ولا يستثير في الطالب فكرا أو تساؤلا بل يقتل فيه ملكة التفكير, وتنتفي في هكذا نظم تعليمية القدرة على صناعة الباحثين في الخطط التعليمية عبر التراكم المعرفي في مراحل التعليم المختلفة.

ـ ضئالة الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي وللباحثين في الجامعات وفي الدول العربية بصورة عامة بسبب من غياب إستراتيجية واضحة في هذا المجال وتخلف النظرة إلى الإنفاق باعتباره إهدارا واستهلاكا للأموال غير مجدي, وليست استثمارا طويل الأمد يأتي أضعاف ما ينفق عليه, وقد أوردنا في بداية البحث ما يعكس الضعف في هذا المجال قياسا بالمعايير الدولية.

ـ الفساد الإداري والمالي وضعف معايير الكفاءة والأهلية المهنية والعلمية في انتفاء الكادر القيادي لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي, واللجوء إلى معايير الحزبية والمذهبية والطائفية والموالاة في انتقاء الكوادر الإدارية, وغالبا ما تكون هذه القيادات بعيدة كل البعد عن مفهوم الاستقلالية والنزاهة, بل هي أطراف أساسية في صراعات مصلحيه ضيقة مع غيرها, بل هي أطراف في الفساد بمختلف مظاهره, مما يحرم هذه المؤسسات من الاستقرار والنزاهة والحيادية التي هي شروط لازمة للارتقاء بالعلم والبحث العلمي. ويرتبط بذلك ويرافقه سياسات أبعاد الكوادر العلمية عن مواقعها العلمية والبحثية من خلال التهجير ألقسري والإحالة على التقاعد وانتهاء بالتصفيات الجسدية ومسلسل الاغتيالات للكوادر في مختلف التخصصات العلمية.

ـ الآثار الضارة للمركزية الإدارية الشديدة في التعليم وغياب إستراتيجية إدارية ـ علمية معاصرة, حيث ساهمت الإدارة المتخلفة وعلى مر عقود في غياب تصور علمي دقيق وشامل للعمل البحثي, انتفت فيه عمليات التناسق والتناغم والتخطيط لمكونات العملية البحثية ومقوماتها الأساسية ( الباحثين, التمويل, التطورات العلمية والتقنية, الأولويات البحثية بما يخدم احتياجات المجتمع وتطوره, المعامل والأجهزة والمعدات العلمية وغيرها ), وبين المراكز البحثية المختلفة, وبين البحث واحتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمختلف البحوث. 

ـ أن غياب إستراتيجية شاملة للبحث العلمي في كل بلد عربي تتضح آثاره جليا في ما يسمى بالفوضى البحثية, والتي تتضح أبرز معالمها في العمل البحثي الفردي لأغراض فردية وذاتية بحتة, سواء لأغراض الترقية العلمية فقط أو للحصول على المال في أمكنة النشر, وعدم وجود فرق بحثية تتكامل بين أفرادها, وهو سمة مهمة من سمات تطور وارتقاء البحوث في عالمنا المعاصر, وعدم التنسيق بين المراكز البحثية المنتشرة في البلد الواحد, وانفصال البحوث عن المشكلات الاجتماعية واحتياجات المجتمع, مما أدى بدوره إلى تكرار واجترار البحوث السابقة, فهي لا تخدم في معظمها قطاعات صناعية أو زراعية ولا تواكب حاجات المجتمع في ميادينه الناشئة الحديثة كتقنية المعلومات والتكنولوجيا المتطورة, وكان ذلك سببا في إنتاج كم هائل من المجلات والدوريات ذات الموضوعات المتكررة في البلد الواحد بل وفي القسم و الكلية والجامعة الواحدة في البلد المعني, واغلب هذه الدوريات غير معروف عالميا ولا يضيف قيمة علمية للبحوث العالمية !!!.

ـ عدم وضوح فكرة أن الجامعات هي جزء من آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يجب أن تكون بحوثها على تماس مع مشكلات المجتمع بمختلف قطاعاته, وبسبب غياب الرؤى في هذا المجال نرى أن اغلب بحوث الماجستير والدكتوراه تستهدف تهيئة وتدريب الكادر على طرائق ومنهجية البحث العلمي, وهي بهذا بعيدة كل البعد عن المساهمة في البحث عن الحلول للمشكلات الاجتماعية المختلفة, وبسبب من ذلك تأتي اغلب الأبحاث سواء الأساسية منها أو التطبيقية تكرارا لسابقتها, إن لم يكن تكرارا مملا فهو تكرارا بحلية شكلية ترضي المشرف عليها, وقد تبدو لصاحبها أصيلة وهي  بعيدة كل البعد عن الأصالة.

ـ لا يشكل البحث العلمي إلا قدرا هامشيا أو ضئيلا من عمل الأستاذ الجامعي فهو مغرق بالساعات التدريسية مما يشغل جل وقته في التهيئة للمحاضرات النظرية أو أعمال المختبر التقليدية, كما أن الكثير منهم تضعف علاقاته بالبحث العلمي بعد حصولهم على الدكتوراه أو بعد نيل درجة الأستاذية أو الأستاذ مساعد أو أستاذ مشارك, وينصب اهتمامهم في الإشراف على الأبحاث فقط أو أعمال روتينية إدارية كإدارة قسم أو كلية أو جامعة, رغم أن دور الأستاذ يجب أن يكون مستمرا في إنتاج أفضل البحوث المفيدة سواء للمجتمع أم للعملية التعليمية في أروقة الجامعات.

ـ ضعف البنية التحتية للأبحاث النظرية والتطبيقية من مختبرات وأجهزة ومكتبات علمية, فالمختبرات وأجهزتها وصيانتها ونقص المواد الأساسية لها بمختلف التخصصات ونقص الكادر الفني ذات الصلة بذلك هو سمة بارزة لأغلب ما تعانيه الجامعات العربية وتشكو منه, إلى جانب ضعف قاعدة المعلومات الحديثة, سواء من مطبوعات ودوريات علمية عالمية أو غياب المكتبات الرقمية أو الالكترونية وقواعد البيانات البحثية وغبرها من أدوات التعليم الالكتروني للتواصل مع العالم البحثي.

ولا نستغرب من كل هذا ولتلك الأسباب حصرا عدم تبوء الجامعات العربية لمكانتها العلمية بين الجامعات العالمية رغم الجهود المبذولة من قبل مختلف الجامعات العربية, فالطموح لتبوء مكانة لائقة في وسط الجامعات العالمية شيء ويبقى طموح مجرد, وفهم أسباب التخلف العلمي والقدرة على تجاوزه شيء آخر !!!!.

أن الحديث عن إصلاح أوضاع البحث العلمي والنهوض به يبقى حديثا لأغراض المتعة المعرفية والعقلية, ما لم يكون متزامنا وقائما على خلفية التحديث السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي والفكري للمنظومة الرسمية السائدة, فلا يعقل أي باحث من أن إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية وإصلاح الجامعات وما يرتبط بها من وظائف, كالتدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع المحلي, أو اصلاح المراكز البحثية المنتشرة خارج الجامعات, أن يتم هذا كله في وسط إدارة عامة بيروقراطية متخلفة فاسدة شديدة المركزية, وفي ظل نظام سياسي لا يؤمن بالحريات الديمقراطية وحرية البحث والتنقيب عن الحقيقة, أو في ظل مجتمع تسوده الأمية والفقر والجهل والتطرف, وبالتالي فأن النضال والجهود لإصلاح أوضاع العلم والبحث العلمي هي جهود مكثفة ومتزامنة مع جهود أخرى على أكثر من صعيد, وأن أفضل المقترحات في الإصلاح, وخاصة تلك التي تستجيب وتنسجم مع معايير الجودة العالمية في الإصلاح لا ترى النور وتبقى حبر على ورق أو أمنيات مستحيلة التحقيق في أذهان مصمميها ما لم تجري في إطار عملية اصلاح شامل للمنظومة الاجتماعية, ولعل ابرز المقترحات للنهوض بعملية البحث العلمي هي:

ـ ضرورة العمل على ربط الأبحاث العلمية بمشاكل المجتمع وقطاعاته المختلفة, الصناعية والزراعية والخدمية, الخاصة منها والحكومية, من خلال المسوح الشاملة لهذه المشكلات وضرورات الحاجة الملحة لحلها بما يخدم برامج التطوير والتنمية الشاملة, ويلعب التنسيق هنا بين مراكز الأبحاث في الجامعة وخارجها دورا مهما في هذا المجال للتركيز على الأبحاث النوعية ومنع تكرار البحوث ذات المشكلات المتشابهة, مما يجب الإهدار في الإنفاق والجهد ومضيعة الوقت.

ـ العمل الجدي على توعية قيادات القطاع الخاص بأهمية البحث العلمي وضرورته لحلول المشكلات المختلفة, مما يسهم برفع الكفاءة الإنتاجية لهذه القطاعات, ويؤدي أيضا بدوره إلى زيادة مساهمة هذا القطاع في تمويل عمليات البحث العلمي, وليست فقط الاعتماد على الحكومة كمصدر وحيد للتمويل, أسوة بما يحصل في بلاد العالم المتقدم.

ـ استحداث ميزانية خاصة للبحث العلمي سواء في إطار وزارات أو إدارات التعليم العالي والبحث العلمي أم خارجه, وتقرير نسب معقولة من الإنفاق المالي قياسا إلى الناتج الإجمالي, والى الموازنة العامة المخصصة لقضايا التربية والتعليم العالي, وهو ما معمول به في البلاد المتطورة.

ـ التطوير المستمر لبرامج تفرغ أعضاء هيئة التدريس وتخصيص ساعات معينة لإنتاج البحوث العلمية كجزء من النصاب التدريسي للأستاذ.

ـ التشديد والصرامة في نظام الترقيات العلمية للكادر التدريسي, من مدرس مساعد إلى مدرس ثم أستاذ مساعد إلى أستاذ واعتماد الإنتاج العلمي ودورهم البحثي وقدراتهم التدريسية الفعلية من ضمن المؤشرات الرئيسية لذلك, بعيدا عن العلاقات الشخصية والمحاباة والشللية, مما يسهم في إنتاج كادر يحترم نفسه ومهنته.

ـ إقامة شبكات وطنية للمعلومات تربط بين الجامعات ومعاهد البحوث وبعض المؤسسات المعنية الأخرى وأهمها التجارية والصناعية والإفادة من تجارب الجامعات الرصينة في العالم في مجال إنشاء الشبكات الفعلية والافتراضية للبحث والتطوير وشبكات بين الباحثين واستحداث برامج للدراسات العليا موجهة نحو الأبحاث التطبيقية الهادفة إلى خدمة أغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية.

ـ ضرورة تطوير النشر الالكتروني ونشره على نطاق واسع وتشجيعه لمزاياه المختلفة من سهولة ورخص وتوفره في كل مكان, وشيوعه على نطاق جغرافي واسع يتجاوز محدودية النشر الورقي, ثم ضرورة إنشاء موقع الكتروني لكل مركز بحثي, أو قسم من أقسام الكليات في الجامعات المختلفة, وتطويره وتحديثه بأخر المعلومات المتاحة.

ـ تشجيع إنشاء جمعيات علمية وطنية وفق المقاييس العالمية لترويج البحث العلمي والتعاون مع الجمعيات العلمية والأجنبية, ويرتبط بذلك ويعززه حث الأستاذ على الانتماء لعضوية الجمعيات العلمية ومراكز البحوث الأجنبية ونشر البحوث لدى دورياتها العلمية وتحفيز الأساتذة على المنافسة في البحث العلمي ونشر البحوث المميزة.

ـ الحاجة الملحة لتطوير البنية التحتية للبحث العلمي, وخاصة البحوث التطبيقية لتوفير أجهزتها الضرورية وطاقمها الفني اللازم للصيانة والدعم لإجراء الأبحاث, فالجهاز العتيق البالي يأتي بنتائج مشكوك فيها, وعدم توفر المواد الأساسية للأبحاث هو الآخر يعرقل انجاز المهمة البحثية.

ـ خضوع الأستاذ للتدريب المستمر عن طريق دورات تدريب القيادات والتعاون بين الجامعات وتحتسب شهادة الكفاءة لإغراض الترقية العلمية وتطوير أساليب البحث العلمي. ويساعد التدريب على الرقابة العلمية على الأستاذ وخاصة إدخاله المعرفة الجديدة في أبحاثه ويعينه على التقويم الذاتي لانجازاته.

ـ العمل الجدي والمسئول لتخطيط البعثات العلمية إلى الخارج, وتحويلها من امتياز شخصي إلى الدارس للنقاهة والاستجمام بسبب من انتمائه المذهبي والسياسي والقبلي, إلى رحلة علمية حقا للبحث والاستكشاف, وهنا يجب اختيار المشكلات التي يحتاج المجتمع فعلا حلولا لها, وليست البعثة لإغراض دراسة التاريخ الإسلامي والعربي في جامعات الدول الأوربية والعالمية( فشر البلية ما يضحك), أنه مضيعة للوقت والجهد والمال, ولكي يعود الدارس بمزيد من المدخرات في العملة الصعبة.

تلك هي إشارات بسيطة لواقع البحث العلمي وسبل تطويره , وتبقى الحلول الجذرية ومدايات الأخذ بها والقناعة بتحويلها إلى خطوات إجرائية رهين بمدى انهيار المنظومة السياسية التقليدية القائمة على الخرافة والقمع والاجتهاد المؤذي, فأما العلم أو الجهالة إلى حين. لقد خضت في الكثير من التفاصيل في هذا الموضوع الحيوي في مناسبات علمية وبحثية مختلفة.




145
بين مفهوم " الحرم الجامعي " والحرية الأكاديمية يعيث الإسلامويين الخراب !!!
د.عامر صالح

لقد تقدم مجموعة من طلبة جامعة الديوانية يوم الأثنين المصادف 2017ـ 01 ـ 09 بشكوى لقاضي تميز المحافظة ضد امام جامع الرحمة في المدينة بعد ان وصفهم ب " بالمخانيث " مطالبين باتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة بحقه. وكان امام جامع الرحمة قد تهجم, في يوم الجمعة السابقة للتاريخ المذكور اعلاه, على طلبة الجامعات ووصفهم بأوصاف نابية مطالبا وزير التعليم العالي باقالة عمداء الكليات ورؤساء الجامعات الذين لا يفرضون اجراءات مشددة على العلاقات بين الطلبة والطالبات في كلياتهم ولا يلتزمون بالانضباط الشرعي داخل الجامعات " وفقا لأمام الجامع والمدعو محمد الفضلي والقيادي في حزب الفضيلة " !!!.
وقد أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رفضها ما تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي من خطاب لأمام الجامع “يسيء” للطلبة الجامعيين، فيما أعربت عن أسفها لصدور مثل هذا الخطاب “الأحادي المأزوم”، دعت إلى تفهم خصوصية المرحلة. وقالت الوزارة في بيان، إنه “دعماً لطلبتها وملاكاتها التدريسية وانطلاقاً من المسؤولية الأكاديمية والقيم الجامعية العريقة تعلن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رفضها ما تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي من خطاب يسيء للطلبة الجامعيين ويغفل أهمية هذه الشريحة في صناعة المستقبل.

هذا الاستنكار الخجول لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي يعكس في بعض من وجوهه الخفية مدى تداخل السلطات الطائفية السياسية وعبثها في مؤسسات الدولة وقدرتها المليشياوية على أختراق مؤسسات الدولة, سواء بالخطابات الدورية, أو من خلال التدخل المباشر في شؤون تلك المؤسسات وفرض ارادة المليشيات المسلحة من خلال أكراه تلك المؤسسات وبقوة السلاح على تبني مختلف الارادات السياسية والتوجهات الأدارية, وفرض تغيرات بالقوة للتسير عمل مختلف مؤسسات الدولة !!!.

هذه ليست المرة الأولى التي يتم بها التجاوز على الحرية الأكاديمية والعبث بالأستقلال النسبي للجامعات والتدخل في الشأن الخاص بها من قبل اناس لا صلة لهم من قريب أو بعيد بمؤسسات التعليم العالي, بل من اناس يرون في المدارس الدينية والجوامع والحسينيات هي المصدر الوحيد للمعرفة والعلوم ولديها تكمن الأجابة على كل تساؤلات المجتمع لمختلف المشكلات, ولديها ايضا التفسيرات الجاهزة لكل الظواهر الطبيعية وفي مختلف العلوم, وما الجامعات إلا أمكنة للنزهة والاختلاط بين الجنسين وارتكاب الرذائل, ومن الصعب والعسير والعصي ان تتفاهم مع اناس من هذا النوع وأقناعهم بجدوى نشأة التعليم العالي, وماهي وظائفه الأساسية في البحث والتنقيب وأكتشاف المجهول, وخدمة المجتمع المحلي والوطني, وتزويد الدراسين بآخر مستجدات العلوم والمعارف, ودور الجامعات في خلق الكادر المهني والعلمي بمختلف التخصصات, وأنها من مصادر تشكيل الطبقة الوسطى في المجتمع, تلك الطبقة صاحبة ورائدة التغير الشامل في المجتمع, كما يجب أن يكون, !!!. 

أن أزمة التعليم العالي في العراق هي جزء من الأزمة العامة المستعصية, وذات الصلة بالنظام المحاصصاتي, ومن أبرز ملامح هذه الأزمة هو الآتي: 
ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها .

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

ـ ضعف التنسيق بين الجامعات والكليات الأهلية من جهة وبين الجامعات والكليات الحكومية من جهة أخرى, حيث الإرباك في تكرار الاختصاصات المتشابهة في كلا الطرفين وعدم انتهاج مبدأ التكامل في التخصصات بين المؤسسات التعليمية العالية الحكومية منها والأهلية, الأمر الذي لا يخدم أغراض التنمية وسد الحاجة لمختلف التخصصات, وانعدام الهيكلة الإدارية التي تضمن بقاء التعليم الأهلي تحت إشراف فعلي وليست شكلي من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على تلك المؤسسات, مع احترام استقلاليتها الإدارية والمالية, بل يدخل التعليم الأهلي في أحيان كثيرة كمنافس للتعليم الحكومي و كمصدر لاستنزاف الكادر العلمي والتدريسي من المؤسسات الحكومية تحت وطأة المغريات المادية والمالية, وبالتالي فأن الكثير من خريجي الجامعات والكليات الأهلية مهددين بالبطالة وانعدام فرص العمل لاحقا بسبب من ضعف الحاجة لاختصاصاتهم, علاوة على ذلك نرى أن التوسع السريع في إنشاء مؤسسات التعليم العالي الأهلية والذي زاد عددها أكثر من ضعف مقارنة بعهد النظام السابق يثير تساؤلات كثيرة عن جدوى هذا التوسع والحاجة الفعلية له !!!.

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.

ـ تشير الكثير من المقابلات الميدانية التي أجريت مع أساتذة جامعات وقيادات أدارية وطلابية إلى أن الكثير من مؤسسات التعليم العالي تحولت إلى مؤسسات مصغرة للمساجد والحسينيات والجوامع, تجري فيها الشعائر والاحتفالات والطقوس الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع, وكأن لم يكفي الآلاف من المساجد والجوامع المنتشرة خارج الجامعات, حتى أن العديد من المختبرات العلمية تحولت إلى حسينيات لزمرة هذا الحزب السياسي الطائفي أو ذاك, ولكي تتحول بالتدريج إلى بؤر للفساد والاحتقان الطائفي والمذهبي وللتفرقة بين الطلاب, حيث تسيطر كل ميليشيا حزبية على إحدى الكليات ومرافقها داخل الجامعة, وانتشار صور المعممين في أروقة الكليات والجامعات والشعارات الدينية الطائفية الاستفزازية والعبث بمسميات هذه المؤسسات وتسميتها برموز قيادات أحزاب أو طوائف, انه امتهان للحرية الأكاديمية وتسييس للمؤسسات العلمية وزجها في الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية .

ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.

ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية, وهي تذكرنا بحقبة توظيف " البحث العلمي " لخدمة مصالح الحزب القائد وتمجيد قائد الضرورة.

ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.
 
أن الحرية في المجتمع الأكاديمي وتوسيع دائرة الصلاحيات للإدارات الجامعية وعدم اقحامها بالصراعات الأثنو طائفية السياسية, وفصلها وعزلها عن المؤسسات الدينية, سببا مهما في نمو الفاعلية ورفع مستوى الأداء، فالاستقلال النسبي ماديا وإداريا وفكريا وسياسيا سيدفعها إلى البحث عن التميز والشعور بالمسؤولية تجاه جودة المخرجات، لأن الجامعات في هذه الحالة ستعمل على طريقة تحقق فيها متطلبات التنمية لتدخل ضمن مجال تنافسي علمي تحكمه المستجدات العلمية والتقنية المعلوماتية وإبراز الأفكار المبدعة، فسترفع من هذه القيمة باستقطاب المفكرين وتبني الآراء التي تسهم في وصولها إلى مكانة أفضل نسبة إلى غيرها، وهذه الأهداف ستتجاوز ما نخشاه من سيطرة النزعة المناطقية والنفعية والطائفية والأثنية التي تسيطر على الإدارات وعلى السياسات العامة، ويأتي هذا كله مع ضرورة إيجاد نظام يحمي مكتسبات الجامعات من أي تدخل خارجي، والنتيجة تؤدي إلى خلق بيئة ملائمة لنمو المعرفة والإبداع, وبهذا ستكون مؤسسات التعليم العالي بيئة صالحة لجذب افضل الكوادر العلمية, وتقلص بدورها من هجرة الكادر وتسربه من الجامعات الى خارج العراق أو داخله !!!.





                                                                       

146
حرية الصحافة والتعبير وأغتيال العقل المدني !!!


د.عامر صالح

أقدم مجموعة من الظلاميين الأوباش والمتلبسين في الثقافة الداعشية في تصفية الحرث والنسل على اختطاف الصحفية والناشطة المدنية العراقية أفراح شوقي في سيناريو أقل ما يقال عنه سيناريو جبان وقد نفذ من من قبل مجموعة من المتشبهين بالرجال بحق صحفية مهنية, أمرأة طموحة لعراق ديمقراطي يخلو من الأرهاب والطائفية الكريهة والمحاصصة الأثنية والمذهبية المريضة والرعناء ذات الأصول الدموية الغارقة في الفساد الأداري والمالي والأخلاقي, ومتخذة من الطائفة والمذهب والعرق شماعة لأرتكاب جرائم بحق الشعب العراقي وبحق الانسانية جمعاء !!!. 

يطال الشك الى مصداقية محاربة داعش عسكريا في مناطق تواجدها عندما لا يقترن ذلك بثقافة احترام الرأي والرأي الآخر في المناطق التي تتواجد فيها سلطة الدولة الاتحادية وبغداد بشكل خاص, لأن محاربة داعش عسكريا يجب ان يتزامن ويقترن حثيثا في القضاء على ثقافة داعش وأمتدادتها في كل التراب العراقي, تلك الثقافة الوسخة التي يجسدها العقل السيكوباتي المريض في وسط العراق وجنوبه وشماله, والتي تدعي أحتكار الحقيقة عبر تسويف المذهب والطائفة والعرق وتوظيفه لمصلحة تفكيك النسيج الاجتماعي واشاعة ثقافة التصفيات الجسدية والنفسية وخلق الفوضى المدمرة, وهي ثقافة داعشية تسعى داعش لإشاعتها في مناطق تواجدها عسكريا !!!.

لقد أقدم هؤلاء الجبناء على أختطاف الناشطة المدنية والصحفية أفراح شوقي ليؤكدوا لنا أن داعش موجودة في كل حتة عراقية وفي كل زمان وبأمكانهم أن يستنسخوا داعش اخرى ذات مواصفات ثقافية وسلوكية تخريبية لاتقل ابدا في جرمها وصلافتها عن داعش الرسمية والمعروفة لدى الغرب والشرق, فالداعشية سلوك إجرامي وهو أرهاب منزوع الصلة بدين أو مذهب بعينه, وبأمكانك ان تكون داعشيا عندما لا تحترم حرية التعبير والصحافة والرأي الآخر, والأسوء من ذلك عندما تقدم على اختطاف سيدة في عمر الزهور وأم لعدة أطفال وصحفية محترفة كما غيرها من شهداء الكلمة الذين تمت تصفيتهم من قبل رواد الثقافة الداعشية !!!.

ان الحرية الاعلامية والصحفية تشكل ركنا من أركان الدولة المدنية والديمقراطية وقد تكرست هذه الحرية في جميع المواثيق الدولية, والعراقية ايضا من خلال الدستور, وبالتالي فأن الأقدام على اختطاف الصحفية أفراح شوقي هو جريمة أسوة بجرائم اختطاف وقتل الصحفين التي ارتكبت سابقا في العراق, وهي جرائم ضد الأنسانية وتهدد النظام السياسي الوطني ومصداقيته في الحفاظ على أرواح المواطنين والصحفيين بشكل خاص !!!.

ان ما قامت به أفراح شوقي كناشطة مدنية وصحفية في نقل المعلومات الأمينة والصادقة والحيادية, وقد جاءت نشاطات الصحفية المذكورة منسجمة مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان في حرية النقد والتعبير وحق التجمع والتظاهر وابداء الرأي المغاير, كما كانت نشاطاتها منسجمة مع روح الدستور العراقي ونصوصه الصريحة في احترام حرية الرأي والتظاهر والتجمع.

لم يكن نشاط المواطنة الصحفية أفراح شوقي داعيا للحرب, ولا للصراعات الطائفية والاثنية ولا للتميز العرقي والمذهبي والطائفي, ولا للكراهية الوطنية والقومية, ولم تكن في يوم ما داعية لاستخدام العنف والعدائية. ان ما قامت به السيدة أفراح شوقي يصب في جوهر الحرية الاعلامية والصحفية وفي خدمة المواطن العراقي وصيانة حقوقه المشروعة في العيش الكريم, وممارسة النقد لمختلف الظواهر الاجتماعية ذات المساس بتهديد السلم الأهلي وتهديد كرامة الانسان العراقي.

فلتتظافر كل الجهود الوطنية المخلصة, من أجهزة أمنية وأستخباراتية ومنظمات أنسانية عالمية ووطنية ومنظمات مجتمع مدني عراقية من اجل النضال لأطلاق صراح السيدة أفراح شوقي ومعرفة مصيرها وانزال اقصى العقوبة بالجناة المجرمين حثالى المجتمع وأعداء حرية التعبير والأمن المجتمعي !!!.

147
إستعادة حلب السورية وسيكولوجيا الخراب والتدمير العربي الشامل !!!
قال شكسبير: " الحرب لا تنتهي, إنها تستريح " 

د.عامر صالح

منذ ان تدخلت السعودية وقطر وتركيا والرجعيات العربية, ثم إيران وروسيا والحركات الموالية للنظام السوري في اطار تحالفاتها الاستراتيجية مع نظام الأسد لم تعد الثورة السورية كما بدأت ملامحها الأولى في مسحة طموحاتها نحو الديمقراطية الحقة والتعددية الحزبية وحرية الرأي بعيدا عن ضغوطات حكومة الحزب الواحد التي عفى عليها الزمن, فقد تحولت سوريا الى حلبة صراع لتصفية صراعات أقليمية يقف على طرف نقيضيه السعودية وأيران, وحلفاء كل منهما الصغار والكبار, من ميليشيات وفصائل مسلحة لاتعد ولا تحصى, الى جانب روسيا وأمريكا وتركيا وبقية العالم الغربي والأسلامي !!!.   

ولكن بزمن قياسي تم حرف مسار الثورة السورية واختراقها وخاصة من الفكر الديني الارهابي المتطرف ومن الحركات الأصولية المسلحة الدموية والتي تقودها وتغذيها في السر والعلن السعودية وقطر وتركيا وغيرها, حتى تحولت ساحة الصراع السورية الى مفرخة فصائل مسلحة أرهابية ومعتدلة لا تعد ولا تحصى لا تمتلك برنامجا واضحا ما بعد الأسد, بل انها فصائل وتنظيمات تتقاتل فيما بينها على تقاسم كعكة السلطة المرتقبة, والأسد لازال حي يرزق. وفي إحصاء لهذه الفصائل فقد بلغ المائة أو أكثر, وأبرزها: 

داعش, جبهة فتح الشام, جيش الأسلام, أحرار الشام, الجبهة الشامية, الجبهة الأسلامية, درع الفرات, حركة نور الدين الزنكي, فيلق الشام, السلطان مراد, تجمع فأستقم كما أمرت, كتائب أبو عمارة, ثوار سورية, أحرار سورية, الفرقة 16, أحرار مارع, فيلق الرحمن, جيش الفسطاط, جيش المجاهدين, جيش التحرير, ألوية سيف الشام, ألوية شهداء سورية, ألوية الفرقان, لواء التوحيد, لواء الفتح, لواء الأسلام, لواء أنصار السنة, لواء شباب السنة, لواء الانفال, لواء عامود حوران, لواء توحيد كتائب حوران, لواء السلطان محمد الفاتح, لواء الشهيد زكي تركماني, ألوية شهداء دمشق, ألوية أشبال العقيدة, لواء العاديات, لواء جيدرون حوران, لواء الحرية الأسلامي, اللواء العاشر بالساحل, لواء صقور الجبل, لواء صقور جبل الزاوية, لواء الشهيد غسان طويرش, لواء فرسان الحق, اللواء الاول مشاة, لواء الحق, لواء شام الرسول, حركة شام الأسلام, ألوية قاسيون, كتائب الفاروق, كتائب الوحدة الوطنية, الجبهة الاسلامية السورية, جبهة أنصار الأسلام, جبهة الأصالة والتنمية, جبهة تحرير سورية الاسلامية, تجمع صقور الغاب, تجمع كتائب وألوية شهداء سورية, تجمع انصار الأسلام, تجمع أحرار البادية, فرقة الحمزة, فرقة فجر الإسلام, فرقة الحسم, فرقة عمود حوران, فرقة العشائر, فرقة فجر التوحيد, الفرقة الأولى الساحلية, الفرقة الثانية الساحلية, الفرقة 13, الفرقة 101 مشاة, الفرقة 16 مشاة, الفرقة الوسطى, الفرقة الشمالية, هيئة درع الثورة, المجلس العسكري في القنيطرة, فيلق حمص, جند بدر, صقور الشام, ألوية الحبيب المصطفى, تجمع أمجاد الاسلام, ألوية وكتائب الصحابة, كتائب شباب الهدى, لواء درع العاصمة, كتائب أبو عمارة, كتائب ثوار الشام, لواء أنصار الخلافة, كتائب تركمان سوريا, لواء الفتح, جيش العزة, لواء سيف الاسلام, لواء سيف الله, حركة بيارق الإسلام, لواء شهداء الاتارب, أحفاد صلاح الدين, لواء المعتصم, لواء النصر, لواء الصديق, حركة الشام, جيش النصر, أنصار الشام, لواء الأبابيل.

ما أفرزه صراع الفصائل المسلحة فيما بينها من جهة, وبينها وبين النظام السوري من جهة أخرى هو خراب شامل للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, حيث التدمير الكامل والشامل للمناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة, وما نتج عنه من خسائر بشرية في الارواح والمشردين والمتسولين واليتامى والثكالى من النساء, وتحول هذه المناطق الى مدن أشباح, تقام فيها شرائع الغاب من سبي وقتل وقصاص وعقوبات, لا حياة فيها ولا عيش ولا حد أدنى من الطمأنينة, وقد بلغت خسائر المجتمع السوري المادية الى ما يقارب 200 مليارد دولار, الى جانب اكثر من سبعة ملايين مشرد وقتيل, في بلد لايملك نفطا ولا أقتصادا متنوعا, وأن ما خسره هو تراكم قدرات الدولة لعقود خلت. فهل لكل هذه الخسائر الفادحة في الارواح والاقتصاد مبرر لسقود نظام الأسد وبناء " ديمقراطية " يتخاصم ويتناحر عليها أكثر من مئة فصيل مسلح, وفي معظمهم غير مؤمن بالديمقراطية أصلا. الآجابة قطعا بلا, فالديمقراطية لا تقام في مدن الأشباح ولاتقام بغير المؤمنين بها !!!!.

أن عودة حلب أو استرجاعها من الناحية الرسمية الى الجيش السوري لا يعني بكل الاحوال نهاية للحرب فيها, فهناك مدن أخرى لا تزال هي مناطق حرب مكشوفة, كأدلب والرقة والباب, ومفتوحة على مختلف الاحتمالات السيئة, وهناك معضلات اقتصادية وأجتماعية وسياسية وثقافية واعادة بناء المدن المدمرة, واعادة الحوار الوطني واعادة النظر في النظام السياسي القائم بشكل جدي, بما يضمن مصالح الشعب السوري ومستقبله لاحقا, وهي مهمات صعبة للغاية, واذا حصل ان هناك هدوء نسبي في جبهات القتال الداخلية فرضته قوة السلاح, فأن الحلول السياسية يجب ان تكون متزامنة معها لضمان تحول سوريا الهادئ صوب الديمقراطية والتعددية والدولة المدنية !!!.

أن ما حصل في سوريا تاريخيا هو ما حصل للعالم العربي حيث توقفت فيه عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت, أفرزت ظواهر الفقر المدقع, والتدهور المستمر للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية والصحية, والتعليمية والخدمية, وانخفاض مستوى العيش بصورة عامة, وفي وقت عملت فيه الأنظمة الاستبدادية عبر عقود على منع تشكيل أي كتلة حرجة ثورية منظمة ومقاومة عبر ممارسات التفتيت والإجهاض والترغيب والترهيب والرقابة الأمنية والبوليسية المشددة وأبعاد وقتل أي بادرة للتفكير البديل. ونستطيع القول هنا انه لا توجد شريحة اجتماعية واقتصادية إلا ولحق بها التهميش والحرمان والإقصاء باستثناء النظام وحاشيته. لقد خلقت هذه الأوضاع نواة التغير الثوري في رحم هذه الأنظمة. وعلى خلفية ضعف دور العامل الذاتي المتمثل بضعف الأحزاب السياسية التاريخية والنخب السياسية الحقيقية, جاءت الثورات العربية شبابية بطابعها العام متأثرة بعوامل كونية, كالثورة المعلوماتية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة, الذي سهل اندماجهم في مجموعات فاعلة وايجابية وشكل لديهم دافعية اكبر للفعل الثوري جسدت ملامحه آنذاك واضحا على الأرض العربية مبتدئة بالشرارة التونسية المعجلة لذلك, إلى جانب كون الشباب يشكلون كتلة سكانية كبيرة تتجاوز نسبة 50% من مجموع السكان, وبالتالي فهي معنية بالتغير والمستقبل قبل غيرها, إلى جانب الشرائح السكانية والاجتماعية الأخرى !!!!.

لقد نشأت تلك البؤر الثورية بين الشباب في ظل انفلات المجتمعات العربية بكل تنوعها الاجتماعي ومكوناتها الاثنوثقافية من كل ضوابط الفكر الفلسفي والتفكير المنطقي, وغياب روح النقد والنقد الذاتي ونقد الخطاب السائد والمعرقل لاي نهضة فكرية ومعرفية, وفي ظل بيئة من سلطة بطريركية عشائرية وطائفية ومناطقية وقبلية وأثنية, مما سهل تشبعها بالثقافة النصية والنقلية المتخلفة " القيل والقال ونقلا عن فلان أبن فلان ", مما سهل إحكام الاسلاموين سيطرتهم في تصدر " نكبة " الربيع العربي. وكان من الطبيعي أن ينجح منظري الاسلام الخرافي في عرقلة ثورة الشباب في ظل غياب خمائر الفكر النقدي والمنطقي, وغياب عقل فلسفي يقطع الصلة مع عقل وفكر القرون الوسطى, ويحتوي طموحات الشباب الثائر وهواجسهم المشروعة لبناء مستقبل آمن. وليست من المستغرب أيضا ان تتصدر أضعف الدول وأكثرها تخلفا مثل قطر والسعودية المشهد السياسي وتصبح راعيا  " لنكبة " الربيع العربي. وقد سبق ذلك احتلال العراق في عام 2003 من قبل بريطانيا وأمريكا وما أعقبه من تدمير للدولة العراقية ومؤسساتها, أحد الاسباب المهمة في خلق بيئة مواتية للارهاب واتساع نطاقه !!!. 

أن تقاطع هذاءات " بارانويدا " العظمة والاضطهاد في السلوك التدميري في السياسة. وإن كان هذا المصطلح يعني مرضا عقليا خطيرا بشقيه " داء العظمة وداء الاحساس بالاضطهاد " فأنه في السياسة له دلالته الخطيرة, حيث النظم الدكتاتورية والقمعية البوليسية المؤدلجة منها والمتأسلمة والشوفينية والعنصرية والمبتلاة بداء العظمة تستخدم كافة وسائل العنف من خلال اجهزتها العسكرية والامنية المخابراتية القمعية المختلفة لإلحاق الاذى بشعوبها أو شعوب أخرى للتعبير عن الاحساس المفرط بالعظمة وسلوك الهيمنة المطلقة !!!.

يقابله في الطرف الآخر " المعارضة " ويجسده ذلك الاحساس المفرط بالمظلومية والاضطهاد والمنفلت من أي مسحة إنسانية أو فهم لظروف وقوانين الصراع الموضوعية, هو الاخر يحمل في طياته دوافع الخراب والعنف والتدمير الشامل, ويشكل هذا السلوك ردود فعل عنيفة يخرج عن دائرة التغير الايجابي الممكن للاوضاع السائدة, وغالبا ما يكون هذا السلوك مؤطرا بخطاب المذهبية والطائفية والشوفينة العرقية ويكون بيئة صالحة للارهاب المجتمعي والدولي, في ظل غياب خطاب عقلاني انساني سائد مفعم بعوامل البقاء الانساني والذي يحافظ على قيمة الوجود الانساني الحر. وهكذا تتبادل الادوار بين الجلاد والضحية !!!.




148
صراعات الإسلام السياسي على السلطة والبقاء هي صراعات نهج وليس أفراد !!!

د.عامر صالح 

ينحى بعض الأخوة الكتاب منحى ليست موضوعيا في تصوير الصراع القائم في العراق بأعتباره صراع بين رموز للكتل السياسية متمثلة بأشخاص, سواء إن كانت شيعية أم سنية, وعلى سبيل المثال ما يكتب الآن من بعض رموز الأنحياز للمالكي, بأن العبادي سرق السلطة في وضح النهار من المالكي, وما على العبادي إلا أن يسجد ليل نهار وفاء لقائده المالكي, ولولا الأخير لما كان العبادي عضوا في البرلمان ولا رئيسا للوزراء, وكذلك تهمة تآمر العبادي على المالكي وازاحته بدعم أمريكي باتت سيمفونية يومية يرددها أنصار المالكي, وكأن المالكي حقق حلم العراقيين في العيش الكريم وتناسوا أن معضلات الفساد الاداري والمالي وأفراغ ميزانية الدولة والتدهور في مختلف المستويات الخدمية كانت في حقبته لدورتين متتاليتين لرئاسة الوزراء, ولم يأتي العبادي بجديد تقدمي كي يرى شعبنا الفرق بين الحقبتيين, فالفساد هو الفساد على أشده وتنخر مؤسسات الدولة يسير على قدم وساق لأكمال ما بدأ به السيد المالكي, إلا بأستثنائية واحدة وهي في زمن المالكي سقطت الموصل بيد داعش " بغض النظر عن التفاصيل الخطيرة التي كانت سببا في سقوط الموصل ورموز إسقاطها " فهناك قائمة بأسماء من أسقط الحدباء, ولم يستطيع الى اليوم ان يستجوب أحدهم, أما في زمن العبادي فقد أستنهضت كل القوى لتحريرها في توافقات مخيفة, والله أعلم ما بعد التحرير. والكتلة السنية تعاني من نفس الصراعات على النفوذ والاستحواذ على السلطة في مناطق نفوذها, وهي الأخرى مبتلاة في الفساد وسرقة المال العام حتى من نازحي ومشردي مناطقها !!!. 

أن معضلة مجتمعنا الكبرى هي ليست مع أشخاص, بل مع الأسلام السياسي الغير مؤمن بالديمقراطية أصلا, والتي يراها لعبة غربية لا تصلح لمجتعاتنا, وأن الاسلام السياسي مكره على ممارستها في ظل الظروف العالمية الضاغطة والتي لا تقبل إلا بالتدوال السلمي للسلطة وفي ظروف طبيعية وصحية. في عودة سريعة لضبط مصطلح الديمقراطية وماهيته والذي يخدمنا كثيرا في هذا المقال, وهو أن الديمقراطية تعني حكم الشعب, أو الحكم للشعب, وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة إلا إن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استخدامه في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة, فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه, فهي تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه, وأن يحكم نفسه بنفسه, ولنفسه, والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس تخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه, وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة, وقد عرفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها و لا ند متفردة بالتشريع الملزم, فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع, فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك, لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها, ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى, والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي الشعب. وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاث جوانب رئيسية على الأقل هي :

1 ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها, وهذه تمارسه  السلطة التشريعية.

2 ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات, وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.

3 ـ حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات, وهذه المهمة تمارسها السلطة القضائية, ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.

وعلى خلفية هذه الرؤى فأن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل, والاستقلال في الرأي والتفكير, والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة, وفي القدرة على رفض الحكومات وتغييرهم في حالة عدم صلاحيتهم, وفي حق التملك وحق الأمن والأمان, كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون, والدعوة إلى الآراء وحرية تكوين الأحزاب, وحق المعارضة للسلطة القائمة, وحق الاقتراع العام, وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم, وتداول السلطة بين أفراد الشعب, واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين !!!!.

وفي زحمة هذه الصلاحيات الواسعة للشعب في ظل الديمقراطية الحقيقية يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي والسلوكي مع القوى الديمقراطية ومع الشعب, كون هذه الأخيرة مصدر كل السلطات وبالتالي تشكل بديلا عن الشريعة الإسلامية ذات الطابع الإلهي, أي كما يفهمه الإسلام السياسي بأن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى, وهذه الخاصية التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب التجارب والأزمان, تعد من الاختلافات الحقيقية بينها وبين الإسلام, انطلاقا من قاعدة الإسلام التي جوهرها هي توحيد الله تعالى, والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده, وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في كلها من صلاة وصيام وحج, معاملات بين الناس وخصومات, وفي شئونه كلها, وبالتالي أن تحل سلطة الشعب مكان سلطة الإلهة أمر غير مقبول جملة وتفصيلا لدى الإسلام السياسي !!!!
واليوم إذ تتطور الحياة الإنسانية على أسس من معطيات مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية وتزداد مقدرة الإنسان الفعلية في التحكم في الطبيعة والمجتمع, فأنها تقع في صراع مستمر مع الخطاب الديني الذي أريد له أن يكون صالحا في كل زمان ومكان وبين الحياة المتغيرة بدون انقطاع التي تستدعي الاعتماد مزيدا على الذكاء الإنساني ومقدرته على إيجاد مختلف الحلول للمشكلات الإنسانية انسجاما مع ظروف العصر ومكانة الإنسان الريادية في التقدم. هذا لا يعني نهاية للدين, فالدين باقي في أكثر المجتمعات تطورا وله فسحته في حياة الناس التي لا تتعارض مع سنة وقوانين التطور والارتقاء, فالدين باقي هنا كحاجة شخصية وكما هي نشأته الأولى !!!. 

المشكلة في ظروف بلداننا وفي ظل غياب الديمقراطيات السياسية وانتفاء ظروف العيش الكريم واحترام إرادة الإنسان أن الدين يجد على الدوام من يفرض وصايته على أتباعه فيشذ في التفسير ويبتعد في التأويل ويجبر الناس على التمسك الأعمى برموز الدين تصل إلى حدود سوق الناس كالبهائم إلى مختلف الاتجاهات وإغراق الناس في الطقوس الدينية لحد تعطيل وشل الحياة العامة, وإيجاد مختلف التفسيرات المقدسة لتبرير سياسة ظلم الناس وسبيهم وانتهاك أموالهم وأعراضهم, بل وقطع رؤؤسهم, وتهجيرهم من ديارهم الأصلية !!!. 

وبغض النظر عن ما يقع على الإنسان من ظلم وما يستحق من إدانة, فأن القضية الكبرى والمفصلية في حياة تطور المجتمعات هو فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة هو مطلب أنساني وتاريخي تتطلبه المجتمعات الإنسانية اليوم, وهو مطلب اقتصادي واجتماعي تشترطه الحياة الديمقراطية الحقيقية, كما هو مطلب سياسي يفوت الفرصة على المنتفعين من رموز الإسلام السياسي وقيادته المحافظة لعرقلة التطور من خلال إقحام الدين بالسياسة, والذي يندفع ثمنه غاليا الآن في تجارب العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر والسعودية وإيران وغيرها من البلدان التي تسعى إلى الحكم أو تحكم باسم الله !!!.

ومن هنا فإذا كان الدين على المستوى الفردي هو ملجأ آمن للإنسان الضعيف من جميع ما يحيط به من مخاوف وتهديدات حياتية, فأنه بيد الدولة سلاح لتكريس حالة الضعف لدى الإنسان والوقوف ضد نهضته. ومن هنا فأن تحرير الدين من الدولة ومن السياسة فيه مصلحة عليا للدين والدولة والسياسة !!!.

وفي الختام فهل المالكي او العبادي أو أسامة النجيفي وسليم الجبوري قادرين على انقاذ العراق من محنته والارتقاء به الى مستوى يليق بحضارته العريقة وشعبه الذي يصارع الموت اليومي من أجل البقاء. إنها مهمة شاقة ولا يستطيع الاسلام السياسي ان ينجزها قطعا. انها مهمة القوى المدنية الراغبة والمؤمنة في العراق شعبا ووطنا للجميع !!!.




149
في ضوء القراءة الأولى لقانون مجلس قبائل وعشائر العراق/ ملاحظات سيكولوجية ـ تاريخية


د.عامر صالح

في يوم الخميس وبتاريخ 1ـ 12 ـ 2016 تمت القراءة الأولى في قبة البرلمان العراقي لما يسمى بقانون العشائر والقبائل العراقية, وأثارت هذه القراءة وتبريراتها من قبل بعض السياسيين سخطا وغضبا شديدا في الاوساط المثقفة وأصحاب الفكر ورجال السياسة الحريصيين والطموحين لبناء دولة المواطنة, وأعتبرت ان القراءة الاولى للقانون هي بمثابة ردة تاريخية الى الوراء وعودة القبيلة والعشيرة لتكون مصدر لسلطات مختلفة وذات طابع قضائي وتشريعي مشوه وبعيدا كل البعد عن مفاهيم دولة القانون وسيادة القضاء العادل الذي يقوم على أسس معاصرة وتكون الدولة هي الضامن الوحيد للحق العام والحق الفردي, بعيدا عن اللجوء الى العشائر والقبائل وتقاليدها المتخلفة في فرض نمط من الضوابط لا تليق بحياة الانسان المعاصر !!!.

ومن الضروري التذكير هنا أن قانون العشائر قد ألغته ثورة 14 تموز في العام 1958 فهل من المعقول أن نعود أليه بعد أكثر من خمسين عاما على ألغائه. وقد سيقت مبررات لا صلة لها بمنطق العقل والتاريخ من أجل تمرير هذا القانون, ففي توضيح لشيروان الوائلي مستشار رئيس الجمهورية المسؤول عن إعداد مشروع هذا القانون بالتعاون مع أمير الكناني المستشار الآخر في رئاسة الجمهورية والقيادي في التيار الصدري ولجنة العشائر في مجلس النوّاب , قال ( العشيرة هي البنية الأساسية للمجتمع العراقي , ومعظم العراقيين ينتمون إلى العشائر ويستنجدون بها عند الحاجة وبالذات في مراحل ضعف الدولة , وعبر تاريخ العراق الحديث كان للعشائر دور مهم في ثورات العراق ) , وفي معرض تبريره لتشريع مثل هذا القانون يقول السيد شيروان الوائلي ( إن نفوذ العشائر الآن هو أقوى من جميع الفترات في تاريخ العراق الحديث , وهنالك تسرّب للسلاح المتوسط والثقيل لدى العشائر , وأن هذه العشائر قد حمت الكثير من المجرمين والفاسدين في المجتمع بفضل حماية العشيرة , والذي نحتاجه هو قانون لتهذيب الأعراف لحماية المجتمع والقانون , ويقول أن هنالك أعراف عشائرية تستحق أن تكون قواعد دستورية منها أن صاحب السودة ( أي الجريمة المخلّة بالشرف ) لا يدفع له فصل) !!!. 

ومن هنا أرى ضرورة وضع مفهوم العشيرة والقبيلة في سياق نشأتها التاريخية وفهم دورها في تشكيل "وعي خاص " أرتدادي لا ينسجم مع فكرة دولة المواطنة. أن وجود العشائر والقبائل ودورها في المجتمع يعكس مرحلة تاريخية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وهي لصيقة مرحلة الإقطاع التاريخية وما قبلها و التي مرت وتمر بها المجتمعات الإنسانية المختلفة, بكل ما تحمله الأخيرة من بنية فكرية وأخلاقية وأدائية متخلفة قياسا بلاحقتها والتي نشأت على أنقاضها ألا وهي الرأسمالية. 

بعد نشوء وبداية نشوء الدولة الوطنية بدأت عملية تحول الأمن والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاجتماعية تنتقل من يد العشيرة باعتبارها الحافظ الفئوي والمناطقي والأسري لمصالح أبنائها, إلى الدولة باعتبارها المؤسسة الحاضنة للجميع والعابرة للعشيرة والقبيلة والطائفة والدين كما يفترض ذلك من سنة التطور التاريخي التي أفرزتها تجارب بناء الدول المدنية المتحضرة, والتي قامت على خلفية تحولات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والأيديولوجية, مما سهل نشأة الأسواق الوطنية والاقتصاد الوطني القومي ونشأة المدن الحضارية, والانتقال من المجتمعات الرعوية والزراعية والريفية المتخلفة إلى مجتمعات المدن الحضارية !!!.

وعلى هذا الأساس وحسب درجة تطور المجتمعات وظروفه الخاصة بدأ الاضمحلال التدريجي لسلطة العشيرة والقبيلة باعتبارها مرحلة متخلفة من مراحل النمو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى خلفية مستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار بقيت العشيرة والقبيلة في علاقة عكسية مع الدولة, فكلما ضعفت الدولة اشتد ساعد العشائرية والقبلية, وبالعكس كلما قويت الدولة واشتد بنائها ضعف الدور ألتأثيري للعشائرية والقبلية. هذه العلاقة بمجملها تدفع العشيرة للتحالف مع الدولة عندما تكون قوية, وتشهر السيف ضد الدولة عندما تكون ضعيفة أو في طور البناء. ومن هنا تنشأ المشكلات بين المركز " الدولة " وبين " الأطراف " التي هي العشائر والقبائل وحلفائها !!!.

أما بالنسبة للبنية الذهنية والعقلية والنفسية للعشيرة والقبيلة فهي أشد تركيزا ووضوحا وسلبية في تخلفها قياسا بالتخلف العام في المجتمع الذي تتواجد فيه, وتمثل خلاصة مركزة في القيم والاتجاهات والأنماط السلوكية السلبية لمرحلة تاريخية سابقة متخلفة, وهي بطبيعتها تقاوم التغير الايجابي والسنة الطبيعية للتطور, ويعتبر الماضي بالنسبة لها بكل ما يحمله من أبعاد الانغلاق على الذات والإبقاء على القديم أحد مصادرها ومرجعيتها الأساسية في التعامل مع مشكلات الحاضر ونهضته, وبالتالي ترى في كل جديد ايجابي مهددا لكيانها وعليها أن تقاومه. 

 العشائر والقبائل لا تمتلك خطابا سياسيا واضحا ومعلنا للجميع يمكن قراءته والتفاعل مع ثوابته المعلنة, فالسلوك العشائري تجسده بوضوح أخلاقيات " الثأر والثأر المضاد " و " الانتقام والانتقام المضاد " و " عدو عدوي صديقي " والحكم بما تقرره العشيرة وجلسات المضايف من ثأر وفصل في القضايا التي تحدث في نطاق سلوك العشيرة مع العشائر الأخرى أو مع الأشخاص الآخرين ومع الدولة, فالعشيرة لا تعترف بالدولة حتى وان كانت دولة القانون لأنها عدوة الدولة في السر وفي العلن !!!.

والعقل العشائري والقبلي هو عقل وثوقي " أي يثق بما لديه من مواقف ثقة عمياء ويعتبر كل عيوبه مزايا مطلقة ", وهي احد أسباب صراعاته مع التحولات والتغيرات الايجابية التي تجري من حوله, و تزداد وثوقية هذا العقل وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصام هائل في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. فالعقل ألوثوقي والعشائري المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته, فالعقل القبلي والعشائري يرى مثلا أن النصر قريبا على الدولة التي يحيا فيها وأن النصر لا محال للعشيرة والقبيلة !!!.

اشتدت نماذج السلوك المتطرف للعشائر والقبائل العراقية في زحمة تعقد الوضع السياسي وضعف الدولة وعدم تمكنها من بسط نفوذها الكامل على التراب العراقي بفعل عوامل موضوعية وذاتية, منها بنية النظام السياسي على أسس طائفية ـ سياسية وجغروطائقية وأثنية وتحالفات سيئة مع دول الجوار, إلى جانب الرفض المطلق للعملية السياسية واللجوء إلى خيار حمل السلاح ضدها, مما أدى إلى اندلاع ما يسمى " بثورة العشائر ". فهل يحملوا ويجسدوا هؤلاء " الثوار " معنى الثورة الحقيقية, أم أنهم يشكلون جزء لا يتجزأ من دورة العنف والعنف المضاد؟؟؟, والذي أدى بدوره إلى أخطر ما أدى أليه هو التحالف مع أعداء الوطن والإنسانية لإلحاق الأذى بالوطن والمواطن وبمستقبل العراق بأكمله, ويجسد أخطر ردة فعل لمعادة سلطة المركز !!!.

والأخطر من ذلك هو عندما تضعف الدولة في أداء مهماتها الدفاعية والأمنية وتعتمد بدورها على العشائر والقبائل لحفظ الأمن ودرء الأخطار الخارجية, فأن الدولة تقع فريسة الاستحقاق العشائري وسلوكها المتذبذب والاستسلام لشروط العشيرة وليست الدولة, إلى جانب تكريس عسكرة المجتمع وإيجاد أكثر من مركز للقوة والمنافسة خارج الدولة مما يهدد الأمن الاجتماعي من الداخل ويديم نوبات العنف, وخاصة إذا اخذ هذا الاعتماد على العشائر طابعا جغرافيا ـ طائفيا, فأنه يدفع باتجاهات خطرة ويكرس حالة الاحتقان الطائفي ـ السياسي التي يعاني منها البلد !!.

والتجارب القريبة جدا اثبت عدم جدوى ذلك, فقد انشأ في عام 2006 قوات الصحوات الخاصة في المناطق الغربية ذات الطابع السني والتي عمل الأمريكان على تشجيعها, ثم أعقبتها في عام 2007 تشكيل مجالس الإسناد والتي قام بتأسيسها رئيس الحكومة السابقة نوري المالكي في مناطق الوسط والجنوب ذات الطابع الشيعي, وقد أسهما كلا التنظيمين بقدر ما في مساعدة القوات الأمنية ومحاربة المجاميع المسلحة وخاصة في سنوات العنف الطائفي, إلا أنه سرعان ما أوقع الدولة في شرك استحقاقات هذه المجالس وشروطها, وفشل الدولة في إيجاد حلول جذرية لامتصاص هذه القوى وإعادة بنائها في إطار أجهزة الدولة, مما ترك هذه المجالس في تجاذبات واحتقانات لا تحمد عقباها مع الدولة !!!.

وما الحدث الأخير والأخطر والمتمثل باستباحة " داعش " للأراضي العراقية عام 2014 واحتلال ثاني اكبر مدن العراق " الموصل " والذي هدد بإسقاط الحكم في بغداد إلا تعبيرا في بعض من وجوهه عن هشاشة بعض الولاءات العشائرية للدولة " بغض النظر عن من يحكم هذه الدولة " والتي قدمت تسهيلات لوجستية " لداعش " وهي تعبيرا عن ضيق الأفق العشائري لاستقراء الإحداث وانعكاساتها الخطيرة على الوطن وسلامته, فسرعان ما انقلبت داعش عليهم مسببة لأكبر كارثة إنسانية أضرت جميع الإطراف دون استثناء لطائفة أو دين أو قومية أو مذهب أو عشيرة أو قبيلة !!!. 

أن دراسة العشائر والقبائل كظاهرة سوسيولوجي ونفسية لا يعني أبدا النيل من عشيرة دون غيرها أو إلحاق الأذى بسمعة عشيرة ما ورفع شأن أخرى,فكلنا ننتمي إلى عشائر كتحصيل حاصل, بل هو دراسة لظاهرة موضوعية تشكل مرحلة سابقة من مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولها إبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة, وأن أعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس من التطور والحداثة والتي تستند إلى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور في كل المجالات كفيل ببناء دولة المواطنة العصرية عابرة لجميع الولاءات الضيقة من عشائرية وطائفية ومذهبية وأثنية, وبالتالي فلا حاجة لقانون مجلس القبائل والعشائر العراقية, ومهما بلغت المبررات لصدور هذا القانون فأنها لا تصمد امام سنة التطور, ولا يمكن للسلوك العشائري والقبلي أن يضبط بقانون !!!. 


150
استخدام سيرة نبي الإسلام في الصراعات المذهبية الإسلاموية وسيكولوجيا التعصب !!!
 

د.عامر صالح 


المتصفح لصفحات الأنترنيت ومواقع التواصل الأجتماعي, وخاصة منها الفيسبوك يجد زخما من النقاشات الغير مجدية لحياة الحاضر والمستقبل, بل تعبر عن أحتقانات طائفية ومذهبية قائمة على محاولات نفي الآخر, وخاصة عندما يتعلق الأمر في صراعات الاسلامويين على السلطة وتعبئة الناس في أجواء استحضار الماضي المليئ في التناقضات واستخدامها كوقود سريع الاشتعال في الصراعات الدائرة لأغراض ديمومة الفوضى السائدة وألحاق مزيدا من الأذى في النسيج الاحتماعي !!!.

تحيي بعض صفحات التواصل الاجتماعي مناسبات ولادة ووفاة نبي الاسلام محمد ( 12 ربيع الأول 53 ق.هـ / 22 أبريل 571م ) ـ ( 12 ربيع الأول 11 هـ / 8 يونيو 632م ), وبما أن الولادة والوفاة وقعت كلاهما في يوم 12 ربيع الأول وعلى الأعم الأغلب يوم الأثنين " رغم اختلاف بعض المؤرخين والباحثين " فهناك قدسية خاصة في أذهان المسلمين بأعتبار ان حصول كل من الولادة والوفاة في نفس اليوم هو أمر رباني أو ارادة ألاهية. وبما أن ولادته حيادية ومنزوعة الصلة بالصراعات, فأن وفاته وأسبابها شكلت جزء من الصراع المذهبي السلطوي بين الفرق النتاحرة على السلطة والتي تبلورت لاحقا بعد وفاة النبي. توفي نبي الأسلام قبل 1384 عاما وعن عمر يناهز 63 تقريبا, ولكن الخلاف على اسباب وفاته وتاريخها وملابساتها اليوم على أشده !!!. 

وبدلا من التركيز على البعد الايجابي في رسالة نبي الاسلام وفي ظروفها آنذاك وبأختلاف التفاصيل وتقيمها في ظروف عصرنا, فقد أستهلكت وسائل التواصل الاحتماعي المناسبة في البحث عن أسباب وفاته وملابساتها, واعطائها صبغة طائفية ومذهبية, وجرى التركيز على السؤال الآتي: هل وفاة النبي طبيعية أم قهرية, هل شهيدا أم متوفيا, والزج بوفاته وذكراها في دائرة الصراع الطائفي الاسلاموي الجاري على السلطة السياسية بما لا يخدم الذكرى, وجرى نبش لأسباب الوفاة, وتوزعت الأسباب بين سم دسته له يهودية في خيبر, أو سم قدم له في داره, في إتهام لأقرب الناس له, أو أصيب في ألتهاب رئوية حادة رافقتها ارتفاع درجة الحرارة, وكان كل فريق متسلح بأدلته في الاحتماليين الأول والثاني وعلى طريقة " نقل فلان عن فلان عن فلان " !!!.

وقد تحولت بعض الصفحات في الفيسبوك الى سباب وشتائم مقرف ويندى له الجبين وتجاوزا على الرموز الدينية, ومتناسين البعد الانساني في وفاته, والقدر الآلهي الذي تؤمن به كل طوائف الاسلام ومذاهبه وملله في ثنائية الحياة والموت. أما علميا فقد انتفت تماما من النقاشات ولم يسأل أحد المناقشين نفسه: ما هي مستويات الحياة الصحية آنذاك في عهد النبي وقبله وبعده, وهل الحياة خالية من الأوبئة والامراض الفتاكه, والافتقاد الى أبسط المعلومات الصحية الدقيقة الذي يضعف متوسط عمر العيش, ولماذا فقد النبي العديد من أولاده وبناته وهو على قيد الحياة, ألم تحصد الامراض والمجاعات والحروب ملايين من البشر ؟؟؟. وقد تحولت ذكرى وفاة النبي قبل أكثر من الف وثلاثمائة عام الى مناسبة للأعادة انتاج الكراهية الطائفية البغيضة وتوظيف ذكراه في دائرة الصراع الاسلاموي على السلطة !!!. 

أن ما يؤذي الناس والشعب عموما وبمختلف أطيافه هو ليست الانتماء إلى طائفة, فذلك واقع حال, حيث عاش العراق فترات من المحبة والمودة بين الطوائف والمذاهب والأديان المختلفة, وهي فترات إنسانية حقه نعتز بها جميعا, لم نعرف فيها دين أو مذهب جارنا وصديقنا,ولم نؤسس تعاملنا الحياتي على أساس هذا الانتماء , ولم نجرئ لأسباب أخلاقية أن نسأل عن انتماءات جارنا وصديقنا المذهبية والطائفية, فكان ذلك من المعيب والمخزي في ثقافة التعامل اليومي, وان عرفنا بذلك فنكن له كل المودة والاحترام, حيث كان الانتماء للوطن هو سيد الموقف والثقافة السائدة !!!!.
 
إننا اليوم نعاني من الفتنة الطائفية القائمة على ذلك السلوك المتمثل في بث روح التعصب الطائفي أو إثارة النعرة المذهبية, والاختلاف في الجزئيات والتفاصيل التي لا تبني مستقبلا, وخاصة عندما يستخدم هذا السلوك للنيل والانتقام من طائفة على حساب طائفة أخرى, أيا كانت هذه الطائفة " سنية, شيعية, زيديه, مسلمة, مسيحية, صابئية وغيرها " وهي سلوكيات تستهدف التفرقة الطائفية والمذهبية والدينية حيث المساس المباشر لحياة الناس وأرزاقهم وحقوقهم ومصالحهم وكرامتهم وآمالهم وأمنهم وسلمهم, بل وقتلهم باعتبارهم مرتدين, والتفرقة الطائفية هنا هي جريمة بعينها, يكون ضحاياها شرائح واسعة من المجتمع المدني, وهو كذلك بالتأكيد سلوك مخالف للأعراف والتقاليد الدولية, حيث تنص المادة ( 55) من ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على عدم الفوارق بين الناس, حيث تؤكد المادة المذكورة على : ( احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تميز بسبب الجنس أو اللغة والدين, و لا تفرق بين الرجال والنساء, ومراعاة تحقيق تلك الحقوق والحريات فعلا).

أن التعصب بمختلف مظاهره من عنصرية, وطائفية دينية أو مذهبية, أو سياسية, أو قومية أثنية, أو حزبية وفكرية, تمثل اتجاها نفسيا جامدا ومتحجرا مشحون انفعاليا أو عقيدة وحكم مسبق مع أو ضد جماعة أو أي شيء أو موضوع, ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة أو حقائق علمية. أو هو موقف معاد ضد الجماعات الأخرى المختلفة في المعتقد أو المذهب أو الدين أو القومية, وخاصة عندما لا يكون هناك تفاعلا حقيقيا ومعرفة واقعية بين هذه الجماعات, وان هذا التحجر وعدم التفاعل يحول الوطن الأم إلى كانتونات منعزلة تسودها الريبة والشك والبغضاء فيما بعضها البعض, وبالتالي يحرم التعصب هذه المجاميع من فرص التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتنمية المستديمة تحت مظلة الوطن, لأن التعصب بطبيعته يناهض العلم ويحارب التقدم ويعادي الحقيقة ويقاوم المبادرة الفردية ويخاف من الأفكار الجديدة ولا يقبل بالنقد البناء ويرفض التساؤل باعتباره مصدر الحقائق والمعارف, ويترك التعصب لدى أهله انطباعا وهميا بالكمال والامتياز والأهلية في مختلف المجالات, وهو بذلك يغلق أبواب الرحمة والتفاعل مع البيئة الخارجية, وهو بذلك يكتفي بالاسترجاع والاجترار ويغلق قابليات العقل ويخنق فعاليات العلم ويكرس الجهل ويملأ النفوس مسرة وفرحا بالجهل واستماتة في الدفاع عنه. 

ويبقى الحديث عن مشروعية الانتماء إلى طائفة ما أو قومية ما أو هوية سياسية ما ناقصا بالتأكيد إذا لم يقترن بالحديث عن التعددية والديمقراطية كمنهج وكقيمة اجتماعية, والتعددية تعني قبول الآخرين المختلفين قوميا أو طائفيا أو سياسيا واحترام رأيهم وحقوقهم وطريقة حياتهم طالما أن ذلك لا يمس بحقوق بقية الفئات, ففي الوقت الذي ندعو به إلى حق الناس في ممارسة انتمائهم الطائفي يجب الدعوة بقوة إلى انتهاج التعددية والديمقراطية السياسية لكي يأخذ كل مكون اجتماعي أو ديني حجمه الطبيعي وألا يبقى خطر تحول الانتماء الطائفي إلى تعصب طائفي قائم دوما !!!.






151
الطفولة المنسية في العراق !!!


د.عامر صالح

في العشرين من نوفمبر عام 1989 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا اليوم يوما عالميا لأعلان جقوق الطفل في العالم أجمع, والعراق من ضمن دول العالم التي تعهدت لأطفالها بضمان طفولة أفضل وفقا لتوصيات أتفاقية حقوق الطفل, وفي مواد تلك الاتفاقية الدولية والمتمثلة بخصوص الطفولة بما يأتي: الحفاظ على الهوية, وحق الطفل في العيش في كنف والديه اذا لم يتعارض مع المصلحة العليا للطفل, ولم شمل العائلة, وحرية التعبير للطفل, والحماية ضد الاعتداء والاهمال, وحماية الطفل فاقد الأسرة, والخدمات الصحية, والمراجعة الدورية للأطفال النزلاء في المنازل الخاصة لأغراض الرعاية والحماية والمعالجة,  أطفال الأقليات والسكان المحليين وحقهم في ثقافتهم الخاصة وممارسة شعائرهم الدينية ولغتهم الخاصة, وحق الطفل في أوقات الفراغ والتسلية والأنشطة الثقافية, وللطفل حق الحماية من أي شكل من أشكال الاستغلال !!!.

 تعتبر فترة الطفولة فترة أولية من عمر الإنسان، حيث وصفها علماء النفس بأنَها فترة حساسة جدا، وهي أيضاً وفي ذات الوقت فترة مرنة من عمر الإنسان، حيث يكتسب الإنسان في هذه الفترة أطباعاً وعادات وأنماطا سلوكية تبقى ملازمة له خلال فترة حياته كلِّها، ومن هنا فقد أطلق عليها علماء النفس اسم الفترة التكوينية انطلاقا من مرونة الجهاز العصبي والدماغ بشكل خاص، حيث يتحدد فيها ذكاء الإنسان وثرائه العقلي لاحقا، وينمو فيها أيضاً نمواً متكاملاً متوازناً يحقق له ذاته في المستقبل.

إن أهميَة مرحلة الطفولة تتلخَص في اكتساب الطفل للعادات والقيم المختلفة والانماط السلوكية خلالها؛ فلو اكتسب الإنسان العادات الجيدة، والقيم والأخلاق الرفيعة فإنَه حتماً ستتشكل له اللبنات الاساسية لذلك وتخلق له فرصا مواتية للنمو السوي, أما إن اكتسب العادات السيئة والأخلاق الرديئة؛ فإنه سيكون وبالاً على المجتمع عندما يكبر وخاصة في ظل ظروف مواتية لاعادة انتاج السلوك السيئ وتعزيزه وتكراره، وهذا لا يعني أن الإنسان لا يمكن له أن يصلح اعوجاجه الذي نشأ عليه عندما يكبر، فكل شيءٍ قابل للإصلاح, والسلوك الانساني ابن ظروفه, وتغير الظروف لا بد ان ينعكس على تغير السلوك, وأن الطفل في المحصلة نتاج للظروف الموضوعية المحيطة بنشأته !!!.

العراق أحد البلدان العربية وذات الاغلبية المسلمة تعرضت فيه الطفولة العراقية الى انهيارات كبرى جراء الحروب المتواصلة وهيمنة قيم الدكتاتورية والتسلط, ثم أعقبها حروب داخلية بنكهة طائفية مقيتة, وتغيرات في البنى الثقافية والاجتماعية, واشاعة ثقافة فئوية انكفائية مغلقة, وتدهور في العملية التربوية والنفسية للطفولة العراقية, وإشاعة موقف متهاون من ضرورة التعليم والرعاية للطفولة العراقية. وهنا لا بد من تسجيل بعض ما لحق الطفولة العراقية من أضرار بليغة, تستدعي منا وقفة انسانية لمعالجة مخاطرها, وهي: 

1 ـ التسرب والرسوب المتواصل للاطفال الدارسين في التعليم الابتدائي والمتوسط جراء الضغط المتواصل لظروف العيش وعدم مقدرة الأسرة العراقية للأيفاء بمتطلبات الدراسة وظروف العيش.

2 ـ انخراط اعداد هائلة من الاطفال في سوق العمل الرثة لمساعدة ذويهم وأسرهم في ظروف ضنك العيش, مما حرم الاطفال من فرص النمو الطبيعي, العقلي منه والتربوي.

3 ـ ظاهرة التسكع في الشوارع بين الاطفال كأفراد وكمجاميع شللية مما يعرضهم الى مختلف مشاريع الاستمالة, من جريمة منظمة وانحرافات خلقية وسلوكية, وحتى زجهم في مشاريع انتحارية كالارهاب وغيره.

4 ـ ظاهرة الاطفال اليتامى والذين فقدو والديهم في الحروب المختلفة, أو جراء العمليات الانتحارية كضحايا لها, وعدم تمكن مؤسسات الدولة التربوية والرعائية لأحتضانهم وتوفير الأمن والآمان لهم, مما يجعل طفولتهم في مهب الريح.

5 ـ زج الاطفال وعبر العملية التربوية بثقافة الانحياز الطائفي والتعصب الاثني من خلال تعبئة عقول الاطفال بثقافة التمترس والانغلاق الذهني والفكري في اطار ثقافة احادية الجانب وغير منفتحة على الآخر.

6 ـ النزوح المتعاظم للأطفال مع أسرهم بسبب الحروب الداخلية, أو حروب تحرير الاراضي  العراقية من داعش, أو حروب التصفيات العرقية والاثنية, مما يجعل مستقبل الاطفال مجهولا.

7 ـ انتشار الاوبئة والامراض وسط مجاميع الاطفال وتجمعاتهم الشللية مما ينذر بانتشار محتلف الامراض المعدية وغير المعدية, وفي ظروف انعدام الفحوص الدورية الطبية للتأكد من سلامة الاطفال.

8 ـ أنعدام وسائل الترفيه والتسلية والانشطة الثقافية لأمتصاص الوقت الزائد لدى الاطفال وتوظيفه وجهة مفيدة لنموهم العقلي والجسدي والفكري.
9 ـ عدم الالتحاق بالمدارس الابتدائية في العمر المقرر بسبب من صعوبات مادية للأيفاء بمتطلبات النقل او عدم المقدرة في تحمل المستلزمات الدراسية من قبل الوالدين, الى جانب انخفاض الوعي لديهم بضرورة ارسال ابنائهم الى الدراسة, مما يسهم في رفد جيوش الأميين من السكان بالمزيد من الأفراد.

10 ـ تعرض الاطفال للعقاب الجسدي من قبل البيت أو المدرسة أو العنف في خارج المنزل يشكل تهديدا خطيرا للطفولة العراقية, لما يتركه من آثار وخيمة في بناء شخصية ضعيفة تستجيب بشكل خضوعي وسلبي لضغوطات الحياة المختلفة.

أن الاعلان العالمي لحقوق الطفل يشكل حافزا قويا للدفاع عن الطفولة العراقية ومحاولة للنهوض بمستلزمات الطفل العراقي في الحرية والتربية والعيش الكريم بعيدا عن الحروب والتعصب الديني والمذهبي والاثني الذي يمزق شخصية الاطفال, وتأمين فرص العيش الذي يليق بالطفولة الانسانية !!!.

152
في الجذور السيكولوجية والدينية لأقتصاديات الجمعة السوداء والجمعة البيضاء ومثيلاتها !!!

د.عامر صالح

لكل مرحلة تاريخية مرت بها البشرية لها اقتصاد خاص بها  "قوى انتاج وعلاقات انتاج ", ولها آلهة وأديان تفرزها تلك المرحلة, تلعب دور الحافظ لها والداعم والمدافع عن بقائها, أي بمعنى فردي ان العقل ينتج الدين وان الدين بدوره ينتج عقلا ووعيا ملازما, ويلعب الدين دورا كبيرا في إضفاء القدسية على بعض الانشطة الاقتصادية والطقوسية لإبقاء الدين حاضرا في الحياة حتى ولو شكليا, كما تنشط الآلة الاقتصادية من خلال قدسية الدين في مناسباته ذات الأسراف الشديد والمميز, وخاصة عندما يمر الاقتصاد بأزمات دورية !!!.

وللتعريف في الجمعة السوداء نستعين ببعض المعلومات المتوفرة:
أول استخدام لهذا المصطلح كان في إشارة إلى انهيار سوق الذهب في الولايات المتحدة في عام 1869. وبعد مرور قرن من الزمن، استخدمت شرطة مدينة فيلاديلفيا الأمريكية مصطلح "الجمعة السوداء" لوصف الفوضى والازدحام في شوارع المدينة، بعد إغلاق وسط المدينة بسبب توافد المتسوقين إلى المراكز التجارية لشراء الهدايا. وكره الباعة والتجار هذا المصطلح، لكنهم حاولوا إعادة ابتكاره، بعد أن وجدوا أنه اليوم الذي قفزت فيه أرباحهم من اللون الأحمر، إلى اللون الأسود. وبدأت شُهرة فكرة "الجمعة السوداء" في الثمانينيات والتسعينيات.. واليوم، تُعرف "الجمعة السوداء" بالخصومات والعروض الخاصة، أما الماضي "الأسود" لهذا اليوم، فقد أصبح طي النسيان. وقد انتقلت عدوى هذا اليوم الى العالم الأوربي, بل والى العالم العربي والاسلامي !!!. 

والجمعة السوداء " بلاك فرايدي " يأتي عادة بعد عيد الشكر في الولايات المتحدة الامريكية, وعادة يكون في نهاية شهر نوفمبر من كل عام, ويعتبر هذا اليوم بداية موسم شراء هدايا عيد الميلاد. في هذا اليوم تقوم أغلب المتاجر بتقديم عروض وخصومات كبيرة، حيث تفتح أبوابها مبكرا لأوقات تصل إلى الساعة الرابعة صباحا. بسبب الخصومات الكبيرة ولأن أغلب هدايا عيد الميلاد تشترى في ذلك اليوم، فإن أعدادا ًكبيرة من المستهلكين يتجمهرون فجر الجمعة خارج المتاجر الكبيرة ينتظرون افتتاحها. وعند الافتتاح تبدأ الجموع بالتقافز والركض كلٌ يرغب بأن يحصل على النصيب الأكبر من البضائع المخفضة الثمن. في يوم الجمعة السوداء تقوم أيضا بعض متاجر الإنترنت بتقديم عروض مغرية.

أما الجمعة البيضاء " وايت فرايدي " فهي عبارة عن ردة الفعل العربية والاسلامية على يوم الجمعة الأسود الأمريكي, حيث تقوم بعض مواقع الانترنيت العربية والاسلامية بعروض كبرى وتخفيضات والتي تعتبر الاقوى على مدار العام ويتم خفض باقة كبيرة من المنتجات خصوصا الهواتف الذكية والالكترونيات والساعات والعطور والكثير من البضائع الأخرى, وموعد الجمعة البيضاء يأتي آخر يوم جمعة من شهر نوفمبر من كل عام. ونظرا لخصوصية يوم الجمعة لدى العرب عموما والمسلمين من حيث كونها يوم تكثيف للعبادة مقترنا بولادة نبي الاسلام, فلم يتحمل الأمرإلا بسميتها بالجمعة البيضاء. وقد تباينت الآراء حول جدوى إختيار مناسبة أمريكية لإعادة إستهلاكها عربيا وكان من ضمن الآراء أن يتم اختيار يوم جمعة سابق لشهر رمضان أو عيد الفطر أو عيد الأضحى بحيث يكون مناسب للثقافة العربية والإسلامية بعيدًا عن التقليد الأعمى للغرب !!!. 

وعلى العموم فأن الاحتفالات والأعياد الدينية وغير الدينية هي ممارسات نمطية تحتوي على ممارسات شعائرية وجوانب اجتماعية وأخرى ثقافية ويشارك فيها شرائح اجتماعية دينية وثقافية واثنية واسعة, وتسودها أنشطة اقتصادية تستهلك فيها شتى أنواع المنتجات, من أكل وشرب وملبس. ويمكن هنا تقسيم الاحتفالات إلى أنواع: الاحتفالات المرتبطة بعادات دورة الحياة, من ميلاد, وزواج ووفاة؛ والاحتفالات الرسمية كالقومية والوطنية المختلفة؛ والاحتفالات الدينية, والتي يمكن تصنيفها إلى: الاحتفالات الدينية العامة, على سبيل المثال الاحتفالات بعيد الفطر وعيد الأضحى وولادة النبي, وأول العام الهجري وليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان, وما يقابل ذلك طبعا في مختلف الديانات, والاحتفالات الدينية الخاصة, على سبيل المثال الاحتفالات الخاصة بولادة الأولياء كالإمام علي والحسن والحسين ومولد السيدة زينب وأول رجب ونصفه وأول شعبان ونصفه, وما يقابل ذلك في مختلف الأديان والطوائف والفرق المذهبية من أعياد خاصة !!!. 

وهنا يجب التأكيد بأن نشأة الاحتفالات الشعبية والأعياد الدينية ليست مرتبطة أصلا بنشوء الدول القومية أو الأديان التوحيدية وغير التوحيدية, بل هي تضرب بجذورها في عمق التاريخ ومنذ نشأة الإنسان البدائي ولها دلالتها السيكولوجية المكثفة في حياة الإنسان عبر التاريخ. وانطلاقا من الفكرة إن المجتمع هو مصدر الدين بمختلف مستويات تنظيمه الاجتماعية فأن الطوطمية " وهي نسق ديني تعتبر فيه بعض الأشياء خاصة الحيوانات والنباتات مقدسة, وترمز للعشيرة " هي الشكل الأكثر بدائية وبساطة للدين والتي يوازيها شكل بدائي من التنظيم الاجتماعي هو العشيرة. ويشكل الطوطم الضمير الجمعي للعشيرة, وهو التمثيل المادي للقوى غير المادية فيها. فالطوطمية دين ليست بتلك الحيوانات أو بتصورات الناس, وإنما بتلك القوى المجهولة وغير الشخصية, موجودة في كل تلك الكيانات لكنها ليست ممتزجة بأي منهما. الأفراد يموتون والأجيال تذهب ويأتي غيرها لكن هذه القوى تبقى دائما حية كما هي. أنها تنفخ الحياة في أجيال اليوم مثلما فعلت بأجيال الأمس وكما ستفعل بأجيال الغد. 

والضمير الجمعي وما يرافقه من انفعالات جمعية عبر التاريخ هي مصدر الأديان في مسيرة البشرية وانتقالها من مراحل بدائية إلى مراحل أكثر تقدما نسبيا تقابلها أديان مناسبة, وتلك هي مسيرة البشرية من الطوطمية إلى الديانات التوحيدية في البحث عن إجابات للأسئلة الوجود. ويشكل الدين في المجتمعات البدائية أخلاقا جمعية شاملة ويعادل الضمير الجمعي, ولكن تطور المجتمعات وتعقدها ورقيها جعل الدين يحتل مساحة أضيق مما كان عليه في المجتمعات البدائية, وهذا ناتج من أن تطور المجتمعات ارتبط بظهور القوانين والعلوم والمعارف والأفكار والإيديولوجيات وتعقد الثقافة عموما مما سمح لظهور تشكيلات أخرى للعقل الجمعي خارج إطار الدين, وأن الدين أصبح واحد من هذه التشكيلات, وتتفاوت قوة نفوذه استنادا إلى مستوى تطور المجتمعات !!!.

 الاحتفالات والأعياد الدينية والشعائر المصاحبة لها والانشطة الاقتصادية التي تقام في المناسبات والطقوس الدينية المختلفة ومنذ الديانات الأولى هي بمثابة إعادة الإنتاج للدين وإبقائه حاضرا في حياة الناس عبر تثبيته كعادات يومية أو دورية بفعل عوامل التعزيز والتكرار والتدعيم. ولولا تلك الطقوس والأعياد والشعائر المختلفة لاختفى الدين من حياة الناس تماما. وقد تحولت الشعائر والاحتفالات الدينية في العالم المتقدم إلى مناسبات وفرص اجتماعية للتواصل العام ولتعزيز العلاقات الاجتماعية, وفرص للتسوق, كما هي الحال في أعياد رأس السنة الميلادية, أو عيد ميلاد النبي المسيح, والكرنفال, وعيد الفصح " عيد القيامة ", والصوم الكبير, والصوم الصغير, إلى جانب أعياد فرعية أخرى كميلاد مريم العذراء, وعيد ارتفاع الصليب وعيد العنصرة ـ التجلي وغيرها إلى جانب المناسبات ذات الطابع الحزين. وبقى الدين في خطابه الكلاسيكي التقليدي وممارساته العبادية محصورا في أماكنه التقليدية وقلاع نشأته, كالكنيسة والجوامع والمساجد إن وجدت وغيرها.

ومن الناحية الدينية البحتة فأن الشعائر والاحتفالات والأعياد الدينية كما يراها فقهاء الإسلام هي خلاص من اغواءات شياطين الإنس والجن, والرضا بطاعة المولى, والوعد الكريم بالفردوس والنجاة من النار. وينبه فقهاء الدين على أخطاء كبرى يقع فيها المسلمين في الأعياد لأنهم فهموا العيد على ما في نفوسهم وأهوائهم ولم يفهموا العيد على ما أراده الله لهم " حسب فقهاء الدين ", ومن تلك الأخطاء التي يحذر بها فقهاء الإسلام من ممارستها في أيام الأعياد هي: ما تفعله بعض النساء من التبرج وإظهار المفاتن والزينة ... أيها الزوج والأب ذكر ابنتك وزوجتك قول النبي محمد: ( رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة ), الاختلاط بين الرجال والنساء والاختلاء بين الرجل والمرأة  فذلك يفضي إلى الشرور والمفاسد, ـ واللهو واللعب الذي يشغل عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة, والحفلات والمهرجانات الغنائية, والعكوف على مشاهدة الفضائيات الهابطة التي تنشط أيام العيد فتقدم الأفلام والمسرحيات والبرامج المنحلة, والرحلات الجماعية المختلطة, والإسراف والتبذير في المأكل والملبس.

أن هذه الشروط التي يضعها الفقهاء في الدين هي أشبه بوضع المسلم في أيام العيد في عزلة دولية واجتماعية عن ظروف العصر بمختلف انجازاته التقنية والمعلوماتية والاجتماعية, إلى جانب العزلة الاجتماعية الداخلية بمنع الاختلاط والحفلات الجماعية, ومنع الاهتمام بالمظهر الخارجي وخاصة بالنسبة للمرأة وزينتها. وكأن ما كان ما يحصل قبل العيد وعلى مدار السنة حرام في حرام, وكذلك هي استجابة انفعالية غير مدروسة من قبل فقهاء الإسلام للحد من الطبيعية الاستباحية أصلا للأعياد !!!.

أن هذه الممنوعات التي يضعها رجال الدين كشروط لأعياد تستجيب لرضى الخالق برأيهم هي ليست واقعية بمكان لأن الأعياد بطبيعتها استباحية دينية أم غير دينية, وهي عودة على بدأ, فيه عودة إلى الزمن الأول, فكل شيء في الأعياد مفرط وزائد عن الحاجة ولكنه يلبي الحاجة النفسية لاستحضار الزمن الأول, فمن كان يصلي في بيته فقط يخرج الآن بصلاة جماعية أمام الملأ , ومن كان يلبس لباسا متواضعا يوميا يخرج الآن بأجمل ما لديه, ومن كان يسمع أغاني وأناشيد وآيات دينية في بيته , يسمعها الآن ويحيياها بأعلى الأصوات في الكنائس والجوامع ومختلف دور العبادة, ومن كان يأكل أكلا عاديا فهو الآن في الأعياد يأكل أكلا خاصا, وتقام في الأعياد النزهات والسفرات وأنواع مختلفة من الرقص تستجيب لذات الشعائر !!!. 

أن الاحتفالات بالأعياد هو هيجان زائد وحماسة جنونية, وبذخ مفرط, وإسراف لا حد له. والأعياد لها لغة خاصة ولباس خاص يختلف عن الأيام العادية, انه قلب مؤقت للعالم. انه عودة إلى القدسية وإقرار التوازن العميق بين الكائنات والأشياء عن طريق فض هذا التوازن مؤقتا. لأن العيد لا يقتصر أمره على الترويح النفسي ولكنه أيضا وبصورة خاصة خلق جديد وبعث ونشأة أخرى, بكل ما في هذه الكلمات من معنى, حتى إن بعض التجمعات والملل والطوائف تبذخ الغالي والرخيص وتذهب في مهب الريح احتفالا بعيد فاخر مترف. ذلك إن العيد ليس برهة عابرة في حياة الجماعة. انه قمة شعورها بذاتها وإفراغها لإمكانياتها وتوكيدها لأسباب وجودها العليا. وإذا كان العيد يعلو بالجماعة فهو يعلو بالفرد أيضا. فلئن كان العيد يمثل الهرج الاجتماعي للخرافة, إلا انه يفرض على كل فرد يشترك فيه مهمة البطل الخرافي. وبتعبير آخر إن العيد يطهر الفرد العادي من الأدناس وينفخ فيه روحا جديدة ويقر مكانه شخصا يحدده وضعه في مجموعة الشعائر " حسب كاسدوف جورج " !!!!.

وتفسر شعائر الأعياد طبيعتها الفوضوية الإباحية, فالعيد هو في بعض الأحيان قلب للعالم كما في أعياد زحل عند قدماء الرومان وهي أعياد كان يختل فيها الأمن وتنشط فيها الدعارة وتمارس فيها الحريات كما يشاء, وما الكرنفال إلا صدى لهذه الأعياد وامتداد لها. وفي العيد على كل حال فيه إقبال على المنكر وتحريض على الفسق. وعلى حد تعبير فرويد " إن العيد هو إفراط مباح, بل مأمور به, هو مقاربة رسمية للحرام. فالناس لا يفسقون فيه لأنهم في مرح مفروض عليهم ولكن الفسق جزء من طبيعة العيد ذاتها ". 

ويمكن تلخيص ابرز مظاهر الاستباحة والإسراف في الأعياد والاحتفالات في: هو المغالاة في دروس الوعظ الديني والدروس التعليمية الدينية لتثبيت القيم المستوحاة من هذه المناسبات والتركيز على البعد التلقيني فقط من قبل المتلقي, والبعد الاجتماعي الذي يسعى إلى إيجاد شبكة من العلاقات الاجتماعية من طابع خاص, وكذلك الجانب الاقتصادي من ترويج للبضائع والسلع المختلفة, وإقامة مختلف المواقع الجديدة لتدعيم خدمة تقديم الغذاء إلى مختلف الزائرين وترويج مختلف البضائع والأطعمة. وتنتشر أيضا في هذه المناسبات الكثير من المظاهر أللاجتماعية واللاخلاقية, كالسرقات والنشل والتسول والتحرش الجنسي والبغاء وممارسة القمار والمخدرات, والإسراف في سماع الأغاني والأناشيد الدينية وغير الدينية, وانتشار الألعاب النارية وغير النارية بطريقة يخل بالأمن العام والاستقرار !!!!. 

ولعل أكثر مظاهر الاستباحة حضورا اليوم هو ما نلاحظه من طقوس في ممارسة ظاهرة الأضاحي أو القرابين, والتي عرفتها البشرية منذ الأزل, وعرفتها لاحقا الأديان المختلفة بما فيها التوحيدية, اليهودية والمسيحية والإسلام, وتركزت بشكل خاص في الإسلام على مجموعة من العبادات والشعائر على مفهوم التضحية والفداء انطلاقا من الزكاة والصوم ثم نحر أضحية العيد, والتي وصلت إلى حد استنزاف اقتصاديات ثروات كاملة لمختلف البلدان الإسلامية, إلى جانب مجموعة من العادات والتقاليد التي تعتبر تكثيفا رمزيا لمفهوم القربان كالهبات والعطايا للزوايا والأضرحة والأولياء, لتصل إلى مستويات عالية من التطرف عبر التضحية بالجسد عبر المجاهدين والانتحاريين وغيرهم !!!.

وظاهرة الأضاحي والقرابين وجدت لها تفسيراتها السيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية. ففي السيكولوجية, وعلى سبيل المثال لا الحصر الفرويدية حيث ربطتها بظهور الطوطم, حيث وظف فرويد الدلالات الرمزية الأسطورية لتفسير النشأة الأولى للنظام الأخلاقي, انطلاقا من حيزين أسطوريين, الأول من خلال أسطورة " قتل الأب وأكله " بطابعها الانثروبولوجي, وحيز آخر يتمثل في أسطورة أوديب بتجلياتها السيكولوجية. فحسب أسطورة " الوليمة الطوطمية " قرر الأبناء التنازل عن إشباع غرائزهم المتوحشة لصالح النظام الاجتماعي, وقد شكل هذا التنازل أساس النظام والعدالة الاجتماعية والقانون والقيم الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية القديمة, لتشكل بذلك مهد الحضارة ومنطلقها الإنساني في التأسيس للمقدس والمدنس, وذلك لان الحضارة لا تقوم إلا على مبدأ الإيثار ونكران الذات وتنظيم إشباع الدوافع الغريزية . وحسب أسطورة عقدة اوديب, جريمة قتل الأب, يتشكل لدى الفرد شعور بالذنب بلا ذنب, فتلك الخطيئة المزدوجة لقتل الأب وإتيان المحرم تقوده إلى أعظم الندم وضياعا في الأرض تكفيرا عن الإثم والذنب ليظهر الطوطم كبديل مقدس عن الأب تعبيرا عن الندم, وبالتالي تكون القرابين تقريبا إلى الأب المقتول.

وفي تفسيرات سيكولوجية أخرى ترى إن تقديم القرابين للآلهة هي خطة محكمة البناء من اللاشعور الجمعي تقتضي صب فائض العنف المنتشر في المجموعة على"  كبش " , وبهذا يكون سلوك التضحية مخرجا لتصريف النزوع البشري إلى العنف اتجاه الذات والآخر. وهكذا تنتقل وظيفة القربان إلى شرعنة للعنف في زمان ومكان واتجاه موضوع محدد. أنه شكل من إشكال التنفيس عن العنف الجوهري في سيكولوجيا الإنسان الذي تغذيه غريزة الموت والقتل والدمار !!!!.

أما التفسير الاقتصادي فهو يرى مثلا عيد الأضحى يأتي تاريخيا لخلق التوازن الاقتصادي في منظومة النظام الاقتصاد الإسلامي بين مجتمعين متصارعين, مجتمع رعوي ومجتمع زراعي, فبعد عيد الفطر الذي تزدهر فيه تجارة مجتمع الزراعة لابد من طقس يأتي لترويج تجارة مجتمع الرعي !!!.

وبغض النظر عن ما يرد من تفسيرات سيكولوجية اجتماعية فأن المجتمعات اليوم وبعد مسيرة قرون, وفي ظروف الإحساس بالحاجة إلى التخطيط وعقلنه استخدام الموارد لازالت تمارس الاستباحة في طقوسها واستنزاف موارده في الثروة الحيوانية, والبشرية عبر استنزاف عقول أبنائها في مختلف الشعائر والطقوس المفرطة واللاعقلانية. وإذا كانت هذه الاحتفالات والأعياد الدينية هي مجرد عدة مرات في السنة فأنها تعني الكثير على مستوى عرقلة خلق الوعي المجتمعي اللازم لعقلنه جهد الإنسان والاقتصاد في إمكانياته الروحية والثقافية والاقتصادية ورسم ملامح مستقبل أفضل, وخاصة في بلدان الفقر والعوز والفاقة التي تستنزف فيها الثروات في تلك المناسبات. وأذا كانت الجمعة الامريكية السوداء هي مناسبة لإعادة تشغيل الاقتصاد وبعثه من جديد في ظل مستويات من الدخل الفردي ومستوى لابأس به من العيش العام, فأن الجمعة العربية والاسلامية البيضاء وفي ظل اقتصاديات الركود والبطالة وتدني مستوى العيش, فهي مناسبة لإستنزاف ما تبقى من الدخول الفردية ووضع الكثير على حافة الفقر !!!.

 

153
تلفيق صحيفة " الشرق الأوسط " السعودية في مخاطر الزيارة الأربعينية والحرب النفسية !!!

د.عامر صالح 

الحرب النفسية تستهدف الانسان نفسه لتحطم شخصيته فيضطرب سلوكه ويصل الى مرحلة المرض ،تضعف إرادته ،يتملكه الخوف والقلق وهي حرب معنوية ،تستهدف شخصية المقاتل والأمة وغايتها تغيير سلوك الأفراد والجماعة ،وخطورتها أن اسلحتها فتاكة ،فالخوف والتوتر والترقب والتشكيك من شأنه أن يعدي الانسان للآخر كالوباء ،والدعاية والاشاعة التي تستعين بهما الحرب النفسية كوسائل نشر تنقل وباء الهزيمة وانخفاض الروح المعنوية وتغير الأفكار والاتجاهات والمعتقدات ،ومن مصطلحات الحرب النفسية (غسيل الدماغ) وهو من أخطر ماتلجأ اليه الحرب النفسية فهي تعمل على إعادة تشكيل الفكر وتغير التوجهات وتستخدم وسائل الاعلام لتخريب العقول والنفوس وكفرها بكل المبادئ والقيم ثم دفعها الى الايمان بنقيضها .‏


بعد ان تدفق البترول على المملكة العربية السعودية ,عملوا على صرف المليارات منها من اجل تلميع صورتهم سواء في الداخل او الخارج فأنصب اهتمامهم على بناء مؤسسة اعلامية تمويهية مدعومة بالبترودولار وتجنيد كتاب البلاط لهذا الغرض, فأغدقت المليارات لتشكيل جيوش هذه المؤسسة, والتي تتدخل في كل شاردة وواردة في الوطن العربي والعالم خدمة لمصالح وأهدااف العائلة المالكة, وجاءت ثورة الاتصالات المعلوماتية الفضائية لتدعم بناء هذه المؤسسة, فتأسست العشرات من المحطات الارضية والفضائية بكافة صنوفها والعشرات من المجلات والجرائد  لا لشئ الا لتلميع صورة أل سعود والهجوم على كل من يسيئ اليهم , فزحف كم هائل من الكتاب والاقلام المأجورة ليعملوا في هذه المؤسسة واصبح مقياس الكاتب او الاعلامي العامل في مؤسسة أل سعود هو مدى خدمة هذه العائلة وتنفيذ أجندتها الداخلية والخارجية مقابل إغراءات مالية وأمتيازات مغرية للضمير المأجور. وجاءت الثورة التكنومعلوماتية  لتنطلق صحافة من نوع آخر وهي الصحافة الالكترونية عبر الانترنيت فانتشرت المواقع التي تعمل لخدمة هذه العائلة بشكل سريع مما زاد من نفوذ هذه المؤسسة وتأثيرها في تغذية الصراعات المختلفة في البلدان العربية والعالمية !!!.

وفي دائرة الصراعات الأقليمية العربية والاسلامية لعبت هذه المؤسسة دورا تخريبيا في تعزيز قبضة الصراعات الداخلية من خلال الانحياز المطلق الى الخطاب الديني والمذهبي المتطرف والداعم للحركات الاسلامية المتطرفة التكفيرية والارهابية, مما ساهم في تفتيت البنى الاجتماعية والثقافية وانهيار مجتمعات عربية واسلامية من الداخل وإغراقها في صراعات دموية ذات طبيعة دينية ومذهبية من خلال إنحيازها لبعض اطراف الصراع ذات الطابع المذهبي السياسي المتطرف. وقد ساعد صراع المصالح الاقليمية بين السعودية وأيران الى إشتداد عنف الصراع من خلال واجهاته الطائفية والمذهبية, والتدخل في شؤون البلدان الداخلية والبحث عن حلفاء مطابقين لهم, وتحويلها الى مناطق صراع دائم لتصفية الحسابات الاقليمية والمذهبية المتطرفة وإثارة النعرات الطائفية في مكونات المجتمع الواحد, حتى بات هناك تخندق واضح في الكثير من داخل البلدان العربية وموالاة لأطراف الصراع الأقليمي السعودي ـ الايراني, يدفع ثمنه عدم الاستقرار هذه البلدان !!!. 

وفي هذا السياق وفي إطار الحرب النفسية الخفية التي تشنها هذه المؤسسة  كانت صحيفة الشرق الاوسط السعودية زعمت نقلا عن غريغوري هاتل المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، أن "العام الماضي شهد مناسبات دينية في العراق يشارك فيها الملايين من العراقيين والعراقيات وأكثر من مليوني ايراني [في اشارة الى زيارة الاربعين]، أعقبها حصول حالات حمل غير شرعي لأكثر من 169 أمرأة عراقية من سكان جنوب العراق" على حد زعم الصحيفة السعودية" وحذرت المنظمة كما تقول الشرق الاوسط من "تكرار حالات الحمل غير الشرعي في العام الحالي".
ونفت منظمة الصحة العالمية/ المكتب الاقليمي للشرق الأوسط، بشدة ما زعمته الصحيفة على لسان المتحدث باسمها، وأستنكرت المنظمة "مرة أخرى استخدام اسمها في خبر عار عن الصحة يدعي أن أحد إعلاميي المنظمة في جنيف صرح بخصوص الزواج غير الشرعي خلال المراسم الدينية".
ولفتت الصحة العالمية الى أنها "تتحرى حالياً عن مصدر الخبر الخاطئ وقد تلجأ إلى مقاضاة ناشريه". 

لقد كان المقال معبئ ضمنيا بدلالات موجهة الى الطرف الآخر من:  إيهام وتمويه, وخداع, وشتم, وتشهير, وتفرقة, وإيقاع, ونميمة, وتأليب للمكونات المذهبية على بعضها, وتحريض على المكون الأقليمي المذهبي المتمثل بأيران حيث تواجدهم المليوني في الزيارة وقد اتخذ محتواه من رمزية المرأة العراقية ومكانتها كساعة الصفر وكبش فداء لأشعال الحريق الطائفي. ونحن نعلم ان الحرب النفسية أحد اركان الحرب الشاملة ضد الشعوب عبر اساليبها في الدعاية والشائعة, وتستخدم في العراق منذ عام 2003 بسبب الصراعات الأقليمية المذهبية والطائفية والأطماع الاستراتيجية, وقد حققت نجاحات نسبية لأعداء العراق في زرع الفتنة الطائفية, وكان مقال صحيفة " الشرق الأوسط السعودية " تصب في ذات الأتجاه. وكان المقال يعكس الصراع الايراني والسعودي بشكل خفي, حيث توجهات ايران لمنع والحد من الذهاب الى مكة والاستعاضة عنها في الامكنة المقدسة في العراق, وكان ولابد لهذا الحضور المليوني الايراني الى الزيارة في العراق ان يلقي بضلاله على مستوى الصراعات وتصعيد شحنتها الطائفية, بعيدا عن الأحقية الشرعية والدينية في أولوية الزيارة لمكة !!!.   

لقد أفرز مقال صحيفة الشرق الاوسط السعودية وعكس عدة حقائق في المجتمع العراقي, أبرزها ما يلي: 

ـ هناك ادانة وسخط شعبي وامتعاض كبير على الصحيفة التي فبركت الحدث, كانت الادانة واضحة على المستوى الشعبي العام والرسمي, والذي أدى بدوره الى استقالة الكتاب العراقيين في هذه الصحيفة, والدعوة الى عدم تداول الصحيفة في العراق ومقاضاتها. 

ـ هناك مستوى متباين من الإدانة, ففي الوقت الذي كانت فيه الادانة واضحة وغير مشروطة في معظم التيارات السياسية الشيعية, جاءت الادانة لدى التيار السياسي او الجبهة السنية مشروطا بأدانة تهمة " جهاد النكاح " عند السنة, مع العلم ان جهاد النكاح ليست سنيا بل داعشيا وتمت ممارسته في الاراضي التي احتلتها في سوريا والعراق, وان هذه الاشتراطية في الادانة ليست في محلها.

ـ عكس المقال رائحة التخندق لدى الاطراف السياسية في الدفاع او السكوت عن حلفائها الخارجيين مهما يفعلوا بالعراق, وان الحفاظ على القيم الانسانية واحترام شعبنا ليست موضوع مزايدة او دفاع عن حليف خارجي, بل هو موقف مبدئي وضميري.

ـ كان موجها ليست فقط بمحتواه المباشر, بل كان كان موجها لضرب جبهة التحالف السني ـ الشيعي في جبهات القتال لتحرير الموصل, وعلى أثر هزيمة داعش, فجاء محاولة لجس النبض, في الوقت الذي يقدم فيه شعبنا خيرة ناسه شهداء من اجل الوطن. 

وهنا يجب النهوض بمستلزمات الدعاية والاعلام المضاد بما يضمن حصانة المواطن العادي أو السياسي والارتقاء بمستوى الحيادية والنزاهة والموضوعية في استيعاب الهجمة على العراق ووضع مصلحة العراق فوق كل الاعتبارات الطائفية والقومية والمذهبية. ولابد للعمل بما يأتي:
1ـ وجود منهاج توعية شامل يستهدف تنمية الشعور بالمسؤولية لدى المواطنين مع توضيح دقيق للدور الخطير             للمجموعات المعادية والاعلام المعادي وإيضاح وسائلهم وأساليبهم التخريبية.                                                                                                                     
2 ـ العمل على تحقيق الوحدة الوطنية المتماسكة وقطع الطريق على محاولات زرع بذور الفرقة وقد أثبتت الأحداث في العالم وفي العراق بعد أحتلاله عام 2003 إن الشعب المفكك الأواصر يكون خير مرتع للاعداء ومهما كانت تسمياتهم.                 
3 ـ إتخاذ تدابير كفوءة لمواجهة الاشاعة من أهمها إطلاع الشعب بشكل صادق على ما يجري بعيداً عن أساليب الخداع والمراوغة التي سرعان ما يكتشفها الشعب.                                                                                           
4 ـ وضع سياسة إعلامية وطنية موحدة للشعب والتحذير من محاولات إشاعة عوامل الفرقة والتناحر بين أبناء الوطن الواحد والتصدي لمثل تلك المخططات التي تسهل للاعداء تحقيق مآربهم .                                                       
 5 ـ مد جسور الثقة بين الشعب والسلطة وتعميقها والتواصل الحقيقي مع المواطنين والاستماع الى شكواهم وآرائهم ومناقشتها معهم.                                                                                                                     
6 ـ العمل الجدي وبنزاهة الاخلاص للعراق والانتماء أليه في محاربة الفساد الاداري والمالي, لأن الفساد والتستر على رموزه بل والدفاع عنه يشكل حاضنة سهلة لتمرير مختلف المشاريع السياسية والطائفية وما يرايفقها من فكرية واعلامية خطيرة على فكر المواطن والمواطنة !!!.                                                                                 

154
في سيكولوجيا الإنتخابات الأمريكية وعيوب العقل الجمعي العربي والإسلامي !!!


د.عامر صالح

أن ظاهرة الإنتخابات الحرة الديمقراطية هي ظاهرة جديدة وغريبة على العقل العربي والإسلامي المغيب والمثخن بجراح الإرهاب والتطرف الفكري وإقصاء الآخر المغاير لنا في الملة والتفكير, فكيف لنا أن نفهم الانتخابات الأمريكية ونحن لن نمارس الديمقراطية قطعا ولازالت بالنسبة لنا حلما بعيدا عن المنال, أو لازلنا نفهم الديمقراطية هي وسيلة لإفتراس الحكم وتقاسم غنائم السلطة والتأسيس لكانتونات طائفية وأثنية لنهب موارد البلاد وألغاء الدولة, كما هي في التجربة العراقية, أو تجارب ما يسمى " بالربيع العربي " !!!. 
لازلنا نعيش بقدسية مزيفة لإمتلاك الحق الديني والأيديولجي والأثني والمذهبي والطائفي، جميع الدول و الديانات والطوائف اصبحت تعترف بالاخطاء التي تم ارتكابها باسمها بل وقدمت اعتذارات عن ذلك، هم متصالحون مع تاريخهم و يعترفون بالخير و الشر الذي فعله اسلافهم و لايجدون داعي لتزوير حقائق تاريخهم حتى لو كان سيئأ، الا نحن بقينا كتله متحجرة كبيرة ندعي المجد و تاريخنا مملوء بالاكاذيب و المشكلة ان هذا التاريخ ينعكس بشكل مخيف على حاضرنا ومستقبل الأجيال القادمة, بل ويشكل مرجعيتنا الأساسية لفهم الظواهر التي تجري من حولنا !!!. 

لقد فهمنا ببساطة ساذجة إن الفوز " الترامبي " جاء مفرحا للسنة من المسلمين المتطرفين, فهو بقدر فهمهم سيلغي الإتفاق النووي الإيراني, ويحد من التدخل الإيراني والأجندة الإيرانية في العراق وفي المنطقة عموما, كما جاء فوزه مفرحا للشيعة من المتأسلمين السياسيين بأنه سيمحي السعودية من الوجود وقطر وآلتها الاعلامية قناة الجزيرة, كما أبتهجت شرائح متطرفة من مسيحيو الشرق اوسطي في أمريكا وخارجها في أن الخلاص قادم لا محال من المسلمين في أمريكا, كما جاء فوزه دعما ضمنيا للنظام السوري من خلال عدم اعترافه بهوية من يقاتل النظام السوري, وتضامنه الضمني مع الموقف الروسي لصالح النظام السوري, وكل يغني على ليلاه, تلك هي مسحة التفكير الثنائي القاتل في مجتمعات تتآكلها ظاهرة الهوس الديني في مرحلة ما قبل الدولة المدنية !!!. 

لا تفهم السياسة الامريكية بانها وليدة اللحظة أبدا, بل انها تعتمد على تخطيط مسبق وطويل الأمد, قد يصل في أقل سقف زمني له هو خمسة عقود, وبالتالي فإن مرشح أي حزب مهما كبر حجمه وسلطان نفوذه المالي ما هو إلا موظف يدير السياسات الموضوعة, ولكن لديه صلاحيات في اتخاذ القرار في الأمور المختلفة وبالاستناد الى مستشاريه, ومن هنا نستطيع القول ان السياسة الامريكية تستند الى علم الادارة قبل استنادها الى المزاج الشخصي للرئيس المنتخب, والرئيس الجديد لا يأتي مقطوع الصلة بسياسات وأدارة الرئيس الذي سبقه. وأسوق هنا مثالين فقط لا للحصر كيف تكمل الادارة الامريكية بعضها البعض في سياستها الخارجية: قانون تحرير العراق والذي شرع في عام 1998 في عهد الديمقراطي بيل كلنتون وقد نفذه جورج بوش الجمهوري في 2003 وأحتل فيه العراق, وكذلك قانون جاستا في مقاضاة الدول الداعمة للإرهاب وفي مقدمتها السعودية فقد شرع في عهد أوباما الديمقراطي وسينفذه ترامب الجمهوري !!!.   

في سيكولوجيا الأتصال يمكن فهم الانتخابات الأمريكية كما تفهم غيرها من الظواهر: فهناك مرسل, وهناك مستقبل, وهناك قناة إيصال ومادة إرسال " الموضوع ", ثم هناك ظروف مصاحبة للأرسال, أو معرقلة له, يجري الحد منها في مسارات الارسال, والهدف النهائي هو إيصال الرسالة للمستقبل بدرجة كبيرة من الفهم والنجاح وتحقيق الأهداف المرجوة, والتي هي في الحالة الأمريكية فوز ترامب وخسارة هيلاري كلينتون, أو إحتمالات العكس كما كان متوقع عالميا ولم يحصل !!!. 

كانت رسالة ترامب الانتخابية وما أعقبها من فوز له تفهم بأنها انتصار لليمين المتطرف, وانتصار للتقارب الأمريكي الروسي, وانتصار للعرق الأبيض, وانتصارا للإسلاموفوبيا, وانتصار للأنكلوسكسونيا, وانتصار للعزلة وجدار الفصل بين أمريكا والمكسيك, وانتصار للعرق الأبيض, وانتصار لرافضي الإجهاض, وانتصار لأعداء المثلية الجنسية والحريات الجنسية, وانتصارا لمعارضي الهجرة والمهاجرين, وانتصارا لخفض الدعم الأمريكي لحلف الناتو وترك الدول تدافع عن أمنها بمفردها, وانتصارا للتمركز حول الذات الأمريكية بعيدا عن العالم, طبعا وانتصارا لليبرالية الرأسمالية وخفض الضرائب على الأغنياء, وأختزال الضمانات الاحتماعية والحد من دعم البطالة, ونهاية لمشروع أوباما للخدمات العلاجية المجانية والتوجه أيضا لتغيرات جوهرية لقضاة المحكمة العليا, وفي أضيق نظاق شخصي اعتبر فوز ترامب هو فوز لسيدة أمريكا القادمة " ميلاني ترامب " والتي استخدم تاريخها الشخصي للتضييق على فرص انتخاب ترامب !!!.

كان محتوى رسالة ترامب الانتخابية موجها الى العقلية والضمير والشخصية الأمريكية الكلاسيكية مستفزا لشعبويتها المتمركزة حول الذات القومية, في ظل تجارب رئاسية جمهورية وديمقراطية, كان حصادها حروب اقليمية واحتلالات, ودعم الارهاب الاسلامي التكفيري وخاصة المتمثل بما يسمى " بالربيع العربي " وولادة حركات أرهابية أكثر تطرفا ودمارا للإنسانية كداعش مثلا, وقد أسهمت تدخلات أمريكا في تعقيد انتقال هذه المجتمعات صوب الديمقراطية والتعددية إنتقالا سلسا وآمنا, كما في الحالة العراقية, وقد لحق دمارا هائلا في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية والثقافية مما غيب فرص بناء المستقبل لأجيال قادمة, وبالمقابل عرض أمن أمريكا الى مزيدا من المخاطر والاستنزاف في الموارد والضحايا البشرية, الى جانب مسؤوليتها وتحالفاتها اتجاه أوربا وغيرها من دول العالم !!!.

لقد استطاع ترامب بخطابه المرسل الى الشعب الأمريكي, الى جانب مزاياه الشخصية في ذهنية منتخبيه, وليست السياسية, كونه رجل أعمال ناجح وذو شأن اجتماعي وخصوصية أسرية يعجب بها الأمريكي قبل غيره أن يستحوذ على أصوات الأغلبية الانتخابية. وبالمقابل فشلت هيلاري كلينتون السياسة المتمرسة ومن وقف معها: من الاعلام الاوربي ووسائل التواصل الاجتماعي العالمية والتي ضخمت في توقعات فوز كلينتون المفرطة, إنطلاقا من امنيات ومصالح أوربا في فوزها للإبقاء على الدعم الامريكي لأوربا في نطاق الاقتصاد والأمن والعلاقات العامة والدفاع المشترك !!!.

في الحملة الاعلامية ضد انتخاب ترامب أستخدمت جزئيات كثيرة للحد من صعوده, سواء في الاعلام الأوربي وكذلك في الأعلام العربي والإسلامي, فقد ركز الأعلام المضاد حول المخاطر الأمنية على الصعيد العالمي والأقليمي بفوز ترامب, وأحتمالات نشوء حروب جديدة قادمة أوربية وأقليمية عربية وأسلامية بفعل توقعات لغياب الدور الأمريكي الفعال, وقد ركز الأعلام حول أمية ترامب السياسية وعدم مقدرته على الصعيد العالمي, وأنه رجل أعمال وليست سياسي " محنك ", ولكن خلاف ذلك تؤكد المعلومات حول سيرته الشخصية أنه كان في أحضان الحزب الديمقراطي قبل عام 1987 ثم هجره, وألتحق بالحزب الجمهوري وتركه أيضا ثم عاد أليه, وسيعمل مع الجمهوريين, وفي ظل برلمان ومجلس شيوخ أغلبه من الجمهوريين, ولا أعتقد لرجل بارع في الأقتصاد والمال أن يكون أميا في السياسية, فالمصالح الأقتصادية وتأمنيها تستدعي معارفا سياسية رفيعة, وبالنتيجة العامة فالسياسة وليدة الأقتصاد !!!.

وفي جزئية أخرى استخدمت فيها الجانب الجنسي وعلاقاته مع النساء للحد من صعوده, وتصدرت صفحات الاعلام العالمي تحمل صور لزوجته بهذا الخصوص تقترب من الأباحة, ولكن الناخب الأمريكي حسم ذلك وكان يميز بين ما هو شخصي بحت ومتعلق بالحريات الشخصية وبين ما هو عام, فقد انحاز الناخب الامريكي الى ترامب, وبالمقابل كان الفساد الاداري والوظيفي بالنسبة لهيلاري كلينتون أحد عوامل انخفاض شعبيتها الأنتخابية وخاصة ما يتعلق بأستخدامها الخوادم البريدية الخاصة خلال توليها منصب وزيرة الخارجية الأمريكية, ولم تكن على سبيل المثال فضيحة زوجها الجنسية والرئيس السابق بيل كلنتون سببا في ذلك !!!. 

في ثقافتنا العربية والاسلامية السياسية نضع ثقل لمعايير الشرف الشخصي أو السلوكيات الجنسية الشخصية ونستخدمها في حدية قاتلة لتحديد نزاهة الشخص السياسي, وبالمقابل نتغافل عن ما يرتكبه السياسيون من فساد أداري ومالي وسياسي وأستخداما سيئ للمنصب وعبث في المال العام وأنتهاك لحرمة الدولة, حيث تتجمع بيده, الثروة والسلاح والسلطة, ليقرر ما يشاء, ونضع العلاقة مع الجنس الآخر في نقيض للأداء السياسي, في ظروف لا علاقة للأول بالثاني. وقد قرأت بعض التعليقات المفارقة هنا وهناك لبعض نساء من مجتمعاتنا تجسدت في فرح فوز ترامب في جزئية استخدام زوجته في الدعاية المضاده له, وقد تفسر توقا خفيا صوب الحريات وتمردا على الظلم الأجتماعي, كما قرأت فرحا بفشل هيلاري كلينتون لأنها بقت مع زوجها رغم "خيانته " الزوجية, وهو نمط من الفهم المتطرف بعيدا عن سنة التسامح في ارتكاب الأخطاء !!!.

اليوم يتعامل العالم مع "المنتخب" ترامب وليست "المرشح" ترامب, وهناك فسحة في الخطابين " خطاب المرشح وخطاب المنتخب ", ففي الخطاب الأول تكمن الانفعالات المفرطة لكسب الاصواب عبر قراءة مزاج الناخب وهو موجه الى الداخل الأمريكي حتى في جزءه الخارجي, أي الى المحيط الأنتخابي الذي قرر فوز ترامب, وهناك خطاب ترامب المنتخب والموجه الى الداخل والخارج, وقد بدأت ملامح ذلك في بعض من تصريحاته: تنازله عن راتبه الرئاسي وأستلامه شهريا دولار واحد كراتب رمزي, وسعيه ان يكون رئيسا لكل الامريكيين باختلاف انتمائتهم واعراقهم, كما بدأ مشروع دولتيين متعايشتين فلسطينية واسرائيلية أحد  "همومه " كسابقيه من الرؤوساء الأمريكيين, كما انه سيراجع الاتفاق النووي مع ايران ولن يلغيه, وهناك فرق بين المراجعة والألغاء, لا بل ان الامير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستخبارات السعودي الاسبق والمسؤول عن ملف العلاقات الاسرائيلية السعودية ينصح ترامب بعدم الغاء الاتفاقية النووية, لأن ذلك برأيه قد يعطي فرصة لأيران بانتاج القنبلة النووية, وبالتالي لا نعتقد أن الظروف الدولية الشائكة يجهلها ترامب ويفهمها تركي الفيصل افضل منه. نعتقد ان هناك فرق كبير بين ان تكون مسؤول أول في البيت الابيض, وخطيب او مرشح انتخابي على منصة التحشيد للفوز !!!. 

وعلى العموم فأن مخاوف العرب والمسلمين من مجيئ ترامب أو ما يزيد وطأة الخوف هو انعدام مشروعنا الحضاري والمدني وعدم تمكننا داخليا من حماية أنفسنا, وتحولنا الى كانتونات طائفية ومذهبية ودينية واثنية وعرقية تقاتل بعضها البعض, في زمن تراجعت فيه مكانة الدولة الحاضنة والآمنة للجميع, واحتلت فيه الاولوية في الولاء للعشيرة والطائفة والعرق والقومية, وهكذا شلليات اجتماعية معوقة هي دائما بحاجة الى حماية من الخارج او الى حليف قوي يقف الى جانبها حتى ولو بشروطه, فلا نستغرب من خوفنا  "المشروع " في ظل تشرذمنا, ولنرى ما يخبأه ترامب لنا وللعالم, فالسياسة فن الممكن ؟؟؟.







 



155
تداعيات منع الخمور في سيكولوجيا الوعي العراقي 

د.عامر صالح

منذ ان سجل تاريخ الإنسان وربما قبل ذلك بزمن طويل, والإنسان يتناول من مواد الطبيعة أو مستحضراتها ما هو غير طبيعي أو غير ضروري. وقد لجأ الى ذلك أما سعيا وراء اللذة أو لغرض تخفيف المعاناة النفسية أو الجسمية أو لغرض التمهيد أو المشاركة في الممارسات والطقوس الدينية. وما زالت هذه الغايات نفسها فعالة في دفع الإنسان لتناول هذه المواد. وبالتالي فأن تأصل ذلك في الفطرة الإنسانية الأولى يستدعي منا الخلاف حول المقدار لا على التناول بحد ذاته !!!.

لم تكن قضية الإحتجاج على منع الخمور وبيعها وغلق محلاتها ومنع استيرادها بالنسبة للعراقيين هي مجرد نزوة أو ردة فعل على التضييق في تداولها وتناولها, بل هو إنعكاس لأرهاصات الوعي المدني ـ العلماني الكامن في الشعور الجمعي العراقي والذي تشكل عبر حقبات تاريخية, أصبح فيه ليست من السهل على العراقي التنازل عن مسلماته في التفكير والوعي في عدم الخلط بين الشأن الفردي والاجنماعي, ومقاومته المستمرة من أجل بقاء أصلح للعيش, رغم قساوة  الحياة الحاضرة وشدة الهجمة الشرسة لمسخ وعيه من قبل النظم الدكتاتورية وإدعاءات الإسلام السياسي الكاذبة في البحث عن حلول أفضل لحاجات المواطن الروحية والمادية, رغم أن هناك فسحة من القدرة على التلاعب والتزييف في الوعي عبر استخدام الخطاب الإسلاموي المموه بالكذب والمراوغة من خلال إستخدام الدين والرموز الدينية ذات المكانة لدى الناس تارة, والإستخدام السطحي للعلم ومنجزاته تارة أخرى" كما في حالة منع الخمور " للتمويه على الأجندة الإسلاموية التي تستهدف إضفاء البؤس والفاقة والذل عبر تقييد وإستلاب الحريات الفردية ومحاربتها ووضع سقف مشروط للحريات العامة !!!.

أجزم بأنه لايوجد عراقي لا يعرف بأضرار الكحول, وخاصة الإدمان عليه وما يسببه من إرباك للصحة العامة الجسدية والنفسية, وأن أغلب من كان يتناوله بمقدار هو من الطبقة الوسطى والمتعلمة, من مدرسيين ومهندسيين واساتذة جامعات وكوادر تكنوقراط, وهي ذات الطبقة الحاملة للفكر المدني والعلماني, وهي نفسها التي يعول عليها في بناء وانطلاق المجتمعات المدنية الحديثة, وهي الرائدة في بناء البنية التحتية الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية المتطوره, والتي ألحق بها النظام الدكتاتوري وما بعده النظام الإسلاموي الطائفي والإثني, الدمار الشامل, في محاولة منه لتغير البنية الاجتماعية والسيكوإجتماعية للقوى البشرية العاملة, وخلق الوعي الهش لتحطيم محاولات الانسجام بين ثلاثي الاستقرار والدولة المدنية: السلطة والمجتمع والدولة, والتأسيس لحالة الاغتراب الشامل والفوضى الهدامة بين المكونات الثلاث. اعرف تماما ان هناك كانت أندية مسائية في العراق لشرائح من الطبقة الوسطى وغيرها, فهناك نادي الأطباء والمهندسين والمعلمين وموظفي مختلف الإدارات المحلية, وجميعها لا تخلو من تقديم خدمات المشروبات الكحولية, ولم تكن في يوما ما سبب في حروب صدام العبثية !!!.

ما ألحقه النظام الإسلاموي الطائفي والإثني البغيض ما بعد 2003 من دمار في البنى الاقتصادية والخدمية, من مشاريع بنيوية, يبنى في كنفها إقتصاد معافى, ومن تدهور في الخدمات الإنسانية, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات إجتماعية وفرص عمل, غير قابلة للمقارنة قطعا بما تلحقه الخمور والكحوليات وحتى العقاقير والمخدرات, من أذى في حياة الإنسان وإستقراره. ولو كان هناك سلم للأولويات لحياة كريمة في ذهنية الإسلامويين السياسيين لما تباكوا بكاء التماسيح على صحة أفراد المجتمع من خلال قانون منع الكحول, ولكن دوافعهم في ذلك كانت مفضوحة للقاصي والداني, وهو الزحف على الحريات الفردية والعامة كلما سنحت الفرصة وفي ظروف الخلسة وانشغال المجتمع بآفة الإرهاب, ومحاولاتهم في إضفاء خطاب واحد على الحياة العامة, في مجنمع متعدد الأديان والأثنيات والاعراق والمذاهب والثقافات والأفكار, متكأة على قراءة مشوهة وإنتقائية للدستور, ومتناسية الحريات الفردية والتعددية التي يضمنها, ولكن دستورنا المتناقض هو أحد اسباب ذلك أيضا !!!. 

وكان على كل من صوت على منع الخمور وفرض العقوبات على بائعيها ومتداوليها أن يكون ذو ضمير حي, وان يضع في حساباته ترتيب الأولويات على شكل بسؤال بسيط: أيهما أفضل للبرلمان: أن يصوت لمنع الخمور وهو شأن فردي محض, أم ينهمك مخلصا في معالجة الفساد الأداري والمالي والاجتماعي, وأنتشار الميليشيات الطائفية المسلحة, والعصابات الإجرامية المنظمة, وتفكيك الدولة وغياب الأمن الفردي والمجتمعي, ومخاطر الإرهاب الجاثم على أرض العراق, وتفكيك النسيج الاجتماعي العراقي, ومخاطر تجزئة العراق والتدخل الاقليمي والدولي في شؤونه الداخلية, ومعالجة الخلفية الذهنية والفكرية والطائفية ذات الصبغة الاسلاموية والتي تؤسس لحروب داخلية طائفية وأثنية لا تنتهي, ومعالجة أوضاع اجتماعية خطيرة جدا على التفكك الاسري والاجتماعي, كالزواجات المؤقنة والزواجات غير المسجلة في محاكم الدولة والتي انتشرت في ظل الاسلاموين بعد ان كانت غير معروفة آنذاك, ومشكلات الارامل بسبب فقدان الزوج في الحروب او الاقتتالات الجانبية, مشكلات اليتامى بسبب فقدان احد الوالدين او كلاهما, معالجة أوضاع معوقي الحروب والعمليات الانتحارية والارهاب عموما, معالجة البطالة وتوفير فرص العمل للشباب كي لا ينساقوا تحت ضغط ظروف العيش السيئة الى مختلف الاستمالات السيئة, والارهاب في مقدمتها. كل هذا لم يكن تعاطي الخمر من أسبابه, بل أن البرلمان الذي منع الخمر هو احد الاسباب الرئيسية في ذلك !!!!.   

مع قدوم الاسلامويين الى السلطة إنتشرت على نظاق واسع المخدرات والعقاقير خارج استخدامها الطبي المقنن, كالحشيش والكوكائين كمنشيات " من نشوة ", الى جانب المهدئات والمنومات والمسكنات للألم والمهلوسات, وقد إنتشرت في كردستان العراق وجنوبه ووسطه, وحتى مزارع خاصة لهذا الغرض. وإن كان الكحول سهل السيطرة عليه, من حيث مصادره وتمويله وأمكنة بيعه, فأنه من الصعوبة بمكان وضع حد للمتاجرة بالمخدرات والعقاقير المختلفة, نظرا لسريتها الفائقة وإتساع شباكات تداولها وتعقيد طرق بيعها !!!.   

وكان من الأجدر والأكثر حرصا ونفعا للبرلمان العراقي هو دراسة إمكانية نشر برامج توعية وتثقيفية لحيلولة دون الإدمان على تعاطي الخمور, والاستعانة بالأخصائيين النفسيين والاجتماعيين والاطباء والمرشدين النفسيين من خلال دراسة أسباب تعاطي الخمور والمخدرات, وإمكانية التحكم بالعوامل المحيطة, من إجتماعية وثقافية واقتصادية والتحسين المستمر لظروف العيش بما يجعل الاعتماد عليها قليلا ومتروكا للحرية الفردية في حدوده المعقولة, أو دراسة العوامل التكوينية للفرد, فهناك حالات من الاعتماد على الكحول والمخدرات يتقرر جزئيا بأستعداد وراثي, أو دراسة خصائص المادة الكحولية نفسها والتي تسهل وتساعد على سوء استعمالها. فأن اللجوء الى العلم خير طريق لدراسة الظاهرة والحد من مديات إنتشارها دون اللجوء الى المنع القسري والعقوبات, إذا كان طبعا هاجس الاسلامويين هو الحرص على صحة الفرد والمجتمع, وهو أمر يطاله الشك !!!. 

وقد أكدت الخبرة التاريخية وخبرة المجتمعات بصورة عامة فشل خيار المنع القانوني او الديني منه على السواء. فلم يستطع الاسلام في ذروة صعوده التاريخي, بما فيها في زمن الرسالة المحمدية, على القضاء على ظاهرة إحتساء الخمر, بل انسحبت الظاهرة من العيان لتمكث في البيوت والجلسات السرية, وكذلك في كافة المجتمعات ذات السلطات الدينية والمذهبية, وحتى أمريكا عندما منعته في العشرينات من القرن الماضي وعلى خلفية صراعات مذهبية, عادت وسمحت به !!!.

وكما هو اليوم وفي عالمنا الاسلامي, فلم تستطيع لا المملكة العربية السعودية بوهابيتها, ولا جمهورية أيران الاسلامية بخامنئها, ولا افغانستان بطلبانها ولا غيرها من البلاد الاسلامية, ان يمنعوا الخمور والمخدرات بمختلف انواعها, بل اصبحت هذه البلدان هي من البلدان المستهلكة للكحول والمخدرات سرا, بل ومن الدول المصدرة للمخدرات بمختلف انواعها وتشكل أكبر سوق سوداء للمتاجرة بذلك !!!. 

أما على مستوى ديني بحت فلا توجد عقوبة على شاربي الخمر بعكس ما فرضه مجلس النواب العراقي, كما هناك اجتهاد واسع بأنه لم يرد منعا لشرب الخمر بل وردت اجتناب, كما في النصوص القرآنية الاتية :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أو ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا). والاجتناب هنا ليست المنع قطعا.

وفي الختام نرى ان قرار منع الخمور في العراق وفي ظل غياب الامن وانتشار العصابات سيكون مدخلا سيئا وبداية مؤذية حقا للأقليات الدينية والمذهبية التي تتعاطيه الى جانب الجمهور المسلم الواسع الذي يتعاطيه, وهو نذير بموجة جديدة من القتل والتنكيل لاصحاب محلات بيع الخمور وللناس الابرياء وشد الخناق على الحريات الفردية. وقد بدأت العصابات المسلحة  في البصرة وبغداد وغيرها بحرق محلات الخمور وقتل اصحابها. أنه أرهاب برلمانيي منع الخمور الداعشي !!!.

156
في سيكولوجيا اليوم العالمي للفتاة ـ بعض من مظاهر الإضطهاد 

د.عامر صالح   

اليوم العالمي للفتاة أو اليوم الدولي للفتاة هو الاحتفال الدولي الذي أعلنته الأمم المتحدة في اليوم الحادي عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، لدعم الأولويات الأساسية من أجل حماية حقوق الفتيات و المزيد من الفرص للحياة أفضل, و زيادة الوعي من عدم المساواة التي تواجهها الفتيات في جميع أنحاء العالم على أساس جنسهن , هذا التفاوت يشمل مجالات مثل الحق في التعليم، والتغذية، والحقوق القانونية، والرعاية الطبية، والحماية من التمييز والعنف، الحق في العمل, والحق في الزواج بعد القبول و القضاء على زواج الأطفال. وتعج البلدان النامية والمتخلفة وبما فيها العالم العربي والاسلامي بشتى صنوف التمييز والتفرقة والحرمان واللإذلال وسوء المعاملة في أوساط الفتيات, وتحولهن الى مشروع إستلاب ومساومة طوال العمر, أو سبايا حروب كما يحصل اليوم عند " داعش ", أو زجهن بمختلف أنواع "الزواجات " المؤقتة وبواجهات شرعية مزيفة. والى المزيد من النضال لتخليص الفتيات من ألأسر الاجتماعي وسوء المعاملة وعدم المساواة !!!.   

 أما بخصوص مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأسوة بأغلبية بقاع العالم المتخلف, حيث العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لإضطهاد الفتاة ثم المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الإستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يندمج الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض !!!!.
وتبدأ الفتاة والمرأة كمشروع للاستلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية, خارج إطار والديها, من أخوانها الذكور الصغار والكبار, حتى إذا بلغت اشتدت دائرة الرقابة عليها من الجميع, ثم يستقبلها زوجها فيعيد إنتاج تربيتها وفق لما يرتئيه مناسبا له, بل حتى أطفالها الذكور يساهمون في " تربيتها " وفرض دائرة من الممنوعات على حركتها وحريتها الشخصية, وتتعرض إلى شتى مظاهر الإساءات كامرأة أو زوجة, من الإذلال وجعلها تشعر بعقدة الذنب, وإساءة معاملتها جسديا بالضرب والتهديد والوعيد, ومنعها من التعاطي بالمال وإيجاد فرص عمل لكسب المال وجعلها معتمدة كليا على مال الرجل أو اغتصاب مالها الخاص والتصرف به, وعزلها اجتماعيا ومنعها من الاتصال بالآخرين إلا بموافقات مسبقة وبشروط محكمة في الصرامة ومراقبة تحركاتها عن كثب, إلى أين تذهب ومع من تلتقي, وجعلها تشعر بالذنب أمام أخوانها أو أولادها وتهديدها من عدم رؤية أولادها وحتى ممارسة الضرب والاهانة لها أمامهم, وممارسة الإكراه والتخويف والتهويل لها وإجبارها على القيام بمختلف التصرفات التي قد تؤذي فيها حتى نفسها !!!. 

وتتعرض الفتاة والمرأة في مجتمعاتنا إلى شتى مظاهر التضييق والإكراه الجنسي, فحال وجودها بمفردها في الشارع أصبحت مشروعا للتحرش والمضايقات وسوء الظن بها وبطلعتها, فهناك إحصائيات تؤكد أن 60% من الفتيات المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي ابتداء من الملامسة لأجزاء الجسد وانتهاء بأقصاها وهو الاغتصاب التام لها, مرورا بالعنف الجنسي ضدها من الزوج وخاصة في البيئات الفقيرة والمتخلفة, والتي ترى في المرأة موضوعا جنسيا لا غير ويجب أن تستجيب لرغبات الرجل متى ما شاء وكيف ما اتفق بعيدا عن الرغبة للطرف الآخر, إلى جانب ظاهرة الاغتصاب واستخدام القوة وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بالضحية, وتشير التقارير الأمنية المصرية أن هناك ما لا يقل عن 27 حالة اغتصاب يوميا, أي ما يعادل 10000 حالة سنويا " نقلا عن الانترنيت ", كما تنتشر حالات الاغتصاب في دول المغرب العربي وفي لبنان وفي العراق " وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي له ", وكذلك في الدول الخليجية حيث ينتشر الاغتصاب في أوساط الدائرة القريبة للضحية, كسائق الأسرة أو الخادم ومن محيط العائلة والأقارب أو ذوي المناصب وغيرها. وعادة لا يجري في مجتمعاتنا التبليغ عن جرائم الاغتصاب نظرا لارتباطها بمفهوم شرف المرأة وأسرتها وعشيرتها, وخاصة في مجتمعات مسلمة تتدعي التدين, وعادة ما يلقى اللوم على المرأة باعتبارها هي مصدر الإغراء والمسبب لذلك !!!!.

ورغم تعرض االأنثى, فتاة كانت أم امرأة, في مجتمعاتنا إلى مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, إلا أن العنف الرمزي هو أكثر الأشكال ضررا وإيغالا في معاناة المرأة, وهو عنف غير فيزيائي, ويتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والايديويوجيا, وهو كما يصفه بورديو بأنه " شكل لطيف وغير محسوس من العنف ", وهو غير مرئي بالنسبة للضحايا أنفسهم. كما أن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم, ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف, بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل الاجتماعي. فالتربية "الذكورية " ابتداء من البيت والنشأة الأولى وما تتركه من انطباعات سيئة عن الأنثى بأنها مخلوق ثانوي تلقي بضلالها على الكثير من السلوكيات اليومية المذلة للمرأة, والمدرسة وتخلف مناهجها وما تبثه من معلومات حول الفرو قات بين الجنسين واستخدامها بشكل سيئ لتوجيه الطعون ضد المرأة وأهليتها الاجتماعية, الفصل  بين الجنسين في المدرسة وخاصة في مراحله الأولى يؤسس منذ البدء للريبة وسوء الظن بالجنس الآخر, والاستعانة بالتراث السلبي وانتقاء أحداثه بطريقة متحيزة بما يضفي إلى تصور المرأة كائنا شريرا وناقصا ولا يحمل إلا المنعطفات والأحداث السيئة, الأفكار والإيديولوجيات السائدة التي تكرس الشائع واللامنطقي عن المرأة وعدم مقدرتها على تجاوز الواقع, الاستعانة بتفسيرات الكتاب المقدس والسنة النبوية بما يفضي إلى تكريس اللامساواة وتشويه قدرات المرأة وإمكانياتها, كما يرد في " المرأة ناقصة عقل ودين ", وكذلك الفتاوى الدينية المختلفة التي تتدخل في التفاصيل الدقيقة للمرأة ووضعها في غير مكانها المناسب. أن هذا النمط من العنف الثقافي والتربوي الرمزي والخفي يجد له انعكاساته ليست فقط في ممارسات الرجال ضد المرأة, بل الأخطر من ذلك أن المرأة تعتبره قدرا وتتفاعل معه إلى درجة الدفاع الخفي عنه وعن مرتكبيه " أي الضحية تدافع عن الجلاد ". وهذا الفرق الواسع بين العنف في مجتمعاتنا وبين العالم المتمدن, حيث في الأخير لن يلقى الدعم والإسناد من المنظومة القيمية والفكرية السائد وبالتالي هو مدان على نطاق واسع بما يحد من إعادة توليده, وهو بعكس ما سائد لدينا حيث يلقى التفسير والإسناد والإثابة في أحيان كثيرة !!!!!.

وهكذا تتضافر منظومة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والفكرية والأيديولوجية لاستلاب المرأة وامتهانها بشتى سلوكيات الإذلال والحط من القيمة الشخصية لها والاجتماعية. وفي هذه المناسبة العالمية يفترض أن يقوم المجتمع الدولي وخاصة من قبل الدول الاوربية وأمريكا ذات الباع في الاعتراف بحقوق الانسان والمساواة بين الجنسين, أن تحمي وتحفظ وتصون حقوق الفتيات والنساء في المجتمعات الفقيرة والمتخلفة والمبتلاة بالحروب الداخلية والخارجية والحيلولة دون تحولهن الى مشاريع سبايا ووقود رخيص لحروب طالما كانت الدول الكبرى سببا أو أحد الاسباب في إشعالها, ولازالت فسحة الفروق بين اعلان المساواة وبين تطبيقها في هوة متسعة لا تطاق !!!.





 

157
الإسلام السياسي بين تضحياته ودركه الأسفل !!!

د. عامر صالح 

لقد اعجبني الاسلام السياسي بنضالاته وتضحياته ضد الدكتاتورية الفاشية وبعناده المستميت من أجل تغير الاوضاوع في العراق حتى بات ينافس اليسار الشيوعي في مقارعته للدكتاتورية والقمع, وكانت طموحاته للخلاص من القمع والارهاب والفساد والتضييق على الحريات الشخصية لا تقل شئنا عن بقية أحزاب المعارضة أنذاك والطموحة لإسقاط النظام الدكناتوري الفاشي الذي عبث في الارض فسادا وظلما لعقود خلت. وقد استهوى نموذج الاسلام السياسي انذاك شرائح اجتماعية واسعة من الشباب وغيرهم للانظمام في صفوفه في ظل فراغ نسبي لقوى اليسار التي تعرضت لأشرس هجمة من النظام الدكتاتوري الفاشي, وكان الخطاب الديني الممزوج في السياسة سهل المضخ والهظم والتمثل بفعل تلبسه بخطاب السماء الماورائي وقدرته التمويهية لإستلاب العقل والارادة الشخصية وأنصياع مناصريه السهل وراء الغرائز البدائية ذات المسحة الحيوانية في الاعتقاد والايمان والخارجة فوق مسلمات النقد والنقد الذاتي !!!. 

اليوم وبعد اسقاط النظام الدكتاتوري الفاشي وبعد إستلام الاسلام السياسي للسلطة السياسية بفعل الهندسة الامريكية للنظام القائم في العراق على أسس اسلاموية طائفية واثنية يحيي التطرف الإسلامي بمذاهبه المختلفة, وخاصة السنية المتطرفة تقاليد الكهنوت الديني في السبي والقتل والتهجير والتعذيب وإراقة الدماء, أنها نسخة طبق الأصل من أوربا القرون الوسطى في الأخلاق الدينية والتعسف والتفسخ الأخلاقي, ولكن الفرق اليوم بين الحدثين هو فرق قرون من الحضارة والتمدن. أؤكد هنا إن منطق الثأر والثأر المتبادل بين أبناء الدين الواحد, السني منه المتطرف والشيعي المتطرف المغالي " وخاصة في نموذج العراق بعد 2003 هو ابرز ما يعرقل مستقبل بلد بكامله, ويهدد أجيال قادمة في الاستقرار والعيش الكريم, إلى جانب الصراعات الاثنية والقومية الشوفينية التي تعيش على فتات صراع النظام الطائفي والمحاصاصاتي, وهي الأخرى تهدد بقائه !!!.

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على ما تبقى النواة المتواضعة  "للنظام الديمقراطي " في العراق,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع !!!,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه!!!!.

أن الخندقة الدينية للنظام السياسي وما تسوق ورائها بالضرورة من خندقة مذهبية يعني بالتأكيد أن يلحق الغبن والتميز الديني والمذهبي لقسم هام وغير قليل من المواطنين,وهذا ناتج من أن النظام السياسي المتخندق مذهبيا يتخذ من دينه ومذهبه إطارا مرجعيا ومحكا لتقيم دين ومذهب الآخر.وهو خلاف المفهوم العصري للدولة التي لا تعرف المواطن إلا من خلال الأوراق الثبوتية التي تشير إلى اسمه الثلاثي أو الاسم واللقب, أي رمزيته وخصوصيته في سجل الأحوال المدنية.أما خلاف ذلك فنأتي بأفعال تدفعنا إلى البحث(النبش)والتنقيب عن دين الآخر ومذهبه, ونذهب بعيدا في فحص أوراقه الثبوتيه للتأكد من( سلامته)الدينية والمذهبية من خلال أسمه وأسم عائلته.وفي ذلك تجاوزا على حريته الشخصية وحرية معتقده ,والتي يفتخر بهما أي نظام ديمقراطي. ونحن نعرف أن الدين والمعتقد الديني هو حرية شخصية قد تعجبني وقد لا تعجبك, والجميع ورثها من آباءه وأجداده, فأنا شيعي, وأنت سني,وهذا مسيحي, أو صابئي أو يزيدي. ولا اعتقد أن احد منا بذل جهدا استثنائيا لكي يدرس حقيقة انتماءه الديني أو المذهبي لكي يفضي إلى تغيره, إذا ما توفرت القناعة لديه, بل نبحث عن أدلة لتكريسه, لأنه مكون جمعي.وبالتالي نرثه كما نرث خصائصنا الوراثية: لون العينين,شكل الأنف, لون الشعر, طول القامة وهكذا.....الخ. 

وهكذا كان الاسلام السياسي بتطبيقاته العملية مشوه للدين وللسياسة على السواء مما دفع شرائح اجتماعية واسعة للابتعاد عنه والبراءة منه, بل والتوجه الحثيث والمقترن بردود الافعال  نحو الالحاد والكراهية المطلقة للرموز الدينية, وخاصة عندما اقترنت رموز الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي بالفساد الاداري والمالي والاخلاقي وانتهاك الحرمات والعبث بمتتلكات الدولة, وانتشار الدجل والنفاق الديني والسياسي حتى تحول الاسلام السياسي في أعين الناس الى شيطان أكبر, وحتى تلوث الاسلام السياسي أشد التلوث في عملية الخلط بين الدين والسياسة, ولعل في ذلك بارقة أمل في تكريس الوعي الوطني والانتماء الى الوطن صوب الادراك الامثل لفصل الدين عن السياسة !!!.


158
سحب الثقة من وزير الدفاع العراقي ومصداقية الحراك المدني الاجتماعي العراقي !!!
   

د.عامر صالح 

صادق البرلمان العراقي بسحب الثقة اليوم وبتاريخ 2016ـ08ـ25 عن وزير الدفاع العراقي بأعفائه من منصبه كوزيرا للدفاع وبجلسة تصويت سريه كان قوامها 142 نائبا ضد بقائه في منصبه و 102 نائبا مع بقائه ومقابل 18 أمتنع عن التصويت. وكان ذلك في جلسة يقودها خصمه رئيس البرلمان الدكتور سليم الجبوري والذي أتهمه وزير الدفاع خالد العبيدي بأنه جزء من منظومة الفساد العامة في الدولة دون تبرئة تذكر لحد الآن من القضاء العراقي لسليم الجبوري !!!.

جرى هذا في ظروف عدم الاستقرار في المؤسسة العسكرية وتماسكها الضروري وهي تحارب اعتى تنظيما أرهابيا لحد الآن والمتمثل بتنظيم الدولة الاسلامية الارهابي " داعش ", ويفترض ان تكون مهنية هذه المؤسسة وابتعادها عن الصراعات هي الاهم لانجاز مهمتها لتحرير باقي التراب العراقي من قبضة الارهاب الداعشي والتهيئ لمرحلة ما بعد داعش !!!. 

كيف أنظم اغلبية البرلمانيين الى جانب العبيدي ونصرته في جلسة استجوابه, وكيف اليوم تحولت جلسة البرلمان اليوم الى ضده بالاغلبية, انه المضحك والمبكي في سياسات العراق اليوم ". وبغض النظر عن تزكية العبيدي اليوم, فتلك ليست مهمتي, بل انها مهمة قضائية بحتة, ولكن النظام النظام المحصصاتي كشر عن أنيابه وجسد ردائته وعيوبه القاتلة, ذلك النظام الذي لا علاقة له بالانتماء الوطني لارض وشعب العراق, نظام قائم على اغتنام المناصب السياسية والعداء للشعب !!!.

أن إقالة وزير الدفاع في هذه الظروف سوف يضرب ويفكك الكتل السياسية ـ الطائفية والعرقية الاثنية كما أكدته جلسة البرلمان اليوم, حيث انقسم اليوم سنيها السياسي وشيعها وأثنيها العرقي الى شراذم في التصويت, وكل ذلك سيهدد ويعرقل تحرير الموصل وما بعدها. وعلى ما اعتقد ان درس إقالته هو درس تأديبي لكل من يتحدث عن الفساد في منظومة النظام المحصصاتي الفاسد بمكوناته الشيعية والسنية التعصبية السياسية والعرقية الاثنية والذين لا يريدون للعراق ان يتعافى !!!.

أن العقل العراقي السياسي محكوم بآلية الانتقام والثأر والمؤامرة من المغاير الآخر مهما اختلفت انتماءاته السياسية والطائفية والاثنية, بل هي سلوكيات فاشية دكتاتورية لتصفية الحساب مع المعارض الآخر. أنها ثقافة النظام الدكتاتوري الصدامي والتي ألقت بظلالها على ثقافة معظم أحزاب الاغلبية الحاكمة في عراق ما بعد 2003 !!!.
لقد أكدت احداث البرلمان الاخيرة هي ان ترفض الطائفية السياسية والاثنية يعني إنك منفتح ذهنيا وفكريا وعقليا وحضاريا للانتقال من حالة الوعي المتردي الى حالة نوعية جديدة تقترب فيه من إنسانية الانسان, أما ان تنظم قوى كانت بالامس ترى في الحراك الشعبي الشامل عمل اجرامي أو مؤامرة على النظام السياسي الطائفي فهو غير مقبول أخلاقيا وهو الوجه الصارخ للنفاق السياسي الطائفي والاثني !!!.

ان مرجعية شعبنا الاساسية هي الانتفاضة الشعبية العارمة والحراك الاجتماعي المتعاظم الذي بدأ في شوارع العراق كله, والذي يعبر عن حالة اختمار الوعي المعارض للطائفية السياسية والاثنية. إن التحولات الجذرية في الوعي هي الكفيلة في بناء نظام سياسي عادل وليست ما يجري في قبة البرلمان من صراعات سياسية طائفية وأثنية تريد تبديل الوجوه الطائفية بوجوه اخرى من نسخة طبق الاصل ولتصفية الحسابات المصلحية الضيقة !!!.

ومن المستهجن والمدان اخلاقيا ان القوى الطائفية السياسية بأمتياز والمتهمة بالتأسيس للفساد في العراق ان تنظم الى المعتصمين في البرلمان, بل وتطالب بانهاء المحاصصة وهي المطالبة اليوم قبل غيرها بانهاء مزاج المحاصصة والاعتراف لشعبنا بسوء الادارة والتدبير عندما كانت تقود السلطة التنفيذية, والمثول أمام القضاء للمحاسبة الشديدة !!!.

نقول الآن ان الارهاب هو الاقوى والاعتى في قدراته من كل البرلمانين المنتفعين والذين لا يرون السياسة الا من خلال منافعهم وانفعالاتهم المريضة, وان الفراغ الامني يهدد ما تبقى من الدولة والمجتمع في الانهيار الكامل. إن اللجوء الى الشارع العراقي في انتفاضته الباسلة كمرجعية مطلقة هو البديل الاوفر حظا للخروج من مأزق الطائفية والاثنية, واعادة بناء العملية السياسية بعيدا عن امراض المحاصصة والاعتصامات البرلمانية الموسمية والمرتبطة بتكريس المحاصصة, لا القضاء عليها !!!.

159
بعد مرور عام على بيان الاصلاح الذي اصدره رئيس الوزراء العراقي !!!
   
د.عامر صالح 

في يوم 2016ـ08ـ09 يكون قد مر عاما على بيان الاصلاح الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي, والذي كان فحواه بما يأتي: 
بيان
======
بناء على مقتضيات المصلحة العامة واستنادا الى المادة (78) من الدستور، وجه السيد رئيس مجلس الوزراء بما يأتي:
1.تقليص شامل وفوري في اعداد الحمايات لكل المسؤولين في الدولة بضمنهم الرئاسات الثلاث والوزراء والنواب والدرجات الخاصة والمدراء العامون والمحافظون واعضاء مجالس المحافظات ومن بدرجاتهم ، ويتم تحويل الفائض الى وزارتي الدفاع والداخلية حسب التبعية لتدريبهم وتأهيلهم ليقوموا بمهامهم الوطنية في الدفاع عن الوطن وحماية المواطنين.
2.الغاء المخصصات الاستثنائية لكل الرئاسات والهيئات ومؤسسات الدولة والمتقاعدين منهم حسب تعليمات يصدرها رئيس مجلس الوزراء تأخذ بالاعتبار العدالة والمهنية والاختصاص.
3.أبعاد جميع المناصب العليا من هيئات مستقلة ووكلاء وزارات ومستشارين ومدراء عامين عن المحاصصةالحزبية والطائفية ، وتتولى لجنة مهنية يعينها رئيس مجلس الوزراء اختيار المرشحين على ضوء معايير الكفاءة والنزاهة بالاستفادة من الخبرات الوطنية والدولية في هذا المجال واعفاء من لا تتوفر فيه الشروط المطلوبة.
ترشيق الوزارات والهيئات لرفع الكفاءة في العمل الحكومي وتخفيض النفقات..4
الغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء فوراً..5
6.فتح ملفات الفساد السابقة والحالية تحت اشراف لجنة عليا لمكافحة الفساد تتشكل من المختصين وتعمل بمبدأ (من اين لك هذا)، ودعوة القضاء الى اعتماد عدد من القضاة المختصين المعروفين بالنزاهة التامة للتحقيق فيها ومحاكمة الفاسدين.
7.الطلب من مجلس الوزراء الموافقة على القرارات اعلاه ودعوة مجلس النواب الى المصادقة عليها لتمكين رئيس مجلس الوزراء من أجراء الاصلاحات التي دعت اليها المرجعية الدينية العليا وطالب بها المواطنون في محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية. 

صدر هذا البيان بعد تعاظم المد الجماهيري لعملية الحراك الاجتماعي المدني والمتمثلة بالتظاهرات والاعتصامات الدورية السلمية والمطالبة بتحسين ظروف العيش من خدمات محتلفة اساسية تليق بكرامة المواطن, الى جانب المطالبة المستديمة لمحاربة الفساد الاداري والمالي الذي أنهك مفاصل الدولة العراقية وجعلها على عتبة الافلاس الكامل, والذي دفع الدولة الى طلب الاقتراض من صندوق النقد الدولي وطلب المساعدات من الدول الغنية والصناعية الكبرى !!!.

عام مضى على هذا البيان ولم يرى شعبنا بصيص أمل للخروج من محنته وأزمته الاقتصادية والمالية والاجتماعية, ولم تنبثق الى الوجود حكومة تكنوقراط, ولم يمارس جهد الحد الادنى الذي يطمئن المواطن في محاربة الفساد وتقديم رموزه الى العدالة, ولم يجري ترشيق الدولة كما نص عليه البيان على أقل تقدير. مر عام على البيان والبرلمان العراقي باعتباره السلطة التشريعية العليا في البلاد شبه معطل عن العمل ولا قيمة فعلية له في مراقبة السلطة التنفيذية, بل غرق البرلمان طوال عام اسوة بالاعوام السابقة في تصفية الحسابات الشخصية بين اعضائه واشتداد الصراعات الطائفية السياسية والاثنية وحتى العشائرية, الى جانب كونه طرف متهم في الفساد الاداري والمالي ومساندة الارهاب, وتحول بعض من اعضائه الى سماسرة ومعقبي معاملات في الدوائر الحكومية من اجل الحصول على المال الحرام !!!.

كان العام الماضي امتداد للاعوام التي سبقته بل وأسوء, والذي أثبتت فيه الحكومات المتعاقبة ذات المسحة الاسلاموية والمحاصصاتية إنها لا تحمل في حقائبها أي مشروع للاصلاح والتنمية والنهضة الحضارية, بل أثبتت العكس إنها حكومات متخصصة في الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام وتفكيك وتدمير ما تبقى من بنية اقتصادية واجتماعية وثقافية, وإفلاسا تاما لخزينة الدولة, وقد حولت العراق الى بيئة صالحة لانتعاش الارهاب والبعث ومفككا من شماله الى جنوبه, كما أسهمت بخلق حالة من ضعف الولاء للوطن يقابلها ولاء أشد للطائفية والقومية والاثنية وللمليشيات المسلحة المنتشرة في العراق كله, مما أضعف عملية بناء اجهزة أمنية ودفاعية وأستخباراتية مهنية ومحايدة, وتركت هذه الحكومات العراق عرضة لمحتلف الوصايا والتدخلات الخارجية ومفتقدا الى السيادة الوطنية الحقيقية والمستقلة, الى جانب تعاظم موجات النازحين والمهجرين في الداخل والخارج بفعل عوامل الارهاب وضيق فسحة العيش وانعدام الآمان !!!. 

ومن هنا يجري الحديث المشروع عن توفير بيئة دستورية وقانونية وقضائية وتنفيذية تحمي حركة الاصلاح الشامل في البلاد وفي كافة المجالات, وإلا يبقى الحديث عن الاصلاح ودوافعه ونوايا المصلحين أمر مشكوك فيه كما يحس به شعبنا الآن من خلال الالتفاف على حزم الاصلاح والمماطلة بأتخاذ أي خطوة من شأنها أن تعيد النظر بالنظام الطائفي والاثني البغيض.
 
ومن هنا تأتي مطالبة شعبنا الواضحة في حراكه الشعبي بتوفير مقومات البيئة المواتية للاصلاح والمتمثلة في: حل البرلمان  والخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني أيضا اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب والذي يمنع تشكيل الاحزاب على أسس دينية وطائفية وقومية, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا. أن التأسيس لذلك والشروع بالعمل فيه هو الضمانة الاكيدة لمستقبل العراق وحماية مستقبل أبنائه وثرواته ودرء خطر الارهاب. وهي بداية التأسيس لوطن معافى يتعايش فيه الجميع بأختلاف دينه وقوميته وطائفته وجنسه وثقافته, وعندها يكون الدين لله والوطن للجميع !!!.


160
ملاحظات تربوية حول إلغاء مجانية التعليم في العراق !!!
 
د.عامر صالح

أثار الحوار حول إالغاء مجانية التعليم ما بعد التعليم المتوسط في العراق الكثير من النقاش والاعتراض والامتعاض لما اقدم عليه الوزير الاسبق للتعليم العالي علي الاديب ورئيس الكتلة البرلمانية لدولة القانون. ورغم كل المبررات التي تسوق وراء هذا الاجراء, إلا إننا نسجل بعض من الملاحظات الاساسية والمفصلية ذات الطابع التربوي, وما ينطوي عليه هذا النمط من التفكير اللاعقلاني في ظروف العراق المستعصية:

1 ـ أن إلغاء مجانية التعليم يعني أن هناك جيش من العاطلين الذين لا يمتلكون من المؤهلات ما يعينهم على المنافسة في سوق العمل وتلبية احتياجته والذي يتطلب الحدود المعقولة من إجادة المهارات المهنية ومتطلبات احتياجات السوق. 

2ـ ان الغاء مجانية التعليم يعني انه الاكتفاء في المرحلة المتوسطة وهي مرحلة لاتعني شيئ سوى الاكتفاء بهذا الحد من التعليم ومن المعارف التي لا تجدي نفعا مهنيا, وبالتالي ترك الدارسين في مهب الريح. 

3 ـ أن الغاء مجانية التعليم يعني ما يعنيه هو فسح المجال لجيش الاميين والعاطلين عن العمل أن يتصدرو المشهد بكل اوجاعهم ومعاناتهم وهم لا يمتلكون من الخبرة والمهارة ما يكفي !!!.

4 ـ ان ألغاء مجانية التعليم يعني ما يعنيه ان هناك ردة ونكوص ثقافي لأجيال من الدارسين, وهم مهدديين بالعودة الى الامية الابجدية او الحضارية 

5 ـ مع الوقت وبفعل هذا الاجراء إن صح سيضمحل دور الطبقة الوسطى ويحول المجتمع الى شرائح من الأميين الغير قادرين على المساهمة في عمليات البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. 

6 ـ ان هذا الاجراء سوف يساهم بشكل كبير في العزوف عن التعليم وعدم الالتحاق به لتكلفته الباهظة وبالتالي سيسهم هذا الاجراء في رفد البيئة المحلية بعوامل الانحراف والجريمة بمختلف ألوانها وسيسهم بتعقيد ظروف العيش والتفكك الاسري.

7 ـ ان ألغاء مجانية التعليم يعني أثقال للاسرة العراقية وبالتالي عدم المقدرة على الانفاق على التعليم في مراحله اللاحقة مما يسهم في ضيق العيش وتعقيد ظروف الاستقرار داخل الاسرة, مما يجعل التزامتها اكثر تعقيدا من خلال بقاء الطفل في البيت لسنوات غير معلومة.

في ظروف مثل العراق كان يفترض على الدولة العراقية ان تتحمل المسؤولية الاكبر في الخدمات من صحة وتعليم وغيرها من الخدمات ولا تسمح بهكذا مهاترات من الاديب وغيره ان يعبثوا في الثوابت الوطنية والتاريخية, وفي الحقوق الانسانية التي اصبحت من المسلمات التي لا يجوز المساس بها, ولكن الاسلامويين من الاديب وغيره ومن اللاهثين وراء المال وتحت شعارات الاقتصاد في النفقات يريدون خلط الاوراق في محاولة لحرمان شعبنا من الخدمات المسلمات وللامعان في الفساد بمختلف مظاهره !!!!.

161
فضيحة قنبلة الفساد داخل قبة البرلمان ورداءة النظام المحصصاتي الطائفي والاثني !!!
 

د.عامر صالح   

كان استجواب وزير الدفاع العراقي الدكتور خالد العبيدي في البرلمان العراقي له دلالته الكبيرة في الكشف عن حقيقة الفساد في مؤسسات الدولة العراقية ومنها وزارة الدفاع, نقل الفساد من التكنهات بحجمه ومقداره الى مثال عملي ملموس وواقع يعاني منه شعبنا الذي اكتوى بنار نظام سياسي طائفي حاضن له, وكانت وزارة الدفاع مجرد نموذج لسرطان الفساد الذي عم جميع مؤسسات الدولة ووزارتها, الامر الذى حدى بشعبنا ان يتحدى ذلك بتظاهراته واحتجاجاته المدنية وهو في أسوء حالاته المعيشية من تدني في جميع الخدمات الاساسية من صحة وتعليم وكهرباء وماء وتفشي البطالة والفقر الشامل في البلاد, فجاءت قنبلة الفساد تأكيد لشعبنا الذي امتلك الحق كله في تأكيد ذلك !!!.

وبغض النظر عن المعلومات التي ذكرها الوزير العبيدي وهي معلومات أولية تحتاج الى مزيد من التوثيق والدقة لكي ترتقي الى مستوى الحقائق المطلقة يمكن الركون أليها في محاسبة رموز الفساد وخاصة في وزارته والمعنية بتعرضه للضغط لتمرير صفقات فساد في ميادين التسليح بمختلف صنوفه وعقود تغذية وشراء سيارات مرورا بالضغط عليه في اصدار اوامر تعينات داخل المؤسسة العسكرية. وعلى ما يبدو فان الوزير يمتلك ملفات ولكن لم يمنح الوقت الكافي لطرحها وشرحها وحلت الفوضى والانفلات في البرلمان مما جعل معلوماته سريعه, كما ان هناك جدلا حول هل ان الوزير أتى فقط للاستجواب والاجابة على اسئلة المستجوب, أم ان من حقه ان يتحدث عن ملفات الفساد بالتفصيل الآن. والمهم في ذلك انه فتح الباب على مصرعيه للتحدث علنا عن المتهمين بالفساد وبالاسماء, وهذا كان استجابة منطقية لنظالات شعبنا في الكشف عن ذلك !!!. 

كانت ظروف الاستجواب هستيرية حيث حيث جاء النائب الذي استجوبه بكم ممل من الوثائق تفتقد الى التنظيم والارقام والاحصائيات الدقيقة, وهي لا تخلو من الصفة الانتقائية وتصفية الحساب وحصر التهم بشخص الوزير, وخاصة ان النائبة هي من المتهمين, حيث رفض لها الوزير طلبات تعيين كانت قد تقدمت بها, وبالتأكيد اجواء الاستجواب لا تخلو من عوامل الشحن الطائفي, والتي عكستها لاحقا الصراعات والفوضى التي حصلت بين الكتل البرلمانية وممثليها السياسين الطائفيين !!!. 

هل تفضي التصريحات الاولية للوزير الى التأسيس الى بدايات صالحة لمعالجات شاملة للفساد في البلاد؟ أنا اشك في ذلك لان المنظومة القضائية ولجان الامن والنزاهة الى جانب المنظومة التشريعية أسست على اساس المحاصصة الطائفية السياسية والاثنية منذ سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 وهي جزء من حاضنة الخراب والفساد في مؤسسات الدولة. 
 لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على ما تبقى من النواة المتواضعة للنظام " الديمقراطي " في العراق,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

 لقد عرقل نظام المحاصصة جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع.أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه !!!!. 

أن استجواب وزير الدفاع في هذه الظروف المعقدة " في ظل عدم وجود خيانة عظمى " ورغم الحق القانوني في استجوابه, وفي ظل هكذا نظام طائفي سياسي, هل يفتح المجال حقا لمحاربة الفساد في كافة القطاعات الاجتماعية, أم انه يعيد انتاج دورة الارهاب القاتلة وتصفية الحسابات الشخصية وبدأ نوبة جديدة من الاحتقان الطائفي الذي دمر البلد, وهل يؤثر على اضعاف جبهات القتال المحاربة لداعش والتهيأ لتحرير الموصل, وخاصة ان القوى التي تقاتل الى جانب المؤسسة العسكرية قائمة من الانتماءات الطائفية السياسية من مختلف مناطق العراق, وهل يضعف تحالفات المؤسسة العسكرية مع مختلف المؤسسات الامنية والاستخباراتية الاخرى. ان الاجابة على ذلك تقرره مسارات الاحداث القادمة !!!.

ان المطالبة بحل البرلمان من قبل شرائح سياسية واجتماعية ومدنية وفي ظل مؤشرات لانتشار الفساد فيه بالاضافة الى بنيته الطائفية السياسية المشوه, وترك الامر بيد الشعب لاعادة انتخاب ممثليه, أمر فيه من التفائل القادم في ظل تجربة الحراك المدني الحالية وتبلور وعي جديد قائم على الحرمان وضيق فسحة العيش وعدم الثقة بممثليه السابقين !!!.

162
عودة هادئة سيكولوجية لفهم المثلية الجنسية, والذكورية منها بشكل خاص " اللواط "

د.عامر صالح 

يشار إلى أن "المثلية الجنسية" ظاهرة اجتماعية يعرفها العراقيون والعرب وغير العرب جيدا، وتعود جذورها إلى عصور خلت، حيث كانت ظاهرة "الغلمان" واضحة في المجتمع، وراجت قصص وحكايات عن "الحب المثلي". غير أن تلك الظاهرة برزت مع بدايات القرن العشرين في مناطق محددة من بغداد والبصرة والموصل، وأشارت أمثال وأغان قديمة إلى تجدد تلك الظاهرة، لكنها غالبًا ما كانت تمثل نوعًا من "استفراد" رجال أقوياء بـ"شباب" أو "أولاد" لديهم ميول "أنثوية".
 
وخلال فترة الانفتاح السبعيني عبّر عدد غير قليل من المثليين عن انتمائهم، لكن مع دخول العراق في حرب قاسية وشرسة مع إيران في بداية الثمانينيات ظهت "المثلية" متنفسًا "جنسيًا" لأعداد من الفتيان. وفي زمن الرئيس السابق صدام حسين في مطلع تسعينات القرن الماضي أصدر "مجلس قيادة الثورة" (المنحل) مرسومًا يُجرم "الدعارة والمثلية وزنى المحارم والاغتصاب"، على أن تكون العقوبة هي الإعدام، وأخذت ميليشيا نجله الأكبر عدي (فدائيي صدام) بتنفيذ تلك الأحكام بقرارات قضائية صورية، وفي الغالب باجتهادات فورية، حيث كانت "تُقطع الرؤوس بالسيف أمام الناس"، ووثقت ذلك منظمة العفو الدولية في تقرير عام 2002
 
 
بعد انهيار النظام في 2003، ازدادت تلك الحملة ضراوة بفعل انتشار الجماعات الدينية المسلحة، والتي ترى في الظاهرة فسادًا وانحرافًا أخلاقيين، لا يمكن السكوت عنه، وأن من واجبها الحفاظ على المجتمع من أمثال هؤلاء "المثليين" و"بائعات الهوى ". وبحسب تقرير نشرته صحيفة الأوبزيرفر البريطانية في أواخر عام 2009 استنادًا إلى أقوال منظمة عرّفت نفسها بـ"جماعة المثليين جنسيًا في العراق" ويرأسها ناشط يدعى "علي بن حلي"، ومقرها لندن، أن 680 مثليًا قتلوا بين عامي 2004 و2009، من بينهم 130 مثلياً قتلوا على يد جماعة دينية متطرفة ترتبط بميليشيا "جيش المهدي" عبر شخص يدعى "حمزة"، ويعمل مهندس تقنيات. ويقوم "حمزة" وفقًا لتصريحاته بـ"اصطياد المثليين من على شبكات التواصل الاجتماعي وغرف الشات" ليتم استدراجهم بعدها وقتلهم.
 
 
 
أن المثلية الجنسية قديمة قدم التأريخ, بشقيها:المثلية الذكرية(اللواط), والمثلية الأنثوية(السحاق). وكلا الظاهرتين موغلة في التأريخ, فالسحاق الذي يسمى" باللسبية" نسبة إلى جماعة من النساء عشن في جزيرة لسبوس اليونانية في القرن السابع قبل الميلاد واشتهرن بممارسة الجنسية ال
ومن السخرية بمكان, كأن المثلية الجنسية تكتشف لأول مرة في التأريخ العربي والإسلامي, وفي العراق بشكل خاص, ويستدعي من المقيمين على" الأخلاق العامة"حملات" استنفار وطنية" لاجتثاثه على نسق ما جرى سابقا من حملات لاستئصال ألإرهاب أو  اجتثاث البعث, فلا الإرهاب قضي عليه, ولا أجتث البعث, بل تحولت إلى حملات للحوار مع الاثنين. وعلى ما يبدو فأن الإخفاق بكل شيء يدفع أحيانا إلى تدمير ما تبقى من الأشياء مثلية, وما هذا التأريخ إلا هو البداية" الرسمية" أو المعلنة فقط, أما اللواط فلا توجد دلائل تاريخية لبدايته الرسمية, ألا أن آثاره تعكس توغله هو الآخر في عمق التأريخ.
 
أن من أهم الأمور المتعلقة بالجنسية المثلية عند الذكور هي النظرة الاجتماعية لهذه الظاهرة السلوكية. ويوجد هناك تباين لهذه النظرة عبر عصور التأريخ والحضارات المتعاقبة والمجتمعات المختلفة. فهي قد عرفت وانتشرت في الحضارات القديمة لبلاد وادي الرافدين ومصر والهند والصين, ولا يبدو أن هذه الحضارات قد أدانت هذه الممارسات, بل أن بعضها, وخاصة اليونانية القديمة قد حظيت  بالكثير من التقدير كما يتضح ذلك من بعض محاورات أفلاطون, حيث يحدثنا عن عشق سقراط للغلام اليسباديس, ويذكر ديوجنيس أن سقراط عندما كان غلاما كان معشوقا لمعلمه, وأرسطو كذلك المعلم الأول عند الإغريق كان أيضا يمارس الجنسية المثلية, وكذلك من أشراك عدد من آلهة الإغريق مثل"زيوس"و"بوسيدون"و"ابوللووهرميس", في العلاقات المثلية, وما ورد عن تفشي المثلية الجنسية الذكورية في إسبارطة وهي أشد المدن بأسا وشجاعة.أما الأديان السماوية الثلاث(اليهودية والمسيحية والإسلام) فقد أدانت الجنسية المثلية واعتبرتها مخالفا للفطرة الإنسانية وفناء للبشرية القائمة على الزوجين أصلا. وما حدث لقوم لوط من عقاب يمثل النظرة الدينية لهذه الممارسة(سنأتي على ذكر ذلك).
 
وبالرغم من التحريم لها فقد استمرت بالانتشار في العصور التالية وأن كنا لا نعلم بالتأكيد مدى ذلك الانتشار بالنظر لما يترتب عليه الإفضاء من عقاب.غير أن التأريخ الحديث من عصر النهضة وحتى الآن قد ترك لنا أسماء مرموقة في تأريخ الفنون والآداب والحياة العامة ممن عرفوا بجنسيتهم المثلية أما في حياتهم أو بعد وفاتهم, ومنهم مايكل أنجلو, وليوناردو دافنشي, وشايكوفسكي, وبيكون,وربما شكسبير, واسكار وايلد,ولورنس, ومارسيل بروست, واللورد كيتشنر وعدد من ملوك الانجليز وغيرهم ممن لم تتناقل أسمائهم لأنهم لم يشتهروا, ولا نعلم إن كانت تلك لعنة السماء عليهم أم ميزة لهم كي يتفردوا!!!.
 
أما الاتجاه المعاصر نحو مسألة الجنسية المثلية فهو أنجاه غير ثابت وغير متساوي في الكثير من البلدان والمجتمعات, فهنالك من يدين الممارسة أخلاقيا وبدون تبرير.وهنالك من  البلدان ما يفرض عقوبة زجرية وتأديبية شديدة على ممارستها قد تصل إلى الحبس المؤبد أو القتل كما في البلدان التي تتخذ من الشرع الإسلامي واجهة لها, وهناك من يعتبر المسألة حالة مرضية تقتضي العلاج بالطرق الطبية والنفسية الممكنة, وهناك من يرفض هذه النظرة ولا يعتبر الجنسية المثلية مرض من الأمراض ولا يفرض على الممارس لها ضرورة المعالجة بالإجبار. وفي خضم هذه الاتجاهات الاجتماعية والقانونية والدينية المختلفة يقوم اتجاها أكثر مرونة آراء الجنسية المثلية. وهذا الاتجاه معمول به في بعض البلدان منها بريطانيا والسويد والدنمارك وهولندا وفرنسا وبعض الولايات المتحدة الأمريكية وكلها أجازت الممارسة قانونيا على شرط  آن تتم بين فردين راشدين ودون الإخلال بالآداب العامة.
 
ومن الضروري الإشارة هنا هو أن نسبة الممارسة في البلدان التي تسامحت قانونيا لم يزد على نسبة الممارسة في تلك المجتمعات التي تعاقب عليها وتكبحها بشدة(قد يجري ذلك على قاعدة كل ممنوع مرغوب),كما هو الحال في الكثير من المجتمعات في العالم,ومنها العربية والإسلامية.حيث تشير دوائر العلاقات الاجتماعية المغلقة أن هذه الظاهرة متفشية بين أوساط وزراء ومسئولين وسياسيين ومثقفين وكتاب وحتى في أوساط المعلين وممارسي الطقوس الدينية,عدا المنتشر منها في البيئات الاجتماعية ذات الطابع الشللي, والتي تعاني من مظاهر انحراف متعددة كجرائم السرقات والقتل وغيرها. ألا إن عوامل النبذ الاجتماعي لهذه الظاهرة وصرامة العقاب لا تدعنا إلى الوقوف على نسب انتشارها, كما لا نتوقع أن تنخفض هذه الظاهرة في ظل الانغلاق الاجتماعي وحالة الانكفاء بين الجنسين والتخلف العام. وعلى أية حال فهي ظاهرة لها جذورها الممتدة في التأريخ القديم وما قبل الإسلام و ما بعده, وتشير إلى ذلك بوضوح الكثير من الكتابات التاريخية من شعر ونثر ومحاورات وقصص مختلفة.,وما كثافة النصوص القرآنية بهذا الخصوص إلا دليل دامغ على تفشيها.
 
ومن الجدير بالذكر هنا,أن النظرة الاجتماعية للعلاقة المثلية الجنسية عبر العصور لم تتميز بالشدة والإدانة التي حظيت بها الجنسية المثلية الذكرية, قياسا بنظيرتها ,الجنسية المثلية الأنثوية, وعلى العكس فأن بعض المجتمعات القديمة,كما كان الحال في اليونان القديم ,فقد رفعت الجنسية المثلية للمرأة إلى المرتبة الأسمى من علاقات الحب,غير إن الكثير من الأديان وخاصة السماوية(والإسلام منها) أدانت وازدرت هذا الاتجاه في المرأة,وجعلتها في منزلة الزنا, غير أنها لم تذهب إلى حدود الإدانة الصارمة وما يترتب عليها من عقاب كما هو الحال في اللوطية عند الذكور.وقد يفسر هذا الفارق في الظاهرتين بأن العلاقة المثلية بين الذكور هي في معظمها كاملة  من الناحية الجنسية وتشمل انتقال السائل المنوي إلى الطرف الآخر, بينما لا يتم هذا الانتقال في العلاقة بين امرأتين, أو قد يفسر من منظور اختلاف الأسباب الداعية إلى ذلك عند كلا المثليتين.
 
أما الموقف الديني التفصيلي من المثلية الذكورية(اللواط) فقد اعتبرها انتكاسا للفطرة الإنسانية المخالفة للمثلية, وأعتبر اللواط من أعظم الجرائم وأقبح الذنوب وأسوأ الأفعال, وضعف للعقل.ونذكر هنا بشكل خاص  قصة قوم لوط ودلالتها الرمزية في انتشار ظاهرة اللواط, فقد وردت القصة في عشرة سور قرآنية وبزخم هائل من الوعيد والتهديد والعقاب, ونكتفي هنا بما ورد في بعض الآيات من سورة الأعراف/الآيات:80ـ84,قال تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين.إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا إن قالوا أخرجوهم من قريتكم أنهم أناس يتطهرون.فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطرا فأنظر كيف كان عاقبة المجرمين).وتشير النصوص القرآنية ,بما فيها النص المذكور أعلاه, إلى أن عقوبتهم كانت قلب ديارهم عليهم,والخسف بهم ورجمهم بالحجارة من السماء,وطمس أعينهم...الخ. تلك إذن هي الدلالات الرمزية لطابع العقوبات القرآنية التي يجب أن تستخدم ضد ممارسي اللواط.وكذلك السنة النبوية,فما جاء على لسان النبي (ص) بقوله:( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به).وعلى هذا الأساس المستوحى من النصوص القرآنية والسنة النبوية, فقد اجمع على قتل اللوطي لكن اختلفوا في طريقة القتل, فمنهم من ذهب إلى أن يحرق بالنار,ومنهم من قال,يرمى به من أعلى شاهق, ويتبع بالحجارة, وقد عمل في هذه العقوبات من قتل وحرق ورجم بعد النبي محمد وفي فترات تاريخية مختلفة.ويتفق الكثير من الفقهاء أن عقوبة اللواط أغلظ من الزنا, وعقوبته القتل على كل حال,أو يؤكد البعض القليل أن عقوبته وعقوبة الزنا سواء(أي مائة جلده).أما بالنسبة لعقوبة الجنسية المثلية الأنثوية( السحاق), فقد اختلفت العقوبة,فمنهم من يرى أن فعل المرأة للسحاق أخف من فعل الرجل للواط من الناحية العملية,وهو شبيه بمقدمات فعل الزنا مثل التقبيل والمفاخذة والملامسة( أي ما نطلق عليه بالمداعبات),ولذلك أختلف فيه الفقهاء بين من يقول أنه زنا أو مقدمات للزنا.وفي كلتا الحالتين فهو فاحشة ومحرمة في الدين,وقد يضع قول النبي محمد(ص) سقفا لهذا الاجتهاد بقوله:( السحاق زنا النساء بينهن).
 
وضروري الإشارة هنا أن القرآن أشار ضمنا إلى وجود حالات عدم الميل إلى الأنثى عند بعض الرجال, كما ورد ذلك في سورة النور, في الآية(31), وهي التي تنصح المرأة بعدم إظهار زينتها(إلا ما ظهر منها)إلى الناس, ولكن أستثنى بعض الناس
الذين تستطيع أن تظهر لهم زينتها, ومن ضمنهم الأطفال وأولي الأربة. والمقصود هنا بأولي ألإربة, الرجال الذين لا يشتهون النساء(أي ليست لديهم ميلا للجنس الآخر). كما أشار النبي (ص) إلى هذه الظاهرة عند كلا الجنسين بقوله :أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله تعالى,قيل : من هم يا رسول الله , قال:( المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والذي يأتي البهيمة, والذي يأتي الذكرـ يعني اللواط) .وبالرغم من هذا الاعتراف بوجود هذه الظاهرة, إلا أن هناك رفض مطلق لما يترتب عليها  من ممارسات سلوكية.
 
أذن هذا هو الموقف الديني من ظاهرة الجنسية المثلية الذكورية, يعكس لنا انطباعا, أنه موقف قطعي وذو حد واحد,لا يرى الظاهرة في إطارها الدينامي المتغير, ولا في سياق الظروف المحيطة بها,وتلك هي سنة الميتافيزيقيا الدينية وحدودها في بحث الظواهر الاجتماعية, وتلك هي أطر" المعالجة" من هذا المنظور.إلا أن المعارف العلمية في ميدان علم النفس تؤكد لنا أن ظاهرة المثلية الجنسية هي ظاهرة مرنة وذات مظاهر مختلفة في التعبير عن نفسها,و قد يتسع او يضيق مقياس المثلية استنادا إلى درجات سلمها المتعددة, وبالتالي فأن احتواء الظاهرة ووضعها في سياقها الصحيح هو المدخل الذي يحصر الظاهرة إلى حدودها الدنيا استنادا إلى الأسباب.
 
أن الجنسية المثلية عند الذكور حالها حال الجنسية المثلية عند الإناث, تعني بحدودها الواسعة حالات الميل أو التوجه نحو أقامة علاقة ذات طابع جنسي بين ذكر وفرد آخر من جنسه.ومن الواضح أن هذا المفهوم الواسع قد ينوه بالتساوي بين حالات الميل وحالات التوجه الفعلي,وهو أمر غير صحيح, ذلك أن توفر الميل لا يعني في كل الأحوال الاتجاه نحو الممارسة الفعلية, كما أن ممارستها بالفعل لا يؤكد قيام حالة الميل إلى الجنسية المثلية. ويتضح الفارق بين الحالتين إذا أمعنا النظر في الدرجات المختلفة للتوجه  نحو الأمور الجنسية بين فردين ذكرين, فهناك أولا أولئك الذين يتخذون سمات الأنثى من حيث اللباس أو الكلام أو التعامل الاجتماعي,ولكن بدون ظهور أي دليل على ميل أو اهتمام أو توجه نحو علاقة جنسية مع ذكر آخر وبأي درجة من التماس. وهنالك البعض من الذكور ممن تعرض لهم الأحلام المثلية في حالات اليقظة, ولكنهم لا يبدون اهتماما أو اتجاها فعليا نحو هذا النوع من الممارسة الجنسية. وفي درجة أخرى نجد أولئك الذين يداعبون الأفكار والميول الجنسية المثلية ويتمنون ممارستها لو يستطيعون. وفي درجة أقوى أولئك الذين تنشط فيهم الميول العاطفية إلى فرد من نفس جنسه وتصل إلى حدود التعلق سواء اتضح فيها الميل للممارسة الجنسية أو لم يتضح, وبالتالي فهنالك أولئك الذين يمارسون العلاقة الجنسية المثلية بالفعل, وحتى في هذه الحالة فهنالك صور ودرجات عدة لهذه الممارسة ومدى التماس بين جسمي الشريكين من مثل اللمس, إلى الاحتكاك, والى الاستمناء, والى العملية الكاملة من الولوج. وعلى أية حال فأن الاهتمام من الناحية النفسية ينصب على تلك الفئة من ممارسي الجنسية المثلية لا بسبب ممارستهم الفعلية لها بل بسبب انعدام الاهتمام والتوجه لديهم للعمل الجنسي الطبيعي مع الجنس الآخر. ومع أنهم  قادرون على مثل هذه العلاقة غير أن أرضائهم الجنسي لا يحصل إلا بعلاقة جنسية مع فرد من نفس الجنس, وهؤلاء ينظر إليهم بأنهم الجنسين المثليين"الحقيقيون" , وهم على العموم لا خيار لديهم فيما يمارسونه"جسميا ونفسيا" بل يقبلون على الجنسية المثلية مطاوعة وبدون عناء الاختيار.
 
وهناك تفسيرات عديدة للجنسية المثلية, وليس لهذه التفسيرات كلها أن تتواجد في كل حالة من حالات الجنسية المثلية, فلكل حالة خلفيتها وظروفها ودوافعها الخاصة.والنظريات النسبية الواردة في تعليل الجنسية المثلية كثيرة بعضها ما يستند إلى أسس نفسية وبعضها إلى أسس اجتماعية وظرفية, وبعضها يعتمد على افتراضات بيولوجية وراثية أو مكتسبة, ومع ما يتوفر في هذه النظريات المختلفة من منطق مقنع, إلا إن الرأي الأكثر صوابا هو إن الاتجاه نحو الجنسية المثلية, خاصة الجنسية المثلية"الحقيقية" يتكون بفعل عوامل متعددة يصعب فرز واحد منها عن الأخرى. ويمكن أن نرصد هنا الاتجاهات العامة لهذه النظريات الواردة بخصوص الجنسية المثلية بالشكل التالي:
1ـ أن الجنسية المثلية بدرجاتها المختلفة في الأطفال هي أمر طبيعي,ولكن غير لازمة له.وتمثل دورا من أدوار النمو والنضوج الجنسي النفسي في حياة الفرد. غير أن هذا الدور ينتهي عادة بظهور الميول الجنسية نحو فرد من الجنس الآخر,غير ان استمرار الميول الجنسية نحو المثل من الجنس,قد يستمر بعد هذه المرحلة من النمو, وإذا حدث ذلك فان من أسبابه تخلف الحدث في ادوار نموه الجنسي النفسي وتأخره في النمو العاطفي عما يناسب سنه.
2ـ ممارسة الجنسية المثلية بشكل أو آخر بما في ذلك العلاقة الكاملة منذ سن المراهقة وحتى الكبر قد يحدث أحيانا أو بشكل متواصل, وقد لا يكون في هذه الممارسة أكثر من التعبير عن ضرورات التفريغ الجنسي الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن هذه  الطريقة كما هو الحال في بعض الظروف المعينة كالدراسة الداخلية(الأقسام الداخلية) والخدمة العسكرية والتجمعات الذكورية المزدحمة وانعدام منافذ التعبير الجنسي كما هو الحال في بعض المجتمعات المحا فضة أو المغلقة, وكما هو الحال في المجتمعات العربية والإسلامية, وجميع هذه الحالات لا يمكن اعتبارها شذوذا جنسيا مطلقا بالمعنى الصحيح, وهي تنتهي عادة بانتهاء الظروف التي أوجدتها.
3ـ يمكن للفرد أن يتمتع باتجاهين جنسيين في آن واحد فيكون طبيعيا في ميوله وممارساته الجنسية مع فرد من الجنس الآخر, كما أنه يميل إلى أو يمارس الجنسية المثلية مع فردمن جنسه. وقد يكون اتجاهه نحو ممارسة أو أخرى متساويا, أو أن تكون الغلبة لواحد أو لأخر, ويصح اعتبار هذه المجالات بأنها انحرافا جنسيا إذا لم يتوفر ما يبرره ضرورة الجنسية المثلية بأسباب ظرفية وبتوفر الإمكانيات للعلاقات الجنسية الطبيعية.
4 ـ يمكن للفرد في حالات مرضية معينة كمرض الفصام العقلي(الشيزوفرينيا),والخرف العقلي, وبعض أمراض الشيخوخة أن يتراجع (ينكص) إلى دور سابق من النمو الجنسي بما في ذلك الدور الجنسي المثلي.
5ـ أما الحالات التي يتجه فيها الفرد اتجاها كليا وكاملا نحو الجنسية المثلية, ولا تتوفر لديه الرغبة والميل إلى فرد من الجنس الآخر سواء قام بذلك أم لم يقم, فأن هناك العديد من النظريات التي تقدم تفسيرا لذلك,منها أن الفرد عانى منذ طفولته من عقدة الخصاء(الخوف من فقدان العضو التناسلي) وهذا  ما يدفعه إلى تجنب العلاقة الجنسية مع المرأة لما توحي به هذه العلاقة في اللاوعي من أهلاك أو ضياع للعضو التناسلي. ونظرية أخرى تذهب إلى أن الطفل كان يكره أمه ولهذا يتجنب كل علاقة جنسية مع شاكلتها من نفس الجنس.ونظرية معاكسة ترى بأن السبب يعود إلى أن الطفل في طفولته كان يكره والده ,وهو بذلك يجد في العلاقة الجنسية مع فرد آخر وسيلة لتحقيق هذه الكراهية في النفس,وبهذا يكون العمل الجنسي المثلي تحقيقا لرغبة كامنة في النفس للتعدي على من هم من جنس أبيه وإلحاق الأذى بهم. ومن هذا القبيل نظرية ترد الجنسية المثلية إلى أن الطفل قد تعلق بأمه في صغره والى حد التقمص لشخصيتها تلقائيا بما في ذلك خضوعها ومطاوعتها للعلاقة الجنسية,وكأن الطفل كان يكره أباه وما يمليه من رجولة وتسلط,وهو بذلك يختار أسلوب أمه في الحياة بما فيه من خضوع وتقبل وسلبية.ومن النظريات التي تلاقي قبولا  هي أن السلوك المخنث في الطفولة يبدأ في بعض الأطفال كميل تلقائي نحو الاهتمامات والميول التي تمارسها الأم والابتعاد عن اهتمامات وميول الأب وغيره من ذكور العائلة.والنظرية  التي تلاقي قبولا أعظم في الأوساط العلمية هي أن الجنسية المثلية"الحقيقية والفعلية" تتقرر بفعل عوامل بيولوجية تنتقل بالوراثة أو تحدث في فترة حاسمة من فترات النمو الجنيني ويستشهدون على ذلك بأن هنالك توافق أكبر في الجنسية المثلية بين التوائم المتشابهة أكثر مما هو موجود في غيرهم من التوائم والإخوة, كما يعزز هذه النظرية الفشل في علاج الجنسية المثلية الحقيقية في معظم الحالات ,وهناك رأي أكثر تطرفا لأنصار النظرية البيولوجية, وهو أن الجنسية المثلية تمثل وجود"جنس ثالث" غير جنس الذكر والأنثى, وبأن ممارستها هو تعبير عن هذا الجنس. وهو رأي مبالغ فيه الآن.
 
أن هذا التصور الواسع والمرن لظاهرة الجنسية المثلية,والذي يستند إلى نتائج البحث العلمي والملاحظات الميدانية الدقيقة يدفع باتجاه تبني برامج ملموسة تربوية ونفسية ذات طابع وقائي وعلاجي يحصر الظاهرة إلى حدودها الدنيا.أما التصور الحدي لظاهرة الجنسية المثلية, والذي نراه من خلال دعاة العقوبة الصارمة والتي لا تخضع للاجتهاد من حيث قسوتها, فهي ممكن أن تستخدم سلاح يطال  أناس كثيرون لإنزال التصفيات الجسدية والعقاب بهم في ظل غياب واضح للحدود بين الدين والسياسة وفوضى اختلاط السلطات . وأن القتل على المثلية الجنسية قد يتخذ منه  غطاء جديدا في الصراعات السياسية الدائرة في العراق , وهو أدعاء ووسيلة للجم أفواه المذاهب والطوائف الأخرى في المطالبة بدماء ضحاياها.وهو خلط غريب  يثير الرعب والدموية , عدا كونه تهمة سهلة لإلصاقها بالأخر المعارض , إلى جانب عقوبتها القاتلة والتي لا تستند إلى القانون.
 
وفي الوقت الذي تعكف فيه مراكز أسلامية عديدة في العالم على دراسة التخفيف من عقوبة  قتل المثلي فعلا إلى عقوبات أخرى اخف من الأولى , تجنبا للفتنة الاجتماعية في ظروفنا المعاصرة, وانطلاقا من الفهم الديني الذي مفاده:" أن الفتنة أشد من القتل وأن كل فتنة حرام",يتصدر العراق قائمة الدول التي تصدر الفتنة الاجتماعية. وفي ظل هذه الفوضى العارمة.....من يعلم منا, أن الكثيرون من يمارسوا القتل على تهمة" المثلية" هم أنفسهم كانوا مثلين في فترة من فترات العمر, أو لازالوا كذلك....بل قد يكون ممارسة القتل هو آلية سايكوعقلية للانتقام من الأخر والتكفير الذاتي , عندما لا تتوفر الفرص للانتقال إلى حالة أفضل لدى صاحبه.
 
وإذا كانت المثلية الجنسية استثناء , والاتصال بالجنس الآخر هو القاعدة, فأن الاستثناء يتواجد جنبا إلى جنب مع القاعدة , ولا يمكن إقصاءه بوسائل الإبادة الجسدية أن وجد,بل أن الوسائل التربوية أنجع بكثير من الأولى, وتلك هي التجربة التاريخية.وعدا ذلك فأن هذا يشكل مظهرا من مظاهر تشوه القاعدة وتصدعها وعدم مقدرتها على احتواء الاستثناء.ونحن نعلم أن الاستثناء لا يتحول إلى قاعدة إلا في حالات محدودة جدا, كما هو الحال في السياسة, وكما هي الحالة في العراق, حيث من السهل في ظل  "ديمقراطيتنا العريقة" أن يتهم الجميع بالجنسية المثلية ,ويستحق القتل, ويخرج الجميع "لا شرف له"!!!, وتلك هي على ما يبدو" بدائلنا الناجعة" للكهرباء والماء ومحاربة الفساد وتحسين ظروف الحياة العامة وحقن الدماء!!!!!.
ندس تقنيات. ويقوم "حمزة" وفقًا لتصريحاته بـ"اصطياد المثليين من على شبكات التواصل الاجتماعي وغرف الشات" ليتم استدراجهم بعدها وقتلهم
 
.
 


163
الفلوجة على مقربة من التحرير الشامل.. وعلينا ان نحتفظ بالنصر أنسانيا وسياسيا ووطنيا !!!

د.عامر صالح


تشير التقرير الميدانية من أرض المعارك في فلوجة العراق أن هناك نصر مرتقب صوب تحرير المدينة بالكامل, وهناك تضحيات جسام في صفوف القوات المقاتلة العراقية بمختلف صنوفها, وهناك بالمقابل صمت أعلامي عربي وعراقي عن ما تحقق من انتصارت في جبهات القتال لدوافع سياسية ومذهبية متطرفة في محاولة لإبقاء الاوضاع كماهي خدمة للارهاب والفكر الدموي التكفيري, وهناك حملة اعلامية هدفها صرف الانظار عم ما تحقق ميدانيا من ضرب للبنية التحتية لتنظيم الدولة الاسلامية " داعش ", والتركيز حول ما يرتكب من أخطاء ميدانية أو سلوكيات مخالفة للاعراف الانسانية في زمن الحروب في الحفاظ على ارواح المدنيين وعدم انتهاك حرماتهم, وتحويل هذه الاخطاء والسلوكيات الى جرائم حرب كبرى في محاولة لتفريغ النصر في الفلوجة من محتواه, كما تلعب مشكلة احتواء النازحين من الفلوجة والاستحابة لاحتياجاتهم الانسانية الآنية دورا كبيرا في استثمارها من قبل بعض القنوات الفضائية الاعلامية وإفتعال أولويتها على تحرير الفلوجة, رغم أهمية ذلك بدون شك !!!.

لا توجد معطيات ميدانية تفيد ان هناك جرائم حرب ممنهجة ارتكبت بحق الفلوجة وأهالي الفلوجة من قبل القوات المحررة لها, من قتل وتعذيب وأبادة جماعية, أو تعمد ألحاق أضرار بالصحة الجسمية والنفسية للافراد, أو القتل المتعمد, أو ألحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون ان تكون هناك حاجة عسكرية لها, أو المعاملة السيئة عمدا للنازحين والفارين من جحيم الارهاب الدموي, أو تعمد توجيه هجمات الى السكان المدنيين, أو تعمد شن هجمات على موظفين في مؤسسات مدنية, أو تعمد توجيه هجمات الى المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية, والاثار التاريخية, والمستفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى وغيرها.

داعش ارتكبت كل جرائم الحروب هذه والجرائم ضد الانسانية, من قتل وتدمير وارتهان لكرامة الانسان وشرفه, واستخدام المدنيين كدروع بشرية, وتدمير للذاكرة التاريخية, من خلال التدمير الشامل للآثار ومنجزات الحضارة القديمة, ولكن أدانة هذه الافعال والوقوف ضدها ومحاربة مصادرها الفكرية لم يكن بمستوى الحد الادنى من أفعال داعش الهمجية, والادانة كانت دوما مشروطة بموقف سياسي أو مذهبي أو أثني. كانت الادانة تتصاعد عندما يكتوي نظام عربي بنار داعش وتكون داعش على مقربة منه. بل ان مراكز وتجمعات دينية تبحث عن دليل نصي مقدس واحاديث نبوية لتبرير همجية تنظيم دولة الخلافة الاسلامية " داعش ", وما الحملة السعودية والتركية المفتعلة ضد داعش الا دليل أن داعش تقرع أبواب الجميع بما فيهم من تقاطع معهم في السنة والمذهب شكليا ووفر لهم غطاء في التمدد الجغرافي وتخريب البلدان !!!. 

ولابد لنا القول ونحن على أبواب تحرير الفلوجة الشامل صوب الموصل الجميلة, أن نجير النصر لطائفة مذهبية سياسية, شيعية كانت أم سنية, أو لعشيرة وتجمع أثني أو ملة ما هو إلا إفراغ للنصر من محتواه الوطني والسياسي العام, والنصر أولا وأخيرا للقوات المسلحة العراقية المتمثلة بجيشها الوطني والذي ينتظره الكثير من الاعداد واعادة التأهيل على أسس مهنية ووطنية مستقلة عن الصراعات الطائفية السياسية. 

أن زف نصر الفلوجة من بعض الفصائل المسلحة الى مرشد الجمهورية الاسلامية الايرانية خامئني يثير السخرية والغضب ويخل في الثوابت الوطنية, ويكون عندها من حق الطرف السني ان يزف النصر الى خادم الحرميين الشريفيين وهو راعي للارهاب الدولي وعندها فأن شر البلية ما يضحك. ان تلك السلوكيات السايكوباتية المرضية والتي لا تفهم معنى الانتصار الوطني ودلالته في تكريس وعي الانتماء الى الوطن العراق سيلحق افدح الاضرار في المصلحة الوطنية العليا إن لم يعيد دورة الارهاب والاحتقان مجددا !!!.

كما يجب التذكير أن تنظيف الفلوجة من الداخل وفك أسر أنتماء ألآف من افرادها الى تنظيم داعش قسرا او طواعية هو أمر في بالغ الاهمية والخطورة  لأستقرار المدينة والحول دون عودة الارهاب بشكل اعنف بكثير من داعش وبمسميات مختلفة, فهناك حسب المعطيات, قيادات مقاتلة ومضحية ميدانيا ضد داعش لها من افراد أسرها ما ربط مصيره بداعش, , كما هناك ايضا قيادات أدارية خاصة بالموصل والفلوجة موجودة في كردستان تخطط لإنهاء داعش ولها أخوة في داعش أنه تعقيد من خاص في نسخة داعش العراقية المتحالفة مع البعث الساقط.  !!!

أن تجربة تحرير الفلوجة عندما يكتب لها النجاح بالكامل وتصفية جيوب ما تبقى من داعش, والموصل لاحقا يحمل في طياته دروس بليغة للعملية السياسية في العراق, ويجب استلهام الدروس من ذلك كي لا تعود لنا داعش في المرات القادمة وبثوب جديد متخلف أشد جرما من داعش اليوم, وعلى السياسيين الشرفاء في العراق ان يضعوا نصب أعينهم الاتي:

ـ أن نظام المحاصصة الطائفية والاثنية هو شر البلاء والمسبب الاول والاخير في اهدار اموال شعبنا وقدراته الذاتية وهو المعوق الاساسي في نشوء أجهزة أمنية ومخابراتية وعسكرية مهنية قادرة على حفظ أمن البلاد واستقلاله وسيادته الوطنية. وبالتالي إعادة بناء العملية السياسية بعيدا عن المحاصصة هو الضمانة الاكيدة لعدم عودة داعش واخواتها.

ـ اعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يضمن النهوض باقتصاديات البلاد وبما يوفر فرص العمل والتشغيل لشعب يعاني من البطالة والجوع والحرمان وانعدام الخدمات من كهرباء وماء وصحة وتعليم, فأن داعش واخواتها تنتعش على عوامل الفقر والفاقة والعوز والاندفاع نحو الشللية وارتكاب مختلف صنوف الانحرافات, من ارهاب وجرائم منظمة ومافيات اقتصادية وسياسية تدفع الى مزيدا من الفساد.

ـ تعزيز سيادة العراق واستقلاله وصيانة أرضه وشعبه من التدخلات الخارجية الاقليمية ذات الصبغة المذهبية والطائفية والتي تزرع الفرقة والشقاق والتشتت في النسيج الوطني والاجتماعي العراقي. اليوم يعيش العراق حالة من الاحتلال غير المعلن لدول الجوار السيئ, ثقافيا وطائفيا وسياسيا, فالبلد يعاني من الاستباحة والتدخل في شؤونه الداخلية, وان مرحلة ما بعد تحرير الفلوجة والموصل وغيرها يجب ان تكون ماثلة أمام الأعين لصيانة العراق واستقلاله من كل التدخلات.

ـ العمل النزيه لاعادة بناء منظومة التربية والتعليم والثقافة على أسس من الابتعاد عن الثقافة الطائفية والاثنية الشوفينية, والعمل على تحديث نظام التربية والتعليم والثقافة العامة بما يسهم في اعداد جيل متعاقب يحمل قيم التسامح والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع العراقي الثقافية والاجتماعية والاثنية والدينية والمذهبية, والعمل الدؤوب على احترام قيم العمل والمواطنة والانتماء للعراق كمظلة تحمي الجميع وبعيدا عن الخندقة الجغروطائفية والقومية المتعصبة !!!.



164
لا للزعيق الطائفي .. نعم لتحرير الفلوجة وتجفيف منابع الارهاب !!!

د.عامر صالح

تشتد المعارك من أجل تحرير الفلوجة وبقية المدن والقصبات والقرى والارياف المحتلة من قبل تنظيم الدولة الاسلامية الارهابي " داعش " ويتحول القتال في الفلوجة الى حرب شوارع طاحنة بفعل عناد وأستماتة داعش وتمسكها في الأرض, لأدراكها أن خسارة الفلوجة يعني استراتيجيا بدأ الانقضاض عليها في الموصل وتكريس حصن بغداد وأبعاد العاصمة نسبيا عن هجمات داعش !!!.

وفي الوقت الذي تستنفر فيه كل القوى الخيرة من جيش عراقي وقوات أمن وشرطة اتحادية وفرق متخصصة في مكافحة الارهاب, الى جانب قوى الحشد الشعبي المنتمي مذهبيا الى الاسلام السياسي الشيعي والقوى المسلحة من العشائر وابناء الفلوجة والمنطقة الغربية وقوى الامن والمحسوبة شكليا على الاسلام السياسي السني او الطائفة السنية. أنه تحالف جميل رغم ما يضفى عليه من مسحة مذهبية سياسية, في لحظات اتفق فيها الجميع ان عدوهم المشترك هو داعش وأن الخلاص منه يعني ان تخلق الأرضية الصالحة للعودة الى أحضان الوطن والمواطنة وتفتح الافاق لحوار وطني شامل بعيدا عن ضيق أفق الطائفية المرضي البذيئ الذي أودى بالبلاد الى التدهور والانحلال والتفسخ والفساد بكل مظاهره !!!.

في خضم هذا الاستبسال البطولي لكل القوى المساهمة في تحرير الفلوجة يعيد الخطاب المذهبي السياسي المتعجرف دورته الهوسية لإفساد عمليات تحرير الفلوجة في محاولة منه لحرف الانتباه عن الانتصارات المتحققة والاهتمام بالجزئيات التمناثرة هنا وهناك, وتحويل القوى المقاتلة من اجل التحرير الى قوى تقف في قفص الاتهام والادانة بارتكاب مجازر ضد الانسانية وتهويل الاخطاء الميدانية اعلاميا كي ترتقي الى مستوى الجرائم الكبرى وبالتالي إضعاف معنويات القوى المقاتلة وتشتيتها ومحاولة خلق حالات من الاحتراب الداخلي بينها تفضي في مجملها الى فشل الجهود لتحرير الفلوجة والموصل لاحقا !!!.

التضحيات التي يقوم بها أبناء المحافظات الجنوبية والوسطى والمتمثلة بقوى الحشد الشعبي هي تضحيات تستحق كل احترام العراقيين الذين يعرفون تماما لولاهم لوصلت داعش إلى بغداد, بغض النظر عن ادعاء بعض من أبناء تلك المناطق المحتلة من داعش أن هناك جرائم وسرقات ترتكب من قبل قوى الحشد الشعبي في محاولة لتحويلها إلى جرائم كبرى ولحرف مسار الأحداث بما يبقي داعش جاثمة لسنوات في ارض العراق, وقد أصدرت المرجعية الشيعية نداء أخلاقي لتجاوز حالات التطاول على ممتلكات الآخرين في محاولة منها لدرء خطر ممولي الدعايات الإعلامية ومهندسي الحروب الإعلامية من بقايا النظام الدكتاتوري العفن في تصور مريض لهم وخلط لأوراق الصراع الدائر في محاولة لهم لديمومة داعش !!!.

أنا لا ازكي الجيوش ولا حشود الحشد الشعبي في زمن الحروب لان ما يحصل في زمن الحروب هو استثنائي ولكن علينا أن لا نخلط الأوراق وأمامنا عدو شرس يستبيح الدماء والأعراض وهمجي بكل المقاييس, فأن التركيز على الهدف الأساسي المتمثل في القضاء على داعش يستحق تعبئة كل الجهود بغض النظر عن التفاصيل الجانبية التي تحدث في ساحات المعارك !!!.

لا يروق لي أن أرى غير الجيش العراقي الباسل أن يقاتل داعش الإرهاب, داعش مستنقع الضفادع والخزي والعار ولكن قدر لشعبنا أن يخوض مخاض عسير استدعى تدخل المرجعيات الدينية للجم الخطر المحدق في البلاد لكي يقف سبي العباد وهتك الأعراض في ظل نظام كانت تصميماته بهذا الشكل وكان للأمريكان اليد الطولي في خلق هكذا أوضاع استثنائية وشاذة عبر هندستهم لشكل هذا النظام العراقي القائم على التوافقيات الطائفية والاثنية, ولكننا اليوم بين كماشتين خطيرتين, بين داعش الفساد والتفسخ الخلقي وبين قدراتنا للتصرف في المتاح الممكن للحفاظ على ارض الوطن من العملاء والمتواطئين لاستباحة ارض العراق !!!!.

ولكن علينا ان نفهم بوضوح وحيادية ان قدرات داعش لا يمكن الاستهانة بها, فهي تجيد مختلف صنوف الحروب, من حرب عصابات, الى جانب الحروب الكلاسيكية, ثم المفخخات, ونموذج الحروب الجديدة المستندة إلى التطهير المكاني مسندة بقذائف الهاون والصواريخ, واقتحامات عنيفة في عبوات ناسفة ومفخخات متنوعة, والأكثر من هذا هو الجهادية والمقدرة القتالية والاستبسال في المعارك باختلاف غطائها, ان كان دينيا أم قناعات عامة, وبالتالي فأن صرف الانظار عن جرائم داعش اليومية وما أرتكبته من فضائع ضد الانسانية, وتحويل القوى المقاتلة ضده الى قوى مدانة بنفس جرائم داعش أنه عمل جنوني وسيكوباتي سيلحق بالجميع افدح الخسائر !!!.

النصر كل النصر لقواتنا العراقية الباسلة بإمكانيتها المتواضعة الآن لدحر داعش وتحرير العراق من دنس الأوغاد والقتلة المجرمين ومزيدا من التلاحم بين البيشمركة البطلة وقوات الجيش العراقي لأخذ زمام المبادرة لدحر الظلاميين الأوغاد, والى مزيدا من التوعية الفكرية والذهنية لأبطال الحشد الشعبي كي يتجنبوا إشكاليات تواجدهم في ارض يجب الحفاظ على أهلها ومالها ومقدساتها .. النصر للجيش العراقي الأغر وللبيشمركة الإبطال وأبناء الحشد الشعبي الأوفياء وأبناء محافظاتنا الغربية المناضلين, فأن داعش لا دين لها ولا أخلاق وعلينا تأكيد ذلك ببسالة شعبنا ودحرهم واختصار الزمن للنهوض بعراق آمن خالي من نفايات البعث والإرهابيين القتلة !!!.

أن تجربة تحرير الفلوجة عندما يكتب لها النجاح والموصل لاحقا يحمل في طياته دروس بليغة للعملية السياسية في العراق, ويجب استلهام الدروس من ذلك كي لا تعود لنا داعش في المرات القادمة وبثوب جديد متخلف أشد جرما من داعش اليوم, وعلى السياسيين الشرفاء في العراق ان يضعوا نصب أعينهم الاتي:

ـ أن نظام المحاصصة الطائفية والاثنية هو شر البلاء والمسبب الاول والاخير في اهدار اموال شعبنا وقدراته الذاتية وهو المعوق الاساسي في نشوء أجهزة أمنية ومخابراتية وعسكرية مهنية قادرة على حفظ أمن البلاد واستقلاله وسيادته الوطنية. وبالتالي إعادة بناء العملية السياسية بعيدا عن المحاصصة هو الضمانة الاكيدة لعدم عودة داعش واخواتها.

ـ اعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يضمن النهوض باقتصاديات البلاد وبما يوفر فرص العمل والتشغيل لشعب يعاني من البطالة والجوع والحرمان وانعدام الخدمات من كهرباء وماء وصحة وتعليم, فأن داعش واخواتها تنتعش على عوامل الفقر والفاقة والعوز والاندفاع نحو الشللية وارتكاب مختلف صنوف الانحرافات, من ارهاب وجرائم منظمة ومافيات اقتصادية وسياسية تدفع الى مزيدا من الفساد.

ـ تعزيز سيادة العراق واستقلاله وصيانة أرضه وشعبه من التدخلات الخارجية الاقليمية ذات الصبغة المذهبية والطائفية والتي تزرع الفرقة والشقاق والتشتت في النسيج الوطني والاجتماعي العراقي. اليوم يعيش العراق حالة من الاحتلال غير المعلن لدول الجوار السيئ, ثقافيا وطائفيا وسياسيا, فالبلد يعاني من الاستباحة والتدخل في شؤونه الداخلية, وان مرحلة ما بعد تحرير الفلوجة والموصل وغيرها يجب ان تكون ماثلة أمام الأعين لصيانة العراق واستقلاله من كل التدخلات.

ـ العمل النزيه لاعادة بناء منظومة التربية والتعليم والثقافة على أسس من الابتعاد عن الثقافة الطائفية والاثنية الشوفينية, والعمل على تحديث نظام التربية والتعليم والثقافة العامة بما يسهم في اعداد جيل متعاقب يحمل قيم التسامح والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع العراقي الثقافية والاجتماعية والاثنية والدينية والمذهبية, والعمل الدؤوب على احترام قيم العمل والمواطنة والانتماء للعراق كمظلة تحمي الجميع وبعيدا عن الخندقة الجغروطائفية والقومية المتعصبة !!!.

165
يا للغرابة !!! ما علاقة الحب بالانتماء الديني والمذهبي والعرقي ؟؟؟

د.عامر صالح

في زمن ضعف الانتماء للقيم الانسانية العامة والتقوقع حول الهويات الفرعية, الدينية منها والمذهبية والطائفية والعرقية والاثنية, تشتد الهجمة على فطرة الانسان الاولى لتشويه معالم برائتها ونقائها خلافا لطبيعة الوجود الانساني العابر للهويات الفرعية, ويجرى اختزال انسانية الانسان من خلال حصر سلوكه وعوامل بقائه بدين او مذهب او عرق ما, ويحرم عليه ممارسة طقوس بقائه وديموته الا من خلال ما يقرره دينه ومذهبه وثقافته العرقية, وبالتالي ممارسة سلوكيات الاكراه في العيش والوجود الحر الآمن.

والحب كما هو في السياسة من الظواهر الاكثر تضررا جراء الخندقة الطائفية والدينية والعرقية, حتى بات اختيار الشريك مشروطا بتلك الانتماءات التي لاصلة لها بفطرة الانسان الاولى من حيث طبيعة الحب ودينامياته وعوامل الانجذاب نحو الشريك المغاير في الدين والملة. واذا كانت السياسة تستدعي في بعض الاحيان لون من الخندقة الدينية والمذهبية والعرقية, فأن الحب براء من تلك الانحيازات المشوه.

اليوم يشهد عالمنا العربي والاسلامي مزيدا من التعسف والكراهية ويضفي على الحب صورة مشوه, فالعربي لا يحبذ الا شريكة عربية خوفا على عروبته من التلوث, والكردي يتشدد في شروط معاشرته للآخر ويجب ان يكون كرديا حرصا على النقاء العرقي المفتعل, وينسحب هذا تباعا على الاديان والطوائف والمذاهب والملل المختلفة, فالكل لا يقبل الا معاشرة أبناء جلدته, وتجري تصفيات جسدية وعمليات أخذ ثأر وما يسمى بغسل العار على خلفية تنوع الشريكين في المذهب والدين والقومية. أنها خندقة في أسوء صورها للعواطف الانسانية.

أشير هنا الى حادثة مأساوية فريدة من نوعها شهدها صعيد مصر بتاريخ 20 أيار 2016 حينما قام أكثر من 300 شخص بالاعتداء على مسيحية عجوز على خلفية علاقة عاطفية لأحد أقربائها مع شابة مسلمة, وتم تدمير وحرق أكثر من سبع منازل, وتعرية مسنة مسيحية عجوز أمام الناس انتقاما لتلك العلاقة. أنه عملي جنوني ومنبوذ بكل المقاييس الانسانية عندما يصفى ويقتل الانسان على خلفية تنوعه الديني والاثني في إختياره للشريك.

ومن هنا لابد لي من سوق بعض المعلومات الحيادية التي لا صلة لها بالعرق والدين والمذهب. في علوم الدماغ كما هو الحال في السيكولوجية المعاصرة فأن الأسس المادية للحب تكمن في الدماغ وليست في القلب كما صوره الشعراء والأدباء والفنانين في مختلف اهتماتهم, وما القلب إلا سوا عضلة تدفع بالدم إلى مختلف أجزاء الجسم, أما الدماغ فهو كما معروف علميا اليوم مركز الانفعالات والعواطف ومصدرها, ولكن ذلك لا يجري في منطقة متخصصة تخصصا متحجرا بذاتها,

166
     
في استراتيجيات الاصلاح الشامل ومعوقات الحشود القطيعية السياسية !!!

د.عامر صالح
أذا كان الاصلاح عملية مجتمعية وليست قرارات فوقية فعلينا ان ندرك ان الاصلاح في حقيقته هو محاولة للتغير الاجتماعي المخطط له لاقرب سنوات قادمة وتوقع ما يتبعها من عقود قادمة من الزمن, وعلى افتراض ما يرافق الاصلاح من عمق وتنوع في الوعي النفسي والقدرات الذاتية وأحترام للمبادرات الفردية واستدراك عاقل لما يحصل.  وعندما نستخدم في الوقت الراهن مفهوم "الإصلاح" فلابد أن نستحضر أولا الخبرة الأوروبية وخبرة الدول السائرة صوب الاصلاح باعتبارها دول مرجعية. تلك هي مصطلحات علم الاجتماع السيكولوجي في الاصلاح !!!.

غير أن استحضار تحليل التراث النظري واستحضار الخبرة التاريخية لا يكفى، ذلك أنه لابد حتى يكون الإصلاح رشيداً أن نسأل منذ البداية: إصلاحٌ، ولكن وفقا لأية رؤية؟

ولو اعتمدنا على التراث النظري المعاصر في مجال التنمية المستدامة لاكتشفنا أن هناك مفهوما محوريا أصبح شائع الاستخدام في الوقت الراهن وهو مفهوم "الرؤية الاستراتيجية" ويُعنى بها مجموعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لحكومة ما لسنوات او عقود قادمة.

وهذه الرؤية الاستراتيجية ينبغي أولا أن تنطلق من مفهوم التنمية المستدامة، ويجب ألا تنفرد أي نخبة سياسية حاكمة بوضعها، ذلك أن الرؤية الاستراتيجية - بالتعريف الذي قدمناه- ينبغي أن تكون صياغتها عملية مجتمعية شاملة تشارك في وضعها السلطة والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة.

وهذه الرؤية الاستراتيجية ينبغي أن تنقل للجماهير العريضة من خلال وسائل الاتصال العصرية، حتى تتضح أهداف التنمية وأساليبها، ويتم حشد الجهود المختلفة لتحقيقها، في إطار من الديمقراطية الكاملة والشفافية المطلقة، والمحاسبة، والتقييم المستمر.

الاصلاح الشامل من هذا المنظور يحتاج الى قدرات مهنية وعلمية واكاديمية ومستقلة نسبيا عن تأثيرات الايديولوجية العقائدية ذات الطابع المتحجر والتي ترى في الاصلاح هو مجرد خطاب منفعل ومعمد بردود الافعال يستجيب عبر خلق العداوة بين القوى السياسية الاخرى وافتعال الازمات وادعاء الصلاحية المطلقة لكل الاوقات والاوضاع, وهؤلاء حصرا هم من يعرقلو الاصلاح ومدياته مهما بلغ ادعائهم الانفعالي بقدراتهم على الاصلاح, فهو لا يتجاوز سوى رغبات منزوعة الصلة بطبيعة الاصلاح بكونه عملا دقيقا يستدعي الايمان بادوات المنهج العلمي في البحث عن المشكلات المستعصية, الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها, وفق سنة البحث العلمي ومنهجيته المعروفة, وغلق ابواب الاجتهاد أمام الخرافة والدجل والسحر والشعوذة والثقافة الماورائية للبحث عن حلول لمعضلات البقاء والاصلاح !!!.

أن الاصلاح الشامل هو وثيق الصلة بالديمقراطية وان عهد الديمقراطية في العراق هو وليدا وأن الثقافة الديمقراطية لشعبنا لا تزال قيد التشكيل والاختبار,فلازالت ذهنية الانقضاض على المنافس الآخر وإقصاءه هي الفيصل في السلوك السياسي,بل يرى البعض في الديمقراطية هي الفرصة الذهبية " للفرهود"و للفساد بمختلف مظاهره,ومع هذا فأن شعبنا لا يريد العودة إلى الوراء,بل هناك تجليات للمضي قدما من اجل إرساء دعائم الديمقراطية.

أن مجتمعنا العراقي هو مجتمعا قبليا وقد كرست فيه القبلية بفعل مختلف السياسات منذ عقود ثم انتهاء بالطائفية والمذهبية لتضفي على ذلك شرعية جغروـ طائفية متحجرة,رغم أن هناك حقبا تنويرية بفعل تأثير قوى الديمقراطية فيها إلا إنها مرت بانحسار بفعل الضربات القاسية التي تعرض لها تلك القوى والتي كادت تقتلعها من الجذور,وبهذا ترك شعبنا أسيرا في العراء وضحية لمن يتجاذبه,وهكذا أيضا ترك شعبنا ضحية لثقافة الغنيمة والكسب والاستحواذ,مما كرس مفاهيم الشعب ـ الرعية,وأن التعامل معهم ليست ككيانات إنسانية مستقلة وإنما عبر ممثليهم من القبائل والطوائف والمناطق والحارات والأسر مما ترك شعبنا ضحية لمختلف مشاريع الاستمالة والإغراء,أن ذلك لا ينسجم مع صيرورة المجتمع المدني,وأن الخلاص من ذلك يستدعي ترسيخ مفهوم المواطنة والمجتمع المدني,وهذا بالتأكيد يتطلب جهدا ليس بالهين لكي يتخلص شعبنا من هذه الانتماءات الضيقة التي لا صلة لها بالمواطنة وبالخيارات الحرة وبثقافة الانتخاب التي تتطلب مزيدا من الاستقلالية في السلوك. 

أن التجربة السياسية ما بعد سقوط الدكتاتورية في تعبئة الجماهير تعرضت إلى التشويه والمسخ من قبل الكثير من الأحزاب مستفيدة من ارث الدكتاتورية البغيض,لتعيد الكرة في تشكيل وعي الجماهير بما يتفق مع مصالح هذه الأحزاب عبر التزييف وتشويه معالم الوعي الإنساني الفردي للمواطن من خلال ترك الانطباعات المختلفة التي تصور الأهداف الذاتية والمصلحية والنفعية بأنها أهداف عظيمة ومقدسة ومشروعة ويتخيل إلى المواطن بأن هذا الحزب أو ذاك يسعى لصالحه,وبالطبع فأن هذا العمل يتطلب مهارات عالية "وقدرات استثنائية خاصة " للعبث بإحساسات وحواس الجمهور من خلال الإعلام المتنوع والمغريات المختلفة واستخدام للمال الحرام والإسراف في استخدام السلطات الحكومية,وقد تم تزيف الوعي من خلال شخصيات كاريزمية في الأحزاب أو في المجتمع,دينية أو سياسية يتم من خلالها تسويق أفكار الأحزاب إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناء على تقبلها وحبها البريء للشخصية الكاريزمية سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية,وخاصة في مجتمع خرج للتو من نظام دكتاتوري كانت مهمته زرع قيم الذل والخنوع والعبادة الفردية والاستسلام واستلاب أرادة المواطن لتحويله إلى رقم أصم يسهل حسابه بمختلف الاتجاهات دون معنى يذكر!!!.

أن هذا السلوك السياسي المرضي يفضي إلى خلق اتجاهات تضعف الشخصية العراقية في تقبل أي تغير ايجابي مرتقب عبر ممارسة السلبية اتجاه الإحداث وإعاقة أي بادرة لشحذ القوى المجتمعية صوب الفعل الايجابي,وتكريس الأوضاع السابقة لما بعد 2003 برضا شكلي من قبل الجميع,انه حالة من استهلاك طاقة ملايين الأجساد والعقول عبر إضعاف ملكة التفكير النقدي وترك المواطن في حالة تلقي سلبي لكل ما يسمعه من بعض من مرجعياته الدينية والسياسية والاجتماعية,لكي تصل به إلى مستوى التفكير الخرافي الذي يشل الديمقراطية في عقر دارها,ويتم تخدير وتسكين معاناة الناس الحقيقية وشل وعيها النقدي المعارض اللازم لعمليات التغير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي المنشودة,وهنا تدخل الممارسات الدينية الخاطئة على نطاق واسع,عبر رموز مفتعلة له وليست حقيقية لتكرس حالة السبات العقلي وتشديد للاعتمادية السلبية من خلال " مفتون متخصصون " عند الشدة يشغلون الناس بقضايا هامشية تصل إلى حد التدخل حتى في شؤونهم الشخصية والخاصة جدا والتي لا صلة لها بمستقبل البلاد لأحداث حالة غيبوبة مستديمة تباع فيها عقولهم وقلوبهم, وكانت انعكاسات ذلك واضحة جدا في تقرير وجهة الاصلاح وماذا يعني لهم !!!.


ومن هنا تأتي أهمية المسؤولية الأخلاقية والدينية والسياسية الملقاة على عاتق القيادات السياسية والاجتماعية المختلفة وقيادات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في إعادة صياغة وعي المواطن بما ينسجم مع تطلعات وطموحات الناس في بناء مجتمع العدالة والحق والمواطنة الكريمة الذي يستند إلى العقلانية بعيدا عن الانفعالات الجارفة, وضرورة خلق الوعي اللازم لقيمة الاصلاح وخطورته في رسم المستقبل.ولعل في الملاحظات الآتية مدخلا مواتيا لذلك :

ـ إعادة صياغة منظومة التربية والتعليم على أسس علمية وعقلانية بعيدا عن تأثيرات التيارات السياسية والدينية المتحاربة والمتجاذبة,لخلق مواطن يتسلح بالوعي المحايد والقدرة على ممارسة النقد البناء للظواهر المختلفة بروح علمية بعيدا عن أشكال التعصب والانفعال في تقبل أو رفض ظاهرة أو رأي ما.

ـ تحديث الخطاب السياسي من حيث المحتوى والأهداف والوسائل,وتحوله من خطاب " حشدي " منفعل إلى خطاب ايجابي يستهدف بناء ثقافة سياسية فردية بناءة وتحويله إلى خطاب سياسي ـ تربوي ذو صبغة واقعية.

ـ ضرورة التثقيف المستمر بالتجربة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للتداول السلمي للسلطة وليست وسيلة للانقضاض عليها واحتكارها ومنع الآخرين من المساهمة فيها.

ـ إشاعة ثقافة الحوار في كل القضايا التي تخص المجتمع السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية,ودفع الناس لإبداء الآراء بخصوصها وتحويل المواطن من مستقبل للمعلومة فقط إلى مواطن مرسل فعال,أي تنشيط قنوات الاتصال بين المواطنين ورموزهم السياسية والاجتماعية لتفعيل مفهوم المشاركة البناءة.

ـ إعادة النظر في المنظومة التشريعية والقانونية التي تحجب و تحد من سقف مشاركة الآخرين في العملية السياسية,وفي مقدمتها قانون الانتخابات وإصدار قانون للأحزاب لضمان مسائلة الأحزاب ورصد آلية عملها,لضمان مزيدا من النزاهة و المشاركة السياسية لبناء نظام سياسي متنوع في العطاء والقدرات الفكرية والعقلية.

ـ العمل التربوي والتثقيفي طويل الأمد لأبعاد ثقافة التشكيك والاتهام وتخليص المواطن من آثار عقلية المؤامرة التي تجعل من المواطن متربصا لأخيه المواطن ومشككا في أفضل عطائه,وتلك هي الحال على مستوى الأحزاب.

ـ محاربة الفساد على نطاق واسع باعتباره وفي احد وجوهه مظهرا من مظاهر الفساد السياسي يسهم في تكريس الأوضاع كما هي,ونظرا لتقاطع صلاته مع السياسة ورموزها فأنه يسهم في تكريس سياسة الصفقات وتجيش الناس حولها لأبعاد شبح المحاسبة والدخول في التفاصيل.

ـ تعزيز ثقافة دولة القانون في سلوك الأفراد والأحزاب والمؤسسات بعيدا عن التمترس الفئوي والطائفي والجغرافي والقبلي الذي يضعف دولة القانون,وتنشيط دور القضاء لتشجيع المواطنين على الاستعانة بالدولة لحل المشكلات المختلفة والمستعصية دون اللجوء إلى القبائل أو الطوائف أو الأحزاب التي تستميل المواطن وتسهل تعبئته بمختلف الاتجاهات باعتباره طرفا ضعيفا يلجا اليها عند الشدة !!!!.

ان الاصلاح الشامل لا يعني ابدا الدخول الى المنطقة الخضراء واجراء مناورت على نسق المناورات العسكرية لجس النبض وعرض العضلات, بل هو عمل تربوي ونفسي يخلق حالة من الوعي البديل للفوضى والعبادة الشخصية, الى حالة من استشراف المستقبل والتفرد المبدع في الانتفاض على العقل القطيعي المتخلف صوب فهم صحيح لقوانين الصراع الاجتماعي بعيدا عن الوصاية المذهبية والطائفية والاثنية, وان ما يجري موضوعيا في العراق يجب ان يفهم موضوعيا في إطار سنة الصراع المقننة في تحول الكم الى كيف !!!.



167
عندما يختلط الحابل بالنابل في ركب موجة الإعتصامات !!!

د.عامر صالح 

أي تشظي في القوى المحصصاتية والاثنية وأي تناقضات بينهم هي مفيدة لإضعافهم وتفتيت كتلتهم " كتلة الاغلبية الصامتة " على معاناة شعبنا الصابر على الظلم والفساد والطائفية والاثنية والحرمان من أبسط مقومات العيش الكريم. كتلة الاغلبية الاثنوـ طائفية والتي تعودت على العيش على فتات موائد المناصب وتوزيع الحقائب الوزارية وما تحت الوزارية " ينتفض " بعضها اليوم ليست ادراكا لمعاناة شعبنا أو احساسا بمشكلاته العميقة والمستديمة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما, بل هو اختلافا في تفاصيل توزيع الغنائم وتصفية ثأر بين القوى الطائفية والاثنية المتنازعة !!!.

لأكثر من عقد من الزمن كان الاسلام السياسي يستخدم جاهزية العقل العراقي المثقل بجراح الوعي لتسويق بضاعته الرخيصة وخطابه المعسول ذو الانفعالات المهيجة للاحتراب بين الاخوة في الوطن, ناسيا مطالب الناس في الخدمات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص العيش الكريم, ومتخذا من معاناة الناس في الفقر والفاقة والاضطهاد في تمويه سياساته في الفساد والجريمة والتحلل الخلقي من خلال اضفاء الشرعية على كل افعاله, وتسويف مطالب الناس من خلال الكذب والرياء والنفاق من خلال خطاب ظاهره مقبول نسبيا وباطنه عفن !!!.


الانتفاضة الباسلة لشعبنا هي المرجعية الاولى منذ ثمانية أشهر, ولاتعلو عليها أي مرجعية أخرى" والمطالبة بوضوح بتصفية نظام المحاصصة وإعادة بناء العملية السياسية على اساس من العدل والديمقراطية الحقة, بما يؤمن ظروف أفضل للعيش والاستقرار والانقضاض على الارهاب وتأمين الأمن الغير مشروط بتوازنات طائفية. أن المعضلة الكبرى كما يراها شعبنا المتظاهر هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن نزاهته حقا.

إن إنظمام قوى معروفة بطائفيتها السياسية والاثتية الى المعتصمين البرلمانين وركبها موجة الاعتصام هو ليست بدوافع عدم جدوى النظام المحصصاتي, أو انها ارتقت بنقلة نوعية في الوعي مما يستدعي صحوتها واعادة بناء نفسها على أسس جديدة, بل هي تصفية حسابات, فلا يوجد اليوم من المعتصمين من خرج على كتلته السياسية الطائفية والاثنية وإحتج على حزبه, لا بالعكس إنهم يزيحيون وجوه طائفية سياسية بوجوه أخرى طائفية سياسية في محاولة لأخذ الثأر واعادة بناء المشهد السياسي بمزيدا من الاحتقان الاثنوطائفي !!!.
 

هل سمعنا من بين كتل المعتصمين في البرلمان من لديه الجرأة والقدرة الاخلاقية والسياسية على حل حزبه وإعادة بنائه على أسس عابرة للطائفية, طبعا لا, وما نسمعه هو شعارات براقة في إنهاء نظام المحاصصة الطائفية والاثنية مع الاصرار على إبقاء القوى المحركة لاعادة انتاج النظام الطائفي المقيت. المعتصمين بذكائهم التعسفي يستبدلون الطائفية بالطائفية ويعيدون المحاصصة بالمحاصصة, وابقاء شعبنا وقودا سهل الاحتراق يدفع ثمن مستقبله, ثمن نظام متنخر لا جدوى من بقائه !!!.

أن ترفض الطائفية السياسية والاثنية يعني إنك منفتح ذهنيا وفكريا وعقليا وحضاريا للانتقال من حالة الوعي المتردي الى حالة نوعية جديدة تقترب فيه من إنسانية الانسان, أما ان تنظم قوى كانت بالامس ترى في الحراك الشعبي الشامل عمل اجرامي أو مؤامرة على النظام السياسي الطائفي فهو غير مقبول أخلاقيا وهو الوجه الصارخ للنفاق السياسي الطائفي والاثني !!!.

ان مرجعية شعبنا الاساسية هي الانتفاضة الشعبية العارمة والحراك الاجتماعي المتعاظم الذي بدأ في شوارع العراق كله, والذي يعبر عن حالة اختمار الوعي المعارض للطائفية السياسية والاثنية. إن التحولات الجذرية في الوعي هي الكفيلة في بناء نظام سياسي عادل وليست ما يجري في قبة البرلمان من صراعات سياسية طائفية وأثنية تريد تبديل الوجوه الطائفية بوجوه اخرى من نسخة طبق الاصل ولتصفية الحسابات المصلحية الضيقة !!!.

ومن المستهجن والمدان اخلاقيا ان القوى الطائفية السياسية بأمتياز والمتهمة بالتأسيس للفساد في العراق ان تنظم الى المعتصمين في البرلمان, بل وتطالب بانهاء المحاصصة وهي المطالبة اليوم قبل غيرها بانهاء مزاج المحاصصة والاعتراف لشعبنا بسوء الادارة والتدبير عندما كانت تقود السلطة التنفيذية, والمثول أمام القضاء للمحاسبة الشديدة !!!.

نقول الآن ان الارهاب هو الاقوى والاعتى في قدراته من كل البرلمانين المنتفعين والذين لا يرون السياسة الا من خلال منافعهم وانفعالاتهم المريضة, وان الفراغ الامني يهدد ما تبقى من الدولة والمجتمع في الانهيار الكامل. إن اللجوء الى الشارغ العراقي في انتفاضته الباسلة كمرجعية مطلقة هو البديل الاوفر حظا للخروج من مأزق الطائفية والاثنية, واعادة بناء العملية السياسية بعيدا عن امراض المحاصصة والاعتصامات البرلمانية الموسمية والمرتبطة بتكريس المحاصصة, لا القضاء عليها !!!.




168
نظام المحاصصة الطائفية الاسلاموية والاثنية نقيض لحكومة التكنوقراط المهنية الإختصاصية !!!

د.عامر صالح

في إطار البحث الشكلي عن مخرج للازمة المستعصية في البلاد منذ ثلاثة عشر عاما, والتي عصفت في البلاد وأودت بالخراب الشامل لامكانيات البلد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبشرية, يجري البحث عن حلول ترقيعية بعيدا عن البحث عن الاسباب الحقيقية للازمة العامة في البلاد, والتي كان سببها الاول والاخير هو النظام الطائفي المحصصاتي والاثني البغيض الذي شل حركة النهضة والحياة في بلد يمتلك كل المقومات الموضوعية والذاتية للنهضة الحضارية, باستثناء طبيعة النظام السياسي القاصر فكريا وعقليا والعاجز كليا عن استنهاض القوى الكامنة لشعبنا وقدراته وموارده الذاتية صوب التنمية البشرية المستديمة !!!.

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على النواة المتواضعة للنظام الديمقراطي,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع !!!,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه!!!!.

أن اشد ما الحق الضرر بمصالح البلاد وأمنه هو إخضاع الأجهزة الأمنية والمخابراتية والدفاعية للمحاصصة الطائفية مما فسح المجال لتأسيس حالة الاختراق الأمني المستديم لهذه الأجهزة عبر تكريس حالة التوجس والريبة وانعدام الثقة بين قيادات ومنتسبين هذه الأجهزة,مما تندفع هذه الأجهزة إلى التناغم مع دول الجوار في البحث عن حليف مطابق لها في الصبغة الطائفية والعقائدية,مما يتركها فريسة للاختراقات الخارجية وفرض أجندة دول الجوار,وهنا يأتي تفعيل واستنفار" الحلقة المفقودة" المتمثلة بكل القوى الداخلية الغير راغبة في التداول السلمي للسلطة لتقوم بدور المنفذ النشط أانطلاقا من تطابق الأهداف والمصالح المشتركة في عدم معافاة العراق,بدلا من تعزيز حالة التوافق والانسجام في عمل هذه الأجهزة لخدمة امن البلاد.

لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية,فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها,أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب !!!!, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق !!!!.

أن إضفاء الصبغة الطائفية والعرقية على الصراع السياسي واللجوء إلى الحلول ذات الطبيعة التوافقية ـ الطائفية والعرقية تسهم في تكريس منظومة قيمية ذات طبيعة تعصبية " شاء الفرد أم أبى" لتشكل بدورها اتجاها نفسيا سلبيا مشحون بشحنة انفعالية ضد الأخر الديني أو الطائفي أو العرقي دون سند علمي أو منطقي أو بمعرفة كافية,ليتحول التعصب إلى مشكلة حقيقية في التفاعل الاجتماعي الإنساني المنفتح,وحاجزا يمنع كل فكر تقدمي جديد,ويفتت مكونات المجتمع الواحد ويحولها إلى أشلاء منغلقة ذاتيا بعيدة كل البعد عن التطورات المتلاحقة التي تحصل في العالم الخارجي في كل المجالات,أنها حالات من الصمم والبكم والعمى الهستيري والتي لا تدرك الأشياء والظواهر إلا من خلال  اتجاهات التعصب الأعمى,أنها فرصا مواتية لتشديد قبضة الكراهية والعدوان الاجتماعي,ونحن نعلم من الناحية النفسية أن التعصب والتخندق الطائفي والعرقي هي سلوكيات مكتسبة ومتعلمة في أعمها الأغلب ولا توجد أدلة قاطعة ذات طبيعة غرائزية أو فسيولوجية لوجودها,فهي حالات من التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الأخر المغاير !!!.

ويجب التأكيد هنا إلى أن الصراع الذي يجري في العراق ليست صراعا طائفيا أو عرقيا بالمرة,وقد أكدت السنوات المنصرمة فشل الانسياق ورائه,إلا أن تجير الصراع السياسي وإضفاء الصبغة الطائفية أو العرقية هو الذي يؤدي قسرا بالسواد الأعظم من شعبنا الذي أتعبته الحروب وأنهكه تأمين شيء من الخدمات العامة إلى " التعصب " و "الخندقة " كحيل دفاعية لتامين لقمة العيش,لأن رموز الطوائف والأعراق والأحزاب تمتلك المال كله , وكما يقول أبو ذر الغفاري :( عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه ) والتخندق الطائفي أو العرقي أشبه بحامل السيف لـتأمين لقمة العيش !!!!.

وفي ظل تلك الاوضاع وانعدام بصيص الامل وتحت وقع وضربات الحراك السلمي الاجتماعي الاحتجاجي المطالب بحقوق شعبنا الشرعية في الامن والامان وتأمين لقمة العيش الكريم, ومطالبته المستديمة بحكومة تكنوقراط تضمن له الابتعاد عن عن نهج المحاصصة العبثي والمتدهور, يجري البحث في أروقة النظام الطائفي الاثني عن حكومة تكنوقراط في محاولة لسد افواه المتظاهرين وتفويت الفرصة على مزيدا من الحراك والتصعيد الجماهيري, لاحتواء أزمة النظام المتأصلة في طبيعته !!!.

وحال تقديم رئيس الوزارء العراقي حيدر العبادي لمقترحات "حكومة تكنوقراط ", وبغض النظر عن الآلية التي جرت بها والملاحظات الجدية التي سوقت ضدها, فقد بدأت القوى السياسية بمعظمها, بما فيها الجهة التي ينتمي إليها حيدر العبادي, في التشكيك بتلك المقترحات وعناصر الحكومة المقترحة والتهيئ لرفضها كليا, وقامت القوى السياسية الاسلاموية وغير الاسلاموية وكذلك الاثنية العرقية في البحث عن عوامل رفض هذه الحكومة والتهيئ لمحاربتها. وكأن العبادي في محاولته هذه كشف للمرة تلو المرات السابقة عن عجز هذا النظام المحصصاتي وفشله في ايجاد الحد الادنى من الحلول لمعضلات نظام مستفحل في فساده, والذي يشكل العبادي طرفا في هذا النظام وليست منقذا له, ولكنه اراد بلعبته هذه هو النفاذ بجلدته من الضغوطات الشعبية والبرلمانية, وحال مؤقتا دون محاسبته !!!.

نقول هنا ان البحث عن حكومة تكنوقراط مؤلفة اعضائها من خبراء ومهنيين ومتخصصين في مختلف المجالات, ومن اساتذة جامعات وباحثين مرموقين, يستندون في نشاطهم الحكومي الى معطيات العلم والمعرفة الحديثة في مختلف المجالات ومستقلين نسبيا عن تأثير الاحزاب السياسية التي تقود البلد في مرحلة ما, هو أمر في غاية الصعوبة في ظل نظام محصصاتي يستند الى معايير الولاء للحزب او الطائفة او الاسرة الحاكمة او القومية والحزب القومي المهيمن, حيث اللجوء في اسناد المناصب الى معايير شاذة لا صلة لها في الكفاءة والمقدرة المهنية والتخصصية, وحيث النظر الى السلطة والمنصب هي استحقاقات محصصاتية وغنائم وفرص لا تعوض !!!.

ومن هنا فأن عملية الحراك الاجتماعي والمتمثلة بكل الفعاليات السلمية المطلبية والطموحة الى التغير الجذري يجب ان تستهدف في نشاطها المتعاظم الى ما يفضي الى التأسيس للحلول الجذرية التي تسهم في فك الارتباط وانهاء العلاقة مع النظام المحصصاتي الطائفي والاثني, واعادة بناء العملية السياسية على اسس دستورية وقانونية جديدة تضمن الوطن والمواطنة والانتماء الى العراق بكل مكوناته الاجتماعية والثقافية والاثنية والدينية. وعندها يكون الحديث عن التكنوقراط وانقاذ البلد واعادة بنائه أمرا ممكنا في ظل مزاج الانتماء الى الوطن الأم !!!.


169
التكنوقراط الطائفي ومدى شجاعة المرجعية الدينية !!!


د.عامر صالح 

تزداد الاوضاع سوء في العراق على خلفية النظام الطائفي السياسي والاثني ضيق الأفق والذي زرع الفتنة والفرقة بين مكونات المجتمع العراقي, الاجتماعية والاثنية والثقافية, وأسس للأحتقانات الطائفية والمذهبية والاثنية, وشكل حاضنة للارهاب والقتل والدمار في أبرز مظاهر ذلك والمتمثلة بداعش والقاعدة والمليشيات المنتشرة في ارجاء العراق كله, سنية أم شيعية, أم مجاميع إجرامية مسلحة وشللية منحرفة, كما ان النظام كان ولا يزال عنوان وبوابة لأضخم عمليات في الفساد الاداري والمالي والاخلاقي, والتي لم يشهد لها تاريخ العراق السياسي كله ومنذ نشأة دولته الفتية عام 1921 !!!.

وقد كلف هذا النظام الطائفي السياسي والمحصصاتي المتعصب إرتهان العراق ومستقبله لعقود قادمة عبر تبديد ثرواته المالية والطبيعية والتي بلغت في أبسط تقديراتها الرقمية 800 مليار دولار, يقابلها التوجه الشامل لسياسات التقشف الشامل عبر سياسة شد الاحزمة على البطون وفرض الضرائب العالية في بلد لا توجد فيه في المقابل ادنى الخدمات في الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية العامة. وقام النظام الطائفي بمكوناته المختلفة في زرع وتشجيع الاستقطاب والتحالف الاقليمي على اساس الهوية الطائفية, مما افقد البلد هويته الوطنية واستقلاله, واستقراره الخارجي والداخلي !!!.

اليوم يبحث النظام المتهالك عن حلول هي الاخرى عرجاء من خلال شعارات براقة ومقبولة مزاجيا, وعنوانها الرئيسي هو البحث عن " حكومة تكنوقراط " والهدف المعلن منها هو البحث عن كفاءات مهنية متخصصة في مختلف المحالات لتسهيل امر قيادة الحكومة بوزاراتها المختلفة في محاولات لإنقاذ ما تبقى إنقاذه " إن وجد " ولتخليص الدولة والمجتمع من الفساد والخراب والدمار والافلاس الشامل, ومحاولات الابتعاد او الانحياز الطائفي السياسي والاثني عن إشغال المناصب الحكومية العليا !!!.

ولكن الاسلام السياسي الطائفي والاثني كعادته لم يتورع في التشبث بالشرعية الدستورية, حيث بدأ مستميتا في البحث عن مفاهيم عبثية لا ترسم ملامح مستقبل قريب, قوامها من جديد هو التوافق السياسي الطائفي السيئ السمعة والصيت في إيحاد حكومة تكنوقراط طائفية, شكلها الظاهري تكنوقراط ومضمونها الداخلي هو طائفي سياسي, وسيترك البلاد مجددا وعلى مصرعيها للصراعات الدموية ولحروب الاستنزاف والتي لا تقف ابدا وبواجهات محتلفة !!!.


كانت ولا تزال ضغوطات الحراك الاجتماعي المدني لها التأثير الكبير في الضغوطات على السلطة التنفيذية والتشريعية في ايجاد مخرج للأزمة البلاد المستعصية والذي دفع الحكومة لبحث عن متغيرات للحل وإلتماس فرص أخرى لانقاذ البلاد, ولكننا نعلم ان الحراك الاجتماعي والذي شاركت فيه المرجعية الدينية في استنهاض مؤمنيها هو ليست فصيلا حراكيا واحد أو حركة ذات ثقل جماهيري كافية للتغير, بل هو خليط غير متجانس يعكس تجاذبات قوى سياسية وطائفية مختلفة, ولها مصالحها المختلفة في عملية الصراع الاجتماعي الدائر !!!.

لقد كان أبرز ملمح للحراك الاجتماعي الان هو دخول التيار الصدري متصدرا الاحداث ومهددا وواعدا بالعمل على إجتثاث الحكومة واجتياح مركز الحكم في المنطقة الخضراء في عمل قادم قد لا تحمد عقباه في ظل إشتداد هجمة الارهاب وحضور داعش على اطراف بغداد, الى جانب المتناقضات الكثيرة التي يحملها هذا التيار الطائفي الاسلاموي والذي يدين بولاية الفقيه وله تطلعاته المذهبية, ولكنه ركب موجة " حكومة تكنوقراط " ودخل مفاوضات مع الحكومة والكيانات السياسية الاخرى, وكأنه بات المنقذ للبلاد والعباد, ونسى إنه طرف في الفساد والطائفية وإهدار المال العام. أما السواد الاعظم من قاعدة هذا التيار فرغم كادحيتها ومسحتها الثورية, ولكنها لا تحمل في طياتها عملا جذريا يؤدي الى تغير الموازين صوب حراك يساري رافض لما هو سائد !!!. 

اليوم وفي زخم خطورة الاحداث وبقاء الاوضاع كما هي وأسوء منذ عام 2003 يقع على عاتق المرجعية الدينية مسؤولية تاريخية كبرى وشجاعة مرتقبة في رفع الحصانة عن شرعية العملية السياسية بعد تجربة فاشلة لمدة 13 عاما ساهمت المرجعية نفسها بإضفاء الشرعية على النظام السياسي وكان لها الدور الكبير في التأسيس للنظام الطائفي السياسي. لقد آن الآوان للمرجعية الدينية والمؤسسة الدينية بصورة عامة أن تشهد شهادة حق ببطلان هذا النظام السياسي وأدواته في البقاء, من دستور ونظام انتخابي واحزابه الاسلاموية الفاسدة والمفسدة !!!.

إن المرجعية التي طلبت من الشعب في التصويت على الدستور انذاك, عليها اليوم أن تقول كلمة بهذا الدستور الغبن وقد عفى عليه الزمن. وسوف يذكر التاريخ المرجعية الدينية بأحرف من نور عندما تسهم الآن بإنقاذ شعبنا من محنته الطائفية الاسلاموية والاثنية, عبر إعادة بناء العملية السياسية بكل آلياتها ومفاصلها الاساسية, ولاسيما ان مزاج شعبنا جاهز الآن قبل أي وقت مضى, ويجب الاستجابة لارادة العراقيين في التغير نحو الافضل, وما زال الدين لله والوطن للجميع !!!.




170
 
الثامن من آذار عيد المرأة العالمي وظروف التخلف والتطرف الديني في العالم العربي !!!

د.عامر صالح 

في العام 1977 وفي القرار (32 / 142 ) دعت الجمعية العامة الدول إلى إعلان يوم من أيام السنة يوما للأمم المتحدة لحقوق المرأة والسلام الدولي, وذلك وفقا لتقاليدها وأعرافها التاريخية والوطنية. وقد دعت الجمعية العامة الدول إلى المساهمة في تعبئة الظروف اللازمة للقضاء على التميز ضد المرأة وضمانة مشاركتها الكاملة في التنمية الاجتماعية وعلى قدم المساواة مع الرجل. وقد اتخذ الإجراء غداة السنة الدولية للمرأة ( 1975 )  وعقد الأمم المتحدة للمرأة ( 1976 ـ 1985 ) اللذين أعلنتهما الجمعية العامة. وقد اتفق على أن يكون الثامن من آذار عيدا عالميا للمرأة. ويشكل هذا الإعلان قيمة أخلاقية وإنسانية في إعلانه صراحة على الصعيد العالمي بعدمية الفروق بين الجنسين في المساهمة في الحياة والحقوق العامة. ويشكل هذا الإعلان عودة إلى الفطرة الإنسانية والى مرحلة تاريخية ما قبل اللاتساوي بين الجنسين ونبذ الفروق الجسمية والعقلية والنفسية باعتبارها مصدرا بهيميا لعدم المساواة والتي يبنى عليها شتى مظاهر اضطهاد المرأة !!!.

ورغم مرور عقود على هذا الاعلان الدولي للمساواة فإن الهجمة على المرأة في العالم العربي والإسلامي وبقاع أخرى في العالم المتخلف تزداد شراسة منقطعة النظير جراء هيمنة الفكر المتشدد الرجعي بكل لبوساته المتسترة بالدين والعفن العقلي والفكر المتخلف الذي يحول المرأة إلى مشروع سبي واغتصاب وتهجير ومقايضة وحرمان ولا مساواة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والإنسانية العامة. ففي العراق وسوريا تتحول المرأة إلى مشروع للاغتصاب بواجهات جهاد المناكحة الداعشي والى مشروع تعذيب يومي وحرمان تخجل منه البشرية في ألفيتها الثالثة, إلى جانب اضطهادها التاريخي من قبل نظم اللامساواة واللاانسانية التي جسدتها وأفرزتها حكومات الحزب الواحد الدكتاتوري القمعي, وفي دول الخليج العربي حيث المرأة في اشد قسوة الاضطهاد بمختلف صنوفه, الظاهر منها والرمزي المبطن, ابتداء من الوصايا عليها من زوجها وأولادها وأبيها ودائرتها الذكورية المحيطة وانتهاء بممارسة شتى صنوف الإذلال, من ضرب وأهانه وقسوة في التعامل اليومي, فهي جزء من أدوات المنزل ذو السلطة الذكورية المطلقة, ومطبخه الذي يطمئن البطون قبل العقول, فهي حبيسة الأربعة جدران ولا حوله لها ولا قوة إلا بأذن من راعيها وقوامها الشهم ذو الرجولة المشوهة, وانتهاء بفتوى رجال الطوائف الدينية من زواج مبكر كطفلة أو متعة جنسية مؤقتة, أو مشروع إرضاع للكبير وزواج مؤقت لعطلة نهاية الأسبوع " ويك أند " !!!.

وتستفحل ظاهرة الزواج غير المدني, فالدول العربية والإسلامية تعج بمختلف أنواع الزواجات خارج المحاكم والمنتشر في مصر, والسعودية والعراق والكويت ودول الخليج الأخرى, والمغرب وتونس والأردن وكذلك إيران وتركيا وغيرها من دول العالم الإسلامي, ولهذا الزواج مشرعيه وفقهائه والذين يبحثون دوما عن مظلة شرعية لحماية هذا النمط من الزواجات, فهناك الزواج العرفي والمنتشر في مصر حتى في أروقة الجامعات, وهناك زواج المسيار, وزواج المصياف, وزواج ألويك أند, وزواج الفرند, وزواج المصواب, وزواج المسفار, وزواج المطيار, وزواج المحجاج, وزواج المسياق, وزواج المهراب, وزواج المقراض, وزواج المتعة, وزواج التجربة, وزواج المزار, ونكاح الترزق, ونكاح الخوالي, ونكاح إعارة الفرج, والمتعة غير الجنسية, والمتعة الجماعية, والمتعة من اجل الإنجاب, وزواج المباركة, ونكاح التعدد, وزواج المردان, ونكاح المصاهرة, ونكاح الضيافة, والقائمة تطول, هذا هو نكاح في ظروف " السلم ", أما نكاح زمن الحرب فقد ضربت داعش مثالا سيئ اهتز له ضمير الإنسانية, من جهاد المناكحة, وسبي النساء, ومقايضتهن جنسيا, وبيعهن في أسواق " الدولة الإسلامية " !!!.


وكل إشكال الزواج تستهدف المرأة وتكريس اضطهادها التاريخي, رغم كل المبررات " الشرعية " التي تساق خلف تلك الأشكال بواجهة وادعاء مزيف للحد من الفساد, أو الاستجابة لظروف الحياة المتغيرة في البحث عن الحلول للمشكلة الجنسية, فالحلول التي يعثر عليها المشرعون والفقهاء والمفسرون تصب في خدمة إشباع الغريزة الجنسية للرجل " القضيبي " بعيدا عن البحث في أولوية فكر المساواة بين الجنسين في كافة المجالات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وما يصاحب ذلك من حلول عادلة وإنسانية للمشكلة الجنسية والعلاقة بين الجنسين, وفي ظل دولة القانون والضمانات الاجتماعية التي توفر الدعم الكافي لضمان المساواة بين الرجل والمرأة, وتوفير فرص أكثر إنسانية في اختيار الحياة الحرة الكريمة لكل من الرجل والمرأة !!!.


ومن الجدير بالذكر, أن العديد من مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصورة عامة حققت الكثير من الانجازات على طريق إشراك المرأة في ميادين الحياة المختلفة.فقد انخرطت المرأة في مجالات التعليم والعمل.حيث تدفقت المرأة إلى مختلف مراحل التعليم, ومنها العالي في مختلف التخصصات العلمية والإنسانية , وكذلك الحصول على الشهادات العليا كالماجستير والدكتوراه.كما انخرطت في مختلف المهن الطبية, والهندسية, والإدارية. وهو خطوة لازمة لتحرير المرأة.ألا أن ذلك جاء نتيجة لضغوطات الاقتصاد والتغيرات الكبيرة في الهيكلية الاقتصادية, وحاجات سوق العمل إلى المزيد من المهارات النوعية , مما استدعى ذلك إلى الاستعانة بالمرأة المؤهلة, وأن التغيرات المذكورة أعلاه لا تعبر بالضرورة عن فلسفة حياتية واضحة ومحددة اتجاه إشراك المرأة. والدليل على ذلك هو تعرضها إلى مختلف مظاهر التميز, في الرواتب, والمناصب, ودرجات التعين, وعدم المشاركة في صنع القرار, وحرمانها من الكثير من المناصب لأنها امرأة. عدا حالات التميز الأخرى خارج العمل, كفرض الوصايا عليها وعلى أموالها وممتلكاتها, ومنعها من السفر والتنقل إلى خارج البلد أو من مكان إلى آخر إلا بوجود محرم أو ولي أمر.

أن عملية المساواة هي أولا وقبل كل شيء عملية ذهنية ـ عقلية/اجتماعية, تنشأ بفعل عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المستديمة للفرد اتجاه نفسه واتجاه الجنس الآخر, تلعب الأسرة فيها دورا مهما وعلاقات الوالدين بالطفل ذكرا أم أنثى, ومعاملة الإخوة الذكور للأخوات الإناث, والتربية المدرسية وما تبثه من فلسفة تربوية حيث تعرض الفرد لمختلف وجهات النظر الفكرية والعقلية اتجاه الجنس الآخر, فيتبلور لدى الفرد اتجاها محددا نحو نفسه ونحو الجنس الآخر, وكذلك العادات العامة والتقاليد, ثم المؤسسات الاجتماعية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية, والأحزاب والأيدلوجيات المختلفة ومدى نفوذها في الوسط الاجتماعي .

وعلى هذا الأساس نلاحظ إن الانفتاح النسبي صوب قضية المرأة لم ينتج من إعادة النظر في المنظومة القيمية والتربوية, بل أن الزمن في أحيان كثيرة فعل فعلته....ولهذا نرى المفارقات في الممارسات اليومية في حياة المرأة العاملة بين الجذب والشد.فهي تشعر في السعادة النسبية والاستقلال في نصف من اليوم عندما تكون في العمل, وفي النصف الثاني فهي أسوة بحبيسات البيت تخضع لسلطة الرجل, وتحمل هموم البيت بتفاصيله بل قد تحمل هموم البيت وهو الأكثر وقعا عليها من هموم العمل على كتفيها إلى العمل لتنوء بثقلين معا, ويتضح ذلك جليا في الكثير من حالات العزوف وترك العمل, لعدم إمكانية التوفيق بين الاثنين.أن الصراع المرير في حياة المرأة وجد انعكاساته في الكثير من مظاهر الاضطرابات النفسية والجسمية ذات المنشأ النفسي قد لا يدفع المرأة إلى الذهاب إلى العيادات النفسية المتخصصة, وقد تحيى معه المرأة وتموت به من دون أن يعرف من حولها , بل قد لا تدركه هي نفسها. ويشكل القلق احد المظاهر الرئيسية التي تدك المرأة والذي تعاني منه بفعل دورة حياتها اليومية الصعبة, حيث تعاني من الضعف العام ونقص الطاقة الحيوية والنشاط والمثابرة,وتوتر العضلات,والنشاط الحركي الزائد, واللوازم العصبية الحركية, والتعب والصداع المستمر الذي لا يهدئه العلاج, وشحوب الوجه, وسرعة النبض, والقلق العام على الصحة والعمل والمستقبل, والعصبية والتوتر العام وعدم الاستقرار والخواف بصفة عامه والخوف الذي قد يصل إلى درجة الفزع والشك والارتباك والتردد في اتخاذ القرارات.والهم والاكتئاب العابر والتشاؤم والانشغال بأخطاء الماضي وكوارث المستقبل, وتوهم المرض والإحساس بقرب النهاية والخوف من الموت, وعشرات من الأعراض البسيطة والشديدة المؤقتة والدائمة,ولكنها في معظم الأحيان غير قاتلة, وغير متعارضة مع الاستمرار في الحياة اليومية وروتينها , ولكن تعرقل سير الحياة والإقبال عليها ببهجة وسرور.ويمثل تجاهل المرأة لهذه الأعراض جزء من عملية تجاهلها هي بالذات من مع حولها في دائرة علاقاتها الأقرب.

أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين هي مكون ثقافي أول, يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة, والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية, ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة, وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه,لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها, ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.

أن الحماية القانونية في البلدان المتقدمة في مجال المساواة واضحة ومسلم بها, وفي بلداننا لا تزال في أحسن الأحوال هشة. وان واقع الحياة اليومية والعملية قادر على إفراغ الايجابي من محتواه. وفي الوقت الذي يتمتع فيه كلا الجنسين في البلدان المتقدمة بنفس الحقوق والاستقلالية التي يحميها القانون, لازال لدينا الطابع ألذكوري المهيمن وهو المقرر لمصير الجنس الآخر. أن حق التعليم في كل مراحله مكفول لكلا الجنسين في البلدان المتقدمة, ومنفتح على مصراعيه بما ينسجم مع الإمكانيات والقدرات الذاتية للدارسين, لا يزال في بلداننا انتقائيا, ولا تشكل الإناث فيه في أحسن الأحوال 50% من مجموع أعمارهن في الدراسة. أن الأمية التي أصبحت في مزبلة التأريخ في البلدان المتقدمة, لا يزال العديد من مجتمعاتنا العربية والإسلامية يعاني منها ذكورا وإناث وللأخيرة فيها حصة "الأسد". وبقدر ما يكون التعليم منفتحا على الجميع في البلدان المتقدمة, فأن فرص العمل هي الأخرى منفتحة لكلا الجنسين, وان المنافسة والاختيار تجري على أساس عوامل الخبرة والممارسة(مع بعض الاستثناءات). أما في بلداننا لازالت المرأة منافسا ضعيفا, والكثير من المهن موصدة بوجهها, وعلى الرغم من بعض الانجازات التي حققتها في بعض القطاعات المهنية, كالطبية, والهندسية, والتعليم, والإدارة وغيرها, إلا إن الغلبة فيها للرجال. أما في مجالات الترويح والرياضة بأنواعها المختلفة المعروفة:رياضة الكره بأنواعها, رياضة الماء, الدراجات البخارية والهوائية, الرقص, الغناء, الألعاب الحركية, السياحة والسفر, العزف على الآلات الموسيقية المختلفة, فأنها متاحة للجميع ويجري التخطيط لها ودعمها من الدولة والسلطات المحلية. أما في مجتمعاتنا فهي أن وجدت فهي للذكور فقط أو في اغلب الأحيان.

اليوم يمر العالم العربي والاسلامي بانتكاسة شديدة وتراجع لا مثيل له في انتهاك حقوق المرأة ومساواتها بالرجل جراء هيمنة الفكر الديني المتطرف واشتداد الحركات الاسلاموية الدموية المتطرفة وسيطرة النظم الرجعية والدكتاتورية على مقدرات المرأة والتحكم بمصيرها والحد من حركتها الشخصية والعامة, بل والتحكم بجسدها والتشريع والفتوى لإذلالها وربطها مصيريا بالسلطة الابوية البطريركية. فالى مزيدا من النظال من اجل حقوق المرأة كاملة, وليكن الثامن من آذار مناسبة لفضح انتهاكات حقوق المرأة وتعرية مسببيها, إن كانوا اشخاصا أم نظما سياسية أو حركات رجعية متطرفة وأسلاموية. وكل عام والمرأة بخير في عيدها العالمي !!!.










 



171
الحراك المدني الاجتماعي الشعبي وسيكولوجيا الميتافيزيقيا !!!


د.عامر صالح
في ظل الحراك المدني الشعبي الذي يشهده العراق الان دوريا وكل يوم جمعة وتيمنا بأن كل جمعة هي مباركة ومقدسة ولعلها تفضي الى حلحلة هموم العراقيين المبتلين بالجوع والمرض والبطالة والفساد وانتهاك الارض والمال والاعراض وضيق فسحة العيش وغياب استراتيحية واضحة لرسم معالم المستقبل في ظل اعلان قريب لافلاس الدولة العراقية, وتشديد سياسة شد الاحزم على البطون, من تقشف وتقليص للرواتب وتأخير لصرفها وهو مالم يحصل في اسوء الدول الافريقية, وقد اصبح شعار العراقيين الاستراتيجي هو: " أسكت وموت جوعا لسنوات قادمة لأننا نحارب داعش " !!!.

في ظل هذا التردي والتدهور المرضي المزمن الذي سببه النظام المتعفن الطائفي والمحصصاتي الذي زرع الرعب في الحياة اليومية الآمنة وعبث في كل مقدرات العيش الكريم وأفقد العراقين أساسيات العيش والبقاء المشترك, وحول الحياة الى جغرافيا مليشياوية ـ طائفية وأثنية كريهة بغضاء يجري فيها الاحتكام الى لغة السلاح والتهديد والفناء بدلا من لغة العقل والحوار والبقاء, في كل هذا المأساوي تنتعش خطابات فكرية ذات طبيعة ترفيهية فكرية يراد بها المتعة العقلية والمعرفية الذاتية بعيدا عن مصالح شعبنا ودون إدراك لخصوصية الصراع الجاري بين التيار العلماني والاسلاموي عبر تسوية مشوهة قوامها التنبأ غير المدروس بطبيعة المجتمع بأن هناك إمكانية للتحالف مع اليسار والقوى الاسلاموية الطائفية لايجاد حلول لمعضلات هذا البلد الدامي والمكتوي بنار الطائفية الاسلاموية والاثنية العرقية المكروهة !!!.

أنه جهل بحقائق الصراع وقوانينه الموضوعية وعدم فهم لما يجري من ضوابط في كيفية بناء دولة المواطنة المعاصرة, ولنقل انها أمنيات فارغة المحتوى تبررها سلوكيات الابتعاد عن الاحساس الفعلي بمعاناة شعبنا الحقيقية. فهل يستطيع التيار الصدري وغيري الصدري من الاسلامويين الطائفيين أن يبنوا أسس دولة المواطنة والدخول في تحالفات تاريخية تستدعيها مقومات الحفاظ عن الوطن, أنه رهان خاسر في العراق حصرا ولايجوز استنساخ التجارب التاريخية استنساخا أجتراريا يقترب من نمط إجراء التجارب على الحيوان وليست على الانسان العراقي !!!.

"الكادحون" في الحركات الاسلاموية الطائفية والمنظمون أليها بفعل عوامل الاندفاع الجغروطائفي لا يصلحون أصلا لبناء وطن يتعايش فيه الجميع مالم ينتفضوا في عمل جماعي ذو مسحة انسانية خالصة ويؤكدوا إنتمائهم للوطن العراق بعيدا عن ولائاتهم الضيقة للاطر الجغرافية والطائفية والاثنية ويتخلصوا من ولائات الحشود القطيعية الانفعالية المدمرة للوطن وإستقراراه. أنه عمل دؤوب تتوجه صناديق الاقتراع القادمة !!!.

أن الخلاص من الوصاية الابوية الدينية المتمثلة بكافة سلطاتها الهرمية من البيت الديني المتطرف, ثم من المسجد أو الجامع, وصعودا الى المرجعيات الدينية العليا ودوائر الافتاء المختلفة هي مدخل لازم لبناء مختلف التحالفات المشروعة والنزيهة في الحفاظ على الوطن والانتماء الى العراق بكل مكوناته الاثنية والمذهبية, ولا يمكن لتحالفات المستقبل ان تتم على أساس التفريط بالسيادة الوطنية والتي يدركها اليساريون قبل غيرهم. لقد حان الوقت لكي تكون المرجعية الدينية أكثر حيادية مما مضى وأن تعلن ولائها للوطن قبل كل شئ بعيدا عن مغازلتها لقوى الاسلامويين المختلفة. ولازال الدين لله والوطن للجميع وكفى شر التفريط في الوطن, كما إن الترف الفكري شئ والحفاظ على الوطن خط أحمر !!!.


172
الفساد الأخلاقي في ظل النظام الاسلاموي المحصصاتي !!!   


د.عامر صالح

في ظل ما تعرض له العراق من انهيارات كبرى في تدمير البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جراء سياسات النظام السابق وحروبه العبثية, ثم تلتها فترة الاحتلال الامريكي الذي أسس وهندس للنظام الطائفي والاثني المحصصاتي حيث اختلطت فيه السياسة بالدين بأبشع صورها لدرجة لا يمكن فيه تزكية النظام السياسي إلا بضوء أخضر من المرجعيات الدينية في السر والعلن وفي فتاوى للعوام والخواص من الناس حسب سنة الولاء للمرجعيات واهمية الفتاوى, واشاع فيه الفساد بما يزكم الإنوف, وبات فيه التدخل الاقليمي الايراني منه والخليجي مسلمة لا تحتاج الى المزيد من العناء لإماطة اللثام عنها في ظل غياب الدولة الحاضنة للجميع, كما اصبحت المحصصات الاثنية والقومية والطائفية قانونا وعرفا مقدسا لا يمكن الاقتراب منه وادنته !!!. 

كان ولا يزال الفساد الاداري والمالي والاخلاقي معلما خطيرا من معالم الحياة الحاضرة في العراق حيث احتلت الميليشيات الطائفية المسلحة والمافيات المنظمة عصب ومؤسسات الدولة وباتت تنافس الدولة, بل وتحل مكانها في الكثير من الاحداث الكبرى وتفرض على مؤسسات الدولة شروط عملها, وتفرض على المجتمع الذي غابت فيه مؤسسات الدولة وضعف فيها القانون والمسائلة قيم الفساد الاسلاموية الطائفية, وفرض نمط جديد من العلاقات الاجتماعية قوامه تفتيت البنية الاخلاقية وضرب العلاقات بين الجنسين في الصميم, عبر تحويلها الى علاقات مشرعنة بعرف الطائفية والمذهب, واضفاء نمط من السرية والاختفاء عن القانون المدني الذي ينظم علاقات الرجل بالمرأة, وخاصة في موضوعات الزواج والطلاق والاعتراف بحقوق المرأة !!!.

لقد انتشرت في العراق في السنوات الأخيرة ظاهرة الزواج خارج المحاكم, وقد انتشرت في أوساط مختلفة من حيث التعليم والثقافة والبيئة الاجتماعية والاقتصادية, وقد أخذت هذه الظاهرة طابعا مستفحلا وتنبئ عن مخاطر جدية على مستقبل المرأة بشكل خاص وعلى المجتمع بصورة عامة, مما استدعى تدخل القضاء العراقي ومنظمات المجتمع المدني, ومنها بشكل خاص المنظمات النسائية, وبهذا القدر أو ذاك تدخل البرلمان العراقي. وقد اتخذ الجهد التعبوي الثقافي والتوعية بمخاطر ذلك مسار لا بأس به, من حيث كون هذا النمط من الزواج يغيب حقوق المرأة وأطفالها ويحرمها من الإرث, إلى جانب كون هذا الزواج يستهدف البنات في أعمار مبكرة بما فيها القاصرات إلى جانب مختلف الفئات العمرية من النساء, ويهمش دور القضاء والدولة عموما باعتبارها الراعي والمسئول الأول عن رسم ملامح الاستقرار الأسري والاجتماعي بصورة عامة. هذا النوع من الزواج لم يكن موجودا قبل عقد من الزمن وكان يعاب عليه كل العيب, إلا إن ضعف الدولة وتدهورها وغياب الأمن وانتشار الفقر والبطالة وما رافق ذلك من تفكك للنسيج الاجتماعي والقيمي, جعل من أمراء الطوائف والمليشيات والمذهبية ـ السياسية يخترقون منظومة القيم الاجتماعية لتحل محلها قيم الاجتهاد والابتذال والتفسخ بواجهات دينية وغير دينية !!!.

أنه عمل مافيوي يقوم به مسؤولين كبار, من اعضاء برلمان الى مدراء دوائر وقادة في مختلف المستويات الادارية وقادة محليون في مختلف أجهزة الدولة, وعناصر في قوات الامن الوطني والشرطة والدفاع الى جانب شرائح اجتماعية محتلفة, وقد ذهب ضحيته أكثر من مليونين ونصف أمرأة بزواجات غير شرعية غير مسجلة لدى المحاكم, وقد لعب رجالات الدولة الاسلاموية الطائفية في شرعنة الفساد ونشره كثقافة تسهيل أمر شرعي !!!.

وتبدأ جذور تلك المأساة بظاهرة التحرش الجنسي بالنساء على كافة المستويات, في الشارع, وفي الحارة, وفي المؤسسة الادارية, وفي المحلة, وبشكل خاص عند بحثها عن فرص عمل, حيث يتم ارتهانها واغرائها واغتصابها " شرعيا " من دون بارقة أمل تذكر, بل يتحول مستقبل المرأة لاحقا الى عزاءات وفقدان أمل في فرص للعمل والزواج. لقد تحولت نسائنا الى دروع قضيبية للاسلاموين وثقافتهم النفعية والمشبعة في غريزة الفعل الجنسي المشرعنة !!!.

أن تدهورا قيميا خطيرا فرضته النماذج الاخلاقية للنظام المحصصاتي الذي غاب فيه الامن وغابت فيه حرمة المواطن, وبشكل خاص غابت فيه كرامة المرأة وحقوقها واختفت وراء ألسنة المشرعين من أمراء طوائف الاسلام السياسي, فتحولت المرأة فوق كل مظلوميتها الى ضحية مدانة وقد يتم تصفيتها حسديا بسهولة وبأمر من عشيرتها او والديها !!!.

لقد لعبت عوامل الفقر والحرمان وانعدام فرص العمل والعيش الكريم, الى جانب تمركز المال والفساد بيد زعماء الطوائف والقادة السياسين دورا كبيرا في استمالة المرأة وتحويلها الى موضوع فعل جنسي يتم استغلاله ومن ثم شرعنته. وقد لعبت عوامل أخرى اساسية في تكريس صورة المرأة السيئة في المجتمع واعتبارها موضوعا سهلا تسهل استباحته, وهو غياب نظام تربوي وتعليمي قائم في مناهجه على فكر المساواة الصريحة والواضحة بين الجنسين, لكي يقوم ببث المنظومة القيمية واعادة توليدها في المجتمع. فقد كرست في عهد الاسلامويين اليوم فكرة الفصل بين الجنسيين الى ابعد الحدود وفروض قيود على حركتها وامتهان حقوقها مما يسهل امتهانها كانسان وكجنس !!!.
 
انه عمل انساني دؤوب ينتظر منظمات المجتمع المدني وفكر العدالة الاجتماعية وحركاته المعبرة ان ينتشل المرأة العراقية من براثن الفساد الاسلاموي والاستغلال الجنسي, والارتقاء بكرامتها وتأكيد حقها المطلق في الكرامة والمساواة, وتأمين ظروف افضل لها لتأمين أمنها الشخصي والاجتماعي وتخليصها من المافيات الجنسية المشرعنة !!!.




173
محاولات تشويه الحراك الاجتماعي عبر اشعال الحريق الاقليمي الطائفي !!!

د.عامر صالح 

اسدل الستار على وجه بارز من وجوه الحراك الاجتماعي النشطة بأقدام المملكة العربية السعودية على اعدام الشيخ نمر باقر النمر ( 56 عاما ) أحد دعاة رموز الاصلاح في بلد تقوده حكومة وأسرة مالكة لا تؤمن بالاصلاح والتغير أصلا. وقد نفذ حكم الاعدام به مع مجموعة من مختلف التيارات في طبخة نوعية كان عنوانها مكافة الارهاب في ظل حكومة تقود الارهاب وتعيد انتاجه فكريا وطائفيا وسلوكيا. وقد هيأت الآلة الاعلامية السعودية والعربية ـ  السعودية المتواطئة معها منذ اعتقال النمر عبر معزوفة عقيمة غبية قوامها أن لا فرق بين الارهاب ان كان سني ام شيعي, في محاولة بائسة لكسب الرأي العام العالمي ولذر الرماد في العيون ولتنفيذ الجريمة بأقل ما يمكن من الادانة الدولية !!!.

ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن آل سعود فقد اشارت منظمة هيومان رايتس ووتش الاحد الى ان الاعدامات التي اعلنت المملكة العربية السعودية تنفيذها السبت المصادف 2016ـ01ـ02  بحق 47 شخصا، هي اكبر عملية “اعدام جماعي” في البلاد منذ العام 1980.
وكانت وزارة الداخلية السعودية اعلنت السبت 2016ـ01ـ02 اعدام 47 شخصا مدانين “بالارهاب”، من بينهم رجل الدين الشيعي البارز الشيخ نمر باقر النمر الذي اعتبرت المنظمة انه خضع لمحاكمة “غير عادلة”.
وقالت المنظمة الحقوقية التي تتخذ من نيويورك مقرا لها ان “السلطات السعودية نفذت اكبر عملية اعدام جماعي في البلاد منذ 1980″.
واوضحت ان الاعدامات التي نفذت مطلع 2016، “تلي تسجيل اعلى عدد من الاعدامات السنوية خلال عام، مع 158 اعداما في 2015″.
وقالت مديرة الشرق الاوسط في المنظمة سارة ليا ويستون ان “السعودية حظيت ببداية مخجلة لسنة 2016، عبر اعدام 47 شخصا في يوم واحد، بعد عام شهد واحدا من اعلى معدلات الاعدام في التاريخ الحديث”.
وحذرت من ان اعدام النمر، ابرز وجوه الاحتجاجات في المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية في 2011، يهدد بزيادة التوتر المذهبي.
ورأت ويستون ان “اعدام السعودية لرجل الدين الشيعي البارز بعد محاكمة غير عادلة، يضيف الى الخلاف المذهبي”، معتبرة ان “درب المملكة العربية السعودية للاستقرار في المنطقة الشرقية يقوم على انهاء التمييز المنهجي ضد المواطنين الشيعة، لا في عمليات الاعدام”.
وكان مدير منظمة العفو الدولية في الشرق الاوسط فيليب لوثر قال لوكالة فرانس برس السبت ان السعودية “تصفي حسابات سياسية”.
واعتبر ان اعدام النمر “محاولة لاسكات الانتقادات ضد النظام وخصوصا في صفوف مجموعات الناشطين الشيعة”، معتبرا ان محاكمة الشيخ النمر كانت “غير عادلة بوضوح”.
وكان النمر من ابرز وجوه الاحتجاجات التي اندلعت في شرق المملكة ضد الاسرة الحاكمة في 2011. ولقي اعدامه احتجاجات واسعة لدى اطراف شيعية بارزة، لا سيما في ايران حيث هاجم محتجون غاضبون امس سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد. 

لقد تحولت قضية اعدام النمر الى مناسبة لاشعال الفتنة الطائفية الاقليمية واستخدام اعدامه كوقود رخيص وشديد الاشتعال لاثارة الفتنة الطائفية الاقليمية, وقد طفق كل من نظامي ولاية الفقيه وخادم الحرمين الشريفين يتصارعا في ادانة الاخر عبر البحث عن جرائم كل منهما ضد الانسانية, من قتل وتعذيب ومقابر جماعية وأبادة عرقية, حيث ان كلا النظامين ذو باع طويل في معاداة حقوق الانسان في الديمقراطية والحرية واحترام الرأي المعارض !!!.

وقد استطاع القطبان الطائفيان باستنهاض الشعور الجمعي وتعبئة حلفائهما في الدول العربية والاسلامية في لبنان والعراق وسوريا واليمن بشكل خاص وباقي الدول العربية  والاسلامية لتحويل قضية النمر الى ساحة معركة مكشوفة بانتظار اليوم الموعود للمنازلة الكبرى لتصفية الحساب بين الاخويين الاسلامويين, بعد ان خربا سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا وتونس وغيرها من البلدان العربية والاسلامية !!!.

وقد تدخل العالم الغربي والامريكي ذو الدين والثقافة المغايرة يلتمسهم الرحمة بابناء جلدتهم, بعد ان ادان بشكل واضح وعلني جريمة النظام السعودي في ارتكاب عملية اعدام النمر ومن اختلط معه في مباغتة جبانه. وقد انقسمت الدول العربية من الداخل الى فريقين, احدهما ساكت او مناصر للسعودية في ارتكاب جريمتها النكراء, والاخر يضيع قضية الشيخ النمر ويحصرها في أطر طائفية ومذهبية ضيقة ويدعو الى اخذ الثأر والانتقام من العربية السعودية في محاولة بائسة لالغاء قضية الشيخ النمر وحصرها في اطار مذهبي طائفي وسياسي واضعاف مغزاها الحركي والانساني العام !!!.

لقد اندفعت الحكومات والمليشيات الطائفية الاسلاموية في العديد من البلدان العربية وقد زرعت الفقر والخراب والفساد الاداري والمالي والاخلاقي وتفكيك النسيج المجتمعي الاجتماعي لتعلن ولائها المشوه للطائفة ونصرة حلفائها, ملحقة الاذى بشعوبها اولا بعد ان اوصلتها الى تحت خط الفقر والتفكك والجريمة والشللية, لتعلن استعدادها للمواجهة في حروب غير عادلة عبر استنفار المزاج الطائفي الخطير بتداعياته واندفاعاته العدوانية, في مواجهة لا ناقة فيها لشعوبنا ولا جمل. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد انقسم السياسون العراقيون الى فريقين, احدهما مناصرا لآل سعود في جريمتهم, والاخر مناصرا للانتماء المذهبي للشيخ النمر دون وعي بقضيته, وكان كلا المزاجين مندفعين تحت وطأة الصراع الطائفي السياسي الاقليمي بزعامة المتصارعين, ايران والسعودية !!!.

أكثر ما أثار السعودية وسلوكها العدواني هو المقدرة الايرانية ـ الفارسية المرنة على التحاور مع العالم الخارجي في ملفات عديدة, منها الملف النووي, الذي ترافق انجازه مع رفع العقوبات على ايران ووضع حد لعزلتها الدولية, انها مقدرة فارسية بامتياز مقابل فشل سعودي في اغلب سياساته, منها على سبيل المثال, هو الاحلاف العديدة الفاشلة, كالحلف لانقاذ اليمن ولكنه تحول الى حلف لتدمير اليمن وانهاء بنيته التحتية, والحلف الاسلامي البروتوكولي ضد الارهاب الذي يخفي الجرائم الارهابية ويضفي شرعية على رموز مرتكبيها, ودور السعودية وحلفائها الخليجين في فرض خيارات التطرف الاسلاموي على مجمل التغيرات الجارية في البلاد العربية, والفشل في اقناع العالم باجمعه بما فيها حلفاء السعودية من انها دولة ليست راعية للارهاب, بل اقتنع العالم كله في الخفاء والعلن ان السعودية وفكرها المتطرف هي على رأس قائمة الدول الراعية للارهاب !!!. 

لقد لحق كل من التعنت الايراني الطائفي السياسي والممزوج بنكهة الهيمنة الاقليمية الفارسية, الى جانب الانتقام الطائفي السياسي السعودي وردود افعاله القاتلة والقائمة على خلفية تكفير الاخر المغاير بدور العبث في استقرار المنطقة وفرض خيارات طائفية سياسية على مجمل التغيرات الجارية في المنطقة العربية, والوقوف ضد اي تجارب حقيقية صوب الديمقراطية السياسية الحقيقية !!!.
  ومهما اختلفنا مع الشيخ النمر في تطلعاته المذهبية السياسية فأن نضاله من اجل تحويل شبه الجزيرة العربية الى ملكية دستورية واللجوء الى خيارات اختيار المسؤولين عبر االانتخابات دون تميز ديني ومذهبي وعرقي, ومحاربة الارهاب فكرا وممارسة,  ومحاربة الفساد الاداري والمالي والتفريط بالمال العام من قبل النخبة الحاكمة,ومن ثم تغير اسم المملكة العربية السعودية من اسم لدولة بأسم آل سعود العائلة الحاكمة المالكة كما هو الحال في " المملكة العربية السعودية " الى أسم اخر لشبه جزيرة العرب يعبر عن انتماء الجميع لهذا الوطن. انها طموحات مشروعة باقل ما يمكن من المطالب الانسانية العادلة. وتبقى قضية النمر عادلة بعيدا عن تجيرها طائفيا او استثمارها لتغذية الصراعات الاقليمية ذات الصبغة الطائفية السياسية الاقصائية !!!.


174
الارهاب منظومة سيكولوجية عقلية متحجرة فهل يستطيع التحالف الاسلامي بقيادة السعودية القضاء عليه ؟؟؟
 

د.عامر صالح
لقد قررت 34 دولة إسلامية، تشكيل تحالف عسكري بقيادة المملكة العربية السعودية، لمحاربة الإرهاب، يكون مقره في العاصمة الرياض لقيادة العمليات والتنسيق. وبحسب البيان الذي نقلته انذاك وكالة الانباء السعودية في وقت متأخر من مساء الاثنين المصادف 14ـ12ـ2015, فان التحالف جاء " انطلاقا من احكام اتفاقية منظمة التعاون الاسلامي لمكافحة الارهاب بجميع اشكاله ومظاهره والقضاء على اهدافه ومسبباته, وأداء لواجب حماية الأمة من شرور كل الجماعات والتنظيمات الارهابية المسلحة أيا كان مذهبها وتسميتها, والتي تعبث في الارض قتلا وفسادا وتهدف الى ترويع الآمنين ". 

ووفق البيان، شارك في التحالف 34 دولة عضوا بمنظمة التعاون الإسلامي هي "المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والإمارات العربية المتحدة، وجمهورية باكستان الإسلامية، ومملكة البحرين، وجمهورية بنغلاديش الشعبية، وجمهورية بنين، والجمهورية التركية، وجمهورية تشاد، وجمهورية توغو، والجمهورية التونسية، وجمهورية جيبوتي، وجمهورية السنغال، وجمهورية السودان، وجمهورية سيراليون، وجمهورية الصومال، وجمهورية الغابون، وجمهورية غينيا، ودولة فلسطين، وجمهورية القمر الاتحادية الإسلامية، ودولة قطر، وكوت ديفوار، ودولة الكويت، والجمهورية اللبنانية، ودولة ليبيا، وجمهورية المالديف، وجمهورية مالي، ومملكة اتحاد ماليزيا، وجمهورية مصر العربية، والمملكة المغربية، والجمهورية الإسلامية الموريتانية، وجمهورية النيجر، وجمهورية نيجيريا الاتحادية، والجمهورية اليمنية !!!.

لقد جاء التحالف الاسلامي ضد الارهاب كاستجابة انفعالية سريعة من العربية السعودية وليست خيارا ناضجا ومدروسا وحقيقيا لمحاربة الارهاب, وأكثر ما يقال ان الحلف جاء على خلفية فشل " عاصفة الحزم " على اليمن والتي تقودها السعودية ولم تنجز أي هدف من اهدافها, سواء على مستوى اداعها لبناء الاستقرار السياسي في اليمن أو اعادة بنائه, ومن ثم الخوف السعودي المفرط من التمدد الشيعي ـ السياسي في المنطقة والذي قاد السعودية الى الاعلان عن الحلف بواجهة محاربة الارهاب " بكل اشكاله ومسمياته ومذاهبه ", وهو حلف سني بطابعه العام وقد اريد له ان يكون بمواجهة الحلف الشيعي. وان كلا الحلفين يمتلكان من المقدرة في العبث بالامن والاستقرار الاقليمي !!!.

هنا أقول بوضوح ان الكثير من هذه الدول المنظمة الى التحالف الاسلامي السعودي هي دول راعية للارهاب وداعمة له وتقدم كل المستلزمات العسكرية واللوجستية والمالية له, ويكفي ان يطلع القارئ على قائمة الدول الداخلة فيه, وقد تكون واجهة الحلف هو محاربة داعش الشماعة العلنية للارهاب الآن ومادة المزايدة العلنية في القضاء على الارهاب, ولكن الباطن يخفي الكوارث في هذا الحلف, من دعم متزايد لفصائل أخرى ارهابية متطرفة, والى اتخاذ الحلف واجهة شرعية لمحاربة فصائل اخرى تحت واجهة مسميات الارهاب, وعلى العموم فأن هذا الحلف جاء مرتبكا لاخطط فيه ولا استرتيجية ملموسه ولا اهداف واضحة ولا آليات للتنفيذ !!!.

وقد دخلت بعض الدول العربية والاسلامية في هذا الحلف ليست بدوافع محاربة الارهاب بل هي جزء منه, ولكنها تنتظر الدعم السعودي المالي لها وحقائب الدولار السخي, مع العلم ان المؤشرات عن العجز المالي السعودي قد لا تسمح بمزيدا من العطاء المجاني كما هي العادة سابقا, فأن صندوق النقد الدولي توقع ان يبلغ العجز في الميزانية الجديدة حوالي 130 مليار دولار، بالمقارنة مع ميزانية العام الماضي (2014) التي سجلت عجزا في حدود 17.5 مليار دولار، ولكن هذا العجز ربما يتزايد في حال استمرار الانهيار في اسعار النفط، حيث اكد تقرير لمنظمة (اوبك) جرى نشره سابقا ان انخفاض الاسعار سيستمر لاربع سنوات قادمة.

ان محاربة الارهاب هو ليست فقط بحمل السلاح والقضاء على فصيل ما مسلح جرى تصنيفه ضمن قائمة المنظمات الارهابية, وان كان ذلك ميدانيا ضرورة لا بد منها وخاصة في ظل اجماع دولي على هذا الفصيل او تلك وداعش في المقدمة, ولكن الاهم من كل هذا هو الوقوف ضد منابع الارهاب الفكرية والعقائدية وخاصة الدينية منها, كي لا يعاد انتاج الارهاب ثانية وبمسميات أخرى ما دامت التربة الفكرية والعقائدية والبيئة الاجتماعية صالحة لإعادة نوبات الارهاب. أنا متأكد" على سبيل المثال لا الحصر" ان العراق سيقضي على داعش قريبا ولكن هذا لا يعني الخلاص من الارهاب نهائيا مادامت قنوات الارهاب, من سوء أوضاع وتردي عام وفساد في كل مظاهر الحياة تشكل ارضية خصبة لولادة دواعش جدد, وكذلك التحالف الدولي وليست الاسلامي السعودي هو الاخر سيقضي مؤقتا على داعش, ولكن العثور على حلول جذرية لمناطق الصراع المستعرة بفكر التطرف الديني والايديولجي هو أكثر ألحاحا لتأمين المستقبل ومنع الارهاب !!!. 

الإرهاب بدون شك له بيئة حاضنة ومواتية لديمومته وبقائه, ولا يعني أبدا القضاء عليه مباشرة بالحشود العالمية العسكرية يعني اختفائه عن الظهور ثانية, لان سنة البحث العلمي تستدعي معالجة الظاهرة من خلال أسبابها وليست من خلال قطع دابر الأعراض وبقاء الأسباب, ومن هنا تأتي أهمية التزامن في القضاء على الأذرع العسكرية للإرهاب مع مجمل تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في البيئة التي ينتعش فيها الإرهاب بمختلف مسمياته " داعش وأخواتها " !!!.

أسوق هنا بعض من العوامل العامة التي تعتبر بيئة حاضنة للتحجر العقلي وما يفرزه من مظاهر, وفي مقدمتها الارهاب, وأبرز هذه العوامل هي:

1 ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

2 ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده هو صالح لكل زمان ومكان, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

3 ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا الى قمة النظم السياسية القمعية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي الى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

هذه العوامل مجتمعة وعبر إعادة إنتاجها وتكريسها لعقود قادرة على خلق عقل متحجر وبوابة واسعة للعنف والقتل والإرهاب. وهنا ألخص محددات العقل المتحجر والمهيأ لشتى صنوف الإرهاب والعنف الفردي والجماعي بعدد من المعايير, كما عرضها هاشم صالح في مقدمته لكتاب لمحمد أركون والموسوم: الفكر الإسلامي .. قراءة علمية, وعلق عليها لاحق الكاتب محمد المطيري, وهي مأخوذة من المفكر " ميلتون روكيش " وقمت بمطاوعتها لطبيعة مقالي هذا, وهي كالأتي: 

1 ـ يمكن تحديد دوغمائية عقل ما من خلال حدة أو شدة فصله بين المعتقدات التي يقتنع بها والمعتقدات التي يرفضها, حيث لا يستطيع أن يتصور أن في العالم سوى فريقين, فريقه هو وفريق خصمه, وأن هذا الحد أو الفصل يلغي منطقة الوسط. ومن أجل أن يحافظ العقل الدوغماتي على هذا الفصل الحاد فأنه يؤكد باستمرار على الخلافات بينه وبين المخالفين له, وأن اغلب خطاباته توجه لتحقيق هذا الهدف مما يضمن له تجيش أتباعه وشحنهم بشحنة انفعالية سالبة تسهل سوقهم كالقطيع بأي اتجاه يريد. أيضا يهاجم هذا العقل أية محاولة للتقريب والحوار بين الطرفين. أيضا يلجأ العقل المتحجر إلى تجاهل وإنكار الوقائع والأحداث التي تكشف زيف ادعاءاته. أيضا لدى العقل المتحجر قدرة على تقبل التناقضات داخل منظومته الفكرية. هذه العقلية بصورة عامة تشكل أرضا خصبة للسلوك الإرهابي, ولا تؤمن بالحوار بين الأديان والعقائد الأخرى,كما يتصور عالمه " على سبيل المثال العالم الإسلامي " بالعالم المتحضر والمتقدم والعالم الآخر " الغربي " يقبع في الجهل والظلام متجاهلا كل الحقائق الموضوعية التي تنفي إدعاءه, وهذا العقل أيضا يكفر الآخر ويلغيه بكل الوسائل المتاحة وبشراسة.

2 ـ من معايير الحكم على عقل ما بأنه دوغماتي متحجر أنه لا يميز بين العقائد والأفكار التي يرفضها. فهو يضعها في سلة واحدة هي سلة الخطأ والضلال, دون أن يكلف نفسه بالبحث في نقاط الالتقاء والتقارب مع الأفكار المخالفة. ونلاحظ ذلك بشكل واضح لدى الأوساط الإسلامية المتشددة عندما يجمعون غير المسلمين كلهم في دائرة الكفار, وكذلك ما يمارسه الكثير من الدوغمائين الايديولوجين وحملة العقائد السياسية من إلغاء للآخرين وعدم الاعتراف بهم بعيدا عن التفاصيل التي تميز بينهم.

3 ـ كما أن من معايير انغلاق عقل ما وتحجره هو الوثوقية المغرقة وتكاثر المسلمات في منظومته الفكرية. فأن كانت كل منظومة فكرية تقوم على عدد بسيط من المسلمات تؤسس للفكر ثم تترك الحرية للناس أن يجتهدوا, فأننا نجد أن مسلمات العقل الدوغمائي تتوالد باستمرار لتقفل كل منافذ للاجتهاد والتفكير. ولذا نجد عندنا أن مقولات لأشخاص عاشوا في القرن الثامن الهجري تتحول إلى مسلمات لا يجوز النقاش حولها أو نقدها. وكذلك نجد أن التفاسير والشروح والفتاوى تتحول من كونها اجتهادات بشر تقبل الصواب والخطأ إلى كونها مسلمات وثوابت لا يجوز المساس بها, ومن أقترب منها تعرض لأصناف الهجوم من تكفير وتفسيق وتضليل وغيرها من أدوات الإقصاء. كما نلاحظ اليوم في عالم السياسة والإيديولوجيات المنتشرة شيوع ظاهرة الحفظ والتلقين للمقولات والشعارات واختزال عالم السياسة المتنوع من خلالها وتحويلها إلى نصوص جاهزة تبنى عليها برامج " تنموية " دون العودة إليها ونقدها في عالم متغير, وقد تلحق أفدح الأضرار بنتائجها النهائية, وتشكل مقولات " قائد الضرورة " و " ملهم الشعب " و " حجة الإسلام " و " خليفة المسلمين " و " راعي الشعب " وغيرها من المسميات, استراتيجيات عمل لعقود قادمة جالبة المزيد من الكوارث !!!!!.

4 ـ تزداد وثوقية عقل ما وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصامات هائلة في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. العقل ألوثوقي المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته.

تلك هي ابرز الملامح السيكولوجية والفكرية والعقلية والتي تشكل استعدادا لا ياستهان به في خلق وإدامة الإرهاب وإعادة انتاجه, وتشكل السعودية والاغلبية من دول التحالف الاسلامي بقيادة السعودية احد اهم المصادر الاساسية لاعادة توليد تلك المنظومة الارهابية فكريا وثقافيا وعقليا عبر تظمها التربوية والثقافية والتعليمية, وانتاج اجيال من الارهابين القتلة. أن الحديث عن قيادة السعودية للحلف الاسلامي يجب ان يسبقه الحديث عن الديمقراطية في السعودية وفي الدول المتحالفة معها كي تكون أهلا لمحاربة الارهاب ومنع اعادة توليده, فاليوم داعش وغدا الله أعلم, وشعوبنا وقودا رخيص للصراعات الطائفية السياسية والمذهبية بكل ألوانها !!!!!.




175
هل يعقل ان السعودية وحلفائها تريد بناء ديمقراطية في سوريا !!!

د.عامر صالح


تأخر النظام السوري بقيادة بشار الاسد بأصلاح نظامه السياسي الذي تآكل بفعل انتهاء صلاحية بقائه, ولم يسمع النظام نصيحة من أحد بضرورات الاصلاح والاقلاع عن عادات وممارسات وطقوس الحزب الواحد, ولم يشرع جادا في بناء منظومة سياسية ـ اقتصادية جديدة للنهوض بسوريا الجميلة صوب الديمقراطية والتعددية السياسية, وكانت مخاوفه غير مشروعة ان تختلط سوريا " بالخريف العربي " وبؤس نماذجها الدموية في ليبيا ومصر وتونس واليمن, ولكن تناسى النظام ان الاصلاح ضروري للبقاء وسر ديمومته ويحقن الدماء ويوفر فرصا للجميع في العيش الكريم !!!.

لقد فات الاوان مما ترك سوريا العزيزة لقمة صائغة في فم ذئاب الاسلام السياسي الذي يتحين الفرص لايقاع الاذى وزرع الخراب والدمار في سوريا وتحويلها الى مدن اشباح, قتل فيها ربع مليون وشرد فيها أكثر من خمسة ملايين جراء ثقافة الثأر والقتل المتبادل, حتى تحولت سوريا الى ساحة معركة عالمية وتصفية حسابات اقليمية وأجندة مشوهة يحملها اشد الانظمة تخلفا في التاريخ ممثلا بمحور السعودية ـ قطر ـ تركيا, دون أي افق لانقاذ هذا الشعب من مظلوميته التاريخية !!!.

اليوم تقف السعودية على رأس البلدان لاحتضان المعارضة السورية وبنوايا معروفة للجميع عبر احتضان الفصائل الاسلامية المتطرفة والقاعدية بمسحتها العامة, لكي تكون لاحقا مظلة دموية ويصبح فيها الحق لمن يمتلك قوة السلاح لفرض أجندته, والاشتراط في ذلك غياب الاسد عن المشهد السياسي كي تكون الفرصة سانحة لاستنساخ النموذج الليبي واليمني والتونسي وعبر فوهة بنادق الارهاب باقصى سرعة ممكنة. هذا ليست دفاعا عن الاسد وبقائه ولكن خصوصية التغير في بلداننا بعد عقود من نظام الحزب الواحد تستدعي آلية مرنة تسهل الانتقال بعيدا عن المزيد من اراقة الدماء والتهجير والسبي والقتل, وتخريب وفناء مؤسسات الدولة وأجهزتها, وخاصة بحضور مظلة دولية لمراقبة التحولات السياسية في البلد !!!.

هل يعقل لبلد مثل السعودية مطابق لداعش في صيرورته ان يبني ديمقراطية في سوريا, حيث يمارس النظام يوميا حد الحرابة, وحد الردة, وقطع الايدي, وتكفير الاخر بفتوى بسيطة ساذجة, وجهاز حسبة يراقب الناس في ملابسهم وتصرفاتهم, وقتل السحرة, والجلد أمام الملئ, وتدمير الاضرحة والتماثيل بحجة الشرك, تمويل الارهاب والمنظمات الجهادية والقاعدة منها, وانتحال صفات مشابهة: خليفة المسلمين أبو بكر البغدادي وخادم الحرمين الشريفين. لقد نطقت منظمات حقوق الانسان بتجاوزات السعودية بتجاوزات السعودية, ولكن النفط والمصالح الامريكية كانت أعلى من صوت حقوق الانسان !!!.

المؤسسات الدينية الملوثة بالسياسة بمختلف اطيافها السنية والشيعية , السعودية والايرانية والعراقية وغيرها,لا تلعب دورا تقدميا ابدا, بل تلعب دورا في انتهاك الحرمات للبلدان عبر نفاق استثمار الدين وزجه في السياسة, فلا مرجعية الشيعة السياسية تبني مستقبلا, ولا مرجعية السنة تواقة للمستقبل, والدين أفيون للشعوب عندما يستثمر في غير مكانه, ولاعزاء  لمن لا يعرف كي تأكل الكتف. كن يا بشار الاسد طبيبا ذكيا في التشخيص والعلاج قبل ان يدخلو القضيب الخشبي في مقعدك كما فعلوه مع القذافي, وعندها سنترحم عليك لان القادم بعدك أسوء !!!.


 

176
في سيكولوجيا الإختلاف الإنساني وجرثومة التعصب !!!

د.عامر صالح

يقصد بالاختلاف في السياق المطروح هنا «الاختلاف الثقافي» أي  اختلاف ثقافة عن أخرى بوصفها ظاهرة محسوسة، وتشهد بها سمات عدة في الثقافة نفسها أبرزها اللغة والدين والمذهب والمعتقدات الايديولوجية والتاريخ والتقاليد والمنتجات المعرفية والذوقية والانتماء القومي وأنماط من السلوك والاعراف التي تميز المجتمعات المحلية الصغرى في اطار المجتمع العام او الحاضنة الاكبر. أما الاختلاف هنا كميكانزم للتنوع فهو اختلاف في الوسائل مع الاتحاد بين المختلفين في الغايات, على عكس الخلاف الذي يحمل في مضمونه معنى النزاع والشقاق والتشرذم والنفاق فهو اختلاف في الوسائل والغايات !!!.

 يعد الاختلاف من قوانين الكون الطبيعية والاجتماعية الازلية والتي تعد قيمة جوهرية محملة بالدلالات والمعاني التي تكفل التعايش جنبا إلى جنب بين مكونات المجتمع والطبيعة على السواء ,وهي أعلى درجات الرقي الإنساني في التعامل مع فنون الحياة وقيمتها, ومع مكونات الطبيعة وعناصرها المؤلفة ,وإضفاء معنى للوجود, وهي ميزة تطبع روح التعامل بين أبناء البشر ,في اختلاف طبائعهم ومعتقداتهم بغية العيش المشترك وايجاد لغة مشتركة للتكافل والتوافق والاندماج الاجتماعي عبر الاستثمار الافضل للخصوصيات الاثنية والثقافية والدينية والفكرية في الحفاظ على النسيج الاجتماعي العام مع الحفاظ على الهوية الذاتية او الفرعية للمكونات الاجتماعية المختلفة !!!.   

لقد نشأت العضوية الانسانية تأريخيا في مجرى الصراع من أجل البقاء على أساس متباين ومختلف من الناحية الرسية والوظيفية, فتباينت في ملامحها العامة من حيث قوامها الجسمي, طولا وقصرا, ومتطرف الطول أو القصر, وأختلفت في لونها, من أسود الى أسمر وأبيض ومتراوح بين هذا وذاك, وأختلف النوع الانساني بلون عينيه, من أخضر وأزرق وأسود وعسلي الى اخره, لا بل أختلف النوع الانساني وظيفيا بقدراته النفسية والعقلية ومستويات ادائه رغم امتلاكه مقومات تشريحية متشابهة على مستوى النوع من حيث ان النوع الانساني يمتلك منظومتين, الاولى حسية والاخرى لغوية, وقد اختلفت احساساتنا وتنوعت لغاتنا وأفكارنا الى ما لانهاية !!!.

ومن هنا وبفعل تنوع ظروف حياتنا التي لا حصر لها ولا حدود فقد تنوعت قدراتنا العقلية ومواهبنا الفكرية والثقافية والسياسية والايديولوجية وانساق تفكيرنا وطريقة حلنا للمشكلات التي تعترينا يوميا, وقد انتجنا منظومة فكرية معقدة وهائلة, وبالتالي اختلفت الانسانية في مسارات تطورها ورقيها على طريق تأكيد انسانية الانسان وكرامته, ولكن بقى الاحساس الانساني العام لما هو مشترك يوحد الانسانية جمعاء في محاربة الفقر والجهل والامية وغياب العدالة الاجتماعية ومحاربة الارهاب والتطرف الفكري الايديولوجي والديني الذي يخالف سنة الطبيعة الانسانية ويهدد فنائها بين لحظة وأخرى, وينكر على الانسانية ضرورة الاختلاف باعتباره احد عوامل البقاء والاستمرار وأبرز تجليات بقاء المجتعات متماسكة وضامنة لكينونتها واستمرارها, والاختلاف هنا ليست على مستوى المجتمعات فقط بل على مستوى الطبيعة كلها, فجمال الطبيعة يكمن في سحر اختلاف مكوناتها وتألقها باتحاد عناصرها راسمة للكون أجمل وأبهى صور السحر والجمال !!!.
وقد حاولت الكثير من النظم التعليمية والتربوية في العالم والتي تأثرت بفكرة المساواة الشكلية بين الافراد عبر فلسفة الدولة العامة في تصميم مناهج اعداد وتنشئة تؤدي الى رفع مستويات الاداء وتحسينه, بل وحاولت تسويته بين الافراد, انطلاقا من الفلسفة الانسانية العامة التي تؤكد على تحسين ظروف العيش ورفعه لكي يتساوى الناس في مختلف القدرات والقابليات والمواهب, ومع كل هذا بقى الناس مختلفين في قدراتهم وأدائهم العقلي والفكري وطرائق التكيف والعيش المشترك, رغم ما لحق البيئة الاجتماعية من تحسن عام لظروف الوجود. أما النظم اديمقراطية الغربية فتبنى أساسا على الاستثمار الاقصى للفروق الفردية بين الافراد والجماعات لتوظيفها في خدمة التكامل والاندماج الاجتماعي المرن الذي يضمن مصالح الجميع عبر وحدة المشتركات الانسانية العامة في اطار منافسة ديمقراطية حرة !!!. 

لقد خاضت البشرية حروب دموية شرسة بواجهات دينية ومذهبية وطائفية وشوفينية عرقية في العالمين الاوربي والامريكي وخارجهما, وانتهى مفكروها في نهاية الامر الى بلورة رؤية موضوعية للاختلاف, والى الاعتراف بقانونيته واعطائه صبغة ثقافية رسمية, وقراءة سريعة في بيان الجمعية العامة للامم المتحدة الصادر في عام 2002, والتي اعلنت يوم 21 ماي اليوم العالمي للتنوع الثقافي من اجل الحوار والتنمية, والذي اكد على ضرورة الحوار بين الثقافات, والتنوع الثقافي والشمول, ومحاربة الصور النمطية والاستقطاب من اجل تحسين التفاهم والتعايش بين الناس من مختلف الثقافات. ليتبين لنا ان البشرية تسعى اليوم الى اعتماد قيم الانفتاح والتسامح والنسبية والتعددية وحقوق الانسان, وأن الاختلاف هو الديمقراطية وروحها. وكل ذلك هو ترجمة عملية للاعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتُمد في 10 كانون الاول/ ديسمبر 1948، والذي يعتبر من أعظم إنجازات الحضارة البشرية. فقد أكّد هذا الإعلان، للمرة الأولى في التاريخ، تساوي البشر كافة في الحقوق والكرامة بدون أي تمييز بينهم. واليوم تشتعل في منطقتنا حروب بواجهات مذهبية ودينية وعرقية تهدد انجازات البشرية في السلم والاستقرار والعيش المشترك وتلغي مستقبل الاجيال القادمة !!!.

عدم تقبل الاخر المختلف معك بمختلف صفاته الجسمية والعقلية والفكرية والمذهبية والدينية والقومية الاثنية يعني عدم تقبل الذات لأن قبول اختلافك معه هو تأكيد لذاتك, فلولا اختلافك معه لما تميزت عنه ولا كنت انت, وبالتالي نفي الاختلاف وعدم الاعتراف بالمختلف يعني ان توفر فرص أو ممهدات لسلوكيات اقصاء الاخر وعدم الاعتراف بوجوده, وهي مقدمات للعدوان والابادة الفردية والجماعية للاخر المختلف, وهي بنفس الوقت مقدمات توفر اخطر الفرص للفناء الذاتي بطرق الاستنزاف البطيئ والطويل الامد, كما تشهده اليوم دائرة الصراع الاقليمي العربي والاسلامي والقائمة اصلا على الغاء الاخر المختلف في الدين والمذهب والطائفة والعرق والقومية الى درجة ينذر المنطقة كاملة بمزيدا من التآكل والتدهور وانعدام افق الاستقرار !!!.

ومن أهم مصادر نفي الاخر المختلف وعدم تقبله, وبالتالي عدم تقبل الذات والايغال في التدمير الذاتي هو:
1 ـ التطرف الديني والمذهبي بمختلف اشكاله, سنية وشيعية, اسلامية ويهودية ومسيحية, وعدم احترام معتقدات الاخر المختلف معك في الدين والمذهب, وتكفيره ونفيه ثم تصفيته جسديا والبحث في النصوص المقدسة عن مبررات للقتل والابادة لكي يرتاح ضمير المجرم القاتل, الذي لا ضمير له. نموذج القاعدة وداعش وما شابهها من اخطر النماذج التي ترتكب جرائم إبادة جماعية ضد الانسانية !!!.

2 ـ النظم الدكناتورية والفاشية, المؤدلجة منها والمتأسلمة والتي تمارس قمعا يوميا وتفتح ابواب سجونها لاستقبال معارضيها بمزيدا من التعذيب والقتل والتنكيل والتخوين والاذلال والتشكيك بوطنية من يقع في سجونهم في محاولة لالغاء اي مخالف في الرأي والمعتقد والقومية والمذهب والدين. وقد أمتلئت سجون الانطمة الدكتاتورية الايديولوجية والمتأسلمة بخيرة مفكري شعوبها وقادتها الميدانين, ان هذه النظم تحفر قبورها بأيديها عبر نفيها للاخر !!!.

3 ـ أن اللجوء الى الشللية والانتماء الى مجتمعات مصغرة مغلقة يسود فيها التحلل الخلقي والدين المفرط تشكل احد عوامل انتاج الجرائم الدينية والمذهبية عبر ذوبان الفرد في الجماعة لدرجة يستجيب بها المنتمي بطرائق التنويم المغناطيسي لارتكاب أي جريمة نكراء بحق المغاير الديني والمذهبي, حيث يتشبعون هؤلاء المنتمون بعقدة امتلاك الحقيقة المطلقة, والتي تشكل مقدمات لازمة للتعصب والتطرف ثم العنف والارهاب !!!.

4 ـ الانتمائات الخطيرة للشباب على اساس الجنس والمذهب والدين, فقد ينتمي الى مجموعات ذات طبيعة ذكورية وبالتالي ينشا بعقدة الكراهية للمرأة وخاصة اذا تلبس هذا الانتماء بالطائفية او المذهبية والدين, فقد ترتكب بحق النساء ابشع الجرائم الانسانية, كما في نموذج داعش, من اغتصاب وبيع للنساء. أو انتماء الى المذهب: سني ـ شيعي, وعندها سيحلل القتل بين ابناء الدين الواحد, وقد ينشأ الانتماء جغرافيا, جنوب ـ وسط, شمال ـ جنوب, وحتى بلدانا ذات دين واحد: سعودية ـ ايران, سوريا ـ سعودية, تركيا ـ ايران, العراق ـ السعودية, فعندها يكون القتل والقتل المضاد مجانيا !!!.

في الختام على الانسانية جمعاء, وعلى عالمنا العربي والاسلامي بشكل خاص ان تتحول ثقافة الاختلاف وتترجم في الحياة الواقعية اليومية الى ثقافة سلوكية شعبية شائعة لتحقيق السلام العالمي وتسود شراكة الكينونة بين سكان الارض, في زمن القرية العالمية الواحدة أو في زمن الغرفة العالمية الواحدة, التي تقلص فيها العالم وانكمشت المسافات وتكاثفت عمليات التواصل والتبادل على المستوى النفسي والاخلاقي, واصبحت الارض أكثر صغرا على حد قول " ليفي سترواس ".



177
الاسلاموية العربية ـ التركية ومحاولة جرح الكبرياء الروسي !!! 

د.عامر صالح 

بفرح أصفر شامت معلن وخفي استقبلت الصحافة العربية المتهالكة على فتات موائد الدعم السعودي والقطري بشكل خاص والخليجي بصورة عامة نبأ سقوط المقاتلة الروسية سوخوي 24 من قبل نيران تركيا العجوز بنسختها الداعشية المعصرنة, في محاولة لتحقيق نصر مفتعل على القوات الروسية في أرض المعارك ضد الارهاب, وفي محاولة تركية بائسة لتقوية معنويات قوى الارهاب والظلامية والتخلف التي تسندها تركيا ـ أوردغان, وفي مقدمتها داعش وفصائل أخرى ذات طبيعة دموية. كان سقوط الطائرة الروسية في ذلك المكان له دلالته الاستراتيجية لتركيا حيث الحدود مع سوريا وتمركز قوى الارهاب هناك مدعومة بشكل مباشر من قبل الحكومة التركية, سواء كان دعما لوجستيا أم دعما ميدانيا مباشر لتسهيل حركة الارهاب من والى سوريا, وتقديم الخدمات للفصائل الارهابية على مختلف المستويات, العسكرية والطبية بما فيها انشاء مستشفيات كاملة لمعالجة الارهابيين الجرحى, وكان ضرب روسيا لهذه المناطق هو لشد الخناق على القوى الارهابية وحصر حركتها والتضييق عليها, بما فيها تدمير قدراتها على المتاجرة بالنفط السوري في السوق السوداء عبر الوساطة التركية الرسمية منها وغير الرسمية, والذي يستخدم لتمويل واعادة صناعة الارهاب وانتاجه !!!.

لقد استقبل الاعلام العربي الرجعي والمموه باقلام اشباه المثقفين بغبطة وسرور, ذلك الاعلام المتمرد على الذات والذي ينشط بالضد من مستقبل البلاد العربية في محاولة لتحويل الاراضي العربية الى مقابر جماعية لضحايا الارهاب, ومرتع لاعادة انتاج الفكر والخطاب التكفيري المحمل بنفس العداء للانسانية, واعادة انتاج دورة الموت والابادة المستديمة وانهاء أي مسحة انسانية للبقاء, بل وتحويل الارض والمؤسسات الصحية والثقافية والتعليمية والاقتصادية الى أمكنة لزرع الالغام وتصنيغ المتفجرات والعبوات الناسفة لحرق الحرث والنسل, أو المتاجرة وبيع النساء في سوق النخاسة !!!.

ذلك الاعلام الذي يندى الجبين من قبحه ونذالته وعدم حيائه وهو يقف الى جانب الارهاب مبررا كل جرائمه ومعيدا توصيف هذه المجاميع القاتلة بسميات اخرى لازاحة تهمة الارهاب عنها, كالمجاميع " المقاتلة " و " المسلحة " و " الجهادية " في محاولة بائسة لرفعي هؤلاء الارهابين الى مصافي المناظلين والمقاتلين الاشداء من أجل الحق وصانعي المستقبل !!!.

الاعلام الاسلاموي العربي ـ التركي اللاأخلاقي الذي وضع شروطا للقضاء على الارهاب ومحاربته مقابل شروط مسبقة كأسقاط النظام السوري, أو ارتكاب جرائم ابادة وقتل جماعي مقابل شرط ازاحة النظام الحاكم في سوريا, فهل يجوز ارتهان الدم الانساني مقابل شروط مسبقة قوامها مجازر جماعية وقبور للاحياء, واذا كان النظام السوري يرتكب مجازر جماعية وابادة بحق الابرياء, فهل يجوز ارتكاب مجازر جماعية بالمقابل كشكل من اشكال مقايضة الدم بمزيدا من الاهدار للدماء !!!.

وقفت تركيا منذ البدأ مع الارهاب واتخذته خيارا لا رجعة فيه وترجمته عمليا وميدانيا بالدعم اللامحدود للقوى الارهابية في سوريا وعبر حليفتها قطر والسعودية, وقد استخدمت نفوذها باعتبارها عضوا في الناتو لتمرير سلوكها الارهابي واضفاء الشرعية العالمية عليه, وقد استخدمت حادث اسقاط الطائرة الروسية لتحويله الى موضوع الدفاع عن سيادتها " المنتهكة " وهي التي تنتهك سيادة اليونان والعراق واجوائه بانتظام, ولكنها فشلت في خلق اجماع يدعم مواقفها الداعم للارهاب, بل ان هناك قوى أمريكية من الكونغرس وخارجه تطالب بطرد تركيا من الناتو وانهاء عضويتها !!!.

ازداد الخناق الروسي على الرقاب التركية بمزيدا من الوعود في المقاطعات الاقتصادية وتحجيم دورها في سوريا, بما فيها عدم مشاركة تركيا مستقبلا بأي طلعات جوية ضد الارهاب لاغراض امنية وعدم المصداقية في الموقف التركي من الارهاب, مما جعل من اوردغان ان ينتقل من لغة الدفاع والحق المشروع الى لغة التمني " كنت اتمنى لو لم يحصل هذا الحدث " كما جرى على لسانه, كما بدأت بوادر الحد من حركة تركيا في سوريا عبر الفصل الروسي العسكري للمنطقة الحدودية بين تركيا وسوريا مما يسهم في تضييق الخناق على المجاميع الارهابية.  ولعل الموقف الروسي الذي ترجمه الرئيس الروسي " بوتين " يعبر بشكل واضح عن جوهر الموقف من تركيا ووجهة النظام فيها على المدى القريب:
ـ استهداف طائرتنا الحربية طعنة في الظهر نفذها متواطئون مع الإرهاب                                           
ـ تقاعس بعض الدول وتعاونها مع الإرهاب أدى إلى ظهور "داعش"     
ـ الطعنات الغادرة في الظهر التي تلقيناها ممن اعتبرناهم شركاء في مكافحة الإرهاب لا تقبل التفسير بالمطلق
 ـ بعد إسقاط طائرتنا الحربية لم يعد بوسعنا استثناء تكراره لكننا لن نتوانى عن الرد
ـ سوف نسخر جميع الوسائل المتاحة لدينا لحماية قواتنا الجوية وطيراننا
ـ القيادة التركية تنتهج طوال سنين سياسة داخلية لأسلمة بلادها ودعم التيار المتطرف
 ـ السلطات التركية تعكف بشكل ممنهج على تعزيز التيار الإسلامي المتطرف في بلاده
ـ لم نتلق حتى الآن أي اعتذار من تركيا على استهداف طائرتنا الحربية
ـ قررنا نصب منظومة "اس-400" الصاروخية  في قاعدتنا الجوية في سوريا
ـ سنتعامل بجدية تامة مع حادث طائرتنا الحربية ونسخر جميع طاقاتنا لضمان أمننا 

بالتأكيد فأن لروسيا مصالحها الحيوية في المنطقة كما هو الغرب وأمريكا, وقد فشلت أمريكا عبر تجربتها في العراق من خلال عدم ايجاد نظام يضمن العدالة الاجتماعية والاستقرار, وكانت بدائلها في العراق هي اتاحة الفرصة لنظام طائفي اسلاموي واثني ساهم في المزيد من الاحتراب الداخلي وتدهور ظروف الحياة العامة. اليوم تراهن روسيا على ايجاد حلول أنتقالية هادئة للتغير الجذري السلمي في سوريا عبر القضاء على الارهاب أولا ثم البدأ في التحولات السياسية داخل سوريا, ولا نعتقد ان النظام السوري نفسه ستنبض فيه الحياة مجددا وقد حمل بذور فنائه في احشائه !!!.
 



178

في جرائم الإبادة الجماعية وسيكولوجيا الإرهاب والتدمير !!!
د.عامر صالح

كيف يمكن " للمؤمن " الهادئ القانط ذو  "الاخلاق " الدمثة والمنتحل لصفة الوداعة والطيب والذي يتعامل بأرق المفردات اليومية في سياق التعامل المعتاد أن يتحول الى قاتل دموي يستبيح ارواح المئات ويجيد تكنولوجيا وتكنيك ورسم الخطط الدقيقة في إحكام السيطرة لإحلال الدمار على مناطق كاملة واستباحة دماء ساكنيها بتلك السهولة المجردة عن الحد الادنى من الاخلاق والمشاعر الانسانية. كيف يمكن لذلك المجرم الدموي أن يجيد لغة التسامح في تعامله اليومي: الله يبارك فيك, الله ايخليك, الله يرحم والديك, الله يجنبك كل مكروه و ويقترح عليك أفضل الخدمات للمساعدة, واستعداده المتفاني من أجلك والذي يثير الاستغراب, ولكنه بالمقابل يرتكب أشنع الافعال ضدك في اللحظة عندما يراك مخالفا لسنة تفكيره, إنها سيكوباتيا السلوك المنحرف !!!.

تلك سيكولوجيا الاعتقاد الإيماني المتحجر الذي لا يرى الخير الا في خانته, ولم يرى  في الآخر إلا شرا مطلق يجب تصفيته بأكثر الوسائل بشاعة, حيث إنسانيته هنا لا ترتبط بمبادئ إنسانية عامة متعارف عليها في منع الشر وأباحة الخير, بل ترتبط بمدى قربها او بعدها من قناعته المتحجرة التي ترتبط بخطاب ما ورائي, يحلل الحرام فيه ويحرم الحلال, ويرى في صحته مطلقا بعيدا عن منطق العقل وتراكم الخبرة الانسانية. والابادة الجماعية والفرديه هنا لديه خيرا مطلق يثاب الفاعل ـ المجرم عليها بمزيدا من الأجر والثواب والمزايا التي تراوده في أحلام يقضته ليلقاها في آخرته !!!. 

لقد تركت لنا البشرية ومسيرة الحضارة تراكما ايجابيا لإحكام السلوك الانساني وتقنينه والحكم عليه, وبالتالي وضعت      معايير وتصنيفات لتلك الجرائم المرتكبة بحق الانسانية, ومنها بشكل خاص جرائم الإبادة الجماعية, والتي كانت ولاتزال محط اهتمام الكثير من المنظمات الانسانية والدولية,   حيث توصف جرائم الإبادة الجماعية بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها "جريمة الجرائم"، فهي وكما تشير بعض المصادر سياسة للقتل المنظم المرتكبة تنفذ بحق مجموعات من الأشخاص على أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي، وقد صنفت كـجريمة دولية في اتفاقية وافقت الأمم المتحدة عليها بالإجماع سنة 1948 ووضعت موضع التنفيذ عام 1951 بعد أن صادقت عليها العديد من الدول. وحتى الآن صادقت عليها أكثر من 133دولة على هذه الاتفاقية بينها الاتحاد السوفييتي " روسيا حاليا " والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأخرى.         


وفي هذه الاتفاقية، بموجب المادة الثانية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا فرض تدابير تستهدف  تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخرى.   

كذلك نصت المادة 18 من مشروع مدونة الجرائم ضد أمن وسلامة البشرية لعام 1996 على تعريف الجرائم ضد الإنسانية وتحديد صورها بأنها "كل فعل من الأفعال التالية عند ارتكابه بشكل منتظم أو على نطاق واسع أو بتحريض أو توجيه من إحدى الحكومات أو من أي منظمة أو جماعة، وتشمل القتل العمد - الإبادة - التعذيب - الاسترقاق - الاضطهاد لأسباب سياسية أو عنصرية أو دينية - التمييز النظامي لأسباب عنصرية أو إثنية أو دينية والذي يشمل انتهاك الحقوق والحريات الأساسية للإنسان ويؤدي إلى ضرر جسيم بجزء من السكان - الإبعاد التعسفي أو القتل القسري للسكان - الاحتجاز التعسفي - الإخفاء القسري للأشخاص - الاغتصاب والدعارة القسرية والأشكال الأخرى من الاعتداء الجنسي - الأعمال اللاإنسانية الأخرى التي تلحق ضررًا جسيمًا بالسلامة الجسدية أو العقلية أو بالصحة العامة أو بالكرامة الإنسانية مثل التشويه والإصابات الجسدية الجسيمة.

وقد جاءت تلك المدونة على ذات نهج مدونة 1991، إلا أنها أضافت لها صور الجرائم التي تتمثل في التحريض أو توجيه من إحدى الحكومات أو أي من المنظمات أو الجماعات، مع استبعاد الحالات التي ترتكب فيها تلك الجرائم بواسطة فرد بتصرف ذاتي منه دون دعم أو تشجيع أو توجيه من حكومته أو جماعته.

       

من الناحية السيكولوجية الخالصة فأن جرائم القتل والارهاب وزرع الرعب تعبر عن سلوكا عصابيا مرضيا معمدا بدوافع التركيز الشديد للانتقام من الاخر المغاير في صبغته الدينية والقومية والمذهبية والطائفية والجنسية والثقافية وغيرها من الفروق المختلفة, ومبررة ارتكاب هذه الجرائم بخطاب فكري وديني وثقافي مغاير وذو مسحة اقصائية للاخر. ومن الناحية النفسية فقد نجد في ابرز ملامح ديناميات السلوك التي تكمن ورائه بما يأتي: 

1 ـ سيطرة الغريزة التدميرية والفناء مقابل غريزة الحياة والبقاء, وتتخذ غريزة التدمير مسارين, أحدهما ضد الذات, وقد يكون متزامنا بفناء الاخر كما هي العمليات الانتحارية أو ليست بالضرورة, فيكتفي المرء بفناء نفسه.  وتنشأ الغلبة لغريزة الموت على الحياة من خلال تشبع الفرد بثقافة الاقصاء وتحريم الاختلاف وعدم تقبل الاخر , الى جانب اعتناق الافكار والمعتقدات الدينية وغير الدينية بطريقة عقائدية متحجرة, فتلغي بدورها قيمة التنوع والاختلاف, مما يسهل نشوء منظومة سلوكية تدميرية تضعف عوامل البقاء الصالح المتوازن وانهائه, وبالتالي انهاء الحياة كاملة على خلفية الاعتقاد ان كل ما موجود هو خاطئ باستثناء ما يعتقده هو فقط !!!.

2 ـ ضعف وتداعي "الانا العليا " من أخلاق ومعايير ونماذج مثالية للسلوك, وغياب لدور الانا التوفيقية, وسيطرة سائدة " للهو " الذي تلعب فيه الغرائز البدائية وذات الطبيعية الحيوانية دورا كبيرا في تشكيل ملامح شخصيته. فهو يتصرف هنا بفعل توقف عملية النمو النفسي لديه موئلها رموزه الدينية والسياسية والحياتية, وتسود ملامح شخصية قوامها عقدة النقص وتنشأ على خلفية ذلك وتشتد مشاعر الاثم والاحساس بالضعف وعدم المقدرة الاستقلالية والخضوع التام لرموز دينية وسياسية وقومية يسلم أمره لها, يقابله تحميل الاخر المغاير له كل عوامل ضعفه واسقاطها عليه, وتصل الى حد الانتقام والابادة للاخر المختلف واستأصاله وتدميره !!!. 

 3 ـ تضخم الانا العليا والشعور المتزايد بضغوطات الضمير وعدم المقدرة على ايجاد حالة من التوازن في الديناميات النفسية عبر حلول الانا, والاغراق في ممارسة معاقبة النفس وتكريس مشاعر الاحساس بالذنب  في اجواء من هيمنة الاكتئاب والاشمئزاز من النفس والسعي المتزايد لانتقاد النفس وتخليصها من الهلاك وصولا الى الهلاك الذاتي المتمثل في محاولات الانتحار أو ممارسة التفجير الذاتي في وسط من يراهم مغايرون له في الدين والمعتقد !!!. 

4 ـ تقاطع هذاءات " بارانويدا " العظمة والاضطهاد في السلوك التدميري في السياسة. وإن كان هذا المصطلح يعني مرضا عقليا خطيرا بشقيه " داء العظمة وداء الاحساس بالاضطهاد " فأنه في السياسة له دلالته الخطيرة, حيث النظم الدكتاتورية والقمعية البوليسية المؤدلجة منها والمتأسلمة والشوفينية والعنصرية والمبتلاة بداء العظمة تستخدم كافة وسائل العنف من خلال اجهزتها العسكرية والامنية المخابراتية القمعية المختلفة لإلحاق الاذى بشعوبها أو شعوب أخرى للتعبير عن الاحساس المفرط بالعظمة وسلوك الهيمنة المطلقة !!!.

يقابله في الطرف الاخر الاحساس بالمظلومية والاضطهاد المفرط والمنفلت من أي مسحة إنسانية أو فهم لظروف وقوانين الصراع الموضوعية, هو الاخر يحمل في طياته دوافع الخراب والعنف والتدمير الشامل, ويشكل هذا السلوك ردود فعل عنيفة يخرج عن دائرة التغير الايجابي الممكن للاوضاع السائدة, وغالبا ما يكون هذا السلوك مؤطرا بخطاب المذهبية والطائفية والشوفينة العرقية ويكون بيئة صالحة للارهاب المجتمعي والدولي, في ظل غياب خطاب عقلاني انساني سائد مفعم بعوامل البقاء الانساني والذي يحافظ على قيمة الوجود الانساني الحر. وهكذا تتبادل الادوار بين الجلاد والضحية !!!.


5 ـ فصام " شيزوفرينيا " السلطة وفصام المعارضة. الفصام باعتباره مرضا عقليا يحرم صاحبه من ادراك الواقع الموضوعي والعيش في عالم مرضي خاص يفتقد الى المشاعر والعواطف التي تربطه بالاخرين وغير مكترث بما يحل بالاخرين من هول ومصائب, كما تسيطر الاوهام والهلاوس وأضطرابات الفكر في سياقاته اليومية. النظم القمعية بمختلف مظاهرها وأشكالها المؤدلجة منها والمتأسلمة وبما فيها أيضا الدكتاتوريات العالمية تعاني من ظاهرة الفصام حيث الهوة الواسعة بين الشعب والنظام, من حيث ادراك مشكلاته الحقيقية وظروفه المعاشية ووسائل النهوض به. وبفعل هول الاوهام التي تحيط بالنظام فأنه لا يرى في الشعب أو جيرانه الا مؤامرة كبرى تستهدف استئصاله وعليه ان يبدأ بضربته الاستباقية, من ممارسة واسعة للقمع والارهاب والتعذيب والقتل في الداخل واشعال الحروب الخارجية.

أما المعارضة التي تنتحل خطابا آخرا فصاميا بعيدا عن واقع الحياة وقد عفى عليه الزمن لأقحام مستقبل المجتمع فيه وأكراه الناس على اعتناقه أسوة بما فعلت الدكتاتوريات القمعية بشعوبها, فهو خطاب الانفعالات الضارة التي تعبأ الناس في وجهة انفعالية تدميرية لايمكن التنبوء بحجم الخراب الذي ستفعله في تفتيت وتشويه الينية الاجتماعية والثقافية وتخريب العلاقات الانسانية على نطاق واسع, كما هي الخطابات الاسلاموية المغلفة برحمة السماء وحب الآلهة واليوم الموعود, فقد انتجت تلك الخطابات في العراق وتونس وليبيا ومصر واليمن, وفي زمن قصير جدا, المزيد من التعسف والتهجير والابادة الجماعية والقتل على الهوية الدينية والطائفية والاثنية, واستباحة الجنس الآخر من دعارة وبيع للنساء في سوق النخاسة وأكتشاف اشكال لا تعد ولا تحصى من الزواجات بأسم الدين ومستقبل مجهول !!!.

6 ـ الفشل والاحباط في بلوغ الاهداف, فكلما اشتدت وطأة المشاعر بالاحباط إشتدت هي الاخرى مشاعر الكبت والاحتقان, وهي مؤشرات تنذر سيكولوجيا بعدوان تشتد وطأته كلما كانت الاهداف مهمة واستراتيجية في حياة الفرد والجماعة كما هي في سلوك الحكم و " المعارضة " وهو بمثابة جرح نرجسي كبير لكلا الطرفين مما يدفعهم لتعبئة كافة القوى المتاحة لديهم لاحلال الدمار بالاخر, ويكون ضحيتها شعبا بكامله وسيادة وطنية ونسيج اجتماعي, في ظل حاكم لا يفقه لغة الحوار والاصلاح " ومعارضة خاصة " لا تجيد غير السلاح المعمد بمشروعية السماء, فيكون القتل على أشده بين طرفين لا رحمة فيهم !!!. 

وعلى العموم فأن الارهاب الذي تسبقه عمليات تعصب وتطرف مستميت وعمليات غسيل دماغ  يرى في الاخر الديني والثقافي والاثني والسياسي عدو لدود ويجب تصفيته وازاحته من مشهد الحياة, انه فوبيا الاختلاف مع الاخر وعدم المقدرة على ايجاد لغة مشتركة معه, وبالتالي فأن الطريق السهل هو تصفيته وابادته جسديا وعرقيا وثقافيا للخلاص من كل اثاره. كما ان دخول الافراد من مزاج متعصب ومتطرف في مجاميع وتنظيمات تستجيب لهذا المزاج المضطرب يحول الفرد بضرورة الانتماء الى مستسلم لارادة الجماعة ورهن تصرفها ويتحول الى قنبلة موقوته ممكن ان تتفجر رهن اشارة قيادي من المجموعة, بمختلف الاتجاهات وبمختلف الامكنة في العالم !!!.

هذا العمل الجنوني يلقي الاستحسان والدعم والرعاية الابوية من دول راعية للارهاب العالمي على مر عقود من الزمن. قد تختلف اسماء المنظمات الارهابية " القاعدة, جيش النصرة, داعش, أحرار الشام, بوكوحرام, والنقشبندية والقائمة تطول وتتشظى....." من خلال انشطاراتها المستمرة وتكيفها لظروف عملها الارهابي التدميري للانسانية, ولكن الداعم واحد ممثلا بالفكر المتطرف والارهابي الاكبر, ومنها دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية وفكرها الوهابي التخريبي والمحرض على الفتنة العالمية وقطر وحليفتهما تركية واداور أخرى متباينة لدول الخليج العربي !!!.

ما حصل أخيرا لفرنسا وروسيا أسوة ببقية العمليات الارهابية في كل مكان هي جرائم ابادة جماعية ترتكب بحق الانسانية, وكما ادان العالم أغلب جرائم الابادة الجماعية التي وقعت في الحروب العالمية وفي التاريخ عموما, عليه ان يدين هذه الجرائم النكراء ويقدم منفذيها ومنظريها الفكريين والدول الداعمة لها فكرا ومالا وقدرات لوجستية وعسكرية الى العدالة العالمية !!!

179

مؤسسات التعليم العالي والحراك المدني الإجتماعي !!!
د.عامر صالح
تشكل الجامعات العالمية العريقة أحد أهم مصادر المعرفة والانتاج الفكري عبر ممارسة البحوث الأصيلة والمرتبطة بالمشكلات الاجتماعية بمختلف المجالات, الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والسياسية, الى جانب المشكلات ذات الطابع العلمي الصرف, بهدف الوصول الى الحلول الممكنة لها, عبر ممارسة المنهج العلمي وخطواته المعروفة في حل المشكلات. كما تشكل تلك الجامعات وكادرها العلمي أحد روافد عملية النقد والتقويم لمختلف الاحداث والمنعطفات والازمات الكبرى التي تمر بها تلك البلدان, بهدف ايجاد الحلول لها والمساهمة في بلورة رأي علمي يتمتع بمصداقية كافية يسهم ببلورة رأي عام في القضايا المصيرية. ومن نافلة القول أن ثورات كبرى حصلت في التاريخ كانت نتاج الفكر الجامعي وتطلعاته نحو الحرية والديمقراطية والاستقلال, وكان الطلبة فيها خير قوة محركة لمسار الأحداث !!!. 

في العراق " وإن كان ليس إستثناء عن البلاد العربية وبلدان العالم المتخلف " فأن دكناتورية نظام البعث السابق إستطاعت أن تروض الاستاذ الجامعي لخدمة النظام ومستلزمات بقائه عبر بث سموم الفكر القومي الشوفيني والمعادي للانسانية وللمكونات الاجتماعية والاثنية للمجتمع من خلال تربية الطلبة واعدادهم للانتماء للفكر الشوفيني المتحجر وتعطيل القوى العقلية والفكرية للطلبة. وقد ساهم ذلك على مستوى الطالب والاستاذ في تعطيل نشأة فكر نقدي في أروقة الجامعات, مما ساد مزاج عام للمصالحة مع قيم التخلف والاستبداد والقمع وتكريس قيم الولاء للدكتاتورية والفاشية والبعث !!!.

وقد أنقسم الاساتذة الجامعيين بين موال مطلق لفكر النظام وممارساته ومدافع عنه وحتى منتسبا لقواه المخابراتية والقمعية, وبين مستسلم للاكراه على الانتماء للحزب الحاكم, مختزلا دوره في تأدية المهمات التقليدية ذات الطابع التدريسي في معظمها, وأعمال البحث العلمي التي لا تتجاوز الاهداف العامة المرسومة من قبل السياسات الرسمية في المؤسسة. ويكفي أن نشير هنا الى أغلب "الاعمال البحثية والاطروحات العلمية " للحصول على الدرجات العلمية المختلفة, من ماجستير ودكتواره وخاصة في العلوم الانسانية كانت تكرس موضوعاتها الاساسية لخدمة النظام وفكره وبقائه وتمارس الدجل بواجهات البحث العلمي, الى جانب الاصدارت الكثيرة واالمقررات الدراسية التي تشير في صفحاتها الاولى الى فكر القائد وفضله وقدراته الخارقة, والى محتواها الذي لا يفارق الثناء للقائد عندما تسنح الفرصة لذلك. وقد انتج ذلك اجيالا من الطلبة والطلبة ـ الاساتذة لاحقا, من ضعاف القدرات العقلية والعلمية !!!.

لقد تراوحت معظم أعمال الاساتذة بين العبث والترف الفكري والبحث عن الشهرة بشكل مشوه والبحث والمساهمة في مؤتمرات وندوات داخلية وخارجية, أقل ما يقال عنها إنها ضعيفة الصلة بمشكلات المجتمع المحلي, وذات صفة استعراضية ذات جدوى محدود جدا. كما تحول هاجس الترقيات العلمية الشكلية الى أحدى مستنقعات المافيا والوساطات والعلاقة الشخصية الرديئة التي لا تليق بمكانة الاستاذ الجامعي ومكانته. وعلى خلفية ذلك نشأ جيل من الاساتذة قد يستغرب المرء من سذاجة فكرهم العام وثقافتهم الشخصية, مما أخل بمبدأ تكامل الاعداد المطلوب للكادر الجامعي !!!. 

سقط نظام صدام حسين عام 2003 وأحل الامريكان بديل له نظام طائفي وشوفيني تمادى في زرع الخراب في مؤسسات وكوادر التعليم العالي, وقد أنتقل ولاء هذه المؤسسة وطاعتها العمياء من " قائد الضرورة الأوحد " الى قيادات ورموز لا حصر لها من طوائف الاسلام السياسي والاثني العرقي, وقد أختفت صورة " قائد الشعب " لتحل مكانها صور لا تعد ولا تحصى من الرموز الدينية والقيادات العشائرية والاثنية القومية. وقد أتسمت ابرز ملامح تدهور هذا القطاع وكادره بما يلي:

ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها .

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

ـ ضعف التنسيق بين الجامعات والكليات الأهلية من جهة وبين الجامعات والكليات الحكومية من جهة أخرى, حيث الإرباك في تكرار الاختصاصات المتشابهة في كلا الطرفين وعدم انتهاج مبدأ التكامل في التخصصات بين المؤسسات التعليمية العالية الحكومية منها والأهلية, الأمر الذي لا يخدم أغراض التنمية وسد الحاجة لمختلف التخصصات, وانعدام الهيكلة الإدارية التي تضمن بقاء التعليم الأهلي تحت إشراف فعلي وليست شكلي من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على تلك المؤسسات, مع احترام استقلاليتها الإدارية والمالية, بل يدخل التعليم الأهلي في أحيان كثيرة كمنافس للتعليم الحكومي و كمصدر لاستنزاف الكادر العلمي والتدريسي من المؤسسات الحكومية تحت وطأة المغريات المادية والمالية, وبالتالي فأن الكثير من خريجي الجامعات والكليات الأهلية مهددين بالبطالة وانعدام فرص العمل لاحقا بسبب من ضعف الحاجة لاختصاصاتهم, علاوة على ذلك نرى أن التوسع السريع في إنشاء مؤسسات التعليم العالي الأهلية والذي زاد عددها أكثر من ضعف مقارنة بعهد النظام السابق يثير تساؤلات كثيرة عن جدوى هذا التوسع والحاجة الفعلية له !!!.

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.

ـ تشير الكثير من المقابلات الميدانية التي أجريت مع أساتذة جامعات وقيادات أدارية وطلابية إلى أن الكثير من مؤسسات التعليم العالي تحولت إلى مؤسسات مصغرة للمساجد والحسينيات والجوامع, تجري فيها الشعائر والاحتفالات والطقوس الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع, وكأن لم يكفي الآلاف من المساجد والجوامع المنتشرة خارج الجامعات, حتى أن العديد من المختبرات العلمية تحولت إلى حسينيات لزمرة هذا الحزب السياسي الطائفي أو ذاك, ولكي تتحول بالتدريج إلى بؤر للفساد والاحتقان الطائفي والمذهبي وللتفرقة بين الطلاب, حيث تسيطر كل ميليشيا حزبية على إحدى الكليات ومرافقها داخل الجامعة, وانتشار صور المعممين في أروقة الكليات والجامعات والشعارات الدينية الطائفية الاستفزازية والعبث بمسميات هذه المؤسسات وتسميتها برموز قيادات أحزاب أو طوائف, انه امتهان للحرية الأكاديمية وتسييس للمؤسسات العلمية وزجها في الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية .

ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.

ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية, وهي تذكرنا بحقبة توظيف " البحث العلمي " لخدمة مصالح الحزب القائد وتمجيد قائد الضرورة.

ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.

تلك هي ظروف ساهمت في خلق مخرجات تعليمية ضعيفة تمثلت باعداد من الخريجين والدارسين الضعاف. كما ساهمت في خلق كادر تدريسي ومؤسسة تعليمية تعتبر أمتداد لمنظومة الفساد العامة, تقوم باعادة انتاج الفساد الفكري والثقافي على نطاق واسع, وقد أنتفى دور الجامعة المتقدم نسبيا على المجتمع, لتصبح جزء من الخراب الشامل, حيث يقوم الاستاذ الجامعي بأدوار عبر محاضراته المباشرة مع طلبته أو عبر حضوره في وسائل الاعلام المختلفة بأعادة أنتاج الخطاب الطائفي والديني والشوفيني المشوه, وممستميتا في الدفاع عن الاوضاع السائدة وعن استشراء الفساد, مستفيدا من بعض الامتيازات المادية والمالية المؤقتة. أنها سلوكيات انتهازية كانت تمارس في عهد النظام السابق ضمن سياسات التبعيث العامة وعسكرة الحياة, واليوم تعيد انتاج نفسها بواجهات التزييف الديني والخطاب الاسلاموي والاثني المريض !!!.

عندما نرى اليوم حجم الحراك المدني الاجتماعي المطالب بالاصلاح الشامل للعملية السياسية ومحاربة الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع وما يستلزمه من جهد فكري لرسم ملامح التغير, وتحويل حالة الاحتجاج والتظاهر الى افعال تستند الى وعي موضوعي يفهم جوهر عمليات الصراع الدائرة وقوانينها الموضوعية, نرى حجم الغياب الضار لمؤسسات التعليم العالي وكادرها التدريسي ودوره في مسارات الحراك, والذي يكتفي في معظمه في التفرج على الاحداث الجارية وملقيا بنفسه في بعد عنها تحسبا لفقدان الامتيازات الهشة التي حصلوا عليها بعد سقوط نظام صدام الدكتاتوري !!!.

لقد تحرك الكادر التدريسي في مؤسسات التعليم العالي تحركا خجولا على خلفية تقليص رواتب الموظفين والتي لحقت بهم للتعبير عن حالة عدم الرضا في الحد من أمتيازتهم المالية وليست للانتفاض على سوء الاوضاع العامة, وقد عبرت عن ذلك شعارات فقيرة ومتواضعة, ولعل ما فيها كما ورد: رواتبنا خط أحمر, قطع الاعناق ولا قطع الارزاق, قف أنك تقتل أولادي وقرارك مجحف, السكوت على الظلم أقبح من الظلم نفسه, وغيرها من الشعارات الميدانية. انها شعارات بسيطة تم التعبير عنها في أولى موجات الحراك الشعبي, وكان على الاساتذة الجامعيين أن ينهلو بقدراتهم العقلية وتفردهم المعرفي لرفد الحراك الشعبي بمزيدا من زخم البقاء والاستمرار !!!.

حديثنا هذا لا يلغي هامش من المناورة وفسحة من الامل لدى العديد من الاساتذة الجامعيين وهم يبحثون عن عوامل البقاء والاستمرار الصحي لمسارات تأثيرهم الايجابي, وهم ينتقلون من جنوب العراق ووسطه بحثا عن فسحة من الحرية في شمال العراق أو خارجه, ولكنهم يصتدمون بعوامل الغربة والاغتراب وتدهور الاوضاع والاحساس بالهامشية ويصتدم بعوامل اللا استقرار في مجتمعات صغرى أو كبرى معبئة بمزيدا من عوامل الصراع والتدهور نحو الاسوء !!!.


180

سيكولوجيا نكبة الربيع العربي ورد الاعتبار لفلسفة الثورة !!!


د.عامر صالح 
 أن " ثورات " الربيع العربي والتي تحولت الى نكبة, لم تكن ولادة قيصرية في سياق اجتماعي هادئ ومستقر, أو استجابة انفعالية لأخذ  الثأر من الحاكم المستبد, بل هي تعبير عن نضوج العوامل الموضوعية لإحداث الفعل الثوري وتجسيد حي لمنطق التاريخ وحكمه, فالثورات لا تحدث في الفراغ أو هي فعل عبثي يقرره الجموع الثائر, بل تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع, تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج, وشكل التملك الخاص, ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة " وهي في بلداننا تشكل النظام العربي وحاشيته " ضد فئات الشعب, وتؤدي هذه التناقضات إلى نشوء " أزمة سياسية " عميقة تحمل معها نشوء حالة " ثورية " تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة, مثل الاضطرابات والمظاهرات والاجتماعات والاعتصام, وان الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها !!!!.

وفي العالم العربي حيث توقفت فيه عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت, أفرزت ظواهر الفقر المدقع, والتدهور المستمر للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية والصحية, والتعليمية والخدمية, وانخفاض مستوى العيش بصورة عامة, وفي وقت عملت فيه الأنظمة الاستبدادية عبر عقود على منع تشكيل أي كتلة حرجة ثورية منظمة ومقاومة عبر ممارسات التفتيت والإجهاض والترغيب والترهيب والرقابة الأمنية والبوليسية المشددة وأبعاد وقتل أي بادرة للتفكير البديل. ونستطيع القول هنا انه لا توجد شريحة اجتماعية واقتصادية إلا ولحق بها التهميش والحرمان والإقصاء باستثناء النظام وحاشيته. لقد خلقت هذه الأوضاع نواة التغير الثوري في رحم هذه الأنظمة. وعلى خلفية ضعف دور العامل الذاتي المتمثل بضعف الأحزاب السياسية التاريخية والنخب السياسية الحقيقية, جاءت الثورات العربية شبابية بطابعها العام متأثرة بعوامل كونية, كالثورة المعلوماتية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة, الذي سهل اندماجهم في مجموعات فاعلة وايجابية وشكل لديهم دافعية اكبر للفعل الثوري تتجسد ملامحه واضحا اليوم على الأرض العربية مبتدئة بالشرارة التونسية المعجلة لذلك, إلى جانب كون الشباب يشكلون كتلة سكانية كبيرة تتجاوز نسبة 50% من مجموع السكان, وبالتالي فهي معنية بالتغير والمستقبل قبل غيرها, إلى جانب الشرائح السكانية والاجتماعية الأخرى !!!!.

لقد نشأت تلك البؤر الثورية بين الشباب في ظل انفلات المجتمعات العربية بكل تنوعها الاجتماعي ومكوناتها الاثنوثقافية من كل ضوابط الفكر الفلسفي والتفكير المنطقي, وغياب روح النقد والنقد الذاتي ونقد الخطاب السائد والمعرقل لاي نهضة فكرية ومعرفية, وفي ظل بيئة من سلطة بطريركية عشائرية وطائفية ومناطقية وقبلية وأثنية, مما سهل تشبعها بالثقافة النصية والنقلية المتخلفة " القيل والقال ونقلا عن فلان أبن فلان ", مما سهل إحكام الاسلاموين سيطرتهم في تصدر " نكبة " الربيع العربي. وكان من الطبيعي أن ينجح منظري الاسلام الخرافي في عرقلة ثورة الشباب في ظل غياب خمائر الفكر النقدي والمنطقي, وغياب عقل فلسفي يقطع الصلة مع عقل وفكر القرون الوسطى, ويحتوي طموحات الشباب الثائر وهواجسهم المشروعة لبناء مستقبل آمن. وليست من المستغرب أيضا ان تتصدر أضعف الدول وأكثرها تخلفا مثل قطر والسعودية المشهد السياسي وتصبح راعيا لنكبة الربيع العربي !!!. 

أن عوامل القهر والظلم التاريخي وسيادة خطاب سلفي لا يمت بصلة للحاضر, الى جانب غياب بدائل معاصرة للحياة ذات مضامين فكرية وفلسفية منقذة لحالات الاختمار الثوري, ساهم في تشكيل وتكريس عقل  متحجر دوغمائي لا يقبل بل ويعرقل أي تغير ايجابي. أما أبرز ملامح ومحددات ذلك العقل المعاق والمعوق لأي نهضة, فهي:

1 ـ يمكن تحديد دوغمائية عقل ما من خلال حدة أو شدة فصله بين المعتقدات التي يقتنع بها والمعتقدات التي يرفضها, حيث لا يستطيع أن يتصور أن في العالم سوى فريقين, فريقه هو وفريق خصمه, وأن هذا الحد أو الفصل يلغي منطقة الوسط. ومن أجل أن يحافظ العقل الدوغماتي على هذا الفصل الحاد فأنه يؤكد باستمرار على الخلافات بينه وبين المخالفين له, وأن اغلب خطاباته توجه لتحقيق هذا الهدف مما يضمن له تجيش أتباعه وشحنهم بشحنة انفعالية سالبة تسهل سوقهم كالقطيع بأي اتجاه يريد. أيضا يهاجم هذا العقل أية محاولة للتقريب والحوار بين الطرفين. أيضا يلجأ العقل المتحجر إلى تجاهل وإنكار الوقائع والأحداث التي تكشف زيف ادعاءاته. أيضا لدى العقل المتحجر قدرة على تقبل التناقضات داخل منظومته الفكرية. هذه العقلية بصورة عامة تشكل أرضا خصبة للسلوك الإرهابي, ولا تؤمن بالحوار بين الأديان والعقائد الأخرى,كما يتصور عالمه " على سبيل المثال العالم الإسلامي " بالعالم المتحضر والمتقدم والعالم الآخر " الغربي " يقبع في الجهل والظلام متجاهلا كل الحقائق الموضوعية التي تنفي إدعاءه, وهذا العقل أيضا يكفر الآخر ويلغيه بكل الوسائل المتاحة وبشراسة.


2 ـ من معايير الحكم على عقل ما بأنه دوغماتي متحجر أنه لا يميز بين العقائد والأفكار التي يرفضها. فهو يضعها في سلة واحدة هي سلة الخطأ والضلال, دون أن يكلف نفسه بالبحث في نقاط الالتقاء والتقارب مع الأفكار المخالفة. ونلاحظ ذلك بشكل واضح لدى الأوساط الإسلامية المتشددة عندما يجمعون غير المسلمين كلهم في دائرة الكفار, وكذلك ما يمارسه الكثير من الدوغمائين الايديولوجين وحملة العقائد السياسية من إلغاء للآخرين وعدم الاعتراف بهم بعيدا عن التفاصيل التي تميز بينهم.

3 ـ كما أن من معايير انغلاق عقل ما وتحجره هو الوثوقية المغرقة وتكاثر المسلمات في منظومته الفكرية. فأن كانت كل منظومة فكرية تقوم على عدد بسيط من المسلمات تؤسس للفكر ثم تترك الحرية للناس أن يجتهدوا, فأننا نجد أن مسلمات العقل الدوغمائي تتوالد باستمرار لتقفل كل منافذ للاجتهاد والتفكير. ولذا نجد عندنا أن مقولات لأشخاص عاشوا في القرن الثامن الهجري تتحول إلى مسلمات لا يجوز النقاش حولها أو نقدها. وكذلك نجد أن التفاسير والشروح والفتاوى تتحول من كونها اجتهادات بشر تقبل الصواب والخطأ إلى كونها مسلمات وثوابت لا يجوز المساس بها, ومن أقترب منها تعرض لأصناف الهجوم من تكفير وتفسيق وتضليل وغيرها من أدوات الإقصاء. كما نلاحظ اليوم في عالم السياسة والإيديولوجيات المنتشرة شيوع ظاهرة الحفظ والتلقين للمقولات والشعارات واختزال عالم السياسة المتنوع من خلالها وتحويلها إلى نصوص جاهزة تبنى عليها برامج " تنموية " دون العودة إليها ونقدها في عالم متغير, وقد تلحق أفدح الأضرار بنتائجها النهائية, وتشكل مقولات " قائد الضرورة " و " ملهم الشعب " و " حجة الإسلام " و " خليفة المسلمين " و " راعي الشعب " وغيرها من المسميات, استراتيجيات عمل لعقود قادمة جالبة المزيد من الكوارث !!!!!.

4 ـ تزداد وثوقية عقل ما وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصامات هائلة في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. العقل ألوثوقي المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته.

تلك هي ابرز الملامح السيكولوجية والفكرية والمعرفية للعقل المتحجر, فلا نستغرب من تحول " الربيع العربي " الى نكبة ومأساة جقيقة على شعوب المنطقة حيث تكون القيادات الميدانية لهذا العقل, وحيث تحرف الاعمال الثورية الى اعمال عنف وارهاب وتصفيات جسدية وفقدان للامن والامان, وتسرق الثورات من ثوارها الحقيقين لتودع بيد أعداء الحياة !!!.

لقد أكدت التجارب التاريخية الى جانب تجارب " الربيع العربي " ان عدم نضج العوامل الذاتية والمتمثلة بقوى التغير, من أحزاب وتجمعات منظمة حاملة للمشروع النهضوي وللفكر العقلاني, لا يمكن لأي هبات جماهيرية أو تحرك ثوري صوب التغير أن يبلغ اهدافه, ويخلق موازنة لازمة ومانعة للفكر المتطرف, الديني وغير الديني. والثورة مهما بلغت من قوة دفع جماهيري لا يمكن لها ان تغرد خارج قوانينها الموضوعية !!!.
 



181

نزيف الهجرة وخراب الوطن !!!

د.عامر صالح 

تشكل الحكومات الدكتاتورية والقمعية والطائفية السياسية والاثنية المحصصاتية والمتخلفة عموما عوامل طرد لمواطنيها وليست استقطاب لهم, نتيجة لانعدام مقومات الحياة المستقرة, من خدمات مختلفة ومستويات عيش وفرص عمل, كما تشكل الحروب الداخلية والصراعات الاقليمية أحد مصادر الهجرة الاساسية للبحث عن الامن والامان والحفاظ على الارواح !!!. 
 
كان نموذج العراق في زمن النظام السابق احد النماذج الصارخة في المنطقة في طرد المواطن الى الخارج, سواء من خلال التهجير القسري أو الهجرة الاضطرارية, وقد تمركزت في فترات زمنية مختلفة, استنادا الى اسبابها, حيث سادت نهاية السبعينات في القرن الماضي موجات من الهجرة ذات الطابع السياسي, وحيث البحث عن الامن بعيدا عن التنكيل والاعتقال والبطش والتعذيب الجسدي الذي أطال المعارضة العراقية انذاك. ثم تلتها هجرة الثمانينات والتسعينات هروبا من حروب النظام الدكتاتوري وجبهات قتاله التي فتحها مع أيران والخليج, والتي ذهب ضحيتها خيرة أبناء شعبنا وكادره المهني والعلمي والاداري, ودمرت فيها البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية وعسكرة الحياة بكاملها. وكانت هذه الهجرة الاخيرة قائمة على عوامل الهروب من الموت وتدني مستويات العيش والفقر والفاقة, والتي وصلت الى حدود مريعة, وشملت معظم الشرائح الاجتماعية والطبقية, بل وشمل أنصار غفيرة من النظام والمحسوبين على حاشيته ومن مختلف المستويات المهنية والتعليمية, والذين تركوا العراق بحثا عن لقمة العيش والامان, في ظروف وصل فيها راتب الاستاذ الجامعي في احسن الاحوال عشرة دولارات, ويقدر عدد المهاجرين انذاك بأكثر من خمسة ملايين !!!!.
 
وإذا كانت الهجرة على المستوى الفردي تفتح منافذ الرحمة أمام الفرد للخلاص من الضغوطات والصراعات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية, والخلاص من الاضطهاد بمختلف مظاهره, أو الرغبة في تحصيل العلم, فأن عدم عودة قوافل المهاجرين وإبقائهم بعيدا عن موطنهم الأم يشكل نزيفا مستمرا وتهديدا لأي عمليات إعادة بناء للبنية السياسية والاقتصادية والثقافية للبلدان المصدرة للهجرة. ولعل الإحصائيات على صعيد البلاد العربية ترينا حجم الكارثة المحدقة في الحرمان من القوى المهاجرة, فقد بلغ عدد المهاجرين العرب في الخارج أكثر من 35 مليون يمثلون أكثر من 12% من سكان الوطن العربي, والمهم في ذلك هو نوعية العقول المهاجرة من مختلف التخصصات, والتي من بينها تخصصات إستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة, الطب النووي والعلاج بالإشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو ـ الكترونية, والهندسة النووية, علوم الليزر, تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية واقتصاديات السوق والعلاقات الدولية, طبعا إلى التخصصات المهمة الأخرى في نطاق العلوم الإنسانية والأدبية, فهناك علماء وكفاءات متميزة ومن ذوي السمعة العالمية المرموقة. وقد تسببت هجرة العقول العربية بخسائر مالية تجاوزت 200 مليار دور !!!!!. 

ومادامت عوامل الهجرة وأسبابها قائمة فأن نزيفها لم يقف بل تفاقم في العقود الأخيرة على خلفية مجمل الأوضاع في البلاد العربية, وفي مقدمتها: القمع والإرهاب الديني والسياسي وحملات الاعتقال والتطهير للمعارضين السياسيين, التهجير العرقي والاثني والطائفي, انعدام الحريات السياسية والتعددية الحزبية وما يرتبط بها من نظم دكتاتورية بواجهات مختلف لا تسمح بالاختلاف في وجهات النظر, سيادة أجواء الإحباط وعدم الاستقرار السياسي والخوف من المستقبل, عدم توفر المناخ العلمي في مواقع العمل وانعدام الحريات الأكاديمية وضعف البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات البحثية, التخلف العام في البلاد العربية وضعف الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية, فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت بدون عوائد كبيرة على حياة الفرد والمجتمع, الانتماء إلى الأقليات القومية والدينية وعدم الإحساس بالأمن والأمان, استفحال البيروقراطية الإدارية والروتين في كل مفاصل المجتمع, بما فيه الجامعات ومؤسسات البحث العلمي والتطوير الاجتماعي, وأيضا أسباب أخرى ذات علاقة بالطموح الشخصي وتحسين ظروف العيش الفردي وحرية ممارسة المهنة !!!.

وإذا كانت هجرة الكفاءات العلمية والاقتصادية والمهنية تسبب الكثير من الخسائر المادية, متمثلة برأس المال واستنزاف الطاقات البشرية المدربة والمؤهلة والمنتجة وذهابها بعيدا عن موطنها الأم, وتدني الدخل القومي نتيجة لانخفاض مستوى الإنتاج, وعرقلة انجاز الخطط التنموية, وتغيرات في التركيبة السكانية من حيث النوع والعمر, والخسائر الاجتماعية  والخدمية والثقافية والحضارية, فأن الهجرة القسرية للأحرار والديمقراطيين واللبراليين من سياسيين ومفكرين ومثقفين ومبدعين هي الأكثر وجعا لذات المهاجر الذي يحمل الحلم الكبير في التغير, وأشد ألما يلحق بالوطن, حيث يضعف تشكيل البدائل المعارضة لفكر وثقافة أنظمة القمع والدكتاتورية في أرض الوطن, مما يترك هذه الأنظمة تمارس مزيد من الانفراد والتحكم والهيمنة والقمع على شعوبها وحجبها عن النهضة الفكرية والثقافية والتنموية, و يجعلها فريسة سهلة لفكر التطرف الديني والسياسي في لحظات التغير المطلوب, مما يزيد من تصحرها وتخلفها الفكري والحضاري !!!!!.   

والهجرة بهذه الضخامة والشمولية والخطورة تعبر عن اغتراب شامل, تتسع مظاهره ليشمل الاغتراب الديني, والاقتصادي, والسياسي, والثقافي, والتربوي والتعليمي, والاغتراب القيمي, وجميعها مسببة للعجز والإحباط الذي يتملك الفرد وعزلته الاجتماعية والذاتية. واليوم وبعيدا عن جذور الاغتراب التاريخية, تمر مجتمعاتنا العربية بمرحلة خطيرة تتفكك فيها الذات الفردية وتغترب على خلفية تدهور البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, حيث الفقر وانعدام مستويات إنسانية لائقة للعيش من خدمات مختلفة أساسية, صحية وتعليمية وغيرها, ويغترب الفرد على خلفية تفكيك وسقوط مؤسسات الدولة, الإدارية والأمنية والعسكرية والخدمية ولا نقصد بذلك سقوط النظم الدكتاتورية صانعة العزلة والاغتراب الداخلي والهجرة الخارجية " فهذا شيء آخر ".

وشيوع نمط من الحروب الداخلية, الدينية والطائفية والأهلية والاثنية, مما يؤدي إلى تجزئة الأوطان وانسياقها وراء مشاريع التفتيت الجغرافي بواجهات مختلفة " كما هو الحال في النموذج الذي يهدد العراق " مما يهدد نسيجها الاجتماعي والثقافي, تدهور المؤسسة التعليمية, بكادرها ومناهجها ومجمل أدائها وإعادة إنتاج الأمية من جديد, تصفية وتهميش الطبقة الوسطى من مختلف المجالات العلمية والمهنية والخدمية, التطهير الواسع للأقليات العرقية والدينية والعبث بالتركيبة السكانية والاثنية, تدمير الذاكرة الوطنية والثقافية, من حرق وسرقة للآثار والمتاحف والمكتبات الوطنية ونسف الرموز الايجابية من شخصيات وأضرحة وتماثيل وقطع أثرية بمبررات دينية وسياسية, غياب الأمن والآمان الفردي والمجتمعي مما يجعل الجميع تحت مشاعر فقدان الجدوى من العيش والإحساس بالضياع وفقدان الأمل بالمستقبل, ازدواجية الخطاب السياسي في الممارسة العملية, بين ديمقراطية معلنة وإقصاء ودكتاتورية شرسة على ارض الواقع تمتد لتشمل كل مناحي الحياة وتفاصيلها اليومية بما فيها تقرير لقمة العيش !!!!. 

العراق اليوم يمثل احد نماذج المنطقة التي تعكس مجمل تعقيدات الصراع وخلاصته السيئة المركزة, الى جانب نموذج الحرب السورية الداخلية ـ الاقليمية, حيث يشهد كلا البلدين نزوحا وهجرة جماعية لم يشهدهما من قبل. ففي العراق وبعد سقوط النظام السابق يشهد عمليات تشريد وسبي لكل مكوناته الاثنية والمذهبية والدينية, قائمة على خلفية نظام محصصاتي وأثني شجع الاقتتال الداخلي بين ابناء البلد الواحد, وعزز من دور الارهاب والبعث وقدرته على البقاء, وحرم السواد الاعظم من الشعب فرص العيش الكريم, وبطالة وصلت اقصى مدياتها بين فئات الشباب من الخريجين وذوي التحصيل العالي. وعلى خلفية ذلك يندفع اليوم مئات الالوف من الشباب الرجال والنساء ومن الاطفال لرمي انفسهم خارج الحدود بحثا عن الوصول الى بر الامان وتأمين الحد الادنى من ظروف العيش, وقد ادت بالمئات منهم الى الغرق او الموت في منتصف الطريق وقبل الوصول الى الساحل الاوربي. وقد وصل هو الاخر عدد المهاجرين ما بعد سقوط النظام الى عدة ملايين !!!.

كما تشهد سوريا موجات هائلة من النزوح والهجرة والتشريد بفعل عوامل الصراع الداخلي والاقتتال الذي دخل في عنق زجاجة الصراع الاقليمي العصي على الحل, وقد ذهب ضحية ذلك أكثر من ستة ملايين من الشعب السوري, بين مهاجرين ونازحين ومشردين ولازالت المأساة على أشدها, حتى غصت بهم العواصم الاوربية وتركيا بأنتظار من يجد لهم حلا وهم يحملون الموت على راحة اياديهم !!!.

تلك هي كوارث وخسائر نظم قمعية ومحصصاتية معمدة بمجمل التدخلات والمصالح والصراعات الاقليمية, تكون فيها الشعوب وقودا رخيصا وسريع الاشتعال, بين هجرة وتهجير وتشريد وسبي واضطهاد وقتل على الهوية وفساد ينخر الدولة والمجتمع وينهب المال العام ويضيع مستقبل أجيال !!!.
 

182

الابتعاد عن خطابات بيان رقم (1 ) ضمانة الحراك المدني لتحقيق مطالب الشعب !!!
   
د.عامر صالح  
اتخذ الحراك الشعبي والمتمثل في الاحتجاجات والتظاهرات طابعا سلميا, إنطلاقا من فهم شعبنا لتعقيدات العملية السياسية, وانعكاسا للدور الايجابي الذي لعبته الانتلجنسيا الوطنية العراقية في بلورة مزاج سلمي يضمن تصاعد الحراك المدني الى مدايات قصوى وذات طبيعة أستمرارية دورية بما يؤدي بالضرورة الى مزيدا من الضغظ لإجراء إصلاحات شاملة, تتناول العملية السياسية بكل مفاصلها, إنطلاقا من الاسباب المسببة لكل ما يجري فيها من اختناقات وتوقف لها منذ أكثر من عقد من الزمن, والى يومنا هذا حيث لم يرى النور أي اصلاح فعلي, بل يحاول البرلمان من خلال العديد من القوى المتنفذة الى حرف عملية الاصلاح الشامل وتحويلها الى آلية نفسية مخادعة لامتصاص نقمة الحراك الشعبي وتسكينه !!!.

وفي الوقت نفسه جرت تجاوزات عديدة من الاجهزة الامنية تمثلت في الاعتقالات والتعذيب واستخدام العتاد الحي وخراطيم المياه الساخنة ضد المتظاهرين في أكثر من محافظة. طبعا ولاينكر ايضا الدور الايجابي لهذه الاجهزة في التعامل الايجابي مع المتظاهرين, هنا وهناك, ومحاولات الحد من الصدامات المباشرة معهم.

وعلى صعيد الجبهة الاعلامية يجري تصعيد مدروس من قبل بعض الرموز الاسلاموية لتشويه صورة الحراك المدني واتهام قواه المحركة بالصعاليك واليسارية والعلمانية والكفرة, وربط ذلك كماهي المعزوفة القديمة بعداوتها للدين, في محاولة يائسة تقليدية لخلظ الاوراق والتأثير على بعض شرائح الحراك المدني في محاولة لاضعافه وتفتيته والعبث بوعيه. كما تجري محاولات عديدة لاختراق الحراك المدني من بعض المليشيات الطائفية المسلحة والاحزاب السياسية الطائفية, وهي جزء من الازمة, مستخدمة الترغيب والترهيب, في محاولة لايجاد نوع من الموازنة الشاذة داخل الحراك, واجهتها العلنية مطلبيا مع الحراك ولكن باطنها يعمل وفقا لقاعدة " الاسلام هو الحل " والاصلاح مهما بلغ شأنه فهو عمل باطل !!!.

كما تقوم العديد من القنوات الفضائية الاعلامية بمحاولات التأثير على مسار الحراك الشعبي السلمي وجره الى أعمال عنف وخلق مزاج انفعالي مدمر لا يليق بالحراك المدني الحضاري, وتستخدم هذه القنوات لغة اعلامية مموهة, ظاهرها الحرص على شعبنا ومطاليبه والبكاء على محنته, وباطنها حرف مسار الحراك وتحويله الى حركة صدامية, لا تقبل بأي شيئ ولا تريد أي شيئ, بل التأثير على الحراك في محاولة لتبني شعارات تلك القنوات الفضائية الصفراء, من خلال تحول صحفييها الى قيادات ميدانية عن بعد, واستخدام أسماء بعض الصحفيين كواجهات يضرب بها " قوة المثل الميدانية المطلبية". والجميع يعرف ان بعض من هذه القنوات والعاملين فيها هم من بقايا ثقافة النظام السابق ورموزه والمتباكين عليه, وهدفهم ليست الاصلاح واعادة بناء العملية السياسية على أسس سليمة, بل العودة الى المربع الاول, مربع الانقلابات العسكرية واحياء لقيم الدكتاتورية في الاستحواذ على السلطة, كما تلعب في خلق الفراغ السياسي المدمر, والذي تكون بدائله مزيدا من الارهاب والمليشيات المسلحة الطائفية وغير الطائفية وفرق القتل المجاني, وخلق مزيدا من الفوضى والاقتتال الداخلي !!!. 

في تلك الاوضاع الدقيقة والتي تستدعي مزيدا من اليقظة الوطنية, وفي ظروف ضعف الموازنة بين نوعية المطاليب وطبيعتها الجذرية الآنية, وهشاشة المؤسسات الضامنة" من جيش حيادي مهني واجهزة أمنية واستخبارتية كفوءة" للحفاظ على الاوضاع العامة عند انهيار أو حل المؤسسات القائمة, يقوم بعض من الاخوة الكتاب المعروفين بنزاهتهم وانتمائهم للوطن في المطالبة بألغاء الدستور مرة واحدة, وحل الحكومة, وحل البرلمان, واعلان حالة الطوارئ في البلاد, وتأسيس جيش جديد, وأجهزة أمنية واستخباراتية بديله, واجراء انتخابات مبكرة, وغيرها من المطالب "الفورية والثورية" كشروط لبدأ الشروع في الاصلاح, على نسق ما كان يعقب الانقلابات العسكرية وما يتبعها مباشرة ببيان رقم ( 1 ) !!!.

ان استحضار آليات الانقلابات العسكرية والكامنة في اللاوعي عند بعض الكتاب, والتي جرت في تاريخ العراق هو أمر عفى عليه الزمن, وخاصة في تجارب العراق, فلا يمكن الاستعانة بهذا النموذج لحل المشكلات المستعصية الحالية, فهو نموذج لجأت أليه كل الحكومات التي انفردت بالسلطة ونسفت كل ما سبقها من هياكل ومؤسسات تشريعية وتنفيذيية وحتى بنى تحتية, في محاولات فشل معظمها في بناء ما هو ايجابي وجديد يخدم مصالح الناس, وبقى ما خدم الحاكم وتكريس نظام الحكم !!!.

نقولها بشكل دقيق اليوم وأنطلاقا من الموازنة الدقيقة في عناصر الموقف السياسي والامني العام في البلاد, ان اعلان حالة الطوارئ في البلاد في ظل انتشار المليشيات المسلحة, والتي تمتلك سلاحا وعدة وعدد وخبرة قتالية تفوق قدرات الجيش, والبعض منها يشكل أجنحة مسلحة لبعض أطراف العملية السياسية, زائدا قوى الارهاب العلني والمتمثلة أمام أعيننا بنموذج داعش المتحالف مع البعث في نسخته العراقية, والتي الى اليوم لم يستطيع الجيش العراقي ولا الحشد الشعبي من حسم المعركة لصالحهما تماما رغم تقدمهما النسبي في أرض المعركة, وبقاء الموصل محتلة دون تحريك ساكن صوب تحريرها, الى جانب قوى الجريمة المنظمة والمجاميع الشللية من حملة السلاح, وحملة السلاح الفردي, والمافيات, وفرق القتل والموت, وقوى جرائم السطو والاعتداء على أالمال العام والخاص. إن من يملئ الفراغ الامني وحتى السياسي هو خليط من تلك القوى الشريرة, وان الموقف سيزداد قتامة ودموية !!!.

ان الاحتلال وما بعده خلق واقعا لايمكن تجاوزه أو طرح مشروع اصلاح جذري يتحاوز البيئة التي سيجري فيها ومجمل نعقيداتها, وبالتالي يكون الاصلاح مجديا عندما ينطلق من خصوصية الظروف المحيطة به, ولايأتي متعاليا عليها فيفقد مرونته في التطبيق. نعم ان تعقيد البيئة العراقية السياسية والاقتصادية والامنية التي سيجري فيها الاصلاح قد يخدم نسبيا بقاء الاسلام السياسي الطائفي والاثني المحصصاتي متنفسا الصعداء مع بقاء الاوضاع دون نقلة جذرية سريعة في الاوضاع السائدة, ولكن قوة الدفع في الحراك الوطني والمدني الشامل متزامنا مع الضغط في البدأ الجدي بتنفيذ حزم الاصلاح ومتابعة الشعب لمديات تطبيقها, كفيل بتحويل الحراك المدني الى أجهزة شعبية رقابية لمتابعة سقف الاصلاح ومحتواه !!!.

ويحب التأكيد هنا ان كل السلطات, التشريعية والقضائية والتنفيذية, الى جانب الدستور, وان لم تكن مقدسة بالتأكيد الا انها امتداد لبصمات الشعب عبر صناديق الاقتراع, مهما قيل ويقال عن ملابسات الانتخابات وتزويرها والظروف التاريخية التي تم من خلالها سرقة ارادة الناخب, وهذا يضفي على الاوضاع القائمة أكثر تعقيدا ومسارا صعبا في معالجات جذرية, لان ذلك مرتبط باعادة تشكيل وعي الناخب, أي ان اعادة الانتخابات غدا على سبيل المثال, ليست بالضرورة ان تأتي نتائجها مطابقة لاتجاهات اصلاح العملية السياسية جملة وتفصيلا !!!. 

ولكن من الايجابي والموعود في نتائجه هو ان شعبنا في حراكه المدني رفع الحصانة الاخلاقية والسياسية والقدسية عن من انتخبهم ممثلين له, احزابا وافرادا, من خلال فهمه الحراكي لازمة ومأساة النظام الطائفي والمحصصاتي المسبب لكل ذلك. وهذا يشكل رسم ملامح اصطفافات جديدة في اعادة بناء الوعي المدني وتغير في الخارطة السياسة العراقية لصالح التيار الانساني العام والحضاري !!!. 

لقد قرر شعبنا في حراكه الشعبي إن الاصلاح الشامل وليست " الثورة " هي الحل, وأن ضمانة ذلك هو: الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب والذي يمنع تشكيل الاحزاب على أسس دينية وطائفية وقومية, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا. أن التأسيس لذلك والشروع بالعمل فيه هو الضمانة الاكيدة لمستقبل العراق وحماية مستقبل أبنائه وثرواته ودرء خطر الارهاب. وهي مقدمات لبناء عراق يسعد المواطن في تنوعه الاثني والديني والثقافي والمذهبي ولا يشقى !!!. 

ان شعارات ك " بأسم الدين سرقونا الحرامية " و " يا مواطن يا مسكين ضحكوا عليك بأسم الدين " و " ميزانية انفجارية في جيوب الحرامية " و " أطلع يا شعب لا تكول شعليه " و " وداعش والبرلمان وجهان لعملة واحدة " و " وقادمون الى  المنطقة الخضراء كي لا نهاجر خارج الوطن " و " ولا لحكومة الفوضى والدمار " وغيرها من الشعارات, إنها ليست نزهة في عالم الترديد الببغاوي والمتعة الاجترارية, بل انها ارتجاجات في القشرة الدماغية للحراك الشعبي وحالة مخاض لانتاج وعي جديد سيقرر مستقبل أفضل !!!.

 
   

183
الحراك المدني الشعبي في العراق ومفاهيم الاصلاح !!!

د. عامر صالح
تتفق تقريبا أغلب المعاجم العربية والدولية والهيئات المختصة في تحديد الملامح العامة لمفهوم الاصلاح الاجتماعي بما يعنيه أزالة الفساد وتحسين الحياة العامة وتحقيق التقدم والتحديث للبنى السياسية والاقتصادية والاحتماعية والقضاء على الخلل الوظيفي الذي ينشأ فيها جراء استشراء وتمفصل الفساد الذي يضر بعموم الحياة العامة ومفاصلها. كما أن حركة الاصلاح تنشأ انعكاس لاحتياجات عامة الشعب للحياة الطبيعية, وبالتالي فأن الاصلاح مطلب شعبي ولاتفرضه نخبة ما. 
"ويلعب الاصلاح السياسي دورا مهما في أزالة الفساد والاستبداد لترسيخ الحكم الصالح, والذي من اهم مظاهره سيادة القانون والشفافية والمشاركة الشعبية الحقيقية في اتخاذ القرار والعدل وفعالية الانجاز وكفاءة الادارة والمحاسبة والمسائلة والرؤية الاستراتيجية, وهو تجديد للحياة السياسية, وتصحيح لمسارتها, ولصيغها الدستورية والقانونية, بما يضمن توافقا عاما للدستور, وسيادة للقانون, وفصلا للسلطات, وتحديدا للعلاقات فيما بيتهما". كما ورد في قاموس "وبستر" للمصطلحات السياسية ويتبناه برنامج الأمم المتحدة لإدارة الحكم في البلاد العربية !!!.                                               
   لقد قطع العالم المتقدم شوطاً كبيراً في أجندة الإصلاح، وتجاوز عقبات كبيرة وكثيرة في تحقيق طموحاته ورهاناته الملحة، ومع ما يعايش من أزمات دورية ومشاكل مزمنة إلا أنه استطاع تسجيل مكاسب ميدانية هائلة في الأجندة الحداثتيه، ليكون أقدر على الانطلاق والتقدم في المجالات العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية والمهنية والاقتصادية، ولولا مساعيه الدائمة للإصلاح لتوقفت عجلة انتاجاته واكتشافاته، وعطائه الفكري في البعد الإنساني، بل أنه يقوم على إخضاع وسائله وآلياته للدراسة والمسائلة والتقويم والبحث، ليقوم على تطويرها وتفعيلها حسب ما يتفق وينسجم مع متطلبات الواقع والحياة والبقاء، إضافة إلى رفدها بالمستجدات اللازمة. فالعقل الانساني الفردي والمجتمعي لا يبدع ولا يصمد أمام الازمات إلا من خلال ممارسة النقد والنقد الذاتي لمساراته المتعددة وعلى مختلف الاصعدة, السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, ولا يوجد إعفاء من مهمة النقد على مختلف المستويات, ففي النقد والتقويم واعادة البناء يكمن بقاء الحياة صالحة للجميع ومتسلحة بالجديد الايجابي دوما !!!. 
في العراق كان يفترض على الحكومات المتعاقبة ما بعد 2003 أن تحمل أجندة تفصيلية لحركة أصلاح شاملة تستهدف في برامجها أعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية ـ الاجتماعية المدمرة والتي ورثتها من النظام الدكتاتوري السابق جراء الحروب الكارثية التي ارتكبها النظام والتي استنزفت موارد البلاد ودمرت بنيته التحتية, ثم الدمار الذي سببه الاحتلال الامريكي. وبحكم طبيعة النظام الجديد الذي كان يفترض أن يكون ديمقراطيا من خلال إضفاء شرعية نسبية عليه بأعتباره منتخبا ودستوريا, أن تقوم الحكومات بتعبئة كافة الجهود اللازمة وزجها في حركة أصلاح شاملة تستهدف إعادة بناء الحياة من جديد على أسس من العصرنة والتحديث لكل مرافق الحياة والاستجابة لمطالب الناس الملحة !!!. 
بعد أكثر من عقد من الزمن أثبتت الحكومات المتعاقبة ذات المسحة الاسلاموية والمحاصصاتية إنها لا تحمل في حقائبها أي مشروع للاصلاح والتنمية والنهضة الحضارية, بل أثبتت العكس إنها حكومات متخصصة في الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام وتفكيك وتدمير ما تبقى من بنية اقتصادية واجتماعية وثقافية, وإفلاسا تاما لخزينة الدولة, وقد حولت العراق الى بيئة صالحة لانتعاش الارهاب والبعث ومفككا من شماله الى جنوبه, كما أسهمت بخلق حالة من ضعف الولاء للوطن يقابلها ولاء أشد للطائفية والقومية والاثنية وللمليشيات المسلحة المنتشرة في العراق كله, مما أضعف عملية بناء اجهزة أمنية ودفاعية وأستخباراتية مهنية ومحايدة, وتركت هذه الحكومات العراق عرضة لمحتلف الوصايا والتدخلات الخارجية ومفتقدا الى السيادة الوطنية الحقيقية والمستقلة !!!. 
أن الاسلامويين الذين أتوا للسلطة مستفيدين من زخم كراهية شعبنا للنظام الدكتاتوري السابق ومندفع انفعاليا للخلاص من الفقر والقمع والحروب ومرتميا في احضان الاسلام السياسي من خلال خطاب مموه وكاذب في البحث عن عوامل السعادة والرفاه في عالم وهمي يسهم في ديمومة المعاناة واعادة انتاجها, ادرك شعبنا اليوم من خلال تجربة اثني عشر عاما من الاحباط, إن الاسلامويين لا يمكن أن يكونوا هم الحل, بل هم المشكلة, ولا يمكن للديمقراطية أن تبنى في المجتمع في ظل حضور زائد عن الحاجة لهم, تلك هي تجربة العراق اليوم وتجارب الامم التي سبقتنا !!!. 
لقد انطلق الحراك المدني الشعبي منذ نهاية تموز والى اليوم متجسدا في المظاهرات الدورية الاسبوعية وذات الطابع المطلبي والحق القانوني والدستوري, وكانت النشأة الاولى على خلفية استعصاء الخدمات في ميدان الكهرباء والماء والصحة والتعليم وظروف العيش المتردية عموما, ولكن مسار هذا الحراك تبلور لاحقا في حالة من الوعي في فهم أسباب الفقر الحقيقية بفعل تأثير بعض من شرائح الانتلجنسيا العراقية الوطنية, مما ساهم في رفع سقف المطالبة المشروعة من المطالب الانية الى البحث في جذور الازمة ذات الطابع العصي على الحل لأكثر من عقد من الزمن, وبالتالي ساهم في نقل المطالب الانية الى مستوى المطالبة في الاصلاح الشامل للعملية السياسية, في ابعادها الدستورية والقضائية والتنفيذية, والتي تعيد النظر جذريا بالنظام المحاصصاتي الطائفي والاثني !!!.
لقد ساهم هذا الحراك في الوعي العراقي نسبيا الى تبني خطابا وطنيا خرج عن الاطر التقليدية في تصريف الازمات والتي كان الاسلام السياسي فيها الدور الفاعل حيث يعيد انتاج خطابه المعسول وسط الجماهير بمزيدا من الافراط في الطقوس الدينية والعزاءات وتحويل حالة الاستياء العام الى إحساس بالأثم وشعور بالذنب يعقبها مزيدا من القنوط والاحباط, وتحميل الناس مسؤولية ما يحل بهم من مصائب !!!.
أن الارتقاء بوعي الحراك المدني الى مستويات أكثر نضجا تستجيب لمطالب الاصلاح الشامل يستدعي دعما وحضورا مكثفا من مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب والنقابات المختلفة وجماهير شعبنا ذات المصلحة الحقيقية في الاصلاح الشامل للعملية السياسية وضمان قوة دفع لحركة الاصلاح الشامل ومنعها من الارتداد وعدم تحويلها الى حركة انتقائية ترقيعية, ممكن أن يتم التراجع فيها عن أي انجاز قد يتحقق, أو امتصاص نقمة الحراك المدني من خلال الوعود الكاذبة وتسويف مطالبها, كما هي محاولات البرلمان والحكومة والقضاء الآن لايجاد مخرج غير نزيه للازمة العامة في البلاد !!!.
ومن هنا يجري الحدبث المشروع عن توفير بيئة دستورية وقانونية وقضائية وتنفيذية تحمي حركة الاصلاح الشامل في البلاد وفي كافة المجالات, وإلا يبقى الحديث عن الاصلاح ودوافعه ونوايا المصلحين أمر مشكوك فيه كما يحس به شعبنا الآن من خلال الالتفاف على حزم الاصلاح والمماطلة بأتخاذ أي خطوة من شأنها أن تعيد النظر بالنظام الطائفي والاثني البغيض.
ومن هنا تأتي مطالبة شعبنا الواضحة في حراكه الشعبي بتوفير مقومات تلك البيئة والمتمثلة في:  الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب والذي يمنع تشكيل الاحزاب على أسس دينية وطائفية وقومية, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا. أن التأسيس لذلك والشروع بالعمل فيه هو الضمانة الاكيدة لمستقبل العراق وحماية مستقبل أبنائه وثرواته ودرء خطر الارهاب. وهي بداية التأسيس لوطن معافى يتعايش فيه الجميع بأختلاف دينه وقوميته وطائفته وجنسه وثقافته, وعندها يكون الدين لله والوطن للجميع !!!.

                                                 

184
الحراك الشعبي المدني بين المرجعية الدينية والإنتلجنسيا الوطنية العراقية

د.عامر صالح
للفقر وعدم إشباع الحاجات الإنسانية آثاره العميقة في تشكيل حالة الإحباط وما تنتجه من كبت نفسي لدى المواطن, والتي يمكن أن تنعكس لاحقا في شتى سلوكيات الإرتاد والعنف ضد النظام السياسي المسبب لها, والناتجة من حالة الاغتراب بين النظام والمواطن, والتي تعتبر مصدرا خطيرا لنشأة الفجوات النفسية المدمرة !!!.

والاحساس بالفقر الناتج من انعدام ظروف العيش الكريم ينتج من الناحية الموضوعية وعيا معارضا بغض النظر عن مظاهر التعبير عن هذا الوعي. وتشكل الهبات الجماهيرية العفوية أو المنظمة احدى مظاهر هذا التعبير, وقد تتصاعد هذه الهبات الجماهيرية وتحصل عدة مرات وفي فترات زمنية مختلفة حتى تزول أسباب قيامها. وهي تستند الى نضج مستوى التناقض ودرجاته بين قوى الأنتاج وعلاقاته وحسب دورية الأزمات ومستويات تصاعدها المتفاقم.

 الحراك الاجتماعي الشعبي العراقي ليست إستثناء عن هذه الظاهرة, بل يجسد بشكل واضح مرحلة خطيرة من مراحل الخلل المدمر بين قوى الانتاج وعلاقاته, بين القوى العاملة والشعب بعمومه من جهة, وبين الملاكين الأسياد, من قيادات الفساد الإداري والمالي المندمج مع السلطة السياسية ومراكز القرار, والذين يمتلكون الثروات ومفاصل الأقتصاد والقرار السياسي. وقد وصل هذا التناقض الى درجة لا يمكن العيش معه إلا بتغيره وتغير البنى التشريعية والتنفيذية والدستورية التي وفرت مظلة لأنتاجه !!!.

وعلى الحراك الشعبي المتعاظم ان يصل الى أقصى مداياته السلمية, مستمدا قوته من دينلميات الصراع الدائر بين طرفي نقيض: هو الشعب من جهة, والمفسدين السياسيين من جهة أخرى. ولكن المفارقة العراقية في تجربته أن هناك تداخل بين هذه العلاقة حيث تتداخل الأسباب بنتائجها على شكل مفارقة مضحكة ـ مبكية, وملخصها إن من أتى بهؤلاء المفسدين هي صناديق الإقتراع, من خلال تشويه ومسخ أراداة الناخب, ولكن في الديمقراطيات المستقرة العريقة إن العقل الجمعي يحاسب الشعوب على خياراتها !!!.

وللأسف ساد لأكثر من عقد من الزمن أجواء من العتمة والقنوط النفسي وضعف في الحراك الشعبي, وهو ليست حالة من الوعي الإنكفائي الخالص, بل هو تعبير ضمني عن تشوهات الوعي الناتج من تداخلات الدين بالسياسة, وبالتالي كان هذا الرضوخ يجسد نتائج الخطاب الإسلاموي المموه والكاذب والذي مارس غسيل دماغ وتعطيل للعقل العراقي وقدراته المعرفية ـ التشخيصية, مما أدى بالناس أن تبتعد نسبيا عن فهم مسببات الصراع وطبيعته وقوانينه والركون للقدرية والإستسلام للأمر الواقع, وإبقاء عوامل الرفض للواقع المتردي في الكمون !!!.

وحال رفع يدي المرجعية الدينية قليلا عن الاحزاب الاسلاموية, حتى بدأت بؤر الحراك الشعبي المدني تنطلق بقوة دفع تجاوزت فيه سقف مطالب المرجعية نفسها, فرب شرارة أحرقت السهل كله, وكأن كلمة المرجعية الدينية الموجهة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي, والتي بين ما تضمنته, بضرورة ضرب المفسدين بيد من حديد, وكأنها رسالة ضمنية الى الشعب العراقي برفع الحصانة عن الإسلام السياسي, كما فهمت من شعبنا, ولكن الحقيقية ليست كذلك, فالمرجعية الدينية مرتبطة أشد الارتباط بتعقيدات الوضع السياسي, ولها موازناتها الدقيقية والذكية في إدارة الصراع بين إقتتال الأخوة وأمتصاص الأزمات !!!. 

ولكن حراك شعبنا عبر عن أزمة خانقة أندلعت وتهدد مستقبل بلد بكامله, وتهدد ضمنا بنهاية الإسلام السياسي ومؤسساته في العراق, فتداخلت المصالح المشتركة بين الحفاظ على مكانة المرجعية ومصالح شعبنا, فجاء التحذير لإسلامويين من خطورة الاوضاع التي تفني الجميع وتهدد بأسوء الخيارات الكارثية, وخاصة في ظل وجود الارهاب كبديل قوي يراهن على مزيدا من تفكك الاوضاع وشرذمتها وأنهيارات اللحظة, وهو على مقربة من بغداد !!!.

وأذا كان خطاب المرجعية يحمل للوهلة الاولى بصمات ثورية ويعبر عن مزاج سائد لدى أوساط شعبنا المحروم, لكن هذا لا يمنع من أن يكون للمرجعية سقفا محددا وتكتيكا يبقى ضمنا على مستوى من العلاقة بين الاسلام السياسي ومرجعيته الدينية. وإن جر آذان الاسلام السياسي من قبل مرجعيته تعبر عن مظهر شديد التركيز والاستقطاب وعقوبة شديدة نسبيا, ومعبرة عن تلك العلاقة الابوية ـ البطريركية بين الاسلام السياسي ومرجعيته !!!.

من هنا تأتي أهمية دور الإنتلجنسيا العراقية الوطنية, من مثقفين, ومفكرين, وكتاب, وأدباء, وصحفيين ونخب سياسية, والمشهود لهم في ولائهم للوطن وفي استقرائهم للاحداث بعيدا عن الخندقة والمساومات الطائفية والعرقية والشوفينية الانتهازية, تلك الفئة الاجتماعية الخلاقة في الفكر والممارسة في السياسة وعلم الاجنماع والقادرة على استخدام المنهج العلمي في قراءة الظواهر الاقتصادية والاجتماعية بهدف الوصول الى نتائج مقبولة لحل مختلف الاختناقات السياسية والاقتصادية. وهي تختلف كل الاختلاف عن تلك الفئة من " المثقفين " الذين أصبحو كلاب حراسة لطوائفهم وأنتمائتهم الاثنية الضيقة !!!. 

أن تلك الفئة من الانتلجنسيا الوطنية قادرة على احتواء المد الشعبي المتصاعد على خلفية المراوحة في المكان والمراوغة في عمليات الاصلاح, وتأمين مسارا سلميا لعمليات الحراك الشعبي, من خلال توعية الناس بضرورة الابتعاد عن اعمال العنف والتهديد بالزحف والهجوم على مقرات السلطات العليا, من برلمان, ورئاسة الجمهورية, ورئاسة الوزراء وسلطة القضاء العليا, وتعزيز مبدأ ان شعبنا ينتفض من اجل انتزاع حقوقه المشروعة سلميا ولا يثور, وعزل وسائل الاعلام والقنوات الفضائية التي تدفع لمزيدا من التصعيد والعنف والتحيز في نقل الاحداث والاخبار وفبركتها من أجل بديل عبثي يسهل إختراق الارهاب وتحويل العراق الى ساحة مكشوفة لكل الصراعات الدموية !!!.

وتسهم تلك الانتلجنسيا الوطنية الحاملة للمعرفة والفكر والثقافة الانسانية في خلق أجواء معرفية سليمة تضع المنتفضين في حالة من الوعي والادراك السليم لما يجري, بعيدا عن سلوكيات الحشود الانفعالية الضارة لمصالح شعبنا, والمؤطرة بدوافع تصفية الحسابات السياسية والسياسية الطائفية الضيقة, كما تلعب دورا في حماية التظاهرات من التسييس والاختراقات الحزبية, وتأمين مسار سلمي متصاعد للحراك الشعبي يفضي الى حلول لأبرز المشكلات التي يعاني منها شعبنا, ويجنب الصدام مع القوات الامنية التي لازالت مهنيتها تفتقد الى الكثير من العمل, لمواجهة الحراكات الشعبية المشروعة !!!.

أن كل عمليات الحراك الشعبي المطلبية تنطلق شرارتها الاولى من خلال جهد شعبي عام, سواده الاعظم من الفقراء والمعدومين والكادحين, وتبقى هذه الحراكات محفوفة بالمخاطر والانتكاسات وفي انعدام أفقها اذا لم تتصدرها قيادات فكرية وثقافية مخلصة تساعد المنتفضين في تحويل استجابتهم الانفعالية الاولى وغضبهم المشروع الى فعل استراتيجي يؤدي الى تحقيق مطاليبهم.

لقد مر على الانتفاضة العراقية شهرا تقريبا, تمت فيها رسم ملامح التغير القادم من خلال المطاليب الاتية, والتي تعكس التأثير الواضح لللنخب العراقية المثقفة, والتي تتمثل في ترتيب أولويات مطاليبه من ماء وكهرباء وخدمات وايجاد فرص عمل واعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية المدمرة وايجاد فرص للعيش الكريم, الى جانب مطالب ذات بعد استراتيجي كما يراها شعبنا المتظاهر هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا.

وفي الختام نقول اذا كانت المرجعية الدينية أعطت زخما انفعاليا وقوة دفع لإنخراط شعبنا في البحث عن حلول لمشكلاته, فأن الوقت قد حان لتحويل تلك الانفعالات الى عمل عقلي رفيع المستوى لتنفيذ مطاليب شعبنا, وهو عمل صعب واختصاصي يستدعي تدخل النخب العراقية المهنية والمثقفة وذات الصلة بمصلحة الوطن, بعيدا عن زج الدين بالسياسة, فلا زالت تجارب الاسلام السياسي مثخنة بالجراح ولازال مستقبل شعبنا قاب قوسين !!!.



 

185
العراقيون: من التعبئة الحشدية الانفعالية الى العقل المدني المتفرد !!!

د.عامر صالح
تعبر الانتفاضة العراقية المطلبية عن تحول نوعي في الوعي والمدارك العراقية في فهم ما يجري في السياسة والاقتصاد والتفاعلات المجتمعية, وهي نقلة نوعية في البعد العقلي ـ المعرفي لفهم اسباب ما يجري, وبالتالي المطالبة بالحلول النوعية لتجاوز الأزمة, ورفع شعارات ذات قيمة مطلبية ملموسة. هذا تطور نوعي في فهم آلية الاسباب في ضوء علاقتها بالنتائج, وتشكل نقلة أستثنائية في فهم الأزمة العامة في البلاد وجذورها على المستويين الذاتي والموضوعي, كما يشكل ذلك نقلة ايجابية في الوعي العراقي, من الحالة الحشدية القطيعية الى حالة التفرد والتمايز الجميل في استدراك ما يجري ورفض الوصاية الرعوية والابوية البطريركية الدينية وغير الدينية على عقول العراقيين !!!.

كما نعرف أن الوضع السياسي في العراق هو نتاج لتراكم سبق سقوط النظام السابق في عام 2003 وما بعده, وما خطط للعراق خلال عقود من الزمن أن يكون ضعيفا مهمشا, لا سيادة له على ارضه ومقدراته وثرواته الطبيعية والثقافية والاجتماعية, مفتتا الى كانتونات طائفية وأثنية, ابتعدت عن تنوعها الجميل الذي عرفناه ومخترقا من الطائفية ـ السياسية والتجمعات المصغرة ذات الطابع الشللي, والمليشياتي, ومستنقع للعصابات الإجرامية, واصبحت الطائفة واجهة ومظلة لحماية المجرمين والفاسدين والسراق والقتلة, حتى باتت تلك التجمعات الشللية الطائفية والطائفية السياسية مرتع للجرائم الكبرى في سرقة المال العام والقتل الجنوني المجاني اليومي والمرتبط بأجندة سياسية وأرهابية, متزامنا مع التفكيك البنيوي التدميري المنظم لمؤسسات الدولة, حتى أخذت تلك الأفعال المدنسة طابعا مقدسا من خلال زج الدين في أقصى مداياته في تفصيلات الخراب اليومي وإضفاء الشرعنة على السلوكيات السيكوباتية المرضية !!!.

أن الخراب الفكري وما تبعه وظيفيا من خراب عقلي ـ معرفي هو أرث عقود من القمع السياسي والاجتماعي والثقافي من خلال غسيل الدماغ بتقنيات الحزب الواحد وسلطته التي حكمت العراق, وألغت فيه قيمة الفرد الذهنية والفكرية والابداعية, فحولت فيه شرائح اجتماعية واسعة الى كتل صماء منفعلة, تحركها اشارات من قائد الضرورة اينما يريد وكيف ما يريد وبأي اتجاه ويسوقها كراعي أغنام. وقد كان انعدام الأمل وضعف العامل الذاتي في التغير أحد اسباب انسياق الناس الى التمسك بدين مفرط زائد عن الحاجة الشخصية والتشبث بالماورائيات لحل ازمة الحياة المستعصية !!!.

كانت تلك أرض خصبة للإسلامويين السياسيين بعد سقوط النظام الدكتاتوري الفاشي في 2003 للاستحواذ على السلطة من خلال استخدام سياسات التجييش والتحشيد القطيعي والافراط في استخدام المراسيم والطقوس الدينية حتى باتت عملا مدمنا وتحشيشيا يصبحوا ويمسوا عليه, وقد تحولت الدولة العراقية الى مجموع طقوس وشعائر دينية, غاب فيها الحديث عن التنمية والتخطط وتحسين مستويات العيش, حتى تحول كل شئيئ الى هالة من الطقوس المقدسة, بما فيها الفساد وسرقة المال العام والقتل الفردي والجماعي !!!. 
لأكثر من عقد من الزمن كان الاسلام السياسي يستخدم جاهزية العقل العراقي المثقل بجراح الوعي لتسويق بضاعته الرخيصة وخطابه المعسول ذو الانفعالات المهيجة للاحتراب بين الاخوة في الوطن, ناسيا مطالب الناس في الخدمات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص العيش الكريم, ومتخذا من معاناة الناس في الفقر والفاقة والاضطهاد في تمويه سياساته في الفساد والجريمة والتحلل الخلقي من خلال اضفاء الشرعية على كل افعاله, وتسويف مطالب الناس من خلال الكذب والرياء والنفاق من خلال خطاب ظاهره مقبول نسبيا وباطنه عفن !!!.

بعد عقود من الزمن كان مخاض شعبنا لتجاوزحالة الحصار السلطوي بشقيه الدكنانوري والاسلاموي واضحا عبر اختمار آليات التغير في مراحلها الثلاث كما ترد في الادبيات السيكولوجية:

ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلة, التي تدوم فترة طويلة نسبيا, يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع, عصر الانحطاط, وتكون قوى التسلط في أوج سطوتها, وحالة الرضوخ في أشد درجاتها. وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخال) عملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهير, فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله, ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منه. ومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديره, فيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات, وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ " مازوخي " من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته, وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمها: عقدة النقص, وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله, والتي تجعله يحجم عن كل جديد, ويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعه, لذلك فهو لا يحرك ساكنا, وإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيه, وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد, تعلقا يغري بالتسلط والدكتاتورية, إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته, ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمله, فيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخلي, ولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية, وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين. وأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومة, حيث أن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي, وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل, ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار, مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره, ويحس انه لا قدرة له على مجابهتها !!!!.

ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين , بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. انه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه, أن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا, وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر, متهما إياه " بشكل توهمي " أنه يحسده ويريد أن يؤذيه, وهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلا. إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور, لكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد, مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة !!!!.

ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقه, وهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكالية, وقد يكون العنف  والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيم, ولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالات, فأما إعادة دورة العنف أو الانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدمية, وهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير !!!.
 
أن المعضلة الكبرى كما يراها شعبنا المتظاهر هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن نزاهته حقا. أما عدا ذلك فأن الامر يبدو أكثر تعقيدا, وان محاولات العبادي نتمنى ان لاتكون امتصاص لغضب شعبنا والمرجعية الدينية. وحذاري من تحول احباط شعبنا الى عمل  يتجاوز كل التوقعات , وقد تدك المظاهرات والاعتصامات ابواب المنطقة الخضراء, وعندها ستراق الدماء وسيخسر الجميع, إلا داعش, فسوف تجد لها فضاء لا حدود له للتمدد !!!.
أن الأنتفاضة العراقية اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي " للإنتفاضات المنظمة " كما كان يحصل في عقود خلت, حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية, تعقبها " ساعة الصفر ", فالأمر اليوم معكوس تماما, حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان الانتفاضة ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها, فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية, أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة " على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا "!!!!.






   


 

186
الخلفية السوسيولوجية والسيكولوجية لانتفاضة تموز العراقية ومستلزمات النصر !!!
 

د.عامر صالح 
 لا يراودني الشك أن ما يجري في العراق اليوم هو ثورة سلمية تعكس اخلاق شعب يحب الحياة ويبتعد عن حمامات الدم وازهاق الارواح, يطالب بحقه في الحياة الحرة الكريمة المشرفة والتي تليق بتضحياته عبر عقود من النضال ضد الدكتاتورية الفاشية ولاحقا ضد الاسلامويين السياسيين الذين سرقوا تضحيات شعب بكامله وشوهوا معالم وعية, في محاولة منهم لحرف ارادته وفرض خطاب الانفعالات المرضي بديلا عن خطاب العقل من خلال دائرة مغلقة في اللف والدوران والطقوس العصابية المأطرة بسلوكيات الهوس الديني في محاولات كاذبة لإمتصاص نقمة شعب قرر ان لا يسكت عن مهضوميته التاريخية !!!. 
أن ثورة شعبنا اليوم تجسد في حراكها ما ينسجم مع ادبيات الثورة العالمية, حيث ان الثورة هنا تقوم على خلفية التناقض  الذي لا يحتمل الاستمرار بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة, والذي يفرز ظواهر الفقر المدقع, والتدهور للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية, والصحية, والتعليمية والخدمية والامنية بمختلف مظاهرها. ويكون الهدف المتوقع من الثورات هو إعادة بناء علاقات سليمة وعادلة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج, بما يفضي إلى إعادة توزيع الثروات بشكل منصف, وإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع, بما يوفر المزيد من فرص العمل عبر إعادة هيكلية الاقتصاد, واستحداث المزيد من المشاريع الإنتاجية والخدمية, ويشكل ذلك ضمانة لتحسين ظروف الحياة الإنسانية العامة والارتقاء بها !!!!.
 لقد قدر للعراق وشعبه أن يمر بظروف تاريخية قاسية ذات طبيعة كارثية أسهمت بشكل كبير في تشكيل مزاج عام أدى إلى تأخير حالات اختمار حقيقية صوب مخاض الديمقراطية,مما فسح المجال إلى نشأة بدائل سياسية ذات طبيعة عقليةـ معرفية معوقة للديمقراطية في غالبيتها,ولكنها انطلقت لتمارس الديمقراطية السياسية استنادا إلى ظروف العصر الضاغطة وظروف العراق بشكل خاص التي لا تقبل بغير الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية كنموذج بديل عن النظم الديكتاتورية الموروثة.وعندما حصل التغير في العراق عام 2003 " رغم ملابساته الكثيرة وصعوبة هضم آلية التغير" فأن الفراغ السياسي شكل سمة مميزة للوضع السياسي,مما مهد الطريق إلى خيار الاستحواذ السياسي متخذا من الطائفية والعرقية واجهة له ومستغلا الظروف التاريخية للاضطهاد ليمعن في سياسته التي لا تلقي الاستحسان والقبول والإجماع والرضا من قبل شعبنا,وبدلا من أن تحل البرجماتية السياسية " أي قياس مصداقية الفعل السياسي بنتائجه العملية على ارض الواقع " فقد حلت البرجماتية المدججة بالسلاح " الحوار بيد والسلاح في اليد الأخرى لقبول أمر الواقع". 
في فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 حيث شيوع وانتشار التنظيمات السياسية الطائفية المسلحة منها وغير المسلحة والتي نمت نموا مذهلا وسريعا وبتشجيع من دول الجوار العربي وغير العربي مستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود في ظل النظام السابق جراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي سببها له,وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون فهم قوانينه وأسبابه,والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران   والجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على ارض العراق المظلوم ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان واشتراطاتها السياسية,بما فيه حتى شروط تشكيل حكوماته السابقة ,أنها كارثة حقيقية ضد استقلال البلد وسيادته,وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل,بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده,وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر باليابس. وتقدر اليوم المليشيات المسلحة الشيعية بأكثر من اربعين فصيل, يقابله بقدره او اقل منه في الطرف السني !!!!.

لقد تركت تلك الاوضاع أزمة في ضعف المشاركة السياسية والشعبية الواسعة وإلى أحساس شرائح اجتماعية واسعة بالهامشية واليأس والمنبوذية "خاصة الفئات التي يجب أن تستهدفها عمليات التغيير",مما يدفع إلى شعور مضاد للانتماء,أي العزلة والاغتراب الاجتماعي وضعف الشعور بالمسؤولية ومن ثم التطرف بألوانه والى الفوضى والعنف,وأصبحت إحدى البؤر المولدة للعنف والتطرف الديني وغير الديني,لتشتد الحياة أكثر عنفا لتصبح بيئة مواتية للتحريض وارتكاب الجرائم الكبرى بحق الناس وبواجهات مختلفة( القاعدة,فلول البعث السابق وداعش,وضغط دول الجوار التي لا تعي حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية),أن الجبهة الداخلية السليمة والصحية هي وحدها القادرة على دحر أعداء العراق في الداخل والخارج وعلى خلفية بقائه وطنا صالحا للجميع.ويذكرنا ذلك تماما بإخفاق جيوش النظام السابق الجرارة والمليونية في الإنابة عن المجتمع دفاعا عنه وعن سيادة البلاد من الاحتلال والتي حصلت على خلفية انعدام الثقة المتبادل بين النظام والشعب وضعف المساهمة السياسية الحقيقية في صنع القرار,فأين الملايين التي كانت تصفق "لقائد الضرورة" كذبا ودفعا للأذى عنها,أن حالات الاستبداد السياسي والطغيان وتكبيل أعناق المواطنين وترويضهم على الخنوع والذل والانشغال بسد رمق العيش هي التي تمرر مشاريع اختراق الوطن من الداخل والخارج !!!!.

أن نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على النواة المتواضعة للنظام الديمقراطي,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

أن شعبنا عاش ولايزال احباط مزمن جراء السياسات الطائفية والاثنية وما سببته من تعسف وخذلان وامتهان لكرامته وازمة مستديمة في كافة مجالات الحياة ومرافقها العامة حتى اطبقت عليه تماما واغلقت بوجهه كل السبل. مما ادى بشعبنا ان يحول ميكانزم الاحباط كما هي الفطرة الانسانية, الى عمل احتجاجي مسالم وليست عدواني يليق بشعبنا وحضارته في انتزاع ذكي لحقوقه المشروعة من الحكام المتخاذلين والفاسدين, وفي تأكيد رائع من شعبنا انه شعب مدني ويعشق الوجود الحر والحرية. ومن الايجابي في تزامنه ان تقف المرجعية أكثر وضوحا الى جانب مطالب الشعب, مما اعطى زخما معنويا للسيد حيدر العبادي رئيس الوزراء في البدأ بحزمة اجراءات تستهدف مفاصل الدولة, وبشكل خاص الرئاسات الثلاث !!!.

ولكننا لا نؤمن بعصى ساحر لكي يحل كل المشكلات بضربة واحدة, وخاصة ان كل ما اقدم عليه العبادي هو مقترحات اولية وتعتمد اولا واخيرا على البرلمان في المصادقة عليه, ونحن نعلم ان البرلمان معبئ بالفساد ومعوقات التغير. وهي فرصة تاريخية لكي يعبر البرلمان عن قبحه وصلافته أم بأمتثاله امام ارادة الشعب المنتفض !!!.
أن المعضلة الكبرى كما يراها شعبنا المتظاهر هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن نزاهته حقا. أما عدا فأن الامر يبدو أكثر تعقيدا, وان محاولات العبادي نتمنى ان لاتكون امتصاص لغضب شعبنا والمرجعية الدينية. وحذاري من تحول احباط شعبنا الى عمل  يتجاوز كل التوقعات , وقد تدك المظاهرات والاعتصامات ابواب المنطقة الخضراء, وعندها ستراق الدماء وسيخسر الجميع, إلا داعش, فسوف تجد لها فضاء لا حدود له للتمدد !!!.


187
نحو تصعيد التظاهرات المطلبية السلمية صوب التأسيس للحلول الجذرية !!!
د.عامر صالح
مع إشتداد وتفاقم الأزمة الخانقة في العراق والتي ارتبطت أصلا في الاخفاق التام والكامل في حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والتي كان يفترض ان تكون بدائلها هو التأسيس لبنية تحتية تكنولوجية ـ اقتصادية جديدة, اشتدت وتائر التظاهرات المطلبية المشروعة وذات الطابع الحقوقي الدستوري, وعلى خلفية انعدام الخدمات الاساسية, من كهرباء وماء وصحة وتعليم وأمن وانتشار للامراض والاوبئة المختلفة ونقص هائل في كل مرافق الحياة, متزامنا مع تمترس الفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام والتدهور القيمي والاخلاقي العام, حتى اصبحت ثقافة الفساد بديلا مقبولا على مضض عن ثقافة النزاهة والاخلاص والامانة والحفاظ على المال العام, في وضع اصبح فيه السارق والفاسد قاضي حاجات وحلال للمشاكل وبنفس الوقت سياسي كبير ورجل سلطة ترتبط به مصائر الاخرين في الترغيب والترهيب !!!. 

منذ اكثر من عقد من الزمن وبعد سقوط النظام الدكتاتوري والخدمات العامة تزداد سوء, والصراعات السياسية على السلطة والنفوذ أكثر دموية وايذاء للمصلحة العليا للوطن, والامن المجتمعي العام والفردي أكثر تدهورا, وتصاعدت وتائر الارهاب الذي أدى الى ولادة داعش " دولة الخلافة الاسلامية " تلك الخلاصة المركزة لمستنقع الفساد السياسي والصراعات السياسية ـ الطائفية والاثنية. منذ أكثر من عقد من الزمن وسرقة المال العام واستنزاف موارد البلاد لم يشهد لها مثيل في تاريخ العراق كله حتى بلغت خسارة الدولة والمجتمع الى ما يقارب من 700 مليارد دولار, متزامنة مع سياسات التقشف وشد الاحزمة على البطون وتحميل المواطن الفقير اصلا اوزار ذلك, وصولا الى اقتراب الدولة من اعلان حالة الافلاس الكامل والاستعانة بالقروض والمساعدات الدولية, وعدم صرف رواتب الموظفين في بعض القطاعات لعدة أشهر !!!.

منذ اكثر من عقد من الزمن وسياسات التجاذب واللا استقرار بين أقليم كردستان والحكومة الاتحادية لا تهدأ, بل تزداد وتائرها كلما وجد بصيص أمل لحلحلة الاوضاع. وسياسات الانفصال الجغرو طائفي السياسي والاثني على مستوى العراق كله تشتد وتائرها وتزداد وضوحا في ظل ظروف غير طبيعية تتزامن مع ضعف وتدهور السلطة الاتحادية, حتى باتت تلك السلطة آخر من يسمع رأيها في التصرف بموارد البلاد العامة. وفي الامن, وفي السياسات الخارجية والداخلية, فلكل بقعة في العراق لها أمراء حربها, وقيادات عشائرها وزعمائها الدينيين والسياسين والمفتين, ولها مليشياتها المحلية المدججة بالسلاح الذي يفوق احيانا قدرات السلطة الاتحادية, حتى وصل الامر الى الافتاء بالجهاد الكفائي لانقاذ البلاد من خطر داعش. لقد استفحل الخلاف حول المسلمات الوطنية بين أقليم كردستان والمركز, من يدافع عن من؟ ومن يحارب من؟ وهل مسموح للجيش الاتحادي التقدم لمقاتلة داعش هنا أم هناك, وفي هذه البقعة الجعرافية أو تلك؟ أم أن البيشمركة هو الاولى بذلك. تلك ظواهر لا نبحث عن شخصنة لها بل عن طبيعة النظام والاسباب التي تقف ورائها !!!.
 .
أن تصاعد الحراك الشعبي والصمود البطولي لشعبنا في ساحات التظاهر أفرز حالات نوعية من الوعي المدرك عبر تراكمات 12 عاما بعد سقوط الدكتاتورية, أن نظام المحاصصة عرقل وسيعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع !!!,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه!!!!.

تظاهرات شعبنا اليوم هي شاهد ميداني على توفر الظروف الموضوعية للتغير الجذري انطلاقا من ازمة عميقة مستعصية في كل مجالات الحياة بلغت ذروة التعبير عتها في اصرار شعبنا لايجاد حلول لها عبر استمراره في تطوير واغناء مراحل احتجاجاته القادمة بمزيدا من الضغط المشروع على القيادات الحاكمة للبلاد, وتبقى ضرورات انضاج العوامل الذاتية للتغير والمتمثلة بمجمل الارادات السياسية الخيرة من مختلف الاتجاهات والحريصة على انقاذ البلد من محنته, الى جانب القيادات الميدانية للمظاهرات ومنظمات المجتمع المدني, لصب كافة الجهود لاعادة بناء العملية السياسية من جديد بما يستجيب استراتيجيا لمطالب شعبنا في الخدمات وغيرها وألتماس افق الاستقرار المستقبلي. ان مداخل التغير الشامل تكمن في اعادة النظر بالدستور الذي ولد ولادة عسيرة, وبقانون الانتخابات الذي لم يكن منصفا للاخرين والذي يكرس البقاء للحيتان الكبرى, ولقانون احزاب يضمن المسائلة وطبيعة الحزب وسلامته الوطنية العامة !!!.

أن مظاهرات شعبنا اليوم هي ليست فقط احتجاجا على سوء الاحوال بل الندم على سوء الخيار وسوء التصويت على من استغل مشاعرهم الانسانية وانفعلاتهم البريئة الكارهة للدكتاتورية بعد إن قبع للعقود تحت الحرمان والقمع, فتم توجيه انفعالاته الحشدية صوب مزيدا من الحرمان والفاقة والفقر من خلال خطاب سياسي يدغدغ المشاعر ولا يخاطب العقل المتفرد !!!.
أن صعوبات الحاضر هي مخرجات لمدخلات دستور يقتسم غنائم سلطة ولا يؤسس لديمقراطية مستقرة, استغلت فيه مشاعر شعب للتصويت عليه دون مقدمات انتقالية. لايوجد شئ مقدس غير قابل للنقد والتعديل, فالحياة الكريمة تبنى دوما على ممارسة النقد والتقويم المستمر لمسارات العملية السياسية, ومن يرى بقائه صالحا في هكذا اوضاع من خلال تطمين لمصالح سياسية او شخصية ضيقة فيجب ان يكون خارج العملية السياسية, لان مصالح الشعب والوطن تستدعي مزيدا من النزاهة والتجرد الشخصي والاخلاص للوطن.
أما عدا ذلك فلا خبر يأتي عن الماء ... ولا وحي ينزل بالكهرباء !!!

 
________________________________________
   






 
________________________________________
   






 
________________________________________
   



188
الى مزيدا من التظاهرات السلمية المطلبية ولتشديد الخناق على رقاب الفاسدين !!!

د.عامر صالح  
تجتاح مدن العراق مظاهرات سلمية للمطالبة بتوفير خدمات الحد الادنى من شروط العيش الانساني الكريم, من كهرباء وماء وخدمات اخرى. واذا كانت الشعارات الاساسية لهذه التظاهرات المطلبية تتمحور حول توفير التيار الكهربائي, لكونها اقترنت بتصاعد موجات الحر الشديد والمهلك في ظروف التدهور الكامل لخدمات الكهرباء, ولكنها تعكس حزمة واسعة من المطاليب الحياتية الاساسية: من كهرباء, وماء, وتحسين الظروف الصحية العامة والمتدهورة اصلا, حيث انتشار الامراض والاوبئة وضعف الخدمات الطبية, الى جانب انتشار ظاهرة البطالة وانعدام فرص العمل في اوساط شرائح اجتماعية مختلفة, والانتشار الشرس للفساد الاداري والمالي الذي يضع العراق على عتبة الافلاس الشامل والتام دون أفق للحل يذكر !!!.

أن الدولة العراقية تعاني اليوم أكثر من أي وقت مضى من تدهور شامل في كل مفاصلها, وفي مختلف المجالات الحياتية, مما ينذر ويهدد المجتمع العراقي بتوقف عصب الحياة كاملا في ظروف صعبة واستثنائية يواجه فيه شعبنا ومجتمعنا عدوا شرسا متمثلا بالارهاب الدموي الذي تجسده على ارض الواقع القوى التكفيرية والمتمثلة " بدولة الخلافة الاسلامية ـ داعش " بنسحتها العراقية الخاصة والمتحالفة مع البعث الساقط !!!.

أن خدمات الحد الادنى من كهرباء وماء وصحة وتعليم وأمن هي شروط لازمة للوقوف بوجه الارهاب, فلا يمكن وليست من المعقول ان شعب جائع وعطشان ومريض وغير آمن وبدون كهرباء ان يقارع " داعش " الى النهاية, والفاسدون يسرحون ويمرحون وينعمون بالمال السحت الحرام. ان شعبنا يعاني الأمرين من سوء الخدمات والفساد والارهاب !!!. .

أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة ",حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن,وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته وانعدام الخدمات العامة كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم !!!.
ولذا فأن احتجاجات ومظاهرات شعبنا المطلبية ذات المشروعية الدستورية يجب ان تلقي آذانا صاغية من المسؤولين وصدقا في الاستماع لهم والاستجابة في تحقيقها, انطلاقا من حق شعبنا في العيش الكريم الآمن, وتفاديا لمزيدا من التدهور القادم الذي ينذر بمزيدا من حالات الاستياء الشعبي العام والذي ستكون عواقبه مفنوحة لمختلف الاحتمالات, الحميدة منها والخبيثة, وعلى الاسلام السياسي  بمحتلف توجهاته والذي يقود السلطة أن يؤكد شئ من النوايا الصادقة لشعبنا الذي اكتوى بنار النظام المحاصصاتي الطائفي والاثني !!!.

ان مطاليب شعبنا اليوم تحمل في طياتها كل النزاهة والصبر من المتظاهرين, وهو يعكس حالة من الوعي وتأثيرا واضحا لقوى الاعتدال فيها بعيدا عن استغلالها من قبل قوى الاسلام السياسي لعقد مزيدا من صفقات الاستغلال والمساومات لحرف نظالات شعبنا المطلبية !!!.

لقد اعتاد الاسلام السياسي سابقا بافراغ التظاهرات المطلبية من خلال سلوكه المنافق بقيامه بقيادة المظاهرات وهو موجود في السلطة ويقودها, وهو سبب الفساد والخراب كله, في محاولة منه لاستجداء الدعم من شعبنا المنتفض ولتثبيت مواقعه في السلطة من جديد !!!.

اليوم يزداد شعبنا جوعا واحتراقا وارتهانا للقمة العيش وهو يصارع الارهاب والقوى الظلامية والتكفيرية والبعثية من داخل البرلمان وخارجه, وعليه ان يكون شديد اليقضة لمنع احتواء مطاليبه بمزيدا من التنازلات عن حقوقه المشروعه, وعدم السماح للاسلام السياسي باستخدام زخم الاحتجاجات لمصلحة تشبثه بالسلطة وعقد صفقات تهدئة مشوهة مع المواطنين المحتجين. فمطالب الشعب خط احمر وتسقط من اجلها حكومات بعد جكومات. والى مزيدا من تشديد الخناق على رقاب الفاسدين لتوفير افضل الظروف لمحاربة الارهاب وتطمين مستلزمات العيش الكريم !!!.
 




189
اتفاق ليلة القدر " خير من ألف شهر " النووي بين ايران والسداسية والفوبيا العربية !!!


د.عامر صالح
أثار الاتفاق النووي الايراني ـ الامريكي أو الايراني ـ السداسي مزيدا من الذعر والخوف غير المشروع في الاوساط العربية والخليجية بشكل خاص, مما يعكس حالة من الاضطراب المرضي غير المبرر بعوامل موضوعية قابلة للفحص والتنقيب كأي ظاهرة موضوعية, ولكن على ما يبدو ان هواجس اللاوعي الطائفي والمذهبي والخوف المفتعل من ايران هي من محركات الخوف العربي والخليجي بشكل خاص من هذا الاتفاق !!!. 
لقد تعود الخليجيون والسعوديون بشكل خاص على الاستجابة للأملائات الامريكية والغربية بشكل يعكس العلاقة بين أب قوي وطفل معوق يحتاج الى الدعم والرعاية المستديمة دون فهم أن السياسة مصالح ولا يوجد حليف دائم الى الابد. ومن هنا كانت الصدمة الكبرى في الاتفاق النووي الايراني ـ الامريكي لدول الخليج وبشكل خاص السعودية, وكانها محاولة لانهاء التحالف الامريكي ـ الخليجي, ولكن الاشارة من قبل الامريكان الى الاضطهاد والتعسف والقتل وعدم المساواة في السعودية له دلالته الخطيرة على مستقبل التحالف الامريكي ـ السعودي, فأمريكا في طور البحث عن حلفاء جدد ذو صبغة معتدلة  !!!.
أن الفوبيا المرضية العربية من الاتفاق تعكس في جوهرها عدم المقدرة العربية في اجادة فن الحوار والمناورة مع الغرب والاكتفاء بحالة الاستسلام المرضي عبر ضخ البترول الزهيد لتطمين الغرب المتعطش لذلك دون مقابل, وبالتالي فأن موارد البترول القادمة من الغرب تشكل عصب الحياة اليومي للخليج كله مرتهنة للغرب حياتها اليومية واقتصادها الاستهلاكي !!!.
لقد أتكأت ايران في الحوار مع الغرب على قدرات ذاتية قوامها اقتصاد متنوع, صناعي وزراعي وبنية تحتية اقتصادية تترك لنا انطباعات بأمكانيات هائلة في الاكتفاء الذاتي ومقارعة العناد الغربي, حيث يشكل القطاع النفطي فيها بحدود 35% من الدخل القومي, بعكس الدول العربية النفطية والخليجية بشكل خاص التي تشكل فيها موارد النفط الى 90% من الدخل القومي, مما منح ايران قوة في التفاوض, الى جانب فسحة من الرفاه الاجتماعي وحرية الحركة للمواطن بما لا يملكه الخليجي وحتى العربي الاخر, رغم ان نظام الملالي يضيق الانفاس للابقاء في السلطة, ولكنه عرف من اين تأكل الكتف !!!.
ايران لم تفوز بكل شئ, فالاتفاق واضح, ولكنها قد تؤسس للفوز من خلال مرونتها ودهائها التفاوضي. وهذه هي بنود الاتفاق:
1- رفع العقوبات المفروضة من قبل أوروبا والولايات المتحدة عن إيران
2- فرض قيود على البرنامج النووي الإيراني طويلة المدى مع استمرار تخصيب اليورانيوم بنسبة حددت بـ 3.67 في المئة
3- خفض عدد أجهزة الطرد المركزي بمقدار الثلثين إلى 5060 جهاز طرد.
4-التخلص من 98% من اليورانيوم الإيراني المخصب.
5- عدم تصدير الوقود الذري خلال السنوات المقبلة، وعدم بناء مفاعلات تعمل بالمياه الثقيل ، وعدم نقل المعدات من منشأة نووية إلى أخرى لمدة 15 عاما.
6- السماح بدخول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لكل المواقع المشتبه بها، ومنها المواقع العسكرية لكن بعد التشاور مع طهران.
7- الإبقاء على حظر استيراد الأسلحة 5 سنوات إضافية، و8 سنوات للصواريخ البالستية.
8- الإفراج عن أرصدة وأصول إيران المجمدة والمقدرة بمليارات الدولارات.
9- رفع الحظر عن الطيران الإيراني وأيضا عن البنك المركزي والشركات النفطية والعديد من المؤسسات والشخصيات.
10- التعاون في مجالات الطاقة والتكنولوجيا.
ايران لم تفوز مرة واحدة مطلقا ولازال الطريق امامها عسير جدا, ولكنها ارسلت رسالة واضحة للغرب ان بأمكانها ان تكون حليفا وشريك افضل من السعودية وقطر وغيرها, فهي شريك يمتلك قدرات علمية وكفائات بحثية لايمكن الاستهانة بها, وبالامكان ان تكون جزء من المعارف العلمية العالمية.
ايران تمتلك ذات الطموحات الشاهنشاهية لان تلعب دورها التاريخي كونها شرطي الخليج والحافظ على التوازن الامني بما يستجيب لمصالح الغرب ولمصالحالها الذاتية بعد ان ودعت حقبة الخميني بلا عودة, والغرب في مرحلة جس النبض بعد ان عرف ان ايران كدولة ومؤسسات لا يمكن مقارنتها باي دولة خليجيية مهما بلغ ذروها !!!. 
ايران في الداخل ليست خطابها طائفيا مهيجا للعواطف والانفعالات البدائية المتخلفة, فالشعب الايراني يستدرك الامر, والسلطة المذهبية الشكلية فوق والشعب لحاله, فهناك نمط من الاغتراب بين السلطة والشعب, ولكن مؤسسات الدولة باقية, فلم يجري التجاوز عليها وتدميرها كما هي الحالة العراقية !!!.
السلطة الايرانية تبحث عن حلفاء في العراق وايران وسوريا واليمن ولبنان وتدخل طرفا قويا في ايجاد الحلول للمشكلات الاقليمية بما تمتلكه من قدرات استثنائية في التأثير على اطراف الصراع, وذلك ينسجم مع المصلحة الامريكية في البحث عن سبل السيطرة على مناطق الصراع, وبهذا فان الاتفاق النووي هو بداية لاتفاق نووي ـ سياسي شامل !!!!.



190
تذكيرا بظلم المرأة التاريخي على خلفية انتشار ظاهرة الزواج غير القانوني خارج المحاكم !!!


د.عامر صالح 

مهما قيل ويقال من استعباد للمرأة وانتهاك لكرامتها وتنوع أساليب اضطهادها وسوء معاملتها اليومية واستلاب حقوقها في الحرية والكرامة والاستقلال في شؤونها الشخصية وتحويلها إلى موضوع أو شيء تقع عليه أفعال الآخرين دون إرادتها أو فعل منها, إنما هو امتداد للملابسات التاريخية في نشأة عوامل اضطهادها الأولى, وما يحصل اليوم بحقها من ظلم وحيف وقهر ما هو إلا تنوع متردي وسيئ خطير في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بالمرأة والتي تشدد من الخناق على حريتها واستلاب حقوقها, في ظل غياب بدائل إنسانية حقيقية لتوفير مستلزمات أنعتاقها من العبودية والأسر التاريخي الذي وقعت فيه !!!. 

انتشرت في العراق في السنوات الأخيرة ظاهرة الزواج خارج المحاكم, وقد انتشرت في أوساط مختلفة من حيث التعليم والثقافة والبيئة الاجتماعية والاقتصادية, وقد أخذت هذه الظاهرة طابعا مستفحلا وتنبئ عن مخاطر جدية على مستقبل المرأة بشكل خاص وعلى المجتمع بصورة عامة, مما استدعى تدخل القضاء العراقي ومنظمات المجتمع المدني, ومنها بشكل خاص المنظمات النسائية, وبهذا القدر أو ذاك تدخل البرلمان العراقي. وقد اتخذ الجهد التعبوي الثقافي والتوعية بمخاطر ذلك مسار لا بأس به, من حيث كون هذا النمط من الزواج يغيب حقوق المرأة وأطفالها ويحرمها من الإرث, إلى جانب كون هذا الزواج يستهدف البنات في أعمار مبكرة بما فيها القاصرات إلى جانب مختلف الفئات العمرية من النساء, ويهمش دور القضاء والدولة عموما باعتبارها الراعي والمسئول الأول عن رسم ملامح الاستقرار الأسري والاجتماعي بصورة عامة. هذا النوع من الزواج لم يكن موجودا قبل عقد من الزمن وكان يعاب عليه كل العيب, إلا إن ضعف الدولة وتدهورها وغياب الأمن وانتشار الفقر والبطالة وما رافق ذلك من تفكك للنسيج الاجتماعي والقيمي, جعل من أمراء الطوائف والمليشيات والمذهبية ـ السياسية يخترقون منظومة القيم الاجتماعية لتحل محلها قيم الاجتهاد والابتذال والتفسخ بواجهات دينية وغير دينية !!!.

والحقيقة تقال فأن الزواج خارج المحاكم ليست ظاهرة عراقية بل أنها ظاهرة عربية وإسلامية, فالدول العربية والإسلامية تعج بمختلف أنواع الزواجات خارج المحاكم والمنتشر في مصر, والسعودية والكويت ودول الخليج الأخرى, والمغرب وتونس والأردن وكذلك إيران وتركيا وغيرها من دول العالم الإسلامي, ولهذا الزواج مشرعيه وفقهائه والذين يبحثون دوما عن مظلة شرعية لحماية هذا النمط من الزواجات, فهناك الزواج العرفي والمنتشر في مصر حتى في أروقة الجامعات, وهناك زواج المسيار, وزواج المصياف, وزواج ألويك أند, وزواج الفرند, وزواج المصواب, وزواج المسفار, وزواج المطيار, وزواج المحجاج, وزواج المسياق, وزواج المهراب, وزواج المقراض, وزواج المتعة, وزواج التجربة, وزواج المزار, ونكاح الترزق, ونكاح الخوالي, ونكاح إعارة الفرج, والمتعة غير الجنسية, والمتعة الجماعية, والمتعة من اجل الإنجاب, وزواج المباركة, ونكاح التعدد, وزواج المردان, ونكاح المصاهرة, ونكاح الضيافة, والقائمة تطول, هذا هو نكاح في ظروف " السلم ", أما نكاح زمن الحرب فقد ضربت داعش مثالا سيئ اهتز له ضمير الإنسانية, من جهاد المناكحة, وسبي النساء, ومقايضتهن جنسيا, وبيعهن في أسواق " الدولة الإسلامية " !!!.

وكل إشكال الزواج تستهدف المرأة وتكريس اضطهادها التاريخي, رغم كل المبررات " الشرعية " التي تساق خلف تلك الأشكال بواجهة وادعاء مزيف للحد من الفساد, أو الاستجابة لظروف الحياة المتغيرة في البحث عن الحلول للمشكلة الجنسية, فالحلول التي يعثر عليها المشرعون والفقهاء والمفسرون تصب في خدمة إشباع الغريزة الجنسية للرجل " القضيبي " بعيدا عن البحث في أولوية فكر المساواة بين الجنسين في كافة المجالات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وما يصاحب ذلك من حلول عادلة وإنسانية للمشكلة الجنسية والعلاقة بين الجنسين, وفي ظل دولة القانون والضمانات الاجتماعية التي توفر الدعم الكافي لضمان المساواة بين الرجل والمرأة, وتوفير فرص أكثر إنسانية في اختيار الحرة الكريمة لكل من الرجل والمرأة !!!.

أن تردي أشكال العلاقة بالمرأة يعكس خصوصية مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأسوة بأغلبية بقاع العالم المتخلف, حيث العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لاضطهاد المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الاستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, فلا نستغرب أن ينعكس هذا على طريقة اختيارها " كشريك ", كما تم ذكره, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يندمج الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض !!!.


 وعلى الرغم مما حققته المرأة من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وتدريسية وهندسية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها, فهي لازالت مشروع استلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية وتتعرض الى مسلسل لا حصر له من الممنوعات من صغرها حتى شيخوختها. إلى جانب ما تتعرض له من مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي. وكذلك العنف الرمزي غير المرئي الذي يتجسد عبر الثقافة والتربية والموقف المذل منها يوميا عبر معاملتها كجنس من الدرجة الثانية, وفصلها اجتماعيا عن الرجل سواء في البيت أو المدرسة أو الدائرة ومنعها من الاختلاط, والتدخل في تفاصيلها اليومية, انطلاقا من مسلمات لا صحة لها " كناقصة عقل ودين " !!!.

أن انتشار ظاهرة الزواج غير القانوني خارج المحاكم في العراق والبلاد العربية والإسلامية هو مؤشر إلى أن فكر المساواة والعدالة بين الجنسين يتعرض إلى مزيدا من الانحسار والتشكيك والضربات المختلفة في بيئة ينتعش فيها الفكر المتطرف الديني والسياسي والذي يرمي المرأة كعادته خارج عمليات المساهمة في الحياة الاجتماعية والسياسية ويسفه من دورها وقدراتها في عمليات التغير نحو الأفضل, واعتبارها تابعا للرجل لا جدوى منها !!!.

أن بداية التعرض لهذه الظاهرة في العراق والحديث عنها علنا في الإعلام والصحافة, إلى جانب توجه منظمات المجتمع المدني للمساهمة الفعالة في التوعية عن مخاطرها هو جهد ايجابي كبير في ظل بيئة تعصف بها مختلف تيارات التطرف وهيمنة فكر الكراهية للمرأة وللمساواة, وبالتالي فأن الجهود الخيرة يجب أن تكرس صوب انقاد المرأة من سلوكيات الإذلال والحط من قيمتها الشخصية والاجتماعية وفسح كافة فرص المساهمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمساهمة في بناء مجتمع أفضل, لا تخضع فيه المرأة لمزاج الفتاوى الشخصية والاجتهاد المبتذل, فمكانة المرأة ليست موضوعا للاجتهاد حول شكل زواجها إشباعا لغريزة ذكورية, بل هي موضوعا للمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين قطبين متكافئين!!!.

   



   

191
تحليل نفسي للسياسة الجنسية في ضوء تسريبات ويكيليكس والخاصة بالسعودية !!!

د.عامر صالح

في زحمة آلاف الوثائق التي صدرت من ويكيليكس والخاصة بسياسات المملكة العربية السعودية الداخلية والخارجية, العربية منها والإقليمية, وبما فيها الخاص منها جدا بحياة البلاط السعودي من ترف وبذخ وجنس وخمور ومخدرات, فأن المملكة لم تتنكر لهذه الوثائق أو تكذبها, بل أكدت على لسان مسئوليها إن الوثائق الصادرة جاءت منسجمة مع سياسات المملكة السعودية بصورة عامة, وهذا يحسب للمملكة و "شجاعتها " في الاعتراف بمصداقية الوثائق الصادرة, بعكس ما فعله بعض من المسئولين العراقيين الكبار بنكرانهم لما احتوته الوثائق, مما اضطر ويكيليكس بصفعتهم مجددا مشيرا لهم بالكذب محذرا, كما جرى لنائب رئيس الجمهورية العراقي السيد أياد علاوي عندما تنكر لصلاته بالسعودية, واختفاء المسئولين الآخرين من مختلف التوجهات المذهبية ـ السياسية والقومية عن المواجهة المباشرة أمام حقائق صلاتهم في النظام السعودي والاستعانة به للتدخل في الشأن العراقي الداخلي, باستثناء السيد مشعان الجبوري الذي أكد حقيقة اتصاله بالسعودية  !!!.

عكس الويكليكس في وثائقه المسربة جزء من الحياة الخاصة للعائلة المالكة, من حفلات واحتفالات بالمناسبات المختلفة, بما فيها المناسبات العالمية التي لا صلة لها بالمجتمع العربي والإسلامي وتقاليده " المحافظة " كما يفترض, وتمارس فيها شتى ممارسات الترويح, من رقص, وجنس, وعلاقات بنساء من بائعات الهوى, واللباس الخليع الذي لا يتفق مع ما يفرض في المجتمع السعودي, والإفراط في شرب الخمور والمخدرات وغيرها, وهم يمارسون فيها طقوسا لا تختلف عن ما هو سائد في العالم الآخر غير الإسلامي !!!.

وفي المقابل وفي الحياة العامة يفرض على عموم الناس دينا متطرفا مكبلا بكل أشكال القيود والمحرمات, وتطبق ضد المواطنين وخاصة الفقراء منهم ومن الوافدين, في حالة مخالفتهم لما يفرضوه من نماذج للسلوك ألقسري, شتى أنواع العقوبات والاهانة والتجاوز على الكرامة الشخصية, وما نسمعه ونراه من عقوبات تقشعر لها أبدان الإنسانية, من قطع لليد والرأس والرجم والجلد وشتى مظاهر التعذيب الجسدي. وهذه العقوبات يفترض في العرف السعودي أن تطبق على من يحيي الحياة الخاصة في البلاط قبل غيره. إلا إن هذه الأمكنة محرمة على المفتين وشرطة الآداب, فهي مقفلة !!!.

نقول هنا إن فسحة الترويح والاسترخاء بمختلف مظاهرها هو حق مشاع للإنسان أينما وجد, شريطة أن لا يتعارض مع حرية الآخرين وأن لا يكون انتقائيا لفئة اجتماعية أو سلطوية, إلا إن مجتمعات التسلط والعنف والدكتاتورية والإرهاب وهي تعبث في الحريات العامة المقدسة, جعلت من الجنس والترويح والحياة الخاصة سرا عظيما من أسرار السلطة وصندوقها الأسود. والسعودية لا تنفرد بهذا السر لوحدها, بل أن النظم العربية القمعية والدكتاتورية كانت ولا تزال معبئة بقصص الفساد الأخلاقي الذي يستنزف أموال الشعب وله ميزانياته الخاصة التي لا يصرح بها. إلى جانب ما نراه اليوم في الحركات الإرهابية والإسلامية المتطرفة, كنموذج داعش, من فساد أخلاقي وامتهان للجنس الآخر بواجهات دينية. وبهذا يتحول الترويح إلى فساد وإفساد للسلطة وتجاوز على حرية الآخرين, مما يشكل أساسا للعدوان والاعتداء على الحريات الفردية والاجتماعية واستلابها !!!.
وقد أفادت المذكرة الدبلوماسية الأميركية التي كشفها موقع ويكيليكس أن المجتمع السعودي إسلامي محافظ لكن قصور الأمراء في جدة تخفي حياة ليل تعج بالكحول والمخدرات والجنس. وقالت برقية صادرة عن القنصلية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر 2009 انه “وراء الواجهة الوهابية المحافظة في الشارع السعودي، يعيش شباب نخبة جدة حياة ليلية مليئة بالصخب والحياة”. وأضافت البرقية إن “مجموعة واسعة من المغريات والموبقات متوفرة من بينها الكحول والمخدرات والجنس، لكنها تجري حصرا وراء أبواب مغلقة”.
وتابعت البرقية أن “هذه الحرية للانغماس في المتع ممكنة فقط لان الشرطة الدينية تبقى بعيدة عن الحفلات التي تجري بوجود أو برعاية احد أفراد العائلة المالكة أو احد أفراد حاشيته الملكية”. ووصفت البرقية الصادرة من القنصلية الأميركية في مدينة جدة على البحر الأحمر إحدى حفلات عيد القديسين (الهالوين) حضرها 150 شخصا معظمهم في العشرينات أو الثلاثينات من العمر من بينهم عدد من موظفي القنصلية.
وأفادت البرقية إن “المشهد كان يشبه ناديا ليليا في إي مكان خارج المملكة إذ توفرت كميات كبيرة من الكحول وكان الشباب يرقصون على موسيقى مشغلي الاسطوانات (الدي جاي)، وكان الجميع يرتدون الأزياء التنكرية”. وطبقا للقنصلية فان حفلات جدة — التي تشارك فيها عادة مومسات — هي ظاهرة برزت مؤخرا. وقال احد السعوديين للقنصلية إن السعوديين الأثرياء يحاولون إقامة حفلات في منازل الأمراء أو بحضور الأمراء حتى لا تتمكن الشرطة الدينية من الاقتراب منهم.
وأوضحت البرقية كذلك إن ارتفاع أسعار الكحول المهربة — حيث يبلغ سعر زجاجة الفودكا سميرنوف على سبيل المثال 1500 ريال سعودي أو 400 دولار — يجبر الشخص الذي يقيم الحفلة على إعادة ملء الزجاجات بالكحول القوية المصنعة محليا سرا والتي يطلق عليها في السعودية اسم “صديقي”.
وقالت البرقية إن إنتاج وبيع الكحول داخل المملكة يمكن أن يؤدي إلى عقوبة مشددة بالسجن. كما أن القوانين السعودية الإسلامية المتشددة تنص على معاقبة مهربي المخدرات بالإعدام.
نص الوثيقة الكامل باللغة العربية:
1ـ ملخّص: خلف ستار المحافظة الوهابية في الشوارع، فإن حياة الليل تحت الأرض بالنسبة لشباب جدة مزدهرة ونابضة. فهناك تنويعه كاملة من المغريات الحياتية والملذات متوفّرة: الكحول، المخدرات، الجنس، ولكنها خلف الأبواب المغلقة. هذه الحرية في الانغماس في تجارب الجنس الجماعي ممكنة ببساطة لأن الشرطة الدينية تبقى بعيدة حين تحتوي الحفلات على حضور أو رعاية أحد الأمراء وحاشيته من الحاضرين الموالين له، مثل ليلة الهلاوين التي حضرها كونجين أوفس (تمّت إزالة التفاصيل). خلال السنوات القليلة الماضية، دفعت نزعة المحافظة الزائدة للمجتمع الخارجي في السعودية، حياة الليل ومشهد الاحتفال في جدة إلى ممارستها سرا بصورة أكبر
احتفال النخبة مثل بقية العالم: فقط تحت الأرض
2 ـ معاً بحضور أكثر من 150 شاباً وشابة سعودية تتراوح أعمارهم بين العشرينيات وبداية الثلاثينيات.. قبل مكتب القنصل الأميركي العام دعوة لحضور حفلة هلاوين سرية في مقر إقامة الأمير في جدة. وفي داخل البوابات، عبرت أل xxx رجال الأمن، وبعد تفتيش العباية، بدا المشهد كما لو أنه مشابهٌ لنادي ليلي في أي مكان خارج المملكة: خمر وفير، وعشّاق يرقصون، ودي جيه على الطاولة الدوّارة لتشغيل الموسيقى، والجميع يرتدون بدلاً. تمويل الحفل جاء من شركة راعية، وهي شركة أميركية لشراب الطاقة، وكذلك من ضيافة الأمير نفسه
الضريبة، حضور الخوي يبقي الشرطة الدينية على الشاطئ
3 ـ رجال الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لا يمكن رؤيتهم، وحيث أن الدخول يخضع للضبط عبر قائمة أسماء ضيوف موضوعة بدقة، فإن مرتادي الحفل لم يبدوا خجلاً في استعلان شهواتهم الخاصة.
وبحسب شاب سعودي من عائلة رجل أعمال مشهورة في جدة، يحاول السعوديون إقامة الحفلات في بيوت الأمراء أو بحضور الأمراء، لأن ذلك يوفّر رادعاً كافياً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أن تتدخّل. هناك أكثر من عشرة آلاف أمير في المملكة، ولكن بمستويات ورتب مختلفة (صاحب السمو المالكي، يشير إلى التحدّر المباشر من الملك عبد العزيز، وصاحب السمو يعني التحدّر من فروع غير مباشرة للعائلة الحاكمة من آل سعود).
مضيفنا في تلك الليلة الأمير احد أحفاد آل سعود وهو يعود في جذوره إلى ثنينان، أخ محمد بن سعود، أمير الدرعية ونجد (1725 ـ65)، أي ستة أجيال من السلف المباشرين للملك عبد الله. وبالرغم من أن الأمير هوليس في خط التوارث على العرش، ولكنه يتمتع بقصر منيف، وسيارة فارهة، ومرتب مدى الحياة، وحاشية أمنية (ملاحظة: معظم قوات الأمن الخاصة بالأمير هم من الشباب).
(ملاحظة: من الممارسات المألوفة بالنسبة للأمراء السعوديين أن يتربوا مع حرّاس مستأجرين من نيجيريا وبعض البلدان الأفريقية الذين يقاربونهم عمرياً، ويبقون مع الأمير حتى مرحلة البلوغ. ويقال عنهم خوي، وهي مشتقة من الكلمة العربية أخ. حيث يمضى الأخ والأمير حياتهما معاً بما يخلق رابطة قوية من الولاء).
توفّر سوق سوداء للخمر، والعاهرات، والمخدرات
4 ـ كان مشروب الكحول (الخمر)، رغم حظره بحسب القانون السعودي والعادات، وفيراً في البار المليء الخاص بالحفلة، والمزدحم من قبل معربدي هلاوين. نادلو البار الفيلبيون يقدّمون مزيجاً من الخمر المحلي يدعى (صديقي). وفيما خصص الرف العلوي لزجاجات الخمر للعرض على امتداد منطقة البار، فإن المحتويات الأصليّة قد جرى استهلاكها وتم استبدالها بـ (صديقي). في السوق السوداء، فإن زجاجة (سميرنوف) تصل قيمتها إلى 1500 ريال سعودي في حال توفرها، بالمقارنة مع 100 ريال للفودكا المصنّعة محلياً. وعلمت من لسان أحدهم بأن عدداً من الضيوف هن في الحقيقة فتيات عاملات، وهو أمر مألوف في مثل هذه الحفلات.
بالإضافة إلى ذلك، وبالرغم من أن الكوكايين والحشيش لم يشاهدا بصورة مباشرة، فإن استعمالهما شائع في هذه الدوائر الإجتماعية، وقد شوهدا في مناسبات أخرى.
5 ـ تعليق: الشباب السعودي يتمتع بحرية اجتماعية نسبية، وينغمس في ممارسات جنسية، ولكن ذلك خلف الأبواب المغلقة فحسب، وبين الأغنياء فقط. الاحتفالات ذات طبيعة كهذه وبهذا الحجم يعتقد بأنها ظاهرة جديدة نسبياً في جدة. شرح أحد المصادر، وهو شاب سعودي، بأنه في السنوات القليلة الماضية، كان نشاط نهاية الأسبوع هو تنظيم مواعيد غرامية داخل بيوت الأغنياء في مجموعات صغيرة. ليس مألوفاً في جدة بالنسبة للمساكن الخاصة الباذخة بأن تشتمل على بار في الطابق السفلي تحت الأرض، ومراقص، ومراكز ترفيه، ونوادي. وبحسب شخص سعودي ثري فإن زيادة نزعة المحافظة لمجتمعنا في السنوات الماضية دفعت التفاعل الاجتماعي إلى داخل بيوت الناس.
تلك هي فضائح السياسة الجنسية والملذاتية للمملكة السعودية كما أوردتها مذكرة الدبلوماسية الأمريكية ونشرتها ويكيليكس. وفي الإسلام حيث يكافئ المؤمن في الآخرة بحياة ثانية قوامها حور العين " الجنس ", وأنهار من الخمر, والطعام الخاص الخارق اللذة والشهي والولدان, فأن حملة الفكر الوهابي يقيموها في البلاط بديلا عن الآخرة, مفسدين في الأرض من خلال انتهاك حرمات الناس في الإكراه والاغتصاب واستخدام المال الحرام لترغيب وترهيب الناس ودفعهم لارتكاب شتى سلوكيات الشذوذ الجنسي والابتذال ألقيمي, وفي المقابل تحويل حياة العوام من الناس إلى جحيم من المحرمات والممنوعات مقرونة بشتى أنواع العقوبات والذل والحرمان من أساسيات الحياة !!!. 
أن هذه السلوكيات المنحرفة لا تختلف في تفصيلاتها عن ما تعج به الحياة الخاصة لرؤساء وقيادات النظم القمعية والدكتاتورية, من ممارسة للجنس وتعاطي المخدرات والخمور في القصور والأمكنة الخاصة, وإقامة مختلف الحفلات الماجنة والطقوس المبتذلة, وليست الغرض منها إشباع الغريزة الجنسية, أو ممارسة وسائل الاسترخاء والتمتع بمناحي التسلية بما يبعث على تجديد الحياة السوية, بل أن هذه الطقوس تفوق الحاجة الفعلية لها, والهدف منه إفساد حياة الناس العامة والعبث في قيمها وإلغاء الحدود بين ما هو حرام وغير مسموح وبين ما هو مسموح وممكن. وكانت وسائل الاستباحة تجري من خلال التضييق على النساء للاستجابة إلى سلوكيات النظام وحاشيته بمختلف الوسائل, وتسقيط الأسر والعناصر والأشخاص الذين يعارضون النظام الدكتاتوري ورأسه, أو حتى من لا يعارضوه, من خلال استخدام العامل الجنسي لزرع الفساد بالإكراه والإذلال, بل وحتى الضغط على المتزوجين وغير المتزوجين, لترك زوجاتهم أو حبيباتهم كي يتم الزواج منهن أو إقامة علاقات جنسية عنوة, وكان نظام صدام حسين احد الأنظمة الصارخة في شيوع حياة الفساد في القصور الخاصة وعموم المجتمع. وتجري هنا الاستعانة بشبكة من القوادين من حاشية النظام والموظفين والإعلاميين لتسهيل مهمة رأس النظام في زرع الفساد وتشويه منظومة الأخلاق العامة !!!.
هذا النوع من الجنس أو الشذوذ الجنسي ليست الهدف منه جنسيا بحت, بل الهدف منه هو إذلال الشريك أو الضحية وفرض عليه قيم مغايره بهدف مسخ قناعاته الخلقية وإخضاعه عبر العامل الجنسي, وهذا شبيه جدا بحالات الاغتصاب في زمن الحروب, حيث تجري استباحة الاعراض من قبل المحتل للطرف الذي وقع عليه الاحتلال لاغراض اهانته واضعاف معنوياته على المقاومة, وكثيرا ما يقترن الاغتصاب بسلوك عدواني من قبل المغتصب, من ضرب وسب وشتم وحتى ألحاق الأذى بالأعضاء التناسلية لدى الضحية !!!. 
ومن المثير للجدل أن طبيعة كل من العدوان والجنس المختلفتين لا تستدعي بينهما هذا الترابط من الناحية المنطقية, فالجنس بطبيعة أدائه هو أحد وسائل الاسترخاء الكافية والتخفيف من التوتر الجنسي إلى جانب كونه وسيلة للتكاثر والإنجاب, كما انه من وسائل اللهو والمتعة الجسدية مع الشريك, بالإضافة إلى كونه وسيلة استكشافية ومعرفية لإشباع الفضول الجنسي عبر تهذيب وتطوير المعارف لدى الشريكين, وهو أيضا وسيلة لتأكيد الذات جنسيا عبر إبراز المقدرة في استمالة الشريك, إلى جانب الكثير من الفوائد التي تفصح عنها الأدبيات السايكو ـ طبية, كالإسهام بشكل فعال في علاج حالات الأرق الليلي, والمساعدة في حرق الدهون وتعزيز جهاز المناعة, والعمل على تهدئة القلق والتوتر والحد من حالات الإحباط, والإسهام الفعال في الحد من الاكتئاب من خلال الاستمتاع وبعث البهجة, كما يساعد انتظام الممارسة الجنسية على تألق البشرة ونضارتها بعكس ما كان شائعا بأنه يسبب تعجيز البشرة, كما تساهم الممارسة الجنسية في تحفيز المخ على إفراز الاندروفين المسكن للآلام, ثم أن الممارسة الجنسية المنتظمة تؤدي إلى تنظيم الدورة الشهرية, كما يساعد الجنس على الشفاء من أللآلام العضلية بسبب ما يؤدي إليه من استرخاء عضلي, ويؤدي إلى تنشيط الدورة الدموية وتقوية العضلات, كما يسهم الجنس بشكل فعال في تقوية الجهاز العضلي فهو يقي من هشاشة العظام في النساء بعد سن اليأس لأنه يساعد على إفراز هرمون الأستروجين والجنس يؤخر الشيخوخة الشكلية لدى النساء بعد سن الأربعين, وتساعد الممارسة الجنسية المقترنة بالإشباع والرضا الجنسي على تهدئة نوبات الصداع النصفي أو داء الشقيقة, كما أن الممارسة الجنسية المنظمة تسهم بشكل كبير إلى الحد من سرطان الثدي والرحم وغيره من الفوائد !!!.
وعلى الصعيد الاجتماعي العام فأن إعادة بناء العلاقات الجنسية على أساس من قيم العدالة والحرية والديمقراطية التي تضمن التكافؤ بين الجنسين, سوف يسهم بشكل كبير في عمليات الاستقرار الاجتماعي ويحد من الإكراه والريبة والفساد بين الجنسين. فالمجتمعات المكبوتة جنسيا تتصاعد فيها حدة العدوان والاعتداء على الآخرين, وهم أكثر استعداد للحروب من المجتمعات القائمة على تكافئ الجنسين, ويخفف من استخدام الدين والسياسة كغطاء للفساد الاجتماعي والحرمان, ويخفف من احتقان قادة الدول الرجعية والدكتاتورية والأنظمة الاسلاموية ويطفئ من عدوانيتها اتجاه شعوبها واتجاه الدول المجاورة. وبالتالي يمكن استخدام إعادة تنظيم العامل الجنسي في خدمة قضايا السلم العالمي والاستقرار لاجتماعي لما تتمتع به الدوافع الجنسية من تأثير بعيد ومعقد في مختلف جوانب الشخصية. وأشير هنا إلى السيدة الايطالية المتألقة في الجمال والإثارة " ايلونا ستالير " التي عرضت على الرئيس العراقي السابق صدام حسين أن يمارس الجنس معها للحيلولة دون وقوع الحروب. لكنها قالت فيما بعد: لو قبل صدام حسين عرضي هذا لما بلغ هذا المصير. طبعا صدام كان مشبعا جنسيا ولكنه غير راضي جنسيا, والفرق بينهما كبير. طبعا أؤكد هنا إن الحروب أسبابها متشعبة ومعقدة, وضمنا يدخل العامل الجنسي كأحد الأسباب وأحيانا يكون في مقدمة تلك الأسباب !!!.
ويجب التذكير هنا إن هناك نوعا من الفضائح الجنسية في البلاد الأوربية وأمريكا ونسمع بها بين الحين والآخر تدك مسئولين كبار في الدولة وفي الأحزاب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة, وهو ما نطلق عليه ب " الجنس السياسي الخاص " وهو محصور في نطاق خاص جدا بإطراف العلاقة المعنية, قد يلعب فيه استغلال المنصب السياسي دورا أو قد لا يلعب, ويشكل فيه المنصب السياسي والجمال النسبي احد العوامل للاندفاع نحو هذا النمط من العلاقات, ولا تأخذ هذه العلاقات شكل الإفساد الاجتماعي والخلقي للمجتمع أو توظيفها لأهانه شعب, فالأمر مختلف هنا تماما قياسا بالبلاد العربية والإسلامية, حيث الحرية والديمقراطية والمساواة النسبية بين الجنسين في الأولى, تضع حدا لاستغلال العلاقات الجنسية السياسة الخاصة وحصرها في دائرة ضيقة جدا !!!. 
ويبقى هذا النمط من العلاقات قيد الكتمان والسرية الشديدة, وحال ما يتم الكشف عنها وفضحها فيبدأ العد التنازلي لشهرة مرتكبيها مقترنا بتدهور سمعتهم ومكانتهم السياسية, وبعض القضايا منها تحال إلى القضاء إذا كانت مقرونا باستغلال السلطة والمال في العلاقة, وتكون للبعض الآخر بداية النهاية للحياة السياسية والاعتزال عن العمل الحكومي والحزبي, بل وحتى تدخل سببا في طلاقات عديدة وترك للزوجة الأولى أو الحبيبة. ومن أمثلة تلك الفضائح في التاريخ القريب جدا علينا هو: فضيحة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مع عشيقته المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي, وكذلك رئيس الوزراء الايطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني الذي اشتهر بعدد من الفضائح الجنسية, والرئيس الإسرائيلي الأسبق موشيه كاتساف الذي أستقيل على اثر فضائح جنسية من نوع الاغتصاب وغيرها التي أدانه بها القضاء عام 2006. وكان أيضا للرئيسين الفرنسيين السابقين جاك شيراك, وفرانسوا ميتران حياتهما الخاصة في هذا المجال. وقد سبق ذلك العديد من الزعماء في قصص غرامية خاصة, مثل هتلر, وجون كندي, والقائمة تطول لتشمل قيادات في المخابرات المركزية الأمريكية ورموز عديدة في دوائر القرار السياسي الأوربي والأمريكي وغيرها من بلدان العالم !!!.
وفي الختام نقول إن ويكيليكس دشنت عصرا جديدا في فضح الأنظمة الفاسدة العربية والإسلامية منها وغير العربية, وجعلت كل شيء سري يجري خلف الكواليس حقا متاحا للجميع, طالما كل ما كان سريا يجري في أروقة الدبلوماسية الخارجية للبلدان موجها بهذا القدر أو ذاك ضد الشعوب. لقد أكد ويكيليكس بتسريباته أكثر من مره إن هذه السرية والكتمان للمعلومات لا يستخدم إلا ضد الشعوب والإفساد في المجتمعات والتخطيط لإشعال الحروب الدولية والإقليمية, وتخريب الأمن والاستقرار. ولعل ويكيلكس تشكل بداية حقبة تقوم على الصدق والشفافية الحقيقيتين !!!.

نص الوثيقة الخاصة بالسعودية في اللغة الانكيلزية كما وردت في ويكيليكس:
https://wikileaks.org/plusd/cables/09JEDDAH443_a.html
 
 



192
ماهية ويكيليكس ومهمته بين التوثيق والفضح وخلق ردة الفعل !!!

د.عامر صالح
   
من يتصفح القاعدة المعلوماتية على الانترنيت سيجد المزيد من التفاصيل الخاصة ب " ويكيليس " والتي تطفئ الظمأ المعرفي للقارئ في الحصول على المعلومات حولها. ومن ابرز هذه المعلومات المتوفرة هي: تاريخ نشأتها, وتنظيمها الإداري, وبدايات تسريبها للمعلومات, وأمكنة إقامتها الالكترونية, ومشكلات التمويل لديها, وشرعيتها القانونية, وطريقة العمل الفني لديها من خلال التعرف على خوادمها, والتحقق من البيانات لديها وكذلك احتمالات الملاحقات القانونية لها !!!.

ومن المعلومات المتاحة حول " ويكيليس " إنها منظمة دولية غير ربحية تنشر تقارير وسائل الإعلام الخاصة والسرية من مصادر صحفية وتسريبات إخبارية مجهولة. بدأ موقع ويكيليس على الانترنيت سنة 2006 تحت مسمى منظمة من شاين الصحفية, وادعت بوجود قاعدة بيانات لأكثر من 12 مليون وثيقة خلال سنة من ظهورها. وتصف ويكيليكس مؤسسيها بأنهم مزيج من المنشقين الصينيين والصحفيين والرياضيين وتقنيون مبتدئون لشركات عاملة في الولايات المتحدة وتايوان وأوربا واستراليا وجنوب أفريقيا. ومديرها جوليان اسانج وهو ناشط انترنيت استرالي. انطلق الموقع كويكي للتحرير, ولكنه انتقل تدريجيا نحو نموذج نشر أكثر تقليدية ولم يعد يقبل بتعليقات المستخدمين أو كتاباتهم.
      
في أبريل 2010 أنزلت ويكيلكس على موقع انترنيت يسمى " كولاتيرال موردير " مشهد فيديو عن ضربة الطائرة في 2007 التي قتلت فيها قوات أمريكية مجموعة من المدنيين العراقيين والصحفيين. وبعدها في يوليو سربت ويكيلكس يوميات الحرب الأفغانية, وهي مجموعة لأكثر 76900 وثيقة حول الحرب في أفغانستان لم تكن متاحة للمراجعة العامة من قبل. ثم سربت في أكتوبر 2010 مجموعة من 400000 وثيقة فيما يسمى سجلات حرب العراق بالتنسيق مع المؤسسات الإعلامية التجارية الكبرى, حيث سمحت تلك بإعطاء فكرة عن كل وفاة داخل العراق وعلى الحدود مع إيران. وفي نوفمبر 2010 بدأت ويكيلكس بالإفراج عن برقيات الدبلوماسية للخارجية الأمريكية.

وتلقت ويكيليكس الثناء والانتقادات على حد سواء. وفازت بعدد من الجوائز بما في ذلك جائزة الايكونومست في وسائل الإعلام الجديدة في 2008, وجائزة منظمة العفو الدولية لوسائل الإعلام البريطانية في 2009 . وفي عام 2010 وضعت الديلي نيوز النيويوركية ويكيليكس الأولى من بين المواقع التي يمكن أن تغير الأخبار بالكامل, وقد سمي جوليان اسانج كأحد اختيارات القراء لشخصية 2010. وذكر مكتب مفوض المعلومات في المملكة المتحدة بأن " الويكيليكس هو جزء من ظاهرة على الانترنيت لها سلطة المواطن ". وفي أول الأيام ظهرت عريضة انترنيت مطالبة بوقف ترهيب الويكيليكس خارج نطاق القضاء وقد استقطب أكثر من ستمائة ألف توقيع. وأثنى مؤيدو ويكيليكس في الأوساط الأكاديمية والإعلامية بتعريضها أسرار الدولة والشركات مطالبين بزيادة الشفافية ودعم حرية الصحافة وتعزيز الخطاب الديمقراطي وهو ما يمثل تحديات للمؤسسات القوية. ومن الضروري الإشارة هنا وحسب مصادر الإعلام بان ويكليكس قد يرشح بقوة لنيل جائزة نوبل العالمية !!!.

وفي الوقت نفسه انتقد عدد من المسئولين الأمريكيين الويكيليكس لتعريضها معلومات سرية تضر بالأمن القومي وفضح الدبلوماسية الدولية. وطلبت عدة منظمات لحقوق الإنسان من الويكيليكس بإعادة صياغة نشرات الوثائق المسربة للمحافظة على المدنيين الذين يعملون مع القوات الدولية وذلك للحيلولة دون حدوث أي تداعيات. وبالمثل فقد انتقد بعض الصحافيين ضعف الإدراك لحرية التحرير عند الإفراج عن آلاف الوثائق في آن واحد بدون تحليل كافي. وأعربت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في ردها على لعض ردود الفعل السلبية عن قلقها إزاء " حروب الانترنيت " ضد وكيكيليكس, وفي بيان مشترك م منظمة البلدان الأمريكية طالب المقرر الخاص للأمم المتحد الدول والجهات الفاعلة الأخرى بوضع المحافظة على المبادئ القانونية الدولية بعين الاعتبار.

وما يجب تأكيده هنا أن هناك إجماع على نزاهة ويكيليكس, فلم ترد أي معلومات مؤكدة تشير إلى عبث ويكليكس بالوثائق المنشورة أو تزوير لوثائق نشرت منه, والخلاف مع ويكليكس حول هل يجوز أو لا يجوز النشر في عالم الدبلوماسية الملبدة بالغيوم, وما يجب نشره أو حجبه عن النشر. ويكليكس هنا لا تعتد بالصيانة التقليدية والحفاظ على المعلومات, حتى وان كانت ضاره, فهي مؤسسة مراقبة خارج إطار الحكومات وكواليس الصفقات السياسة, وبالتالي لا يوجد عندها ما يستحق إخفاءه, وخاصة عندما يتعلق الأمر بالسلم والديمقراطية ونبذ قيم الاضطهاد والتدخل في شؤون البلدان !!!.

ومن هنا جاءت الصفعة القوية لنظام المملكة العربية السعودية بقيام ويكليكس بتسريب أكثر من 70000 وثيقة والتي نشرها في 19 يونيو/ حزيران, وسيتبعها أكثر من نصف مليون وثيقة قادمة. والوثائق المسربة تمثل مراسلات بين وزارة الخارجية السعودية وسفاراتها في الدول العربية والإسلامية وغيرها من دول العالم, وقد تمحورت هذه المراسلات حول النقاط الآتية:

ـ كيفية تنفيذ الرياض لسياساتها في ملفات إقليمية ودولية عبر استخدام الأموال والعامل الديني.
ـ تمويل السعودية لوسائل إعلام عربية بغية محاربة خصوم المملكة في لبنان ومصر, وفي مواجهة إيران, حسب الوثائق.
ـ دفع مبالغ نقدية لأحزاب وشخصيات سياسية في دول عدة بهدف تنفيذ سياسة المملكة. 

وتضمنت التسريبات تقارير مصنفه تحت بند " سري للغاية" من مؤسسات سعودية, منها وزارة الداخلية والاستخبارات العامة, بالإضافة إلى توجيه شخصيات مؤثرة في عدد من الدول. وقال مؤسس ويكيليكس, جوليان أسانج, إن برقيات السعودية تميط اللثام عن نظام دكتاتوري لم يحتفل فقط بإعدام 100 شخص هذا العام, بل أصبح يشكل تهديدا لنفسه وجيرانه.

ويقول موقع ويكيليكس بأن الوثائق التي بدأ بنشرها تبين أيضا البيروقراطية والمركزية الشديدة التي تدار بها المملكة العربية السعودية. كما أكد ويكيليكس انه بصرف النظر عن السجل الشائن للمملكة العربية السعودية في مجال حقوق الإنسان فأنها لا تزال الحليف الأول للولايات المتحدة والمملكة البريطانية, وذلك يعود إلى امتلاكها أكبر احتياطي نفطي في العالم !!!. 

التفاصيل في الدور السعودي التخريبي للعلاقات العربية والإسلامية محتواة بشكل واضح في وثائق ويكيليكس, والقادم أسوء. ومن هنا وبعيدا عن التفصيلات المملة للقارئ, فقد تجسد الدور السعودي في العراق بمساندة الإرهاب علنا, تحت مبرر المد الشيعي, وقد تجسد ذلك في أمداد التنظيمات الإرهابية بما فيها داعش بالمقاتلين والوقود البشري اللازم لديمومة القتل والسبي وانتهاك الأعراض وقطع الرؤوس. وهناك كم هائل من المراسلات بين قيادات الإسلام السياسي السني بما فيها القابعة في البرلمان العراقي ورئاسة الجمهورية للاستعانة بالدور والمال السعودي للتدخل في الشأن العراقي وتخريبه !!!.

الدور التخريبي السعودي في مصر ولبنان وسوريا واليمن حاضر و ليست بجديد عبر التحالف القطري والسعودي والتركي لفرض أجندة الإسلام السياسي المتطرف والمتهور والمتمثلة بقوى الإرهاب الاسلاموي بقيادة داعش. رسائل ويكليكس قد لا تأتي بجديد سوى أنها تفضح بالمكتوب الموثق عن الدور السعودي والقطري والتركي في تخريب الربيع العربي بقوة السلاح والترهيب وفرض بدائل الرذيلة والتخلف في ليبيا ومحاولاتها في مصر وتونس والعراق وسوريا واليمن. فالنظام السعودي  ـ القطري بتحالفاته هو نظام شاذ جنسي ـ سياسي تعاني منه العائلة المالكة عبر عقود, وتلك إفرازاته في السياسة !!!.

الدور السعودي في الصحافة العربية ومتابعتها وتصنيفها إلى معادية للمملكة أو صديقة هو دور أشارت له الويكيليكس بوضوح, فالتقسيم يجب أن يكون بين صحافة عميلة للمملكة وصحافة حرة مستقلة, فالمال السعودي الحرام تتخم به الصحافة العربية الصفراء. ومن يطالع على رسائل ويكيليكس سيجد بالأسماء, من هي الصحف والمواقع العميلة لآل سعود, ومن هي المحايدة أو المعادية !!!.
الأحداث هنا تذكرنا أيضا بالدور الإيراني وتدخلاته في العراق وفرض أجندة طائفية, وهو ما يذكرنا بما أصدره الويكليكس في 2010 والذي لا يزال ساري المفعول, فالتدخلات الإيرانية في الشأن العراقي واضحة وضوح الشمس, سواء في ميادين  الصراع  ضد داعش, أم التدخل في أدق التفاصيل, بما فيه الانتخابات البرلمانية, والمحاولة في فرض أجندة مغايرة للسياقات الطبيعية. فالنشاط الإيراني ألمخابراتي وعبر حلفائه من الأحزاب الموالية يشكل حجر الزاوية في الصراع ضد الإرهاب, إلا أن لبوسته الطائفية قد لا تقتطف ثماره أبدا !!!.

وعلى العموم فأن تسريبات ويكليكس تشكل عمودا فقريا في توثيق الصراع وأجندته بين أطراف الصراع الرئيسية, وهو يعبر عن مرحلة خطرة من الصراع ذو طابع اثني ديني طائفي لا تكتفي مداياته بحدود مناطق الصراع العربية ـ المذهبية, بل قد يمتد حريقه إلى مناطق اسيوافريقية, والسعودية هنا بمالها ونفطها هي حارس لديمومة الإرهاب على الصعيد الإقليمي والعالمي. لقد استجابت السعودية لفضائحها منفعلة بشدة لمحتويات التسريب, محذرة مواطنيها من الاطلاع على صفحات ألنت بذريعة تلفيق وتزوير الوثائق, مؤكدة إنها عمليات سطو على القاعدة المعلوماتية للخارجية السعودية جرت في وقت سابق !!!!.
   
   











 



193
العفة في السلوك بين المفهوم التقليدي والثقافي !!! 

د.عامر صالح

ارتبط مفهوم العفة تقليديا في مجتمعات العالم العربي والإسلامي في الحفاظ على المواطن البيولوجية للأعضاء التناسلية للرجل والمرأة, واشتقت منها معايير الشرف والكرامة والشهامة والحفاظ على الأعراض بنسختها الدينية التقليدية, وربطها ربطا محكما بمواثيق شرعية ـ دينية لا يجوز التجاوز عليها أو الإخلال بها تحت أي ظروف متغيرة للحياة, ومفهوم العرض هنا مفهوم ثابت غير قابل للتعديل والحوار رغم تغير ظروف الحياة !!!.

أ ما الأخلاق العامة من صدق وأمانة ونزاهة في التعامل اليومي ونبذ للفساد الأخلاقي خارج أمكنته الجنسية التقليدية فهي متغيرة نسبيا و لا تعني شيئا يذكر, والمهم في ذلك كله أن تكون المرأة حافظة لفرجها والرجل لعورته, وبالتالي ما يحل بالأمة من فساد وسرقة للمال العام وفساد إداري ومالي ومن إرهاب وقتل للنفس وتشويه للحياة العامة ودمار للتراث الإنساني وسبي للنساء ليست ذو قيمة تذكر أمام مفهوم العفة التقليدية !!!.

السلوك الإنساني معقد جدا وتتضافر عوامل مختلفة لتشكيله, منها ما هو موروث أولي في الجينات, ومنها ما هو مكتسب بيئي وثقافي, ومع الوقت يهيمن ما هو مكتسب من الثقافة والتنشئة الاجتماعية على ما هو موروث, ومن هنا تأتي أهمية دراسة العفة في السلوك في ضوء الأداء اليومي العملي في مواجهة المشكلات اليومية للحياة العملية بعيدا عن المفهوم الغريزي التقليدي للعفة الذي لا ينفع كثيرا في ظل تعقيد ظروف الحياة وتشعب منظومتها القيمية !!!.

فالعفة ليست في أمكنتها التقليدية البيولوجية, بل في انعكاس تلك العفة في التعامل اليومي, من نزاهة وصدق وإخلاص وحفاظ على المال العام والمقدرة في الحفاظ على الأمن العام, والشرف ليست في الحفاظ التقليدي على المقدمات والمؤخرات البيولوجية, ولا على التستر في الحجاب والنقاب وأشكال الاختفاء الشكلي الأخرى, بل في الكفاءة العقلية والفكرية في التكيف السليم لظروف العصر ومتغيراته المتلاحقة, فالشرف قطعا في الأداء وليست في إخفاء " العورة " !!!.

التركيز المفرط والشديد على العورة الذكورية والانوثية باعتبارها مقياسا للشرف المطلق يخفي وراءه اشد إشكال التنكيل والريبة والتحايل على القيم الفطرية الإنسانية وقيم التسامح بين الجنسين, في ظل عالم متطور لا يعرف الحدود بين الأفراد وبين الجنسين إلا من خلال الأداء الفعلي والمنافسة الحرة, وفرز الذكاء بين الجنسين القائم على تنوعهما المفيد في خدمة الحضارة الإنسانية والتقدم. أن عوامل الكبت والحرمان والفصل بين الجنسين وعرقلة نشأة حياة حرة كريمة هي احد عوامل نشأة حياة شاذة, قوامها الكبت والشذوذ والكيد والتحايل وخاتمتها داعش !!!.
   

194
نتائج الانتخابات التركية بين التفسير السيكولوجي ألإسقاطي وواقعية الأسباب !!!

د.عامر صالح

أثارت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية جدلا واسعا في أوساط العالم العربي والإسلامي وفي العالم عموما جراء تراجع الإسلام السياسي الحاكم والمتمثل بحزب التنمية والعدالة, من أغلبية حاكمة في الدورتين السابقتين, إلى حصوله في الانتخابات الأخيرة على 40% من المقاعد البرلمانية, كما حصلت الغالبية العظمى من المعارضة بنسبة 60% من المقاعد والمتمثلة بالأحرى من الأحزاب الثلاثة الكبرى: حزب الشعب, والحركة القومية, وحزب الشعوب الديمقراطي, مما يؤهلها لتشكيل إتلاف حكومي يحظى بالثقة إذا تجاوزا بعض الصعوبات !!!.

لا أريد أن أقول هنا ببساطة أن هزيمة الإسلام السياسي التركي هنا هو نجاح للديمقراطية التركية, ولكني مؤمنا بأن الإسلام السياسي, بيساره ويمينه ووسطه " إن وجد " لا يؤمن بالديمقراطية التعددية, ومن هنا يتشبث باللعبة الديمقراطية من اجل البقاء والاستمرار من خلال العبث بمؤسسات الدولة وتكريس رجالات الإسلام السياسي في أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والتنفيذية عبر إشاعة الفساد والإفساد في مؤسسات الحكم والاستحواذ على كافة الصلاحيات الرئاسية والوزارية, بل وحتى محاولات تغير الدستور وتكريس الحكم الرئاسي ومنحه كل الصلاحيات مثلما حاول حزب التنمية والعدالة التركية بما يخدم مصالحهم, وكما هو جاري في العراق !!!.

لقد جاء التفسير السياسي العربي للانتخابات التركية أسقاطيا وهو يعكس الحالة المزمنة المرضية لانعدام الديمقراطية في العالم العربي, فقد فسر خسارة حزب العدالة والتنمية بأنه ذهاب بلا عودة وأنه نهاية مميتة للحزب الاسلاموي ـ السياسي, وهذا التفسير يعكس تراكمات القمع وانتفاء الحالة الصحية السياسية في العالم العربي والإسلامي الناتجة من خضوع العقل العربي والإسلامي لعقود تحت أنظمة حكم الاستبداد والتي ألقت بظلالها على طرائق العمل والتفكير والاستنتاج والتنبؤ, مما شكلت فكرا ذو مسحة سيكولوجية إسقاطيه.

وقد جاءت إسقاطات التحليل العربي لحدث الانتخابات التركية على نسق إسقاطاتنا النفسية في الفرح او الحزن لما يحصل في العالم العربي من انقلابات دورية, فتارة نكون مع الانقلابي, وتارة أخرى ضده, وهكذا تربينا على ردود الأفعال السريعة في قراءة الأحداث السياسية. الإسلام السياسي التركي أتقن من الناحية الشكلية اللعبة الديمقراطية بعد صراع طويل مع المؤسسة العسكرية " حامية الديمقراطية " !!!.

حقق الإسلام السياسي التركي في فترة حكمه تقدما اقتصاديا كبيرا بنسبة نمو 7% واحتلت تركيا الدولة رقم 17 في مكانة الاقتصاد العالمي, وانعكس ذلك نسبيا على ظروف الناس المعيشية وتحسنها وتوفير فرص متزايدة للعمل في داخل تركيا وخارجها, واستطاع أن يجد مزيدا من وطأة القدم في الاستثمارات الخارجية, بل واجتياح اقتصادي لمناطق مختلفة في المنطقة كما هو أمام أعيننا نموذج إقليم كردستان الذي بات سوقا اقتصاديا تركيا بمختلف فروعه الإنتاجية والخدمية !!!.

فقد الإسلام التركي " وسطيته " كما يقال عنه بعد دخوله طرف في الصراعات العربية والإسلامية والإقليمية, فقد ألحق أضرار بالغة في ثورات الربيع العربي من خلال دعمه للتيارات الإسلامية وفرض البديل الإسلامي السياسي كبديل وحيد وتهميش قوى المعارضة الأخرى, كما دعم الإرهاب علنا ووضع شروطا مسبقا لمحاربته ودخوله في المحور القطري السعودي لعرقلة أي خيارات تغير للأنظمة الدكتاتورية في المنطقة إلا ضمن شروط هذا المحور, والموقف من داعش في دعمها علنا والمراوغة في محاربتها دوليا, كما يشار بأصابع الاتهام له في التمهيد لاحتلال أجزاء من العراق من قبل داعش وخاصة مدينة الموصل, ووصل حد التدخل إلى إعلان عدم رغبتها في تغير محافظ الموصل الذي قرره البرلمان العراقي والذي يشار له بتهمة توفير غطاء في دخول داعش للمدينة, كما أصبح الإسلام التركي طرفا أساسيا في تغذية الصراع الخليجي الإيراني !!!.

وكان لابد إن تنعكس هذه المواقف على مزاج الناخب التركي في عدم إعطاء صوته لحزب التنمية والعدالة. فقد حصل هذا الحزب على 40% بعد إن تعود على الفوز بالأغلبية لدورتين انتخابيتين سابقتين وقيادته للحكومة بأغلبيته, إلى جانب طبعا قضايا أخرى داخلية متعلقة بالفساد الإداري والاقتصادي والقضائي كانت أيضا من أسباب ذلك الانحسار. فانتكاسته هنا هو عدم مقدرته في تشكيل حكومة بمفرده, ولكنه يتمتع بأعلى نسبة أصوات بمفرده, ومن هنا تأتي أهمية وقدرات هذا الحزب في السعي لتشكيل حكومة ائتلافية مع قوة أخرى, ولكن المؤشرات الأولية إن هناك صعوبات جدية في العثور على حلفاء له !!!.

وفي الطرف الآخر المعارض والذي فاز بمجمله ب 60% من المقاعد تقع مسؤولية كبيرة في قيادة تركيا وحكومتها ان حصل ذلك, وخاصة في ميادين الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية, والقدرة على التعايش ألاثني والمذهبي والديني وبعث الاستقرار في السلم الاجتماعي التي أضعفتها سياسة حزب التنمية والعدالة والتي كانت احد أسباب خسارته النسبية في الانتخابات !!!.

بدأت القوى السياسية التركية والتي ستمثل في البرلمان الجديد, نشاطا محموما للبحث عن حلفاء لتشكيل الحكومة القادمة, كما ان حزب التنمية والعدالة التركي هو الآخر سيقوم بنشاطات مكثفة مع قوى المعارضة للبحث عن حلفاء, وسنرى ماذا تقرر الديمقراطية التركية !!!.



195
دحر" داعش الارهابية " بين القدرات الذاتية والحفاظ على الوجود وتداعيات نظرية المؤامرة !!!

د.عامر صالح

تؤكد حقائق الميدان أن هناك صعوبات ميدانية وسياسية وإدارية ومهنية للقضاء على تنظيم دولة الخلافة الإسلامية " داعش ", والمعطيات الأساسية تؤكد أن المسحة العامة المهيمنة على ميادين القتال هي مسحة الكر والفر بين الجيش العراقي وحلفائه من الحشد الشعبي والتنظيمات المسلحة الأخرى, وبين المجرمين من تنظيم داعش, وفي أحيان كثيرة ينتهي الكر والفر لمصلحة التمدد النسبي لداعش واقتطاعها مزيدا من الأراضي العراقية, يعقبه عمليات تنكيل وقتل وإبادة جماعية وتهجير وسبي للنساء والأطفال والأعراض وتحول سكان المناطق المحتلة بين ليلة وضحاها إلى سكنة خيام في العراء, لا يمتلكون لقمة العيش, كما يجري تجريدهم من كل ممتلكاتهم الشخصية في محاولة لإجراء تغيرات ديمغرافية اجتماعية شاملة في تلك المناطق يصعب معالجتها لاحقا !!!. 

ومن واقع ميدان المعارك ونتائجه وإذا كان الأمر بالنسبة للموصل واحتلالها من قبل داعش هو مؤامرة لم تكشف تفاصيلها الكاملة بعد, فأن ما جرى في الانبار يستدعي تساؤلات كثيرة حيث دفعت الحكومة خطة تخليص الانبار وأعلن رئيس الوزراء رسميا ذلك وتم تحشيد الإمكانات العسكرية لذلك وبدأت الاستعدادات في معارك كرمة الفلوجة وكانت أنباء المعارك متفائلة. ولكن على حين غفلة حل الانهيار واحتلت عصابات داعش الانبار, ومازالت حقيقية التساؤلات عن ما حدث بدون إجابات, ومن هذه التساؤلات هل القضية مجرد معركة عسكرية خسرتها القوات العراقية, أم أن هناك ما هو خفي وغير معلن ؟؟؟.
لا نختلف مع أي متتبع للإحداث الجارية أن هناك ضعف في كفاءة ومهنية الجيش العراقي الذي تشكل بعد 2003 حيث يفتقد إلى المهنية والمهارات اللازمة إلى جانب افتقاده إلى الإدارة ذات الكفاءة العالية في إدارة الأزمات, إلى جانب ما لا نعرفه بالتحديد عن نزاهة القيادات والمراتب العسكرية وولائها الوطني ومدى امتلاكها لخطوط مائلة مع تنظيم داعش يفسد أي تحرك للجيش العراقي !!!.

الأمريكان الآن أكثر وضوحا بغض النظر عن دوافعهم ونظريات مؤامراتهم فهم يقولون على لسان مسئوليهم الرسمين وغير الرسمين, فهم يؤكدون انه لا قدرات معنوية ولا قتالية للجيش العراقي, فوزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر الحالي يقول: أن احد أسباب سقوط مدينة الرمادي هو عدم رغبة الجيش العراقي في القتال, ثم استرسل قائلا: بأننا نستطيع تزويد الجيش العراقي بالتدريب والسلاح اللازم ولكننا لا نستطيع أن نوفر لهم الإرادة في القتال !!!.

أما التصريحات الأمريكية غير الرسمية فهي تترك أمامنا " الإشادة " بقدرات داعش ومقدرتها الاستثنائية, حيث يقول هنا ريتشارد كلارك الذي قدم استشاراته في شؤون مكافحة الإرهاب إلى ثلاثة زعماء أمريكان, آخرهم الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن, حيث أكد إلى محطة " سي ان ان " الأمريكية ان الدولة " الإسلامية " أقامت " خلافة إسلامية " فعلا عبر حكمها لمساحات شاسعة, وحوالي خمسة مدن كبرى, وأقاموا هيكلية تتضمن حكومات ومؤسسات ووزارات, وباتوا يصدرون وثائق رسمية, وباتت مسألة طردهم من المدن التي يسيطرون عليها صعبة في المستقبل المنظور, ولابد من التعاون مع إيران في هذا الميدان !!!. 

وإذا كانت هذه التصريحات الأمريكية تحمل في طياتها ما نعكسه من فهم لنظرية المؤامرة, بأن هناك طبخة قيد التنفيذ لإضعاف الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي لفسح المجال أمام حلول تسليح الأقاليم الغربية من خلال ما يسمى " بالحرس الوطني " والذي سيتم دراسته في البرلمان العراقي, والتمهيد لانفصال المنطقة الغربية كإقليم بحد ذاته أسوة بإقليم كردستان, تمهيدا لانجاز خطة بايدان في تقسيم العراق لاحقا, وقد يستجيب هذا لدعاة الإقليم في الجنوب الذي ينادي فيه بعض فصائل الإسلام السياسي الشيعي !!!.

ولكن علينا ان نفهم بوضوح وحيادية ان قدرات داعش لا يمكن الاستهانة بها, فهي تجيد مختلف صنوف الحروب, من حرب عصابات, الى جانب الحروب الكلاسيكية, ثم المفخخات, ونموذج الحروب الجديدة المستندة إلى التطهير المكاني مسندة بقذائف الهاون والصواريخ, واقتحامات عنيفة في عبوات ناسفة ومفخخات متنوعة, والأكثر من هذا هو الجهادية والمقدرة القتالية والاستبسال في المعارك باختلاف غطائها, ان كان دينيا أم قناعات عامة !!!.

أ ن سقوط تدمر ومناطق أخرى في سوريا, والرمادي والموصل وغيرها في العراق تأكد بشكل قاطع عن مقدرة لهذا التنظيم الإرهابي في التوسع إلى حدود غير معلومة, في الوقت الذي ينتظر فيه الجيش العراقي والسوري ضربات وخطط جوية من أمريكا ودول التحالف التي لها حساباتها الخاصة والتي قد تخدم داعش زمنيا ولا تخدم العراق وسوريا !!!.
ان دولة الخلافة الإسلامية " داعش " قامت على أراضي دولتين (سورية والعراق) من خلال فرض سياسة الأمر الواقع بالقوة، واستطاعت ان تتمدد في ليبيا (سرت ودرنة) والجزائر (الجنوب) وأفغانستان وباكستان، وان تفتح فروعا في مصر (سيناء) وقطاع غزة (الشابوره في رفح) واليمن، وها هي تعلن عن دخول أعمالها العنيفة والإرهابية إلى الأراضي السعودية بالهجوم على مسجد لأبناء الطائفة الشيعية شمال القطيف في الشرق السعودي، أوقع أكثر من خمسة وعشرين قتيلا.
نقول هنا ان الحرب على داعش يستدعي منا الابتعاد نسبيا عن نظرية المؤامرة التي تشل قدراتنا الذاتية من خلال توجيه الانتقاد واللوم إلى القوى الأخرى, ويجب التدقيق بحرص في قدراتنا الذاتية في مواجهة هذا التنظيم الإرهابي الخطير باختلاف خصوصيته العراقية أم السورية أم المصرية وغيرها, والنظر موضوعيا إلى الأسباب التي أدت إلى صعود دولة الخلافة الإسلامية " داعش " بعيدا عن قيم العجز بانتظار من ينقذنا من داعش. فإذا كانت الخيانة في الجانب العراقي احد الأسباب لتمرير مؤامرة تقسيم العراق واستيلاء داعش على المزيد من الأراضي العراقية, فهل هناك خيانة ميدانية في سوريا, أم قدرات داعش هي سيد الموقف !!!.
أؤكد هنا ان الصراع مع داعش هو صراع وجود وبقاء, وان محاربته بكل القدرات هو واجب مقدس, ان كان دينيا أم وطنيا, وعلينا اليوم خوض المعركة معه بحجم شراسته ومقدرته الميدانية, فإذا لم نحاربه في الموصل والانبار وكل بقاع تواجده الآن ونقضي عليه, فأننا سنضطر إلى محاربته على أعتاب بغداد وداخلها وفي كل شوارعها وفي كل المحافظات الوسطى والجنوبية والشمالية, وعندها ستكون الكارثة أعظم وأبلى, وهذا ما تطمح له داعش في توسيع رقعة حروبها في بغداد وكربلاء والناصرية والبصرة والعمارة والحلة واربيل والسليمانية وغيرها, وعندها سيكون العراق كله حمامات من الدم والضحايا والركام !!!.
وفي الختام يجب التأكيد ان تلاحم الجيش العراقي مع بقية الفصائل المسلحة العراقية, من حشد شعبي وغيره, ورغم كل التعقيدات والغموض الذي يكتنف طبيعة هذه القوى وأشكالياتها الفكرية والعقائدية والميدانية يجب ان تشكل بوابة ونافذة للخلاص من داعش, مادام يوحدها القناعة بمقاتلة تنظيم دولة الخلافة الإسلامية " داعش ". وما بعد داعش سيكون أسهل من داعش بكثير ... داعش أولا والبقية تأتي !!!.









196
أحداث مدينة الاعظمية/ بغداد بين الاحتقان الطائفي وإفرازات العقل الجمعي !!!


د.عامر صالح

بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد الإمام موسى الكاظم وأثناء المسيرات المخصصة لإحياء هذه الذكرى والتي أقيمت في مدينة الاعظمية مكان مرقد موسى الكاظم بتاريخ 2015ـ05ـ14, جرت أعمال عنف وحشية وإجرامية أطالت العديد من المباني العامة والمنازل السكنية وتدمير الممتلكات العامة, وكان أكثرها خطورة هو الاعتداء على جامع الإمام الأعظم, وإضرام النار في دائرة الاستثمار التابعة للوقف السني, والاعتداء على الأهالي في المنطقة, في محاولة لإشعال الحريق الطائفي هناك ورفد الفتنة الطائفية بمزيد من الوقود اللازم لديمومتها, في ظروف حرجة يمر بها العراق والتي تستدعي مزيدا من اللحمة الوطنية لدرء خطر الإرهاب, وتحرير الأراضي العراقية المستباحة من قبل تنظيم داعش الإجرامي والإرهابي !!!. 

إن هذه الأعمال الإجرامية بالتأكيد وبغض النظر عن منفذيها ووعيهم في التخطيط لذلك, فهي تستهدف أمورا كثيرا, وفي مقدمتها تعكير صفو الزيارة والإساءة إلى رمزيتها وقدسية شعائرها لدى المؤمنين بها, وإخافة الزائرين وإثارة حالة من الذعر المفتعل بين حشودهم بترويج الإشاعات عن وجود الأحزمة الناسفة والانتحاريين والعبوات وغيرها, ضرب الملف الأمني والإجراءات المتخذة لحماية أمن بغداد عموما والزيارة على وجه الخصوص, خلط الأوراق وإثارة أزمة سياسية وأمنية وطائفية أمام الحكومة والتي تعاني أصلا من تركيبتها الطائفية ـ السياسية, وهذا ما حدث فعلا, وتعميق الهوّة الطائفية الموجودة أصلا وبما يساهم في زيادة التوتر الطائفي وهذا العامل له أبعاد داخلية وخارجية, وتوجيه رسائل سياسية بأن قواعد اللعبة ومفاتيحها ليست بيد الحكومة وحدها, وتحدي القوات الأمنية للإيحاء بأنها عاجزة عن حماية الأمن وتنفيذ مهامها الوطنية وإهانة هيبتها وسلطاتها التي تعاني أصلا من ضعف في المهنية والأداء والهيبة. وهذه الأهداف تكون على أشدها في حالة الافتراض أن هذه الأفعال الإجرامية جرت بتخطيط مسبق وهناك قيادة ميدانية تقف خلف الأحداث !!!. 

مما لاشك فيه من الناحية التربوية والنفسية والثقافية أن هناك ملامح مزاج جيل طائفي تشكل بعد سقوط النظام الدكتاتوري في عام 2003 والذي أعقبه نشوء نظام طائفي سياسي ومحاصصاتي, كان للأمريكان اليد الطولى في بنائه وتكريسه, وكان للأحزاب الطائفية ـ السياسية الدور الكبير في إعادة إنتاج منظومة القيم الطائفية وقيم الانحياز الانفعالي للطائفة على حساب المكونات الأخرى المذهبية والوطنية, وقد أسست هذه الممارسات للتعصب الديني الأعمى والغلو في الدين الواحد وبين طوائفه المختلفة واستباحة العنف بين مكونات الدين الواحد وبين الأديان الأخرى, وإثارة النعرة التعصبية الدينية والطائفية وغير الدينية, وكلها سلوكيات تضعف من مكانة الدين والتدين والوحدة الوطنية. وهنا من السهولة بمكان استخدام الشعائر والرموز الدينية في تعبئة الناس من قبل الأحزاب السياسية ذات الصبغة الدينية, وتحويل هذه الجماهير في لحظات الاحتقان الطائفي إلى كتل انفعالية هائجة تسهل قيادتها في مختلف الاتجاهات عبر العبث بمشاعرها النزيهة في حب رموزها الدينية, كما يسهل اندفاعها إيحائيا من قبل الطرف الطائفي السياسي الآخر لارتكاب مختلف الأفعال في محاولة وهمية أو حقيقية للدفاع عن النفس, من خلال ترك الانطباع أن هناك خطرا سريعا قادم سيرتكب بحقها !!!.

كان الاحتفال بالذكرى السنوية لاستشهاد الإمام موسى الكاظم وسطا سهلا لاستفزاز المشاعر بمختلف الاتجاهات وخاصة عندما تجري في مدينة الاعظمية ذات الخليط السكاني الطائفي, الشيعي والسني, وتواجد الرموز الدينية السنية والشيعية, حيث تعم المشاعر المتباينة بين العقلانية في الاحتفال بهذه الذكرى العزيزة على قلوب أتباعها وبين استثمار الحدث لتكريس الاحتقان الطائفي والطائفي السياسي واستفزاز المكونات الطائفية والمذهبية المختلفة. ومن السهولة هنا جر الناس إلى أعمال العنف والإجرام, حيث الناس وفي هذه المناسبات يتحولون إلى عقل جمعي منفعل خليط من الحزن في هذه المناسبة, والتوجس وسرعة الاستدراج العاطفي من الآخر الطائفي الحامل لأجندة سياسية, وعندها يلعب الإعلام والدعاية النفسية المخربة دورا في استثارة العداء ومشاعره بين الطوائف المختلفة, مما يسهل أجندة الاحتراب الطائفي وتمرير المشاريع الإرهابية, وتشكل هنا ردود الأفعال العنيفة احد ابرز ملامح المشهد العام في الميدان !!!.

وتبقى هنا أهمية المسك بخطوط الجرائم التي ارتكبت ومنفذيها وإعلان نتائج التحقيقات بنزاهة تامة احد العوامل الأساسية في مصداقية الأجهزة الأمنية العراقية وقدراتها في درء الأخطار التي تنذر بمزيد من الاحتقان والاحتراب الطائفي, وتفويت الفرصة على الإرهاب ورموزه المختلفة لاستغلال المناسبات الدينية لشق وحدة الصف العراقي التي تعاني اليوم الكثير من التصدعات جراء المنظومة الطائفيةـ السياسية التي افرزها الاحتلال الأمريكي, والتي يتكئ عليها الإرهاب لإثارة الدمار والخراب في صفوف المجتمع العراقي ومكوناته الاجتماعية والدينية والاثنية المختلفة مستفيدا من قيم النظام الدكتاتوري المنهار والبعث الساقط ورموزه الموجودة داخل العملية السياسية وخارجها لتفكيك النسيج المجتمعي العراقي وتغذية الرعب والتوجس وثقافة الشك بين مكوناته المختلفة !!!.
   
.

197
عيد العمال العالمي ودلالته للمرأة العربية والإسلامية العاملة !!!

د.عامر صالح 

الأول من أيار يشير إلى العديد من الاحتفالات العمالية المختلفة التي أدت إلى الأول من أيار كذكرى لإحياء النضال من أجل ثمان ساعات عمل في اليوم. وفي هذا الصدد يسمى الأول من أيار بالعطلة العالمية لعيد العمال أو عيد العمال العالمي. وقد بدأت فكرة يوم العمال في استراليا عام 1856, ومع انتشار الفكرة في جميع أنحاء العالم تم اختيار الأول من شهر أيار ليصبح ذكرى للاحتفال بحلول الدولية الثانية للأشخاص المشتركين في قضية هايماركت 1886. وأول عيد للعمال في الولايات المتحدة الأمريكية تم الاحتفال به في الخامس من سبتمر عام 1882 في مدينة نيويورك. وفي أعقاب وفاة عدد من العمال على أيدي الجيش الأمريكي ومارشالات الولايات المتحدة خلال إضراب بولمان عام 1894 , وضع الرئيس جروفر كليفلاند تسويات مصالحة مع حزب العمل باعتباره أولوية سياسية عليا. وخوفا من المزيد من الصراعات, تم تشريع عيد العمال وجعله عطلة وطنية من خلال تمريره إلى الكونغرس والموافقة عليه بالإجماع, فقط بعد ستة أيام من انتهاء الإضراب, وكان كليفلاند يشعر بالقلق لتوائم عطلة عيد العمال مع الاحتفالات بيوم أيار الدولي, والذي قد يثير مشاعر سلبية مرتبطة بقضايا هايماركت عام 1886 , عندما أطلق أفراد شرطة شيكاغو النار على عدد من العمال أثناء إضراب عام مطالبين بحد أقصى لعدد ساعات اليوم الواحد لا يزيد عن ثماني ساعات, وقد راح ضحية تلك الحادثة العشرات من أولئك العمال, وقامت الخمسون ولاية أمريكية بالاحتفال بعيد العمال كعطلة رسمية. وكان إصرار الطبقة العاملة الأمريكية على إبقاء الاحتفال في الأول من أيار هو السائد !!!.
   
أشتد ساعد الحركات العمالية في أوربا بنفوذ أفكار الاشتراكية والشيوعية واليسار عموما, وعلى خلفية ذلك افتتح مؤتمر النواب الاشتراكيين الدولي في باريس الفرنسية في العام 1889 والذي حضره أربعمائة مندوب, وقرر المؤتمر تحديد الأول من أيار من كل سنة عيدا مشتركا لجميع العمال في العالم, وكان المندوب الأمريكي في المؤتمر قد أشاد بقرار رفاقه الفرنسيين. وفي هذا اليوم من عام 1890 بادر العمال في أمريكا وأوربا بتسيير مظاهرات كبيرة للاحتفال بنجاح كفاح العمال ليولد عيد العمال العالمي, ليكون بذلك اختيار هذا التاريخ تخليدا لذكرى من استشهد من العمال والقيادات العمالية. وعلى خلفية ذلك فأن القوى الشيوعية والاشتراكية واليسارية عموما اعتبرت نفسها بفعل دورها التاريخي بمثابة الخط الدفاعي الأول عن حقوق العمال ومطالبيهم الأساسية, وكان شعار " يا عمال العالم اتحدوا " ملهما وقوة دفع لكل العمال في العالم من اجل انتزاع حقوقهم المشروعة. ولا غرابة من أن يتجاوز الاحتفال بالأول من أيار حدود جغرافيته في أمريكا وأوربا إلى بقاع العالم كافة, ومن ضمنها العالم العربي والإسلامي !!!.

تجاوز حدث الأول من أيار أهدافه التقليدية في المطالبة بثماني ساعات عمل فقط في اليوم, إلى أهداف إنسانية كبرى وموضوعات أكثر شمولية من خصوصية الذكرى, وقد نتج هذا بفعل الإطار المرجعي الفكري والسياسي والفلسفي الذي ألقى بظلاله على حركة الطبقة العاملة العالمية, وكان أبرزه نفوذ الفكر الاشتراكي العالمي, فكر المساواة بين الجنسيين في كافة الحقوق, بما فيه حق المرأة في المساهمة في الشأن العام, حق العمل والانخراط في كل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية !!!.

لقد حقق العالم المتمدن انجازات لايستهان بها على مستوى مساهمة المرأة في الحياة العامة, من عمل وحقوق مدنية وسياسية واجتماعية. لا نقول هنا إنها مثالية وغير قابلة للطعن, ولكن يكفي المقارنة مع أوضاع المرأة في العالم العربي والإسلامي كي نستدرك جوهر الفروق. ولعل ابرز الملاحظات حول المرأة العاملة في البلاد العربية والإسلامية وواقعها السلبي هو: أن مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي متدني جدا قياسا بالرجل ويصل إلى اقل من الربع من عموم القوى العاملة لكلا الجنسيين, كما أن معدل البطالة بين النساء مرتفع جدا قياسا بالرجال, معدل أجور النساء العاملات ادني بكثير من الرجال, وأن نسبة وجود النساء في الوظائف العليا أقل بكثير من وجود الرجال فيها, وكذلك نسبة النساء العاملات في الاقتصاد الحكومي أو قطاع الدولة أقل بكثير من الرجال العاملين فيه, وأن النسبة الغالبة من النساء العاملات يعملن في الأعمال الأقل استقرارا وثباتا والأدنى مهارة والأقل أجرا, كما تواجه المرأة صعوبات كبيرة في التوفيق بين العمل والحياة الاجتماعية الخاصة, كما تعاني النساء من صعوبات التميز على أسس الجنس وما يرتبط بذلك محدودية فرص العمل !!!.

ومن الجدير بالذكر, أن العديد من مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصورة عامة حققت الكثير من الانجازات على طريق إشراك المرأة في ميادين الحياة المختلفة.فقد انخرطت المرأة في مجالات التعليم والعمل.حيث تدفقت المرأة إلى مختلف مراحل التعليم, ومنها العالي في مختلف التخصصات العلمية والإنسانية , وكذلك الحصول على الشهادات العليا كالماجستير والدكتوراه.كما انخرطت في مختلف المهن الطبية, والهندسية, والإدارية. وهو خطوة لازمة لتحرير المرأة.ألا أن ذلك جاء نتيجة لضغوطات الاقتصاد والتغيرات الكبيرة في الهيكلية الاقتصادية, وحاجات سوق العمل إلى المزيد من المهارات النوعية , مما استدعى ذلك إلى الاستعانة بالمرأة المؤهلة, وأن التغيرات المذكورة أعلاه لا تعبر بالضرورة عن فلسفة حياتية واضحة ومحددة اتجاه إشراك المرأة. والدليل على ذلك هو تعرضها إلى مختلف مظاهر التميز, في الرواتب, والمناصب, ودرجات التعين, وعدم المشاركة في صنع القرار, وحرمانها من الكثير من المناصب لأنها امرأة. عدا حالات التميز الأخرى خارج العمل, كفرض الوصايا عليها وعلى أموالها وممتلكاتها, ومنعها من السفر والتنقل إلى خارج البلد أو من مكان إلى آخر إلا بوجود محرم أو ولي أمر.

وعلى هذا الأساس نلاحظ إن الانفتاح النسبي صوب قضية المرأة لم ينتج من إعادة النظر في المنظومة القيمية والتربوية, بل أن الزمن في أحيان كثيرة فعل فعلته....ولهذا نرى المفارقات في الممارسات اليومية في حياة المرأة العاملة بين الجذب والشد.فهي تشعر في السعادة النسبية والاستقلال في نصف من اليوم عندما تكون في العمل, وفي النصف الثاني فهي أسوة بحبيسات البيت تخضع لسلطة الرجل, وتحمل هموم البيت بتفاصيله بل قد تحمل هموم البيت وهو الأكثر وقعا عليها من هموم العمل على كتفيها إلى العمل لتنوء بثقلين معا, ويتضح ذلك جليا في الكثير من حالات العزوف وترك العمل, لعدم إمكانية التوفيق بين الاثنين.أن الصراع المرير في حياة المرأة وجد انعكاساته في الكثير من مظاهر الاضطرابات النفسية والجسمية ذات المنشأ النفسي قد لا يدفع المرأة إلى الذهاب إلى العيادات النفسية المتخصصة, وقد تحيى معه المرأة وتموت به من دون أن يعرف من حولها , بل قد لا تدركه هي نفسها.

ويشكل القلق احد المظاهر الرئيسية التي تدك المرأة والذي تعاني منه بفعل دورة حياتها اليومية الصعبة, حيث تعاني من الضعف العام ونقص الطاقة الحيوية والنشاط والمثابرة,وتوتر العضلات,والنشاط الحركي الزائد, واللوازم العصبية الحركية, والتعب والصداع المستمر الذي لا يهدئه العلاج, وشحوب الوجه, وسرعة النبض, والقلق العام على الصحة والعمل والمستقبل, والعصبية والتوتر العام وعدم الاستقرار والخواف بصفة عامه والخوف الذي قد يصل إلى درجة الفزع والشك والارتباك والتردد في اتخاذ القرارات.والهم والاكتئاب العابر والتشاؤم والانشغال بأخطاء الماضي وكوارث المستقبل, وتوهم المرض والإحساس بقرب النهاية والخوف من الموت, وعشرات من الأعراض البسيطة والشديدة المؤقتة والدائمة,ولكنها في معظم الأحيان غير قاتلة, وغير متعارضة مع الاستمرار في الحياة اليومية وروتينها , ولكن تعرقل سير الحياة والإقبال عليها ببهجة وسرور.ويمثل تجاهل المرأة لهذه الأعراض جزء من عملية تجاهلها هي بالذات من مع حولها في دائرة علاقاتها الأقرب.

وعلينا التأكيد إن ما يجري هنا للمرأة يأطره العقل الجمعي العربي والإسلامي الذي يحصر المرأة في فسحة ضيقة جراء الهيمنة الذكورية بأشد صورها قتامه والذي يحد أو يقصي المرأة من المشاركة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, ويختزل دورها الأساسي في المنزل وتربية الأولاد وتلبية الرغبات الغريزية للرجل, في فهم غير متكافئ للعلاقة الزوجية. ويجب الإشارة هنا أن موضوع صلاحية مشاركتها في العمل لا يزال موضوع شك وريبة, فهل تنجح في التوفيق بين عملها و العمل المنزلي وتربية الأولاد والحياة الزوجية الخاصة, حيث الشكوك تطال إلى مقدرتها العقلية والعملية ضمن مقاييس مسبقة تمليها الإرادة الذكورية للحفاظ على توازن أبقاء الهيمنة الذكورية سائدة في كل تفاصيل حياة المرأة اليومية !!!.

وفي هذا السياق المضطرب بالنسبة للعاملة العربية والإسلامية فأن الاحتفال بعيد العمال العالمي يمتلك دلالة استثنائية على مستوى البحث في تكريس المزيد من الجهد وتعبئة الجهود الدولية لإشاعة فكر المساواة بين الجنسيين على مستوى العمالة وتأكيد إنسانية المرأة وحقها المشروع الكامل في بناء نهضة بلدانها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكل عام والبروليتاريا العالمية من كلا الجنسيين بخير !!!.



198
"سوق الفتاوى و نكاح الوداع " بين الفقه الاسلاموي والانحراف الجنسي والاضطهاد التاريخي


د.عامر صالح

في ظل غياب الاعتدال وانتشار التطرف الديني في الساحة العربية والإسلامية والناتج من غياب الفكر النقدي وتكريس منظومة التخلف وإعادة إنتاجها على نطاق واسع مقرونا بانتعاش الإرهاب السياسي والديني ـ السياسي وغياب منظومة فكرية نقدية بديلة تستحوذ على عقول الناس وتعيد الحياة إلى وسطيتها الجميلة, تنهال علينا يوميا كم هائل من الفتاوى الدينية لا حصر لها للتضييق على الحياة الحرة الكريمة وتشويه مكانة العقل وحصره في قوالب متحجرة ضيقة ضارة, والعبث في الحريات العامة والتدخل في تفاصيل الشأن الشخصي, والإفتاء بأدق التفاصيل ذات الصلة بمكانة الإنسان والتي تهدف في مجملها إلى عرقلة العقل عن الانطلاق بوظيفته النقدية الهادفة إلى إزالة التخلف التاريخي الذي لحق بالعالم العربي والإسلامي جراء التمسك بالفكر والخطاب الديني الكلاسيكي الذي ولد قبل قرون, وإبقاء حياة الحاضر والمستقبل أسيرة له !!!.

انتشرت في الآونة الأخيرة فتاوى وصلت إلى حالة الهذيان والهوس الديني بمقياس الحياة الحاضرة, بل والماضي, وعلى سبيل المثال منها لا للحصر, فتوى أرضاع الكبير( أرضاع المرأة لزميلها في العمل ), والزواج من الطفلات غير الحائضات أو الحائضات في مرحلة الطفولة, والتبرك ببول السيد وبصاقه, ومنع أكل الخضروات الشبيه بالعضو الذكري كالموز والخيار والجزر والكوسا خشية من استخدامها بديلا عن العضو الذكري و شريطة إيتاء الرجل لهذه الخضروات مقطعة وجاهزة للاستخدام, وعدم جواز السجود في ارض الملاعب من قبل اللاعبين لان السجود فقط لله في أوقات الصلاة, ثم فتوى تشبيه وجه المرأة لفرجها, وجهاد النكاح الذي انتشر في أوساط داعش وغيرها, وجواز شرب الخمر للنساء الحوامل إذا توحمن بذلك وخاصة للأوربيات المتزوجات من مسلمين, وجواز احتكاك المرأة والرجل في وسائط النقل حتى إذا وصل مرحلة القذف حسب الفتوى, وشرعنة الجنس مع الألعاب والدمى البلاستيكية المتشبهة بالأعضاء التناسلية لكلا الجنسيين, وشرعنة أشكال لا حصر لها من الزوجات المؤقتة !!!.

وتأتينا أيضا الفتاوى السياسية, من عدم التصويت لحزب دون غيره أو إيداع ورقة التصويت فارغة في صندوق الاقتراع إذا لم يكن لديك خيار ضمن الأحزاب الإسلامية, والتصويت أو عدم التصويت على دستور جديد لدولة ما, وجواز نهب المال العام في ظروف خاصة وشرعنة الفساد, وجواز الاستحواذ على مناصب ووظائف حكومية في الدولة مقابل الارتشاء, وجواز نهب المال العام من الدول الأوربية المضيفة للمسلمين والتحايل الضريبي, وشرعنة العمل بالأسود( العمل غير الشرعي ) في تلك الدول, وقد انتشرت اغلب هذه الفتاوى في البلاد العربية بعد الردة التي حصلت لثورات " الربيع العربي " و بعد سقوط بعض الأنظمة العربية الدكتاتورية بفعل عوامل خارجية كالعراق وليبيا وسيطرة القوى الدينية السياسية والمتطرفة في مفاصل الأحداث. ويلهث المشرعون وراء النص الديني من كتاب مقدس وأحاديث نبوية لتبرير فتواهم وإضفاء القدسية عليها !!!.

ومن أكثر الفتاوى جدلا وإيذاء لإنسانية الإنسان وحرمته وهو ميتا هو ما صدر من الشيخ عبد الباري الزمزمي ـ رئيس الجمعية المغربية للبحوث والدراسات ـ وفحوى الفتوة هو حق الزوج في ممارسة الجنس مع جثة الزوجة وهي ميتة وما أسماه " بالحلال المنبوذ ", ويسوق المفتي الدليل من النص القرآني من سورة الزخرف في الآيتين 69,70 " الذين آمنوا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ", ونقلا عن قول المفتي : قال علي في عائشة إنها زوجة النبي محمد في الدنيا والآخرة, وبالتالي فان الموت لا يقطع صلة الزوج بالزوجة فهو يرثها, وهي زوجته حية أم ميتة. ويقول أيضا المفتي المذكور أنه عملا ممقوت ومنبوذ ولكن لا سبيل لأحد لتحريمه لان الفتوى لا تخضع للعاطفة, ما معناه تستند إلى النص الديني والأحاديث الداعمة !!!. 

في علم النفس المعاصر يمثل نكاح الموتى أو الجثمانية احد الانحرافات الجنسية الخطيرة في اختيارها لموضوع الشريك الجنسي ألا وهو الجثة الهامدة, في هذا الانحراف يميل الفرد إلى المواقعة الجنسية مع جسم الميت. وقد يدفع بهم الانحراف إلى نبش القبور لتحقيق هذا الشذوذ أو القيام بالقتل لتهيئة هذه الإمكانية. وهذا ما يحدث أحيانا في بعض جرائم التعدي الجنسية عندما يقوم المجرم بقتل ضحيته وإدمائها قبل الممارسة الجنسية. هذا ومن الصعب تفسير هذا النوع من الانحراف, وان كان بعض المحللين النفسيين يرون فيه ما يعبر عن تعلق الجثماني الانحراف بأحد والديه المتوفيين وتكون الممارسة مع جثة الميت هي رمز للتوحد معه. ويرى آخرون في ذلك نوعا من الفكر التسلطي الإلزامي الذي لابد من طاعته وتطبيقه على الشريك الجنسي في الحياة أو الموت. ونعتقد إن النمط الأخير من التعلق بالجثة هو السائد لدى المشرعنيين لتخفيف وطأة هول الجريمة وإضفاء قدسية دينية على السلوك ألانحرافي المرتكب !!!.

أما من الناحية السيكوتاريخية فنعتقد إن هذا السلوك المنحرف هو امتداد طبيعي للاضطهاد التاريخي الذي تتعرض له المرأة, و بخصوص مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأسوة بأغلبية بقاع العالم المتخلف, حيث العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لاضطهاد المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الاستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يندمج الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض, فلا نستغرب أن تكون جثة الزوجة امتدادا طبيعيا لسنة اضطهادها وهي حية, فهي ملك الزوج حتى وأن غادرت الحياة !!!!.

وتبدأ المرأة كمشروع للاستلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية, خارج إطار والديها, من أخوانها الذكور الصغار والكبار, حتى إذا بلغت اشتدت دائرة الرقابة عليها من الجميع, ثم يستقبلها زوجها فيعيد إنتاج تربيتها وفق لما يرتئيه مناسبا له, بل حتى أطفالها الذكور يساهمون في " تربيتها " وفرض دائرة من الممنوعات على حركتها وحريتها الشخصية, وتتعرض إلى شتى مظاهر الإساءات كامرأة أو زوجة, من الإذلال وجعلها تشعر بعقدة الذنب, وإساءة معاملتها جسديا بالضرب والتهديد والوعيد, ومنعها من التعاطي بالمال وإيجاد فرص عمل لكسب المال وجعلها معتمدة كليا على مال الرجل أو اغتصاب مالها الخاص والتصرف به, وعزلها اجتماعيا ومنعها من الاتصال بالآخرين إلا بموافقات مسبقة وبشروط محكمة في الصرامة ومراقبة تحركاتها عن كثب, إلى أين تذهب ومع من تلتقي, وجعلها تشعر بالذنب أمام أخوانها أو أولادها وتهديدها من عدم رؤية أولادها وحتى ممارسة الضرب والأهانة لها أمامهم, وممارسة الإكراه والتخويف والتهويل لها وإجبارها على القيام بمختلف التصرفات التي قد تؤذي فيها حتى نفسها, ولا نستغرب عندما يفتح باب الاجتهاد عليها وهي ميتة !!!.

   

199
النزوح والهجرة الداخلية والمزاج الطائفي ـ أهل الانبار أنموذجا !!!

د.عامر صالح


يشهد العراق في السنوات الأخيرة نزوحا وهجرة داخلية لا نظير لها في تاريخه المعاصر ناتجة من أسباب الاقتتال ذو الصبغة الطائفية ـ السياسية والذي غذته وخلقته عوامل الصراع الداخلي, ومنها بشكل خاص الخندقة الطائفية والمذهبية للنظام المحاصصاتي, وعوامل خارجية من حلفاء من ذات الصبغة الطائفية ـ السياسية للنظام القائم, وعوامل الإرهاب المدمر والذي وجد في ضالته داعش أخطر ما يخندق الصراع ويمده بمزيد من الوقود العصي على الإطفاء والسريع الاشتعال الذي ينتشر كالنار في الهشيم, بالإضافة إلى عوامل الصراع ألاثني الشوفيني الذي يمزق النسيج الاجتماعي العراقي ويهدده بمزيد من التشرذم والانقسام ويغذي ديمومة الإرهاب وبقائه من خلال انعدام وضعف الموقف الوطني في القضايا المصيرية !!!.

يتعرض أهل الانبار والمنطقة الغربية عموما إلى موجة جديدة من النزوح الاضطراري للبحث عن الأمن والآمان والحفاظ على الأرواح جراء عمليات التنكيل والإبادة التي يتعرض لها سكان المناطق من تنظيم الدولة الإسلامية " داعش " وعصابات الإجرام والقتل والمجاميع المسلحة الإرهابية المنتشرة هناك وإخطبوط تنظيمات البعث الدموي التي وجدت في هذه المناطق بيئة صالحة لحضورها الإجرامي, والذي تولد من انكفاء هذه المناطق وعزلتها النسبية عن النظام السياسي القائم ومقاطعة العملية السياسية, بل ورفع السلاح ضدها, مما عجل في عزل هذه المناطق وسقوطها في أيادي القمع والإرهاب, وكان سيطرة داعش على هذه المناطق تحصيل حاصل لكل ما جرى ويجري, وجعل من داعش تسرح وتمرح وتحتل وتبيد وتقتل كيفما تشاء مستغلة من موالاة الخونة من قيادات البعث المنهار وبعض من رموز العملاء من العشائر كبيئة حاضنة لها !!!.

اليوم يمر أهالي الانبار بنكبة وكارثة إنسانية أسوة بما مر به قطاعات شعبنا سابقا جراء سيطرة داعش على مناطقهم واستباحتهم وقتلهم وتهجيرهم, حيث ينزح الألوف منهم صوب بغداد وكربلاء والنجف والديوانية وغيرها من المحافظات مستنجدين بأبناء شعبنا في محافظات الوسط والجنوب لحمايتهم من القتل والسبي والإبادة الجماعية, وهذا حقهم المشروع في الاحتماء بأجزاء العراق الأخرى ومحافظاته وناسه عندما تتعرض مناطقهم إلى الاحتلال والسبي من قوى البعث والإرهاب. كما أن ضرورات الموقف الإنساني والوطني العراقي يستدعي وضوح الرؤى والصبر وعدم محاسبة سكان هذه المناطق بجرائم البعث وداعش, وخاصة وان أجهزة الدولة من شرطة وأمن وجيش عراقي غابت عن هذه المناطق مما أوقعها في يد الإرهاب وانكفائها على نفسها كضحية تستجيب لمختلف ظروف استضعافها وامتهانها !!!.

لقد اتخذت بعض من محافظات الوسط الجنوب قرارا من سلطاتها المحلية بعدم السماح للنازحين من أهالي الانبار في الدخول إلى المحافظات, رافعين شعار " فليذهبوا أهل الانبار يقاتلوا داعش " وهو موقف ومزاج غذته الصراعات الطائفية ـ السياسية للأسف وينسف جوهر التعامل الإنساني مع شعبنا المشرد. فالشيوخ والأطفال والنساء هنا ضحايا الإرهاب, وان محنتهم هي محنة إنسانية بعيدة كل البعد عن اللون الطائفي والمذهبي وتداعياته السياسية, فالمشردين هم أبناء الوطن وأبناء العراق وجزء من نسيجه الاجتماعي والأخلاقي والقيمي, فلا نسمح أبدا بسياسات ردود الأفعال والاحتقانات المذهبية تعيد إنتاج نفسها بمزيد من الأحقاد وزرع البغضاء في النسيج الاجتماعي العراقي !!!.

أن تضحيات قوى أهل الوسط والجنوب وهم يقارعون الإرهاب في مختلف مسمياتها: حشد شعبي, جيش عراقي, قوات امن وشرطة واستخبارات, إلى جانب المقاتلين بمختلف صنوفهم وانتمائهم من أهالي المنطقة الغربية ضد الإرهاب سوف تكون محفورة في ذاكرة العراقيين وهي مواقف وطنية باعتزاز وتسجل ضمن مفاخر شعبنا للدفاع عن الوطن والأعراض والمال, بغض النظر عن الغطاء والعوامل التي تكمن وراء الاندفاع لمقاتلة الإرهاب, إن كانت دينية أو أثنية أو سياسية, مادامت خلاصة الجهد هو الحفاظ على العراق أرضا وشعبا بكل تنوعاته !!!.

أن التضحيات الجسام يجب إن تقترن بخصوصية الموقف الإنساني من المواطن العراقي أي كان انتمائه في ظروف محنته, وعلى السلطات المحلية في محافظات الوسط والجنوب أن تدرس محنة النازحين من أهالي الانبار إنسانيا وبدقة تستند إلى القيم الأخلاقية والإنسانية وحق المواطن في الاحتماء بأهله وناسه من مناطق العراق الأخرى, وهذا بالطبع لا يلغي عملية الفرز بين الطالح والصالح من النازحين إذا استندت عملية الفرز هي الأخرى إلى موقف أنساني بعيدا عن الانفعالات الطائفية والاثنية الضارة, التي لا تحمد عقباها لاحقا في ديمومة الصراع الطائفي والطائفي السياسي الذي ابتلى به العراق والناتج من نظام المحاصصة الطائفية ـ السياسية والذي غيب الأمن والآمان الشامل للمجتمع العراقي, ونموذج المناطق الغربية هو احد نتاجاته القاتلة, والتي تهدد العراق كله !!!.

كما أن البرلمان العراقي ملزم باعتباره أعلى سلطة تنفيذية في البلاد بدراسة عاجلة تفصيلية وإجراءات آنية سريعة تلزم بها سكان جميع محافظات العراق للعمل على احتواء هذه الكارثة الإنسانية أسوة ببقية كوارث النزوح السابقة التي سببها داعش والبعث والإرهاب عموما, ولا يمكن أن نترك أهلنا في الانبار والأبرياء منهم بشكل خاص ضحايا في العراء يلتهمهم الجوع والعطش والسبي والقتل والتشريد, فمواقفنا الإنسانية لا تتجزأ وغير قابلة للاجتهاد لحسابات ضيقة الأفق مذهبية كانت أم أثنية أو انفعالية, وعلينا أن نري الآخر وجهنا الإنساني المشرف غير المشروط !!!!.

200
داعش والبيشمركة وفنون قتل الأسرى والدروس المستخلصة !!!

د.عامر صالح

أن الإمعان في القتل والتفنن في الإبادة لأسرى داعش من مقاتلين يقعون في حوزتهم والتلذذ بوسائل تعذيبهم يعبر بكل الأحوال عن ظاهرة السادية التي تعبر عن التلذذ في إيقاع الألم في الطرف الآخر والتلذذ بالتعذيب عامة. وإذا كان البحث جاري لدى داعش وغيرهم من المجرمين لإيجاد مبرر ديني وإضفاء قدسية على فعل الجريمة المرتكب بحق الأسرى, فأن الأمر هنا لا يتجاوز حالة الهستيريا المرضية التي يعاني منها تنظيم داعش والناتجة من الكبت الطويل ذو النشأة الشاذة لدى أفراد التنظيم والذي يتحول بدوره إلى إحباط حياتي مزمن والإحساس بعدم الجدوى من الوجود المقترن بالعدوان على الآخر بشتى صنوف الأذى وتقنياته اللاانسانية !!!.
 
لقد تفننت داعش بوسائل الرعب والإبادة الفردية والجماعية بما يندي جبين الإنسانية ويهز كرامتها, فقد استخدمت قطع الرأس, والرمي بالأشخاص من المرتفعات العالية, وتفجير الرؤوس, والرجم, والحرق بوسائل وتقنيات تثير الرعب والخوف لدى مشاهدي أفلامها الهوليودية المنشورة على ألنت, والعضة الداعشية للنساء لحد الموت’ والمقابر الجماعية للضحايا بعد استعراضهم بطريقة وحشية وكذلك الاغتصاب الجنسي للنساء والأطفال من الإناث بواجهات شرعية مزيفة مثل " جهاد المناكحة " وغيرها من وسائل القتل والإذلال !!!. 

وبعد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة في الثالث من فبراير أمام أعين العالم تستعد داعش في فلم آخر مرعب لحرق ما لا يقل عن 17 أسيرا من مقاتلي البيشمركة الأبطال, وقد تم استعراضهم في أحياء مدينة الحويجة في جنوب غرب مدينة كركوك الغنية بالنفط, مكبلين بالأقفاص الحديدية ومرتدين الملابس البرتقالية, رمز داعش في القتل, كما انتزعوا منهم اعترافات قصريه تحت وطأة التعذيب والتهديد وكما هو معروف, واستخدموا في ذلك أكرادا متواطئين مع داعش باستخدام اللغة الكردية معهم وليست الترجمة الغير مباشرة لأقوالهم, في محاولة للتأثير وزرع الرعب والاستمالة لداعش من خلال نصائح الأسرى في الكف عن محاربة داعش ولإضعاف معنويات قوات البيشمركة البطلة وتسفيه تضحياتها في مقاتلة الإرهاب وداعش بوجه خاص !!!.

 أن العمليات الإرهابية لداعش وأخواتها تنسجم كثيرا مع رؤى البروفسور بروس هوفمان في قوله : " إن الإرهاب هو الخلق المتعمد للخوف واستغلاله في تحقيق التغير السياسي , وبالتالي فهو دون شك شكل من أشكال الحرب النفسية ", ويؤكد أيضا أن الناس كثيرا ما يتعرضون للقتل والإصابات المأساوية في هجمات الإرهابيين, إلا أن الإرهاب بطبيعته يرمي لأحداث آثار نفسية بعيدة المدى بشكل يتجاوز الضحية أو الضحايا المباشرين وما استهدفه عنفهم, فالإرهاب يرمي إلى غرس الخوف في داخل النفوس وبالتالي إلى إرهاب المجموعة التي يستهدفها الإرهابيون وللتأثير على سلوكها. أن الإرهاب في العراق يجسد هذا النمط من التصور للفعل الإرهابي في محاولة لإعادة بناء التحالفات السياسية وفق أجندة خارجية وداخلية وفي ظل ظروف غياب ملموس لسلطة الدولة والقضاء العادل وضعف الممارسة الديمقراطية, وضعف المؤسسة العسكرية وانهيارها المؤقت أمام داعش, والخلافات والتوجسات بين سلطة إقليم كردستان والسلطة الاتحادية, يقابلها في الطرف الآخر مواطنا مخترق في الأمن والخدمات والعيش الكريم !!!.

أن جرائم داعش تستند إلى أرضية عراقية هشة, قوامها الصراعات الطائفية والمحاصاصاتية والفساد الاقتصادي والإداري والمالي والذي يخترق بطبيعته وطنية الفرد وانتمائه النزيه للوطن والمواطنة, وتأتي جرائم وتفنن داعش في القتل والإبادة لتزرع مزيدا من الردة النفسية وخلق حالة الرعب لدى المقاتلين من البيشمركة والجيش والحشد الشعبي والفصائل " السنية " المقاتلة ضدها, وحذار من نتائج حرق ال 17 او 21 من البيشمركة الأسرى أن لا يؤدي ما تتمناه داعش وتسعى أليه من إضعاف لمعنويات المقاتلين ضدها وخلق حالة تمرد وانكفاء وإحباط داخل إقليم كردستان, وفي صفوف القوى الأخرى المحاربة لداعش !!!.

وعلى ما يبدو فأن الحرب ضد داعش لا سقف زمني لنهايتها وكما توقعتها أمريكا وأوربا وبغض النظر عن أسباب إدامتها والاستفادة منها في تنفيذ أجندة داخلية وخارجية, فأن العامل الوطني الداخلي هو العامل الحاسم ويقلب كما يفشل كل الأجندة التي تختفي وراء إبقاء نهاية داعش إلى اجل غير معلوم. والنصر لكل الجهود الوطنية المخلصة للحد من تمدد داعش في التراب العراقي. فالقضاء على داعش أولا والبقية تأتي !!!!.

201
الانحرافات الجنسية بين " الأزهر الشريف " وعلم النفس !!!

د.عامر صالح

نشر موقع " عرب تايمز " مقالا بتاريخ 2015ـ04ـ08 وكان المقال بعنوان: " الأزهر الشريف يدرس طلاب الصف الأول ثانوي: لو ناكك قرد وأولج ذكره في مؤخرتك فهل أوجب عليك الغسل أم لا ؟ ". والمقال كما ورد فيه يشير إلى انضمام الشاعر الكبير احمد عبد المعطي حجازي إلى المدافعين عن البروفيسور  إسلام بحيري في مواجهة الأزهر ومناهجه الدراسية كاشفا النقاب عن إن الأزهر يدرس طلبة الصف الأول الثانوي رأي الشرع في قرد ناك رجلا... فإذا ادخل القرد أيره " قضيبه " في مؤخرة الرجل فهل وجب عليه الغسل وخاصة إن أير القرد ليست له ( حشفة ) والنص ورد في كتاب الفقه التي يدرسها الأزهر لطلاب الأول الثانوي هكذا( ولو أولج حيوان قردا أو غيره في آدمي ولا حشفة له فهل يعتبر إيلاج كل ذكره؟ أو إيلاج قدر حشفة معتدلة؟ قال الإمام: فيه نظر موكول إلى رأي الفقيه) ومعناه إن هناك خلافا في الموقف الشرعي بقدر إدخال القرد لأيره في طيزك... فأن ادخله كله وجب عليك الغسل ... وان حشا فقط حشفته(أي رأسه) فهناك خلاف ... ولا ندري ما رأي الأزهر في قرد اكتفى بأخذ بوسة منك مثلا " مقتبس من المقال " !!!.

إن " الأزهر الشريف " في هذا يقلب موازين العلاقة بين الإنسان والحيوان فيضع القرد فاعلا والإنسان مفعول به ولا نعرف كيف توصل الأزهر إلى تلك العلاقة التي يضع فيها الإنسان إلى مستوى متدني في سلم الارتقاء الحيواني ويضع القرد في صورة الحيوان المتقدم على الإنسان والذي يستدعي المشرعين للتدخل لا يجاد حل شرعي بما يرضي تمادي القرد في أفعاله وتكفير الذنب وغسله لدى الإنسان الذي وقع عليه فعل القرد. لقد مسخ "الأزهر الشريف " حالة الوعي لدى الإنسان الذي هو أرقى نتاجا في سلم التطور البيولوجي إلى الآن وأعطى القرد حقوق الإنسان مما استدعى تدخل الأزهر لنجدة القرد شرعيا وإعطائه الحق الديني في ممارسة الجنس مع الإنسان عبر شرعنته وغسل آثامه لدى المفعول به " الإنسان ".

نحن نعرف إن المثلية الجنسية الذكورية في بيئاتنا العربية والإسلامية منتشرة كما هي في المجتمعات الأخرى وأسبابها متشعبة, منها ما يتعلق بتجريب الدور في مراحل إنمائية ومنها ما يتعلق بالحرمان في التواصل مع الجنس الآخر, ونسبة أخرى قليلة نسبيا متعلقة باستعدادات تكوينية تجسدها عدم الرغبة والانكفاء في التواصل مع الجنس المغاير, ولكن قوام طرفي المثلية الجنسية الذكورية هو ذكر إنسان مع نظيره الذكر, أما في حالات الانحرافات الجنسية فيكون قوام العلاقة ذكرا في معظم الأحوال مع الحيوان ولا يشترط في ذلك إن يكون الأخير ذكرا أم أنثى, ثم أن في معظم الحالات يكون الفاعل هو الإنسان الذكر وليست الحيوان" إلا باستثناءات خاصة جدا كممارسة النساء مع الحيوان وتكون فيه المرأة مفعول بها " ولكن ذلك خارج سياق موضوع الأزهر !!!.

كيف أتى" الأزهر الشريف " بهذه العلاقة المشوه ليضع القرد مكان الإنسان وبالعكس ومنح القرد الوعي الكامل واستلبه من الإنسان؟ وهل البيئة المصرية قرديه لهذا الحد؟ وهل هناك اتجاه مصري ذكوري مثلي للاستنجاد بالقردة كفاعل جنسي؟ أم إن الأزهر يعكف على معالجة المثلية الجنسية بين الذكور المصريين من خلال نداء خفي مغلف بغطاء شرعي وتشجيع ديني لأفضلية ممارسة الشذوذ الجنسي مع القردة تجنبا لأثار الوعي ومصاحباته وتبعته النفسية والقيمية, فالنيك مع القرود لا يجلب أي تبعات أخلاقية والخلاف عند الأزهر في وجوب الغسل أم عدمه !!!.

وللتوضيح في الموضوع سيكولوجيا فان الانحرافات الجنسية تأخذ طابعا مختلفا, منها انحرافات فردية ومن أكثرها وقوعا هي الاستعراضية والفتشية والتلصصية والالباسية والجنسية المضادة من تخنث أو استرجال والاستمناء, وفي هذه جميعا لا يتم اللقاء الجنسي بين  الممارس للانحراف وبين شريك جنسي آخر. أما النوع الآخر فهو انحرافات الشراكة الجنسية كالغلمانية" الممارسة مع الأطفال", والكهولية " اختيار كبار السن ", والجثمانية " الممارسة مع جثة الميت " والحيوانية ـ البهيمية وهو الممارسة مع الحيوانات كالطيور والمواشي بأنواعها وهي تنتشر بين الذكور وبنسب نادرة عند الإناث, وخاصة في البيئات الريفية المغلقة, وهنا يكون الحيوان مستسلما لإرادة الذكر الإنسان ويكون الفاعل الذكر هو الإنسان, ولا نعرف كيف "الأزهر الشريف " وضع الإنسان أسيرا للقرد, أو إن تصور الأزهر إن المجتمعات العربية والإسلامية في مرحلة التقريد. هذا النوع من الممارسة مع الحيوانات يعبر عن حقد دفين في اللاوعي وكراهية بالغة للإنسان وللإنسانية, فهل يستدعي ذلك من الأزهر تكريس الكراهية للإنسان وإنسانيته عبر إيجاد حاضنة شرعية للشذوذ الجنسي مع الحيوانات ؟؟؟.

لقد أصبح الأزهر للأسف مصدرا للتخلف والعنف والتطرف وشرعنة الإرهاب وتسهيل حواضنه بين الفئات الفقيرة والمعدومة من سكان المجتمعات العربية والإسلامية, كما أصبح منحازا مذهبيا ومصدرا لدعم وتأجيج الصراعات الطائفية وتغذيتها وواقعا تحت ضغط مصادر التمويل وشراء الذمم من الدول الخليجية وغيرها, بل وشرعنة الشذوذ الجنسي البهيمي ـ الحيواني بين طلاب الأزهر وخارجه. وتبقى الدعوة لقراءة ونقد التراث الديني والفقهي بما يستجيب لمكانة الإنسان وإنسانيته وتخليص الدين ونصوصه من قيم العبودية والتبعية والإذلال والقتل والسبي والتهجير باسم الدين بما فيها الابتعاد عن الشذوذ الجنسي والحيوانية بغطاء شرعي من المهمات الآنية لتأكيد آدميتنا بين الأمم !!!.

202
الإسلام السياسي والشوفينية العرقية لا تبني مستقبلا كريما !!!

د.عامر صالح

صراعات الإسلام السياسي بمذاهبه المختلفة على السلطة السياسية يريق المزيد من دماء الأبرياء من أبناء الدين الواحد والأديان الأخرى, وكل طائفة أو مذهب يكفر الآخر في السر والعلن, ويدعي أفضليته وتفرده على الآخر بمزايا لا تزكيها الحياة ولا التاريخ, ويستعين بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية لإثبات وجوده وإضفاء شرعية على ممارساته من قتل  وتشريد وتصفيات واغتيالات وقطع للرؤوس والتفنن بطرائق التعذيب والقتل, من حرق وسحل واستباحة للأعراض بواجهات نكاح الجهاد والعضة الداعشية وارتكاب المجازر الجماعية في القتل كنموذج الإبادة في مجزرة سكايبر العراقية والتي راح ضحيتها أكثر من ألفين شهيد وما تلتها من مجازر متفرقة يومية يندى لها جبين الإنسانية, وما سمعناه مؤخرا في ليبيا من قطع لرؤوس الأقباط المصريين على ضفاف البحر المتوسط , سبقتها مجازر في صحراء سيناء المصرية, والقادم أسوء !!!.

لا يحق لأحد أن يفرض دينه أو أيمانه على الآخرين, مهما ظنه صحيحا. وليس لأحد أن يمنع الآخرين من ممارسة أيمانهم مهما ظنه خاطئا. تلك هي حرية العقيدة التي نادت بها الثورة الإنسانية الأوربية التي قامت على أنقاض سلطة  الكهنوت الديني التي قامت على أساس صكوك الغفران, والتي مارست إرهابا دينيا واستبدادا وتعسفا وجمود فكري ومعاداة للتقدم, جسدتها محاكم التكفير, والتي كلفت أوربا ملايين الضحايا, حيث ارتكبت أبشع جرائم القتل والتعذيب الجسدي والنفسي.ومن يزور متاحف أوربا الخاصة بالقرون الوسطى يجد ما يجده من أدوات التعذيب الجسدي التي استخدمت آنذاك (منشار يقطع الجسد إلى نصفين,عجلة حديدية بأسنان طويلة مدببة تثرم الجسد,كرسي بمسامير طويلة في المقعد والتكية وسياط بسكاكين صغيرة....الخ),عدا عن ما ينقله لنا التاريخ المكتوب من بشاعة التنكيل من شوي للجسد وتعليق على الأبنية ,وقلع للعيون,ومحارق جماعية للرجال والنساء والأطفال.هذا هو الإرهاب الديني الذي استخدم ضد أبناء العقيدة الواحدة وضد العقائد الأخرى.أن ثمن الحرية في أوربا كان غاليا في توضيح حدود العلاقة بين الدين والسياسة وفي احترام الحريات الشخصية والمعتقدات الدينية على السواء.

اليوم يحيي التطرف الإسلامي بمذاهبه المختلفة, وخاصة السنية المتطرفة تقاليد الكهنوت الديني في السبي والقتل والتهجير والتعذيب وإراقة الدماء, أنها نسخة طبق الأصل من أوربا القرون الوسطى في الأخلاق الدينية والتعسف والتفسخ الأخلاقي, ولكن الفرق اليوم بين الحدثين هو فرق قرون من الحضارة والتمدن. أؤكد هنا إن منطق الثأر والثأر المتبادل بين أبناء الدين الواحد, السني منه المتطرف والشيعي المتطرف المغالي " وخاصة في نموذج العراق بعد 2003 هو ابرز ما يعرقل مستقبل بلد بكامله, ويهدد أجيال قادمة في الاستقرار والعيش الكريم, إلى جانب الصراعات الاثنية والقومية الشوفينية التي تعيش على فتات صراع النظام الطائفي والمحاصاصاتي, وهي الأخرى تهدد بقائه !!!.

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على ما تبقى النواة المتواضعة للنظام الديمقراطي في العراق,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع !!!,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه!!!!.

أن الخندقة الدينية للنظام السياسي وما تسوق ورائها بالضرورة من خندقة مذهبية يعني بالتأكيد أن يلحق الغبن والتميز الديني والمذهبي لقسم هام وغير قليل من المواطنين,وهذا ناتج من أن النظام السياسي المتخندق مذهبيا يتخذ من دينه ومذهبه إطارا مرجعيا ومحكا لتقيم دين ومذهب الآخر.وهو خلاف المفهوم العصري للدولة التي لا تعرف المواطن إلا من خلال الأوراق الثبوتية التي تشير إلى اسمه الثلاثي أو الاسم واللقب, أي رمزيته وخصوصيته في سجل الأحوال المدنية.أما خلاف ذلك فنأتي بأفعال تدفعنا إلى البحث(النبش)والتنقيب عن دين الآخر ومذهبه, ونذهب بعيدا في فحص أوراقه الثبوتيه للتأكد من( سلامته)الدينية والمذهبية من خلال أسمه وأسم عائلته.وفي ذلك تجاوزا على حريته الشخصية وحرية معتقده ,والتي يفتخر بهما أي نظام ديمقراطي. ونحن نعرف أن الدين والمعتقد الديني هو حرية شخصية قد تعجبني وقد لا تعجبك, والجميع ورثها من آباءه وأجداده, فأنا شيعي, وأنت سني,وهذا مسيحي, أو صابئي أو يزيدي. ولا اعتقد أن احد منا بذل جهدا استثنائيا لكي يدرس حقيقة انتماءه الديني أو المذهبي لكي يفضي إلى تغيره, إذا ما توفرت القناعة لديه, بل نبحث عن أدلة لتكريسه, لأنه مكون جمعي.وبالتالي نرثه كما نرث خصائصنا الوراثية: لون العينين,شكل الأنف, لون الشعر, طول القامة وهكذا.....الخ.

أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة ",حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن,وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.

وعلى خلفية ذلك كله نجد اليوم " داعش " بنسختها العراقية المتحالفة مع البعث الساقط وفلول الخونة من مختلف التجمعات العشائرية والقبلية, والتي توغل في البلاد قتلا وتشريدا, في ظروف لا يزال التذبذب والتأرجح بين سلطة إقليم كردستان والسلطة الاتحادية على أشده رغم بعض من بارق الأمل, إلا إن لكل طرف مصلحته في القضاء على داعش وفرض استحقاقاته. وداعش والإرهاب هو الطرف الوحيد والمستفيد من هذا كله, حيث جذور بقائه تمتد في التراب العراقي على خلفية بقاء الاحتقانات الطائفية والعرقية دون حلول. وما بعد القضاء على داعش فهناك أكثر من طرف مذهبي وطائفي وقومي مهيئا للاحتراب والاقتتال على خلفية نظام محاصاصتي لا يرحم !!!.




203
العضة الداعشية في الميزان السيكولوجي !!!

د.عامر صالح

يثير تنظيم الدولة الإسلامية " داعش" مزيدا من الرعب والخوف لدى نساء المناطق التي تقع تحت سيطرته في سوريا والعراق من خلال تطبيق عقوبات جديدة مبتكرة وشرعية كما يدعي التنظيم, فقد أثار ظهور ما يسمى ب " العضاضة الروسية " في شوارع الموصل مزيدا من الذعر لدى النساء, حيث تقوم شرطة الحسبة التابعة لداعش بتطبيق عقوبة العض  بحق أي امرأة لم ترتدي النقاب الإسلامي حسب المواصفات الداعشية. والعضاضة الروسية هي إحدى نساء تنظيم داعش والقادمة من روسيا. والى جانب العضاضة الروسية فقد أكدت بعض نساء الموصل أن هناك أيضا عراقيات من تنظيم داعش يرافقن شرطة الحسبة ويمارسن تطبيق عقوبة العض بحق النساء الغير مرتديات بدقة للنقاب الداعشي ومواصفاته. وقد وصلت إلى مستشفيات الموصل التي تسيطر عليها داعش الكثير من حالات العض الخطيرة جدا والتي من الممكن أن تؤدي إلى طول أمد العلاج أو إلى تشوهات خلقية !!!.

وعلى ما يبدو فأن عقوبة العضة الشرعية ظهرت في سوريا قبل العراق, وتحديدا في محافظة الرقة. ففي نوفمبر من العام الماضي تعرضت إحدى النساء إلى عقوبة العض, بعد إن أوقفتها شرطة الحسبة الداعشية واتهمتها بأن نقابها شفاف يكشف بعض من رقبتها, وخيرتها الشرطة بين الجلد والعض, ولكن السيدة الضحية ظنت إن العض ارحم من الجلد فاختارت العض بديلا, وقد طبقت عليها عقوبة العض من قبل عضاضة وجلادة مغربية الجنسية وليست روسية, وكانت عضتها قاتلة حيث قطعت شرايين السيدة الضحية مؤدية بحياتها بعد فقدانها كميات هائلة من الدم !!!.

من المعروف إن العض لدى الكبار تختلف أسبابه مقارنة بالعض عند الصغار, فالعض عند الكبار يمثل من الناحية الفردية سلوكا بدائيا وحيوانيا بشكل خاص, حيث إن العض ينتشر لدى اغلب الحيوانات وهو وسيلة دفاعية للانتقام من الحيوان الآخر لإغراض البقاء, ولكن عند الإنسان الناضج عقليا والمتمتع بقدر من الصحة النفسية والتكيف الاجتماعي فهو سلوك مرفوض ومستهجن ووسيلة متخلفة للبقاء والمنافسة, وكذلك هو وسيلة بدائية في التنافس بين الأفراد, وخاصة في لحظات يعبأ بها الأفراد بطاقة انفعالية وعصبية هائلة تستحق التفريغ المناسب في موضوع إثارتها, على سبيل المثال حالة المنافسة الشديدة في لعبة كرة القدم ومحاولات اللاعبين في تسجيل الأهداف لتفريغ تلك الطاقة العصبية الهائلة والفوز بالنتيجة, ولكن في لحظات معينة تنحرف تلك الطاقة عن سياقها الصحيح لتتحول إلى سلوك عدواني, من معارك وشجار جانبي وسلوك اضطرابي للانتقام من المنافس الآخر, بما فيه سلوك العض المؤذي !!!.

في هذا السياق أشير إلى نموذج من سلوك العض المعروف عالميا, والذي يؤكد ما ذهبنا إليه, والذي ارتكبه اللاعب الأرغواني العالمي " لويس سواريز " حيث قام بعض منافسيه من اللاعبين أثناء المباريات العالمية وكررها للأعوام 2010 والعام 2013 وكذلك في مونديال البرازيل للعام 2014 وقد لقي سلوكه إدانة عالمية من قبل الاتحاد العالمي لكرة القدم ومعاقبته, كما دفع بالعديد من الأخصائيين النفسيين والأطباء للتعرف على حالته وتحليلها ودفعه للعلاج, حيث كان يمارس العض بحق منافسيه بطريقة شرسة جدا وتترك أثرا بالغا في جسد خصمه. 

أما العض لدى الأطفال فهو سياقا إنمائيا طبيعيا بين السنة الأولى والثالثة ويختفي في معظمه بعد ذلك, أما أسبابه فهي مختلفة  وهي خالية تماما من النوايا الخبيثة " فهي لا تحمل عدوان "لويس سواريز" ولا إجرام " داعش "ومعظمها تكون للأسباب الآتية:

ـ الشعور بالألم: يعد التسنين أحد أسباب العض عند الأطفال فيلجئون إلى ذلك بهدف التخفيف من ألم تورم اللثة. 

ـ استكشاف العالم المحيط بهم: يستخدم الرضع والأطفال المبكرين الفم كوسيلة للاستكشاف والتعرف على الأشياء المحيطة بهم تماما كما يستخدمون أيديهم.

ـ إثارة رد الفعل: قد يكون الفضول احد أسباب الأطفال بقيامهم عض الآخرين وذلك لترقب ردود الفعل والمفاجئات عندهم غير مدركين أن هذا التصرف مؤلم للأشخاص الذين يكونون هدفا للعض.

ـ جذب الاهتمام: يعد العض احد التصرفات السيئة التي يلجأ إليها الأطفال الأكبر سنا لجذب الاهتمام إلى وجودهم في حال شعورهم بأنهم مهملون من المحيطين بهم حتى وان كان رد الفعل على هذا التصرف سلبيا.

ـ الشعور بالإحباط: العض كالضرب هو وسيلة بعض الأطفال للتعبير عن نفسهم عندما لا يسمح لهم سنهم الصغير بالتعبير عن إحباطهم بالكلام. باختصار هو وسيلة الأطفال ليقولوا لمحيطهم القريب " أنا لست سعيدا ".

ومن وجهة نظر فرويدية فأن العض هو احد مراحل النمو النفسي والجنسي, حيث أوضح العالم المذكور انه هناك ثلاث مراحل للنمو النفسي يجتازها الطفل, وهي: المرحلة الفمية بشقيها المصية والعضية, والمرحلة الشرجية وكذلك المرحلة القضيبية. والطفل يولد مزودا بطاقة غريزية قوامها الجنس والعدوان, وهي ما أطلق عليها فرويد أسم " اللبيدو", وهذه الطاقة تدخل في صدام محتم مع المجتمع, وعلى أساس شكل الصدام ونتيجته تتحدد صورة الشخصية في المستقبل. ويفترض أن يمر الأطفال بشكل معقول انتقالي من مرحلة نفسية إلى أخرى خلال السنوات الأولى من العمر, وإذا لم يحصل هذا الانتقال فأن الطفل ينمو جسديا وفكريا ولكنه مثبتا في تلك المرحلة التي لم يستطيع الانتقال منها من الناحية السلوكية. والعض عند الكبار يمكن تفسيره هنا بتوقف الفرد إنمائيا في المرحلة الفمية العضية محملا بشحنة الجنس والعدوان, ويفسر هذا نسبيا سلوك لاعب كرة القدم الاروغواني " لويس سواريز " وكذلك من يقوم بممارسة العض من النساء والرجال في "داعش " !!!. 

وبما إن "داعش " هو تنظيم عسكري وسياسي وديني إرهابي فأن سلوك العض هنا هو امتداد لامعان التنظيم في ممارسة شتى صنوف العنف والاعتداء والتجاوز على الحرمات الى جانب الاغتصاب الجنسي للنساء, ويكون الهدف منه هو الإهانة والإذلال وإضعاف الروح المعنوية للطرف الذي يقع عليه فعل العدوان. لذلك تقوم الكثير من الجيوش المحتلة وبأوامر من حكوماتها وكذلك الفصائل المسلحة المختلفة باغتصاب النساء والأطفال في البلاد التي يقومون باحتلالها, وممارسة هذه الأفعال باعتبارها طريقة قوية ومباشرة لإهانة الشعب وإذلال رجاله, بل ويتعمد الكثير من الجنود اغتصاب النساء أمام رجالهم إمعانا وتنكيلا بهم. وإذا كان إضفاء الصفة الشرعية للاغتصاب عبر إيجاد "فتاوى جهاد النكاح " يرضي مرتكب الجريمة بقناعات وهمية مزيفة فأن الضحية يبقى ضحية مهما اختلفت شرعنة الفعل الذي وقع عليه. وهنا فأن العضة والضرب والاغتصاب والتعذيب لا تختلف عن كونها تمثل ضربا من ضروب الكبت المثخن بالجنس والعدوان لمجرمي داعش اتجاه ضحاياهم !!!.

وفي الختام هنا يجب التذكير بأن عضة الإنسان هي الأخطر إلى جانب عضات القطط والكلاب, وتستدعي المصاب الذهاب إلى غرفة الطوارئ, وعلاجها أصعب من عضات الحيوانات, حيث أن فم الإنسان يمكنه حمل ما يقارب ال 100 مليون في الملي لتر من الكائنات الحية والتي تمثل ما يقرب من 200 نوعا مختلفا من البكتريا. ونظرا لهذا المستوى العالي من البكتريا فأن عضة الإنسان إذا ما اخترقت الجلد فأنها تحمل مخاطر عالية للإصابة بالعدوى بأمراض مثل التهاب الكبد الفيروسي " بي, سي " ويمكن أن تنقل أيضا فيروس نقص المناعة البشرية, والهربس وداء الكلب وغيرها. فحذار من العضة الداعشية !!!.
 






 
 








204
نحو إعادة التذكير بنكسة الثامن من شباط/1963 وأبعادها التربوية والنفسية المضادة !!!!!


د.عامر صالح

أن الذكرى الفاجعة الثانية والخمسين لانقلاب 8 شباط الأسود تستحضر في ذاكرتنا كل أوجاع ومعاناة الوطن الجريح,من قتل وتعذيب وسبي وتهجير في الداخل والى الخارج,والذي جرى على الهوية الوطنية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية,مستهدفا كل نماذج النبل ورموز الخلق الرفيع لأبناء شعبنا وحركته الوطنية من سياسيين وتكنوقراط وكفاءات علمية وقيادات اجتماعية, أنها جريمة من الجرائم ضد الإنسانية,وليست جريمة ذات أبعاد قضائية فقط وفي حدود داخل البلد ومفاهيمه للجريمة, أن الجريمة الإنسانية "هي تلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ضد أفراد الذين من دولتهم أو من غير دولتهم,بشكل منهجي وضمن خطة نلاحظها,والتميز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد بالطرف الآخر,وذلك بمشاركة مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أنواع أخرى من الاختلاف".فقد أودت هذه الجريمة بعشرات الآلاف من مواطنينا الأبرياء وبآلاف العائلات في غياهب السجون متعرضين فيه لشتى صنوف القتل والإرهاب والتعذيب والدفن وهم أحياء,والذين لم تسلم رفاتهم إلى اليوم إلى ذويهم  وبدون قبور تزار.

لقد استهدفت هذه الجريمة كل قطاعات مجتمعنا بدون استثناء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال إيقاف عملية تقدمه الاقتصادي والاجتماعي وأرجعاه إلى الوراء, ولأن الشيوعيين العراقيين يستذكروها قبل غيرهم,لأنها ارتبطت برموزهم الوطنية وقيادتهم المخلصة للوطن أولا,إلا إن ما وقع من أثارها على شعبنا لاحقا وبفترات تاريخية جراء تسلط النظم الدكتاتورية المتعاقبة وما سببته من تشوهات في التركيبة الاجتماعية,وما ارتكبت من مجازر وحشية طالت كل الطوائف والأديان والقوميات والأعراق ضربت عمليات الاستقرار الاجتماعي في الصميم,وعلى الجميع تذكرها وأخذ الدروس والعبر منها,لأن ذلك يجنب "العراق الجديد " مخاطر الانزلاق في حصر مفهوم الجريمة وضحاياها في فئة دون غيرها...فالجريمة كسلوك يجب إدانته على نطاق واسع بغض النظر عن الجهة التي وقع عليها فعل الأجرام,وعدم السماح بحصره بأطر ضيقة ومحدودة واستخدامه لأغراض نفعية خاصة,فالضحية هو شعبنا بكل مكوناته...وما ارتكبته لاحقا الديكتاتورية والفاشية من جرائم ضد شعبنا هو شاهد على ذلك !!!!.

وبقدر ما كان " لنكسة " الثامن من شباط  من آثار سلبية وانعكاسات خطيرة, إلا إنها شكلت مصدرا أساسيا من مصادر إعادة تشكيل كيان الفرد العراقي أو الجماعات المختلفة المنضوية تحت النسيج الاجتماعي الواحد المتنوع,وفي كافة الأبعاد العقلية ,والنفسية,والوجدانية والسلوكية للأفراد والجماعات والأحزاب والثقافات الفرعية وعلى خلفية إزالة آثار الصدمة,فقد خلقت أولا لدى الحركة الوطنية دافعا قويا من رباطة الجأش المخضب بالأيمان " لإعادة البناء " تمثل في دافعية التعويض الهائلة في إعادة بناء الكيانات السياسية المعارضة للجبهة الفاشية,ولعل السرعة التي أعيد بها تنظيمات الحزب الشيوعي بعد الهجمة الشرسة عليه كانت من " معجزاته " والتي لا زالت راسخة في ذاكرة الأعداء قبل الأصدقاء,فقد نهض الحزب من جديد بعد إن تصور أعدائه أنها هذه نهايته لا محال!!!.

أن جيلا من الأطفال والشباب ولد وترعرع في خضم أحداث صدمة شباط وما بعده, وقف متسائلا ومتأملا عن أسباب فقدان واستشهاد الأخوة والآباء والأمهات والأقارب...وقد كبر تفكيرهم على أعمارهم أضعافا باحثين عن الذنب الذي اقترفه أهلهم وذويهم لكي تحل بهم هكذا فاجعة...لأنهم لا يتوقعون جنسا ينتمي إلى الإنسانية أن يمارس هذه الممارسات في القتل والتشريد ودفن الأحياء,لقد خلقت حالة من الوعي المضاد لأسباب الكارثة في البحث عن بديل أنساني للخلاص من المحنة وهكذا انطلقت المنظمات الطلابية والشبابية والنسائية والعمالية من جديد,وبزمن قياسي, إلى منابر للأعداد والتثقيف والتنظيم ...لقد خاب ظن النظام الفاشي !!!, فقد اتضحت مشاعر روح القوة والعزيمة والإصرار على الكفاح على وجوه الناس ومشاعرهم, لقد خلقت نتائج هذه الأحداث فرصا مواتية لبناء المهارات الفردية والتنظيمية لمواجهة جسامة الحدث وإيجاد أفضل وسائل التكيف مع آثار " النكسة ".

لقد برز أعلام الحزب الشيوعي العراقي بقدراته الهائلة الداخلية والخارجية لفضح النظام الفاشي عبر حملات التضامن مع شعبنا, وفرضت على النظام عزلة دولية خانقة, وقد رسخت مزيدا من ثقافة رفض القهر والظلم والذل,  لقد اسقط الشيوعيون العراقيون المفهوم النفسي للدولة التي لا تقهر, وبهذا أزيحت مفاهيم الاستسلام كمنتوج للصدمة عبر إشاعة مفاهيم العزة والانتصار والإيمان بقضية الشعب العراقي العادلة في الديمقراطية والتقدم والحرية.
 

205
لماذا دول الشرق الأوسط هي الأكثر نسبة في رفد تنظيم داعش بالإرهابيين قياسا بالدول الأوربية ؟؟؟


د.عامر صالح  

 كشف المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي ( أي.سي.أس.أر ) يوم الثلاثاء المصادف 27ـ01ـ2015 بأن عدد المقاتلين الأجانب الذين انظموا إلى صفوف تنظيم " داعش " يقدر بحدود " 20.730 مقاتلا " مشيرا إلى أن 20% منهم تقريبا من " الدول الأوربية ", فيما أكد إن دول الشرق الأوسط تشكل النسبة الأكبر في رفد التنظيم بالمقاتلين, بين أن المعارك الدائرة في العراق وسورية تجعل تلك المناطق أكثر استقطابا للمسلحين الأجانب !!!.

وقال المركز الذي يتخذ من لندن مقرا, في تقرير له , تابعته ( المدى برس ), " بأن العد التقريبي للمقاتلين الأجانب في تنظيم داعش والقادمين من كل أنحاء العالم يقدر بحدود 20.730 مقاتلا, وهو الأمر الذي يجعل من الحرب الدائرة في سورية والعراق من المناطق استقطابا للمقاتلين الأجانب في بلدان ذات غالبية مسلمة منذ العام 1945 "

وأضاف المركز إن " الإحصائيات اعتمدت على معلومات موثقة شملت 50 بلدا حول العالم والتي جمعت ضمن فترة النصف الثاني من عام 2014 " موضحا إن " المعلومات تضمنت الأعداد الكلية من المسافرين الذين توجهوا إلى مناطق القتال في سوريا والعراق "

وأشار المركز إلى  "تزايد عدد المقاتلين الأجانب القادمين من دول غربية أوربية, حيث وصل عددهم إلى 4 آلاف مقاتل تقريبا وهو ضعف الرقم الذي تم تحديده عام 2013", مبينا إن تلك الإحصائيات تجاوزت تخمينات الاتحاد الأوربي".

وأكد المركز, أنه " أعتمد في إحصائيته على النسبة السكانية للبلدان, لذا فأن أكثر الدول الأوربية تصديرا للمقاتلين الأجانب هي فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وكذلك بلجيكا والدنمارك والسويد", مشيرا إلى إن " دول الشرق الأوسط تشكل النسبة الأكبر في رفد التنظيم بالمقاتلين الأجانب حيث يصل عددهم إلى 11 ألف مقاتل تقريبا, مع وجود 3 آلاف مقاتل قادمين من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق".

وتابع مركز الأبحاث الدولي, "إن نسبة تتراوح من 5 إلى 10% من المقاتلين الأجانب قد قتل في المعارك, فيما تتراوح نسبة أخرى من 10 إلى 30% من المقاتلين يتوقع أنهم تركوا ارض المعركة عائدين إلى بلادهم أو تم احتجازهم في بلدان أخرى أثناء الترانزيت", مؤكدا " وبهذا يكون العدد الفعلي من المقاتلين الأجانب المتواجدين حاليا على الأرض في سوريا والعراق أقل من العدد المذكور".

ويبين مركز الأبحاث, انه " استمر بجمع المعلومات عن عدد المقاتلين الأجانب في تنظيم داعش في سوريا والعراق منذ العام 2012, فضلا عن نشر إحصائيات في نيسان وكانون الأول من عام 2013, إضافة إلى إحصائيات أخرى تم نشرها في أيلول 2014 ". 

رغم إن الإحصائيات المذكورة أعلاه هي صماء لا تنطق كثيرا عن طبيعة الظاهرة, والإحصاء عادة كما هي تقاليد البحث العلمي عندما يكون عاريا عن التفسير لن يدعك أمام تصور واضح أو يفتقد إلى الإجابة على التساؤل: لماذا الإرهابيين في داعش معظمهم من بلدان الشرق الأوسط ؟؟؟.

الإرهاب بدون شك له بيئة حاضنة ومواتية لديمومته وبقائه, ولا يعني أبدا القضاء عليه مباشرة بالحشود العالمية العسكرية يعني اختفائه عن الظهور ثانية, لان سنة البحث العلمي تستدعي معالجة الظاهرة من خلال أسبابها وليست من خلال قطع دابر الأعراض وبقاء الأسباب, ومن هنا تأتي أهمية التزامن في القضاء على الأذرع العسكرية للإرهاب مع مجمل تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية في البيئة التي ينتعش فيها الإرهاب بمختلف مسمياته " داعش وأخواتها " !!!.

أسوق هنا بعض من العوامل العامة التي تعتبر بيئة حاضنة للتحجر العقلي وما يفرزه من مظاهر, وفي مقدمتها الارهاب, وأبرز هذه العوامل هي:

1 ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

2 ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده هو صالح لكل زمان ومكان, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

3 ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا الى قمة النظم السياسية القمعية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي الى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

هذه العوامل مجتمعة وعبر إعادة إنتاجها وتكريسها لعقود قادرة على خلق عقل متحجر وبوابة واسعة للعنف والقتل والإرهاب. وهنا ألخص محددات العقل المتحجر والمهيأ لشتى صنوف الإرهاب والعنف الفردي والجماعي بعدد من المعايير, كما عرضها هاشم صالح في مقدمته لكتاب لمحمد أركون والموسوم: الفكر الإسلامي .. قراءة علمية, وعلق عليها لاحق الكاتب محمد المطيري, وهي مأخوذة من المفكر " ميلتون روكيش " وقمت بمطاوعتها لطبيعة مقالي هذا, وهي كالأتي: 

1 ـ يمكن تحديد دوغمائية عقل ما من خلال حدة أو شدة فصله بين المعتقدات التي يقتنع بها والمعتقدات التي يرفضها, حيث لا يستطيع أن يتصور أن في العالم سوى فريقين, فريقه هو وفريق خصمه, وأن هذا الحد أو الفصل يلغي منطقة الوسط. ومن أجل أن يحافظ العقل الدوغماتي على هذا الفصل الحاد فأنه يؤكد باستمرار على الخلافات بينه وبين المخالفين له, وأن اغلب خطاباته توجه لتحقيق هذا الهدف مما يضمن له تجيش أتباعه وشحنهم بشحنة انفعالية سالبة تسهل سوقهم كالقطيع بأي اتجاه يريد. أيضا يهاجم هذا العقل أية محاولة للتقريب والحوار بين الطرفين. أيضا يلجأ العقل المتحجر إلى تجاهل وإنكار الوقائع والأحداث التي تكشف زيف ادعاءاته. أيضا لدى العقل المتحجر قدرة على تقبل التناقضات داخل منظومته الفكرية. هذه العقلية بصورة عامة تشكل أرضا خصبة للسلوك الإرهابي, ولا تؤمن بالحوار بين الأديان والعقائد الأخرى,كما يتصور عالمه " على سبيل المثال العالم الإسلامي " بالعالم المتحضر والمتقدم والعالم الآخر " الغربي " يقبع في الجهل والظلام متجاهلا كل الحقائق الموضوعية التي تنفي إدعاءه, وهذا العقل أيضا يكفر الآخر ويلغيه بكل الوسائل المتاحة وبشراسة.

2 ـ من معايير الحكم على عقل ما بأنه دوغماتي متحجر أنه لا يميز بين العقائد والأفكار التي يرفضها. فهو يضعها في سلة واحدة هي سلة الخطأ والضلال, دون أن يكلف نفسه بالبحث في نقاط الالتقاء والتقارب مع الأفكار المخالفة. ونلاحظ ذلك بشكل واضح لدى الأوساط الإسلامية المتشددة عندما يجمعون غير المسلمين كلهم في دائرة الكفار, وكذلك ما يمارسه الكثير من الدوغمائين الايديولوجين وحملة العقائد السياسية من إلغاء للآخرين وعدم الاعتراف بهم بعيدا عن التفاصيل التي تميز بينهم.

3 ـ كما أن من معايير انغلاق عقل ما وتحجره هو الوثوقية المغرقة وتكاثر المسلمات في منظومته الفكرية. فأن كانت كل منظومة فكرية تقوم على عدد بسيط من المسلمات تؤسس للفكر ثم تترك الحرية للناس أن يجتهدوا, فأننا نجد أن مسلمات العقل الدوغمائي تتوالد باستمرار لتقفل كل منافذ للاجتهاد والتفكير. ولذا نجد عندنا أن مقولات لأشخاص عاشوا في القرن الثامن الهجري تتحول إلى مسلمات لا يجوز النقاش حولها أو نقدها. وكذلك نجد أن التفاسير والشروح والفتاوى تتحول من كونها اجتهادات بشر تقبل الصواب والخطأ إلى كونها مسلمات وثوابت لا يجوز المساس بها, ومن أقترب منها تعرض لأصناف الهجوم من تكفير وتفسيق وتضليل وغيرها من أدوات الإقصاء. كما نلاحظ اليوم في عالم السياسة والإيديولوجيات المنتشرة شيوع ظاهرة الحفظ والتلقين للمقولات والشعارات واختزال عالم السياسة المتنوع من خلالها وتحويلها إلى نصوص جاهزة تبنى عليها برامج " تنموية " دون العودة إليها ونقدها في عالم متغير, وقد تلحق أفدح الأضرار بنتائجها النهائية, وتشكل مقولات " قائد الضرورة " و " ملهم الشعب " و " حجة الإسلام " و " خليفة المسلمين " و " راعي الشعب " وغيرها من المسميات, استراتيجيات عمل لعقود قادمة جالبة المزيد من الكوارث !!!!!.

4 ـ تزداد وثوقية عقل ما وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصامات هائلة في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. العقل ألوثوقي المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته.

تلك هي ابرز الملامح السيكولوجية والفكرية والعقلية والتي تشكل استعدادا لا ياستهان به في خلق وإدامة الإرهاب وإعادة إنتاجه دوريا, وهي تشكل ابرز ملامح العقل الشرق أوسطي, ولعلها تفسر غلبة نسبة المساهمين في التنظيمات الارهابية, من داعش والقاعدة وغيرها !!!.

أما لماذا يساهم الأوربي بنسبة ما في رفد تنظيم داعش من المقاتلين ؟؟ أو بصياغة أخرى لماذا تلك المساهمة من حملة الجنسية الأوربية والقادمين من الشرق الأوسط في معظمهم, فالإجابة قد لا تحتمل الاجتهاد, وهي إن معظمهم من المهاجرين القادمين للبلاد الأوربية في نهاية الثمانينات والتسعينيات والمحملين نسبيا ببيئة التطرف الأم, ولكن فشلت الدول الأوربية في احتضانهم واندماجهم وخلق بيئة مواتية لتطورهم, فبقوا على هامش المجتمع الأوربي رغم أوربيتهم بالتجنس, يعانون من البطالة في أوساط شبابهم, مما يسهل اندفاعهم للانكفاء في مجتمعات مغلقة مع أبناء جلدتهم مما يسهم في إعادة إنتاج قيم التطرف من خلال مختلف التنظيمات الدينية والمذهبية السياسية ويضعف رؤاهم لعالم أوسع !!!.

أما من الأوربيين الأصليين في التجنس وهي حالات استثنائية قياسا بما يرفده الآخرون من مقاتلين لتنظيم داعش وغيره, فهم في معظمهم من أقاموا علاقة تواصل فكري وعقائدي وتأثروا بفكرة المغامرة والقتال ممزوجة بقناعة دينية متطرفة. أما دول مقاتلي دول الاتحاد السوفيتي سابقا فلهم خصوصيتهم في انتشار الإسلام المتطرف هناك وما ينتجه من مقاتلين لداعش وغيرها والقائم أصلا على إبقاء القضية الفلسطينية دون حلول تذكر, والتي تتحمل الحكومات الأوربية بعض من مواقفها الهشة وغير الواضحة بهذا الصدد والمتأثرة بالموقف الأمريكي. وهنا نستطيع القول إن الإرهاب الدولي ودوافعه متشعبة, منها ما هو خاص بالبيئة المزمنة المنتجة له, وعوامل أخرى خاصة بمجمل المواقف من قضايا الصراعات الإقليمية, وفي مقدمتها قضية فلسطين وهشاشة الموقف الأوربي والأمريكي منها !!!!.






206
إعادة إنتاج العبودية الثقافية والسلوكية !!!


د.عامر صالح

من المعروف تاريخيا إن العبودية والمجتمع العبودي هو أول مجتمع طبقي متناحر في التاريخ نشأ على أنقاض المجتمع المشاعي البدائي. وقد وجدت العبودية بدرجة أو أخرى في جميع المجتمعات البشرية. وقد بلغ هذا النظام اعلي أشكال تطوره في اليونان القديمة وروما القديمة, حيث كان العبيد قد أصبحوا القوى الإنتاجية الرئيسية للمجتمع. وكان ملاك العبيد في النظام العبودي يشكلون الطبقة الحاكمة. والعبيد في هذه المرحلة التاريخية هم جزء من ممتلكات سيدهم ولهم حق التصرف بهم والتدخل في ثنايا حياتهم جملة وتفصيلا بما فيه بيعهم وشرائهم وزجهم كوقود في معاركهم المختلفة من اجل التوسع والاستحواذ على أراضي الغير وأملاكهم, كما لا يمتلكون أي حقا مدنيا لتقرير شؤونهم إلا بموافقة المالك لهم, فهم جزء من ممتلكات السيد المالك !!!. 

والعبودية أو الرق هو نوع من الأشغال الشاقة القسرية طوال الحياة للعبيد حيث يعملون بالسخرية القهرية في الأعمال الشاقة والحروب وكانت ملكيتهم تعود للأشخاص الذين يستعبدونهم وكانوا يباعون في أسواق النخاسة أو يشترون في تجارة الرقيق بعد اختطافهم من مواطنهم أو يهدي بهم مالكيهم. وممارسة العبودية موغلة في التاريخ العربي والأوربي والأمريكي, كما هناك اجتهاد في الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية في التعامل مع ظاهرة العبودية في محاولة للتخلص منها تدريجيا تحت وطأة ظروف الحياة المتغيرة التي لا تقبل بالعبودية كخيار للعيش !!!.

العبودية انتهت في أمريكا وأوربا كتشكيلة اجتماعية واقتصادية وفكرية وسلوكية وتركت ورائها فتات من متفرقات الظواهر وبقت في العالم العربي والإسلامي كجزء من منظومة قيم التخلف والرذيلة والخضوع والتي تعيد إنتاج نفسها بمختلف المظاهر في مجتمعات متناقضة ومتصارعة بين قيم التخلف وقيم التمدن والحضارة. ويكفي هنا الإشارة إلى تقرير منظمة "وولك فري " والصادر في نهاية العام 2014 بالتعاون مع مركز العدالة لحقوق الإنسان للحد من العبودية الحديثة, والذي أكد أن ما يقارب 30 مليون فرد يعيشون في عبودية, نصفهم في الهند, فيما تنتشر أعلى نسبة في موريتانيا حيث تقدر ب 2.4% من السكان, ثم في بلدان عربية أخرى كتونس والمغرب وغيرها. وبحسب هذه الدراسة فأن الفساد هو السبب وراء انتشار الظاهرة وليس الفقر وتشمل الظاهرة الاتجار بالبشر والعمل الإجباري واستغلال الأطفال والزواج ألقسري والمبكر !!!.

كما تمارس العبودية على نطاق واسع في دول الخليج العربي كسلوكيات اجتماعية شائعة اتجاه الوافدين من القوى العاملة من مختلف دول العالم وبشكل خاص الافرواسيوي حيث يتم احتجاز جوازاتهم حين دخولهم مباشرة إلى بلد  "الضيافة " ثم ارتهانهم في الإقامة وتسير أمورهم حسب مزاج صاحب الدار ووضعهم تحت الإقامة الجبرية, فلا خروج من البلد إلا بأذن من " المضيف ". وإذا كانت القادمة للعمل سيدة مضطرة بحكم ظروفها فأنها ستتعرض إلى مختلف صنوف القمع والإرهاب والعبودية الشخصية والمضايقات الشخصية واغلبها ذات الطابع الجنسي بفعل عوامل الكبت والحرمان والتخلف لدى  "المضيف " !!!.

أما إذا كان القادم من الدول الأخرى المصدرة للقوى العاملة ذكرا فأنه سينوء تحت وطأة مزيدا من التهديد والإرهاب والجلد وقطع الرقاب وخاصة إذا تجرئ على إقامة نوع من التواصل مع ربة دار المضيف. على العموم فأن العبودية كمرحلة تاريخية اقتصادية اجتماعية في طريقها إلى الزوال ولكنها باقية كنمط سلوكي قهري يشد المتخلف دوما إلى الإبقاء عليه !!!.

207
نحو حشد شعبي عراقي عابر للطوائف لدحر داعش !!!

د.عامر صالح 

لقد جاء تعبئة الحشد الشعبي الشيعي في الانضمام إلى معسكر دحر داعش استجابة لنداء المرجعية الدينية الشيعية, وبالتأكيد أخذت هذه التعبئة طابعا جغرو ـ طائفيا نظرا لتواجد أبناء الطائفة الشيعية في مناطق الوسط والجنوب العراقي, ولكن هذا لا يعني أبدا إعفاء للمكونات الطائفية الأخرى أو حصر المهمة بيد مناصري المذهب الشيعي " لأنهم أكثر حرصا على الوطن ", لان الدفاع عن الوطن من الإرهاب ليست حصرا على طائفة دون أخرى !!!.

فالمكون السني والمتمركز نسبيا في ما يسمى " بالمناطق الغربية " له مواقفه الوطنية التاريخية في مقارعة الاحتلال عبر تاريخ العراق السياسي قبل وبعد نشأة الدولة الوطنية العراقية الحديثة, ولكن ما يعرقل نشاطها السياسي والعسكري اليوم ضد الإرهاب هو استباحة أراضيها المفاجئ من قبل فلول داعش وعرقلة نهوضها ضده, إلى جانب تآمر وتحالف بعض العناصر الموالية للنظام السابق مع الأجنحة المتطرفة الدينية التي تأخذ هنا وهناك لبوسا وغطاء مذهبيا لتثير الحقد بين مكونات الشعب العراقي المذهبية والاثتية ولتحشد وتعبئ الدعم الإقليمي المطابق لها في توجهاته, إلى جانب سيطرة الرؤى المتذبذبة والمشروطة لدى بعض قيادات العشائر في الموقف من الدفاع عن الوطن, في محاولة لقلب النظام السياسي وتغيره صوب وجهات اشد خطورة من ضعف النظام السياسي الحالي, والتي تستهدف إنهاء العملية السياسية بالكامل وإراقة المزيد من الدماء والضحايا لشعب قدم الكثير من الدماء عبر عقود !!!. 

كما لا ننسى جهود المكون السياسي ـ المذهبي السني في أروقة البرلمان ووجوده في مفاصل الدولة العراقية ودوره الكبير في العمل المشترك مع القوى الأخرى في إيجاد رؤى مشتركة لدحر داعش الإرهاب !!!.

أن الموقف الوطني الصريح والواضح يستدعي تضافر كافة الجهود الوطنية المخلصة ومن كافة المكونات المذهبية والدينية والقومية والسياسية للشعب العراقي في موقف واضح يجسد وطنية الانتماء دون تردد, لأن داعش تستهدف شعبا بكامل أطيافه وانتماءاته !!!.

أن هذا الموقف إذا قدر له أن ينهي داعش وهو أمر ممكن جدا فأنه سيلغي حالة الاستئثار بالنصر لطائفة أو فصيل سياسي دون غيره, ومن شأنه أن يفوت فرص إعادة توليد الاحتقان الطائفي على خلفية نصر مرتقب إن توفرت مقوماته, بل ويزيد من اللحمة الوطنية في المعارك المصيرية مع داعش وغيرها من الإرهاب, ويشكل أساسا صالحا لبناء تحالفات جديدة قادمة قوامها الموقف السليم من الوطن وضد الإرهاب ويوفر فرص اكبر في البحث عن الحلول لمعضلات العملية السياسية المتعثرة !!!.

كما يلعب الدور الكردي بالتحامه الحقيقي مع الموقف الوطني العام احد عوامل النصر المرتقب على داعش, ويدفع باتجاه ألتماس الاستقرار العام في البلاد ويوفر ظروفا مواتية لخلق أجواء حوار بناء بين سلطة الإقليم والسلطة الاتحادية وخلق أجواء صادقة لحل كل المشكلات العالقة قوامها الموقف من إبقاء العراق قويا وموحدا, لان مصلحة الجميع تكمن في ذلك !!!.
 
والى مزيدا من التحالفات الوطنية والحشود الشعبية العابرة للطوائف, فلا نصر إلا للوطن حاضنة الجميع !!!.

 



208
" انهيارات " الشاعر سعدي يوسف في السيكولوجية المعاصرة !!!


د.عامر صالح 

أثارت لدي الحملة المسعورة ضد الشاعر والمثقف العراقي سعدي يوسف  مزيدا من الحنق والألم والإحساس باللا موضوعية في أخذ الثأر من شاعر مرموق يشكل جزء من تاريخ العراق الثقافي في مقارعة الظلم والاستبداد وضد تلوث الهوية الوطنية العراقية. وقد أعلن البعض من المرضى بسيكولوجي الظهور والشهرة عزمهم على حرق تراثه الموغل في ثقافة العراق والعراقيين في مناسبة استعراضية لخلط الأوراق بين انتماءاتهم السابقة للبعث المنهار وللثقافة الدكتاتورية وتأكيد ولائهم المرضي للتوليفة الطائفية والسياسية والاثنية التي تدك العراق وتوجعه وللحفاظ على مناصبهم الرثة ذات الامتيازات في واقع الفساد العراقي. وهذه السلوكية المرضية في الثأر من المعارض المغاير تجد لها قرينة حاضرة اليوم في سلوك " داعش " السيكوباتي المتمثلة في حرق التراث وهدم المراقد والأضرحة وتغير معالم الحياة الإنسانية في التآلف والتعايش المتنوع, في محاولة لإبقاء الحياة في لون واحد, وأغلبه اسود مأساوي  !!!.

قبل الخوض في مبررات " سعدي يوسف " النفسية في هذا الهجوم المباغت كشاعر ورمز من رموز الثقافة العراقية, أضع قصيدته التي أشعلت الحرب عليه من أعداء تقليدين للثقافة بين يدي القارئ والموسومة: " مصر العروبة ... عراق العجم " والتي قال فيها:
من مصر تأتيني الحقائقُ ملموسةً. أصدقائي من أهل الثقافةِ الحقّ، يأخذون مكانَهم ومكانتَهم:
محمد بدوي، في " فصول ".
محمد شُعَير، في " عالَم الكتُب ".
سعد القرش، في " الهلال ".
إبراهيم داود، في " الأهرام ".
رفعت سلام، في دائرة الترجمة بالهيأة المصرية العامة للكتاب.
أحمد مجاهد، يدير الهيأة المصرية العامة للكتاب ...
جمال ألغيطاني، يتفضّلُ على " الأخبار " بفيضٍ منه.
أحمد عبد المعطي حجازي يغرِّدُ طليقا !ً
لستُ مؤرِّخاً لأحصي! ))
لكنّ عليّ القول إني ابتهجتُ بجابر عصفور وزيراً للثقافة في جمهورية مصر العربية.
*
كلما دخلتُ مصرَ أحسسْتُ بالعروبة، دافقةً...
ليس في الأفكار.
العروبةُ في المسْلكِ اليوميّ.
أنت في مصرَ، عربيٌّ... هكذا، أنت في مصر عربيٌّ، لأن مصر عربيةٌ. ولأنّ أي سؤالٍ عن هذا غير واردٍ.
الأمرُ مختلفٌ في أراضٍ أخرى.
السؤالُ يَرِدُ في بلدانٍ مثل الجزائر والمملكة المغربية وموريتانيا، والسودان، ولبنان أيضاً، على اختلافٍ في المستوى.
لكن هذا السؤال، في هذه البلدان، ذو مستوىً ثقافيّ أركيولوجيّ. هو سؤالُ هويّةٍ وتاريخٍ.
.في العراق اختلفَ الأمرُ
وربّتما كان مختلفاً منذ دهرِ الدهاريرِ.
هل العراق عربيٌّ ؟
يرِدُ تعبير "شيخ العراقَين" عن فقهاء أجمعَ الناسُ عليهم.
يعنون: عراق العرب
وعراق العجم.
*
الدولة الحديثة، بتأسيسِها الأوربي، الاستعماري، ليست دولة الفقيه.
هي دولة ٌ لإدارة كيانٍ جغرافيّ ( قد يكون متعددَ الإثنيّات، وقد لا يكون).
لكن العراق ليس مستحدَثاً.
اسمُ العراق آتٍ من أوروك!
إذا...ً
ما معنى السؤال الآن عن أحقيّة العراقِ في دولةٍ جامعةٍ ؟
ما معنى أن يتولّى التحكُّمَ في البلدِ، أكرادٌ و فُرْسٌ ؟
ما معنى أن تُنْفى الأغلبية العربية عن الفاعلية في أرضها التاريخية ؟
ما معنى أن تُستقدَم جيوشٌ من أقاصي الكوكبِ لتقتلَ عرباً عراقيّين ؟
ما معنى أن تكون اللغة العربية ممنوعةً في إمارة قردستان عيراق البارزانية بأربيل ؟
*
إذا:ً
نحن في عراق العجم!
*
سأسكن في مصر العربية!
لندن 15 / 11 / 2014
وقد سبق هذه القصيدة قصائد عدة, منها: :  " الفلوجة تنهض " وفيها إدانة للاحتلال الأمريكي, وهجوم لاذع على المرجعية الدينية الشيعية المتمثلة بشخص السيستاني, وتلتها أيضا قصائد أخرى, مثل قصيدة " إصرار " و قصيدة " هل العرب مرحلون عن العراق " وقصيدة " الجرذان لا تغادر السفينة الغارقة ", وجميعها ذات موضوعات تتعلق بمصير شعب خضع للاحتلال الأمريكي, واختلطت فيه السياسة بالدين لدرجة لا يمكن فيه تزكية النظام السياسي إلا بضوء اخضر من المرجعيات الدينية في السر والعلن, وأشاع فيه الفساد بما يزكم الأنوف, وبات فيه التدخل الإيراني في الشأن الداخلي مسلمة لا تحتاج إلى مزيدا من العناء لإثباتها في ظل غياب الدولة الحاضنة للجميع, كما أصبحت فيه المحاصصات الاثنية والقومية والطائفية قانونا وعرفا مقدسا لا يمكن الاقتراب منه وإدانته, وبنفس الوقت وبما يثير الاستغراب إن سعدي يوسف يشن هجوما لاذعا على الشيوعيين العراقيين ويتهمهم بالجاسوسية والتواطؤ مع الأوضاع السائدة, وهو خلاف لما تطلبه الناس من موقف واضح للحزب الشيوعي العراقي من مجمل الإحداث المفصلية الجارية, فالفرق كبير بين أن تتهم جهة سياسية بالتواطؤ وبين أن تطالبها بموقف من الأحداث, كما أوحى لبعض من قرائه أنه يغذي الفتنة الطائفية السياسية والاثنية بانحيازه إلى بعض من أطراف الصراع السياسي والوقوف ضد الآخر, وقد أفرط هنا سعدي يوسف بانفعالاته ولكن لماذا ؟؟؟ سأعود إلى ذلك !!!!.

وتباعا استرعاني تعليق الشاعرة رسمية زاير " كما ورد في حوار بعنوان: أدباء عراقيون يعتزمون حرق كتب سعدي يوسف " والمنشور على صفحات الانترنيت, حيث فيه قدر من الإنصاف والتأني والموضوعية في مسألة التعرض للشاعر سعدي يوسف وقد ورد فيه: 
" لا يمكن محاكمة الناس على أفكارهم هكذا ومهما اختلفنا مع سعدي يوسف في ما يطرحه لكن يبقى سعدي واحد من اكبر شعراء العراق ولا يحق لنا غض النظر عن تراث سعدي يوسف الذي تربت أجيال كثيرة على قصائده حتى أصبحت أناشيد وأغاني يتغنى بها الناس في السجن وفي الحرية على السواء. وأضافت: ومع أن أطروحاته الأخيرة مزعجة لأمال محبيه وجمهوره الكبير لكن لا يصل الأمر إلى مستوى إحراق كتبه, هذا نوع من الإرهاب الفكري يمارس بحق قامة شعرية كبيرة. وتابعت أيضا أن المعروف عن وسطنا الثقافي في العراق كونه انفعاليا يصدر أحكاما جائرة بحف من يختلف معه. ومع أن أراء الشاعر في الفترة الأخيرة غير متزنة ومتهورة أحيانا, لكن رغم هذا يبقى هو أحد أكبر شعراء العراق في العصر الحديث وهو واحد من الشعراء الرواد الكبار الذين لم يبقى لنا منهم سوى حسب الشيخ جعفر وسامي مهدي وفوزي كريم وفاضل العزاوي ومظفر النواب. وحتى الذين يريدون حرق كتب سعدي وإصدار حكم الإعدام بحقه تجدهم من أشد المعجبين والمتابعين له, أنهم يتغنون  بقصائده الأخيرة ويتناقلوها على سبيل المزاح والنقد, ولكن من يمتلك موهبة سعدي يوسف وقدرته على الإبحار في خضم القصيدة, انه الربان والملاح الأخير للأدباء. للأدباء نزعاتهم الذاتية وغرابة أطوارهم  التي تجعلهم محط أنظار متابعيهم وتتناقل إخبارهم, ولو كان سعدي يوسف شاعرا أوربيا أو أمريكيا لأقاموا له التماثيل ولشغلتهم شاعريته عن التفكير في إصدار أحكام جائرة بحقه. أما نحن فمهمتنا التحطيم, فقط تحطيم رموزنا الثقافية والنيل منهم " 

في تلك الواقعية التي وردت على لسان الشاعرة رسمية زاير, والتي يقابلها في الطرف الآخر هجوم لاذع ومحاولات بائسة لتكريس إقصاء  سعدي يوسف وتشديد الخناق عليه وإسكاته في محاولات مرضية لنفي احد رموز الحداثة في الشعر العربي والعالمي, أعكف على توضيح بعض الدلالات السيكولوجية في تفسير محتوى الطاقة الانفعالية والمفرط الاستفزازي الذي يستخدمه سعدي يوسف لما هو سائد في ترجمة واضحة منه, أنه لا يوجد أحد معفى من النقد مهما بلغ شأنه ولا يوجد شيء مقدس وهمي, والقدسية لا مكان لها خارج إطار صيرورتها الموضوعية ومجمل مواقفها من الشأن العام, فما هو مقدس للعوام من الناس بفعل عوامل تخلف الوعي ليست بالضرورة مقدس للنخب الثقافية !!!.

ينقسم الناس عموما من وجهة النظر الفسيولوجية ـ السيكولوجية إلى ثلاثة أقسام من ناحية العلاقة بين مراكزهم المخية الحسية واللغوية ومن ناحية الصلة بين المخ وبين الأقسام الدماغية التي تجاوره وتقع أسفله. وهذا هو الأساس الفطري الفسلجي للعلماء أو المفكرين والفنانين بما فيهم الشعراء المبدعين ولعامة الناس. فإذا تغلبت المراكز المخية اللغوية على الحسية وتغلب المخ على ما تحته نشأ لدينا الأساس الفسلجي للعلماء الذين ينبغي لهم ان يستثمروا حده الأقصى في الدراسة العلمية المتخصصة ليصبح صاحبه عالما في احد فروع المعرفة العلمية. وينعكس الحال عند الفنانين والشعراء حيث تسيطر المراكز الدماغية الحسية التحتية والمتخصصة في الانفعالات و التي تجاور المخ, وان هذه المراكز الحسية القوية في التآزر مع النصف الأيمن من نصفي الكرة المخيين تجعل صاحبها يدرك الطبيعة والمجتمع إدراكا حسيا على هيئة صور حسية حية وفضفاضة ويتعامل مع الظروف البيئة المحيطة, السياسية والاجتماعية  بالعواطف الجياشة التي تقع مراكزها الدماغية تحت المخ وفي التعاون على الأعم الأغلب مع نصف المخ الأيمن " الذي يتميز بالحدسية والحرية في المشاعر وفرط الاستعارات ويفضل الحل الحدسي للمشكلات ويفضل المعلومات غير المؤكدة والمراوغة وهو ذو طبيعة أقل قيود من النصف المخي الأيسر, ويستجيب كثيرا للتوجيهات المصورة أو الرمزية " على هيئة نتاج فني راقي في الشعر وفي مختلف الرسومات الفنية المميزة, كما انه يدرك العالم المحيط بارتباطاته الطبيعية باعتباره كيانا متماسكا. وينعكس الحال عنه عند العلماء الذين يتعاملون مع البيئة عن طريق الرموز والمعادلات بعد تجزئتها إلى عناصرها الأولية لكي يفهمها. أما عند أغلبية الناس فتتساوى لديهم الطاقة الفسيولوجية بين المراكز الدماغية الواقعة تحت المخ وبين نصفي المخ الكرويين, الأيمن والأيسر !!!.

في هذا التحليل الموجز نضع سعدي يوسف في مكانه الصحيح كونه ليست فقط مكون ثقافي بل مكون فسيولوجي وسيكولوجي , التحمت لديه عوامل الخبرة الطويلة الأمد مع مزاياه الدماغية في تفردها الإبداعي والمحمل بشحنة انفعالية هائلة استنادا إلى الظروف اليومية المعاشة في الشأن العراقي خاصة والعربي بوجه عام. أذن لا داعي أن تقف مع سعدي يوسف ونصرته فهو يقف مع نفسه في مقارعة الظلم والاستبداد, وله أنصاره من الأجيال الماضية والحاضرة والمتعاقبة !!!.   


 
 



209
التجارب الميدانية للإسلام السياسي تستدعي مزيدا من التحييد الديني وليست التصعيد العدائي للدين !!!
   
   
د.عامر صالح
 أن الديمقراطية وبنائها ليست عمل سهل ومناط فقط بما يجب أن تقوم به الحكومات القادمة التي ولن تأتي جرعة واحدة, فذلك مجافاة لظروف المجتمعات التي تعتبر ببعض من وجوهها معوقا للديمقراطية ونشأتها بسلاسة, فهناك منظومة القيم التقليدية الموروثة, من ثقافة تقليدية وأنماط سلوكية مانعة بطبيعتها للديمقراطية, والتطرف السياسي والديني والإيديولوجي الشمولي, والفتن الطائفية والمذهبية والعرقية, ثقل الكتلة البشرية الذي يسببه الانفجار السكاني الذي تسببه ارتفاع نسبة الولادات المستمر حيث تبلغ نسبته أكثر من 3% سنويا والتي تلقي بآثارها السلبية على عمليات التنمية القادمة لتحسين ظروف الحياة المعيشية, الموقف المتخلف من المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, تفشي الأمية الأبجدية والحضارية وآثارها السلبية في تقبل التغير الايجابي, وغياب منظمات المجتمع المدني الفعلية, إلى جانب ضعف تقاليد العمل السياسي الضامن لبناء الديمقراطية, وغيرها من العوامل التي يصعب حصرها !!!. 

لقد غابت السياسة المؤسساتية في بلداننا للعقود وغاب التأثير المستقل للسلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية وتفككت عرى المجتمع المتماسك فتحول إلى حاضنة في الظل للقوى الظلامية والمتطرفة الدينية وغير الدينية مرافقا لحالة الانحطاط الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والفكري, وأصبح الاحتماء بالدين والمذهب والطائفة والتواجد الجغرافي احد وسائلنا الممكنة للهروب من الاستبداد الرسمي في السلطة والثروة والإعلام والمرجعية الاجتماعية, وأصبح التقاطع والتداخل سهلا مع السلطة الرسمية لان الأخيرة تحمل بعض من عناصره وتستطيع إيجاد وطأة قدم معه, فالجميع يدين بالإسلام , وتلك هي على سبيل المثال اختلاط عناصر النظام العراقي السابق مع  "داعش " الإرهابية وغير " داعش" من الحركات الإسلامية والأيديولوجية المتطرفة, وحتى الاختراقات والتواجد الحشدي لأنصار النظام السابق في السياسة الرسمية الحالية وأحزابها الإسلامية القيادية !!!.

وما إن سقطت بعض النظم الدكتاتورية والفاشية في المنطقة وحلت معها موجات من الإسلام السياسي لتتصدر المشهد السياسي, حتى تحولت ”جماهير " مليونية لتشكل قاعدة للإسلام السياسي بكل صنوفه ومذاهبه. ومع انهيار الدولة البوليسية الشمولية كانت الطائفية والمذهبية والدينية والمناطقية جاهزة, في ظل غياب البدائل الديمقراطية, ومختمرة لاحتواء حالة الانهيار والتمرد الشعبي, حتى تحول المجتمع في زمن قياسي إلى فتات من مجتمعات مصغرة ذات صبغة طائفية ومذهبية ودينية واثنيه ومناطقية, وأضمحل مفهوم المجتمع السياسي المؤسساتي الذي يجمع كل المكونات والتنوعات الدينية والمذهبية والقومية في وحدة دينامية حية, والذي يفترض أن يكون بديلا مرتقبا بعد التغير !!!.   

في ضوء تجربة العراق ومصر وتونس وغيرها تراوح الإسلام السياسي في مسحته العامة بين رافض علني للديمقراطية باعتبارها بدعة من الغرب وكل بدعة ضلال, وبين داخل في اللعبة الديمقراطية لاعتبارات تكتيكية تحت ضغط الظروف الدولية المعاصرة وظروف المد الجماهيري صوب تبني الديمقراطية نهجا وممارسة. وفي الوقت الذي استطاعت فيه الكثير من القوى السياسية العالمية والإقليمية والوطنية ذات الطابع العلماني واليساري أن تتكيف لظروف العصر وتتبنى وتقتنع في الديمقراطية كوسيلة للحكم والمساهمة في التأسيس لمجتمعات العدالة والحرية الاجتماعية, كما هو في تجارب اليسار والشيوعية في بلدان أوربا الاشتراكية سابقا, والكف عن المطالبة بحكومات ذات صبغة واحدة في بقاع أخرى من العالم, ظل الإسلام السياسي عنيدا في مطاوعته لظروف التغيرات الجارية في العالم, ويثير مزيدا من الشبهات والتساؤلات عن مدى تقبله للديمقراطية !!!.

قد تثير لدى القارئ الكثير من الاعتراضات بالقول بأن النموذج الإسلامي التركي في الحكم هو نموذج موعود وبالإمكان تعميمه في مناطق عديدة عربية وإقليمية, وتكمن إجابتنا البديهية لهذا الاعتراض بأن الإسلام السياسي الحاكم في تركيا يعمل ويحكم ويسبح في فضاء بلد استقرت فيه تقاليد العمل الديمقراطي ومؤسساته الدستورية, وفي بلد يمتلك أجهزة ومؤسسات دفاعية, من جيش وشرطة ومخابرات وأمن تتمتع بقدر كبير من الحيادية المعهودة لها في المنعطفات الهامة التي تهدد الديمقراطية. أما في المجتمعات العربية فيدخل الإسلام السياسي كجزء من المشكلة وليست الحل, فهو يسعى في مرحلة التأسيس للنظام الديمقراطي جاهدا لبناء مؤسسات الدولة وخاصة الدفاعية منها والأمنية والمخابراتية على أسس مذهبية ودينية وطائفية متحيزة, أو من خلال التأسيس لدستور فيه من الغموض ما يكفي لان يكون مصدرا من مصادر عدم الاستقرار والصراعات الدينية والمذهبية في البلد, من خلال إضفاء صبغة أحادية الجانب غير جامعة للنسيج الاجتماعي بكل مكوناته الثقافية والعرقية والدينية والمذهبية !!!!!

إضافة إلى ذلك يدخل الإسلام السياسي التركي اليوم والذي يقود الجمهورية التركية العضو في الناتو والطامحة للعضوية في الاتحاد الأوربي في صراع مع العالم حول موقفها من دعم الإرهاب والوقوف إلى جانب داعش وتوفير كافة وسائل الدعم العسكري واللوجستي للفصائل الإسلامية المتطرفة, وفرض اشتراطات وسقف محدد لمحاربة داعش, وقد وصل الأمر إلى حد الإدانة من حلفائه الأمريكان وغيرهم من الأوربيين. فهل من إسلام سياسي ديمقراطي بعد ذلك ؟؟؟.

المعضلة الكبرى تكمن اليوم ليست بمحاربتنا للدين فتلك ليست مهمتنا أصلا وليست من حقنا ذلك ولا تستطيع أي سلطة مهما بلغت من القدرات للقضاء عليه فهو جزء من المنظومة الثقافية والتاريخية الموروثة والمتأصلة في اللاوعي ويستحضر بقوة كلما سنحت الفرصة لذلك, والمهم في كل ذلك هو حياديته وفصله عن السياسة وإنقاذه من المتأسلمين والمنافقين باسم الدين !!!.



210
السباب والتهجم على الرموز الدينية بين " الجرأة " والثقافة الضحلة !!! 

د.عامر صالح

تتعرض منطقتنا الإقليمية والعربية والإسلامية منها بشكل خاص إلى هجمات شرسة, فكرية وإيديولوجية وتقوقع ديني ومذهبي, ولعل أخطرها في ظروفنا الحالية هي تلك الهجمات والحملات المسعورة التي تضفي على نفسها لباسا أو واجهات دينية, وما يتفرع منها من خلط وإثارة للفتنة الطائفية والمذهبية والتكفيرية, لتغذي الإرهاب الدموي وتمده بالوقود اللازم لاستمراره وديمومته إلى أجل غير معلوم على خلفية التخندق المذهبي والديني والطائفي, وتصبح الأديان والطوائف الدينية والمذهبية واجهات سهلة للعبث بمشاعر وانفعالات الأبرياء من المنتمين لها واستمالتهم إلى المشروعات الانتحارية في معارك خاسرة قوامها التعبئة الحشدية القطيعية !!!.

وتصبح الرموز الدينية بمختلفها, شيعية وسنية وصابئية ومسيحية وايزيدية وغيرها موضوعات سهلة لإثارة الفتنة من خلال الادعاء إن هذا الطرف السياسي أو ذاك يمتلك الحقيقة المطلقة من خلال تبنيه لتلك الرموز التي تحتفظ لدى معتنقيها من العامة بقدسية خاصة. ويأتي في هذا السياق زج الدين ثم تباعا مذاهبه المختلفة بالسياسة, مما يجعلها احد المصادر الأساسية الخطرة والمحدقة بتفكيك النسيج الاجتماعي والوطني وإثارة الفتنة العامة بين مكونات المجتمع الواحد من خلال فرض الوصايا على الآخر المختلف في الدين أو الطائفة والمذهب !!!.

من هنا نتساءل: هل يجوز لنا سب وشتم الرمز الديني وجرح مشاعر أتباعه ؟؟, أم من المستحسن " إذا جاز التعبير " سب  الإسلام السياسي والمذهبي والطائفي الذي يتخذ من الرمز الديني ذريعة لبسط نفوذه ؟؟؟. في الثقافة الحرة والديمقراطية الرفيعة لا يجوز السب والشتم والتجاوز, فهو سلوكيات تعبر عن خواء العقل وضحالته في ظروف اشتداد الأزمات وعدم المقدرة الفكرية للنفاذ للظاهرة قيد الدرس وتفكيكها وبحثها موضوعيا من خلال المعارف العلمية المتاحة. وكل الظواهر الدينية منها, والدينية السياسية, وغير الدينية قابلة للنقد والنقد الذاتي خارج إطار قدسيتها لدى الأتباع, ولا يوجد خارج النقد البناء حالات معفاة وغير قابلة للنقد, تلك هي سنة التطور والبقاء والأداء الأفضل في الحاضر والمستقبل !!!.

على مستوى التأثير السلبي الخطير للتجاوز على الرموز الدينية والمؤسسات الدينية وآثاره المدمرة للوحدة الاجتماعية فأن اغلب دساتير العالم الديمقراطي منه والدكتاتوري وغيرها من النظم حذرت من المساس بالرموز الدينية ومن المقدسات الدينية وعدم التجاوز على الآخرين في معتقداتهم مهما كانت مصداقيتها, بل وحتى نصت على عقوبات صارمة اتجاه من يرتكب ذلك بحق الرموز الدينية التاريخية. فالقانون العراقي للعقوبات " على سبيل المثال " رقم 111 لسنة 1969 وفي المادة 372 تؤكد:  يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بغرامة لا تزيد على ثلاثمائة دينار كل من: 

1 ـ اعتدى بأحد الطرق العلانية على معتقد لأحد الطوائف الدينية أو حقر من شعائرها.
2 ـ من تعمد التشويش على إقامة شعائر طائفة دينية أو على حفل أو اجتماع ديني أو تعمد منع أو تعطيل إقامة شيء من ذلك.
3 ـ من خرب أو أتلف أو شوه أو دنس بناء معدا لإقامة شعائر طائفة دينية أو رمزا أو شيء آخر له حرمة دينية.
4 ـ من طبع أو نشر كتاب مقدسا عند طائفة دينية إذا حرف نصه عمدا تحريفا يغير من معناه أو إذا استخف بحكم من أحكامه أو شيء من تعاليمه.
5 ـ من أهان علنا رمزا أو شخصا هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية.
6 ـ من قلد علنا نسكا أو حفلا دينيا بقصد السخرية منه.

إن هذه الفقرات القانونية تضمن بحدود معقولة من الردع القانوني لمحاولات الإساءة للمكونات الدينية والمذهبية والطائفية للمجتمع العراقي رغم ظروف الاحتراب الداخلي والإرهاب المدمر الذي تسهم في اشتداده وعنفه وإعادة إنتاجه, الثقافة المبتذلة ثقافة السباب والشتائم والتجاوزات على الرموز الدينية من مختلف المذاهب والأديان والطوائف, والتي أخذت أخيرا في الانتشار على صفحات ألنت وفي مختلف مواقع التواصل الاجتماعي, حيث نقرأ بما نعيب على من يكتبه من جهل وأمية في الثقافة والسياسة والخلق الفردي على السواء, من سب وشتم للنبي محمد والإمام علي والحسين وفاطمة وعمر وأبو بكر وعثمان. أنه وقود رخيص لإثارة العنف والكراهية والبغضاء بين معتنقي الدين الواحد ومذاهبه وهو خدمة للتكفيريين والمتطرفين والمتعصبين من داعش والقاعدة وغيرها من فلول الإرهاب والقتلة المجرمين !!!. 




211
الفرق بين محاربة الدين ومحاربة الإسلام السياسي !!!


د.عامر صالح 

كلما يشتد خلط الدين بالسياسة تزداد الحياة بؤسا وحرمان وإرهابا, وبنفس الوقت تزداد الهجمة على الدين في فهم منفعل بأنه هو السبب الأول والأخير فيما يحصل على الأرض من جور وفقر وهتك للإعراض, وكأن ذلك يكمن في مهمة الدين الرئيسية, وما علينا إلا الخلاص منه وإعلان براءتنا العلنية منه في محاولة غير موفقة لإثبات شجاعتنا في ميادين المعارك المستعرة والمتخذة من الدين غطاء للتوغل في ظلم الإنسان واضطهاده عبر قراءة لنصوصه في زمن غير زمن ما أنزلت به !!!.

ومهما قيل عن الدين ويقال استشهادا بنصوصه المجحفة منها والسارة للبشر فهو قضية إنسانية يعبر بطريقة ما عن البشر ويتوجه إليهم ويشكل أيضا احد مصادر منظومتهم الأخلاقية والقيمية في ظروف تاريخية استدعت ذلك, كان قوامها الأساسي الجهل بحقائق التطور الاجتماعي والاقتصادي والطبيعي, مما جعل للدين هيمنة شبه كاملة على حياة الناس العامة والشخصية, بل أن الكثير من المحرمات والنواهي الأصلية التي تعج بها الأديان كانت موجودة أصلا, وما الدين إلا كان مصادقا عليها ليعطيها قوة ألاهية في التأثير والاستمرار والبقاء في عقول الناس والأجيال المتعاقبة في ظروف الحاجة إليها آنذاك. وحتى فكرة العبودية للآلهة جاءت لتخلص فكرة العبودية من شخص لشخص آخر, وجعلت حتى من سيد العبيد نفسه عبدا لقوة عليا أكثر تأثيرا نفسيا منه على المجموع !!!.

واليوم إذ تتطور الحياة الإنسانية على أسس من معطيات مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية وتزداد مقدرة الإنسان الفعلية في التحكم في الطبيعة والمجتمع, فأنها تقع في صراع مستمر مع الخطاب الديني الذي أريد له أن يكون صالحا في كل زمان ومكان وبين الحياة المتغيرة بدون انقطاع التي تستدعي الاعتماد مزيدا على الذكاء الإنساني ومقدرته على إيجاد مختلف الحلول للمشكلات الإنسانية انسجاما مع ظروف العصر ومكانة الإنسان الريادية في التقدم. هذا لا يعني نهاية للدين, فالدين باقي في أكثر المجتمعات تطورا وله فسحته في حياة الناس التي لا تتعارض مع سنة وقوانين التطور والارتقاء, فالدين باقي هنا كحاجة شخصية وكما هي نشأته الأولى !!!. 

المشكلة في ظروف بلداننا وفي ظل غياب الديمقراطيات السياسية وانتفاء ظروف العيش الكريم واحترام إرادة الإنسان أن الدين يجد على الدوام من يفرض وصايته على أتباعه فيشذ في التفسير ويبتعد في التأويل ويجبر الناس على التمسك الأعمى برموز الدين تصل إلى حدود سوق الناس كالبهائم إلى مختلف الاتجاهات وإغراق الناس في الطقوس الدينية لحد تعطيل وشل الحياة العامة, وإيجاد مختلف التفسيرات المقدسة لتبرير سياسة ظلم الناس وسبيهم وانتهاك أموالهم وأعراضهم, بل وقطع رؤؤسهم, وتهجيرهم من ديارهم الأصلية !!!. 

وبغض النظر عن ما يقع على الإنسان من ظلم وما يستحق من إدانة, فأن القضية الكبرى والمفصلية في حياة تطور المجتمعات هو فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة هو مطلب أنساني وتاريخي تتطلبه المجتمعات الإنسانية اليوم, وهو مطلب اقتصادي واجتماعي تشترطه الحياة الديمقراطية الحقيقية, كما هو مطلب سياسي يفوت الفرصة على المنتفعين من رموز الإسلام السياسي وقيادته المحافظة لعرقلة التطور من خلال إقحام الدين بالسياسة, والذي يندفع ثمنه غاليا الآن في تجارب العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر والسعودية وإيران وغيرها من البلدان التي تسعى إلى الحكم أو تحكم باسم الله !!!.

ومن هنا فإذا كان الدين على المستوى الفردي هو ملجأ آمن للإنسان الضعيف من جميع ما يحيط به من مخاوف وتهديدات حياتية, فأنه بيد الدولة سلاح لتكريس حالة الضعف لدى الإنسان والوقوف ضد نهضته. ومن هنا فأن تحرير الدين من الدولة ومن السياسة فيه مصلحة عليا للدين والدولة والسياسة !!!.
 

212
في سيكولوجيي العشيرة وثوار العشائر بين مفهوم الثورة وتصدع الولاء الوطني !!!

د.عامر صالح

أن وجود العشائر والقبائل ودورها في المجتمع يعكس مرحلة تاريخية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وهي لصيقة مرحلة الإقطاع التاريخية وما قبلها و التي مرت وتمر بها المجتمعات الإنسانية المختلفة, بكل ما تحمله الأخيرة من بنية فكرية وأخلاقية وأدائية متخلفة قياسا بلاحقتها والتي نشأت على أنقاضها ألا وهي الرأسمالية. 

بعد نشوء وبداية نشوء الدولة الوطنية بدأت عملية تحول الأمن والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاجتماعية تنتقل من يد العشيرة باعتبارها الحافظ الفئوي والمناطقي والأسري لمصالح أبنائها, إلى الدولة باعتبارها المؤسسة الحاضنة للجميع والعابرة للعشيرة والقبيلة والطائفة والدين كما يفترض ذلك من سنة التطور التاريخي التي أفرزتها تجارب بناء الدول المدنية المتحضرة, والتي قامت على خلفية تحولات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والأيدلوجية, مما سهل نشأة الأسواق الوطنية والاقتصاد الوطني القومي ونشأة المدن الحضارية, والانتقال من المجتمعات الرعوية والزراعية والريفية المتخلفة إلى مجتمعات المدن الحضارية !!!.

وعلى هذا الأساس وحسب درجة تطور المجتمعات وظروفه الخاصة بدأ الاضمحلال التدريجي لسلطة العشيرة والقبيلة باعتبارها مرحلة متخلفة من مراحل النمو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى خلفية مستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار بقيت العشيرة والقبيلة في علاقة عكسية مع الدولة, فكلما ضعفت الدولة اشتد ساعد العشائرية والقبلية, وبالعكس كلما قويت الدولة واشتد بنائها ضعف الدور ألتأثيري للعشائرية والقبلية. هذه العلاقة بمجملها تدفع العشيرة للتحالف مع الدولة عندما تكون قوية, وتشهر السيف ضد الدولة عندما تكون ضعيفة أو في طور البناء. ومن هنا تنشأ المشكلات بين المركز " الدولة " وبين " الأطراف " التي هي العشائر والقبائل وحلفائها !!!.

أما بالنسبة للبنية الذهنية والعقلية والنفسية للعشيرة والقبيلة فهي أشد تركيزا ووضوحا وسلبية في تخلفها قياسا بالتخلف العام في المجتمع الذي تتواجد فيه, وتمثل خلاصة مركزة في القيم والاتجاهات والأنماط السلوكية السلبية لمرحلة تاريخية سابقة متخلفة, وهي بطبيعتها تقاوم التغير الايجابي والسنة الطبيعية للتطور, ويعتبر الماضي بالنسبة لها بكل ما يحمله من أبعاد الانغلاق على الذات والإبقاء على القديم أحد مصادرها ومرجعيتها الأساسية في التعامل مع مشكلات الحاضر ونهضته, وبالتالي ترى في كل جديد ايجابي مهددا لكيانها وعليها أن تقاومه !!!. 

وهنا أشير إلى أبرز الملامح والسمات السيكولوجية للعقل المتخلف, التي تجد تعبيرها الشديد في العشيرة والقبيلة, وكجزء من حالة التخلف العام في المجتمعات ذات المستويات الدنيا في التخلف الاقتصادي والاجتماعي, والتي تشكل جزء من بنيته الفوقية الثقافية والتربوية والسلوكية, ولكنها في العشيرة تجد لها وضوحا وتكريسا أعظم لأنها تعيد إنتاج تلك القيم وتقف حجر عثرة ضد التغير. وأبرز هذه الصفات والخصائص كما يذكرها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه: " التخلف الاجتماعي ـ مدخل في سيكولوجيا الإنسان المقهور" هي ما يأتي: 

1ـ الخصائص الذهنية المنهجية : وتتميز باضطراب منهجية التفكير من جهة, وقصور الفكر الجدلي من جهة أخرى, ويتجلى اضطراب منهجية التفكير بما يعانيه الذهن المتخلف من قصور الفكر النقدي, فهناك عجز عن الجمع في سياق واحد بين الأوجه الموجبة والأوجه السالبة, بين المميزات والعيوب لمسألة ما, انه يعجز عن الذهاب بعيدا في تحليله للأمور لأنه لا يدرك أن لكل ظاهرة مستويات من العمق, وهو يكتفي بالمستويات السطحية التي تشكل عادة قناعا يخفي الحقيقة, وهو من ثم يقوم بإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل, وهو إضافة لذلك يتميز بانعدام المثابرة فهو ينطلق بحماس كبير, ولكنه يفقد حماسه بالسرعة نفسها, ويتميز الفكر المتخلف أيضا بانعدام الدقة والضبط وكل شيء يظل على مستوى التفكير الإجمالي والانطباع العام, كل ما سبق يؤدي إلى العجز عن التخطيط للمستقبل, الذي نرى افقه ضيقا عند الإنسان المتخلف, أما ضعف الفكر الجدلي فهو لب الذهنية المتخلفة, فهي جامدة قطعية وحيدة الجانب تخفق في إدراك الترابط والتفاعل الشبكي بين الظواهر وما ينتج عنه من حركية وتغير.

2ـ الخصائص الذهنية الانفعالية : أن طغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية ظاهرة مألوفة في الأزمات, ولكنها عند الإنسان المتخلف تكاد تكون الأسلوب الأساسي في الوجود, انه يعيش في حالة من التوتر الانفعالي الذي يعبث في ثنايا شخصيته معطلا القدرة على الحكم الموضوعي والنظرة العقلانية للأمور, أن العجز عن التصدي العقلاني الموضوعي للمشكلات والأزمات الحياتية يدفع بالمرء إلى النكوص إلى المستوى الخرافي, إلى الحلول السحرية والغيبية, وإلى حمل السلاح بوجه الآخر باعتباره واجبا مقدسا أو حلا قسريا للأزمة النفسية !!!!.

والعقل العشائري والقبلي هو عقل وثوقي " أي يثق بما لديه من مواقف ثقة عمياء ويعتبر كل عيوبه مزايا مطلقة ", وهي احد أسباب صراعاته مع التحولات والتغيرات الايجابية التي تجري من حوله, و تزداد وثوقية هذا العقل وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصام هائل في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. فالعقل ألوثوقي والعشائري المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته, فالعقل القبلي والعشائري يرى مثلا أن النصر قريبا على الدولة التي يحيا فيها وأن النصر لا محال للعشيرة والقبيلة !!!.

اشتدت نماذج السلوك المتطرف للعشائر والقبائل العراقية في زحمة تعقد الوضع السياسي وضعف الدولة وعدم تمكنها من بسط نفوذها الكامل على التراب العراقي بفعل عوامل موضوعية وذاتية, منها بنية النظام السياسي على أسس طائفية ـ سياسية وجغروطائقية وأثنية وتحالفات سيئة مع دول الجوار, إلى جانب الرفض المطلق للعملية السياسية واللجوء إلى خيار حمل السلاح ضدها, مما أدى إلى اندلاع ما يسمى " بثورة العشائر ". فهل يحملوا ويجسدوا هؤلاء " الثوار " معنى الثورة الحقيقية, أم أنهم يشكلون جزء لا يتجزأ من دورة العنف والعنف المضاد؟؟؟, والذي أدى بدوره إلى أخطر ما أدى أليه هو التحالف مع أعداء الوطن والإنسانية لإلحاق الأذى بالوطن والمواطن وبمستقبل العراق بأكمله, ويجسد أخطر ردة فعل لمعادة سلطة المركز !!!.

أن الثورة في التفسير المادي للتأريخ تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع, تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج, وشكل التملك الخاص, ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة " وهي في بلداننا تشكل النظام وحاشيته " ضد فئات الشعب, وتؤدي هذه التناقضات إلى " أزمة سياسية " عميقة تحمل معها نشوء حالة " ثورية " تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة مثل الاضطرابات والمظاهرات والاجتماعات والاعتصام, وان الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها. ولكن للثورة شروط يجب توافرها للتأكد من نزاهة من يقوم بإدعاء  "الثورة ", ومن ابرز هذه الشروط هي:

1 ـ السلطة الجائرة كمبرر للأفعال الثورية.
2 ـ العقيدة الثورية للمنتفضين ومدى وضوحها وشفافيتها وماهية أهدافها علنا.
3 ـ القيادة الثورية للمنتفضين ونزاهتهم في تحالفاتهم الخارجية والداخلية.

إذا أردنا أن نطلق على السلطة العراقية ما بعد 2003 " بالجائرة " فهي جائرة بعرف الدستور الذي أسس تلك السلطة   وكرس تعاقبها على أسس طائفية وأثنية, وهي من الناحية الشكلية مثلت الجميع, والجميع حاضر في البرلمان بإرادة الأصوات التي أعادة بناء التركيبة السياسية والطائفية والاثنية للنظام, وصناديق الاقتراع لها اليد الطولي في أعادة تكريس ما وقع بعد 2003 أو أعادة بناء التحالفات السياسية وإيجاد اصطفاف سياسي جديد مغاير, فهل الشعب جائر ؟؟, أم أنها أزمة وعي في إدراك قيمة الصوت الانتخابي في مجتمع متخلف؟؟؟. و "الثائرين " من العشائر وأن أدعوا تغير النظام فهو أدعاء غير صحيح, فهم مختلفين مع سلطة المركز باغتنام مكاسب السلطة وإيجاد وطأة قدم خارج أطار صناديق الاقتراع, فالعشائرية ابعد بكثير عن مفهوم صناديق الاقتراع كما هي الطائفية والمذهبية بكل ملابساتها السياسية !!!. 

أما بالنسبة للعقيدة الثورية للمنتفضين فأن العشائر لا تمتلك خطابا سياسيا واضحا ومعلنا للجميع يمكن قراءته والتفاعل مع ثوابته المعلنة, فالسلوك العشائري تجسده بوضوح أخلاقيات " الثأر والثأر المضاد " و " الانتقام والانتقام المضاد " و " عدو عدوي صديقي " والحكم بما تقرره العشيرة وجلسات المضايف من ثأر وفصل في القضايا التي تحدث في نطاق سلوك العشيرة مع العشائر الأخرى أو مع الأشخاص الآخرين ومع الدولة, فالعشيرة لا تعترف بالدولة حتى وان كانت دولة القانون لأنها عدوة الدولة في السر وفي العلن !!!.

أما بالنسبة للقيادة الثورية فأن قيادات العشائر التي تمثل الإقطاعيين وكبار المزارعين وملاكي الأراضي فهي ابعد من أن تكون قيادة معروفة ووطنية متمرسة ولها جمهورها وحلفائها وإعلامها ومواقفها السياسية ولها ثقلها الجماهيري ورؤيتها البعيدة المدى خارج إطار العشيرة. فالقيادات العشائرية هي قيادات منفعلة تحركها لحظات الهيجان والانفعالات الطائشة, مما يسهل انجرارها وراء مختلف التحالفات الخطيرة والمضرة في المصلحة الوطنية !!!.

والأخطر من ذلك هو عندما تضعف الدولة في أداء مهماتها الدفاعية والأمنية وتعتمد بدورها على العشائر والقبائل لحفظ الأمن ودرء الأخطار الخارجية, فأن الدولة تقع فريسة الاستحقاق العشائري وسلوكها المتذبذب والاستسلام لشروط العشيرة وليست الدولة, إلى جانب تكريس عسكرة المجتمع وإيجاد أكثر من مركز للقوة والمنافسة خارج الدولة مما يهدد الأمن الاجتماعي من الداخل ويديم نوبات العنف, وخاصة إذا اخذ هذا الاعتماد على العشائر طابعا جغرافيا ـ طائفيا, فأنه يدفع باتجاهات خطرة ويكرس حالة الاحتقان الطائفي ـ السياسي التي يعاني منها البلد !!.

والتجارب القريبة جدا اثبت عدم جدوى ذلك, فقد انشأ في عام 2006 قوات الصحوات الخاصة في المناطق الغربية ذات الطابع السني والتي عمل الأمريكان على تشجيعها, ثم أعقبتها في عام 2007 تشكيل مجالس الإسناد والتي قام بتأسيسها رئيس الحكومة السابقة نوري المالكي في مناطق الوسط والجنوب ذات الطابع الشيعي, وقد أسهما كلا التنظيمين بقدر ما في مساعدة القوات الأمنية ومحاربة المجاميع المسلحة وخاصة في سنوات العنف الطائفي, إلا أنه سرعان ما أوقع الدولة في شرك استحقاقات هذه المجالس وشروطها, وفشل الدولة في إيجاد حلول جذرية لامتصاص هذه القوى وإعادة بنائها في إطار أجهزة الدولة, مما ترك هذه المجالس في تجاذبات واحتقانات لا تحمد عقباها مع الدولة !!!.

وما الحدث الأخير والأخطر والمتمثل باستباحة " داعش " للأراضي العراقية واحتلال ثاني اكبر مدن العراق " الموصل " ويهدد بإسقاط الحكم في بغداد إلا تعبيرا في بعض من وجوهه عن هشاشة بعض الولاءات العشائرية للدولة " بغض النظر عن من يحكم هذه الدولة " والتي قدمت تسهيلات لوجستية " لداعش " وهي تعبيرا عن ضيق الأفق العشائري لاستقراء الإحداث وانعكاساتها الخطيرة على الوطن وسلامته, فسرعان ما انقلبت داعش عليهم مسببة لأكبر كارثة إنسانية أضرت جميع الإطراف دون استثناء لطائفة أو دين أو قومية أو مذهب أو عشيرة أو قبيلة !!!. 

أن دراسة العشائر والقبائل كظاهرة سوسيولوجي ونفسية لا يعني أبدا النيل من عشيرة دون غيرها أو إلحاق الأذى بسمعة عشيرة ما ورفع شأن أخرى,فكلنا ننتمي إلى عشائر كتحصيل حاصل, بل هو دراسة لظاهرة موضوعية تشكل مرحلة سابقة من مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولها إبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة, وأن أعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس من التطور والحداثة والتي تستند إلى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور في كل المجالات كفيل ببناء دولة المواطنة العصرية عابرة لجميع الولاءات الضيقة من عشائرية وطائفية ومذهبية وأثنية !!!. 



213
داعش ودلالات قطع الرؤوس بين القدسية والبحث عن قرينة تاريخية !!!


د.عامر صالح 

بالتأكيد إن ما تهدف أليه داعش من وراء المضي توغلا في ارتكاب جرائمها ألا أخلاقية وألا إنسانية هو ليست الإكثار من الضحايا من الناحية الكمية متمثلة بأعداد القتلى والمستباحين جنسيا أو قطع مزيدا من الرؤوس أمام مرأى الأجهزة الإعلامية, بل إن الهدف المباشر والأكثر وقعا هو خلق حالة من هستيريا الخوف لدى القوى التي تحاربها أو الدول التي تتصادم معها, كالعراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن, وكل الدول التي تقع تحت تهديد داعش اليوم أو غدا. وهستيريا الخوف بطبيعتها تضعف مقاومة الخصم وتنقله من حالة الهجوم المطلوب على داعش إلى المراوحة في المكان والاكتفاء بالترقب المحفوف في المخاطر, والذي يتآكل مع الوقت ليتحول إلى هزيمة غير محسوبة المخاطر. وهذا هو نفسه يكمن في الأعمال الأخرى الإرهابية, من مفخخات وأحزمة ناسفة وانتحاريين بمختلف وسائلهم. فالهدف هو زرع مزيدا من الرعب لإضعاف معنوية الخصم, وليست المطلوب هو الضحية المباشرة, حتى وان جرت العمليات الإرهابية والقتل الجماعي على أسس طائفية أو أثنية أو مناطقية, فالهدف يبقى نفسه والمتمثل بخلق حالة من الرعب والهستيريا المستديمة للانقضاض على العدو وإلحاق الهزيمة به, إن كان دولة ونظاما سياسيا, أم في الصراعات الموضعية مع حلفائها التي تقوم داعش بافتعالها للقضاء على  حلفائها وأعدائها والاستجابة لأجندتها !!!.

هذه التقنيات في قطع الرؤوس والتعذيب الجسدي والاغتصاب الجنسي ليست حكرا على داعش اليوم, بل أن كل الحروب الكونية ارتكبت هكذا جرائم, والتاريخ يوثق ذلك بدقة ضمن أمثلة حروب فرنسا واسبانيا ضد الجزائر والمغرب " اترك القارئ مع الرابط أدناه " للاطلاع على التفاصيل. كما إن النظم السياسية العربية القومية والدينية حافلة بهذه الممارسات المخزية من الجرائم في زنزانات السجون, من تقطيع أوصال أجساد معارضيها السياسيين وتشويه أجسادهم وجثثهم بعد قتلهم لزرع الرعب في معارضي النظام, ولعل في نظام المقبور صدام حسين وغيره من النماذج الصارخة لانتهاك حقوق الإنسان وشرفه. ومن منا لا يعرف " أجهزة فدائيي صدام حسين " المتمرسة في قطع الرؤوس وتشويه الأجساد وسبي الأعراض, وهي اليوم تعمل مع داعش وتمده بالمعلومات اللازمة عن الحالة العراقية لخلق مزيدا من الرعب والهلع والخوف لتدمير العراق ومجتمعه, وكذلك السعودية تقطع الرؤوس والأيادي بالسيف وتمارس الجلد في الميادين العامة وأمام كل الناس كل يوم الجمعة بعد الصلاة والجميع يرى ذلك لاحقا في اليوتوب وغيره !!!.

من الناحية السيكولوجية الخالصة بما يفيدنا هنا هو أن كل الحروب الدينية وغير الدينية رافقتها حالات انتهاك للإنسان وخاصة المدنيين منهم, من قتل وتعذيب شنيع وقطع للرؤوس واستباحة جنسية, وهذا يعكس من الناحية النفسية اقتران الجنس بالعدوان من حيث أصوله وميكانيزماته الفسيولوجية والنفسية, التي تصل إلى أبشع مدياتها في زمن الحروب كون الأرض التي تجري فيها المعارك هي مناطق استباحة للمتخاصمين خارج إطار المنظومة الأخلاقية مهما بلغ المتخاصمين من إدراك ووعي لحقوق الإنسان !!!.

 لقد عرفت الشعوب الغربية المقصلة باعتبارها من" انجازات " الثورة الفرنسية في تطوير تقنية قطع الرؤوس, والتي كانت في أوربا عصر النهضة, وفي الجزر البريطانية تنفذ بالبلطة, ما عدا حالة الكفر و السحر اللذين استحقا حرق المدان أو المدانة حيا. وقد نفذ قطع الرؤوس في ساحة عامة في مركز المدينة, كما كان حال الشنق في بعض الدول العربية لفترة قريبة ولو وجد التلفزيون في حينه لنقل بالبث الحي المباشر, وعلى سنة عبرة لمن أعتبر" انظر الرابط الآخر ".

وقد أجريت الكثير من الدول المتحضرة إعادة قراءة لتجاربها التاريخية السيئة وتقديم اعتذارات وتعويضات لمن ارتكبت بحقهم الجرائم أو لذويهم وأدانت في العلن كل الوسائل الغير إنسانية في إلحاق الأذى الجسدي والنفسي بالآخرين, واعتبرت ذلك مرحلة أو حقبة مظلمة في تاريخ مسيرتها, والبعض الآخر من الدول يخفي ذلك ولا يريد الاعتراف بها الآن لأنها تندي جبين الإنسانية حياء وخجلا, وهو اعتراف ضمني بأن البشرية انتقلت من الوحشية إلى التمدن وقطعت شوطا في أنسنة السلوك ولا يمكن تبرير هكذا جرائم !!!. 

أما داعش وحلفائها وأنصارها من القتلة والمجرمين فهي تبحث عن نصوص مقدسة في القرآن والسنة النبوية لتبرير القتل والاغتصاب واعتباره أمرا ألاهيا, ويتصارع "المؤمنين " فيما بينهم: هل سلوك داعش وارد في السنة النبوية والقرآن, وهل يجوز قطع الرأس أم لا, وكأن الرأس وقطعه مشكلة نص مقدس يجيزه أم لا يجيزه بعيدا عن هول الجريمة وارتكابها. يحتمي الدواعش بنصوص تشفي غليلهم في الذبح فيقولون أنصار الذبح إن محمد قال:" أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح " ويتفق "المؤمنون " إن هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في المصنف, واحمد في المسند, والبخاري في خلق أفعال العباد, وابن حبان في الصحيح, والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل. وهكذا أصبح جز رأس الإنسان سهلا عندما يرد في مقدسات داعش. فهل تستطيع الإنسانية ومسيرتها من الظلمة إلى النور إيقاف جرائم داعش, أم إن داعش تحكم بما انزل به الله ورسوله وأن الجميع بانتظار زحفها المقدس, وقد حان قطف رؤوس البشرية جمعاء !!!!. 
1- http://arabi.assafir.com/article.asp?aid=2268&refsite=assafir&reftype=weeklychannel&refzone=articles   
2- http://www.alaraby.co.uk/opinion/dffabfa6-ab33-481c-9091-462cc3f1a252



214
أطرح مجددا أمام الحكومة الجديدة والبرلمان: المرتكزات الأساسية لإصلاح منظومة التربية والتعليم في العراق

" أفضل رأسا مجهزا جيدا على رأس مملوء "
                         موتتاني

د.عامر صالح

لعل من المسلم به القول إن عملية التربية والتعليم تعد ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وللتقدم والنهضة الحضارية ومجاراة للعصر,حيث أن المواطن المتعلم والمؤهل والمتربي هو ثروة حقيقية لأي مجتمع من المجتمعات,ومن هنا تعكف دول العالم على الاستثمار في العنصر البشري من خلال التعليم والتدريب والرعاية المختلفة,وذلك لقناعات مفادها إن الإنفاق المالي الكبير على قطاعي التربية والتعليم هو ليست من باب الاستهلاك بل هو من باب الاستثمار ذو العوائد طويلة الأمد,والذي تأتي فوائده أضعاف ما ينفق على هذه القطاعات ولسنين طوال ولأجيال متعاقبة.

فالتربية والتعليم تلعب دورا كبيرا في بناء الشخصية الوطنية وتكريس الهوية الحضارية من خلال دورهما في عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية وتكريس قيم التسامح والمصالحة الوطنية,وهما يمثلان الركيزة الأساسية في خلق القوى العاملة المدربة في مختلف الاختصاصات لتلبية احتياجات التنمية الشاملة وسوق العمالة,ومن خلالهما أيضا يتم خلق أجيال قادرة على التواصل مع العالم والتعامل مع مستجدياته في ميادين التقدم الاقتصادي والاجتماعي والتقني لمواكبة ظروف العصر,حيث نحتاج فيه إلى إنسان يمتلك الخبرات والأفكار والأساليب والآليات الجديدة والمستجدة ,أي نحتاج إلى إنسان يتصف بالقدرة على الإبداع والابتكار والبصيرة النافذة,ومن هنا تأتي أهمية دور نظام التربية والتعليم في تأهيل هذا الإنسان في ظل تأثر هذا النظام بالعديد من التحديات مثل ثورة المعلومات والاتصالات,وثورة العلم والتكنولوجيا,والتنمية الشاملة والمستديمة,والشركات المتعددة الجنسيات والعولمة,وهذه التحديات تؤثر في أساليب عمل المؤسسات التعليمية كما تؤثر في أهدافها ومناهجها وكادرها التدريسي وطبيعة إعداده وفي تحديد طرائق التدريس وطرائق عمل هذه المؤسسات وأدارتها بصورة عامة.

أن إصلاح حقيقي في مجال التربية والتعليم لا يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة منه إلا إذا جاء كجزء من عملية إصلاح شاملة تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية,وخاصة في ظل التداخل والتأثير المتبادل بين هذه المجالات,وحيث أنجز العراق الخطوة الأولى المتمثلة في التغير السياسي صوب الديمقراطية السياسية اللازمة لانتعاش الديمقراطية  في قطاع التربية والتعليم,إلا أنه اخل في ترك أي اثر ايجابي في هذا القطاع في الحقبة ما بعد 2003 والى اليوم,حيث ترك هذا القطاع فريسة للمحاصصات السياسية والطائفية وفتح باب الاجتهاد السيئ على مصراعيه في هذا المجال مما حوله إلى ميدان مصدر للتخلف الفكري والتربوي ومكان امن للفساد والتزوير والاستحواذ,وهو استمرار لما حصل من تدهور في العملية التربوية والتعليمية في زمن النظام السابق,بل وفي بعض من وجهوها أشرس مما وقع آنذاك.

أن التوجه المعلن لرئيس الوزراء الجديد السيد العبادي في تشكيل حكومة من التكنوقراط وذوي الكفاءات العلمية والمهنية ومن الكوادر التي يعهد لها في الخبرة والنزاهة,قد يفتح المجال لذهنية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بالانطلاق,وعلى افتراض حسن النوايا ووضع مصلحة العراق وتطوره أولا, بعيدا عن المحاصصات والتوافقات الطائفية والسياسية والاثنية سيئة الصيت, فأن البرلمان والحكومة القادمة معنية بما يأتي:

ـ التفكير الجدي والمسئول بحماية الطفولة المبكرة من خلال اعتبار رياض الأطفال جزء لا يتجزأ من النظام التعليمي والتربوي أسوة بالتعليم الابتدائي,ولعل ذلك ينسجم مع الحقائق العلمية التي تؤكد أن 80% من عقل الإنسان يتكون في السنوات الخمس الأولى,و10% يتكون حتى العام السادس,بينما يتكون أل 10% الباقية من خلال التجارب والمواقف والخبرات التي يمر بها الإنسان في حياته,فأن ذلك يعني ضرورة التركيز على الحضانة ورياض الأطفال بتوفير كافة وسائل الرعاية الصحية الجسمية والنفسية والغذائية والرياضية وغيرها,ومن هنا تأتي أهمية دمج هذه المرحلة مع النظام التربوي الشامل وعدم تركها للجهود العفوية المبعثرة من قبل جهات غير تربوية حزبية وغير حزبية,وان تخضع هذه المرحلة للتخطيط والدراسة أسوة ببقية المراحل.

ـ الشروع بدراسة وإقرار التعليم الإلزامي إلى سن 16 سنة,أي اعتبار المرحلة الابتدائية والمتوسطة مرحلة واحدة بحلقات داخلية,لضمان النمو التربوي والنفسي السليم تحت سقف الإلزام وحماية الطفولة في هذا السن من الانحراف والتسيب والتسول,وتتحمل الدولة الغنية كالعراق كلفة الدراسة جملة وتفصيلا.

ـ رفع مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة ومن الدخل القومي,وبما ينسجم مع الحاجة الماسة لهذا القطاع في إعادة بناء بنيته التحتية ومع حجم الخطط التي توضع لانتشاله من الدمار الشامل الذي حل به قبل وبعد سقوط النظام,وان يجري تخصيص الميزانية في ضوء دراسات مسحية شاملة لكلفة المؤسسات التربوية والتعليمية بكل عناصرها المكونة,من أبنية ومناهج وكادر تدريسي وتربوي وأداري وكلفة الدارسين,وبالإمكان الاستعانة هنا بأخصائي الاقتصاد التربوي لدراسة حسابات الكلفة التربوية للوحدات التربوية والمؤسسات وعموم النظام التعليمي ,بعيدا عن التخمين والعشوائية في رصد المبالغ المالية.

ـ الشروع الجدي بحملات محو الأمية ومنحها صفة المشروع الوطني الشامل بعيدا عن حصر هذه الحملات بأحزاب تنفرد بها لتحويلها إلى مشروعات للكسب السياسي الرخيص كما جرى في حملات " التبعيث لمحو الأمية ",والاستعانة بخبرات الشعوب ودراستها في القضاء على الأمية ببعديها الأبجدي والحضاري.

ـ بذل الجهود الكافية لإعادة النظر بمختلف مراحل التعليم وتوصيفها لرفع مستوياتها بما يعادل المستويات الدولية,عبر الاستفادة والاستعانة بخبراء التربية المقارنة والتخطيط التربوي من العراقيين في الداخل والخارج لنقل تجارب بناء النظم التعليمية في العالم المتطور ومطاوعتها لظروف العراق,لضمان توفير كوادر بشرية تتلاءم مع متطلبات ظروف العصر,دون الإهدار بمستوى التعليم الذي يؤدي إلى تخريج أعداد كبيرة بمستويات تعليمية وتربوية متدنية لا تطابق المواصفات الدولية.

ـ نشر شبكات المكتبات المدرسية ومكتبات المحافظات في أنحاء العراق وإحياء ما دمر منها وحرق بعد سقوط النظام,وتنظيفها من فكر الدكتاتورية والتعصب الديني والطائفي,وإشاعة ثقافة استعارة الكتاب وتداوله على نطاق واسع لتشجيع الدارسين على الحصول على المعارف من مصادرها أينما وجدت,وكذلك إحياء الأرشيفات المدمرة والمحروقة بعد تمحيصها وتوصيفها وتصنيفها لإعادة الاستفادة منها.

ـ العناية بالمستوى التربوي والتعليمي للكادر التدريسي من مختلف المستويات من خلال دورات التأهيل التربوي والمهني,ليكونوا على صلة بما يستحدث في ميادين تخصصاتهم وطرائق التدريس المستجدة في هذا المجال,وتسبق في ذلك خطوة التخلص من كافة مزوري الشهادات ومن الدخلاء على هذا القطاع.

ـ إعادة رسم التخصصات في الكليات والجامعات والمعاهد المختلفة في ضوء حاجة البلد المستقبلية لمختلف التخصصات والاحتياجات وربطها بسوق العمالة من خلال التنسيق بين مختلف القطاعات وقطاع التربية والتعليم,ولكي لا ننوء تحت ثقل ظاهرة بطالة الخريجين,مع رفع ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي بما ينسجم مع مكانة هذه المؤسسات في المجتمع.

ـ ضرورة بناء المناهج الدراسية على أسس علمية تطابق المواصفات الدولية وإعادة إحياء الدوائر المتخصصة في تقويم وتطوير وبناء المناهج الدراسية في وزارتي التربية والتعليم العالي, والاستعانة بخبرات ذات الدوائر المتخصصة في الدول المرجعية.

ـ أعادة النظر في تسمية المؤسسات التربوية والتعليمية من مدارس  ومعاهد وجامعات ومراكز أبحاث,وإطلاق المسميات التي تعبر عن وحدة شعبنا وانتماءه التاريخي لهذه الأرض ولثقافة العراق المتسامح والمتنوع الأعراق والأديان,بعيدا عن المسميات التي تكرس مزاج الانحياز من طائفية ومذهبية وشتى ألوان الصراعات الاثنية والدينية ,وتناط هذه المهمة حصرا بلجان التربية والتعليم في البرلمان لتقرير الاتجاهات العامة بهذا الخصوص.

ـ العناية الكافية والموضوعية بعيدا عن روح التعصب بدراسة الأديان السماوية,وخاصة أديان المكون العراقي وتقديمها بصورة موضوعية دون تحيز أو تبني وجهات نظر مسبقة تفسد الوعي الديني وأهميته للمواطن وتدفعه نحو الانحياز لهذا الدين أو ذاك,مما يفسد حوار الأديان والتسامح عبر إشاعة التخندق والتعصب الديني والمذهبي.

ـ إدخال دراسة الكمبيوتر كدرس ضمن الخطة الدراسية في مراحل التعليم المختلفة وبمستويات تناسب الدارسين وتعميم شبكة الانترنيت مما يفتح آفاقا جديدة للطاقة التربوية المتجددة من خلال الاتصال والتدفق ألمعلوماتي الهائل,وأن يكون المعلم سباقا لإيجاد حالة من الموازنة بين وسائل الاتصال والإعلام بصفة عامة وبين المعلومات المدرسية عبر انتقاء المادة التربوية الصالحة,ولا ندع الطالب أن يكون ضحية للتدفق ألمعلوماتي العشوائي كيفما يشاء.

ـ الاستفادة من التلفزيون التربوي والفيديو كوسيلة تعليمية وهي جزء حيوي من الوسائل السمعية والبصرية المعينة التي تسهم في تشكيل آفاقا رحبة وجديدة وتضاعف من الروابط بين التعليم والاتصال وتسهل عملية الاستفادة من التجارب التربوية في مختلف التخصصات ومن مختلف البلدان,كالوقوف "على سبيل المثال لا الحصر" على ما يستجد من طرائق تدريس أو تجارب مختبريه في مختلف العلوم.

ـ الاهتمام الجدي بالنشاطات أللاصفية المختلفة في ميادين الفنون والآداب والرياضة,مثل الرسم,والنحت,والسباحة والرياضة بمختلف صنوفها,والموسيقى,والشعر ,والنثر ,والقصة والمسرح وغيرها,وكذلك تنمية المواهب ذات الطابع المهني مثل الزراعة,والنجارة,والصناعة,والكهرباء وغيرها وجميعها تسهم في الكشف عن المواهب والاستعدادات مبكرا وتسهل عملية توظيفها بشكل مثمر.

ـ نشر شبكة التغذية المدرسية لتقديم الوجبات الغذائية مجانا في إطار الدوام المدرسي للتخفيف عن كاهل الأسر الفقيرة ولتحسين ظروف التغذية لديهم تحت إشراف الصحة المدرسية,وكذلك العمل بنظام المعونات الدورية للمحتاجين من ملابس ومستلزمات مدرسية وحياتية عامة لتخفيف الفرو قات المختلفة بين التلاميذ ذوي المنحدرات الاقتصادية المتباينة,وكذلك تهيئة وسائل النقل للطلبة الذين يسكنون بعيدا عن أمكنة دراستهم لضمان حضورهم لليوم المدرسي والتخفيف عن ذويهم كلفة أجور النقل.

ـ العمل بتعليم اللغات الأجنبية ابتداء من الصفوف الأولى للمرحلة الابتدائية نظرا للمرونة العقلية التي يتمتع بها التلاميذ في هذه المرحلة لتقبل اللغة واستيعابها,وتحسين طرائق التدريس فيها وتعزيز جانب الممارسة والاتصال فيها عبر سفرات دورية منتظمة للدول من ذات اللغة المتعلمة.

ـ الرعاية الشاملة للمعوقين الذين وقعوا ضحايا للحروب والعمليات الانتحارية ومختلف مظاهر العنف وزجهم في النظام التعليمي عبر تصنيفهم طبقا لأعاقتهم الجسمية,والعقلية والنفسية,ووضعهم في صفوف ملائمة لأعاقتهم وتقديم الخدمات التربوية والتعليمية والصحية وإيجاد المهن الملائمة لهم على طريق دمجهم الكامل في المجتمع.

ـ تعزيز العمل المشترك بين البيت والمدرسة عبر لقاءات دورية منتظمة لبحث مشكلات التلاميذ والمساهمة في إيجاد الحلول لها.ويتزامن ذلك في بناء شبكة واسعة من الأخصائيين الاجتماعين والمرشدين التربويين والنفسيين في جميع المدارس العراقية لغرض الإسهام الفعال في حل المشكلات المختلفة ذات الطابع المتطابق مع الاختصاصات المذكورة أعلاه.

ـ تشجيع الطلبة على جهودهم وإبداعاتهم وتفوقهم الدراسي خلال السنة الدراسية وتقديم الهدايا ومختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي لهم,وكذلك العناية بالموهوبين من ذوي القدرات والكفاءات الخاصة النادرة باعتبارهم ثروة وطنية ويمكن أن تكون أعمالهم مقدمة لانجازات أكثر عمقا وتأثيرا في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية والتكنولوجية وغيرها.

أن قضية التربية والتعليم هي جزء من مفهوم الأمن الوطني للبلد,وأن أزمة هذا القطاع هي أزمة وطنية وأزمة نظام سياسي قبل كل شيء,ونظرا لكثرة المشاكل التي يعاني منها التعليم في العراق جراء ما وقع على هذا القطاع من سياسات عبثية في عهود مختلفة والى وقتنا هذا,فأن عدم الشروع بالإصلاح الجذري لهذه المؤسسة الهامة والتمادي في تدمير هذا القطاع لأغراض نفعية وحزبية وفئوية ضيقة,فأن مشكلاته سوف تتفاقم لدرجة يصعب معها الإصلاح,وتصبح المؤسسات حاضنة للتشرذم ألقيمي ومهددة للأمن القومي الشامل للمجتمع,ومكانا مواتيا لأرباع وأنصاف المتعلمين يشكلون عبئا على أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة.فهل يتحرك البرلمان القادم ليتحمل مسئوليته الكاملة لإصلاح التعليم ,انه تحدي كبير يواجه المسئولين العراقيين واختبارا لصدق نواياهم اتجاه قضايا شعبنا المصيرية !!!!!!.


215
الخلفية الدينية المقدسة لفهم ظاهرة الهوس الجنسي والملذاتي لدولة الخلافة الإسلامية " داعش " ومكانتها في الفكر السيكولوجي المعاصر !!!! 

د.عامر صالح 

تستخدم داعش السلاح الجنسي في إرهابها على نطاق واسع, من اغتصاب وبيع للنساء وختان للأعضاء التناسلية ونكاح جماعي, وهي جرائم ضد الإنسانية بكل ما تعانيه الكلمة من معنى في التجاوز على حرية  الإنسان الشخصية, وعلى الأنثى بشكل خاص في تقرير شكل وجودها, وطريقة عيشها وتحديد معالم جسدها, واختيار شريكها. ولكن داعش بالتأكيد تبحث عن ضالة ومبرر لها في الخطاب الديني المقدس لكي توغل بمزيد من التعسف والامتهان لكرامة الأنثى بواجهات مختلفة. ومن هنا سأكون برحلة مع داعش ومع الخطاب الديني المقدس, وسنرى كيف تستثمر داعش السنة النبوية والكتاب المقدس لإحداث مزيدا من التلوث ألقيمي والأخلاقي على خلفية النصوص النبوية والقرآنية. وداعش اليوم تبشر إرهابيها كما يبشر الدين مجاهديه ومؤمنيه في المزيد من الجنس والخمر والطعام الخاص في الآخرة. ومن يقول ان داعش لا دين لها فهو مخطأ, فدينها الإسلام, وبما إن الدين حمال أوجه, فداعش اليوم أحدى تلك الوجوه السوداء في تفسير الخطاب الديني واستخدامه غطاء لجرائمها !!!. 

  تستند داعش إلى مفهوم الخلفية الدينية في إشباع الحاجات على أساس الدور الثانوي للدنيا وضئال أهميتها قياسا بالحياة الآخرة, وهو مفهوم ليست حكرا على داعش, بل يشمل كل المؤمنين في الإسلام بمختلف طوائفه, فالحياة الدنيا وفقا للمفهوم الديني ومهما طال أمدها, سواء عقود بالنسبة للفرد, أو ملايين من السنين بالنسبة للنوع الإنساني, فهي لا تشكل إلا متاع زائل وليست ذو قيمة قياسا بالآخرة, كما في النص القرآني من سورة الحديد, الآية (20): " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ", وكذلك ما ورد في سورة العنكبوت في الآية ( 64), والتي تؤكد أن الحياة الآخرة أطول وأبقى من الدنيا بالقول: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ", ويقصد هنا بالحيوان أي الحياة الدائمة الحق والتي لا زوال لها ولا انقضاء. أما الأفضلية المطلقة للآخرة على الدنيا وبكل المقاييس فهي محتواة بكل النصوص القرآنية ذات الصلة, ونأخذ هنا فقط على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في سورة الضحى وفي الآيتين (4, 5 ): " وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى ". ولأغراض المتعة المعرفية فأن كلمة الدنيا وردت متساوية مع كلمة الآخرة, بمقدار كمي يساوي (111) كلمة لكل منهما !!!!!.

أما بالنسبة للسنة النبوية فالحديث عن أولوية الآخرة على الدنيا لا حصر لها, ويؤكد النبي محمد(ص) في إشارة إلى قصر الحياة الدنيا بقوله " والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم, فلينظر بما يرجع ". وتشير كل النصوص القرآنية والسنة النبوية حسب جموع المفسرين أن الآخرة هي دار القرار, وهي الحياة السرمدية, ولا تساوي الدنيا ساعة من نهار الآخرة, ولا تزيد عن حجم الماء الذي يحمله الأصبع الذي يغمس في البحر, والآخرة تمتد أبد الدهر, ومن ساعاتها الأولى تتجاوز كل أيام الدنيا. أما الدنيا حسب المفهوم الديني ذات عمر قصير, وهي دار لهو ولعب وزينة وتفاخر, ودار غرور, ودار ترف واستمتاع, ودار إغواء وضلال وطغيان لمن يفتن بها, ودار ابتلاء ودار لاكتساب الحسنات والمعيشة الطيبة لمن امن وعمل صالحا !!!!.

وإذا كانت الحياة الدنيا هكذا في النصوص المقدسة, وإذا كانت هكذا كما يفترض في ذهن المؤمنين والإسلام السياسي فعلام الاقتتال الطائفي, وعلام هذا الصراع من اجل الاستحواذ وإقصاء الآخر, وعلام سر المفخخات والانتحاريين وكاتمات الصوت والسعي لقلب الحياة جحيما على رؤوس أحيائها, وعلام سرقة المال العام والنصب والاحتيال والفساد برموزه الدينية والطائفية, وعلام عرقلة خيار الناس الديمقراطي وتزوير إرادة الشعوب وسرقة ثوراتها وثرواتها, وقائمة التساؤلات تطول إلى ما لا نهاية عن جدوى شل إرادة الناس وتوجيه الصراع في الحياة وجهة تدميرية ودموية, أم هي سلوكيات عدوانية للتعجيل بيوم الآخر وللفوز بالجنة على أنقاض جماجم وضحايا وأرزاق الأبرياء في الدنيا !!!!!.

وفي جانب آخر فأن هذه النصوص الدينية بعقول مفسريها تجعلنا كذلك نقف متسائلين عن جدوى انجازات البشرية والحضارة الإنسانية عبر مسيرتها الطويلة, بدأ من توديع الفرد للغابة ودخوله المجتمع الإنساني, مرورا بمختلف مراحل التنظيم والرقي الاجتماعي وانتهاء بإنجازات البشرية في التقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ناهيك عن انجازات البشرية في الفكر والسياسية والفلسفة والثقافة والتعليم, وهكذا فأن البشرية تسير بخط متصاعد إلى الإمام وفقا لسنة التأريخ, واستنادا إلى التحسن المستمر في ظروف الحياة, والذي يجد انعكاساته الواضحة على الأداء العقلي والمعرفي للبشرية والمتمثلة بانجازاتها في مختلف المجالات العلمية والتقنية والفكرية والسياسية, متجاوزة حدود إشباع حاجاته الفسيولوجية في الأكل والشرب والجنس والتي أصبحت ثانوية قياسا بحاجات الإنسان الحضارية الأخرى, فهل يقبل بجنة بأقل ما يمكن من ظروف الحياة, وهل يقبل بجنة وردت على لسان مفسري النص المقدس مطابقة لظروف الحياة السابقة وفي ظروف الحرمان الفسيولوجي آنذاك, ونحن نعلم أن مكانة الإنسان المتميزة في النصوص الدينية تتجاوز كثيرا ما وعد به في الجنة, فكيف يقبل " المؤمن " بأقل من ذلك, وهل المؤمن هو من أدار ظهره لكل انجازات البشرية ويقبل بشروط الأقل الممكن في الآخرة, أم هي عودة إلى نقطة الصفر أو كما يقال عودة على ذي بدأ !!!!!.

أن نظرة سريعة في السيكولوجية المعاصرة التي تفسر الدوافع الإنسانية وأهميتها ومستوياتها, تؤكد انه في الوقت الذي تشكل فيه الدافعية المحرك الأساسي لسلوك الإنسان والحيوان على حد السواء وتتشكل في مجموع الرغبات والحاجات والميول والاتجاهات التي توجه السلوك نحو الهدف المراد تحقيقه, تتوقف حاجة الحيوان ودوافعه عند حدود الحاجات الفسيولوجية في معظمها, أما حاجات الإنسان ودوافعه فهي متشعبة ومعقدة وتفضي إلى تكوين أفراد بنوعية فكرية وعقلية جيدة, وهذه النوعية الفكرية والعقلية تبنى عند الفرد من خلال عدة مقومات تجعله يتقدم على مختلف المستويات ولا يتراجع وتفضي إلى نشوء حالة فكرية إنسانية لدى المجتمع, هذه الحالة الفكرية تجعل المجتمع يتطور علميا وفلسفيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا, ولكي يتم بلوغ ذلك هناك قاعدة هرمية وتراتيبية للحاجات الإنسانية وضعها العالم " أبراهام ماسلو " في نظريته " نظرية التحفيز الإنساني ", والتي يرى فيها أن الناس عندما يحققون احتياجاتهم الأساسية يسعون إلى تحقيق احتياجات ذات مستويات أعلى, ويرتبها على شكل هرم, والذي يسمى " بهرم ماسلو للحاجات الإنسانية ", ونختزلها بالمعلومات السريعة الآتية:

ـ تشكل الحاجات الفسيولوجية قاعدة هرم ماسلو, وهي الحاجات اللازمة للحفاظ على الفرد وهي: الحاجة إلى التنفس, والحاجة إلى الطعام, والحاجة إلى الماء, والحاجة إلى ضبط التوازن, والحاجة إلى الجنس والحاجة إلى الإخراج وغيرها.

ـ وتأتي بعد إشباع الحاجات الفسيولوجية, الحاجة إلى الأمان وهي تشمل: السلامة الجسدية من العنف والاعتداء, والحاجة إلى الأمن الوظيفي, وأمن الإيرادات والموارد, والأمن المعنوي والنفسي, والأمن الأسري, والأمن الصحي وامن الممتلكات الشخصية ضد الجريمة وغيرها.

ـ وتأتي بعد حاجات الأمن الحاجات الاجتماعية وتشمل: العلاقات العاطفية, والعلاقات الأسرية, وعلاقات الصداقة, والبشر عموما يشعرون بالحاجة إلى الانتماء والقبول, سواء إلى مجموعة اجتماعية كبيرة كالنوادي والجماعات الدينية, والسياسية, والمنظمات المهنية, أو إلى الصلات الاجتماعية الصغيرة كالأسرة والشركاء الحميمين والزملاء المقربين وغيرها.

ـ تقدير الذات, وهي الحاجة التي تأتي بعد الحاجة الاجتماعية, والمتمثلة بأن يحدد الإنسان هدفه من الحياة كأن يصبح عالما أو كادرا سياسيا أو تربويا أو مهنيا, وهي رغبات في الظهور والتميز وتأكيد الذات, وعندما يحدد الإنسان هدفه يسعى إلى تحقيقه, شريطة توفر قدر معقول ومقبول من الشروط السابقة.

ـ الحاجة إلى تحقيق الذات, وهي المرحلة التي يستطيع فيها الإنسان أن يحقق الصورة التي يتخيلها لنفسه, ويتمكن الإنسان في هذه المرحلة من مواجهة التحديات دون خوف من الفشل لتحقيق النجاح, ويبدأ بالشعور بأنه في ظروف يستطيع من خلالها الإبداع والتطوير ويصبح فرد منتج في مجتمع يسير إلى الإمام. ويفهم من هرم ماسلو انه يأخذ بيد الإنسان والمجتمع من حاجاته الأدنى إلى الحاجات الإنسانية البحتة و الراقية بما فيها الأدب والفن والجمال, وهو يلخص فكرة " تحول التراكم الكمي إلى تحول نوعي ". وعلى خلفية هذه الهرمية لإشباع الحاجات فأن الحاجات الفسيولوجية تشكل قاعدة الهرم, وهي دوافع فطرية أولية وذات اثر اقل في حياة الإنسان ورقيه ويتوقف ذلك على درجة إشباعها, لكي ينطلق الفرد إلى تحقيق إنسانيته وتميزه عن باقي المخلوقات باعتباره أرقى مخلوق على الأرض, فكيف ينظر له في السماء !!!!!.

أن العودة إلى الخطاب الديني لاستقراء جوهر الثواب الذي يعد الله به ذوي الإعمال الصالحة فنجده ينحصر عند قاعدة هرم الحاجات, أي حصرا في الحاجات الأدنى ذات الطابع الفسيولوجي, ففي قوله تعالى وفي سورة الزمر, الآية(73): " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فأدخلوها خالدين ". وكما نعرف ويعرف جميع المفسرين أن للجنة ثمانية أبواب هي: باب التوبة, وباب الصلاة, وباب الصوم وهو باب الريان, وباب الزكاة, وباب الصدقة, وباب الحج, وباب الجهاد وباب الصلة ( صلة الأرحام ). والجنة درجات أعلاها الفردوس الأعلى وهو تحت عرش الله ومنه تخرج انهار الجنة الأربعة الرئيسية ( نهر اللبن ـ نهر العسل ـ نهر الخمر ـ نهر الماء ), وللجنة انهار وعيون تنبع كلها من الأنهار الأربعة الخارجة من الفردوس الأعلى وقد ورد ذكر أسماء بعضها في القرآن والأحاديث النبوية منها: نهر الكوثر وهو نهر أعطي للنبي ( ص ) ويشرب منه المسلمون في الموقف يوم القيامة شربة لا يظمئون من بعدها أبدا, ونهر البيدخ وهو نهر يغمس فيه الشهداء فيخرجون منه كالقمر ليلة البدر وقد ذهب عنهم ما وجدوه من أذى الدنيا " ولا نعرف هنا من هم الشهداء, هل هم ضحايا العمليات الانتحارية أم الانتحاريين أنفسهم أم كليهما !!!, ونهر بارق وهو نهر على باب الجنة يجلس عنده الشهداء فيأتيهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا, ونهر عين تسنيم وهي اشرف شراب أهل الجنة وهو من الرحيق المختوم ويشربه المقربون صرفا ويمزج بالمسك لأهل اليمين, وعين سلسبيل وهي شراب أهل اليمين ويمزج لهم بالزنجبيل, وجميعها أشربة لا تسكر ولا تصدع ولا تذهب العقل بل تملأ شاربيها سرورا ونشوة لا يعرفها أهل الدنيا يطوف عليهم ولدان مخلدون كأنهم منثورا بكؤوس من ذهب وقوارير من فضة !!!!!.

أما بالنسبة لطعام أهل الجنة فهو من اللحم والطير والفواكه وكل ما اشتهت أنفسهم " حسب المفسرين ", ولعل سورة الزمر في الآية ( 34 ) تنوه عن ذلك: " لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ". أما بالنسبة لأشجار الجنة فتوصف بأن سيقانها من الذهب وأوراقها من الزمرد الأخضر والجوهر ومنها: شجرة قطوبي, والتي قال عنها النبي ( ص ) إنها تشبهه شجرة الجوز وهي بالغة العظم في حجمها وتفتق ثمارها عن ثياب أهل الجنة في كل ثمرة سبعين ثوبا ألوانا ألوان من السندس والإستبرق لم ير مثلها أهل الدنيا ينال منها المؤمن ما يشاء وعندها يجتمع أهل الجنة فيتذكرون لهو الدنيا فيبعث الله ريحا من الجنة تحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا, وسدرة المنتهى وهي شجرة عظيمة تحت عرش الله ويخرج من أصلها أربعة انهار ويغشاها نور الله والعديد من الملائكة وهي مقام السيد إبراهيم ( ص ) ومعه أطفال المؤمنين الذين ماتوا وهم صغار يرعاهم كأب لهم جميعا وأوراقها تحمل علم الخلائق " وما لا يعلمه إلا الله " وفي الجنة أشجار من جميع ألوان الفواكه المعروفة في الدنيا ليس منها إلا الأسماء, أما الجوهر فهو ما لا يعلمه إلا الله, ونلخص ذلك ما ورد في سورة البقرة وفي الآية ( 25 ) بقوله في الكتاب: " وبشر الذين امنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ", وقد ذكر من ثمار الجنة التين والعنب والرمان والطلح والبلح والسدر وجميع ما خلق الله لأهل الدنيا من ثمار !!!!!.

كما شغل إشباع الدافع الجنسي حيزا غير قليل في الخطاب الديني, فعلى مستوى الرجل المؤمن الذي يدخل الجنة فقد منحه الله طاقة جنسية أضعاف ما كان في الدنيا, حيث يقول النبي ( ص ): " يعطى الرجل في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع.. قالوا: يا رسول الله أو يستطيع, قال: يعطى قوة مائة رجل ", أما بالنسبة للنساء فهن صنفين: 1 ـ الحور العين وهن مخلوقات لأهل الجنة وقد وصفت في القرآن بأنها: ( كأنهن الياقوت والمرجان ـ سورة الرحمن, الآية 58 ), ( وكأمثال اللؤلؤ المكنون ـ سورة الواقعة, الآية 33 ), ( وكأنهن بيض مكنون ـ سورة الصافات, الآية 39 ), وهن نساء نضرات جميلات لو أن واحدة منهن اطلعت على الأرض لأضاءت الدنيا وما عليها ـ حسب المفسرين, و 2 ـ نساء الدنيا المؤمنات اللاتي يدخلن الجنة وهؤلاء هن ملكات الجنة وهن اشرف وأفضل وأكمل من الحور العين, وكما قال النبي ( ص): " كفضل ظاهر الثوب على بطانته.... ", وكلا الصنفين مطهرات من كل " النجاسات " أي لا تبول ولا تحيض ولا تتبرز, أي إنهن ليست ناقصات عقل ودين كما في الدنيا, وعلى خلفية الحديث النبوي الذي يقول: " خرج رسول الله ( ص ) في أضحى, أو فطر إلى المصلى فمر على النساء, فقال: يا معشر النساء تصدقن فاني أريتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن, وتكفرن العشير, ما رأيت من ناقصات عقل ودين اذهب للب الرجل الحازم من أحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل. قلن: بلى, قال: فذلك من نقصان عقلها, أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم. قلن بلى, قال: فذلك من نقصان دينها ـ صحيح البخاري ـ الجامع الصحيح ـ رقم 304 ", وغيرها من ألأحاديث الكثيرة بذات المعنى, وأذكر هنا فقط حديثا أخرا للنبي ( ص ): " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء, واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ـ صحيح البخاري, الجامع الصحيح, رقم 3241 " !!!!!!.

وفي مجمل حديثنا المسند وبحدود التفسيرات الواردة نرى أن الجنة اختزلت في مجملها عند حدود قاعدة الهرم المتمثلة بإشباع الحاجات الفسيولوجية, من أكل وشرب وجنس, فهل تختزل أعمال الإنسان " والمؤمن" بشكل خاص وعبر عقود من حياته وعطائه عند قاعدة هرم الحاجات, وهل أن كدح الإنسان طوال حياته وأعماله الصالحة يجازى بأكل وشرب وجنس !!!!.

أن إيقاف العقل الإنساني عند حدود النصوص المقدسة يؤدي إلى إشاعة الجهل والفقر والمرض والإرهاب والقتل والإبادة الجماعية في مجتمعاتنا, وهنا تأتي أهمية انطلاق العقل في كامل حريته في الإبداع والتأمل والخيال دون التوقف, فالعقل الإنساني ليس في حدوده الجغرافية المحلية بل في عالميته العلمية والمعرفية وهي تساعدنا كثيرا في تضيق المسافة بين الدين باعتباره نصا مقدسا وبين الفكر الديني باعتباره مفسرا للنص, ويشكل ذلك إضافة حيوية للنص المقدس ووضعه في مكانه اللائق !!!!.

أن داعش بصورتها القاتمة اليوم تشكل اشد أشكال الإسلام تطرفا وهمجية في تطبيق النص الديني في إطار ممارساتها في المناطق التي تتقاتل فيها. ويبقى هاجسنا المشروع في فصل الدين عن الدولة, وفي فصل استخدامه كسلوك ميداني في الحروب للحفاظ على أعراض وضحايا الحروب وخاصة من النساء, فالدين لله والوطن للجميع !!!.




216
سياق نشأة داعش عربيا وعراقيا وقطع الرؤوس ونظرية المؤامرة !!!   

د.عامر صالح
   
كلما ننتكس ونصفع على وجوهنا وتخور قوانا العقلية في النباهة والقدرة على التحليل والاستنتاج لمعرفة ما يدور من حولنا مقرون بضعف إمكانياتنا للدفاع عن وجودنا, نلقي اللوم على غيرنا ونحمله كل ما يحل بنا من كوارث, وكأن الآخر متفرغ وليست لديه مهمات إلا الإيقاع بنا, وكأننا نمتلك العصمة والنزاهة والقدرات الخارقة, ولكن الآخر لا يعطينا الفرصة الكافية لكي ندافع عن أنفسنا !!!.                                                                                                                       

هذه الآلية النفسية في الإسقاط والتبرير وتحميل الآخرين بما يحل بنا من كوارث أو اتهام الآخر بما نحن فيه معروفة في المجتمعات المأزومة. وتشتد شكوانا على الآخر كلما عجزنا في الدفاع عن مقدراتنا وأخفقنا في تحقيق أي تقدم ملموس يحفظ ماء الوجه. ففي الوقت الذي لا نريد فيه من الآخر أن يتدخل في شئننا الداخلي, نطالبه الآن بأن يحل مكاننا في الدفاع عنا وأن ينقذنا من محننا الداخلية في وقت لا نمتلك فيه مقومات الحد الأدنى من اللحمة الوطنية للدفاع عن الأرض والأعراض !!!.

تفزعنا اليوم داعش بقطع الرؤوس وسبي الأعراض وإلغاء تنوعنا الديني والمذهبي والعرقي علنا بكل وقاحة وتهز وتستنفر الضمير العالمي لما ترتكبه من جرائم بحق الإنسانية جمعاء, ولكن قطع الرؤوس وجزها لم يكن ولادة داعشية بحته, بل هو استمرار لما قطعت من الرؤوس والسبي عبر عقود خلت, كانت تقطع فيه الرؤوس في الخفاء, في المعتقلات وزنزانات السجون, ولكنها كانت تجري على قاعدة " أقطع رأسا وموت خبر ", أما اليوم فأقطع رأسا وشيع الخبر لكي يخلق مزيدا من الذعر والرعب والإحباط, وتلك هي وسيلة الإرهاب لتحقيق أهدافه !!!!.
أن داعش ليست ظاهرة غريبة علينا وأن اختلفت وجوه منفذيها ومرتكبي جرائمها, فهي منتج وخلط أكثر قسوة بمظاهره العيانية لتلك النظم الدكتاتورية العفنة التي أسست لأخلاق داعش وهي أدوات أحيائها اليوم بلباس متأسلم. أن نشأة داعش تكمن في توقف الزمن لأكثر من نصف قرن في العالم العربي تحول فيه الاستقلال واختزل إلى دول عربية بوليسية لا قيمة لمعنى الاستقلال الحقيقي فيها, فقد اندمجت وتوحدت بل انصهرت الدولة في النظام وانحصر النظام جملة وتفصيلا في ترسانة الحزب الواحد وقائده أو زعيمه وفشل مشروع الدولة الوطنية الذي قدمت من اجله الحركة الوطنية قوافل من الشهداء, من مواطنين ومناضلين وقيادات  وطنية وميدانية !!!!.   
لقد اختزلت الدولة ومفهومها وجعلت منها أداة طيعة بيد الحزب الحاكم, بل جعلت من الدولة أداة تابعة للحزب وفي خدمته حصرا ولضرورات بقائه, وأصبحت الدولة لاحقة لا سابقة على نظام الحكم, الذي ينبغي أن يكون الحزب محكوما بالقواعد الأساسية للدولة, بل سيطر الحزب على الدولة وعلى أجهزتها العسكرية والأمنية وعلى مؤسسات المجتمع المدني, وقد أضفت على ذلك شرعية " دستورية " من خلال التكريس القانوني لقيادة الحزب التاريخية وبدون انقطاع, وإيجاد هيكلية موالية للحزب في كل السلطات, التشريعية منها والقضائية والتنفيذية, بل وحتى سلطة دينية شمولية ومرجعية لها رموزها ومنظريها, ودمج كل هذه السلطات فكرا وممارسة في فكر وممارسات الحزب القائد, مما سبب في نشوء أوضاع شاذة ومرضية استمرت لعقود, أدخلت الوطن والمواطن في غيبوبة انعدام الفهم الصحيح للوطن والمواطنة ولمفهوم الحرية والعدالة الاجتماعية, وتشويه معنى الدولة التي يفترض أن تكون في خدمة الشعب أولا وأخيرا, فلا مجال لآليات الفصل مابين " القوة والسلطة والحاكم" ولا مجال لآليات صنع القرار السياسي المستقل من خلال الإرادة الحرة الديمقراطية !!!!.
ولا نستغرب والحالة هذه أن تستدرج أجهزة الجيش والدفاع والأمن إلى حماية الحزب الحاكم وحاشيته, بعد أن تحول الحزب إلى المالك الوحيد لهذه الأجهزة وتأتمر بإمرته, فتتحول هذه الأجهزة بفعل الدور الذي تؤديه إلى أجهزة قمعية للمواطن وليست في الدفاع عن أمنه وسلامته من الأخطار الخارجية والداخلية الحقيقية, طبعا إلى جانب إمكانيات الحزب وأجهزته في إقحام المجتمع بالمشكلات والصراعات القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية وزجها في آتون الصراع المميت في اللحظة المناسبة ولأغراض بقاء الحزب ونظامه في الحكم بأي ثمن, بل إن بعض من هذه الأحزاب ذهب بعيدا وأنهى الدولة ومؤسساتها لأنها تشكل ضغط وعائقا وعبئا عليه حتى وان كانت تحت إمرته, كما في نموذج نظام معمر ألقذافي التعسفي, الذي حول الدولة إلى ركام وحول المجتمع إلى شتات قبلي أصم لا تعرف فيه إلى أين المسير !!!!   
            أما داعش بنسختها العراقية فهي تمثل خلاصة مركزة سلوكية للفساد والظلم الذي نشأ في العراق تاريخيا, وما هي إلا إحدى الدورات العنيفة لإعادة إنتاج الظلم والفساد بواجهات دينية وعبر تحالفات بعثية لغرض الاستفادة من الأخير في قدراته اللا أخلاقية واللوجستية, وقدراته الوسخة في خلط الدين بالسياسة في لحظات التدمير والعنف الشامل الذي يطال كل شيء دون استثناء !!!.   

وقد نشأت على خلفية الظلم والفساد في العراق في عقوده الأخيرة, وعلى أرضية قسوة خارقة واستثنائية حيث قائد الضرورة كان على هبة الاستعداد لذبح مئات الألوف من عامة الناس ومن كوادر البلد العلمية والمهنية والسياسية ومن خيرة مفكريه وأدبائه وكتابه وشعرائه, وحتى من أنصاره ومؤازريه,وحرب ضروس استمرت ثماني سنوات لم تلبث أن انتهت بأعجوبة ساهم العناد الإيراني باستمرارها وإراقة الدماء عند كلا الطرفين,حتى لحقت بها حرب احتلال الكويت,ثم تلتها حرب تحرير الكويت ضد العراق وكان في ذلك اشد دمارا للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للدولة العراقية,وقد ساد مناخ من الإعتام واليأس والقنوط والإحباط ارتبط بفقدان الأهل والإخوة والأقارب في الحروب وتصدع العائلة والمدينة والقرية والحي والحارة والجار بتأثير شدة الفقر والحاجة حيث بلغت الرواتب في أفضل الحالات من 5 الى6 دولارات في بلد نفطي كالعراق,إضافة إلى التصدعات القيمية والأخلاقية العامة كمحصلة لهذا كله,وقد قادت هذه الظروف إلى شيوع الجريمة العادية والسرقة ولكنها كانت في معظمها تحت قبضة النظام السابق حيث كان على استعداد لتشجيعها أو القبض على منفذيها بنفس الوقت للتخفيف من أزمته الداخلية,وكذلك تاركا لأجهزته المخابراتية والأمنية حرية ارتكاب الجرائم النوعية ضد مناوئيه !!!!.

ثم أتت فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 حيث شيوع وانتشار التنظيمات السياسية الطائفية التي نمت نموا مذهلا وسريعا وبتشجيع من دول الجوار العربي وغير العربي مستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود في ظل النظام السابق جراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي سببها له,وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون فهم قوانينه وأسبابه,والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران " دون اتهام محدد لأحد بالإرهاب " ولكن الجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على ارض العراق المظلوم ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان واشتراطاتها السياسية,بما فيه حتى شروط تشكيل حكومته القادمة ,أنها كارثة حقيقية ضد استقلال البلد وسيادته,وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل,بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده,وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر باليابس !!!!.

هذه داعش اليوم في العراق أتت استجابة مرضية واضطراب سيكوباتي لكل ما حصل من تاريخ قريب,فهي تقطع الرؤوس وتسبي الأعراض وتبيع نسائنا في أسواق النخاسة وتهزم الجيش العراقي بأعداده وعدته من عربه وأكراده وبيشمركته, وكأنها تلقن الدروس تلو الدروس للجميع, فهل من منادي للوحدة الوطنية, وهل من ضمير حي يستيقظ لنجدة نسائنا وأطفالنا, وهل هناك ما تبقى من كبرياء لشرفاء قادتنا, أم أن داعش بديل الأمر الواقع !!!!!



                                                                                                                                                                                                                          .






217
ختان الإناث أو ما يسمى  " بخفض الجواري " بين الاضطهاد والشرعنة الدينية !!! 

د.عامر صالح 

أثار التنظيم الإرهابي  داعش " التنظيم الإسلامي في العراق وبلاد الشام " مزيدا من الذعر والرعب والاستياء الدولي بإقدامه على اتخاذ خطوات همجية بإكراه النساء والفتيات على الختان أو الخفض, في محاولة منه لتدنيس القيم الأخلاقية في المناطق التي احتلتها في العراق الآن أو في سوريا قبل ذلك ولإلحاق الأذى النفسي والإحباط بأرباب ورجال الأسر التي تقع تحت سيطرتها. وختان النساء يشبه إلى حد بعيد من حيث تداعياته وإضراره النفسية بالإخصاء عند الرجل وخاصة في زمن الحروب لإذلال المقاتلين وأسرهم ( وهذا يكون باستئصال خصيته وأحيانا باستئصال قضيبه كذلك ), مع الفارق في أنه عند المرأة لا يقطع النسل في معظم الحالات, لكنه يصيب المرأة بالتدهور في قابليتها الجنسية ويلحق بها اشد الأضرار النفسية, من كآبة وعدم الثقة بالنفس في أداء دورها مع الشريك, وضعف قابليتها الجنسية, والإحساس بتدني القيمة الجمالية لأعضائها الجنسية, والألم الشديد عند الجماع, والالتهابات المتكررة للمجاري البولية, ونقص في الخصوبة قد يصل أحيانا إلى العقم وكذلك اضطرابات في المزاج العام وسرعة الغضب والانفعال . ولكن كالعادة فالحركات الإرهابية المتأسلمة تبحث لها عن مبرر وضالة في الخطاب الديني والسنة النبوية لإسناد أفعالها بما يضفي الشرعية على سلوكها الهمجي, وسوف نتطرق لاحقا إلى ختان الإناث أو " خفض الجواري " كما ورد ذكره في السنة النبوية !!!.

أن ختان الإناث أو تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية أو ما يسمى في المصطلح الشرعي الديني " الخفاض أو خفض الجواري " جميعها مصطلحات ذات دلالة لغوية وثقافية ودينية, وحسب تعريف منظمة الصحة العالمية هي أي عملية تتضمن إزالة جزئية أو كلية للأعضاء التناسلية الأنثوية دون وجود سبب طبي. ويمارس تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية باعتباره أحد الطقوس الثقافية أو الدينية في أكثر من 27 دولة في أفريقيا ويوجد بأعداد أقل في آسيا وبقية مناطق الشرق الأوسط. وفي مقدمة الدول الإفريقية وغيرها من الدول التي تمارس ختان الإناث " الخفض " حسب نسبتها العالية تنازليا هي: الصومال, غينيا, جيبوتي, مصر, اريتريا, مالي, سيراليون, السودان, غامبيا, بوركينا فاسو, إثيوبيا, موريتانيا, ليبيريا, غينيا بياسو, تشاد, ساحل العاج, كينيا, نيجيريا, السنغال, جمهورية أفريقيا الوسطى, اليمن, تنزانيا, بنين, العراق, غانا, توغو, النيجر, الكاميرون, ثم أقلها نسبة أوغندا !!!.

ومن الناحية التاريخية فأن ختان المرأة عادة فرعونية قديمة, وكانت البنات تختن في مصر القديمة, وقد يكون على الطريقة المتبعة في النوبة وبلاد السودان التي يطلقون عليها: الختان الفرعوني. وقد نشرها المصريون القدامى في شرق أفريقيا. ويقول المؤرخون إنها عادة فرعونية قديمة نشأت في مصر في ما قبل زمن إبراهيم عليه السلام, مما يعني ان عادة ختان النساء نشأت قبل اختتان الرجال, باعتبار أول من أختتن من الرجال هو إبراهيم عليه السلام. ومن مصر انتشرت في حوض النيل ثم إلى شرق أفريقيا ووصلت بشكل خفيف إلى الجزيرة العربية. وختان النساء موجود قبل الإسلام, وبقى بعد الإسلام مشروطا حسب السنة النبوية. والختان لدى المسيحية موجود عند الأقباط في مصر والسودان, أما عند اليهودية فهو موجود فقط لدى فرقة يهود الفلاشا !!!.

ومن المعترف به دوليا اليوم أن ختان الإناث يشكل انتهاكا لحقوق الإنسان الخاصة بالفتاة والمرأة. وهو يعكس انعدام المساواة المتأصل بين الجنسين, ويشكل صورة مفرطة للتميز ضد المرأة. وتنتهك هذه الممارسة حق الشخص في التمتع بالصحة والأمن والسلامة البدنية, وحقه في عدم التعرض للتعذيب والمعاملة القاسية أو أللإنسانية أو المهينة, وحقه في الحياة حين تفضي هذه العمليات إلى الموت. كما إن هناك يوم عالمي لرفض ختان الإناث ترعاه اليونيسيف للتضامن مع ضحايا الختان ورفضه, وهو يوم 6 فبراير من كل عام !!!.

وختان الإناث ممارسات تقليدية ضارة تنطوي على إزالة جزء من الأعضاء التناسلية الأنثوية الخارجية أو إزالتها بشكل كامل. وتشير التقديرات إلى أن عدد الفتيات والنساء اللواتي أجري لهن الختان حول العالم يتراوح بين 100 و140 مليونا. ويتراوح ختان الإناث ما بين الإزالة الجزئية أو الكلية للبظر، وبين إزالة البظر بكامله وبتر الشفرتين الصغيرين، وبين أشد أشكاله تطرفا وهو إزالة الأعضاء التناسلية الخارجية بأكملها وتخيط جانبي فتحة المهبل (الختان التخييطي الشامل أو الختان الفرعوني). وللتفصيل في هذا يمكن هنا الإشارة إلى تصنيف منظمة الصحة العالمية حول ختان الإناث, حيث هناك أربعة طرق يتم بها ختان الإناث, هي: 

1 ـ إزالة غلفة البظر مع إزالة جزء أو كل البظر. 

2 ـ إزالة البظر مع الإزالة الجزئية أو الكلية للشفريين الصغيرين.

3 ـ  إزالة جميع الأجزاء الجنسية ( وتشمل جميع الأجزاء السابقة الذكر بالإضافة للشفريين الكبيرين مع تضييق المهبل عن طريق الخياطة, ويسمى هذا النوع من الختان بالختان الفرعوني.

4 ـ تدمير وتسوية البظر والشفريين الصغيرين عن طريق كي هذه الأجزاء أو حرقها مع الأجزاء المحيطة بها.

وتتم عملية ختان الإناث أو خفض الجواري أما بدون تخدير وغالبا باستخدام أدوات بدائية كالموس والشفرات الحادة أو مجرد سكين عادي, وفي بعض الحالات  باستخدام مخدر, ويتسبب ذلك في الآم شديدة مؤذية للفتاة أثناء وبعد العملية, بل إن صدمة كبرى تنتابها جراء قطع بعض أو كل من هذه الأجزاء, وقد تسبب إلى حالات من الوفاة بسبب الرعب والفزع والخوف والانهيار النفسي الذي يرافق العملية. ولا ننسى إن المناطق الجنسية هذه مشبعة بالكثير من الأوعية الدموية والأعصاب والغدد الجنسية التي لها وظائف حيوية في حياة المرأة الجنسية التي تسهم بشكل كبير لإتمام الدور الحيوي والحياتي الجنسي مع الشريك !!!. 

أما من الناحية الشرعية ـ الدينية وانطلاقا مما أكدته السنة النبوية فأن أي من الفقهاء لم يقل بأن خفض " ختان " النساء حرام أو مكروه تحريما أو تنزيها. وله مشروعية وجواز في الجملة لدى جميع المذاهب الإسلامية, ولكن إن تجاوز الحدود الشرعية المتفق عليها فهو حرام. وأحكام علماء الفقه والمذاهب مختلفة في حكم الخفاض " الختان " بين من يوجبه ومن يستحبه, ومن يقول انه مجرد مكرمة للمرأة. فعند الأحناف مكرمة وعند المالكية مندوب" أي ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه " وعند الشافعية واجب وعند الحنابلة مكرمة غير واجب وعند الإباضية مكرمة غير واجب وكذلك عند الشيعة غير واجب وهو مكرمة ومباح شرعا إذا لم يؤدي إلى ضرر !!!.

سوف لا ادخل هنا في التفاصيل والإخبار التي يتناقلها الفقهاء والمؤرخين وعلماء الدين من مختلف المذاهب " سأترك ذلك إلى عدد من الروابط في نهاية المقال " ولكن اكتفي بالرواية المسنودة لدى مختلف المذاهب وان جرت عليها بعض التعديلات, فهي لا تمس جوهر الموقف الديني المتمثل بموقف النبي محمد ( ص ) من ختان النساء والذي تجمع عليه المذاهب الإسلامية. والرواية نقلا عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) حيث قال: " لما هاجرت النساء إلى رسول الله ( ص ) هاجرت معهن امرأة يقال لها: أم حبيبة وكانت خافضة تخفض " تختن " الجواري, فلما رآها رسول الله ( ص ) قال لها: يا أم حبيبة ! العمل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ قالت: نعم يا رسول الله إلا أن يكون حراما فتنهاني عنه, قال لا¸بل حلال فادني مني حتى أعلمك, فدنت منه فقال: يا أم حبيبة إذا أنت فعلت فلا تنهكي أي لا تستأصلي وأشمي, فأنه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج .." وفي رواية أخرى أيضا عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) قال: كانت امرأة يقال لها أم ظبية تخفض الجواري فدعاها النبي (ص) فقال: يا أم ظبية إذا خفضت فاشمي ولا تجحفي فانه أصفى للون الوجه وأحظى عند البعل ". وحسب التفسير اللغوي فالمقصود بعدم الإنهاك أو الإجحاف أي عدم المبالغة في القطع, والشم يراد به الأخذ قليلا من قلفة البظر !!!.   

وعلى العموم فان تداخل ما هو ديني وثقافي ـ تاريخي موروث في ظروف انتعاش الإرهاب والتطرف الديني والابتعاد عن الحياة الطبيعية القائمة على الفصل ما بين الديني والسياسي, ومابين الدين كشأن شخصي خاص وما بين الحياة العامة, يسمح للتطرف الفكري الديني في ركب النصوص الدينية واستخدام السنة النبوية لارتكاب مزيدا من المجازر والجرائم بحق حريات الأشخاص الفردية والاجتماعية, ويبقى الاضطهاد هو الاضطهاد مهما غلف بشرعية دينية لأنه مجافي لروح العصر والحياة المدنية وتراكم الخبرة البشرية في الحفاظ على كرامة الإنسان ومكانته !!!.

وتشكل ظاهرة الإكراه في ختان الإناث, وخاصة في مجتمعات الحروب احد مظاهر الانتقام والاضطهاد للمرأة, وهو امتداد طبيعي لما تتعرض له المرأة كمشروع للاستلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية, خارج إطار والديها, من أخوانها الذكور الصغار والكبار, حتى إذا بلغت اشتدت دائرة الرقابة عليها من الجميع, ثم يستقبلها زوجها فيعيد إنتاج تربيتها وفق لما يرتئيه مناسبا له, بل حتى أطفالها الذكور يساهمون في " تربيتها " وفرض دائرة من الممنوعات على حركتها وحريتها الشخصية, وتتعرض إلى شتى مظاهر الإساءات كامرأة أو زوجة, من الإذلال وجعلها تشعر بعقدة الذنب, وإساءة معاملتها جسديا بالضرب والتهديد والوعيد, ومنعها من التعاطي بالمال وإيجاد فرص عمل لكسب المال وجعلها معتمدة كليا على مال الرجل أو اغتصاب مالها الخاص والتصرف به, وعزلها اجتماعيا ومنعها من الاتصال بالآخرين إلا بموافقات مسبقة وبشروط محكمة في الصرامة ومراقبة تحركاتها عن كثب, إلى أين تذهب ومع من تلتقي, وجعلها تشعر بالذنب أمام أخوانها أو أولادها وتهديدها من عدم رؤية أولادها وحتى ممارسة الضرب والاهانة لها أمامهم, وممارسة الإكراه والتخويف والتهويل لها وإجبارها على القيام بمختلف التصرفات التي قد تؤذي فيها حتى نفسها.

ويأخذ هذا الاستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يندمج الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض. وفي هذا السياق يأتي ختان الإناث في زمن الحروب أو في زمن السلم الأهلي الشكلي امتداد لآلة القمع واضطهاد المرأة, فكيف الحال أذن عندما يكون مصير النساء بيد كارهي النساء من الحركات الإرهابية والانتقامية الدينية المتطرفة !!!!. 

ممكن العودة إلى الروابط الآتية لمزيد من الاطلاع: 

218
في سيكولوجيا مفهوم الانتماء بين المرونة والتعصب ولحظات انتعاش  "داعش " المؤقتة !!!!

د.عامر صالح

كما نعرف أن الإنسان المعاصر يتمتع بدوائر انتماء متعددة منها الانتماء الطائفي والوطني والقومي والسياسي والإقليمي والمهني والجيلي وغيرها من الانتماءات, والشعور بالانتماء لهذه هو دينامي وسياقي, دينامي لأنه يتحرك ويتغير في فضاء الزمان والمكان, وسياقي لأنه يتعلق بالسياق الذي يوجد فيه الفرد, ففي سياق ما مثل أثناء نقاش سياسي مع مجموعة كردية أو عربية يكون الشعور بالانتماء القومي هو الأبرز, بينما يكون الانتماء المهني هو الأبرز أثناء جدال مهني. ومن غير المنصف والأخلاقي أن يطلب من الفرد أن يحصر شعوره بالانتماء إلى دائرة واحدة كالدائرة الوطنية أو القومية أو الأممية أو الطائفية, وان يتخلى عن دوائر الانتماء الأخرى, إذ أن لكل دائرة انتماء دورها النفسي والسلوكي والاجتماعي في حياة الناس, وعليه من غير المنصف وغير المجدي أيضا التعامل مع الانتماء الطائفي باعتباره مرض عضال أو آفة يجب مكافحتها. نحن هنا نكافح التعصب الطائفي الذي يقوم بقتل الإنسان من خلال حصره في دائرة انتمائية ضيقة, كالانتماء الطائفي ـ الديني الضيق, واعتبار الفرد الضحية ممثلا حقيقيا لدائرة الصراع الطائفي ـ الطائفي, متناسيين بغباء انتماءات الإنسان الأخرى الوطنية والقومية والسياسية.فكم من عشرات الألوف من الضحايا في العراق قتل ظلما وبهتانا, وعشرات ألوف أخرى ينتظرها القتل بدوافع الانتماء الطائفي قد تنفذ بأيدي قاتل أو مجرم متعصب ـ طائفي, يرى في انتماء هؤلاء الطائفي ذريعة لجرائمه, وهم أبرياء حقا لا يمتلكون من التعصب ـ الطائفي شيئا يذكر, سوا لأنهم انتموا بالأسماء أو الطوائف لهذه الطائفة أو تلك, أو لأنهم ورثوا هذا الدين أو هذه الطائفة عن أبائهم وأجدادهم, وقد لا يحمل الضحايا أي مساحة تذكر في شخصياتهم من التعصب الطائفي, وقد ينتمون إلى دوائر أخرى أوسع بكثير من الطائفية الفطرية " الموروثة " !!!!.

أن بالإمكان للانتماء الطائفي أن يسخر للمصلحة الوطنية, وان التناقض بين الانتماء الطائفي وبين الوطني هو ليس أمرا حتميا, وان تاريخ العراق السياسي يشهد كثيرا من التوظيف المثمر للانتماءات الطائفية في الدفاع عن الوطن وسيادته ضد المحتل الأجنبي, ومن اجل ترسيخ السيادة الوطنية, وخاصة ما حصل في بداية تشكيل الدولة العراقية وما قبلها حيث لعب زعماء الطوائف السنية والشيعية وغيرها دورا مشرفا في مقارعة الاستعمار وردع طموحاته اللامشروعة والحفاظ على الوطن" , وبالإمكان من جانب آخر استغلال الانتماءات الطائفية والمذهبية لأهداف فئوية أو سياسية ضيقة أو لمعاداة القوى الوطنية, كما حصل ذلك في بعض المحطات المؤسفة والمؤذية لبعض فصائل الإسلام السياسي في تحالفها مع انقلابي 8 شباط عام 1963 والعمل بفتوى " الشيوعية كفر والحاد " والذي راح ضحيته عشرات الآلاف من المناضلين الوطنين والضحايا الأبرياء, وعلى العموم يجب عدم معاداة الانتماءات الطائفية, بل يجب تفهم دورها النفسي والاجتماعي في حياة الناس, وفي نفس الوقت التحذير من التعصب الطائفي الذي يقصي أو يعادي الآخرين, أذن هناك فرق بين أن تنتمي إلى طائفة ما وبين أن تتعصب لها !!!!.
ويبقى الحديث عن مشروعية الانتماء إلى طائفة ما أو قومية ما أو هوية سياسية ما ناقصا بالتأكيد إذا لم يقترن بالحديث عن التعددية والديمقراطية كمنهج وكقيمة اجتماعية, والتعددية تعني قبول الآخرين المختلفين قوميا أو طائفيا أو سياسيا واحترام رأيهم وحقوقهم وطريقة حياتهم طالما أن ذلك لا يمس بحقوق بقية الفئات, ففي الوقت الذي ندعو به إلى حق الناس في ممارسة انتمائهم الطائفي يجب الدعوة بقوة إلى انتهاج التعددية والديمقراطية السياسية لكي يأخذ كل مكون اجتماعي أو ديني حجمه الطبيعي وألا يبقى خطر تحول الانتماء الطائفي إلى تعصب طائفي, كما تشهد على ذلك المظاهر العلنية والخفية للصراع في الساحة السياسية العراقية والمتلبس بثوب الطائفية والذي قام على خلفية نهج الاحتلال في التأسيس لنظام المحاصصة وزرع بذور الفتنة بين المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والاثنية العراقية, والمتمثلة بالعديد من الإجراءات الانتحارية : مثل قانون إدارة الدولة, واجتثاث البعث, وحل القوات المسلحة العراقية, وشكل المنظومة السياسية, والدستور, وقانون مكافحة الإرهاب, ودمج المليشيات في القوات المسلحة وغيرها في العديد من الإجراءات التي تدفع صوب الاحتقان السياسي والطائفي, والذي اتضحت أثارها منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003, والتي تجسدت في الحرب الأهلية السياسية ـ الطائفية, والتي سمحت لتنظيم القاعدة الإرهابي وفلول النظام المنهار أن تتصدر معارك " الشرف والبطولة " لإبادة شعبنا, والتي كادت تطبق على مكونات شعبنا وسحرها الجميل إلا أن نباهة شعبنا وتقاليده في التسامح الاجتماعي واللاعصبية ساهمت في تضيق نار الفتنة في محاولة لإخمادها.

اليوم يمر شعبنا ووطنا باختبار جديد هو الأخطر من نوعه منذ سقوط الدكتاتورية, وأن كان يجسد نفس رموز التحالف القديم بين أجنحة قاعدية وفلول البعث المنهار والتحالفات السيئة لدول الجوار, إلا انه وجد في الدعم اللوجستي للعشائر المرتدة وتسهيلات القيادات الإدارية والسياسية للمناطق التي دخلوها, إلى جانب انهيارات قيادات الجيش المؤقتة ضالته للاستقواء والانفراد, حتى وصل الأمر أخيرا بهم إلى إعلان " دولة الخلافة الإسلامية في العراق " بقيادة تنظم داعش الإرهابي, مراهنا هذا التنظيم على تصدع الجبهة الداخلية وخلق بؤر للتوتر الطائفي في داخل الطائفة الواحدة " كم تجسده أحداث الصراعات بين مرجعية محمود الصرخي ومرجعية السيستاني ومظاهر الاشتباك مع القوى الأمنية لجرها إلى تصدعات وصراعات داخلية لكي تسهل اختراقها وتصعيد مظاهر ذلك في الوسط والجنوب الشيعي مستندين إلى الكثير من الخلايا النائمة لتنظيمات البعث, أو التي بدأت تنشط في الاوانة الأخيرة والتي تتضح في حملات الاعتقالات للكثير من القيادات البعثية في العديد من المحافظات العراقية الجنوبية  وغيرها!!!!.

وإذ تتضح الآن ملامح بداية فرط العقد بين داعش والبعث وبعض من رموز العشائر المتواطئة بسبب الاختلاف ألتناحري والمصلحي في الأهداف الكبرى لهؤلاء, إلى جانب الأضرار الجسيمة والمهلكة التي سببتها داعش في المنظومة والروابط الاجتماعية والقيمية في المناطق التي احتلتها, إضافة إلى المجازر الدموية والقتل الجماعي التي ارتكبتها بحق الأبرياء والإساءة إلى الثقافة والتراث العراقي بمختلف تنوعاته ونسيجه ألاثني والقومي والديني والمذهبي والتاريخي, تأتي هنا في مقدمة الأولويات تعزيز ثقافة الانتماء الايجابي والمرن لمفهوم الانتماءات الطائفية والاثنية والثقافية والمهنية والمجتمعية بصورة عامة بما يعزز ثقافة الانفتاح على الآخر المختلف سلميا ضمن تطلعات كبرى هدفها الحفاظ على الوطن وترابه وثقافته. ويبقى القضاء على داعش وحلفائها من ابرز محكات الولاء للوطن في ابرز محنته الآن وصراعه مع قوى الظلام والتخلف والردة الثقافية والحفاظ على العراق من العودة إلى ثقافة القرواسطوية الرجعية المتخلفة !!!.

219
انتصارات "داعش" المؤقتة والانجرار وراء فتاوى الحروب الطائفية !!!


د.عامر صالح 

أن المعطيات الميدانية تشير إلى أن الإرهاب العراقي يمكن التحكم فيه, وهو ذو أهداف سياسية موضعية بحتة, ترتبط بشكل خاص بالبيئة السياسية العراقية الحاضنة له, رغم التمويل والإسناد من دول الجوار أو من دعم ومؤازرة تنظيم القاعدة الدولي, وان دليل ارتباطه وثيقا بالبيئة العراقية هو فترات المد والجزر في العمليات الإرهابية, والتي تكاد تختفي كليا في بعض مناطق العراق, والتي ارتبطت أساسا بطبيعة الصفقات السياسية في تداول الحكم في العراق, والتي أخذت هي الأخرى طابع الشد والاسترخاء, والتي كادت تصل إلى حد المطابقة مع العمليات الإرهابية في علاقة ارتباطيه عكسية فحواها : "كلما حصل الانفراج السياسي ضعفت العمليات الإرهابية وبالعكس", أي بمعنى آخر أكثر وضوحا أن للعملية السياسية الديمقراطية في العراق ذيول ترتبط مع المنظمات الإرهابية ذات الطابع العراقي البحت " وهي من مفارقات الديمقراطية العراقية ", وهو مخالف بالتأكيد لأعراف تنظيم القاعدة الدولي الذي لا يعرف الصفقات السياسية والمساومات أو التحالفات المؤقتة مع المخالف الديني أو السياسي بفعل ارتباطه بأهداف لاهوتية كونية تأخذ من تكفير الأخر الديني والطائفي والمذهبي والسياسي هدفا تدميري لها باختلاف خصوصية المكان وتفاعلات السياسة هنا وهناك !!!. 

لقد انتصرت داعش مؤقتا على خلفية احتقان عصي في العملية السياسية وتوقيت معروف للعقلاء من مواطني العراق وسياسيه الحريصين على استقراء الأحداث الجارية, وابرز هذه الاحتقانات هو الصعوبات الجدية في تشكيل الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ابريل من هذا العام, والصراعات الاثنو سياسية طائفية حول عدم جدوى بقاء المالكي لولاية ثالثة والإصرار على إزاحته من المشهد السياسي والحكومي بصورة عامة وبأي ثمن حتى وان كان ذلك خلافا للدستور, مما شكلت هذه الصراعات مصدرا خطيرا في الفراغ السياسي الحالي وبيئة مواتية لانتعاش الإرهاب متوجا بنسخته الداعشية !!!.

لقد شكلت داعش في بعض من تجلياتها المظهر المسلح الصارخ لرفض نتائج الانتخابات البرلمانية, بل والعملية السياسية بكاملها, وهو خطر يكاد يكون الأكثر وقعا منذ سقوط النظام الدكتاتوري 2003, إلا انه خطر مزعوم في بعض من جوانبه وقدراته الميدانية, رغم ما تظهره من مقدرة شكلية للتوسع. والأخطر في داعش هو ما تفرزه من اندفاعات سياسية ودينية صوب مزيدا من التعقيد في محاولة لها لتحويلها إلى حرب طائفية من خلال جر المرجعيات الشيعية وراء هذا الخيار المدمر الذي تنتظره داعش !!!.

لا يمكن لتنظيم إرهابي لا يتجاوز أنصاره في أحسن الأحوال من 2000 إرهابي وفيه من غير العراقيين أن يقف بوجه الدولة ويهدد مركز الحكم في بغداد ويهددها بالانهيار لولا التواطؤ والخذلان والوقوف موقف المتفرج من الكثير من الأطراف السياسية على الأحداث الجارية أو الداعم لداعش في السر والخفاء بانتظار مكاسب ضيقة لا تساوي صفرا في قيمتها أمام مصلحة الوطن والعملية السياسية " على علاتها ". ويعرف الجميع أن الدستور أعطى فرصا للجميع رغم مثالبه وشكل حدودا معقولة قبل بها الجميع بعيدا عن المزاج السوداوي المؤذي الذي يريد تفصيل الأمور كما تنبغي له مصلحته الأنانية المدمرة. أما تغليب ذلك على المصلحة الوطنية فهو خط أحمر ويستدعي محاسبة من يخل بشرف الانتماء للوطن واستباحة أرضه من الغرباء والعملاء والمقصرين, بما فيهم رأس الدولة المالكي !!!!.

كان فشل مجلس النواب في جلسته المنعقدة في 12ـ 06 ـ 2014 في تفويض المالكي في إعلان حالة الطوارئ في البلاد ليست فقط تعبيرا عن عدم رضاهم لأدائه في الفترة المنصرمة بل يعكس في فحواه عناد سياسي غبي مع شخصه زائدا أجندة داعمة لداعش في ظروف المحنة الوطنية, فالوطن ارفع من الخلافات مع المالكي الآن في لحظات الحاجة إلى وحدة الموقف السياسي جراء الإخطار التي تهدده !!!.

إن تدخل المرجعية الدينية الخطير الآن والمخالف للدستور في إعلان الجهاد الديني والطائفي الشيعي تحديدا دون العودة إلى العقلاء والنزهاء من الطائفة السنية هو نذير شئنا أم أبينا إلى تحويل الخلافات السياسية المستعصية تحت قبة البرلمان إلى حرب طائفية سيحترق فيها الجميع, وهي فرصة ذهبية أخرى لتدخل دول الجوار في حماية أنصار طوائفها واعتقد هذا ما تطمح إليه داعش, وسوف تحترق البلاد في آتون حرب أهلية لا تنتهي أبدا !!!!. 

أن حمل السلاح ضد العملية الديمقراطية أو دعم حاملي السلاح والتواطؤ معهم, أو إعلان الجهاد الطائفي, أو اتخاذ المواقف الانتهازية بهدف الحصول على مكاسب رخيصة آنية هو تقويض للنظام السياسي الناشئ على طريق إنهائه والعودة إلى المربع الأول وثقافة الانقلابات المسلحة والعسكرية, وسيخسر الجميع بكل مذاهبهم وأديانهم وانتمائهم القومية والعرقية .. فالوطن أولا والبقية تأتي !!!!.




220
العقل الجمعي ونتائج الانتخابات البرلمانية العراقية وفسحة الأمل !!! 

د. عامر صالح

كل متتبع للأوضاع السياسية في العراق لا يراوده الشك أن التغير المنشود الذي يبني حاضر ومستقبل الأجيال القادمة كي تنعم بالأمن والاستقرار والخدمات ورفع مستوى العيش وتحسين ظروف الحياة العامة لا يزال بعيد المنال في ظل الصراعات السياسية ـ الطائفية والاثنية التي افرزها نظام المحاصصات السياسي ـ الجغروطائفي, وهي صراعات ليست تنافسية سلمية من اجل فرز القيادات السياسية والمهنية والتكنوقراطية لقيادة البلد, بل هي صراعات من النمط ألتناحري العدواني بعيدا عن مصلحة الوطن, والذي يفضي بنتائجه البعيدة إلى تفتيت الوحدة الوطنية وتمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع عبر إشاعة العداوة والكراهية والأحقاد بين المكونات الثقافية والدينية والاجتماعية والاثنية والقومية للوطن الأم !!!.

وان العملية الديمقراطية بأداتها الانتخابية لتعزيز التداول السلمي للسلطة, وان بدت من الناحية الشكلية سلمية في الأداء, أي لا يوجد فيها أكراه للصوت الانتخابي في إقرار مرشحيه والجميع يذهب إلى صناديق الاقتراع بإرادة " حرة " أو يمتنع عن التصويت " رغم مضاره الكبيرة " بعيدا عن تقاليد الإكراه الانتخابي لمرشح ما كما جرت العادة في النظام الدكتاتوري الفردي, إلا أنها مجردة من موضوعيتها العقلية ـ المعرفية في منح الأصوات لمن يستحق, وبات التصويت ليست على برامج كما هي العادة في الديمقراطيات الراسخة, بل أن التصويت يعكس بمقياس كبير فحوى الصراعات التناحرية ـ العدوانية للكيانات السياسية بعيدا عن انتقاء الأفضل والأصلح من المرشحين والبرامج لنقل البلد إلى بر الآمان والاستقرار الفعلي, وبالتالي أصبحت صناديق الاقتراع في هذه التجربة الانتخابية البرلمانية 2014 كما في سابقاتها تعيد إنتاج الصراع المحاصصاتي وتكريسه وإضفاء الشرعية عليه عبر صناديق الاقتراع, وتشكل نتائج الانتخابات كتحصيل حاصل مقدمات لازمة للدخول في عقد الصفقات السياسية المذلة بحق الوطن والمواطنة كما جرت في السابق, وبدورها تعيد تكريس الأوضاع السابقة بما فيها من حالات احتراب وحرمان !!!.

لقد أتت صناديق الاقتراع هذه المرة أيضا بالزعماء السابقين الذين لم يلق منهم غير الوعود التي لم تغنى ولم تسمن,والتي عاش في ظلها التوافقية والمحاصصة والنزعة الطائفية,واستشراء الفساد المالي والإداري والمحسوبية والمنسوبية,ولم يتلقى شيء من الخدمات العامة من كهرباء وماء وصحة وتعليم,ولم ترى في ظلهم النور أي من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية.

من الناحية المنطقية وفي ظروف تجذر الممارسة الديمقراطية في المجتمع فأن حصول المرشح على أصوات الناخبين يتعلق بكفاءة المرشح وقناعة الناخبين أن يعمل المرشح لتحقيق انجازات ومكاسب لناخبيه في حالة فوزه,وتلك هي ثوابت مستقرة في الوعي المعرفي والعقلي للناخب في مجتمعات الديمقراطية العريقة واستنادا إلى الخبرات السابقة مع مختلف المرشحين وأنتمائاتهم السياسية.إذن فلماذا حصل العكس لشعبنا العراقي عندما أقدم على صناديق الاقتراع فمنح أصواته...فأتى بمن أتى وهذا حقه المشروع من الناحية الشكلية في اختيار ممثليه !!!.

ليست بالضرورة أبدا أن تكون الانتخابات العراقية مزوره من خلال التلاعب بفرز الأصوات أو إلغاء أصوات أو الشك بمجهولية العديد من الصناديق الانتخابية وعزلها من عملية الفرز, بل الأخطر من هذا هو تزوير إرادة الناخب من خلال تعبئته تعبئة خاطئة قبل وصوله إلى صناديق الاقتراع, تستند في جوهرها إلى تقنيات تشكيل الوعي ألقطيعي الحشدي وتحويل شرائح واسعة من مجتمعنا إلى كتل حشديه متأثرة بالعقل الجمعي الانفعالي وليست كتل انتخابية متمايزة ومتنوعة تقتضيها ضرورات البقاء النافع والتطور اللاحق للبلاد, ومن هنا فقد الصوت الانتخابي قيمته في إرساء ملامح مستقبل أفضل, رغم هناك بصيص أمل لملامح تشكيل بديل ديمقراطي رغم اكتنافه صعوبات جمة !!!. 

أن عهد الديمقراطية في العراق هو وليدا وأن الثقافة الديمقراطية لشعبنا لا تزال قيد التشكيل والاختبار,فلازالت ذهنية الانقضاض على المنافس الآخر وإقصاءه هي الفيصل في السلوك السياسي,بل يرى البعض في الديمقراطية هي الفرصة الذهبية " للفرهود"و للفساد بمختلف مظاهره,ومع هذا فأن شعبنا لا يريد العودة إلى الوراء,بل هناك تجليات للمضي قدما من اجل إرساء دعائم الديمقراطية.

أن مجتمعنا العراقي هو مجتمعا قبليا وقد كرست فيه القبلية بفعل مختلف السياسات منذ عقود ثم انتهاء بالطائفية والمذهبية لتضفي على ذلك شرعية جغروـ طائفية متحجرة,رغم أن هناك حقبا تنويرية بفعل تأثير قوى الديمقراطية فيها إلا إنها مرت بانحسار بفعل الضربات القاسية التي تعرض لها تلك القوى والتي كادت تقتلعها من الجذور,وبهذا ترك شعبنا أسيرا في العراء وضحية لمن يتجاذبه,وهكذا أيضا ترك شعبنا ضحية لثقافة الغنيمة والكسب والاستحواذ,مما كرس مفاهيم الشعب ـ الرعية,وأن التعامل معهم ليست ككيانات إنسانية مستقلة وإنما عبر ممثليهم من القبائل والطوائف والمناطق والحارات والأسر مما ترك شعبنا ضحية لمختلف مشاريع الاستمالة والإغراء,أن ذلك لا ينسجم مع صيرورة المجتمع المدني,وأن الخلاص من ذلك يستدعي ترسيخ مفهوم المواطنة والمجتمع المدني,وهذا بالتأكيد يتطلب جهدا ليس بالهين لكي يتخلص شعبنا من هذه الانتماءات الضيقة التي لا صلة لها بالمواطنة وبالخيارات الحرة وبثقافة الانتخاب التي تتطلب مزيدا من الاستقلالية في السلوك. 

أن التجربة السياسية ما بعد سقوط الدكتاتورية في تعبئة الجماهير تعرضت إلى التشويه والمسخ من قبل الكثير من الأحزاب مستفيدة من ارث الدكتاتورية البغيض,لتعيد الكرة في تشكيل وعي الجماهير بما يتفق مع مصالح هذه الأحزاب عبر التزييف وتشويه معالم الوعي الإنساني الفردي للمواطن من خلال ترك الانطباعات المختلفة التي تصور الأهداف الذاتية والمصلحية والنفعية بأنها أهداف عظيمة ومقدسة ومشروعة ويتخيل إلى المواطن بأن هذا الحزب أو ذاك يسعى لصالحه,وبالطبع فأن هذا العمل يتطلب مهارات عالية "وقدرات استثنائية خاصة " للعبث بإحساسات وحواس الجمهور من خلال الإعلام المتنوع والمغريات المختلفة واستخدام للمال الحرام والإسراف في استخدام السلطات الحكومية,وقد تم تزيف الوعي من خلال شخصيات كاريزمية في الأحزاب أو في المجتمع,دينية أو سياسية يتم من خلالها تسويق أفكار الأحزاب إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناء على تقبلها وحبها البريء للشخصية الكاريزمية سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية,وخاصة في مجتمع خرج للتو من نظام دكتاتوري كانت مهمته زرع قيم الذل والخنوع والعبادة الفردية والاستسلام واستلاب أرادة المواطن لتحويله إلى رقم أصم يسهل حسابه بمختلف الاتجاهات دون معنى يذكر!!!.

أن هذا السلوك السياسي المرضي يفضي إلى خلق اتجاهات تضعف الشخصية العراقية في تقبل أي تغير ايجابي مرتقب عبر ممارسة السلبية اتجاه الإحداث وإعاقة أي بادرة لشحذ القوى المجتمعية صوب الفعل الايجابي,وتكريس الأوضاع السابقة لما بعد 2003 برضا شكلي من قبل الجميع,انه حالة من استهلاك طاقة ملايين الأجساد والعقول عبر إضعاف ملكة التفكير النقدي وترك المواطن في حالة تلقي سلبي لكل ما يسمعه من بعض من مرجعياته الدينية والسياسية والاجتماعية,لكي تصل به إلى مستوى التفكير الخرافي الذي يشل الديمقراطية في عقر دارها,ويتم تخدير وتسكين معاناة الناس الحقيقية وشل وعيها النقدي المعارض اللازم لعمليات التغير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي المنشودة,وهنا تدخل الممارسات الدينية الخاطئة على نطاق واسع,عبر رموز مفتعلة له وليست حقيقية لتكرس حالة السبات العقلي وتشديد للاعتمادية السلبية من خلال " مفتون متخصصون " عند الشدة يشغلون الناس بقضايا هامشية تصل إلى حد التدخل حتى في شؤونهم الشخصية والخاصة جدا والتي لا صلة لها بمستقبل البلاد لأحداث حالة غيبوبة مستديمة تباع فيها عقولهم وقلوبهم, وكانت انعكاسات ذلك واضحة جدا في تقرير وجهة نتائج الانتخابات أو الامتناع عن المشاركة فيها !!!.


ومن هنا تأتي أهمية المسؤولية الأخلاقية والدينية والسياسية الملقاة على عاتق القيادات السياسية والاجتماعية المختلفة وقيادات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في إعادة صياغة وعي المواطن بما ينسجم مع تطلعات وطموحات الناس في بناء مجتمع العدالة والحق والمواطنة الكريمة الذي يستند إلى العقلانية بعيدا عن الانفعالات الجارفة, وضرورة خلق الوعي اللازم لقيمة الانتخابات ومسؤولية الصوت الانتخابي وخطورته في رسم المستقبل.ولعل في الملاحظات الآتية مدخلا مواتيا لذلك :

ـ إعادة صياغة منظومة التربية والتعليم على أسس علمية وعقلانية بعيدا عن تأثيرات التيارات السياسية والدينية المتحاربة والمتجاذبة,لخلق مواطن يتسلح بالوعي المحايد والقدرة على ممارسة النقد البناء للظواهر المختلفة بروح علمية بعيدا عن أشكال التعصب والانفعال في تقبل أو رفض ظاهرة أو رأي ما.

ـ تحديث الخطاب السياسي من حيث المحتوى والأهداف والوسائل,وتحوله من خطاب " حشدي " منفعل إلى خطاب ايجابي يستهدف بناء ثقافة سياسية فردية بناءة وتحويله إلى خطاب سياسي ـ تربوي ذو صبغة واقعية.

ـ ضرورة التثقيف المستمر بالتجربة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للتداول السلمي للسلطة وليست وسيلة للانقضاض عليها واحتكارها ومنع الآخرين من المساهمة فيها.

ـ إشاعة ثقافة الحوار في كل القضايا التي تخص المجتمع السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية,ودفع الناس لإبداء الآراء بخصوصها وتحويل المواطن من مستقبل للمعلومة فقط إلى مواطن مرسل فعال,أي تنشيط قنوات الاتصال بين المواطنين ورموزهم السياسية والاجتماعية لتفعيل مفهوم المشاركة البناءة.

ـ إعادة النظر في المنظومة التشريعية والقانونية التي تحجب و تحد من سقف مشاركة الآخرين في العملية السياسية,وفي مقدمتها قانون الانتخابات وإصدار قانون للأحزاب لضمان مسائلة الأحزاب ورصد آلية عملها,لضمان مزيدا من النزاهة و المشاركة السياسية لبناء نظام سياسي متنوع في العطاء والقدرات الفكرية والعقلية.

ـ العمل التربوي والتثقيفي طويل الأمد لأبعاد ثقافة التشكيك والاتهام وتخليص المواطن من آثار عقلية المؤامرة التي تجعل من المواطن متربصا لأخيه المواطن ومشككا في أفضل عطائه,وتلك هي الحال على مستوى الأحزاب.

ـ محاربة الفساد على نطاق واسع باعتباره وفي احد وجوهه مظهرا من مظاهر الفساد السياسي يسهم في تكريس الأوضاع كما هي,ونظرا لتقاطع صلاته مع السياسة ورموزها فأنه يسهم في تكريس سياسة الصفقات وتجيش الناس حولها لأبعاد شبح المحاسبة والدخول في التفاصيل.

ـ تعزيز ثقافة دولة القانون في سلوك الأفراد والأحزاب والمؤسسات بعيدا عن التمترس الفئوي والطائفي والجغرافي والقبلي الذي يضعف دولة القانون,وتنشيط دور القضاء لتشجيع المواطنين على الاستعانة بالدولة لحل المشكلات المختلفة والمستعصية دون اللجوء إلى القبائل أو الطوائف أو الأحزاب التي تستميل المواطن وتسهل تعبئته بمختلف الاتجاهات باعتباره طرفا ضعيفا يلجا اليها عند الشدة !!!!.

221
لا تدع صوتك الانتخابي في مزبلة التاريخ فمستقبل الشعب خط احمر !!! 
في سيكولوجيا الانتخابات العراقية 

د.عامر صالح 

أن الاقتراب من صناديق الاقتراع وإيداع ورقة فيها كيفما اتفق ليست نزهة انتخابية عبثية يراد بها الضحك على شعب طال أمد معاناته وحرمانه من ابسط مقومات العيش الكريم, وقد حرم لعقود قبل وبعد سقوط النظام الدكتاتوري من الحرية والتمتع بماله ونفطه وثرواته, وهو الآن يعاني الآمرين من التعسف والظلم والفقر وانعدام الخدمات وتصدع وحدته الوطنية وتمزق نسيجه الاجتماعي والقومي والديني, وكذلك حرمانه من السماح له بحرية اختياراته وقد سلطت على رقابه سيوف الدين المتطرف والخندقة الاثنية والتعصب الممزوجة برائحة الكراهية والعفن من النظام السابق !!!. 

من المعروف أن ارث النظم الفردية والدكتاتورية كبير جدا ولا يمكن الاستهانة به أو دفع بلائه وإحلال القيم الديمقراطية وثقافة الانتخاب في مكانه دفعة واحدة. وضمن ثقافة الهيمنة السابقة والإقصاء والتهميش والعبادة الفردية والعقلية القبلية والولاء الهش لدولة الحزب الواحد أو الفرد, حيث تحولت هذه المكنونات القيمية إلى خزين في اللاوعي يتحكم في الكثير من سلوكيات الحاضر ويتحول إلى موضوعات استثاره مستديمة, وخاصة بعد عمليات التغير الجذري صوب صناديق الاقتراع لتقرير مستقبل الشعب واتجاهات تطوره, قد لا يعلم بها الناخب نفسه في أحيان كثيرة, وتتحول بفعل ذلك لحظات التصويت إلى حالات من غيبوبة العقل لا تتأثر بأحداث الحاضر وأزمته في البحث عن بدائل تضمن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وتفتح الأبواب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة,بل قد تندفع جماهير غفيرة تحت وطأة تأثير تجيشها بالخطابات الانفعالية القوية التي تسرق عقولها قبل عواطفها فتتركها فريسة للانفعالات,كما اعتادت عليها النظم الدكتاتورية والفردية بثقافتها وأغانيها وأهازيجها الممسوخة التي تعزف على أوتار انفعالاتها لتوقظ فيها نزعات الحماس اللاواعي,حيث تعرقل فيه حكمة العقل ومكانته في الخيار الانتخابي الحر,ويترك فيها الناخب مسلوب الإرادة محتكما إلى الهوى والعاطفة والانطباعات الآنية المخيفة وسلطة المزاج التي تعرقل الخيار العقلاني,وخاصة في ظروف أحزاب تمتلك قدرات هائلة من مال حرام وتطفل مذموم على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية واستخدام للماضي الأليم لرسم صورة الحاضر على خلفيته وإثارة النزعات العقلية الانقسامية من دينية وطائفية وقبلية ومناطقية وحتى سلالية وعائلية تعززها الإغراءات المادية والنفعية ذات الفائدة قصيرة الأجل,وخاصة في مجتمع خرج للتو من آتون دكتاتورية وشوفينية عاتية عبثت في المنظومة القيمية وزرعت في أوصاله الجهل والفقر والمرض والتخلف وعدم المساواة,وهنا نحذر شعبنا من استراتيجيات الشراسة لدى بعض الكيانات الانتخابية في إشاعة الكذب والخداع والوهم والإيهام التي تتدخل بقوة لتصنع رأيا انتخابيا مجافيا للعقل والحكمة مستخدما من العزف على أوتار الماضي الديني والسياسي في ظل مجتمع يعاني من اختلال اقتصادي واجتماعي,فقد تمتلئ أمعاء الناخب بالمال الحرام والهبات ولكنها ستجوع إلى الأبد بعد فرز الأصوات الانتخابية وتتبخر أحلام الناخب البريء وتتجدد دورة الكبت والحرمان والقمع الذاتي !!!!.

ومن الناحية الطبيعية والعقلانية وبعيدا عن دعايات المرشحين ومزاميرهم والتي تفوق أحيانا حتى حجم إمكانياتهم وخبرتهم في إدارة البلاد " رحم الله امرئ عرف قدر نفسه " فان السياقات المنطقية التي تدفع صوب الانتخابات والمشاركة السياسية الفعالة يجب أن تكون أسبابا اقتصادية والتي يكون هدفها تحسين ظروف الوجود والارتقاء بمستوى العيش وطمأنة الحاجات الإنسانية,وأسبابا اجتماعية والهدف منها تحسين أداء الجماعة وانتشالها من براثن الفرقة والتفكك والتعصب بمختلف ألوانه الديني والطائفي والقبلي والمناطقي والاثني.ودوافع أمنية حيث أهميته وضرورته في بعث الطمأنينة لدى المواطن والذي يشكل لبنة لازمة لانطلاق العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية " فالأمن أولا والبقية تأتي ",وكذلك أسباب فكرية قد تدفع الناخب إلى التصويت لتأكيد انحيازه ألمبدأي,وهنا لا نؤكد على ما هو الفكر,ولكن نؤكد على ضرورة الفكر ووجوده,ومن عدم أهلية وجوده استنادا إلى معايير التجارب الإنسانية الغنية,فالانحياز إلى أفكار " الصندوق الأسود المغلق " أثبتت التجارب الماضية إلى فشله باعتباره نموذجا لممارسة القتل الذاتي للوجود وإلحاق المزيد من الدمار والخراب والفساد وفقر الشعب وأهانته وتفرقته,أو على اقل تقدير هو الانحياز إلى مشروع " المراوحة في المكان ".

أن الشعوب والمجتمعات التي خطت خطوات راسخة صوب الديمقراطية تشكلت لديها منظومة عقلية راسخة لا تهزها الدعاية الانتخابية إلا في التفاصيل الثانوية,أي تشكلت لديها استراتيجيات معرفية وعقلية للانتقاء والتصفية والبحث عن البدائل على أسس استقرائية للواقع ورسم الطموحات للنهوض به,وهي استراتيجيات لا تخطئ إلا ما ندر,حيث تقترب من منهجية العقل وطبيعته في حل المشكلات,ابتداء من الإحساس بالمشكلات,وجمع التفاصيل الكافية عنها وعن مسبباتها والياتها,وانتهاء بفرض الفروض عنها وتبيان حجم تأثيرها والعوامل المتداخلة في صنعها,وانتهاء ببرامج وخطط لحلها والتماس الحلول المستقبلية لها,وعلى خلفية ذلك يندفع الناخب لاختيار البدائل الأصلح في السياسة استنادا إلى التجارب السابقة.

ويعزز ذلك كله نشوء منظومة فكرية ـ عقلية تقترب من مستوى الأداء النفسي للفرد غير قابل للمساومة,تقوم على بعض القناعات,لعل أبرزها هو أن الإيمان بالمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة هو مكون أساسي ومقدس ولا يمكن اغتصابه بمختلف الواجهات والممارسات التي ترغب في الإطاحة بالديمقراطية من الداخل أو الخارج,وأدراك المواطن أن تحسين ظروف العيش لا يأتي عبر مقاطعة صناديق الاقتراع والقبول بالأمر الواقع الذي يقرره الآخرين عنه,وتقرر ظاهرة " أنا أقرر " مزاجا نفسيا عاما لدى المجتمعات ذات الديمقراطيات الراسخة,بل أن هذا الاتجاه السلوكي والمعرفي تعززه النظم السياسية والتربوية منذ نعومة الأظافر وفي مظاهر مختلفة ابتداء من طريقة اللبس والشرب والحوار المتكافئ حتى مع الطفل وانتهاء بظاهرة تقرير النخب السياسية,وكذلك دور التنشئة الاجتماعية التربوية والنفسية في نبذ قيم التفرد والدكتاتورية السياسية والسلوكية العامة في مختلف مظاهر الحياة العامة,مما تجعل من المواطن أن يقف متأنيا ومتفحصا لظاهرة السياسة وما تنتج عنها من مظاهر سلوكية,وكذلك نشأة استقطاب واضح على خلفية إدراكية ـ معرفية ولنقل فكرية تجد لها تبريرا جدليا في اعتناق هذا الفكر أو ذاك بعيدا عن حالات الهيجان الانفعالي المدمر,فأنا شيوعي...لماذا,وأنا إسلامي...كيف !!!,وأنا علماني..كيف افهم ذلك,وأنا ملحد...ماهية المبررات,ويجري ذلك على خلفية تلاقح الأفكار بعيدا عن الإقصاء,وعلى خلفية البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المميز لهذه المنظومة العقائدية أو تلك,لا على أساس " ذبه بركبة عالم وأخرج منها سالم دون حسبان للعواقب ".

أن عراق اليوم محتاج أكثر من أي وقت مضى للتحييد الديني والطائفي بشكل خاص في ظل احتراب طوائفه التي تقوم على تكفير بعضها البعض,ونحن نعرف أن أصل الانقسام الطائفي في أسلامنا الحنيف كما في مختلف الأديان هو سياسي من الناحية التاريخية وليس ديني والذي لازال مداره إلى اليوم يرجع إلى مسألتي الخلافة والإمامة وما شابه ذلك,ولئن الإسلام السياسي يشن حربا بسوس على العلمانية وقد تطول أكثر,لأنه يرفض مبدأها في فصل الدين عن الدولة,ومن شأن العلمانية أن تساعد الإسلام وغيره على استرداد أوضاعهما الطبيعية في وجدان الناس وتهذيب مشاعرها وانفعالاتها الدينية. 
أن قائمة التحالف المدني الديمقراطي والمرقمة " 232 " تضمن لنا الدين والمعتقد السياسي في جغرافية العراق المتنوع بدينه وأنتمائته السياسية بعيدا عن الهجرة والتهجير ألقسري وتضمن لنا الحداثة في الديمقراطية والعلمانية وسهولة التفاعل مع منجزات العصر في التقدم العلمي والتكنولوجي,كما تضمن لنا حب المسلم لأخيه المسلم ولأخيه في الإنسانية من الدين الآخر,وتلغي لنا حكم المناطق والمحافظات والشوارع والحارات والأزقة,تضمن لنا عراق فدرالي موحد,وتضمن لمواطنينا صحة موفورة تستند إلى آخر منجزات العلوم الطبية وليست عراق " حبوب وجع الرأس والبنسلين " وتضمن قدر معقول من الصحة النفسية في التكيف مع البيئة المحيطة وتقبل الآخر المتنوع,وتضمن لنا مزيدا من تكافؤ الفرص والخدمات التعليمية في مختلف مدن العراق وأريافه ومناطقه النائية.

أن الإتيان ببرلمان منزوع السلاح يتمتع أعضاءه بصدق النوايا ومحمي من قبل جماهير الشعب هو السبيل الوحيد لاستقرار العراق وبناء ديمقراطيته التي لا تزال قيد مخاض عسير,أنها مهمة صعبة لا يستوعبها خطاب اللحظة الهش ولا المغريات المؤقتة,أن شعبنا يتطلع إلى سياسيه الأوائل ذوي الحكمة والعزيمة المستديمة والذين ينتظرون الدعم والمساندة من قبل شعبنا أولا لإنفاذ العراق من براثن التخلف والجهل والأمية والتسقيط للأخر ونبذ الطائفية والتوافقية.

أقول في نهاية المطاف وليست من باب الدعاية لأحد أن أيام قلائل تفصلنا عن صناديق الاقتراع ليقرر فيها المواطن شكل وجوده القادم,ولا وجود حقيقي إلا بحرية الإنسان والحفاظ على كيانه فهو الأثمن رأس مالا كم تقرره الأديان والفلسفات... فأنتخب قائمة التحالف المدني الديمقراطي القائمة 232 ,أنها القائمة التي تضمن لك أصلاح النفس والدين والسياسة وتضمن لنا العراق في تنوعه الديني والعرقي والسياسي,عراق منفتح على الجميع في الداخل والخارج !!!!!.










222
مشروع قرار الأحوال الشخصية الجعفرية في العراق ـ ملاحظات تربوية ونفسية !!! 


د.عامر صالح 

يعتبر مشروع قرار الأحوال الشخصية الجعفرية والذي سيتم بموجبه " إذا أقر في البرلمان بعد إن قررت الحكومة العراقية أحالته له " السماح بشرعنة الزواج من الأطفال الإناث من سن التاسعة, بل وفي حالات اقل من التاسعة, انتهاكا خطيرا لجميع لوائح حقوق الإنسان والاتفاقيات الإنسانية الدولية, ومنها بالتحديد اتفاقية حقوق الطفل, واتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة. والعراق من الدول التي صادق على هذه الاتفاقيات, ومن هنا فأن العراق بنقضه لهذه الاتفاقيات من خلال محاولة التشريع بالضد منها كما هو الآن في مشروع قرار الأحوال الشخصية الجعفرية, يعتبر طرفا مسيئا للطفولة والإنسان والمرأة بشكل خاص !!!. 

وتأتي خطورة مثل هذه الإجراءات إلى جانب أبعادها القانونية الدولية في إنها تلعب دورا يشيع العبث النفسي والتربوي والأخلاقي والاجتماعي للطفولة, وخاصة الطفلة العراقية. إن المرحلة العمرية أو سن الزواج الذي يزعم مشروع القرار المذكور للعمل به وهو السنة التاسعة, وهو ليس عمرا لمرحلة نضج عقلي وإدراك لما يقوم به الطفل من ادوار, بل نستطيع القول أنها مرحلة التدريب الأولي على تمثل الأدوار المختلفة إذا اقترنت بالتربية السليمة والوعي الأسري المطلوب لتنميته ايجابيا. كما إن الإشارات الفسيولوجية والجسمية لنضج الطفلة في هذا العمر لا تعني أبدا في المعرفة العلمية السيكولوجية إنها ناضجة عقليا لمشروع " زوجه ", لان الخبرات الاجتماعية والبيئة الثقافية إلى جانب طلائع نضجها الجسمي لا تزال غير كافية أبدا لصقلها وتحملها دور الزوجة التربوي والنفسي والتحملي, فلازالت الطفلة في هذا العمر والى أكبر من ذلك يمتد حتى الثامنة عشر تحتاج فيه إلى اللعب واللهو والترويح ومختلف النشاطات التربوية الحركية والعقلية, إلى جانب حاجتها للتعليم والدراسة والاستقرار النفسي لبلورة وتهذيب مختلف الاتجاهات والميول لشخصيتها, بما فيه العلاقة مع نظيرها الذكر. ونتذكر هنا الكثير من تجارب الإكراه في الزواج المبكر أن يأتي بالطفلة " الزوجة " من ساحة اللعب أو من بيت أهلها إلى يوم الزفاف " ألدخله " وهي لا تعرف من الموضوع شيئا !!!. 

أن الزواج في هذا العمر يترك آثاره السلبية على البنت بشكل خاص, لأنها تكون عادة الأصغر سنا في الزواج, بل قد يزيدها الزوج إضعافا في العمر " وهذا ما حصل ويحصل " كما هي حالات عموم الزواج المبكر, فكثيرا من الأطفال الزوجات سيدخلن عالم الزواج وهن ما زلن غارقات بأحلام الطفولة, وتحمل الزوجة الطفلة الكثير من تفكير الأطفال وإحساسهم على فراش الزوجية. وتتفتح أعيونهن على الممارسة الجنسية وهن مشبعات بأفكار ومفاهيم خاطئة عن الجنس ومعناه وثقافته, والبنت تنتظر افتراضا الكثير من الثقافة والتدريب على حياة المستقبل, ليست فقط داخل البيت بل هي أيضا من مسؤولية النظام التربوي والتعليمي !!!. 

كما أن الزواج المبكر نذير بالعديد من الإنجاب, وان الإنجاب المبكر الذي يتم في هذه الأعمار وما بعدها إلى تحت الثامنة عشر له مخاطره النفسية والتربوية والطبية, فالبنت الزوجة هنا هي في طور النمو والبلوغ والاكتمال وإحلال التوازن النفسي والجسدي والهرموني, ولابد لإنجاب طفل مبكرا أن يزعزع هذا التوازن ألنمائي المتعدد المظاهر. والى جانب انعدام التخطيط الأسري والإنجاب المتعدد المبكر فأنه يترك الزوجة في نوبات من التوتر, والقلق, والإرهاق, والهستيريا, والاكتئاب ومختلف الإمراض الجسمية, من هشاشة العظام إلى أمراض العضلات والقلب والأعصاب وغيرها !!!.

كما إن الزواج المبكر وتحت مبررات قصور الطفلة الزوجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا يضعها تحت الوصاية المطلقة, ويحولها إلى موضوع متعة كيفما يشاء الوصي عليها ومفرخة إنجاب إلى إشعار آخر. وأن مشروع قانون الأحوال المدنية الجعفرية العراقي كان واضحا بمادته رقم ( 101 ), حيث أكد على أنه " من حق الزوج على زوجته الاستمتاع بها في أي وقت يشاء وان لا تخرج من بيت الزوجية إلا بأذنه ", وتتعدى هذه الانتهاكات لتشمل حق تعدد الزوجات والإرث والوصاية على الأطفال وغيرها الكثير من المواد الجائرة !!!.

لا نعتقد أن في بلد يعيش حالة ديمقراطية " على الأقل مكتوبة على الورق " إن يخطط لمستقبل الطفولة العراقية ليحل بها الكوارث عمدا ويخطط لتشويهها نفسيا وتربويا ويحرمها من طفولة سعيدة في عالم متقدم يتباهى ويعتز ويقدس الطفولة وبراءتها, ولكن الديمقراطية المحاصصاتية الطائفية والاثنية في غمرة صراعاتها المستديمة من أجل البقاء الاسوء لا تستثني الطفولة أيضا لتحل بها الخراب. وفي حالة المصادقة البرلمانية على مشروع القانون هذا فأن السلطات العراقية تكون قد أعلنت رسميا عن تخليها عن مظلة الالتزام و الحماية والرعاية التربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية للطفولة  بصورة عامة وللطفلة العراقية بشكل خاص, وإيداعها كليا في رحمة الاجتهاد التعسفي والتسلط الفردي والحرمان وسوء المعاملة الإنسانية !!!.



223
مظاهر الاضطراب في منظومة الاتصال اللغوي

الحلقة السابعة من ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية

د. عامر صالح

إن الحديث عن الاضطرابات اللغوية وتصنيفها وتوضيح مختلف مظاهرها ومستوياتها هو حديث يستدعي منا الكثير من التفاصيل العلمية والمعرفية, والخوض في أكثر من تصنيف لها, استنادا إلى مبررات كل تصنيف. إلا إننا هنا نقتفي اثر الاختصار الشديد على أمل العودة للبحث في الموضوع في تفاصيله الدقيقة وباستفاضة أكثر عمقا في محاولات قادمة, وفي إطار " علم الاضطرابات اللغوية ". المهم في هذه الحلقة هو التعريف السريع غير المخل بمظاهر الاضطرابات في منظومة الاتصال اللغوي, والذي يستند إلى مدرسة العالم البولندي " ليون كاجمارك " وهو المؤسس والرائد لعلم الاضطرابات اللغوية في جمهورية بولندا. وقد عضدت معطياته وأبحاثه مختلف المؤتمرات الدولية, والأوربية منها بشكل خاص, ذات العلاقة بموضوع البحث. كما قام كاتب السطور وبالاستناد إلى الأدبيات العالمية إلى تكملة التصنيف بإضافة تصنيف بعد الاستقبال ( الفهم ), لكي تتضح حقيقة ومظاهر الاضطرابات في ظاهرة الاتصال اللغوي ببعديها: الإرسال والاستقبال !!!!.

يعرف علم الاضطرابات اللغوية الكلام من منظورين: فردي واجتماعي. فمن وجهة النظر الاجتماعية فإن الكلام هو نشاط في عملية التخاطب اللغوي الشفوي. أما من الناحية الفردية فإنه عملية بناء واستقبال الموضوع. ويسمح لنا التعريف الأخير بفرز أربع عناصر أساسية مكونة للكلام, هي: اللغة, والتكلم, والموضوع والاستقبال. وان كل عنصر من هذه العناصر هو ذو مغزى هام للجوانب التطبيقية لعلم الاضطرابات اللغوية. حيث إن التحليل الدقيق لنتاج عملية التكلم, ونقصد به الموضوع الشفوي, يعتبر أساس عملية التشخيص لوحدات الاضطرابات اللغوية. وبالتالي فإن مستوى الدقة لنوعية وتركيبة الموضوع المرسل ممكن أن يؤكد لنا سلامة أو عدم سلامة مكونات الكلام !!!!!.

أن مظاهر الاضطراب في النشاط الاتصالي تتلخص في جانبين أساسيين: الأول هو النقص في مهارة بناء الموضوع, والثاني هو عدم الاستقبال الصحيح له. أي بمعنى آخر هي اضطرابات خاصة بالمرسل وأخرى بالمستقبل, وكلا الاضطرابين يؤديان إلى عدم تشكيل الموضوع بصورة سليمة, سواء من حيث البناء أو من حيث الفهم.

ونستند هنا في تشخيص المظاهر الاضطرابية في بعدي الإرسال والاستقبال إلى النتاج الرئيسي لعملية الاتصال ألا وهو الموضوع. ويتكون الموضوع من ثلاث عناصر, هي: المحتوى, والصيغة اللغوية والوعاء الناقل ( المادة المجسدة ). وعليه يجب التمييز بين ثلاث مجموعات من اضطرابات الاتصال اللغوي: اضطرابات المحتوى, اضطرابات اللغة, واضطرابات الوعاء الناقل في مستوييه العلوي ألتطويحي ( الفوقطعي ـ المقصود بها: النبرة ـ النغم ـ الإيقاع ) ) والمقطعي ( الأصوات ). أما المجموعة الرابعة من الاضطرابات فهي اضطرابات عملية الفهم ( الاستقبال ), أي الخلل في استقبال الموضوع الشفوي أو المكتوب ( أي اضطرابات السمع والبصر ).

أما طبيعة الاضطرابات في المجموعات الأربع المذكورة أعلاه فيمكن إيجازها على النحو الآتي:

1 ـ اضطرابات المحتوى وتشتمل على: أ ـ اضطراب عملية التعميم والتجريد, ب ـ انعدام المنطق في بناء الموضوعات ( تطاير الفكر, لزوجة التفكير, مؤقتية التفكير, فرط رد الفعل والانزلاق ), ج ـ اضطراب التوجيه في التفكير ( اضطراب الوظيفة المنظمة للتفكير, اضطراب الوظيفة النقدية, تعدد الخطط والطرق, والفصل والتفكيك ).

2 ـ اضطراب اللغة وتشتمل على: البكم, والحبسة ( الافازيا ـ والمقصود بها فقدان القدرة على بناء الموضوع أو استقباله لأسباب دماغية ), وعدم اكتمال نمو كلام الأطفال والتي تسمى أيضا بالحبسة الطفولية, والهفوات الاضطرابية.

3 ـ اضطرابات الوعاء الناقل ( المادة المجسدة ), وتشمل على: أ ـ في المستوى العلوي ألتطويحي ( الفوقطعي ) ويشمل: التهتهة, الخنخنة, نطق وصوت فاقدي الحنجرة, فقدان أو اضطراب القدرة على إدراك وإعادة تكوين البناء الإيقاعي, اضطرابات الصوت, السرعة الزائدة في الكلام والبطء الزائد في الكلام, ب ـ اضطرابات في المستوى المقطعي, وتشمل: عسر النطق, عسر النطق السمعي, عسر النطق الحركي, عسر النطق الوظيفي, عسر النطق بسبب عطل في المراكز والمسالك العصبية ( عسر كلي أو جزئي ), وكذلك عسر النطق المتشابك أو المتصل. أما ما يقابل عسر النطق في القراءة والكتابة فهي: صعوبات الكتابة وصعوبات القراءة, ج ـ اضطرابات في المستويين ألتطويحي والمقطعي معا, وتشمل على عسر النطق المتزامن مع خنخنة أنفية, والصمت أو الانغلاق نتيجة وضع نفسي شاذ !!!.

4 ـ مظاهر الاضطراب في عملية الاستقبال:

يوجد أكثر من تصنيف لمظاهر الاضطراب في مستوى الاستقبال, ترتبط أساسا بالهدف والأساس الذي يعتمد عليه ذلك التصنيف. فتصنف إما وفقا لمكان الأذى الذي يلحق بالمحلل السمعي: فقد يكون في الأذن الوسطى أو الداخلية, في العصب السمعي أو في القشرة المخية. ولإغراض وقائية يمكن تصنيف الاضطرابات بالاستناد إلى مسبباته, حيث نميز بين الصمم الوراثي والولادي والمكتسب أثناء الولادة وبعد الولادة وكذلك في فترات نمو الفرد المختلفة. ولكن التصنيف الشائع للاضطرابات السمعية هو التصنيف الذي يستند إلى درجة فقدان السمع مقاسا بوحدة قياس السمع ـ الديسبيل(دي . بي ). ويستخدم هذا المقياس لاعتبارات العلاج الطبي والعلاج الطبيعي لأغراض الاستفادة القصوى لما بقى من السمع والحد من تأثير الإعاقة السمعية.

والتصنيف الآتي يستند إلى تحديد مستوى الإعاقة مقاسا بالديسبيل ( دي . بي ) وفي ضوء ارتباطها بمستوى الإرسال عند الشخص نفسه ( أي تأثير السمع على الكلام, وهو تصنيف معدل عن تصنيف الكاتب والمختص ( كيريجيك ). ويمكن إيجازه فيما يأتي:

1 ـ الأشخاص الذين تتضح لديهم درجة فقدان السمع بعد الفحص بمقدار 20 ديسبيل, فان كلامهم ينمو بشكل طبيعي, وغالبا ما يختلف عن كلام الأشخاص العاديين؛

2 ـ الأشخاص الذين تكون لديهم درجة فقدان السمع بمقدار 40 ديسبيل, فهؤلاء ينعدم عندهم السمع من مسافة بعيدة, وكلامهم غير مكتمل الوضوح كما يتميز في اغلب الأحيان بعيوب نطقية لبعض الأصوات الصامتة.

3 ـ الأشخاص الذين يكون لديهم فقدان السمع بدرجة 60 ديسبيل, فهم يسمعون ويفهمون الجملة المعبر عنها بصوت مرتفع, كما أن كلامهم غير نامي. وعدد كلماتهم محدودة ويتميزون كذلك بعدم وضوح النطق وتشكيله على أسس معيارية سليمة.

4 ـ الأشخاص الذين تكون لديهم درجة فقدان السمع من 70 ـ 90 ديسبيل, فان الاتصال الشفوي معهم يكاد يكون غير ممكن تقريبا حتى في حالة استخدام أجهزة سمعية معززة ( مقوية ).

5 ـ الأشخاص ذوي الصمم الكامل وتتجاوز عندهم درجة فقدان السمع 90 ديسبيل, فلن يسمعوا أكثر الأصوات ارتفاعا ولا أية كلمة, ويكون التخاطب معهم ممكنا بطريقة " قراءة الشفاه " وأبجدية الأصابع " لغة الإشارة ".

أثار كاتب السطور هنا الاختصار الشديد مبتعدا عن تفاصيل كثيرة ذات الصلة بمختلف تصنيفات اضطرابات الكلام, وسيعود إلى ذلك في محاولات قادمة خارج إطار هذه الحلقات المكرسة لظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية !!!.

 





 



224
الآليات الدماغية والعصبية لعمليات الإرسال والاستقبال اللغوي   

الحلقة السادسة من ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية
 

د.عامر صالح

يستدعي منا الحديث في هذه الحلقة على أن تكون البداية ببعض الملاحظات الضرورية عن الجهاز العصبي للإنسان, كي تسهل عملية الانتقال واستيعاب ما يرد في البحث من تفاصيل معلوماتية بطريقة سلسة جهد الإمكان. يتألف الجهاز العصبي بصورة عامة من قسمين مستقلين نسبيا ولكنهما متكاملان من حيث الوظيفة, هما الجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المحيطي. ويتكون الأول من الدماغ والحبل ألشوكي, ويتكون الدماغ بدوره من عنق الدماغ ( الذي يشتمل على: الدماغ المتوسط, والجسر, والنخاع المستطيل, والمخ البيني ), والمخيخ والمخ.

وينقسم المخ إلى نصفين كرويين, هما النصف الأيمن والنصف الأيسر ويقابل كل منهما الآخر, ويفصل بينهما شق طولي عميق, وتوجد بينهما روابط متبادلة لتناقل المعلومات من خلال تركيب عصبي يسمى الجسم الثفني ( الجسم الجاسئ ) والذي يشبه سلك سميك. وكل نصف كروي مخي ينظم جانب الجسم المعاكس له. ويوجد نسيجان في المخ هما: القشرة المخية وهي المادة الرمادية التي يظهر على سطحها أخاديد وتلافيف تعمل على زيادة سطح المخ بمزيد من التعقيد وهي تحوي الخلايا العصبية , ويعزى إلى نموها العظيم في الإنسان تميزه على ما دونه من أنواع الفقريات من ناحية الذكاء والملكات العقلية. أما النسيج الثاني وهو المادة البيضاء المكونة من المسارات الذاهبة إلى القشرة المخية أو الخارجة منها. ويتكون المخ من أربعة أزواج من الفصوص ( أي لكل نصف من المخ أربعة فصوص ) وهي:

1 ـ الفص الأمامي: ويقع في الجزء الأمامي من المخ يفصله عن الجزء الخلفي أخدود رولاندو ويفصله عن الجزء الأسفل أخدود سيلفيوس, وهو مركز الوظائف العقلية كالحكم والتقدير والدليل المنطقي والتدبير ورسم الخطط, والجزء الخلفي منه مختص بالحركة الإرادية. وفي نصفه الأيسر ( عند الغالبية العظمى من الناس ) تتموضع المنطقة الحركية للكلام ( منطقة بروكا ).

2ـ الفص ألجداري: ويقع في الجزء الخلفي من المخ في الجهة العليا من أخدود سيلفيوس, وهو متخصص بالإحساس  الذي نطلق عليه ( الإحساس الغير متخصص ), كالإحساس بواسطة اللمس, والإحساس بالوضع, وبعض عناصر الإحساس بالألم والإحساس بالتغيرات في درجة الحرارة.

3 ـ الفص الصدغي: ويفصله عن الفصين الآنفي الذكر أخدود رولاندو وسيلفيوس, وهو متخصص في السمع والسمع الدقيق, وسنأتي على ذكره في ثنايا البحث.

4 ـ الفص القفوي أو القذالي: وهو أصغرها حجما ويقع في المؤخرة إلى الجهة السفلى من المخ. وينحصر اختصاص هذا الفص في استقبال السيالات البصرية وتقديرها وتقويمها.

في ضوء المعارف العلمية المعاصرة أصبح من نافلة القول أن الدماغ يلعب دورا أساسيا في تنظيم نشاط الإنسان العقلي والسلوكي, بما في ذلك نشاط أنتاج واستقبال الكلام. إن جدية البحث العلمي في العلاقة بين نشاط الإنسان وتركيب الدماغ بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويستخدم للبحث في الدماغ أسلوبان أساسيان مكملان لبعضهما: الأسلوب التجريبي والأسلوب الاكلينكي ( العيادي ). ويستخدم الأول في الأبحاث على الحيوانات, ولاعتبارات أخلاقية لا يمكن استخدامه مع الإنسان. ويقوم الباحث في هذا الأسلوب بتلف بعض أجزاء مختارة من دماغ الحيوان ثم يربط ذلك بالتغيرات الحاصلة بعد انجاز المعملية الجراحية, حيث أن التفاصيل الملاحظة لاحقا في التغيرات السلوكية للحيوان تسمح بالاعتقاد أن هناك ارتباطات بين تركيبات دماغية محددة والسلوك الصادر. إن جزء من التجارب الدقيقة من هذا النوع واستخدام عينات كبيرة لهذا الغرض سمحت للعلماء بالوصول إلى نتائج هامة. إن العديد من النتائج التي تم استخلاصها من التجارب على الحيوانات كان لها تطبيقاتها أيضا على السلوك الإنساني, ولكن هناك أنواع من السلوك خاصة بالإنسان وحده. نوعز هذا السلوك الإنساني ( على سبيل المثال لا الحصر ) إلى النشاط الكلامي. إن الدراسات التشريحية المقارنة لدماغ الإنسان والحيوان تدعونا للتساؤل:

أي التركيبات الدماغية موجودة لدى الإنسان ولا يوجد نظيرا لها عند الحيوان؟ هذا التساؤل يقودنا إلى استنتاج مفاده إن التركيبات الدماغية الإضافية التي تظهر في دماغ الإنسان هي المسئولة عن النشاط الراقي ـ السلوك الإنساني  الخالص. أن أسلوب التشريح المقارن ( والذي يمكن اعتباره الأسلوب الثالث بعد الأسلوبين المذكورين ). يجب أن يكمله الأسلوب الاكلينكي ( العيادي ). إن الطريقة الاكلينكية تستند إلى ملاحظة ووصف الأضرار الطبيعية ( العمليات المرضية, الصدمات الميكانيكية, والإجراءات الجراحية ) وكذلك وصف وتصنيف مختلف أشكال اضطرابات الآفازيا ( الحبسة الكلامية ) ـ ونقصد هنا بالآفازيا أو الحبسة الكلامية هو الاضطرابات الكلامية في مستوي الإرسال والاستقبال والناتجة من إصابات أو تغيرات مرضية في عمل الدماغ !!!!.

أن البحث في الدماغ بواسطة الأسلوبين المذكرين أدى إلى تكوين مفاهيم مختلفة في موضوع أسس نشاطه. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر ما يسمى ( بمفهوم التموضع الضيق للوظائف الدماغية ), وكان الدافع الرئيسي لظهور هذا المفهوم هو اكتشاف العالم الفرنسي الجراح ( بروكا ) عام 1861 لما يسمى بالمركز الحركي للكلام. وقد أكد العالم المذكور أن تلف هذا المركز( يقع هذا المركز في نصف المخ الأيسر في الفص الجبهي في الأجزاء الخلفية الثانية والثالثة الجبهية) يؤدي إلى اضطرابات في الكلام مع الاحتفاظ بالقدرة على فهم الكلام. هذا المركز يطلق عليه ألان مركز بروكا نسبة إلى العالم المذكور. وفي أبحاث لاحقة تم تحديد وجود مركز لفهم الكلام سمي بمركز فيرنيكا ( يقع هذا المركز في التلافيف العلوية الخلفية للفص الصدغي في نصف المخ الأيسر ) نسبة إلى مكتشفه العالم كارل فيرنيكا, وكذلك تم اكتشاف مركز للكتابة وآخر للقراءة وما شابه ذلك !!!!.

وفي ضوء نتائج هذه الأبحاث فان أنصار مفهوم التموضع الضيق أكدوا وجود مراكز محددة في الدماغ مسئولة عن أشكال معينة من سلوك الإنسان ووظائفه العقلية, بما فيه طبعا اللغة !!, وأن أي أذى أو تلف لهذه المراكز يؤدي إلى اضطراب أو اختفاء السلوك المرتبط بها. وهذه المراكز متصلة مع بعضها بواسطة ارتباطات عصبيه خاصة تسمى الطرق الموصلة والتي تؤمن تبادل المعلومات وتحويلها. كما إن الأذى الذي يلحق بهذه الطرق الموصلة هي الأخرى تؤدي إلى اضطرابات في عملية إرسال واستقبال الكلام.

لقد أكتسب مفهوم التموضع الضيق شعبية واسعة, ولكنه فقد أهميته بوقت قصير, حيث اتضح أن نتائج أبحاث مؤكدة على الدماغ لا يمكن تفسيرها في ضوء هذا المفهوم. ويمكن تناول هذه المشكلة في ثلاث نقاط رئيسية:

1 ـ إن نشاطا واحدا ومحددا يمكن أن يخضع للاضطراب في حالة تعرض عدة تركيبات دماغية للأذى. أن هذه الحقيقة تبقى بتناقض منطقي مع المفهوم الذي يؤكد وجود مركز واحد محدد لوظيفة واحدة ومحددة.

2 ـ إن الأذى الذي يلحق بمنطقة غير كبيرة في الدماغ يؤدي إلى اضطراب وظائف مختلفة. ووفقا لمفهوم التموضع الضيق يجب أن نقبل الافتراض التالي: إن في هذه المنطقة الغير كبيرة تتموضع كل مراكز الوظائف المضطربة, وهذا ما لا يتفق مع طابع المعرفة الحالية.

3 ـ إن التلف الكامل لمنطقة محددة في الدماغ لا يعقبه دائما توقف للوظائف المرتبطة بتلك المنطقة, مع العلم أن الأنسجة الدماغية التالفة لا تخضع لعملية تجديد مرة ثانية, وغالبا ما يلاحظ عملية استعاضة للاضطرابات المتسببة من الأضرار. وينتج من هذا انه في حالة عدم وجود مركز دماغي معين, فان الوظيفة المرتبطة بهذا المركز يمكن أن تعاد حيث يمكن الحصول على نتيجة بفضل تركيبات دماغية أخرى !!!.

لقد أدت هذه الصعوبات ببعض الباحثين إلى رفض مفهوم " التموضع الضيق ", وعرض وجهة نظر أخرى ترى أن الدماغ يعمل ككل وأن أجزاءه ذات قيمة متساوية في تحديد سلوك الفرد. إن باحثين أمثال: ( فلورنس, وجاكسون, وكولتز, ولاشلي وكولدستاين ) أكدوا أن الأنسجة الدماغية ذات قيمة واحدة من الناحية الفسيولوجية. إن الاضطراب في سلوك الشخص لا يعتمد على المكان الذي الحق به الأذى ولكن يعتمد على درجة اتساع هذا الأذى. واستنادا إلى وجهات النظر هذه, " فإن الدماغ هو أساس الحياة العقلية, وان الدماغ في تنظيمه للإشكال المعقدة من السلوك يعمل ككتلة وظيفية غير متخصصة. إن هذا المفهوم هو استجابة ضد مفهوم التموضع الضيق, ويطلق عليه " المفهوم ضد التموضعي " أو مفهوم " العامل الواحد ".

أما النظرية المعاصرة للآليات الدماغية للكلام فأنها تنظر إلى الدماغ كمجموعة عناصر متنوعة تدخل في منظومات تفاعلية دينامكية مختلفة بهدف تحقيق وظائف محددة. ومن هنا أيضا أن النظرة الحديثة تؤكد على التموضع الدينامكي للوظائف الدماغية أو مفهوم المنظومة الوظيفية. وقد أكد الكاتب " ماروشفسكي " أن العالم الروسي بافلوف ( 1916 ) هو الذي نبه إلى هذه الإمكانية الوظيفية للدماغ, ومن ثم بعده العلماء الروس أمثال لوريا, فيجوتسكي وآخرين. ويلخص لنا الكاتب " وايتيكر " وجهة النظر الحديثة هذه بالشكل الآتي: " إن أكثر من قرن ونصف من الأبحاث المكرسة حول الجهاز العصبي للإنسان وارتباط السلوك به أعطت نتائج لا تقبل الشك, بأن الدماغ ليس كتلة نسيجية غير متنوعة وموحدة وكفؤة في كل مساحاتها للسيطرة على كل سلوك العضوية. أن مختلف مناطق الدماغ تمتلك تركيبات متميزة, وكل جزء منها له مساهمة ( أو ليست له مساهمة أبدا ) في مختلف أنواع السلوك " .

إن تحليل نشاط الدماغ يدفعنا إلى التذكير بظاهرة الهيمنة الجانبية, أي تخصص نصفي الكرة المخيين في توجيه نشاطات محددة من الجسم. فالبنسبة لنشاط الكلام فعند اغلب الناس يكون الجزء المنظم لهذا النشاط هو النصف الأيسر من المخ ( النصف المهيمن ), وعند قلة قليلة من الناس يكون الجزء المهيمن هو الجزء الأيمن , وعند مجموعة محددة من الناس تنعدم لديهم عملية الهيمنة الجانبية لآي جزء من أجزاء نصفي الكرة المخيين. وعندما نتحدث عن الأذى الذي يلحق بالدماغ والاضطرابات الكلامية الناتجة عن ذلك فنحن نتحدث ضمنا عن الجزء المهيمن ( الأيسر ) من المخ عند الغالبية العظمى من الناس !!!.

لقد كان تحديد اللحظات التي تظهر فيها الهيمنة الجانبية لأحد نصفي الكرة المخيين بالنسبة للكلام موضوعا منتهيا,حيث تم التأكد أن كلا من نصفي الكرة المخيين يكونان متساويين وظيفيا, وتبدأ الهيمنة الجانبية تتشكل من السنة الخامسة من العمر وتنتهي بحدود السنة العاشرة. ولكن هناك نظرة أكثر حداثة من الأولى, وهي ما أكده الكاتب ( كراشين ) والذي لاحظ أن عملية الهيمنة الجانبية تبدأ بشكل مبكر جدا ويمكن أن تكون من لحظة الولادة وتنتهي عند السن الخامسة. إن الوصول إلى هذه النتيجة ارتبط بفرضية العالم ( لينيبرغ 1967 ) التي أكدت وجود ما يسمى " بالفترة الحرجة " وهي ذات أهمية كبيرة لتعليم علم اللغات !!!. من الضروري الإشارة هنا إلى إن بعض طرائق تعليم اللغات الأجنبية تحاول إيقاف النشاط السلبي لنتائج الهيمنة لأحد نصفي الكرة المخيين, والتي تحاول استخدام طرائق فنية خاصة يمكن بواسطتها إشراك نصف الكرة المخي التابع !!!!.

أن تتبع مسألة الآليات الدماغية لنشاط الكلام تؤكد أن نشاط إرسال واستقبال الكلام هو عملية معقدة لآن عملية التعقيد هذه ناتجة من أن تميز نشاط الإرسال والاستقبال كعمليات منفصلة كما يقول ( ماروشفسكي ) هي عملية تجريدية بعينها, ويحدث ذلك لآن النشاط الحركي ( بما فيه إنتاج الكلام ) هو مدعم أيضا من الناحية الحسية, وكذلك النشاط الحسي ( بما فيه استقبال الكلام ) هو الآخر يمتلك مظهرا حركيا.

لقد ذكرنا سابقا أن المنطقة الدماغية ذات الأهمية الأساسية لإرسال الكلام هي منطقة بروكا وتشكل هذه المنطقة منظومة دينامكية مع المناطق الأخرى للكلام في نصف الكرة المخي الأيسر, وأن كل عنصر في هذه المنظومة مسئول عن مرحلة من  مراحل النشاط المعقد الذي ينسجم مع الطبيعة المعقدة لإنتاج الكلام.

أما نشاط استقبال الكلام فهو مرتبط بشكل رئيسي بالأجزاء الخلفية لمنطقة الكلام, أي منطقة فيرنيكا ( الجزء الخلفي العلوي للتلافيف الصدغية ) وكذلك مناطق القشرة الدماغية القريبة من هذه المنطقة ( الجزء الخلفي الثاني من التلافيف الصدغية ). إن دور منطقة الكلام هذه يستند إلى تحليل وتميز الأصوات الكلامية المستقبلة على هيئة إشارات مبعوثة من المرسل. هذه الإشارات هي الموجة الآكوستيكية والمستقبلة كمجرى من الأصوات المختلفة بما فيها الأصوات الكلامية, والوحدة الأساسية التميزية للأصوات الكلامية هي " الفونيم ", ولكي تحصل عملية التميز لآي واحد من هذه الأصوات التي ترد إلى الأذن لابد من فرزه من حيث كونه يمتلك خصائص أكوستيكية تميز هذا الفونيم عن غيره. هذه الخصائص تحمل اسم السمات المميزة. وعلى أساس هذه السمات التميزية فإن المستقبل يميز المفردات المختلفة المعنى حتى وان اختلفت بسمة واحدة, وقد يكون الاختلاف هنا في صفتي الجهر والهمس ـ على سبيل المثال: الاختلاف بين الصوتين: خ, ع. إن الاختلافات الاكوستيكية بين الأصوات والتي تعود إلى فونيم واحد هي كثيرة, حتى في نطق الكلمات من خلال نفس الشخص وفي مناسبات مختلفة, ولكن العيش مع مجموعة من الناس لهم لغة مشتركة يؤدي إلى تشكيل قدرات سمعية تكيفيه خاصة عند الإنسان لالتقاط هذه الاختلافات والتي تكون جوهرية في لغة ما. إن تكيف السمع لفرز السمات التميزية للأصوات يسمى بالإذن الكلامية !!!.

ولغرض الاستقبال السليم للكلام فمن الضروري أن تكون منطقة " فيرنيكا " فاعلة بشكل اعتيادي وكذلك المناطق القشرية المجاورة. إن الأذى الذي يلحق بهذه المناطق يؤدي إلى اضطراب في فهم الكلام, وبشكل خاص صعوبة تميز الأصوات على الرغم من أن سمع المستقبل نشط, وهذا يعني أن المستمع يسمع الأصوات ولكن لا يميزها, أي لا يفهم ماذا يسمع !!!.

إن عملية تميز الأصوات في وسط مجراها الهائل المنطلق إلى إذن المستقبل هو جزء من مهمة تنتظره. أما الجزء الآخر فيستند إلى القدرة على الاحتفاظ في الذاكرة بالعناصر المرتبة في الزمان والظاهرة في ترتيب محدد حتى لحظات تشفير مقاطع طويلة من الإرسال. إن عملية الاحتفاظ بهذه العناصر في الذاكرة ضروري لتحديد العلاقات بينهما أثناء تشفير المعنى. إن الأجزاء المتبقية من الفص الصدغي ( باستثناء التي ذكرت ) هي المناطق الدماغية التي تقوم بوظيفة تأمين الآثار الذاكروية في عملية استقبال الكلام.

إن سماع وتميز وتذكر عناصر الإشارة المستقبلة من خلال المستقبل يجب أن تخضع لعمليات عقلية بهدف تشفير معنى الإرسال. إن المنطقة الدماغية التي تنجز هذه العملية هي المنطقة الجدارية ـ القفوية ( القذالية ). هذه المنطقة مسئولة بشكل خاص عن العمليات المنطقية النحوية المرتبطة بفهم الموضوعات ذات التركيبات المعقدة من حيث المعنى.

أما خارج المناطق الثلاثة المذكورة, هناك أيضا مناطق أخرى دماغية لها دور في استقبال الكلام, ونقصد بذلك الجزء الأمامي من منطقة الكلام وكذلك منطقة الفص الجبهي, هذه الأخيرة لا تدخل عادة في تركيب ما قصدنا به ـ مناطق الكلام. الجزء الأمامي من منطقة الكلام يساهم في عملية التنظيم الدماغي للاستقبال وينجز وظيفة ( كما اتضح ذلك في العديد من الأبحاث ) دائرة مراقبة !!!.

أما بالنسبة لمنطقة الفص الجبهي خارج منطقة الكلام الأمامية فهي تقوم " بتأمين إمكانية الاتصال السريع إذا قصدنا بذلك استقبال الموضوعات, ودون الاعتماد على التركيبات الظاهرية للحديث, وعدم الاعتماد هذا يعتبر شرطا للانتقال إلى التركيبات العميقة وبدوره إلى معنى الموضوع المستقبل !!!!.

إذن هناك في الدماغ تعمل منظومتان ديناميتان: احدهما لإرسال الكلام وهي مرتبطة بالمركز الحركي للكلام ـ مركز بروكا, وأخرى لاستقبال الكلام وهي مرتبطة بالمركز السمعي للكلام ـ مركز فيرنيكا. وهذه المناطق مع مناطق أخرى تشكل منظومات دينامية والتي حددها الكاتب ( بيالاجوي ) من وجهة نظر علم النفس اللغوي بأنها ديناميات نمطية. واتفاقا مع وجهة النظر هذه والتي أكدتها نتائج أبحاث علم أعصاب اللغة, إن تعلم لغة أجنبية هو مساوي لعملية تكوين ديناميات نمطية جديدة لإرسال واستقبال الكلام !!!!.

إن عملية إرسال واستقبال الكلام تعتمد على النشاط الأتي:

1 ـ نشاط الدماغ حيث يشكل الأساس المخي للظواهر التي تنشأ في التركيبات القشرية, وكذلك مهمة أيضا الظواهر التي تتشكل في المنظومة خارج الهرمية والطرق العصبية.

2 ـ أجهزة الكلام ( التنفسية, الصوتية, النطقية ), والموجهة من قبل التركيبات القشرية وكذلك المعتمدة على نشاط الأعصاب المحيطية وأيضا على البناء التشريحي للأجهزة المذكورة.

3 ـ نشاط عضو السمع وخصوصيته والذي يؤطر عملية سمع وفهم كلام الأفراد الآخرين, وكذلك يقوم بعملية الضبط الذاتي لكلام المرسل. كما يساهم عضو الإبصار في استقبال الكلام من خلال قراءة حركات شفاه المتكلم.

إن نشاط الإرسال كما تحدده الكاتبة البولندية ( ستيجك ) هو مجموعة النشاط الذي يستند إلى إعادة تشكيل المدركات والتصورات والعمليات الفكرية في رموز صوتية. إن الحركات النطقية المنفذة تقع تحت عمليات ضبط سمعية ـ حسية. ويساهم في نشاط الإرسال المنطقة المخية الأمامية الحركية ( منطقة بروكا ) وكذلك الجزء الخلفي من منطقة الكلام. والافتراض السائد هو ان كل وظيفة ذات صلة بعملية الكلام تلائم جزءا معينا من مناطق الكلام المذكورة. وتؤكد نفس الكاتبة المذكورة أن برمجة الموضوعات ومحتواها واختيار المفردات يعتمد على التركيبات المخية للفص الجبهي ( المتموضعة الى الأمام من منطقة بروكا ). ويمكن أن نوضح آليات الإرسال في ضوء التنوع الوظيفي للمناطق المخية المذكورة أعلاه بالشكل الآتي:

1 ـ اختيار المفردات من حيث معانيها, وربطها وفقا للأسس القواعدية المعمولة بها في لغة ما, وهذا يرتبط بالحدود التي تقترب منها المناطق الجدارية ـ الصدغية ـ القفوية أو ما يسمى بالمنطقة الارتباطية.

2 ـ استحضار الآثار السمعية للمفردات الضرورية لبناء الموضوع ( التحليل والتركيب السمعي ), يرتبط بالمنطقة الصدغية.

3 ـ تنظيم الموضوع والذي يستند إلى الترتيب الخطي: صوت ـ مفردة ـ جملة, مع الحفاظ على الأسس القواعدية, وهذا يعود إلى وظيفة منطقة بروكا ( المنطقة الحركية الأمامية ).

4 ـ الإحساس بنماذج الأصوات والمرتبطة بوضع أجهزة الكلام. والوعي بوضعها يعتمد على وظيفة الفص ألجداري, وفي جزئه الأسفل والواقع مباشرة بعد الأخدود المركزي ( أخدود رولاندو )

5 ـ أ ما وظيفة منطقة الكلام الإضافية ( الحركية ) والواقعة في المنطقة العليا قبل الشق المركزي للنصف المخي المهيمن, فإن أدبيات الدراسة تحدثنا بأن ووظيفتها غير معروفة, ولكن الكاتبة ( مينجاكفيج ) تؤكد لنا من خلال خبرات الميدان بأنه من المحتمل أن تقوم هذه المنطقة بوظيفة مساعدة مرتبطة بعملية استحضار الأصوات الضرورية لبناء المقاطع, والمفردات والكلام.

أما عملية الاستقبال ( الفهم ) فهي مرتبطة بسماع أصوات الكلام ( التحليل والتركيب )  وربطهما بمحتوى محدد. وتعتمد هذه على منظومة وظيفية معقدة, والتي تساهم فيها بشكل جوهري الأجزاء الآتية:

1 ـ سماع أصوات الكلام وهذا يتطلب عضو سمع فاعل.

2 ـ القدرة على تميز الأصوات ( تحليل وتركيب ) ويعتمد ذلك على مركز فيرنيكا الواقع في المنطقة الصدغية في التلفيف العلوي.

3 ـ الذاكرة السمعية الشفوية ( أي إمكانية الاحتفاظ في الذاكرة باستمرارية المفردات المرتبطة بعلاقات منطقية ـ قواعدية ) والقدرة على تميز المفردات, ويعتمد ذلك على الجزء الأوسط للمنطقة الصدغية.

4 ـ  القدرة على التميز الدلالي ( المعنى ) للمفردات والجمل في ضوء سياقها وارتباطاتها المنطقية ـ القواعدية, ويرتبط ذلك بوظيفة المنطقة الجدارية ـ القفوية ( القذالية ).

5 ـ الجزء الأمامي من منطقة الكلام من المحتمل أن يساهم في النشاط المرتبط بالكلام الداخلي والذي يساعد على تشفير معنى الموضوعات عند استقبال الكلام.

6 ـ منطقة الفصوص الجبهية ( خارج منطقة الكلام ) وهي تؤمن إمكانية الاتصال السريع أثناء استقبال الموضوعات.

وباستثناء المناطق المخية المذكورة والتي تقوم بوظائف محددة (  كاستقبال الإيعازات الخارجية والداخلية, ومن ثم انجاز عمليات التحليل والتركيب ), وكذلك باستثناء المنطقة الترابطية ( الجدارية ـ الصدغية ـ القفوية ), والتي تمكن من التعاون المشترك للمناطق المخية المختلفة, أي تشكيل النشاط النفسي المعقد ـ فهناك أيضا تساهم المنظومة التي تؤمن طاقة عضلية مناسبة وهي المنظومة خارج الهرمية. وهذا الجهد العضلي ضروري حتى لأكثر العضلات استرخاء لانجاز الحركة المطلوبة !!!!.

ومن الحقائق المذكورة في هذا الجزء من البحث المرفق نستطيع أن نؤكد أن للكلام مناطق مخية ( مناطق الكلام ), وهي موجودة عند أغلب الناس في الجزء الأيسر من المخ. وأن الأذى الذي يلحق بهذه المناطق يسبب أعراضا مختلفة من اضطرابات الكلام. كما أن مناطق الكلام هذه تشغل الجزء الأوسط من نصف المخ المهيمن ( الأيسر عند الغالبة ), وتمتد مساحاتها جزئيا في الفص الجبهي ـ الجداري ـ الصدغي !!!.

ومن المفيد جدا أن نشير هنا إلى نموذج آليات اضطرابات الكلام والذي قدمه الباحث ( كونورسكي ). وقد استند في ذلك إلى نظرية الوحدات المعرفية, وقد قبلت هذه النظرية واستخدمت لأنها تضع لنا مخططا عمليا في تحليل اضطرابات الكلام وتوجيه عملية التقدم العلاجي. ووفقا للكاتب المذكور أن كل المناطق المعرفية ـ الإدراكية تمتلك تنظيما تصنيفيا, أي أنها تشكل مجموعة وحدات إدراكية تعود إلى محلل محدد: بصري, سمعي, حركي, وحسي.

وكل منطقة إدراكية تلائم الوظيفة التي انيطت بها:

ـ في المناطق السمعية يوجد مجموع الوحدات التي تمثل: الأصوات, الكلمات, أصوات الكلام, والظواهر الأخرى الاكوستيكية.

ـ في المناطق البصرية توجد الوحدات الممثلة للرموز الكتابية, أشكال الموضوعات, الألوان العلاقات المكانية.

ـ المنطقة الحركية للكلام والتي تمثل النشاط الحركي للكلام, فإن مهمتها تأمين النماذج الحركية والتي لا غنى عنها في عملية الكلام.

وكل المناطق المذكورة أعلاه متصلة مع بعضها, الأمر الذي يمتلك أهمية استثنائية لتعلم واكتساب مهارات التكلم والفهم. وفي إطار هذا المفهوم فإننا نتحدث عن الاضطرابات الكلامية ليس فقط عندما تخضع هذه المناطق للأذى, ولكن أيضا عندما تتعرض الاتصالات بين هذه المناطق إلى خلل ما. وسنتطرق إلى ذلك في تتمة الحلقات المعنية بموضوع البحث !!!!.






225
اللغة والتفكير والديالكتيك الجدلي 



د.عامر صالح


عندما نقول الديالكتيك الجدلي أو المادية الجدلية فنعني به حصرا الفلسفة الماركسية التي نشأت في الأربعينات من القرن التاسع عشر على أيدي مؤسسيها, وهم كارل ماركس ( 1818 ـ 1883 ) وفردريك انجلز ( 1820 ـ 1895 ). ولعل التصاق الماركسية بالعلوم الطبيعية ونشأتها آنذاك كان له الأثر الكبير في بقاء الماركسية جزء من التاريخ الفلسفي العالمي الحي والذي تعاد قراءته باستمرار وإعادة بنائه وفهمه في ظروف عصرنا المتغير الذي يستند هو الآخر إلى أرقى الانجازات في العلوم المختلفة. إذ أن ازدهار علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر, وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر هو الذي قاد مؤسسي الماركسية إلى القول بان للجدلية أساسا موضوعيا. وكان للاكتشافات العلمية الثلاثة الآتية أثرها الكبير في صحة الماركسية وانتصار النظرة المادية الجدلية الجديدة عن العالم, وهي:

1 ـ اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الأجسام المعقدة.

2 ـ اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيمائية... الخ. فهي صور مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة.

3 ـ نظرية التحول عند دارون فقد أثبتت آن أنواع الحيوانات والنباتات المعروفة في الوقت الحالي لم تكن تبدو كما نراها اليوم, فهي نتيجة تطور طويل الأمد.

والديالكتيك الجدلي هو علم عن القوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة والمجتمع البشري والتفكير, علم عن الروابط العامة بين جميع الظواهر الموجودة في العالم تجسده المقولات الماركسية الآتية: قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية, وقانون وحدة صراع الأضداد, وقانون نفي النفي, والسبب والنتيجة, والضرورة والصدفة, والإمكانية والواقع, والمضمون والشكل.

وتشكل موضوعات الإدراك واللغة والتفكير من أهم موضوعات الفلسفة الماركسية, لأنها ترتبط بإنسانية الإنسان. واستنادا إلى النظرية الماركسية فأن الادراك ليست نتاجا لأي مادة وإنما لمادة راقية التنظيم, وهي نتاج لنشاط المخ. والإدراك هو وظيفة المخ. وهو لا يستطيع أن يوجد بدون المخ, حامله المادي. وأساس النشاط النفسي هو العمليات المادية التي تجري في المخ البشري, وعلى الأدق في القشرة الدماغية التي تغطي نصفي كرة المخ. وقد وصل دماغ الإنسان في مجرى عملية التطور البيولوجي والاجتماعي إلى أرقى حالات التخصص والتنظيم العصبي والفسيولوجي في مجرى عملية الصراع من اجل البقاء والاستمرار والتكيف لظروف الحياة. كما تؤكد الماركسية أن الإدراك ليس نتاجا للطبيعة مثل الشعر أو الأيدي أو الأعين, بل لابد لنشوئه وعمله إلى جانب الأساس الطبيعي البيولوجي من مخ وأعصاب, لابد أيضا من ظروف اجتماعيه أي الحياة في مجتمع أنساني وفي وسط أنساني. أي أن الإدراك الإنساني يحمل طابعا اجتماعيا. أي انه لا يظهر بشكل منعزل عن الحياة البشرية الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد !!!.

وعلى هذا الأساس الماركسي فأنه لا يوجد تفكير بشري خارج الجماعة, وهو ينشأ نتيجة لحياة الأفراد في المجتمع, ولا يمكن أن يظهر التفكير إلا عندما يدخل الإنسان في علاقات معينة مع الناس الآخرين في نشاط عمل إنتاجي ويدرك الطبيعة على هذا الأساس ويعكسها. لقد خلق العمل الإنسان, وخلق المجتمع الإنساني, وهو بالتالي خلق مخ الإنسان وإدراكه. وفي هذا السياق أيضا نشأ الكلام تدريجيا عبر عمليات التحسن والتطور المستمر للحنجرة وأعضاء الفم في تزايد قدراتها على النطق بأصوات متتابعة. وهكذا نشأ الكلام الواضح, أي اللغة كوسيلة لتبادل الأفكار, ووسيلة للتفاهم بين الأفراد, وغلاف مادي للتفكير !!!.

وتنشأ العلاقة الجدلية بين اللغة والتفكير من طبيعة التفكير نفسه, حيث في الكلمات فقط يصبح الفكر كما لو كان واقعا. وطالما بقي في رأس الإنسان فأنه يظل كأنه ميت في غير متناول الأفراد الآخرين. ولهذا أشار ماركس إلى أن اللغة هي الواقع المباشر للفكر. وهذا يعني أن التفكير لا يوجد في غير الغلاف اللغوي المادي. وحتى عندما لا نعبر عن أفكارنا بصوت مسموع, أي كما يقولون نفكر مع أنفسنا فأننا نغلفها في غلاف لغوي من الكلمات. وبفضل اللغة لا تتشكل الأفكار فحسب وإنما تنتقل إلى الأفراد الآخرين. وعن طريق الكتابة تنتقل حتى من جيل إلى جيل آخر. وبدون الكلمات لا يمكن التعبير عن الفكر المجرد !!!.

لقد أغنيت المقولات الماركسية الخاصة بعلاقة المادة بالوعي لاحقا في الكثير من الأبحاث والدراسات في نطاق الفسيولوجي وعلم النفس, فقد أخذت طابع الدراسات التاريخية المستقاة من المنهج الجدلي في فهم الظاهرة النفسية بارتباطاتها المتشعبة والمتداخلة, وكذلك طابع الدراسات التجريبية المؤسسة على منهجية البحث العلمي وفروضه. ولعل العالم الروسي ايفان بافلوف ( 1849 ـ 1936 ) والذي ارتبط بأسمه الاكتشاف التاريخي لنظرية الفعل المنعكس الشرطي خير من جسد المنهج الجدلي في أبحاثه العلمية, إلى جانب كوكبة من العلماء الذين جاء من بعده في دراسة الكثير من الظواهر النفسية, كاللغة, والتفكير والعلاقة بينهما, والعمليات العقلية ومختلف مظاهر السلوك الإنساني, أمثال فيجوتسكي, ولوريا وغيرهم. وقد أكدت نظرية بافلوف الكثير من الحقائق العلمي وأسست اتجاها سيكولوجيا علميا في تفسير الظواهر النفسية, يجد دلالته في المضامين الآتية:

1 ـ أن العمليات النفسية صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية, والدماغ هو أرقى أشكال المادة, ويبنى على هذه المسلمة انه لا يمكن إدراك العمليات النفسية بصورة علمية بعيدا عن أدراك العمليات العقلية التي تتأصل في البنية الدماغية, فالفعل السيكولوجي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في القشرة الدماغية الموطن الحقيقي لارتباطات مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا.

2 ـ الشعور انعكاس للمادة وصورة حية من صور العالم الموضوعي الخارجي والعمليات النفسية برمتها مرهونة بأشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صورة دماغية لحائية مرنة ذات طابع اشراطي, وبالتالي  فأن أدراك الفعل النفسي مرهون بظروفه الخارجية والداخلية وبصورة أكثر تحديدا أن الفعل النفسي نتاج تفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة مع الوسط الداخلي الذي يحسده الدماغ بشكل عام والقشرة المخية بشكل خاص.

3 ـ أن المادة أولية والشعور لاحق وثانوي وهذا يعني أن الأفكار والإحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي الموجود بصورة مستقلة عن الوعي, وهذه الفكرة تنطوي على مضامين بالغة الأهمية في التفسير في مجال الصراعات الإيديولوجية الخاصة بالمسألة الأساسية للفلسفة, وهي إن المادة سابقة للوعي في الوجود, وفي علم النفس أن الصورة الشعورية تولد في عالم المادة والظروف الخارجية, أي أن ما يولد في الشعور هو صورة منعكسة من صور العالم المادي, وقد ساعد ذلك كثيرا على إخضاع العمليات العقلية والنفسية, بما فيها اللغة والتفكير والعلاقة بينهما للدراسة والاختبار !!!.

واعتقد العالم بافلوف بعد تجارب مختبريه استمرت لعقود من حياته وتم عرض نتائجها في المحافل العلمية الدولية, أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة, ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدراته الهائلة على التنظيم الذاتي والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية. فالإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في صورتها الأكثر رقيا وتقدما, فالسلوك الإنساني صناعة تتم وفقا لمبدأ الاستجابات الشرطية, وهي صناعة ممكنة, أي أنه يمكن لنا التحكم في سلوك الإنسان وتشريطه وتصنيعه مختبريا أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الاجتماعية " شروط الوجود ", فأفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا وقيمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والاجتماعية هي نتيجة لعملية تشريط اجتماعية تربوية بعيدة المدى, وأنه يمكن رسم حدود هذه النشاطات والتحكم فيها وفقا لمبدأ الاشراط ومبدأ الاستجابات الشرطية التي بين أسرار حركتها في مختبراته وتجاربه الطويلة. لقد بين بافلوف انه يمكن للاستجابة الشرطية إيقاع الناس فريسة الأمراض النفسية, وأنه خلاف ذلك يمكن لهذا التشريط نفسه أن يؤدي وظيفة تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية !!!.

وقد أكد العالم المذكور في إطار فهمه للغة بأن الإنسان ينطلق في عملية تكيفه وفق منظومة دلالية من الرموز والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة. فالكلام يشكل بالنسبة للإنسان نظاما ثابتا من الدلالات الذي يتمايز به الإنسان عن الحيوان, فالكلام هو بالتأكيد الأمر الذي جعل منا بشرا, فالمثيرات الأولى " المنظومة الأشارية الأولى " هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي, مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء والأحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف بالمثيرات الدلالية من المستوى الثاني " المنظومة الاشارية الثانية ", والتي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني, وهي الرموز والدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن الحيوان !!!!.

أما بالنسبة لعلاقة اللغة بالتفكير فقد أكدتها الكثير من الدراسات الميدانية بما يدعم التصور الماركسي لهذه العلاقة, ولعل نظرية " استقلال الفكر عن اللغة استقلالا نسبيا مع تلاحمه العضوي بها والأثر المتبادل بينهما ", والتي يمثلها العالم  السوفيتي فيجوتسكي ( 1896 ـ 1934 ), والفيلسوف الأمريكي جون ديوي ( 1859 ـ 1952 ) هما أفضل من شرح تلك العلاقة " وخاصة فيجوتسكي ", وفحوى تلك النظرية: أن اللغة وان كانت غير الفكر من حيث طبيعتها ووظيفتها ومن ناحية نشأتها التاريخية إلا إنها مع ذلك ملتحمة به التحاما عضويا غير قابل للعزل في مجرى تطور النوع الإنساني وضمن حدود تطور الفرد من المهد إلى اللحد. ومع أن هذا الالتحام أو الاندماج ليس بذي جذور فسلجية فطرية في الأصل, إلا إن جذوره تاريخية نشوئية على الصعيدين الفردي والنوعي على حد سواء. فاللغة والفكر جانبان مشتركان ملتحمان وان كانا متميزين في عملية واحدة أو كيان متماسك موحد.

يعبر الفكر هنا عن ظواهر البيئة المحيطة على هيئة صور ذهنية أو انطباعات فكرية تحمل المعرفة في شتى فروعها. معنى هذا ان الفكر يرتبط بالبيئة المحيطة الطبيعية والاجتماعية ارتباطا مباشرا, أي انه يصور الظواهر البيئة أو يسجلها مع ارتباطاتها الفعلية الموضوعية وقوانينها على صفحة المخ ويساعد الإنسان على فهمها والسيطرة عليها. أما اللغة فهي في الأساس وسيلة تجسيد الفكر ذاته ونقله وتداوله بين الناس في التحدث والكتابة. ولهذا فأن اللغة ترتبط بالبيئة ارتباطا غير مباشر وذلك عن طريق الفكر: أي أن اللغة تعين الإنسان على تجسيد فكره أو بلورته وصوغه وتداوله, ولولاها لاستحال ذلك. والفكر بدوره يعين اللغة على الدقة ويثريها بالمصطلحات وهكذا !!!.

وفي الختام فهناك الكثير من المعطيات الفسيولوجية والتشريحية لكل من اللغة والتفكير والتي تؤكد مسار استقلالهما النسبي وتلاحمهما المشترك, وان علم اضطرابات الكلام وتموضعه الدماغي يفسر الكثير من ذلك, ولكاتب السطور محاولات قادمة لإغناء تلك الموضوعة الشيقة علميا ومعرفيا !!!.


226
عيد المرأة العالمي في الثامن من آذار بين دلالات الماضي ومنعطفات الحاضر !!!


الدكتور عامر صالح

في العام 1977 وفي القرار (32 / 142 ) دعت الجمعية العامة الدول إلى إعلان يوم من أيام السنة يوما للأمم المتحدة لحقوق المرأة والسلام الدولي, وذلك وفقا لتقاليدها وأعرافها التاريخية والوطنية. وقد دعت الجمعية العامة الدول إلى المساهمة في تعبئة الظروف اللازمة للقضاء على التميز ضد المرأة وضمانة مشاركتها الكاملة في التنمية الاجتماعية وعلى قدم المساواة مع الرجل. وقد اتخذ الإجراء غداة السنة الدولية للمرأة ( 1975 )  وعقد الأمم المتحدة للمرأة ( 1976 ـ 1985 ) اللذين أعلنتهما الجمعية العامة. وقد اتفق على أن يكون الثامن من آذار عيدا عالميا للمرأة !!!.

ويشكل هذا الإعلان قيمة أخلاقية وإنسانية في إعلانه صراحة على الصعيد العالمي بعدمية الفروق بين الجنسين في المساهمة في الحياة والحقوق العامة. ويشكل هذا الإعلان عودة إلى الفطرة الإنسانية والى مرحلة تاريخية ما قبل اللاتساوي بين الجنسين ونبذ الفروق الجسمية والعقلية والنفسية باعتبارها مصدرا بهيميا لعدم المساواة والتي يبنى عليها شتى مظاهر اضطهاد المرأة !!!.

ويفسر هذا الإعلان ضمنا إن عدم المساواة بين الجنسين ذو طابعا تاريخيا, أي بمعنى إن الواقع الدوني للمرأة  في العائلة والحياة العامة والمجتمع ليس متأصلا في الطبيعة البشرية البيولوجية, أو من مشيئة الخالق أو من مقتضيات النواميس الأخلاقية العامة , بل هو نتاج ظروف تاريخية أولدته, قابلة للشرح والتحليل والتنبؤ, وبالتالي تمتلك طابعا نسبيا وانتقاليا, يمكن تجاوزها  حال توفر الشروط التاريخية البديلة والتي تؤمن للمرأة موقعا متحررا ومتساوي الحقوق مع الرجل. وهنا نتفق مع الأطروحة التاريخية أنه قبل تطور المجتمع الطبقي وخلال الفترة التاريخية المسماة بالمشاعية البدائية أو مجتمع الكفاف, كان تنظيم الإنتاج الاجتماعي جماعيا وتوزيع أنتاجه منصفا, ولهذا انعدم آنذاك كل اضطهاد أو استغلال مجموعة أو جنس من طرف آخر بسبب انعدام الأسس المادية لهذا النوع من العلاقات الاجتماعية. وكان الجنسان يشاركان في الإنتاج الاجتماعي مساهمين في ضمان معاش الجميع وبقائهم. وكان الوضع الاجتماعي للنساء كما للرجال انعكاسا لدور كلاهما اللازم في صيرورة الإنتاج !!!.

وهذا يعني أن ظهور اضطهاد النساء ارتبط أصلا بالانتقال من المجتمع اللا طبقي إلى المجتمع الطبقي, وتزامن تحول مكانة المرأة هذه مع نمو إنتاجية العمل المرتكز على الزراعة وتدجين الماشية وتكوين مخزونات, كما تزامن مع ظهور تقسيمات جديدة في العمل والحرف والتجارة, ومع التملك الخاص لنتاج اجتماعي فائض ومع تطور إمكان اغتناء البعض باستغلال عمل الآخرين. وعلى خلفية هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية أصبحت النساء بفعل دورهن البيولوجي في الإنجاب ملكية سهلة ومريحة. كانت النساء كالعبيد والماشية مصدر للثروات. فوحدهن القادرات على إنتاج كائنات بشرية جديدة يمكن استغلال عملها فيما بعد. لذا أصبح تملك النساء من طرف الرجال, وبالتالي امتلاكهم كل الحقوق على ذريتهن القادمة إحدى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام الجديد المرتكز على الملكية الخاصة. وكان ظهور العائلة البطريركية " الأبوية " أمرا منطقيا باعتبارها أول مؤسسة اقتصادية اجتماعية تضمن تأيدا عبر الأجيال لانقسام المجتمع إلى طبقات, طبقة تمتلك ثروات وتعيش على عمل الآخرين, وطبقة لا تملك وتضطر للعمل لفائدة الآخرين. وقد تزامن ظهور العائلة البطريركية وإخضاع النساء داخلها مع باقي مؤسسات المجتمع الطبقي الوليد, ظهور الدولة بشرطتها وجيشها وقوانينها ومحاكمها لتعزيز وتكريس هذا الطراز من العلاقات. وعلى هذه القاعدة ولدت إيديولوجيات وأديان وأفكار الطبقة المسيطرة وأدت دورا حيويا لتبرير عدم المساواة بين الجنسين والإذلال الذي تعرضت له المرأة. ولابد من الإشارة هنا إلى قدرات فردريك أنجلس في تتبعه لتطور أشكال العائلة والزواج عبر التاريخ في مؤلفه " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة " والذي اعتمد على المنهج المادي التاريخي لماركس, وعلى المعارف التاريخية والانثروبيولوجية المتوفرة آنذاك, والتي أغنت هذا الجانب كثيرا !!!.

وقد بدأت الرحلة التاريخية لعدم المساواة بين الجنسين عبر العصور والى يومنا هذا, متخذة طابعا تعسفيا وشرسا يشمل كل مناحي حياة المرأة الشخصية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأسرية, وقد جردت من كل امتيازاتها في الثروة والسلطة والسلاح, بعد إن انتزعت رمزية  "إلوهيتها " " إلهة الخصب " كسيدة للسماء, ليحل محلها الإله الذكر كتعبير عن المتغيرات التي حصلت على الأرض. وبهذا بدأت رحلة المجتمعات الإنسانية في مسحتها الذكورية الغالبة عبر مختلف العصور !!!.

وعلى خلفية الاضطهاد التاريخي للمرأة فأن الإعلان عن يوم عيد المرأة العالمي من قبل المنظمة الدولية لم يأتي وليد ساعة التفكير به , بل هو نتاج مخاض تاريخي طويل الامد, سبقته إحداث كبرى من الاحتجات ضد اللامساوات, ولم يكن الثامن من آذار إلا خاتمة شكلية لها. فقد أضربت مئات العاملات عام 1857 في نيويورك في إحدى مصانع الغزل والنسيج احتجاجا على انخفاض الأجور وظروف العمل السيئة وسوء المعاملة, ثم تلتها بخمسين عاما, أي عام 1907 إحياء لهذه الذكرى, ثم أعيدت عام نفس الاحتفالية عام 1908, وتوالت كذلك فعاليات مشابهة قي أعوام لاحقة. أما الطابع العالمي لليوم فقد طرح لأول مرة في عام 1910 من الوفود النسائية الاشتراكية والنسوية المشاركة في مؤتمر الأممية الثانية في كوبنهاكن التي شددت على التضامن العالمي بين عاملات العالم !!!.

كما نشير هنا إلى دور الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي الذي تأسس في عام 1945 ودوره الكبير في التعبئة لقضية المرأة ومساواتها متأثرا بالفكر اليساري للعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين, ولعب الاتحاد المذكور دورا تثقيفيا في مختلف بقاع العالم في تهيئة المزاج الدولي والإقليمي والقطري لإبراز قضية المرأة وتأكيد استحقاقاتها التاريخية في المساواة والعدالة والمساهمة في إبراز منظومة التحديات التي كانت ولا تزال شرائح عريضة من نساء العالم يشعرن أنهن يواجهنها على كافة الأصعدة الحياتية, إلى جانب الإشادة واستعراض الانجازات والمكاسب التي حققتها المرأة على مر العقود المنصرمة في كافة المجالات وضرورة الحفاظ عليها !!!.

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية والإقليمية بتنوعها الديني والاثني والقومي, وعلى الرغم مما حققته من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وتدريسية وهندسية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها, فهي لازالت مشروع استلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية وتتعرض إلى مسلسل لا حصر له من الممنوعات من صغرها حتى شيخوختها, إلى جانب ما تتعرض له من مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, وكذلك العنف الرمزي غير المرئي الذي يتجسد عبر الثقافة والتربية والموقف المذل منها يوميا عبر معاملتها كجنس من الدرجة الثانية, وفصلها اجتماعيا عن الرجل سواء في البيت أو المدرسة أو الدائرة ومنعها من الاختلاط والتدخل في تفاصيلها اليومية, انطلاقا من مسلمات لا صحة لها " كناقصة عقل ودين " !!!.

وإذا نحتفل بعيد المرأة العالمي في ظل ظروف إقليمية وعربية وإسلامية تضيق فيها فسحة المساواة ويتعرض فيها فكر المساواة إلى مزيدا من التشكيك والضربات المختلفة, وينتعش فيها الفكر المتطرف الديني والسياسي الذي يرمي المرأة خارج إطار عملية الصراع أو تحيدها أو إجبارها على الوقوف إلى جانبه, وتسفيه دورها اللازم في عمليات التغير واعتبارها تابع لاجدوى من مساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية, فأن الجهود الصادقة والحريصة, الدولية منها والإقليمية والقطرية, يجب أن تتوجه إلى أنقاض المرأة من سلوكيات الإذلال والحط من قيمتها الشخصية والاجتماعية وفسح كافة فرص المساهمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمساهمة في بناء مجتمعات أفضل لا تخضع لمزاج الفتاوى الشخصية والاجتهاد المبتذل, فمكانة المرأة ليست موضوعا للاجتهاد بل هي موضوع للمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين قطبين متكافئين !!!!.

وفي عيد المرأة العالمي حيث نسمع من هنا وهناك بعض الصيحات الخجولة والمبطنة بفكر القمع والكراهية للمرأة, والتي تتجسد في الدعاوى لتخصيص يوم عربي أو إسلامي خاص بعيدها بعيدا عن الاحتفالات الدولية بهذا اليوم, وهذه المحاولات إن بنيت على بعض من الخصوصيات الثقافية والدينية والتي لا معنى لها بحقوق الإنسان, فالإنسان هو الإنسان مهما اختلف دينه ولونه وشكله, فهي محاولات يائسة لتبضيع قضية المرأة وتحويلها إلى أشلاء متناثرة كما تفعله المفخخات!!!.

كل التحيا والتهاني القلبية للمرأة بعيدها العالمي والى المزيد من العطاء المتواصل والنضال الدؤوب والمثمر من اجل الحق والعدل والمساواة بين الجنسين. 




 


227
الكبر والشيخوخة بين علم النفس والسياسة والدين !!!! 

" ذهب الشباب فما له من عودة     وأتى المشيب فأين منه المهرب "
                                                                                 الإمام علي بن أبي طالب(ع)


الدكتور عامر صالح

من المسلم به عموما أن قدرات الإنسان العقلية لا حدود لها في مجالات العطاء والإبداع المختلفة, الاجتماعية, والثقافية, والاقتصادية,  والسياسية, والفكرية, والإدارية, والتربوية والتعليمية, وكذلك في ميادين التقدم الصناعي والتقني والمعلوماتي وسائر مناحي المعارف والعلوم والمهن المختلفة. وتتبلور هذه المقدرة والقدرات والإمكانيات عبر التراكم والاستفاضة بموضوع الاهتمام والتركيز فيه وتكريس الوقت اللازم له والتهذيب المستمر لورشة العمل فيه !!!.

وأن إبداعات البشرية في المجالات كافة جاءت على خلفية توافر ميكانزم قوامه بعدين أساسين, هما البعد العقلي الفسيولوجي الذي يستند إلى البنية التشريحية الدماغية والجسمية المتطورة لدى الإنسان, والبعد الاجتماعي والثقافي والظروف البيئية المصاحبة التي تقرر صيرورة الانجاز ومحتواه, إلا إن الأداء العقلي والفسيولوجي يتأثر كثيرا بسنة النمو وطبيعته المتصاعدة في بدايتها ووصولها سقفا زمنيا ـ عمريا, ثم نزولا تدريجيا بطيئا يبدأ في الكبر ويضعف في الشيخوخة !!!.

وحتى التحسن المستمر للبيئة وظروفها لا يعني بقاء الإنسان وعطائه كما هو الحال في حالات العمر المبكر, لان نوعية الظروف الايجابية لا تلغي سنة النمو وتعود بالكبر والشيخوخة إلى الشباب, بل يمكن القول أن هناك كبر وشيخوخة يختلفان عن غيرهما بالدرجة وليست بالنوع, لان الأداء الإنساني محكم بظروف فسيوعصبية حتى وان تأثر بظروف البيئة المحيطة. ولهذه الأسباب ارتأيت الخوض ببعض من ملامح مرحلة الكبر والشيخوخة من حيث أسبابها ومظاهرها المختلفة في درجاتها استنادا إلى تحسن ظروف العيش والرعاية التي يلقاها الفرد, وخاصة في الشيخوخة, ثم تداعيات ذلك ومخاطره عندما يكون الفرد في هذه المرحلة على رأس قمة هرم الحركات السياسية والاجتماعية والدينية والإدارية, أو يقود أنظمة حكم ودولة بكامل مؤسساتها ويكون هو البوصلة التي تقرر اتجاه المستقبل !!!.

ولفهم ظاهرة الكبر بشكل صحيح علينا تجنب الفهم الخاطئ الذي يرى أن الكبر يبدأ فجأة بعد سنوات الشباب ومنتصف العمر. إلا إن الدراسات العلمية تؤكد بأن عملية الكبر تبدأ في سن مبكرة في الحياة أي ما بين الخامسة عشر والعشرين من العمر, ومن هذه البداية يتواصل الكبر بشكل حثيث وأن لم يكن منظورا حتى تتضح معالمه فجأة في العمر المناسب. والذي يمنع ظهور أعراض التحول في حينها هو تغطية هذه الأعراض بفيض مضلل من نشاط الشباب وحيويته الغامرة لمظاهر التحول.

وتنتظم عدد من النظريات لتفسير ظاهرة الكبر والشيخوخة, منها ما هو بيولوجي, ومنها ما هو نفسي اجتماعي, ومنها ما يجمع بين البيولوجي والنفسي والاجتماعي في نظرة متكاملة لتفسير هذه الظاهرة. ومن هذه النظريات هي النظرية التي ترى أن الكبر مرحلة مقررة من مراحل الحياة ولابد للفرد أن يصلها بتتابع هذه الأدوار وحتى نهايتها الطبيعية. والذي يقرر هذا التتابع في مراحل الحياة ومدته وسرعته هو عامل مقرر أشبه ما يكون أو ما يطلق عليه بالساعة البيولوجية في حياة الإنسان, ويتم ذلك عن طريق الذاكرة التي تحملها مادة " د ن ا " في جينات الخلايا, وهذه الذاكرة تقرر وظائف الحيوية للجسم وطول حياتها وطبيعة أدائها بدأ من الطفولة وانتهاء بالشيخوخة وأخيرا توقف الحياة, ولكنها تتأثر بهذا القدر أو ذاك بالظروف البيئية والمعيشية المحيطة.

أما النظرية البيولوجية الثانية في تفسير الكبر والشيخوخة والتي تقترب ببعض من ملامحها من النظرية الثانية, حيث تؤكد بأن ما يحدث في الكبر هو تناقص تدريجي في حيوية الخلايا المكونة للجسم. فالخلايا العصبية وهي الخلايا التي لا تتكاثر بطبيعتها يصيبها التحول والضمور والنقص في الحيوية, أما خلايا الجسم الأخرى والتي من طبيعتها التكاثر فأنها تصل إلى نقطة يتعذر فيها التكاثر فتضمحل بالنهاية بدون تعويض. وهكذا تصل خلايا الجسم إلى عجز واستنزاف لطاقتها وبدون إمكانية التعويض عن ذلك إلا بالانخفاض المناسب لفعاليات الفرد وحيويته. ومن الضروري الإشارة هنا إلى إن الأبحاث العلمية أكدت بأن عمليات النمو تبلغ ذروتها ما بين الخامسة عشر والعشرين من عمر الفرد, وأن الفرد يصبح قادرا في هذه المرحلة على التكاثر, ويتزامن مع هذه المقدرة عملية أخرى من الانحلال تبدأ في كيان الفرد كما يتضح ذلك من التحولات والتغيرات النسيجية والخلوية في الجسم والدماغ. وتتضح هنا المفارقة العجيبة في الإنسان, فهو عند بلوغ مرحلة الذروة في حيويته فأنه يحمل ويجمع في ذاته عوامل البقاء وعوامل الفناء. ومن هذه الذروة يبدأ العد التنازلي لحيوية الإنسان ويبدأ انحداره نحو مصير الفناء بالرغم مما يبدو عليه من مظاهر الحيوية والنشاط والإقبال على الحياة بعنفوان.

وهناك أيضا نظرية المناعة في تفسير الكبر والشيخوخة, فهي ترى أن جهاز المناعة هو بمثابة عملية دفاعية أساسية وضرورية للمحافظة على الحياة, وأن بإمكان هذا الجهاز أن يلعب دورا هاما بصورة ايجابية أو سلبية في عملية الشيخوخة أو إنهاء الحياة. وبتقدم العمر فأن الإمكانيات الدفاعية لهذا الجهاز المناعي تضعف تدريجيا, كما أن خلايا الجسم تصبح متشعبة من حيث سماتها الوراثية مع مرور الزمن وبذلك تصبح مضادة التكوين وتحفز على صنع أجسام مضادة في الجسم مما يؤدي إلى قيام أمراض ذات مناعة ذاتية تسبب ضررا لخلايا الجسم يؤدي إلى إتلافها بدون تعويض.

والى جانب هذه النظريات البيولوجية فهناك الكثير من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والثقافية  والصحية والتي بإمكانها أن تؤثر على الأساس البيولوجي سلبا أو إيجابا وعلى الأداء العام للإنسان وتحفيزه وإطالة أمده نسبيا  أوتلكئه, وكذلك دور العوامل النفسية من  حماس وتحدي وحوافز للبقاء ورفض للعجز والتعامل الايجابي مع المرحلة العمرية وتقبلها ودرجة التواصل الاجتماعي مع البيئة الاجتماعية المحيطة والاتصال بالآخرين, وعلى قدر تشبع الشخصية ايجابيا بهذه العوامل فأنها تدفع عنها عوامل الإحساس بالعجز والقصور وانعدام الكفاءة, إلا إن ذلك لا يعني بكل الأحوال العودة إلى مراحل إنمائية سابقة, لان هناك الكثير من التغيرات التي تطرأ على الفرد في مرحلتي الكبر والشيخوخة ولا يمكن تجاوزها إلا بمقادير تختلف من فرد إلى فرد طبقا للعوامل المذكورة أعلاه مجتمعة !!!!.

ومع تقدم العمر تظهر مجموعة من التغيرات الجسمية والعصبية والنفسية والعقلية والاجتماعية في مرحلتي الكبر والشيخوخة, وان كانت في المرحلة الأولى أكثر تدرجا واقل وضوحا واقرب للحياة من مرحلة الشيخوخة التي قد تظهر بسرعة وتتسم بالعجز أو المرض وتنذره بالفناء. أما ابرز تلك التغيرات في مرحلة الكبر فهي باختصار شديد ما يأتي: على مستوى التغيرات الجسمية حيث تبدو في مظهر الجسم بشكل عام والعلاقة النسبية بين أجزائه وأعضائه, كما تشمل تركيبة وحيوية الجلد والعضلات والمفاصل والعظام والأوعية الدموية والعمليات الوظيفية لأجهزة الجسم كافة بما في ذلك القلب والدورة الدموية والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والجهاز الجنسي والتناسلي, والتي تبدأ فعاليتها بالهبوط تدريجيا مع تقدم العمر. وقد يكون هناك نشاطا في هذه الأجهزة وحيوية كبيرة إلا إن ذلك لا يعني عدم وجود العد التنازلي, بل قد يكون على حساب أجهزة أخرى ومسببا عموما الإجهاد لها.

أما بالنسبة للتغيرات العصبية فتبدو في صورة الانخفاض والنقص التدريجي في قوة الإرجاع والاستجابات العصبية, كما أنها تشمل العديد من العمليات العصبية التي تعتمد على حيوية الدماغ مثل الذاكرة والتعلم واكتساب الخبرات والمهارات الجديدة. ومع أن الفرد يبدو أكثر نضجا مع تقدم العمر, إلا إن ذلك لا يعني تطورا موازيا في الحيوية العصبية بقدر ما يعني الاستفادة من التجربة المتراكمة لدى الفرد.

وبخصوص التغيرات النفسية في الكبر فأنها تتسم بصفات التصلب النفسي مما لا يمكن الفرد من التكيف الكافي لمتغيرات الحياة وظروفها وخاصة المستجدة منها وغير المألوفة منها, ويتزامن ذلك هبوط في درجة الحماس وفي الطموح والاندفاع نحو تحقيق الأهداف التي تبناها الفرد في مراحل سابقة. كما يحصل تضيق وتقليص في مجال اهتمامات الفرد لما يجري حوله, ويصاحب ذلك تحديد متزايد في اتصالات الفرد الشخصية وتتركز هذه الاتصالات على قلة من الناس ممن ألفهم سابقا, كما يتركز اهتمام الفرد بشكل متزايد على ذاته أو ما يتصل به مباشرة ويبدو عليه ما يدلل على تناقص في المرونة في التعامل وفي الاستعداد لفهم وجهات نظر الآخرين. ويميل إلى التمسك بما يتذكره عن زمانه القديم والحنين إليه أكثر من اهتمامه وتقديره لعالمه الحاضر, ولذلك تبدو عليه ملامح العناد في الرأي وصعوبة الاقتناع والتقبل لما هو جديد في الحاضر.

والتغيرات الاجتماعية هي الأخرى تفرض نفسها بشكل أو آخر مع تقدم العمر, وبعض ملامح هذه التغيرات متأتية من عجز الفرد عن المجاراة والتكيف لما تتطلبه الحياة من تغير في نمط علاقاته الاجتماعية, وبعض ذلك تكمن أسبابه في التركيبة الأسرية مع تقدم العمر من تفرق وتشتت بعض أفراد العائلة بسبب الانتقال والوفاة أو الزواج أو بسبب التغير في ظروف العمل أو الموقع الاقتصادي أو ضعف ينتاب بعض الأدوار الاجتماعية التقليدية, وجميع هذه العوامل تسبب تغيرات في نمط الصلات الإنسانية وفي أسلوب الحياة وفي تصور الفرد لمكانته الاجتماعية وفي تقديره لنفسه, وقد يؤدي ذلك إلى نمط من العزلة الذاتية والاجتماعية, إلا إن ذلك يتأثر كثيرا بالثقافة السائدة ومكانة الكبر فيها وطبيعة الأدوار السابقة وحجمها التي كان يتحملها الفرد.

أما التغيرات العقلية الناتجة بفعل الكبر فهي غير متساوية أو متوازية في جميع القدرات العقلية, فهناك تفاوت في التغير بين قدرة عقلية وأخرى وبين فرد وآخر. وعلى العموم فهناك ثلاثة فئات من أنواع من التغير تحدث في الكبر: يبدو ان العمليات العقلية تتقدم وتتحسن مع تقدم العمر, وفي الفئة الثانية نجد العمليات العقلية التي تصل ذروتها في سن المراهقة وتظل بعد ذلك ثابتة طول الحياة, والفئة الثالثة تشمل العمليات العقلية التي تميل تدريجيا إلى الهبوط والتنازل مع تقدم العمر. ومن العمليات العقلية التي تتقدم وتتحسن مع تقدم العمر هي المعلومات العامة وخزين المفردات التي يعرفها الفرد, والإدراك العام للأشياء إلى غير ذلك من مظاهر تزايد المقدرة على الخلق والإبداع والمساهمات الفكرية. أما العمليات العقلية التي تصل ذروتها في سن المراهقة وتظل ثابتة فهي العمليات المسماة بالقدرات المتبلورة, وهي التي يكتسبها الفرد بالمواظبة والخبرة كالمهارات الفنية والتقنية والمهنية التي تعتمد التجربة والممارسة. أما الفئة الثالثة من العمليات وهي التي تتناقض مع تقدم العمر فهي الذاكرة والمقدرة على التعلم النظري والتفكير المجرد. وعلى العموم فأن حصيلة التغيرات العقلية التي تحدث في الكبر تعتمد على توفر عوامل عدة منها نوعية العمل الذي يمارسه الفرد وما يتطلبه من تجربة وممارسة, أو من ذكاء وتعليم وذاكرة !!!.

والشيخوخة باعتبارها الخاتمة النهائية لحياة الفرد والتي تنتهي بفنائه, فهي تحمل في طياتها تركيزا شديدا لكل مظاهر التغير في المراحل السابقة لها من الكبر. وفد اختلف الكثير في تحديد الفترة العمرية للشيخوخة استنادا إلى تطور مستوى الحياة وتحسن ظروف العيش ومستوى الرعاية الصحية الجسمية والنفسية التي يحظى بها كبار السن. ففي الوقت السابق الذي كان فيه متوسط الحياة ثلاثين عاما, نجده اليوم يمتد إلى الأربعين والخمسين والستين والسبعين وحتى التسعين أو المائة, وأن كان قلة في الفئتين الأخيرتين, ويتفاوت متوسط العمر من مجتمع إلى آخر على الصعيد العالمي استنادا إلى مستوى ونوعية خدمات الرعاية المقدمة لهم. وعلى العموم هناك أطالة في عمر العيش في بلدان العالم المتقدم, والأوربي منه بشكل خاص بالمقارنة مع متوسط العمر بالنسبة لبلدان العالم الآخر, وبشكل خاص العالم الثالث. ولكن أطالة أمد العيش لا يعني بالضرورة أن تكون مصحوبة بتحسن الأداء وانتقاله نقلات نوعية إلى ما هو عليه في السابق, بل يشكل في أحيان كثيرة أطالة متوسط عمر البقاء إلى مشاكل إضافية للدولة والمجتمع من حيث كونهم فئة اتكالية واستهلاكية غير منتجة !!!!.

وقد تكن الشيخوخة خالية من الأمراض الجسمية والعقلية الظاهرة عليها من الناحية الشكلية, إلا إنها تمتلك الاستعداد للإصابة بها بفعل عوامل الضعف العام الكامن فيها. ومن ابرز ما يرافق الشيخوخة من مظاهر مختلفة من الاضطراب النفسي والعقلي والمرض الجسمي هي: هو ضيق أفق الاهتمام بشؤون الحياة بصورة عامة, وتقليص الصلات الاجتماعية وضعف الذاكرة خاصة لما هو جديد من التجارب والأحداث مع صعوبة في تعلم مهارات جديدة والبطء في مزاولة مهارات سبق اكتسابها والنقص في الطموح والحوافز لإدراكها والاتجاه إلى الركون إلى حياة الماضي والى تأمل الذات ومن ذلك الاهتمام والتركيز المفرط على صحة الجسم ووظائفه مما يؤدي الى نشوء الوساوس المرضية وغيرها !!!!.

كما هناك الكثير من العلل والأمراض الجسمية التي تصيب المسنين وهي نتيجة نهائية لعملية تدريجية من التغيرات العضوية المرضية كأمراض القلب والشرايين والكلى والكبد والأمراض السرطانية. ومهما كانت الحالة المرضية فأنها تؤدي إلى إخلال في توازن المسن مع ظروف حياته, ولابد للمرض من يجلب للمسن بعض من شعور بالعجز والقلق والاكتئاب, فالمرض في هذه المرحلة يحمل نذيرا لصاحبه وإحساسا بالفناء.

أما الأعراض العقلية فأنها تأتي في معظم الأحيان بسبب التغير العضوي في خلايا الدماغ وهي تتراوح بشدتها من الدرجات البسيطة للاضطراب في إدراك الأشياء وملاحظتها خاصة في أوقات الغروب أو الليل, إلى حالات أكثر شدة كالنسيان أو فقدان الذاكرة والبصيرة والتحكم في الأشياء والسيطرة على ردود الأفعال العاطفية. ومثل هذه الدرجات الشديدة تكون دلالة على قيام حالة خرف الشيخوخة " الزهيمر " أو تأتي بفعل اضطراب عضوي يؤثر في الدماغ أو كليهما, ولعل صور وأعراض الاكتئاب المختلفة هي من أكثرها انتشارا في أوساط المسنين وان اختلفت من مجتمع لآخر !!!.

لقد جاء الخطاب الديني والإسلامي بشكل خاص ممثلا بالقرآن والسنة النبوية في إشارات واضحة ودقيقة لوصف حالة الشيخوخة باعتبارها المرحلة النهائية في حياة الإنسان ومؤكدا حالة العجز العضوي والنفسي فيها وعدم التمكن من الأداء فيها مقارنة بالمراحل العمرية السابقة, وموصيا بنفس الوقت بالرحمة والشفقة والمساعدة للمسنين. وعلى سبيل المثال لا الحصر, فقد ورد في سورة (هود: الآية 72) بالقول " قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا, إن هذا لشيء عجيب ", وفي هذا النص إشارة واضحة بعدم المقدرة على الإنجاب بغض النظر عن المعجزة الإلهية لتجاوز ذلك. وفي إشارة أخرى للضعف الكامن في الشيخوخة ما ورد في سورة (النحل: الآية 70 ) " والله خلقكم ثم يتوفاكم, ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا, إن الله عليم قدير ", وما ورد كذلك في سورة ( يس: الآية 68) " ومن نعمره ننكسه في الخلق, أفلا يعقلون ". وفي إطار الدعم والرحمة والمعاملة الحسنة فقد أوصى النص القرآني في سورة ( الإسراء: الآية 23, 24 ) بالقول " وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا, إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرا" !!!.

في السنة النبوية إشارات شديدة الوضوح للاهتمام بكبار السن نكتفي منها بحديثين للنبي محمد(ص) أولهما يقول: " ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه ", وفي حديث آخر يربط بين تقدم العمر والاستغفار الرباني وصولا إلى سن التسعين في القول الآتي: " ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء, الجنون والجذام والبرص, فإذا بلغ بلغ خمسين سنة لين الله عليه الحساب, فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب, فإذا بلغ سبعين سنة أحبه الله وأحيه أهل السماء, فإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته وتجاوز سيئاته, فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله في أرضه, وشفع لأهل بيته ", وهذا الاستغفار والعفو كما ورد يرتبط بوضوح بحالة الضعف المختلفة التي يصلها الإنسان وصولا إلى أرذل العمر !!!!.

وإذا كانت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لا تتعارض في الخطوط العامة مع معطيات علم النفس المعاصر بغض النظر عن التفصيلات في وصف طبيعة الشيخوخة ومظاهرها المرضية المختلفة, فأن ما يتعارض اليوم بوضوح مع الديني والسيكولوجي هو تربع مرجعيات دينية من مختلف الأديان والطوائف وخاصة الإسلامية منها وقد بلغت من العمر شيخوخته, بل البعض منها فقد القدرة على الحركة والإدراك وأصيب بالعجز وتوارى عن الأنظار وهم يفتون بحياة أمة  ومستقبل بلدان ويقررون تصرفات أجيال قادمة ويتدخلون في صياغة شكل الأنظمة السياسية للمستقبل ويقررون وجهة التصرف والسلوك العام ضمن قواعد جامدة عفي عليها الزمن وتحتاج إلى المزيد من الانفتاح على روح العصر وانجازاته واستلهام تجاربه الايجابية. ومما يزيد الطين بله إن هذه المرجعيات محاطة بأسوار من المنتفعين والمستفيدين يستغلون رمزية المرجعية في حياة بعض الناس ليمارسون مختلف الضغوطات غير المرئية على المرجعية وانتزاع الكثير من التصريحات والفتاوى ذات الصلة بمصالح سياسية ضيقة لكيانات طائفية سياسية, إلى جانب استفادتهم المادية والمعنوية مما تمتلكه المرجعيات من إمكانيات مالية وامتيازات مختلفة, ويقومون بمختلف الوسائل الإعلامية والدعائية لترك الانطباع إن ما يصدر من حيثيات في الشأن العام والخاص يصدر مباشرة عن لسان المرجعية التي لا تزال نشطة كل النشاط ومتابعة بشكل دقيق, خارج إطار حركة الزمان والسنة الإلهية, لكل ما يجري في الساحات السياسية والاجتماعية, وكل ما تقادم الزمن بها كانت أكثر مقدرة على العطاء والإبداع والإفتاء. ولعل الأخطر في هذا كله هو استمالة المرجعيات الدينية من قبل دول واحتواء فتواها لمصالح سياسية وعالمية كبرى, فأخذت تفتي بجواز التدخل الخارجي في حالة, وعدم جوازه في حالة وحسب مصلحة الدولة المضيفة للمرجعية, وكذلك الفتاوى الضمنية بإثارة النعرة والصراعات الطائفية والدينية الداخلية والخارجية. ولعل نموذج ( القرضاوي ـ قطر ) من أكثر النماذج صلافة وتعبيرا عن خرف الشيخوخة واستغلالها في السياسية والدين !!!!!.

أما الشيخوخة في السياسة فلها أوجاعها الخاصة وأثارها المرضية المزمنة, ولعل ابرز ما يميزها في عالمنا العربي هو توقف الزمن منذ عقود لبناء دولة المؤسسات والديمقراطية والحريات العامة, فقد ارتأت زعاماتها الشائخة أن تبقى الحياة كما هي قبل أكثر من سبعين عاما, وأن تصلب شرايين قائد الضرورة التاريخي أدى إلى تصلب شرايين الدولة ومؤسساتها وتوقف عمليات البناء وإعادة الحياة على أسس عصرية. ومن بدأ من القيادات التاريخية شاب معطاء في ظروف النشأة الأولى للدولة الوطنية أو لحركة تحرر وطني أو للحزب سياسي, تحول مع تقادم الزمن إلى دكتاتور دولة قمعية بوليسية قوام سياستها تكريس التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتشديد قبضة الإرهاب والقمع السياسي وتدني مستويات العيش الكريم, كما رأى القائد التاريخي في شخصه ملخص للخبرة والعطاء والوطنية على مختلف المستويات ولا يمكن بدونه أن يستقيم الحزب والدولة. ولعل من المفارقات في عالمنا العربي أن أقلية من  كبار السن والشيوخ يحكمون منطقة من أكثر مناطق العالم تتسم باليافعية والشباب, حيث تصل نسبة الشباب فيه إلى 60% من مجموع سكانه والتي تقع أعمارهم تحت أل 25 سنة, و أن عدد الفقراء فيه في تزايد مستمر حيث يصل إلى أكثر من 35 مليون مواطن عربي, وعلى عتبة الفقر يقف أكثر من 7 مليون مواطن, إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة فيه وهو الأعلى في العالم حيث يصل إلى تقريبا 15% . وإذا اضطر الشيخ السياسي بفعل عوامل صحية قاهرة إلى التنازل عن العرش فأنه يعمل على التهيئة لتسليم مقاليد الحكم وقيادة الحزب إلى احد أبناء العائلة المالكة لتبدأ دورة جديدة من الشيخوخة السياسية بواجهات شابة تقليديا ولكنها تشربت الشيخوخة من الأب القائد !!!!.

واليوم إذ تتهاوى النظم العربية بفعل عوامل شيخوختها المحتمة, فمن لم يسقط اليوم سيسقط غدا بفعل الهبات الجماهيرية القائمة على خلفية عوامل الفقر والحرمان وانعدام الحريات والديمقراطية, وقد تعم فوضى عارمة في المنطقة وقد بدأت ملامحها في الأفق مرئيا بسبب من غياب القوى التي تمسك زمام التغير وبوصلته, والأمثلة الحاضرة دليل على ذلك, فقد سقطت الشيخوخة السياسة وأحلت مكانها شيخوخة دينية ستؤسس لنظم شائخة أخرى وقد تكون الأخطر من سابقتها على مستقبل مواطنيها بشكل عام وعلى شبابها بشكل خاص وستهدد النسيج الاجتماعي والثقافي والهوية الوطنية بالفناء !!!!!.


228
الحب الأول بين التراث والحقيقة السيكولوجية !!!!

د.عامر صالح

الحب الأول هو تلك التجربة الوليدة الأولى في الانجذاب والعيش مع الجنس الآخر, في علاقة يفترض أن يكون قوامها: الميل الوجداني للمحبوب, والإحساس بالارتباط الشديد به, والشوق والحنين إليه, والرغبة في الاقتراب الأبدي منه, والشعور بالعذاب والضياع والغربة في حالة البعد عنه. حتى كأن زخمه وحدة المشاعر التي ترافقه يترك لنا انطباعا أوليا بأنه قدرا غيبيا محتوما يجري خارج إطار سنة النمو البيولوجية والسيكولوجية والمعرفية والحضارية.

في السيكولوجية المعاصرة فأن الحب الأول لا يجري على نسق المسلسلات التلفزيونية أو قصائد الغزل والأفلام التي تزج به كمفهوم غامض غير مفهوم بيولوجيا وسيكولوجيا, وكأنه يحصل بإرادة ما ورائية ـ  ألاهية . كما أن التشبث به ومحاولة إبقاءه حبا أولا وأخيرا دون فهم مبرراته ودوافع الانحياز إليه يضيف معاناة حقيقة غير مبررة لطرفي العلاقة, خارج إطار فهم مسيرته الإنمائية وطبيعته التجريبية الناشئة من الأولويات البدائية الإنمائية الداخلية ذات الصلة بالحاجة إليه كتجربة أولى !!!.

قد يولد الحب الأول وهو يحمل بذور فشله في رحم ولادته, حيث الحب الأول هنا كبداية لتجربة تراكمية يجري كما تجري صيرورة الأشياء في فحوى التراكمات الكمية في إطار تحولها إلى فعل نوعي في التجربة, وان حضور الحب بثلاثيته ( الألفة, والعاطفة, والقرار أو الالتزام )  هو الأهم في كل تجربة حب جديدة, دون التغني بآثار الماضي وتداعياته الناتجة من حداثة التجربة وانعكاساتها الأولى, فلكل تجربة خصوصيتها, وبالتالي كل تجربة هي أولى وخاصة بما تحمله من مستجدات !!!.

 وقد وجد الحب الأول انعكاساته في التراث العالمي والعربي, من شعر و آداب وفنون مختلفة, ففي التراث العربي انقسم الناس في فهم الحب الأول, فمنهم من رآه هو الحب الأول والأخير ولا يأتي بعده حب بمنزلته, كما قال أبو تمام ( 188 هجرية ـ 231 ):

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى .. ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى... وحنينه أبدا لأول منزل

ولكن هناك فريق آخر يرى إن الحب الأول تجربة انقضت, وان الحب الحقيقي والواقعي للحبيب الآخر حيث يعيش المرء في كنفه ويشعر به, كما قال العلوي الأصبهاني ( المتوفى 322 هجرية ):

دع حب أول من كلفت بحبه .... ما الحب إلا للحبيب الآخر
ما قد تولى لا ارتجاع لطيبه ... هل غائب اللذات مثل الحاضر

وقال ديك الجن ألحمصي ( 161 هجرية ـ 236 ):

أشرب على وجه الحبيب المقبل ... وعلى الفم المتبسم المتقبل
شربا يذكر كل حب آخر... غض وينسى كل حب أول
نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى ... كهوى جديد أو كوصل مقبل

كما يرى آخرون اختلاط المشاعر بين الإبقاء على الحب الأول وضرورات الحب الآخر, كما يقول الشاعر:

قلبي رهين بالهوى المقتبل ... فالويل لي في الحب إن لم اعدل
أنا مبتلى ببليتين من الهوى ... شوق إلى الثاني وذكر الأول

وخلاف ذلك ذهب البعض إلى أن الحبيب من تحبه الآن وليست فيه أول أو آخر, كما يقول الشاعر:

الحب للمحبوب ساعة حبه ... ما الحب فيه لآخر ولأول

أما التراث العالمي فهو الآخر تناول تجارب الحب الأول باعتبارها حالات إنسانية قائمة على حقائق التجربة الأولى ودوافعها السيكولوجية والاجتماعية, إلى أن الزخم الأكبر أعطي لطاقة الحب والحاجة إليه لظروف البقاء والاستمرار, بغض النظر عن ترتيبه الشكلي, إن كان حب أول أو ثاني, وهكذا أنتج الأدب العالمي أشهر الروايات والقصص الرومانسية في الحب التي جمعت بين النزعات المثالية والحسية والواقعية, والتي لا تزال خالدة اليوم, ويستعين بمادتها في الأفلام العالمية, والتي عبرت عن الحب باعتباره حقيقة وجودية, وليست فقط تجربة فردية محدودة النطاق والتعبير أو محصورة بين فردين. ومن ابرز هذه الأعمال العالمية, على سبيل المثال لا الحصر, هي:

رواية ( كبرياء وتحامل ) لجين أوستين, ورائعة الأدب الروسي ( أنا كارنينا ) لليو تولستوي, ورواية ( جين إبر ) لتشارلوت برونت, وقصة ( آوت لاندر ) لديانا جيبلدون, ورواية ( قصة حب ـ لوف ستوري ) لأيريش سيجال, وقصة ( المذكرة ـ نوتي بوك ) للكاتب الأمريكي نيكولاس سباركس, وقصة ( ملحوظة: أنا احبك ) للكاتبة الايرلندية سيسيليا أهيرن, وقصة ( مون ـ سباينر ) لماري ستيوارت, وقصة ( شيء مستعار ) لإيميلي جيفن وغيرها من القصص والروايات العالمية التي يصعب حصرها في هذا المقام.

وقد تحدث الكثير من الفلاسفة والشعراء والأدباء العالميين عن الحب باعتباره أولا حاجة إنسانية وطاقة داخلية فياضة, دون النظر إلى ترتيبته في سلم تجارب الحب الشخصية, فقد أكد الشاعر والفيلسوف فولتير ( 1694 ـ 1778 ) بقوله : " الحب من دون سائر العواطف أشدها فهو يهاجم في آن واحد الرأس والقلب والحواس ", وكذلك أكد بلزاك ( 1799 ـ  1850 ) الروائي والكاتب المسرحي ومؤسس الواقعية في الأدب الأوربي: " أن الحب كالموت لا يعترف بالطبقات ولا بالثروة ولا بالحياة " في معرض فهمه للحب كحاجة إنسانية خارج إطار الانتماءات الأخرى الضيقة, أما الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الألماني غوتة ( 1749 ـ 1832 ) فقد قال في سياق التضحية في الحب: " الحب يكون أقوى عندما يعطي أكثر مما يأخذ ", ولعل في قول نزار القباني ( 1923 ـ 1998 ) عن لانهائية الحب وتأصله في الذات الإنسانية أجمل ما عبر عنه بكلامه: " الحب ليس رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال لكنه الإبحار دون سفينة وشعورنا أن الوصول محال ",  إلى جانب الكثير من الفلاسفة والأدباء الذين قالوا في الحب وأهميته, ولم يتحدثوا عن قطعية ووحدانية الحب الأول, والذين يصعب حصرهم في هذا الحديث المتواضع عن الحب !!!!.

وتشير اغلب الدراسات الاجتماعية الميدانية والمقابلات الاستطلاعية إلى أن فرص الحب الأول في النجاح والاستمرار هي فرص محدودة جدا, وينتهي اغلبها بالفشل رغم بقائه لصيقا في الذاكرة الوجدانية والعاطفية للفرد, كما يرى فيه آخرون انه تجربة لابد منها وتمرس مطلوب يغني الشخصية لاحقا في ممارسة الحب بشكل أفضل, والبعض الآخر لا يعترف أصلا بضرورات الحب الأول أو بالحب عموما قبل الزواج, وأن بإمكان الزواج ينتج الحب الحقيقي خلال مسيرته, وهناك من لا يعترف بما يسمى بالحب الأول وهي مجرد تسمية لسبق زمني, وان كل حب هو أول بخصوصيته وطبيعته المميزة عن سابقه مادام مستمرا وحاضرا ويحمل مبررات البقاء, فإذا ما انتهى انتهت معه تسمياته بأول أو ثاني, وهناك فريق مغاير لا يحبذ أصلا استخدام كلمة " حب " في وصف التجربة الأولى ويعتبره مجرد إعجاب عام ولا تنطبق عليه تسمية الحب الأول, فهو كعابر سبيل يطرق الباب في لحظة ما ثم يختفي سريعا رغم بقاء آثاره الذاكروية. وتشير الكثير من الملاحظات أن الأنثى أكثر تأثرا من الذكر بما يقع فيه من آثار ايجابية أو فشل التجربة, وهو ناتج من أن الأنثى أكثر تعقلا في الحب وأقل رومانسية من الرجل, ويرتبط الحب لديها بما فيه الأول بأهداف مستقبلية ورغبة في الاستقرار والزواج ( وخاصة في البيئات الثقافية والاجتماعية والحضارية التي يكون الحب فيها محظورا بشكل عام, وبالأخص على المرأة ). وعلى العموم هناك ضبابية في إدراك أسباب الحب الأول ومبرراته ودافعيته السيكولوجية وأسباب فشله !!!!.

من الناحية السيكولوجية يقع الحب الأول في معظمه في فترة إنمائية حرجة من عمر الإنسان وهي فترة المراهقة, وهي الفترة التي ينتقل فيها الفرد من طفولة هادئة إنمائيا إلى بداية فترة مشوبة بالتغيرات الهرمونية والجسمية وبداية تشكل ملامح النضج الجنسي في بداية هذه المرحلة, وبالتالي فأن الاحتفاظ أو المطالبة بتوازن ثابت في هذه المرحلة هو أمر غير طبيعي. لا يوجد اتفاق ثابت على تحديد متفق عليه بصدد الفترة الزمنية التي يشغلها دور المراهقة, وعلى العموم فان معدل سن هذه الفترة يمتد من الثانية عشر وحتى العشرين, غير إن هنالك من يعتبر هذا السن بين العاشرة والحادية والعشرين في الفتاة وبين الثانية عشر والسادسة والعشرين في الفتى, وذلك نظرا لان الفتاة تصل البلوغ قبل الفتى, كما أن نضجها العاطفي يكتمل قبل الفتى. وإذا اختلف الباحثون في طول الفترة وبدايتها ونهايتها, فأنهم يتفقون تماما بأن سن البداية يطابق سن البلوغ. وتتأثر بداية البلوغ ونهايته بعوامل كثير, كالثقافة والبيئة الاجتماعية المحفزة, كما يتأثر بالتغذية والموقع الجغرافي, ويختلف من حضارة إلى أخرى وبموقف المجتمع من الممارسات الجنسية ومستوى التسامح في التعبير عنها, ولذلك نجد مثلا النضج المبكر في المناطق الحارة, والمتأخر في المناطق الباردة, وكذلك طول فترة المراهقة في البلدان المتقدمة, وانحسارها في البلدان المتخلفة حيث ينتقل فيها الفرد بسرعة من الطفولة إلى الرجولة وتحمل الأعباء الاجتماعية والاقتصادية مبكرا !!!!.

وفترة المراهقة هذه هي ليست فترة واحدة بمواصفات متشابهة تماما, لذا ارتأى علماء النفس تقسيمها إلى مراحل أو حلقات داخلية من النمو متصلة مع بعضها البعض,. وابرز هذه التقسيمات هو التقسيم الثلاثي لهذه المرحلة, هو: المرحلة الأولى, مرحلة البلوغ أو بداية المراهقة باعتبارها عملية بيولوجية ـ هرمونية وما يرتبط بها من تغيرات عاطفية, ويكون الدافع الجنسي هنا طاقة بالغة القوة, تعبر عن نفسها بشعور بالضيق والاحتقانات ومحاولات التفريغ بأي شكل من الأشكال؛ ومرحلة المراهقة المتوسطة, ويقع هذا الدور بين مرحلة المراهقة التي تتصف بالتحولات المفاجئة والسريعة في النمو الجنسي والجسمي, وبين المرحلة النهائية من المراهقة التي يقف فيها المراهق أو المراهقة على مشارف الرجولة أو الأنوثة وعتباتها, ويمتد هذا الدور عادة مابين الخامسة عشر والثامنة عشر, وهو لا يختلف عن الدور الذي قبله أو الذي يليه إلا من حيث تأكيد أو غلبة بعض الدوافع المحركة للسلوك أو العاطفة, ومن الناحية الجنسية يشتد اهتمام المراهق نحو هدف من الجنس الآخر, سواء كان ذلك بالاهتمام المباشر أو بالخيال والتصور؛ أما المرحلة الثالثة فهي المراهقة المتأخرة والتي تقع بين سن السابعة عشرة وحتى تحمل الفرد المسؤولية الحياتية, و تتسم هذه المرحلة بظهور قدرة جديدة وعنيفة من الرغبة الجنسية, وتتبلور المعالم الأساسية التي ستميز المراهق في رجولة أو أنوثة المستقبل من حيث النضوج العاطفي والنمو في مجال الدوافع الجنسية الذي ينعكس في المقدرة على تجاوز الصراعات الجنسية السابقة واستبدالها بتجارب جنسية ناضجة وطبيعية, ويظهر هنا بشكل اكبر وأكثر تنظيما من المراحل السابقة الحاجة التي تأكيد الهوية الشخصية أو الذاتية !!!!.

وتشكل عملية تشكيل الهوية الشخصية للمراهق, وخاصة في المرحلتين الثانية والثالثة من المراهقة هاجس لا ينقطع, رغم بدايتها المبكرة في حياة الطفل, إلا إنها تأخذ طابع أكثر وضوحا في فترة المراهقة وأكثر تشددا في تأكيد " أنا ", حيث يشعر المراهق أو المراهقة أن البيت والعلاقات الأسرية أصبحت ثقلا لا يطاق, ومن هنا تنشأ حالات التمرد وعدم الاستجابة للضغوط الأسرية, سواء في مجتمعاتنا أم المجتمعات الغربية, باختلاف مظاهر التعبير. وتشكل عملية الاندفاع لإقامة العلاقات مع الجنس الآخر ارتباطا بالنمو الجنسي, احد مظاهر التعبير عن الاستقلالية والتمرد على البيئة المحيطة زائدا الحاجة البيولوجية لإقامة هذه العلاقات في ضوء الإلحاح المتزايد للدافع الجنسي في إشباعه والبحث عن منافذ للتفريغ حسب ما تتيحه الثقافات المختلفة وحدودها المتاحة لذلك !!!!.

ومن هنا ينشأ الحب الأول ضمن دائرة صراع بين إثبات الذات بأي ثمن وضمن اندفاعات الحاجة البيولوجية. ومن هنا ايضا تنشأ صعوبة الإطلاق عليه "حبا " في إطار مكونات الحب الثلاث: ( الألفة, والعاطفة, والقرار أو الالتزام ), فهو ينشأ مركزا على العاطفة البحتة" أي الارتباط بالآخر جنسيا وجسديا " ومفرغا أو ضعيفا من عنصري الألفة, والقرار والالتزام ", وخاصة في المرحلة الأولى والثانية من المراهقة. أما في المرحلة الثالثة من المراهقة فقد يكون مشبعا بقدر ما من عوامل الألفة, والقرار والالتزام, إلا أن كلا المكونين يقعان تحت تأثير إرهاصات الدافع الجنسي, وبالتالي هو الآخر مهدد بمقدار ما من الفشل. وهكذا يقع ما يسمى " بالحب الأول " ضمن دائرة التجريب واكتشاف الدور خارج إطار الحاجة إليه,غير مشبعا بعوامل الحب الأنفة الذكر. وهكذا يولد الحب الأول مهددا بالفشل قبل مخاض ولادته. أما حالات النجاح فيجري الإحساس بها على قدر تشبعها بعوامل الحب الثلاث !!!!!.

 

 



 



229
الحب بين علم النفس والثقافة والدين


د.عامر صالح

أثار مقالي الموسوم " في الحب والجنس والزوايا الثلاث ـ مقدمة سيكولوجية " والمنشور على صفحات المواقع الالكترونية العديد من الملاحظات, سواء من خلال الردود المباشرة في ذات المواقع التي نشر فيها, أو من خلال الردود التي استلمتها مباشرة عبر بريدي الالكتروني, وخاصة تلك الملاحظات التي لا تسمح بقراءات متعددة لظاهرة الحب وتحصر الحب فقط في إطار قراءة أحادية الجانب, كما جاءت بعض الملاحظات أشبه بحالات وعظ ملائية متشنجة تنصحني بقراءة الكتب المقدسة. ولهذا واستكمالا لموضوعي السابق و الآنف الذكر, سأضع الحب في ثلاثيته المحكمة: علم النفس والثقافة والدين, لكي تتضح هنا ظاهرة الحب بشيء من التفصيل, ولعلي في هذا اشبع الرغبة المعرفية للقارئ الكريم لمزيد من الفهم !!!!.

في علوم الدماغ كما هو الحال في السيكولوجية المعاصرة فأن الأسس المادية للحب تكمن في الدماغ وليست في القلب كما صوره الشعراء والأدباء والفنانين في مختلف اهتماتهم, وما القلب إلا سوا عضلة تدفع بالدم إلى مختلف أجزاء الجسم, أما الدماغ فهو كما معروف علميا اليوم مركز الانفعالات والعواطف ومصدرها, ولكن ذلك لا يجري في منطقة متخصصة تخصصا متحجرا بذاتها, بل مجموعة من التراكيب الدماغية ترتبط ببغضها ارتباطا دينامكيا, يطلق عليها علماء الفسيولوجي وعلماء النفس فسيولوجي بالجهاز الانفعالي أو يطلق عليها تحديدا بالجهاز الطرفي, وهذه المجموعة لا تقوم بوظيفتها منفصلة , ولكنها ترتبط بالقشرة الدماغية كما ترتبط بالغدة النخامية ذات الريادية وسيدة الغدد في الجسم, وتوجد أسفل المخ, في قاع الجمجمة. وعندما يرى الشخص محبيه فأن  الرؤية تمر عبر جهاز الأبصار إلى قشرة الدماغ البصرية التي تستخرج من خزين الذاكرة ما يرتبط بالشخص المحبوب من انفعالات وأفكار, فتتولد الأيعازات أو الشحنات العصبية التي تحفز الجهاز الانفعالي الذي ينشط فيولد انفعالات تسري في أجهزة الجسم المختلفة, ومنها القلب الذي يختل إيقاعه فتزداد ضرباته, وهذا كله يحدث في سرعة استثنائية خاطفة, مما جعل الشعراء والفنانين يتحدثوا عن القلب باعتباره مصدر الحب لا على الدماغ !!!!

وترتبط أيضا بالمنظومة الدماغية المذكورة أعلاه وتتحكم بمجمل التغيرات والإفرازات الهرمونية المصاحبة لحالات الحب. فقد أكدت عالمة الانثروبيولجيا  " هيلين فيشر " من جامعة روتجيرز في ولاية نيوجرسي الأمريكية, أن هناك ثلاث مراحل للحب تخضع لتأثيرات هرمونية وكيميائية متنوعة, وهي كالأتي:

المرحلة الأولى: وهي الرغبة وتكون عادة مدفوعة بالهرمونات الجنسية التستوستيرون والاوستروجين عند كل من النساء والرجال.

المرحلة الثانية: وهي الانجذاب, وهي المرحلة الأكثر رونقا في الحب وذلك عندما تدرك أنك وقعت في الحب ويصبح تفكيرك بالأشياء الأخرى أقل أهمية. وهذه المرحلة بالذات تكون متأثرة بثلاث أنواع من الهرمونات الأساسية, وهي: هرمون الأدرينالين حيث تزداد نسبته في الدم والكورتيزون في المراحل الأولى للحب, فالادرنيالين لديه التأثير الكبير, أي عندما يلتقي الحبيب حبيبه يشعر بالتعرق وتسارع نبضات القلب وجفاف الفم. ثم هرمون الدوبامين, حيث اكتشفت الباحثة المذكورة أعلاه, أن الذين وقعوا في الحب لديهم مستويات عالية من هرمون الدوبامين, هذه المادة الكيميائية تحرض " الرغبة والمكافأة " عبر إثارة اندفاع قوي وشديد للمتعة, أن هذا التأثير ذاته يحصل للدماغ عند تناول المخدرات , وقالت الباحثة " هيلين فيشر " أن الشريكان يظهران إشارات ارتفاع وتدفق الدوبامين زيادة في الطاقة وحاجة اقل إلى النوم والطعام وتركيز الاهتمام على التفاصيل الدقيقة لهذه العلاقة الناشئة. وثالثا هرمون السيروتين الذي يفسر ويجيب على التساؤل لماذا عندما تقع في الحب فأنك لا تتوقف عن التفكير في حبيبك دون باقي الأمور التي تجري حولك.

المرحلة الثالثة: وهي التعلق بالشخص الآخر, وهو الوثاق القوي الذي يجعل الشريكين يستمران معا لفترة كافية لأنها تجعلهم يتأقلمان معا أو ينجبان الأطفال ويربيانهم. ويعتقد علماء النفس أن هناك نوعين من الهرمونات الرئيسية هما المسئولان عن هذا الإحساس بالتعلق, وهما الاوكسيتوسين والفاسوبرايسين. بالنسبة لهرمون الاكسيتوسين أو ما يسمى " بهرمون العناق " وهو هرمون قوي ينتج لدى النساء والرجال خلال ممارسة العلاقة الحميمة, ويزيد هذا الهرمون من عمق العلاقة ويعزز الشعور بالتعلق بالآخر, وهو يجعل الشريكين  إنهما قريبان من بعضهما البعض أكثر بعد تلك العلاقة.  والاوكسيتوسين أيضا يساعد على تقوية الرابطة بين الأم والطفل ويتحقق ذلك خلال الولادة, وهو مسئول أيضا عن در الحليب عن در حليب الأم بشكل تلقائي لدى سماع صوت طفلها. وقد أكدت الباحثة ديانا ويت في علم النفس من نيويورك من خلال أبحاثها الميدانية انه إذا منع توقف الإنتاج الطبيعي للاوكسيتوسين لدى الفئران والخرفان فان ذلك يؤدي إلى أن أنهم يرفضون صغارهم. وبالعكس فأن حقن الاوكسيتوسين في إناث الفئران والتي لم تمارس الجنس أبدا يجعلها تتودد إلى صغار أبناء الأنثى الأخرى وحمايتهم ورعايتهم كمل كانوا صغارها. أما هرمون الفاسوبراسين وينتج هذا الهرمون بعد ممارسة العلاقة الحميمة ويطلق عليه أيضا " الهرمون المضاد لإدرار البول " ويعمل مع الكلية من اجل السيطرة على العطش, وقد اكتشف دوره المهم في العلاقات عندما كان العلماء يجرون التجارب على الفئران. وقد اتضح لهم أن الفأر ينغمس في الجنس ليست فقط بقدر حاجته للإنجاب, بل إن الأمر ابعد من ذلك. وعندما تم حقن ذكر الفأر بمخدر يقمع تأثير الفاسبوراسين, فأن صحة الفأر تدهورت وخاصة علاقته بشريكيه كما لو أنهما خسرا الوفاء والإخلاص لهذه الرابطة وفشلا في حماية بعضهما البعض !!!!.

 واستنادا إلى البنية الدماغية والهرمونية فأن الحب نحو الآخر لا ينشأ دفعة واحدة منذ الصغر, بل يمر بمراحل إنمائية مقننة أسوة بالوظائف النفسية والعضوية الأخرى. وبداية عند نشأة الطفل الأولى يكون متمركزا حول ذاته, فهو لا يشعر إلا بنفسه وبحاجته هو دون غيره, فعندما تنتابه حالات الجوع أو العطش أو الخوف يبعث إشارات إلى المحيط القريب وخاصة الأم لغرض إشباع تلك الحاجات المختلفة وطمأنته, وأن لم تشبعه الأم فهو يرتبط بأي شخص آخر يشبع تلك الحاجات, وهذا النوع من الارتباط هو نوع من الحب من اجل الذات أو النفس من اجل البقاء, ويسميه علماء النفس " بالنرجسية الأولى ", أي حب الذات الأولى, وهو غريزي من اجل ضرورات البقاء !!!.

ويظل الطفل في منأى عن حب الآخرين ومتمركزا حول ذاته إلى أن يدرك أن هناك دائرة قريبة من الروابط الضرورية, كالأم والأب والأخوة, إلا انه يبقى يصارع أنانيته في محاولة للإبقاء عليها, وراغبا أن يكون هو مركز الاهتمام, وكل الأشياء من حوله , من لعب وممتلكات وحلوى وغيرها له وحده فقط, إلا أن الأم هنا والقريبين منه يتدخلون في إيجاد حالة من التوازن من خلال تشجيع الطفل على منح جزء من هذه الامتيازات إلى الآخرين, من أخوته مقابل الحصول على الثواب, كالحصول على المزيد, أو الحصول على رضاء الأم وحبها له, مقابل تنازله جزئيا عن حبه لنفسه ومنحه للآخرين. وهكذا يحوز الطفل على القبول الاجتماعي داخل الأسرة وخارجها بالتنازل عن جزء من حبه لنفسه, وهو ما نسميه " بالمرحلة النرجسية الثانية ", وتعني حب النفس من خلال الحصول على الحب من الآخرين !!!!.

ومع مرحلة البلوغ المتزامنة مع عملية النضج الفسيولوجية والدماغية والهرمونية ـ  الجنسية يشتد ميل الفرد إلى الجنس الآخر, إلا انه يتعلم من المجتمع أن الميول الجنسية والتعبير عنها بشكل مباشر هو شيء محظور وضمن دائرة التابو الشديدة, وبالتالي فالمقبول هنا هو الحب كبديل مسموح به نسبيا وفقا للثقافة السائدة, ومعبرا عن الميول نفسها, فالحب هنا معبرا عن الميول والغرائز التي بدأت ملامحها تنضج بعد البلوغ, ومن الممتع أحيانا أن توجه هذه المشاعر إلى بنت الحارة التي كان يلعب أو يتخاصم معها شاب اليوم قبل البلوغ, ويمارس معها شتى وسائل الزجر والضرب, أي أن ما يحصل هنا من تغير موقفه هو بفعل تأثيرات هرمون الذكورة الجنسي " التستوستيرون ", ولو أعطي الشاب الهرمونات الأنثوية " الاستروجين والبروكستيرون " لتغيرت مواقفه وبدأ يبحث عن شريك مطابق لجنسه !!!!.

أن تفسير الحب على أساس الدافعية الفردية والحاجة النفسية لإشباعه, ومن ثم ارتباطه الوثيق بالدافع الجنسي في مراحل لاحقة من النمو يجد تفسيره في مدرسة التحليل النفسي الكلاسيكية بزعامة فرويد( 1856 ـ 1939 ) بشكل أكثر تشددا ومباشرة, حيث يؤكد فرويد انه لا وجود للحب أصلا, بل ما موجود هو دافع جنسي أضل طريقه فاختفى وراء ما يسمى " بالحب ". وتتم آلية الحب هذه وفقا للصراع ومحاولة الانسجام بين الأجهزة النفسية الثلاثة " ألهو ـ الأنا ـ الأنا العليا " كما يراها فريد. حيث يقوم " ألهو " وهو مستودع الغرائز الطبيعية الخالصة بدفع الفرد إلى إشباع غريزته الجنسية بأي شكل من الأشكال وكيف ما اتفق, " فألهو " لا يعرف حلال أو حرام ولا يعبه بالتقاليد والعادات والقوانين السائدة, ومن هنا يأتي دور " الأنا العليا " والتي تقف بالمرصاد وتحذر الفرد بخطورة ما يريد أن يقدم عليه, والأنا العليا هنا هي مجموعة الأوامر والنواهي والممنوعات الناتجة عن الثقافة والعادات والدين وغيرها, وتحاول منع الغريزة من الإشباع المباشر. وبالمقابل ونتيجة الضغط المتواصل من " ألهو " تتدخل " الأنا " وهي شخصية الفرد نفسه, لإيجاد حالة من التوازن أو التحايل أو التكيف مع الوضع الجديد وللتوفيق بين مطالب " ألهو " وموانع " الأنا العليا " من ناحية أخرى, وذلك عن طريق هذا الذي اخترعه الفرد وأسماه " الحب ", وهو في الحقيقة لا وجود له, وما هو إلا جنس مقموع لم يجد سبيله للتنفيذ, ويجب الإشارة هنا أن هذه العملية تتم بطريقة لاواعية ولا شعورية !!!!.

أن التطرف الفرويدي في إقصاء الحب ناتج من نظرة فرويد للإنسان باعتباره كائنا بيولوجيا بالأساس, وبالتالي فأن الحب لديه ظاهرة جنسية خالصة تستند إلى مبدأ اللذة, وقد أكد أن الإنسان وجد بالتجربة أن الحب الجنسي التناسلي يزوده بأعظم جدارته, حتى لقد أصبح في الواقع نمط جميع السعادة بالنسبة له. ولا بد لهذا أن يندفع الإنسان للبحث عن السعادة أكثر عبر دروب العلاقات الجنسية, لكي يجعل من الشبق التناسلي النقطة المحورية لحياته. وبذلك يصبح الحب الجنسي في المنظور الفرويدي تعبيرا ظاهرا يستر في أعماقه اللاشعورية غيرة وتنافسا لا ينطفئان. وهذه الغيرة المتبادلة والمنافسة سوف تستمران حتى لو اختفت كل المبررات والأسباب الاجتماعية والاقتصادية المسببة لها !!!!.

ورغم هذا الموقف المتطرف من قبل فرويد في تأكيده على الدافع الجنسي أولا, إلا أنه بالتأكيد أن البحث العلمي إلى اليوم لا يزال يؤكد أن الدافع الجنسي قابل للبحث والقياس والتحليل من حيث أسسه التشريحية والفسيولوجية والهرمونية وتأثيراته المختلفة, أما الحب فلازال في الكثير من آليته افتراضية ومتأثرة بالدافع الجنسي. وحتى ما ذكرته الانثروبيولوجية الأمريكية " هيلين فيشر " من مراحل للحب وما تصاحبه من تغيرات هرمونية فهي تحمل بصمات الدافع الجنسي أو الحب الجنسي بشكل أو آخر. كما أن هذه الآلية الهرمونية هي ليست اختصاصا متحجرا للحب, بل يسري أثرها في الكثير من الحالات الانفعالية والنفسية والفسيولوجية في أطار عمل متبادل نقيضي للمجموعة العصبية السمبثاوية والباراسمبثاوية وما تصاحبها من تغيرات هرمونية !!!.

كما يجب الإشارة هنا إلى أن الفرويديين الجدد أو اليسار الفرويدي وخاصة بزعامة اريك فروم ( 1900 ـ 1980 ) الذي تأثر بالفكر الماركسي, فقد تجاوز الخطاب الكلاسيكي الفرويدي عن الحب مؤكدا أن جذور الحب تكمن في الحاجة إلى الانتماء , وذلك أن الإنسان عندما أصبح إنسانا قد تمزقت لديه عرى الوحدة الحيوانية الأولية بالطبيعة, وأصبح على الإنسان أن يخلق علاقاته الخاصة به, وأكثرها تحقيقا للإشباع هي تلك القائمة على الحب. ويؤكد اريك فروم في كتابه " فن الحب " أن ماهية الحب هي " الرغبة للاندماج مع شخص آخر وهي أكبر توقانا لدى الإنسان. إنها أشد عواطفه جوهرية, أنها القوة التي تبقي الجنس البشري متماسكا وكذلك القبيلة والأسرة والمجتمع. والفشل في تحقيق هذا الاندماج يعني الجنون والدمار للذات أو الدمار للآخرين. بدون حب ما كان يمكن للإنسانية أن توجد يوما واحدا " !!!.

وتتوزع موضوعات الحب خارج أطار تقسيمها على أساس الدوافع إلى مجالات مختلفة يصعب حصرها, استنادا إلى الموضوع أو المجال أو الشخص المحبوب وتشمل: حب العلم, وحب الوطن, وحب الإخوة والأصدقاء والأبناء, وحب الإنسانية, وحب الوالدين, وحب ممارسة الألعاب الرياضية, وحب الآداب والفنون, والحب العاطفي, وحب الانتماء إلى تجمع ما, وغيرها من مظاهر الحب التي لا حصر لها, وهي تسع على قدر سعة مجالات الحياة !!!.

أما في الثقافة العربية فقد عرف الحب حق معرفته  في الأشعار والفنون والقصص التاريخية, الواقعية منها والخيالية, وشكل محور أساسيا في حياة الناس اليومية قبل الإسلام وبعده, ولعل في شعراء الغزل ما يؤكد ذلك, ويعبر عن الحاجة الماسة للالتحام والتواصل بالجنس الآخر. ويضع العرب الحب في مستويات مختلفة ولكل مستوى أسم دال عليه, ويعبر عن مدى التعلق بالحبيب وعمق المعاناة الناتجة من ذلك. ولعل أبرز هذه المسميات هي:

1 ـ الهوى: ويقصد به ميل النفس, وفعله هوى, يهوى, أي التوجه إلى المحبوب.

2 ـ العلاقة: وتعني أن الحب يلزم صاحبه, وهي تعلق النفس بالمحبوب.

3 ـ الكلف: وهي شدة التعلق والولع, وأصل الكلمة من الكلفة وهي المشقة.

4 ـ العشق: وهو فرط الحب, أو عجب المحب بالمحبوب مقترن بالشهوة.

5 ـ الشغف: وهو مأخوذ من الشغاف الذي هو غلاف القلب, وتعني الحرقة التي يجد فيها المحب لذته في الحب, ومثلها اللوعة.

6 ـ الجوى: وتعني الهوى الباطن وشدة الوجد من العشق.
 
7 ـ  التتيم: وهو أن يستعبده الحب.

8 ـ الوله: وهو ذهاب العقل في الهوى.

9ـ الوله: وهو ذهاب العقل في الهوى.

10 ـ الصبابة: رقة الشوق في الحب.

11 ـ الوجد: وهو الحب الذي يتبعه مشقة في النفس والتفكير فيمن يحبه والحزن دائما.

12 ـ الشوق: وهو سفر القلب إلى المحبوب وارتحال عواطفه ومشاعره, أي نزوع النفس إلى الشيء.

13 ـ الوصب: وهو ألم الحب ومرضه.

14ـ الود: وهو خالص الحب وألطفه وأرقه.

15 ـ الخلة: وهو توحيد المحبة, وهي رتبة لا تقبل المشاركة.

16 ـ الغرام: وهو الحب اللازم للشخص والمقصود به التحمل.

17 ـ الهيام: وهو جنون العشق, وهو يصل بالعاشق إلى الامتناع  عن الأكل والشرب والنوم لدرجة تؤثر على صحته النفسية والجسمية, وأصل الكلمة هو داء يصيب الإبل فلا ترعى.

18 ـ الافتنان: وهو حب لحالة الحب أكثر منه حب للشخص ذاته, ويأتي عفويا وفجأة.

أما في الأديان السماوية وغير السماوية فقد ورد الحب ودلالته ومجالاته بتفصيلات كثيرة في أطار التوصية به في التعاملات اليومية, أو في ممارسة الطقوس الدينية, أو بالتلويح بعقوبة الحرمان منه. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد ورد ذكر الحب صريحا في القرآن مباشرة في ( 76 ) آية, عدا الحالات الضمنية الغير مباشرة والتي تشير إلى معنى الحب. وأذكر هنا فقط نماذج منتقاة من بعض الآيات: في سورة البقرة, الآية ( 305) " والله لا يحب الفساد ", وفي سورة آل عمران, الآية ( 32 ) " قل أطيعوا الله والرسول فأن تولوا فأن الله لا يحب الكافرين ", وفي سورة النساء, الآية ( 107 ) " أن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ", وغيرها من النصوص الكثيرة التي تشير إلى التعامل بالمحبة والرحمة مع الأولاد والزوجة وذوي القربى., وكره الإسلام فكرة الانفصال بين الزوجين ووضع لذلك شروطا محدد.

وفي المسيحية شكلت رابطة الحب من الروابط القوية في الكتاب المقدس, ولعل من مؤشرات ذلك هو عدم جواز الطلاق والقسم بإبقاء العلاقة بين الزوجين إلى النهاية, وعدم السماح بتعدد الزوجات, والحب في المسيحية من أجمل الروابط البشرية التي تجمع الرجل والمرأة بمباركة من الله, ونجد نظير ذلك في الكثير من الأديان والشرائع السماوية.

وقد ربطت الأديان السماوية ربطا محكما بين الحب والزواج, ولم تسمح بممارسة الحب أو الحب الجنسي خارج أطار شروط المؤسسة الدينية وفي أطار العلاقات الزوجية حصرا, وبهذا اعتبر الحب وممارسته من المحرمات قبل العلاقة الزوجية. يقول النبي محمد ( ص) " لم يرى للمتحابين مثل التزوج ", وبالتالي فالحب هنا هو حب بين الزوجين والمتزوجين فقط. ومن هنا أيضا اعتبر الامتناع عن الحب قبل الزواج احد مصادر العفة للرجل والمرأة, كما ورد في حديث آخر للنبي محمد بقوله " يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ". ومن هنا دخل الحب في مجتمعنا في دهاليز السرية شبه التامة خوفا من العقاب الديني والاجتماعي !!!.

وتبقى هنا مسألة العفة والطهارة من أكثر الموضوعات حساسية في ضوء ارتباطها بمفهوم إشباع الدوافع الإنسانية ومنها دافع الحب. ففي المجتمعات الأوربية تفهم العفة والطهارة ليست بعدم الإشباع لدافع الحب والجنس, بل في إعادة صياغة هذه العلاقة بين الذكر والأنثى على أسس مقبولة اجتماعيا تنسجم مع جوهر التغيرات الفكرية و الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والحضارية, وقد قطعت هذه المجتمعات شوطا في إيجاد علاقات بين الجنسين تتمتع بزخم وقبول اجتماعي, وإيجاد معايير أخرى للعفة والطهارة خارج أطار الدافعية للحب, كالصدق والأمانة والوفاء واحترام القوانين وعم التجاوز على حقوق الغير وحريتهم والحكم بالعدل والنزاهة الشخصية من الفساد بمختلف مظاهره الضارة للمصلحة العامة !!!.

أما العفة والطهارة في المجتمعات العربية والإسلامية عموما فظلت متأثرة بالمؤسسة الدينية أكثر مما تتأثر بظروف الحياة العامة والتغيرات الجارية وتأثيراتها على إعادة صياغة العلاقة بين الجنسين, ولا يزال النظر إلى الحب و ممارسته من مؤشرات السمعة غير الطيبة, وإفساد للمجتمع وللعلاقات الاجتماعية, ويبعد الفرد عن طريق الصواب ويضيع وقته سدا, وجهل للدين وقلة الحياء من الله باعتباره هو المحبوب الأعظم ومنه تتفرع أنواع المحبة الأخرى " حسب التفسير الديني ". وهكذا يعيش الشباب اليوم في مجتمعاتنا وسط موجات من الصراع والضغوطات النفسية الهائلة في عالم منفتح على مصراعيه, وفي ظل تغيرات عارمة تعيشها, تجرف مجتمعات بكاملها, مع بقاء الكثير من مؤسساتنا الاجتماعية عاجزة عن احتواء هذه التغيرات والإلحاق بها بما فيها المؤسسة الدينية المتشددة, والتي تغذي الإرهاب ولا تغذي الحب !!!!





 


   

230
في الحب والجنس والزوايا الثلاث ـ مقدمة سيكولوجية

د. عامر صالح

توارثت الحضارة الإنسانية الحب من أسلافها الحيوانية في سلم التطور البيولوجي وأعادت إنتاجه على نطاق واسع  وبتعقيد لا مثيل له يكاد يغطي كل ثنايا الحياة الإنسانية وتفاصيلها الدقيقة متأثرا بالثقافة واللغة في أشكال التعبير عنه وحدة الإحساس به, حتى باتت مفردة الحب من أكثر المفردات إلهاما في الشعر والموسيقى والغناء والأدب ومختلف الفنون, وحتى في الخطابات السياسية, وان كانت في الأخيرة غير مباشرة وغامضة, ولكنها أيضا تدعي " الحب " لتضفي على السياسة بعدا أكثر آنسنه من المصالح الضيقة, بل حتى حروب الحضارات كلها كانت تحت شعارات إشاعة العدل والحق والمحبة بين الناس, وأصبح الحب شعار معلن في الحرب والسلم وكل حسب طريقته, حتى باتت مفردة " أكرهك " في سلة المهملات, بل أصبح من العيب في اغلب الثقافات استخدامها على الإطلاق حتى مع الأعداء أو مع من تختلف معهم, فكانت كلمة " أكرهك " من العيب أن تنطق في أكثر المناسبات كراهية بين البشر, وكانت تحل محلها في مناسبات الخصام كلمات مثل " لا أرغبك ", أو ليست لدينا " لغة مشتركة ", أو " لا أستطيع التفاهم معك " أو " أشكرك نلتقي مرة ثانية " في محاولات لإعادة بناء الحب من جديد !!!!!.

وعلى الرغم من إن الفطرة الإنسانية مبنية في معظمها على ثلاثي الحب والجنس والعدوان, إلا إن الحب استطاع أن يهذب الجنس كفعل ميكانيكي بحت ويضيف عليه أبعاد جمالية لا حصر لها في الممارسة العملية, متجاوزا حدود الحاجة الفسيولوجية له كمصدر للإشباع المباشر أو للإنجاب. كما استطاع الحب الاستحواذ على العدوان والتخفيف من وطأته وإعادة صياغته بواجهات مختلفة, حتى أصبح العدوان مفهوما مبتذلا في التداول رغم حضوره المكثف والعنيف في السلوك الإنساني نظرا لارتباطه الوثيق بين مكوني الجنس والحب, لأن هذا الثلاثي يرتبط اشد الارتباط بآلية البقاء والاستمرار. ويشكل العدوان " المنافسة بمظاهرها المختلفة " آلية غير منقطعة لإشاعة الحب, حيث أن الطبيعة الإنسانية تسعى في محطاتها النهائية لإشاعة الحب والمودة والاستقرار !!!!!.

يرتبط الحب بالجنس اشد الارتباط بشكل مباشر أو غير مباشر, وقد أورثته الفطرة الإنسانية من أسلافها, ولعل في نماذج بعض الحيوانات مما يثير الاستغراب, فحينما يصيب بعض الطيور الهزال لحد الموت بسبب فقدان قرينه, فأن هذا لا يمكن أن يعزى فقط إلى غريزة الجنس البسيطة التعقيد كفعل مباشر, وإنما يجب أن يشترك فيه تحابك وتداخل متبادل بين الغريزة الجنسية وبين العناصر الأخرى للحياة لدرجة يمكن أن تكون نادرة الحدوث حتى في عالمنا المتمدن, بل إن بعض الحيوانات تدفن أمواتهم كما هي الحال لدى الإنسان العاقل, فهل ذلك هو الإيمان بحياة أخرى بعد الموت أم تكريما لهم, أم حبا لهم !!!!!.       

ونظرا لطبيعة الحب الافتراضية الهائلة والتجريدية فقد كثرت التعريفات عنه وبقت قيد النقاش والاختلاف وتعددت مظاهر التعبير عن الإحساس به بالكلمات حتى أنتجت كم هائل من التصورات عنه في محاولة للاقتراب من طبيعته وفك رموزه. فالحب في إحدى تعريفاته: " هو مشاعر تحقق التقارب والتجاذب بين البشر, أو الاستمتاع بالتواجد مع طرف آخر. والحب أيضا يصف مشاعر من العاطفة وهو الفعل الذي يتصرف فيه الإنسان عن عمد ولكن باستجابة رقيقة فيها تعاطف تجاه الآخرين "

وفي تعريف آخر للحب: " هو شعور بالانجذاب والإعجاب نحو شخص ما أو شيء ما, وقد ينظر إليه على انه كيمياء متبادلة بين اثنين, ومن المسلم به أن الجسم يفرز هرمون الأكسيتون المعروف ب " هرمون المحبين " أثناء اللقاء بين المحبين. ومن المعلوم هنا إن هذا الهرمون الذي ينطلق من منطقة الهايبوتلاموس الدماغية والذي يسهل ثقة الناس ببعضهم البعض ويسهل تقديم الحب للآخر المنتمي إلى المجموعة فقط, فهو خاص جدا, كما يسهل للإناث الارتباط الشديد للعناية بصغارها, ويبقي الذكر أحادي الارتباط بالإناث ويجعل الناس يثقون ببعضهم البعض !!!!.

وفي علم النفس كما هي العادة نجد تصورا للحب ذو مغزى خاص حيث يجري البحث عنه في عمق الشخصية الإنسانية, ويجري هنا تعريفه بأنه تطابق قناعاتنا ومخزون عقلنا الباطن مع مواصفات شخص معين نلتقي به صدفة, أو بترتيب مواصفات وبرمجة معينة للصورة التي يجب أن يكون عليها الأشخاص لدى عقلنا الباطن والذين يجب أن نحبهم, أو نفكر بالارتباط بهم, وتأتي منظومة البرمجة هذه مما اكتسبنها من بيئتنا الأسرية ومحيطنا الاجتماعي, كالأصدقاء, والمدرسة, ووسائل الإعلام. فيستقبل العقل الباطن صورة الأم والأب, وعلاقات الذكور والإناث داخل الأسرة, وسلوك كل منهم حسب جنسه, وتفضيلاتهم لشكل المرأة, وحديثهم عن مواصفات معينة ينبغي توافرها في كلا الجنسين, وكلام الأصدقاء عن مواصفات الفتاة أو الشاب الذين يرغبون بالارتباط ببعضهم, أو التعرف على بعضهم, والصورة التي تقدمها وسائل الإعلام عن كلا الجنسين !!!!.

وإذا كان الحب لدى الحيوانات الدنيا بدائيا بملامحه وطبيعته البسيطة فأنه لدى الإنسان أكثر تعقيدا, بل هو احد السمات البشرية, أو السمة التي تجعل من الفرد إنسان بشري عاقل, بل هو أكثر العوامل سببا في ديمومة الإنسان وبقاءه على وجه الكرة الأرضية, فيأخذ الحب هنا مظاهرا مختلفة وثيقة الصلة ببقائه واستمراره وتحسين ظروف عيشه, فهناك حب النفس أو العقل ـ حب العمل ـ حب الجسد ـ حب الطبيعة ـ حب الطعام ـ حب المال ـ  حب العلم ـ  حب القوة ـ الحب الجنسي ـ حب الحيوان وتربيته ـ حب احترام الآخرين ـ حب الأطفال ـ حب الوطن ـ حب الفريق الرياضي ـ حب العلم وغيره من مظاهر الحب المختلفة, والحب هنا هو قوة الجذب الايجابية التي تربط أفراد الجنس البشري, بل هو الحافز الايجابي الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش, وتسودها المتعة والسعادة ودقة الانجاز والسعي للحصول على أرقى المعارف الإنسانية وفهم العالم من حولنا كما هو الحال في فهم ذواتنا. وهذا لا يتم إلا من خلال المشاركة مع إنسان آخر نرى فيه شريكا لمختلف أوجه الحب !!!!!.

وقد وردت للحب مفاهيم وتعريفات ضمنية مختلفة على لسان الأدباء والفنانين والفلاسفة والعلماء وغيرهم, قد تفيدنا هنا في الاقتراب من مفهوم الحب والتعرف على طاقته الكامنة في التواصل الإنساني, ومن بين تلك الأحاديث هي:

ـ الحب جحيم يطاق والحياة بدون حب نعيم لا يطاق... الحب أعمى ( ويليام شكسبير )

ـ الحب كالحرب من السهل أن تشعلها ومن الصعب أن تخمدها... الحب سلطان لذلك فهو فوق القانون ( سيمون دي بوفوار)

ـ من يحب ... يحب إلى الأبد ( أفلاطون )

ـ الحب عند الرجال مرض خطير.. وعند المرأة فضيلة كبرى ( أنيس منصور )

ـ الحب اشد أنواع السحر فعالية ( ستاندال )

ـ فأن قليل الحب بالعقل صالح... وان كثير الحب بالجهل فاسد ( المتنبي )

ـ الحب استمرارية ونقاء, والكراهية موت وشقاء ( جون كيتس )

ولعل بعض الإحساسات والمشاعر الإجرائية والعملية المنبثقة من اللقاء بين الشريكين تجسد مغزى الحب في أوضح صور ممارسته النفسية وانعكاساتها على سلوك المحبين, مما يجعل من ديمومة الحب واستمراره عنصرا فاعل لتقوية الشراكة وسر بقائها, وهذه بعض منها:

ـ الإحساس انك تستمد من الطرف الشريك الحماس والنشاط
ـ الشعور بالأمان
ـ الإحساس بالذنب عند القسوة مع الشريك
ـ لا ارغب في رؤية الطرف الآخر حزين
ـ استطيع أن أتجاوز أخطائك المؤقتة وعثراتك العابرة
ـ اهتم بمصلحة الشريك دوما
ـ تمضية اغلب الوقت مع الشريكين
ـ اكتشاف كلا الطرفين لاهتمامات الآخر والقدرة على إشباعها سوية
ـ الدعم المتواصل لكلاهما لمحاولة صد أي فشل محتمل لتصدع العلاقة
ـ الإحساس النفسي بالزمن, أنه يمضي سريعا وغير كافي دوما للقاء مما يسهم في إعادة اللقاءات لإشباع الحاجة لتواجد كلا الطرفين مع بعضهما
ـ الحاجة المستمرة وغير المنقطعة لكلا الطرفين للتخطيط لمستقبل العلاقة والقلق المشروع على رعايتها
ـ القدرة المستمرة على تجديد العلاقة وبعث الحياة فيها من خلال البحث عن الاهتمامات المشتركة, الفنية والأدبية والثقافية, وتطوير المساهمات المشتركة فيها لكلا الطرفين
ـ القدرة والثقافة المشتركة على إشباع حاجات طرفي العلاقة من خلال تكثيف عنصر الرومانسية اللازم لديمومتها

 وفي إطار الروابط المعقدة بين الجنس والحب فأن من دوافع اللياقة الأدبية والجمالية أن كلمة " حب " تستعمل لتغطية أي مظهر من مظاهر الدافع الجنسي. ومن هنا تأتي أهمية التميز بين " الشبق " وهو الدافع الجنسي الفسيولوجي أو الوظيفي, وبين الحب وهو الدافع المرتبط بدوافع أخرى. وتجري محاولات عديدة للتميز بين الشبق والحب, كما هناك العديد من التعاريف التي تحاول التميز بينهما. وهنا يمكن القول بأن الحب عبارة عن توليفة بين الشبق والمودة, وانه حصيلة التفاعل بينهما. وعند النظر إلى المسألة من جانبها الفسيولوجي فأن " فوريل " يؤكد بأن الحب هو غريزة جنسية تظهر من خلال المراكز الدماغية ذات الصلة. كما أن " كانت 1798 ـ 1857 " يرى أن الحب هو الدافع الجنسي المتحرر من عبوديته ذات الصفة الدورية ويصبح دائما من خلال التصور. كما استنتج " بفستر " أن أفضل تعريف للحب هو أن الحب شعور بالانجذاب, وحس من الاستسلام المطلق, نابع من الحاجة, وموجه نحو هدف يحقق الأمل بالرضا, وهكذا تتنوع التعاريف نحو فهم أوضح !!!.

في الوقت الذي يصبح الحب بوضوح في شكله الأكثر تطورا دافع تضحية وإيثار تامين, فانه منبثق من دافع أناني, وحتى حينما ينطوي على التضحية بالنفس فأنه يبقى هناك إرضاء أناني ناتج من الدوافع البيولوجية والنزعة إلى البقاء. وقد أكد فرويد ( 1856 ـ 1939 ) طبيب الأعصاب النمساوي ومؤسس مدرسة التحليل النفسي في" محاضراته التمهيدية ", كما أكده غيره, على وجود هذا المصدر الأناني, كما أكد في مكان آخر بأن الحب من حيث المبدأ نرجسية, على الرغم من الحب يتميز فيما بعد في كونه منفصلا عن  مصدره. في التطور نحو الحب فأن الدافع الجنسي الذي في مستهله يكون أنانيا بصفة سائدة, يصبح أيضا, وبوعي, دافعا أيثاريا. وتحت ظروف طبيعية اعتيادية, هناك عناصر ايثارية من بداية التطور الجنسي, وعند تطور الحب فأن عنصر الإيثار هذا يصبح محسوسا ومتطورا بدرجة عالية, وقد يقود حتى إلى إخضاع كامل للعنصر الأناني, وهذا ما تعكسه الروابط المشتركة في العلاقات الأسرية, حيث يمتزج الحب الجنسي لدى المرأة فيما بعد بالرقة والصبر اللذين يوقظهما الأطفال فيها, كما أن الحب الجنسي عند الرجل يمتزج مع عنصري الحراسة والحماية اللتين تتضمنهما الصلة الأبوية. وعلى خلفية ذلك تصبح هذه العلاقات جزء من بناء المجتمع وتطوره !!!.

وحينما يتطور الحب تطورا تاما فأنه يصبح عاطفة معقدة تعقيدا هائلا, ويصبح " الشبق " في أفضل معانيه ليست إلا سوى عنصر منسق بين العديد من العناصر الأخرى. وقد حلل " هربرت سبنسر 1820 ـ 1903  " الحب في كتابه " مبادئ السيكولوجي " إلى تسعة عناصر تتسم بوضوح بقدر ما, هي: الدافع البدني للجنس, والشعور بالجمال, والعاطفة, والإعجاب والاحترام, وحب الاستحسان, والغرور وحب الذات, والشعور بالتملك, وحرية واسعة في التصرف عند غياب الموانع الشخصية, وأخيرا الإفراط في التعاطف والمشاركات الوجدانية. لقد استنتج " سبنسر " أن هذا المزاج يندمج في تجمع هائل تنبثق منه معظم تهيجاتنا الأساسية. وحتى هذا التحليل الذي أريد له أن يكون شاملا فأنه لم ينجز تلك المهمة الصعبة, كما أهمل الحب المستند إلى الروابط الأسرية, مع انه عنصر هام !!!.

وعلى الرغم من تعقيد طبيعة " الحب " وصعوبة البحث به وضبطه كظاهرة نفسية ـ اجتماعية وبيولوجية وتربوية وثقافية, وبسبب من تنوع المتغيرات المتداخلة فيه وحجم تأثيرها على تشكيل مسحته العامة, إلا أن علم النفس الحديث خطى خطوات جدية لقياس الحب وتوصيفه وتحديد مكوناته الأساسية, واستخراج مكونات فرعية لشتى مظاهر الحب, مما أسهم بشكل كبير تقريب فكرة ظاهرة " الحب " ووصفها على طريق القياس العلمي, بل وحتى تقويمها ووضع محكات معرفية لمفهوم ونوع الحب. ونشير هنا إلى " نظرية مثلث الحب " التي وضعها في عام 1986 عالم النفس الأمريكي " روبرت ستيرنبرغ ", المولود عام 1949, وهو عالم نفس قياسي ومعرفي, كرس أبحاثه في مجالات: الذكاء والإبداع, أنماط التفكير, صعوبات التعلم, الوظائف العقلية العليا, الحب والكراهية, القيادية, وله نظريات في الذكاء والإبداع والموهبة.

يفترض " روبرت ستيرنبرغ " ثلاث زوايا للحب على المثلث, كعادة المثلث الهندسي, وهي: الألفة, والعاطفة, والالتزام أو قرار العهد. وإذا توفرت هذه المحتويات الثلاثة بحضور كامل فنحن أمام حالة الحب التام. أما فحوى هذا الثلاثي فهي ما يأتي باختصار شديد:

1 ـ الألفة: وتعني الإحساس بالقرب, الترابط والاتصال مع الشخص الذي تشاركه أسرارك وتكلمه عن أشياء خاصة بك, وهو شخص تربطك معه علاقة حميمة, وتستطيع الاعتماد عليه وقت الحاجة وتثق بوجوده معك, ويكون بينك وبينه فهم ناضج.

2 ـ العاطفة أو الرغبة أو الشغف: والمقصود هنا هو الرغبة الجنسية أو التواصل بمعناه الجسدي لكي يكونا الشريكين معا, بما يؤدي إلى الممارسة الجنسية. وتلعب الثقافة الجنسية هنا دورا مميزا لطبيعة الإشباع وصوره , بما يبعث على النشوة والافتتان والعاطفة والجاذبية الطبيعية.

3 ـ القرار والتزام والوعد بين المحبين: ويعني ببساطة القدرة على تطوير العلاقة والالتزام بالحفاظ عليها, والبحث عن سبل ديمومتها. ويدخل هنا عنصر الوعي والإدراك الكامل والتضحيات المشتركة في إبقاء العلاقة قائمة, سواء على المدى القصير أو البعيد, أي يعني قرار الأشخاص بالالتزام بالحب والحفاظ عليه.

وعلى ضوء تفاعلات وحضور زوايا المثلث ودرجة تشبعها ببغضها البعض, أو حرمانها الجزئي والكامل من عناصر المثلث, فأن هناك نتاج مختلف ومتنوع لحالات الحب وأشكاله المميزة, ابتداء من  "حالة اللاحب ", وهي الحالة التي تغيب فيها المكونات الثلاثة للحب ( الألفة, العاطفة, والالتزام )!!!.

وكذلك علاقة الميل أو التشابه, وهو الحضور المميز للألفة, أو الصداقة العادية أو العرضية غير الدائمة, على سبيل المثال شخص يشبهك وتشاركه بعض الاهتمامات, وأحيانا بعض الأسرار, وليس هناك التزام من قبلك أو رغبة جنسية بالطرف الآخر , وهي مجرد إحساس بالقرب والألفة للمشاركة بعض اللحظات, وكذلك غياب عنصر الالتزام مما يجعل العلاقة ليست صداقة بالمعنى الصحيح بل مجرد تشابه. والأصدقاء هنا يأتون ويذهبون ويتغيرون بتغير الظروف !!!.

ثم علاقة الافتنان هو الرغبة والشغف الجنسي, أو الحب من أول نظرة, ويحدث عندما ترى الطرف الآخر لأول مرة, لا يجمعك معه تاريخ مشترك, ولا حتى التزام أو ألفة, وإنما فقط رغبة جنسية جسدية. في هذه اللحظة يكون الرغبة أو الانجذاب الجنسي أكثر حضورا وهو سيد الموقف, أي حضور مكثف للعنصر العاطفي, الذي تمثله الزاوية اليسرى في قاعدة المثلث الذي ارتآه " روبرت ستيرنبرغ " .

والحب الخالي, وهو عدم توفر الرغبة الجنسية, وعدم توفر عنصر الألفة, حيث لم يعودوا يشاركون أسرارهم كما كان سابقا. وهذا النمط من العلاقات يجسد نمط العلاقات الزوجية التي انتهت ولم يبقى سوى الأطفال هو المشترك بينهما, ويبقى الالتزام من اجل الأطفال أو للأسباب مادية هو سيد الموقف !!!!.

أما الحب الرومانسي, ورغم عدم الفهم له في الأدبيات العربية, فهو يجسد الرغبة الجنسية بدون التزام . هذا النوع من العلاقات شائع في المجتمعات الأوربية المتحررة من إشكالية العامل الجنسي, ولا يطلق عليها حب إلا بعد دخول عنصر الالتزام في العلاقة !!!!.

وكذلك علاقة الصداقة الدائمة أو الحب ألرفاقي, وهذا النوع من العلاقة تتوفر فيه الألفة وتشارك الأسرار مع الالتزام بالعلاقة دون دوافع ورغبة جنسية بسبب من التقدم في السن أو ضغوطات الحياة أو الملل والروتين في علاقة الحب !!!!!.

ثم الحب الساذج أو الفارغ, ويحتوي على عنصري الجنس والالتزام فقط , ولا شك انه نوع من الحب قد يكون نوع هوليودي من الحب, وتكون فكرته دارجة في الأفلام والمسلسلات. وهذا النوع يتم على أساس الاتفاقات السريعة بين الشريكين دون عنصر الاستقرار الدائم والعميق !!!!.

أما الحب الكامل فهو ذلك الحب الذي تتوفر فيه ثلاثية المثلث بزواياه الكاملة, وهي العاطفة والألفة والقرار بالالتزام, وهو نوع الحب الذي تطمح إليه الفطرة الإنسانية من اجل الاستقرار وإشاعة الحب بمكوناته الثلاث اللازمة للبقاء الفعلي والاستمرار !!!!.







231
ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية ـ الحلقة الخامسة
" دراسة في الأسس النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للمنظومة الكلامية "


د.عامر صالح

خامسا ـ وظائف عملية الاتصال اللغوي:


من الطبيعي جدا التأكيد على أن أطراف عملية الاتصال ( المرسل والمستقبل ) وبشكل خاص المرسل يتصرفون بأسلوب مقصود, أي إنهم يرتبطون بعملية الاتصال اللغوي لبلوغ أهداف محددة. صحيح أن المرسل يمكن أن يقول كلمة أو يصرخ غير مكترث أن احد يسمعه أو لا يسمعه, ولكن حتى في هذا السلوك يكون له هدف, كما هو الحال في عمليات التفريغ الانفعالي.

ويمكن القول أن الاستخدام الهادف للنشاط الاتصالي يترتب عليه وجود وظائف محددة تقوم بها عملية الاتصال. إن الوظيفة التي تقترن للجميع باستخدام اللغة هي الوظيفة المعلوماتية, أي إبلاغ الطرف الآخر حول الأشياء, والأشخاص وتوصيل أخبار محددة أو أفكار معينة. إن نظرة دقيقة إلى هذه المسألة يتضح أنها ليست الوظيفة الوحيدة للنشاط الاتصالي, على الرغم من أهميتها الاستثنائية التي تكاد تكون في بعض الحالات هي الأهم. إن هذه الوظيفة التي أطلقنا عليها الوظيفة المعلوماتية تسمى الوظيفة الدالة أو المرجعية !!!.

ونستطيع هنا الاستعانة بتصنيف العالم اللغوي الروسي الأمريكي والباحث في الأدب رومان جاكبسون (1896 ـ 1982 ) لتحليل مختلف وظائف النشاط الاتصالي, ففي هذا التصنيف يستخدم العالم المذكور نموذجا يميز فيه المرسل والمستقبل. حيث يقوم الأول بنقل أخبار إلى الثاني, وهذه الأخبار مرتبطة بحالة أو بمضمون محدد. ولكي يكون النقل ممكنا فان المرسل يجب أن يرتبط مع المستقبل بصلة ما. ولكي تتم هذه الصلة ويظهر النشاط الاتصالي إلى الوجود, لابد على المرسل والمستقبل أن يستخدما نفس الشفرة الكلامية. والمخطط الآتي يوضح عناصر النشاط الاتصالي.
مضمون
 أخبار
مرسل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستقبل
صلة
شفرة
وقد أكد جاكبسون بأنه لا توجد حالات يقوم فيها النشاط الاتصالي بتحقيق وظيفته اللغوية يقتصر فقط على عنصر واحد فقط من العناصر الستة المذكورة في المخطط, ولكن يمكن القول بأن النشاط الاتصالي يحقق عدة وظائف من بينها الوظيفة السائدة.

وعلى ما يبدو للعديد من الناس أن الوظيفة السائدة لأي نشاط تخاطبي هي الوظيفة المرجعية, لكن هذه الوظيفة السائدة ممكنة التحقيق ( اتفاقا مع المخطط ) عندما يكون اهتمام أطراف عملية الاتصال منصبا حول المضمون, وحتى في هذه الحالة فبالإمكان أن تحقق وظائف أخرى. فإذا كانت النقطة المركزية في النشاط الاتصالي هي المرسل, أي وجهة نظره في المحتوى الذي يريد التعبير به, أو في قضايا أو انفعالات يرغب في استظهارها, ففي هذه الحالة نحقق وظيفة أخرى للغة هي الوظيفة التعبيرية. على سبيل المثال عندما يقول شخص لآخر: " إنها لفتاة رائعة " !!!.

وإذا كان مركز الثقل في النشاط الاتصالي يندفع نحو المستقبل فتكون لدينا هنا الوظيفة الغائية, وتحقيق هذه الوظيفة يأتي من خلال رغبة المرسل للتأثير في سلوك المستقبل, وخاص في استخدامات صيغ الأمر, على سبيل المثال: اغسل وجهك يا علي, وتستخدم هذه الوظيفة غالبا لتنظيم سلوك الأطفال, وهناك جانب آخر ممتع لهذه الوظيفة هو استخدام الطفل نفسه للغة للسيطرة على سلوكه وهو التكلم بصوت مرتفع مع نفسه أو ما يسمى بالمناجاة التعبيرية, على سبيل المثال: عندما يسير الطفل في طريق مظلم يتحدث مع نفسه ـ لا تخف يا محمد. ومع نمو الطفل ونضجه تتحول هذه المناجاة التعبيرية إلى مناجاة داخلية !!!!.

ولكي يفضي النشاط الاتصالي بصورة عامة إلى نتيجة فان المرسل يجب أن يعقد الصلة مع المستقبل ويحافظ عليها في زمن الإرسال. فاستخدام عبارات ـ " تفضل ", " أسمعك " تعبر عن الرغبة في عقد الصلة, أو أن الصلة قد عقدت, وبمعنى آخر فان عقد الصلة هو جذب المستقبل قبل بدء الإرسال. ويوجد في الكثير من ثقافات الشعوب, وفي ثقافتنا العربية آداب عامة لعقد الصلة, على سبيل المثال, استخدام كلمات: عفوا, من فضلك, لو سمحت وهكذا. وحتى في بعض الأحيان حينما تصادف شخصا غريبا يسير معك في السلم, وحتى تبدي اهتماما به فانك تقوم ببعض الدردشة والتي لا تعبر عن أي شيء جوهري تقوم بإيصاله إليه. ويكون الهدف الوحيد هو عقد الصلة. ففي الحالات المذكورة أعلاه يقوم النشاط الاتصالي بتحقيق وظيفة أخرى هي تبادل المشاعر !!!!.

وإذا كان النشاط الاتصالي يتركز على الإرسال نفسه ( المعلومات نفسها ), فعند ذلك نتحدث عن الوظيفة الشعرية للغة. وتستعمل اللغة في هذه الوظيفة لأغراض المتعة الخالصة التي تزودنا بها. وتنفذ هذه الوظيفة ن خلال مختلف الأشعار عديمة المعنى وكذلك اللعب بالمفردات إلى آخره.

أما الوظيفة الأخرى للنشاط الاتصالي في وظيفة اللغة فهو اللغة الواصفة. وهي أن نتحدث عن هذه الوظيفة عندما يكون النشاط الاتصالي متمركزا حول الشفرة اللغوية, أي عندما نستخدم اللغة للتحدث عن لغة ما, فعلى سبيل المثال, في تعليم وتلقين اللغة الأجنبية, عندما نقوم بشرح معاني الكلمات, وتوضيح الأسس القواعدية, وكذلك تنفيذ هذه الوظيفة في شرح لغة الأم, عندما نسأل الطالب مثلا: ماذا تعرف عن مفهوم " أفعال الكلام ". ويمكن توضيح وظائف النشاط الاتصالي بالمخطط الآتي: 

 
                                 المرجعية
                                 الشعرية
التعبيرية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغائية
                               تبادل المشاعر
                              اللغة الواصفة 

إن وظائف النشاط الاتصالي التي تم ذكرها في مخطط " رومان جاكبسون " لا تعني نهاية الحديث عن وظائف اللغة, هناك وظائف أخرى لا تزال مركز اهتمام علم اللغة الاجتماعي, كالوظيفة التميزية والتعريفية. وتعني هذه الوظيفة, أننا نستطيع من خلال أسلوب لمرسل في التحدث أن نقف على حالته الصحية والنفسية والمزاجية, ولا يمكن وضع هذه الوظيفة في إطار الوظيفة التعبيرية.

وعندما يكون السلوك اللغوي نشاطا لذاته, وخاصة في الديانات كما في الأدعية والمراسيم الدينية والطقوسية, فعلى سبيل المثال لا الحصر, في الديانة المسيحية الكاثوليكية, كأن يقول: " يا مارك أعمدك باسم الرب والابن والروح الطاهرة. آمين ". حيث المرسل هنا لا يخبر عن ماذا سيحدث ولكنه ينجز نشاطا محددا. وقد أطلق على هذا النوع من النشاط اللغوي بالفعل الكلامي.

يتبع الحلقة السادسة .....




232
في سيكولوجيا ظهور " الغائب المنتظر " وإشكالية التوظيف في الصراعات الاجتماعية !!!

د.عامر صالح

أن سيكولوجيا " الظهور " كميكانزم عقلي ـ تأملي لاستقراء المستقبل هو آلية ترتبط اشد الارتباط بقدرة العقل الإنساني في استشراق المستقبل في ظروف الحاجة الماسة لاستكمال نقص ما, نفسيا أو ماديا تسببه ظروف العيش المحيطة ومعاناة الحياة اليومية, ذات الطابع المحدود وغير القادر على الإيفاء بمستلزمات العيش الكريم, من حق وعدل ورفاهية ورفع للظلم ومعاناة الناس. وقد ينبع هذا الميكانزم العقلي من حاجة فرد, أو فئة اجتماعية, أو تجمع سياسي, أو ديني أو مذهبي,  إلى آخره من أشكال التجمعات الإنسانية ذات الظروف التاريخية الخاصة, في محاولة لإشباع مختلف نزعاتها, عبر قراءة ما لتوقعاتها المستقبلية وإيجاد آلية مناسبة لتحقيق بقائها واستمرارها !!!.

وضمن هذا المنظور فأن ميكانزم " الظهور " باعتباره عملية عقلية تأملية للخلاص من المشكلات والأزمات الاجتماعية من خلال التوقعات بظهور شخص منقذ يحل مشكلة ما محددة أو يشيع العدل والحق, أو التوقعات بظهور أفكار وأيديولوجية ما تنقذ البشرية من الظلم وعدم المساواة, هي آلية تجسد مقدرة العقل الإنساني في استقراء المستقبل, وبالتالي فأن نطاق عمل هذه الآلية واسع جدا يشمل التأمل في حل جميع المشكلات التي تعتري الحياة, الشخصية ـ الفردية منها,والعلمية والحياتية والفلسفية والسياسية والدينية, وبالتالي فأن " الظهور " ليست ماركة دينية, مسجلة لها فقط !!!.

في التاريخ الإنساني والفلسفي كانت هناك توقعات " للظهور " وبناء مجتمعات العدل والحق والمساواة, فأفلاطون في سيناريو جمهوريته " للظهور " ميز في دولة المستقبل ثلاث طبقات هي: الصناعيون, والجنود, والفلاسفة, وقال أن هذه الطبقات تطابق الأقسام الثلاثة التي يمكننا أ ن نميزها في النفس لبشرية, وهي: شهواتها, وأهوائها, وعقلها. فلكي يكون جميع المواطنين سعداء, يجب على كل منهم أن يرضى بالمهمة التي تؤهله لها مواهبه الخاصة. هكذا يقضي العدل من وجهة نظر أفلاطون, الذي هو أساس كل دولة, أن يتمم كل مواطن وظيفته, وأن يمتنع عن التدخل في شؤون غيره, فيتفرغ الصناعيون للأمور المادية, والجنود للدفاع عن الوطن, والفلاسفة لإدارة شؤون الدولة. ولعل أقرب حالات " الظهور " اليوم ألينا والتي تثير جدلا فكريا واسعا, هو القراءة الماركسية في النظرية الشيوعية, حيث توقعت بناء مجتمع العدالة والمساواة القائم على أساس انتفاء الملكية الخاصة وشيوع الملكية الجماعية, واختفاء أجهزة الأمن والشرطة الداخلية وغيرها من الأجهزة القمعية, حيث يرتقي المجتمع إلى حكم نفسه بنفسه, ويعمل الجميع بشعار: " كل حسب عمله وكل حسب حاجته ", أي أن يعمل الفرد ويأخذ ما يكفيه من الحاجات الأساسية وغيرها من المؤسسات المجتمعية ذات الصلة بإشباع حاجاته !!!!.

وقد توقع الكثير من العلماء والفلاسفة حالات " ظهور " تفضي إلى تغير أساسي وجوهري في حياة الناس صوب إشباع حاجاتها المختلفة, في السعادة والأمن والعدل ودفع الظلم. فقد قال الفيلسوف الانكليزي برتراند راسل: " إن العالم في انتظار مصلح يوحد العالم تحت علم واحد وشعار واحد ", وكذلك العالم اينشتاين صاحب النظرية النسبية بقوله: " إن اليوم الذي يسود العالم كله الصلح والصفاء, ويكون الناس متحابين متآخين ليس بعيد ", كذلك ما جاء به الفيلسوف الانكليزي الشهير برنارد شو حيث بشر بمجيء المصلح في كتابه " الإنسان والسوبرمان ".

هذه التوقعات والقراءات " للظهور " من قبل العلماء والفلاسفة تستند بشكل أساسي إلى تتبع دقيق ودراسة مستفيضة للواقع الموضوعي المعاش مضافا إليه البعد التأملي والحدسي الذي يمتد بجذوره ومحتواه في عمق البيئة المحيطة, في تصور حياة أفضل, في ظروف كان العالم المادي والنفسي والفكري في أمس الحاجة للكثير من الانجازات في مختلف المجالات. لقد خطت البشرية خطوات كبيرة وواسعة إلى الأمام وأفرزت حالات من " الظهور " أسهمت بسد نقص البشرية جمعاء لمختلف جوانب الحياة الفكرية والفلسفية والعلمية والسياسية والثقافية والصناعية والتقنية, نقلت فيها البشرية من الظلمات إلى النور, وأصبح اليوم ما هو منجز وموجود على ارض الواقع هي مسلمات لا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها إلا باستثناء مجتمعات الحروب والإبادة الجماعية والاقتتال المتبادل. وما كوكبة العلماء العظام والمبدعين المخترعين في مجالات الميكانيكا والطاقة والذرة والكهرباء والاتصالات والمعلومات وعلم الوراثة والبيولوجي والطب وغيرها من العلوم الطبيعية, إلى جانب العلماء في السياسة والاقتصاد والإدارة والمال, وكذلك في مجالات الثقافة والفن والأدب, ما هي إلا حالات من " الظهور " وتعبيرا عن الحاجات المادية والنفسية للبشرية. وما توقعه العلماء والفلاسفة المذكورين أعلاه من " ظهور " لم يكن " ظهورا برؤية دينية ", بل هو ظهور برؤية واقعية ـ موضوعية !!!!.

أما السيناريو الديني في " الظهور " فهو سيناريو ليست واقعي ملموس من رحم البيئة المحيطة ولا موضوعي يستهدف الكشف عن مسببات المشكلات والبحث عن سبل العلاج, على الرغم من انسجام آليته مع الفطرة الإنسانية وميكانيزم العقل في فكرة البحث عن الخلاص من الظلم ونشر العدل, إلا أنه يستند في تفاصيله ومجمله إلى الغيب المطلق. ويشكل الغيب جزء كبيرا من حياة " المؤمن الديني " بل يشكل حياته كلها وجميع أركان إيمانه, لأن الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ـ هذا كله إيمان بالغيب, وما الحياة الموضوعية وظروفها المحيطة وتعقيداتها الشائكة وقوانينها المسيرة, والبحث عن الحلول الاجتماعية ـ الاقتصادية لمعضلات الحياة اليومية, فلا تشكل لديه هاجس كبير يذكر, بل يجري تسخيرها وإحكامها للمشروع الغيبي الماورائي المطلق. والإيمان بالغيب جزء من مسلمات الأديان السماوية وغير السماوية, وهي جزء أساسي من عقيدة المؤمن ولا يجوز إنكاره أبدا, بل ضرورة تفسيره واستيعابه على خلفية النصوص الواردة بأهميته. وعلى سبيل المثال وليست الحصر ما يرد في النصوص القرآنية بأهمية ذلك, ففي سورة البقرة/ الآية1 ـ 2 : (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب....), وكذلك في سورة هود/ الآية 49: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها أليك...). وكذلك في السنة النبوية فيها ما يكفي من مئات الأقوال والروايات والأحاديث التي تؤكد على الإيمان بالغيب والتصديق بما يخبر به الرسل والأنبياء, كما في قول النبي محمد( ص ) على سبيل المثال: ( لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر ) . وهذا الإيمان يجب على المؤمن التعامل معه كذخيرة فكرية وعقلية يجب اللجوء إليها عند قراءة المستقبل, كما هو الحال في الإسلام مثلا بالنسبة إلى الإيمان بالملائكة وبالجن وبعذاب القبر وسؤال الملكين في القبر, إلى غير ذلك من الغيبيات التي وردت في القران والسنة النبوية, ومن ضمن ذلك أيضا قضية اللجوء إلى التفسيرات المختلفة لدعم فكرة ظهور المهدي الذي سيظهر آخر الزمان" ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا ".

هذه المزواجة بين الغيب والفطرة الإنسانية في البحث عن الحلول للمشكلات اليومية عبر ميكانزم العقل وجد صداه في كل الأديان السماوية وغير السماوية, وخاصة في ظل اشتداد الأزمات الاجتماعية من فقر وفساد وقتل واستباحة للدماء على الأرض, والتي كانت تسحق مجتمعات بكاملها, والمقترنة بمحدودية القدرة على إيجاد حلول, فكان الانتظار لشخص مرسل من السماء يحمل مواصفات السوبرمان يحل مشكلات الأرض أمرا لم يكن صعب التصديق به في ظل عجز الإنسان وقدراته. وهكذا كانت فكرة انتظار " الظهور الموعود" لشخص منتقى إلهيا حاضرة في كل الأديان, واعتنقتها اغلب التجمعات البشرية, ليقيم دولة الحق على الأرض ويضع حدا لعذابات البشرية. فقد امن الزرادشتيون بظهور احد أحفاد زرادشت بهرام شاه لينتصر على قوى الشر والظلام ويعيد بناء العالم بمساندة إله النور, وكذلك الظهور الثاني للمسيح كمعتقد أصيل لأغلب المذاهب المسيحية, واعتقاد اليهودية بمن لم يأتي بعد, والبوذيون ينتظرون ظهور بوذا, وكذلك الهنود اعتقدوا بعودة فيشنو, والمجوس إزاء ما يعتقدونه من حياة أوشيدر, كما وجد هذا المعتقد عند قدامى المصريين  والبابليين وغيرهم من الأقوام الأولى !!!!.

الظهور الإسلامي هو الأعنف في حيثياته وتفاصيله وقدرته على الاستحضار اليومي المتواصل., فلا يوجد مذهب إسلامي لم يعتقد في مفاهيم الخلاص بشكل عام, حيث المهدي الذي سينهض لإطلاق تحول اجتماعي كاسح لاستعادة حكم الله وإشاعة العدل في أرجاء الأرض, ولينفذ طموحات كل مذهب إسلامي متجاوزا فيه حدوده ليعبر إلى الديانات الأخرى. فالمشروع المهدوي الإسلامي لا يكتفي التغير على الأرض أو الرقعة الجغرافية المخصصة له بل يمتد ليكتسح الأرض بكل دياناتها, وبالتالي فهو يسعى لترجمة فكرة خاتم الأديان من خلال ما يسمى بإشاعة دولة الله والرسالة المحمدية على الأرض, على الرغم من أن القران الكريم لم يذكر مطلقا بشكل صريح على الأقل أي ذكر لمفهوم المهدي المنتظر, إلا إن فلسفة التأويل والتفسير قد حاولت استخدام تلك الفكرة حسب الوجهة السياسية والاعتقادية, وخاصة لدى المذهبين, السني والشيعي الذين اختلفا فيما بينهما حول الفكرة الأساسية المهدوية لأسباب نفسية وأعتقادية وسياسية !!!!.

أن جذور الخلاف الأولى بين الفريقين, الذي يسمى اليوم سني وشيعي, هو ذلك الخلاف المفصلي الذي بدأ من بعد وفاة النبي محمد, عندما انحاز فريق من المؤمنين للإمام علي ( ع ) وانحاز الفريق الآخر لأبي بكر ( رض ), ومنذ تلك الفترة ظهر بين المسلمين خطان تفرعت عنهما قضايا فكرية ونفسية واجتهادية واعتقادية وسياسية في غاية الاختلاف, ألقت بضلالها على فكرة الظهور المهدوية. فكان الفريق الذي تأسس لاحقا بالمسمى السني وبالخلافة الأولى لأبي بكر والذي استلم السلطة والمال والثروة والسلاح, وقد اشبع دافعه النفسي في الاستحواذ والامتلاك لمفاصل الحكم, لم يحتاج كثيرا فكرة العمل بالظهور المهدوي رغم تشبثه بها والبحث عنها في الأحاديث النبوية والنصوص القرآنية, لأن من يمتلك الحكم يسعى للبقاء لا للظهور الذي ينهي سلطته, وبقيت فكرة هامشية ضعيفة, ولكن الإيمان قائم بها كما هو الحال لدى الفريق الشيعي, فجاءت شخصية المهدي المنتظر لدى السنة تختلف جذريا عنها عند الشيعة, فهو لديهم رجل في علم الغيب ليس معروفا لأحد ومن سلالة آل البيت, ربما قد يكون ولد وربما لم يولد بعد, يهيئه الله للظهور بين ليلة وضحاها, وقد يأتي بأي سيناريو لتفجير الظهور, ولا يشكل مفهوم المهدي لدى السنة تأسيسا لمذهب أو لتيار للتدين بعينه !!!!!.

أما لدى الفريق الآخر " الشيعي " وبفعل عوامل وظروف وجذور الخلافات الأولى التي أبعدت الإمام علي عن خلافة النبي محمد ( ص ) تشكل تيار انكفائي معتكف على مر مئات السنين عمدته أحداث دموية ذهب ضحيتها الكثير من الأئمة وال بيت النبي, مما شكل ثقل كبير في بلورة المذهب الشيعي ومنحه الطاقة النفسية والذهنية الهائلة المستمدة من عنصر التعويض الناتج من الإقصاء, وبالتالي كان سيناريو الظهور لدى هذا الفريق قويا ومؤثرا في جمهوره حاضرا في أدق التفاصيل اليومية, سواء إن كانت دينية عقائدية هذه التفاصيل أم نفعية لأغراض سياسية. لقد ربط التشيع ألاثني عشري ربطا محكما قضية الظهور بذرية الإمام علي آل بيت النبي, فقد أنيط ظهور المهدي المنتظر بشخصية محمد بن الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن على أبي طالب, وهو الإمام الثاني عشر أبن الإمام الحادي عشر والذي غاب غيبته الأولى الصغرى حسب المعتقد الشيعي, ثم غيبته الكبرى إلى اليوم وسوف يعود,وهو حي في العالم لن يمت ولن يبعث ولكن لا يراه أحد, ووفقا لذلك فهو شخصية بطولية متجاوزة للحدود الزمانية والمكانية, وهذه التصورات تحولت إلى معتقد أصيل في المذهب الشيعي بل إحدى التجليات الأساسية له وركيزته الأساسية في تعبئة أنصاره لأي فعل جمعي !!!!.

وقد تعرضت فكرة ظهور الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر إلى الكثير من الاجتهاد والتفسير للأحاديث النبوية والآيات القرآنية بما يجعلها فكرة سياسية أكثر منها عقائدية دينية خالصة, وخاصة على يد محمد باقر ألمجلسي أحد كبار علماء الشيعة في عهد الدولة الصفوية في إيران في القرن التاسع الهجري وهي بداية التشيع السياسي كدولة في العالم الإسلامي, وخاصة في مؤلفاته المعروفة والمعتمدة لدى أنصار التيار الشيعي, وهي: (بحار الأنوار), و(زاد المعاد) و(عين الحياة), حيث يؤكد العالم الديني المذكور أن من علامات الظهور المهدي هزيمة بني أمية على يد العباسيين ثم وقوع الخلاف بين العباسيين في عهد الأمين والمأمون والقضاء على الخلافة العباسية على يد المغول, أي تجير لكل الأحداث التي وقعت بالفعل وخاصة ذات الصبغة السياسية لإعادة تنشيط وتفعيل فكرة المهدي, أي بمعنى أن كل ما يجري على الأرض من أحداث هي مؤسسة ومحتمة إلهيا لتسهيل ظهور المهدي !!!.

ويشتد سيناريو ( ألمجلسي ) أكثر فأكثر لتوضيح مؤشرات الظهور, حيث حين رجعته, أي محمد المهدي المنتظر, ستتحول السماء إلى لون الدم وستشتعل السماء نارا, وسيظهر يأجوج ومأجوج ويكثر الخراب في العالم ويكثر الأموات, وسيبشر بمجيئه جبريل على رأس المسجد الحرام. وليس لظهوره وقت معلوم فهذا من علم الغيب ولا يعلم به إلا الله, كما جاء ذلك في تفسير وتأويل الآية 187 من سورة الأعراف: ( ويسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمهما عند ربي ) ويعني بها هنا ساعة ظهور المهدي المنتظر !!!!.

ويستهدف مشروع الظهور الشيعي العودة الى مرحلة النبوة الأولى الخالية من كل الصراعات المذهبية والطائفية باعتبارها العصر الذهبي, ومن هنا يشرح ( ألمجلسي ) مفهوم العودة أو الرجعة فهي لن تخص فقط عودة محمد المهدي المنتظر, بل تخص كل الأئمة وعلى رأسهم عودة الحسين بن علي وأنصاره في كربلاء ومجموعة من الملائكة اللذين منعهم الحسين من المشاركة في كربلاء, ويقوم كذلك أعداء الحسين وقاتلوه وتقوم معركة كربلاء ثانية لينتصر الحسين ويأخذ بثأر كربلاء, وكذلك سوف يقوم علي ابن أبي طالب ( ع ) وليأخذ بثأر من قتلوه, وينسحب الأمر على كل الأئمة, فرجعة المهدي مصحوبة بعودة الأئمة جميعا, لأن انتقامهم لابد أن يكون في الدنيا لا في الآخرة وكما جاء في تأويل (ألمجلسي ) لسورة ق: الآية 41 ـ 43 التي تقول: ( وأستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج, إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ), وحسب ألمجلسي فليست المقصود هنا يوم القيامة, بل أنها الرجعة للائمة.  وللأسف فأن القراءة الشيعية احتوت الكثير من عناصر الفانتزي والأسطورة وخاصة ما جاء منه على لسان ألمجلسي. وعلى الرغم من محاولات الشيعة المعاصرة للتخلص من هذه المتناقضات ذات الطابع التحريضي والثأري والفانتزي إلا إنها ا إنها بقت راسخة في الوعي العام والخاص لدى الطائفة الشيعية.

وعلى العموم فأن الفكرة المهدوية بنسختيها السنية والشيعية كان مدخلا للكثير من الصراعات على الساحة السياسية والدينية مما ألقت بضلالها على تعزيز الخلافات المذهبية وليست إلى تهدئتها. واليوم حيث تشتد الصراعات الإقليمية والداخلية, وفي ظل اختلاط السياسة بالدين وتأسيس أحزابا على أسس طائفية, فأن ورقة الظهور المهدوية تستخدم للتعبئة الحشدية للانتقام أو تخويف الطرف الآخر المغاير, وهو أمر في غاية الخطورة حيث العبث في مكونات المجتمع الدينية والمذهبية وتهديد استقرارها والتلويح بالحروب الأهلية الطائفية بما لانهاية له !!!!.

وعلى نطاق آخر فأن كل ما يحصل من فاقة وفقر وحرمان وحروب داخلية وإقليمية وانعدام للاستقرار نتيجة لفشل مشروعات الأحزاب والحكومات ذات التوجهات الدينية, فأنها تلجأ لاستغلال الظهور المهدوي واعتبار ما يجري هو جزء من علامات الظهور وهو قدر محتوم, بدلا من العمل على حل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال التنمية الشاملة لكل مناحي الحياة وبعث الحياة والاستقرار مجددا على أسس علمية معاصرة !!!!.

وأخيرا فأن فكرة الظهور المهدوية وفي ظل تفاقم زج الدين في السياسة ممكن يؤدي إلى نشوء حركات مختلفة ضمن واجهات الظهور وادعائه مما يسبب في إراقة الدماء وقتل الأبرياء وضرب النسيج الاجتماعي القائم على التعددية المذهبية والعرقية والدينية, ونشير هنا إلى حادثتين قريبتين, أحداهما جرت في المملكة العربية السعودية عام 1979 حيث حادثة الحرم المكي التي تزعمها جهيمان العتيبي والتي أعلنت ظهور المهدي, وانظم أليها العديد من الشباب في الدول المجاورة, إلا أنها أبيدت بالنار والحديد وقتل من ادعى الظهور. والحادثة الأخرى الأقرب زمنيا هو ما حصل في مدينة النجف العراقية عام 2008 حيث تم القضاء على حركة مسلحة وهم جماعة احمد ابن الحسن " المهدي الجديد " الذين كانوا يزعمون ظهور إمامهم المهدي في عاشوراء من نفس السنة, وقد انتهت الحركة بعد قتل المئات منهم. وهكذا تتجدد سيناريوهات الظهور على خلفية خلط أوراق الدين بالسياسة وتردي أوضاع الناس وحياتها الإنسانية. وتبقى مكانة الاعتقاد المذهبي والديني بالظهور مهما كانت تفصيلاته جزء من طموحات الخلاص من الفقر والظلم مشروعة بقدر عدم تجاوزها على معتقدات الآخرين الدينية والمذهبية وعدم توظيفها لمصالح أنانية ضيقة !!!!!.
    

233
ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية ـ الحلقة الرابعة
" دراسة في الأسس النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للمنظومة الكلامية "


د.عامر صالح

رابعا ـ الجذور الإنمائية للاتصال اللغوي:


أن الحديث عن هذه الظاهرة من الناحية الإنمائية يعني الحديث عن الكلام باعتباره نشاطا في عملية التخاطب اللغوي الشفوي, والذي يلعب دورا أساسيا في الحياة الاجتماعية للفرد. إن الاتصال بالأشخاص الآخرين ممكن بفضل مهارتي التكلم والفهم( الإرسال والاستقبال ) للموضوعات الشفوية. ولكن الكلام ليست مهارة تولد مع الفرد بل يكتسبه من خلال حياته الشخصية بالاتصال مع الناس المتكلمين.

إن تتبع المظاهر الإنمائية لبعض جوانب هذه الظاهرة سيتضح لنا كيف أن جذورها تمتد إلى حياة الإنسان الأولى, بما فيها قبل الولادة. إن هذه الظاهرة تقع تحت تأثير ثلاث مجموعات من العوامل غير القابلة للفصل, هي العوامل البيولوجية, والنفسية والاجتماعية. إن تتبع هذه الظاهرة يمر بمراحل محددة من الناحية الزمنية بشكل تقريبي, تتكامل من خلالها الأبعاد اللغوية لعملية الاتصال. إن الأساس في تميز هذه المراحل هو الصيغ أو الأشكال اللغوية للموضوع الشفوي التي تنقل المعلومات إلى المحيط ـ المستقبل. ولذا فإن هذا التقسيم يقف وراءه عاملين رئيسين, هما: النظام اللغوي, وعملية تحقيقه في الاتصال الشفوي.

تفيد الأبحاث الميدانية المعاصرة التي قام بها العالم البولندي ( ليون كاجمارك ) الأخصائي في اللغة والاضطرابات اللغوية أن هناك أريع مراحل إنمائية يمر بها كلام الطفل, هي:

1ـ مرحلة النغم

2 ـ مرحلة الكلمة

3 ـ مرحلة الجملة

4 ـ مرحلة الكلام الطفولي الخاص

ويشير نفس العالم المذكور, أن هناك مرحلة سابقة للمراحل المذكورة أعلاه, وهي المرحلة التحضيرية أو الصفرية, وهي فترة الحمل, وهي ذات دلالة هامة في نشأة الكلام لاحقا عند الفرد. وسوف نشرح المراحل المذكورة بشيء من الاختصار والتركيز الشديد بما يخدم موضوع البحث:

ـ المرحلة التحضيرية أو الصفرية: وهي مرحلة فترة الحمل, وتمتد من ( 3 ـ 9 ) أشهر, وفي هذه الفترة يتوفر للكلام شرطين أساسين, ونعني بذلك تشكيل أجهزة الكلام, وبداية عملها. والمقصود هنا بأجهزة الكلام ـ الأعضاء المرسلة, وهي: المناطق الدماغية التفكيرية المنظمة للمعلومات, وكذلك الأعضاء المنتجة للمادة الناقلة( التفكير ), وتشمل المراكز والطرق العصبية, والحنجرة, والرئتان, والتجويف ألبلعومي والأنفي, وكذلك الأجهزة الضابطة ( السمع, البصر, الطرق والمراكز العصبية السمعية والحسية), وأيضا الأعضاء المستقبلة ( السمع, البصر, الطرق والمراكز العصبية السمعية والبصرية والمناطق التفكيرية ). وهذه بعض الأمثلة لعمل هذه الأجهزة:

أ ـ في استقبال وتخزين المعلومات:

1 ـ إن أول الظواهر التي يستقبلها ويسجلها الجنين في ذاكرته في الشهر الرابع, كما أكد ذلك العالم ( كلاوسر ),  هو الظاهرة الإيقاعية: الإحساس بإيقاع التوازن أثناء مشي الأم, أما في الشهر السابع فان ضربات قلب الأم تكون مسموعة لدى الجنين.

2 ـ لقد توصل بعض أخصائي السمع السويديين, على سبيل المثال العالم ( مانسين ) إلى أن الجنين في الشهر الرابع أو الخامس, أو بكل تأكيد في الأشهر الأخيرة قبل الولادة, كما أكد ذلك العالمان ( كلاوسر, وميترونوفيج ـ مودشيفسكا ) يستجيب للمثير الفيزيائي ( الاكوستيكي ). ويشهد على ذلك سرعة ضربات القلب وعدم الاستقرار الحركي العام .

3 ـ إن الجنين يسجل في ذاكرته صوت أمه, وليس من الغريب أن يكون صوتها هو الأقرب إليه سمعيا بعد الولادة من صوت أبيه الذي يسمعه مؤخرا. إن هذه الملاحظة أكدها ( سينيور ) أحد كبار أخصائي الأذن والأنف والحنجرة في بخارست عام 1950, كما أكد العالم ( مانسين ) عام1973 إلى أن الأطفال الرضع الذين أقاموا في المستشفيات بدون أمهاتهم, سجل لهم صوت أمهاتهم كي يسمعوه عند حالات البكاء, فاستجابوا له بهدوء ومحركين أرجلهم وأيديهم, باحثين عن مصدر الصوت بسرور.

ب ـ في إرسال المعلومات:
لقد أكدت دراسة ( فلاناكان ) عام 1973 أن الجنين في الشهر السادس أو السابع على الأكثر, يمص أصبعه " ويبكي " عندما يفقده. إن الصراخ بعد الولادة وبغض النظر عن الدور الذي يؤديه وكذلك المص هما استمرار لمهارات اكتسبت مبكرا.

هذا بالنسبة للمرحلة التحضيرية أو الصفرية التي يتواجد فيها الجنين في رحم أمه. أما بخصوص المراحل التي تلي مرحلة الولادة مباشرة فهي ما يأتي:

1 ـ مرحلة النغم ( الميلوديا ), أو ما يسمى بمرحلة إشارات الاستدعاء: وهي الفترة التي تمتد من لحظة الميلاد إلى عمر السنة ( صفر ـ 1 ). إن الطفل في هذه المرحلة وبحكم ارتباط الأم الوثيق والنشيط به, يرتبط هو الآخر اجتماعيا ونفسيا بالمحيط, ويستخدم في عملية الاتصال الأشكال الآتية: ( آ ) الصراخ والبكاء والتي تبدو كأعراض لعملية الاستدعاء التي يقوم بها الطفل عندما يعي أنه بواسطة هذه الأشكال يستطيع الحصول على مساعدة المحيط؛ ( ب ) الصياح الطبيعي وهو استدعاء أعلى درجة من البكاء؛ ( ج ) الأصوات النطقية والتي يرافقها إيماءات دلالية ذات سياقات متغيرة وثابتة؛ ( د ) التكوينات المحاكية والتي تقلد في مظهرها الصوتي الظاهرة المحددة, أو ما يسمى بالإشارات وحيدة الدرجة.

أن أكثر الوسائل الاتصالية استخداما في هذه الفترة هي الأشكال ( ب, ج ) والتي يشكل فيها الميلوديا ركنا أساسيا ( أي عملية تعديل الأصوات بأنغام مختلفة الارتفاع ). إن الميلوديا ثرية في هذه الفترة لما يصاحبها من إيماءات الوجه والحركات الحية المعبرة. وبسبب هذا التنوع الكبير فان الكبار يعيرون اهتماما إلى الطفل والى الحالات الحاصلة عنده, والى الطلبات المختلفة والأسئلة المطروحة ( أي الفهم ـ الاستقبال ). وفي هذه المرحلة يبدو الفهم ( الاستقبال ) مناسبا لمثيرات النشاط المختلفة. أما بالنسبة للأصوات في هذه المرحلة فإن الطفل قادر على النطق بعدد من الأصوات الصامتة والصائتة. إن الظاهرة المميزة لهذه المرحلة هي: المناغاة العشوائية والمناغاة المقصودة. إن المناغاة العشوائية هي عملية غير مقصودة يطلق فيها الطفل أصوات ذاتية بدون تأثير أو سماع مسبق من المحيط, وهي تظهر عند الطفل الذي يتمتع بصحة لا بأس بها في الشهر الثاني, الثالث أو الرابع, كما تظهر عند الأطفال الصم والأسوياء, وهي عملية تدريب ذاتي لأجهزة الكلام للتهيئة إلى نشاط التكلم. أما المناغاة المقصودة فهي عملية واعية لترديد وإطلاق الأصوات الخاصة وكذلك الأصوات المسموعة من المحيط في عمر ( 6 ـ 7 ) شهور. والمناغاة المقصودة هي عملية تدريب غير مقصودة للسمع, وبشكل خاص للإذن الكلامية أو بشكل أدق للأذن الصوتية ـ الكلامية. وتظهر المناغاة المقصودة عند الأطفال الأصحاء سمعيا ( لأنها تحتوي على الأصوات المسموعة من المحيط ), ولذا فهي ذات دلالة إكلينيكية وتشخيصية للوقوف على حالات الصمم المبكر, أي بمعنى آخر إن توقف الطفل عند حدود المناغاة العشوائية فقط وعدم انتقاله إلى المناغاة المقصودة يعني أن هناك شبهات حول عيوب مبكرة للسمع !!!!

2 ـ مرحلة الكلمة أو ما يسمى بمرحلة الإشارات ذات الدرجة الواحدة: وتمتد هذه المرحلة من السنة الأولى إلى السنة الثانية من حياة الطفل. وتمثل الإشارات الدلالية جزءا واسعا من حديث الطفل, وتتكون أما من أجزاء الكلمة ( الإشارة الجزئية )؛ أو من مفردة كاملة ( رمز ) حثية ( محاكية ), أو قبل كل شيء  من غير الحثية, أي اتفاقية ( إشارة ذات الرمز الأحادي )؛ أو من عدة مفردات بدون استخدام الضوابط القواعدية ( أي إشارة ذات الرمز المتعدد. وهذه تستخدم عادة في اللحظات القصوى للحالة المعنية, وكأنها محاولة بنائية لها. إن العامل المميز لمعنى حديث الطفل هي العناصر الموسيقية أو الفوقطعية, أولها النغم والنبر وأخيرا الإيقاع. في البداية تكون هذه العناصر واحدة غير مميزة في هيأتها الصوتية, وبحدود نمو مهارتي الفاعلية النطقية واستخدام أجهزة الكلام تنمو حصيلة الأصوات ويتم نطقها مع كل مرة أفضل وأدق. أما بالنسبة للظاهرة الصوتية المحاكية ( المظهر الاكوستيكي ), والتي تعني تقليد الأصوات المسموعة غير المعقدة فهي تقريبا ذات هيأة صوتية كاملة من حيث عناصرها الموسيقية والصوتية. أما بالنسبة لعملية الفهم ( الاستقبال ) لحديث المحيط فإن الطفل يحقق تقدما كبيرا, حيث يستجيب للحالات المحددة وللطلبات والأسئلة بحديث أكثر نضجا من حيث صيغته اللغوية مقترنا أغلب الأحيان بنشاط وفاعلية.

3 ـ مرحلة الجملة أو ما يسمى بمرحلة الإشارة ذات الدرجتين: وتمتد هذه المرحلة من 2 إلى 3 سنوات من حياة الطفل. في هذه الفترة تظهر الأشكال القواعدية ويغتني قاموس الطفل بشكل كبير, ويتحدد النظام الصوتي ولكنه يبدو غير مستقر. إنها عملية لا تجري بسهولة. إن الطفل يكتسب اللغة بطريقة شاقة. إن حديث الطفل ( إذا كان بمبادرة ذاتية أم استجابة لطلبات وأسئلة المحيط ) غالبا ما تبدو غير متفقة مع التقاليد اللغوية, وأن محتواه الصوتي ( تنفيذ الأصوات ) لا يبتعد فقط عن النماذج السوية ولكنه أيضا يختفي لأنها ممثلة من خلال أصوات غير مناسبة. إن الطفل في هذه المرحلة ينطق جميع الأصوات الصائتة باستثناء الصوائت الغناء, وكذلك ينطق الأصوات الصامتة التي تكون حركاتها النطقية مرئية.

4 ـ مرحلة الكلام الطفولي الخاص أو ما يسمى بمرحلة الأشكال اللغوية الخاصة: وتمتد هذه المرحلة من 3 إلى 7 سنوات من حياة الطفل. يستطيع الطفل في هذه المرحلة أن يدير محادثة بسهولة, ويستخدم إشارات ذات الدرجتين, ولكن أسس بنائها لا يزال غير مستقر. ويلجأ الطفل هنا إلى أسلوب المتناظرات أو المتشابهات ( ويقصد به تكوين صيغ ومفردات بالاستناد إلى نماذج صيغ ومفردات أخرى دون اشتراط التطابق في الدلالة ), والتلويث ( ويقصد به تكوين مفردة جديدة خاطئة من خلال دمج " تقاطع " جزئي مفردتين متماثلتين في مفردة واحدة ) والتبادل الخاطئ ( أي وضع صوت محل آخر تبادليا في نفس الكلمة بشكل خاطئ ).

وبسبب حداثة الطفل وفرديته وسحريته غير العادية نلتمس عنده ما نسميه بالإبداعات اللغوية, ونجد حدة هذه الظاهرة في بداية هذه المرحلة ثم تضعف لاحقا بالتدريج . إن هذا النشاط ذو أهمية بالغة بالنسبة للغة حيث ينقل الطفل من مرحلة المتعة والتنقيب إلى مرحلة الوعي الكامل بالإشكال اللغوية وصعودا إلى اللغة الاصطلاحية أو ما يسمى باللغة الوصفية. وارتباطا بنمو القدرة اللغوية فإن أسئلة الطفل التي كانت قليلة نسبيا في المرحلة السابقة تنمو في هذه المرحلة حتى تصل إلى أربعين سؤالا يوميا تقريبا, أما بالنسبة للجانب النطقي فإنه يتشكل بصيغته النهائية في نهاية هذه المرحلة.

أن مراحل النمو اللغوي المختلفة الأولى لن تختفي فجأة في المراحل اللاحقة, بل تعمل بانسجام وتداخل مع بعضها البعض بشكل تناسقي ـ  هرموني على طريق اكتمال اللغة عند الأطفال ووصولها إلى نماذج لغة الكبار !!!!.

يتبع الحلقة الخامسة ....     
     



   

234
ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية ـ الحلقة الثالثة
" دراسة في الأسس النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للمنظومة الكلامية "


د.عامر صالح

ثالثا ـ خصائص عملية الاتصال اللغوي:

عندما نقارن اللغة الإنسانية مع الأنواع الأخرى من " لغات " الحيوان, نلاحظ أن الميزة المشتركة هي كونها أنظمة طبيعية, أي أنها سجية طبع بها النوع المعني بيولوجيا. وعلى الرغم من الاختلاف في اللغات الإنسانية الناتج من تنوع الثقافات, إلا أن الفرد مجهز بأسسها من حيث تكوينه البيولوجي والتشريحي, أي أن كل السلالة الإنسانية تمتلكها, وكذلك أيضا كل نوع حيواني يمتلك بأي شكل من الأشكال نظاما اتصاليا يعمل وفقا لأسس مختلفة. يمكن هنا أن نشير إلى أكثر الأمثلة المعروفة من الأنظمة الصوتية ـ غناء الطيور, وكذلك المعتمدة على إشارات أخرى مختلفة ـ بصرية ـ حركية ( رقص النحل ) أو على الشم أو الرائحة ( الكلاب ومختلف الحشرات ).

إن الفرق الرئيسي بين لغات الحيوانات واللغة الإنسانية هو أن الأخيرة تستند إلى عملية النقل الثقافي, أي أن الإنسان يكتسب اللغة في عملية التطبيع الاجتماعي, وهذا الجانب تفتقده لغة الحيوانات. إن الحيوان لن يتوجب عليه تعلم معنى إشارات لغته على الرغم من خضوع بعض غناء الطيور لعملية التغير في طبقة الصوت الناتجة من الاتصالات مع طيور أخرى من نفس النوع.

إن اللغة الإنسانية هي اللغة الوحيدة التي تتكون من نظام ذو درجتين ( وقد شرحنا معنى ذلك في الحلقة الثانية من الموضوع ) والذي يشكل هذا النظام مصدرا لإبداعيتها, وان هذه لا تستند إلى المجموع الجاهز للإشارات فقط, كما هي الحال عند الحيوان, ولكن إلى قواعد التوليف لهذه الإشارات. ولم يوجد لحد الآن نظام اتصالي من درجتين عند الحيوانات. وقد جرت محاولات لتعليم الحيوان لغة الإنسان, وقد وجهت هذه المحاولات إلى اقرب الحيوانات من الإنسان في سلم التطور البيولوجي ـ كالشمبانزي والغوريلا وغيره. ولكن لا الشمبانزي ولا أي قرد قريب الشبه إلى الإنسان تمكن من الحديث بأصوات كلامية. نظرا للتركيبة التشريحية المحدودة لجهازه الصوتي ودماغه, ولذلك فان محاولات تعليم الحيوانات المذكورة انتهت بالفشل.

إن هناك فروقا جوهرية بين عملية التخاطب الإنساني وبين أشكال التخاطب في عالم الحيوان, وهذه الفروقات ليست كمية بل نوعية. لقد أشار إلى ذلك عالم اللغة الأمريكي جارلس هوكيت (1916 ـ 2000 ), حيث أكد أن عملية التخاطب الإنساني تتصف بسبعة خصائص هامة, البعض منها يظهر في عملية الاتصال غير الإنسانية, ولكن هذه الصفات لا تظهر مجتمعة في أي نظام من أنظمة الاتصال الحيوانية, وهذه الصفات هي:

1 ـ الثنائية ـ وهي أن كلغة إنسانية تتشكل من مجموعتين من العناصر المكونة: الأولى هي مجموعة أصغر الوحدات اللغوية( الفونيم ), أي الأصوات أو الأحرف الخاصة بلغة معينة, والتي يتشكل منها الحديث اللغوي. هذه العناصر على سبيل المثال هي: س, ص, ت, ط وما شابه ذلك. إن هذه العناصر بحد ذاتها لا تمتلك معنى خاصا, ولكنها تمتلك معنى حاسما عند إبدالها في الكلمة أو في الحديث كله. فمثلا عندما نبدل الصوت ( س ) إلى ( ص) في الكلمة ( سار ) فان ذلك يؤدي إلى تغير معنى الكلمة وكذلك كل الحديث الذي تظهر فيه عملية الإبدال هذه. والمجموعة الثانية هي مجموعة أصغر الوحدات اللغوية ذات المعنى ( مورفيم ) في لغة محددة, والتي تتكون بدورها من أصغر الوحدات اللغوية عديمة المعنى ( الفونيم ), وبفضل هذه الثنائية فان نظام الاتصال يتمتع بقدرة هائلة حيث يسمح بإرسال كم هائل من المعلومات بواسطة عدد غير كثير من العناصر الأساسية. إن هذه الصفة لا تظهر في أي نظام اتصالي في عالم الحيوان.

2 ـ الإنتاجية ـ إن هذه الخاصية تسمح لكل متحدث بلغة معينة أن يتحدث بأشياء لم يتحدث بها سابقا ولم يسمعها, وتكون أيضا مفهومة من قبل المحيط. إن هذه الصفة تظهر في بعض أنظمة الاتصال في عالم الحيوان, على سبيل المثال, تستطيع النحلة أن تحبر عن مصدر جديد للرحيق.

3 ـ الاعتباطية ـ وتعني هذه الميزة انه لا يوجد بين الرمز الكلامي والموضوع المحدد( مع بعض الاستثناءات ) أي تشابه. على سبيل المثال, كلمة " قط " أو " كلب "  لا تشبه بأي شكل من الأشكال الكلب أو القطة الحقيقيين. كما أن الاختلاف بين كلمة قطة وكلب لا تحمل في طياتهما أي اختلاف مقابل القطة أو الكلب الحقيقيين.

4 ـ القدرة على التفاعل المتبادل ـ ونعني أن كل متحدث بلغة معينة هو في الأساس مستمع ويتمكن من الحديث بكل شيء يمكن فهمه عندما يتحدث إلى شخص آخر, إن هذه الصفة يمكن أن تكون خاصية لبعض أنظمة الاتصال في عالم الحيوان.

5 ـ التخصص ـ ويعني أن كل نشاط اتصالي يهدف إلى إثارة سلوك محدد عند الشخص الآخر, هذه النتيجة يمكن أن تمتلكها في درجة معينة كل أنواع السلوك, على سبيل المثال, إن جلوس شخص على مقربة من طاولة الطعام في وقت معين يشير إلى الغذاء الذي يأتي حال. إن هذا المظهر الاتصالي لنشاط الجلوس بقرب الطاولة هو مظهر جانبي, هدفه الأساسي هو تغير مادي في المحيط. ولكن الأنشطة المناطة باللغة لا تمتلك نتائج كبيرة مباشرة على هيئة تغيرات مادية في المحيط, إنها متخصصة في وظيفة توصيلية. إن عملية التخصص هذه في النشاط الاتصالي تظهر أيضا عند الحيوانات, ولكن تخصص النظام الاتصالي عند الإنسان بلغ درجة عالية من التعقيد غير قابل للمقارنة.

6 ـ العزل ـ إنها صفة خاصة بأنظمة الاتصال الإنسانية, ولها إمكانية الاتصال والحديث عن أشياء وظواهر ليست فقط المدركة حاضرا, بل والغائبة والبعيدة عنا أيضا في الزمان والمكان. أن هذه الصفة تظهر في بعض أنظمة الاتصال الحيوانية. ولكنها بأشكال بدائية جدا.

7 ـ النقل الثقافي ـ وهو أن الإنسان لا يرث نشاط الاتصال اللغوي, وإنما شرط اكتسابه هو الاحتكاك والتفاعل مع الأشخاص الذين تعلموا اللغة. إن هذه الصفة تظهر في بعض أنظمة الاتصال في عالم الحيوان من خلال بعض التعديلات على الطبقة الصوتية الناتجة من الاحتكاك مع حيوانات أخرى من نفس النوع. ولكن درجة الاعتماد عند الإنسان في الاتصال بالآخرين الذين اكتسبوا اللغة بلغت درجة راقية ومعقدة غير قابلة للمقارنة قطعا.

إن ظهور هذه الصفات السبعة في رأي جارلس هوكيت تشكل خصوصية تميز أنظمة الاتصال اللغوي الإنسانية عن بقية أنظمة الاتصال خارج إطار العضوية الإنسانية. إن الإشارة إلى هذه الصفات السبعة لا يعني عدم وجود صفات إضافية أخرى, بل أن نفس العالم المذكور أعلاه يشير في دراسة أخرى إلى أن هناك ثلاثة عشر صفة, ولكن على ما يبدو أن الصفات السبعة المذكورة هي قطعية الظهور في عملية الاتصال اللغوي في عالم العضوية الإنسانية !!!.

يتبع الحلقة الرابعة .....         

235
ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية ـ الحلقة الثانية
" دراسة في الأسس النفسية والفسيولوجية والاجتماعية للمنظومة الكلامية "


الدكتور عامر صالح

ثانياـ أوليات وشروط عملية الاتصال اللغوي:


تنتمي قدرة الاتصال اللغوي إلى الصفات المكتسبة, وهي مقتصرة على النوع الإنساني بشكل خاص. أن التكلم والاستماع إلى ما يتحدث به الآخرون, والقراءة والكتابة, تشكل جميعها إحدى النشاطات الرئيسية اليومية لكل فرد في الحالة الاعتيادية. أن جوهر عملية الكلام هو إرسال واستقبال المعلومات, وكلاهما يتصل بالجانب الفسيولوجي, ولكنهما عملية واحدة من منظور اجتماعي( عملية تخاطب أو اتصال ). إنها عملية ممكنة عندما يجيد كل من المرسل والمستقبل نفس اللغة.

إن اللغة هي حصيلة الرموز أو الشفرات التي يستخدمها مجتمع معين, والتي يجب على كل فرد أن يستوعبها كي يفهم الآخرين, ويكون هو الآخر مفهوما أيضا. واللغة هنا هي نظام ذو درجتين. وتشمل الدرجة الأولى: الرموز المستقلة ـ المفتوحة( الكلمات وعلاقاتها التركيبية ), وغير المستقلة ـ المغلقة والتي نعني بها الصفات التطريزية والتي تنفذ في الموضوع الشفوي بشكل إيقاع ونبر ونغم, وفي الموضوع المكتوب أو الموحى به من خلال علامات الترقيم, وكذلك اصغر الوحدات اللغوية( الفونيم ) والتي تنفذ في الموضوع الشفوي من خلال الأصوات, وفي الموضوع المكتوب من خلال الأحرف, وفي الموضوع الموحى به, على سبيل المثال نظام المورس من خلال توليف لنقط وقواطع؛ وأخيرا أصغر وحدة صرفية مغلقة نسبيا. أما الدرجة الثانية من اللغوي فتشتمل على منظومة الأسس القواعدية والتي على أساسها يبنى الموضوع من الرموز المستقلة ويكون مفهوما باعتباره الحلقة الرئيسية في عملية الاتصال اللغوي.

وفي الوقت الذي تطورت فيه اللغة تاريخيا باعتبارها ظاهرة اجتماعية ثقافية فأن نشاط الكلام بحد ذاته هو ذو أبعاد فسيولوجية ـ تشريحية. واللغة هنا ذات صفة تجريدية, لأن الكلمات والأسس القواعدية لا تشير إلى الأشياء والظواهر بالذات ولكن إلى تصنيفاتها التجريدية أو إلى مجمل العلاقات التي تربط بينهما( كعلاقة الفاعل والمفعول والعلاقات المكانية والزمنية وغيرها ).

إن عملية إرسال المعلومات تكون ممكنة من خلال الكلام, والكتابة أو أشكال أخرى. ولكل نشاط من هذه الأنشطة قناة ملائمة ومحددة لنقل المعلومات تنسجم مع هيئة وطبيعة الموضوع المحدد. ففي عملية التكلم مثلا فإن المعلومات تنتقل عبر القناة النطقية ـ السمعية حيث ينفذ فكر المرسل من خلال أجهزة الكلام في هيئة موضوع شفوي يتم استلامه بواسطة آذان المستقبل وتباعا إلى قشرته الدماغية حيث يفهم بهذا القدر أو ذاك من الدقة. أما نتاج عملية الكتابة فهو الموضوع المكتوب ( رسالة, جريدة, كتاب ), حيث يجري هنا نقل المعلومات في هذه الحالة عبر القناة الكتابية البصرية. وفي الأشكال الأخرى ذات الصفة التأشيرية أو الإيمائية( لغة الإشارة, لغة المكفوفين" طريقة برايل " وألف باء المورس وأشكال أخرى )  فإن المعلومات تنتقل عبر القناة المومى والموحى بها ـ السمعية, والبصرية واللمسية.

وبناء على ذلك يمكن تلخيص عناصر عملية الاتصال اللغوي بالأبعاد الأربعة الأساسية الآتية:

1 ـ اللغة, وقد ذكرنا ذلك في الشرط الأساسي لحدوث عملية الاتصال.

2 ـ المعلومات, وهي ما نرغب في نقله عبر عملية الاتصال. وهنا لدينا خيارات لأشكال متعددة من الموضوعات: المكتوبة, والشفوية والإشارية الإيمائية.

3 ـ نقل المعلومات من خلال قنوات تتفق مع صيغة الموضوع, أذن من خلال قنوات: التكلم, والكتابة أو أشكال موحى بها, إلى آخره.

4 ـ استقبال المعلومات والذي ينسجم مع شكل الإرسال, أي الاستقبال: السمعي, والبصري, واللمسي إلى آخره.

كما يجب التأكيد هنا أنه ولغرض توصيل المعلومات لا يكفي فقط إنتاجها. كما أن عملية الترميز أو التشفير لا يمكن النظر إليها بصورة منعزلة. إن عملية إرسال المعلومات واستقبالها تعتمد على العوامل الآتية:

1 ـ إن عملية الإرسال ممكن ظهورها عندما تكون الرموز اللغوية معروفة لدى المستقبل. إن التشفير أو الترميز وفك الرموز يتطلب نظاما رمزيا واحدا لدى أطراف عملية الاتصال . أن الجزء الأكبر من خزين رموز المستقبل والمرسل يجب أن يكون مشتركا. هذا الشرط يبدو محققا في لغة الأم, باستثناء عملية التعلم. أما في عملية الاتصال بلغة أجنبية فإن هذا الشرط يرتقي إلى مستوى المشكلة. كما أن عملية الترميز لا تبلغ ماذا يجب أن تكون, لأن أي عملية لغوية ـ صوتية يجب أن يتوفر فيها عنصر استمرارية الفكر. وكذلك فإن نفس الفكرة يمكن التعبير عنها بمختلف اللغات بواسطة خزين مختلف من الرموز, وخلافا لذلك فإن عملية الترجمة لن تكون جيدة.

2 ـ إن المرسل يجب أن يمتلك الإمكانية لتشفير أفكاره ومشاعره بطريقة تمكنه من توصيلها للمستقبل بمساعدة خزين محدد من الرموز والتي يمتلكها المستقبل أيضا.

3 ـ إن المستقبل يجب أن يمتلك القدرة على فك رموز المعلومات المشفرة, أي إعادة بناء أفكار ومشاعر المرسل. إن عملية إعادة التشفير ليست عملية استسلامية خاملة وإنما على العكس تتطلب نشاطا. إن عملية الاستماع عملية معقدة ومتعبة, ولذا فإن ضبط نشاط المتابعة عند المستقبل ممكن في حالات نادرة.

4 ـ إن الرموز المنتجة من قبل المرسل يجب أن تكون صالحة للإرسال. كما يجب استخدام قناة مناسبة للتوصيل أو النقل لكي نستطيع الحد من التشويش إلى اقل ما يمكن. وكما هو معروف التأثير غير المناسب للكلمة في أوضاع غير مواتية.

5 ـ إن الاتصال في الحياة اليومية لا يشمل الظواهر المجردة, وإنما يشمل في اغلب الأحيان الظواهر الملموسة. إن اغلب الأفكار تنشأ عن حالات واقعية, والمرسل يجب أن ينقلها إلى حالات واقعية أيضا, ومن هنا ينشأ الافتراض التالي: إن المرسل والمستقبل يمتلكان خزينا مشتركا من المعاناة والإدراك, وخلافا لذلك فإن عملية إيصال المعلومات تصبح عملية شكلية وصماء, وهذا ما يحصل أيضا !!!!.

يتبع الحلقة الثالثة.....    
 


236
ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية
" دراسة في الأسس النفسية والفسيولوجية والاجتماعية للمنظومة الكلامية "

الحلقة الأولى


الدكتور عامر صالح

ملاحظات تمهيدية:

استرعت لدي ظاهرة الكلام باهتمام خاص منذ دراستي الجامعية الأولية, باعتبارها أداة الإنسان الأساسية في الاتصال, ومن ثم المتعة العقلية ـ المعرفية للخوض في ماهية الترابط الجدلي بين ركني هذه الظاهرة: الركن الفسيولوجي والبعد الاجتماعي. وقد تأثرت كثيرا بالبروفيسور العراقي المرحوم الدكتور نوري جعفر من خلال علاقتي الشخصية العلمية معه, ومن ثم ما كتبه لنا مأخوذا من العلم الروسي عبر الانكليزية بشكل أساسي للدراسات النفسية والفسيولوجية والتشريحية عن اللغة.

وعندما سنحت لي الفرصة لإكمال دراستي العالية خارج الوطن اتسع لي مزيدا من الوقت والتفرغ الكامل لدراسة هذه الظاهرة, فعكفت على دراستها ببعديها السوي والمرضي, وبذلك تشعبت المداخل لدراسة موضوع الكلام. ولعل في هذه الحلقات أسعى لتقديم خدمة متواضعة للقارئ الكريم وللمكتبة الالكترونية والورقية التي تحتاج إلى مزيد من العناية بهذا الميدان من المعرفة الذي لازال بكرا ويستحق المزيد من الإضافة, ولي الأمل أن تشكل هذه المساهمة إضافة لا غنى عنها لتراثنا اللغوي والنفسي في هذا المجال.

وقد ارتأيت أن تسير محاور البحث في موضوعات متصلة تفضي إلى تصور لفهم ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية " الكلام ", وسوف تكون هذه المحاور بالضرورة في حلقات متتابعة, أهمها: ماهية اللغة في ضوء علو النفس الفسيولوجي المعاصر, وأوليات وشروط عملية الاتصال اللغوي, خصائص عملية الاتصال اللغوي, والجذور الإنمائية للاتصال اللغوي, والآليات الدماغية للاتصال اللغوي, وأسس عملية الاتصال اللغوي في ضوء مبادئ علم التحكم الذاتي, ووظيفة النشاط الاتصالي اللغوي ومن ثم بعض المظاهر الاضطرابية في منظومة الاتصال اللغوي !!!!.

لقد ارتبطت اللغة ارتباطا وثيقا بالنقلة التي حققها الإنسان في سلم التطور البيولوجي, فكانت اللغة وطلائعها الأولى من المؤشرات المهمة والفاصلة بين الإنسان وما سبقه من سلالة الحيوان, فكانت تسميته بالحيوان الناطق أو الرمزي ليست جزافا أو عبثا, بل للتعبير عن الرمزية والسلوك الرمزي الذي هيمن على سلوكه بعد توديعه الغابة وبدئه مسيرة الإنسانية بكل ما تحمله من انجازات وتعرجات ومحطات توقف وتراجع وتقدم إلى الأمام. فاللغة كانت هي المعبر عن كل هذا نطقا وكتابة وإشارة لغوية وتخطيطا وفلسفة وعلما وتراثا, وما إلى ذلك من تأثيرات جوهرية على التفكير وتأثير الأخير على اللغة في بداياته الأولى وتلاحمه معها وعدم انفصاله عنها. وهكذا بدأت الحضارة الإنسانية منذ بدايتها المتواضعة إلى يومنا هذا, لغوية ـ رمزية وكل ما يأتينا منها هو لغة بأشكال ومظاهر مختلفة, وأصبحت اللغة هي المعبر عن المحتوى التاريخي والثقافي والفكري والعلمي للإنسانية جمعاء !!!!.

هذه " الصدمة " الكبرى في الانتقال إلى الإنسانية عبر اللغة جعل من اللغة ونشأتها وطبيعتها من الموضوعات الرئيسية للفلسفة " باعتبارها أم العلوم سابقا ", ثم لاحقا وعلى أساس ذلك نشأة العلوم المختلفة التي تناولت اللغة, سواء من العلوم اللغوية البحتة التي تناولت اللغة تأريخا ونظام صوتي وكتابي وقواعدي وتركيبي و قيمة معنوية, ثم إلى العلوم الاجتماعية التي تناولت اللغة كظاهرة اجتماعية في مجرى عملية الاتصال والتواصل الاجتماعي, كعلم الاجتماع اللغوي, وكذلك العلوم النفسية التي تناولت اللغة من حيث جذور نشأتها على مستوى الفرد كوحدة عضوية بيولوجية نفسية, وفي حالتها الصحية والمرضية, ونشأت على خلفية ذلك الكثير من المعارف العلمية والدوائر المعرفية المتشعبة, كعلم النفس اللغوي, وعلم أعصاب اللغة, وعلم الاضطرابات اللغوية, وعلم نفس اللغة ألنمائي وغيرها من العلوم الفرعية ذات الصلة بالمظاهر السايكولغوية والعصبية وفي بعديها السوي والمرضي الاضطرابي !!!.

وكان للدين أيضا دوره في التنافس مع المعارف الأولى في فهم ظاهرة اللغة وتبيان أصولها استنادا إلى الخطاب المقدس الذي وصلنا عبر نصوصه المختلفة, ففي العالم الإسلامي وفي القرآن كما في سورة البقرة في الآية ( 31 ) حيث يرد: " وعلم آدم الأسماء كلها ", كما أن العالم المسيحي يعتمد على ما ورد في سفر التكوين في الفقرتين " ( 19 ) و ( 20 ) من الإصحاح الثاني إذ يقول: " والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء, ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان. فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول ". وهذه النصوص المقدسة لا تفسر بكل الأحوال ما هي طبيعة المقدرة اللغوية التي وهبها " الإله " للإنسان, بل إن هذه الأدلة النقلية وعلى ضوء مفسري النص تضعنا في تعارض مع سنة البحث في فهم الظاهرة اللغوية وتعقيداتها على المستويين النفس ـ  فسيولوجي والاجتماعي وتضفي مزيدا من الغموض على دراسة المشكلة في فهم طبيعة المقدرة اللغوية وأبعادها المتشعبة !!!!.

أولا ـ ماهية اللغة في ضوء علم النفس الفسيولوجي المعاصر:

يحدثنا علم النفس الفسيولوجي المعاصر عن وجود منظومتين أساسيتين في العضوية الإنسانية هي: المنظومة الإشارية الأولى, والمنظومة الإشارية الثانية. وقد نشأت الثانية على أساس الأولى, وقد أثرت كل منهما في الأخرى من الناحية الارتقائية, واتسمتا بتعقيد وظيفي لا نظير له في سلم تطور الكائنات الحية.

أن المنظومة الأولى أو التأشير بمعناه الحسي المشترك بين الإنسان والحيوانات الراقية, والذي يستقبله الجهاز العصبي المركزي على هيئة روائح وأصوات وألوان, يشير إلى الأشياء المادية التي انبعثت منها تلك الروائح والأصوات والألوان, هو سمة نشاط المخ المميزة أو وظيفته الأساسية, ويدعى فسلجيا النشاط الحسي, أو المنظومة الإشارية الحسية الأولى باعتبارها تشير بشكل مباشر أو تدل على الأشياء المادية الطبيعية والاجتماعية الموجودة في العالم الخارجي.

ويدخل ضمن هذه المنظومة الحسية عند الإنسان وحده جميع الإشارات والعلامات الاصطناعية الأخرى ذات الدلالة أو الأهمية أو المغزى التي صنعها الإنسان لتشير إلى وجوه النشاط الاجتماعي المختلفة وتنظمه, مثل إشارات المرور الضوئية والإشارات باليد وأصوات المنبهات التي تطلقها وسائل النقل المختلفة والأجراس  وعلامات الاستدلال التي يتعذر حصرها.

كل ذلك يتصل بالمنظومة الإشارية الأولى, أي أنه يجري عن طريق حاسة البصر أو السمع إلى المركز المخي الحسي البصري أو السمعي. أما الرموز اللغوية المنطوق بها أو المكتوبة ( يعني المسموعة والمرئية ), والأفكار التي تنطوي عليها والتي تنتقل إلى الإنسان وحده عن طريق البصر والسمع فتؤلف المنظومة الإشارية الثانية( اللغة ) حيث تنقل إشارات تلك الرموز عن طريق السمع والبصر إلى مراكز مخية خاصة ينفرد بها الإنسان وحده هي المراكز المخية اللغوية. معنى هذا أن الكلمات المتحدث بها والمكتوبة هي ( إشارات الإشارات ) أي تعبر عن الإشارات الحسية التي تنقلها المنظومة الإشارية الأولى والتي تدل أو تعبر أو تشير إلى أشياء مادية محسوسة. فالإنسان ينفرد دون سائر الحيوانات الراقية بالإضافة إلى التأشير الحسي وعلى أساسه ( أي بالإضافة إلى تسلم الإشارات الحسية على شكل روائح وأصوات وألوان وما يجري مجراها والتي تأتي من البيئة ) بأن لديه منظومة التأشير اللغوي والتي احتلت منذ نشوئها وتطورها المكان الأول والأهم  في علاقاته بالبيئة المحيطة. 

وأخذت الكلمات مع الزمن تعبر عن الإشارات الحسية وتحل محلها. فكلمة ( سمك ) مثلا المتحدث بها أو المكتوبة أو كلمة ( ليمون حامض ) أو ( أب ) أو ( مدرس ) أو ( شمس ) تحل أثناء الحديث والقراءة محل الشيء المادي الذي تعبر عنه وتستثير أيضا الاستجابة الفسلجية التي تستثيرها خواصه الحسية. ومن هذه الناحية تسمى اللغة ( إشارات الإشارات ): أي أن الكلمات المنطوق بها والمكتوبة ( الأصوات والإشارات البصرية ) تشير إلى الإشارات الحسية ( خواص السمك مثلا أو الليمون ) التي تشير بدورها إلى الأشياء المادية التي انطلقت منها. والألفاظ اللغوية التي تعبر عن نفسها على هيئة رموز صوتية أو مكتوبة أوجدها الإنسان لتنظيم حياته الاجتماعية. معنى هذا أن قيمة الرموز اللغوية ( الصوتية والبصرية ) تكمن في معناها أو دلالتها أو مغزاها أو فحواها أو أهميتها أو في الشيء الذي تشير إليه وليست في كيانها المادي المنطوق به أو المكتوب.

لقد نشأت المراكز المخية اللغوية التي ينفرد بها الإنسان من الناحية التاريخية التطورية على أساس المراكز المخية الحسية وبعدها من الناحية الزمنية. وهي ترتبط أيضا بالبصر والسمع. أي أن المنظومة الإشارية الثانية لا تستطيع مطلقا أن تمارس عملها اليومي المعتاد دون الاستناد إلى التعاون مع المنظومة الإشارية الحسية وخاصة حاستي السمع والبصر. ومع أن نشاط المنظومة الإشارية اللغوية يرتبط بقدرة الإنسان على الاتصال بغيره من أفراد المجتمع عن طريق الكلمات المنطوقة والمكتوبة وبقدرته على التفكير, وهو نشاط ذو طبيعة تجريدية وتعميمية, إلا أنه من غير الممكن مع هذا أن نعزل الإدراك الحسي عن الفكر المجرد.

وقد ثبت في ضوء الدراسات العلمية الحديثة أن النشاط العصبي الأعلى ( أو الحياة العقلية ) يتركز عند الإنسان في مناطق أو مراكز الكلام المخية الموجودة في أكثر من منطقة في القشرة المخية ( كما سنلاحظ ذلك في الحلقات القادمة ). كما ثبت أيضا أن هذا النشاط يؤثر في النشاط العصبي الأدنى ( أو الحياة الانفعالية ) عند الإنسان الذي يتركز في الأقسام الدنيا من الدماغ ( الأقسام الواقعة تحت المخ ) ويتأثر به وأن هناك تأثيرا متبادلا بين النشاط اللغوي المشار إليه( الذي ينفرد به الإنسان ) وبين النشاط المخي الحسي الذي تشترك فيه مع الإنسان الحيوانات الراقية الأخرى من جهة أخرى. ولكنها عند الإنسان خاضعة بشكل أو بآخر للقشرة المخية.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن نشاط المنظومة الإشارية الأولى وان كان مرتبطا ارتباطا وثيقا مباشرا بالإدراك الحسي وأن نشاط المنظومة الإشارية الثانية مرتبط بقدرة الإنسان على الاتصال الفكري بالآخرين عن طريق الكلمات المتحدث بها والمكتوبة وبقدرته أيضا على التفكير المجرد عبر الكلمات, غير أن لا يمكن عزل هذا الأخير  عزلا تاما ومطلقا عن الإدراك الحسي, والعكس صحيح أيضا, لأن الإدراك الحسي لا يحدث دون استيعاب ذكي لما هو مدرك حسيا, أي أن التفكير غير ممكن الحدوث دون سند من الإدراك الحسي الذي هو مصدره الذي يمده بمحتواه.

معنى هذا من غير المستطاع أن نعزل عزلا تاما( إلا لأغراض الدراسة النظرية ) عملية التفكير المجرد عن عملية الإدراك الحسي. والإدراك عند الإنسان ليس حسيا صرفا, أي أنه بشكل أو بآخر مرتبط بالجانب الاجتماعي. فالتفكير الحسي إذن هو منطلق التفكير المجرد وهو الذي يمده بمحتواه ........ يتبع الحلقة الثانية !!!!!.


 


237
صعوبات البحث في الظواهر النفسية ومخاطر البساطة في تعميم النتائج على الشعوب !!!!

" كل تعميم هو خطأ بما فيه هذا التعميم "
                                     مثل انكليزي


د.عامر صالح

يشعر الإنسان بالامتعاض ومشاعر النشاز وهو يقرأ الكثير من الإحكام الجاهزة أو التعميمات البسيطة التي تطلق بحق شعوب وأمم وأثنيات وكأنها أحكام منتهية بل وقوانين على نسق القوانين الطبيعية التي تجري في العلوم الطبيعية, كالكيمياء والفيزياء وعلم الإحياء وغيرها, ويكون وقعها اشد ألما عندما تصدر من المشتغلين بالبحث العلمي والطموحين لمعرفة السلوك الإنساني وآلياته ومن ثم التحكم فيه, وهكذا تعميمات بسيطة لا تمت بصلة لمنهجية البحث العلمي وخاصة في العلوم الإنسانية, حيث ترجعنا في قراءتها إلى قرون سلفت حيث الأبيض أنقى من الأسود, والأول أكثر ذكاء من الثاني, والعرق الآري أنقى الأعراق وأكثرها مقدرة عقلية, ثم الأوروبي أفضل شعوب الأرض, والأسيوي أحسن أداء وفكرا من الإفريقي, وهكذا إلى أن نصل إلى قراءة مشوهة في المجتمع الواحد, حيث العربي في مجتمع تعددي القوميات أفضل من الكردي أو بالعكس, أو من الآخرين من الأقليات, ويمتد ذلك الخطر إلى الأديان, حيث المسلم أنقى وأفضل من المسيحي أو بالعكس, وكذلك الحال وبالتبادل مع مختلف الأديان والمذاهب, ثم تضيق دائرة الكراهية شيء فشيء لتصل بنا إلى دوائر التفضيل المبتذل بين محافظات البلد الواحد بجنوبه وشماله وبين عاصمته وأطرافه, ثم الانسياق إلى التقوقع والكراهية بين أبناء المحافظة الواحدة على أساس الشارع والزقاق والمحلة, وهكذا إلى البيت الواحد بين الإخوة والأخوات, وهي سلوكيات يؤطرها غياب الانتماء الصحيح إلى الوطن والأمة والأسرة, وخاصة في ظل الأزمات الكبرى حيث تصدع المنظومة القيمية والأخلاقية والثقافية !!!!.

في علم النفس كما هي الحال في بقية العلوم الإنسانية هناك صعوبات جدية في المنهج واستخلاص النتائج وخاصة في الأبحاث ذات الطابع المجتمعي التي تتجاوز دراسة الفرد الواحد وسلوكياته, وصولا إلى أحكام عامة وخلاصات بصدد مجتمع بكامله, بمعنى آخر كيف لنا أن نطلق على مجتمع بكامله انه مجتمع دموي أو مجتمع قتل, أو مجتمع يحب الرقص والطرب, أو مجتمع منافق ودجال متحايل, أو مجتمع كسالى اتكالي لا يرغبوا التغير, أو مجتمع استحواذي مستعمر عندما تسنح له الفرصة, أو مجتمع متدين لا يرغب غير الدين والعيش في كنفه, أو مجتمع تجارة وأفراده مغرمين في ممارسة العمل التجاري والاستحواذ على المال وبكل الوسائل الممكنة, أو مجتمع خانع للحاكم لا يرغب في تغيره مهما بلغت حدة القمع والجور, وهكذا نضفي على الشعوب والمجتمعات الكثير من الصفات وخاصة السلبية دون العودة إلى ظروف نشأتها الأولى والملابسات التاريخية المسببة لها, ونكون قد حكمنا عليها سلفا بالموت دون دراستها كظاهرة اجتماعية نفسية تاريخية, لها جذورها وأبعادها وهناك سبل للخلاص !!!!.

أن الظواهر النفس اجتماعية هي ظواهر معقدة من حيث طبيعتها وتتشابك عوامل لا حصر لها في صياغتها, من عوامل ذاتية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتاريخية وفلسفية وسياسية ماضية وحاضرة, وبالتالي فأن قياسها يستدعي من الباحث أن يكون على قدر من المهارة الميدانية والتمرس في البحث العلمي وعلى قدر كبير من الموضوعية العلمية قد تكون غير لازمة في أبحاث العلوم الطبيعية, لأن خطورة نتائج الأبحاث السايكو اجتماعية تمس الفرد والمجتمع وكيانهما الذاتي, وبالتالي فأن تعميمها هو مسؤولية ليست علمية بالدرجة الأولى بل هي مسؤولية أخلاقية, وبالتالي فأن نزاهة الباحث وعدم تأثره بأحداث اللحظة الآنية في تحليل الظواهر يعتبر صمام الأمان في الوصول إلى نتائج على قدر من الموضوعية !!!.

وتتأثر عموما نتائج الأبحاث النفسية والاجتماعية بكثير من العوامل التي تخل بمصداقية النتائج, منها انحياز الباحث لوجهة نظر فكرية أو سياسية مما تجعله يعمل جاهدا لتوجيه بحثه بما يخدم وجهة نظره, إيمان الباحث بوجهة نظر مدرسة فكرية سيكولوجية واجتماعية معينة مما تجعله منحازا أصلا قبل بداية البحث, ضعف القدرة على ضبط المتغيرات التي تؤثر أو لا تؤثر على الظاهرة قيد الدراسة, سرعة تغير الظواهر الاجتماعية والنفسية بالظروف المحيطة مما يصعب تعميم النتائج, افتقار المكتبات العلمية للمراجع والتقنيات اللازمة لإجراء البحوث, تزييف الإجابات لرغبة سواء لدى المفحوص أو الباحث, عدم إتباع إجراءات البحث بدقة, أخطاء مقصودة وغير مقصودة في التحليلات الإحصائية, تزوير البيانات وأخطاء في التطبيق, مشكلات في أدوات القياس والتحيز, صعوبة الضبط والتحكم في الصفات البشرية, الطبيعة المجردة لبعض المفاهيم الاجتماعية والنفسية مما يصعب قياسها, المشكلة الأساسية في موضوع البحث هو الإنسان نفسه بكل ما يحمله من ميول واتجاهات ايجابية وسلبية اتجاه مشكلة محددة, الدقة في بناء أداة البحث ومدى صدقها في الكشف عن السلوك المقاس, تداخل الظواهر السلوكية والاجتماعية مع بعضها البعض, بعض الأعراف والتقاليد التي تواجه كل من الباحث والمبحوث, صعوبة تطبيق بعض التقنيات مثل مراقبة السلوك كما يحصل بتلقائية أو صعوبة إجراء بعض المقابلات الضرورية للمفحوصين, الصعوبات الثقافية المتعلقة بالمبحوثين وعدم استجابتهم بسهولة لإجراءات البحث وكذلك الفروق الثقافية بين الباحث والمفحوص !!!!.

هذه هي ملاحظات سريعة أردت بها أثارة مخاطر إطلاق الإحكام الجاهزة على شعوب تعرضت إلى انتكاسات تاريخية وبالتالي إلى ردة قيمية وأخلاقية, وهي وليدة تلك المحطات التاريخية السوداء من حياتها, ويمكن لثورات العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والتقدم أن تؤسس لمنظومة أخلاقية اجتماعية ثقافية بديلة قادرة على قلب المفاهيم السائدة إلى حالة مصالحة مع الذات الفردية والمجتمعية بعيدا عن التأسيس لمزاج البغضاء وتكريس عدم المساواة بالاستخدام المشوه للعلم وتقنياته !!!!.   

238
البحث العلمي في العالم العربي بين الأهمية والواقع ومستلزمات النهوض !!!! 

" كل إناء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فانه يتسع "
                                                        علي بن أبي طالب ( ع )   


*د.عامر صالح


الأهمية:

نستطيع أن نقول أن رحلة البشرية من البدائية إلى التمدن هي رحلة الانتقال التدريجي من الخرافة إلى العلم, رحلة الانتقال من العفوية والخضوع المطلق إلى قدر الطبيعة والقوى الماورائية إلى التخطيط الممنهج القائم على معطيات العلم والسيطرة على الطبيعة ومخاطرها الفيزيائية والكيماوية وحسن استغلالها لخدمة الإنسان من خلال الكشف عن قوانينها المسيرة وعلاقاتها المتشابكة, بل وتمتد السيطرة إلى المادة الحية التي يمثل الكائن الحي والإنسان بشكل خاص أرقى نتاجها, حيث التحكم في عوامل صحته ومرضه وتفاعلاته الداخلية والخارجية وعموم استمراره وبقائه !!!.

البحث العلمي هو نافذة البشرية الوحيدة إلى التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والفكري, بل أن كل الثورات العلمية والصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية ما هي إلا ثمرة من ثمرات التراكم المعرفي والعلمي القائم على أسس تطوير منهجية البحث العلمي, وما عدا ذلك فأن حياتنا لا تعدو إلا أن تكون طقوس من التنجيم والخرافة والسحر والشعوذة والاجتهاد العبثي, يعاد فيها إنتاج التخلف وتوليده على نطاق واسع في كل مفاصل الحياة العامة والخاصة, حيث يتم فيه تعطيل قيمة العقل الإنساني, الذي لا سلطة تعلو عليه, في البحث عن الحلول العلمية لمختلف مشكلات الحياة, وعندها يتوقف الزمن, حيث لا نشعر بقيمة التقدم وجدواه وتبقى حياتنا تكرارا مبتذلا لأسلافنا, وفي أحسن الصور يكون وجودنا محاكاة مشوهة لما ينجزه الآخرين دون القدرة على استنبات العلم والتقدم التقني والاجتماعي في البيئة الوطنية !!!.

أن البحث العلمي كآلية هو العملية الفكرية المنظمة التي يقوم فيها الباحث إن كان فردا أو مؤسسة بحثية أو جامعية من اجل تقصي الحقائق بشأن مسألة أو مشكلة معينة تسمى ( موضوع البحث ), بأتباع طريقة علمية منظمة تسمى ( منهج البحث ) بغية الوصول إلى حلول ملائمة للعلاج أو إلى نتائج صالحة للتعميم على المشاكل المماثلة تسمى ( نتائج البحث ). فالبحث العلمي هو الطريقة الوحيدة للمعرفة حول العالم بكل تنوعاته وغناه, ولفهم الحقائق الواقعية بعبارات القوانين والمبادئ العامة. والبحث العلمي كمنهج يطال كل مفاصل الحياة بدون استثناء, الروحية منها والمادية, ولا توجد فرصة للخيار بين البحث العلمي أو عدمه, فالمراوحة في الخيار هي نوع من الباطل, وعدم الأخذ بالمنهج العلمي يعني اختيار التخلف كطريقة للبقاء والعيش, وهو ما يرفضه علنا وحياء حتى أكثر دعاة ورموز الأمم تخلفا, فأما الحياة أو الموت !!!.

ومن هنا نستطيع القول بما لا خلاف عليه بين من يلتمسوا تشخيص الحاضر ويبنوا المستقبل أن البحث العلمي هو الطريقة لمعرفة وحصر مشاكل المجتمع, وتحديد درجاتها من الأهمية, وأولويات وطرق التعامل معها, وهو السبيل الوحيد لحل تلك المشاكل بما ينسجم مع إمكانيات المجتمع وقدراته وطموحاته؛ وهو الطريق للحفاظ على القدرة التنافسية للمجتمع في عالم متحرك ومتطور بسرعة فائقة؛ وهو الطريق لتشخيص وتلبية حاجات المجتمع المستمرة والمتزايدة في كافة مجالات الحياة, عن طريق تطوير طرق الإنتاج والأداء وأدواته وخاماته ووسائله في مختلف مجالات الحياة في, في الزراعة والصناعة والخدمات وحسن استخدام الثروات الطبيعية وغيرها, بما يؤدي إلى تحقيق الكفاية أو يقترب منها ويضع السياسات الحكيمة للموائمة بين تلك الحاجات وبين الإنتاج والاستيراد, ويحقق معدلات مرتفعة من التشغيل للفئات الاجتماعية المختلفة حسب المؤهلات والكفاءات المهنية والعلمية المتاحة, مما يؤدي بدوره إلى نوع من الانسجام والتوائم الاجتماعي !!!.

والبحث العلمي ضرورة ملحة لنظام الحكم ومؤسساته ووزاراته وكل أجهزة المجتمع ومؤسساته ومنظماته, حيث لا يمكن التخطيط واستقراء المستقبل بدون بحث علمي, ولا يمكن أيضا بدونه القيام بعمليات التنفيذ والمتابعة والتطوير وحل المشكلات الطارئة؛ والبحث العلمي أيضا شرطا أساسيا على المستوى الفردي, حيث يحتاج الفرد من اجل حياة موفقة أن يفكر في كل خطواته وتحركاته من إقدام وإحجام, وان يجمع لها البيانات اللازمة ويحسب الخسارة والربح المترتب على ذلك وتأثيره المستقبلي؛ كما أن البحث العلمي بمعناه الواسع يمتد ليشمل جمع المعلومات وتوظيفها في جميع أنشطة الحياة العلمية والعملية, ويمتد ليشمل الأفراد والجماعات والمجتمع, فإذا ما ارتبطت بخطوات محكمة منظمة ومتسلسلة لجمع المعلومات وتحليلها والتأكد من صحتها بغرض الإجابة على سؤال معين أو تفسير علاقة ما أو حل مشكلة ما, كان ذلك يعرف بالبحث العلمي, أنه سلوك المجتمعات المتمدنة والمتحضرة ووسيلتها لحل مشاكلها والتغلب على أزماتها. وعدا ذلك يصبح كل شيء عشوائي, مما يزيد من فرص الفشل والإحباط والتخبط في إيجاد حلول للازمات. أن غياب البحث العلمي في بلادنا هو مصدر أساسي في التخلف والفوضى التي تضرب كل مرافق الحياة, مما يسبب في ضياع الوقت وإهدار المال وشيوع الفساد بمختلف مظاهره, ويشكل فرصا مواتية لشيوع الخرافة بكل ألوانها, السياسة والدينية وانتشار الجهل والغباء في تفسير ما يجري على ارض الواقع وفقا للمنطق المعكوس في وضع العربة أمام الحصان !!!!!. 

وفي ضوء تلك الاعتبارات لا نستغرب من الصراع الذي يجري اليوم في العالم من اجل حيازة المعرفة العلمية لتحسين ظروف العيش والارتقاء بها ومن اجل صناعة الحياة وتحقيق التطور والنهوض, بل أن الكثير من دول العالم وفي مقدمتها أمريكا تسعى بطموحاتها المشروعة وغير المشروعة عبر الاستحواذ على المعرفة لقيادة العالم, لأن ذلك يشكل المدخل لامتلاك كل شيء, من تكنولوجيا و سلاح متطور إلى إنتاج نوعي في مختلف المجالات الحياتية, وهذا الجهد بطبيعته جهدا منظما لا يمكن أن يجري في الفراغ, حيث ينبغي توفير الحرية والدعم والأموال وبناء المنشآت والمعامل والأدوات, وتأهيل الكوادر البشرية, وخلق الحوافز المادية والمعنوية, التي تجعل من الإنتاج الفكري عملا يستحق المعاناة والجهد المتواصل. بل أن الكثير من الدول المتطورة تعلن عن طموحاتها في تصدر عالم المعلومة الرصينة, ولا نستغرب من المؤسسة الوطنية للعلوم في أمريكا تحدد لنفسها الأهداف الثلاثة الآتية:

ـ النهوض بالاكتشافات والنشر المتكامل وتوظيف المعلومات الجديدة في خدمة المجتمع.

ـ تحقيق التمايز في العلوم والرياضيات والهندسة وتدريس التكنولوجيا في جميع المستويات التعليمية.

ـ تمكين الولايات المتحدة من التمسك بقيادة العالم في جميع مجالات العلوم والرياضيات والهندسة.

بعض المعطيات الإحصائية من منظور عالمي مقارن:

أن الارتقاء والنهوض بالبحث العلمي يتطلب الإنفاق والمخصصات المالية اللازمة كشرط ضروري لتوفير مستلزمات البحث العلمي وبنيته التحتية وحوافز العمل فيه, ولعل المقارنة الآتية في الإنفاق بين الدول العربية والعالم الآخر يبين لنا حجم الكارثة المحدقة بالبحث العلمي في بلادنا وآفاق تطوره في المستقبل. فالكيان الإسرائيلي الذي ندعي مقارعته يبلغ ما يخصص على البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي ما يعادل ( 30,6% ) من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي بكامله, علما أن المؤسسات التجارية والصناعية تنفق ضعفي ما تنفقه الحكومة على التعليم العالي, أما مخصصات الدول العربية مجتمعة للبحث العلمي ما قيمته ( 1,7 ) مليار دولار وهو ما قيمته ( 0,3% ) من الناتج القومي الإجمالي وذلك عام 2004, أما ما خصصته إسرائيل فقد بلغ ( 9,8 ) مليار شيكل, وهو ما يعادل قيمة ( 4,7% ) من الناتج القومي الإجمالي, أما ما تنفقه الدول العربية على البحث العلمي بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأمريكية فهو ما يعادل ( 1:170 ), ويبلغ إنفاق أمريكا على البحث ما مقداره 2,6% من الناتج الإجمالي, وهناك دول متقدمة لا تقل شأنا في إنفاقها على البحث العلمي, ففي السويد مثلا يبلغ الإنفاق 4% وفي اليابان 3,18 % وفي الصين 1,97% وفي جنوب أفريقيا 0,69%, هذه المقارنات تعكس بعض من أوجه الهوة والإهمال وتدني مكانة البحث العلمي لدينا, بل أن أبعاد تلك المشكلة تأخذ طابعا أكثر خطورة من حيث العناية والاهتمام وإعطاء الألوية للبحث العلمي إذا عرفنا أن ما هو مخصص للبحث العلمي في معظم دول الخليج العربي مثلا يندرج تحت فصل الاعتماد المخصص للمعدات والأجهزة المخصصة أساسا للتدريسيين في عملهم التدريسي, والعراق هو الآخر ليست له ميزانية خاصة للبحث العلمي, أي بمعنى آخر ليست هناك ثمة فصل أو بند يصنف التخصيص لأغراض البحث العلمي, مما يعكس عدم إدراك حقيقة المشكلة العلمية في بلداننا العربية !!!.

كما أن اغلب الأموال المخصصة للبحث العلمي وبما يصل إلى نسبة 80% يذهب إلى المرتبات والحوافز مما يبقي مقدار ضئيل لا يستحق الذكر في أهميته لأغراض البحث العلمي فعلا, وفي الجانب الآخر فأن 90% من إجمالي الإنفاق في البلاد العربية يأتي من مصادر حكومية, بينما في الولايات المتحدة وأوربا لا تتجاوز تلك النسبة من 20 ـ 30%, وتتولى الشركات الصناعية بقية التمويل, بينما تلك الشركات في الدول العربية لا تتجاوز مساهمتها 3%, ويعكس ذلك بالتأكيد عدم الإحساس والتقدير بالحاجة للبحوث العلمية من قبل قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة وخاصة من قبل القطاع الخاص, إلى جانب عدم قدرة الأبحاث وكفاءتها في خدمة هذه القطاعات, مما يحمل الدولة أعباء ذلك وخاصة في الدول غير النفطية وهو ليست بالضرورة كذلك !!!.

ويؤكد تقرير اليونسكو ( المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ) للعام 2010 أنه على الرغم من الثروة التي تتمتع بها الدول العربية, فأن هذه البلدان تفتقر إلى قاعدة متينة في مجال العلوم والتكنولوجيا, كما أن كفاءة نظمها وأدائها الخاصة بالتعليم العالي لا يزال ضعيفا فيما يتعلق بشكل خاص في توليد المعرفة, علما أ، التراجع المؤقت الذي شهدته أسعار النفط عام 2008 كان بمثابة إنذار للدول العربية, تاركا انطباعه القوي عما سيكون عليه المستقبل من دون عائدات نفطية, وشجع التقرير هذه الدول على الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا. ويضيف التقرير انه على الرغم من وجود الجامعات المرموقة في المنطقة العربية فأن الدول العربية تعد ما لا يزيد على 136 لكل مليون نسمة, علما أن العدد المتوسط على المستوى العالمي يبلغ 1081 باحثا. علما أن اليونسكو في دراسة سابقة عام 2006 أكدت أن في إسرائيل يبلغ عدد الباحثين لكل مليون من السكان هو 1395 وفي الاتحاد الأوربي بلغت 2439 وفي أمريكا بلغت 4374 باحثا. كما أن حجم مساهمات العالم العربي في البحث العالمي هو الآخر ضعيفا جدا, حيث قدرت نسبة المنشورات العلمية العربية إلى المنشورات العلمية العالمية على الرغم من جهود العلماء والباحثين العرب ما مقداره 1,1% ( حسب تقرير المعرفة العربي لعام 2009 ). كما أن المساهمة العالمية في البحوث المنشورة في المجلات العلمية في البلدان العربية تتراوح بين ( 0,008 إلى 0,3% ) مقارنة مع إسرائيل 1,1% وألمانيا 7,9% واليابان 8,2%  والولايات المتحدة الأمريكية 30,8%.

 وتستنزف الهجرة والتهجير ألقسري مساهمة العلماء العرب في الناتج القومي لبلدانهم حيث يعيش الكثير منهم في نصف الكرة الأرضية الغربي, وتشير الأرقام إلى أن مصر قدمت 60% من العلماء العرب والمهندسين إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كما تشير تقارير جامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة ( عبر تقارير التنمية البشرية العربية) أن هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنين المهرة مهاجرون ويعملون في الدول المتقدمة, حيث تضم أمريكا وأوربا 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقارير مؤسسة العمل العربية. وأظهر تقرير حديث للجامعة العربية أن الدول العربية تنفق دولارا واحدا على الفرد في مجال البحث العلمي, بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن, والدول الأوربية 600 دولار. ويؤكد تقرير أمريكي أن الأطباء القادمون من الدول النامية خلال النصف الأول من السبعينيات إلى الولايات المتحدة يمثلون 50% والمهندسين 36%, وأن ثلاث من دول الشمال هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تستأثر بنسبة 75% من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة. وأوضح التقرير أنه خلال عام 2006 لم ينتج في الدول العربية إلا 0,1% من العدد الإجمالي لبراءات الاختراع والعلامات التجارية وفي المكتبين الأوربي والياباني لبراءات الاختراع ( حسب تقرير اليونسكو 2010 ) !!!!.

ولعل حقيقة وخطورة هجرة العقول العربية وانعكاساتها على الأوضاع العلمية وعلى البحث العلمي بشكل خاص هو ما ورد من معطيات إحصائية أصدرتها الجامعة العربية في عام 2009 في تقريرها بعنوان ( هجرة الكفاءات.. نزيف أم فرص ), وفيه من الحقائق المؤلمة التي تعكس حجم الإهدار للعقول العربية, حيث يؤكد التقرير ما يأتي:

ـ ارتفعت نسبة المهاجرين من حاملي الدرجات العلمية إلى 50% من مجموع المهاجرين في الفترة من 19950 ـ 2000, وارتفع عددهم خلال الفترة نفسها من 9,4 مليونا إلى 19,7 مليون.

ـ في نفس الفترة زاد معدل المهاجرين بين ثلاثة إلى تسعة أضعاف في دول مثل اليمن وجيبوتي والسودان وموريتانيا.

ـ  تستقبل فرنسا 40% من العقول العربية المهاجرة, والولايات المتحدة 23% وكندا 10%.

ـ نسبة الأطباء العرب في دول الاتحاد الأوربي بلغت 18,2%.

ـ كما أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون الى البلد الأم.

ـ تساهم البلدان العربية بنسبة 31% من مجموع هجرة الكفاءات من الدول النامية.

ـ أما الخسارة المالية الواقعة على الدول العربية الناتجة من هجرة الكفاءات فتبلغ بحدود 200 مليار دولار.

أسباب تخلف البحث العلمي:

أن أسباب تخلف البحث العلمي وتدهوره هو جزء من تخلف الحياة العامة الذي يعكسها تخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والذي ينعكس بدوره على تخلف المنظومة التربوية والتعليمية والتي يرتبط بها العلم والبحث العلمي والقناعة به كمنهج للحياة وحل المشكلات. وتتضح ابرز أسباب ملامح ضعف البحث العلمي وكفاءته فيما يأتي:

ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده صالح لكل الأزمان والأمكنة, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا إلى قمة النظم السياسية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي إلى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

ـ ويرتبط بالعوامل المذكورة أعلاه غياب ثقافة أهمية البحث العلمي والاكتشافات العلمية والرغبة في الإبداع والاختراع في الوعي والتفاعل الاجتماعيين, وبالتالي يغيب التفكير والتشجيع والدعم عن المسار البحثي والعلمي وعن العلماء والباحثين والمكتشفين في المجتمع, وترتبط جذور ذلك أصلا في غياب القيمة البحثية في مناهج التعليم بمراحله المختلفة والقائمة أصلا على الحفظ والتلقين والاستذكار التقليدي, وهذا النظام التعليمي التلقيني لا يحتاج إلى كفاءات عالية ولا إلى مستلزمات تقيم متطور لقياس مهارات الطلاب في الفهم والتفكير وحل المشكلات, إلى جانب كونه نظام يدفع إلى الكسل والاتكالية والخمول العقلي, ولا يستثير في الطالب فكرا أو تساؤلا بل يقتل فيه ملكة التفكير, وتنتفي في هكذا نظم تعليمية القدرة على صناعة الباحثين في الخطط التعليمية عبر التراكم المعرفي في مراحل التعليم المختلفة.

ـ ضئالة الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي وللباحثين في الجامعات وفي الدول العربية بصورة عامة بسبب من غياب إستراتيجية واضحة في هذا المجال وتخلف النظرة إلى الإنفاق باعتباره إهدارا واستهلاكا للأموال غير مجدي, وليست استثمارا طويل الأمد يأتي أضعاف ما ينفق عليه, وقد أوردنا في بداية البحث ما يعكس الضعف في هذا المجال قياسا بالمعايير الدولية.


ـ الفساد الإداري والمالي وضعف معايير الكفاءة والأهلية المهنية والعلمية في انتفاء الكادر القيادي لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي, واللجوء إلى معايير الحزبية والمذهبية والطائفية والموالاة في انتقاء الكوادر الإدارية, وغالبا ما تكون هذه القيادات بعيدة كل البعد عن مفهوم الاستقلالية والنزاهة, بل هي أطراف أساسية في صراعات مصلحيه ضيقة مع غيرها, بل هي أطراف في الفساد بمختلف مظاهره, مما يحرم هذه المؤسسات من الاستقرار والنزاهة والحيادية التي هي شروط لازمة للارتقاء بالعلم والبحث العلمي. ويرتبط بذلك ويرافقه سياسات أبعاد الكوادر العلمية عن مواقعها العلمية والبحثية من خلال التهجير ألقسري والإحالة على التقاعد وانتهاء بالتصفيات الجسدية ومسلسل الاغتيالات للكوادر في مختلف التخصصات العلمية.

ـ الآثار الضارة للمركزية الإدارية الشديدة في وغياب إستراتيجية إدارية ـ علمية معاصرة, حيث ساهمت الإدارة المتخلفة وعلى مر عقود في غياب تصور علمي دقيق وشامل للعمل البحثي, انتفت فيه عمليات التناسق والتناغم والتخطيط لمكونات العملية البحثية ومقوماتها الأساسية ( الباحثين, التمويل, التطورات العلمية والتقنية, الأولويات البحثية بما يخدم احتياجات المجتمع وتطوره, المعامل والأجهزة والمعدات العلمية وغيرها ), وبين المراكز البحثية المختلفة, وبين البحث واحتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمختلف البحوث. 

ـ أن غياب إستراتيجية شاملة للبحث العلمي في كل بلد عربي تتضح آثاره جليا في ما يسمى بالفوضى البحثية, والتي تتضح أبرز معالمها في العمل البحثي الفردي لأغراض فردية وذاتية بحتة, سواء لأغراض الترقية العلمية فقط أو للحصول على المال في أمكنة النشر, وعدم وجود فرق بحثية تتكامل بين أفرادها, وهو سمة مهمة من سمات تطور وارتقاء البحوث في عالمنا المعاصر, وعدم التنسيق بين المراكز البحثية المنتشرة في البلد الواحد, وانفصال البحوث عن المشكلات الاجتماعية واحتياجات المجتمع, مما أدى بدوره إلى تكرار واجترار البحوث السابقة, فهي لا تخدم في معظمها قطاعات صناعية أو زراعية ولا تواكب حاجات المجتمع في ميادينه الناشئة الحديثة كتقنية المعلومات والتكنولوجيا المتطورة, وكان ذلك سببا في إنتاج كم هائل من المجلات والدوريات ذات الموضوعات المتكررة في البلد الواحد بل وفي القسم و الكلية والجامعة الواحدة في البلد المعني, واغلب هذه الدوريات غير معروف عالميا ولا يضيف قيمة علمية للبحوث العالمية !!!.

ـ عدم وضوح فكرة أن الجامعات هي جزء من آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يجب أن تكون بحوثها على تماس مع مشكلات المجتمع بمختلف قطاعاته, وبسبب غياب الرؤى في هذا المجال نرى أن اغلب بحوث الماجستير والدكتوراه تستهدف تهيئة وتدريب الكادر على طرائق ومنهجية البحث العلمي, وهي بهذا بعيدة كل البعد عن المساهمة في البحث عن الحلول للمشكلات الاجتماعية المختلفة, وبسبب من ذلك تأتي اغلب الأبحاث سواء الأساسية منها أو التطبيقية تكرارا لسابقتها, إن لم يكن تكرارا مملا فهو تكرارا بحلية شكلية ترضي المشرف عليها, وقد تبدو لصاحبها أصيلة وهي  بعيدة كل البعد عن الأصالة.

ـ لا يشكل البحث العلمي إلا قدرا هامشيا أو ضئيلا من عمل الأستاذ الجامعي فهو مغرق بالساعات التدريسية مما يشغل جل وقته في التهيئة للمحاضرات النظرية أو أعمال المختبر التقليدية, كما أن الكثير منهم تضعف علاقاته بالبحث العلمي بعد حصولهم على الدكتوراه أو بعد نيل درجة الأستاذية أو الأستاذ مساعد أو أستاذ مشارك, وينصب اهتمامهم في الإشراف على الأبحاث فقط أو أعمال روتينية إدارية كإدارة قسم أو كلية أو جامعة, رغم أن دور الأستاذ يجب أن يكون مستمرا في إنتاج أفضل البحوث المفيدة سواء للمجتمع أم للعملية التعليمية في أروقة الجامعات.

ـ ضعف البنية التحتية للأبحاث النظرية والتطبيقية من مختبرات وأجهزة ومكتبات علمية, فالمختبرات وأجهزتها وصيانتها ونقص المواد الأساسية لها بمختلف التخصصات ونقص الكادر الفني ذات الصلة بذلك هو سمة بارزة لأغلب ما تعانيه الجامعات العربية وتشكو منه, إلى جانب ضعف قاعدة المعلومات الحديثة, سواء من مطبوعات ودوريات علمية عالمية أو غياب المكتبات الرقمية أو الالكترونية وقواعد البيانات البحثية وغبرها من أدوات التعليم الالكتروني للتواصل مع العالم البحثي.

ولا نستغرب من كل هذا ولتلك الأسباب حصرا عدم تبوء الجامعات العربية لمكانتها العلمية بين الجامعات العالمية رغم الجهود المبذولة من قبل مختلف الجامعات العربية, فالطموح لتبوء مكانة لائقة في وسط الجامعات العالمية شيء ويبقى طموح مجرد, وفهم أسباب التخلف العلمي والقدرة على تجاوزه شيء آخر !!!!.

مستلزمات النهوض في البحث العلمي:


أن الحديث عن إصلاح أوضاع البحث العلمي والنهوض به يبقى حديثا لأغراض المتعة المعرفية والعقلية, ما لم يكون متزامنا وقائما على خلفية التحديث السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي والفكري للمنظومة الرسمية السائدة, فلا يعقل أي باحث من أن إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية وإصلاح الجامعات وما يرتبط بها من وظائف, كالتدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع المحلي, أو اصلاح المراكز البحثية المنتشرة خارج الجامعات, أن يتم هذا كله في وسط إدارة عامة بيروقراطية متخلفة فاسدة شديدة المركزية, وفي ظل نظام سياسي لا يؤمن بالحريات الديمقراطية وحرية البحث والتنقيب عن الحقيقة, أو في ظل مجتمع تسوده الأمية والفقر والجهل والتطرف, وبالتالي فأن النضال والجهود لإصلاح أوضاع العلم والبحث العلمي هي جهود مكثفة ومتزامنة مع جهود أخرى على أكثر من صعيد, وأن أفضل المقترحات في الإصلاح, وخاصة تلك التي تستجيب وتنسجم مع معايير الجودة العالمية في الإصلاح لا ترى النور وتبقى حبر على ورق أو أمنيات مستحيلة التحقيق في أذهان مصمميها ما لم تجري في إطار عملية اصلاح شامل للمنظومة الاجتماعية, ولعل ابرز المقترحات للنهوض بعملية البحث العلمي هي:

ـ ضرورة العمل على ربط الأبحاث العلمية بمشاكل المجتمع وقطاعاته المختلفة, الصناعية والزراعية والخدمية, الخاصة منها والحكومية, من خلال المسوح الشاملة لهذه المشكلات وضرورات الحاجة الملحة لحلها بما يخدم برامج التطوير والتنمية الشاملة, ويلعب التنسيق هنا بين مراكز الأبحاث في الجامعة وخارجها دورا مهما في هذا المجال للتركيز على الأبحاث النوعية ومنع تكرار البحوث ذات المشكلات المتشابهة, مما يجب الإهدار في الإنفاق والجهد ومضيعة الوقت.

ـ العمل الجدي على توعية قيادات القطاع الخاص بأهمية البحث العلمي وضرورته لحلول المشكلات المختلفة, مما يسهم برفع الكفاءة الإنتاجية لهذه القطاعات, ويؤدي أيضا بدوره إلى زيادة مساهمة هذا القطاع في تمويل عمليات البحث العلمي, وليست فقط الاعتماد على الحكومة كمصدر وحيد للتمويل, أسوة بما يحصل في بلاد العالم المتقدم.

ـ استحداث ميزانية خاصة للبحث العلمي سواء في إطار وزارات أو إدارات التعليم العالي والبحث العلمي أم خارجه, وتقرير نسب معقولة من الإنفاق المالي قياسا إلى الناتج الإجمالي, والى الموازنة العامة المخصصة لقضايا التربية والتعليم العالي, وهو ما معمول به في البلاد المتطورة.

ـ التطوير المستمر لبرامج تفرغ أعضاء هيئة التدريس وتخصيص ساعات معينة لإنتاج البحوث العلمية كجزء من النصاب التدريسي للأستاذ.

ـ التشديد والصرامة في نظام الترقيات العلمية للكادر التدريسي, من مدرس مساعد إلى مدرس ثم أستاذ مساعد إلى أستاذ واعتماد الإنتاج العلمي ودورهم البحثي وقدراتهم التدريسية الفعلية من ضمن المؤشرات الرئيسية لذلك, بعيدا عن العلاقات الشخصية والمحاباة والشللية, مما يسهم في إنتاج كادر يحترم نفسه ومهنته.

ـ إقامة شبكات وطنية للمعلومات تربط بين الجامعات ومعاهد البحوث وبعض المؤسسات المعنية الأخرى وأهمها التجارية والصناعية والإفادة من تجارب الجامعات الرصينة في العالم في مجال إنشاء الشبكات الفعلية والافتراضية للبحث والتطوير وشبكات بين الباحثين واستحداث برامج للدراسات العليا موجهة نحو الأبحاث التطبيقية الهادفة إلى خدمة أغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية.

ـ ضرورة تطوير النشر الالكتروني ونشره على نطاق واسع وتشجيعه لمزاياه المختلفة من سهولة ورخص وتوفره في كل مكان, وشيوعه على نطاق جغرافي واسع يتجاوز محدودية النشر الورقي, ثم ضرورة إنشاء موقع الكتروني لكل مركز بحثي, أو قسم من أقسام الكليات في الجامعات المختلفة, وتطويره وتحديثه بأخر المعلومات المتاحة.

ـ تشجيع إنشاء جمعيات علمية وطنية وفق المقاييس العالمية لترويج البحث العلمي والتعاون مع الجمعيات العلمية والأجنبية, ويرتبط بذلك ويعززه حث الأستاذ على الانتماء لعضوية الجمعيات العلمية ومراكز البحوث الأجنبية ونشر البحوث لدى دورياتها العلمية وتحفيز الأساتذة على المنافسة في البحث العلمي ونشر البحوث المميزة.

ـ الحاجة الملحة لتطوير البنية التحتية للبحث العلمي, وخاصة البحوث التطبيقية لتوفير أجهزتها الضرورية وطاقمها الفني اللازم للصيانة والدعم لإجراء الأبحاث, فالجهاز العتيق البالي يأتي بنتائج مشكوك فيها, وعدم توفر المواد الأساسية للأبحاث هو الآخر يعرقل انجاز المهمة البحثية.

ـ خضوع الأستاذ للتدريب المستمر عن طريق دورات تدريب القيادات والتعاون بين الجامعات وتحتسب شهادة الكفاءة لإغراض الترقية العلمية وتطوير أساليب البحث العلمي. ويساعد التدريب على الرقابة العلمية على الأستاذ وخاصة إدخاله المعرفة الجديدة في أبحاثه ويعينه على التقويم الذاتي لانجازاته.

ـ العمل الجدي والمسئول لتخطيط البعثات العلمية إلى الخارج, وتحويلها من امتياز شخصي إلى الدارس للنقاهة والاستجمام بسبب من انتمائه المذهبي والسياسي والقبلي, إلى رحلة علمية حقا للبحث والاستكشاف, وهنا يجب اختيار المشكلات التي يحتاج المجتمع فعلا حلولا لها, وليست البعثة لإغراض دراسة التاريخ الإسلامي والعربي في جامعات الدول الأوربية والعالمية( فشر البلية ما يضحك), أنه مضيعة للوقت والجهد والمال, ولكي يعود الدارس بمزيد من المدخرات في العملة الصعبة !!!!.

تلك هي إشارات بسيطة لواقع البحث العلمي وسبل تطويره , وتبقى الحلول الجذرية ومدايات الأخذ بها والقناعة بتحويلها إلى خطوات إجرائية رهين بمدى انهيار المنظومة السياسية التقليدية القائمة على الخرافة والقمع والاجتهاد المؤذي, فأما العلم أو الجهالة إلى حين !!!!!.

أكاديمي وباحث في شؤون نظم التعليم المقارنة *

 
 

   



239
عندما يختلط الحق بالباطل في إزاحة رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي !!!!

" وإن كنت لا تدري فتلك مصيبة   وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم "
                                                               الإمام أبن القيم




د.عامر صالح

كل ما يجري في العراق من ممارسات سياسية يثير الاستغراب والألم والحيرة بل والسخرية بنفس الوقت, انطلاقا من أن ما يجري ليست خلافا طبيعيا يحدث تحت مظلة البيت الديمقراطي العراقي وتقاليده الوليدة الناشئة والتي تقتضي البحث في الخلافات والنقد البناء للعثور على بدائل ممكنة لإدارة البلاد والخروج بها من مأزق المراوحة في المكان الذي طال أمده لسنوات وليست لأشهر أو أيام, فعلى الأقل هناك دستور مصوت عليه " رغم مثالبه العديدة " للاحتكام إليه في حل المشكلات المفصلية التي تعتري العملية السياسية, والتي ولدت ولادة قيصرية على خلفية الاحتلال الأمريكي وما سببه من نتائج وإفرازات ذات تأثيرات بعيدة المدى, نحصد الآن جزء من إفرازاتها السلبية !!!!.

كل العراقيين بدون استثناء يعرفون حق المعرفة أن العملية السياسية في العراق ومكوناتها الحزبية وقواها المحركة في الأعم الأغلب غير قادرة الآن على إخراج البلاد بسهولة من الأزمة, فالأحزاب الطائفية ـ السياسية سبب في الأزمة, والقوى الاثنية والقومية هي الأخرى سبب في استعصاء الأزمة, والأحزاب ذات الأصول العبثية ـ البعثية هي الأخرى تنحر الوطن على خلفية خطابها المعسول باسم الديمقراطية والذي يحمل في طياته مزيدا من خلط الأوراق على أمل العودة بالأمور إلى نقطة الصفر, أي إلى العام 2003, بل والى ما قبل ذلك التأريخ لأحياء ارث الدكتاتورية المندثر بكل أوجاعه ومعاناته التي لا يمكن أن تنسى تحت تأثير الذاكرة القصيرة التي تكرسها صعوبات العيش الحاضر !!!.

لعلي لن أجافي الحقيقة عندما أقول أن هناك مزاجا عاما لدى اغلب الكتل السياسية ذات الصبغة الطائفية والقومية وذات الأصول الهجينة من البعث وغيره لحصر البلاد في ذات المستنقع الآسن الذي يمتد برائحته العفنة إلى مرحلة النظام السابق, ولحصر العراق دوما في ذات الدائرة المغلقة أو في ذات النفق المظلم الذي لم يرى النور أبدا, انطلاقا من الأهداف المصلحية الضيقة والأنانية البخسة ذات النفع الآني , والتي يرتئيها كل طرف من هذه الأطراف, والتي لا تعنيها مصلحة الوطن موحدا بنسيجه الاجتماعي وتركيبته السوسيو أثنية, فالجميع معبئ بطموحات غير مشروعة في التأسيس لحالة ذهنية انكفائية وانفصالية بعيدا عن مصلحة العراق وطموحات شعبه في عراق فدرالي حق يؤمن كل مستلزمات النهوض الاجتماعي لمختلف الشرائح الاجتماعية والاثنية والقومية !!!!.

ومن دواعي السرور دوما أن العراقيين يعرفون تماما أسباب المحنة وجذورها وتفصيلاتها, ولكن وبسبب من عوامل الإحباط المزمن وما يرافق ذلك من انفعالات سريعة تجعلهم بعيدين عن التماس الحلول الممكنة في الحالات الملموسة والمستعصية, وخاصة عندما يتم التركيز على الحلول الآنية السريعة للخلاص من الحالة الراهنة وبأي ثمن دون معرفة للعواقب المترتبة على ذلك أو دون استيعاب للإمكانيات الحقيقية المتاحة للتغير !!!.

عندما يسمع المرء من قوى عراقية مختلفة ومن شخصيات مهتمة بالشأن السياسي العراقي الدعاوى التصعيدية لإقالة رئيس الوزراء السيد نوري المالكي وبأي ثمن كان لإزاحته عن المشهد السياسي والحكومي, فهل تعي هذه القوى حقيقة البدائل القادمة " على الأقل في الوقت القريب القادم ", أم هي دعاوى بحسن نية النظام الديمقراطي واليته الممكنة لذلك, دون حسبان لما تسببه هذه الخيارات على المستوى القريب من ديمومة للفوضى وعدم الاستقرار, وفسح مزيدا من المناطق الرخوة للإرهاب والعنف وإعادة انتعاش دوراته القديمة, وخاصة في ظل هكذا توليفة سياسية لا يراهن المواطن العراقي على كفاءة صلاحيتها السياسية والاجتماعية في بناء عراق ديمقراطي آمن, بما فيها التوليفة الحاكمة !!!!.

عندما اسمع مؤخرا من خطاب السيد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية كلمات تحريضية مثل: " أما العراق أو المالكي " نتساءل هل تكمن في ذلك ثقافة الديمقراطية في التخلص من مسئول حكومي, أم هي آلية لخلط الأوراق وبأي ثمن, حتى لو كان العراق كله ثمنا لذلك. أنا من الناس الذين يتمنى أن يكون السيد الهاشمي بريئا عن تهمة الإرهاب, لكي يعطي ببراءته مزيدا من الدروس للتأسيس لقضاء عادل ونزيه بعيدا كل البعد عن نفس الطائفية والعدائية البغضاء, وخاصة عندما يتعلق الأمر ليست بشخص عادي, بل بنائب رئيس الجمهورية, وهل صحيح أن العراق كله لا يستطيع تأمين قضاء عادل يقف أمامه نائب الرئيس, وهل سيناريو هروبه بهذا الشكل كان دليل على تهمته أم براءته... الأسئلة كثيرة ولكن الحكمة القضائية تقول أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته !!!!.

أقرأ أيضا من خطابات قوى وطنية أخرى وهي تحمل في جعبتها مقترحات شتى للخروج من الأزمة, وان كان البعض منها صعب المنال الآن إن لم تكن مستحيلة, ولكنها مشروعة, ومن ضمن ما يستهويني حقا هو التأكيد على ضرورة تقديم كافة ملفات المتهمين بالإرهاب دون إغفال لأحد مهما كان انتمائه السياسي والطائفي وبدون استثناءات , ولكن هذه الدعاوى والمقترحات عندما تقترن بزمن معين وبأحداث خطيرة تتحول ضمنا إلى دعوى لخلط الأوراق والتهم وترتيبها حسب سلم الأولويات, وأي الملفات يستحق الألوية على غيره الآن, رغم ضرورة وإلحاحية العمل بذلك !!!!.

أنا من الناس الذين يدعون إلى حل كافة الأحزاب القائمة على أسس طائفية سياسية, وتأسيس أحزاب وطنية قائمة على أساس برامج اقتصادية واجتماعية ذات صلة بمستقبل الوطن والمواطن, وبعيدة عن خلط أوراق الدين بالسياسة, لكي يؤسس البلد مخرجا له من المحنة, ولكي توفر للمواطن الفرص الحقيقية لاختيار ما هو مفيد لعلميات التطور الاقتصادي والاجتماعي, ويبقى الانتماء الديني وما يتبعه من انتماءات طائفية ومذهبية له مكانته المحفوظة في ذاكرة الناس بأجمل صورها. وقد أكدت التجارب السابقة أن أفضل المحاولات للتخلص من الطائفية السياسية لم يكتب لها النجاح كما هو الحال ما حصل لتحالفات دولة القانون وغيرها من التحالفات الأخرى !!!!.

وفي ظل هذه الأوضاع الشاذة والصعبة والحرجة التي تمر بها البلاد فهل الدعاوي والحملات المكرسة لإقالة المالكي تستحق كل هذه التعبئة أم إنها كلمة حق أريد بها باطل, أم إنها دعاوى من حيث لا يدرك أو يدرك أصحابها لعودة الفوضى والاستئثار بالسلطة مجددا ولكي يحصل كل حزب أو أي جهة سياسية أو أثنية وقومية ما تريد من مصالح محدودة مؤقتة وعلى خلفية ضعف العراق المتواصل... وبكل الأحوال فأن للديمقراطية أنياب لا ترحم كل من المالكي وأنصاره ولا  دعاة أقالته عندما يخرجون عن المصلحة الوطنية العليا !!!!.

   
         


240
ديناميات العلاقة بين الجنس والعدوان في الفكر السيكولوجي

د.عامر صالح

يعتبر الجنس والعدوان من أكثر المشاعر والدوافع المحاطة بهالة من الممنوعات الاجتماعية ـ الثقافية والقانونية, لأنها تعتبر من الدوافع القوية التي تقف وراء السلوك الإنساني وتفسير الكثير من مبرراته الخفية والمعلنة. ويندفع هذين العاملين بقوة حال اختفاء عوامل الضغط القانوني والاجتماعي والأخلاقي لهما, كما هي الحال في الحروب والأزمات العامة حيث يشيع الاغتصاب والاعتداء وانتهاك المحرم بوسائل عنفيه, أو في الأجواء الافتراضية كما هو الحال في شبكة ألنت العنكبوتية وفضائها الواسع البعيد كل البعد عن الرقابة العيانية المباشرة, حيث الافتقاد إلى عوامل السيطرة والرقابة القيمية والاجتماعية والثقافية الميدانية, مقارنة بما هو موجود لنظيرها في العالم الواقعي, حيث ينتشر في العالم الافتراضي الالكتروني مختلف مظاهر العدوان والجنس, من اختراقات الكترونية وفيرسة وتدمير وسطو وإغوائات وإستعرائات صورية ولفظية وانتشار الشائعات والكذب والتحايل وتبادل مختلف الرسائل ذات المحتوى السيئ, من عنصرية وسياسية وتطرف ديني وسياسي, بل وحتى دعاوى للقتل والتدمير الجماعي بواجهات مختلفة !!!!!.

ومن المثير للجدل أن طبيعة كل من العدوان والجنس المختلفتين لا تستدعي بينهما هذا الترابط من الناحية المنطقية, فالجنس بطبيعة أدائه هو أحد وسائل الاسترخاء  الكافية والتخفيف من التوتر الجنسي إلى جانب كونه وسيلة للتكاثر والإنجاب, كما انه من وسائل اللهو والمتعة الجسدية مع الشريك, بالإضافة إلى كونه وسيلة استكشافية ومعرفية لإشباع الفضول الجنسي عبر تهذيب وتطوير المعارف لدى الشريكين, وهو أيضا وسيلة لتأكيد الذات جنسيا عبر إبراز المقدرة في استمالة الشريك, إلى جانب الكثير من الفوائد التي تفصح عنها الأدبيات السايكو ـ طبية, كالإسهام بشكل فعال في علاج حالات الأرق الليلي, والمساعدة في حرق الدهون وتعزيز جهاز المناعة,  والعمل على تهدئة القلق والتوتر والحد من حالات الإحباط, والإسهام الفعال في الحد من الاكتئاب من خلال الاستمتاع وبعث البهجة, كما يساعد انتظام الممارسة الجنسية على تألق البشرة ونضارتها بعكس ما كان شائعا بأنه يسبب تعجيز البشرة, كما تساهم الممارسة الجنسية في تحفيز المخ على إفراز الاندروفين المسكن للآلام, ثم أن الممارسة الجنسية المنتظمة تؤدي إلى تنظيم الدورة الشهرية, كما يساعد الجنس على الشفاء من أللآلام العضلية بسبب ما يؤدي إليه من استرخاء عضلي, ويؤدي إلى تنشيط الدورة الدموية وتقوية العضلات, كما يسهم الجنس بشكل فعال في تقوية الجهاز العضلي فهو يقي من هشاشة العظام في النساء بعد سن اليأس لأنه يساعد على إفراز هرمون الأستروجين والجنس يؤخر الشيخوخة الشكلية لدى النساء بعد سن الأربعين, وتساعد الممارسة الجنسية المقترنة بالإشباع والرضا الجنسي على تهدئة نوبات الصداع النصفي أو داء الشقيقة, كما أن الممارسة الجنسية المنظمة تسهم بشكل كبير إلى الحد من سرطان الثدي والرحم وغيره من الفوائد !!!!.

أما العدوان فطبيعته مغايرة من حيث الأهداف والوسائل المتبعة فيه, فهو سلوك أو فعل يتسم بالعنف يصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة بهدف استغلال وإخضاع طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة اقتصاديا وسياسيا وجسديا وماديا مما يتسبب في إحداث أضرار مادية أو معنوية أو نفسية لفرد واحد أو جماعة أو طبقة  اجتماعية أو دولة, ويتسع مفهوم العدوان والعنف ليشمل مظاهر ومجالات مختلفة يصعب حصرها, ولعل أبرزها كما تشير إليه الأدبيات المتخصصة في هذا المجال هو: العنف الأسري, العنف البدني أو الجسدي, العنف المدرسي, الاغتصاب بمظاهره وأشكاله وضحاياه, العنف الرمزي, العنف اللفظي أو الشفوي, العنف الديني, العنف التلقائي, العنف المادي, العنف الفوضوي, العنف الجماعي, العنف الفردي, العنف الرسمي, العنف المجرم الغير الرسمي, العنف غير القانوني, العنف المشروع, العنف المتبادل, العنف ألانحرافي, العنف السياسي, العنف الاقتصادي, العنف اللاعقلاني, العنف العقلاني, العنف الانفعالي, والعنف المنشأ " وهو نوع من العنف تلعب وسائل الاتصال دورا بارزا في إحداثه ". وقد تطرقنا إلى ذلك ونظرياته المفسرة بشيء من التفصيل في مقال سابق لنا, بعنوان: " العنف بين ماهيته السوسيولوجية وجذوره السيكولوجية والتربوية ", والمنشور على صفحات ألنت المختلفة !!!.

 ويرى الفكر الإنساني العالمي أن ممارسة العنف والعدوان للحصول على إشباع للغريزة الجنسية هو مظهرا من مظاهر العنف الجنسي بمعناه العام, والذي يتجاوز المفهوم الضيق الخاص في الممارسة الجنسية المقترنة بالعنف, إلى مفهوم أوسع من ذلك, رغم احتوائه له باعتباره أحد مظاهره, وهو مدان عالميا بعرف وتقاليد المنظمات الإنسانية الدولية, وخاصة الأمم المتحدة والمنظمات العالمية ذات الصلة والتي تسعى في محاولاتها لوضع حد له. ويحدث العنف الجنسي العام والقائم على نوع الجنس في جميع الطبقات, والثقافات, والديانات, والأعراق, وفي الجنسين وفي كل الأعمار. ويمكن الإشارة هنا إلى أكثر أشكال العنف الجنسي انتشارا في العالم وهي: العنف الجنسي ( الاغتصاب والاغتصاب الزوجي, الاعتداء الجنسي على الأطفال وانتهاك عفتهم وزنا المحارم بهم, الاستغلال الجنسي كالاتجار بالنساء والأطفال وإجبارهم على البغاء, والتحرش الجنسي, واستخدام العنف الجنسي كسلاح للحرب والتعذيب)؛ والعنف البدني ( الاعتداء البدني, الاتجار والاسترقاق )؛ والعنف العاطفي والنفسي ( الاعتداء والامتهان, والإكراه في تحيد مكان الإقامة؛ والممارسات التقليدية الضارة ( ختان الإناث, الزواج المبكر, الزواج بالإكراه, القتل والتشويه دفاعا عن  "الشرف ", وأد المولودة أو إهمالها, حرمان الفتيات والنساء من التعليم؛ والعنف الاجتماعي ـ الاقتصادي ( التميز في الفرص والخدمات أو الحرمان منها, الاستبعاد الاجتماعي كالنبذ القائم على التوجه الجنسي, والممارسات التشريعية التي تعوق أو تكرس ذلك.

ويعنينا في هذا المقام حصرا هو استخدام العنف والعدوان في الممارسة الجنسية للحصول على اللذة الجنسية وإشباع الغريزة الجنسية. في علم النفس يجري البحث عن دلالات وميكانزم هذه العلاقة بين الجنس والعدوان في حالتي الصحة والمرض. ففي الحالات الاضطرابية واستنادا إلى التصنيف الأمريكي الرابع المعدل في الدليل التشخيصي للاضطرابات العقلية ( دي أس أم 4 ـ تي أر ) , وفي حالة السادية الجنسية, كنموذج اضطرابي لاستخدام العنف في الفعل الجنسي, حيث يعني حدوث تكرار خيالات جنسية شديدة أو رغبات جنسية أو سلوك جنسي يتضمن معاناة نفسية أو جسدية لدى الطرف الآخر في العلاقة الجنسية, وهذه المعاناة تسبب إثارة جنسية لدى الشخص السادي مما يؤدي إلى استخدام القوة والعنف المفرط في الممارسة مع الشريك أو الضحية, يؤدي إلى إلحاق الأذى الجسدي, قد يصل إلى درجة القتل. وفي السلوك الجنسي السادي تختلط نزعتي الجنس والعدوان أثناء الفعل الجنسي, والعدوان هنا تعبيرا صارخا عن الذكورية المفرطة, يضاف إلى ذلك أن تفريغ شحنات الجنس والعدوان في نفس الوقت يعطي للشخص السادي ارتياحا لأنه يحقق هدفين في آن واحد. والشخصية السادية تستلذ برؤية عذاب الآخرين ومعاناتهم, وبعض منهم يصل إلى درجة الإرجاز( الذروة الجنسية ) أثناء تعذيب ضحاياهم حتى وان لم يكن هناك مشهدا جنسيا. وقد اتضح أن بعض هذه الحالات لديها اضطرابات مثل الشيزوفرينيا ( الفصام ) أو اضطراب الهوية الانشطاري أو لديهم تاريخ إصابات مسبقة في الدماغ.

أما في أطار السياقات الطبيعية في العلاقة بين الجنس والعدوان فهناك تداخل سايكولجي ـ فسيولوجي وتشريحي في هذه العلاقة, مما يدفعنا إلى وضع هذه العلاقة المتبادلة التأثير في إطارها الصحيح من خلال معطيات البحث العلمي. واستنادا إلى ذلك يمكن القول أن النشاط الجنسي والعدواني يستأثر بطاقة كبيرة من الجهاز العصبي والفسيولوجي إلى حد يفوق ما يتم استخدامه في الحالات العاطفية والسلوكية الأخرى, كما أن هناك تشابها كبيرا بين الاستجابات الفسيولوجية التي تحدث في العلاقة الجنسية وتلك التي تحدث في ممارسة سلوك العنف, وقد يفسر ذلك على أن النشاطين يستخدمان جهازا فسيولوجيا وتشريحيا واحد. ويمكن تفسيره أيضا من أن العلاقة الجنسية في حياة الإنسان والحيوان قد ارتبطت أصلا بالطاقة العدوانية والتي لها أن توفر هذه العلاقة أولا. والمهم في ذلك هو أن ما يدل على الرابطة الوثيقة بين الجنس والعدوان هو أن المراكز الدماغية والمسيطرة على الدافعين هي مراكز متجاورة في الدماغ ومتداخلة بعض الشيء والواحد منها على صلة وثيقة بالآخر وكل ذلك يؤكد الصلة بين السلوك الجنسي والسلوك العدواني. ويكفي الإشارة هنا إلى بعض من جوانب هذه العلاقة المشتركة الفسيولوجية ـ التشريحية هو المتمثلة بالهيبوثلاموس ( المهاد التحتاني ), وهو التركيبة العصبية التي تقع في الدماغ المتوسط أو ما يسمى بالمخ العميق, والتي تتكون من مجموعات الخلايا تسمى الأنواء الهيبوثلاموسية, والتي من  ضمن وظائفها الأساسية هو التحكم في الجنس وسلوك العدوان. وهذه العلاقة لا تعني اتسام السلوك الجنسي أو إثارة الرغبة الجنسية عن طريق التعدي وإنما تعني أيضا إمكانية استغلال احد كل من السلوك الجنسي أو العدواني الواحد بدل الآخر والحصول على الرضا من هذا الاستبدال حتى وان كان مؤقتا !!!.

ويمكن الإشارة إلى ابرز ملامح وطبيعة العلاقة بين الإثارة الجنسية وبين السلوك العدواني استنادا إلى ما توصلت إليه نتائج البحث العلمي في هذا المجال, وهي ما يلي:

ـ أن إثارة الدوافع أو المشاعر العدوانية يمكن لها أن تخدم في زيادة الشعور باللذة عند كل من الذكر والأنثى في العلاقة الجنسية بينهما. وقد سبق وان أشار فرويد إلى أن إيقاع الألم أو تسلمه من احد الشريكين في العلاقة الجنسية هو أمر طبيعي, طبعا إذا بقى في نطاق إحداث وتصاعد الرغبة الجنسية دون إلحاق الأذى بالآخر وبما لا يعرقل تصاعد الرغبة الجنسية ووصولها إلى ذروتها.

ـ أن الإثارة الجنسية كثيرا ما تشجع على القيام بممارسة سلوك العنف خاصة إذا كان هذا السلوك مرتبطا بصورة ما بإرضاء الدافع الجنسي وهو ما يلاحظ في حالات الاغتصاب وفي بعض طقوس الزواج.

ـ كما أن الإثارة الجنسية يمكن لها أن تسهل السلوك العدواني الفعلي من أفراد غاضبين نحو الغير بدون أن يكون الهدف من العدوان جنسيا.

ـ وقد تبين من أبحاث أخرى بما يصحح بعض الشيء في مسار علاقة العدوان بالإثارة الجنسية, وهو أن التعرض إلى مواقف شديدة الإثارة يرتبط باحتمال اكبر بممارسة سلوك العنف, بينما الإثارة الجنسية الأخف فإنها تؤدي إلى العكس من ذلك إلى التقليل من احتمال وحدة العنف أو حتى منع حدوثه, وقد أفادت بعض الدراسات بأن الإثارة الجنسية الخفيفة تحدث من العنف والعدوان اقل مما يحدثه تعرض إلى مناظر طبيعية أو لوحات فنية تجريدية. وتفسر هذه الظاهرة من ان التعرض لإثارة جنسية خفيفة يعطي شعورا مريحا والذي له يقلل من الدافع للعنف بينما التعرض لإثارة جنسية عنيفة وخاصة عن طريق  تصويرية أو استعراضية, له أن يحدث حالة من عدم الارتياح والانزعاج وهي الحالة التي تستند وتقوي الاتجاه نحو العنف والعدوان.

ـ أن الإثارة الجنسية العنيفة والتي لا يتم إرضائها حالا لها أن تحدث حالة من الإحباط والتي يمكن لها أن تتحول إلى شعور بالعنف والتوتر وله أن يسهل بذلك ممارسة العدوان.

ـ كما لوحظ أن هناك علاقة ارتباطيه بين التغيرات الهرمونية وبين العدوانية, ففي الإنسان كما في الحيوان فان زيادة إفراز هرمون الاندروجين يزيد في كل من الإثارة الجنسية وسلوك العدوان, وهو واقع يلاحظ في فترة البلوغ كما يلاحظ تجريبيا بعد إعطاء حقن هرمون التستوستيرون ( وهو الهرمون الذكري من مجموعة الاندروجين ).

وفي الختام فأن الأسس التشريحية والوظيفية التي تؤسس لدينامية العلاقة بين الجنس والعدوان لا تعني بالضرورة أن الإنسان أسير لغرائزه ويستجيب بطريقة ميكانيكية مبتذلة لدوافعه, فالإنسان أولا وأخيرا كائنا رمزيا ذو محتوى ثقافي واجتماعي معقد, وان الوظائف الفطرية الغريزية تخضع لتعديل كبير بفعل عوامل البيئة والتنشئة الاجتماعية, بكل ما فيها من أعراف وتقاليد وقيم وممارسات ونظم اجتماعية ـ سياسية وأديان وفلسفات سائدة تقرر بشكل كبير طبيعة النظرة إلى الجنس الآخر باعتباره متلقيا ومرسلا للأفعال المشتركة. وعلى طبيعة النظرة إلى الجنس الآخر يتوقف الكثير من ماهية الأفعال والمواقف وطبيعة الأداء ومستوياته وما يرتبط بذلك من ردود أفعال !!!!. 

                   

241
هل الانتقاد والنقد الذاتي وإعادة الانتخابات  يغير من الحقائق في الخارطة السياسية العراقية !!!!

" إذا كانت لك ثقة بنفسك فأنك ستلهم الآخرين الثقة "
                                                غوته

د.عامر صالح

مع كل انحسار أو خسارة سياسية أو ضربة سياسية قاسية أو هجوم يتعرض له اليسار العراقي تزداد نوبات التصعيد عليه, سواء من أنصاره ومحبيه والجالسين فيه أو حتى من البعيدين عنه الذين لا يفقهون في حيثياته, ليحملوا المسؤولية بدورهم كل ما يحصل على هذه القوى والعودة إلى التأريخ بآلية " النبش " وليست التقويم لسوق المبررات وتحميل اليسار أكثر من طاقته وكأنه العصا السحرية لكل الحلول خارج إطار الزمان والمكان أو الفانوس السحري لعلاء الدين !!!.

وتشتد نوبات التصعيد ألانتقادي أو الهوس ألانتقادي, وهو ليست نقدا ذاتيا,بل جلدا بالعصا الغليظة للذات, وهو شعور سلبي يتنامى بشكل خاص في ظروف المنعطفات السياسية الصعبة التي يصعب فيها تحقيق الأهداف, وهي حالة من النكوص عن تحقيق " الذات السياسية ", وهو شعور دفين يريد التغلب على الفشل والهزيمة ولكن ليس عن طريق المواجهة وإنما الهروب والتقوقع على الذات وجلدها, وهو حرب ضد ذات الكيان السياسي وإسقاط كل اللوم عليه وتبرير للشعور بعدم المقدرة والهزيمة, إنها حالات من الاكتئاب السياسي تضعف من ثقة الشخص بانتمائه وبمجموعته التي ينتمي إليها,وتزعزع من ثقته بمشروعه السياسي, وقد تؤدي به إلى " الانتحار السياسي " عبر فقدان هويته النفس ـ عقائدية, وبهذا يخسر الشخص مرجعيته الفكرية والإيديولوجية اللازمة كمقياس للفرز وتصنيف وتقيم الحقائق !!!!.

أما النقد الذاتي البناء فهدفه معرفة مواطن القوة والضعف وتقويم الذات ومواجهة السلبيات, وإعادة بنائها على أسس عقلانية جديدة, كما انه الوسيلة الفعالة وصمام الأمان لتخليص المعرفة والفكر والسياسات من الشوائب, وهو أساس الإبداع والتغير, وعلى الناقد أن يكون عارفا ومحايدا وموضوعيا ومتمكنا في الوقت نفسه من امتلاك أساليب ومناهج النقد,لكي يتجنب أية إساءة للعمل المنقود والتعرض إليه وإسقاط التهم جزافا عليه,وبهذا يصبح النقد من اخطر الممارسات وأكثرها تعقيدا وأكثر الممارسات أخلاقية التي تقترن بصدق النوايا, وان الفكر الجدلي يؤكد أن النقد هو المحاولة الجادة لفهم الظواهر وتغيرها, ومن هذه المسؤولية وقبل ممارسة النقد وتميزه عن جلد الذات المعطل للقدرات والانطلاق يجب تنمية الوعي بأهميته وفاعليته وتأثيره في إعادة الثقة بالنفس والاعتبار وإيقاظ الإمكانيات والطاقات الإبداعية الكامنة للكشف عن مكامن القوة والضعف,وتحفيز الإنسان لرفض وتحدي كل ما يعيق حرية الفكر والسياسة وانطلاقهما,حيث لا وجود للمطلقات فالمعرفة نسبية كما يؤكدها المنهج الجدلي !!!!.

أن وظيفة النقد الذاتي باعتباره الوسيلة الهامة والمطلوبة رقم واحد لإعادة النظر دوما في البرامج والسياسات والاستراتيجيات, بل وكذلك في إعادة النظر في الأسماء والشعارات ومدى مطابقتها للمحتوى في السياق ألزماني وحتى المكاني,والاستعداد لتقبل أي جديد ايجابي زكته معارك الحياة من اجل التقدم ورقي الحياة الإنسانية, أن ممارسة النقد الذاتي من أوسع أبوابه من قبل اليسار الشيوعي في العراق هو دليل على معافاته المستمرة, ولكن هذا لا يعني أن ممارسته تؤسس إلى نصر قادم مؤكد في انتخابات برلمانية جديدة,ففي ذلك مجافاة لما يجري من ظروف قاهرة " للديمقراطية السياسية " في العراق تقع خارج إطار قدرات النقد الذاتي على إصلاحها, وهي عوامل موضوعية خارجية تسبح فيها الكيانات السياسية مستفيدة منها تارة وملحقة الضرر في المنافس السياسي الآخر تارة أخرى....أنها ظروف انعدام تكافؤ الفرص السياسية لممارسة العمل الديمقراطي !!!!.

أن نتائج الانتخابات البرلمانية 2010 وما أفرزته من نتائج والتي تقف على رأسها إعادة أنتائج القوى السياسية البرلمانية السابقة بأوزان مختلفة بعض الشيء, إلى جانب صعود القائمة العراقية المتنوعة المشارب والتي أثبتت تجربة السنتين الماضيتين إنها قائمة من فتات موائد بمذاقات مختلفة, فيها الحلو والحامض والحنظل والمكروه, كما فشل الرهان على ديمومة وحدتها حيث نشأتها المتشظية أصلا.لم تجسد نتائج الانتخابات الإجابة على التساؤلات الانتخابية المشروعة :لماذا انتخب هذا,وما هي المبررات العقلانية لانتخاب هذا الكيان دون غيره, وهل أجرى الناخب مراجعة نقدية لخياره السابق لكي يأتي بغيره !!!!, كما أفرزت النتائج الانتخابية خسارة قوى اليسار المتمثلة بقائمة اتحاد الشعب والمعروفة بعهدتها التاريخية وسعة برنامجها الإصلاحي الاقتصادي والاجتماعي, والتي من المفروض أن تأخذ نصيبها اللائق بها في البرلمان,أن كل ذلك يترك لنا انطباعا أوليا بأن الناخب العراقي غير راغب بتغير حاله ويريد بقاء الأوضاع كما هي,ولذلك أتى بمرشحيه من هذا الطراز !!!.

لا يوجد شعب على الأرض يتجه نحو الخيارات المرة وبالضد من سعادته, وقد حصل في التاريخ حالات محدودة أن الانتخابات تأتي بدكتاتوريات أمثال هتلر وموسوليني, ولكن الندم على هذا الخيار يلف أذيال من انتخبوه إلى اليوم أحياء أم موتى,وان الناخب بفعل الفطرة الإنسانية لا يختار إلا من يرى فيهم الأمل والحياة الإنسانية الحق,وخاصة عندما تسنح الفرصة لتأسيس قاعدة سليمة للعمل مواتية لانطلاق قدرات الإنسان الفعلية وتنشيط خياراته الحرة صوب ممثليه بعيدا عن عمليات الاحتكار السياسي والإقصاء والانفراد بعقل المواطن وزج الدين في السياسة واستخدام الأخير ضمن دائرة التقوقع الجغرافي لإعادة توليد ذهنية العدو الديني الأخر في الكيان الجغرافي المقابل, وخلق المناسبات لإشعال نار الفتنة,كلها عوامل ساهمت بتحويل الانتخابات من آلية لفرز وانتخاب الأفضل إلى آلية خفية لإدارة صراع ديني ـ ديني وطائفي ـ طائفي,وهكذا تم حرف وجهة الناخب من عملية الاستبصار في الكيان السياسي وماهيته إلى عملية الاستعماء السياسي.

وهكذا سهلت عملية سوقه جماعيا حسب مواصفاته الدينية والطائفية والاثنية إلى صناديق الاقتراع,وبهذا حرمت الصوت الانتخابي من الثراء والتنوع وفوتت عليه فرصة التصويت على البرامج الانتخابية كما هو الحال في العالم الديمقراطي المتمدن,ورغم أن هذه المسحة الانتخابية كانت اقل وطأة من سابقتها الانتخابية, إلا أنها أوقعت الناخب في فخ انتخاب " النكاية السياسية " المبني على ردود الأفعال وليست خيارا عقلانيا,تجسده حالات السأم وفقدان الأمل في الكيانات السياسية السابقة لفترة ما بعد 2003, في ظروف عدم النضج السياسي في أدراك قيمة الصوت الانتخابي ودلالته في تقرير المستقبل,وغياب الوعي بأهمية أن المواطن اليوم هو الذي يقرر شكل النظام السياسي وفعاليته,وهو المسئول الأول والأخير عليه عبر ممثليه, إلى جانب تراكمات الوعي السابق للحقبة الشمولية ومخاطرها في مسخ أهمية المشاركة السياسية الفعالة وتحويلها إلى عملية سوق قطيعي صوب تقرير المصير في القضايا المهمة, وتحويل عملية التصويت إلى مجرد عملية بهيمية تفتقد الوعي والإحساس والمسئولية,ومجرد إيداع للاستمارة الانتخابية في الصندوق دون حسبان للعواقب, وقد شكلت هذه الذخيرة السيئة ارض خصبة للكيانات السياسية الكبيرة لسوق الناس إلى الانتخابات بنفس أساليب التحشيد والسوق الجماعي !!!!.

وقد كرس هذا المنحى السلوكي الكثير من الإجراءات الغير عادلة,منها على سبيل المثال,حصر الناخب في بقعته الجغرافية ـ المحافظة عبر القائمة المغلقة حيث تشتيت الأصوات الانتخابية وشرذمتها وتجريدها من أهميتها,وكذلك سهولة حصر الناخب في بقعته الانتخابية وممارسة شتى عمليات غسل الدماغ والإيحاء لترويضه وسلب صوته الانتخابي,ومنح أصوات القوائم الخاسرة إلى القوائم الفائزة,وانعدام قانون الأحزاب ليضعها تحت المسائلة, وانعدام تكافؤ الفرص في التعبئة والدعاية الانتخابية والتمويل للكيانات السياسية,عدا ذلك ضعف مصداقية ونزاهة الجهات المسئولة عن أدارة الانتخابات وفرز الأصوات والتي أطال إليها الشك ليست فقط من الكيانات السياسية الصغيرة الخاسرة بل من الكيانات الحيتانية الكبيرة الفائزة !!!!.

اليوم بعد هذه التجربة الانتخابية وقبلها تؤكد الخبرة في هذا الميدان انه لا ديمقراطية حقيقية بدون علمانية,لأنه في ظل العلمانية يمكن للمرء أن ينعتق من عقليته الطائفية كي يفكر وينتخب على أساس عقله, وان الإسلام بتنوعه الكبير وثراءه الفلسفي يحتاج اليوم وخاصة في ظروف العراق كما في العالم الآخر إلى مزيدا من التحييد وتخليصه من الأسر السياسي ومن المتأدلجين والمرابين في الدين,وخاصة في ظل تنوع طوائفه ومذاهبه المتحابة بعض منها والكارهة لبعضها البعض في أحيان أخرى لحد التكفير والإبادة الجماعية وتبرير القتل المتبادل,أنها فرصة أن يقف الدين على قدميه برسالته السمحاء,وتقف السياسة هي الأخرى على قدمين سليمين,وتسمح للجماهير بممارسة الديمقراطية الحق والإتيان بنظم تعبر عن حاجتها للتطور والتقدم والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي,بعيدا عن الصراعات الدينية والطائفية والاثنية التي لا صلة لها بالاستقرار الاجتماعي,وتحويل الفرد من مستسلم عاجز سياسيا إلى كيان نشط وفعال ويقرر فعلا ما يشاء بمحض أرادته,واليوم بعد نتائج الانتخابات عندما نسمع بصدى التفجيرات والعمليات الانتحارية في مناطق سنية وشيعية وهي تؤدي بحياة العشرات والمئات من المواطنين الأبرياء تضع المواطن أمام تساؤل: من هو الفاعل؟ فتختلط الإجابات بين منفذ من فلول البعث,ومن أنصار للمالكي لكي يرون الناس أن الأمن بدونهم محال,أو من الصدريين بعبثهم للضغط على مسار الإحداث بأي اتجاه يرغبون,أو من القاعدة كالمعتاد أو من علاوي لكي يكون دخوله قويا بحلة الحافظ على الأمن والأمان,وجميعها تعبر عن العبث بخلط أوراق الدين بالسياسة !!!.

بعد هذا كله وفي ظل تصاعد الصيحات في إعادة الانتخابات نتساءل لو أقدم اليسار على ممارسة النقد الذاتي من أوسع أبوابه متناولا كل مفاصل سياساته الداخلية والخارجية ابتداء من الشعارات والمسميات وراياته الحمراء وانتهاء بتحالفاته السياسية ومدى صوابها, وفرضا لو أعيدت الانتخابات وحصل اليسار الشيوعي جراء ذلك على الآلاف المؤلفة من الأصوات الانتخابية القادمة, فهل قادر اليسار على رفع حصار قانون الانتخابات الجائر المتمثل بالقائمة المغلقة, ومنح أصوات القوائم الخاسرة إلى القوائم الفائزة, وهل يقدر اليسار على تجيش الناخبين والعبث بانفعالاتهم البدائية وسوقهم  جماعيا للانتخابات بالطريقة التي أجريت فيها لكي يحصد الملايين من الأصوات, وهل يضمن مشاركة كاملة لأنصاره في الداخل والخارج, وهل يضمن نزاهة عادلة في فرز الأصوات وهل يضمن تكافؤ الفرص الانتخابية لكي يعبر عن مقدرته الحقيقية...أنها أسئلة عصية على التنبؤ بحلولها,وعلى قدر الإجابة عليها يمكن التنبؤ بفوز قريب لليسار !!!!!!.



242
فصام العقل واضطراب الاجترار في " النقد " السياسي
"أخالفك في الرأي ولكنني أدافع عن حقك في إبداء الرأي"
                          فولتير

د.عامر صالح


أن من ابرز المعضلات التي يعاني منها المسرح السياسي العراقي الآن تنعكس في ظاهرة التطرف في حوار ومحاكاة الآخر"المعارض", وهو مؤشر خطير لانعدام ثقافة النقد, التي أصبحت مظهرا مميزا للساحة السياسية العراقية, أفرادا وجماعات وأحزاب, حيث لازالت مشاعر وسلوكيات إلغاء الآخر وأزاحته أو تسقيطه منهجا في الممارسة اليومية, وكثيرا ما يأخذ هذا الإقصاء شكلا دمويا وطابع التصفيات الجسدية, وقد راح ضحيته مئات الألوف من المواطنين الأبرياء ومئات من المناضلين الأبرار. ويعكس ذلك أرثا ثقيلا نتيجة لعملية تراكم طويلة الأمد انعدمت فيها التربية الذهنية والمعرفية والاجتماعية المواتية للإصغاء إلى الآخر بوسائل سلمية وحضارية, ومن جانب آخر ترتبط بالأزمة العامة التي تعيشها الديمقراطية في البلاد, والتي تعتبر من أبرز التحديات التي تواجهها.

ويتشكل النقد في مستوى التجربة الفردية من شعور الفرد بالإحباط عندما يخفق في تحقيق هدف من أهدافه. وارتباطا بحالة الوعي التي ترافق عملية الإخفاق, فقد يلجأ الفرد إلى ما يسمى بالإسقاط في علم النفس, وهو أن ينسب الفرد ما في نفسه من عيوب وصفات غير مرغوبة وإخفاقات إلى غيره من الناس ويلصقها بهم,وبالتالي يحمل أناس آخرين مسؤولية إخفاقه ولا يحملها لنفسه,على الرغم من أن ذلك اعترافا لاشعوريا على النفس أكثر منه اتهاما للغير, أو اللجوء إلى آليات أخرى كالعدوان أو التبرير المشوه.ولكن بإمكان التربية والتنشئة الاجتماعية الملائمة أن تنتح لنا أناس قادرين على ممارسة النقد الذاتي البناء, ألا أنها في مجتمعنا لا تزال إمكانيات شحيحة جدا بفعل التقاليد" العريقة" في قمع حرية التعبير.

أما النقد في المستوى السياسي من قبل أحزابا لسياستها, وأن كان في بعض الأحيان يستمد مسحته العامة من ذات البيئة التي يعمل فيها الحزب أو السياسي المنتمى له, ألا أنه في الأحزاب العريقة وذات التأريخ فأن النقد يفترض أن يستند على معايير عملية تتعلق بتقويم ونقد الأفعال والخطط السياسية ونتائجها(على سبيل المثال,هناك خطة سياسية موضوعة لمرحلة ما وبسقف زمني للإنجاز, تعقبها عملية تنفيذ,ثم تقويم, ثم خطة جديدة تستفيد من نجاحات وإخفاقات الخطة التي سبقتها, وهكذا).وهناك أيضا معايير أخلاقية, أي منظومة أخلاقية محددة ذات طبيعة تربوية تحدد آلية النقد,وهذه المعايير الأخلاقية في النقد تعني أن يبنى النقد على معايير غير ذاتية, تجعله قابلا للتقويم.أما النقد غير الموضوعي فهو على العكس, ينبني على معايير متغيرة وفقا للمصلحة الذاتية وللأمزجة الشخصية, بحيث لا يكون النقد منسجما ولا منضبطا في أطار يجعلنا نستطيع الحكم عليه بالصواب والخطأ, وهذا النوع الأخير من النقد والمنفلت خارج أطار السياق الأخلاقي والتربوي هو الذي يتعرض له اليوم الحزب الشيوعي العراقي, ويستغرب المرء من شراسته, وكأن الديمقراطية وحرية الرأي وجدت اليوم فقط لشن الهجمات عليه, والأسوأ من ذلك أن نرى" النقد" من أناس كانوا في صفوفه وكأنهم يقومون بالتكفير عن الانتماء السابق له والتخلص من "عقدة الذنب" التي تلاحقهم...وهؤلاء تربوا طويلا في صفوفه ومحيت أميتهم الأبجدية والحضارية فيه, وتعرفوا على قيمة الكتاب من خلاله, وتسلحوا بأنماط سلوكيه إيجابية,كانت محط أنظار وإعجاب وأحترم البيئة المحيطة بهم.وهؤلاء من الذين كان دفاعهم بالأمس عن الحزب يثير الدهشة والاستغراب!!!, بل ويثير السخرية أحيانا!!!, إلا أن ظاهرة النكوص والتقهقر والردة إلى مستوى غير ناضج من السلوك تبدو ممكنة وخاصة عندما يتعرض الفرد إلى موقف محبط!!!.

أن  حرية الفكر والانتماء تسبح اليوم في فضاء لا حدود له(وخاصة في العراق)ويستطيع الفرد أن ينتمي إلى أي فكر يشاء والى أي عقيدة يرغب بعيدا عن التشبث وحملات التشهير وأخذ الثأر, وبالإمكان حتى تأسيس أحزابا, وهي فرصة ذهبية لحالات" التفريغ الانفعالي" للمكنونات والمكبوتات اللاشعورية, كما يقول فرويد, وإرضاء للذات على نسق ما يكتب صاحبه في الصحافة...ويبقى الإنسان حافظا للعهد بهذا القدر أو ذاك ...وهي أفضل بكثير من حالة استخدام العتاد المعرفي الذي حصل عليه المعني من الحزب واستخدامه للهجوم عليه. أن المعارف الفكرية والعقلية يجب أن تطابق صيرورة الممارسة وإلا ما هو الفارق بين سلامة العقل وفصامه, سواء أن الأخير يعيش في عالمه الخاص منعزلا بأوهامه وخيالاته المريضة, مقطوع الصلة بعالم الواقع,لا يرى غير عالم من صنعه مليء بمختلف الهلاوس والهذاءات والاضطرابات في التفكير ومحتواه, وأن تحدث صاحبه فيتحدث "بسلاطة الكلام",غارقا بأحلام اليقظة وسوء التوافق مع الأخر.أنها حالات من بارانويا هزيمة العقل.

ومن جانب آخر يمكن القول هنا أن القلق من النقد السياسي البناء هو قلق غير مشروع جملة وتفصيلا, إذ تبدو أهمية النقد الذاتي في كونه احد الأسباب الرئيسية لتقدم الأداء السياسي. وأن تشخيص الأخطاء وتقويمها هو مطلب ضروري لإصلاح فعالية الأداء السياسي, وليست السلطات الحكومية وحدها من تحتاج إلى ممارسة النقد البناء, وإنما كل مؤسسة وشخصية وحزبا لا يستقيم أمرها ألا عبر تفعيل آلية النقد والمحاسبة, ثم التقويم, ومن قناعة أساسها  أن النقد دافعا ومحفزا وليس مانعا للعمل.

وأن فكرة الحزب"الأب" أو "الإلهة"هي فكرة يجب اجتثاثها لأنها مصدر أساسي لتجذير الهيمنة والاستحواذ داخل الكيانات السياسية,عدا ذلك كونها تتعارض مع الطبيعة الإنسانية التي تمارس النقد وهو جزء من مكونها الأساسي. وعندما تقمع هذه الآلية فأنها لا يعني قد صفيت, بل قد تدخل في أطار ما يسمى بعلم النفس بتحوير الدافع, وقد تعود إلى الظهور بشدة مرة ثانية وقد تكون ناقلة ليست للنقد البناء بل للتشويهات والتخريب والمبالغات, وهي وسائل فصامية في التعبير عن النقد.وهذا ما نراه اليوم من حملات إعلامية ضد الحزب الشيوعي العراقي وهي غير مبررة بقدر عدم انسجامها مع آداب وأخلاق إدارة الصراع الفكري والسياسي, ولكنها تعبر في أحد وجوهها عن إفرازات بعيدة المدى لحالات مجيء النقد الذاتي البناء في بعض الأحيان متأخرا من قبل الحزب.

أن الحزب هو فلسفة"عقل" وفكر ثم ممارسة سياسية, وبالتالي لا يخاف على الحزب من حالات الضعف والتصدع أحيانا,لأنه يمتلك "عقل" ممكن أن يقود إلى العمل السياسي باتجاهات مختلفة ومنفتحة تنسجم مع ظروف الحياة المتغيرة ومع إمكانياته الواقعية, فليست لديه القدرة أو القناعة السياسية على الاستعانة بقوة من خارج ميدان السياسة كمرجعية حاسمة في الأزمات , كما هو في حالات اللجوء إلى المرجعيات الدينية من قبل أحزاب الإسلام السياسي للاستعانة بها عند الهزائم, أو إلى أية قوى أخرى تمتلك التأثير على الناس لشراء ذممها وارتهان قوتها اليومي, والعبث بصدق عواطفها ورموزها الدينية والضغط عليها لمبايعة ذوي العمائم الصفراء والاسلاموين وانتزاع الاعترافات والتزكيات المسبقة منها, أو استخدام المناسبات الدينية وغير الدينية في الجوامع والمساجد والدوائر الرسمية وفي الاجتماعات الحزبية للقوى المتأسلمة للهجوم على الحزب الشيوعي العراقي وعلى قوى اليسار بصورة عامة, وهي مناسبات عقيمة لزرع الكراهية وأحياء للشعار السيئ الصيت " الشيوعية كفر والحاد " الذي مات في عقر داره. ومن العبث بقيم الديمقراطية والسلم الاجتماعي والحرية السياسية أن تتباهى هذه القوى السياسية ـ الدينية المتأسلمة بأن ابرز انجازاتها التاريخية منذ لحظات تأسيسها هو محاربة الشيوعية وقوى اليسار, ومن الأجدر أن تتباهى في انجازاتها على صعيد ترسيخ الديمقراطية السياسية ومحاربة العنف والإرهاب والشوفينية والعنصرية والتعصب الطائفي والفساد بكل مظاهره وتحسين ظروف العيش الكريم, وعندها يحق لها الإعلان عن معاداة اليسار العراقي إذا كان الأخير عائقا أمام تحسين ظروف الحياة العامة !!!!.

وفي هذه الأجواء التي لا صلة لها بالديمقراطية تمارس عمليات" الانتقاد" التي في الواقع ليست نقدا, بل هي استراتيجيات حصار وعزل وإقصاء وتفكيك, وهي ترتقي إلى مستوى السباب والشتائم أكثر منه إلى الحد الأدنى من النقد وحتى غير البناء, وهي في أحسن الأحوال تنتمي إلى هذاءات مرضية ذات صبغة سياسية, تعبر عن حالات غير معلنة من الإفلاس السياسي وتدني الهيبة الاجتماعية والتي تقوم على خلفية التدهور القيمى ـ الشخصي والضعف المتواصل للمكانة الروحية والدينية لمن لا يريد إلى العراق وأهله خيرا !!!!!.





   

243
العدوان عند الإنسان والحيوان في علم السيكولوجي المقارن !!!

د.عامر صالح

تثير روابط الإنسان الأولى والمشتركة مع الحيوان, باعتبار أن الإنسان يمثل امتدادا طبيعيا لمن سبقه, أو مع من أدنى منه في سلم التطور البيولوجي الكثير من الجدل والبحث والنقاش المتخصص والدراسة المتعمقة لدى الكثير من العلوم ذات الصلة بهذا الشأن, كالعلوم النفسية ـ السلوكية والبيولوجية الارتقائية, والاجتماعية, وعلم الوراثة, إلى جانب طبعا الفلسفة والأديان ذات الباع الطويل في البحث عن أصول الإنسان. وفي الوقت الذي تقف فيه الأديان وبعض من الفلسفات وقفة الضد من كون الإنسان هو استمرار طبيعي لسنة التطور البيولوجي لما سبقه من الكائنات الحية, وأن الإنسان من وجهة نظرها مخلوق بذاته ومقطوع الصلة عن أي عملية إنمائية ـ ارتقائية تراكمية معقدة, ترى العلوم البيولوجية والنفسية والوراثية أن الإنسان هو مخلوق يقف على قمة سلم التطور البيولوجي, بعد أن مر بعملية تحول بيولوجية ـ تشريحية وفسيولوجية طويلة الأمد في صراعه من اجل البقاء واستنادا إلى الظروف البيئية المعقدة التي أملت عليه هذا التطور, حيث كان يتفاعل مع البيئة تفاعلا ديناميكيا حيا مؤثرا ومتأثرا بها, يحسن من ظروفها وتحسن من أدائه عبر ترك بصماتها المستمرة في بناءه الفسيوتشريحي الجسمي وصولا إلى أرقى المكتسبات البنيوية والوظيفية والتي جسدتها نشوء الجهاز العصبي المركزي المتطور والمتخصص !!!.

لقد شكلت نقطة التحول الفسيولوجية التشريحية الحاسمة بالنسبة للإنسان وانفصاله النسبي عن مملكة الحيوان هي بامتلاكه الجهاز العصبي المتطور, وبشكل خاص امتلاكه للدماغ ونصفي الكرة المخيين المتخصصين تخصصا عاليا ديناميكيا, وخاصة القشرة الدماغية المتطورة وذات التخصص الدقيق ذو الصلة المباشرة بالعمليات النفسية أو العمليات العقلية العليا أو النشاط العصبي الأعلى " حسب تعبير علم الفسيولوجي " الذي تجسده عمليات التفكير والانتباه والتخيل والتصور والتعلم والإدراك والتذكر والبرمجة والتخطيط, والاهم من ذلك كله هو نشوء الأساس الفسيولوجي التشريحي للغة ونشأة اللغة نفسها التي أضفت على العمليات العقلية بعدا معقدا, حيث لا يمكن تصور العمليات العقلية خارج إطار اللغة,لأنها تلعب دور الممول لمحتوى العمليات العقلية وخاصة عبر عمليتي التجريد والتعميم اللازمتين للعمل الفكري. وفي هذا الانجاز التاريخي أعلن الإنسان انفكاكه عن الغابة وتحوله إلى كائن رمزي منتجا للحضارة المادية والمعنوية وللثقافة بمفهومها الواسع !!!!.

هذه النقلة النوعية التي حققها الإنسان في سلم التطور البيولوجي لم تلغي إبقائه مشتركا مع أسلافه في الكثير من العمليات الفسيولوجية التي تضمن له البقاء والاستمرار, أو ما نسميها بعلم النفس بالدوافع الفسيولوجية الأولية وهي فطرية في أساسها ومشتركة بين مختلف أنواع الكائنات العضوية, ومنها دوافع الجوع والعطش والجنس وتجنب الألم وكالحاجة إلى الهواء, والاحتفاظ بحرارة الجسم, والحاجة إلى الراحة والتخلص من التعب وغيرها, إلى جانب طبعا دافعية العدوان" المنازلة والمنافسة " التي نحن بصددها, إلا أن رمزية الإنسان " ثقافته بمعنى اشمل " أضفت على جميع هذه الدوافع بعدا اجتماعيا تطبيعيا يستجيب لمكانة الإنسان الجديدة, وعلى أساس ذلك نشأت ثقافة الأكل والشرب وثقافة الجنس وكذلك " ثقافة " أو " حضارة " العدوان والعنف, وتتنوع هذه الثقافات ومظاهرها متأثرة بعوامل غنى البيئة وثرائها ومدى تطورها الفكري والاقتصادي والاجتماعي والتقني والمعلوماتي !!!!!

وفي العودة إلى الطبيعة البيولوجية للعدوان والعنف الإنساني فأن العالم كونراد لورنز ( 1903 ـ 1989 ) وهو متخصص في السلوك الحيواني, حيث يؤكد بأن العدوان الإنساني ينبع بالأساس من غريزة النزال والتي يشاطر غيره من الحيوانات. ويشير إلى أن غريزة العدوان في الإنسان والحيوان تخدم غرضين أساسيين: الأول هو تحفز الصنف الحيواني على الانتشار والهجرة وذلك بهدف الحصول على اكبر قدر ممكن من مصادر المحيط, وهذا يتضح من مسالك العنف التي تبديها الحيوانات نحو بعض أفرادها ودفعها للهجرة من مناطقها التي تعيش فيها إلى مناطق أخرى, أما الوظيفة الثانية التي تخدمها غريزة العدوان فهي ضمان بقاء الأقوى والأصلح مما يضمن إقصاء الأضعف من البقاء ودوام الأقوى بالتكاثر. والجديد والمثير في نظريته هو أن طاقة العدوان قابلة للتجمع مع مرور الزمن إذا لم تصرف في حينها, وبأن العنف والعدوان ينشأ بصورة تلقائية ومتواصلة وبسرعة ثابتة, وبأن إطلاق العدوان ينجم عن تفاعل عاملين أولهما مقدار الطاقة العدوانية المتجمعة, وثانيهما توفر العامل المطلق في المحيط وقوة هذا العامل. ورغم الانتقادات الموجه لهذه النظرية من حيث كون أساسياتها استخلصت من عالم الحيوان إلا أن بإمكان المرء أن يلتمس الكثير من مظاهرها في سياقات السلوك الإنساني والأحداث التاريخية. تفسر هذه النظرية بوضوح بعض من مظاهر التوسع والحروب الأهلية و الإقليمية والعالمية والاحتلال والاستحواذ على منابع الثروات ومصادر الطاقة, وسلوكيات الإكراه والتهجير والإبعاد والقمع والإبادة لمجموعات بشرية بأكملها, وعادة ما يكون الضحايا هم الأضعف, حتى وأن جرت بواجهات مختلفة أو تنوعت مصادر مسبباتها الخارجية, إلا إنها تعكس بهذا القدر أو ذاك جزء من غرائز العدوان الكامن في الطبيعة البيولوجية للإنسان !!!!.

لقد تمكن المجتمع الإنساني وحضارته القائمة على التراكم المتواصل في انجازاتها المادية والمعنوية, وبشكل اعم الثقافة بكل ما تحمله الكلمة من معنى شامل للانجازات في مختلف المجالات أن تتطبع السلوك البشري وتضفي عليه بعدا إنسانيا خالصا, انعكس على أداء الإنسان كما وكيفا, من خلال التهذيب المستمر للأداء ودقته بما يستجيب دوما للحاجات المتطورة للإنسان, وكان التقدم الفكري و العلمي والصناعي والتكنولوجي والمعلوماتي ابرز معالم مسيرة الإنسان الطويلة على طريق خلاصه من الخضوع إلى البيئة الطبيعية, بل وانتقاله إلى مستويات عالية للتحكم فيها, طبعا إلى جانب تهذيب الإنسان على مستوى سلوكه ألغرائزي وعاداته وأنماطه السلوكية. وعلى مستوى التحكم بدافعية العدوان أو المنازلة أو المنافسة العنفية فأن البشرية وصلت إلى مستويات من التنظيم الاجتماعي في محاولات لإيجاد الشروط أو البيئة المناسبة للحد منه أو من أثاره, ولكن ذلك لم يعني أبدا وفي أي شكل من الأشكال القضاء عليه, بل أن تقدم الحياة الإنسانية المادية والتقنية والفكرية وضع العنف بصيغة أكثر تعقيدا واشد عنفا مما هو عليه عند الحيوان, وجعل من العنف مظهرا يدب في كل تفاصيل حياتنا اليومية, إلى جانب تنوع أشكاله ومظاهره " وقد تناولت هذا بالتفصيل في مقالي الموسوم: العنف بين ماهيته السوسيولوجية وجذوره السيكولوجية والتربوية !!!!. " والمنشور على صفحات الانترنيت !!!.

وعلى أساس ذلك أنتج المجتمع الإنساني نوع من العنف يمكن أن نطلق عليه العنف " الحضاري " والذي يستند في جوهره إلى طبيعة الأفكار والعقائد والأديان والإيديولوجيات المحفزة له, والى الاستخدام السلبي لثمرات التقدم العلمي والتقني والى نمط محدد من الثقافة بصورة عامة, مما أدى إلى توسيع دائرة العدوان لدى الإنسان من حيث محتواه وأساليبه وتقنياته وخروجا لا حدود له عن الطبيعة أو الحاجة البيولوجية له رغم بقائه مرتبطا بها, وعكس ذلك بقى العدوان لدى الحيوان وأسلاف الإنسان في حدود الحاجة البيولوجية له وضرورات البقاء. ونستطيع هنا أن نميز بين خصائص العدوان والفروق فيه لدى الإنسان والحيوان, ويمكن إيجازها باختصار شديد كما يأتي:

ـ أن العنف والعدوان لدى الحيوان هو فعل مباشر ويتم بالقدر الذي يجلبه العدوان من منافع للحيوان, غير أن هذا عند الإنسان يتجاوز هذه الحدود, فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس القتل من اجل القتل وهو الوحيد الذي يشن الحروب والعدوان المنظم بكل صوره المروعة للإلحاق الأذى جسديا ونفسيا بالمعتدى عليه.

ـ نادرا ما يمارس الحيوان العنف والاعتداء على حيوان آخر من نفس فصيلته, وان حصل ذلك فلأغراض محدودة جدا كحماية الصغار أو لأغراض الحفاظ على التكاثر والولادة, وإذا مارس العدوان ضد أصناف أخرى من الحيوانات فهي لأغراض الدفاع عن النفس أو لسد دافع الجوع, أما الإنسان فمعظم أعماله العدوانية موجه ضد صنفه الإنساني, أما إذا مارسه ضد صنف آخر من الحيوانات فأنه مجرد من أي محتوى عاطفي مما يثير الكراهية والغضب والعنف.

ـ غالبا وبشكل أساسي ما يمارس الحيوان العنف والعدوان للدفاع عن نفسه من الهجوم أو الاعتداء أو التهديد بذلك, وللحاجة للطعام ولضمان التكاثر, وهو يستجيب بشكل آني وسريع وغير مؤجل لتلك المتغيرات. أما بالنسبة للإنسان فهو يمارس العنف والعدوان لسد الحاجات كلها, إلا أن إثارتها لدافع العنف والعدوان هي اقل آنية وتلقائية من إثارتها لدافع العدوان لدى الحيوانات, حيث يمارس الإنسان سلوكا معقدا للاستجابة قوامه التأجيل عند الضرورة أو الانتقام المتأخر أو رسم الخطط المختلفة للإيقاع بالآخر, وهذا ما يفتقده الحيوان.

ـ أن الإنسان وحده من دون الحيوانات الأخرى في سلم التطور البيولوجي تفنن وطور أساليب العنف والاعتداء كما انه وحده الذي اوجد أشكال لا حصر لها من العنف تكاد تغطي كل مجالات الحياة وذلك بالاستناد إلى الثقافة ومفاهيمها السائدة, ووحده الذي اوجد ونمى المفهوم الاجتماعي للدمار والإثم وما يتطلب ذلك من إلحاق الأذى بالآخر وعلى النفس.

ـ أن الحيوان من الناحية العملية والفطرية يمتلك العدة البيولوجية اللازمة والكافية للدخول في المعارك وما يقتضيه الدفاع عن العضوية وحمايتها, أما الإنسان فهو لا يملك هذه العدة أو الاستعداد البيولوجي إلا بقدر معقول لا يتجاوز حدود قدراته العضلية, وقد لجأ إلى مختلف الأساليب التقنية لتعويض ذلك, كاستخدام الأسلحة بمختلف صنوفها وقدراتها على إلحاق الأذى بالآخر, وصولا إلى أسلحة الدمار الشامل القادرة على إبادة مجتمعات بشرية بكاملها وبزمن قياسي سريع, إلى جانب استخدام الإنسان نفسه كوسيلة في عمليات القتل الجماعي, كالعمليات الانتحارية التي يقوم بها الأشخاص لقتل المئات والآلاف في عمليات موضعية وبواجهات مختلفة.

ـ تمارس الحيوانات طقوسا مختلفة للتنويه بحالات الاستسلام والخضوع عند الدخول في معارك, وبالتالي تنهي المواجهات عند حدود معينة, أما الإنسان فقد تخلى عن طقوس الاستسلام حتى وان قبل بها شكليا فهو لا يقبلها ضمنا, وبالتالي تبقى أجواء التعدي والعنف والصراع قائمة في أي لحظة.

ـ ينفرد الإنسان من بين الكائنات الحية في محاولاته للسيطرة على العنف من خلال إيجاد ما يعرف بالضمير كأداة عقلية عاطفية ولكنه لم يفلح لإنهاء العنف ووضع حد له, بعكس الحيوانات التي لا تمتلك هذه القدرة ولكنها تستطيع إنهاء الكثير من النزاعات على خلفية أهدافها المؤقتة بعكس الإنسان الذي يستطيع إعادة دورة العنف.

ـ تؤكد الكثير من التجارب المختبرية على سلوك الإنسان والحيوان بأن الحيوان أكثر طواعية في تقبل ظروف خفض السلوك ألعنفي وخاصة عندما يشترط في ظروف محددة بعكس الإنسان الذي لا يطاوع بسهولة مثل هذه المحاولات التطبيعية.

أن كل المعطيات العلمية المختبرية والتاريخية تؤكد أن العدوان والعنف لدى الإنسان أكثر تعقيدا من الحيوان, وخاصة عند امتزاجه لدى الإنسان بعوامل الثقافة والتقدم الاجتماعي الذي أضفى على العنف بعدا نوعيا قياسا بالحيوان الذي اتسم عدوانه بالبساطة ومحدودية الأهداف التي تسبب ذلك. وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت في المجتمعات الإنسانية وعلى صعيد المنظمات الدولية ذات الصلة للحد من العنف والاعتداء على الأفراد والمجتمعات والأوطان إلى أن العدوان والعنف يتجدد باستمرار وعلى مر العصور وعلى الرغم من إدانته العلنية من كل الأطراف المعتدية والمعتدية عليها, إلا أن التاريخ يؤكد كما تؤكده ظروف العصر الحالي بكل حروبه المدمرة, الداخلية ـ الموضعية والإقليمية والعالمية , أن العنف  لصيق بالطبيعة الإنسانية باختلاف الأسباب والدوافع لذلك, على الرغم من أن مجتمعات العدالة الإنسانية والتقدم الاجتماعي ساهمت بشكل كبير في الحد من مظاهر العدوان والعنف, إلا إن ما يطفح منها بين الحين والآخر من حالات عدوان, فردية كانت أم مجتمعية يؤكد ما ذهبنا إليه, إلا انه بالتأكيد إن التحسن المستمر لظروف العيش سوف يحصر العدوان الى حدوده الدنيا ويضعه في أطار المنافسة غير العنيفة من اجل البقاء, ولكن هذا لا يعني بالضرورة عدم تحوله الى صراع عنيف يستهدف الإنسان وبقائه عندما تتوفر الفرصة لذلك !!!!!!.   



 

244
تجارب الشبكة العنكبوتية بين جحيم واقعي ونعيم افتراضي وإشكالية التوافق بينهما !!!
 
ملاحظات نفس اجتماعية سريعة

 
 
د.عامر صالح
 
أسهمت الثورة التكنولوجية والالكترومعلوماتية بخلق فضاء جديد واسع للتفاعل الاجتماعي عن بعد أو ما نسميه بالفضاء الافتراضي أو البيئة الالكترونية, وكان ذلك بفضل الشبكة العنكبوتية وما يتبعها من شبكات التواصل, كالهواتف الذكية, والفيسبوك, والتوتير, واليوتوب وغيرها, مما اختزل ضرورات المكان والزمان في التواصل ألمعلوماتي. ويحمل الفضاء الافتراضي خصوصية المجتمع ألمعلوماتي, باختلاف مستواه وكيفيته وأدائه, حيث الكلمات والعلاقات الإنسانية وتبادل المعلومات, وقد وفر هذا الفضاء القدرة على مواصلة الحوار الداخلي من اجل تبادل المعارف والأسئلة المختلفة وبلورة إجابات متنوعة ومختلفة حول القضايا المتداولة, وكذلك تشكيل نمط من الخصوصية بلغة الفضاء للشخص من مكان اتصاله في المجتمع الواقعي, وكذلك بلورة إحساس داخلي لديه بالخصوصية وتوفير قدر لا بأس به من اعتبار الذات والقيمة الشخصية من خلال القدرة على البحث وإبداء الرأي في مختلف الموضوعات, العلمية, والأدبية, والفنية, والثقافية والاجتماعية ذات الاهتمام المشترك لأطراف العلاقة الالكترونية عبر الكلمة المكتوبة والمنطوقة والمسموعة, والقدرة أيضا على إنشاء صورة ما فكرية ومزاجية وعقلية عن الطرف الآخر المقابل في عملية الاتصال وكذلك القدرة على الإحساس الآني بالحضور في سياق عملية الاتصال !!!!.
 
لقد وفرت الأجواء الافتراضية الالكترونية في مجتمعاتنا العربية وغيرها من بلدان ما يسمى بالعالم الثالث أو العالم المتخلف فرصا للانقلاب الجذري على القيم والتقاليد والعادات والعلاقات السائدة, وخاصة في مجتمعات مكبلة بالموروثات والممنوعات وشتى صنوف الاضطهاد, مما يعتبر نوعا من أنواع فك العزلة الشخصية والاجتماعية والعاطفية والثقافية والفكرية والانطلاق إلى فضاء أوسع يسمعك ويستجيب إلى حاجاتك في مختلف المجالات المذكورة أعلاه, إلا أن هذا الانقلاب لم يجري على ارض الواقع وفي البيئة الاجتماعية و الفيزيقية كما هي سنة التطور والتغير في الحياة, وكما شهدته المجتمعات المتقدمة, حيث التغير يدك ارض الواقع أولا ثم ينطلق إلى الفضاء الافتراضي ليغتني به !!!!.
 
أن ما يحصل في مجتمعاتنا يجري على خلفية التناقض العميق بين العالم الواقعي والافتراضي, حيث البون الشاسع بينهما هو سيد الموقف وهو مصدر الاختلال في التقريب بين ما هو افتراضي وبين ما هو واقعي. هذا الاختلال العميق يدفعنا إلى المقارنة بين بيئتين عالميتين مختلفتين جذريا, أولا البيئة المنتجة للتقنيات المعلوماتية, وثانيا البيئة الناقلة لها " كالبيئة العربية مثلا " دون استنبات لقيمها وما يصاحبها من تغيرات. ففي الوقت الذي نشأ فيه العالم الافتراضي في بلدان العالم المتمدن والمتقدم كامتداد طبيعي للعالم الواقعي, وهو الذي أنتج تكنولوجيا الالكترومعلوماتية وما رافقها من انجاز للشبكة العنكبوتية تعبيرا عن الحاجة الماسة لها, وعلى خلفية التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والإيديولوجي والثقافي والصناعي والتكنولوجي, والذي ضمن مستويات من العدالة الاجتماعية والحريات العامة والفردية والديمقراطية واحترام قيم العمل لا زلنا نفتقدها, وكان الفضاء الافتراضي نتاج لها وامتداد لثقافتها بكل ايجابياته وسلبياته !!!.
 
أما البيئة العربية الناقلة لها فهي أسيرة لمعوقات ذات طابع كمي وكيفي, والمتمثلة في تخلف البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية الداعمة, و تخلف البيئة السياسية وما يرتبط بها من قمع للحريات العامة وانعدام الديمقراطية التي تؤمن سيولة نقل المعلومات وتبادلها وما يرتبط بذلك من رقابة شديدة عليها واحتكارها, ثم تخلف البيئة الثقافية والتربوية وما يتعلق منها بالموقف من قبول التغيرات في القيم والاتجاهات السلوكية العامة الناتجة من استخدام التقنية, وكذلك الانتشار الواسع للامية في الوطن العربي, والتوازن غير العقلاني والمبدع بين استخدام هذه التقنية والحفاظ على التواصل مع العالم الواقعي دون الانقطاع عنه بكل تفصيلاته كالتواصل مع العمل وتقدير مكانته والحياة الاجتماعية بصورة عامة والحياة الأسرية بشكل خاص. ومن هذه الأسباب نستطيع التأكيد أن المعادلة لدينا مقلوبة حيث الفضاء الالكتروني الافتراضي جائنا ليست مستنبتا بل مستوردا بحتا ويدخل في صراعات عنيفة وصعوبات ميدانية مع العالم الواقعي, حيث الواقعي يحاول تجبير الافتراضي له, والافتراضي يبقى محلقا في فضائه دون أن يجد له وطأة قدم في الواقعي !!!!.
 
وتشير المعلومات البحثية الناتجة من دراسة ميدانية أجراها موقع " بيت.كوم " أحد مواقع التوظيف في الشرق الأوسط, أن السبب الرئيسي لاستخدام الانترنيت في المنطقة العربية يعود إلى المشاركة في النشاطات الاجتماعية على الشبكة الالكترونية بمعدل يصل إلى ثلاث ساعات أو أكثر بصفة يومية, حيث يلجأ اغلب مستخدمي الانترنيت في الدول العربية للدردشة مع أصدقائهم, أو العثور على أصدقاء جدد, مقارنة بمستخدمي الانترنيت لأغراض أخرى, مثل التعلم عبر الانترنيت, أو التسوق الالكتروني, أو البحث عن وظيفة, وكشفت نتائج الدراسة أن 67 % ممن شملتهم الدراسة يستخدمون الانترنيت في التواصل الاجتماعي, بينما ذكر 36 % منهم أنهم يتواصلون يوميا مع أصدقائهم عبر البريد الالكتروني, فيما يتواصل 31 % مع الأصدقاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي, مثل " فيسبوك " و " توتير " وغيره, وأضافت الدراسة أن مشاهدة والاستماع إلى الموسيقى من الأمور التي تحظى بشعبية ضمن النشاطات اليومية للاتصال بشبكة الانترنيت, فيما تأتي نسبة ملحوظة من هذه النشاطات اليومية على الانترنيت من غرض البحث عن عمل, في ظل وجود نسبة 36 % من المشاركين يستخدمون الانترنيت لإيجاد وظيفة. ومن النشاطات " الأقل شعبية " لمستخدمي الانترنيت هو تحميل " البودكاست ", حيث تحظى بنسبة 47 %, والمشاركة في دورات تعليمية الكترونية بنسبة 42 %, والألعاب الالكترونية 40 %, ورفع مقاطع فيديو إلى مواقع مشاركة الفيديو 37 %, وتحميل الصور بنسبة 32 %. كما أن الدراسة بينت أن هناك اتجاها واضح في المنطقة التي شملتها الدراسة " الشرق الأوسط " نحو استخدام الانترنيت لأغراض اجتماعية بجانب الأغراض الأخرى. وأشارت إجابات المشاركين في الدراسة أن موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك هو الأكثر اختيارا !!!!.
 
وفي خضم هذا التوسع الهائل والمستمر في تزايد الاشتراكات اليومية لشبكات التواصل الاجتماعي, والفيسبوك منها بشكل خاص فقد استطاعت هذه المواقع على المستوى الجماعي من تشكيل تجمعات كبرى, ثقافية, وسياسية, واجتماعية, ودينية, واقتصادية وغيرها, وبغض النظر عن محتواها الذي ينسجم مع ظروف العصر و التطور والنهضة في الحياة أم لا, فأنها تشكل نوافذ لا يمكن الغنى عنها لإيصال رسائل إلى العالم الواقعي, البعيد منها والقريب وكل حسب رسالته التواصلية بمحتواها المراد من هذه المجموعة أو تلك, ويشكل الفضاء الافتراضي هنا ميدان خصبا للصراع الفكري والثقافي والإيديولوجي بين مختلف المجاميع, وهو ذو رحمة قياسا بما يجري من صراعات دموية وأجتثاثية في معظمها على ارض الواقع العصي !!!!.
 
أما على المستويات الفردية فقد منحت شبكات التواصل فرص استثنائية للتعبير عن الذات بغض النظر عن المحتوى الرديء منها والايجابي بمقاييس البيئة الواقعية ذات الصلة بالبيئة الافتراضية, فحسب الكثير من الدراسات النفس الكترونية وفرت شبكة التواصل فرصا مواتية للشخصية الانطوائية في توفير أجواء ملائمة وهادئة, سواء في ميدان التعليم أو في التفاعلات الاجتماعية, ويحققون نتائج أفضل في البيئات الافتراضية حيث الوقت الكافي والهدوء اللازم. وفي اتجاه مغاير أكدت الدراسات في علم النفس الاجتماعي أن موقع فيسبوك يمثل بيئة خصبة لأصحاب الشخصية النرجسية والمغرورين, وخاصة من بين المراهقين,لإظهار أنفسهم بالشكل المضخم والذي يرغبون فيه عبر إعطاء معلومات غير صادقة عن أنفسهم, وترك الانطباعات عن قدراتهم على أقامة العلاقات رغم ضحالة حقيقة هذه العلاقات !!!.
 
وفي إطار المشكلات الاجتماعية والثقافية والتربوية والنفسية المختلفة التي يفرزها التفاعل الاجتماعي فهي لا حصر لها, وهي ناتجة بمجملها من التناقضات المجتمعية التي تغرق فيها البيئة الواقعية وانعكاساتها على البيئة الافتراضية, حيث نجد من جانب آخر مهم وخطير جدا هو أن الجلوس لساعات طوال بل تصل أحيانا إلى أكثر من 15 ساعة يوميا وهي حالات إدمان على ألنت, حيث تضع الفرد بين أربعة جدران منعزلا عن العالم الواقعي وفي عزلة اجتماعية مطبقة وفي حالة من السكون والخمول والحرمان الحسي والتواصلي مع المحيط اللازم للنمو الطبيعي, مما يدفع الفرد المدمن إلى الابتعاد عن فرص العمل وكرهه له والانهزام من مواجهة متطلبات الحياة والاندماج فيها, مما يضع الفرد في صراعات عنيفة مع الأسرة والزوجة والأطفال, وهي حالة موت بطيء لمستخدم ألنت, ويحاول الفرد من منطلقات تعويضية بحتة للبحث عن شخصية افتراضية له, فمرة تراه يرسل " اللايكات والتعليقات الهشة " للآخرين ومرة ينتحل صفة كاتب أو شاعر يلهث وراء التشجيع والمديح لكي يطمئن على صحة خياره المدمن وانقطاعه عن العالم الواقعي, ويعيش في عزلة اجتماعية قاتلة لا يرغب فيها رؤية أحد, بل يمارس دور خفافيش الظلام للبحث عن شخصية خاصة به, وهذا يستدعي إقناعه و إحالته إلى العيادات النفسية المتخصصة في الإدمان على ألنت لعلاجه !!!!.
 
كما أن هناك الكثير من الممارسات ذات الصفة الازدواجية في السلوك, كالاختفاء وراء " بروفيلات " لا تمثله " ذكرا كان أم أنثى " بالصورة ولا بالسلوك لكسب المزيد من الأصدقاء على ألنت وخاصة في مجتمعات تتأثر في الشكليات أكثر مما تتأثر بالمضمون, وممارسة سلوكيات مختلفة تعبر عن الكبت الدفين في البيئة الواقعية, كممارسة التحرش الجنسي, وهي ظاهرة شائعة عند كلا الجنسين على ألنت, وكذلك الابتعاد عن تقاليد الحوار البناء والهادف والموضوعي, حيث ترى اللطف والوداعة والرقة في البداية ثم تستغرب من العدوانية المباغتة والعنف اللفظي بإشكاله, ثم مرض الزعامة والدكتاتورية المصغرة بالنسبة لمن يؤسسوا صفحات مختلفة, سياسية منها أو ترفيهية أو اجتماعية, حيث يبعد من يشاء ويقصي من يشاء ولا تعرف الأسباب !!!!.
 
الوجه الآخر لمتناقضات شبكة التواصل الاجتماعي, حيث الكثير من الصفحات ذات الواجهات الدينية مزينة بأجمل الآيات القرآنية والأدعية والحب والتبرك للرموز الدينية, وتخفي في الظل ما لا صلة له بذلك. ومما يثير الحنق والدهشة عندما نرى جيش جرار من " الشعراء والشاعرات " ومن كتاب الخواطر وعلى مدار ستة أيام من الأسبوع يكتبون في العشق والحب, وفي يوم الجمعة يدعو إلى "جمعة مبارك ", وكأن الأيام الستة هي أيام أثم وما الجمعة إلا لغسل الذنوب, إلى جانب هذا هو سلوكيات الانتقام والتهكم وتصفية الحسابات الفردية على الصفحات, والانتقالات المريضة من عشق يثير الاستغراب إلى عداوة مستشرية !!!.
 
أن تخفيف الصراع بين البيئة الافتراضية والبيئة الواقعية, وإيجاد حالة من التواصل المعقول بينهما هو بالتأكيد رهين التغيرات الجذرية التي يجب أن تحصل على ارض الواقع وتمارس النقد بأوسع أبوابه للبيئة الفكرية والعقائدية والسياسية والايدولوجيا وإطلاق الحريات العامة والشخصية لكي يضمن ذلك قدر من الجرأة والصراحة والانفتاح اللازمين في كلا البيئتين دون وضع احدهما في صراع مع الآخر !!!!.

245
العنف: بين ماهيته السوسيولوجية وجذوره السيكولوجية والتربوية !!!

" الكائن البشري ليس حيوانا وديعا "
                              إيف ميشو


د.عامر صالح

تمتد جذور العنف في التاريخ إلى نشأة البشرية الأولى, بل هي امتداد لنشأتها في المملكة الحيوانية التي سبقت نشوء الإنسان العاقل, ولعلنا لا نجافي الحقيقة عندما نقول إن تاريخ العنف لصيقا بتاريخ البشرية, فقد شكل محطات هامة وأساسية في انتقالها من حالة إلى أخرى, ومن تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى أخرى, أحيانا تقدمية وأحيانا أخرى تراجعية قياسا بسابقتها, ولا أدل على ذلك تلك هي الحروب الدينية والسياسية الاقتصادية التي مرت بها البشرية جمعاء وبدون استثناء ودفعت ثمنها ملايين من الضحايا, ولعل خير دليل في ذلك هو حروب القرون الوسطى في أوربا ذات الصبغة الدينية, والحروب العربية والعربية الإسلامية على مر تاريخها, مرورا في الكثير من الثورات العالمية في أوربا ذات الصبغة الدموية باختلاف نتائجها اللاحقة وما ترتب عليها, ثم في تاريخنا الحديث هناك حربين عالميتين, الأولى والثانية, والتي امتدت لتشمل بقاع عديدة من العالم, وكان ضحاياها عشرات الملايين من المتحاربين والأبرياء من الرجال والنساء والأطفال, وما آلت إليه اليوم من تقسيم للعالم إلى ما نراه اليوم, ثم الحرب الباردة التي طالت لعقود من الزمن بين معسكرين أوروبيين مختلفين " الشرقي والغربي ", وهو نمط خاص من العنف غير الصدام المسلح المباشر, ثم جاءت نتائجه بانهيار المنظومة الاشتراكية سابقا !!!!.

كما نشهد اليوم في منطقتنا العربية نمط من الحروب يجسد في صيرورته العنف والعنف المضاد بين الأطراف المتحاربة, والتي تدور رحاها داخل كل بلد على حدة, وبين الدولة الواحدة ومحيطها الإقليمي, كما نلاحظ نشأة نمط من العنف الداخلي, وهو العنف الطائفي والمذهبي والديني والاثني, ناهيك عن العنف ضد المرأة وهو النمط المتأصل في المجتمعات الذكورية. وقد اختلط العنف بالإيديولوجيات والأديان لينتج أنماط من العنف تستمد شرعيتها من الخطاب السياسي أو الديني للأطراف المتحاربة حتى تحول العنف إلى واجب مقدس, يتجسد في ابرز مظاهره في العنف الإرهابي الديني الذي يجد ضالته في تفسير النصوص المقدسة في تكفير الآخر, وكذلك في الخطاب السياسي الذي يستمد مشروعيته من أوهام البقاء للدفاع عن المصالح التاريخية للأمة كيف ما اتفق ومن وحي أفكار ودكتاتورية الحزب الواحد أو العائلة الوراثية المالكة أو من يدعي الخلافة في الأرض و المستميتة في الدفاع عن عوامل البقاء مهما كلفت التضحيات !!!!!.

أما على مستوى حياتنا الاجتماعية اليومية فأن العنف يدخل كمفردة تغطي نطاق واسع من السلوكيات المتنوعة المظاهر والتي تلحق الأذى بالآخر, ولم نجد فسحة في حياتنا خالية من مظهر من مظاهر العنف بأي شكل من الإشكال. فإذا أسلمنا بإحدى تعريفات العنف الكثيرة والواسعة جدا, والذي تؤكد " بأن العنف هو سلوك أو فعل يتسم بالعدوانية يصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة بهدف استغلال وإخضاع طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة اقتصاديا وسياسيا مما يتسبب في إحداث أضرار مادية أو معنوية أو نفسية لفرد أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دول أخرى ", فهو يتسع ليشمل مظاهر وأنواع مختلفة, لعل أبرزها: العنف الأسري الذي يمارس باسم السلطة الذكورية ضد الزوجة والأبناء, أو من قبل الأبناء ضد الأخوات وألام , وسلب حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والتربوية, وهو متأصل الجذور لأسباب تاريخية, مرجعها طبيعة تقسيم العمل تاريخيا وحصره في السلطة الذكورية, واعتبار الأنثى مجرد جزء من الممتلكات الشخصية لا غير؛ والعنف الجسدي والذي يستخدم ضد الآخرين باستخدام القوة الجسدية بهدف إلحاق الأذى بهم عبر مختلف الأساليب, كالتعذيب الجسدي, أو استخدام الأيدي والرفس والخنق وغيرها, وتسبب الأذى والأضرار الجسمية المختلفة وما ينشأ عنها من أوجاع وألام أو معاناة نفسية؛ والعنف النفسي الذي تجسده شتى مظاهر الإكراه من خلال القيام بعمل ما أو الامتناع عنه وفقا لمقاييس علمية أو مجتمعية بمعرفة الإضرار الناتجة عنه على المستوى السلوكي والمعرفي والإدراكي والانفعالي, كالتخويف, والاستغلال, والاهانة, وفرض الآراء بالإكراه, السياسية  منها والاجتماعية والثقافية والشخصية, ويجري هذا النوع من العنف على أيدي أشخاص أو سلطات تمتلك القوة والسيطرة؛ ثم الاغتصاب والاستغلال الجنسي الذي يمارس بالقوة " سواء من قبل الشريك الجنسي أو الغريب " بحق النساء البالغات وكذلك الاستغلال الجنسي للأطفال بمختلف مظاهره وصوره الشنيعة؛ وكذلك العنف المدرسي الذي نلتمسه في الوسط الطلابي, حيث مظاهره المنتشرة بين الطلاب أنفسهم والاعتداء على بعضهم بعض, سواء بصيغه الفردية, أم بصيغه الجماعية والتي تأخذ أحيانا طابعا منظما وشلليا, والذي له انعكاساته الخطيرة على الجوانب الاجتماعية والانفعالية للطلبة مما يسهم بشكل كبير بزعزعة الأمن المدرسي وزرع الرعب بينهم وتلف الممتلكات المدرسية, وكذلك العنف بين المعلمين أنفسهم, وبين المعلمين والطلاب, ولعل استخدام الضرب والعقاب البدني والنفسي ابرز مظاهره, وأحيانا يكون محميا بقوة التشريع المدرسي التي تبيح ذلك !!!!!.

وتتناول الأدبيات المتخصصة بموضوع العنف الكثير من تصنيفاته وأنواعه, والتي تتداخل في غالبيتها مع أنواع العنف التي ذكرناها سلفا, ونكتفي بالإشارة إليها دون الخوض في تفاصيلها لسهولة فهمها اصطلاحيا ارتباطا بما ذكرناه سابقا, وهي على النحو الآتي: العنف المعنوي, العنف اللفظي أو الشفوي, العنف البدني, العنف الديني, العنف التلقائي, العنف المادي, العنف الفوضوي, العنف الجماعي, العنف الفردي, العنف الرسمي, العنف المجرم الغير الرسمي, العنف غير القانوني, العنف المشروع, العنف المتبادل, العنف ألانحرافي, العنف السياسي, العنف الاقتصادي, العنف اللاعقلاني, العنف العقلاني, العنف الانفعالي, والعنف المنشأ " وهو نوع من العنف تلعب وسائل الاتصال دورا بارزا في إحداثه " .

وقد تحدثت أدبيات الفكر السوسيولوجي والفلسفي تاريخيا عن العنف من حيث أشكاله, وكيف تولد العنف في التاريخ وما هي الأدوار التي لعبها, ومن أين اكتسب مشروعيته وهل هناك عنف مشروع أصلا. ومجمل هذه الأطروحات تنسجم مع الاتجاهات العامة التي وردت في المقال. ويمكن الإشارة إليها هنا باختصار شديد. فعلى مستوى أشكال العنف فقد تم تقسيمه إلى العنف البدني, والذي تحدث عنه  ايف ميشو ( 1942 )  بأنه الضرر والألم المقصود الذي ينصب على جسم الكائن ويترك أثرا قابلا للملاحظة والتحقق منه, مثل الضرب والقتل والتعذيب والحرب والتجويع وغيرها, ويعتبر العنف من الظواهر التي ترتبط بتربية  الأفراد وثقافتهم مثلما ترتبط بالمؤسسات المجتمعية والأنظمة السياسية. فكما هناك أفراد يمارسون العنف كذلك هناك أنظمة سياسية بوليسية تقيم المعتقلات والمعسكرات للتعذيب الممنهج. وقد ساعد التطور التقني المعاصر في تطوير وتيسير أساليب فعل العنف وجعلها أكثر فتكا, إلى جانب الاستخدام الواسع والمنظم لوسائل الإعلام التي تروج لمختلف مظاهر الإبادة والتعذيب والتخريب؛ والشكل الثاني من العنف هو العنف الرمزي كما يسميه المفكر الفرنسي  بيير بورديو ( 1930 ـ 2002 )  وهو أكثر فاعلية,  وهو " عبارة عن عنف لطيف وعذب, وغير محسوس, وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم, وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية" كالكلام والتعليم والتربية والثقافة وأساليب التنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع, فيلحق الضرر بالغير بطريقة لا تثير انزعاجا, بل أن الذين يمارس عليهم هذا العنف قد لا يعتبرونه عنقا وقد يساهمون في إنتاجه وترويجه وكأنه حتمية وجودية, إذ يتلقى الناس أفكارا وأراء ومسلمات كأنها حقائق مطلقة وثابتة, ويقبلونها بكل تلقائية وتسليم. هذا النوع من التلقي يسميه بورديو ب " الإقناع الصامت والسري " الذي يفرض الهيمنة والسلطة !!!!.

أما بالنسبة لأسباب التي تنتج العنف في التاريخ فهناك عدد من النظريات التي فسرت ذلك, ولعل الماركسية أول من التفت لظاهرة العنف في التاريخ من منطلقات سوسيواقتصادية, حيث أكد كارل ماركس ( 1818 ـ 1883 ) أن العنف في التاريخ ناتج عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأساسي لعجلة التاريخ بمختلف مراحله, والذي يجسده الصراع بين طبقتين مختلفتين, هما الطبقة المستغلة والطبقة المستغلة, أو ما يعبر عنه بلغة الاقتصاد الماركسي التناقض التاريخي والمستمر بين قوى الإنتاج من جهة وعلاقات الإنتاج من أخرى, كما نراه مثلا في الرأسمالية وهو الصراع الحاصل بين البورجوازية مالكة وسائل الإنتاج وبين البروليتارية, ويولد هذا الصراع مختلف أشكال العنف والاستلاب والاستغلال الذي تمارسه الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج المادي على الطبقة العاملة. وقد يتخذ هذا الصراع طابعا فرديا لا يعيه الفرد ذاته, كما يتخذ صراع جماعات مختلفة " نقابات, وإيديولوجيات وأحزاب سياسية ". أم التفسير الآخر للعنف فهو كما يراه المفكر الفرنسي " روني جيرار ( 1923 ) " بما يسمى " الرغبة سبب العنف " وهذا التفسير يرى أن الإنسان كائن راغب, توجه تفكيره وسلوكه مجموعة من الرغبات, وان إشباع هذه الرغبات يرتبط بموضوعات معينة وتكاد تكون موحدة بين البشر, مما يجعل الناس يتوجهون إلى نفس الموضوعات بطريقة يسميها محاكاتية, فيظهر بينهم التنافس والتدافع ويتحول الأمر إلى النزاع والصراع ثم إلى حرب مفتوحة تأتي على حرق الأخضر واليابس, ولا يتوقف العنف بين بني الإنسان إلى الأبد, نظرا لعد انقضاء الرغبة المرتبطة بالموضوع المتنازع عليه من جهة, ونظرا لظهور سيكولوجية الانتقام الجماعي المؤجل من الخصم من جهة ثانية. على خلاف ما يجري في وسط الحيوانات  التي يخمد الصراع بين أفرادها بمجرد الغلبة وخضوع الأضعف للأقوى. ويؤكد جيران أن العنف الإنساني عنف مدمر, فهو ينتشر في الجماعة من فرد إلى فرد ويمكن أن يؤدي إلى قيام مذابح جماعية.

وبخصوص مشروعية العنف من عدمها, فهناك من يعطي مشروعية قانونية للممارسة العنف من زاوية الحق والقانون والعدالة, كما هو الحال عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ( 1864 ـ 1920 ) عندما يتحدث عن مشروعية العنف المادي الممارس من طرف الدولة, وعن حقها في احتكار هذا النوع من العنف, وكما يقول احد زعماء الحركة الشيوعية الروسية و العالمية  تروتسكي ( 1879 ـ 1940 )  والذي يرى " أن كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف ". فالدولة هي التجمع السياسي الذي يحتكر العنف المادي الذي تعطى له الشرعية القانونية, المتمثلة أساسا في المحافظة على النظام الداخلي من جهة, والدفاع عن المجتمع ضد الأخطار الخارجية من جهة أخرى. هكذا يرى فيبر أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف, وان هذا الأخير هو الوسيلة المميزة لها, وان بينها وبينه علاقة وطيدة؛ ذلك أن ما يبقى في حالة اختفاء العنف من ممارسة الدولة هو الفوضى وضياع مصالح الناس. ولكن هناك أسئلة كثيرة تثار حول مشروعية ذلك من خلال شرعية الدولة نفسها ومن أين استمدت ذلك, وحول مشروعية قوانينها وهل هي مطابقة للحق والعدل فعلا. أما الموقف الآخر من العنف فهو الموقف الرافض للعنف ولا مشروعية له, بل يمثل الرذيلة والحقد, ويمثل هذا الاتجاه المهاتما غاندي ( 1869 ـ 1948 ) السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلال الهند, حيث يجسد الحب والإرادة الطيبة تجاه كل الناس, ولذلك فهو يرفض السلوك العنيف لأن ورائه نية من اجل إلحاق الأذى والألم بالآخر, وهكذا يدعو غاندي إلى تعميم الصداقة بيم كل الناس ومكافحة العنف والشر بسلاح الذهن والفكر الأخلاقي, وهو ما يقتضي مواجهة العنف بمقاومة روحية تمكن من خلق خيبة أمل لدى الممارس بأن لا أواجهه بسلاحه من جهة, والتمكن من رفع مستواه الإنساني والأخلاقي بأن يصبح هو الآخر رافضا للعنف من جهة أخرى !!!.

وفي السيكولوجية والتربية حيث يجري البحث عن الجذور الفردية والعوامل المهيأة في نشأة العنف ومعرفة أسبابه الكامنة, وحيث أن الفرد عضو في الجماعة, فأن معرفة الجذور الذاتية للعنف يعني بالضرورة فهم العنف ومحركاته الأساسية على النطاق المجتمعي. وفي هذا المجال تنتظم العديد من النظريات لتفسير ماهية العنف سيكولوجيا وتربويا, ولعل أبرزها النظريات والآراء الآتية:

1 ـ النظرية البيولوجية ( الغريزية ) : ووفقا لهذه النظرية أن السلوك الإنساني يعكس الطبيعة الإنسانية, وبأن الدافع للسلوك تنبع من قوة غريزية تنطلق تلقائيا, وقد طور داروين هذا المفهوم واقتفى أثره الكثير, منهم فرويد ولورنز وغيرهما ممن رأوا بأن العدوان ينبع من دافع داخلي ويدفع صاحبه للتعدي على الغير مباشرة أو على الأشياء أو بصورة غير مباشرة في مختلف النشاطات كالرياضية والألعاب التنافسية وحتى الوصول إلى السلطة وغيرها من الوسائل التي تعبر عن وجود مثل هذه الطاقة الغريزية.

بالنسبة لفرويد ( 1856 ـ 1939 ) فقد أكد أن هناك غريزتين متناقضتين تفسر السلوك الإنساني, أولهما غريزة آيروس أو غريزة الحياة, ورأى بأن لهذه الغريزة طاقتها والتي أطلق عليها مصطلح اللبيدو, وبأن هذه الغريزة تتوجه نحو التكاثر والإبقاء على الحياة, والغريزة الأخرى هي غريزة ثاناتوس, أو غريزة الموت, ورأى أن هذه الغريزة لها طاقتها, وبان هذه الطاقة تتجه نحو الدمار وإنهاء الحياة, وتحقق هذه الغريزة الهدف الأقوى في النفس الإنسانية وهي الرجوع إلى حالة ما قبل الحياة, إلا أن هذه الغريزة إذا ما أحبطت فأن لطاقتها أن تتوجه نحو الغير بدلا من توجهها نحو الذات, وعلى الرغم من المخارج التنفسية لهذه الغريزة كحالات الغضب أو النشاطات التنافسية, إلا انه رأى أن هذه الحلول مؤقتة ولا تجدي نفعا, إلا بالعودة إلى ما قبل الحياة أي الموت, ورأى أن التعاون والتضاد بين هاتين الغريزتين هو الذي يحدث ظواهر الحياة والتي يضع الموت نهاية لها .

أما بالنسبة لكونراد لورنز ( 1903 ـ 1989 ), وهو متخصص في السلوك الحيواني, فهو يرى بان العدوان الإنساني ينبع بالأساس من غريزة النزال والتي يشاطر فيها غيره من الحيوانات. وقد أكد أن غريزة العدوان في الإنسان والحيوان تخدم غرضين أساسيين: الأول هو تحفز الصنف الحيواني على الانتشار والهجرة وذلك بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من مصادر المحيط, وهذا يتضح من مسالك العنف التي تبديها الحيوانات نحو بعض أفرادها ودفعها للهجرة من مناطقها التي تعيش فيها إلى مناطق أخرى, أما الوظيفة الثانية التي تخدمها غريزة العدوان فهي ضمان بقاء الأقوى والأصلح مما يضمن إقصاء الأضعف من البقاء ودوام الأقوى بالتكاثر. أما الجديد والمثير في نظريته هو أن طاقة العدوان قابلة للتجمع مع مرور الزمن إذا لم تصرف في حينها, وبان العنف والعدوان ينشا بصورة تلقائية ومتواصلة وبسرعة ثابتة, وبان إطلاق العدوان ينجم عن تفاعل عاملين أولهما مقدار الطاقة العدوانية المتجمعة, وثانيهما توفر العامل المطلق في المحيط وقوة هذا العامل. ورغم الانتقادات الموجه لهذه النظرية من حيث كون أساسياتها استخلصت من عالم الحيوان إلا إن بإمكان المرء أن يلتمس الكثير من مظاهرها في سياقات السلوك الإنساني.

2 ـ نظرية الدافع العدواني: افترض العلماء هنا وجود دافع للعدوان بدلا من غريزة للعدوان والفرق بينهما أن غريزة العدوان تفيد بوجود طاقة عدوانية تولد بصورة تلقائية, فان نظرية الدافع العدواني تفيد بأن العدوان ينشا من حافز أو دافع وبأن هذا الدافع يثار من حافز خارجي والذي يهدف إلى إيذاء أو إلحاق الضرر بالآخر. وبناء على هذه النظرية فان العدوان بصورة رئيسية هو نتيجة لتعرض الفرد لعامل محيطي معين والذي يثير حافزا للقيام بالعدوان. ومع تبني العلماء عامة لمثل هذه النظرية عن الدافع للعنف إلا أن موضوع ماهية هذا الدافع ومصدره مازال بدون تفسير أو قيد البحث, إلا انه لا توجد فرقا جذرية بين نظرية الغرائز وبين نظرية الدافع, سوى أن الدافع للعدوان في الحالة الأولى هو دافع داخلي وفي الحالة الثانية هو حافز خارجي. أما الطاقة المحركة للحالتين فهي واحدة ولا بد أن يكون أساسها في الطبيعة البيولوجية للفرد وهي الطبيعة التي توفر الطاقة العصبية الفسيولوجية اللازمة للقيام بعملية العنف سواء إن أثير هذا العنف من الداخل أو بفعل عامل أو موقف معين من المحيط الخارجي.

3 ـ  النظرية التحليلية النفسية والعدوان: على الرغم من أن فرويد هو رائد المدرسة التحليلية النفسية إلا أن آرائه بصدد العدوان كانت بيولوجية أكثر منها نفسية, ثم أن موضوع العدوان جاء متأخرا لدى فرويد, مما فسح المجال لمن جاء من بعده التنظير والبحث في هذا الموضوع. ويتضح من أراء معظم التحليلين أنهم ينظرون إلى العنف والعدوان ليس مجرد دافع للدمار أو لعقاب الذات وإنما كطاقة عقلية عامة ذات مشتقات عديدة وبأنه يلعب دورا هاما في الصراعات العقلية وبدرجة تماثل الدافع الجنسي, وبأن لهذا الدافع أن يؤدي إذا ما اعترض أو أحبط إلى قيام حالات مرضية نفسية عصابية أو إلى انحراف في خصائص الشخصية حاله في ذلك حال الدافع الجنسي وما يثيره هذا الدافع من صراعات واضطرابات نفسية وسلوكية. ويؤكد علماء هذا الاتجاه السيكولوجي انه في الوقت الذي يتوفر فيه الدليل القوي على أن هناك اتجاها واضحا نحو التدمير في الدافع العدواني إلا أن هناك اتجاها آخر في العدوان والذي هو غير تدميري, وفي رأي بعض من المحدثين من مدرسة التحليل النفسي بان طاقة اللبيدو ( الطاقة الجنسية ) بإمكانها الاندماج مع الطاقة العدوانية مما يوفر طاقة إضافية للأنا ( الذات ), كما أن الأنا أو الذات نفسها تقوم بفعل تحييد الدافع ألتدميري وهو ما يزيد من مخزونها من الطاقة النفسية وهي الطاقة التي أصبحت ألان مجردة من الغريزة, وهكذا فأن التخفيف من الدوافع التدميرية الغريزية الكامنة يصبح ممكنا بفعل دمجها بالدافع الجنسي وبفعل ما تقوم به الأنا من تحييد لهذا الدافع ألتدميري.

4 ـ نظرية العنف كسلوك اجتماعي متعلم ومكتسب: طبقا لهذه النظرية فان السلوك العدواني والعنف هو سلوك مكتسب أثناء الحياة الاجتماعية وبأنه يتعزز ويتواصل بفعل هذه العوامل, وأن الفرد يتعلم هذا السلوك وينوع ويطور أساليبه طبقا لقواعد التعلم والتي تعتمد على عناصر التعرض والتكرار والربط والإسناد بالمكافأة. ومع أن هذا المنظور الاجتماعي ألتعلمي للعنف والعدوان لا يمكن أن ينفي وجود طبيعة أساسية تمكن الفرد من ممارسة العنف والعدوان, إلا انه ينوه بأن وجود مثل هذه الطبيعة الأساسية لا يعني بالضرورة الممارسة التلقائية للعنف والعدوان وهي الممارسة التي تتطلب توفر عوامل محيطة واجتماعية والتي تجعل من هذا السلوك ممكنا, وبالتالي فأن التحكم بهذه العوامل والسيطرة عليها ممكن أن يؤدي إلى الحد من العنف. وهناك الكثير من العوامل الاجتماعية والمحيطية والتي تعتبر ذات تأثير كبير في عمليات اكتساب السلوك العدواني وإثارته واستمراره, ومن هذه العوامل هي: حالات الإحباط, حالات التعرض لنماذج عدوانية, المكافأة وإسناد العنف, الإثارة الجسدية والمعنوية وكذلك الإثارة الجنسية. أما العوامل المحيطية التي لها تأثير في سلوك الفرد وتسهل انتقال العنف والعدوان فهي كثير ولعل أبرزها: الازدحام, والضوضاء, تلوث البيئة, الحرارة وكذلك المخدرات والكحول والعقاقير بمختلف أنواعها.

وفي هذا المجال, وبعيدا عن التفاصيل, أشير إلى علاقة العنف والعدوان بالإحباط, حيث فسرت النظريات القديمة هذه العلاقة مؤكدة أن هناك علاقة ثابتة بين الإحباط والعدوان, وأن العدوان ينبع من دافع يثار عندما تحبط مساعي الفرد في التوجه لتحقيق هدف معين, وبرأي هذه النظريات أن الدافع للتعدي قد يكون أو لا يكون ذو أساس بيولوجي إلا أن ارتباطه بالإحباط ثابت, بمعنى أن الإحباط يؤدي دائما إلى العدوان, والعدوان يسبق دائما الإحباط. أما الآراء الأكثر حداثة في هذا المجال فهي التي تؤكدان العلاقة بين الإحباط والعدوان ليست ثابتة بحيث يؤدي الإحباط دائما إلى ممارسة العنف ثم أن العدوان لا يأتي دائما نتيجة للإحباط وليس كل محبط عنيف, وكذلك ليس كل عنيف محبط, وأن هذا الأمر يتأثر بشكل كبير بالخبرة الفردية والتعلم والثقافة والتدريب, إلا أن هناك نوع من الإحباط المستديم والمتأصل ممكن له أن تثير العدوان والعنف بدرجة أكبر من غيره, فمثلا على المستوى الفردي فأن التربية السيئة للفرد منذ الصغر والإهمال وعدم الرعاية بإمكانها أن تكون مصدرا للعدوان, وعلى المستوى المجتمعي العام فأن الأزمات طويلة الأمد كالأزمات الاقتصادية والاجتماعية وما تسببه من معاناة جماعية وإحباط ممكن أن تؤدي في لحظات ما إلى العنف الشامل على خلفيتها المحاكاتية المتشابهة التي تؤدي إلى تجمع الناس وتنظيمهم وبالتالي اندفاعهم نحو العنف لإزالة أسباب الإحباط, ولعل في ذلك يكمن التفسير النفس اقتصادي لحدوث مختلف الثورات في التاريخ وما يصاحبها من أعمال العنف !!!!!!.         

   





246
المرأة والمتلازمة الثلاثية: الاضطهاد ـ الاعتداء ـ الاغتصاب

 في سيكولوجيا تأصل العنف


" لا عدالة بلا مساواة, ولا مساواة بلا حرية "
                                     ألكسي دو توكفيل



د.عامر صالح

في البداية قد يبدو من الصعب الخوض في تفاصيل هذا الثلاثي " الاضطهاد ـ الاعتداء ـ الاغتصاب " من الناحية المنهجية, نظرا لسعة الموضوعات فيه, من حيث الأسباب والمظاهر والنتائج الاجتماعية المعقدة التي يفرزها كل مكون من مكونات هذا الثلاثي وانعكاساتها الخطيرة على المرأة أولا وعلى عموم المجتمع والعلاقات الاجتماعية من جهة ثانية, إلا أنني ارتأيت الكتابة في هذا الثلاثي متجاوزا الدخول في التفاصيل, ومركزا على ما هو مشترك في الميكانزم الذي يجمع هذا الثلاثي ويسببه آلا وهو العنف الذاتي وآليته المسببة متزامنا مع التفسير الاقتصادي ـ الاجتماعي, وان كان الأخير يقرر طبيعته ومظاهر التعبير عنه, بل ويفسر آليته من وجهة النظر المطابقة. وعلى هذا الأساس نرى من الضروري قبل الدخول في التفاصيل الإطلالة السريعة على ماهية هذا الثلاثي والتفسيرات التاريخية التي تناولته وأغنته, ثم تلاحم ذلك واندماجه مع البعد السيكولوجي الذاتي والثقافي العام !!!!.

لقد كان للفكر الماركسي حضورا زخما في تفسير الطابع الاجتماعي لاضطهاد المرأة في كل المراحل التاريخية, فقد أكد أن هذا الاضطهاد ذو طابعا تاريخيا, أي بمعنى أن الواقع الدوني للمرأة في العائلة والحياة العامة والمجتمع ليس متأصلا في الطبيعة البشرية البيولوجية, أو من مشيئة الخالق أو من مقتضيات النواميس الأخلاقية العامة, بل هو نتاج ظروف تاريخية أولدته, قابلة للشرح والتحليل والتنبؤ, وبالتالي تمتلك طابعا نسبيا وانتقاليا, يمكن تجاوزها حال توفر الشروط التاريخية البديلة والتي تؤمن للمرأة موقعا متحررا ومتساويا الحقوق مع الرجل. كما أكدت الماركسية أنه قبل تطور المجتمع الطبقي وخلال الفترة التاريخية التي يسميها الماركسيون عادة الشيوعية البدائية أو مجتمع الكفاف, كان تنظيم الإنتاج الاجتماعي جماعيا وتوزيع أنتاجه منصفا. لهذا انعدم آنذاك كل اضطهاد أو استغلال مجموعة أو جنس من طرف آخر بسبب انعدام الأسس المادية لهذا النوع من العلاقات الاجتماعية. وكان الجنسان يشاركان في الإنتاج الاجتماعي مساهمين في ضمان معاش الجميع وبقائهم. وكان الوضع الاجتماعي للنساء كما للرجال انعكاسا لدور كلاهما اللازم في صيرورة الإنتاج.

أي بمعنى آخر إن ظهور اضطهاد النساء ارتبط أصلا بالانتقال من المجتمع اللا طبقي إلى المجتمع الطبقي, وتزامن تحول مكانة المرأة هذه مع نمو إنتاجية العمل المرتكز على الزراعة وتدجين الماشية وتكوين مخزونات, كما تزامن مع ظهور تقسيمات جديدة في العمل والحرف والتجارة, ومع التملك الخاص لنتاج اجتماعي فائض ومع تطور إمكان اغتناء البعض باستغلال عمل الآخرين. وعلى خلفية هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخاصة أصبحت النساء بفعل دورهن البيولوجي في الإنجاب, ملكية سهلة ومريحة. كانت النساء كالعبيد والماشية مصدر ثروات. فوحدهن قادرات على إنتاج كائنات بشرية جديدة يمكن استغلال عملها فيما بعد. لذا أصبح تملك النساء من طرف الرجال, وبالتالي امتلاكهم كل الحقوق على ذريتهن القادمة, أحدى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام الجديد المرتكز على الملكية الخاصة. وكان ظهور العائلة البطريركية " الأبوية " امرأ منطقيا باعتبارها أول مؤسسة اقتصادية اجتماعية تضمن تأيدا عبر الأجيال لانقسام المجتمع إلى طبقات " طبقة تملك ثروات وتعيش على عمل الآخرين, وطبقة لا تملك وتضطر للعمل لفائدة الآخرين. وقد تزامن ظهور العائلة البطريركية وإخضاع النساء داخلها مع باقي مؤسسات المجتمع الطبقي الوليد, ظهور الدولة بشرطتها وجيشها وقوانينها ومحاكمها لتعزيز وتكريس هذا الطراز من العلاقات. وعلى هذه القاعدة ولدت أيديولوجيات وأديان وأفكار الطبقة المسيطرة وأدت دورا حيويا لتبرير عدم المساواة بين الجنسين والإذلال الذي تعرضت له المرأة. ولابد من الإشارة هنا إلى قدرات فردريك أنجلس في تتبعه لتطور أشكال العائلة والزواج عبر التاريخ في مؤلفه " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة " والذي اعتمد على المنهج المادي التاريخي لماركس, وعلى المعارف التاريخية والانثربولوجية المتوفرة آنذاك , والتي أغنت هذا الجانب كثيرا !!!!.

وهكذا بدأت الرحلة التاريخية لعدم المساواة بين الجنسين عبر العصور والى يومنا هذا, متخذة طابعا تعسفيا وشرسا يشمل كل مناحي حياة المرأة, الشخصية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأسرية, وقد جردت من كل امتيازاتها, في الثروة والسلطة والسلاح, بعد إن انتزعت رمزية إلوهيتها " إلهة الخصب " كسيدة للسماء, ليحل محلها الإله الذكر كتعبير عن المتغيرات التي حصلت على الأرض. وبهذا أيضا بدأت رحلة المجتمعات الإنسانية في مسحتها الذكورية الغالبة عبر مختلف العصور, وبمختلف مظاهرها, من حروب مدمرة اقتصادية ـ سياسية ودينية, شكلت النساء والأطفال ضحاياها و خطوطها الخلفية ووفودها الاحتياطي, إلى جانب مختلف الانجازات المادية والفكرية عبر مراحل التاريخ وتشكيلاته الاقتصادية ـ الاجتماعية المختلفة, وصولا إلى عصرنا الحالي, في حروبه الإقليمية والعالمية والمحلية وبمختلف أسلحة الإبادة الفردية والجماعية, في مقابل انجازاته في التقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي والفكري والفلسفي والإيديولوجي !!!.

وعلى الرغم من انتشار أفكار العدالة والمساواة بين الجنسين على نطاق واسع في عالمنا المعاصر اليوم, واكتساب المرأة المزيد من الحقوق في مساواتها مع الرجل, وخاصة في أوربا و العالم الغربي المتمدن, واتساع نطاق مساهمتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقريريها لشأنها الخاص دون وصايا, إلا إنها إلى اليوم لا تزال مشروع منافسة غير متكافئ أمام الرجل في مجالات مختلفة, مهنية وقيادية وعلمية وحتى في الحوافز المالية والمرتبات, وتحول شرائح واسعة من النساء إلى قوى عاملة رخيصة يستعان بها في وقت الأزمات الاقتصادية, أو يتم تسريحها من العمل حال دخول المشروع الاقتصادي للمنافسة بين شغيلته. وتتحول العائلة إلى مشروع اقتصادي تندمج بالية السوق وتستجيب لحاجاته وتتأثر بأزماته. وإذا اقتنعنا بتجريد خالص بالفكرة الماركسية القائلة بأن انقسام المجتمع إلى طبقات يقف وراء استغلال المرأة, فأن المجتمعات الأوربية والأمريكية اليوم أكثر المجتمعات طبقية واستقطابا في الثراء والثروة, وهذا يعني أن الحديث عن العدالة بين الجنسين هنا لا يخلوا من تحفظات كثيرة. ناهيك إلى ما تتعرض له المرأة في هذه المجتمعات من مختلف سوء المعاملة من اعتداء وانتهاك لحرمتها وحريتها الشخصية,على الرغم مما قطعته من شوط بعيد في المساواة بين الجنسين, ويكفي أن نشير هنا إلى أن في أمريكا وحدها ترتكب كل ساعة 78 حالة اغتصاب, إلى جانب ما يتم من حالات اغتصاب كثيرة في دول أوربية مختلفة, كالسويد وانكلترا وسويسرا واسبانيا وبولندا وسلوفاكيا ورومانيا وغيرها من الدول الأوربية " ممكن العودة هنا إلى صفحات ألنت للمزيد من المعلومات ". أن ذلك يثير تساؤلا مشروعا: هل يكفي التفسير المادي الاقتصادي ـ الاجتماعي والثقافي فقط لتفسير اضطهاد المرأة والتطاول على حريتها واغتصاب جنسها و حقوقها, أم أن هناك أسباب أخرى سيكولوجية ـ ذاتية بحتة تختفي وراء ذلك !!!!.

أما بخصوص مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأسوة بأغلبية بقاع العالم المتخلف, حيث العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لاضطهاد المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الاستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها " كإرضاع الكبير ومفاخذته ", وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يندمج الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض !!!!.

وعلى الرغم مما حققته المرأة في مجتمعاتنا من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وهندسية وتعليمية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية أو عضوية برلمان وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها. فهل يعقل " على سبيل المثال " لدولة ترغب في بناء الديمقراطية والتعددية والمساواة, وفي برلمانها أكثر من 25 عضوا من النساء لا يتبادلون التحية بالمصافحة في البرلمان, انطلاقا من مسوغات " شرعية " بعدم الجواز في ملامسة الأيدي, والمشكلة ليست في المصافحة من عدمها, بل المشكلة كيف تؤسس لمزاج المساواة في أعلى هيئات حكومية, وليست لبناء جدار عازل من الريبة والشك بين الجنسين. أن تعليم المرأة ودخولها إلى سوق العمل وتحملها مسؤوليات عليا لا يعني مؤشرا لتحررها, بل يعني في مجتمعاتنا انه إضافة للمرأة لتزيد من قيمتها في المنافسة في الزواج والعمل أو دخلا إضافيا للأسرة يسهل ابتزازه, على الرغم من ضرورة ذلك للارتقاء بها وكخطوة أولى بسيطة على طريق المفهوم الشامل للمساواة بين الجنسين !!!!.

وتبدأ المرأة كمشروع للاستلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية, خارج إطار والديها, من أخوانها الذكور الصغار والكبار, حتى إذا بلغت اشتدت دائرة الرقابة عليها من الجميع, ثم يستقبلها زوجها فيعيد إنتاج تربيتها وفق لما يرتئيه مناسبا له, بل حتى أطفالها الذكور يساهمون في " تربيتها " وفرض دائرة من الممنوعات على حركتها وحريتها الشخصية, وتتعرض إلى شتى مظاهر الإساءات كامرأة أو زوجة, من الإذلال وجعلها تشعر بعقدة الذنب, وإساءة معاملتها جسديا بالضرب والتهديد والوعيد, ومنعها من التعاطي بالمال وإيجاد فرص عمل لكسب المال وجعلها معتمدة كليا على مال الرجل أو اغتصاب مالها الخاص والتصرف به, وعزلها اجتماعيا ومنعها من الاتصال بالآخرين إلا بموافقات مسبقة وبشروط محكمة في الصرامة ومراقبة تحركاتها عن كثب, إلى أين تذهب ومع من تلتقي, وجعلها تشعر بالذنب أمام أخوانها أو أولادها وتهديدها من عدم رؤية أولادها وحتى ممارسة الضرب والاهانة لها أمامهم, وممارسة الإكراه والتخويف والتهويل لها وإجبارها على القيام بمختلف التصرفات التي قد تؤذي فيها حتى نفسها !!!.

وتتعرض المرأة في مجتمعاتنا إلى شتى مظاهر التضييق والإكراه الجنسي, فحال وجودها بمفردها في الشارع أصبحت مشروعا للتحرش والمضايقات وسوء الظن بها وبطلعتها, فهناك إحصائيات تؤكد أن 60% من الفتيات المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي ابتداء من الملامسة لأجزاء الجسد وانتهاء بأقصاها وهو الاغتصاب التام لها, مرورا بالعنف الجنسي ضدها من الزوج وخاصة في البيئات الفقيرة والمتخلفة, والتي ترى في المرأة موضوعا جنسيا لا غير ويجب أن تستجيب لرغبات الرجل متى ما شاء وكيف ما اتفق بعيدا عن الرغبة للطرف الآخر, إلى جانب ظاهرة الاغتصاب واستخدام القوة وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بالضحية, وتشير التقارير الأمنية المصرية أن هناك ما لا يقل عن 27 حالة اغتصاب يوميا, أي ما يعادل 10000 حالة سنويا " نقلا عن الانترنيت ", كما تنتشر حالات الاغتصاب في دول المغرب العربي وفي لبنان وفي العراق " وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي له ", وكذلك في الدول الخليجية حيث ينتشر الاغتصاب في أوساط الدائرة القريبة للضحية, كسائق الأسرة أو الخادم ومن محيط العائلة والأقارب أو ذوي المناصب وغيرها. وعادة لا يجري في مجتمعاتنا التبليغ عن جرائم الاغتصاب نظرا لارتباطها بمفهوم شرف المرأة وأسرتها وعشيرتها, وخاصة في مجتمعات مسلمة تتدعي التدين, وعادة ما يلقى اللوم على المرأة باعتبارها هي مصدر الإغراء والمسبب لذلك !!!!.

ورغم تعرض المرأة في مجتمعاتنا إلى مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, إلا أن العنف الرمزي هو أكثر الأشكال ضررا وإيغالا في معاناة المرأة, وهو عنف غير فيزيائي, ويتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والايديويوجيا, وهو كما يصفه بورديو بأنه " شكل لطيف وغير محسوس من العنف ", وهو غير مرئي بالنسبة للضحايا أنفسهم. كما أن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم, ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف, بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل الاجتماعي. فالتربية "الذكورية " ابتداء من البيت والنشأة الأولى وما تتركه من انطباعات سيئة عن الأنثى بأنها مخلوق ثانوي تلقي بضلالها على الكثير من السلوكيات اليومية المذلة للمرأة, والمدرسة وتخلف مناهجها وما تبثه من معلومات حول الفرو قات بين الجنسين واستخدامها بشكل سيئ لتوجيه الطعون ضد المرأة وأهليتها الاجتماعية, الفصل  بين الجنسين في المدرسة وخاصة في مراحله الأولى يؤسس منذ البدء للريبة وسوء الظن بالجنس الآخر, والاستعانة بالتراث السلبي وانتقاء أحداثه بطريقة متحيزة بما يضفي إلى تصور المرأة كائنا شريرا وناقصا ولا يحمل إلا المنعطفات والأحداث السيئة, الأفكار والإيديولوجيات السائدة التي تكرس الشائع واللامنطقي عن المرأة وعدم مقدرتها على تجاوز الواقع, الاستعانة بتفسيرات الكتاب المقدس والسنة النبوية بما يفضي إلى تكريس اللامساواة وتشويه قدرات المرأة وإمكانياتها, كما يرد في " المرأة ناقصة عقل ودين ", وكذلك الفتاوى الدينية المختلفة التي تتدخل في التفاصيل الدقيقة للمرأة ووضعها في غير مكانها المناسب. أن هذا النمط من العنف الثقافي والتربوي الرمزي والخفي يجد له انعكاساته ليست فقط في ممارسات الرجال ضد المرأة, بل الأخطر من ذلك أن المرأة تعتبره قدرا وتتفاعل معه إلى درجة الدفاع الخفي عنه وعن مرتكبيه " أي الضحية تدافع عن الجلاد ". وهذا الفرق الواسع بين العنف في مجتمعاتنا وبين العالم المتمدن, حيث في الأخير لن يلقى الدعم والإسناد من المنظومة القيمية والفكرية السائد وبالتالي هو مدان على نطاق واسع بما يحد من إعادة توليده, وهو بعكس ما سائد لدينا حيث يلقى التفسير والإسناد والإثابة في أحيان كثيرة !!!!!.

وهكذا تتضافر منظومة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والفكرية والأيديولوجية لاستلاب المرأة وامتهانها بشتى سلوكيات الإذلال والحط من القيمة الشخصية لها والاجتماعية, ولا تفوتنا في هذا المقام دور العوامل النفسية الذاتية المتمثلة " بالعنف الكامن " الذي يتخذ مسارات مختلفة في الشخصية الفردية والمجتمعية, فالعنف لدى الإنسان قل نظيره ووظائفه في الكائنات الحية الأخرى, ففي الوقت الذي يقوم الحيوان بسلوك العنف حفاظا على نوعه أو في البحث عن عوامل البقاء كالبحث عن الطعام والأمن, وهو نادرا ما يرتكب ضد أبناء الصنف أو النوع الواحد, كما عدوانيته محدودة بحدود غرائزه وما منحته الطبيعة من قدرات محدودة لا يستطيع الحيوان تجاوزها, بل أحيانا يستسلم عند الحاجة ويكتفي بالقدر المقرر له, غير أن العنف أو العدوان الإنساني يتجاوز هذه الحدود, فالإنسان هو الكائن الذي يقتل من اجل القتل وهو الوحيد الذي يشن الحروب والعدوان الهادف المنظم والاغتصاب والى حدود التشويه والتمثيل في المعتدى عليه وحتى محاولة إيذاء النفس والقضاء عليها بالانتحار, كما أن الإنسان وحده هو الذي تفنن وطور أساليب الأذى والعدوان والحروب, من أسلحة بسيطة إلى أسلحة متطورة, كأسلحة الدمار الشامل بمختلف أنواعه !!!.

وتشير الملاحظات التاريخية والتتبعية للسلوك الإنساني أن الجنس " الذكوري " هو الأكثر عدوانية من الأنثى, مما يترتب عليه الرغبة في إخضاع الجنس الآخر وإيجاد مختلف التبريرات الفكرية والأيديولوجية والدينية والثقافية لتكريس الإخضاع. وإذا كان تقسيم العمل وانقسام المجتمع إلى طبقات هو مصدر عدم المساواة الأول, فأنه جاء ليفتح شهية العدوان ويقدح شرارتها الأولى, والعكس من ذلك فأن إعادة توزيع الثروات وترسيخ مجتمعات العدالة يرمي من ضمن أمور أخرى إلى إعادة رسم طبيعة هذه الغرائز والحد من تأثيرها الضار وخلق نمط جديد من التطبيع الاجتماعي ولكن لا يعني بالضرورة إلغائها أبدا, حيث وجودها الملموس في مختلف مظاهر السلوك, كما أن هناك وجه أخر لغريزة العدوان, والذي يطلق عليه " العدوان الرحيم أو المسالم " الذي يتخذ طابع المنافسة السلمية من اجل البقاء وتحسين ظروف العيش, ولعل في ذلك تكمن انجازات البشرية الايجابية, إلى جانب وجهها الكالح المتمثل في الحروب والدمار وانهيار الحضارات. ولعل لتلك الأسباب شيدت الديمقراطية والأنظمة التعددية ومجتمعات العدالة بين الجنسين, ونبذت الدكتاتوريات والأنظمة الفردية بمختلف واجهاتها السياسية والدينية وعلى مر العصور من أجل الحفاظ على النوع الإنساني وإشاعة فرص المساواة بين البشر بصورة عامة وبين الجنسين بشكل خاص!!!!.             


247
في سيكولوجيا الغربة والاغتراب وتفكيك الأوطان

" الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن "
                                علي بن أبي طالب (ع )

د.عامر صالح

يرد استخدام كلمة الغربة والاغتراب في دلالتين مختلفتين, فالغربة في اللغة تعني بعد وتنحى, وغرب الشيء أي لم يعد مألوفا, وأغترب الشخص أي نزح عن وطنه فهو مغترب, والغربة عادة موجه إلى الخارج اغلب الأحيان, أي أن الفرد يترك بلده مضطرا أو طواعية نتيجة إحساسه بالضعف أو الخوف أو الضياع وعدم الأمان من تقلبات زمن يعيشه ويحس به. أما الاغتراب فهو الإحساس بالغربة داخل الوطن وهو أقسى أنواع المشاعر الإنسانية وتتولد كنتيجة طبيعية للظروف المحيطة بالشخص, كالظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها. وفي معجم النفس والطب النفسي يوصف الاغتراب بأنه انهيار في العلاقات الاجتماعية الشخصية أو أنه الفجوة بين الفرد وذاته والانفصال بينه وبين الآخرين وما يتضمنه ذلك من غربة للفرد وانفصال عن مشاعره الخاصة التي تستبعد من الوعي. وكثير من الباحثين استخدم هذا المصطلح بمعنى: انعدام السلطة والانحلال, الانفصام عن الذات, الاستياء والتذمر, العداء والعزلة, إلا إن المصطلح له جذوره في الدين والفلسفة والثقافة وعلم الاجتماع, وهو ما سنأتي لاحقا للتلميح به.
أما بالنسبة للغربة وهي قرينة السفر أو الهجرة كخيار فردي له أسبابه المتشعبة, فقد أشار التراث العالمي ومنه العربي والإسلامي إلى فوائده العديدة, ففي أبيات شعر للإمام علي بن أبي طالب ( ع ) يقول فيه:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم, واكتساب معيشة وعلم, وآداب, وصحبة ماجد
فأن قيل في الأسفار ذل ومحنة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من قيامه بدار هوان بين واش وحاسد

كما يقول الإمام الشافعي في مشروعية الانتقال من مكان الضرر:
أرحل بنفسك من أرض تضام بها ولا تكن من فراق الأهل في حرق
من ذل بين أهاليه ببلدته فالاغتراب له من أحسن الخلق
فالعنبر الخام روث في مواطنه وفي التغرب محمول على العنق
والكحل نوع من الأحجار تنظره في أرضه وهي مرمي على الطرق
لما تغرب حار الفضل أجمعه فصار يحمل بين الجفن والحدق

وتتلخص فوائد السفر عند العرب المسلمين في: انفراج الهم والغم, واكتساب المعيشة, وتحصيل العلم, وتحصيل الآداب, وصحبة الأمجاد, واستجابة الدعوة, وزيارة الأحباب ورفع الإنسان نفسه من الذل. وفي التراث العالمي والأوربي منه بشكل خاص باع في قيمة السفر ومزاياه, وهو احد مصادرهم الهامة في اكتشاف المجهول من العالم في مجال الجغرافيا والمعارف والآثار, وكذلك لنشر أفكارهم ودياناتهم, ولعل في قول فوجريه دو مونبرون ما يؤكد ذلك: " من لم يرى إلا بلده يكن قد قرأ الصفحة الأولى فقط من كتاب الكون ". السفر والهجرة يعني التعلم, يعني أن يرى الإنسان ذاته كما هي بموضوعية وكم هو حجمه أمام العالم الواسع, فالانغلاق هو أن يرى الإنسان أكبر من حجمه وفي ديمومة أورام الذات, فالسفر يضعك في مكانك المناسب وما تصبوا إليه, ويجعلك متلقيا ومستمعا جيدا للمعلومة ومرسلا لها على قدر معرفتك في تواصلك مع الآخر, ويفتح أمامك أبوابا واسعة للمعرفة إذا كان لديك الفضول والدافع المعرفي للتعلم. فكم من عراقي وعربي كان يرى نفسه معتدا بذاته بحكم عيشه في ظل نظم معزولة عالميا تحجب عنه المعرفة الحقيقية, ولكنه عندما يصطدم بالعالم الخارجي يعرف ما هي حقيقته وما هي مكانته الحقيقية في عالم لا حدود له, مما تدفعه الرغبة إلى المزيد من المعارف والعلوم في عالم متغير بدون انقطاع !!!!.

وإذا كانت الغربة أو السفر والهجرة على المستوى الفردي تفتح منافذ الرحمة أمام الفرد للخلاص من الضغوطات والصراعات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية, والخلاص من الاضطهاد بمختلف مظاهره, أو الرغبة في تحصيل العلم, فأن عدم عودة قوافل المهاجرين وإبقائهم بعيدا عن موطنهم الأم يشكل نزيفا مستمرا وتهديدا لأي عمليات إعادة بناء للبنية السياسية والاقتصادية والثقافية للبلدان المصدرة للهجرة. ولعل الإحصائيات على صعيد البلاد العربية ترينا حجم الكارثة المحدقة في الحرمان من القوى المهاجرة, فقد بلغ عدد المهاجرين العرب في الخارج أكثر من 35 مليون يمثلون أكثر من 12% من سكان الوطن العربي, والمهم في ذلك هو نوعية العقول المهاجرة من مختلف التخصصات, والتي من بينها تخصصات إستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة, الطب النووي والعلاج بالإشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو ـ الكترونية, والهندسة النووية, علوم الليزر, تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية واقتصاديات السوق والعلاقات الدولية, طبعا إلى التخصصات المهمة الأخرى في نطاق العلوم الإنسانية والأدبية, فهناك علماء وكفاءات متميزة ومن ذوي السمعة العالمية المرموقة. وقد تسببت هجرة العقول العربية بخسائر مالية تجاوزت 200 مليار دور !!!!!.

ومادامت عوامل الهجرة وأسبابها قائمة فأن نزيفها لم يقف بل تفاقم في العقود الأخيرة على خلفية مجمل الأوضاع في البلاد العربية, وفي مقدمتها: القمع والإرهاب الديني والسياسي وحملات الاعتقال والتطهير للمعارضين السياسيين, التهجير العرقي والاثني والطائفي, انعدام الحريات السياسية والتعددية الحزبية وما يرتبط بها من نظم دكتاتورية بواجهات مختلف لا تسمح بالاختلاف في وجهات النظر, سيادة أجواء الإحباط وعدم الاستقرار السياسي والخوف من المستقبل, عدم توفر المناخ العلمي في مواقع العمل وانعدام الحريات الأكاديمية وضعف البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات البحثية, التخلف العام في البلاد العربية وضعف الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية, فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت بدون عوائد كبيرة على حياة الفرد والمجتمع, الانتماء إلى الأقليات القومية والدينية وعدم الإحساس بالأمن والأمان, استفحال البيروقراطية الإدارية والروتين في كل مفاصل المجتمع, بما فيه الجامعات ومؤسسات البحث العلمي والتطوير الاجتماعي, وأيضا أسباب أخرى ذات علاقة بالطموح الشخصي وتحسين ظروف العيش الفردي وحرية ممارسة المهنة !!!.

وإذا كانت هجرة الكفاءات العلمية والاقتصادية والمهنية تسبب الكثير من الخسائر المادية, متمثلة برأس المال واستنزاف الطاقات البشرية المدربة والمؤهلة والمنتجة وذهابها بعيدا عن موطنها الأم, وتدني الدخل القومي نتيجة لانخفاض مستوى الإنتاج, وعرقلة انجاز الخطط التنموية, وتغيرات في التركيبة السكانية من حيث النوع والعمر, والخسائر الاجتماعية  والخدمية والثقافية والحضارية, فأن الهجرة القسرية للأحرار والديمقراطيين واللبراليين من سياسيين ومفكرين ومثقفين ومبدعين هي الأكثر وجعا لذات المهاجر الذي يحمل الحلم الكبير في التغير, وأشد ألما يلحق بالوطن, حيث يضعف تشكيل البدائل المعارضة لفكر وثقافة أنظمة القمع والدكتاتورية في أرض الوطن, مما يترك هذه الأنظمة تمارس مزيد من الانفراد والتحكم والهيمنة والقمع على شعوبها وحجبها عن النهضة الفكرية والثقافية والتنموية, و يجعلها فريسة سهلة لفكر التطرف الديني والسياسي في لحظات التغير المطلوب, مما يزيد من تصحرها وتخلفها الفكري والحضاري !!!!!.

أما الوجه الآخر لتصدع الأوطان فهو الاغتراب عنها من داخلها, أي الإحساس بالغربة داخل الوطن وأنت فيه, والاغتراب هنا ضمن هذا المفهوم يمثل نمطا من التجربة التي يشعر فيها الإنسان بالغربة عن الذات, فهو لا يعيش ذاته كمركز لعالمه أو كصانع لأفعاله ومشاعره. ومعاني الاغتراب متعددة, اجتماعية ونفسية واقتصادية, ويمكن إجمالها في انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع, أي العجز المادي عن احتلال المكان الذي ينبغي للمرء أن يحتله وشعوره بالتبعية أو يحس الانتماء إلى شخص أو إلى آلية أخرى, فيصبح المرء مرهونا لها, بل مستلبا. وهذا ما يولد شعوريا داخليا بفقدان الحرية والإحباط والتشيؤ والتذري والانفصال عن المحيط الذي يعيش فيه.

وبعيدا عن التفاصيل في تتبع مفهوم الاغتراب في الفكر الفلسفي والاجتماعي بما لا تتحمله المعالجة في هذا المقال, نؤكد باختصار شديد أن الاغتراب في المفهوم الديني ولدى الأديان السماوية الثلاث " اليهودية والمسيحية والإسلام "  يلتقي عند مفهوم واحد, أي بمعنى الانفصال, انفصال الإنسان عن الله, وانفصال الإنسان عن الطبيعة " الملذات والشهوات ", وانفصال الإنسان  "المؤمن " عن غير "المؤمن ", وأن المفهوم الديني للاغتراب عن الآخر وعن الطبيعة ينطوي على أن الاغتراب ظاهرة حتمية في الوجود الإنساني وحياة الإنسان على الأرض ما هي إلا غربة عن وطنه الأسمى, وطنه السماوي, وهذا ما يفسر بعض من سلوكيات التطرف الديني في حرق الأرض تحت أقدام ساكنيها للفوز بالوطن الآخر على عجالة, أو القراءة المشوه لما يحصل من أحداث على الأرض أو التعجيل بحدوثها لأنها قدر محتوم على طريق  التعجيل السريع باستحضار علامات الظهور صوب نهاية الحياة الدنيا !!!!!!.

أما من الناحية الفلسفية فأن أول من صك مصطلح الاغتراب من الناحية المنهجية هو الفيلسوف الألماني هيغل, حيث رأى في الاغتراب هو أن الإنسان ينفي ذاته عن نفسه كفاعل فيتحول إلى موضوع, أي مفعول به, في رحلة هدفها البناء والتكامل الروحي. فعندما يتحول إلى موضوع يكون حينها غريبا عن محيطه, فيشعر الإنسان بالاغتراب عندما يشاهد نفسه عن بعد كأنه خارج عنها. ولا ينتهي هذا الشعور بالاغتراب إلا حينما يرى الإنسان نفسه وموضوعه متطابقان وذلك من خلال خلق هوية ثابتة تخصه هو وحده من خلال شيء آخر, كالعمل أو الوطن أو المال أو هواية معينة. فهي رحلة للبحث عن الذات والهوية. وقد اعتبر هيغل أن هناك وجهان للاغتراب: أ ـ الوجه السلبي الذي يؤدي للعزلة, ب ـ الوجه الايجابي والذي يؤدي للإبداع. وهكذا يتمحور لديه معنى الاغتراب حول شعور الفرد بأنه غريب عن ذاته, أو عن مجتمعه الذي يحيا فيه.

أما بالنسبة لكارل ماركس, فقد ربط الاغتراب بالعمل المأجور وموقع الإنسان بالنسبة له. فالإنسان ينتج عملا لكنه يصير عبدا له, بمعنى انه يشعر بالغربة عما هو ينتجه بنفسه. وتتفاقم هذه الغربة إذا علمنا أن في العمل إمكانيات حقيقية لتفتح طاقات الفرد وتطوره. وهكذا حول ماركس الاغتراب من ظاهرة فلسفية ميتافيزيقية. كما كان عند هيغل, إلى ظاهرة تاريخية لها أصولها التي تنسحب على المجتمع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. والاغتراب عند ماركس له وجهان أيضا: أ ـ  الوجه السلبي الذي يؤدي للعزلة, ب ـ الوجه الايجابي الذي يؤدي إلى الصراع الطبقي وبالتالي إلى الثورة والتغير.

وبين هيغل وماركس يطل علينا فورباخ ليفسر الاغتراب ومنبعه في الدين وبسبب الدين حصرا, بمعنى آخر أن الإنسان خلق الدين وأبتلى به, ويعتبر أن الاغتراب الديني هو أساس كل اغتراب, وأن الفكر الديني يقوم على فرضيتين أساسيتين: 1 ـ أن القصص الدينية روايات حقيقية لحوادث حقيقية, 2 ـ انه يمكن الاستدلال على قواعد الإيمان بالعقل واعتبارها حقائق منطقية. أما العالم اريك فروم الذي مثل التيار اليساري في مدرسة التحليل النفسي الفرويدية, فهو لم يرى في الاغتراب كنتيجة للصراع الجنسي كما اعتقد فرويد, ولم يراه أيضا نتيجة للصراع الطبقي الاقتصادي كما قرره ماركس, بل رأى في الاغتراب نتاج أمور وجودية, شخصية الطابع, اجتماعية المنشأ, ويرى أن المجتمع الحديث قد تعقد وأصبح نتاج الإنسان هو السيد مع انه يفترض أن يكون في خدمته وأن الإنسان أصبح أكثر شكا وقلقا وعزلة ووحدة وخوفا وان مجتمعه لا يهتم بتنمية علاقاته الإنسانية الصحيحة.

ومن هذا الاختزال الشديد لمفهوم الاغتراب فأن الاغتراب تتسع مظاهره لتشمل الاغتراب الديني, والاقتصادي, والسياسي, والثقافي, والتربوي والتعليمي, والاغتراب القيمي, والإيديولوجي, والاغتراب الناتج من التطور الصناعي والتقني والمعلوماتي, وجميعها مسببة للعجز والإحباط الذي يتملك الفرد وعزلته الاجتماعية والذاتية. واليوم وبعيدا عن جذور الاغتراب التاريخية, تمر مجتمعاتنا العربية بمرحلة خطيرة تتفكك فيها الذات الفردية وتغترب على خلفية تدهور البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, حيث الفقر وانعدام مستويات إنسانية لائقة للعيش من خدمات مختلفة أساسية, صحية وتعليمية وغيرها, ويغترب الفرد على خلفية تفكيك وسقوط مؤسسات الدولة, الإدارية والأمنية والعسكرية والخدمية ولا نقصد بذلك سقوط النظم الدكتاتورية صانعة العزلة والاغتراب الداخلي " فهذا شيء آخر ", وشيوع نمط من الحروب الداخلية, الدينية والطائفية والأهلية والاثنية, مما يؤدي إلى تجزئة الأوطان وانسياقها وراء مشاريع التفتيت الجغرافي بواجهات مختلفة " كما هو الحال في النموذج الذي يهدد العراق " مما يهدد نسيجها الاجتماعي والثقافي, تدهور المؤسسة التعليمية, بكادرها ومناهجها ومجمل أدائها وإعادة إنتاج الأمية من جديد, تصفية وتهميش الطبقة الوسطى من مختلف المجالات العلمية والمهنية والخدمية, التطهير الواسع للأقليات العرقية والدينية والعبث بالتركيبة السكانية والاثنية, تدمير الذاكرة الوطنية والثقافية, من حرق وسرقة للآثار والمتاحف والمكتبات الوطنية ونسف الرموز الايجابية من شخصيات وأضرحة وتماثيل وقطع أثرية بمبررات دينية وسياسية, غياب الأمن والآمان الفردي والمجتمعي مما يجعل الجميع تحت مشاعر فقدان الجدوى من العيش والإحساس بالضياع وفقدان الأمل بالمستقبل, ازدواجية الخطاب السياسي في الممارسة العملية, بين ديمقراطية معلنة وإقصاء ودكتاتورية شرسة على ارض الواقع تمتد لتشمل كل مناحي الحياة وتفاصيلها اليومية بما فيها تقرير لقمة العيش !!!!.

أن الوجه السلبي للتجربة العراقية والذي بدأت ملامحها على ما يبدو سهلة التعميم في دول عربية إن لم تكن أكثر شراسة, تلك هي بداية الأحداث في مصر وليبيا واليمن وغيرها, مما يهدد الأوطان بفقدان الأمل بثوراتها وانجازاتها التاريخية, ويضع هذه البلدان أمام مخاطر التفكيك والانهيار للدولة والمجتمع, بعد أن أسست الأنظمة القمعية عبر عقود لميكانيزم هذا الانهيار. فهل للاغتراب الذاتي والاجتماعي الناتج من الأزمة المستعصية أن يؤسس لخلق مزاج ايجابي يحمي الأوطان كما استقرئه كارل ماركس وهيغل وغيره. أن ذلك يرتبط بشروط النضج الذاتي للأفكار وإيديولوجيات العدالة الاجتماعية وقدرتها على احتواء الأحداث المتسارعة !!!!.       










248
الثالوث المحرم والمنتهك " الدين ـ الجنس ـ السياسة " في الفضاء العربي الافتراضي
مدخل سايكواجتماعي
   

" الحرية أثمن ما في الوجود, ولذلك كان ثمنها باهظا " 
                                                                         ميخائيل نعيمة


د.عامر صالح

لقد تمكنت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية من خلق ظروف جديدة للتواصل مع العالم الداخلي ضمن الحدود الجغرافية التقليدية للبلد الواحد من جهة ومع العالم الخارجي من جهة أخرى, وبكل ما في الأخير من أفكار وسلوكيات وثقافات وإيديولوجيات, وانجازات في مختلف الأصعدة, العلمية, والأدبية, والمهنية, والتقنية, بل ومع كل ما أنجزته البشرية في ارثها وحاضرها المدون و ألتماس آفاق مستقبلها. وكان ذلك بفضل الشبكة العنكبوتية الانترنيت وما يتبعها من شبكات التواصل, كالهواتف الذكية, والفيسبوك, والتوتير, اليوتوب وغيرها, مما اختزل ضرورات المكان والزمان في التواصل ألمعلوماتي.

وعلى خلفية الإحساس بالحاجة المتزايدة إلى هذا الانجاز انطلقت رحلة الانترنيت في البلاد العربية وانتشاره, ومن ورائه شبكات التواصل الاجتماعي, حيث يصل عدد مستخدمي الانترنيت إلى أكثر من 75 مليون مستخدم "حسب موقع نقودي كوم 2010 "), و إذا حسبنا الذين يربطون الهاتف الجوال بشبكة الانترنيت فأن عدد المستخدمين للانترنيت يتضاعف, وقد حققت البلاد العربية طفرة في نمو استخدام الانترنيت في السنوات الأخيرة بلغت 1200% " حسب مؤتمر عرب نت 2010 " , ولكن مع هذا النمو المطرد لا تزال نسبة استخدامه متدنية, حيث تتجاوز في أحسن الأحوال 2% قياسا بالاستخدام العالمي. وعلى العموم هناك اتجاهات نمو متصاعدة لاستخدام شبكة الانترنيت في العالم العربي !!!.

وقد جرت العديد من التجارب العربية لاستخدام الانترنيت وتوسيع نطاق عمله, كمحاولات لبناء الحكومات الالكترونية, ونشوء فضاءات معلوماتية مختلفة, علمية, وتعليمية ـ تربوية, وإدارية, ومهنية تخصصية: تجارية ومالية وصناعية واقتصادية, وقد سهلت نشوء بعض من التجارب فيما يسمى "بالمجتمعات" الافتراضية استنادا إلى أهدافها واهتماماتها المشتركة. ولكنها في البيئة العربية لا تزال أسيرة لمعوقات ذات طابع كمي وكيفي, والمتمثلة في تخلف البنية التحتية الاقتصادية والتكنولوجية الداعمة, والبنية السياسية وما يرتبط بها من حريات عامة وديمقراطية تؤمن سيولة نقل المعلومات وتبادلها والحد من الرقابة عليها واحتكارها, ثم العوامل الثقافية والتربوية وما يتعلق منها بالموقف من قبول التغيرات في القيم والاتجاهات السلوكية العامة الناتجة من استخدام التقنية, وكذلك الانتشار الواسع للامية في الوطن العربي الذي يحد من شيوع الانترنيت , ثم الموقف من المرأة والحيلولة دون مساهمتها في الانتفاع من خدمات الانترنيت أسوة بالرجل !!!!.

وفي الوقت الذي نشأت فيه الفضاءات والمجتمعات الافتراضية في البلدان الأم للشبكة العنكبوتية على خلفية التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والإيديولوجي والثقافي والصناعي والتكنولوجي, الذي ضمن مستويات من العدالة الاجتماعية والحريات العامة والفردية والديمقراطية لازلنا نفتقدها, وكان الفضاء الافتراضي نتاج لها وامتدادا لثقافتها, أي بمعنى آخر أن المجتمع الواقعي هو الذي أنتج المجتمع الافتراضي بما فيه من ايجابيات أو سلبيات, فأن المعادلة في مجتمعاتنا معكوسة تماما, حيث الافتراضي يحاول أن يخلق الواقعي, ولكن الافتراضي يدخل في صراعات عنيفة وصعوبات ميدانية مع الواقعي ناتجة من البون الشاسع بينهما, ويحاول الواقعي إبقاء الافتراضي معلقا في فضاءه الالكتروني دون أن يسمح له بأن يكون الأخير امتداد طبيعيا له, لأن ذلك يعني ممارسة النقد للبنية الفكرية والإيديولوجية والعقائدية لما هو سائد وهذا ما لم يسمح به الفضاء الفيزيقي الواقعي, بل هو يحاول النفاذ إلى الفضاء الافتراضي وفرض أجندته وإفساد الايجابي منها !!!!!.

و على هذا الأساس لا نستغرب أن يستحوذ الثالوث المحرم" الدين ـ الجنس ـ السياسة " على مساحات واسعة في شبكات التواصل الاجتماعي العربية, بسبب من تابوية هذا الثلاثي وسريته الممقوتة من جهة, ومن جهة أخرى فأن تعديل العلاقة أو إعادة رسمها بين المكونات الثلاثة لهذا المحرم تشكل نقطة الانطلاق لكل تغير ايجابي مرتقب. فلا تزال الحريات العامة, من حرية الرأي والتعبير والمشاركة في صنع القرار مقموعة في بلادنا, وبالتالي تشكل حيزا كبيرا في الفضاء الافتراضي السياسي, كما أن الحديث عن الدين وعلاقته بالسياسة, وهل يجوز فصل الدين عن السياسة وما هي آفاق العلاقة بينهما ومن ثم العلمانية وسبل ومناخ ممارستها في الوطن العربي لا تزال من الموضوعات الساخنة في شبكات التواصل الاجتماعي, وكذلك العلاقة بين الجنسين وطبيعتها وآفاقها لا تزال من الموضوعات الشائكة ضمن موضوعات التواصل الاجتماعي ويعبر عنها بمظاهر مختلفة في الفضاء الافتراضي, كما أن الجنس والمرأة بشكل خاص وهي تقع في المنتصف, بين تفسيرات الخطاب الديني لحقوقها والتزاماتها وحدود تصرفاتها, وبين الخطاب السياسي وفهمه لحرية الفرد, رجلا كان أم امرأة, وهكذا على ما يبدو فأن كل ممنوع في الفضاء الواقعي هو مسموح و يمكن تداوله والحوار فيه في الفضاء الافتراضي !!!!.

وعلى خلفية الفهم المتباين للثلاثي المحرم " الدين ـ الجنس ـ السياسة " وفي ضوء انتفاء مجتمع واقعي يحمي الحريات الدينية والجنسية والسياسية ينشأ في الفضاء الافتراضي تجسيد لها بأشكال تثير الإعجاب أحيانا, وفي أحيان أخرى تثير التحفظ على محتواها ومصداقيتها, وتلعب شبكات التواصل الاجتماعي في هذا الميدان المجال المناسب لحالات تفريغ المكبوت لما يعانيه الفرد من ضغوطات وصدمات في المجتمع الواقعي في الدين والجنس والسياسة وغيرها دون اكتراث لنتائجها وتحمل تبعاتها بسبب من انعدام كينونتها الواقعية في المكان والزمان !!!.

لقد أتاح الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي فرص واسعة للحديث عن الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية, وتعبئة الرأي العام في نبذ قيم الدكتاتورية والعنف والاضطهاد, وعزز من مكانة الأفكار الديمقراطية وضرورتها في إدارة الشأن العام, مما ساعد ذلك كثيرا على تجاوز الثقافة التقليدية ومعاييرها  وزعزعة وضرب الثقافة " الأبوية " وسلطتها في العمق والمتمثلة " براعي " الشعب, وقائد الأمة, والملهم الأوحد, وقائد الضرورة, والمنتخب مدى الحياة, وغيرها مما تجلت به الثقافة العربية بوجهها المتخلف, كما أن هناك حديث مفعم بالمساواة بين الجنسين وضرورة مشاركة المرأة كاملة بالرجل في الشأن العام, وأن تقرر مصيرها بيدها دون وصاية تذكر, وهناك أيضا خطابا طموحا لرسم ملامح العلاقة بين الدين والسياسة. ولكن إلى أي حد يستطيع الفضاء الافتراضي ببعده الايجابي إيقاف تأثير مد الإيديولوجيات المتخلفة والفكر المتشدد والشمولي, الديني منه والسياسي, في ظل ضعف البدائل االايديولوجية والأفكار التحررية على ارض الواقع !!!.

في جانب مغاير وجد التطرف الديني في الثورة التكنولوجية والمعلوماتية ساحته المناسبة في خلق فضاء افتراضي متطرف يصعب الإمساك بخيوطه أو السيطرة عليه, فأنطلق بكل حمولته الإعلامية الخبرية والفكرية والفقهية عبر المجلات الالكترونية والصفحات المختلفة والأندية وغرف الدردشة لنشر الأفكار الهدامة والفتنة الطائفية والدينية بين أبناء الوطن الواحد وكذلك مع العالم الخارجي, مما حول هذه المواقع إلى ساحة حرب مكشوفة لترويج الفكر المتشدد وتكفير أتباع الديانات الأخرى السماوية منها وغير السماوية وتهديد النسيج الاجتماعي بمزيد من التشرذم والانقسام مما يعرض استقرار الوطن إلى مخاطر جدية غير محسوبة النتائج والآفاق, ومستندا إلى المتخصصين في "الفتاوى الشرعية", التي تحلل الحرام وتحرم الحلال وتعث في الأرض فسادا لا حصر لحدوده ومظاهره, وتجد في جيوش الشباب المظللين في الشبكة العنكبوتية وقودا سريع الاحتراق عبر استمالتهم وغسل أدمغتهم وزجهم كمشاريع قتل في دائرة صراع ديني اجتماعي عقيم لا يحمل أي قيمة ايجابية لا لله ولا للوطن. أما الحديث عن دين وسطي يجنب الفتنة والتعصب الديني والطائفي في الفضاء الالكتروني كما هو على الأرض يبقى طموحات مشروعة لمحبي الإنسان والدين والوطن, إلا أن إمكانياته محدودة وغير مؤثرة, إلى جانب ما يثيره من تساؤلات حول مفهوم الوسطية في الدين وما هو سقفها, وخاصة عندما يتحول الدين إلى مشروع سياسي على الأرض, فأن تبادل المواقع بين ما هو وسطي وما هو متطرف يصبح سهلا, بل تنتفي فيه الحدود الفاصلة عندما يدعي الجميع الحكم باسم الإله المطلق وخلافته في الأرض, حيث يكون تكفير الآخر وإزاحته سيد المشهد السياسي على خلفية تفسير الخطاب الديني للتشبث بالسلطة !!!!.

أما على صعيد العلاقات بين الجنسين عبر الفضاء الافتراضي فقد وفرت شبكة الانترنيت فرصا واسعة " للعشق " الالكتروني الذي أماط اللثام عن المحرم الجنسي الذي يغص به المجتمع العربي الواقعي, بل يكاد هذا الموضوع البكر ينتقل بكامل قدراته الكامنة إلى الفضاء الالكتروني ليعبر جزئيا عن نفسه بمختلف مظاهر ممارسة " الحب " من غزل ودردشة واستمتاع تصل في أحيان كثير إلى الإحلال محل الإشباع المباشر للدافع الجنسي عبر تقنيات الالتقاء بين الجسدين عن بعد, وبعيدا عن ضغوطات البيئة المباشرة المتمثلة في البيت والشارع والثقافة السائدة والقبيلة والدين وكل الموروثات المانعة للعلاقات المباشرة بين الجنسين على الأرض, مما يهدد بنشوء عالم آخر منافي بكليته للأعراف السائدة, مما حدي برجالات الدين والمفتين كعادتهم الدخول على خط التحريم واعتبار ذلك من المحرمات ولكنها لاتصل إلى حد الزنا, باعتبار أن الزنا يثبت بوجود " الإيلاج ", واعتبروا العشق الالكتروني حرام يجب التوبة عنه, فهو محرم لديهم في الأرض كما في السماء الالكتروني !!!!.

وقد صاحب العلاقات الافتراضية بين الجنسين الكثير من النصب والتحايل بل والتنكيل بين أطراف العلاقة, وإخفاء الوجه الحقيقي لكلا طرفي العلاقة عبر إعطاء صورة مزيفة وغير واقعية عن كلاهما, وصلت إلى حد أن كلا طرفي العلاقة من جنس واحد ذكور أو إناث وهم لا يعلمون, ولكن أيضا هناك فسحة محدودة من النجاح في هذا الجانب قد تصل إلى حد الزواج لاحقا, طبعا إلى جانب ما يؤديه هذا النوع من العلاقات في التخفيف من شدة الكبت والعزلة الاجتماعية بين الجنسين. ولعل أفضل ما تم التوصل إليه من حلول توفيقية في هذا الجانب هو إيجاد مكاتب الزواج الإسلامي الالكترونية, عبر ترك معلومات موثقة عن الرجال والنساء لكي تسهل مهمة اختيارهم لبعضهم, وقد نشطت هذه المكاتب في الكثير من الدول العربية وخاصة مصر لمعالجة ظاهرة العنوسة التي بلغت أكثر من 10 ملايين امرأة والعزوبية في أوساط الشباب, وقد أجيزت هذه المكاتب شرعيا, وقد نشأت في أحضان هذه المكاتب تجارب زوجية ناجحة وأخرى فاشلة. وتبقى تنظيم العلاقات بين الجنسين تتجاوز حدود إنشاء مكاتب شرعية أو الإفتاء بعدم صلاحية الفضاء الافتراضي, فهي أولا وأخيرا مرتبطة بإعادة صياغة العلاقة بين الجنسين على ارض الواقع على أسس اجتماعية تضمن المساواة بينهما, وذلك مرتبط بوضوح أفكار العدالة الاجتماعية وسقفها في هذه البلدان !!!!.

وفي السياسة لعب الفضاء الالكتروني دورا كبيرا في فضح وكشف الأنظمة الرجعية والدكتاتورية وثقافة الاستبداد والانفراد بالسلطة, سواء من قبل سلطة الحزب الواحد أو سلطة العائلة المالكة, مما هيأ ظروفا مواتية للتعبة الحشدية العارمة, ولعل أفضل حالات تجسيدها هو الثورات العربية الالكترونية التي انطلقت في بعض من العواصم العربية مسقطة فوبيا الخوف من الأنظمة العربية, والأجهزة المخابراتية والأمنية التي لا تقهر, ونقلت الخوف إلى ملعب الأنظمة السائدة, ووضعها أمام مسؤولية وضرورة الإصلاح الجذري في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, كما استطاعت هذه الثورات أن تحييد شرائح واسعة من النظام ومؤسساته وأجهزته وتعطيلها عن العمل القمعي, إن لم تنظم إلى صفوف الثوار في بعض منها, كما عززت إمكانية قيام الثورات دون الانتظار إلى النضوج التام للعوامل الذاتية للثورة المتمثلة بأحزاب المعارضة, كما روجت هذه الثورات لأفكار العدالة الاجتماعية وضرورة بناء نظم قائمة على الديمقراطية والتعددية الحزبية. ويبقى مستقبل الثورات على الأرض رهن القدرات الذاتية للأحزاب والقوى الفاعلة على الأرض لاستقراء مستقبل الثورات ونجاحها في تحقيق أهدافها في الحق والعدل والمساواة !!!!.

أن إعادة النظر في العلاقة بين عناصر الثالوث المحرم " الدين ـ الجنس ـ السياسة " يعني مما يعنيه إعادة النظر بصياغة الإنسان المعاصر ومكانته الحقيقية باعتباره مصدر للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية, وإعادة صياغة العلاقة بين الدين بالسياسة بما يضمن مكانة متميزة للدين في حياة الناس ويهيئ ظروف أفضل للسياسة أن تعالج هموم الناس وانتشالها من الفقر والتخلف الاجتماعي, وأن إعادة النظر في العلاقة بين الدين والسياسة يعني في المحصلة النهاية التصحيح الجذري للعلاقة بين الجنسين وإعادة تشكيلها على أسس سليمة تضمن التطور المتكافئ لكلا الجنسين في الحقوق والواجبات والعلاقات العامة. أن ذلك يعتمد بشكل كبير على مدى قدرة أفكار وإيديولوجيات التمدن والديمقراطية والمساواة للمساهمة في التغيرات الثورية الجارية على الأرض العربية, وهي القادرة على تهذيب الافتراضي وعنفوانه واندفاعاته كي يصبح نموذجا أكثر واقعية !!!!!.

   

   
 







249
الثورات العربية والشبكة العنكبوتية بين تداعيات الماضي وإشكالية الحاضر

" حين يطرق الرقي باب أمة من الأمم يسأل: أهنا فكر حر فان وجده دخل... وإلا مضى. "
                                                                                توماس بين

د. عامر صالح

إذا كانت الثورات العربية اليوم هي إحدى النتاج البعيد للتقدم الالكترومعلوماتي الذي حصل في العالم المتقدم والغربي منه بشك خاص, فهي يفترض أن ترتبط اشد الارتباط بطبيعة العصر وآخر منجزاته, وخاصة في مسحته العامة المتمثلة في استنبات فكر العدالة الاجتماعية والديمقراطية وإيديولوجيات التحرر الاجتماعي والتي شكلت بمجملها ظروفا تراكمية مواتية لتحقيق تلك الانجازات, وليست فقط في استخدام التقنية المعلوماتية كأداة أو وسيلة  لأحداث فعل الثورة فقط, فهناك فرق كبير بين استخدام التقنية في كل مكان وبين ظروف استنباتها في الأرض التي أنتجتها, ولا يعني بأي شكل من الإشكال أن مستخدم التقنية هو حامل للفكر الذي أنتجها, وتلك هي احد المفارقات في انتشار التقنية في بقاع العالم دون أن يرافقها تحديث للقيم والإيديولوجيات مطابقا له في الأرض الأم التي ابتكرتها حتى وان كان ذلك مطاوعا لخصوصية مختلف المجتمعات التي تستخدمها, فالجميع اليوم يستخدمها, من الإرهابي القاتل للانقضاض على ضحيته, والسياسي الناشط لترويج خطابه, والدكتاتور لمسخ وتشويه عقول الناس, والمتطرف الديني والعنصري لإثارة الفتنة والتعصب بألوانه, إلى جانب الأعمال الأخرى ذات الطابع المهني والإداري والحكومي لتسهيل الأعمال العامة وغيرها !!!!.

ومن المسلم به أن المجتمعات القائمة على الثورة المعلوماتية وتقنياتها هي مجتمعات تحسن استخدام المعرفة في تسير الأمور واتخاذ القرارات السليمة والمدروسة عبر المعالجات الدقيقة لها مما يحد أو يضعف من سقف ارتكاب الأخطاء المختلفة, ويمكن القول أن العنصر البشري المتسلح بالمعارف العصرية هو الأساس لكل تنمية بشرية واقتصادية واجتماعية وسياسية, وهو العنصر الفاعل لإحداث التغير السياسي نحو الأفضل بمقاييس العصر وتطوره, وبالتالي يعتبر الإنسان هو الفاعل الأساسي وهو معين الإبداع الفكري والإيديولوجي والمعرفي والمادي, كما انه الغاية المرجوة من أي تغير شامل أو تنمية بشرية باعتباره العنصر الفعال الذي يؤثر ويتأثر ويبدع ويسوق إبداعه وينهل من إبداع الآخرين. ويأتي في هذا السياق دور شبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتوتير ويتوب وغيرها من مرئية ومسموعة ومكتوبة لتكون النواة المطلة على العالم وتجاربه, وخاصة في لحظات التغير والتحول الحاسم !!!.

المهم في كل هذا ليست أن تمتلك الجهاز أو الأداة التي تعينك على إحداث فعل التغير واندفاعاته الأولى, بل المهم في كل ذلك أن تحول الأداة إلى مستنبت في البيئة التي يجري فيها التغير, وما يترتب على هذا الاستنبات من عمليات لازمة ومصاحبة له في البيئة الاقتصادية, كإعادة هيكلتها وبنائها على أساس التكنولوجيا المعاصرة, وبشكل خاص تكنولوجيا المعلومات, ثم البعد الاجتماعي وما تمليه عملية الاستنبات من تحول في القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية والاتجاهات السلبية السائدة, ابتداء من نظرة الفرد إلى نفسه والى أسرته ومحيطه الأوسع وعلاقته بالجنس الآخر, وكذلك البعد التربوي والثقافي والتعليمي الذي يعطي أهمية خاصة للمعلومات والمعرفة والاهتمام بالقدرات الإبداعية للإفراد وتوفير المناخ اللازم للقابلية الفردية للنمو في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية, ونشر العلم والمعرفة والثقافة الحرة بين مختلف الشرائح والطبقات والفئات الاجتماعية. وتأتي هنا الأهمية القصوى لنشر التعليم على نطاق واسع بمختلف مراحله, بدء من الحضانة ورياض الأطفال صعودا إلى الجامعات ومراكز البحث العلمي والتقني, ويتزامن هذا مع المحو الشامل والكامل للامية الأبجدية والحضارية, فليست من المعقول أن تستنبت تكنولوجيا المعلومات في بيئة فيها الأمية أكثر من 45% من السكان وتتراوح فيها أمية النساء 80% !!!.

كما أن تحديث البنية السياسية على أسس عقلانية قوامها استخدام المعلومات ومراجعتها بروح نقدية وعدم الاستسلام للنصوص الجاهزة بمختلف مظاهرها, الدينية والاجتماعية والفكرية والإيديولوجية, ويعتمد هذا بشكل كبير على حرية تداول المعلومات وتوفير مناخ سياسي مبني على الديمقراطية والتعددية السياسية والعدالة والمساواة وإقحام الجماهير في عملية اتخاذ القرارات والمشاركة السياسية الفعالة. طبعا ناهيك عن البعد التكنولوجي الذي يعني ضرورة الاهتمام بالوسائل الإعلامية والمعلوماتية وتكييفها حسب الظروف الموضوعية لكل مجتمع سواء من حيث مدخلاتها وبرمجياتها, وكذلك توفير البنية اللازمة من وسائل اتصال وتكنولوجيا الاتصالات وإشاعتها على نطاق واسع بين الناس.

في السياق التاريخي فأن الأنظمة العربية  قد فشلت لعقود خلت في إحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والتي ترتكز بالأساس على الأخذ بمعطيات التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي وآخرها تقنية المعلومات, والتي تستند بشكل أساسي إلى كفاءات وقدرات الطبقة الوسطى, تلك الطبقة التي يفترض أن تكون مبدعة ناقدة ومحللة, طبقة من المفكرين والمبدعين والعاملين, طبقة قادرة على استيعاب العلم وتوظيفه في خدمة المجتمع, طبقة قادرة على استيعاب وتطوير وتوطين التكنولوجيا واستنباتها, تلك الطبقة القادرة على تحقيق التوازن الاجتماعي والسلام الاجتماعي, وتحقيق الترابط بين الطبقة العليا والدنيا, وهي الطبقة القادرة على تحريك المجتمع نحو التقدم, من خلال منهجية علمية وسياسية محددة وخطط وبرامج تنفيذية. وهي الطبقة المؤسسة للمجتمع المدني بكل مؤسساته, وهي أساس القيادات في العمل النقابي, وفي العمل السياسي من خلال الأحزاب السياسية, ومن خلال مختلف الاتحادات والهيئات غير الحكومية. الطبقة الوسطى هي طبقة المهنيين: من أطباء, مهندسين, مدرسين, أساتذة جامعات ومحامين, وهي كذلك طبقة العلماء المشتغلين بالبحث العلمي, وأيضا طبقة التكنولوجيين أو كوادر جماعات التكنولوجيا والمؤسسات التكنولوجية, وهي طبقة المديرين الناجحين الذين يقومون بالتخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقويم للمشروعات وهي طبقة القادة العسكريين, وتشمل كذلك حملة المؤهلات العليا وبعض المتوسطة والمثقفين وكبار أصحاب الحرف والتجار وأصحاب المهن الحرة أصحاب الصناعات الصغيرة, وهي الطبقة الحامية للهوية الثقافية للأمة, وهي الأكثر طواعية لمجاراة ظروف العصر والاستفادة من التقدم الحضاري العالمي.  والميزة الأساسية في الطبقة الوسطى رغم عدم تجانس أبنائها أنهم يعتمدون على عملهم وفكرهم ولديهم طموحات وتطلعات عالية ومعظم أفرادها متعلمون تعليما متوسطا أو عاليا.

لقد لعبت الشرائح الاجتماعية الوسطى دورا ايجابيا في مطلع القرن الماضي وفي عقد الستينات وبداية السبعينيات في حركة التحرر الوطني في المنطقة وتصدرت قيادتها, في الأحزاب البورجوازية الوطنية وحتى في الأحزاب اليسارية من ماركسية وشيوعية وغيرها وقدمت تضحيات جسام, والى اليوم وبغض النظر عن طبيعة أدائها وتعقيدات الظروف المصاحبة لعملها فهي لازالت تتبوأ مكانة متقدمة في هذه الحركات انطلاقا من سقف طموحاتها العالي, إلا إن دور هذه الطبقة قد تآكل تدريجيا بفعل عوامل عديدة لعل أبرزها هو توقف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الذي لم يعيد إنتاج هذه الطبقة وتنظيمها على مستوى عالي, وتعرض هذه الطبقة إلى سياسات الملاحقة والاضطهاد والتصفيات السياسية والجسدية مما ساهم في إضعاف دورها في التغيرات المرتقبة, كما ساهمت الأنظمة الدكتاتورية في تهميش دورها وتحويل شرائح واسعة منها إلى تجمعات و"حشود قطيعيه " موالية إلى حكومات الحزب الواحد, مما أصاب هذه الطبقة بالعقم الفكري والثقافي والسياسي وافقدها حيويتها و خصوصيتها الإبداعية, طبعا إلى جانب حصر أداء هذه الطبقة في ظروف البيروقراطية القاتلة وفي وسط بيئة متخلفة على كل الأصعدة !!!!.

واليوم حيث تندلع الثورات العربية على خلفية تفاعلات العوامل الخارجية, منها ما هو تقني معلوماتي من استخدام محدود للتقنية الغربية التي تجسدها شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة, ومنها ما هو عسكري الذي تعكسه التدخلات الأجنبية الغربية والإقليمية وآخر يحمل أجندة سياسية باتت معروفة لكل من يتابع الأحداث, إلى جانب اختمار العوامل الموضوعية للثورة منذ بعيد وليست اليوم والمتمثلة بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي وانتشار الفقر والأمية وانعدام الخدمات العامة المختلفة. لقد اندلعت الثورات في ظل غياب واضح لدور الأحزاب والقوى الديمقراطية والأطر القيادية الوسطى في الميدان, وكأن هذا الضعف الذاتي هو الذي خلق القوة العفوية للثورة في مراحلها الأولى والذي أدى إلى سقوط بعض الأنظمة القمعية وبقاء الآخر منها تحت الضربات الغير محسومة, وهو فعل إخطبوطي ذو طبيعة تطابق طبيعة شبكة التواصل الاجتماعي العنكبوتية المتكونة من عدة رؤوس, فما أن يخمد رأس حتى تولد رؤوس جديدة وهكذا تواصليا. إلا أن هذه القوة العارمة العفوية تتحول إلى ضعف ملحوظ عندما تنتقل من مرحلة إسقاط الدكتاتورية إلى الشروع ببناء دولة المؤسسات الديمقراطية, ذلك الضعف هو الفراغ السياسي والفكري والإيديولوجي وما يتركه من ثغرات قاسمة في تنظيم الكتل الحشدية الثائرة المتسبب من غياب الكادر الوسطي السياسي وحتى المهني والعلمي والاجتماعي والاقتصادي الذي يفترض أن يضفي على الأحداث روح التنظيم والتخطيط والتوجيه ووضوح الرؤى المستقبلية, مما انعكس لاحقا على الشباب الثائر في فوضى عارمة وانقسامات داخلية وارتكاب أخطاء جسام يصل بعض منها إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية كما فعلته النظم الدكتاتورية, ويرافقها أيضا عدم الإذعان لنداء العقل في إلقاء السلاح والتوجه للبناء !!!!!!.

أن الثورات العربية تتركنا أمام قراءات متفاوتة لها وهي تطابق طبيعتها في مختلف التوجهات والمسارات, فهي تركت لنا دروسا غنية, ففي مرحلتها الأولى تركت الانطباع الذي لا غبار عليه هو تأكيد مجدد لقدرة الشعوب على الإطاحة بأنظمة القمع والتسلط والدكتاتورية, وقد اتضح ذلك بسقوط أسطورة الأجهزة المخابراتية والأمنية التي تم بنائها لعقود, كما استطاعت هذه الثورات أن تحييد شرائح واسعة في أجهزة النظام المختلفة, والبعض الآخر منها أعلن ولائه مع الثوار, كما شكلت أطراف أخرى من النظام عامل ضغط عليه ودفعه للحوار مع المعارضة, وبهذا تهاوت بنية النظام وتماسكه من الداخل, وضعت الأنظمة العربية بدون استثناء أمام مهمة وضرورة انجاز إصلاحات جذرية شاملة في محاولة تجنب ثورات أخرى قادمة, ساهمت بشكل كبير في الترويج لأفكار العدالة الاجتماعية وضرورة بناء نظم سياسية جديدة قائمة على التعددية السياسية والديمقراطية الانتخابية, كسرت حاجز الخوف الذي كان سائدا لعقود لدى الشعب وانتقل الخوف بدوره إلى النظم الدكتاتورية نفسها من السقوط, عزز فكرة أمكانية قيام ثورة دون انتظار كافي لنضوج العوامل الذاتية المتمثلة بأحزاب المعارضة " على الأقل من الناحية الشكلية ", وليست  من ناحية نجاحها وزخم استمرارها !!!!.

وفي مسار آخر تتعرض الثورات إلى صعوبات ميدانية تهدد انجاز أهدافها التي انبثقت من اجلها في التأسيس للحرية والديمقراطية ودولة القانون والعدل, فهناك اتضحت في الأفق بداية مشروع تركي ـ قطري ـ أمريكي لفرض أجندة تسهل فيها صعود الإسلام السياسي إلى دفة الحكم, وكان ذلك جليا في تونس والتعبئة له في مصر واليمن وغيرها مما يعرقل وضع اللبنات الأولى لتأسيس النظام الديمقراطي, كما تتضح ملامح زرع الفتنة المذهبية والطائفية والقبلية مما يهدد مستقبل النسيج الاجتماعي لهذه البلدان, وكذلك بوادر التعامل مع الخصم السياسي أو رموز الأنظمة السابقة بطريقة اخذ الثأر والتصفيات الجسدية الشنيعة, كما حصل للقذافي وابنه وغيره وزرع ممارسات الثأر الفردي و القبلي والمناطقي, مما يشكل خطرا في التأسيس لدولة القانون ومستقبل القضاء العادل, كما تظهر بوادر التعامل مع الآخر السياسي وخاصة من الأنظمة السابقة بطريقة الاجتثاث وحرمانه من ممارسة السياسة إلى الأبد, حيث تخلط الأوراق بين القاتل والمجرم من النظام السابق وبين المنتمين من النظام السابق ولم يتلوثوا بجرائم قتل, الدفع باتجاه محاكم سريعة وعاجلة وغير مستوفية لشروط القضاء العادل وإصدار أحكام عرفية للتخلص من عناصر الأنظمة السابقة, وبالتالي تضيع فرصا كبيرة لمعرفة تفاصيل أنظمة عاشت لعقود وعبثت بثروات البلاد وسرقتها إلى جانب الاختفاء السريع للآثار هذه الأنظمة, وعدم الاستفادة الكاملة من أسرارها السابقة وتحويلها إلى دروس لتأسيس دولة العدل والحق والحرية التي ستقام على أنقاضها !!!!.

أن الثورات العربية يجب أن تؤدي رسالتها التي اندلعت من اجلها في التأسيس للكرامة الشخصية والإنسانية بأوسع معانيه وعدم تكرار أو إعادة اجترار لما حصل من ثورات سابقة في تاريخ المنطقة بأشكال أو واجهات أخرى, فالثورات المعاصرة يجب أن تؤسس لبناء المستقبل وعلى ضوء تجارب الشعوب المتحضرة في بناء الديمقراطية والسلم الأهلي والتقدم الاجتماعي !!!.         

250
الثورات العربية و" الربيع الجنسي " !!!

" الحب استمرارية ونقاء, والكراهية موت وشقاء "
                                             جون كيتس


د.عامر صالح

الثورات العربية تجري اليوم ليست بغطاء إيديولوجي كما هي العادة الجارية في اغلب ثورات التاريخ, بل تحدث على نسق الثورات الصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية, التي تؤطرها الحاجة الماسة إلى آخر المكتشفات العلمية والمعلوماتية لأغراض  البقاء وتحسين ظروف العيش والرقي به إلى مدايات أوسع, فالثورات العربية بطبيعتها العاتية والحشدية ومن كلا الجنسين منزوعة الصلة عن كل إيديولوجية سياسية, وهو خروج عن المألوف في عرف الثورات السياسية, مما يجعل منها متأثرة بشكل كبير بالعوامل الكونية, أكثر من تأثرها بعوامل تقليدية, كضرورة وجود الحزب الطليعي القائد, وتوقيت ساعة الصفر, ووجود الشعارات المركزية الموجه للأفعال, وإنما تستند إلى منطق الفعل وردته الآنية في الكتل الجماهيرية, إلى جانب طبعا عدم إغفال اختمار العوامل الموضوعية للثورة وانطلاق شرارتها على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها !!!.

والتجربة التاريخية تؤكد لنا أن الثورة التكنولوجية والمعلوماتية أكثر بقاء ورسوخا وعمقا من الثورات السياسية التي قامت على وحدانية التفكير والأدلجة, والتي انهارت في لحظات على خلفية ثورات شعبية لا تمتلك طابعا إيديولوجيا محددا, بل يحركها عوامل البقاء والعيش نحو الأفضل, في وقت فقدت فيه الثورات الإيديولوجية عوامل بقائها وتآكل رجالاتها على خلفية الانفراد في الحكم والتسلط فيه والذي تؤكده الشواهد الحاضرة على النظم العربية. وإذا كانت الثورات العربية هي نتاجا لثورة الأعلام والمعلومات المتمثلة بالانترنيت, فالانترنيت الآن هو ذروة الثورة التكنولوجية التي عرفتها البشرية لحد الآن, فهي تغلب العلاقات والحدود المعروفة لحد الآن. أنها نمط كينونة كامل ومتكامل, فهي تغير علاقتنا بالأشياء وبالجنس الآخر, تغير سلوكنا وذهنيتنا, ومفهومنا للزمان والمكان والواقع وللعلاقة, تغير معنى المعرفة, ومعنى العمل, ومعنى العيش ومعنى الشريك ومعنى المعنى ذاته, على نسق ممارسة نقد النقد بجرأة كاملة !!!!.

وبقدر ما يجري الحديث عن ظروف وأسباب الثورات العربية اليوم وتأثرها بعوامل خارجية كونية وأخرى داخلية موضوعية, فأن الحديث عن قدرتها على الاستمرارية كبديل يستجيب لحاجات الناس اليومية ورغباتهم ودوافعهم, سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو حضارية, ويدعم حرياتهم الفردية والجماعية ويضمن حقوقهم, هو الآن الهاجس الذي لا يتوقف لدى الجميع الذين تهمهم مصلحة انتقال الثورة من سلوك حشدي خالص إلى سلوك طليعي متقدم. ومن هنا تأتي أهمية الأفكار والإيديولوجيات والنخب الممثلة لها في صياغة مشروع المستقبل على خلفية تنافسها السلمي باعتبارها الضامن أيضا لانتقال الثورة من ثورة سياسية تستهدف إسقاط نظام ما إلى ثورة شاملة في كل ميادين الحياة المختلفة, الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية وغيرها, لأن الأفكار والإيديولوجيات ونخبها الطليعية وان كانت غير لازمة لاندلاع هذه الثورات مؤقتا اليوم, فهي تشكل لاحقا البيئة الوحيدة الملائمة لنجاح الثورات واستمرارها وعدم انتكاسها, وتلك تجارب الثورات الديمقراطية في التاريخ !!!!.

وتشكل أفكار العدالة الاجتماعية والديمقراطية بما تحمله من مساواة بين الناس, وبين الجنسين بشكل خاص من أكثر الأفكار جاذبية لخيارات العقل الإنساني, بما يضمنه من مساواة في فرص العمل والمشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية لكلا الجنسين, وخاصة في مجتمعات فيها الغلبة لنسبة الاناث في التركيبة السكانية إن لم تكن متساوية أو متقاربة, بل أن الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وشبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتوتير وغيرها, وكل مؤطرات مجتمع المعرفة لا تنمو إلا في بيئة سياسية واجتماعية مبنية على الديمقراطية والعدالة والمساواة وإقحام الجماهير بالتساوي في عملية اتخاذ القرار والمشاركة السياسة الفعالة, والتحفيز الفعال للمنهج النقدي الذي يثير الشك في المسلمات الموجودة ويحث على مراجعتها وإعادة النظر فيها, ومن أبرزها في حديثنا هذا هو الموقف من المرأة ومكانتها ودورها في الحاضر والمستقبل ومدى مساهمتها في صنع الحياة العامة وحياتها الخاصة !!!!!.

وفي خضم التحولات الجارية كان للمرأة العربية حضورا استثنائيا في الربيع العربي رغم انعدام الإيديولوجيات التي توحد كلا الجنسين, قياسا بحالة انكفائها في مناسبات ثورية سابقة, وقد كان ذلك واضحا في تونس ومصر واليمن وليبيا, فقد نزلت المرأة العربية إلى الشارع بعنفوانها إلى جانب الثوار الشباب وخاصة في الأسابيع والأشهر الأولى للثورات, بعيدا عن المضايقات والتحرشات الجنسية التي تشكل سلوكيات شائعة في تلك المجتمعات, وكذلك في المجتمعات التي لم تشهد ثورة بعد, كالمجتمعات الخليجية المعبئة بمختلف مظاهر الانحرافات والتحرشات الجنسية. وكان هذا الإحساس الايجابي المرافق لنزول كلا الجنسين إلى ساحات الثورة تؤطره المشاعر الايجابية للمواطنة في اللحظات الحاسمة من مصير هذه البلدان وآفاق مستقبلها !!!!.

وهذه السلوكيات الايجابية البعيدة عن المضايقات الجنسية للفتيات هي عكس ما كانت تجري عليه العادة في المناسبات العامة في هذه المجتمعات, كالمناسبات الدينية من أعياد أو ممارسة طقوس ومراسيم دينية ذات طابع حشدي على نطاق واسع, وكذلك في المناسبات والأعياد الوطنية والرسمية والحكومية التقليدية, حيث كان يستخدمها الكثير من الشباب والفتيان وحتى المسئولين فرصا مواتية لممارسة التحرش الجنسي دون رغبة الطرف الآخر في اغلب الأحيان, والتي تشمل لمس الجسد أو الكلام أو المكالمات التلفونية أو المجاملات غير البريئة, أو استخدام الصور الجنسية, النكات أو القصص الجنسية التي تحمل أكثر من معنى, وانتهاء بأكثر أشكال التحرش عنفا كالهجوم على سيدة أو فتات ولمس جسدها بطريقة استفزازية واستخدام العبارات القبيحة وغيرها من وسائل التعرض البذيء, وغالبية هذه الأفعال المرفوضة تصدر من الجنس الذكر والمبني على الإحساس بموقع القوة بالنسبة للأنثى !!!.

لقد أعطى الزخم الايجابي لمشاركة كلا الجنسين في بداية الثورات العربية انطباعا أوليا مطمئنا عن مستقبل مساهمة كلا الجنسين في عمليات التغير الجارية, انطلاقا من أن الأهداف الإنسانية العامة المتوقعة لابد أن ترافقها وتنتج عنها ممارسات وأساليب إنسانية نزيهة ومهذبة ترتقي إلى مستوى الأهداف, إيمانا من قدرة كلا الجنسين على التغير وموائمة الأهداف. ولكن للأسف فأن هذا التلاحم بين الجنسين ومظاهر ظهوره الايجابية بدأت تختفي بعد أسابيع من بدأ الثورات تحت وطأة تأثيرات الأفكار المتشددة والمتطرفة الدينية منها والإيديولوجية والعصبية والقبلية في محاولة لعزل أو تقنين دور المرأة في المساهمة الثورية, من خلال فرض شروط على طريقة ظهورها كعزلها في أمكنة محددة لظهور في مناطق معزولة عن الرجال, أو منعها أصلا من الظهور من خلال فتاوى المنع والردع المعروفة, ويمثل هذا الموقف عودة إلى ذات الخطاب المتشدد والمتخلف الذي يصور المرأة جسدا مدنس مسكون بالغواية والإغراء ويجب إخفاءه أو عزله بعيدا عن الأنظار ومنعه من التميز والإبداع, ومن جانب آخر يشكل هذا الضغط على حرف مسار مساهمة المرأة, كجزء من الضغط العام الذي تتعرض له الثورات العربية من ذات الأفكار المتشددة لحرف مسارها وتفريغها من محتواها وجعلها تراوح في المكان دون نتائج ايجابية, إن لم تدفع بها نحو الانتكاسة !!!!!.

وقد أدى إحجام دور المرأة في المساهمة الثورية المباشرة في الأحداث الجارية إلى أن تبقى مضطرة عند حدود مساهمتها الفعالة غير المباشرة عبر الانترنيت والفيسبوك والتوتير وغيرها, تلعب دورا تحريضيا كبيرا في نشر مختلف الخطابات السياسية والاجتماعية والدعوة إلى الحوارات البناءة والداعية في محتواها إلى التمسك بقيم العدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية, وتجنب أعمال العنف والاحتراب الديني والمذهبي والطائفي والعرقي وتعزيز ثقافة التسامح الاجتماعي, وإبعاد الفكر المتشدد من دائرة الفعل والتأثير المباشر على مسار الثورة. ومع هذا لم تنجو المرأة من التهديد والوعيد عبر صفحات الانترنيت وسرقة كلمات السر للفيسبوك والاميل وإرسال الفيروسات عبر عنوانين وموضوعات ايجابية موهومة, تؤدي عند فتحها إلى تلوث جهاز الكومبيوتر أو حرقه, بل وصل الحد إلى إعادة تركيب صور ولقطات جنسية مزورة وملبسة لناشطات على الفيسبوك و نشرها, في محاولة لابتزازهن وتعطيل مشاركتهن في الحياة السياسية , وهي سلوكيات تستهدف شل الإرادة النسائية لرسم ملامح المستقبل في إقامة مجتمع المساواة والعدالة بين الجنسين !!!!.

فهل تستطيع الثورات العربية الإتيان " بربيع جنسي " كجزء من ثورة اجتماعية شاملة ذات مضامين ايجابية في القيم والاتجاهات السلوكية والثقافية ومنسجمة مع الذات أولا ومع الآخر, بعيدا عن النفاق وازدواجية الأخلاق بين فكر متشدد وبين " انفتاح " في الخفاء, بين الدعوة إلى الكبت والحرمان وكثرة المحرمات وبين الهوس والاندفاع اللامعقول في إشباع الرغبات, بين الدعوة إلى مشاركة  الرجل والمرأة في الحياة الاجتماعية وبين وضع جدار العزل بينهما, بين الدعوة إلى مشاركة المرأة في الحياة وبين ضوابط قصريه عندما تصطدم بالسلطة الذكورية السائدة, بين دعوة المرأة إلى العمل والتعليم وبين ممارسة قمعها في البيت والبيئة المحيطة والتحكم في حياتها الشخصية والعامة, بين الدعوة إلى تعليمها وبين الحد في مواصلته دراستها بما يتناسب مع طموحاتها, بين الدعوة إلى مساهمتها في الحياة السياسية وبين وضع سقف مانع لذلك بحجة تعارضه مع الكتاب المقدس والتقاليد, بين دعوتها لإسقاط النظم الدكتاتورية ووضع العراقيل أمام طبيعة نشاطها وحركتها في هذه الدعوة, بين حريتها في الانتخابات وبين لمن تمنح صوتها لاحقا, وتطول قائمة الصراع بين الممنوع والمسموح أو كما يقال في علم النفس بين الإقدام والإحجام بما يضع المرأة في دائرة القلق والصراع المستديم مما يعرقل تبوئها مكانتها كإنسان كامل الحقوق !!!.

أن " الربيع الجنسي"  العربي ليست كما يراه دعاة الفكر التسلطي ألذكوري والمتشدد, بأنه " ثورة جنسية " على نسق الثورة الجنسية التي حصلت في أوربا وأمريكا في مطلع الستينات والسبعينيات متأثرة بمجمل ما حصل من تطورات صناعية وعلمية واقتصادية وسياسية وإعلامية ودينية, وكذلك متأثرة ببعض من أفكار مدرسة التحليل النفسي الفرويدي, وبشكل خاص بأحد أقطابها الممثل للاتجاه اليساري في الفرويدية وهو العالم " ويلهيلم رايخ المتوفى عام 1957 " وفي ابرز كتابين له, هو" الثورة الجنسية " والذي سميت الثورة باسمه, وكتاب " الكفاح الجنسي للشباب ". وحسب "رايخ " فان الأخلاق ذات الوجهين وكبت الفطرة الجنسية تأتي بتشوهات في الشخصية, وتفضي إلى العدوان والانفلات واللذان تقع إزاحتهما مما يجعلهما يتجليان في حب السلطان والهرمية. ووفقا لذلك فان تحرير الأخلاق الجنسية سيؤدي إلى تحول سلمي للبنية الاجتماعية, أي بمعنى آخر أن الإنسان الذي يعيش في علاقات مشبعة لن يمكن تقييده  في نظم حكم ولا تعبئته لأعمال عنفيه. وعلى العموم فان المؤيدين " للثورة الجنسية " يعتقدون أن هذه الثورة كتحرك سياسي اجتماعي لا يعني إن الناس أخذوا يمارسون الجنس أكثر من قبل, بل ببساطة أنهم أصبحوا يتحدثون عنه بحرية أكثر من الأجيال السابقة !!!!.

" الربيع الجنسي"  العربي هو فصل من فصول الثورة الاجتماعية التي تعقب الثورة السياسية, ويأتي متأخر نسبيا عن الأخيرة باعتباره جزء من البناءات الفوقية, ولكن التأسيس لمسلماته القانونية والتشريعية والدستورية تأتي متزامنة مع التحول من الثورة إلى مرحلة إعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والتي تقوم أصلا على تنافس مختلف الإيديولوجيات والأفكار السياسية والدينية, ويعتبر خيار الوسط الإيديولوجي والديني هو الضامن لحقوق المرأة العربية ومساهمتها الفعالة في مختلف مناحي الحياة الشخصية والعامة, وان نجاح انتزاع حقوقها العادلة والمشروعة هو دليل على نجاح الثورات العربية, فلا ديمقراطية ولا عدالة بدون مساهمة كاملة للمرأة, بل أن مساهمتها هو دليل على صحة العلاقة  بين ثالوث " الجنس ـ الدين ـ السياسة ", أما بالنسبة لعلاقتها بالجنس الآخر فهو مشروع تربوي وثقافي يستند إلى سياسة عقلانية, قوامها التسامح والتعاطف والثقة بين كلا الجنسين وفي كل مجالات الحياة, وتوسيع دائرة الاهتمام لكلا الجنسين كي تتجاوز حدود الحاجات الجنسية المباشرة في مختلف الأعمار المختلفة, لأن الغرائز الجنسية بقدر ما هي ملحة فهي متسامية وبالإمكان تحويل الطاقات الجنسية التي لا يمكن إشباعها بدون صعوبات اجتماعية, نحو هدف ثقافي, واجتماعي, واقتصادي, وفني ومجالات أخرى إبداعية. فهل تستطيع الثورات العربية تحقيق ذلك !!!!. 

   
   

   


251
الربيع العربي وخيار الديمقراطية: الأسباب ـ المخاطرـ الآفاق

" متى يتعلم الإنسان أن يوفق بين اندفاعاته العاطفية والدينية وبين مبتكرات العقل يتسع نطاق الممكنات عنده "
                                                                                                         غوستاف لوبون


د.عامر صالح

إن الزخم الجماهيري والشعبي الذي تتمتع به ثورات الشباب الربيعي اليوم في الوطن العربي يذكرنا في الكثير من مظاهره في ذات المد الجماهيري الذي عصف في المنطقة العربية في حقبة النضال ضد الاستعمار والذي أدى إلى انجاز بعض من مهمات مرحلة التحرر الوطني المتمثلة بنشوء " الدولة الوطنية " وإرساء بعض من ملامح الاستقلال الوطني من خلال المحاولات لتأسيس البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة للاستقلال الفتي. فكما كان لذلك النضال مبرراته التاريخية والموضوعية المتمثلة في طرد المستعمر والخلاص من وصايته المباشرة, فكذلك الحال   بالنسبة لأسباب الربيع العربي, فهو الآخر له أسبابه الموضوعية والتي تكمن في توقف الزمن لأكثر من نصف قرن في العالم العربي تحول فيه الاستقلال واختزل إلى دول عربية بوليسية لا قيمة لمعنى الاستقلال الحقيقي فيها, فقد اندمجت وتوحدت بل انصهرت الدولة في النظام وانحصر النظام جملة وتفصيلا في ترسانة الحزب الواحد وقائده أو زعيمه وفشل مشروع الدولة الوطنية الذي قدمت من اجله الحركة الوطنية قوافل من الشهداء, من مواطنين ومناضلين وقيادات  وطنية وميدانية !!!!.

لقد اختزلت الدولة ومفهومها وجعلت منها أداة طيعة بيد الحزب الحاكم, بل جعلت من الدولة أداة تابعة للحزب وفي خدمته حصرا ولضرورات بقائه, وأصبحت الدولة لاحقة لا سابقة على نظام الحكم, الذي ينبغي أن يكون الحزب محكوما بالقواعد الأساسية للدولة, بل سيطر الحزب على الدولة وعلى أجهزتها العسكرية والأمنية وعلى مؤسسات المجتمع المدني, وقد أضفت على ذلك شرعية " دستورية " من خلال التكريس القانوني لقيادة الحزب التاريخية وبدون انقطاع, وإيجاد هيكلية موالية للحزب في كل السلطات, التشريعية منها والقضائية والتنفيذية, بل وحتى سلطة دينية شمولية ومرجعية لها رموزها ومنظريها, ودمج كل هذه السلطات فكرا وممارسة في فكر وممارسات الحزب القائد, مما سبب في نشوء أوضاع شاذة ومرضية استمرت لعقود, أدخلت الوطن والمواطن في غيبوبة انعدام الفهم الصحيح للوطن والمواطنة ولمفهوم الحرية والعدالة الاجتماعية, وتشويه معنى الدولة التي يفترض أن تكون في خدمة الشعب أولا وأخيرا, فلا مجال لآليات الفصل مابين " القوة والسلطة والحاكم" ولا مجال لآليات صنع القرار السياسي المستقل من خلال الإرادة الحرة الديمقراطية !!!!.

ولا نستغرب والحالة هذه أن تستدرج أجهزة الجيش والدفاع والأمن إلى حماية الحزب الحاكم وحاشيته, بعد أن تحول الحزب إلى المالك الوحيد لهذه الأجهزة وتأتمر بإمرته, فتتحول هذه الأجهزة بفعل الدور الذي تؤديه إلى أجهزة قمعية للمواطن وليست في الدفاع عن أمنه وسلامته من الأخطار الخارجية والداخلية الحقيقية, طبعا إلى جانب إمكانيات الحزب وأجهزته في إقحام المجتمع بالمشكلات والصراعات القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية وزجها في آتون الصراع المميت في اللحظة المناسبة ولأغراض بقاء الحزب ونظامه في الحكم بأي ثمن, بل إن بعض من هذه الأحزاب ذهب بعيدا وأنهى الدولة ومؤسساتها لأنها تشكل ضغط وعائقا وعبئا عليه حتى وان كانت تحت إمرته, كما في نموذج نظام معمر ألقذافي التعسفي, الذي حول الدولة إلى ركام وحول المجتمع إلى شتات قبلي أصم لا تعرف فيه إلى أين المسير !!!!.

ويمكن القول هنا أن ثورات الربيع العربي لم تكن ولادة قيصرية في سياق اجتماعي هادئ ومستقر, أو استجابة انفعالية لأخذ " الثأر العربي " عن دم الشهيد البوعزيزي الذي فجر الثورة التونسية, بل هي تعبير عن نضوج العوامل الموضوعية لإحداث الفعل الثوري وتجسيد حي لمنطق التاريخ وحكمه, فالثورات لا تحدث في الفراغ أو هي فعل عبثي يقرره الجموع الثائر, بل تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع, تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج, وشكل التملك الخاص, ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة " وهي في بلداننا تشكل النظام العربي وحاشيته " ضد فئات الشعب, وتؤدي هذه التناقضات إلى نشوء " أزمة سياسية " عميقة تحمل معها نشوء حالة " ثورية " تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة, مثل الاضطرابات والمظاهرات والاجتماعات والاعتصام, وان الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها !!!!.

وفي العالم العربي حيث توقفت فيه عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت, أفرزت ظواهر الفقر المدقع, والتدهور المستمر للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية والصحية, والتعليمية والخدمية, وانخفاض مستوى العيش بصورة عامة, وفي وقت عملت فيه الأنظمة الاستبدادية عبر عقود على منع تشكيل أي كتلة حرجة ثورية منظمة ومقاومة عبر ممارسات التفتيت والإجهاض والترغيب والترهيب والرقابة الأمنية والبوليسية المشددة وأبعاد وقتل أي بادرة للتفكير البديل. ونستطيع القول هنا انه لا توجد شريحة اجتماعية واقتصادية إلا ولحق بها التهميش والحرمان والإقصاء باستثناء النظام وحاشيته. لقد خلقت هذه الأوضاع نواة التغير الثوري في رحم هذه الأنظمة. وعلى خلفية ضعف دور العامل الذاتي المتمثل بضعف الأحزاب السياسية التاريخية والنخب السياسية الحقيقية, جاءت الثورات العربية شبابية بطابعها العام متأثرة بعوامل كونية, كالثورة المعلوماتية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة, الذي سهل اندماجهم في مجموعات فاعلة وايجابية وشكل لديهم دافعية اكبر للفعل الثوري تتجسد ملامحه واضحا اليوم على الأرض العربية مبتدئة بالشرارة التونسية المعجلة لذلك, إلى جانب كون الشباب يشكلون كتلة سكانية كبيرة تتجاوز نسبة 50% من مجموع السكان, وبالتالي فهي معنية بالتغير والمستقبل قبل غيرها, إلى جانب الشرائح السكانية والاجتماعية الأخرى !!!!.

أن الثورات العربية اليوم ليست معنية فقط بإسقاط النظم الاستبدادية, فتلك هي خطوة أولى في مسيرة الألف ميل كما يقال, ولكنه ليست هدفا لذاته, وبالتالي تشكل التحديات والمهمات الداخلية والخارجية والقدرة على إيجاد الحلول لها من ابرز المعضلات التي تقف أمام الثورة ونظمها الجديدة القادمة ووضعها على طريق المستقبل الذي ينشده الجميع. ولعل ابرز هذه المهام والتحديات هي: تحديد الهوية والانتماء فيما يتعلق بالدولة وطبيعتها ومرجعيتها, وهي قضية تأخذ من الاهتمام والقلق الكافي في الشارع العربي ونخبه المثقفة, وتتمحور حول الدولة المدنية, والمرجعية الإسلامية, والنظام العلماني, وحقوق الأقليات الدينية والعرقية والانتماء العربي والإسلامي وحتى الإقليمي. ويشكل بناء نظم تؤمن بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة من خلال ممارسة الديمقراطية الحق عبر صناديق الاقتراع, إلى جانب الإيمان بحرية التعددية الدينية والمذهبية والقومية والثقافية والاجتماعية للأقليات وحمايتها هاجسا مشروعا في تأمين دولة المواطنة والوطن للجميع. ونتذكر جيدا تجربة العراق ودستوره الذي تحول إلى ألغام بدأت تتفجر عند تنفيذه على ارض الواقع وإشكالات مستعصية على الحل إلى زمن غير معلوم !!!!.

تنوء المنطقة العربية بإرث ثقيل من التخلف والفساد والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية, وهناك أولويات للثورات العربية, وهي إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وإعادة بناء علاقات سليمة وعادلة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج, بما يوفر المزيد من فرص العمل عبر إعادة هيكلية الاقتصاد, واستحداث المزيد من المشاريع الإنتاجية والخدمية, ويشكل ذلك ضمانة لتحسين ظروف الحياة الإنسانية والارتقاء بها, إلى جانب محاربة الفساد الإداري والمالي والاقتصادي, والاستغلال الأمثل للموارد والثروة الوطنية, وقبل ذلك كله استتاب الأمن الوطني والاجتماعي باعتباره الشرط اللازم لانطلاق الحياة من جديد  !!!.

وبفعل ما تعرضت له الأحزاب والأفكار المعارضة من قمع وتشتيت وإقصاء خلال عقود تظهر آثاره جليا بعد سقوط أنظمة الاستبداد في فراغ المؤسسات والهيكليات والأفكار اللازمة لإعادة البناء, مما يسبب بعض من الفوضى تشكل ارض خصبة للانقسامات والأخطاء التي تنجم عن إذعان منفعل ومتسرع لجهة ما أو المطالبة بمطالب يستحيل تنفيذها على الفور, ومن هنا تأتي أيضا أهمية الحفاظ على ما هو ايجابي من بقايا النظام السابق, من مؤسسات وكادر وقيادات مهنية وتقنية وعلمية وعسكرية وخبرات مختلفة لازمة لبناء الوطن لاحقا. وفي الوقت الذي لا يجري التسامح به مع من تلطخت أيديهم بجرائم ضد الإنسانية في نظم الاستبداد, يجب الابتعاد عن التصفيات الجسدية  والعنف العشوائي الذي يخلق بدوره عنف مضاد وترك ذلك للقضاء الجديد العادل, وخلاف ذلك فأنه يدخل البلدان في دوامة العنف والصراعات المستديمة, السياسية منها والدينية والمذهبية, الأمر الذي يهدد مستقبل الثورات العربية, ويشكل أرضا خصبة لانتعاش التطرف والإرهاب بمختلف أشكاله الدينية والسياسية والعرقية !!!!.

ومن القضايا التي ستسهم برسم ملامح مستقبل الثورات العربية هو ظهور حركات الإسلام السياسي على الواجهة وباندفاع اكبر مما مضى, على الرغم من أن هذه الحركات لم تكن ملهمة للثورات العربية كما لم تكن رائدة لها, إلا أنها سارعت للالتحاق بركب هذه الثورات وانخرطت في صفوفها بل وتوجيهها في محاولة منها للمشاركة الواسعة في الحكومات القادمة, كما تحاول جاهدة لتقديم نماذج معتدلة عن الإسلام السياسي. وفي الوقت الذي لا نؤمن فيه بإقصاء أي طرف مهما كان توجهه للمشاركة في السلطات والحكومات القادمة فذلك منطق الديمقراطية الحق, تبقى هناك أسئلة مشروعة في أذهان اغلب المراقبين والمهتمين بشأن الثورات العربية وآفاقها, ومن هذه الأسئلة الملحة هي: ماذا تعني الديمقراطية بالنسبة للإسلام السياسي, هل تعني آلية فقط للتصويت ومختزلة في صناديق الاقتراع التي تمكن الأغلبية من فرض تصورها وقيمها على الأقلية, أم أن التصويت هو احد آلياتها الأساسية في قواعد اللعبة وقيمها وأسسها الفكرية والفلسفية الضامنة لعدم اضطهاد الأغلبية للأقلية مهما كانت, وذلك أن الاضطهاد والحرمان من الحقوق الأساسية وعلى رأسها حرية التعبير, ينفي وجود الديمقراطية كيفما كان شكل الانتخابات ونتائجها, هل هناك " خصوصية ديمقراطية " للإسلام السياسي تختلف عن المفهوم الكوني للديمقراطية الذي لا يسمح لأية خصوصية " إلا ببعض السياقات التي تختلف من مجتمع للآخر" والتي تقف على رأسها احترام الحريات وفصل السلطات وسمو القانون والتدبير العقلاني للشأن العام والابتعاد عن فرض قيم دينية بشكل شمولي, وغيرها من الأسئلة ذات الصلة المباشرة بتحديد سقف و مدايات الديمقراطية الموعودة !!!!.

وعلى الصعيد الخارجي الذي يمثل تحديا آخرا أمام ثورات الربيع وحكوماتها القادمة, فنحن نعرف كما يعرف الآخرون أن الغرب وأمريكا لهم مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة ودولها, وعلى هذا الأساس جاء سلوكهم متقلبا فيما يخص الثورات والموقف منها وخلط ما بين هو أنساني وديمقراطي ومصلحي, فعندما أحست أمريكا بقرب زوال النظام المصري والتونسي قدمت نفسها نصيرا لشعبي البلدين, وفي ليبيا في مرحلتها الأولى, ثم أظهرت تحفظا حيال الأحداث في سوريا ثم موقفا أكثر تشددا لاحقا, وكذلك الحال بالنسبة لفرنسا من تعاون قصي بين نظام ألقذافي إلى عدو لدود تقود ضده العمليات العسكرية, وكذلك الموقف من اليمن بين السكوت والدعوة إلى الإصلاح من داخل النظام إلى رفع يدها عن النظام لاحقا, إلى جانب السكوت والمجاراة للكثير من أنظمة خليجية قمعية. وإذا كانت السياسة مصالح متداخلة بين جميع الأطراف بالدرجة الأولى, فعلى حكومات الربيع العربي أجادة اللعبة وامتلاك الحس الاستراتيجي في إقامة التحالفات الخارجية بما يضمن المصالح العليا للأوطان, وخاصة في ظروف نحتاج فيها الغرب وأمريكا لإعادة البناء وبالمقابل سيجد الغرب وطأة قدم للحصول على المزيد من عقود النفط والمشاريع الاقتصادية, وخاصة في ظروف لا يزال التحالف الأمريكي والإسرائيلي والأوربي على أشده ولم يميل كبيرا لصالح القضية الفلسطينية وعدالتها !!!!.

وختاما نقول أن الديمقراطية وبنائها ليست عمل سهل ومناط فقط بما يجب أن تقوم به الحكومات القادمة ولن تأتي جرعة واحدة, فذلك مجافاة لظروف المجتمعات التي تعتبر ببعض من وجوهها معوقا للديمقراطية ونشأتها بسلاسة, فهناك منظومة القيم التقليدية الموروثة, من ثقافة تقليدية وأنماط سلوكية مانعة بطبيعتها للديمقراطية, والتطرف السياسي والديني والإيديولوجي الشمولي, والفتن الطائفية والمذهبية والعرقية, ثقل الكتلة البشرية الذي يسببه الانفجار السكاني الذي تسببه ارتفاع نسبة الولادات المستمر حيث تبلغ نسبته أكثر من 3% سنويا والتي تلقي بآثارها السلبية على عمليات التنمية القادمة لتحسين ظروف الحياة المعيشية, الموقف المتخلف من المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, تفشي الأمية الأبجدية والحضارية وآثارها السلبية في تقبل التغير الايجابي, وغياب منظمات المجتمع المدني, إلى جانب ضعف تقاليد العمل السياسي الضامن لبناء الديمقراطية, وغيرها من العوامل التي يصعب حصرها, إلا أن خطوة الألف ميل قد بدأت وان ساعة صفر بناء الديمقراطية لابد لها أن تستمر فذلك منطق البقاء للأصلح !!!!!.   



 

       





252
في سيكولوجيا الكراهية والعنف وتداعياته السياسية !!!!

 " على البشرية أن تضع حدا للحروب, أو الحروب سوف تضع حدا للبشرية "
                                                                          جون كينيدي
                                                                                                                                                                                                                                                                 
 
د.عامر صالح

كما يرد في إحدى تعريفات الكراهية بأنها المشاعر الانسحابية التي يصاحبها اشمئزاز شديد, نفور وعداوة أو عدم تعاطف مع شخص ما أو شيء أو حتى ظاهرة معينة, تعزو عموما إلى رغبة في تجنب, عزل, نقل أو تدمير الشيء المكروه, يمكن أن يبنى على الخوف من غرض معين أو ماضي سلبي نتج عن التعامل مع ذلك الغرض, يمكن للناس أن يشعروا بالنزوع أو المشاعر أو الأفكار التي تستلزم الكره, كعلاقة الكره والحب. أحيانا يستخدم لفظ " الكراهية " عرضا للمبالغة في وصف شيء لا يطيقه شخص ما, مثل شكل معماري معين, حالة طقس, وظيفة معينة وحتى بعض أنواع الطعام. وتستخدم كذلك لفظة الكراهية لوصف إجحاف أو حكم مسبق, تعصب أو إدانة تجاه فئة أو طبقة من الناس وأعضاء هذه الفئة, والكراهية العنصرية والقومية والدينية والمذهبية والسياسية هي من اخطر أشكال هذه الكراهية ومن الممكن أن تسبب في تدمير كل البشر إذا استقرت وتحجرت في عقول الكارهين بدون حل لشفرتها ومسبباتها ووضع برامج شاملة لردعها وحصرها في نطاق محدود !!!.

وإذا كان العنف باعتباره المظهر الصارخ في التعبير عن كراهية الآخر, والذي يقترن باستخدام القوة الفيزيائية, فهو ذلك الآفة الاجتماعية المانعة للوحدة المجتمعية والمحرضة على شيوع القسوة بين الناس ومنع المودة وزرع الأحقاد الفردية والجماعية بين مكونات المجتمع الواحد بكل تنوعانه السياسية والمذهبية والاثنية, وهو لم يكن بشكله هذا يوما ما فطريا ومتأصلا في الطبيعة الإنسانية, بل هو نتاجا معقدا لمنظومة من العوامل الاجتماعية والتربوية والحكومية والإعلامية, والتي تعمل جاهدة في صياغة عقل وحيد الجانب لا يرغب في المعايشة والتكيف مع التنوع الفكري والعقلي والثقافي في البيئة المحيطة, ومن هنا صح قول عالم النفس السلوكي " سكينر " إن العنف يبدأ في الرؤوس قبل استخدام الفؤوس.

وإذا كانت الكراهية في بعض الأحيان مزاجا كامنا غير معبر عنه في العلن بسلوكيات مطابقة له, فأن العنف العيني باعتباره معبرا عن الكراهية بأساليب مختلفة يعتبر لغة التخاطب الأخيرة مع الواقع ومع الآخرين حين يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي في ظل ظروف بيئية غير مواتية للحوار المتبادل يسودها الاحتقان وعدم احترام حرية الرأي والرأي الآخر. والعنف من الناحية النفسية هو صورة من صور القصور الذهني حيال موقف معين, والعنف وجه آخر من أوجه النقص التقني في الأسلوب والإبداع في حل ومواجهة معضلة وقد يصل العنف لمرحلة الانهيار العقلي والجنون " فصام العقل " كما قد يكون وسيلة من وسائل العقوبة والتأديب أو صورة من صور تأنيب الضمير على جرم أو خطيئة مرتكبة ولن يتعدى في كل أحواله القصور الذهني والفكري لدى الإنسان وهو في حالة من حالاته اضطراب في إفرازات الغدد الهرمونية في جسم الفرد وعدم تناسب أو انتظام في التوزيع الهرموني داخل الجسم الذي قد ينتج أحيانا عن سوء في التغذية أو سوء اختيار نوعيتها.

ومن الناحية النشوئية والإنمائية يرى علماء النفس أن الطفل لا يكون قادرا على إتيان أفعال الخير أو الشر إلا بعد أن تشكل الأنا وينمو الوعي بالذات لديه, وطالما لم يكن للأنا عنده معنى ظلت أفعاله محايدة من الناحية الأخلاقية, لا تقبل إصدار أي حكم أخلاقي بشأنها, بحيث يمكن القول أن للطفل طبيعة, ولكنه لا يمتلك مزاجا أخلاقيا. إن الخير والشر هما من  الإمكانيات التي تنطوي عليها طبيعة الطفل, ومع تنامي الوعي بالذات تنتقل من الإمكان إلى الفعل, وتفصح عن نفسها في شكل سمات المزاج الثابتة نسبيا. حينئذ فقط يمكن القول عن الشخص بأنه فاضل أو رزيل, عدواني ومسالم, ويصبح الخير أو الشر وظيفة من وظائف الأنا. ويتوقف تشكل هذه الوظائف ونموها على طبيعة التنشئة الاجتماعية التي خضع لها الطفل, فقد تكون من النوع الذي يساعد على تنامي هذه السمة أو تلك أو من النوع الذي يحول دون ذلك !!!.

وتتأثر عملية التنشئة الاجتماعية بمنظومة من العوامل المتشابكة والمتداخلة, ابتداء من ولادة الطفل ونشأته الأولى في البيت والأسرة متأثرة بعوامل مختلفة كالقسوة وعنف التربية والحرمان الطفولي في إشباع الحاجات المختلفة النفسية منها, كالأمن والأمان والاحترام والاستقلالية, وكذلك الحاجات المادية من تغذية مناسبة وملبس وسكن و الخلو من الإمراض المزمنة وغيرها, ثم الدائرة الثقافية والبيئية ومدى غنائها بعوامل التنشئة الايجابية أو العكس, مرورا بالنظام التربوي والتعليمي باعتباره المصدر لمنظومة القيم والاتجاهات السلوكية المختلفة, ومدى إمكانياته في الاعتراف الفعلي بالشخصية الإنسانية وتنميتها على روح الحوار البناء وتقبل الآراء المغايرة, وكذلك تتأثر عملية التنشئة الاجتماعية بعوامل القهر الاجتماعي العام الذي يتعرض له الأفراد, من اغتصاب للحقوق وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وعدم احترام الأقليات الدينية والعرقية والسياسية والفكرية, وجميعها عوامل مولدة للعنف والعدوان والشر على نطاق واسع وعلى المستوى الفردي والاجتماعي وبمدى خطير يصعب التنبؤ بنتائجه الضارة. ومهما تكن أسباب العنف ودوافعه فهو فعل سلوكي مرفوض حضاريا وأخلاقيا وسلوكيا واجتماعيا, وهو مؤشر خطير للتفكك الاجتماعي وزرع الخوف والقلق في الطرف الآخر الذي يقع عليه فعل العدوان, إلى جانب كونه وسيلة منبوذة لحل المشكلات لأنه يخلق عنفا مضادا فتتسع دائرة العنف كالنار في الهشيم في كل ثنايا ومكونات المجتمع !!!!!.

أما بالنسبة لثقافة العنف والكراهية في مجتمعاتنا العربية اليوم وعلى المستوى الفردي والمجتمعي والسياسي فهو لا يخرج عن الإطار العام الذي تمت الإشارة إليه, ولكن بخصوصية أعمق وتركيز شديد هو نتاج معقد لمنظومة العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتي ألقت بضلالها الكثيف في تشكيل هذا السلوك المعرقل لنهضتها في مختلف المجالات. فإذا استثنينا العمق التاريخي ـ الثقافي في نشأة العنف والعدوان والمتمثل في الصراعات السياسية منذ نشأة الدولة الإسلامية الكبيرة والصراعات التي جرت في أكنافها, وحتى ما قبل ذلك التأريخ, والتي أسست للعنف والعنف المتبادل والتي أدت في مجملها إلى انقسام الأمة الإسلامية والعربية إلى فرق وأحزاب متقاتلة, والتي لا زالت آثارها ماثلة ومؤثرة بشدة اليوم في حاضر الأمة ومشهدها السياسي, وإذا أبعدنا أيضا عن السياق جوهر تأثيرات المجتمعات العربية الأبوية البطريركية وتأسيسها للعنف والتسلط ضد المرأة الزوجة والمرأة الإنسانة والأخت, وإشاعة قيم الذكورة التي تنزل القصاص بقيم الأنوثة وتفرض قيودها وقيمها كيف ومتى ما تشاء, وتفرض قيم الإكراه والقسر والتقيد وعدم المساواة بالعنف والقوة, وهو نقيض قيم المساواة والرحمة, وجميعها تؤسس للعنف وإعادة توليده في رحم الأسرة أولا, ثم لاحقا وعلى أساسه في عقول أفراد المجتمع وقياداته, فأن العنف في العقود الأخيرة نشا مستشريا على خلفية فكرية ودينية وسياسية, وهو ذو أبعاد جمعية خطيرة لرسم صورة المستقبل !!!!.

لقد سيطرت لعقود طويلة حكومات عربية ذات طبيعة اقصائية متمثلة بحكومات الحزب الواحد ذو المسحة القومية الشوفينية والوطنية الزائفة والبعض منها متلبس بلباس الدين, وقد شنت حروبا داخلية ضد كل الأفكار والتنظيمات السياسية المغايرة لتوجهاتها, مستخدمة ذرائع الحفاظ على الوطن والوطنية وانجاز " التنمية " الاقتصادية والاجتماعية تحت قيادتها التاريخية والحكيمة والمخلصة للوطن هي وحدها فقط, مما حصر وكرس مفهوم الوطن والوطنية والبناء الاجتماعي بجهة سياسية واحدة تدعي المقدرة الفريدة في قيادة المجتمع, وقد ترتب على ذلك القيام بحملات العنف والاعتقال والإبادة الجماعية لكل من يخالفها في الآراء والتوجهات السياسية وتخوين المعارضة السياسية والتشكيك بوطنيتها وزجها في غياهب السجون والمعتقلات, مما أسست إلى ظاهرة العنف والعنف المتبادل لحماية النفس من قبل الطرف الآخر الضحية. وقد لعبت لديها الهواجس الأمنية وافتعال الأعداء في الداخل والخارج جل اهتمامها مستنزفة موارد البلاد المالية لزرع الرعب والتنكيل بالشعب لأغراض البقاء في الحكم مهما بلغت تضحيات الشعب, كما استخدمت كافة قدراتها الحكومية من مؤسسات إعلامية ومنظمات سياسية رسمية موالية لها وحتى مؤسساتها الدينية من اجل تعبئة الناس وغسل أدمغتهم لأغراض احتكار السلطة والبقاء فيها وإشاعة الفساد الإداري والأخلاقي والمالي وممارسة الالتفاف والتلفيق والخداع والكذب كآلية للبقاء في الحكم, وخلق منظومة قيمية موالية لمنظومة الحكم, مما أدى هذا إلى خلق حالات من الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع المختلفة, وخاصة بين الشرائح المنتفعة من النظام والشرائح الأخرى المتضررة  منه !!!.

كما يلعب اليوم الخطاب الديني المتطرف بشقيه التكفيري والسياسي دورا خطيرا في زرع الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع, سواء من ذات الدين الواحد عبر إشاعة الفرقة بين طوائفه ومذاهبه المتنوعة, وكذلك بين المجتمع المتعدد الديانات عبر فرض أجندة دينية وسياسية ـ دينية وحيدة الرؤى, مما يحرم الآخرين من حق التمتع بممارسة حقوقهم الدينية وحريتهم في المعتقد, و يخلق بيئة مواتية للعنف والعنف المضاد تراق فيه دماء الملايين من مختلف الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة. وبما أن الكراهية والعنف منبوذ ومدان في كل القيم والأديان السماوية وغير السماوية فأن اللجوء إلى تأويلات متشددة ومتحيزة ومزاجية بل ومصلحيه للنص المقدس وللأحداث التاريخية والافتراضات العبثية لنيات الآخرين المغايرين في الدين أو المذهب واستحضار الجانب المؤلم والمشكل في التاريخ, ويجري هذا متزامنا مع الفتاوى التي تصدر يوميا في الخفاء والعلن من دعاة الدين لأيقاظ وإلهاب روح الكراهية والتحريض والعنف بين الناس وضرب وحدتهم الوطنية في الصميم, وهكذا يتحول العنف من قيمة منبوذة في الدين والسياسة إلى واجب ديني " الهي " وسياسي له الأولوية في عقول المتطرفين على بناء الوطن ونهضته !!!.

و كذلك نظرية المؤامرة في السلوك اتجاه الآخر هي الأخرى تؤسس للكراهية والتحامل والعنف بين أفراد المجتمع الواحد, وكذلك في النظر إلى العالم الخارجي, دول ومجتمعات وأفراد, وقد نشأ سلوك المؤامرة في داخل المجتمعات الذي تجسده انعدام الثقة بالآخر والشك في نية أفعاله حتى وان كانت  "حسنة " على خلفية انعدام الثقة التاريخي بين النظام السياسي وبين الشعب بصورة عامة, وبين النظام السياسي والأحزاب السياسية خارج النظام, وينشأ نتيجة لذلك فكرا وسلوكا إسقاطيا, أي ما أفكر به أنا هو الصحيح وأتوقعه من الطرف الاخر وبالتالي يجب أن أقوم بضربة استباقية قبل أن يبدأ بها الطرف الاخر, مما يعزز اتجاه الكراهية والعدوان بين المنظومة المجتمعية بمكوناتها المختلفة !!!!.

أما سلوك المؤامرة الموجه إلى الخارج وبشكل خاص إلى العالم الغربي والأمريكي والنظر أليه على انه مصدر الشر المطلق وهو سبب كل معاناتنا الأبدية فهو ناتج من النظر إلى الغرب من خلال التجربة التاريخية المتمثلة بالاستعمار وتركته الثقيلة نظرة أبدية مطلقة غير قابلة للنقد والتقويم في ظروف العصر الحالي متجاوزين ما قطعه الغرب من شوط بعيد في التأسيس لحقوق الإنسان واحترام الدول واستقلالها, فلا توجد في السياسة عداوة أبدية أو صداقة بدون شروط وخاصة في السياسة, حيث هناك تقاطع مصالح وبالإمكان أجادة اللعبة بما يلبي مصالحنا, وخاصة عندما ننظر إلى الغرب بأنه يشكل احد عناصر نهضتنا بما يمتلكه من قدرات في التقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتية وكذلك تجاربه في الديمقراطية, اللازمة لنقلها واستنباتها في أوطاننا. والتجربة التاريخية تؤكد ما ذهبنا إليه, فقد كره اليابانيون الأمريكيين بعد أن دمروا مدنهم بالقنابل الذرية, ولكنهم تجاوزوا كراهيتهم, وتحولوا بعد ذلك إلى شريك تجاري كبير للولايات المتحدة. كما كرهت أوربا الألمان بعد أن خربوا مدنهم وشردوا أجيالا منهم, ثم عادت ألمانيا إلى الأسرة الأوربية بقوتها الاقتصادية والسياسية الرائدة. وينتشر تيار الكراهية والعنف اتجاه الغرب في أوساط التيار الديني المتشدد والفكر الإيديولوجي الشمولي والمعادي للغرب جملة وتفصيلا. وغدا إذا اتخذت ثورات الربيع العربي مسارا مغايرا لطبيعة الأسباب التي نشأت في ضوئها, فأننا أول ما نلقي اللوم على الغرب وأمريكا دون ممارسة النقد الذاتي لمنظومتنا الفكرية والعقائدية .... أن حديثي هذا لا يشكل تزكية كاملة لمواقف الغرب وسلوكياته, بل محاولة لإيجاد مداخل منطقية في إدارة الصراع السياسي مع الآخر !!!!.

ويشكل تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأسباب القوية في زرع الكراهية والعنف في البنية المجتمعية, فانتشار الفقر وتدني مستوى الحياة وضعف الخدمات الاجتماعية من صحة وخدمات عامة, وكذلك ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية والحضارية بين مختلف الفئات الاجتماعية وخاصة الفقيرة منها, واستشراء  الفساد بمختلف مظاهره الإدارية والمالية والأخلاقية, وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية واستئثار الحكم وحاشيته بالثروة الوطنية, جميعها عوامل تأسس للكراهية والحقد والعنف بين مكونات المجتمع !!!!.

أن العنف والكراهية الناتجة من الأسباب المجتمعة و المذكورة أعلاه تفضي إلى اضطراب في منهجية التفكير النقدي البناء وقصور في الفكر الجدلي الذي تجسده حالة العجز في الجمع في سياق واحد بين الأوجه الموجبة والأوجه السالبة, والعجز في الجمع بين المميزات والعيوب لمسألة ما سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية وسيطرة المستوى السطحي من التفكير الذي يشكل قناعا يخفي الحقيقة, وإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل, وطغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية والعودة إلى المستوى الخرافي, والى الحلول السحرية والغيبية, والى الإرهاب باعتباره واجبا " مقدسا " أو حلا قسريا للأزمة النفسية والسياسية. ومن هنا تأتي أهمية العمل على أكثر من صعيد وعلى أكثر من جبهة للحد من العنف وسلوك الكراهية, وخاصة في ظروف التغير العاصف الذي يمر به اليوم العالم العربي ولكي لا نخسر أول الانجاز, فهناك جبهة بناء المؤسسات الديمقراطية, وجبهة إعادة البناء الاقتصادي والتأسيس الحديث للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وهناك جبهة الإعلام والتركيز على ما هو مشترك وايجابي بين الأديان وشعوب المنطقة, وكذلك الجبهة التربوية والتعليمية وإعادة بناء نظم التعليم على أسس الحداثة ومعطيات العلم والتقدم التقني, وهناك أيضا إعادة صياغة لعلاقة الدين بالدولة بما يؤمن احترام الدين وعدم استخدامه في السياسية وكذلك إعلان القطيعة مع كل موروث مسبب للفتنة ويسئ للمبادئ العامة للدين ووظيفته الفطرية... إنها مهمات ليست سهلة ولكن يتوقف عليها مستقبل المنطقة العربية بأسرها وربيعها الثوري !!!.



 


253
سقوط نظام الدومينو العربي ومستلزمات الحفاظ على الانجاز

د.عامر صالح

لقد سقط النظام العربي الرسمي أشبه بأحجار الدومينو التي يتكأ بعضها على بعض حيث سقوط الحجرة الأولى ثم يفرط العقد كله, تلك هي سنة الحياة في التغير والتحول والتطور بعد تراكم من الظلم والحرمان دام لعقود ولابد له أن يفضي إلى تحول نوعي في المحتوى وفي الشكل والممارسة السياسية, أي إلى نظام بديل يختلف عن سابقه في الوظيفة والأهداف الكبرى, وكان هذا السقوط رغم مفاجئته للكثير من حيث سرعة نتائجه المتمثلة في سقوط بعض من هذه الأنظمة وتدهور بعضها الآخر على طريق السقوط , إلا انه لا يشكل أي مفاجئة استثنائية من منظور علم الثورة, والمفاجئة فقط هي من حيث الحشود المليونية التي تقف وراء عمليات التغير الجارية في ظل غياب أو ضعف الطلائع السياسية التي يفترض أن تحتوي الحدث بكل تداعياته وتهيئ لمرحلة ما بعد السقوط, وتمنع حدوث الفراغ السياسي والأمني باعتباره الشرط اللازم للحفاظ على الثورة من الانهيار ومنعها من العودة إلى المربع الأول !!!!.

أن علم الثورة يؤكد أن الثورة تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع, تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وشكل التملك الخاص, ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة, وهي في بلداننا تشكل النظام وحاشيته ضد الشرائح الواسعة من الشعب, وتؤدي هذه التناقضات إلى أزمة سياسية عميقة تحمل معها نشوء حالة ثورية تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة مثل المظاهرات والاجتماعات المعبئة والاعتصام, وان الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها !!!.

كما أن الثورة هي أسلوب من أساليب التغير الاجتماعي تشمل الأوضاع والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعملية التغير لا تتبع الوسائل المعتمدة في النظام الدستوري القديم للدولة وتكون جذرية وشاملة, تؤدي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد ويفترض أن يكون تقدمي قياسا بسابقه, ويترتب على نجاح الثورة سقوط الدستور وانهيار النظام الحكومي القائم ولكن لا تمس شخصية الدولة ومؤسساتها وكادرها في مختلف المجالات, ولا تؤدي إلى إنهاء العمل بالتشريعات السابقة عليها بطريقة فوضوية, وخاصة الايجابية منها وذات الصلة بالحياة العامة, فليست كل ما في النظام القديم هو بالي ويستحق السحق والإبادة, فهذا نوع من السلوك ألتدميري للدولة برمتها وإعاقتها من العمل مجددا !!!.

ويؤكد الإرث العالمي للثورات والتجربة التاريخية على أهمية توحيد القوى الثورية المنتفضة وتنظيمها وأهمية العوامل الذاتية في توعية الجماهير وقيادتها. وتشكل وحدة الظروف الموضوعية والذاتية القانون الأساسي للثورة, كما تؤكد على ضرورة الحفاظ على مسار الثورة من الانحراف, ومنع قطف ثمارها من قبل سارقي الثورات المتمرسين, من المتطرفين بمختلف مشاربهم الدينية والسياسية, والذين يعيشون على فتات موائد الثورة, مستغلين مشاعر الناس وخاصة البسطاء منهم من خلال الشعارات الطنانة الفارغة واستغلال الشعور الجمعي الديني ووضعه في حالة تصادم مع النظام الجديد  كمبرر للانقضاض على حركة الجماهير وحرف وجهتها التقدمية صوب أهداف مجهولة عديمة الجدوى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا !!!!.

لقد استندت الحكومات العربية الساقطة منها والتي في طريقها للسقوط إلى رؤيا كاذبة ومراوغة, قوامها أن بعض المهام التاريخية لا يمكن انجازاها إلا تحت ظل حكومات الحزب الواحد, ومنها أن عملية التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية لا يمكن انجازها إلا بتعبئة لكل طاقات المجتمع وموارده, وهذا يتطلب وجود حزب واحد أوحد قادر على ذلك, ينظم حركة الجماهير و يغرس فيها قيم التنمية, إلا أن نتائج " التنمية"  وما أفرزته لعقود من تزايد للفقر والجوع والأمية وضعف الخدمات الاجتماعية وانتشار للبطالة وانخفاض مستوى دخل الفرد وتدهوره يدحض ذلك الادعاء, أما ادعاء حماية الوحدة الوطنية تحت واجهات عدم الضرورة للتعددية الحزبية باعتبارها تهدد الوحدة الوطنية والدولة فهي كاذبة جملة وتفصيلا, حيث عرضت حكومات الحزب الواحد العربية الوحدة الوطنية إلى مزيدا من التصدع مما فسح المجال للتدخلات الأجنبية عسكريا وسياسيا, كما أن اغلب نظم الحزب الواحد ارتمت بأحضان الاستعمار وحلفائه وأسرفت في الحوار معه في السر والعلانية وبطرائق مباشرة أو غير مباشرة, كما هو الحال في الحوار مع إسرائيل وحلفائها من الدول الكبرى !!!!.

لقد مرت على سلطة حكومات الحزب الواحد عدة عقود تجاوزت في العديد منها نصف القرن أو أكثر وهي تتخبط في الحلول في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية دون جدوى ودون نتائج تذكر قياسا بعامل الزمن الذي استطاعت فيه الحكومات الديمقراطية الحق انجاز الكثير من الاستقرار السياسي وبناء ديمقراطيات راسخة ورفاه اجتماعي واحترام لحقوق مواطنيها في العيش الكريم !!!.
 
أن زمن قطف رؤوس النظم الدكتاتورية قد حان اليوم بإرادة الشعوب العربية الثائرة, وان سقوطها مسألة وقت ليست إلا, ويبقى الحفاظ على نتائج الثورة واستمرارها مهمة في ذمة الثوار كما هي في ذمة الطلائع السياسية التي يجب أن يكون لها دورا متميزا في التغيرات الجارية. فالحفاظ على وحدة الوطن وترابه ومؤسساته وأمنه ومنع الوصايا عليه من الخارج أو الداخل  ومنع الحرب الأهلية هي ثوابت لا يمكن المزاح أو التلاعب بها, ففي ذلك تكمن كرامة الوطن وكرامة الثوار !!!!.     



254
بين إسقاط نظام عربي قمعي وبناء الديمقراطية !!!!

د.عامر صالح

لقد أسدل الستار على عدة أنظمة قمعية في المنطقة العربية, كنظام صدام حسين في العراق ونظام زين العابدين في تونس ونظام حسني مبارك في مصر وأخيرا ليست آخرا نظام العقيد معمر ألقذافي في ليبيا, وسوف تتبعها بالتأكيد سقوط نظم عربية قمعية أخرى, ولا يستطيع نظاما تجاوز منطق التاريخ الذي تلخصه المقولة الفلسفية: " تحول التراكم الكمي إلى تحول نوعي " عند توفر شروطه المناسبة آجلا أم عاجلا, أو كما يترجم قانون نيوتن عن الفعل ورد الفعل في نطاق الفعاليات الاجتماعية بالقول: " كلما يرتفع مستوى القمع فأن منسوب المقاومة يزداد بدوره ", ونلاحظ لذلك أيضا إشارة في التراث الشعبي المتداول والذي تعكسه بعض العبارات الشائعة الاستخدام مثل: " لكل ظالم نهاية " و " الظالم أيامه معدودة وان طالت " أو " ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع ", كما لا يستطيع أي نظام في المنطقة إيقاف عجلة التأريخ نحو الأفضل باعتباره فعل جمعي قائم على خلفية تفاعل عوامل الفقر والفاقة والظلم والاضطهاد وانعدام الحريات العامة والعزلة المجتمعية عن العالم, وقد اختمرت عوامل التغير المذكورة لعقود لتوحد الجماهير المنتفضة باختلاف مشاربها, وهو تراكم لازم لانطلاق فعل الثورة !!!!.

وقد لعبت العوامل الخارجية الدور المعجل لاكتمال شروط اندلاع الثورة ثم نجاحها في مرحلتها الأولى, وأقصد هنا بالعوامل الخارجية هو القوة العسكرية منها وكذلك العوامل الثقافية والتقنية, حيث تدخلت القوة العسكرية الأمريكية لإسقاط نظام صدام حسين, كما تدخل الناتو لمساندة الثوار في إسقاط نظام ألقذافي, أما بالنسبة للعوامل الخارجية الثقافية  والتقنية المعلوماتية من فيسبوك وتوتير واليوتوب وشبكات الانترنيت ومختلف تقنيات التواصل الاجتماعي فقد أثرت بكل مجتمعات المنطقة تقريبا, من خلال التواصل الاجتماعي بين مختلف بقاع العالم وخاصة المتقدم منه, متأثرة بشكل كبير بالتجارب الديمقراطية العالمية ومعجبة بمناحي الحياة المختلفة عبر آخر المعلومات عنه والاطلاع على الجديد فيه. وكذلك لا نستغرب أن يكون الشباب هم القوى المحركة لهذه الثورة ولهذا التغير, انطلاقا من مصلحتهم الأساسية في التطلع للحرية والديمقراطية والانفتاح على العالم الخارجي والبحث عن نماذج للعدالة الاجتماعية, ولاسيما في مجتمعات عربية تشكل نسبة سكانها تحت عمر 31 سنة ما يقارب 70% من عموم السكان, وبالتالي فأن الرهان على الشباب في هذه المنطقة هو رهان استراتيجي لبناء المستقبل !!!.

وإذا كان تدخل العامل العسكري الخارجي يثير الكثير من الغضب والحنق والامتعاض لدى فئات واسعة من المثقفين والثوريين وعدم رضاهم عن هذا التحالف بين الثوار وقوى التدخل العسكري العالمية, إلا انه صحت هنا مقولة " عدو عدوي صديقي " في بعض من وجوهها, وخاصة عندما تكون السياسة " فن الممكن " أو ممارسة براغماتية على نطاق واسع قد يصح هذا التحالف مؤقتا, وخاصة في ظل فقدان الأمل في تنازل الدكتاتوريات العربية سلميا عن مملكة العرش المطلق. وعلى العموم فأن الأفعال تقاس بنتائجها وهذا الأمر ينطبق على اتجاهات التغير الحاصلة اليوم وعلى قدرات قواها الذاتية في تقرير بوصلة الأحداث, ونقصد هنا حصرا الحفاظ على وحدة الوطن وترابه, وتماسك النسيج الاجتماعي وحمايته من التدمير والتطهير العرقي والديني والمذهبي والثقافي, والحفاظ على مؤسسات الدولة والممتلكات العامة والثروة الوطنية من الحرق والسرقة والتخريب والتشويه, باعتبارها ملكا للمجتمع, والابتعاد عن سلوكيات الانتقام واخذ الثأر  وترك ذلك الآن للقضاء العادل, وخاصة في ظل غياب الطلائع السياسية المباشرة في ميدان التغير لتحتوي عنفوان الشباب المشروع بعد طول الحرمان !!!.

أن بسالة الثوار في المجتمعات العربية المنتفضة لا تضاهى بثمن حيث وضعت مجتمعاتها على العتبات الأولى للخروج من العتمة إلى النور, وهي خطوات نوعية على مسار الحراك الشعبي العربي, وتبقى الأسئلة كثيرة هي التي تشغل أذهان الحريصين على تنقية مسار الثورة وحمايتها من الاختلاس, ولعل من ابرز هذه التساؤلات هي: هل يمكن النهوض قدما لبناء الدولة المدنية, وهل هناك ضمانة لكتابة دستور واضح يضمن حق المشاركة والمساواة للجميع بغض النظر عن الدين والملة والاتجاه السياسي والتأسيس لثقافة الحوار والتبادل السلمي للسلطة, ما هي القدرة على تجنب نظام المحاصصات الطائفية والعرقية في الدستور الجديد, ولكي لا يتحول الدستور لا حقا إلى قنابل موقوتة عند الحديث عن إعادة البناء ( كما في الحالة العراقية والتي لم يستطيع حتى رئيس الوزراء نوري المالكي أخيرا أن يتكتم عنها بتصريحه إلى السومرية نيوز بتاريخ 23 آب الجاري بقوله: أن الحكومة العراقية والدستور العراقي بنيا على أساس قومي وطائفي, وفي إشارته إلى إن الدستور قد تضمن " ألغاما بدأت تتفجر وليس حقوق " دعا إلى تعديله بما يحقق دولة المواطنة ... ), ما هو حجم التدخل الغربي والأمريكي وحتى التركي وبعض من الأطراف العربية في رسم الملامح العامة للنظم القادمة وطبيعة علاقاتها بهذه المحاور, ولكي لا تتحول البلدان المحررة من الدكتاتورية إلى مناطق نفوذ جديدة لصالح القوى المذكورة لتصفية حسابات سياسية أو لإدارة صراعات دينية ومذهبية, والتجربة العراقية اليوم شاهد على  عدم الاستقرار من هذا النوع, وغيرها من الأسئلة !!!!!.
 
بعض من صعوبات الإجابة على الأسئلة المذكورة تكمن في الإرث الثقيل في مجتمعاتنا جراء هيمنة الفكر الإيديولوجي الاستحواذي الذي عمق من ثقافة إقصاء الآخر المغاير والمعارض, وكذلك هيمنة الفكر الديني المتطرف الذي يسعى بكل الوسائل لتطويق عمليات التغير وحرف مسارها, وكذلك انتشار الأمية الأبجدية والحضارية في المجتمعات العربية إلى جانب الفقر وآثاره الجانبية في عرقلة بناء العقل وخياره الديمقراطي, بالإضافة إلى ضعف الإرث السياسي المعارض وعدم قدرته في بناء تقاليد سياسية في البلد وهذا ناتج إلى ما تعرضت له هذه القوى من عمليات إبادة عبر عقود وتصفيات جسدية وعدم السماح لها بممارسة العمل العلني, إلى جانب الكثير من العوامل ذات الطابع النفس اجتماعي لا مجال لذكره هنا !!!!.

ومن هنا يجب أن يأخذ العمل الثقافي والتربوي القادم والذي يصاحب عمليات التغير حيزا كبيرا على طريق بناء الديمقراطية, ومن هنا تأتي أهمية بناء نظام ديمقراطي يدعم التنمية الثقافية ويخلق ثقافة سياسية جديدة تحترم الثوابت الوطنية وتعزيز المواطنة الحق والانتماء إلى الوطن وترسيخ مؤسسات الدولة الديمقراطية والبدء بمعالجة تربوية ونفسية و ثقافية شاملة لآثار السلطات الشمولية, وهو بالتأكيد عمل شاق وليست سهل, ومن أهم الرهانات لبناء الديمقراطية وترسيخها هو العمل على نشر ثقافة سياسية جديدة والتأسيس لبناء وعي مجتمعي جديد مبني على مفاهيم وقيم المواطنة الحق وأسس الديمقراطية والمساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص في مختلف المجالات واحترام الرأي الآخر في المشاركة السياسية, ومن هنا يبدأ العمل في التأسيس للديمقراطية على جبهات مختلفة, الثقافية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. أنها مسيرة الألف ميل ولكن في البداية السليمة تكمن نجاحات المسيرة كلها !!!!.


255
الدين بين جمال علم النفس وقبح السياسة

د. عامر صالح

أن العلاقة بين الدين وعلم النفس وخاصة العلاجي منه كانت علاقة سلبية, بل علاقة قطيعة مطلقة, ولو قال احد قبل خمسة عقود وحتى اقل من ذلك أن علم النفس العلاجي والدين سيلتقيان ولو في بعض من مفاهيمهما لعده الناس والأوساط العلمية بأنه مجنون, فرجال الدين كانوا ينظرون إلى علم النفس بصورة عامة والتحليل النفسي الكلاسيكي بصورة خاصة نظرة يشوبها الكثير من الغيظ والتشكك والحقد, فدراسة السلوك الإنساني التجريبي برأيهم ما هو إلا انحدار بالقيمة الإنسانية إلى مصافي الحيوانات كالقرود والفئران وغيرها, وكذلك النظر إلى تعميم بعض الحقائق العلمية التي تم الحصول عليها من ملاحظة سلوك الحيوانات على السلوك الإنساني, ما هو إلا محاولة للحط من قيمة الإنسان ومكانته كما يفهمها هم, وعلى خلفية ذلك تم تكفير الكثير من العلماء واستباحة دمائهم واعتبارهم خارجين عن تعاليم الدين, وكذلك الحال بالنسبة لعلماء النفس المتشددين وخاصة من رواد مدرسة التحليل النفسي الأوائل وخاصة سيجموند فرويد الذي لخص موقفه من الدين بطريقة حدية متطرفة, فقد اعد الدين بمثابة اضطراب الوسواس القهري الذي أصاب البشرية جمعاء, وقرر بأن الطقوس والشعائر التعبدية ما هي إلا صورة للأعراض العصابية لهذا الاضطراب النفسي العام.

كما فسر فرويد نشأة الدين بطريقة لم تلقى الاستحسان والقبول حتى من أنصاره في مدرسة التحليل النفسي’ بتأكيده: " أن هذه الاعتقادات التي تعرض في الدروس الدينية لا تنبع من الخبرات البشرية المتراكمة’ وليست هي نتاج للتفكير المستقيم إنما هي نوع من الهذاءات, بل هي إشباع لأقدم وأقوى وأشد رغبات الجنس البشري إلحاحا .... أن الإحساس بالتهديد والخوف والشعور بعدم الأمان لدى الطفل لا يقدر على مواجهة ظروف الحياة أيقظ لديه الحاجة إلى الحماية والحب في الوقت نفسه, وهو الأمر الذي يتولاه الأب عادة..... ثم أن عجز الإنسان البدائي على مواجهة قوى الطبيعة وقلة حيلته جعلته في حاجة إلى حماية دائمة من هذه الأخطار التي تهدد حياته فتعلق " بأب " أكبر هذه المرة, أنه " الله ”..... لقد وجدت مشاعر القلق التي تنتاب الإنسان أمام عجزه على مواجهة أخطار الحياة هذه حلها في الدين في ظل الحماية الإلهية والتعاليم السماوية التي سنت القوانين الأخلاقية التي تنتظم العالم وتلبي حاجة الإنسان إلى العدل الأخروي الذي قلما تحقق في عالم الناس, وما يتبع ذلك من الإيمان بالحساب والإيمان بحياة أخرى هي في الحقيقة امتداد لحياة قلما استطاع الإنسان أن يشبع فيها كل رغباته ".

أن وجهة نظر فرويد هذه لم تطلق العنان لتأسيس علاقة سليمة بين الدين ومدرسة التحليل النفسي الكلاسيكي وخاصة في شقها العلاجي, وكان خلط فرويد بين ما هو إيماني فردي وشخصي بحت وما بين ما هو جمعي احد أسباب سوء الفهم في الاستفادة من العنصر الإيماني في الممارسة العيادية, مما أدى إلى إقصاء العامل الديني وإمكانية الاستفادة منه في أروقة منظومة العلاج المتنوعة. وقد كان ذلك من جانب آخر دافعا قويا لدى الكثير من العلماء الذين أتوا من بعده في البحث والتنقيب عن أمكانية الاستفادة من العامل الديني في العلاج النفسي في إطار النظرة إلى الدين باعتباره احد مصادر تشكيل السلوك الفردي الأخلاقي والقيمي في نطاق الثقافة السائدة.

وقد ظهر اتجاها ايجابيا, سواء من داخل مدرسة التحليل النفسي أو من خارجها يؤكد على أهمية هذه العلاقة بين علم النفس والدين والاستفادة من الأخير في تقنيات العلاج النفسي, فقد أكد عالم التحليل النفسي " كارل يونج " على ضرورة دراسة الدين وأثره في سلوك الإنسان, مؤكدا أن ارتباط الفرد بالدين وأيمانه به يزيد من صحته النفسية ويسهم في علاج الاضطرابات النفسية, وكذلك يؤكد العالم " فيكتور فرانكل " صاحب نظرية العلاج بالمعنى والتي تؤكد على أهمية الأبعاد العقلية والروحية للإنسان ومساهمتها في الصحة النفسية للفرد, ويؤكد انه قد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان إلى الإحباط وهو ما يعرف بالإحباط الوجودي وفقا لنظرية العلاج بالمعنى, وقد يتمخض عن ذلك الكثير من الاضطرابات النفسية, وبالتالي يشير إلى أن الشخص الذي لديه معتقدات دينية فانه من المفيد توظيفها في علاجه إذا كان مريض نفسيا, وكذلك العالم " ابراهام ماسلو " من علماء المدرسة الإنسانية في علم النفس والذي دعا إلى ضرورة أن تتحول الدراسات النفسية من التركيز على قضايا التحليل النفسي والوصف الآلي للسلوك إلى الدراسة الايجابية للسلوك الإنساني بما فيها من أخلاق وقيم ودين وغيرها, كما يؤكد العالم " جونز " أن هناك أربعة أنماط من التفاعل بين الدين وعلم النفس هي:

1 ـ تطبيق النظريات وطرق البحث النفسية لدراسة الخبرة الدينية.

2 ـ العديد من واضعي النظريات النفسية تعاملوا مع الدين بهدف تطبيق مفاهيمهم وأساليب بحثهم على الخبرة الدينية, وذلك من خلال الإطار المعرفي لعلم النفس.

3 ـ  تطبيق النظريات والمعارف النفسية في برامج الرعاية المقدمة في المؤسسات الدينية.

4 ـ اعتبار الخبرة الدينية ومفاهيمها ومؤسساتها شركاء معتبرين في المناقشات الدائرة حول الخبرات الإنسانية. وتتفرع من هذه النقطة عدة ملاحظات أساسية أبرزها: على علم النفس كمنظومة علمية أن يطول لدى منتسبيه وعيا أكبر واحترام أكثر للإيمان الديني والتقاليد الروحية. وإيجاد تعاون حواري اكبر بين الدين وعلم النفس كعلم, بحيث يؤخذ في الحسبان المعتقدات الموجودة لدى الباحثين الدارسين. وأخيرا الفهم بأن الدين والتطبيقات الروحية تساعد في الشفاء وكذلك في مقارنة الأمراض وفي مراحل التغيير لدى الأفراد.

وعلى الرغم من أن طلائع البحث الميداني في علاقة علم النفس العلاجي بالعامل الديني بدأت منذ مطلع الخمسينات في القرن الماضي, إلا أن حجم الأبحاث في هذا الميدان لا تزال دون المستوى المطلوب, وعلى العموم فأن معطيات الأبحاث العلمية المتوفرة تؤكد العلاقة الايجابية بين العامل الديني ومظاهر مختلفة من السلوك الإنساني, وخاصة عامل التدين " الجوهري " وليست " الظاهري " كما يقرره علماء النفس, وهذه العلاقات الايجابية تتضح آثارها في علاقة التدين بالصحة النفسية, وعلاقته بتدني نسبة المنتحرين في أوساط المتدينين,كما انه يقي صاحبه من الإدمان على المخدرات, وانخفاض نسبة الانحرافات في أوساط الأحداث المتدينين, وانخفاض نسبة الضغوطات النفسية والقدرة على مواجهة الصعاب ومواجهة الأزمات, وانخفاض نسبة القلق, وتعزيز احترام الذات, والتدين الحقيقي أو الجوهري يسهم في التسامح أكثر من التعصب, ويشكل غطاء وقائيا في عدم الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية, وكذلك تقبل الموت بشك أسهل والتكيف مع مشكلات الشيخوخة الصحية والنفسية بشكل ايجابي.

وإذ نسوق بعض من فوائد العلاقة بين الدين وعلم النفس العلاجي استنادا إلى المعطيات المتوفرة لدينا من الأبحاث العلمية, فلا ندعي بأن العصا السحرية لعلاج الاضطرابات النفسية تكمن في هذه العلاقة, ولكن استنادا إلى الأسباب المختلفة والمتنوعة للاضطرابات النفسية وطبيعة المريض يقع العلاج الديني ـ النفسي احد الاتجاهات العلاجية الواردة هنا, وهي في غالبيتها تقع ضمن حدود الاضطرابات التي تقع ضمن فئة " العصاب ", والتي لا يزال المريض يحتفظ بعقله ويعي حقيقة مرضه ويطلب المساعدة والعلاج, أما النوع الآخر الخطير من الاضطرابات العقلية والنفسية والذي نعني به "الذهان" والتي يكون في معظمها المريض مقطوع الصلة بواقعه وعالمه الواقعي " أي فاقد عقله " فيدخل هنا العلاج الطبي النفسي بقوة على خلفية التغيرات الفسيولوجية و الكيمائية والكهرودماغية التي تسببها هذه الأمراض !!!!.

وفي الوقت الذي تتضح فيه ملامح علاقة ايجابية راسخة بين علم النفس والدين قائمة على أساس فهم الدين كسلوك فردي وبالإمكان استثماره ايجابيا في بعث الصحة النفسية والاستقرار للأفراد ومن ثم الجماعات, ظلت علاقة الدين بالسياسة ضمن العلاقات الحرجة والضاغطة بقوة على عوامل الاستقرار الاجتماعي وبعث الصحة النفس اجتماعية. ففي الوقت الذي وجدت فيه الدول الديمقراطية العريقة حلولا لهذه العلاقة استنادا إلى خبرتها التاريخية إلى إشكاليات هذه العلاقة, ومستندة إلى فصل الشأن الفردي الديني عن الشأن السياسي العام بما يضمن احترام وقدسية الديني وجماليته وانطلاق الحياة السياسة والعامة على أساس حرية الدين والمعتقد, ظلت بقاع كثيرة من العالم تعاني من هذه الإشكالية ومنها العالم العربي.

وتنبع هذه العلاقات المتشنجة أصلا من جذور نفس عصابية, فما يعتقد فيه الفرد صحيحا ومقدسا لا يبقى في أطره الفردية الخاصة بل ينتقل إلى عدوى اتهام الآخر الديني بأنه اقل قدسية منه, وعندما تزج السياسة بالدين وبفعل جمعي منظم يصبح الحزب السياسي الديني هو الآخر أكثر قدسية من غيره, ويكون الآخر بالضرورة عديم القدسية وفي أحيان كثيرة كافر ويستحق الإبادة والقتل, والأخطر من ذلك عندما تؤسس السياسية ليست فقط على أسس دينية ولكن على أسس طائفية في إطار الدين الواحد, عندها يبدأ التكفير من داخل الذات الدينية الواحدة وصولا إلى الآخر الديني وبذلك نتوقع هول وحجم المأساة النفسية والنفس اجتماعية, فيتحول الدين من سلوك فردي مطمأن إلى سلوك جمعي شامل منتج للعصاب الاجتماعي والكراهية والحقد, وتلك ليس هي مهمة الدين الحق !!!!.

وفي منطقتنا حيث مكونها الاجتماعي من فسيفساء ديني ومذهبي ليست من الصالح للوحدة الوطنية والاجتماعية أن تتحول مجتمعات المنطقة إلى مراكز استقطاب للخندقة المذهبية والدينية السياسية, حيث يصبح الحديث عن المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية طموحات لا يمكن تحقيقها أبدا في ظل الاحتراب الديني والمذهبي. قد يفهم من هذا الحديث هو إقصاء لأحد أو وضع شروط للديمقراطية وطبيعة أحزابها أو الحد من سقف الديمقراطية, فأن ذلك مجافي لجوهر الديمقراطية الذي يقوم على أساس المشاركة غير المشروطة, ولكن المهم مستقبل الديمقراطية الناشئة أو التي سوف تنشأ, وكذلك المهم للديمقراطية عدم استخدام الدين غطاء يستخدم لحشد الجماهير وتخويف الخصم السياسي والديني وكسب الرأي العام ووسيلة للعبث في العاطفة الدينية الفطرية للجماهير وكسب تأييدها عن طريق دغدغة انفعالاتها بشعارات فضفاضة ليست ذات جدوى عملي في تحسين ظروف العيش وبعث الحياة الحرة الكريمة.

فهل تستطيع مجتمعاتنا صياغة علاقة جميلة بين الدين والسياسة على نسق علاقة علم النفس بالدين, وإذا كان الدين فلسفة حب وإيمان ومودة بين الناس فلماذا لا ننهل منه حبنا للآخرين باختلاف أطيافهم !!!!!.




256
في سيكولوجيا العصاب والدين والوسواس القهري الديني وآثاره في الممارسة العملية !!!!

د.عامر صالح

اعتقد من المفيد قبل الدخول في التفاصيل, الحديث عن بعض المفاهيم التي ترد في المقال, وهي مفاهيم أساسية ترد في علم النفس المعاصر ذات العلاقة بمفهوم العصاب النفسي, وما ذا يعني وما هي ابرز مظاهر التعبير عنه, ثم الإشارة إلى العصاب القهري باعتباره احد أنواع الاعصبة والتركيز على العصاب القهري الديني باعتباره احد أنواع الاعصبة القهرية, ومن ثم تبيان اثر ذلك وتداعياته في الممارسة اليومية !!!.

قبل ذلك نقول أن الحديث عن العصاب الديني القهري هو غير الحديث عن الدين تماما, فالأديان وعلى سنة نشأتها الأولى ومغزاها للبشرية جسدت الحاجة والطاقة الروحية والعقلية النفسية للإنسان, ولعبت دورا ايجابيا محفزا على التطور, وكانت تجسد الشخصية العامة المشتركة للجماعة وتلخص إرادتها وكرامتها وتصوراتها وقيمها وتاريخها وذاكرتها وعاداتها وتقاليدها وطموحاتها ومواقفها ويوضح الالتزامات المشتركة لأفرادها, كما ولا تزال الأديان احد المصادر المهمة في المنظومة الأخلاقية والسلوكية لأفراد المجتمعات المختلفة ودالته في التعامل اليومي من خلال ضبط سلوك الأفراد والجماعات, بشكل مباشر أو غير مباشر, وتستطيع الأديان لعب مزيدا من الأدوار الايجابية والمنشطة بقدر انسجامها مع الواقع ومتطلبات الفطرة الإنسانية, والانفتاح والإقبال على الحياة وتسهيلها وتيسير أسبابها والتكيف مع ظروف العصر الراهن ومتغيراته الأساسية في الحرية والديمقراطية والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي !!!.

قد لا يبدو اليوم مقبولا في الوسط العلمي السيكولوجي تفسير بعض جزئيات نظرية فرويد في التحليل النفسي والخاصة بتفسير ظاهرة الدين, حيث يرى أن الدين يقوم على المزج بين الحس الديني وبين الحاجة إلى الإله المشخص الذي يقوم مقام الأب, وهذه الحاجة حسب فرويد نمت منذ الطفولة, وتحت تأثير شعور الطفل بالضعف وما يستتبع ذلك من نظرة إلى الأب بما هو الكائن القوي القادر على كل شيء. وهذه الحالة الطفلية تتعدى عنده مرحلة الطفولة الفردية لتشمل طفولة الجنس البشري. فالمعتقدات الدينية القائمة اليوم وفقا لهذا التفسير تحمل معها طابع الأزمنة الأولى التي أنتجتها عندما كانت الحضارة " طفلا يحبو " . مما يعني أن الدين لديه هو " مرحلة في تطور الحضارة " يمكن تجاوزها في المستقبل إذا أحسن الإنسان تدبير حياته المشتركة مع الآخرين تدبيرا محكما, وهي شبيهة تماما مثلما يتجاوز الفرد أحوال " طفولته العصابية " في طريقه نحو النضج. فالدين لدى فرويد " ظاهرة عصابية " على المستوى العام تعادل الظاهرة العصابية على المستوى الخاص. انه نوع من " العصاب الاستحواذي " الذي يصيب الجماعة. وقد أثارت مفاهيم فرويد بهذا الخصوص الكثير من الجدل العلمي تراوح بين الرفض والقبول أو المزاوجة بين آراءه والآراء العلمية المعاصرة !!!!.

ولكن العديد من الأبحاث العلمية المعاصرة ترينا وجه آخر للعلاقة بين العصاب والدين, فليست الدين بحد ذاته هو عصاب, سواء كان على المستوى الفردي أو المجتمعي, لا بل أن بعض من أشكال الإيمان الديني وغير الديني تشكل مصدرا للشفاء أكثر مما تكون مسببة للعصاب, وربما يعود ذلك لأن المؤمنين يشعرون بما اسماه باحث الصحة أرون انتونوفسكي " الشعور بالتماسك ", أي إن من يشعر بأن حياته غنية بالمعنى, بأنه جزء من كل اكبر يكون أكثر مقاومة من الناحية النفسية والجسدية. كما ودرس " كينت بارغامينت" أستاذ علم النفس في جامعة المرج الأخضر الحكومية في أوهايو الآثار الصحية للإيمان لدى مئات المؤمنين من مختلف الاعتقادات وأستنتج أن بأنه لابد من التميز بدقة كبيرة بأن التأثير الايجابي أو الأقرب للسلبي للتدين يتعلق بشكل قاطع بنوع الإيمان. فالناس الذين يعيشون على رعب معاقبتهم من إله صارم على خطاياهم والذين يعيشون هذه الصرامة في طائفتهم الدينية أيضا على شكل " جو انفعالي " يميلون للاكتئاب والقلق والاضطرابات النفسية الجسدية بشكل اشد من غير المؤمنين. وعلى العكس ينمي الإيمان بإله خير ورحيم يقدر الضعف الإنساني بتسامح بالارتباط مع الاطمئنان الانفعالي ضمن مجموعة أو طائفة دينية الصحة النفسية والجسدية !!!!.

ولعل في ذلك تميز ضمني بين فكرة التشدد الديني وآثارها السلوكية الضارة على الشخصية وما تنتجه من أنماط من السلوك المضطرب أو التخريبي اتجاه المجتمع, وبين الاعتدال الديني وما يترتب عليه من سلوك ايجابي على مستوى التكيف الفردي والاجتماعي. أما التقنيات الدينية المختلفة, من صلاة وأدعية واستغراق وتأمل فيمكن الاستفادة منها عند استحسان تقنينها وفقا لحاجات العلاج كتمرينات لبعث الطاقة الروحية حتى في أوساط غير المؤمنين. فقد أكد هربرت بينسون من هاوارد المتخصص بالقلب ومكتشف " منعكس الاسترخاء " الكيفية التي يمكن فيها أن ينشأ " الشعور الروحي " بالطاقة والأمان والارتباط مع قوة أو طاقة " عليا " حتى لدى غير المؤمنين, فكثير من هذه التمرينات ما يؤدي إلى استرخاء جسدي عميق, وفراغ داخلي منعش وتحرر للنفس من زخم الأفكار والمخاوف والمشاغل اليومية, طبعا إلى جانب ما يزخر به علم النفس والعلاج النفسي من تقنيات واسعة في مجال الاسترخاء لتجديد الطاقة والنشاط العقلي والفكري. إلى جانب التأثير الكبير للتدين على الحياة الاجتماعية للمسنين وحمايتهم من مشكلة " العشوائية " كفقدان للمعنى وتداعي القيم. فالإيمان يساعد المسنين في تنمية نوعية حياتهم بعمق ومنح حياتهم معنى والتغلب على التفكير بالموت أو التعامل مع الخسائر والأحزان في الوجود بشكل أفضل. وهنا تستخدم الطقوس الدينية كدعم علاجي وليس كبديل للعلاج النفسي أو الطبي, وليس من المفاجئة أن لا يحقق العلاج الديني أعجوبة الشفاء الكامل, وذلك لأن أسباب نشوء الاضطرابات النفسية أم علاجها يتعلق بعوامل متنوعة, ولا يشكل الإيمان أو العامل الديني إلا واحد منها. وعلى العموم يجب احترام القيم الدينية والثقافية للمرضى واستثمارها لأغراض العلاج. وعلى خلفية ذلك نشأت بعض من الروابط الايجابية بين الدين وعلم النفس بعد أن كان العداء بينهما مستفحلا !!!!.

في عودة لمفهوم العصاب النفسي: هو اضطراب وظيفي في الشخصية, وهو حالة مرضية تجعل حياة الشخص العادي اقل سعادة. وأعراض العصاب تمثل رد فعل الشخصية أمام وضع لا تجد له حلا بأسلوب آخر, أي انه يمثل المظهر الخارجي للصراع والتوتر النفسي والخلل الجزئي في الشخصية. والعصاب ليست صنفا واحدا من الاضطرابات, بل يشمل عدة أصناف, منها: القلق, وتوهم المرض, والضعف العصبي" النيورستينيا", والخواف, والهستيريا, وعصاب الوسواس والقهر, والاكتئاب التفاعلي, والتفكك. ويضاف إلى ذلك أنواع أخرى من العصاب مثل: عصاب الحرب, وعصاب الحوادث  والصدمات, وعصاب السجن, وعصاب القدر وغيرها.

وتتسم الشخصية العصابية في العديد من الخصائص أهمها: نقص النضج, وعدم الكفاءة والضعف, وعدم تحمل الضغوط, والتقليل من شأن الذات, والقلق, والخوف, والتوتر وسرعة التهيج والإعياء, والتمركز حول الذات والأنانية, نقص البصيرة, اضطراب العلاقات الاجتماعية, عدم الرضا والسعادة, والحساسية النفسية خاصة في مواقف النقد والإحباط, والشخصية العصابية تؤدي بصاحبها إلى سوء التوافق, مما يؤثر تأثيرا سيئا على قدرة الشخص على ممارسة حياة طبيعية مفيدة ويعوقه عن أداء واجبه كاملا, ويعوقه عن الاستمتاع بالحياة. ورغم ذلك تظل الشخصية العصابية في الحدود العادية من حيث الاهتمام بالمظهر العام وبالنفس وبالبيئة ويشعر بمرضه و يعترف به ويرغب في العلاج والشفاء !!!!.

وتلعب العوامل النفسية والتربوية والبيئية دورا مهما في إحداث العصاب, إلى جانب العوامل الأخرى كالتهيئة المسبقة والعيوب الوراثية, والتسمم, والأمراض المعدية, واضطرابات الغدد الصماء, واضطرابات في وظائف الكبد, أو المعدة والأمعاء, ولكن دورها ضئيل جدا في تشكيل ظاهرة العصاب. ولكن على الأرجح يبقى العصاب نفسي المنشأ وتلعب فيه البيئة دورا كبيرا, وابرز هذه الأسباب هي:

ـ مشاكل الحياة اليومية عبر مراحل العمر المختلفة منذ الطفولة وعبر المراهقة وأثناء الرشد وحتى الشيخوخة, وخاصة المشكلات والحوادث والصدمات التي تعمقت جذورها منذ الطفولة المبكرة بسبب اضطراب العلاقة بين الوالدين والطفل والحرمان والخوف والعدوان وعدم حل هذه المشاكل.

ـ وكذلك يلعب الصراع بين الدوافع الشعورية واللاشعورية  أو بين الرغبات والحاجات المتعارضة والإحباط والكبت والتوتر الداخلي وضعف دفاعات الشخصية ضد الصراعات المختلفة دورا هاما في إحداث العصاب, وكذلك تؤدي البيئة المنزلية العصابية والعدوى النفسية إلى العصاب وكذلك الحساسية الزائدة تجعل الفرد أكثر قابلية واستعدادا للإصابة بالعصاب.

ويشترك العصاب بمختلف أصنافه التي تم ذكرها بمجموعة أعراض مشتركة أو متداخلة أو ما يسمى " بالمتلازمة المرضية " وهي ضرورية جدا لتشخيص العصاب دون غيره من الاضطرابات النفسية, ولعل ابرز هذه الأعراض هي:

ـ القلق الظاهر أو الخفي والخوف والشعور بعدم الأمان, وزيادة الحساسية والتوتر والتهيج والمبالغة في ردود الأفعال السلوكية, وعدم النضج الانفعالي والاعتماد على الآخرين ومحاولة جذب انتباه الآخرين والاستجابة الطفلية في مواقف الإحباط, والشعور بعدم السعادة والحزن والاكتئاب.

ـ اضطراب التفكير والفهم بدرجة بسيطة, وعدم القدرة على الأداء الوظيفي الكامل, ونقص الانجاز, وعدم القدرة على استغلال الطاقات إلى الحد الأقصى, ومن ثم عدم القدرة على تحقيق أهداف الحياة.

ـ الجمود والسلوك التكراري وقصور الحيل الدفاعية والأساليب التوافقية والسلوك ذو الدافع اللاشعوري. التمركز حول الذات والانانية واضطراب العلاقات الشخصية والاجتماعية. وكذلك نشوء بعض الاضطرابات الجسمية المصاحبة ذات المنشأ النفسي.

أما بالنسبة لعصاب الوسواس القهري وهو احد أنواع هذه الاعصبة التي تم ذكرها سابقا’ ويشكل مدخلا لحديثنا عن عصاب  ألوسواس القهري الديني, فهو الاضطراب أو المرض الذي يعلم فيه المريض علم اليقين بعدم صحة أفكاره. ويأتي المرض عادة في هيئة أفكار أو اندفاعات أو مخاوف, وقد يكون في هيئة طقوس حركية مستمرة أو دورية مع يقين المريض بتفاهة هذه الوساوس ولا معقوليتها, وعلمه الأكيد أنها لا تستحق منه هذا الاهتمام ومحاولة المريض المستمرة لمقاومة هذه الوساوس وعدم الاستسلام, ولكن مع طول مدة المرض قد تضعف درجة مقاومته, وقد يترتب على إحساس المريض بسيطرة هذه الوساوس وقوتها القهرية مشاكل اجتماعية والآم نفسية وعقلية.

ويتضمن مرض الوسواس القهري عادة أن تكون هناك وساوس وأفعال قهرية, على الرغم من أن المصاب بمرض الوسواس القهري قد يعاني في بعض الأحيان من احد العرضين دون الآخر. ومن الممكن أن يصيب هذا المرض الأشخاص في جميع الأعمار. فالوساوس هي الأفكار والصور والدوافع الغريزية التي قد تحدث بشكل متكرر وتحس بأنها خارجة عن إرادتك. وعادة لا يريد الشخص أن يفكر بهذه الأفكار ويجدها مضايقة له ويجد نفسه مرغما عليها ويحس عادة بان هذه الأفكار لا معنى لها في الحقيقة. وقد يقلق الأشخاص المصابون بمرض الوسواس القهري بشكل زائد عن الحد من الجراثيم والأتربة وقد يحسون أنهم مرغمين على التفكير بشكل مستمر في فكرة أنهم قد التقطوا عدوى أو أنهم سيعدون الآخرين. وقد يفكر هؤلاء الأشخاص بشكل متكرر في إنهم قد آذوا شخصا ما أثناء تصرفاتهم وأنشطتهم اليومية, أو سيطرة فكرة أنهم سيقومون بعمل منافي للدين أثناء ممارستهم للطقوس الدينية. ويرافق الوساوس أحاسيس غير مريحة مثل الخوف والاشمئزاز والشك !!!. 

أما الأفعال القهرية فأن الأشخاص المصابون بمرض الوسواس القهري يحاولون أن يخففوا من الوساوس التي تسبب لهم القلق عن طريق القيام بأعمال قهرية يحسون بأن عليهم القيام بها. والأعمال القهرية هي أعمال يقوم المريض بعملها بشكل تكراري وعادة ما يتم القيام بهذه الأفعال طبقا لسياق روتيني محدد. فقد يقوم الأشخاص المصابين بوسواس العدوى بالاغتسال عشرات المرات يوميا وبشكل مستمر حتى تبدو أياديهم متسلخة وملتهبة من كثرة الاغتسال. وقد يقوم الشخص بالتأكد مرات عديدة من انه أغلق الموقد أو المكواة, ويحصل ذلك, على سبيل المثال وليست الحصر, لدى الأشخاص ذوي الوسواس القهرية المتعلقة بالخوف من احتراق المنزل .

أما بالنسبة للأعراض والتصرفات السلوكية المرتبطة بمرض الوسواس القهري فهي مختلفة وتشمل مجالات حياتية مختلفة, والشيء المشترك بين هذه الأعراض هو السلوك العام الغير مرغوب أو الأفكار التي تحدث بشكل غالب متكرر عدة مرات في اليوم, وإذا استمرت الأعراض بدون علاج فقد تتطور إلى درجة إنها تستنزف كل ساعات الصحو الخاصة بالمريض. أما ابرز ملامح الأعراض والتصرفات الخاصة بذلك فهي:

ـ الأفكار المتسلطة ويكون معظمها تشككيه أو فلسفية أو أتهامية أو عدوانية أو جنسية ( مثل الشك في الخلق والتفكير في الموت والبعث والاعتقاد في الخيانة الزوجية ... الخ ) والانشغال بفكرة ثابتة تتسلط وتحرض على القيام بسلوك قهري, أو ثبات صورة معينة لمنظر حميد أو كريه يشغل الفرد ويقلقه.

ـ هاجس التلوث بالقاذورات أو التعرض للجراثيم والأمراض يدفع المريض لكي يبالغ في الاغتسال أو تنظيف الملابس أو أوعية الطعام والشراب. أو الامتناع عن مصافحة الآخرين أو استعمال أشيائهم أو مشاركتهم طعامهم أو شرابهم, ويتجنب زيارة المستشفيات أو المرضى خوفا من التعرض للعدوى.

ـ هاجس التشكيك حيث يندفع المريض للتكرار والمراجعة والتدقيق مرات, مثلا إعادة التدقيق عند القيام بعمليات حسابية أو التأكد من أحكام الأقفال في المنزل أو أزرار الكهرباء والغاز وكذلك تكرار عمليات الغسل والنظافة والوضوء والصلاة وترتيب وتنظيم الأغراض مما يكون سببا في التأخير وإضاعة الوقت.

ـ هاجس فقدان الأشياء حيث يلجأ المريض إلى الاحتفاظ أو تخزين ممتلكاته لفترات طويلة بالرغم من عدم أهميتها أو انتفاء قيمتها, ويعترض أي شخص يحاول الخلص من هذه الأشياء أو أبعادها من مكانها.

ـ التفكير الخرافي البدائي والإيمان بالسحر والشعوذة والأحجية, والأفكار السوداء , والتشاؤم وتوقع الشر وتوقع أسوء الاحتمالات والكوارث.

ـ السلوك القهري المضاد للمجتمع أي الاندفاع السلوكي للقيام بسلوك مرضي مثل هوس إشعال النار وهوس شرب الخمور والهوس الجنسي. وهناك الكثير من الأعراض الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها هنا.

أما بالنسبة لعصاب الوسواس القهري الديني فهو لا يخرج عن المظاهر والأعراض العامة للوساوس القهرية التي تم ذكرها. وبغض النظر عن أسباب نشأته إن كانت استعدادات وراثية أم بيئية مكتسبة ومتعلمة من المحيط الأسري, فأن الوقوع في أسر هذا المرض يشكل عبئا نفسيا وعقليا ثقيلا على المريض نفسه وعلى محيطه الأسري والاجتماعي, وخاصة في مرحلة الشباب, حيث تصاحب هذه المرحلة من الناحية الطبيعية حالة الاهتمام والتدقيق بالمعايير والقيم الأخلاقية والمعنوية, وخاصة أذا اقترن بتربية دينية متشددة تفصل الخطاب الديني عن ملموسيته وواقعيته للحاجة النفسية أو" الروحية " لممارسيه, مما يزرع نواة القلق والهواجس, التي تدفع الشباب وغيرهم وعلى المستوى الشخصي إلى المبالغة في التأكد من أداء الالتزامات الدينية, والتشدد غير اللازم والمرغوب بالأحكام والطقوس الشرعية, فينساق " المؤمن " إلى تكريس وإعادة الطقوس الدينية اليومية وتكرارها بشكل ممل, من صلاة وأدعية ووضوء واغتسال وقراءة الكتاب المقدس لمرات ومرات على طول اليوم, إلى درجة تعيق صاحبها في ممارسة أعماله اليومية, والى درجة يثقل قيها دائرته القريبة من العلاقات الأسرية والاجتماعية ويثير حنقها وغضبها المتواصل, بل ويضغط عليها لتبني طابع ممارساته, وتتحول الممارسات الدينية إلى غضب متواصل ضد الذات الفردية واتهامها المستمر بالتقصير اتجاه الخالق وسوء الأداء الديني مما يدفعها إلى إعادة دورة الوسواس القهري بمزيد من الإفراط في الطقوس الدينية وهكذا في دائرة مغلقة من دوامة الطقوس التي لا يمكن اختراقها !!!.

أما بالنسبة للوساوس القهرية ذات الطابع الجمعي والتي تجسده التجمعات الدينية أو الأحزاب السياسية ـ الدينية المتطرفة فيتحول العصاب الديني ألوسواسي القهري موجها ضد الآخرين المغايرين في المسحة الدينية والسياسية, حيث يتخذ العصاب الديني القهري لنفسه نظاما واليات خاصة تمنعه من التكيف السليم مع الواقع ومع المحيط المغاير له, ويصبح معوقا وكابحا للتطور الطبيعي للإنسان, وعلى خلفية التجريد المطلق للخطاب الديني مقطوع الصلة بظروف نشأته وبعيدا عن تكيفه للظروف المتغيرة فهو لا يقوى على مواجهة المنطق والعقلانية والواقعية, ويتحول إلى فعل عصابي مدمر تجسده عمليات الإرهاب والعنف والقتل وإشاعة الفوضى والفساد وإعاقة التأسيس للديمقراطية وانطلاق الحياة على أسس عادلة !!!!.

 



257
الإسلام السياسي والمعوقات المعرفية ـ السلوكية في ممارسة الديمقراطية الحقيقية !!!!

د.عامر صالح

تثير مشاركة الإسلام السياسي في العمليات الديمقراطية وعمليات التغير الثورية الجارية في الوطن العربي الكثير من تساؤلات الشك في مدى قناعة هذه القوى بالعملية الديمقراطية, نهجا وفكرا وممارسة, فهل سلوكها  "الديمقراطي " الآني في العملية السياسية السلمية هو تكتيكا لاختراق صناديق الاقتراع ولقلب الطاولة على المؤمنين بالديمقراطية, أم سلوكا استراتيجيا نابعا من قناعات فكرية وعقلية وسلوكية متجذرة في ممارسة الديمقراطية ولبناء النظام الديمقراطي الذي يؤمن بالتعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة واعتماد المؤسسات الديمقراطية التشريعية والتنفيذية والقضائية مصدرا لكل السلطات !!!!.

أن الدائرة الإقليمية المحيطة بنا, العربية منها والإسلامية لا تجيب بالإيجاب عن هذا التساؤل والذي يتمحور حول مدى قناعة قوى الإسلام السياسي بالديمقراطية. ففي العراق حيث قوى الإسلام السياسي تعمل بالضد من استقرار العملية الديمقراطية, وهي تسير بنفق مظلم لا نهاية له, يزداد قتامه بفعل صفقات التخندق الطائفي والمذهبي, ولم تنهض هذه القوى بإنجاز المهمات الاقتصادية والاجتماعية لإعادة بناء البنية التحتية للمجتمع, وعلى أكثر من صعيد لا يزال العراق يراوح في المكان منذ سقوط النظام عام 2003  وخاصة على صعيد استقرار مؤسسات النظام الديمقراطي والأمن الاجتماعي وغيرها من المعضلات. وفي غزة الفلسطينية حيث الانقلاب على السلطة الوطنية الفلسطينية وممارسة الإرهاب السياسي والديني والمذهبي بحق غير المؤمنين بنهج حماس الاقصائي. وكذلك في جمهورية إيران الإسلامية حيث لا وجود للديمقراطية السياسية, لا من قريب ولا من بعيد, وتجري العملية السياسية محصورة في البيت الإسلامي والشيعي منه تحديدا, ويجري الصراع على السلطة السياسية في نظام ولاية الفقيه بين أجنحة إسلامية سياسية مختلفة من داخل الخيمة الإسلامية الشيعية لا غير. وفي السعودية أيضا حيث لا حديث عن الديمقراطية والتعددية السياسية أبدا, حتى وأن كانت شكلية, والسلطة حصرا بيد خليفة الله والمؤمنين على الأرض والمتمثلة بالحكم الملكي الوراثي لعائلة آل سعود. وما نرى أيضا من تنظيمات لأخوان المسلمين في العالم العربي والتي تعمل جاهدة لمد نفوذها المستتر والظاهر في حركات الشباب من اجل الوصول إلى الحكم في مصر وتونس واليمن وسوريا وغيره من البلدان.وحركات إسلامية أخرى في العالم العربي والإسلامي تتخذ من الإرهاب والترويع والقتل كتكتيكات أولية لبسط نفوذها على الأرض التي تتواجد فيها بهدف تشكيل كيانات ذات صبغة إسلامية متطرفة لا صلة لها بالديمقراطية مطلقا, وحركات تحرر إسلامية أخرى تدعي نصرة المظلومين في العالم العربي والإسلامي وتقف بوجه العدو الإسرائيلي, وتمارس اللعبة الديمقراطية ولكنها وعلى لسان قيادتها التاريخية تؤسس على المدى البعيد لدولة الفقيه, وتعبث في ورقة الأمن والاستقرار الداخلي كيفما تشاء, ويشكل حزب الله اللبناني احد نماذج هذا السلوك ألازدواجي !!!! .

قد تثير لدى القارئ الكثير من الاعتراضات بالقول بأن النموذج الإسلامي التركي في الحكم هو نموذج موعود وبالإمكان تعميمه في مناطق عديدة عربية وإقليمية, وتكمن إجابتنا البديهية لهذا الاعتراض بأن الإسلام السياسي الحاكم في تركيا يعمل ويحكم ويسبح في فضاء بلد استقرت فيه تقاليد العمل الديمقراطي ومؤسساته الدستورية, وفي بلد يمتلك أجهزة ومؤسسات دفاعية, من جيش وشرطة ومخابرات وأمن تتمتع بقدر كبير من الحيادية المعهودة لها في المنعطفات الهامة التي تهدد الديمقراطية. أما في المجتمعات العربية فيدخل الإسلام السياسي كجزء من المشكلة وليست الحل, فهو يسعى في مرحلة التأسيس للنظام الديمقراطي جاهدا لبناء مؤسسات الدولة وخاصة الدفاعية منها والأمنية والمخابراتية على أسس مذهبية ودينية وطائفية متحيزة, أو من خلال التأسيس لدستور فيه من الغموض ما يكفي لان يكون مصدرا من مصادر عدم الاستقرار والصراعات الدينية والمذهبية في البلد, من خلال إضفاء صبغة أحادية الجانب غير جامعة للنسيج الاجتماعي بكل مكوناته الثقافية والعرقية والدينية والمذهبية !!!!.

وهكذا يتراوح الإسلام السياسي في مسحته العامة بين رافض علني للديمقراطية باعتبارها بدعة من الغرب وكل بدعة ضلال, وبين داخل في اللعبة الديمقراطية لاعتبارات تكتيكية تحت ضغط الظروف الدولية المعاصرة وظروف المد الجماهيري صوب تبني الديمقراطية نهجا وممارسة. وفي الوقت الذي استطاعت فيه الكثير من القوى السياسية العالمية والإقليمية والوطنية ذات الطابع العلماني واليساري أن تتكيف لظروف العصر وتتبنى وتقتنع في الديمقراطية كوسيلة للحكم  والمساهمة في التأسيس لمجتمعات العدالة والحرية الاجتماعية, كما هو في تجارب اليسار والشيوعية في بلدان أوربا الاشتراكية سابقا, والكف عن المطالبة بحكومات ذات صبغة واحدة في بقاع أخرى من العالم, ظل الإسلام السياسي عنيدا في مطاوعته لظروف التغيرات الجارية في العالم, ويثير مزيدا من الشبهات والتساؤلات عن مدى تقبله للديمقراطية, على الرغم من امتلاكه القدرات الكافية لتحريك الوجدان الديني لدى شرائح اجتماعية بفعل عوامل الفقر وغياب الأمل التي استمرت لعقود, وتكوين كتل حشدية انتخابية تمكنه من الإتيان بالفوز ألاقتراعي لعدة دورات انتخابية !!!!!!. ما هو جوهر هذا العناد والتزمت العقلي والسلوكي لقوى الإسلام السياسي وما هي تداعياته, ذلك ما نحاول الإجابة عليه من منظور سيكولوجي ـ سياسي في هذه المحاولة المتواضعة !!!!!.

في عودة سريعة لضبط مصطلح الديمقراطية وماهيته والذي يخدمنا كثيرا في هذا المقال, وهو أن الديمقراطية تعني حكم الشعب, أو الحكم للشعب, وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة إلا إن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استخدامه في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة, فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه, فهي تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه, وأن يحكم نفسه بنفسه, ولنفسه, والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس تخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه, وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة, وقد عرفت السيادة بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها و لا ند متفردة بالتشريع الملزم, فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع, فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك, لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها, ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى, والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي الشعب. وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاث جوانب رئيسية على الأقل هي :

1 ـ إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها, وهذه تمارسه السلطة التشريعية.

2 ـ المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات, وهذه تمارسها السلطة التنفيذية.

3 ـ حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات, وهذه المهمة تمارسها السلطة القضائية, ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث.

وعلى خلفية هذه الرؤى فأن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل, والاستقلال في الرأي والتفكير, والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة, وفي القدرة على رفض الحكومات وتغييرهم في حالة عدم صلاحيتهم, وفي حق التملك وحق الأمن والأمان, كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون, والدعوة إلى الآراء وحرية تكوين الأحزاب, وحق المعارضة للسلطة القائمة, وحق الاقتراع العام, وتنظيم الانتخابات للوصول إلى الحكم, وتداول السلطة بين أفراد الشعب, واعتماد مبدأ الأغلبية في اتخاذ القرارات وسن القوانين !!!!.

وفي زحمة هذه الصلاحيات الواسعة للشعب في ظل الديمقراطية الحقيقية يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي والسلوكي مع القوى الديمقراطية ومع الشعب, كون هذه الأخيرة مصدر كل السلطات وبالتالي تشكل بديلا عن الشريعة الإسلامية ذات الطابع الإلهي, أي كما يفهمه الإسلام السياسي بأن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى, وهذه الخاصية التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب التجارب والأزمان, تعد من الاختلافات الحقيقية بينها وبين الإسلام, انطلاقا من قاعدة الإسلام التي جوهرها هي توحيد الله تعالى, والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده, وذلك بالاحتكام إلى ما  شرعه الله تعالى في كلها من صلاة وصيام وحج, معاملات بين الناس وخصومات, وفي شئونه كلها, وبالتالي أن تحل سلطة الشعب مكان سلطة الإلهة أمر غير مقبول جملة وتفصيلا لدى الإسلام السياسي !!!!.

وهكذا يقع الإسلام السياسي في دوامة الصراع النفسي ـ السياسي بين ظروف العصر المتغير وبين ما تقرره السنة الإلهية, ويقع من ناحية أخرى في صراع مستديم مع القوى السياسية المعاصرة في محاولة لفرض بدائله السياسية ـ الإسلامية على العمليات السياسية الجارية في مختلف مناطق العالم, العربي منه والإسلامي وبمختلف الوسائل, حتى وان اشترك في العملية السياسية الديمقراطية السلمية, وبالتالي يقع الإسلام السياسي في ازدواجية السلوك السياسي بين محتوى ما يؤمن به وبين ما يستجيب له من سلوك في ظروف التغير المطلوب, وتنشأ على خلفية هذا الصراع المعبأ بإلحاح وضغوطات الفكر الديني المفرط حالات من العصاب القهري الديني ـ السياسي الذي تجسده إلحاح الأفكار الدينية بشكل متواصل وغير منقطع في السلوك السياسي العام والخاص مؤطرا بعوامل عدم المرونة والتصلب في الرأي مع العناد وفرض الرأي وما يصاحبه من تحجر وجمود في العواطف اتجاه الآخر المغاير في الفكرة والتفكير !!!!.

وينشأ من دائرة هذا التصلب والتمركز حول الذات الدينية المفرطة الكثير من مظاهر العدوان والتجاوز على حرية الآخرين الدينية والسياسية تجسدها الكثير من الحروب الموضعية بواجهات مختلفة, وإخلال بالأمن العام, وارتكاب الكثير من الأعمال الوحشية بحق الآخرين, والتخندق في الأطر الجغرافية والمناطقية التي يتواجد فيها دعاة الدين, وإشاعة الفساد الإداري والمالي والأخلاقي بمختلف مظاهره, والاجتهاد المبتذل في أصول الدين, وتحليل الحرام في السلوك والتضييق على الايجابي منه, وإشاعة قيم الفرقة وضعف المواطنة, وجميعها آليات تعبر عن الإحباط في الموائمة لظروف العصر وعدم المقدرة في المساهمة الحقيقية والفاعلة في بناء التجارب الديمقراطية التي تتكئ عليها مجتمعات العدالة والحق والإنصاف !!!!. 

258
الديمقراطية وقدرات الإسلام السياسي في التكيف والتوافق السيكوسياسي لظروف العصر !!!!

د.عامر صالح

استطاعت الانتفاضات العربية أن تسقط الكثير من المفاهيم الشائعة وحتى الكثير من النظريات الاجتماعية ـ السياسية والنفسية التي كانت ترى أن الشعوب تخلق الدكتاتور, وهناك دورة مغلقة غير قابلة للاختراق بين الحاكم وشعبه, متناسين هؤلاء بأن عجلة التاريخ تدور ولا يمكن أن تتوقف, كما تنبأ بها كارل ماركس وغيره من المفكرين. وأن التغير والتكيف يشمل الحياة بدون انقطاع, على مستوى العضوية الفردية والمجتمعية, وخاصة عندما تجري التغيرات اليوم في عالم افتراضي يتخطى كل الحدود, يعيش فيه الفرد تواصلا فكريا وحضاريا وثقافيا مع الحضارة العالمية ونماذجها المتقدمة في زمن متسارع, لا مكان له لزمن الحزب الواحد, ولا لقائد الضرورة,ولا لقائد الأمة, الديني منه والسياسي !!!!.

وكما يعرف الجميع أن هذه الانتفاضات الشعبية هي انتفاضات مطلبيه في مسحتها العامة, لتحسين ظروف العيش والتخلص من الفقر والحرمان والجهل والطغيان الذي طال أمده, ولم تنشأ هذه الانتفاضات بفعل عوامل الاختمار الذاتي والذي يفترض أن تؤسس له أحزابا مؤمنة بالديمقراطية وتقطف ثماره الآن, فهذه الحالة غائبة في الساحة العربية, وخاصة بعد الإضعاف المستمر للقوى التقدمية والديمقراطية, الحاملة للمشروع النهضوي, إلى جانب غياب الفكر النقدي الذي يؤسس لمزاج التغيرات الايجابية وقبولها على نطاق شعبي واسع, وهو الضامن الوحيد لخيارات الشعوب المستقبلية. ومن هنا ينشأ الخوف المشروع على الانتفاضات العربية, إلى جانب الحرص الشديد لإنجاز أهدافها المشروعة, حيث لا خبز ولا حرية بدون ديمقراطية حقيقية وقوى مؤمنة بها, وهي صمام الأمان المانع للعودة إلى مربع الدكتاتوريات الأول, سواء السياسية منها أو القوى المتأسلمة المتلبسة بلباس الدين, التي تحاول استغلال الفراغ السياسي الكبير الناتج من غياب قوى التغير الفعلية والمنظمة وصعوباتها الموضوعية !!!.

ولعل هذه المقدمة تسوقنا إلى تصور مفاده أن الحركات السياسية المتأسلمة والتي تتخذ من المقاعد الخلفية لانتفاضات الشباب مكانا لها تتهيأ لملئ الفراغ السياسي بأجندتها الظاهرة والآنية المتوائمة مع الديمقراطية شكلا والمستجيبة لزخم ظروف التغير الذي يحصل على الأرض الآن, دون التخلي عن أجندتها الإستراتيجية بعيدة المدى لبناء دولة " الإسلام والمسلمين ", سواء إن كانت هذه الدولة " أخوانيه " أم " طلبانية " أم " خمينية ", مثلما قامت به الحركات المتأسلمة العراقية بملئ الفراغ السياسي مستندة إلى الدستور ذو المثالب الكثيرة, والى الهبات والحشود الانفعالية في الانتخابات. هذا الحديث ينقلنا إلى مشروعية المسائلة ماذا بعد شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " إلى مشروعية التوجه إلى طرح البدائل وبالتالي الوسائل التي من شأنها توفير الأطر لضبط مسارات الانجاز وامتلاك بوصلة واضحة قادرة على استيعاب التباينات القائمة داخل مخاض التفاعلات الثورية الجارية, ومن ثم تحديد الأولويات المباشرة لانجاز الأهداف المشتركة, أم نحن أمام صور طبق الأصل للحالة العراقية !!!!.

قد لا يثير الغرابة الدعم الغربي والأمريكي بشكل خاص للقوى المتأسلمة, انطلاقا من افتراضين أساسيين, أولهما أن صناديق الاقتراع بتقديرهم هي التي تقرر خيارات الشعب استنادا إلى التجارب الغربية المستقرة, وهو قياس خاطئ لا يستند إلى معرفة دقيقة بطبيعة هذه المجتمعات والعوامل الثقافية والدينية التي تتحكم بها, ودون وعي بأهمية وضرورة المرحلة الانتقالية السابقة للانتخابات, وثانيهما هو ان هذه القوى المتأسلمة هي الضامن الوحيد للحروب الداخلية المذهبية والطائفية والاثنية وتفكيك النسيج الاجتماعي الوطني, بما يضمن مصالح الغرب وأمريكا بشكل خاص وتدخلهما القوي في أوضاع تلك البلدان بما يضمن مصالح وامن إسرائيل, عبر الإضعاف المتواصل لقدرات هذه البلدان وعرقلة وحدتها الداخلية اللازمة لأي نهضة حقيقية " مع كرهي الشديد والمقيت لنظرية المؤامرة ", إلا ان الأفعال تقاس بنتائجها, كما هو الحال في البراغماتية السياسية, والحالة العراقية هنا قابلة للقياس والتعميم, حيث أتت صناديق الاقتراع بمزيد من التدهور في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفساد الإداري والمالي وسرقة المال العام وبمزيد من التخندق المذهبي والطائفي والاثني, ومسببة أيضا بمزيد من تدخل دول الجوار في الشأن العراقي وارتهانه لأجندتها الخارجية الطائفية والمذهبية والسياسية !!!!!.

ولا نستغرب تماما من تصريحات المعلقين السياسيين الغربيين بإشادتهم بالسهولة التي تكيفت من خلالها الحركات الدينية في العراق مع الديمقراطية السياسية الخاصة بالتعددية الحزبية, وإشادتهم بحملة الأخوان المسلمين في مصر للتصويت على التعديلات في الدستور بنعم, مؤكدين أن جماعة الأخوان المسلمين لديهم فهم أفضل للطريقة التي تعمل بها الديمقراطية كما هي الحال في العراق, كما أوقعوا في اللوم على الليبراليين والعلمانيين بأنهم منقسمين, دون فهم أو تعقل للأسباب التاريخية التي تقف وراء ذلك, واتهموهم بالهواة في السياسة ولا يفهمون طريقة عمل الديمقراطية !!!!!.

أذن كيف تفهم استجابة الإسلام السياسي لظروف التغير وما هي دوافعه, فهل هو تكيف منعا للانقراض أم هو توافق ناتج من تفهم واستجابة لظروف العصر المتغير. في السيكولوجية المعاصرة هناك فرق بين التكيف والتوافق, كما هو الحال في المعنى اللغوي. فالتكيف في اللغة كما في علم النفس هو تغير في سلوك الكائن الحي يجعله أكثر ملائمة للبيئة التي يحيا فيها والتي ترتبط ببقاء جنسه, أما التوافق فهو علاقة تناغم بين الكائن الحي وبيئته تقوم على إرضاء اغلب حاجاته ومطالبه على اختلافها, فالتوافق وسيلة لجعل حياة الفرد أفضل بتلبية رغباته وتوفير حياة يستمتع بها بعيدا عن المنغصات. إذا التكيف كخطوة أولى يبقي على الكائن حيا والتوافق كخطوة ثانية يرقى به الى الحياة التي يرغبها.

ولمزيد من الوضوح في استخدام المصطلحات فأن الكائنات الحية تميل إلى تغيير سلوكها استجابة لتغيرات البيئة, فعندما يطرأ تغير على البيئة التي يعيش قيها الكائن, فأنه يعدل سلوكه وفق لهذا التغير, مثال ذلك: " تغير الإنسان لباسه ليناسب الفصل والمناخ " ويبحث عن وسائل جديدة لإشباع حاجاته, وإذا لم يجد إشباعا لهذه الحاجات في بيئته, فأما يعمل على تعديلها أو تعديل حاجاته, وهذا السلوك أو الإجراء يسمى بالتكيف. أن مفهوم التكيف أصلا هو مفهوم بيولوجي, وكان حجر الزاوية في نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح, فالحيوانات التي استطاعت التلاؤم مع بيئتها الطبيعية استمرت في البقاء كالحرباء التي تغير لونها ليتناسب مع البيئة الطبيعية, وهجرة اسماك السلمون, ونوم الدببة في الشتاء. أن الإنسان يعمل باستمرار على التكيف مع بيئته الطبيعية عن طريق ارتداء اللباس المناسب وشكل البناء ونوع الطعام. وقد استعار علم النفس المفهوم البيولوجي للتكيف والذي أطلق عليه علماء البيولوجيا مصطلح تلاؤم أو توافق, واستخدم في مجال علم النفس تحت مصطلح التكيف, وحيث أن الإنسان يتلاءم مع بيئته والاجتماعية مثلما يتلاءم مع بيئته الطبيعية, من هنا شدد علماء النفس على ما يسمى البقاء السيكولوجي والاجتماعي, مثلما شدد علماء البيولوجيا على البقاء الطبيعي البيولوجي !!!!.
 
واستنادا إلى المزواجة بين هذه المفاهيم وسلوك الأحزاب والحركات الاسلاموية التي تفتقد إلى مستلزمات بقائها في ظروف العصر من خلال توجهاتها لبناء دولة الخلافة الإسلامية أو لدولة ولاية الفقيه سواء إن كان على المدى القريب أو البعيد, ولا يعنيها معالجة الفقر أو الشروع بالنهضة الاقتصادية والاجتماعية, بقدر ما يعنيها العمل على تمثيل أو النيابة عن سلطة الإله في الأرض برؤيتها الخاصة, وتقوم بشرعنة الفقر والتخلف وإعادة توليده على خلفية الفهم السيئ للنصوص المقدسة, وتشكل حاضنة آمنة للفساد الإداري والمالي من خلال حماية رموزه لاعتبارات ولائهم المذهبي والطائفي والديني, في ظروف يضعف فيه الانتماء للوطن والمواطنة وتشتد فيه الاستعانة بالحليف الخارجي المطابق لها ليتدخل مستميتا وبشروطه لإشاعة الفرقة والعبث بالوحدة الوطنية وفرض أجندته, ويشتد الخطاب المتأسلم الغير المتسامح بطبيعته والذي لا يستند إلى تعاليم الدين السمحاء بل مشبع بعوامل الفرقة والانتقاء والتحيز التعصبي " وهو ليست الدين " ليشيع مزيدا من الفرقة المبنية على مبدأ إقصاء الآخر وتكفيره ونفيه بل وقتله. ومن هنا تنتقل العداوة, من عداوة للفقر والجهل والظلم والحرمان, إلى عداوة مع من يختلف معي في الاجتهاد والرأي والفكر, ومن هنا نفتقد إلى ترتيب سلم الأولويات في معالجة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والحضارية, وبين إدارة الخلافات المذهبية والطائفية والدينية على أسس مشروعية الاختلاف في الرأي !!!!.

وإذا كانت الحركات الاسلاموية اليوم تتشدق بقوة " المثل التاريخي " المتمثل في الإمبراطورية الإسلامية سابقا, فيكفي لهذا المثل أن يكون ضعيفا اليوم على خلفية ما أريقت فيها من دماء وسبي للأطفال والنساء والممتلكات طيلة عهد الإمبراطورية, والناتجة من الصراعات السياسية على الحكم والتي تحولت إلى صراعات دينية. يشير الدكتور السيد القمني في مقال له بعنوان: " لكي لا يخدعنا بعضهم: هل كان تاريخنا ماضيا سعيد ", واكتفي هنا بذكر بعض من المعلومات الإحصائية الواردة في المقال المذكور وبتصرف ـ ويمكن للقارئ العودة إلى التفاصيل في ذلك ـ يقول القمني بعد أن يشرح بداية الصراعات السياسية ـ   الدينية في زمن أبو بكر إلى الحديث عن التفاصيل فيما بعده, بقوله: "..... تم قتل عثمان ابن عفان بيد صحابة وأبناء صحابة. ومن بعدها خرجت الفرق الإسلامية تحارب بعضها, حتى مات حول جمل عائشة خمسة عشر ألف مسلم, ومن بعدهم مائة ألف وعشرة من المسلمين في صفين .... أما عن زمن معاوية وولده يزيد فحدث ولا حرج عما جرى لآل بيت الرسول, وكيف تم جز رأس الحسين ليرسل إلى العاصمة, وكيف تم غرس رأس زيد بن علي في رمح ثم غرسه بدوره فوق قبر جده رسول الله !..... وفي وقعة الحرة التي هي من كبرى مخازينا التاريخية, إذ استباح الجيش نساء المدينة أياما ثلاث حبلت فيها ألف عذراء من سفاح واغتصاب علني وهن المسلمات الصحابيات وبنات الصحابة والصحابيات. أما زياد بن أبيه, والي الأمويين على العراق على إقليم العراق, فقد شرع القتل بالظن والشبهة ...... أما نائبه الصحابي " سمرة بن جندب " فأن يديه قد تلوثتا فقط بدماء ثمانية آلاف من أهل العراق على الظن والشبهة ....... وقد سار الحجاج بن يوسف الثقفي على سنة سلفه زياد بن أبيه في إعدام النساء والقبض على أهل المطلوب حتى يسلم نفسه, ومنع التجمهر, وإنزال الجنود في بيوت الناس ووسط العائلات يلغون في الشرف كيفما شاءوا إذلالا للناس وكسرا لإنسانيتهم, حتى انه اعدم من العراقيين في عشرين سنة هي مدة ولايته مائة وعشرين ألفا من الناس بقطع الرأس بالسيف أو الذبح من القفا أو الرقبة ..... وعندما وصل العباسيون إلى السلطة بدأوا حملة تطهير واسعة شملت من مواطني دمشق خمسين ألفا تم ذبحهم, وجعلوا من المسجد الأموي إسطبلا لخيولهم. ولما استقام لهم الأمر استمروا على النهج الأموي في ظلم العباد وقهر آدمية الإنسان.... " . ثم يختتم القمي مقاله ببعض التساؤلات المهمة, حيث يقول: " إذا قيل هنا أن ذلك كان منطق العصر, فلا خلاف أبدا حول قول القائل. وإذا قيل انه لا يصح محاكمة ذلك الزمان بذوق زماننا الأخلاقي, أيضا ليست ثمة خلاف. لكن الخلاف ينشأ فور القول باستعادة هذا الشكل من الحكم والأنظمة بحسبانها الأمل والمرتجى. هنا لابد أن نحاكمها بذوق أيامنا .......".

أن قراءة السيد القمي المتخصصة للتاريخ واستنتاجاته وأسئلته تدور أيضا هي الأخرى في ذهن المواطن العربي العادي, ولكن بعموميات الحرص والقلق الشديد على مستقبل الثورات الشبابية وبدائلها المستقبلية, خاصة عندما تحصل الثورات في عالم نوعي آخر يختلف جذريا عن عالم المئات من القرون الغابرة, واقل ما يقال أنها تجري في ظروف التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتية وفي عصر التواصل الاجتماعي العابر للقارات من خلال شبكات التواصل الاجتماعي, متجاوزة فيه الحدود والقوميات والجنسيات, مما أسهم بشكل كبير في تغير الصورة النمطية والسلبية للشعوب العربية وعجل في إنضاج الخيارات صوب الديمقراطية من خلال التأثر بقوة المثل في المجتمعات المتقدمة, وأسهم بشكل كبير في رفع سقف مطالب الشباب الثائر في الحرية والديمقراطية الحقيقية وتحسين ظروف الوجود !!!!.

وجميعها عوامل تثير من حدة التساؤل المشروع, هل يستطيع الإسلام السياسي والذي يتمتع بزخم خلف الثورات أن يحتوي هذه التغيرات ضمن مساراتها الطبيعية ويحولها إلى مشروع نهضة قادمة في الفكر والحرية والديمقراطية والسياسة والاقتصاد والمجتمع, أي أن يتحول الإسلام السياسي من طبيعته " البيولوجية " التكيفية منعا لانقراضه من الوجود الشكلي في زحمة الأحداث الجارية إلى طبيعة تكيفية ـ توافقية على نسق ما يجري في التكيف النفسي والاجتماعي التوافقي للوحدة الإنسانية, من خلال الإشباع المتواصل والمتصاعد للحاجات الإنسانية وإرضائها تبادليا بين الأفراد والمجتمع بمختلف مكوناته الفكرية والسياسية والدينية والمذهبية !!!!.

إلى وقتنا هذا كما هو الحال في التاريخ الغابر لا توجد أدلة تؤكد صحة هذا التحول, ومؤشراته كثيرة ولا حصر لها, فالاقتتال بين الأخوة في الدين وطوائفه على أشده, وتكفير الآخر الديني وإقصائه تجري على مسامع وأبصار العالم في مجازر يندى لها الجبين, وسلوكيات التربص والاستحواذ والخلط الأعمى بين السياسة والدين وإدعاء الأفضلية على الآخر تجري على قدم وساق, والحروب الأهلية والإقليمية تأخذ مأخذها في عدم الاستقرار في المنطقة وفي العالم متلبسة بلباس الدين..... الخ.

وغدا بالتأكيد سوف تفتح صناديق الانتخابات الحرة في معظم الدول العربية على خلفية نتائج الثورات الشبابية والشعبية, ومن الأولى والاهم والأجدر أن يكون التصويت لصالح البرامج ومشروعات النهضة الاقتصادية والاجتماعية, وإذا كان التصويت للدين الخالص فيفترض أن تذهب نتائجه إلى رب العالمين خالق الدين, وليست للمتلبسين به, أما عدا ذلك فالخير فيما اختاره الله, فالدين لله والوطن للجميع !!!!!.             

 

       



259
الديمقراطية وقدرات الإسلام السياسي في التكيف والتوافق السيكوسياسي لظروف العصر !!!!
د.عامر صالح

استطاعت الانتفاضات العربية أن تسقط الكثير من المفاهيم الشائعة وحتى الكثير من النظريات الاجتماعية ـ السياسية والنفسية التي كانت ترى أن الشعوب تخلق الدكتاتور, وهناك دورة مغلقة غير قابلة للاختراق بين الحاكم وشعبه, متناسين هؤلاء بأن عجلة التاريخ تدور ولا يمكن أن تتوقف, كما تنبأ بها كارل ماركس وغيره من المفكرين. وأن التغير والتكيف يشمل الحياة بدون انقطاع, على مستوى العضوية الفردية والمجتمعية, وخاصة عندما تجري التغيرات اليوم في عالم افتراضي يتخطى كل الحدود, يعيش فيه الفرد تواصلا فكريا وحضاريا وثقافيا مع الحضارة العالمية ونماذجها المتقدمة في زمن متسارع, لا مكان له لزمن الحزب الواحد, ولا لقائد الضرورة,ولا لقائد الأمة, الديني منه والسياسي !!!!.

وكما يعرف الجميع أن هذه الانتفاضات الشعبية هي انتفاضات مطلبيه في مسحتها العامة, لتحسين ظروف العيش والتخلص من الفقر والحرمان والجهل والطغيان الذي طال أمده, ولم تنشأ هذه الانتفاضات بفعل عوامل الاختمار الذاتي والذي يفترض أن تؤسس له أحزابا مؤمنة بالديمقراطية وتقطف ثماره الآن, فهذه الحالة غائبة في الساحة العربية, وخاصة بعد الإضعاف المستمر للقوى التقدمية والديمقراطية, الحاملة للمشروع النهضوي, إلى جانب غياب الفكر النقدي الذي يؤسس لمزاج التغيرات الايجابية وقبولها على نطاق شعبي واسع, وهو الضامن الوحيد لخيارات الشعوب المستقبلية. ومن هنا ينشأ الخوف المشروع على الانتفاضات العربية, إلى جانب الحرص الشديد لإنجاز أهدافها المشروعة, حيث لا خبز ولا حرية بدون ديمقراطية حقيقية وقوى مؤمنة بها, وهي صمام الأمان المانع للعودة إلى مربع الدكتاتوريات الأول, سواء السياسية منها أو القوى المتأسلمة المتلبسة بلباس الدين, التي تحاول استغلال الفراغ السياسي الكبير الناتج من غياب قوى التغير الفعلية والمنظمة وصعوباتها الموضوعية !!!.

ولعل هذه المقدمة تسوقنا إلى تصور مفاده أن الحركات السياسية المتأسلمة والتي تتخذ من المقاعد الخلفية لانتفاضات الشباب مكانا لها تتهيأ لملئ الفراغ السياسي بأجندتها الظاهرة والآنية المتوائمة مع الديمقراطية شكلا والمستجيبة لزخم ظروف التغير الذي يحصل على الأرض الآن, دون التخلي عن أجندتها الإستراتيجية بعيدة المدى لبناء دولة " الإسلام والمسلمين ", سواء إن كانت هذه الدولة " أخوانيه " أم " طلبانية " أم " خمينية ", مثلما قامت به الحركات المتأسلمة العراقية بملئ الفراغ السياسي مستندة إلى الدستور ذو المثالب الكثيرة, والى الهبات والحشود الانفعالية في الانتخابات. هذا الحديث ينقلنا إلى مشروعية المسائلة ماذا بعد شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " إلى مشروعية التوجه إلى طرح البدائل وبالتالي الوسائل التي من شأنها توفير الأطر لضبط مسارات الانجاز وامتلاك بوصلة واضحة قادرة على استيعاب التباينات القائمة داخل مخاض التفاعلات الثورية الجارية, ومن ثم تحديد الأولويات المباشرة لانجاز الأهداف المشتركة, أم نحن أمام صور طبق الأصل للحالة العراقية !!!!.

قد لا يثير الغرابة الدعم الغربي والأمريكي بشكل خاص للقوى المتأسلمة, انطلاقا من افتراضين أساسيين, أولهما أن صناديق الاقتراع بتقديرهم هي التي تقرر خيارات الشعب استنادا إلى التجارب الغربية المستقرة, وهو قياس خاطئ لا يستند إلى معرفة دقيقة بطبيعة هذه المجتمعات والعوامل الثقافية والدينية التي تتحكم بها, ودون وعي بأهمية وضرورة المرحلة الانتقالية السابقة للانتخابات, وثانيهما هو ان هذه القوى المتأسلمة هي الضامن الوحيد للحروب الداخلية المذهبية والطائفية والاثنية وتفكيك النسيج الاجتماعي الوطني, بما يضمن مصالح الغرب وأمريكا بشكل خاص وتدخلهما القوي في أوضاع تلك البلدان بما يضمن مصالح وامن إسرائيل, عبر الإضعاف المتواصل لقدرات هذه البلدان وعرقلة وحدتها الداخلية اللازمة لأي نهضة حقيقية " مع كرهي الشديد والمقيت لنظرية المؤامرة ", إلا ان الأفعال تقاس بنتائجها, كما هو الحال في البراغماتية السياسية, والحالة العراقية هنا قابلة للقياس والتعميم, حيث أتت صناديق الاقتراع بمزيد من التدهور في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفساد الإداري والمالي وسرقة المال العام وبمزيد من التخندق المذهبي والطائفي والاثني, ومسببة أيضا بمزيد من تدخل دول الجوار في الشأن العراقي وارتهانه لأجندتها الخارجية الطائفية والمذهبية والسياسية !!!!!.

ولا نستغرب تماما من تصريحات المعلقين السياسيين الغربيين بإشادتهم بالسهولة التي تكيفت من خلالها الحركات الدينية في العراق مع الديمقراطية السياسية الخاصة بالتعددية الحزبية, وإشادتهم بحملة الأخوان المسلمين في مصر للتصويت على التعديلات في الدستور بنعم, مؤكدين أن جماعة الأخوان المسلمين لديهم فهم أفضل للطريقة التي تعمل بها الديمقراطية كما هي الحال في العراق, كما أوقعوا في اللوم على الليبراليين والعلمانيين بأنهم منقسمين, دون فهم أو تعقل للأسباب التاريخية التي تقف وراء ذلك, واتهموهم بالهواة في السياسة ولا يفهمون طريقة عمل الديمقراطية !!!!!.

أذن كيف تفهم استجابة الإسلام السياسي لظروف التغير وما هي دوافعه, فهل هو تكيف منعا للانقراض أم هو توافق ناتج من تفهم واستجابة لظروف العصر المتغير. في السيكولوجية المعاصرة هناك فرق بين التكيف والتوافق, كما هو الحال في المعنى اللغوي. فالتكيف في اللغة كما في علم النفس هو تغير في سلوك الكائن الحي يجعله أكثر ملائمة للبيئة التي يحيا فيها والتي ترتبط ببقاء جنسه, أما التوافق فهو علاقة تناغم بين الكائن الحي وبيئته تقوم على إرضاء اغلب حاجاته ومطالبه على اختلافها, فالتوافق وسيلة لجعل حياة الفرد أفضل بتلبية رغباته وتوفير حياة يستمتع بها بعيدا عن المنغصات. إذا التكيف كخطوة أولى يبقي على الكائن حيا والتوافق كخطوة ثانية يرقى به الى الحياة التي يرغبها.

ولمزيد من الوضوح في استخدام المصطلحات فأن الكائنات الحية تميل إلى تغيير سلوكها استجابة لتغيرات البيئة, فعندما يطرأ تغير على البيئة التي يعيش قيها الكائن, فأنه يعدل سلوكه وفق لهذا التغير, مثال ذلك: " تغير الإنسان لباسه ليناسب الفصل والمناخ " ويبحث عن وسائل جديدة لإشباع حاجاته, وإذا لم يجد إشباعا لهذه الحاجات في بيئته, فأما يعمل على تعديلها أو تعديل حاجاته, وهذا السلوك أو الإجراء يسمى بالتكيف. أن مفهوم التكيف أصلا هو مفهوم بيولوجي, وكان حجر الزاوية في نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح, فالحيوانات التي استطاعت التلاؤم مع بيئتها الطبيعية استمرت في البقاء كالحرباء التي تغير لونها ليتناسب مع البيئة الطبيعية, وهجرة اسماك السلمون, ونوم الدببة في الشتاء. أن الإنسان يعمل باستمرار على التكيف مع بيئته الطبيعية عن طريق ارتداء اللباس المناسب وشكل البناء ونوع الطعام. وقد استعار علم النفس المفهوم البيولوجي للتكيف والذي أطلق عليه علماء البيولوجيا مصطلح تلاؤم أو توافق, واستخدم في مجال علم النفس تحت مصطلح التكيف, وحيث أن الإنسان يتلاءم مع بيئته والاجتماعية مثلما يتلاءم مع بيئته الطبيعية, من هنا شدد علماء النفس على ما يسمى البقاء السيكولوجي والاجتماعي, مثلما شدد علماء البيولوجيا على البقاء الطبيعي البيولوجي !!!!.
 
واستنادا إلى المزواجة بين هذه المفاهيم وسلوك الأحزاب والحركات الاسلاموية التي تفتقد إلى مستلزمات بقائها في ظروف العصر من خلال توجهاتها لبناء دولة الخلافة الإسلامية أو لدولة ولاية الفقيه سواء إن كان على المدى القريب أو البعيد, ولا يعنيها معالجة الفقر أو الشروع بالنهضة الاقتصادية والاجتماعية, بقدر ما يعنيها العمل على تمثيل أو النيابة عن سلطة الإله في الأرض برؤيتها الخاصة, وتقوم بشرعنة الفقر والتخلف وإعادة توليده على خلفية الفهم السيئ للنصوص المقدسة, وتشكل حاضنة آمنة للفساد الإداري والمالي من خلال حماية رموزه لاعتبارات ولائهم المذهبي والطائفي والديني, في ظروف يضعف فيه الانتماء للوطن والمواطنة وتشتد فيه الاستعانة بالحليف الخارجي المطابق لها ليتدخل مستميتا وبشروطه لإشاعة الفرقة والعبث بالوحدة الوطنية وفرض أجندته, ويشتد الخطاب المتأسلم الغير المتسامح بطبيعته والذي لا يستند إلى تعاليم الدين السمحاء بل مشبع بعوامل الفرقة والانتقاء والتحيز التعصبي " وهو ليست الدين " ليشيع مزيدا من الفرقة المبنية على مبدأ إقصاء الآخر وتكفيره ونفيه بل وقتله. ومن هنا تنتقل العداوة, من عداوة للفقر والجهل والظلم والحرمان, إلى عداوة مع من يختلف معي في الاجتهاد والرأي والفكر, ومن هنا نفتقد إلى ترتيب سلم الأولويات في معالجة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والحضارية, وبين إدارة الخلافات المذهبية والطائفية والدينية على أسس مشروعية الاختلاف في الرأي !!!!.

وإذا كانت الحركات الاسلاموية اليوم تتشدق بقوة " المثل التاريخي " المتمثل في الإمبراطورية الإسلامية سابقا, فيكفي لهذا المثل أن يكون ضعيفا اليوم على خلفية ما أريقت فيها من دماء وسبي للأطفال والنساء والممتلكات طيلة عهد الإمبراطورية, والناتجة من الصراعات السياسية على الحكم والتي تحولت إلى صراعات دينية. يشير الدكتور السيد القمني في مقال له بعنوان: " لكي لا يخدعنا بعضهم: هل كان تاريخنا ماضيا سعيد ", واكتفي هنا بذكر بعض من المعلومات الإحصائية الواردة في المقال المذكور وبتصرف ـ ويمكن للقارئ العودة إلى التفاصيل في ذلك ـ يقول القمني بعد أن يشرح بداية الصراعات السياسية ـ   الدينية في زمن أبو بكر إلى الحديث عن التفاصيل فيما بعده, بقوله: "..... تم قتل عثمان ابن عفان بيد صحابة وأبناء صحابة. ومن بعدها خرجت الفرق الإسلامية تحارب بعضها, حتى مات حول جمل عائشة خمسة عشر ألف مسلم, ومن بعدهم مائة ألف وعشرة من المسلمين في صفين .... أما عن زمن معاوية وولده يزيد فحدث ولا حرج عما جرى لآل بيت الرسول, وكيف تم جز رأس الحسين ليرسل إلى العاصمة, وكيف تم غرس رأس زيد بن علي في رمح ثم غرسه بدوره فوق قبر جده رسول الله !..... وفي وقعة الحرة التي هي من كبرى مخازينا التاريخية, إذ استباح الجيش نساء المدينة أياما ثلاث حبلت فيها ألف عذراء من سفاح واغتصاب علني وهن المسلمات الصحابيات وبنات الصحابة والصحابيات. أما زياد بن أبيه, والي الأمويين على العراق على إقليم العراق, فقد شرع القتل بالظن والشبهة ...... أما نائبه الصحابي " سمرة بن جندب " فأن يديه قد تلوثتا فقط بدماء ثمانية آلاف من أهل العراق على الظن والشبهة ....... وقد سار الحجاج بن يوسف الثقفي على سنة سلفه زياد بن أبيه في إعدام النساء والقبض على أهل المطلوب حتى يسلم نفسه, ومنع التجمهر, وإنزال الجنود في بيوت الناس ووسط العائلات يلغون في الشرف كيفما شاءوا إذلالا للناس وكسرا لإنسانيتهم, حتى انه اعدم من العراقيين في عشرين سنة هي مدة ولايته مائة وعشرين ألفا من الناس بقطع الرأس بالسيف أو الذبح من القفا أو الرقبة ..... وعندما وصل العباسيون إلى السلطة بدأوا حملة تطهير واسعة شملت من مواطني دمشق خمسين ألفا تم ذبحهم, وجعلوا من المسجد الأموي إسطبلا لخيولهم. ولما استقام لهم الأمر استمروا على النهج الأموي في ظلم العباد وقهر آدمية الإنسان.... " . ثم يختتم القمي مقاله ببعض التساؤلات المهمة, حيث يقول: " إذا قيل هنا أن ذلك كان منطق العصر, فلا خلاف أبدا حول قول القائل. وإذا قيل انه لا يصح محاكمة ذلك الزمان بذوق زماننا الأخلاقي, أيضا ليست ثمة خلاف. لكن الخلاف ينشأ فور القول باستعادة هذا الشكل من الحكم والأنظمة بحسبانها الأمل والمرتجى. هنا لابد أن نحاكمها بذوق أيامنا .......".

أن قراءة السيد القمي المتخصصة للتاريخ واستنتاجاته وأسئلته تدور أيضا هي الأخرى في ذهن المواطن العربي العادي, ولكن بعموميات الحرص والقلق الشديد على مستقبل الثورات الشبابية وبدائلها المستقبلية, خاصة عندما تحصل الثورات في عالم نوعي آخر يختلف جذريا عن عالم المئات من القرون الغابرة, واقل ما يقال أنها تجري في ظروف التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتية وفي عصر التواصل الاجتماعي العابر للقارات من خلال شبكات التواصل الاجتماعي, متجاوزة فيه الحدود والقوميات والجنسيات, مما أسهم بشكل كبير في تغير الصورة النمطية والسلبية للشعوب العربية وعجل في إنضاج الخيارات صوب الديمقراطية من خلال التأثر بقوة المثل في المجتمعات المتقدمة, وأسهم بشكل كبير في رفع سقف مطالب الشباب الثائر في الحرية والديمقراطية الحقيقية وتحسين ظروف الوجود !!!!.

وجميعها عوامل تثير من حدة التساؤل المشروع, هل يستطيع الإسلام السياسي والذي يتمتع بزخم خلف الثورات أن يحتوي هذه التغيرات ضمن مساراتها الطبيعية ويحولها إلى مشروع نهضة قادمة في الفكر والحرية والديمقراطية والسياسة والاقتصاد والمجتمع, أي أن يتحول الإسلام السياسي من طبيعته " البيولوجية " التكيفية منعا لانقراضه من الوجود الشكلي في زحمة الأحداث الجارية إلى طبيعة تكيفية ـ توافقية على نسق ما يجري في التكيف النفسي والاجتماعي التوافقي للوحدة الإنسانية, من خلال الإشباع المتواصل والمتصاعد للحاجات الإنسانية وإرضائها تبادليا بين الأفراد والمجتمع بمختلف مكوناته الفكرية والسياسية والدينية والمذهبية !!!!.

إلى وقتنا هذا كما هو الحال في التاريخ الغابر لا توجد أدلة تؤكد صحة هذا التحول, ومؤشراته كثيرة ولا حصر لها, فالاقتتال بين الأخوة في الدين وطوائفه على أشده, وتكفير الآخر الديني وإقصائه تجري على مسامع وأبصار العالم في مجازر يندى لها الجبين, وسلوكيات التربص والاستحواذ والخلط الأعمى بين السياسة والدين وإدعاء الأفضلية على الآخر تجري على قدم وساق, والحروب الأهلية والإقليمية تأخذ مأخذها في عدم الاستقرار في المنطقة وفي العالم متلبسة بلباس الدين..... الخ.

وغدا بالتأكيد سوف تفتح صناديق الانتخابات الحرة في معظم الدول العربية على خلفية نتائج الثورات الشبابية والشعبية, ومن الأولى والاهم والأجدر أن يكون التصويت لصالح البرامج ومشروعات النهضة الاقتصادية والاجتماعية, وإذا كان التصويت للدين الخالص فيفترض أن تذهب نتائجه إلى رب العالمين خالق الدين, وليست للمتلبسين به, أما عدا ذلك فالخير فيما اختاره الله, فالدين لله والوطن للجميع !!!!!.             

 

       



260
الغضب الجمعي " الثائر " والغضب الجمعي " الجائر "

" محاولة سيكولوجية لفهم طابع الحركات الاحتجاجية ـ المطلبية والقوى المضادة لها "


د.عامر صالح

إن الانتفاضات والحركات الاحتجاجية التي تعم الشارع العربي اليوم هي من نوع المعارك التاريخية الفاصلة والحاسمة بين فريقين متناقضين, هما فريق السلطات الحاكمة التي فقدت شرعية وجودها على خلفية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخانقة والمتراكمة عبر عقود من الزمن, ويمثل هذا الفريق الأنظمة الدكتاتورية والقمعية المستبدة في البلدان العربية والقوى التي تسير ورائها وتدعمها, والفريق الثاني هو قوى الانتفاضات الشعبية ذات المصلحة الأساسية في عملية التغير التقدمي, والمطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية. ولكل فريق " جمهوره " الخاص والذي يتشكل في سياقات الغضب المتراكم في اتجاهين متنافرين: غضب السلطة وسدنتها وأعوانها, وغضب الثوار. ما هي طبيعة الغضب الجمعي لدى الفريقين, وما هي دلالاته, وكيف ينشأ لدى الفريقين, وما هي تداعياته, ذلك ما نطمح إلى تبيان اتجاهاته الرئيسية في هذه المحاولة المتواضعة !!!.

إن الانفعالات بصورة عامة هي من أهم الخصائص والمقومات التي تجعل لحياة الإنسان معنى. وبدون القدرة أو الطاقة على الانفعال تصبح الحياة غير ذات معنى, شبيهة بحياة الجماد الذي لا يحس ولا يشعر ولا ينفعل. إن الحياة بدون انفعالات تصبح لاهي محزنة ولاهي سارة. ولا نستطيع أن نتصور حياة بدون انفعالات. فالحياة والانفعال شيئان متلازمان لا وجود لأحدهما دون الآخر.

والغاية من الانفعالات هو تحقيق السعادة الشخصية والتكيف مع النفس ومع البيئة المحيطة. ويعتبر الانفعال من العناصر المهمة في تفاعلنا مع البيئة المحيطة بنا, وله تأثير قوي في وظائف جسمنا, وفي إدراكنا للعالم المحيط بنا, وفي قدرتنا على التفكير والتعلم والتفاعل مع الآخرين وفي كافة مظاهر حياتنا. وكون الانفعال ضروريا لحياة الإنسان لا ينافي أنه لا بد للإنسان أن يعمل على ضبط انفعالاته والتحكم فيها, لأن عجزه عن ضبطها والتحكم فيها من شأنه أن يؤدي إلى ضروب من الاضطرابات النفسية والعقلية والجسمية ويعرقل عملية التكيف السليم للبيئة الاجتماعية. وحديثنا هنا هو مكرس فقط للغضب باعتباره احد مظاهر الانفعالات التي تبدو واضحة في السلوك الفردي والجمعي للمجتمعات !!!!!.

الغضب في اللغة: غضب يغضب غضبا, قال ابن فارس: " الغين والضاد والباء أصل صحيح يدل على شدة وقوة. يقال إن الغضبة: الصخرة, ومنه اشتق الغضب, لأنه اشتداد السخط". وفي الاصطلاح: عرفه الجرجاني بأنه: " تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر", وعرفه الغزالي: " غليان دم القلب بطلب الانتقام", وفي المعجم الوسيط: " غضب عليه غضبا سخط عليه وأراد الانتقام منه.... ".

والغضب من الناحية السيكولوجية: هو سلوك متعلم تختلف حدته من الاستثارة الخفيفة وانتهاء إلى الثورة الحادة, وقد يعرف الغضب بأنه حالة انفعال عاطفي حادة طبيعية وصحية وإنسانية, ولكن عندما يخرج الفرد من قدرة السيطرة والتحكم فيه فانه يتحول إلى مشكلة هدامة تؤدي إلى شرخ في العلاقات الاجتماعية والأسرية وحتى الثقافية والاقتصادية.

وللغضب أعراض مختلفة تظهر واضحة في السلوك الظاهر, والتغيرات الفسيولوجية للجسم وكذلك في المشاعر والادراكات الداخلية, ويمكن تلخيصها عموما بالأعراض التالية: ضربات القلب السريعة, تغير لون البشرة, ضغط الدم المرتفع, زيادة توتر العضلات, اتساق حدقة العين, التنفس السطحي غير العميق, انكماش الجلد, الاتجاه العام للجسم والاستعداد للحركة كالجري والهجوم, تغير الصوت في الطبقة والشدة,التصرفات العشوائية, التدفق الكلامي, طبيعة حكم الشخص على مشاعره وشدتها ونوعيتها, كما يتسم السلوك العام بالتكثيف, والاعتباطية, والاندفاع وعدم التبصر, التناقض وعدم الاتساق, وعدم إقامة أي اعتبار للنتائج !!!!!.

والغضب على المستوى الفردي ينشأ بفعل عوامل الإرهاق, والجوع, والألم, والمرض, والإحباط, والقلق, والتفسير السلبي للمواقف, وجود قناعات مسبقة عن بعض الأشخاص أو الأحداث أو القضايا, العجز عن الحوار أو عدم الرغبة فيه, استعصاء حل المشكلات واستمرارها, الاستعجال, التغيرات الهرمونية المرتبطة بالدورة الشهرية بالنسبة للمرأة أو الوصول إلى سن انقطاع الطمث, الفشل في ممارسة الجنس, الاعتماد على عقاقير بعينها أو الانسحاب من تأثير مخدر, الاضطرابات النفسية مثل الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطب " الهوس والاكتئاب ", الجينات الوراثية ودورها في تحديد السمات الشخصية ورسم ملامح الطباع والخطوط الأولية لمظاهر السلوك الإنساني, الشعور بالدونية, تباين القيم والتقاليد الاجتماعية, الضغط النفسي, المشاكل الزوجية والأسرية, الخلافات الفكرية والصراعات الطبقية, الصراعات السياسية, الإحساس بالظلم, الإحساس بأن الطريق مسدود أمام الشخص, تقييد الحريات الفردية والتجاوز عليها, النقاط الحساسة بالشخصية, الحرمان من إشباع بعض الحاجات, البطالة, الفقر, الاستغلال, الرفض الاجتماعي للشخصية, والمعاناة من الفساد بمختلف مظاهره في البيئة المحيطة !!!!.

أما الغضب الجمعي و" الثائر " منه بشكل خاص فيتشكل من خلال حالة الوعي الجمعي بالمشكلات المشتركة بين أفراد المجتمع والمستعصية على الحل, كالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والتي تبدو بشكل واضح في انتشار الفقر والتفاوت المريع للدخول, وخاصة القائم منه على خلفية الفساد الإداري والمالي والسياسي, والمتمثل بالرشوة والمحسوبية والمحاباة والوساطة والابتزاز والتزوير وسرقة المال العام وغيرها, وخاصة عندما يكون الفساد اكبر حجما من المحاسبة ويصبح ثقافة شائعة تنهك أفراد المجتمع, ويدخل ضمن التركيبية السياسية للدولة, إلى جانب انعدام أو ضعف الخدمات العامة, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وضمانات اجتماعية مختلفة,وعدم تفعيل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وانعدام فرص العمل للمواطنين, يقابل ذلك في الطرف الآخر ثراء فاحشا وغير نزيه لشرائح اجتماعية وسياسية وقيادات في الدولة والأحزاب الحاكمة, الأمر الذي يترك انطباعا غير قابل للطعن بأن الدولة وقياداتها وأحزابها هي مصدر الظلم الاجتماعي ومسببه الرئيسي, وهي مصدر اهانة أفراد المجتمع وإذلالهم وتميزهم وتأليبهم على بعضهم سياسيا ومذهبيا وطائفيا واثنيا !!!!.

وتولد هذه السياسات بمجملها حالات من الكبت والقمع والحرمان المتواصل, وكلما زادت فترة الكبت للمشاعر المصاحبة فهي تشكل أرضا خصبة لغضبا جمعيا ثائرا وهو محمود ومطلوب حيث الحاجة إليه لإثبات ذات الفرد والمجتمع ووجودهما, واخذ الحقوق ممن ظلموه وسلبوا إرادته في الحرية الحقيقية والعيش الكريم, فالغضب الجمعي الثائر هنا هو حالة صحية وسوية للتعبير عن كبت المشاعر التي خنقت داخل الذات المجتمعية بفعل عوامل القمع والحرمان وانعدام الحريات والعدالة الاجتماعية, وهكذا جاءت انتفاضات الشعب التونسي والمصري واليمني ترجمة حية لطول كبت مشاعر الحرمان والفقر والفاقة التي تركتها الأنظمة الدكتاتورية, وهكذا جاءت الاحتجاجات المطلبية العراقية تعبيرا حيا وصادقا عن عمق أزمة الفساد السياسي والإداري والمالي الذي لا نلتمس فيه أفقا للحل, وهو نذير بمزيد من الاحتقانات والإعمال الاحتجاجية الناتجة عنه !!!!.

أما غضب السلطة الحاكمة وأجهزتها وأعوانها والذي أطلقت عليه بالغضب الجمعي " الجائر " فهو غضب الثورة المضادة, والتي تحاول بكل ما أتت به من بقايا القوة لعرقلة وتأخير اختمار الغضب الجمعي " الثائر ", وغضب السلطة الجمعي الجائر هو من نوع غضب " القطيع " نسبة إلى قطيع الأغنام الذي تتحرك جموعه بإشارة من الراعي الكبير ومن الدكتاتور الأوحد, فهذه الجموع لا تتحرك على خلفية عوامل موضوعية مفهومة في الفكر والسياسة والممارسة, وإنما تتحرك على خلفية العداء لمطالب الجماهير المشروعة, يحركها خطاب قائد الضرورة السياسي أو الديني ذو المسحة الانفعالية الضارة بمصالح الناس, فسلوكها هو سلوك هستيري تجسده حالة الخوف من كل جديد, فهي لا تميز بين الصديق والعدو الحقيقي, ولا بين النافع والضار, ولا بين الخطر الحقيقي وما يشبهه, فسلوكها يخلو دوما من التميز, فهي تندفع تحت وطأة التعصب لإرضاء غريزة القطيع " الحيواني ", دون وعي وتنتشر في صفوف المجتمع كالنار في الهشيم لتخرب كل شيء دون حسبان لتصرفاتها وعواقبه, يحرك سلوكها " فوبيا " هستيرية, فهي لا تمتلك قدرة على التخطيط والحكمة في اللحظات الحرجة, وإنما يحرك سلوكها منطق القطيع الذي يتجمع على شكل حظائر بانتظار إشارة من " القائد" أو " الراعي " أو " المرشد الديني " أو " المفتي ". أن الغضب الجمعي الجائر مجردا من كل الصفات الإنسانية فهو يتحرك فقط على خلفية حاسة الشم القوية التي يمتلكها " القطيع " ويندفع حيثما توجه له الإشارة من فوق, وهذا ما يتعارض مع خصوصية الإنسان وعقله المتفرد, فالإنسان يتميز بالعقل الذي يجعل منه كائنا بيولوجيا اجتماعيا, فردا منتميا للمجتمع أو الجماعة البشرية, يطورها وتطوره, يقدرها وتقدره, يسمعها وتسمعه, يتفق معها ويختلف, ويبقى القضاء والحكم العادل هو الفيصل !!!!.

وعلى خلفية ذلك اندفعت الأجهزة المخابراتية والأمنية وأعوان النظم الدكتاتورية من خلال الإذعان الأعمى لمشيئة القائد السياسي أو الزعيم الديني مرتكبة أبشع جرائم القتل والتصفيات بحق الجماهير الثائرة, تلك هي تجربة تونس ومصر واليمن في مقارعة الثوار, وأخيرا التجربة المؤذية للديمقراطية الوليدة في العراق حيث إقدام الحكومة وأحزابها الحاكمة  إلى الاستعانة بالعشائر والبلطجيين لقمع وتكميم أفواه جماهير الغضب الجمعي الثائر في ساحة التحرير !!!!.

261
في سيكولوجيا الاغتصاب الجنسي ونظام معمر ألقذافي !!!!!

                                      " الانتقام عدالة الهمجيين "
                                           فرانسيس بيكون


د.عامر صالح

أكد لويس مورينو أوكامبو, ممثل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية, أن محققي المحكمة لديهم أدلة تربط الزعيم الليبي معمر ألقذافي بسياسة للاغتصاب في إطار معاقبة معارضيه, وانه ربما يوجه اتهامات منفصلة بشأن هذه المسألة, نقلا عن تقرير لوكالة رويترز الخميس 9 ـ 06 ـ 2011 !!!!.

ومزاعم الاغتصاب ليست جديدة, فقد أثارتها السفيرة الأمريكية سوزان رايس في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في ابريل/نيسان, عندما ذكرت أن بعض جنود ألقذافي تلقوا عقار الفياغرا المنشط جنسيا. وقال أوكامبو في مقابلة مع رويترز في الثاني من مايو أنه يحقق في ذلك الاتهام.

وفي مؤتمر صحفي في الأمم المتحدة يوم الأربعاء 8 ـ 06 ـ 2011, قال ممثل الادعاء في المحكمة الجنائية: " الآن نحن نتلقى معلومات بأن ألقذافي نفسه قرر إجازة أعمال الاغتصاب, وهذا شيء جديد ". وقال أوكامبو: " الاغتصاب مظهر جديد للقمع, والقذافي قرر فيما يبدو إنزال العقاب باستخدام الاغتصاب ". وجدد أوكامبو مزاعم استخدام عقاقير منشطة جنسيا قائلا أن فريقه " يجد بعض الشواهد التي تؤكد شراء علاجات من نوع الفياغرا ". وأوضح أن هناك أدلة على شراء حاويات من مثل هذه العقاقير لتعزيز احتمال اغتصاب النساء. وذكر ممثل الادعاء أنه من الصعب معرفة مدى انتشار الاغتصاب, لكنه تلقى معلومات بأن هناك " بضع مئات من النساء تعرضن للاغتصاب في بعض المناطق ".

وكانت الطلقة الأولى المباشرة في صدر نظام ألقذافي بهذه التهم اللا أخلاقية واللا إنسانية هو خروج المواطنة الليبية أيمان ألعبيدي أمام الأعلام العالمي معلنة اغتصابها من قبل 15 فردا من قبل قوات ألقذافي وتعرضها إلى التعذيب الجسدي, الذي بدت آثاره واضحة على جسدها, أثناء ممارسة فعل الاغتصاب, وقد شجع إعلان هذه المرأة الجريئة الكثير من النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب في الأحداث الجارية في ليبيا إلى الحديث عن معاناتهن ولكسر حاجز الخوف وليخبرن العالم أنهن تعرضن للاغتصاب أيضا, وهن نساء من مدينة اجدابيا والبريقة ورأس لانوف ومصراتة يتواجدن الآن في مدينة بنغازي, ومع هؤلاء النسوة يوجد أكثر من 300 طفل تعرضوا لذات الجريمة. وقد قامت جمعية " أحموا الطفولة " الانكليزية بمقابلتهم والتحدث معهم في الملاجئ التي لجئوا إليها في مدينة بنغازي معقل الثورة الليبية !!!.

إذن ما هو الاغتصاب وماهي دوافعه الأساسية وفقا للرؤية السيكولوجية, وأين تصنف جرائم النظام الليبي في الاغتصاب, وهل هي بدوافع جنسية بحتة, أي بعوامل الكبت الجنسي لقوات ألقذافي, أم بدوافع إهانة المغتصب" بفتح التاء " والانتقام منه بعرف الثقافة السائدة وإلحاق الأذى بعرضه وسمعته, هذا ما سوف نلقي عليه بعض الضوء !!!.

من الناحية النظرية أن الاغتصاب الجنسي هي الحالة التي يحقق فيها الفرد, وهو عادة الذكر علاقته الجنسية اغتصابا وبقوة وبدون مطاوعة الشريك " إذا صح تسميته شريكا أو ضحية ", ومع أن الكثير من العلاقات الجنسية خاصة في بداية الزواج هي من هذا القبيل " وخاصة في المجتمعات العربية والإسلامية ", إلا إن التشريعات القانونية تضع هذه الممارسات بين الأزواج خارج حدود الاغتصاب حتى ولو لم تتوفر فيها المطاوعة والقبول. ومن هذه التشريعات ما يعتبر العلاقة الجنسية مع من هم دون السن القانوني ضربا من ضروب الاغتصاب حتى لو توفرت المطاوعة والقبول. ويقسم الباحثون الاغتصاب تبعا لدوافع المغتصب إلى أنواع أربعة, وهي ما يأتي:

1 ـ الاغتصاب أرضاء للنزوة الجنسية الجامحة, وهذا هو النوع الغالب من الاغتصاب ويقوم به عادة أولئك الذين يملكون دافعا جنسيا قويا لا يطاوع التأجيل.

2 ـ هو اغتصاب أصحاب الشخصية العنيفة والشرسة والذين يقومون بالاغتصاب كتعبير عن دافع التعدي والإيذاء في نفوسهم, ويجدون فيه ما يعزز سطوتهم وتسلطهم.

3 ـ اغتصاب السادي والذي لا يحقق الرضى الجنسي إلا عن طريق ممارسة التعدي والعنف والإيذاء للشريك الجنسي.

4 ـ الاغتصاب الذي يقوم به بعض أصحاب الشخصية السايكوباثية ممن يقومون بأعمال اندفاعية مضادة للمجتمع ويمارسون الاغتصاب أما كمظهر من مظاهر هذا السلوك أو كجزء من عملية إجرامية أوسع.

وفي تفسير الاغتصاب ترد نظريات عدة تفسر نوعا أو آخر من أنواع الاغتصاب التي سبق ذكرها. ومن هذه النظريات أن الاغتصاب يمثل مرحلة من مراحل التدني الحضاري بالنسبة للعلاقة بين الرجل والمرأة وهي ترمز  إلى رجولة الرجل وتسلطه وقوته وضعف المرأة واستسلامها, وقد نرى في بعض طقوس الزواج في المجتمعات العربية والإسلامية ما يؤيد هذه النظرة. وفي النظريات ما يرد الاغتصاب إلى شعور الرجل بأن المرأة ترغب في الاغتصاب, والمغتصب لذلك يجد في ممانعة المرأة كحافز للإمعان في المحاولة والانتهاء في الاغتصاب, وهو رأي خاطئ لأن معظم النساء لا يجدن رغبة في مثل ذلك. ولعل أكثر الآراء قبولا هي أن المغتصب يعاني من اضطراب نفسي وأن اضطرابه يقع ضمن أنماط ثلاثة هي: العنف, والسايكوباثية, وعدم الاكتمال. ففي النمط الأول يقوم المغتصب بالاغتصاب في خدمة دافع العنف والتعدي وهو دافعه الأساسي, والسايكوباثي يحتاج العنف كمقدمة لكي يقوم بالعمل الجنسي, أما الشخص الغير مكتمل, فهو الشخص الذي يخشى المقاومة, وهو لذلك يستعمل العنف في خدمة الجنس !!!!.

وقد أثبتت الكثير من الدراسات النفسية على مجموعات كبيرة من الرجال المغتصبين والنساء اللاتي تعرضن لجرائم الاغتصاب, أن الاغتصاب في حقيقته ليست جريمة جنسية بل هو جريمة عنف وتعدي وعدوان يكون الهدف منها ليس التفريغ الجنسي لحالة الكبت التي يعاني منها المغتصب, بل الهدف منها هو الإهانة والإذلال وإضعاف الروح المعنوية للطرف الذي يقع عليه فعل الاغتصاب. لذلك تقوم الكثير من الجيوش المحتلة وبأوامر من حكوماتها باغتصاب النساء والأطفال في البلاد التي يقومون باحتلالها, وممارسة هذه الأفعال باعتبارها طريقة قوية ومباشرة لإهانة الشعب وإذلال رجاله, بل ويتعمد الكثير من الجنود اغتصاب النساء أمام رجالهم إمعانا وتنكيلا بهم !!!!.

لقد أقدم نظام العقيد الليبي معمر ألقذافي وبأوامر منه ومن قيادات كتائبه إلى ممارسة الاغتصاب على نطاق واسع والتصرف كجيش احتلال, وليست كجيش " وطني " بهدف إضعاف الروح المعنوية للثوار واعتبار الشعب هو العدو الأول, وإنزال اشد حالات العقاب النفسي والجسدي والأخلاقي, وخاصة عندما تنفذ هذه الجرائم في مجتمعات محافظة وذات روابط دينية وقبلية واثنيه, فيكون وقع آثار الاغتصاب شديدة التأثير على مجموعات سكانية بكاملها, ناهيك عن الصعوبات الاجتماعية المترتبة على عدم الإفصاح والحديث عن هذه الجرائم, مما يجعل آثارها تراكمية وصعبة العلاج لعدم رغبة الضحية من مراجعة الجهات الصحية والنفسية المختصة, وهكذا استخدم ألقذافي الاغتصاب الجنسي كسلاح إلى جانب أسلحته الثقيلة, من دبابات ودروع ومدفعية, لزرع الرعب والخوف وإلحاق الأذى النفسي والجسدي بمعارضيه!!!!.
ولذلك فأن الضحية لا تساهم لا من قريب ولا من بعيد في إحداث الجريمة لها, لأنها جرائم عنف تبحث عن ضحية ضعيفة, ولهذا اختار النظام الليبي واذرعه العسكرية, النساء والأطفال لإحداث المزيد من الضحايا في صفوف المجتمع.
ويتعرض ضحايا الاغتصاب إلى شتى صنوف التعذيب الجسدي, من ضرب مبرح وإيذاء مباشر لأعضاء الجسم وخاصة الأعضاء التناسلية, إلى جانب الآثار النفسية, إذ تعتبر جريمة الاغتصاب من أقسى التجارب التي يمكن للمرأة أن تواجهها, فحالة الخوف الشديد والذعر التي تعتري المرأة عندما يهاجمها الجاني, وخاصة عندما يكون مدججا في السلاح, فان هذا الموقف يضل عالقا بذاكرتها مدة طويلة, إذ يعتبر الخوف من أهم مظاهر الاعتداء, أما قبل ذلك فتكون فريسة للظن بأنه سيقتلها كما حدث مع غيرها من النساء اللاتي اغتصبن ثم قتلن, إلى جانب الآثار الاجتماعية وخاصة في المجتمعات المنغلقة, حيث تتعرض الضحية إلى الضياع والرفض الاجتماعي, مما يشكل ذلك مقدمات لاحقة لانحرافها, وخاصة إذا لم يجري احتضان الضحية من قبل وسطها الاجتماعي, وإذا لم يقدم لها العلاج التربوي والنفسي اللازم لتجاوز الصدمة وتسهيل اندماجها اجتماعيا !!!!.

هذا وتعتبر جرائم الاغتصاب من الوسائل المرفوضة دوليا في الحروب, واعتبر الاغتصاب يرقى إلى مستوى جريمة الإبادة. وهذه الجريمة خرق للقوانين الدولية ويحاسب مقترفوها وتوجه إليهم تهمة جريمة حرب, أو جريمة ضد الإنسانية, أو جريمة إبادة للجنس البشري على حسب ظروف الحالات. ونظرا لقيام نظام ألقذافي بممارسة الاغتصاب كمنهجية مخطط لها في العديد من المناطق المنتفضة, ومحاولة إخضاع أهلها لسيطرة نظامه, هذا الأمر يدخل هذه الجرائم ضمن الجرائم المعروفة بالجرائم ضد الإنسانية. وقد أحال مجلس الأمن الدولي العنف في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية التي مقرها لاهاي في شباط !!!. 




262
في علم نفس الثقافة ومخاطر بناء الديمقراطية ـ على هامش ثورات الشباب !!!

" كما الريش يزين الطاووس, كذلك فإن الثقافة تزين الإنسان "
                                                               مثل روسي



د.عامر صالح

في التأثيرات النفسية العميقة التي تركتها الثقافة السائدة عبر قرون في مجتمعاتنا نستقري الكثير من صعوبات الحاضر في بناء الديمقراطية, كأسلوب في الحكم, أو في إدارة مفاصل الحياة, أو كوسيلة لتقيم التراث ونقده وتقويمه, لأن الثقافة بتأثيراتها النفسية على السلوك لا تعبر عن السلوك الظاهر والصريح وأحيانا المفتعل منها فقط, بل تعبر عن ما هو مخزون في اللاشعور الجمعي والفردي ويشكل برمجة راسخة تغلف السلوك وأنماط التفكير. ومن هنا تأتي الفروق الجوهرية بين السلوك الظاهر والسلوك الباطن على حقيقته, ومن هنا أيضا تأتي أهمية فهم الحالات الملموسة بين الادعاء بالديمقراطية والإيمان بها وبين التجاوز عليها ووضع العراقيل أمامها, ولعلنا ندرك الكثير من الحالات التي فرضت أو سوف تفرض فيها الجماهير ممهدات الانتقال إلى الديمقراطية من خلال الإطاحة بالنظم الدكتاتورية الفاسدة كما في الانتفاضات العربية الجارية الآن, أو فرض الديمقراطية من الخارج كما في " الحالة العراقية ", والصعوبات التي تحول دون نقل نواة الديمقراطية الناشئة إلى حيز التطبيق بالفعل صوب فضاء أوسع من الممارسة السياسية والاجتماعية !!!!.

ومن المفارقة بمكان أن الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية أنجزت الكثير في ميدان تعميم التعليم وإشاعته بين فئات المجتمع وبمختلف مراحله, وقامت بتعميم المعلوماتية وحضارة المعرفة والانترنيت والفضائيات والعولمة ووسائل الاتصال الاجتماعي وشبكاته المختلفة, إلا أن ثقافاتها مازالت موغلة في التخلف وعاجزة عن الانجاز  وغير قادرة على تجاوز المألوف, ولكنها تستخدم منجزات الآخرين وربما تتوهم إنها الأرقى والأحسن والأشرف, فتنظيم القاعدة الإرهابي والتنظيمات الإسلامية المتطرفة والأنظمة الدكتاتورية تجيد لغة الكمبيوتر والاتصالات, وهي سباقة للاستفادة من ثمرات التقدم العلمي والتطور التقني والمعلوماتي, ولكن تستخدمها في سياقات متخلفة لتكريس الاستبداد والقمع ومحاربة الفكر الحر, كتخريب شبكات الاتصالات في العالم المتحضر والسطو المنظم والمافيوي على شبكات التواصل الاجتماعي, وتهديد الكثير من المواقع الالكترونية وسرقة البريد الالكتروني للآلاف الأشخاص  عبر سرقة كلمة السر والاطلاع على خصوصيات مالكيها, وجمع المعلومات عن الأشخاص وتجمعاتهم وسكناهم وحركتهم لأغراض تصفيتهم والتنكيل بهم, أو السعي بكل الوسائل لحيازة التكنولوجيا المتقدمة لأغراض العسكرة الشاملة للمجتمع, أو لحيازة السلاح النووي لأغراض عسكرية بعد أن يستنزف الموارد المالية للدولة وعلى خلفية تصور وجود عدو وهمي يهدد البلاد والعباد والدين. وهي سلوكيات تعكس تصورا مفاده أن الثقافة المتخلفة والتي استفاد أهلها من منجزات الثقافات المتقدمة فإنها رغم هذه الاستفادة الخادعة ما زالت محكومة بأنماط عقيمة من الأفكار والقيم والتقاليد, فاستخدام منجزات الثقافة المزدهرة لا يدل قطعا على الازدهار الثقافي في الفكر والممارسة لذات المستخدم لها خارج نطاق الشعوب المنتجة لها !!!!.

ومن هنا تأتي أهمية معرفة وتشخيص المكونات الثقافية التي تتحكم في المجتمعات وتؤطر تفكيرها وتحدد اهتماماتها وتوجه نشاطها وتشكل مرجعية مناسبة ومزاجا عاما لتبني مختلف الحلول على صعيد السياسة والتقدم الاجتماعي, وتشكل الديمقراطية ومستقبلها إحدى القضايا الهامة التي تتأثر بالنسيج الثقافي السائد والمتراكم عبر عصور. إن الثقافة بمعناها الانثروبولجي هي أسلوب أو طريقة الحياة التي يعيشها أي مجتمع بما تعنيه من تقاليد وعادات وأعراف وتاريخ وعقائد وقيم واهتمامات واتجاهات عقلية وعاطفية وتعاطف أو تنافر ومواقف مكثفة من الماضي والحاضر ورؤى للمستقبل, أنها طريقة وأنماط سلوك ونظم ومؤسسات اجتماعية وسياسية وما يعيشه المجتمع من انفتاح أو انغلاق, فالثقافة بهذا المحتوى العلمي هي في الغالب لا تأتي قصدا من الأفراد وإنما يكتسبها الناس امتصاصا من البيئة منذ ولادتهم " أي أن  وجود الثقافة وجودا موضوعيا ومؤثرا في تشكيل وعي الناس ", وإذا اكتسبوها بالقصد فان قصدهم يكون محددا بالبرمجة من الأهل والمجتمع, فهم يتشربون ثقافة أهلهم ومجتمعهم مثلما يتشربون اللغة الأم ويحكمون على كل شيء وفق المعايير السائدة التي امتصوها امتصاصا تلقائيا, وامتزجت بعقولهم ووجدانهم, فهي, أي الثقافة, تحركهم بمخزون اللاشعور ولكنهم يتوهمون أنهم يفعلون ذلك بمحض اختيارهم وفيض إرادتهم ويجهلون أن مصدر هذه الثقة هو البرمجة الراسخة فيظلون مأخوذين بما تبرمجوا عليه ولا يخطر على بالهم أن يرتابوا فيه أو يراجعوه, ومن هنا تمايزت أوضاع المجتمعات واختلفت قدراتها وقناعاتها الحقيقية في تبني عملية التغير الاجتماعي الشامل, ومن ضمنها القناعة بالديمقراطية وانتهاج التعددية السياسية كأسلوب لإدارة الحكم والحياة !!!!!!.

واستنادا إلى ذلك فان مجتمعاتنا العربية والإسلامية الطامحة إلى بناء الحياة الديمقراطية, والتي تجسدها ثورات الشباب العارمة والناتجة بفعل عوامل الفقر والفاقة المستديمة, إلى جانب عوامل الانفتاح على العالم المتقدم بكل ما يحمله من ثورة تقنية ومعلوماتية, وما تحمله من دوافع إنسانية لبناء مجتمع واسع ومتسامح يسع للجميع بعيدا عن الصراعات المذهبية والعرقية والدينية والقبلية, فأن ثورات الشباب تحدث اليوم في بيئة من سلطة الهيمنة والغلبة والانحيازات القبلية والعشائرية والطائفية, وفي ظل بيئة منفلتة من كل ضوابط الفكر الفلسفي والتفكير المنطقي, وغياب روح النقد ونقد النقد وسيادة الروح اللاعقلانية غير الناقدة, والخضوع لدوغمائية الأنساق المغلقة, والخضوع لنقلية الأفكار المسبقة والمفاهيم الجامدة الناتجة أو المتولدة من تلك الأنماط المعيارية الثقيلة للغيبيات الدينية المقترنة بالخرافة, وفي بيئة تعمل على تبجيل أصنام الجمود وأوثان الثبات, ونصوص " القال والقيل " التي تحولت مع الزمن إلى نصوص مقدسة غير قابلة للنقد والتكييف للظروف المستجدة, وفي زمن تحول فيه الدين من ممارسة طبيعية تشبع حاجة الإنسان النفسية إلى السكون والهدوء والطمأنينة والتسامح, إلى فعل يقترب كثيرا في مظاهره وأدائه من الأمراض النفسية المتمثلة في العصاب والوساوس القهرية, عبر إعادة تكراره  المرضي على نسق ما يجري لمن يغتسل يوميا مئات المرات نتيجة إحساس لا شعوري دفين بالألم  والنجاسة, واتخاذه غطاء لتبرير كافة الأعمال الشريرة, من قتل وفساد وإشاعة الكراهية بين الناس في الداخل والخارج وتشديد قبضة الانتماء إلى الحليف الديني والطائفي في الخارج وأضعاف وتهميش الخطاب الوطني  !!!.

أن ثورات الشباب اليوم في العالم العربي والإسلامي لا تقاتل فقط  على جبهة الإطاحة بالنظم الدكتاتورية والفردية والتي تعتبر هدفها الرئيسي في المرحلة الأولى , بل يجب عليها أن تحمي الثورة من الانحراف, وتنجز مشوارها في البناء والتأسيس لثقافة التسامح, عبر إبعاد شبح التطرف الديني والفكري, ومن خلال وضع اللبنات الأولى لإشاعة ثقافة بديلة لثقافة وفكر المجتمعات القروسطية المتخلفة, ومن هنا تأتي أهمية الحيطة والحذر والوعي الكامل من اختراق الثورات الشبابية من قبل قوى التطرف الديني والفكري والسياسي, مستغلة هذه القوى خطابات التجييش, وهي خطابات اللحظة الآنية التي تعزف على انفعالات الجماهير مستغلة حشودها في المكان والزمان المناسب لها, بعيدا عن أي استبصار للمستقبل, ولكي يعيدوا من جديد إعادة توليد أنماط من الحروب الأهلية الداخلية والحروب الإقليمية, وتفتيت وتشظية المجتمعات العربية والإسلامية إلى مذاهب وطوائف متنابذة مبنية على الكراهية والحقد وتتقاتل على أتفه التفاصيل, وتقطع هذه المجتمعات صلتها بالعالم الخارجي لتعيد إنتاج ثقافة القرون الوسطى من جديد وتكون هذه المرة بدون رجعة !!!!.

أن ثورات الشباب التي تحمل في طياتها كل العطاء الإنساني والحضاري يجب أن تكون شبابية في أهدافها وفي رؤيتها للمستقبل, ويجب أن تكون هذه الثورات خالية المكان لمن يرى الأوهام هي الحقائق المطلقة والوحيدة على الأرض, ولا مكان لمن يرى أن الماضي بتركته الثقيلة هو أفضل بكثير من الحاضر ولا قيمة للتخطيط والإعداد والنهوض بالمستقبل, ولا مكان لمن يصادر حرية الآخرين في النقاش والاجتهاد وتنوع الآراء بواجهات مختلفة كما تفعله الأنظمة الاستبدادية, ولا مكان لمن يحصر الإنسان في دائرة الإحساس الدائم بالذنب وتعطيل قدراته الذاتية ووضعه في حالة الإحباط والفشل المستديم والاستخفاف بقدراته على إصلاح الحاضر. أن ثورة الشباب هي ليست فقط ثورة سياسية على نظم مستبدة فقط, بل هي أولا وأخيرا ثورة ثقافية وذات دلالات نفسية عظيمة تنقل الإنسان من حالة الإحباط والقنوط إلى حالة تعزيز الإنسان الفرد ثقته بنفسه وتقديره لذاته كما ينبغي, وإطلاق قدراته في مختلف مجالات الحياة لبناء مجتمع العدالة والديمقراطية والتقدم العلمي والتقني والعيش بسلام وآمان في المحيط الوطني والإقليمي والدولي !!!!.

     



263
قراءة نفسية ـ اجتماعية في آفاق ثورات الشباب في العالم العربي

" في الأخطار العظيمة تظهر الشجاعة العظيمة "
                                                رونييه


د. عامر صالح

أن من المسلم به في أدبيات الثورة هو أن ميكانزم الثورة يقوم على خلفية التناقض الذي لا يحتمل الاستمرار بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة, والذي يفرز ظواهر الفقر المدقع, والتدهور للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية, والصحية, والتعليمية والخدمية بمختلف مظاهرها. ويكون الهدف المتوقع من الثورات هو إعادة بناء علاقات سليمة وعادلة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج, بما يفضي إلى إعادة توزيع الثروات بشكل منصف, وإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع, بما يوفر المزيد من فرص العمل عبر إعادة هيكلية الاقتصاد, واستحداث المزيد من المشاريع الإنتاجية والخدمية, ويشكل ذلك ضمانة لتحسين ظروف الحياة الإنسانية العامة والارتقاء بها !!!!.

وتكون الإجراءات السياسية اللازمة لذلك, بعد إسقاط النظام القديم, هو بناء نظام سياسي جديد يستند إلى آلية التداول السلمي للسلطة, من خلال ممارسة الديمقراطية الحق عبر صناديق الاقتراع, لتسهيل تمثيل الشعب من خلال أحزابه السياسية ولبناء المؤسسات الدستورية الضامنة للنظام الجديد. ويكون الثقل الأكبر في عملية الصراع السلمي في إطار النظام الجديد على خلفية المشروعات والبرامج الانتخابية ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي التي تقدمها الكيانات والأحزاب السياسية المشاركة في العملية الديمقراطية, والتي سوف تنهض بالبلاد. وتكمن هنا قيمة الصوت الانتخابي في قيمة البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي سوف يختارها الناخب " الشعب ", وهنا تكمن أيضا القيمة العملية للانتخابات, والتي تفتح الآفاق لرسم مستقبل البلاد, بعيدا عن الصراعات السياسية الصرفة والتجاذبات المذهبية والدينية الضارة, والتي تهدد بناء واستقرار أي نظام تقدمي جديد !!!!!.

أن ثورات الشباب العربي القائمة على خلفية عوامل الفقر والاضطهاد والتهميش ومصادرة الحريات الشخصية والعامة, هي ثورات واعدة, في ظل مجتمعات عربية تشكل فيها التركيبة السكانية الشبابية أكثر من 50%, وتجري في عالم منفتح على مصراعيه, تسقط فيه قيمة الأجهزة الأمنية والمخابراتية القمعية والتقليدية, مهما بلغت من قوة وكيد, وهو عالم الحقبة الالكترونية ـ المعلوماتية, والذي يعبئ أذهان الشباب بقيمة البديل الأفضل, ويسهل اندماجهم في مجموعات فاعلة وايجابية,  وخاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي, ويضع تجارب الشعوب المتقدمة أمام نصب أعين الشباب الثائر, مما يشكل لديهم دافعية اكبر للفعل الثوري والاستمرار به, ويسهم بدوره في رسم ملامح ذات فردية واجتماعية افتراضية متقدمة مفعمة بالعطاء مقابل الذات المهشمة من قبل قوى الاستبداد !!!!.

واستنادا إلى ذلك تأتي أهمية القراءة الفكرية ـ الإستراتيجية للأحداث الثورية الجارية في العالم العربي لاستقراء مستقبلها, وخاصة تلك القراءات التي تأتينا من مراكز الأبحاث المعنية بالشأن السياسي العربي, والتي لا تزال في معظمها قراءات مأدلجة ومتحيزة ومتأثرة ببلد الإقامة أو جهة التمويل, وهي قراءات ضعيفة ومفسرة فقط للأحداث بعد وقوعها, دون التنبؤ بمسارات الأحداث ومستقبلها, مما يشكل نقصا كبيرا في قيمتها العلمية التنبؤية, وخاصة تجري الأحداث في ظل ضعف ملموس للطلائع السياسية وللمفكرين وللقيادات الميدانية المتمرسة لحركات الثوار, مما يوفر فرصا مواتية لفرض الوصاية " الأبوية " على حركات الثوار الشباب من قبل قوى التطرف, الديني منها بشكل خاص, والقوى السياسية الأخرى, ويشكل ذلك بدوره أرضا رخوة للالتفاف على ثورة الشباب وسرقة أتعابها, وعلى سنة المثل الشعبي العراقي القائل: " محمد التعب بيها ولمها ومحسن أكلها بغير أذية ", أو كما يقول المفكر نجيب محفوظ: " أن الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء ", وخاصة أن الأحداث الثورية تجري في " بيئات غير آمنة " , عشعش فيها الفقر  والقمع للسنين طوال فأفرزت التطرف بوجهه القبيح والوحشي و" الجريء " بتقديم نفسه كبديل, سواء من خلال سرقة صناديق الاقتراع, عبر استغلال مشاعر الناس الدينية وما يرتبط بها من انفعالات مفرطة في ظل حرمان طويل وتجيشهم في لحظات الانتخاب,  أم بقوة السلاح وممارسة الترهيب !!!!!.

ويتفق هنا الكثير من علماء النفس الاجتماعي, إن هناك علاقة ارتباطيه موجبة تفسر العلاقة بين الفقر والتطرف الديني, قوامها من الناحية التفسيرية: " انه كلما تصاعد الفقر وامتدت مظلته انتعش التطرف الفكري والديني بشكل خاص, والناتج عن فقدان الحلول وغياب الآمال في الخلاص منه, والعكس صحيح, أي كلما انخفض الفقر وانحسر مداه, خفت وطأة التطرف الفكري والديني ", ووفر فرصا أوسع للتفكير العقلاني والناقد بعد إشباع معقول للحاجات الأولية. والبيئة العربية هي بيئة مواتية لنشوء الحركات المتطرفة وتمترسها وتمعقلها, بفعل تأصل الفقر والحرمان فيها, ولعل المعطيات الإحصائية لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ( فاو ) تؤكد ما نذهب أليه, حيث تؤكد المنظمة المذكورة بخصوص العالم العربي أن حوالي 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية, أي ما يعادل 13% من السكان تقريبا, بالإضافة إلى نحو مائة مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر, أي يعادل ثلث سكان العالم العربي, وهنا تتضح عمق الأزمة الفكرية والثقافية والسياسية والدينية في عالمنا العربي التي ينتجها الفقر !!!!.

وإذا كان إلى جانب الفقر عوامل أخرى ساهمت في استنبات التطرف, كعوامل التنشئة الاجتماعية الصارمة, بما فيها من ثقافة سائدة وعادات وتقاليد ومنظومة تربوية وتعليمية إلى جانب الفكر الديني المتطرف الذي يفسر الكتاب المقدس وفقا لمصلحة بقاءه, فقد أوجدت الحركات المتطرفة لها اليوم وطأة قدم في مفاصل المجتمع العربي, وتشكل خطرا محدقا بثورة الشباب وتسعى بكل ما تأتي به من قوة لحرف مسار الثورة, بعدما أنجزت وما سوف تنجزه هذه الثورات في مرحلتها الأولى من إسقاط النظم الدكتاتورية, لتحتوي هذه الثورات كخطوة أولى نحو تغير وجهتها, لتحولها من ثورات العصر لإعادة البناء والتقدم, إلى نظم تعيد توليد الفقر والمعاناة وإضفاء الشرعية " السماوية " عليها !!!!.

أن الحركات الدينية المتطرفة والمتأسلمة لا توعد الشعوب كعادتها في تحسين ظروف الوجود وانتشال الناس من الفقر والجهل والتخلف, فحياة الدنيا بالنسبة لهم زائلة ولا قيمة لها قياسا بالحياة الآخرة, وبالتالي فهم ليست أنصار بناء " الجنة " على الأرض, بل يقومون بشرعنة الفقر والفساد وإضفاء القدرية والقدسية عليه, مستعينين باقتباسات من السنة النبوية والكتاب المقدس وتفسيرات مقطوعة الصلة عن القيمة الاجتماعية التي ظهرت فيها النصوص المقدسة, فالفقر بالنسبة لهم ميزة من مزايا الدخول إلى الجنة, على خلفية حديث النبي ( ص ) بقوله: " اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء وأطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء ", وبهذا يشرعن الفقر في عقول المتطرفين دون البحث عن حلول له, وإذا ما عم التفاوت وتعمقت الهوة بين الناس وشرائح المجتمع وعم الثراء الفاحش, فلهم في الكتاب المقدس ما يستنجدون به, بقوله: " وما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ـ سورة التوبة/ الآية 51 ", وإذا عم الفساد بألوانه المالي والإداري والأخلاقي, فلهم حجة الكتاب المقدس بقوله: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ـ سورة الإسراء/ الآية 16 ", وهذه المرة يتحمل رب العالمين مسؤولية فسادهم في الأرض !!!!!.

أن التجارب والخبرة التاريخية في العالم كله تؤكد أن الأنظمة المتطرفة, الدينية منها, والدكتاتورية الفاشية, والشوفينية القومية, بدء من حكومات القرون الوسطى الأوربية مرورا بحكم الأمويين والعباسيين, وصعودا إلى التأريخ الحديث المتمثل بفاشية هتلر, وموسليني, وفرانكو, إلى الدكتاتوريات المعاصرة, والتي مثلتها نظام صدام حسين, وحسني مبارك, وزين العابدين وغيرها من النظم التي لا تزال جاثمة على صدور شعوبها, لا تستطيع بناء مجتمعات العدالة والأمن والسلام والرفاهة الاجتماعي, حيث يحل نموذج عسكرة الحياة المقترن بالفساد الاقتصادي والاجتماعي والقمع محل التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة !!!!.

أن ثورة الشباب العربي التي ترى فيها شعوبنا والعالم كله بداية التأسيس لعصر جديد في العالم العربي, والذي عانى لقرون من التخلف والجهل والحرمان, لها الحق في تقرير بدائلها السياسية القادمة انطلاقا من القوى المحركة لها المتمثلة بالشباب المفعم بالعطاء والتواق إلى المستقبل, والذي لا يقبل بغير النظام الديمقراطي الحق بديلا, وليست بنظم أشباه الديمقراطية, وأن الشحنة الانفعالية الأولى اللازمة لانطلاق الثورة والمتمثلة بالخروج إلى الشارع وكسر حاجز الخوف يجب أن تتحول الآن إلى قوة دفع للنشاط العقلي الراقي في اختيار ممثلي الشعب الحقيقيين بعيدا عن خطابات الانفعالات المريضة التي تزييف وعي الجماهير وتعيد دورة الظلم والاستبداد .... وخلاف ذلك تضيع الفرصة والى الأبد في قيام ثورات شباب مماثلة للثورات المجيدة التي نشهدها اليوم !!!!.
 




264
في علم نفس الثقافة ومناخ الاستبداد

" لم ينجز شيء رائع إلا على أيدي أولئك الذين اعتقدوا بأن هنالك في داخلهم قوى تتفوق على الظروف "
                                                                                                             بروس بارتون


د.عامر صالح

أن الحديث هنا ليست عن الثقافة كمدخل مفاهيمي وماذا نعني بها, فذلك محتواة في الكتب المدرسية والأكاديمية, ولا عن الاستبداد كنظام سياسي نلتمس آثاره ونكتوي بممارساته, وإنما الحديث ينصب عن جوهر وجذور نشأة الاستبداد الناتج عن ثقافة القمع والكراهية منذ نعومة الأظافر, ومن هنا يرتبط الاستبداد ارتباطا وثيقا بآلية القمع التي تمارس ضد الطفولة فتسهل انفلاق الاستبداد في الكبر, إن كان كسلوكيات فردية متناثرة, أم كمنظومة سياسية, تجسدها شخصية " قائد الضرورة " و" قائد الشعب " و " ملهم الجماهير " و " منقذ الأمة " و " راعي الشعب " و " آية الله " و " المرشد الأعلى " و " خليفة المسلمين ", وجميعها تجسد فنون وألوان واليات للقمع والاستبداد تعكسها التنشئة الاجتماعية الأولى المليئة بالحصر النفسي والإحباط والفشل, والتي تتحول بدورها إلى آليات في العدوان والثأر من الآخر عبر إيجاد هالة من التبرير والتقديس للفعل المرتكب, واللجوء في أحيان كثيرة إلى الاستعانة بالكتاب المقدس لإضفاء القدسية على الجرائم المرتكبة عبر البحث عن النصوص التبريرية لارتكاب أبشع الجرائم في القمع وكبت الحريات, كما هو الحال في تنظيم القاعدة التكفيري, ومسلسل الاغتيالات والتصفيات الجسدية بواجهات مختلفة, طائفية ومذهبية وعرقية وفئوية !!!!!!.

قد نستدل على وجود ثقافة ما من خلال الملاحظة المنظمة لسلوك الأفراد, ومن تعدد النواحي التي يمكن ملاحظتها في سلوكهم كطرق الحياة المختلفة, وطرق الاتصال بين الناس, ولكن هذه النظرة تبقى وحيدة الجانب وغير مكتملة بسبب من اعتمادها على الآثار الخارجية والملموسة فقط, ولذلك عكف علماء الانثروبولوجيا على التركيز على ما يسمى بمضمون الثقافة, ويقصد به أنماط السلوك غير الملموسة والتي تتمثل في المعايير والمعتقدات والقيم والحاجات, ولذلك فأن الثقافة من وجهة النظر هذه تعكس الدوافع لدى الأفراد في الموقف الاجتماعي !!!!.

وتمثل الثقافة نمط الحياة في مجملها, وفي علاقات أجزائها ونظمها بعضها ببعض, وما يدخل في ذلك كله من نظم اقتصادية وتربوية, وعلاقات اجتماعية, ونظم سياسية وقانونية, وأساليب تربية الأطفال وكذلك القيم والمعايير. أي أن القيم والنظم في أي ثقافة لها ثلاث خصائص: أولها الوظيفة, أي بمعنى أن كل ناحية من نواحي الحياة لها علاقتها بباقي النواحي من قيم وأفكار. وثانيها أن لكل ثقافة ميلا نحو الإنسان بمعنى أن بها ضغوطا لتساير جوانب الحياة بعضها البعض. وثالثها أن لكل ثقافة طقوس وشعائر ومناسبات يعتني بها ويجري التأكيد عليها. أي لا بد من وجود علاقة بين ما تنقله الثقافة إلى النشء, وبين كيفية نقلها إليهم, وهنا يستخدم مفهوم الثقافة جانبا نفسيا وتربويا, فالثقافة تتضمن طرق وأساليب التشكيل, وما تثيره من جوانب نفسية وانفعالية لدى الأفراد, وهنا تتضح العلاقة الجدلية بين مكونات الثقافة وتأثيرها المتبادل في تشكيل شخصية الفرد والجماعات والمجتمعات !!!.

ولعل التعريف الشامل لمفهوم الثقافة والذي يذكره العالم " عزت راجح " يوضح بعض من تجليات حديثنا, حيث يذهب إلى القول بأن " الثقافة وحدة متكاملة من المعلومات والأفكار والمعتقدات وطرق التفكير والتعبير والترويح وطرق كسب الرزق وتربية الأطفال والصنائع اليدوية وغيرها من الظواهر السائدة بين أفراد المجتمع والتي تنتقل من جيل إلى جيل ويكتسبها الأفراد عن طريق الاتصال والتفاعل الاجتماعي لا عن طريق الوراثة البيولوجية, ولكل ثقافة جانبان: جانب مادي, وهو ما ينتجه عقل الجماعة من أشياء ملموسة كهندسة البناء والملابس والأطعمة, وجانب لا مادي ويتمثل في المعارف والمعتقدات والقيم والفنون. وتضم الثقافة الأساسية في المجتمعات المعقدة ثقافات فرعية خاصة بالطبقات المختلفة أو الجماعات أو الأقليات التي يتضمنها المجتمع الكبير مثل ثقافة الريف, وثقافة الحضر, وثقافة أهل الواحات, وثقافة أهل السواحل,  وثقافة أهل بحري, وثقافة أهل قبلي" ... الخ. وبهذا تشكل الثقافة محددا رئيسيا للسلوك وتجلياته في مختلف المجالات, السياسية والاجتماعية وغيرها عبر تأثيرها القوي والفاعل في تكوين شخصية الإنسان الفرد والمجتمع في المجالات الآتية:

1 ـ توفر الثقافة للفرد صور السلوك والتفكير والمشاعر التي ينبغي أن يكون عليها, ولا سيما في مراحله الأولى, بحيث ينشأ على قيم وعادات تؤثر في حياته, بحسب طبيعته ثقافته التي عاش فيها.

2 ـ توفر الثقافة للأفراد تفسيرات جاهزة عن الطبيعة والكون, واصل الإنسان ودورة الحياة.

3 ـ توفر الثقافة للفرد المعاني والمعايير التي يستطيع في ضوئها ما هو صحيح من الأمور وما هو خاطئ.

4 ـ تنمي الثقافة الضمير الحي عند الأفراد, بحيث يصبح هذا الضمير فيما بعد الرقيب القوي على سلوكياتهم ومواقفهم.

5 ـ تنمي الثقافة المشتركة في الفرد شعورا بالانتماء والولاء, فتربطه بالآخرين في جماعته بشعور واحد وتميزهم عن الجماعات الأخرى.

6 ـ تكسب الثقافة الفرد الاتجاهات السليمة لسلوكه العام, في إطار السلوك المعترف من قبل الجماعة. 

وعلى خلفية ذلك نستطيع أن نفهم عمق أزمة الثقافة في مجتمعاتنا والتي ترجع بجذورها إلى الناحية السيكولوجية والتربوية, وبشكل خاص إلى النظام التربوي والتعليمي باعتباره المصدر الأساسي لبث الثقافة وإعادة توليدها, بدء من الأسرة وانتهاء بالنظام التعليمي, حيث تسود تنشئة اجتماعية قوامها الشدة والضرب ويكتنفها العديد من مظاهر القمع والاستلاب والاغتراب وتكريس عدم المساواة بين الجنسين, والتركيز على تطبيع الأطفال للانصياع والخضوع الأعمى للكبار, سواء كان ذلك عن طريق التسلط, أو عن طريق الرعاية الزائدة, والتركيز على العقاب الجسدي والترهيب أكثر مما تشدد على الإقناع, كما تؤكد على أهمية الضغط الخارجي والتهديد والقمع السلطوي, أنها تركز على مبدأ الحماية والطاعة والامتثال والخوف من الأخطار, حيث تنشأ عن ذلك نزعة نحو الفردية والأنانية والتأكيد على الذات المفرط, ونمو الإحساس الشامل بالغربة والاغتراب, وتكريس المحرمات الثقافية,والتي تمنع بدورها الإنسان من ممارسة الفكر الناقد, وتظل قيمة الطاعة في المجتمع الأبوي هي القيمة العليا !!!.

كما أن أنظمتنا التعليمية هي الأخرى ذات طابع تلقيني تطالب الدارس بالحفظ وإعادة الإنتاج بطريقة ببغاوية, ولا يسمح له بالاختلاف , حيث أن أطفالنا يعيشون منذ بداية التعليم الأولي ازدواجية لغوية, وازدواجية فكرية, وازدواجية اجتماعية, تؤثر سلبا في البنية العقلية والمعرفية والسلوكية للدارسين, فإذا أتى الدارس بشيء جديد يغاير في أسلوبه نمطية التعليم فأنه يتعرض إلى شتى مظاهر الإقصاء والإهمال وسوء الظن بقدراته, وبالتالي يضطر إلى مسايرة " القطيع " لكي يضمن سلامته من العقاب و" الفشل الدراسي ", وبالتالي يجبر على عدم التغريد خارج السرب واحترام السائد وتقديسه, مما يسهم ذلك في تشكيل مرجعيات ذهنية في عقل الدارس خارج إطار النقد والتقويم تساهم بدورها في تشكيل قناعات متحجرة بالأشخاص والظواهر مقطوعة الصلة بالزمان والمكان الذي نشأت فيه, مما يسهم في إلغاء الذات المبدعة, فتكون الشخصية سهلة الانقياد وراء مرجعيات مختلفة بدء من مرجعية الأب المطلقة ومرجعية المعلم والمرجعية الدينية والسياسية, وهكذا تكون الشخصية أسيرة التقليد والتقديس للتراث والخطاب السياسي والديني بعيدا عن جدوى قراءة مضمون الخطاب وصلاحيته للزمان وقيمته في التكيف الاجتماعي, مما يشكل بدوره أرضا خصبة لنشأة ونمو فكر الاستبداد والتطرف بمختلف مظاهره !!!!.

والثقافة ضمن هذا السياق تؤطر العمل السياسي وتضفي عليه صبغة مطابقة لنموذج التنشئة الاجتماعية السائد التي يتعرض لها الأفراد, وبهذا تسهل نشوء فكر الاستبداد ودولته والتي تستند على العناصر الأساسية الآتية:

1 ـ وجود مجموعة من الأفكار المتطرفة ذات طبيعة إيديولوجية, سواء كانت سياسية عقائدية أم دينية متطرفة, والتي تلعب دور المرشد المطلق الغير قابل للنقد أو التعديل أو المناقشة, وتبث هذه المنظومات العقائدية عبر نظام سياسي أو مؤسسات متخصصة وذات اتجاه دعائي وحيد الجانب, وما على المجتمع إلا الإيمان بها إيمانا مطلقا, فتذوب الذات الفردية والمجتمعية في النظام العقائدي ويصبح النظام السياسي ومنظومته العقائدية هو بمثابة الشعب, ويسهل ذلك الموروث الثقافي الذي لا يتحمل المنافسة والمغايرة في المواقف.

2 ـ وجود تنظيم مكرس لتلك الأفكار, فالأفكار الاستبدادية تحتاج إلى تنظيم لكسب القوة السياسية. مثل هذه الأفكار قد تبقى هاجعة فترة طويلة من الزمن, تتغذى خلالها وتبقى حية من خلال خلايا أو روابط صغيرة أو جمعيات سرية أو أحزاب هامشية أو تجمعات دينية مغلقة وغيرها, بعدئذ وفي ظروف ملائمة تثب إلى السلطة و تقوم بمصادرتها بعيدا عن إرادة الناس, وتقوم عبر أجهزة الدولة القمعية بتكريس وإعادة توليد التراتبية  الاستبدادية, والتي قوامها الطاعة العمياء والولاء للقائد, حيث تمضي الأوامر من القمة إلى القاعدة لتنفذ بكل حذافيرها, فالولاء المطلق والطاعة العمياء هما المتوقعان من الطبقات والفئات الدنيا في المجتمع وفي التنظيم لتشكل حجر الزاوية في الخضوع الاستبدادي وتجير الوجود كله.

3 ـ اللجوء إلى الأعمال المتطرفة لنشر الأفكار, أي استخدام الرعب والعدوان الاستبدادي والقوة المفرطة للبقاء في السلطة وزرع حكم الخوف من خلال القيام بأعمال قاسية لا إنسانية تصل إلى حد الوحشية بهدف واحد هو إخافة الناس وزرع الرعب في قلوبهم, بدءا من حملات التطهير إلى الاغتيالات الفردية والقتل الجماعي, إلى النفي والسجن, وكلها تهدف إلى تخويف الناس وإرهاب كل من يحتمل أن يعارض القائد أو الحزب أو الدولة البوليسية أو المؤسسة الدينية الحاكمة أو يتخذ موقفا مغايرا لها, ويصبح المواطن هو العدو الأول للسلطة وهو المستهدف بكل أعمالها العدوانية, وتستمر السلطة الاستبدادية في دوامة البحث عن عدو وهمي خارجي لتكريس ممارسة الاستبداد في الداخل !!!!.
وبقدر تنوع الثقافة ضمن ظروفها الطبيعية والتاريخية والاجتماعية والسياسية فهي تشكل الوسط الذهني الذي تتشكل فيه ذهنية الأفراد ومداركهم وميولهم وعواطفهم ورغباتهم وتقرر أصدقائهم وأعدائهم وتنوع عقولهم وبدائلهم السياسية, وتبقى الفطرة الإنسانية الرافضة للاستبداد والتعسف هي سيد الموقف في اللحظات الحرجة والتواقة لخلق ثقافة بديلة !!!!.
 

265
الموسيقى والغناء بين علم النفس والتربية والدين

" من حزن فليستمع للأصوات الطيبة فإن النفس إذا حزنت خمد نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد "
                                                                                                                                 أفلاطون


د.عامر صالح

يثير زحف التيارات الدينية المتطرفة والتي لا ترغب بفصل شؤون الحياة العامة وحرياتها عن الدين, في الكثير من البلدان مصدر قلق لمصادرة المزيد من الحريات الشخصية والعامة, وفتح باب الارتجال والاجتهاد واتخاذ القرارات المنفعلة للهجوم على تراث شعوبها في الموسيقى والغناء والترويح وغيرها من المجالات لتحول حياة الناس الشخصية إلى حياة صماء وجحيم لا تطاق, متجاهلين نتائج العلوم والإرث الفلسفي والفكري لشعوبها  في قيمة الفنون و لمغزى ومعاني الفنون في الحياة اليومية وفي تهذيب وإعادة صقل السلوك الشخصي والاجتماعي, السوي منه والمرضي. فهل هناك من محاولة للتسوية أو لقاء بين الموسيقى والغناء وبين الدين, أم هناك زحف و إقصاء متواصل من قبل التطرف الديني للموسيقى والغناء والفن بصورة عامة, وتحويل الموسيقى والصوت الجميل وبالإكراه في خدمة الشعائر الدينية ذات الطابع الحزين في معظمه, وإلغاء فسحة الترويح الضرورية واللازمة لإعادة بناء النفس !!!!.

أن تجربة العراق من التجارب المؤلمة والحزينة في الهجوم والتضييق على الفن ومنها الموسيقى والغناء, والتي تعبر عنها منع إقامة مهرجانات الأغنية العالمية كما حصل لمدينة بابل والبصرة, وزحفا مستمر لمنع المسرح والسينما, و محاولات غلق الأندية ذات الصلة بالفنون الرفيعة كاتحاد الأدباء العراقيين, وغيرها من الظواهر الشؤم في كليات ومعاهد الفنون الجميلة,  والقادم أسوء في التضييق على الحريات والفنون بمظاهرها المختلفة في ظل ضعف دولة القانون وتكبيل حرية المواطن والتهديد بعودة المليشيات, مما اجبر ويجبر الكثير من الفنانين إلى مغادرة العراق أو العزوف عن الموسيقى والغناء, أو التحول إلى " الغناء " الديني في المناسبات المختلفة, حيث يحتاج هو الآخر إلى مواهب وأصوات جميلة مؤثرة وذات أهداف حشدية ـ  تعبوية وسياسية مختلفة في ظروف عراق اليوم بعيدا عن الذكرى العطرة للرموز الدينية !!!!.

أن الموسيقى والغناء هي ألوان من التعبير الإنساني, فقد يتم التعبير فيها عن خلجات القلب المتألم الحزين, وكذلك عن النفس المرتاحة والمسرورة, وفي الموسيقى قد يأتي المرء بشحنة انفعالية فيها ما يكفي من الرموز التعبيرية المتناسقة في مقاطع معزوفة يحس بها مرهف الحس أو من متذوقيه, وينفعل ويتفاعل سماعيا ووجدانيا وفكريا,يحس بها إحساسا عميقا وينفعل به انفعالا متجاوبا, مثله مثل أي من الكائنات الحية. ويقول أفلاطون بهذا الصدد: " أن هذا العلم لم يضعه الحكماء للتسلية واللهو بل للمنافع الذاتية ولذة الروح والروحانية وبسط النفس وترويض الدم. أما من ليس له دراية بذلك فيعتقد انه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بما فيها " !!!!.

لقد استخدمت الشعوب القديمة, العربية منها وغير العربية, الموسيقى سواء كانت في نغمات أو مقامات أو أغنيات, كوسيلة من وسائل التطبيب والعلاج, ففي زمن يونان القديمة امن شعوبها بأهمية الموسيقى في الشفاء من الأمراض, وكان " أبي أقراط " أول من استخدم الموسيقى بين اليونانيين إيمانا منه بقدرتها على تخفيف التعب والإرهاق وتعديل المزاج الحاد وشفاء الأمراض النابعة من الإنهاك العقلي والجسمي. أما الأطباء العرب فقد استخدموا الموسيقى في العلاج ومنهم " أبو بكر الرازي " و " الفارابي " و " أبن سينا " و " أخوان الصفا " و " الكندي ". فقد بين أبو بكر الرازي إن للموسيقى آثار سحرية تقي من تأجج أزماتهم النفسية. أما الكندي فكان يعتقد إن للإلحان الموسيقية آثارها الحسنة على صحة الجسم, إذ أنها تستخدم كمقويات للدم وكمسكنات وكمساعدة على التخلص من عسر الهضم. ويقول الكندي كذلك إن لآلة العود قدرة فائقة على التخلص من الآلام جميعها, ولذلك ادخل الآلات الموسيقية كالدفوف والأعواد لمعالجة مرضاه, وهو من أضاف الوتر الخامس للعود ونفذه عمليا زرياب. أما ابن سينا فله في هذا قوله المأثور: " الغناء أحسن رياضة لحفظ الصحة من العناء ". والفارابي الذي بلغ منزلة كبيرة في تضلعه للموسيقى علما ومزاولة, وكان يفخر بنفسه بأنه يضرب على العود, وهو الذي أكد على الأثر الايجابي للموسيقى في الحياة المدنية وخاصة عندما تتلبس بقول الشعر. ويذكر أخوان الصفا في رسائلهم عن استعمال الموسيقى في مشافي " المجانين " التي وجدت في ذلك العصر, حيث كان يلجأ الأطباء العرب لشفاء " المجانين" إلى استخدام الموسيقى لتخفيف الآلام عن مرضاهم أثناء النوبات, ويؤكد أخوان الصفا كذلك إن الموسيقى تؤدي إلى السكينة الكاملة والطبيعية لدى المرضى بعد الاستماع للنغمات الموسيقية !!!!!!.

وفي عالمنا المعاصر إذ تنهال علينا نتائج الأبحاث العلمية في ميادين التربية وعلم النفس والطب وغيرها من العلوم, وجميعها تؤكد على أهمية الموسيقى والغناء في حياة الإنسان وصحته الانفعالية والفكرية والعقلية والجسدية, وتشكل بدورها دليلا ميدانيا محكما في صحته لتلك الأهمية التي تحدث عنها التراث العربي والعالمي. ونستطيع أن نجمل بعض من فوائد الموسيقى والغناء في ضوء نتائج البحث العلمي بما يأتي: أن الموسيقى والغناء الهادئ يفيد الأفراد الذين يعانون من الأرق وتؤدي فعل المهدئات الطبية, كما تساعد على تنظيم النبض والتنفس والدورة الدموية والحد من التوتر العصبي, وتسهم في تخفيف حالات الاكتئاب والقلق, وتساعد على تخفيف آلام الظهر, والنخاع ألشوكي, والأمراض العصبية, وارتفاع الضغط وآلام الرأس, كما تساعد الموسيقى والغناء الذي يحبذه الشخص على زيادة إنتاجه في العمل أو الوظيفة التي يمارسها عند سماعه لذلك أثناء العمل و في ظروف لا تزعج الآخرين, كحمل السماعات في الآذان, كما أكدت الأبحاث أن سماع الموسيقى والغناء من قبل ممارسي رياضة الركض يفيد كثيرا في عدم إحساسهم بالتعب أثناء ممارسة هذا النوع من الرياضة, حيث تساعد الموسيقى على إفراز مادة " الاندروفين " في الدماغ والتي تساعد على عدم الإحساس بالتعب مقارنة بمن لا يستمع إليها أثناء أداءه للتمرينات, كما أبدى المصابين بالسكتة الدماغية والذين تدهورت لديهم القدرة على المشي, مزيدا من التحسن عند تدريبهم وسماعهم لنوع من الإيقاع الموسيقي, وقد أظهرت الأبحاث العلمية أن المرأة الحامل يكون نصيبها في حمل هادئ أكثر من نظيرتها المرأة التي لم تستمع إلى الموسيقى وكذلك أثناء الولادة حيث يكون الألم اقل في فترة المخاض لدى مستمعات الموسيقى, وتساعد الموسيقى والغناء المسنين والعجزة على تحسين الذاكرة واسترجاع المعلومات وحتى بالنسبة للشباب والأطفال. كما أصبح معروفا اثر الموسيقى على النباتات وانتعاشها وزيادة رونقها, وكذلك أثرها الواضح على " نفسية الحيوان ", مثل اثر النغمات الناعمة والهادئة على البقر في إدرارها اللبن, كما ونوعا, وهكذا فأن الموسيقى والغناء يشكلان بيئة مواتية للشفاء والعطاء لكل من الإنسان والحيوان !!!!.

أما بالنسبة للدور التربوي الذي تؤديه الموسيقى والغناء فقد عكفت النظم التربوية والتعليمية العالمية والمتطورة على تضمين مناهجها الدراسية بمادة الموسيقى والغناء وإعطاء حقها من المنهج الدراسي, وعدم استلابها لمصلحة المواد الدراسية الأخرى واعتبارها مادة ثانوية عديمة الجدوى كما يجري في نظمنا التربوية. وقد أكدت النظم التربوية المعاصرة أن هذه المادة الدراسية لها دور أساسي في النمو الجسمي, والعقلي, والانفعالي والاجتماعي, ووفقا لذلك فأن التربية الموسيقية تؤدي إلى تنمية التوافق الحركي والعضلي في النشاط الجسمي, والى مجموعة من المهارات الحركية, إضافة إلى تدريب الأذن  على التميز بين الأصوات المختلفة, ويتم ذلك من خلال أنشطة موسيقية متعددة كالتذوق الموسيقي والغناء والإيقاع الحركي والعزف على مختلف الآلات, وكذلك في تنمية الادراك الحسي والقدرة على الملاحظة وعلى التنظيم المنطقي وتنمية الذاكرة السمعية والقدرة على الابتكار, إضافة إلى مساهمة الموسيقى في تسهيل تعلم وتلقي المواد الدراسية الأخرى وارتفاع مستوى التحصيل فيها, إلى جانب تأثير الموسيقى في شخصية الطفل وقدرتها على خفض حالة التوتر والقلق فيصبح أكثر توازنا, إضافة إلى أن الموسيقى تستثير في الطفل انفعالات عديدة كالفرح والحزن والشجاعة والقوة والتعاطف وغيرها, وهو ما يساهم في أغناء عالم الطفل بالمشاعر التي تزيد من إحساسه بإنسانيته, كما تساهم الموسيقى في تنمية الجوانب الاجتماعية لدى الطفل, حيث تشتد أثناء الغناء والألعاب الموسيقية ثقة الطفل بنفسه ويعبر عن أحاسيسه بلا خجل وتسهل توطيد علاقاته بأقرانه, إضافة إلى الجانب الترفيهي في حياته, كما أن الموسيقى والغناء يعيدان إنتاج التراث الثقافي والفني في ذهنية الأطفال !!!!!.

وأمام كل هذا الكم الهائل من الدراسات العلمية والتربوية والنفسية والتي تؤكد على استجابة الفطرة الإنسانية للموسيقى والغناء,  في صحتها ومرضها, نواجه الموقف الديني الذي يفسر نصوصه فقهاء الدين وتجسده ممارسات الإسلام السياسي على الأرض وبكل وضوح في التضييق على حريات الناس في الاستمتاع بالموسيقى والغناء وغيرها من الفنون, ويجري هذا التضييق ومصادرة حرية الأفراد في الاستمتاع بالفنون على خلفية الفهم المشوه للنصوص الدينية التي ترد في القرآن وكذلك في الأحاديث النبوية, كما لا يوجد خلاف على تحريم الموسيقى والغناء لدى كل المذاهب الإسلامية, إلا في بعض الاختلافات الشكلية والتي تصب جميعها في خدمة المحرم. ويستند هذا التحريم إلى ما ورد, على سبيل المثال لا الحصر , في سورة لقمان/الآية ( 6 ): ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ), وحسب جموع المفسرين فأن " لهو الحديث " يقصد به الغناء وما يلهي عن الخير والأكاذيب, وكذلك ما ورد في سورة الحج/الآية ( 30 ): ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ), ويقصد هنا " بقول الزور " لدى أهل السنة والشيعة هو مجالس الغناء وأيضا شهادة الزور أي شهادة الكاذبة ولا مانع " حسب المفسرين " من أن يكونا مقصودين في الآية المذكورة فتحمل على كلا المعنيين, وقد ورد أيضا في سورة الإسراء/الآية ( 64 ): ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجالك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ), ويلتقي في هذه الآية  كل من أهل السنة وأهل الشيعة على تفسير معنى " بصوتك " والمقصود بها هنا هو الغناء والمزامير واللهو والملاهي, وآيات قرآنية كثيرة تشير إلى تحريم الغناء والعزف على مختلف الآلات الموسيقية لا مجال لذكرها بكثافتها هنا !!!!.

أما في السنة النبوية فقد جاء التحريم مطابقا لوروده في القران, والأحاديث النبوية هي الأخرى لا حصر لها, واذكر القارئ هنا ببعض من هذه الأحاديث لكي تسند الحديث عن تحريم الغناء والموسيقى, يقول النبي محمد ( ص): ( إياكم  واستماع المعازف والغناء, فإنهما ينبتان النفاق في القلب, كما ينبت الماء البقل ), ويقول أيضا في حديث آخر: ( إن الله بعثني رحمة للعالمين, ولأمحق المعازف والمزامير, وأمور الجاهلية ). كما يدخل الأئمة هنا على خط التحريم ليؤكدوا ذلك, كما في قول الإمام الصادق ( ع ): ( بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة, ولا تجاب فيه الدعوة, ولا يدخله الملك ), ويدخل على خط التحريم أيضا علي خامئني, مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقوله: ( الغناء محرم شرعا مطلقا, حتى في الدعاء والقرآن والأذان والمراثي وغيرها ). وهكذا نجد إجماعا على تحريم الموسيقى والغناء لدى جميع المذاهب الإسلامية, لما يسببه حسب رأيهم من انهيار للقيم والأخلاق وفساد الشباب وضياع الوقت وانهيار المجتمعات, والانحراف عن الدين, والتسبب في الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية والروحية !!!!.

وهكذا نجد تعارضا بين معطيات البحث العلمي وتفسير الخطاب الديني, ويثير لدينا تساؤلا: " إذا كان الخطاب الديني لا يقف بالضد من نتائج البحث العلمي كما يدعي كل فقهاء الدين ؟؟؟؟ فعلام هذه الفرقة بين العلم والدين في إحدى قضايا الحياة الروحية والنفسية والجسدية, إلا وهو الفن والموسيقى والغناء, أم هي دعوة مستديمة ومتجددة لفصل الدين عن الدولة وعدم التدخل في الحريات الشخصية, ولكي تأخذ مكونات الحياة الفكرية والثقافية والعقلية نصيبها من الثراء والرقي والتقدم بعيدا عن عبث المتأسلمين !!!!!!.         



 


266
في سيكولوجيا صناعة الجماهيرالقطيعية وتكريس الاستبداد !!!!!

" الظلم الذي نفيد منه يسمى حظا, والظلم الذي يفيد منه سوانا يسمى فضيحة "
                                                                                       جورج برناردشو



د.عامر صالح

مكثت بلداننا العربية في سبات عميق طوال أجيال من الزمن سادها الخنوع والخضوع للحاكم بأمره وبقوة السلاح والقمع المستديم, توقفت فيها عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتخلف فيها أجيال من الرجال والنساء والأطفال عن ركب الحضارة الإنسانية, في حقبة شؤم ملأها الجهل والأمية وعدم مجاراة العصر في تجلياته العلمية والتكنولوجية والتقنية والمعلوماتية.

وسجلت اليقظة المباغتة للشعوب في تونس ومصر وليبيا واليمن تحول تاريخي, لا تزال علامات الاستفهام كبيرة بمداها ونهايتها وحصادها, وتثير الكثير من التساؤلات في ظروف ضعف الطلائع السياسية لقيادتها ووقوفها خلف الأحداث تنتظر ماذا يقرر الشباب الثائر, كما أن الخوف المشروع من حصاد ثورة الشباب من قبل قوى الكسل والتطرف والمتربصة للاستحواذ على نتائج الثورة حاضرا بقوة, مستغلة في معظمها الخطاب الديني المتطرف في التعبئة الحشدية وللانقضاض على الثورة وحرف مسارها صوب مستقبل مجهول مستفيدة من زخم الفقر والفاقة والجهل وما يتركه من انفعالات مؤذية في ردود الأفعال في ظروف لم تتضح وتنضج فيه الخيارات الديمقراطية الحرة, فتنساق الجماهير عبر تهيج انفعالاتها صوب صناديق الاقتراع المنتظرة لوضع ورقتها الانتخابية بيد من لا يؤمن ولا يحترم الديمقراطية وصناديقها الانتخابية, والتي لا تحمل بديلا اقتصاديا واجتماعيا, والذي يفترض أن يكون سيد الموقف الانتخابي, فتضيع طموحات الشباب وتسرق ثوراتهم, وتكون هذه المرة من خلال " صناديق الاقتراع المشرعنة ", والتي يتباهى فيها الكثير من الكتاب عبر أسألتهم: " الم يأتوا بصناديق الاقتراع "؟؟؟, فيتحول الصندوق الانتخابي إلى صندوق اسود يحمل في طياته إعادة توليد التخلف والفقر والاستبداد !!!!.

أن نتائج " الصندوق الانتخابي الأسود " لا تفرز أي نهضة جديدة في المجتمعات العربية نظرا لغياب خمائر الفكر النقدي والمنطقي وغياب العقل الفلسفي الذي يقطع الصلة مع العقل القروسطي السائد والمهيمن الذي لازلنا نخضع له ونعاني منه, ونشهد لهيمنته في كل ثنايا حياتنا اليومية ويعمل جاهدا وبقوة لإقصاء واستبعاد المشتغلين في الحقول المعرفية والعلمية, إلى حد تكفيرهم وإخراجهم من الملة والدين والطائفة والقومية, عبر إقصائهم ونفيهم وسجنهم, وتكريس غيبوبة العقل المناهض ويقف حجرة عثرة بوجه تجديد العقل السياسي ونهضة التفكير العقلاني المتنور, ويحل في ثناياه ثقافة الغيب والخرافة والفساد, وإشاعة أنماط من الحروب الطائفية والمذهبية والمناطقية, ويعمل على تفتيت  الوحدة الوطنية للمجتمع !!!.

وهكذا تنتج صناديق الاقتراع السوداء " جماهير " وكتل قطيعيه لا تحمل أي مشروع نهضوي, تتسم بضعف الفاعلية والبطئ, وانعدام الاكتراث بالوقت, وقتل المبادرة الفردية, والنمطية والانفرادية, والشكلية ومقاومة التغير, وضعف ثقافة التساؤل, واضطراب منهجية التفكير وقصور التفكير الجدلي, وضعف الحاسة النقدية, وسيادة الثقافة الاقتباسية وثقافة حفظ النصوص " قال ويقول فلان " وتتحول إلى نصوص مقدسة وشعارات " للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الانتحارية " لتصبح مؤشرات ومرشد عمل بغير زمانها ومكانها الذي قيلت فيه !!!!.

ويؤكد العالم نعوم تشومسكي ذو المعرفة الموسوعية في علم النفس, واللسانيات, وفلسفة اللغة, وفلسفة العقل, والسياسة والأخلاق, أن هناك عشرة استراتيجيات للتحكم بالشعوب وحرف إرادتهم, وهي:

1ـ إستراتيجية الإلهاء: هذه الإستراتيجية عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات, وهي تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية, ويتم ذلك عبر وائل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة. إستراتيجية الإلهاء ضرورية أيضا لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضرورية في ميادين مثل العلوم, الاقتصاد, وعلم النفس, بيولوجيا الأعصاب وعلم الحواسيب. " حافظ على تشتت اهتمامات العامة بعيدا المشاكل الاجتماعية الحقيقية, واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية, اجعل الشعب منشغلا, منشغلا, منشغلا, دون أن يكون له وقت للتفكير, وحتى يعود للضيعة مع بقية الحيوانات ".

2 ـ ابتكر المشاكل .... ثم قدم الحلول: هذه الطريقة تسمى أيضا " المشكل ـ ردة الفعل ـ الحل ". في الأول نبتكر مشكلا أو مشكلا أو " موقفا " متوقعا لنثير ردة فعل معينة من قبل الشعب, وحتى يطالب هذا الأخير بالإجراءات التي نريده أن يقبل بها. مثلا ترك العنف الحضري يتنامى, أو تنظيم تفجيرات دامية, حتى يطالب الشعب بقوانين أمنية على حساب حريته, أو: ابتكار أزمة مالية حتى يتم تقبل التراجع على مستوى الحقوق الاجتماعية وتردي الخدمات العمومية كشر لابد منه.

3 ـ استراتيجيه التدرج: لكي يتم قبول إجراء غير مقبول, يكفي أن يتم تطبيقه بصفة تدريجية, مثل أطياف اللون الواحد ( من الغامق إلى الفاتح ), على فترة تدوم 10 سنوات. وقد تم اعتماد هذه الطريقة لفرض الظروف السوسيو ـ اقتصادية الجديدة بين الثمانينات والتسعينات من القرن السابق: بطالة شاملة, هشاشة, مرونة, تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم, وهي تغييرات كانت ستؤدي إلى ثورة  لو تم تطبيقها دفعة واحدة.

4 ـ استراتيجيه المؤجل: وهي طريقة أخرى يتم الالتجاء إليها من اجل اكتساب من اجل إكساب القرارات المكروهة القبول وحتى يتم تقديمها كدواء " مؤلم ولكنه ضروري ", ويكون ذلك بكسب موافقة الشعب في الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل. قبول تضحية مستقبلية يكون دائما أسهل من قبول تضحية حينية. أولا لأن المجهود لن يتم بذله في الحين, وثانيا لأن الشعب له دائما ميل لأن يأمل بسذاجة أن " كل شيء سيكون أفضل في الغد ", وأنه سيكون بإمكانه تفادي التضحية المطلوبة في المستقبل. وأخيرا يترك كل هذا الوقت للشعب حتى يتعود على فكرة التغيير  ويقبلها باستسلام عندما يحين أوانها.

5 ـ مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار: تستعمل غالبية الإعلانات الموجهة لعامة الشعب خطابا وحججا وشخصيات ونبرة ذات طابع طفولي, وكثيرا ما تقترب من مستوى التخلف الذهني, وكأن المشاهد طفل صغير أو معوق ذهنيا. كلما حاولنا مغالطة المشاهد, كلما زاد اعتمادنا على تلك النبرة. لماذا ؟ " إذا خاطبنا شخصا كما لو كان طفلا في سن الثانية عشر, فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردة فعل مجردة مجردة من الحس النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردة الفعل أو إجابة الطفل ذي ألاثني عشر عاما ".

6 ـ استثارة العاطفة بدل الفكر: استثارة العاطفة هي تقنية كلاسيكية تستعمل لتعطيل التحليل المنطقي, وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما لن استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور للاوعي حتى يتم زرعه بأفكار, ورغبات, ومخاوف, ونزعات أو سلوكيات.

7 ـ أبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة: العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطرق المستعملة للتحكم به واستعباده. " يجب أن تكون نوعية التعليم المقدم للطبقات السفلى هي النوعية الأفقر, بطريقة تبقى أثرها الهوة المعرفية التي تعزل الطبقات السفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى" .

8 ـ تشجيع الشعب على استحسان الرداءة: تشجيع الشعب على أن يجد أنه من " الرائع " أن يكون غبيا, وهمجيا وجاهلا.

9 ـ تعويض التمرد بالإحساس بالذنب: جعل الفرد يظن انه المسئول الوحيد عن تعاسته, وأن سبب مسؤوليته تلك هو نقص في ذكائه وقدراته أو مجهوداته. وهكذا عوضا أن يثور على النظام الاقتصادي, يقوم بامتهان نفسه ويحس بالذنب, وهو ما يولد دولة اكتئابية يكون أحد أثارها الانغلاق وتعطيل التحرك. ودون تحرك لا وجود للثورة.

10 ـ معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم: خلال الخمسين سنة الفارطة, حفرت التطورات العلمية المذهلة هوة لا تزال تتسع بين المعارف العامة وتلك التي تحتكرها وتستعملها النخب الحاكمة. فبفضل علوم الأحياء, وبيولوجيا الأعصاب وعلم النفس التطبيقي, توصل " النظام " إلى معرفة متقدمة للكائن البشري, على الصعيدين الفيزيائي والنفسي. أصبح هذا " النظام " قادرا على معرفة الفرد المتوسط أكثر مما يعرف نفسه, وهذا يعني أن النظام ـ في اغلب الحالات ـ يملك السلطة على الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم.

لقد استطاعت النظم الدكتاتورية في بلداننا عبر عقود وبتقنيات الخداع المحكمة أن تحول شرائح واسعة من الجمهور إلى كتل هامدة سهلة الانقياد, تتسم بضعف القابلية على التفكير العقلاني, وانعدام الروح النقدية لديها, واتسامها بالنزق وسرعة الغضب والانفعال, والسذاجة, وسرعة التصديق, إضافة إلى تبسيط الأمور واستسهال إطلاق الاتهامات, ويصبح عبدا للتحريض الذي يطلقه " قائد الضرورة ", وحذار اليوم بعد التغيرات التي تشهدها المنطقة من صعود الحركات المتطرفة والأصولية واستخدامها الجماهير في إثارة المشاعر وتجيش الأحقاد والكراهية بين المكونات الاجتماعية, وتكون هذه المرة عبر صناديق الاقتراع السوداء والمشرعنة, وعندها نحتاج إلى عقود قادمة لكي يطل علينا بطل جديد كسالم البو عزيز يحفز فينا روح الثورة الحق !!!!.

 



267
في سيكولوجيا إشباع الدوافع الإنسانية بين الدين والدنيا !!!!

" عندما لا ندري ما هي الحياة, كيف يمكننا أن نعرف ما هو الموت "
                                                                   كونفوشيوس



د.عامر صالح

ليست لديه الرغبة في الخوض بموضوعات دينية ـ سيكولوجية إلا بقدر ما يتعلق الأمر بمكانة الإنسان الحقيقية " رجل كان أم امرأة " في الحياة وفهمه كطبيعة بيولوجية ـ نفسية, وفهم دوافعه المختلفة ودافعيته للعيش والبقاء انطلاقا من صيرورته الطبيعية بدون رتوش. وأن ما يرسم للإنسان من صورة رومانسية فضفاضة  في الجنة مجردة تجريدا مطلقا عن طبيعته السايكو ـ بيولوجية في الدنيا, ما هي إلا تعويضا ماورائيا لما يصبيه من حرمان وكبت للحاجات الإنسانية وإشباعها في الدنيا, وبالتالي فان الآخرة تقدم نفسها بديلا جميلا وبراقا يصعب التعامل معه مع ابسط مقومات المعرفة البيولوجية والإنسانية, وانطلاقا من فلسفة الفكر الديني بان العقل الإنساني يبقى محدودا وضئيل المعرفة قياسا بما هو ديني ومقرر سلفا بإرادة إلهية, وان ما يصعب مناله في الدنيا جراء محدودية ظروف الحياة وتخلفها وقصورها عن إشباع الحاجات الإنسانية, سوف يجده المرء في الآخرة وعلى خلفية الاشتراط الديني في تأجيل أو كيفية إشباع الحاجات في الدنيا للحصول عليها في الآخرة !!!!!.

وتأتي الخلفية الدينية في مفهوم إشباع الحاجات على أساس الدور الثانوي للدنيا وضئال أهميتها قياسا بالحياة الآخرة, فالحياة الدنيا وفقا للمفهوم الديني ومهما طال أمدها, سواء عقود بالنسبة للفرد, أو ملايين من السنين بالنسبة للنوع الإنساني, فهي لا تشكل إلا متاع زائل وليست ذو قيمة قياسا بالآخرة, كما في النص القرآني من سورة الحديد, الآية (20): " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ", وكذلك ما ورد في سورة العنكبوت في الآية ( 64), والتي تؤكد أن الحياة الآخرة أطول وأبقى من الدنيا بالقول: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ", ويقصد هنا بالحيوان أي الحياة الدائمة الحق والتي لا زوال لها ولا انقضاء. أما الأفضلية المطلقة للآخرة على الدنيا وبكل المقاييس فهي محتواة بكل النصوص القرآنية ذات الصلة, ونأخذ هنا فقط على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في سورة الضحى وفي الآيتين (4, 5 ): " وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى ". ولأغراض المتعة المعرفية فأن كلمة الدنيا وردت متساوية مع كلمة الآخرة, بمقدار كمي يساوي (111) كلمة لكل منهما !!!!!.

أما بالنسبة للسنة النبوية فالحديث عن أولوية الآخرة على الدنيا لا حصر لها, ويؤكد النبي محمد(ص) في إشارة إلى قصر الحياة الدنيا بقوله " والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم, فلينظر بما يرجع ". وتشير كل النصوص القرآنية والسنة النبوية حسب جموع المفسرين أن الآخرة هي دار القرار, وهي الحياة السرمدية, ولا تساوي الدنيا ساعة من نهار الآخرة, ولا تزيد عن حجم الماء الذي يحمله الأصبع الذي يغمس في البحر, والآخرة تمتد أبد الدهر, ومن ساعاتها الأولى تتجاوز كل أيام الدنيا. أما الدنيا حسب المفهوم الديني ذات عمر قصير, وهي دار لهو ولعب وزينة وتفاخر, ودار غرور, ودار ترف واستمتاع, ودار إغواء وضلال وطغيان لمن يفتن بها, ودار ابتلاء ودار لاكتساب الحسنات والمعيشة الطيبة لمن امن وعمل صالحا !!!!.

وإذا كانت الحياة الدنيا هكذا في النصوص المقدسة, وإذا كانت هكذا كما يفترض في ذهن المؤمنين والإسلام السياسي فعلام الاقتتال الطائفي, وعلام هذا الصراع من اجل الاستحواذ وإقصاء الآخر, وعلام سر المفخخات والانتحاريين وكاتمات الصوت والسعي لقلب الحياة جحيما على رؤوس أحيائها, وعلام سرقة المال العام والنصب والاحتيال والفساد برموزه الدينية والطائفية, وعلام عرقلة خيار الناس الديمقراطي وتزوير إرادة الشعوب وسرقة ثوراتها وثرواتها, وقائمة التساؤلات تطول إلى ما لا نهاية عن جدوى شل إرادة الناس وتوجيه الصراع في الحياة وجهة تدميرية ودموية, أم هي سلوكيات عدوانية للتعجيل بيوم الآخر وللفوز بالجنة على أنقاض جماجم وضحايا وأرزاق الأبرياء في الدنيا !!!!!.

وفي جانب آخر فأن هذه النصوص الدينية بعقول مفسريها تجعلنا كذلك نقف متسائلين عن جدوى انجازات البشرية والحضارة الإنسانية عبر مسيرتها الطويلة, بدأ من توديع الفرد للغابة ودخوله المجتمع الإنساني, مرورا بمختلف مراحل التنظيم والرقي الاجتماعي وانتهاء بإنجازات البشرية في التقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ناهيك عن انجازات البشرية في الفكر والسياسية والفلسفة والثقافة والتعليم, وهكذا فأن البشرية تسير بخط متصاعد إلى الإمام وفقا لسنة التأريخ, واستنادا إلى التحسن المستمر في ظروف الحياة, والذي يجد انعكاساته الواضحة على الأداء العقلي والمعرفي للبشرية والمتمثلة بانجازاتها في مختلف المجالات العلمية والتقنية والفكرية والسياسية, متجاوزة حدود إشباع حاجاته الفسيولوجية في الأكل والشرب والجنس والتي أصبحت ثانوية قياسا بحاجات الإنسان الحضارية الأخرى, فهل يقبل بجنة بأقل ما يمكن من ظروف الحياة, وهل يقبل بجنة وردت على لسان مفسري النص المقدس مطابقة لظروف الحياة السابقة وفي ظروف الحرمان الفسيولوجي آنذاك, ونحن نعلم أن مكانة الإنسان المتميزة في النصوص الدينية تتجاوز كثيرا ما وعد به في الجنة, فكيف يقبل " المؤمن " بأقل من ذلك, وهل المؤمن هو من أدار ظهره لكل انجازات البشرية ويقبل بشروط الأقل الممكن في الآخرة, أم هي عودة إلى نقطة الصفر أو كما يقال عودة على ذي بدأ !!!!!.

أن نظرة سريعة في  السيكولوجية المعاصرة التي تفسر الدوافع الإنسانية وأهميتها ومستوياتها, تؤكد انه في الوقت الذي تشكل فيه الدافعية المحرك الأساسي لسلوك الإنسان والحيوان على حد السواء وتتشكل في مجموع الرغبات والحاجات والميول والاتجاهات التي توجه السلوك نحو الهدف المراد تحقيقه, تتوقف حاجة الحيوان ودوافعه عند حدود الحاجات الفسيولوجية في معظمها, أما حاجات الإنسان ودوافعه فهي متشعبة ومعقدة وتفضي إلى تكوين أفراد بنوعية فكرية وعقلية جيدة, وهذه النوعية الفكرية والعقلية تبنى عند الفرد من خلال عدة مقومات تجعله يتقدم على مختلف المستويات ولا يتراجع وتفضي إلى نشوء حالة فكرية إنسانية لدى المجتمع, هذه الحالة الفكرية تجعل المجتمع يتطور علميا وفلسفيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا, ولكي يتم بلوغ ذلك هناك قاعدة هرمية وتراتيبية للحاجات الإنسانية وضعها العالم " أبراهام ماسلو " في نظريته " نظرية التحفيز الإنساني ", والتي يرى فيها أن الناس عندما يحققون احتياجاتهم الأساسية يسعون إلى تحقيق احتياجات ذات مستويات أعلى, ويرتبها على شكل هرم, والذي يسمى " بهرم ماسلو للحاجات الإنسانية ", ونختزلها بالمعلومات السريعة الآتية:

ـ تشكل الحاجات الفسيولوجية قاعدة هرم ماسلو, وهي الحاجات اللازمة للحفاظ على الفرد وهي: الحاجة إلى التنفس, والحاجة إلى الطعام, والحاجة إلى الماء, والحاجة إلى ضبط التوازن, والحاجة إلى الجنس والحاجة إلى الإخراج وغيرها.

ـ وتأتي بعد إشباع الحاجات الفسيولوجية, الحاجة إلى الأمان وهي تشمل: السلامة الجسدية من العنف والاعتداء, والحاجة إلى الأمن الوظيفي, وأمن الإيرادات والموارد, والأمن المعنوي والنفسي, والأمن الأسري, والأمن الصحي وامن الممتلكات الشخصية ضد الجريمة وغيرها.

ـ وتأتي بعد حاجات الأمن الحاجات الاجتماعية وتشمل: العلاقات العاطفية, والعلاقات الأسرية, وعلاقات الصداقة, والبشر عموما يشعرون بالحاجة إلى الانتماء والقبول, سواء إلى مجموعة اجتماعية كبيرة كالنوادي والجماعات الدينية, والسياسية, والمنظمات المهنية, أو إلى الصلات الاجتماعية الصغيرة كالأسرة والشركاء الحميمين والزملاء المقربين وغيرها.

ـ تقدير الذات, وهي الحاجة التي تأتي بعد الحاجة الاجتماعية, والمتمثلة بأن يحدد الإنسان هدفه من الحياة كأن يصبح عالما أو كادرا سياسيا أو تربويا أو مهنيا, وهي رغبات في الظهور والتميز وتأكيد الذات, وعندما يحدد الإنسان هدفه يسعى إلى تحقيقه, شريطة توفر قدر معقول ومقبول من الشروط السابقة.

ـ الحاجة إلى تحقيق الذات, وهي المرحلة التي يستطيع فيها الإنسان أن يحقق الصورة التي يتخيلها لنفسه, ويتمكن الإنسان في هذه المرحلة من مواجهة التحديات دون خوف من الفشل لتحقيق النجاح, ويبدأ بالشعور بأنه في ظروف يستطيع من خلالها الإبداع والتطوير ويصبح فرد منتج في مجتمع يسير إلى الإمام. ويفهم من هرم ماسلو انه يأخذ بيد الإنسان والمجتمع من حاجاته الأدنى إلى الحاجات الإنسانية البحتة و الراقية بما فيها الأدب والفن والجمال, وهو يلخص فكرة " تحول التراكم الكمي إلى تحول نوعي ". وعلى خلفية هذه الهرمية لإشباع الحاجات فأن الحاجات الفسيولوجية تشكل قاعدة الهرم, وهي دوافع فطرية أولية وذات اثر اقل في حياة الإنسان ورقيه ويتوقف ذلك على درجة إشباعها, لكي ينطلق الفرد إلى تحقيق إنسانيته وتميزه عن باقي المخلوقات باعتباره أرقى مخلوق على الأرض, فكيف ينظر له في السماء !!!!!.

أن العودة إلى الخطاب الديني لاستقراء جوهر الثواب الذي يعد الله به ذوي الإعمال الصالحة فنجده ينحصر عند قاعدة هرم الحاجات, أي حصرا في الحاجات الأدنى ذات الطابع الفسيولوجي, ففي قوله تعالى وفي سورة الزمر, الآية(73): " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فأدخلوها خالدين ". وكما نعرف ويعرف جميع المفسرين أن للجنة ثمانية أبواب هي: باب التوبة, وباب الصلاة, وباب الصوم وهو باب الريان, وباب الزكاة, وباب الصدقة, وباب الحج, وباب الجهاد وباب الصلة ( صلة الأرحام ). والجنة درجات أعلاها الفردوس الأعلى وهو تحت عرش الله ومنه تخرج انهار الجنة الأربعة الرئيسية ( نهر اللبن ـ نهر العسل ـ نهر الخمر ـ نهر الماء ), وللجنة انهار وعيون تنبع كلها من الأنهار الأربعة الخارجة من الفردوس الأعلى وقد ورد ذكر أسماء بعضها في القرآن والأحاديث النبوية منها: نهر الكوثر وهو نهر أعطي للنبي ( ص ) ويشرب منه المسلمون في الموقف يوم القيامة شربة لا يظمئون من بعدها أبدا, ونهر البيدخ وهو نهر يغمس فيه الشهداء فيخرجون منه كالقمر ليلة البدر وقد ذهب عنهم ما وجدوه من أذى الدنيا " ولا نعرف هنا من هم الشهداء, هل هم ضحايا العمليات الانتحارية أم الانتحاريين أنفسهم أم كليهما !!!, ونهر بارق وهو نهر على باب الجنة يجلس عنده الشهداء فيأتيهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا, ونهر عين تسنيم وهي اشرف شراب أهل الجنة وهو من الرحيق المختوم ويشربه المقربون صرفا ويمزج بالمسك لأهل اليمين, وعين سلسبيل وهي شراب أهل اليمين ويمزج لهم بالزنجبيل, وجميعها أشربة لا تسكر ولا تصدع ولا تذهب العقل بل تملأ شاربيها سرورا ونشوة لا يعرفها أهل الدنيا يطوف عليهم ولدان مخلدون كأنهم منثورا بكؤوس من ذهب وقوارير من فضة !!!!!.

أما بالنسبة لطعام أهل الجنة فهو من اللحم والطير والفواكه وكل ما اشتهت أنفسهم " حسب المفسرين ", ولعل سورة الزمر في الآية ( 34 ) تنوه عن ذلك: " لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ". أما بالنسبة لأشجار الجنة فتوصف بأن سيقانها من الذهب وأوراقها من الزمرد الأخضر والجوهر ومنها: شجرة قطوبي, والتي قال عنها النبي ( ص ) إنها تشبهه شجرة الجوز وهي بالغة العظم في حجمها وتفتق ثمارها عن ثياب أهل الجنة في كل ثمرة سبعين ثوبا ألوانا ألوان من السندس والإستبرق لم ير مثلها أهل الدنيا ينال منها المؤمن ما يشاء وعندها يجتمع أهل الجنة فيتذكرون لهو الدنيا فيبعث الله ريحا من الجنة تحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا, وسدرة المنتهى وهي شجرة عظيمة تحت عرش الله ويخرج من أصلها أربعة انهار ويغشاها نور الله والعديد من الملائكة وهي مقام السيد إبراهيم ( ص ) ومعه أطفال المؤمنين الذين ماتوا وهم صغار يرعاهم كأب لهم جميعا وأوراقها تحمل علم الخلائق " وما لا يعلمه إلا الله " وفي الجنة أشجار من جميع ألوان الفواكه المعروفة في الدنيا ليس منها إلا الأسماء, أما الجوهر فهو ما لا يعلمه إلا الله, ونلخص ذلك ما ورد في سورة البقرة وفي الآية ( 25 ) بقوله في الكتاب: " وبشر الذين امنوا  وعملوا الصالحات أن لهم  جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ", وقد ذكر من ثمار الجنة التين والعنب والرمان والطلح والبلح والسدر وجميع ما خلق الله  لأهل الدنيا من ثمار !!!!!.

 كما شغل إشباع الدافع الجنسي حيزا غير قليل في الخطاب الديني, فعلى مستوى الرجل المؤمن الذي يدخل الجنة فقد منحه الله طاقة جنسية أضعاف ما كان في الدنيا, حيث يقول النبي ( ص ): " يعطى الرجل في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع.. قالوا: يا رسول الله أو يستطيع, قال: يعطى قوة مائة رجل ", أما بالنسبة للنساء فهن صنفين: 1 ـ الحور العين وهن مخلوقات لأهل الجنة وقد وصفت في القرآن بأنها: ( كأنهن الياقوت والمرجان ـ سورة الرحمن, الآية 58 ), ( وكأمثال اللؤلؤ المكنون ـ سورة الواقعة, الآية 33 ), ( وكأنهن بيض مكنون ـ سورة الصافات, الآية 39 ), وهن نساء نضرات جميلات لو أن واحدة منهن اطلعت على الأرض لأضاءت الدنيا وما عليها ـ حسب المفسرين, و 2 ـ  نساء الدنيا المؤمنات اللاتي يدخلن الجنة وهؤلاء هن ملكات الجنة وهن اشرف وأفضل وأكمل من الحور العين, وكما قال النبي ( ص): " كفضل ظاهر الثوب على بطانته.... ", وكلا الصنفين مطهرات من كل " النجاسات " أي لا تبول ولا تحيض ولا تتبرز, أي إنهن ليست ناقصات عقل ودين كما في الدنيا, وعلى خلفية الحديث النبوي الذي يقول: " خرج رسول الله ( ص ) في أضحى, أو فطر إلى المصلى فمر على النساء, فقال: يا معشر النساء تصدقن فاني أريتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن, وتكفرن العشير, ما رأيت من ناقصات عقل ودين اذهب للب الرجل الحازم من أحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل. قلن: بلى, قال: فذلك من نقصان عقلها, أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم. قلن بلى, قال: فذلك من نقصان دينها ـ صحيح البخاري ـ الجامع الصحيح ـ رقم 304 ", وغيرها من ألأحاديث الكثيرة بذات المعنى, وأذكر هنا فقط حديثا أخرا للنبي ( ص ): " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء, واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ـ صحيح البخاري, الجامع الصحيح, رقم 3241 " !!!!!!.

وفي مجمل حديثنا المسند وبحدود التفسيرات الواردة نرى أن الجنة اختزلت في مجملها عند حدود قاعدة الهرم المتمثلة بإشباع الحاجات الفسيولوجية, من أكل وشرب وجنس, فهل تختزل أعمال الإنسان " والمؤمن"  بشكل خاص وعبر عقود من حياته وعطائه عند قاعدة هرم الحاجات, وهل أن كدح الإنسان طوال حياته وأعماله الصالحة يجازى بأكل وشرب وجنس !!!!.

أن إيقاف العقل الإنساني عند حدود النصوص المقدسة يؤدي إلى إشاعة الجهل والفقر والمرض في مجتمعاتنا, وهنا تأتي أهمية انطلاق العقل في كامل حريته في الإبداع والتأمل والخيال دون التوقف, فالعقل الإنساني ليس في حدوده الجغرافية المحلية بل في عالميته العلمية والمعرفية وهي تساعدنا كثيرا في تضيق المسافة بين الدين باعتباره نصا مقدسا وبين الفكر الديني باعتباره مفسرا للنص, ويشكل ذلك إضافة حيوية للنص المقدس ووضعه في مكانه اللائق !!!!.

   

 



 

268
اضطرابات الشخصية النرجسية ونموذج معمر ألقذافي

" فقر الجهول بلا عقل إلى أدب.... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن "
                                                                      المتنبي


د.عامر صالح

يمكن القول بدون شك إن شخصية الزعيم الليبي تثير الكثير من الغموض والالتباس والحيرة والسخرية في اغلب الأحيان في الداخل الليبي, وخاصة في أوساط مثقفيه و قياداته التعليمية والتربوية والمجتمعية, وكذلك لدى المحافل العربية والدولية التي يطل فيها ألقذافي ويدلي بتصريحاته المختلفة والمتناقضة في الفكر والممارسة, والتي تحول جلسات هذه المحافل في معظم الأحيان إلى مناسبات للضحك والتهكم والإعجاب الساخر بشخصيته, وتثير الكثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقيته, وهل ما يصرح به يعبر عن ما يؤمن به قولا وفعلا, أم هي مجرد مناسبات للثرثرة الفارغة والتي لا تحمل في طياتها أي معنى منطقي عند مقارنتها بأبسط مسلمات السياسة والاقتصاد والاجتماع في العالم المعاصر, أم هي مناورات ذكية للبقاء في الحكم واحتكاره من قبل شخصية ذات أبعاد اضطرابية خاصة تنحى منحى تمايزي متطرف وخاص !!!!.

في ليبيا ألقذافي ووفقا لقرآنه " الكتاب الأخضر " ومن غرائب النظام الليبي لا توجد مسميات مثل " مجالس النواب " ، أو " مجلس الوزراء " أو " وزير " أو كلمة " محافظة " , فهناك على التتابع مسميات بديلة " المؤتمرات الشعبية " و " اللجان الشعبية " و " أمين اللجنة الشعبية " و " وشعبية والتي تساوي كلمة محافظة ", كما أن الانتخابات البرلمانية المعاصرة " وفقا للكتاب الأخضر " هي عمليات تدجيل وتحايل على الديمقراطية ولا تمثل الشعب, ومن غرائب النظام الليبي أيضا هو شعار " البيت لساكنه ", فوفقا لذلك أن من يسكن في الدار أو يؤجره له الحق في امتلاك الدار, أي بمعنى آخر سرقة الدار من مالكه الحقيقي, حيث لا يوجد قانون ينظم العلاقة بين المؤجر والمستأجر, وكذلك ووفقا للقانون الليبي رقم ( 15 ) يمنع بموجبه تجاوز الراتب الشهري للمواطن الليبي ( 400 ) دينار والتي تساوي ( 350 ) دولار !!!!.

وحيث يذوب الفرد في الجماعة ذوبانا قطيعيا, فلا وجود للفرد المبدع ولا للمهارات الاستثنائية الفردية, فعلى سبيل المثال لا الحصر, لا وجود هناك لأسماء فريق لاعبي فريق كرة القدم, فهناك أرقام صماء تعبر عنهم, ويمنع على المعلقين الرياضيين مناداة اللاعبين بأسمائهم أثناء المباراة الرياضية, حيث يقوم المعلق بالتعليق على المباراة على سبيل المثال بالشكل التالي: قام الرقم ( 1 ) بضرب الكرة باتجاه الرقم ( 2 ) وصدها الرقم ( 5 )... وهكذا. أذن هناك أشبه بجنود شطرنج أو أحجار تتدحرج بمختلف الاتجاهات كما يقررها العقيد ألقذافي وفي مختلف المجالات: الرياضية والسياسية والثقافية والاجتماعية, بمعنى آخر أن ألقذافي يمارس اخصاء مطلقا للأفراد والجماعات والقبائل في الفكر والسياسة والثقافة والأدب وحتى في العلم, فلا صوت يعلو على صوت العقيد الذي يجسده الشعار الشائع في ليبيا: " زيد تحدى وزيد يا صقر الوحيد " .... فهو الواحد الأوحد في مختلف العلوم والمجالات, وهو الديك الإفريقي الوحيد الذي له الحق أن يتزوج كل دجاجات القارات السوداء والسمراء والبيضاء وينجب أعداد من المستنسخين لشخصه, الذين يعملون في الظل ولا نعرف عنهم الكثير من التفاصيل إلا حين اقتراب ساعة سقوط النظام !!!!.

أذن نحن أمام ظاهرة متفردة فرادة عجيبة قل نظيرها في العالم, فلا وجود للتمايزات والفروق الفردية مهما بلغ شأنها, فشأن ألقذافي هو الأعظم في كل المناسبات, وكل الانجازات الفردية هي لصيقة بشخص ألقذافي ومستوحاة من فكر الكتاب الأخضر الذي لوث معنى الألوان, إذن نحن أمام ظاهرة مرضية يجب البحث فيها في ثنايا علم النفس قبل غيرها من العلوم, وهي الظاهرة المعروفة علميا " باضطراب الشخصية النرجسية ".

وإذا كان من الصعوبة أن تضع شخصية الفرد العادي أو الزعيم أو القائد ضمن تصنيف مطلق واضح المعالم, خاصة عندما يتعلق الأمر بالسلوك باعتباره ظاهرة معقدة شانه شان الظواهر النفسية الأخرى حيث تتضافر في تشكيلها العديد من العوامل المتداخلة وتتقاطع بنفس الوقت مع مختلف الاضطرابات النفسية والعقلية الأخرى, إلا أن تشبع السلوك بمقدار متزايد من الإعراض دون غيرها بما يشكل متلازمة مرضية هو الذي يحسم الشكوك نحو اليقين ويجعلنا أمام تصور عن طبيعة هذه الشخصية دون غيرها, وخاصة كشخصية مثل معمر ألقذافي, والذي يحكم لأكثر من أربعة عقود وتنقل بمختلف الحركات القومية والوحدوية والإسلامية والبعثية وتنظيم الضباط الأحرار وانتهاء بأطروحة الكتاب الأخضر !!!!.

والنرجسية هي حب الذات وهي إحدى سمات الشخصية حيث توجد لدى جميع الأفراد ولكن بدرجات متباينة فمنهم من تكون نرجسيته واضحة من اللقاء الأول به ومنهم من يمتلكها بدرجة قليلة ولا تظهر إلا ما ندر, وبهذا يمكن القول أن الفرق بين الأفراد في النرجسية, كما في سواها من السمات الشخصية, هو فرق في الدرجة لا في النوع. والشخصية النرجسية المرضية هي التي تشعر شعورا غير عادي بالعظمة وحب وأهمية الذات وأنه شخص نادر الوجود أو انه من نوع خاص فريد لا يمكن أن يفهمه إلا خاصة الناس, وينتظر من الآخرين احتراما من نوع خاص لشخصه وأفكاره, وهو استغلالي, ابتزازي, وصولي يستفيد من مزايا الآخرين وظروفهم في تحقيق مصالحه الشخصية, وهو غيور ومتمركز حول ذاته يستميت من اجل الحصول على المناصب لا لتحقيق ذاته وإنما لتحقيق أهدافه الشخصية. والشخصية النرجسية تتميز بالتعجرف والنقص في التعاطف مع الآخرين وفرط الحساسية تجاه آراء الآخرين. فهم لا يستطيعون تقبل آراء الآخرين بأي شكل من الأشكال دون أن يتركوا الآخرين يلاحظون ذلك, ويسفهون بشكل غير مباشر من آراء واقتراحات الآخرين, بل ويدعون إنهم يعرفون ما يفكر فيه الآخرين وإنهم ليست بحاجة إلى محاضرات الآخرين, ويبالغ النرجسيون في انجازاتهم وميزاتهم ومحاسنهم ويتوقعون من الآخرين أن يعترفوا لهم بالجميل بصورة خاصة, سواء كان هذا الاعتراف مبررا أو غير مبرر. ويستحوذ عليهم وهم النجاح والسلطة والتألق ويعتقدون أن وظيفتهم ضبط الأمور تحت سيطرتهم لأنهم على حق والآخرين على خطأ, والصفة الأساسية للشخصية النرجسية هي الأنانية, فالنرجسي عاشق لنفسه ويرى انه الأفضل والأجمل والأذكى ويرى الناس أقل منه ولذلك فهو يستبيح لنفسه استغلال الناس وتسخيرهم, والنرجسي يهتم كثيرا بمظهره وأناقته ويدقق كثيرا في اختيار ملابسه ويشتريها من أفضل العلامات التجارية وأغلاها ثمنا ويعنيه كيف يبدو في عيون الآخرين وكيف يثير إعجابهم ويستفزه التجاهل جدا ويحنقه النقد ولا يريد أن يسمع إلا المديح وكلمات الإعجاب والتصفيق والهتافات المؤيدة, كما يتسم بالهدوء المتكلف أو المصطنع, وإظهار تكيف اجتماعي كبير يغطي تشوهه العميق في العلاقات الداخلية مع الآخرين !!!!!!!.

وهذه الشخصية تثير الأعصاب لمن يتعامل معهم, سواء كانوا أقارب أو معارف أو زملاء في العمل أو شعب بكامله عندما يقع تحت قيادة شخص بهذه المواصفات, وان من يقعون تحت طائلته سوف يعانون من سوء المعاملة, وطلبات غير معقولة, وتستجيب هذه الشخصية بإفراط  للمديح والإطراء الزائد, فكلما تزلف له الآخرين الذين تحت أمرته وخاطبوه بشكل يوحي لهذا الشخص بعظمته, وأهميته, وأشعروه انه شخص لا مثيل له, فكلما نالوا حظوة عند صاحب هذه الشخصية !!! أما إذا كان يتعامل معه كأناس مستقيمين ولا يجيدون النفاق والتزلف, ويتعاملون مع هذه الشخصية بشكل طبيعي فأنهم سوف يعانون الآمرين من التعسف والإقصاء والتهم المختلفة, والنرجسي دائم الحديث عن نفسه ولا يمل من المديح حتى بطريقة مزعجة ومخجلة لأقاربه وأصدقائه ولمن يهمهم أمره !!!!. 

ويشير مصطلح اضطراب الشخصية النرجسية في الطب النفسي وعلم النفس الاكلينكي إلى اضطراب مزمن وشامل في الشخصية وله صفاته وملامحه السلوكية, وهو يصنف كواحد ضمن عشرة اضطرابات للشخصية في الدليل التشخيصي الأمريكي ( دي.أس.أم ـ 4) للعام 2000. واضطرابات الشخصية هذه تقسم إلى ثلاثة مجموعات, تضم الأولى: الشخصية الشكاكة, والشخصية الفصامية, والشخصية ذات النمط الفصامي. وتضم المجموعة الثانية: الشخصية المضادة للمجتمع, والشخصية الحدودية, والشخصية النرجسية, والشخصية الهستيرية. وتضم المجموعة الثالثة: الشخصية الاعتمادية, والشخصية القلقة التجنبية, والشخصية الو سواسية القهرية.

ويتطلب تشخيص اضطراب الشخصية النرجسية وجود خمسة صفات على الأقل وسلوكيات من النقاط التسعة التالية, وهذه الصفات والسلوكيات مزمنة وتبدأ منذ عمر 18 سنة وتؤدي إلى مشكلات ومعاناة وصعوبات في التكيف. وهذه الصفات هي:

1 ـ تضخيم قيمة الذات وميزاتها ومهاراتها.2 ـ الانشغال بخيالات النجاحات الباهرة و القوة والذكاء والجمال والحب المثالي.3 ـ الاعتقاد بأنه شخصية متميزة وأنه لا يفهمه إلا المتميزون و لا يتعامل إلا مع المتميزين. 4 ـ يتطلب الإعجاب والإطراء دائما. 5 ـ يعتقد انه يستحق الامتيازات وأن يعامل بشكل متميز واستثنائي.6 ـ نقص التعاطف مع الآخرين. 7ـ يستغل الآخرين.8 ـ يغار من الآخرين كثيرا أو يعتقد أن الآخرين يغارون منه. 9ـ متبجح ومتغطرس في سلوكه وكلامه.

ويجب الإشارة هنا أن اضطراب الشخصية النرجسية ترافقه العديد من الاضطرابات المصاحبة, وأبرزها: الاكتئاب بأنواعه, مثل الاكتئاب الخفيف المزمن والاكتئاب الشديد وتغيرات المزاج. وفي حالة الشعور بالعظمة يكون المزاج شبه هوسي مع ازدياد في النشاط, وكذلك إدمان المخدرات ولاسيما الكوكايين, ونقص الشهية العصبي والسعي إلى تخفيف الوزن والشعور بان وزنه زائد, ويمكن للشخصية الهستيرية, والحدية, والمضادة للمجتمع والشكاكة أن تصاحب اضطراب الشخصية النرجسية.

كما تصنف بعض الأدبيات السيكولوجية الشخصية النرجسية إلى العديد من الأصناف, وهو مفيد لفهم شخص معمر ألقذافي كحالة ملموسة, وخاصة أن اخطر أنواع النرجسية هي المتمثلة في القيادات الاجتماعية والسياسية, ومن أبرزها: النرجسي الكذاب, ويكون مراوغا ماهرا ومقنعا بارعا حيث يتجنب المحاسبة على أعماله بتلهية الآخرين بالنكتة واللف والدوران, ويعتمد على ذاكرته في سرد الحوادث القديمة وينكر ولا يريد أن يسمع ما عمل من سيئات. النرجسي ناقض العهود, حيث يوافق على كل شيء ثم ينقض كل شيء. والشخصية النرجسية العنيفة, فهو القاتل الإرهابي والذي يستعمل النساء والأطفال لتنفيذ مآربه في الاعتداء والانتقام, فهو لا يشعر بالخطيئة ولا بتأنيب الضمير. النرجسي الرقيب أو المستغل, الذي يوقع الخصومة بين الناس ويبعد أصدقاءه أو حلفاءه عن نيل أهدافهم, ويتصف بالمهارة في الحديث والتلاعب بالكلمات والأفعال, ويكون همه المال ويكون قاسيا لا يقر له قرار. والنرجسي المتفاخر بالعلاقات الجنسية وكثرة تناول المخدرات, فهو الشخص الذي يتزوج كلما شاء له عدد من النساء ويمارس الدعارة كيف ما اتفق ولا يشعر بالسعادة جراء ذلك لأنها لا تشبع نرجسيته. والنرجسية السادية, والذي يكون سعيدا برؤية الآخرين يتعذبون ويفقدون مناصبهم ومالهم ويقسوا عليهم جسديا ونفسيا, واغلب ضحاياه من النساء والأطفال والشيوخ. والنرجسي غاسل الدماغ, حيث يبدوا ذو هيبة, ويستغل الآخرين لجلب الصيت والجاه ويسرق ثروة الآخرين, وعادة يكون هؤلاء من رجال السياسة والدين, ويكون اغلب أعداءه من المثقفين والمتعلمين والكتاب المتحررين. والنرجسية المغامرة, وهم الذين لا يتعلمون من تجارب الماضي ويستمرون في مغامراتهم وبنفس الأساليب. والنرجسي الخيالي, حيث يتباهى بأطفاله وزوجته وبانجازاته , وينتظر من الآخرين الإعجاب والتعجب من قدرته وعبقريته, ولكنه لا يقتنع أبدا, وعندما يسقط قناعه يستجدي العطف والشفقة من الآخرين لإعادة الكرة !!!!. 


أن الصورة الإكلينيكية والتي حاولنا رسم ملامحها للشخصية النرجسية الاضطرابية تجد تعبيرها الواضح في شخصية معمر ألقذافي من خلال المقدمات التي ذكرناها, كما أن مسيرته وسلوكياته خلال أكثر من أربعة عقود لم تدع الشك أن هذا الرجل مصاب بالنرجسية المرضية, ولم يصاب بالبرانوايا/ جنون العظمة / كما يذكره بعض الكتاب, فهو مناور ومخاتل, ففي اللحظة التي يدعي فيها أن أمريكا عدوه الأول إلا انه لا يتردد للحوار معها للبقاء في دست الحكم وصرف ملايين الدولارات للتعويض والمصالحة عن ما ارتكبه من جرائم, وهو يدعي محاربة القاعدة ولكنه عندما تضيق به الدنيا فلا مانع لدي من التحالف مع القاعدة أو إحياء علاقاته السابقة بالمنظمات الإرهابية " حسب تصريحاته الأخيرة ", وهذا الرجل لا يوجد له عدو محدد أو صديق دائم, فتجد في لحظة له أنصاره الذين يستجيبون لمزاجه, وفي لحظة أخرى ينقلب الأصدقاء إلى أعداء عندما لا يجد لديهم ما يشبع نرجسيته, وقد يعاني مطلقا من ندرة الأصدقاء كما هو النظام الليبي وشخص معمر ألقذافي اليوم الذي لم يقف معه احد !!!!, فهو قادر على خلط السياسة بحب الذات المرضي إلى درجة يجد فيها المرء صعوبة في الفصل بين الذاتي والموضوعي لدى شخص ألقذافي. وخلال مسيرة حكمه فقد أقدم على الكثير من الممارسات التي تعكس بدون شك نرجسيته المرضية والمستفحلة والتي تستحق الاستئصال بكل الوسائل الممكنة لتخليص الشعب الليبي من أثارها المقيتة, ولعل ابرز ما أقدم عليه هو:

ـ بحث ألقذافي عن الزعامة في العالم العربي وفي الجامعة العربية, وعندما لم يجد ضالته هناك فقد تحول بشعاراته الوحدوية إلى القارة السمراء, معتبرا أن أفريقيا هي مكانه الطبيعي ولكي يكون هناك ملك ملوكها يكيد لها من المؤامرات والحروب ويغدق عليها عند الضرورة بأموال الشعب الليبي وفقا لخططه.

ـ قام ألقذافي بهدم ضريح المجاهد عمر المحتار, لما يراه من منافس له من الناحية النفسية, ونقله إلى مدينة نائية لكي يحول دون زيارة الليبيين له باعتباره رمزهم الوطني في النضال ضد الاستعمار الايطالي.

ـ لقد دخل ألقذافي كمنافس للشريعة الإسلامية, وأعتبرها كقانون وضعي كقانون نابليون وكالقانون اليوناني, وقد تجرأ على حذف كلمة ( قل ) من سور القران لأنه لا حاجة لها فهي موجهة إلى النبي محمد ( ص ) فقط.

ـ اتهم ألقذافي بحقن 400 طفل في مدينة بنغازي بفيروس الايدز عام 1997 .

ـ يقول ألقذافي أن الكعبة هي آخر صنم لازال باقيا من الأصنام, ويرى أن مسجد النبي محمد ( ص ) ليس له أي قدسية وأنه كالفاتيكان, والقدسية فقط لمعمر ألقذافي.

ـ لم يرى في النظام الرأسمالي ولا الاشتراكي ضالته لبناء ليبيا, فقد اختار طريقا آخر " حسب الكتاب الأخضر " وهي طريق بناء النظام الجماهيري, والذي انهارت على يديه الدولة الليبية وتحولت إلى ركام وفوضى, تعبث فيها اللجان الثورية المخابراتية, وحسب قوله فهذه اللجان هي نبي العصر.

ـ وقد تم رصد حالات التخريب والتدمير والتحرش وإثارة النزاعات بين الدول التي تدخل فيها ألقذافي فبلغت 130 حالة. وأنه دعم ودرب وساند أكثر من 14 منظمة إرهابية.

ـ قطع ألقذافي علاقاته مع حركات التحرر الوطني والحركات الثورية العالمية. حيث يقول: أنني قاتلت في مرحلة ما إلى جانب حركات التحرر الوطني في انغولا, وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وناميبيا وبيساو والرأس الأخضر وفلسطين. وأنه حان الوقت الآن لإلقاء السلاح. أي انه تحول من دبلوماسية البنادق إلى دبلوماسيا الحقائب المليئة بالدولارات وعلى قدر الولاء له.

ـ طالب ألقذافي في إحدى مؤتمرات القمة العربية بضم إسرائيل إلى الجامعة العربية , ولم يوضح سبب طلبه هذا, أكان بقصد السخرية, أم هي قناعة جديدة قد تولدت لديه بعدما تغير.

ـ نسج ألقذافي خيوط علاقات جديدة مع أنظمة عربية وإسلامية كالأردن والسعودية ودول الخليج, وعزز علاقاته وارتباطه معها بعلاقات ودية, ولكن سرعان ما نجد انقلابه عليها هنا وهناك وفقا لمصلحته الذاتية.

ـ قام ألقذافي بتفجير طائرة ليبية فوق بنغازي في 22ـ 12 ـ1992 وقتل فيها 157 ليبيا, ووجهه التهمة للغرب لمقايضة ضحايا طائرة لوكربي بضحايا هذه الطائرة المنكوبة.

هذا غيض من فيض مما نشر على صفحات الانترنيت عن خفايا هذا النظام وسلوكياته, وقد اخترنا فقط شذرات من ذلك مما يفيد أطروحتنا حول نرجسية ألقذافي, تلك النرجسية الهجينة والتي تحمل في طياتها خليطا من النرجسية السادية والعدوانية والمغامرة وذات الخيال المرضي والنرجسية الموهومة بالقيادة والزعامة والتي أدت إلى كوارث وطنية وإقليمية ودولية !!!!!!.





269
عندما يختلط النفسي والديني والحقد السياسي في تفسير الفعاليات الاحتجاجية !!!!

" فاقد الإرادة هو أشقى البشر "
                      أرسطو


د.عامر صالح

يلاحظ معظم المتابعين للوضع السياسي في العراق أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتجه وجهة تشاؤمية, على الرغم من صيحات التفاؤل الخجولة هنا وهناك, والتي تؤكد أن الديمقراطية تسير بخطوات راسخة إلى الأمام. وكما نفهم بدون شك من أن الاختلافات في الآراء والمعتقدات والأديان ووجهات النظر, هو سنة من سنن التطور الجدلي للظواهر, وعلى قاعدة " لو تساوى الناس هلكوا ", فالناس يختلفون من حيث المساواة " حيث لا توجد مساواة مطلقة على الأرض ", ويتنوع الناس من حيث قدراتهم الفكرية والعقلية والسياسية, والمشكلة ليست في هذا التنوع باعتباره شرط لازم للحياة وللوجود الإنساني, ولكن المشكلة أن يصبح هذا التنوع مصدرا لمشكلات اجتماعية كبرى, وخاصة عندما تؤسس إدارته على قاعدة غير واضحة المعالم, يفضي إلى إلغاء الآخر, في ظروف تباين كبير في التركيبة السكانية الاجتماعية وما يتبعها من تمركز للسلطة والمال والدين والعرق والطائفة لبعض من مكونات هذا التنوع, وخاصة عندما يستخدم لعرقلة النمو الطبيعي والموضوعي للفسيفساء الاجتماعية وعدم التمكن من تأسيس حالة صحية لجدل تنوع المعارف والأصول في إطار الوحدة الاجتماعية !!!!.

وعلى خلفية ما تأسس في العراق من نظام سياسي محاصصاتي ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري 2003 فقد زرع بذور تحول تنوع العراق الفكري والعرقي والديني والثقافي إلى نقمة على أهله وليست نعمة, كما كان المرء أن يتمنى ويتغنى به, وكما هو في حقيقته الموضوعية التي يجب أن تكون, فقد تحولت المكونات الكبرى للمجتمع, الدينية منها والثقافية والاثنية إلى حاضنات للاستقطاب والتمترس ضد الطرف الآخر المغاير, وكانت التضحيات كبيرة جدا لدى جميع الأطراف, وخاصة بالنسبة للمكونات الأقلية الدينية والثقافية والسياسية الصغرى, مما أضفى على الحياة بصورة عامة وعلى المشهد السياسي بشكل خاص مسحة التطرف والتخندق وإعادة توليد بيئة الإرهاب والإقصاء الفكري والعقائدي والديني للأفراد والجماعات المختلفة !!!!.

وقد ساعد على ذلك بشكل أساسي هو تمركز السلطة والمال والدين بيد السياسيين " ممثلي " الكيانات الاثنية والطائفية الكبرى, فأفرزت ظواهر خطيرة, كالفساد الإداري والمالي ونهب المال العام والفقر والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية وانهيار كفاءة القطاعات المنتجة للفكر والعلم والتربية والثقافة, فأصبح مشهد الاستحواذ والإقصاء والهيمنة والتجيش هو سيد الموقف, بعد إن توفرت له كل أدوات الإيغال من أجهزة أمنية ومخابراتية مبنية على أسس تفتقد إلى الكثير من المهنية والحياد, وممارسات دينية تضفي على الموقف " شرعية " روحية لدى جموع البسطاء من الناس الجياع لعقود خلت يضعها في حالة صعبة من الإحجام والإقدام النفسي لعرقلة خياراتها صوب تحقيق مطالبها الإنسانية في العيش الكريم !!!!.

وفي الوقت الذي حسمت فيه جماهير شعبنا خيارها صوب المطالبة السلمية بحقوقه المشروعة والعادلة والتي جسدتها احتجاجات جمعة الغضب وجمعة الكرامة, والتي كان أبرزها: محاربة الفساد الإداري والمالي وتقديم رموزه للعدالة, وإيجاد فرص للعمل والقضاء على البطالة في عراق يجلس على بحيرة من النفط الأسود وتختلس فيه عشرات المليارات من الدولارات بين ليلة وضحاها, وتأكيد حقوق الطفولة والنساء, وتوفير الخدمات العامة من كهرباء وماء وصحة وغيرها, ومحاسبة المزورين, ومطالبة البرلمان بالالتزام والعمل النزيه والاستماع إلى معاناة الشعب الحقيقية, وجميعها مطالب الحد الأدنى في المجتمعات التي تريد أن تبني فعلا ديمقراطية بالأفعال لا بالأقوال والتحايل على الديمقراطية, فقد استنفرت القوى الحاكمة وبكل ما تملكه من أجهزة أمنية ومخابراتية ومؤسسات دينية والتي يفترض أن تقف إلى جانب مطالب الشعب العادلة وتفهم حقوقه المطلبية, إلى أن تقف موقف الريبة والتشكيك وإضفاء المشهد التآمري على المنتفضين عبر " سيمفونية عودة البعث ورموزه " !!!!.

وما يؤكد عدم صدق الحكومة وهاجسها المرضي, هو أن الكثير من المتظاهرين, سواء من انضوى منهم تحت ألوية الأحزاب الإسلامية الدينية الطائفية أم خرجوا فرادا, هم في السابق من البعثيين, فهل تحارب الحكومة وتحتاط من نظام البعث المنهار والته القمعية الغير موجودة, أم تحارب أناس ذو مطالب عادلة وباختلاف النوايا ماداموا غير مسلحين ولا يهددون سقوط النظام, وإذا كان النظام الديمقراطي الجديد في العراق يخاف من البعثيين والقاعديين, فأين الجماهير الفعلية التي تحمي النظام الديمقراطي, فعلى النظام الديمقراطي أن يثق بنفسه وقدراته قبل أن يشكك بنوايا الآخرين مهما كان حجمها. أن الخلط بين النظام السابق المنهار والته القمعية والمخابراتية " البعبع الغائب ", وبين شرائح من المتظاهرين ذو الأصول البعثية, هو خلط لا يقتنع به عاقل في السياسة, وإذا كانت جماهير البعث المنهار تساوى بقدراتها النظام السابق بعدته وعدده وقدراته, فأين قدرات البديل الديمقراطي وأين حماته وأين هي القدرات الذاتية بعد مضي ثماني سنوات من سقوط النظام, أم هي كلمة حق أريد بها باطل, أم هي فوبيا البعث التي تلاحق الحكومة إلى الأبد وتدفعها لإلحاق القتل والضرر والرعب في نفوس المتظاهرين ودفعهم للقنوط و السكوت  عن مطالبهم كما كان يفعل النظام الساقط !!!!.

أن أوساط شعبنا تعرف تماما أن شرائح واسعة من المحتجين والمطالبين بحقوقهم هو من القوى الوطنية والتقدمية واليسارية والشيوعية, ومن بينهم الكثير من الشيوعيين القدامى والذين لا يمارسون عملا حزبيا اليوم, والجميع قدم تضحيات جسيمة في ظل النظام الدكتاتوري السابق والحق بهم الظلم والغبن الاجتماعي وزجوا في غياهب السجون لسنين وفقدوا ابسط الامتيازات, فهل كان رئيس الوزراء المالكي بانفعالاته السلبية الضارة بإصداره الأوامر لأجهزته بغلق مقرات الحزب الشيوعي وحزب الأمة وما سوف يتبعها من أحزاب وطنية هو جزاء لما قدموا من تضحيات أم هو إنذار لبدء حملة تنكيل بالقوى الوطنية ودفعهم خارج الحدود كما فعل النظام الساقط, ولكي يصح القول في النهاية " ظل الدار لمطيرة وطارت بيه فرد طيرة " !!!.

وتتدخل الفتاوى الدينية أشبه " بقوات التدخل السريع " في العلن والخفاء وكعادة تدخلها في الانتخابات السابقة وغيرها لتلقي بضلالها على تعقيد الموقف السياسي في العراق, ومنع المتظاهرين من المطالبة بحقوقهم والتعبير عنها, فهي أعطت للناس شكليا حق التظاهر ومنعته فعليا بتصريحات قبل التظاهر, وما علاقة مرشد الثورة الإسلامية في إيران علي خامئني بأن يفتي بمنع التظاهرات في العراق, وإذا كان بعض من القوى السياسية الدينية في العراق تقلده فهل هذه الفتوى في محلها !!!. نحن نعلم في اللغة أن المظاهرة تعني: المعاونة والتظاهر: التعاون, واستظهر به, استعان به, والظهارة ضد البطانة, والمظاهرة حتى من ناحية جوازها دينيا فهي تعني:

ـ إعلان لمشاعر المسلمين وإظهار لقوتهم.

ـ إنكار الظلم وأمر بالمعروف, ونهي عن المنكر.

ـ أنها وسيلة مشروعة, ووسيلة إعلامية.

ـ ويؤكد الكثير من المشرعين إن المظاهرات هي في معرض الوسائل التي استخدمت منذ بدء الإسلام, ولا يجوز فيها إراقة الدماء, وهي واجبة عندما لا تكون هناك وسيلة لتغير المنكر أو للحصول على حق, أو دفع للظلم.

ألا تكون الشروط أعلاه هي كافية في العراق للتظاهر, فلماذا استخدام الخطاب أو الفتاوى المراوغة التي تضع الناس في حيرة من أمرها, وهي بأمس الحاجة للظهور والاحتجاج للتعبير عن مرارة العيش وحتى في الحفاظ على دينها الحنيف, وإذا كانت حكومة المالكي قد تجاوزت على حق الشعب في التظاهر دستوريا, فيجب على الأقل أن تفهم هذا الحق دينيا !!!.

أما من ناحية الفطرة الإنسانية, فأن سلوك التظاهر إن كان تأييدا أو احتجاجا فهو يعد من ضمن ردود الفعل الطبيعية للفرد منذ طفولته الأولى. إذ تبدأ مظاهر الاحتجاج لدى الطفل مع حرمانه احتجاجا ورفضا, وضحكاته وتصفيقه تقبلا وتأييدا. ومع نمو الطفل وتنشئته وتطبيعه اجتماعيا تتخذ المظاهرات طابعها الممارس من قبل البالغين في الساحة السياسية متأثرة بالظروف الثقافية والسياسية والإرث الاجتماعي, ففي المجتمعات الديمقراطية العريقة يدخل التنظيم ليضفي على المظاهرات السياسية بعدا أكثر عقلانية من حيث بدايتها ونهايتها وشعاراتها الأساسية. ونعتقد أن المظاهرات السياسية الأخيرة في العراق تأثرت كثيرا بالإرث السياسي للقوى الوطنية والتقدمية واليسارية, فقد اتسمت بالكثير من الايجابية والانضباط والحرص الشديد على الأداء المتميز وحتى باعتراف المسئولين العراقيين في الحكم وعلى رأسهم المالكي, مما يسقط فكرة المؤامرة والانصياع وراء الحماس اللاعقلاني أو إنها تحرك بأصابع مشبوه داخلية وخارجية, وهي ليست حشود قطيعيه هستيرية ولا قاعدية كما توقعها البعض, ولا حشود لمشجعي فريق كرة قدم ... إنها مظاهرات مطلبيه بامتياز تجري بعد سقوط النظام السابق منذ ثماني سنوات وفي ظل تدهور مستمر في مختلف مجالات الحياة وعدم وضوح الرؤى في قضايا مفصلية تهم مستقبل العراق وأبنائه !!!!.

       

270
في سيكولوجيا نظام الخيمة المتنقلة واللون الأخضر !!!!

" على الباغي تدور الدوائر "
                            مثل عربي



د.عامر صالح


أن جميع المتابعين للوضع السياسي الليبي يعرفون تماما كم هي التكلفة الحقيقية والضخمة من التضحيات البشرية التي تستدعيها عملية التغير لهذا النظام, والناتجة من شراسة آلة القمع والدكتاتورية وتفرد هذا النظام, والعيش طيلة أربع عقود في " دولة " تفتقد إلى ابسط المفاهيم الخاصة ببناء الدولة المعاصرة وبنائها المؤسساتي من جيش وشرطة ودوائر حكومية ومؤسسات مدنية وغيرها, فالنظام الليبي فريد من نوعه في المنطقة في خلط أوراق اللعبة السياسية في الداخل والخارج إلى درجة خارقة ـ ساخرة تفتقد إلى العقلانية والمنطق وابسط مقومات المعرفة السياسية, ابتداء من مفهومه للمؤتمرات الشعبية, واللجان الثورية, والتي تمثل الأولى تزوير لمفهوم البرلمانات المعاصرة والانتخابات الديمقراطية الحرة, والثانية هي جهاز قمعي ومستبد بامتياز بكل فروعه الممتدة في كل ليبيا ومؤسساتها ودوائرها. فعلى قدر دكتاتورية النظام تأتي التضحيات المكتوبة على جبين الشعب الليبي المناضل حقا والذي يواجه الرصاص الحي لأجهزة النظام القمعية وجيوش المرتزقة الأجانب !!!!.

لم تعرف " المؤسسات " الليبية اللازمة لبناء مقومات الدولة الحد الأدنى من الاستقرار والسلامة والنزاهة, فالفساد الإداري والمالي والعبث بمصائر الناس يبدأ من العبث بشؤون الأسرة مرورا بالمدرسة والجامعة وانتهاء بكل مفاصل المجتمع و " الدولة ", فخلف واجهات شعارات مزيفة " الشعب يحكم وبيده المال والسلاح والسلطة " !!!! تعم الفوضى في كل جسد المجتمع الليبي وتستباح كل الحرمات, وعلى سبيل المثال لا الحصر, عندما تراجع أي دائرة صغرى حكومية أو كبرى, لا تعرف من يحكم ومن يدير هذه المؤسسة, أو كما يقال في ليبيا اختزالا للفوضى في عموم دوائر الدولة بالقول: " لقد ضاعت المطالب في دولة الله غالب ", وتعني " الله غالب " أي أن الله يحل مشكلتك, وتقرأ هذه العبارة في ليبيا بأنه" لا حل لمشكلتك مغلفة بمشاعر اليأس المطلق " ..... لا حياة لمواطن يصرف له راتبه كل ثلاثة أشهر أو أكثر أو لا يصرف, ويعيش منذ عقود على البطاقة والحصة التموينية, في ظروف يمتلك فيها " القائد " المملكة البترولية ـ حسب ويكليكس ـ , لا حياة لشعب لا يعترف فيه ألقذافي بأنه الزعيم الفعلي للبلاد وهو المسئول الأول والأخير لما يجري فيها, بل يجري تزيف وعي الناس والتجاوز على ذكائهم الاجتماعي, بأن ألقذافي هو مجرد قائد للجماهير, وأن من يحكم هو الشعب, لكي يدع الشعب يسبح في مستنقع الفوضى العارمة, ولكي يحمل ألقذافي الشعب مسئولية ما يحصل من فوضى وتآكل لمؤسسات الدولة التي لا تعرف الاستقرار أبدا ..... وبالتالي يحق للقائد التدخل في اللحظة المناسبة ليصفي ويقتل من يشاء على خلفية تهم الفساد والخيانة المفتعلة لتضمن بقاءه واستمراره, وهي اغلبها تصفيات سياسية, حيث أن الفساد يبارك من قبل القائد, فهو جزء من منظومة النظام السياسية والإدارية والاقتصادية وعليه يتكأ النظام بالكامل ويشكل احد مصادر ديمومته الشكلية !!!!!.

أن النظام الليبي وقائده كان مصدرا للسخرية في الداخل والخارج, ابتداء من وصف نفسه بأنه " ملك ملوك أفريقيا "  لا بل انه " زعيم العرب واسيا وأوربا والعالم " ـ حسب خطابه الأخير ـ انه مبتلي ببارانويا " هذاءات " العظمة, وأن صفة المجنون لصقت به قبل غيره من الحكام العرب طوال حكمه. وقد سبق ذلك واقعة " الكتاب الأخضر " والذي اعتبر بموجبه أن الفكر الإنساني وما أنتجه من قيم إنسانية في الحرية والديمقراطية والبناء المؤسساتي لا قيمة له وهو شديد الضآلة والقيمة قياسا بهذا الكتاب, بل اعتبر هذا الكتاب هو " قرآن العصر ", مما تعرض ألقذافي إلى الإدانة والاحتجاج من قبل الرموز الدينية من داخل ليبيا وخارجها لتجاوزه على مشاعر الناس ومعتقداتهم الدينية, بسبب من دخول " الكتاب الأخضر " كمنافس لكتاب الله, وقد فرض حمل الكتاب الأخضر واقتنائه في كل الأمكنة والمناسبات, وكرس أموال طائلة في الداخل والخارج لترجمته إلى مختلف اللغات وتوزيعه على نطاق واسع, وقد وجد الكثير من " الكتاب " و " المترجمين " ضالتهم للحصول على الأموال جراء ترجمته والتعليق عليه !!!!.

لقد عبث ألقذافي حتى بالألوان فأضفى على الحياة اليومية إلزامية اللون الأخضر, ابتداء من كتابه المغلف بالغلاف ذو اللون الأخضر وانتهاء بالطلاء الأخضر للبنايات الرسمية والأهلية وملابس مليشياته المسلحة, فاعتبر اللون الأخضر في ليبيا رمز الولاء للنظام وبطانته, متجاوزا المعنى السيكولوجي لهذا اللون الذي يعتبر من انسب الألوان لغرف النوم, لأنه يؤدي إلى الاسترخاء الذهني والعقلي الذي يوصف بأنه قادر على غسل متاعب يوم كامل خلال دقائق قليلة, كما انه من الألوان الملائمة لواجهات المحال التجارية, إذ يجعلها من الأماكن التي يدخلها الزبائن بطريقة تلقائية, وعلى ما يبدو فأن نظام ألقذافي اختار هذا اللون كواجهة مزيفة للتضليل على متاعب الناس وبؤسهم وإذلالهم وترك الانطباع الزائف أن الحياة هنا تجري كما هي في حقيقة انعكاسات اللون ذاته !!!!!.

كما استخدم ألقذافي الخيمة العربية والتي هي رمز للضيافة وتبادل الحوار والآراء بين صاحب الخيمة وضيوفه وحل المشكلات المستعصية, كوسيلة لإثارة الصراعات والاستفزازات بينه وبين ضيوفه ومضيفيه, وكان يعتبر نصب اوتداها في الخارج شرطا لحلوله ضيفا في الخارج. وخيمة ألقذافي المتنقلة هي خيمة كاملة ونسخة من خيمته المنصوبة في ليبيا بجانب أنقاض مقره في باب العزيزية في طرابلس الذي دمر في غارة أمريكية عام 1986 , وقد بلغت كلفتها 300 آلف دولار ويستغرق تجهيزها ونصبها بضعة أيام, وتتكون من جدران من القماش وأثاث خشبية فاخرة وبسط ومصابيح كريستالية معلقة( حسب أمال الهلالي ), وكثيرا ما سببت خيمة ألقذافي, التي لم يتردد في دق أوتادها قرب قصر " الاليزيه " في فرنسا وحدائق الكريملين في موسكو وشوارع نيويورك و روما لاستقبال ضيوفه ومضيفيه من قادة الدول والدبلوماسيين, وكانت تسبب خيمته المتنقلة الحرج للحكومات المضيفة وتثير حنق الرأي العام قبل أي زيارة مرتقبة, نظرا لما تسببه من إحراج قانوني لسلطات البلديات المحلية لتعارضها مع القوانين المرعية في استخدام الأرض والبيئة والمنطقة لنصبها !!!!.

ومن الناحية النفسية فأن الزعيم الليبي هو أكثر الزعامات العربية استخداما للحيل الدفاعية النفسية المفرطة, فهو يرى أن ما يجري في ليبيا اليوم هو بفعل أجندات خارجية ومؤامرات مبيته من الغرب والاستعمار, وليس بفعل عوامل الفقر والجوع والفاقة وما يترتب عليها من اختمار لعوامل الثورة, وهو ما نسميه بعلم النفس بمفهوم " الإزاحة ", كما يرى في الاستعلاء وسيلته النفسية الدفاعية لحماية نظامه من السقوط, فهو يتصور انه يختلف عن الحالة المصرية والتونسية, وبالتالي ينفي على نفسه ومجتمعه مبررات التغير, كما أن الإنكار النفسي وهي آلية نفسية يعرفها الجميع لدى النظام الليبي, فهو المسبب للمشكلة ويتساءل عن المسبب " يقتل الشخص ويمشي وراء جنازته ", أو يرى جموع الثوار في مختلف المدن الليبية بأنهم قلة أو شلة من المتمردين سوف يتم القضاء عليهم, لكي يضمن لنفسه نوع من التوازن وعدم الانهيار, كما يتأرجح ألقذافي بين الإفراط في القتل والاعتذار والوعود بمزيد من الإصلاحات التي لم تنتهي بعد, أو كما ورد على لسان ابنه بأنه: " يوعد الشعب بجماهيرية ثانية وخلاص مع الجماهيرية الأولى !!!!!" ويشرعن القتل وتبريره فيزيد من شرارة الغضب والتحام جماهير الثورة.

أن عصر التغير المعلوماتي والثورة التكنولوجية وما تبعته من ثورة الفيسبوك ليست بمعزل عن قطف ثمارها من قبل الشعب الليبي, فقد تفتحت أمامهم آفاق وتطلعت أعينهم على بقية الشعوب الأخرى التي تعيش في عز ورفاه وديمقراطية حقه, وأن الدول الأوربية تطل على الجهة الأخرى من ساحلهم البحري " البحر المتوسط ", فقد تطلع الشعب الليبي إلى تجارب تلك الدول فتاقت أنفسهم إلى الحياة الحرة الكريمة, وان خزين الشعب الليبي من الكتاب والمفكرين والأساتذة والعلماء ليست بالهين لإرساء دولة المؤسسات. ويتضح أن الشباب الليبي عازم على مواصلة الثورة حتى الإطاحة بالنظام الفاسد ورأس هرمه ألقذافي وعائلته وحاشيته والمقربين منه ...النصر كل النصر للشعب الليبي البطل !!!!.


271
التخلف العقلي والعقل المتخلف: مدخل في سيكولوجيا تشوهات الوعي !!!!

" ذو العقل يشقى في النعيم بعقله    وأخو الجهالة بالشقاوة بنعم "
                                                                    المتنبي



د.عامر صالح

إن الدماغ الإنساني باعتباره الأساس المادي للعقل هو المنجز التاريخي والبيولوجي الذي أحرزه الإنسان في عملية الصراع من اجل بقاء أفضل, وهو أداته الأساسية في تحسين ظروف وجوده وصولا إلى العيش الكريم والحرية والكرامة الإنسانية, وأن التعقيد التركيبي والوظيفي للدماغ هو من أرقى المنجزات النوعية للإنسان, وأن ما يصدر من نتاج وانجازات في نطاق العلم والثقافة ومختلف المعارف هي نتاج الدماغ ووسيلته الأساسية لتذليل صعوبات ظروف العيش والسيطرة على الطبيعة وتطوير وتحسين ظروف الوجود المادي والفكري.

وترد في العلوم مترادفات كثيرة بهذا الخصوص, منها: الدماغ, والعقل, والعمليات العقلية العليا والنشاط العصبي الأعلى, فالدماغ يرد في علم التشريح للدلالة على مكوناته الأساسية " المخ, والمخيخ والنخاع المستطيل " والأجزاء التفصيلية لها, والعقل يرد في الفلسفة ليجسد مفهوم الوعي والوظيفة التي يؤديها الدماغ, أما بالنسبة للعمليات العقلية في علم النفس, والنشاط العصبي الأعلى في الفسيولوجية " علم وظائف الأعضاء " فيقصد بها مجمل الوظائف التي يقوم بها الجزء الأعلى من الدماغ " المخ والقشرة الدماغية " , والمتمثلة بالتذكر والتخيل والتعلم والتصور والانتباه واللغة ورسم الخطط والبرامج المختلفة وضبط السلوك الظاهر والخفي وممارسة النقد والنقد الذاتي وإطلاق الأحكام المختلفة, وهو مستقر القناعات الفكرية والسياسية والفلسفية, وبالتالي تشكل العمليات العقلية العليا مستقر حال الشخصية الموجهة إلى الخارج في التفاعل اليومي, والى الداخل باعتبارها كيانا ذاتيا ترسم معالم شخصية الفرد وأنساقه الفكرية والعقلية !!!!.

أن معطيات علم الدماغ الحديث وعلم الأعصاب وعلم الأمراض العقلية أكدت بما لا يقبل الشك أن الدماغ هو الأساس المادي الذي يحرر مختلف الوظائف النفسية والعقلية, وهو مصدر المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية في حالتي الصحة والمرض والاضطراب. وعلى خلفية ذلك نشأت القطيعة المدعمة بالبراهين بين وظيفتي القلب والدماغ, فبالنسبة للعلم تنحصر مهمة القلب ودوره في ضخ الدم في جسم الإنسان, ولا يشار إلى أي شيء يؤكد على أن القلب يمتلك مقدرة إدراكية ومعرفية وانفعالية, فالدماغ البشري هو وعاء العقل وصاحب السلطة الشاملة في نظر العلم الحديث في ميدان الأفكار والمشاعر والعواطف والأحاسيس.

أما الرؤية الدينية القرآنية فتؤكد عدم جواز الفصل بين العقل والقلب, وإنما يوجد وحدة وتميز بينهما بنفس الوقت, ففي القران يمثل القلب والعقل كينونتين. ففعل " عقل " ورد تسعا وأربعين مرة في القرآن بصيغ مختلفة ولم تذكر لفظة ( العقل ), أما مفردة "القلب" أو " قلب " فكان ورودها مائة وأثنين وعشرين مرة, وأن القرآن لا يرى ضرورة القطيعة بينهما, بل يؤكد على واقع الالتقاء بين العقل والقلب, ولعل سورة الحج, الآية (46 ) تمثل ذلك بوضوح حيث تشير: " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب في الصدور), وحسب تفسير النص دينيا فأن القلب يمثل هنا تلك القوة التي تقف وراء العقل ولا نستطيع تحديدها تحديدا ماديا, فالقلب هنا يرى الوجود بعين البصيرة لا بعين البصر ويدرك الحقيقة من الداخل لا من الخارج أو الظاهر.

ومسألة العقل يشار إليها في الفكر الصوفي على أساس أنها " آلة القلب " في الإدراك, كما تعني في الوقت ذاته " إدراك النفس ", وإحاطتها بالأمور, وتميزها بين الأشياء, وهذا التحديد الصوفي يؤكد أن العقل, والقلب, والنفس شيء واحد, كما أن الروح, والنفس يشتركان في المعنى الإدراكي, والمعنى المتعلق بتدبير وتسير الإنسان في جملته, ومن نتيجة هذا أيضا أن العقل ليس بعضو بقدر ما هو صفة للنشاط الباطني للإنسان, وهذا التحديد الأخير يوازي طبيعة النفس, والقلب, والروح من حيث المفارقة لمفهوم المادة. وقد كان هناك اختلاف حول مكان العقل عند المسلمين, هل هو في القلب, أو في الدماغ, أو مشترك بينهما, حيث ذهب الإمام أبو حنيفة ( 699 ـ 767 م ) إلى أن مكان العقل هو الدماغ, وذهب الشافعي ( 766 ـ 820 م ), وغيره الكثيرين إلى أن مكانه القلب, وهو مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الأشياء كلها, وقيل أيضا هو مشترك بينهما. ورغم هذا الاختلاف الحاصل حول مكان العقل إلا انه  كان ينظر إليه عند المسلمين نظرة بعيدة عن مفهوم العضو المادي, وكان غالبا ما يشار إليه بمعاني " النور الروحاني ", أو " قوة التميز ", أو القوة المتهيئة لقبول العلم, أو نور في بدن الآدمي يضيء به طريقا  يبتدئ من حيث ينتهي درك الحواس, أو " نور معنوي في باطن الإنسان ", أو " صفة غريزية " أو " ملكة الاستنباط. وهذا التركيز البعيد عن مفهوم المادة راجع إلى مذهب أهل السنة في أن العقل والروح من الأعيان وليسا بعرضين كما ظنه المعتزلة وغيرهم.

ويؤكد نقاد الفكر الديني من أن محدودية المعارف العلمية آنذاك والسبق الزمني في الإحاطة ومعرفة القلب دون غيره من الأعضاء المعقدة كالدماغ كان هو سيد الموقف, مما جعل القلب يتبوأ مكانة مبالغ فيها تتجاوز حقيقة وظيفته الأساسية المتمثلة بضخ الدم فقط, وبنفس الوقت كان الغموض والحدس والتأمل الذاتي في فهم طبيعة العقل هو الآخر ألقى بضلاله   في عدم فهم طبيعة العقل ومكانه, وترك ذلك للاجتهاد بعيدا عن التجريب بسبب من ظروف العصر المتخلفة آنذاك وانعدام الأدوات العلمية للوقوف على طبيعة العلاقة بين العقل والدماغ, كما نراها اليوم, حاله حال الكثير من القضايا في مختلف العلوم !!!!.

لقد أدى تراكم المعرفة العلمية حول الدماغ وتطور وسائل البحث العلمي فيه إلى حسم الخلاف لجهة العقل ذو الأسس الدماغية, بعيدا عن التأملات الخالصة أو الذاتية, ويكفي اليوم أن يصاب الإنسان بمرض عقلي أو آفة دماغية ليتحول إلى إنسان آخر لا عقل له, أو يتناول بضعة أقراص طبية يقررها الأخصائيون أو جلسات نفسية علاجية ليعود المريض إلى رشده " عقله أو وعيه ". وتؤكد العلوم العصبية والنفسية انه لكي ينشأ العقل " الوعي" كوظيفة للدماغ لابد من توفر مقومين رئيسين هما: الأساس البيولوجي والتشريحي السليم للدماغ, وبيئة اجتماعية وثقافية وتربوية مناسبة. وهنا كما يقال تجري الرياح بما لا تشتهي السفن, فالبيئات الاجتماعية متنوعة بشكل لا نهائي متأثرة بمنظومة العوامل المجتمعية: الاقتصادية, والاجتماعية, والفكرية, والثقافية, والسياسية, والتربوية والتعليمية, والفلسفية, تبدأ بتأثيراتها منذ اللحظات الأولى لولادة الطفل وحتى أثناء فترة الحمل, ثم من تأثيرات الوالدين والإخوة والبيت والشارع والمدرسة صعودا إلى دوائر التأثير الأوسع في نطاق كل محتويات البيئة من عوامل لا حصر لها, مما يشكل أرضية لتنشئة اجتماعية من نمط معين, مما تسهم بدورها بتشكيل عقول متباينة, هذا على افتراض أن الدماغ يمتلك مقومات فيها مقدار من السلامة العامة والصحة, ونعني بها الأسباب الوراثية, أسباب أثناء الحمل وقبل الولادة, وظروف أثناء الولادة وظروف ما بعد الولادة, والتي تشكل جميعها عوامل مصاحبة و لازمة للتفاعل مع معطيات البيئة وعواملها المعقدة الأنفة الذكر !!!!!!.

وخلاف ذلك فأن انعدام أو ضعف مقومات الصحة العامة في الأسباب المختصرة التي ذكرت أعلاه قد تؤدي إلى ضعف في الوظائف العقلية, مما تؤدي إلى تدهور في كفاءة الجهاز العصبي والدماغ منه بشكل خاص, مما يترتب عليه انحراف دال في المستوى الوظيفي للذكاء العام " أقل من متوسط الذكاء ", حيث يبلغ متوسط الذكاء بين 90 ـ 110 درجة حسب تصنيفات تيرمان , وهناك تصنيفات أخرى تزيد أو تقل عن هذا المتوسط بقليل, ويصاحب هذا الانحراف خلل واضح في بعض من الوظائف العقلية التكيفية منها: الاتصال, العناية الشخصية, الحياة المنزلية, المهارات الاجتماعية, توجيه الذات, المهارات التعليمية" التذكر,الانتباه, اللغة,  التركيز, الحفظ, التقويم والنقد وغيرها ", العمل, الاستمتاع, الصحة, الأمان. وتظهر تلك الملامح قبل سن الثامنة عشر, ويظهر هذا الخلل بصفته عملية تؤثر في أداء الجهاز العصبي المركزي, نحن هنا أمام ظاهرة متعارف عليها في العلوم السيكولوجية والتربوية بمصطلح التخلف العقلي أو التخلف الذهني أو الفكري. وتصنف هنا الإعاقة العقلية حسب درجة الذكاء إلى ما يأتي " حسب التصنيف السيكولوجي ":

ـ المأفون وتتراوح نسبة ذكائه بين 50 و 70 درجة

ـ الأبله, وتتراوح نسبة ذكائه بين 50 و 25 درجة

ـ المعتوه, وتكون نسبة ذكائه أقل من 25 درجة

وهناك تصنيفات أخرى لا يسع المجال لذكرها, كالتصنيف الاجتماعي, والتربوي, والتصنيف متعدد الأوجه, والتصنيف حسب مصدر العلة وغيرها, وأن هؤلاء الإفراد المصابين بالتخلف العقلي يصار أمرهم إلى المدارس الخاصة لذوي الإعاقات لتقديم البرامج التربوية والتعليمية المناسبة لهم, وكل حسب أعاقته. ويكون هنا قدر الإنسان وطاقته الدماغية المحدودة لينهل بهذا القدر أو ذاك من البيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة به وليشكل عقله بطريقة ما, فهو مجبر على ذلك بحكم ظروف وراثته أو ظروفه أثناء الحمل به أو أثناء ولادته وما بعد ولادته, فهو لا خيار له, وعادة ما تنحصر تأثيرات أعاقته على شخصه فقط ككيان اجتماعي, إضافة إلى تأثيراتها النفسية على الدائرة الأقرب له المتمثلة بالأهل أولا  وقبل كل شيء !!!!.

أما أن يكون الإنسان سليما من الناحية الصحية العامة وخاليا من العاهات العقلية بالمفهوم " الطبي " ويتمتع بدرجة ذكاء تصنفه ضمن الناس العاديين, الأمر الذي يسمح له بتأدية أدواره الاجتماعية بشكل مستقل نسبيا, وقد يتبوأ منزلة ما في السلم الاجتماعي أو الوظيفي, وقد يكون قائدا سياسي, أو إداري, أو ديني, أو مشرعا, أو فقيها أو قائد ميداني لمجموعات اجتماعية, ولكنه يتفاعل مع عوامل البيئة المحيطة والوجود, بما فيها من تعقيدات الفكر والثقافة والاجتماع والاقتصاد والفلسفة والعلاقات الإنسانية ومختلف العلوم, بعقلية دوغماتية متحجرة, فنحن هنا ليست أمام ظاهرة " التخلف العقلي" التي تعرضنا لها سابقا, بل نحن هنا نتعامل مع ظاهرة تشكل نموذجا لمفهوم " العقلية المتخلفة ". والعقلية الدوغماتية هنا هي العقلية الوثوقية, التي تثق بمعارفها ثقة عمياء و مطلقة تمنع من اكتشاف نواقصها أو التغيرات التي تجري عليها بمرور الزمن, وهي تعمل بالضد من طبيعة العقل الإنساني التواق إلى النقد والإصلاح واكتشاف الجديد الصالح لضرورات الحياة, والعقل الدوغماتي ليست محصورا بعقيدة ما, بل يشمل عقائد وأيديولوجيات مختلفة, من دينية وسياسية وفلسفية, فهو آلية للعقل قي العمل, وبالتالي قد يشمل عقائد وإيديولوجيات متباينة فيما بينها, فالعقلية الدوغماتية هي واحدة وأن اختلفت العقيدة التي تحملها, لأنها تمثل طريقة عمل, وقد يكون الاختلاف في الدرجة لا في النوع. ويستند العقل الدوغماتي إلى المواقف الحدية والمتطرفة من مجموعتين من الأفكار والمبادئ, فهو من جهة يؤمن إيمانا مطلقا بمجموعة من المبادئ ويتشكل منها ثم بنفس الوقت يتخذ موقفا حادا وعدائيا من الأفكار المغايرة لما يؤمن به. ويؤكد المفكر " ميلتون روكيش " أن هناك مجموعة من المعايير " كما عرضها هاشم صالح في مقدمته لكتاب محمد أركون: الفكر الإسلامي ... قراءة علمية, وعلق عليها لاحقا الكاتب عبد الله المطيري, كما سأقوم بمطاوعة نصوصها لطبيعة المقال " يمكن من خلالها تحديد درجة دوغمائية أو تحجر عقل ما. من أهمها:

1 ـ يمكن تحديد دوغمائية عقل ما من خلال حدة أو شدة فصله بين المعتقدات التي يقتنع بها والمعتقدات التي يرفضها, حيث لا يستطيع أن يتصور أن في العالم سوى فريقين, فريقه هو وفريق خصمه, وأن هذا الحد أو الفصل يلغي منطقة الوسط. ومن أجل أن يحافظ العقل الدوغماتي على هذا الفصل الحاد فأنه يؤكد باستمرار على الخلافات بينه وبين المخالفين له, وأن اغلب خطاباته توجه لتحقيق هذا الهدف مما يضمن له تجيش أتباعه وشحنهم بشحنة انفعالية سالبة تسهل سوقهم كالقطيع بأي اتجاه يريد. أيضا يهاجم هذا العقل أية محاولة للتقريب والحوار بين الطرفين. أيضا يلجأ العقل المتحجر إلى تجاهل وإنكار الوقائع والأحداث التي تكشف زيف ادعاءاته. أيضا لدى العقل المتحجر قدرة على تقبل التناقضات داخل منظومته الفكرية. هذه العقلية بصورة عامة تشكل أرضا خصبة للسلوك الإرهابي, ولا تؤمن بالحوار بين الأديان والعقائد الأخرى,كما يتصور عالمه " على سبيل المثال العالم الإسلامي " بالعالم المتحضر والمتقدم والعالم الآخر " الغربي " يقبع في الجهل والظلام متجاهلا كل الحقائق الموضوعية التي تنفي إدعاءه, وهذا العقل أيضا يكفر الآخر ويلغيه بكل الوسائل المتاحة وبشراسة.

2 ـ من معايير الحكم على عقل ما بأنه دوغماتي متحجر أنه لا يميز بين العقائد والأفكار التي يرفضها. فهو يضعها في سلة واحدة هي سلة الخطأ والضلال, دون أن يكلف نفسه بالبحث في نقاط الالتقاء والتقارب مع الأفكار المخالفة. ونلاحظ ذلك بشكل واضح لدى الأوساط الإسلامية المتشددة عندما يجمعون غير المسلمين كلهم في دائرة الكفار, وكذلك ما يمارسه الكثير من الدوغمائين الايديولوجين وحملة العقائد السياسية من إلغاء للآخرين وعدم الاعتراف بهم بعيدا عن التفاصيل التي تميز بينهم.

3 ـ كما أن من معايير انغلاق عقل ما وتحجره هو الوثوقية المغرقة وتكاثر المسلمات في منظومته الفكرية. فأن كانت كل منظومة فكرية تقوم على عدد بسيط من المسلمات تؤسس للفكر ثم تترك الحرية للناس أن يجتهدوا, فأننا نجد أن مسلمات العقل الدوغمائي تتوالد باستمرار لتقفل كل منافذ للاجتهاد والتفكير. ولذا نجد عندنا أن مقولات لأشخاص عاشوا في القرن الثامن الهجري تتحول إلى مسلمات لا يجوز النقاش حولها أو نقدها. وكذلك نجد أن التفاسير والشروح والفتاوى تتحول من كونها اجتهادات بشر تقبل الصواب والخطأ إلى كونها مسلمات وثوابت لا يجوز المساس بها, ومن أقترب منها تعرض لأصناف الهجوم من تكفير وتفسيق وتضليل وغيرها من أدوات الإقصاء. كما نلاحظ اليوم في عالم السياسة والإيديولوجيات المنتشرة شيوع ظاهرة الحفظ والتلقين للمقولات والشعارات واختزال عالم السياسة المتنوع من خلالها وتحويلها إلى نصوص جاهزة تبنى عليها برامج " تنموية " دون العودة إليها ونقدها في عالم متغير, وقد تلحق أفدح الأضرار بنتائجها النهائية, وتشكل مقولات " قائد الضرورة " و " ملهم الشعب " و " حجة الإسلام " و " خليفة المسلمين " و " راعي الشعب " وغيرها من المسميات, استراتيجيات عمل لعقود قادمة جالبة المزيد من الكوارث !!!!!.

4 ـ تزداد وثوقية عقل ما وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصامات هائلة في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. العقل ألوثوقي المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته.

وتشكل هذه المعايير مدخلا ضروريا لتفكيك العقل المتخلف في بيئتنا العربية والإسلامية وتخليصه من ضعف الفاعلية و الاتكالية, وقلة الاكتراث بالوقت, وضعف المبادرة الفردية, والنمطية, والانفرادية, والشكلية, ومقاومة التغير, وضعف مثاقفة التساؤل, واضطراب منهجية التفكير, وقصور الفكر الجدلي وضعف الحاسة النقدية وغيره من ملامح العقلية المتخلفة. وإذا كان الشخص " المتخلف عقليا " يعاني منها لأسباب صحية وطبية لم تتيح له استثمار قدراته الدماغية, وبالتالي يستحق كل أسباب الرعاية التربوية والنفسية, فأن الشخص والأفراد ذوي " العقول المتخلفة والمتحجرة" والذين يمتد تأثيرهم إلى ملايين من الناس ويعرقلون بناء مستقبلهم, يجب أن تفكك هذه القدرات لديهم بسبب من مخاطرها على مستقبل شعوبهم, وأن تحجرهم العقلي ينطبق عليه ما يسمى " بالإعاقة العقلية المكتسبة " !!!!!!!.       



272
بين سيكولوجية الثورة وانفعالات حشود مشجعي فريق كرة القدم في محطات: تونس ـ القاهرة ـ بغداد !!!!

" عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه "
                                                                أبو ذر الغفاري


د.عامر صالح
 
تأتي المقارنة بين غضب الثوار وبين انفعالات الحشود المشجعة لفريق كرة قدم ليست من باب العثور على قرينة لتفسير الفعل الثوري من خلال رده إلى نمط من أنماط السلوك الشائع وإيجاد تبرير إلى حالة الهيجان العام التي يتمتع بها كلا الفريقين, فالأسباب تختلف عند كلا الطرفين وان ارتبطت لديهما بمفهوم الحافز المحرك للسلوك ودافعيته, كما تختلف مراحل وتطور مسار الأحداث لدى الثوار من حيث يفترض أن تكون هناك بداية ونهاية مدركة لها, الأمر الذي ينعدم هذا لدى حشود مشجعي كرة القدم, حيث انعدام المبرر المنطقي للانفعالات السلبية وعدمية جدواها بسبب من انعدام المبررات و الأهداف الواقعية لها, إضافة إلى قصر مداها الزمني وعادة ما تنتهي إلى الإخماد والتآكل دون تحقيق أي أهداف. ويأتي حديثنا هنا من باب رد الاتهام الموجه إلى الثوار بأن انفعالاتهم هي نسخة طبق الأصل من انفعالات حشود مشجعي فريق كرة القدم, ونحن نعرف أن الأعراض إذا تشابهت بعض الشيء لا يعني في أحيان كثيرة أن الأسباب واحدة !!!!!.

أن دافع الفوز بالنسبة لفريق كرة القدم ينبغي أن تسبقه سلوكيات مكثفة من التدريب المتواصل للفريق على فنون اللعب وخططه, أي التخطيط لذلك, أما الهوام أو الحصر النفسي لدى الجمهور بالفوز بأي ثمن لحيازة الكأس فهو سلوك مقطوع الصلة بالفريق وإمكانياته, وهو سلوك " الغاية تبرر الوسيلة ", فيشكل هذا السلوك دافعا للانفعالات السلبية الضارة, من اعتداء على الممتلكات العامة والفوضى العارمة والتقاتل مع جمهور أنصار الفريق الآخر, يصل أحيانا لحد الموت, دون القدرة على تقرير النتائج, لأن النتائج لا تقررها الأفعال العدوانية للجمهور, بل تقررها قدرات الفريق ومهارته, وهو لا صلة له بالجمهور المشجع, هذا النمط من التجمعات والسلوك الناتج عنه هو الذي نطلق عليه تجمعات " الحشود القطيعية " أو القطعان البشرية, حيث تسوقها الانفعالات البدائية المدمرة مما يجعلها بعيدة عن التفكير العقلاني والمنطقي ومستعدة لارتكاب اعنف الأعمال وأكثرها ضررا , يحركها التعصب الأعمى ونزعة الاستبداد والاستحواذ, وهي أسيرة اللاشعور حيث تنخفض لديها الطاقة الذهنية ومستوى التفكير العقلاني, وأن هذا السلوك القطيعي ليست حكرا أو خاصا بمشجعي فريق كرة القدم, بل يمتد وبشكل أكثر وضوحا لدى جمهور المتعصبين دينيا ومذهبيا  وسياسيا وقوميا وغيرها من التجمعات ذات الصبغة المنكفئة على الذات !!!!!.

أما الجوع الذي يحرك الثورات أو كما يقال " الجوع أبو الصراع الطبقي " فهو دافع غريزي يترتب عليه سلوك الحصول على الطعام, وهو على المستوى الفردي يرتبط بسعي الإنسان, والذي يفترض أن يكون نزيها, في الكدح والعمل من اجل تأمين لقمة العيش ولإشباع دافع الجوع, أما الجوع الجماعي المرتبط بالفساد والاستغلال وسوء توزيع الثروات فيكون وثيق الصلة بالتخطيط للفعل الثوري لأنه وثيق الصلة بالكرامة الإنسانية أو كما يقول المثل الايطالي" الجوع ألد أعداء الكرامة ", وأن الهدف من مجمل الأفعال الثورية الناتجة عن هذا النمط من الفقر هو إعادة توزيع الثروات بشكل عادل من خلال إعادة صياغة علاقات الإنتاج بين أطرافها الأساسية بشكل ايجابي !!!!.

أن الجماهير حين تعاني من الفقر طويلا وتستشعر الظلم أو الطغيان أو إهدار الكرامة قد تسكت لبعض الوقت ولكنها عند نقطة تنفجر انفجارا قد يبدو مفاجئا ولكنه ليست كذلك, فتتحول إلى قوة مدمرة للسلطة, وقد يمتد أثره إلى ابعد من السلطة, فالغضب الجماهيري يكون مثل الطوفان لا يعرف احد إلى أين سيتوقف ومتى, فبركان الغضب الخالص يسعى نحو التدمير والتغير ولا يوجد ميزان حساس في هذه الظروف يوازي بين قدرة تدمير النظام الحاكم ومؤسساته القمعية المرفوضة وبين قدرة التميز لحدود التغير المطلوب, ويزداد حدة أكثر عندما تنعدم القيادة الميدانية للأحداث, أي أن الانفجار يحدث في بدايته كبراكين غضب دون ترتيب سابق ودن هدف محدد غير الانتقام ممن قهرها وأذلها وجوعها وخدعها, لقد جسد هذا النموذج من الانفعالات بشكل صارخ في الحالة العراقية بعد سقوط النظام السابق, وجسدته بشكل اخف وطأة وأقل تأثيرا من الناحية السلبية في الحالتين التونسية والمصرية !!!.

أن الثورات اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي " للثورات المنظمة " كما كان يحصل في عقود خلت, حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية, تعقبها " ساعة الصفر ", فالأمر اليوم معكوس تماما, حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان الثورة ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها, فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية, أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة " على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا "!!!!.

إذا كانت الثورة الاجتماعية تعرف بأنها ذلك التغير الجذري, الذي يشمل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة, وتشكل تغييرا جذريا شاملا في المجتمع يؤدي إلى أحلال تشكيلة اجتماعية اقتصادية بأخرى أرفع مستوى وأكثر تقدما. وأنها تغيير جذري للنظام القديم, وإقامة نظام جديد ومؤسسات جديدة. أي إنها في الإطار العام قفزة للمجتمع من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما وتطورا ورقيا, فأن عوامل إحداثها اليوم يفوق حصرها في عوامل الفقر فقط, وان كان شرطا لازما لها, ولكن الثورة اليوم هي فعل مركب تتضافر فيه الكثير من العوامل في عالم متغير بدون انقطاع, فليست كل من جاع ثار على أوضاعه القائمة, وقد يكون هذا التعقيد في أسباب الثورات اليوم هو احد العوامل الأساسية التي جعلت الأحزاب السياسية تتأخر عن الحدث نسبيا, أما أهم ابرز عوامل الثورات فيمكن إيجازها فيما يأتي: الفقر وسوء توزيع الثروات وانعدام فرص العمل والتشغيل؛ انتشار الفساد المالي والإداري  وتأصله في الكثير من المجتمعات وهو جلي في الحالات التونسية والمصرية والعراقية؛ الانخراط الواسع في منظومة الاتصالات العالمية الحديثة واستعمال الوسائط الرقمية بكفاءة عالية وخاصة المنتديات الاجتماعية مثل الفايسبوك والتويترر واليوتوب وتشكيل منظومة من الاتصال الجماعي والإعلام الشعبي الموازي والمهدد لأعلام السلطات القمعية؛ الانفجار السكاني الهائل وارتفاع نسبة المواليد والتي تصل في الدول العربية إلى أكثر من 3% وهو نذير بمزيد من الفقر والمعاناة في ظروف عدم التوزيع العادل للثروات مما يخلق حالة من الوعي المتوقع بمخاطره كما تشكل فئة الشباب الكتلة الأكبر في التركيبة السكانية وذات المصلحة الأساسية في التغير؛ ازدياد الوعي والحماس اللازمين للتغير والذي يدفع صوب المزيد من الغليان الشعبي والغضب العام وتولد الاستعدادات الكبيرة للتخلص من النظم السائدة وإتباع كافة الوسائل بما فيها غير المعقولة والانفعالية والتي شاهدنا مظاهرها في التجربتين التونسية والمصرية؛ حالات اليأس الشديد من القيادات السياسية والدينية وتعويل الشباب على أنفسهم في قيادة التغير بعد المزيد من الإحباط والوعود الكاذبة في تحسين ظروف العيش والحياة الحرة, والحالة العراقية اليوم نذيره بمزيد من الانتفاضات الشعبية الناتجة من ضنك العيش وفقدان الثقة بالسياسين وخاصة بعد مرور ثماني سنوات على التغير دون جدوى؛ توظيف الموروث الفكري والسياسي والثقافي المناهض للفقر والحرمان وانعدام الديمقراطيات, ويشكل فكر اليسار الديمقراطي والقوى الوطنية قوة جذب نحو التغير لا يمكن التقليل من شأنها وقد بدأت ملامحها تتضح في الحالة العراقية في الكثير من الاحتجاجات والمظاهرات من خلال الشعارات ومستوى التنظيم والعطاء والمضي قدما لتحقيق الأهداف !!!!.

أن السياقات السيكولوجية التي يختمر فيها التغير الثوري تمر بمراحل تكاد تكون محكمة , وقد تتداخل فيما بينها استنادا إلى عوامل التعجيل" العامل الذاتي ومستوى التنظيم ", ولا صلة لها, حتى من حيث انفعالات الثوار بسيكولوجية مشجعي فريق كرة القدم " وان بدأت متشابه في بعض من أعراضها الأولى ", فهي مراحل تجسد علاقة القهر والاستبداد بين الحاكم المتسلط والإنسان المستضعف أو المقهور, وبالتالي فهي علاقات نفسية معقدة, وقد يبدو للبعض أن الثورة التونسية هي محض صدفة أطلقتها صفعة البو عزيزي وحرق نفسه وامتدت شرارتها إلى مصر والعراق دون سابق ممهد أو إنذار, ونحن نعرف أن النظم الدكتاتورية والظالمة والمستبدة لا تسقط بزلة لسان أو بخطأ ثانوي تقوم به, بل أن سقوطها يمر عبر تراكمات نفسية ـ اجتماعية يترك أثره البالغ في انضاج الثورة الاجتماعية, ثم يأتي الحدث المفاجأة ليقرر ساعة صفرها القاتلة, أما ابرز المراحل النفسية والاجتماعية التي يمر بها الفرد المواطن بالمتسلط الحاكم والتي تعكس بمجملها جانبا من الوجود, فأشير إليها بتصرف والتي ذكرها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه " التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور " فهي ما يأتي:

ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلة, التي تدوم فترة طويلة نسبيا, يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع, عصر الانحطاط, وتكون قوى التسلط في أوج سطوتها, وحالة الرضوخ في أشد درجاتها. وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخال) عملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهير, فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله, ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منه. ومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديره, فيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات, وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ " مازوخي " من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته, وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمها: عقدة النقص, وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله, والتي تجعله يحجم عن كل جديد, ويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعه, لذلك فهو لا يحرك ساكنا, وإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيه, وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد, تعلقا يغري بالتسلط والدكتاتورية, إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته, ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمله, فيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخلي, ولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية, وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين. وأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومة, حيث أن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي, وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل, ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار, مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره, ويحس انه لا قدرة له على مجابهتها !!!!.

ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين , بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. انه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه, أن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا, وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر, متهما إياه " بشكل توهمي " أنه يحسده ويريد أن يؤذيه, وهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلا. إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور, لكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد, مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة !!!!.

ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقه, وهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكالية, وقد يكون العنف والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيم, ولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالات, فأما إعادة دورة العنف أو الانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدمية, وهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير !!!.

ونحن إذ نقف إلى جانب ثورات وانتفاضات شعوبنا في تونس ومصر والعراق وغيرها, فنحن بأمس الحاجة إلى دور مميز للفكر والسلوك الاستراتيجيين الذي يغيب كل الغياب عن ساحة الصراع, حيث لا تزال قراءتنا للأحداث قراءة انفعالية وذات صبغة إيديولوجية متحيزة, ولكنها صادقة لأنها صادرة من الأعماق في الرغبة للإصلاح الجذري, وتصل بعض الأحيان إلى نمط من القراءة الانتقامية, لأننا نحمل "عقدة الثورة " والتي قد تصل الأمور إلى أبواب موصدة, وهي قراءة نافخة في الجماهير, ولكنها لا تحمل البديل المطمئن, وهذا ما يعزز فسحة الفراغ السياسي والذي قد يؤدي إلى فقدان بوصلة التغير وانحرافها عن أهدافها المتوخاة, وأختزل بما اقصد به بقول نجيب محفوظ: " أن الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء " !!!!!!!!!!!!.





 

273
الشيعة والحسين والإسلام السياسي: قراءة سيكولوجية مغايرة !!!!!

" صانع المنافق بلسانك وأخلق مودتك للمؤمن وأن جالسك يهودي فأحسن مجالسته "
                                                                             الحسين أبن علي(ع)


د.عامر صالح

لعله من نافلة القول أن محبة آل بيت الرسول تحولت إلى فعل مخزن في أعماق اللاوعي, يستحضر كل مرة بنفس العنفوان في سلوكيات المحبة والاعتزاز وشعائر الاستذكار, ليست فقط لدى الشيعة, بل لدى كل الطوائف الإسلامية, والديانات السماوية الأخرى وحتى غير السماوية, و ليست في العراق فقط بل في العالم اجمع, فكيف الأمر بالنسبة لسيد الشهداء الحسين أبن علي(ع) رمز الثورة على الظلم والفقر والتخلف,فقد ذكر المفكر والمستشرق الانكليزي ادوارد دبروان: " وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن حين يسمع حديثا عن كربلاء؟ وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار وطهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها ". كما تحتفل القوى الوطنية العلمانية واليسارية بكل مكوناتها في العراق وخارجه بكل صدق وإخلاص بذكرى استشهاد الحسين(ع) تيمنا وأيمانا بقيم الحق والعدل والمساواة, والتي طالما قدمت هذه القوى خيرة مناضليها شهداء وأبطال على طريق وأهداف ثورة الحسين, وفي الطرف الآخر حيث تقوم أحزاب الإسلام السياسي والمتأسلمين  بتجيش مشاعر محبي الحسين وتعبئة الناس لزجهم في آتون الكراهية والاستفزاز الطائفي والديني وتعطيل مؤسسات الدولة وحرف نضالات الجماهير المطلبية من اجل تحسين ظروف العيش!!!!.
وفي الوقت الذي يكرسون فيه صناعة البطالة والكسل و الفقر وانتشاره باعتباره قدر إلهي لا بد منه,  ينغمسون من رأسهم حتى أخمص قدميهم في مباهج الحياة الدنيا, يرفلون في نعيمها وخيراتها ويجرون ملهوفين وراء متاعها وملذاتها ويستحوذون على ارفع المناصب والوظائف, متناسين قول الحسين (ع) " أن الكسل يضر بالدين والدنيا ", وأن العمل بمنزلة العبادة كما أريد له في الدين, و تقوم هذه القوى بتكريس العداء للآخر المسالم الذي قد يختلف معنا في التفكير, ولكن قد لا نشك في محبته للحسين باختلاف مظاهر التعبير عنها, فكما نعرف جميعا أن حب الحسين والاحتفاء به ليست حكرا على طائفة بعينها أو بحزب سياسي لذاته, فقضية الحسين ابعد بكثير من ارتهانها طائفيا أو حزبيا, انطلاقا من  أبعادها العالمية التي تتجاوز حدود الدين والطائفة والحزب والجغرافيا التي جرت فيها الأحداث. يقول الكاتب المسيحي كرم قنصل: " أن سيرة الحسين مبادئ ومثل وثورة أعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها, وعلى الفكر الإنساني عامة أن يعيد تمثلها واستنباط رموزها من جديد لأنها سر السعادة البشرية وسر سؤددها وسر حريتها وأعظم ما عليها امتلاكه ".  لقد بلغت من العمر ما يقارب الستة عقود ولن اسمع بمسيحي أو صابئي أو سني أو غيره أن يذكر الحسين بغير ذكراه العطرة !!!!!.

واليوم إذ يختلط فيه الديني بالسياسي بعنف, وخاصة في ظروف العراق الحالية التي تأسس فيها نظام الحكم بعد 2003 على أسس من المحاصصات الطائفية  والعرقية, حيث ساعد على استنفار الورقة الطائفية واستخدامها من قبل الإسلام السياسي الطائفي, ويجري التعمد في خلط المشاعر بين حب الحسين (ع) و ممارسة طقوس الاعتزاز به كما في عاشوراء, و بين ثقافة تعبئة الحشود التي تلجأ إليها هذه القوى في محاولة منها لاستنزاف القوى العقلية والفكرية للجماهير المليونية والمحبة حقا للحسين, وتحويلها إلى كتلة بشرية صماء غير قادرة على تعقل أحداث عاشوراء والطف واستلهام الدروس منها في المحبة والإخاء والعدل والمساواة والكرامة واحترام قيم العمل والتعايش السلمي, بل يجري العزف المكثف على الانفعالات المصاحبة لهذه الذكرى الجليلة لحرفها وإضفاء الصفة السلبية عليها وحصرها في حدود أهداف سياسية أنانية وتعبوية ضيقة, عندها يسهل الترويج للإسلام السياسي الطائفي بغطاء عاطفي ومنفعل ليصب مزيدا من الزيت على نار الصراعات والاحتقانات المتقدة بين أبناء الطائفة الواحدة وبين الطوائف الأخرى, وخاصة عندما تجري هذه الصراعات في بيئة الفقر والحرمان والذي بلغت مداه بحدود 70% في مناطق الوسط وجنوب العراق !!!!!.

كيف استطاع الإسلام السياسي والطائفي منه بشكل خاص, ذو الخطاب المهيج للانفعالات قبل العقل أن يخترق الوسط الشيعي وأن يؤسس لكانتونات سياسية شديدة التركيز في العدة والمال والسلاح, تلك هي قصة سيكولوجية تراكمت أسسها وتجذرت في اللاوعي الجمعي للوسط الشيعي وفي وجدانه وسلوكياته, ارتبطت جذور شدتها في استشهاد الحسين(ع), وان كانت تمتد بجذورها إلى عدم تولي الإمام علي(ع) للخلافة بعد وفاة النبي محمد(ص), وأن آثارها بقيت في أذهان الشيعة وخاصة العوام منهم, حيث أن النخب الشيعية أو الخواص ورموزهم استطاعت أن تجد لها وطأة قدم وتؤسس  سلطاتها الدينية المؤثرة وتضفي على نفسها هالة من القداسة مستفيدة من زخم الأحداث وشدة تكثيفها وإيحائها ورمزيتها الشديدة, وفي أحيان كثيرة كانت موازية للنظم السياسية المقيمة فيها, مدعمة بالمال السخي الذي يمنح لها في السر والعلانية من الهبات والتبرعات والخمس القادمة من الأوساط الشيعية الواسعة والفقيرة أصلا, إلى جانب نسب من العوائد المالية القادمة من زيارة المراقد المقدسة للأئمة من قبل الزوار من داخل الحدود وخارجه !!!!.

وقد بقى وقع استشهاد الحسين وآثاره النفسية المتراكمة شديدا على عوام الشيعة, والذي شكل بدوره أرضا خصبة لتسلل وانتعاش الإسلام السياسي الطائفي وقوى التطرف الديني عبر خطابات ذرف الدموع واستحضار مكنونات اللاشعور الفردي والجمعي لدى الوسط الشيعي, وهذا لا يعني أن عوام الشيعة كانوا معتكفين في منازلهم " عملا بمبدأ التقية الشهير لديهم " ولم يمارسون السياسة بمختلف مظاهرها وألونها وكانوا ينتظرون قدوم الإسلام السياسي والطائفي لإنقاذهم !!!!, فتلك مجافاة للحقيقة التي يدركها الجميع, فقد انصهروا في الكثير من الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية والرجعية طواعية وبدون ضغوط عليهم " عدا بعض محطات الإكراه في الانتماء " والذي شمل الجميع كما هو الحال في التبعيث سيئ الصيت, وكانوا في أحيان كثيرة من مؤسسي هذه الأحزاب وقيادتها, كما شكلوا جمهورا واسعا للكثير من الأحزاب بما فيها الحاكمة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية والقمعية, واعتقد أن تجربة العراق عبر تاريخه غنية بهذا الجانب وشاهد على ما نقول, فجماهير أحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي لم تكن مستقلة بالأمس عن السياسة, فالكثير منهم له جذور انتماءات قومية وعروبية وبعثية وغيرها !!!!.

المهم في ذلك مجددا هو كيف استطاع الإسلام السياسي الطائفي وفي فترة قصيرة جدا لا تتجاوز ألثمان سنوات, وفي ظل غياب مشروعه التنموي والحضاري الشامل,  أن  يستقطب الشارع الشيعي ويعبئ الناس بطريقة " مشجعي فريق كرة قدم خاسر ", بعيدا عن الإعداد والتربية الفكرية والتنظيمية كما هو متعارف عليه في تقاليد عمل الأحزاب في المجتمعات المتمدنة التي تتداول فيها السلطات سلميا, وكذلك بالنسبة للأحزاب التي تمارس العمل السري في أوطانها نتيجة لظروف القهر والاستبداد وكما كان معمول به في العراق في عهد النظام الدكتاتوري. لقد استطاع الإسلام السياسي الطائفي ورموزه المتطرفة  أن تعيد صياغة ذهن المواطن الشيعي من خلال قراءة وجدانية معكوسة لثورة الحسين(ع) ولأهدافها الإنسانية الكبرى, قوامها الانفعالات السلبية الضارة المغلفة بمشاعر الإحساس بالدونية والمتلبسة بجريمة قتل الحسين وكأنها تقول القاتل" أنا " دوما ومن هذه الأرض, فيجب أن ادفع الثمن غاليا ويجب أن تتوقف الحياة على مدار السنة والساعة تبريرا وعزاء وعقوبة لذاتنا لما قمنا به من جريمة نكراء, وتصل هذه المشاعر إلى حد التأصيل في عقدة مضخمة تتضح ملامحها في الأبعاد النفسية الآتية:

ـ تشديد قبضة الشعور المستمر بالذنب تجاه الحسين(ع) من خلال تكريس المشاعر التي تعكس بأننا استمرار لهؤلاء الذين تركوا الحسين بمفرده من دون نصرة بيد الظالمين, ونحن الذين تركناه لوحده مع خيرة آل البيت يواجهون الموت في الصحراء عطشا وجوعا على يد جيش يزيد الظالم, وهو شعور ناتج من قراءة تقطع الصلة بالزمان الذي جرت فيها الاحداث حيث طبيعة الناس آنذاك تختلف وكذلك خصوصية الصراع الذي حصل.

ـ تكريس الحزن والكرب والمعاناة في حياة الناس اليومية وممارسة سلوكيات التكفير عبر التعزيز المستمر لطقوس مؤلمة وحزينة تجلد الذات جلدا مبرحا أكثر مما تيسر حياة الناس وتبعث فيهم الفرح والبهجة بمشروع الحسين الكبير, كتطبير الرأس والضرب بالزناجيل على الظهر واللطم على الوجه والصدر والجبين, وما يصاحبها من مشاعر المزيد من الإحساس بعقدة الذنب والاضطهاد والعدوانية الموجهة إلى الذات والى الآخرين.

ـ  الإحساس العميق بالظلم والغدر والشعور بالمرارة تجاه ما حدث والرغبة في الثأر ممن فعلوا ذلك أو تواطئوا فيه أو سكتوا عنه, وهي آلية تزرع العدوان اتجاه الذات وتهدد التوازن النفسي للإنسان وتسهل الإقدام على مختلف الأعمال المذلة والمدمرة للكيان الشخصي والذاتي وتبخسه وتحط منه, عبر الإحساس الذاتي بعدم جدارتنا في الحياة, ولن يصدر عنا أي فعل خير, ولا يحق لنا أي اعتبار أو تقدير, وهو ميكانزم أساسي في سيكولوجيا الإنسان المقهور وخاصة في بيئة الفقر والتخلف الاجتماعي وانتشار الأمية, إلى جانب توجيه هذه العدوانية تجاه الآخرين المغايرين وخاصة عندما نضعهم بصفة مرتكبي جريمة قتل الحسين اليوم  بغض النظر عن الزمان والمكان الذي جرت فيه الاحداث الحقيقية.

ـ زرع الخوف من الآخر والتشكيك فيه واعتباره قابلا  للغدر في أي لحظة ما, وهي حالات تصل إلى حد بارانويا الاضطهاد, وتكريس سلوك اخذ الحيطة والحذر, ويترتب على ذلك الكثير من الدوافع في امتلاك السلاح وحيازته على نطاق واسع وبعشوائية استجابة لمشاعر الإحساس بالظلم والاضطهاد والعزلة لحماية الذات من العدو بعيدا عن دور الدولة في هذا المضمار, يقابله في الطرف الآخر الصراع  المكثف للانتساب إلى أجهزة الشرطة والجيش والمخابرات وامتلاك ناصية القوة في الوزارات ذات العلاقة استجابة لعدو وهمي قد يهجم في لحظة ما " وهذا لا يعني التقليل من قدرة  الآخر وعدوانيته في الغدر إن كان حاقدا متطرفا أو وهابيا ", إلا أن السلاح يجب أن يكون حصرا بيد الدولة الديمقراطية, وقد تفسر ظاهرة التسلح العشوائي في بعض جوانبها استجابة معاكسة وردة فعل لما كان يمتلكه النظام الساقط من سطوة وقوة وأجهزة قمعية, وتتحول بفعل ذلك عملية التسلح إلى كارثة على الطائفة نفسها بسبب من يدعي تمثليها من مختلف الأحزاب الإسلامية والجميع مدجج بالسلاح.

ـ لقد عمل الإسلام السياسي والقوى المتطرفة بتكريس فكرة أن حدث الحسين(ع) واستشهاده هو حدث خاص بالطائفة الشيعية ولوحدها فقط , وما تبقى من طوائف ومذاهب خارج البيت الشيعي فأن صلتها ثانوية بالحدث من حيث الاحتفاء والإجلال به والاستفادة من دروسه الايجابية, إن لم تكن مساهمة في مأساوية الأحداث, وهذا التصور الشائع أضفى على الوسط الشيعي مسحة انفعالية سالبة معززة للتشدد ومساهمة في انعزال المجتمع الشيعي عن الوسط المحيط به من طوائف ومذاهب, رغم وجود مشتركات كبيرة بينها في طقوس العبادة والشعائر الدينية, وخاصة مع الطائفة السنية, حيث يشتركون كلا الطرفين في الإيمان بالله وبرسله وبخاتم الرسل والأنبياء محمد(ص) وتأدية مناسك العمرة والحج, وهذا ليست من باب ألقاء اللوم على الشيعة في تضييق فرص الحوار مع السنة, ولكن أيضا ومن تجارب الحوار بين الطائفتين أن للسنة بعض من شروطهم التعجيزية في قضايا مفصلية بالنسبة للشيعة كالتقية والعصمة والمرجعية والفهم المغاير للكثير من نصوص القرآن وتفسيره وقضايا فقهية كثيرة, إلا إن الطريقة التي تفهم بها طبيعة أحداث كربلاء وشهادة الحسين, لها ما لها من آثار مسبقة في تضييق فرص الحوار ملقية بضلالها السلبية في التقارب المذهبي, وخاصة عندما يزج الدين في السياسة وتتداخل المصالح الأنانية, فلم يرى كلا الطرفين غير اللون الأسود !!!!.

ـ أن تأصيل الشعور بالذنب لدى الوسط الشيعي اتجاه الحسين بسبب من عدم نصرته في معركته العادلة مع يزيد, يقابله في الطرف الآخر الإعجاب الشديد ببطولته وتحديه لسلطة يزيد بدء من مقولته الشهير: " لا بيعة ليزيد, شارب الخمور, وقاتل النفس المحرمة ", وعلى الرغم من الكثير من النصائح والتحذيرات التي قدمت للحسين(ع) بعدم الدخول في هذه المعركة بسبب عدم تكافئ الجيشين وتوقعات باستشهاده, إلا انه ترك ارض الحجاز متوجها إلى العراق قائلا: " لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد ", وكان يعي تماما حاجة الأمة الإسلامية لمثل هذا الموقف الشجاع " بغض النظر عن التفاصيل ", وخاصة على اثر بيعة الحسن(ع) لمعاوية والتي أثارت الكثير من الالتباسات لدى المؤمنين آنذاك, أن هذا التداخل في المشاعر اتجاه الحسين والتي هي خليط من مشاعر الحسرة والندم لعدم نصرته, إلى جانب الإعجاب بصموده وبطولته أدى إلى حالة من التقديس والتعظيم للحسين(ع), فهو بقدر ما يستحقها بعقلانية الإيمان, إلا أنها تركت لدى أوساط الشيعة استقطابا وجدانيا شديدا, وتحول هذا الاعتزاز والحب إلى موضوع خلاف وكراهية لدى الرموز الأخرى في الإسلام, أو كما يقال في الدارج من زاد على حده انقلب إلى ضده, خاصة عندما توظف هذه المحبة في غير مكانها ولتغذية الصراعات المذهبية !!!!.

ـ لقد استغل الفراغ الكبير الذي تركه استشهاد الحسين(ع) بتكريس السلوك التعويضي بمظهره السلبي, والذي يضعف من قدرة الإنسان العقلية والفكرية على تجاوز مأساوية الأحداث وأتحاذ زمام المبادرة وتأسيس العقل الناقد, مما سهل لاحقا تسليم الأمور ومصائر الناس بيد سلطات دينية مطلقة تمثلت في المرجعيات الدينية وإضفاء عليها صفات القداسة والطاعة والعصمة على نسق ما يضفى على الأمة ألاثني عشر, مما عبر عن حاجاتهم النفسية المستمرة على نسق الحاجات الطفولية إلى شخص راشد يتولى زمام أمورهم ويسلمون لهم قيادتهم, مما أدى بدوره إلى تضخم دور المرجعيات ليتجاوز حدود تأثيرها المجال الديني ليمتد إلى الجانب السياسي والاجتماعي, والتجربة العراقية اليوم دليل على هذا التأثير المتعاظم للمرجعيات على الأحداث السياسية الكبرى كالانتخابات والدستور وتوزيع المناصب الحكومية’ حتى لتبدو وكأنها المصدر المطلق لكل السلطات, مما يحقق لها سيطرة سيكولوجية كاملة تتشكل داخل المنظومة النفسية للإنسان  وتمنعه من الاختلاف معها أو عدم الخضوع التام لها, والمشكلة ليست بوجود مرجعيات, فالمسيحية لها مرجعية يجسدها البابا, واليهودية كذلك لها الحاخام , ولكن المشكلة تكمن بشمولية واتساع نطاق صلاحياتها الذي يتجاوز الديني !!!!.

أن الاستفادة من أسباب ودروس ثورة الحسين(ع) في مكافحة الظلم ونشر العدل, واستتاب الأمن, والوقوف ضد الحاكم الظالم كائن من كان ومن أي حزب وملة وطائفة, وضد فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومحاربة الفساد بألوانه, ومقارعة الذل والمساومة, وأيقاظ الضمير وتحريك العواطف الإنسانية, وإصلاح حال الوطن وضد تشويه القيم الإنسانية النبيلة, وفي احترام العهود والمواثيق, نحن اليوم بأمس الحاجة لها لإشاعة مجتمع العدل والقانون والحرية والديمقراطية, بعيدا عن قراءة ثورة الحسين بأطر سياسية ومصلحيه ضيقة وتوظيفها لمآرب تجلب الضرر لنا جميعا وتعدم الاستقرار في حياة الناس, أما التعاطف مع مأساة قصة الحسين فأكتفي بقول المؤرخ الانجليزي جيبون بقوله: " إن مأساة الحسين المروعة بالرغم من تقادم عهدها وتباين موطنها لا بد أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القراء إحساسا وأقساهم قلبا ".





 

   

     

274
بعض ملامح العالم العربي بين الإحصاء و الإخصاء

" مدخل مفاهيمي ومؤشرات رئيسية على ضوء تقرير اليونسكو للعلوم 2010 "



د.عامر صالح

قد يبدو للوهلة الأولى هذا التناقض وسوء الفهم بين علاقة الإحصاء بالإخصاء, فالإحصاء كما نعرف هو احد فروع علم الرياضيات, وهو مجموعة من المناهج الكمية المستعملة للتمكن من الوصول إلى الحكم الجيد والرأي السديد الأقرب إلى الصواب المقابل للظن, أو هو عبارة عن مناهج يسلكها الباحث فردا أم منظمات بغية الوصول إلى الحقيقة في مختلف المجالات, العلمية والأدبية والثقافية, من خلال التعبير عنها بالحقائق الرقمية التي خضعت للمعالجة الإحصائية, وقد عرفه الآخرون بأنه العلم الذي يهدف إلى جمع وتنسيق الوقائع العديدة بغية الحصول على العلاقات الرقمية المستقلة نوعا ما عن شواهد الصدفة, أو بإيجاز هو دراسة أرقام الحوادث وعلاقاتها.

أما الإخصاء فيعني في اللغة أن تنتزع خصيتي الدابة أو الإنسان, وذلك يقتضي أن يفقد الإنسان أو الدابة القدرة على الإنجاب فيعجز عن إنتاج ذرية من صلبه. يقول العرب: خصي الفحل خصاء: سل خصيته, ورجل خصي , مخصي. ويستخدم العرب الخصاء مجازيا للدلالة على الهزيمة والفشل والذل والهوان.

والإخصاء اليوم يستخدم استخدامات كثيرة منها شائع ذو طبيعة مجازية أو رمزية, ومنها واقعي, فالواقعي منها كما في دلالته اللغوية, يشار به إلى العملية الجراحية التي يتم من خلالها إزالة الخصية والهدف منها:ـ

ـ إنهاء قابلية الحيوان على التكاثر
ـ اختزال الفعالية الجنسية
ـ الحد من ميل الحيوان للتجوال والمعارك
ـ خفض المستوى العام للعدوانية
ـ معالجة سرطان الخصيتين بالاستئصال
ـ الشفاء من أمراض غدة البروستات

وترتبط بكلمة الإخصاء الكثير من المعاني السلبية في الاستعمال كما اشرنا, لأنها ترتبط في الأذهان بهول الإخصاء الواقعي, أي بقطع خصيتي الرجل أو قطع جزء من الجهاز التناسلي لدى الرجل وحتى المرأة, أما بالنسبة للإخصاء الرمزي السيكولوجي النشأة والذي لا يستدعي الإخصاء الواقعي, فيمتد بجذوره إلى مدرسة التحليل النفسي الفرويدي, حيث نجد المصطلحات مثل: " حصر الإخصاء " و " عقدة الخصاء", والإخصاء الرمزي هنا هو مكون أساسي من مكونات " عقدة أوديب " حيث تعبر عن المسار الذي يدرك فيه الطفل انه ليست مركز العالم كما كان, حيث ينشأ الخوف من الخصاء, ذلك الخوف اللاشعوري من فقدان عضو التناسل عقابا على ما يستشعره الطفل الذكر من دوافع لبيدية تجاه موضوع محرم. كما يعزو فرويد للفتاة أيضا مركب خصاء كالذكر ينشأ على خلفية ملاحظتها للفروق بينها وبين مغايرها في الجنس, والتفاصيل هنا اتركها لمحاولة أخرى في هذا المجال, حيث تقع خارج أهداف هذا المقال !!!.

أن ممارسة فعل الإخصاء الحقيقي على الإنسان يتطابق تماما بنتائجه عند ممارسته على الحيوان, حتى وان غابت أبعاد ذلك عن ذهن منفذيه,  وأرتبط فقط بمفهوم الاهانة الكبرى, بعيدا عن الإجراءات الطبية, ففي إحدى نتائجه المهمة على الإنسان المتمثلة " بالحد من المستوى العام للعدوانية " والذي يعني اليوم أكثر بكثير ما تعنيه لغويا كلمة " العدوان " في المفهوم الدارج والذي يعني الاعتداء على الآخرين وإلحاق الضرر بهم أو سلب ممتلكاتهم وأرواحهم, فهي تعني في السيكولوجية المعاصرة تلك القدرة الخام التي يمتلكها الإنسان في تركيبته الفسيولوجية والتشريحية, وتحمل في طياتها بعدي المنافسة " العدوان " السلمية والعطاء في مختلف ضروب الحياة من اجل البقاء وفي ظل قوانين تنظم ذلك, وبعد الشراسة والتجاوز على حقوق الآخرين وانتهاك حرمتهم وسرقة ثرواتهم بما في ذلك الحروب الداخلية والإقليمية والدولية, "فالعدوانية" لدى الإنسان بشقيها الرحيم والخبيث أشرس بكثير مما نجده في عالم الحيوان, وقلما نجد أن حيوانات من ذات الفصيلة تتقاتل لحد الإبادة الجماعية كما هو شائع لدى بني الإنسان, ولعل في ذلك إحدى المبررات السيكولوجية الكبرى لنشوء الديمقراطيات في العالم والتأكيد على التداول السلمي للسلطة منعا لإراقة الدماء وتعزيز الحياة السلمية, وفي ضوء ذلك نستطيع القول أن الإخصاء يؤدي إلى خفض وتدهور الفعالية الذهنية في بعدها الايجابي كما هو في السلبي أيضا !!!!!!!!.

وقد اطلع كاتب السطور على بعض الكتابات التي تؤكد أن الشرقيين لم يجدوا عيبا في إخصاء الأعداء في المعارك, فقد سجلت حالات كثيرة من تشويه وقطع الأعضاء التناسلية أثناء المذابح التركية للأرمن أوائل القرن الماضي, كذلك قامت المليشيات اللبنانية بفعل مشابه أثناء مذابح صبرا وشاتيلا, وأخيرا قام الصرب بأفعال مشابهة أثناء الحروب الأهلية في يوغسلافيا القديمة في تسعينيات القرن الماضي, وان هذه الأفعال تثير الانتباه والدهشة باختلاف عقيدة منفذيها, ربما أريد بها " ومن دون وعي " الى جانب الاهانة العظيمة, إيقاف قدرات الإنسان العقلية على العطاء وخفض مستوى فعاليته الذهنية !!!!.

ويتداخل المفهوم المجازي مع المفهوم الفعلي للإخصاء ليشمل توقف الإنسان عن العطاء العلمي والمعرفي وضعف كفائتة الإبداعية , وتدهور مكانته الاجتماعية, وتعثر دوره في مختلف الميادين, العلمية والأدبية والثقافية, ويمتد الحديث في الكثير من الأدبيات ليشمل مفهوم " الإخصاء المجتمعي " بما يعنيه من توقف وتدهور الحياة في حياة مجتمعاتنا العربية, والقائمة على عوامل " الإخصاء " الآتية:

1 ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

2 ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده هو صالح لكل زمان ومكان, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

3 ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا الى قمة النظم السياسية القمعية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي الى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته, وكما قال علي ابن أبي طالب ( ع ) " لو تساوى الناس هلكوا !!!!.

أن مؤشرات " الإخصاء " في العالم العربي يمكن قياسها بأداة الإحصاء باعتبارها وسيلة  موضوعية بعيدة عن الاجتهاد وسوء الفهم, ومن هنا تأتي أهمية العلاقة النسبية بين الإحصاء والإخصاء في موضوعنا, باعتبار ان الأول يقيس آثار الثاني بالأرقام, وهنا نشير إلى ابرز ما ورد في تقرير اليونسكو للعلوم 2010 كالأتي:

لقد كشف تقرير اليونسكو للعلوم أن الدول العربية تقف في مؤخرة دول العالم في الإنفاق على البحث العلمي والتطوير, وطالبت المنظمة الدول العربية كافة بما فيها الخليجية ذات الموارد المالية بفعل عائدات النفط إلى بناء اقتصاد قائم على الابتكار والمعرفة, وقد أكد التقرير أن المعرفة هي الضمان الأكيد لأمن البلاد من الغذاء والمياه والطاقة, وخاصة في ظل ما تشهده أسعار النفط من تقلبات إضافة إلى التوقعات حول نفاذ الموارد النفطية.

وقد جاء في التقرير أن الإنفاق على البحث العلمي في البلاد العربية في اقل مستوى له في العالم, ففي الدول العربية الأفريقية وصل ما بين 0.3 و 0.4 في المائة, خلال السنوات ما بين 2002 و 2007 من جملة الناتج القومي, بينما وصل الإنفاق في الدول العربية الأسيوية 0.1 في المائة في الفترة نفسها, بينما وصل الإنفاق على البحث العلمي على الصعيد العالمي كمعدل 1.7 في المائة من جملة الناتج القومي, بينما تخصص البلدان التابعة لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي حوالي 2.2 في المائة من جملة الناتج القومي لأغراض البحث والتطوير, أما في إسرائيل فقد وصل الإنفاق ما بين 4.6 و 4.8 في المائة خلال عام 2006 .

وأشار التقرير إلى نقطة مهمة تتعلق بمناهج التعليم العالي والثانوي, فعلى الرغم من الثروة التي تتمتع بها الدول العربية, فأن هذه البلدان تفتقر إلى قاعدة متينة في مجال العلوم والتكنولوجيا, كما كفاءة نظمها وأدائها الخاصة بالتعليم العالي لا يزال ضعيفا فيما يتعلق بشكل خاص في توليد المعرفة, علما أن التراجع المؤقت الذي شهدته أسعار النفط عام 2008 كان بمثابة إنذار للدول العربية, تاركا انطباعه القوي عما سيكون عليه المستقبل من دون عائدات نفطية وشجع التقرير هذه الدول على الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا. ويضيف التقرير انه على الرغم من الجامعات المرموقة الموجودة في المنطقة العربية فأن الدول العربية تعد ما لا يزيد على 373 باحث لكل مليون نسمة, علما بأن العدد المتوسط على المستوى العالمي يبلغ 1081 باحثا, فضلا عن ذلك فأن الكثير من العلماء العرب يعيشون في نصف الكرة الغربي بفعل عوامل الهجرة والتهجير ألقسري ولا يسهمون بالتالي في الناتج القومي لبلدانهم. وتشير الأرقام إلى أن مصر قدمت 60 بالمائة من العلماء العرب والمهندسين إلى الولايات المتحدة.

كما تشير تقارير جامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة(عبر تقارير التنمية البشرية العربية) أن هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنيين المهرة مهاجرون ويعملون في الدول المتقدمة, حيث تضم أمريكا وأوربا 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير مؤسسة العمل العربية. وأظهر تقرير حديث للجامعة العربية أن الدول العربية تنفق دولارا واحدا على الفرد في مجال البحث العلمي, بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن, والدول الأوربية 600 دولار. ويؤكد تقرير أمريكي أن الأطباء من الدول النامية خلال النصف الأول من السبعينيات إلى الولايات المتحدة يمثلون 50 بالمائة, والمهندسين 36 في المائة, وأن ثلاثا من دول الشمال هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تستأثر بنسبة 75 في المائة من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة. وأوضح التقرير أنه خلال عام 2006 لم ينتج في الدول العربية إلا 0.1 في المائة من العدد الإجمالي لبراءات الاختراع المسجلة في المكتب الأمريكي لبراءات الاختراع والعلامات التجارية وفي المكتبين الأوربي والياباني لبراءات الاختراع  !!!!.

ويشير تقرير معهد "استوكهولم" لأبحاث السلام أن حجم الإنفاق في الدول العربية على صفقات السلاح في عام 2009 بلغ 94 مليار دولار, ومقارنة بإنفاقها على التسلح من جملة إنتاجها القومي تأتي في مقدمة دول العالم في الإنفاق مقارنة بالناتج القومي, ويبدو أن النزاعات في المنطقة وسوء أدارة الصراعات مخطط له لأن يستنزف ميزانياتها بدلا من الإنفاق على البحث والتطوير.

ومما يزيد الأمر سوءا هو ارتفاع معدل البطالة في أوساط البحث والتطوير, وبخاصة في صفوف النساء الباحثات اللواتي يشكلن 35 في المائة من العدد الإجمالي للباحثين في الدول العربية وذلك وفقا لتقديرات صدرت عن معهد اليونسكو للإحصاء. إلى جانب ذلك فقد أوضح التقرير أن الأشخاص دون سن الخامسة عشر أكثر من 30 في المائة من سكان الدول العربية, وأن ذلك يعتبر أيضا بمثابة سيف ذو حدين بالنسبة لصانعي القرار في المنطقة العربية, ومع انه يمكن للشباب أن يدفعوا عجلة التنمية وأن يبنوا مجتمعات حيوية, وخاصة إذا كانوا حاصلين على تعليم جيد ويحصلون على الحوافز المناسبة. وأوضح التقرير أن عجز الحكومات العربية عن توسيع نطاق القدرات الإنتاجية اللازمة لخلق الوظائف قد يؤدي إلى خلل في النسيج الاجتماعي, وأن تقديرات البنك الدولي لعام 2007 أكدت بأن المنطقة العربية ستضطر إلى استحداث أكثر من 100 مليون وظيفة بحلول عام 2020 لاستيعاب الشباب الوافدين إلى سوق العمل.

تلك هي ابرز ملامح الصورة القاتمة كما وردت في التقرير الدولي لليونسكو 2010 , وهي تعني الكثير بالنسبة للدول العربية على مستوى محدودية الذهنية العربية في التخطيط للمستقبل, وأن المؤشرات الإحصائية تؤكد ما ذهبنا إليه في بداية المقال وهي تعبر عن حالات توقف العقل العربي في العطاء العلمي والنهضة المجتمعية, فهل يحق لنا بتسميتها بالإخصاء العربي في عالم مفعم بالدينامكية والعطاء والصراع من اجل بقاء أفضل !!!!.   

 


275
في سيكولوجيا تحول جماهير الثورة إلى حشود قطيعيه

" الكذاب والدجال والمتملق يعيشون على حساب من يصغي إليهم "
                                                              لافونتين


د.عامر صالح

كما يفهم من مراحل تطور البشرية وانتقالها من المراحل البدائية وحتى المتوحشة صعودا إلى مجتمعات التمدن والحضارة المعاصرة, إن الجماهير أو الشعوب هي صانعة التأريخ, وهي صاحبة الدور الأساسي على مسرح التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وقد اتسمت اغلب أدوراها بالايجابية وخاصة عبر التضحيات الجسام من اجل قضايا وطنية وتحررية واجتماعية, ولكن هناك محطات للجماهير اتسمت بالسلبية والقنوط عبر الدعم الذي أعطته لقوى استبدادية أو لأيديولوجيات فاشية وأوصلتها إلى سدة الحكم , كما هو الحال في التجربة الألمانية الفاشية والايطالية من خلال صعود هتلر وموسوليني إلى دفة الحكم, وكذلك جزئيا في التجربة العراقية في بقاء واستمرار النظام الدكتاتوري السابق لعقود في العراق, وبقاء أنظمة أخرى إلى اليوم ذات الطبيعة القمعية والعدوانية والتسلطية. ونستطيع القول أن الجماهير تمتلك القدرة على الجمع بين خاصيتين متناقضتين, هي القدرة على التدمير والهلاك والقدرة على التضحيات العظمى في قضايا ايجابية تهم مصير أوطان ومستقبل مجتمعات في آن واحد !!!!.

أن الثورة هي أسلوب من أساليب التغير الاجتماعي تشمل الأوضاع والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعملية التغير لا تتبع الوسائل المعتمدة في النظام الدستوري القديم للدولة وتكون جذرية وشاملة وسريعة, تؤدي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد, ويترتب على نجاح الثورة, سقوط الدستور, وانهيار النظام الحكومي القائم ولكن لا تمس شخصية الدولة ومؤسساتها وكادرها في مختلف المجالات, ولا تؤدي إلى إنهاء العمل بالتشريعات السابقة عليها, وخاصة الايجابية منها وذات الصلة بالحياة العامة, فليست كل ما في النظام القديم هو بالي ويستحق السحق والإبادة, والحالة التونسية تجسد هذا النوع من الموازنة التي تعكس الوعي والسلوك الحضاري للثوار أو المنتفضين, وهو عكس الحالة العراقية رغم ملابسات التغير وتدخل العوامل الخارجية في إنضاجه !!!.

وتؤكد أدبيات الثورات العالمية والتجربة التاريخية إلى أهمية توحيد القوى الثورية المنتفضة وتنظيمها وأهمية العوامل الذاتية في توعية الجماهير وقيادتها. وتشكل وحدة الظروف الموضوعية والذاتية القانون الأساسي للثورة, كما تؤكد على ضرورة الحفاظ على مسار الثورة والحفاظ عليها من الانحراف, و منع قطف ثمارها من قبل سارقي الثورات المتمرسين, من المتطرفين الدينيين والسياسيين بمختلف مشاربهم, والذين يعيشون على فتات موائد الثورة, مستغلين مشاعر الناس وخاصة البسطاء منهم من خلال الشعارات الطنانة الفارغة واستغلال عدم الصياغة السليمة لعلاقة الدين بالدولة في النظام القديم كمبرر للانقضاض على حركة الجماهير وحرف وجهتها التقدمية, صوب أهداف مجهولة عديمة الجدوى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا !!!.

وعلى خلفية محاولات حرف الثورة ومسارها وتطلعات جماهيرها تجري عملية تحويل الثوار المنتفضين من قوى ثورية فاعلة ضد الظلم والاستبداد بأشكاله, إلى حشود قطيعيه, وبالتالي تتحول الثورة من فعل واعي ومخطط, له أهدافه وبرامجه, إلى أفعال لا واعية ينتفي فيه ذكاء الثوار وخصوصيتهم, ليندمج ويذوب في غيبوبة اللاوعي ليسوقهم القائد  " الديني " أو  "السياسي " المتطرف, فيتحول الفعل الثوري إلى ضرب من ضروب العبادة المؤسسة على الانفعالات الخالصة, ويتحول الثائر المخلص بين ليلة وضحاها إلى كائن متعصب تدفعه غرائز العدوان القابلة على تدمير كل شيء, بحزام ناسف أو سيارات مفخخة أو كاتم صوت, وعندها يكتسب " الثوري " خصائص الإنسان الهمجي لا يعبأ بأي عقبة بين رغبته ورغبات قائده " الجديد ", ليتحول من ثائر إلى حيوان قطيعي همجي لا يمتلك القدرة على التدبير والتخطيط والعقلانية اللازمة للعقل الثوري, وبالتالي يستمع ويصغي إلى الخطاب المراوغ والكاذب بسهولة ويجسده إلى أفعال ملموسة في الكراهية وإقصاء الآخر, حينئذ يسود الطابع اللاعقلاني الذي تجسده ردود الأفعال المدمرة, وعندها تتحول الثورة إلى فعل هستيري مدمر ينتشر كالنار في الهشيم, وهكذا تجنح الثورة وثوارها إلى خضوع وعبودية جديدة أكثر بكثير مما تنزع نحو التحرر والحرية والديمقراطية وعلى خلفية سلبيتها وتزيف وعيها وقابليتها للإيحاء والاستهواء والاستلاب, فتضيع التضحيات سدا !!!!!.

 

276
ثورة تونس الخضراء بين كارل ماركس وسيكولوجيا غوستاف لوبون

" لا الفقر يستطيع إذلال النفوس القوية, ولا الثروة تستطيع أن ترفع النفوس الدنيئة "
                                                                                     فوفنارغ
           


د.عامر صالح


أن الأسباب التي أشعلت النار في النظام التونسي ورئيسه زين " الظالمين " بن علي هي أسباب مشتركة لتفاعلات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كل البلاد العربية, وإذا كانت الأحداث التي شهدتها تونس خاصة فقط بتونس اليوم, فأن الدول العربية الأخرى ليست بمنأى عنها, وقد تختلف مظاهر التعبير وحدته, وهكذا بدأت الآن الاحتجاجات في الجزائر وليبيا والأردن وغيرها, وتلك توقعات أكيدة لانتقال عدوى الثورة إلى الجيران وأبعد من ذلك, على خلفية نفس الأسباب, وكما يقال في المثل الصيني " رب شرارة أحرقت السهل كله ".

إن الثورة ليست عمل عشوائي يقوم به حشد قطيعي لا عقل فردي له, أو تحركه غرائزه, أو هي ابعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي كما يقول غوستاف لوبون, بل هو خروج للمشاعر المكبوتة بعد إزالة عوامل الكبت والقمع والتي اقدح شرارتها الأولى الشهيد سالم البو عزيز, والتي سهلت إحساس الثائرين أنهم يسيرون وسط جموع آمنة توحدها شعارات محاربة الفقر والبطالة والدكتاتورية, صحيح إن الغضب العام يطغي على بعض الممارسات في الشارع التونسي كالسرقة والنهب وبعض من الأضرار في الممتلكات العامة, حيث تختلط الأوراق بين الثائرين ومن انظموا إلى الثورة في لحظاتها الأخيرة " وخاصة من أعوان السلطة ", ولكن دوافع الغضب المنفلت بانفعالات جماعية تؤطره حالات الجوع والحرمان وانعدام الأمن الحقيقي يزداد حدة في التعبير عندما تفتقد الجماهير إلى القيادة الميدانية الموجهة للأعمال الثورية !!!.

لقد عملت الأنظمة الاستبدادية عبر عقود من منع تشكيل أي كتلة حرجة ثورية منظمة و مقاومة عبر ممارسات التفتيت والإجهاض والترغيب والترهيب والرقابة الأمنية والبوليسية المشددة وأبعاد وقتل أي بادرة للتفكير البديل, دون معالجة الأسباب الحقيقية للفقر وأسبابه, واعتبار الأوضاع القائمة صناعة إلهية  وقدر محتوم على الناس, فلا يمكن العبث بالأقدار إلا بإذن من مسببه !!!.

أن الثورة في التفسير المادي للتأريخ تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع, تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج, وشكل التملك الخاص, ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة " وهي في بلداننا تشكل النظام وحاشيته " ضد فئات الشعب, وتؤدي هذه التناقضات إلى " أزمة سياسية " عميقة تحمل معها نشوء حالة " ثورية " تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة مثل الاضطرابات والمظاهرات والاجتماعات والاعتصام, وان الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها, وليست كما يرى غوستاف لوبون وغيره من الذين يرون أن الثورات هي انفجارات طارئة خارجة عن السيطرة, تحدث نتيجة انفعالات جماهيرية مدمرة متناقضة وغير واعية لما يحدث, ويشارك فيها اللاشعور الجمعي لشعب من الشعوب بكل ما يحتويه من مظاهر تقدمية ورجعية !!!!.

لقد أكدت التجربة التونسية في الثورة أن اللجوء إلى تشكيل الأوضاع عبر ديمقراطيات مزيفة تكرس سلطة وسيطرة الحزب الحاكم ورئيسه الأبدي لا تجدي نفعا, حيث سيادة المنطق الشاذ قي فهم أسباب الصراع وإخفائه, وان هذه الأوضاع تنتج برلمانات بدون معارضة حقيقية, كما أكدت التجربة أن اختزال  "الديمقراطية " بالانتخابات فقط في ظروف الفاقة والفقر والفتنة والفوضى وتجيش الجماهير واستلاب وعيها, كثيرا ما يؤدي إلى استنهاض وإعادة توليد الطائفية والعرقية والمذهبية والتطرف والإرهاب, وتكريس بؤس ومعاناة الناس, حتى وان كانت الديمقراطية بقوة التدخل الخارجي ـ كما هو الحال في الحالة العراقية ـ وتتحول الديمقراطية إلى أداة لشل الديمقراطية الحقيقية وتهميش رجالاتها الحقيقيين !!!.

أن الثورة التونسية " وفي بلد مستقر نسبيا " جسدت المفهوم الصائب, انه لا جدوى من شكليات التداول السلمي للسلطة, ولا جدوى من دستور مكتوب, ولا جدوى من تعددية حزبية ذات مكونات هشة, أن الصراع الحقيقي يجري على تحسين ظروف العيش الحر والكريم للشعب, فالتنافس قي الانتخابات في الديمقراطيات الحقيقية ليست تنافسا بين أحزاب بل هو تنافس حول البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي يفترض أن تقدم لخدمة الشعب وانتشال البلاد من التخلف, الأمر الذي كان مفقودا في تونس كما في غيره من البلاد العربية.....فحذار من الثورة التونسية العارمة أن تتحول إلى انقلاب على شخص الرئيس فقط دون تغير للنظام بكامله... وحذار من امتصاص نقمة الثوار عبر عمليات لترقيع وتجميل النظام, وهذا ما نلاحظ بوادره الآن في الشارع التونسي, حيث إنزال صور وملصقات الرئيس السابق من الشوارع من قبل رجالاته بكل لطف وعناية, وهي تعبر عن انفعالات المصالحة مع أزلام النظام السابق ورموزه, كما بدأ الحزب الحاكم باستجماع قواه الهادئة لإفراغ الثورة من محتواها الحقيقي والتقدمي .... وان الشعب التونسي قدم التضحيات الجسام لإزالة الرئيس السابق كخطوة ضرورية لتغير النظام بالكامل عبر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة تساوي حجم تضحياته وجرأته في اختراق حاجز الخوف وإعلانه الثورة !!!!.

277
بحث في :

التعليم العالي في العراق/ النشأة الأولى, الهموم والتطلعات


د.عامر صالح*

ملاحظات تمهيدية:

من الناحية الإجرائية أن التعليم العالي هو المرحلة الثالثة من مراحل التعليم المختلفة, وتعني هذه المرحلة بأعداد الكوادر المؤهلة للعمل التخصصي, كما تساهم في إعداد الكوادر البحثية والتعليمية لهذه المرحلة فيما يعرف ببرنامج الدراسات العليا والبحث العلمي, وتأتي هذه المرحلة عادة بعد التعليم الثانوي بمختلف فروعه " علمي, أدبي, مهني وغيره " , أي أن تكون القاعدة التعليمية الأساسية للانتساب إليه 12 سنة دراسية على الأقل :  6 سنوات ابتدائية و 6 سنوات ما بعدها( 3متوسطة + 3 ثانوية ), وقد تختلف هذه المسميات من بلد إلى آخر أو قد تطول بعض المراحل أو تقصر ولكنها محصورة على الأعم الأغلب بهذا السقف الزمني, وتتنوع مستويات التعليم العالي : من دبلوم عالي, إلى بكالوريوس, إلى ماجستير والى دكتوراه, وعلى قاعدة 2 سنة دبلوم عالي, 4 سنوات بكالوريوس, 2 سنة ماجستير و3 دكتوراه, وهو الشائع عالميا كما في العراق, مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات في أنظمة الدراسة.

واستنادا إلى ذلك وبما أن الوصول إلى التعليم العالي يتصل اتصالا وثيقا و مباشرا  بالمراحل السابقة له, فأن عملية إصلاحه تستدعي وتوجب النظر إلى التعليم كمنظومة متكاملة الحلقات تبدأ من رياض الأطفال حتى المرحلة الجامعية, بحيث أن كل مرحلة تمهد للمرحلة التي تليها وتعد لها, ونعتقد أن هذا الأمر غائب عن الجهات المعنية بالتربية والتعليم العالي في العراق, ومرد ذلك إلى غياب الفكر التربوي الاستراتيجي المنظم لعملية إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية ابتداء من الرياض وانتهاء بالجامعات. وقد كتبت في مقال سابق لي بعنوان " مهمات عاجلة أمام البرلمان القادم لإصلاح منظومة التربية والتعليم " وقد ذكرت فيه جوهر الخطوات اللازمة لإصلاح نظام التربية والتعليم بمختلف مراحله وضرورة النظر إلى العملية التربوية والتعليمية ككل غير قابل للتجزئة!!!.

وعلى هذا الأساس فأن إصلاح التعليم العالي دون إعادة النظر في المراحل السابقة له يعتبر نوع من العمل العبثي والقطيعة بين أجزاء الجسد التربوي والتعليمي الواحد, وبالتالي نقول انه لا يمكن انجاز أي تقدم حقيقي في إصلاح شامل للتعليم في العراق دون النظر إلى مختلف عناصر العملية التربوية والتعليمية وفي كل مرحلة من مراحلها, وهي تتمثل في المناهج الدراسية ومحتواها, والمدرسين الذين يقدمون هذه المناهج ونظم إعدادهم, وأساليب التدريس, ووسائل التقويم, والإدارة التعليمية ابتداء من إدارة المدرسة إلى إدارة الجامعة والى إدارة وزارتي التربية والتعليم العالي, والمرافق والمؤسسات التعليمية من حيث طبيعة تصاميمها الملائمة لظروف العلية التربوية والتعليمية, والطاقة الاستيعابية للفصول الدراسية المختلفة, والنشاطات الصفية واللاصفية من ترويح وسفرات وفنون وموسيقى, وكذلك الاستخدام الواسع لتكنولوجيا التعليم وتقنية المعلومات وشبكات الانترنيت التربوية واستخدام الكمبيوتر على نطاق واسع. وعلى هذا الأساس فأن الإصلاح لابد أن يشمل مختلف العناصر المكونة للعملية التربوية والتعليمية وفقا لرؤيا شاملة  تأخذ بنظر الاعتبار حقيقة الترابط والتداخل بين مختلف عناصر المنظومة التربوية والتعليمية, وهو الأمر المفقود في غاية خطط وبرامج إصلاح قطاعي التربية والتعليم العالي في العراق !!!.

وعلى خلفية هذا الفهم المعاصر للإصلاح تأتي أهمية إصلاح التربية والتعليم بصورة عامة والتعليم العالي بشكل خاص باعتباره الأداة الإستراتيجية التي يعتمد عليها في تقدم المجتمعات وحل مشاكلها الحاضرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصنع مستقبلها وترسيخ مكانتها بين الأمم في عصر لايعترف إلا بالأقوياء والأقوياء في هذا العصر هم أولئك الذين امتلكوا ناصية العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي, والتي كانت النظم التعليمية وخاصة العالية من ورائها ومن العوامل التي ساعدت على تطويرها, ونحن إذا ما تتبعنا تاريخ النهضات الاقتصادية للدول المتقدمة, فأننا نجدها ترجع من قريب أو بعيد إلى عوامل التربية والتعليم والتأهيل والى النظم التعليمية المتطورة, والى التعليم العالي بشكل خاص.

ولذلك وللأسباب المذكورة أعلاه أصبح الإنفاق على التعليم بصورة عامة وعلى العالي والبحث العلمي بشكل خاص هو من باب الاستثمار ذو العوائد طويلة الأمد, وليست من باب الاستهلاك على نسق ما ينفق على السلع والبضائع الكمالية, وأن ما ينفق على التعليم هو توظيف مثمر للموارد ويؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي إن أحسن استخدامها إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها. وقد أكدت الدراسات ذات العلاقة بالاقتصاد التربوي والتي قام بها دينون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين الروسي وهي تؤكد جميعها أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني والمعلوماتي وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية !!!.
 
ويكفي الإشارة هنا إلى ضئالة ما ينفق من مال على البحث العلمي في العالم العربي " استنادا إلى تقرير اليونسكو للعلوم للعام 2010 " حيث أكد التقرير أن الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي في اقل مستوى له في العالم, ففي الدول العربية الأفريقية وصل ما بين 0.3 و0.4 بالمائة خلال السنوات ما بين 2002 و 2007 من جملة الناتج القومي, بينما وصل الإنفاق في الدول العربية الأسيوية 0.1 بالمائة في الفترة نفسها, بينما وصل الإنفاق على البحث العلمي على مستوى العالم كمعدل 1.7 من جملة الناتج القومي, بينما تخصص البلدان التابعة لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي حوالي 2.2 بالمائة لأغراض البحث والتطوير, أما في إسرائيل فقد وصل الإنفاق العالمي على البحث العلمي والتطوير ما بين 4.6 و 4.8 خلال العام 2006 . فإذا كان مستوى الإنفاق هكذا في دول عربية تعتبر مستقرة نسبيا فما هي حال العراق بين هذه الدول, حيث الفساد المالي والإداري وسرقة الأموال التي تفرغ أي نسبة من التخصيصات المالية من محتوى فاعليتها  واستخدامها بشكل صحيح, علما أن هناك إحصائية تؤكد أن ما يصرف على التعليم العالي من أموال " باستثناء رواتب الأساتذة التي تشكل 80 بالمائة من الإنفاق " هي أموال ضائعة !!!.

جذور التعليم العالي وملامح أزمته الحالية:

تمتد جذور التعليم العالي في العراق إلى سنة 1908 وهو العام الذي أسست فيه كلية الحقوق ثم توالى إنشاء الكليات والمعاهد العالية حتى تأسيس جامعة بغداد بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 على اثر صدور قانون جامعة بغداد عام 1956 حيث كان رئيسها الأول الأستاذ الدكتور متي عقراي, ثم جاء بعده لرئاسة الجامعة عالم الفيزياء الدكتور عبد الجبار عبد الله الذي طور مسارها العلمي وجعلها تحتل المكانة المرموقة بين جامعات المنطقة والعالم وكانت تضم كليات: ( الحقوق, الهندسة, التربية, الطب, الصيدلة, الآداب, التجارة, الزراعة, الطب البيطري, والمعاهد العالية: العلوم الإدارية, اللغات, المساحة, الهندسة الصناعية العالي, التربية البدنية). ثم شرعت جامعة بغداد بمد نطاقها إلى مدن أخرى في العراق فأقامت في مدينة الموصل كليات: ( الطب, العلوم, الهندسة, الزراعة والغابات, الصيدلة, الدراسات الإنسانية ومعهدا للمحاسبة).  وفي البصرة أقامت كليات: ( التربية, الحقوق, الهندسة ). ثم نشوء جامعتي البصرة والموصل في مطلع نيسان عام 1967 حيث أصبحت هذه الكليات نواة لجامعتي الموصل والبصرة,. وفي سنة 1970 صدر قانون التعليم العالي والبحث العلمي ذو الرقم 132 والذي  بموجبه استحدثت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي, وأنشئ مجلس التعليم العالي ليتولى رسم السياسة التعليمية والعلمية والتقنية العليا للبلد, ومن ثم أنشأت جامعة صلاح الدين في اربيل وبعدها الجامعة التكنولوجية في بغداد عام 1974, كما فسح المجال لفتح الجامعات والكليات الأهلية بعد صدور القرار المرقم 184 في عام 1987 , وفد بلغ عدد الجامعات والكليات الأهلية لحين سقوط النظام السابق 10 فقط " وفقا لمعلومات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ".

نستطيع القول أن مستوى التعليم العالي في العراق عند نهاية عقد السبعينيات كان متقدما مقارنة مع جامعات المنطقة, عندما كان هناك ست جامعات فقط هي : ( بغداد والمستنصرية والتكنولوجية والموصل والبصرة والسليمانية ), ولكن الأوضاع السياسية العامة كانت تحمل في طياتها نذير شؤم تجسده سياسات التبعيث والتضييق على الحريات الأكاديمية للأساتذة وتحويل مؤسسات التعليم العالي إلى بؤر للدعاية السياسية للحزب الحاكم, مما اخل بمعايير النزاهة والجودة وأفسد البحث العلمي وغاياته في هذه المؤسسات, تلتها سنوات من الحروب العبثية التي أقدم عليها النظام وسنوات حصار وتجويع أوقعت هذه المؤسسات في شللية كاملة عن أداء دورها في خدمة المجتمع والبحث العلمي, وفد بدأت في عقد الثمانينيات   والتسعينيات ملامح الهجرة للكادر التدريسي إلى الدول العربية وترك الجامعات على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية العامة !!!.

وتضم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي اليوم 24 جامعة حكومية, 5 منها في بغداد, و 5 منها في إقليم كردستان والبقية موزعة على المحافظات العراقية, كما تضم الوزارة ثلاث هيئات للتعليم التقني واحدة في بغداد وأثنين في إقليم كردستان, وهيئة للاختصاصات الطبية وهيئة للحاسبات والمعلوماتية, كما أن هناك 26 جامعة وكلية أهلية تنتشر في عموم البلاد حسب إحصائيات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للعام 2010 . وقد بلغ عدد الطلاب الكلي في التعليم العالي للعام الدراسي 2008 / 2009 ( 382869 ) طالبا للدراسة الأولية, و ( 14915 ) طالبا للدراسات العليا, وعدد التدريسيين ( 31990 ).

ويجب الإشارة هنا إلى أن 80 بالمائة من مؤسسات التعليم العالي في العراق تعرضت للتدمير والتخريب والنهب منذ بدء الاحتلال الأمريكي عام 2003 ,وعملية إعادة الأعمار الجارية تشمل فقط 40 بالمائة من مؤسسات التعليم العالي, بينما تتواصل هجرة الأساتذة والمعلمين إلى المناطق الأخرى, حيث غادر حوالي 40 بالمائة منهم منذ عام 1990 والتي بلغت عشرات الألوف, كما قارب عدد ضحايا الإرهاب والاغتيال منذ سقوط النظام السابق 300 كادر شملت كبار التدريسيين والأكاديميين من مختلف جامعات وكليات العراق, وقد تكثفت حملة الإرهاب ضد الأكاديميين في منتصف العام 2005 وبلغت ذروتها في العام 2006 ـ 2007 مما أدى إلى هجرة جماعية لعشرات الآلاف من المفكرين والعلماء والفنيين العراقيين وعائلاتهم إلى الخارج, وقد ذكرت ذلك بالتفصيل في مقال لي على الانترنيت بعنوان " قطاع التعليم العالي والبحث العلمي, ملاحظات على خلفية تعيين الوزير الجديد " !!!!.

ويمكن إيجاز ابرز ملامح تدهور قطاع التعليم العالي والبحث العلمي فيما يأتي:


ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة " أستاذ وأستاذ مساعد " على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها .

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

ـ ضعف التنسيق بين الجامعات والكليات الأهلية من جهة وبين الجامعات والكليات الحكومية من جهة أخرى, حيث الإرباك في تكرار الاختصاصات المتشابهة في كلا الطرفين وعدم انتهاج مبدأ التكامل في التخصصات بين المؤسسات التعليمية العالية الحكومية منها والأهلية, الأمر الذي لا يخدم أغراض التنمية وسد الحاجة لمختلف التخصصات, وانعدام الهيكلة الإدارية التي تضمن بقاء التعليم الأهلي تحت إشراف فعلي وليست شكلي من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على تلك المؤسسات, مع احترام استقلاليتها الإدارية والمالية, بل يدخل التعليم الأهلي في أحيان كثيرة كمنافس للتعليم الحكومي و كمصدر لاستنزاف الكادر العلمي والتدريسي من المؤسسات الحكومية تحت وطأة المغريات المادية والمالية, وبالتالي فأن الكثير من خريجي الجامعات والكليات الأهلية مهددين بالبطالة وانعدام فرص العمل لاحقا بسبب من ضعف الحاجة لاختصاصاتهم, علاوة على ذلك نرى أن التوسع السريع في إنشاء مؤسسات التعليم العالي الأهلية والذي زاد عددها أكثر من ضعف مقارنة بعهد النظام السابق يثير تساؤلات كثيرة عن جدوى هذا التوسع والحاجة الفعلية له !!!.

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.

ـ تشير الكثير من المقابلات الميدانية التي أجريت مع أساتذة جامعات وقيادات أدارية وطلابية إلى أن الكثير من مؤسسات التعليم العالي تحولت إلى مؤسسات مصغرة للمساجد والحسينيات والجوامع, تجري فيها الشعائر والاحتفالات والطقوس الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع, وكأن لم يكفي الآلاف من المساجد والجوامع المنتشرة خارج الجامعات, حتى أن العديد من المختبرات العلمية تحولت إلى حسينيات لزمرة هذا الحزب السياسي الطائفي أو ذاك, ولكي تتحول بالتدريج إلى بؤر للفساد والاحتقان الطائفي والمذهبي وللتفرقة بين الطلاب, حيث تسيطر كل ميليشيا حزبية على إحدى الكليات ومرافقها داخل الجامعة, وانتشار صور المعممين في أروقة الكليات والجامعات والشعارات الدينية الطائفية الاستفزازية والعبث بمسميات هذه المؤسسات وتسميتها برموز قيادات أحزاب أو طوائف, انه امتهان للحرية الأكاديمية وتسييس للمؤسسات العلمية وزجها في الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية .

ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.

ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية, وهي تذكرنا بحقبة توظيف " البحث العلمي " لخدمة مصالح الحزب القائد وتمجيد قائد الضرورة.

ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.

مبررات ومستلزمات أصلاح التعليم العالي:

أن مبررات إصلاح نظام التعليم العالي في العراق كثيرة وقد لا يسع المجال للحديث عنها في هذه الورقة البحثية المتواضعة, إلا إننا يمكن اختزالها بالمبررات والأسباب الآتية:

1 ـ لقد انقطع العراق عن الثورة المعرفية والمعلوماتية لعقود بفعل سياسات النظام السابق وطبيعة حكومته ذات الحزب الواحد التي فرضت حصارا على مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي, واعتبرت أن ما يصدر عن الحزب وقيادته الحكيمة هو المصدر الأول والأخير للمعلومات ومصداقيتها في مختلف العلوم, وبهذا كان النظام السابق بمعزل عن الثورة المعرفية المتزايدة وما تفرضه من زخم التحديات والسرعة الفائقة في إنتاج هذه المعرفة وتطبيقها في مناحي الحياة المختلفة, وقد تناسى النظام السابق والأحزاب السياسية الحاكمة اليوم والمليشيات الطائفية أن امتلاك المعرفة لا السلاح يمثل القوة التي بموجبها تصنف الدول ومستوى رقيها وتقدمها, وان السبق في عالمنا المعاصر مرهون بامتلاك المعرفة, كما أن مجتمع المعرفة يقوم على قاعدتين هما البحث العلمي المبدع والتطبيق التقني المبتكر المتمثل بالعلم والتكنولوجيا.

2 ـ أن البيئة الدولية المعاصرة تشهد ازديادا مضطردا في دور العلم والمعرفة وتأثيرها على مجريات العلاقات الدولية ارتباطا بظاهرة العولمة وتآكل حواجز السيادة التقليدية وهيمنة ثورة المعلومات, وعلى ما يبدو فأن العراق مهيأ للانفتاح عليها في ظل اقتصاديات السوق الحر باختلاف النوايا والتوجهات, ففي دولة الفساد قد يكون الانفتاح يشكل فرصا مواتية ومضاعفة لسرقة المال العام ونهبه, وفي الدول المستقرة تكون الفرصة أعظم للاستفادة من منجزات التطور العلمي والتكنولوجي وتقنية المعلومات, وفي الحالة الأخيرة تظهر أهمية تطوير التعليم العالي والبحث العلمي لمواجهة تيارات العولمة الجارفة من خلال رفع مستوى الكفاءات الفردية العلمية والمهنية والبحثية.

3 ـ أن عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وثورة المعرفة يستدعي بالضرورة إلى تعليم يؤدي إلى تطوير وتنمية قدرات الأفراد على قاعدة التعليم المستديم والمستمر مدى الحياة بما يؤدي إلى الوصول إلى المعلومات وتنظيمها وحسن استخدامها والاطلاع عليها في عقر ديارها وحسن استخدامها في التفكير والتعبير والاتصال والعمل وبناء العلاقات, في عصر يتسم بتناقص الموارد غير المتجددة من طاقات وخدمات, وبالتالي فأن على التعليم والعالي منه بشكل خاص أن ينتقل بالمجتمع من الصناعات التقليدية إلى صناعات حديثة, ومن العمالة العضلية إلى العمالة العقلية والتقنية, ومن المركزية إلى اللامركزية, ومن التنظيم الهرمي إلى التنظيم الشبكي, ومن النمطية إلى التميز, ومن الخيار الواحد إلى الخيارات المتعددة, والعراق اليوم أكثر من أي وقت مضى يحتاج إلى هذه الانتقالية لإعادة هيكلته بعد حرمان طويل الأمد من المعرفة العلمية وحسن استخدامها .

4 ـ أن ضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة في مجتمع ينشد الديمقراطية الحق يستدعي إعادة النظر جذريا في نظام التعليم العالي بمختلف عناصره المكونة ابتداء من المناهج وطرائق التدريس والتخصصات الإنسانية والعلمية وإعادة بنائها على ضوء ما هو مستجد في ميادين هذه العلوم, وتعزيز الحريات الأكاديمية والدفاع عنها وصيانة الحرم الجامعي من تدخلات الأحزاب والمليشيات المسلحة, والارتقاء بمستويات البحث العلمي بما يخدم حل معضلات التنمية الشاملة, والابتعاد عن الارتجال والعشوائية في تقرير سياسات هذا القطاع والآخذ بإستراتيجية واضحة المعالم في الإصلاح تستند إلى أفضل ما أفرزته تجارب البلدان المتطورة في هذا المجال.

5 ـ أن استمرار تدهور مؤسسات التعليم العالي أدى إلى عدم مقدرتها في أداء رسالتها الحضارية والثقافية وسط مناخ سياسي وتعليمي استمر لعقود لا يساعد على استقرار العمل وترسيخ تقاليده في هذه المؤسسات ولا يدعم الإصلاح والتطوير حتى إن وجد في ظل منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية متخلفة, ومن هنا تأتي المبررات القوية لانتشال وإصلاح هذا القطاع في ظروف التغير الجديد والتي يفترض أن ينتقل فيها البلد انتقاله جادة على طريق تعزيز مكانة العلم والمعرفة في حياة المجتمع.

أن مبررات إصلاح التعليم العالي في العراق لا تعني بالضرورة الشروع به, ولكنها تشكل خطوة الإحساس الضروري بجدواه, وأن أي إصلاح حقيقي في مجال التربية والتعليم العالي والبحث العلمي لا يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة منه إلا إذا جاء كجزء من عملية إصلاحية شاملة تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وخاصة في ظل التأثير المتبادل والمتفاعل بين هذه المجالات, وأن الشروع الحقيقي في عملية الإصلاح يجب أن يتزامن مع توفير مستلزماته الأساسية, ولعل أبرزها ما يأتي:

ـ الخطاب السياسي الرسمي: أن عملية الإصلاح تتأثر كثيرا بقناعات وأيمان القيادة السياسية والأحزاب الحاكمة وفلسفتها التربوية, وبالتالي يجب أن تتوفر الأهلية الفكرية لهذه الأحزاب والتي تنظر إلى التعليم وإصلاحه في إطار عملية إصلاح شاملة تحتوي كل جوانب منظومة المجتمع المختلفة, وانطلاقا من أن التعليم يشكل ركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي والوطني والسلم الاجتماعي ورافدا أساسيا من روافد تجفيف منابع الإرهاب عبر إشاعة قيم التسامح والولاء للوطن.

ـ الإصلاح الاقتصادي: يتداخل الإصلاح الاقتصادي مع الإصلاح التربوي والتعليمي وخاصة مع مؤسساته العالية, ففي الوقت الذي يوفر فيه الإصلاح الاقتصادي فرصا مواتية لنمو التعليم العالي من خلال توفير مصادر متنوعة لتمويله, فأن التعليم العالي يستجيب لضرورات الإصلاح الاقتصادي عبر إعادة النظر بمنظومته الكاملة من خلال تطوير المناهج وطرق التدريس والاستفادة من تكنولوجيا التعليم والارتقاء بمستويات البحث العلمي وتوفير فرص النمو المهني والأكاديمي للكادر التدريسي, بما يساعد على تقديم أفضل الخريجين في مختلف التخصصات لانجاز خطط الإصلاح الاقتصادي والتنمية الشاملة.

ـ الإصلاح السياسي: أن النظام السياسي له تأثير كبير على كافة أنظمة المجتمع الأخرى من حيث تحديد الأهداف والسياسات والإجراءات, وأن نظام التوافقات السياسية أو المحاصصات الطائفية أو الاثنية المعمول به اليوم في العراق هو نظام معرقل لاستقرار مؤسسات الدولة وسياساتها العامة على مدى طويل, حيث يرتبط بطبيعته المؤقتة والآنية والأنانية ولا يرتبط بالأهداف الكبرى للمجتمع وتطلعاته, إضافة إلى بيئته المواتية لانتشار المحسوبية والمنسوبية والفساد, مما يضيع فرص الإصلاح والاستقرار السياسي اللازمة لتطوير العملية التعليمية و يفقد أفضل استراتيجيات الإصلاح فاعليتها وجدواها.

ـ الإصلاح الاجتماعي: تتأثر عملية إصلاح التعليم بمجمل العادات والتقاليد والقيم وتبلور موقفا إزاء التعليم وإصلاحه, فهي قد تلعب دور المعرقل للإصلاح التعليم وإفساد دوره في التنمية الاقتصادية و البشرية, وفي ظروف العراق حيث الأمية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والفساد وحيث يشيع عدم الثقة والاكتراث بجدوى أي مشروع إصلاحي يجب أن تلعب مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية التقدمية دورا متعاظما عبر إعلامها وصحافتها لتكريس القيم الايجابية اتجاه عملية الإصلاح والمطالبة به وخلق الاتجاهات الايجابية نحو التعليم والثقافة والارتقاء بالمستوى العقلي والفكري والمهني.

ـ دور المؤسسة الدينية: على المؤسسة الدينية أن تقوم بدور ايجابي يخدم مصالح البلد في قضايا كبرى مثل الثقافة والتعليم والفكر, وخاصة في مؤسسات التعليم العالي وان يكون لها دورا واضح في ردع من تسول له نفسه بتحويل هذه المؤسسات إلى جوامع أو حسينيات أو بؤر للصراعات المذهبية والطائفية, وعلى المرجعيات الدينية وبحكم تأثيرها اليوم في حياة الناس أن تسهم بشكل كبير في تعزيز استقلالية الجامعات عبر فتاوى وتعليمات واضحة بهذا الخصوص بعيدا عن ضغوطات أحزاب الإسلام السياسي وطوائفه المتصارعة للعبث في هذه المؤسسات واستقرارها, فالمؤسسة الدينية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بلعب الدور المتميز في استقرار مؤسسات التعليم والبحث العلمي عبر سلطتها الدينية الرادعة.

ـ إصلاح القيادات التربوية: لا يمكن الحديث عن إصلاح التعليم دون الحديث أولا عن إصلاح القيادات المتمثلة في الإدارة التربوية والكادر التدريسي والفنيين وغيره, وأن أجمل وأفضل خطط الإصلاح التي يضعها المتخصصون سوف لن ترى النور قبل أن يسبقها إصلاح للتربويين, لذا فأن التربويين الذين يتسلقون لإدارة عملية إصلاح التعليم هم في أمس الحاجة للإصلاح ضمن معايير الولاء للوطن والاعتزاز به دون الولاء للطائفة أو للحزب السياسي المعني واجتثاث الفاسدين منهم والمزورين وسارقي المال العام.

ابرز الاتجاهات الأساسية لإصلاح التعليم العالي:

أن الحديث عن إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي كإستراتيجية شاملة يستدعي النظر في كافة مكوناته: فلسفته, وأهدافه, وأسس القبول فيه,ومناهجه الدراسية من حيث المحتوى وطرائق التدريس وتقنياته, والجودة التعليمية واليات ضبطها, والبحث العلمي ومستلزمات النهوض به, وتطوير قدرة الكفاءات الجامعية في مختلف المجالات, وهو عمل تفصيلي يستدعي تضافر جهود كل الأخصائيين في هذه الميادين, " علما أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لديها إستراتيجية وطنية لتطوير التعليم العالي للسنوات 2009 ـ 2013 , وأشير هنا فقط إلى ابرز ما يجب الشروع بإصلاحه على المدى القريب وهو جزء من هذه الإستراتيجية الشاملة, أذا توفرت النوايا الحسنة لذلك, وهو ما يأتي:

ـ تحديث هيكلة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من حيث الأقسام والتخصصات المختلفة.

ـ تعزيز استقلالية الجامعات وحماية الحرية الأكاديمية والحرم الجامعي.

ـ العمل على تعزيز الأمن والاستقرار داخل الجامعات والمعاهد العالية وأبعادها عن الصراعات السياسية والمذهبية والطائفية.

ـ إعادة النظر في المناهج الدراسية والتخصصات المختلفة بما ينسجم مع التوقعات المستقبلية وحاجة البلد لمختلف الاختصاصات والكفاءات العلمية والمهنية والإدارية.

ـ انتهاج سياسة واضح وحكيمة للتنسيق مع الكليات والجامعات الأهلية بما يضمن تحقيق رؤيا متكاملة لكلا القطاعين وتجنب التكرار غير المفيد في نشأت الكليات أو التخصصات المختلفة.

ـ تعزيز مكانة البحث العلمي والارتقاء به عبر ربطه بحاجات المجتمع المحلي وتوفير كافة وسائل الدعم لتسهيله من مال ومصادر المعرفة من شبكة معلومات ومكتبات وانترنيت وغيرها.

ـ عدم إثقال الكادر التدريسي بمهمات إدارية أو أعمال أخرى ليست من صلب عمله, وتفريغه للتدريس والبحث العلمي.

ـ تنشيط نظام العمل بمتطلبات الجودة والارتقاء بالتعليم إلى المستويات الدولية, سواء من حيث كفائتة الداخلية أو الخارجية وعلى نطاق التعليم الحكومي أو الأهلي, ولضمان الاعتراف الإقليمي والدولي بهذه المؤسسات.

ـ تنظيم البعثات والمنح الدراسية إلى خارج البلاد واعتماد معايير الكفاءة العلمية والمهنية لأشغالها بعيدة عن أي معايير حزبية أو مذهبية أو طائفية.

ـ الاستفادة من خبرة الكادر التدريسي والبحثي القديم من ذوي الدرجات العلمية والخبرة والسمعة العلمية المرموقة , وهنا يجب إعادة النظر بالكادر العلمي الذي تمت إحالته إلى التقاعد تحت ذرائع مختلفة ورد الاعتبار لهم والاستفادة من خبراتهم قي نطاق: لجان تقييم المناهج وأساليب التدريس, ولجان ضبط جودة التعليم العالي الحكومي والخاص, وفي لجان استشارية داخل الكليات, ولجان تقييم البحوث العلمية وامتحانات الدراسات العليا ولجان إعداد ومراجعة اللوائح الجامعية وأنظمتها الإدارية وغيرها.

ـ العمل على رفع مخصصات التعليم والبحث العلمي من الميزانية العامة والناتج المحلي لتسهيل مهمة الجامعات في البحث والتدريس وخدمة المجتمع المحلي, وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة للتعليم من أبنية ومختبرات ومكتبات وأجهزة فنية ومد شبكة الكومبيوتر, كما يجب البحث عن مصادر أخرى للتمويل في نطاق المشاريع الخاصة والمؤسسات الأهلية.

ـ العمل الجاد والمسئول والحريص على إيجاد حلول لعودة الكفاءات العراقية من الخارج عبر إزالة المعوقات الإدارية والبيروقراطية وتسهيل معاملاتهم واستخدام منظومة الحوافز المالية والاعتبارية واسترجاع حقوقهم المشروعة في الخدمة السابقة والتقاعد وغيرها.

هذه هي مجرد ملاحظات سريعة أو رؤوس أقلام لإصلاح التعليم العالي, ويبقى الاستقرار السياسي والأمني وتعزيز النظام الديمقراطي مظلات آمنة للشروع بأي إصلاح, ومنها الجامعي باعتباره الحاضنة الرئيسية لبناء المستقبل وإنجاح التنمية وتوطين المعرفة واستنبات التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتية !!!!.

 * أكاديمي في شؤون نظم التعليم المقارنة وأخصائي
 علم النفس اللغوي واضطرابات النطق والكلام.





 

278
قطاع التعليم العالي والبحث العلمي في العراق
ملاحظات سريعة على خلفية تنصيب الوزير الجديد !!!!.

"إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وان كنت تدري فالمصيبة أعظم"
                                                 حكمة عربية



د.عامر صالح

لقد أثار استلام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من قبل احد زعامات حزب الدعوة وهو المعلم علي الأديب الكثير من الملاحظات الانتقادية والتوجسية والشبهات على شخصه وجذور ولائه " ابتداء من جنسيته الإيرانية وانتهاء بمحاولاته لتأسيس دولة طالبان في وزارة التعليم العالي " وتطلعاته الميدانية لهذا القطاع المهم والحيوي في مستقبل البلاد, وقد بدأ "مباركا " بالتماسه لأراء المرجعية الدينية المتمثلة في المرجع الديني بشير النجفي ليرسم له الملامح العامة لاتجاهات تطور هذا القطاع, وقد بدأ المرجع الديني " مشكورا " بأبرز ملاحظاته " المهمة والمفصلية " لهذه المؤسسة, بوضع حدا " لثقافة الاختلاط والميوعة " !!!!, تاركا الوزير العتيد خيرة الكادر العراقي المتخصص في هذا المجال وراء ظهره ليستنجد بآراء ومقترحات من لم لهم خبرة ودراية بشؤون التعليم العالي والبحث العلمي والمنزوين في عقر ديارهم, وهي بداية موفقة وأول الغيث قطرة, ولكنه غيث ملوث بالغبار الأسود....فهل من جديد يثير الاستغراب في الأمر !!!!!.

لقد تعرضت العملية التربوية والتعليمية بكل مراحلها بدءا من رياض الأطفال إلى الجامعات والمعاهد ومؤسسات البحث العلمي إلى تصدعات خطيرة ما بعد 2003, وهي في بعض من ملامحها امتداد للتدهور الذي حصل لهذه العملية في عهد النظام السابق على صعيدي الكم والكيف, وقد تطول قائمة ذكر الملامح العامة لهذا التدهور والانحلال الذي أصاب نظام التربية والتعليم بمختلف مراحله, إلا إن ما يعنينا في هذا المقام هو قطاع التعليم العالي والبحث العلمي, على الرغم من أن مشكلاته جزء من مشكلات العملية التربوية والتعليمية بصورة عامة, فقد ارتبطت مؤسسات هذا القطاع ما بعد السقوط أسوة بغيره من القطاعات بالمؤسسة الدينية ـ السياسية الحاكمة وبسلطات المساجد في المحافظات, ولم يعد للسلطات المركزية المتمثلة بوزارتي التربية والتعليم العالي أي دور يذكر إلا في الشكليات العامة التي لا تتعارض مع السلطات الدينية في المحافظات.

أن السلطات الدينية في المحافظات لها اليد الطول في تقرير سياسات هذه المؤسسات الخطيرة والهامة على مستقبل البلاد وأجياله وتنميته, فقد تحولت هذه المؤسسات من الرياض إلى الجامعات إلى مراكز وأبواق للدعاية الطائفية وللصراعات الدينية والسياسية والفئوية ولفرض النفوذ, وتحويل هذه المؤسسات إلى ملكيات خاصة للكيانات الطائفية السياسية, فقد تحولت مؤسسات التعليم العالي إلى مؤسسات دينية تجري فيها المراسيم الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع العامة, وقد شكلت هذه الطقوس عبر الفتاوى الناقصة أرضية خصبة لانتعاش الفساد في أروقة الجامعات ومؤسسات البحث العلمي لتتحول بدورها إلى بؤر مستشرية لكل مظاهر الفساد.

فقد تحولت مؤسسات التعليم العالي إلى إحدى قلاع التضييق على الحريات الخاصة والعامة, من فرض الحجاب ونوع اللباس إلى التضييق على حرية إبداء الرأي وممارسة النقد, كما أصبحت هذه المؤسسات مصدرا لسرقة المخصصات والأموال العامة المخصصة لهذا القطاع من الميزانية, وإفساد العلاقات الاجتماعية بين الطالب وزميله لاعتبارات طائفية, وإفساد العلاقات الإنسانية النزيهة بين الطالب وأستاذه, وخاصة عندما يقوم الطالب بابتزاز أستاذه والتضييق عليه مستغلا انتمائه الطائفي والسياسي, وسرقة الأسئلة الامتحانية وإصدار الشهادات الجامعية المزورة, وترويع الهيئات التدريسية وقتل الأكاديميين, وانتعاش ظاهرة التعليم الخصوصي, وفساد الدولة الفكري والعلمي في إهمال التعليم الجامعي وعدم استيعاب وتفهم دوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وبالتالي سوء فهم ما ينفق عليه هو على انه من باب الاستهلاك والكماليات لا من باب الاستثمار طويل الأمد كما هو متعارف عليه في الدراسات الاقتصادية للتعليم.

لقد وصل الحد بالفاسدين في هذا القطاع وقياداته الإدارية من منع وعدم السماح للمنظمات الدولية والمؤسسات التعليمية العالمية لمراقبة التعليم العالي والاطلاع على أوضاعه, كما أطال الفساد المناهج الدراسية من خلال فرض الكثير من المواد الدراسية والمناهج التعليمية ذات الصبغة الطائفية وخاصة في المناهج الإنسانية وهي ممارسات من " التبعيث الجديد " والتي تستهدف تغير الحقائق العامة في ذهن الدارسين وتأهيلهم نفسيا ومعرفيا لمزيد من الاحتراب الديني والطائفي الدموي القادم, وتسمية الكثير من مؤسسات التعليم العالي بأسماء رموز تنتمي بذهنية مسميها إلى رموز دينية ـ طائفية, دون العودة إلى السلطات التربوية العليا ذات الصلة بهذا الشأن وخاصة اللجان التربوية والتعليمية في البرلمان " إن كانت حيادية ".

ان تعيين الكادر التدريسي لم يتم إلا بتزكية من إمام المسجد أو الجامع الواقع في المنطقة أو المحافظة التي يسكن فيها مقدم الطلب " وهي تجربة إيرانية بامتياز في تسهيل المعاملات ", فلا حياة للأستاذ الجامعي بدون شهادة حسن السلوك والسيرة من المسجد. لقد حاول الكثير من الأساتذة الجامعيين والأطباء إلى العودة إلى العراق محبة في خدمة الوطن وأهله ولكنهم لم يصمدوا أمام الإجراءات الإدارية التعسفية ذات الصفة الطردية والابعادية لهم فرجعوا إلى دولهم المضيفة حفظا لماء الوجه والكرامة. وقد صاحب كل ذلك تدمير البنية التحتية لمؤسسات التعليم العالي من مختبرات ومكتبات ولوازم وخاصة في الاختصاصات العلمية البحتة كالهندسة والطب والعلوم وغيرها, وكذلك الفوضى في بناء مؤسسات التعليم الأهلي وعدم تنسيقها مع المؤسسات الحكومية وتحولها إلى تجمعات لذوي التحصيل الدراسي المتدني, لكي تكون مستقبلا رافدا من روافد بطالة الخريجين في هذا البلد, إلا إذا تدخلت المرجعية وأئمة المساجد في تعين خريجيها !!!!.

وإذا كانت لغة الكلام في أحيان كثيرة تصمت عن الجرائم والفضائح فأن لغة الأرقام سريعة على استيعاب الحدث واختزاله, وهنا انقل ما ورد في صحيفة ديلي نيوز الباكستانية في تشرين الثاني ـ نوفمبر 2008حيث نشرت قائمة بأسماء 154 من كبار الأكاديميين في بغداد , الذين لهم صيتهم الذائع في اختصاصاتهم, واغتيلوا جميعا. وأجمالا هناك ما يقرب من 281 مثقفا معروفا من التدريسيين في الجامعات الكبرى داخل العراق وقعوا ضحية فرق الموت. ومن هؤلاء الذين قتلوا 25% وهم 21 من ابرز الأساتذة والمحاضرين في كلية الطب ـ جامعة بغداد, وهي أعلى نسبة سجلت مقارنة بأي كلية أخرى. وأما ثاني نسبة من أعضاء هيئة التدريس الذين قتلوا وذبحوا فهم 12 من مشاهير أساتذة وباحثي كلية الهندسة بجامعة بغداد, يليهم 10 من كبار الأكاديميين المتخصصين في العلوم الإنسانية, وبواقع ثمانية أكاديميين من كلا اختصاصي العلوم الطبيعية والاجتماعية, وخمسة في ميادين التعليم, أما ما تبقى من كبار الأكاديميين في جامعة بغداد الذين قتلوا فيتوزعون على كليات الزراعة والتجارة والتربية البدنية, والاتصالات, والدراسات الدينية. وفي ثلاث جامعات أخرى في بغداد جرى ذبح 53 من كبار الأكاديميين, بينهم 10 في مجال العلوم الاجتماعية, و7 في كلية الحقوق, و6 في كل من كلية الطب والعلوم الإنسانية, و9 في العلوم الطبيعية و5 في العلوم الهندسية. كما وقعت عمليات تطهير وإبادة في صفوف الأكاديميين في جامعات المحافظات العراقية بلا استثناء, فقد جرى اغتيال 127 من كبار الأكاديميين والعلماء في مختلف الجامعات ذات المستوى الراقي, في محافظات الموصل وكركوك والبصرة وديالى والانبار. والى جانب ذلك فأن إحصائيات اتحاد أساتذة الجامعة العراقي بأن أكثر من 10000 من الكفاءات العليا يضمنهم الأطباء قد هربوا من البلاد منذ عام 2003 !!!!.

وهنا نؤكد أن على السيد علي الأديب الوزير الجديد لهذا القطاع أن يعي حقيقة هذه الصورة القاتمة التي تخيم على وزارته وان يتحمل مسؤولياته أمام الشعب وأمام الله, وان لا يهرول إلى المرجعيات الدينية للبحث عن الحلول لهذا القطاع , فالمرجعيات ابعد ما تكون عن فهم هذا القطاع ومشكلاته وكما يقال " رحم الله امرئ عرف قدر نفسه ", فحل المشكلات ليست بفتوى " جرة القلم " وإنما بالحلول العلمية الصائبة وبحسن وأدب الإصغاء إلى ذوي الاختصاص قي المجالات المختلفة, فالتعليم العالي وإصلاحه يستند إلى الكثير من المبررات والأهمية, لعل أبرزها الثورة العلمية والمعرفية وما تفرضه من زخم التحديات والسرعة الفائقة في إنتاج هذه المعرفة وتطبيقها في مناحي الحياة لا الفتاوى الجاهزة السهلة على الابتلاع ولكنها عسيرة على الهضم, وعالم العولمة ووجود البيئة الدولية المعاصرة التي تشهد ازديادا مضطردا في دور العلم والمعرفة وهيمنة ثورة المعلومات, وضرورة التنمية البشرية وإعادة تأهيل أفراد المجتمع وخلق الكوادر العلمية والتقنية في مختلف المجالات والإطارات, الربط المحكم للتعليم العالي مع حاجات السوق المحلية والعالمية عبر إعادة هيكلة التعليم واختصاصاته المختلفة, إعادة بناء وتنشيط مؤسسات البحث العلمي لكي تسهم بشكل فعال في حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى في البلاد, والعمل على تشجيع الكادر العلمي في الداخل والخارج للعمل في مؤسسات التعليم العالي عبر التنشيط والعمل بمنظومة الحوافز المالية والاعتبارية التي تشجع الكادر للعمل في هذه المؤسسات, والعمل النزيهة والمخلص لتحييد هذه المؤسسات من الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية احتراما لمكانة هذه المؤسسات في المجتمع, والعمل على محاربة الفساد في هذه المؤسسة بعيدا عن مزاج الخندقة الطائفية المسببة للفساد واستفحاله!!!.

وختاما نقول أن إصلاح التعليم العالي ومؤسساته لا يحتاج إلى فتوى من أي كائن من كان, بل يحتاج إلى قيادات سياسية وإدارية وجامعية تفهم قيمة الإصلاح وضرورته وتدرك الحاجة إلى مراجعة نظام التعليم العالي بكل تركيبته المكونة : من مؤسسات وبرامج وأهداف ومناهج ومن منظور الجودة الشاملة والاستجابة لاحتياجات السوق المحلية والدولية في عراق منفتح على الداخل والخارج وكذلك الحفاظ على ما تبقى للجامعة العراقية من دور في التنوير والتثقيف ضد الأفكار الظلامية والتعصب الطائفي والسياسي والعرقي, فهل يصغي السيد الوزير لأراء ذوي الاختصاص لإنقاذ هذا القطاع, أم لمرجعيته لكي ينتكس هذا القطاع !!!!!. 







 



279
العنف السايكوـ سياسي ضد المرأة في العراق على خلفية إقصائها من المناصب الوزارية !!!

" المرأة أبهج ما في الحياة "
                كونفوشيوس


د.عامر صالح

شكل إقصاء المرأة العراقية عن تسلمها لمناصب وزارية هاجسا مؤلما لدى كل الكتاب التقدميين والديمقراطيين بمختلف انتماءاتهم عبر إدانتهم المتواصلة لهذا السلوك الذي أقدمت عليه الحكومة العراقية الجديدة بتشكيلتها الغير مألوفة في تقاليد العمل السياسي الديمقراطي, والتي تثير الشكوك حول أدائها المستقبلي في الكثير من التكهنات الأولية, وقد أقدمت هذه الحكومة على تجاوز دستوري يقضي بان تبلغ نسبة تمثيل المرأة في مجلس النواب ومجلس الوزراء ومجالات أخرى 25% بالإضافة إلى مواد أخرى في الدستور كالمادة 14,16,20 ذات الصلة ببعض الحقوق المتكافئة بين كلا الجنسين.    

أن المشهد السياسي العام في العراق ليست ذو طبيعة مسالمة, وان كانت شكلياته تبدو هكذا من حيث الإقرار الشكلي لمبدأ التداول السلمي للسلطة, واللجوء إلى الدستور لحل النزعات والبث في القضايا الخلافية , إلا انه لم يجري لحد الآن لا تداول سلمي سلس للسلطة ولا العودة للدستور للاستماع إلى رأيه, وان واقعة إقصاء المرأة من المناصب الوزارية تشكل انتهاكا ورميا للدستور عرض الحائط. أن المشهد السياسي العراقي يمثل حالة من العنف الكامن الذي لا يمكن استئصاله من ذهنية السياسيين العراقيين, حيث يمثل إحدى دوافع اللاشعور العنيفة والقوية, والتي تعبر بدورها عن نتاج العنف المكبوت الذي تعرض له الشعب بصورة عامة والسياسيين " الطليعة " بشكل خاص عبر عقود من حكومات القمع والإرهاب والتنكيل, تلتها سنوات عجاف من الاحتراب السياسي ـ الطائفي والديني والعرقي بين قوى لا تمتلك قناعة حقيقية بالتداول السلمي للسلطة من حيث النهج والفكر والممارسة, مما كرس أخلاقيات الإقصاء السياسي بمختلف الوسائل وفي مقدمتها الوسائل المسلحة.

فكيف تكون الحالة مع العنصر النسائي السهل بطبيعته المسالمة على الإقصاء وغير الحامل للسلاح, والذي لا يمتلك في اليد حيلة, عدا الدستور الخامل والذي لم ينشط إلا بفقراته التي تصب في خدمة السياسيين وامتيازاتهم, والتي تستهدف تبضيع العراق وليست فدراليته والاستحواذ على ثرواته. ويعبر إقصاء المرأة عن المناصب الوزارية ومناصب أخرى تجسيدا لديمومة العنف السائد في العراق, والذي يتخذ واجهات ومبررات سياسية, واجتماعية, ودينية واقتصادية, قائمة في مجملها على النظرة القيمية الخاطئة والمقيتة والتي لا ترى في المرأة كونه إنسان كفيء عندما تسنح الفرصة لذلك؛ وكذلك التخلف الثقافي العام وما يفرزه من جهل بمكونات الحضارة الإنسانية ومسيرتها الطويلة والقائمة أصلا على هذه القطبية الثنائية " رجل ـ امرأة " المتكاملة في وجودهما والمتنوعة في أدائها في إطار وحدة النوع الإنساني والكيان البشري؛ وكذلك التوظيف السيئ للسلطة من قبل رجال السياسة, فحال فوزه في الانتخابات يبدأ بمسلسل التنكيل, أما بحليف "صغير الحجم " أو التنصل عن حقوق العنصر النسائي ليعبر عن "غريزته " العدائية العالقة في ذهنه وسلوكياته باعتبار المرأة " اضعف خلق الله أنسانا "؛ إلى جانب تأصل التقاليد والعادات الاجتماعية الخاطئة التي تقف حجر عثرة وعكازه يستند إليها في محاربة المرأة وحرمانها من المساهمة في الانجازات الاجتماعية؛ إضافة إلى الحروب والكوارث والإرهاب والصراعات الدينية والطائفية والقبلية والاثنية, والتي أشاعت ثقافة العنف المستديم, وكانت المرأة في مقدمة الضحايا: مقتولة, أرملة, يتيمة,أمية, عاطلة عن العمل ومحرومة من كل فرص المساواة !!!!.

أن مظهر العنف العام في العراق, والذي يشكل العنف السياسي احد أبعاده ناتج في بعض من تجلياته من تلازم النظرة الدونية للمرأة كإنسان مع حرمانها من مكانتها الوطنية ضمن الدولة العراقية, والتي لا يستطيع حتى الدستور الذي كفل بعض منها أن يحميها, وقد صح من قال أن الحروب تبدأ في العقول وليست في ساحات القتال, فأن عقول السياسيين العراقيين الجدد هي الأخرى تعتقد إن المرأة كيان ضعيف لا يستحق المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية, وبالتالي فأن حرمانها من تسلم مناصب وزارية وغيرها يجسد ذهنية متخلفة أولا, قبل أن يكون إجراءا سياسيا ذو منافع شخصية, ويشكل الأخير مظهرا من مظاهر العنف السياسي ضد المرأة وانتهاكا للكرامة الإنسانية وخرق للمواثيق الدولية, ففي المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان(1993) وفي الفقرة(38) أكد ما يلي " يشدد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بصفة خاصة على أهمية العمل من اجل القضاء على العنف ضد المرأة في الحياة العامة والخاصة والقضاء على جميع أشكال المضايقة الجنسية والاستغلال والاتجار بالمرأة والقضاء على التحيز القائم على الجنس في إقامة العدل وإزالة أي تضارب يمكن أن ينشا بين حقوق المرأة  والآثار الضارة لبعض الممارسات التقليدية أو المتصلة بالعادات والتعصب الثقافي والتطرف الديني", ويمثل سلوك الحكومة العراقية الجديدة في إقصاء المرأة من المناصب الوزارية حالة من حالات عدم تطبيق العدالة على أساس الجنس والواردة في النص أعلاه " وعلى الأقل مخالفا لما ورد في الدستور العراقي !!!!.

أن محاربة العنف السياسي ضد المرأة والمتمثل بإقصائها من مناصب الدولة العليا وغيرها هو عملية تكاملية وليست فقط ما ورد في الدستور " وان كان بالتأكيد مهما تثبيته " كافيا لإحقاق الحق, حيث أثبتت التجربة انه عمل معقد ويجب أن يستند إلى الدعم اللامحدود من السلطات القضائية وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني لكي تسهم حقا بخلق وعي نوعي صوب إنصاف المرأة عبر مختلف المشروعات التربوية والثقافية لعموم المجتمع وبمختلف شرائحه السياسية والاجتماعية, إلى جانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية الشاملة والقادرة على انتشال المرأة من أوضاع التخلف والأمية والعوز الاقتصادي, بالإضافة إلى ذلك ضرورة توعية المرأة بدورها وحقوقها الإنسانية والوطنية وكيفية الدفاع عنها وعدم التباطؤ والتهاون والانكفاء الذاتي واعتبار عدم المساواة قدر محتوم !!!.

280
في سيكولوجيا النفاق وخصائص" المؤمن الفاسد "
مدخل مفاهيمي مع إشارات على مستوى الأفراد والدولة


" يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب "
                                                 علي بن أبي طالب(ع)



د.عامر صالح

يستشري النفاق وازدواجية الأخلاق في التعامل اليومي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ويشكل بدوره عائقا كبيرا يهدد صفاء العلاقات الاجتماعية وحسن المعاملة والصدق مع الناس, كما ينخر بجسد المجتمع أفرادا ومؤسسات ودوائر ومنظمات حكومية ومنظمات شعبية ليلقي بظلاله السيئ على كل المنظومة القيمية مهددا مجتمعاتنا بمزيد من التدهور الأخلاقي والاجتماعي, حيث يضيق هامش الممارسة الصادقة الذي يبعث على الأمل في المستقبل, ويشد الناس إلى الإخاء والمودة ودماثة الخلق وحسن المعاشرة, ويرسخ منطق العدالة الاجتماعية في التعامل اليومي.

وإذ نشير هنا إلى مفهوم "المؤمن الفاسد" فلا نعني به حصرا فقط على المؤمن الذي يعتنق إحدى الديانات السماوية أو غير السماوية ويبتعد عنها في الممارسة العملية, بل تشمل أيضا كل ما يعتنقه الفرد من أفكار ومعتقدات وإيديولوجيات سياسية ذات طبيعة أخلاقية واجتماعية واقتصادية ايجابية إلى حد ما استنادا إلى معاييرها المعلنة في الخطاب النظري, ولكنه في الممارسة العملية والحياتية يتصرف ويصوغ سلوكياته الفردية وحتى السياسية بالضد من هذا الخطاب, فيتحول هذا الفرد إلى " مؤمن فاسد " يعث في الأرض فسادا وظلما وجورا, متسلحا بتفسيرات ذاتية ومصلحيه للخطاب المعلن لإشباع رغباته الشخصية بما فيها القتل وفساد الأخلاق وحرمان الآخرين من حقوقهم, مستندا إلى سلطة ما " دينية, أو سياسية, أو اجتماعية أو مالية وغيرها " كغطاء تسمح له بذلك, ولذلك فأن المؤمن الفاسد ليست فقط من خرج عن دينه, وان كان الخروج عن الدين هو الفساد الأعظم كما هو شائع شعبيا, وبهذا قد يكون المؤمن الفاسد هو من المتدينين بلباس الدين وطوائفه, أو من دعاة القومية أو الوطنية وغيرها من الانتماءات !!!!.

النفاق في اللغة هو ضرب من ضروب الكذب والخداع والمكر والغش والرياء, وفيه يظهر المرء خلاف ما يبطن, أي إظهار المرء خلافا لما هو عليه في داخله, فهو يكتم أو يخفي شيئا ويظهر شيئا آخر, فينطوي موقفه على شيء من النفاق, والعمل ألنفاقي المتسم بالنفاق والدال عليه حين يقف المرء موقف نفاقي, فالمنافق يظهر خلافا لما يضمر أو خلافا لما هو عليه في واقع الحال, ويجب الحذر من المنافق وعدم تصديقه, والمنافق في الدين هو من يخفي الكفر ويظهر الإيمان ويتظاهر بالتقوى والورع والتدين, ولعل غزارة النصوص القرآنية حول النفاق والمنافقين ما يشير إلى خطورة هذه الظاهرة , فعلى سبيل المثال لا الحصر, وفي (سورة المنافقين: 4)  قال تعالى :( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإذا يقولوا نسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى بؤفكون ), وكما قال النبي محمد(ص) : ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد اخلف, وإذا اؤتمن خان), ولم يخلو دينا سماويا أو غير سماوي من إدانة للنفاق وممارسيه باعتباره سلوكا منبوذ اجتماعيا وأخلاقيا رفضته البشرية عبر مسيرتها الطويلة بعد إن ودع الفرد الغابة ودخل المجتمع الإنساني, والمنافق في الدين يظهر خلافا لما يبطن, كالسياسي المنافق, أو الشخص المرائي والمخادع والكاذب والذي يتظاهر على خلاف ما في باطنه.

ولعل ابرز ملامح الشخصية المنافقة هو: القدرة على المراوغة والتحايل والتقلب في المواقف, التشبث في الخطاب الديني أو السياسي أو الاجتماعي لإسناد تصرفاته المختلفة, الكذب المتواصل في الحديث وفي العلاقات الاجتماعية, خيانة الأمانة, الإخلاف في المواعيد, التحكم في الانفعالات وإظهار نقيضها بما يبعد عنه تهمة النفاق, يحاول المنافق الاهتمام بالمظهر الخارجي كجزء من سيكولوجيا الظهور لاختراق الوسط الاجتماعي الذي يتواجد فيه مقرونا بحلاوة اللسان وإجادة لغة الجسد كتعبيرات الوجه وحركات اليدين وغيرها من الصفات والصفات المضادة ذات الطابع التمويهي . وهناك الكثير من الإدانة للمنافق في الموروث الثقافي الشعبي  وتأكيد خطورته, فعلى مستوى الإدانة, عندما تسأل شخصا, ما هو الفرق بين الكلب والمنافق فأن الجواب يكون : أن ذيل الكلب في أعلى " مؤخرته ", وذيل المنافق في أعلى مقدمته "لسانه ", أما على مستوى خطورة المنافق فيقال : أن أفعى لسعت " منافقا " فتسممت...وماتت !!!!!.

أما النفاق في علم النفس فهو قد يكون صفة متلازمة من صفات شخصية الفرد وقد يطلق النفاق على حال ممارسته, وقد يشير إلى الفعل أو السلوك الذي يظهر فيه الفرد خلافا لما يبطن بداخله بمعنى التظاهر الكاذب بالفضيلة والتمسك في الدين, أو بأيديولوجية سياسية, أو بانتماء قومي أو وطني. وفي علم النفس هناك العديد من الحيل الدفاعية اللاشعورية يمارسها الإنسان لحماية نفسه من الشعور القاسي بالقلق والانزعاج, وهذه الحيل أو العمليات العقلية اللاشعورية كثيرة ومتعددة منها : الإسقاط والتبرير والتقمص أو التوحد والإزاحة العكسية والإبطال والإنكار والنسيان والإبدال والسلبية والرمزية والتقدير المثالي والتعميم والأحلام والعدوان والكبت والنكوص" أي العودة إلى الوراء إلى مراحل نمو سبق للإنسان إن تخطاها.

والنفاق هنا ينطبق على إحدى هذه العمليات العقلية أو الحيل الدفاعية اللاشعورية المسماة بتكوين ردة الفعل" التكوين العكسي " حيث يظهر فيها الإنسان خلافا لما يبطن, حيث يتظاهر الشخص الملحد بالتدين الشديد, والرجل شديد  البخل يتظاهر بالكرم الشديد, والموظف المرتشي يتظاهر بالأمانة المطلقة, والإفراط في الاحتشام كرد فعل لرغبات جنسية مكبوتة, ومهاجمة التفكير الخرافي كرد وتكوين عكسي للأيمان به, والإفراط في الحب كتكوين عكسي للكراهية الشديدة, والإفراط في الضحك نرد فعل عكسي لمصيبة ما, وان هذه الآليات تبدو منطقية بمقدار, ولكنها تشكل ابرز ملامح "شخصية المؤمن الفاسد " عندما تشكل السمة الغالبة والطاغية في سلوكه اليومي !!!!.

أما بالنسبة للنفاق عند كلا الجنسين فيعتقد, وخاصة في مجتمعاتنا أن النفاق لدى الرجال هو أكثر شراسة منه لدى النساء بفعل اتساع نطاق دائرة التفاعل الاجتماعي لدى الرجال من خلال انخراطهم الواسع في المؤسسات الدينية من جوامع ومساجد وغيرها وفي الأحزاب السياسية وفي أجهزة الدولة وفي المنظمات الرسمية والشعبية وفي المحافل الدولية والإقليمية, وما تحمله هذه التجمعات والمساهمات من مخاطر ذات صلة وثيقة بأمن العالم والأوطان واستقرارها وسلامتها, وتشكل بحد ذاتها فرصا كبيرة "للمؤمن الفاسد" أن يعبر عن قدراته الاستثنائية في المساس بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والوطنية وتعريض امن البلدان وسلامتها الداخلية والخارجية إلى الانهيار !!!!.
 
أما بالنسبة للنساء وبحكم محدودية وضيق فرص التفاعل الاجتماعي الناتجة من عدم المساهمة في الحياة العامة, فأن النفاق لديها ينحصر غالبا في الدوائر الاجتماعية الصغرى, أي إلى اقرب حلقات التفاعل الاجتماعي لديها: الأهل والأسرة والأقارب أو الأصدقاء, والنفاق هنا عادة ما يكون معبرا عن حالات العزلة الاجتماعية وخاصة عند حبيسات الدار أو المطبخ, وهنا يكون دور " المؤمن الفاسد ـ المرأة " لا يتجاوز تخريب العلاقات الاجتماعية في دوائرها الأقرب في محاولة فاشلة لتأكيد الذات واختراق العزلة التي تعاني منها, ولكن هنا لا نستهن وللأسباب المذكورة بإمكانيات " المؤمن الفاسد ـ المرأة " بانتحال أكثر من شخصية وبأدوار دقيقة جدا تتجاوز حدود النفاق المتعارف عليه لتندمج مع المفهوم النفسي لازدواجية الشخصية , أو ما يطلق عليه اليوم " باضطراب الهوية الانشطاري " والذي يستطيع صاحبه بإجادة أكثر من دور وبإتقان, من مصلحة اجتماعية وواعظة إلى مخربة للعلاقات الاجتماعية إلى راقصة حسناء, إلى إمكانيات أخرى تفوق قدرة موقع "ويكليكس" الالكتروني في فضح الأسرار الخاصة والتشهير وغيره من الأدوار السلبية منها والايجابية ذات الطبيعة الازدواجية, ولكنها تبقى محدودة التأثير وليست بذات الأهمية والخطورة قياسا بما يفعله المؤمن الفاسد ـ الرجل !!!!.

أن "المؤمن الفاسد" فردا كان أم دولة أم كيان سياسي حين يفقد المرجعية بأهمية الخطاب الأخلاقي والديني والسياسي في العلاقات المحيطة بة وفي الأحداث الجارية يتحول إلى كيان مراوغ يفتقد إلى ابسط مقومات الأخلاق في السياسة وفي الدين وفي السلوك العملي ويتحول إلى كيان بهيمي ينشد المصلحة الذاتية والغريزية ويبتعد كل البعد عن منطق العقل وتكون صلته بعالم الغابة أكثر من صلته بعالم الإنسان وطموحاته ومستقبله, ويلهث وراء تبريرات لسلوكه, وهكذا يكون "المؤمن الفاسد" بمثابة القوة المدمرة لكل المنظومة الأخلاقية في السياسة والسلوك !!!.

وينخرط " المؤمن الفاسد " في منظومة الفساد المجتمعية: الاقتصادية, والإدارية والمالية, والاجتماعية, والأخلاقية, والثقافية وحتى الدينية وغيرها من منظومات الفساد المختلفة, عبر مختلف أعراض ومظاهر الفساد وأساليبه وألوانه المختلفة, من محسوبية ومنسوبيه, وبيروقراطية إدارية, واستغلال المنصب العام, والغش والتزوير, والنصب والتحايل وسرقة المال العام, والفساد الأخلاقي والقيمي وتغير معالم الثقافة الوطنية ورموزها والتجاوز على الرموز الدينية والإخلال بسمعتها.

وإذا كان " المؤمن الفاسد " ذو الأطر الإيديولوجية والسياسية غير الدينية يخضع بعض الشيء إلى عمليات تعديل السلوك الناتج من ضغوطات دوائر الانتماء الصغيرة المطابقة لعقيدته والاستجابة لضغوط القيم الوضعية والمتمثلة بقيم الحياة, من حياء واحترام للعلاقات الاجتماعية, فقد يبدو خجولا ومتئنبا في بعض من ممارساته, إلا إن " المؤمن الفاسد " والمتلبس بلباس الدين لا يعبه كثيرا بدائرة علاقاته القريبة, بل يسعى جاهدا لإضفاء الشرعية الدينية على فساده المالي والأخلاقي وغيره من مظاهر الفساد عبر البحث عن واسطة " مطمئنة " بينه وبين السماء, ويلجأ هنا إلى مرجعياته ومشايخه الدينية لانتزاع الفتاوى المبنية على تفسيرات تلوي عنق الحقيقة لمصلحة استمرار النفاق والفساد وإعادة توليده ونشره " كقيمة عليا " وكبديل عن قيم التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة, بل الكثير منهم يحصل بعد تزكية ماله الحرام " دفع الزكاة " لمرجعيته على اعتراف من سلطته الدينية بأنه من  " الخواص ", وبالتالي له الحق في  العبث بالمال العام أينما وجد وسبي أعراض العوام وانتهاك حرمتهم, وتنتشر في وسط هؤلاء ظاهرة الفساد الأخلاقي المتمثلة "بالزواج المؤقت" والتي أصبحت مخاطر أمراضه الجنسية تنتشر على نطاق واسع كما هو الحال في العراق وإيران وغيره من البلدان, وهي في جوهرها علاقات شاذة وغير متكافئة بين طرفين, احدهما قوي يمتلك السلطة والمال أو المال بمفرده وهو الرجل, وبين طرف آخر مستضعف لا حول ولا قوة له وهو المرأة والتي قد تكون معوزة أو أرملة أو تعيل بمفردها أسرة كبيرة فتضطر لبيع جسدها مؤقتا بواجهات "دينية أو شرعية" أو ما يسميه آية الله شريعتمداري "بالدعارة المشرعنة" , وإذا علم " المؤمن الفاسد " إن أخته أو احد أقاربه تمارس" الزيجة المؤقتة " كالمتعة مثلا فأنه لا يتوانى لحظة واحدة عن الانتقام والثأر لعرضه وشرفه مطبقا حد الزنا كما ورد في النص القرآني في سورة النور الآية 2  " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولاتخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " ولكن من يجلد من ؟؟؟؟. 
 
أما "المؤمن الفاسد" المتواجد خارج الحدود وخاصة في دول المهجر في الشمال الأوربي وغيره, حيث ينعم بالأمن والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والسكن المريح وحرية التنقل والحركة وحرية الفكر والتعبير كيفما يشاء, فهو يقف على رأس قائمة الفساد الرسمي أو ما يسمى "بالقائمة السوداء"فهو مدان للدولة المضيفة جراء عمليات النصب والاحتيال والتلاعب بالمال العام أو الهروب من دفع الضرائب العامة, وهو كالعادة يستمد براءة الذمة من مرجعيته الدينية في الوطن الأم بفتوى تخلي سبيله أمام الله " ذبه برأس عالم واطلع منها سالم ", أما أمام الوطن أو الدولة المضيفة أو القانون فليست مشكلة .... تحياتي للحرامي !!!!!.  ويتجمع ويقيم المؤمن الفاسد مع أقرانه من ذات الصبغة في دول المهجر في الأحياء البائسة والمهملة والمكتظة وذات الطبيعة المغلقة وصعبة الاختراق, حيث يشكلون تجمعات لمافيا في الفساد المالي والأخلاقي وارتكاب الجرائم المختلفة, وتجري كل هذه السلوكيات بتغطية واسعة النطاق من الفتاوى الدينية الصادرة من وسط هذه التجمعات أو الوطن الأم, وإذا جلست مع احد منهم فقد يغريك بحسن طلعته الأولى وحلو حديثه المحمل بالثقافة الببغاوية الرتيبة والمملة على خلفية حفظ الأحاديث النبوية والنصوص القرآنية وأقوال الأئمة والصحابة واجترارها دون مناسبة, ولكن سرعان ما تفاجئ بمحتواه الذي تزكم منه الأنوف !!!!.

أما بالنسبة للمشكلة الجنسية"للمؤمن الفاسد" المتواجد خارج الحدود, حيث تشغل هذه المشكلة مساحة واسعة في شخصيته أسوة بأخيه داخل الحدود, فهو" يكدح" في الشتاء القارص لينفق ماله في الصيف متنقلا في دول الجوار ومستفيدا من الفوارق في الأسعار وانخفاض مستوى العيش ومتنكرا ببريد الكتروني ليست باسمه, فيبدوا رحيما طيب القلب عطوفا على النساء هناك, وتبدو لي هنا شدة الدافع الجنسي واتساع مساحته في شخصية " المؤمن الفاسد " هو بمثابة الميكانيزم التعويضي ذو الصفة القبلية " أو ضربة استباقية " لحرمان متوقع كما يدركه المؤمن الفاسد, حيث في "الجنة الموعودة " مع الحوريات لاغشاء بكارة ولا فترة حيض ولا هم يحزنون, ولذا تجد المؤمن الفاسد يسعى لتفريغ حمولته الجنسية في الدنيا تحسبا لقحط وجوع ينتظره في الآخرة, وهو يعلم بذلك جيدا, وهو خير العارفين !!!!!.

أما دولة "المؤمن الفاسد" والمتوحدة مع مواطنها " المؤمن الفاسد " إن كانت بلباس ديني أو قومي أو وطني عام, فهي دولة المعتقلات والسجون والاستبداد ومصادرة الحريات الشخصية والعامة على طريق استعباد مواطنيها وتحطيم نفسيا تهم وإذلالهم, وتجري هذه الممارسات بواجهات مختلفة ومبررات وهمية, منها على سبيل المثال, إن هناك خطر خارجي قادم يهدد الأمن القومي والوطني مما يستدعي "تعبئة الجهود ومصادرة الحريات" لأنها عائق أمام ذلك, أو أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحفاظ على اتجاهاتها لا يحتمل تعدد الآراء والتنوع السياسي وبالتالي فأن القمع والحد من المعارضة السياسية هو من مؤشرات نجاح التنمية وملازم لها وضمانتها الأكيدة !!!!.

أن دولة " المؤمن الفاسد " هي الدولة القمعية والدكتاتورية والتي تعتمد على إيديولوجية قومية أو وطنية أو دينية تبرر فيها كل سياساتها وتصرفاتها, وتحاول بكل جهودها ترك الانطباع لدى الشعب أن ما يجري في داخلها من إرهاب, وقمع للحريات هو خدمة للأمن العام وإنقاذ البلد من التهديدات الخارجية والداخلية, إنها الدولة الكاريزمية التي يجسدها قائد الضرورة, أو الأب القائد, أو القائد الملهم, أو حجة الإسلام والمسلمين وآية الله العظمى أو حبيب الشعب, والتي تعكس في مجملها الزعيم الأوحد قائد الحزب والدولة والمؤسسة العسكرية والمؤسسة الإعلامية وراعي السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية بدون منافس, والذي تجتمع بيده كل هذه السلطات لاستخدامها في البطش والتنكيل والقسوة عندما يقتضي الأمر وفرض حالة الطوارئ عند الحاجة أو إطلاق شيء من الحريات العامة عند الضرورة !!!!!.

ومن الضروري الإشارة هنا أن دولة " المؤمن الفاسد " ذات الصبغة القومية أو الوطنية وبفعل تمرسها عبر عقود من الزمن, واستنادا إلى خلفية نشأتها الأولى القائمة على مقارعة الاستعمار وانجاز الاستقلال الوطني حافظت بهذا القدر أو ذاك على ما يسمى " بمناطق العفة " في بعض القطاعات الاجتماعية وعدم المساس بها كليا أو إفسادها, لأن التطاول على هذه القطاعات يعني ما يعنيه إدخال الدولة والمجتمع في عنق الزجاجة بما يمهد لانهيارها كليا, ومن هذه القطاعات: التعليم بمختلف مؤسساته وخاصة الجامعي منه, والصحة, والقضاء, والإعلام والثقافة, والشرطة والمؤسسة الدينية, وهناك اتفاقا أخلاقيا قد يكون غير مكتوب في إبعاد هذه القطاعات عن النفاق والفساد ومستنقع التلوث, على أساس أن هذه القطاعات صمام أمان لأي مجتمع وحصون أخيرة يلجا إليها الجميع في اليسر والعسر, ولهذا يصبح اقتراب الفساد من " مواطن العفة"  في المجتمع ظاهرة تثير الكثير من القلق بل قد تتحول إلى زلزال يهز أركان المجتمع وانهياره, ورغم أن الدولة القومية أو الوطنية أضفت على هذه القطاعات الصبغة العقائدية لمنتسيبيها, إلا إن معايير الجودة والكفاءة والأداء ظلت تتمتع بهذا القدر أو ذاك بشيء من عوامل البقاء باعتراف المنظمات الدولية ذات العلاقة وخاصة في بداية العقود الأولى من نشأة هذه النظم !!!!!.

أما دولة " المؤمن الفاسد " والمتلبسة بلباس الدين فليست لها  " مناطق عفة محصنة " فهي تضرب كل القطاعات دون رحمة, وهي أشبه بفيروس في جسد بلا مناعة, وهذا الفيروس يتسلل إلى نواة الخلية ( نظام الحكم ومؤسساته وقطاعاته بدون استثناء) فيصيغ برامجها طبقا لاحتياجاته ثم يتسلل إلى المجتمع فينشر المرض وتتغير البرامج كلها طبقا للبرنامج الفيروسي. أن فيروس دولة " المؤمن الفاسد " يفسد عملية التقدم والتطور الاجتماعي المخطط , حيث يفتت المؤسسات اللازمة لذلك ويحولها إلى مؤسسات فئوية ترعى فئة معينة من المجتمع كما هو الحال في نظام المحاصصات الطائفية والعرقية ويعيق تشكيل مؤسسات بحثية وعلمية مستقلة خاصة بذلك؛ كما أن هذا الفيروس يعطل العملية السياسية ويعيق جهود التنمية والأعمار من خلال تعطيله لدور المعارضة الحقيقية باعتبارها تلعب دور الرقيب على الحكومة في الدول الديمقراطية المستقرة, إلا إن هذا الفيروس الذي يتكئ على خلفية نظام المحاصصة الطائفية أو التوافقية يلغي دور المعارضة الحقيقية, لأن هذه " المعارضة " لها يدا في الحكومة تحجم عن دورها الرقابي, وبالتالي يكون الصراع من اجل إفشال الحكومة وليست تقويم عملها, ويسعى الطرف الحاكم أيضا إلى التمادي وتعطيل العملية السياسية وعدم السماح للتداول السلس والسلمي للسلطة, ويدعي كل طرف هو الأفضل على خلفية التعصب والتعنت الديني والطائفي والعرقي !!!!.

أن دولة " المؤمن الفاسد " تشكل بيئة مواتية لفيروس الفساد بألوانه المختلفة وللمحسوبية والمنسوبية والولاء الحزبي الضيق, ففي دولة المحاصصة الطائفية والتوافقية كالعراق حيث يقف عالميا في قائمة الدول التي تعاني من الفساد الإداري والمالي, فأن هذا النظام هو أفضل وسيلة لترعرع ونمو الفساد, وان كان في ظاهره يبدو وكأنه ينصر أبناء طائفته ولكنه في الواقع يبقي أبناء الطائفة في فقر مدقع وتبقي الامتيازات حكرا على زعماء الطائفة وأبنائهم أو رؤساء أحزابها !!!.

أن نظام المحاصصة الطائفية والتوافقية باعتباره نموذجا لدولة " المؤمن الفاسد " يشكل عوامل طرد لاستبعاد الكفاءات العلمية والوطنية, حيث يستند في شكلياته إلى الطائفة كمعيار للانتقاء والولاء وليست معايير النزاهة والكفاءة العلمية بعيدا عن الانتماءات الضيقة, وبهذا يحرم المجتمع من الانتفاع بمواهب أفراده المختلفة والتي لا صلة لها بالانتماء الطائفي.كما يخل نظام المحاصصة بالسلم الأهلي والاجتماعي, ويخل بمبدأ المساواة بين المواطنين في الوظائف العامة ويضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة من خلال تخندقه الطائفي في أطره الجغرافية, كما يضعف سياسة الدولة ووحدتها في الخارج كما يتعارض هذا النظام مع حقوق الإنسان وصيانتها والمنصوص عليها في المواثيق الدولية !!!!.

كما تزحف دولة " المؤمن الفاسد" على رموز الثقافة الوطنية من أدب ومسرح وسينما وأكاديميات متخصصة ومنع مختلف الفعاليات الفنية في وسط وجنوب العراق في محاولة منها لخلق بيئة مواتية لفيروس اسود في مختلف الفنون وعلى طريقتها الخاصة وعلى نسق الجمهورية الإسلامية أو على هدى طالبان, ولعل آخرها ما تعرض له اتحاد الأدباء والكتاب العراقي من حملة افتراء وكذب مدعمة "بالفتاوى الغوغاء" في الضغط عليه لغلقه أسوة بالأندية الليلة بتهمة تعاطي المنكر ـ الخمور, ولا نعرف أيهما أكثر منكرا شرب الخمور أم أكل أموال الناس بالباطل, شرب الخمور أم المحاصصة الطائفية, شرب الخمور أم الفساد الأخلاقي, شرب الخمور أم الفتاوى بسرقة المال العام, شرب الخمور أم النصب والاحتيال, شرب الخمور أم تزوير الشهادات, شرب الخمور أم انتشار مزارع الحشيش والمخدرات بدلا من مزارع الفواكه, شرب الخمور أم المليشيات المسلحة, شرب الخمور أم المتاجرة بالمخدرات من قبل بعض فصائل الإسلام السياسي...... إنه استهتار ومصادرة للحريات العامة التي كفلها الدستور وتجاوز على القضاء صاحب اليد الطول بهذا الشأن و و.... وهي سلوكيات منافقة ومنافية للدين وأضعاف لدور الدولة الديمقراطية والمدنية في العراق !!!!!.





281
في سيكولوجيا الإرهاب وخصوصيته في العراق

" الاعتدال والعمل أفضل أطباء الإنسان "
                             جان جاك روسو



د.عامر صالح

لعله من نافلة القول بأن التطرف والإرهاب خاصيتان سلوكيتان متصلتان ومنفصلتان بنفس الوقت, أي إن الإرهاب يستدعي تشبع ممارسيه بدرجة عالية من التطرف لكي يندفعوا لارتكاب الفعل الإرهابي, لكن ليست بالضرورة كل متطرف هو إرهابي, إلا إن تحول سلوكيات التطرف إلى فعل إرهابي يرتبط بتأثير السياقات والظروف المجتمعية والأطر التاريخية والعوامل الإيديولوجية والدينية , أي أن التطرف أشبه بحامل فيروس خامل ينشط حين توفر البيئة المواتية لكي يتحول إلى فيروس نشط يجسده فعل الإرهاب,  وان سلوك التطرف ـ الإرهابي ليست مقصورة على طائفة بعينها وخاصة عندما تتوفر البيئة الحاضنة له, فبإمكانه أن يكون أراهبا بلباس سني, أو شيعي, أو قومي, أو فاشي وغيره, وخاصة عندما تتشبع هذه المكونات الدينية والاثنية والفكرية بفكرة التطرف والكراهية للآخر المغاير بعيدا عن التسامح والاعتدال والوسطية !!!.

 والتطرف وما يدفع إليه من إرهاب يقوم على خلفية الادعاء بتملك الحقيقة المطلقة وفرض الرأي على الآخرين وإساءة الظن بهم وكراهيتهم وتكفيرهم والتحريض ضدهم والوصاية على الناس, وهي سمات للتطرف, ولابد من الإشارة هنا إلى إن المتطرف الحقيقي كما يراه الكاتب الأمريكي اريك هوفر( 1902ـ 1983) في كتابه " المؤمن الصادق : العقائد وطبيعة الحركات الجماهيرية ", والذي نشر في خمسينيات القرن الماضي, ثم ترجمه إلى العربية الكاتب غازي القصيبي ونشره هذا العام, بأن المتطرف يدعي انه مالك الحقيقة المطلقة ولا يقبل من يقول بأن الحقيقة نسبية, بل يسعى إلى عزله أو ابلسته قبل نفيه.وهو أحادي التفكير لا يقبل بتعددية الأفكار, مقتنع بأن القضية التي يطرها مقدسة, والبرهان عليها  إشراق من داخله, وليس بالحجة والمنطق والمعرفة, ولا يعني ذلك أن المتطرف صاحب مبدأ, بل انه يمكن أن ينتقل من مذهب إيديولوجي إلى آخر, وفي كل مرة يضفي القداسة على مذهبه وبنفس الدرجة من التطرف. لذلك فهو يتوافق نفسيا مع المتطرفين في المذاهب الأخرى, لأنه مثلهم لا يقبلون بنسبية الحقيقة, ولعل هذا التشخيص الاخير يفسر لنا ظاهرة الحراك والتداخل المستمر بين " جماهير " النظام السابق وقواعد الأحزاب السياسية ألان في العراق وخاصة الإسلامية منها, حيث اللغة المشتركة في التشكيك في الآخر وإقصائه عند الضرورة وبكل الوسائل غير المشروعة !!!!.

ومؤلف الكتاب المذكور لا يجيب بشكل تقليدي عن أسباب الثورات كما في الكتابات الكلاسيكية أو المعاصرة, فقد تغلغل اريك هوفر في أزمة الفقر وخرائطه وألوانه وجعل من " محدثي الفقر " هم رأس الحربة الداعمة لأي "حركة جماهيرية", ومثلهم من تحسن وضعهم الاقتصادي قليلا ونقلهم من مستوى الإعدام والادقاع إلى وضعية أفضل توفر لهم هامش ما من التفكير والحركة وخاصة في ظل ضعف سلطة الدولة, أي أن الفقراء ليسوا أنصار "للثورات" كلهم, بل محدثي الفقر ومن تحسن وضعهم قليلا فقط, أما المعدمون والمدقعون فهم ابعد عن تأييد "الحركات الثورية", بل أنهم حسب المؤلف يحسبون على فئة المحافظين بسبب خوفهم الدائم من المستقبل !!!, وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه التحليلات ومدى انسجامها مع الإحداث التاريخية, إلا أنها تضع أمامنا محكا يدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة الإرهاب في العراق وخارجه, وهل أن الإرهاب في العراق وليد الفقر فعلا, وهل من يقوم به وينفذه ويحرس عليه هم من الطبقات أو الفئات الاجتماعية المعوزة فعلا ومن لا يمتلكون لقمة العيش, إني اشك في ذلك على الرغم من قناعتي الشخصية أن ظاهرة الفقر المتأصل  قد تحلق بعيدا عن أسبابها المباشرة لترينا المزيد من تداعياته بما فيه بعض من ملامح الإرهاب !!!!.

أن ما يجري في العراق اليوم هو انعكاس للخصائص والسمات السيكولوجية للعقل المتخلف بكل احباطاته وعدوانيته المتراكمة, متخذا من العنف والإرهاب كوسيلة للتخلص من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها النظام السابق وما قبله, وهكذا يصبح القتل على الهوية جزء من آليات الدفاع النفسية التعويضية, فيقع الإنسان المقهور سابقا في نفس أخطاء قاهره المستبد, ويصبح ممجدا للقوة يستبدل بعقد نقصه السابقة تضخما في الذات واستعلاء على الآخرين, ويصبح هو نفسه مستبدا ومتسلطا على غيره, ولعل ابرز سمات هذه العقلية المتخلفة هو ما أكده الكاتب الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الشهير " التخلف الاجتماعي : مدخل في سيكولوجيا الإنسان المقهور ", والتي قام بتقسيمها على النحو الأتي:

1ـ الخصائص الذهنية المنهجية : وتتميز باضطراب منهجية التفكير من جهة, وقصور الفكر الجدلي من جهة أخرى, ويتجلى اضطراب منهجية التفكير بما يعانيه الذهن المتخلف من قصور  الفكر النقدي, فهناك عجز عن الجمع في سياق واحد بين الأوجه الموجبة والأوجه السالبة, بين المميزات والعيوب لمسألة ما, انه يعجز عن الذهاب بعيدا في تحليله  للأمور لأنه لا يدرك أن لكل ظاهرة مستويات من العمق, وهو يكتفي بالمستويات السطحية التي تشكل عادة قناعا يخفي الحقيقة, وهو من ثم يقوم بإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل, وهو إضافة لذلك يتميز بانعدام المثابرة فهو ينطلق بحماس كبير, ولكنه يفقد حماسه بالسرعة نفسها, ويتميز الفكر المتخلف أيضا بانعدام الدقة والضبط وكل شيء يظل على مستوى التفكير الإجمالي والانطباع العام, كل ما سبق يؤدي إلى العجز عن التخطيط للمستقبل, الذي نرى افقه ضيقا عند الإنسان المتخلف, أما ضعف الفكر الجدلي فهو لب الذهنية المتخلفة, فهي جامدة قطعية وحيدة الجانب تخفق في إدراك الترابط والتفاعل الشبكي بين الظواهر وما ينتج عنه من حركية وتغير.

2ـ الخصائص الذهنية الانفعالية : أن طغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص على مستوى العقلانية ظاهرة مألوفة في الأزمات, ولكنها عند الإنسان المتخلف تكاد تكون الأسلوب الأساسي في الوجود, انه يعيش في حالة من التوتر الانفعالي الذي يعبث في ثنايا شخصيته معطلا القدرة على الحكم الموضوعي والنظرة العقلانية للأمور, أن العجز عن التصدي العقلاني الموضوعي للمشكلات والأزمات الحياتية يدفع بالمرء إلى النكوص إلى المستوى الخرافي, إلى الحلول السحرية والغيبية, إلى الإرهاب باعتباره واجبا مقدسا أو حلا قسريا للأزمة النفسية !!!!.

وعلى خلفية بعض المسلمات السيكولوجية المذكورة يثير الإرهاب في العراق وعملياته وماذا يستهدف الكثير من التساؤلات والحيرة والتأمل في أوساط الكتاب والسياسيين والصحفيين والمتخصصين بشؤون الإرهاب وبالشأن العراقي بشكل خاص, إلا أن هناك تصور ايجابي يلوح في الأفق من أن الإرهاب بنسخته العراقية يكاد يختلف عن الإرهاب الدولي بزعامة القاعدة ـ بن لادن في الكثير من وجهوه وأهدافه وطبيعته وقواه المنفذة, على الرغم من أن رموزه الانتحارية المنفذة تدعي الانتماء إلى القاعدة ـ فرع العراق, الأمر الذي يسهل الإمساك بخيوطه على طريق معالجته والقضاء عليه.

أن المعطيات الميدانية تشير إلى أن الإرهاب العراقي يمكن التحكم فيه, وهو ذو أهداف سياسية موضعية بحتة, ترتبط بشكل خاص بالبيئة السياسية العراقية الحاضنة له, رغم التمويل والإسناد من دول الجوار أو من دعم ومؤازرة تنظيم القاعدة الدولي, وان دليل ارتباطه وثيقا بالبيئة العراقية هو فترات المد والجزر في العمليات الإرهابية, والتي تكاد تختفي كليا في بعض مناطق العراق, والتي ارتبطت أساسا بطبيعة الصفقات السياسية في تداول الحكم في العراق, والتي أخذت هي الأخرى طابع الشد والاسترخاء, والتي كادت تصل إلى حد المطابقة مع العمليات الإرهابية في علاقة ارتباطيه عكسية فحواها : "كلما حصل الانفراج السياسي ضعفت العمليات الإرهابية وبالعكس", أي بمعنى آخر أكثر وضوحا أن للعملية السياسية الديمقراطية في العراق ذيول ترتبط مع المنظمات الإرهابية ذات الطابع العراقي البحت " وهي من مفارقات الديمقراطية العراقية ", وهو مخالف بالتأكيد لأعراف تنظيم القاعدة الدولي الذي لا يعرف الصفقات السياسية والمساومات أو التحالفات المؤقتة مع المخالف الديني أو السياسي بفعل ارتباطه بأهداف لاهوتية كونية تأخذ من تكفير الأخر الديني والطائفي والمذهبي والسياسي هدفا تدميريا لها باختلاف خصوصية المكان وتفاعلات السياسة هنا وهناك !!!.

أن الاختلاف الجوهري والأساسي بين تنظيم القاعدة الدولي والقاعدة العراقية يستند إلى حيثيات كثيرة, لعل أبرزها أن " القاعدة العراقية " إذا قصدنا بها كتنظيم إرهابي وليست كفرع من القاعدة الدولية, فهي تضم كل ألوان التنظيمات الإرهابية أو التنظيمات السياسية ذات الأجنحة المسلحة الممولة والمخترقة من دول الجوار, والمخترقة أيضا من فلول النظام السابق ذو القدرة والخبرة العسكرية واللوجستية في تنفيذ العمليات الإرهابية وذو المقدرة الاستثنائية والفريدة في خلط الأوراق واختراق النسيج الاجتماعي العراقي عبر عمليات نوعية تثير الاحتقان الديني والطائفي والعرقي, ومستندة إلى الإرث اللااخلاقي والبغيض للنظام السابق في إبقاء " العراق أرضا بدون شعب ", وليست بالضرورة أن يكون المنفذ للعمليات الإرهابية بعثي معروفا بانتمائه التقليدي لحزب البعث, لا بل قد يكون المنفذ من منظومة أحزاب الإسلام السياسي وطوائفه المختلفة مستندة إلى التلوث ألقيمي والفكري لكلا الجانبين والتي يجمعها مشترك إقصاء الأخر المغاير في الهوية الدينية أو السياسية, إلى جانب أن الكثير من الأحزاب ذات الصبغة التدينية تنفذ أجندة خارجية تستهدف تقسيم العراق وشعبه والعبث في جغرافيته السياسية والدينية والاثنية وتتقاطع أجندتها ضمنا مع فلول النظام السابق في العبث في الاستقرار بأي ثمن, ولذلك تلجأ هذه القوى إلى الإرهاب كآلية للوصول إلى الأهداف عبر تشتيت مكوناته الدينية والاثنية وخلق حالة الجزع النفسي والفكري وصولا إلى اقتناع الفئات المتضررة من الإرهاب بضرورة ترك العراق,ولكي يخلو الدار إلى المتصارعين الثيران الكبار كما هو الحال في مجزرة كنيسة النجاة !!!.

أن كل متابع للمشهد السياسي العراق لم يرى في " القاعدة العراقية " إلا كونها الذراع المسلح للبرلمان العراقي, فهي تنطلق فورا في عملياتها الجبانة حال انفراط عقد السياسة في قبة البرلمان لتوغل في العنف وإراقة الدماء ولتحقيق أجندتها عبر التهديد والوعيد. أن العمليات الإرهابية في العراق تنسجم كثيرا مع رؤى البروفسور بروس هوفمان في قوله : " إن الإرهاب هو الخلق المتعمد للخوف واستغلاله في تحقيق التغير السياسي , وبالتالي فهو دون شك شكل من أشكال الحرب النفسية ", ويؤكد أيضا أن الناس كثيرا ما يتعرضون للقتل والإصابات المأساوية في هجمات الإرهابيين, إلا أن الإرهاب بطبيعته يرمي لأحداث آثار نفسية بعيدة المدى بشكل يتجاوز الضحية أو الضحايا المباشرين وما استهدفه عنفهم, فالإرهاب يرمي إلى غرس الخوف في داخل النفوس وبالتالي إلى إرهاب المجموعة التي يستهدفها الإرهابيون وللتأثير على سلوكها. أن الإرهاب في العراق يجسد هذا النمط من التصور للفعل الإرهابي في محاولة لإعادة بناء التحالفات السياسية وفق أجندة خارجية وداخلية وفي ظل ظروف غياب ملموس لسلطة الدولة والقضاء العادل وضعف الممارسة الديمقراطية, يقابلها في الطرف الآخر مواطنا مخترق في الأمن والخدمات والعيش الكريم !!!.




282
مقاربات سيكولوجية على خلفية تسريبات موقع ويكيليكس

" الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن نسند إليه قيمة مطلقة هي الكرامة "
                                                                               كانت

د.عامر صالح

أثارت تسريبات موقع ويكيليكس الالكتروني لأكثر من 400 ألف وثيقة المزيد من الذعر والاستغراب والتداعيات المختلفة, والتي كشفت عن حجم الانتهاكات الصارخة والمشينة لحقوق الإنسان في العراق في الفترة الواقعة ما بعد احتلاله في التاسع من ابريل عام 2003, وبشكل خاص للفترة الواقعة ما بين مطلع 2004 ونهاية العام الماضي 2009 , وقد ضمت هذه الوثائق معلومات موثقة تحمل الجهات الأمريكية والجهات العراقية الرسمية والشركات الأمنية والفصائل السياسية المليشياوية بمختلف مشاربها بما جرى ويجري للعراق وشعبه من مأساة وقتل وتعذيب بأبشع صوره واستباحة للدم العراقي الذي أصبح ارخص مما كان رخيصا في عقود الدكتاتوريات السابقة !!!!.

وقد تراوحت ردود أفعال الكتاب والصحفيين والسياسيين بين منذهل ومستغرب, وبين مكذب لهذه الوثائق باعتبارها مسودات بخط اليد لا تمتلك مصداقية, وكعادة الثقافة الانقلابية حيث التشكيك بكل شيء عندما يتعلق الأمر بمزاج سياسي أو نزوع شخصي ما بعيدا عن مأساة شعب !!!!, وبين داعين لتشكيل محاكم دولية متخصصة للنظر بالاختراقات والانتهاكات الحاصلة لحقوق الإنسان, باعتبار أن ما حصل استنادا إلى الوثائق هو جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة وجرائم حرب تقع مسؤوليتها على عاتق الاحتلال الأمريكي والبريطاني وعلى الحكومات العراقية المتعاقبة وأجهزتها الرسمية المعلنة وغير الرسمية الخفية والتي تعمل في الظل !!!!.
 
أن البعد القضائي والقانوني يجب أن يأخذ مجراه حرصا على العدالة ومستقبل الديمقراطية في هذه البلاد, وان محاسبة المجرمين وامتثالهم أمام العدالة هو اقل ما يطالب به شعبنا لإنزال العقاب بجلاديه ولتفادي كوارث قادمة سيكون وقعها أكثر بكثير من وقع جرائم النظام السابق وانتهاكاته لحقوق الانسان !!!!.

إني هنا ابتعد عن السياسة نسبيا في تفسيري للحوادث واقترب من التفسير النفسي للتأريخ لاستقراء ما يحصل لشعبنا من كوارث, والتي هي بمحصلتها النهائية نتاج لتراكمات الفعل السياسي عبر عقود من الاستعباد ومخلفاتها في وعي ولا وعي المواطن العراقي. أن علماء النفس يتفقون أن للإنسان  جانبا ظاهريا من السلوك يحكمه العقل الواعي, وهذا الجانب قد يبدو غريبا أو متناقضا أو غير مفهوم إذا نظرنا إليه وحده مقطوع الصلة عن جذوره الكامنة في ما يسمى في العقل الباطن" اللاشعور " ذلك العقل الباطن الذي اختزنت فيه الذكريات والأماني والرغبات والمخاوف والمعاناة والدوافع والحاجات وخاصة غير المشبعة فشكلت قوة مستترة ولكنها هائلة التأثير على السلوك الظاهر للفرد, ولم يقتصر الأمر على الفرد الواحد بمفرده بل يمتد ليشمل الجماعة فثمة ما يطلق عليه العقل الباطن الجمعي" اللاشعور الجمعي " والذي وضعه عالم النفس كارل يونج, وهو يحوي أرشيفا لتأريخ الأمم والجماعات يؤثر بوعي أو بدون وعي في طرق تفكيرها ووجدانها وسلوكياتها, وبدون هذه المنطقة الكامنة في أعماق النفس وغير المتاحة لنا في الأحوال العادية يصعب فهم الكثير من سلوكيات البشر أفرادا وجماعات.وان هذه القراءة النفسية تسمح لنا ليست فقط في تفسير ما حصل, ولكن بما سيحصل استنادا إلى التركيبة النفسية والديناميات النفسية التي تساعدنا على توقع سلوك معين من شخص معين أو جماعة معينة أو حزب سياسي أو طائفة ما !!!.

لقد وقع العراق ولعقود ضمن دائرة القمع المستديم من قبل نظم سياسية شوفينية ودكتاتورية وفردية مارست التميز بشتى مظاهره مما عرض المنظومة القيمية والنسيج الاجتماعي إلى مخاطر التفكك الاجتماعي والانهيار الأخلاقي والاستخفاف بحياة الناس, حيث أصبح فيه اعتقال المواطن العراقي وتعذيبه وتهجيره وقتله وسبيه ضمن المسلمات والسياقات المعتادة في التعامل.وخلال هذه العقود من الظلم والاستلاب, وعلى الرغم من وجود فسحة " الجماهير المعارضة " إلا إننا لا نغفل حقيقة إن هناك اندماجا حصل ما بين " الجماهير " والسلطة الظالمة بفعل تواصل وديمومة القمع, وأصبحت " الجماهير " تمثل أخلاق السلطة الحاكمة, بل وتشيع ممارساتها على نطاق واسع في صفوف الشعب, مما سهل تبادل الأدوار بين الدكتاتورية كنظام وبين الشعب كمظلوم, أن تكون" الجماهير " في بعض محطاتها ظالما ودكتاتوريا وخاصة مع الشرائح الاجتماعية المهمشة والمحرومة والبعيدة عن مراكز القرار, وخاصة عندما تكون " الجماهير " تحت وطأة سلطة غير شرعية أو مستبدة, حين إذ تسود ديناميات مرضية مثل الكذب والخداع والنفاق والعدوان واللامبالاة, عندها ترخص أرواح الناس ويكون القتل تتمة لذلك, وبالمقابل تتعامل السلطة الجائرة مع الجماهير بازدراء وشك وتوجس, وترى أنها غير جديرة بالاحترام وبالتحاور والتشاور والممارسة الديمقراطية في تبادل الآراء!!!.

وفي لحظات انهيار هذه النظم سواء بعوامل داخلية أو خارجية فأن مكنونات الكبت وما يصاحبها من عدوان تطفح بما لا حدود له وغير محسوبة بالحسبان وتطال "جماهير " واسعة وأحزابا كانت بالأمس تدعي المظلومية تتحول بسهولة إلى ظالمة من خلال ردود الفعل العنيفة وممارستها لنماذج أساليب القمع والتعذيب وخبرات اللاوعي ذات الجاهزية للاستحضار والمستمدة من ثقافة النظم القمعية السابقة, وتكمن خطورة ذلك عندما تمارس هذه الأساليب من قبل أحزاب ذات القناعة الهشة بالديمقراطية السياسية في محاولة منها للانفراد بالحكم وتأسيس" ديمقراطية " خاصة بها, عبر تعبئة "جماهيرها " وتجيشهم من خلال ثقافة الحشد الخطيرة وسلوكيات القطيع الجماعي !!!!.

ولعل المفكر الفرنسي " غوستاف لوبون 1841 ـ 1921 " مؤسس " علم فلسفة الجماهير " وفي كتابه " سيكولوجيا الجماهير " والذي صدرت طبعته الثانية عن دار الساقي في العام1997 والذي قام بترجمته والتقديم له الأستاذ هاشم صالح, يترك لنا انطباعا أوليا مهما في تفسير بعض تداعيات الحالة العراقية, بما فيها من عنف وكراهية وبغضاء وقتل, من خلال الخطابات الدينية والسياسية المهيجة للانفعالات والتي تعبئ" الجماهير " كثور هائج لا يعرف عواقب أفعاله. صحيح أن هناك أدورا مشرفة للجماهير عبر التأريخ من خلال التضحيات الجسام من اجل قضايا وطنية كبرى, كالاستقلال وانجاز السيادة الوطنية وخلق نظم عالمية ديمقراطية شامخة, إلا أن هناك وجه آخر " للجماهير " اتسم بالقنوط والسلبية لجهة قوى الاستبداد والقوى الظلامية وساهمت بوصول نظم وإيديولوجيات فاشية إلى الحكم عبر تزكيتها ومنحها أصواتها.

وهكذا فأن الوجه الآخر" للجماهير " وهو ذو الطابع السلبي والمخيف وكما يتصوره المفكر غوستاف لوبون, حيث يرى أن هناك  "روحا للجماهير " تتكون من الانفعالات البدائية التي تتشكل عبر العقائد الإيمانية والأفكار المتحجرة, مما يجعلها بعيدة عن التفكير العقلاني والمنطقي, ويستطيع الفرد المنخرط في الجمهور أن يقوم بأعمال استثنائية بما فيها القتل وارتكاب الجرائم, والتي لا يستطيع القيام بها إن كان بمفرده, ومن خصائص " الجمهور " سرعة الانفعال الشديد, حيث يقوده اللاوعي كليا تقريبا فهو عبدا للتحريضات التي يتلقاها من الزعيم أو القائد الديني, وهي سهلة الانقياد إن وجدت من يحسن العزف على أوتارها ويخيفها ويمتدحها في نفس الوقت, ويؤكد غوستاف لوبون أن  " الجماهير " لا تعقل, فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلا واحدا, من دون أن تتحمل نقاشها, فما يقوله لها الزعماء يغزو عقلها سريعا فتتجه إلى أن تحوله حركة وعمل, لا يهم أن تكذب على" الجمهور " لأنه لا يطلب الحقيقة أصلا, أن المهم أن تعرف كيف تحرك هذا الوحش الرهيب لتحقيق أهدافك السياسية !!!!.

أن تكاتف الظالم والمظلوم أو استفادة المظلوم من ارث وثقافة الظالم في طرائق تعبئة الناس وزجهم في معارك طاحنة على خلفية خطاب ديني مشوه أو خطاب سياسي منفعل وكاذب يفسر الكثير من محتويات ونصوص الوثائق التي قام بتسريبها موقع ويكيليكس الالكتروني, وان كانت في مجملها لا تعني شيء جديد, حيث حصلت الإحداث على ارض العراق وعايشها الناس وهم وقود لها سواء ما ارتكب منها من الجانب الأمريكي أو العراقي بكل تفصيلاته, إلا أن ما يثير الدهشة هو البعد ألتوثيقي ـ الأرشيفي وخاصة عندما تقرأ الوثائق دفعة واحدة, حيث تستحضر ذاكرة القارئ مجددا حجم المأساة و بشاعة القتل والإرهاب والمعاناة التي حصلت وتحصل لهذا الشعب !!!!.






283
الطائفية بين مشروعية الانتماء وسلوكيات الإقصاء !!!!

" أطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية, فإنما تلك الحمية, تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته, ونزعاته ونفثاته "
                                                                                                 علي بن أبي طالب(ع)

د.عامر صالح

أن الانتماء الطائفي والمذهبي هو نتيجة طبيعية لواقع يولد ويترعرع وينشأ فيه المرء, فإذا ولد في عائلة مسلمة ـ سنية, أو مسلمة ـ شيعية, أو مسيحيةـ كاثوليكية, أو مسيحية ـ بروتستانتية, أو صابئية أو زيديه, فأنه يشعر بطبيعة الحال بانتماء وشعور ما للطائفة وللدين الذي ولد فيه, وهذا أمر طبيعي يقارب في تجلياته صورة من يحمل الخصائص الوراثية لوالديه, من طول القامة ولون الشعر وشكل الأنف والوجه وبعض من مظاهر السلوك النمطي, ولم يفكر احد منا بتغير طائفته أو مذهبه باعتبارها تحصيل حاصل أو مستقر حال.قد ينساق البعض تحت وطأة ظروف التطرف والانهيار ألقيمي في البحث عن أدلة مفرطة في تأكيد صحة انتمائه الطائفي على حساب الطوائف والمذاهب الأخرى, وهي حالات من صور طبق الأصل لعمليات التجميل الجراحي لشكل الأنف, والشفاه, والخدود, والصدر أو لبس العدسات الملونة في محاولات لتغير حقائق الشكل, والذي لا يمكن فيه تجاوز سنة الوراثة, حيث يبقى طفح الصفات الوراثية الحقيقية في الأجيال القادمة دون أن يتغير من الجوهر شيء يذكر, ويبقى الإحساس الداخلي للفرد هو الأهم والفيصل في ذلك !!!!.
 
من الناحية الحيادية الخالصة أن الانتماء الطائفي لا يحتم العداء للطوائف والمذاهب الأخرى, بل يمكن أن يتعايش المرء مع الشعور بمحبة أبناء الطوائف الأخرى ومع احترامهم, وهو خلاف التعصب الطائفي تماما الذي يؤكد على تمجيد وتفضيل للطائفة التي ينتمي إليها الفرد وإقصاء الآخرين أو التميز ضدهم أو اتخاذ موقف معادي لهم. قد يتصور العديد من الناس للوهلة الأولى بأن الانتماء الطائفي هو نوع من الانتماءات المتخلفة والبدائية والضارة, وقد تلحق الأذى بالانتماء القومي والوطني, وهو تصور مستعجل ومنفعل يستند إلى حجم الكوارث والأهوال والاقتتال الذي يحصل بين الطوائف والقائم على خلفية تعصبية ـ طائفية, وليست انتمائية خالصة نزيهة ونظيفة للطائفة بعينها !!!!.

وكما نعرف فأن الإنسان المعاصر يتمتع بدوائر انتماء متعددة منها الانتماء الطائفي والوطني والقومي والسياسي والإقليمي والمهني والجيلي وغيرها من الانتماءات, والشعور بالانتماء لهذه هو دينامي وسياقي, دينامي لأنه يتحرك ويتغير في فضاء الزمان والمكان, وسياقي لأنه يتعلق بالسياق الذي يوجد فيه الفرد, ففي سياق ما مثل أثناء نقاش سياسي مع مجموعة كردية أو عربية يكون الشعور بالانتماء القومي هو الأبرز, بينما يكون الانتماء المهني هو الأبرز أثناء جدال مهني. ومن غير المنصف والأخلاقي أن يطلب من الفرد أن يحصر شعوره بالانتماء إلى دائرة واحدة كالدائرة الوطنية أو القومية أو الأممية أو الطائفية, وان يتخلى عن دوائر الانتماء الأخرى, إذ أن لكل دائرة انتماء دورها النفسي والسلوكي والاجتماعي في حياة الناس, وعليه من غير المنصف وغير المجدي أيضا التعامل مع الانتماء الطائفي باعتباره مرض عضال أو آفة يجب مكافحتها. نحن هنا نكافح التعصب الطائفي الذي يقوم بقتل الإنسان من خلال حصره في دائرة انتمائية ضيقة, كالانتماء الطائفي ـ الديني الضيق, واعتبار الفرد الضحية ممثلا حقيقيا لدائرة الصراع الطائفي ـ الطائفي, متناسيين بغباء انتماءات الإنسان الأخرى الوطنية والقومية والسياسية.فكم من عشرات الألوف من الضحايا في العراق قتلوا ظلما وبهتانا, وعشرات ألوف أخرى ينتظرها القتل بدوافع الانتماء الطائفي قد تنفذ بأيدي قاتل أو مجرم متعصب ـ طائفي, يرى في انتماء هؤلاء الطائفي ذريعة لجرائمه, وهم أبرياء حقا لا يمتلكون من التعصب ـ الطائفي شيئا يذكر, سوا لأنهم انتموا بالأسماء أو الطوائف لهذه الطائفة أو تلك, أو لأنهم ورثوا هذا الدين أو هذه الطائفة عن أبائهم وأجدادهم, وقد لا يحمل الضحايا أي مساحة تذكر في شخصياتهم من التعصب الطائفي, وقد ينتمون إلى دوائر أخرى أوسع بكثير من الطائفية الفطرية " الموروثة " !!!!.

أن بالإمكان للانتماء الطائفي أن يسخر للمصلحة الوطنية, وان التناقض بين الانتماء الطائفي وبين الوطني هو ليس أمرا حتميا, وان تاريخ العراق السياسي يشهد كثيرا من التوظيف المثمر للانتماءات الطائفية في الدفاع عن الوطن وسيادته ضد المحتل الأجنبي, ومن اجل ترسيخ السيادة الوطنية, وخاصة ما حصل في بداية تشكيل الدولة العراقية وما قبلها حيث لعب زعماء الطوائف السنية والشيعية وغيرها دورا مشرفا في مقارعة الاستعمار وردع طموحاته اللامشروعة والحفاظ على الوطن" , وبالإمكان من جانب آخر استغلال الانتماءات الطائفية والمذهبية لأهداف فئوية أو سياسية ضيقة أو لمعاداة القوى الوطنية, كما حصل ذلك في بعض المحطات المؤسفة والمؤذية لبعض فصائل الإسلام السياسي في تحالفها مع انقلابي 8 شباط عام 1963 والعمل بفتوى " الشيوعية كفر والحاد " والذي راح ضحيته عشرات الآلاف من المناضلين الوطنين والضحايا الأبرياء, وعلى العموم يجب عدم معاداة الانتماءات الطائفية, بل يجب تفهم دورها النفسي والاجتماعي في حياة الناس, وفي نفس الوقت التحذير من التعصب الطائفي الذي يقصي أو يعادي الآخرين, أذن هناك فرق بين أن تنتمي إلى طائفة ما وبين أن تتعصب لها !!!!.
 ويبقى الحديث عن مشروعية الانتماء إلى طائفة ما أو قومية ما أو هوية سياسية ما ناقصا بالتأكيد إذا لم يقترن بالحديث عن التعددية والديمقراطية كمنهج وكقيمة اجتماعية, والتعددية تعني قبول الآخرين المختلفين قوميا أو طائفيا أو سياسيا واحترام رأيهم وحقوقهم وطريقة حياتهم طالما أن ذلك لا يمس بحقوق بقية الفئات, ففي الوقت الذي ندعو به إلى حق الناس في ممارسة انتمائهم الطائفي يجب الدعوة بقوة إلى انتهاج التعددية والديمقراطية السياسية لكي يأخذ كل مكون اجتماعي أو ديني حجمه الطبيعي وألا يبقى خطر تحول الانتماء الطائفي إلى تعصب طائفي, كما تشهد على ذلك المظاهر العلنية والخفية للصراع في الساحة السياسية العراقية والمتلبس بثوب الطائفية والذي قام على خلفية نهج الاحتلال في التأسيس لنظام المحاصصة وزرع بذور الفتنة بين المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والاثنية العراقية, والمتمثلة بالعديد من الإجراءات الانتحارية : مثل قانون إدارة الدولة, واجتثاث البعث, وحل القوات المسلحة العراقية, وشكل المنظومة السياسية, والدستور, وقانون مكافحة الإرهاب, ودمج المليشيات في القوات المسلحة وغيرها في العديد من الإجراءات التي تدفع صوب الاحتقان السياسي والطائفي, والذي اتضحت أثارها منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003, والتي تجسدت في الحرب الأهلية السياسية ـ الطائفية, والتي سمحت لتنظيم القاعدة الإرهابي وفلول النظام المنهار أن تتصدر معارك " الشرف والبطولة " لإبادة شعبنا, والتي كادت تطبق على مكونات شعبنا وسحرها الجميل إلا أن نباهة شعبنا وتقاليده في التسامح الاجتماعي  واللاعصبية ساهمت في تضيق نار الفتنة في محاولة لإخمادها !!!.

واليوم إذ ينبذ شعبنا بشدة الاحتراب والاقتتال الطائفي والصراع السياسي ذو الذرائع الطائفية, نجد أن هناك زحفا آخرا طائفيا منظما لا تقل خطورته عن الزحف الطائفي المسلح" والذي لا تزال بقاياه رهن الإشارة والصفقات السياسية والظروف المحيطة  بين التهديد والوعيد ", حيث يشهد العراق زحفا طائفيا " غير مقدس " بدون رحمة أو رجعة على الوزارات والدوائر الحكومية ومجالس الحكم في المحافظات وغيرها من مرافق الحياة الحكومية, فقد تحولت الوزارات والدوائر الحكومية إلى محميات ومقرات حزبية وخلايا تنظيمية وأصبحت الوزارات مغلقة لجميع المنتسبين والعاملين فيها لجهة حزب الوزير الذي يقود الوزارة, ويشمل ذلك كل الوزارات والدوائر الحكومية بدون استثناء, من أجهزة أمنية, ومخابراتية, وجيش, ووزارة الخارجية وسفاراتها وقنصلياتها الدبلوماسية في الخارج "والتي أصبحت تمثل حزب السفير أو القنصل في الخارج ولا تمثل الوطن", ووزارة الصحة, والتربية والتعليم وغيرها, وعلى خلفية ذلك يستشري الفساد الإداري والمالي والأخلاقي محتميا ومحميا بالمظلة الطائفية والسياسية لتلك الجهة المتربعة في الجهاز الحكومي المعني دون أدنى رقيب, ومؤسسا لأحترابات قادمة لا نعرف مدايات سقفها وخطورتها على الاستقرار السياسي المنشود للبلاد !!!!.

أن ما يؤذي الناس والشعب عموما وبمختلف أطيافه هو ليست الانتماء إلى طائفة, فذلك واقع حال, حيث عاش العراق فترات من المحبة والمودة بين الطوائف والمذاهب والأديان المختلفة, وهي فترات إنسانية حقه نعتز بها جميعا, لم نعرف فيها دين أو مذهب جارنا وصديقنا,ولم نؤسس تعاملنا الحياتي على أساس هذا الانتماء , ولم نجرئ لأسباب أخلاقية أن نسأل عن انتماءات جارنا وصديقنا المذهبية والطائفية, فكان ذلك من المعيب والمخزي في ثقافة التعامل اليومي, وان عرفنا بذلك فنكن له كل المودة والاحترام, حيث كان الانتماء للوطن هو سيد الموقف والثقافة السائدة !!!!.
 
إننا اليوم نعاني من الفتنة الطائفية القائمة على ذلك السلوك المتمثل في بث روح التعصب الطائفي أو إثارة النعرة المذهبية, وخاصة عندما يستخدم هذا السلوك للنيل والانتقام من طائفة على حساب طائفة أخرى, أيا كانت هذه الطائفة " سنية, شيعية, زيديه, مسلمة, مسيحية, صابئية وغيرها " وهي سلوكيات تستهدف التفرقة الطائفية والمذهبية والدينية حيث المساس المباشر لحياة الناس وأرزاقهم وحقوقهم ومصالحهم وكرامتهم وآمالهم وأمنهم وسلمهم, بل وقتلهم باعتبارهم مرتدين, والتفرقة الطائفية هنا هي جريمة بعينها, يكون ضحاياها شرائح واسعة من المجتمع المدني, وهي سلوكيات تخالف ابسط مقومات الدين الحنيف, وكما ورد في الحديث النبوي, إذ يقول النبي محمد ( ص ) : " لا فرق بين عربي و لا أعجمي إلا بالتقوى " , وهو كذلك بالتأكيد سلوك مخالف للأعراف والتقاليد الدولية, حيث تنص المادة ( 55) من ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على عدم الفوارق بين الناس, حيث تؤكد المادة المذكورة على : ( احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تميز بسبب الجنس أو اللغة والدين, و لا تفرق بين الرجال والنساء, ومراعاة تحقيق تلك الحقوق والحريات فعلا).

أن التعصب بمختلف مظاهره من عنصرية, وطائفية دينية أو مذهبية, أو سياسية, أو قومية أثنية, أو حزبية وفكرية, تمثل اتجاها نفسيا جامدا ومتحجرا مشحون انفعاليا أو عقيدة وحكم مسبق مع أو ضد جماعة أو أي شيء أو موضوع, ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة أو حقائق علمية. أو هو موقف معاد ضد الجماعات الأخرى المختلفة في المعتقد أو المذهب أو الدين أو القومية, وخاصة عندما لا يكون هناك تفاعلا حقيقيا ومعرفة واقعية بين هذه الجماعات, وان هذا التحجر وعدم التفاعل يحول الوطن الأم إلى كانتونات منعزلة تسودها الريبة والشك والبغضاء فيما بعضها البعض, وبالتالي يحرم التعصب هذه المجاميع من فرص التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتنمية المستديمة تحت مظلة الوطن, لأن التعصب بطبيعته يناهض العلم ويحارب التقدم ويعادي الحقيقة ويقاوم المبادرة الفردية ويخاف من الأفكار الجديدة ولا يقبل بالنقد البناء ويرفض التساؤل باعتباره مصدر الحقائق والمعارف, ويترك التعصب لدى أهله انطباعا وهميا بالكمال والامتياز والأهلية في مختلف المجالات, وهو بذلك يغلق أبواب الرحمة والتفاعل مع البيئة الخارجية, وهو بذلك يكتفي بالاسترجاع والاجترار ويغلق قابليات العقل ويخنق فعاليات العلم ويكرس الجهل ويملأ النفوس مسرة وفرحا بالجهل واستماتة في الدفاع عنه.

إن شعبنا في العراق اليوم يطمح إلى بناء حكومة وطنية قوية في المركز, تحترم مصالح وحقوق كل الطوائف والأديان والأعراق والاثنيات, وتحافظ على وحدة البلاد وحمايته من التدخلات الإقليمية, تحظى بثقة العالم في تطبيقها للديمقراطية بعيدا عن المحاصصات, ويكون وزرائها وكادرها في مختلف المواقع من التكنوقراط  والأكفاء والقادرين على محاربة الفساد بمختلف مظاهره. وختاما نقول أن من قتل علي بن أبي طالب ( ع ) هو عبد الرحمن بن ملجم الحميري الفارسي, وان من قتل عمر بن الخطاب ( رض ) هو أبو لؤلؤة الفارسي, وأن من قدم إلى ارض العراق وأستشهد فيه لا زلنا ندفع مزيدا من ثمن عقدة الذنب وجلد الذات ونحن ليست القتلة الحقيقيين, فهل يكتفي العراقيون بمختلف طوائفهم وأعراقهم شر تجير السياسة بالطائفية والعرقية وهل يكفون عن شر القتال !!!!!.  

 


284
السياسة العراقية بين فكي "الصحوة الدينية " وتصدع الوحدة الوطنية

" يفكر الوطني بالأجيال القادمة, أما السياسي فيفكر بالانتخابات القادمة "
                                                                شكيب ارسلان


د.عامر صالح
يتبادر إلى الذهن دوما عندما نسمع بالصحوة الدينية هو تنامي الاتجاه نحو التدين بوجه عام لدى المنتمين للإسلام أو لغيره من الأديان السماوية وغير السماوية, وتشمل هذه الدعوة التوجه ألعبادي, أي اتساع نطاق الممارسات الدينية التقليدية, والتوجه الثقافي والسلوكي الذي يحاول أن يأخذ من الدين الشكل والمضمون اللازم له.وتترك لدينا هذه التوجهات انطباعا أوليا ايجابيا عندما نسمع بها للوهلة الأولى دون الخوض في التفاصيل, وكأنها تعكس العودة إلى الكتب المقدسة والأحاديث النبوية باعتبارها خطابات رحمة ووئام بين أبناء الأمة الواحدة, وبين البشر بصورة عامة, وكما يقول النبي محمد( ص ) : " أيها الناس, إن ربكم واحد, وان أباكم واحد, كلكم لآدم وآدم من تراب ", ولتأكيد على أخوة البشر جمعاء باختلاف الدين, كما في قول الإمام علي بن أبي طالب( ع): " إن لم يكن أخيك في الدين فأخيك في الخلق ", وكذلك احترام حرية الإنسان وعدم التجاوز عليها باعتبارها فطرة إنسانية, كما في قول عمر بن الخطاب( رض): " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟ "!!!!.

أما بالنسبة لمفهوم الوحدة الوطنية فهو يشمل العلاقات بين أبناء الوطن الواحد من المنتمين لمختلف الأديان والطوائف والأعراق, ويتسع هذا المفهوم ليشمل ذوي المذاهب الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتباينة من أبناء الوطن الواحد, بصرف النظر عن اتحادهم في الدين أو اختلافهم فيه, أي أن الوطن هو البوتقة التي تحمل كل تنوعات المجتمع, من أديان وطوائف وأعراق واثنيات متنوعة ومختلفة.وقد احتل الوطن والوطنية مكانة خاصة في ثقافات الشعوب عبر التاريخ, كما كانت الأديان السماوية وغير السماوية حافلة بالاعتزاز بالوطن والوطنية, بعيدا عن ارتهان مصيره بدول أجنبية, أو العمالة لصالح جهات غريبة عنه, ولعل في قول النبي محمد(ص) ما يؤكد ضرورة سلامة الوطن بقوله : " الخروج عن الوطن عقوبة " وكذلك في قوله : " حب الوطن من الإيمان ", وفي ثقافات الشعوب الأخرى ما يغني الحديث عن الوطن والإخلاص له, وكما يقول مازيني : " خير للمرء أن يموت في سبيل فكرته من أن يعمر طول الدهر خائنا لوطنه جبانا عن نصرته ".

أن عراق اليوم لا يعيش صحوة دينية كما يحلو للبعض أن يسميها, أو يقحم العراق فيها, أو يعتبرها امتدادا لما يحصل في المنطقة بأسرها, وان قدر الطائفية والفئوية والتعصب لا يمكن تجنبه, بل يمكن في رأي البعض التعايش معه وتأسيس دولة العراق المعاصر والديمقراطي في ظله!!!! . أن العراق يعاني من شرذمة دينية في إطار الدين الواحد, حيث ينتشر باسم الدين الجهل, والخرافة, والهلوسة, وإلغاء حرية الآخرين, والخزعبلات والتواكل والخمول والاعتمادية, أو كما يقول نزار القباني في قصيدته" هوامش على دفتر النكسة" : " نقعد في المساجد تنابل كسالى..نطلب النصر من عنده تعالى ", وهي سلوكيات تكرسها ثقافة دينية تقليدية تتمسك بالقشور وتعتبره جوهر الدين الصحيح, ويجري التصارع والاقتتال على خلفية ما تناقل عن النبي محمد(ص) في قوله : " تفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة, فواحدة في الجنة واثنتين وسبعين في النار ", فالجميع يدعي هو الفرقة الناجية, وما عداها ضلال, ومشمول بالتكفير والتبديع والتفسيق, بل ومهدد بالإلغاء والتصفية الجسدية وتنتظره مزيدا من المفخخات والأحزمة الناسفة والاغتيالات والتصفيات الفردية والجماعية, تلك الممارسات الدينية المتزمتة والمخاتلة, والمتقنعة بالدين, تعمل كل ما في وسعها لتكرس ديمومة إحكام وضرب الطوق على رقاب وعقول وأرواح الجموع" الذين هم في نظر رجال دعاة الدين مجرد عوام" أو رعية, وكما هو مفهوم من " الرعية " في اللغة وفي الممارسة متأتي من تشبيه الشعب أو الجموع بالأغنام, يسوقها الراعي كيف ما يشاء, ولا لديها إلا أن تكون منتكسة الرأس, تبحث عن العشب وفوق رؤوسها عصى الراعي, يحدد اتجاه سيرها شمالا أو جنوبا !!!!.

أن هذه الممارسات اللادينية المستفحلة تعمل بكل ما في وسعها لاستلاب وتزيف وعي الناس, حفاظا على مصالح وامتيازات سدنة الدين والمستفيدين منه. أن الخطاب الديني المشوه والمأزوم يحتفظ بقدرة هائلة على البقاء والحياة والتناسل في ظروف العراق الحالية , مستفيدا من حالة التخلف الشامل في بنيته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وانعدام الوعي وإعادة دورة إنتاج الأمية ببعديها الأبجدي والحضاري, ويتمتع هذا الخطاب بهامش كبير للمناورة والالتفاف, لتكريس سلطة ثقافية ـ تراثية ماضوية, بفعل ديناميكية التنشيط والتأجيج المستمر لنظام الرموز والإشارات والطقوس, التي أضفي عليها هالة من التقديس وأصبحت ضمن منظومة الدين, والتي تتغذى على خلفية الفقر وضعف الأمل وانعدام المستقبل, والتي وصل بها الحد في بعض أوجه ممارساتها إلى التبرك والشرب من بول سيد أو إمام للشفاء من الأمراض المختلفة, بما فيها الصدمة الدماغية وأمراض القلب والسرطان, أو الشرب من ماء تم اختزانه لأكثر من شهور في قنينة بلاستيكية أو زجاجية, تيمنا بالرزق والعافية وطوال العمر, إنها بالتأكيد ليست" صحوة دينية " بل إنها حالات من الموت ألسريري" الاكلينكي" للعقل العراقي!!!!.

لقد استخدمت السياسية الأمريكية الغبية في العراق " وهي صاحبة الباع في التقدم العلمي والتكنولوجي والفكري " سياسة التبضيع والتقطيع لأوصال المجتمع العراقي ونسيجه الفكري عبر مختلف الإجراءات منها: قانون إدارة الدولة, اجتثاث البعث, حل القوات المسلحة العراقية, شكل المنظومة السياسية, الدستور, قانون مكافحة الإرهاب, ودمج الميليشيات في القوات المسلحة...الخ, وكلها إجراءات ميدانية غير مدروسة أسست لحالة الاحتراب الديني والطائفي والعرقي والاثني, وقد تركت الوطن فريسة للاحتراب والارتهان للقوى الدينية والعرقية الداخلية وفريسة لدول الجوار, وقد أسست هذه الممارسات للتعصب الديني الأعمى والغلو في الدين الواحد وبين طوائفه المختلفة واستباحة العنف بين مكونات الدين الواحد وبين الأديان الأخرى, وإثارة النعرة التعصبية الدينية وغير الدينية, وكلها سلوكيات تضعف من مكانة الدين والتدين والوحدة الوطنية, وكأن الأمريكان أسسوا لحالة اهانة الأديان في العراق قاطبة عبر تأسيس حالة الاحتراب وسلوكيات الكراهية الظاهرة والخفية المستديمة بينها, ولن أبالغ حين أقول أن الدين في العراق يعاني من مكانة متدنية في عقول الناس, بل يثير السخرية والضحك بفعل سلوكيات القائمين عليه تحت المظلة الأمريكية !!!!.

أن هذه الممارسات تقف بالضد من مكانة الدين الحقيقية, التي كان بالإمكان لها أن تؤسس لحالة أكثر حضارية مما هو سائد الآن, بل بإمكان هذه الأديان والطوائف أن تساهم في بناء المشروع الحضاري للعراق المعاصر, من خلال استنفار لماهية الخطاب الديني الكلاسيكي المسالم بطبيعته السمحاء, ووضع الدين في مكانته الصحيحة, لا عبر استخدام الدين في إعاقة النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العراق, وشل الحركة والتواصل الاجتماعي بين مكونات المجتمع.

أن الصحوة "الدينية والطائفية" المزعومة أسست لحالة تفكك الوطن والإضرار بالوحدة الوطنية وبالجغرافية العراقية من الشمال إلى الجنوب, فإذا كانت الوحدة الوطنية تعني إهمال الفروق الدينية والذهبية والطائفية والعرقية في التعامل الاجتماعي, فأن العراق السياسي اليوم يؤسس لحالة مستديمة من الاحتراب والكراهية بين طوائف الدين الواحد والأديان والاعراق المختلفة, والأخطر من ذلك بدأت هذه الحالة تحفر في عقول مفكرينا وكتابنا وتدفعهم للدفاع المستميت عن الطائفية والبحث عن مبررات لها, تحت واجهات البحث عن الحقيقة !!! في ظروف عراقية لا تسمح بذلك مطلقا, وخاصة من كتاب الصف الأول في الصحافة الالكترونية, مع كل محبتي لهم عن بعد, ولكنهم يتناسون أن طبيعة النظام السياسي هي التي تؤسس للمصالحة الوطنية والدينية والطائفية والعرقية, أو للاحتراب الوطني والديني, وليست الحفر في التأريخ واستحضار للذاكرة المرضية.

أن العداوات بين الأديان والطوائف والأعراق تخالف ابسط الأعراف الدينية والقيمية في العلاقات الإنسانية, ولعل في القرآن الكريم ما يساعد على تنشيط ذاكرة دعاة الطائفية في الاتجاه المعاكس, كما ورد في سورة الحجرات, الآية 13 " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا وأن أكرمكم عند الله اتقاكم ". إن هذه " الصحوة الدينية والطائفية " المزعومة أسست لحالة التفكك الوطني والإضرار بالمصالح الوطنية عبر بدايات مرضية لخلق جيل لا قيم له, لا يؤمن بالوطن والوطنية ويسخر من الدين ويضحك على المعممين بمختلف ألوان عمائمهم, السوداء منها والبيضاء والخضراء, ويستخدم هذا الجيل الوطن والدين وسائل للابتزاز والسرقة والفساد ومختلف مظاهر التلوث الاجتماعي والأخلاقي !!!.

أن شعبنا يرفض كل الرفض استغلال الدين في غير مكانه الصحيح, ولعل خياراته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة اكبر  مؤشرا على ذلك, حيث انحاز إلى القوائم ذات الطابع العلماني, وان قائمة " دولة القانون " ما كانت تحصد هذه الأصوات لولا تبنيها الخطاب الوطني المعادي للطائفية, ولكن تشبث هذه القائمة برئاسة الوزراء والاستعانة بقوى ميليشياوية للتحالف معها تحت مظلة الضغوطات الخارجية, ما هو إلا مؤشر لانتكاسة الديمقراطية وحقوق الإنسان, وافتقاد المالكي للجرأة للخروج من شرنقة الطائفية, رغم كل مزايا المالكي السابقة في محاربته للمليشيات وبداياته في التأسيس لحالات سياسية صحية, إلا إن الله يكون في عون المالكي, ولكن ماذا كان يحصل للعراق لو تجرأ المالكي في مد يد التحالف إلى القائمة العراقية مع فاعلية الدور الكردي وعدم بقائه متفرجا على الأحداث, بعيدا عن فوبيا البعث !!!! .

أن عودة المالكي إلى المربع الأول تثير شكوك كثيرة على شجاعته ومقدرته في التحكم بزمام الأمور القادمة, وعلى شخصه بالذات, ولعله هو وحلفائه الجدد لا يكونوا مقيدين" بالدستور الإيراني " الذي يحصر الرئاسة بأتباع المذهب الجعفري باختلاف سلوكياتهم, وعندها يكون التأسيس لعراق طائفي أمر لا محال منه ولا يحتاج إلى مزيدا من العناء والاجتهاد للكشف عن طبيعته, وهو اتجاه لحصر الحكم في نطاق البيت الشيعي بعيدا عن نتائج صناديق الاقتراع !!!!.


285
على هامش دعوة أساتذة علم النفس لحل النزاع السياسي العراقي !!!!
" ليس الشقاء أن تكون أعمى, بل الشقاء أن تعجز عن احتمال العمى "
                                                                 جون ميلتون
   
 

د.عامر صالح
استرعت لديه المبادرة التي قام بها نخبة من أساتذة علم النفس في داخل العراق وخارجه للتوسط " والعلاج " لحل أزمة الحكم في العراق بأهمية خاصة, والتي أتت على خلفية عدم المقدرة على تشكيل حكومة مرتقبة في ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية السابقة, والتي مضى عليها أكثر من سبعة شهور. أنها حالات من العمى السياسي التي لا ترى فيها القوى السياسية الفائزة في الانتخابات غير اللونين الأسود والأبيض, ولا تفقه قيمة المساومة والتنازلات السياسية لمصلحة الوطن, والتي تعني الانتصار للجميع في نتائجها النهائية إذا كان الجميع مؤمنون حقا بالديمقراطية السياسية وبالتداول السلمي للحكم. وإذا كانت هذه القناعة متوفرة فعلا لدى السياسيين العراقيين, فأن دخول أساتذة علم النفس وغيرهم من المفكرين على "خط النار" في محاولة لحل الأزمة يأتي في سياقه السليم والمطلوب فعلا في هذه اللحظات الحرجة من تأزم الوضع السياسي, وفي ظروف تنضح فيه دماء العراقيين وتنتشر أشلائهم برخص الماء والتراب, فهل أزمة السياسيين العراقيين هي أزمة نفسية تستدعي تدخل أخصائي علم النفس من خلال تقنيات علم النفس المعروفة في تغير المفاهيم وفن إدارة الأزمات, باعتبار أن طريقة التفكير بالمشكلة هي احد مصادر التعقيد في الوضع السياسي, أم أن تعقد الوضع السياسي وتأزمه ناتج من أزمة ذات أبعاد متشابكة تكمن جذورها في عقائد ونهج من يقود العملية السياسية في هذا البلد  !!!!.

أن الأزمات في عالمنا المعاصر هي جزء أساسيا من نسيج الحياة وحقيقة من حقائقها, وهي مرحلة متقدمة من مراحل الصراع ومظهرا من مظاهره,على أي نطاق أو مستوى, بدء من الصراع النفسي, والصراع بين الأشخاص, والصراع داخل المجتمع, بمستوياته المختلفة, والذي يشمل الأسرة والقبيلة والعشيرة, والأحزاب المختلفة بصبغتها الدينية والطائفية والقومية, وصولا إلى مستوى الدولة نفسها, وعلى ما يبدو فان العراق يجسد هذا الشكل المعقد من الصراع المتعدد المظاهر والمشارب, ابتداء من النفسي الشخصي وانتهاء بالسياسي القائم على الحيثيات الأنفة الذكر, فهو يجسد على المستوى الشخصي الآثار القيمية والسلوكية للنظام السابق وما قبله,  أي التراكم الكمي للسلوك وما أنتجه من كيفيات في السلوك السيئ وأنماط التفكير المخالفة لحب الوطن والولاء له, وعلى المستوى السياسي يجسد هذا الصراع منظومة الأحزاب الحاكمة التي تتشبث بالديمقراطية كوسيلة للبقاء والمناورة دون قناعة فكرية وإيديولوجية بالديمقراطية وبالنظام السياسي ألتعددي, ومن هنا تأتي خصوصية تعقيد الوضع السياسي في العراق واستفحال أزمته السياسية, وانعدام القدرة على الحوار السياسي البناء لإيجاد مخرج لأزمة الحكم, والذي تعكسه حالة التحجر الفكري والعقائدي لرجالات الأحزاب السياسية وقيادات الدولة بعيدا عن مصلحة الوطن !!!!.

وعلى خلفية ذلك تأتي أهمية علم أدارة الأزمات باعتباره من العلوم الإنسانية, وقد أبرزت أهمية هذا العلم التغيرات العالمية, التي أخلت بموازين القوى الإقليمية والعالمية وخاصة الأمريكية منها, وأوجبت رصدها وتحليل حركتها واتجاهاتها,  ويكتسب هذا العلم أهمية خاصة في الحالة العراقية, حيث أن ما حصل للعراق من تغير هو ليست بفعل اختمار العوامل الداخلية للتغير, بل لعوامل خارجية في الأعم الأغلب, وكان للأمريكان اليد الطولى بفرض النظام السياسي في العراق وطبيعته المكونة, ومن هنا فأن علم إدارة الأزمات المستعصية هو بالفعل علم المستقبل, إذ يعمل على التكيف مع المتغيرات وتحريك الثوابت وقوى الفعل المختلفة ذات التأثير  السياسي  والاقتصادي والاجتماعي وكذلك الثقافي وتعبئة كل الجهود الرسمية والشعبية للوقوف بوجه الازمة, وإذا كان ذلك العلم من العلوم الإنسانية المستقلة, إلا انه في الوقت نفسه يتصل اتصالا مباشرا بالعلوم الإنسانية الأخرى, وخاصة مع علم النفس, بطرائقه وتقنياته المتنوعة وبمدارس علاجه المختلفة, ومن هنا تأتي أهمية مبادرة أساتذة علم النفس للتدخل في حل الأزمة العراقية المستعصية, وقد تكن هذه المبادرة هي بداية لاستنفار وتعبئة كل القوى الداخلية السياسية والشعبية, إلى جانب القوى الدولية والمنظمات العالمية الحريصة فعلا على مستقبل العراق واستقراره, بعيدا عن ارتهانه للصراعات الإقليمية والمصالح الدولية الضيقة !!!!!.

وبعيدا عن الدخول في تعريفات مدرسية للأزمة ومفاهيمها, فأني أشير إلى احد هذه التعريفات والذي ينطبق على الحالة العراقية بوضوح, والذي يؤكد أن الأزمة هي " بمثابة حالة عصبية مفزعة مؤلمة تضغط على الأعصاب وتشل الفكر وتحجب الرؤيا, تتضارب فيها عوامل متعارضة وتتداعى فيها الأحداث وتتلاحق وتتشابك فيها الأسباب بالنتائج وتتداخل الخيوط ويخشى من فقد السيطرة على الموقف وتداعياته وأثاره ونتائجه...فهي خلل يؤثر تأثيرا حيويا يعرض المتعرض لها سواء كان فردا أو كيانا أو حتى دولة لحالة من الشتات والضياع, تهدد الثوابت التي يقوم عليها ", ولعل هذا التعريف يعكس بالفعل حالة الوضع السياسي المتأزم في العراق, والقائم على خلفية عدم تشكيل الحكومة, والذي يعكس أزمة نفسية ـ سياسية, اكتملت أسباب وجودها وطابعها المستفحل, من خلال ابرز ملامحها الذي تعكسه انعدام الثقة المطلقة بين الأحزاب السياسية وضعف مصداقيتها, وأتساع بؤر الخلاف والتي لم تحسم مع مرور الوقت مما يضعف قدرة هذه الأحزاب على مواصلة الحوار المتبادل, شيوع ظاهرة سوء الفهم وسوء التقدير المقترن بحالة اليأس, وجود حالة من تعارض المصالح والأهداف بين هذه القوى السياسية والذي يصل إلى المستوى الصفري من انعدام المشتركات, والميل إلى الابتزاز واستعراض القوى والتهديد بنسف العملية السياسية والتلويح بديمومة الإرهاب وتدهور الأمن, إذا لم تقرر النتائج  حسب مزاج الهيمنة والتسلط السياسي !!!!.

أن مبادرة أساتذة علم النفس الأفاضل تكتسب أهميتها الخاصة في الظروف السياسية العصية التي يمر بها العراق, والتي تستهدف انتشال وإحياء ما تبقى من الصبر العراقي لديمومة الحياة, على الرغم من الصعوبات التي تحيط بنجاح المبادرة, ولكن " تفاءلوا بالخير تجدوه " !!!!.



286
لا للتغيرات العبثية في المنهج الدراسي في العراق...نعم للتطوير والإصلاح الجذري !!!!!

" جذور التربية مرة ولكن ثمارها حلوة "
                                أرسطو

د.عامر صالح

يثير قدوم السلطات " التربوية " في العراق على التغير والعبث في المناهج الدراسية في مختلف المراحل التعليمية وفي مختلف المحافظات الكثير من الجدل والقلق المشروع لدى الأوساط المتخصصة التربوية منها والشعبية والحريصة على هذا القطاع وتطوره  المستقبلي, حيث أن الشكوك تطال إلى آليات التغير ومحتواه, وعلى ما يبدو فان عمليات التغير تهدف إلى مزيدا من التخندق الطائفي والاثني والعرقي عبر نصوص وممارسات منحازة, تنح بقراءة مكررة ومعسولة للتاريخ بهدف إحياء الميت منه لأغراض تشديد قبضة الصراع الطائفي والعرقي, وأحياء للفكر و للحركات الماضوية التي عفي عليها الزمن, والتي لا يمكن القبول بها في بلد يطمح إلى بناء قيم التسامح والديمقراطية والتعددية, وإعادة بناء فكرة  المواطنة على أسس معاصرة, بعد أن مسخها النظام السابق بفكرة الولاء للقائد أولا ثم الوطن في الآخر !!!.

واستنادا إلى أهمية المنهج التربوي باعتباره العنصر الأساسي في العملية التربوية والتعليمية, والذي يقرر إلى درجة كبيرة محتوى هذه العملية وجودتها وكفاءة مخرجاتها من التلاميذ والطلبة في مختلف المراحل والقنوات التعليمية, فقد عكفت النظم العالمية والديمقراطية منها بشكل خاص على الاهتمام  بتطوير المنهج وأغناء  محتواه, لكي يستجيب لظروف الحياة المتغيرة في مختلف الحياة, الاقتصادية, والاجتماعية, والثقافية, والتكنولوجية وكل مستجدات عصرنا المتسارع بدون انقطاع , وخلق خريجين على مستوى عالمي من الجودة, وبالعكس من ذلك فقد قامت النظم المستبدة والمتخلفة على توظيف المنهج لأغراض فئوية ضيقة, سياسية ودينية وطائفية وشوفينية بهدف إعداد مواطن موالي لنظام سياسي أو لدين ما أو لطائفة بعينها أو لقومية دون أخرى, وخلق مواطن لا يفقه قيمة النقد للظواهر الحياتية المختلفة, تسهل قيادته بمختلف الاتجاهات, كما فعل النظام السابق المقبور عندما قاد البلد إلى مختلف الكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحروب المدمرة, وقد اعتمد بذلك على تسييس المنهج الدراسي وتشويه محتواه بما يخدم أغراض توجه النظام وعدوانيته في الداخل والخارج, من خلال إعداد عقليات مطابقة لمنظومته القيمية الفاسدة.

أن المنهج الدراسي أو التربوي في سياق حديثنا لا يقصد به المفهوم التقليدي للمنهج, والذي يقصد به المقررات الدراسية " الكتب " التي تقدمها المدرسة أو الجامعة لدارسيها, بل المقصود به, وكما هو متعارفا عليه عالميا ومحليا " بالمنهج الحديث,  الذي يمكن تعريفه بأنه : " مجموعة الخبرات التربوية التي تهيؤها المؤسسة التعليمية والتربوية لدارسيها سواء داخلها أو خارجها وذلك بغرض مساعدتهم على النمو الشامل المتكامل, أي النمو في كافة الجوانب العقلية والثقافية والدينية والاجتماعية والجسمية والنفسية والفنية نموا يؤدي إلى تعديل سلوكهم ويكفل تفاعلهم بنجاح مع بيئتهم ومجتمعهم وابتكارهم حلول لما يواجههم من مشكلات ".والمنهج بهذا المفهوم يعني ما يأتي :

1ـ إن المنهج يتضمن خبرات مربية وهي خبرات مفيدة تصمم تحت إشراف المدرسة لإكساب الدارس مجموعة من المعلومات والمهارات والاتجاهات والسلوكيات المرغوبة.
2ـ إن هذه الخبرات تتنوع بتنوع الجوانب التي ترغب المدرسة في إحداث النمو فيها ولا تركز على جانب واحد فقط من جوانب النمو كما هو الحال في المنهج الكلاسيكي.
3ـ إن التعليم هنا يحدث من خلال مرور المتعلم بالخبرات المختلفة ومعايشته ومشاركته في مواقف تعليمية متنوعة, أي أن التعليم هنا هو تعليم خبري.
4 ـ أن بيئة التعلم لا تقتصر على حجرة الدراسة أو ما يدور داخل جدران المدرسة, في المعامل أو الملاعب أو الفناء, بل تمتد بيئة التعلم إلى خارج المدرسة فتشمل المصنع, والحقل والمعسكرات, وغيرها وهذا يتضمن تعرض الدارس للخبرات المتنوعة بنوعيها المباشر وغير المباشر.
5 ـ إن الهدف الذي يسعى إليه المنهج عن طريق هذه الخبرات هو النمو الشامل المتكامل للمتعلم والذي يؤدي إلى تعديل سلوكه أي إلى تعلمه, وحصيلة هذا التعلم تساعد على تفاعل المتعلم بنجاح مع البيئة والمجتمع.
6 ـ إن تفاعل المتعلم بنجاح مع البيئة والمجتمع يعني انه يتأثر بما يحدث فيها ويؤثر فيها أيضا والمقصود بتأثير الفرد في البيئة والمجتمع هو استخدام المتعلم لعقله في مواجهة التحديات والمشكلات التي توجد في بيئته ومجتمعه ومحاولة التغلب عليها وحلها, لذا أصبحت تنمية قدرة المتعلم على المشكلات هدفا مهما من أهداف المنهج.
7 ـ في عالم سريع التغير كعالمنا الذي نعيش فيه لا يكفي حل واحد للمشكلة المطروحة, بل هناك ضرورة لابتكار بدائل لهذا الحل لاختيار المناسب فيها وفق الظروف المتغيرة والأفكار المتاحة, لذا أصبح تنمية ابتكار المتعلم هدفا هاما من أهداف المنهج ينبغي إعطاءه الأولوية له من بين الأهداف الأخرى التي يسعى إليها المنهج.

ومن منطلق شمولية المنهج لأغلب جوانب الحياة, فأن الدول الديمقراطية تسعى بكل جهودها لتطوير المناهج في مختلف المجالات, والتركيز على فكرة بناء المواطن الصالح من خلال توعيته بفكرة المواطنة,  من خلال تعريف الدارس المواطن بالمفاهيم الأساسية للمواطنة وخصائصها, مثل : مفهوم الوطن, والحكومة, والنظام السياسي, والمجتمع ومؤسساته المدنية, ومفهوم الديمقراطية الحق, والمشاركة السياسية وأهميتها, والمسؤولية الاجتماعية ومظاهرها, وضرورة الاحتماء بالقانون, واحترام الدستور, وضرورة الوعي بالحقوق والواجبات اتجاه الدولة والمجتمع, وغيرها من المفاهيم المعاصرة للمواطنة الصالحة وأسسها.وبالضد من ذلك فأن الحكومات القمعية والاستحواذية والطائفية والعرقية تسعى لتشويه فكرة المواطن والمواطنة, من خلال غرس قيم الولاء للحزب الحاكم, أو الولاء للطائفة أو للدين أو للقومية دون الوطن الذي يجمع كل هذه المكونات في بوتقة واحدة, فالوطن هو الحامي والحارس الأمين لكل هذه المكونات عبر تعزيز ثقافة التسامح والولاء للقانون وللدولة صاحبة الشأن في المجتمعات الديمقراطية, دون العبث بجغرافية وسياسة واثنية وأديان الوطن الكبير. وتشمل فكرة المواطنة من خلال المنهج الدراسي الحديث الأبعاد الآتية :

1ـ البعد المعرفي ـ الثقافي : حيث تمثل المعرفة عنصرا أساسيا وجوهريا في نوعية المواطن الذي تسعى إلى بناءه مؤسسات المجتمع السليم والمعافى, وهذا لا يعني أن المواطن الأمي ليس مواطنا يتحمل مسؤولياته ويدين بالولاء للوطن, ولكن المعرفة والثقافة والتعليم وسائل توفر للمواطن فرص لبناء مهاراته وكفاءاته التي يحتاجها في معترك الحياة, كما أن التربية الوطنية والتعليم تنطلق من ثقافة الناس مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات في التنوع الثقافي للمجتمع.

2ـ البعد ألمهاراتي : ويقصد به المهارات الفكرية والعقلية مثل : التفكير النقدي والقدرة على ممارسة النقد والنقد الذاتي, والتحليل الموضوعي لمختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية, والقدرة في المحاولة على حل المشكلات أو إدراك أولي لماهية الحلول, حيث أن المواطن الذي يتمتع بهذه المقدرة يستطيع التميز بين الطالح والصالح من الأمور ويكون أكثر عقلانية ومنطقية فيما يفعل أو يقول دون الانسياق وراء التجمعات أو الشلل التي تحول فردية الإنسان إلى حشد قطيعي, اقرب جدا إلى الحيوان منه إلى الإنسان .

3ـ البعد الاجتماعي : ويقصد به خلق الكفاءة الاجتماعية لدى الدارسين ـ المواطنين في التعايش مع الآخرين من مختلف الفئات الاجتماعية وتنمية روح التسامح ولغة التواصل مع مختلف المكونات القومية والاثنية في الوطن الواحد والتعايش معهم بسلام, بعيدا عن استخدام لغة الإكراه والتميز والإقصاء والفرقة والكراهية .

4 ـ البعد ألانتمائي : ويقصد به البعد الوطني وما يترتب عليه من غرس انتماء الدارسين لثقافتهم ولمجتمعهم ولوطنهم, وتعزيز ثقافة المصلحة العليا للوطن بعيدا عن التشرذم الجغرافي ـ الطائفي والقومي والديني, وإحلال ثقافة المسؤولية العليا اتجاه الوطني ومصيره, وحمايته من التدخلات الخارجية وأخلاق التفكك الداخلي.

5ـ البعد ألقيمي والديني, مثل : إشاعة قيم التسامح والعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية بين مختلف الأديان السماوية وغير السماوية, وتكريس مبادئ عدم المساس بمقدسات الأقلية الدينية وتوفير الفرص اللازمة للتعبير عن نفسها في إطار وجودها الجغرافي دون إرهاب أو ابتزاز أو ارتهان أو عمليات إرهابية جبانة تطال هؤلاء بفعل ضعف إمكانيتهم في الدفاع عن أنفسهم.

6 ـ البعد الجغرافي ـ المكاني : وهو الإطار المادي والإنساني  الذي يعيش فيه المواطن, أي البيئة المحلية يتعلم فيها ويتعامل مع أفرادها, وليست فقط من خلال النصائح والمواعظ  داخل غرفة الصف, بل من خلال المشاركة التي تحصل في البيئة المحلية والتطوع في العمل البيئي, ومن خلال ربط هذه النشاطات بالبيئة الأكبر " الوطن " من ناحية القيم والأهداف المرجوة من كل نشاط , وعدم الاعتكاف فقط في البيئة الأصغر التي تحجر عقل الدارس وتسهل مراوحته كالصنم في محل إقامته.

وتحتل عملية تطوير المناهج الدراسية في العراق أهمية استثنائية في ظروف التغير المنشود بعد 2003 وخاصة في نطاق المناهج الإنسانية, بعد ما أصاب المنظومة القيمية والتربوية والاجتماعية من تدهور وتحلل وتفسخ في ظل النظام السابق,  ساق شعبنا إلى مختلف الكوارث الإنسانية والحروب, تلتها سنوات من التمترس الطائفي والديني والعرقي, أدت إلى أن يكون الوطن ضحية لجلاديه في الداخل والخارج, وكأن شعار العداء للوطن أولا هو محك الولاء للمواطنة البغضاء, ومن هنا نذكر الحريصين على العراق ولحمته, و لكي يكون العراق وطنا صالحا للجميع, وليست أرضا خصبة للإرهاب والتهجير والهجرة,  اليوم وغدا, ولكي نمنع من ولادة أجيال قادمة من الإرهابيين, فأن البدء بإصلاح وتطوير المناهج الدراسية هو المدخل الأساسي وصمام الأمان لأجيالنا القادمة وللحفاظ على الديمقراطية الناشئة التي هي وقف التنفيذ, وبعيدا عن الارتجال والتحزب والطائفية والعرقية, ومن هنا تأتي أهمية الحفاظ على أجيالنا عبر اعتماد الأسس العلمية والمهنية والمعتمدة عالميا في تطوير المناهج الدراسية, ولعل أبرزها ما يأتي :

1ـ التكامل بين مؤسسات المجتمع المعاصر:
إن التطوير الشامل والمستمر للمنهج يستدعي التكامل بين مؤسسات المجتمع, بما تتضمنه من موارد بشرية ومادية متنوعة , ولكي تتكامل مؤسسات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية, ومن ثم تسهم في دفع عجلة التنمية بالمجتمع, في بلد توقفت فيه التنمية منذ عقود كالعراق, فأن هذه المؤسسات مطالبة وبحكم ارتباطها بما يجري حولها في المجتمع, بتقديم خبراتها وتوجيهاتها العلمية والفنية ووجهات نظرها حول تحديث المناهج وتطويرها بصورة علمية, والابتعاد عن الارتجال الذي يعبث في المنهج ويحصره بأهداف أنانية ضيقة, فأن العمل الجماعي كفيل بدفع عجلة التنمية في المجتمع بعد وضوح الأهداف من التطوير.
2 ـ الاستفادة من التقدم العلمي التكنولوجي الحديث:
لقد حقق التقدم التكنولوجي والعلمي الكثير من الانجازات وأضاف الكثير من الوسائل التكنولوجية الحديثة, التي يمكن الاستفادة منها في إعداد وتخريج مواطنين على مستوى عالي من الجودة والكفاءة والتأهيل لمواجهة تحديات العصر, ومن هذه الوسائل : الإذاعة, والتلفاز, والأقمار الصناعية, وشبكة الانترنت,  والكمبيوتر, وهذه وسائل وأدوات تكنولوجية تساعد في الحصول على البيانات والإحصاءات والمعلومات من مصادرها الأولى والمتنوعة. ومن الوسائل التكنولوجية التي يمكن الاستفادة منها في العملية التربوية والتعليمية ولتطوير المنهج هي : استخدام التلفزيون التربوي, المواد المطبوعة, وأشرطة سمعية,  وشرائح ضوئية, وأفلام ثابتة, وبرامج الحاسوب الآلي, وهذه الوسائل إن أحسن إتقانها واستخدامها والإفادة منها فسوف ترفع من مستويات الأداء والكفاءة لدى الدارسين والكادر التربوي والتدريسي بشكل عام, وتسهم في معالجة الكثير من المشكلات التعليمية. وفي ظروف العملية التربوية في العراق حيث حرم قطاع التربية والتعليم كما هو الحال في مختلف مجالات الحياة من ثمرة التقدم العلمي والتكنولوجي واستخدامه لأغراض سلمية, فنحن اليوم بأمس الحاجة لتضمين العملية التربوية والتعليمية بهذه المنجزات التي لا يمكن الاستغناء عنها.
3 ـ الاستفادة من التدفق ألمعلوماتي في مختلف المجالات:
لقد حرم العراق ولعقود من التدفق ألمعلوماتي السلس, ومن  كل جديد في العملية التربوية نتيجة لعزلة النظام السابق عن العالم ومخاوفه من الانفتاح المعرفي والمعلوماتي على العالم, مما أوقع البيئة التربوية في نمطية مستديمة, وهو بالضد من النمو السريع لوسائل الاتصال, والتوسع في استخدامها, وتقدم تكنولوجيا المعلومات, ولهذا فمن الضروري عند تطوير المناهج الاستفادة من التدفق ألمعلوماتي في المجالات المختلفة والأخذ بسمات العصر وانجازاته المتعددة لكي يستطيع المنهج استيعابها وترجمتها إلى أهداف تربوية تستجيب لظروف الحياة المتجددة والتخلص من الأمية الحضارية.
4 ـ الاستثمار الأمثل للموارد المالية :
إن عملية تطوير المناهج تتطلب المزيد من الموارد المالية, وهذه الموارد يمكن الاستفادة منها في العديد من المجالات, مثل إقامة المباني المدرسية الحديثة والمتطورة وتجهيزها بأحدث الأجهزة والمعدات, وتأليف الكتب الدراسية الحديثة وطبعها, ونشر شبكة المكتبات المدرسية قي مختلف أنحاء العراق, في المدن والأرياف والقصبات, وتزويدها بكل ما يلزمها من كتب ومراجع ودوريات علمية وتربوية ووسائل تقنية وغيرها, ولا يعقل أن في العراق اليوم الآلاف من مدارس الطين والقصب في ظل إمكانيات نفطية ـ مالية يسرق منها العدو والصديق, والعمل كذلك على زيادة الرواتب والحوافز المادية للقائمين على العملية التربوية من قيادات وكادر تدريسي, والإنفاق على الدورات التدريبية وإعادة التأهيل للكادر التربوي وتنميته مهنيا وتربويا, ولذا فأن عملية تطوير المناهج تستدعي مزيدا من الإنفاق على قطاع التربية والتعليم, شريطة أن يرتبط ذلك بتجفيف مصادر الفساد وسرقة المال العام ووضع حد للتزوير الذي فاق التصورات في هذا القطاع.
5 ـ الاستفادة من التجارب العالمية المعاصرة :
عند تطوير المناهج الدراسية يجب الأخذ بنظر الاعتبار إن النظام التربوي في العراق لا يسبح في فضاء منعزل عن التجارب التربوية والخبرات العالمية, خاصة ونحن في الألفية الثالثة وفي ظروف الانفتاح والعولمة وما يصاحبها من تداعيات اقتصادية, وثقافية, واجتماعية, وإيديولوجية, لم يعد العالم كما عهدناه فيما مضى, شئنا أم أبينا, مغلق بحدوده الجغرافية, فالعراق اليوم منفتح على العالم الخارجي أكثر من أي وقت مضى, وعليه الاستجابة المرنة لأفضل ما ينتجه العالم من نظريات وأفكار جديدة في ميادين التربية والتعليم لاحتوائها عند تطوير المنهج, مع الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية العراق وأهدافه الوطنية الكبرى في قطاع التربية والتعليم.
6 ـ الاستثمار الأقصى للموارد البشرية :
إن عملية تطوير المناهج الدراسية تستدعي المشاركة الفعالة من قبل جميع الأفراد ذوي الصلة في عمليات التطوير, من خبراء, ومتخصصين, وقيادات تربوية, ومربين, وفنيين, ودارسين, وحتى مواطنين عاديين وغيرهم, فالخبراء والمتخصصون هم الفئة التي تقود عمليات التطوير وتقوم بالدور الرئيسي فيها, وهؤلاء يعملون في تخطيط المناهج والبرامج, وفي تقويم الجوانب المختلفة للعملية التربوية, وفي تأليف الكتب الدراسية, وفي إعداد المربي وتدريبه, وفي إجراء البحوث اللازمة, إلى جانب القياديين التربويين بمختلف مستوياتهم فهم يلعبون دورا رئيسيا في إنجاح عمليات التطوير, وكذلك المربين باعتبارهم طرف مهم في العملية التربوية, إلى جانب الدارسين وهم المستهدفين من عمليات التطوير جملة وتفصيلا, والفنيين الذين يقررون كفاءة الأجهزة التعليمية المختلفة, وكلفتها, وصيانتها, وإصلاحها, وتشغيلها وكذلك المواطن العادي الذي قد تكن لديه آراء مختلفة عن العملية التربوية, وهذه الآراء يجب دراستها وتمحيصها وإفراز الصالح منها في ضوء أهداف العملية التربوية. إن العراق اليوم محتاج إلى هذا الجهد الجماعي الكبير بعد سنوات الإهمال في تطوير المنهج, بعيدا عن الانفراد والاستحواذ من قبل الجهات السياسية التي تسيطر على مركز القرار, والتي ترغب في" تطوير " المناهج على خلفية مزاج ديني أو طائفي أو اثني بعيدا عن الفهم الصحيح والعلمي لمفهوم تطوير المنهج والارتقاء به.

إن عراق اليوم لا يزال بعيدا عن الاستقرار السياسي والاجتماعي, وليست كما كان للحريصين عليه أن يتمنون, بل لاتزال الصراعات الدينية والطائفية والاثنية تتجاذبه, وكأن العداء للعراق وشعبه هو الهاجس الوحيد الذي تتوحد عليه القوى السياسية, لا بل في أحيان كثيرة يجري معاقبة الشعب العراقي على خلفية تصفية الحساب مع نظام صدام حسين, وكأن الشعب العراقي يساوي النظام السابق, وعلى خلفية ذلك تبقى أفضل المشاريع مؤجلة ولا ترى النور بما فيها مشروعات الإصلاح التربوي, وان حسن النوايا واستقرار البلاد السياسي وتعزيز الديمقراطية السياسية والإيمان الحقيقي بالديمقراطية السياسية كوسيلة لتداول الحكم هو الكفيل الأول والأخير في إخراج العراق من أزمته, بما فيه حل أزمة التربية والتعليم !!!!.


 
 



 



 



287
في التداعيات النفسية والسياسية لسلطة حكومات الحزب الواحد : الجذور والممارسات مع إشارات لانعكاساتها على التداول السلمي للسلطة في الحالة العراقية

" أتعس حكم هو الحكم الذي يفرض عليك أن تذكره صباح مساء "
                                        ارنست همنغواي



د.عامر صالح

يقصد بمفهوم الحزب الواحد أن الجماعة السياسية لا تعرف سوى تنظيم سياسي واحد, ويطلق على النظم السياسية التي تجري على هذه القاعدة بنظم الحزب الواحد أو النظم الحزبية غير التنافسية, وهي النظم التي تسعى بكل قدراتها السياسية مستغلة كل إمكانياتها الدينية والدنيوية والعملية لإلغاء الآخر المنافس وبشتى الوسائل عبر امتلاكها لأجهزة الدولة الأمنية والمخابراتية, ومن خلال تسويقها لخطاب ديماغوجي مفرط في عصبيته الفردية والدينية والطائفية والشوفينية السياسية المتشنجة, في محاولة لترك الانطباع أن ما يوجد على ارض السياسة هو فقط خطاب واحد صالح لكل الأزمان والأمكنة ولكل الدورات الانتخابية,التشريعية, والتنفيذية والرئاسية إن وجدت وبغض النظر عن نتائج التصويت !!!.

أن سلطة الحزب الواحد هي سلطة الإقصاء والتهميش والقهر والتنكيل والعبودية للشعب تجسدها في الممارسة العملية زعامة الحزب أو دكتاتور يقف على رأسه أو ملك مستبد قهار,وجميعها تقوم على خلفية سايكوـ عقلية تعبر عنها أعراض بارانويا "هذيان" العظمة والنرجسية المرضية لشخص القائد, ولعل في خطاب ملك فرنسا لويس الخامس عشر ما يعكس ذلك بوضوح,عندما وقف في الثالث من آذار عام 1716 أمام برلمان باريس قائلا : " في شخصي وحده تجتمع السلطة, ولي وحدي تعود السلطة التشريعية دون منازع أو حسيب, النظام العام بمجمله يستمد وجوده من وجودي, وأنا حاميه الأول, شعبي وأنا واحد.حقوق ومصالح الأمة, التي يجرؤن على جعلها جسما منفصلا عن الملك, هي بالضرورة متحدة بحقوقي ومصالحي أنا , ولا ترتاح إلا بين يدي ".

وعندما ينفخ الملك لويس الخامس عشر بنفسه بكل هذه الفردية الفجة والسطوة المطلقة, فأنه لا يختلف كثيرا عن أي خليفة أموي أو عباسي, أو طاغية معاصر أمثال : هتلر, وموسوليني,  وفرانكو, وصدام والكثير من الذين لا يزالون أحياء ينتشرون في أرجاء العالم العربي والإسلامي والعالمي يديرون دفة الحكم بلباس ديني أو دنيوي إلى حين عقاب الشعب لهم, فالحاكم الجائر يظن نفسه انه الإله المتوج بالمنعة والسطوة, وما على بني البشر إلا طاعته, وطاعة أولاده ونسائه وجواريه وأفراد قبيلته.ومن هنا فأن السطوة المطلقة التي يمارسها الحاكم المستبد على أفراد شعبه, وقدرته السحرية الماكرة على تطويع الناس لأن يكونوا خدما أذلاء تابعين له, منقادين لأوامره انقيادا مطلقا, جعلت كثير من الناس في العصور القديمة يتصورون انه لا بد أن يكون الحاكم من طبيعة غير طبيعة البشر, فهو من طبيعة إلهية, وهو اله أو ابن إله, وهو يحكم بتفويض مباشر أو غير مباشر من الله.

أن الحاكم المطلق يفتقد إلى ابسط مقومات السواء والصحة النفسية, على الرغم مما يبديه من مقدرة ومظاهر شكلية فارغة في أدارة الحكم وتسير شؤون العباد بطريقة تعسفية, فهو يعاني من عدم القدرة على التحكم بالتقلبات الوجدانية والمزاجية, وضعف ضبطه للبيئة الخاصة والسياسية وعدم تمكنه من حل المشاكل التي تواجهه و يلجأ اغلب الأحيان إلى السلاح لحل المعضلات,ويعاني من عدم تقبل النفس والتسامح مع الأخطاء الشخصية,فهو لا يعترف بالخطأ وأن كلف ذلك انهر من الدم ومئات الآلاف من الضحايا,ضعف المقدرة على تعديل الأخطاء وجوانب القصور النفسي والاجتماعي, انعدام المقدرة على النمو والتطور في الشخصية والإخلال بمتطلبات التكامل والتوافق مع الآخرين, الإدراك المشوه للواقع وعدم الإحساس بمشاعر الآخرين ودوافعهم وحاجاتهم, القدرة غير العقلانية في التصرف المستقل واتخاذ القرارات الفردية التي تؤدي إلى الويلات والحروب وخراب البلاد,ضعف الفاعلية في أداء الدور السياسي والاجتماعي في الداخل والخارج, فأعدائه في الداخل كثيرون ويبحث منهمكا عن أعداء في الخارج لتصريف أزمته النفسية والسياسية, عدم المقدرة على ضبط الانفعالات السلبية المدمرة كالقلق والعدوان والاكتئاب والمخاوف المفرطة التي لا معنى لها والتي قد تدفعه إلى خيارات مدمرة تطال شعوبا وبلدان أخرى, ضعف القدرة على تكوين علاقات شخصية ناضجة سواء مع أسرته أو مع الشعب,فهو في الخفاء عن أسرته يمارس الجنس بطلاقة,عدا حالات الزواج التي يجهر بها أمام الملأ علنا باعتباره الوريث الشرعي للإله في الأرض ومن حقه امتلاك كل نساء الأرض, أما مع الشعب فتطال يديه إلى الجميع وكيف ما اتفق !!!!!.

أما بالنسبة لنشأة حكومات الحزب الواحد, فقد ترتب على دخول العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية عصر تصفية الاستعمار التقليدي حصول عدد كبير من الدول المستعمرة تباعا على استقلالها وانضمام هذه الدول المستقلة إلى الجماعة الدولية, وبدأت هذه الدول رحلة البحث عن النظم السياسية الملائمة لها,وقد اصطلح على تسمية هذه الدول بالعالم الثالث أو النامي. وعلى الرغم من هذه الدول لها أصول حضارية متباينة, وتعكس تمايزا في درجة التطور وخصائص البناء الاجتماعي والعلاقات الاقتصادية, إلا أن هذه الدول تشترك في عدد من السمات أو الخصائص العامة, مما يبرر تصنيفها في مجموعة واحدة تحت اسم العالم النامي.ومن أهم هذه السمات عدم وجود تقاليد للعمل السياسي, فهذه الدول ليست لها تجربة طويلة بنظام الحكم الديمقراطي, مما أدى إلى غياب تقاليد راسخة للممارسة الديمقراطية في معظم هذه البلاد, وعمق من هذه الظاهرة سيادة الأمية, الأمر الذي انعكس في عدم وجود اهتمام بالمشاركة السياسية بين الأغلبية, وعدم تطور الأبنية والمؤسسات الرئيسية اللازمة للعملية السياسية, والانفصال بين النخبة الحاكمة والمحكومين, واستناد النخبة الحاكمة في الغالب إلى أساس تقليدي للسلطة كمصدر لشرعيتها, بالإضافة إلى محدودية هذه النخبة, ومركزية القرار السياسي.

وعند الحديث عن طبيعة نظم هذه البلدان يجب تميزها في إطار مجموعتين رئيسيتين: المجموعة الأولى, وتضم الدول القليلة التي حصلت على الاستقلال السياسي مبكرا قبل الحرب العالمية الثانية, وقد غلب عليها تقليد النظم السياسية القائمة في دول المتربول" الدول المستعمرة " أي الأخذ بالديمقراطية الغربية, ومن هذه الدول ما تأثر بتجربة النظام الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية, مثل كثير من دول أمريكا اللاتينية, ومنها ما تأثر بالتجربة البرلمانية البريطانية, مثل مصر والعراق.ويمكن القول بصفة عامة بأن هذه التجارب قد أصابها الإخفاق, إذ اقتصر الأمر على نقل هياكل ومؤسسات الديمقراطية الغربية دون القيم الثقافية والفكرية التي قامت عليها, وبغير توفر البنية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لها, مما أدى إلى انهيار بعض من هذه النظم, وبقاء الأخر مشوها, مما فتح الطريق أمام الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية, مما أدى إلى استلام السلطة السياسية من قبل نظم الحزب الواحد أو دكتاتوريات عسكرية جثمت على صدور شعوبها لعقود خلت مسببة المزيد من الفقر والفاقة والأمية والجهل السياسي, كما هو الحال في العراق ومصر وغيره من بلدان العالم.

أما المجموعة الثانية فقد ضمت الدول التي حصلت على استقلالها السياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية, ويمكن التميز في داخلها مجموعتين فرعيتين, شملت الأولى الدول التي حصلت على الاستقلال بشكل سلمي هادئ, وهذه اتجهت عموما اتجاها مشابها للمجموعة الأولى من حيث اقتدائها بنموذج الديمقراطية الغربية, وعانت تجربتها من الإحباط والمتاعب قادتها إلى الفشل في معظمها.وضمت الثانية الدول التي حصلت على الاستقلال نتيجة حرب تحرير كان يقودها في العادة حزب أو جبهة من الأحزاب والزعماء السياسيين, وتؤيدها جماهير شعبية واسعة, وكان من الطبيعي أن يتولى السلطة بعد الاستقلال, الحزب أو الجبهة التي قادت إلى الاستقلال, وبعد تحقق الاستقلال كهدف آني أجمعت عليه هذه القوى وبفعل أيضا غياب الهدف الاستراتيجي لهذه القوى ما بعد الاستقلال فقد فتحت الطريق أمام الانقسامات الداخلية والتصفيات السياسية والجسدية وعمليات التطهير وإراقة الدماء بين حلفاء الأمس, وعلى خلفية ذلك انفرد حزبا واحدا في تسير دفة الحكم متخذا من أشلاء حلفائه معبرا إلى السلطة السياسية.

وعلى العموم فأن فشل نقل التجربة الديمقراطية الغربية وعدم القدرة على استنباتها في هذه البلدان أخلى السبيل أمام حكومات الحزب الواحد, وأصبح هذا النمط من الحكم هو السائد في اغلب بلدان العالم الثالث منذ بداية الخمسينات والستينات من القرن الماضي,بما فيها العالم العربي بشكل خاص, باستثناء بعض التجارب الديمقراطية المتواضعة , والتي تتعرض إلى الابتزاز والضغط والتلكؤ والانهيارات المؤقتة نتيجة لضغوطات داخلية وخارجية.

ومن الجدير بالذكر إن هذه الدول التي سلكت نموذج الحزب الواحد لم تكن على أسس عقائدية أو فلسفية واضحة, كما هو الحال في نماذج دول أوربا الشرقية سابقا, والتي كانت تسود فيها فسحة من الحوار والتحالفات مع القوى السياسية الأخرى, كالقوى السياسية التي تمثل شرائح مختلفة من الفلاحين والمثقفين وغيرهم, استنادا إلى رؤيا أو فهم لخطاب فلسفي تمليه الضرورات التاريخية لهذا التحالف بعيدا عن مصلحة الحكم,ومستندة إلى خطاب مرن ومطاوع مع الظروف المستجدة, وصل إلى حد تسليم السلطة بالكامل إلى القوى "الليبرالية" وتداول السلطة سلميا بأقل ما يمكن من إراقة الدماء بعد عقود من الحكم, وهي حالات من القناعة لم نشدها في بقاع العالم الأخر, وهو عكس ما جرى ويجري في العالم الثالث حيث حجم الضحايا والدمار البشري والاقتصادي والاجتماعي يفوق الانجازات بأضعاف مضاعفة. واليوم حيث تقف أوربا الشرقية بقدمين راسخين متطلعة للمستقبل يقودها اليسار الماركسي تارة, واليمين بمشاربه تارة أخرى, نرى العالم الثالث والعربي منه يراوح في المكان بانتظار مختلف الاحتمالات صوب مستقبل مجهول ومزيدا من الاحتلال الأمريكي والبريطاني !!!!!.

لقد استندت حكومات الحزب الواحد في بلدان العالم الثالث, والعالم العربي منها بشكل خاص إلى رؤيا غير دقيقة , بل كاذبة ومراوغة, قوامها أن بعض المهام التاريخية لا يمكن انجازها إلا تحت ظل حكومات الحزب الواحد, ومنها أن عملية التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية لا يمكن انجازها إلا بتعبئة لكل طاقات المجتمع وموارده, وهذا يتطلب وجود حزب واحد أوحد قادر على ذلك, ينظم حركة الجماهير ويغرس فيها قيم التنمية, إلا أن نتائج التنمية وما أفرزته لعقود من تزايد للفقر والجوع وانخفاض لمستوى الدخول يدحض ذلك الادعاء!!!!. أما الادعاء الأخر فهو حماية الوحدة الوطنية في ظروف تعدد الأحزاب التي تعمق الانقسامات وبالتالي تؤدي إلى تمزيق هذه الدول, ولكن النتائج العملية تؤكد أن اغلب هذه الدول من ذات الحزب الواحد عرض الوحدة الوطنية إلى مخاطر جدية, ولعل نظام صدام حسين نموذجا صارخا لانتهاك الوحدة الوطنية وسببا في استقدام الجيوش الأجنبية لفرض حالة الاحتلال بالضد من الاستقلال المنشود, أما من الإدعاءات الأخرى كالحاجة إلى الاستقرار السياسي في داخل النظام السياسي الأوحد, أو أن مقارعة الاستعمار تستدعي وجود حزبا واحدا في السلطة لتعبئة الجهود,فتلك إدعاءات غوغاء, لم تزكيها الحياة ببساطة, وأن اغلب نظم الحزب الواحد ارتمت لاحقا بأحضان الاستعمار وحلفائه وأسرفت في الحوار معه بالسر والعلانية وبطرائق مباشرة أو غير مباشرة, كما هو الحال في الحوار مع إسرائيل وحلفائها من الدول الكبرى !!!!.

لقد مرت على سلطة حكومات الحزب الواحد عدة عقود تجاوزت في العديد منها نصف القرن أو أكثر, وهي تتخبط في الحلول في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية دون جدوى, ودون نتائج تذكر قياسا بعامل الزمن الذي استطاعت فيه الحكومات الديمقراطية الحق انجاز الكثير من الاستقرار السياسي وبناء ديمقراطيات راسخة ورفاه اجتماعي واحترام لحقوق مواطنيها في العيش الكريم, وعكس ذلك فقد تبلورت في سلطات حكومات الحزب الواحد ابرز الاضطرابات النفس ـ سياسية على مر عقود من الحكم, لعل أبرزها ما يلي :

1 ـ الهواجس الأمنية :
أن هذه السلطات وعلى مر عقود لاتهمها سوى قضية الاستمرار والبقاء في الحكم مهما بلغت تضحيات الشعب, فهي تنفق المال الذي وصل إلى ثلاثة أرباع ميزانيتها على قوى الأمن والمخابرات والأجهزة الخاصة وعملائها في الداخل والخارج , مستنزفة موارد الشعب المالية لزرع الرعب والتنكيل بالشعب استنادا إلى علاقتها المريضة بالشعب, حيث تسود نظرة الاحتقار أليه باعتباره العبد المطيع الذي لا يستحق إلا التأديب والعقاب الجسدي بشتى صنوف التعذيب, وصولا إلى سبي الأعراض وانتهاك شرف المواطنين, في محاولة لإذلاله ومنع أي محاولة للتصدي للحكم الجائر ومنع الهبات الجماهيرية التي تطيح به!!!!.

2 ـ غسيل الدماغ :
أن الإحساس الدائم لدى حكومات الحزب الواحد بعدم الشرعية, ورفض الشعب لمنظومة السلطة وتوجهاتها, يدفع السلطة إلى الاستعانة الاستثنائية بأجهزة الدعاية والإعلام للتقليل من حدة وطأة الأجهزة الأمنية وبطشها, فتقوم هذه الأجهزة بالمبالغة في" انجازات السلطة " إن وجدت وتبرير أفعالها وتحويل هزائمها التاريخية إلى انتصارات تاريخية, كما تقوم بإضفاء صفات البطولة والحكمة والتضحية على رموز السلطة وأفعالها لتزيف الوعي, وخاصة في مجتمعات متدنية الثقافة والتعليم, وتلعب هنا خطابات القائد التاريخية وتكرارها والإلحاح بها صباح مساء مقرونة بالأهازيج والأغاني والهوسات التي ترقص الشعب مؤقتا وتلهيه, دورا كبيرا في إيحاء الناس واستهوائهم وتنويمهم  وتغيبهم وإطالة أمد سبات الشعب,  لحين معرفة الحقيقة تمهيدا لانفجار الشعب طالبا بالثائر من حكوماته الكاذبة !!!.

3 ـ أورام الذات :
تعاني سلطات الحزب الواحد من البارانويا بمختلف مظاهرها, داء العظمة, والاضطهاد والغيرة, وتظهر لدى القادة والأفراد الذين لديهم شعور بالنقص ومن تربوا في بيئات تربوية متدنية,وهم مفرطين في العناية بالمظهر بشكل ملفت للنظر, ولديهم القدرة على تلبس أكثر من شخصية, وهم شديدو الحساسية ـ يثور ويغضب ويكون خطيرا ويتهم الآخرين, وقد تندلع بفضله مشاكل وحروب داخلية وخارجية نتيجة لسوء فهم دوافع الآخرين, ونتيجة لذلك فهو لا يثق بشعبه, ولديه الإحساس العميق باحتقار الشعب له , وينتظر منهم سحقه وتدميره, ولذلك فهو ينظر إلى الشعب بعين الشك وسوء الظن, ويتصرف وفقا لهذا الإحساس كعين لا تنام  متأهبا دوما ومستخدما كل سلطاته ومتوحدا معها, وممتلكا لكل أدوات القوة والسيطرة لعلها تحميه من ساعات لا تحمد عقباها, وتمتزج لديه الذات بالسلطة فتصبح لديه السلطة قضية حياة أو موت,  ويتحول الحاكم إلى مستبد ابدي ولا يتخلى عن السلطة مهما كانت التكلفة والضحايا, ولعل في نظام صدام حسين البائد وغيره من النظم الحالية ما يجسد تلك الظاهرة النفس ـ سياسية بوضوح لا غبار عليه !!!!.

4 ـ شخصنة السلطة :
وهو الاحتكار المطلق للسلطة, بمعنى انفراد مجموعة أو نخبة بالحكم, واتجاه الحزب إلى إضفاء كل الصفات الحسنة عليها, وإلصاق كل الصفات السيئة بمعارضيها, وهي حالات من الإسقاط النفسي المرضي, حيث يجري تحميل الشعب وأحزابه المعارضة كل ما يرتكبه الحاكم من جرم, لا بل أكثر من ذلك يلجا الحاكم إلى فرض نمط من النفوذ عبر شتى مظاهر حصر السلطات التشريعية والتنفيذية والدستورية بيده كميكانيزم تعويضي معبر عن الفشل والخيبة, إضافة إلى شتى مظاهر وطقوس العبادات الشخصية للحاكم, وإطلاق صفات التبجيل والعبادة الفردية له, ونشر صوره وتماثيله في كل مكان في محاولة لتأكيد ذاته وإثارة الرعب لدى الشعب بوجوده الشكلي في كل مكان, من خلال ترك الانطباع أن حضوره قائم مهما غاب أو اختفى إلى حين !!!!.

5 ـ سيكولوجيا اغتصاب السلطة والإفساد فيها :
أن سلطة حكومات الحزب الواحد فتحت الطريق على مصراعيه إلى الاستغلال النفسي والأخلاقي والإداري والمالي في ظل غياب تقاليد راسخة للعمل السياسي, وعدم وجود رقابة شعبية حقيقية.ومن الناحية النفسية فأن الاستحواذ على السلطة يدفع بشخص القائد إلى ممارسة سلوكيات سيكوباتية من الالتفاف, والتلفيق, والخداع والكذب, وتصبح هذه السلوكيات ممارسات يومية ملازمة لاستمرار وبقاء السلطة وتشكل دالة للنظام, وتتجاوز هذه السلوكيات شخص القائد لتنتشر في أوصال المجتمع كله, في سلوكياته اليومية, وفي دوائر الدولة وفي المنظمات الحزبية للحاكم, ويأتي هنا الفساد كضرورة لبقاء نظام الحكم من خلال عملية التجانس القيمية والأخلاقية بين الحاكم ومنظومته السلطوية, وبين المجتمع وعامة الناس, وعلى خلفية ذلك ينتشر الفساد بمختلف مظاهره, من رشوة وفساد وسرقة للمال العام, ومقرونة هذه الممارسات بحديث ممل من قبل السلطة ودورها في الشفافية والنزاهة والطهارة والحفاظ على المال العام, إلى جانب المبالغة في القيم والطقوس والمظاهر الدينية الخالية من الممارسات القلبية لجوهر الدين وروحانياته.

6 ـ الاغتراب في حياة الحاكم وعزلته وتدهور الحكم :
تعاني سلطة الحزب الواحد وقيادتها من حالة الفصل الحقيقي بينها وبين الشعب, فالحاكم ورغم ما يمتلكه من سطوة ومال وأجهزة حماية, إلا انه محروم من لحمة التواصل الحقيقي الصادق والمفعم بالعواطف الإنسانية مع أسرته أولا ومع الشعب بأسره, فالحاكم الوحدوي لا يتمتع بوجود طبيعي في مجتمعه, فهو يرى الحياة من خلال التقارير الحزبية والمخابراتية التي تكتب إليه, وان كل تعامله مع الشعب غير صادق ومن خلف الكواليس, ولا يعرف عن حقيقة الشعب ومعاناته إلا ما تبقى لديه من الذاكرة.ويعرف الحاكم تماما إن ما بينه وبين الشعب هو أشبه بلعبة القط والفأر, فالشعب هنا يلعب دورين, دور المتحاب والموالي, ودور المعارض العنيد, وهو نوع من التوازن النفسي يهدف إلى تحقيق غرضين : خداع سلطة الاستبداد للحفاظ على الذات المستلبة, وتهيئة الذات للانتقام من سلطة الاستبداد في الوقت المناسب, ومع تقادم الزمن وعدم مقدرة السلطة على مجاراة التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي, تتحول السلطة إلى كيان خامل بليد وبطيء يردد شعارات قديمة لا جدوى لها, وقد أتقن الشعب عدم جدواها تماما, وقد ينتهي الحكم البالي إلى توريث الأبناء كامتداد لذات الحاكم, أو الانهيار الكامل بآليات داخلية أو خارجية عند اختمار حالات التغير.

إن الشعب حين يشعر بالظلم أو الطغيان أو إهدار للكرامة قد يسكت لبعض الوقت ولكنه في النقطة الحرجة قد ينفجر انفجارا مفاجئا نتيجة لتراكمات الظلم, وعلى حد قول الشاعر أبو القاسم ألشابي : " أذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلابد أن يستجيب القدر ", فتتحول هبات الجماهير إلى طغيان مدمر" وخاصة عند غياب القيادات السياسية التعبوية المعارضة  " فيكون الغضب الشعبي أشبه بالطوفان يدمر السلطة بالكامل, بل يمتد إلى كل آثار النظام من أبنية ومؤسسات ودوائر حكومية وبنية تحتية وبطريقة عشوائية, كما حصل لبغداد الحبيبة بعد الاحتلال عام2003 حيث انعدم الحس الشعبي العام في ماذا يجب تدميره وماذا يجب احترامه باعتباره خط احمر, وقد عبر ذلك عن حالات الانفجار العشوائي تحت تأثير ضغط وقهر فاق كل الاحتمالات فانفجرت براكين الغضب دون ترتيب سابق ودون قيادة ميدانية فعلية, فكانت نتائجه إلى اليوم مؤلمة لكل الحريصين على الوطن العزيز.

واليوم في العراق "الديمقراطي" بعد انهيار سلطة حكومة الحزب الواحد, وحيث لا يزال البلد في مخاض  البحث والحلول عن الديمقراطية السياسية, نحذر بشدة الحريصين على الوطن أن لا يتحول العراق إلى حكومات الحزب الواحد في إطار الحدود الجغرافية ـ الدينية والاثنية في المحافظات التي يهيمن عليها رجال الدين وزعماء القبائل والذين يقررون جرعات الحياة والموت للمواطن استنادا إلى ولائه لهم, فتلك أسوء من نظام صدام حسين, وهي نذيره بمزيد من التشرذم والانقسام وفرقة الصف وانعدام الحس الوطني, بل انهيار للدولة العراقية الحديثة التي تحفظ ماء وجه الجميع !!!!!!.

 
 
   

       

288
الشخصية الإنسانية بين التطبيقات الماركسية الخلاقة وعبقرية فرويد ـ مدخل مقارن

" بعضنا كالحبر وبعضنا كالورق فلولا سواد بعضنا لكان البياض أصم ولولا بياض بعضنا لكان السواد أعمى "
                                                                                                        جبران خليل جبران


       
د.عامر صالح

تمثل مدرسة التحليل النفسي الفرويدية صرحا سيكولوجيا لا يمكن الاستهانة بأهميته أو توجيه الطعون إليه عبر التبسيط المبتذل لبعض مفاهيمها كمفهوم الغريزة الجنسية ودورها في تشكيل سلوك الفرد,فالنظرية الفرويدية لا زالت تعتبر صاحبة الأثر الكبير على بناء وتشكيل علم النفس المعاصر بكافة فروعه وتشعباته حديثا وقديما,وما خلقته هذه النظرية من حالة جدل أدت إلى هذا الكم الهائل من المعرفة السيكولوجية الحديثة,وفي المقابل فأن النظرية الماركسية كان ولا يزال لها الأثر الفعال والشامل على الكثير من المجتمعات وعلى ثقافات أمم بأسرها وعلى حركات تحرر,و أحزاب يسارية في كل مجتمعات الدنيا وفي كل برلمانات العالم المتحضر حيث يحضر الوجود الماركسي بأشكال مختلفة ليعبر عن جدليته اللامحدودة ,ويمتد الفكر الماركسي في شخصية الإنسان ليشكل جزء من سلوكه الواعي أو اللاواعي,وتستحضرني هنا في الذاكرة بعض الممارسات التي تدل على امتدادات الفكر الماركسي في ثنايا سلوكيات الناس وفي وعيهم أو في لاوعيهم,فماذا يعني أن يذهب حشود من الناس مشيا على الإقدام حفاة لزيارة الرموز الدينية وممارسة الطقوس الخاصة بذلك,ثم يذهب بعد ذلك إلى صناديق الاقتراع لينتخب  شرائح من قوى اليسار العراقي, انه نمط من السلوك أو الخيار الفرويدوـ ماركسي,وان كان لا يشكل ظاهرة في المفهوم الإحصائي إلا انه يعبر عن تجذرات الفكر الماركسي في مقاطع من سلوكيات الناس بمسحة فرويدية, حيث أن الانتماء عندما يقمع " يكبت " فأنه يشكل جزء من لاوعي الإنسان, يظهر مجددا حينما تتوفر فرصة مواتية للتعبير عن نفسه لكي يزيل حالة القلق الناتجة عن عدم إشباع غريزة الانتماء بأشكال واقعية,والتي تم تأجيلها أو إشباعها ببدائل تعويضية, كما أن ذلك يطرح بنفس الوقت قضايا مهمة في كيفية تشكيل شخصية الإنسان  ويحفز نحو مزيدا من الفضول العلمي والمعرفي للوقوف على دلالاته !!!!.

إن الشخصية,والشخص,والشخوص,وغيرها من الألفاظ المشتقة في العربية ترد في الأصل إلى الدلالة على الجسم كما يظهر,وفي هذا الاستعمال تضمين واضح لخاصية البروز أو الارتفاع في الجسم من ناحية,والى التحقق من ذلك بواسطة النظر أو الإبصار من ناحية أخرى.أما في اللغتين الانكليزية(1) والفرنسية(2) فكلمة الشخصية مشتقة من الأصل اللاتيني(3) وتعني هذه الكلمة القناع الذي كان يلبسه الممثل في العصور القديمة حيث كان يقوم بتمثيل دورا, أو حين كان يريد الظهور بمظهر معين أمام الناس فيما يتعلق بما يريد أن يقوله أو يفعله,وهذه الكلمة مركبة بدورها من لفظتي, بيرـ سوناري(4), ومعناها, عبر أو عن طريق الصوت.

ولعل من المفيد أن نذكر بهذا الصدد بأن عالم النفس الشهير كارل يونج قد استعمل لفظة الشخصية(5) للدلالة على القناع الذي يتحتم على كل فرد أن يلبسه لكي يستطيع أن يلعب دوره بنجاح على مسرح المجتمع,وهو بذلك يؤكد على القيمة الاجتماعية والجماعية لهذا القناع,والذي يستطيع بواسطته الفرد,امرأة كانت أم رجلا,أن يكيف نفسه بنجاح مع نظامه الاجتماعي,وان يحقق التوازن بينه وبين توقعات المجتمع عنه,كما أن مثل هذا القناع له أن يحجب أو يستر أبعاد التجارب الذاتية,والتي يعتبرها الفرد من الأمور الخاصة والفردية والتي يجب أن تظل كذلك خافية عن الغير.

والمتأمل في أصول الاصطلاح في كل من اللغة العربية واللاتينية وما تفرع عنها,لا بد أن يلاحظ بأن العرب قد اعتمدوا في تحديدهم لشخصية الفرد على الشكل الذي يبرز عليه كما بدا لهم بحاسة النظر,أما الرومان ومن تلاهم فقد أكدوا على الصوت الذي يعبر فيه الإنسان عن ذاته,وقد نجد أن هذا الفرق اللغوي ليس مجرد مصادفة لغوية بقدر ما هو فرق بين اتجاهين الواحد يؤكد الظاهر وما يدرك بالحواس,والأخر على ضرورة التعبير عما هو وراء الظواهر المقنعة والتي لابد من كشفها للوصول إلى معرفة الذات.

لقد احتلت الشخصية الإنسانية مكانة هامة في الدراسات النفسية والفلسفية على السواء,ويصدق هذا القول في حالة دراسة الشخصية السوية كما يصدق في حالة دراسة الشخصية المضطربة,وقد ساعد على تأكيد هذه المكانة عدد من العوامل كان من بينها النظر إلى السلوك على انه يحصل لشخصية تعمل من حيث هي وحدة متكاملة وفيها كل ما تنطوي من عناصر ومركبات ودوافع وقدرات,إلا أن هذا الاهتمام لا يسلم من سنة الاختلاف والتنوع في المدخل الذي تأخذه هذه الدراسات التي تجعلها موضوعا لها,وذلك على الرغم من وجود اتفاق حول اعتماد المنهجية العلمية في البحث عن ماهيتها ,ومن الممكن التماس هذا الاختلاف في أول مسألة تتعرض لها ألا  وهي تعريف الشخصية أو تحديدها,حيث تجاوز العشرات من التعريفات.

ومن وسط الكم الهائل من التعريفات وتنوعها نستقي لأبرز التعريفات التي ترد في أمهات الكتب ذات الصلة بدراسة الشخصية,فعلى سبيل المثال يعرف برت الشخصية" هي ذلك النظام الكامل من الميول والاستعدادات الجسمية والعقلية الثابتة نسبيا,والتي تعد مميزا خاصا للفرد,والتي يتحدد بمقتضاها أسلوبه الخاص في التكيف مع البيئة المادية والاجتماعية",كما يعرفها أيزنك" أنها التنظيم الثابت المستمر نسبيا لخلق الشخص ومزاجه وعقله وجسده وهذا التنظيم هو الذي يحدد تكيفيه الفريد مع محيطه ",أما البورت فيعرفها في تعريف معدل سابق له " هي تلك الصيغة التي يتطور أليها الشخص ليضمن بقاءه وسيادته ضمن أطار وجوده ".ولعل احد التعريفات الشاملة للشخصية يضعنا إمام تصور دقيق للشخصية,والذي يؤكد على أن الشخصية هي " مجموع الخصال والطباع المتنوعة الموجودة في كيان الشخص باستمرار,والتي تميزه عن غيره وتنعكس على تفاعله مع البيئة من حوله بما فيها من أشخاص ومواقف,سواء في فهمه وإدراكه أم في مشاعره وسلوكه وتصرفاته ومظهره الخارجي,ويضاف إلى ذلك القيم والميول والرغبات والمواهب والأفكار والتصورات الشخصية ".

لا يوجد خلاف مفصلي حول تعريف الشخصية بين المدارس السيكولوجية,بما فيها الفرويدية والماركسية والمدارس النفسية الأخرى,إلا إن الخلاف ينصب حول تشكيل مصادر الشخصية وإبعادها والعوامل الأساسية المؤثرة في تشكيلها والميكانيزم النفسي الذي تتكئ عليه شخصية الفرد"في صحتها واضطراباتها" أثناء عملية التفاعل مع البيئة بمختلف مظاهرها وتعقيداتها المتشعبة.

أن مدرسة التحليل النفسي الكلاسيكية بزعامة فرويد ترى أن الجهاز النفسي لشخصية الفرد يتكون من ثلاث مكونات افتراضية هي :
1ـ ألهو أو الهي(6):
وهو أقدم قسم من أقسام الجهاز عند فرويد,وهو منبع الطاقة الحيوية والنفسية التي يولد الفرد مزودا بها,وهو يحتوي على ماهو ثابت في تركيب الجسم,فهو يضم الغرائز والدوافع الفطرية:الجنسية والعدوانية,وهو الصورة البدائية للشخصية قبل أن يتناولها المجتمع بالتهذيب والتحوير,ومستودع القوى والطاقات الغريزية,وهو جانب لا شعوري عميق,ليس بينه وبين العالم الواقعي صلة مباشرة,كما انه لا شخصي ولا إرادي,لذلك فهو بعيد عن المعايير والقيم الاجتماعية,لا يعرف شيئا عن المنطق,ويسيطر على نشاطه مبدأ" اللذة"و "الألم",ويندفع إلى إشباع دوافعه اندفاعا عاجلا في صورة وبأي ثمن.

2ـ الأنا(7):
وهو مركز الشعور والإدراك الحسي الخارجي,والإدراك الحسي الداخلي,والعمليات العقلية,وهو المشرف على جهازنا الحركي الإرادي,ويتكفل الأنا بالدفاع عن الشخصية,ويعمل على توافقها مع البيئة,وإحداث التكامل,وحل الصراع بين مطالب (ألهو),وبين مطالب "الأنا الأعلى",وبين الواقع ,والأنا له جانبان:شعوري ولا شعوري,وله وجهان:وجه يطل على الدوافع الفطرية والغريزية في ألهو,وآخر يطل على العالم الخارجي عن طريق الحواس,ووظيفة (الأنا) هي التوفيق بين مطالب (ألهو) والظروف الخارجية,وينظر إليه فرويد كمحرك منفذ للشخصية,ويعمل(الأنا) في ضوء مبدأ الواقع,ويقوم من اجل حفظ وتحقيق قيمة الذات والتوافق الاجتماعي,وينمو الأنا عن طريق الخبرات التربوية التي يتعرض لها الفرد من الطفولة إلى الرشد.

3ـ الأنا الأعلى(8):
وهو مستودع المثاليات والأخلاقيات, والضمير, والمعايير الاجتماعية, والتقاليد, والقيم, والصواب, والخير, والحق, والعدل, والحلال, فهو بمثابة سلطة داخلية, أو "رقيب نفسي", وهو لاشعوري إلى حد كبير, وينمو مع نمو الفرد, ويتأثر الأنا الأعلى في نموه بالوالدين, ومن يحل محلهم, مثل المربين والشخصيات المحبوبة في الحياة العامة, والمثل الاجتماعية العليا, كما انه يتعدل ويتهذب بازدياد ثقافة الفرد وخبراته في المجتمع, ويعمل الأنا الأعلى على ضبط (ألهو), وكفه عن إشباع كل ما يراه المجتمع خطأ أو محرما من الدوافع, وذلك من خلال (الأنا) .

ويؤكد فرويد أن الجهاز النفسي للشخصية لا بد أن يكون متوازنا حتى يكفل للفرد طريقة سليمة للتعبير عن الطاقة اللبيدية"الحيوية الجنسية" وحتى تسير الحياة سيرا سويا.ويحاول" الأنا " حل الصراع بين " ألهو " و " الأنا الأعلى " فيلجأ إلى عملية تسوية ترضي ـ ولو جزئيا ـ كلا من الطرفين,وإذا اخفق ظهرت أعراض العصاب.وقد يحدث الصراع بين "الأنا"و"ألهو" حيث تسعى مكونات ألهو الغريزية للتعبير عن نفسها في الوقت الذي يقف فيه الأنا بالمرصاد دفاعا عن الشخصية وحرصا على توافقها.وقد يحدث الصراع بين الأنا والأنا الأعلى حيث يصدر الأنا الأعلى أوامر مستديمة إلى الأنا مما قد يرهقه ويأخذ صورة مرضية يعبر عنها بقلق الضمير.   

أما المفهوم الأخر في  نظرية فرويد فهو المفهوم المتعلق بالشعور,واللاشعور,وما قبل الشعور,ويمكن إيجازه بالشكل الأتي:
1ـ الشعور(9):
وكما حدده فرويد فهو منطقة الوعي الكامل والاتصال بالعالم الخارجي,وهو الجزء السطحي فقط من الجهاز النفسي, وهو الوسيلة المباشرة لإطلاع الإنسان على ما يمر به من الحالات النفسية أي الاطلاع على وجود اللذة والتعب, وعلى سير المحاكمات العقلية, أي انه وسيلة الذات في الاطلاع على ما تنطوي عليه في حاضرها ساعة اليقظة.
2ـ اللاشعور(10):
وحسب فرويد فهو يكون معظم الجهاز النفسي.وهو يحوي ما هو كامن ولكنه ليس متاحا ومن الصعب استدعاؤه لأن قوى الكبت تعارض ذلك.وحدد فرويد الرغبات المكبوتة التي يحتويها اللاشعور بأنها ذات طابع جنسي.ويقول إن المكبوتات تسعى إلى شق طريقها من اللاشعور في الأحلام وفي شكل أعراض لمختلف الاضطرابات العصابية.
3ـ ما قبل الشعور(11):
ويحتوي العناصر غير الموجودة في نطاق الوعي إلا انه من الممكن استدعاؤها إلى الوعي بسهولة حيث يقع ما ندركه في لحظة معينة في نطاق الوعي لفترة ثم نصرف انتباهنا عنه, فينتقل إلى ما قبل اللاشعور ونستطيع نقل الأفكار من منطقة ما قبل الشعور إلى الشعور من خلال تركيز الانتباه, والأفكار الكامنة في منطقة ما قبل الشعور لا تمت إلى مستوى الشعور المباشر لأنها ليست فيه, وهي لا ترجع إلى اللاشعور لأنها تختلف عن حالته من حيث سهولة جعلها شعورية, ومن حيث قدرة الشعور على استدعائها والتصرف بها, ومن حيث ما فيها من فعالية, لذلك تكون بين الشعور واللاشعور.

ويرى فرويد حسب نظريته الثانية عن القلق سنة 1923 أن القلق ما هو إلا إشارة,الهدف منها تمكين الفرد من تجنب حالة من الخطر,ويقول في ذلك"أن جميع الإعراض النفسية تأتي لغرض واحد فقط وهو تجنب حالة القلق,وأن هذه الأعراض المرضية " تربط " الطاقة النفسية, ولولا هذا الربط لأصبحت الطاقة النفسية حرة في الانطلاق على شكل قلق..." ويقول في ذلك "...أن الأعراض المرضية تخلق لكي يتمكن أل " أنا " من الابتعاد أو النجاة من موقف خطر,وإذا ما منعت هذه الإعراض المرضية من الظهور فان الخطر سيبرز لا محال...".

وقد اعتمد فرويد في تفسير السلوك والإمراض النفسية على عملية الكبت(12) وأفترض نوعين من الكبت,أولهما يتألف من مشاعر غريزية ودوافع تبدأ في وقت مبكر من حياة الفرد ولكنها لم تدخل أبدا في حيز الوعي,والنوع الثاني من الكبت يتألف من أنواع الشعور والتجارب والدوافع والرغبات التي وجدت في وقت ما في الوعي ثم أجبرت على أن تكبت في اللاوعي,وهذا النوع الأخير من الكبت هو النوع الأكثر أهمية بالنسبة لفرويد, وهو يمثل الصراع بين الرغبة وبين الموانع لتحقيقها من قبل "الأنا الأعلى  ",وقد بين فرويد الحقائق الآتية عن عملية الكبت:1ـ أنها عملية عامة توجد عند جميع الناس, 2ـ أن المادة المكبوتة مؤلمة دائما أو محرجة أو مكروهة من قبل صاحبها, و3ـ أن عملية الكبت عملية تلقائية تتم كليا خارج نطاق الوعي,ونظرية فرويد في "ديناميكية" الأمراض النفسية تتلخص فيما يلي:1ـ قيام صراع عاطفي بين حاجتين أو رغبتين متضاربتين, 2ـ كبت هذا الصراع إلى " اللاوعي ", 3ـ يظل الصراع المكبوت في اللاوعي ذا قدرة على التعبير عن وجوده بشكل من الأشكال بما في ذلك اتخاذ صفة الأعراض النفسية.

وهكذا فأن فرويد يعتقد بأن عملية الكبت هي عملية " إنكار " ينكر فيها أل " أنا " وجود دوافع داخلية,أو حوادث خارجية, والتي يؤدي الاعتراف بوجودها إلى نتائج مؤلمة. ولما كان من المتعذر الإبقاء على هذه الدوافع كجزء متوازن من وعينا النفسي, فلابد من كبتها حال قيامها محافظة على هذا التوازن من خطر الاضطراب, والصراع المكبوت بهذا الشكل لا ينتهي وجوده بمجرد كبته إلى اللاوعي, إذ يظل هناك مهددا لصاحبه بالظهور, وقد يظهر ذلك بشكل مستتر كما هو الحال ومظاهر السلوك المختلفة, وقد يظهر بصفة أعراض مرضية نفسية والتي تعتبر وسيلة دفاعية نفسية يشغل فيها المريض عن أدراك الصراع الداخلي, وبهذا تساعد في إبقاء هذا الصراع مكبوتا, كما أن في هذه الأعراض المرضية فائدة الإرضاء النفسي للمريض إلى حد ما, لأنها تمثل حلا وسطا بين ما يرغب فيه الفرد وبين ما ينكره.أن هذا الصراع,وهو أساس الإمراض النفسية, يوجد في العقل ولكنه غير معروف لصاحبه. وهكذا فان جميع الأعراض المرضية حسب النظرية الفرويدية ما هي إلا نتيجة هذا الصراع بين القوى المكبوتة والقوى الكابتة لها.

أما بالنسبة للتطبيقات الماركسية في علم النفس, والجزء الخاص منها بفهم طبيعة الشخصية فقد أخذت طابع الدراسات التاريخية المستقاة من المنهج المادي الجدلي في فهم الظاهرة النفسية بارتباطاتها المتشعبة والمتداخلة, وكذلك طابع الدراسات التجريبية المؤسسة على منهجية البحث العلمي وفروضه.ولعل العالم الروسي ايفان بافلوف ( 1849ـ 1936 ) والذي ارتبط باسمه الاكتشاف التاريخي لنظرية الفعل المنعكس الشرطي خير من جسد المنهج الجدلي في أبحاثه العلمية,إلى جانب كوكبة من العلماء الذين جاء من بعده في دراسة الكثير من الظواهر النفسية,كاللغة, والتفكير, والعمليات العقلية ومختلف مظاهر السلوك الإنساني,أمثال, فيجو تسكي, ولوريا, وغيرهم, وكذلك العديد من العلماء الذين ظهروا من وسط مدرسة التحليل النفسي الفرويدية متأثرين بهذا القدر أو ذاك بتأثيرات انتشار الفكر الماركسي وشيوعه في مختلف مجالات الحياة, والعلوم منها بشكل خاص,أمثال, ادلر, و اريك فروم, وفيلهم رايش, وغيرهم, والذين أسسوا لاتجاه سيكولوجي تتطلق عليه بعض الأوساط العلمية " باليسار الفرويدي " في محاولة علمية وجدية للتوفيق بين الفرويدية والماركسية.

يعتقد بافلوف أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة, ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية.فالإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في صورتها الأكثر رقيا وتقدما,فالسلوك الإنساني صناعة تتم وفقا لمبدأ الاستجابات الشرطية وهي صناعة ممكنة أي انه يمكن لنا التحكم في سلوك الإنسان وتشريطه وتصنيعه مختبريا أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الاجتماعية " شروط الوجود ", فأفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا وقيمنا وعادتنا وأنماط سلوكنا وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والاجتماعية هي نتيجة لعملية تشريط اجتماعية تربوية بعيدة المدى وانه يمكن رسم حدود هذه النشاطات والتحكم فيها وفقا لمبدأ الاشراط ومبدأ الاستجابات الشرطية التي بين أسرار حركتها في مخابره  وتجاربه الطويلة.لقد بين بافلوف انه يمكن للاستجابة الشرطية إيقاع الناس فريسة الأمراض النفسية وانه وعلى خلاف ذلك يمكن لهذا التشريط نفسه أن يؤدي وظيفة تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية.

أن الإنسان ينطلق في عملية تكيفه وفق منظومة دلالية من الرموز والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة.فالكلام يشكل بالنسبة للإنسان نظاما ثابتا من الدلالات الذي يتمايز به الإنسان عن الحيوان, فالكلام هو بالتأكيد الأمر الذي جعل منا بشرا,فالمثيرات الأولى " المنظومة الأشارية الأولى " هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء والأحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان, ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف بالمثيرات الدلالية من المستوى الثاني " المنظومة الاشارية الثانية " والتي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني,وهي الرموز أو الدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن عالم الحيوان.

لقد قدم بافلوف نظريته عن أنماط الشخصية في الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر الجراحين الروس عام 1927 مستندا بذلك إلى ثلاث منطلقات أساسية,يذهب في الأول إلى أن الجهاز العصبي هو مركز الفعاليات النفسية,وأن ما يسميه البعض بالارتباطات النفسية ما هو إلا ارتباطات فسيولوجية, وأن مختلف الدراسات المختبرية التي قام بها لفترة طويلة من الزمن تعطي دليلا كافيا على ذلك, والمنطلق الثاني الذي أكده بافلوف هو أن هناك ظاهرتين أساسيتين في التكوين النفسي للإنسان والحيوان هما عمليتي الإثارة والكف , وأنهما مترابطتان, وان فعالية الإنسان والحيوان منطلق منها باستمرار, وان الأولى تمثل نشاط الإنسان وإنتاجه بينما تمثل الثانية, وهي الكف, النزوع إلى الراحة واستعادة النشاط وحماية الخلايا من الإعياء والإفراط في صرف الطاقة, أما المنطلق الثالث فهو التأكيد بأن الإنسان يمتلك قدرة على التكيف, وانه في ذلك يحمل الكثير من الأفعال المنعكسة الطبيعية التي تبقى ثابتة ومتناسبة مع مؤثرها الأصلي, والكثير من الأفعال المنعكسة الشرطية التي تكون مكتسبة وقابلة للتحويل والتعديل, ومن هذه المنطلقات يأتي بافلوف للحديث عن أنماط الشخصية والمزاج عند الإنسان, فهناك أولا نمطان متطرفان يقابل احدهما الإثارة وشدتها, ويقابل الثاني الكف وهدوءه, وهنك ثانيا حال متوسط معتدل عنده شيء من الطرفين ولذلك فهو متوازن, ولكن هذه الحالة المتوسطة تعود هي نفسها إلى نمطين تبعا لغلبة الإثارة أو الكف,فتكون الإثارة هي الغالبة في احدهما, ويكون الكف هو الغالب في الثاني,وهكذا نحصل على أربعة أنماط للأمزجة,كما أدركها بافلوف بالشكل الأتي :
1 ـ النمط المندفع الذي يتميز بشدة الاستثارة والاندفاع والطيش وكثرة التسلط والعدوانية,ويبدو ذلك واضحا عند الحيوان الذي يميل إلى العدوان.
2 ـ النمط الخامل الذي يتميز بضعف النشاط وتطرف الهدوء,والاكتئاب والسكينة والخضوع والتخاذل.
3 ـ النمط النشط المتزن الذي يتميز بالاعتدال مع ظهور النشاط وكثرة الحركة والملل السريع حين لا يوجد ما يشغله,وهو فعال ومنتج.
4 ـ النمط الهادئ المتزن الذي يتميز بالقبول والمحافظة والرزانة,وهو عامل جيد ومنظم.

لقد  ذهب بافلوف بعيدا في تفسير السلوك الإنساني مستفيدا من نتائج تجاربه المختبرية,  آخذا بنظر الاعتبار خصوصية الإنسان باعتباره كائن رمزي,تشكل اللغة والكلام خصوصيته التي ينفرد بها عن عالم الحيوان,فقدم مجموعة من النظريات فسر فيها تكوين الشخصية ومظاهر السلوك الطبيعي أو الشاذ والإمراض النفسية  على أسس من عمليات التفاعل الشرطي, فنمو الشخصية وتطورها في رأيه يعتمد على عمليات التمرين والتعود في الصغر, عندها يمكن بناء بعض خصائص الشخصية كالمثابرة وقوة الإرادة وضبط النفس. والسلوك الشاذ في نظره ما هو إلا تعبير عن خطأ مزمن في عمليات التطبع الشرطي, أما الأمراض النفسية فهي نتيجة لاضطراب في عملية التدريب في الصغر, مما يعطي الدماغ حالة مزمنة من الاضطراب الوظيفي في العمل, فالقلق باعتباره محور الأعراض المرضية النفسية, ما هو بنظر بافلوف إلا رد فعل غير مناسب لتفاعلات شخصية سابقة, أما الأعراض الأخرى التي يشكو منها المريض فما هي إلا وسائل جديدة يتعلمها المريض للتقليل من حدة الشعور بالقلق, وتظل هذه الأعراض ما دامت تخدم غرض الإبقاء على القلق في حدود محمولة, وهذه الفائدة الظاهرية تعزز عمليات التفاعل الشرطي التي أحدثت حالة القلق في الأصل, وتساعد لذلك في استمرار الاضطراب النفسي الذي يشكو منه المريض. وقد تلي هذه النظريات التفسيرية للأمراض النفسية واضطرابات السلوك, نظريات أخرى في علاج هذه الحالات تعتمد على أن ما تعلمه الإنسان خطأ يجب إزالته وتعليمه من جديد وعلى أساس صحيح. وان الخطأ في عملية التطبع يمكن أن يزال فقط عن طريق مسح التطبع الخاطئ, وإقامة تطبع ملائم جديد. وقد  طبقت النظريات العلاجية في طائفة واسعة من اضطرابات السلوك والأمراض النفسية, مثل التبول الليلي, والقلق, والفوبيا بمظاهرها المختلفة, والسلوك السايكوباثي, والإدمان, والشذوذ الجنسي وغيرها من الاضطرابات. ولعل أهمية نظريات بافلوف تكمن ليست فقط في تفسير الأمراض النفسية واضطرابات الشخصية أو في علاج هذه الأمراض والاضطرابات, وإنما في قيمتها الوقائية كوسيلة تدريبية تربوية وتعليمية, تستهدف تنمية الشخصية من مطلع تكوينها وعلى أساس صحيح سليم, يقيها خطر الانحراف والاضطراب النفسي مستقبلا.

أن الكثير من الظواهر ذات الصلة بالصحة النفسية لشخصية الإنسان وتكيفه وجدت لها مقاربات في التفسير لدى كل من ماركس وفرويد,فمن تلك الظواهر هو ما تناوله اريك فروم( 1900 ـ 1980 ) في تعريف تلك المتغيرات والتي نعني بها المرض الذي هو: الاغتراب حسب ماركس, وأشكال العصاب لدى فرويد.فالاغتراب الإنساني يعني: " اغتراب الإنسان عن أعماله وعن الإنسان الآخر وعن الطبيعة " وبنفس اللغة فان العصاب" المرض النفسي " (هو استحواذ رغبات نابعة من " هو " الإنسان على الأنا الواعي) وفي كلا الحالتين فان الاغتراب والعصاب الذي سيصبح شكلا من أشكال الاغتراب يحدثان في منطقة اللاوعي من فكر الإنسان. يقول فروم في هذا الصدد في هذا الصدد: ( أن المريض المصاب بمرض العصاب هو كائن إنساني مغترب, انه لا يحس بأنه قوي, ويخاف وهو مكبل لأنه لا يرى ولا يعرف نفسه ذاتا ومسببا لأعماله وتجاربه, فهو عصابي لأنه مغترب ) . ومن خلال العودة إلى مفهوم الاغتراب الإنساني لدى ماركس فأنه يفترض بان الإنسان يصبح عبدا لنتاجه الذاتي كلما تضخم هذا الإنتاج وزاد ابتعاده عن متناول يده, هذا الأمر بدوره يعني أن تطور وسائل الإنتاج وزيادة جهل الإنسان بها يدفعه إلى تأليهها كما هو حال المصاب بالعصاب والذي يؤله بعض المنتجات الذاتية الطفولية له" الرغبات الجنسية " والتي تنتقل من الوعي الحر إلى اللاوعي في المراحل المتقدمة من العمر. وكون العصاب هو المرض النفسي السائد والمنتشر والذي يمكن القول عنه بأنه لا يخلو من كل إنسان تقريبا, فان الحال نفسه مع الاغتراب, والإنسان الذي يتمتع بالصحة النفسية هو ذلك الذي يتمتع بإرادة حرة حسب كلا من فرويد وماركس, وهو في النهاية حرا من العبودية لكل من عمله وغرائزه, واستقلالية الفرد عن العالم الخارجي بالمعنى الايجابي بحيث لا تعود أشياء هذا العالم الخارجي هي المسيطرة على فكره ومشاعره بل خاضعة لهذا الفكر والشعور الذي هو جزء من إرادته الحرة . ويعود فروم للقول " وتبعا لذلك يكون الإنسان الصحيح نفسيا عند فرويد هو ذلك الفرد الذي بلغ المرحلة التناسلية وصار سيد نفسه والذي يستقل عن أبيه وأمه ويعتمد على عقله وقوته, ولكن أذا كان تصور فرويد عن الصحة النفسية واضحا في معالمه الرئيسية أيضا فأن مفهومه يبقى مع هذا غامضا بعض الشيء بصورة إجمالية ",وبهذا يؤكد فروم بصعوبة التطابق الكلي بين العصاب والاغتراب رغم التشابه الكبير بينهما. أما بالنسبة لماركس فأن الإنسان الصحيح الذي يؤدي بالتأكيد إلى خلق مجتمع صحيح هو " الإنسان المتطور تطورا كاملا والسليم نتيجة لذلك فهو الإنسان المنتج الذي يهتم بالعالم اهتماما صحيحا ويستجيب له, انه الإنسان الغني " , أي الإنسان الذي يمتلك قدرته وعمله . إن قوة الترابط بين النظريتين في الخطوط العريضة والجوهرية لكليهما إلا وهو أن الإنسان الصحيح في كلا الحالتين هو الإنسان الذي يصل إلى وعي كامل لسبب المرض النفسي وهو في هذه الحالة يقع في الموقع النقيض لقرينه المريض نفسيا في الجهة المقابلة أي اللاوعي. إن محاولات اريك فروم حول ارتباط الاغتراب بالعصاب أو تطابقهما هي محاولات جادة على طريق التقليل من أهمية الغريزة الجنسية التي تبدو واحدة من أشكال الاغتراب التي لا يتعدى تأثيرها الفرد عند وجودها.

ومن المفيد هنا في معرض حديثنا عن العصاب والاغتراب,أن نشير إلى أن العالم الروسي بافلوف كان له السبق في اكتشاف ما يسمى" بالعصاب التجريبي " وهو عصاب يحدث عندما يتعرض الحيوان المجرب عليه لعمليات اثارة وكبح في ان واحد يقع على أثرها الحيوان فريسة الإثارة البالغة وذلك لأنه لا يستطيع التميز بين المثيرات القادمة المتنافرة وتكون النتيجة إصابة الحيوان المعني بالعصاب.وقد كان بنتيجة ذلك ان الحيوانات قد فقدت كل العادات التي تعلمتها وأصبحت مشوشة,وكأن خلايا دماغها قد غسلت أو نظفت من كل التجارب التي قد أجراها.وقد كان لتجارب بافلوف تأثير كبير لدى العديد من علماء النفس لاحقا في الكثير من الظواهر المشوقة جدا عن العقل البشري والتي كانت الحجر الأساس لنظرية في علم نفس الشخصية والتعلم, ومفادها أن الإنسان يمتلك انعكاسات وغرائز بدائية "خلقية ", ولكنه في كل لحظة من حياته يمر بتجارب ويتعلم دروسا هي بمثابة لبنات في بناء شخصيته وتفكيره, أي انه يبني عادات حديثة يكون لها الأثر الكبير في أسلوب تفكيره وعقيدته واتجاهاته في الحياة, ولكن هذه العادات والأفكار المكتسبة ليست ثابتة ,فهي عرضة للاهتزاز أو الاضمحلال, ففي الحالات التي يتعرض فيها الإنسان إلى ظروف قاهرة صعبة تجعل جهازه العصبي في حالة من التوتر أو الحساسية المفرطة أو التثبيط الحاد, وفي هذه الحالة الحرجة تصبح خلايا دماغه عاجزة عن الاحتفاظ بما اختزنته من عادات, بل قد تصبح شبه مشلولة عن العمل والمقاومة, بل أن مقاومتها للأذى ولتهديد الواقع عليها ينقلب إلى تقبل اشد واستسلام أسرع لعادات جديدة أخرى غريبة قد يتصادف حدوثها في تلك الحالة, وعندئذ تمحو من دماغ الإنسان أفكاره السابقة واتجاهاته وميوله, ويصبح قابلا للإيحاء وفريسة لتعاليم جديدة. أن هذا المفهوم المركز لبافلوف حول فكرة العصاب وتطبيقاتها لاحقا تنسجم إلى حد بعيد مع مقاربة اريك فروم بين العصاب عند فرويد والاغتراب عند ماركس من حيث الاتجاهات العامة.

قد يبدو للوهلة الأولى, أن هناك تعارضا أساسيا واختلافا واسعا لا يمكن التقارب فيه, بين المدرستين : المادية الديالكتيكية الشرطية, كما جاء بها بافلوف, والدينامية النفسية, كما جاء بها فرويد, والواقع أن هنالك الكثير من أوجه الشبه بينهما, وان اعتمدتا في الظاهر افتراضات متباينة ووسائل مختلفة في البحث والعلاج,فكلاهما تردان تكوين الشخصية وأسباب اضطرابها إلى سن الصغر, وكلاهما تريان بان الطريقة المثلى للعلاج هي في إصلاح الأخطاء التفاعلية التي نشأت في سن مبكر واستبدالها بتفاعلات مناسبة وجديدة, ووجه الخلاف كما هو واضح, هو أن بافلوف وأتباعه يفسرون الاضطرابات السلوكية والنفسية على أساس من خطأ في التفاعلات الشرطية التي تعرض لها الفرد في نموه, ويضع بافلوف قاعدة هذا الخطأ  في القشرة المخية, بينما نجد فرويد وأتباعه يردون هذه الاضطرابات إلى الصراعات النفسية التي يتعرض لها الفرد في تجربته العقلية, والى فشله في حل هذه الصراعات حتى بعد اللجوء عمليات الكبت المختلفة التي يستغلها العقل تلقائيا كوسيلة دفاعية للتخلص من وطأة هذه الصراعات. وإذا أمكننا اليوم أن نعيد صياغة نظريات فرويد هذه, بحيث ننظر إلى الصراعات النفسية بأنها عمليات فسيولوجية من التضارب بين عوامل التطبع الشرطي من إثارة أو نهي, وان عملية الكبت ما هي إلا تسلط عوامل النهي على عوامل الإثارة, وأن الأعراض السلوكية والنفسية ما هي إلا رد فعل الجهاز العصبي بسبب فشله في إقامة التوازن بين التفاعلات الشرطية المختلفة قديمها وحديثها, إذا أمكن كل ذلك فسيؤول الفرق بين النظريتين إلى مجرد اختلافات في سبل البحث وفي لغة التعبير عن هذه السبل.

أن تأكيد تجارب بافلوف بان العمليات النفسية هي صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية, وبأن الدماغ هو أعلى أشكال المادة وأرقاها, هو أمر مفرغ منه في ميادين العلوم النفسية والعصبية المعاصرة, ولا يراود الاختصاصيون في هذه المجالات أدنى شك.ويحاول الكثير من الباحثين اليوم في نطاق الجمعيات الدولية للأعصاب والتحليل النفسي إيجاد تفسيرات سايكو ـ دماغية للعديد من الافتراضات النفسية للعالم فرويد, فعلى سبيل المثال لا الحصر, أن الجهاز النفسي الثلاثي المتمثل بالهو, والانا والانا العليا, والذي تم شرحه في بداية المقال وجدت له مقابلة دماغية, فالهو يقابل المنطقة التحتية للدماغ والتي تسمى منظومة الطاقة, والانا يقابل المنطقة الوسطى من المخ والتي تسمى منظومة الاستقبال, أما الأنا العليا فتقابل المناطق الأمامية من المخ والمسئولة عن القيم والتقاليد وغيرها من العمليات العقلية العليا والتي تسمى منظومة البرمجة. وهكذا يبقى تأثير المدرستين النفسية : المادية الديالكتيكية ممثلة بأحد رموزها " بافلوف " ومدرسة التحليل النفسي بمؤسسها سيجموند فرويد من المدارس العملاقة في تاريخ الفكر السيكولوجي, وستبقى تأثيراتهما في نطاق البحث العلمي والعلاج النفسي وفهم الشخصية الإنسانية سارية المفعول حيثما يستخدم العلم في دراسة السلوك الإنساني بعيدا عن الشعوذة والخرافات !!!!!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)personality,2)personalite,3)persona,4)per-sonare,5)persona,6)id,7)ego,8)super-ego,9)consciousness,10)unconsciousness,11)preconsciousness,12)repression
 


             

289
في فهم جذور الظلم الاجتماعي وتداعياته في العراق

" قصور الظالمين سجون "
              ميخائيل نعيمه

 

د. عامر صالح

يعتبر الظلم الاجتماعي الذي يقوم على خلفية فساد الحكم من اخطر الآفات الاجتماعية والسياسية التي تهدد أي مجتمع إنساني بالزوال والانهيار والدمار,وانعدام الأمن والسلم الاجتماعي,وغياب الاستقرار السياسي,من خلال انعدام التوازن الاجتماعي وانتفاء العدالة,وانتهاك الحقوق العامة للناس,واكل أموال الناس بالباطل,وممارسة التميز العنصري والعرقي والطائفي,ونهب المال العام والفساد بمختلف مظاهره:الإدارية والمالية والاجتماعية والأخلاقية.

وقد أكد ابن خلدون في مقدمته أن الظلم مؤذن بخراب العمران,وحين يشخص بعض مظاهر الفساد التي تعتبر سببا رئيسيا للظلم,حيث يذكر أن الكثير من أصحاب الممالك والملك صار ينزع إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان,بما حصل في يديه من"مال الدولة",والفرار إلى دولة ثانية لما يراه انه اهنأ وأسلم في إنفاق ذلك المال والحصول على ثمرته,وهو يشير إلى إن في ذلك فسادا لأحوال البلاد والعباد ودنياهم,أنها إشارات حية من العالم ابن خلدون استدركها قبل أكثر من ستمائة عام تنطبق على الحالة العراقية حين يفر المسئولون العراقيون بعد فضائح مالية واختلاسات للمال العام إلى دول الجوار لكي يقيموا فيها بصفة المستثمرين هروبا من العدالة !!!!.

ويؤكد ابن خلدون حين يشخص ظاهرة الفساد فانه يعزو ذلك إلى الطور الخامس من مراحل عمر الدولة حسب تصنيفه,حيث يكثر الإسراف والتبذير,ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمعه السابقون في سبيل الشهوات والملذات والإنفاق على بطانته,وبذلك يفسد كبار أوليائه ويخرب ما ابتناه إسلافه.وهذا الطور لا يؤدي إلا إلى انقراض الدولة حيث أن الانقراض يكون نتيجة للأزمة الاقتصادية التي تحل لنقص الأموال والحاجة إليها من قبل صاحب السلطان التي تجبره على السلوك الإكراهي في زيادة الضرائب على الأكرة والفلاحين وسائر أهل البلاد مما يدعو الناس إلى التقاعس عن العمل بسبب فساد السلطان وبالتالي تتفاقم الأزمة وتدخل الدولة في مرحلة الاضمحلال,وإذا كان استنتاج ابن خلدون لا يتفق مع حالة العراق حول شحة المال, حيث يقف العراق على بحر من الذهب الأسود,إلا إن مفهومه حول اضمحلال الدولة يثير تساؤل بالنسبة للعراق,هل العراق في بداية النهاية أم نهاية البداية !!!!!.

أن من مظاهر الظلم هو وضع الشيء في غير مكانه,إلا يكون الكفوء المناسب في المكان الذي يليق به ويستحقه لأنه ليس من نسب معين, أو من جماعة أو من عشيرة معينة, أو من حزب سياسي أو من طائفة بعينها,فيوضع الإنسان غير المناسب في المكان الذي لا يناسبه ظلما وزورا,فيتصرف بقوت الناس ومصيرهم وفق أهوائه فيكون عندها ضالا ومضلا وظالما,ولا يقتصر هذا على سياسة الدولة فقط,بل يشمل جسد المجتمع بأكمله من أحزاب ومؤسسات ودوائر حكومية ليستفحل ويصبح سلوكا يوميا,يندمج مع المنظومة القيمية ليصبح جزء منها ليبث سمومه يوميا في تصرفات الناس ليهدد الدولة والمجتمع بالفناء الكامل,فيتحول إلى أشبه بالدائرة المغلقة يتناوب فيها الإفراد الأدوار,مرة ظالم وثانية مظلوم وهكذا دواليك !!!.

أن الظلم منبوذ ومدان ومحذر منه في كل الأديان السماوية وغير السماوية,وإذ اذكر هنا دلالات محاربة الظلم في الإسلام فأعني به أن الإسلام وقع متأخرا لما قبله من الأديان ومستفيدا من زخمها في محاربة مختلف الظواهر المرضية, أي أن الإسلام ليست وحده منفردا بذلك وكأني هنا اختزل ما ورد على لسان الأديان الأخرى بشدة,وهنا أشير إلى قول النبي(ص):" اتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب",وقال أيضا: " دعوة المظلوم مستجابة وان كان فاجرا وفجوره على نفسه",وقال علي ابن أبي طالب(ع): " الظلم في الدنيا بوار,وفي الآخرة دمار " ,وغزارة النصوص القرآنية حول الظلم بمختلف مظاهره لا حصر لها,فقد وردت كلمة الظلم واشتقاقها في القران أكثر من 150 مرة,ونكتفي فقط بما ورد في سورة النساء بقوله تعالى: " أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ",وفي هذا النص إشارة إلى إن الكافر والظالم سواسية مهما اختلف دينه أو طائفته!!!!.

لقد نشأ الظلم والفساد في العراق في عقوده الأخيرة على أرضية قسوة خارقة واستثنائية حيث قائد الضرورة كان على هبة الاستعداد لذبح مئات الألوف من عامة الناس ومن كوادر البلد العلمية والمهنية والسياسية ومن خيرة مفكريه وأدبائه وكتابه وشعرائه, وحتى من أنصاره ومؤازريه,وحرب ضروس استمرت ثماني سنوات لم تلبث أن انتهت بأعجوبة ساهم العناد الإيراني باستمرارها وإراقة الدماء عند كلا الطرفين,حتى لحقت بها حرب احتلال الكويت,ثم تلتها حرب تحرير الكويت ضد العراق وكان في ذلك اشد دمارا للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للدولة العراقية,وقد ساد مناخ من الإعتام واليأس والقنوط والإحباط ارتبط بفقدان الأهل والإخوة والأقارب في الحروب وتصدع العائلة والمدينة والقرية والحي والحارة والجار بتأثير شدة الفقر والحاجة حيث بلغت الرواتب في أفضل الحالات من 5 الى6 دولارات في بلد نفطي كالعراق,إضافة إلى التصدعات القيمية والأخلاقية العامة كمحصلة لهذا كله,وقد قادت هذه الظروف إلى شيوع الجريمة العادية والسرقة ولكنها كانت في معظمها تحت قبضة النظام السابق حيث كان على استعداد لتشجيعها أو القبض على منفذيها بنفس الوقت للتخفيف من أزمته الداخلية,وكذلك تاركا لأجهزته المخابراتية والأمنية حرية ارتكاب الجرائم النوعية ضد مناوئيه !!!!.

ثم أتت فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 حيث شيوع وانتشار التنظيمات السياسية الطائفية التي نمت نموا مذهلا وسريعا وبتشجيع من دول الجوار العربي وغير العربي مستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود في ظل النظام السابق جراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي سببها له,وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون فهم قوانينه وأسبابه,والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران " دون اتهام محدد لأحد بالإرهاب " ولكن الجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على ارض العراق المظلوم ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان واشتراطاتها السياسية,بما فيه حتى شروط تشكيل حكومته القادمة ,أنها كارثة حقيقية ضد استقلال البلد وسيادته,وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل,بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده,وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر باليابس !!!!.

لقد تواجدت هذه القوى تحت المظلة الأمريكية والجميع غير مؤمن بالديمقراطية السياسية كأسلوب لإدارة الحكم, وإذا كان المحتل صادقا في نيته في بناء نظام ديمقراطي في العراق فتلك هي حالة الاغتراب بين المحتل وبين من يتعامل معهم لإدارة شئون البلاد,وكما يقول المثل " إن كنت تدري فتلك مصيبتي وان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم ",وعلى خلفية ذلك ولد الدستور"رغم مثالبه "معطلا والمؤسسات الديمقراطية الناشئة فارغة المحتوى غير ذات جدوى,والجميع يعمل على شاكلته وبطريقته الخاصة مستلهما من الدكتاتورية السابقة اعتى دروسها في "التبعيث الجديد" والاستحواذ والقمع,وكل من هؤلاء انشأ ميليشياته "الجيش الشعبي الجديد " وحتى منظمات مجتمعه المدني الصفراء,وقواه الأمنية ليدافع عن نفسه وعن امتيازاته وبقائه بعيدا عن الانتماء إلى الوطن والمواطنة.

وعلى خلفية هذه التعبئة المشوه اندفعت شرائح واسعة من مجتمعنا إلى الارتماء في أحضان هذه الحركات على خلفية فهم محدود لإزالة أثار الفقر ومسبباته في تصور خاطئ مفاده إن جرة قلم سوف تنقلهم من فقر مدقع إلى غنى لا حدود له, في ظروف سياسات انفتاح غير مدروسة وعبثية صوب الانتقال إلى اقتصاديات السوق,في وقت توقفت فيه الدولة عن أداء دورها التنموي في بلد غني كالعراق,وتتسع دائرة الظلم الاجتماعي والفساد,ويبدأ الفقر بالضرب بشدة في ما تبقى من صلابة التنظيم الاجتماعي بما فيه العائلة ليفضي إلى تصدع اجتماعي وترهل سياسي مخيف فيخيم على المجتمع شعور طاغ بالاغتراب وفقدان المعنى والمصداقية مع انعدام العدالة والتخلص من كل تخطيط ليقع المجتمع فريسة ضروب الفوضى وارتفاع مخيف لنسبة البطالة وسط غنى هو الأخر مخيف وفاحش,وتتعمد القوى السياسية لتسريع الانتقال إلى الرأسمالية المشوهة والوحشية لتحقيق مكاسب خاصة عبر الوكالات والسماسرة والفساد بكل أنواعه,ونفس هذه القوى تندفع إلى تسويات سياسية غير عادلة يسودها منطق الانهزامية الوطنية في ظروف يبدوا فيها محيط العراق الخارجي أكثر شراسة وعنف في التدخل في شئونه وارتهانه وأضعاف وحدته الداخلية.

أن الظلم والفساد ينتشران حيث تغيب العدالة الاجتماعية ولا يتوفر مبدأ تكافؤ الفرص فيصبح المواطن ينظر إلى السلطة على أنها لا عقلانية ويستبيح بالتالي الممتلكات والأموال العامة ويهضم حقوق الآخرين اقتداء بما فعلته هي به,كما ينتشر الفساد حيث الو لاءات الضيقة " قرابة الدم وقرابة العشيرة والحزب والطائفة " في ظل غياب الثقافة الديمقراطية وثقافة المواطنة,وفي ظل تفاوت مريع في الدخول بين الفقر المدقع والغنى المشبوه.

أن فتح حوار وطني لمكافحة الظلم والفساد ينتهي إلى وضع ميثاق وطني يحدد معايير المحاسبة وتسير المال العام والتعيين في الوظائف العليا للدولة والرقابة على الوظائف العمومية يعتبر من المهمات العاجلة والآنية,وان هذا الميثاق يحمل صفة الإلزام والمرجعية الأخلاقية ولا بأس حتى الدينية التي على أجهزة الدولة ومؤسساتها احترامها,ويكون من البديهي أن تشترك جميع فعاليات الوطن في صياغة مبادئه ويكون بمثابة الدستور الاقتصادي والمالي والأخلاقي للسلطة التنفيذية,وبالتالي يتيح لكل مواطن فرصة الرقابة على المال العام بغض النظر عن موقعه في السلم الاجتماعي,ميثاق يحمل صفة الإجماع الوطني,ويدعم السلطة الاعتبارية للقضاء الذي عليه أن يجتهد في تفكيك الفساد المنظم والمافوي,ويتيح للسلطات الوطنية النزيهة مجالا أوسع للتدخل على مسار الإرادة الشعبية,ويحرر الإعلام من عقدة الخوف المزمنة والتحوط من ردود فعل الشبكات الفاسدة !!!!.

أما التمادي في ذلك واعتباره واقع حال فهو نذير بمزيد من التدهور النفسي والسلوكي للمواطن العراقي وبشكل اكبر مما يتوقعوه الكثيرون,فهو يؤدي إلى مزيدا من التدهور في الانتماء حيث ينقله من الضعف إلى عدمية مطبقة,عندها يكون نذيرا بمزيد من عمليات الإرهاب والقتل باختلاف منفذيه من مختلف الطوائف والأديان والقوميات والملل وعلى خلقية انتفاء العدالة ودفاعا عن النفس !!!!.

 




290
وين الوعد وينه بالضيم ظلينه... في سيكولوجيا الظلم الاجتماعي


د.عامر صالح

اندفعت جماهير شعبنا الأبية بمظاهرات واحتجاجات عارمة في العديد من المحافظات كالبصرة والناصرية وكربلاء ومناطق متفرقة من بغداد مطالبة بالحد الأدنى من شروط العيش الكريم والبقاء على قيد الحياة لتوفير خدمات الكهرباء والماء في أشهر الصيف اللاهب الذي لا يتحمله حتى الحمار ذو الباع في الصبر الجميل والذي لقب بابي صابر !!!.

اليوم ينتفض شعبنا على ذات البرلمانيين الذين منحهم بالأمس ملايين الأصوات وكأن لسان حال شعبنا يقول لقد لدغنا من ذات الجحر مرتين,وأن يقظتنا ستكون إضعافا هذه المرة,أن شعبنا اليوم لديه الإحساس بالظلم المتزايد ليست من جلاديه التقليديين المتمثلين في الدكتاتوريات السابقة,بل من اقرب ما يدعون تمثيله ومناصرته وملبي حاجاته الإنسانية.

أن شعبنا اليوم ترك يتيما في العراء لا يؤتمن على من منح أصواته لهم,فهو يفتقد إلى الأمن والاستقلال الكامل,والى الوحدة الاجتماعية,ويرفض تقبل السلطة الجديدة لعدم ثقته بها,ويفتقد إلى احترام الذات يلهث وراء العيش وسد الرمق بمختلف الأساليب بما فيها غير المشروعة,ويفتقد شعبنا إلى الحرية بمعناها الإنساني وليست الفوضى,شعبنا يعاني من التفكك الاجتماعي العام بما فيه التفكك الأسري والتحلل ألقيمي والأخلاقي,شعبنا يعاني من الفساد ونهب المال العام.

أن اليتيم ليست من فقد والديه,بل اليتيم هو الذي حرم من أسباب العيش الكريم من آمان وصحة وتعليم وكهرباء وماء وخدمات وغيرها,ولعل المسئولين المتشبثين بالدين يتذكرون سورة الضحى,بقوله تعالى: " الم يجدك يتيما فأوى(6)ووجدك ضالا فهدى(7) ووجدك عائلا فأغنى(8) فأما اليتيم فلا تقهر(9) ",لقد أودع شعبنا بأعناق هؤلاء كل ثروته ومستقبله فكذبوا عليه في وضح النهار,ولعل في سورة الماعون درس في تذكير هؤلاء بقوله تعالى : "أرأيت الذي يكذب بالدين(1) فذلك الذي يدع اليتيم (2).ومعنى الدع كلمة استعملت لتدل على كل معاني الإقصاء والإهمال والشدة والعنف وسائر مظاهر الظلم الذي يلحق باليتيم ومثلها أيضا كلمة القهر.

أن الظلم الذي يتعرض له شعبنا اليوم وهو صاحب الثروة والقدرات والذهب الأسود ما هو إلا عملية إذلال مخطط لها للانتقام منه, وأن احتجاجات شعبنا اليوم ما هي إلا صرخات بوجه هؤلاء تقول لهم " ارحموا عزيز قوم ذل ".لقد جاءت كل الأديان السماوية وغير السماوية محرمة للظلم بمختلف مظاهره وصوره,ففي الإسلام وفي قوله تعالى " يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ", وكذلك في قوله " ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ".فمن الظلم القاسي ارتهان الخدمات العامة للمواطنين وتجويعهم على طريقة " جوع كلبك يتبعك ".

أن ما يقوم به شعبنا اليوم في العديد من المحافظات هو تعبير عن غريزة متأصلة في الدفاع عن النفس وهو يمارس هذا الفعل من اجل المحافظة على ذاته كعضوية للبقاء والاستمرار,ويجب الإشارة هنا إلى إن الإنسان حين ودع " الغابة " ودخل المجتمع بدأ يلتمس حماية الدولة له بدلا من حمايته الفردية لذاته,ولكن عندما تكون الدولة فاسدة فمن حقه أن يقاوم كما قاوم من قبل,فليست من العدل أن نستبدل النظام الدكتاتوري السابق بنظام أخر كمن يستبدل السل بالسرطان !!!!!. 

291
قرار المحكمة الاتحادية العراقية العليا... كذب ابيض في محاولة للصدق مع الذات


د.عامر صالح

جاء إعلان المحكمة الاتحادية بعدم دستورية تعديل قانون انتخابات مجلس النواب في بنده الذي ينص على منح المقاعد الشاغرة للقوائم الفائزة,في الوقت الذي يستعدون فيه أعضاء مجلس النواب الجدد لافتتاح جلستهم الأولى وأداء اليمين الدستوري...وإذا كانوا مؤمنين حقا بقدسية اليمين الدستوري في الحفاظ على المال العام وأرواح المواطنين !!!.

أن قرار المحكمة الاتحادية الذي لا يحمل أثرا رجعيا بما يفضي إلى عدم إعادة المقاعد إلى أصحابها,أو عدم منحها إلى من لا يستحق,قد جاء في الوقت الضائع,ومن المتعارف عليه أن اغلب الدول المتحضرة عندما تصدر قرارا يكون له أثرا رجعيا,أما بالتعويض أو التكريم أو إعادة الفعل من جديد لكي يأخذ كل صاحب حق حقه,وفي عملية خطيرة كالعملية الديمقراطية حيث يقرر الشعب ممثليه عبر صناديق الاقتراع لإدارة البلد سياسيا واقتصاديا وامنيا لحقبة قادمة, وخاصة في ظروف العراق الذي هو اليوم بأمس الحاجة لإيجاد حالة من التوازن السياسي والتكافؤ في فرص المنافسة لحقن الدماء والابتعاد عن الصراعات الطائفية والسياسية المفتعلة البغضاء وذات الطابع الدموي والانتقامي لأغراض الكسب السياسي الرخيص .

أن ما جرى من انتخابات برلمانية سابقة في العام 2010 لا يحمل شرعية قضائية على خلفية صدور قرار المحكمة الاتحادية وأنها باطلة وكل ما أسس على باطل فهو باطل بنتائجه,وإذا كان هذا قرار المحكمة صادق وليست مناورة لامتصاص نقمة العراقيين فيجب أن تتخذ الإجراءات اللازمة لإضفاء الصفة الديمقراطية الحق على نتائج الانتخابات,أما عدا ذلك فأن القرار  ورغم صدق محتواه الذي يتطابق مع الواقع فهو حالة من حالات الكذب الأبيض تجسدها حالة عدم قناعة المحكمة الاتحادية بهذا القرار وتريد به الخروج بوجه ابيض,وهي محاولة بدائية للإصلاح بين المتخاصمين السياسيين عبر التنصل من المسؤولية القانونية المترتبة على ذلك,وهي حالات من الكذب يجوزها الإسلام في الممارسات التالية :

ـ الكذب لإصلاح المتخاصمين
ـ الكذب على الأعداء في الحروب
ـ الكذب لإرضاء الزوجة

وبهذا الخصوص أوصي القوى السياسية المغبونة بفحص صدق المحكمة الاتحادية من خلال طريقة عرفها العرب مشابهة بطريقة آهل الصين,وهي تعرف باسم " البشعة ",فكانوا يطلبون إلى الأشخاص الكذابين أن يلمسوا بألسنتهم قضيبا من الحديد الساخن,وكان الصادق منهم يسلم بسبب لعابه الوفير,أما من جف لسانه " وهي علامة يتصف بها الكاذب " فالحديد المحمي يحرقه,ولعل المحكمة الاتحادية من ذوي اللعاب الوفير,ولا داعي لاستخدام الأجهزة الحديثة للكشف عن الكذب لأن القضاء العراقي لا يزال في بداية تجربته وتمرسه ليكون عادلا !!!!!.

292
انعكاسات الفكر الجدلي في سيكولوجيي نشأة القدرات العقلية للإنسان

" العلم كالأرض, لا يمكننا أن نمتلك منه سوى القليل القليل "
                                                     فولتير


د.عامر صالح

لقد تركت النظرية الماركسية أثرا كبيرا في مناهج العلوم المختلفة من خلال المساهمة الكبيرة في تأسيس طرائق البحث التجريبي والنظري عبر إحكام أصول البحث فيه وتقنين خطواته العلمية, بعيدا عن التأمل الخرافي في طبيعة الظواهر, إلى جانب إضفاء الصفة الإنسانية في تطبيق نتائج الأبحاث وشيوعها من خلال رؤى ديالكتيكيه تضمن رؤية الظاهرة في ظروف ارتباطاتها المتداخلة والمتبادلة في ضوء معرفة العلاقة بين الأسباب والنتائج التي تقود إلى فعل محدد,وجعل مكانة الإنسان في المقدمة باعتباره الهدف الاسمي للنشاط المعرفي والعلمي,وكما يقول ماركس" الإنسان أثمن رأس مال ", ولصالحه أيضا توظف كل الوسائل المتاحة لخدمة نموه العقلي والمعرفي وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي وتحسين ظروفه المعيشية وبالتالي أداءه في مختلف المجالات.

وعلى الرغم من تعثر القراءة الستالينية السوفيتية وازدواجية القراءة الصينية وغيرها من القراءات للفكر الماركسي التي اقتربت من الفهم الرتيب الذي وصل بها إلى درجة الابتذال أو الفهم الميكانيكي الجامد للنص الماركسي,إلا أن هذا لا يعطل من قيمة الفكر الماركسي ونظريته في فهم الظواهر الإنسانية باعتبارها منهجا في العمل,فالطبيب الفاشل في عمله لا يعبر مطلقا عن فشل المنهج العلمي في الدراسات الطبية,بل يعبر عن مدى استيعابه واستخدامه للمعارف والعلوم في نطاق عمله,أو قد يعبر عن عجز المؤسسة التعليمية في توفير فرص النجاح لترجمة المنهج الطبي ورفده بالإمكانيات اللازمة لخلق الكادر الجيد.

ومن العسير علينا اليوم أن نرى العلوم الاجتماعية والطبيعية دون تأثير المنهج الديالكتيكي فيها بشكل مباشر أو غير مباشر باعتباره احد المناهج والنظريات في تفسير الظواهر الإنسانية والطبيعية,أي الكون الطبيعي بتفصيلاته والمجتمع بمعلوماته ومعارفه المتنوعة وأنماط العيش فيه.وعلم السيكولوجي "علم النفس " من العلوم التي تأثرت هي الأخرى بحض موفور بالمنهج الماركسي,وخاصة في ميادين الأداء العقلي والفكري للإنسان وتعديل سلوكه وتكيفه مع البيئة المحيطة.وقد ركزت بشكل كبير على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتربوية المحيطة بنمو الإنسان  في مراحل عمره المختلفة باعتبارها شروطا لازمة لتحسين الأداء العقلي والمعرفي بصورة عامة وفي مختلف مجالات الحياة : الأدبية والعلمية والاجتماعية والتكيفية, شريطة توفر الأساس الدماغي " المخي بشكل خاص "السليم الذي تشترك فيه كل أبناء الخليقة باختلاف ألوانها " اسود,ابيض,أشقر,حنطي " وباختلاف أمكنتها الجغرافية والقارية,وفي إطار البلد الواحد " ريف,مدينة,مدن كبرى ,مدن صغرى,الخ ".

أن هذا الفهم ينطلق قبل كل شيء من أن الطفل يولد ضعيفا من الناحيتين الفسيولوجية والاجتماعية في مجتمع يضم منجزات النوع الإنساني المادية والفكرية عبر التأريخ مع تفاوت مفزع بين المجتمعات العالمية وداخل المجتمع الواحد في مستوى تقدمها المادي والثقافي,ويبدأ الطفل بالتفاعل معها وينمو باستعمالها ويعبر عن نشاطه باستعمالها على نسق ما يفعله الكبار والمحيطون به,فتتكون لديه بالتدريج قدراته العقلية الخاصة مثل القدرة الرياضية والقدرة اللغوية والقدرة الفنية والقدرة الميكانيكية وتتطور باعتبارها ظواهر اجتماعية جديدة نشأت لديه لا قوى فكرية فطرية كامنة في طبيعته البيولوجية. ويبدأ الطفل بالسيطرة والاستحواذ على الأدوات المادية والفكرية المتوافرة في الأسرة التي يترعرع فيها, ويبدأ اختلاف المواهب أو القدرات الفكرية الخاصة عند الأطفال بالظهور بفعل اختلاف مستوى تقدم أسرهم ثقافيا ومن الناحية المادية.ثم ينتقل الأطفال إلى المجتمع الأكبر بما فيه المدرسة فيزداد تنوع قدراتهم الخاصة ويتفاقم اختلاف مستوياتها.
 
معنى هذا بلغة الفسيولوجي أن الأطفال يستثمرون مقادير متفاوتة من رصيدهم المخي المتماثل وفي ضروب مختلفة من النشاط الاجتماعي من جهة أخرى,عندئذ تبدأ الفروق الفردية الفكرية بينهم بالتبلور والتباين,فالأقل أداء هم الذين يستثمرون الحد الأدنى من رصيدهم المخي الذي نتهمهم في البلادة فيه " طبعا نستبعد هنا حالات التخلف العقلي وحالات اضطرابات النمو التي يعاني منها بعض الأطفال والتي تكون سببا مباشرا في تخلف أدائهم العقلي ",ويحدث العكس لدى المراتب الفكرية والعقلية الأخرى من الإفراد الذين يستخدمون أقصى قدراتهم الدماغية والتي تتخذ خطا تصاعديا قد يصل بها إلى أقصى درجات العطاء والابتكار والتفوق الدراسي,ولابد من الإشارة هنا إلى أن الصفات الفكرية ـ العقلية نسبية وليست مطلقة,فليست هناك غبي في جميع الموضوعات أو الاختصاصات  " باستثناء الحالات المرضية " كما أن من يدرس تاريخ العباقرة يفزعه تفكيرهم الضحل وحتى البليد أحيانا في الموضوعات التي تقع خارج دائرة اختصاصهم وتركيزهم الشديد,بل أن الكثير منهم اعتبروا في مقاييس مدارسهم ونظامهم التعليمي أغبياء ويستحقون العقاب المدرسي,لأنهم لا يستجيبون للظروف التعليمية التقليدية التي تمليها عليهم مدارسهم و لا يستطيعوا التكيف معها.وقد قام العلامة العراقي الفقيد الدكتور نوري جعفر( 1914 ـ 1991 ) بتخصيب هذه الآراء مستفيدا من انجازات المدرسة الروسية ـ السوفيتية في ميدان فسيولوجيا الجهاز العصبي,ولعل أبرز مؤلفاته في هذا الميدان : "اللغة والفكر", " الفكر طبيعته وتطوره ", " الجهاز العصبي المركزي الأساس المادي لمشاعر الإنسان وانفعالاته " ,طبيعة الإنسان في ضوء نظرية بافلوف بجزئيين " وغيرها من المؤلفات, وكذلك تطبيقات ذلك على الأرض العراقية في ميدان رعاية الموهوبين ومعالجة مشكلات التخلف الدراسي في النظام التعليمي العراقي.

كما أكد الكثير من العلماء أن ثمة علاقة بين المستويات العقلية للأطفال وأعمار الوالدين وعند تكرار التجارب على أطفال من أولاد الطبقات الاجتماعية ذات المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي الأعلى اختلفت النتائج وتبين أن الأطفال والشباب القادمين من طبقات ذات مستوى ذات مستوى اقتصادي واجتماعي أعلى يتفوقون على القادمين من طبقات فقيرة محرومة,واستنتج العلماء أن العلاقة ترتبط بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسرة وليس بأعمار الوالدين,ناهيك عن تفاوت غنى البيئة المحيطة الأكبر خارج المنزل بما فيه المدرسة والنظام التعليمي.أن هذه الأبحاث تعطي زخما مضاعفا للفكر الماركسي في دعواته المستمرة لتحسين ظروف العيش الكريم في تطوير وتحسين الخدمات التربوية,وتحسين أوضاع الأسر اجتماعيا واقتصاديا بما يساعدها على تحسين أدائها المعرفي والعقلي.

وقد كشفت بحوث " فرنون " بأن عدد أطفال الأسرة له علاقة بمستوى ذكاء الأطفال,فأطفال الأسر الكبيرة اقل مقدرة ذهنية من أطفال الأسر الصغيرة,ومبرر ذلك قد يكون هو أن وجود عدد كبير من الأطفال في الأسرة يقلل من مقدار الاستثارة الذهنية والمعرفية التي يتعرضون لها من لعب وكتب وصور ونقصان التفاعل بين الوالدين والأبناء وضمور النمو اللغوي باعتباره الشرط اللازم لنشأة القدرات العقلية.ودراسات أخرى ترى بأن حجم الأسرة ومكانتها اقتصاديا واجتماعيا هي العامل المؤثر في " الذكاء ",فأبناء الطبقات الغنية يميلون أن يكونوا أعلى في نسبة الذكاء وكذلك أطفالهم,وهم يفضلون أن يعيشوا بحجم صغير على العكس من الطبقات الفقيرة المعدمة.ورغم ما تحمله هذه الأبحاث من مسحة تحيزية صوب الأسر الغنية في تقديري الشخصي مغفلة عوامل الطموح والتعويض الكبيرين في أوساط الكثير من الأسر الفقيرة, إلا إنها تخفي في طياتها بعض الاستنتاجات الضرورية والهامة للتطبيقات العملية للفكر الماركسي في هذا الميدان,لعل أبرزها هو أن التخطيط الأسري والتوزيع العادل للثروات يسمح بتنوع وغنى ثقافي أفضل في البيئة التربوية المحيطة مما تشكل عوامل استثارة ذهنية تشكل بدورها استجابات عقلية نوعية تضفي على العمليات المعرفية بعدا أكثر تعقيدا يدفع باتجاهات ايجابية نحو تحسن الأداء العام,وتوفر فرصا أفضل لحوار الطفل مع البيئة,باعتباره مصدرا أساسيا لتشكيل قدراته العقلية.

يتضح أذن ووفقا للمفهوم الديالكتيكي في علم النفس أن القدرات العقلية الخاصة كالوظائف العقلية العليا "التفكير,اللغة,الانتباه, التخيل,الذاكرة " ليست قوى فطرية مسجلة بطريقة متحجرة في القشرة الدماغية,بل هي تنشأ وتنمو وتتكامل في مجرى حياة الفرد على أساس الإمكانيات الفسيولوجية المخية المتماثلة لدى جميع الأفراد الأسوياء,غير أن هذا النشوء والتطور لايحصلان دفعة واحدة بل يمران بسلسلة من المراحل التحولية على هيئة أعضاء مخية وظيفية أو حلقات فكرية مترابطة,لكن بعضها لا يتكون أطلاقا لدى بعض الأطفال منذ مراحل نشأتهم الأولى وحتى في مراحل التحاقهم في المدرسة لأسباب  ثقافية واجتماعية واقتصادية وتربوية ـ تعليمية,وقد يتكون بعض أخر بشكل ناقص أو ممسوخ تتضح أثاره السيئة في عرقلة النمو الفكري ـ العقلي اللاحق.والأطفال الذين يفتقدون إلى المقدرة الوظيفية ـ المخية في موضوع معين يعزفون عنه ولا يبذلون فيه الجهد الفكري المطلوب,أي أنهم بعبارة فسيولوجية يستثمرون الحد الأدنى من إمكانياتهم المخية فتبدوا عليهم ملامح " البلادة " ذات الأصول الاجتماعية ـ التربوية.

واليوم حيث تنتعش أبحاث الوراثة لتحديد مستويات الاختلاف في ذكاء الإفراد وقدراتهم العقلية,والتي تمتد بجذورها الأولى إلى اليونانيين القدماء,فعلى سبيل المثال كان تصور أرسطو وقبله أفلاطون بان هناك حقائق نفسية وفوارق بين الناس لا بد من مراعاتها في التربية,وقد جاء في الكتاب الثاني لجمهورية أفلاطون بأن الناس على يده ينقسمون إلى ثلاثة طبقات : طبقة المفكرين وتأخذ الدور القيادي,وطبقة العاملين وتأخذ دور الإنتاج والعمل, وطبقة الجنود وتأخذ دور الدفاع والحرب,كان هذا التقسيم نابعا من السمات الفردية التي تتميز بها طبقة عن طبقة جسديا وفكريا ونفسيا حسب ما يراه إدراكا منه بأن الإفراد ليسوا متشابهين,وكذلك أرسطو عند حديثه عن الانفعال وخصائص بان الفروق بين الإفراد وداخل الفرد ذاته ثابتة وقائمة ولكل من الناس مجال معين كالفنون,والعلوم,والملاحة ,الرياضة,والطب,والهندسة,وفي التراث العربي ذكر الفارابي في كتابه "المدينة الفاضلة" حين تحدث عن خصائص الخلق أن كل مستمر يقبل القسمة,فيه زيادة ونقصان وتوسط وطبق ذلك على المستويات العقلية والمجالات النفسية,وقال الأصمعي : " لن يزال الناس بخير ما تباينوا,فإذا تساووا هلكوا".

أما أبحاث الوراثة التي نشطت في القرن العشرين والقرن الحالي لتحديد النسب المختلفة للذكاء والقدرات العقلية,وكان معظمها يعتمد على أسلوب المقارنة ودراسة العلاقات بين التوأم المتناظرة "من بويضة واحدة ",وغير المتناظرة " من بويضتين مختلفتين ",والآباء,والأبناء,والأشقاء,وغيرها من احتمالات القرابة,واقترابها أو ابتعادها عن الخصائص الوراثية للأفراد,ويؤكد أنصار الوراثة انه من الطبيعي أن تتشابه التوائم المتناظرة في صفاتها الوراثية وبالتالي "في نسب ذكائها" بحكم الوراثة.وكانت دراسات "هيرندون" من ابرز الدراسات التي حاولت عام 1954 إثبات المحددات والحتميات الوراثية للذكاء بطريقة إحصائية لحساب العلاقة القائمة بين درجات القرابة ومستوى الذكاء,واستنتج بأن اثر الوراثة في الذكاء يصل إلى 75%,وهذه النتائج تتلاقى مع دراسات بيركس عام 1928 التي وجد فيها اثر الوراثة في الذكاء يصل إلى 75% ,وكذلك ما أكدته دراسات أيزنك وبريل التي قاما بها عام 1951 أن سمات الشخصية تخضع لنفس النسبة من التأثير الوراثي.

واستنادا إلى هذه الدراسات فأن الوراثة تحدد المستويات العليا للصفات المختلفة التي يمكن أن يبلغها الفرد عندما تتوفر له البيئة المناسبة لظهور تلك المستويات,وحين لا تتوفر له البيئة المناسبة فأن تلك  " البذور " لا تصل بنموها إلى حدودها العليا التي ورثتها عبر " السلالة " التي انحدرت عنها حسب تصورهم,أما الأبحاث اليوم فتركز على الحامض النووي " دي.أن.أيه " الحامل للصفات الوراثية الآتية من الأب والأم,وصولا إلى تقنيات العلم الحديث في عمليات الاستنساخ الحيواني والتي قد تطال البشر لاحقا لإيجاد مخلوقات من نسخة طبق الأصل بالتوالد اللاجنسي,قد تتجاوز حدود الملامح الرسية " الشكل واللون والطول وغيره " إلى محاولات الحصول على مستويات ذكاء مختلفة وأنماطا من الشخصية عبر الاستنساخ !!!.

إلا إننا نؤكد هنا وليست من باب دحض نظريات الوراثة إلى أن ما يجري إلى اليوم من دراسات في هذا الميدان يقيس نتائج تفاعل البنية الفسيولوجية ـ المخية بعد وقوعها تحت تأثير التنوع البيئي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي,أي تقيس القدرات العقلية بعد تشكلها ولا تقيسها " كقدرات خام " قبل أن تتأثر بعوامل البيئة والتنشئة الاجتماعية لكي تقف على تفاوتها لدى الأفراد,ولأن ذلك غير ممكن أصلا لأن الوظائف العقلية لا تتشكل إلا عبر عملية التماس المباشر والتفاعل مع المخزون الثقافي داخل المجتمع ,وبما أن الظواهر النفسية كالقدرات العقلية مثلا تتشكل بفعل منظومة معقدة من المتغيرات لا يمكن بسهولة عزلها وتثبيتها والتأكد من ما هو وراثي وما هو بيئي,ولا توجد إلى اليوم دراسة واحدة تقف على الذكاء باعتباره قدرة خام منذ الولادة لانتفاء ذلك باعتبار أن القدرات العقلية صور ذهنية لواقع موضوعي ينشأ بفعل عمليتي الإحساس والإدراك الحسي.

ومن هذه المنطلقات واستنادا إلى تعقيد نشأة العمليات العقلية والأسباب المؤدية لها فأن الفكر الماركسي يركز على تحسين ظروف البيئة المستديم والتركيز على تحسين ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من تربية وتعليم باعتبارها مدخلا لازما لتسهيل استثمار أقصى ما يمكن من القدرات الفسيولوجية ـ الدماغية بعيدا عن تأثيرات الوراثة فيه " عدا حالات التخلف أو الأمراض العقلية ",وهو هدفا إنسانيا بحد ذاته يضمن توفير قدر كافي من تكافؤ الفرص للجميع مهما تنوع الأداء لاحقا.وان ما يجري اليوم من عمليات النهوض بمستويات الحياة العامة وتحسين ظروف العيش من صحة وتربية وتعليم وتحديث للبنى التحتية في بقاع العالم المتمدن ما هو إلا استجابة للتأثيرات العميقة للفكر الماركسي كجزء من مسيرة الفكر الإنساني بصورة عامة !!!.












293
في سيكولوجيا نزوع الإنسان بين:
التفرد والإبداع والبحث عن الشهرة

" من لا يتفوق على معلمه يكن تلميذا تافها "
                              ليوناردو دافنشي


د.عامر صالح

التفرد والإبداع والبحث عن الشهرة جزء من ميكانيزم نفسي لتأكيد الذات عبر خصوصية الشخصية وعطائها الشديد التميز,وهي آلية إنسانية فطرية تكسب الشخصية حدودا خاصة بها,وبنفس الوقت تتواصل مع الذات المجتمعية من خلال عطائها المتنوع الفريد والمفيد وذو الأصول الاجتماعية ضمن دائرة التنوع الهائلة في مختلف القدرات والنتاجات العلمية والأدبية والسياسية وغيرها,وهي أشبه بدائرة مغلقة ذات طابع تكاملي تجد في التفرد الشخصي مفتاح لتنوعها وتكاملها وديمومتها,وهي بنفس الوقت اقرب جدا إلى المشاريع الاقتصادية التنافسية للوحدات الجغرافية في البلد الواحد أو على نطاق البلد كله,فالتنوع هنا يضمن الكفاءة الاقتصادية للنظام السياسي عبر تنوعه الشديد بمشروعات مميزة ذات جودة عالية لا مكان فيها لرداءة النوع,حيث تنقرض فيه الوحدات الاقتصادية ذات الصبغة غير المنافسة,إلا إن الفرق الأساسي والجوهري هو أن العطاء الإنساني الذي يميز حالات الابتكار والخلق والإبداع هي حالات عقلية فردية محضة لا تقوى اكبر المشاريع الاقتصادية والربحية على منافستها,لأن محتوى هذه العطاءات وسعتها الإنسانية هو جوهر وسبب وقوف الإنسانية عبر تاريخها الطويل وهو السر في تحسين أدائها في مختلف ميادين الحياة العلمية والأدبية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية وغيرها من مجالات الحياة,تجسدها انجازات كوكبة من العلماء والفلاسفة الأفذاذ والشعراء المبدعين والفنانين النخب والسياسيين الندرة وغيرهم من ذوي القدرات الخاصة !!!!.

أن الابتكار والخلق والإبداع باعتبارهما عملية عقلية تتمحور حول الفكر والتفكير الشديد متداخلة مع العمليات العقلية الراقية الأخرى التي تشمل الذاكرة والانتباه والخيال واللغة والتي تعمل سوية مع الفكر بدون انقطاع,والتفكير هنا في جوهره عملية فسيولوجية مخية تمارسها الفشرة الدماغية على شكل موازنة بين الانطباعات الآتية من البيئة المحيطة الجغرافية والاجتماعية عبر أعضاء الحس بالاستناد إلى اللغة والمعرفة,وإصدار الأحكام عليها واستنباط نتائج ايجابية أو سلبية منها,وهي أرقى أشكال النشاط المخي المنتج عند الإنسان أذا اقترن بالخيال السليم والانتباه المركز وينفرد به الإنسان لأنه يستلزم بيئة اجتماعية ابرز مقوماتها اللغة والمعرفة وهما خاصتان لصيقتان بالإنسان,كما يستدعي أيضا قشرة دماغية بلغت أرقى درجات تطورها ينفرد بها الإنسان دون غيره في سلم التطور البيولوجي.معنى هذا أن للفكر ركنين متلاحمين ومختلفين في آن واحد:هما الركن الفسيولوجي المخي أو الجسمي الفطري والركن الاجتماعي البيئي الثقافي المكتسب.

ومن هنا فأن الابتكار من حيث هو عملية ذهنية منظورا أليها من زاوية تركيز الانتباه لفترة طويلة من الزمن في موضوع معين بالاستناد إلى الإلمام الواسع العميق به,هو نشاط عصبي تقوم به خلايا القشرة الدماغية التي بلغت إثارتها حدها الأقصى.معنى هذا من الناحية السلبية نشوء عملية عزل مخي تستدعي  في لحظات تركيز الانتباه إقصاء الانطباعات الذهنية والمؤثرات البيئية الأخرى لكي تنتشر تلك الإثارة فيها.وعندما تقترن أو تتلقح أو تلتقي الارتباطات العصبية في المنطقة النشطة من القشرة المخية فان ذلك يعني ميلاد الفكرة الجديدة أو المبتكرة.غير أن هذا الاقتران السعيد المؤقت أو الخلق" الذي يتم أعقاب دراسة عميقة مستفيضة تستغرق سنين طويلة "يحدث بشكل مفاجئي عند نضجه بين المراكز المخية الحسية المنتشرة في جميع أرجاء القشرة المخية باستثناء مقدمتها كما يحدث أيضا بين المراكز اللغوية الموجودة في القسم الأمامي الأعلى من القشرة المخية الأمر الذي يؤدي إلى اقتناص فكرة طرية أو صورة شعرية رائعة قبل أن تفر من الذهن ,فيتم انبثاقها في حقل الفن بما فيه الشعر في حالة حدوث الاقتران العصبي بين المراكز المخية الحسية وفي حقل العلم في حالة حدوثه بين المراكز المخية اللغوية.ويبلغ الصراع المخي أعلى مراتبه في الحالتين بين الخلايا المخية النشطة وبين الخلايا التي مازالت باهتة النور.وتظهر في مجرى هذا الصراع صفات مخية جديدة يجوز أن نسميها " مخاض الإبداع " الذي يتصف به العباقرة,وهو حالة خاصة من الصراع المرير الحاسم الذي يحصل بين المجاري المخية التي تحمل الفكرة الجديدة لقذفها إلى خارج المخ وبين المجاري المخية التي تحاول الاحتفاظ بها على نسق الصراع الذي يحدث بين عوامل دفع الجنين الى خارج الرحم وبين عوامل الاحتفاظ به.

أن هذه الآراء تستند في غالبيتها إلى معطيات العالم الروسي ايفان بافلوف(1849 ـ 1936 ) الطبيب وعالم الفيزيولوجيا وعالم النفس,والمؤسس للدراسات التجريبية الموضوعية للنشاط العصبي الأعلى عند الحيوان والإنسان,ويفيدنا في مجال موضوعنا ما تعرض له بافلوف حول طبيعة نشأة العمليات العقلية الراقية لدى الإنسان وعمليتي الإثارة والكف التي يمارسها الدماغ في سياق نشاطه اليومي المتواصل في البحث والتنقيب.وقد أكدت نظرية بافلوف الكثير من الحقائق العلمية وأسست اتجاها سيكولوجيا علميا ينبذ المفهوم الخرافي والأسطوري في تفسير الظواهر النفسية,يجد دلالته في المضامين الآتية :

1ـ أن العمليات النفسية صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية والدماغ هو أرقى أشكال المادة,وينبني على هذه المسلمة انه لا يمكن أدراك العمليات النفسية بصورة علمية بعيدا عن أدراك العمليات التي تتأصل في البنية الدماغية,فالفعل السيكولوجي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في القشرة الدماغية الموطن الحقيقي لارتباطات مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا.

2 ـ الشعور انعكاس للمادة وصورة حية من صور العالم الموضوعي الخارجي والعمليات النفسية برمتها مرهونة باشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صورة دماغية لحائية مرنة ذات طابع اشراطي,وبالتالي فان إدراك الفعل النفسي مرهون بظروفه الخارجية والداخلية وبصورة أكثر تحديدا أن الفعل النفسي نتاج تفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة مع الوسط الداخلي الذي يجسده الدماغ بشكل عام والقشرة المخية بشكل خاص.

3 ـ أن المادة أولية والشعور لاحق وثانوي وهذا يعني أن الأفكار والإحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي  الموجودة بصورة مستقلة عن الوعي,وهذه الفكرة تنطوي على مضامين بالغة الأهمية في تفسير في مجال الصراعات الإيديولوجية الخاصة بالمسألة الأساسية للفلسفة وهي أن المادة سابقة للوعي في الوجود,وفي مجال علم النفس أن الصورة الشعورية تولد في عالم المادة والظروف الخارجية,أي أن ما يولد في الشعور هو صورة منعكسة من صور العالم المادي,وقد ساعد ذلك كثيرا على إخضاع العمليات العقلية والنفسية للدراسة والاختبار, بما فيه ظاهرة الإبداع والخلق في ميادين الحياة المختلفة العلمية والأدبية وغيرها,مما وفر فرصا إنسانية اكبر لفهم هذه الظاهرة وأتساع نطاق شيوعها بين الإفراد.

وفي هذا السياق أشير إلى جهد العلامة الفقيد الدكتور نوري جعفر( 1914 ـ 1991 ) الذي كرس الكثير من أبحاثه ودراساته في فهم ظاهرة الإبداع مستندا إلى معطيات العالم الروسي بافلوف في نطاق فهم آلية النشاط العصبي الأعلى وكيفية نشوء القدرات العقلية المختلفة,وقد اتخذ الفقيد في دراساته عدة اتجاهات في هذا المجال,منها ما يتعلق برعاية المواهب وسبل تطويرها,ومنها ما يخص دراسات ضعف الأداء  ألتحصيلي للطلاب وسبل النهوض به,وآخر يتعلق بتحسين العملية التربوية والتعليمية في نطاق النظام التعليمي كله.

وبما يخص ظاهرة الإبداع والخلق والابتكار فأن العلامة نوري جعفر يؤكد أن الابتكار في الأساس التاريخي ومن الناحية التطورية قدرة مكتسبة لدى الإنسان في مغالبة الطبيعة وتسخيرها لمصلحته عن طريق خلق مواد جديدة مادية وفكرية تستمد عناصرها الأولية من البيئة الموضوعية وتستند إلى قدرة الإنسان على الكشف عن علاقاتها أو ارتباطاتها الموضوعية وعن القوانين التي يخضع لها سلوكها وذلك لإشباع حاجاته المادية والثقافية المتطورة.وان أي ضرب من ضروب نشاط الإنسان من الممكن أن يكون خلاق أذا استوفى شروطه الموضوعية,معنى هذا أن ظاهرة الخلق صفة مكتسبة تنشأ بالتدريب أو الممارسة بنتيجة تفاعل إمكانيات الشخص الفسيولوجية المخية الفطرية مع العوامل البيئية المحيطة لا سيما الثقافية منها في موضوع تخصصه .إي أن الجانب المبتكر يحصل في كل عمل ذهني يقوم به الإنسان بنتيجة الممارسة الناجمة عن التفاعل بين الفرد بمقوماته الفسلجية المخية وإمكانياته الاجتماعية الثقافية.

واستنادا إلى ذلك فان للإبداع والابتكار درجات بعضها أرقى من بعض نسمي قمتها العبقرية,أي أن العبقرية أرقى درجات الإبداع والعبقري أعلى أشكال المبتكرين,وهناك درجات من الابتكار,فهناك الماهر أو الحاذق أو البارع,وهناك الموهوب أو الألمعي أو اللوذعي أو الجهبذ,وهناك العبقري أو النابغة,أي باختزال شديد أن مستويات الإبداع ثلاث هي : الماهر والموهوب والعبقري,فالماهر لديه القدرة على إعادة الأصل في إطاره العام ولكن بأسلوب قد يفوقه في الروعة,أما الموهوب فيكون ذو خيال خصب بلغ القمة في موضوع التخصص,أما الفرق بينه وبين العبقري هو سعة الابتكار وعمقه وبدرجة أهم أن الفكر العبقري يلعب دورا ايجابيا فريدا في مجال تخصصه بالنسبة لتاريخ العلم والأدب والنظريات الاجتماعية,ويلوح أن الموهوب والعبقري يتمتعان بمزايا فسيولوجية مخية نادرة لا تزال قيد البحث العلمي,الأمر الذي يلقي بضلاله عودة النظريات السيكولوجية والغربية منها بشكل خاص والتي ترى في العبقرية والموهبة بأنها ذات أصول وراثية مشروطة بسعة المعرفة والاطلاع في ميدان التخصص,وينطبق هذا الاستنتاج على كوكبة من العلماء العباقرة أمثال باستور وداروين واينشتاين وارخميدس وإديسون  وجون ديوي وكارل ماركس وغيرهم من الفلاسفة والعلماء, والفنانين العظام أمثال دافنشي وبيكاسو,والشعراء أمثال المتنبي وأبو العلاء المعري وغيرهم. 

ومن هنا نستطيع القول أن اغلب الكتاب والباحثين في الصحافة الالكترونية والورقية وفي أروقة الجامعات ومؤسسات البحث العلمي يقتربون بشكل كبير من درجة المهرة في الابتكار ويضيقون عند درجة الموهبة ويندرون جدا أو ينعدمون في درجة العبقرية,إلا أن الشرط اللازم لكل درجات الإبداع والابتكار هو الاستفاضة بموضوع الاختصاص مقرونا بتركيز الانتباه الذي يستغرق وقتا طويلا,ونشير هنا إلى أن أفضل النتاجات العلمية والأدبية ما وقع بعد سن الأربعين لصاحبه,أي بعد تراكم معرفي لا بأس به مصحوبا بحالة تحول نوعي في الفكر الذي يساوي الابتكار أو الإبداع.

ومن الجدير بالذكر هنا أن الكثير من الدراسات التي تستند إلى الآليات الدماغية في تفسير ظاهرة الإبداع أهملت دراسة البعد الذاتي للشخص المبدع,أي المميزات الشخصية للمبدعين أو مراحل العملية الإبداعية, وركزت فقط على ميكانيزم تفسير الإبداع من الناحية الدماغية وحصره ضمن دائرة التفسير السيكودماغي,مما أعطى بعدا وحيد الجانب لفهم ظاهرة الإبداع يغفل ما يدور في شخص المبدع في لحظات مخاض الإبداع,وهي لحظات هامة وضرورية لفهم سيكولوجيا الإبداع وأن جرت على أسس دماغية باعتبار أن الدماغ هو مركز الفعاليات النفسية والشخصية,إلا أن إماطة اللثام عنها يسهل استخدامها  كمحكات للتعرف والكشف عن المبدعين,ومن ثم إعطاء تصور ذو مسحة تكاملية لأبعاد الظاهرة . وبالإمكان هنا الإشارة إلى ابرز مميزات الشخصية المبدعة التي يجمع عليها الكثير من علماء النفس:
1 ـ الحساسية للمشكلات :
وتعني أن الشخص المبدع حساس بمشاكل وحاجات ومشاعر الآخرين فهو يعي الأخطاء ونواحي النقص ويحس بالمشكلات إحساسا مرهفا,ولا شك أن الأشخاص الذين تزداد أحاسيسهم لأدراك أوجه القصور بالمشكلات في المواقف العقلية والاجتماعية تزداد فرصهم لخوض غمار البحث والاكتشاف والتأليف المفيد,وقد أثبتت الدراسات أن العلماء والأدباء والفنانين هم أكثر الناس إحساسا مرهفا.
2 ـ الأصالة:
أن الشخص المبدع ذو تفكير أصيل أي انه لا يكرر أفكار المحيطين به, لأن صاحب التفكير الأصيل هو الذي ينفر من اجترار و تكرار أفكار الآخرين وحلولهم التقليدية للمشكلة.
3 ـ المرونة:
أي التكيف السريع مع التطورات والمواقف الجديدة,فالمرونة هنا عكس التصلب العقلي( تبني أنماط فكرية محددة) فالشخص المبدع ينبغي أن يكون على درجة عالية من المرونة العقلية يتمكن من تغيير حالته العقلية لكي تتناسب مع تعقد الموقف الإبداعي,والمرونة هنا نوعان :
ـ مرونة تلقائية: وهي قدرة الشخص على أن يعطي تلقائيا عدة إجابات لا تنتمي إلى فئة واحدة, هذا النوع نجده عند الشعراء والأدباء والفنانين.
ـ مرونة تكيفيه: وتتعلق بالسلوك الناجح لمواجهة موقف, أو مشكلة معينة, وإذا لم يظهر هذا السلوك بفشل الشخص في حل المشكل أو مواجهة الموقف.
4 ـ الطلاقة :
وهي القدرة على أنتاج اكبر عدد ممكن من الأفكار الإبداعية.وتقاس هذه القدرة بحساب عدد الأفكار التي يقدمها الفرد عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة,والشخص المبدع على درجة عالية من سيولة الأفكار وسهولة توليدها.
5 ـ أدراك التفاصيل:
وتتضمن هذه القدرة الإبداعية تقديم تفصيلات متعددة لأشياء محدودة وتوسيع فكرة ملخصة أو تفصيل موضوع غامض.
6 ـ المحافظة على الاتجاه :
وهو قدرة استمرار الفرد على التفكير في المشكلة لفترة زمنية طويلة حتى يتم الوصول إلى حلول جديدة, وتشمل إشكال مواصلة اتجاه التفكير الإبداعي : المواصلة الزمنية,والمواصلة الذهنية ,المواصلة الخيالية والمواصلة المنطقية.

أما بالنسبة لمراحل العملية الإبداعية فيمكن الحديث هنا عن أربعة مراحل تجري في شخص المبدع وهي بالشكل الآتي:
1 ـ مرحلة التهيؤ والإعداد:
وهي المرحلة التي تبحث خلالها المشكلة من مختلف جوانبها,وهي مرحلة بزوغ الفكر وإنبات البذرة الأساسية للإبداع,وفيها ينفتح فكر المبدع على البدايات الأولى لعمله,ويتجه إلى تنمية فكرته الإبداعية باحثا عن المعلومات التي لها علاقة بفكرته غير أن أفكاره في هذه المرحلة تبدو غير متناسقة,أي جمع كافة المعلومات حول المشكلة.
2 ـ مرحلة الكمون أو الاختمار:
في هذه المرحلة تكون الفكرة الأصلية آخذة بالتخمر,ويكون المبدع خلالها منشغلا بتفحص الفكرة الأصلية,وفي هذه المرحلة يعاني المبدع أقصى درجات القلق والتوتر خلال عملية الخلق الإبداعي بكاملها وقد يؤدي به هذا إلى شعور بعدم الاستقرار,لكن مع ذلك تنتهي هذه المرحلة بأن تصبح الفكرة الأصلية محددة الإطار واضحة المعنى.
3 ـ مرحلة الإلهام أو الإشراق:
في هذه المرحلة يثب الحل إلى الذهن مباشرة وبتلقائية تامة مع شعور بالثقة والاطمئنان في أن ما تم الوصول إليه هو الشيء الجديد الذي ينتظره المبدع.ومفهوم الإلهام هنا كما حدده علماء النفس هو عملية عقلية يقوم بها دماغ الإنسان وتحدث بعد تهيئة وإعداد للفكرة ثم اختمارها لتنتظم متغيرات كل الفكرة في إطار واضح ليتكون العمل الإبداعي.وقد يخطأ الكثيرون من الشعراء والفنانين والعلماء حين يظنون أن الإلهام يحدث فجأة,فأنهم يغفلون المعاناة الكبيرة التي يمر بها الشخص المبدع خلال مرحلتي الإعداد والاختمار,وهي قد تطول أياما أو أشهرا أو سنين,وهذا يتفق مع رأي نيوتن عندما سئل كيف توصلت إلى وضع قوانينك الطبيعية فأجاب " ركزت انتباهي زمنا طويلا فيها ",وكذلك يتفق مع قول " هنري أيرنج " الذي يعتبر الإبداع ليس مجرد لمحة حدس انه عادة يتطلب تحليلا دائما لعزل العوامل الهامة من العوامل العارضة,أو ما يعبر عنه بافلوف بالكف والإثارة.
4 ـ مرحلة التحقيق والتنفيذ:
بانتهاء مرحلة الإلهام تكون العملية الإبداعية قد دخلت طورها النهائي حين تصل إلى مرحلة التحقيق والتنفيذ والتعديل,هذه المرحلة تتطلب اهتماما أساسيا من طرف المبدع,ويتوقف ذلك على ما يتصف به من خصائص شخصية وقدرات عقلية,إذ أن القدرة على تغيير الاتجاه العقلي بالمرونة والقدرة على التقويم والحكم والاستنتاج ومواصلة النشاط العقلي من العوامل الأساسية في إيصال العمل الإبداعي إلى نهايته.
أما بالنسبة لحب الظهور أو البحث عن الشهرة في وسط المبدعين بمختلف درجاتهم ومنزلتهم فهي جزء من نزعات الإنسان وطبائعه في الرغبة في إظهار نفسه أمام الغير,وهذه صفة إنسانية طبيعية وغريزية لا يحق لأحد أن ينتقدها أو يتسامى عليها,وهي احد مظاهر التعبير عن الذات أو" الأنانية" الإنسانية,وكما يقول العلامة الدكتور علي الوردي " إذا قلنا للناس أنبذوا الحسد والأنانية فمعنى ذلك إننا نقول لهم : اتركوا طبيعتكم البشرية وكونوا ملائكة ".قد يختلف الناس بهذه الرغبة من حيث الدرجة حيث تكون واضحة وملحة عند البعض دون البعض الآخر,لكنها طالما بقيت في حدود المعقول من دون أن تدفع بالإنسان  إلى أن يدعي أكثر مما لديه فأنها حق إنساني لا شك فيه,وللأنصاف نقول أن الكثير من المبدعين في ميادين الحياة جاءت شهرتهم كتحصيل حاصل بعد عطاء مستديم وسنوات طوال من الجهد والمثابر وان الناس عرفتهم قبل أن يعرفوا بأنفسهم,لا بل أن البعض عرف بعد مماته وهذا ينطبق على العباقرة كثيرا,والمشكلة تظهر حينما تتحول ظاهرة حب الظهور إلى داء اجتماعي يقتل صاحبه عندما يحاول المرء أن يصف نفسه بما ليس فيها من اجل الشهرة لدواعي خاصة أو للتعويض عن نقص أو نتيجة للإحساس بالحرمان الطويل الأمد كميكانيزم تعويضي وهي تنتشر في أوساط سياسيين أو قيادات اجتماعية مهرة تركوا تنظيماتهم السياسية والاجتماعية بحثا وراء الشهرة والتكريم,وخاصة عندما يشعر بالحيف جراء انتماءه السابق وهي نزعات مضخمة تعتبر ملاذا ومتنفسا لمن يشكو من عقدة نقص بسبب حرمان أو عدم تحقيق غاية أو القصور في بلوغ الهدف !!!!.


 







   




294
ليست شتم للشعب بل إدانة لأساليب التطاول على كرامته ـ في سيكولوجيا التعبئة الحشدية

" الحق والاستقامة والصراحة فضائل تخلصك بسرعة ممن يدعون إنهم اعز أصدقائك "
                                                                                   فيليب داناواي



د.عامر صالح

لقد ابتلى شعبنا ابتلاء اسود وبمحنة لا يعرف احد حدود نهايتها, مستنزفة عقله وجسده, فأن لم يطال الإرهاب المجرم جسده فهناك من يحاول مسخه فكرا وذهنا لكي يهيئه إلى مختلف صنوف الإرهاب الجسدي والعقلي,ابتداء من الانقضاض عليه ككيان مفكر ومستقل,منحته الحياة أسمى ما يملك عن نظيره من الكائنات الحية : اللغة والقدرات العقلية من تفكير ويقظة وتصور وخيال وإدراك وتعقل للأحداث.وإذا كان الإرهاب المباشر ينحر جسد الإنسان فأن الإرهاب غير المباشر ينحر عقله فيتركه أسيرا,مغيبا فيه الاتجاه والمعرفة في المحيط ويضعف فيه العمليات العقلية إلى درجة يقترب منها الإنسان الناطق والرمزي إلى حيوان يمشي بساقين ليس إلا,وقد يتبول على نفسه فيعتقد انه جالس في المكان المخصص لذلك,حيث التدهور المستمر لكل العادات الإنسانية المكتسبة,أنها حالات اقرب إلى مرض الزهايمر" خرف الشيخوخة ",عندها يستفرس الإنسان بسهولة من الإرهاب القاتل وغيره !!!!.

أن من أكثر الممارسات السياسية التي تتعرض إلى الذم والنقد والاستهجان والإدانة هي الممارسات التي تستند إلى مبدأ الوسيلة تبرر الغاية ,حيث ينتفي الأثر الأخلاقي في السياسة " وأن كانت المقولة مأخوذة بغير ظروفها التي أستخدمها ميكيافلي " ,ويجري التركيز على الوسائل لبلوغ الأهداف مجردة من خصوصية الظرف الذي تجري فيه ومحدداته ومنظومته القيمية,وهي سلوكيات كنا نعيب فيها على إسرائيل منذ عقود,كما أنها سلوكيات اتصفت بها النظم والأحزاب الشمولية ,وبعض أوجه الممارسة في النظم الرأسمالية عند الدعاية والكسب السريع والرخيص,ويجري هنا استنفارا شديدا ومشوها لكل المنظومة القيمية الدينية والأخلاقية لإضفاء صبغة شرعية على الوسائل من اجل بلوغ الأهداف,ويجري ذلك عبر استثارة كل ما يمتلكه الإفراد من قوة تأثير في العقل الجمعي ذو الصبغة الانفعالية في غالبيته,ونحن نعلم أن ثقافتنا الفردية والاجتماعية ومورثنا الديني يعيب كل العيب عليها,فنرفض الوسيلة القذرة ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة,وهنا يقول النبي " ص " : " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ",فالخبث من الوسائل كالخبث من الغايات مرفوض,ولابد من الوسائل النظيفة للغايات الشريفة,وذلك خلافا لمفهوم بلورة الرأي العام ذو الصبغة الاجتماعية الذي يستند إلى الحوار والإقناع في بلورة موقف ما اتجاه القضايا المصيرية !!!!.

إن التجربة السياسية ما بعد 2003 في تعبئة الجماهير تعرضت إلى التشويه والمسخ من قبل الكثير من الأحزاب مستفيدة من ارث الدكتاتورية البغيض,لتعيد الكرة في تشكيل وعي الجماهير بما يتفق مع مصالح هذه الأحزاب عبر التزييف وتشويه معالم الوعي الإنساني الفردي للمواطن من خلال ترك الانطباعات المختلفة التي تصور الأهداف الذاتية والمصلحية والنفعية بأنها أهداف عظيمة ومقدسة ومشروعة ويخيل إلى المواطن بأن هذا الحزب أو ذاك يسعى لصالحه,وبالطبع فأن هذا العمل يتطلب مهارات عالية "وقدرات استثنائية خاصة " للعبث بإحساسات وحواس الجمهور من خلال الإعلام المتنوع والمغريات المختلفة واستخدام للمال الحرام والإسراف في استخدام السلطات الحكومية,وقد تم تزيف الوعي من خلال شخصيات كاريزمية في الأحزاب أو في المجتمع,دينية أو سياسية يتم من خلالها تسويق أفكار الأحزاب إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناء على تقبلها وحبها البريء للشخصية الكاريزمية سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية,وخاصة في مجتمع خرج للتو من نظام دكتاتوري كانت مهمته زرع قيم الذل والخنوع والعبادة الفردية والاستسلام واستلاب أرادة المواطن لتحويله إلى رقم أصم يسهل حسابه بمختلف الاتجاهات دون معنى يذكر!!!.

أن هذا السلوك السياسي المرضي يفضي إلى خلق اتجاهات تضعف الشخصية العراقية في تقبل أي تغير ايجابي مرتقب عبر ممارسة السلبية اتجاه الإحداث وإعاقة أي بادرة لشحذ القوى المجتمعية صوب الفعل الايجابي,وتكريس الأوضاع السابقة لما بعد 2003 برضا شكلي من قبل الجميع,انه حالة من استهلاك طاقة ملايين الأجساد والعقول عبر إضعاف ملكة التفكير النقدي وترك المواطن في حالة تلقي سلبي لكل ما يسمعه من بعض من مرجعياته الدينية والسياسية والاجتماعية,لكي تصل به إلى مستوى التفكير الخرافي الذي يشل الديمقراطية في عقر دارها,ويتم تخدير وتسكين معاناة الناس الحقيقية وشل وعيها النقدي المعارض اللازم لعمليات التغير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي المنشودة,وهنا تدخل الممارسات الدينية الخاطئة على نطاق واسع,عبر رموز مفتعلة له وليست حقيقية لتكرس حالة السبات العقلي وتشديد للاعتمادية السلبية من خلال " مفتون متخصصون " عند الشدة يشغلون الناس بقضايا هامشية تصل إلى حد التدخل حتى في شؤونهم الشخصية والخاصة جدا والتي لا صلة لها بمستقبل البلاد لأحداث حالة غيبوبة مستديمة تباع فيها عقولهم وقلوبهم !!!.

وتتحول هذه الممارسات إلى مدارس متخصصة في تزوير إرادة الناس وإجهاض أي محاولات إصلاح أو تغير وحجب أي محاولات للكشف عن الفساد ورموزه وإحباط إرادة الناس في مداهمته,كل هذا يحمل الناس على الرضوخ للأمر الواقع والاعتقاد إن الوضع الراهن هو الآخر قدرا لا يمكن تجاوزه بسهولة أسوة بقدرنا مع النظام الدكتاتوري السابق,وهنا تنشأ القابلية للإيحاء النفسي والاستهواء والاستلاب الفكري وخاصة في وسط فئات متدنية التعليم والثقافة وفي مجتمع تنتشر فيه الأمية بنسب تتجاوز 50% ,فيصبح فريسة لأي دعاية سياسية رخيصة أو دينية مغالية,فتندفع الناس بلا عقل إلى التصديق والانسياق دون إرادة في التمحيص والتثبيت إلى اتجاه معين لا لشيء إلا لأن غيرهم مندفعين أو مساقين إلى نفس الاتجاه,وهذه الخاصية يلعب فيها كثير من السياسيين ودعاة الدين,حيث يمتلكون القدرة على إلهاب حماس الجماهير وتوجيهم إلى حيث يريدون,وعندها تسلم إرادة الجماهير وهي مغمضة العينين إلى من تثق بهم ثقة عمياء دون أن تسأل : أي عراق نريد غدا !!!!.

أن هذا السياق لا تنجو منه إلا فئات قليلة من أحزاب ومثقفين مستنيرين يحتفظون بقدراتهم على الرؤية خارج إطار الشائع في السياسة العراقية ولديهم القدرة على الاحتفاظ بقدراتهم الميدانية والفكرية على رؤية مسار الأحداث وخطورته في عراق ما بعد 2003 ولديهم القدرة على الاحتفاظ بإدراكهم دون تلوث أو تشوه أو تزيف ولديهم القدرة على التفكير النقدي وتنبيه الجماهير إلى مخاطر سلوك" الهبات الجماهيرية أو الحشدية ". وتتعرض هذه الفئات إلى مصاعب كثيرة في ظل أحزاب الاستحواذ والاستبداد السياسي التي تمتلك قدرات هائلة على التأثير في مسار الأحداث عبر مختلف وسائل الإغراء والاستمالة,وتتعرض هذه الفئات السياسة إلى مختلف صنوف الدعايات والكذب والتهم في محاولة لأبعادهم عن مواقع التأثير في القرارات السياسية المصيرية بما فيها شرعنة قوانين لحصرهم في دائرة ضيقة !!!.

أن السياسات القسرية والتعبوية من قبل الكثير من الأحزاب تحول الكيان الفردي المفكر المبدع,والذي بفعل فرديته المميزة يضفي جمالا على السياسة كما هو على الظواهر والأشياء المختلفة, من شخصية واعية إلى شخصية متلاشية تضمر فيه إنسانيته ولا يرى الأشياء إلا بلونين أما الأسود أو الأبيض,ومن هنا تبدأ المشاعر المكبوتة في الظهور في وسط " الحشد " حيث يشعر الفرد بالأمان الشكلي لأنه جزء من كيان ضخم يصعب عقابه أو مسائلته عند ارتكاب مختلف الجرائم والسلوكيات حيث يضعف القانون أمام هذه " الحشود ",ويتمركز الشخص حول هذا الكيان الضخم أكثر من تمركزه حول ذاته,ويضعف التزامه الحقيقي بالقيود السياسية أو الاجتماعية أو الدينية وحتى الأخلاقية,ويتوحد مع الجموع الهائجة في حركة اقرب ما تكون إلى حركة "القطيع" كما يدركها المفكر الفرنسي " غوستاف لوبون " المؤسس لعلم فلسفة وسيكولوجيا الجماهير,وتصبح العواطف الملتهبة سيدة الموقف فتحرك الجموع بمشاعر الحرمان أو الرغبة أو الظلم أو القمع أو الإحباط أو الغضب,وهي حالات من الهستيريا تبدأ بقلة ثم تنتشر كالنار في الهشيم خلافا لمنطق التجمعات الاجتماعية المستقرة نسبيا,وتتجاوز هذه الحشود قدرة المحركين لها,وكما يقال " بجرة قلم "!!!.

أن المشروع السياسي الكبير في العراق لا يحتمل سياسة التجيش والسوق الحشدي صوب القضايا المصيرية,وإذا كانت هذه التجمعات الحشدية لها مبرر مؤقت كما هو الحال في مشاهدة كرة القدم,أو مشاهدة فيلم سينمائي,أو الخروج بمظاهرة مؤدلجة,فأنها لا تصلح في بناء عراقي ديمقراطي يستند إلى عقلنة الخيارات السياسية,وإنما نحتاج فيه اليوم إلى العقل الفردي المتميز بصفائه,لأن الديمقراطية لا تنمو في مجتمع إلا عبر التخلص من مختلف الضغوطات التي تقيد من حرية الإنسان باعتباره كيانا فرديا وليست كما تمليه " سيكولوجيا القطيع " التي تشترط التخلص من الحرية الفردية,فالفرد هو الكينونة الفاعلة والمفكرة بامتياز وله دور ايجابي ولا يقبل بفكرة انه وجد لينقاد,وانه بمجرد إتباعه الآخر سيصل إلى التغير.

واستنادا إلى ذلك فأن الخطاب السياسي الذي يعزف على أوتار انفعالات الجماهير يمكن أن يستثير المكبوت من الانفعالات والمشاعر ويصل بها إلى مدايات هائجة لتصعد روح الكراهية والعداء للناس على بعضها تحت واجهات مختلفة,وبهذا يتحول الأفراد من كيانات واعية إلى كيانات " حشدية " متراصة اقرب إلى سلوك القطيع منه إلى الإنسان,حيث تحركه الغرائز البدائية أو ما يسمى بالغرائز المشتركة بين الإنسان والحيوان,وهي ليست في إطار النظام المدرك لدى الإنسان وإنما تتسرب من الجزء اللاواعي من البشر,وقد أطلق على هذا السلوك احتراما لمكانة الإنسان في سلم التطور البيولوجي " بثقافة الحشد " أو " سيكولوجيا الحشد ",وهي اقرب إلى مفهوم التعصب بكافة أشكاله السياسية والدينية والثقافية,والتي تدفع إلى الانحياز بدون عقلانية لإرضاء غريزة القطيع والذوبان فيه,وعندها تختفي وتذوب الفروق والمستويات التعليمية والثقافية والعلمية والعقلية لأفراد الحشد تحت فعل الانطباعات الموحدة,وهي أشبه بحالات التنويم المغناطيسي التي يكون فيها " الحشد " أسيرا لتحريض وايعازات محركيه من القيادات الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها !!!.

ومن هنا تأتي أهمية المسؤولية الأخلاقية والدينية والسياسية الملقاة على عاتق القيادات السياسية والاجتماعية المختلفة وقيادات الدولة في إعادة صياغة وعي المواطن بما ينسجم مع تطلعات وطموحات الناس في بناء مجتمع العدالة والحق والمواطنة الكريمة الذي يستند إلى العقلانية بعيدا عن الانفعالات الجارفة,ولعل في الملاحظات الآتية مدخلا مواتيا لذلك :

ـ إعادة صياغة منظومة التربية والتعليم على أسس علمية وعقلانية بعيدا عن تأثيرات التيارات السياسية والدينية المتحاربة والمتجاذبة,لخلق مواطن يتسلح بالوعي المحايد والقدرة على ممارسة النقد البناء للظواهر المختلفة بروح علمية بعيدا عن أشكال التعصب والانفعال في تقبل أو رفض ظاهرة أو رأي ما.

ـ تحديث الخطاب السياسي من حيث المحتوى والأهداف والوسائل,وتحوله من خطاب " حشدي " منفعل إلى خطاب ايجابي يستهدف بناء ثقافة سياسية فردية بناءة وتحويله إلى خطاب سياسي ـ تربوي ذو صبغة واقعية.

ـ ضرورة التثقيف المستمر بالتجربة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للتداول السلمي للسلطة وليست وسيلة للانقضاض عليها واحتكارها ومنع الآخرين من المساهمة فيها.

ـ إشاعة ثقافة الحوار في كل القضايا التي تخص المجتمع السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية,ودفع الناس لإبداء الآراء بخصوصها وتحويل المواطن من مستقبل للمعلومة فقط إلى مواطن مرسل فعال,أي تنشيط قنوات الاتصال بين المواطنين ورموزهم السياسية والاجتماعية لتفعيل مفهوم المشاركة البناءة.

ـ إعادة النظر في المنظومة التشريعية والقانونية التي تحجب و تحد من سقف مشاركة الآخرين في العملية السياسية,وفي مقدمتها قانون الانتخابات وإصدار قانون للأحزاب لضمان مسائلة الأحزاب ورصد آلية عملها,لضمان مزيدا من النزاهة و المشاركة السياسية لبناء نظام سياسي متنوع في العطاء والقدرات الفكرية والعقلية.

ـ العمل التربوي والتثقيفي طويل الأمد لأبعاد ثقافة التشكيك والاتهام وتخليص المواطن من آثار عقلية المؤامرة التي تجعل من المواطن متربصا لأخيه المواطن ومشككا في أفضل عطائه,وتلك هي الحال على مستوى الأحزاب.

ـ محاربة الفساد على نطاق واسع باعتباره وفي احد وجوهه مظهرا من مظاهر الفساد السياسي يسهم في تكريس الأوضاع كما هي,ونظرا لتقاطع صلاته مع السياسة ورموزها فأنه يسهم في تكريس سياسة الصفقات وتجيش الناس حولها لأبعاد شبح المحاسبة والدخول في التفاصيل.

ـ تعزيز ثقافة دولة القانون في سلوك الأفراد والأحزاب والمؤسسات بعيدا عن التمترس الفئوي والطائفي والجغرافي والقبلي الذي يضعف دولة القانون,وتنشيط دور القضاء لتشجيع المواطنين على الاستعانة بالدولة لحل المشكلات المختلفة والمستعصية دون اللجوء إلى القبائل أو الطوائف أو الأحزاب التي تستميل المواطن وتسهل تعبئته بمختلف الاتجاهات باعتباره طرفا ضعيفا يلجا اليها عند الشدة !!!!.





 

295
بين الانتقاد والنقد الذاتي هل تتغير الحقائق على الخارطة السياسية في العراق !!!!

" إذا كانت لك ثقة بنفسك فأنك ستلهم الآخرين الثقة "
                                                غوته

د.عامر صالح

مع كل انحسار أو خسارة سياسية أو ضربة سياسية قاسية أو هجوم يتعرض له اليسار الشيوعي تزداد نوبات التصعيد عليه, سواء من أنصاره ومحبيه والجالسين فيه أو حتى من البعيدين عنه الذين لا يفقهون في حيثياته,ليحملوا المسؤولية بدورهم كل ما يحصل على هذه القوى والعودة إلى التأريخ بآلية " النبش " وليست التقويم لسوق المبررات وتحميل اليسار أكثر من طاقته وكأنه العصا السحرية لكل الحلول خارج إطار الزمان والمكان أو الفانوس السحري لعلاء الدين !!!.

وتشتد نوبات التصعيد ألانتقادي أو الهوس ألانتقادي,وهو ليست نقدا ذاتيا,بل جلدا بالعصا الغليظة للذات,وهو شعور سلبي يتنامى بشكل خاص في ظروف المنعطفات السياسية الصعبة التي يصعب فيها تحقيق الأهداف,وهي حالة من النكوص عن تحقيق " الذات السياسية ",وهو شعور دفين يريد التغلب على الفشل والهزيمة ولكن ليس عن طريق المواجهة وإنما الهروب والتقوقع على الذات وجلدها,وهو حرب ضد ذات الكيان السياسي وإسقاط كل اللوم عليه وتبرير للشعور بعدم المقدرة والهزيمة,إنها حالات من الاكتئاب السياسي تضعف من ثقة الشخص بانتمائه وبمجموعته التي ينتمي إليها,وتزعزع من ثقته بمشروعه السياسي,وقد تؤدي به إلى " الانتحار السياسي " عبر فقدان هويته النفس ـ عقائدية,وبهذا يخسر الشخص مرجعيته الفكرية والإيديولوجية اللازمة كمقياس للفرز وتصنيف وتقيم الحقائق !!!!.

أما النقد الذاتي البناء فهدفه معرفة مواطن القوة والضعف وتقويم الذات ومواجهة السلبيات,وإعادة بنائها على أسس عقلانية جديدة,كما انه الوسيلة الفعالة وصمام الأمان لتخليص المعرفة والفكر والسياسات من الشوائب,وهو أساس الإبداع والتغير,وعلى الناقد أن يكون عارفا ومحايدا وموضوعيا ومتمكنا في الوقت نفسه من امتلاك أساليب ومناهج النقد,لكي يتجنب أية إساءة للعمل المنقود والتعرض إليه وإسقاط التهم جزافا عليه,وبهذا يصبح النقد من اخطر الممارسات وأكثرها تعقيدا وأكثر الممارسات أخلاقية التي تقترن بصدق النوايا,وان الفكر الجدلي يؤكد أن النقد هو المحاولة الجادة لفهم الظواهر وتغيرها,ومن هذه المسؤولية وقبل ممارسة النقد وتميزه عن جلد الذات المعطل للقدرات والانطلاق يجب تنمية الوعي بأهميته وفاعليته وتأثيره في إعادة الثقة بالنفس والاعتبار وإيقاظ الإمكانيات والطاقات الإبداعية الكامنة للكشف عن مكامن القوة والضعف,وتحفيز الإنسان لرفض وتحدي كل ما يعيق حرية الفكر والسياسة وانطلاقهما,حيث لا وجود للمطلقات فالمعرفة نسبية كما يؤكدها المنهج الجدلي !!!!.

أن وظيفة النقد الذاتي باعتباره الوسيلة الهامة والمطلوبة رقم واحد لإعادة النظر دوما في البرامج والسياسات والاستراتيجيات,بل وكذلك في إعادة النظر في الأسماء والشعارات ومدى مطابقتها للمحتوى في السياق ألزماني وحتى المكاني,والاستعداد لتقبل أي جديد ايجابي زكته معارك الحياة من اجل التقدم ورقي الحياة الإنسانية,أن ممارسة النقد الذاتي من أوسع أبوابه من قبل اليسار الشيوعي في العراق هو دليل على معافاته المستمرة,ولكن هذا لا يعني أن ممارسته تؤسس إلى نصر قادم مؤكد في انتخابات برلمانية جديدة,ففي ذلك مجافاة لما يجري من ظروف قاهرة " للديمقراطية السياسية " في العراق تقع خارج إطار قدرات النقد الذاتي على إصلاحها,وهي عوامل موضوعية خارجية تسبح فيها الكيانات السياسية مستفيدة منها تارة وملحقة الضرر في المنافس السياسي الآخر تارة أخرى....أنها ظروف انعدام تكافؤ الفرص السياسية لممارسة العمل الديمقراطي !!!!.

أن نتائج الانتخابات البرلمانية 2010 وما أفرزته من نتائج والتي تقف على رأسها إعادة أنتائج القوى السياسية البرلمانية السابقة بأوزان مختلفة بعض الشيء,إلى جانب صعود القائمة العراقية المتنوعة المشارب والتي يصعب الحكم على ديمومة وحدتها,لم تجسد هذه النتائج الإجابة على التساؤلات الانتخابية المشروعة :لماذا انتخب هذا,وما هي المبررات العقلانية لانتخاب هذا الكيان دون غيره,وهل أجرى الناخب مراجعة نقدية لخياره السابق لكي يأتي بغيره !!!!,كما أفرزت النتائج الانتخابية خسارة قوى اليسار المتمثلة بقائمة اتحاد الشعب والمعروفة بعهدتها التاريخية وسعة برنامجها الإصلاحي الاقتصادي والاجتماعي,والتي من المفروض أن تأخذ نصيبها اللائق بها في البرلمان,أن كل ذلك يترك لنا انطباعا أوليا بأن الناخب العراقي غير راغب بتغير حاله ويريد بقاء الأوضاع كما هي,ولذلك أتى بمرشحيه من هذا الطراز !!!.

لا يوجد شعب على الأرض يتجه نحو الخيارات المرة وبالضد من سعادته,وقد حصل في التاريخ حالات محدودة أن الانتخابات تأتي بدكتاتوريات أمثال هتلر وموسوليني,ولكن الندم على هذا الخيار يلف أذيال من انتخبوه إلى اليوم أحياء أم موتى,وان الناخب بفعل الفطرة الإنسانية لا يختار إلا من يرى فيهم الأمل والحياة الإنسانية الحق,وخاصة عندما تسنح الفرصة لتأسيس قاعدة سليمة للعمل مواتية لانطلاق قدرات الإنسان الفعلية وتنشيط خياراته الحرة صوب ممثليه بعيدا عن عمليات الاحتكار السياسي والإقصاء والانفراد بعقل المواطن وزج الدين في السياسة واستخدام الأخير ضمن دائرة التقوقع الجغرافي لإعادة توليد ذهنية العدو الديني الأخر في الكيان الجغرافي المقابل,وخلق المناسبات لإشعال نار الفتنة,كلها عوامل ساهمت بتحويل الانتخابات من آلية لفرز وانتخاب الأفضل إلى آلية خفية لإدارة صراع ديني ـ ديني وطائفي ـ طائفي,وهكذا تم حرف وجهة الناخب من عملية الاستبصار في الكيان السياسي وماهيته إلى عملية الاستعماء السياسي.

وهكذا سهلت عملية سوقه جماعيا حسب مواصفاته الدينية والطائفية والاثنية إلى صناديق الاقتراع,وبهذا حرمت الصوت الانتخابي من الثراء والتنوع وفوتت عليه فرصة التصويت على البرامج الانتخابية كما هو الحال في العالم الديمقراطي المتمدن,ورغم أن هذه المسحة الانتخابية كانت اقل وطأة من سابقتها الانتخابية,إلا أنها أوقعت الناخب في فخ انتخاب " النكاية السياسية " المبني على ردود الأفعال وليست خيارا عقلانيا,تجسده حالات السأم وفقدان الأمل في الكيانات السياسية السابقة لفترة ما بعد 2003 ,في ظروف عدم النضج السياسي في أدراك قيمة الصوت الانتخابي ودلالته في تقرير المستقبل,وغياب الوعي بأهمية أن المواطن اليوم هو الذي يقرر شكل النظام السياسي وفعاليته,وهو المسئول الأول والأخير عليه عبر ممثليه,إلى جانب تراكمات الوعي السابق للحقبة الشمولية ومخاطرها في مسخ أهمية المشاركة السياسية الفعالة وتحويلها إلى عملية سوق قطيعي صوب تقرير المصير في القضايا المهمة,وتحويل عملية التصويت إلى مجرد عملية بهيمية تفتقد الوعي والإحساس والمسئولية,ومجرد إيداع للاستمارة الانتخابية في الصندوق دون حسبان للعواقب, وقد شكلت هذه الذخيرة السيئة ارض خصبة للكيانات السياسية الكبيرة لسوق الناس إلى الانتخابات بنفس أساليب التحشيد والسوق الجماعي !!!!.

وقد كرس هذا المنحى السلوكي الكثير من الإجراءات الغير عادلة,منها على سبيل المثال,حصر الناخب في بقعته الجغرافية ـ المحافظة عبر القائمة المغلقة حيث تشتيت الأصوات الانتخابية وشرذمتها وتجريدها من أهميتها,وكذلك سهولة حصر الناخب في بقعته الانتخابية وممارسة شتى عمليات غسل الدماغ والإيحاء لترويضه وسلب صوته الانتخابي,ومنح أصوات القوائم الخاسرة إلى القوائم الفائزة,وانعدام قانون الأحزاب ليضعها تحت المسائلة,وانعدام تكافؤ الفرص في التعبئة والدعاية الانتخابية والتمويل للكيانات السياسية,عدا ذلك ضعف مصداقية ونزاهة الجهات المسئولة عن أدارة الانتخابات وفرز الأصوات والتي أطال إليها الشك ليست فقط من الكيانات السياسية الصغيرة الخاسرة بل من الكيانات الحيتانية الكبيرة الفائزة !!!!.

اليوم بعد هذه التجربة الانتخابية وقبلها تؤكد الخبرة في هذا الميدان انه لا ديمقراطية حقيقية بدون علمانية,لأنه في ظل العلمانية يمكن للمرء أن ينعتق من عقليته الطائفية كي يفكر وينتخب على أساس عقله,وان الإسلام بتنوعه الكبير وثراءه الفلسفي يحتاج اليوم وخاصة في ظروف العراق كما في العالم الآخر إلى مزيدا من التحييد وتخليصه من الأسر السياسي ومن المتأدلجين والمرابين في الدين,وخاصة في ظل تنوع طوائفه ومذاهبه المتحابة بعض منها والكارهة لبعضها البعض في أحيان أخرى لحد التكفير والإبادة الجماعية وتبرير القتل المتبادل,أنها فرصة أن يقف الدين على قدميه برسالته السمحاء,وتقف السياسة هي الأخرى على قدمين سليمين,وتسمح للجماهير بممارسة الديمقراطية الحق والإتيان بنظم تعبر عن حاجتها للتطور والتقدم والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي,بعيدا عن الصراعات الدينية والطائفية والاثنية التي لا صلة لها بالاستقرار الاجتماعي,وتحويل الفرد من مستسلم عاجز سياسيا إلى كيان نشط وفعال ويقرر فعلا ما يشاء بمحض أرادته,واليوم بعد نتائج الانتخابات عندما نسمع بصدى التفجيرات والعمليات الانتحارية في مناطق سنية وشيعية وهي تؤدي بحياة العشرات والمئات من المواطنين الأبرياء تضع المواطن أمام تساؤل: من هو الفاعل؟ فتختلط الإجابات بين منفذ من فلول البعث,ومن أنصار للمالكي لكي يرون الناس أن الأمن بدونهم محال,أو من الصدريين بعبثهم للضغط على مسار الإحداث بأي اتجاه يرغبون,أو من القاعدة كالمعتاد أو من علاوي لكي يكون دخوله قويا بحلة الحافظ على الأمن والأمان,وجميعها تعبر عن العبث بخلط أوراق الدين بالسياسة !!!.

بعد هذا كله نتساءل لو أقدم اليسار على ممارسة النقد الذاتي من أوسع أبوابه متناولا كل مفاصل سياساته الداخلية والخارجية ابتداء من الشعارات والمسميات وراياته الحمراء وانتهاء بتحالفاته السياسية ومدى صوابها,ولو حصل اليسار الشيوعي جراء ذلك على الآلاف المؤلفة من الأصوات الانتخابية القادمة,فهل قادر اليسار على رفع حصار قانون الانتخابات الجائر المتمثل بالقائمة المغلقة,ومنح أصوات القوائم الخاسرة إلى القوائم الفائزة,وهل يقدر اليسار على تجيش الناخبين والعبث بانفعالاتهم البدائية وسوقهم  جماعيا للانتخابات بالطريقة التي أجريت فيها لكي يحصد الملايين من الأصوات,وهل يضمن مشاركة كاملة لأنصاره في الداخل والخارج, وهل يضمن نزاهة عادلة في فرز الأصوات وهل يضمن تكافؤ الفرص الانتخابية لكي يعبر عن مقدرته الحقيقية...أنها أسئلة عصية على التبوء بحلولها,وعلى قدر الإجابة عليها يمكن التنبؤ بفوز قريب لليسار !!!!!!.



296
بين مفهومي الهزيمة النفسية والخسارة السياسية في
الانتخابات البرلمانية العراقية 2010

" هناك مناسبات يستحسن فيها أن تخسر بدلا من أن تربح ”
                                                                   بلوطسن



د. عامر صالح

لقد انتهت الدعاية الانتخابية وأقدم شعبنا بعنفوان واختار ممثليه السياسيين للبرلمان القادم,وبغض النظر عن البعد الإجرائي للانتخابات ومصاحبها والطعون الموجهة ضدها والطقوس الدعائية الغير متكافئة التي أجريت في ظلها,فهي خطوة أخرى هامة من خطوات ترسيخ الممارسة الديمقراطية,وقد أفرزت الانتخابات كعادتها أن هناك طرفا رابحا وآخر خاسرا في المفهوم الكمي والإحصائي لفرز الأصوات,وليست بمفهوم الكفاءة المميزة لهذا الفريق أو ذاك,حيث لازال شعبنا قيد اختبار الجميع واختبار نفسه أيضا,وقد يحبط شعبنا لاحقا أو قد يشعر بالسعادة,والأمر مرهون بدقة اختياره لسياسيه و بالوعود الانتخابية ومصداقية البرامج, في مجتمع حديث العهد في الممارسة الديمقراطية.

أن من الأمور المهمة جدا في علم النفس كما في السياسة هو جانب التقييم لبعدي النجاح والفشل سواء مع الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب,فعندما تصدر مجوعة اجتماعية أو سياسية حكما أو تقيما لنجاح حققوه فأن تأثير الغرور والثقة بالنفس الكاذبة يمكن أن يزداد بتأثير الإيحاء وأتساع دائرة التأثيرات الانفعالية بين الجماعات والأحزاب,وخاصة أذا كان النجاح يأخذ بعدا كميا خالصا في ظروف الانتخابات العراقية,فأنه قد يلقي بضلاله وأثاره السيئة على الإطراف التي خسرت الانتخابات !!!.

وقد أصبحت ظاهرة المبالغة في تقيم النجاح لدى الشعوب المتقدمة ضعيفة التأثير فالنجاح الذي تحققه الأحزاب السياسية أو الجماعات هو نجاح مدروس ويستند إلى برامج ملموسة في غالبيته ويخضع لتنبؤات موضوعية,كما هو الحال على سبيل المثال نجاح المرشح الأمريكي اوباما على الرئيس السابق بوش الابن نتيجة لبعض المنعطفات السياسية الهامة في سياسة بوش التي ساهمت ببلورة رأي أمريكي عام ضدها مما سببت خسارته,أما في المجتمعات المتخلفة فهي تستخدم تقييمات غير دقيقة وغير مناسبة,فتكذب على نفسها وتصدق هذا الكذب,فهي قد تنسب أو تعطي لنفسها أو للأوضاع خصائص وقوى غير موجودة فعلا,وتبني تنبؤاتها على واقع غير موجود فتكون تقييماتها منخفضة الدقة بدرجة ضعيفة,وأغلب هؤلاء يريدون الفوز أو الربح بأي طريقة كانت,فالمهم بالنسبة لهم الشعور بنشوة الفوز والنجاح,ونموذج عودة الكثير من القوى البرلمانية العراقية السابقة إلى البرلمان الحالي المرتقب دون دليل قاطع على انجازاتهم السابقة,وانتخاب بعض من القوى الجديدة التي لا يزال ولائها للديمقراطية مشككا فيه, هو دليل على ذلك.

أن ملاحظة سريعة لسلوك الناخب الذي خسر مرشحيه,وخاصة بعد فرز الأصوات مباشرة,أن هناك شعورا بهزيمة المبدأ أمام الواقع,حيث يشعر الناخب أن ما يحمله من مبادئ فشلت أمام ضغط الواقع,أما بسبب  الإحساس الذاتي بعدم واقعية المبدأ والتفكير الأولي الذي مفاده أن المبدأ افتقد إلى الأدوات السليمة في التعامل مع الواقع,أو بسبب جمود وفقدان المنظرين الذين لديهم القدرات الفكرية والذهنية لمطاوعة المبادئ للواقع,ومن مظاهر هذا الإحساس الذاتي هو أن المبادئ تحولت إلى شعارات لا محتوى لها,وكذلك الإحساس بهزيمة الذات أمام المبدأ,حيث يشعر صاحب المبدأ أن ضريبة حمل المبدأ عالية وهو لا يستطيع الصبر عليها,وهذا الإحساس الأولي بالهزيمة يخلق الكثير من المشاعر السلبية لدى الذين صوتوا وخسروا مرشحيهم,كالشعور بالعجز وضعف الإرادة على التغير,أو الإعجاب والتضخيم من صورة المنافس الانتخابي بما لديه من " قدرات ومهارات " على الفوز,آو الإحساس المتدني للذات آو التخلي عن الهوية الذاتية ـ الفكرية.

أن الخسارة في الانتخابات هي جزئ من حالة الفشل المؤقت وهي جزئ من هذه الحياة باعتبارها أمر طبيعي وتجارب تمر بها الأحزاب والجماعات,ونحن نسعى دوما لأبعاد الخسارة عن حياتنا أن كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية,والجميع يعمل من اجل النجاح,ولم نسمع بحالة فرد آو جماعة آو  حزب سياسي يعمل من اجل الفشل,وإلا فما جدوى عمله !!!,إلا إننا نتأثر كثيرا بهالة الماضي وتعقيداته وما أوقعه من أضرار أو انتكاسات على هذا الكيان السياسي أو ذاك,فلم نستطيع بعد ذلك أن نسمع بالخسارة !!! بل في أحيان كثيرة نريد ربحا سريع غير متوفرة ظروفه وعلى الفور !!!!.

لقد تعرض الناخب العراقي بفعل خسارة مرشحه إلى هزيمة نفسية أو أزمة أو خيبة أمل,استنادا إلى توقعات ما بالفوز لم تؤتي ثمارها كما كانت مرسومة لها في ذهن الناخب والمرشح,وهكذا شكلت نتائج الانتخابات صدمة نفس ـ سياسية,اتضحت ملامحها بالمراحل التالية :

1ـ مرحلة الصدمة : وهي المرحلة الأولى من مراحل الحزن والتي جاءت بعد فرز الأصوات,ولم يكن المرشح والناخب متهيئا لها,وتحمل الكثير من المشاعر السلبية التي قد يعبر أو لا يستطيع التعبير عنها,وقد ذكرنا بعض ملامحها اعلاه بعد فرز الأصوات مباشرة.

2 ـ مرحلة الإنكار والرفض : وهي المرحلة التالية للشعور بأزمة الخسارة,فالشخص الناخب والمرشح لا يستطيعون التصديق بأن ما حدث قد وقع فعلا,وهنا تأتي أهمية تقبل الخسارة باعتبارها نقيض الربح وقابلان لتبادل المواقع عندما تتوفر الظروف المتكافئة للأعداد والتعبئة لمحاولات قادمة.

3 ـ مرحلة الشعور بالحزن والاكتئاب : وهي أن شرائح واسعة من الناخبين يواجهون أزمات من  مشاعر متضاربة من الحزن والاكتئاب واليأس من الكيان السياسي وفقدان الأمل,وقد يرافق ذلك المزيد من مشاعر الشعور بالذنب واللوم وجلد الذات,وهي حالات من النكوص بعيدة عن النقد الذاتي .

4 ـ الشعور بالغضب الشديد : قد تنتاب هنا الناخبين والمرشحين مشاعر الغضب الموجهة نحو الآخرين أو نحو الذات أو للوسط المحيط بهم ومحاولة البحث عن مزيدا من الأسباب الذاتية والموضوعية لإلقاء اللوم عليها وتحميلها مسؤولية ما حصل,كإلقاء اللوم على الكيان السياسي الذي ينتمي إليه المرشح وعلى تاريخه ومصداقيته,وقد تجري تلك بأشكال انفعالية غير مجدية.

5 ـ مرحلة التقبل : وفي هذه المرحلة حيث تهدأ جميع الإطراف المعنية بالخسارة الانتخابية,وتنطلق الحكمة باعتبارها الفيصل لفهم الخسارة والحد من تأثيراتها الضارة والسلبية على العمل السياسي,والتي تجسدها قبول الخسارة بروح رياضية عالية واستيعاب الخسارة,والابتعاد عن المشاكل والصراعات التي تلحق الأذى في الكيان السياسي التي يفرضها عليه الآخرون,والنظر إلى الجانب المنير من الفشل الذي ندعوه بالتجربة لنستفيد منها متجاوزين وحذرين من الوقوع في فشل متكرر,فهذا نجاح بحد ذاته,وربما يكون الفشل بحد ذاته نوعا من النجاح لما فيه من اثر تربوي,فمجرد تحويل التجربة الفاشلة إلى درس نتعلم منه ونكتسب خبرة,فهذا يعتبر نوعا من نجاح يغفله الكثيرون.

وفي هذا الخصوص وبما أن الخسارة في الانتخابات أطالت قوى اليسار أشير بشكل واضح إلى أن حركة اليسار ـ الشيوعية أسست إلى مرحلة مهمة سابقة من النقد الذاتي باعتباره وظيفة مهمة في تشخيص الأزمة السياسية ومعرفة أسبابها ودوافعها ومعوقاتها ومحاولة تجاوز الواقع الذي افرزها,ويجب أن يأخذ هذا النقد مدى أوسع لكي يطال كل التفاصيل بدون حرج,وهنا أشير إلى قول عمانوئيل كانط بأن عصرنا هو عصر النقد,وأن كل شيء ينبغي أن يخضع للفحص النقدي بهدف قبوله أو رفضه,وأن نقد الذات يعبر عن وعي متزايد وشجاعة وثقة بالذات تنبع من رغبة حقيقية في أعادة إنتاج الفكر وتحديث الممارسة بما ينسجم مع ظروف العراق الحالية الصعبة جدا,والتي يفوز بها المرشح عبر التجيش واستلاب أرادة الناخب وخندقته وليست عبر انبهاره ببرامجه الاقتصادية والاجتماعية,وهي أساليب لا تمت بصلة بثقافة اليسار.....والى مزيدا من تحسين ورشة العمل والاستعداد الأفضل للانتخابات القادمة في ظل اعتراف شعبي واسع بنزاهة اليسار وقدراته في بناء مجتمع العدالة ودولة القانون !!!!.



297
الخاسرون بنكهة الفوز والفائزون بطعم الخسارة
نحو فهم ميداني لعقلنه نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية 2010

" الحسين (ع) علمني أن أكون مظلوما فأنتصر"
                               غاندي

د.عامر صالح

في اقتصاديات السوق يجري الحديث عن آلية العرض والطلب باعتبارهما المؤشرين الرئيسين للتنافس الاقتصادي لأغراض النفوذ والاستحواذ على الزبون أو احتكاره عبر مواصفات البضاعة المعروضة وجودتها العالية في الاستخدام,وهذا يجري في ظروف مصداقية البائعين,إلا إن الدعاية وحجمها تلعب دورا كبيرا في حرف وجهة المستهلك واستمالته,فقد تقدم له عروض مغرية تتجاوز في تأثيرها حدود تأثير جودة البضاعة,كأن تقدم له على سبيل المثال أن يأخذ في سلة التسويق قميصين ويدفع ثمن واحد فقط,أو ثلاث بناطيل ويدفع ثمن اثنين فقط ,وقد يفوز المستهلك مؤقتا بهذا المغري,إلا انه يخسر إلى حين القيمة النوعية للبضاعة المستهلكة بتلك المواصفات,ويكون الأمر أسوء في حالة الاختبار السابق للبائع عندما قدم بضاعته لمرات بنوعيات سيئة.

وينطبق الأمر هذا على الانتخابات عندما أقدم شعبنا في انتخابات 2010 في انتخاب ذات البضاعة,وهو يعرف حقيقة قيمتها ونوعيتها,وقد انتخب الزعماء السابقين الذين لم يلق منهم غير الوعود التي لم تغنى ولم تسمن,والتي عاش  في ظلها التوافقية والمحاصصة والنزعة الطائفية,واستشراء الفساد المالي والإداري والمحسوبية والمنسوبية,ولم يتلقى شيء من الخدمات العامة من كهرباء وماء وصحة وتعليم,ولم ترى  في ظلهم النور أي من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية.

من الناحية المنطقية وفي ظروف تجذر الممارسة الديمقراطية في المجتمع فأن حصول المرشح على أصوات الناخبين يتعلق بكفاءة المرشح وقناعة الناخبين أن يعمل المرشح لتحقيق انجازات ومكاسب لناخبيه في حالة فوزه,وتلك هي ثوابت مستقرة في الوعي المعرفي والعقلي للناخب في مجتمعات الديمقراطية العريقة واستنادا إلى الخبرات السابقة مع مختلف المرشحين وأنتمائاتهم السياسية.إذن فلماذا حصل العكس لشعبنا العراقي عندما أقدم على صناديق الاقتراع فمنح أصواته...فأتى بمن أتى وهذا حقه المشروع من الناحية الشكلية في اختيار ممثليه !!!.

أن عهد الديمقراطية في العراق هو وليدا وأن الثقافة الديمقراطية لشعبنا لا تزال قيد التشكيل والاختبار,فلازالت ذهنية الانقضاض على المنافس الآخر وإقصاءه هي الفيصل في السلوك السياسي,بل يرى البعض في الديمقراطية هي الفرصة الذهبية " للفرهود"و للفساد بمختلف مظاهره,ومع هذا فأن شعبنا لا يريد العودة إلى الوراء,بل هناك تجليات للمضي قدما من  اجل إرساء دعائم الديمقراطية.

أن مجتمعنا العراقي هو مجتمعا قبليا وقد كرست فيه القبلية بفعل مختلف السياسات منذ عقود ثم انتهاء بالطائفية والمذهبية لتضفي على ذلك شرعية جغروـ طائفية متحجرة,رغم أن هناك حقبا تنويرية بفعل تأثير قوى اليسار فيها إلا إنها مرت بانحسار بفعل الضربات القاسية التي تعرض لها اليسار والتي كادت تقتلعه من الجذور,وبهذا ترك شعبنا أسيرا في العراء وضحية لمن يتجاذبه,وهكذا أيضا ترك شعبنا ضحية لثقافة الغنيمة والكسب والاستحواذ,مما كرس مفاهيم الشعب ـ الرعية,وأن التعامل معهم ليست ككيانات إنسانية مستقلة وإنما عبر ممثليهم من القبائل والطوائف والمناطق والحارات والأسر مما ترك شعبنا ضحية لمختلف مشاريع الاستمالة والإغراء,أن ذلك لا ينسجم مع صيرورة المجتمع المدني,وأن الخلاص من ذلك يستدعي ترسيخ مفهوم المواطنة والمجتمع المدني,وهذا بالتأكيد يتطلب جهدا ليس بالهين لكي يتخلص شعبنا من هذه الانتماءات الضيقة التي لا صلة لها بالمواطنة وبالخيارات الحرة وبثقافة الانتخاب التي تتطلب مزيدا من الاستقلالية في السلوك.

لقد طالبت قوى اليسار مرارا باحترام أخلاقيات العمل الديمقراطي واحترام الآخر المنافس لأن في ذلك احترام للمبادئ العامة للعمل الديمقراطي بل ولجوهر المصالحة الوطنية,كما أكدت على ضرورة تكافؤ الفرص باعتباره احد معايير نزاهة وشفافية الانتخابات وأي إخلال بهذا المعيار هو إخلالا بشرعيتها,وقد أكدت تجربة الانتخابات أن هناك أحزابا وقوى سياسية امتلكت وسائل تأثير فعالة مثل القنوات الفضائية ومحطات إذاعية وأكثر من صحيفة وغيرها,وقد استغل فيها المال العام للدعاية الانتخابية في ظل عدم تشريع قانون للأحزاب السياسية الذي يحدد مصادر التمويل لهذه الأحزاب,بما فيه التمويل الخارجي الذي بلغ المليارات من الدولارات,وكل ذلك لعب دورا في منح الأصوات الانتخابية لمن لا يستحق !!!!,مما جعل من الكتل السياسية الصغيرة ضعيفة من حيث قدراتها على التعبئة والمنافسة للكتل" المتمكنة ",رغم كبر الكتل الصغيرة في أعين الجماهير...إنها اللعبة الانتخابية,أن التأسيس لدولة عصرية لن يجري بهذا الأسلوب مطلقا ,إنها عملية زحف لبسط الهيمنة والاستئثار بالعمل السياسي,وعليه يجب قراءة دلالات نتائج الانتخابات بعناية فائقة انطلاقا من مصلحة شعبنا.

أن إلزام المواطن في التصويت فقط لمحافظته انه يعني ما يعنيه حصر المواطن في التوققع داخل نطاقه الجغرافي ـ الطائفي والمذهبي والاثني وبالتالي دفعة للتصويت على أساس الهوية الطائفية والعرقية والعشائرية وحتى العائلية متأثرا بدائرة الضغوط المحيطة به,ويعني كذلك حرمانه من التصرف بحرية لمنح صوته لمن يشاء في العراق كله,وهو إلغاء ضمني لحرية الانتخاب !!!!.

أن قانون الانتخابات الذي أجاز بمنح أصوات القوائم الخاسرة لتضاف إلى رصيد القوائم الكبيرة الفائزة يعني ضمنا تكريس لهيمنة القوائم الحيتانية,وهي أشبه بعملية سرقة لأموال يتامى أو التصرف بأموال أناس قصر,انه مال سحت إذا كان هناك خوف من الدين فعلا,وقد قدرت أصوات القوائم الخاسرة بأكثر من مليون,وبعملية حسابية بسيطة لو قسم هذا المليون الخاسر على عدد قوائمه لفازت القوائم الخاسرة بأكثر من مقعدين...فأين الديمقراطية الحق !!!.

أن طموحات شرائح واسعة من مجتمعنا بان يأخذ اليسار العراقي مكانه الحقيقي في العملية الديمقراطية استنادا إلى تأريخه المشرف وتضحياته الجسام,وهو حق مشروع يستند أيضا إلى سعة البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي يروم اليسار إلى تحقيقه,إلا إن إلقاء اللوم بنفس الوقت على قوى اليسار في الخسارة الانتخابية بغض النظر عن الدخول في ملابسات ذلك وتعقيدات الوضع السياسي في العراق هو جزء من عدم تقبل مبدأ الربح والخسارة في الانتخابات,وأنها ثقافة ضربت بجذورها في مجتمعنا,فيجب النظر إلى ذلك في ظل ظروف تغيرات آليات العمل السياسي جذريا وتحولها صوب صناديق الاقتراع,وإذا كان الهدف حقا تمثيل مصالح الجماهير فأنه لا يوجد رابح أو خاسر في الانتخابات إلا بقدر الاستجابة لطموحات الشعب في السلم والعيش الكريم,ويكفينا مسلسل الانقلابات والصراعات المسلحة على كرسي السياسة,وعلينا الاستعداد بقدرات مضاعفة عبر وحدة الصف للانتخابات البرلمانية القادمة في ظل النضال من اجل قانون انتخابي عادل وقانون للأحزاب يضعها تحت المسائلة.

وتبقى" خسارة " اليسار اليوم هي بنكهة الفائز انطلاقا من نزاهته وتأريخه وقدراته الحالية في بناء مجتمع الرفاه,وفوز الآخرين بطعم الخسارة انطلاقا من صراعاتهم من اجل الاستحواذ والهيمنة واستغلال المال العام والاتكاء على المال الخارجي...ولعلهم يقومون بشيء لخدمة شعبنا فعندها نباركهم ونقول لهم: انتم الفائزون حقا !!!!.

298
مهمات عاجلة أمام البرلمان القادم لإصلاح منظومة التربية والتعليم في العراق

" أفضل رأسا مجهزا جيدا على رأس مملوء "
                         موتتاني



د.عامر صالح

لعل من المسلم به القول إن عملية التربية والتعليم تعد ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وللتقدم والنهضة الحضارية ومجاراة للعصر,حيث أن المواطن المتعلم والمؤهل والمتربي هو ثروة حقيقية لأي مجتمع من المجتمعات,ومن هنا تعكف دول العالم على الاستثمار في العنصر البشري من خلال التعليم والتدريب والرعاية المختلفة,وذلك لقناعات مفادها إن الإنفاق المالي الكبير على قطاعي التربية والتعليم هو ليست من باب الاستهلاك بل هو من باب الاستثمار ذو العوائد طويلة الأمد,والذي تأتي فوائده أضعاف ما ينفق على هذه القطاعات ولسنين طوال ولأجيال متعاقبة.

فالتربية والتعليم تلعب دورا كبيرا في بناء الشخصية الوطنية وتكريس الهوية الحضارية من خلال دورهما في عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية وتكريس قيم التسامح والمصالحة الوطنية,وهما يمثلان الركيزة الأساسية في خلق القوى العاملة المدربة في مختلف الاختصاصات لتلبية احتياجات التنمية الشاملة وسوق العمالة,ومن خلالهما أيضا يتم خلق أجيال قادرة على التواصل مع العالم والتعامل مع مستجداته في ميادين التقدم الاقتصادي والاجتماعي والتقني لمواكبة ظروف العصر,حيث نحتاج فيه إلى إنسان يمتلك الخبرات والأفكار والأساليب والآليات الجديدة والمستجدة ,أي نحتاج إلى إنسان يتصف بالقدرة على الإبداع والابتكار والبصيرة النافذة,ومن هنا تأتي أهمية دور نظام التربية والتعليم في تأهيل هذا الإنسان في ظل تأثر هذا النظام بالعديد من التحديات مثل ثورة المعلومات والاتصالات,وثورة العلم والتكنولوجيا,والتنمية الشاملة والمستديمة,والشركات المتعددة الجنسيات والعولمة,وهذه التحديات تؤثر في أساليب عمل المؤسسات التعليمية كما تؤثر في أهدافها ومناهجها وكادرها التدريسي وطبيعة إعداده وفي تحديد طرائق التدريس وطرائق عمل هذه المؤسسات وأدارتها بصورة عامة.

أن إصلاح حقيقي في مجال التربية والتعليم لا يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة منه إلا إذا جاء كجزء من عملية إصلاح شاملة تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية,وخاصة في ظل التداخل والتأثير المتبادل بين هذه المجالات,وحيث أنجز العراق الخطوة الأولى المتمثلة في التغير السياسي صوب الديمقراطية السياسية اللازمة لانتعاش الديمقراطية  في قطاع التربية والتعليم,إلا أنه اخل في ترك أي اثر ايجابي في هذا القطاع في الحقبة ما بعد 2003 والى اليوم,حيث ترك هذا القطاع فريسة للمحاصصات السياسية والطائفية وفتح باب الاجتهاد السيئ على مصراعيه في هذا المجال مما حوله إلى ميدان مصدر للتخلف الفكري والتربوي ومكان امن للفساد والتزوير والاستحواذ,وهو استمرار لما حصل من تدهور في العملية التربوية والتعليمية في زمن النظام السابق,بل وفي بعض من وجهوها أشرس مما وقع آنذاك.

وفي ظل ظروف سياسية قادمة قد تفرزها نتائج الانتخابات البرلمانية للعام 2010 وهي ظروف مواتية من حيث الاصطفاف السياسي يقرأها الشارع العراقي بشكل أولي بعيدا عن التزوير والتلاعب بعمليات الفرز,فأن حصل هذا الأخير فهو انقلاب على الديمقراطية من الداخل والعودة إلى مربع الانهيارات الأمنية والاجتماعية والعبث باستقرار البلاد من جديد,وهو إقصاء مقصود لكل قوى التغير,فيفترض في ضوء المزاج العام أن هناك تنوع في البرلمان من حيث قواه المفترضة :إسلامية,وطنية,علمانية ,وقومية واثنيه متنوعة وقوى أخرى,قد يفتح المجال لذهنية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بالانطلاق,وعلى افتراض حسن النوايا ووضع مصلحة العراق وتطوره أولا, بعيدا عن المحاصصات والتوافقات الطائفية والسياسية سيئة الصيت, فأن البرلمان والحكومة القادمة معنية بما يلي:

ـ التفكير الجدي والمسئول بحماية الطفولة المبكرة من خلال اعتبار رياض الأطفال جزء لا يتجزأ من النظام التعليمي والتربوي أسوة بالتعليم الابتدائي,ولعل ذلك ينسجم مع الحقائق العلمية التي تؤكد أن 80% من عقل يتكون في السنوات الخمس الأولى,و10% تتكون حتى العام السادس,بينما تتكون أل 10% الباقية من خلال التحارب والمواقف والخبرات التي يمر بها الإنسان في حياته,فأن ذلك يعني ضرورة التركيز على الحضانة ورياض الأطفال بتوفير كافة وسائل الرعاية الصحية الجسمية والنفسية والغذائية والرياضية وغيرها,ومن هنا تأتي أهمية دمج هذه المرحلة مع النظام التربوي الشامل وعدم تركها للجهود العفوية المبعثرة من قبل جهات غير تربوية حزبية وغير حزبية,وان تخضع هذه المرحلة للتخطيط والدراسة أسوة ببقية المراحل.

ـ الشروع بدراسة وإقرار التعليم الإلزامي إلى سن 16 سنة,أي اعتبار المرحلة الابتدائية والمتوسطة مرحلة واحدة بحلقات داخلية,لضمان النمو التربوي والنفسي السليم تحت سقف الإلزام وحماية الطفولة في هذا السن من الانحراف والتسيب والتسول,وتتحمل الدولة الغنية كالعراق كلفة الدراسة جملة وتفصيلا.

ـ رفع مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة ومن الدخل القومي,وبما ينسجم مع الحاجة الماسة لهذا القطاع في إعادة بناء بنيته التحتية ومع حجم الخطط التي توضع لانتشاله من الدمار الشامل الذي حل به قبل وبعد سقوط النظام,وان يجري تخصيص الميزانية في ضوء دراسات مسحية شاملة لكلفة المؤسسات التربوية والتعليمية بكل عناصرها المكونة,من أبنية ومناهج وكادر تدريسي وتربوي وأداري وكلفة الدارسين,وبالإمكان الاستعانة هنا بأخصائي الاقتصاد التربوي لدراسة حسابات الكلفة التربوية للوحدات التربوية والمؤسسات وعموم النظام التعليمي ,بعيدا عن التخمين والعشوائية في رصد المبالغ المالية.

ـ الشروع الجدي بحملات محو الأمية ومنحها صفة المشروع الوطني الشامل بعيدا عن حصر هذه الحملات بأحزاب تنفرد بها لتحويلها إلى مشروعات للكسب السياسي الرخيص كما جرى في حملات " التبعيث لمحو الأمية ",والاستعانة بخبرات الشعوب ودراستها في القضاء على الأمية ببعديها الأبجدي والحضاري.

ـ بذل الجهود الكافية لإعادة النظر بمختلف مراحل التعليم وتوصيفها لرفع مستوياتها بما يعادل المستويات الدولية,عبر الاستفادة والاستعانة بخبراء التربية المقارنة والتخطيط التربوي من العراقيين في الداخل والخارج لنقل تجارب بناء النظم التعليمية في العالم المتطور ومطاوعتها لظروف العراق,لضمان توفير كوادر بشرية تتلاءم مع متطلبات ظروف العصر,دون الإهدار بمستوى التعليم الذي يؤدي إلى تخريج أعداد كبيرة بمستويات تعليمية وتربوية متدنية لا تطابق المواصفات الدولية.

ـ نشر شبكات المكتبات المدرسية ومكتبات المحافظات في أنحاء العراق وإحياء ما دمر منها وحرق بعد سقوط النظام,وتنظيفها من فكر الدكتاتورية والتعصب الديني والطائفي,وإشاعة ثقافة استعارة الكتاب وتداوله على نطاق واسع لتشجيع الدارسين على الحصول على المعارف من مصادرها أينما وجدت,وكذلك إحياء الأرشيفات المدمرة والمحروقة بعد تمحيصها وتوصيفها وتصنيفها لإعادة الاستفادة منها.

ـ العناية بالمستوى التربوي والتعليمي للكادر التدريسي من مختلف المستويات من خلال دورات التأهيل التربوي والمهني,ليكونوا على صلة بما يستحدث في ميادين تخصصاتهم وطرائق التدريس المستجدة في هذا المجال,وتسبق في ذلك خطوة التخلص من كافة مزوري الشهادات ومن الدخلاء على هذا القطاع.

ـ إعادة رسم التخصصات في الكليات والجامعات والمعاهد المختلفة في ضوء حاجة البلد المستقبلية لمختلف التخصصات والاحتياجات وربطها بسوق العمالة من خلال التنسيق بين مختلف القطاعات وقطاع التربية والتعليم,ولكي لا ننوء تحت ثقل ظاهرة بطالة الخريجين,مع رفع ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي بما ينسجم مع مكانة هذه المؤسسات في المجتمع.

ـ ضرورة بناء المناهج الدراسية على أسس علمية تطابق المواصفات الدولية وإعادة إحياء الدوائر المتخصصة في تقويم وتطوير وبناء المناهج الدراسية في وزارتي التربية والتعليم العالي, والاستعانة بخبرات ذات الدوائر المتخصصة في الدول المرجعية.

ـ أعادة النظر في تسمية المؤسسات التربوية والتعليمية من مدارس  ومعاهد وجامعات ومراكز أبحاث,وإطلاق المسميات التي تعبر عن وحدة شعبنا وانتماءه التاريخي لهذه الأرض ولثقافة العراق المتسامح والمتنوع الأعراق والأديان,بعيدا عن المسميات التي تكرس مزاج الانحياز من طائفية ومذهبية وشتى ألوان الصراعات الاثنية والدينية ,وتناط هذه المهمة حصرا بلجان التربية والتعليم في البرلمان لتقرير الاتجاهات العامة بهذا الخصوص.

ـ العناية الكافية والموضوعية بعيدا عن روح التعصب بدراسة الأديان السماوية,وخاصة أديان المكون العراقي وتقديمها بصورة موضوعية دون تحيز أو تبني وجهات نظر مسبقة تفسد الوعي الديني وأهميته للمواطن وتدفعه نحو الانحياز لهذا الدين أو ذاك,مما يفسد حوار الأديان والتسامح عبر إشاعة التخندق والتعصب الديني والمذهبي.

ـ إدخال دراسة الكمبيوتر كدرس ضمن الخطة الدراسية في مراحل التعليم المختلفة وبمستويات تناسب الدارسين وتعميم شبكة الانترنيت مما يفتح آفاقا جديدة للطاقة التربوية المتجددة من خلال الاتصال والتدفق ألمعلوماتي الهائل,وأن يكون المعلم سباقا لإيجاد حالة من الموازنة بين وسائل الاتصال والإعلام بصفة عامة وبين المعلومات المدرسية عبر انتقاء المادة التربوية الصالحة,ولا ندع الطالب أن يكون ضحية للتدفق ألمعلوماتي العشوائي كيفما يشاء.

ـ الاستفادة من التلفزيون التربوي والفيديو كوسيلة تعليمية وهي جزء حيوي من الوسائل السمعية والبصرية المعينة التي تسهم في تشكيل آفاقا رحبة وجديدة وتضاعف من الروابط بين التعليم والاتصال وتسهل عملية الاستفادة من التجارب التربوية في مختلف التخصصات ومن مختلف البلدان,كالوقوف "على سبيل المثال لا الحصر" على ما يستجد من طرائق تدريس أو تجارب مختبريه في مختلف العلوم.

ـ الاهتمام الجدي بالنشاطات أللاصفية المختلفة في ميادين الفنون والآداب والرياضة,مثل الرسم,والنحت,والسباحة والرياضة بمختلف صنوفها,والموسيقى,والشعر ,والنثر ,والقصة والمسرح وغيرها,وكذلك تنمية المواهب ذات الطابع المهني مثل الزراعة,والنجارة,والصناعة,والكهرباء وغيرها وجميعها تسهم في الكشف عن المواهب والاستعدادات مبكرا وتسهل عملية توظيفها بشكل مثمر.

ـ نشر شبكة التغذية المدرسية لتقديم الوجبات الغذائية مجانا في إطار الدوام المدرسي للتخفيف عن كاهل الأسر الفقيرة ولتحسين ظروف التغذية لديهم تحت إشراف الصحة المدرسية,وكذلك العمل بنظام المعونات الدورية للمحتاجين من ملابس ومستلزمات مدرسية وحياتية عامة لتخفيف الفرو قات المختلفة بين التلاميذ ذوي المنحدرات الاقتصادية المتباينة,وكذلك تهيئة وسائل النقل للطلبة الذين يسكنون بعيدا عن أمكنة دراستهم لضمان حضورهم لليوم المدرسي والتخفيف عن ذويهم كلفة أجور النقل.

ـ العمل بتعليم اللغات الأجنبية ابتداء من الصفوف الأولى للمرحلة الابتدائية نظرا للمرونة العقلية التي يتمتع بها التلاميذ في هذه المرحلة لتقبل اللغة واستيعابها,وتحسين طرائق التدريس فيها وتعزيز جانب الممارسة والاتصال فيها عبر سفرات دورية منتظمة للدول من ذات اللغة المتعلمة.

ـ الرعاية الشاملة للمعوقين الذين وقعوا ضحايا للحروب والعمليات الانتحارية ومختلف مظاهر العنف وزجهم في النظام التعليمي عبر تصنيفهم طبقا لأعاقتهم الجسمية,والعقلية والنفسية,ووضعهم في صفوف ملائمة لأعاقتهم وتقديم الخدمات التربوية والتعليمية والصحية وإيجاد المهن الملائمة لهم على طريق دمجهم الكامل في المجتمع.

ـ تعزيز العمل المشترك بين البيت والمدرسة عبر لقاءات دورية منتظمة لبحث مشكلات التلاميذ والمساهمة في إيجاد الحلول لها.ويتزامن ذلك في بناء شبكة واسعة من الأخصائيين الاجتماعين والمرشدين التربويين والنفسيين في جميع المدارس العراقية لغرض الإسهام الفعال في حل المشكلات المختلفة ذات الطابع المتطابق مع الاختصاصات المذكورة أعلاه.

ـ تشجيع الطلبة على جهودهم وإبداعاتهم وتفوقهم الدراسي خلال السنة الدراسية وتقديم الهدايا ومختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي لهم,وكذلك العناية بالموهوبين من ذوي القدرات والكفاءات الخاصة النادرة باعتبارهم ثروة وطنية ويمكن أن تكون أعمالهم مقدمة لانجازات أكثر عمقا وتأثيرا في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية والتكنولوجية وغيرها.

أن قضية التربية والتعليم هي جزء من مفهوم الأمن الوطني للبلد,وأن أزمة هذا القطاع هي أزمة وطنية وأزمة نظام سياسي قبل كل شيء,ونظرا لكثرة المشاكل التي يعاني منها التعليم في العراق جراء ما وقع على هذا القطاع من سياسات عبثية في عهود مختلفة والى وقتنا هذا,فأن عدم الشروع بالإصلاح الجذري لهذه المؤسسة الهامة والتمادي في تدمير هذا القطاع لأغراض نفعية وحزبية وفئوية ضيقة,فأن مشكلاته سوف تتفاقم لدرجة يصعب معها الإصلاح,وتصبح المؤسسات حاضنة للتشرذم ألقيمي ومهددة للأمن القومي الشامل للمجتمع,ومكانا مواتيا لأرباع وأنصاف المتعلمين يشكلون عبئا على أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة.فهل يتحرك البرلمان القادم ليتحمل مسئوليته الكاملة لإصلاح التعليم ,انه تحدي كبير يواجه المسئولين العراقيين واختبارا لصدق نواياهم اتجاه قضايا شعبنا المصيرية !!!!!!.





 



299
نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية للعام 2010 بين:
احترام أرادة الناخب وتفسير ميكانيزم التصويت ـ محاولة سايكومعرفية

" إذا الشعب يوما أراد الحياة   فلابد أن يستجيب القدر "
                             أبو القاسم ألشابي

د.عامر صالح

أن النظم السياسية التي ترى في الإنسان قيمة عليا باعتباره مصدر السلطات التشريعية والتنفيذية تلجأ إلى صناديق الاقتراع لتقرير ممثليهم الذين يقومون بهذه المهمة,وان النتيجة النهائية لا تتوقف على ما يقوم به المرشح نفسه مهما بلغ من قدرات في الدعاية والتعبئة الجماهيرية,بل على ما يقوم به المصوتون لتقرير حجم الإجماع السياسي لهذا الكيان أو غيره باعتبار أن الانتخابات هي فرار جماعي تجسده عملية الاختيار,ومن المسلم به أن ذلك يعتمد إلى حد كبير على إدراك الشعب لقيمة ومكانة الصوت الانتخابي وعلى توقعاتهم للأفعال ما بعد الانتخابات وأيضا على إيمانهم وثقتهم ومقدرتهم وفاعليتهم في عملية المشاركة الواعية التي تجسدها ثقافة الانتخاب.

ومن الناحية الطبيعية والعقلانية وبعيدا عن دعايات المرشحين ومزاميرهم والتي تفوق أحيانا حتى حجم إمكانياتهم وخبرتهم في إدارة البلاد " رحم الله امرئ عرف قدر نفسه " فان السياقات المنطقية التي تدفع صوب الانتخابات والمشاركة السياسية الفعالة يجب أن تكون أسبابا اقتصادية والتي يكون هدفها تحسين ظروف الوجود والارتقاء بمستوى العيش وطمأنة الحاجات الإنسانية,وأسبابا اجتماعية والهدف منها تحسين أداء الجماعة وانتشالها من براثن الفرقة والتفكك والتعصب بمختلف ألوانه الديني والطائفي والقبلي والمناطقي والاثني.ودوافع أمنية حيث أهميته وضرورته في بعث الطمأنينة لدى المواطن والذي يشكل لبنة لازمة لانطلاق العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية " فالأمن أولا والبقية تأتي ",وكذلك أسباب فكرية قد تدفع الناخب إلى التصويت لتأكيد انحيازه ألمبدأي,وهنا لا نؤكد على ما هو الفكر,ولكن نؤكد على ضرورة الفكر ووجوده,ومن عدم أهلية وجوده استنادا إلى معايير التجارب الإنسانية الغنية,فالانحياز إلى أفكار " الصندوق الأسود المغلق " أثبتت التجارب الماضية إلى فشله باعتباره نموذجا لممارسة القتل الذاتي للوجود وإلحاق المزيد من الدمار والخراب والفساد وفقر الشعب وأهانته وتفرقته,أو على اقل تقدير هو الانحياز إلى مشروع " المراوحة في المكان ".

أن الشعوب والمجتمعات التي خطت خطوات راسخة صوب الديمقراطية تشكلت لديها منظومة عقلية راسخة لا تهزها الدعاية الانتخابية إلا في التفاصيل الثانوية,أي تشكلت لديها استراتيجيات معرفية وعقلية للانتقاء والتصفية والبحث عن البدائل على أسس استقرائية للواقع ورسم الطموحات للنهوض به,وهي استراتيجيات لا تخطئ إلا ما ندر,حيث تقترب من منهجية العقل وطبيعته في حل المشكلات,ابتداء من الإحساس بالمشكلات,وجمع التفاصيل الكافية عنها وعن مسبباتها والياتها,وانتهاء بفرض الفروض عنها وتبيان حجم تأثيرها والعوامل المتداخلة في صنعها,وانتهاء ببرامج وخطط لحلها والتماس الحلول المستقبلية لها,وعلى خلفية ذلك يندفع الناخب لاختيار البدائل الأصلح في السياسة استنادا إلى التجارب السابقة.

ويعزز ذلك كله نشوء منظومة فكرية ـ عقلية تقترب من مستوى الأداء النفسي للفرد غير قابل للمساومة,تقوم على بعض القناعات,لعل أبرزها هو أن الإيمان بالمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة هو مكون أساسي ومقدس ولا يمكن اغتصابه بمختلف الواجهات والممارسات التي ترغب في الإطاحة بالديمقراطية من الداخل أو الخارج,وأدراك المواطن أن تحسين ظروف العيش لا يأتي عبر مقاطعة صناديق الاقتراع والقبول بالأمر الواقع الذي يقرره الآخرين عنه,وتقرر ظاهرة " أنا أقرر " مزاجا نفسيا عاما لدى المجتمعات ذات الديمقراطيات الراسخة,بل أن هذا الاتجاه السلوكي والمعرفي تعززه النظم السياسية والتربوية منذ نعومة الأظافر وفي مظاهر مختلفة ابتداء من طريقة اللبس والشرب والحوار المتكافئ حتى مع الطفل وانتهاء بظاهرة تقرير النخب السياسية,وكذلك دور التنشئة الاجتماعية التربوية والنفسية في نبذ قيم التفرد والدكتاتورية السياسية والسلوكية العامة في مختلف مظاهر الحياة العامة,مما تجعل من المواطن أن يقف متأنيا ومتفحصا لظاهرة السياسة وما تنتج عنها من مظاهر سلوكية,وكذلك نشأة استقطاب واضح على خلفية إدراكية ـ معرفية ولنقل فكرية تجد لها تبريرا جدليا في اعتناق هذا الفكر أو ذاك بعيدا عن حالات الهيجان الانفعالي المدمر,فأنا شيوعي...لماذا,وأنا إسلامي...كيف !!!,وأنا علماني..كيف افهم ذلك,وأنا ملحد...ماهية المبررات,ويجري ذلك على خلفية تلاقح الأفكار بعيدا عن الإقصاء,وعلى خلفية البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المميز لهذه المنظومة العقائدية أو تلك,لا على أساس " ذبه بركبة عالم وأخرج منها سالم دون حسبان للعواقب ".

أن شعبنا العراقي اندفع صوب صناديق الاقتراع للمرة الثانية للانتخابات البرلمانية وبنسبة تجاوزت 60% والتي فاقت انتخابات البلديات التي تراوحت المساهمة فيها عند حدود 50%,وهي تعكس تعطش شعبنا للمشاركة السياسية,وتعكس بنفس الوقت مزاجا واعدا صوب الديمقراطية والتعددية وتعزيزا لانتهاج الأسلوب السلمي لتداول السلطة بعيدا عن فكر الدبابات والانقلابات العسكرية التي لا تزال جراحها لم تلتئم إلى اليوم.

أن قراءة لواقع التصويت في ضوء النتائج الأولية تؤكد أن نسبة تقترب من 40% من الذين يحق لهم الانتخاب لم يدلوا بأصواتهم,وهكذا بقيت أصواتهم دون جدوى خارج صناديق الاقتراع,وبدوافع شتى,وهي بهذا القدر أو ذاك لا تعود بنفع على مستقبل البلاد,أن لم تعمل على تكريس الأوضاع السابقة,سواء أن علم من هجر صناديق الاقتراع أم لم يعلم !!!.

لقد دخلت أصوات كثيرة لصناديق الاقتراع بدافع التجييش وسوق الناخبين لاعتبارات عاطفية,وقبلية,وطائفية,ودينية, مناطقية وأثنية,وتحت واجهات مفتعلة من الصراع التي لا دخل لشعبنا بها,وبهذا ذهبت الأصوات هدرا مضرة بالمشروع الوطني الكبير الذي يحمل في طياته ملامح عملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الشامل !!!.

لقد أتت صناديق الاقتراع بأصوات أخرى كان الهدف منها هو الإيقاع بالخصم السياسي أو الطائفي أو الديني بعيدا عن قناعة الناخب بالجهة التي صوت لها,وأن جزء من ذلك تعكسه الصراعات المختلفة لحقبة ما بعد سقوط النظام,وهو سلوك " نكاية بالغير ",انه صوت خاسر بطبيعته ومضر لا تبرره القناعة المبدئية في الانتخاب إلا ما ندر!!!!.

لقد ذهبت أصوات كثيرة هدرا تحت تأثير التراكمات البعيدة لما مضى متأثرة بثقافة التسلط والدكتاتورية المقيتة,أو ما يسمى بالجزء الخفي غير المرئي من الثقافة الذي تجسده بعض من الأنماط السلوكية والمعرفية المكنونة في الوعي الجمعي والتي تعبر عن نفسها بظاهرة الانتقام بكل الوسائل من الأوضاع والتغيرات الحالية والتي حصلت ما بعد 2003 وهي أصوات سيكوباتية تحارب الديمقراطية والتغير رغم توجهها صوب صناديق الاقتراع !!!.

هناك أصوات ذهبت إلى صناديق الاقتراع وهي التي نطلق عليها " بالصوت الذهبي " وهي أصوات مطمأنة ومطمئنه,عاقلة في لحظة الإدلاء به,وقد ارتأت مصلحة البلاد أولا ومصلحة فسيفسائه المتنوع,محاولة فيه التماس طريق الخلاص بعيدا عن  آثار الصوت الانتخابي المتشنج,اختارت فيه طريق الخلاص والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي !!!!.

وختاما تبقى تجربة الانتخابات تجربة وليدة في بلادنا ولعلها تكون فصلا مثمرا من فصول الاستقرار السياسي والاجتماعي ودرس تدريبي جيد للتمرس فيه على طريق طي صفحات مظلمة من تاريخنا السياسي جسدتها عمليات الاستحواذ وسرقة السلطة السياسية,فالحكم من الشعب وللشعب وبإرادته نستعين !!!!.















300
قبالة صناديق الاقتراع.... يدا بيد من اجل وجود أفضل !!!!!


د.عامر صالح


نتحدث بمزيد من الصراحة حيث لم يبقى إلا أيام معدودة تفصلنا عن انتخابات 2010 البرلمانية,وهي أيام حاسمة في مستقبل العراق وأجياله,ونقول أن التغير لا يأتي من تلقاء نفسه,صحيح أن الزمن لا انقطاع له ويحدث الكثير من المنعطفات وأغلبها ذات طابع سلبي إن تركت لفعل الإرادة العفوية,أن الزمن وحده لا يخلق أجيال تصنع النخب السياسية والكوادر المؤهلة,بل أن التغير التقدمي والايجابي هو وحده الكفيل بصنع إمبراطورية عراقية بمواصفات عصرنا المتسرع في تطوره في مختلف ميادين الحياة من صحة وتعليم وتقدم تكنولوجي ونظام سياسي بهي يربي أبناءه على الحب بدلا من الكراهية والإقصاء.

أن عراق اليوم محتاج أكثر من أي وقت مضى للتحييد الديني والطائفي بشكل خاص في ظل احتراب طوائفه التي تقوم على   تكفير بعضها البعض,ونحن نعرف أن أصل الانقسام الطائفي في أسلامنا الحنيف كما في مختلف الأديان هو سياسي من الناحية التاريخية وليس ديني والذي لازال مداره إلى اليوم يرجع إلى مسألتي الخلافة والإمامة وما شابه ذلك,ولئن الإسلام السياسي يشن حربا بسوس على العلمانية وقد تطول أكثر,لأنه يرفض مبدأها في فصل الدين عن الدولة,ومن شأن العلمانية أن تساعد الإسلام وغيره على استرداد أوضاعهما الطبيعية في وجدان الناس وتهذيب مشاعرها وانفعالاتها الدينية.

أن برنامج قائمة 363 يضمن لشعبنا قدرة إضافية وحكمة في الوجدان والعقل وقد يستغرق هذا المسار طويلا,ولكن بدايته في التماس الخيار الأول والمبدئي السليم,وان تجربة السنوات السبعة المنصرمة تؤكد أن العراق لا يصلح أن يكون عينة في العودة إلى القرون الوسطى,ولكي نرفع جميعا راية الإسلام النقي والأديان المتحابة نحتاج اليوم إلى ثورة في المفاهيم على غرار الإصلاح الديني في أوربا... فلا لبس السواد ولا تكفير الآخر يضمن لنل الديمقراطية والتقدم... أن المحبة الصادقة للرسل والأنبياء والأئمة الأطهار هي التي تضمن لنا خيار المستقبل بعيدا عن التأليب والمفخخات والاغتيالات وتصفيات رموز العراق الدينية قاطبة وبمختلف ألوانها وطوائفها وموضعها الجغرافي,من البصرة وبغداد والموصل وكركوك وغيرها.

أن قائمة اتحاد الشعب تضمن لنا الدين والمعتقد السياسي في جغرافية العراق المتنوع بدينه وأنتمائته السياسية بعيدا عن الهجرة والتهجير ألقسري وتضمن لنا الحداثة في الديمقراطية والعلمانية وسهولة التفاعل مع منجزات العصر في التقدم العلمي والتكنولوجي,كما تضمن لنا حب المسلم لأخيه المسلم ولأخيه في الإنسانية من الدين الآخر,وتلغي لنا حكم المناطق والمحافظات والشوارع والحارات والأزقة,تضمن لنا عراق فدرالي موحد,وتضمن لمواطنينا صحة موفورة تستند إلى آخر منجزات العلوم الطبية وليست عراق " حبوب وجع الرأس والبنسلين " وتضمن قدر معقول من الصحة النفسية في التكيف مع البيئة المحيطة وتقبل الآخر المتنوع,وتضمن لنا مزيدا من تكافؤ الفرص والخدمات التعليمية في مختلف مدن العراق وأريافه ومناطقه النائية.

أن الإتيان ببرلمان منزوع السلاح يتمتع أعضاءه بصدق النوايا ومحمي من قبل جماهير الشعب هو السبيل الوحيد لاستقرار العراق وبناء ديمقراطيته التي لا تزال قيد مخاض عسير,أنها مهمة صعبة لا يستوعبها خطاب اللحظة الهش ولا المغريات المؤقتة,أن شعبنا يتطلع إلى سياسيه الأوائل ذوي الحكمة والعزيمة المستديمة والذين ينتظرون الدعم والمساندة من قبل شعبنا أولا لإنفاذ العراق من براثن التخلف والجهل والأمية والتسقيط للأخر ونبذ الطائفية والتوافقية.

أن أيام قلائل تفصلنا عن صناديق الاقتراع ليقرر فيها المواطن شكل وجوده القادم,ولا وجود حقيقي إلا بحرية الإنسان والحفاظ على كيانه فهو الاثمن رأس مالا كم تقرره الأديان والفلسفات... فأنتخب قائمة اتحاد الشعب القائمة 363 ,أنها القائمة التي تضمن لك أصلاح النفس والدين والسياسة وتضمن لنا العراق في تنوعه الديني والعرقي والسياسي,عراق منفتح على الجميع في الداخل والخارج !!!!!.

301
حذار من " غيبوبة " الناخب في لحظات الإدلاء بصوته الانتخابي
على طريق انتخاب قائمة اتحاد الشعب



د.عامر صالح

من المعروف أن ارث النظم الفردية و الدكتاتورية كبير جدا ولا يمكن الاستهانة به أو دفع بلائه وإحلال بدائل القيم الديمقراطية وثقافة الانتخاب في مكانه دفعة واحدة,وضمن ثقافة الهيمنة السابقة والإقصاء والتهميش والعبادة الفردية والعقلية القبلية والولاء الهش لدولة الحزب الواحد أو الفرد,حيث تتحول هذه المكنونات القيمية إلى خزين في اللاوعي يتحكم في الكثير من سلوكيات الحاضر,ويتحول إلى موضوعات استثارة مستديمة وخاصة بعد عمليات التغير الجذري صوب صناديق الاقتراع لتقرير مستقبل الشعب واتجاهات تطوره, قد لا يعلم بها الناخب نفسه في أحيان كثيرة, وتتحول بفعل ذلك لحظات التصويت إلى حالات من غيبوبة العقل لا تتأثر بأحداث الحاضر وأزمته في البحث عن بدائل تضمن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وتفتح الأبواب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة,بل قد تندفع جماهير غفيرة تحت وطأة تأثير تجيشها بالخطابات الانفعالية القوية التي تسرق عقولها قبل عواطفها فتتركها فريسة للانفعالات,كما اعتادت عليها النظم الدكتاتورية والفردية بثقافتها وأغانيها وأهازيجها الممسوخة التي تعزف على أوتار انفعالاتها لتوقظ فيها نزعات الحماس اللاواعي,حيث تعرقل فيه حكمة العقل ومكانته في الخيار الانتخابي الحر,ويترك فيها الناخب مسلوب الإرادة محتكما إلى الهوى والعاطفة والانطباعات الآنية المخيفة وسلطة المزاج التي تعرقل الخيار العقلاني,وخاصة في ظروف أحزاب تمتلك قدرات هائلة من مال حرام وتطفل مذموم على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية واستخدام للماضي الأليم لرسم صورة الحاضر على خلفيته وإثارة النزعات العقلية الانقسامية من دينية وطائفية وقبلية ومناطقية وحتى سلالية وعائلية تعززها الإغراءات المادية والنفعية ذات الفائدة قصيرة الأجل,وخاصة في مجتمع خرج للتو من آتون دكتاتورية وشوفينية عاتية عبثت في المنظومة القيمية وزرعت في أوصاله الجهل والفقر والمرض والتخلف وعدم المساواة,وهنا نحذر شعبنا من استراتيجيات الشراسة لدى بعض الكيانات الانتخابية في إشاعة الكذب والخداع والوهم والإيهام التي تتدخل بقوة لتصنع رأيا انتخابيا مجافيا للعقل والحكمة مستخدما من العزف على أوتار الماضي الديني والسياسي في ظل مجتمع يعاني من اختلال اقتصادي واجتماعي,فقد تمتلئ أمعاء الناخب بالمال الحرام والهبات ولكنها ستجوع إلى الأبد بعد فرز الأصوات الانتخابية وتتبخر أحلام الناخب البريء وتتجدد دورة الكبت والحرمان والقمع الذاتي !!!!.

أن شعبنا الذي اختبر الآثار الوخيمة للتسلط والقمع وشراء الذمم عليه  أن يبقى اليوم متمتعا بنفس قوة حواسه في درء الخطر قبل وقوعه مرة أخرى,وعليه أن يندفع إلى صناديق الاقتراع بكثافة شديدة وبعقل متفرد متحملا مسؤوليته الكاملة اتجاه رسم ملامح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القادم,إن شعبنا اليوم لا يقاد إلى صناديق الاقتراع بقوة السلاح والقمع وقبضة الإرهاب لينتخب برلمانا أو قائدا للضرورة وبنسبة فوز مشروطة سلفا ليست بأقل من 99.5% كما اضطرته النظم السابقة لفعل ذلك,فهذه سلوكيات تقترب من فعل سوق القطيع إلى مذبحة جماعية وفقا لاحتياجات الزمان والمكان حيث ينعدم الحس الإنساني على الإطلاق,إن استراتيجيات المستقبل الشامل تستدعي من الناخب كانسانا إن يكون كما قررته طبيعته الإنسانية باعتباره أرقى مخلوقا يتمتع بصفات التقييم والتبوء والتخطيط والتدخل في تقرير النتائج وبناء النظام السياسي الذي يقرره بنفسه دون وصايا !!!.

أن مهمات كبرى اقتصادية واجتماعية وسياسية لازالت تنتظر عراق ما بعد2003 كاستكمال بناء مقومات دولة القانون عبر استقلال القضاء ونزاهته,واستكمال سيادة البلاد,وأشغال مؤسسات الدولة ووظائفها وفقا لمبادئ التكنوقراط والنزاهة الوطنية,وتأمين الخدمات المختلفة للمواطن من صحة وكهرباء ووقود,وتأمين تكافؤ الفرص في مختلف الميادين من تعليم بمختلف مراحله وصحة  وضمان اجتماعي, وتكريس المساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة وتأمين حقوق الأمومة والطفولة,وبناء العراق على أسس السلام والديمقراطية والعدالة,وتكريس تصور ايجابي وفعال لمبدأ الفدرالية لكردستان العراق بالشكل الذي يضمن وحدة العراق ويحفظ الحقوق القومية والثقافية والإدارية للمكونات العراقية الأخرى,وحل المشكلات التي تنشأ بين المركز وكردستان بروح من الحرص على النظام الديمقراطي الجديد ووحدته,ومكافحة البطالة وتحسين ظروف العيش الكريم,ووضع آلية لمكافحة الفساد في مفاصل المجتمع واعتبارها مهمة وطنية قبل كل شيء,وغيرها من المهمات العاجلة والإستراتيجية والتي تعني بمصير أجيال قادمة,والتي وجدت لها تعبيرا واضحا في قائمة اتحاد الشعب قبل غيرها.

إن المهمات المذكورة أعلاه ليست  سهلة وتستدعي تعبئة جهودا مخلصة للوقوف إلى جانب القوى المؤتلفة في قائمة اتحاد الشعب من شيوعيين ويسار وديمقراطيين وشخصيات وطنية,وعلى الناخب أن يتحمل مسؤوليته في الإدلاء بصوته بعيدا عن ضغوطات المغريات الآنية....أن العقل الإنساني بحكم طبيعته لا يختار إلا البدائل الأفضل فلا تسمح للنفاق والتزلف أليك بالخطب والوعود من جديد ليرمون بك مجددا في دهاليز غيبوبة العقل لسنوات قادمة...أن صوتك لا يقرر خيار اللحظة الراهنة بل يقرر مستقبل العراق كله....فأنتخب قائمة اتحاد الشعب !!!!!.





302
ليست دعاية انتخابية لقائمة اتحاد الشعب
شيوعي العراق ليست كشيوعي الدنيا !!!!!



د.عامر صالح


قد يكون من الصعب جدا أن تجد حالة توصيف أخلاقي واجتماعي ونفسي لنموذج الشيوعي العراقي في وسط منظومة التجمعات الشيوعية العالمية, فهو ينفرد بخصوصية عالية وتفرد يثير الدهشة,فالصدق والأمانة والإخلاص والنزاهة ودقة أداء الواجب واحترام الوقت والصداقة المتناهية للكتاب ومصادر المعلومة والعناد المعرفي في الحصول على ما يستجد في ميادين العلوم الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية,هي صفات لصيقة بشيوعي العراق قبل غيرهم,بل ينافسون شيوعي العالم ويغالون بذلك فيعتبرونها صفاتهم الخاصة قبل غيرهم !!!!.

لقد كنا في طفولتنا وشبابنا نتحسس شيوعي العراق ونعثر عليهم من خلال صفاتهم الشخصية وليست التنظيمية,وهي صفات تقترب من حالات التصوف والزهد والامتناع عن ملذات الحياة,رغم إن شيوعي العراق والعالم أكثر فهما لطبيعة الدوافع الإنسانية وضرورة إرضائها,إلا أنهم يمتلكون مقدرة أبداعية على التكيف مع ظروف الحياة المتجددة,لقد وجدناهم يقارعون الجوع والعطش والجنس والمغريات المختلفة,ولهم إمكانيات فريدة على تأجيل إشباع الحاجات الإنسانية,لحين أن يشبع غيرهم,أنهم " مكبوتين " ومناضلين من طراز خاص!!!!.

لقد اختبر شعبنا شيوعي العراق في ممارسة الأمانة والائتمان والتضحية قبل أن يختبرها من رجال " الدين الجدد " حاملي ألوية الفساد الإداري والمالي والأخلاقي والعابثين بسيادة العراق وأهله.... أن أمانة الشيوعيين يشهد لها رجال الدين قبل شهادة أنصارهم ورفاقهم,ويستحضرني في الذاكرة هنا احد كبار تجار محافظة ذي قار رجل الدين المعمم السيد علي المخازجي وهو وكيل بيع الأجهزة الكهربائية والافرشة والأثاث المختلفة في سنوات الستينات وبداية السبعينات,لقد كان هذا الرجل يستعين بشيوعي المحافظة المذكورة لشغل وظيفة المحاسب أو المسئول عن الوارد اليومي لشركته,وكان يستعين بالآخرين للعمل في مخازن المحلات !!!, لقد كان هذا الرجل يسأل المتقدمين لديه للعمل في مقابلات التعيين..... هل أنت شيوعي !!! تفضل عمي هذا مفتاح القاصة " الخزينة المالية ", وكان هذا الرجل يثق في الشيوعيين قبل ثقته بأولاده, ولعل من يتذكر هذا التاجر العريق من أبناء المحافظة المذكورة أن يكتب عنه المزيد من التفاصيل !!!!!.

وتمر عقود من الزمن على شيوعي العراق ليتأكد القاصي والداني أن صدقهم ونزاهتهم ليست تكتيكا لأغراض الكسب الرخيص, وليست من دعاة الخطاب المعسول للاستحواذ على الصوت الانتخابي وبأي ثمن...اليوم تتمنى الكتل السياسية بمختلف مشاربها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين أن تتحالف مع شيوعي العراق لتضفي على نفسها شرعية في الشارع العراقي ولتخرج بوجه ابيض أمام الناخب العراقي....ورغم محاذير شيوعي العراق في التحالف مع أي من كان وقد يكلفهم ذلك كثيرا,لأن اللعبة الانتخابية تحتمل مرونة قصوى تتجاوز فيها أحيانا حتى الإرث المؤلم مع الحليف الانتخابي,إلا إن صدق الشيوعيين مع جماهيرهم وأنصارهم يجعل منهم ممثلين للصوت الأصيل بدون رتوش,قد تفوتهم الفرصة الأولى والثانية,إلا إن الفرص القادمة لهم ولليسار ومناصريه حصرا وبهم تبدأ رحلة الآمان !!!!.

لقد عشت مع رفاق وأصدقاء في ديار الغربة ولسنوات طوال وعملنا سوية,وكنت أرى في مثالب البعض منهم خروج عن المألوف استنادا إلى المنظومة القيمية التي رسمناها لأنفسنا,وهي في بعض من جوانبها إفراط وتجني على رفاق الحزب وكأن الشيوعي العراقي طائر من طيور الجنة لا يخطأ,إلا إنني أراهم اليوم  من الطراز الأول المحافظ والمستميت,أدعوهم اليوم إلى أن ينفضوا عنهم غبار الغربة القاسي ليقفوا بجانب نصرة حزب الأحرار ومؤيديه من اليسار واليمين....العراق لا تتوفر فيه اليوم بدائل كثيرة...والبديل اليساري والشيوعي هو بديل الرحمة والأمان والحفاظ على المال العام....فالمعركة الانتخابية ليست بالضرورة أن تكون معركة عقائدية خالصة,أنها معركة برامج ومن الأولى بنا الوقوف مع برنامج الإنقاذ الوطني !!!!.

أن معارك العالم المتحضر اليوم هي معارك بدم بارد وبضمير صادق ومخلص لقضية الشعب,ليست معارك لاستلام السلطة بقوة السلاح لإقصاء الأخر أو نفيه من دائرة الحراك السياسي,أنها معارك من اجل البناء والتقدم الاقتصادي والاجتماعي يقررها الصوت الانتخابي وأرادته الحرة,ومن هنا تأتي أهمية تمركز أصوات الناخبين في كيان شيوعي أو يساري أو في قائمة تحالفيه من هؤلاء المناضلين...وهنا أؤكد أن المراهنة على القدرات الذاتية في النزول بقوائم فردية ذات أصول يسارية أو شيوعية هي محاولات على طريق بعثرة صوت الناخب العراقي وتقديمه "كلقمة صائغة " في فم القوائم الحيتانية,ويكون المرشح قد خسر نفسه وسببب في فوز القوائم الأخرى,ولتكن تجربة انتخابات مجالس المحافظات السابقة ماثلة أمامنا بكل تداعياتها,فكيف لنا أن نتصور برلمانا قادما يخلو من اليسار والشيوعيين والديمقراطيين وأنصارهم...انه تكريس لبرلمانات السنوات السابقة...وإذا كان المرء لا يلدغ من جحره مرتبين...فمن أين يلدغ هذه المرة !!!!.







   

303
" نكسة " الثامن من شباط/1963 وأبعادها التربوية والنفسية المضادة !!!!!


د.عامر صالح
أن الذكرى الفاجعة السابعة والأربعين لانقلاب 8 شباط الأسود تستحضر في ذاكرتنا كل أوجاع ومعاناة الوطن الجريح,من قتل وتعذيب وسبي وتهجير في الداخل والى الخارج,والذي جرى على الهوية الوطنية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية,مستهدفا كل نماذج النبل ورموز الخلق الرفيع لأبناء شعبنا وحركته الوطنية من سياسيين وتكنوقراط وكفاءات علمية وقيادات اجتماعية,أنها جريمة من الجرائم ضد الإنسانية,وليست جريمة ذات أبعاد قضائية فقط وفي حدود داخل البلد ومفاهيمه للجريمة,أن الجريمة الإنسانية "هي تلك الجرائم التي يرتكبها أفراد من دولة ضد أفراد الذين من دولتهم أو من غير دولتهم,بشكل منهجي وضمن خطة نلاحظها,والتميز في المعاملة بقصد الإضرار المتعمد بالطرف الآخر,وذلك بمشاركة مع آخرين لاقتراف هذه الجرائم ضد مدنيين يختلفون عنهم من حيث الانتماء الفكري أو الديني أو العرقي أو الوطني أو الاجتماعي أو لأية أنواع أخرى من الاختلاف".فقد أودت هذه الجريمة بعشرات الآلاف من مواطنينا الأبرياء وبآلاف العائلات في غياهب السجون متعرضين فيه لشتى صنوف القتل والإرهاب والتعذيب والدفن وهم أحياء,والذين لم تسلم رفاتهم إلى اليوم إلى ذويهم  وبدون قبور تزار.

لقد استهدفت هذه الجريمة كل قطاعات مجتمعنا بدون استثناء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال إيقاف عملية تقدمه الاقتصادي والاجتماعي وأرجعاه إلى الوراء,ولأن الشيوعيين العراقيين يستذكروها قبل غيرهم,لأنها ارتبطت برموزهم الوطنية وقيادتهم المخلصة للوطن أولا,إلا إن ما وقع من أثارها على شعبنا لاحقا وبفترات تاريخية جراء تسلط النظم الدكتاتورية المتعاقبة وما سببته من تشوهات في التركيبة الاجتماعية,وما ارتكبت من مجازر وحشية طالت كل الطوائف والأديان والقوميات والأعراق ضربت عمليات الاستقرار الاجتماعي في الصميم,وعلى الجميع تذكرها وأخذ الدروس والعبر منها,لأن ذلك يجنب "العراق الجديد " مخاطر الانزلاق في حصر مفهوم الجريمة وضحاياها في فئة دون غيرها...فالجريمة كسلوك يجب إدانته على نطاق واسع بغض النظر عن الجهة التي وقع عليها فعل الأجرام,وعدم السماح بحصره بأطر ضيقة ومحدودة واستخدامه لأغراض نفعية خاصة,فالضحية هو شعبنا بكل مكوناته...وما ارتكبته لاحقا الديكتاتورية والفاشية من جرائم ضد شعبنا هو شاهد على ذلك !!!!.

وبقدر ما كان " لنكسة " الثامن من شباط  من آثار سلبية وانعكاسات خطيرة,إلا إنها شكلت مصدرا أساسيا من مصادر إعادة تشكيل كيان الفرد العراقي أو الجماعات المختلفة المنضوية تحت النسيج الاجتماعي الواحد المتنوع,وفي كافة الأبعاد العقلية ,والنفسية,والوجدانية والسلوكية للأفراد والجماعات والأحزاب والثقافات الفرعية وعلى خلفية إزالة آثار الصدمة,فقد خلقت أولا لدى الحركة الوطنية دافعا قويا من رباطة الجأش المخضب بالأيمان " لإعادة البناء " تمثل في دافعية التعويض الهائلة في إعادة بناء الكيانات السياسية المعارضة للجبهة الفاشية,ولعل السرعة التي أعيد بها تنظيمات الحزب الشيوعي بعد الهجمة الشرسة عليه كانت من " معجزاته " والتي لا زالت راسخة في ذاكرة الأعداء قبل الأصدقاء,فقد نهض الحزب من جديد بعد إن تصور أعدائه أنها هذه نهايته لا محال!!!.

أن جيلا من الأطفال والشباب ولد وترعرع في خضم أحداث صدمة شباط وما بعده, وقف متسائلا ومتأملا عن أسباب فقدان واستشهاد الأخوة والآباء والأمهات والأقارب...وقد كبر تفكيرهم على أعمارهم أضعافا باحثين عن الذنب الذي اقترفه أهلهم وذويهم لكي تحل بهم هكذا فاجعة...لأنهم لا يتوقعون جنسا ينتمي إلى الإنسانية أن يمارس هذه الممارسات في القتل والتشريد ودفن الأحياء,لقد خلقت حالة من الوعي المضاد لأسباب الكارثة في البحث عن بديل أنساني للخلاص من المحنة وهكذا انطلقت المنظمات الطلابية والشبابية والنسائية والعمالية من جديد,وبزمن قياسي, إلى منابر للأعداد والتثقيف والتنظيم ...لقد خاب ظن النظام الفاشي !!!, فقد اتضحت مشاعر روح القوة والعزيمة والإصرار على الكفاح على وجوه الناس ومشاعرهم,لقد خلقت نتائج هذه الأحداث فرصا مواتية لبناء المهارات الفردية والتنظيمية لمواجهة جسامة الحدث وإيجاد أفضل وسائل التكيف مع آثار " النكسة " .

لقد برز أعلام الحزب الشيوعي العراقي بقدراته الهائلة الداخلية والخارجية لفضح النظام الفاشي عبر حملات التضامن مع شعبنا,وفرضت على النظام عزلة دولية خانقة,وقد رسخت مزيدا من ثقافة رفض القهر والظلم والذل,لقد اسقط الشيوعيون العراقيون المفهوم النفسي للدولة التي لا تقهر,وبهذا أزيحت مفاهيم الاستسلام كمنتوج للصدمة عبر إشاعة مفاهيم العزة والانتصار والإيمان بقضية الشعب العراقي العادلة في الديمقراطية والتقدم والحرية.
 

304
ليست دفاعا عن عزيز الحاج !!!!!


د.عامر صالح

أطلعت على مقال الأخ الفاضل عبد الصاحب الناصر والموسوم : "لا يا عزيز الحاج ,لا,إلى أين تسير بك الوحدة في باريس" والذي يتناول فيه عزيز الحاج متنقلا فيه ما بين انتقادات موجهة لعزيز الحاج  حول ارتباطه السابق بنظام صدام حسين,وأعترافته المعروفة لكل من تابع العملية السياسية آنذاك, وبشخص كشخص عزيز الحاج كان صدمة لأنصاره من القيادة المركزية أولا, وكذلك صدمة للحركة الوطنية برمتها.ولو" حالف الحظ "  لعزيز الحاج وخطه السياسي أن يسقط النظام السياسي آنذاك لكانت للحاج أنصبة تذكارية في كل أزقة العراق وحاراته" أفهم هذا ليست بشخص عزيز الحاج ولكن قد يحصل لكل القيادات الشيوعية آنذاك على خلفية مزاج الجماهير الحماسي والفطري وطريقة ارتباطه بقيادته التي كان يحركها دافع الخلاص من نظم الاستبداد,وقد كانت التضحيات كبيرة على الطرفين ,إلا إن حظ عزيز الحاج" المتمرد دوما" وحظ العراقيين جميعا أن يلقي القبض  عليه في ظروف غامضة...وهنا أستنجد بمقولة لفهد: " ذكي من يناور على ذقن البوليس"..... وما بعد ألقاء القبض عليه ورفاقه ووقوعهم تحت كماشة لا ترحم...نأتي هنا إلى قدرات الإنسان وقابليته على التحمل, أنها لحظات لا ندركها ألا حين الوقوع بمثلها بغض النظر عن التفاصيل " فالشيطان يكمن في التفاصيل"...الشاب السياسي عزيز الحاج أبن العائلة المرفهة ...الذي سجن وهو في عنفوان الشباب أكثر من عشرة سنوات في العهد الملكي لجرأته وقدم الكثير في بناء تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي وجهازه الإعلامي في الداخل أو الخارج.....لقد استدعاه الحزب من الخارج في نهاية الستينات قبل الانشقاق لإعادة تنظيمات منظمة بغداد, فهل كان الحزب الشيوعي العراقي غافلا لإمكانيات عزيز الحاج.لقد قدم الحاج أخيه الأصغر عبد اللطيف الحاج شهيدا للحزب والذي كان مسئول الخط العسكري لتنظيمات معسكر أبو غريب وقد تم تصفيته على أيدي البعثفاشية في 8 شباط 1963 وهو طالبا في كلية الطب, كما تعرضت أسرته إلى كثير من المعاناة في مختلف الفترات من تاريخ العراق ومع هذا فأن عزيز الحاج أشار في مذكراته الموسومة "شهادتي للتاريخ" منتقدا نفسه بقوله:"أن سقطتي كان وقعها كبير....." وهي حالات نادرة من الاعتذار السياسي لقيادي!!!!!.

هل يجوز للأخ المهندس المعماري عبد الصاحب والذي يفترض أن يتمتع بحس جمالي ومرهف باعتباره مهندسا معماريا أن يتناول عزيز الحاج بهذه الطريقة البعيدة كل البعد عن عرف الحوار السياسي البناء وتبادل الآراء,أعتقد أن الأخ عبد الصاحب كان منفعلا,وللانفعالات خصوصياتها التي تقتل العقل في لحظة ما....ولكنها حالات إنسانية على أية حال !!!!.
 
أما أنتقالة عزيز الحاج إلى تمثيله العراق في منظمة اليونسكو" المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم " فقد كانت حياته الشخصية محاطة بطاقم من المخابرات العراقية الصدامية والضغوطات التي حرمته حتى من اللقاء بأفراد أسرته وهي أحد أسباب عزلته إلى اليوم في باريس كما يعيب عليه السيد عبد الصاحب تلك العزلة,وقد حرموا الحاج حتى من الراتب التقاعدي باعتباره موظفا في الدولة العراقية !!!,صحيح كان بالإمكان لعزيز الحاج "الثوري" أن يخرج عن صمته,ولعل عزيز يجيب عن ذلك....انه عمل في منظمة اليونسكو لخدمة قضايا التربية والتعليم وقدم الكثير باعترافات كارهيه ومحبيه من العرب والعراقيين بعيدا عن السياسة,مع بعض الاستثناءات في محطات كتابية كان يفترض على عزيز الحاج عدم المشاركة بها  !!!.

أما حالة انتقال عزيز الحاج من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين,ونقصد بذلك مناصرته للسياسة الأمريكية في العراق وغيره,وخاصة بما يعني إسقاط نظام صدام حسين وبقاء القوات الأمريكية وغيرها من الأمور فأعتقد أنها حالات نفسية تعبر عن حجم ما وقع عليه من أثم وعدوان أو ما يسمى بردة الفعل من الإحساس بالاضطهاد,وأؤكد بنفس الوقت أن الانتقال إلى "مدايات يمينية" كما تفهم,فهي تشكل اليوم على ما يبدو جزء من سمة العصر,إلا يعتبر مشاركة الأحزاب الدينية في البرلمان بدعة وكل بدعة ضلال وحرام...ونكتوي جراء ذلك بأفعال الهجين السياسي من عمليات إرهابية وقتل وفساد ,لأنها غير مؤمنة بالعملية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة,ويشارك عزيز الحاج في أرائه الكثير من الكتاب وبتفاصيل أكبر,إلا أن مشكلة الحاج انه يتحدث عن الظواهر السياسية بصراحة تامة,ولازال البعض يتحدث عنها بجرعات بطيئة,قد لا يجيد الحاج فن السياسة باعتبارها فن الممكن وكثوريته السابقة !!! ....لم يذكر عزيز الحاج أسماء العاني والمطلك باعتبارهم الوسط السياسي ,فكيف لصق  الأخ الصاحب ذلك ذكراهم بعزيز الحاج, ونحن نعرف أن الوسط السياسي يتجاوز كثيرا مظلة هؤلاء ....... أنها حالات من التوجس السياسي ؟؟؟؟؟.

أما دعوة السيد عبد الصاحب لعزيز الحاج بقراءة مقال عبد المنعم الأعسم والموسوم " السقوط " فأسمح لي يا عزيزي " ولعلك أخي في الفكر أو الإنسانية" أن أقول لك أنها قراءة مبتورة مقلوبة ومتشنجة ومتأثرة فقط بعنوان المقال,أدعوك لقراءته مرة ثانية,فالمقال في سطوره الأخيرة هو اعتذار ضمني لحالة عزيز الحاج وللكثيرين وختاما أقول لك أن الأعسم بهدوئه وذكائه والحاج  بصبره قد يكونا هما الصائبين,أما الانفعالات فبقدر ما تكون لازمة وضرورية للعمل,إلا إن الإفراط فيها يحجب العقل عن الرؤية ويضيع فرص الحوار المثمر !!!!!.







305
كي لا تتحول الشراكة الجنسية إلى كراهية متبادلة !!!
في سيكولوجيا فهم الجنس على خلفية مقال البديري

" أعظم امرأة هي التي تعلمنا كيف نحب ونحن نكره,وكيف نضحك ونحن نبكي, وكيف نصبر ونحن نتعذب "
                                                                                                         سقراط
 


د.عامر صالح


لم يجري الحديث عن الجنس والعلاقات الجنسية كما هو حال الحديث عن السياسة في الصحافة اليومية نظرا لتابويته القاسية من جهة والجهل في ماهيته من جهة أخرى,علما أن وراء السياسة والتحليلات السياسية والفضائح السياسية يكمن الكثير من تأثيرات الدوافع الجنسية ,ولذلك تثير الكتابة عنه حتى وأن اتخذ منه مدخلا لإثارة قضية أوسع بكثير من محدودية العامل الجنسي المباشر زوبعة من الردود تتجاوز أضعاف الردود والتعليقات عن ما يكتب في السياسة,ناهيك عن أن الكثير مما حصل من انجازات في الفن والعلم والفلسفة كانت رموزه المبدعة ذات حياة "جنسية خاصة" ومتأثرة بالدافع الجنسي,فكيف والحال هذه إذا كتب عن هذا الموضوع أو التنويه بأهميته به من قبل كاتبة امرأة في مجتمع يعاني الأمرين في الحديث عن الخاص المشروع !!!.

لقد أثار لديه المقال الذي كتبته الكاتبة السعودية نادين البديري والموسوم " أنا وأزواجي الأربعة " الرغبة والتأمل في المحتوى والدوافع التي تكمن وراءه وبهذه الجرأة غير المعهودة التي فاقت جرأة نوال السعداوي وغيرها في مجتمعنا المغلق,قد يصح تسميته مناورة ذكية لرفع سقف مطاليب العدالة والمساواة للمرأة من خلال دغدغة عواطف الرجال المفرطة,مما حدي بالبعض منهم من خلال تعقيباته على مقالها أن يكون زوجها الرابع أو من مقبلي أياديها " كما هي العادة في بعض الدول الأوربية وخاصة الشرقية "والتي لازالت هذه العادة مقتصرة لدينا على تقبيل أيادي كبار السن من الذكور وأحيانا من الإناث في المناسبات الدينية وغيرها !!!, كما دفع بعض المتفلسفين بتقديم النصائح لها بعدم الزواج من أربعة لأنه يسبب أمراضا وعدم معرفة للأب الحقيقي للطفل القادم !!!,كما نسي البعض الأخر أن البديري ليست من بائعات الهوى كما يحلو له في مخيلته أن يراها,أنها صاحبة مطالب...اختارت اللحظة والشعار المناسب لخلق حالة استنفار في التعبئة لقضية المرأة ومطالبيها العادلة,وقد وفقت في ذلك كثيرا وهذا ما عكسته الردود الصالحة حول المقال !!!!.

قد يثير استغراب القارئ استخدامي لمفهوم " الشراكة الجنسية " وكأن العلاقة الإنسانية بالمرأة محصورة فقط بالعملية الجنسية المباشرة والتي نفسرها عادة " بالتقاء جسدين ",إلا إنني اعني هنا بالحياة الجنسية كاملة , حيث تقرر الكثير من مستقبل الشراكة في المفهوم الواسع وهي مدخلا لازما لهذه الشراكة,وعلى خلفية ذلك أيضا تأتي الأهمية التربوية والنفسية لفهم الجنس والشريك الجنسي إن كانت عشيقة,أو زوجة أو أي شكل أخر من أشكال الشراكة الجنسية المؤطرة بظروف الثقافة السائدة هنا وهناك,وقد نستبعد هنا حالات الاتفاق الجنسي الآنية أو المؤقتة التي تعكسها حالات "بائعات الهوى" أو" بائعي الهوى" أو حالات " الحب قصير الأمد " والناشئة على خلفية الإشباع المؤقت للدافع الجنسي التي تقررها حالات الكبت وغياب البدائل,وقد نعارض هذا النمط من الإشباع الغريزي,إلا انه لا يخلو من بعض المظاهر الايجابية على ممارسيه عند تناوله من الناحية المجردة فقط !!!!.

وننطلق هنا استنادا إلى أهمية الناحية الجنسية في حياة الإنسان كما رأتها الفلسفات والأديان والعلوم "بغض النظر عن الحلول المطروحة لها",فهي ناحية مهمة من نواحي الحياة الإنسانية,وهي حاجة ملحة ودائمة تتشكل مبكرا في حياة الإنسان وتستمر دون توقف أو إشباع,وأن السعي إلى إرضائها لا يمثل كونها حاجة بيولوجية تضمن البقاء فحسب,وإنما تمثل حاجة نفسية تخدم أغراض المتعة والاستئناس وتكون الحوافز المهمة في الحياة الإنسانية,بل أن هذه الأغراض الأخيرة سبقت من الناحية التاريخية اكتشاف الجنس كمصدر للإخصاب والتكاثر.وأن أهمية الحاجة الجنسية بما في ذلك السعي لإرضائها وطمأنتها له اثر كبير في عملية نمو الشخصية وتكاملها وعلى مقومات الحياة النفسية وعلى مظاهر الحياة السلوكية وعلى الطريقة التي يتفاعل فيها الفرد مع محيطه ومع الحياة بشكل عام,وقد يبدو لبعض الناس وكأن الجنس في حياتهم لا يمثل إلا كونه طاقة غريزية محددة بالرغبة والإرضاء البيولوجي,إلا إن البحث الدقيق في حياتهم لابد أن يظهر بعض نواحي العلاقة بين الجنس وبين حياتهم النفسية والسلوكية,وعلى ذلك فانه يتعذر على احد أن يجزم بخلو حياته النفسية من العوامل الجنسية مهما بدا وكأنه مجرد عن تأثيرها.

أن الحاجة الجنسية لدى الإنسان إلى جانب حاجات أولية أخرى لم تتغير في جوهرها عن دونه في سلم التطور البيولوجي,إلا أن رقي الإنسان ومكانته واكتسابه التفكير المقترن في اللغة ونشأة الثقافة وما ارتبط بذلك من منظومة قيمية وما أفرزته من ضوابط ومحددات للسلوك هو الذي غير في كيفية إشباع الحاجات وعملية التحكم بها وتقرير مكان وزمان ودرجة التكرار في عملية الأشياع,وبهذا أضفي بعدا إنسانيا تهذيبيا على تلك الغرائز,ولابد من الإشارة هنا إلى أن جميع الغرائز أو الحاجات الأولية والثانوية تعود أصلا إلى غريزتين أساسيتين هما: غريزة حفظ الذات وحفظ النوع,أو غريزة البقاء والغريزة الجنسية.ويقول فيلهلم رايش في كتابه " المادية الجدلية والتحليل النفسي ":"كان فرويد يفرق من بين الدوافع مجموعتين نفسانيتين رئيسيتين,غير قابلتين للتجزؤ أبعد من ذلك,وهما دافع البقاء والدافع الجنسي,استنادا إلى التفريق الشعبي ما بين الجوع والحب.وجميع الدوافع الأخرى,حب السيطرة,الطموح,الشره للربح إلى أخره,يعتبرهما فرويد تكوينات ثانوية,تفرعات لهاتين الحاجتين الرئيسيتين.وبالنسبة لسيكولوجي المجتمع سيكون لنظرية,بأن الدافع الجنسي يظهر في البدء استنادا إلى الدافع للغذاء,أهمية كبيرة,فيما لو أمكن إيجاد صلة مع مقولة لماركس,بأن الحاجة الغذائية تمثل في الواقع الاجتماعي أيضا أرضية الوظائف الجنسية للمجتمع.ويضيف أيضا:" لقد تمكن الفكر الاقتصادي الجنسي أن يتابع سيره بضع خطوات في مسألة علاقة الحاجة الغذائية بالحاجة الجنسية,فالحاجة الغذائية توافق هبوطا في التوتر أو في الطاقة,لذلك لا يجري إرضائها إلا بإدخال الطاقة,بينما الحاجة الجنسية يجري أرضائها بإخراج الطاقة أو تصريفها.هذا ما يفسر أن الجوع قد يشارك أو يشارك فقط بصورة غير مباشرة في بناء الجهاز النفسي,بينما الطاقة الجنسية هي القوة البناءة أصلا,الايجابية,الإنتاجية لما هو نفسي ".ويقول كذلك:"والواقع الاجتماعي يؤثر على الدوافع البدائية مقيدا ومعدلا ومشجعا دون توقف.إذ ذاك يتخذ الدافعان الأساسيان مسلكين مختلفين .فالجوع أكثر عنادا وصرامة,وأشد إلحاحا على الإرضاء الفوري من الدافع الجنسي.ولا يمكن كبت الجوع في حال من الأحوال مثل الدافع الجنسي.أما الدافع الجنسي فهو قابل للتعديل ومطواع وقابل للتصعيد,ويمكن عكس ميوله الجزئية إلى ضدها,لكن دون إمكان التنازل التام عن الإرضاء.والطاقة التي تصرف في سبيل المنجزات الاجتماعية,وكذلك المنجزات التي ترضي الدافع الغذائي,تنحدر من اللبيدو" الطاقة الجنسية ".أنه القوة الدافعة للتطور النفسي,لحظة أن يقع تحت تأثير المجتمع".وعلى هذا الأساس فأن الطاقة الجنسية قادرة على التعبير عن نفسها في حالة عدم التفريج عنها بمختلف مظاهر السلوك والأداء والأعمال المختلفة: الأدبية والعلمية والفنية والنشاطات الترويحية وغيرها ضمن المفهوم السيكولوجي لتحوير الدافع, إلا إن مبدأ إشباعها طبيعيا يبقى قائما وملحا.

وقد قام العديد من العلماء من خلال البحث العلمي في رفع الحصار التقليدي على الأمور الجنسية وفي إزالة الكثير من الموانع والحواجز التي تعترض هذه الناحية الهامة من تجربة الإنسان,وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر هنا فرويد وجماعته من أصحاب مدرسة التحليل النفسي,وكذلك أبحاث ماسترس جونسون عن الاستجابات الفيزيولوجية الجنسية,وأبحاث ايزنك عن العلاقة بين الجنس والشخصية ,وغيرها من الأبحاث الاستبيانية أو المختبرية أو السريرية للقضايا الجنسية.وقد كان من شأن هذه أنها نقلت المواضيع الجنسية من نطاق المنع والتحريم والكتمان والغموض إلى مجال البحث العلمي والموضوعي حالها حال الجوانب الأخرى الهامة في حياة الإنسان.وقد أدت هذه الأبحاث إلى تقليص الفجوة القائمة من الجهل في الأمور الجنسية ومحلها الصحيح في حياة الإنسان,كما ساعدت في التخفيف من المعاناة الإنسانية الناجمة عن الجهل في فهم النواحي المرضية المباشرة وغير المباشرة من هذا الموضوع,وساعدت في فهمنا لعمق الرابطة بين النواحي الجنسية والنواحي الأخرى من حياتنا الإنسانية من اجتماعية وحضارية وصحية ونفسية واقتصادية.وبالرغم من هذه الأبحاث الواضحة الواسعة والصريحة فأن التحيز والتكتم والأعراض  عن الإفضاء لا يزال سيد الموقف  في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وبعض من المجتمعات غير الإسلامية.ولعلي هنا في سياق أهمية الجنس ودلالته الصحية والنفسية للشريكين أن أشير إلى أبرز فوائده كما تفصح عنه الأدبيات السايكوـ طبية :

ـ أنه يسهم بشكل فعال في علاج حالات الأرق الليلي
ـ يساعد على حرق الدهون وتعزيز جهاز المناعة
ـ يساعد على تهدئة القلق والتوتر ويحد من حالات الإحباط
ـ يسهم بشكل جيد في الحد من الاكتئاب من خلال الاستمتاع وبعث البهجة
ـ يساعد انتظام الممارسة الجنسية على تألق البشرة ونضارتها, بعكس ما كان شائعا بأنه يسبب تعجيز البشرة
ـ أن الممارسة الجنسية تحفز المخ على إفراز الأندورفين المسكن للآلام
ـ الممارسة الجنسية المنتظمة تؤدي إلى تنظيم الدورة الشهرية
ـ يساعد الجنس على الشفاء من ألآلام العضلية  بسبب ما يؤدي إليه من استرخاء عضلي
ـ يساعد الجنس يشكل ملحوظ على تنشيط الدورة الدموية وتقوية العضلات
ـ يسهم بشكل فعال في تقوية الجهاز العضلي فهو يقي من هشاشة العظام في النساء بعد سن اليأس لأنه يساعد على إفراز هرمون الأستروجين والجنس يؤخر الشيخوخة الشكلية لدى النساء بعد سن الأربعين
ـ تساعد الممارسة الجنسية المقترنة بالإشباع والرضا الجنسي على تهدئة نوبات الصداع النصفي أو داء الشقيقة
ـ إن الممارسة الجنسية المنظمة تسهم بشكل كبير إلى الحد من سرطان الثدي والرحم

وإذ أشير هنا إلى فوائد ممارسة الجنس وأهميته فلا أعني بذلك  تلاقي جسدين على مضض لأحداث الفوائد المذكورة أعلاه,أنها حالات من التوافق والتفاهم الذي يعتمد بقائه وتجدده على وجود مناخ من الثقة والمودة بين الشريكين,لأن تدهور العلاقات الجنسية بين الشريكين يعكس تدهور العلاقات الشخصية بينهما,وعندها يضعف الحب فيصبح الجنس عبئا ثقيلا لكلاهما,بالإضافة إلى انعكاساته الخطيرة على الاستقرار الأسري والدفئ العاطفي الذي يطال ليست فقط طرفي العلاقة المباشرة ,بل يطال الأطفال ونموهم الانفعالي عبر مختلف إيماءات عدم الرضا بين الشريكين.ومن هنا تأتي أهمية التصور الايجابي لهذه الشراكة باختلاف مراحل العمر...دون الانسياق وراء مكنونات الذاكرة المبكرة للطاقة الجنسية الهائلة...فمراحل العمر يجب أن تدفعنا إلى الموضوعية والتفكير في وسائل إرضاء هذا الدافع استنادا إلى الثقافة الجنسية بين الشريكين ومقدرتهما في الحفاظ على التواصل الجنسي بأشكال مرنة وحيوية,فالشريك الذكر ليست كما يحلو له التفكير به في عز الشباب,ولا الأنثى في عنفوانها ...ويبقى الحب هو القاسم المشترك في العثور على الحلول,وكي لا تتحول الشراكة إلى أقامة جبرية,فالخبرات المتراكمة والذاكرة الجميلة لكلا الشريكين يمكن أن تتحول إلى طاقة سايكوـ جنسية متجددة دوما ترفد الشريكين بعوامل الاستقرار والبقاء بعيدا عن هموم العمل وصعوبات العيش...وهي أقوى بكثير من فاعلية أقراص " فياغرا " وأثارها الجانبية,وأفضل من جرعات  الهرمون الجنسي الأنثوي ومخاطره !!!!!!.
 
  


306
سيكولوجيا الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة : بين ناخب بريء ومرشح ديماغوجي

" لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا"
                                            علي بن أبي طالب(ع)

د.عامر صالح


يثار الجدل حول  الانتخابات البرلمانية القادمة وما تفرزه من نتائج, وقد لا يكون من باب المفاجأة في عدم إيجاد هيكلية جديدة تختلف عن سابقتها لأشغال السلطتين التشريعية والتنفيذية,الأمر الذي يؤدي بدوره إلى عدم إحداث نقلة نوعية صوب الديمقراطية الحقة التي تنقل البلاد إلى خيارات واقعية تعزز فيها مكانة الاتجاه العملي ليخرج البلاد من أزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية,وقد يحصل بعض التحسن الشكلي للمكونات الجغرافية والطائفية للاندفاع نحو المشاركة في الانتخابات وخاصة المنطقة التي يطلق عليها " المنطقة الغربية " وكذلك القوى السياسية التي يطلق عليها بذات " الأصول البعثية ",نتيجة لإحساسها بعدم جدوى مقاطعة العملية السياسية من منطلق حسابات الربح والخسارة,إلا أن المشكلة لا تكمن  في ضعف أو اتساع نطاق المشاركة الشعبية في الانتخابات فقط,بقدر ما يتعلق أيضا بصدق البرامج الانتخابية المعلنة وبحسن النوايا, إلى جانب القناعة المطلقة بالتداول السلمي والديمقراطي للسلطة السياسية,وإلا فالجميع يخسر العراق,وتصبح البرلمانات القادمة حاضنة للإرهاب وأعمال العنف وداعمة له,وخاصة في ظل الاحتماء الجغرافي ـ الطائفي للكتل السياسية الكبيرة وتشددها في الحصول على المزيد من المكاسب والاستئثار بالسلطة المشرعن,يقابله في الجانب الأخر تكهنات أولية مفادها غياب كيانات سياسية عديدة صغيرة عن البرلمان القادم على خلفية صدور قانون الانتخابات الأخير الذي أضفى الشرعية في مصادرة أصواتها في حالة عدم فوزها بالنصاب لصالح الفائزين الكبار,وتلتقي سلوكيات الإقصاء هذه مع الكثير من النوايا غير الحسنة في عدم رؤية العراق بلدا آمنا ومستقرا وديمقراطيا !!!!.

قد يبدو من الصعب تفسير آلية السلوك الانتخابي والعلاقة التفاعلية بين الناخب والمرشح والعوامل التي تتحكم في العلاقة بينهما في ضوء سيكولوجيا الاتصال وعلم النفس الاجتماعي المعنيان أكثر من غيرهما بدراسة سيكولوجيا الانتخابات,لأنها تعبر عن مظهرا معقدا من السلوك يصعب التحكم فيه وضبط متغيراته المختلفة, إلا أن البحث في أروقة الفكر السيكولوجي والاجتماعي يضعنا أمام بعض المعايير التي تصلح محكا للتعرف على السلوك الانتخابي المتمثل بين مرسل( مرشح) يبث رسالته الانتخابية إلى مستقبل( ناخب),وهنا يستخدم المرشح مختلف الوسائل والقنوات والتأثيرات( النزيهة وغير النزيهة ) للاستحواذ على صوت الناخب.وقبل الدخول في تفاصيل العلاقة السيكوـ سياسية التي ستهيمن على أجواء الانتخابات العراقية للدفع باتجاه قبول نتائج قهرية مكره عليها المواطن العراقي,أرى من الضروري الإشارة إلى بعض الاتجاهات والمفاهيم الأساسية التي يجب تثبيتها كمؤشرات لدراسة السلوك الانتخابي,وهنا من المسلم به أن عملية الانتخابات تعتبر من الإشكال الرئيسية للمشاركة في المجتمعات الديمقراطية في اتخاذ مختلف القرارات ورسم السياسات العامة وأشغال مختلف المناصب الحساسة ذات الصلة بمصير البلاد ومستقبل العباد,وهناك الكثير من العوامل التي تؤثر على السلوك الانتخابي وتأتي في مقدمتها العوامل السايكوأجتماعية,لذا يميل أخصائي علم النفس الاجتماعي وعلم نفس الاتصال في دراستهم للسلوك الانتخابي إلى الاهتمام بمنظومة العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية المسئولة عن دعم الأحزاب السياسية وملاحظة الصلات والروابط بين الطبقة الاجتماعية والمهنة والانتماء الأسري والجنس والعمر من جهة وسلوك الناخب واندفاعه لخيار ما من جهة أخرى,حيث تشكل العوامل المذكورة أعلاه الغطاء السايكوـ سياسي والعقلي للخيار الانتخابي.

وهناك العديد من الاتجاهات في تفسير السلوك الانتخابي فهناك مثلا الاتجاه البنائي( أو السوسيولوجي ) التي تركز على تأمل العلاقة التفاعلية بين البناء الفردي والبناء الاجتماعي وتضع الصوت الانتخابي في سياقه الاجتماعي,وتحاول أن تكشف عن تأثير بعض المتغيرات على التصويت,كالطبقة الاجتماعية,أو اللغة القومية,والدين والفرو قات  الريفية والحضرية والقبلية؛وهناك أيضا الاتجاه الايكولوجي الذي يربط أنماط التصويت ببعض السمات الأساسية المميزة للمنطقة الجغرافية( الحي,المنطقة,الإقليم أو الدائرة الانتخابية)؛وكذلك الاتجاهات المنتمية إلى علم النفس الاجتماعي التي تربط الاختيارات الانتخابية بالميول أو الاتجاهات النفسية للناخب مثل الانتماء الحزبي للناخب,واتجاهاته نحو مختلف المرشحين؛وأخيرا اتجاهات الاختيار النفعي التي تحاول تفسير السلوك الانتخابي كمحصلة لمجموعة من حسابات الربح والخسارة والتي يقوم بها الفرد بشكل نفعي وهي الحسابات التي تحبذ درجة الميل إلى اختيارات انتخابية معينة من واقع القضايا المطروحة والسياسات التي تؤمن بها الأحزاب المختلفة أو المرشحون المختلفون.

قد نجد هنا وهناك من تبرير لخيارات الناخب العراقي على خلفية العوامل والاتجاهات الأنفة الذكر,إلا إن الخلاف حول دوافع هذا الخيار أو ذاك في ظروف عدم الاستقرار السياسي,وفي ظل استمرارية وبقاء آثار صدمة الاحتماء,حيث يلجأ الجميع مكرها إلى طائفته أو قوميته أو منطقته الجغرافية للاحتماء في ظل غياب الأمن الشامل,الذي يفترض على الدولة العراقية توفيره,كي تفسح المجال أمام إرادة المواطن الحرة بالانطلاق والنمو بعيدا عن مختلف الضغوطات,بما فيه إرادته في الانتخاب وإدلاء صوته ,وضمن هذه التعقيدات المقترنة بظروف الفاقة والفقر وضنك العيش فأن رموز الطوائف والأحزاب على هبة الاستعداد لتحويل أصوات الناخبين من أبنائها إلى مشاريع استشهاد جماعية قبالة صناديق الاقتراع !!!!.

وعلى خلفية ذلك فأن الانتخابات العراقية القادمة سوف تؤسس على قاعدة ناخب مستضعف يبحث عن الأمن ولقمة العيش,ومرشح " ماكر " في غالبيته يمتلك السلطة والمال ومختلف الإمكانيات للفتك "الرحيم" بالناخب واستلاب صوته,وسوف يقوم المرشح بتجيش الجماهير الغفيرة والفقيرة مستندا إلى الخطابات الطنانة التي تسرق قلوب الكادحين والمعدومين وتوقظ فيهم نزعات الحماس اللاواعي فتعطل لديهم منطق العقل وتطلق لديهم العنان للغرائز الأولى والانفعالات البدائية لكي تكون سيدة الموقف الانتخابي.

وفي غمرة الدعاية الانتخابية التي بدأت طلائعها تظهر للأفق خارج بدايتها المقررة وفقا للقانون,فأن المرشح السياسي المبرقع بالطائفية والمذهبية والعرقية سوف يقوم باستخدام كافة الوسائل المتاحة لديه للكذب على الجماهير المستضعفة وإعادة إنتاج الإشاعات والخطابات الممسوخة والوعود الممنوحة,وما يصاحب ذلك من شراء للذمم واستخدام المال الحرام والتطفل الصلف على ابسط أخلاقيات وقواعد الدعاية الانتخابية المتعارف عليها في الدول الديمقراطية.

أن مرشح يختفي وراء الطائفة والمذهب والمنطقة والعرق سوف تكون رسالته الانتخابية مفعمة بمحتوى ينضح بالتمويه والتضليل والدعاية المبتذلة,فيتظاهر في رحاب المساجد والجوامع وأمكنة الحضور العامة بمظهر المنافق المؤدب والمخادع المهذب ويستحضر ما يتمكن عليه  صور من الصراع الإسلامي ـ إسلامي ليدق الآسفين بين مكونات الدين الواحد,ويذرف دموع التماسيح في مناسبات إحياء ذكرى استشهاد الرموز الدينية  بعد التأكد إن ضحيته " ناخبه المرتقب " قد ذرف الدمع في محبة حقيقية وصادقة وعفوية لرموزه الدينية,إلا إننا نعرف أن التماسيح تذرف الدمع بعد التهام ضحيتها مستغلا صدق مشاعرها ليضعها في جعبة مشروعه الانتخابي,أنها محاولات لترك انطباعا مشوها لدى محبي الدين مفاده أن السلامة الطائفية أولا وبعدها نتحدث عن دولة القانون والمواطنة إذا كان هناك متسعا من الوقت لذلك !!!, وهكذا تنتعش النزعات العصبية ـ الطائفية لتجر ورائها قبائل وأحزاب ومناطق لتكرس العقلية الانقسامية التي تفعل فعلتها في الحراك الانتخابي, فتكون الحملات الانتخابية فرصا عملية لأضعاف مكانة دولة القانون التي يفترض أن تكون سلوكا عمليا غير قابل للمساومة وقاسما مشتركا لكل القوائم الانتخابية.

أن دوافع السلوك الانتخابي ببعديه المرشح والناخب هي دوافع معقدة تتشابك في نسجها العديد من العوامل والخلفيات الواعية واللاواعية,وهي نتاج البيئة السياسية والتنشئة الاجتماعية والأسرية وتراكمات الماضي واستحضار للماضي لمختلف الدوافع والإغراض,وأن التوظيف السيئ لتلك المنظومة من العوامل قادر على حرف الدعاية الانتخابية من سلوك تربوي متقدم لممارسة الديمقراطية إلى ميدان للصراع الطائفي والقبلي والاحتراب الاجتماعي,ولا يمت بصلة لما نسميه باللعبة الديمقراطية ,وهكذا يتم حرف سلوك الناخب من حالة التصويت لبرنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي يستهدف أصلاح وإنقاذ مجتمعا وشعبا بالكامل إلى مشروع ولاءات طائفية وقبلية وحزبية ومناطقية ضيقة,يستجيب فيها الناخب البريء إلى ولائم ومآدب العشاء والغداء والتعازي والأفراح والأهازيج ومختلف أشكال الكلام المرتل والمغنى,المبكي منه والمفرح,لتشكل جميعها وسائل نفسية ومادية مغرية وذات نزعة نفعية لا تصمد أمام المشروع الوطني ولا تشكل أي مناعة أخلاقية في ظل مجتمع يعاني من الفقر والجهل والأمية بمختلف مظاهرها الحضارية منها والأبجدية !!!.

أن مرشح انتخابي من هذا النوع سوف يلجأ إلى أعتى الوسائل للاستحواذ على أصوات الجماهير البريئة,أنها عملية افتراس للناخبين بأنياب لطيفة وبيضاء,ما دام الناخب العراقي تتوفر فيه شروط الاختراق والاستلاب والانقياد,لأنه يعيش بظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة لا تؤهله أن يكون حر الإرادة وبمنأى عن أفاعي السياسة الحرباء الذين يجيدون استخدام السلطة الدينية والروحية في اللعب على أوتار العاطفة الدينية والاستنجاد بالرموز الدينية عندما يرون الخسارة تلوح في الأفق,مرورا بسلطة المال والجاه التي تضرب أعناق شعب جاع لعقود خلت .

أن عملية الصراع الشرس بين مختلف الكتل السياسية المتموضعة في مختلف مناطق العراق الجغرا ـ طائفية والاثنية والمؤطرة بنفس الاستحواذ, وليست المنافسة المشروعة المتعارف عليها في تقاليد الممارسة الديمقراطية والقائمة أصلا على مشتركات كثيرة(لعل أبرزها سلامة الوطن وأمنه وتحسين ظروف الحياة العامة),هي من العوامل المعرقلة لبناء سلوك انتخابي موضوعي بهذا القدر أو ذاك لدى الناخب العراقي,فالناخب هنا يفتقد إلى مقومات الناخب ـ الحكم,وسوف يساق إلى الانتخابات القادمة تحت وطأة حمى الاستقطاب الطائفي والمناطقي والاثني والمشحونة بنفس الانتقام وتصفية الحساب في أحيان كثيرة,ونخشى أن لا يكون هذا الاندفاع إلى صناديق الاقتراع واقعا تحت تأثير منطق غرائز الحشود الإنسانية الأولى قبل أن تدجنها الحياة الاجتماعية والسياسية المدنية,حيث يتصرف الإنسان هنا وفقا لانفعالاته الآنية والعاجلة في الزمان والمكان دون حساب دقيق وترتيب لسلم الأولويات,وهي خيارات ينعدم فيها التخطيط وتنعدم فيها الرؤيا للمستقبل وتضعف فيها المسؤولية اتجاه مستقبل البلاد والأجيال القادمة.....والمهم في ذلك كله ليست فرز الأصوات بعد الانتخابات وتحديد الفائز,بل الإتيان بحكومة قادرة على معالجة مختلف الملفات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي لم ترى النور بعد ....ولكي لا نعود إلى المربع الأول مع كل دورة انتخابية !!!!.

307
قراءة في سيكولوجيي اجتماعية النظام السياسي في العراق على خلفية منطق المحاصصة و تدهور الأوضاع الأمنية

" يقود التطرف إلى التهور, ويفضي الاعتدال إلى الحكمة "
                                                      باسكال   



د.عامر صالح

أن الفطرة الإنسانية الخالصة وقبل تعرضها لخبرات مؤلمة أو سارة هي شديدة الالتصاق بالحرية و والانعتاق من كل أشكال تقييد الحركة والانطلاق والكبت بحثا عن ظروف أفضل للوجود,وتمتد جذور ذلك إلى المرحلة الجنينية الأولى من تشكيل حياة الطفل,حيث تبدأ بعد بلوغ الطفل تسعة أشهر داخل رحم أمه عملية مخاض أو صراع بين أرادة إبقاء الطفل في مكانه وإرادة الطفل في الخروج بعد عدم صلاحية المكان لخصوصية الطفل الإنمائية,,وهي حالات بدائية فطرية من الصراع بين الظلمة والنور,تنتصر فيها إرادة الوليد في الأعم الأغلب,لينطلق بعدها في معركة لاحدود لها من اجل تأكيد الذات ومغالبة كل أشكال تقييد الحريات,ابتداء من استجابة الطفل الأولى الرافضة للتقميط" الكماط " وانتهاء بالنظم الدكتاتورية,مرورا في البيئات الأصغر للحد من حرية الإنسان طفولة وشبابا وشيخوخة وكهولة.

لقد قدر للعراق وشعبه أن يمر بظروف تاريخية قاسية ذات طبيعة كارثية أسهمت بشكل كبير في تشكيل مزاج عام أدى إلى تأخير حالات اختمار حقيقية صوب مخاض الديمقراطية,مما فسح المجال إلى نشأة بدائل سياسية ذات طبيعة عقليةـ معرفية معوقة للديمقراطية في غالبيتها,ولكنها انطلقت لتمارس الديمقراطية السياسية استنادا إلى ظروف العصر الضاغطة وظروف العراق بشكل خاص التي لا تقبل بغير الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية كنموذج بديل عن النظم الديكتاتورية الموروثة.وعندما حصل التغير في العراق عام 2003 " رغم ملابساته الكثيرة وصعوبة هضم آلية التغير" فأن الفراغ السياسي شكل سمة مميزة للوضع السياسي,مما مهد الطريق إلى خيار الاستحواذ السياسي متخذا من الطائفية والعرقية واجهة له ومستغلا الظروف التاريخية للاضطهاد ليمعن في سياسته التي لا تلقي الاستحسان والقبول والإجماع والرضا من قبل شعبنا,وبدلا من أن تحل البرجماتية السياسية " أي قياس مصداقية الفعل السياسي بنتائجه العملية على ارض الواقع " فقد حلت البرجماتية المدججة بالسلاح " الحوار بيد والسلاح في اليد الأخرى لقبول أمر الواقع".

إن ابرز ملامح ضعف إدارة النظام السياسي هو التدهور المستمر للمساهمة السياسية الحقيقية والفعالة لشعبنا في أدائه وكذلك قي حمايته,مما أضفى على النظام شرعية شكلية قوامها دستور مكتوب غير منتهي بصيغته " رغم إن ثناياه تحمل الكثير من دساتير العالم المعاصر المتمدن",فعلى سبيل المثال لا الحصر يرفض الدستور علنا في مادته (  14 ) في الفصل الأول من الباب الثاني التمييز الطائفي والعرقي,حيث يؤكد( العراقيون متساوون أمام القانون دون تميز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي) إلا إن المشكلة لا تكمن في وضوح النص الجاهز !!! ؛وكذلك برلمان معروف بتركيبته للجميع " ربما لا يؤتى بأحسن منه في المرة القادمة حسب الكثير من التوقعات " قادر في لحظة ما على إقصاء ما يرغب إقصاءه من خلال استنفار و تعبئة سلوك المحاصصات,التي لا ترى في الوطن مصلحة عليا وخط احمر لا يحتمل عروض المزاد العلني من اجل منافع محدودة الأمد؛ومن ثم مجلس رئاسة الجمهورية المطابق لتوصيفة البرلمان في الآلية العامة والمكونات .

لقد تركت أزمة ضعف المشاركة السياسية والشعبية الواسعة إلى أحساس شرائح اجتماعية واسعة بالهامشية واليأس والمنبوذية "خاصة الفئات التي يجب أن تستهدفها عمليات التغيير",مما يدفع إلى شعور مضاد للانتماء,أي العزلة والاغتراب الاجتماعي وضعف الشعور بالمسؤولية ومن ثم التطرف بألوانه والى الفوضى والعنف,وأصبحت إحدى البؤر المولدة للعنف والتطرف الديني وغير الديني,لتشتد الحياة أكثر عنفا لتصبح بيئة مواتية للتحريض وارتكاب الجرائم الكبرى بحق الناس وبواجهات مختلفة( القاعدة,فلول البعث السابق,ضغط دول الجوار التي لا تعي حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية),أن الجبهة الداخلية السليمة والصحية هي وحدها القادرة على دحر أعداء العراق في الداخل والخارج وعلى خلفية بقائه وطنا صالحا للجميع.ويذكرنا ذلك تماما بإخفاق جيوش النظام السابق الجرارة والمليونية في الإنابة عن المجتمع دفاعا عنه وعن سيادة البلاد من الاحتلال والتي حصلت على خلفية انعدام الثقة المتبادل بين النظام والشعب وضعف المساهمة السياسية الحقيقية في صنع القرار,فأين الملايين التي كانت تصفق "لقائد الضرورة" كذبا ودفعا للأذى عنها,أن حالات الاستبداد السياسي والطغيان وتكبيل أعناق المواطنين وترويضهم على الخنوع والذل والانشغال بسد رمق العيش هي التي تمرر مشاريع اختراق الوطن من الداخل والخارج !!!!.

أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام" الديمقراطي" إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى " بالفجوات النفسية المدمرة ",حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن,وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.

أن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى به طوال الست سنوات المنصرمة,وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي ,إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي ,أي إعادة  إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية ,وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت,وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية,بل لعلها أهم منجزات الحداثة,وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي,ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات ,وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية,وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية.

لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على النواة المتواضعة للنظام الديمقراطي,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد  2003  لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.

كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية ",وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع !!!,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقه!!!!.

أن اشد ما الحق الضرر بمصالح البلاد وأمنه هو إخضاع الأجهزة الأمنية والمخابراتية والدفاعية للمحاصصة الطائفية مما فسح المجال لتأسيس حالة الاختراق الأمني المستديم لهذه الأجهزة عبر تكريس حالة التوجس والريبة وانعدام الثقة بين قيادات ومنتسبين هذه الأجهزة,مما تندفع هذه الأجهزة إلى التناغم مع دول الجوار في البحث عن حليف مطابق لها في الصبغة الطائفية والعقائدية,مما يتركها فريسة للاختراقات الخارجية وفرض أجندة دول الجوار,وهنا يأتي تفعيل واستنفار" الحلقة المفقودة" المتمثلة بكل القوى الداخلية الغير راغبة في التداول السلمي للسلطة لتقوم بدور المنفذ النشط أانطلاقا من تطابق الأهداف والمصالح المشتركة في عدم معافاة العراق,بدلا من تعزيز حالة التوافق والانسجام في عمل هذه الأجهزة لخدمة امن البلاد,ولعل في تصريح رئيس الوزراء نوري المالكي أمام البرلمان هو بمثابة شهادة من أهل الدار" شاهدك من بيتك حلال" عندما قال بخصوص التفجيرات الإرهابية الأخيرة:( إن تدخل كتل سياسية هو وراء تدهور الوضع الأمني.......وأن الجرائم الأخيرة سببها خلافات سياسية وطائفية.....),طبعا ناهيك عن التصفيات الجسدية والاختراقات التي تحصل بين هذه الأجهزة نفسها,وكأن المطلوب ليست امن البلاد بل هو الانقضاض على الأخر وتصفيته بأسرع ما يمكن !!!!!.

لقد أخلت سياسة المحاصصة بالسلم الاجتماعي وأضعفت الشعور بالوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي من خلال خلق التكتلات والشللية السياسية والاجتماعية على أسس طائفية وعنصرية مما يعزز بمرور الوقت حالات الاحتقان والفتنة الاجتماعية,فيتحول الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات طائفية وعرقية لا حصر لها,أنها عملية استنفار للاشعور الجمعي لأفراد الطوائف والأعراق, وحتى لأتفه الأسباب !!!!, وهناك فرق جوهري بين حقك المشروع في الانتماء إلى دين أو طائفة أو عرق أو قومية ما وبين أن تبني دولة تضم مختلف الأديان والأعراق !!!!.

أن إضفاء الصبغة الطائفية والعرقية على الصراع السياسي واللجوء إلى الحلول ذات الطبيعة التوافقية ـ الطائفية والعرقية تسهم في تكريس منظومة قيمية ذات طبيعة تعصبية " شاء الفرد أم أبى" لتشكل بدورها اتجاها نفسيا سلبيا مشحون بشحنة انفعالية ضد الأخر الديني أو الطائفي أو العرقي دون سند علمي أو منطقي أو بمعرفة كافية,ليتحول التعصب إلى مشكلة حقيقية في التفاعل الاجتماعي الإنساني المنفتح,وحاجزا يمنع كل فكر تقدمي جديد,ويفتت مكونات المجتمع الواحد ويحولها إلى أشلاء منغلقة ذاتيا بعيدة كل البعد عن التطورات المتلاحقة التي تحصل في العالم الخارجي في كل المجالات,أنها حالات من الصمم والبكم والعمى الهستيري والتي لا تدرك الأشياء والظواهر إلا من خلال  اتجاهات التعصب الأعمى,أنها فرصا مواتية لتشديد قبضة الكراهية والعدوان الاجتماعي,ونحن نعلم من الناحية النفسية أن التعصب والتخندق الطائفي والعرقي هي سلوكيات مكتسبة ومتعلمة في أعمها الأغلب ولا توجد أدلة قاطعة ذات طبيعة غرائزية أو فسيولوجية لوجودها,فهي حالات من التمركز حول الذات وعدم تقبل الحوار مع الأخر المغاير !!!.

ويجب التأكيد هنا إلى أن الصراع الذي يجري في العراق ليست صراعا طائفيا أو عرقيا بالمرة,وقد أكدت السنوات المنصرمة فشل الانسياق ورائه,إلا أن تجير الصراع السياسي وإضفاء الصبغة الطائفية أو العرقية هو الذي يؤدي قسرا بالسواد الأعظم من شعبنا الذي أتعبته الحروب وأنهكه تأمين شيء من الخدمات العامة إلى " التعصب " و "الخندقة " كحيل دفاعية لتامين لقمة العيش,لأن رموز الطوائف والأعراق والأحزاب تمتلك المال كله , وكما يقول أبو ذر الغفاري :( عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه ) والتخندق الطائفي أو العرقي أشبه بحامل السيف لـتأمين لقمة العيش !!!!.

ونؤكد أن التجربة التاريخية للعديد من المجتمعات المتقدمة التي تتصدر دول العالم في الرفاهة والتقدم الاجتماعي وتكريس حقوق الإنسان,تؤكد أن المساهمة السياسية الفعالة وإطلاق مبادرة المواطنين غير المشروطة هي الشرط اللازم لبناء المجتمع المدني الحديث والدولة الوطنية,والتي تبدو للمواطن العراقي الذي أنهكته الحروب الداخلية والخارجية والأزمات,أنها دولة حق وقانون,لا دولة حزب أو طائفة أو جماعة دينية ولا دولة عرقية,أنها مؤشرات للتحرر من الظلم الاجتماعي والى الأبد..وعندها نفوز قلبيا بآل البيت ولم نخسر الصحابة...وكفى شعبنا مزيدا من عمليات الإرهاب المجرم !!!.


308
فوبيا البعث من جديد...استشعار عن بعد !!!

" من خشي أن يكون له أعداء لا يكون له أصدقاء "
                                           زينون



د.عامر صالح

نشرت في مقال مطول سابق على صفحات الانترنيت موسوما: " فوبيا السياسة وإشكالية البعث بين الاجتثاث والامتصاص" , وقد عالجت فيه موضوعة" البعث واجتثاثه" ضمن رؤية سايكوـ سياسية,وإذ تثار اليوم مجددا مسألة الخوف من البعث وعودته, يمكن للمرء أن يؤكد هنا أن الصعوبات الميدانية في معالجة ظاهرة البعث في العراق و ما آل أليه " قانون اجتثاث البعث " في الممارسة العملية,ناتج ليست فقط من تراكمات النظام السابق باعتباره الحاضنة الرئيسية لهذه الظاهرة السياسية والنفسية,بل إلى مجمل السياسيات التي أعقبت سقوط النظام بما فيها سياسات المحاصصة الطائفية والأثنية التي لم تدع النسيج الاجتماعي أن يقف واضحا ومتحديا لهذه الظاهرة كما ينبغي وبحجم تأثيرها الاجتماعي ( وخاصة في ظل ضعف ألأحزاب الطليعية المعارضة وعدم مقدرتها على احتواء حدث التغير والناتج من قساواة الديكتاتورية وبطشها),بل أغرق المجتمع بكامله في بحر  من الاقتتال الطائفي والعرقي,وخسر شعبنا نشوة النصر الأولى بعد سقوط الصنم,حيث من منا كان يعتقد أن البعث سيعود بأي شكل من الأشكال " على الأقل كانطباع أولي " عندما كان يرى شعبنا منتفضا على شاشات التلفاز والفضائيات ليزيل آثار الدكتاتورية !!!.

أن الصراعات السياسية الشرسة والمسلحة والاحتراب الاجتماعي ـ الطائفي والأثني ما بعد السقوط وفرت ظروفا ملائمة لاختفاء " ظاهرة البعث في العراق" خلف الكواليس وتحولها إلى خزانات وقود قابلة للاشتعال على خلفية توظيف معاناة الناس الاقتصادية والاجتماعية والتردي المستمر لظروف الحياة المعيشية وانتشار مزيدا من الفقر والبطالة,طبعا وعلى خلفية تصدع المنظومة القيمية لشرائح اجتماعية واسعة من شعبنا تجسدها اللامبالاة السياسية والاجتماعية وعدم الاكتراث بما يحدث من انهيار اجتماعي واقتصادي,وهو قائم على خلفية الإحباط والقنوط المتواصل أوجدتها أزمة النظام السابق وكرستها سوء إدارة البلاد حاليا ابتداء من إدارة المحافظات إلى السلطة التشريعية المتمثلة في البرلمان والى رئاسة الجمهورية والى مختلف مفاصل الدولة حيث الفساد المستشري بمختلف مظاهره السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية.

وتخلق " ظاهرة البعث وعودته " هلعا مستمرا لدى أوساط كثيرة من أبناء شعبنا وفي صفوف بعض من الكتاب والمثقفين فيه,وهو قلق مشروع في بعض من وجوهه ,وخاصة عندما نستحضر في الذاكرة كل ما جرى من ويلات وحروب وأباده جماعية وتدمير للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية,و لكن من جانب آخر قد يكون هذا الخوف غير مشروعا ويحمل زخما مخادعا قائم على تصور سابق لإمكانيات نظام " صدام ",وهي حالة إسقاط سايكولجي نرى فيها أن إمكانيات المجاميع السياسية ذات الأصول البعثية بنفس إمكانيات النظام السابق وحجمه,وهو أمر مجافي للحقيقة والواقع,حيث إن أمكانية النظام السابق تشكلت بطريقة تراكمية خلال ثلاثون عاما تمكن فيها من مصادرة الدولة كاملة وتحويلها إلى دولة الحزب الواحد,وتشكلت بنفس الوقت العشرات من الأجهزة القمعية والمخابراتية الخاصة والقادرة على الفتك والإرهاب والقمع والمطاردة والإبادة, وهي غير موجودة الآن كمستلزم لإدامة الخوف والهلع لدى الناس,أنني أرى في ذلك نمطا من تأثير الهالة للنظام السابق على طرائق تفكيرنا.وبودي الإشارة هنا أن الكثير من منتمي حزب البعث سابقا وشرائحه بمختلف درجاتهم الحزبية انضوت تحت ألوية الأحزاب الدينية بشكل خاص وغير الدينية ,وهي لا ترغب مطلقا بعودة الأوضاع السابقة تحت قيادة " البعث ",حيث الاستفادة أكثر بكثير من ظروف النظام السابق والامتيازات غير المشروعة على قدم وساق,فعلام هذا الانتماء إلى حزب البعث ,فهل لديهم قضية وطنية تستحق التضحيات !!!!!.

أما التصريحات النارية التي  يطلقها بعض مسئولي الأحزاب السياسية ذات "الأصول البعثية" ,بأنهم سوف يحصلون في الانتخابات البرلمانية القادمة على 40 مقعدا أو أكثر,فأن كانت هذه هي قراءة صحيحة ومنضبطة ومتزنة,فنقول بجرأة إن هذا خيار بعض من شرائح مجتمعنا وهذه هي صناديق اقتراعه القادمة,ونؤكد بهذا الخصوص أن لحظات الانتخاب وإدلاء الصوت هي ليست لحظات عقلية أو فكرية محضة ناتجة من تفكير متأني طويل الأمد لتنضيج الاختيار,بل أن المزاج الشخصي والانفعال الشديد وردود الأفعال والشللية والمغريات تشكل جزء كبيرا من سلوك الناخب,وخاصة في التجارب الديمقراطية الهشة التي تنعدم فيها الاصطفافات الذهنية ـ العقلية الواضحة والقائمة على أرضية اصطفافات سياسية غير واضحة المعالم,وفي ظروف انعدام الاستقرار الأمني والسياسي وانعدام وضوح الرؤى التي تدفع المواطن إلى مختلف الخيارات التي لا تحمد عقباها " فمن آتى بالحامض في المرة السابقة يأتي بقاطع الحموضة هذه المرة ",وألا فلنأتي بشعب أخر من خارج الحدود يضمن لنا التصويت في الانتخابات القادمة,خارج أطار دراسة الظروف الموضوعية لتحسين أداء الناس الاقتصادي والاجتماعي الذي ينعكس بدوره على مختلف أنشطة الإنسان العقلية بما فيها الاتجاه نحو الانتخابات.

وفي هذا السياق أشير إلى ملامح ما جرى في دول أوربا الشرقية عندما تحولت نظمها صوب الاقتصاد الحر وتبني الديمقراطية التعددية كأسلوب لتداول الحكم(رغم أن الحالة غير قابلة للمقارنة مع العراق في بعض من وجوهها,إلا إن المثل يقال ولا يقاس),فأن الأحزاب الحاكمة السابقة استلمت زمام الأمور ثانية لدورة انتخابية أو دورتين على التوالي كما جرى لبولندا,وحصل هذا عبر صناديق الاقتراع والانتخابات الحرة النزيهة حسب اعترافات المنظمات الدولية ذات العلاقة( وكان يحرسها الشيوعيون واليساريون قبل غيرهم),ثم استمر تداول السلطة سلميا بين اليسار واليمين وبين هذا وذاك,والاختلاف بيننا وبينهم هو أن ظروف الأمن والاستقرار والتحسن المضطرد كان سمة مميزة لهم,وقبل كل شيء هو القناعة المتأصلة  لدى الجميع بالديمقراطية كطريقة لإدارة الحكم وليست كطريقة للخداع والإقصاء,وقد ساعد ذلك لديهم على وضع كل كيان سياسي في  حجمه الصحيح وموقعه المناسب في أطار عملية سياسية تنمو وتتطور نحو الأحسن رغم صعوبة الإمكانيات المادية والمالية وفقر الثروات قياسا بالعراق !!!.

أن المشكلة لدينا تتمثل في إفرازات النظام السابق الاجتماعية والأخلاقية والقيمية المتمثلة في ضعف روح المواطنة والولاء للوطن باعتباره مصلحة عليا,والتي كرستها بوضوح سياسات المحاصصة الطائفية,والتي لا تحتاج إلى مزيدا من العناء لإماطة اللثام عنها ووضع اليد عليها,وأشير هنا فقط إلى إن الفساد ينتشر على نطاق واسع بين الأحزاب الحاكمة التي احتلت مكان النظام السابق,فهل يجوز لنا إلقاء اللوم على كل ما يحصل في رقبة النظام السابق وبعثه !!!!

ونقول ختاما أن شعبنا ينبذ الديكتاتورية والاستحواذ,ولكنه لا يمتلك أذرعا للدفاع عن النظام الديمقراطي,وأن النهوض بالحياة العامة وأحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة لتوسيع نطاق الخدمات العامة والارتقاء بمستوى المواطن تزامنا مع محاربة الفساد على نطاق واسع باعتباره وجه من وجوه الإرهاب وحاضنة له وتعزيز مكانة القانون والقضاء العادل في حياة المجتمع والدولة,وهي مداخل لازمة لرسم ملامح الثقة بالنظام السياسي الجديد والولاء وهي اذرع شعبنا الضاربة في الدفاع عنه,أنها مقدمات لازمة على طريق نشوء منظومة قيمية واخلاقية ايجابية ذات طابع يليق بمكانة الإنسان العراقي كمواطن في دولة ديمقراطية حقه,وسوف تسهم هذه الاتجاهات بخلق مزاج ايجابي لدى المواطن والناخب العراقي,وبالتالي سوف يسهم المواطن عبر صناديق الاقتراع أن يضع كل كيان سياسي في مكانه المناسب وبحجمه الحقيقي في المجتمع,وعند ذلك فأن الفصيل أو الكتلة السياسية التي حصلت في الانتخابات السابقة على أكثر من100 مقعد أو من يتمنى أن  يحصل في الانتخابات القادمة 40 مقعدا,سوف يأخذ اقل أو أكثر من ذلك في الانتخابات التي تليها استنادا إلى تحسين كرامة العيش والانتماء إلى الوطن..عندها يكون المواطن العراقي كائنا انتخابيا حيا !!!!!!.



309
نحو فهم عواقب المصادقة على قانون الانتخابات البرلمانية في العراق!!!

" ليس ثمة مكان أغلى من الوطن"
هوميروس



د. عامر صالح

أثارت المصادقة على قانون الانتخابات ومواده في جلسة البرلمان المنعقدة بتأريخ 08 ـ 11 ـ 2009 الكثير من الحنق والغضب المتزايد, حيث أقصى هذا القانون المجحف الكثير من مكونات شعبنا في الداخل والخارج وفرض مزيدا من التضييق والحصار على فسيفسائه التي طالما افتخرنا بها, وبهذا شكلت هذه الواقعة نذيرا بفرض مزيدا من الإقصاء وتضييق الخناق على مساهمة شعبنا في الحياة السياسية ,والذي بدأت طلائعه تظهر في الأفق منذ الانتخابات البرلمانية السابقة وانتخابات المحافظات التي أعقبتها وحتى قبل ذلك ,وبهذا تتضح ملامح المشروع الأثنوـ طائفي في تحويل عراق المستقبل إلى دويلات أو شبه دويلات أثنو ـ طائفية مستقلة لا تربطها في العراق كدولة للجميع أي رابط ,سوى المسمى الجغرا ـ تأريخي الذي تتموضع فيه هذه الكيانات , وستتحول هذه الكيانات بفعل عوامل التدخل الخارجي ونزوع ردة الفعل إلى كيانات عدوة للدولة العراقية تضعف الدولة في الداخل وتعبث في الأمن والاستقرار, وتلجأ عبر حلفائها في الخارج إلى افتعال عدو خارجي كأمريكا وإسرائيل والامبريالية  العالمية أو مشكلات بين دول الإقليم أو الجوار.

ويذكرنا ذلك جليا بالدولة اللبنانية حيث العداء الذي لاشك فيه لإسرائيل من قبل حزب الله والذي لا نعرف دوافعه بهذا الحجم  الذي يفوق قدرات الدولة نفسها باعتبارها المسئول الأول عن الأمن الخارجي, يقابله في الطرف الآخر إضعاف للدولة اللبنانية وتحديدا لساعة المعركة مع إسرائيل من طرف سياسي واحد تنهار فيه الدولة اللبنانية وتخرج إسرائيل قوية من جديد !!!.وعلى نسق ذلك يتحول المشروع الوطني الكبير في بناء الدولة العراقية الاتحادية المعاصرة إلى مشروع رهان تمتد تفاصيله إلى ما وراء الحدود, وعندها يكون الأمن والاستقرار والتقدم الاجتماعي حلما لا يمكن تحقيقه بسهولة كحلم شعبنا في إزالة الدكتاتورية !!! .

أن الأضعاف المستمر لدور المهجرين والمهاجرين ومواطني الأقليات الدينية والمكونات القومية والكيانات السياسية الصغيرة وعبر القانون هذه المرة,باعتبارهم جزء من البوصلة الأمينة للتأكد من صحة توجهات الكتل السياسية الكبيرة,سوف يسهم بما لاشك فيه إلى تحول أجزاء العراق السنية والشيعية والأثنو ـ سنية إلى كيانات استحواذية خالية من التنوع والمراقبة الذاتية وعلى طريق تحولها إلى ترسانات أسلحة,وأجهزة استخبارات مستقلة وشرطة لا تعرف مفهوم الدولة الاتحادية العصرية والى امتلاك أذرع إقليمية في دول الجوار.

وبهذا المعنى تكون هذه الأحزاب المناطقية استوفت شروط ومقومات الدولة من الناحية الشكلية في أمكنة تواجدها الجغرافي, من خلال سلوك الانفراد في السلطة,الأمر الذي له انعكاساته الخطيرة على الدولة العراقية ,حيث أن الدولة الاتحادية وأجهزتها وقوى أمنها  تعاني من فقدان الهيبة بسبب عدم احتكارها للقوة الرادعة من جهة ولوجود أجهزة مرادفة لها من جهة أخرى, وهذا من شانه أن يفقد ثقة الناس بالدولة ومؤسساتها وبالتالي إلى انتشار مفهوم " الأمن الفردي ",أي أمن الحارة وأمن الشارع وأمن المدينة,حيث رجل أمن الدولة غير قادر على حمايتهم.وعندها يكون فائض القوى الذي ستمتلكه هذه المدن المحاصصية من أجهزة أمنية وشرطة وجيش يعطي شعورا بالقوة والتفوق على الدولة العراقية وأجهزتها ومؤسساتها,وعلى مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية الأقل تمثيل ,ويعزز لديهم مزيدا من الشعور بالحصانة على كل الأفعال التي يرتكبونها من فساد إداري ومالي وسياسي,إلى جانب صعوبات تقديمهم للعدالة.

أن المصادقة البرلمانية على هذا القانون هو خطوة أخرى على طريق اختراق الديمقراطية كطريقة لإدارة الحكم وتكريس استحواذ السلطات بيد الكيانات السياسية الكبيرة,وإقصاء جزء من مكونات شعبنا وبعث عدم الاستقرار في النظام السياسي إلى ما لا نهاية واعتبار ذلك واقعا عبر القانون.وبهذا نهيب بكل الحريصين على مستقبل العراق وديمقراطيته,أولهم شعبنا ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات العالمية ذات الصلة بترسيخ قيم العدالة والديمقراطية في الضغط على رئاسة الجمهورية لرفض هذا القرار وأعادته مجددا إلى البرلمان لدراسته في جلسة استثنائية وبحضور برلماني عند مستوى المسؤولية.




310
الأبعاد التربوية والنفسية للفساد الإداري والمالي في العراق


" يَِِجٌرن الذيول على المخازي   وقد مُلئت من الغش الجيوب"
                                                      أبو العلاء المعري

                                       
                                                 


الدكتور عامر صالح

تمتد جذور العدوان والاعتداء والفساد إلى عمق التاريخ والنشأة الأولى للبشرية حسب القصص الواردة إلينا, ولعل في قصة هابيل وقابيل أولاد السيد ادم عليه السلام دلالة في الجذور الأولى لهذا السلوك,والتي مفادها بأن ابنه الأكبر قابيل قد أقدم على قتل أخيه الأصغر هابيل, ويفسر هذا الحادث وهو أول حادث في العنف والتعدي في تاريخ البشرية بان قابيل أقدم على فعله بدافع من الغيرة والحسد لأخيه لما تصوره بما حظي به أخيه من رضى الله عليه.ولعل ذلك يعكس جزء من فهم مفاده التنويه بأن التعدي والعدوان هو ظاهرة متأصلة في الطبيعة الإنسانية،بل اخطر بكثير من نظيره في المملكة الحيوانية من حيث المقدرة والأساليب وتفنن وسائل الفتك والفساد.

وعلى هذا الأساس وقفت كل السنن والشرائع السماوية وغير السماوية ومختلف الحضارات ضد الفساد بمختلف مظاهره, منزلة أقصى العقوبات بحق مرتكبيه.وتشير الكثير من الدراسات إلى أن الأقوام التي استوطنت ارض العراق(حضارة وادي الرافدين) وهي من أولى الحضارات في العالم قد عرفت ظاهرة الفساد,لذلك نرى إشارة إلى جرائم الظاهرة في القوانين التي عرفتها ( أوروك ) و ( أور نمو ) في الألواح السومرية ومحاضر جلسات مجلس ( أرك ),حسب أراء (السير كريمر).كما إن الوثائق التي عثر عليها وتعود بتأريخها إلى الإلف الثالث قبل الميلاد تبين أن "المحكمة الملكية" آنذاك كانت تنظر في قضايا الفساد مثل استغلال النفوذ,استغلال الوظيفة العامة,قبول الرشوة وإنكار العدالة,حتى أن قرارات الحكم كانت تصل إلى حد الإعدام.وكذلك (حمو رابي ) ملك بابل,وصاحب التشريعات المعروفة في التأريخ(شريعة حمو رابي),قد أشار في المادة السادسة من شريعته إلى جريمة الرشوة,مشددا على إحضار المرتشي أمامه ليقاضيه بنفسه ويتولى أمر اجتثاثه.وتباعا كل الحضارات في التأريخ وكل الفلسفات أدانت الفساد وازدرت السلوك الفاسد وحقرت من قيمة المفسد،وعلى أساس ذلك أيضا جاءت الأديان العالمية الثلاث( اليهودية والمسيحية والإسلام) وباقي الأديان لتشدد الخناق على الفساد والمفسد,ولعل غزارة النصوص القرآنية والتي تجاوزت الخمسون آية في التعرض للفساد بمختلف مظاهره شاهدا على ذلك ,وكذلك الأحاديث النبوية, والبعض منها تعرض للفساد في الصميم كالغش والرشوة والسرقة والفساد الاقتصادي والسياسي.

وهنا لا ارغب الخوض في تفصيلات ذات طابع ديني خارج أطار مسحة الموضوع الأساسية, إلا إنني اقتفي اثر بعض النصوص الواردة في موضوعة الفساد الإداري والمالي وذات صلة بظروف العراق,وخاصة عندما يأخذ الفساد مدى واسعا ومتسترا بلباس الدين,ومن هنا فأن للدين موقفه من الفساد الذي لا لبس فيه, ففي مجال السرقة فأن النص شائع  التداول وهو الآية( 38) من سورة المائدة:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله "لا يترك مجالا للاجتهاد أو لشرعنة الفساد,وهو واضح من خلال صرامة العقوبة,أما في ميدان استخدام النفوذ والجاه والسلطة في السرقة والإفلات من العقاب فأن النبي محمد(ص) يقول:" إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه,وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.وأيم الله,لو أن فاطمة بنت محمد سرقت  لقطعت يدها",والشريف هنا صاحب النفوذ والسلطة,أما بالنسبة للرشوة فأن النبي(ص) يقول: " الراشي والمرتشي في النار ",وكذلك بالنسبة للهدية التي هي بمنزلة الرشوة في ظروف ممارستها فأنه يقول: "من شفع شفاعة لأحد فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من الكبائر",وننتقل إلى الغش والتزوير حيث قول النبي(ص): " من غشنا ليس منا ",أي التبرؤ من انتماء الغشاش والمزور إلى امة المسلمين, وكذلك في سورة الأنفال في الآية (27 ) : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم  وأنتم تعلمون",والأمانة هنا ما يوكل إلى عهدة المسلم من منصب يشغله بدون وجه حق أو بشهادة مزورة , أو استغلال المنصب لقضايا النصب والاحتيال,إلى جانب المفهوم المباشر للأمانة,أما بالنسبة للفساد الاقتصادي والمالي فنشير إلى نصين على التوالي : الأول لسورة الشعراء, الآيات ( 181ـ 183 ) : " أوفوا الكيل و لا تكونوا من المخسرين. وزنوا بالقسطاط المستقيم. و لا تبخسوا الناس أشيائهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين " , أما النص الثاني فهو من سورة البقرة,الآية (188 ) : " و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون ",وفي كلا النصين إشارات تحذيرية في عدم إفساد المعاملات اليومية والتعامل غير النزيه.

واليوم حيث لم تخلوا دولة في العالم من الفساد باعتباره ظاهرة عالمية, إلا إن المشكلة الأساسية تتمحور حول مدى انتشاره, وهل هو ظاهرة تقصم ظهر النظام السياسي وتدخل طرفا في الضغط على رسم سياساته العامة وبعث عدم ألاستقراره فيه,أم هي ظاهرة هامشية تعيش على أطراف النظام السياسي المعني ,وبالتالي يعتبر أمر محاصرتها واجتثاثها جزء من فاعلية النظام ومقدرته على محاصرة الظواهر المرضية,فهناك فرقا كبيرا بأن تكون الدولة رقم( 3 ) في قائمة الدول التي تمارس الفساد في العالم كالعراق مثلا,وبين دول لم يشار إليها بالفساد ولكنه يطفح لديها على السطح بين ألفين والفينة الأخرى.

وعلى خلفية تـأصل الفساد بهذا القدر  أو ذاك في المجتمعات الإنسانية بدون استثناء, فقد عكفت العلوم التربوية والنفسية على دراسة ميكانيزماته الأساسية والبحث في أصول وأسباب  سلوك العدوان والتعدي والفساد,وقد حصرته على الأقل في النظريات التالية :
1ـ النظرية البيولوجية الغريزية والتي تفسر الظاهرة على أنها تعبير عن استعداد مقرر بيولوجيا في الطبيعة الإنسانية.
2ـ نظرية الدوافع والتي تفسر الظاهرة على أنها ناجمة عن أثارات خارجية في المحيط.
3ـ النظرية النفسية والتي ترد الظاهرة إلى العمليات النفسية الناتجة عن الصراعات.
4ـ النظرية الاجتماعية والتعليمية والتي ترى بأن الظاهرة تنجم عن عوامل اجتماعية محددة وبأن العدوان والاعتداء والفساد يكتسب اجتماعيا بالتقليد أو بعمليات التعلم.
وأنا شخصيا حيث أتبنى النظرية الرابعة مع قناعتي الشخصية بتوفر قدر معقول من النظريات الأخرى في التحكم بالسلوك الإنساني,حيث تؤكد هذه النظرية أن سلوكية العدوان والفساد هي سلوكية مكتسبة أثناء الحياة بفعل عوامل اجتماعية وبأنه يتعزز ويتواصل بفعل هذه العوامل,ويتحقق هذا الاكتساب للسلوك العدواني والفاسد نتيجة التعرض لمثله والتعلم من نماذجه,وخاصة إذا اقترن ذلك بالمكافأة على القيام به أو توقع هذه المكافأة,ومع إن هذا المنظور للسلوك العدواني والفاسد لا يقر بوجود غرائز داخلية ينبع منها العدوان والفساد تلقائيا أو بوجود دوافع عدوانية تثار من الخارج,إلا إن من الواضح أنها تتفق مع نظرية الدوافع العدوانية في أن  ما يثير العدوان يأتي من عوامل اجتماعية أو بيئية محددة.

ولعل المهم في هذا المنظور للسلوك العدواني أو سلوكية الفساد هو إن الفرد يتعلم هذا السلوك ويبحث عن وسائل متنوعة لتكريسه طبقا لقواعد التعلم والتي تعتمد على عناصر التعرض والتكرار والربط والإسناد بالمكافأة عليه.ومع إن هذا المنظور الاجتماعي ألتعلمي للعدوان لا يمكن أن ينفي وجود طبيعة أساسية تمكن الفرد من ممارسة العنف والعدوان والفساد,إلا انه ينوه بأن وجود مثل هذه الطبيعة لا يعني بالضرورة الممارسة التلقائية للعنف والفساد والاعتداء, وهي الممارسة التي تتطلب توفر عوامل محيطة وظروف اجتماعية مواتية تجعل من هذا السلوك ممكنا أو شائعا.أن هذه النظرية تعطي أملا كبيرا في التحكم بسلوكيات العدوان والفساد عبر ضبط العوامل الاجتماعية والظروف العامة المحيطة به.وتفسر أيضا هذه النظرية جهود المجتمعات والدول المتقدمة في الحد من العدوان والفساد من خلال تحسين ظروف الحياة العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية وإشاعة الديمقراطية السياسية ومبدأ المحاسبة كطريقة فعالة في الأداء المؤسساتي,وتفسر بنفس الوقت أسباب شيوع الفساد والعدوان من خلال تكريس قيم الدكتاتورية السياسية وانعدام الديمقراطية والرقابة الجماهيرية على المال العام,ولعلها تفسر بشكل واضح جذور الفساد في العراق واستفحاله واستمراره وعدم المقدرة في التحكم فيه والحد منه.

فقد ارتبط تفاقم ظاهرة الفساد في العراق بمجمل سياسات النظام السابق الاقتصادية والاجتماعية والحروب المدمرة,والتي أدت بمجملها إلى إفقار المواطن وحرمانه من ابسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة,إضافة إلى ما أدت من تفتيت للبنية الأخلاقية والقيمية وضعف الوازع الداخلي,إلا إن سطوة النظام وقمعه حصرت ظاهرة الفساد,وخاصة الإداري والمالي برأس النظام وأطرافه,وحولت بنفس الوقت الفساد إلى ما يشبه الفيروس الخامل تحمله قطاعات اجتماعية واسعة,وجدت في إسقاط النظام والطريقة أو السيناريو التي هوى فيها النظام فرصة مواتية لينشط هذا الفيروس ويتحول من حالة الكمون أو الخمول إلى حالة الفعالية أو النشاط الكامل ليتحول إلى وباء شامل ينشط بطرائق أخطبوطية وبمدى يصعب التحكم والسيطرة عليه أو تحديد سقف له,وقد وفرت الظروف السياسية ما بعد السقوط وطريقة أداء الحكم بيئة صالحة لنشاط فيروس الفساد ليلتف بدوره حول السياسة ويضربها في الصميم ويعيد بعث ظاهرة الفساد السياسي المتمثلة بالاستئثار بالسلطة واستغلال النفوذ السياسي وتكريس قيم الحزب الواحد عند الكثير من الكيانات السياسية,ولعل المثل الصيني " الماوي " القائل : " رب شرارة أحرقت السهل كله " يلقي مصداقية كبيرة في تفسير الفساد في العراق.
 أن إحدى تجليات الخوف من الفساد الإداري والمالي هي تحوله إلى ثقافة سائدة أو ما يسمى " ثقافة الفساد " مضفيا على نفسه الشرعية في الشارع وفي المعاملات الرسمية اليومية,ومن ترسخه كنمط سلوكي لإشباع الحاجات المختلفة والاكتفاء الذاتي,وبالتالي يتحول الفساد من كونه عمل منبوذ اجتماعيا وقيميا إلى عمل يلقي الاستحسان ويندمج ضمن المنظومة الايجابية للأخلاق والأعراف,ويعتبر نوعا من  الشطارة أو الدهاء الشخصي لصاحبه,وأحد معايير الشخصية الدينامية والمتكيفة القادرة على حل المعضلات بطرائق سحرية !!!.

وعلى هذا الأساس يتحول الفاسد من شخص مجرم يجب أن يساق إلى العدالة إلى شخص قاضي حاجات أو "حلاًل مشاكل ". ففي الوقت الذي كان فيه الفاسد يسير منحنيا بإذلال يخشى أن يعلم به احد جيرانه أو أبناء منطقته,ويذكرني ذلك في نهاية الستينات وبداية السبعينات عندما كانت تعلق صور الفاسدين" السرَاق منهم" في مراكز الشرطة ويكتب أعلاهم بخط عريض " أحذروا هؤلاء ",اليوم يفتخر الفاسد بمكتسباته وبمهاراته وماله الحرام !!!,ولم يعد الفاسد يخشى المواطن بل انتقل الخوف إلى المواطن وأصبح الجميع يحسب آلف حسابا له ,لأنه يمتلك السلطة والمال والقرار السياسي,فهو الكادر الحزبي أو القيادي في حزب ما,وهو المدير العام,وهو الموظف الصغير والوزير أو عضو البرلمان وهو أيضا حامل المفخخات والأحزمة الناسفة !!!,بل نبحث عن الفاسد لتسهيل معاملاتنا مهما كانت صعبة,وهو الذي يأتي لنا بالماء والكهرباء والخدمات المختلفة,ويضمن لنا التعيين في أي موقع وفي أي دائرة نرغب بعد أن يمنحنا الشهادة المزورة ويصدر لنا أمر التعين ,وكل ذلك مقابل هدية !!! بحجمه,وإذا لم نقبل بشروط الفاسد فأنه قادر على أن يفرض عليك حصارا لا تقوى الأمم المتحدة على رفعه,فلا غرابة من أن 80% من مراجعي دوائر الدولة العراقية يدفع رشوة لانجاز معاملته !!!.
وبالتالي يتحول الفساد كسلوك وأداة تفضي إلى بلورة جماعات واسعة من المنتفعين ورعاة المصالح الذاتية التي تعمل على توطيد دعائم النظام الجديد ولكن بشروط الفساد حفاظا على أوضاعها ومكانتها من الانهيار,وبهذا يطرح الفساد نفسه كطريقة وبديل عن التنمية الاقتصادية الشاملة وفقا للضوابط القانونية والأخلاقية,وتعزيز فكرة أن الفساد يعجل بقضاء المصالح والحوائج وتبسيط الإجراءات وتسير المعاملات مع الجهاز الحكومي,كما انه يعمل على إعادة توزيع الثروات بشكل مشوه من خلال خلق طبقة من أصحاب المال الصغار المستفيدين من رشاوى الحيتان الكبار,كما يزج الطبقة الوسطى" الطبقة المطلوبة رقم واحد في المشروع الوطني الكبير ,فكرا وثقافة ومهنية " قي آتون الفساد فيحولها من طبقة إنقاذ إلى طبقة متعايشة مع ظروف الفساد ومكملة له,وعلى خلفية ذلك تنشأ قناعات سلوكية واضحة تفضل الاستقرار و " التنمية " مع الفساد على اللااستقرار بدونه.

 وبهذا  يتحول الفساد من ظواهر فردية متناثرة هنا وهناك إلى عمل مافيوي مخطط يدخل سوق العمالة ويقدم خدماته من خلال اختراقه كل القطاعات الإنتاجية والخدمية,ويخضع لمبادئ العرض والطلب والمنافسة الكمية والكيفية ويتحكم بمفاصل تشغيل العمالة,وهذا ما نشهده اليوم من تسهيل معاملات على مختلف المستويات,فهناك تسعيرات محددة لشغل مختلف المناصب من مدرس إلى ضابط ,إلى شرطي أمن,إلى مدير دائرة والى مدير عام , وتسعيرات للحصول على  مختلف الوثائق والمستندات الشخصية من وثائق دراسية وشهادة جنسية وبطاقة أحوال مدنية وجواز سفر وغيرها,طبعا جنبا إلى جنب مع الفساد الكبير الذي يخترق مختلف العقود والمشاريع والمخصصات والاستثمارات الإنتاجية والخدمية التي تستهدف إحياء البنية التحتية المدمرة.

أن القبول بالفساد كأمر واقع شكًل احد عوامل الضغط على المنظومة القيمية والتربوية لدى أفراد المجتمع العراقي وفي تبديد قناعاته الأخلاقية والوطنية,فقد انتشرت اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع,وبروز التطرف والتعصب في الآراء وشيوع الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص,كما شاعت قيم فقدان احترام العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي وتراجع الاهتمام بالحق العام والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي بدوره إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر,وقد جاء ذلك على خلفية التراكمات التي افرزها النظام السابق متبوعة ومعززة بالإفرازات السلبية التي سببتها الاستقطابات السياسية والتحالفات المشوه والاعتبارات الفئوية والطائفية والقبلية حيث غياب مفهوم المواطنة ومصالح البلاد العليا.

وهكذا لعبت المحاصصة بمختلف مظاهرها سببا في شيوع الفساد الإداري والمالي,ولعبت دور الحاضنة الأمينة له ,فلم يتم اختيار أفراد السلطة ولا الوظائف العامة على أساس النزاهة والعصامية والتكنوقراط وإنما جرى ذلك وفقا لتوافقات سياسية واستحقاقات غير متوازنة ولا معقولة, وعلى هذا الأساس استخدم الفساد كطريقة وجزء من منظومة " الحوافز الإيجابية " ," فالمظلوم " من النظام السابق يقوم باسترداد " حقوقه " بطرق غير قانونية كردة فعل على القمع والإقصاء, ويصبح بدوره ظالما وسارقا للمال العام كاحتلاله منصبا سياسيا أو وظيفيا لا يحمل له أي مؤهل وتحت واجهات ومبررات مختلفة: خطية يستاهل !!!, وصاحب عائلة وأطفال وين يروح !!!, خوش آدمي صائم مصلي !!!,أحسن ما يمد أديه للناس !!!, أو يعتبر نفسه مفصول أو مضطهد سياسيا من النظام السابق فيقوم بتزوير الوثائق والمستندات اللازمة لذلك لكي يسترجع " حقوقه ". أما المظلوم الحقيقي من النظام السابق فيعاني الأمرين لانتزاع حقوقه,بل الكثير تنازل عن جدوى الادعاء بحقوقه تحت وطأة سوء المعاملة’كاصطدامه بموظف كارها له في الفكر أو بعثي سابق احتمى بطائفته ويشغل منصبا جديدا تكريما" لمظلوميته ". وهكذا وفرت المحاصصة غطاء لسرًاق المال العام وللمفسدين بصورة عامة,والجميع بعمل على قاعدة أضرب(أسرق) وأهرب إلى طائفتك أو قبيلتك أو حزبك أو إلى قوميتك,أو هذا لك وذاك لي !!!,بل وصل الأمر إلى العبث في تفسير النصوص القرآنية التي لا خلاف على تفسيرها,في محاولة لانتزاع "الاعتراف الإلهي" بأهلية الفاسد وفساده,فعلى سبيل المثال لا الحصر مثلا يرون في النص القرآني: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله" لا تشمل العقوبة سرًاق المال العام,وأن السارق له حصة في هذا المال فهو يأخذ من حصته,والسارق يعرف تماما أن السرقة من المال العام يعني السرقة من أكثر من 25 مليون عراقي,وبالتالي يستحق ليس قطع اليد،بل تقطيع الأوصال(حسب بعض المفسرين)!!!,أما اللهاث وراء الفتاوى الدينية لتحريم الحلال وتحليل الحرام فلا حدود لها,وعلى قاعدة " ذبه برأس عالم وأخرج منها سالم " وما أكثر العلماء في عراق اليوم !!!!.

ويتقاطع الفساد الإداري والمالي مع الفساد السياسي ليشكل مقدرة استثنائية في التحكم في الأمن وبعث " الاستقرار " وفي انهياره أيضا,وتلجأ العديد من الفصائل السياسية في التعبير عن قوتها وقدرتها على العبث في الاستقرار عبر ممارسة الفساد المقترن بالقوة المسلحة لاختراق مؤسسات المال العام وقتل حراسه !!!,ثم إعادة المال واختفاء المجرمين!!!!,وهي شبيه بالمناورات العسكرية لاستعراض القوى" ولتأديب " الحليف السياسي عند الضرورة !!!,ناهيك عن الإرهاب المعلن بغير أقنعة والمدعم خارجيا والقائم على خلفية عقائدية في العداء للديمقراطية بدون رتوش !!!. أن اقل ما تتركه هذه الأساليب من آثار تربوية ونفسية سلبية هو فقدان الأمل في الاستقرار والخضوع لتفاعلات الأمر الواقع وعدم الثقة بالنظام السياسي باعتباره بديلا عن النظام الديكتاتوري السابق,إلى جانب ما يتركه من حالات إحباط وقنوط تتضح آثارها بصور مختلفة من الاضطرابات النفسية لعل أبرزها مظاهر الاكتئاب والعدوان وإلحاق الأذى بالذات وبالمصلحة العامة.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن في كل تجارب البلدان التي مرت في محنة الفساد بقيت لديها فسحة من الأمل في بعض من قطاعاتها خالية نسبيا من الفساد,نظرا لارتباط هذه القطاعات بأهداف إنسانية كبرى ذات صلة وطيدة بمستقبل مجتمع بالكامل من حيث الأعداد والتربية والتأهيل وغرس روح المواطنة ونشير منها على سبيل المثال إلى قطاع التربية والتعليم باعتباره قطاعا مصدرا  لنماذج القيم المتقدمة وإعادة توليد ما هو ايجابي ومشرف في ذهنية الدارسين,إلى جانب كون العاملين فيه من النخب الاجتماعية والتربوية التي يفترض أن تكون نماذج ومعايير يقتدى بها ويسمع رأيها ,خاصة في الأزمات العامة ,إلا انه مع الأسف كان هذا القطاع من الضحايا الأولى للفساد بمختلف مظاهره من تزوير وسرقة أموال الدارسين وإفساد للعملية التربوية والتعليمية,منهجا وطرائفا وكادرا ومؤسسات,بل أن المحاصصات السياسية والحزبية والطائفية والقومية دخلت بكل حمولتها السيئة لهذا القطاع لكي تحي في ذاكرتنا الآثار السيئة للتبعيث,وبهذا حرم هذا القطاع من دوره الحقيقي في محاربة الفساد بتحويله إلى قطاع مُصدر للفساد.

وتبقى محاربة الفساد وتجفيف منابعه إحدى المهمات الصعبة التي تقف عائقا أمام تطور مجتمعنا وديمقراطيته السياسية الوليدة,وأن المدخل اللازم للقضاء عليه يتجسد في بناء دولة المؤسسات ألحقه القائمة على سلطة القانون لا سلطة الحزب أو الطائفة أو القبيلة والقومية,والعمل على تفعيل النزاهة والمسائلة والعدالة ضمن آليات عمل مفوضية النزاهة المستقلة ويجب أن تقوم بدورها بملاحقة المتورطين بقضايا الفساد وتقديمهم للعدالة باختلاف مناصبهم ووظائفهم ومسؤولياتهم وأنتمائاتهم الحزبية والطائفية والقومية,الجرأة الكاملة والواضحة في مكافحة الإرهاب بشدة باعتباره لونا من ألوان الفساد وخاصة عندما يستخدم للوصول إلى أهداف سياسية,والحفاظ على قطاع التربية والتعليم وتخليصه وتحًيده من الصراعات الطائفية والحزبية والسماح له بأداء دوره الإنساني والوطني في محاربة الفساد على نطاق واسع, فهو صمام الآمان لخلق جيل مؤمن بقيم النزاهة والحق والعدالة,وإعادة توليد القيم الايجابية في أذهان رجال المستقبل.





311
على هامش قرار غلق الجامعة المستنصرية لمدة أسبوع
وصعوبات تعيين رئيس لها


د.عامر صالح

أن مؤسسات التعليم العالي العراقية وبشكل خاص الجامعات منها هي بأمس الحاجة اليوم إلى الاستقلالية والحيادية عن ميدان الصراعات السياسية والمذهبية,لكي تستطيع هذه المؤسسات تأدية رسالتها في خدمة قضايا المجتمع في التنمية البشرية والبحث العلمي وفي انجاز المهمات التدريسية.

إن النظر إلى الجامعات باعتبارها مناطق نفوذ سياسي وطائفي وبالتالي يجب اقتسامها كغنائم لهذا الفصيل السياسي أو لتلك المليشيا لا يمت بصلة لتقاليد التعليم العالي والبحث العلمي التي امتلكها العراق وعرف بها من خلال رموزه العلمية والأكاديمية واستقرار مؤسساته منذ تأسيس الدولة العراقية,على الرغم ما لحق به من أضرار جراء سياسات التبعيث وهيمنة ثقافة الحزب الواحد والاستئثار بالامتيازات في هذا الميدان لمنتسبين هذا الحزب.

إن ظروف التغير السياسي في عام 2003 وما أتت به من "ديمقراطية نسبية" كان يفترض أن تنقل هذه المؤسسات إلى مستوى من المهنية والعلمية والنزاهة بما يجعلها مؤسسات آمنة وبعيدة عن كل ألوان الصراعات السياسية والمذهبية والعرقية,بما فيها الصراعات الجارية الآن بين وزارة التعليم والبحث العلمي ومجلس الوزراء على خلفية تعيين رئيسا للجامعة المستنصرية,واعتماد المواصفات والمعايير العلمية ذات الجودة العالمية في إشغال مثل تلك المناصب,وليست اعتماد شروطا تعسفية ترضي هذا الفصيل السياسي أو تلك المليشيا السياسية,وألا بماذا نفسر تعاقب أربعة رؤساء للجامعة المستنصرية خلال الأشهر الأخيرة بين تعيين واستقالة وإقالة,ولازالت الجامعة بانتظار رئيس لها.ألا يوجد الآن أستاذا ذو كفاءة في العراق يرأس هذه الجامعة !!!.

إن نفوذ المليشيات السياسية داخل أروقة الجامعات لتقرير رئاستها وتسير شؤونها ارتباطا بالصراعات الجارية في قمة الرئاسة( مجلس الوزراء ووزارة التعليم العالي ) يلحق أفدح الأضرار بأداء الجامعات لرسالتها الإنسانية والعلمية ويخترق حرمتها الأكاديمية,ويجعل من أساتذتها وطلبتها مشاريع ابتزاز وضحايا لسياسات المحاصصة الطائفية.

أن جامعاتنا العراقية تنتظر بأمس الحاجة اليوم إلى التضامن والتأييد وجذب الخبرات وأشكال الدعم بما يمنحها الاستقلالية التامة لكي تسمو فوق الخضوع السياسي للحزب أو المذهب ,وأن السياسي الصادق والنزيه هو الذي يحرص على استقلالية الجامعة وأداء مهمتها بوصفها مختبرا للبحث ومنتجا للمعارف والعلوم وللكادر التدريسي بمختلف الاختصاصات ولبناء عراق خالي من الصراعات الدينية والعرقية,عراق قائم على منجزات العلم والتكنيك والتقدم الاجتماعي.

312
ظاهرة التسرب المدرسي في التعليم الابتدائي
" أبعاد المشكلة, أسبابها وعلاجها عراقياــ رؤية مقارنة "

" إذا عرفنا كيف فشلنا نفهم كيف ننجح "
ارنست همنغواي



د.عامر صالح

أن إحدى دوافعي للبحث في هذا الموضوع هو التصريحات الرسمية التي نقلها موقع سومريون نت, والتي صدرت عن مديرية تربية محافظة ذي قار, إحدى محافظات العراق الجنوبية, والتي أكدت إن نسبة تسرب التلاميذ في التعليم الابتدائي بلغت( 8) الآلاف متسرب من مجموع 30   ألف تلميذ في المدارس الابتدائية في العام 2007 .وأضافت المصادر نفسها أن نسبة التسرب في العام الماضي 2008  بلغت 69% . ومن الجدير بالذكر أن هذه المحافظة هي من المحافظات التي تتمتع " بالأمن النسبي ",والذي نقصد به هنا محدودية أعمال العنف والتفجيرات والعمليات الانتحارية ,ولا نقصد بذلك مفهوم " الأمن الشامل".

وإذا كانت هذه النسبة العالية جدا من التسرب في محافظة " مستقرة ", والتي تتمتع بخدمات واهتمام متواصل كما يجري على ألسنة المسئولين فيها, فما هو حال المحافظات الأخرى الأقل استقرارا أو التي ينعدم فيها الاستقرار !!!,وهل أن أسباب ذلك تكمن فعلا فقط في "التفكك الأسري " كما يردده على مسامعنا " ذوي الاختصاص " في المحافظة,وتحميل الأسر مسؤولية التسرب واعتبارهم السبب رقم واحد,وأين هي انعكاسات تحسين الخدمات التربوية للحد من هذه الظاهرة,وهل المشكلة ذات أبعاد تربوية فقط !!!.

لعله من نافلة القول أن دول العالم تولي اهتماما ورعاية بالتعليم من منطلق أن التعليم هو أساس تقدم الأمم ومعيار تفوقها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية,وعن طريق التعليم يكتسب الفرد المعرفة وتقنية العصر والقيم والاتجاهات التي تحيط بشخصه من جميع الجوانب وتجعله قادرا على التكيف والتفاعل الايجابي مع البيئة والمجتمع.وأن اتساع القاعدة الشعبية لقطاع التربية والتعليم وتحوله إلى اكبر القطاعات الاجتماعية تجمعا للعنصر البشري دفع العديد من الحكومات المتقدمة والنامية إلى تبني استراتيجيات شاملة تزيل الطلاق التقليدي بين المدرسة والعمل والحياة وإحكام ربط هذا القطاع بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.وقد عززت هذا التوجه الدراسات الكثيرة التي بينت أن التربية ليست " خدمة استهلاكية " تقدم للناس بل هي توظيف مثمر للموارد يؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي,إن أحسن استخدامه,إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها,وهي ذات اثر طويل الأمد.وقد أكدت دراسات دنيون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين السوفيتي,أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة,بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية.

وعلى أساس هذه النظرة المتقدمة للتربية يجري رصد المزيد من الأموال لهذا القطاع في دول العالم المتمدن لأغراض تطويره والنهوض به لتحقيق اكبر قدر ممكن من الكفاءة الداخلية والخارجية له.وبالضد من ذلك فأن الإهدار التعليمي في هذا القطاع المتمثل في ابرز مشكلاته كالتسرب والرسوب,يعتبر من المشكلات المعرقلة لكفاءة النظام التربوي وتبديدا للجهود المبذولة لتطويره التي تعوق تحقيق أهدافه وتسبب في ضياع الجهد والوقت والمال,وينعكس أثره السلبي على الفرد والمجتمع وعلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية,وقد أشارت إحصاءات التعليم في الدول العربية إلى أن الإهدار التعليمي يستحوذ على أكثر من 20% من مجمل ما ينفق سنويا على التعليم في هذه الدول,ورغم أن ظاهرة الإهدار في التعليم ذات طابع عالمي وتعاني منه معظم دول العالم,إلا أن المشكلة تكمن في الفرو قات الكبيرة بين حجم انتشاره من دولة إلى أخرى وكذلك الاختلاف الكبير في طبيعة الأسباب التي تقف ورائها,ففي الدول المتقدمة تتراوح نسبة التسرب بين 0ـ1% وهي تكاد تكون معدومة,وان أسبابها في هذه الدول تقع خارج مسؤولية النظام التربوي أو النظام السياسي والاقتصادي,وتنحصر أسبابها هنا على مستوى نوعي وضيق جدا,كأن تكون مرتبطة بإشكاليات في الأسرة أو في ذات التلميذ,عدا ذلك فأن صرامة الإجراءات المتبعة للحيلولة دون التسرب والتبعة القانونية لذلك تحصر الظاهرة في حدودها الدنيا.وهو عكس ما يجري في الكثير من دول العالم ومنها الدول العربية, حيث أن التسرب هنا يقوم على خلفية اقتصادية وسياسية وتربوية,وعلى هذا الأساس أخذت الجهود الدولية في العمل على خفض نسب الإهدار كما أكدت توصيات المؤتمرات الدولية على الأعضاء وفي اليونسكو بالعمل على  تقليل نسبة الإهدار العالمية.
مفهوم التسرب ودلالته:
تتعدى الآثار الكارثية للتسرب والرسوب إلى جميع نواحي المجتمع فهي تزيد معدلات الأمية والجهل والبطالة وتضعف البنية للاقتصادية للمجتمع والفرد وتزيد الأتكالية وطول أمد الإعالة الأسرية والاعتماد على الغير,كما تفرز في المجتمع ظواهر خطيرة كعمالة الأطفال واستغلالهم وظاهرة الزواج المبكر,كما يؤدي إلى زيادة حجم المشكلات الاجتماعية كانحراف الإحداث وانتشار السرقات والاعتداء على ممتلكات الآخرين مما يؤدي إلى ضعف المجتمع وانتشار الفساد فيه إلى جانب فساد الكبار!!!,وما تسببه أيضا هذه المشكلة من أثار سلبية في نفسية التلميذ وتعطل مشاركته الفعالة والمنتجة في المجتمع.

أن التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لا يعني بكل الأحوال إهمال ما يتم تسربه في مراحل التعليم الأخرى( متوسط, ثانوي وجامعة ) بل هي أكثر بكثير سواء من حيث الإعداد المطلقة الخاصة بالتسرب أو من حيث نسب الاستيعاب التي تقابل الفئة العمرية  في هذه المراحل( وخاصة في ظروف العراق الخاصة جدا), إلا أن هناك ما يبرر التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لاعتبارات نفسية وتربوية وإنسانية.فالطفولة الأولى تؤسس لشخصية الإنسان وتبقى حاضرة بقوة في مراحل تطورها لاحقا مهما اختلفت وتنوعت المتغيرات التي تحيط بها والظروف التي تمر بها,وهي مرآة الفرد في الصحة والمرض.وأن مطلب " الطفولة السعيدة " بالإضافة إلى كونه مطلبا لذاته,إلا انه يسهم في تشكيل مراهقة مقبولة,ويساعد في اختيار نمط دراسي أو عمل يعكس فعلا إمكانيات الفرد الذاتية,بل ويسهم في إرساء ملامح شيخوخة تتمتع بقدر من الهدوء المطلوب والموازنة مع ما تبقى من ديناميات وقدرات وقابليات,بل ويساعدنا على الإجابة على أسئلة البقاء والعناد أو تقبل ميكانزم الموت بسلاسة !!!.والأهم من ذلك تربويا فأن تأمين التعليم الأساسي لهذه المرحلة العمرية المهمة يعتبر جهد الحد الأدنى من " الأمن التربوي " لتزويد الطفل بالمهارات الأساسية اللازمة في القراءة والكتابة والعادات الأساسية اللازمة لتكيفه ضمن هذه المرحلة من التعليم ومنع تسربه وردته وانضمامه إلى جيش الأميين ,وبالتالي يشكل تعميم التعليم وألزاميته والقضاء على التسرب احد العوامل الأساسية لتجفيف منابع الأمية.

وعلى هذا الأساس وانطلاقا من تلك الأهمية جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليؤكد في المادة(26):( لكل شخص حق في التعليم،ويجب أن يوفر التعليم مجانا،على الأقل في مرحلته الابتدائية والأساسية،ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا،ويكون التعليم الفني والمهني متاحا للعموم،ويكون التعليم العالي متاحا للجميع تبعا لكفاءتهم),كما أكدت المادة (29) من اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة على حق الطفل في التعليم,حيث أكدت المادة المذكورة أن التعليم هو ( الذي يعمل على تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكانياتها وتنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة...الخ),وكذلك ما ذكر في مواد أخرى ذات الصلة.

ومشكلة التسرب في العراق إلى جانب مشكلات أخرى في قطاع التربية والتعليم,منها ما يتعلق في مشكلات المناهج والإدارة التربوية وطرق التدريس وإعداد الكادر التدريسي ومشكلات التخطيط التربوي لهذا القطاع ومستويات استجابته لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشكلات توزيع الخدمات التربوية جغرافيا وعلى ضوء الحاجة الماسة لمختلف مناطق وأقاليم البلاد,وجميع هذه المشكلات ذات طبيعة متشابهة في البلاد العربية يطلق عليها اصطلاحا " أزمة التربية العربية ",إلا إن العراق في العقود الأخيرة وبسبب تعرضه لعوامل الحروب والحصار والانهيار الاقتصادي والاحتلال وتدمير مؤسسات الدولة وبنيتها التحتية والسياسات الطائفية,انفرد بأزمة خانقة وحادة تنفرد بخصوصية عالية عن نظيرتها في الدول العربية ونستطيع أن نطلق عليها " أزمة التربية العراقية ",سواء من حيث خصوصية الأسباب أو الإبعاد المدمرة لها.

ففي الوقت الذي حقق فيه العراق تقدما ملموسا في عقد السبعينيات على مستوى استيعاب الأطفال,فحسب تقرير اليونسكو أمتلك العراق قبل حرب الخليج الأولى نظام تعليمي من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة قدرت نسبة المسجلين فيه بالتعليم الابتدائي ما يقارب 100% مقارنة بأعداد الأطفال في سن التعليم الابتدائي,وحسب تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1973 فأن معدل التسرب في التعليم الابتدائي قد هبط في العراق إلى ما يقارب 5% بين الصف الأول والخامس الابتدائي,وكان هذا أوطأ معدلات تسرب في الدول النامية.ثم نال العراق في نهاية السبعينيات جائزة اليونسكو على حملة محو الأمية.وقد ساهمت في ذلك الطفرة المالية المتحققة من العوائد النفطية والتي وسعت من حجم الإنفاق على التعليم,وكذلك الدور الكبير والمتميز الذي لعبته الحركة الوطنية وفي مقدمتها قوى اليسار في التعبئة لنشر التعليم والثقافة في صفوف أبناء المجتمع وتعزيز الدور التعبوي عبر نشاطها وصحافتها العلنية, وخاصة في ميدان محو الأمية,ونقل تجارب الشعوب العالمية عبر صحافتها اليومية وخلق المزاج العام المواتي لتنفيذ ذلك.وإذا قارنا ما تحقق في السبعينات في العراق اليوم في بعض الدول العربية سنجد قيمة ما تحقق على ارض الواقع آنذاك,حيث على سبيل المثال اليوم يبلغ معدل التسرب في عموم الدول العربية من20ـ25%,وفي سورية مثلا تبلغ نسبة التسرب 11.5% , وتصل أعلى النسب في محافظة حلب بواقع 24% ثم تنخفض هذه النسبة في المحافظات الأخرى وتختفي في البعض منها.إلا إن الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام العراقي آنذاك وما سببته من استنزاف للموارد المالية والبشرية قد الحق أفدح  الإضرار بقطاع التربية والتعليم,ويكفي إن نشير هنا إلى إن نسبة القادرين على القراءة والكتابة في البلاد عام 2003: الذكور 55%, الإناث 23%. وبلغت خسائر هذا القطاع أكثر من أربع مليارات دولار شملت كل عناصر وأبعاد العملية التربوية ومستلزماتها ومؤسساتها ومراحلها المختلفة.

أن التسرب يمثل مظهرا من مظاهر الهدر التعليمي أو الفاقد في التعليم, إلى جانب مشكلة الرسوب المتكرر,ويعتبر نتيجة لضعف نتاج العملية التربوية وينشأ عن مشكلات تربوية واجتماعية تؤدي إلى عجز النظام التعليمي في الاحتفاظ بالملتحقين به كافة لإتمام دراستهم في مرحلة دراسية ما ( وخاصة في التعليم الابتدائي ).وان التسرب باعتباره انقطاع التلميذ عن المدرسة انقطاعا نهائيا قبل أن يتم المرحلة الإلزامية,فأن سقف التعليم الإلزامي يختلف من دولة إلى أخرى,فمنها من يدين بالإلزام لمدة 9 سنوات دراسية,وبعض أخر يكتفي بإلزامية تعليم أمدها 6 سنوات ( مدرسة ابتدائية ) كما هو الحال في العراق وفقا لقانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976,والذي يشمل الفئة العمرية من( 6ـ11) سنة,والذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم,علما أن إمكانيات العراق المادية والمالية تكفي لمد سقف الإلزام حتى إلى مرحلة التعليم الثانوي كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة والمتمكنة.مع العلم أن الدستور الحالي جاء ليكرس ما ورد في القانون المذكور أعلاه,حيث ينص على أن :" التعليم عامل أساسي لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة,وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية,وتكفل الدولة مكافحة الأمية.والتعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله".وعلى خلفية عدم وجود مدة إلزامية محددة من التعليم لجميع دول العالم فأن تعريف اليونيسيف لعام 1992 للتسرب يؤكد بأنه:"عدم التحاق الأطفال الذين هم بعمر التعليم بالمدرسة أو تركها دون إكمال المرحلة التعليمية التي يدرس بها بنجاح ,سواء كان ذلك برغبتهم أو نتيجة لعوامل أخرى,وكذلك عدم المواظبة على الدوام لعام أو أكثر".أي إن التعريف لا يشير إلى فترة إلزامية مناسبة,تاركا ذلك إلى إمكانيات الدول المختلفة.

ويجب الحذر من بعض الإحصائيات التي تشير إلى ارتفاع نسبة استيعاب الأطفال في عمر المدرسة الابتدائية, حيث أن التسرب من المدرسة لاحقا يحصد هذه النسب ويضعف نتائج الاستيعاب, بل يصل بها إلى حافة الانهيار شبه الكامل لمؤسسة التعليم الابتدائي.فقد اظهر المسح المدرسي الذي نفذته وزارة التربية عام 2004 بدعم من اليونيسيف إن الملتحقين بالمدارس الابتدائية في العراق بلغت 86% من الأطفال بعمر التعليم الإلزامي,أي كان هناك 600 ألف طفل غير ملتحقين, وقد اظهر المسح أن حوالي 24% من الأطفال يتسرب من المدارس قبل إتمام المدرسة الابتدائية الإلزامية.كما أن هناك إحصائيات حديثة نسبيا تشير إلى أن نسبة عدد التلاميذ الذين يلتحقون بالمرحلة الأولى ويصلون إلى الصف الخامس قد ارتفعت عام 2006 لتصل 90%,إلا إن هذه المؤشرات غير مطمئنه ولا تعكس حقيقة هذا الانجاز عند النظر إلى كل محافظة على انفراد,لأن هذه النسبة العالية هي تعبير عن متوسط النسبة المئوية في عموم العراق ولا تعكس حقيقة الأوضاع الجارية في مختلف المحافظات,ناهيك عن أن الاستقرار النسبي لإقليم كردستان قد يعكس جزء كبير من هذه النسبة !!!.

فمحافظة ذي قار, على سبيل المثال فقط, هي من المحافظات التي تصلح للقياس في استقرار بعض مظاهر الأمن, الذي يعتبر كشرط لازم لاستقرار العملية التربوية وانتظام المواظبة والحضور والاستمرار في الانتقال السلس والهادئ إلى السنوات التالية أو إلى المراحل التعليمية تباعا,إلا إن المؤشرات الإحصائية لا تعكس حقيقة ذلك,فقد بلغت نسبة التسرب في هذه المحافظة للعام 2007  بمقدار 27% استنادا إلى الإحصائيات التي تشير إلى أن هناك 8 ألاف متسرب من أصل 30 ألف في المدرسة الابتدائية,أما في العام الماضي 2008 فقد بلغت نسبة التسرب, أكثر من ضعفين,أي 69%,أي بمعنى أخر أن من كل 100 تلميذ دخل المدرسة عام 2007 تسرب منهم نهاية العام 27  تلميذا,وفي العام الذي تلاه 2008 تسرب 70 تلميذا من 100 تلميذ دخل المدرسة ,وعلى هذا الأساس نلتمس أبعاد هذه الظاهرة الخطيرة المتمثلة في هجر مقاعد الدراسة والانقطاع النهائي عنها.وعلى ما يبدو فأن نسب التسرب هذه مستخلصة فقط من أعداد المسجلين في هذه المرحلة في بداية كل عام وتسربوا في نهايته,ولم نعثر على دراسات ميدانية حديثة بهذا الخصوص تستند إلى التقنية العلمية  المعروفة في دراسة التسرب, والتي تسمى" بطريقة  الأفواج " والتي تبين لنا بشكل تتبعي هذه الظاهرة ابتداء من الصف الأول ابتدائي إلى الصف السادس ولم يتخرجوا أو انهوا فقط الصف الخامس,وتوضح لنا أيضا حجم التسرب في كل سنة.واستنادا إلى هذه الطريقة فقد نتوقع نتائج مأساوية ارتباطا بالمعلومات الإحصائية المذكورة أعلاه,وما يتسرب من الأعداد الباقية أو من الأعداد التي تلتحق للتو بالتعليم الابتدائي وهكذا.

ولأغراض الفائدة العلمية أرى ضرورة توضيح سريع لبعض معالم هذه الطريقة: يحسب التسرب هنا بآليتين, الأولى طريقة " الأفواج الظاهرية" وهي أن ننظر إلى أعداد التلاميذ في صف معين في سنة معينة ثم نقارنه بعدد تلاميذ الصف التالي في السنة التالية والفارق نرده إلى التسرب بعد أن نطرح منه أعداد الراسبين ومثل هذا الأسلوب لا يقدم سوى تصور ظاهري لحجم التسرب إذ قد يأتي إلى الصف التالي وافدون جدد من مدارس أخرى قد يفوق عددهم العدد الحقيقي للفوج,ولهذا يتم اللجوء إلى الطريقة الثانية " الأفواج الحقيقية " وهي تعني أن ننظر في فوج معين من الطلاب" بأسمائهم وأشخاصهم "وأن نتابع تطور أعداد هذا الفوج عبر السنة التالية ثم السنوات الأخرى من المرحلة,وعند ذلك يتضح لنا النقص الحقيقي الذي يطرأ ,ونستخرج التسرب بعد حذف الرسوب وحسابه بشكل صحيح.
أسباب التسرب:
أن العوامل التي تؤدي إلى التسرب من التعليم الابتدائي في العراق هي ذات خصوصية عالية ارتباطا بظروف العراق الشاذة والاستثنائية, وهنا يمكن فرزها بمنظومة الأسباب الآتية :
1 ـ الأسباب الاجتماعية والثقافية, وتشمل : 
*  تصدع وانهيار التركيبة الاجتماعية والقيمية وتعرض الأسر العراقية إلى  انهيارات كبرى تجسدت في : ازدياد نسب الأطفال اليتامى وفقدان الرعاية الأبوية,انتشار ظاهرة التسول والتشرد في الشوارع والطرقات,ازدياد نسب الأطفال الذين يتعاطون المخدرات والمسكرات,محنة الأطفال غير الشرعيين أو مجهولين النسب ,الأطفال المهجرين قسرا من ديارهم ومناطق طفولتهم إلى مناطق أخرى داخل العراق وإشكالية التكيف للبيئة الجديدة, تعرض الأطفال إلى عمليات الخطف والابتزاز واستخدامهم كرهائن مقابل مبالغ مالية أو صفقات أخرى لتصفية حسابات شخصية وسياسية,عمليات التحرش الجنسي والاغتصاب والمتاجرة بالأطفال,الأطفال مرتكبي الجنح والجرائم المختلفة,ازدياد نسب الأطفال ذوي الإعاقات المختلفة العقلية والجسمية وانعدام الرعاية التربوية الخاصة بهم,وجميع هذه الظواهر هي من الإشكاليات المستفحلة وتشكل عوامل طرد وليست جذب للمدرسة وما يترتب على ذلك من انقطاع وعدم مواظبة أو تسرب نهائي من المدرسة.

* تدهور المكانة الاجتماعية للتعليم لدى الأسر أو الوالدين بشكل خاص,واعتباره ليست بتلك الدرجة من الأهمية,وهذا أيضا ناتج من ضغوطات الواقع,وإعادة ترتيب سلم الأوليات,كأن يعتبر الحفاظ على الأرواح أو الشرف أهم بكثير من التعليم ,وبالتالي احد عوامل الانقطاع عنه وعدم الاستمرار فيه والتسرب منه,إلى جانب طبعا عدم توفر الوعي الثقافي اللازم لدى الكثير من الأسر بعدم إدراكهم لمدى الضرر لاحقا من جراء انقطاع أطفالهم عن المدرسة.
 
* تدهور الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض المختلفة كأمراض الجهاز التنفسي وأمراض الكلى المزمنة والكبد والسرطان والايدز وحالات ضعف السمع والبصر والتشوهات الخلقية,وجميعها عوامل تدفع  نحو الانقطاع المدرسي كخطوة نحو التسرب منه نهائيا.

2 ـ الأسباب الاقتصادية:
 وتتلخص أبرز ملامح تأثيرات الوضع الاقتصادي في ظاهرة التسرب فيما يأتي:
* انشغال الأسرة بتغطية متطلبات الحياة الاقتصادية والمعيشية الأساسية, يدفع الكثير منها إلى الاستعانة بأطفالها وزجها في سوق العمالة واستخدامها كدخل إضافي,ونحن نعرف جيدا ضيق فسحة العيش في العراق,حيث تشير الإحصائيات إلى أن 40%  من الشعب العراقي يعيش تحت مستوى الفقر( حسب إحصائية وزارة حقوق الإنسان العراقية ),ومليون أسرة تعيش على معونات شبكة الحماية الاجتماعية التي تتراوح بين( 70ـ  130 ) دينار شهريا( حسب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية ).وهذا بدوره يشكل عوامل ضغط على الأطفال لترك الدراسة.

* ضعف الغطاء الاقتصادي المتمثل بالمدعومات المالية المناسبة والتسهيلات كأجور نقل أو تقديم وجبات طعام أساسية للطلبة الفقراء أو تقديم القرطاسية المدرسية مجانا أو ملابس وتجهيزات مختلفة,مما يسبب إثقال كاهل اسر التلاميذ وخاصة الفقيرة,مما يضطرها إلى سحب أولادها من المدارس.

* ضعف مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة,مما يؤدي بدوره إلى ضعف الإنفاق على التعليم الابتدائي لتوفير مستلزماته من كوادر تعليمية وأبنية صالحة وكتب منهجية وقرطاسيه ولوازم مدرسية ولتغطية مختلف نشاطات هذا القطاع,إلى جانب ضياع وإهدار وسرقة أموال هذا القطاع,والتي لا تخضع للتدقيق والمراقبة الكافية,أسوة بغيره من قطاعات الدولة.وفي هذا السياق وإثناء كتابتي لهذا الموضوع اطلعت على خبر نشره موقع سومريون نت بتأريخ 20ـ 09 ـ 2009 يفيد بتشكيل لجنة تحقيق في محافظة ذي قار "الآمنة والمستقرة "  للكشف عن اتهامات باختلاس مبلغ 205 مليون دينار بمديرية تربية المحافظة,بناء على مطالعات قدمت من لجنة مكافحة الفساد في المحافظة,علما أن عمليات الاختلاس " تمت بين شهري تموز وأيلول الجاري ", ومن الضروري التذكير هنا أن عدد المدارس المبنية من الطين والقصب والخيام في هذه المحافظة يبلغ 200 مدرسة, وأن نسبة الأمية فيها 57% من مجموع سكانها البالغين قرابة المليونين !!!!.

3ـ الأسباب التربوية:
ويمكن بلورة أبرز الاتجاهات التربوية التي تدفع باتجاه تسرب التلاميذ وتركهم المدرسة على النحو التالي:
* عدم ارتباط المناهج بحاجات المجتمع وعدم تلبيته لميول الأطفال وهواياتهم وكذلك ضعف كفاءة المعلم من حيث الإعداد والتدريب وضعف كفاءة الإدارة التعليمية,وقصور الإشراف والتوجيه,والاعتماد على أساليب التقويم القائمة على الامتحانات التقليدية وقصور الإمكانات التربوية من مبان وتجهيزات وفرص النشاط المختلفة.
* عدم احترام شخصية التلميذ وميوله واهتماماته المختلفة وضعف التوجه لدراسة الفروق الفردية بين التلاميذ وتكييف المنهج وطرق التدريس لها,وعدم استغلال أوجه النشاط المدرسي الصفي واللاصفي في جذب التلاميذ إلى المدرسة.
* الرسوب المتكرر وعدم متابعته من قبل إدارة المدرسة أو ذوي التلاميذ مما يضعف ثقة التلميذ ويفقده المتعة من وجوده في المدرسة ويثبط حافزه على متابعة الدراسة.
* انعدام أو ضعف العمل المشترك بين المدرسة وأهل التلميذ مما يضيع الفرصة للوقوف على المشكلات التي يعاني منها التلاميذ يوميا, وبالتالي لا يترك مجالا لحلها في الوقت المناسب,وأن تراكمها لاحقا يشكل حجر عثرة أمام استمرار التلميذ في المدرسة.
* عدم اعتماد الخرائط التربوية في توزيع الخدمات التعليمية جغرافيا ونشر المدارس الابتدائية على مقربة من السكن الأصلي,الأمر الذي يعتبر من المعوقات الأساسية في سهولة انتقال التلاميذ من والى المدرسة,مما يزيد من أعباء الطالب النفسية وتشديد مخاوفه من الإرهاب وإعمال القتل والاختطاف,ويشكل عبئا أخر يزيد من هموم وتفكير الأسرة وقلقهم على سلامة أطفالهم,مما يسهم في إحجام الولدين عن إرسال أولادهم إلى المدرسة.
* قصر اليوم المدرسي واعتماد الدوام الثنائي المزدوج أو الثلاثي مما يضعف الارتباط بين الطالب والمدرسة ويقلل من فرص ممارسة التلميذ للأنشطة الصفية والللاصفية لتلبية رغباته واحتياجاته للنمو المتعدد الجوانب,و بالتالي تصبح المدرسة مكانا للإقامة الجبرية أو ثكنة عسكرية يشعر فيها الطفل فيها بالجزع أكثر من الانشراح والموائمة,ويتحين الفرص للهروب منها.
* وهناك من الأسباب التربوية ذات الصلة بالنواحي الوجدانية بالتكيف النفسي للتلميذ,كما تتصل باتجاهاته وسلوكياته,هناك عوامل تتعلق بجوانب شخصية التلميذ,واستعداداته ومهاراته,وقدراته النفسية والعقلية ,وقد أثبتت الكثير من الدراسات وجود ارتباط واضح بين بعض السمات الشخصية للتلميذ وتسربه من التعليم.

4 ـ الأسباب السياسية:
* أن مصير العملية التربوية كم هو معروف يرتبط وثيقا بالاستقرار السياسي الذي يبعث الأمل في مؤسسات الدولة وقيامها بأنشطتها على أسس موضوعية وحيادية, ومنها قطاع التربية والتعليم,فالنظام السياسي يلعب دورا مهما في إعادة توليد القيم الأخلاقية والاتجاهات الاجتماعية العامة,والنظام التربوي هو احد أدواته لتكريس هذه القيم ونشرها على نطاق واسع عبر الممارسات اليومية,من خلال المناهج والأنشطة المدرسية,وتشكل في هذا السياق ظاهرة التعصب الديني والطائفي والقومي احد القيم الأخلاقية والتربوية الضاغطة على وحدة نظام التعليم ونسيجه الاجتماعي,ويشكل هنا التسرب من التعليم والابتعاد عنه احد وسائل احتماء الأقليات في حالات الاحتقان الشديد وسببا في انقطاع الكثير من أبناء الأقليات والطوائف عن التعليم والعزوف عنه.
* تعرض النظام التربوي جراء سياسات النظام السابق الهوجاء وما تلتها من سياسات عشوائية على أيدي الاحتلال وما تبعتها من تكريس للمحاصصة الطائفية,إلى انهيارات كبرى في مراحله المختلفة,فقد تم تدمير اغلب المؤسسات التربوية من أبنية ومستلزمات وأجهزة,وقد تحول الكثير من المدارس إلى مجرد أربعة جدران وأماكن شكلية لإقامة التلاميذ,لا تشد الطالب إلى المجيء والمواظبة,بل إلى طرده من المدرسة,ناهيك عن اقتسام المدارس إلى مناطق نفوذ طائفي أو حزبي,فهي تعتبر في أذهان الكثير أماكن غير آمنه.
* أن تشديد قبضة الإرهاب والعمليات الانتحارية أطالت ألاف من الأطفال,وكانت أوقات الدوام الرسمي" بدايته ونهايته" فرصا مواتية لإيقاع الأذى وزرع الخوف لدى الأطفال وأسرهم,مما أدى إلى عزوف التلاميذ عن الدوام وعدم انتظامهم ثم تسربهم.

علاج التسرب:
أن الحد من التسرب والاقتراب من نهايته يستند إلى منظومة متكاملة من الإجراءات,وتشكل النوايا الحسنة والقناعة بالنظام الديمقراطي و قيمه الإنسانية مدخلا لازما لذلك ومظلة تحمي آلية التنفيذ,ولعل ابرز العلاجات الناجحة هي ما يأتي:
* الاهتمام بالمرافق والخدمات التعليمية مما يجعلها جذابة وشيقة ومرتبطة بواقع التلاميذ,وتحسين المعاملات والممارسات المتبعة في الاتصال التعليمي وبنائها على مبادئ التربية الحديثة القائمة على أساس أن التلميذ مركز اهتمام العملية التربوية,واستغلال خاصية يتمتع بها الأطفال عامة وهي الفضول والذهن المتفتح لاكتساب ومعرفة كل شيء.
* منع تشغيل الأطفال منعا باتا وعبر إجراءات صارمة لعل أبرزها تفعيل العمل بقانون التعليم الإلزامي وتطبيق العقوبات الواردة فيه على أولياء الأمور,ويجب أن يقترن هذا الإجراء بدعم اقتصادي للأسر المعوزة وتحمل المدرسة الإنفاق التربوي على التلاميذ من مستلزمات وملابس وتغذية.
* توفير خدمات التوجيه والإرشاد النفسي والتربوي والاجتماعي للتلاميذ وأسرهم والتأكيد من قبل إدارات المدارس على ضرورة وجود المرشد الاجتماعي في المدارس لما يقدمه من مساعدة للإدارة التعليمية وللأهل في المشكلات المختلفة ومنها التسرب,وأن تكون هناك حصص أسبوعية أو شهرية من قبل هذا المرشد للأهل وللتلميذ لمناقشة عوامل التسرب وإمكانية الحد منها,والتأسيس الجيد لمجالس أولياء الأمور في المدارس.
* التأهيل المستمر للكادر التربوي وإعادة تأهيله على ضوء ما يستجد من معطيات في العلوم التربوية والنفسية, والتخلص من العناصر ألمزوره,أو التي لا تحمل مؤهلا تربويا وذات أداء ضعيف,والتي تكون معظم الأحيان سببا في التسرب لا في منعه.
* العمل على وضع خطط ملموسة لنشر شبكات رياض الأطفال في أرجاء العراق وخاصة في القرى والأرياف ,والتي لا تزال ضعيفة جدا,حيث لا تستوعب في أحسن الأحوال 7% من مجموع الأطفال في عمر 4 إلى 5 سنوات في عموم العراق,لما لها من أهمية استثنائية في خلق الاستعداد الايجابي للأطفال اتجاه المدرسة الابتدائية لاحقا والإقبال عليها والاستمرار فيها.
* وضع الخطط والمناهج التي تعتمد على المواهب والطموحات والقابليات لدى الأطفال والابتعاد عن مناهج الحشو والمليئة بالمعلومات ذات الطابع الكمي والتي تكره في نفس الطالب المدرسة والمادة الدراسية,ومحاولة ربط المنهج بالبيئة المحيطة عبر تطبيقات للمنهج في مختلف مجالات المجتمع المحلي.
* منح فرص إضافية للمتسربين سواء عبر مدارس مسائية أو نهارية أو مدارس متنقلة وخاصة في المناطق النائية والقرى والأرياف,أو مناطق التهجير والإقامة الجديدة للأطفال,وهي وسائل تعين الأطفال على عدم العودة إلى الأمية كاملة.
* استخدام الإعلام والصحافة اليومية الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الاجتماعية المختلفة للتثقيف والتوعية بدور التعليم وخاصة الموجه منها إلى ذوي الأطفال والتركيز على ضرورة عودة أطفالهم إلى مقاعد الدراسة.
* الاستقرار السياسي والأمني وهو المطلب رقم واحد  لاستقرار العملية التربوية وما يؤدي إليه من انخفاض نسبة العنف وتعزيز ثقة الأسر والأطفال بالنظام السياسي والتربوي,ويضمن يوم مدرسي هادئ خالي من القتل والاختطاف والارتهان.
* إنشاء دور لليتامى لإيوائهم وتأمين حياة آمنه لهم يتمتعون فيها بقدر من الرعاية الاجتماعية والاقتصادية وإنشاء مدارس خاصة لهم لتسهيل اندماجهم لاحقا في المدارس المنتشرة على مقربة من إقامتهم,كي يتسنى لهم التحصيل الدراسي في المرحلة الابتدائية على الأقل وحمايتهم من التسرب.
* إنشاء مدارس لمختلف المعوقين وتصنيفهم وفقا لدرجة وطبيعة إعاقتهم,كما هو معمول فيه دول العالم المتحضر,وإتاحة الفرصة لهم للحصول على قدر من التعليم والتربية والتي تنسجم مع قدراتهم العقلية والجسدية,ومنع تحولهم إلى أميين بالمطلق.
 


313
المظاهر السايكوثقافية للكلام
الجذور والممارسات

"الكلام الحسن درع"
ريختر
د.عامر صالح


يعتبر الكلام من الموضوعات المهمة التي شغلت القدماء والمحدثين من علماء اللغة,والطب,والكلام,وعلم النفس,والتربية,وعلم الاجتماع,وغيرهم من العلماء في مجال التخصصات الأخرى,وقد أكد هؤلاء جميعا أهمية الكلام في القدرة على الاتصال,وعلى التوافق,وفي النمو العقلي والفكري والاجتماعي والنفسي....الخ.

أن للكلام تأثيرا جوهريا على تطور الحضارة الإنسانية, لا تتمتع به الكتابة بالاستشهاد في العديد من المجتمعات الإنسانية التي تطورت وازدهرت, من غير أن تطور نظاما للقراءة والكتابة, ولا نعرف حضارة كانت تفتقر إلى الكلام.

لقد حاول الفلاسفة على مر العصور توضيح ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات, فوصفوه مرة بعد أخرى بأنه"كائن عقلاني"و"حيوان سياسي"و"حقيقة مفكرة"و"عنصر حر".أما في العصور الحديثة فقد اجمع العديد من الباحثين, في شتى مجالات المعرفة, على إن القدرة الكلامية هي الصفة الأسمى التي تميز الإنسان.

وبهذا الصدد يجدر بنا الإشارة إلى قول أ. كاسيرية:( بدلا من تعريف الإنسان بأنه"حيوان عاقل" يجب أن نعرفه بأنه" حيوان رمزي"؛ ففي هذا التعريف يتضح ما يميزه فعلا,وما يفرق بينه وبين الأنواع   الأخرى من الكائنات الحية,   
 ومن هنا نستطيع فهم الطريق الخاص الذي سلكه الإنسان إلى الحضارة, ومن الثابت إن التفكير الرمزي والسلوك الرمزي هما ابرز المعالم التي تميز حياة الإنسان, وان كل تقدم في الحضارة يركز على هذين العنصرين.
   
وكما هو معلوم,فان هناك أنواعا من الرموز مثل:إشارات الحوار,وعلامات المرور,والرسومات  والرموز الرياضية والكيميائية,ومع هذا تظل الكلمات تمثل لغة الرمز الأولى؛ فعن طريقها يستطيع الإنسان أن يكشف تماما عن حقيقته لنفسه
وللآخرين في الصحة وفي المرض, ويستطيع أن يندمج بصورة فعالة في الحياة الاجتماعية, وعن طريقها يتبادل الخبرات والأفكار.كما يستطيع برمجة ومراقبة نشاطه اليومي, وإضفاء النظام والوعي على تراثه العقلي والفكري, كما يسترجع الماضي بوضوح, ويتوقع المستقبل بفراسة, ويحتفظ في الذاكرة بتقاليد الشعوب المختلفة, ويعقد مقارنات خفية بين الثقافات المختلفة.

                                                                           أن تعليم الكلام يلتقي على نطاق واسع والتكوين العقلي, ولهذا فأن تعليم الطفل التحدث جيدا ما هو إلا تعليمه التفكير جيدا,ولأن التفكير في حد ذاته ما هو إلا تعبير وكلمة,فأنه لا يمكن  تعليم الطفل أن يفكر أولا لكي يقوم بعد ذلك بمطابقة كلماته مع أفكاره,ولكن التفكير ينمو مع الكلام بصورة متوازنة في الحياة.ولهذا فأن الكلام يعطي التفكير انسجاما ووضوحا ولمعانا,بقدر ما تأخذ منه هذه الأشياء.

أما من الناحية الارتقائية فأن الطفل يبدأ باكتساب الكلمات من المجتمع الذي يعيش فيه بوصفها أداة فكرية,موضوعية مادية,خارجية في أول الأمر ثم تصبح  لغته الخاصة الذاتية,فتدخل في كيانه الفسلجي المخي.والكلام ظاهرة اجتماعية من حيث المحتوى,نشأ وتطور عبر الأجيال,يكتسبها كل فرد في أثناء حياته اليومية من المجتمع الذي يعيش فيه.واكتساب الفرد للغة من الناحية السيكولوجية يعني نشوء وظائفه العقلية العليا الأخرى التي لم تكن موجودة لديه فطريا,وابسط هذه الوظائف والقدرات وأوضحها هي القدرة على سماع الكلام وفهمه,والقدرة على نطقه بعد ذلك,ثم القدرة قراءته,ولكي يحصل ذلك لابد من توافر الأساس الفسلجي,المتمثل في سلامة المخ,وفي سلامة السمع والبصر,وجهاز النطق,من جهة,وتوافر مجتمع يعيش فيه الطفل ويتزود بمحتوى الكلام عن طريق التعامل معه,من جهة أخرى.

ويلعب الكلام دورا رئيسيا في ضبط سلوك الأطفال وتوجيهه وجهة محددة عبر منظومة الممنوعات والمرغوبات في دائرة الثقافة السائدة للمجتمع.وخلال عملية التنشئة الاجتماعية المستمرة للفرد يتحول الكلام إلى قوة ردع أو قوة محفزة للسلوك,استنادا إلى مطابقة محتواه مع النماذج الثقافية السائدة.وبالتالي تصبح ثقافة الكلمة وتأثيرها جزء لا يتجزأ من الشخصية, وتشكل إطارها المرجعي في الممارسة الحياتية.ومن هنا نستطيع القول بأنه لا وجود للكيان الجسمي خارج إطار التأثير المباشر لثقافة الكلمة.

وهنا نستطيع الجزم بأن الإنسان يتعلم بفعل الكلمة وتأثيرها المباشر كيف يمشي ويقف ويجلس,كيف يحرك أطرافه وعضلاته جسمه الإرادية,يتعلم الحوار وآدابه,كيف يلبس ملابسه وكيف يكون عاريا,كيف يكون صديقا حميما أو عدوا لدودا,كيف نكون شاكرين للآخرين أو جاحدين لهم,كيف تكون جارا ودودا أو ثقيل المعشر,كيف تبادل الحب بحس مرهف أو لا تفقه لغة الحب,كيف نأكل ونشرب....الخ

وبفعل التأثير المزمن للكلمة في الشخصية نستطيع أن نعرف إلى أية ثقافة فرعية(مهنية ومنا طقية وحتى حزبية)ينتمي الفرد:حلاقا أم مدرسا,سائقا أم مديرا,ندافا أم مهندسا؛من بغداد أم من العمارة,من الموصل أم البصرة,من النجف أم تكريت؛والى أي عقيدة ينتمي: إسلامي,يهودي,مسيحي,ليبرالي,اشتراكي,....الخ

ومن خلال المعايشة و التواصل الكلامي مع الإفراد نستطيع أن نقف على الكثير من الصفات الشخصية لهم:عطوفا أم قاسيا, عاقلا أم متهورا, رذيلا أم محترما, خجولا أو قبيحا, متكبرا أو متواضعا, معتدلا أو متطرفا, حزينا أو متفائلا.....الخ
ولكي نضفي على غرائزنا المشتركة مع من تحتنا في المملكة الحيوانية بعدا إنسانيا, فما علينا إلا بالكلمة..... وعندما تمضي الكلمة في الكيان الشخصي, فهي أما" سلاح دمار" شامل أو "عسل شافي"......إنها الكلمة إإإإ




314
التحصيل الدراسي المرتفع والذكاء الطائفي المنخفض!!!

" غاية الأدب أن يستحي الإنسان من نفسه "
                         
                              علي بن أبي طالب(ع)




د.عامر صالح

أثار التلاعب بنتائج الامتحانات الثانوية العامة وتزويرها في العراق على أساس جغرافي ـ طائفي استنكارا شديدا لدى أوساط المثقفين والكتاب والتربويين,نظرا لما يحمله من معاني خطيرة على مستوى تعزيز حالة التشرذم الطائفي ودق الآسفين في كيان الدولة وقطاعاتها المختلفة ونخر نسيج المجتمع العراقي,عدا عن كونها سرقة تمارسها السلطات التربوية لجهود الآخرين,لا يتفق مع الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية والعلمية. وهي حلقة متواصلة من حلقات تدمير مكونات المجتمع العراقي وتأليب عناصر بنيته المتجانسة والمتعايشة تاريخيا,على قاعدة البحث عن ابخس الوسائل لتعزيز حالة " فرق تسد ",وإلحاق الضرر بقطاع التربية والتعليم,الذي يجب أن يتمتع بموضوعية وشفافية متناهيتين في أدائه على مستوى الفعاليات الداخلية لهذا القطاع ومخرجاته.

إن الأمم تقاس بقوة نظمها التعليمية والتربوية والتي تكون مخرجاتها على درجة عالية من الجودة,حيث تعد أفراد مؤهلين على درجة عالية من الكفاءة ومبدعين قادرين على تطوير المجتمع,ولديهم مرونة عالية على تطوير أنفسهم ومواكبة التغيرات ومستجدات العصر القائم على التقدم العلمي/التربوي والتكنولوجي,والتالي فأن النزاهة في هذا القطاع يعتبر من المؤشرات الدالة على كفاءة القطاع الداخلية,التي تتجسد من ضمن أمور أخرى بمصداقية الوسائل والمعايير والمقاييس التي يلجأ إليها لفرز الاصطفاف في التحصيل على أساس الكفاءات والقدرات الشخصية المختلفة لكي تستجيب بصدق وأمانة لحاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي القائم على أساس التنوع في القدرات والإمكانيات الذاتية,لا على أساس التزوير وخلط نتائج التحصيل والعبث بها لمصلحة فئوية وسياسية بما يرفد سوق العمالة بأضعف وأردئ " الكفاءات ", وتلك هي تجارب البشرية المتقدمة التي يعز عليها مكانة  الإنسان والعلم أولا و أخيرا,تلك هي التجربة الروسية "الرائد الأول للفضاء " , وتلك هي التجربة الأمريكية " الدولة رقم واحد في البحث العلمي والتقدم التقني ",وهذه هي التجربة اليابانية في خلق وتربية الإنسان المنتج والمحترم لنظامه السياسي ولديمقراطيته .

إن تزوير نتائج الامتحانات هو من المؤشرات الخطيرة لانعدام ثقة الطالب بنظامه التعليمي,ومن ثم بنظامه السياسي الذي يدعي الديمقراطية والعدالة والمساواة,فأي عدالة هذه وأي مساواة يسرق في ظلها أتعاب وجهد الآخرين.أنها عملية تثبيط للحوافز والمثابرة والإبداع القائم أصلا على المنافسة الفردية النزيهة وعلى بذل الجهد الذاتي.إن انعدام ثقة الطالب بقياداته التربوية في قطاع يعتبر من أكثر القطاعات تجمعا للعنصر البشري وتنوعا في ثقافات وطوائف واديان وأعراق الدارسين فيه,يعني ما يعنيه إلحاق الأذى بالطفولة "إن وجدت " والعبث بمستقبل الشباب " الواعد " الذي مازال يعيش لغد مجهول ويعني هذا أيضا خرقا لمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية والمساواة التي قامت عليه نظم التعليم الإنسانية ورعته الأمم المتحدة,ويعني أيضا العبث بإمكانيات وقدرات شعبنا ومنعه من التعبير عنها, وتشويه فطرة الإنسان وقابليته عبر لجمها وعدم منحها استحقاقاتها.

إن تحسين التحصيل الدراسي أو رفعه, باعتباره درجة الاكتساب التي يحققها الفرد,أو مستوى النجاح الذي يحرزه أو يصل أليه في مادة دراسية أو مجال تعليمي,أو معدل دراسي في مجمل المواد لا يأتي من خلال التزوير وإعطاء من لا يستحق حقوق غيره,بل من خلال إجراءات تربوية مستديمة ومتكاملة يجب على النظام التربوي والقيادات المسئولة أن تأخذ بها " إذا كانت حريصة على تحسين التحصيل والأداء المدرسي "ولعل أبرزها : تطوير الخدمات التربوية وتحقيق نوع من العدالة بين المدن المختلفة من جهة وبين الأرياف والمدن من جهة أخرى,التحسين والتطوير المستمرين للمناهج وطرق التدريس الفعالة,تطوير أداء الكادر التدريسي عبر إعادة التأهيل وغيره من أشكال الإعداد,انتقاء عناصر الإدارة التربوية والتعليمية على أسس مهنية وحيادية وذات تأهيل مناسب,إحداث وتطوير نظم الإرشاد التربوي والنفسي,التي تسهم بحل مشكلات الطلاب بما يسهم برفع مستوى التحصيل,والوقوف على معوقاته وحل المشكلات ذات الطابع الفردي في انخفاض التحصيل,الحد من تأثير المشكلات الاقتصادية في التحصيل الدراسي,عبر دعم الأسر الفقيرة " وما أكثرها في عراق الذهب الأسود " بما يخفف عن كاهل الأطفال ويسمح لهم بمزيد من التفرغ الدراسي,تنظيف نظام التعليم من المزورين,وكذلك إعادة النظر الجذري دوريا بالمناهج الدراسية والتأكد من سلامتها من الطائفية والتعصب,وبما يخدم ربط المنهج بالبيئة وحاجات المجتمع.

وإذا أردنا للنظام التعليمي الارتقاء بمستوى مخرجاته (خريجيه) فيجب أن نلجأ إلى التقويم الشامل للطالب,باعتباره مكونا أساسيا في العملية التربوية ,وان تقويمه يجب أن يتضمن جميع أبعاد شخصيته : المعرفية ـ العقلية ـ الجسمية ـ الوجدانية, على اعتبار أنها وحدة واحدة,والابتعاد عن أحادية الجانب في تقويم التحصيل والتي تركز فقط على البعد المعرفي(أي المعلومات فقط التي يحصل عليها الطالب ويحفظها في الذاكرة لانتظار موعد الامتحان),فأن التقويم الشامل هو عنصر أساسي في نظم التعليم المعاصرة ,ومن خلاله يتم الوقوف على مدى تحقيق أهداف النظام التعليمي والتأكد من كفائتة في الاستجابة للظروف الحياة المتغيرة أبدا.ومن يريد أن يجير الذكاء والتحصيل بطائفة أو ملة ما بعيدا عن فهم عوامل تحسين التحصيل وظروفه,فأنه بالتأكيد من ذوي الذكاء المنخفض,إن لم يكن من فئة المعتوهين عقليا,وهو غير قادر على فهم ظاهرة التربية ودينامياتها.وبقدر ما نبذ شعبنا التبعيث في التعليم,فأنه سوف ينبذ الطائفية وطريقتها في رفع التحصيل !!!.








315
سيكولوجيا الحب  الاول في السياسة/ الحزب الشيوعي العراقي أنموذجا
محاولة للأجابة على من كان مع او ضد...!!!


د.عامر صالح

ان التجارب العاطفية الاولى  تستحضر بقوة بين الحين والاخر الىحيز الشعور,نتيجة لأرتباطها ببداية تشكيل الخبرات العاطفية,وتعتبر من اللبنات الاولى في بناء الشخصية العاطفي على طريق أكتساب المزيد من الخبرات والتجارب.وهي اختبارات صعبة للتأكد من صلاحية الشخصية في التكيف والبقاء مع الجنس الاخر.

وتشكل تجربة الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي لأول مرة في عمرالفرد لونا من الوان هذا الانتماء المشحون باالعاطفة الجياشة والانفعال القوي للأرتباط به.ومن اجبر على ترك الحزب في هذا العمر عانى كثيرا ,كما يعاني من اجبر على ترك محبه الاول,حيث تجري الاشياء هنا بالضد من الشعور الذي ينتاب الفرد بأن يكون هذا الحب هو  الاول والاخير  وبطريقته الخاصة.

أن الخطاب الحزبي في بداية الانتماء وأن كان خطابا عقلانيا يستند الى مادة فكرية وفلسفية رفيعة المستوى تقدم"للمحبين" له,ألا ان الحزب له القابلية على أضفاء مشاعر واحاسيس عنيفة معززة رغبة البقاء في صفوفه,وهي نتاج عمل دؤوب سايكوعقلي ـ معرفي , يترك أثراعميقا أكثربكثير من وقع الحب الاول في محبيه, يترك في الشخصية شحنة انفعالية موجبة كما تدرك.وبقدر ما يكون الحب الاول فرصة لتأكيد الذات وأختبار الشخصية,يكون الانتماء الحزبي هو الاخر فرصة ذهبية لتميز الشخصية ضمن ابعاد جديدة وفي سياقات غير معتاده,تشكل فرصا للنمذجة  المثالية للشخصية,تمنح صاحبها أمتيازا في بيئة محدودة الامكانيات, وخاصة في صورة الخروج الايجابي عن المألوف,وتشكل مع الوقت احد المصادر الاساسية في التوافق الذاتي ورسم الملامح العقلية وحتى احيانا المزاجية للشخصية.أو يأخذ الانتماء شكل المخالفة لما هو سائد او كما يقال"خالف تعرف" في بيئة غارقة في الممنوعات.

أن الانتماء للحزب والاستمرار فيه ان شاء الفرد يجب ان يرتبط بعقلانية رفيعة المستوى في الدفاع عنه.وهذا يأتي عبر التخلص من غرائز الانتماء الاول المفعمة في اللوازم العصبية والانفعالات المؤذية في احيان كثيرة للحزب,والتي يعكسها الدفاع المفرط عنه,وبأي ثمن,وبآليات غير موفقة تلحق الضرر به.وفي حالات كثيرة تسبب شحنة الحرص الزائد(الانفعال المفرط) الى ارتكاب اخطاء ينتظرها من لايرغب بوجود الحزب كما ينبغي ان يكون.

أن الحزب وبعد مسيرة تجاوزت السبعة عقود تعرض فيها الى هجمات شرسة من اعدائه وحلفائه,وكذلك انتكاسات كبيرة نتيجة لأخطاء ذاتية وظروف موضوعية,وعلاوة على ذلك تعرض حلفائه"الثابتين" في الخارج الى انهيارات كبرى تمثلت في انهيار المعسكر الاشتراكي,والتي ادت ضمن ما ادت اليه الى ان يطال الشك الى مصداقية العقيدة الماركسية.يحتاج الحزب اليوم الى انتماءات بذهنية جديدة,ترى في الحزب مشروعا عمليا للحياة ومرنا قدر مرونة الحياة...ان عهد" ملائكة" الحزب ودعاة الحرص"المؤذي"لم تزكيهما الحياة.ومن يرى في الحزب ملاذا لتأكيد الذات,لأنه لم يجد في دائرته القريبة الملاذ,فأنه يرتكب أخطاء بحق الحزب,ومن يرى في الحزب وظيفته الدائمة فأنه يخطأ ان يقدم شيئا مفيدا له.

اليوم وبعد هذا الزخم الهائل من التغيرات الدولية والاقليمية والقطرية,فأن الحزب لم يعد حزب"دكتاتورية البرولتارية",ولكنه يستطيع ان يكون بأمتياز حزب البرولتارية,ولاحزب التكتيكات من أجل" أستلام السلطة",ولكن من حقه أن يتطلع الى المشاركة الواسعة في السلطة,ولاحزب بناء" الاشتراكية"على نسق مرجعياتها السابقة,ولاحزب الانضباط الحديدي وفقا "للقواعد اللينينية في حياة الحزب الداخلية" ولكن حزبا منضبطا,حيث تنعدم المقومات الموضوعية والذاتية لذلك.أذن لماذاكل هذه الحملات والهجومات عليه,وخاصة عندما تبدأ الرؤيا بهذا الوضوح.أني اعتقد أن المشكلة في التساؤولات الاتية:ماذا نختار,وكيف نختار,ولماذا؟؟؟ .

علينا أن لانعطي الظواهر قوة دفع أكثر بكثير من خصوصية الظرف الذاتي والموضوعي الذي تجري فيه.أليست تلك هي سنة الديالكتيك.فمن أراد للحزب خيرا فعليه أن يقلع عن عادات "الحب الاول"في الدفاع عنه,او عادات أخذ الثأر  منه والهجوم عليه عندما ينفض العقد معه.ومن أراد أن يكون الحزب "حبه الاخير"فعليه القبول بشروط الحياة,وعلى الحزب المزيد من الاستجابة والتفحص الذاتي,وخاصة بعد تجربة الخمس سنوات من العمل العلني وفي ظروف نوعية جديدة.

أن من يريد أن يكون حزبه حزب الثلاثينيات أوالاربعينيات أو مايسمى" حزب فهد"فأن ذلك مجافاة للحقائق والتغيرات العميقة على الأرض في الداخل والخارج.وتستحضرني في هذا السياق ليست مقولة لينين(النظرية مرشد للعمل),ولكن من عمق التأرتخ مقولة للأمام علي(ع):"لاتقسروا أولادكم على ادابكم فأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".أذا كان هذا الحديث في التربية,فكيف يكون الامر في السياسة وهي فن الممكنات.وهل يجوز العودة في السياسة الى أكثر من سبعين عاما الى الوراء!!!,وهل يجوز في السياسة أيضا أن تصاغ سياسات الحاضر وأتجاهات المستقبل لحياة الحزب الداخلية والخارجية على ضوء معايير الثلاثينيات والاربعينيات ونحن في الالفية الثالثة!!!.أن مآثر الحزب وتأريخه النضالي هي ملكا للجميع. ولكنني أتسائل :هل كان حزب" فهد" أنذاك بدون انحسارات او صراعات!!!,وهل كان في برجا عاجيا كي لايكون كذلك!!!,وهل كان مراقبا للمعارك الوطنية لكي يكون معصوما من الخطأ أم طرفا اساسيا فيها!!!....الاجابات في التأريخ المكتوب والغير منحاز نسبيا للحزب.

أن من يرى في الحزب " حبه" الاول والاخير عليه ان يكيف نفسه لميكانيزم الحياة المتغيره ابدا وبدون انقطاع.فلايمكن "السباحة في النهر مرتين",لأن الماء غيره عن المرة الاولى.فالحزب اليوم يؤمن في الديمقراطية الليبرالية على مستوى السياسة والاقتصاد(مع مظلة حقوق أجتماعية واسعه).ويترتب على ذلك ان يكون الحزب واضحا في خطاباته وتحالفاته وحدود انتمائه للعقيدة الكلاسيكية.وعلينا ان نعي حقيقة أن" الحب الاخير" هوليست صورة طبق الاصل لفلم غير ناطق عن "الحب الاول".وبين" الحبين"تأريخ مشترك يجب العودة اليه ودراسته وتقويمه بعناية وحرص شديدين.وأعتقد أن الحزب الشيوعي ليست حركة ماضوية فهو من الحركات التي تلتصق بالحاضر بشدة .وأذا كان الحب الاول يعبر عن الحاجات الاولى للأنتماء,فأن الحب الاخير هو حب الاحاسيس والانفعالات الهادئه...أنه حب الحياة والاستقرار.




316
المنبر السياسي / فوبيا السياسة
« في: 16:59 20/08/2009  »
فوبيا السياسة

ملاحظات ميدانية حول إشكالية البعث بين الاجتثاث والامتصاص وتداعيات ذلك في الممارسة السياسية !!!

" لا يمكن أن يكون المرء بلا خوف عندما يوحي بالخوف " 
                             ابيقور




د.عامر صالح

صرح الدكتور أياد علاوي رئيس " الكتلة العراقية " في البرلمان لجريدة الحياة بأن الحذر من الحوار مع البعث هو " فوبيا ". ونعتقد أن السيد علاوي كونه طبيبا فقد استخدم هذا المصطلح في سياقه الصحيح , معبرا عن حالة الخوف التي تنعدم فيها الأسباب الحقيقية لذلك , وكما يرد ذلك المصطلح في أدبيات علم النفس أو في علم الأمراض العقلية .وهنا أرى لزاما الدخول في بعض الملاحظات الضرورية الخاصة بتحديد المصطلح واستخداماته وعلاقته بظاهرة البعث والتداعيات المعقدة لذلك في الممارسة العملية للسياسة في العراق.

الفوبيا أو الخواف المرضي أو الفزع يشير إلى وجود خوف دائم وشديد من موضوع أو موقف محدد لا يستثير بالضرورة هذا الخوف, وقد يعرف المريض انه لا خطر من هذا الموضوع أو الموقف, إلا إن وعيه بذلك لا يقلل للأسف من مخاوفه, أي أن الشعور بالخوف أكثر بكثير من السبب الداعي له. ويقترن الشعور بالخوف عادة بالرغبة في الهروب بعيدا عن السبب. وهناك حالات كثيرة من الفوبيا, منها على سبيل المثال فقط : فوبيا"خواف " العلو أو الارتفاعات ـ فوبيا البرق ـ فوبيا النار ـ فوبيا الظلمة ـ فوبيا العلاقات الاجتماعية ـ فوبيا الكلاب ـ فوبيا الموت ـ فوبيا العلاقات الجنسية ـ فوبيا الجنون ـ فوبيا الحرب ـ فوبيا الاضطهاد وغيرها.

وهناك نظريات كثيرة لتفسير الفوبيا,لا يسع المجال للخوض فيها , إلا أنني أميل إلى تبني إحدى هذه النظريات في هذا السياق,وهي نظرية الاقتران الشرطي,وهي نظرية أتباع المدرسة البافلوفية,نسبة إلى العالم الروسي " ايفان بافلوف ", التي ترى إن الفوبيا تنشأ عن الاقتران ألزماني أو المكاني المتكرر بموضوع معين أو أكثر وفي ظروف عاطفية وانفعالية تثير الخوف , وينتهي الأمر بنسيان الفرد للظروف الأساسية المثيرة للخوف, ويبقى تعلق الخوف بالمواضيع الجديدة التي ارتبطت بها تجربته المتكررة.

وعلى هذا الأساس يجب أن نميز في السياسة بين حالتين مختلفتين تماما, الأولى هي حالة الخوف من النظام السابق عندما كان على قيد الحياة, أي الخوف هنا لأسباب منطقية واضحة المعالم, الخوف من القمع والبطش و الاضطهاد والتصفيات الجسدية والاعتقال ومختلف مظاهر الحرمان الذي مارسته أجهزة ومؤسسات النظام القمعية آنذاك,وهو الخوف المشروع بكل أبعاده. أما الحالة الثانية فهي الفوبيا " الخواف " من فلول النظام السابق وما تبقى من عناصره المجرمة, والتي اقترنت لدينا بإمكانيات النظام السابق وأجهزته القمعية, وهي ليست كذلك رغم ما تبديه من قدرات وإمكانيات مؤقتة, وهي بمجملها تشكل المنتوج السيئ لردة فعل إسقاط النظام,وهي تثير لدينا الخواف" الفوبيا" وليست الخوف كما هو الحال من النظام السابق.

 أن الفرق بين الاثنين كالفرق بين الخوف من ثعبان اسود حقيقي يصادفك في الرمال القاحلة, وبين حالة الفزع من آثار ذلك الثعبان في الرمال بعد قتله. وقد يبدو مثالنا مبسطا جدا عند تطبيقه في السياسة أو في السلوك الإنساني, نظرا للتعقيد الخاص الذي يتصف به السلوك البشري عموما, وفي السياسة بشكل خاص..إلا إن " الخوف " من البعث أو " الخواف " منه يجري على نسق إنهاء الظاهرة من الأسباب, غير إن الأعراض تأخذ وقتا, ولكن العرض يبقى نتيجة وليست سببا مهما يبديه من نوبات قوية في التعبير ومحاولات العودة لأحياء الأسباب.

والتعقيد هنا ناتج من أن خبرة البعث السابقة في إدارة الدولة وخباياها بطريقة رجل " منظمة المافيا السرية " الذي يحيا ويموت على عدم الثقة بالآخر,وعلى الانقلاب من داخله وخارجه,مكنت الكثير من كوادره وقياداته أن تشكل خلايا أخطبوطية, سياسية وأخلاقية داخل الدولة والأحزاب الحاكمة,ناهيك عن وجودها المستقل علنا والمعلن بعدائه  للعملية السياسية.

وقد سهلت التركيبة الطائفية لأحزاب الإسلام السياسي باحتماء الكثير من عناصر البعث ذات الطبيعة الإجرامية,فقد اندست في صفوفه إما " بلحية قصيرة وخاتم " أو " بلحية طويلة وسروال أو دشداشة قصيرة" , وبذلك اختلطت الانتماءات بين شيعي تقي ومؤمن, و شيعي ـ بعثي مجرما, أو بين سني يخاف الله ورسوله, وسني ـ بعثي قاتل. وعلى هذا الأساس تم تشويه صورة الصراع الاجتماعي , وإضفاء الصبغة الدينية عليه, والذي بطبيعته لا صبغة دينية له, وهكذا أيضا بدأت تتشكل ملامح سياسة " مساواة الجلاد بالضحية ", أو وضع الظالم والمظلوم في سلة واحدة وفي الحزب الواحد,وبذلك تحولت الأحزاب التي تدعي المظلومية إلى أحزاب هجينة وبلون رمادي قاتم لاهوية سياسية لها,وبفعل ذلك أيضا فقد أصبحت بعض من أحزاب الإسلام السياسي مصدرا لحماية البعث والكثير من عناصره الدموية,وتشكل هذه العناصر بنفس الوقت جزء لايستهان به من قاعدة تلك الأحزاب " الجماهيرية " سنية أم شيعية.

إن الفوضى العارمة والسلوك غير المنضبط في سلوك قواعد هذه الأحزاب ليست بمعزل عن النشاط التخريبي لعناصر البعث السابق,نتيجة لما توفره هذه الأحزاب من مظلة لحمايتهم على أسس طائفية.فإذا كانت بعض من الأحزاب " السنية " ضليعة في أحداث العنف الدموي عبر تحالفها مع التنظيم الدولي للقاعدة والعناصر المجرمة من فلول البعث,فأن بعض من الأحزاب " الشيعية "هي الأخرى شكلت احد مصادر عدم الاستقرار الأمني والسياسي في البلد نتيجة لعدم صفاء قاعدتها الجماهيرية,ناهيك عن مقدرتها على التوقيت الدقيق لأحداث العنف والفوضى المسلحة والتخريب,وخاصة عند اللحظات التي يفرط فيها عقد التحالفات مع الآخر,أو عدم الاستجابة للشروط التي تضعها هذه الأحزاب سقفا لها, وهي بنفس الوقت مقدرة واضحة لبعض الفصائل "السنية",وتشهد على ذلك هشاشة الوضع الأمني وارتباطه بالصفقات أو المساومات السياسية,أكثر من ارتباطه بمواقف مبدئية واضحة حول ضرورة الأمن واستتابه بمعزل عن الخلافات السياسية, ويذكرنا ذلك في الكثير من مواقف النظام السابق وقدرته " على حرق الأخضر بسعر اليابس عند الضرورة" أو استخدام  "سياسة الأرض المحروقة مع الشعب " !!!.

ونؤكد هنا إن قواعد هذه الأحزاب لا ترغب مطلقا بعودة النظام السابق بأي شكل من الأشكال ولا يرغب بعض منها حتى الحوار مع بعض عناصره,طبعا ليست من منطلق العداء له أو العداء للقديم البالي المنتهي,ولكن هؤلاء  يستطيعون العبث بالأمن والاستقرار وممارسة الابتزاز والسلب والنهب وخلق الفوضى والاستئثار بالسلطة بما لا استطاعوا  فعله في ظل النظام السابق,حيث كانت تجري الأشياء هناك على قاعدة إن الجاني والمجني عليه كانوا معروفين تماما للجميع !!!, أما الآن فالعلم عند الله !!!. إن هذا التعقيد والتداخل في قواعد هذه الأحزاب يضعنا أمام مهمات عسيرة وتساؤل كبير لا تسهل الإجابة عليه آبدا, وهو: " من يجتث من " ؟؟؟,وتلك هي إحدى الصعوبات المفصلية التي ألقت بظلالها منذ البداية على هيئة اجتثاث البعث,وأصبح الحديث عن الاجتثاث أول ما يثير قلق عناصر قوى سياسية تحت قبة البرلمان ويمتد هذا القلق ليشمل قيادات إدارية وحزبية وكوادر في مختلف مستويات الهرم الإداري في مختلف المحافظات,وعلى ما يبدوا فأن العملية ليست ببساطة "جرة القلم " كما تصورها الذين اندفعوا للوهلة الأولى.ولعل اختزال الأرقام المفترض اجتثاثها من عدة آلاف إلى عدة مئات يعكس بعض من صعوبات الواقع في هذا المجال.

ومن هنا تأتي أهمية التفكير الجدي والحريص على مستقبل العراق وعلى ديمقراطيته الناشئة في بناء أحزاب وتنظيمات نخبوية ـ طليعية,لكي تكون على المدى البعيد مؤسسات تربوية وأخلاقية ,إلى جانب مهمتها السياسية في أعداد الكادر لقيادة مؤسسات الدولة والمجتمع الديمقراطي,والابتعاد عن الفكرة المليونية السيئة في بناء الحزب والتي تستند إلى الحشود الاستعراضية وتغليب الحشد الكمي على النوع في تجميع الناس داخل الأحزاب,تلك السياسة التي تجلب الكوارث الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع,والتي تحط من قيمة الإنسان داخل حزبه ومجتمعه,وتفقد الحزب حصانته,باعتباره أداة متقدمة للتغير الاجتماعي,ومن هنا يجب التمييز بين الحزب كونه " أداة أقلية " وبين جماهيره الواسعة من خارج الحزب.

أما أذا أردنا أن نتعامل مع المنتمين إلى الحزب مجرد أرقام على طريقة المسح الإحصائي للسكان,واعتبار كل أبناء الطائفة أعضاء في الحزب, على طريقة " كل العراقيين بعثيون وأن لم ينتموا "!!!,فتلك سياسة لا تحمد عقباها,حيث تصبح هذه الأحزاب أوكارا للجريمة والفساد ولاختفاء المجرمين من البعث والفاسدين من هذه الطائفة أو تلك,وهي تهدد باضمحلال الدولة وذوبانها في الحزب الحاكم أو الطائفة,ليصبح الحزب أو الطائفة هما الدولة,والدولة هو الحزب والطائفة,والنظام الديمقراطي في مهب الريح!!!. إن هذا التعقيد بالطبع لا يستثني إقليم كردستان,رغم إن مظاهر التعبير عنه أهون بكثير,حيث تتداخل هنا وتمتزج الهوية القومية بالسياسية,ويصبح الشرط القومي وليست الولاء لقضية الأكراد العادلة مطلوبا لذاته,وبالتالي يضعف من مكانة الأحزاب كونها طليعة الشعب,فيكون الولاء الشكلي والفارغ للقضية القومية احد مصادر متاعبها وسببا في عدم وضوح الرؤيا في عملية الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشودة,فيمتزج الولاء العشائري والقبلي ليضعف مكانة السلطة في الإقليم,وهذا ما تعبر عنه مظاهر الفساد الإداري والمحسوبية وتضخم أجهزة الدولة,ناهيك عن حالات الدخلاء على القضية الكردية نفسها من" جحوش" و " أكراد مستعربين " الذين وقفوا إلى جانب النظام الدكتاتوري السابق,وهم الآن ينعمون بفضاء الانتماء القومي الشكلي لا الحقيقي للقضية الكردية,بل لمصالحهم الشخصية ..إلا إن فرص الإقليم بفعل عوامل الاستقرار المبكر وخبرة قيادته إن تجد حلول للكثير من المشاكل ذات الصلة بتطوره واستقراره.

وقد امتصت الأحزاب الدينية والقومية أعداد لا يمكن حصرها من المنتمين سابقا إلى حزب البعث,مستحوذة على مناصب إدارية وسطى وعليا,بل يمثل البعض منها وجه العراق في الخارج عبر سفاراته وسلكه الدبلوماسي ,وقصص ذلك كثيرة تروى على ألسنة المواطنين الذين يزورون السفارات في الخارج لتسهيل معاملاتهم !!!.وهكذا يلجأ ألبعثي السابق  إلى انتمائه الديني والعرقي ليجد فيه ضالته الأمثل ,وهي ظروف مواتيه وخاصة عندما تكون صبغة الصراع الجاري غير مؤطرة بأصول الصراع الذي يستند إلى القوانين الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية باعتبارهما البوصلة التي تقرر اتجاهات التغير المنشود وأهدافه.

كما إن  سلطات المحافظات التي يقودها في الظل رجال الدين خارج إطار الدستور ونتائج الانتخابات,والتي تعتبر المصدر المطلق للسلطات,هي الأخرى قد امتزجت بتنظيمات النظام السابق الصفراء من نقابات عمال وفلاحين ومنظمات شبابية وطلابية وحزبية منحلة,مشكلة قاعدة عريضة من " المؤمنين الجدد " الذين يصفقون " لملالي " المحافظات بحماس اشد مما كانت تصفق " لقائد الضرورة ",وهنا لا نحمل الناس مسؤولية ضنك العيش ,بل نعيب عليهم مزيدا من التصفيق !!!, وعلى قياداتهم " الجديدة المظلومة " أن تستلهم العبر من دروس الماضي القريب!!!.

ولعل أسوء ما يذكرنا ببعض أوجه الإرهاب الأسود هو ما تقوم به بعض من هذه الأحزاب من اغتيالات للكوادر العلمية والمهنية وقيادات التكنوقراط وضباط سابقين في الجيش العراقي وغيرهم,وعرقلة الاستقرار الأمني وتحويل محافظات العراق وخاصة العاصمة بغداد إلى جسم مبضع من شوارع وحارات وأزقة ذات " سيادة مستقلة " بيافطات طائفية وشللية وحزبية,وإذا كان هذا يجري على خلفية أجندة خارجية لتدمير العراق قدرة وشعبا,إلا إن المراقبين من قريب أو بعيد لا يبرؤون بعض من عناصر البعث  من النشاطات داخل هذه المجاميع أو الأحزاب, والذي وفرته الطبيعة الطائفية لاحتماء هذه العناصر, وتختلط هذه الأجندة التخريبية ما بين مشاريع مخطط لها,وما بين سلوك إجرامي وانتقامي لانهيار النظام السابق,تؤطره حالة انعدام وضوح الرؤيا عند الكثير من الأحزاب الطائفية في التمييز بين النظام السابق وبين مؤسسات البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والقدرات البشرية,التي هي ملك المجتمع كله,فضلا عن كون هذه الأحزاب ذات طبيعة تسهم بتعقيد واحتقان الأوضاع السياسية وتدهورها, وتعتبر جزء من المشكلة وليست الحل وتشكل غطاء لاستقطاب العناصر المجرمة من البعث !!!.

ولعل إطلالة السيد نوري المالكي في انتخابات البلديات من خلال قائمة " دولة القانون "تشكل إحدى المؤشرات الايجابية للاستجابة للمزاج العام وتفهما أوليا للإبعاد المدمرة للو لاءات الطائفية,ويتمنى الحريصون على العراق أن لا يكون ذلك سلوكا مؤقتا ومناورة  حصدت فيها الأصوات الانتخابية....وأن التحالفات في الانتخابات البرلمانية القادمة هي التي تقرر الولاء لمن ؟؟؟ وهل أن الولاء للوطن هو تكتيك!!!,أم استراتيجيه شاملة,وتلك هي بدايات استيعابها وتحويلها إلى سلوك !!!.

ونشير هنا أيضا إلى انسلال جزء كبير من عناصر وقيادات وكوادر البعث السابق إلى مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان المختلفة وغيرها من المنظمات ذات الطابع غير الحكومي,والتي تلعب دورا مهما في بلورة والتأثير على الرأي العام في القضايا الكبرى,كقضية الحرية والديمقراطية والمساواة وغيرها,واغلب هؤلاء من العناصر التكنوقراط وذوي الاختصاصات والكفاءات المختلفة من تعليم وإدارة وإعلام واقتصاد وسياسة,وقد شغل الكثير منهم مراكز القرار في المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية ومؤسسات الدولة بصورة عامة,وعدد غير قليل منهم من أساتذة الجامعات.وهذه الفئة تقع ضمن تعداد المليونين من " النظام السابق " من حملة الخبرات المختلفة والاختصاصات المتنوعة,وتشكل هذه العناصر احتياطي شعبنا ومجتمعنا لمختلف التخصصات,وهم جزء من بنيته التحتية الاقتصادية والاجتماعية,ولا يجوز وضع هذه الفئة على قدم المساواة مع " ذوي الشهادات المزورة ".

ونتيجة لصدمة الخوف من سقوط النظام السابق والإحساس بالفزع وعدم وجود غطاء كافي لها منذ الوهلة الأولى, فقد وجدت ضالتها في مؤسسات المجتمع المدني نظرا لاستقلال هذه المؤسسات عن المؤسسات الحكومية.ونتيجة لغياب فرص الاندماج الحقيقي لهذه الفئة فقد ظلت بعض من أفراد هذه الفئة تمارس خطابا مزدوجا بين الحرص على النظام الديمقراطي والنيل منه بأساليب ناعمة, وهي أشبه بعملية المراوحة لحسم الخيار صوب القناعة بالنظام الديمقراطي.ونحن نعتقد إن هذه الفئة لو توفرت لها ظروف الاندماج والأمان الحقيقية لكان أدائها أفضل بكثير مما هو عليه ألان.ولأغراض موضوعية فقط نشير إلى إن نسبة ضئيلة جدا من هؤلاء متهم بجرائم أو انتهاكات, بل ويمارس دوره السياسي في البرلمان مستغلا حصانته.

ونستطيع من خلال هذا الاستطراد السريع إلى المآل الذي آل إليه البعث السابق إن نؤكد إن قانون اجتثاث البعث الذي صدر في عام2003 من قبل الحاكم المدني بول بريمر تحول في الممارسة العملية إلى ظاهرة امتصاص وتسرب وانسلال البعث إلى مختلف الأحزاب والمنظمات الاجتماعية,وأصبح من الصعوبة ممارسة تطبيق هذا القانون لأن الاجتثاث قد يطال أحزابا كاملة تعمل على الساحة السياسية,واعتقد نحن نحتاج إلى عملية " ترشيح " جديدة لهذا " الامتصاص " أو إعادة انتشار جديدة للقوى السياسية عبر إعادة تشكيل الأحزاب السياسية وفقا لقانون خاص بتشكيل الأحزاب !!!.

أما بخصوص النسبة الضئيلة من قيادات البعث وعناصره السابقة والتي تعلن عدائها علنا للنظام الديمقراطي وتحمل السلاح ضده,وهي تشكل حسب ما يرد من إحصائيات,من أنها تشكل فقط 1% من البعث السابق فيجب الحوار معها بشروط الديمقراطية كنظام سياسي يستجيب لرغبات الجميع ولا يقصي احد,حيث لا اعتقد بوجود شروط أخرى للحوار خارج ذلك.وعدا ذلك فأن عدم تمكن النظام السياسي الجديد من إيجاد حل سلمي أو السيطرة على نشاط 1% من هؤلاء وإبعادهم عن دائرة التأثير السياسي يعني ما يعنيه إن هذه الديمقراطية والجماهير التي تقف ورائها غير قادرة على حماية النظام الديمقراطي, وهي قاب قوسين وعندها ممكن أن تتحول فوبيا السياسة إلى خوف حقيقي !!!!.

 

317
سيكولوجيا التخاطب اللغوي
المكونات والأهمية

"للسيف حدان وللسان مئة حد"

مثل  قديم



الدكتورعامر صالح

نتحدث بمختلف موضوعات الحياة اليومية:سياسية,اجتماعية,اقتصادية ومهنية؛ ونسهل معاملاتنا اليومية او قد نخفق؛نوصل كما هائلا من المعلومات اليومية للاخرين ونستقبل منهم كذلك.كل ذلك يتم عبر التخا طب او الاتصا ل .وتبدو
للوهلة الاولى وكأنها عملية فطرية مغروزة فينا ونحن في الارحام .لانعي حقيقة هذه العملية بشكل كامل وواعي. وعندما
نتخاطب فنحن نتخاطب بطلاقة هائلة لاندرك كيف نقوم بذلك.انها عملية معقدة وتجري وفق خطوات ومراحل مقننة,
وهي كغيرها من الظواهر تخضع للدراسة وللتجريب والبحث العلمي للوقوف عليها في صحتها واضطرا باتها
والياتها.انها عملية ممكنة عندما يتوفر لها مقومين اساسيين:اولهما الجهاز العصبي السليم والمخ منه بشكل خاص(صندوقنا الاسود)وديناميته العاليه,وثانيها البيئة الاجتماعية والثقافية والتي ننهل منها غذائنا اللغوي التواصلي .

أن عملية التخاطب كما يصفها العالم البولندي ليون كاجمارك:"هي عملية تبادل المعلومات بين المرسل والمستقبل وتكون نتيجتها الفهم,ويكون ذلك ممكنا فقط عندما يمتلك كلا الطرفين نفس اللغة".والتخاطب اللغوي هنا اما شفويا,او كتابيا, او مومى به.وعلى اساس ذلك نستطيع ان نميز أربع عناصراساسية في عملية التخاطب وهي:اللغة ,الموضوع,
  الارسال ,والاستقبال.

ان اللغة هي احدى عناصر عملية التخاطب, وهي نتاج اجتماعي,وهي نظام ذو درجتين. وتشمل الدرجة الاولى: المكونات المستقلة وهي: الكلمات وعلاقاتها التركيبية  ؛والمكونات غير المستقلة ,والتي نعني بها الصفات التطويحية,والتي تظهرفي الموضوع الشفوي بشكل إيقاع, ونبر ,ونغم,وفي الموضوع المكتوب او المومى به من خلال علامات الفصل(النقطة,الفاصلة,نقطتين شارحة.....الخ),وكذلك يتكون من اصغر الوحدات اللغوية والتي تظهر في  الموضوع الشفوي من خلال الاصوات,وفي الموضوع المكتوب من خلال الاحرف,وفي الموضوع المومى به من خلال توليف لنقاط ومقاطع,واخيرا اصغر وحدة صرفية.أما الدرجة الثانية من النظام اللغوي فتشمل منظومة الاسس القواعدية,والتي على اساسها يتم معرفة و بناء الموضوع من الرموز المستقلة,والذي يعتبر الحلقة الرئيسية في عملية الاتصال.




اما الموضوع فهو المعلومات المرسلة,ويمتلك هيئة أو وعاء ناقلا متنوعا حسب شكل الارسال الذي تحدده قناة نقل المعلومات.وتتكون نتيجة ذلك أشكال مختلفة للموضوعات(شفوية,كتابية,ومومى بها) مكونة بذلك حصيلة عملية الارسال.وفي كل موضوع ممكن تميز:المحتوى,وهو التنظيم اللغوي للمعلومات(أي الافكار),الصيغة اللغوية,الوعاء الناقل أو المجسد,أي هيئة الموضوع(ناقل الفكرة) :شفويا,كتابيا,ام اشاريا....الخ .

ويشكل الارسال المرحلة الثالثة في عملية التخاطب او الاتصال,ونعني به توصيل المعلومات بمختلف القنوات المناسبة لهيئة الموضوع.فالتكلم,والكتابة ,ومختلف الموضوعات المومى بها,هي عملية بناء موضوع في هيئة صوتية,او مكتوبة ,او بصرية...الخ .وبهذا فإن التكلم,والكتابة والأيماء يمكن تخديدها بأنها ناقلة الفكرة.

ويكون الاستقبال ملائما لشكل الارسال .فقد يكون الاستقبال سمعيا,اوبصريا,اولمسيا...الخ . أن المراحل الاربعة هي نتاج بعضها ويستند بعضها الى الاخر.وان اللغة باعتبارها نظاما تجريديا للمعايير الاجتماعية ,فانها اساس عملية التخاطب للتعبير عن الفكروالمعاناة الفردية الملموسة.ولأن المحتوى المعبر عنه في الكلام يتفق مع المعاييرالاجتماعية للغة,فإن التكلم الفردي يصبح مصدرا اجتماعيا لعملية الفهم,والنتاج المستمر للفهم هو الموضوع,الذي نستخلص منه معايير اللغة,وتصبح المعايير اساسا لتكلم جديد.ان المراحل الاربعة تظهربنظام الدائرة المغلقة,ويتخلل بعضها البعض.

 ان القوة التجريدية والتوليدية للغة في عملية التخاطب تكسبها مزايا واهمية استثنائية على مستوى المجتمع المتحدث           بها بشكل عام وعلى المستوى الشخصي الفردي, فهي تساعد الانسان في السيطرة على الاشياء,والموضوعات,
وعلى البيئة,اذ تحل محل هذه الاشياء,والموضوعات الكلمات التي ترمز اليها؛وتشكل اللغة أداة توافق وتكيف مع شروط
الحياة الخارجية والداخلية,وهي اداة التعبير عن الاحاسيس والافكار,والمشاعر,والعواطف؛ وهي اداة فعالة في تسجيل
الحوادث,والتجارب الماضية,وهي اداة لحفظ التاريخ والتراث والفكر,وكذلك هي اداة تربط الماضي بالحاضروبالمستقبل؛
وتعتبر اللغة أداة اتصال وتفاهم بين الافرادوالجماعات,وهي تربط الافراد برباط قوي وثيق له طابعه المميز والخاص؛وتلعب اللغة كأداة تاثير وسيطرة بين الافراد والجماعات,كما تعمل اللغة كأداة في الصراع من خلال الدعاية
والاعلام والمنافسة؛ وتقوم اللغة بوظيفة التعلم والاكتساب للمعلومات والخبرات,فعن طريقها يتم تعلم الطفل لمواده الدراسية,والاستجابة الى الاخرين,وحفظ المعلومات,وتذكرها, وتكوين الخبرات والمعارف. والالمام بالقراءة والكتابة.

ويجب الاشارة هنا بشكل خاص الى الوظيفة التشخيصية للغة,حيث تستخدم على نطاق واسع في تطبيق الاختبارات,والمقاييس,واجراء الاستفتاءات,والمقابلات على الافراد لاغراض التمييز بين الحالات السوية,والحالات المرضية, كما تفيد اللغة من حيث طلاقتها, ومايصاحبها من قدرة على التعبير والتفكير في تشخيص بعض الحالات المرضية كما في حالات العصاب,والذهان ,والتخلف العقلي,وبعض الامراض العضوية وغيرها.اما من الناحية العلاجية
فاللغة لها  استخداماتها كأحدى طرائق العلاج النفسي .فمدرسة التحليل النفسي الفرويدي تعتمد على اللغة في السماح 
للمريص في التعبير  عن مشاعره,وافكاره,ورغباتة المكبوتة,وهو مايسمى بالتفريغ الانفعالي لاغراض التخفيف عن
ازمته النفسية,كما تعتمد على تحليل لغة المريض بما تتضمنة من تصورات ,وافكار وما ترمز له من قضايا أو مشكلات  من اجل احداث أستجابات ملائمة,واجراء التعديلات اللازمة في الاتجاهات والخبرات للتكيف الصحيح .وكذلك ترى المدرسة السلوكية بزعامة( واطسون) بأن اللغة يمكن ان تستخدم كأداة لاثارة العواطف لدى الغير,فهي تخضع لمبدأ المثير والاستجابة, فالمثير هو الكلمات المسموعة بما فيها من مدلول أو معنى, والاستجابة هي السلوك اللغوي وغير اللغوي الذي ينجم عن ذلك. كما نشير هنا الى طرائق العلاج النفسي الحديثة المنتشرة في الدول المتقدمة والتي تعتمد على اللغة في التأثير على افكار المريض لمساعدته في الاقلاع والتخلص من الكثير من العادات والمظاهر الاضطرابية,ومنها طرق العلاج المعرفي والسلوكي المعرفي .

يخضع الحواروالتخاطب لقاعدة النمو والارتقاء المستمر والمتواصل. يتعلمة الفرد ويتربى علية ابتداء من بيئته الصغرى ولاحقا من علاقاتة المتشعبة وانتماءه للظواهر والافكار المختلفة.يتعلم كيف يكون مرسلا ومستقبلا للخطاب ,ويتبادل الادوار كذلك وفقا لشروط بيئة الحوار. فكم منا امتلك فكرة او رأيا,ولكن بفعل قصوراللغة لم نستطيع ايصالها؛كم عوقبنا من معلمينا وذوينا لأننا لم نستطع التحدث بطلاقة عن افكارنا؛وكم ساهمت بيئتنا في عدم تشجيعنا على التحاور مع الاخر في طفولتنا,فكانت ترى ان الفرد المهذب هو الفرد العاقل(الصامت) ابدا,والطفل الغير مهذب (الوكيح) هو من يتحاور(ولسانه طويل)؛وكم سكتنا عن الاخطاء ولم نتحدث بها فدفعنا الثمن غاليا؛كم كان الصمت وعدم الاعتراض والتخاطب با الاراء المغايرة مكلفا ومعرقلا لبديل اقضل؛كم كنا بأمس الحاجة للتعبير عن مشكلاتنا ومعاناتنا في مراحل العمر المختلفة ولم نقوى على ذلك.ان الجرأة والحوار مع الاخر هو مظهر ايجابي من مظاهر الشخصية السوية.أن الجرأة والتخاطب هو المدخل الاساسي في معترك الحياة,فالصراع بين الخير والشر هو صراع خطاب لغوي ينتظر منا اجابات محددة واضحة,وان الدخول في غمرة النشاط الاقتصادي في عالم اقتصاديات السوق,الذي يعتمد على المنافسة الشرسة والدعاية هو الاخر صراع خطاب؛ان الصراع السياسي في مجتمعاتنا هو اولا وقبل كل شيئ صراع خطاب...ان الفرق بين الانتماء المذهبي,والطائفي والشوفيني,وبين الانتماء الوطني هو صراع خطاب يصدر من ذهنيات متباينة في الاحساس بمسؤولياتها اتجاه مصائر الناس؛ان التشبث في الماضي وأستحضار بعض من صفحاته المحزنه لتحويل حياة الناس الى جحيم,وبين عصرنة الحياة والاعتماد على العلم والتقدم التقني هي الاخرى اشكالية خطاب......أذن فما احوجنا الان الى خطاب واضح وتخاطبا هادئ. 





318
الفرويدية أو مدرسة التحليل النفسي
صرح سايكولوجي متجدد يثير الجدل دوما !!!

" خلق الله الأنسان من تراب والتحليل النفسي يرده اليه"
 توماس ساز


د.عامر صالح

الفرويدية أو مدرسة التحليل النفسي,هو الأتجاه او المدرسة السايكولوحية التي أرتبطت بأسم العالم النمساوي سيجموند فرويد,الذي ولد في 6 مايو1856م بمدينة فريبورج بمقاطعة مورافيا, والتي تقع حاليا ضمن دولة التشيك. جاء والده من (غاليسيا), وهي المدينة البولندية التي كانت معقلا رئيسيا ليهود شرقي اوربا, وتزوج من والدته التي أنجبت له سبعة أبناء.كان والديه يهوديا الديانة, إلا إن فرويد كان ملحدا.رحلت أسرته الى( برسلا) بألمانيا,ثم رحلوا الى فينا حيث امضى معظم حياته وبقي فيها إلى 1938 ثم غادرها إلى لندن ليقضي فيها أيامه الأخيرة مصابا بالسرطان في خده, وتوفي في 23  سبتمبر 1939.وقد كرس حياته في مجال البحث في ميدان الأمراض العصبية,والفلسفة,والطب النفسي ,وعلم النفس والتحليل النفسي.

لقد شغل فرويد نفسه في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالبحث المتعمق في الأسباب والعوامل التي تكمن وراء الأضطرابات السلوكية والأمراض النفسية التي كانت مستعصية عن الفهم والتفسير في ذلك الوقت.وقد بدأ فرويد بدراسة نفسه اولا,كأول مريض في تأريخ التحليل النفسي,إذ التزم بمعرفة نفسه أولا,وهو ما يقوله بنفسه في خطاب منه لفلس(خطاب رقم 67 بتاريخ 1897/8/14) إذ يقول" إن المريض الرئيسي الذي يشغلني حاليا إنما هو نفسي, وإن التحليل الذي أجريه الآن(على نفسي) إنما هو أصعب تحليل".

وقد وجه فرويد اهتماما خاصا لدراسة الحياة اللاشعورية والدوافع اللاشعورية التي تكمن وراء الكثير من مظاهر سلوك الأنسان,على الرغم من إنها قد تكون مجهولة له ولايسلم بوجودها. وقد رفض فرويد أقتصار علماء النفس في دراساتهم النفسية على الشعور والأحوال الشعورية.وفي سبيل الكشف عن الرغبات والمخاوف والعقد اللاشعورية,ابتدع فرويد منهجا خاصا,الا وهو منهج" التداعي الحر أو الطليق" الذي استطاع باتباعه في جلساته التحليلية مع مرضاه أن  يكتشف كثيرا من العوامل والأسباب الخفية اللاشعورية التي تكمن وراء اضطراباتهم وأمراضهم النفسية, وأن يجعل مرضاه الذين يتولى تحليلهم نفسيا يفرغون ما هو مكبوت في عقلهم الباطن من رغبات ودوافع وخبرات مؤلمة ومخاوف لاشعورية ويكشفون عن ذكريات طفولتهم. ولتدعيم منهج" التداعي الحر" في الكشف عن مكونات اللاشعور,كان فرويد يستخدم ايضا أسلوب " التنويم المغناطيسي " الذي وجد فيها أداة فعالة  للكشف عن مكونات اللاشعور, حيث أن الشخص المنوم مغناطيسيا كثيرا ما يتذكر رغبات وخبرات لايتذكرها عادة في حالة يقظته.كما كان يستخدم أيضا لنفس الغرض " تحليل وتفسير الأحلام ".وقد أعتبر الاحلام من اهم الطرق غير المباشرة للتعبير عن الرغبات المكبوتة في اللاشعور.فالأحلام عنده بمثابة عمليات رمزية تحقق بها الشخصية أما رغبات مكبوتة تتطلب الأشباع, أو ترجمة صريحة لما يعانيه الشخص في حياته اليومية من فشل وأحباط, أوعن أمنيات يصعب تحقيقها في الواقع المعاش.

وعن طريق استخدام فرويد لمنهج " التداعي الحر " و "التنويم المغناطيسي " وتطبيق المنهج العملي في تأويل الأحلام,وتطبيق المنهج الاكلينيكي والتحليلي في دراسة الشخصية التي هي في حقيقة الأمر دراسة للصراعات الموجودة بين المنظومات الثلاث داخل الشخصية وهي : ( الهو: وهو مستودع الطاقة والغرائز, ويعمل وفق مبدأ اللذة, أي طلب اللذة العاجلة بأي وسيلة دون أعتبار لواقع او التفكير في عواقب. وأن الطفل اول ولادته هو عبارة عن "هو" فقط. والأنا : وهو يعمل وفقا لمبدأ الواقع, أي الأمتثال للظروف والقيود التي يفرضها عليه العالم الخارجي. وتكون مهمته الأساسية هي المحافظة على الشخصية وحمايتها مما يتعرض له من أخطار, وأشباع متطلباتها بشكل لايتعارض مع الواقع وظروفه. والأنا الأعلى : وهو جانب من الأنا أصابه التعديل نتيجة اعتناق الشخص وأمتصاصه للأوامر والنواهي والمثل العليا والمعايير التي تأتيه من أبويه ومن يقوم مقامهم في المجتمع. والأنا العليا يطالب الشخصية بالتزام المثل العليا والأخلاقيات في أفعالها وسلوكها وتصرفاتها ), أستطاع أن يكتشف كثيرا من مظاهر الحياة اللاشعورية وكثيرا من المفاهيم ذات العلاقة بالحياة اللاشعورية وبالاضطرابات النفسية , وذلك مثل مفاهيم :"اللاشعور" , " والكبت ", و"المقاومة", و"الصراع النفسي ", و "غرائز الحب" أو غريزة الحياة و "غريزة الموت " ومكونات الجهاز النفسي التي سبق ذكرها وهي : " الهو" , و " الأنا ", و " الأنا الأعلى " , "وحيل الدفاع", و "عقدة اوديب " او عقدة الأم و "عقدة الأب " , و" عقدة النقص", وغيرها من العقد, و " اللبيدو " التي يفسرها فرويد في بداية الأمر على أنها الطاقة التي تمثل الغرائز الجنسية وترتبط بها والتي تدفع الفرد الى الحب الذي يؤدي إلى التناسل والتي تختلف عن الطاقة التي تمثل غرائز الأنا. ولكنه في فترة لاحقة من حياته العلمية وسع من مفهوم مصطلح " اللبيدو " وأعتبره الطاقة التي تساعد غرائز الحياة على القيام بنشاطها, سواء الغرائز الجنسية منها او غرائز الأنا.

كما استطاع فرويد  عن طريق تطبيق المناهج والوسائل المذكورة سابقا أن يعالج كثيرا من ألاضطرابات والأمراض النفسية التي يعزوها في المقام الأول إلى الرغبات المكبوتة. ومن أبرز ألاضطرابات النفسية التي حاول فرويد اكتشافها وعلاجها هي ألاضطرابات ذات العلاقة بمرض " الهستيريا التحولية " مثل العمى الهستيري والشلل الهستيري اللذين لايرجعان الى عطل عضوي في الدماغ بل يرجعان إلى رغبة الشخص لاشعوريا في التخلص من توتره النفسي وفي الهرب من الحالة الصعبة أو الموقف الصعب الذي يجد نفسه فيه, والى " تحول أو انقلاب " هذه الرغبة إلى اللاشعورية إلى عرض جسدي يتمثل كما أشرنا إليه من عمى أو شلل هستيري.

لقد أسهمت الفرويدية في تطور علم النفس الحديث وفي فهم وتفسير السلوك ألإنساني.أن فرويد لم يقتنع بالكشف عن واقعة ما, بل اهتم بمعنى هذه الواقعة بالنسبة للوجود ألإنساني عامة في السواء والمرض والانحراف وأي نشاط آخر وإبراز دلالة هذه الواقعة ضمن نظرية عامة, وهكذا استبان لفرويد منطق فريد حتى فيما يبدوا خلوا من المنظور وجاءت مدرسة فريدة في علم النفس والطب النفسي.ولم تكن القضية قضية مفاهيم يقدمها ذلك العلم الذي هز عرش ألإنسان ونرجسيته بل أعادة بناء هذه المفاهيم في نظرية متكاملة لفهم موضوعها الذي هو ألإنسان ذلك المتغير الذي لاحد لنشاطاته ولاأشد إعجازا منه ( على حد قول سوفكليس في مسرحية أوديب ملكا).

أن تأكيد الفرويدية على أهمية الحياة والدوافع والرغبات اللاشعورية في فهم وتفسير الكثير من مظاهر اضطرابات الفرد وتفسير سلوكه بصورة عامة هو مبدأ قد لايختلف عليه الأن الأخصائيون من مختلف المجالات.وأن الثقل الذي وضعه فرويد لأهمية مرحلة الطفولة ولأهمية ما يحدث فيها من خبرات وأحداث مؤلمة وأحباطات تكبت في اللاشعور نتيجة لقمع المجتمع من حيث تأثيرها على حياة الطفل المستقبلية , تعتبر من الأنجازات الهامة في ميدان علم النفس, والتي اسهمت في تطوير الأبحاث في علم نفس الطفولة.

ومن الأهمية بمكان تأكيد فرويد لوجود مجموعة من العقد كأجزاء قائمة في اللاشعور مشحونة بشحنة أنفعالية قوية, ولتأثير هذه العقد في سلوك الشخص وأفعاله بدون معرفة منه بها. فالعقدة هي أتجاه لاشعوري لايفطن المرء إلى وجوده , ولايعرف أصله ومنشأه, وكل مايشعر به هو آثار العقدة في شعوره وسلوكه. ومن علامات السلوك الصادر عن العقد أنه لايتناسب عادة مع المنبه الذي أثاره.ومن منا من لايخلو من هذه العقد!!!!.

كما أكد فرويد على أهمية الأحلام في الكشف عن الرغبات والأمنيات المكبوتة في اللاشعور, ولأهمية بعض الأفعال في الكشف عن الرغبات والميول والاتجاهات المكبوتة أيضا في في اللاشعور, وذلك مثل : أغلاط القراءة , وفلتات أو زلات اللسان , والنسيان الذي لايحدث نتيجة لتقادم الزمن , والرسم , وما الى ذلك .

وقد أشار فرويد الى ديناميكية السلوك التي تعني أن الأثار التي تترتب على سلوك ما تؤثر في شكل ذلك السلوك مستقبلا, وتفسيره لسخصية الفرد وبيئته ومحصلة للخبرات العديدة التي مر بها في حياته المبكرة, وبخاصة ما كان منها في السنوات الخمس الأولى من حياته.ونعتقد أن هذا التصور يشكل الآن مدخلا مهما في الطب وعلم النفس لدراسة حالة المريض.

كما أكد فرويد على أهمية الانسجام وعدم التصادم بين أجهزة الشخصية الثلاثة : ألهو , الأنا , والأنا الأعلى, وتأكيده بوضوح أنه كلما كانت العلاقات منسجمة بين هذه الأجهزة كلما أدى ذلك إلى تكيف الفرد تكيفا سليما. أما في حالة تعارض هذه الأجهزة, فهناك احتمال لوقوع ألإنسان صريعا للأضطرابات النفسية.وفي ضوء هذا المفهوم فسر فرويد الكثير من المشكلات,ليست فقط ذات الطابع النفسي البحت,بل وذات الطابع الفلسفي أيضا,والذي تناولته مختلف الفلسفات, فعلى سبيل المثال لا الحصر,( اعتبر اغتراب الأنسان حصيلة لامفر منها للحضارة . والحضارة عنده هي الحضارة الغربية دوما . وكان متشائما في نظرته للحضارة , لأن تطورها , حسب رأيه ,يؤدي بالضرورة وبشكل متزايد الى قمع الناس لغرائزهم ( الجنسية ) , وذلك لأن نمو الحضارة يعتمد بالضرورة على عملهم المتزايد وبالتالي عليهم أن يتعلموا ضبط غرائزهم وتأجيل أو إلغاء تلبيتها لفترات طويلة , مما قد يؤدي إلى إضطرابات نفسية وشعور بالخواء والقنوط .وبذلك فإن الحضارة عند فرويد تؤدي لا محالة إلى الإغتراب والتعاسة.أن نبوءة فرويد هذه أثبتتها تقارير منظمة الصحة العالمية.فهي تؤكد أن نسبة الأمراض النفسي, وخصوصا الكآبة,قد بلغت الأن عشرة أمثال ما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة, هذا بالرغم من التطور الكبير الذي حصل مؤخرا في مجال تشخيص وعلاج الأمراض النفسية.) يمكن العودة هنا إلى مقال " طلال  الربيعي,الماركسية والتحليل النفسي,الحوار المتمدن ".وبلغة أخرى مانطلق عليه الأفرازات الجانبية لعملية التقدم الأجتماعي والحضاري بمظهرها السلبي.

كما أبرز فرويد دور بعض" الحيل الدفاعية اللاشعورية" التي يلجأ اليها الفرد لاشعوريا في مواقف الفشل والأحباط والتوتر والصراع لأزالة توتره وصراعه أو التخفيف منهما على الأقل ,ولتحقيق تكيفه بالتالي مع الموقف, وذلك مثل حيل : التبرير , والأسقاط , والأبدال , ورد الفعل العكسي , والنكوص , والتقمص , والجمود , والكبت , وما إلى ذلك.

أما الأنتقادات الموجهة الى الفرويدية فكانت من فريقين مختلفين تماما : الفريق الأول هو من أروقة البحث العلمي الذي عبرت عنه مدارس نفسية وفلسفية مختلفة , أما الفريق الثاني فكان من خارج دوائر البحث العلمي والمعرفي ,ولم يكن بالأحرى أنتقادا بل هجوما لاذعا لايستند في مجمله الى قوة الحجة , بل الى دوافع ذاتية منحازة. أما بالنسبة لأنتقادات الفريق الأول فيمكن تلخيصها بالشكل الآتي :
* لقد بالغ فرويد بقيمة اللاشعور,حيث حاول ارجاع معظم نشاطات الناس اليه, مع أن الناس بطبيعتهم يميلون الى الفخر بقوة ارادتهم والى اظهار الحزم في تقرير سلوكهم شعوريا بأنفسهم.وقد وقفت مدارس نفسية وفلسفية موقفا نقديا صارما منه,ونشير هنا الى الموقف الماركسي من ذلك لأهميته التأريخية والعملية لاحقا, حيث أعتبرت موقف فرويد هذا لاعقلانيا ويجب رفضه لأنه يضعف دور العقل في التغيرات( ونقصد هنا بالعقل هو الجانب الشعوري الواعي منه),وأعتبرت الفرويدية علما برجوازيا,لأنه خلاف منطق تفسير الصراع الطبقي وأسبابه التي تقرر سلوك الناس افرادا وجماعات وبالتالي حياتهم النفسية, حسب الفهم الماركسي.وعلى خلفية هذا الموقف لاحقا تعرضت الفرويدية الى أنحسار شديد في اوربا الشرقية( المعسكر الأشتراكي سابقا), وكانت كأتجاه سايكولوجي غير مرحب فيه( بأستثناء بعض المحاولات هنا وهناك لأحياء تراثه). مع العلم أن الجانب الشعوري في حياة الأنسان لايظهر منفصلا في النشاط اليومي عن الجانب اللاشعوري , ولكن المشكلة بين الفرقاء هو في تقرير مقدار المساهمة لكل منهما. مع العلم أن فرويد كان شغوفا بحب الماركسية وأهدافها العامة. وفي نهاية الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بدأ الأهتمام جديا في اوربا الشرقية بتراث فرويد ومدرسة التحليل النفسي عموما.

* مبالغة فرويد ايضا في تقدير الميول الجنسية, وأطالة الحديث عن تأثير هذه الميول في سلوك الأنسان وعن المراحل التي يمر بها نمو الغريزة الجنسية وما يرتبط بها من ميول, ونظرته الى هذه الميول على أنها قوى مسيطرة على الجانب الأكبر من اللاشعور.مع العلم أن فرويد تناول هذا الجانب بمعناه في التحليل النفسي والذي يقوم على الجانب الوجداني في الغريزة الجنسية لا التناسلي فقط  في تعليل المرض وأهمية الخبرات الطفلية. الا أن الأتجاهات التي ظهرت لاحقا من داخل الفرويدية حاولت أعادة تفسير الخطاب الفرويدي بهذا الخصوص محاولة وضع الفرد ضمن المنظومة الأجتماعية والتأريخية,وتعتبر محاولة الطبيب و المحلل  النفسي الفرنسي لاكان(1981ـ1901) من المحاولات التي مهدت السبيل لأيجاد الصلة بين الماركسية والتحليل النفسي,حيث أعتبر لاكان أن النفس البشرية, الى حد كبير,نتاجا لمنظومة أو تركيبة اجتماعية وحضارية وتاريخية تمارس تأثيرها من خلال الأعراف التي تحملها اللغة الى الطفل أثناء نموه وتحدد شخصيته لاحقا. ولكن الكثير من هذه التقاليد والمعتقدات,حسب لاكان ينتقل الى ذهن الشخص دون وعي.علما أن لاكان لم يكن ماركسيا,بل كان مؤسس وأصلاحي مدرسة التحليل النفسي الفرنسية,وكان يقود حلقات تعليمية منذ عام 1951  وقد استمرت الى 29 عاما تحت عنوان " العودة الى الفرويدية " ,الا أنه وضع ثقلا خاصا حول دور اللغة ورمزيتها في عمليات التحليل النفسي.

* اعتماده في معظم آرائه التحليلية على البيانات التي حصل عليها من المرضى وعلى تحليل الحالات المرضية التي عرضت له,وليس من المنطق في شيئ, وفقا لهذا الأنتقاد, أن تتخذ احكام المرض احكاما للصحة.ونستطيع أن نقول هنا أن الحدود الفاصلة بين الصحة النفسية والمرض النفسي هي حدود نسبية ومرنة والأختلاف بينهما هو أختلاف بالكم وليست بالنوع ,ومن السهولة تبادل المواقع بين كلاهما في ظروف محددة عندما تختلف المقادير هنا وهناك.   

* اعتماده شبه الكلي على منهج التداعي الحر والمنهج العيادي وأهماله للمنهج التجريبي في التحقق من صحة فروضه. ونعتقد هنا أن المنهج التجريبي هوليست المنهج الوحيد في البحث العلمي,رغم أهميته الكبيرة للعلوم الطبية والنفسية ,بل هو أحد المناهج, وما نراه اليوم من تطور للعلوم الطبية والنفسية هو ثمرة تظافر معطيات مختلف المناهج,على سبيل المثال, هناك الملاحظة العلمية وتتبع سجلات المرضى,وهي تقنيات بحثية تستخدم اليوم على نطاق واسع في الطب وعلم النفس.

لقد تعرضت الفرويدية لاحقا على يدي فرويد أولا, الى التعديل ببعض المفاهيم ذات الصلة باللاشعور او العقل الباطن وبالتحليل النفسي والعلاج النفسي , وأصبح هناك نوعان من الأفكار التي تنسب إلى فرويد: أفكاره القديمة المبكرة وافكاره المتأخرة عن اللاشعور. ولاحقا الأنقسامات التر ظهرت على أيدي مجموعة من علماء التحليل النفسي , والذين خالفوه وجهات نظره في اللاشعور وفي التحليل النفسي وفي حجم تأثير العوامل البيولوجية والدافع الجنسي في تشكيل سلوك الفرد,وكذلك أختلفوا معه في تفسير الكثير من القضايا ذات الطابع السيكوفلسفي , كالدين والحضارة ووالعادات والتقاليد والثقافة وغيرها.ومن مجموع افكار هؤلاء نشأ مايسمى " بمدرسة التحليل النفسي الجديدة " أو " اليسار الفرويدي ". وأبرز هؤلاء : ألفرد ادلر, وكارل يونج , وكرن هورني و اريك فروم وغيرهم.

أما إنتقادات الفريق الثاني فهي أنعكاس لعقلية بدائية متهيئة انفعاليا لقراءة الخطاب السيكولوجي الفرويدي من منظور ان كل يهودي هو صهيوني, وأن كل مايأتي من اليهود هو ضارا جملة وتفصيلا وأن كان علميا, وأن الناس على أديان آبائهم تقع حتى وأن تبنت فلسفات أو أديان أخرى. أما أبرز ملاحظات هذا الفريق فهي بأحتصار شديد مايأتي:

* أن فرويد كان منتميا للحركة الصهونية , وله علاقة شخصية بمؤسس هذه الحركة (تيودور هرتزل) ,ولانعرف أدلتهم على ذلك, ولكنهم يعتبرون دليلهم على ذلك هو أن فرويد أهدى له أحد كتبه بتوقيع شخصي من فرويد, واعتبروا ذلك أحد الأدلة القاطعة !!!! لأتفاق الفرويدية مع الصهيونية!!!!.
* أعتبروا فرويد ومدرسة  التحليل النفسي مدرسة إباحية تستهدف نشر الفساد في العالم لأنها تستند على الجنس في تفسير السلوك, وقد أستخدم اليهود ذلك مظلة وغطاء لنشر الفساد والرزيلة حسب أدعائهم!!!.
* أعتبروا فرويدا عاشقا لليهودية !!! وغطائها النفسي في ممارسة الزنا والمحرمات وعلى خلفية ذلك كما يدعون أن أسرائيل تنتج كم هائل من الأفلام الجنسية. وأعتبروا تفسيره للحرب والعدوان أحد مبررات إقتراف إسرائيل للجرائم ضد المسلمين في فلسطين وخارجها!!!!.
* وبرأيهم فأن أبرز عوامل أنتشار الفرويدية هو أيمان فرويد بالدارونية التي أرجعت أصل الأنسان الى قرد!!!! وكذلك أيمان فرويد بالعلمانية التي قامت على الثورة ضد الكنيسة وضد كل المفاهيم الدينية!!!!,ثم نفسية اليهود التي تعشق الحرام!!!. يكفي لهذا الخلط بين اليهودية والعلمانية , ووضع فرويد في مكانة كما يحلو للمزاج أن يضعه فيها أن تعكس للقارئ مستوى هذه الأنتقادات وجديتها!!!.

وفي هذا السياق أرتأيت أن أدفع المنتقدين من الفريق الثاني إلى مناظرة هادئة مع فرويد , وهو يبعد عنا في الزمان مايقرب من ثمانين عاما,واقصد بذلك تأريخ الرسالة التي كتبها فرويد عام 1930 مخاطبا بها حاييم كوفلر,عضو " مؤسسة إعادة توطين اليهود في فلسطين "والتي أبدى فيه تحفظه على المشروع الصهيوني,والتي ظلت محجوبة عن الأنظار طيلة سبعين عاما ونيف. وقد تناقلتها بعض الصحف والمواقع العربية سنة 2003 ,ثم قامت الأستاذة رجاء بن سلامة لاحقا بترجمتها من النص الفرنسي .يقول فرويد في رسالته :" لا يمكنني النزول عند رغبتكم . لا يمكنني  أن أقاوم تحفظي على لفت أنتباه الجمهور إلى شخصي , لاسيما أن الظروف الحرجة الحالية لا تشجعني على ذلك . من يريد التأثير في الجموع عليه أن يقول لهم شيئا مدويا وباعثا على الحماسة ,وهذا ما لايسمح لي به رأيي المتحفظ على الصهيونية . أنني بلا ريب أتعاطف مع كل الجهود التي تبذل من تلقاء النفس , كما أنني فخور بجامعاتنا في أورشليم , وأبتهج عند رؤية الأزدهار الذي تشهده منشآت مستوطنينا . لكنني من ناحية أخرى , لا أظن أن فلسطين تصبح يوما ما دولة يهودية , ولا أظن أن العالمين المسيحي والأسلامي على حد سواء سيبديان في يوم ما أستعدادا لجعل أماكنهم المقدسة في عهدة يهود.كان من الأجدى, فيما يبدو لي ,بناء وطن يهودي على أرض غير مشحونة تأريخيا. لكنني أعرف أن فكرة عقلانية من هذا القبيل لايمكن أن تستدر حماسة الجموع ولا معونة الأثرياء.وأقر أيضا,وبكل أسف,أن تعصب مواطينينا غير الواقعي يتحمل نصيبه من المسؤولية في إثارة الارتياب لدى العرب. لايمكن لي أي تعاطف ممكن مع تدين مؤول بطريقة خاطئة,يحول جزء من حائط هيرودوت إلى شيئ عتيق مقدس,ويتحدى بسبب هذا الشيئ مشاعر سكان البلد.ولكم النظر فيما إذا كنت بمثل هذا الموقف النقدي,الشخص المؤهل لمواسات شعب يزعزعه أمل لامبرر له."

أن دراسة غير متحيزة لنص الرسالة تؤكد أن فرويد لم يكن مناصرا للفكرة الصهيونية, ولم يكن مؤمنا بالعقيدة اليهودية , وكان منتقدا بوضوح لفكرة إقامة دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية, ورفضه لأستخدام مكانته العلمية لخدمة الأيديولوجيا ,ورفضه للنرجسية الجماعية التي أستسلم أليها الكثير من اليهود, ورفضه لمجاراة الانغلاق على  الهوية ورفضه للأوهام التي تتبناها الجموع ,وللتعصب غير الواقعي , وللأمل " الذي لامبرر له ". وكان أكثر ما كان يزعجه اعتبار التحليل النفسي علما يهوديا وخاصة بعد ترويج النازيين لهذه الفكرة.
أما المنتقدين من الفريق الثاني فأن موقف فرويد هذا لايكفي بالنسبة لهم, بل لكي يحظى بثقتهم عليه التخلص التام من اليهود واليهودية وبطريقتهم الخاصة وعليه التبرئ من والديه أولا. والنقاد في أوساط هذا الفريق لايميزون بين الأنتماء إلى الدين كدين والأنتماء اليه بأعتباره حضارة أو ثقافة أو ذاكرة. وقد وصلت أنتقاداتهم لحد السخرية,فهم يطالبونه بأدانة ماحصل عام 1948 وهو المتوفي عام 1939 .أنها حالة جهل بكتابات وحياة العالم فرويد !!!.

لقد حلق نجم مدرسة التحليل النفسي بعيدا أبتداء من الحركات الأحيائية لتراثها السيكولوجي وأنتهاء بظهور تيارات مختلفة من داخل مدرسة التحليل النفسي( يمينا ويسارا) , وكذلك الأعتماد المباشر وغير المباشر من قبل العديد من التيارات النفسية الحديثة على معطيات مدرسة التحليل النفسي .ولايمكننا هنا أغفال عبارة وليم جيمس(عندما ألتقى فرويد في رحلته الأخيرة لأميركا عام 1909 ) بقوله : " إن أي تطور قادم لعلم النفس إنما هو رهين بشكل حتمي بتلك البصائر الجديدة التي قدمها لنا فرويد". بل أن فرويد نفسه يكتب لفرينزي في حقبة مبكرة من مطلع القرن العشرين عام 1913 يقول له : " من الممكن يقينا أن ندفن بعد أن تغني لنا ترنيمة جنائزية , وقد تتغير بصائرنا , لكن العلم لن يتغير....أننا نملك الحقيقة , إنني متأكد من ذلك ,بعد خمس عشرة سنة ". وقد أكد إيرك كاندل عالم الفسيولوجيا والطب في جامعة كولمبيا والحائز على جائزة نوبل عام 2000 أن " التحليل النفسي هو الصورة المتماسكة والأفضل لتصورنا عما يحدث في العقل ".

لقد أكتشف فرويد قيمة اللغة , بقدر ما أكتشف أن اللاشعور لغة في الأنسان وحال في وجوده . ولم يتوقف عن تقويم معرفته وتطوير نظريته ومفاهيمه مدركا أن الأنسان عدو لما يجهل وأن أزالة الجهل تتعارض مع قانون أقل الجهد الذي يحكم الطبيعة والأشياء . ولقد بلغت مؤلفات فرويد التي نشرت حتى الآن في طبعتها الأنكليزية ثلاثة وعشرين مجلدا, عدا مايكتشف من حين لآخر.

توفي فرويد عام 1939, ونحن الأن في الألفية الثالثة وهو حي يرزق!!! , لقد عاد فرويد وليس فقط في المجال النظري , بل أن هناك مبادرات عالمية تضم علماء وأخصائيين من علم الأعصاب والتحليل النفسي في الكثير من أنحاء العالم .وقد تشكلت الكثير من الأتحادات والشبكات وصارت تعرف بالجمعية الدولية للأعصاب والتحليل النفسي وتعقد هذه الجمعية مؤتمرا سنويا ولها نشراتها أيضا مثل علم نفس الأعصاب التحليلي . ويشارك فيها الكثير من الباحثين والعلماء. يقول كاندل بأن هؤلاء العلماء يؤسسون " هيكلا فكريا جديدا للطب النفسي". وفي هذا الأطار والهيكل الفكري الجديد , تلعب نظريات فرويد حول التنظيم العقلي نفس الدور الذي لعبته أفكار دارون في نظرية التطور. أي أن نظريات فرويد ستكون الأطار العام الذي تلتقي حوله التفاصيل في هذا التحالف الجديد. وفي الوقت نفسه يقوم الأختصاصيون في علوم الأعصاب بالكشف عن أدلة لبعض نظريات فرويد والكشف عن الميكانزم وراء العمليات العقلية التي وصفها. وتبقى الفرويدية مدرسة وأتجاها سيكولوجيا متفردا من حيث المداخل لفهم الأنسان , وعلى مستوى فنيات هذه المدرسة في الممارسة الميدانية , وأيضا من حيث أثارتها للمتعة العقلية دوما .

 




319
سيكولوجيا الكلام واللاتناظر الوظيفي للدماغ

"اللغة نافذة العقل على العالم"
سينيكا
د.عامر صالح

قبل الحديث عن المساهمة الغير متساوية او اللاتناظرية لنصفي الكرة المخيين في عملية الكلام,أرى من الضروري الاشارة الى بعض المعارف الاساسية حول الجهاز العصبي المركزي,وهي لازمه للأحاطة بجوانب  الموضوع.أن الجهاز العصبي المركزي عامة,والدماغ منه بصورة خاصة,والمخ بشكل أخص هو الاساس المادي/الجسمي لأنطلاق الكلام باعتباره احدى العمليات العقلية الراقية(النشاط العصبي الاعلى).كما ان التركيبات التشريحية الوظيفية التي اكتسبها النوع الانساني في مجرى عملية النشوء والارتقاء تشكل هي الاخرى الوعاء اللازم للنظام اللغوي.

يتكون الجهاز العصبي المركزي للأنسان من قسمين رئيسين هما: الدماغ, والحبل الشوكي.ويتكون الدماغ ايضا بدوره من قسمين وهما: المخ,وماتحت المخ(الساق الدماغية,والمخيخ).وتتكون الساق الدماغية من اجزاء هي:النخاع المستطيل, والجسر,والدماغ المتوسط,والدماغ الاوسط .وينقسم المخ الذي هو القسم الاعلى من الدماغ,الى نصفين كرويين متناظرين.يقع احدهما في الجهة اليمنى من الجسم,والاخر في الجهة اليسرى,وتوجد بينهما روابط متبادلة متعددة,من خلال تركيب يسمى الجسم الثفني(الجسم الجاسيئ),والذي يشبه سلك سميك,وتغطيهما القشرة المخية,ذات التلافيف والشقوق,او الاخاديد والفصوص ,وهي رمادية اللون تقع تحتها المادة البيضاء وتفصلهما عن القحف(الجمجمة) ثلاثة أغشية رقيقة هي: الأم الجافية الذي يفصل المخ عن القحف,والغشاء الاوسط(العنكبوتي) الأم العنكبوتية, والأم الحنون.ويفصل الغشاء الاوسط عن الأم الحنون السائل المخي الشوكي, والذي يقوم بالاضافة الى عمله كوسادة لحماية المخ,بخدمة عمليات التغذية الخاصة بالمخ على نسق مايؤديه اللمف والسائل النسيجي لأنسجة الجسم الاخرى.ويتكون المخ وقشرته من اربعة  أزواج من الفصوص,أي لكل نصف من المخ اربعة فصوص:الفصوص الامامية,والفصوص الجدارية,والفصوص الصدغية,والفصوص القفوية(القذالية).

يجري الحديث الان,عن مفهوم اللاتناظر الوظيفي أكثر من الحديث التقليدي عن مفهوم الهيمنة المخية,لأحد نصفي الكرة المخيين على الاخر . إن النصف المخي الايسر(وهو المسؤول عن  الكلام وفهمه عند الغالبية العظمى من الناس) يرتبط بسلسلة من المعالجات التحليلية واللغوية للمعلومات وترتبط بذلك ايضا,خصوصية الأذى الذي قد يصيب أجزاء هذا  النصف المخي,منعكسا بأشكال اضطرابية في الوظائف اللغوية,وهي ذات طابع خطير وتسمى بأضطرابات الحبسة اللغوية(في مجال ارسال الكلام وأستقباله).أما الصفة المميزة للنصف المخي الايمن فهو النشاط الكلي الذي يقرر طبيعته الأقل تنوعا,من الناحية الوظيفية.ومن الاسباب التى أدت الى الاقتناع بعدم الحديث عن هيمنة النصف المخي الأيسر,هو الحقيقة التي تؤكد أن النصف المخي الأيمن يظهر كفاءة عالية في إنجاز المسائل التي تتطلب تحديدات مكانية,مثل الرسومات والانفعالات.

كما لوحظ أيضا,اختلاف في وظيفة المخ عند الرجال والنساء؛حيث يبدو الرجال أكثر هيمنة جانبية,سواء في المعالجات اللغوية,أو غير اللغوية.ويلاحظ لدى الرجال هيمنة واضحة ومميزة لنصف المخ الايسر,عند أنجاز المسائل ذات الطبيعة اللغوية,أما بالنسبة للمسائل ذات الصلة بالمعرفة البصرية /المكانية,فتستدعي لديهم دورا أكبر للنصف المخي الأيمن.وقد تم التأكد من هذه المعطيات,سواء عند الأشخاص الأصحاء,أو عند الذين تعرضوا لأصابات في المخ.

إن هذا اللاتناظر المذكور اعلاه,لم يبدو واضحا بنفس الدرجة لدى النساء,كما يلاحظ لديهن سيطرة واضحة للنصف المخي الأيمن,عند أستقبال المثيرات المرتبطة بالانفعالات,مثل تعبيرات الوجه.ومن الضروري الاشارة هنا,الى أن النساء يستقبلن االاشارات غير اللغوية بشكل أفضل,ومن ضمنها أيضا الاشارات التي يرسلها المرسل تلقائيا.

وتؤكد الأبحاث المعاصرة أن الانقسام التقليدي لنصفي الكرة المخيين,المرتبط بالنشاطات اللغوية وغير اللغوية,ليس كما هو متوقع,حيث يلاحظ أن الضرر الذي يصيب نصف الكرة المخي الايمن,يمكن أن يؤدي الى اضطراب في الكلام,على الرغم من أنه أضعف,قياسا بالضرر الذي يصيب نصف المخ الايسر.ويلاحظ قبل كل شيئ اضطراب في فهم الموضوعات المركبة,وبشكل خاص في فهم النكات,والامثال ومعنى القصص.

وتتضح لدى المرضى المصابين بأضرار في النصف الأيمن للمخ,صعوبات في تمييز المظاهر الانفعالية للحديث,كما أكد ذلك كل من العالمين واطسون وهيلمان؛فقد تبين أن المرضى المفحوصين من قبلهم,والمصابين بشلل في نصف الكرة المخي الأيمن,لم يستطيعوا تحديد طبيعة الانفعال,الذي يتضمنه الموضوع المعروض عليهم.كما تم التأكد أن الاشخاص الأصحاء لديهم اتجاه واضح للنظر الى اليسار,عند الاجابة عن سؤال يثير الانفعالات.وهذا يؤكد كما هو معروف, التدخل الكبير لنصف الكرة المخي الأيمن.وبالمقابل,فان المسألة التي تستدعي معالجتها معلومات لغوية,تدفع الشخص الى النظر الى الجهة اليمنى.

وكذلك في الحالات التي طلب فيها,من المفحوص,شرح الحالة المزاجية,المتضمنة في الموضوع الموجه اليهم,عن طريق الأذنين,في وقت واحد,فقد لاحظ الباحثون الهيمنة الواضحة للأذن اليسرى؛أي النصف المخي الأيمن.ولابد من التذكير هنا,أن النصف المخي الأيمن يستقبل الايعازات من الجهة اليسرى للجسم,نظرا لتقاطع الطرق العصبية,قبل وصولها الى مراكز الدماغ المناسبة.

وتؤكد المعطيات اعلاه,وجهات نظر العالم جاكبسون,من ان نصف الكرة المخي الأيمن مرتبط بالانفعالات,كما يمكن من التعبيرات التلقائية,والتي لايحتاج تكوينها إلى وعي أو منطق.أما النصف المخي الأيسر,فهو مرتبط بالبناء الواعي والمنطقي والمتماسك في الموضوعات.وتشير بعض الأبحاث,الى الامكانات اللغوية, للنصف المخي اللأيمن,عند المرضى الذين أجريت لديهم عمليات جراحية في الطفولة المبكرة,في حالة قطع الجسم الثفني(الجاسيئ).وكذلك إمكانات لغوية محددة,لدى المرضى المصابين مبكرا بعطب في النصف المخي الأيسر.وأن ظهور إمكانية المعالجات اللغوية,عند هؤلاء المرضى,يقع ضمن عملية التعويض في الوظائف المضطربة,كما هو الحال في العلاج الطبيعي مع المرضى المصابين بأضطرابات الحبسة اللغوية.أن هذه الامكانات لاتعكس أبدا القدرة الوظيفية للنصف المخي الأيمن عند الأصحاء.

وفي الموضوعات الكتابية,التي تم الحصول عليها من المرضى المصابين بأمراض في الجزء الأيمن من المخ,فقد لوحظ لديهم,بشكل رئيسي,صعوبات في التنظيم المكاني لهذه الموضوعات,كما هو الحال في الشلل المخي للأجزاء الخلفية والأمامية للمخ. وقد طلب من أحد المرضى أن يكتب وصفا لقرية,فبدأ الكتابة,تاركا نصف الورقة من جهة البدء بالكتابة,وتاركا فراغات كبيرة,ولكن الكتابة كانت متفقة مع قواعد الأملاء الصحيح.

ويستنتج من الملاحظات أعلاه,أن نصف الكرة المخي الأيمن لايلعب دورا أساسيا في بناء الموضوعات اللغوية,على الاقل عند الاشخاص الأصحاء,ولكن دوره في أستقبال هذه الموضوعات أكبر مما كان متوقعا. إن هذه الأمكانيات المحدودة للنصف الأيمن تكمن في فهم الأشياء الملموسة,مثل العبارات البسيطة,والعلاقات الدلالية بين المفردات التي تتكرر في أغلب ألأحيان.أما بالنسبة لتمييز الوقت,والعمليات الحسابية المعقدة,والمبني للمجهول,والمبني للمعلوم,فهذا غير ممكن.إن المهم والضروري هنا هو المعطيات التي تؤكد لنا إمكانية النصف الأيمن في معالجة المعلومات غير اللغوية,والتي تسمح بالفهم الدقيق للمتحدث,على سبيل المثال,إيماءات الوجه والحركات الحية المعبرة,والتي بدونها يصعب علينا فهم غايات المتحدث,أن لم تكن في أحيان كثيرة متعذرة تماما.ويمكن للمقارنة الاتية أن توضح الخصائص الوظيفية,لكل جانب من جوانب المخ:     

                 نصف المخ الأيمن                                   نصف المخ الأيسر                                                         
              حدسي                                                  عقلي 
           يتذكر الوجوه.                                           يتذكر الأسماء
         يستجيب للتوجيهات                                    يستجيب للتوجيهات   
        المصورة,أو الرمزية.                                 الكلامية,وللشروح.
        يجرب بطريقة عشوائية                              يجرب بطريقة نسقية
        وأقل قيودا.                                               مع التحكم.
       أحكامه ذاتيه.                                            أحكامه موضوعية.
     منطلق وتلقائي.                                            مخطط ومنسق.
    يفضل المعلومات غير                                   يفضل المعلومات المؤكدة
     المؤكدة,المراوغة.                                         الثابتة.
    يعتمد على الصور في                                   يعتمد على اللغة في 
   التفكير وفي التذكر.                                      التفكير والتذكر.
   قارئ مركب.                                             قارئ محلل. 
    يفضل الرسم والتعامل مع                             يفضل الكلام والكتابة. 
     الأشياء.
     يفضل الأسئلة المفتوحة.                             يفضل أختبارات الأختيار
                                                                 من متعدد.
     أكثر حرية مع المشاعر.                             يتحكم في المشاعر.
    يجيد تفسير لغة الجسد                                لايجيد تفسير لغة الجسد
    يستعمل الاستعارة كثيرا.                             يستعمل الاستعارة نادرا.
    يفضل الحل الحدسي للمشكلات.                    يفضل الحل المنطقي للمشكلات.


وفي حين نستطيع  أن نذكر اختلافات كثيرة,بين خصائص كل من الجانبين,فمن المهم أن نتذكر أنهما يعملان معا,بوصفهما فريقا, إذ إن الرسائل ترد وتصدر عن طريق الالياف العصبية التي تصل الجانبين,حتى أنهما يشتركان في معظم النشاط العصبي للمخ ,ويتطلب حل المشكلات قدرات الجانبين,وأفضل الحلول هي تلك التي يساهم فيها الجانبان معا.

      للمزيد من التفاصيل في المراجع الآتية,في اللغتين البولندية والانكليزية:                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              
                         .   

1)Code C. Language,Aphasia and the Right Hemisphere.Chichester:John Wiley,1987.
2)Kaczmarek  B.L.J.  Mozg, jezyk,zachowanie.Lublin:UMCS,1995a.
3)Kaczmarek  B.L.J.   Mozgowe organizacja mowy.AWHAD,1995a.
4)Luria A.R. The working  brain.An introduction to neuropsychology.Allenlane.The Penguin Press,1976.
5)Maruszewski   M. Mowa  a  mozg,Warszawa,PWN,1970.
.


320
المثلية الجنسية الأنثوية
بين أروقة الخطاب الديني ومعطيات البحث العلمي

"ماالتأنيث لأسم الشمس عيبا     ولا التذكير فخرا للهلال"
 المتنبي


"الجزء الثاني"


د.عامر صالح

أن المثلية الجنسية الأنثوية( السحاق) هي الوجه الأخر للمثلية الجنسية عموما,والتي تشكل المثلية الجنسية الذكرية( اللواط) وجهها الأول.وقد نشرت على صفحات الأنترنيت مقالا مكرسا عن الأخيرة بعنوان" المثلية الجنسية والتصفيات الجسدية/ العراق ضحية ومتهم",ثم أعقبت ذلك بمقال آخر موسوما "المثلية الجنسية/ ملاحظات أستباقية في أصل الأنواع/ الجزء الأول", وكان يحتوي على ملاحظات تمهيدية حول مقالنا الحالي.

أن المثلية الجنسية الأنثوية بمعناها الشامل تعني الميول والممارسات ذات الطابع أو التنويه الجنسي بين أنثيين أو من أنثى الى اخرى من جنسها,غير أنها بالمعنى المحدد تعني ممارسة العلاقة الجنسية الفعلية بين أنثى وأخرى.وهذه الحالة الأخيرة هي التي تسمى باللسبية.ولانعتقد أن هذه الممارسات منعدمة كليا في أي مجتمع, قديم أو حديث, بدائي أو متحضر أو متطور, غير أنه يصعب تحديد نسبة الممارسة في أي مجتمع, وهذه الصعوبات ناتجة عن التستر عليها وعدم الأفضاء,وما يترتب على ذلك من نبذ أجتماعي وعقاب ديني لذوي الممارسة,أضافة الى صعوبات ناجمة عن تحديد اوجه هذه الممارسة بين أنثى وأخرى,وذلك لأن درجات التماس الجسمي عديدة كما أن أي واحدة منها قد تخدم غرضا جنسيا قد يختلف في طبيعته النفسية والفيزيولوجية عن أي درجة أخرى من التماس.

ففي المجتمعات الأوربية والمتقدمة منها بشكل خاص أصبحت الظاهرة قابلة للقياس والبحث العلمي نسبيا.أما في المجتمعات الأخرى, ومنها العربية والأسلامية بصورة خاصة فهي عصية على الأختراق لأسباب ثقافية ودينية تحجب اختراق الظاهرة ودراستها بشكل موضوعي, على الرغم من وجود الكثير من المؤشرات التأريخية والحاضرة على وجودها وأستمرارها.وتشكل رمزية قصة قوم لوط وذكرها في القرآن أحدى المؤشرات الهامة لذلك وتعبر بنفس الوقت عن عمق التأريخ المدون للظاهرة. وتشكل قصة لوط ليست فقط مدخلا لفهم " اللواط", بل لفهم الوجه الأخر من نتائجها وهو "السحاق", وهي تفسر النتائج والأسباب المتبادلة بين الظاهرتين عندما تؤسس الممارسة على قاعدة الأنكفاء بين الجنسين,وأن لم يكن قد ورد ذلك صراحة في القرآن,ولكن ورد على آلسنة المفسرين للنص القرآني.

ولأغراض المتعة العقلية فيما ذكرنا اعلاه, نشير هنا الى ما ذكره الراغب الأصبهاني في كتابه " محاضرات الأدباء" والمحمل على صفحات الأنترنيت,بخصوص الجذور الأولى لنشأة السحاق عند العرب. فوفقا للأصبهاني كانت هند بنت عامر زوجة   النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي الملقب بأبو قابوس( 582ـ610م ) وهو من أشهر ملوك المناذرة في عصر قبل الاسلام, رائدة السحاق العربي بعد الأنقطاع التأريخي الذي نتج عن اهلاك الله لقوم لوط.فقد ذكر الأصبهاني في المحاضرات أن أول من سنت السحاق عند العرب نساء قوم لوط لما شاع بين رجالهن اتيان الذكور وهجرهم النساء,فلما اشتدت شهوتهن أخذن يتضاربن بالأرداف فوجدن لذة في ذلك, ثم ألصقن الردف بالشراح فكانت أكثر لذة,ثم دلكن الشراح بالآخر,فتصدم النواة بالنواة/ والهنات بالهنات,فتنزلان الماء, ولما أهلك الله قوم لوط الرجال والنساء انقطع اللواط والسحق,حتى جاءت رقاش بنت الحسن اليمانية مرة لزيارة هند بنت عامر بن صعصعة زوجة النعمان بن المنذر,وافدة عليها فأنزلتها عندها وكانت ذات حسن ونضارة فشغفت بها وكان النعمان يغزو فيغيب عن امرأته,فتكون هي ورقاش على فراشه,فربما التصق جسداهما,فوجدتا لذة لطول العزوبة حتى استدلتا على طريق المساحقة,فما زالت رقاش تزين لهند وقالت إن في اجتماعنا أمنا من الفضيحة وأدراك الشهوة,فاجتمعتا واستمر بهما ذلك حتى أصبحن كزوج وزوجة وبلغ من شغف كل واحدة بالأخرى أنه لما ماتت ابنة الحسن اعتكفت امرأة النعمان على قبرها واتخذت الدير المعروف بدير هند في طريق الكوفة. وفيها يقول الفرزدق مخاطبا جرير بن عطية يهجوه:
وفيت بعهد كان منك تكرما      كما لأبنة الحسن وفت هند

أن وضع النص المذكور اعلاه في مناظرة مع العلم الحديث يعكس لنا أنطباعا دقيقا أن الأصبهاني تحدث عن المثلية الفعلية بين الأناث وليست الميل العام لها,وهو بهذا المفهوم يتفق مع مفهوم اللسبية التي تقابل السحاق في المفهوم العربي الكلاسيكي, وهي حالة التماس الفعلي ذو الممارسة الجنسية.ولانتفق مع الأصبهاني كون أن الظاهرة أنقطعت بعد ما حل بقوم لوط من عقاب حسب" الرواية الدينية",ولكننا نستطيع أن نقول أن الظاهرة أختفت عن الأنظار ولم تنقطع, ولذلك لم تسنح الفرصة لتدوينها اما ما تم تدوينه فهي حالات قريبة من البلاط الحاكم,وهي حالات سهلة الملاحظة نسبيا قياسا بالحالات العامة المستعصية,ولذا نستطيع ان نقول ان هند بنت عامر قد تكون أحدى رائدات السحاق العربي وليست الرائد الأول.كما نستطيع ان نؤكد أن النص وضع يده على احد أسباب السحاق وهو هجر الزوجة بعيدا وعدم تنظيم العلاقة الزوجية,ولكن النص  من جانب آخر  حصر السحاق فقط في المتزوجات.

ورغم أن هناك أجماع بين فقهاء الدين بأن ممارسة المرأة الجنس مع امرأة أخرى هو حرام ومعصية كبيرة من أشد الكبائر وهو مخالف للفطرة الأنسانية,ألا أن عدم وجود نص قرآني صريح وواضح (على نسق ما جرى لقوم لوط) بهذا الخصوص ترك آثاره على المذاهب الأسلامية المتعددة للأجتهاد حول هذه الظاهرة وشروط أقترانها بالممارسة الدينية,مع العلم أن هناك آحاديث تنقل عن النبي محمد(ص) تدين الظاهرة أدانة واضحة كقوله مثلا:"سحاق النساء زنى بينهن" وكذلك قوله" السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال,فمن فعل من ذلك شيئا فاقتلوهما,ثم أقتلوهما", الا أن هناك خلافا بين الفقهاء حول ماورد من آحاديث وأعتبروها من الاحاديث الضعيفة من حيث أستيفائها لشروط أنتسابها الى الأحاديث النبوية.

ونشير هنا الى موقف المذهب الشيعي من السحاق وتحديدا الشيعة الأثنى عشرية والذي روي عن الأمام جعفر الصادق(ع),والذي تسمى  الشيعة الأثنى عشرية نسبة اليه با لجعفرية,وهو موقفا متشددا,ويستند الى تفسير بعض النصوص القرآنية,وليست الى نصوص صريحة.حيث روي عنه أنه دخل عليه نسوة,فسألته امرأة منهن عن السحاق؟ فقال:حدها حد الزنى.فقالت المرأة: ما ذكر اللة عزوجل ذلك في القرأن؟ فقال:"بلى".قالت : وأين هو؟ قال : "هن أصحاب الرس", ويقصد بذلك الذين جاء ذكرهم في سورة الفرقان,الأية 38: ( وعاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا), وكذلك ما ورد في سورة قاف,الأية 12: (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود). وأستنادا الى بعض التفسيرات فأن اصحاب الرس هو نسبة الى نهر أوبئر يعرف بالرس بآذربايحان, وهم قوم كذبوا الأنبياء والرسل, وأختاروا الممارسات الجنسية الشاذة والمحرمة كاللواط والسحاق,فأستغنوا رجالهم بالرجال و نساؤهم بالنساء فأهلكهم الله.وهناك الكثير من التفسيرات لهذه النصوص,يمكن الأطلاع علها في المواقع الألكترونية الخاصة في تفسير القرآن أو كتب التفسير.

أما بالنسبة للمذهب السني فقد أشار بوضوح كون فعل السحاق حرام بأجماع فقهاءه,الا أن هناك تنوعا مرنا في الرأي عند فرق السنة بقدر ما يتعلق الأمر بصلته بالممارسات الدينية. وهنا نشير الى ما ورد بخصوص ذلك في الموسوعة الفقهية والمحملة على أوقاف نت الخاصة بوزارة الاوقاف والشؤن الأسلامية في دولة الكويت/ في الجزء الرابع والعشرون من هذه الموسوعة . فقد أختلف فقهاء السنة في نقض السحاق للوضوء؛فذهب الحنفية الى أن تماس الفرجين سواء كان من جهة القبل أو الدبر ينقض الوضوء ولو بلا بلل ـ وهو عندهم ناقض حكمي ـ وأشترطوا أن يكون تماس الفرجين من شخصين مشتهيين وهو ما يفهم من مذهب المالكية حيث أن مس امرأة لأخرى بشهوة ينقض الوضوء, لأن كل منهما تلتذ بالأخرى, وصرح الحنابلة بأنه لانقض بمس قبل امرأة لقبل امرأة أخرى أو دبرها, وهو مذهب الشافعي.كما يؤكد مذهب المالكية والحنابلة أن خروج المذي بلمس أوقبلة مباشرة مفسدا للصوم, خلافا للحنفية والشافعية ,(يمكن العودة للموسوعة المذكورة للمزيد من التفاصيل). ونعتقد على خلفية هذا الموقف الواضح للمذاهب السنية أنه بأمكان" المرأة السحاقية المسلمة"!!! أن تمارس الطقوس الدينية من صلاة وصوم وفقا للضوابط الشرعية المذكورة أعلاه.ونعتقد كذلك أن هذا الموقف قائم على على تصور مفاده أن فعل السحاق ليست بمنزلة فعل اللواط وأن الأول هوأشبه بمقدمات(مداعبات) للفعل الجنسي,وليست عملا جنسيا كاملا كما يجري في اللواط في أغلب الأحيان .

أما بالنسبة لمديات أنتشار ظاهرة المثلية الجنسية الأنثوية في العالم العربي والأسلامي في الوقت الحاضرفهي غير معروفة ولايمكن أن نتوقع أحصاء دقيقا عنها,نظرا للتكتم الشديد عليها, الا أننا نستطيع أن نلتمس بعض من أبعادها,والذي يعبر بالتأكيد عن وجودها في عالمنا العربي ,فعلى سبيل المثال لا الحصر,ونقلا عن شبكة أبن الخليج الالكترونية يؤكد أستشاري الطب النفسي الدكتور عبد الله السبيعي بكلية الطب بجامعة الملك سعود في الرياض بأن ظاهرة المثلية الجنسية الأنثوية في المجتمع السعودي في تزايد مستمر في ظل وجود العوامل المثيرة للرغبات الجنسية كالقنوات الفضائية والانترنيت والهاتف الجوال الذي أصبح الان للعلاقات غير المشروعة(وفقا لتصوره), وأكد كذلك أن هذه الظاهرة غالبا تحدث بين الشابات في الأماكن المكتظة بهن كالمدارس, وتبرز بشكل أكثر في الجامعات لعدم قوة ضبط وهيبة الأدارة مقارنة بالمدارس ( حسب قوله ) كما أكد ايضا عن أن أكثر من(70%) في الفتيات الشاذات جنسيا(حسب تعبيره) في المملكة العربية السعودية لايرغبن في تعديل وعلاج سلوكهن خاصة اللاتي مارسن هذه الظاهرة بشكل كبير لأقتناعهن بأنهن لايحسن غير هذا النوع من الممارسة للحصول على المتعة الجنسية ولايجدن الاثارة في الرجل.

ومن الجدير بالذكر أن بعض من ملامح هذه الظاهرة بدأت تطفح على السطح من خلال معالجات بعض الأعمال الفنية,فقبل أكثر من عام تم عرض الفلم المصري" حين ميسرة " والذي تم فيه عرض مشاهد ( السحاق ) الذي أدته الفنانتان المصريتان غادة عبد الرزاق وسمية الخشاب, وقد أثار موجة من السخط والغضب في  صفوف بعض من اساتذة الجامعات وعلماء الدين في الأزهر,مطالبين بأحالتهما الى النيابة المصرية العامة للتحقيق معهما بتهمة الدعوة الى نشر الشذوذ الجنسي والسحاق والتخريب الأخلاقي, وكالعادة متهمين "الأصابع الأمريكية والصهيونية"!!! بالوقوف وراء مثل هذه الأعمال الفنية الشاذة!!! ضمن مخطط تخريبي كما يدعون لتدمير أخلاق المجتمع,مؤكدين أنه لايمكن أن نتصور أن" السحاق" وصل عندنا الى هذا الحد!!!. وقد سبق ذلك فلما ولكنه عن" اللواط" بين رجلين,وهو فيلم( عمارة يعقوبيان ) من بطولة الفنان عادل أمام.

أن المثلية الجنسية الأنثوية هي ظاهرة سايكوأجتماعية معقدة نسبيا قياسا بالمثلية الجنسية الذكورية وذات طابع نمائي,وان الأسباب التي تدفع بالمرأة نحو المثلية كثيرة, وترد في غالبيتها الى عوامل معقدة تتصل أتصالا وثيقا بشخصية الفتاة وبالعوامل النفسية المختلفة التي تعرضت لها في أدوار الطفولة, ولعل هذه العوامل النفسية في المرأة اكثر تعقيدا منها في الرجل بسبب الرقة التي يتميز بها الكيان النفسي للمرأة مما يجعلها أدق وأعمق من الرجل في حياتها النفسية.

قد تلجأ بعض الأناث الى التجربة الجنسية مع مثلهن بسبب محدودية الأتصال بالجنس الأخر من الناحية الجنسية وحتى العاطفية.وفي هذه الحالة تعتبر التجربة الجنسية المثلية امتدادا طبيعيا للدور الجنسي المثلي الذي يكثر في المراهقة عند الذكور والأناث.والبعض من الأناث يمارسن ذلك بسبب دافع حب الأستطلاع او لمجارات بعض التجمعات الشللية.ومعظم الأناث يتخلين عن ممارسة المثلية بعد توفر العلاقة الطبيعية مع الجنس الأخر,الا أن بعضهن يتجهن أتجاها واضحا في ممارسة المثلية حتى بعد توفر العلاقات الجنسية الطبيعية سواء من خلال الزواج أو بدونه, وهذه الحالات هي حالات مثلية صرفة,وهناك العديد من الأسباب لتفسير ذلك,يمكن أختصارها بالشكل الأتي:
* أن بعض الأناث يثيرهن الأعجاب ببعض الخصائص التى تتحلى بها بعض الفتيات من جنسهن, وقد يبدأ هذا الأعجاب منذ الصغر, وقد ينمو عند بعضهن الى ما يشبه عاطفة الحب العنيف. ويقع أختيار الفتاة على فتاة تتحلى ببعض المزايا التي تفتقدها في نفسها وطالما تمنتها,سواء كانت هذه الصفات عقلية أو جسمية أو أجتماعية.ويعزز هذا الأتجاه فشل الفتاة في العثور على هذه الصفات في والدتها أو بسبب حرمانها من عطف أم , لها بعض هذه الصفات.مع أن بعض الفتيات يستطعن في الكبر تحويل هذه العاطفة الأعجابية الى مجالات عاطفية أو أحتماعية أخرى,الا أن البعض الأخر لايستطيع الابتعاد عن هذا الأرتباط الذي قد ينمو ويتخذ مظهرا حنسيا مثليا.الا أن بأمكان العلاقة الزوجية القائمة على التفهم العاطفي للزوجة أن يحل ذلك.

* أن بعض من الأناث يعانين مبكرا من عدم الثقة بالنفس,وفي أنوثتهن ويعانين من شعور عام بالنقص وعدم الأطمئنان والقلق. وقد يكون ذلك بسبب عدم اكتمال نمو الحياة العاطفية للفتاة,كما قد ينجم ذلك من أخطاء عاطفية تربط الفتاة بوالديها وخاصة الأم.إذ أن من العسير على الفتاة أن تشعر بمثل هذه الثقة بنفسها إذا كان المصدر الأول لتعرفها بنفسها كأنثى,وهو الأم,لايعطيها الشعور بذلك.وهناك من يعتقد أن وفاة الأم مبكرا او الفراق الطويل الأمد,وكذلك العزوف عن الصلات العاطفية بأولادها,وجميع هذه العوامل تدفع صوب المثلية الجنسية الأنثوية كشكل من أشكال التعويض العاطفي عن المصادر الطبيعية. ولكن أذا أستطاعت الفتاة من ملء هذا الفراغ بمصادر طبيعية يمكن لها ان تعود الى العلاقة مع الجنس الآخر.

* أن الفشل في الحياة الزوجية بما في ذلك العلاقة الجنسية قد تكون وراء أندفاع المرأة نحو العلاقة المثلية. وقد يكون هذا الفشل مقررا بسبب البرودة الجنسية للزوجة سواء كان هذا البرود مقررا بالطبيعة التكوينية او بسبب عوامل أخرى.وقد يتقرر هذا الفشل بسبب الزوج,لأسباب مماثلة,وقد يأتي بنتيجة عدم التوافق بينهما,وهي أمكانية كثيرة الوقوع.ويجب ادراك حقيقة أن الحياة الجنسية للمرأة هي أكثر من الأكتفاء الجسدي أو الغريزي, وهذا الواقع قد يعرضها الى مختلف الأضطرابات النفسية العميقة اذا لم تراع حاجاتها بدقة وعناية.والخطأ في أدراك ذلك قد يؤدي الى ردود فعل عنيفة لدى المرأة يبعدها عن أي علاقة مع الرجل,فتندفع نحو علاقات مثلية لتأمين نوع من الأمن النفسي والروحي(طبعا تلعب هنا الثقافات المختلفة دورا كبيرا في تحديد وجهة ذلك ودرجته).

* كما تفسر بعض حالات المثلية الجنسية الأنثوية هي أن ذروة المرأة قد لاتتحقق الا عن هذا الطريق,ثم أن حصول المرأة على ذروات متعددة في وقت قصير قد لآيأتي الا عن هذا الطريق,وهذا مايدفع بعض النساء الى اللجوء الى اللسبية تفضيلا عن العلاقة الجنسية مع الرجل.وقد يكون من الأسباب أيضا في بعض الحالات هروب المرأة من الألتزامات التي يترتب على العلاقة الجنسية مع رجل,من تكوين أسرة وحمل وتربية الخ.

* وهناك أيضا التفسيرات التي ترى ان هناك أستعدادا تكوينياـ وراثيا نحو الجنسية المثلية وبأن هذا الأستعداد ينتقل على شكل تغيرات هرمونية عصبية,وأن هذه التغيرات تحدث تحسسا  لنواة الهايبوثالموس في الدماغ في وقت دقيق وحرج من مراحل النمو.وكما هو معروف ان هذه النواة تنظم وتتحكم بالفعاليات المختلفة لحياتنا الجنسية.اما بالنسبة للفرويدية فهي ترى أن الأشباع الشديد للغريزة في مرحلة الطفولة أشباعا فمويا يجعل الطفل يجد صعوبة في التخلي عنها أويجعله يحن الى العودة اليها حين يكبر,وتشكل المثلية أحد مظاهرها,وهو مايسمى في علم النفس بالتثبيت.

وهكذا من الناحية العلمية فأن المثلية الجنسية الأنثوية لايمكن حصرها في عامل واحد, وأنما تتظافر عدة عوامل من نفسية واجتماعية وحضارية وبايولوجية وتكوينية,اضافة الى توفر متغيرات زمنية نوعية وكمية في كل حالة.وعلى خلفية عدم الوضوح الفكري والديني لظاهرة المثلية الجنسية الأنثوية,من حيث أسبابها ومظاهر التعبير عنها,يجري التعامل مع النتائج بأعتبارها أسبابا أو كما يقال(وضع العربة أمام الحصان), وبالتالي تصبح محاربة الفعل المثلي مطلوبا لذاته, دون فهم الميكانيزم الذي يقف ورائه,وأن ادراك هذا الأخير يعني في المنهج العلمي تسهيل حصر هذه الظاهرة الى أدنى مدايات التعبير عنها. وتبقى الحالات المستعصية أو اللسبية الفعلية متروكة لسقف التسامح الأجتماعي في تقبل الأخر,بعيدا عن الأضطهاد والتصفيات الجسدية, والذي يؤدي بدوره الى مزيدا من الحقد والكراهية الأجتماعية,ولكنها مهمة ليست سهلة في مجتمعاتنا !!!!!.



321
المثلية الجنسية
ملاحظات أستباقية في أصل ألانواع

"ما التأنيث لأسم الشمس عيبا      ولا التذكير فخر للهلال"
المتنبي

الجزء الأول


د.عامر صالح

أثار لدي الفضول المعرفي عند كتابة مقالي السابق والموسوم"سيكولوجيا المثلية الجنسية/ العراق ضحية ومتهم", والذي كان مكرسا عن المثلية الجنسية الذكورية,والمنشور على صفحات الأنترنيت,أن أكمل الوجه ألاخر للمثلية,الا وهو المثلية الجنسية الأنثوية,أو ما يطلق عليه في اللغة العربية الكلاسيكية بالسحاق,لكي نقترب من وضوح الرؤى لكلا الظاهرتين من حيث جذورها والمظاهر المختلفة للتعبير عنها وكذلك أسبابها المختلفة, وبالتالي نحاول أستيعابها بمزيدا من العقلانية,أستنادا الى المعارف العلمية في هذا المجال,بعيدا عن التهور والانفعالات المرضية.

وقد أرتأيت قبل الدخول في الموضوع مباشرة,أن أشير الى بعض   الملاحظات السريعة حول جذور ظاهرة المثلية الجنسية لدى الكائنات الحية التي تقع تحتنا في سلم التطور البايولوجي.وقد ساقني لذلك تأكيدا للفروض العلمية التي اثبتت صحتها, والتي مفادها أن هناك الكثير من مظاهر الأستمرارية والتشابه في السلوك بين الكائنات الحية في مختلف درجات تطورها,وهذا ينطبق بصياغة أخرى بين الأنسان وما سبقته في النشأة التطورية/ التأريخية من الكائنات الحية,وبالتالي فأنه لاتوجد قطيعة مطلقة بين جميع الكائنات الحية التي تتدرج في سلم التطور البايولوجي, وأن ما ينشأ جديدا في هذا السلم يحمل في طياته الكثير من القديم, وتلك هي سنة التطور.وأن ما يوجد بين الكائنات الحية من مشتركات كثيرة على مستوى العمليات البيولوجية الأساسية والبنى التشريحية العامة, وما يرتبط بها من غرائز كثيرة كالجوع والعطش والجنس والتنفس والهظم....الخ,يقود بالضرورة الى البحث عن مظاهر مشتركة لسلوك الكائنات العضوية, كالأنسان والحيوان,بعيدا عن المعارف والخطابات الديماغوجية.

لقد اثبتت الدراسات العلمية, أن ظاهرة المثلية الجنسية منتشرة بين الحيوانات, وخاصة الطيور والحيوانات الثدية,مثل الزرافات والقردة, وخاصة القرد الشمبانزي, وهو الأقرب الى الأنسان في سلم التطور.وحتى عند بعض أنواع الضفادع.فقد تم التأكد في عام 2004 في بحث علمي أن المثلية الجنسية منتشرة بين الأغنام, وهي تشبه الى حد ما المثلية الجنسية لدى الأنسان, ويعتقد أنها متعلقة لديهم بمنطقة ما في الدماغ. وقد اثبت علميا أن 1500 نوعا من الحيوانات تنتشر فيها ظاهرة المثلية الجنسية ,وأن 500 نوعا منها موثقا بأشكال مختلفة ضمن بحوث علمية ودراسات دكتوراه.

وفي عام 2004  أيضا  تم التأكد من خلال الملاحظة العلمية من قبل المتخصصين, في الحديقة المركزية للحيوانات في الولايات المتحدة الأمريكية, أن حيوان البطريق يمارس المثلية الجنسية بأشكال مختلفة تنسجم مع طبيعة جنسه وطريقة الأتصال بينهما, وهي ذات طابع مداعباتي, أو عيش مشترك, حيث يقوم الذكريين ببناء عش مشترك والعيش سوية, وبدلا من تجميع البيض ووضعه في العش ,يقومون الذكران بتجميع الحصى. وتم التأكد من نفس الملاحظات في الحدائق الالمانية,واليابانية والنيوزلندية.

ومن ضمن الطيور التي تنتشر فيها المثلية الجنسية,على سبيل المثال لا الحصر, هو طائر البجع الأسود الأسترالي ذو المنقار الأحمر,حيث يقوم هذا الحيوان ببناء علاقات مثلية ويسرق العش من الأناث ,أو علاقات مزدوجة مع الأناث لسرقة البيض منها.وكذلك لوحظت المثلية في وسط طائر الاوك والنورس وغيرها.وتنتشر هذه الظاهرة على العموم في الحيوانات التي تشكل تجمعات بأعداد مختلفة.

وتبدو ظاهرة المثلية الجنسية بشكل اكثر وضوحا في تجمعات القردة,كقرد الماكاك,وهو قرد اسيوي ذو انف ضيق,يتواجد في الشمال الشرقي من الهند.وكذلك في أوساط قرود البابيان او الرباح, وهي نوع من القرود تعيش في المناطق الواسعة والمفتوحة من الغابات ومناطق الاعشاب الأفريقية الى الجنوب من الصحراء وبعض المناطق المرتفعة منها.والمثلية الجنسية في اوساط تلك القرود تأخذ أشكالا مختلفة, أبتداء من المداعبات الى العمل الجنسي الكامل.

وتنتشر المثلية الجنسية كسلوك فعلي بنسبة 75%  في وسط القردة من نوع البونوبو,وهو احد أنواع القردة الشمبانزي,الذي تم أكتشافه في عام 1928 من قبل عالم التشريح الأمريكي هارولد كوليج في افريقيا الوسطى .وقد أكد العالم فرانس دي وال في كتابه"القرد المنسي",أن الجنس يلعب دورا مهما في مجتمع البونوبو,حيث يستخدم كوسيلة لأداء التحية بحرارة, أو كوسيلة لفض النزاعات بين المتخاصمين من القردة,ويستخدم لاحقا كخطوة لتثبيت حالة الهدنة التي تعقب فض النزاعات,وهو على نسق ما يجري في السياسة في المجتمعات الأنسانية اثناء حل الصرعات السياسية والعسكرية,حيث تبدأ الهدنة أولا ثم البحث عن عوامل تثبيتها, وأن أختلفت الوسائل في ذلك, كل حسب درجة تطوره.وكذلك يستخدم الجنس في وسط هذا النوع من القرود كوسيلة للمقايضة ,على سبيل المثال مقابل وجبة طعام لقرد جائع, تتم ممارسة الجنس معه.وقد تكمن هنا جذور الدعارة الاولى( الجنس مقابل شيئ ما), وعلى نسق ما يجري الآن في المجتمعات الأنسانيةـ الجنس مقابل المال. ويصنف هذا الحيوان كحيوان بيسكسويل بأمتياز( أي ممارسة الجنس مع جنسه والجنس الاخر).ونسوق هنا لأغراض المقارنة فقط في السياق , وأن كان أكتشاف القردة لأهمية الدور الجنسي يسجل سبقا لهم !!!,أن الجنس في الحياة المعاصرة للأنسان يلعب دورا مهما في الأستقرار والنمو الشخصيين,وكذلك على مستوى الأستقرار و التخطيط  الأسري وبعث الهدوء النفسي والأجتماعي للأسرة.كما يستخدم الجنس ألآن كأحد وسائل العلاج لبعض الأضطرابات النفسية,مثل الأكتئاب والهستيريا والقلق وغيرها,او ما يسمى بعلم النفس " الكف بالنقيض" ,أي أحلال استجابة ايجابية سارة مكان استجابة سلبية غير سارة,وهو احد علاجات المدرسة النفسية السلوكية.

ومن الجدير بالذكر هنا, أن المثلية الجنسية في الحيوانات هي في الأعم الأغلب ذكورية( بين ذكر وأخر). أما المثلية الأنثوية فهي أقل بكثير وتنخفض نسبتها الى النصف قياسا بالمثلية الذكرية, وهي تقترب من نسبتها في المجتمعات الأنسانية. ويفسر البعض هذا بسبب قوة" الصفة الذكورية" لدى الذكور, يقابلها حالات" الهدوء الجنسي" لدى الأناث , وخاصة بعد الأنجاب ورعاية الأطفال وما يترتب على ذلك من غرائز الأمومة,وما يصاحبها من تحويل للغريزة الجنسية صوب الأطفال ورعايتهم والأرتباط النفسي بهم.

أما المثلية الجنسية الأنثوية,أو ما يسمى باللغة العربية بالسحاق, وهي كلمة ذات ابعاد سلبية تستعمل في اللغة العربية للحديث عن مثليات الجنس فقد حل مكانها مصطلح المثلية الجنسية الأنثوية كمصطلح تحرري محايد. ومثلية الجنس هي المرأة التي تميل الى النساء جنسيا أو عاطفيا, وأستعملت في الماضي كلمة سحاق وسحاقيات للحديث عن مثليات الجنس لأنهن "يسحقن" أي يضغطن اثداء واعضاء بعضهن اثناء الفعل الجنسي,وهو يقابل الكلمة الأنكليزية " لسبيس" ذات الأصل الأغريقي , نسبة الى جزيرة لسبوس اليونانية ومسقط رأس الشاعرة اليونانية "صافو " التي كانت تمارس المثلية مع النساء اليونانيات في القرن السابع قبل الميلاد, وكانت تحي امسيات في الشعر والخطابات والرقص معهن.وكلا مصطلحي السحاق بالنسبة للمرأة , واللواط بالنسبة للرجل لايستخدمان في ثقافة اللغة الرسمية أو في اللغة الراقية, وقد حل مكانهما مصطلح المثلية الجنسية الذكورية بالنسبة للواط, ومصطلح المثلية الجنسية الأنثوية بالنسبة للسحاق. وظل مصطلحي السحاق واللواط قابعان في الخطابات الكلاسيكية واللغات القديمة.
أما بالنسبة لأبعاد ظاهرة المثلية الجنسية الأنثوية بين النساء من حيث حدودها ومسبباتها وأبعادها ومظاهر التعبير عنها,فسيكون ذلك موضوع الجزء الثاني القادم. يتبع لاحقا



322
" الميكافيلية الخاصة " وإشكالية البعد الأخلاقي في الصراع السياسي الداخلي في العراق

" في الحكومة, كما في الجسم البشري,الأمراض الأكثر سوءا مصدرها الرأس "
                                                 مثل بلجيكي


د. عامر صالح

يثير الصراع السياسي بين الأحزاب المختلفة لإدارة الحكم في العراق إشكالات كثيرة على مستوى الفكر والممارسة, وخاصة عندما يدار هذا الصراع من قبل أحزاب حديثة العهد في الخطاب والممارسة الديمقراطية, وعلى نسق ما يتعلمه الطفل من مبادئ أساسية ومهارات في رياض الأطفال,حيث يجري التعلم هنا عن طريق المحاولة والخطأ, قد تثبت هذه المهارات أو تضمحل,فيضطر الفرد إلى أعادة التعلم وهكذا دواليك إلى أن تستقر العادات المطلوبة لذلك, كما هو الحال بالنسبة للأحزاب الدينية وبعض من غير الدينية,هذا طبعا في سياقات طبيعية  ويفترض أن تؤدي إلى نتائج ايجابية مع الوقت في حالة توفر حالة النضج والاستعداد للتعلم.

ولكن الظروف الخاصة التي وفرت للبلد فرصة الاختيار السياسي عبر صناديق الاقتراع وإدارة البلد عبر آلية العمل الديمقراطي في تقرير مصيره , وقد تأسست هذه العملية في أجواء الاحتلال الأمريكي وبفضله, رغم إفرازاته الجانبية السلبية ,والتي يفترض على العقلاء من ألسياسيين العمل على إزالة أثارها سريعا وتحويلها إلى عملية ديمقراطية شاملة وكاملة , وخاصة ألبنية الأساسية والهيكلية للديمقراطية , دستورا وآليات عمل, والتي وفرت غطاء لإقامة نظام سياسي بمسحة دينية وطائفية ,مسببا لإثارة النعرة الطائفية والشوفينية في بلد متنوع الأعراق والاثنيات القومية والدينية , لا تحتمل أدارة الحكم فيه وبناء نهضته الاقتصادية والاجتماعية بهذه الطريقة الانتقائية الخطرة.وبدل من أن تتحول هذه التجربة الوليدة إلى حاضنة حقيقية  للديمقراطية ,تحولت في بعض من جوانبها إلى هرولة سريعة للاستحواذ السياسي واقتسام مناطق النفوذ جغرافيا وسياسيا, وكأن لسان حالها يقول : " اليوم أفضل من غدا فلنضرب ضربتنا الآن " , مما فوت الفرصة على التعلم الجيد وخاصة لهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أكثرية في عرف ما جرى تأسيسه بعد سقوط النظام السابق مباشرة !!!.

لقد وفرت هذه الأجواء خلال السنوات القليلة المنصرمة فرصا" ذهبية " وغطاء لاستخدام" الدين" و" الخطاب الديني" إلى أقصى مدى, متخذين من المنافس السياسي الأخر خارج القوى الدينية عدوا وهميا لهم وبنفس الوقت هدفا وضحية. واليوم حيث يجري بنفس السياق تعبئة كافة المؤسسات الدينية من دور للعبادة وسلطات دينية ـ سياسية , ودوائر رسمية وغير رسمية  , وأقلام كتاب,وكذلك محاولات مستمرة للاستنطاق المرجعيات الدينية واستمالتها وزجها مجددا في دائرة الصراع لكسب المعركة الانتخابية القادمة وعلى طريقة ما جرى في الانتخابات البرلمانية والمحلية السابقة.

وتقوم هذه الحملة المسعورة على إدعاء وهمي ومظلل قوامه إن الدين الإسلامي أو الطائفة أو المذهب في تهديد, وأن الأمة في خطر قادم من قبل القوى الوطنية ( يسارية وعلمانية وغيرها ), ويجب إعلان حالة الطوارئ الدينية والتهيئة لمعركة شرسة ضد عدو يريد الإطاحة بالإسلام وتصوير الطرف الأخر المنافس والمسالم والأعزل من السلاح في غالبيته بأنه عدو للدين!!!!. أنها محاولات تجري على خلفية الاستخدام غير النزيه والسيئ لمزاج الناس الديني والعبث بمعتقداتهم الدينية وخاصة في أوساط البسطاء والفقراء والكادحين والمحرومين من الناس الذين عانوا الأمرين من النظام السابق , ويعانون الآن من ضنك العيش وانعدام فرص العمل والخدمات الاجتماعية والمحسوبية والمنسوبية وارتهان للقمة العيش وغيرها.

أن ما يجري الآن من قبل هذه الأحزاب هو ليست عملية صراع سياسي ومنافسة نزيهة يراد بها إبراز الإمكانيات الذاتية والفعلية لهذه القوى وهي تخوض منافسة مع القوى السياسية الأخرى , بل هي " ميكافيلية دينية " تقوم على قاعدة استخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من إعلام وسلطات واسعة وصحافة ومؤسسات دينية ترغيبا وترهيبا لزرع الرعب في عقول البسطاء وبذريعة حرب أو حملات تشنها القوى الديمقراطية والوطنية ضد الإسلام , ويجب الاستعداد " للانتصار الإلهي" , ويجب أن يمر هذا" الانتصار" وفقا لهم عبر آلية محكمة تبدأ بتأصيل حالة الخوف لدى الناس ( الفوبيا), تعقبها حالة غيبوبة مؤقتة يتم فيها انتزاع أصواتهم الانتخابية القادمة , ثم تركهم حفاة الأقدام مكشوفين الرأس أمام الهجمات الانتحارية , كما تركوهم في المرة الأولى , وإلى انتخابات أخرى بعد القادمة !!!!!.

أن هذه الأجواء التي تستعد هذه القوى إلى بعثها في صفوف الناس, هي بالضد من تعاليم الإسلام الذي نسمعه ونقرأه في الأدبيات الإسلامية من فقه وأحاديث نبوية ونصوص قرآنية, فالغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة ,والغاية أذا كانت نبيلة فالوسيلة يجب أن تكون كذلك , والسياسة يجب أن لا تنزع عنها أخلاق الإسلام , وألا كانت برأيهم همجية وغوغاء لامكان فيها للشرفاء!!!, وهم يرون أيضا أن السياسة الداخلية تقوم على العدل والأنصاف والمساواة بين الجميع, فلا عنصرية ولا طائفية, تقوم على الصدق لا الكذب ولا تضليل للشعب, والسياسة الخارجية لديهم أيضا تقوم على احترام العهود والمواثيق فلا غدر, ولا خيانة!!!.

ويرى فقهاء الإسلام من الناحية النظرية , أن السياسة الإسلامية ليست سياسة " ميكافيلية " ترى أن الغاية تبرر الوسيلة آيا كانت صفتها,بل هي سياسة مبادئ وقيم تلتزم بها, ولا تتخلى عنها , ولو في أحلك الظروف , وأحرج الساعات سواء في علاقة الدولة المسلمة بمواطنيها داخليا, أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات !!!.

أن الإسلام ( استنادا إلى نصوص القرآن والسنة النبوية ) يرفض كل الرفض الوسيلة القذرة , ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة,يقول النبي (ص ) :( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) , فالخبث من الوسائل كالخبث من الغايات مرفوض , ولابد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة . أما في علاقة الدولة بمواطنيها فنشير إلى حديث للنبي (ص ) يقول فيه : (عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة) , أما في القرآن فالنصوص الدينية كثيرة, ونكتفي هنا في الإشارة إلى الآية (  58 ) من سورة النساء,حيث يخاطب النص أولى الأمر : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ).

هذه هي المبادئ العامة والخطوط العريضة المعلنة للبعد الأخلاقي والقيمي للسياسة الإسلامية عبر فقهاء الإسلام والنصوص الكلاسيكية ,ولا ندخل هنا في حوار حول جدوى ذلك وأهميته العملية اليوم في عالم السياسة الدولية والإقليمية والوطنية , حيث لا نرى أثرا لذلك في السياسة الخارجية والداخلية لأي دولة إسلامية في العالم كله ولا في سياسة أحزاب الإسلام السياسي على الإطلاق , إضافة إلى ذلك إن السياسة كي تؤدي إلى نتائج ملموسة, تحتاج في الممارسة العملية إلى المزيد من التوفيق والموائمة بين الأخلاق والمصالح والسياسة , وأن السياسة الخارجية كما نعلم اليوم تبنى على المصالح المشتركة أولا , وأما السياسة الداخلية فتبنى بوضوح أكثر على ثلاثي قوامه الأخلاق والمواطنة والمصلحة المشتركة.ونترك القارئ هنا فقط للتأمل والمقارنة بين ما يتم ممارسته في الميدان العملي لأحزاب الإسلام السياسي ومدى بعده المطلق عن النص الديني,حيث لا نجد أي أثر للدين في السياسة !!!!.

أن ما يجري من سلوك لبعض الأحزاب الدينية هو من الخطورة بمكان, يستهدف ضرب الوحدة الوطنية التي نحن اليوم بأمس الحاجة أليها , وكذلك إلحاق الضرر بالنسيج الاجتماعي المتنوع والقائم في العراق على خلفية إنسانية عامة يلتقي عليها الجميع , لا على أساس ديني أو طائفي أو فئوي . أما زج الدين باستمرار في دائرة الصراع السياسي ,فهو ليست من باب أعلاء شأن الدين ومكانته في أذهان الناس أو لتجسيد فكرة الحق والعدل والأمانة والأنصاف والأخوة , بل هو تجسيد معكوس لفكرة " نيقولا ميكافيلي " التي ترى : " أن الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس " وقد أراد ميكافيلي من ذلك تقوية وتوحيد الدولة الايطالية آنذاك في صراعها ضد التفكك والاعتداءات الخارجية , وقد أباح استخدام كافة  الوسائل لتلك المصلحة العليا , وهو صاحب القول " الوسيلة تبرر الغاية " ويعني بذلك استخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من اجل إبقاء الدولة قائمة وموحدة.

أما " المكافيلية الدينية " في العراق تستخدم الدين ليست بالطريقة التي قررها ميكافيلي ورآها في كتابه " الأمير " للحفاظ على وحدة الدولة ,بل تستخدم كجزء من " المكافيلية الشرقية " وهي امتداد لميكافيلية القرون الوسطى الدينية ,التي ترى في الدين الوسيلة وليست الهدف للاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها خدمة لمصالح فئة أو جماعة سياسية على حساب الوحدة الوطنية وجموع الناس ورغما عنهم " رغم وجود صناديق الاقتراع " , وهم بذلك يقومون بفرض لون من النظام السياسي في الممارسة اليومية على الأرض رغم " وجود الدستور الذي يحدد شكل النظام " ,ويرون في هذا النظام على انه الخير العام ,وعلى أساس تصوراتهم تعاد صياغة التسميات والتوصيفات ليصبح كل معارض لهذا الحكم أو منتقد لهذا الحزب أو لدعاة الدين هو شرا مطلقا لا يستحق الوجود وحتى الحياة,وتبدأ " نوبة جديدة " من" الفتاوى البلاوي" وعند ذلك ينتصر الاستبداد مجددا وتغلب " الميكافيلية الدينية " كل المثل الخيرة والقيم الإنسانية والدينية الحقة ,وبهذا يعيد الظلم والاستبداد دورته من جديد مخلفا ورائه أخلاق الخنوع والذل والدجل والوشاية وتشويه صورة الدين.

أن السياسة في العراق بعد كل هذه التضحيات الجسام خلال عقود طويلة من الزمن والتي شارك فيها خيرة أبناء شعبنا وأحزابه الوطنية,وما تلتها في السنوات القريبة الماضية من حصاد لأرواح الناس الأبرياء وإهدار للثروات الوطنية وانهيار للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية,يجب أن لا تكون دهاليز وكواليس ومؤامرات واغتيالات وعمليات انتحارية وواجهة لسرقة المال العام والفساد الإداري واستخدام للدين كواجهة للنفاق السياسي وللكسب الرخيص,وأن كانت كلها حقائق تملأ مسامعنا وأبصارنا يوميا,ولكن بالإمكان أن يكون السياسي صادقا , ونظيف الوسيلة إلى حد ما,عفيف اللسان,طاهر القلب,منصفا لمعارضيه من اليمين واليسار,لا تستبد به الذاتية والاعتداد بالنفس لأنه في السلطة الآن ,بل يجب عليه أن ينطلق في البحث عن مصالح الناس الحقيقية وسبل سعادتهم وتجنيبهم الويلات,وهذه كلها لا تتعارض مع قواعد وأساليب الاتصال السياسي مع الطرف الآخر المعارض والتي تبنى على أساس الذكاء السياسي التي تتضمن الفطنة والدهاء والتورية والتعريض والمفاجأة والكتمان والمناورات اللفظية ومصداقية الخطاب السياسي ووسائل الكسب التي تبني اللحمة الوطنية على المدى البعيد وتعزز من مكانة الدين الحقيقية في عقول الناس وغيرها من الأساليب التي تحدثنا عنها كتب العلوم السياسية وتزكيها التجارب العملية.

أن تجربة النظام السابق المؤلمة لا تزال ماثلة أمام أعيننا وقد أكدت لنا بوضوح حقيقة أن تغيب حرية الشعب واستباحة حقوقه  وظلمه ساهمت بشكل كبير في تدهور بناء الإنسان النفسي والتربوي والأخلاقي والإنساني العام,وبالعكس فأن التجارب التاريخية تؤكد أن إرساء عقد اجتماعي على أسس الديمقراطية الحقيقية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان يعتبر المناخ الأمثل لبناء علاقة صحيحة بين الممارسة السياسية والأخلاق ويجعل المسافة بينهما جهد الإمكان مقبولة وخاصة في الأزمات الداخلية,بما يفضي إلى تحسين مكانة الإنسان الاجتماعية التي همشت لعقود من الزمن,و باعتباره قيمة عليا وهدفا لكل مشروع تنموي شامل.

وختاما نقول أن التأريخ قد أنصف ميكافيلي واضعا إياه احد مفكري حقبة التنوير الأوربية ومؤسسا لمدرسة التحليل والتنظير السياسي الواقعية,بل مؤسسا للعلوم السياسية,وقد رسم صورة الدولة القوية الموحدة,ولكنه لم يكن بدون أخلاق أبدا,كما تصوره أعدائه,وقد دفع ثمن من قرأ له قراءة متحيزة, كما في حالات هتلر وموسوليني وفرانكو,متكأين على كتابه " الأمير" وعلى مقولته الشهيرة " الوسيلة تبرر الغاية ",إلا إن ميكافيلي لم يوصي بالاعتداء على الدول,بل رسم صورة الدولة القوية الآمنة الموحدة وعكس لنا بوضوح, أن السياسة مصالح, كما يجري الآن في الكون كله,وأنا لا أوصي رجالنا في الإسلام السياسي الاتكاء عليه كما فعله الآخرون,لكنني أوصي أن يحملوا قصاصة من الورق كما تحمل الأدعية الدينية في الجيب عند الشدائد,وقد كتب عليها مقولة سيف الحق علي ابن أبي طالب (ع) : " أن دولة الباطل ساعة , ودولة الحق إلى قيام الساعة " !!!.



323
"مناظرة في التأريخ والدين والسياسة وعلم النفس"

سيكولوجيا المثلية الجنسية والتصفيات الجسدية/ العراق ضحية ومتهم



                            "تدخل الرذائل في تركيب الفضائل كما تدخل السموم في تركيب الادوية"
                                                                       لارشفوكو


د.عامر صالح

لقد ترددت في الكتابة عن هذا الموضوع,لما فيه من خصوصية ومحاذير وتابو عصي على الاختراق والبحث في دائرة ثقافتنا التي لاتفصح عن كل شيئ,لكي يتسنى للناس ممارسة نقد وتقويم الظواهر المختلفة بطريقة بناءة,عبر تفهم ابعادها وتعقيداتها المتشعبة,وبالتالي يكون قبولها او رفضها,كليا او جزئيا مبنيا على حيثيات الالمام بها,وليست من منظور أقصائي متشنج ازائها,قائم على خلفية الجهل بها.فيكون عند ذلك" افضل" الحلول هو لجمها بشتى الوسائل او التعتيم عليها,لكي تنمو الظاهرة اضعافا خلف الكواليس,أن كان طبعا ما يشير الى وجود ذلك المحرم ام لا.والمحرمات لاحصر لها في ثقافتنا,ولكن الخلاف في درجة المحرم وسقف شيوعه.

لقد اتخذ من المثلية الجنسية في العراق واجهة جديده وعنوانا للتصفيات الجسدية,الى جانب ما هو شائع من واجهات دينية ,وعرقية ومذهبية للتصفيات,وأنزال عقوبة القصاص,أي القتل بحق الأفراد الذين يمارسون فعل المثلية الجنسية,كما ترد التهمة على لسان القاتل المحترف!!.وعلى مايبدو فأن القتل في العراق لاتدرك نهايته,بل هو في طور البحث عن واجهات مختلفة لضمان استمراره.ويعكس ذلك بكل الاحوال ازمة الديقراطية المستعصية على الحل,الى جانب غياب الامن والقضاء المستقلين,باعتبارهما الجهات الوحيدة لضمان الحق والعدل والاستقرار.

ومن الضروري هنا الاشارة,الى ان منظمة العفو الدولية حثت الحكومة العراقية على بذل المزيد من الجهود لحماية المثليين في البلاد,وذلك في اعقاب صدورتقارير عن تزايد  حوادث القتل في أوساط الشباب منهم على وجه الخصوص.وجاء في الرسالة أن25 فتى لقوا مصرعهم في العاصمة بغداد لوحدها خلال الأسابيع القليلة المنصرمة,وذلك اما لأنهم كانوا من المثليين الجنسيين,أو أن المهاجمين تصورا بأنهم كانوا كذلك.وقد انتقدت الرسالة ما أسمته"اخفاق الحكومة" العراقية بادانة حوادث القتل تلك,والتي يعتقد بأنها نفذت على أيدي رجال ميليشيات طائفية ,أو من قبل أفراد ينتمون الى عشائر وعائلات الضحايا أنفسهم.

ومن السخرية بمكان ,كأن المثلية الجنسية تكتشف لأول مرة في التأريخ العربي والأسلامي,وفي العراق بشكل خاص,ويستدعي من المقيمن على" الأخلاق العامة"!!حملات" أستنفار وطنية" لأجتثاثه على نسق ما جرى سابقا من حملات لأستئصال ألأرهاب أو  أجتثاث البعث ,فلا الارهاب قضي عليه ,ولا أجتث البعث,بل تحولت الى حملات للحوار مع الأثنين.وعلى مايبدو فأن الأخفاق بكل شيئ يدفع احيانا الى تدمير ماتبقى من الأشياء.

أن المثلية الجنسية قديمة قدم التأريخ,بشقيها:المثلية الذكرية(اللواط),والمثلية الأنثوية(السحاق).وكلا الظاهرتين موغلة في التأريخ,فالسحاق الذي يسمى" باللسبية" نسبة الى جماعة من النساء عشن في جزيرة لسبوس اليونانية في القرن السابع قبل الميلاد وأشتهرن بممارسة الجنسية المثلية,وماهذا التأريخ الا هو البداية" الرسمية" أو المعلنة فقط.أما اللواط فلا توجد دلائل تأريخية لبدايته الرسمية,ألا أن آثاره تعكس توغله هو الاخر في عمق التأريخ.

أن من اهم الأمور المتعلقة بالجنسية المثلية عند الذكور هي النظرة الأجتماعية لهذه الظاهرة السلوكية.ويوجد هناك تباينا لهذه النظرة عبر عصور التأريخ والحضارات المتعاقبة والمجتمعات المختلفة.فهي قد عرفت وأنتشرت في الحضارات القديمة لبلاد وادي الرافدين ومصر والهند والصين,ولايبدو أن هذه الحضارات قد أدانت هذه المماراسات,بل أن بعضها,وخاصة اليونانية القديمة,قد حظيت  بالكثير من التقدير كما يتضح ذلك من بعض محاورات أفلاطون,حيث يحدثنا عن عشق سقراط للغلام اليسباديس,ويذكر ديوجنيس أن سقراط عندما كان غلاما كان معشوقا لمعلمه,وارسطو كذلك المعلم الاول عند الاغريق كان أيضا يمارس الجنسية المثلية, وكذلك من أشراك عدد من آلهة الاغريق مثل"زيوس"و"بوسيدون"و"ابوللووهرميس",في العلاقات المثلية,وما ورد عن تفشي المثلية الجنسية الذكورية في أسبارطة وهي أشد المدن بأسا وشجاعة.أما الأديان السماوية الثلاث(اليهودية والمسيحية والأسلام) فقد أدانت الجنسية المثلية وأعتبرتها مخالفا للفطرة الأنسانية وفناء للبشرية القائمة على الزوجين آصلا.وماحدث لقوم لوط من عقاب يمثل النظرة الدينية لهذه الممارسة(سنأتي على ذكر ذلك).

وبالرغم من التحريم لها فقد أستمرت بالأنتشار في العصور التالية وأن كنا لانعلم بالتأكيد مدى ذلك الأنتشار بالنظر لما يترتب عليه الافضاء من عقاب.غير ان التأريخ الحديث من عصر النهضة وحتى الان قد ترك لنا أسماء مرموقة في تأريخ الفنون والاداب والحياة العامة ممن عرفوا بجنسيتهم المثلية اما في حياتهم أوبعد وفاتهم,ومنهم مايكل أنجلو,وليوناردو دافنشي,وشايكوفسكي,وبيكون,وربما شكسبير,واسكار وايلد,ولورنس,ومارسيل بروست,واللورد كيتشنر وعدد من ملوك الانجليز وغيرهم ممن لم تتناقل اسمائهم لأنهم لم يشتهروا,ولانعلم ان كانت تلك لعنة السماء عليهم ام ميزة لهم كي يتفردو!!!.

أما الأتجاه المعاصر نحو مسألة الجنسية المثلية فهو أتجاه غير ثابت وغير متساوي في الكثير من البلدان والمجتمعات,فهنالك من يدين الممارسة اخلاقيا وبدون تبرير.وهنالك من  البلدان ما يفرض عقوبة زجرية وتأديبية شديدة على ممارستها قد تصل الى الحبس المؤبد او القتل كما في البلدان التي تتخذ من الشرع الاسلامي واجهة لها.وهناك من يعتبر المسألة حالة مرضية تقتضي العلاج بالطرق الطبية والنفسية الممكنة,وهناك من يرفض هذه النظرة ولايعتبر الجنسية المثلية مرض من الامراض ولايفرض على الممارس لها ضرورة المعالجة بالأجبار.وفي خضم هذه الاتجاهات الاجتماعية والقانونية والدينية المختلفة يقوم أتجاها أكثر مرونة آزاء الجنسية المثلية.وهذا الاتجاه معمول به في بعض البلدان منها بريطانيا والسويد والدنمارك وهولندا وفرنسا وبعض الولايات المتحدة الامريكية وكلها اجازت الممارسة قانونيا على شرط  آن تتم بين فردين راشدين ودون الاخلال بالآداب العامة.

ومن الضروري الأشارة هنا هو أن نسبة الممارسة في البلدان التي تسامحت قانونيا لم يزد على نسبة الممارسة في تلك المجتمعات التي تعاقب عليها وتكبحها بشدة(قد يجري ذلك على قاعدة كل ممنوع مرغوب),كما هو الحال في الكثير من المجتمعات في العالم,ومنها العربية والأسلامية.حيث تشير دوائر العلاقات الأجتماعية المغلقة أن هذه الظاهرة متفشية بين أوساط وزراء ومسؤولين وسياسين ومثقفين وكتاب وحتى في أوساط المعلين وممارسي الطقوس الدينية,عدا المنتشر منها في البيئات الأجتماعية ذات الطابع الشللي,والتي تعاني من مظاهر انحراف متعددة كجرائم السرقات والقتل وغيرها.ألا ان عوامل النبذ الاجتماعي لهذه الظاهرة وصرامة العقاب لاتدعنا الى الوقوف على نسب أنتشارها,كما لانتوقع ان تنخفض هذه الظاهرة في ظل الانغلاق الاجتماعي وحالة الأنكفاء بين الجنسين والتخلف العام.وعلى اية حال فهي ظاهرة لها جذورها الممتدة في التأريخ القديم وما قبل الأسلام و ما بعده ,وتشير الى ذلك بوضوح الكثير من الكتابات التأريخية من شعر ونثر ومحاورات وقصص مختلفة.,وما كثافة النصوص القرآنية بهذا الخصوص الا دليل دامغ على تفشيها.

ومن الجدير بالذكر هنا,أن النظرة الأجتماعية للعلاقة المثلية الجنسية عبر العصور لم تتميز بالشدة والأدانة التي حظيت بها الجنسية المثلية الذكرية,قياسا بنظيرتها ,الجنسية المثلية الأنثوية,وعلى العكس فأن بعض المجتمعات القديمة,كما كان الحال في اليونان القديم ,فقد رفعت الجنسية المثلية للمرأة الى المرتبة الأسمى من علاقات الحب,غير ان الكثير من الأديان وخاصة السماوية(والأسلام منها) أدانت وأزدرت هذا الأتجاه في المرأة,وجعلتها في منزلة الزنا ,غير أنها لم تذهب الى حدود الأدانة الصارمة وما يترتب عليها من عقاب كما هو الحال في اللواطية عند الذكور.وقد يفسر هذا الفارق في الظاهرتين بأن العلاقة المثلية بين الذكور هي في معظمها كاملة  من الناحية الجنسية وتشمل أنتقال السائل المنوي الى الطرف الاخر,بينما لايتم هذا الانتقال في العلاقة بين أمرأتين,او قد يفسر من منظور اختلاف الاسباب الداعية الى ذلك عند كلا المثليتين.

اما الموقف الديني التفصيلي من المثلية الذكورية(اللواط) فقد اعتبرها أنتكاسا للفطرة الأنسانية المخالفة للمثلية, وأعتبر اللواط من اعظم الجرائم وأقبح الذنوب وأسوأ الأفعال, وضعف للعقل.ونذكر هنا بشكل خاص  قصة قوم لوط ودلالتها الرمزية في أنتشار ظاهرة اللواط,فقد وردت القصة في عشرة سور قرآنية وبزخم هائل من الوعيد والتهديد والعقاب,ونكتفي هنا بما ورد في بعض الايات من سورة الاعراف/الايات:80ـ84,قال تعالى: (ولوطا اذ قال لقومه اتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين.انكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا ان قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم أناس يتطهرون.فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطرا فأنظر كيف كان عاقبة المجرمين).وتشير النصوص القرآنية ,بما فيها النص المذكور اعلاه,الى أن عقوبتهم كانت قلب ديارهم عليهم,والخسف بهم ورجمهم بالحجارة من السماء,وطمس اعينهم...الخ.تلك اذن هي الدلالات الرمزية لطابع العقوبات القرآنية التي يجب أن تستخدم ضد ممارسي اللواط.وكذلك السنة النبوية,فما جاء على لسان النبي (ص) بقوله:( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل والمفعول به).وعلى هذا الأساس المستوحى من النصوص القرآنية والسنة النبوية,فقد اجمع على قتل اللوطي لكن اختلفوا في طريقة القتل,فمنهم من ذهب الى أن يحرق بالنار,ومنهم من قال,يرمى به من اعلى شاهق, ويتبع بالحجارة.وقد عمل في هذ العقوبات من قتل وحرق ورجم بعد النبي محمد وفي فترات تأريخية مختلفة.ويتفق الكثير من الفقهاء أن عقوبة اللواط اغلظ من الزنا,وعقوبته القتل على كل حال,أو يؤكد البعض القليل أن عقوبته وعقوبة الزنى سواء(أي مائة جلده).أما بالنسبة لعقوبة الجنسية المثلية الأنثوية( السحاق),فقد أختلفت العقوبة,فمنهم من يرى أن فعل المرأة للسحاق أخف من فعل الرجل للواط من الناحية العملية,وهو شبيه بمقدمات فعل الزنا مثل التقبيل والمفاخذة والملامسة( أي مانطلق عليه بالمداعبات),ولذلك أختلف فيه الفقهاء بين من يقول أنه زنا أومقدمات للزنا.وفي كلتا الحالتين فهو فاحشة ومحرمة في الدين,وقد يضع قول النبي محمد(ص) سقفا لهذا الاجتهاد بقوله:( السحاق زنا النساء بينهن).

وضروري الاشارة هنا أن القرآن آشار ضمنا الى وجود حالات عدم الميل الى الانثى عند بعض الرجال,كما ورد ذلك في سورة النور,في الاية(31),وهي التي تنصح المرأة بعدم اظهار زينتها(الا ماظهر منها)الى الناس,ولكن أستثنى بعض الناس
الذين تستطيع ان تظهرلهم زينتها,ومن ضمنهم الاطفال وأولي الأربة.والمقصود هنا بأولي ألاربة, الرجال الذين لايشتهون النساء(أي ليست لديهم ميلا للجنس الاخر).كما أشار النبي (ص) الى هذه الظاهرة عند كلا الجنسين بقوله :أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله تعالى,قيل :من هم يارسول الله , قال:( المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والذي يأتي البهيمة, والذي يأتي الذكرـ يعني اللواط) .وبالرغم من هذا الاعتراف بوجود هذه الظاهرة,الا ان هناك رفض مطلق لما يترتب عليها  من ممارسات سلوكية.

أذن هذا هو الموقف الديني من ظاهرة الجنسية المثلية الذكورية,يعكس لنا أنطباعا,أنه موقف قطعي وذو حد واحد,لايرى الظاهرة في أطارها الدينامي المتغير, ولا في سياق الظروف المحيطة بها,وتلك هي سنة الميتافيزيقيا الدينية وحدودها في بحث الظواهر الاجتماعية,وتلك هي أطر" المعالجة" من هذا المنظور.الا أن المعارف العلمية في ميدان علم النفس تؤكد لنا أن ظاهرة المثلية الجنسية هي ظاهرة مرنة وذات مظاهر مختلفة في التعبير عن نفسها,و قد يتسع او يضيق مقياس المثلية أستنادا الى درجات سلمها المتعددة, وبالتالي فأن أحتواء الظاهرة ووضعها في سياقها الصحيح,هو المدخل الذي يحصر الظاهرة الى حدودها الدنيا أستنادا الى الاسباب.

أن الجنسية المثلية عند الذكور,حالها حال الجنسية المثلية عند الأناث.تعني بحدودها الواسعة حالات الميل أو التوجه نحو أقامة علاقة ذات طابع جنسي بين ذكر وفرد آخر من جنسه.ومن الواضح أن هذا المفهوم الواسع قد ينوه بالتساوي بين حالات الميل وحالات التوجه الفعلي,وهو أمر غير صحيح,ذلك ان توفر الميل لايعني في كل الأحوال الأتجاه نحو الممارسة الفعلية,كما أن ممارستها بالفعل لايؤكد قيام حالة الميل الى الجنسية المثلية.ويتضح الفارق بين الحالتين اذا أمعنا النظر في الدرجات المختلفة للتوجه  نحو الأمور الجنسية بين فردين ذكرين,فهناك اولا اولئك الذين يتخذون سمات الانثى من حيث اللباس او الكلام او التعامل الاجتماعي,ولكن بدون ظهور أي دليل على ميل او أهتمام او توجه نحو علاقة جنسية مع ذكر اخر وبأي درجة من التماس.وهنالك البعض من الذكور ممن تعرض لهم الاحلام المثلية في حالات اليقضة,ولكنهم لايبدون اهتماما او اتجاها فعليا نحو هذا النوع من الممارسة الجنسية.وفي درجة اخرى نجد اولئك الذين يداعبون الافكار والميول الجنسية المثلية ويتمنون ممارستها لو يستطيعون.وفي درجة اقوى اولئك الذين تنشط فيهم الميول العاطفية الى فرد من نفس جنسه وتصل الى حدود التعلق سواء اتضح فيها الميل للممارسة الجنسية او لم يتضح.وبالتالي فهنالك اولئك الذين يمارسون العلاقة الجنسية المثلية بالفعل,وحتى في هذه الحالة فهنالك صور ودرجات عدة لهذه الممارسة ومدى التماس بين جسمي الشريكين من مثل اللمس,الى الاحتكاك,والى الاستمناء,والى العملية الكاملة من الولوج.وعلى اية حال فأن الأهتمام من الناحية النفسية ينصب على تلك الفئة من ممارسي الجنسية المثلية لابسبب ممارستهم الفعلية لها بل بسبب انعدام الأهتمام والتوجه لديهم للعمل الجنسي الطبيعي مع الجنس الاخر.ومع انهم  قادرون على مثل هذه العلاقة غير ان ارضائهم الجنسي لايحصل الابعلاقة جنسية مع فرد من نفس الجنس,وهؤلاء ينظر اليهم بأنهم الجنسيون المثليون"الحقيقيون" ,وهم على العموم لاخيار لديهم فيما يمارسونه"جسميا ونفسيا" بل يقبلون على الجنسية المثلية مطاوعة وبدون عناء الاختيار.

وهناك تفسيرات عديدة للجنسيةالمثلية, وليس لهذه التفسيرات كلها ان تتواجد في كل حالة من حالات الجنسية المثلية,فلكل حالة خلفيتها وظروفها ودوافعها الخاصة.والنظريات النسبية الواردة في تعليل الجنسية المثلية كثيرة بعضها ما يستند الى اسس نفسية وبعضها الى اسس اجتماعية وظرفية,وبعضها يعتمد على افتراضات بايولوجية وراثية او مكتسبة. ومع ما يتوفر في هذه النظريات المختلفة من منطق مقنع,الا ان الرأي الاكثر صوابا هو ان الاتجاه نحو الجنسية المثلية,خاصة الجنسية المثلية"الحقيقية" يتكون بفعل عوامل متعددة يصعب فرز واحد منها عن الاخرى.ويمكن ان نرصد هنا الاتجاهات العامة لهذه النظريات الواردة بخصوص الجنسية المثلية بالشكل التالي:
ـ أن الجنسية المثلية بدرجاتها المختلفة في الاطفال هي امر طبيعي,ولكن غير لازمة له.وتمثل دورا من أدوار النمو والنضوج الجنسي النفسي في حياة الفرد. غير أن هذا الدور ينتهي عادة بظهور الميول الجنسية نحو فرد من الجنس الآخر,غير ان استمرار الميول الجنسية نحو المثل من الجنس,قد يستمر بعد هذه المرحلة من النمو,واذا حدث ذلك فان من اسبابه تخلف الحدث في ادوار نموه الجنسي النفسي وتأخره في النمو العاطفي عما يناسب سنه.
ـ ـ ممارسة الجنسية المثلية بشكل او اخر بما في ذلك العلاقة الكاملة منذ سن المراهقة وحتى الكبر قد يحدث احيانا او بشكل متواصل,وقد لايكون في هذه الممارسة اكثر من التعبير عن ضرورات التفريغ الجنسي الذي لايمكن الوصول اليه الا عن هذه  الطريقة كما هو الحال في بعض الظروف المعينة كالدراسة الداخلية(الاقسام الداخلية) والخدمة العسكرية والتجمعات الذكورية المزدحمة وانعدام منافذ التعبير الجنسي كما هو الحال في بعض المجتمعات المحافضة او المغلقة,وكما هو الحال في المجتمعات العربية والاسلامية,وجميع هذه الحالات لايمكن اعتبارها شذوذا جنسيا مطلقا بالمعنى الصحيح,وهي تنتهي عادة بأنتهاء الظروف التي أوجدتها.
ـ ـ ـ يمكن للفرد ان يتمتع بأتجاهين جنسيين في آن واحد فيكون طبيعيا في ميوله وممارساته الجنسية مع فرد من الجنس الاخر,كما أنه يميل الى او يمارس الجنسية المثلية مع فردمن جنسه.وقد يكون اتجاهه نحو ممارسة او اخرى متساويا, او أن تكون الغلبة لواحد او لأخر,ويصح اعتبار هذه المجالات بأنها انحرافا جنسيا اذا لم يتوفر ما يبرره ضرورة الجنسية المثلية بأسباب ظرفية وبتوفر الامكانيات للعلاقات الجنسية الطبيعية.
ـ ـ ـ ـ يمكن للفرد في حالات مرضية معينة كمرض الفصام العقلي(الشيزوفرينيا),والخرف العقلي,وبعض امراض الشيخوخة أن يتراجع (ينكص) الى دور سابق من النمو الجنسي بما في ذلك الدور الجنسي المثلي.
ـ ـ ـ ـ ـ أما الحالات التي يتجه فيها الفرد اتجاها كليا وكاملا نحو الجنسية المثلية,ولاتتوفر لديه الرغبة والميل الى فرد من الجنس الاخر سواء قام بذلك أم لم يقم,فأن هناك العديد من النظريات التي تقدم تفسيرا لذلك,منها أن الفرد عانى منذ طفولته من عقدة الخصاء(الخوف من فقدان العضو التناسلي) وهذا  مايدفعه الى تجنب العلاقة الجنسية مع المرأة لما توحي به هذه العلاقة في اللاوعي من أهلاك أو ضياع للعضو التناسلي.ونظرية أخرى تذهب الى ان الطفل كان يكره امه ولهذا يتجنب كل علاقة جنسية مع شاكلتها من نفس الجنس.ونظرية معاكسة ترى بأن السبب يعود الى أن الطفل في طفولته كان يكره والده ,وهو بذلك يجد في العلاقة الجنسية مع فرد آخر وسيلة لتحقيق هذه الكراهية في النفس,وبهذا يكون العمل الجنسي المثلي تحقيقا لرغبة كامنة في النفس للتعدي على من هم من جنس ابيه والحاق الاذى بهم.ومن هذا القبيل نظرية ترد الجنسية المثلية الى أن الطفل قد تعلق بأمه في صغره والى حد التقمص لشخصيتها تلقائيا بما في ذلك خضوعها ومطاوعتها للعلاقة الجنسية,وكأن الطفل كان يكره اباه وما يمليه من رجولة وتسلط,وهو بذلك يختار اسلوب امه في الحياة بما فيه من خضوع وتقبل وسلبية.ومن النظريات التي تلاقي قبولا  هي ان السلوك المتخنث في الطفولة يبدأ في بعض الاطفال كميل تلقائي نحو الاهتمامات والميول التي تمارسها الأم والابتعاد عن اهتمامات وميول الاب وغيره من ذكور العائلة.والنظرية  التي تلاقي قبولا اعظم في الاوساط العلمية هي ان الجنسية المثلية"الحقيقية والفعلية" تتقرر بفعل عوامل بايولوجية تنتقل بالوراثة اوتحدث في فترة حاسمة من فترات النمو الجنيني ويستشهدون على ذلك بأن هنالك توافق أكبر في الجنسية المثلية بين التوائم المتشابهه اكثر مما هو موجود في غيرهم من التوائم والاخوة,كما يعزز هذه النظرية الفشل في علاج الجنسية المثلية الحقيقية في معظم الحالات ,وهناك رأي أكثر تطرفا لأنصار النظرية البايولوجية, وهو أن الجنسية المثلية تمثل وجود"جنس ثالث" غير جنس الذكر والأنثى, وبأن ممارستها هوتعبير عن هذا الجنس.وهو رأي مبالغ فيه الان.

أن هذا التصور الواسع والمرن لظاهرة الجنسية المثلية,والذي يستند الى نتائج البحث العلمي والملاحظات الميدانية الدقيقة يدفع بأتجاه تبني برامج ملموسة تربوية ونفسية ذات طابع وقائي وعلاجي يحصر الظاهرة الى حدودها الدنيا.أما التصور الحدي لظاهرة الجنسية المثلية, والذي نراه من خلال دعاة العقوبة الصارمة والتي لاتخضع للأجتهاد من حيث قساوتها,فهي ممكن أن تستخدم سلاح يطال  أناس كثيرون لأنزال التصفيات الجسدية والعقاب بهم في ظل غياب واضح للحدود بين الدين والسياسة وفوضى اختلاط السلطات . وأن القتل على المثلية الجنسية قد يتخذ منه  غطاء جديدا في الصراعات السياسية الدائرة في العراق , وهو أدعاء ووسيلة للجم افواه المذاهب والطوائف الأخرى في المطالبة بدماء ضحاياها.وهو خلط غريب  يثير الرعب والدموية , عدا كونه تهمة سهلة لألصاقها بالأخر المعارض , الى جانب عقوبتها القاتلة والتي لاتستند الى القانون.

وفي الوقت الذي تعكف فيه مراكز أسلامية عديده في العالم على دراسة التخفيف من عقوبة  قتل المثلي فعلا الى عقوبات أخرى اخف من الاولى ,تجنبا للفتنة الأجتماعية في ظروفنا المعاصرة, وأنطلاقا من الفهم الدينى الذي مفاده:" أن الفتنة أشد من القتل وأن كل فتنة حرام",يتصدر العراق قائمة الدول التي تصدر الفتنة الأجتماعية. وفي ظل هذه الفوضى العارمة.....من يعلم منا, أن الكثيرون من يمارسو القتل على تهمة" المثلية" هم أنفسهم كانوا مثلين في فترة من فترات العمر,أو لايزالوا كذلك....بل قد يكون ممارسة القتل هوآلية سايكوعقلية للأنتقام من الأخر والتكفير الذاتي ,عندما لاتتوفر الفرص للأنتقال الى حالة أفضل لدى صاحبه.

وأذا كانت المثلية الجنسية أستثناء ,والاتصال بالجنس الاخر هو القاعدة, فأن الاستثناء يتواجد جنبا الى جنب مع القاعدة , ولايمكن أقصاءه بوسائل الابادة الجسدية أن وجد,بل أن الوسائل التربوية أنجع بكثير من الأولى, وتلك هي التجربة التأريخية.وعدا ذلك فأن هذا يشكل مظهرا من مظاهر تشوه القاعدة وتصدعها وعدم مقدرتها على أحتواء الأستثناء.ونحن نعلم أن الاستثناء لايتحول الى قاعدة الا في حالات محدودة جدا, كما هو الحال في السياسة,وكما هي الحالة في العراق.,حيث من السهل في ظل  "ديقراطيتنا العريقة" أن يتهم الجميع بالجنسية المثلية ,ويستحق القتل, ويخرج الجميع "لاشرف له"!!!,وتلك هي  على ما يبدو" بدائلنا الناجعة" للكهرباء والماء ومحاربة الفساد وتحسين ظروف الحياة العامة وحقن الدماء!!!!!.
 

324
جدل العلاقة بين الكلاب السائبة والكوابيس الليلية وبعض من ألوان الطيف السياسي !!!
          
" اللطف يفعل أكثر مما يفعل العنف "
 لافونتين


د.عامر صالح

أن الكلب السائب هو الكلب الذي حرم من العطف والرعاية الإنسانية, فأضطر النزول إلى الشارع لسد رمق العيش.وبدلا من أن يتحول إلى صديق وفي وحارس أمين للإنسان وبدون مصلحة ذاتية ولامعاملة بالمثل ولاصفقات بائسة , أضطر الذهاب متسكعا في الطرقات بمجموعات" لاتحمل السلاح " بحثا عن لقمة العيش , معبرا عن غرائزه الأولية في النباح والعض أحيانا من هول الجوع, أسوة بما يتعرض له البشر من أزمات شرسة يقتل فيها الإنسان أخيه الإنسان وفي حروب عبثية لامبرر لها في أحيان كثيرة , علما أن الكلب لايقتل أخيه الكلب , إلا في حالات الدفاع عن النفس ويكون القتل هنا ليست هدفا بذاته بل نتيجة جانبية للصراع في عملية غير مخطط لها سلفا , وليست على نسق مايجري في مجتمعنا الإنساني حيث يجري التخطيط للقتل والإبادة وبدوافع مختلفة.وينحصر العنف عند الكلاب في حالات الجوع بشكل خاص وفي بعض الحالات المرضية عند بعض الأنواع لدى الكلاب.أما عند الإنسان فلاحصر لحدوده.

وقد أثبتت أغلب الأبحاث من أن عدوانية الإنسان هي الأشرس في مسيرة الكائنات الحية على الإطلاق , بل أن الكلاب لاتمتلك القدرة على تشكيل " فرق الموت أو الاغتيالات " أو" ميليشيات مسلحة " على  غرار مايجري في العراق من قبل دعاة الإسلام أو عصابات الجريمة وغيرهم , بل تجاوز ذلك عندنا إلى تفخيخ الكلاب" رأفة بها  " ! بأحزمة ناسفة أو متفجرات واستخدامه وسيلة للقتل الجماعي.

كما لم نسمع أن كلبا سرق طعام صاحب داره أو ولي نعمته , فهو يلتزم بما يقدم له من طعام وحسن المعاملة مكيفا غرائزه الفطرية لصيرورة صداقته مع الإنسان ويتحمل في أحيان كثيره غضب الأخير وانفعالاته , خلافا لما يجري لدينا من سرقة لمال البيت العام وتبديد للثروات ونهب للنفط وتزوير للشهادات( التي وصلت إلى صناديق الاقتراع ), ولاتنطبق على الكلب  مقولة "حاميها حراميها " , كما لم نسمع بكلب يتجاوز على الاتفاقات الفطرية بين أعضاء جماعته إلا في حالات نادرة , وليست كما يحصل عند السياسيون لدينا ,حيث يتحاور معك بيد ويطلق النار عليك بيد أخرى , أو يتفق معك على الدستور والنزاهة كمبادئ للعمل ويجري في الممارسة بالتطاول على صناديق الاقتراع لنهب أصوات الشعب , أو اللجوء في التطبيق إلى قراءة الدستور بطريقة انتقائية منفعلة وغرائزية بما يؤدي إلى التطاول على بنوده ونهب حقوق ألآخرين.

لقد وصلت حالة العدوان على الكلاب , وهي مظهر معبر عن حالة الإحباط والكبت والتي على ما يبدو لم تشبع لحد ألان بقتل الإنسان لأخيه الإنسان , إلى ليست فقط برميها في الحجارة " كما هو معتاد لدينا " بل إلى أكلها ,فقد سجلت واقعة فريدة في العراق , حيث ألقي القبض على تسعة أشخاص في مدينة خانقين بسبب تناولهم لحوم كلاب سائبة بعد اصطيادها , وهي ظاهرة غريبة على مجتمع العراق بكل دياناته التي تجمع على عدم أكل لحم الكلاب , وحسب تصريح الشرطة في المدينة المذكورة أن اثنين من هؤلاء التسعة عادوا للتو من الفلبين( آكلة لحوم الكلاب) وقد تعودوا هناك على أكل الكلاب , فإذا افترضنا ذلك صحيحا, فإلى أي فصيل ميليشياوي ينتمي السبعة المتبقين !!!!.

ناهيك طبعا عن الإبادة الجماعية للكلاب , وهي حملات رسمية في عموم محافظات العراق, حيث أعلنت أمانة بغداد إنها تمكنت من إبادة 200  كلب في المدينة باستخدام العيارات النارية أو السم , الأمر الذي أثار استياء المنظمة الدولية لحقوق الحيوان وتوجيهها خطابا إلى رئيس الحكومة العراقية السيد نوري المالكي تحثه على إيجاد حلول طويلة الأمد لمشكلة الكلاب السائبة كالتعقيم وتسجيل الكلاب والقتل الرحيم واللجوء إلى وسائل أكثر رحمة للقضاء عليها ,إلا أن المنظمة الدولية لحقوق الحيوان لو تذكرت  ماذا يجري للإنسان من معاناة !!! لقدمت اعتذارها إلى السيد المالكي وأعطت الضوء الأخضر لأرتكاب مجازر جماعية ضد الكلاب !!! .ونشير هنا إلى أن أغلب مدن العراق من البصرة والناصرية والعمارة وبغداد والديوانية والموصل تشكو من ظاهرة الكلاب السائبة , ولم يشار إلى ذكر محافظات إقليم كردستان فعلى ما يبدوا هناك الكلاب في بحبوحة من العيش أو لم يذكر أن كانت هناك حملات إبادة غير معلنة ,على أية حال فأن الجوع أبي الكفار !!!!!!. ولا نريد هنا تقديم مقترحات من قبيل جمع الكلاب في أنفاق خاصة بهم أو وضعها في ما يسمى " بفنادق الكلاب " كما يجري في دول أخرى...قد يبدو ذلك نوعا من" البطر" في ظروف العراق الحالية التي يرخص فيها دم المواطن, إلا إن الرحمة بهم كما يقول النبي محمد (ص) :" من يحرم الرفق يحرم الخير كله " تأكيدا لإنسانيتنا اتجاه الحيوان.

إلا إن ما يثير " الدهشة المضحكة " !!! هو قلق المسؤولين على الصحة العامة للمواطنين , حيث إن ما تسببه هذه الكلاب من كوابيس ليلية لأطفالنا وشيوخنا يثير "جزع ونفاذ صبر "  القائمين على الصحة العامة عندنا !!!! , حيث ينتفضوا ألناس من نومهم العميق( الذي يسببه  التيار الكهربائي  والتبريد المتواصل !!! ) بسبب حالة الكابوس وما تسببه من زيادة في ضربات القلب وسرعة التنفس , أو فزع ليلي وما يصاحبه من صراخ للأطفال وشحوب للبشرة أو تعرق بارد وحالات ذعر.... أن هذه الحالات قد تزول باختفاء أثر الكلاب ولا تدوم طويلا... ونطمأن المسؤولين أن لا يقلقوا كثيرا !!! ,ونذكرهم إلى إن ما تحدثه  العمليات الانتحارية والميليشيات المسلحة من رعب يومي ليل نهار , وتصفيات جسدية وقتل جماعي على الهوية واعتقالات كيفية واستئثار واسع للسلطات , لا يمكن أن تزول أثاره وأحقاده على مر السنين, ويبقى الكلب أوفى كثيرا من لا يعرف قيمة الوفاء والأمن للناس .

أما من يرى في الأوساخ والقمامات المنتشرة في ألأزقة والشوراع هي من مخلفات النظام السابق , فنقول له إذا كان النظام السابق يكره الناس ويجبرها على تنظيف مناطقها وأزقتها مخترقا حالة التمرد النفسي عليه بالقوة , فأن عدم العناية ألان هو الأخر يعبر عن ضعف روابط النظام بشعبه , وتبقى مسألة النظافة مسألة حضارية يكرسها النظام القائم ويعبئ الناس لها , وخلاف ذلك فمن السهولة أن نتهم الناس " بالوساخة " !!! , وفي ذلك مجافاة للطبيعة الإنسانية الميالة إلى النظافة وخاصة عندما تسنح الفرصة لذلك.

والأسوأ من ذلك أن يتخذ البعض من ذلك فرصة للهجوم اللاذع على اليسار من شعراء وكتاب دونوا انطباعاتهم الصادقة عن العراق وأوضاعه المختلفة بعد غربة أكثر من ثلاثين عاما, وهي انطباعات امتزجت بحسرة المحب للوطن , فوصفوا الكلاب السائبة والقمامة ومظاهر التخلف التي لا يتمناها اليساري لوطنه العراق , ونقول لهم أن الهجوم على اليسار بتشعباته المختلفة والمتنوعة هو هجوم على حركة لها امتدادتها في ضمير شعبنا وقد لعبت هذه الحركة دورا عبر التأريخ كبوصلة رادعة للظلم الاجتماعي ومقررة لوجهة التطور الاجتماعي صوب التحرر والديمقراطية ضمن طموحات مشروعة لبناء مجتمع قائم على العلم والتقدم التكنولوجي لا على الشعوذة والخرافة وتغيب الوعي الإنساني. وأن الهجوم على هذه الحركة وكتابها وشعرائها هو ليست هذه المرة " نباح " كلب سائب بل هو عويل ذئب يرى في أدوات الحكم وسيلته المثلى وفرصته الذهبية للانقضاض على الرأي الأخر ومصادرته عبر أقلام مغلفة بالحراب والضغينة والتجريح بعيدا عن الحرص على الوطن ومصائر الناس.


325
أطفالنا والتخلف الدراسي(2)
الأسباب والعلاج

" ليس اليتيم الذي قد مات والده   إن اليتيم يتيم العلم والأدب "
علي بن أبي طالب( ع
)


الحلقة الثانية

" أطفال الداخل "

د. عامر صالح

أن مشكلة التأخر الدراسي هنا تعبر عن تفاعل منظومة أو شبكة من العوامل المعقدة والمتداخلة لأحداثها,منها ما هو ذاتي يتعلق بالتلميذ نفسه, وهي منفصلة نسبيا عن البيئة , ومنها ما هو موضوعي يتضح أثره من خلال دائرة تفاعل الفرد مع المنظومة التربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة به.وبما أن الفرد هنا يحيا بعمقه التاريخي الشخصي أو وجوده السايكوأجتماعي المتشعب عبر تأثيرات التربية النظامية وغير النظامية ,فأنه من الصعب جدا أن نحصر التخلف الدراسي في عامل, أو عوامل بسيطة تقف خلفه. عدا ذلك يعتبر التخلف الدراسي مظهر من مظاهر الإهدار أو الفاقد في التعليم , بما يسببه في أحيان  كثيرة من رسوب وتسرب تؤدي إلى مضيعة في المال المرصود لقطاع التربية والتعليم . ومن هنا تأتي أهمية الخوض في تفاصيل الأسباب التي تكمن وراء الظاهرة وفرزها في منظومة عوامل ذات أبعاد مختلفة .

وقبل ذلك نحن نعرف أن التحصيل المدرسي هو جزء من الأداء العقلي للفرد داخل النظام التربوي والتعليمي , وأن هذا الأداء ليست وليد دخول الفرد إلى المدرسة , بل يتشكل باعتباره منظومة من الوظائف العقلية الأساسية عبرعملية طويلة الأمد قد تبدأ طلائعها الأولى منذ لحظة الولادة وحتى قبل ذلك ,أي في فترة الحمل متأثرا بعوامل الصحة والمرض والتفاعلات التي تجري داخل رحم الأم . وقبل الخوض في منظومة الأسباب التي تشكل ظاهرة التخلف الدراسي أرى من الضروري تحديد مفهوم مصطلح التخلف الدراسي استنادا إلى ما تتناوله وتحدده أدبيات علم النفس بهذا الشأن , حيث يعرف بأنه : " حالة تأخر أو تخلف أو نقص أو عدم اكتمال النمو ألتحصيلي نتيجة لعوامل عقلية أو جسمية أو اجتماعية أو انفعالية ,بحيث تنخفض نسبة التحصيل دون المستوى العادي أو المتوسط ".وللأغراض التربوية " يعرف التأخر الدراسي إجرائيا على أساس الدرجات التحريرية التي يحصل عليها التلميذ في الاختبارات في جميع المواد ". والتخلف الدراسي هنا نوعان: 1ـ تأخر دراسي عام ويرتبط ذلك " بالغباء " حيث تتراوح نسبة الذكاء بين 70ـ 85 ( وفقا لهذه الأدبيات ). وأن هذا التعريف على ما يبدو يحصر التخلف الدراسي العام فقط على ذوي الذكاء المتدني , ونعتقد فيه إهمالا لحالات التخلف الدراسي التي قد تكن هي الأخرى عامة , ولكن ليست بسبب تدني الذكاء( كما سنذكره)  , ناهيك عن محاذير استخدام اختبارات الذكاء كوسائل وحيدة لتصنيف الأفراد المتخلفين دراسيا, وضرورة هنا اللجوء إلى وسائل إضافية للتأكد من ذلك ؛ 2ـ تأخر دراسي خاص( أو نوعي ) في مادة بعينها دون أخرى كالحساب أو القراءة أو الفيزياء أو التربية الفنية مثلا ويرتبط ذلك بنقص القدرات الخاصة المرتبطة بتلك المادة دون غيرها, في حين يبدو التلميذ تفوقا في المواد الأخرى,( أو بعض الأحيان لأسباب تربوية أخرى) . ونستطيع أن نفرز منظومة العوامل التي تؤدي إلى التخلف الدراسي, لعل أبرزها هو :

* العوامل النفسية أو الذاتية : وتتلخص في ضعف الميل للمذاكرة أو الكسل أو الفتور في الرغبة للمذاكرة , الشرود الذهني وعدم تركيز الانتباه والاستغراق الطويل في أحلام اليقظة , الذكاء ونقص القدرات العقلية وما يرتبط بذلك من ضعف القدرة العامة في التحصيل , الخوف من الامتحانات , ضعف الميل إلى نوع من الدراسة أو تحبيذ مواد دراسية دون أخرى ,الشعور في النقص وضعف الثقة بالذات ,اضطراب الحياة النفسية وسوء التوافق العام , المشكلات الانفعالية والإحباط وعدم التوازن الانفعالي والقلق والاضطراب العصبي , الاضطراب الانفعالي للوالدين وانعكاساته الخطيرة على شخصية الطفل وأدائه المدرسي ,وكذلك اضطرابات النوم لدى الأطفال وعدم تنظيم مواعيده.

* العوامل الصحية : الأمراض التي قد تصاب بها الأم أثناء الحمل وانعكاسات ذلك على حياة الطفل الجسمية والعقلية قبل وبعد الولادة( كالتلف المخي المحدود ) , وكذلك بعض الإشكالات جراء الولادة العسرة ,عدم التمتع بنسبة عالية من اللياقة الصحية والبدنية العامة ,وما تؤدي أليه من الشعور بالجهد والتعب والإرهاق,وهي عوامل مثبطة لتركيز الانتباه ومتابعة المعلم في شرحه للدروس ,الأمراض المزمنة كأمراض الكلى والقلب والقصبات, أو الأمراض المتوطنة كالبلهارسيا أو الانكلستوما وما تسببه من حالات الانقطاع عن الانتظام في الدوام المدرسي ,اضطرابات السمع والبصر وما تؤدي به من صعوبات في استيعاب الأفكار والمعلومات واكتساب المهارات بنفس السرعة التي يستطيع بها الأصحاء,سوء التغذية ,تأخر نمو الطفل...الخ.

* العوامل الاجتماعية والاقتصادية : العلاقات الأسرية المفككة , أسلوب التربية الخاطئ الذي تمارسه الأسرة كالتدليل الزائد والرعاية المفرطة , أو النبذ والإهمال أو إشعار الطفل بأنه غير مرغوب فيه ,كبر حجم الأسرة والظروف السكنية السيئة ,انخفاض المستوى التعليمي للوالدين , فرض مستوى من الطموح من قبل الوالدين على الطفل بما لايتناسب مع قدراته ,أو عدم الاهتمام بالتحصيل الدراسي واعتباره مسألة ثانوية ضمن تقديرات الوالدين , تدني المستوى الاقتصادي للأسرة وعدم قدرتها على إشباع وتلبية احتياجات الطفل الأساسية من غذاء ولوازم ,وقد تلجأ الأسرة إلى دفع أطفالها إلى العمل للاستعانة بهم كدخل إضافي لسد رمق العيش , مما يجعل قضية التحصيل الدراسي والاهتمام به مسألة ثانوية ولاتأخذ حيزا مناسبا ضمن اهتمامات الوالدين.

* عوامل تربوية : عدم ملائمة المناهج الدراسية مع حاجات التلميذ وميوله ورغباته واستعداداته ومستواه العقلي, واعتماد هذه المناهج وطرق التدريس المتصلة بها على التلقين وحفظ المعلومات , استخدام العقاب المدرسي بشكل مفرط وخاصة الجسدي منه أو ألاهانات اللفظية , مما يؤدي بالطفل أو التلميذ إلى كراهية المدرسة أو بعض المواد الدراسية بقدر ارتباطها بشخص المدرس المسبب لسوء المعاملة , عدم ملائمة المناخ المدرسي العام , تخلف نظم الامتحانات , الاعتماد المفرط على الغير في إنجاز المواد الدراسية أو الواجبات البيتية مما يؤدي إلى إضعاف مبادرة التلميذ الذاتية , انعدام أو ضعف الإرشاد التربوي والنفسي الذي يسهم في توجيه التلميذ وجه دراسيه سليمة وحل مشكلاته النفسية ,  التفاوت الكبير في الخدمات التربوية والمدرسية المقدمة لأطفال المدن وأطفال الأرياف أو المناطق النائية حيث تعاني الأخيرة من ضعف في ذلك , وما يترتب على ذلك من تفاوت في التحصيل الدراسي.... الخ .

وبقدر ما يتعلق الأمر بدقة تشخيص الأسباب التي تكمن وراء التخلف الدراسي, فأن العلاج يجب أن يكون هو الأخر مطابقا لذلك, ومن هنا يجب أن تأتي الإجراءات التربوية والنفسية والطبية والاجتماعية منسجمة مع طبيعة التخلف الدراسي وأسبابه لكي تأتي بنتائج إيجابية قدر الإمكان بما يخدم الطفل ونموه ألتحصيلي والعقلي بصورة عامة . واستنادا إلى ذلك يمكن العمل بالإجراءات ألآتيه :
 * استنادا إلى بعض المقاييس الخاصة بالذكاء يجب فرز ثلاث فئات من التلاميذ بهذا الخصوص وهي : الفئة الأولى التي يكون ذكائها أقل من 80 درجة ويفترض أن تحال هذه الفئة من قبل أدارة المدرسة إلى الصحة المدرسية, أو إلى مراكز العلاج النفسي المتخصصة لأجراء المزيد من الفحوص المكملة ,وعند التأكد من ذلك تماما يمكن وضعهم في صفوف خاصة بمستواهم العقلي داخل المدرسة الاعتيادية ,أو إحالتهم إلى المدارس الخاصة ( طبقا للتجارب التربوية المعتمدة في البلد المعني). والفئة الثانية وهي التي يقع ذكائها بين 80ـ 90  درجة وهي تدخل ضمن فئة " متوسط الذكاء المنخفض " ولاتدخل في أطار فئة ضعاف العقول ,وفي هذه الحالة يمكن للإجراءات من قبيل تنويع طرق وأساليب التدريس التي تثير اهتمام التلميذ وتجذب انتباهه ,واستخدام العديد من الوسائل التعليمية المساعدة , والتوضيحات والأمثلة ألإضافية , وتقبل المعلم ومعاملته الحسنة لهؤلاء وعدم الجزع منهم , وأحيانا يحبذ وضع هؤلاء التلاميذ ذوي المستوى المتقارب في صف واحد لكي يتم التركيز عليهم بشكل جيد,وجميعها وسائل يمكن أن تتأتي بنتائج إيجابية . أما الفئة الثالثة والتي يكون ذكائها أكثر من 90  درجة ,أي يكون ذكائهم متوسطا أو فوق المتوسط وما بعده , ولن يكون تخلفهم الدراسي راجعا إلى انخفاض مستوى ذكائهم ,فينبغي البحث هنا في البيئة التربوية والاجتماعية والصحية والنمو الانفعالي للتلاميذ ذوي العلاقة والعمل على تقديم الخدمات المختلفة لهم. وهنا نرى ضرورة المواصلة بما يأتي :

* ضرورة أجراء الفحوصات الطبية الأساسية من قبل الصحة المدرسية بشكل دوري ومنتظم للتأكد من سلامة السمع والبصر واضطرابات الكلام وعلاج الأمراض المختلفة التي تؤثر على الصحة العامة للتلميذ وعلى أدائه في التحصيل.

* العمل على نشر وتوسيع شبكات الإرشاد النفسي والعمل بها كتقاليد ثابته وجزء من مؤسسات النظام التعليمي , لكي تقوم بدور أساسي في ميدان تقديم المشورة النفسية للوالدين وتصحيح أسلوب معاملة الأسرة للتلميذ في تقديم الاستجابات الانفعالية المناسبة ليشعر التلميذ بالأمان وعدم تعرضه للقلق والاضطرابات النفسية , وتنمية بصيرة التلميذ بأسباب التخلف الدراسي وتشجيعه على التعديل الذاتي للسلوك.

* العمل بنظام التغذية المدرسية وتوسيع نطاقه ليشمل التلاميذ الذين ينحدرون من أسر فقيرة ,وليسهم بدوره في الحد من حالات الحاجة المباشرة للطعام والغذاء بما يسهم في تحسين أوضاعهم المدرسية وتكريس وقت أكثر للمذاكرة والدرس بعيدا عن الاهتمام بإشباع حاجاتهم ألأساسية التي تعتبر مسلمة في الكثير من نظم التعليم في العالم , عدا عن ما يتركه إشباع الحاجات ألأساسية من أثر إيجابي في الصحة العامة والتحصيل.

* تقديم الخدمات التربوية والتعليمية المناسبة لحالات التخلف الدراسي ,كتنويع طرائق التدريس بما تستجيب لخصوصية التلميذ , والبحث عن سبل لتحسين التوافق المدرسي بما يسهم في تحسين التحصيل ,تنمية المهارات اللازمة للتحصيل, من تخطيط للدروس وأساليب المذاكرة الحيدة وتنمية للمهارات الذاتية في القراءة والإقبال على الكتاب وزيادة التشويق له وغيرها.

* تحسين العمل المشترك بين المدرسة والبيت وتعزيز اللقاءات الدورية بينهما والتهيئة الجيدة والمسبقة للقاءات لكي تكون مثمرة ومحفزة لحضور الوالدين عبر جداول عمل ملموسة , يكون محورها البحث عن سبل تطوير أداء التلميذ ألتحصيلي.

* أما بالنسبة للتخلف الدراسي الخاص أو النوعي والذي يرتبط بتخلف التلميذ بمادة دراسية دون غيرها , فيجب البحث فيه بعلاقة التلميذ بمدرس المادة من حيث قدرة المعلم ومهاراته الأساسية وقابليته على تشويق التلاميذ لمادته الدراسية , فأن كره التلميذ للمعلم يعني كره مادته الدراسية وعدم رغبته في الانجاز فيها ,الغياب المستمر للتلميذ في دروس لمادة معينة لايساعده على استيعاب المادة نظرا لترابط مفرداتها مع بعضها البعض , وبالتالي تؤدي إلى تخلفه فيها . وقد يكون ذلك راجعا إلى انخفاض القدرة العقلية اللازمة لإتقان هذه المادة دون غيرها ,فقد يكون التلميذ متميزا في مواد أخرى دون غيرها , وهنا يجب البحث في تنوع وأداء قدرات التلميذ المختلفة كالقدرات الموسيقية والفنية والميكانيكية والفيزيائية وأين تكمن مواضع القوة والضعف وتوجيها الوجهة السليمة , ويأتي هنا دور المعلم في أدراك الفروق الفردية بين التلاميذ والكشف عنها من خلال تطبيق اختبارات القدرات الخاصة والمتابعة الدقيقة والملاحظة الميدانية المستمرة ومساعدة التلميذ بما يحقق انجازه لهذه المادة أو تلك وفقا لإمكانيات التلميذ دون مطالبته أن يكون متفوقا أسوة بالمواد الدراسية الأخرى .

وفي الختام فأن الكثير يعتمد على كفاءة النظام التعليمي الداخلية ومرونته في أيجاد الحلول لمشكلات التخلف الدراسي , من مناهج وطرق تدريس وإدارة مدرسية وأعداد للمعلمين , وكذلك الاستفادة من خبرات نظم التعليم العالمية في حل تلك المشكلات. ونشير هنا إلى ضرورة تنوع أدوات الكشف عن التخلف الدراسي من مقابلات وملاحظات ميدانية مستمرة والعمل بالبطاقة المدرسية أو السجل التراكمي للتلميذ وعدم الاقتصار فقط على اختبارات الذكاء لما فيها من محاذير نتيجة لتشبعها بعوامل ثقافية وتربوية من البيئات التي أنتجتها ,وهي اغلبها من دول غربية , وقد يكون التلميذ العراقي أو المصري أو العربي بصورة عامة لم يمر بها , فتكون نتائجها محفوفة بالمخاطر في معرفة حقيقة تخلف التلميذ الدراسي , على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في تقنين وتكييف هذه الاختبارات على البيئات العربية المختلفة .



326
مفهوم الأمن وتدهوره على ضوء بعض المعاييرالأنسانية / تجربة العراق

" الحرب مأساة يستعمل فيها الأنسان أفضل مالديه ليلحق بنفسه اسوأ مايصيبه"
غلادستون


د.عامر صالح

لقد كان الأمن ومنذ القرن السابع عشر,أي منذ نشأة الدولة القومية, يعني حماية الدولةـ حدودها وشعبها ومؤسساتها وقيمها من الهجوم الخارجي . وقد ترسخ هذا المفهوم بعمق في العلاقات والتقاليد الدولية.وهذا هو السبب في تركيز الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية على حصانة وحرمة الحدود الوطنية لدول العالم, وحظر التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة.

وفي الوقت الذي تكللت فيه هذه التقاليد في الحد من الأعتداءات بين الدول الى حد ما, فقد كانت لها ايضا عواقب اخرى اقل نفعا. فكثيرا ما وفر مفهوم سيادة الدولة في الأمور الأمنية غطاء لأيجاد نظم عسكرية قومية قوية تحت ذريعة حماية الدولة من الأعتداءات الخارجية, وبررت سياسات وضع الميزانية العسكرية في سلم الأولويات على حساب التنمية الأقتصادية والأجتماعية الشاملة والرخاء الداخلي,وكرست التدابير التي تقيد بشكل كبير حقوق المواطنين وحرياتهم.وقد انعكس ذلك جليا في منطقتنا في العسكرة الشاملة لأغلب نظمها ,بما فيها الطموحات النووية لبعض الدول,التي تتجاوز فيها الحاجة للأغراض السلمية,وتشديد قبضة البطش والقمع والأرهاب الداخلي تحت واجهات" تعزيز الجبهة الداخلية" لوجود عدو خارجي مفترض "يتم الحوار معه في الخفاء"!!!.

وبالتأكيد تبقى الحماية ضد العدوان الخارجي عمل مشروع بطبيعة الحال, وغاية أساسية للحكومات الوطنية وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع الدولي. ألا أن ذلك ليس سوى أحدى التحديات التي  يجب مواجهتها لضمان الأمن العالمي.فعلى الرغم من الأمان المتزايد نسبيا في مناطق مختلفة من العالم, فأن الناس في الكثير من المناطق يشعرون الان بأنعدام الأمان أكثر من ذي قبل. ونادرا مايكون ذلك راجعا الى التهديدات الخارجية,فهناك اخطار وتحديات امنية تنشأ من داخل البلدان نفسها, كالحرمان الأقتصادي الشديد والتدهور العام للأوضاع الداخلية,وأنتشار الأسلحة التقليدية وترويع السكان المدنيين من قبل شراذم محلية, والأنتهاكات الجسيمة لحقوق الأنسان.فهذه تتحدى أمن وأستقرار الشعوب أكثر من أي خطر أو عدوان خارجي( مع بعض الأستثناءات  كالحالة العراقية),حيث تتداخل فيها العوامل الخارجية والداخلية.

ورغم أن احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق أكد أن الحرب بين دولتين" مهما اختلفت ألأسباب " لم تنقرض بعد, وخاصة من قبل" دولة راعية للأمن الدولي" والمؤثر الأكبر في المنظمات الدولية ذات الصلة بالأمن والسلام العالميين, الا ان التعامل مع الأحتلال اصبح في السياسة الداخلية العراقية من باب الأمر الواقع المفروض الذي يستدعي التعامل معه لأزالة آثاره. فأذا كانت من" الروائح العطرة" للأحتلال الأمريكي هو أزالة النظام الديكتاتوري الذي جثم على صدر شعبنا لأكثر من ثلاث عقود,وقد تقاطع ذلك مع مصلحة شعبنا,فأن من" روائحه غير العطرة"ومن أفرازات أبط الأحتلال هو التأسيس لنظام الكانتونات الطائفية والمحاصصة السياسية ,بعيدا عن الفهم الموضوعي لميكانيزم الصراع بين التخلف والتقدم,والذي يستند بالأساس الى أعادة توزيع الثروات ورسم قاعدة جديدة لعلاقات الأنتاج,تستجيب لضرورات التقدم الأقتصادي والأجتماعي والديقراطية السياسية,ولاصلة لذلك بمفهوم المحاصصات السياسية كنظام.

وقد شكلت النمذجة الأمريكية للنظام السياسي في العراق قاعدة مؤاتية وأحد أسباب أفراز ظاهرة الميليشيات المسلحة والشللية السياسية من داخل النظام وخارجه,الأمر الذي ادى الى انعدام الأمن الداخلي في ظل توجه عالمي يؤكد على أن حماية البشر وأمنهم يعتبر هدفا للسياسة الأمنية العالمية والأقليمية والوطنية, وليست فقط تأييد حق الدول في الأمن وحمايتها من التهديدات الخارجية, وأن حصر مفهوم الأمن على حماية الدولة فقط يعني تجاهل مصالح الناس الذين يشكلون مواطني الدولة والذين تمارس السيادة بأسمهم,وأسفر ذلك عن حالات تشعر فيها الأنظمة الحاكمة بأن لها الحرية المطلقة لأساءة أستخدام حق شعبها في الأمن وخاصة عندما يتداخل نظام الميليشيات مع سلطة الدولة وأحزابها الحاكمة,فتكون الأحزاب الحاكمة جزء من اسباب حالة أنعدام الأستقرار والأمن.وأن كان ذلك ناتج أيضا في الحالة العراقية من عملية التهديم العشوائي للبنية المؤسساتية للنظام السابق وأنهيارها بشكل كامل,مما أنتج بدوره أزدواجية ضعف الأمن في العراق في المستويين: الخارجي كدولة ,حيث البلد ضعيفا ومنفتح سلبيا على الخارج وتدخلات دول الجوار؛ والداخلي حيث أنعدام الأمن الأجتماعي,وبالتالي يكون حكم الميليشيات هو البديل عن الأمن الوطني في الداخل,اما الخارج فلايعنيها بالمرة.

أن أمن الأنسان لايقل شأنا عن أمن الدولة وأن الغايتين ليست متعارضتين,فلا يمكن أن تكون الدولة آمنة طويلا مالم يكونوا مواطنيها بمأمن, وقد استخدم ويستخدم ذريعة الحفظ على أمن الدولة واجهة للسياسات التي تضرب أمن الشعب.فلا أمن للدولة بدون الأمن اولا الى شعبها وهذا ما يجري في العراق. وعلى خلفية تطور مفهوم الأمن القومي أو الوطني فلابد أن يرتكز الأمن الحقيقي على الأنسان المواطن وليس على الدولة فحسب,فأن أمن الفرد يطابق أمن الدولة ولا أمن للدولة دون أمن مواطينيها. وأن المفهوم الشامل والكامل للأمن يضع قضية التنمية الشاملة والتماسك الأجتماعي والسيادة القانونيه في قمة أولوياته.ومن هنا فأن عناصر الأمن الشامل تتكون من:
أولاـ الأمن السياسي ويتضمن حماية الكيان السياسي للدولة العراقية كدولة ديقراطية حرة وذات سيادة,وبما يكفل ديقراطية الحياة السياسية العراقية في التعددية والأنتخابات والعمل والمعارضة السلمية,بعيدا عن الأرهاب السياسي والأستئثار بالسلطة السياسية وأستخدامها لتكريس حالات مشوه من الممارسات اللااديمقراطية لنيل من ا الكيانات أو المعارضة السياسية السلمية.
ثانياـ  الأمن الأقتصادي ويعني حماية أقتصاد الدولة العراقية ومواردها وخططها من الفساد والنهب والتزوير وسوء أستخدام الموارد المالية,ويشمل ذلك كل من أقتصاد مؤسسات الدولة وأقتصاد الأفراد والشركات.
ثالثاـ الأمن القانوني ويضمن حماية الحقوق الأنسانية والوطنية للمواطن العراقي,وبما يكفل تأدية واجباته في أطار منظومة عادلة وواضحة ومتوازنة من الحقوق والواجبات,ويشمل ذلك تأمين قضاء عادل غير متحيز,يحمي الجميع بغض النظر عن الحزب أو الطائفة أو القومية التي ينتمي أليها الفرد.
رابعاـ الأمن الأجتماعي ويشمل كافة الأجراءات التي تضمن وحدة المجتمع العراقي بأطيافه المختلفة من طوائف وأديان ومذاهب وأقليات قومية وعرقية,وبما يؤدي الى تماسكه وأندماج أفراده في الولاء الى العراق كوطن للجميع,ويشمل ذلك أيضا الأمن الوقائي من التخريب والجريمة والأرهاب والترويع والتهديد بمختلف مظاهره.
خامساـ الأمن القيمي ويتضمن الحفاظ على منظومات المجتمع العقائدية والقيمية والثقافية بكل تنوعاتها الأيجابية في أطار مناخ من الأنفتاح والتناغم والتواصل مع المجتمعات والحضارة الأنسانية ومعطياتها الأيجابية,ويأتي هنا دور الأعلام الحيادي والثقافة المبدعة في تكريس ذلك.
سادساـ الأمن الصحي ويقصد به حماية المواطن وسلامته من الأمراض والأوبئة وكل ما يهدد سلامته,ويأتي ذلك عبر خطط ملموسة لتطوير قطاع الصحة لأنتشاله من حالة التدهور المستمر.
سابعاـ الأمن البيئي ويضمن الحماية من نتائج االتلوث الطبيعي والصناعي الذي لحق في البيئة جراء الحروب المتواصلة وأستخدام مختلف انواع الأسلحلة المحرمة وغير المحرمة والتي الحقت دمارا بالبيئة الطبيعية,مما أثر سلبا على على صحة الأنسان وبيئته.

أن هذه المؤشرات أو المعايير المذكورة أعلاه,وهي ذات مواصفات دولية, يمكن استخدامها كمحكات للتعرف وتقيم الأداء في المجالات المختلفة للمؤسسات والقطاعات المختلفة, وبالتالي تضعنا أمام حقيقة مايجري في العراق,وماهي مديات الأقتراب أو الأبتعاد من المطلوب أنجازه . أن نظرة سريعة وليست تفصيلية لما حصل ويحصل على الأرض كفيل بأن يضع الدولة العراقية أمام حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها.ويمكن أجمال ذلك في الملاحظات الميدانية الأتية:

أولاـ تبديد ثروات العراق النفطية والمعدنية و الخسائر الأقتصادية والمالية الهائلة بسبب تفشي ظاهرة الفساد الأقتصادي والمالي من سرقات وتهريب ,فحسب تصريحات مسؤولين في هيئة النزاهة أن خسائر العراق منذ سقوط النظام السابق الى ألآن قد بلغت 250 مليار دولار,وفي مجال تهريب النفط 45 مليار دولار.
ثانياـ تدني مستويات العيش وأنتشار الفقر,حيث بلغت نسبة الفقر وما تحت خط الفقر الى 40% (حسب أحصائيات وزارة حقوق الأنسان).
ثالثاـ تدهور الخدمات الصحية وأنتشار الأمراض والأوبئة,ومن مؤشرات ذلك على سبيل المثال ظاهرة مرض الأيدز,ففي الوقت الذي كانت فيه عدد الأصابات قبل سقوط النظام السابق هي 114 أصابة , تبلغ الأن عدد الأصابات 76000  أصابة,حسب الأحصائيات المسجلة في وزارة الصحة العراقية.وكذلك الأمراض الناتجة من انعدام المياه الصالحة للشرب وسوء التغذية وغيرها من الأمراض.
رابعاـ النمو المضطرد لظاهرة الأطفال اليتامى ,حيث بلغ عدد اليتامى حسب تقديرات وزارة التخطيط 4000000 ملايين طفلا(اذا كان معدل العائلة العراقية من4 الى 6  أطفال).وكذلك أرتفاع نسبة عدد الأرامل حيث بلغ ذلك 1000000 مليون  أرملة,حسب الأحصائيات الصادرة عن وزارة المرأة العراقية للعام 2008,عدا عن ما يرتبط بذلك وغيره من ظاهرة التسول والتشرد بين الأطفال والمراهقين وأتشار للأنحرافات السلوكية المختلفة والناتجة من ضعف للرعاية والأشراف التربوي والأسري. بالاضافة الى ذلك التفكك الأسري الناتج من أرتفاع حالات الطلاق, حيث بلغت نسبته ثلاث حالات لكل أربع حالات زواج,حسب أحصائيات وزارة العدل العراقية.
خامساـ تصاعد وتيرة الهجرة خارج العراق,لمختلف الأسباب,سياسية وأقتصادية وأمنية ودينية وغيرها, حيث بلغ عدد المهاجرين خارج العراق الى أكثر من 4500000 مليون مهاجر حسب أحصائيات عام 2008.أما المهجرين داخل العراق فقد بلغ 2500000  مليون حسب أحصائيات وزارة الهجرة والمهجرين العراقية. ناهيك عن طابع الهجرة وما تسببه من نقص للكادر والكفاءات والتخصصات المختلفة,وخاصة في أوساط ما يسمى بالهجرة النوعية.
سادساـ تشير الأحصائيات الواردة من وزارة الصحة والطب العدلي أن هناك 2500000 مليون قتيل( قبل وبعد سقوط النظام) لغاية كانون الأول2008,وأن هناك 340000 ألف سجين في سجون القوات الأمريكية وسجون الدولة العراقية, حسب أحصائيات مراصد حقوق الأنسان,علما أن القوات الأمريكية كانت قد أكدت رسميا بوجود 120000 ألف سجين لديها,وكذلك وجود احصائيات عن 800000  ألف مغيب حسب الدعاوي المسجلة لدى وزارة الداخلية العراقية حتى كانون الأول2008 .
سابعاـ تصاعد وتيرة النمو المتزايد للمليشيات المسلحة من داخل السلطة وخارجها,حيث يعتقد أن هناك أكثر من50ميليشيا أجرامية تعود للأحزاب من داخل السلطة وخارجها,علما أن عدد الميليشيات المسلحة التابعة للأحزاب والمسجلة في وزارة الدفاع و وزارة الداخليةـ لجنة دمج الميليشيات ,قد بلغ 43 ميليشيا .ناهيك عن شللية السلاح في أوساط غير سياسية والتي لاحصر لها.
ثامناـ أستشراء الفساد الكامل في هياكل الدولة الأدارية والمالية وفي جميع المفاصل, ويرتبط بذلك ويعززه عشرات الالاف من الشهادات المزورة للمسؤولين والضباط والمدراء العامون وكادر الأحزاب الذي يشغل مناصب قيادية في الدولة,حسب أحصائيات موثقة في هيئة النزاهة العراقية, وأخيرا وليست آخرا فضيحة الفائزون المزورون في الأنتخابات المحلية .
تاسعاـ تدمير البنية التحتية الأقتصادية والأجتماعية والمؤسساتية,من وزارات ومشاريع ومؤسسات أنتاجية وخدمية,كخدمات الماء والكهرباء والأتصالات وحرق الحقول النفطية وغيرها,وحسب وزارة التخطيط فأن البنية التحتية دمرت بالكامل. وقد جرى ذلك على خلفية اعمال التخريب والفوضى والأرهاب التي عمت البلاد بعد سقوط النظام السابق وكذلك على خلفية رؤى غير مدروسة عواقبها ,أساسها أن كل ما موجود على الأرض العراقية هو من بقايا النظام السابق ويجب التخلص منه حتى وأن كان مفيدا,وقد شمل ذلك حتى العنصر البشري من كوادر ومتخصصين وكفاءاءات مختلفة.وقد تكون تجربة حل الجيش والأجهزة الأمنية للنظام السابق بهذه الطريقة العبثية التي جرت فيها والتي مثلت أستجابة الخوف من عودة النظام السابق,أحد أبرز مشاكل عدم الأستقرار الى الأن.
عاشراـ التدهور المستمر لقطاع التربية والتعليم,وهو أكبر القطاعات تجمعا للعنصر البشري,وهو القطاع الواعد في التنمية الأقتصادية والبشرية,حيث شهد تدهورا على مستوى الكم والكيف: من تصاعد نسب الرسوب والتسرب(حيث بلغت اعداد المتسربين50 ألف متسرب حسب الأحصائيات الرسمية التي أدلى بها مستشار وزير التربية لشؤون محو الأمية), ونقص الكادر التدريسي المؤهل,غياب التخطيط التربوي والتعليمي,قلة التخصيصات المالية وسوء أستخدامها,قلة المصادر العلمية وضعف شبكة المكتبات العلمية, تزوير الشهادات والرشاوى للعمل في هذا القطاع , تكريس الهيمنة السياسية والطائفية في الجامعات والمعاهد العالية وأقتسامها بأعتبارها مناطق نفوذ للأحزاب والميليشيات,تدني مستوى الكفاءة النوعية للخريجين, والهجرة المتواصلة للكادر العلمي والتدريسي من مختلف التخصصات طلبا للأمن والأحتماء.أما بالنسبة لأعداد الأميين فقد بلغت 5 ملايين أمي,حسب تصريح مسؤول منظمة اليونسكو في بغداد,مؤكدا عدم وجود مسح حقيقي للأرقام.

وأستنادا الى هذه المعطيات,فأن أنعدام الأمن الأجتماعي بما يمثله من فتنة طائفية بغضاء بين مكونات الشعب العراقي وأنهيار للمنظومة القيمية وأنتشار للفساد وروح اللامبالات والأنحراف الأجتماعي واستشراء الفساد وانتشار للفكر المتشدد والديكتاتورية السياسية وزيادة مطردة في جرائم السرقات والقتل والعنف والأرهاب والأختطاف وتدهور مختلف مناحي الحياة,يشكل أكبر المعوقات لأحلال الأمن الشامل.وأن أحلال الأمن الأجتماعي يشكل نقطة البدء والأنطلاق لتأسيس أنسانية الفرد العراقي,على خلفية الأشباع المتواصل للحاجات الأنسانية المختلفة,أبتداء من أدنى الحاجات المتمثلة بالحاجات الفسيولوجية,وأنتهاء بأرقى الحاجات المتمثلة بالفنون الرفيعة والجمال.ونستطيع هنا أن نستخدم هرم أشباع الحاجات الأنسانية لعالم النفس ابراهام ماسلو,أحد مؤسسي المدرسة الأنسانية في علم النفس,للوقوف على مديات أشباع الفرد العراقي لمختلف الحاجات الأنسانية,وأين يقف الفرد العراقي الأن في هذا الهرم وماذا ينتظره.والهرم الأتي يوضح تسلسل أشباع الحاجات الأنسانية,ونستطيع ان نستخدمه محكا ومقياسا صالحا لمدى أشباع حاجات الفرد العراقي:

دافع تحقيق الذات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدوافع الجمالية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدافع الى الفهم المعرفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دوافع التقدير وأحترام الذات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دوافع الحب والأنتماء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دوافع الأمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدوافع الفسيولوجية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن الأتجاهات العامة للوضع في البلاد تؤكد أن مطلب الأمن هو الهاجس اليومي للمواطن,وأن النضال من أجله أستنادا الى هرمية الحاجات الأنسانية,يعني أن نضال الأنسان العراقي لايزال محصورا في قاعدة الهرم,كما يبينه الهرم أعلاه,علما أن الحاجات أو الدوافع الفسيولوجية,وهي لازمة لبقاء الأنسان وأستمراره(من آكل وشرب وجنس وراحة وتجنب للألم وغيرها)ترتبط وثيقا بالأمن,الا أن أشباعها في ظل ظروف شاذه يكون كيف ما أتفق ولأغراض البقاء فقط.وأن تمحور ومراوحة نضال الناس عند حدود الأمن وفي قاعدة الهرم يعني من جانب آخر تعطيل للهرمية التتابعية لأشباع الحاجات,أي أن ما يأتي بعد الأمن وهو أنساني صرف لايزال لم يأخذ مداه كما ينبغي,ولأن كل مايأتي من حاجات بعد الأمن يستند الى الأمن اولا وأخيرا.ولهذا فأننا نرى أن نضالات الناس في العراق ,أستنادا الى الهرم, تنحصر في النضال من أجل ضمان الحدود الدنيا للبقاء,وهي صفة تشترك فيها الحيوانات مع الأنسان,وكما نعرف فأن الأزمات والحروب تضرب حتى الحدود الدنيا للبقاء وتهلك الحيوان والأنسان على السواء.

أن مقومي الأمن والحاجات الفسيولوجية الأساسية لازمان لأنطلاق الحياة الأنسانية الكريمة الى سقف أوسع تنتهي بأرقى الحاجات الأنسانية في الجمال, من شعر وموسيقى وفنون ونظام وأشباع طاقاتنا وأمكانياتنا ومواهبنا الفريدة.وأن البقاء في مربع القاعدة الأمنية من الهرم ,يعني التعطيل الكامل للهرمية الأنسانية في النمو والأرتقاء, بمعنى آخر ,لاصحة, ولاتعليم, ولاثقافة ولاتربية, ولاديقراطية, ولاتعددية حزبية حقيقية, ولادولة قانون ولابيئة صالحة بدون أمن.وعلى خلفية أنعدام الأمن فأن أفضل المشاريع في مواجهة التحديات:  السياسية,والأجتماعية,والأقتصادية,والأعلامية,والثقافية لن ترى النور أبدا......الأمن أولا والبقية تأتي.



327
بعض الابعاد السايكواجتماعية لأدب المعارضة غير الحزبية/ الشخصية العراقية انموذجا
                     

الدكتور عامر صالح

 تركت الاوضاع السابقة  جراء تسلط الديكتاتورية المقيتة في بلادنا تباينات في ظاهرة الوعي  المعرفي والاجتماعي المعارض حيث شكلت تنوعا في الياته والتي انعكست على الشخصية في ابعادها العقلية المعرفية والاجتماعية .ففي الوقت الذي اتضحت فيه حدود المعارضة الحزبية المنظمة ممثلة باحزابها من اقصى يسارها الى اقصى يمينها والتي كان هدفها اسقاط النظام الدكتاتوري وكما يدركها النظام نفسه,كان هناك معارضة اخرى خفية تقاوم النظام بوسائل سايكوعقلية او ما يسمى المقاومة با الحيل الدفاعية وقد مثلت هذه المعارضة السواد الاعظم لشعبنا في الداخل,وكانت هذه المعارضة غير مدركة الابعاد نسبيا من قبل النظام السابق.

ان الاليات الدفاعية لهذه المعارضة غير الحزبية مستقاة من ذات الشخصية الانسانية التي تستجيب للضغوط الاجتماعية والسياسية بآليات فطرية دفاعية وهي محاولات تبذلها الشخصية للابقاء على التوازن النفسي لتخليص الفرد من حالة التوتر والقلق الناتجة عن الاحباط والصراعات التي لم تحل جذريا والتي تهدد أمنه النفسي والاجتماعي وهدفها وقاية الذات والدفاع عنها والاحتفاظ بقدر ما من الثقة بالنفس واحترام الذات وتحقيق الراحة النفسية,وتكون بنفس الوقت تراكما نفسيا ينتظر ساعته للتعبير عن نفسه بصيغة الرفض المباشر.وهذه الاليات الدفاعية المتعارف عليها في الادبيات السيكولوجية هي باختصار: الاعلاء,التعويض,التقمص(التوحد),الاحتواء,الاسقاط,النكوص,التفكيك(العزل),الانسحاب,التخيل,التحويل, الكبت, النسيان,الازاحة,الابدال,الانكار,الالغاء(الابطال),الابدال,التعميم,تكوين ردالفعل(التكوين العكسي),الرمزية,التقديرالمثالي وغيرها من الاليات الدفاعية المتنوعة. وان الشخصية الانسانية تسعى للاستفادة المرنة والفعالة وبمقدار الحاجة لهذه الوسائل لحماية نفسها من الصدامات المختلفة التي تتعرض لها في عملية الصراع السيكواجتماعية اليومي من اجل البقاء.


وقد تمكنت الشخصية العراقية عبر عقود من المعاناة من تشكيل نسيج سايكواجتماعي معارض لظاهرة  القمع والدكتاتورية رغم شراسة الاخيرة وفتكها,لكنه نسيجا مخفيا يعبر عنه باليات الاختفاء والاحتماء من الفتك والعقاب ويعبر عن نفسه بنوع من التصرف السياسي المراوغ والغير مباشر,وقد عكس ذلك جزء من ما يسمى (بالموروث المخفي)والذي يعبر عنه بنوع من النقد للسلطة الجائرة من وراء ظهرها. ويتشكل هذا الموروث من خلال اللاشعور الشخصي والذي يتكون من خبرات الفرد المكبوتة والعقد,ومن اللاشعور الجمعي وهو مشترك بين كل الاشخاص ويتكون من تراث النماذج الاصلية للانسان.

لقد وجد في الكلام وسيلة مهمة وواسعة بفعل ما يمتلكه من مقدرة على الرمزية والمجازية في التعبير وهو احد وسائل التنكر المهمة.وكانت السخرية والنكتة وسيلة من الوسائل المتاحة لتجريح الهيبة الشكلية للنظام وقيادته حتى باتت ممنوعة وتعرض صاحبها لأقصى العقوبات؛المغالات والمدح المفرط للنظام في الخطابات والشعر والفنون المختلفة وهي إذ تهدئ النظام وتسكن اورام الذات لدية تشكل في الجانب الاخر رأيا  عاما مغايرا لذلك تماما تفهم على غير معانيها المباشرة بعد إنتهاء الاحتفالات؛الاحتفالات المفرطة في المناسبات (الثورية)وهي إن كانت تبدو وكأنها شكل من اشكال الخضوع والاذعان إلاإنها شكلت فرصا ذهبية للشللية الاجتماعية للحديث في الخفاء عن القيمة المتدنية للنظام؛المناقشات والسجالات في الاجتماعات الحزبية والمفعمة بروح( الحرص)على الحزب والثورة شكلت هي الاخرىوسائل مهمة لخلق اراء مغايرة وانشقاقية في الخفاء؛الخروج لأستقبال القائد بزخم بشري مبالغ فية وبشكل مقزز كان شكل من اشكال التمويه للعداء له,بل في بعض الاحيان طفحت هذه العدائية على السطح وتجسدت في محاولات للاغتيال؛ان خطابا عاما يلقيه( القائد)وهو يلتقي( بشعبه)يقابله في الطرف الاخر نوع من عدم الاكتراث والرغبة في الاستماع تعكسها بوضوح ظاهرة الاصغاء الشكلي المفتعل,الهمس في الآذان,الضحكة الخافته,التنهد,الغمزة اوالتحديق واستخدام مختلف المجازات اللغوية للتعبيرعن معارضة الخطاب,وتشكل هذه المناسبات فرصا للتناغم الاجتماعي المعارض غير المسبق؛أن انتشار شبكة من المجانين المفتعلين في المحافظات واطلاقهم للشعارات والاهازيج التحريضية هي الاخرى كانت فرصا للتندر من النظام ومضايقته.

أن السلوك والفطرة الأنسانيتين يتعارضان مع قيم الدكتاتورية,وبالتالي فأن الشخصية الانسانية قادرة على انتاج انماط متنوعة ومرنة من السلوك المضاد لها.وقد استطاعت الشخصية العراقية من احداث نسيجا معقدا من الاليات الدفاعية تستمد قيمتها ووسائل التعبير عنها باعتبارها ردة فعل على شراسة الدكتاتورية وآلتها القمعية.وحيث لم يترك النظام هامشا للمناورة العلنية...فقد اتخذ شعبنا اساليب لبقة عند الضرورة مضطرا الى اخفاء اهدافه بعيدا عن ادراك اعداء الحرية والديمقراطية ليست تنازلا بل التشجيع على سلوك سبيل التكتيك من اجل البقاء وإحداث حالة الاختمار.

ان الانتفاضات الشعبية ضد الدكتاتورية عبرت عن حالات الاختمار النهائي لأليات الاحتماء والاختفاء وبالتالي الاعلان عن نفسها بالهبات الجماهيرية,ففي اللحظات الاولى لسقوط النظام (وبغض النظر عن اشكالية سقوطه)وماصاحبها منه هبات عارمة(تجاوزت احيانا الفعل المعقول)لأزالة اثاره العيانية هو تعبير صارخ لاداء الشخصية في حالات الكبت الطويل,وحتى الحيادية المؤذية تحولت في اللحظة المناسبة الى شعور عنيف ورغبة في الانتقام.فكم كان من هؤلاء الناس سياسيا معارضا اوبعثيا اوحيادياإإإإ                                                                                                                                                                                                                                                                                                       
اليوم وبعد سقوط النظام بخمس سنوات وحيث تمر العملية السياسية باختناقات لاحصر لها(رغم الانجازات)وظروف خارجية وداخلية غير مواتية لأستقراره وحياة تنعدم فيها الخدمات الاساسية كان يفترض على الاحزاب والقوى السياسية ان تستفيد وتعبئ المزاج النفسي الايجابي الذي تشكل لدى شعبنا قبل وبعد سقوط النظام وترتقي به الى مستويات تنسجم مع عملية بناء الدولة الحضارية ونبذ قيم التفرد والاستحواذ واستخدام الواجهات الرخيصة في كسب المواطن.ان المعركة بين التقدم والتخلف لاتزال على اشدها.


328
سيكولوجيا الأقصاء والأقليات الدينية والعرقية
الميكانيزم والأعراض

( أن يكون المرء لينا هو أن يكون أنقى من الثلج وأروع من اللؤلؤ)
         فرانسيس بيكون

د.عامر صالح


أن السياسة لاتستطيع القضاء على الدين,فهذا لاتقدر عليه أبدا لأنها ليست أسباب وجوده,وبالتالي فأن ديالكتيك العلاقة بين الدين والسياسة غير متوفر,وليست على نسق علاقة السبب بالنتيجة.وعندما تصبح الظاهرة غير قابلة للدراسة ضمن هذا المنظور,عندها يكون قضاء الأول على الثاني لحن نشاز.ولكن تستطيع السياسة تقضي أو تحد من نفوذ السلطة الزمنية أو على النفوذ السياسي لرجال الدين.وتجربة النظام السابق في العراق أو نظم أخرى في أنحاء العالم المختلفة لم تستطيع القضاء على الدين ولا على مذاهبه المختلفة.ولكنها بالتأكيد تمكنت من الحد من نفوذ رجال الدين في السياسة وفي الحياة العامة.أذا كنا مقتنعين بحقيقة ذلك,أذن لماذا تتجدد نوبات الاقصاء من جديد!!!.ولكنها هذه المرة بثوب آخر,حيث الديني يقصي الديني,وكلاهما كان واقعا تحت طائلة الاقصاء .فهل أخذ الديني فسحة أكثر مما ينبغي لكي يقوم بأقصاء الأخر الديني الذي لم يتمكن من شغل نفس الفسحة بفعل كينونته الموضوعية. ومن يمتلك الحق في ذلك!!!!.

لايحق للمرء أنن أن يدعي أيمانا أفضل من غيره,فحكم ذلك عند ربه,والاعمال هي المقياس الاول والاخير لمدى أيمان الفرد وأفضليته . وفي النصوص القرأنية مايكفي لفهم ذلك , ففي سورة الأسراء,الاية84 (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو اهدى سبيلا),وفي سورة الشعراء وفي الأيتين89,88 على التوالي(يوم لاينفعع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم).أما السنة النبوية فتزخر بالتأكيد على ضرورة الاعمال والتقوى باعتبارهما حدا فاصلا بين الأيمان وعدمه.يقول النبي(ص)"انما الأعمال بالنيات,وإنما لكل امرئ ما نوى"وفي حديث اخر"لافرق بين عربي او اعجمي إلابالتقوى".أذن هذا هو الحكم المعلن للسماء وللسنة النبوية .

أما من آحكام الارض فلايحق لأحد أن يفرض دينه أو أيمانه على الاخرين,مهما ظنه صحيحا.وليس لأحد أن يمنع الاخرين من ممارسة أيمانهم مهما ظنه خاطئا. تلك هي حرية العقيدة التي نادت بها الثورة الانسانية الاوربية التي قامت على انقاض
سلطة الكهنوت الديني التي قامت على اساس صكوك الغفران,والتي مارست ارهابا دينيا وأستبدادا وتعسفا وجمود فكري ومعاداة للتقدم ,جسدتها محاكم التكفير,والتي كلفت اوربا ملايين الضحايا,حيث ارتكبت أبشع جرائم القتل والتعذيب الجسدي والنفسي.ومن يزور متاحف اوربا الخاصة بالقرون الوسطى يجد مايجده من أدوات التعذيب الجسدي التي أستخدمت انذاك(منشار يقطع الجسد الى نصفين,عجلة حديدية بأسنان طويلة مدببة تثرم الجسد,كرسي بمسامير طويلة في المقعد والتكية وأسياط بسكاكين صغيرة....الخ),عدا عن ما ينقله لنا التاريخ المكتوب من بشاعة التنكيل من شوي للجسدوتعليق على الابنية ,وقلع للعيون,ومحارق جماعية للرجال والنساء والاطفال.هذا هو الارهاب الديني الذي استخدم ضد أبناء العقيدة الواحدة وضد العقائد الاخرى.أن ثمن الحرية في اوربا كان غاليا في توضح حدود العلاقة بين الدين والسياسة وفي احترام الحريات الشخصية والمعتقدات الدينية على السواء.

أن التجربة التاريخية تؤكد أن مصداقية أي نظام أجتماعي وسياسي يقوم على انقاض نظام سياسي اخر هو الاتجاه الامثل نحو أشباع حاجات أفراده وأن سعادة الانسان هو المقياس الافضل لمصداقية أي نظام وذلك هو منطق التاريخ. وعلى ذلك ايضا أتكأت ونشأت الحركات الدينية وأضفت على نشأتها الاولى بعدا ثوريا وابداعيا في مقارعة الظلم والفساد والعبث في الارض.وعلى هذه الخلفية أيضا نشأ الاسلام تاريخيا على مبادئ دستورية هي:الشورى,والحرية,والمساواة والعدالة,وأن هذه المبادئ قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان وهو مضمون صالح جدا والاختلاف فقط في آليات التنفيذ.

واعتقد من هذه المنطلقات الاساسية العامة والمجردة من أي لون ديني لايهم هنا معرفة دين او مذهب زيد او عمر,ومن المنطقي والمهم ان نعرف بيئته الاجتماعية,وموقعه في علاقات الانتاج,ونشأته وأتجاهه السياسي.وتجربة تأريخنا العربي والاسلامي والعالمي القديم والمعاصر تشير بوضوح الى ان الكثيرمن الحكام المسلمين من كان ولايزال مستبدا,وكم من غير المسلمين من كان ولايزال عادلا والعكس صحيح.أما عدا ذلك فيغدوا الدين وراثيا  و مطلوبا لذاته دون اعتبار لتغير المحتوى وفقا لتغير الزمان والمكان,وتصبح الممارسة الدينيه الشكلية هي المطلب الاول ويصبح الدين فقط مجرد عادات ومشاعر وطقوس على مدار العام.ويفرغ الدين من محتواه الثوري الذي كان سببا في نشأته الاولى.
 
 أن قيام نظام سياسي يؤمن بالديمقراطية والتعددية بكل ابعادها السياسية والدينية والعرقية يعني بالضرورة الابتعاد عن الخندقة الدينية والمذهبية والذي يسمح لمكونات البوتقة الوطنية بالتنوع في أطار خصوصيات مكوناتها والتعبير عن نفسها,الامر الذي يسهل على النظام السياسي الجديد أن يؤتي ثماره سريعا في عملية الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

وخلاف ذلك فأن الخندقة الدينية للنظام السياسي وماتسوق ورائها بالضرورة من خندقة مذهبية يعني بالتأكيد ان يلحق الغبن والتميز الديني والمذهبي لقسم هام وغير قليل من المواطنين,وهذا ناتج من ان النظام السياسي المتخندق مذهبيا يتخذ من دينه ومذهبه اطارا مرجعيا ومحكا لتقيم دين ومذهب الاخر.وهو خلاف المفهوم العصري للدولة التي لاتعرف المواطن الا من خلال الاوراق الثبوتية التي تشير الى اسمه الثلاثي او الاسم واللقب,أي رمزيته وخصوصيته في سجل الاحوال المدنية.أما خلاف ذلك فنأتي بأفعال تدفعنا الى البحث(النبش)والتنقيب عن دين الاخر ومذهبه,ونذهب بعيدا في فحص أوراقه الثبوتيه للتأكد من( سلامته)الدينية والمذهبية من خلال أسمه وأسم عائلته.وفي ذلك تجاوزا على حريته الشخصية وحرية معتقده ,والتي يفتخر بهما أي نظام ديقراطي. ونحن نعرف ان الدين والمعتقد الديني هو حرية شخصية قد تعجبني وقد لاتعجبك,والجميع ورثها من آباءه واجداده,فأنا شيعي,وانت سني,وهذا مسيحي,او صابئي اويزيدي.ولااعتقد أن احد منا بذل جهدا استثنائيا لكي يدرس حقيقة أنتماءه الديني او المذهبي لكي يفضي الى تغيره, اذا ما توفرت القناعة لديه,بل نبحث عن ادلة لتكريسه,لأنه مكون جمعي.وبالتالي نرثه كما نرث خصائصنا الوراثية: لون العينين,شكل الانف,لون الشعر,طول القامه وهكذا.....الخ.


وعندما يسمح النظام السياسي لنفسه في الخندقة الدينية والمذهبية فأنه بالضرورة دفع الاخر الديني والمذهبي الى حصر الزاوية.وبهذا يكون قد عرض مكونات النظام الاجتماعي الى عملية اغتراب سياسي,تتجلى في ذهنية الاقليات المبعدة بأن هذا النظام ليست نظامه,بل أنه احد أسباب شقائه وأضطهاده. ويكون هذا بدوره مصدرا لأغترابات اوسع تطال مجالات الحياة المختلفة. فعلى المستوى الاقتصادي يشعر الفرد أنه ليست جزء من علاقات الانتاج الوطنية ومغتربا عنها؛وهو ليست جزء من النسيج الاجتماعي ,بل طارئا عليه او مشوها بأنتمائه اليه؛  مغتربا بعمله,حيث يشكل العمل الفعالية التي تمتع الانسان وتمتع حواسه وبالتالي يحس بالاغتراب عنه.وهنا قدنلتقي مع تعريف أستوكلز للاغتراب:" أن الاغتراب ينشأ من خبرات الفرد التي يمر بها مع نفسه ومع الاخرين,ولاتتصف بالتواصل والرضا ويصاحبها كثير من الاعراض مثل العزلة والاحساس بالتردد والرفض والانسحاب والخضوع".ويحصل ذلك بفعل صدمة الاقصاء المتواصلة التي يتعرض لها الفرد والجماعة.وتتضح ابعادها وانعكاساتها في ابرز الملامح الاتية:فقدان الشعور بالانتماء لفقدان الروابط النفسية مع المجتمع المحيط به؛عدم القدرة على التكيف مع المعايير لانها معايير ازدواجية؛العجز وعدم القدرة على الوصول للنتائج التي يسعى اليها الفرد,نتيجة لغياب الاطر النفسية المواتية للدائرة الاجتماعية المحيطة والتي تعتبر مصدرا لاغنى عنه في الوصول الى النتائج؛عدم الاحساس بالقيمة,حيث ان قيمة الفرد لايمكن الاحساس بها ذاتيا الا من خلال انعكاسات البعد الاجتماعي في صيرورتها؛فقدان الهدف,أي عدم وضوح الاهداف لدى الفرد وعدم مقدرته على وضع اهداف لنفسه وعدم معرفته بالغاية من وجوده؛فقدان المعنى وعدم قدرة على فهم الجوانب المتصلة به,فلا يدرك معنى لحياته او وجوده ولايجد ما يعيش من أجله؛ فقدان الامن النفسي والاجتماعي,حيث يشعر الفرد ان الامن العام ليست مكرسا لحمايته,بل للاطاحة به,وبالتالي يضع الامن النفسي للفرد عرضة لأنتكاسات مزمنة,قد تتضح اعراض ذلك في مختلف الاضطرابات النفسيه العصابية كالقلق,الضعف العصبي,الهستيريا,الخواف,توهم المرض,اعصبة الوساوس والقهر,الاكتئاب,والتفكك وغيرها؛او قد تبدو في صورة ذهانيات خطره ,كالفصام,والهذاءات(البارانويا),والهوس او ذهانيات الهوس والاكتئاب وغيرها.

وفي بلد مثل العراق كان من المفترض ان يأتي التغير السياسي الذي حصل عام 2003 (رغم ولادته القيصرية)بتغير جذري في كل مفاهيم الحكم والسياسة ويجسد فكرة الديمقراطية التي هدفها اشراك الجميع بعيدا عن التميز العرقي والطائفي والمذهبي ويعمل على بعث الصحة النفسية والعقلية في المكونات الاجتماعية.فأن لم تكن الاستفادة من الدول المرجعية التي انشأت ديمقراطيات مستقرة,فمن قوانين السماء التي تكره العبودية والاستغلال والتميز بين البشر,وتؤكد ان مقياس الانسان الصالح هو اعماله وليست دينه.



329
فصام العقل وآلية النقد السياسي
"أخالفك في الرأي ولكنني أدافع عن حقك في إبداء الرأي"
                فولتير
د.عامر صالح


أن من ابرز المعضلات التي يعاني منها المسرح السياسي العراقي الان تنعكس في ظاهرة التطرف في حوار ومحاكاة الاخر"المعارض",وهو مؤشر خطير لأنعدام ثقافة النقد,التي اصبحت مظهرا مميزا للساحة السياسية العراقية,أفرادا وجماعات واحزاب,حيث لازالت مشاعر وسلوكيات الغاء الاخر وأزاحته اوتسقيطه منهجا في الممارسة اليومية,وكثيرا مايأخذ هذا الاقصاء شكلا دمويا وطابع التصفيات الجسدية, وقد راح ضحيته مئات الالوف من المواطنين الابرياء ومئات من المناظلين الابرار.ويعكس ذلك أرثا ثقيلا نتيجة لعملية تراكم طويلة الامد انعدمت فيها التربية الذهنية والمعرفية والاجتماعية المواتية للأصغاء الى الاخر بوسائل سلمية وحضارية,ومن جانب آخر ترتبط بالأزمة العامة التي تعيشها الديمقراطية في البلاد,والتي تعتبر من أبرز النحديات التي تواجهها.

ويتشكل النقد في مستوى التجربة الفردية من شعور الفرد بالاحباط عندما يخفق في تحقيق هدف من أهدافه.وأرتباطا بحالة الوعي التي ترافق عملية الاخفاق,فقد يلجأ الفرد الى ما يسمى بالأسقاط في علم النفس,وهو ان ينسب الفرد ما في نفسه من عيوب وصفات غير مرغوبة وأخفاقات الى غيره من الناس ويلصقها بهم,وبالتالي يحمل أناس آخرين مسؤولية أخفاقه ولايحملها لنفسه,على الرغم من أن ذلك أعترافا لاشعوريا على النفس أكثر منه إتهاما للغير,أو اللجوء الى آليات أخرى كالعدوان أو التبرير المشوه.ولكن بأمكان التربية والتنشئة الأجتماعية الملائمة أن تنتح لنا أناس قادرين على ممارسة النقد الذاتي البناء,ألا أنها في محتمعنا لاتزال امكانيات شحيحة جدا بفعل التقاليد" العريقة" في قمع حرية التعبير.

أما النقد في المستوى السياسي من قبل احزابا لسياستها,وأن كان في بعض الأحيان يستمد مسحته العامه من ذات البيئة التي يعمل فيها الحزب أو السياسي المنتمى له, ألا أنه في الاحزاب العريقة وذات التأريخ فأن النقد يفترض ان يستند الى معايير عملية تتعلق بتقويم ونقد الأفعال والخطط السياسية ونتائجها(على سبيل المثال,هناك خطة سياسية موضوعة لمرحلة ما وبسقف زمني للأنجاز,تعقبها عملية تنفيذ,ثم تقويم,ثم خطة جديده تستفيد من نجاحات وأخفاقات الخطة التي سبقتها,وهكذا).وهناك أيضا معايير أخلاقية,أي منظومة أخلاقية محددة ذات طبيعة تربوية تحدد آلية النقد,وهذه المعايير الأخلاقية في النقد تعني ان يبنى النقد على معايير غير ذاتية,تجعله قابلا للتقويم.أما النقد غير الموضوعي فهو على العكس ,ينبني على معايير متغيرة وفقا للمصلحة الذاتية وللأمزجة الشخصية,بحيث لايكون النقد منسجما ولامنضبطا في أطار في أطار يجعلنا نستطيع الحكم عليه بالصواب والخطأ.وهذا النوع الاخير من النقد والمنفلت خارج أطار السياق الاخلاقي والتربوي هو الذي يتعرض له اليوم الحزب الشيوعي العراقي,ويستغرب المرء من شراسته,وكأن الديمقراطية وحرية الرأي وجدت اليوم فقط لشن الهجومات عليه.والأسوء من ذلك ان نرى" النقد" من أناس كانوا في صفوفه وكأنهم يقومون بالتكفير عن الانتماء السابق له والتخلص من "عقدة الذنب" التي تلاحقهم...وهؤلاء تربوا طويلا في صفوفه ومحيت أميتهم الأبجديه والحضارية فيه, وتعرفوا على قيمة الكتاب من خلاله ,وتسلحوا بأنماط سلوكيه أيجابية,كانت محط انظار وأعجاب وأحترام البيئة المحيطة بهم.وهؤلاء من الذين كان دفاعهم بالامس عن الحزب يثير الدهشة والاستغراب!!!,بل ويثير السخرية أحيانا!!!. ألا ان ظاهرة النكوص والتقهقر والردة الى مستوى غير ناضج من السلوك تبدو ممكنة وخاصة عندما يتعرض الفرد الى موقف محبط!!!.

أن  حرية الفكر والانتماء تسبح اليوم في فضاء لاحدود له(وخاصة في العراق)ويستطيع الفرد أن ينتمي الى أي فكر يشاء والى أي عقيدة يرغب بعيدا عن التشبث وحملات التشهير وأخذ الثأر,وبالأمكان حتى تأسيس أحزابا ,وهي فرصة ذهبية لحالات" التفريغ الأنفعالي" للمكنونات والمكبوتات اللاشعورية, كما يقول فرويد,وأرضاء للذات على نسق ما يكتب صاحبه في الصحافة...ويبقى الانسان حافظا للعهد بهذا القدر أو ذاك ...وهي أفضل بكثير من حالة أستخدام العتاد المعرفي الذي حصل عليه المعني من الحزب وأستخدامه للهجوم عليه.أن المعارف الفكرية والعقلية يجب أن تطابق صيرورة الممارسة والا ماهو الفارق بين سلامة العقل وفصامه ,سواء أن الاخير يعيش في عالمه الخاص منعزلا بأوهامه وخيالاته المريضة,مقطوع الصلة بعالم الواقع,لايرى غير عالم من صنعه مليئ بمختلف الهلاوس والهذاءات,والاضطرابات في التفكير ومحتواه,وأن تحدث صاحبه فيتحدث "بسلاطة الكلام",غارقا بأحلام اليقضة وسوء التوافق مع الأخر.أنها حالات من بارانويا هزيمة العقل.

ومن جانب آخريمكن  القول هنا أن القلق من النقد السياسي البناء هو قلق غير مشروع جملة وتفصيلا,أذ تبدو أهمية النقد الذاتي في كونه احد الاسباب الرئيسية لتقدم الاداء السياسي.وأن تشخيص الأخطاء وتقويمها هو مطلب ضروري لأصلاح فعالية الأداء السياسي,وليست السلطات الحكومية وحدها من تحتاج الى ممارسة النقد البناء,وأنما كل مؤسسة وشخصية وحزبا لايستقيم امرها ألا عبر تفعيل آلية النقد والمحاسبة,ثم التقويم,ومن قناعة اساسها  أن النقد دافعا ومحفزا وليس مانعا للعمل.

وأن فكرة الحزب"الأب" أو "الالهة"هي فكرة يجب اجتثاثها لأنها مصدر اساسي لتجذير الهيمنة والأستحواذ داخل الكيانات السياسية,عدا ذلك كونها تتعارض مع الطبيعة الأنسانية التي تمارس النقد وهو جزء من مكونها الأساسي. وعندما تقمع هذه الالية فأنها لايعني قد صفيت,بل قد تدخل في أطار مايسمى بعلم النفس بتحوير الدافع,وقد تعود الى الظهور بشدة مرة ثانية وقد تكون ناقلة ليست للنقد البناء بل للتشويهات والتخريب والمبالغات,وهي وسائل فصامية في التعبير عن النقد.وهذا ما نراه اليوم من حملات اعلامية ضد الحزب الشيوعي العراقي وهي غير مبررة بقدر عدم انسجامها مع اداب وأخلاق ادارة الصراع الفكري والسياسي,ولكنها تعبر في أحد وجوهها عن أفرازات بعيدة المدى لحالات مجيئ النقد الذاتي البناء في بعض الأحيان متأخرا من قبل الحزب.

أن الحزب هو فلسفة"عقل" وفكر ثم ممارسة سياسية,وبالتالي لايخاف على الحزب من حالات الضعف والتصدع احيانا,لأنه يمتلك "عقل" ممكن أن يقود الى العمل السياسي بأتجاهات مختلفة ومنفتحة تنسجم مع ظروف الحياة المتغيرة ومع امكانياته الواقعية,فليست لديه القدرة أو القناعة السياسية على الأستعانة بقوة من خارج ميدان السياسة كمرجعية حاسمة في الازمات ,كما هو في حالات اللجوء الى المرجعيات الدينية من قبل احزاب الاسلام السياسي للأستعانة بها عندالهزائم ,او الى أية قوى أخرى تمتلك التأثير على الناس لشراء ذممها وأرتهان قوتها اليومي,والعبث بصدق عواطفها ورموزها الدينية والضغط عليها لمبايعة ذوي العمائم الصفراء وأنتزاع الأعترافات والتزكيات المسبقة منها,أوأستخدام المناسبات الدينية وغير الدينية في الجوامع والمساجد والدوائر الرسمية للهجوم على الحزب الشيوعي.وفي هذه الأجواء التي لاصلة لها بالديمقراطية تمارس عمليات" النقد" التي في الواقع ليست نقدا,بل هي استراتيجيات حصار وعزل وأقصاء وتفكيك,وهي ترتقى الى مستوى السباب والشتائم أكثر منه الى الحد الادنى من النقد وحتى غير البناء,وهي في أحسن الاحوال تنتمي الى هذاءات مرضية ذات صبغة سياسية,تعبر عن حالات غير معلنة من الافلاس السياسي وتدني الهيبة الاجتماعيةوالتى تقوم على خلفية التدهور القيمى ـ الشخصي والضعف المتواصل للمكانة الروحية والدينية لمن لايريد الى العراق واهله خيرا.






330
سيكولوجيا "المفارقة"في اللامساواة بين الجنسين
الجذور الاولى وتنوع الممارسات

"قلما رأيت امرأة لاتحب زوجها الراحل"
كلود رونار

       



د.عامر صالح

يتحدث الكثيرون عن تكريس تبرير اللامساواة بين الجنسين,وتسوقهم الرغبة في ذلك للاحتماء" بتفسير" خطابات السماء تارة,وتارة اخرى الى ماتنتجه المؤسسات البحثية من دراسات مختلفة,تتبع مسيرة الذكر والانثى منذ السنوات الاولى من العمر.حيث يجري التركيز على دائرة تمايز الاهتمامات الطفولية لكلا الجنسين للأتكاء عليها باعتبارها مؤشرات للفروقات بين الجنسين.أودراسات تتناول التباينات بين الرجل والمرأة في ميادين العمل المختلفة لقياس تنوع وطبيعة الاداء عند كلاهما في مجالات الادارة,والانتاج,والاعمال العامة.او المهارات النفسية والقدرات العقلية:كالذكاء,واللغة,والتخيل,  والادراك ,والفهم...الخ.او في مجال الاداء الحركي كما في الالعاب الرياضية والمهارات الحركية الاخرى.ومنهم من يذهب بعيدالى دراسة نتائج الابحاث التى تجري على الحامض النووي للعثور على المزيد من الفروقات السايكوـ ذهنية.

وبلاشك ان الفروقات الموجودة بين الرجل والمرأة كجنسين مختلفين تقع في اطار التنوع ضمن اطار وحدة النوع الانساني,وهي بالتأكيد لازمة لأستمراره أسوة بكل فصائل الكائنات الحية التي تقع تحتنا في سلم التطور البايولوجي,ولاصلة لها بمنطق عدم المساواة الاجتماعية بين الجنسين.

أن عدم المساواة بين كلا الجنسين هو نزوع ثقافي بأمتياز وليست بيولوجي,كما يبدو للوهلة الاولى,أو كما يحلو لمن يوظف الاختلافات الجنسية ذات الطابع البيولوجي/التكويني في تكريس اللامساواة الاجتماعية.وهي تجري على نسق الاستخدام المشوه للنطرية الدارونية في النشوء والارتقاء في صيرورة صراع النوع من اجل البقاء,وتطبيق ذلك على الصراع الاجتماعي بصورة عامة وعلى الجنسين بصورة اخص.

وعندما نقول ان اللامساواة بين الجنسين هو افراز ثقافي اولا,نستطيع ان نستدل على أوجه تأثير الثقافة فيه من خلال البعد الظاهر والملاحظ للثقافة في سلوك الافراد كطرق الحياة المختلفة,وطرق الاتصال بين الناس وبين الجنسين بشكل خاص.أو من خلال البعد الضمني ,ونعني به انماط السلوك غير الملموسة والتي تتمثل في المعايير والمعتقدات والقيم والحاجات,وهي الدوافع لدى الافراد في المواقف الاجتماعية المختلفة,وتشكل الاخيرة اطارا مرجعيا للتعامل مع الاخر,واعتبارها معيارا غير قابل للطعن.

وقد تشكلت عبر التاريخ منظومة قيمية وسلوكيات مستتره وظاهرة اتجاه جنس المرأة تمتد جذورها الاولى منذ بدأ هزيمتها الاولى وبداية رحلة العذاب بالنسبة لها عندما انتقلت من السيادة الالهية والقدسية الى مرتبة حاضنة تفريخ وبقرة ارضاع للبذور التي يلقيها الرجل فيها.اصبح الرجل هو المخصب الالهي,والمرأة هي الاداة .وانتقلت العبادة من الالهة الام الى الاله السيد.حدث هذا مع سيطرة الرجل اقتصاديا ونشوء النظام البطريركي .وفي الوقت نفسه نشأت ازدواجية اخلاقية وقيميه اتجاه الجنس : تقديس جنس الانجاب,وتنجيس جنس المتعة.استتبع هذا ازدواجية الموقف من المرأة :مباركة الام,لعن العشيقة.وبالتالي فقدت الزوجة التي لاتنجب ,كأن تكون عاقرا,قيمتها مثل أية أرض مجدبة لاتنبت .هذه الازدواجية تجاه الجنس والمرأة لاتزال اثارها حتى يومنا هذا,الى هذا الحد اوذاك في جميع المجتمعات البشرية.

وبما ان الخطاب الديني السماوي جاء متأخر من حيث نشأته الموضوعية والزمانية عن الحقائق التي ترتبت على الارض بالنسبة للمرأة,فقد تعامل مع هذه النتائج كتحصيل حاصل وواقع لايمكن الوقوف ضده.بل جاء مفسرا له ومضفيا عليه الشرعية وفقا لفلسفة الفكر اللاهوتي الذي يحكي لنا ملابسات قصة الخلق الاولى....حيث القصة الاولى التوراتية كيف تشكلت حواء من ضلع آدم ثم اغوتها الحية لأكل ثمرة التين ثم اطعمت رجلها آدم ويكتشف الاثنان انهما عاريان ويتعرفان على ما جرت تسميته "الجنس" فيأخذ كل منهما بعض اوراق التين ويستر عورته,ثم يعاقبهما الرب بالطرد من الجنة وهكذا بدأت الحياة البشرية خارج الجنة بمعرفة الجنس وبأبتداء رحلة الكفاح في سبيل لقمة العيش. وهكذا ارتبط معرفة الخير والشر بمعرفة الجنس,فالجنس هو مصدر الخير والشر.الرجل آدم هو الاصل,المرأة حواء هي الفرع والملحق.لولا الخطيئة لما وجدت البشرية,اذ تمت بأكتشاف الجنس او الاعضاء التناسلية.إذ وجب ستر هذه الاعضاء.
 
ثم جاء العهد الجديد الانجيلي حيث تضمن كتابه اربعة انجيل(متي,مرقص,لوقا ,ويوحنا).يقول يسوع المسيح"لاتظنو اني جئت لأنقض الناموس اوالانبياء,ما جئت لأنقض بل لأكمل".هذا يعني ان احكام التوراة مازالت سارية المفعول,ويسوع يكمل هذه الاحكام. ولكن هناك الكثير من الاحكام ماهو الا نسف للقديم.بل هناك الكثير من الاحكام الاكثر تشددا.

أما الاسلام فقد فصل ذلك بسور وآيات أكثر وضوحا وتفصيلا.ففي سورة النساء,الآية (1)"يا أيها الذين آمنوا أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء...".وفي سورة الروم,الآية(21)"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة".ففي هاتين الايتين إشارة الى قصة الخلق التوراتيه وإلى سنة التجاذب بين الجنسين الذي يمكن تفسيره دينيا بأنهما في الاصل انسان واحد.وهناك ايضا اشارات الى ان الاصل هو الرجل,وفيه بذرة الحياة.ففي سورة المرسلات,الآية(20)"ألم نخلقكم من ماء مهين,فجعلناه في قرار مكين,الى قدر معلوم".وكذلك في سورة النحل,الآية(4)"خلق الانسان من نطفة".وفي نصوص قرآنية اخرى يفهم منها أن الاصل زوجان.ففي سورة النبأ,الآية(8)"وخلقناكم أزواجا",وكذلك في سورة الذاريات,الآية(49)"ومن كل شيئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" .اما بصدد قصة الخلق الاولى فهناك نص قرآني يشير الى ان الشيطان وسوس الى ادم وأن آدم هو الذي غوى. ففي سورة طه,الآيات (120ـ122):"فوسوس اليه الشيطان,قال:ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لايبلى.فأكلا منها فبدت لهما سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة,وعصى آدم ربه فغوى.ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى".على اية حال,فأن الرجل مفضل على المرأة,قد يكون ذلك للسسبب الديني المعروف في الخطابات السماوية.ويكفي هنا ان نرد ما ورد في سورة البقرة,في الآية(227):"ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة".وهناك الكثير من النصوص القرآنية التي تشير الى تمايزات بين كلا الجنسين في مجال الحقوق,والقضاء,وتوزيع الارث والطاعة وغيرها.وهنا يجب التذكير أن وقوع الخطاب الديني بين يدي "الرجل المفسر" له, وأجتماع السلطتين الدينية والسياسية لديه في مراحل تأريخية مختلفة,كان له الاثر الكبير في وضع النص الديني في حالة اغتراب في معانيه الانسانية الكبرى ارتباطا بظروف الحياة المتغيره.

أن التأريخ ترك آثاره المزمنه في اللامساواة بين الجنسين وخاصة بعد ان امتطت السياسة الخطاب الديني,ووضع كلا الاثنين بيد" الرجل السياسي والمفسر" .واختلط الدين في السياسة,لدرجة اصبح فيه الدين مصدرا للسياسة وللتشريع.وفي كل الاحوال ان لم تكن السياسة مطابقة للخطاب الديني,فهي تشكل عوامل ضغط عليه لأستمالته.وهكذا كان التحالف الثنائي بين واقع مجحف على الارض و"فهم"للخطاب الديني من العوامل المهمة في أستمرار اللامساواة بين الجنسين .وقد جسدت التجربة التأريخية في الكثير من بقاع الارض ارتهان السياسة للخطاب الديني(مجردا من مسحته التسامحية),تاركة ورائها ارثا مريرا في انعدام المساواة العامة وبين الجنسين بشكل خاص.والكثير من نظم العالم اليوم تتكأ على" فهم للدين"من اجل البقاء.تستند في ذلك الى ما للدين من تأثير في ثقافة الانسان الجمعية وقوة الأغواء,مما يدفع في احيان كثيرة بالمتنفذين في الدين الى حدود الخطاب المتطرف والمغالي...وبهذا تقع المرأة تحت ازدواجية الضغط من المجتمع العام ومن الرجل الاقرب لها في دائرة التواصل.

ومن الجدير بالذكر,ان العديد من مجتمعاتنا العربية والأسلامية بصورة عامة حققت الكثير من الانجازات على طريق اشراك المرأة في ميادين الحياة المختلفة.فقد انخرطت المرأة في مجالات التعليم والعمل.حيث تدفقت المرأة الى مختلف مراحل التعليم,ومنها العالي في مختلف التخصصات العلمية والانسانية ,وكذلك الحصول على الشهادات العليا كالماجستير والدكتوراه.كما انخرطت الى مختلف المهن الطبية,والهندسية,والادارية.وهو خطوة لازمة لتحرير المرأة.ألا أن ذلك جاء نتيجة لضغوطات الاقتصاد والتغيرات الكبيرة في الهيكلية الاقتصادية, وحاجات سوق العمل الى المزيد من المهارات النوعية ,مما استدعى ذلك الى الاستعانة بالمرأة المؤهلة., وأن التغيرات المذكورة اعلاه لاتعبر بالضرورة عن فلسفة حياتية واضحة ومحددة اتجاه اشراك المرأة. والدليل على ذلك هو تعرضها الى مختلف مظاهر  التميز,في  الرواتب,والمناصب,ودرجات التعين,وعدم المشاركة في صنع القرار,وحرمانها من الكثير من المناصب لأنها امرأة. عدا حالات التميز الاخرى خارج العمل,كفرض الوصايا عليها وعلى اموالها وممتلكاتها,ومنعها من السفر والتنقل الى خارج البلد او من مكان الى اخر الا بوجود محرم او ولي امر.

ان عملية المساواة هي اولا وقبل كل شيئ عملية ذهنية ـ عقلية/اجتماعية,تنشأ بفعل عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المستديمه للفرد اتجاه نفسه واتجاه الجنس الاخر .تلعب الاسرة فيها دورا مهما وعلاقات الوالدين بالطفل ذكرا ام أنثى,ومعاملة الاخوة الذكور للأخوات الاناث,والتربية المدرسية وما تبثه من فلسفة تربوية حيث تعرض الفرد لمختلف وجهات النظر الفكرية والعقلية اتجاه الجنس الاخر,فيتبلور لدى الفرد اتجاها محددا نحو نفسه ونحو الجنس الاخر,وكذلك العادات العامه والتقاليد,ثم المؤسسات الاجتماعية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية,والاحزاب والايدلوجيات المختلفة ومدى نفوذها في الوسط الاجتماعي .

وعلى هذا الاساس نلاحظ ان الانفتاح النسبي صوب قضية المرأة لم ينتج من اعادة النظر في المنظومة القيمية والتربوية,بل ان الزمن في احيان كثيرة فعل فعلته....ولهذا نرى المفارقات في الممارسات اليومية في حياة المرأة العاملة بين الجذب والشد.فهي تشعر في السعادة النسبية والاستقلال في نصف من اليوم عندما تكون في العمل ,وفي النصف الثاني فهي اسوة بحبيسات البيت تخضع لسلطة الرجل, وتحمل هموم البيت بتفاصيله.بل قد تحمل هموم البيت وهو الاكثر وقعا عليها من هموم العمل على كتفيها الى العمل لتنوء بثقلين معا. ويتضح ذلك جليا في الكثير من حالات العزوف وترك العمل, لعدم امكانية التوفيق بين الاثنين.أن الصراع المرير في حياة المرأة وجد انعكاساته في الكثير من مظاهر الاضطرابات النفسية والجسمية ذات المنشأ النفسي قد لايدفع المرأة الى الذهاب الى العيادات النفسية المتخصصة,وقد تحيا معه المرأة وتموت به من دون ان يعرف من حولها ,بل قد لاتدركه هي نفسها.ويشكل القلق احد المظاهر الرئيسية التي تدك المرأة والذي تعاني منه بفعل دورة حياتها اليومية الصعبة,حيث تعاني من الضعف العام ونقص الطاقة الحيوية والنشاط والمثابرة,وتوتر العضلات,والنشاط الحركي الزائد ,واللوازم العصبية الحركية,والتعب والصداع المستمر الذي لايهدئه العلاج ,وشحوبة الوجه , وسرعة النبض.والقلق العام على الصحة والعمل والمستقبل.والعصبية والتوتر العام وعدم الاستقرار والخواف بصفة عامه والخوف الذي قد يصل الى درجة الفزع والشك والارتباك والتردد في اتخاذ القرارات.والهم والاكتئاب العابر والتشاؤم والانشغال بأخطاء الماضي وكوارث المستقبل.وتوهم المرض والاحساس بقرب النهاية والخوف من الموت .وعشرات من الاعراض البسيطة والشديده المؤقته أوالدائمة,ولكنها في معضم الاحيان غير قاتلة, اوغير متعارضة مع الاستمرار في الحياة اليومية وروتينها , ولكن تعرقل سير الحياة والاقبال عليها ببهجة وسرور.ويمثل تجاهل المرأة لهذه الاعراض جزء من عملية تجاهلها هي بالذات من مع حولها في دائرة علاقاتها الاقرب.

ان حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين هي مكون ثقافي اولا,يكفي ان نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة,والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الاصلاح والمساوات الاجتماعية,ولاحقا تعزيز التقاليدوالاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة , وعدم تجاهل مطاليب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية .ولانقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولايمكن الطعن فيه,لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها.ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوتات المريعة.

أن الحماية القانونية في البلدان المتقدمة في مجال المساواة واضحة ومسلم بها,وفي بلداننا لاتزال في احسن الاحوال هشة.وان واقع الحياة اليومية والعملية قادر على افراغ الايجابي من محتواه . وفي الوقت الذي يتمتع فيه كلا الجنسين في البلدان المتقدمه بنفس الحقوق والاستقلاليه التي يحميها القانون ,لازال لدينا الطابع الذكوري المهيمن وهو المقرر لمصير الجنس الاخر.أن حق التعليم في كل مراحله مكفولا لكلا الجنسين في البلدان المتقدمه, ومنفتح على مصرعيه بما ينسجم مع الامكانيات والقدرات الذاتيه للدارسين.لايزال في بلداننا انتقائيا ,ولاتشكل الاناث فيه في احسن الاحوال 50% من مجموع اعمارهن في الدراسة .ان الأمية التي اصبحت في مزبلة التأريخ في البلدان المتقدمة,لايزال العديد من مجتمعاتنا العربية والأسلامية يعاني منها ذكورا واناث وللأخيرة فيها حصة "الأسد".وبقدر مايكون التعليم منفتحا على الجميع في البلدان المتقدمة,فأن فرص العمل هي الاخرى منفتحة لكلا الجنسين,وان المنافسة والاختيار تجري على اساس عوامل الخبرة والممارسة(مع بعض الاستثناءات).أما في بلداننا لازالت المرأة منافسا ضعيفا,والكثير من المهن موصودة بوجهها,وعلى الرغم من بعض الانجازات التي حققتها في بعض القطاعات المهنية,كالطبية,والهندسية,والتعليم,والادارة وغيرها ,الاان الغلبة فيها للرجال. أما في مجالات الترويح والرياضة بأنواعها المختلفة المعروفة:رياضة الكره بأنواعها ,رياضة الماء,الدراجات البخارية والهوائية ,الرقص ,الغناء ,الالعاب الحركية ,السياحة والسفر ,العزف على الالات الموسيقية المختلفة,فأنها متاحة للجميع ويجري التخطيط لها ودعمها من قبل الدولة والسلطات المحلية.أما في مجتمعاتنا فهي أن وجدت فهي للذكور فقط او في اغلب الاحيان .

اذا كان التأريخ قد حكم على المرأة في الانتقال من سيد الى تابع,فمن الاولى اليوم في عصر التحولات الاقتصادية والاجتماعية وعصر حركات المساوات والعدالة الاجتماعية بين الجنسين,أن تأخذ المرأة مكانتها كشريك كامل وبدون انتقاص لحقوقها.فأن الحديث عن اللامساواة اليوم اصبح غير مقبول في المزاج العام ومعيبا في الممارسة اليومية.


331
أطفالنا والتخلف الدراسي
الأسباب والعلاج

" ليس اليتيم الذي قد مات والده   إن اليتيم يتيم العلم والأدب "
                                   علي بن أبي طالب(ع)


الحلقة الأولى

" أطفال المهجر "

د.عامر صالح

تحتل الطفولة مساحة كبيرة في أبحاث العلوم التربوية والنفسة , نظرا لأهميتها في بناء شخصية الفرد لاحقا, وعليها يعتمد الكثير من عطاء الإنسان في حياته مستقبلا . بل أن تشخيص حالة الفرد الصحية والنفسية الحاضرة كثيرا ما تدفع المتخصصين في العودة إلى البحث في طفولته, بل أكثر من ذلك العودة الى ماقبل الولادة للتعرف على مسار الحمل, كي تكتمل عملية فهم الأسباب التي تكمن وراء حالته ألان. وتستحضرني هنا في الذاكرة ,الطريقة الصينية في حساب عمر الطفل, حيث يحتسب العمر منذ البدايات الأولى للحمل, ولعل في ذلك إدراكا منهم لأهمية هذه المرحلة وما يجري فيها من تفاعلات داخل الأرحام, أم هو جزء من أعراف عامة !!!.

أما على صعيد المواثيق والالتزامات الدولية, أصبحت الطفولة ضمن أولويات العمل العالمي المشترك, تجسدها المطالبة المستمرة  بالحقوق المختلفة للطفولة, من تعليم إلزامي وصحة وحماية لأرواحهم إلى ضمانات إجتماعية مختلفة.وأن هذه المطالبات لها مايبررها,بأعتبار أن الأطفال وبسبب من عدم نضجهم البدني والعقلي, وعدم المقدرة على الدفاع عن أنفسهم , لذلك يحتاجون الى إجراءات وقائية ورعاية خاصة,بما في ذلك من حماية قانونية مناسبة , قبل وبعد الولادة. أن الحاجة إلى توفير رعاية خاصة للطفل قد ذكرت في إعلان جنيف لحقوق الطفل لعام 1924 وفي أعلان حقوق الطفل الذي إعتمدته الجمعية العامة في 20 تشرين/ 1959  والمعترف به في الأعلان العالمي لحقوق الإنسان, ثم عملية إقرار قانون الطفل.

أن المطالبة بتربية وتعليم نوعي أصبح هاجسا للمنظمات الدولية والأقليمية ذات الصلة بتحقيقه ,على سبيل المثال لا الحصر, المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو ), والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( اليكسو ) , وغيرها من المنظمات.ولعل من المشكلات التي تقف حائلا دون الاستفادة من الخدمات التربوية والتعليمية بشكل نوعي, هو التخلف الدراسي , والرسوب ,والتسرب وغيرها من المشكلات ذات الصلة بما يسمى أصطلاحا في التربية " بالكفاءة الداخلية " للنظام التعليمي,والذي يشمل من ضمن أمور عديدة ,مشكلات المناهج ,والأدارة التعليمية وأعداد الكادر التدريسي, وغيرها.

وهنا إذ أقصر الحديث عن التخلف الدراسي , ارتأيت أن يكون في حلقتين : الأولى وهي حصرا تتناول التخلف الدراسي في أوساط " أطفال المهجر " , والثانية القادمة حول " أطفال الداخل ". وهذا التقسيم قد يثير نزوع القارئ الى تساؤل مشروع في بدايته ... لماذا هذا التقسيم ؟؟. والإجابة هنا هو بعض من اختلاف الأسباب في كلاهما,ففي الأولى ,لايدخل النظام التعليمي كأحد الأسباب ,كما هو الحال في الثانية,بالإضافة إلى أن الكثير من أسباب الحالة الثانية هو ضعيف الأثر في الحالة الأولى. وبهذا تصبح دراسة التخلف الدراسي بالنسبة لأطفال المهجر هو " حالة خاصة ".

أن أطفالنا في الشتات ودول المهجر يعانون من مشكلات كثيرة , أجتماعية , وثقافية , وتربوية , وتكيفية عامة, وهي في مجملها أنعكاس لحالة الهجرة القسرية بأسبابها المختلفة ,وما يسببه التغير المفاجئ من البيئة الأم إلى البيئة المضيفة, وما يترتب على ذلك من اختلافات جذرية بين البيئتين . والتخلف الدراسي أحد إفرازات هذه المشكلة , على الرغم من أنهم يعيشون في ظل نظم تربوية متطورة وتتمتع بكفاءة عالية في ظل المعايير الدولية ( وأقصد هنا الدول الأوربية ,كالدول الأسكندنافية ,وكذلك في امريكا وأستراليا وغيرها), وأطفالنا هنا يتمتعون بحقوق تربوية وتعليمية لامثيل لها !!! في بلدان الأم, بالأضافة إلى أن الهاجس الإقتصادي والامني والخدماتي لايشكل ثقلا على الطفل ووالديه.

أنها مشكلة مركبة ذات طابع ثقافي/ لغوي , قد يتفاجئ ذوي الطفل فيه , ويرون فيه إنتكاسة لمشروعهم الكبير في حصول أطفالهم على شهادة تعليمية أو مهنة ما ,كما يرغبوا ويطمحوا إليه في أن يكونوا أولادهم ,بل في أحيان كثيرة يتمنوا لو تسنح الفرصة إلى العودة إلى البلد الأم لتحقيق ذلك, وهي رغبة تعكسها غرائز الأمومة والأبوة دون فهم الأسباب!!!.

أن اللغة هنا بأعتبارها نافذة العقل على العالم الخارجي ووسيلته المثلى لنقل الأفكار, وهي أداة التعليم الأساسية , وعلى إتقانها ومستوى ادائها يعتمد إتقان الطفل لمختلف المواد الدراسية . ونظرا للمرونة العقلية التي يتمتع بها الأطفال في اكتساب اللغة , من السهل علينا  "وللوهلة الأولى " أن نلاحظ الطلاقة اللغوية لديهم ,وكأنها هي اللغة بعينها !!! إلا إن ذلك بالتأكيد ليست كافي لتقيم آدائهم اللغوي.

أن اللغة ذات أبعاد مختلفة وأجادتها ليست عملية سهلة قياسا بأكتساب طلاقتها, فاللغة تتكون من عمليات متصلة هي : الفهم , والتحدث ,والقراءة , والكتابة وخزين المفردات ( المستودع اللغوي ), وأخيرا استخدام هذه اللغة في إطار ثقافة المجتمع الذي يحمل هذه اللغة ( ثقافة اللغة ) . وعلى أستيعاب ذلك كله وأجادته يعتمد بشكل كبير مستوى التعميم والتجريد اللغويين, والذي يحدد بدوره أداء العمليات العقلية من فهم , وأدراك , وتصور , وتخيل , وتذكر , واسترجاع للخزين المعلوماتي عند الحاجة , وكل ذلك يشكل أسبابا قطعية وشروطا لازمة للتحصيل الجيد.

أن التخلف الدراسي القائم على خلفية ضعف أكتساب المهارات اللغوية, هو تخلف دراسي عام , أي يشمل جميع المواد الدراسية تقريبا, لأن اللغة هي الوعاء الناقل للمادة الدراسية, وبالتالي فأن التخلف اللغوي = تخلف دراسي عام. وهنا يجب الحذر من الخلط بين التخلف الدراسي العام الناتج من تدني مستويات الذكاء ( كما تقيسه اختبارات الذكاء ), والتخلف الدراسي العام للأسباب لغوية.وهنا بودي الإشارة إلى مخاطر هذا الخلط في الممارسة الميدانية من قبل إدارات المدارس,و الاختصاصي النفسي ,أو المرشد التربوي في البلدان المضيفة ,حيث يتصور هؤلاء أن مشكلة هؤلاء الأطفال هي مشكلة تدني الذكاء, فيتم أجراء الاختبارات لهم وتصنيفهم وفقا لنتائجها.كما يجب التأكيد هنا أن مصداقية هذه الاختبارات تتأثر بشكل كبير بعامل اللغة,فكيف يمكن إجرائها أصلا على أطفال لديهم مشكلات من هذا النوع !!!!. ولتلافي أوجه القصور في مثل تلك الحالات هو اللجوء إلى تقنيات أخرى ,كالملاحظة الميدانية للتلاميذ من قبل الأخصائيين أو الكادر التدريسي ومتابعتهم عبر بطاقاتهم المدرسية..الخ.

أن تخلف لغة الوالدين وضعف أجادتهم للغة البلد المضيف,ثم الفروق اللغوية التي تنشأ بينهم وبين لغة أطفالهم تلعب دورا سلبيا في عملية التحصيل الدراسي للأطفال,بسبب عدم مقدرة الأهل في مساعدة الطفل في أنجاز متطلبات المواد الدراسية المختلفة. ويرتبط بذلك أيضا ضعف المقدرة على التواصل مع الإدارة المدرسية , في أطار العمل المشترك بين البيت والمدرسة لتحسين أداء التلميذ .

أن الكثير من الأطفال يعجز عن استخدام اللغة في أطار وعائها الثقافي المستمد من المجتمع الأكبر(القريب على لغة المدرسة), وهي لازمة للنمو المعرفي الواسع,فيلجأ الطفل إلى تعلم لغات خليطة(غير صافية),أو لهجات مناطقية أو لغة حارات, وجميعها بالتأكيد أقل شأنا من لغة المدرسة ولغة الكتاب, وهي غير كافية لأنجاز المهمات الدراسية.

ومن مشكلات تدني تحصيل أطفالنا في دول المهجر ,هو ضعف القدرة على التكيف السليم والسلس مع الاتجاهات الثقافية والاجتماعية السائدة ,فتكون الاستجابة أما بالأندفاع نحو الشللية الاجتماعية التي قد تأخذ مظهرا منحرفا, أو اللجوء إلى العزلة الاجتماعية والانكفاء وعدم تقبل العلاقة مع المجتمع الجديد, وجميعها أسباب لاتسهل التحصيل الجيد.

كما أن انعدام الجو الأسري الإيجابي الذي ينتج من الفروقات الثقافية والأجتماعية التي تنشأ مع مرور الزمن بين الأطفال وذويهم, والتي تقوم على خلفية عدم المقدرة على حل المشكلات التي تنشأ بين الطفل وأهله من جانب,وبين الطفل والمحيط الخارجي, والأختلافات هنا هو اختلاف في تفهم طبيعة المشكلات, كما هو الحال اختلاف في تبني الحلول التي تصدر من ذهنيات متباينة . أن مايسببه ذلك من ضعف التركيز وتشتت الإنتباه والقلق الشخصي ,يلحق الضرر هو الأخر في التحصيل الدراسي .

ولحل هذه المشكلات تلجأ إدارات المدارس إلى البحث عن تسوية الوضع الدراسي للأطفال المتدني التحصيل أو المتخلفين دراسيا, لغرض الارتقاء بهم إلى مستويات التحصيل المعتمدة لدى المدارس أو الصفوف العادية. وأبرز هذه الإجراءات هي مايأتي :

* قد تلجأ إدارة المدرسة إلى إبقاء التلميذ في صفه أسوة بأقرانه, وإعطائه  دروس بمتطلبات اقل من السياق المعتمد في صفه ,وبخطوات تدريجية, وملاحظة أدائه فيها وتقيمه باستمرار لحين دمجه كليا ضمن متطلبات صفه.

* وضع التلاميذ ذوي المشكلات التحصيلية المتقاربة في صفوف خاصة منفصلة داخل المدرسة العادية, طبعا بعد اجراء الأختبارات النفسية والتحصيلية لهم للتأكد من مستوياتهم , ويكون هذا الأجراء أشبه بالمرحلة الأنتقالية, وحال تحسنهم ينقلون إلى الصفوف العادية .

* نقل التلاميذ ذوي التحصيل الدراسي المتدني المستديم إلى المدارس الخاصة , وتكون الدراسة في هذه المدارس أقل حملا من حيث المتطلبات والمعايير المتبعة والطرائق المستخدمة في التدريس, ومتابعة اداء التلاميذ بأستمرار , ثم ترقيتهم تدريجيا , وبالأمكان أيضا انضمامهم لاحقا للمدارس العادية حين التأكد أن إنجازهم المدرسي يسير بوتائر عالية مطابقة لمعايير المدارس العادية .

* أحالة الأطفال بشكل دوري ومنتظم إلى مراكز الأرشاد التربوي والنفسي والصحي, وأجراء الفحوصات الطبية والنفسية, للتأكد إذا كانت هناك عوامل أخرى تعيق التحصيل , للتمكن من حصرها وتشخيصها ثم أمكانية الحد من تأثيرها السلبي.

أن حصر مشكلات تدني التحصيل بالنسبة للأطفال في المهجر بعوامل ثقافية/ لغوية , لايعني بكل الأحوال عدم وجود عوامل اخرى تقف وراء ذلك غير الواردة الذكر, بل قد تتقاطع مع عوامل وأسباب اخرى لاعلاقة لها بالهجرة, الا ان تناول ذلك كظاهرة في اوساط " أطفال المهجر" هو الذي دفعنا لأغفالها والتأكيد على ما هو عام ومشترك. والحلقة القادمة ( أطفال الداخل ) سوف تضعنا امام تصور أشمل لطبيعة الظاهرة. يتبع الحلقة الثانية .





صفحات: [1]