حقوق الطفل في لبنان والعالم العربي... واقع أم خيال؟!
-----------------------------------
بقلم
شادي خليل أبو عيسى
محامٍ وكاتبلبنان، هذا الوطن المُنبعث من عالم الوجود واللاوجود، وعالم ما قبل التاريخ أصبح منارة للعلم والمعرفة عبر التاريخ.
فلبنان كان ولم يزل يقذف إلى شواطئ العالم المُفكّرين والمُبدعين، مُحمَّلين بالأمجاد والإنجازات.
ومن بين هؤلاء المُبدعين، المُفكّر العملاق شارل مالك المساهم في وضع شرعة حقوق الانسان وصاحب الرؤية المستقبلية على كافة الأصعدة الثقافية والسياسية والتربوية والحقوقية والإنسانية، حتى صار عنواناً لامتزاج الفكر السياسي والنهج الثقافي في لبنان والعالم بأسره. ويحق للبنان أن يفاخر دوماً بكونه مهداً للكلمة وناشر لوائها في الشرق والغرب.
وحوارنا اليوم يشمل موضوع حق التعليم وتشريعات الطفولة في لبنان، وهي على جانب كبير من الأهمية.
فقد أكدت المواثيق الدولية كافة منذ إعلان جنيف (سنة 1924)، وإعلان الأمم المتحدة لحقوق الطفل (سنة 1959)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (سنة 1966) والاتفافية الدولية لحقوق الطفل وغيرها، على وجوب تأمين حماية ورعاية خاصة للأطفال.
ولبنان كان في عداد البلدان التي اعتنقت (نسبياً) مبادئ الوثيقة الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الأول 1948 والمعلنة لحقوق الانسان إعلاناً عالمياً (تمّت الموافقة عليه بأكثرية 40 صوتاً وامتناع 8 أصوات). لذا، فهو مُلزم بواجب احترام تلك المبادئ في نظامه ودستوره وقوانينه.
وقد نصّت المادة 10 من الدستور اللبناني على أن التعليم حرّ ما لم يخلّ بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرّض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب، ولا يمكن أن يمسّ بحقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفقاً للأنظة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية.
أما مقدمة الدستور فقد نصّت على التزام لبنان مواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الانسان.
ويُقصد بحرية التعليم حق الفرد في أن يتعلم وحقه في تعليم غيره بأن ينشر ثقافته وعلمه على الناس. ولمّا كان هذا الحق يتصل بسياسة الدولة ويمسّ مرفق التعليم، كان من الطبيعي أن يخضع للتنظيم والتقييد فتتدخل الدولة للإشراف على مدارس ومعاهد التعليم الخاص (رغم الفلتان الثقافي والعلمي والتربوي وظهور العديد من المراكز التعليمية والتربوية كاللوحات الاعلانية).
ونصّت المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان على أن " لكل شخص حقاً في التعليم، ويجب أن يوفِّر التعليم مجاناً، على الأقل في مرحلته الابتدائية والأساسية...".
ولبنان وافق على هذا الاعلان العالمي منذ سنة 1948، وأقر مبدأ إلزامية التعليم منذ الاستقلال. كما أكدت على ذلك أيضاً " وثيقة الطائف " والتي نصّت على ضرورة توفير العلم للجميع وجعله إلزامياً في المرحلة الابتدائية على الأقل. ولكن، ما زال حق الحصول على العلم ولو في المرحلة الأولى غير مؤمن للجميع في لبنان.
وقد نصّ المبدأ السابع من شرعة حقوق الطفل الصادر العام 1959 على حقه في تلقي التعليم، الذي يجب أن يكون مجانياً وإلزامياً، في مراحله الابتدائية على الأقل...
فهؤلاء الأطفال لهم الحق في أن يعيشوا طفولة طبيعية وأن تؤَّمن لهم الرعاية والحماية والرقابة اللازمة من أجل نموّ جسدي، عقلي، نفسي، معنوي، واجتماعي سليم من أجل بناء مستقبل واعد.
والسؤال الكبير: هل عملت السلطات اللبنانية المتعاقبة على تطبيق تلك المواثيق فعلياً وإدخالها في التشريعات اللبنانية لا سيما لجهة التعليم والتربية وحماية الأحداث؟
صدّق لبنان على معاهدات دولية لحماية الأطفال وتعهّد بملاءمة تشريعاته معها. كما أنّ أحكام الاتفاقيات الدولية ملزمة للبنان وتُلزم المحاكم بتطبيقها بالأولوية على القوانين اللبنانية بموجب المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
وبالعودة إلى سجل مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الانسان، في ما خصّ الدول العربية المصدّقة على اتفاقية حقوق الطفل، نجد أنّ لبنان كان من بين الأوائل ممن وقّعوا على هذه الاتفاقية في 26/1/1990 وصدّق عليها في 14/5/1991 ودخلت الاتفاقية حيّز التنفيذ في 13/6/1991 ومقارنة مع باقي الدول العربية (على سبيل المثال: الجزائر، وضعت هذه الاتفاقية حيّز التنفيذ في 16/5/1993 والسعودية في 25/2/1996 والإمارات في 2/2/1997 )، يكون لبنان قد خطا خطوات مهمة في هذا المجال وبادر إلى تطوير تشريعاته انسجاماً مع المعاهدات الدولية، إلاّ أننا بحاجة إلى مزيد من التطور، وبنوع أخصّ إلى مراسيم تطبيقية وآليات تنفيذ ومراقبة التنفيذ والمتابعة. فالوضع التطبيقي الراهن لحقوق الطفل ولحق التعليم مأساوي، إذ تُشير بعض الاحصاءات إلى أن أكثر من 3000 طفل تتراوج أعمارهم بين العاشرة والثالثة عشرة يعملون في لبنان ولا يتعلّمون، ويعمل حوالي 30000 طفل بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة أي ما يقارب 11% من هذه الشريحة العُمرية.
وعلى سبيل المثال، ذهبت الدول الأوروبية إلى سَنّ تشريعات لمراقبة مصادر السِلع المستوردة إليها من العالم " الثالث "، فتمتنع عن استيراد المنتجات التي قام بتصنيعها أطفال، أو حتّى ساهموا بتصنيعها. فهل سنصل يوماً إلى هذا المستوى في لبنان؟ ومتى؟
نجد أن المشاكل التي يتعرض لها الطفل والولد في لبنان - والوطن العربي أيضاً- هي في مجالات متعددة: في المدرسة، في العمل وفي الحياة الاجتماعية... ففي المدرسة يتعرض الطفل للإهانات المتكرّرة من الأساتذة الذين تنقصهم التنشئة التربوية والثقافية. أما في العمل، فيُفرض على الولد العمل القاسي، وفي الحياة الاجتماعية يتعرض الطفل إلى الكثير من الاعتداءات والتهديدات.
ومن أبرز أسباب ودوافع ترك الطفل المدرسة هي:
- الفقر: وهو السبب الرئيسي الذي يدفع الطفل إلى العمل باكراً.
- الرسوب المدرسي: أي أن تكرار رسوبه في المدرسة يؤدّي إلى إحباط الطفل خاصة عندما لا يجد الدعم المعنوي الكافي من الأهل.
- عدم تطبيق التعليم الإبتدائي الإلزامي المجاني بشكل عام: إذ أن كلفة التعليم في لبنان باهظة.
- التفكك الأسري والمشاكل الاجتماعية المتعددة والفساد: انفصال الأهل عن بعضهما، المخدرات والدعارة، الاعتداء الجنسي، العنف وسوء المعاملة، الحروب المتكرّرة والتهجير...
وقد أشار التقرير الصادر عن وزارة العمل بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، إلى أن غالبية الأطفال في لبنان يتركون المدارس ويعملون بدافع الفقر والحاجة إلى المال خاصة بعد الحرب في لبنان. وهناك دراسة أولية لمنظمة اليونيسف حول واقع الأطفال في لبنان تُظهر بأن نسبة الأطفال الذين يعملون بسبب الفقر هي 55%، أما الذين يعملون لاكتساب مهنة فهي 33% وبسبب الإخفاق المدرسي فهي 14%.
وتشير بعض الإحصاءات إلى أرقام مخيفة في واقع سوء معاملة الأطفال في لبنان:
- 34% من سوء المعاملة في محافظة الشمال.
- 26% من سوء المعاملة في محافظة جبل لبنان.
- 17% من سوء المعاملة في محافظة البقاع.
- 8% من سوء المعاملة في محافظة بيروت.
- 5% من سوء المعاملة في الجنوب.
وهناك نسبة 58% من فئة الاعتداء الجنسي و41% من فئة الاعتداء الجسدي.
أما بالنسبة إلى توزيع سوء المعاملة حسب العمر فهي على الشكل الآتي:
- 43% الضحية بين عمر 16 و 18.
- 32% الضحية بين عمر 13 و 15.
- 20% الضحية بين عمر 8 و 12.
- 5% الضحية دون سن ال 7.
وتوزيع سوء المعاملة الجنسية حسب الجنس هو:
66% الضحية أنثى و34% الضحية ذكر.
(وردت هذه الإحصاءات في المجلة الصادرة عن وزارة العدل بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة).
وفي ظلّ هذه الأرقام، يمكننا أن نؤكّد أن واقع الطفل العربي، سواء في الحقوق الإنسانية والمواطنية المتاحة له أو في التعامل معه لا يوحي بالاطمئنان والراحة.
القانون شبه موجود في لبنان، ونحن بحاجة إلى توعية اجتماعية وتربوية وإلى حماية الأطفال بكافة الوسائل. إذ يخضع موضوع حماية الأحداث والأطفال إلى تشريع صدر سنة 1992 تعديلاً للقانون الصادر سنة 1983 والذي عدّل القوانين القديمة السابقة (أي المواد 118 و238 من قانون العقوبات).
كما أُنشئ المجلس الأعلى للطفولة سنة 1994، وقد جاء بنتيجة تصديق لبنان على اتفاقية حقوق الطفل في أيار 1991. وهذه الاتفاقية هي مجموعة معايير تشمل الحقوق المدنية والاقتصادية والصحية والاجتماعية للأطفال وقد أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1989، وقد صدّقت عليها 192 دولة.
ونصّت المادة 32 من الاتفاقية على أن تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي ومن آداء أي عمل يرجّح أن يكون خطراً أو يمثّل إعاقة لتعليم الطفل أو أن يكون ضاراً بصحته أو بنموّه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي.
أما المادة 33 من الاتفاقية، فنصّت على أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة بما في ذلك التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتربوية لوقاية الطفل من الاستخدام غير المشروع للمواد المخدرة والمواد المؤثرة على العقل ولمنع استخدام الأطفال في انتاج هذه المواد بطرق غير مشروعة والاتجار بها.
كما صدر عن منظمة العمل الدولية عدّة قرارات تتناول عمالة الاطفال وأبرزها القرار رقم 138 الصادر عام 1973 والمتعلق بالسنّ الأدنى لعمل الأطفال (15 سنة) والقرار رقم 182 الصادر عام 1999 الذي يحظّر بشدة وفوراً عمل الأطفال في الأعمال الأكثر خطورة وسوءاً كبيع الأطفال والاتجار بهم واستخدامهم أو تشغيلهم أو عرضهم لأغراض الدعارة أو لانتاج أعمال إباحية...
ويمكننا القول إنّ لبنان حقّق بعض الانجازات بشأن حقوق الطفل منها:
- إنشاء المجلس الأعلى للطفولة سنة 1994 والذي يجب أن يُفعّل دوره.
- صدور المرسوم رقم 700 تاريخ 25/5/1999 وهو يتعلق بحظر استخدام الأحداث قبل إكمالهم سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة في الأعمال الخطرة.
- صدور القانون رقم 91 تاريخ 14/6/1999 الذي عدّل المادة 25 من قانون العمل المتعلقة بشروط استخدام الأحداث في المؤسسات الحِرَفية.
- المادة 50 من قانون الموازنة العامة والموازنات الملحقة للعام 2000 تاريخ 14/2/2000 والتي نصّت على اعتماد نصف تعرفة (نصف السعر) للأولاد في سنة ال 18 وما دون وللمعوَّقين في الأماكن الأثرية والسياحية والمتاحف والمعارض وفي وسائل النقل المشترك.
- المادة 80 من القانون 220 تاريخ 29/5/2000 المتعلّق بتعديل الفقرة " د " من المادة 14 من قانون الضمان الاجتماعي لجهة استفادة أولاد المضمون (ذكر أو أنثى) حتّى سن ال25 مكتملة من تقديمات الضمان.
- قرار رقم 1130/م/2001 تاريخ 10/9/2001 المتعلق بالنظام الداخلي لمدراس الأطفال والتعليم الأساسي في المدارس الرسمية حيث نصّت المادة 41 على أنه " يُحظّر على كل موظفي التعليم إنزال أي عقاب جسدي بتلامذتهم، كما يُحظّر عليهم تأنيبهم بكلام مهين تأباه التربية والكرامة الشخصية...
- القانون رقم 400 تاريخ 5/6/2002 الذي أجاز للحكومة الانضمام إلى اتفاقية العمل الدولية رقم 138 بشأن الحد الأدنى لسنّ الاستخدام (الحد الأدنى هو 15 سنة، رغم أن هناك عدّة مؤسسات تُشغّل أطفالاً دون ال 13 سنة).
- قانون رقم 414 تاريخ 5/6/2002 الذي أجاز للحكومة الانضمام إلى البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية حقوق الطفل بشأن بيع الأطفال وبغاء الأطفال والمواد الإباحية عن الأطفال.
- مرسوم رقم 9091 تاريخ 15/11/2002 المتعلق بتحديد معايير ومقاييس أبنية المدارس الرسمية في التعليم العام ما قبل الجامعي من مساحات داخلية وخارجية لكل صف ولكل تلميذ وتجهيزات صحية ومواصفات غرف التدريس والمختبرات والمشاغل ومواصفات تؤهّل المدارس للتلامذة المعوَّقين.
- التوقيع على البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية حقوق الطفل بتاريخ 11/2/2002 بشأن اشتراك الأطفال في النزاعات المسلحة.
- قرار رقم 47 تاريخ 18/3/2003 المتعلق بإعفاء تلامذة المدارس الرسمية في مرحلة الروضة وفي الحلقتين الأولى والثانية من مرحلة التعليم الأساسي من رسوم التسجيل.
- قانون رقم 344 لعام 2001 الذي ينصّ على وجوب حيازة المعلمين الجدد على إجازة تعليمية وما فوق في جميع المراحل التعليمية.
- تعميم النيابة العامة التمييزية رقم 6/ص/ تاريخ 7/2/2003 حول منع الأشخاص من الجنسين الذين لم يتمموا الثامنة عشرة من عمرهم دخول الحانات والمرابع على أنواعها ليلاً ونهاراً.
- المادة 500 من قانون العقوبات والتي تعاقب بالحبس حتى ثلاث سنوات كل من تخلى أو حاول التخلي لفترة مؤقتة أو دائمة عن قاصر دون الثامنة عشرة من عمره بقصد إعطائه للتبني مقابل مال أو نفع.
- المادة 501 من قانون العقوبات والتي تعاقب الأب والأم اللذَين يتركان ولدهما الشرعي أو غير الشرعي أو ولداً تبنياه في حالة احتياج سواء برفض تنفيذ موجب الإعالة المترتب عليهما أو أهملا الحصول على الوسائل التي تمكنهما من ذلك.
- المادة 617 من قانون العقوبات والتي تعاقب بحبس والدي القاصر الذي لم يتمم ال 15 من عمره، كما يعاقب أهله المكلفين بإعالته وتربيته إن لم يقدموا على تأمين احتياجاته رغم اقتدارهم وتركوه مشرداً.
- المادة 618 من قانون العقوبات والتي تعاقب بالحبس حتى السنتين لكل من دفع قاصراً إلى التسول جراً لمنفعة شخصية.
- وضع أُسس شرعات المواطن الصادرة عن وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية خلال العام 2004 تتضمن جردة من الحقوق متعلقة بالطفل مع تحديد آلية تطبيقها وتفعيلها من خلال العائلة والمدرسة والبلديات والجمعيات الأهلية.
ولكن، يبقى هناك حاجة ماسة إلى تشريعات جديدة كالزامية التعليم ومجانيته رغم صدور القانون رقم 686 سنة 1998 بالنسبة للتعليم الابتدائي (حتى سن 12 سنة) إلاّ أن التطبيق مُجمّد (يجب رفع سن إلزامية التعليم إلى 16 سنة). إضافة إلى ضرورة انشاء حدائق عامة ومتاحف ومكتبات عامة في كافة المناطق اللبنانية لنشر العلم والثقافة ولإبعاد الأطفال عن الإنحراف والجرائم. وهناك حاجة أيضاً إلى تعديل قانون العمل بما يتلاءم مع اتفافية العمل الدولية ومنع استخدام الأطفال في الأعمال الخطرة.
فموضوع التشريع للطفولة أساسي ومهم لدرجة أن اللجنة الدولية لحقوق الطفل في جنيف تعطيه حق الصدارة. فكل طفل لديه حقوق، كالحق في الصحة والتربية والتعليم والحماية من العنف... وموضوعنا اليوم يتطرق إلى حق التعليم، الذي هو غائب في معظم الأحيان عن جدول جلسات مجلس الوزراء، إلاّ في بعض المناسبات والاحتفالات. ورغم أن الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل حين يبرمها مجلس النواب، يصبح وزنها القانوني أقوى من القوانين المحلية، غير أن الواقع التطبيقي في لبنان معاكس جداً، وهناك الكثير من الثغرات وهوّة كبيرة بين الواقع النظري والتطبيق العملي. فلدينا تزايد في مستوى الفقر مما يؤثّر سلباً على تربية الأطفال وتثقيفهم واتجاههم نحو العمل بأعمار صغيرة لا تتجاوز سن العاشرة. إضافة إلى وجود خلل في الإنماء المتوازن في المناطق، مما يخلق نوعاً من الغبن وانتشار حالات التشرد وتفشي الأمراض والجرائم. فلا توجد سياسة إنمائية صحيحة وشاملة لكافة المناطق اللبنانية وانعدام التشدد في تطبيق أحكام قانون العمل واتفاقية العمل الدولية لجهة استخدام الأطفال واستغلالهم، وتفشي حالات الفساد في المؤسسات (عدم قيام مفتشي وزارة العمل بمراقبة وجود أطفال في أمكنة يمنع عليهم التواجد فيها ليلاً أو نهاراً). كما أننا لا نعرف الكثير عن القاصرين العاملين بشكل غير شرعي إلاّ في حال حصول حادث ما في أمكنة عملهم أو لارتكابهم مخالفة أو جرم.
لذا، علينا أن نسعى بقوة إلى إيجاد أطر صحيحة تكفل حق الطفل في التعلم وتطوير ذاته، وذلك عبر تشكيل لجان وجمعيات ونقابات تنصرف إلى وضع خطة وطنية شاملة للإشراف على كافة التشريعات المتعلقة بالطفل والعائلة واستحداث قوانين وإيجاد الآليات التنفيذية السليمة لمراقبة تنفيذها وضمان تطبيقها والسعي إلى وضع النصوص الآيلة إلى تسهيل إعادة التحاق المتشردين بالنظام التعليمي وإقرار المراسيم التطبيقية المتعلقة بالتعليم الأساسي والإلزامي وإنشاء مباني مدارس جديدة لاستيعاب جميع الأولاد وتأمين الرعاية الصحية المجانية لهم.
ليست العبرة في توقيع الاتفاقيات الدولية فحسب، وليست حتى في تعديل القوانين فقط، بل العبرة في التطبيق، والوضع التطبيقي في لبنان سيء وسلبي إلى أبعد الحدود.
فعلى الرغم من بعض التطورات والتحولات الإيجابية التي طرأت مؤخراً على هذا الملف، بدعم ناشط من هيئات ومؤسسات المجتمع المدني، فإن موضوع الطفل ما زال بحاجة كبيرة وماسّة إلى الكثير من المهمات والجهود. فالطفل اللبناني والعربي ما زال يفتقر إلى العديد من التقديمات والمزايا التي يتمتع بها أقرانه في الدول الأخرى، وفي مقدمتها تقدير طفولته واحترامها، والإيمان الصادق بحاجاته الحياتية والتنموية وإمكانياته الواسعة والكبيرة.
فلا يكفي أن نسنّ القوانين ونوقّع على المعاهدات والمواثيق إذا لم نكن مُؤمنين أساساً بأن أطفال الوطن هم بدرجة أولى الركن الأساسي لبناء الوطن، وبالتالي لهم علينا توفير الظروف والفرص والأدوات كافة الكفيلة بإعدادهم إعداداً يتناسب مع الهدف المعقود عليهم، انطلاقاً من لحظة الإقدام على مشروع الإنجاب ومروراً بكل محطات الحمْل والوضع والتغذية والنمو والتعليم والتخرّج والعمل. وهذه المسؤوليات مطلوبة ومتوجبة على جميع العناصر التي تتعاطى مع الطفل بدءاً من الأهل والعائلة إلى المجتمع والمدرسة والجامعة والسلطة.
وعلى هذا، فإن مسألة حقوق الطفل، ليست مجرّد اعتراف نظري، بقدر ما هي إيمان ومعرفة وممارسة ومسؤولية، أي إنها باختصار ثقافة المجتمع كلّه. وهنا تَظهر وتتجسّد مأساة الطفل العربي بالذات، ويمكننا أن نلخّصها في التساؤلات التالية:
- كيف نُصدّق أن حقوق الطفل العربي مرعية ومحفوظة، ونحن أمام أنظمة أكثريتها لا تؤمن بأن المستقبل ملك المواطن الكفؤ والجدير؟…
- كيف نَتغنى بأن حقوق الطفل مؤمنة وكافية، ونحن نستأصل روح التغيير ونعيش هاجس التوريث وحصر الملكية في حكم الوطن ومؤسساته وخيراته؟
- كيف نُعلن التزامنا بشرعة حقوق الطفل العالمية، ونحن ما زلنا، وفي أغلب مجتمعاتنا العربية، لا ندرك أن عملية إنجاب الأطفال ليست إشباعاً فطرياً لنزعة
الأبوة والأمومة فحسب، بل هي أسمى من ذلك بكثير، وعليها تتوقف حركة الحياة وتجددها وليس تكرارها، وبالتالي فهي مسؤولية ومعرفة وتضحية، تتوجب وعياً كاملاً بشروط وواجبات السلامة الجسدية والنفسية والعقلية للطفل القادم؟
- كيف نَرفع شعارات " الطفولة السعيدة " ونحن ما زلنا نشهد موت الكثير من الأطفال نتيجة الإهمال أو الجهل أو العَوَز. وتصدمنا كل يوم صور الأطفال المشرّدين المتسوّلين بالمئات على أرصفة الشوارع. وتفاجئنا " طوابير " الأطفال الذين ينتظرون مقعداً دراسياً لهم في مدارس الوطن مع بداية كل عام. وما هو أشدّ إيلاماً وحسرة، تهافت العائلات على أبواب السفارات الأجنبية طلباً للهجرة من أجل مستقبل أطفالهم، أو على أضعف الإيمان، إرسال الأمهات الحاملات في أشهر الوضع الأخيرة، للإنجاب في أي بلد غربي، كي يحصل المولود على جنسية ذلك البلد، ويكفي أبويه مؤونة التفكير في شؤون وشجون مستقبله المظلم؟
- هل يُعقل أن نقيم على مدار العام، مئات المعارض والمؤتمرات والندوات بهدف الترويج السياحي أو التجاري، ونجهّز لها أضخم الإمكانيات وأبرز المختصين في عالم الاستثمار – وهذا جيّد ومطلوب – ونغفل عن العامل الحقيقي للاستثمار في المواطن للمستقبل، فنعقد على الأقل مؤتمراً سنوياً محلياً وإقليمياً من أجل تدارس
أوضاع الطفولة وقضاياها ورسم الخطط المناسبة لها؟
- وكيف لنا أن نَطمَئن إلى غد أطفالنا ونحن نطالع كل صباح آلاف المنشآت المعمارية الباهرة، التي قامت على حساب البيئة ومساحات الوطن الخضراء، من غير أن ينطلق صوت واحد (جدّي) في الحكومات والمجالس المتعاقبة للمطالبة بإقامة حديقة أو مرفق أو ناد أو مسرح مخصص للأطفال؟
هذه بعض من الأسئلة التي لا بد من طرحها ونحن نتناول ملف الطفل، وهي تمثّل مجموعة معوّقات تواجه مستقبل أطفالنا المظلومين والمقهورين.
إن عملية التغيير في المجتمعات، وبخاصة تلك المتعلقة بقضايا الإنسان، هي من المسائل الشائكة والمعقدة، لكنها ليست مستحيلة إذا توفرت النوايا والإرادات الصادقة المبنية على إيمان راسخ بالقضية التي نعمل من أجلها، والمنطلقة من أسس موضوعية علمية وعملية ورؤية واضحة للأهداف والغايات. ويمكن أن يتم هذا بالآلية التالية:
1- تشكيل " هيئة وطنية للطفولة "، على غرار هيئات الإغاثة أو الإنقاذ أو التنمية.
2- تفعيل الحملات التثقيفية للمواطنين والسياسيين والحقوقيين حول بعض القوانين والمعايير التي يجهلونها، وتشجيع الأبحاث والدراسات المتعلقة بحقوق الطفل بالتعاون مع الجامعات والجمعيات والنقابات المتخصصة والعمل على دمجها في المنهج المدرسي. وأيضاً، السعي إلى تثقيف الأطفال للتعرف على حقوقهم في المدارس والجمعيات الأهلية وإجراء ندوات وحوارات وتشكيل نوادٍ مدرسية من قِبل المعلمين والتلامذة والأهل تهدف إلى اكتشاف القدرات والمواهب واتاحة فرص التعرف إلى الذات والتعريف عنها واكتساب القيم الاجتماعية وتمكين التلامذة من التخطيط والبرمجة والتقييم.
إضافة إلى ضرورة وضع خطة نهوض تربوي والعمل بجديّة على تطبيق البرامج الجديدة التي تكفل تطوير الذهن والفكر لدى الأطفال...
3- العمل الدؤوب على تطوير المناهج التعليمية والتربوية لتكون مبادئ حقوق الطفل وحقوق الإنسان في صلب الخطط المرسومة مع التأكيد التام على الجانب التطبيقي عند الأطفال أنفسهم، كي تصبح هذه الحقوق مكتسبات يقينية، وليست منّة أو منحة مؤقتة، وبالتالي فعلى الأطفال المطالبة بها والدفاع عنها ومساءلة المقصرين في تنفيذه.
4- تضافر الجهود من أجل أن تكون قضايا الطفولة بنداً رئيسياً من بنود ميزانيات
الدولة السنوية.
5- رسم الخطط القصيرة والطويلة ضمن استراتجية محدّدة من أجل الارتفاع بمستوى حقوق الأطفال، وبخاصة فيما يتعلق بالأمور الصحية والتعليمية وإقامة
المرافق والحدائق والمسارح والمكتبات وغيرها.
6- إنشاء دائرة مختصة لتلقي الشكاوى المتعلقة بالاعتداء على حقوق الأطفال.
7- إطلاق شرعة دولية من أجل تجنيب الأطفال ويلات الحروب وممارسة أقصى
درجات الحزم في تطبيقها.
8- تخصيص جهة مسؤولة لمراقبة ومراجعة كل ما يوضع أو يُستورد للأطفال من كتب أو برامج أو أفلام أو ألعاب إلكترونية، على غرار لجان حماية المستهلك
ومراقبة الأدوية والمأكولات.
9- أن ينشأ في كل وزارة من وزارات الدولة، مكتب خاص يكون مسؤولاً عن كل ما يمكن أن يتعلق بموضوع حقوق الأطفال في هذه الوزارة.
10- أن يتم تخصيص " وزارة دولة لشؤون الأطفال "، تتولى جميع المهمات المتعلقة بالطفولة والتنسيق في ما بين الوزارات بهذا الشأن، وكذلك مع المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية.
ونؤكد أخيراً أننا عبثاً نحاول وعبثاً نتغنى إذا لم يتوفر الإيمان لدى الجميع، مسؤولين وغير مسؤولين، بدور الطفل في صناعة المستقبل، وإذا لم تتلازم حقوق الطفل مع مسار حقوق الإنسان كي تتكامل ورشة إصلاح هذا الواقع الأليم.
إن لبنان الذي كان شريكاً مؤسِّساً في صياغة حقوق الانسان مدعو إلى تجديد التزامه من خلال خطة عمل تنموية شاملة تحفظ حقوق الطفل والعائلة وتسهم في فتح آفاق مستقبلية جديدة.
شادي خليل أبو عيسى
محام ٍ وكاتب