عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - نبيل عودة

صفحات: [1]
1
فلسفة مبسطة: التشاؤم، التفاؤل والعقلانية
نبيل عودة
بدأ محاضر الفلسفة محاضرته بتساؤل أيقظ انتباه الطلاب وحرك عقولهم: كيف نميز بين المتشائم، المتفائل والعقلاني؟ أضاف:
-   لنرجع الى أصل التعبير.
أصل التعبير من(RATIO) وتعني “عقل، بصيرة” والاصطلاح هو (RATIONALIS – راتسيوناليزم) ويعني حرفيا اسلوب التفكير او التفلسف. لكن الفلسفة الحديثة والعلوم بتطورهما تجاوزا هذا التفسير الكلاسيكي الضيق وجعلته أكثر اتساعا خاصة في مجال العلوم.
ترجمة “راتسيوناليزم” بتعبير “العقلانية” لا يفسر المعنى الفلسفي الكامل. هذا المفهوم في الفلسفة يعني أيضا التصرفات التي تخدم أهداف الإنسان. تعني سلطة العقل بالتوافق مع المنطق، حسب فلسفة المنطق كل المعلومات التي مصدرها الأحاسيس وليس العقل هي غير قائمة. ايضا تفسر العقلانية على انها رؤية اساسية يجب ان يكون العامل النافذ-المقرر هو المنطق الفعلي وليس مجال الاحاسيس. كذلك يعني اصطلاح العقلانية الفلسفي بأنه صفة لمن يفكر ان للذكاء توجد أسبقية عن الطرق الأخرى بتحصيل المعرفة.
تعني العقلانية قدرة الانسان في حياته اليومية وممارسته المعرفية على اجراء محاكمات واعية بعيدا قدر الامكان عن تسلط المشاعر والعواطف او أي اعتبار شخصي آخر مع او ضد.
توقف قليلا، ابتسم، وسال الطلاب: هل تتابعوني ام ما زالت عقولكم وراء المايوهات التي تكشف أكثر مما تغطي على شواطئ البحر؟
كثيرا ما نتطرق بالفلسفة لتعبير العقلانية، العقلانية تنفي المعرفة الحسية التجريبية التي تدعي امكانية الفهم عن طريق الاحساس الشخصي والإدراك والتصور، اي القناعات الموروثة التي تصبح جزءا من عقل الانسان وتفكيره الخيالي(الميتافيزيائي). العقلانية تعتبر الظاهرة الحسية غير كاملة ولا تنطلق من أي معرفة يقينية. العقل لوحده فقط قادر على التوصل الى المعرفة الصحيحة الشاملة والضرورية.
تبرز النزعة العقلانية في العلوم أكثر من أي مجال آخر. العلوم تعتمد على حقائق وليس احاسيس وتخيلات. أكثر من ذلك يجري تطور العلوم بناء على نقدها ونقضها (تفنيدها) العلمي المعرفي. بينما التخيلات والأحاسيس لا يمكن ادراكها بأدوات علمية. ولا علاقة لها بتطور المعرفة العلمية للإنسانية. ونقدها لا يعطي أي نتيجة لمن صيغت عقولهم واغلقت عن أي رؤية مناقضة لما نشأوا عليه.
طرح الفلاسفة تفسيرات مختلفة، لا شك أنها تفسر بشكل صحيح المعنى المعتمد علمياً، لكنها تفسيرات متوقعة، يمكن القول إنها من النمط المعروف والتقليدي الذي لا تجديد فيه، لا يعطي مقارنات عملية، تشبه تفسير الطب لتكاثر الخلايا السرطانية، الظاهرة معروفة، لكن لا أحد يعرف سبب خروج الخلية عن اتزانها واختلال نشاطها الذي يقود إلى النمو السرطاني المنفلت، هناك تفسيرات بلا نهاية، كل تفسير يعبّر عن اجتهاد صاحبه، قد تجد ألف تفسير وألف سبب. كلها صحيحة وكلها لا تكفي لفهم الظاهرة وحصرها بنقاط متفق عليها من الجميع. لأن فهم الظاهرة يقود إلى معرفة علاجها وبالتالي تلاشيها أو صدها. ربما من رؤيتهم ان الموضوع لا يستحق جهد التفكير الفلسفي. ولكنه موضوع اجتماعي بارز في كل قضايا المجتمع الإنساني من السياسة حتى الطعام.
مثلا المتشائم رؤيته ان أي تقدم او هبه او اجرة لا تكفي وهي اقل من المتوقع. المتفائل يظن ان التقدم إيجابي مهما كان قليلا. الواقعي نظرته تحليلية، يرى باي امر إيجابي مهما كان هامشيا وغير ملموس فعليا خطوة ستجيئ بعدها خطوات أخرى، لذا ينتظر بصمت وبدون قلق.   
أحد الطلاب أصرّ أن يحصل على نموذج ملموس للمفاهيم الثلاثة المذكورة… بينما أستاذه يصر أن التفسيرات المقدمة كافية وصحيحة في تفسير الظاهرة، الطلاب وجدوها فرصة للتخلص من الدرس الجاف، الأمر الذي فتح حواراً واسعاً لم يتوقعه المحاضر وشعر بنفسه ينجرف مع طلابه.
– مسألة بسيطة…
قال المحاضر، لكنه عاد لتفسيرات لا جديد فيها. قال:
– المتشائم لا شيء يعجبه، دائماً يرى الشيء الناقص، مهما اكتملت حياته وتحسن وضعه، إلا انه يظل متمسكاً بالنواقص، لا يرى غيرها وتصبح هي العنصر الأساس. يعتبر كل نجاحاته وتطور مكانته ناقصة وغير مكتملة، كل شيء حوله ناقص وكئيب من وجهة نظره، كل ما يحصل عليه هو دائما أقل مما يستحقه، دائم الانتقاد، لا شيء يراه كاملاً، إن وقف أمام المرآة هجا نفسه وهو سريع الغضب أو يائس من مجرد وجوده.
بعد تأمل لم يطل لوجوه الطلاب لفحص تأثير شرحه عليهم واصل:
– أما المتفائل، فهو إنسان مختلف بجوهره، ونقيض تماماً للمتشائم. يرى بكل خطوة تقدماً إلى الأمام.. في كل يوم جديد مكسباً كبيراً، الأمر الذي يجعله دائم الابتسام سعيداً بما يحصل عليه، مهما كان صغيراً وغير ملموس، حتى لو واجهته أزمة ما، نجده يميل إلى الثقة بأنها عابرة، غداً سيكون أفضل بالتأكيد.. وإذا ليس غدا فبعد غد… أو بعد بعد.. او كما كانت جارة لي تقول بسخرية: "انا متفائلة، اليوم أحسن من غدا"!
أضاف المحاضر بعد أن قطع المسافة بعرض الصف وطوله وهو يشعر بتجليه وإصابته الهدف بدقة:
– أما الواقعي فهو الذي يبرر النجاح والفشل بعوامل موضوعية. كل ما يحدث له تفسيره. لا شيء يحدث بالصدفة. دائماً يرى الواقع في إطار من المعطيات وليس حسب أطماعه وميوله.
شعر المحاضر انه أوفى الموضوع حقه، نظر الى عيون الطلاب بنوع من التحدي والإفحام. لكن طالبة تتميز عادة بقلة المشاركة، رغم تميزها التعليمي، اعترضت بالقول إن الموضوع الذي طرحه الأستاذ المحاضر هو تفسير أقرب للأنماط التعليمية التقليدية غير المبنية على رؤية عملية، أن موضوع التشاؤم والتفاؤل والواقعية لا يمكن تفسيرها فقط بخصائص اتَّفق عليها علماء النفس، لأن النفس البشرية أكثر تعقيداً واتساعاً من كل عالَم أطباء النفس.
نظر المحاضر إلى محياها الجميل وقال:
– قبل أن أسمع صوتك كنت متشائماً بأني سأنهي الفصل الدراسي دون أن أسمعك مرة واحدة، لكن تشاؤمي لم يكن بمكانه والآن أنا متفائل أن أسمعك أكثر من مرة قبل انتهاء الفصل التعليمي.
أضاف وكأنه يبرر أقواله:
– في الواقع ممنوع أن يلجأ المرء إلى التشاؤم أو التفاؤل قبل أن يدرك الحالة الموضوعية للشيء.. ان الواقعية أيضا ألا يبني الإنسان توقعاته حسب الشيء الظاهر لعينيه.
ضحك طلاب الصف وقال أحدهم:
– أجدتَ يا أستاذ…
لكن عيون طلابه تقول: لا شيء جديد في قولك!!
الطالبة عبست ولم تتحرك قسمات وجهها. كانت تقف أشبه باللبؤة. قالت بعد ان ساد الهدوء:
– لا جديد فيما تقوله أستاذي، اسمح لي ان أعارضك. انت زرعت فينا عنصر الشك في قبول الشيء قبل إثبات صحته، رغم اعترافي أنك أستاذ بارع وسريع البديهة، دروسك شيقة وتعبّئ دماغنا بمعلومات تنويرية رائعة، الا اننا نتوقع نموذجاً عملياً لثلاثة أشخاص، متشائم ومتفائل وواقعي سوية ورد فعلهم المختلف على ظاهرة مشتركة شاركوا فيها بالتساوي.
كاد المحاضر يرد بعصبية لأن الموضوع حسب اعتباره تافه من أن يضيع عليه حصة كاملة مليئة بنقاش استفزازي يظهره عاجزاً عن التفسير بما يرضي ميول طلابه وعنجهيتهم وغرورهم ومحاولتهم إرباكه، ظنّاً منهم انه غافل عن ميولهم.
كان على قناعة أن المسألة لا تستحق أكثر مما قدمه حتى الآن. لكن وقفة الطالبة، صوتها الواثق القوي، الضوء الذي يتلألأ في عينيها، أفهمه أنها ليست كما يظن، او انها صامتة من ضعف معرفتها… بل لأن عقلها هو الفعال، تشتري ولا تبيع، عندما لمست أن المحاضر والطلاب يدورون في حلقة مفرغة وقفت تتحدى، يبدو أنها أذكى مما كان انطباعه عنها حتى الآن، لا بد أنها تملك تفسيراً ملموساً، سيرفع أسهمها بين الطلاب وعند أستاذها بالتأكيد والا ما تجرأت على تحديه السافر. قال لنفسه: “المكتوب يقرأ من عنوانه”.
هذه الأفكار أعادت للمحاضر هدوءه ورغبته في سماع تعليلها. قال بعد تفكير وعيناه لا تفارقان وجه طالبته العابس:
– أعتقد أن تفسيراتنا، رغم صحتها، تفتقر إلى نماذج تطبيقية. أعترف أني لا أتذكر حادثة واحدة شارك بها النماذج الثلاثة وكيف تصرف كل واحد منهم. لكن يبدو أن زميلتنا الطالبة (وشدد نظراته اليها فاحصاً رد فعلها) لديها إجابة عملية ملموسة، قد تضيف أمراً أكثر وضوحاً لما فسرناه نظرياً.. تفضلي.
ابتسمت الطالبة ابتسامة عريضة، مزيلة عبوسها مؤكدة فوزها بالجولة الأولى (قال المحاضر لنفسه: “عبوسها من باب التمثيل ويبدو ان صمتها من عمق معرفتها”) وقالت وهي ترسم ابتسامة ذكرته بابتسامة الموناليزا الغامضة:
– سافرت مع والدي في أسبوع نقاهة إلى تركيا. أثناء استراحتنا في مطعم جبلي، قدمت لنا ثلاث كؤوس كبيرة من الماء البارد، كان حجم الكأس أكبر من الكأس العادية بالضعف او أكثر، وربما لهذا السبب لم تُملأ بالماء حتى حدها الأعلى وفقط لنصفها أو أكثر قليلاً.
صمتت لتتمتع بصمت القاعة كما يبدو والإنصات الكامل لكلماتها:
– والدتي المتشائمة دائماً، عبست وهي تنظر لكأس الماء وقالت: “كيف يقدمون كؤوساً نصف فارغة، يتباخلون علينا بكاس مليئة بالماء؟” أرادت أن تستدعي الجرسون لتغسله بكلامها العصبي، كما تفعل عادة وتسبب لنا الإرباك. إلا أن والدي المتفائل دائماً سارع إلى مقاطعتها وتهدئتها بالقول: “انظري جيداً يا عزيزتي. الكأس كبيرة جداً وهي نصف ممتلئة، لا ضرورة لبهدلة الجرسون، فلن تستطيعي شرب كل هذه الكمية من الماء.”
واصلت بعد ان تمهلت “لتنظم بقية روايتها في دماغها” كما ظن المحاضر بينه وبين نفسه:
– كنت أعلم أن الصدام بين والدي المتفائل دائماً ووالدتي المتشائمة سيحتد أن لم أسارع بالتدخل، كالعادة.. لوضع الأمور في مكانها الصحيح، قلت بسرعة، بواقعيتي التي تعلمتها من النقيضين أمي وأبي: “اعتقد أن المشكلة يا أمي حجم الكأس، الكأس أكبر من الحجم الذي نستعمله لشرب الماء، لذلك كمية الماء لا غبار عليها. حجم هذه الكأس ضعفا الحجم العادي”.
فأضحكتها ضحكة سوداوية تعني أنها ستصمت رغم أنها لم تقتنع.
ضج الصف بالتصفيق والضحك، والمعلم يصيح: “اعترف أنك فاجأتِني، ببساطة، تفسير رائع!”
nabiloudeh@gmail.com

2
نحو رواية فلسطينية لمواجهة الرواية الصهيونية
نبيل عودة
من أبرز اشكال المقاومة للرواية الصهيونية الاستيطانية في أدبنا الفلسطيني داخل إسرائيل، خاصة قبل التوسع الاحتلالي بعد عام 1967، ان الانجاز الشعري تسامى في مواجهة الواقع بعد النكبة، وبرز بتحديه للرواية الصهيونية، ولسياسة الاضطهاد القومي، وتحول الى خطاب سياسي ثوري مقاوم قل مثيله في الآداب الشعرية لشعوب تواجه مغتصبي اوطانهم ومصادري حرياتهم.
بنفس الوقت نرى محدودية الجانر الروائي في إبداعنا المحلي، واعني داخل مناطق 1948، لا اعني بتعبير محدودية عدم وجود أعمال روائية أو غياب الجانر ألروائي إنما ما أعنيه ان الرواية في أدبنا الفلسطيني داخل إسرائيل لم تأخذ مكانها كلون أدبي له وزنه ومكانته، كما هي الحال في القصة القصيرة عامة والشعر على وجه التحديد، وخاصة في التصدي للرواية الصهيونية، وفي دور الرواية الفلسطينية التعبوي كسلاح ثقافي بمواجهة الرواية الصهيونية الاستيطانية والعنصرية.
يمكن الإشارة إلى عدد قليل جدا من الابداعات الروائية الجيدة في إبداعنا المحلي … مع ذلك يبقى الفن الروائي بعيدا عن أن يشكل تيارا ثقافيا يمكن الإشارة إليه، وأعتقد ان غياب الرواية لا يعني أننا نفتقد لنصوص روائية، إنما أعني ان روايتنا لم تدخل بعد في المواجهة للرواية الصهيونية، من ناحية الكم والمضامين.
عالج الناقد الدكتور حبيب بولس ( 1948 – 2012 ) موضوع الجانر الروائي في ثقافتنا داخل إسرائيل، بمٌقالين متتابعين أولهما "لماذا لا نملك جانرا روائيا؟" والثاني "عود على قضية الكتابة الروائية". تناول المفهوم الأونيفرسالي للرواية، وهو مفهوم هام للغاية، جاء في مقال د. حبيب بولس “في رأيي أن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: أسباب عامّة، أعني بها الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع وأخرى خاصّة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامّة سببان هامّان هما طبيعة الظروف التي نعيشها أولا وقلّة المرجعية لهذا الجانر محليّا وفلسطينيا ثانيّا. أمّا السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن الموازنة بين الخطابين: التاريخي/ الأيديولوجي/ الواقعي والخطاب الإبداعي/ الروائي/ التخيلي." او باختصار الخطابين التاريخي والفني!!
حقا وبصدق حدد الدكتور حبيب بولس الإشكالية الأساسية في إطار الخطابين التاريخي- الواقعي والأدبي – الإبداعي (الفني).
الخطابان (التاريخي والفني) ليسا وقفا على الجانر الروائي، إنما هما قاعدة ابداعية شرطية لكل إبداع أدبي قصصي أو شعري أو فني آخر.
السؤال هنا: هل التوازن بين الخطابين، التاريخي والفني هو قاعدة مطلقة؟ وكيف نتعامل مع الخطابين؟ وما هي الشروط اللغوية لتطوير جانر روائي يمكن ان يطور هذا الفن في أدبنا داخل إسرائيل؟
من البديهيات ان الخطاب الأدبي (الفني، طبعا بما في ذلك اللغة الروائية)، أو الحدث التاريخي (الأيديولوجي) يشكلان جوهر الإبداع، كشرط عبر استيعاب المبدع لهذه ألمعادلة، ما يبرز في أدبنا الروائي يؤكد عدم فهم العديد من الأدباء العلاقة التفاعلية بين الخطابين، في معظم الحالات نجد ان الإحساس الذاتي للمبدع هو المنهج السائد، أي يفتقد للمعرفة الجوهرية للصياغة القصصية او الروائية أو الشعرية كذلك.
ان التوازن أو التعادل بين الخطابين في صياغة النص الأدبي ليست مطلقة، كما قد يفهم مما ورد في مقالة الناقد بولس.. أو ما سبق وورد في مداخلتي.
في حديث لي مع د. حبيب بولس قبل وفاته وافقني ان العلاقة بين الخطابين هي علاقة نسبية، تتعلق إلى حد بعيد بقدرة المبدع نفسه في فهم نسبية هذه العلاقة، وإدراك متى يعلى خطابا على حساب خطاب آخر، وما هي محدودية كل خطاب. بمعنى آخر أ تبقى عملية الكتابة الروائية أو الإبداعية، مسألة ترتبط بالقدرات الذاتية والتجربة الذاتية والحس الذاتي والرؤية الابداعية للكاتب.
ملاحظات للتفكير أراها هامة جدا، الملاحظة الأولى ان القارئ العربي لا يتفاعل مع النص السردي كما يتفاعل مع النص الشعري. الملاحظة الثانية هل عقلنا متحرر لنعيد تشكيل اللغة وتحريرها من ظاهرة الاستهلاك التي تفتقد للتفاعل؟ الملاحظة الثالثة، كثيرا ما يستعمل نقدنا صفة الحداثة في وصف نصوص أدبية، وأنا أرى ان هذا التوصيف ينبع عن جهل تام بمفهوم الحداثة التي هي بامتياز ظاهرة ثقافية فكرية واجتماعية غربية لم تنشأ بعد القاعدة الفكرية والمادية لتتطور في مجتمعنا، ليس بالأدب فقط إنما بالفكر الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي واللغوي. ان الحداثة هي بالتعريف الأوسع فكر فلسفي معرفي، أي ليست مجرد وسيلة تعبير لغوية او أدبية او صياغية كما يتعامل معها بعض نقاد ادبنا بجهل كامل لمضمون الحداثة. الملاحظة الرابعة ثقافتنا العربية عامة ما زالت بعيدة عن خلق فكر يتفاعل بعمق أكبر مع الثقافة والإبداع الأدبي. الملاحظة الخامسة لا أرى أننا خرجنا من حلقة الذاتية إلى الفضاء الأوسع إلا بحالات منفردة. بل ويمكن القول إننا في حالة تراجع ومن الضروري الدمج بين الذاتي والموضوعي في ثقافتنا.
ما لم يطرح بما يستحقه من اهتمام، هو إنتاج رواية فلسطينية داخل إسرائيل كرواية مضادة للفكر الصهيوني. وهو فكر تطور وارتقي بظل التطور في الدولة الرأسمالية الاوروبية والفلسفة الأوروبية. وأين نحن منذ لك؟
 حتى على مستوى العالم العربي، الذي يتعرض أيضا للذراع الإسرائيلية الطويلة، لم أجد، وآمل إني على خطأ... ان للرواية المضادة المساحة أو الاهتمام الذي يستحقها موضوع الرواية المضادة بمواجهة العدوان الاسرائيلي.
إذن يمكن القول أننا أمام حالة ابستمولوجية سلبية (الأبستمولوجيا هي فرع من علم المعرفة في الفلسفة متخصص بدراسة طبيعة ألمعرفة مداها وحدودها) والحقيقة المرة انه لا إبداع أدبي أو فني أو فكري خارج المعرفة بمفهومها الفلسفي الواسع، وليس بشكلها كحالة من التطور الطبيعي للإنسان.
أي إننا نواجه معضلة فكرية وليس روائية فنية فقط. مشكلتنا في التشتت الفكري، في فكر الانتقائية، في السطحية الفكرية، وفي النهج السائد بإغفال ابداعات لا ينتمي اصحابها للتيار السياسي الأقوى في الوسط الفلسطيني داخل إسرائيل، واعني الحزب الشيوعي واعلامه، حيث تحول الكثير من النقد الى مدائح مضمونها سياسي وليس ادبي فكري لدرجة اني وصفت نقدنا بانه يتشكل من تيارات عدة، التيار السياسي، تيار القرابة العائلية وتيار العلاقات الشخصية. وبالتلخيص هذا النقد هو عملية تهريج!!
اذن النقد كان مجندا لأهداف ذاتية لا تنتمي بجوهرها للفكر الثقافي، رغم ان بعض النصوص لها قيمة ابداعية، ولكنها لم تكن وراء الحرك النقدي. وجرى تجاهل ابداعات هامة عديدة لأن الكتابة عن اصحابها لا تعلي أسهم الناقد.
توجد رواية عربية  فنية راقية، لكننا في مربع الصراع الحضاري، الذي نواجهه بظل التفوق الإسرائيلي الشامل، نفتقد للسلاح الروائي بصفته سلاحا مضادا للرواية الصهيونية.
قرأت في الفترة الأخيرة أعمالا روائية للدكتور أفنان القاسم، وجدت فيها عناصر روائية لم أجدها في روايتنا الفلسطينية بساحة المواجهة الفكرية والروائية. كالعادة النقد ليس حاضرا لتناولها، والنشر ليس جاهزا لنشرها وهو امر يلحق الضرر بالصراع الثقافي بمواجهة الرواية الصهيونية.
صحيح القول ان الخطاب ألتاريخي الأيديولوجي، أي الحدث أو الفكرة، والخطاب ألأدبي الفني، أي القدرات اللغوية والدرامية، هما القاعدة لأي إبداع أدبي روائي، قصصي، شعري أو مسرحي أو فني ولكنه موضوع مركب أكثر إذا تناولناه من زاوية المعرفة، المعرفة تعني القدرة على التوازن النسبي وليس المطلق وتطوير قدرات المبدع في فهم هذه العلاقة ونسبيتها. بكلمات أوضح: أين يجب ان يعطي المبدع مساحة أكبر لأحد الخطابين وما هي حدود هذه المساحة حتى لا تصبح سلبية وقاتلة للجانر الروائي أو غيرة من أشكال الإبداعات الأدبية والفنية… ومدى الإدراك الذاتي للواقع التاريخي، الاجتماعي، السياسي، الأخلاقي والثقافي.
قال الفيلسوف الألماني هيغل: “ان ما هو معقول هو ما يمتلك إمكانية دخول الحياة”- من هنا رؤيتي ان الرواية المعقولة، لا يمكن في واقعنا الفلسطيني ان تكون إلا الرواية المضادة .
ان اللغة في النص تشكل مرتكزا هاما، والموضوع ليس معرفة التعامل مع اللغة فقط، معرفة التعامل مع اللغة (بحالة الكتابة الروائية والقصصية) هامة جدا، والأهم تطوير القدرة على إنتاج لغة مناسبة للجانر الأدبي الروائي أو القصصي أو الشعري.
وهنا نسأل: هل اللغة الروائية مجرد إنشاء سردي؟ وأضيف ان اللغة بدون فكر هي ثرثرة فارغة !!
ان معرفة صياغة الخطاب التاريخي قد يقود إلى كتابة ريبورتاجية صحفية بغياب الخطاب اللغوي الروائي (اللغة  الفنية -الدرامية)، معرفة الخطاب الأدبي (الفني) قد يقود إلى كتابة نص مليء بالفذلكة اللغوية والنحت الصياغي وصولا إلى تركيبة جمالية لا تقول شيئا للقارئ، إلا ان الكاتب يعرف النقش باللغة، إذن ما ينقص الخطابين، هو خطاب ثالث: “الخطاب ألتخيلي” القدرة على مقاربة الواقع بالنص ألروائي وخطاب رابع: “الخطاب ألدرامي” أي القدرة على بناء الأحداث المتخيلة التي تعبر عن الخطاب التاريخي ليس بشكله في الواقع اليومي، وتغذي اللغة النص بأبعاد درامية جمالية وليس مجرد النقش اللغوي الأقرب للرسم بالريشة. اللغة الدرامية بحد ذاتها تشد القارئ تماما كما تشده صياغة ألحدث ولكن دورها ان تعمق الناحية الدرامية للحدث الروائي.
في المراجعات النقدية لنقدنا المحلي، للإبداع الأدبي بالداخل لا تسرد كل الحقائق حول التركيبة الإبداعية، لأسباب مختلفة، أهمها الجهل الذي يميز بعض ممارسي النقد، وإعطاء دفعة وتفاؤلا للناثر أو الناظم لعل التجربة القادمة تكون أكثر اكتمالا. لكن الملاحظ ان التقييم بلا حدود اضحى نهجا لا يحدم الا العلاقات الشخصية للناقد. هذا لا يمكن فصله عن مستويات الإبداع العامة للأدباء.. ومقياسنا لا يمكن ان يكون حسب الإبداعات العربية أو العالمية. حلمنا ان نصل، لكن الحلم يحتاج إلى الكثير من العناية الغائبة من أجندة مؤسساتنا الرسمية والشعبية. وهناك غياب فكري غير قادر على خلق الرد على الرواية الصهيونية.
بعض ممارسي النقد بلا مضمون فكري لدور النقد، يرتكبون جريمة بحق المبدعين حين يوهمونهم برعونة تفتقد لأوليات الفكر النقدي والمعرفي أنهم بلغوا القمة من اول نصوص اصدروها … ولكنه موضوع آخر!!
النظرية والتحليل النقدي النظري جيد لتحليل العمل، تقييمه ونقده، ان عملية الإبداع مركبة ومتداخلة بعناصر إنسانية وعقلية ومعرفية (ابستمولوجية) وتجريبية واجتماعية واقتصادية وتاريخية أكثر اتساعا من مجرد فكرة تصلح لنص روائي أو قصصي أو شعري.
اعتقد ان مشكلة الجانر الروائي ترتبط بتطوير ألمعرفة وتطوير الفهم لجوهر النقد، بعدم جعله ترويجا يخدم كاتبة اكثر مما يخدم صاحب العمل، وهذا ما يسود بكثافة مسيرة نقدنا المحلي.
اني أدعي ان معظم الروايات التي ظهرت في أدبنا العربي داخل إسرائيل، تفتقد أكثريتها لعناصر روائية أساسية، تكاد تكون خطابا تاريخيا مجردا من القدرة على القص والدهشة وجعل اللغة طيعة متدفقة مثيرة ومتفجرة. طبعا لدينا نصوص روائية جيدة لكنها من القلة بحيث لا تشكل تيارا أدبيا روائيا.
الإبداع الحقيقي، نثرا أو شعرا، لا يعني نقل حدث تاريخي أو انطباعي بلغة سليمة. أو بديباجة مليئة بالفذلكة والألعاب الصياغية. الموضوع ليس إنشاء  لغويا بسيطا أو فخما جدا. هناك لغة للقص تختلف بتركيبتها عن لغة المقالة. تختلف بتركيبتها عن لغة الريبورتاج، تختلف بتركيبتها عن لغة الشعر. لغة تفرض نفسها على كل قوانين اللغة وقيودها، ويبدو لي ان نشوء لغة عربية حديثة يخضع في معظمه لتطور الأدب القصصي والشعري الحديث، ويمكن رصد البدايات الثورية لهذه اللغة الحديثة في الأدب العربي الذي طوره أدباء المهجر. اليوم تلعب الصحافة ولغتها ومفرداتها دورا هاما في تطوير لغة عربية سهلة ممتعة سريعة الاندماج مع المناخ الثقافي وفرضها على اللسان العربي، وانا اسميها لغة الصحافة!!
يجب ان لا ننسى ان الرواية هي وليدة عصر تحرير إرادة الإنسان. الإنسان ولد ليكون حرا، هذا ما أثبتته حركتنا الشعرية الفلسطينية داخل إسرائيل التي ولدت في ظروف تسلط قمعي وإرهابي وحصار ثقافي.
رغم الانفتاح الواسع على الثقافة العربية والعالمية وما أنجزته من أعمال روائية راقية جدا إلا ان روايتنا لم تحدث تلك العاصفة التي أحدثها شعرنا.
بالطبع أرى أهمية ما طرحه الناقد الدكتور حبيب بولس…حيث كتب: ”في مجتمع كمجتمعنا وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائما تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض ألسياسي الاجتماعي في فلسطين إبان النكبة، قبلها، في خضمها، بعدها ومحليا أيضا، وهذا أمر من الممكن أن يشكّل منزلقا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة . فعلى ألكاتب – أي كاتب – أن يحذر التاريخ، وأن يعرف كيف يقيم توازنا بينه وبين الإبداع، إذا أراد فعلا كتابة رواية فنية. وكم كان محقا ذلك الكاتب المفكر ألمغربي عبد الكبير ألخطايي حين قال: “التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب".
الناقد بولس استمر في تحليل “الواقع الموضوعي، إذا صح هذا التعبير … الحائل بتحول الإبداع الروائي إلى جانر مركزي في ثقافتنا. انا ككاتب قصصي وروائي أيضا، ( أصدرت ثلاث روايات ومسرحية عدا المجموعات القصصية القصيرة والنقد الأدبي) أواجه مشاكل مستعصية لا تبقي في نفسي الرغبة لتجربة روائية جديدة، بل فقط للكتابة الثقافية العامة، كتابة المقال الفكري والسياسي والمراجعات الثقافية ( النقد كما تسمى مجازا ) وكتابة القصة القصيرة، أي لا أجهد نفسي لأكتب رواية رغم توارد عشرات الأفكار الروائية الجيدة . دور النشر غائبة أو تستغل الكاتب لتحلبه. لا مؤسسات ترعى المبدعين. هناك تسيب ثقافي، الكثير من النصوص إنشائي يفتقد للغة الإبداع الأدبي، وبعض نقادنا سيجعلوا من كل نص إبداعا لا مثيل له في الأدب رغم ان الكثير منه لا يستحق القراءة.
القراءة تكاد تتحول الى كماليات، مؤسساتنا غائبة عن الفعل الثقافي. ثقافتنا (الشعرية بالأساس) بنيت بظروف عصيبة من التحدي البطولي، ومن معارك الحفاظ على لغتنا وثقافتنا وانتمائنا القومي، ضد سياسة القمع والحكم العسكري البغيض.
الرواية كانت تاريخيا، معيارا لتطور المجتمعات الرأسمالية، وكما كتب المفكر الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد في كتابه الهام والمثير”الثقافة والامبريالية” بأن التطور المبكر للروايتين الفرنسية والانكليزية يتعلق بكون فرنسا وانكلترا شكلتا الدولتين الاستعمارين الأساسيتين، وأن تطور الرواية الأمريكية تأخرت حتى بداية القرن العشرين مع بدء انطلاق الامبريالية الأمريكية إلى السيطرة على العالم .
يُفهم من طرح الدكتور ادوارد سعيد أيضا، ان الرواية شكلت أداة إعلامية لظاهرة الاستعمار لتبريره أخلاقيا (رواية ” روبنسون كروسو” مثلا، حيث يصل الأبيض إلى جزيرة مجهولة ويجد شخصا أسود ويبدأ بتثقيفه وإعادة تربيته وجعله أنسانا راقيا – أي نقل له الحضارة باستعماره لأرضه وتحويله إلى خادم له، وهي تشبه الواقع الفلسطيني مع مغتصبي وطننا) لكن الرواية، هذا الفن الراقي والرائع، الذي أنتجه الاستعمار المتوحش والجشع، خلق الرواية المضادة، أو ألأدب المقاوم بمفهوم آخر، وهذا ما نفتقده لأسباب تحتاج إلى بحث واسع، أشرت إليه تلميحا فقط.
المفكر الماركسي التنويري الكبير لوكاتش، يقول بأن الرواية (الأدب القصصي) ليست إلا ملحمة البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة ألأوروبية وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي جعلت منها الطبقة السائدة في المجتمعات ألأوروبية، يمكن ان نستخلص هنا ان التطور الاجتماعي وتطور الطبقة البرجوازية، بكل ما يشكله ويشمله هذا التطور من مضامين هو من ضروريات انطلاقة الرواية وهي حالة لم تقف أمام تطور الشعر مثلا .. وتاريخيا لم يكن الشعر بحاجة لها.
إذن ظهور الرواية الفلسطينية داخل إسرائيل بدأ عمليا مع تطور المجتمع العربي وبدأ اندماجه بالمجتمع الصناعي عملا وفكرا … لذلك نجد ان الرواية المضادة للرواية الصهيونية كان لها السبق (نسبيا رواية “المتشائل” لإميل حبيبي مثلا)، لكن الرواية بمفهومها الاجتماعي، الفكري والسياسي الشامل، ما زالت تتعثر أمام الرواية الصهيونية الاحتلالية العنصرية، وبالتالي لم ننجح بعد بإنتاج رواية مضادة، والقصد رواية فلسطينية داخل إسرائيل بمواجهة الرواية الصهيونية !!
***********
ملاحظة: الفت انتباه القارئ لروايتي "حازم يعود هذا المساء" وهي رد على الرواية الصهيونية.
رابط الرواية: http://www.syrianstory.com/amis-3-26.htmvhf
nabilodeh@gmail.com

3
الماركسية ين تيارين: الجمود العقائدي السوفييتي ورفض التعددية الفكرية للماركسية الغربية
مراجعاتي للفكر الماركسي ليست نفيا لعظمة ماركس، بل مراجعات نقدية لفهم أسباب انهيار تجربة إنسانية عظيمة.

بقلم: نبيل عودة
يمكن الإشارة الى تيارين أساسيين في الفكر الماركسي في مسيرته التاريخية والفكرية، شكلا الوزن النوعي للفكر الماركسي على المستوى العالمي. وهما الأول: التيار السوفييتي والثاني: التيار الماركسي الغربي. طبعا لا أرى ماركسية إطلاقا بالتيار الصيني الماوي، الذي طرحه أنصار ماو تسي تونغ كفكر مكمل للماركسية اللينينية بإضافتهم الماوية (الماركسية اللينينية الماوية ، على نسق إضافة الستالينية في فترة عبادة ستالين في الفكر الشيوعي السوفييتي) ولكنه تيار ولد في رحم الأوهام الماوية، عبر فكرة الدولة العظمى والشوفينية الصينية التي نمتها الماوية من منطلق الشعب الأكثر تعددية في العالم، ونظريات محلية بعضها تكرير مشوه لنظريات تروتسكية، وبعضها فكر مغامر (الاستعمار نمر من كرتون) وبعضها فكر ثقافي بوهم إعادة تشكيل المجتمع برأي ثقافي وفكري واحد، كل من يحيد عنه يستحق إعادة التربية في معسكرات هي إهانة للعقل ابشري.
 لا أرى علاقة تربط الماوية بفلسفة ماركس، نتيجته الماوية كانت الثورة الثقافية في الصين (الأصح ثورة تدمير الثقافة واختصارها عبلا عبادة شخصية ماو تسي تونغ وافكاره، والتي شهدت دمارا ثقافيا وحضاريا، رسخ في الذاكرة منه مهرجانات حرق كتب لا تتمشى مع الفكر الماوي، واضطهاد المفكرين وأصحاب الرأي والاعتداء على المواطنين بحجج واهية مضحكة تتهمهم بعدم الامتثال للفكر الماوي. وتثقيف مشوه للجماهير لم يسفر عنه إلا تحول الصين عن الشيوعية إلى دولة شبه رأسمالية في اقتصادها (اقتصاد السوق) تحت ستار شيوعي مهلهل ومتفكك بانقطاع كامل عن الفكر الماركسي. ولا بد من إشارة إلى أن ستالين أيضا مارس “ثورة ثقافية” تعرف باسم وزير الثقافة في وقته “جدانوف” بالتضييق على الفكر الإبداعي بفرض شروط متزمتة على الأدب وممارسة الإرهاب الفكري ضد الأدباء والمفكرين لتقييدهم بسجن فكري ثقافي، للأسف استمرت هذه الظاهرة بشكل أقل فظاظة، بعد ستالين أيضا.
يمكن القول بدون تردد ان الماركسية كان شعارا لم يطبق، لا في النظام السوفييتي ودول المجموعة الاشتراكية، ولا في النظام الصيني.
وهنا لا بد من ملاحظة أني في طرحي للماركسية لا اربطها بالفكر اللينيني، الذي أرى به فكرا ثوريا روسيا بالأساس، ولست في باب مراجعة العلاقة بين الفكر الماركسي والفكر اللينيني والتماثل والتعارض بينهما في قضايا جوهرية.
إذن يمكن التلخيص أن الماركسية عرفت بتيارين مركزيين. وبالتالي الكثيرين من دارسي الماركسية في فترة الاتحاد السوفييتي الذهبية، وجدوا أنفسهم في مواجهة صدامية بين جبهتين نظريتين. ويمكن الإشارة ان ما يعرف ب “الشيوعية الأوروبية” (الشيوعية الحرة) كان نتاج ذلك الصراع.
الجبهة الأولى: الفهم الستاليني (السوفييتي) رغم غياب ستالين ونقده، ظلت الستالينية نهجا تنظيميا للحزب والدولة وتميز بقمع حرية التفكير ونفي حق التعددية، والرقابة على الأدب (عندما فاز الكاتب الروسي باسترناك بجائزة نوبل عن روايته “دكتور زيفاغو” منعه خروتشوف من قبولها، وواجه باسترناك حملة تشهير بسبب روايته) وسجن المعارضين، ومنهم أدباء ومفكرين وعلماء ، بل واستمرار نهج اقتصادي ستاليني لم يتغير إلا بشكل طفيف، وكل مجهودات رئيس الحكومة السوفييتي الكسي كوسيجين لإقرار إصلاح اقتصادي عميق في الزراعة والصناعة، ووجه بالرفض من المكتب السياسي “خوفا” من اتهام الاتحاد السوفييتي بالتخلي عن الاشتراكية.
هنا نرى انطلاقة فكر السيادة المطلقة للدولة العظمى البيروقراطية للاشتراكية السوفييتية، حيث شكل الحزب جهازا من أجهزة الدولة بدل أن تكون الدولة أداة لتنفيذ الفكر الحزبي الماركسي بكل جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والدولية. أي أن دور الحزب تقلص إلى دور ثانوي ملحق بجهاز السلطة الاستبدادي (ربما يصح تسميته جهاز أمني هائل تحكم بكل الوظائف تقريبا، وبكل وسائل الإعلام والفنون والثقافة والإدارة والرقابة) .
من هنا يمكن القول بلا تردد، أن النظرية الماركسية جمدت وشوهت، واعتبر كل نشاط إبداعي في إطار الماركسية، انحرافا وخيانة للماركسية السوفييتية. وحتى مؤتمرات الأحزاب الشيوعية لتطوير النظرية والتطبيق لم تخرج في النهاية عن الحدود التي يسمح بها جهاز الدولة البيروقراطية السوفييتية.
الجبهة الثانية: هي جبهة مفكرين ماركسيين رفضوا فكر السيادة المطلقة للدولة السوفييتية، وانطلقوا بنضال عنيد من أجل “ماركسية صحيحة” ثورية إنسانية جوهرية، ضد كل التشويهات التي شهدتها الماركسية في الشرق والغرب. وبرز خلال سنوات العديد من المفكرين الماركسيين، أمثال جيورغ لوكاتش (هنغاري) وكارل كورش (ألماني) وانطونيو غرامشي (ايطالي) وارنست بلوخ (ألماني) وروجي غاروديه (فرنسي) وغيرهم.
هذا التيار قدم للفكر الماركسي إبداعات هامة كان يمكن ان تعمق حيوية الماركسية وتطور العديد من مقولاتها، وثري ما تختزنه من قدرات فكرية وثقافية، وعرف هذا التيار باسم “المدرسة الماركسية الغربية” ، ربما بسبب رفضها الخضوع للمدرسة الفكرية للماركسية السوفييتية، رغم أن بعض مفكريها جاءوا من داخل الكتلة السوفييتية مثل الهنغاري لوكاتش الذي انضم للحزب الشيوعي الهنغاري عام 1918 . بعد إقامة النظام الاشتراكي أصبح عضوا في البرلمان، وكان عالما ومفكرا، وقد انتقده الحزب الشيوعي الهنغاري بشدة، بسبب شكوكه بموضوع “الواقعية الاشتراكية” في الأدب (ليون تروتسكي أيضا طرح في كتابة ” الأدب والثورة” نقدا لموضوع خلق أدب بروليتاري طبقي عرف بصيغة “الواقعية الاشتراكية” واليوم يثبت أن موقف تروتسكي كان الموقف الماركسي الصحيح وصاحب الرؤية السليمة من الموضوع بتأكيده استحالة خلق تيار أدبي طبقي جديد بقرار فوقي وعدم ضرورته أصلا في مجتمع اشتراكي جاء لإلغاء الطبقية) وعوقب لوكاتش بإبعاده تماما من الحياة السياسية ونفي إلى رومانيا، وصدر كتاب ينتقد فكره الإصلاحي ويرفض تنظيراته، ثم عاد إلى هنغاريا ، بعد أن صفحت عنه الحكومة، وعاد إلى عضوية الحزب الشيوعي حتى توفي عام 1971. وتعتبر تنظيراته من أبرز التنظيرات في الفكر الغربي للماركسية، رغم انه منظر من داخل المعسكر الاشتراكي.
التعددية ضرورة تاريخية لتطور الماركسية
من أبرز الطروحات المميزة لهذا الاتجاه الفهم ان التعددية هي ضرورة تاريخية لن تتطور الماركسية ولن تصمد بدونها. وأكد ممثلو هذا التيار انه من الأهمية أن تُقر التعددية كمسالة أساسية وأولى متفق عليها بدون تردد، وذلك في إطار الاشتراكية النظرية والاشتراكية التطبيقية (أي في نهج البناء الاجتماعي والقانوني للمجتمع الاشتراكي) سواء بسواء.
للأسف لم تحظى التعددية بأي نصيب، وعومل كل دعاتها كأعداء، ومن طالته يد الكومنترن أو السلطة السوفيتية أعدم أو نفي أو القي به في السجون السيبيرية الرهيبة، وبأحسن الحالات أنهى حياته في الصمت والعزل.
من المواضيع التي طرحها تيار ”الماركسية الصحيحة” أو “التيار الماركسي الغربي” كما يعرف في الدراسات الأكاديمية، كان مفهوم “الثورة”.
إن الفهم لموضوع “الثورة” لدى النهج السوفيتي، ويشاركهم في هذا الفهم التيار الإصلاحي للاشتراكية الديمقراطية، هو أن الثورة هي مفهوم ينبع من التفسير الصحيح للفكر الماركسي. ولكن الفهم الماركسي “الصحيح” يمتد باتساع بدءا من الفهم الذي يقول أن الثورة هي عمل بروليتاري ثوري عبر إقامة وحدة بين الطبقة العاملة (البروليتاريا) مع طبقات أخرى، حتى مفهوم الثورة كحرب ضد أعداء العصرنة، وأعداء الثقافة الحديثة العصرية والإنسانية. والفهم هنا يمكن تلخيصه انه لا يوجد انتقال فوري من الهمجية إلى المدنية، تماما كما لا يمكن الانتقال من الحرب بالمقلاع إلى الحرب بالقنابل النووية بشكل فوري. إنما عبر تطور يمر بمراحل متعددة.
مراجعة أدبيات الفكر الماركسي الغربي، نجد مفاهيم أو تفسيرات مختلفة، تمتد من النضال الثوري البروليتاري في طرحه الماركسي التقليدي، إلى فهم أهمية التحالف بين الطبقة العاملة وطبقات أخرى كما يطرح ذلك المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، حتى مفاهيم الثورة التي تعني تصدير ثقافي عميق للإنسان المعاصر بروح إنسانية، أي بدون عنف، كما طرح ذلك المفكر الماركسي الفرنسي روجيه غاروديه.
من الواضح أيضا أن مفهوم الثورة الماركسي الرسمي المرتبط بنظرية ماركس التاريخية، الحتمية التاريخية، أي حتمية التحول إلى الاشتراكية والشيوعية، نرى أن التطور الحاصل أسقط هذه النظرية، التي لم تصمد في امتحان التاريخ، رغم أن جوانب هامة منها تعتبر فتحا فكريا فلسفيا لفهم تطور التاريخ. مثلا موضوع الثورة التي تعني استبدال تشكيلة اقتصادية اجتماعية (رأسمالية مثلا) بتشكيلة أخرى (اشتراكية مثلا)، أرقى وأفضل وأكثر عدالة، حسب المفهوم الثوري الماركسي، تحطم القديم الاستغلالي، وتبني الجديد العادل الديمقراطي وتحدث قفزة للمجتمع والإنسان .. النظرية بخير والتطبيق سقط بالأخطاء والانحرافات والفساد، والنظرية كانت في واد والتطبيق في واد آخر !!
بالطبع نظرية الثورة تتحدث أيضا عن تحرير العلاقات الإنتاجية من قيود تمنع تطور القوى المنتجة (البروليتاريا في النظام الرأسمالي – غني عن القول أن مفهوم البروليتاريا ظل مفهوما أوروبيا، ويمكن استعمال صيغة طبقة العمال أو الشغيلة للدقة، رغم ان التطور تجاوز كل التعريفات السابقة للتيارات الماركسية، خاصة ان مفعوم الطبقة العاملة تجاوز ما كان سائدا حتى اواسط القرن العشرين. خاصة في الدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا.
التطور التاريخي والاقتصادي نفى نظرية ماركس عن الثورة والتغيير. الثورات لم تقد إلى التغيير المنشود. إلا إذا اعتبرنا فقدان الحرية، والإفقار والخضوع لشبه حكم استعماري ابتزازي (حالة مجموعة الدول الاشتراكية تحت السيطرة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية) هو تغيير ماركسي!!
وهنا لا بد من توضيح، بأن النظام السوفييتي ابتز مليارات الدولارات من دول المجموعة الاشتراكية رغم أوضاعها الاقتصادية الصعبة بعد الحرب. وقد عانت الشعوب في هذه الدول من فاقة وفقر وبطء في التطور والرفاه الاجتماعي بالمقارنة مع الغرب استمر الفقر والعوز والقمع حتى سقوط الأنظمة (مثلا المانيا الشرقية والمانيا الغربية كنموذج).
وشهد المعسكر الشرقي تبعا لذلك، ثورات في المجر وتشيكوسلوفاكيا، وابتعاد يوغوسلافيا عن المعسكر السوفييتي. ونظام روماني استبدادي ابتعد تدريجيا عن الاتحاد السوفييتي، ثم حركة نقابية ثورية في بولونيا، وعمليا بدأ انهيار المعسكر الاشتراكي.
قد نجد تفسيرات وتبريرات حول الأسلوب السوفيتي في التطبيق… لا خلاف في ذلك، ولكننا أمام ظاهرة أفلاطونية حيث تحول الحزب نفسه إلى طبقة مسيطرة، سيرا على طريق “جمهورية أفلاطون”، حيث الحكماء والفلاسفة (اقرأ زعامة الحزب الشيوعي والدولة) يشكلون طبقة الحكام، وقوى الأمن هم طبقة حراس النظام، والطبقة الأخيرة هم الصناع (العبيد). للأسف هذه هي الصورة التي سادت النظام الاشتراكي. صورة نقيضة لرؤية ماركس الفلسفية والنظرية عن المجتمع الاشتراكي العادل، بدلا منه مجتمع استبدادي.
النتائج في الصراع الاجتماعي والاقتصادي لم تكن لصالح النظام الاشتراكي. ما السبب؟ ماذا يهم الآن؟ النظام الرأسمالي تجاوز النظام الاشتراكي بحقوق الإنسان، بالديمقراطية، بالتطور الاجتماعي والاقتصادي، بمستوى الرفاه الاجتماعي بمستوى الخدمات، بالحقوق المدنية، بالتعددية الفكرية وبمختلف أشكال الضمانات الاجتماعية.
لا اكتب دفاعا عن النظام الرأسمالي وشروره. ولكن المقارنة للأسف ليست لصالح النظام الاشتراكي. وهذا أضحى واضحا اليوم.
أكتب ألما لضياع تجربة إنسانية عظيمة نتيجة انحرافات وتجاوزات لفكر عظيم في النظرية والتطبيق، ولا اعتقد أن الصواب والخطأ في النظرية هو السبب، إنما غياب التعددية الفكرية وحرية التفكير والنقد مما جرد الفكر الماركسي من عناصر قوته التجديدية، وحول الدولة والحزب إلى جهاز مغلق لمجموعة منتفعين، أفسدوا جهاز الدولة والحزب والمجتمع نفسه!!
إذن، هل بالصدفة سقوط الاتحاد السوفيتي، لدرجة أن جيشه ” الجيش الأحمر العقائدي” الخاضع للقيادات الحزبية العليا، لم يحرك ساكنا للدفاع عن دولته ونظامه وحزبه؟!
nabiloudeh@gmail.com

4


كتاب "عيلبون – التاريخ المنسي والمفقود"
من تأليف عيسى زهير حايك
بقلم: نبيل عودة
يستعرض عيسى حايك في كتاب من الحجم الصغير تاريخ احدى قرانا الفلسطينية، قرية عيلبون، معتمدا على نصوص (مخطوطات) صاغها المرحوم جمال حنا عيد وهو من مواليد عام 1911 
يطرح الكاتب حسب المخطوطات تفاصيل عن تاريخ نشوء القرية التي تعرف اليوم باسم عيلبون.
جاء في الكتاب:عرفت عيلبون في زمن الكنعانيين باسم "ايلانو" وكانت قرية يسكنها رغاة الأغنام والمواشي وان مسكنهم كانت الكهوف المجاورة، التي لجأوا اليها في زمن خراب هيكل سليمان الثاني عام 70 ميلادية وكان احد علماء الهيكل ماتيا بن حراش احد أولئك اللاجئين الذين لجأوا الى عيلبون. اذ قام بتأسيس مدرسة وبناء كنيس بعض البيوت وسما عيلبون ب "عيلبو" او " ايلبو"، وعند هجوم الرومان على المستوطنات اليهودية اختبأ ماتيا بالكهوف المحيطة بالقرية ومات فيها .
ويشير الكاتب ان عيلبون الحديثة لا يزيد عمرها عن 300 سنة، اذ سكنها احد ولاة السلطنة العثمانية وهو درزي من جبل الدروز في سوريا، وان معظم سكان القرية كانوا من الهاربين لأسباب مختلفة من القرى والمناطق المجاورة، ومن لبنان وسوريا أيضا.
ويكشف الكتاب ان اول عائلة قدمت الى عيلبون كانت عائلة الدروبي وثم عائلة حداد وعائلة أبو درويش(عازر) وعائلة القدسي وعائلة الخروف وعائلة الأشقر، ومع الزمن جاءت عائلات أخرى. فأصبحت عيلبون قرية صغيرة تسكنها بضعة عائلات.
هذا التمهيد هو العرض الأساسي لتطور قرية عيلبون، ثم يطرح الكاتب واقع القرية من حيث الأراضي التي كانت قليلة بسبب انتشار الأحراش، ويشرح كيف كانوا يسرقون اشجار الزيتون لزراعتها في أراضيهم.
يذكر الكتاب ان الأب بولص الأشقر كان اول زعيم روحي في عيلبون وانه مؤسس عيلبون الحديثة وواضع حجر الاساس للقرية.
يشير الكاتب الى ان رجال الدين كانوا عادة هم الزعماء لسبب وجيه انهم الأكثر علما وثقافة ومعفيين في ذلك الزمن لتي سادت فيه تركيا على بلادنا من التجند للقتال في الجيش العثماني في حرب السفر برلك/ أي الحرب العالمية الأولى.
يشمل الكتاب أيضا سجل ذكريات للخوري يوحنا ابن داوود المعلم وهو أصلا من ديرحنا. وخلفه ككاهن ابنه مرقص المعلم المعروف بشجاعته والذي لعب دورا هاما في فترة النكبة واحتلال إسرائيل للقرية، فقابل الجيش والصليب الأحمر وراسل كل الدوائر المختصة لإعادة اهل عيلبون الين غادروا القرية هربا من القتل من جرائم القتل. واستطاع اهل القرية العودة لقريتهم. ويقدم الكاتب وثائق صيغت بتلك الفترة وكانت موجهة لمدير الشرطة في طبريا، لوقف التنكيل وإعادة الأهالي الهاربين.  كذلك كتب لوزير الداخلية الإسرائيلي شارحا الجرائم التي ارتكبت بدون سبب وجيه وسقط نتيجتها 12 شابا من اهل عيلبون.  وارتكاب جرائم أخرى وسرقة أموال وحلي النساء واعتقال العشرات وارسالهم الى المعتقل، ثم قذفهم على جدود لبنان وكانوا قد قضوا أياما بلا طعام ومعهم أطفالهم.
يستعرض أيضا استباحة جيش إسرائيل لبيوت الفرية ونهب كل ما هو خفيف الوزن ومصادرة الحبوب بانواعها واثاث البيوت حتى لم يبق شيئا للطعام او للغطاء او للكسوة وغالي الثمن الى جانب اخذ الحيوانات بكل اصنافها، وأكثر من ذلك احضروا من يقطف ثمار الزيتون وتحميلها.
وبقدم الكاتب وثيقة بأسماء الرجال المعتقلين من قرية عيلبون.
يقدم الكاتب مسحا لواقع القرية، بيوتها وعدد الأفراد في كل منزل، والحياة اليومية والغذاء والمعيشة وتربية الحيوانات والدواجن وأنواع المزروعات/ كذلك يستعرض اشكال التمريض والعلاج البدائية في ذلك الزمن وطريقة الولادة وتربية الأطفال، وغير ذلك من العادات والتقاليد. ويروي أسلوب الزواج والأعراس والأعياد، وعادات الموت والدفن، والمدارس والتعليم وغير ذلك من التقاليد.
الكتاب سجل مثير لتاريخ قرية لها مكانتها في الواقع العربي الإسرائيلي اليوم، فهو يسجل الذاكرة الجماعية لأهل قرية من قرانا بكل التفاصيل، وليت هذه الذاكرة الجماعية تسجل أيضا من نشطاء آخرين في قرانا المختلفة لما لها من أهمية.
nabiloudeh@gmai.com

5
ملاحظات حول تهافت الكتابة للطفل

افلاس أدبي وركض وراء الربح السريع

نبيل عودة

هل التهافت الذي تشهده ثقافتنا العربية داخل اسرائيل ـ في الكتابة للأطفال، هو تهافت طبيعي، يشير الى تطور متطلبات عقلية يلمسها كتاب الأطفال الأفاضل؟

الموضوع طرحه الزميل الناقد الدكتور حبيب بولس في مقال حمل عنوان التهافت للكتابة للأطفال وصف الحالة بالمباركة، وهي حقا حركة مباركة لو انطلقت من مفاهيم ثقافية سليمة، وهذا ما تنبه اليه الناقد بولس، في تساؤله الجوهري: هل ما كتب لغاية الآن عندنا من أدب للأطفال وهو لا بأس به عدديا، يرتفع إلى مستوى الكتابة الصحيحة الناضجة، ويستجيب لمتطلبات هذا الجانر (الجنس الأدبي) المهم؟!

الدكتور حبيب بولس كان لطيفا جدا في نقده للجانب السلبي العشوائي في الكتابة للأطفال، لم يبق الحصوة ... وهذا ما حفزني لطرح رؤيتي، التي لا تتناقض مع رؤية الناقد بولس، ولكني غير متعود على الاحتفاظ بالحصوة تحت لساني، وهذا ربما الفرق بيني وبين لطافة حبيب بولس. وهذا نقدي للدكتور حبيب ولكل نقاد أدبنا العربي في اسرائيل، على عدم بقهم للحصوة والمجاهرة بالموقف الذي يقول للأعور انه أعور وليس نصف مفتح، حسب تعبير استاذنا كلنا مارون عبود.

صحيح أنى لست خبيرا، ولكني قارئ ومجتهد في ملاحقة المواضيع، وفهم ما يجري على ساحتنا الأدبية، وعدم الانبهار بالصياغات اللغوية والديباجة في النص، واستعمال الاصطلاحات الأدبية عشوائيا في النقد.

كم يضحكني هذا التعبير عندما نلصقه بما يكتبه بعض المتحذلقين الواهمين في ثقافتنا المحلية، والعاجزين عن فهم المقروء، خاصة عندما يظهرون اعلاميا وراء القاب أكاديمية، جاعلين من أتفه النصوص الأدبية ابداعات لا سابق لها في اللغة العربية.

ونعود للتهافت على الكتابة للأطفال، وليكن الله بعونكم يا أطفالنا الأحباء...

السؤال المطروح: هل كتاب أدب الأطفال على وعي لمتطلبات الطفل في عصرنا، وشكل نقل المعرفة للطفل ابن المئوية الثالثة؟

وسؤال آخر: ما دافع الأديب في أي ثقافة كانت، وخاصة الثقافة الفلسطينية داخل اسرائيل، للكتابة الى الطفل؟

قلت اني لست ممن يخفون رايهم، ولا أطيق الحصوة تحت لساني. ولكني في اتجاه كتابة مسؤولة ولا اريد لبعض ضعاف النفوس ان يحولوها الى "هيزعة" ثقافية لإخفاء قصورهم، وراء كلماتي غير المهادنة.

موضوع الطفل، وأدب الأطفال بالغ الأهمية. للأسف نفتقد الى مبدعين يعيشون هذا الحلم الثقافي. يوجد كتاب للأطفال. هذا لا يعني ان الكتابة للأطفال بخير، وتقوم بمهمتها العقلية والتربوية.

نلاحظ ان ادباء، بعد ان طيرت عشوشهم فراخها، فاذا بهم كتابا للأطفال؟

بالطبع نحن مجتمع ليبرالي حر. لا قيود على الكتابة واختيار الجيل الذي نكتب له. ولكني غير مقتنع ان الكاتب الذي طيرت عشوشة وهو يكتب للكبار، صار فجأة كاتبا للأطفال.

لو كان في نصوصه ابداع مميز، لقلنا انه لا يوجد قانون يقول ان المبدع في مجال أدبي معين، هو مقيم اجباريا في ابداعه حتى الممات. اليوم انا كاتب قصصي، وغدا قد أصير شاعرا، وبعد غد أجد ان المسرح أقرب لي، وما بعد بعد حيفا. أجد ان الكتابة للأطفال كانت في دمي منذ أمسكت القلم، والآن حان الوقت للعودة الى جذوري. أو أصير ناقدا أدبيا لأني فاشل في الابداع الأدبي، فما أبسط النقد في أدبنا وما أسهله وما أكذبه، والكذب دائما أسهل من الحقيقة، وأسهل للشهرة وللبروز !!

 وأعتذر للنقاد الجادين، وأتمنى ان أستفزهم ليدلوا برأيهم .

 الصمت بات كثير الضجيج !!

أقول بوضوح، ما عدا قصص قليلة ولأسم أو أسمين من كتاب الأطفال، لم أجد الا كتابات تتراوح بين الاجادة المتوسطة والثرثرة المؤسفة والمضرة.

اذن هناك دافع لهذا التهافت للكتابة للأطفال، وهو حسب رؤيتي وقناعتي، دوافع لا علاقة لها بأدب الأطفال وبعالم الأطفال وبحبنا للأطفال، كلنا نحب الأطفال ولكن هذا لم يحولنا الى رواة جيدين للأطفال.

اذن ماذا يختفي وراء الأكمة؟

أقول بصراحة أنى لم أجد الا تبريرات قليلة.

أولا: افلاس الكاتب، وعجزه عن الابداع الأدبي، فيلجأ الى الكتابة السهلة حسب ظنه للأطفال، ليبقى في الساحة الأدبية.

ثانيا: تسويق كتب الأطفال متيسر أكثر وطباعتها أقل نفقة على الكاتب لصغرها وسرعة توزيعها على المؤسسات.

ثالثا: غياب النقد المسؤول الذي يعالج النصوص ويفرز بين الجاد والضروري من جهة، وبين التافه والفارغ (وربما المضر أيضا) من الجهة الأخرى.

وبالطبع هناك اسباب أخرى أقل أهمية ولكنها ليست أقل ضررا على تشكيل وعي الطفل وتطوير عقله.

الدكتور الناقد حبيب بولس يشير الى العديد من الامور كي تكون الكتابة للأطفال ناضجة نافعة في ان معا: اول هذه الامور معرفته الصحيحة لهذا الجانر (الجنس الأدبي)، والوقوف على مفهومه ومحتوياته. اذ انه كما يعلم الجميع هو علم قائم بذاته يشمل جوانب كثيرة منها النفسية والتربوية والاجتماعية والفنية .... وخبرة لغوية في شكل فني يبدعه الفنان خاصة للأطفال فيما بين الثانية والثانية عشرة، بحيث يعيشونه ويتفاعلون معه، فيمنحهم المتعة والتسلية ويدخل على قلوبهم البهجة والمرح، وينمي فيهم الاحساس بالجمال وتذوقه ويقوي تقديرهم للخير ومحبته، ويطلق العنان لخيالاتهم وطاقاتهم الابداعية، ويبني فيهم الانسان.

فهل حقا هذا ما يميز الكتابات للأطفال في أدبنا، أم نحن على نقيض نسبي كبير جدا؟

وأجد نفسي مضطرا لإضافة أخرى.

هل من آفاق، أو من رؤية ثقافية تربوية تعليمية، لمعظم المتهافتين على ابداع (انتاج) أدبي بكل أشكاله واتجاهاته، أو فني. للأطفال بكل الوانه وقدراته التعبيرية، وهل يستوعبون قيمة المعطى الحضاري الآني للكتابة الأدبية عامة وللأطفال خاصة؟

ولا بد من أسئلة قد يراها البعض قاسية (أو استفزازية)، رغم انها جوهرية ومنطقية وفي جذور موضوعنا.

هل ما يكتب للأطفال يرتقي للمستوى المطلوب، لغويا وفكريا لتنمية ملكات الطفل ومواهبه وقدراته العقلية؟ وهل يجاري أدب الأطفال المنتج في ثقافتنا متطلبات العصر الذي يعيشه أطفالنا، ومميزاته التقنية والعلمية، لتطوير الوعي لدى أطفالنا. أم العكس هو الصحيح فما نشهده، بمعظمه، تهافت وسباق تجاري تحت صياغات أدبية للأطفال لا شيء يربطها بجوهر الأدب أو الفن...؟ والى أين نسير بأدب الأطفال؟ أو الى أين ندفع أطفالنا؟

شكرا للدكتور الناقد حبيب بولس على طرحه الهام، وكنت أتمنى لو غرز يده بالآفة أعمق. فهو مؤهل كمحاضر جامعي وواسع الاطلاع على أدب الأطفال بحكم عمله أيضا. ولكنه اختار السير على الحافة حتى لا يصطدم مع بعض المبدعين.

ان حديثنا عن أدب الأطفال في ثقافتنا العربية داخل اسرائيل هو حديث أقرب للأمنيات. ومرة أخرى أقول أنى لم أجد الا اسمين فقط يكتبون بمستوى لائق وبموهبه وفهم لعالم الطفل. ان معظم ما كتب، الى جانب فقدانه لجوهر الابداع، هي كتابة تتوجه للطفل، وتدور حول الطفل، ومستوى اللغة لم يتطور منذ نصف قرن تقريبا وما زلنا نعامل الطفل كشخص عاجز لا شخصية له، ونبسط له الأسماء بشكل سمج لا يخدم تنمية عقل الطفل وشخصيته وثروته اللغوية. بصراحة يفتقد الكاتب لمعايشة تجربة الأطفال وفهم عالمهم واسلوب تفكيرهم وردود فعلهم، تماما كما يجري في الكتابة للكبار.

الكتابة يجب ان تكون ليس من خارج عالم الطفل، بل من داخل عالم الطفل، ألا نكتب للطفل من عالم الكبار، بل ان نخترق عالمهم ونعيش تجربته ونكتب من داخل هذا العالم.

هل حاول كاتب للأطفال ان يفهم بشكل علمي نفسية وسيكولوجية عالم الأطفال مرة؟

ما يجري قد يقترب من الجناية. يجب وقف هذا التهافت. لا اراه مباركا. بل ركضا وراء الربح المادي.

والويل لأطفالنا من هذا التهافت !!

الويل لمستقبلنا اذا لم ننشئ جيلا واعيا منفتح العقل مدركا لحقيقة عصره !!

nabiloudej@gmail.com

6
المنبر الحر / التشابه الجزئي
« في: 21:28 08/10/2020  »
التشابه الجزئي 


قصة فلسفية: نبيل عودة

 

(“التشابه الجزئي” هو التفسير العربي لكلمة (Analogy – انالوجيا)

*******

دفع الفشل السياسي زعيما حزبيا إلى الانتحار. بعد دفنه أعاد له جبرائيل نبض القلب والروح، ففتح عينيه متسائلا عما حدث. شرح له جبرائيل انه انتحر وبما انه إنسان مستقيم قرر جبرائيل ان ينصفه حسب تقليد سماوي باختيار شخص كل 100 سنة يخير بين الجنة وجهنم. قال له أيضا انه من حيث عقيدته الإلحادية مكانه في جهنم، أما من حيث نواياه الطيبة ونضاله من اجل حياة حرة كريمة ومساواة بين الناس، مكانه يناسب ان يكون في الجنة. لكن هناك إشكالية بجب حلها. طلبوا الإذن من رب العالمين ان لا يصدر حكما قاطعا عليه بل يعطيه الفرصة ليختار بين جهنم أو الجنة. وهذا الخيار لا يحظى به إلا شخص واحد مرة كل 100 سنة ولحسن حظه وقع الخيار عليه.

هذا ما كان. قال له جبرائيل سنرسلك ليومان إلى جهنم وبعدها يومان إلى الجنة، ثم تقرر أي مكان تراه الأنسب لك. هذه خطوة لم يحظى بها أحد من قبلك منذ مائة سنة.

عندما وصل إلى جهنم تفاجأ. كان مرعوبا من القصص التي تروى عن عذاب جهنم. لقي أصحابه القدامى، كانوا يشربون الخمر ويغنون ويرقصون، وتحيط بهم نساء جميلات، يلقون الخطابات الثورية كعادتهم قبل الموت، يتناولون الطعام الفاخر ويقوم الشيطان نفسه على خدمتهم. سر جدا بلقائهم وشاركهم بما هم فيه وقضى يومين ممتعين.

بعد يومان أخذه جبرائيل إلى الجنة، كانت هادئة، بحث عن أصحابه فلم يجد أحدا، كلهم طويلي اللحى يقضون جل يومهم بالركوع والصلاة مما يبعث على الملل. من الصعب إيجاد شخص يمكن الحديث معه عن الفكر والسياسة، الطعام عادي، ولا شيء إلا صوت موسيقى هادئة ويقضي الآخرون معظم أوقاتهم بألعاب الورق والشيش بيش. شعر بالملل من الساعة الأولى، ما ان لمح جبرائيل في اليوم الثاني ركض نحوه طالبا إعادته إلى جهنم حتى قبل ان يسأله جبرائيل عما اختار.

– فكر جيدا .. هذا هو خيارك النهائي؟

– أجل.. فكرت وقررت.

– لن تكون لك فرصة خيار أخرى.. هل قرارك صادر عن منطق عقلي ام مجرد حماس ليومين عابرين في جهنم قد لا يتكررا...؟

– قراري نهائي .. الجنة ليست لي. هنا كل شيء ممل!!

– لن تحظى بفرصة خيار أخرى.. هل فكرت بذلك؟

– قراري نهائي .. ارجو نقلي فورا الى جهنم!!

أخذه جبرائيل عائدا به إلى جهنم، ما ان فتح باب جهنم حتى التقطه الشيطان بقوة وزج به إلى الداخل بعنف، كان أصحابه حزانى بملابس رثة ينظفون الأرض، ويشوطوهم بالكرابيج إذا تماطلوا عن جمع القاذورات عن الأرض. أعطوه كيسا وأمروه ان يتحرك للعمل معهم، ولوحوا بالسوط.. مهددين بضربه إذا تماطل. لكنه نظر إلى الشيطان وطلب ان يسمح له بسؤال واحد.

– قل ما لديك ولا تماطل كثيرا.

– قبل يومين كان الوضع مختلفا، مطعم وبار ومشروبات ورقص وغناء ونساء، ما الذي تغير ؟

– قبل يومين كنا قبل الانتخابات، اليوم نحن بعد الانتخابات. كسبنا صوتك وفزنا… ألا تعلم ان وعود قبل الانتخابات تذروها الريح؟ ها هم أصحابك يلمون قمامة الوعود، هذا تعلمناه منكم أبها السياسيون، تحرك لجمع القمامة قبل ان نضربك بالسوط!!

 

حول القصة: “التشابه الجزئي” هو التفسير العربي لكلمة (Analogy – انالوجيا) لا اعرف مدى صحة الترجمة، لكن القصد الوقوع بخطأ في القرار، بسبب ظاهرة قد تكون عابرة.. توهم الانسان انها ظاهرة دائمة ولن تتغير. يستعمل الإنسان التشابه الجزئي بشكل واسع في حياته. نلاحظ ذلك مثلا بالمقارنة بين الأسعار في المجمعات التجارية. مقارنة بين الجودة في البضائع والأسعار، مقارنة بين طبيب وطبيب في أساليب العلاج، احيانا المقارنة بين عدة أشياء. حتى المقارنة مثلا بين رؤساء حكومات ووزراء أو رؤساء سلطات محلية .. الخ!!

لماذا تشابه جزئي وليس تشابها فقط؟ ما هي كمية التشابه؟ ما هو الاختلاف؟ حسب الفلسفة من المستحيل ان يكون تشابها مطلقا بين عنصرين من نفس النوع، فكيف بين عنصرين مختلفين؟

nabiloudeh@gmail.com

7
ابنة الناصرة بروفيسور كلثوم عودة
نموذج يحتذى للمرأة العربية المصممة على التقدم
نبيل عودة

قصة حياة المرأة العربية من الناصرة كلثوم عودة (1892-1965) أصبحت نموذجًا يحتذى للمرأة المصممة على التقدم. وهنا أقدم مسيرة حياة لامرأة ناضلت وتحدت المستحيل ووصلت الى أرقى مستوى علمي لتكن أول امرأة عربية تحصل على لقب بروفسور.
كلثوم عودة هي ابنة لعائلة معروفة من الناصرة (هي بالصفة أيضا عائلتي) ولدت في 2 نيسان عام 1892 في دار "نصر عودة" في حارة الروم، كانت البنت الخامسة لوالدها نصر عوده الذي كان يأمل بولد يخلد اسمه وفوق كل ذلك لم تكن البنت جميلة.
كتبت كلثوم عودة سيرة حياتها نفسها بقولها: "لقد استقبل ظهوري في هذا العالم بالدموع. والكل يعلم كيف تُستَقبَل ولادة البنت عندنا نحن العرب، خصوصا إذا كانت هذه التعسة خامسة اخواتها، وفي عائلة لم يرزقها الله صبيا. وهذه الكراهة رافقتني منذ صغري. فلم أذكر أن والديَّ عطفا مرة عليَّ وزاد في كراهة والدتي لي زعمها أني قبيحة الصورة. فنشأت قليلة الكلام كتوما أتجنبُ الناس، ولا همَّ لي سوى التعلم، ولا أذكر أن أحدا في بيتنا دعاني في صغري سوى "يا ستي سكوت" أو "يا سلولة"، وانكبابي على العلم في بادئ الامر نشأ من كثرة ما كنت أسمع من والدتي "مين ياخدك يا سودة. بتبقي طول عمرك عند امرأة أخيك خدَّامة". وكان ثمة شبحٌ مهولٌ لهذا التهديد، إن عمتي لم تتزوج، وكانت عندنا في البيت بمثابة خادم. فهال عقلي الصغير هذا الأمر، وصرت أفكر كيف أتخلص من هذا المستقبل التعس، لم أر بابا إلاّ بالعلم ولم يكن سوى مهنة التعليم في ذلك الوقت تُباح للمرأة. وقد كانت العادة قبل الحرب أن من يكون أول تلميذ في المدارس الروسية الابتدائية يتعلم في القسم الداخلي مجانا وبعدها يحصل على رتبة معلم. فعكفت على العمل وبلغت مُرادي. والفضل في هذا لوالدي، إذ إن والدتي المرحومة قاومت بكل ما لديها من وسائل دخولي المدرسة. فهل كنت سعيدة في حياتي؟ نعم. إني وجدت في نفسي خُصلتين هما من أهم العوامل في هناء عيشي: الإقدام على العمل مع الثبات فيه، والمحبة، محبة كل شيء، الناس والطبيعة والعمل. هذه الخصلة الثانية هي التي تساعدني دائما في أحرج مواقف حياتي. إن تذليل المصاعب لبلوغ المراد هو أكبر عوامل السعادة. فإذا اقترنت هذه بسعادة من يحيط بنا أيضا، فهناك هناء العيش حقا. قضيت خمس سنوات بين أولئك البنات اللواتي كنت أعلمهن. وقد أحببتهن حبا ساعدني على أن أعيش مع كل واحدة منهن بعيشتها الصغيرة، وأن أساعدهن على قدر طاقتي. وقد قابلنني بالمثل، فكنت دائما أرى وجوها باسمة ضاحكة وكن يرافقنني في كثير من نزهاتي. وأذكر أني زرت مرَّة إحدى صديقاتي وكانت ابنتها تتعلم عندي ولها اثنتا عشرة سنة من العمر. ووجدت صديقتي في الفراش. فأخبرتني في أثناء الحديث بأنها غضبت أمس على ابنتها إذ قالت لأبيها: إذا ماتت أمي فتزوج معلمتي، فهي تكون لي أما... شعرت بسعادة لم أشعر بمثلها من قبل ملأت قلبي، إذ إن أولئك الصغيرات يحببنني كما أحبهن. وفي وقت فراغي كنت أزور أطراف المدينة، حيث يعيش الفلاحون، وأتفقد أطفالهم الصغار المهملين وقت الحصاد، وكان قلبي يتقطع ألما عندما أرى تلك العيون الملتهبة بالرمد، فأغسلها بمحلول حامض البوريك، وبعد تنظيفها أنقط محلول الزنك عليها. أظن أن بعض الأطباء الذين لم يجعلهم الزمن آلهة بل ظلَّوا بشرا، يدركون تلك السعادة التي كنت أشعر بها. عندما كنت أرى بعد أيام تلك العيون سليمة صافية، وتلك الأيدي الصغيرة تطوق عنقي. هذا الشعور كثيرا ما كان ينسيني تعبي، عندما كنت في ساحة الحرب في البلقان وفي روسيا. ألم أكن سعيدة لتعافي كل جندي، أو لتخفيف آلامه!
ألم يرقص قلبي طربا عندما كنت أزور المريض وأراه متجها إلى الصحة، وأرى عائلته سعيدة لشفائه؟ بلى إني كنت أحب الجميع فأتألم لآلام كل فرد وأفرح لفرحه، ولهذا لم تشعر نفسي أنها غريبة، مع أن لي مدة طويلة في الغربة. والأمر الثاني، وأهميته لا تقل عن الأول وهو حسباني أن كل عمل شريفا، فلست أخجل من أي عمل كان، ما دام غير ماسِّ بشرفي ولا بشرف غيري. ولا أذكر من قال من الروسيين: ينبوع الحياة في داخلنا. فيا لها من حكمة بالغة. نعم، إن ينبوع الحياة فينا، فإذا قدرنا أن نروي جميع مظاهر حياتنا به، صارت حياتنا وردة زاهرة تتغلب برائحتها العطرة وجمالها على الأشواك التي هي كثيرة جدا في طريقنا. فلا تؤلمنا هذه الأشواك كما لو كانت وحدها. ومن لا يرتوي لا بُدَّ له من أن يقف كالعطشان فتجف حياته وتصير صحراء، والسعادة كالسراب فيها يركض وراءه فلا يصل إليه ولو كانت لديه الملايين. تعلمت أن أجد الجمال في كل ما يحيط بي، طبيعيا كان أو من صنع البشر، فجمال الطبيعة كان دائما يسَكِّن اضطراب نفسي، لأنه رمز الخلود، وأما صنع البشر فإنه كان يجدد قواي ويكسبني إعجابا بعقل الإنسان، فأنكب على العمل كالنملة. فأنا، ولا مبالغة، كنت في جميع أطوار حياتي سعيدة أشتغل راغبة لا مُلزَمَة".
أنهت كلثوم عودة المدرسة الابتدائية ثم انتقلت إلى "السمينار الروسي" في قرية (اليوم مدينة) بيت جالا في الضفة الغربية وكانت داراً للمعلمات، ومن أساتذتها المرحوم خليل السكاكيني أحد أعلام الأدب العربي الفلسطيني الذي أثر في توجيهها.
كانت في السادسة عشرة من عمرها حين أنهت دراستها، وعادت إلى الناصرة لتبدأ التدريس في مدارس الجمعية الروسية في الناصرة (المسكوبية) وكان يزور مدارس الجمعية في ذلك الوقت مفتشون مبعوثون من قبل الجمعية الروسية. التقت أثناء عملها بالتعليم المستشرق الروسي المشهور كراتشكوفسكي الذي زار فلسطين بين أعوام (1908-1910) وذكر ذلك في كتابه "مع المخطوطات العربية"، حيث كتب: قابلت كلثوم عودة في الناصرة ذاتها، وكانت آنذاك معلمة ناشئة إلى جانب عملها في المجلات العربية. أما فيرا كراتشوفسكايا عقيلة المستشرق، فقد كتبت عن زيارة زوجها إلى الناصرة بأنه تعرف على معلمتين من مدارس الجمعية الفلسطينية أنهتا تعليمهما في مدرسة السيمنار في بيت جالا، وقد شاركتا في جولاته في ضواحي الناصرة وأحداهما هي كلثوم عودة والتي تزوجت عام 1913 من الطبيب الروسي الذي عمل في مستشفى الجمعية في الناصرة ايفان فاسيليف".
تعرفت كلثوم عودة أثناء عملها بالتعليم على الطبيب الروسي ايفان فاسيليف وأحبا بعضهما واتفقا على الزواج، عارضت العائلة مشروع الزواج بشدة. وروت كلثوم عودة للشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) عندما التقى بها في موسكو سنة 1957، بأن بعض أفراد أسرتها العتاة طلب من أحد الشبان أن يدفعها من أعلى سطح البيت لتستريح العائلة منها ومن عارها، وفقط بفضل ابن عم والدها نجيب عوده الذي وقف إلى جانبها، وذهب هو وإياها والدكتور ايفان فاسيليف إلى القدس، حيث تزوجا في الكنيسة الروسية في مسكوبية القدس، وعاد بها وبزوجها إلى الناصرة واضعا والدها وأسرتها أمام الأمر الواقع.
سافرت كلتوم مع زوجها الروسي إلى روسيا، وبعد ثورة أكتوبر ونشوب الحرب الأهلية في روسيا السوفياتية، تطوع الدكتور ايفان، زوج كلثوم عودة، كطبيب مع الجيش الأحمر وأصيب عام 1919 بمرض التيفوئيد ومات تاركًا زوجته وثلاث بنات صغار. فعملت كلثوم بفلاحة الأرض من أجل إعالتهم، وواصلت دراستها الأكاديمية بمساعدة لفيف من المستشرقين الروس وعلى رأسهم كراتشكوفسكي الذي تعرف عليها في فلسطين.
كلثوم لم تستسلم، بل واصلت دراستها وعملها، وأصبحت محاضرة للغة العربية في جامعة لينينغراد (بطرسبورغ اليوم)، ثم أسست معهداً للهجات العربية في جامعة موسكو، وكانت أول امرأة عربية تحصل على لقب بروفيسور.
كلثوم عودة كانت جريئة في الدفاع عن شعبها، وعندما اعترف الاتحاد السوفياتي عام 1948 بدولة اسرائيل أرسلت رسالة حادة اللهجة للرفيق ستالين الذي رد عليها بسجنها. كان السجن في فترة ستالين بابا لإرسال المغضوب عليهم بتهم بائسة ومحاكمات صورية الى المنفي السيبيري الرهيب المشهور باسم "الغولاك" حيث من القلائل يبقون احياءا في ظروف السجن والبرد القارص والطعام السيئ. 
تدخل أصدقائها من المستشرقين الروس وعلى رأسهم المستشرق المشهور كراتشكوفسكي، لإطلاق سراحها مبررين رسالتها بكونها ابنة للشعب الفلسطيني الذي تشرد وخسر وطنه. وحسب معلومات تعرفها العائلة، اعتقلت كلثوم مرة أخرى على الأقل في زمن ستالين، هناك ومعلومات تتحدث عن اعتقال ثالث لكنها غير مؤكدة.
كلثوم عودة معروفة في الأوساط الأكاديمية في روسيا ولها عدة كتب لتعليم العربية، وقامت بترجمات عدة من اللغة العربية الى الروسية ونشرت سلسلة مقالات في مجلات عربية أبرزها مجلة الهلال المصرية.
أسست بروفسور كلثوم عودة في موسكو معهدا خاصا للهجات العربية، كان من طلابه الموفدين السوفييت للعمل في السفارات السوفيتية في العالم العربي. ولم يحالفني الحظ لألتقي بحفيدها خريج نفس المعهد الذي عمل في دمشق، وجلب لي هدايا من عم لي يعيش في دمشق وارسلت له هدايا من موسكو، فكان يصل الي عبر شاب روسي يعلمني انه موفد من حفيد كلثوم عودة ليوصل لي الهدية من دمشق او لتسليمه الهدية لعمي في دمشق. وعبثا رجوته ان يخبر حفيدها أني مشتاق جدا للقائه والتعرف عليه وعلى من بقي من عائلتها إذا أمكن، لكن اللقاء لم يحدث، واترك التفسيرات لأنها لم تعد تفيد.
في أوائل سنوات الاربعينات زارت كلثوم عودة فلسطين لتطمئن على أهلها وزارها كبار الشخصيات الفلسطينية في وقته، وعلى رأسهم المرحوم الحاج أمين الحسيني الذي أرادها أن تبقى وتعمل في وزارة المعارف الفلسطينية. وسألته كلثوم ما الضمانة إذا بقيت بأن يقبل بي الانتداب البريطاني المرعوب من مجرد زيارتي ويلاحقني كأنني جاسوسة؟؟
فأجابها الحاج أمين الحسيني وهو يضع يده على ذقنه: "يا ابنتي لا ضمان معهم حتى على هذه الذقن". فقفلت عائدة الى روسيا.
لم يسعفني الحظ بلقاء كلثوم عودة أثناء تواجدي للدراسة في موسكو، إذ وصلت بعد وفاتها بسنتين، وقد زرت ضريحها في مقبرة مشهورة للشخصيات الهامة في موسكو. ولكني التقيت مع عدد من طلابها، وأحدهم المحاضر الاقتصادي مولود عطالوف، قدم لي بشكل شخصي بصفتي طالبا وحيدا في الصف، سلسلة من المحاضرات حول دراسة قام بها عن اقتصاديات الدول العربية (المتحررة)، كان كتابه يحمل عنوانا هو "سير الدول العربية للاستقلال الاقتصادي بعد الاستقلال السياسي"، بالطيع حتى سياسيا كما تبين ، بقي العالم العربي تحت الهيمنة الاستعمارية الا في فترة عبد الناصر القصيرة.  بالطبع التقيت مع العديد من المترجمين الروس، الذين تخرجوا من معهدها.
الدكتور عمر محاميد الحاصل على درجة بروفيسور من جامعة ليبتسك في روسيا. يستعرض في كتابه "كلثوم عودة من الناصرة إلى سانت بطرسبورغ" سيرة حياة هذه المرأة البطلة التي واجهت مصيرًا صعبًا، وصمدت حتى وصلت إلى أعلى المرتبات العلمية.
يعد كتابه توثيقًا هامًا لحياتها وأعمالها، وقد علق على الكتاب عدد من الكتاب والباحثين المعروفين.
يقول الدكتور لطفي منصور مدير كلية إعداد المعلمين في بيت بيرل، عن هذا الكتاب: إن من يطالع كتاب الدكتور عمر يلمس بنفسه الجدية في البحث والجهد الكبير الذي بذله المؤلف في التنقيب عن وثائق كانت لا تزال مجهولة للسواد الأعظم من المثقفين العرب، الذين لهم عناية بأدب الاستشراق وتاريخه وأصوله الذي انبثق منها منذ عهد روسيا القيصرية وحتى أيامنا هذه.
كتب الدكتور نبيه القاسم، الكاتب والناقد الأدبي: لم يكتف الدكتور عمر بالتاريخ لحياة كلثوم عودة ولا بالمعلومات الموثوقة الذي استقاها من أقرب الناس إلى كلثوم عودة إنما راح ليفتش ويبحث ويدقق في الأرشيفات الموثقة، ومن ثم في المقارنة والتأكيد بعد التنقيب الدقيق بين الوثائق والأوراق التي ألحقها بالدراسة، والتي تؤكد على جدية البحث واهتمام الباحث بكشف المعلومات التي يملكها ليستفيد منها القارئ العادي، كما يستفيد منها الباحث الجدي.
وكتب الشاعر والصحفي والمفكر سالم جبران: إن سيرة حياة كلثوم عودة هي سيرة حياة إنسانة عظيمة موهوبة، مجتهدة وهبت عمرها كله لبحث الثقافة العربية الكلاسيكية، وبناء جسر اللقاء الحضاري بين روسيا والعالم العربي.
قرأت كتاب الدكتور عمر محاميد، بشوق واهتمام شديدين، أولاً لكون كلثوم عودة ابنة الناصرة، وابنة عم والدي، والتي كانت تذكر في جميع مناسباتنا العائلية، وقد كانت على علاقة دائمة مع عم لي في دمشق حيث كنا نتلقى أخبارها، والسبب الرئيسي للعلاقات "المتجمدة" معنا أن أبناء أخيها، بعضهم هاجر للولايات المتحدة وبعضهم الآخر يستعد للهجرة، تعني أي علاقة مع شخصية سوفياتية في ذلك الوقت رفض دخولهم للولايات المتحدة. وثانياً لاطلاع بروفسور عمر محاميد الجيد والعميق على نشاط كلثوم عودة المتشعب، ومعرفته الشخصية بها، مما جعله يدرك عظمة هذه الانسانة من زاوية رؤية روسية ايضًا.
قضت كلثوم أياماً صعبة في زمن الحرب العالمية الأولى، ثم الثورة الروسية، وانتقلت مع زوجها قبل وفاته إلى ليننغراد (بطرسبورغ) وهناك اجتمعت بالمستشرق الكبير كراتشوفسكي ثانية، وأصبحت مساعدة له في عمله. وقد نقل محاميد عن المستشرق قوله "أما مصير مساعدتي الثانية فقد كان جد معقد. فهي عربية من الناصرة أنهت مدرسة المعلمات في بيت جالا قرب بيت لحم. وكنت قد قابلتها في الناصرة ذاتها، وكانت آنذاك معلمة ناشئة إلى جانب عملها في بعض المجلات العربية. وانتهزت العطلة الصيفية سنة 1914 فسافرت الى روسيا، ثم نشبت الحرب الأولى وحالت دون عودتها فبقيت عندنا في روسيا طول الحياة. وصارت تعلم في ذلك المعهد منذ العقد الثالث من هذا القرن أي القرن العشرين".
انتهى الأمر بكلثوم عودة فاسيليفا إلى الحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه، وعينت بروفسورة في جامعة ليننغراد، وكانت خدمتها للاستشراق الروسي كبيرة من حيث تعريف المستشرقين بالأدب العربي الحديث، إذ أن كتابها "نصوص في الأدب العربي الحديث" سرعان ما أصبح مرجعاً للطلاب المحاضرين. وينقل محاميد عن كراتشوفسكي قوله: "إن تعليم اللغة العربية في معهد الاستشراق يعتمد عليها وأن كتابها الدراسي في الأدب العربي الحديث كان عاملاً محفزاً لدراسة الأدب العربي في أوروبا".
ويؤكد محاميد أهمية الدور الذي قامت به "لدرجة أن الحكومة السوفياتية وأثناء الهجوم النازي على الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب العالمية الثانية تقرر أن تكون كلثوم بين الذين تم إجلاؤهم إلى المؤخرة حفظاً على حياتهم، ومن ثم منحها وسام الشرف في عيد ميلادها السبعين" – اعتقد في فترة خروتشوف.
اعتمد عمر محاميد، في سبر سيرة كلثوم عودة على أرشيف أكاديمية العلوم الروسية، والأرشيف الشخصي لكلثوم نفسها المحفوظ عند ابنتها، ولقاء مع ابنة كلثوم ومع الكاتب نبيل عودة من الناصرة (أي معي شخصيا) وقريب لكلثوم.
* * *
ذكرت زوجة كراتشكوفسكي أن كلثوم قد أنشدت عند وداع زوجها أغنية تقول كلماتها:
أحبابنا قد وقفنا كي نودعكم
وقلبنا بلهيب الحزن يشتعل
حان الفراق فها أنا أودعكم
تذكروني حتى لفظت بخاطركم
وزودوني أيا عيني برؤيتكم
هيهات عيني بعد الآن تنظركم
خذوا فؤادي يذوب لوعة معكم
وغادروا قلبا يشكو من فرقتكم
فهل أودّع روحي أم أودّعكم
فسيروا بأمن فإن الرب يحفظكم
عملت كلثوم كممرضة في الصليب الأحمر خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد وفاة زوجها عملت في فلاحة الأرض كما واصلت مسيرتها الأكاديمية، وحصلت على شهادة الدكتوراه في عام 1928، وكانت أطروحتها عن اللهجات العربية، وتعتبر كلثوم عودة أول امرأة عربية تنال لقب بروفسور من الاتحاد السوفيتي.
وقد عملت في مجال الترجمة من اللغة الروسية للعربية وبالعكس، فترجمت رواية "الأرض واليد والماء" للكاتب العراقي ذو النون أيوب إلى اللغة الروسية، كما ترجمت كتاب "محمد عياد الطنطاوي" للمستشرق كراتشكوفسكي إلى اللغة العربية.
كما تعتبر كلثوم عودة أول امرأة عربية شغلت مركز عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفيتية مع البلدان العربية، وقد نالت وسام الشرف عام 1962 بمناسبة عيد ميلادها السبعين، وأحرزت الميدالية الذهبية مرتين تقديراً لجهودها العلمية.
وقد تم منحها الوسام السوفييتي "الصداقة بين الشعوب" تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا، كما منح اسمها وسام القدس للثقافة والفنون عام 1990.
فازت بجائزة مسابقة مجلة الهلال المصرية سنة 1947 والتي كانت بعنوان "كيف يعيش المرء هنيئاً".
كما قامت بكتابة بعض المقالات ونشرها في مجلات عدة مثل "النفائس العصرية" في حيفا و"الهلال" في القاهرة و"الحسناء" في بيروت.
قالت عنها المؤرخة السوفييتية د. نتاليا سيرجيفنا لوتسكايا: "لقد علمتنا كلثوم عوده الكثير الكثير فقد غرست في قلوبنا حب الشرق وحب فلسطين، لقد غرست في قلوبنا محبة شعبكم الذي ناضل وما زال يناضل من أجل حريته واستقلاله، لقد تعلمنا الكثير من كلثوم التي كنت ترى دوماً في عينيها الشوق والحنين للوطن الأم فلسطين، وكانت كثيرا ما تتذكر الأيام الصعبة التي مرت بها عند انتقالها مع زوجها للعيش في روسيا، وأصبحت كلثوم مثالاً لجميع من عرفها".
وكتب الشاعر توفيق زياد عنها: "إن اسم كلثوم عودة معروف على أوسع نطاق في الأوساط السوفيتية ذات الصلة بالاستعراب والعمل الدبلوماسي والأدب العربي والبلاد العربية عموماً، إن أعداداً كبيرة من المستعربين قد درسوا اللغة العربية جيلاً بعد جيل على يديها".
على الرغم من ابتعاد كلثوم عن فلسطين إلا أنها كانت تحمل دائماً في قلبها حبها لبلدها وفخرها بكونها عربية فلسطينية، فقد زارت فلسطين عام 1928 وشبهت مدينة يافا بمدينة باريس، وقابلت العديد من أدباء ومثقفي فلسطين، كما قابلت الحاج أمين الحسيني الذي أبدى لها رغبته في بقائها في البلاد ولكنها رفضت بسبب الضغوطات التي تعرضت لها، وفضلت العودة إلى روسيا وذكرت ذلك في مذكراتها: "إن روسيا لم تعد غريبة عني وقد أحببتها وأحببت الشعب الروسي ووجدت مكاني أن أحيا في هذه البلاد في الثورة التي أحسستها في تلك الأعوام بقلبي أكثر مما فهمتها بعقلي".
كان لها الفضل في تعريف الروس على الثقافة العربية وبناء جسر حضاري بين الاتحاد السوفيتي والعالم العربي حيث ساهمت في تأسيس مدرسة الاستعراب الروسية.
من أعمالها:
- حضارة العرب في الأندلس (ترجمة).
- دراسات في تاريخ الأدب العربي (ترجمة).
- اللغة العربية للروس.
- المنتخبات العصرية لدراسة الآداب العربية.
- الأدب العربي الحديث.
- تصوير حياة المرأة العربية المعاصرة في القصة.
- اللغة المسرحية في الأدب العربي الحديث.
- حول تاريخ تطور اللغة في البلدان العربية.
وقد توفيت في الاتحاد السوفيتي في 24/11/1965، ودفنت في مقابر العظماء في موسكو.
nabiloudeh@gmail.com

8
يوميات نصراوي: تسجيلات من دفتري الخاص

1 - حسين مروة في موسكو
وصلت موسكو عام 1968، وقضيت سنتين في معهد العلوم الاجتماعية، المعروف اكثر بالمعهد الشيوعي.
تعرفت في المعهد على شخصيات شيوعية مختلفة خاصة من العراق ولبنان وسوريا، واكثر شخصية لفتت انتباهي المرحوم الدكتور حسين مروة، الذي كان يعد اطروحته لنيل شهادة الدكتوراة عن موضوع "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ". حضر أيضا في عام 1969 الشاعر محمود درويش، وكنا نعقد حلقات كثيرة، عن مختلف قضايا الثقافة العربية والأدب العربي والواقع السياسي، واذكر حديث للدكتور حسين مروة عن محمود درويش بوصفة انه ابرز شاعر عربي في القرن العشرين.
طبعا كانت لقاءات يومية وأحاديث ثرية كثيرة، لكني مهما انسى، لا انسى ما رواه حسين مروة عن حادثة جرت مع الرائع مارون عبود.
 جاء أديب عربي (للأسف نسيت اسمه) الى لبنان وتفاصح وهو يلقى خطابة من على المنصة، بانه لو لم يكن لبنان "لما جا " (يقصد لما جاء) وكررها "لما جا"   " لما جا " مرات عديدة.. فتململ مارون عبود بكرسيه وكان يجلس بالصف الأول، ولم يتحمل ذلك القول، وصاح به وهو بمقعده: "لطي" " لطي" "لطي " (يعني لطيزي) فانفجر الحضور بالضحك الشديد واسود وجه الأديب.
 سئل مارون عبود بعد الندوة كيف قلت له لطيزي لطيزي وهو ضيف لبنان؟  فأجاب بالعكس قلت له لطي  لطي  لطي واعني  لطيف لطيف لطيف مختصرة مثل قوله "لما جا لما جا لما جا" أي اختصرت الحرف الأخير كما فعل حضرته  - طبعا مارون عبود اختصر حرفين!!
2 - درس في الأخلاق الشيوعية
أواخر عام 1969زرنا أذربيجان لمدة شهر كامل، للاطلاع على ما أنجزته الاشتراكية لشعوب الشرق. طبيعة أذربيجان ساحرة خاصة مناطقها الجبلية، وشاطئ بحر قزوين وعاصمتها باكو، وخاصة المدينة العائمة التي بنيت داخل البحر من اجل استخراج النفط. 
أخذونا إلى كولوخوز نسيت اسمه، تفاجأت ان الشوارع الداخلية أزفت من الزفت. شوارع ترابية تصبح وحولا في الشتاء. لديهم نادٍ لا بأس به، عبارة عن قاعة مقامة من حيطان باطون جاهز، الأهمّ ان الفتيات اللواتي كن في استقبالنا يخطفن العقل، خاصة عقول ومشاعر شباب في العشرين كما كنا، طبعا رقصنا، تعانقنا وقبلنا. تواعدنا لليوم التالي لنعمل معهن (طبعا مع آهل الكولوخوز) في سبت العمل الشيوعي التطوعي، وهو تقليد بدأ بعد الثورة، يشارك بالعمل كل المواطنين القادرين على العمل خاصة في الحقول، بيوم عمل تطوعي. 
كان يوم عمل في ارض الكولوخوز، وهناك تناولنا طعامنا على الأغلب وجبة معدة من لحم الخيل كما قيل لنا. عصرا كان لنا اجتماع سياسي في النادي. كُلِّفت بالحديث باسم وفد رفاق الحزب الشيوعي الإسرائيلي. كان معنا رفاق أتراك ورفاق من أمريكا اللاتينية. كلهم ألقوا خطابات تافهة وشعارات تافهة. هاجموا الاستعمار "ونعلوا أبو أبوه" وضربوه بالنعل حتى كل لسانهم. وطبعا  مدحوا النظام الاشتراكي الذي أحدث نهضة عظيمة لأبناء الشرق باتت حلما لشعوبهم.
 كان أمين عام الحزب الشيوعي في اذربيجان الرفيق علييف (صار رئيسا لأذربيجان بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وورثه ابنه برئاسة أذربيجان) يجلس على المنصة، عندما يصفق تضج القاعة بالتصفيق. شعرت أني في سيرك، او مسرحية هزلية، الحضور لا يعرفون عما يدور الحديث، لا يعرفون ما هو الواقع التركي، لا يعرفون ما هي الحال في أمريكا اللاتينية ولا يعرفون معاناة الشعب الفلسطيني واحتلال فلسطين كلها وأراض عربية أخرى.
 جاء دوري للحديث. قررت ان ألغي خطابي الجاهز عن فلسطين والصهيونية والاستعمار والعدوان .. الخ وأن أتحدث مباشرة عن انطباعاتي. تحدثت عن اذربيجان التي تنهض وتتطور وهذه حقيقة، عن زيارتنا للصخور السوداء – جزيرة صناعية لاستخراج النفط من بحر قزوين، والصخور السوداء هو اسم تلك المدينة العائمة  في قلب البحر لاستخراج النفط ،يسكنها 5 آلاف إنسان فيها مطاعم ومسارح وسينما. تحدثت عن طبيعة بلادهم الجميلة وتمنيت ان أزور كولوخوزهم مرة أخرى وان تكون قد شُقّت لديهم طرقٌ حديثة. شكرتهم على الضيافة، وعلى "اعتناء" صبايا الكولوخوز بنا وعن الأمسية الرائعة التي قضيناها في ضيافتهم، وعن استعدادنا لتلبية دعوتهم لسبت عمل شيوعي جديد وتركت الامبريالية والصهيونية في حالهم وهتفت بحياة الاتحاد السوفييتي!!
لم اعرف ان كلمتي ستثير غضب الزعيم علييف، ويشتكي على خطابي غير الشيوعي وغير الثوري لإدارة المعهد، وان تصرفي لم يخدم الأهداف الشيوعية!!
عدنا بالطائرة الى موسكو. في اليوم التالي طلبت لاجتماع مع مسؤول في إدارة المعهد. انتقد تصرفي غير الشيوعي، وأنذرت بأني قد أطرد من المعهد. صديقي أستاذ الاقتصاد السياسي نصحني بعد ان حدثته بما جرى، ان اكتب انتقادا ذاتيا وامدح النظام الشيوعي والاتحاد السوفييتي وأوكد أني ارتكبت خطأ كبيرا لن يتكرر. فكتبته وترجم للروسية وقدمته للإدارة شارحا ان قصدي لم يكن ان انتقد أي قصور، بل اشدت بتطور أذربيجان وجمال البلاد وكرم الشعب الأذربيجاني المتمسك بنظامه الاشتراكي، وكنا سعداء جدا لمشاركتنا في سبت العمل التطوعي – الشيوعي. وكلمات هي شعارات تنفع لخطب الكنائس وهكذا صفحت الادارة عن زلتي الخطيرة. فيما بعد ابلغوا الرفيق صليبا خميس بجريمتي، الذي كان ممثلا للحزب الشيوعي في مجلة قضايا السلم والاشتراكية ومقرها براغ وكان يتردد على المعهد بين فترة وأخرى سألني ضاحكا عما فعلت، فحدثته ونصحني الا اكرر "زعرنتي" لأن عقولهم ضيقة.
 كانت زوجته الرفيقة آرنا خميس، تدرس معنا في نفس المعهد واولاده يدرسون في المدارس السوفييتية كما أذكر. لأنهم غادروا تشيكوسلوفاكيا بعد الغزو السوفييتي واسقاط نظام الكسندر دوبتشيك عام 1968.
3 - فنانات عاصرن الرفيق لينين في النوادي الليلية!!
من الطرائف الساخرة للواقع السوفييتي التي كان يتبادلها الناس في موسكو، حكاية عدم نجاح النوادي الليلية السوفييتية. فقط قلة من المواطنون السوفييت يحضرون للنوادي الليلية رغم قاعاتها الرحبة وطعامها الجيد. برامجها الفنية لا تشد المواطن. اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بحثت الموضوع، اتخذت قرارات هامة لتنشيط النوادي الليلية حتى لا يقول الغرب ان الاتحاد السوفييتي متخلّف عن باريس وفييّنا ولندن وبرلين ونيويورك في النوادي الليلية.
رغم ان القرارات المتخذة نفّذت إلا ان عدد المترددين على النوادي تراجع!!
عقد اجتماع طارئ جديد لقادة الدولة والحزب. قدم التقرير وزير الثقافة، قال ان الموضوع غير مفهوم، على عكس الغرب الذي يشغل صبايا صغيرات يظهرن مفاتنهن فقط فتمتلئ نواديه لمشاهدة الفن الساقط، عروض أقرب للجنس الإباحي، نحن أحضرنا للنوادي الليلية مغنيات وراقصات لهن تاريخ مجيد في الثورة الاشتراكية، بعضهن عاصرن الرفيق لينين، عينّا لهنّ مساعدات لتساعدَهُنّ في الوصول إلى النوادي بسبب جيلهن المتقدم، بل وزودناهنّ بكراسٍ متحركة وسيارات نقل خاصة ورغم ذلك ساء الوضع ولم يتحسّن!!
طلبنا من أطباء علم النفس وعلم الاجتماع دراسة هذه الظاهرة المستهجنة وغير الشيوعية. لكنهم لم يقدموا أي حجة مقبولة، كل ما قالوه ان نجرب استبدال الفنانات العجائز بفنانات شابات، وبعدها سنعرف إذا كان للغرب الاستعماري يد بهذه الظاهرة المعادية للشيوعية!!
وقال وزير الثقافة: نحن أصحاب مبادئ ولن نتنازل ونقلد الغرب الرأسمالي الذي يستغل الشابات الفنانات في نواديه الليلية!!
4 - ثقوب في الثوب الماركسي
عشت فترة طويلة من الحوار الذاتي ومحاولة إغلاق الثقوب في قرص الجبنة السوفييتي. رأيت ان الثقوب تزداد اتساعا. إيماني بجوهر الماركسية الإنساني لم يتزعزع، هل هو تأثير الانتماء لحركة شيوعية منذ بداية وعيي؟ نشأتُ على فكرة أني شيوعي دون ان أعي ماذا تعني الشيوعية، وأوقفت دراستي في هندسة الميكانيكيات في التخنيون بحيفا لأدرس الفلسفة والاقتصاد الماركسيَّين. لم أكن أتخيل نفسي بدون معرفة ووعي نظري وفلسفي كامل. كان بيت والدي مقرا للنشاط السياسي والاجتماعات الشعبية في مواسم الانتخابات منذ أيام عصبة التحرر الوطني الفلسطيني (الحزب الشيوعي الفلسطيني العربي)، فكيف لي ان أفكر بوجود قصور في الفكر الذي سحرني قبل ان أدرسه؟ اعرف القيادات الطلائعية التي قدمت عمرها في خدمة شعبها، اختاروا حياة النضال الصعبة، ذاقوا طعم السجون والنفي والفقر؟ هل يمكن ان يكونوا على خطأ؟
مع تقدمي في الدراسة وخاصة في موضوع الفلسفة، بدأت أشبك الخيوط.
رأيت في البداية ان الخطأ ليس في الفكر والتأسيس النظري بل في جهاز الدولة الذي لا شيء ماركسي فيه، وفي الجمود العقائدي الذي يحصر نفسه بماركسية ستالينية، دون فهم التحولات الجذرية العاصفة في النظام الرأسمالي، في الاقتصاد، في المجتمع، في تطور النظام الديمقراطي، تطور حقوق الإنسان، تطور مستوى الحياة، عدم صحة نظرية لينين ان "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، سقوط نظرية البروليتاريا والحتمية التاريخية عن الصراع البروليتاري ضد الرأسمالية وانتصار البروليتاريا المؤكد لتبني النظام الاشتراكي. كانت قناعتي ان البروليتاريا هي ظاهرة أوروبية لم تنتشر في أي مكان آخر خارج أوروبا، وانها ظاهرة مؤقته تلاشت في أواسط القرن العشرين.
معلم الاقتصاد قال لي ردا على استفساري عن ظاهرة البروليتاريا انه سعيد لأني أفكر بشكل حر. ولم يقل لي رأيه!!

5 - الدولة الرأسمالية لبناء النظام الاشتراكي
ماركس لم يطرح رؤية او نظرية للدولة الاشتراكية تتجاوز دولة الكومونة (كومونة باريس)، حكومة عمالية يُنتخب مندوبيها بالاقتراع العام ويمكن اسقاطهم بسحب الثقة منهم. أجورهم هي نفس أجور العمال وحسب ذاكرتي كان رأي ماركس حذف إصطلاح الدولة. الكومونة الباريسية كانت ظاهرة في مدينة واحدة وليس في كل فرنسا. هذا الشكل الجديد من الحكم كانت بيده السلطة التشريعية والتنفيذية، لم يحاول ماركس ان يكتشف أشكال جديدة لتنظيم ما يعرف ب "الدولة الاشتراكية" في المستقبل. ولينين لم يقد نظرية عن مفهوم الدولة الاشتراكية.
إذن ماركس لم يقدم أي رؤية لمفهوم الدولة في النظام الاشتراكي من رؤيته ان الدولة في طريقها للاضمحلال بعد سقوط البرجوازية. لكن ماذا سيحل مكانها كإدارة لمجتمع؟
 الماركسية علمتنا ان الدولة هي جهاز للعنف الطبقي، بعد انتصار الطبقة العاملة وقمع أو تصفية الطبقات القديمة، تنتهي ضرورة العنف الطبقي، بالتالي تنتهي ضرورة الدولة. فيما بعد طور السوفييت (لينين) نظرية ان بقاء الدولة هي ضرورة لقمع البرجوازية العالمية. أي ظلت الدولة بدون تغيير بعد الثورة الاشتراكية، واقع الدولة الاشتراكية التي عرفناها كانت أسوأ من مثيلتها البرجوازية بغياب أي مفهوم ديمقراطي، قمع حرية الرأي وحق الاختلاف، الحزب (او زعيمه) هو المفكر والمقرر، لا قيمة للفرد (البرسيونال) القيمة للجماعة (شكليا فقط، عمليا لا قيمة إلا للقيادات العليا، شيء شبيه بالسلفية الدينية، الشيوخ يفتون، وغرابة أفكارهم التي لا تليق حتى بالعصر الحجري هي الصراط المستقيم). للمواطن خيار "ديمقراطي" وحيد ان يصوّت لنفس الحزب.. لنفس الشخصيات، لنفس النظام، لنفس الفساد ولنفس طبقة الحكم المتسلطة.
لينين رأى الأمر من زاوية مختلفة عن ماركس، مجالها ليس هنا الآن، إنما بودّي التأكيد ان الماركسية افتقدت للمعرفة النظرية لمفهوم الدول الاشتراكية، وما طبّق عمليا هو مفهوم الدولة السائد في العالم البرجوازي بإضافة شعارات وتبريرات فارغة من المضمون... الدولة الاشتراكية كانت أكثر قمعا ليس للبرجوازية العالمية، إنما لشعبها ولطبقتها العاملة!!
هذا الواقع انعكس بشكل سلبي ومؤلم في المجتمع الاشتراكي من تمييز وفجوات اجتماعية – اقتصادية بحيث تشكلت طبقة سائدة قمعية بمستوى لا يخجل إي نظام قمعي استبدادي فاسد!!
عندما صعد غورباتشوف توسّمت خيرا، رأيت بغورباتشوف ما حاول ان يكشفه لي بصمت أستاذُ الاقتصاد السياسي. لكن يبدو ان الثقوب أصبحت أكبر من كمية الجبنة.
رغم ذلك كان الحلم بمجتمع عادل ونظام مساواة إنساني، أكبر من الواقع المؤلم الذي شاهدناه وبرّرناه بشكل صبياني متعصّب ومنغلق عن رؤية الحقائق. عندما انهار الاتحاد السوفييتي قال قائد حزبي مرموق في إسرائيل ان "السوفييت كانوا يكذبون علينا ونحن كنا نكذب عليكم، لأننا اعتقدنا ان هذا لمصلحة الجماهير!!"
أي ان اليسار الماركسي كان يمارس الكذب على جماهيره ويكذب على ماركس وهو في قبره؟!

6 - البروليتاري مديرا للبنك ..
بدأت اشك بكل مفهوم نظرية صراع الطبقات، كنت على قناعة من تحول النضال الطبقي من نضال تناحري إلى نضال حقوقي واجتماعي. أصلا لم تقم أي ثورة على قاعدة الصراع الطبقي. فهمي النظري حول تفكك نظرية الحتمية التاريخية، استغرقني وقتا طويلا لأخرج من مربعها. تبين ان الرأسمالية الجشعة تعرف كيف تطور دولها علميا، تكنولوجيا، إداريا وثقافيا وحقوقيا، وحققت ثروة هائلة تجاوزت النظام الاشتراكي، اشترت فيها الطبقة العاملة إذا صح هذا التعبير. لم يعد العامل رجل المطرقة، لم يعد الفلاح رجل المنجل، أصبح العامل مدير بنك، مدير شركة، طبيب، مهندس، باحث علوم وتقنيات، مختصا بالهايتك، محاضرا جامعيا، هل تنطبق صفة "البروليتاري" عليه؟ هل هم مستعدون لصراع طبقي تناحري؟ بعض "البروليتاريين" يربحون أكثر من أصحاب بعض المصانع. الفلاح أصبح مجهزا تكنولوجيا بكل ما يحتاجه لتطوير زراعته وجني محصولاته، الزراعة أصبحت صناعة متطورة بينما الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية ما زالوا يخيطون بالمسلة العتيقة. ما شاهدته في الكولوخوزات والسوفوخوزات مذل ومثير للألم والقلق على مصير الاشتراكية. كوسيجين رئيس الحكومة في ذلك الوقت (1970) طرح إصلاحا ثوريا للصناعة وأيضا الزراعة على أساس توزيع الأرض على الفلاحين وليس الملكية الجماعية والعمل الجماعي. رفض مشروعه بحجة ان الغرب سيتهم الاتحاد السوفييتي بالعودة إلى الرأسمالية في الصناعة والزراعة مما يعني فشل الاشتراكية. ثبتت صحة أفكار كوسيجين في تطبيقها في هنغاريا التي أحدثت قفزة زراعية هائلة ولم تطبق في الاتحاد السوفييتي لأنها تتناقض مع نصوص غبية ألصقت بالماركسية وبتفكير سلفي لم يستوعب ان الفلسفة، مهما كانت عبقرية، ليست مقولات دينية ثابتة. للأسف لم أستطع ترجمة مشاعري إلى مواقف ورؤية نظرية جديدة إلا بعد ان رأيت انهيار وتفكك حزبي الشيوعي في إسرائيل، القيادة الحزبية التي لم تعد تكليفا ومسؤولية، بل أصبحت مخترة ومكسبا شخصيا... وتحول التنظيم إلى تنظيم شخصاني!!
قدمت استقالتي عام 1992 متأخرا ونادما لأني لم انسحب قبل عقدين، الحزب بدأ يفقد تنظيمه وقدرته على تنفيذ قراراته، والأخطر إصابة الحركة الشيوعية كلها بظاهرة الجمود العقائدي، والشلل عن تطوير النظرية الماركسية بما يتلاءم مع التغيرات العاصفة في عالمنا وخاصة في مكانة النظام الرأسمالي والتغيرات الجوهرية التي غيرت الكثير من الأفكار القديمة حوله. لا انكر ان من يعرفوا بتيار "الماركسية الغربية" طرحوا أفكارا هامة لكنهم اتهموا بالتحريفية، ولم تقم الحركة الشيوعية بفحص للعمق لطروحاتهم ونقاشها بعقلانية وليس برفض اعمى وتعصب لمقولات بات واضحا ان التاريخ يتجاوزها.
 صرنا حزبيا في حارة "كل مين ايده اله"!!

7 - آية الله الرفيق بريجنيف
أخبار الصحافة السوفيتية دائما قديمة، نشر الأخبار يتأخر بسبب الرقابة القوية على الصحافة وضرورة تزييف الحقائق للشعب السوفييتي. عملية تضليل مبرمجة لا تفسير آخر لها. أصبح لدي شك كبير بكل المعطيات الرسمية التي تنشر. صحافة الاتحاد السوفييتي لها صوت واحد ولون واحد، مجندة تثير امتعاض القارئ السوفييتي وسخريته. هذا ساهم بخلق الطرائف التي تسخر من واقع الاعلام.
 من أجمل تلك الطرف ان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي قلق جدا لأن "البي بي سي" و"صوت أمريكا" والوكالات الأجنبية تنشر أحداث سوفيتية قبل ان يقر نشرها وصيغتها المكتب السياسي للحزب. الرفيق بريجنيف (كان الأمين العام للحزب الشيوعي، عمليا أعلى سلطة في الدولة، يمكن القول "آية الله الرفيق بريجينيف") دعا إلى اجتماع أعلن فيه ان "أحد أعضاء المكتب السياسي يتجسس لحساب البي بي سي وينقل أخبارنا قبل ان تنشرها صحافتنا".
من هو الجاسوس يا رفاق؟ كان الصمت شاملا. قال "لن نغادر الاجتماع قبل ان نكشف عن الجاسوس". حاول البعض ان يقول ان الجاسوس ربما من هيئات حزبية أدنى؟ رفض بريجنيف الأمر. سوسولوف شعر بأن مثانته لم تعد تتحمل الضغط. طلب الإذن للخروج إلى الحمام. بالطبع هناك حدث جديد ستذهب يا سوسولوف لتبليغ الغرب والإذاعة البريطانية به. فتشوا الحمامات. لم يجدوا وسيلة اتصال بالامبريالية، عملها سوسولوف ببنطاله. عجوز آخر من قادة الحزب شعر أيضا ان الوضع بات حرجا، لم يجرؤ على طلب الإذن، أفلتها في بنطاله بتأني، هكذا مضى الوقت والرفاق العواجيز أعضاء المكتب السياسي يرطبون بناطيلهم، خوفا من اتهامهم بالعلاقة مع الإعلام الامبريالي!!
بريجنيف شعر ان المسالة لدية أيضا أصبحت غير محمولة، قال لهم "يا رفاق يبدو ان الجاسوس ليس من المكتب السياسي الاجتماع انتهى". رد سوسولوف بغضب "هل ستذهب لإبلاغ الغرب عن آخر أخبارنا؟" طبعا الأكثرية مع سوسولوف بسبب البنطلونات التي رطبتها مثانتهم. بريجنيف حاول ان يقنعهم ان الجاسوس قد يكون حقا من هيئة أدنى. "أبدا يجب ان ننتظر "!! أصروا. الضيق وصل أقصاه لدى الرفيق بريجنيف، فجأة حضرت مساعدته الليلية تحمل له وعاء لتفريغ البول.
سألها باستغراب "كيف عرفت أني بحاجة للتبويل؟" ردت المساعدة "أيها الرفيق بريجنيف قبل قليل سمعت خبرا من البي بي سي يقول ان الرفيق بريجنيف في اجتماع مغلق وانه بحاجة ماسة ليبول!!"


    
   

 





9

تحقيق «هآرتس»: طمس النكبة... كيف تخفي إسرائيل الأدلة عن تهجير العرب عام ١٩٤٨ بطريقة ممنهجة
منذ بداية العقد الأخير، قامت فرق وزارة "الدفاع" الاسرائيلية بالتخلص او تمديد الاخفاء لوثائق تاريخية هامة لإخفاء الأدلة عن دور إسرائيل بنكبة الشعب الفلسطيني
مراجعة، تحرير وتصويب: نبيل عودة

 
قوات دولية تشرف على إخلاء عراق المنشية، بالقرب من كريات جات اليوم ، في آذار / مارس 1949. مجموعة بينو روتنبرغ / أرشيف دولة إسرائيل

قام ضابط في وحدة المخابرات التي تعرف باسم «شاي» والتي سبقت تأسيس جهاز الشين بيت، بكتابة واحدة من أشد الوثائق التي تتحدث عن أصل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ترويعاً، إذ تناقش أسباب خلوّ البلاد من كثير من سكانها العرب، من خلال دراسة ظروف كل قرية.
نقدّم هنا الترجمة الكاملة للتحقيق الطويل والهام الذي أجرته الجريدة الإسرائيلية، لا احتفاءً ولا امتناناً، فهي إحدى المؤسسات المكرّسة في دولة الاحتلال، بل للقيمة المعرفية والتاريخية التي يحتويها التحقيق الذي بُني على أرشيف مفتوح للإسرائيليين دون غيرهم. إضافتنا للترجمة محصورة بـ "الأقواس" التي وضعناها حول عبارات لا تتوافق وسياسة المجلّة. ما عداها من «الأقواس» هي من النّص الأصلي. مقدمة محرر هأرتس
تحقيق: هاجار شيزاف
قبل أربع سنوات، أُصيبتْ المؤرّخة تامار نوفيك بصدمة كبيرة، إثر عثورها على ملف يوسف فايتس من القسم العربي في حزب مبام اليساري، في سجلات أرشيف ياد ياري في منظمة جبعات حبيبه. بدأت الوثيقة التي كان يبدو أنها تَصف أحداث حرب عام 1948 على النّحو التالي:
«الصفصاف: قرية فلسطينية قُرب صَفد - تم القبض على 52 رجلاً من القرية، رُبطوا ببعضهم البعض، قبل إطلاق النار عليهم في حفرة. جاءتْ نسوة يتوسّلنَ طلباً للرحمة، بينما استمرّ عشرة رجال في الارتعاش. تمّ العثور على جثث ستة رجال متقدمين في السن. كان هناك واحداً وستين جثة، وثلاث حالات اغتصاب وقعت إحداها شرق صفد، لفتاة في 14 من عمرها، إضافة إلى أربعة رجال قُتلوا بالرّصاص، وقد قُطعت أصابع أحدهم بالسكين طمعاً في خاتمه.»
تستمرّ الكاتبة في وصف مجازر أخرى، وحالات سرق ونهب ومضايقات ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال "حرب إسرائيل للاستقلال". تُخبر الدكتورة نوفيك صحيفة هآرتس: «لم تحمل الوثيقة اسماً، ولم يُعرف كاتبها قطّ. كما أن أحداثها غير مكتملة وتثير الكثير من الانزعاج. أدركتُ منذ عثوري على هذه الوثيقة أنني مسؤولة عن توضيح ما حدث.»
نجحتْ قوات الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على قرية الصفصاف في الجليل الأعلى خلال عملية حيرام قبيل نهاية عام 1948، وقد أُقيمت على أنقاضها مستوطنة (موشاف) صفصوفا. على مدار عدة سنوات، تم اتهام الكتيبة السابعة بارتكاب جرائم حرب في القرية، وتأتي وثيقة نوفيك التي لم تكن معروفة لدى الباحثين سابقاً، لتؤكد هذه الاتهامات، كذلك فإنّ هذه الوثيقة تمثل دليلاً إضافياً على معرفة كبار الضّباط في إسرائيل بما كان يحدث في حينه.
قررتْ نوفيك استشارة مؤرخين آخرين بخصوص الوثيقة، فقد أخبرها بيني موريس صاحب المؤلفات التي تشكّل نقطة أساسية في دراسة أحداث "الهجرة الجماعية للعرب" من البلاد خلال حرب 1948، أو ما يطلق عليه العرب اسم «النكبة»، أنه صادف وثائق مشابهة في الماضي. كان يشير إلى ملاحظات دوّنها أهارون كوهن عضو اللجنة المركزية لحزب مبام، عن تعليمات أصدرها يسرائيل غاليلي قائد فرق الهاغاناه العسكرية، التي اصبحت فيما بعد "جيش الدفاع الإسرائيلي" في نوفمبر 1948. نشر موريس ملاحظات كوهن عن هذه الحادثة: «صفصاف – 52 رجلاً مربوطين بحبل، أُنزلوا في حفرة وأُطلق الرصاص عليهم. قُتل عشرة أشخاص، فيما توسّلت عدة نساء طلباً للرحمة. وقعت ثلاث حالات اغتصاب وحالات اعتقال وإطلاق سراح. تم اغتصاب فتاة في 14 من العمر. قُتل أربعة رجال. خواتم وسكاكين.»
تذكر ملاحظات موريس الهامشية في كتابه المؤثر «نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949» عثوره على الوثيقة في أرشيف ياد ياري أيضاً، لكن نوفيك تفاجأت عند عودتها لتفحص الوثيقة بعدم وجودها.
«في البداية اعتقدتُ أن ملاحظات موريس الهامشية لم تكن دقيقة، أو أنه ربما ارتكب خطأ ما»، تذكر نوفيك. «لم أفكر باحتمال اختفاء الوثيقة إلا بعد مرور بعض الوقت». عندما واجهَت نوفيك المسؤولين عن مكان الوثيقة بسؤالها، أخبروها أن "وزارة الدفاع" أصدرت أمراً بإخفاء الوثيقة في مكان آمن.
منذ بداية العقد الأخير، قام  فريق متخصص من وزارة الدفاع بتمشيط الأرشيف المحلي بهدف التخلص من بعض الوثائق التاريخية. لكن هذا لم يشمل الأوراق المتعلقة بمشروع إسرائيل النووي أو علاقاتها الخارجية فحسب، بل إن إخفاء مئات من الوثائق كان جزءاً من عملية ممنهجة لإخفاء أي دليل على حدوث النكبة.
كان معهد عكيفوت لبحث الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني أول من رصد هذه الظاهرة. فبحسب تقرير للمعهد فإن العملية تمت بقيادة قسم «مالماب» أو قسم الأمن السري في وزارة الدفاع، والذي تتسم المعلومات المتعلقة بنشاطاته وميزانيته بالسرية التامة. يؤكد التقرير أن قسم «مالماب» قام بإزالة وثائق تاريخية بشكل غير قانوني، ودون الحصول على التصاريح اللازمة لذلك، وأنه في بعض الأحيان منع الوصول إلى وثائق كان المراقب العسكري قد سمح بنشرها، حتى أن بعض الوثائق التي تم إخفاؤها كانت قد نُشرت مسبقاً.
توصّل تحقيق قامت به صحيفة هآرتس إلى أن «مالماب» أخفى شهادات قادة الجيش عن قتل المدنيين وتدمير القرى، إضافة إلى وثائق تهجير البدو خلال العقد الأول من عمر الدولة الإسرائيلية. فقد كشفت لقاءات قامت بها هآرتس مع مدراء محفوظات الأرشيف الحكومية والخاصة عن تعامل موظفي قسم الأمن مع الوثائق الأرشيفية كما لو أنها كانت ملكاً لهم، كما وجهوا في بعض الحالات تهديدات للمسؤولين عن السجلات.
اعترف يهئيل حوريب الذي ترأس قسم «مالماب» لمدة عقدين حتى عام 2007 بإطلاقه المشروع الذي لا يزال مستمراً. يؤكد حوريب منطقية دوافعه لإخفاء أحداث عام 48، إذ أن الكشف عنها قد يثير السكان العرب في البلاد. وعند سؤاله عن الهدف من إخفاء وثائق تم نشرها بالفعل، شرح أنه يهدف إلى التقليل من مصداقية الدراسات المتعلقة بتاريخ مشكلة اللاجئين. حسب وجهة نظر حوريب، فإن اتهامات الباحثين المدعومة بوثائق مختلفة عن الاتهامات، لا يمكن تأكيدها أو تفنيدها.
تُعزز الوثيقة التي بحثت عنها نوفيك مضمون أعمال موريس. خلال التحقيق، تمكنت هآرتس من العثور على ملاحظات أهارون كوهن التي تلخص لقاءً مع لجنة مبام السياسية بخصوص المجازر وعمليات التهجير التي حدثت عام 48، إذ دعا المشاركون في اللقاء للتعاون مع لجنة التحقيق التي اعتزمت التحقيق في الأحداث. تتعلق إحدى القضايا التي ناقشتها اللجنة بـ «إجراءات خطيرة» ارتُكبت في قرية الدوايمة شرق كريات غات. فقد تحدث أحد المشاركين عن تورط ميليشيا "ليحي" السرية التي كان قد تم تفكيكها آنذاك بهذه الانتهاكات، كما تم الحديث عن أعمال سلب ونهب «لم يسلم منها أي متجر عربي في اللد والرملة أو بئر السبع، وقد وَجهت الكتيبة التاسعة الاتهامات إلى الكتيبة السابعة، في حين اتهمت هذه الأخيرة الكتيبة الثامنة.»
تذكرُ الوثيقة قبيل نهايتها «معارضة حزب (مبام) لعمليات التهجير التي لم يكن لها دواع عسكرية. إذ أن هناك معايير عدة لقياس هذه الضرورة، لذا فإن هناك حاجة لمزيد من التوضيح. ما حدث في الجليل هي تصرفات نازية، ويتعين على كل عضو منا أن يروي ما يعرفه.»

 نزح اللاجئون الفلسطينيون في البداية إلى غزة على متن قوارب إلى لبنان أو مصر في عام 1949. جرانت نكاشيان / 1949 أرشيف الأمم المتحدة

الرواية الإسرائيلية 
قام ضابط في وحدة المخابرات التي تعرف باسم «شاي» والتي سبقت تأسيس جهاز الشين بيت، بكتابة واحدة من أشد الوثائق التي تتحدث عن أصل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ترويعاً، إذ تناقش أسباب خلوّ البلاد من كثير من سكانها العرب، من خلال دراسة ظروف كل قرية. جُمعت هذه الوثيقة في نهاية يونيو/حزيران عام 1948 تحت اسم «هجرة عرب فلسطين».
كانت هذه الوثيقة بمثابة الأساس الذي اعتمده بيني موريس لكتابة مقالة عام 1986، وقد تمت إزالتها من الأرشيف ومنع وصول الباحثين إليها بعد نشر مقالته. بعد سنوات عدة، قام فريق من وحدة «مالماب» بإعادة دراسة الوثيقة وأمروا باستمرار إخفائها. لم يكونوا ليعرفوا أن باحثين من معهد عكيفوت قد عثروا بعد سنوات على نسخة من الوثيقة وأرسلوها إلى المراقب العسكري الذي سمح بنشرها دون قيد أو شرط. الآن، وبعد سنوات من إخفائها، يتم هنا الكشف عن ملخص لما جاء في الوثيقة.
تبدأ الوثيقة المكونة من خمسة وعشرين صفحة بمقدمة تتفق مع عمليات إخلاء القرى العربية دون أي تحفظ. فبحسب الكاتب، تميز شهر أبريل/نيسان بارتفاع أعداد المهاجرين، بينما «حلت البركة» بشهر مايو/أيار، إذ تم إخلاء أكبر عدد من المواقع (القصد القري الفلسطينية). ثم يتحدث التقرير عن أسباب ما أسماه «الهجرة العربية». بحسب الرواية الإسرائيلية التي شاعت عبر السنين فإن مسؤولية الهجرة الجماعية من إسرائيل تقع على عاتق السياسيين العرب الذي شجعوا السكان على المغادرة. لكن، وبحسب الوثيقة، فإن 70% من العرب غادروا نتيجة العمليات العسكرية التي قام بها الجيش اليهودي.
يرتب كاتب الوثيقة غير المعروف أسبابَ "مغادرة العرب" حسب أهميتها، فالسبب الأول يتمثل في «الأعمال العدائية التي ارتكبها اليهود في أماكن إقامة العرب»، في حين أن السبب الثاني يتلخص في تأثير هذه الهجمات على القرى المجاورة. في السبب الثالث تحدث الكاتب عن عمليات عسكرية ارتكبتها قوى غير منظمة، بالتحديد ميليشيات الإراغون وليحي السرية. أما السبب الرابع لتهجير العرب، فهو أوامر المجموعات العربية المقاتلة التي تطلق عليها الوثيقة اسم «العصابات»، في حين أن السبب الخامس هو تناقل أخبار الهجمات اليهودية بهدف دفع السكان العرب للمغادرة، فيما تضمن السبب السادس إنذارات نهائية (من التنظيمات العسكرية اليهودية) تأمر بالمغادرة.
لا يشك الكاتب في أن العمليات العدائية كانت السبب الرئيسي في تحرك السكان، إضافة إلى فعالية استخدام مكبرات الصوت لتوجيه الأوامر باللغة العربية. أما بخصوص عمليات الإراغون وليحي، فإن التقرير يرصد بدء مغادرة سكان الكثير من قرى الجليل الأوسط إثر أنباء عن اختطاف أعيان قرية الشيخ مونس شمال تل أبيب. فقد علم العرب أن عقد اتفاقات مع الهاغاناه لم يكن كافيا، وأن الحذر واجب من مجموعات يهودية أخرى تتصرف على نحو منفصل.
يتحدث الكاتب عن استخدام إنذارات المغادرة بشكل خاص في الجليل الأوسط، وبشكل أقل في منطقة جبل جلبوع، إذ يقول: «بشكل طبيعي، فإن تقديم إنذار المغادرة كان بمثابة تقديم «نصيحة»، وقد جاء بعد إجراءات عدائية كثيرة مهدت الطريق له.»
يصف ملحق بالوثيقة أسباب الهجرة من كل منطقة عربية بشكل محدد، فقد ورد في وصف تهجير قرية عين زيتون: «تدميرنا للقرية ومضايقات، تهديدات بالهجوم» و «بهجماتنا. قُتل كثيرون»، الطيرة: «نصيحة يهودية»، العمامير: «أعمال سرقة وقتل قامت بها ميليشيات غير منظمة»، سمسم: «إنذاراتنا»، بير سالم: «هجوم على مأوى أيتام»، زرنوقة: «الغزو والطرد».
 
أطفال فلسطينيون ينتظرون توزيع الحليب من قبل اليونيسف في دير الراهبات الناصرة الفرنسيسكان ، 1 يناير 1950. AW / UN Photo
غضب سريع
في بداية الألفية الثالثة، قام مركز إسحق رابين بسلسلة من المقابلات مع شخصيات عامة وعسكرية سابقة، في إطار مشروع توثيق نشاطاتهم في خدمة الدولة، لكن يد «مالماب» طالت هذه المقابلات أيضاً. قامت هآرتس بعد حصولها على نسخ أصلية من المقابلات بمقارنتها مع النسخ المتاحة الآن للاطلاع، وذلك بعد تصنيف أجزاء كبيرة منها بالسرية. يتضمن هذا على سبيل المثال، مقطعاً من شهادة قائدة الكتيبة آريه شاليف عن تهجير سكان قرية صبرا إلى ما وراء الحدود، إذ تم حذف الجمل التالية: «كانت هناك مشكلة حقيقية في الوادي، فقد تجمع فيه عدد من اللاجئين راغبين في العودة إلى منطقة المثلث (التي تحتوي على عدد من البلدات والقرى العربية "شرق إسرائيل"). فقمنا بطردهم. التقيتُ بهم لإقناعهم بالتراجع عن مطالبهم، ولديّ وثائق تثبت ذلك.»
في حالة أخرى، قرر «مالماب» حذف المقطع التالي من مقابلة أجراها المؤرخ بواز ليف توف مع الجنرال إلعاد بيليد:
ليف توف: نحن نتحدث عن السكان، نساء وأطفال؟
بيليد: كلهم، كلهم، نعم.
ليف توف: ألا يوجد لديك فرق بينهم؟
بيليد: المشكلة بسيطة جداً. الحرب بين شعبين يخرجان من المنازل.
ليف توف: إذا كان لديهم منازل، فهل لديهم مكان آخر يعودون إليه؟
بيليد: لم يكن هناك جيوش في ذلك الوقت، بل عصابات. نحن فعلاً عصابات. نخرج من منزل ونعود إلى منزل، وهم يخرجون من منزل ويعودون إلى آخر. إما أن يكون منزلهم أو أن يكون منزلنا.
ليف توف: هل هذه هواجس الجيل الجديد؟
بيليد: نعم، اليوم عندما أجلس على هذا المقعد وأفكر فيما حدث، تتبادر إلى ذهني الأفكار بمختلف أشكالها.
ليف توف: ألم يحدث ذلك حينها؟
بيليد: انظر، دعني أخبرك شيئاً عن العملية الكبرى ضد قرية سعسع في الجليل الأعلى، وإن كان وحشياً وغير لطيف. كنا نسعى لردع السكان فنخبرهم: «يا أصدقاءنا الأعزاء، يمكن لقوات البالماخ (قوات الصدام في الهاغاناه) أن تصل إلى كل مكان، فليس لديكم مهرب منهم.» كان هذا في قلب المناطق العربية. ولكن ماذا فعلنا؟ قامت فصيلتي بتفجير أكثر من عشرين منزلاً بكل ما فيها.
ليف توف: بينما كان الناس نائمون هناك؟
بيليد: أعتقد ذلك. فما فعلناه أننا اقتحمنا القرية وزرعنا القنابل بجانب كل منزل، ثم أُطلقت أصوات الأبواق علامة لقواتنا تأمرها بالمغادرة، فلم يكن لدينا أجهزة بث إذاعية. انطلقنا نركض في الاتجاه المعاكس بينما بقي خبراء الألغام للتفجير. كان كل شيء بدائياً. كانوا إما أن يشعلوا الفتيل أو يسحبوا جهاز التفجير، لتختفي كل المنازل.

هذه فقرة أخرى حاولت وزارة الدفاع إخفاءها عن العامة، من حوار الدكتور ليف توف مع الجنرال أبراهام تامر:
تامر: كنتُ تحت إِمرة الجنرال تسفي تسور (شيرا) الذي أصبح فيما بعد قائداً لقوات الجيش الإسرائيلي، وجمعتني به علاقة مهنية ممتازة. فقد منحني حرية التصرف دون سؤال، وقد كنت مسؤولاً عن عمل الطاقم والعمليات خلال اثنين من التطورات التي نجمت عن سياسات رئيس الوزراء بن غوريون حينها. تمثل أحد التطورات في وصول تقارير عن مسيرات للاجئين من الأردن باتجاه "القرى المهجورة في إسرائيل"، فوضع بن غوريون سياسة هدم القرى حتى لا يجدوا مكاناً يعودون إليه. شَمل هذا كل القرى العربية التي وقع معظمها تحت سيطرة القوات المركزية.
ليف توف: هل تقصد القرى التي كانت قائمة؟
تامر: بل القرى التي لم يسكنها إسرائيليون. فقد قمنا بإسكان إسرائيليين في بعض المناطق، مثل قرية زكريا وغيرها. لكن معظم القرى كانت لا تزال مهجورة.
ليف توف: كانت ما زالت قائمة؟
تامر: كانت قائمة. كان من الضروري التأكد من عدم وجود مكان يعودون إليه، فحضرت القوات إلى كل قرى منطقة القوات المركزية، وفجرتها بأكملها خلال ثمانية وأربعين ساعة. انتهى الأمر. لم يكن لديهم مكاناً يعودون إليه.
ليف توف: دون أي تردد...؟
تامر: دون أي تردد. كانت هذه السياسة. أقوم بتحضير القوات، وأنفذ الأمر.
 
 
جنود إسرائيليون يحرسون فلسطينيين في الرملة، عام 1948. مجموعة بينو روتنبرغ / أرشيف مؤسسة الدفاع والجيش الإسرائيلي

صناديق في القبو
يقع قبو مركز ياد باري للبحث والتوثيق في طابق تحت الأرض. في هذا القبو المكون من غرفة صغيرة تتمتع بحماية جيدة، توجد صناديق عدة مليئة بالوثائق السرية. فالأرشيف يحتوي على مواد متعلقة بحركة هاشومير هتسعير  الصهيونية الاشتراكية، وحركة الكيبوتسات، وحزبي مبام وميرتس ومكوناتها مثل حركة السلام الآن.
يقوم دودو أمياتاي بإدارة قسم الأرشيف، كما أنه يرأس المؤسسة الإسرائيلية للأرشفة والمعلومات. بحسب أمياتاي، فإن أشخاصاً من «مالماب» قاموا بزيارات دورية للأرشيف بين عامي 2009 و2011. يتحدث العاملون في الأرشيف عن زيارة فرق قسم الأمن واثنين من متقاعدي "وزارة الدفاع" الذين لم يحصلوا على أي تدريب على التعامل مع سجلات الأرشيف، مرتين أو ثلاث مرات خلال الأسبوع. كانوا يبحثون عن الوثائق التي تحتوي على كلمات مفتاحية مثل «نووي» و«أمن» و«رقابة»، كما أنهم سخروا بعض الوقت "لحرب الاستقلال"، ومصير القرى العربية قبل حرب 1948.
«في نهاية الأمر، أرسلوا لنا ملخصاً يقول أنهم عثروا على عشرات الوثائق الحساسة»، يقول أمياتاي. «لا نفصل عادة بين الملفات، لذا فإن عشرات من الملفات بأكملها وصلت إلى القبو بعد إزالتها من الفهرس المتاح للجمهور.» مشيراً إلى أن بوسع ملف واحد أن يحتوي على مئات الوثائق.
يتناول أحد الملفات التي تم منعها من النشر عن الحكومة العسكرية التي تحكمت بحياة المواطنين العرب الإسرائيليين بين عامي 1948 و1966. اذ لسنوات عدة، بقيت هذه الوثائق في القبو دون أن يُسمح للباحثين بالوصول إليها. مؤخراً، وبناءً على طلب المؤرخ في جامعة تل أبيب، البروفيسور غادي الغازي، قام أمياتاي بتفحص الملف بنفسه، وقد قرر أن ما من سبب يمنع نشر الملف، بصرف النظر عن رأي جهاز «مالماب».
بحسب بروفسور الغازي، فإن هناك عدة أسباب وراء قرار «مالماب» بمنع تداول الملف، يتعلق أحدها بملحق سري مرتبط بتقرير لجنة حققت في عمل الحكومة العسكرية. فالملف بأكمله تقريباً يتحدث عن معارك ملكية الأرض بين الدولة والسكان العرب، ولا يتطرق إلى مواضيع الأمن إلا نادراً.
احتمال آخر يتعلق بتقرير لجنة وزارية أشرفت على عمل الحكومة العسكرية عام 1958. ففي إحدى الملحقات السرية للتقرير، يشرح العقيد ميشيل شاحم الذي شغل منصباً كبيراً في الحكومة العسكرية أن السبب الوحيد وراء عدم وقف الأحكام العرفية كان الحاجة إلى الحدّ من قدرة المواطنين العرب على الاستفادة من فرص العمل، ومنعهم من إعادة بناء القرى المدمرة.
يتعلق تفسير محتمل ثالث لإخفاء الملف، بشهادات تاريخية لم تُنشر سابقاً عن تهجير السكان البدو. فعشيّة تأسيس إسرائيل، سكن قرابة المئة ألف بدوي في صحراء النقب، وبعد ثلاث سنوات تضاءل هذا الرقم إلى 13 ألفاً فقط. في سنوات "حرب الاستقلال" وما بعدها، تم تنفيذ عدد من عمليات التهجير القسري في جنوب البلاد. ففي إحدى الحالات، ذكرت تقارير مراقبي الأمم المتحدة أن إسرائيل قامت بترحيل أربعمائة بدوي من قبيلة العزازمة، كما تحدثت شهادات عن حرق خيامهم. تصف الرسالة التي يتضمنها الملف السري عملية تهجير مشابهة حدثت بعد سنوات عدة، تحديداً عام 1956، كما يرويها عالم الجيولوجيا أبراهام بارنز:
«قبل شهر مضى، تجولنا في وادي الرمان، فاقترب منا عدد من البدو السائرين مع قطعان ماشيتهم في منطقة موهيلا وعرضوا علينا بعض الطعام، فكان ردي أن أمامنا الكثير من العمل وأننا لا نملك وقتاً إضافياً. خلال زيارتنا هذا الأسبوع، اتجهنا نحو موهيلا مرة أخرى، وبدلاً من البدو وقطعانهم، كان هناك هدوء قاتل. تناثرت جثث الإبل في المنطقة، وعرفنا لاحقاً أن الجيش الإسرائيلي تخلص من البدو ودمر قطعانهم قبل ثلاثة أيام، فأطلق النار على الإبل ورمى القنابل اليدوية على الأغنام، كما قُتل بدويّ عندما عبّر عن امتعاضه، فيما هرب البقية.»
استمرّت شهادته: «قبل أسبوعين، أمروا البدو بأن يبقوا حيث كانوا، قبل أن يأمروهم بالمغادرة، ولتسريع عملية التهجير تم التخلص من خمسمائة رأس غنم. تمت عملية الترحيل بنجاح.» تذكر الرسالة ما قاله أحد الجنود لبارنز حسب شهادته: «ما كانوا ليغادروا لولا أننا تخلصنا من ماشيتهم. اقتربت منا فتاة في السادسة عشر من عمرها وكانت تضع عقداً مطرزاً من رؤوس الأفاعي النحاسية. قطّعنا العقد وأخذ كل منا جزءاً منه كتذكار».
كانت الرسالة في الأصل مُرسَلة من حزب مباي إلى عضو الكنيست يعكوف يوري الذي نافس على زعامة حزب العمال، والذي مرّر الرسالة إلى وزير التنمية مردخاي بن طوف من حزب مباي. كتب يوري إلى بن طوف قائلاً «صدمتني الرسالة». قام الأخير بعرض الرسالة على أعضاء الكنيست مع ملاحظة كَتب فيها: «برأيي، لا يمكن للحكومة أن تتجاهل الحقائق المتعلقة بهذه الرسالة». كما أضاف أنه وعلى ضوء مضمون الرسالة المروّع، طلب من خبراء الأمن التأكد من صحة ما جاء فيها، وقد أكّدوا له أنّ ما في الرسالة يتوافق فعلاً مع الحقيقة.
 

 
إخلاء عراق المنشية ، بالقرب من كريات جات اليوم ، في آذار 1949. مجموعة بينو روتنبرغ / أرشيف مؤسسة الدفاع والجيش الإسرائيلي

حجّة النووي
خلال الفترة التي ترأس فيها المؤرخ طوفيا فريلنغ اتحاد الأرشفة في إسرائيل بين الأعوام 2001 و2004، قام قسم «مالماب» بأولى عمليات اقتحامه للأرشيف. يقول فريلنغ أنّ ما بدأ كعملية لمنع تسريب الأسرار النووية، أصبح مع الوقت أكبر مشروع لفرض الرقابة.
«قدمتُ استقالتي بعد ثلاث سنوات، وكان هذا أحد الأسباب.» يخبرنا البرفيسور فريلنغ. «إن منع نشر الوثائق المتعلقة بهجرة العرب خلال عام 1948 مثال دقيق على ما كنتُ أخشاه». لا يمكن لنظام التخزين والأرشفة أن يكون أداة علاقات عامة للدولة. إذا كان هناك ما لا يعجبك، فهذا شأنك. بإمكان المجتمع الصّحي التعلم من أخطائه.»
لماذا سمح فريلنغ "لوزارة الدفاع" بالوصول إلى سجلات الأرشيف؟ يقول أن السبب يتمثل في نيته السماح للعامة بالوصول إلى الأرشيف عن طريق الإنترنت. ففي النقاشات حول تحويل محتويات الأرشيف إلى مواد رقمية، تم التعبير عن القلق بخصوص الإشارة إلى مواد على صلة بموضوع ما بعينه، وقد قصدوا بذلك طبعاً مشروع إسرائيل النووي. يؤكد فريلنغ أن التصريح الوحيد الذي حصل عليه «مالماب» يخوّله بالبحث في وثائق متصلة بهذا الموضوع فقط.
لكن نشاط «مالماب» ما هو إلا مثال على مشكلة أكبر، يذكر فريلنغ: «في عام 1998، انتهت فترة منع النشر في أقدم وثائق الأرشيف المتعلقة بأجهزة الشين بيت والموساد. لسنوات عدة، ازدرى هذان الجهازان رئيس الأرشيف، وعندما أخذتُ مكانه، قدما طلباً بتمديد فترة منع النشر من خمسين عاماً إلى سبعين عاماً، وهو أمر سخيف – كان بالإمكان فتح معظم الوثائق.»
في العام 2010، تم تمديد فترة منع النشر لسبعين عاماً، وفي فبراير/شباط الماضي تم تمديدها مرة أخرى إلى تسعين عاماً، بالرغم من معارضة المجلس الأعلى للأرشيف. «بوسع الدولة منع نشر بعض الوثائق» يقول فريلنغ. «السؤال هو إذا ما كان الأمن ذريعة للتغطية على شيء ما. أصبح الأمر أضحوكة في كثير من القضايا.»
برأي دودو عميتاي من مركز ياد ياري، فمن الضروري مواجهة منع النشر الذي تفرضه "وزارة الدفاع". يقول إن إحدى الوثائق المودعة في القبو خلال فترة عمله في رئاسة المركز، تتضمن أمراً أصدره جنرال في الجيش خلال هدنة حرب الاستقلال، أمرَهم فيه بالتوقف عن عمليات الاغتصاب والنهب. ينوي عميتاي الآن مراجعة الوثائق التي تم إيداعها في القبو، خاصة تلك المتعلقة بحرب 1948، وأن يقوم بنشر ما أمكن منها. «سنقوم بذلك بحذر ومسؤولية، لكننا مدركون أن على دولة إسرائيل أن تتعلم التأقلم مع الجوانب غير الممتعة من تاريخها.»
على عكس ياد ياري، التي توقف مسؤولو وزارة الدفاع عن زيارتها، فإنهم يسعون للحصول على وثائق مركز ياد طبنكين للبحث والتوثيق التابع لحركة الكيبوتس الموحد، حيث توصل المدير أهارون أزاتي إلى اتفاق مع فرق «مالماب»، والذي سيتم بموجبه نقل الوثائق إلى القبو فقط في حال اقتنع هو بمبررات ذلك. ولكن، في مركز ياد طبنكين أيضاً، قامت فرق «مالماب» بالبحث فيما هو أبعد من المشروع النووي، لتطال مقابلات أجراها موظفو الأرشيف مع أعضاء سابقين في ميليشيا البلماخ، كما قامت بمصادرة مواد عن تاريخ المستوطنات في الأراضي المحتلة.
على سبيل المثال، عبّر «مالماب» عن اهتمامه بكتاب «عقد من حريّة التصرف: سياسة المستوطنات في أراضي 1967-1977»، الذي قام مركز ياد طبنكين بنشره عام 1992 باللغة العبرية، وقد كتبه يحئيل أدموني مدير قسم المستوطنات في الوكالة اليهودية خلال العقد الذي كتب عنه. يتحدث الكتاب عن خطة لإسكان اللاجئين الفلسطينيين في وادي الأردن بالتزامن مع اقتلاع أكثر من 1540 عائلة بدوية من منطقة رفح في قطاع غزة عام 1972، بما في ذلك عملية تضمنت إغلاق الجيش الإسرائيلي لآبار المياه. المفارقة في حالة البدو، تكمن في جملة يكررها أدموني بعد أن وردت على لسان وزير العدل الأسبق يعكوف شمشون شابيرا، إذ يقول: «ليس من الضروري توسيع العقلية الأمنية كثيراً، فالوجود البدوي ليس فصلاً عظيماً في تاريخ إسرائيل.»
يقول أزاتي: «نحن نتحرك باتجاه تشديد القبضة الأمنية، بالرغم من أن هذا زمن انفتاح وشفافية، لكن يبدو أن بعض القوى مصرّة على الشد باتجاه عكسي.»
 
  لاجئون فلسطينيون يغادرون قريتهم في مكان مجهول 1948. الأونروا

سرية غير مصرّح بها
قبل قرابة العام، كتبت المستشارة القضائية لأرشيف الدولة، المحامية ناعومي ألدوبي مقالة رأي بعنوان «ملفات مغلقة دون تصريح في الأرشيف العام». بحسب ناعومي، فإن سياسة الوصول إلى الأرشيف العام من الصلاحيات الحصرية لمدير كل دائرة.
بالرغم مما قالته ألدوبي، ففي الغالبية العظمى من الحالات، واجه العاملون في سجلات الأرشيف قرارات غير منطقية أصدرها «مالماب» دون أن يعبروا عن اعتراضهم، واستمر ذلك حتى عام 2014، عندما وصل مسؤولون في "وزارة الدفاع" إلى أرشيف معهد هاري س ترومان للأبحاث في الجامعة العبرية في القدس. تفاجأ الضيوف برفض المدير مناحم بلونديم طلبهم بفحص محتويات السجلات التي تحتوي على مجموعة الدبلوماسي أبا إيبان والجنرال شلومو غازيت.
يقول بلونديم: «أخبرتهم بأن الوثائق المطلوبة قديمة، وأنني لم أكن لأتصور أن تتسبب أي مشكلات أمنية بمنع وصول الباحثين إليها. فردّوا قائلين: لِنَقُل إنها تحتوي على شهادات تفيد بتسميم آبار المياه خلال "حرب الاستقلال"؟ فقلت لهم: حسناً، يجب محاكمة هؤلاء الأشخاص.»
تسبب رفض بلونديم بعقد اجتماع بينه وبين مسؤول رفيع المستوى في الوزارة، لكن أسلوب المسؤول الحكومي كان مختلفاً هذه المرة، إذ وجّه تهديدات مباشرة وصريحة. توصل الطرفان أخيراً إلى تسوية ترضيهما.
يقول بيني موريس أنه غير متفاجئ بنشاطات «مالماب»، فيقول: «عرفتُ بكل هذا. ليس بشكل رسمي، فلم يخبرني أحد به، لكنني أدركت الحقيقة عندما وجدتُ أن وثائق كنتُ قد اطلّعتُ عليها في السابق خضعتْ لمنع النشر. كنتُ قد استخدمتُ وثائق للجيش الإسرائيلي متعلقة بمجزرة دير ياسين، وهي الآن ممنوعة من التداول. عندما جئتُ إلى الأرشيف، لم يُسمح لي برؤية النسخة الأصلية، وقد أشرتُ في ملاحظات مقالتي الهامشية إلى أن أرشيف الدولة منع الوصول إلى الوثائق التي نشرتُها قبل 15 عاماً.»
تعد قضية «مالمابس مثالاً واحداً على المعركة التي يتم خوضها للوصول إلى الأرشيف في إسرائيل. بحسب المدير التنفيذي لمعهد عكيفوت ليور يافني، فإن «أرشيف الجيش الإسرائيلي وهو الأكبر في البلاد، وهو مُحكم السريّة، ولا يمكن الوصول لأكثر من 1% من مواده، بينما تم إغلاق أرشيف الشين بيت ذات الأهمية الكبيرة للباحثين بشكل تام، ما عدا عدد قليل من الوثائق.»
يشير تقرير كتبه كبير موظفي أرشيف الدولة السابق ياكوف لوزويك بعد تقاعده، إلى قبضة المؤسسة العسكرية على مواد الأرشيف في البلاد، فيكتب: «لا ينبغي على ديمقراطية أن تخفي أي معلومات لأنها تخشى إحراج مؤسسات الدولة. عملياً، فإن مؤسسات المخابرات، وإلى حد ما مؤسسات العلاقات الخارجية، تقوم بالتدخل في الحوار العام.»
تختلف آراء المدافعين عن منع النشر، فيقول لوزيك: «سيُمكّن كشف الحقائق أعداءنا منا، وسيُضعف عزم أصدقائنا، كما من شأنه أن يثير السكان العرب. سيتسبب في إنهاك مؤسسات الدولة في محاكم القانون، وقد يُفسّر ما يتم الكشف عنه على أنه جرائم حرب إسرائيلية.» لكنه يقول: «علينا أن نرفض كل هذه الآراء. فهذه محاولة لإخفاء جزء من الحقيقة التاريخية، بهدف بناء نسخة مريحة أكثر.»
 
 
لاجئون فلسطينيون في منطقة الرملة ، 1948. بوريس كارمي / أرشيف مؤسسة الدفاع والجيش الإسرائيلي

ما يقوله «مالماب»
كان يحئيل حوريب أمين القسم الأمني لمدة تجاوزت العقدين. وقد عمل رئيساً للقسم الأمني في وزارة الدفاع بين عام 1986 وعام 2007، مما أبعده عن الأضواء. ويُحسب له أنه وافق على التحدث لهآرتس بصراحة عن مشروع الأرشفة.
«لا أتذكر متى بدأ»، قال حوريب. «ولكنني أعلم أنني أنا من بدأ به. إن لم أكن مخطئاً، فقد انطلق المشروع عندما أراد الناس البدء بنشر وثائق من الأرشيف. كان علينا تشكيل فِرق لتفقد جميع المواد التي ستصدر للعلن.»
•   يبدو أن عدداً لا بأس به من الوثائق السرية كان مرتبطاً "بحرب الاستقلال"، وكان ذلك واضحاً من خلال الحديث مع إدارة الأرشيف. فهل يُعدّ إخفاء أحداث 1948 جزءاً من أهداف المشروع؟
«ماذا تعني بـ «جزء من الأهداف»؟ إن هدف المشروع مدروس بحيث يتوافق مع عدم الإضرار بالعلاقات الخارجية لإسرائيل وهيئة الدفاع. هذا هو المعيار وأعتقد أنه لا يزال قائماً. لم يتحقق السلام منذ 1948. قد أكون مخطئاً، ولكن حسب معرفتي فإن الصراع العربي/الإسرائيلي لم يُحَلّ بعد. إذن فمن الممكن لهذه القضايا الجدلية أن تستمر.»
عندما سُئل كيف يمكن لهذه الوثائق أن تكون جدلية، أجاب حوريب أن بوسع هذه الوثائق إثارة الفتنة بين المواطنين العرب. فمن وجهة نظره، يجب أن تتم قراءة كل وثيقة بتمعن حتى يتم الحكم على كل منها حسب معطياتها.
•   إذا لم تُعرف أحداث عام 1948، كان بإمكاننا أن نتجادل إذا ما كانت هذه الطريقة المناسبة. ولكن هذا غير صحيح، فقد صدرت العديد من الدراسات والدلائل حول تاريخ اللاجئين. فما الهدف من إخفاء هذه المعلومات؟
«السؤال هو ما إذا كان سيسبب الضرر أم لا، فهذه قضية حسّاسة للغاية. لم يُكشف بعد عن كل ما يخص قضية اللاجئين، إذ أن هناك العديد من الروايات حولها. يقول البعض إنه لم يكن لديهم من مفر سوى الرحيل، فيما يقول آخرون أن خيارات عدة أتيحت لهم. فالصواب والخطأ ليسا بهذا الوضوح. هنالك فرق بين الهرب وبين من يدعون أنهم هُجّروا بالقوة، فهناك روايات مختلفة. لا يمكنني الحكم الآن ما إذا كانت الوثائق جديرة بالسرية التامة، ولكنني متأكد من ضرورة نقاش القضية قبل أن يتم اتخاذ قرار فيما سيتم نشره.»
•   لسنوات عدة، صنّفت "وزارة الدفاع" إحدى الوثائق التي تروي أسباب مغادرة اللاجئين كوثائق سريّة للغاية. وقد كتب بيني موريس عن هذه الوثيقة من قبل، فما المنطق وراء إخفائها؟
«لا أتذكر الوثيقة التي تشيرين إليها، ولكن إن كان موريس قد كتب عنها بينما هي ليست موجودة حيث يدعي، فإن معلوماته ليست مؤكدة بما يكفي. إن كان موريس يدعي امتلاك الوثيقة، فأنا لا أستطيع نقاشه في ذلك. بينما إذا اكتفى باقتباس معلومات منها مُستخدِماً الوثيقة كمرجع، فإن كلامه يحتمل الصواب والخطأ. إذا كانت الوثيقة المختومة من الأرشيف خارجه أصلاً، فإنني أعتبر ذلك حماقة، ولكن إن اكتفى بالاقتباس منها، فهناك فرق واضح في صِحّة الأدلّة التي استشهدَ بها.»
•   نحن نتحدث عن أهم وأشهر الباحثين في موضوع اللجوء الفلسطيني هنا.
«حقيقة قولك أنه «باحث» لا تعني لي شيئاً. فأنا أعرف كثيرين في الوسط الأكاديمي ممن يتحدثون في مواضيع لا يفقهون فيها شيئاً، بينما أعرفها أنا جيداً. عندما تفرض الدولةُ السريةَ على بعض الوثائق، فهذا يعني أنه لا يمتلك الوثيقة، مما يُضعف بحثه المنشور.»
•   ولكن ألا تعد محاولة إخفاء الوثائق بناءً على الملاحظات الهامشية الواردة في الكتب، محاولةً لإغلاق أبواب الحظيرة بعد هروب الخيول؟
«أنا أقول هذا كمثال وهذا ليس الحال بالضرورة. إذا كتب أحدهم أن لون الحصان أسود في حين أن الحصان خارج الحظيرة، فليس بإمكانه أن يثبت أنه أسود اللون بالفعل.»
•   ولكن آراء قانونية تفيد بأن ما يقوم به «مالماب» في الأرشيف هو نشاط غير قانوني وغير مسموح به.
«إذا علمتُ باحتواء أحد سجلات الأرشيف على مواد سرية، فأنا مُلزم بإخبار الشرطة كي تذهب إلى هناك وتصادرها. حتى أن بوسعي اللجوء إلى المحاكم. فأنا لا أحتاج إلى الإذن من العاملين في الأرشيف، ولديّ صلاحية التصرف إذا كانت هناك وثائق سرية في الأرشيف. انظري، هنالك سياسة وراء ذلك، فلا يمكن اعتبار الوثائق سرية دون سبب. وعلى الرغم من ذلك، فلن أدّعي أن الأسباب وراء إخفاء جميع الوثائق صحيحة.»
لقد رفضتْ "وزارة الدفاع" التعليق على بعض الأسئلة الخاصة باستنتاجات هذا التقرير، واكتفت بالرد الآتي: «إنّ رئيس القسم الأمني "لمؤسسة الدفاع" يقوم بعمله استناداً إلى مسؤوليته في حماية أسرار الدولة وأصولها الأمنية. لا يعطي جهاز «مالماب» أي تفاصيل عن أشكال نشاطاته أو مهامه.»
 
 


10

يوميات نصراوي: النقد الشخصاني ثرثرة بلا مضمون!!
نبيل عودة
حضرت قبل سنوات ندوة ثقافية عن النقد الأدبي المحلي، قال ناقد معروف انه يكتب عن كل اديب يصدر كتابا فقط. قال آخر ان نقدنا لا يواكب إبداعنا المحلي ويتجاهل أقلاماً ادبية واعدة، ولم يتطرق لأي نموذج، ولم يكتب نقدا هو أيضا الا حسب المميزات المذكورة أعلاه، وتحدث شاعر وناقد هو المرحوم الشاعر والكاتب عيسى لوباني (توفي عام 1999) وكانت له زاوية رائعة في مجلة "الجديد" الثقافية التي صدرت في حيفا ومن محرريها محمود درويش، سالم جبران وسميح القاسم. نشر زاويته النقدية بعنوان "الشعر في الميزان" كانت نقدا جاد وابداعا قل نظيره النقدي في ثقافتنا، ربما لم تصدر مقالاته تلك بكتاب، وآمل ان يفعل ذلك أبنائه. قال ما معناه ان النقد المحلي لا يتعامل مع النصوص بل مع اصحابها.
قلت في الندوة بعد ان فتح المجال لتساؤلات الحضور: ان بعض الكتاب لديهم قصص متراكمة لعدة مجموعات قصصية، وانا منهم، لدينا مشكلة في النشر والتوزيع، لا نجد من يهتم بنا لأن الاهتمام ينحصر بأسماء قليلة مقرَّرة سلفا وليس بناء على مستوى إبداعها، او حسب برنامج ثقافي وطني لرعاية تطوير ثقافتنا.
 أضفت: لست مستعدا لصرف ميزانية ضخمة على حساب أهل بيتي لأصدر كتابا يحتاج الى مبالغ مالية وجهد كبير وشخصي في توزيعه، وانا لست من الذين يروج لهم، ولا ارى نفسي تاجرا يدلّل على كتبه... وقلت: منذ انطلقت الانتفاضة قبل ستة أشهر كتبت ما يزيد عن 30 قصة ولا أعرف كاتبا نشر نصف ما نشرته في نفس الفترة، وبنفس المستوى القصصي، الذي لفتت انتباها عربيا واسعا في العالم العربي ونشرت بعض قصصي بمجلة شيوعية لبنانية، وصدر بعضها بكتاب ادبي لدار نشر لسعيد محمدية في لبنان، وتناولها ناقد سوري هو محمد توفيق الصواف بكتابه "الانتفاضة في أدب الوطن المحتل" اعطى لقصصي مساحة اساسية في كتابه النقدي وتقييمه لقصصي اسلوبا ولغة سردية واعتبرها من افضل ما كتب عن الانتفاضة فلسطينيا.. بل وكانت المساحة التي خصصت لقصصي في كتابه أكثر من نصف الكتاب/ رابط الكتاب: http://s298955441.onlinehome.fr/syrianstory/comment23-9.htm
وأضفت: هنالك من يحظون "برعاية نقدية" خاصة لكل "خربشة قلم" والاحظ انهم أقرباء شخصيين او أصدقاء شخصيين او لهم مكانة حزبية مؤثرة (في وقته) حتى انه أي عمل تافه يحظى بالتناول والتطبيل والتزمير... وأطلقت على تلك الحالة تسمية "النقد المبني على منفعة الناقد الشخصية". طبعا كلمتي لم تشمل أي مدائح لأدباء المنصة "النقاد"!!
الأديب المرحوم عفيف سالم (توفي عام 2011) عرض موقفا مشابها لموقفي... وقال: أحيانا قصة واحدة أفضل من عدة مجموعات قصصية يتناولها النقد الأدبي. هل هذا تبرير لتجاهل النشاط الإبداعي لمن لم يصدر كتابا؟ وانتقد النشر الانتقائي لأسماء محددة.


طبعا "ادباء المنصة" تجاهلوا موقفنا ولم يردوا على ما اثرناه في الندوة!!
على أثر تلك الندوة قررت اقتحام عالم النقد الأدبي دون أي سلاح الا ما تتلمذت عليه لدي أستاذ الأجيال مارون عبود، وقراءات نقدية مختلفة، وفي جذور نصوصي التزمت المصداقية في قول رأيي الشخصي حتى لو كان سلبيا. وما زلت اعتبر نفسي معالجا ثقافيا وليس ناقدا.
nabiloudeh@gmail.com


11

الحركتان الخارجية والداخلية في قصة "صعلوك" لنازك ضمرة
د. أفنان القاسم

التحليل
سيقارب نقدي المنقود ليس تبعًا لما تقترحه المعاني التي تمتلئ به، لسبب بسيط ألا وهو أن هذه المعاني (وكل العناصر النسقية) تقوم على فراغ يجب عليّ ملئه، لا لأصل إلى فهم هذه المعاني، فهي مفهومة، رغم اختلاف فهمها من قارئ إلى آخر، وإنما لأكتب نصًا مغايرًا للنص الأصلي ومطابقًا له في إطار الممكن. لتحقيق ذلك، سأعرض أولاً للحركة الخارجية في قصة "صعلوك" لنازك ضمرة، بكل تعرجاتها التعبيرية والوقائعية، ثم سأسعى ثانيًا مع الحركة الداخلية من وراء العلامات والرموز لأملأ بها بعض المعاني.
الحركة الخارجية: الوقائع
للوقائع وظيفة انتقالية، ترتبط كل منها بمكان داخل مكان:
"غرفة على شارع عام غير معبد –تبدأ القصة بهذه الكلمات- يكثر التراب فيه والغبار ، وباب عيادة الطبيب مفتوح ، أدخل وأرد السلام ، يجلس خلف منضدته قرب المدخل ، يحادث الطبيب نفسه دون أن يتنبه لي ، يشير إليّ بيده للانتظار في غرفة في آخر المبنى مروراً بممرّ سيئ الإنارة، غرفة بلا باب ولا جدار فاصل عن مكان عمله".
ملحوظة أساسية: يمارس السارد لعبة الكلام تحت كل الأبعاد اللغوية والدلالية والنحوية، فلا يربكك قوله بضمير المتكلم "أدخل وأرد السلام" ومباشرة بعد ذلك عن الطبيب بضمير الغائب دون أن يحدد كونه الطبيب "يجلس خلف منضدته"، وفي أمكنة أخرى سيستعمل نفس الأسلوب عن نفسه.
يبدأ السارد إذن بالغرفة، وينتهي بالغرفة، لنستنتج أنه كان في الغرفة، وعاد بالوقائع إلى الوراء: شارع، عيادة، مدخل، ممر، غرفة انتظار بلا باب أو جدار. المكان هو بالأحرى أمكنة مفتوحة على بعضها، مكان هيولي دون أبعاد، وكأنه معلق في الفراغ. تنتقل الوقائع بالمكان، وينتقل المكان بالوقائع.
التعابير
للتعابير وظيفة اصطحابية، يرتبط كل منها بحال تلو حال:
"حاولت الوصول إلى كرسي في الزاوية البعيدة ، أواني معدنية ضخمة كانت في الطريق ، جربت تحريك واحدة منها، لكنها كانت ثقيلة ، تذكرت أن قريبنا ظلّ ينتظر خارج المبنى ، أما الطفل فظل ممسكاً بيدي ، بل شددت قبضتي على يده لأضمن عدم مغادرته ، فهو نشيط لعوب متوقد الذكاء في العبث والأمور التي تتعلق باللعب".
يلجأ السارد إلى التقنية نفسها بخصوص الوقائع، عندما يعود بتعابيره إلى الوراء متذكرًا قريبه الذي بقي بانتظاره في الخارج، حال أولى، وذلك لِيُدْخِلَ عنصرًا بنيويًا آخر، حال ثانية: الطفل، الذي كان هنا منذ بداية القصة دون أن نراه بما أنه ظل يمسك بيده. تصاحب التعابير الحال، وتصاحب الحال التعابير.
الوقائع
تتحرر الوقائع من قيود النص الكلاسيكي، وتسلك نهج التطور اللامنطقي للأحداث كزمان داخل زمان، من الحاضر إلى الماضي، عند الحديث عن القريب المنتظِر في الخارج، ومن الماضي إلى الماضي، عند الحديث عن الزوجة:
"زوجتي وأنا تناولنا جرعة من نفس الدواء ، كان ذلك مساء الأمس ، ثم تناولت هي جرعة ثانية من نفس الدواء صباح اليوم التالي ، اشتكت زوجتي من مغص في الليل وقرقرة ، حاولت الوقوف صباحاً فأحسّت بدوار، ومع ذلك تناولتْ جرعة الصباح ، معتقدة أن الدواء سيخلصها من الآلام التي أقضّت مضجعنا في الليلة السابقة، تراخت أكثر بعد الجرعة الثانية فلزمت الفراش ، وبعد عصر ذلك اليوم خشيت الليل وآلامه، فقررت الذهاب إلى الطبيب شاكياً من آلام في أمعائي".
الحاضر (وجود السارد في العيادة) والماضي القريب (الرجل المنتظر في الخارج) والماضي البعيد –ليس بعيدًا جدًا- (السارد والزوجة المريضان)، زمان كالمكان يتشكل من أزمنة مفتوحة على بعضها، زمان هيولي دون أبعاد، وكأنه معلق في الفراغ. تنتقل الوقائع بالزمان، وينتقل الزمان بالوقائع.
التعابير
كالوقائع تتحرر التعابير من المنطق التقليدي في النص الكلاسيكي، وترتدي الثوب الإشكالي في اللحظة التي تأخذ فيها نهجًا مضادًا في الخطاب عندما نقرأ باقي الفقرة السابقة:
"دعوتها إلى مرافقتي لزيارة طبيب سبق وزرته مرات من قبل ، وألمي لم يتوقف ، حاولت زوجتي إقناعي بعدم زيارة الطبيب ، لكنّ إصراري كان أقوى..".
ذهاب السارد عند طبيب سبق وزاره مرات –لاحظ الإلحاح على مرات كعنصر دال- وألمه لم يتوقف، ومع ذلك يصر على زيارة الطبيب، رغم محاولة زوجته إقناعه بعدمها، وسنعرف في مكان آخر أن الطبيب لعلاجه وصف الدواء الذي وصفه لصديقه منذ سنوات، فالدواء نفسه لكل المرضى ولكل الأوقات. إنه المنطق العدمي المرافق للنص من الكلمة الأولى حتى الكلمة الأخيرة، عدمي تحت مفهومٍ موحٍ لضد عدمي (كينوني)، وفي السياق الذي نحن فيه لانتقال طبيعي خارج عالم غير طبيعي. تصاحب التعابير الخطاب، ويصاحب الخطاب التعابير.
تعرجات
بالإمكان مواصلة التحليل بالطريقة نفسها فقرة فقرة حتى نهاية القصة، لكني سأكتفي بمنطق اللامنطق للحركة الخارجية مشفوعًا ببعض الأمثلة، مع ملاحظة أن اللامنطق هنا غير مطروح على الإطلاق كلامنطق، وهذا برأيي سر ثراء النص:
"حين دخلنا البقالة لم نعثر على المرأة التي شاهدناها تدخلها، والمحل واسع ومتشعب ، ولا يوجد إلا زبون آخر، شاب يبحث عن دخان أصلي أي أجنبي ، بعد خروجنا أدركنا أن الدقائق أصبحت مهمة ، حلّ الظلام على منطقتنا بسرعة لم نكن نتصورها من قبل، والسير فيه صعب ومخيف، المهم أن نجتاز هذا الظلام، تشعبت المسالك ، جادلني رفيقي أي فرع نسلك ، فاختلفنا ، وسلك كل منا فرعاً ، واتفقنا أن ينادي الواحد منا على الآخر إن وجد منفذا سليماً ، ضاع رفيقي وغاب ، مات رحمه الله ، ربما كنت أحلم أو أنه مات منذ زمن بعيد ، فهل يمكن أن يعود ، ولو في يوم عيد؟ ، ارتاح ولن يعود ، أنا ضائع ومشكلتي الكبرى وجود الطفل معي، والدواء السائل في جيبي أصبح يضايقني ، يملأ زجاجة كبيرة منتفخة وثقيلة".
لنلاحظ أولاً وقبل كل شيء أنهم يدخلون البقالة للمرة الثانية، وقائعيًا يعيدنا السارد إلى لحظة انتهت، لكنه يريد أن يدلل تعبيريًا على عنصر المكان الهيولي الذي يخترقه من أية جهة وفي أية لحظة، وكأنه مكانه الشخصي، وكأن المكان شخصه، إنه يحرجل (يتصعلك) فيما حوله، فيما هو خارجه، وفيما هو داخله، وكأنه يحلم، كما يقول، وكأن الموت والحياة شيء واحد. في عالم على هامش العالم، يصبح الضياع مطلبًا، لكن عبث الوجود يظل مطاردًا لموضوعه، حتى الطفولة تغدو عبئًا، حتى قنينة الدواء يصبح حملها مشكلة عويصة.
الحركة الداخلية: الرموز والعلامات
البطل، أو، السارد، في رمزه، هو نفيه الدائم لأي رمز، إنه اللابطل، ليس بالمفهوم الكلاسيكي للابطل، ولكن بالمفهوم اللغوي، فهو في النص عبارة عن نظام سردي، لا يُرى رغم حضوره الكلي، يملأ ويمتلئ، لهذا يتكلم عن نفسه بصيغة ضمير المتكلم تارة وبصيغة ضمير الغائب تارة، وبهذه الطريقة تنبني السردية، ينبني في السرد. إنه كل شخصيات القصة، هو الزوجة، وهو الابن، وهو الصديق، وهو الطبيب، وهو العراقي، وكل واحدة من هذه الشخصيات لا ترمز لشيء، ولا تمثل شيئًا، رغم أنها مجسمة لعناصر سردية، فتتفجر إنسانيتها بشكل عادي في وضع غير عادي لحركة داخلية عادية للشخصية (للشخصيات) حركة هي في الوقت ذاته حركة النص، أو، بكلام آخر، حركة التحول السلبي/الإيجابي للنص:
"وجد الأب وطفله نفسيهما على سطح عمارة تتصل بمباني أخرى ، والشارع الذي كانا يسيران فيه أُقفل بركام من حصى وتراب ، ظنها الرجل عمارة انهارت فوق قاطنيها فأقفلت ذلك الدرب الضيق ، كان يكفي لمرور سيارة ولشخص ماش بجانبها ، ثلاثة أمتار أو ثلاثة ونصف ، اضطررتما للمرور عبر ممرات ودهاليز ضيقة وملتوية، لا بد من المرور على سطوح منازل قديمة رجراجة ، مقامة على أعمدة خشبية متآكلة أو معدنية صدئة ، والمشي تحتها أو قربها أو فوقها خطر ومخيف ، والطفل مشكلتي الكبرى ، يتنبه الطفل المحمول المتشبث بعنقي إلى نافذة صغيرة ، يبدو نور ضعيف من خلالها ، تهلل وفرح، يستند الأب على جدران وعوارض خشبية هزيلة وقضبان معدنية صدئة ، حتى بلغا النافذة الثمينة ، لاحظ كتابة فاهية على خشب النافذة ، جاء فيها (نحن عراقيون) أطل منها شبه إنسان ينطق بلهجة عراقية، سمعته يقول ، (مختبئون في هذا الكهف لسنين)، لم أفهم قوله ، بل ازددت تخوفاً واضطراباً ، سألني طفلي إن كان يكلمني ، لم أجبه ، نظر خلفه ليتأكد أن لا أحد من جماعته يرقبه ، ثم أكمل ، لو كنت أعلم أنكما تستطيعان الوصول هنا ثانية لما ظهرت لكما ، لكنه الطفل ، نعم ، الطفل فقط ، ومن أجل الطفل ، وحين لاح وجهه لنور السراج الضعيف ، بدت عظام وجهه ناتئة ، لكن شواربه طالت ، مسدها وفتلها رفعها على الطريقة التركية ، سقطت سِنّان من جانب فمه العلوي ، فأثر ذلك على صحة نطقه قليلاً ، لكن ثقته بنفسه عالية ، والنخوة بدت جلية عليه والتفاؤل ، سبق الطفل أباه في طلب المساعدة ، ليدلنا العراقي على منفذ كي ننزل عن سطوح المباني القلقة ، قال الطفل له: لا أحب أن أمشي على سطوح مباني متهاوية يا عمّ ، فهل ستساعدنا؟ ترك الأب ابنه بتكلم على هواه ، وحين توقف أضاف الأب:
- لا شك أن زلزالاً أو مصيبة حلت بتلك البيوت ، ألا تحس باهتزازها ، كلها آيلة للسقوط ، فهلا ساعدتنا يا بني كي نسرع الخروج".
يبدأ السارد بالحديث عن نفسه وولده بصيغة ضمير الغائب "وجد الأب وطفله نفسيهما..."، ثم يخاطب نفسه وابنه بصيغة المثنى "اضطررتما للمرور عبر ممرات..."، ثم يتابع بصيغة ضمير المتكلم "والطفل مشكلتي الكبرى..."، ثم يعود إلى صيغة ضمير الغائب "يستند الأب على جدران..."، وهكذا إلى ما لا نهاية. وكل هذا في جو رؤيوي يتفجر (يتهدم) بالعلامات التي تشير إلى نهاية العالم، وكأن شرط ملء فراغ المكان بهدمه، حتى الشاب المنقذ العراقي الذي يحتاج إلى من ينقذه مما هو فيه يأخذ شكل المكان الذي يعيش فيه (عظامه الناتئة شواربه الطويلة أسنانه الساقطة). كل الفاجعة العراقية تتراءى في هذه الرؤية، كل الفاجعة البشرية تتتالى محطة بعد محطة في هذه التتالية، كل فاجعة النص تنزاح انزياح البنى التي يتشكل منها، أقول بنى لتعدد التقنيات وتعدد الأساليب وتعدد الموديلات، ولكن قمة كل هذا، التي تعيد هدم النص لتملأ فراغ النص من جديد، هي العبارة الأخيرة: "وأنت تنأى عنه (عن الشاب العراقي)، تحاول عدم الالتفات إلى الوراء ، ولا إلى كل ما صار ، قلتَ لنفسك ، لا تدري أن الطريق طويلة أمامك أم خلفك".
باريس الثلاثاء 2014.11.25
النص
أعتبر هذه القصة التي قضيت ليلتي مع شخصياتها من بين أجمل القصص التي حللتها منذ أكثر من نصف قرن، كتبها نازك ضمرة عام 2004، وحتى اليوم لم يتكلم عنها أحد. / أ. القاسم
صعلوك –قصة نازك ضمرة
غرفة على شارع عام غير معبد ، يكثر التراب فيه والغبار ، وباب عيادة الطبيب مفتوح ، أدخل وأرد السلام ، يجلس خلف منضدته قرب المدخل ، يحادث الطبيب نفسه دون أن يتنبه لي ، يشير إليّ بيده للانتظار في غرفة في آخر المبنى مروراً بممرّ سيئ الإنارة، غرفة بلا باب ولا جدار فاصل عن مكان عمله ، حاولت الوصول إلى كرسي في الزاوية البعيدة ، أواني معدنية ضخمة كانت في الطريق ، جربت تحريك واحدة منها، لكنها كانت ثقيلة ، تذكرت أن قريبنا ظلّ ينتظر خارج المبنى ، أما الطفل فظل ممسكاً بيدي ، بل شددت قبضتي على يده لأضمن عدم مغادرته ، فهو نشيط لعوب متوقد الذكاء في العبث والأمور التي تتعلق باللعب، يحب أن يعرف أي شيء يراه ، ولأنه الأصغر فهو مدلل ومعظم طلباته ملبّاة، مع أننا لا نلبي له معظم طلباته، في منطقة سكننا لا توجد أشياء مدهشة (فانسي كما يقولون) ولا حتى ثمينة أو مزعجة، طلباته لا تتعدى الحلوى أو الفواكه أو حذاء أو لعبة ميكانيكية صينية الصنع، ولا تعيش مثل تلك اللعبة أكثر من يوم أو يومين على الأكثر.
زوجتي وأنا تناولنا جرعة من نفس الدواء ، كان ذلك مساء الأمس ، ثم تناولت هي جرعة ثانية من نفس الدواء صباح اليوم التالي ، اشتكت زوجتي من مغص في الليل وقرقرة ، حاولت الوقوف صباحاً فأحسّت بدوار، ومع ذلك تناولتْ جرعة الصباح ، معتقدة أن الدواء سيخلصها من الآلام التي أقضت مضجعنا في الليلة السابقة، تراخت أكثر بعد الجرعة الثانية فلزمت الفراش ، وبعد عصر ذلك اليوم خشيت الليل وآلامه، فقررت الذهاب إلى الطبيب شاكياً من آلام في أمعائي ، دعوتها إلى مرافقتي لزيارة طبيب سبق وزرته مرات من قبل ، وألمي لم يتوقف ، حاولت زوجتي إقناعي بعدم زيارة الطبيب ، لكنّ إصراري كان أقوى..
نهضتْ زوجتي أبكر من العادة يومها ، وبرغم آلامها أعدت فنجان قهوة الصباح لي ، لم أتنبّه لما تفعله، وإذا بفنجان قهوة على صينية فضية اللون ، تقشر دهانها في بقع صغيرة متناثرة ، واحتوت الصينية كأس ماء وطبقاً صغيراً به قليل من البسكويت ، أما هي فقالت إنها لا تشتهي القهوة في ذلك اليوم على غير عادتها، قالت إن طعم الدواء ورائحته تنفرانها من أي شيء ، كانت ما تزال بلباس نوم خفيف زهري ، يكاد يمتزج مع بشرتها. كاشف أعلاه، وهفهاف أسفله برغم قصره ، تراخت وترهلت، تمنيت لو آتي بحبتي الرمان اللتين حفظناهما في الثلاجة منذ زمن بعيد، يقولون إن عصير الرمان يشفى من المغص اللعين، سألتها عن موضع الألم الذي تحسّ به، فأمسكت يدي ، وقالت هنا أسفل الصرة، شربت نصف فنجان القهوة، واثنتين من البسكويت. نسيت يدي على موضع الألم، أحسست بعطش فأتيت على كأس الماء المتوسطة ، سحبتها ومسحت فمي من الماء البارد، سألتها إن كانت ما زالت موجوعة، حاولت الابتسام لكن الألم غيّب البسمة، أنّت وأنا أمسك بذراعها ، نمشي صوب غرفة النوم، الوقت صبح وكنت مستعداً لمغادرة البيت، أنعشتني القهوة قليلا، وتنتظرني أشغال أخرى لا بدّ من إنجازها بعد زيارة الطبيب، تقول زوجتي قبل مغادرتي
- لا تنس الهاتف النقال. قبل الابتعاد عن الباب، رأيت قميص نومها أقصر من ذي قبل، يلزمني جرعة دواء ثانية، تمر سيارة (همَر) مهيبة لامعة مسرعة، تثير غباراً في شارع مترب، سعل الطفل وتضايقت أنفاسي، ابتعدت عن البيت وأنا متكدر من الجو الخارجي. لا أدري لماذا أقنعت ابننا ليرافقني، يلتصق بي طفلنا الصغير حسب رغبة والدته، طلب قريب لي يكبرني كثيراً في العمر أن يصحبنا، كان ضجراً يبحث عمن يسليه، أخاطب نفسي، ليتني فعلت مثلها، تذكرت الدهاليز التي سنقطعها ، والمصاعب التي ستلاقينا ، سألني رفيقنا إن كنت أخاطبه ، فأجبته
- أشكو من ندرة الخضرة ومن ارتفاع أسعار الدخان ومن فساد الهواء.
- إذا عملنا أكثر حصلنا على دخل أكثر. لا أدري كيف فهم طفلنا موضوع حديثنا فقال في عناد
- أنا أحب الآيسكريم كل يوم ولا أستطيع الاستغناء عنه يا أبي. أجبته
- كل أسرتنا تحب الآيسكريم وأنا من ضمنهم. مع أنني أعاني من غازات كلما أكلت الآيسكريم ، ظننت أن ما يجلبه أصحاب المحلات التجارية في منطقة سكننا نوعية رديئة أو غير مبرّد جيداً، جربت شراء أنواع أخرى غالية مستوردة من أميركا، ومن محلات كبرى يرتادها مالكو سيارات الهمر والمرسيدس والرولز، فعانيت نفس المشكلة، بل زاد الريح انطلاقاً وقوة وبأصوات يصعب إخفاؤها ، وربما لكثرة المكسرات والملونات التي تضاف إلى آيسكريم الأغنياء، الغريب أنهم لا يحصل معهم كما أعاني، ومع هذا لا يهمهم الأصوات المزعجة والريح العاصفة، حتى لو رافقتها روائح كريهة.
في غرفة انتظار الطبيب جلست على طرف كرسي صغير أمام حواجز معدنية، احترت في أمر تلك الحواجز، ظننت نفسي في مركز أمن، قال أحدهم: أن تكون خلف الحواجز نصف العلاج، تمنيت أن يأتي دوري بسرعة، لأسأل الطبيب عن أسباب وجود الحاجز المنيع المكلف، ألمح الطبيب يمسك معصم ولد مراهق، مغمضاً عينيه كأنه حالم أو نصف نائم، فطنت أنني سأكون جالساً على كرسي في المقهى المجاورة لعيادة الطبيب في مثل هذا الوقت بعد شفائي بيومين أو ثلاثة، مقهى شعبية واسعة في ساحة واسعة فيها متاجر أخرى، قلّ مرتادوها من كل الأجناس، قال قريبي الذي ظل مصرا على مرافقتي حتى للطبيب
- المحطات الفضائية، سواء في المقهى أو في الدكاكين، والجهة الغربية ما تزال مقفلة أمام العين، والشمس تحجبها غيوم كثيفة، والغبار كما يصفونه في نشرة الأخبار الجويةً يزيد أنفاسي ضيقاً، المذيعة الرفيعة البديعة تزيد همومك، تجعلك تقشعر وهي تشير إلى خارطة الثلوج والأعاصير القادمة، ننشغل كلنا بحكّ أعيننا. تلاحق طفلك وهو يحاول التحرّي في غرفة الانتظار الصغيرة.
في المقهى العريق قبل يومين يجلس قريبك الذي يكبرك على كرسي قصير من القش قديم ، لم يأت أحد من العاملين في المقهى كي يسألكما عن الشراب، أكثر من نصف ساعة مرّت. ينادي الطبيب بنفسه علينا وبصوت أجشّ مكتوم، استغربت حين سألني عن اسمي، اهتز المكان بسبب رعد خفيف، جعلني أتلكأ في إجابتي، لكنه طبيب، ويزوره الكثيرون كل يوم، لم أعبأ بأفكاري وذكرت له اسمي، كتبه في مفكرته في تردد وبطء وبمهنية، يجسّ نبضي عند معصمي ثم يقول
- ما الذي يشغلك أو يؤلمك؟
- سبق وزرتك عشرات المرات من قبل يا حكيم، ألا تذكر مزاحنا وأحاديثنا عن الشراب والحلوى والسمنة والأمراض التي تسببها، ألهذه الدرجة تراني تغيرت؟
- آآه ، تذكرت، لم أكن متيقظاً لحظة دخولك. ثم أكمل قائلاً، أحب أن نراك باستمرار ، لنهتم بصحتك ، سألني عن الدواء الذي أتناوله للنوم.
- لا يهمني النوم يا طبيب، ثم أكملت ، ننسى الدواء، كما ينسى الأطباء المرضى، استعجل الطبيب بتوديعي حين شاهد امرأة عجوزاً تتكئ على عصا تتجه صوب عيادته.
- نفس الدواء الذي صرفه لي قبل أربع سنوات. قال قريبي.
- هو طبيب وأدرى منا بعمله.
- إننا سعداء في حارتنا لأن حافلة ركاب النقل العام تصلنا ، وتنقلنا إلى أي مكان داخل المدينة ، أو إلى مدينة مجاورة.
- نحسب الوقت بالسنين والشهور في حارتنا ، لاحظ فريبي شرودي.
قريبي الذي يسير بمحاذاتي يحب الكلام في مختلف أنواع المواضيع ، سياسة ، نقد ، ترفيه ، ذكريات ، وحتى أنه يتغزل بعجائز بدينات أحياناً، لم تصادفنا امرأة واحدة في طريقنا الطويل في ذلك المساء ، كنا نمشي ثلاثتنا، ولم تمر أي سيارة بعد مغادرتنا الطبيب ، والشمس تجري لمستقرها الليلي ، بل غاصت في البحر الغربي ، تذمّر رفيق دربي وقريبي الأكبر مني سناً ، لكنني أحب المشي وقد اعتدت عليه، يقولون إنه يقوي القلب، ويطيل العمر، وصلنا بقالة متوسطة الحجم ، تدخلها امرأة متوسطة في العمر ، متوسطة في الطول وفي الوزن وفي نوعية لباسها ، بمشية معتدلة لا تلتفت يميناً ولا يساراً ، كأنها روبوت يسير ببطارية شحنت لتوها، اقترح رفيقي أن ندخل لنرى موجودات البقالة ومن فيها ، لكن طفلي الصغير سبق رغبة الرفيق ، جذبني صوب البقالة كأمر محتوم، وحيدة في مبنى طويل قديم من طابق واحد ، لا أبواب فيه ولا نوافذ إلا بابها الصغير ، وربما كان باباً لمصلى أثري أو معبد ، رجل كبير في السن يغادر المكان من المدخل إياه ، قد يكون ذلك الشخص كفيفاً ، وإلا فهزيل أو ضعيف بصر أعيته السنون ، سأل قريبي صاحب البقالة عن أغراض دون نية في الشراء ، ثم طلب مني طفلي الاستعجال بشراء ما يريد، علينا المشي السريع لأكثر من ساعة للوصول إلى حارتنا الفريدة، إذا غربت شمسنا يطبق الظلام علينا بسرعة، اشترى طفلنا ما أراد ، لكنه اقتصر على الموز ، وبعض الحلوى الصغيرة الصلبة ، حمل ثلاثاً من الموز ، قال واحدة لي وواحدة لك يا بابا وواحدة لماما ، فاشتريت أربعة قدمت لرفيقي واحدة، ذكرني بالهاتف النقال ، فاتصلت بالمنزل لأطمئن على زوجتي ، فصاحت مولولة ، ولدي أين ولدي؟ اختطف ولدي الهاتف النقال من يدي
- هاي ماما ، آي لوف يو ، أنا آكل موزة ، وأحضرت لك موزة معي ، أتناول الهاتف وأسألها ، هل شفيت وتحسنت حالك؟ فأجابت
- (عمر الشقي بقي)،أظلمت الدنيا ولماذا تتأخر دائماً حينما تغيب؟
- آمل أن نكون عندك بعد ساعة أو ..
- أو ماذا ، هل ستبيت خارج البيت، قلت في نفسي ، سأنام ملء جفوني الليلة.
- طمنيني عنك! أتيت لك بدواء.
- شربت الكثير من الماء والميرمية والبابونج ، وببدو أنني بدأت أتحسن ، لكنني توقفت عن شرب دواء الطبيب القديم.
- هلو هلو … انقطع الخط
أحسست بالجوع ، تمنيت لو أن لدي مالاً كافياً لدخول مطعم نظيف ، وصفوا لي واحداً خلف الحارة التي نسير عبرها ، رن الهاتف النقال ، فأقفلته نهائياً حتى لا يعمل ولا يرن.
حين دخلنا البقالة لم نعثر على المرأة التي شاهدناها تدخلها، والمحل واسع ومتشعب ، ولا يوجد إلا زبون آخر، شاب يبحث عن دخان أصلي أي أجنبي ، بعد خروجنا أدركنا أن الدقائق أصبحت مهمة ، حلّ الظلام على منطقتنا بسرعة لم نكن نتصورها من قبل، والسير فيه صعب ومخيف، المهم أن نجتاز هذا الظلام، تشعبت المسالك ، جادلني رفيقي أي فرع نسلك ، فاختلفنا ، وسلك كل منا فرعاً ، واتفقنا أن ينادي الواحد منا على الآخر إن وجد منفذا سليماً ، ضاع رفيقي وغاب ، مات رحمه الله ، ربما كنت أحلم أو أنه مات منذ زمن بعيد ، فهل يمكن أن يعود ، ولو في يوم عيد؟ ، ارتاح ولن يعود ، أنا ضائع ومشكلتي الكبرى وجود الطفل معي، والدواء السائل في جيبي أصبح يضايقني ، يملأ زجاجة كبيرة منتفخة وثقيلة.
يلتصق الطفل بيد والده ، لا يحس خوفاً من ظلام أو من انقطاع كهرباء ، لكنه جفل مرة لأن قطاً كان مختبئاً ينتظر فأراً ، وما أن خرج الفأر حتى هجمت عليه القطة، لكنه تأكد أنها قطة من نور ضعيف بعيد، وهو يحب القطط كثيراً.
أكل نصف قرن موز حتى تلك اللحظة ، وصار ينوء بحمل النصف الثاني ويتذمر ، يتناولها والده منه ويقضم ما تبقى منها. وجد الأب وطفله نفسيهما على سطح عمارة تتصل بمباني أخرى ، والشارع الذي كانا يسيران فيه أُقفل بركام من حصى وتراب ، ظنها الرجل عمارة انهارت فوق قاطنيها فأقفلت ذلك الدرب الضيق ، كان يكفي لمرور سيارة ولشخص ماش بجانبها ، ثلاثة أمتار أو ثلاثة ونصف ، اضطررتما للمرور عبر ممرات ودهاليز ضيقة وملتوية، لا بد من المرور على سطوح منازل قديمة رجراجة ، مقامة على أعمدة خشبية متآكلة أو معدنية صدئة ، والمشي تحتها أو قربها أو فوقها خطر ومخيف ، والطفل مشكلتي الكبرى ، يتنبه الطفل المحمول المتشبث بعنقي إلى نافذة صغيرة ، يبدو نور ضعيف من خلالها ، تهلل وفرح، يستند الأب على جدران وعوارض خشبية هزيلة وقضبان معدنية صدئة ، حتى بلغا النافذة الثمينة ، لاحظ كتابة فاهية على خشب النافذة ، جاء فيها (نحن عراقيون) أطل منها شبه إنسان ينطق بلهجة عراقية، سمعته يقول ، (مختبئون في هذا الكهف لسنين)، لم أفهم قوله ، بل ازددت تخوفاً واضطراباً ، سألني طفلي إن كان يكلمني ، لم أجبه ، نظر خلفه ليتأكد أن لا أحد من جماعته يرقبه ، ثم أكمل ، لو كنت أعلم أنكما تستطيعان الوصول هنا ثانية لما ظهرت لكما ، لكنه الطفل ، نعم ، الطفل فقط ، ومن أجل الطفل ، وحين لاح وجهه لنور السراج الضعيف ، بدت عظام وجهه ناتئة ، لكن شواربه طالت ، مسدها وفتلها رفعها على الطريقة التركية ، سقطت سِنّان من جانب فمه العلوي ، فأثر ذلك على صحة نطقه قليلاً ، لكن ثقته بنفسه عالية ، والنخوة بدت جلية عليه والتفاؤل ، سبق الطفل أباه في طلب المساعدة ، ليدلنا العراقي على منفذ كي ننزل عن سطوح المباني القلقة ، قال الطفل له: لا أحب أن أمشي على سطوح مباني متهاوية يا عمّ ، فهل ستساعدنا؟ ترك الأب ابنه بتكلم على هواه ، وحين توقف أضاف الأب
- لا شك أن زلزالاً أو مصيبة حلت بتلك البيوت ، ألا تحس باهتزازها ، كلها آيلة للسقوط ، فهلا ساعدتنا يا بني كي نسرع الخروج. ثم عاد الطفل يقول: أكره الاهتزاز يا عمّ؟
كان شاباً لا يزيد عن الخامسة والثلاثين عاماً. نحيفاً لكنه صلب عنيد ، عيناه نجمتان بعيدتان مشعتان ، لم ندر كيف خرج ، ولا من أين خرج ، لم يخرج من الكوّة الصغيرة التي كلمناه من خلالها ، نظرنا إلى الجانب الآخر ، فإذا به ينبثق من باب صغير كفتحة سرداب ، أبقاه مفتوحاً ، تقدمنا عبر طريق متعرج، أوصلنا إلى مناطق أعرف سبلها ، هبت نسمة هواء باردة ، أعقبها برق ضعيف ، لاحت شجرة منخفضة جداً ، وضعيفة النمو ، تتساقط أوراقها وهي تقاوم ، وتعبث فيها الريح ، قال ، طريقكم طويلة.
وأنت تنأى عنه، تحاول عدم الالتفات إلى الوراء ، ولا إلى كل ما صار ، قلت لنفسك ، لا تدري أن الطريق طويلة أمامك أم خلفك.
نورث كارولاينا في 1/9/2004

12
عن "المبدعون والثرثارون" للأديب د. جميل الدويهي من كتابه الفكري" هكذا حدثتني الروح"
بقلم نبيل عودة
ضمن مشروع الأديب د. جميل الدويهي صاحب موقع "أفكار اغترابيّة" للأدب المهجريّ الراقي – سيدني/ استراليا، قام عدد من الأدباء العرب بتناول مواضيع نشرت في كتاب فكري له بعنوان" هكذا حدثتني الروح". وقد وقع اختياري على نص له من الكتاب بعنوان "المبدعون والثرثارون"، رأيت به تعبيرا عن واقع تكاثر الثرثرة التي بدأت تنتشر بتوسع مقلق في ثقافتنا العربية بكل انحاء العالم العربي، مما يقتضي تضافر جهود أدبية جبارة لإعادة المسار الإنساني الإبداعي والجمالي لثقافتنا العربية. مقال د. جميل الدويهي "المبدعون والثرثارون" مرفق بنهاية مقالي.
******
 منذ تعرّفت على الأديب المهجريّ الموسوعيّ د. جميل الدويهي، وأنا أعيش بأجواء متفائلة أنّ الثقافة العربيّة بكلّ مجالاتها وتيّاراتها تجدّد ذاتها، وتنطلق إلى أفاق واسعة متحرّرة من العوائق الفكريّة القاتلة التي عصفت بثقافتنا، خاصّة ما ارتُكب تحت مظلّة الفكر الأصوليّ المتطرّف، وما ارتكبه ذلك النهج والفكر بحقّ المثقّفين والأبرياء، وبحقّ المجتمعات العربيّة بشكل عامّ، من جرائم يندى لها الجبين الانسانيّ.
لفت نظري عنوان نص إنسانيّ لأديبنا الدويهي في كتابه الفكري (هكذا حدثتني الروح) بعنوان "المبدعون والثرثارون"... المبدعون بصفتهم الوجه الناصع للثقافة العربيّة، والثرثارون يشكّلون تيّاراً لا يستهان به، وتعاني منه ثقافتنا العربيّة. لم أتردّد بتناول هذا النصّ وطرح رؤيتي، التي كلّما طرحتها وجدت نفسي بمواجهة من يسمّيهم أديبنا الجميل جميل الدويهي بـ "الثرثارون"... ولو كانوا مجرّد ثرثارين، لهان الأمر على الثقافة والمثقّفين، لكنّهم ضد انطلاقة الإنسان واكتشاف عوالم تثري حياته وحياة مجتمعه. عزمت أمري على الخوض عميقاً بهذه الظاهرة المرضيّة المضادّة للثقافة، والمدمّرة لكلّ حسّ إنسانيّ يعشق الجمال في الحياة والطبيعة والأدب، وفي الإنسان نفسه قبل كلّ شيء.
 كعادتي... منذ خضت ساحة الإبداع الثقافيّ، لم أتوقّف عن الفرز بين الورد والزؤان. والزؤان هو الصفة السائدة بين من يسمّيهم الدويهي بـ "الثرثارون"! من عادتي أن أفلسف مواقفي، وأرى أنّ هذا النص أيضاً يحمل مسحة من الرؤية الفلسفيّة لأديبنا الدويهي الذي قرأت له بمتعة بعض النصوص الفلسفيّة. أصلاً إنسان بلا فلسفة يفتقد للوعي بكل امتداده، وخاصّة الامتداد الثقافيّ، الذي يشكّل قاعدة حياتيّة تشمل جميع مرافق الحياة. لأنّ الثقافة ليست الإبداع الأدبيّ فقط، بل النشاط الخلاّق من اجل الرقيّ والتطوّر أيضاً. طبعاً نحن لا نكره ولم نتعلّم الكراهية، وننشط لإنقاذ الثرثارين من ضياعهم الإنسانيّ. وكما يقول الفيلسوف الألمانيّ نيتشه: "أحبّ أعداءك لأنّهم يُخرجون منك الشيء الأكثر طيبة". وهذا ما نفعله بنشاطنا الثقافيّ، ولولا ذلك لكنّا مجرّد ثرثارين أيضاً.
الفلسفة طرحت مفهومين لـ "مبدعون وثرثارون". المفهوم الأوّل "الثقافة"، والمفهوم الثاني "الثقافة المضادّة". والثقافة تشمل كلّ مجالات الإبداع من أدب وفنون ومسرح ورسم، وكلّ نشاط يهدف إلى الرقيّ الإنسانيّ والمجتمعيّ. الثقافة المضادّة هي ثقافة الثرثرة، ولكن علينا هنا التمييز بأنّ الثقافة المضادّة يمكن أن تكون أيضا ثقافة ثوريّة ضدّ سيطرة ثقافات دخيلة أو ثقافات غير إنسانيّة... وهذا شهدناه بتطوّر ما عرف بشعر المقاومة في فلسطين 48، الذي بجوهره كان رفضاً لممارسات نهجت على فرض سياسة التجهيل والعزل ومصادرة الهويّة الوطنيّة، ونفي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ. ونشهد تطوّر الثقافة المضادّة بكلّ المستعمرات السابقة كردّ على ثقافة المستعمر، والتي حاولت تحقير الإنسان وشلّ نضاله من أجل التحرّر.
طبعاً في مجال الثرثرة نجد الفاشلين والواهمين، وهم حالة مرضيّة لمجموعة تريد الصعود، ولا تملك أيّ أداة ثقافيّة أو فكريّة. يتملّكهم غرور قاتل، كلّ ما يفعلونه يتلخّص بترك نباتات ضارّة في المسيرة الإبداعيّة للمجتمعات عامّة. واجهت بتجربتي الثقافيّة العديد من الثرثارين، وقد غلّف بعضهم ثرثرتهم تحت صيغ دينيّة، ولم أبقَ صامتاً، لأنّ الدين ليس عدوّاً للرقيّ الحضاريّ للإنسان.
 طبعاً لا يمكن تجاهل التناقض الذي يقود بعض ضعاف النفوس للثرثرة، والفلسفة تعلّمنا أنّه ليس ثمّة شيء غير متناقض داخليّاً، التناقض هو قانون التطوّر كما كشف ذلك الفيلسوف الألمانيّ هيغل في نظريّاته الديالكتيكيّة، خاصّة قانون وحدة وصراع الأضداد. لكنّه تناقض يدفع للتطوّر والإبداع وليس للشلل كما يفعل المثرثرون الفاشلون. المثرثرون يرتكبون بوعي أو بغباء مذبحة بحقّ الثقافة الإنسانيّة، التي تنشد الجمال والسعادة للإنسان. يجب تعميق عزلهم بعدم إعطائهم منابر، والانفضاض من النشر في المواقع ووسائل الإعلام التي لا تحافظ على مستوى ثقافيّ يحترم العقل الإنسانيّ...
أشعر أنّنا لم نتعمّق كفاية من موضوع نقد العقل العربيّ. والنقد هو منهج لعقلنة العقل وعقلنة الإبداع. حتّى في الفلسفة الإغريقيّة نجد أنّ أرسطو ميّز بين الصفات ذات القيمة والصفات الطارئة بقوله: "إنّ الصفات ذات القيمة هي تلك التي لا يوجد الشيء فيها كما هو"، وهو بحالتنا الإبداع الحقيقيّ، وأضاف "أنّ الصفات الطارئة هي التي تظهر الشيء كما هو وليس ما هو جوهره".
مبدعون وثرثارون تذكّرني بحكاية تعبيريّة ساخرة، سأنهي بها مداخلتي: عندما وصل سمير لجيل الكهولة قرّر أن يغيّر طريقة حياته. بدأ بريجيم شديد للغاية، ومارس رياضة الركض. وبذلك خفّض وزنه بـ 15 كيلو غرام، فبدا أكثر شباباً. قرّر أيضاً أن يغيّر قصّة شعرة لقصّة شبابيّة، دخل صالون حلاقة، قصّ شعره قصّة شبابيّة وصبغه باللون الأسود الغامق. وقف مذهولاً وسعيدا أمام المرآة من هيئته الشبابيّة...
خرج للشارع والضحكة تمتدّ من أذنه اليمنى لأذنه اليسرى. فجأة صدمته سيارة فقذفته بقوة لمسافة عشرة أمتار، في الرمق الأخير صرخ: لماذا يا إلهي؟ فجاءه جواب من السماء: آسف يا سمير لم أعرفك بشكلك الجديد!
هذه حالتنا مع الثرثارين، يغيرّون أشكالهم فقط، لكنّ جوهرهم لا يتغيّر. ومصيرهم ربّما ليس النهاية بحادثة سيّارة، بل استمرار انعزالهم ولو ملأوا الإعلام بثرثرتهم الغبيّة. وسيبقى الإبداع والمبدعون علامة فارقة في التنوير والتقدّم وتعميق الوعي الإنسانيّ بنشاطهم الثقافيّ والإبداعيّ،
ولنا دليل ونموذج كبير وهامّ بمسيرة وإبداع أديبنا المهجيري والموسوعيّ د. جميل الدويهي.
باحترام لجميع المشاركين...
نبيل عودة -كاتب، ناقد، باحث فلسفيّ وإعلاميّ فلسطينيّ من مدينة المسيح -الناصرة!
nabiloudeh@gmail.com
******
"المبدعون والثرثارون" – نص الأديب المهجري الموسوعي د. جميل الدويهي
من الناس مَن يفرحون لكم لأنّكم تنجحون، فهؤلاء يؤمنون بأن العالم يتّسع لكم ولهم، وهكذا العصافير تغرّد جميعاً ولا ينقص شيء من السماء.
وهناك مَن لا يهتمّون لما تفعلونه إذا لم يكن لهم نصيب منه، فأولئك هم النفعيّون الذين إذا أصابتهم فائدة اغتبطوا، وإذا لم تصِبهم فائدة أشاحوا بوجوههم، ومضوا في سبيلهم... فهل رأيتم الحجارة تنطق بفضائلكم، وترتقص من أجلكم؟ أمّا الذين يكرهون نجاحكم، فهؤلاء هم الحقودون الفارغون، الذي يتخايلون في مهبّ الريح، وتغيظهم الأفكار العظيمة. وإنّهم لو استطاعوا لهشّموا وجوهكم، وقطعوا ألسنتكم، وأحرقوا كتبكم لكي تفرغ الدنيا ممّا هو جميل. فكيف يطيق مَن في قلبه بشاعة أن يرى الجمال الذي فيكم؟ وهل تنتظرون من الثرثار الذي لا يخرج من فمه إلاّ الكلام الرخيص أن يحبّ الذي كلامه من ذهب؟
قال الغراب: إيّاكم أن تنصتوا إلى هذا العندليب الذي يملأ الصباح شؤماً، ويرتعب الناس من غنائه القبيح.
وقالت الشوكة: ما أبشع هذه الوردة! فلقد خنقني عطرها، ولا أستطيع أن أتنفّس. إنّها قاتلة الأشواك.
لقد كتب عليكم أن تعايشوا مَن يرفضونَكم، وتقْبلوا بمَن لا يقبلونَكم، وأن تصْمتوا عندما يكثر الكلام الذي بغير طائل، فهذه سنّة الحياة، ولولا ذلك لكانت الأرض التي نعيش عليها جنّة، أين منها الجنّة التي في السماء؟
ما رأيت فاشلاً إلاّ ويزعم أنّه بطل، وأنّ الأبطال الحقيقيّين هم أشباه الرجال.
وما عرفت ثرثاراً إلاّ ويتمنّى أن يقتل الفلاسفة جميعاً...
وما التقيت بعاجز عن الإبداع، إلاّ وادّعى أنّه الأوّل في المبدعين، وأنّ الناس جميعاً وراءه.
مشروع الأديب د. جميل الدويهي "أفكار اغترابيّة" للأدب المهجريّ الراقي -سيدني 2020

13
السخرية المغلّفة في قصة راوية بربارة "محاولة إقناع"
بقلم: نبيل عودة
قصّة د. راوية بربارة "محاولة إقناع" فاجأتني بفكرتها أوّلا، وبقدرة السخرية أن تكون مستترة داخل السرد القصصيّ، بدون تكلّف، وبدون مبالغة، عبر سرد يبدو تقليديًّا للوهلة الأولى، وأظنّ أنّ الكثيرين من القراء لم ينتبهوا للسخرية التي تفجرّها الأديبة د. راوية بربارة، متجاوزة الصياغة القصصيّة التقليديّة، رغم أنّ القارئ العادي لن ينتبه لقوة السخرية المستترة بفكرة القصة. وبالمناسبة لا بدّ أن أضيف أنّ اكتشافي لمضمون السخرية في هذا النص القصصيّ قد يفاجئ معظم من قراء القصة.
 قد يتفاجأ من قرأ هذا النصّ القصصي بأنّني أتحدّث عن مفارقة ساخرة. فهي تبدو للقارئ نصًّا قصصيًّا تقليديًّا يتحدّث عن مجموعة طلاب بطريقهم للمشاركة بحوار، أمر لا شيء غريب فيه، تكتب: "السيّارة تهرول تشقّ الطريق الجبلي والقلوب تنتفض قلقا، تحاول استمهال السائق خوفا من المواجهة الأولى...لكنّ العجلات السود لا تستوعب المخاوف الإنسانيّة وتُنذر بالوصول"
فأين السخرية اذن؟ طبعا هذا تمهيد للآتي. وتضيف: " ركضنا نحو قاعة المحاضرات منتظرين بداية المهمّة التي أوكلت إلينا في درس فن الخطابة وهي: محاولة إقناع الآخرين بوجهة نظرنا."
حتى هنا النصّ يمكن أن نسميه نصًّا متوقّعًا لا شيء يثير التفكير فيما هو غير متوقع.
وهنا تبدأ اللعبة اللغويّة، لعبة المفارقة لطرح واقع ربما اعتدناه، حضر الطلاب  لإجراء حوار يهوديّ عربي، يقترح الأستاذ أن يجري اختيار المتحدثين حسب ترتيب الحروف الأبجدية.
وتفجّر راوية بهدوء قنبلة أولى قد لا تثير التفات أحد "الطلاب العرب فضّلوا أن يستمعوا أوّلا لزملائهم اليهود".
ماذا يتوقّع القارئ من لقاء كهذا؟
أن يطرح كلّ طرف ما يخصّه سياسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا.
وهنا المفارقة الساخرة لكن لمن يقرأ النص بعقل وليس بعين مغمضة وعين مفتوحة.
تتحدّث اليهودية ياعل، يشغلها امر أساسي "تبذل جهدها لإقناعنا بأفضليّة انتعال الحذاء الصيفي في فصل الشّتاء.. وتُسهب في الأسباب وتضحكُ"
اليهودية يفيت تهزّ شعرها على الأكتاف وتهزّ أفكارنا، محاوِلَةً إقناعنا بأهميّة تجفيف الجسد بعد الاستحمام بعباءة نرتديها ونمتّع جسدنا بنقاط الماء يمتصّها القماش على مهلٍ فيسترخي الجسد"
انتبهوا للسخرية هنا. أسلوب الطرح لا يقول شيئا، لكن الطرح لمواضيع تافهة هنا، يجب أن تجهّز القارئ لما هو آت.
طبعا تضيف راوية تفاصيل لا علاقة لها بالحوار الذي يتوقّعه القارئ للقصة من لقاء يهوديّ عربيّ. أي تجهّز القارئ ليعيش المفارقة الساخرة التي تنتظره.
وتؤكّد راوية الأمر الجوهريّ بالنسبة للعرب:" أمّا نحن فلم نجرؤ على اقتحام مواضيع غير عاديّة"
ماذا سيكون حديث العرب؟
انتبهوا هنا للفجوة بين مجتمعين ونهجين وتفكيرين وواقعين.
هنا تبدأ اللوحة الساخرة بالظهور بكامل المفارقة بين اتجاهين.
العربي سمير يحاول، كما تكتب راوية على لسان المشاركين العرب: "إقناعنا بموضوع السّاعة، جاهد وجهد ليُنعِش قناعتنا بأهميّة السلام كحلّ لا مفرّ منه وانّ الحرب لا تقود إلا للويلات وللمصائب"! طبعا لا حذاء ياعل ولا عباءة يفيت.
اذن كل الكلمات التي سهر على إعدادها سمير كممثّل للمشاركين العرب كما تكتب راوية: "ارتبكتِ بين شفتي سمير واهتزّت الأوراق المحمّلة بنظريّاتٍ واقتباساتٍ وأفكار". بالمقابل قدمي ياعل وجسد يفيت هما مقابل حقوق شعب يطالب بالسلام.
هل من سخرية أبشع من هذا الواقع بين اليهود والعرب؟؟
هل من سخرية أرقى من هذا النص القصصيّ عن واقع نعيشه؟ شعب قلق لقدميه وجسده وشعب قلق على مستقبل السلام والحرية.
يجيء دور سعاد لإنقاذ الكرامة من الغرق. وبصوتها الخجل امام لقاء من هذا النوع الذي يشغل أبناء عمومتنا اليهود بأحذيتهم وحماماتهم تطرح سعاد بصوت خجل "مسألة خطيرة عن أهميّة إخلاء المستوطنات كشرطٍ للسلام المنتظَر"
هل هو سلام بين حذاء ياعل وحمام يفيت؟ دون أن يكون للمحتلة أرضهم والمميز ضدهم رأي بما يتعلّق بمستقبلهم؟
 وهنا تطرح الكاتبة التساؤل الجوهري:" كان على أحدنا أن ينقذ الموقف المتفاقم، فكيف نقتنع بسخافاتٍ مطروحة ولا نقتنع بمواضيع لا حاجة فيها للإقناع؟!"
وتصل الكاتبة للموقف المليء بالمفارقة الساخرة من هذا اللقاء بين عالمين ونهجين:" تابع الطلاب طرح مواضيعهم، هذا يحاول إقناعنا بجمال التحف الخشبيّة الذي يفوق جمال التّحف المنحوتة في الحجر، وذاك ينجح في إقناعنا بدفء الصقيع الذي يفوق وهج الحرّ البارد المليء برائحة العرق!"
هذا الواقع أضحك الطلاب "حين حاولت أحلام إقناعنا بزرع أشجار الزّيتون بدل أشجار النخيل".
وتنهي قصّتها بأنّ أستاذ فنّ الخطابة "ضجّ من تفنّننا في اختيار المواضيع الصّعبة ومن عدم تفنّننا في طرحها، وأشفق على حالنا وعزا عدم قدرتنا على الإقناع للّغة العبريّة التي تعرقل
أفكارنا العربيّة". وأضافت الكاتبة بسخرية قوية:" ومنَحَنا فرصة ثانية لنبحثَ عن لغتنا الخاصة التي نستطيع بها إقناع أنفسنا قبل الآخرين."
راوية قدّمت هنا بأسلوب يحمل جانبين من الفن، القصّ الجاد وبإطاره لمن يستطيع اختراق مضمون المفارقة الساخرة بين مجتمعين، عالمين متناقضين في وحدة مصير.
nabiloudeh@gmail.com
*******
نص قصة: "محاولة إقناع" / بقلم: د. راوية بربارة

العبق الشتويّ يحترف إثارة المشاعر في الطريق من الجليل إلى قمّة الكرمل، ونحن في سيّارة الأجرة تتململ الأوراق بين أيدينا، نقرأ ونراجع كلماتٍ سهرنا الليل في تنميقها باللغة العبريّة، لا نأبه للأشجار تستحمّ نافضةً تراب الصّيف، ولا يخطف أبصارنا إلا وميض ضبابٍ متلألئ منبعثٍ من نوافذ بناية الجامعة الشامخة على قمّة جبل الكرمل يستفزّنا أن نشمخ..
     ألسيّارة تهرول تشقّ الطريق الجبلي والقلوب تنتفض قلقا، تحاول استمهال السائق خوفا من المواجهة الأولى...لكنّ العجلات السود لا تستوعب المخاوف الإنسانيّة وتُنذر بالوصول.
   ركضنا نحو قاعة المحاضرات منتظرين بداية المهمّة التي أوكلت إلينا في درس فن الخطابة وهي: محاولة إقناع الآخرين بوجهة نظرنا.
   أفسح الطلاب مكانا للأستاذ فجلس بيننا ليستمع لمحاولات الإقناع، اقترحَ أن نبدأ بالدور حسب أبجديّة حروف الأسماء، لكنّ الطلاب العرب فضّلوا أن يستمعوا أوّلا لزملائهم اليهود.
  قامت يعِل وأخذت تستعرض موضوعها.. توزّع نظراتها على الجميع، تبتسم وتعبس وتستفهم بالكلمات وبالجمَلِ، تاركةً جسدها يتحرّك على طبيعته، وتاركةً إيّانا مستغربين من الموضوع المطروح، فهي تبذل جهدها لإقناعنا بأفضليّة انتعال الحذاء الصيفي في فصل الشّتاء.. وتُسهب في الأسباب وتضحكُ، تذكر مساوئ الأحذية الشّتويّة فتسدّ أنفها بإصبعها، تنتعل حذاء مفتوحا وتحرّكُ أصابع قدميها بحريّة، فتدبّ الحرارة فيهما ويدبّ البرد في أقدامنا المغلّفة وينفعل الحماس في أطراف عقولنا...
القادم. أنهتْ يعِل محاولتها النّاجحة، صفّقْنا لها ووعدَها الأستاذ أن ينتعلَ حذاء مفاجئا في الدرس
   ثمّ قامت يفيت تهزّ شعرها على الأكتاف وتهزّ أفكارنا، محاوِلَةً إقناعنا بأهميّة تجفيف الجسد بعد الاستحمام بعباءة نرتديها ونمتّع جسدنا بنقاط الماء يمتصّها القماش على مهلٍ فيسترخي الجسد، ينتعش ويترطّب بدفء الماء في الشّتاء وببرودته أيّام الحرّ، بدل أن نجفّفَه بمنشفةٍ قطنيّةٍ فنجهده أكثر بعد يومٍ شاقّ...واسترسَلَتْ وتمايلت وعرَضَتْ أنواعا وألوانا من العباءات التي تلبسُ الروح قبل الجسد.
   صفّقْنا لها واقترح الأستاذ مازحا أنْ تفتتح يفيت شركةَ عباءاتٍ لأنّها ستنجح في تسويق قناعتها... أمّا نحن فلم نجرؤ على اقتحام مواضيع غير عاديّة... قام سمير متأنّقا بلباسه، بمظهره وبأوراقه محاولا إقناعنا بموضوع السّاعة، جاهد وجهد ليُنعِش قناعتنا بأهميّة السلام كحلّ لا مفرّ منه وانّ الحرب لا تقود إلا للويلات وللمصائب...
   ارتبكتِ الكلمات بين شفتي سمير واهتزّت الأوراق المحمّلة بنظريّاتٍ واقتباساتٍ وأفكار، لم يستطع رفع نظراته عن الحبر الأسود المطبوع على الصفحات البيض، فشعرْنا بالضيق وبدأت الأرض تزلزل تحت أقدامنا، لماذا تهرب منك الكلمات يا سمير وقد سمرنا الليالي نزخرف النظريّات، نناشد السّلام وننشده في الشّوارع، نمهّد له، نصبو إليه، ونقرأ عنه بكلّ لغات الأرض، لغته العالميّة دون ترجمةٍ.. والآن نفشل في ترجمة آرائنا!!
   جلس سمير يتصبّب فشلا، يجفّف عرق ارتباكٍ ويطوي الأوراق اللعينة التي جلس ساعات يحثّ فكره ليقنعنا بمحتواها.
   كان على سعاد أن تنتشل كرامتنا من الغرق الأكيد، أسرعت تجرجر نظرة حائرة تجول بها بين المقاعد، وصوتا خجلا يطرح مسألة خطيرة عن أهميّة إخلاء المستوطنات كشرطٍ قبلي للسلام المنتظَر. عدّدتِ الأسباب والسّلبيّات والإيجابيّات من وجهة نظر أحاديّة وثنائيّة وثلاثيّة. لم تطلق العنان لجسدِها فحنّطته مع الفراعنة في هرم الخوف.. ولم تطلق لسانها السّليط الذي طالما هوى بسياطه ينتقد الأحزاب الطّلابيّة والسياسيّة والنظريّات المعارضة يفنّدها ويعرقلها ويوقعها أرضا بنقاط حروفه التي لا تتوقّف عن الثرثرة الهادرة.. ما بال لسانها قد انعقد وأين اختفت قدرتها الإقناعيّة ؟؟؟
      كان على أحدنا أن ينقذ الموقف المتفاقم، فكيف نقتنع بسخافاتٍ مطروحة ولا نقتنع بمواضيع لاحاجة فيها للإقناع؟!
   أخذْنا مهلة نستردّ فيها أنفاسنا، بينما تابع الطلاب طرح مواضيعهم، هذا يحاول إقناعنا بجمال التحف الخشبيّة الذي يفوق جمال التّحف المنحوتة في الحجر، وذاك ينجح في إقناعنا بدفء الصقيع الذي يفوق وهج الحرّ البارد المليء برائحة العرق!!
      واستشاط الصف ضحكا عندما حاولت أحلام إقناعنا بزرع أشجار الزّيتون بدل أشجار النخيل، مقتبِسَةًً الآيات القرآنية والتوراتية والإنجيليّة...وضجّتِ القاعة عندما اقترح أحدهم أن نُلبس عري النخيل غطاء للرأس، وضجّ أستاذ فن الخطابة من تفنّننا في اختيار المواضيع الصّعبة ومن عدم تفنّننا في طرحها، وأشفق على حالنا وعزا عدم قدرتنا على الإقناع للّغة العبريّة التي تعرقل أفكارنا العربيّة، وللغة أجسادنا التي تُلبسنا طقما جاهزا، وللغة عيوننا المصابة ببُعد النظر والتي تعجز عن رؤية ما يقع تحت أنوفنا...ومنَحَنا فرصة ثانية لنبحثَ عن لغتنا الخاصة التي نستطيع بها إقناع أنفسنا قبل الآخرين.

 



14
من تراثنا الفلسطيني، الشاعر الثائر فرحان سلام
كنيسة المهد من كان بك طمعان حولك تلاقي النصارى والمسلمينا
بقلم: نبيل عودة

الغناء السياسي من اهم النشاطات التي بنى عليها الغرب لعبتهم السياسيه. تميز الشعر السياسي بسخريته بصفته نوعا من النقد والاحتجاج والمقاومة للنظام القائم.
في الشرق أيضا بدأ يتطور هذا اللون السياسي- الساخر، بل البعض يعتبر هذا الغناء  طريق خطيرة جدا في ظروف العالم العربي الذي يفتقد للديمقراطية وحرية التعبير.
من أبرز طلائع الغناء السياسي المعاصر في العالم العربي  سيد درويش والشيخ إمام  من مصر، من لا يعرف نشيد سيد درويش "بلادي بلادي" الذي أصبح النشيد الوطنى لمصر وانتشر في العالم العربي كتعبير عن حب الوطن. من الجدير ان أذكر ان بعض كلمات نشيد بلادي بلادي مأخوذة من خطبة مشهورة للزعيم الوطني المصري مصطفى كامل.
يمكننا أن نلمس عبر رصد سريع للواقع السياسيّ  الفلسطينيّ، كيف أشغلت الأرض حيّزًا مركزيًا في الأغنية السياسيّة  الفلسطينية من منطلق مركزيتها في تكوين الفولكلور الفلسطيني والهويّة الفلسطينية عامةً والحلم الوطني بتحرير الأرض وبناء الدولة المستقلة. من اشهر تلك الأغاني: "جفرا"، "حيد عن الجيشي يا غبيشي" و"عالأوف مشعل اوف مشعلاني"، ويعتبر الشاعر الشعبي نوح ابراهيم واحدا من أهم المغنين السياسيين في التاريخ الفلسطيني ، وهو مغني الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1936 ومن أشهر أغانيه  "من سجن عكا طلعت جنازة"، وأغنيته السياسية الساخرة "دبرها يا مستر بل بلكي على ايدك بتحل" والكثير غيرها وسقط شهيدا في مواجهة مع الجيش البريطاني.

فلسطين في المقدمة
شهدت الساحة الفلسطينية أيضا تطورا ملفتا للنظر للشعر السياسي الثوري، الذي لعب دورا سياسيا تحريضيا ومجندا ضد الانتداب وضد حركة الاستيطان الصهيونية، الى جانب نوح ابراهيم – شاعر ثورة القسام وشهيدها، كان هناك الشاعر الثائر فرحان سلام  ابن قرية المجيدل القريبة من الناصرة، تلقى فرحان  تعليمه في مدرسة الراهبات في القرية، في العام 1932 عمل في سلك البوليس الفلسطيني، وعند اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936، كان أحد المشاركين فيها ليس بشعره فحسب بل بجسده أيضاً، لذا أطلق عليه الشعب الفلسطيني لقب "ثائر وشاعر". في عام 1940-1944  نفي إلى الأردن بسبب قصائده الشعبية التي مجدت الثوار والثورة وبسبب علاقاته مع بعض الشخصيات الوطنية في ذلك الحين. كان الشاعر فرحان طويل القامة ممتلئا يلبس عادة الديماية والعباءة وعلى رأسه الحطة والعقال. ومن صفاته أنه كان يركب الخيل عند الحداء، وهذا تقليد للحدائين في الجليل في ذلك الوقت.
بعد انتهاء فترة نفيه في الأردن عاد إلى البلاد وبقي فيها حتى عام 1948. التجأ بعد النكبة إلى سوريا  وبقي هناك فترة طويلة وتنقل بين السعودية والامارات العربية. توفي الشاعر فرحان سلام في شهر كانون أول من عام 1999 في إمارة أبو ظبي ودفن فيها (بعض المصادر تقول توفي في دمشق) . للشاعر فرحان سلام أكثر من 45 حفيد وحفيدة. يعيشون كلهم في الشتات . كان حلمه أن يعود إلى أرض الوطن وأن يدفن في ظل شجرة زيتون رومية من زيتونات المجيدل . لكن يبدو أن سنوات الانتظار طالت لياليها وأن حلم العودة قد تبدد في الشتات..
 اشتهر بشعره السياسي وإحيائه للأعراس في الجليل خاصة، ويحفظ كبار السن الكثير من أغانيه ، من قصائد الشاعر فرحان سلام التي اشتهرت وتتردد على السن ابناء الشعب الفلسطيني قصيدة "مرثاة فلسطين" هاجم فيها  وعد بلفور المشئوم وتحيز الغرب.
اشتهر فرحان بمواقفه التي رفض فيها الطائفية منشدا:

نادي بإسم الإله الواحد الديان
من ذكر هذا الإسم فروا الشياطينا
بمهد عيسى وإسرا النبي العدنان
من ظلمك يا غرب فجرت براكينا
يا غرب بعد التجارب آن للثملان
أن يصحى ويفهم الخمرة من الكينا
يا آل ثروكهوب يا نائب السلطان
إعرفت أوجاعنا وماذا يشفينا
خبر ملوكك والوزراء والأعيان
بلغو لبلفور وعداً جاء يفنينا
إن كان بلفور يجهل قيمة الأوطان
نحنا بأرواحنا نفدي أراضينا
كم من لجنة يا غرب حققت بالأوطان
تسمع شكاوى الأعادي مع شكاوينا
تقاريرهم أهلمت بأي شرع كان
لولا الدراهم واشتيرن وصهيونا
يا غرب نحب عرب من نسل قحطان
تاريخنا بعلمك أحوال ماضينا
نطرب لصوت الموازر في رحي الميدان
كصوت فاطر  بها شاعر يلبينا
يا مسجد الأقصى إفرح لا تكن حزنان
لبيك لبيك عند الضيق نادينا
حولك تلاقي بواسل للقا شجعان
يسقوا إلى القوم زقوماً وغسلينا
يا صخرة القدس كوني في رضا وأمان
وإن هجرناك إلى الرحمن اشكينا
اكنيسة المهد من كان بك طمعان
حولك تلاقي النصارى والمسلمينا
مجمع حماك أسد لا تقبل الخذلان
لا يباثوا على الضيم يحموا الميادينا
واختم كلامي باسم طه النبي العدنان
بلفور سقط وعدك حيث تآخينا
علمت بعد نشر مقالي من قارئ ان جده كان يغني هذه القصيدة. وعدني بتسجيل ولم يصلني.
nabiloudeh@gmail.com


15
1 - أنشودة فلسطينية بمناسبة "عيد الاستقلال"!
2 - الطريق

بقلم: نبيل عودة

1-   انشودة فلسطينية
هل يكتمل الحب بلا وطن؟
وتكتمل الآمال بلا بيت؟
وتكتمل الأحلام بلا ملاعب الطفولة؟
ويجد الانسان غايته،
بعيداً عن عرائش صباه؟!
ويتمتع بالراحة
في مجتمع ..
القيمون عليه لصوص؟!
***
هل تسمى حياة هذه الملعونة
أمام خرائب شعبنا،
بظلال تاريخنا المهدم
وحاضرنا المنفي
وثقافتنا المصلوبة بين اللصوص،
وحضارتنا المسروقة
ودمنا النازف باستمرار؟
***
اذن ...
ما هو الحب ؟!
وما هي الحياة ؟!
** *
هل يوجد حب
بلا وطن؟!
هل توجد حياة
بلا وطن؟!
2-   الطريق
الطريق.../ حوارية بين مشردين
*******
التقيت بتائه مثلي:
 - إلى أين؟
 - إلى هناك...
 - أين هناك؟
 - حيث كلهم ...
 - لا أفهمك.. أنا تائه .. فهل تعرف الطريق؟
  - أعرفها وتعرفني.. مرات عديدة عبرت فوقها.. وما زلت  ممتدة حتى ما بعد الأفق.. قد تقصر .. لكنها طريق عربية لذا لا تقصر، بل تطول..وتطول..
  - هل ستبقى ماشيا؟
 - لا أدري.
 - هل لها نهاية؟
 - من يعلم؟
 - حيرتني
 - كنت مثلك لكني فقدت حيرتي أيضا.
 -  تمشي ولا ترى نهاية للطريق؟
 - أراها بوضوح من زاويتي المعتمة؟
 - ماذا ترى؟
 - استمرار الضياع!!
nabiloudeh@gmail.com

16
فلسفة مبسطة: حتمية اجتماعية أم إرادة حرة؟
نبيل عودة

حسب مفهوم فلسفة الحتمية الاجتماعية، كل ما يحدث في عالمنا من فعاليات، قرارات أو أفكار إنسانية، تتقرر بناء على أحداث سابقة فقط وليس لنا كبشر أي سلطة على مصيرنا.
الموضوع يشمل مسائل عديدة بينها العلم، الدين، فلسفة الأخلاق والثقافة. فلاسفة من تيار الحتمية الاجتماعية يقولون ان “الله أجبرنا” – حسب تعبير للفيلسوف اليهودي – هولندي باروخ شبينوزا من القرن السابع عشر: “الله قرر سلفا كل شيء في الكون حتى أدق التفاصيل”. أي ان الإنسان ممكن ان يقوم بلعبة ما ، منافسة مع صديق ، لكن النتيجة ليست بيده إنما بيد الله.
إذن ما قيمة وجود الإنسان وتطوير العلوم والمجتمعات وبناء المستشفيات ما دام كل شيء في الكون مسجل سلفا في الكومبيوتر العظيم في السماء؟ وهل داعش هي ضربة من السماء أيضا؟ بمعنى ان الحرب الدولية ضدها لن تساعد إذا لم يكن هناك قرار كوني مسبق بنتائج هذه الحرب؟
ترى أي إله هذا.. هل الذبح واغتصاب السبايا ( كما يطلق على النساء أسرى داعش) تنفذ أيضا بإرادة الله؟ .. ولماذا تجري إدانة مجرمي الحروب وقتلة الشعوب ما دامت جرائمهم ارتكبت لأنها مقررة سلفا في الكون؟
هل توجد قوى نفسية – بسيخولوجية – خارج قدرتنا على التحكم بها تقرر تصرفاتنا؟
الفيلسوف الإغريقي ارسطو كان أول من صاغ هذا المفهوم الفلسفي، بأن كل حدث سابق لحدث ما، يؤثر على الحدث نفسه أو يسبب بحدوثه. بمعنى آخر لكل سبب يوجد مسبب (السببية).
بعض الفلاسفة يقولون أنهم حينما يتابعون البحث عن أسباب وقوع حدث ما يتابعون البحث بشكل سلسلي وراء الأسباب المسببة للحدث وما سبقه.
هكذا يدعون انه يمكن الوصول، نظريا على الأقل.. إلى ما يسمونه ” المحرك الأول”. أي المسبب الأول وفي حالات كثيرة يقولون انه: “المحرك الإلهي”.
فلاسفة آخرون يربطون المسبب الأول بالانفجار الكبير . ديموقريطوس أيضا وهو من أهم الفلاسفة الإغريق كان يؤكد أيضا ان لكل سبب يوجد مسبب. لكن لننتبه ان الفلسفة الإغريقية بجذورها هي الفلسفة الطبيعية التي حاولت ان تفسر الظواهر الطبيعية بشكل عقلاني وتحررها من الغيبيات الإيمانية الوثنية. اليوم مع تطور العلوم وخاصة علم الفيزياء بات من المستهجن ان نعتقد ان الإنسان لا يملك خياراته وحرية وصوله إلى أدق المعلومات حول نشوء الكون وتطور الحياة.
هناك نظرة أخرى تفترض ان كل فعل يجر إلى فعل آخر، لذا يمكن القول انه لكل فعل توجد له نتائج أو هدف.. قد لا يظهر لنا إلا بعد فترة زمنية.
إذن نحن أمام صورة لفلسفة الإيمان بالقدر، باللاتينية (fatum) وهو اصطلاح لنظرة، حسبها يوجد نظام طبيعي ومقرر سلفا (حتمي) حول الأحداث في العالم. أي الإيمان ب “القدرية” بشكل مطلق، بالتالي تؤمن ان النهاية ليست معروفة مسبقا فقط، إنما أيضا تدعي معرفة كل مرحلة ومرحلة في الحياة.
المعنى بشكل مبسط هو ان الله يعمل ويعرف كيف يدير العالم، كيف يتصرف الإنسان منذ الخلق وفي كل لحظة، لذا كل ما يحصل لا يوجد للإنسانية فيه حرية الخيار، ولتكن قيمته ما تكون، بالنسبة لهذه الفلسفة هذا الأمر يعبر عن قانون ما للطبيعة..
الفلكي والرياضي بيير سيمون لافلس (1949 – 1827)اشتهر بالأساس بتطبيقه لنظريات عالم الفيزياء إسحاق نيوتن (1642 – 1727- عالم إنجليزي ،أبرز العلماء مساهمة في الفيزياء والرياضيات وأحد رموز الثورة العلمية) ادعى لافلس انه بإعطاء معلومة حول حالة الكون بتاريخ ما يمكن من الناحية ألمبدئية التنبؤ بالتطور التاريخي المستقبلي للعالم.
حسب هذه الرؤية الفلسفية العلم يطرح مبادئ الحتمية، إذا لم يكن هذا المبدأ قابل للبرهان، لذا يعتمد العلم على فرضيات أولية غير قابلة للبرهان.
لكن الفيزياء أثبتت ان الحتمية المسبقة أهملها العلم وخاصة الفيزياء، لذا لا يمكن التعامل مع هذه الحتمية الاجتماعية كقاعدة ثابتة حقيقية أو كاذبة، إنما قبولها كمبدأ منهجي – ممكن أو غير ممكن ان يستعمل في البحث العلمي.
هذا الاتجاه يجر بأعقابه ادعاء ان الإرادة الحرة غير حرة، الجسم ليس إلا وهما وكل النشاطات مقررة سلفا، بكلمات أوضح، هي نسخة من فلسفة “القضاء والقدر”.
إذن هي فلسفة تحكمها قوانين السببية. وهي من الفلسفات “الجبرية” التي تقول ان كل ما يحدث للإنسان أو لمحيطه هو مقدر عليه، أي لا قدرة له على تجاوزه وبالتالي هو مسير وليس مخير!!
انتبهوا ان “الحتمية التاريخية” (حسب المادية التاريخية لكارل ماركس) رغم أنها شكليا اعتمدت على نظريات الديالكتيك وسميت “علمية” إلا أنها في النتائج هي قدرية أيضا، أي سبب التطور التاريخي يعتمد على مسببات سابقة، والوصول إلى الثورة الاشتراكية هو موضوع حتمي. من هنا سقوط الحتمية التاريخية، رغم ان الماركسية تحدثت عن العامل الذاتي(الأشخاص) والعامل الموضوعي (التطور الطبيعي)، لكن العامل الذاتي هو مسرع أو مبطئ وليس المقرر. ربما الله عند ماركس أيضا بشكل ما، هو المقرر في أحكام المادية التاريخية؟!
وجدت هذه الطرفةـ فأعدت صياغتها كقصة قصيرة، وهي تفسر هذه الفلسفة الجبرية – الحتمية. حتى لو كُنت أفضل متبار في لعبة ما، الا أن المنتصر مقرر سلفا.. حتى بطريقة لا يمكن للعقل ان يتخيلها. كل شيء مخطط له، كل شيء بيد الله:
لعبة الغولف
تنافس النبي موسى والمسيح بلعبة غولف. ضرب موسى طابة الغولف بعصا الضرب فطارت إلى مسافة بعيدة، سقطت قبل الحفرة بمتر واحد، لكنها واصلت التدحرج، مرت بمحاذاة الحفرة على بعد اقل من سنتيمتر واحد، أثارت توتر موسى بأنها بالتأكيد ستدخل الحفرة.. لكنها استمرت تتدحرج إلى بركة ماء بلصق ساحة اللعب. ضحك المسيح سعيدا لأن الطابة تخطت الحفرة. قال موسى غاضبا: “سنتيمتر واحد وكنت سأسجل الفوز الأول”. قال المسيح لموسى: ” لديك ضربة أخرى من داخل الماء” وابتسم. قال موسى غاضبا: ”لا استطيع السير مثلك على سطح الماء”. قال المسيح: “اذن اعترف بخسارتك؟” .فكر موسى قليلا ولم يجد حلا. أخذ موسى عصى الغولف وخاض حتى ركبتيه داخل ماء البركة، وضرب الطابة باتجاه الحفرة لكنها طارت ابعد وهبطت على الضفة الثانية لملعب الغولف.
جاء دور المسيح ، ضرب الطابة بعصا الغولف فطارت بعيدا وراء الحفرة ، بل تجاوزت ملعب الغولف إلى الشارع المقابل، مرت بنفس اللحظة سيارة أصابت الطابة التي ارتدت عاليا نحو الملعب مرة أخرى، لكنها علقت فوق زنابق على حافة بركة الماء حيث رأتها ضفدعة، تناولتها الضفدعة بأسنانها، بنفس اللحظة انقض نسر على الضفدعة وامسكها بمخالبه وطار بها عاليا والكرة بين أسنانها، أسقطت الضفدعة الطابة من فمها وهي بين مخالب النسر في الفضاء فإذا هي تدخل الحفرة مباشرة. صفق المسيح ناظرا إلى السماء سعيدا بما أنجزه وقال: “شكرا يا أبي”. عبس موسى حائرا، ثم قال له: “لا أحب اللعب مع والدك”!!
nabiloudeh@gmail.com

17
رؤية فلسفية: ازمة اليسار هي ازمة استيعاب التحولات العميقة بعالمنا المعاصر
*مجتمعنا اليوم هو مجتمع "ما بعد الرأسمالية" يحتل فيه "المجتمع المدني" مكانا حاسما *
نبيل عودة
عالمنا يشهد تحولات عاصفة، بعضها لم يبرز بعد بكل قوته ودوره، ويؤسفني ان أقول ان بعض الذين يطرحون أنفسهم كماركسيين هم أقرب للسلفية الدينية في مستوى فهمهم للماركسية. بعضهم متمسكون بأفكار لم يعد هناك ما يربطها بالواقع الذي بدأ يتبلور في العقود الأخيرة وخاصة منذ بداية الألفية الجديدة. ورأيي ان المشكلة ليست بالنظرية الفلسفية والاقتصادية لماركس بل بأسلوب تطبيقها الذي افرغها من مضمونها ولم يسمح بتطويرها. من هنا رؤيتي ان الواقع الراهن لليسار عامة يبرز عجزه عن نقد تجربته وإقرار مسار جديد، وهذا يبرز بقوة في واقع الأحزاب الشيوعية التي لا تزال عاجزة عن إعادة صياغة مشروعها السياسي في الظروف التاريخية الجديدة التي أعقبت انهيار التجربة الاشتراكية. ما يجري هو تفكك تنظيماتها وفقدانها قوتها السياسية.
نجد الكثير من الطحن والقليل من الفعل. حتى تعبير يسار باتت ضرورة لمراجعة الفكرة وتطويرها، لأنه يبدو ان التطور الذي نفذ وانجز بإطار النظام الرأسمالي لم ينفذ ويتطور بنفس النجاح بإطار النظام الاشتراكي. الثروة التي انتجتها الرأسمالية تفوقت بأضعاف كثيرة عما انتجه النظام الاشتراكي. حصة الفرد في النظام الاشتراكي من الناتج القومي الإجمالي كانت بحدود 20% من مثيلتها في العالم الرأسمالي. لذا التوزيعة الاجتماعية للثروة تجاوزت النظام الاشتراكي. والنظام الرأسمالي هزم النظام الاشتراكي بالمنافسة الاقتصادية.
لا اتحدث عن التطبيق الديموقراطي. حيث تمتع مواطني الأنظمة الرأسمالية بحرية لا تقارن مع ما ساد النظام الاشتراكي من نفي (الغولاغ السيبيري مثلا حيث نفي مئات الألوف بتهم تافهة او كاذبة، وحتى اليوم لم يفتح هذا الملف الرهيب) وممارسة سياسيات القمع والابادة للملايين بحجج واهية وبلا رقابة وبمحاكمات شكلية. طبعا هذا لا ينفي ان المجتمع الاشتراكي قدم خدمات لم يكن شبيه مجاني لها في النظام الرأسمالي. لكن بالتلخيص الأخير لم يرقى المجتمع الاشتراكي بمستوى الرفاه والحريات الشخصية والخدمات الى مستوى ما كانت عليه الحريات الشخصية والخدمات ومستوى الحياة بالنظام الرأسمالي.
ان رؤيتي لضرورة تطوير الماركسية، وتطوير التجربة، لا اقصد منها رفض فلسفة ماركس، لكن لا يمكن البقاء داخل رؤية لم يعد هناك ما يربطها بالتحولات العاصفة التي يشهدها عالمنا.
مأساة الشيوعية واليسار عامة، في الشرق الأوسط خاصة، وفي أوروبا ومختلف انحاء عالمنا، انها منذ انهيار التجربة الاشتراكية، انهاروا تنظيميا وفكريا وقيادات. هناك مفكرون ماركسيون من المستوى الأول، يقولون بوضوح انه حتى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت الحركة الشيوعية تغوص رويدا رويدا في مستنقع الجمود والتكرار والاجترار وتكفير الفلسفة والفلاسفة الذين أطلقوا عليهم تسمية الفلسفة والفلاسفة البرجوازييين، بحجة ان فلسفة ماركس ألغت ما قبلها ولم تنجح أي فلسفة بتجاوز الماركسية، تماما مثل الفكر الديني السلفي، ورثوا نهجا وعادات من واقع لم يعد قائما، لكنهم يصرون ان يعيدوا عالمنا للخلف عشرات السنين.انا شخصيا أرى بالفلسفة تراثا شاملا رغم تناقضاتها، ولولا تناقضاتها لفقدت قيمتها كثقافة تنويرية. ان التقسيم الطبقي للثقافة والفلسفة خاصة اثبت انه يفتقد للمنطق العقلي البسيط.
لا بد ان انوه لمسألة هامة قليلا ما نتناولها في مراجعاتنا للفكر الماركسي حسب النهج السوفييتي الذي ساد كل الحركة الشيوعية. الماركسية عرفت بتيارين مركزيين. وبالتالي الكثيرين من دارسي الماركسية في فترة الاتحاد السوفييتي الذهبية، وجدوا أنفسهم في مواجهة صدامية بين جبهتين نظريتين. ويمكن الاشارة ان ما يعرف ب "الشيوعية الأوروبية" (الشيوعية الحرة) كانت نتاج ذلك الصراع الفكري.
تشكلت جبهة الشيوعية الحرة من مفكرين ماركسيين رفضوا فكر السيادة المطلقة للدولة السوفييتية، وانطلقوا بنضال عنيد من أجل "ماركسية صحيحة" ثورية إنسانية، ضد التشويهات التي شهدتها الماركسية في الشرق والغرب. وبرز خلال سنوات العديد من المفكرين الماركسيين من خارج النهج السوفييتي، أمثال جيورغ لوكاتش (هنغاري) وكارل كورش (ألماني) وانطونيو غرامشي (ايطالي) وارنست بلوخ ( ألماني) وروجي غاروديه (فرنسي) وغيرهم.
السؤال الضروري متى يفهم قادة الحركات الشيوعية، واليسار الوطني عامة، الحقيقة البسيطة اننا في عصر العولمة لم يعد من الممكن طرح مواقف وأفكار بعقلية القرن التاسع عشر دون فهم ان بعض الأطروحات تجاوزتها مجتمعاتنا وعفي عنها الزمن، او لم تثبت صحتها او تنتشر خارج أوروبا مثلا (موضوع البروليتاريا كنموذج؟). لو فتحوا كتابا واحدا في الفلسفة أو الفكر الحديث (حتى ما يطلقون عليه صفة فلسفة برجوازية واقتصاد رأسمالي) هل كانوا يواصلون العيش بالوهم الذي يسيطر على تفكيرهم اليوم؟ مضحك ومؤسف انه من شدة انغماسهم في غياهب الوهم الذي كان، ما زالوا يتمسكون بأوهام انه يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. يمكن القول أضحوا ماركسيين سلفيين لا يفقهون مبنى النظرية الماركسية ولا التحولات الثورية التي تجري في النظام الرأسمالي وتساهم بتغيير نهجه المبني على سلطة واقتصاد. الى نهج تسوده قوة اجتماعية سياسية وإدارية وعلمية هائلة هي قوة المجتمع المدني!!
هناك عدة نقاط يجب ان تؤخذ بالحساب:
1 - ان عصر العولمة بسلبياته وايجابياته واقع تاريخي غير مسبوق يفرض على الجميع أن يتعاملوا معه بوعي كامل.
2 -  مهمة التغيير في العالم لم تعد مهمة الطبقة العاملة وأحزابها.. التغيرات العاصفة أفقدتها دورها كطبقة ستقود التغيير الاجتماعي والسياسي محليا وعالميا. لكنها طبقة لها دورها الهام إلى جانب أوساط وفئات اجتماعية واسعة جدا. وأنها كطبقة جرى ويجري تغيير وتطوير حاسم بتركيبتها ومكانتها الاجتماعية والسياسية والادارية بمجتمعاتها، وتجري تحالفات واسعة وجديدة ليست على أساس طبقي فقط.
 3-نحن امام تحولات عميقة في مبنى النظام الرأسمالي، انا اسميه "نظام ما بعد الرأسمالية"، الرأسمالية قامت على قاعدتين مركزيتين، السلطة والاقتصاد. اليوم فقط الأعمى لا يرى التطور في مبنى المجتمع الرأسمالي. هناك قوة جديدة نشأت نتيجة لتطور الطبقة العاملة وتغيير مضمونها الجوهري، الاقتصادي، الاجتماعي، العلمي، الوظيفي والسياسي، وأعني تطور "مجتمع مدني" من شبكة واسعة على أسس فكرية وسياسية متحررة من المفاهيم القديمة. باتت تشكل ضلعا ثالثا في مبنى النظام الرأسمالي. بحيث أصبح دورها في النظام الرأسمالي الجديد، او ما بعد الرأسمالية الكلاسيكية يتشكل من ثلاث قواعد (1-سلطة 2-اقتصاد 3-مجتمع مدني). يشكل المجتمع المدني قوة لا يمكن تجاهلها وتجاهل وزنها الحاسم سياسيا واجتماعيا، في إطار النظام الرأسمالي، في إدارة الاقتصاد والمجتمع والسياسة وكل المؤسسات الرسمية وليس فقط استعمال المنجل والشاكوش.  وملاحظة هامة تطور المجتمعات المدنية في العالم قاد الى تصفية مكانة الأحزاب السياسية واضمحلالها، هي تنظيمات تطورت بالقرن التاسع عشر بواقع سياسي واقتصادي واجتماعي وفكري وتنظيمي وسلطوي يختلف تماما عن واقع المجتمعات البشرية اليوم.  وهذا التفكك نراه أكثر بروزا في الأحزاب الشيوعية وطبعا سائر الأحزاب تأثرت وبدأت تفقد تأثيرها السابق لذا نراها تنتقل الى شكل من اشكال تجمعات لمجتمع مدني، وليس تنظيمات ذات أيديولوجيا منغلقة على قديمها: أي نظام مبني على "سلطة واقتصاد" كما في الرأسمالية الكلاسيكية، لذا لا مفر امام التنظيمات الحزبية جميعها من رؤية تنامي القوة الهائلة للمجتمع المدني وبدء احتلاله لكل اشكال الإدارة والتأثير السياسي والوعي الاجتماعي والوظيفي على قاعدة مجتمع مدني مشارك بالثروة الاجتماعية ومقرر بتوزيعتها وليس على قاعدة أيديولوجيا رأسمالية صرف: سلطة واقتصاد. من هنا أطلقت تسمية "نظام ما بعد الرأسمالية". ولعل أحد الاقتصاديين يجد التسمية الأنسب. 
لا أرى اليوم ان الأحزاب الشيوعية العربية وغير العربية تقوم بدور سياسي أو اجتماعي مهم، لا يمكن إنكار انها تعتمد فكرا ثوريا عاما بمضمونه (الفكر الماركسي) وتجربة كبيرة، لكن هناك تحولات غيرت طابعنا الاجتماعي، كما بينت أعلاه، إذا لم تؤخذ بالحساب لن تنجح بالعودة إلى ساحة النضال كقوة مؤثرة.
حُلم رفاقي القدماء من مختلف الأحزاب العربية، الذين أتحدث معهم بصراحة هو أن تتمكن أحزابهم من استعادة دورها السياسي ومكانتها الاجتماعية التي تضاءلت شيئا فشيئا خلال العقدين الماضيين دون ان يثير ذلك الصحوة الضرورية المبكرة لدى قادة الاحزاب. فقدوا كل مواقعهم الهامة في مجتمعاتهم، انفضت عنهم حتى قواعد أحزابهم المقربة. هل فكروا في أسباب هذه الضربات؟
طرحوا بعض الشعارات، ليكن الله بعون الشعارات!!
 طبعا الجميع متهمون إلا هم. الحل قاب قوسين من انوفهم: التحول الى تنظيمات مجتمع مدني، والتخلص من فكر البروليتاريا الذي مللنا سماعه وسماع تخريفاتهم عنه.
كل ما يقومون به اليوم هو محاولة تهميش، ذم وإلصاق تهم بكل من ينتقد سلبياتهم، بينما هم في حالة تهميش بالغة الخطورة بنتائجها عليهم وعلى احزابهم وربما على مجتمعاتهم أيضا.
nabiloudeh@gmail.com



18
سليمان جبران في كتابه:
" على هامش التجديد والتقليد في اللغة العربية المعاصرة ".
بقلم : نبيل عودة
الكتاب : هلى هامش التجديد والتقليد في اللغة العربية المعاصرة
المؤلف : بروفسور سليمان جبران
اصدار : مجمع الللغة العربية – حيفا - 2009
يجري حول اللغة العربية حوار صاخب أحيانا ، بين العديد من المثقفين واللغويين ومختلف أصحاب الرأي . ويبدو ان هذا الحوار هو مميز للغة الضاد فقط ، ومع ذلك لا يشير ذلك الى اهمية غير عادية للغة الضاد ، بقدر ما يشير الى أزمة عميقة باتت تقلق المتعاملين مع اللغة ، بقصورها الفاضح في المجالات المختلفة ، وبالأساس المجالات العلمية والتقنية ، وأيضا في مجال الاستعمال الأدبي الإبداعي. وتبرز الأزمة بوزنها الكبير ، في هرب أصحاب اللغة من لغتهم الى لغات أجنبية للتعبير ، واشكاليات استيعاب الطلاب العرب للغتهم ، بل ونفورهم من اساليب تعليمها ومن التناقضات الكبيرة بين اللغة المحكية واللغة التي تسمى فصحى ، لدرجة ان تعريف الفصحى بات يشكل موضوعا للخلاف ، نتيجة دخول اساليب تعبيرية واصطلاحات وجملا متعارف عليها ، لا يمكن ان تخترفق أسوار الحواجز النحوية التي وضعها سيبوية قبل مئات كثيرة من السنين ، في مناخ ثقافي ولغوي مختلف وبات غريبا عن لساننا مفرداتنا وعن صياغاتنا وعن متطلباتنا اللغوية في هذا العصر الذي يشهد نقلة نوعية عاصفة في العلوم والتقنيات ، في اللغات واستعمالاتها، الا لغتنا العربية المسجونة داخل كهف يقف على ابوابه حراس اللغة بظن انهم يخدمون لغتهم ، وهم لا يستوعبون ان حراستهم تقود لغتنا الجميلة الى الموت السريري ، وقد تتحول الى لغة لا يتجاوز عدد المتحدثين فيها عدد المتحدثين اليوم باللغة الآرامية في العالم !!
الموضوع أشغلني منذ سنوات ليس كلغوي ، بل كمثقف وكاتب يعيش نبض اللغة التي تشكل سلاحه التعبيري ، وأداته الهامة للتواصل ، الأمر الذي وضعني بمواجهة اشكاليات لغوية تعبيرية في الحديث او الكتابة عن مواضيع تكنلوجية وعلمية وفلسفية ، لم أجد لها صيغة عربية ، ووجدت باللغة العبرية التي اتقنها بشكل جيد ، لا يرقى الى مستوى اتقاني للعربية بالطبع ، تعابير واصطلاحات سهلة واضحة ميسرة مفهومة ، وقابلة للإستعمال، بدون تعقيدات نحوية .
واشغلني سؤال ما زال مطروحا: بأي لغة عربية نكتب ؟
الفصحى القديمة أضحت لغة لا مجال لاستعمالها وفهمها من الأكثرية المطلقة لمن يعرفون أنفسهم كعرب. الفصحى الجديدة السهلة ، او لغة الصحافة كما يسميها البعض ، أيضا غير ميسرة لأوساط واسعة جدا من العرب..بسبب انتشار الأمية المريع الذي لا يقلق حراس اللغة بقدر قلقهم على مواصلة السجن القسري للغة في زنزانة نحو وضع لمناخ لغوي لم نعد نعيشه ، ومن المستحيل ان نعود اليه.
في كتاباتي دائما اتلقى نقدا لغويا حول استعمالاتي للغة. ومحاولات تصحيح لغتي ، وانا على قناعة تامة ان تمكني من التعبير بلغتي العربية ، متطور جدا ، ليس بسبب دراستي للغة ، بل نتيجة ممارستي وتجربتي الغنية قراءة وكتابة ، وأعترفت مرات عديدة اني لا أعرف قواعد اللغة ولا اريد ان أعرف اكثر مما اعرفه اليوم ، واذا كان لا بد من اصلاح فلغتي هي لغة معيارية عربية حديثة ، متطورة في تعابيرها ، وسهلة الفهم لأوساط واسعة ، وتحمل من جماليات التعبير والصياغة أكثر من كل نصوص المتقعرين ، الذي لا استطيع ان افهم نصوصهم أو أهضم ثقالة دم لغتهم !!
ربما أطلت في مقدمتي ، ولكني اندفعت اليها بحماس اثر قراءتي لكتاب شدني بلغته الجميلة وشروحاته المنفتحة الراقية ، حول اشكاليات لغتنا العربية صادر عن مجمع اللغة العربية في اسرائيل ، للبروفسور سليمان جبران ، الذي كان رئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب ، قبل خروجه للتقاعد. يحمل الكتاب عنوانا دالا : "على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة "
افتتح سليمان جبران كتابه ببيتين من الشعرعن "الغيورين" على اللغة:
جاروا عليهــا زاعمين صلاحها
في نبذ طارقهــا وفي تقييدهـــــا
لم يفقهوا ان اللغــات حياتهــــــا
في بعث تالدها وفي ... تجديدها
وهناك مقدمة للدكتور عادل مصطفى ( باحث مصري في اللغة والعلوم والفلسفة ) يقول فيها: " العربية في أزمة ، يجفوها أهلها ، ويهجرها بنوها، ولا يكاد يتقنها سدنتها وأحبارها .
ان العربية على فراش المرض ، تعاني من تضخم في القواعد والأصول ، وفقر في المصطلح ، وعجز عن مواكبة الجديد ومجاراة العصر . الداء واضح للعيان ، ولم يعد بالامكان اخفاؤه . فبئس الدواء إنكار المرض، وبئس الحل إنكار المشكلة."
مقدمة الدكتور عادل تستعرض اشكاليات اللغة ، التي يعالجها البروفسور سليمان جبران في كتابه ، وتتطابق أفكاره تماما مع طروحات وشروحات سليمان جبران. وبدى لي متحمسا للكتاب وطرحه الذي يثبت ليس فقط معرفة سليمان جبران الكاملة باصول اللغة ونحوها ، انما معرفة موسوعية نادرة بكل ما عبرته اللغة العربية من تحولات وتطوير في القرن التاسع عشر ، خاصة منذ بدأ اللبناني فارس الشدياق : "رجل النهضة الأدبية الحديثة الأول " – كما وصفه مارون عبود ، وسائر النهضويين الرواد العرب أمثال المصري رافع الطهطاوي ، جهودهم العظيمة في احياء اللغة العربية التي قتلها التتريك والتخلف السائد في الأقطار العربية والذي كان لا بد ان ينعكس سلبا على واقع اللغة العربية ، وللأسف يبدو وكأن الزمن توقف ، وما زلنا نحاور من نفس المنطلقات ، وما زلنا نلوك نفس الحجج ..
قلت اني لست لغويا ، ومع ذلك قرأت بحث سليمان جبران اللغوي بشوق كبير ، أولا بسبب لغته الجميلة واسلوبه التعبيري الواضع ، وقدرته على التعامل مع الاشكاليات اللغوية المختلفة بتحليل وتفسير واستنتاج ، مبني على المعرفة الموسوعية ، وهو أمر سحرني به سليمان جبران ، لأني وجدت به أجوبة عن القضايا المطروحة اما م تطور مجتمعاتنا المدنية ، والذي يظن انه بنحو لغة قديمة خاضع للمرحلة التي نشط فيها سيبوية ، يمكن بناء مجتمع مدني علمي تقني حديث هو واهم . اللغة أداة للتواصل لا بد منها للعلوم والتقنيات والثقافة والفلسفة والمجتمع ، وليس للقداسة فقط.
من المواضيع التي يطرحها الكتاب: " لغتنا العربية : لا هي عاجزة ولا معجزة" – " متى نؤلف نحوا حديثا للغتنا العربية ؟ " – " دور الشدياق في تطوير اللغة العربية " – " العامية والفصحى مرة أخرى " – "الترادف غنى ام ثرثرة ؟ " – " تصحيح الصحيح " – "تجليات التجديد والتقييد " .
لغة سليمان تتميز بالإقتصاد في اللغة والابتعاد عن الفضفضة ، التي نواجهها في الكثير من النصوص. وكأني به الى جانب بحثه القيم يعطينا درسا ونموذجا في الصياغة الحديثة بدون فضفضة وترهل لا يضيف للمعنى شيئا ، وقناعته تقول اننا في عصر السرعة ولا يمكن الا ان نقتصد في الكلمات لنؤدي نفس المعنى.
ترددت في طرح نماذج لسبب اني شعرت بأني سانقل كل الكتاب للقارئ ، وهذا غير ممكن .
وأعتقد ان انتباه معلمي اللغة العربية لهذا الكتاب ، في كل مستويات التعليم ، خاصة الثانوي والجامعي ، واستعمال المداخلات والنماذج التي يطرحا سليمان جبران ، سيحدث ردة فعل ايجابية تقرب اللغة العربية لأبناء هذه اللغة ، وتفتح امامهم آفاق لغوية جمالية ستنعكس بشكل ايجابي على تقريب اللغة للطلاب العرب وتقريب الطلاب العرب من لغتهم وقدراتها التعبيرية والجمالية ، وفهمهم ان الاشكاليات التي يهربون منها ، هي وليدة واقع مريض ، وليس نتيجة لغة عاجزة ومعقدة.
nabiloudeh@gmail.com

19
المصاحبات النصية في اشعار الشاعر الفلسطيني شفيق حبيب
(مناصية للغلاف و العنوان)
شفيق حبيب
بقلم:حسين شمس آبادي وراضيه کارآمد
إنّ الأعمال الأدبية لا تظهر كنص مكشوف وترتبط دائمًا بعناصر تصويرية أو لفظية، فمن الواضح أن هذه العوامل، باعتبارها عوامل إضافية للنص الرئيسي، يمكن أن تؤثر على اقبال القارئ فيما يتعلق بموضوع النص الرئيسي. يهتمّ هذا البحث بدراسة العنوان و صورة أغلفة دواوين الشاعرالفلسطيني شفيق حبيب (ولد في الثامن من كانون الأول عام 1941م في قرية دير حنـّا في الجليل شماليَّ فلسطين).
 ابتدأ البحث بتحديد إطار نظري للعنوان و من ثمّ توجه البحث إلي دراسة العنوان الرئيس (المرکزي) و قام بدراسة العناوين الداخلية و صورة أغلفة دواوينه و سائر الصور الموجودة في صفحات کتبه. تفيد الدراسة من المنهج الوصفي التحليلي و قد توصل إلي عدة نتائج: منها أن الشاعر قد أتقن صياغة العناوين في ديوانه، کما أنّ العناوين قد عملت علي تکثيف الدلالة. صور الغلاف و العناوين الداخلية ترتبط و يتناسب معا و ألوان الغلاف تحکي عما يريد الشاعرتبيينه. 
الکلمات الرّئيسية: شفيق حبيب، العنوان، الغلاف، الصورة، المناص.
المقدمة
إنّ النص الأدبي شعراً كان أم نثراً إطار لغوي متعدد الجوانب و اللغة تحكم النص الذي يجب أن يكون قبل كل شيء نسيجاً للقول الرفيع المعبر من شطحات الخيال وأطياره المحلقة في عوالمه بدون حدود. حينما نقرأ نصا أدبيا أو شعرا يلتفت نظرنا ما أحاط به، مثل العنوان، الغلاف، الصور، الفاتحة، المقدمة، التصدير، الهوامش، الخاتمة و... . العلم الذي يبحث عن هذه الأمور هو المناصية؛ المناص أو النص الموازي، هو من النظريات الحديثة حول علاقات التّناص الذي يقدّمه الجيرارد الجينيت لأوّل المرّة (قبادي وشكريان، 1389: 152: منقول من حمداوي، بدري و مداور، 2016: 7-9). و قد يأتي المناص في شکل تعليقات متعلّقة بمقطع ما في النص و هي: مناص داخلي و تفاعل نصي داخلي، أما المقدمة و الملاحق و کلمات الناشر و ما هو علي ظهر الغلاف فتدخل في المناسبات الخارجية. إنّ العتبات الداخلية تعتبر مجموعة من النصوص الموازية لکل کتاب و تکون ضمن خصائصه، وهذا الجزء من أشکال العتبات هو من قائمة طويلة من العناصر التي تبني عليها العتبات الداخلية أو النص المحيط، و عليه تکون العتبات الداخلية کل خطاب مادي يأخذ موقعه داخل فضاء الكتاب مثل: العنوان أو التمهيد ويكون أحياناً مدرجاً بين فجوات النص مثل: عناوين الفصول أو بعض الإشارت (منصر، 2007: 27). تشيرُ العناوين و صورة أغلفة الکتب علي ما يريد الکاتب أن يبين للقرّاء. لهذا هذه الأمور ذو أهمية بالغة عند الکتّاب و القراء. يعتقد شفيعي كدکني، أنّ إسم الكتاب أو العمل يكفي للحصول على وصف للخالق ونفسيته، كما يعتقد أن المؤلف لا يحتاج إلى أن يقرأ المؤلف آثاره، بل يمكنه أن يفصل رأيه عن طريق قراءة عنوان آثاره؛ لأنَّ العنوان تتكفل بتسمية العمل و أن تسمي كتابا يعني أن تعيّنَهُ، تعنونه كما نسمي شخصا تماما (شفيعي كدكني، 1386: 442؛ ابن منظور، 1997، ج4: 437 بالتصرف). العنوان هو الطريقة الأولى التي يتعرف بها الجمهور على الكتاب، وتساعد هذه الاقتباسات في الإجابة أو قبول تأثير الكتاب: كصورة غلاف ونوع غلاف الرسالة ولون الغلاف واسم المؤلف والناشر و تغطي شهرتهم الاسم المحرر أو رسم خرائط للكتاب (بشيري و آقاجاني كلخوران، 1395: 96-97). يعد الغلاف من بين العناصر المناصية التي ذکرها ج. جنيت G.Genette و هو دعامة مادية تحمل الکتاب و نص يوازي نصه الاصلي، و يعد أيضاً من المداخل الأدبية المهمة لأنه يقرأ کنص قبل نص. إن أول ما يتلقي بصرياً، أو يشاهد هو لوحة الغلاف، باعتبارها مناص ذو مظهر أيقوني، أو عتبة بصرية، لها وظيفة افتتاحية أو تمهيدية، فالعلاقة بين لوحة الغلاف و العنوان و النص هي علاقة تبادلية و تفاعلية و تکاملية في آن و هي مقصودة، لايمکن تجاهلها، فلوحة الغلاف هي بنية نصية علي قدر صمتها هي ناطقة، و علي قدر جمودها هي متفاعلة و مفاعلة. يعَدُّ الحديثُ عن الألوان من أساسيات دراسة الأغلفة، و علاقتها بما يحتويه العمل الأدبي حيث تلعب الألوان دوراً هاماً في التأثير علي نفسية الفرد، حيث أنّ الميل إلي بعض الألوان يرجع إلي ظروف حياتنا و ثقافتنا کما يرجع إلي الظروف النفسية التي يمر بها الفرد. باعتبار الغلاف العتبة الأولي التي تصافح بصر الملتقي، فقد أصبح محل عناية و اهتمام القراء الذين حوّلوه من وسيلة تقنية معدّة لحفظ الحاملات الطباعية إلي فضاء المحفزات الخارجية و الموجهات الفنية المساعدة علي تلقي المتون الشعرية. لذلك، يتطرق هذا المقال الي عتبة العنوان في دواوين شفيق حبيب و صورة أغلفة دواوينه و الصورالموجودة في بعض صفحات کتبه التي يرسم بعضَها الشاعرُ نفسُه لأنه يستحق الدراسة و الاهتمام. يعالج هذا المقال تحليل عتبة العنوان والكشف عن مكوناته. کما يهدف إلى دراسة صور اغلفة دواوين الشاعر والصور الأخري فيها محاولة تطبيق نظرية نقدية حديثة، و خاصة محاولة المناص لفحص عتبة العنوان و دراسة مناصية للغلاف في مؤلّفات الشاعر. سيتم المقال علي المنهج الوصفي -التحليلي. لذلك، فإن الأسئلة التالية جعلت البحث ضروريًا:
1-كيف استخدم المؤلف العنوان ومكوناته كنوع من السياق في مؤلّفاته؟
2- ما مدى تأثير هذا العنوان على القراء؟
3-علي أي شيءٍ يدل صور أغلفة و سائر الصور في کتب الشاعر؟ 
النتائج الأولية هي كما يلي: يختار الشاعر لکتبه عناوين قصيرة ذودلالة واسعة بأشکال عدة و هذا يدلّ علي ثقافته الواسعة و صور أغلفة دواوينه و سائر الصور الموجودة في کتبه يدلّ علي معان متعدّدة يتناسب مع الفکرة التي يلقيها في أشعاره. صور أغلفة المجموعات الشعرية للشاعر جميلة ذوات جاذبية حيث يثير الإنتباه عند القاريء.
الضرورة و خلفية البحث
العنوان يؤدّي دوراً أساسياً في فهم المعاني العميقة للعمل الأدبي و من هنا کان الاهتمام به أمرا حتميا لأنّه أوّل عتبات النص التي يمکن من خلالها الولوج إلي معالم النص و اکتشاف کنهه. لقد أُهْمِلَ العنوان کثيراً سواء من قبل الدارسين العرب، أو الغربيين قديماً و حديثاً، لأنهم اعتبروه هامشا لاقيمة له، و ملفوظا لغويا لايقدم شيئاً الي تحليل النص الأدبي؛ لذلک تجاوزوه إلي النص کما تجاوزوا باقي العتبات الأخري التي تحيط به. (رضا، 2014: 126- 124)  هذا الإهمال لا يقلّل من قدر العنوان لأنّ عنوان الكتاب هامّ و نافع في اكتشاف غموض و تعقيد النصوص الداخلية أو النص الأصلي للكتاب. هو و ما رسم علي غلافة هامّان كذلك العتبة التي هي جديرة بالدراسة و الاهتمام. عنيت الدراسات النقدية في السنين الأخيرة بموضوع العنوان بوصفه المدخل أو العتبة التي يجري التفاوض عليها لکشف مخبوءات النص الذي يتقدمه ذلک العنوان، و اذا ما عُدَّ العنوان جزءا مهما من أجزاء النص أو مفتاحا له، و رأسا لجسده، فإن الحاجة الي معرفته باتت ملحة، طالما و فّرت فهما يضاف الي فهم المتلقي للنص. (الثامري، 2010: 13). اضافة إلي أنّ هذا الموضوع أُهمل من جانب الدارسين، الشاعر الذي يتناوله هذا المقال أي عناوينه و أغلفة دواوينه من الشعراء المعاصرين الذين لم يؤلَّف عنه کتاب بل مقالات کثيرة مثل؛ «شفيق حبيب في مرايا النقد» لمجموعة من الدارسين و المؤلّفين، الکتاب الوحيد الذي يعالج شعر و شخصية الشاعر. في ايران، هذا المقال من أول الدراسات و هذا يزيد اهمية الدراسة.
تمّ إجراء الكثير من الأبحاث حول المناص، وخاصةً حول «العنوان» وخصائصه في الأدب؛ كتب الباحثون العديد من الدراسات التي تعدّ الأبحاث التالية ذات صلة بها: «العنوان و سموطيقيا الإتصال الأدبي» للدكتور محمد فكري الجزار سنة (1998) و الكتاب «تاصيلي يعالج فيه موضوع النشأة والتطور» للدكتور محمد عويس في سنة (1993) و کتاب «العتبات النصية في «رواية الأجيال» العربية ل د. سهام السامرائي و «التفاعل النصي في الرواية العربية المعاصرة» عماد خالد. قد تمّ رسالة موسومة بـ «سيمائية العتبات النصية في كتاب أوراق الورد لمصطفى الرافعي» في سنة (2016). أيضاً قد تمّ مقال مسمي بـ «العنوان رواية السراب لنجيب محفوظ: مقاربة سيمائية» (2006). لقد ألف درواش و تورمي الرسالة بالعنوان «العتبات النصيّة في التراث النقدي العربي الشعر والشعراء لإبن قتيبة أنموذجا» (2009).
العنوان
ورد العنوان في لسان العرب لإبن منظور: «في باب العين و في مادة عَنَنَ: عنّ الشيء يَعن و يعُنُّ عَنَنا و عنواناً: ظهر إمامك وعَنَّ ويّعنُّ عناً و عنواناً واعتنّ: إعترَضَ وعرَضَ و عَنَنتُ الكتاب وأعننتُه، أي عرضتُه ﻟﻪ وصرفته إﻟﯾﻪ، وَﻋﱠن الكتاب ﯾﻌﻧﻪُ عّناً وعَّننته: ﻛَﻌﻧوَﻧﺔ وَعَنونَة بمعنى واحد مشتق من المعنى» (إبن منظور، 1997: مجلد4، 315). أﻣﺎ دلالته الاصطلاحية ﻓﻬو «مقطع لغوي أقل من الجملة نصاً أو عملاً فنياً» (علوش، 1983: 155). كما أنه يعتبر الركيزة الأساسية للتعرف على النص فهو يعني إسم الكتاب كما نسمي الأشخاص وهو يحمل من قصدية فاعلية لكشف الباطن بفعل إرادة ملزمة، للبداية وإخراج المعنى (الأسدي، 2009: 154).
لقد غاب الاهتمام بالعنوان في النص الشعري العربي منذ زمن بعيدٍ، حتي أن النصوص الشعرية کانت تُسمّي بمطالعها أو قوافيها و حروف رويها، (بسام، 2001: 34) و يعدُّ ذلک دالا عليها، بل وسما لها، و يرجع رشيد يحياوي ذلک إلي أن المتلقين للشعر قديماً کانوا يستعجلون سماع القصيدة و الدخول المباشر من قبل الشاعر فيها، (يحياوي، 1998م: 107 و 18) و هي سمة ناتجة عن الطابع الشفوي، الذي کان يهيمن علي الشاعر و السامع معا، إذ کانت الأمة العربية -وفقاً لوجهه محمد عويس- أمة ناطقة، و لم تکن تعتني بتدوين الصوت المنطوق، فضلا علي أن الذوق الأدبي کان يقوم علي حسن تقدير الأصوات المسموعة المعبرة عن المشاعر تعبيراً صوتياً مسموعاً. (عويس، 1988م: 46) في حين تري نوره القحطاني «أن ذلک الغياب قد يعزي إلي افتقاد القصيدة العربية القديمة الوحدة الموضوعية، التي تخوّل للشاعر استخلاص عنوانها طبقا لموضوعها» و کلا الرأيين صائب، لکنهما ليسا کل المسألة، إذ لايستطيع أحد أن يجزم بالسبب الحقيقي؛ لأن غياب المستند القاطع يمنع ذلک. (الشمري، 2019: 454 و 455) قد فطن المبدع العربي إلي أهمية العنوان، و أدرک وظائفه من خلال طريقة إخراجه، و مراعاة مقتضي الحال للمتلقين لهذا الإبداع الذي يعکس قراءتهم، فالعنوان حسب الدراسات النقدية الحديثة يؤدي دورالمنبِّه و المُحَرِّض، فسلطته الطاغية تضفي بظلالها علي النص، فيستحيل النص جسدا مستباحا لسلطته، ثم إنه نقطة الوصل بين طرفي الرسالة: ممثلة في ثنائية «المبدع و المستقبل» إنه يعَدُّ بداية اللّذة، هذا ما جعل العنوان يحرک وجع الکتابة الذي يتحول تدريجيا إلي وجع قراءة متواصلة في صيرورة يتساوي فيها النص مع الناص، لذلک کان لزاما علي المبدع أن يراعي فنيات فنّ العنونة ليجعل منه مصطلحا إجرائيا في المقاربات النصية و عليه فالعنوان ضرورة کتابية للولوج إلي أغوار النصوص و استنطاقها من خلاله. (رضا، 2014: 125 و 126)
أَوْلَتْ المناهج النقدية الحديثة اهتمامًا وثيقًا بالعتبات، حيث أكدت بعض الأبحاث في السرد و المنطق و علم الاجتماع على أهمية الدراسات المتعمقة و استخدمت في علوم جديدة، و هي علم العنوان (Tetralogy)، الذي اهتمّ بصياغته و ﺗﺄسيسه باحثون غربيون و حداثيون منهم: جيرار جينيت (Gerard Genetee)، ليوهوك (leo H.Hock)،كما يعد كتاب جيرار جنيت (seuils) أهم دراسة علمية للعتبات و قد شغل العنوان بصفته أحد عناصر العتبات حَيّزاً كبيراً من كتابه. العنوان يعدّ من أهم العناصر المكونة للمؤلّف الأدبي و مكونا داخلياً يشكل قيمة دلالية عند الدارس حيث يمكن اعتباره ممثلاً لسطلة النص و واجهة الإعلامية التي تمارس على المتلقي، فضلاً عن كونه وسيلة للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه (حليفي، 2005: 11). ثمّ «العنوان عتبةٌ من عتبات النص أو مفتاحٌ من مفاتيحه، أو بابٌ نلج منه إلى العالم النصي» (موسى، 2000: 73؛ الثامري، 2010: 14) و لذلك يعد بمثابة الرأس من الجسد، الرأس الذي بواسطته يفقه الإنسان ما حوله و يستدل على الموجودات. إن العلاقة بين العنوان و النص علاقة سببية في الغالب أكثر منها ترتيبية لأن وجود العنوان يعني وجود المعنون، و وجود الأخير يفترض وجود العنوان و في الحقل الأدبي فإن العنوان في الغالب يحيل إلى العمل الأدبي و خصوصيته بما يحمل من إشارات تدل على جنس العمل الذي يتقدمه ذلك العنوان. (حليفي، 2005: 14) العنوان ليس مجرد إسم يدل على العمل الأدبي إنما هو مدخل إلى العمارة النص و إضاءة بارعة وغامضة لممراته المتشابكة. ينقسم العنوان إلى نوعين: مركزيٍ وأنواعٍ فرعية، وأحيانًا عناوين النصوص الداخلية أيضًا كما هو الحال في کتب الشاعر شفيق حبيب، استخدم عنوانًا أصليًا واحدًا وعناوين داخلية متعددة.
العنوان الرئيس (العنوان المرکزي)
«العنوان المرکزي هو العنوان الذي تعنون به مجموعه شعرية أو قصصية أو مجموعة من المجاميع، التي تندرج تحت ما يسمي «المجموعة الکاملة»، و هو مرکز العناوين التي تندرج تحته في المجموعة کلها، کما أنّه يعدُّ المرکز الذي تشتقُّ منه، کما يشتق منه المتن کله» (الشمري، 2019: 457) لشفيق حبيب سبعة عشر کتابا و عناوينهم هي: 1. قناديل و غربان، 2. مأساة القرن الضليل، 3. دروب ملتهبة، 4. وطن... و عبير...، 5. أنادي.. أيها المنفي!!!، 6. احزان المراکب الهائمة، 7. الدم و الميلاد، 8. العودة إلي الآتي، 9. ليکون لکم في سلام، 10. في قفص الإتّهام، 11. آه... يا أسوارَ عکّا!!، 12. تعاويذ من خزف، 13. لماذا..؟؟!!، 14. صارخ في البرية، 15. أنا الجاني، 16. شآبيب، 17. ما أمرّ العنب. إنّ السمة الأساسية التي تتمتّع بها أغلب العنوانات هي الإقتصاد اللغوي في مقابل الإتّساع الدلالي، فقد يتألّف العنوان من جملة (أنادي.. أيها المنفي!!!، ليکون لکم في سلام)، أو کلمة (شآبيب)، أو استفهام (لماذا..؟؟!!)، أو تعجّب (ما أمرّ العنب)، أو معطوف (الدم و الميلاد، قناديل و غربان، وطن... و عبير...) أو مع حروف الجر(العودة إلي الآتي، تعاويذ من خزف، صارخ في البرية) و... و هذا الإقتصاد في بنية العنوان يمارس التکثيف للدوالّ المبثوثة في بنيتهِ اللغوية، أو في بنية النص الذي يتعلّق به. نظرا إلي عناوين ديوان الشاعر نري أنّ عناوين الديوان قد تقع في حقول الجملة الاسمية و الفعلية، و الجملة الاسمية في فضاء النحو الدلالي تعبر عن الهدوء و السکينة و الاستقرار عکس الجملة الفعلية التي تدل علي الحرکية. رغم أنّ العنوان لايمکن تحديدُه بکلمة أو جملة، ثمّ إنّ الکلمة الواحدة قد تکون جملة في العُرف النحوي، و قد لا تشکل مجموعة کلمات جملة. 
إنّ عناوين الديوان مکونة من کلمة واحدة أو کلمتين أو ثلاث کلمات، تصنف من الموصوفة أو الإضافة أو يکون بصيغة الجملة الاسمية المعطوفة و...  کلّ هذا يدلّ علي أنّ الشاعر يريد أن يستفزّ القاريء و يرغمه علي التفکُّر و البحث؛ في عنوان «أحزان المراکب الهائمة»، «مأساة القرن الضليل»، تنتقل النکرة من فضاء المجهول و التنکير إلي فضاء المعلوم و التعريف من خلال المضاف إليه بوصفه معرفة و علي هذا النحو تکتسب النکرة سمة المعرفة لتمارس التحديد و التسمية و بالتالي تمنح التسمية النص شکلا و هُوية. بعض العناوين تعتمد الحذف الصياغي. إذ الدّوالّ الظاهرة تمثل خبرا قد يکون لمبتدأ فيه محذوفاً، تقديره هو أو هي، و قد تکون هذه الدوالّ مبتدأً و النصّ هو الخبر؛ في عنوان «شآبيب»، «صارخ في البرية»، «تعاويذ من خزف»، «العودة إلي الآتي»، «الدم و الميلاد»، «دروب ملتهبة»، «قناديل و غربان»، «وطن... و عبير...»، حذْف الشاعر للمُسند إليه، أدّي إلي شحن المسند بدلالات مضاعفة و ترك ثغرة تصدم القاريء و تستفزّه من خلال خلق العديد من الأسئلة.کما يمنح هذا الحذف فرصة لتخيل المسند إليه الذي يختلف عن الأخري حسب تخيل القاريء و المخاطب. الإضمار يحتاج عادة إلي تقدير للمحذوف، و من ثم يحتاج إلي مزيد من التأويل؛ إذ هو بهذه الهيئة يتعدد تأويله کما تتعدد تقديرات إضماراته. کونه نکرة اسماء كـَ «صارخ»، «تعاويذ»، «دروب» و «قناديل و غربان» يزيد الغموض إضافة علي التخيل و الأسئلة لأنّ کلمة نکرة تدلّ بتنکيرها علي لانهائية التآويل. هذا يرجع إلي إحدي وظائف العنوان هو الإثارة؛ «الوظيفة الأولي للعنوان التي تدفع إلي خلق وظائف أخري له کالإثارة، إذ لا يتوقف العنوان عند الإخبار فحسب، و إنّما هو إخبار فيه شيء من الإضمار، و الحذف ليس علي الصعيد الدلالي فحسب، بل علي صعيد الصياغي أيضاً، إذ إنّه بشکله هذا يضع سؤالا و يثير إشکالاً و يدفع التأويل إلي أقصي مداه. فإنّ العنوان –بترکيبه هذا- يضمر عنصراً محذوفاً صياغياً يتعدّد تقديره بتعدّد القراءات، فقد يکون المضمر مبتدأ محذوف، أو أن الظاهر مبتدأ خَبَرُه النص. إن ذلک کله يعمل علي تشويش وصولا الرسالة بسلاسة إلي القاريء، و من ثمَّ يشکل ذلک علامة تدفع إلي جعل القاريء يسعي إلي إستهلاک النص فعلياً (الشمري، 2019: 458 و 459 نقلا عن عبدالحق بلعابد، عتبات، 74) 
لقد جمع ألفاظا كَـ «دروب» و «أحزان» فيبدو أنّه يدلّ علي أنّ الطرق و آلات الوصول إلي الغاية کثيرة و إن کان ذا أخطار و أحزان المراکب الّتي تهيم في البحر ليست واحدا بل ذات تنوّع و کثرة. کلمة «صارخ» تکون نکرة و مفردة لتدلّ علي وحدة و مجهولية الصارخ. «في قفص الاتّهام» حرف «في» يعني الرجل يحصر و يؤسر في القفص و الإتهام يبين أنّ الأسر ليس علي أثر الجريمة بل بسب الاتّهام فقط. عَطْفُ الميلاد علي الدم في «الدم و الميلاد» يمکن أن يقول أن القتل و الشهادة في الحق يسبب الولادة و النضال دون الضعف و الإندثار. استخدم الشاعر اسلوب التعجّب لـ «ما أمرّ العنب!» حتي يستثير التعجّب و السؤال للمخاطَب و القاريء ماهو العنب الذي يکون طعمه مرّا. ديوان (تعاويذ من خزف) علي مستوي الإحالة النحوية، يتألف من جملة اسمية، مکونة من کلمة (تعاويذ)، و هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه)، جاءت مَتْبوعة مباشرةً بجملة الجارّ، و المجرور (من خزف)؛ ليفيد طابع التخصص لهذه التغاويذ.
العنوان الفرعي (العناوين الداخلية)   
«لابد من التفرقة بين العنوان الذي يعد مدخلا لنصوص عدة، و العنوان الذي يکون لنصٍّ واحد، فالعنوان الأول يجمع النصوص و يشير إليها و يحددها باشارته، فهو عندما يتقدم في المجموعة الشعرية فانه يحاول ان يطوِّق جميع نصوص هذه المجموعة ليبوح بها عبر نصه المصغر سواء کان هذا النص/ العنوان/ واضح الدلالة (تقريري) اي انه ينطوي علي ميتالغوية يشترك القاريء في تأويله، و هي مسؤولية کبيرة تقع علي عاتق الناص في اختيار مدخل أو موجة أو تاج للنص، في حين يبدو الامر علي غير ذلك في عنوان النص الشعري الواحد، اذ ان الفکرة تکون واضحة و واحدة مما يستدعي مدخلا واضحا واحدا». (الثامري، 2010: 20 و 21) کُتُب شفيق حبيب تشتمل علي أشعار في موضوعات مختلفة يبدو أنّ هذا التّنوّع و الکثرة يصعب علي القاريء و الدارس فهم الارتباط بينها کمجموعة متشابکة؛ علي  أنّ بعض الأشعار يکون قريبا و متصلا مع العنوان الرئيس.
کانت المقدمة تعد ضمن العتبات أيضا حيث أنّ المقدمة عتبة تلحق بالعنوان في معمارية (جيرار جينيت)؛ الشاعر لجأ في ديوانه «ليکون لكم فيَّ سلام» إلي المقدمة النثرية «الظلمقراطية هذا ايماننا... و هذا قدرُنا» و هي مقدمة خطاب إلي القاضي يبين فيها بعض القضايا التي تخصّ التعذيب دون توجيه اتهام له و يدين سياسة قمع الفکر الإنساني. في ديوانه «أحزان المراکب الهائمة» يبدأ و يهدي الديوان بعبارة «الفلسطيني مرکبٌ تُثقله الدّماءُ و الدّموعُ و الأحزانُ في بحارٍ من الألم... و ظلمِ ذوي القُربي...» «الإهداء: إلي المراکب الفلسطينية المتحدية...». لشفيق حبيب قصيدةٌ باسم «زرقاءُ الَيمامة» التي يذکرها في بداية ديوانه «آه يا اسوارعکا» و يستهلُّها بمقال «کلمة في زرقاء اليمامة» من «بدر توفيق»، الشاعر يستهل «لماذا»، «صارخ في البرية»، «أنا الجاني»، بمقالات من الدكتور «يحيي زکريا الآغا».
في بعض الدواوين يسعي الشاعر إلي إنتخاب عنوان إحدي قصائد المجموعة لتحويله إلي مظلة عنوانية تحتوي علي العنوانات الأخري و تُلقي بظلالها علي النحو الذي يتحول فيه إلي عتبة عنوانية کبري.«درج الکثير من الشعراء علي تسمية مجموعاتهم الشعرية باسم قصيدة من قصائدهم، معني هذا أنّ القصيدة أخذت اسمها عن ظرف شعري و کتابي معين و بطبيعة الحال فإنّ عوامل کثيرة تتدخل في هذا الاختيار، (ناصري، 2015: 36) کما فعل شفيق حبيب في قناديل و غربان، مأساة القرن الضليل، انادي ايها المنفي، الدم و الميلاد، العودة إلي الآتي، آه... يا أسوار عکا!!، لماذا...؟؟!!، تعاويذ من خَزَف، ما أمرَّ العِنبَ،أنا الجاني، ولا شك في أنّ عملية انتخاب عنوان إحدي القصائد عنوانا للمجموعة، يعکس تصورا لقيمة هذا العنوان و خصبه و مرونته التشکيلية و التعبيرية، و قدرته علي تمثيل العنوانات الأخري و استيعاب معطياتها السيميائية علي نحو ما. يسعي الشاعر إلي إنتخاب عنوان إحدي قصائد المجموعة لتحويله إلي مظلة عنوانية تحتوي علي العنوانات الأخري و تلقي بظلالها علي النحو الذي يتحول فيه إلي عتبة عنوانية کبري.
الشاعر في «قناديل و غربان» يستخدم العناوين الداخلية المعطوفة كَـ «لقاء و أمل، الغصن و الوصية، مأتم و تفاحة، شاعر و لحظة، اوراقي و اشعاري، سمراء و المطبعة» و في ديوانه «لماذا» من العناوين السؤالية كَـ «لماذا ارتحلنا...؟؟!!، هل الخيلُ خيلي..؟؟، يا حاکمي..؟؟، ماذا تبقّي...؟؟». شفيق حبيب، في «دروب ملتهبة» يختصّ العناوين الداخلية بالوطن و يتبين أنّ الدروب لتحرير الوطن ملتهبة و ذوات سبل صعبة كـَ «وطني، ماذا أکتب يا وطني؟؟، يا أرض!!، عرفت شعوبُ الأرض قِصَّتنا» و في ديوانه «الدّم و الميلاد» يکثر من العناوين الداخلية التي يحرّض الشعب و يبشّرهم بولادة وطن و مصير أحسن من الماضي كَـ «الانتفاضة، طائر الرعد، انقش مصيرك، أرضي تثور، جئنا نحييك». لـِ «ما أمَرَّ العِنَب» أربعة أبواب: ليس عندي سلاح، معزوفات المساء، نصفي الأجمل، علي أجنحة الوجْد»، هذه الأبواب تشتمل علي عدة اشعار بعضها حول الحبّ و الوطن، وبعضها الآخر حول ما يتّصل به و أهله و أصدقائه و أقربائه.
العناوين الداخلية لکتب شفيق حبيب ينقسم إلي عدة أنواع حسب النظرة المدروسة. نلخصها في مايلي:
1- عناوين توثِّق لمناسبات معينة، مثل عزاء، أو تهنئة، و قد يعقّب العنوان شرح إضافي يبين فيه تفصيلاً موجزاً للمناسبة التي قيلت القصيدة لأجلها، نحو عنوان: دمعة (علي الراحل شموخا و إباء... فيصل الحسيني)، مرّت سنة... (إلي روح الراحل الکبير توفيق العفيفي-أبواحمد- الذي لبّي نداء ربّه في29- 4- 2001)، ألسنة الأزمان «بمناسبة رحيل الشاعر الکبير شکيب جهشان 13- 2- 2003»، ساءلتُ عنك «مهداة إلي سيادة المطران بطرس معلّم بمناسبة تنصييه مطرانا في ساوباولو-البرازيل-عام 1990»، نودِّعُکم... «بمناسبة رحيل فقيد الشعر و الفن الدکتور سليم مخولي في 2011. 11. 8 »، أرثيك....«بمناسبة حفل تأبين الراحل الکريم جمال سعيد طربية في المرکز الثقافي البلدي بسخنين تحت رعاية بلدية سخنين و الجبهة الديمقراطية للسلام و المساواة و آل الفقيد في1/9/2012»، نشتاق يا شوقي إليك!!! «إلي روح الراحل المناضل شوقي سعيد خطيب بمناسبة حفل تأبينة في 2011. 05. 21 بدير حنا مسقط رأسه»، مَيسون...!! «إلي الزميلة الإذاعية في راديو 2000 ميسون حمدان التي فقدتْ أخاها عبدالله مساء 1997. 10. 7 بحادث طرق مروّع أثناء إعادته لها من الإذاعة في حي الورود بالناصرة إلي بيتها بعکا....... زرتُها و زوجتي في المستشفي و مازالت ترقد هناك بوضع صعب. ((الصنارة)) في 1997. 10. 17» علي شاطي السبعين... (لذکري يوم مولدي، الإثنين 1941. 12. 8م// 1360. 11. 20هـ) ياغبارَ الزمن..!!! «إلي روح الشاعر محمود درويش.. إنساناً و زماناً و مکاناً»، يا ويلَ الغاب...!!! (إلي الصديق الدکتور عزمي بشارة)، نَعَقوا... «الإهداء: إلي القيادات العربية الهلامية»، ياهداسا...!! «إلي الجَرّاح الکبير بروفسور دوف بوديه»، کُنْ جميلاً... !! «الإهداء: إلي شفيق حبيب- الحفيد»، سماهر... وَ علاء «بمناسبة زواج کريمته سماهر حبيب و علاء غنطوس في 2005. 7. 4»، يا أجمل الناس!!!! (إلي روحَي سالي ذياب و أليکس بوبان) (ضحيتي حادث طرق بحيفا في2010. 1. 16)، عاصفة الدّهور (إلي شهدائنا الخالدين)، إنکسارت حادّة.. (إلي مُدّعي المسؤولية الذين ينکرون علي الشعر صوتَه في مناسباتنا الوطنية وإلي الشعراء الزاحفين علي بطونهم کالأفاعي)، شمسٌ علي البُنّي (إلي الشّاعرة الفلسطينية السيدة أنيسة درويش بمناسبة صدور سيرتها الذاتية «شمسٌ علي البُنّيّ»)، بُکائية في يوم مولدي... «منّي و إليّ في الخامسة و الخمسين»، النِّداءُ... والرّحيل «إلي الصّديق الراحل ميشيل حداد... إنساناً و شاعراً»، ماذا تبقّي...؟؟ «في وداع الکاتب المفکر إميل حبيبي»، إله الصّديد «الإهداء: إلي شهداء الفکر و الفن في العالم العربي»، فُجعنا «إلي روح الصديق علي شدافنة رفيق الدراسة و الشباب»، يا أيها الحَرَمُ المحزون!! «إلي أرواح الشهداء الأبرار، الذين سقطوا برصاص الإحتلال في الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، فجر الخامس و العشرين من شباط 1994»، العاهرون (الي الوطنيين المزيفين)، الشّهيد (إلي الثّاوي في تراب الوطن.. عطاءًا و خصوبة)، الطفولة (إلي الطفولة الفلسطينية... ذبيحةً و بعثاً.. في زمن الإنتفاضة)، حَرْفي ... و الرّقابة (إلي الرقيب العسکري الذي يحاول خنق کلمتي بعدم اجازة نشرها)، أرضي تثور «بمناسبة مرور عشرين سنة علي الاحتلال الإسرائيلي في حزيران1967»، کبير.. و صغار «إلي روح ناجي العلي، رسام الکاريکاتير الفلسطيني الذي اغتالته يدُ الإثم في لندن»، أخي رجا... «إلي رجا اغبارية.. سجينا خلال الانتفاضة»، واسُلطاناه..!! «إلي روح الشهيدة غالية فرحات»، دموع و شموع «الي روح الصديق الشاعر حبيب زيدان شويري»، جئنا نحييك «إلي روح الصديق د. سامي مرعي..» فوزي..!! «إلي روح الصديق الشاعر فوزي عبدالله»، يافهد!!! «إلي روح الشهيد فهد القواسمي»، ستظلّ اکليلا «إلي روح الشاعر المناضل راشد حسين»، الحرف و المأساة «مُهداة: إلي الحسين بن منصور الحلاج في کل زمان و مکان»، سيعود الزورق «إلي التي تسألني: لماذا لم تکتب لي قصيدة منذ زمن بعيد، فهل نضب معينُ شعرك؟».       

20
فلسفة مبسطة: فكر الشعب المميز جلب الكوارث لأصحابه وللإنسانية
*ضحايا التطهير العرقي للنازية، لم يترددوا بتنفيذ سياسة تطهير عرقية ضد الشعب الفلسطيني*
نبيل عودة
عرف عن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة من القرن التاسع عشر، رفضه لثوابت الايمان المسيحي ولكل الأخلاق السائدة. لن أدخل ولا يعنيني جوهر الصراع بين نيتشه والكنيسة المسيحية. ادعى نيتشه بفلسفته انه يرى ظاهرة مهمة وبالغة الخطورة على العقل البشري، تسود بعض الفئات الاجتماعية المتعصبة لفكرة او لشخص ما يدغدغ ميولهم، وقد أطلق نيتشه على هذه الظاهرة تعبير " أخلاق القطيع ".. لأنها تطرح أطيقا غير طبيعية من وجهة نظره (وهي ظاهرة تتكرر في مجالات عديدة أهمها المجال السياسي، وفي الخضوع غير المبرر لأنظمة فاسدة او لقيادات فاسدة)، وذهب نيتشه نحو ايجاد أطيقا جديدة بعيدة عن الأطيقا الكنسية (الدينية)، سماها " الرغبة بالعظمة". وان الوحيد غير العادي الموجود خارج "أخلاق القطيع" هو النجم الأعلى، أي السوبرمان، شخصا مميزا، أو مجموعة مميزة، وكم نحن شهود لمثل هذه الظواهر في عالمنا اليوم. حسب نيتشه يظهر "السوبرمان" كل عدة عقود أو قرن، وهو شخص (أو حزب أو منظمة أو عصابة مافيا مثلا) يحق له حسب عقله، ان يعبر بحرية عن قوته الطبيعية وتفوقه على القطيع. طبعا هذا لا ينفي انه هو شخصيا قائد القطيع. بالطبع نيتشه كان أشبه ببطل افلام الكاو بوي الذي ينتصر بكل الأحوال بقوته الخارقة ولو واجهه جيش من عشرات المسلحين.
كان نيتشه يؤكّد في فلسفته تقلّص التأثير للقيم التقليديّة، لأن "اللّه قد مات" (الجنائني مات) ويجب التّأسيس لقيم جديدة تعبّر عن القوّة والشّجاعة والنبل وتعبّر عن إرادة الإنسان الأعلى أو بالأحرى عن إرادة القوّة. جرى الربط بين فلسفة نيتشه والأيديولوجيا النازية، وان النازية اقتبست فلسفتها من النيتشية، عن الإنسان الأعلى والقوة والشجاعة والنبل، البعض يدعي ان هذه الفلسفة أنجبت شخصيّة هتلر. ليس بالصدفة ان نيتشة وفلسفته كان المفضل لدى الزعيم النازي هتلر، الذي قاد شعبه وشعوب العالم لكارثة انسانية رهيبة من أجل ابراز عظمة الفوهرر (الزعيم النازي)، او رغبة الفوهرر بالعظمة، بكونه السوبرمان لأرقى عنصر اثني ظهر فوق الأرض. وما زلنا نعاني من هذه البدع بأشكال مختلفة حتى اليوم، حتى من ضحايا السوبرمان النازي، الذين لم يترددوا بتنفيذ سياسة تطهير عرقية. وهذا ما يفضحه أيضا المؤرخ اليهودي الإنساني ايلان بابه بكتابه الهام "التطهير العرقي في فلسطين". وفي بروتوكولات حزب مباي، الحزب المؤسس لدولة إسرائيل، اعترض لافون (وزير دفاع آنذاك) على مشروع تهجير الفلسطينيين الباقين في وطنهم ولم يهربوا من المجازر، بقوله: "النازية هي نازية، حتى لو نفذت بأيدي يهودية". وكان بن غوريون قد قتال عن العرب الباقين في وطنهم فلسطين 48:"ننظر إليهم كما ننظر الى الحمير"!
اتهم نيتشة بكل شيء سيء في المانيا الجديدة، القصد المانيا الهتلرية، من بروز العسكرية المجنونة وحتى الملفوف المكبوس بشكل لا يرضي ذوق الطعام عند الألمان.
بالطبع كلنا نعرف مصير الرايخ وزعيمه ومصير المانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان العسكرية، ومصير شعوب اوروبا وآسيا وشمال افريقيا وانعكاس فكرة السوبرمان على سياسة العالم حتى اليوم بنسختها الأمريكية، التي أبقت قصدا دول الشرق ما دون الرقي ليبقى "السوبرمان الدوري" (إنكلترا وفرنسا وأمريكا) مسيطرا وعظيما، أحضروا لنا المتفوق الدوري ونحن نيام وما زلنا، جاء هذا المتفوق على شاكلة الحركة الصهيونية ليبقى العرب في إطار القطيع. ولكنه ليس موضوعنا الآن !!
المستهجن ان بعضنا ما زال يؤمن بالنيتشية ويتصرف حسب مفاهيمها، دون ان يفهمها ودون أن يعرفها ودون ان يفهم ان فلسفة الوهم الاستعلائية قادت شعوبا عديدة الى الانحطاط، وابقت شعوبا في قاع الرقي بأوهامها القاتلة انها تملك أرقى حضارة ... وأن النيتشيين الجدد يحركهم ظنهم انهم يتمتعون بالتميز البشري عن بقية أبناء شعبهم وتحركهم مشاعر الاستعلاء على القطيع.
الموضوع ليس سياسيا فقط وليس اجتماعيا فقط. هذه الظاهرة تنتشر على الأخص بين أشباه المثقفين المتكاثرين في ظل أزمة الثقافة العربية والفكر العربي، وسيادة الفكر الغيبي، فكر الخرافات والشعوذة، فكر تغييب العقل وتغييب المنطق، فكر التهريج بلا أي حس انساني أو القدرة على فهم سليم للواقع والوسائل النضالية الأكثر ملاءمة وتأثيرا في ظروف بالغة التعقيد والتركيب.
هناك حقا من يملك قدرات فكرية قد تتطور لو تخلص من الحلقات المغلقة التي تقيد فكره، لكن مجرد دخول النيتشية الى فكرهم وسيطرتها على عقولهم وتصرفاتهم، بوعي او بدونه للمضمون الحقيقي للنيتشية، أحالتهم الى نرجسيين مغرورين، مضرتهم أكثر من فائدتهم وصمتهم وعزلهم مكسبا كبيرا لمجتمعاتهم.
من المؤسف أيضا ان الكثير من المثقفين في أيامنا نيتشيين في عقليتهم وتصرفاتهم، دون فهمهم للنيتشية على حقيقتها، وينسون أو يتناسون انهم عاشوا جل عمرهم كأفراد من القطيع ولم تتحرر ذهنيتهم من روح القطيع. ان النيتشية لا تظهر بقرار شخصي وحسب توقيت، بعد ان طار أكثر من نصف العمر داخل القطيع. انما هي مسار لمن يفتقد القدرة على التفكير ويدور في حلقة مفرغة من المقولات غير القابلة للنقاش، ومن العقائد التي توهمه انه سوبرمان في كل نشاطه وعقائده وكتاباته.
يعتبر فريدريك نيتشة من الفلاسفة غير العقلانيين، دعا في وقته الى القضاء على القواعد الأخلاقية القائمة ونعتها باللاأخلاقية. كان يرى بالفن والأخلاق مجرد ترياق من سموم "النيهيلية" ( العدمية )، التي تعني حسب نيتشه ان القيم الرفيعة تفقد قيمتها وتوازي حسب تعبيره الانحطاط ، اتهم بذلك الأخلاق الدينية والنظريات الانسانوية على حد سواء ، بما في ذلك النظريات الدمقراطية والاشتراكية التي بدأت تنتشر في فكر النهضة الأوروبي ، وطور مذهب " ارادة السلطة " حيث يسيطر الأفراد " الأقوياء " القادرين على خلع الحواجز الأخلاقية ، هكذا توصل الى فكرة الإنسان الأعلى ( السوبرمان ) نافيا الأخلاق تماما ، وهي ما أعجبت كل الحركات الفاشية وجعلت من نيتشه زعيمهم الروحي وفيلسوف منهجهم القمعي والديكتاتوري الاستبدادي والكارثي على شعوبهم في الحساب الأخير .
ملاحظة هامة: من المهم الإشارة الى ان معظم الباحثين بفلسفة نيتشه يرفضون الربط بينه وبين الفكر النازي، ويعتمدون على قوله " أرتجف عندما أفكّر في كل هؤلاء الأشخاص غير الجاهزين بعدُ لتلقّي أفكاري، ومع ذلك سوف يستغلّونها لسلطتهم" وانتقد المعادة للسامية. ويؤكدون ان نيتشه كان يكتب لإنسان المستقبل. رغم ذلك جرى الربط بين فلسفة نيتشه والأيديولوجيا النازية، وان النازية اقتبست فلسفتها من النيتشية، عن الإنسان الأعلى والقوة والشجاعة والنبل، وان فلسفتة أنجبت شخصيّة هتلر، النازية اعتمدت على القوة والاستعلاء القومي، وهي ظاهرة تتكرر في وقتنا بأشكال مختلفة.
nabiloudeh@gmail.com

21
المنبر الحر / انتقام امرأة...!!
« في: 19:08 12/04/2020  »
انتقام امرأة...!!

نبيل عودة
   
كانت على فراش الموت، أعطوها شهرا واحدا كأقصى حد، فهمت ذلك رغم أن لا أحد يريد أن يعترف أمامها بما صار معروفا لديها من الهمس حولها. ما كان يقلقها حقا أن زوجها صار مرتبطا منذ أقعدها المرض قبل نصف سنة، بفتاة شقراء بجيل ابنه. لم ينتظر وفاتها، ليدعها على الأقل تودع عالمها بشعور مريح، بلا هواجس تأكل قلبها.
الشعور أنها أصبحت شيئا ينتظرون موته، شيئا زائدا يثقل على الجميع، صعب عليها حياتها. حتى الشهر المحدد لها صار ثقيلا على الذين حضنتهم وأعطتهم قلبها وجهدها وراحتها بلا حساب.
تقضي معظم يومها مع مساعدة تقوم على خدمتها، استأجرها زوجها ليريح نفسه أولا.. كثيرا ما بحثت عن دمعة تريحها فلم تجدها. لم تكن تعرف هل تبكي ذاتها أم تبكي خراب عالمها قبل موتها؟
كانت تعلم أن زوجها ليس لوحده في الطبقة الأولى .. ولكن من أين لها القوة لتتحرك وتكشف ما يجري تحت أنفها؟ ومساعدتها ترفض أن تقول ما يدور في البيت، دائما تتهرب من الإجابة، لا تغضب عليها .. هذه وظيفتها.
عندما كان زوجها يحضر فتاته الشقراء، كانت مساعدتها تلتزم الطبقة الثانية بحجة التنظيف أو الاستراحة .. كانت تشعر بحسها أولا، وبتطور قدرة سمعها ثانيا، بكل حركة تجري في الطابق الأرضي، كانت تسمع الضحكات المخنوقة، حسها لا يخطئ. ما كانت تطلبه أن يرحم زوجها أيامها الأخيرة، أو ربما ساعاتها الأخيرة.. ولكنها تشعر بالغضب من وقاحة تلك الشقراء التي وجدت بشخص زوجها، أبا وعشيقا في نفس الوقت.
كان قليلا ما يدخل غرفتها، وإذا دخل فبابتسامة مصطنعة ليسألها عن صحتها:
-         إن شاء الله تتحسني
وكأنه يقول لها:
-         خلصينا ، موتك رحمة لك ولنا .
أحيانا تفكر بعقابه، لكنها لا تعرف كيف تعاقبه دون أن تلحق الضرر بابنهما الوحيد. صارحت ابنها بما يعتلج في صدرها، حقا تشعر بأنه يحبها ويبكي مصيرها  ولكنه بما يخص والده له موقف آخر:
 - هل تريدينه أن يتمدد مريضا إلى جانبك ؟
 شرحت له ما وصلها من صديقاتها وما تلمسه وتحسه وتسمعه داخل بيتها:
   -   ألا حرمة لبيتي وأنا صاحبته الشرعية حتى اليوم ؟  ليفعل ما يريد خارج منزلي . عندما اموت ليفعل ما يشاء!
فرد بشكل منعها من فتح الحديث معه مرة أخرى:
   - أمي ماذا جرى لك ، على ماذا أنت قلقة ؟ هل تريدين أن تجري أبي معك؟
 ولم يكمل الجملة، كانت تعرف انه يعني: إلى القبر.
تغابت وقالت له:
  -   لينتظرني حتى أموت على الأقل ، وليفعل ذلك بعيدا عني ودون علمي ، هل كوني مريضة في ايامها الأخيرة يجعلني لا شيء في بيتي ولدى زوجي ؟
كم تمنت دمعة. لكن دموعها قد جفت منذ عرفت ما ينتظرها.
قبلها ابنها على جبينها وشعرت بدمعة حارة تسقط على جبينها. سارع يخفي دموعه ويخرج مسرعا. تاركا لها عذاباتها وانتظار النهاية التي بدأت تشعر ببطء حركتها، صارت تتمنى ان ينتهي عذابها بسرعة.
كم تتمنى أن ترى حفيدها الأول، لكن لا يبدو ان الزمن سيمنحها هذه السعادة. قبل أسبوعين سألت ابنها:
-         أين وصلت زوجتك ؟
فأجاب:
-         إنها في السابع..
 كم تتمنى الموت، وكم تتمنى أن ترى حفيدها قبل موتها. ربما الألم الوحيد الذي يعذبها من موتها، حرمانها من رؤية حفيدها وملاعبته. أما زوجها فلم يكن الأمر يعنيه وكأنه جاء من كوكب آخر، لا يحدثها بأي موضوع، وحين سألته عن تجهيزات الحفيد، التي كانت تتمنى أن تقوم بها، تبين أن الأمر لا يعنيه كثيرا:
-         أمه ستجهز له ما يريد ، أعطيتها شيكا مفتوحا
  كل ما يعنيه عشيقته الشقراء التي أعادته مراهقا بجيل الكهولة. لو كان الأمر معكوسا هل كانت تتصرف مثله، أم تقبر نفسها إلى جانبه، تقوم على خدمته وحضانته حتى يتمنى أن يطول به المرض رغم ما فيه من آلام رهيبة؟
لماذا ما يطلب من المرأة لا يطلب من الرجل؟
وماذا تفيدها هذه الأفكار في حالتها الميؤوس منها؟
ستمحى ذكراها من هذا المنزل. سينسون أنها كانت أما وزوجة مخلصة وخدامة وجارية وخليلة ... ستصبح مجرد ذكرى لا يتذكرون إلا أيامها الأخيرة المليئة بالعذاب لها ولأهل البيت،. سيقولون:
-         ربنا أراحها واراحنا
 وهي لم تكن تحلم براحة من هذا النوع. على الأقل كانت تريد موتا دون أن تعذبها مشاعر الغيرة، أو الشعور أنها أصبحت عالة ينتظرون موتها وإقفال صفحة متعبة من حياتهم وكأنهم قد تخلصوا من آفة بيئية.
 أسعدهم ستكون الشقراء.. سيخلو لها الميدان .. ستقلب كل أغراضها وتأخذ ما يعجبها وتلقى بقية أغراضها للقمامة.
ما كان يسري عنها قليلا حديثها التلفوني مع صديقاتها، اللواتي حافظن على مودة وعلاقة، ولكن زياراتهن باتت قليلة في الفترة الأخيرة ربما بسبب ما يدور في البيت.
كانت لها صورة تحبها كثيرا، هي وابنها عندما كان في العاشرة من عمره، وقد عملت منها نسخة مكبرة علقتها أمام السرير منذ تلك الأيام، كانت تبدو امرأة مكتملة الجمال، صدرها عريض واسع، ورقبتها ممتدة، وقوامها جميل متناسق يشع حيوية وأنوثة.
هل ستكون الشقراء بمثل جمالها؟
آه ما أصعب الأفكار عندما تتخيل زوجها، الذي تزوجته بعد قصة حب، تملأها حتى اليوم بالمشاعر الجميلة، وهو يخونها ولا ينتظر مفارقتها للحياة. وصلها ان عشيقة زوجها كانت من المتسابقات على لقب ملكة جمال  .. كيف وصلها سيبقى سرا.
 ماذا وجدت به عشيقته غير أمواله وقدرته على الصرف بلا حساب؟
فجأة خطرت لها فكرة جهنمية.
اتصلت بأحدي صديقاتها.
-        ايفلين .. آمل أني لا أزعجك يا روحي.
-        إطلاقا .. لا تفكري أبدا انك تزعجيني .. آسفة لم أزرك في الأسبوع الأخير .. لكني سأزورك بالتأكيد غدا أنت دائما على بالنا .. أرجو أن تكوني بخير.
-        شكرا يا ايفلين، أنا متعبة جدا.. ولكن لي طلب صغير 
-        تأمري يا روحي..
-        لي صورة .. الصورة التي أمام سريري .. مع ابني .. تذكرينها؟ ... أريد من صديق ابنك الرسام الذي رسم صورة لك، أن يرسم لي صورة مشابهة، سابقيها هدية لزوجي ...  وسأدفع له ما يطلبه.
-        اتكلي علي .. سأرتب لك الموضوع.
في اليوم التالي حضر الرسام مع ايفلين. نظر إلى الصورة وقال:
-        سأرسمها لك .. مسألة يومين.
-        ولكن لي طلب يا عزيزي..
-        تفضلي...
-        أريدك أن تضيف للصورة عقدا من اللؤلؤ والألماس يغطي كل صدري، أترك هذا لخيالك البارع .. وكذلك أقراط من الألماس، وأساورتي ذهب ضخمتين مع الأحجار الكريمة ... ضع في كل يد واحدة .. ولا بأس من إضافة دبوس يأخذ العقل على الفستان في الصدر .. تفنن  به حسب موهبتك.
-        هذا سهل .. سأجعل الجواهر تبدو حقيقية يمكن لمسها باليد
-        رائع ... رائع. خذ دفعة على الحساب
أخذ مبلغا لم يحلم به .. انزل الصورة، لفها بشرشف أبيض، وخرج مسرعا بينما ايفلين تحملق بصديقتها غير قادرة على فهم ما يجري حولها. بعد أن خرج الرسام استجمعت ايفلين نفسها وسألت:
-        ماذا تفعلين يا صديقتي؟ منذ متى تحبين الجواهر ؟
-        اسمعي يا ايفلين ، أنت أقرب الناس إلي بعد ابني، سأصارحك .. اقسمي أن يبقى ما تسمعيه سرا بيننا؟
-        أقسم ..
-        زوجي كما يعلم الجميع ، وأنت أيضا ، رغم انك ترفضين الاعتراف أمامي بما تعرفينه ، يخونني مع شقراء بعمر ابنه .. سحرها بأمواله .. أنا سأودع هذا العالم المجنون .. ما هي إلا أسابيع أو أيام .. ولكن تخيلي، عندما تكتشف الشقراء الصورة، وترى الجواهر التي تأخذ العقل.. ستبدأ بالبحث عنها ... أريدها أن تتعذب..
-        ولكن لا جواهر لديك ...
-   هذا هو الأمر .. انه انتقام صغير ليس الا .. وليسامحني الله ... لن تصدق زوجي إنها مجرد صورة واني لم أكن، رغم أمواله، أعشق الذهب والجواهر. ستبحث عن جواهري التي في الصورة.. حتى لو ظهر لها كل الأنبياء وأبلغوها بأن الجواهر غير موجودة، لن تقتنع أني لم أكن أملك الجواهر التي سيضيفها الرسام للوحة!!

nabiloudeh@gmail.com

22
جولة شعرية مع الشاعر د.فهد أبو خضرة
بقلم: نبيل عودة
1-   ديوان:"مسارات عبر الزوايا الحادة"

قال صاحب الزنج وقد بلغه مقتل أحد قواده:
"إذا فــــارس منا مضى لسبيله      عرضنا لأطراف الأسنة أخرا" 
هذا البيت من الشعر جاءني بعد أن قرأت أول قصيدة في ديوان الشاعر الدكتور فهد أبو خضرة "مسارات عبر الزوايا الحادة". القصيدة هي "أغنية للقدس/ المدينة الخالدة سيدة الأرض"، ما يميز هذه القصيدة ليس حرارة الحب للقدس أو ما تمثله القدس في تكويننا وصيرورتنا، إنما صوتها الوطني الذي لا نعهده كثيراً بما يسمى الشعر السياسي، حيث يسيطر الخطاب التاريخي/ الشعار/ الحماسة النضالية، على فنية القصيدة وعمقها الإنساني.
أبو خضرة يثبت أن الوطنية أو الموقف السياسي لا يعني شعرياً، الشعاراتية والخطابية او المنبرية والصراخ... مع فهد بحرارة كلماته، تشعر نفسك تلقائياً تعيد قراءة القصيدة مرة أخرى، ليس فقط بقناعة فكرية، إنما بطرب يكاد يبلغ درجة الطرب الصوفي.
"بقدرة هذا الذي فيك كان
تظلين مولد كل الهدى
وموعد كل الرضا والأمان".

إلى أن يقول، وفي قوله الكثير من التأمل والرؤية:
"وأنت تظلين سيدة الأرض
فوق النوايا،
تردين كل الحراب التي توجه نحو العيون،
وتخترقين الحصار،
وتعطين للعاشقين وللساهرين
خلود الرضا والأمان،
بقدرة هذا الذي فيك كان".
فهد يستعير صلابة صاحب الزنج وإصراره على العطاء. غير أن صلابة فهد هي صلابة تأملية. ولا أخطئ إذا قالت أن لها جوانب فلسفية.
يمثل د. فهد أبو خضرة في شعرنا المحلي تياراً مميزاً، ليس صوفياً تماماً، ولو أنه يحمل أشكالاً صوفية، انما أقرب للشعر الفلسفي. فهو يطرح رؤية ولا يتحدث عن موقف او إستراتيجية.
حينما تخترق الساحة
لا يبقى سواك
هدفاً يرمى.
هذه هي رؤيته في قصيدته المتميزة بالشفافية والتأمل، والرؤية الفلسفية، قصيدة "مسارات عبر الزوايا الحادة":
حينما تحترق الساحة
ترقى
لابتهالاتك في ظل جدار
تحمد الله بأن ظلّ لأبنائك
في عصر التداعي والنفاق
ويصل مع مسار قصيدته، مع مسار رؤيته إلى حالة تأمل/ قاعدة عمومية/ منطلق استراتيجي:
وإذا ما اُطلع الفجر
فقُل: لا!
(لا يغرنك فجر
خفيت شمسك فيه)
إنها ليست غلطة صوفية تماماً، إنما اعتماد للصلابة الصوفية. غير أن الصوفية ليست منهجه الفكري، إنما هي أداة (أسلوب) لتعمق الصور الشعرية، وتفجير الموقف من داخله من ذاته، من قلب التأمل.
وإذا ما
أعلن النصر
فلن يعلنه فيها سواك.
أما قصيدته "ابتداء" فهي "غزلية وطنية" تشد إلى حب صوفي:
"على شفتيها تباشير ضوء
وميلاد نبع"
ولكنه لا يعني امرأة معينة... هذه من خصائص شعرنا الفلسطيني، الدمج ين المرأة والوطن،   فهداً يلجأ في نصه هذا إلى الصياغات الرمزية الموحية:
-         ونغفر للتيه؟
-         كان انتهاء وكان ابتداء
-         ونغفر للبحر؟
-         كان الرحيل وكان اللقاء.
هل يقصد باللقاء، ذلك اللقاء المشوه ونصفنا الثاني تحت حراب الاحتلال؟
ويتساءل بحق:
"إلى كم سنغفر؟"
حقاً مللنا دور الغافرين التاريخي وحان الوقت لنغير ما فينا:
"ونفرش درب البدايات بالأغنيات،
ونلقي إلى الشرق نظرة حب،
ونرصد رايتنا للعطاء".
إذن الحل الذي يطرحه فهد أبو خضرة، ليس استبدال الغفران بالعقاب، إنما بالعطاء لنغير ما في نفوس "الذين استباحوا لغة الورد والعيون الندية"، كما يقول في مكان آخر من القصيدة.
بصراحة، هذه الإنسانية تخيفني، ليس لعلة فيها، إنما لأن الذين من المفترض أن نغرقهم فيها فقدوا منذ زمن صفاتهم الإنسانية، نظرتي إليهم هي نظرة إلى وحوش برية بجب أن تُلجم وتقيد، لا أريد لإنسانيتنا أن تتحول إلى نوع من الرفق والتناسي.
شدني ديوان "مسارات.." للدكتور فهد أو خضرة مع بداية قراءتي لقصائده، فانطلقت أكتب قبل أن أعرف القارئ على الديوان.
"مسارات عبر الزوايا الحادة" هو الديوان الخامس كما أعتقد. ولفهد أبو خضرة رواية وعدة كتب أبحاث ودراسات وكتب تعليمية بالاشتراك مع آخرين، إلى جانب اصدار أعماله الشعرية الكاملة.
فهد هو من جيل شعراء الرعيل الأول بعد النكبة، نجد أجواء المأساة تنسحب على معظم انتاجهم، بحيث بات الغزل أيضاً يحمل بعض ملامح التاريخ المأساوي لشعبنا وكأني بفهد وزملائه من شعرائنا، يقولون أن الغزل أيضاً أصيب بمأساة الشتات وحتى ينتهي الشتات سيبقى الغزل حلماً، تماما كحلم العودة، لأن المغني كما يقول في قصيدته "الساحات والدائرة الهوجاء" :
"والمغني لم يعد يقدر
أن يطبع فوق الشفتين
بسمة بلهاء".
وينهي هذه القصيدة، بسؤال، لكنه أقرب إلى الصفعة، والازدراء:
"أترى يبق لنا،
أيها السادة والقادة،
بعد يوم،
باب للرجاء؟".
حقاً تحولت قدرتنا على الحب والعشق إلى إضافة وطنية، إلى طاقة نبني فيها ذاتنا وموقفنا وكرامتنا، وصرنا نرى بمن نحب ملامح جيلنا وكرملنا، نوار الربيع في بلادنا، زرقة البحر وحمرة الغروب، تحولت قرانا المهدومة إلى عشيقاتنا اللواتي نتسرب ليلاً للقائهن، نضيء استمراريتنا من جيل إلى جيل، حتى نظل:
"خُطى تتحدى ورؤى تبتكر،
وحروف كلما داعبتها
عانق الآفاق منها شرر".
(قصيدة في البدء كانت الكلمة)
لاحظت أن فهد يعود بمعظم قصائده للبحر وما يرتبط به كرمز للتشرد والشتات، بحيث نرى البحر يمتد على عرض الديوان وطوله.
الدكتور فهد يعرف كيف يبني جملته الشعرية بانسياب وهدوء دون تكلف، بموسيقى هادئة غير هادرة، أقرب للسيمفونية الكلاسيكية، بعض قصائده مليئة بالغضب، لكنه غضب غير منفلت وبدون صراخ وزبد يتناثر، كأني به يكتفي بدور صاحب الرؤية، الذي يؤمن بمساره فلسفياً، يصوغ رؤيته شعراً، يترك للآخرين قرار الفعل وهو بذلك يثبت أن ليس كل من يضع يده على المحراث يصلح لملكوت الله، إنما من يعرف كيف يحرث/ يكتب الشعر.
قصائد فهد يجب أن تقرأ بوعي كامل. فالتماسك في القصيدة يجعلها سبيكة واحدة. نجد ذلك في ديوانه في القصائد العمودية المقفاة، المميز لهذه القصائد، هو خلوها من الحشو الذي يميز قارضي هذا الشعر، من القدماء والحديثين، بحيث كثيراً ما تتحول قصائدهم إلى مجرد نظم يقاس بالمسطرة، يخلو من العاطفة، من الفكرة ومن الحلم الشعري. هنا تبرز شاعرية فهد أبو خضرة وفي الواقع هذا هو الامتحان للشاعر.
 هل تجاوز النظم إلى الشعر، أم بقي الشعر نظماً موزوناً لكن بلا روح شعرية، بلا معنى شعري؟
 أعتقد أن فهد أبو خضرة أستطاع أن يعطينا حلماً شعرياً وإنسياباً شعرياَ، أيضاً في نظمه المقفى:
"ما للسماسرة الذين تعثروا   
بدم الطرائد في الزمان الغابر
يتربعون على العروش رفيعة
ويشرفون بكل مجد باهر؟"
(من قصيدة تكريم)
د. فهد أبو خضرة، في ديوانه "مسارات عبر الزوايا الحادة"، يثبت وجوده في مسارات الشعر، نصه الشعري يميل إلى الرمزية دون أن يؤدي ذلك إلى فقدان المتلقي للمناخ الشعري والفكرة. أحياناً يقترب من البساطة ليكشف الفكرة، يحافظ عبر قصائد الديوان كلها على رونق متميز ومليء بعطر شعري خاص به وبروح شعرية متوثبة.
ملاحظة: نشرت هذه المراجعة للديوان في صحيفة "الأهالي " التي عملت محررا فيها بين اعوام 2000 – 2005، تساءلت كثيرا عن سبب توقف فهد ابو خضرة عن كتابة الشعر، اذ لم اصادف أي قصيدة جديدة له منذ ذلك التاريخ.
ورب صدفة خير من الف ميعاد. التقيته صدفة في مكتبة وجرنا الحديث الى توقفه عن كتابة الشعر، تفاجأ وقال لم اتوقف وانه أصدر ديوانين جديدين، اخرهما في هذا العام – 2012 ("عائدون الى الورد") اهداني نسخة منه.
ليس غريبا ان الكتاب المحلي لا يصل للقراء، وان النشر يكاد يكون مهمة شخصية في التوزيع ايضا. وان نقدنا المحلي يعيش في نفق لا ضوء في آخره!!
 قراءتي الأولى للديوان اعادتني الى المراجعة التي نشرتها قبل عشر سنين تقريبا. مفاجأتي كانت ان التجديد لدي فهد كان عبر تعميق مسيرته محافظا على نمط اسلوبي وفكري ميز ديوانه "مسارات..."
ما اشعرني بالراحة ان فهد يواصل الصلاة في معبد الشعر، فهو شاعر له طريقته الخاصة في تركيب القصيدة. وله رؤيته غير التقليدية، وأكثر ما يلفت الانتباه قدرته على طرح المواضيع بهدوء وتأمل فلسفي ، والحفاظ على ذاتية تعطي لشعره هويته الخاصة.

2 - ديوان "عائدون الى الورد"
يمكن اعتبار الديوان الجديد للشاعر والمحاضر الجامعي الدكتور فهد ابو خضرة تلخيصا لمسيرته الشعرية، او معلما ثقافيا شعريا لكل اصدارته الشعرية بين السنوات 1972 – 2012.
هذا الإنطباع هو بناء على ما سجله الشاعر نفسه في مقدمة ديوانه، بأن قصائد هذا الديوان كتبها في فترات مختلفة من حياته، ونشرها في مجموعاته الشعرية التي صدرت في السنوات المذكورة أعلاه.
اذن عودة الى الورد هي عودة الى ما يعتبره الشاعر أجمل القصائد (الورود) في مسيرته الشعرية.
ما يشدني لشعر فهد أبو خضرة هو الصوت الهادئ، المتأمل، الحالم والرقيق في تعابيره الذي يميز نصوصه، أحيانا نوع من العبادة والصلاة والتنسك الشعري، ورأيت دائما قوة الظاهرة الصوفية* في شعره.
الشرح الزائد يعيق الوصول الى أسباب في صياغة بعض القصائد. لا ضرورة احيانا للشرح لأن الصمت امام بعض الأفكار التي يطرحها الشاعر تزيد جمالية النص، خاصة القارئ المثقف المتميز بوعي فلسفي وانساني وشمولية ثقافية قادرة على ربط أطراف عديدة من الحلم الشعري بواقع الحياة، بوجعها وجمالها ، بحزنها وفرحها،بيأسها واصرارها وبفهم واع ان الظاهرة الشعرية، تخاطب العقل الباطني ، الأحاسيس، الأحلام،الأمنيات وصولا الى الإدراك الواعي للإنسان، الذي يربط بين الكلمة والصورة الشعرية، بين جمالية النص ، وعمق الرؤية.
رؤيتي في القراءات الشعرية انه من الأفضل اعطاء تفسير للظاهرة والإجتهاد للوصول الى الجوهر. بعد تفسير الظاهر يكاد يتوارى جهد تفسير الجوهر لأن الظاهرة هي شكل فلسفي لوجود الجوهر،الذي يسطع بقوة لا تحتاج الى مزيد من التفسير ، حتى لا يصير حالنا كمن فسر الماء بالماء، وتصبح الثقافة حسابات هندسية، وهو ما أكرهه في الكثير من النقد الذي يغرق بالشكل ويتجاهل الجوهر.
هذه الإشكالية بين الظاهر والجوهر،هي من الأشياء التي لا يستطع الإنسان ان يعبر عنها بالكلمات فقط، ولذلك ظهر الأدب عامة والشعر خاصة بالإيحاء والصور القلمية عن الفكرة والكلمة والجوهر الفلسفي للأفكار التي تحرك قلم ونشاط المبدع .
فهد ابو خضرة في قصائده يعلن ان العالم لا يدور حول مصادر الضجيج، رغم انها تلفت النظر ولكنها سرعان ما تتوارى، انما ما يشغل العالم ، وخاصة مفكريه وادبائه، ان يقدموا للإنسان قيم جديدة تأخذهم الى رحاب انسانية اجمل واوسع وتستحق ان نحيا من أجلها بعد ان يستتب العدل والحب بين البشر.
ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء
لم يحن وقتك بعد
(من قصيدة ايها القادم)
والآن اريدكم الإنتباه للمفارقة . الشاعر يخاطب القادم بأن وقته لم يحن بعد،هو قادم فلماذا ياتي قبل الوقت؟ الجواب في تتمة القصيدة:
ها هنا في قمة الأحقاد والويل المعاد
لم تزل تنتظر الأيام نيرون الجديد
علها تحرق في ذاكرة الحاضر روما ،
والرماد
يبرئ الأعين من داء طواها الف عام.
القادم في مركبة الشمس هو المسيح المنتظر، نيرون لم ينه مهمته بعد... ليحرق ما تبقى ، فحتى ينهي نيرون وظيفته، حتى يصل الشر الى اقصى حدود الويل والأحقاد ، بعدها سيكون ل "ألقادم" ان يجيئ ليبرى النفس البشرية من نيرون وأمثاله .
يمكن تأويل القصيدة في اتجاهات عديدة،من هنا جمالية الشعر الذي يدفعك للتفكير وليس للإسترخاء لحسن النظم فقط. يسطع بقوة في صوره الشعرية شكلا من الرؤية الصوفية، البعض قد يربط الفكرة الشعرية بالواقع السياسي، بالمأسي التي تواجه العديد من الشعوب وليس شعبنا فقط. انا اميل لفكرة ان فهد ابو خضرة اقرب للصوفية (بمفهومها الفلسفي) في ايماءاته الشعرية، الصوفية لا تعني التنسك عن واقع الإنسان ومعاناته، بل ظاهرة احتجاجية لغياب العدل الذي يحطم كمال الإنسان الأخلاقي.
ينهي قصيدته بتساؤلات يطرحها للقادم في مركبة الشمس اذا حان وقته – (التكنولوجيا جعلت الحمار الأبيض مركبة شمسية):
أترى ما كان بالأمس يعاد؟
اترى تورق في الصحراء اغصان؟
أترى يقتلع الوهم الذي ساد الزمان؟
اكاد اسمع فيروز تنشد "سنرجع يوما الى حينا". والأهم الا يكشف فهد في هذه القصيدة أكثر مما يخفي؟ في آخر جملتين تتضح الصورة:
ايها القادم في مركبة الشمس الى أرض الفداء
أترى وقتك وقتي؟
هذا ما يقلقنا جميعا. نريد للقادم ان يعود في وقتنا حتى يتسنى لنا يوم نحياه بفرح بدون نيرون وشركاه، بدون الحرق والقتل ومعاناة بني البشر.
لا أظن ان اجتهادي في طرح رؤيتي الذاتية يخدم عرضي الثقافي، ولا اقول نقدي، فقد أسعفني الدكتور الأديب والمفكر والمحاضر في السوربون افنان القاسم بتعبير "عرض" بدل كلمة "نقد" التي لم أحبها يوما، في وصف مراجعاتي الثقافية، وانا شاكر له اعفائي من آفة تعبير النقد.
لا بد من شحذ ذهن القارئ الى ان موضوع القادم لا ينتهي مع القصيدة الأولى، الا يشير ذلك الى رؤية فلسفية ما يحاول الشاعر ان يطرحها ؟ مثلا هل يختلف جوهر كلمة "قادم" بمعناها العملي، عن كلمة "عائد"؟ اليس في القدوم عودة وفي العودة قدوم؟ اذن قصيدته الثانية هي استمرار لإنتظار القادم، الذي يصير هنا عائدا. هذا ما وجدته في قصيدته الثانية: " ايوب الجليلي يعود الى الورد":
عاد أيوب الجليلي الى الورد وطيبه
بعد ان جرعه الدهر العذابا
المسيح هو ابن الجليل حيث القى خطبته المشهورة باسم التطويبات وقام باول واهم عجائبه، وايوب الجليلي هو الفلسطيني الذي شرد وصودرت احلامه وايوب هو مثال الصبر والإصرار على العودة ولا بد للفلسطيني ان يكون ايوب في صبره أيضا.. حتى يعود الى "الورد وطيبه" حين ياتي "القادم" بمركبة الشمس.
الشاعر يكشف برمزيته، وايحاءات شعره، المزيد من المضامين بدون ان يجعل من قصائده وأفكاره ظواهر صوتية شعاراتية.
عاد أيوب الجليلي الى الورد وطيبه
واحتفى كل حبيب بحبيبه
العودة هي مسك الختام. فهد ابو خضرة ينشد العودة بطريقته الصوفية الحالمة، آخرون ينشدون العودة بقوة الصوت والمنابر،آخرون بوسائل قوة لم يترك لهم الزمن خيارات غيرها. لا افاضل بين الأساليب، انما ارى ان فهد اعطى للشعر، للرؤية الإنسانية، الدور الفاعل ، وهذا يذكرني بقول لماركس بان "الفكرة حين تتغلغل بالجمهور تصبح قوة هائلة".
القصيدة الثالثة هي عودة أخرى لنفس الأجواء: "اغنية للزمن الآتي"، ننتقل من القادم بمركبة الشمس الى أيوب الجليلي العائد وصولا الى الزمن الآتي ، سلسلة لا تنقطع متماسكة من حيث الفكرة والصورة الشعرية والفلسفية:
هي العودة البكر
كل الزمان الذي مر في النار
وهج من الحب،
بسر من الحكمة الخالدة.
طبعا الروح الصوفية تشتد حدة في هذه القصيدة. الزمان الذي مر في النار هو زمن الضياع ،زمن الشتات. فهد لا يتخلى عن كونه انسان اولا، مطلع قصائد فهد تكاد تبدو بدايات لصلوات فيها جمالية الرمز الشفاف ، قوة الطيبة البشرية التي ترفض ان تتخلى عن قيم البشر مهما جار الزمان، لأن الإنسان كما احاول ان أفهم فهد ابو خضرة هو ليس أداة ميكانيكية بل مشاعر طاهرة اذا فقدها فقد انسانيته، نجد هذه الثيمة عبر كل نصوصه الشعرية:
بقوة هذا الذي فيك كان،
وكنت به الحب والدفء للعاشقين
(من قصيدة اغنية للقدس)
حقول من الشمع
ترسل أنفاسها
صلاة
وأناتها
دعاء
الى واهب العفو والمغفرة
(من قصيدة شاعر في مغارة التجليات)
شامخا في الساحة الكبرى أمام النهر
عشرين ذراعا ، مرمرا أبيض
في يمناه سيف
وعلى يساره وحش بشري
(من قصيدة الفتى والوحش)
اكتفي بهذه المقاطع التي أخذتها تباعا من ثلاث قصائد. الصور توحي باجواء معبد مسيحي، في قصيدة "الفتى والوحش" مثلا يتابع:
حدث الراوون قالوا
ان هذا راس سفاح أثيم
انه الأخطبوط (الوحش) الذي يقتله "مار جرجس" حسب القصة المسيحية. هذه الصور تتماثل مع الواقع لمن يملك خيالا يتجاوز الصورة الشعرية، وهنا جماليتها الصياغية اولا، والرؤيوية ثانيا، مما يجعل القارئ يغرق متاملا، طبعا ليس اي قارئ، بل القارئ المتمرس خصب الخيال الواسع المعرفة.
ان مطلع قصائد فهد لها مميز هام انها تشكل تأكيدا على الرؤية المتوهجة التي يقود القارئ اليها دون عناء.
البعض يفهم ان فهد ابو خضرة هو شاعر وجداني، هذا لا ينفي وجدانيته القوية في نصوصه وهذه ميزة لكل مبدع ، ان تكون وجدانيته مطبوعة في نصوصه، ولكنها لا تنغلق على ذاتيته وتعزله عن واقع الحياة، بل تضيف الى نصوصه الشعرية الانطلاق الى آفاق واسعة حدودها السماء، يمكن القول ان نصوصه تحاكي الواقع عبر وجدانية الشاعر.
قصائده هي خطاب للعقلانية.
كلما تعمقت بقصائد اليوان أشعر باني يجب ان أضيف، ولكني اكتفي حتى لا اكرر نفسي. الشاعر نجح ببناء صرحه الشعري الخاص والمميز في شعرنا المحلي كله.
هذا يعيدني الى الفترة التي اكتشف فيها العالم العربي شعرنا الفلسطيني واطلقوا عليه تعبير "أدب المقاومة"، ربما لغياب أي مقاومة عربية حقيقية غير الشعر.. وخاصة شعرنا الفلسطيني المحلي.
سادت وقتها القصائد المهرجانية الخطابية والمباشرة، من ناحية أخرى لعبت الهيكلية الحزبية والإعلامية السائدة دورا كبيرا في التسويق.
لا ادعي ان الشعراء الذين برزوا لا يستحقون ما اكتسبوه من اعجاب، انما اسجل حقيقة ان شعرنا لم يكن يستحق ما حظى به من حماس مبالغ وصل حد التقديس ولم يكن كله على نمط واحد . هناك اسماء عديدة ظلت في الظل .
من هنا ارى ان مسيرتنا الشعرية تحتاج الى اعادة تقييم جذرية لا تغمط حق أحد.
******
*- الصوفية: تيار في الفكر العربي – الإسلامي ظهر في القرن الثامن الميلادي وتتميز بصهرها بين نظرية المعرفة حول وحدة الوجود ، أي اعتبار كل الموجودات تجليات للإله وبين مذهب يرى كمال الإنسان الأخلاقي.طبعا هناك بحر من التفسيرات والتقسيمات في تأويل هذه الظاهرة، لكني على قناعة ان جوهرالصوفية هو ما سجلته، من منطلق ان كل ظاهرة فكرية او دينية او فلسفية لا تظهر لتكرر ما هو موجود فقط.

nabiloudeh@gmail.com
 







 




23
العاهرة البتول...!!
(قصص من الأدب الساخر)
نبيل عودة

1 -دعوة لوجبة فاخرة
السيد منير رجل غني جدا، خرج من مكتبه، ركب سيارته الفيراري الفاخرة وانطلق بها الى بيته. كان سعيدا بما انجزه في حياته من امول واملاك تكفي لأحفاد أحفاده حتى عشرات الأجيال دون ان يرهقوا أنفسهم بالعمل.
كان يحسب أرباحه من الصفقة الجديدة، يبتسم بسعادة ويستمع لأغنية الفنانة الكبيرة هيفاء وهبي:
" ليك الواوا بوس الواوا خلى الواوا يصح
لما بوستو الواوا شيلتو صار الواوا بح "
كان فكره مشغولا كيف يوظف الملايين الجديدة، وكم ستدر عليه من أرباح ترفع من مكانته الاقتصادية.
أشعل سيجار كوباني فاخر لا يقل ثمنه عن 100 دولار أمريكي، نفث دخانه بمتعة وانبساط، حين فجأة شاهد رجلا وزوجته وحولهم أربعة أولاد بملابس ممزقة ورثة وشبه حفاة يأكلون حشائش نبتت بجانب الطريق.
بما ان السيد منير ولد في بيت فقير سابقا، رق قلبه لما يرى، وقرر ان فعل الخير هو واجب انساني، ويكسبه رضاء الله وربما يبيض صفحته يوم الحساب، مع انه على قناعة ان مكانته المالية تضمن له مكانة أيضا في السماء، فهو لن يدفن تحت التراب بل بغرفة واسعة وانيقة من الداخل والخارج، بناها وجهزها لأبناء العائلة يوم يحين رحيلهم.
رق قلبه لمرأى الأولاد ووالديهما.
أوقف سيارته الفيراري، ترجل منها، اقترب للرجل وزوجته واولادهما وسأل:
- لماذا تأكلون الحشائش .. الا تضر بصحتكم؟
- كما ترى يا سيدي، نحن فقراء وجائعين، وليس لدينا في البيت حتى كسرة خبز للأولاد.
- هذا أمر مؤسف .. اذن سأدعوكم لوجبة فاخرة في منزلي، اصعدوا لسيارتي.
ما أن أكمل السيد منير جملته والا الأولاد يركضون لسيارة الفيراري، وورائهم والدهم وامهم.
انطلقت الفيراري نحو بيت السيد منير والأولاد يتوقعون وجبة كثيرا ما حلموا عليها، والوالدين يشعرون بالسعادة ان يتذوقوا بعض الطيبات من منزل هذا الغني، لعل ذلك ينقذ أولادهم من فقر الدم الذي يعانون منه.
دخلت الفيراري من بوابة ضخمة نحو مساحة ارض كبيرة جدا، في صدرها قصر كبير، وامام القصر حديقة كبيرة جدا تملأها النباتات والزهور من اشكال والوان متعددة، عدا مساحة الأرض الواسعة بأشجارها المتنوعة، واحواض عديدة بمزروعات متنوعة.
نزلوا من السيارة وهم مصدومون من جمال القصر واتساع الأرض حوله، قال السيد منير:
- تفضلوا .. هل ترون هذه الحديقة؟ العامل الذي يرعاها ويقص النباتات حتى لا تغطي على جمال الزهور، مريض وغائب منذ أسبوع، تفضلوا، هنا الكثير مما يؤكل، كلوا حتى الشبع، ان نباتات حديقتي أفضل وأنظف من نباتات الشارع.
2 -العاهرة البتول...!!

وضع المحاضر قدمه على مدخل القاعة فساد الصمت، كان ذلك اللقاء الأول مع محاضر العلوم السياسية.
جال بأنظاره كأنه يدرس وجوهنا او مدى حضورنا وجاهزيتنا لبدء دراستنا السياسية. نظاراته السميكة تجعله يبدو أكبر من جيله بعقد كامل على الأقل. قال بعد ان جال بعينيه بيننا عبر نظاراته السميكة:
- انا محاضر موضوع العلوم السياسية، لا أحب الحديث في القاعة اثناء إلقائي محاضرتي، فقط إذا طرحت سؤالا اسمح لمن يرفع أصبعه ان يجيب.
وتابع يقول:
- أنا سياسي له صولات وجولات وتجارب سياسية ستفيدكم في التعرف عليها لممارستها في المستقبل إذا صار أحدكم سياسيا. مثلا كيف نواجه سياسيين معادين؟ مبدئي الذي لا يتغير اني سياسي مستقيم وديمقراطي... ارى أصبعا مرتفعا في وسط القاعة، حسنا سأسمح لك أيتها الطالبة بطرح ما لديك.
- حتى اليوم دكتور لم اسمع عن سياسي مستقيم وديمقراطي كما تقول. يا لها من طرفة، ما ان يجلسوا في منصب حتى يصبحوا أشباه آلهة يجب قبول كل كلمة يلفظونها...حتى ضراتهم يجب التصفيق له. هل حقا يوجد مثل هذا المخلوق سياسي مستقيم وديمقراطي؟
- سؤال هام، مستقيم ليس شرطا، لكني أتحدث عن نفسي وتجربتي وقناعاتي.
- اذن أستاذي السياسي المستقيم والديمقراطي، اسمح لي بسؤال مجنون: هل يمكن ان نقول انه توجد عاهرة بتول؟!
3 - ليلة حب

عجزها عن تحقيق امنيته بولد من صلبه يشعرها بالخذلان، يتفجر الدمع من مقلتيها ولا تنسى نفسها الا حين يلج جسده بجسدها، فتصل لقمة نشوتها، ترجوه ان يأخذ عليها من تستطيع تحقيق امنيته فيردها خائبة:
- تطلبين البعد وانت في قمة القرب؟
- أشعر بالخيبة والقصور.
- ما عليك، الموضوع يخصني فلا تلجيه.
- ويخصني.
احتضنها بقوة، ضغط عظامها بين ذراعيه، ضغطت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان وهمس بأذنها:
- حبي لك هو الجذور، انا احبك لنفسك، لذاتك، أحببتك لأنك انت، لا تخلطي بين مشكلة الحبل وحبنا، حبنا قدس الأقداس... فهمت؟
شهقت والتفتت اليه بدموع ملء وجهها:
- أكره نفسي لعجزي، اريد ان أعطيك شرف الأبوة، الرجولة تكتمل بالأبوة.
أصمتها بقبلة وهمس بأذنها:
- انت دنياي ولا يهمني بعدك شيء، لا الرجولة ولا الأبوة.
فتحت فمها لتقول شيئاً فزجرها:
- اصمتي ولا تعكري ليلتي.
4 - المهمة الإنسانية

وصلت مجموعة رجال بقيادة رجل المهمات الخاصة يوري، إلى الصين بمهمة إنسانية عظيمة لتحسين نسل قطيع البقر الصيني، الذي يعاني خلل وظيفي في النمو الطبيعي.
منذ حطت قدماه على ارض المطار لاحظ يوري أن الصينيات يتمتعن بجمال نادر وجاذبية لا تقاوم. اتصل فورا بالمركز البيطري الذي أوفده مستفسرا إذا كان بالإمكان استبدال المهمة بتكليفهم بتحسين نسل الصينيات بدل نسل البقر؟
كان الجواب قاطعا ان الاتفاق بين الدولتين واضح ومحدد وقد انتدب من وزارة الزراعة في الوطن لتنفيذ مهمة بيطرية فريدة من نوعها وعليه الالتزام بالمهمة.
مضى أسبوعان واقترب موعد انتهاء المهمة البيطرية مع البقر الصيني، بقيت لهم ليلة واحدة في إسطبلات البقر، قرر في سره ان يستغل انشغال الزملاء ويهرب من مهمته تلك الليلة الى معاشرة صينية حسناء بدل بقرة ضخمة.
انتهز انشغال زملائه بمهامهم، وهرب من الإسطبل.
كان حظه جيدا، فما ان اطل على البلدة المجاورة حتى شاهد عشرات الصبايا الصينيات الجميلات. ارتفعت معنوياته وثارت شهوته للبدء فورا بالانصهار مع صينية حسناء.
لوح يوري بعشرة دولارات لأنه يجهل اللغة الصينية والبقر يمكن جماعه بدون لغة وبدون دولارات، لكن الصينيات لغتهم صعبة وهو مفكر وذكي فهم ان الدولار في بلاد الصينيين يصنع العجائب.
فورا تجمعت الصينيات حوله.. تأملهن واختار من رآها الأجمل.
قضى ليلة من العمر.. استيقظ صباحا وهو يشعر بألم شديد بين ساقيه. نظر الى نفسه وهاله ما رأي من الوان صفراء وحمراء وزرقاء وحكة قوية ..
فورا مع وصول الطائرة عائدا من الصين، توجه إلى عيادة طبيب.
شرح للطبيب انه كان في مهمة رسمية في الصين لتحسين نسل البقر، لكنه في اليوم الأخير كرس جهده لتحسين نسل صينية جميلة، بل ساحرة.
قال الطبيب ان وضعه بالغ الصعوبة ولا بد من إجراء عملية قطع وسيلة تحسين النسل لأنها باتت تشكل خطرا على حياته اذا استفحل المرض الذي نقلته له الصينية.
صرخ بقوة انه يرفض عملية القطع، فهو رجل في مقتبل العمر ويريد ان يتمتع بالنساء ولا يمكن ان يقبل عملية استئصال رجولته.
خرج من عيادة الطبيب بشعور اليأس والخوف الشديد، استفسر لدى عشرات الأطباء عن وسيلة علاج غير الاستئصال. كان رأي الجميع ان لا حل آخر هناك.
كاد يصل إلى حد الانتحار، لكن الطبيب الأخير قال له انه يوجد في المدينة القريبة صيني يعالج بالطريقة الصينية، لعله يملك حلا لمشكلتك.
فورا ركب يوري دابته وانطلق إلى المدينة القريبة وسرعان ما وصل عيادة المعالج الصيني.
فحصه المعالج الصيني، قال له يوري ان رأي الأطباء كان إجراء عملية قطع .. وهو يرفض ذلك لأنه ما زال يحب الحياة ومعاشرة النساء، والقطع قد يفقده وظيفته في وزارة الزراعة قسم البيطرة، حيث يوفد إلى مختلف الأقطار لتحسين نسل البقر.
قال له المعالج الصيني: لا ضرورة للقطع، أطباؤك لا يعرفون شيئًا عن تطور هذا المرض.
قال يوري للتأكد: حقا، لا ضرورة للقطع؟ كم انا سعيد !!
وبدأ يرقص في العيادة .. شاعرا ان جبلا قد نزل عن كتفيه. لكن المعالج الصيني لم يفهم سعادة يوري، قال له:
- عزيزي يوري، انت لم تفهمني جيدا، لا ضرورة لعملية قطع، لأن هذا المرض الذي أصابك من الفتاة الصينية لا يستحق تعذيبك بإجراء عملية قطع، انتظر عدة أيام أخرى وسترى انه سيسقط لوحده بلا عملية!!
5 -الله لا يحب الملحاحين

- من أين كسبت هذه الأموال؟
- منذ ركعت في الكنيسة لوداع البلد فتحها الله بوجهي، أصبح الحديد الخردة تجارة مربحة، اليوم لدي عدة شاحنات وعدد من العمال، اشتريت بيتا، المسيح فتحها في وجهي بعد ان رجوته في صلاتي الوحيدة ان يتطلف بي وبالأولاد.
- انا كاهن واصلي يوميا بإخلاص عدة مرات، ولا نحصل على ما يساعدنا في تغيير مقاعد الكنيسة مثلا ؟
- الصلاة ليست بالكم، ولا بالصراخ والصوت المرتفع، ليست بالشكل الذي نظهر به في الشارع بملابس غريبة عجيبة. الصلاة يا أبونا الخوري من القلب والقلب لا يغير شكله ولا قوة دقاته.
- لكني أصلي بصمت ومن القلب وعدة مرات كل يوم؟
- يبدو انك ملحاح يا ابونا الخوري .. هل تظن ان الله يحب الثرثرة والإلحاح...؟!
6 - سائق لشخصية هامة جدا

زار البابا إحدى الدول، ورغب في أن يسوق السيارة التي لم يسقها منذ وقت طويل. قال للسائق قف جانبًا، أريد أن أسوق السيارة، اشتقت إلى السياقة. اجلس في الخلف مكاني.
انطلق البابا بالسيارة، ها هو ينجز حلما قديما كثيرا ما راوده لكن منصبه وقف حاجزا بينه وبين قيادة السيارة، شعر بنفسه يصغر نصف قرن، ضاعف السرعة إلى 100 كيلومترًا في الساعة، شعر بالسعادة، رفع السرعة إلى 120 كيلومترًا في الساعة، انتعش كثيرًا، رفع السرعة إلى 160 كيلومترًا في الساعة وبدأ يدندن أغاني من أيام الشباب، فجأة دورية شرطة تعترض طريقة وتشير له أن يقف جانبًا.
أقترب الشرطي وتفاجأ: أنت البابا؟
-       أجل أنا هو.
-       انتظر
لم يعرف الشرطي كيف يتصرف. ذهب ليتصل مع الضابط المسؤول. شرح له أنه أوقف سيارة تنطلق بسرعة جنونية وصلت إلى 160 كيلومترًا في الساعة، ولا يعرف كيف يتصرف مع صاحبها.
-       من صاحب السيارة؟
-       شخصية هامة جدًا.
-       من هو؟ هل هو وزير.. ؟
-       أهم.
-       قائد الجيش؟
-       أهم.
-       رئيس الحكومة؟
-       أهم.
-       رئيس الدولة؟
-       أهم.
-       رئيس أمريكا؟
-       أهم.
 -       من هو هذا الشخص المهم إلى هذه الدرجة؟
-       إنه أهم من أهم شخصية في العالم.
-       من سيكون .. اهم من بابا الفاتيكان؟
-       أهم.
-       بابا الفاتيكان هو نائب الله على الأرض، من أهم منه؟!
-       بابا الفاتيكان هو السائق لتلك الشخصية!!
nabiloudeh@gmail.com


24

مـطــــــــــــــــــار
قصة: نبيل عودة

(1)
افقت لتوي من غفوة عابرة، تثأبت وتلفت حولي مستنجدا خيرا من الملامح المتناقضة للمسافرين.
مددت عيني طولا وسحبتهما عرضا، ويقيني يقول لي أن لا شيء جديد بعد، حشد من الخلائق عبرتهم بنظراتي المتحررة للتو من اسر النعاس وسلطانه وحرت اين استقر بنظراتي.
(2)
مددت أطرافي بقوة وتشنج، محاولا أن أصل لأبعد مما أستطيع، وأنا لا أدري ان كان ما يمر بي هو نوع من القلق ام الزهق لطول الانتظار.
كان الزمن يمر بطيئا مثقلا بالهواجس. وقد جفت ينابيع افكاري او كادت من معاناة الانتظار، الذي يبدو ان لا نهاية له.
للحظات تتجلى لي رؤى غريبة، فانفضها غير قانع، ومن حيث لا أدري، كان يتسرب لنفسي اكتئاب شديد، فأحاول التخلص منه بالتنقيب عن فكرة جديدة، تأخذني لأجوائها فأخوض لجة التأمل، فينشط فكري وينشغل، حتى نرى ما يكون من أمر هذا التعويق في وصول الطائرة.
ولكن اكتئابي وهواجسي كانت اقوى من رغبتي، فلم أعد أطيق صبرا لما أنا به فأخذت ابحث عن الصغيرين بعيني، دون أن أتحمس لمغادرة مقعدي الدافئ.
للحظة مرت في فكري آخر أحداث الطيران. نفضت الفكرة من دماغي عندما لمحت الصغيرين يلهوان بسعادة، يجران عربة الحقائب، أحدهما يدفع والآخر يركب، وتكاد قاعة الانتظار الفسيحة لا تتسع لسعادتهما المنفلتة، غير عابئين بما يدور من هواجس وأفكار، يصدمان الخلائق بالعربة، ويتابعان شيطنتهما دون حساب لأنس أو جن.
(3)
في المحادثة التلفونية قبل ايام، أخبرتني ان طائرتها ستصل الساعة الثالثة والربع بعد الظهر، حسب توقيتنا المحلي. في اليوم نفسه اتصلت مرتين مع استعلامات المطار للتأكد من عدم حصول تغيير في موعد وصول الطائرة. قبل خمسة ساعات غادرت البيت برفقة الصغيرين، اللذين لم يتنازلا عن مرافقتي رغم كل الاغراءات ومحاولة البرطلة لإبقائهما في البيت. حسبت ألف حساب لشيطنتهما وعبثهما. في الساعة الأولى لوصولنا لحقتهما وحثثتهما على الهدوء. وعدتهما بعشرات الهدايا الرائعة التي ستجلبها "ماما" إذا كانا طيعين لا يعذبان ويسمعان الكلام، والا لا شيء، يعودان كما جاءا بلا هدايا، وربما بلا "ماما" التي سترى شقوتهما وتعذيبهما لي من الطائرة، وتعود من حيث أتت. هذه الانذارات والتهديدات لم تنفع الا للحظات، عاد بعدها كل شيء الى أصوله الشيطانية. ركضت ورائهما من زاوية الى اخرى، مخبئا وجهي كلما صدما شخصا بعربة الحقائب المنطلقين بها على سجيتهما، متمردين على الأصول متحررين من الضغوط. منفلتين ثائرين.
- خزيتموني .. ماما اتصلت من الطائرة تقول انها لن تجيء .. وسترجع مع كل الهدايا .. مع الدب ومع القرد ومع سنوبي ومع ليلى الحمرا.
استمعا لي بصبر، نظرا بعيني بعض، وأخذت ملامح ضحكة ترتسم على شفاههما، ثم انفجرت ضحكاتهما التي لا تعرف حدود الوجل وأطار المنطق. جلجلت وصدحت بسعادة منفلتة من قلقي المبالغ وحساسيتي المفرطة لتصرفهما التي هي عين المنطق كما يريان. لعنت الاولاد والذي يخلفهم، واستسلمت امام اصرارهما ساحبا نفسي نحو شاشة الاستعلامات، للتأكد من جديد بان الموعد المقرر لوصول الطائرة لا يزال بلا تغيير.
(4)
الهيت نفسي بتأمل وجوه المسافرين وما تبوح به من تعابير. ملامح الوجوه تكاد تفصح عما في النفوس. تتجلى تعابيرها المتناقضة بين الوجل والسعادة. بعض الملامح هادئة ومستقرة، ومن تعابير وجوههم تعرف ان الطيران صار روثينا في حياتهم.
في رحلتي الاولى بالطائرة أصابني الوجل ساعة قبل الصعود الى الطائرة، وما انفك عني الا بعد هبوطها بساعة او أكثر، واليوم انا أكثر قوة، او ربما أكثر استسلاما. السفر بالطائرة علمني ان اواجه المجهول بشجاعة .. او ربما بلا مبالاة.
بحثت عن الصغيرين بعيني، فلمحتهما في آخر القاعة، يتبادلان ركوب عربة الحقائب. نظرت الى ساعتي مستعجلا تقدم الوقت، انتهاء الانتظار، انتهاء المعاناة من تصرفات الصغيرين.
(5)
أيقنت بيني وبين نفسي أنى بالغت في تقدير الوقت، فخرجت ساعتين أبكر مما يجب، وهذه نتيجة تسرعي احصدها مع شيطانين. حاولت العودة لتأمل تناقض الوجوه وملامحها متفاوتة التعابير، ضحكة خافتة جذبت أنظاري، فرأيت عناقا مستفحلا بين فتى وفتاة، يكاد الفتى يفترسها برغبة مفضوحة، وهي مستسلمة ضاحكة كالعصافير، لا هم ولا غم. أحاول أن أتذكر أيام فتوتي، والساعات الرومانتيكية، وأقارنها بالحالة التي أمامي. ظلال لابتسامة تريح قسماتي المتوترة من الانتظار الطويل وشقونة الصغيرين. بمرارة غير مفهومة أغطس في مقعد مريح. يمضي الوقت بطيئا. تشدني السيقان الوقعة في مستوى النظر فأطلق لعيني العنان. هل يليق بي أن أتأمل اللحم المكشوف؟ نشب عراك بين نظراتي المنطلقة على سجيتها، وراء ما انجلى من جمال التكوين وأسس البناء، وبين ما يعرف مجازا بالأخلاق، الذي يشجب ما انا فيه من متعة النظر مع سبق الاصرار لما يسمى مفاتن النساء. رفضت فكرة ان يكون ما اراه عورات يجب سترها. بعض الملابس تضيق عن استيعاب هذا العاج المتلألئ الوهاج. لوهلة يخيل لي ان بعض السيقان ولشدة فتنتها، تكاد تخرج من داخل التنانير. انتظرت ولم يحدث. ربما الملل مما انا فيه يدفعني للعودة الى سني المراهقة وتأمل السيقان ومفاتنها. بدأ بالي يخلو شيئا فشيئا. أفكاري تخلو من الصراع وانا امارس على سجيتي اكتشاف عالم النساء الكامن في الطبقات المنخفضة، وبعدها لا أدري كيف .. أخذتني غفوة سلطانية تحت ظلالها.
(6)
نظرت لساعتي فجفلت، اذ أن الوقت الموعود لوصول الطائرة مر بأكثر من نصف ساعة. هل أكون قد غفوت ساعة ونصف الساعة؟ نفضت عني بقايا النعاس ووقفت ابحث عن الصغيرين .. فلم أجدهما. أسرعت اجتاز القاعة من أولها الى آخرها، من يمينها الى شمالها. بحثت عنهما بكل انتباه ودقة، ولكن لا أثر لهما. تسارعت نبضات قلبي بعض الشيء وأنا حائر في مكان وجودهما. أتكون امهما قد وصلت واهتدت اليهما؟ ولكنهما يعرفان اين غفوت؟ خرجت من القاعة ملهوفا للبحث عن العفريتين، فاطمأنت نفسي حين لمحتهما يتشيطنان خارج القاعة، غير عابئين بما يدور حولهما. بشرتهما بان الطائرة وصلت، وانطلقنا لباب الاستقبال.
(7)
كان الزحام شديدا وبالكاد نرى الممر.
_ ارفعني لأرى.
أمرني الصغير. فامتثلت للأمر غير القابل للرفض.
- ارفعني انا ايضا.
أصرت الصغيرة وألحت مهددة بالبكاء.
أنزلته ورفعتها.
- أخ ..
حبست صرخة ألم، حين تلقيت ضربة ببوز حذاء الصغير في ساقي اليمنى، وأمرا لا يقبل الجدل:
- ارفعني.
توترت اعصابي وكززت على اسناني غاضبا:
- لماذا لم تبقيان في البيت؟
حملت الاثنين بشيء من الصعوبة والجهد الزائد.
- مرحبا.
حيا اخته وهو مرفوع.
- مرحبا .
ردت عليه منفلتة من الضحك.
- كفى حركة . لا أستطيع حملكما أكثر.
صممت بعصبية وأنزلتهما على الأرض. فواصلا التعشبق بعنقي، ولم أستطيع منهما فكاكا الا بجهد وضربتين على القفا.
(8)
مر الوقت وخرج عشرات الأشخاص دون أن أرى أثرا لزوجتي.
بدأت النرفزة من طول الانتظار تفعل فعلها في نفسي غير المطمئنة، المرهقة من الانتظار والأولاد.
استفسرت من أحد المسافرين ان كانت الطائرة التي وصل فيها قادمة من حيث تجيء زوجتي. فأجاب بالسلب. حرت قليلا وازداد شعوري بالإرهاق وصارت روحي في حلقي. أكاد أشعر بالاختناق، ولا أعصاب لي لمواصلة ارضاء الصغيرين.
هل تحضر ام لا تحضر؟
شاشة الاستعلامات لا تشمل رقم الطائرة المنتظرة فيما تبقى من طائرات. تركت الصغيرين وذهبت أتأمل مرة أخرى شاشة التلفزيون ... وعبثا بحثت بعيني. موعد هبوطها حان منذ أكثر من ساعة. ساعة غفوت، هل غفوتي هي السبب في عدم وصولها؟
ربما غفوتي لا تحسب في مقياس الزمن؟
استعدت في ذاكرتي للتأكد، تاريخ اليوم وموقعه من أيام الأسبوع، استذكرت استعلاماتي التلفونية مع المطار قبل خروجي من البيت، وحين وصلت بعد سفرة استغرقت ساعتين. قرأت رقم الطائرة وموعد هبوطها غير النهائي. ثم عدل الموعد بربع ساعة. وأصبح موعد هبوطها نهائيا. أمر محير. هل غفوت لأكثر من ساعة؟ لأكثر من يوم؟
هدأ الصغيران، اللذان لحقاني، من عبوسي الظاهر وعصبيتي الواضحة. التزما الصمت. هل يستوعبان ما يدور؟ يستجليان أفكاري؟ هل لمسا ما يعتمل في خلدي؟ هل يفهمان جوهر الموقف؟ يقدران خطورته؟
نظرت حولي مضطربا قلقا. ولت الوجوه والسيقان. ضاعت الألوان. واحتقن وجهي .. واستفحلت حيرتي.
صمت الصغيران بكآبة غير مفهومة فأثارا شفقتي. أمرتهما بانتظاري على مقعد قريب وعدم التحرك. فجلسا منصاعين. نظرت اليهما مرة أخرى، ولم أستطيع الا ان أنحني لأقبلهما هامسا:
- ماما تأخرت، سأذهب لأعرف السبب . فاهمين؟
هز الصغير رأسه بموافقة وتسليم. أما الصغيرة فعبست، وطأطأت رأسها وبانت الدموع في مقلتيها:
- أريد ماما .
- الآن ستجيئ .. لا تبكي.
سرت. ركضت. لا أدري. نحو مكتب الاستعلامات والقهر يمزقني. والحيرة تفعل فعلها، تزيدني نرفزة وعصبية، هل فعلتها وتأخرت أم يخبئ لي القدر مفاجأة؟
(9)
زحام شديد أمام مكتب الاستعلامات، وثلاث موظفات جميلات مشغولات بالرد على عدة هواتف، واعطاء الاجابات للحشد الكبير. بعد سؤال واستفسار عابر مع عدد من المحتشدين امام مكتب الاستعلامات، تبين لي انهم بانتظار الطائرة نفسها ... وأن شيئا غير مفهوم قد حدث.
خف همي قليلا لوهلة. وازداد قلقي أضعافا.
سألت شخص بقربي:
- هل وصلت الطائرة ؟
- السؤال هل أقلعت ؟ أجاب وغرق في صمته .
- هذا ما نحاول ان نفهمه ..
أجاب آخر دون أن أوجه له السؤال. قلت وكأني أكتشف شيئا جديدا:
- وما المشكلة في معرفة ذلك ؟.. حين يعطون الموعد النهائي لهبوط الطائرة. معنى ذلك انه أقلعت وأقامت الاتصال مع برج المراقبة ...؟
- ربما..
- ربما ؟
- هذا ما نحاول ان نفهمه منذ أكثر من ساعة .
- لماذا لا يعطون الجواب ؟
- لا أعرف .
- هل خطفت الطائرة ؟
- أفضل من سبب آخر .
- أي سبب ؟
- مثلا سقوطها.. ؟؟
- سقوطها ..؟؟!!
لا لن يحدث ذلك. الصغيرين وأنا؟ أبدا. هذا صعب على التصديق.
قالت موظفة جميلة محاولة أن يصل صوتها للجميع:
- حتى الآن لا ندري شيئا . الطائرة قد تكون عادت للمطار الذي انطلقت منه. أو هبطت لسبب أو آخر في مطار آخر. أرجو الهدوء والاطمئنان. سنعلمكم بكل ما يصلنا من معلومات.
- عن أي هدوء واطمئنان تتحدثين ؟
انفجر أحد المحتشدين فأسكته الحشد:
- ما ذنبها .. هي موظفة ؟؟
- لماذا لا يخبروننا .. لماذا يتسترون ؟؟
صرخ آخر.
وقفت صامتا اسمع ما يدور من حوار وصراخ وتعليقات وهمومي تتكاثر.. وأنا في حيرة من أمري.
مرت لحظات ثقيلة والكل غارق في تأملاته وتأويلاته. لم أعد اطيق الصبر والصمت والتأويل .. تركت الحشد وذهبت أطمئن على الصغيرين.
(10)
أخذت الصغيرين شبه النائمين الى داخل القاعة، أجلستهما على مقعدين، وتركتهما يغرقان في نومهما الهادئ.
كان الوقت يمر مثقلا بالهواجس، والقلق الطارئ يتحول الى خوف حقيقي من حادث مفجع. طلبت محادثة خارجية من البدالة الدولية، تحدثت مع أقاربي فأكدوا ان زوجتي سافرت بالطائرة في الوقت المحدد حسب البرنامج، وحسب ما يقدرون، يجب ان تكون قد وصلت. قطعت المكالمة تاركهم لحيرتهم وكأن سكين جزار ماهر قطعتني نصفين من وسطي. كآبة دافقة ملأتني. مرارة شديدة تتسرب لأعماقي. اتجهت نحو مكتب الاستعلامات .. كانت الوجوه مرهقة وتبدو عليها ملامح معاناة شديدة. بعض النساء أطلقن العنان لدموعهن، مما زاد شعور المرارة في نفوسنا، واشتد خوفنا من حادث لا ندري قدره.
- في أخبار العاشرة لم يذكروا شيئا ...!
ايقنت ان الحديث يدور عن طائرتنا. رفض فكرة حادث مأساوي كانت تتأصل في نفسي. ترى هل ينفع ذلك؟ هل له أثر فيما حدث بالفعل .. أو قد يحدث؟
هل من خبر جديد يزيل الكرب من نفوسنا؟ هل من كلمة تزيل قلقنا؟ قلت لجاري محاولا أن أنفس بعض همومي:
- الطائرة أقلعت .. الطيار أقام اتصاله مع برج المراقبة .. ثم انقطع الاتصال .. ولا يدرون السبب أين المنطق؟
لم ينصت لي أو أنصت .. لا أدري. قال مخاطبا نفسه:
- كيف أستطيع أن أعيش بدونها ؟
واستأنف صمته الممتد كما يبدو ونظراته المكسورة تبحث عن بارقة أمل، ثم تسقط فوق الأرض.
وقفت مذهولا للحظات. تأملته وأيقنت أن في الأمر سرا، تصارعت في رأسي عشرات الأفكار المؤلمة. حرت فيما أستطيع فعله. رفضت الفكرة الرهيبة التي يقودني اليها تفكيري. نظرت لوجوه الموظفات الجميلات، اختيار ملائم لوضع غير ملائم. حاولت أن استقرئ ما تخفيه ثغورهن المصبوغة بالأحمر، وما تخبأه عيونهن البراقة وما يكمن وراء هدوئهن المبالغ لحد التصنع. عواصف من القلق. اشتد شعوري بالعطش الذي يلازمني منذ ساعة دون ان أعيه. لم تكن لي رغبة في شيء. . ولا حتى بقطرة ماء. تحركت حاملا ذهولي وحيرتي، وقفت أمام براد الماء، ضغطت بأصبعي. ارتفع ناقور الماء، انحنيت، رطبت فمي ولساني ولم أستطع أن أبلع الماء. تركت البراد وتوجهت الى الصغيرين  شاعرا بالألم . حاولت أن أفكر بشيء لا أدري ما هو. تأملت في نقطة غير مدركة وجلست. أخذت الصغيرين في حضني، ضممتهما بقوة، تنشقت رائحة الطفولة ودفئها، وزجرت دمعة كادت أن تفلت، وانتفضت كالملسوع. فتحت عيني. فركتهما لإزالة الغباش والأشكال السريالية للوجوه. اتضحت المعالم والصور. تذكرت الصغيرين، وانتصبت متثائب مذهولا مطلقا نظراتي في أرجاء القاعة بحثا عنهما ...
nabiloudeh@gmail.com

25
أبرتهايد ضدَّ زيتون فلسطين

نبيل عودة


نشرت صحيفة "هآرتس" العبرية تحقيقاً مثيراً ومؤلماً حول التجارة بأشجار الزيتون الفلسطينية العتيقة، بعضها يسرق تحت ضوء الشمس وتحت نظر وسمع أصحاب بيارات الزيتون التي تبكي هي وأصحابها فقدان الأشجار المعمرة، التي تقتلع وتصل بطرق التفافية مختلفة الى السوق الإسرائيلية، ومباشرة الى منازل أصحاب الملايين، ويبدو ان أشجار الزيتون التي تقلع من أرضها بلا رحمة ويدون اذن أصحابها، أضحت تجارة غير رسمية تقدر بعشرات الملايين من الشواقل كل سنة.

من يسرق هذه الأشجار؟

الزيتون كان دائماً الى جانب البرتقال رمزاً للوطن الفلسطيني، وله مكانة مقدسة في قلوب أبناء الشعب الفلسطيني، وحتى إسرائيل الرسمية باتت تعتبره رمزاً قوميا لها، تماماً كما صارت الفلافل والحمص أكلات إسرائيلية، وتفاخر إسرائيل بجودة الزيت المنتج، ومن الواضح ان منتجي الزيت معظمهم من أبناء الوطن الفلسطيني بكل أطرافه المقسمة.

قامت الصحفية مايا زينشتاين من "هآرتس"، بإجراء تحقيق جريء حول موضوع أشجار الزيتون، كشفت فيه انه منذ عشر سنوات تجري تجارة غير قانونية بأشجار الزيتون الفلسطينية العتيقة، بعض الأشجار عمرها الف سنة وأكثر، تسرق، تقلع بشكل غير قانوني، تهرب من الضفة الغربية الى إسرائيل وتصل الى منازل أصحاب الملايين لتزيين مداخل منازلهم، حدائقهم، ساحاتهم، والى مواقع أخرى مختلفة، وكلها أشجار اقتلعت غصباً من أراضي أصحابها، من الأرض التي نمت فيها عشرات السنين أو مئات السنين.

ان من يدخل منازل أغنياء إسرائيل كما جاء في التحقيق الصحفي، يظن انه انطلق في مركبة الزمن عائداً الى ايام هيرودوس، الحاكم الروماني لفلسطين الذي استمر حكمه من عام 37 قبل الميلاد حتى عام - 4 قبل الميلاد، في عهده زرعت الكثير من أشجار الزيتون.

ظاهرة تزيين منازل أصحاب الملايين اليهود في إسرائيل بأشجار الزيتون العتيقة أصبحت ظاهرة واسعة الانتشار. هذه الظاهرة تجري بصمت دون أن تثير أصداء او تدخّلاً من السلطة لوقف السرقة. السؤال الذي يشغلني لو كانت الأشجار التي تسرق يجري اقتلاعها من أراضي داخل الخط الأخضر، يملكها اليهود او استملكها اليهود بأمر السماء، هل كانت السرقة تمرّ بمثل هذا الصّمت والتجاهل؟

"هآرتس" تكشف ان معظم الأشجار يجري تهريبها من مناطق الضفة الغربية المحتلة، وبعضها من أراضٍ في الجليل، وهو تعبير يعني أراضي بملكية عربية، ولكنها لا توضح هل يجري اقتلاعها هي الأخرى عنوة وبدون معرفة أصحابها؟ وهل اقتلاع الأشجار يجري حسب القانون؟

التهريب من أراضي السلطة الفلسطينية يجري بدون مشاكل، ويمر عبر الحواجز بدون سؤال وجواب.

يصل سعر الشجرة الواحدة بين 30 الى 80 الف شاقل (الدولار يساوي 3.7 شواقل تقريباً). أشجار لم يتعب سارقوها بصيانتها وتنميتها والحفاظ عليها لتطعمهم وتطعم أولادهم وتبقى ضمن الحقوق الأساسية البسيطة التي يمكن ان لا يتطاول عليها الاحتلال "المتنور" وسوائب مستوطنيه، على اعتبار ان الشجرة ليست طفلاً فلسطينياً يجعل ضابط نيابة عسكري يقول لوفد من البرلمان البريطاني جاء ليفحص واقع حقوق الطفل الفلسطيني تحت الإحتلال: "ان كل طفل فلسطيني هو "مخرب" محتمل في المستقبل"!!

بغض النظر عن اقتلاع أشجار زيتون بموافقة أصحابها لأسباب عديدة منها ضيق مساحة أراضي البناء في الوسط العربي داخل إسرائيل وحالة الفقر التي تسود بعض الأوساط، إلا ان هذه الظاهرة تأخذ منحى آخر في المناطق المحتلة.

حسب التحقيق في "هآرتس" نقل أشجار الزيتون يشكل أيضا مخالفة جنائية في الكثير من الحالات. نص القانون واضح ولا يترك فسحة لعدم الفهم. آمر الغابات الانتدابي، الذي يعتبر القاعدة القانونية لحماية الأشجار في إسرائيل والضفة الغربية بنفس الوقت، يمنع قطع او نقل شجر الزيتون، او أشجار أخرى، الى أماكن أخرى، بدون الحصول على تصريح بالقلع والنقل، وكذلك تصريح لأصحاب الأرض باقتلاع أشجارهم، وذلك من موظفي قسم الغابات في وزارة الزراعة وموظفي الكيرن كاييمت لإسرائيل (صندوق أراضي إسرائيل – صودرت 93% من أراضي الفلسطينيين الذين لم يهاجروا من وطنهم واليوم يملكون اقل 3% من الأرض ومعظمها يتبع مجالس قطرية يهودية).

الكيرن كاييمت تعترف انه توجد فجوة هائلة بين التراخيص التي أعطيت لنقل عدد من أشجار الزيتون، وبين ما يجري في الواقع، البعض يقول ان الفجوة تصل الى 50% فجوة بين التراخيص وعمليات الاقتلاع غير المشروعة وتباع بتجاهل ومخالفة كاملة للقانون.

حول نقل الأشجار من الضفة يقول احد العاملين في هذا المجال، انه "ممنوع إحضار أشجار زيتون من الضفة لأن دولة إسرائيل لا تملك حقوق اقتلاع الأشجار هناك".

 في مشتل في المثلث (أتجاهل قصداً عدم ذكر التفاصيل والأسماء) توجد عشرات أشجار الزيتون بجيل 100 سنة وحتى ألف سنة. يقول العامل هناك ان سعر الشجرة يصل الى 75 الف شاقل والشجرة الثانية للمشتري 60 الف شاقل فقط "!!"، وانه يوجد الكثير من المجانين في إسرائيل خاصة من قيساريا ومن سيفيون (أي مدن الأغنياء في إسرائيل) – القصد أغنياء يدفعون عشرات آلاف الشواقل مقابل كل شجرة زيتون. عن سؤال من اين وصلت هذه الأشجار؟ لا يجيب العامل الا بالصمت وابتسامة ذات دلالة ترتسم على وجهه، بعد تردد، وبعد ان يفحص الزبون بعينيه، ليتأكد ان لا شيء يمنع المصارحة، يشاركه بمعلوماته: "هل ترى هذه الأشجار؟ وصلتنا أمس في الحادية عشرة ليلاً مع رافعة بقدرة 50 طنا. هذه اشجار عمرها 2500 سنة، ليست من هنا، هذه الأشجار من الخارج، من فلسطين، كل هذه الأشجار من فلسطين".

ويشرح العامل شكل الحصول على الشجر: "أذهبُ الى أصحاب بيارات الزيتون، أختار بعض الأشجار، وأقول لصاحبها اني سأدفع له عشرة آلاف دولار مقابلها، هذا مبلغ كبير جداً وهام جداً بالنسبة لهم، حتى خلال عشرة سنوات قادمة تلك الأشجار لن تعود عليه بدخل مشابه. يصاب الفلسطيني بصدمة من قيمة المبلغ وطبعاً بِحيرة كبيرة، البعض لا يقبل، ولكن من يقبل نرسل اليه شخص من طرفنا، ويشتري الأشجار، نتلقّى موافقة من وزارة البيئة، ونسجّل الشجر ونحصل على تصريح، نمرّ عبر الحواجز مع الترخيص.

الإادارة المدنية بصفتها الجسم الوحيد المسؤول عن اقتلاع الأشجار من الضفة الغربية وإدخالها الى إسرائيل لها رواية مختلفة.

ضابط الزراعة في الإدارة المدنية يقول انه في السنة الأخيرة لم يعط أي تصريح لقلع ونقل أشجار زيتون ويدعي الضابط أنهم في الإدارة المدنية لا يعلمون شيئاً عن تهريب أشجار زيتون الى إسرائيل.

مستهجن انهم لا يعلمون. ويبدو ان عدم العلم سياسة ؟!

صحيفة "يديعوت أحرونوت" نشرت عام 2003 عن عمليات اقتلاعٍ واسعة جدًا لأشجار زيتون من الضفة الغربية (المناطق المحتلة) وأوضحت أن بناء الحائط الأمني، فصل آلاف أشجار الزيتون عن أصحابها، وأدّى إلى اقتلاعها وسرقتها. وأكثريتها لم تُعَد لأصحابها بل بيعت من قبل مقاولي البناء الذين بنوا الحائط الأمني، وبمعرفة الادارة المدنية.

تسجل هآرتس قصة مؤلمة. محمد مقبل من إحدى قرى الضفة الغربية، يحمل بكيس نايلون أوراق الطابو لأرض اشتراها والده قبل ولادته، وفيها بيارة مزروعة بأشجار الزيتون، عمر أشجارها أكثر من 100 سنة، ولا يسمح له بزيارة أرضه إلا مرتين كل سنة. الى جانب أوراق الطابو يحتفظ محمد مقبل بكمية كبيرة من الشكاوي التي قدمها في السنوات العشر الماضية لشرطة إسرائيل ولإدارة التنسيق والاتصالات في الضفة الغربية حول اعتداءات على أرضه، منها الدخول لأرضه الخاصة واقتلاع أشجار زيتون دون اذنه، يقول انه في عام 2007 اضطر للمشاهدة من البعيد، الجرافات وسيارات الشحن تقتلع أشجار الزيتون من أرضه، وان شكواه للشرطة لم تفد، وان الإدارة المدنية أعادت له أقل من نصف الأشجار والبقية "اختفت"!!

ويضيف محمد مقبل ان لجاره أيضاً مشكلة مشابهة، هذا عدا موت أشتال زيتون جديدة زرعها لأنه لم يسمح له برويها ورعايتها بسبب منعه من الوصول الى أرضه إلا مرتين في السنة.

طبعاً الحائط الأمني خلق واقعاً مؤلماً ومدمّراً للزراعة الفلسطينية بفصل قرى كاملة عن أراضيها واضطرار الفلاحين لبيع أشجار الزيتون، التي لم يعد باستطاعتهم الوصول اليها، وقد تتعرض للاعتداء الهمجي بالقلع والحرق من المستوطنين، وايضا لضمان لقمة الخبز التي أصبح ضمانها صعباً جداً مع الحصار المفروض على البلدات العربية ومنع الفلاحين من فلاحة أرضهم وزراعتها والحواجز العسكرية التي حولت البلدات الفلسطينية الى سجون كبيرة لا تتوفر فيها الشروط الأساسية لحياة طبيعية. هذه الظاهرة توجد في الكثير من المناطق وأبرزها قرية "حبلة" في مقاطعة قلقيليا، حيث تمر الأشجار المقلوعة عبر الحاجز العسكري بدون مشاكل.

الحقائق تبدو بلا أهمية وتافهة أمام ما يجري من سرقة الأرض الفلسطينية، ومهزلة لجان قانونية تشرع الاستيطان والسيطرة على الأرض. في ظل هذا الواقع من يهتم بأشجار الزيتون في الوقت الذي يعاني فيه الانسان الفلسطيني من حصار ونهب وحرمان من حقوق اولية للبشر؟ حتى الوصول الى المستشفيات بات مشكلة وبعض النساء يلدن أطفالهن على الحواجز العسكرية وهن ينتظرن رحمة المحتل ليسمح لهن بالوصول الى المستشفى وولادة "المخرب" الفلسطيني الجديد؟

 السلطة الفلسطينية ضد اقتلاع أشجار الزيتون الذي يشكل إنتاجاً أساسياً للفلسطينيين. ولكن الأرض والرقابة ليست بأيدي السلطة وحتى ليست بأيدي الإدارة المدنية إلا شكلياً وشرطة إسرائيل لا يهمها الأمر. لو كان الاتجاه عكسياً لسمعنا عن اعتقالات وتحقيقات ومحاكمات. طبعاً، وعود كثيرة تُطرح، يُسمع عن تهديد بالعقاب لمخالفي القانون، بل ويقال بوضوح انهم يعلمون ان هناك فجوة كبيرة تصل الى أكثر من 50% بين تصاريح نقل أشجار زيتون وبين الواقع. مسؤولية من تنفيذ القانون في المناطق المحتلة؟ مسؤولية من الكشف عن هذه السرقة الرهيبة للشجر الفلسطيني الذي يشكل الغذاء الأساسي للمجتمع الفلسطيني المحاصر والمعزول عن العالم وعن بعضه البعض؟

 يبدو ان حالة أشجار الزيتون لا تختلف عن حالة أصحابها. الانسان الفلسطيني، حتى داخل إسرائيل، يعاني من "ابرتهايد" والشجر الفلسطيني يعاني من ابرتهايد. التسيّب لن يتوقف ما دام احتلال الأرض الفلسطينية مستمراً.

الكيرن كاييمت اعترفت انها أصدرت في السنة الأخيرة 18,900 تصريحاً لنقل أشجار زيتون. ولكن معظم هذه الأشجار ليست مطلوبة في السوق، وإنما هي أشجار جديدة اقتلعت من أراضي الكيبوتسات بسبب ارتفاع أسعار مياه الري ولتنفيذ مشاريع أخرى.

كذلك يتبين ان العقاب لتجار الأشجار المهربة لا يشكل رادعاً. مثلا الغرامة التي تفرضها المحاكم لمن يضبط بعملية التهريب تتراوح من 750 شاقل حتى 5,000 شاقل لأشجار تباع الواحدة بأكثر من 75 ألف شاقل. الجهة الوحيدة التي اهتمت بالموضوع، هي دائرة الضرائب، ليس لأنقاد أشجار الزيتون الفلسطينية من السرقة، بل للحصول على حصة الضريبة من الأرباح الخيالية، أرباح الاعتداء غير المشروع والمخالف للقانون الذي تدعي إسرائيل انه تنفّذه ويشمل أشجار الزيتون الفلسطينية، ولا أعرف أحكام القانون الدولي في هذه الحالة.

لا بد ان تقوم الى جانب السلطة الفلسطينية هيئة عامة تشرف وتوقف اقتلاع أشجار الزيتون، واستهجن اني قرأت عن الموضوع بصحيفة عبرية مستقيمة وجريئة، ولم أقرأ عنه بتقرير فلسطيني رسمي او صحافي.

سوائب المستوطنين حرقت وقطعت آلاف الأشجار. حان الوقت لجعل شجر الزيتون ضمن الحماية القانونية الواضحة للسلطة ألفلسطينية، وإجراء مسح ورقابة دائمة. يجب إنقاذ شجر الزيتون من سياسة الأبرتهايد الإسرائيلية التي لا تميز بين الإنسان والنبات. كل ما هو فلسطيني مباح. يجب ان يعاقب كل متعاون وبائع لهذه الثروة الفلسطينية ومعاملته بنفس أسلوب معاملة خونة شعبهم.
nabilodeh@gmail.com

 


    




   


26
سامي ميخائيل العراقي الذي صار اسرائيليا
"حدود الروح": حوارات مثيرة مع الكاتب اليهودي سامي ميخائيل
روايته "حمام الطرف الأغر" وعلاقتها "بعائد الى حيفا" لكنفاني
نبيل عودة

يعد الكاتب سامي ميخائيل (ولد في بغداد عام 1926) اليوم من ابرز الكتاب باللغة العبرية. سامي هو يهودي عراقي ولد باسم سمير مارد في العراق، وصل اسرائيل منذ اكثر من 6 عقود وانتظم في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ربطته علاقات شخصية مع الروائي الفلسطيني اميل حبيبي والعديد من شخصيات الحزب الشيوعي القيادية في الوسط العربي، سكن في حارة وادي النسناس العربية في حيفا، علاقته ضعفت مع الشيوعيين العرب بعد انسحابه من الحزب الشيوعي والتفرغ للكتابة الروائية.

عام 1946هرب سمير مارد (سامي ميخائيل) من بغداد الى طهران لأنه كان مطاردا بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي العراقي المحظور وقتها في العراق، في طهران اتصل بحزب "تودة" الشيوعي الايراني ونشط معه، بعد عامين يئس تماما من أمكانية العودة الى وطنه العراق ومدينته مسقط راسه بغداد، حيث عائلته وشعبه وشعر بالوحدة والانعزال. فاضطر كما روى للجوء الى اسرائيل، حيث بقي وحيدا لعامين قبل ان تضطر عائلته مرغمة على مغادرة وطنها العراق حيث عاش فيه اليهود العراقيين اكثر من ثلاثة آلاف عام، يصف سامي ميخائيل وصوله الى اسرائيل بأنه كان أقرب الى النفي.

يروي سامي في احدى احاديثه الصحفية: في صباي، وشبابي ناضلت جنبا الى جنب مع السنيين والشيعة والمسيحيين من اجل عراق ليبرالي مزدهر. جيل كامل من الشبان والفتيات قتل وعذب ونفي وابيد على ايدي نظام الحكم الملكي وذلك بتشجيع وتأثير من المستشارين البريطانيين الذين كانوا في بغداد، لحماية وتأمين منابع بترول بلاد الرافدين التي تدفقت سيولا وانهارا بأبخس الأثمان للإمبراطورية البريطانية.

من مؤلفات سامي ميخائيل: "متساوون ومتساوون أكثر" (1974)، "حماية" (1977)، "هذه قبائل إسرائيل" (1984)، "فيكتوريا" (1993)، "الجناح الثالث" (2000)، رواية "عايدة" (2008) "حمام الطرف الأغر" (2005) - اثارت هذه الرواية الكثير من الاهتمام، بكونها استمرارا لرواية الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني "عائد الى حيفا"، انتقدها بحدة بعض الكتاب العرب دون فهم مضمونها الانساني، كتب نبيل عودة ( كاتب هذا المقال) مداخلة نقدية عن الرواية نشرت في الصحافة المحلية وعلى شبكة الانترنت (نسخة عنها في نهاية النص) كذلك صدر كتاب حوارات هام مع سامي ميخائيل وهذه مراجعة للكتاب :


كتاب "حدود الروح" – روبيك روزنتال يحاور سامي ميخائيل

العراقي "سمير مارد" صار اسرائيليا اسمه "سامي ميخائيل"


صدر عن " كاف ادوم " من منشورات " هكيبوتس همؤحاد " كتاب حوارات مثير للاهتمام ، مع الكاتب العبري الكبير سامي ميخائيل ، اجراها معه الصحفي العبري المعروف ، روبيك روزنتال. عدا مقدمة سامي ميخائيل للكتاب ومقدمة روزنتال، هو عبارة عن ثمانية احاديث يتناول فيها سامي ميخائيل قضايا متنوعة ومتشعبة من مسيرة حياته وتجربته الادبية والسياسية والانسانية ، منذ كان طفلا في العراق وخروجه من العراق وقدومه الى اسرائيل .
أبناء جيلي يرتبط بذهنهم اسم سامي ميخائيل باسم " سمير مارد " وهو الاسم " العراقي " لسامي ميخائيل، الذي نشر تحته اول اعماله الادبية ( باللغة العربية ) في الصحف المحلية ، خاصة صحف الحزب الشيوعي الاسرائيلي صحيفة "الاتحاد" ومجلة "الجديد" ، ثم غير اسمه ولغته ، مع ذلك بقي سامي ميخائيل ذا حس انساني وموقف تقدمي متنور وصادق ، رغم الفجوة التي اتسعت بينة وبين جذوره العراقية والعربية ...
في مقدمته للكتاب يطرح سامي ميخائيل معادلة سقطت على اساسها سذاجة الايمان، بدءا من سقوط الوهم حول حقيقة الحضارة الاوروبية والالمانية خاصة، بفشلها في وقف المد الاجرامي للنازية، وصولا الى انهيار الشيوعية الذي يعني، كما يقول: " انهيارا للاتجاه الانساني للثقافة الاوروبية، وصولا للاشكالية التي لم تبق امام الانسانية الا وضع يتحول فيه الدولار والمجتمع النووي الامريكي، الى القوة الحافظة للنظام والسلام وحقوق المواطن".
يشير سامي ميخائيل في مقدمته بان انسانا طبيعيا لا يترك بيته واملاكه ولغته الام واجواء طفولته من اجل فكرة عليا، يقول ان خيانة القرن العشرين " لهم " هي التي وجهت خطواتهم الى اسرائيل، وانه حتى اليوم "لا يأتي الينا" (لاسرائيل) اليهود المتخمون والآمنون من الولايات المتحدة وانكلترا ، انما يجيء يهود من البلاد الفقيرة .
يطرح سامي ميخائيل التناقض الذي الم به في هذا الانتقال من تاريخه العراقي الى تاريخ "ارض اسرائيل"، يطرح قلقه الشخصي من الواقع المتقلب في الشرق الاوسط ويعترف بانه يعيش في عالمين مثل كل الذين تركوا واقعا لواقع آخر، يقول ان بينه وبين اسرائيل لم ينشأ حب من اول نظرة، انما تطورت علاقة خاصة من الحب والاخلاص والتقدير وانه بقي بعيدا عن النظرة الرومانتيكية المزيفة في نظرته للواقع الاسرائيلي.

الحديث الاول: عن الهوية والثقافة

يقول سامي ميخائيل: " أنا غير صهيوني، لست معاديا للصهيونية، انا وطني اسرائيلي". يفسر ذلك بقوله منذ فجر شبابي عرفت نفسي كيهودي، المقياس الاعلى بالنسبة لي هي اليهودية ، من هذا التعريف اتساءل ماذا يضر باليهودية وماذا يفيدها ؟ ماذا يضر بي كيهودي وماذا يندمج جيدا مع هويتي كيهودي؟". يقول : " كان في العراق يهود نشطاء في الرابطة المعادية للصهيونية " ويضف : " انا غير صهيوني من الناحية الايديولوجية، لكني غير معاد للصهيونية عاطفيا ، انا معاد للصهيونية حتى الحد الذي يؤدي هذا الفهم للأضرار باليهودية ودولة اسرائيل . أنا لا اعرف نفسي كصهيوني واختلف مع طروحات كثيرة للصهيونية قديما وحديثا، الصهيونيون الحقيقيون اليوم هم أولئك المستوطنون، اليهود الآخرون يشملون أنفسهم بالصهيونية ويتجملون بأمور لم تعد قائمة ".
يوجه نداءه لأولئك الصهيونيين الذين يعرضون أنفسهم ومستقبل أطفالهم للمخاطر بمخاطبتهم: "عودوا الى البيت!". يقول لهم ان نداءه لا يجيء شفقة على العرب، العرب ليسوا بحاجة لشفقته وحبه.
يأخذ الصحفي المحاور سامي ميخائيل لمواضيع متنوعة للغاية، يدفعه للإفصاح عن مفاهيمه حول قضايا اجتماعية وفكرية وفنية وأدبية متنوعة ، تتعلق بتجربته الاسرائيلية ، بما ترسب في وجدانه من هويته الشرقية ... من عراقيته والتناقضات المثيرة التي اوجدها المجتمع الاسرائيلي الخاص والمميز وليس شرطا بالمفهوم الايجابي !!
وينتهي الحديث، كما في سائر الأحاديث بمقطع ادبي من كتابات سامي ميخائيل.
الحديث الثاني: حول الهجرة والقدوم الى اسرائيل
" في الهجرة انت تنتحر بأمل ان تعود الى الحياة ". هكذا يلخص رؤيته الفلسفية لمفهوم النزوح اليهودي الى اسرائيل.
يتحدث عن تجربته الشخصية بالهجرة من العراق، والحياة غير المتوقعة والمتناقضة في اسرائيل.
الحديث الثالث : المجتمع الاسرائيلي
يطرح تصوراته حول بعض القضايا التي تشغل المجتمع الاسرائيلي، يحاول الاجابة على سؤال حول تطور القومية العربية ويرى بها تقليدا لنشؤ القوميات الاوروبية وانها غير اصيلة، لان مضامينها تختلف من جيل الى آخر.
لن ادخل في نقاش حول الصواب والخطأ في رؤية سامي ميخائيل، انما احاول ان انقل للقارىء جزءا من رؤيته .. كذلك نجده يتسرع فيما يطرحه من ان المركب الديني للعرب، تحول الى مركب اساسي في الانتماء (بمفهوم ما يساوي بين اشكالية الانتماء اليهودي والانتماء القومي العربي، ربما ليخلق انطباعا اننا لا تختلف ... وان واقع الانتماء القومي اليهودي هو نفس واقع الانتماء القومي العربي ) .
سامي ينتقد بشدة تحول دولة اسرائيل الى دولة حرب، ينتقد بشكل خاص حرب سيناء (1956) ويقول: "لا توجد حرب لا يمكن منعها" ويرى باتفاقات السلام، من مدريد وحتى واي بلانتيشين انه سلام مفروض على الجانبين.

الحديث الرابع: عن الشيوعية

يسرد ذكرياته عن الشيوعية منذ كان شيوعيا شابا في العراق، يلخص تجربته الشيوعية بانها نتيجة ظروف صعبة ليهودي في العراق .
هذا الفصل مليء بانطباعات وذكريات عراقية. يتحدث عن تجربة الخروج من العراق، ظروف القدوم الى اسرائيل وبحثه في اسرائيل عن الحزب الشيوعي ، يروي حادثة حاول فيها السوفييت تجنيده للتجسس ، يتحدث عن عمله في جريدة " الاتحاد " – صحيفة الحزب الشيوعي الاسرائيلي وعلاقاته مع الشيوعيين .. ويقول انه يقدر الشيوعيين العرب لانهم يحبون شعبهم، لذلك بقوا في الحزب... وهو لا يفهم بقاء اليهود في الحزب .. لا يوضح ان كان موقفه رفضا للفكر الشيوعي كفكر سياسي واجتماعي، ام رفضا لإطار محلي، ام تبريرا ذاتيا لموقفه الاسرائيلي؟

الاحاديث الخامس: الدين والعلمانية والسادس: عن الطبيعة، والسابع: عن الادب والثامن : عن دولة اسرائيل

يطرح سامي هنا موقفه من الدين ومن فصل الدين عن الدولة، يطرح قضايا مجتمعه اليهودي واشكالية العلاقة بين الدين والعلمانية ، هذا الحديث يستحق مراجعة خاصة .
يتحدث عن موقفه من الطبيعة والقضايا العامة السياسية والفكرية والادبية .
يتحدث عن تجربته الكتابية وعن قراءاته ، يقول ان روايته الاولى كانت تحمل اسم " المعابر " ( اشتهرت المعابر في السنوات الاولى لاقامة دولة اسرائيل حيث اسكن القادمين اليهود في مجمعات سكنية اشبه بالمخيمات وتفتقد للكثير من الخدمات وهي احياء للفقراء اليهود الشرقيين بالاساس ، اليهود من الدول المتطورة ، الاشكناز – اي الغربيين .. لم يعانوا من السكن في المعابر، اصبحت المعابر من رموز التمييز بين اليهود الغربيين والشرقيين ) كتب سامي رواية المعابر باللغة العربية عام 1950 وفازت بالجائزة الاولى في مسابقة لكتابة الرواية نظمها الحزب الشيوعي ، الجائزة كانت اصدار الرواية ، لكنه في نفس الفترة ترك الحزب الشيوعي ولم يشأ بنشر الرواية ، "تخلص" منها وهو لا يملك اليوم نصا عنها ، يتحدث عن اعماله القصصية باللغة العربية التي كان ينشرها باسم " سمير مارد " . في صحافة الحزب الشيوعي بالاساس .
ينهي احاديثه عن تجربته الاسرائيلية من زاوية اخرى ، فيتحدث عن قادة الدولة ورأيه فيهم وارتباط ذلك بشتى الاحداث ، بدءا من بن غوريون واشكول وغولدا مئير وبيرس ورابين وبيغن ونتنياهو وصولا لبراك .
القارىء يلمس بوضوح ، رغم كل محاولات فلسفة الواقع المتناقض ، ان سامي والجيل الذي يمثله سامي ما زال عربيا عراقيا في اعماق نفسه ، يعيش حالة اغتراب في مجتمعه .. ولكن الاساسي ان هذا الجيل يتلاشى ويختفي ويحل مكانه جيل اسرائيلي لا يعرف الماضي ، قيمة كتاب الاحاديث مع سامي ميخائيل ، انه شهادة على امكانية بناء واقع آخر في العلاقات العربية اليهودية ، لا دور فيها للبندقية وسفك الدماء .

ــــــــــــــــــــــــ

الكاتب العبري سامي ميخائيل في روايته "حمام الطرف الأغر" يبدأ من حيث انتهى غسان كنفاني
رواية تحمل رؤية نبوئية حول مستقبل آخر للفلسطيني واليهودي
الكتاب : حمام الطرف الاغر ( باللغة العبرية )
الكاتب : سامي ميخائيل
اصدار " عام عوفيد " ( 262) صفحة من الحجم الصغير

سامي ميخائيل، ابن الثقافة العربية، ابن بغداد الذي صار اسرائيليا وكاتبا عبريا ، ربما هو التعبير اليهودي الثقافي عن العائلة الفلسطينية التي هربت من حيفا، دون ان تستطيع اخذ طفلها بدير معها .فعادت بعد الاحتلال الجديد عام 1967 للبحث عن ابنها في حيفا (رواية غسان كنفاني : " عائد الى حيفا") لتصطدم بحقيقة مؤلمة، ان طفلها بدير، العربي الفلسطيني، اصبح جنديا اسرائيليا اسمه "زئيف آفشتاين".. بعد ان وجدته امرأة يهودية عبرت الكارثة فتبنته.
زئيف – بدير، هو وجه آخر للنكبة الفلسطينية، لكن سامي ميخائيل يقول لغسان كنفاني في روايته " حمام الطرف الأغر " ان زئيف – بدير هو التعبير للكارثة اليهودية ايضا كما يتضح في نهاية الرواية.
الأب الفلسطيني، ابن جيل النكبة ، لم يستطيع تحمل هذا الضياع وأن يقبل زئيف ، الجندي اليهودي – ابنه الفلسطيني ، رغم انه نتيجة للنكبة ، شعر بالعداء له ... تماما كشعوره بالعداء لمغتصبي وطنه وعاد ليواصل نضاله العنيد، ثم ليسقط فيما بعد برصاص رجال الموساد . لكن الأم ... قلب الأم يرفض الهزيمة، زئيف هو ابنها رغم حواجز اللغة والزمن ، لا تستطيع ان تفرق في حبها بين ابنها وابنتها الفلسطينيين وبين ابنها الذي صار " اسرائيليا" .
سامي ميخائيل بوعي او بدافع غير واع ، يطرح مأساتة الذاتية ايضا ، كأني به يروي احداثا عايشها على المستوى الفكري على الأقل وربما على المستوى الشخصي أيضا، لكن باختلاف الأحداث والمضامين .سامي ايضا ابن ضائع للثقافة العربية ، تبنته ( خطفته ) ثقافة اخرى .
الأم تنجح في بناء علاقة حميمة مع ابنها زئيف ، متجاوزة حواجز اللغة ، الابن زئيف يعمل كل ما بوسعه ليعيش هذا الواقع المعقد بين حب امه البيولوجية و"هجرته" ، التي لم يخترها ، الى اليهودية والاسرائيلية .
امه تدخل حياته وتنشأ بينهما علاقات رائعة من المودة ، بينما الواقع الاسرائيلي – الفلسطيني ، واقع الاحتلال الوحشي والمقاومة العنيفة ضد الاحتلال ، يشكلان الخلفية المأساوية لهذه العلاقات ، التي تتسع دائرتها لتشمل لقاءه مع اخيه واخته ، ولكن في واقع مأساوي لا يترك فسحة للحب والفرح والحياة .
سامي ميخائيل في روايته المركبة والمليئة بالاحداث يبرز بقدرته الكبيرة على السرد وطرح الأسئلة الصعبة عن العلاقات بين الشعبين ، في ظل استمرار سفك الدماء المتبادل ، يقوم بذلك باسلوب فني حساس ومؤثر ومدهش بنفس الوقت .
لماذا حمام الطرف الأغر ؟
" الطرف الأغر" هي ساحة في لندن اشتهرت بالحمام الداجن الذي لا يخاف الانسان ، بل يلامسه باجنحته ويحط على يديه وأكتافه ، كأني بسامي ميخائيل يقول: اذا كان حمام الطرف الأغر قادرا على اجتياز حاجز الخوف من عسف الانسان ، يرفرف بكل حرية في الفضاء وعلى الأرض ، يحط على ايدي واكتاف الناس ، يتجول بين ارجلهم ، فالانسان قادر ايضا على اجتياز الحواجز التي تبعده عن أخيه الانسان ، لذا كانت ساحة الطرف الأغر المليئة بالحمام هي الساحة التي اعادت الحرارة للعلاقة العائلية وعلاقة المصير الواحد بين شقيها الفلسطيني والاسرائيلي .
لكن الجيل الثاني ايضا ، جيل زئيف وأخيه ، رغم اختلاف علاقاته نوعا عن الجيل الذي سبقه ، جيل النكبة / جيل الأب ، كان عليه ان يدفع الثمن وهو ثمن مؤلم ولا يقل مأساوية عن الكارثة اليهودية والنكبة الفلسطينية ... وكأني به يقول : ان الكارثة والنكبة متواصلتان كوجهين لعملة واحدة .
زئيف اليهودي – الابن الفلسطيني ، يجد نفسه في معمعة الانتفاضة ، بعد احدى زياراته لأمه .. يسرع اخوه الفلسطيني لحمايته ... ويسقط الأخوان، اليهودي والفلسطيني ضحايا للواقع المأساوي لهذه الأرض التي شبعت دماءا وجثثا .
لكن سامي ميخائيل لا يتوقف في هذه الميلودراما العنيفة هنا ، فها هم احفاد الأم ( ام اليهودي والفلسطيني ) حفيدها اليهودي واحفادها الفلسطينيون يلتقون في ارض غريبة ( قبرص ) لتحضنهم الأم - الجدة سوية ، بحب وحرارة وأمل ، فكلهم أبناؤها ولكلهم نفس الحق بالحياة ، لكنها تكاد تبدو لوحة سوريالية في واقع مجنون مليء بالدم والألم والدماء والدموع .
ينهي سامي ميخائيل روايته بعتاب بين الأم وابنتها . الأم كانت تظن ان ابنتها عاملت اخيها اليهودي بكراهية عمياء ، لكن الحقيقة ان الأخت ، التي التقت بزئيف اخيها ، دون ان تعرفه ودون ان تكشف امها حقيقته ، عانت منذ ذلك اللقاء من صراع نفسي عنيف ، كشفته لأمها في الجملة الأخيرة من الرواية اذ قالت تفند اتهام امها لها بكراهية زئيف :
- "لم تكن آية كراهية يا امي ، أنت وهو ارتكبتم خطأ مخيفا قبل سنوات ، حين التقينا به في الحديقة ، كان عليك ان تكشفي لي مسبقا ان الرجل الذي سألتقيه هو رجل انا ممنوعة عنه ، لم أكرهه حتى للحظة واحدة يا امي ، العكس تماما ، انت لا تعلمين كم تصارعت مع نفسي حتى لا احبه".
رواية سامي ميخائيل تعبق بروح انسانية ، بل هي صرخة تدين الاحتلال الهمجي وتحلق بالروح الانسانية في نبؤة عن مسقبل آخر عبر عنه في اللقاء بين الاحفاد اليهود والعرب الذين احتضنتهم الام – الجدة ومن يعرف قيمة الحب وقيمة الحياة اكثر من قلب الأم ؟
اثارت الرواية جدلا واسعا بين بعض المثقفين العرب في اسرائيل ، اعتقد انه من حق كل انسان ان يرى احداث الرواية من زاويته الخاصة ... البعض شن هجوما عنيفا على الرواية والمؤلف .. ربما يكون سامي ميخائيل قد بالغ في محاولته لرؤية مغايرة للواقع المأساوي .. ولكني على ثقة ان سامي ميخائيل انطلق من رؤية انسانية في جذورها ، لكن عمق المأساة الفلسطينية بات مرعبا ، بات من الصعب رؤية المستقبل الذي يبشرنا به ( او يحلم به ) سامي ميخائيل . مع ذلك تبقى الرواية وبغض النظر عن تفصيلاتها العامة ، صرخة انسانية لوقف التدمير الذاتي لشعبه وللشعب الفلسطيني، الذي يتواصل منذ النكبة وتعمق بالاحتلال لكل فلسطين !!
nabiloudeh@gmail.com

27
الدخان بلا نار سياسة إسرائيلية بامتياز
وقصة تعبيرية ساخرة عن تاجر حمير عربي

نبيل عودة

كنا مشاهدين ومشاركين في حلقات المسرحيات الانتخابية الإسرائيلية واسقاطاتها على المجتمع داخل إسرائيل، حتى اليوم ثلاث حلقات خلال سنة، وربما لا تتأخر الحلقة الرابعة كثيرا...كذلك شاهدنا واستمعنا لتناقض التصريحات، التهريج السياسي، شل الحياة البرلمانية، الميل لنظام نقيض للديموقراطية (أو ما تبقى منها) التي جعلوها بثرثرتهم واحة شرق أوسطية، ديموقراطيتهم الدخانية لم تمنعهم من ترديد التحريض باعتبار ممثلي الجماهير العربية إرهابيين وعمليا التعامل معهم كنبتة غريبة في وطنهم فلسطين 48، حتى عضويتهم البرلمانية لم تشفع لهم. ربما يعتبر اليمين العنصري بكل مركباته، وطبعا بعض قوى المركز، ان بقاؤنا في وطننا كان خطأ تاريخيا وسياسيا من مؤسسي الدولة، الذين ترددوا ولم يحسموا موضوع الحاق الفلسطينيين الباقين في وطنهم، باللاجئين الهاربين من الموت والتصفيات العرقية في حرب استقلال إسرائيل.  هذا يجعلني على قناعة كبيرة ان الدخان بلا نار هو تطوير تكنولوجي مميز في الحقل السياسي الإسرائيلي.

من ناحية علمية حصل تقدما هائلا في العلوم والتكنولوجيا منذ قيل المثل المذكور، دخان بلا نار. ليس سرا مثلا ان هناك قنابل دخانية بلا نار، فهل يعتقد البعض ان الدخان بلا نار هو اعجوبة لم يقم بها حتى الساحر البارع هوديني؟ او انها قنبلة لتفريق التجمهرات غير القانونية بإرعاب المشاركين بصوتها ودخانها؟ لكننا امام حالة نادرة في إسرائيل، جعلت السياسة أيضا دخانا بلا نار. خاصة بالتحريض الدموي على النواب العرب، واعتبار حسابهم في أي ائتلاف حكومي قادم خيانة للصهيونية ولإسرائيل اليهودية لمن يجرؤ على ضمان تصويتهم لصالحه.
لكن هذا الدخان قد يصبح رصاصات طائشة من عنصريين ...

لا بد من إضافة حتى تكتمل صورة "لا دُخان بلا نار"، اذ تقول العرب "لا إشاعة بدون مصدر أو أساس تنطلق منه"، مع الأسف اغلب الشائعات لدى العرب لا مصدر لها، وهي أشبه بانتشار الدخان حتى لو لم يكن مصدره النار، يبدأ من لا شيء ويختفي كما ظهر لأنه أصلا لم يكن الا شيئا طارئا. والسؤال هل السياسة العنصرية والتحريضية لنتنياهو ضد الجماهير العربية ورفضه اعتبارهم جزءا من الملعب السياسي في إسرائيل، يصح ان نطلق عليه فقط صفة دخان بلا نار"? الم يتحول الدخان بلا نار الى رصاصات قتلت رئيس حكومة سابق هو يتسحاق رابين، لأنه اعتمد على دعم النواب العرب في الكنيست من اجل مشروعه السلمي مع الشعب الفلسطيني؟
حقا السياسة توجع الرأس خاصة في إسرائيل التي تقيم الدنيا وتقعدها ضد أي ظاهرة معادية لليهود في العالم؟ اما ان تتدفق عنصرية السياسيين وعلى راسهم رئيس الحكومة نتنياهو، بالتحريض ضد النواب العرب، والتحريض على الحزب المنافس فيما لو فكر بالاعتماد على دعم النواب العرب من خارج الحكومة، فهذا حلال زلالّ!!
هل الصهيونية اذن عنصرية ام غير عنصرية؟ الم يبرز في التاريخ اليهودي الحديث رفضا يهوديا للصهيونية؟ حتى وزير يهودي في الحكومة البريطانية في زمن وعد بلفور هاجم بلفور من رؤيته ان وعده يدفع اليهود لكارثة إنسانية!!
هذا ما سجله البرفسور يعقوب رافكين- استاذ التاريخ بجامعة مونتريال (كندا)، المتخصص بتاريخ العلوم والتاريخ اليهودي المعاصر،
في كتابه المثير “المعارضة اليهودية للصهيونية تاريخ الصراع المستمر" حيث يستعرض تاريخ الحركة الصهيونية منذ اقامتها وحتى يومنا الراهن من وجهة نظر معارضيها أليهود، هذا هو المميز الكبير لهذا البحث الجريء الذي يؤكد ان المعارضة للصهيونية شملت يهودا شرقيين ويهودا غربيين، لم تكن مجرد معارضة صامتة، لماذا لا يحق للعرب اذن رفض الصهيونية واحزابها العنصرية وممارساتهم ضد الجماهير العربية؟ الا حق لنا رفض الاحتلال والاستيطان والجرائم التي ترتكب ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة؟ 
واقع العرب في إسرائيل ذكرني بحكاية تطابق الواقع فصغتها بما يطابق ما يجري بأسلوب ساخر، ولولا السخرية لكانت حالتنا مستحيلة!!

قصة تاجر الحمير
كان جلال صاحب حمار يتنقل به بين حزب قومي عربي وحزب صهيوني يهودي، رغم ان الحواجز كثيرا ما تغلق الا انه متقد الذكاء ودائما يجد طريقة للدخول والخروج من والى وهو راكب على حمار.

عُين قائد جديد للحاجز ولاحظ ان جنوده يعطون لراكب الحمار حق المرور وقتما شاء وكيفما شاء، دخولا وخروجا، وتساءل: ترى ماذا ينقل على حماره؟

كان يبدو جلال فقيرا وبائسا مثل حماره، لكن المثل العربي يقول "يا ما تحت السواهي دواهي" والقائد تعلم ان لا يثق بالمنظر البائس .. لأي عربي.

راقب مرات عديدة عبور الحمار وراكبه البائس دخولا وخروجا، وكيف يرحب به الجنود ويناولهم من خرج الحمار علب لم يعرف في البداية ما هي.
 قرر ان يفحص ما يجري.
لم يكن صعبا ان يكتشف ان راكب الحمار يقدم هدايا من علب دخان فاخر لجنود الحاجز وهذا أشبه بتصريح مرور. غضب القائد وطلب ان يحضر جلال وحماره الى مكتبه.

- كيف تنجح بالمرور رغم ان الحواجز القومية بيننا مغلقة؟
- يا سيدي انا رجل فقير يشفق على الجنود فأمر.
- لكني وجدتك تبرطلهم بدخان فاخر؟
- يا سيدي هذا لا شيء بل حسنة لمن يرحموني ويجعلوني أعبر.
- هذا مخالف للقانون وستعاقب عليه.
اخرج جلال ربطة دخان أمريكي فاخر وقدمها هدية للقائد.
-ما هذا صرخ القائد؟
هدية صغيرة من رجل غلبان؟

تأمل القائد ربطة الدخان، وحسب ثمنها، ووجد انها أكثر من معاش يومين في الشهر. سأل:
-كيف تنجح ان تقدم هدايا دخان وانت فقير وتدب على عصا ولا تملك سيارة فاخرة بل مجرد حمار متهالك مثلك؟ كيف تربح الأموال لشراء هذا الدخان الفاخر؟

-اصارحك القول سيدي القائد على شرط ان لا تمنعني من المرور وسأقدم كل السجائر التي احضرها لحضرتك فقط؟
-حسنا .. اتفقنا.
-يا سيدي انا مجرد تاجر حمير، اشتري من الحزب القومي العربي حمارا عجوزا قربت نهاية أجله بسعر بخس جدا، وانتقل به عبر الحاجز الى رجال الحزب الصهيوني الذين يشترونه بمبلغ كبير ليلعب عليه الأولاد او يربطونه بحدائقهم ليشاهده من لم يروا حمارا في وطنهم السابق. وقبل عودتي اشتري حمارا صغير العمر وابيعه للحزب القومي بمبلغ كبير، بذلك احقق أرباحا كبيرة وشهرة كبيرة أني تاجر حمير بارع. وهكذا سيدي أكرر شراء حمير متهالكة وابيعها للجانب الصهيوني واشتري حمير شابة وابيعها للجانب العربي .. ولعلمك سيدي بسبب كثرة المخالفات أصبحت تجارة الحمير مربحة جدا .. وخاصة ان الحمير لم يشملها قانون القوميات، وهي معفية من الترخيص السنوي ومن التأمين والصيانة الميكانيكية، ولا تشملها مخالفات السير .. فلا أحد يميز بين حمار عربي وحمار يهودي .. لذا يجري التعامل مع الحمير بمساواة كاملة.

ضحك القائد من ذكاء جلال، وقال:
-اذن لي ربطة دخان مع كل دخول وخروج؟
-بل ربطتين سيدي القائد!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 



28
المنبر الحر / صفات الشعوب
« في: 11:16 22/03/2020  »
صفات الشعوب
من الأدب الساخر: نبيل عودة

خلق الله آدم في البداية ثم ورطه مع حواء بأن خلقها من ضلعه، لتبقى جزءا من كيانه وحنينه لضلعه الناقص، تيمنا بأن يستعيده في يوم ما، لكن هذا لم يحصل حتى اليوم.
لذا غرق آدم بإكثار النسل ليملأ الأرض رجالا ونساء احتجاجا على ضلعه الناقص. لكن القدير قرر ان يجعل نسل آدم وحواء شعوبا وان يخص لكل شعب صفة واحدة او صفتان مميزتان، بهدف ان لا يكون تماثلا كاملا بين الخلق، او حتى بين فردين من نفس المجموعة البشرية. القصد ان يكون تنوعا في التفكير والرغبات والتصرفات، فينشأ التنافس وينشأ السباق لتحقيق إنجازات ترفع من شأن السابقين، ويكون التنافس أخويا، ومن ليس لديه يحصل ممن لديه، ومن ينقصه أمر يبادله مع الآخرين بما متوفر عنده. لكن ما حدث بعد ان تكاثرت الشعوب خرج عن القاعدة الربانية لسبب لم يفسره علماء الدين حتى اليوم.
لاحظ علماء الدين تنوعات عديدة بين البشر، فهل حقا كلهم من جد وجدة فقط هما آدم وحواء؟ كما تساءل أحدهم، فصمت بعد ان تسلطت عليه نظرات الغضب من تساؤل يليق بالكفار فقط.
قال كبير العلماء ان لله في خلقه شؤون، وان التكاثر من آدم وحواء لم يكن قرارهم الشخصي، انما قرار السماء وصاحب العرش القدير. وليس مجرد دوافع عاطفية خلقها الله في جذورها حنين آدم لضلعه الناقص، فعشق حاملته وحماها حتى لا يفقد ضلعه. وأضاف كبير العلماء ان الله قرر ان يكون نسل آدم مختلفا عن بعضه لذا قسمهم امما وشعوبا وديانات وطوائف، ومنهم الأبيض والأسود والأصفر والأحمر والأشقر، وحكمته هنا عظيمة، لكن الأهم ان عقولهم وميولهم واهتماماتهم تختلف وتتوزع حول الكثير من المواضيع التي بدونها تصبح الحياة مملة. ان التنويع كما واصل كبير العلماء، اعطى للحياة طعمها وتحدياتها من اجل التقدم وجعل الأرض مكانا يستحق ان يعيش فيه الانسان ابن آدم. لكن أبناء آدم وحواء طماعين، فاختلت الموازين لذا اوجد الله الرسل ورجال الدين ليصوبوا البشر، لكن هيهات اختلط الحابل بالنابل، فعاقب البشرية بالطوفان لعلهم يعقلون، وما ان رست سفينة نوح وانطلق منها البشر والحيوانات الى الأرض المروية بالمياه والمثمرة بكل ما يطيب للبشر، حتى عاد البشر الى عقوقهم متجاهلين أحاديث العلماء عن عذاب القبر ونار جهنم لمن لا يخاف الله.
قال كبير العلماء أيضا ان معرفة الشعوب وعقائدها وأخلاقها تشير الى الحكمة الربانية التي خصها الله لكل شعب. لذا حين قرر توزيع الصفات على الشعوب نجد انه ميز كل شعب بصفات خاصة به. مثلا ميز الله الإنكليز بأنهم شعب يحب النظام والحفاظ على القانون، وهما صفتان جعلت دولتهم من اهم دول العالم المسيطرة على البحار والمستعمرات لدرجة ان الشمس لم تكن تغيب عن الأراضي التي تحت سيطرتها. وميز الروس كشعب عنيد محب للثقافة، قهر أعتى الغزاة والطغاة بعناده وصموده وتمسكه بوطنه وثقافته. وميز اليابانيين كشعب يحب العمل والصمود في الشدة، فصمدوا بعد أبشع هزيمة، واعادوا تعمير بلادهم وها هم اليوم يعتبرون من أكثر دول العالم تقدما. وميز الايطاليين كأصحاب عقل ابداعي وميالين للفنون، فنجد انهم شعب طور الغناء والرقص والرسم وجعل إيطاليا قبلة العالم في الفنون. وميز العرب كشعب يحبون الغزوات ويفخرون بسيوفهم وخيولهم فأطلقوا عليها عشرات الأسماء، فأصبح لكل قبيلة أسماء لسيوفها وخيولها، بل خاضوا حربا شعواء اشتهرت باسم فرسين هما داحس والغبراء، فتفرقوا وتخاصموا وتقاتلوا، وإذا ما زارهم أي زعيم من شعب آخر، ينظمون له رقصة السيوف. وميز الفرنسيين كشعب يحب النساء واعطاهم من الجمال ما يغري كل رجال الأرض الوصول الى بلادهم والتمتع بما منحهم إياه رب العالمين. وميز الأمريكيين كشعب يكره غير بيض البشرة، فاشغلوا مسدساتهم قتلا بحمر البشرة وسود البشرة، وصار القتل تقليدا اجتماعيا من اجل القتل وهي صفة تلازمهم حتى هذه الأيام. وميز الصينيين كشعب يحب الأطفال، فانجبوا الكثير من الأطفال حتى فاق عدد الصينيين كل شعوب الأرض، وحتى يجدوا ما يؤكل لهذا العدد الكبير جدا من السكان، جعلهم يحبون لحم الأفاعي. وهكذا دواليك ميز كل شعب بخصائص مختلفة تناسبهم.
واصل كبير العلماء قوله: لكني لاحظت انه يوم ميز الله الشعب اليهودي خصص لهم ثلاث مميزات، أي أكثر بميزة واحدة عن سائر الشعوب التي منحت ميزة واحدة او اثنتين. اعطاهم ميزات الحكمة والاستقامة والسياسة.
عندما تساءل كبير الملائكة راكعا امام رب العالمين عن سبب تخصيص ثلاث ميزات لليهود، واحدة أكثر من سائر الشعوب، بقوله: أيها المعظم أعطيت لكل شعب من شعوبك ميزة او اثنتان، لماذا خصصت اليهود بثلاث مميزات؟ ما الحكمة في ذلك لنفهم فنحن خدامك ومنفذي ارادتك؟ اليس هذا دافعا ليتفاخروا على بقية الشعوب بأنهم المميزون عند الله وليدعوا انهم شعبه المختار، وما يتبع ذلك من قلاقل وصراعات، وبالتالي سنضطر للتدخل من اجل علاجها واقناع سائر الشعوب ان الله يحب جميع أبنائه بنفس القدر؟
ابتسم الرب في عليائه وأجاب: انا متنبه للموضوع الذي يقلقك، لذا يا سيد الملائكة قررت ان الشعب اليهودي لا يستطيع استعمال المميزات الثلاث ينفس الوقت، مثلا لا يستطيع اليهودي ان يكون حكيما وسياسيا بنفس الوقت، او مستقيما وسياسيا بنفس الوقت، يستطيع ان فقط يكون بلا استقامة وسياسيا، أو بلا حكمة وسياسيا، او حكيما ومستقيما فقط .. وأين تجد ذلك حتى بين كل شعوب الأرض؟
nabiloudeh@gmail.com

29
يوميات نصراوي: محمود درويش وسالم جبران يتحديان الحكم العسكري
نبيل عودة

بعد نكبة 1948 فرضت حكومة اسرائيل الحكم العسكري على المواطنين العرب، او الأصح القول على البلدات العربية داخل حدودها، والغي الحكم العسكري عام 1966 بعد معركة سياسية برلمانية وشعبية شرسة.
الحكم العسكري اعتمد على قوانين الدفاع التي فرضها الانتداب الاستعماري البريطاني عام 1945 (قوانين حالة الطوارئ) بسبب تنامي الأعمال الحربية للمنظمات اليهودية ضد الانتداب. بعد إقامة إسرائيل تقرر إبقاء هذه القوانين الانتدابية البريطانية في الجليل والمثلث والنقب. عمليا مناطق تواجد المواطنين العرب. شكليا فرض الحكم العسكري على مناطق جغرافية، لكن بالتطبيق فرض فقط على المواطنين العرب. مثلا في البلدات المختلطة مثل يافا والرملة واللد الغي الحكم العسكري عام 1949، وفي حيفا المدينة التي صار أكثرية سكانها من اليهود لم يفرض الحكم العسكري. في عكا حيث أصبح العرب أقلية، الغي الحكم العسكري عام 1951. اما في مدينة الناصرة وشفا عمرو وجميع البلدات العربية في الجليل والمثلث والنقب فقد عانى السكان من الحكم العسكري وضرورة الحصول على تصاريح للخروج من بلداتهم والعمل في البلدات اليهودية او لزيارة أقارب في البلدات الأخرى. وطبق الحكم العسكري سياسة تجويع ضد المناضلين برفض منحهم تصاريح للخروج الى العمل خارج بلداتهم، الى جانب ظاهرة طرد عشرات المعلمين العرب الوطنيين الذين لم يلتزموا بالمواد الدراسية التي أعدها الحكم العسكري وثقفوا طلابهم على روح الكرامة.
الغاء الحكم العسكري كان ضد رغبة حكومة حزب العمل (حزب المعراخ اسمه في ذلك الوقت وكان رئيس الحكومة هو ليفي أشكول) لدرجة ان نواب عرب تابعين لحزب المعراخ صوتوا ضد الغاء الحكم العسكري واحد النواب العرب التابعين للمعراخ خطب في الكنيست وقال "ان الحكم العسكري لمصلحة العرب"!!
جدير بالذكر ان أحزاب اليسار واليمين وعلى رأسها حزب الحيروت بقيادة مناحيم بيغن صوتوا من اجل الغاء الحكم العسكري، لأنهم رأوا به جهاز قمع استعمله الانتداب البريطاني ضد اليهود قبل إقامة الدولة. عارضوا الحكم العسكري ليس بسبب فرضه على العرب إنما لأنه من بقايا الانتداب الاستعماري الذي لا حق أيضا العصابات اليهودية.
على أثر ذلك اتخذت حكومة إسرائيل قرارا بالتفرقة بين نوعين من مواطنيها العرب: الصنف الأول "عرب ايجابيين" أي ما نسميهم بلغتنا الشعبية "مرتزقة السلطة"، الذين باعوا كرامتهم بقروش صدئة. والصنف الثاني: "عرب سلبيين" وهي صفة كل المناضلين ضد مشاريع التهويد ومصادرة الأرض وتضييق الخناق على تطور بلداتنا ومؤسساتنا التعليمية. بالطبع فرض على العرب السلبيين أوامر تحديد التنقل التي تمنع "المغضوب عليهم" من مغادرة بلداتهم بدون تصاريح عسكرية، بل وتفرض على من تراه خطرا على الأمن، أوامر تمنعه من مغادرة منزله بعد غياب الشمس، او تنفيه لبلدة بعيدة... أي "تعذيب قانوني"!!
اذكر ان شاعرنا محمود درويش (وزملائه ومنهم سالم جبران) كان من الذين تلقوا أوامر تحديد التنقل والاعتقال المنزلي بعد غياب الشمس (إثبات وجود) ، وقبلها كان قد شارك في مهرجان سياسي كبير عقد في مدينة الناصرة ضد قرارات الحكومة، بتصنيفنا عربا سلبيين تفرض علينا أوامر تحديد التنقل الانتدابية الاستعمارية سيئة الصيت، أي في مثل حالتي (تلقيت امر تحديد التنقل وانا في الثامنة عشرة) ممنوع أنا من مغادرة مدينتي الناصرة بدون تصريح من جهاز الشرطة، سابقا كان التصريح من الحاكم العسكري، أي حافظوا على بقاياه مثل أوامر تحديد التنقل والاعتقال الإداري والنفي وغير ذلك من الموبقات، وهو قانون سائد اليوم ضد أبناء شعبنا الفلسطينيين في المناطق المحتلة.
ألقى محمود درويش في مهرجان الناصرة قصيدته التي اشتهرت باسم "سجل أنا عربي" (أسمها "بطاقة هوية") يقول فيها:
سجل/أنا عربي/ورقم بطاقتي خمسون ألف/وأطفالي ثمانية/وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
سجل/أنا عربي/وأعمل مع رفاق الكدح في محجر/وأطفالي ثمانية/أسل لهم رغيف الخبز/والأثواب والدفتر
من الصخر/ولا أتوسل الصدقات من بابك/ولا أصغر/أمام بلاط أعتابك
فهل تغضب؟
سجل/أنا عربي/أنا اسم بلا لقب/صبور في بلاد كل ما فيها/يعيش بفورة الغضب/جذوري/قبل ميلاد الزمان رست/وقبل تفتح الحقب/وقبل السرو والزيتون/وقبل ترعرع العشب/أبي من أسرة المحراث/لا من سادة نجب/
وجدي كان فلاحا/بلا حسب ولا نسب/يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب/وبيتي كوخ ناطور/من الأعواد والقصب/فهل ترضيك منزلتي/أنا اسم بلا لقب؟
سجل/أنا عربي/ولون الشعر فحمي/ولون العين بني/وميزاتي/على رأسي عقال فوق كوفية/وكفى صلبة كالصخر
تخمش من يلامسها/وعنواني/أنا من قرية عزلاء منسية/شوارعها بلا أسماء/وكل رجالها في الحقل والمحجر
يحبون الشيوعية (مواقع عربية استبدلت هذه الجملة بجملة "يكرهون العبودية")
فهل تغضب؟
سجل/أنا عربي/سلبت كروم أجدادي/وأرضا كنت أفلحها/أنا وجميع أولادي/ولم تترك لنا ولكل أحفادي
سوى هذي الصخور/فهل ستأخذها/حكومتكم كما قيلا؟ /
إذن/سجل برأس الصفحة الأولى/أنا لا أكره الناس/ولا أسطو على أحد/ولكني إذا ما جعت/آكل لحم مغتصبي
حذار حذار من جوعي ومن غضبي!
قد يقول البعض انها خطابية مهرجانية، وهذا صحيح، ولكننا كنا بأمس الحاجة لمثل هذا الشعر الذي ألهب الجماهير وملأها عزما وتحديا لتعسف السلطة. شعرنا المهرجاني له طابعه النضالي والتثقيفي، كانت القصيدة أهم من الخطاب السياسي في مهرجانات ومظاهرات واجتماعات شعبنا. في نفس المهرجان شارك أيضا الشاعر، زميل درويش شعرا، فكرا ونضالا، سالم جبران، بقصيدة هامة هي "القائمة السوداء" يقول فيها:
سجل اسمي في القائمة السوداء/سجل اسم أبي، أمي، إخواني/سجل حتى حيطاني/في بيتي لن تلقى إلا شرفاء!!
لا تنظر نحوي /بعيون باردة بلهاء/سجل اسمي/فأنا لن أتنازل/عن ارضي الطيبة المعطاء/لن اعمل جاسوسا/
للأجهزة السوداء/في كل مظاهرة تلقاني/صوتي مع آلاف الأصوات/يجلجل في الأجواء/وإذا ما شئت مزيدا/
فأنا أحمر/من بلد حمراء/سجل اسمي في القائمة السوداء/وطني ملكي/أبقاه لي أجدادي/وسابقيه للأبناء/
حر فيه أنا أتجول كيف أشاء/خبئ في غير ملفاتك، بالقائمة السوداء!
حفظنا القصيدتين غيبا، أصبحتا أشبه بالأناشيد القومية، انتهى المهرجان بمظاهرة، اعتقالات ليلية، تحقيقات شرطة وباقة من أوامر الإقامة الجبرية.
كيف شارك الحكم العسكري بشنق نفسه؟

لا اذكر التاريخ ولكنه كما اظن بين اعوام 1955-1956. قررت الشبيبة الشيوعية في الناصرة ان تساهم في النضال ضد الحكم العسكري حسب طريقة جديدة مبتكرة.
أنتجوا لعبة كبيرة عبأت بنشارة الخشب، كتبوا على الصدر والظهر "الحكم العسكري" طوقوا رقبة اللعبة بحبل للشنق، في احدى الليالي تسلق أحد شباب الحركة خفيفي الحركة شجرة سرو شاهقة العلو كانت بجانب عين العذراء على الشارع الرئيسي للناصرة، علق لعبة القش التي سميت "الحكم العسكري" في اعلى نقطة على شجرة السرو الشاهقة وتدلت مشنوقة ... فجرا تجمع النصراويون يضحكون ويصفقون لشنق الحكم العسكري.
ثار غضب الحاكم العسكري الذي جاء مع مدير الشرطة ليشاهد السخرية من جهازه. طلب سيارة خاصة مع رافعة، لينزل اللعبة المشنوقة ويوقف المهزلة من الحكم العسكري.
صعد شرطي في سلة الرافعة، لكنها لم تصل للحبل ليفكه ويحرر لعبة الحكم العسكري من حبل المشنقة.
انزلت السلة للأرض واعطي الشرطي خنجرا ليحرر الحكم العسكري المشنوق. او ليقطع اللعبة اربا، بنفس الوقت غيرت الرافعة مكانها مقتربة اكثر من السروة الشاهقة ورفعت الشرطي مع الخنجر بيده من جديد، مد الشرطي يده بالخنجر الى أقصى ارتفاع تمكن من وصوله، فوصل الى رقبة اللعبة، وبدأ "يذبحها " ونجح بفصل جسد اللعبة عن رأسها، فسقط الجسد والرأس على الأرض مفصولين عن بعضهما وتناثرت نشارة الخشب بالجو كأن السماء تندف ثلجا لونه أصفر، والجماهير المتجمعة لمشاهدة أجمل عرض في مدينة الناصرة، تضحك، تصفق وتهلل احتفالا بالشنق الناجح للحكم العسكري.
nabiloudeh@gmaul.com

30

أساطير التوراة تسقط، وتسقط معها قصص الأنبياء والوعود الربانية التي استيقت منها
نبيل عودة
تزوير تاريخ فلسطين، ليس جديدا بطروحات الحركة الصهيونية، نحن المواطنين العرب الفلسطينيين في مناطق 48 شهودا على تزوير واسع للجغرافيا والتاريخ، وعبرنة أسماء الكثير من البلدات العربية، والينابيع، والمقامات الدينية الإسلامية خاصة، التي أصبحت يهودية لدرجة ان بعض القرى المهدومة والبارزة اثارها حتى اليوم، يدعي مرشدي السياحة للزوار الأجانب انها آثار رومانية قديمة. او بقايا اثار هسكوسية او يهودية .. كما جرى مثلا في قرية كفر برعم المهجرة، حيث يوجد مبنى روماني قديم، ادعوا انه كنيس يهودي، لكن حتى حاخاماتهم (رجال الدين اليهود) رفضوا هذا الادعاء، لأن اتجاه الهيكل ليس باتجاه القدس، فأزال المسؤولين الشعار الروماني الذي كان معلقا على مدخل المبنى ، ويواصلوا الادعاء انه مبنى يهودي. رغم ان كفر برعم لم يسكنها او يسكن بمحاذاتها أي يهودي او بلدة يهودية.
في السنوات الأخيرة ينشط بعض الباحثين اليهود لانكار وجود شعب فلسطيني، وانه مجرد انتاج عربي من قبائل وحركة احتلال إسلامي.. الخ.
طبعا هناك باحثين يحترمون عقولهم وعلومهم، مثلا بروفسور زئيف هرتسوغ، عالم الآثار الإسرائيلي والأستاذ في دائرة الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب، والذي أسندت إليه الحكومة الإسرائيلية العديد من مشاريع التنقيب عن الآثار في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قام في تشرين أول عام 1999 بنشر مقالة في ملحق جريدة هآرتس اعترف فيها بما كان قد وصل إليه علماء آثار عالميون منذ عقود، فكتب يقول:
“إن سكان العالم سيُذهلون، وليس فقط مواطنو إسرائيل والشعب اليهودي، عند سماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات منذ مدة من الزمن. فبعد الجهود الجبارة في مضمار التنقيب عن "إسرائيل القديمة" في فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، فلم يكن هناك أي شيء على الإطلاق يدل علي وجود اليهود في فلسطين، وحكايات الآباء التوراتية هي مجرد أساطير. لم نهبط من مصر، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. إن المكتشفات الأثرية أظهرت بطلان ما تضمنته النصوص التوراتية حول وجود مملكة متحدة يهودية بين داوود وسليمان في فلسطين."
وأضاف هرتسوغ ما مفاده أنه يمكن الجزم بصورة قاطعة بأن القدس لم تكن إطلاقا عاصمة مملكة كبيرة كما تذكر المزاعم التوراتية. والتفسير بسيط: لم تكن مجموعة سكانية كبيرة لكي تنشأ مملكة عظيمة حسب قصة التوراة.
في كتاب لباحثان يهوديان بعنوان بدايات اسرائيل (ראשית ישראל)، نسف الباحثان وهما بروفسور يسرائيل فنكلشتاين من قسم علم الآثار بجامعة تل ابيب، ونيل سيلبرمان عالم آثار أمريكي يهودي، قصص التوراة الأساسية مثل الخروج من سيناء وعجائب موسى ورحلة احتلال يشوع بن نون لأرض الميعاد اذ تبين مثلا أنها آثار هسكوسية وليست يهودية، وكتبوا انه على الأغلب الملك سليمان وداوود هما اسطورتان، مؤكدين انه لا علاقة بين التوراة وارض إسرائيل. واوضحا ان عجائب موسى يعرفها كل بدوي في سيناء، عندما يريد الماء يضرب عصاته بجذر الصخرة، وطيور المن والسلوى هي طيور تهاجر من افريقيا تصل منهكة لشاطئ البحر حيت تستريح، وهو موسم صيد بدو سيناء للطيور قبل ان تواصل رحلتها لأوروبا.
تزوير التاريخ والآثار حسب النهج الإسرائيلي
باحثان إسرائيليان من الجامعة العبرية، وجدا حائطا كبيرا في "تل لخيش" أشعل من جديد النقاش بين الأثريين حول مصداقية قصص التوراة. حسب ما قاله الباحثين ان تاريخ الحائط يعود لأيام رحبعام الذي بعد وفاة والده الملك سليمان، طبعا حسب قصة التوراة (هناك من يعتبر سليمان نبيا) أعلن ابنه رحبعام نفسه ملكاً على بني إسرائيل. العديدون من علماء التاريخ والآثار اليهود يشككون او ينفون وجود الملك سليمان وانه مجرد اسطورة – مثلا كتاب "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها" لمؤلفان عالمان يهودي إسرائيلي وامريكي يشككان بوجود الملكين داوود وسليمان وانهما اساطير توراتية، تجدون الكتاب بالأنترنت (لكن تجاهلوا مقدمة المترجم الغبية)، لمن يعرف العبرية اسم الكتاب(ראשית ישראל)، كما اسلفت نسف الباحثان وهما بروفسور يسرائيل فنكلشتاين من قسم علم الآثار بجامعة تل ابيب، ونيل سيلبرمان عالم آثار أمريكي يهودي، قصص التوراة الأساسية مثل الخروج من سيناء وعجائب موسى ورحلة احتلال يشوع بن نون لأرض الميعاد اذ تبين مثلا أنها آثار هسكوسية وليست يهودية، وكتبوا انه على الأغلب الملك سليمان وداوود هما اسطورتان، مؤكدين انه لا علاقة بين التوراة وارض إسرائيل. 
الرملة تجسيم لوجود الشعب الفلسطيني
في حدود العام 1980 وصلت الى مدينة الرملة في زيارة لعائلة زوجتي والوقت كان عشية ما يسمى "عيد الاستقلال".
لفتت انتباهي اعلانات ضخمة تملأ شوارع الرملة ومداخلها تدعو السكان الى الاحتفال ب "تحرير" مدينة الرملة وعرب الرملة "المحررة" مدينتهم، الذين يسكنون في احياء مهملة تسمى ب "الغيتو العربي" يقرأون عن احتفالات تحرير مدينتهم.
لست هنا في باب الرد على "رواية التحرير" الصهيونية ولا تفاصيل النكبة الفلسطينية وحصة الرملة فيها وهي حصة كبيرة جدا. انما سأذهب الى تاريخ الرملة التي "حررت" والتي يشملها تشويه تاريخ الوطن الفلسطيني. في حالتنا قد تتحول الرملة الى هدية أخرى من ابراهيم الخليل لأبناء اسرائيل. لعل في استعراض التاريخ ادراك ان الغطرسة والاستعلاء هي نتيجة طبيعية للصوصية والتزوير.
كانت الرملة خلال فترة طويلة، خاصة في عهد الدولة الأموية عاصمة للولاية الفلسطينية.
بنى سليمان بن عبد الملك بن مروان مدينة الرملة عام (710ميلادية) يوم كان واليا على فلسطين في عهد أخيه الخليفة الأموي الوليد (705 – 715م) وواصل سليمان بناء المدينة بعد ان تولى الخلافة بعد الوليد، لكنه لم يعمر طويلا. اذ توفي بعد عامين ونصف العام (717م) لكنه حول الرملة الى عاصمة الولاية بدل مدينة اللد المحاذية لها.
جاء بعده عمر بن عبد العزيز الذي تابع ما بدأه سليمان من بناء مدينة الرملة، فبنى الجامع الأبيض، اذكر هذا الجامع منذ تلك الأيام ببنائه المتهالك، لكنه رمم فيما بعد. قام عمر بن عبد العزيز ببناء "العنزية" وهو مجمع لسقي المعزة، ما زال ذلك الموقع من اجمل آثار الرملة التاريخية ومن معالمها السياحية الجميلة. العنزية عبارة عن نبع وبركة ضخمة تحت الأرض، ينزلون اليها بدرج شديد الانحدار، بالإمكان ركب قارب صغير والتجديف به في ارجاء البركة.
كانت تنشل المياه من البركة لسقي القطيع، لكن المكان مهمل نسبيا وتاريخه مشوه.
هناك رواية اخرى تقول ان العنزية بالأصل هي كنيسة اسمها "سانتا هيلانه"، وهو من الأسماء التي يعرف بها الموقع حتى اليوم، بنتها حسب الرواية الملكة هيلانه ام الإمبراطور قسطنطين، التي يعتبر دخولها للمسيحية انطلاقة عظيمة للمسيحية حولت المسيحية الى دين امبراطورية قسطنطين وبداية لانتشار عالمي واسع للمسيحية. رُسمت هيلانه قديسة بسبب اعمالها في بناء عشرات الكنائس في الأماكن التاريخية للمسيحية ونشر المسيحية.
هناك رواية تقول ان العذراء مريم في طريقها الى القدس هربا من هيرودوس، استراحت في ذلك المكان، وان كنيسة سانتا هيلانه المذكورة غمرت ارضها مياه الينابيع بسبب انخفاضها وتحولت الى بركة ماء تحت ارضية، بني فوقها مسقى العنزية. بسبب اهمال دائرة الآثار للآثار العربية والاسلامية، لم يتم الكشف عن الكثير من سراديب وطرق وابنية الرملة التاريخية، ظلت مغلقة بالأتربة ولا يجري الكشف عنها، هذا عدا عشرات المقامات والأضرحة الدينية الاسلامية ذات القيمة التاريخية، أبرزها مقام النبي صالح ببرجه الشامخ ، البعض يقول ان اسمه النبي الصالح مع "ال" التعريف.
كان وقتها مهملا واشبه بمجمع للنفايات. اليوم نظف واستغلت الأرض لمشاريع بلدية .. وقد علمت ان مهندسة رملاوية تقوم بالعمل على كشف "اسرار" الرملة العربية ومعالمها التاريخية، لكن يبدو ان المهمة أكثر صعوبة من رغبة شخصية ودافع وطني.
من الجدير ذكره ان آخر رئيس لبلدية الرملة قبل النكبة هو الشيخ مصطفى الخيري، البعض يقول انه يعقوب القصيني، مهما كان الخلاف فالإثنان هما آخر رئيسان لبلدية الرملة العربية قبل ان "تحرر" - الأول مسلم والثاني مسيحي وتلك دلالة هامة لحياة التآخي والتفاهم التي سادت المجتمع الفلسطيني ومدينة الرملة العربية ، قبل الظواهر الطائفية المقلقة التي بدأت تنتشر اليوم وتزيد مجتمعنا تفسخا.
مدينة الرملة التي "حررت" على آخر زمان، كانت خلال تاريخها الطويل، مركزا للثورات العربية التحررية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، منذ اواخر العصر الأموي وحتى الفتح الصليبي، أي لفترة تزيد عن اربعة قرون وهذه أهم معالم تلك الثورات.
اول ثورة يحدثنا عنها التاريخ كانت ثورة عام(743م) نصب خلالها الثوار أحد ابناء سليمان بن عبد الملك قائدا لهم وذلك حفظا منهم لعهده وقد بايعوا ابنه يزيد أميرا للمؤمنين، لكن الوليد الثالث خليفة دمشق استطاع القضاء على الثورة بمعارك دامية.
بعدها كانت ثورة المبرقع اليماني، الذي انتفض على المعتصم خليفة بغداد عام (841م) وقد هزمت جيوش الخلافة المبرقع وأسرته ونقلته الى سامراء العراق.
حين تولى الشيخ عيسى بن عبدالله الشيباني ولاية الرملة (فلسطين) قام بجهود مضنية لإقناع المعتمد الخليفة العباسي باستقلال فلسطين، لكن جهوده فشلت، فتمرد على المعتمد، الذي ارسل الجيوش وقضى على تمرد الشيباني ومحاولته اقامة دولة فلسطينية وطرده من بلاد الشام كلها.
في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي والنصف الأول من القرن الحادي عشر، جرت محاولات كثيرة قام بها آل جراح في سبيل استقلال فلسطين عن دولة الخلافة... وذلك من عاصمة ولاية فلسطين مدينة الرملة، لكن ثوراتهم وتمرداتهم المتواصلة فشلت في مواجهة جيوش الخلافة العباسية، رغم الفترة الطويلة التي صمدوا بها.
هذا التاريخ يبين ان الشعب الفلسطيني ليس وليد الصدفة، كما تحاول ان تصوره الرواية التاريخية الصهيونية، انما هو شعب جذوره عميقة بالتاريخ والنضال من أجل الاستقلال. له ثقافته وحضارته الخاصة والتي هي جزء من الثقافة والحضارة العربية، من الضروري ان نؤكد ان العرب في بلاد الشام، كانوا قبل الاسلام بعشرة الاف سنة.
قبل ان تقرأوا اهم ما جاء في مقال هرتسوغ، بعض علماء الآثار اليهود يدعون ان كشف هذا الحائط يثبت ان مملكة يهودا اتسعت وتحولت الى مملكة هامة أكبر مما كانوا يعتقدون. علماء آثار انتقدوا هذا الادعاء وقالوا انه لم يُثبت ان ما وجد له رابط بمملكة يهودا. حسب علماء آثار آخرين يعود هذا الحائط الى القرن العاشر قبل الميلاد. أي ان الحديث هو عن الفترة الكنعانية، حسب التوراة أيضا. لنتركهم يتعاركون ونواصل تسجيل مواقف علماء لا يتاجرون بعلمهم!!
بلدة تل لخيش الكنعانية كانت بلدة متطورة وكبيرة وهامة في القرن الثاني عشر قبل الميلاد وقد خربت واختفت من التاريخ.
السؤال هل أصبحت الحضارة والتاريخ والمباني الكنعانية؟ مثلا مدينة القدس:
أُطلِق على القدس اسم يبوس، وهو نسبة إلى اليبوسيين الذين اعتُبِروا البُناة الأوائل لمدينة القدس، أطلق الكنعانيون الذين سكنوا مدينة القدس قبل العبرانيين اسم أورسالم، ويُقال إنَّ هذا الاسم بابلي الأصل، وهو مشتق من اللغة الآرامية القديمة، ثمّ تحوَّر من الكنعانية إلى بيروساليم باليونانية وإلى أورشاليم بالعبريّة.
متى ينشط علماء آثار فلسطينيين وعرب لمواجهة الأكاذيب التي تروج، طبعا مع الاحترام للعلماء اليهود الذين يرفضون ان يحولوا علمهم وخبراتهم الى تجارة سياسية في خدمة الاحتلال والتنكر لوجود شعب كنعاني فلسطيني جذوره ضاربة بأعماق فلسطين؟!
 nabiloudeh@gmail.com

31
8 آذار يوم المرأة العالمي: رؤية متشائمة لمكانة المرأة العربية

نبيل عودة
 
كتبت قبل سنوات بمناسبة الثامن من آذار: لن نتردد في إعلان موقفنا الداعم لحقوق المرأة ومساواتها واحترامها، ونطرح الشعارات المختلفة عن أصالة مواقفنا ودعمنا للمرأة وحقوقها. أجل كلنا من أجل حرية المرأة ومساواتها. نحن من أجل الاعتراف بأنها إنسان مساوٍ لنا تماماً. ولكن عندما يقترب الموضوع من "نسائنا" فهذا هو الحد الذي لن نسمح به.
 
***
 
ما أراه ان واقع المرأة العربية في تراجع نسبي كبير، هو انعكاس للتراجع في تقدم المجتمع المدني العربي. اذ لا يمكن تحقيق تقدم في قضية المرأة طالما ظل مجتمعنا قبلياً في مبناه وعلاقاته، ويحرمها من الحقوق السياسية المتساوية ومن فرص النمو والتعليم والتقدم في تطوير قدراتها الخاصة ووعيها، ومشاركتها في عملية التنمية الإنسانية والاقتصادية لمجتمعها.
 
فهل نتوقع، في إطار واقع متعثر مدنياً، ان نحرز تقدما في مجال إنجاز نهضة نسائية واجتماعية تغير واقع المرأة، ويفتح أمامها وأمام مجتمعاتنا آفاقاً جديدة، وإمكانيات أخرى تعمق دورها ومسؤوليتها؟ هل انتهت الظاهرة القبلية لقتل النساء بحجة شرف العائلة؟ هل تقلص العنف المنزلي ضد النساء؟
وقعت الدول العربية على وثيقة اممية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ولكنها قيدته بتحفظات تشريعية دينية تحت تسميات وطنية جردت الوثيقة من بعض بنودها التي تتعارض مع "الشريعة الإسلامية"، طبعا حسب الشريعة التي يروج لها تجار الدين. هل واقع المرأة بظل التمييز والقمع والقتل يتمشى مع الشريعة، ومع التشريع الوطني؟! ألا تكتمل وطنيتنا إلا بقمع المرأة؟ ولا ندخل الجنة الا اذا كنا مميزين عن النساء؟
تساهم المرأة في الدول المتقدمة بحصة تكاد تكون مساوية لحصة الرجل في جميع نواحي الحياة. في عالمنا العربي أرى ان المرأة، حتى الأكاديمية، تخضع لقيود مستهجنة، يفرضها مجتمعها ونظامها، يقرر مساحة تحركها وحجم قيودها، حتى في المجتمع الأكثر تنوراً، على صعيد الدول العربية، نجد ان واقع المرأة لا يختلف بمجمل مضمونه، وليس سراً ان مستوى دخل المرأة من نفس العمل هو ما دون مستوى دخل الرجل. ولكن هذه الظاهرة تخفي واقعاً أشد مرارة. واقع اتساع البطالة في صفوف النساء بالمقارنة مع الرجال. طبعا الأمية هي كارثة اجتماعية ولا تشمل المرأة فقط.
ولكن الظاهرة المقلقة حقاً تقع في مجال آخر كلياً.
دأبت تقارير الأمم المتحدة خلال السنوات الماضية، على وضع اليد على واقع مذهل من التخلف في المجتمعات العربية، يطال النساء والرجال، وغني عن القول ان واقع المرأة هو الواقع الأكثر سوءاً والأكثر مرارة.. خاصة في موضوعين أساسيين.
اولا البطالة التي تطال نسبة عظيمة من النساء، ومنهن جامعيات.
بالطبع وضع الرجل لا يقل سوءاً، والمعروف ان غياب تخطيط حقيقي للتنمية، وغياب أبحاث أكاديمية حول التنمية وآفاقها واحتياجات الأسواق العربية، والربط بين الاقتصاد ومعاهد الأبحاث (الغائبة) في الجامعات، يقود الى فوضى، او تنمية ارتجالية لا تتجاوب مع المتطلبات الملحة للمجتمعات العربية، ولا مع توفير أماكن عمل حسب احتياجات النمو السكاني. ان فرص خلق أعمال جديدة يسير ببطء شديد ويقود الى تعميق استغلال عمل النساء، وهذا يبرز بالأجور المتدنية جداً. وبات إيجاد مكان عمل، صدفة سعيدة تتمسك بها المرأة وتصمت عن واقع إملاقها وسحقها كإنسان.
الصدفة ليست تخطيطاً. وإذا وجد التخطيط نجده مشوهاً ويخدم "قططاً سمان" حسب التعبير المصري لأصحاب النعمة، المسيطرين على حصة الأسد من الإنتاج القومي لدولهم. حقاً هناك منظمات نسائية عديدة تنشط من أجل حقوق المرأة، ولكني لا أكاد ألمس نشاطها وما تثيره في طروحاتها، ويبدو ان هناك نهج تعتيم على نشاط تلك المنظمات.
تقارير البطالة في العالم العربي تتحدث عن أرقام رهيبة تصل الى 25 – 30 مليون عاطل عن العمل، ولا أعرف هل تشمل هذه الأرقام مجمل الراغبين بالعمل، ام فقط المسجلين رسمياً؟ وهل تشمل مجمل نساء الوطن العربي القادرات على العمل؟
حين نجد ان المرأة في المجتمعات الصناعية المتطورة تشكل ما يقارب نصف عدد العاملين، نجد انها في المجتمعات المتخلفة لا تشكل أكثر من 15% وربما أقل كثيرا (وأعني بتعبير المتخلفة، التخلف الاجتماعي والصناعي والتقني والعلمي والثقافي والتعليمي وأسلوب إدارة الحكم، والتخلف بالضمانات الاجتماعية والصحية والبنى التحتية وغيرها)
ان خروج المرأة للعمل هو جزء من مساواتها وحريتها في القرار بما يتعلق بمصيرها أسوة بالرجل.
المرأة التي تفتقد للدخل لن تكون حرة ولن تصل الى المساواة حتى لو كانت تحمل عشرة شهادات دكتوراة.
ثانيا: المؤشر الأخر المرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا الواقع، هي نسبة الأمية المرتفعة جداً بين المواطنين من الجنسين، وخاصة بين النساء.
هل يتوقع أحد ان ينشأ جيل مثقف متعلم في أحضان نساء جاهلات؟
لا ليس تهجماً على المرأة، هذا الواقع ليس من مسؤوليتها. لأنها تخضع لتحكم الجاهلين حتى لو كانوا أكاديميين بتحصيلهم. ولا يمكن تجاهل الإرهاب الأصولي والسبي والقتل والاغتصاب الذي دمر سوريا والعراق ولم يتوقف بعد. وهناك قصصا عن واقع اللاجئات مثير للغضب والقلق.
ما الذي يعطي المجتمعات العربية قوة الاستمرار، عكس التيار العالمي، من موضوع حقوق المرأة، وحقوق الإنسان بالتحديد؟
في الواقع انا لا أرى فصلاً بين واقع المرأة وواقع الرجل في مجتمعاتنا العربية أو غيرها من المجتمعات.. حيث التخلف والفقر من نصيب الرجل أيضا، مما يعني ان واقع المرأة في الحضيض.
السؤال رغم ذلك يعيدنا الى الواقع المر: ماذا يعد العرب للمستقبل؟
ماذا يعدّون لمرحلة ما بعد النفط؟
هل يظنون ان ايرادات النفط الخيالية في العقود الأخيرة ـ لن تتوقف الا بإذنه تعالى؟
ان الانفلات في ضبط مسألة الزيادة السكانية يطرح قضية أكثر خطورة على واقع المجتمعات العربية، وعلى الفرص أمام تغيير واقع المرأة خاصة والواقع الاجتماعي عامة.
هناك انفلات سكاني.. تسيب بعدد الزيجات.. أطفال بلا مستقبل يفدون دون تخطيط لهذه الحياة. هل نكشف أمراً جديداً إذا قلنا بان الدول النفطية الغنية تشمل سكاناً في فقر مدقع يزدادون وسيشكلون في المستقبل مشكلة اجتماعية وأمنية لأي نظام كان؟
ما من شك بان أخطر ما ستواجهه المجتمعات العربية، هو غياب الفكر التنويري من مؤسسة صناعة القرار، الأمر الذي يعرقل طرح بدائل اجتماعية واقتصادية للمستقبل القادم بعاصفة من التغييرات في التفكير ونوعية الانتاج الاقتصادي والعلوم والتقنيات ومبنى المجتمع البشري ومبنى الأنظمة..
لماذا لا تستغل الأموال الفائضة في البنوك (وتقدر بعدد كبير من ترليونات الدولارات) لإحداث نهضة اقتصادية تعتمد على الصناعات غير النفطية.
لا أظن ان أحداً من المتحكمين بالقرار العربي يعرف الإجابة. ربما يعرف كم يوجد في حسابه المصرفي ليس إلا، ومشروعه لضم الزوجة الجديدة.
هل من الممكن أن نواصل الحياة بشعارات براقة أشبعتنا لغواً، ولم تقدم لنا الا المزيد من التخلف؟
حان الوقت لمراجعة فترة الثورات (الانقلابات) العربية، وما أنجزته (بالمفهوم السلبي) للواقع العربي.. وبدء تحرك إصلاحي شامل.
حان الوقت لإعادة برمجة كل حياتنا.. من ألفها الى يائها.
حان الوقت لنفهم ان مجتمعا متنوراً متقدماً اجتماعياً واقتصادياً وعلمياً، لن يكون دون مشاركة كاملة للمرأة في التخطيط والإنتاج والبرمجة المستقبلية. وإقرار القوانين وشكل نظام الحكم.
ويؤسفني اني لا أرى مستقبلاً مثل الذي أحلم به.
ما أراه استمرار في السقوط الى الحضيض!!
ما أراه المزيد من الاضطهاد الشوفيني الذكوري للمرأة العربية.
ما أراه بقاء العالم العربي خارج التاريخ الإنساني.
ما أراه مزيد من التمرد للمرأة العربية، ومزيد من الهرب من مجتمعها لآفاق رحبة خارج مجتمعها.
 nabiloudeh@gmail.com


32
ملاحظات: فكر الحداثة وتسخيره لثقافة ماضوية
نبيل عودة

موضوع الحداثة يشغل بال المثقفين والمفكرين في العالم العربي منذ فترة طويلة، قرأت عشرات المقالات الجادة والعقلانية التي طرحت الموضوع من جوانبه الفلسفية والحضارية، لكن ملاحظتي ان الكثيرين من اصحاب الرأي والفكر لم يخرجوا بنصوصهم عن إطار العلاقة بين الحداثة والأدب. طبعا لا يمكن فسخ العلاقة بين الحداثة والأدب، لكن الحداثة بجوهرها لم تبدأ كظاهرة أدبية. ان أكثر ما يشغل أصحاب فكر الحداثة العرب، الذين ولدوا وتثقفوا بإطارها وأضحت تشكل عالمهم الفكري وقاعدة وعيهم الاجتماعي، هي الساحة الأدبية، أي ما يخص الثقافة العربية.
لم نتفق بعد، في ثقافتنا العربية، على تعريف دقيق لهذا المفهوم الذي فرض نفسه على مجتمع شبه قبلي، او قبلي تماما، تسيطر عليه الماضوية، ويبدو الحديث عن الحلم الذي يراود المثقفين العرب، للتخلص من الماضوية التي تعيق انطلاقة المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية جديدة، بعيد عن التحقيق، بدل ذلك يتعمق الابتعاد بل ونشهد في الآونة الاخيرة، ازدياد الالتحام بين تيارات دينية والارهاب، أي العودة الى القبلية والتعصب، وما يشغل العالم العربي ليس العمران انما الحد من التطرف والعنف الدموي.
بعض المثقفين العرب اعطوا تفسيرات سطحية ويمكن القول شكلية لمفهوم الحداثة، بالقول مثلا انها "الاختزال والشفافية"، اي يقرنون مفاهيم فكرية فلسفية بعناصر من عالم الأدب، دون التطرق للجذور التاريخية للحداثة من اجل فهم القاعدة المادية والفكرية التي نشأت عليها.
هذا التعريف وغيره من التعريفات اللغوية التي تفتقد للمعرفة، لم تأخذ بالاعتبار جوهر الحداثة. ان الحداثة في الادب والفكر والحياة، ليست وليدة ظاهرة شكلية، انما نتيجة عملية لتغيرات وتطورات شملت العلوم والثقافة والاقتصاد والفلسفة، احدثت تغييرات عميقة في المجتمع البشري وفي التربية والتعليم، والرقي الحضاري بكل اتساعه الثقافي التقني والعلمي. ان تطور العلوم مثلا أحدث نقلة نوعية غيرت كل الافكار والمفاهيم البالية، مما تبقى من افكار القرون الوسطى، وطرحت مكانها افكار وموازين تعتمد على العقل والمنطق والعلم والمعرفة.
لا يمكن الحديث عن الحداثة بمنظار قديم وبمواقف تجتر الماضي، لا يمكن "اتهام" مقطوعة ادبية بالحداثة لأنها مكتوبة بلغة لا شيء واضح فيها الا حروف الابجدية، وجعل الحداثة محصورة في الادب هذا جهل فاضح، بل غباء مطلق.
الذي يحدث هو خلط مضحك بين المفاهيم والاصطلاحات التي لم تنشأ اصلا في الفكر العربي، وبالتالي مضمون الحضارة الذي نشا وتطور باطار تيار الحداثة الأوروبي، لم يخترق المجتمعات العربية، التي ظلت على جهل مريع بمفاهيم الحداثة وشروطها. لا أكشف أي جديد بالقول ان جذورها التاريخية تقودنا الى عصر التنوير الاوروبي، الذي بدأ قبل 300 - 400 سنة، وهو الزمن الذي يفصلنا عن مفاهيم التنوير والحداثة، شئنا ذلك أم ابينا. ما زلنا في العالم العربي نتحدث عن اصلاح برامج التعليم وهي برامج متخلفة بكل المقاييس، متخلفة في العلوم والرياضيات والتقنيات والابحاث والمهن، يكفي ان اذكر ان ثلثي الحاصلين على شهادة الدكتوراة في العربية السعودية موضوعهم هو الفكر الإسلامي، والثلث الاخير لكل العلوم والمواضيع الأخرى لدرجة ان وزير المعارف السعودي(قبل عدة سنوات) اشتكى من ظاهرة تخريج ملايين شيوخ الدين، وبينما الدولة تحتاج الى تكنوقراطيين وباحثين وعلماء في مختلف العلوم والابحاث، وتضطر الى استيراد خبراء اجانب وتدفع لهم مبالغ طائلة بينما البطالة بين الشباب السعوديين مرتفعة جدا والتقديرات تقول انه يوجد مليون سعودي عاطلين عن العمل.
مجتمعاتنا العربية تفتقد لأول شروط الحداثة: التنوير، الديمقراطية والتعددية الثقافية والدينية والسياسية.
جزء من الحداثة يتعلق بموضوع المصارحة والمكاشفة، فهل نستطيع ان نكون صريحين ومتقبلين للآخر المختلف؟
الخطأ ان مفهوم الحداثة جرى حصره بإطار الأدب فقط، ولا انفي ان للأدب مكانته الهامة في تيار الحداثة، لكنه يبقى تيارا فنيا وليس تيارا فكريا وفلسفيا يمتد تأثيره على مجمل مرافق الحياة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والمعرفي.
صحيح ان المفهوم المجازي العام للحداثة في العالم العربي، ظهرت في الشعر تحديدا على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وغيرهم، ثم انتقلت لأشكال الادب المختلفة كالقصة والرواية، وايضا للفنون بأشكالها المختلفة الأخرى.
الحداثة بمفهومها الاجتماعي والسياسي والديني ظلت مستبعدة وغير قادرة على اختراق المجتمعات العربية.
من هنا ما يطرح من نقاشات حول الحداثة في الادب او "اتهام" ادباء بالحداثة، هو تعبير عن عدم فهم لجذور الحداثة وشموليتها.
من الواضح ان المحافظون المتعنتون يحاربون الحداثة، اي يحاربون التغيرات الاجتماعية والثقافية بالتمسك (كما يدعون) بالأصالة والتراث والتقاليد، والسؤال هل تتناقض الحداثة مع الاصالة والتراث؟
اليس التراث وأصالته، هو نتاج حداثي في عصره؟
يبدو واضحا هنا ان رفض الحداثة وطرح التراث مكانها هو طرح سياسي وفكري بالأساس.
لكل عصر مميزاته الاجتماعية والحضارية، والحضارة لا تتوقف في مكان ما مكتفية بما انجزته، التوقف يعني التخلف عن الحضارات الاخرى، وهذا ما اصابنا في حضارتنا العربية.
من مميزات الحداثة هو قدرتها على نقد ذاتها بعد كل مرحلة، وتصويب الخطأ ومواصلة الانطلاقة. الفكر الحداثي لا يطرح نفسه كفكر نهائي ثابت معصوم عن الخطأ.
مشكلتنا هو جهلنا، وبالتالي رفضنا لمصادر الحداثة أي حركة التنوير الاوروبية التي استفادت في وقته من الفكر العربي وقادت المجتمعات الاوروبية الى نقلة نوعية في كل مجالات الحياة والتقدم، وهذا لم يحدث في شرقنا، لذلك يبدو لي الحديث عن "الحداثة" ضربا من الفتح بالمندل، ربما يصح القول "كسر الحواجز التقليدية" خاصة في الادب.
حقا ظهر مثقفين طلائعيين يروجون لفكر الحداثة ولفكر التنوير والاصلاح الشامل لكن بين هذا والحداثة مرحله طويله وشاقة.
هل يمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية وفكرية؟ بدون مساواة وتعددية ثقافية؟ هل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات ورقابة واستقلال السلطات عن بعضها البعض؟!
ما زلنا في الشرق متخلفين 200 - 300 سنة على الاقل، عن عصر التنوير وكل صراخنا حول تراثنا وحضارتنا هو تمويه للحقيقة وخداع للنفس، ما زلنا عالقون في التخلف.... والصورة تبدو سوداوية، لكن الصورة لم تكن اقل سوداوية مع بداية عصر التنوير الاوروبي!!
nabiloudeh@gmail.com

33
العاهرة البتول...!!
(قصص من الأدب الساخر)
نبيل عودة

1 -دعوة لوجبة فاخرة
السيد منير رجل غني جدا، خرج من مكتبه، ركب سيارته الفيراري الفاخرة وانطلق بها الى بيته. كان سعيدا بما انجزه في حياته من امول واملاك تكفي لأحفاد أحفاده حتى عشرات الأجيال دون ان يرهقوا أنفسهم بالعمل.
كان يحسب أرباحه من الصفقة الجديدة، يبتسم بسعادة ويستمع لأغنية الفنانة الكبيرة هيفاء وهبي:
" ليك الواوا بوس الواوا خلى الواوا يصح
لما بوستو الواوا شيلتو صار الواوا بح "
كان فكره مشغولا كيف يوظف الملايين الجديدة، وكم ستدر عليه من أرباح ترفع من مكانته الاقتصادية.
أشعل سيجار كوباني فاخر لا يقل ثمنه عن 100 دولار أمريكي، نفث دخانه بمتعة وانبساط، حين فجأة شاهد رجلا وزوجته وحولهم أربعة أولاد بملابس ممزقة ورثة وشبه حفاة يأكلون حشائش نبتت بجانب الطريق.
بما ان السيد منير ولد في بيت فقير سابقا، رق قلبه لما يرى، وقرر ان فعل الخير هو واجب انساني، ويكسبه رضاء الله وربما يبيض صفحته يوم الحساب، مع انه على قناعة ان مكانته المالية تضمن له مكانة أيضا في السماء، فهو لن يدفن تحت التراب بل بغرفة واسعة وانيقة من الداخل والخارج، بناها وجهزها لأبناء العائلة يوم يحين رحيلهم.
رق قلبه لمرأى الأولاد ووالديهما.
أوقف سيارته الفيراري، ترجل منها، اقترب للرجل وزوجته واولادهما وسأل:
- لماذا تأكلون الحشائش .. الا تضر بصحتكم؟
- كما ترى يا سيدي، نحن فقراء وجائعين، وليس لدينا في البيت حتى كسرة خبز للأولاد.
- هذا أمر مؤسف .. اذن سأدعوكم لوجبة فاخرة في منزلي، اصعدوا لسيارتي.
ما أن أكمل السيد منير جملته والا الأولاد يركضون لسيارة الفيراري، وورائهم والدهم وامهم.
انطلقت الفيراري نحو بيت السيد منير والأولاد يتوقعون وجبة كثيرا ما حلموا عليها، والوالدين يشعرون بالسعادة ان يتذوقوا بعض الطيبات من منزل هذا الغني، لعل ذلك ينقذ أولادهم من فقر الدم الذي يعانون منه.
دخلت الفيراري من بوابة ضخمة نحو مساحة ارض كبيرة جدا، في صدرها قصر كبير، وامام القصر حديقة كبيرة جدا تملأها النباتات والزهور من اشكال والوان متعددة، عدا مساحة الأرض الواسعة بأشجارها المتنوعة، واحواض عديدة بمزروعات متنوعة.
نزلوا من السيارة وهم مصدومون من جمال القصر واتساع الأرض حوله، قال السيد منير:
- تفضلوا .. هل ترون هذه الحديقة؟ العامل الذي يرعاها ويقص النباتات حتى لا تغطي على جمال الزهور، مريض وغائب منذ أسبوع، تفضلوا، هنا الكثير مما يؤكل، كلوا حتى الشبع، ان نباتات حديقتي أفضل وأنظف من نباتات الشارع.
2 -العاهرة البتول...!!

وضع المحاضر قدمه على مدخل القاعة فساد الصمت، كان ذلك اللقاء الأول مع محاضر العلوم السياسية.
جال بأنظاره كأنه يدرس وجوهنا او مدى حضورنا وجاهزيتنا لبدء دراستنا السياسية. نظاراته السميكة تجعله يبدو أكبر من جيله بعقد كامل على الأقل. قال بعد ان جال بعينيه بيننا عبر نظاراته السميكة:
- انا محاضر موضوع العلوم السياسية، لا أحب الحديث في القاعة اثناء إلقائي محاضرتي، فقط إذا طرحت سؤالا اسمح لمن يرفع أصبعه ان يجيب.
وتابع يقول:
- أنا سياسي له صولات وجولات وتجارب سياسية ستفيدكم في التعرف عليها لممارستها في المستقبل إذا صار أحدكم سياسيا. مثلا كيف نواجه سياسيين معادين؟ مبدئي الذي لا يتغير اني سياسي مستقيم وديمقراطي... ارى أصبعا مرتفعا في وسط القاعة، حسنا سأسمح لك أيتها الطالبة بطرح ما لديك.
- حتى اليوم دكتور لم اسمع عن سياسي مستقيم وديمقراطي كما تقول. يا لها من طرفة، ما ان يجلسوا في منصب حتى يصبحوا أشباه آلهة يجب قبول كل كلمة يلفظونها...حتى ضراتهم يجب التصفيق له. هل حقا يوجد مثل هذا المخلوق سياسي مستقيم وديمقراطي؟
- سؤال هام، مستقيم ليس شرطا، لكني أتحدث عن نفسي وتجربتي وقناعاتي.
- اذن أستاذي السياسي المستقيم والديمقراطي، اسمح لي بسؤال مجنون: هل يمكن ان نقول انه توجد عاهرة بتول؟!
3 - ليلة حب

عجزها عن تحقيق امنيته بولد من صلبه يشعرها بالخذلان، يتفجر الدمع من مقلتيها ولا تنسى نفسها الا حين يلج جسده بجسدها، فتصل لقمة نشوتها، ترجوه ان يأخذ عليها من تستطيع تحقيق امنيته فيردها خائبة:
- تطلبين البعد وانت في قمة القرب؟
- أشعر بالخيبة والقصور.
- ما عليك، الموضوع يخصني فلا تلجيه.
- ويخصني.
احتضنها بقوة، ضغط عظامها بين ذراعيه، ضغطت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان وهمس بأذنها:
- حبي لك هو الجذور، انا احبك لنفسك، لذاتك، أحببتك لأنك انت، لا تخلطي بين مشكلة الحبل وحبنا، حبنا قدس الأقداس... فهمت؟
شهقت والتفتت اليه بدموع ملء وجهها:
- أكره نفسي لعجزي، اريد ان أعطيك شرف الأبوة، الرجولة تكتمل بالأبوة.
أصمتها بقبلة وهمس بأذنها:
- انت دنياي ولا يهمني بعدك شيء، لا الرجولة ولا الأبوة.
فتحت فمها لتقول شيئاً فزجرها:
- اصمتي ولا تعكري ليلتي.
4 - المهمة الإنسانية

وصلت مجموعة رجال بقيادة رجل المهمات الخاصة يوري، إلى الصين بمهمة إنسانية عظيمة لتحسين نسل قطيع البقر الصيني، الذي يعاني خلل وظيفي في النمو الطبيعي.
منذ حطت قدماه على ارض المطار لاحظ يوري أن الصينيات يتمتعن بجمال نادر وجاذبية لا تقاوم. اتصل فورا بالمركز البيطري الذي أوفده مستفسرا إذا كان بالإمكان استبدال المهمة بتكليفهم بتحسين نسل الصينيات بدل نسل البقر؟
كان الجواب قاطعا ان الاتفاق بين الدولتين واضح ومحدد وقد انتدب من وزارة الزراعة في الوطن لتنفيذ مهمة بيطرية فريدة من نوعها وعليه الالتزام بالمهمة.
مضى أسبوعان واقترب موعد انتهاء المهمة البيطرية مع البقر الصيني، بقيت لهم ليلة واحدة في إسطبلات البقر، قرر في سره ان يستغل انشغال الزملاء ويهرب من مهمته تلك الليلة الى معاشرة صينية حسناء بدل بقرة ضخمة.
انتهز انشغال زملائه بمهامهم، وهرب من الإسطبل.
كان حظه جيدا، فما ان اطل على البلدة المجاورة حتى شاهد عشرات الصبايا الصينيات الجميلات. ارتفعت معنوياته وثارت شهوته للبدء فورا بالانصهار مع صينية حسناء.
لوح يوري بعشرة دولارات لأنه يجهل اللغة الصينية والبقر يمكن جماعه بدون لغة وبدون دولارات، لكن الصينيات لغتهم صعبة وهو مفكر وذكي فهم ان الدولار في بلاد الصينيين يصنع العجائب.
فورا تجمعت الصينيات حوله.. تأملهن واختار من رآها الأجمل.
قضى ليلة من العمر.. استيقظ صباحا وهو يشعر بألم شديد بين ساقيه. نظر الى نفسه وهاله ما رأي من الوان صفراء وحمراء وزرقاء وحكة قوية ..
فورا مع وصول الطائرة عائدا من الصين، توجه إلى عيادة طبيب.
شرح للطبيب انه كان في مهمة رسمية في الصين لتحسين نسل البقر، لكنه في اليوم الأخير كرس جهده لتحسين نسل صينية جميلة، بل ساحرة.
قال الطبيب ان وضعه بالغ الصعوبة ولا بد من إجراء عملية قطع وسيلة تحسين النسل لأنها باتت تشكل خطرا على حياته اذا استفحل المرض الذي نقلته له الصينية.
صرخ بقوة انه يرفض عملية القطع، فهو رجل في مقتبل العمر ويريد ان يتمتع بالنساء ولا يمكن ان يقبل عملية استئصال رجولته.
خرج من عيادة الطبيب بشعور اليأس والخوف الشديد، استفسر لدى عشرات الأطباء عن وسيلة علاج غير الاستئصال. كان رأي الجميع ان لا حل آخر هناك.
كاد يصل إلى حد الانتحار، لكن الطبيب الأخير قال له انه يوجد في المدينة القريبة صيني يعالج بالطريقة الصينية، لعله يملك حلا لمشكلتك.
فورا ركب يوري دابته وانطلق إلى المدينة القريبة وسرعان ما وصل عيادة المعالج الصيني.
فحصه المعالج الصيني، قال له يوري ان رأي الأطباء كان إجراء عملية قطع .. وهو يرفض ذلك لأنه ما زال يحب الحياة ومعاشرة النساء، والقطع قد يفقده وظيفته في وزارة الزراعة قسم البيطرة، حيث يوفد إلى مختلف الأقطار لتحسين نسل البقر.
قال له المعالج الصيني: لا ضرورة للقطع، أطباؤك لا يعرفون شيئًا عن تطور هذا المرض.
قال يوري للتأكد: حقا، لا ضرورة للقطع؟ كم انا سعيد !!
وبدأ يرقص في العيادة .. شاعرا ان جبلا قد نزل عن كتفيه. لكن المعالج الصيني لم يفهم سعادة يوري، قال له:
- عزيزي يوري، انت لم تفهمني جيدا، لا ضرورة لعملية قطع، لأن هذا المرض الذي أصابك من الفتاة الصينية لا يستحق تعذيبك بإجراء عملية قطع، انتظر عدة أيام أخرى وسترى انه سيسقط لوحده بلا عملية!!
5 -الله لا يحب الملحاحين

- من أين كسبت هذه الأموال؟
- منذ ركعت في الكنيسة لوداع البلد فتحها الله بوجهي، أصبح الحديد الخردة تجارة مربحة، اليوم لدي عدة شاحنات وعدد من العمال، اشتريت بيتا، المسيح فتحها في وجهي بعد ان رجوته في صلاتي الوحيدة ان يتطلف بي وبالأولاد.
- انا كاهن واصلي يوميا بإخلاص عدة مرات، ولا نحصل على ما يساعدنا في تغيير مقاعد الكنيسة مثلا ؟
- الصلاة ليست بالكم، ولا بالصراخ والصوت المرتفع، ليست بالشكل الذي نظهر به في الشارع بملابس غريبة عجيبة. الصلاة يا أبونا الخوري من القلب والقلب لا يغير شكله ولا قوة دقاته.
- لكني أصلي بصمت ومن القلب وعدة مرات كل يوم؟
- يبدو انك ملحاح يا ابونا الخوري .. هل تظن ان الله يحب الثرثرة والإلحاح...؟!
6 -المراهنة...

كان صديقان يجلسان في مقهى يحتسيان الشاي. على طاولة ليست بعيدة عنهم كان يجلس شخص أقرع الرأس.
 قال الأول:
- هل لاحظت الشخص الأقرع على الطاولة في الزاوية الشمالية ؟
اجابة صديقه :
- أجل لفت نظري منذ جلسنا.
- انا على ثقة مطلقة انه نيكيتا خروتشوف الرئيس السوفياتي الأسبق .
 اعترض الثاني:
- ولكن خروتشوف قد مات وشبع موتا ؟
- هذه دعاية سوفياتية من يصدقها ؟
- حقا قرعته تشبه قرعة خروتشوف، ولكن ليس كل قرعة تخفي تحتها خروتشوف؟ والمثل يقول "يخلق من الشبه أربعين".
- انه خروتشوف بعينه ، وانا مستعد ان اراهنك .
- وانا أقبل الرهان، 100 دولار مقابل 100 دولار.. اذا تبين انه خروتشوف فانت الرابح؟
رد الأول بحماس:
- موافق.
قام واقترب من الرجل الأقرع:
- تحية ايها الرفيق خروتشوف. التفت اليه الأقرع غاضبا:
- انصرف من امامي ايها المغفل.
عاد الى طاولة صديقه وكأن شيئا لم يحدث، جلس رشف من الشاي وقال بكل هدوء:
- رأيت كيف صرخ بوجهي؟ الآن لا يمكن ان نعرف ما هي الحقيقة اطلاقا.
nabiloudeh@gmail.com


34
مع الأديب المهجري د. جميل الدويهي في روايته "طائر الهامة"

نبيل عودة
 
"طائر الهامة" قصة أخرى او رواية قصيرة أخرى (نوفيلا) من ابداعات الأديب المهجري المقيم في استراليا د.جميل الدويهي.
طائر الهامة تسميه العرب بـ "البومه"، وهو طائر سيئ الصيت ورؤيته تبعث على التشاؤم لدي الكثير من الناس.
كيف لا يسمي روايته بـ "طائر الهامة" (بومة النحس) وهي تتحدث عن المآسي التي حلت بلبنان في الصراع الدموي المدمر الذي سقط ضحيته مئات والاف اللبنانيين من كل المجموعات التي تشكل المجتمع اللبناني؟
الرواية هي ميلودراما عنيفة جدا ومحزنة جدا يعيدنا فيها الكاتب الى أيام سوداء من تاريخ لبنان، أيام لا تنسى وتبقى ذكراها المؤلمة في الذاكرة الجماعية كحد لا يجوز تكراره مرة أخرى مهما تعددت الأسباب.
بأسلوبه الراقي ولغته التعبيرية القصصية الجذابة يرحل بنا الكاتب بين سطور روايته واحداثها الدرامية المؤلمة، التي تشعل ذكريات تثير الحزن والالم لمن عاصر تلك الفترة السوداء من التاريخ اللبناني.
اولا بودي الإشارة الى الأمر الأكثر أهمية في الأدب القصصي او الروائي، وهو قدرة الكاتب على اثارة دهشة القارئ، وجذبه للأحداث التي يرويها، وهنا نحن امام قلم متمكن من مهنة السرد القصصي، وقادر على جذب القارئ من الأسطر الاولى، وهذا هو الجوهر في الكتابة القصصية او الروائية. فورا يجد القارئ نفسه جزءا من الأحدات، يتألم مع ابطال الرواية ويغضب من الذين ارتكبوا الحماقات المختلفة وحولوا حياة الملايين الى اتون من نار وبحار من دماء.
فكرة القصة بسيطة جدا. فخلفية الرواية هي احداث العنف التي عصفت باهل لبنان وجعلتهم فرقا متصارعة، طبعا السرد يلعب هنا بالتفاصيل وأسلوب تقديمها للقارئ ليبقى القارئ يلهث وراء الأحداث لمعرفة النتيجة النهائية، وهنا نشهد القلم المبدع وأسلوب عرض الأحداث دون ان ينقطع القارئ عن ارتباطه ببطلي قصته، لطبيب رياض وحبيبته التي تزوجها سعاد.
طبعا لا انوي الدخول بالتفاصيل فهي تمتد على مساحة النص بصفحاته ال 112 لكني ساتناول الفكرة المركزي التي بنيت الرواية على أساسها.
يبدا د. جميل الدويهي روايته مع تفجر العداء بين اهل البلد الواحد وأصبحت الرصاصة أسلوبا للتعامل بدل الحوار، فيقوم والد سعاد حسب القصة بقتل والد الطبيب رياض، فهل هذا يمنع الحب بين أبناء الجيل الجديد؟
طبعا النهاية تكشف ان القاتل شخص آخر.. مما يسقط الاعتراض على الزواج.
تمتعت بالمستوى الراقي لتفكير بطل القصة د. رياض ، وحبيبته / زوجته فيما بعد سعاد، كيف يحاولان التخلص من ارث الماضي وبناء حياة جديدة، او الأصح القول بناء لبنان الجديد، لبنان المحبة ونبذ العنف.
ملاحظتي السلبية هنا ان الكاتب د. جميل الدويهي حل عقدة الإشكالية بزواج رياض وسعاد،
بانه بيّن في نهاية النص ان القاتل شخص آخر غير والد سعاد، مما يجعل العلاقة الزوجية مقبولة أيضا من ام رياض التي اعترضت على زواج ابنها من ابنة قاتل زوجها... لكنهما تزوجا رافضين موقفها.
اعتقد ان الجيل الجديد بعد الحرب المدمرة، عليه ان يشق طريقة بعقل منفتح ويدفن الام الماضي ويبني لبنان الجديد المتآلف الرافض للصراع والقتل على الهوية.
ربما أراد الكاتب تسهيل موضوع عودة العلاقات الطبيعية بين والدة رياض وعائلة سعاد المتهم والدها بقتل والد رياض والذي انكشفت براءته في نهاية الرواية بعد زواج رياض وسعاد. لأن الهدف ليس نجاح قصة حب ولدت بين شابين من عائلتين بينهما دم، انما طرح موضوع لبنان الجديد المتعافي والمنطلق لبناء وطنه مخلفا وراءه كل الآلام والترسبات التي ظلت في القلوب.
طبعا هذا رأي شخصي، الرواية مليئة بالأحداث التي تشد القارئ وتثير لديه تساؤلات، تبقى طي الكتمان حتى تنكشف في نهاية النص.
طبعا هي لعبة قصصية، واللعبة في هذا النص الميلودرامي ربما فرضت على الكاتب هذه النهاية .. انا شخصيا أرى ان الواقع اقوى دائما من الدافع الشخصي. كان يمكن إيجاد نصف حل.. لكنه قرار المؤلف. وفي روايته "طائر الهامة"، نجح بجذب اهتمام القارئ واثارة دهشته في أسلوب السرد وتطوير فكرة الحدث، واللغة القصصية الجميلة وهي من مضامين القصة الناجحة.
طبعا ليس سرا ان الكاتب في روايته وطريقة حل إشكالية الحب بين رياض وسعاد، يحلم بسيادة المحبة بين كل اللبنانيين. وهو حلم كل انسان يتجذر بوطنه حتى لو كان على بعد آلاف الكيلومترات عن ارضه.
nabiloudeh@gmail.com

35
صفقة القرن: هل هي تغطية أيضا لتاريخ النكبة المرعب؟!
*-هل يمكن اغلاق جرائم النكبة والتهجير وتدمير البلدات العربية بدون حساب لمنفذي الجرائم حتى للذين فارقوا الحياة؟
*- مدير الأرشيف الحكومي : كشف الارشيفات ستكون له اسقاطات حول احترام القانون الدولي.
*- صحيفة هآرتس كتبت بجرأة: حان الوقت لمواجهة الفصول الأقل "بطولية!" في ماضي إسرائيل. 
*- بيني موريس كتب عن مجزرة السوق بحيفا "كان في السوق اكتظاظ كبير عندما بدأ القصف، اندفع الجمهور إلى الميناء، وسارعوا لركوب السفن وبدأ الهروب من المدينة".
نبيل عودة
بضغوط من المؤسسات الأمنية في اسرائيل وعلى رأسها الموساد والشاباك وَقَّعَ رئيس الحكومة بيبي نتنياهو على تعديل يمدد القيود على حرية الاطِلاع على الأرشيفات الحكومية لمدة عشرين سنة أخرى، أثار التعديل انتقادات أوساط واسعة في المجتمع اليهودي نفسه.
وكان صحفيان من جريدة "هآرتس" وجريدة "يديعوت أحرونوت" قد قدما التماساً للمحكمة العليا قبل عدة سنوات، ضد المنع غير القانوني، المناقض لقانون الأرشيفات عام 1955، الذي يمارسه مدير الأرشيفات، بمنع الجمهور من حق الاطلاع على أرشيفات مضى عليها خمسون سنة وأكثر.
قرار نتنياهو بتمديد المنع لعشرين سنة أخرى جاء أولاً لسد الطريق على المحكمة العليا بإمكانية إصدار قرار لصالح فتح الأرشيف أمام الجمهور، للاطلاع على الوثائق التي مضى عليها حسب قانون الأرشيفات خمسون سنة.
ما الذي يريدون إخفائه؟؟
ما هي الوثائق التي يخافون من كشفها؟!
من الواضح أن الوثائق تتعلق بالعقدين الأولين من إقامة الدولة، وخاصة السنوات العشر الأولى.
مدير الأرشيف الحكومي حذر من أن كشف وثائق الأرشيفات ستكون له اسقاطات حول احترام القانون الدولي.
مما يعني استنتاجاً واحداً، اسرائيل تصرفت بما يتناقض مع القوانين الدولية، وأجهزة الأمن بكل أذرعتها نفذت عمليات قد تصنف كجرائم ضد الانسانية.
والسؤال ألم يحن الوقت لتغير اسرائيل نهجها المفضوح، كما حدث مثلاً في عملية قتل المبحوح؟!
صحيفة هآرتس كتبت أن المعلومات التي ستظل طي الكتمان لعشرين سنة أخرى، تتعلق أيضاً بأعمال الطرد والمذابح التي ارتكبت ضد العرب في "حرب الاستقلال"، وإلى عمليات الموساد في الدول الأجنبية، وإلى مطاردة الشاباك وتجسسه على سياسيين من المعارضة في اسرائيل في سنوات الخمسين، وإلى إقامة المعهد للأبحاث البيولوجية في نِس تسيونا، والفرن الذري في ديمونا، وهي معلومات أُخفيت عن الجمهور سابقاً وتمديد الحظر لعشرين سنة أخرى، يوفر سبب قانوني لاستمرار إغلاق الأرشيفات، الذي نفذ حتى اليوم بشكل مخالف للقانون.
هآرتس بجرأة تستحق الاشارة، قالت إنه حان الوقت لمواجهة الفصول الأقل "بطولية!" في ماضي اسرائيل، وكشفها أمام الجمهور وأمام الباحثين والمؤرخين وأنه من حق الجمهور أن يعرف القرارات التي اتخذها مؤسسو الدولة، حتى لو كان فيها مخالفة لحقوق الانسان، مثل التغطية على جرائم، أو ملاحقة المعارضين السياسيين بوسائل أمنية، أو مثلاً شهادات لم تنشر بعد حول ما جرى في دير ياسين.
وربما المخفي أعظم !!
إن المسؤولية عن هجرة الفلسطينيين، أو طردهم من وطنهم بأساليب تعتبر جرائم حرب، كشفها أيضا مؤرخين يهود شجعان أمثال ايلان بابه، لذا قرار رئيس الحكومة، بناء على طلب مدير الأرشيفات، باستمرار إغلاق أرشيفات العقدين الأولين بعد حرب 48 لعشرين سنة جديدة (يبدو ان العشرين سنة تجدد تلقائيا)، لأنها تشمل تفاصيل كشفها الآن يلحق الضرر بدولة إسرائيل. واعتقد أن تمديد الإغلاق، جاء لمنع استغلال المفاوض الفلسطيني لوثائق رسمية تثبت أن تهجير الشعب الفلسطيني من وطنه، كان بسبب ارتكاب مجازر، لا تقل بشاعة (وربما تفوق) عن مجزرة دير ياسين (منطقة القدس) ومجزرة قرية الصفصاف، الواقعة على زنار جبل الجرمق، وغيرهامن الجرائم مما دفع الفلسطينيين، الفاقدين لأي حماية من الانتداب البريطاني أو من الجيوش العربية، للهرب من وطنهم أو تعرضهم للمجازر الجماعية. وهناك روايات كثيرة عن عشرات المجازر، بعضها كشف عنه مؤرخين يهود، وقد يكون المخفي أعظم، بعد كشف من أصدر الأوامر وطرق تنفيذ المجازر!!
المؤرخ اليهودي بيني موريس وصف في كتابه " نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" الصادر عام 1991، أي قبل أن يتراجع ويروج الروايات الرسمية للحركة الصهيونية، وصف بوضوح كبير تطور الأحداث، وكتب: " أُعطيت أوامر لقصف ساحة السوق (في حيفا)، وكان في السوق اكتظاظ كبير عندما بدأ القصف، تسبب برعب كبير، واندفع الجمهور إلى الميناء، دافعين رجال الشرطة (البريطانية على الأغلب) وسارعوا لركوب السفن وبدأ الهروب من المدينة". بيني موريس تراجع فيما بعد عن روايته في كتابة "1948" الصادر عام 2010.
هناك موضوع يستعصي على فهمي، وهو تجاهل أحزابنا ومؤسساتنا وجمعياتنا الأهلية المتخصصة لهذا التاريخ ومواجهة تزييفه، وخلق تبريرات مصطنعة وتفسيرات اسرائيلية مشوهة لنكبة الشعب الفلسطيني وتهجيره من وطنه.

nabiloudeh@gmail.com

36
حق الشعب الفلسطيني هو حق قومي وليس ديني
نبيل عودة
*بورغ: "ان صهيونية هرتسل العنصرية انتصرت على صهيونية أحاد هعام، والقومية اليهودية السائدة اليوم هي قومية المستوطنين، وانا لست منهم"* إسرائيل فنكلشتاين:" "أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة بما في ذلك قصص الخروج والتيه في سيناء وانتصار يوشع بين نون على كنعان".
ما قاله الرئيس الفلسطيني في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة عن موضوع الاعتراف بإسرائيل اليهودية جانبه الصواب بنقطة هامة، الموضوع ليس اثبات انهم يهود او غير يهود. بل طرح الحق الفلسطيني بوطنه وارضه رغم الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي والتسويق الأمريكي.
بعض الحقائق حول فلسطين، وحول الادعاءات الصهيونية بالحق التوراتي والتاريخي.
 تمهيد: صحيح ان المواطنين العرب يشكلون 20% أي ما يقارب 1.9 مليون مواطن، والمهاجرين الروس عدد كبير جدا أيضا، وعدد كبير منهم عادوا الى ديانتهم المسيحية، ويقدر عددهم ب 300 ألف روسي مسيحي. لكن الموضوع الأهم انهم تحولوا الى إسرائيليين نتيجة اندماجهم الاقتصادي والثقافي بالمجتمع الإسرائيلي وليس بدافع الدين اليهودي. والأمر الآخر ان اعدادا كبيرة من الشباب الروس يهودا ومسيحيين يعودون الى وطنهم روسيا حيث فرص التقدم أكبر منها في إسرائيل، وبعضهم يقولون ان موسكو هي أمريكا الجديدة. طبعا من يبقى هم فقراء اليهود او فقراء المهاجرين ولا تهمني هنا قوميتهم او دينهم بل صفتهم الانسانية.
تعالوا نراجع موقف هام جدا لشخصية إسرائيلية تبوأت رئاسة الكنيست ورئاسة الوكالة اليهودية، وأعني ابراهام بورغ وهو انسان متدين أيضا.
دعا أبراهام بورغ إلى إلغاء قانون العودة، وإلغاء تعريف إسرائيل بأنها دولة يهودية لكون ذلك مفتاح نهايتها، ونصح كل إسرائيلي باستصدار جواز سفر أجنبي، وبتفكيك القنبلة الذرية، معلناً أنه لم يعد صهيونياً، واصفا صهيونية هرتسل بالعنصرية، بل وسجل تصريحا لأول رئيس للحكومة الإسرائيلية دافيد بن غوريون الذي قال " ان الصهيونية كانت المنصة التي أقيمت عليها دولة إسرائيل ودورها انتهى" وقال بورغ أيضا: "ان صهيونية هرتسل العنصرية انتصرت على صهيونية أحاد هعام الإنسانية"!!
في حديث عن كتابه المثير والذي اثار ضجة كيرة في إسرائيل «الانتصار على هتلر» قال: اليهودية السائدة اليوم هي اليهودية الحريدية (السلفية المتعصبة – نبيل) وأنا لست كذلك، والقومية اليهودية السائدة اليوم هي قومية المستوطنين، وانا لست منهم ". وقال أيضا:" أننا في الأيام الأخيرة لليهودية العالمية، والصهيونية عندنا هي دائماً كارثية". وقال: "طريقة حياتنا قتالية مع الجميع. مع الأصدقاء ومع الأعداء. قتال مع الخارج وقتال مع الداخل، يمكن القول، ليس بتوسع أو بشكل مجازي، انما بحزن وثقة، ان الاسرائيلي يفهم فقط ... القوة وشدد بورغ على أن إسرائيل تعتمد على القوة فحسب، وهي قوة استعمارية، وقال «انظر إلى حرب لبنان (الثانية)، لقد عاد الشعب من المعركة وكانت هناك إنجازات معينة وإخفاقات معينة وكنت أتوقع من المسؤولين وحتى من اليمين أن يدركوا أنه عندما يمنحون الجيش تفويضاً للانتصار فإنه لا ينتصر وأن القوة ليست الحل. لكن بعد ذلك جاء دور غزة وما هو الحوار حيال غزة؟ أن ندخل إلى هناك وأن نمحوهم، ويبدو أنهم (في إسرائيل) لم يستوعبوا شيئاً». وأضاف ان «الاحتلال هو جزء صغير من الموضوع، فإسرائيل هي مجتمع خائف والخوف الأكبر، الخوف القديم هو ستة ملايين يهودي تمّت إبادتهم في المحرقة».
وقال بورغ إن الفاشية «أصبحت قائمة هنا» في إسرائيل و«هناك حوار حول الترانسفير في الحكومة (الإسرائيلية) وقد تخطّينا الكثير من الخطوط الحمراء في السنوات الأخيرة وعندها تسأل نفسك ما هي الخطوط الحمراء المقبلة التي سنتخطاها أيضاً».
هل التوراة وثيقة يمكن اعتمادها؟ ام هي جزء من الأساطير المنقولة عن مختلف الأساطير من بلاد العراق وغير العراق؟ سفر التكوين مثلا هو اسطورة الخلق البابلية، وقصة الطوفان التوراتية هي نسخ لأسطورة جلجاميش.
العديد نمن الباحثين الأجانب والعرب واليهود أكدوا أن قصص التاريخ حسب التوراة اليهودية، لا تطابق جغرافية وإحداثيات المنطقة من العراق للشام ومصر، وأن الخطاب التوراتي لفق جغرافيتها، ويضيف أنه بحسب السجل التاريخي والأثري لا يتّسع تاريخ المشرق لمملكة متحدة وملوك تقدمهم قصص التوراة، وأنه عالَم خيالي من زمن غابر لم يوجد على هذا النحو أبدا بالمشرق، وأنه لم يكن هناك ما يكفي من البشر لإقامة مملكة.
عالم الآثار الإسرائيلي الشهير "إسرائيل فنكلشتاين" من جامعة تل أبيب والذي يعرف بأبي الآثار، فجر قنبلة جديدة في وجه غلاة التوراتيين الصهاينة وحكام "إسرائيل" بنفيه وجود أي صلة لليهود بالقدس، إذ أكد في تقرير نشرته مجلة جيروساليم ريبورت الإسرائيلية- 5-8-2011- "أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة بما في ذلك قصص الخروج والتيه في سيناء وانتصار يوشع بين نون على كنعان"، مفككا بذلك المزاعم التي تلجأ اليها الدولة الصهيونية لترويج روايتها حول "يهودية المدينة المقدسة"، وهي تلك المتعلقة بثلاثية الأساطير المؤسسة للدولة الصهيونية؛ وهي "أرض الميعاد"، و"شعب الله المختار" و"الحق التاريخي لليهود في القدس وفلسطين"، هذه الاساطير التي اعتمد اليهود الصهاينة عليها في كل ادعاءاتهم حول حقهم في فلسطين، كما ورد  من وجهة نظرهم في التوراة التي أثبتها الباحثين من الأجانب والعرب واليهود ومنهم توماس ثومبسون، مايكل برايور، كيث ويتلام، فراس السواح وغيرهم انه في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، بعد الاكتشافات الأثرية في تل العمارنة وما كشفته الحفريات الأثرية في القدس وبعض المناطق الفلسطينية الأخرى، أثبت هؤلاء بأن التوراة كتاب أدبي قصصي مبني على الأساطير والخرافات في معظمه، وليس كتاب تاريخ يمكن الاستناد اليه كمرجع للأصول التاريخية والأثنية للشعوب والأمم.
قال رافاييل جرينبرج -وهو محاضر بجامعة تل أبيب -إنه "كان من المفترض أن تجد إسرائيل شيئا حال واصلت الحفر غير أن الإسرائيليين في مدينة داود بحي سلوان بالقدس يقومون بالحفر دون توقف ولم يعثروا على شيء".
في اجتماع لعلماء الآثار عقد في سان فرنسيسكو في نهاية 1997 قال البروفيسور أوسيكشين من جامعة تل أبيب الذي شارك قبل ذلك بنحو 46 عاماً في كشف أحد قصور الملك سليمان إنه غّير رأيه وهو اليوم يتفق مع تفسير فنكلشتاين ويقول "يصعب على نفسيتي الرومانسية العاطفية أن تعترف بذلك، وآمل أن يغفر لي سليمان".
كتاب "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها" (اقرأوا بالانترنت مقال نبيل عودة عن الكتاب) لمؤلفان عالمان يهودي إسرائيلي وامريكي يشككان بوجود الملكين داوود وسليمان وانهما اساطير توراتية، تجدون الكتاب مترجما للعربية بالأنترنت (لكن تجاهلوا مقدمة المترجم الغبية)، لمن يعرف العبرية اسم الكتاب (ראשית ישראל)، كما اسلفت نسف الباحثان وهما بروفسور يسرائيل فنكلشتاين من قسم علم الآثار بجامعة تل ابيب، ونيل سيلبرمان عالم آثار أمريكي يهودي، قصص التوراة الأساسية مثل الخروج من سيناء وعجائب موسى ورحلة احتلال يشوع بن نون لأرض الميعاد اذ تبين مثلا أنها آثار هسكوسية وليست يهودية، وكتبوا انه على الأغلب الملك سليمان وداوود هما اسطورتان، مؤكدين انه لا علاقة بين التوراة وارض إسرائيل. الى جانب مقال هام لباحث إسرائيلي من جامعة تل ابيب هو البروفسور زئيف هرتسوغ حيث أتناول تلخيص مقاله وموقفه بهذا النص.
بروفسور زئيف هرتسوغ، هو عالم آثار وأستاذ في دائرة الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب، والذي أسندت إليه الحكومة الإسرائيلية العديد من مشاريع التنقيب عن الآثار في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قام في تشرين أول عام 1999 بنشر مقالة في ملحق جريدة هآرتس اعترف فيها بما كان قد وصل إليه علماء آثار عالميون منذ عقود، فكتب يقول:
“إن سكان العالم سيُذهلون، وليس فقط مواطنو إسرائيل والشعب اليهودي، عند سماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات منذ مدة من الزمن. فبعد الجهود الجبارة في مضمار التنقيب عن "إسرائيل القديمة" في فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، فلم يكن هناك أي شيء على الإطلاق يدل على وجود اليهود في فلسطين، وحكايات الآباء التوراتية هي مجرد أساطير. لم نهبط من مصر، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. إن المكتشفات الأثرية أظهرت بطلان ما تضمنته النصوص التوراتية حول وجود مملكة متحدة يهودية بين داوود وسليمان في فلسطين."
هذه نزر صغير من حقائق يجب ان تعتمد رسميا وليس طرح مواقف تضر بالمواقف الفلسطينية والحقوق المشروعة بتحويل الموضوع الى خلاف هول الهوية الدينية لمواطني إسرائيل.
حق الشعب الفلسطيني هو حق قومي وليس ديني، بغض النظر عن الادعاءات الدينية الأسطورية لإسرائيل وامريكا !!.
ملاحظة: هذه المادة جمعت بعضها بتصرف من أبحاث مختلفة وقسم اساسي منها هي من ضمن مقالات لي سبق وان نشرتها.
nabiloudeh@gmail.com



37
المنبر الحر / دعوة لوجبة فاخرة
« في: 03:36 02/02/2020  »
دعوة لوجبة فاخرة
من الأدب الساخر: نبيل عودة
 
السيد منير رجل غني جدا، خرج من مكتبه، ركب سيارته الفيراري الفاخرة وانطلق بها الى بيته. كان سعيدا بما انجزه في حياته من امول واملاك تكفي لأحفاد أحفاده حتى عشرات الأجيال دون ان يرهقوا أنفسهم بالعمل.
انطلق بسيارته وهو يستمع لأغنية الفنانة الكبيرة هيفاء وهبي:
" ليك الواوا بوس الواوا خلى الواوا يصح
لما بوستو الواوا شيلتو صار الواوا بح "
كان فكره مشغولا بصفقة جديدة يحسب كم ستدر عليه من أرباح ترفع من مكانته الاقتصادية،
أشعل سيجار كوباني فاخر لا يقل ثمنه عن 100 دولار أمريكي، نفث دخانه بمتعة وانبساط، حين شاهد رجلا وزوجته وحولهم أربعة أولاد بملابس ممزقة ورثة وشبه حفاة يأكلون حشائش نبتت بجانب الطريق.
بما ان السيد منير ولد في بيت فقير سابقا، رق قلبه لما يرى، وقرر ان فعل الخير هو واجب انساني، ويكسبه رضاء الله وربما يبيض صفحته يوم الحساب، مع انه على قناعة ان مكانته المالية تضمن له مكانة أيضا في السماء، فهو لن يدفن تحت التراب بل بغرفة واسعة وانيقة من الداخل والخارج، بناها وجهزها لأبناء العائلة يوم يحين رحيلهم.
رق قلبه لمرأى الأولاد ووالديهما.
أوقف سيارته الفيراري، ترجل منها، اقترب للرجل وزوجته واولادهما وسأل:
- لماذا تأكلون الحشائش .. الا تضر بصحتكم؟
- كما ترى يا سيدي، نحن فقراء وجائعين، وليس لدينا في البيت حتى كسرة خبز للأولاد.
- هذا أمر مؤسف .. اذن سأدعوكم لوجبة فاخرة في منزلي، اصعدوا لسيارتي.
ما أن أكمل السيد منير جملته والا الأولاد يركضون لسيارة الفيراري، وورائهم والدهم وامهم.
انطلقت الفيراري نحو بيت السيد منير والأولاد يتوقعون وجبة كثيرا ما حلموا عليها، والوالدين يشعرون بالسعادة ان يتذوقوا بعض الطيبات من منزل هذا الغني، لعل ذلك ينقذ أولادهم من فقر الدم الذي يعانون منه.
دخلت الفيراري من بوابة ضخمة نحو مساحة ارض كبيرة جدا، في صدرها قصر كبير، وامام القصر حديقة كبيرة جدا تملأها النباتات والزهور الكثيرة من اشكال والوان متعددة، هذا عدا مساحة الأرض الواسعة بأشجارها المتنوعة، واحواض عديدة بمزروعات متنوعة.
نزلوا من السيارة وهم مصدومون من جمال القصر واتساع الأرض حوله، قال السيد منير:
- تفضلوا .. هل ترون هذه الحديقة؟ العامل الذي يرعاها ويقص النباتات حتى لا تغطي على جمال الزهور، مريض وغائب منذ أسبوع، تفضلوا، هناك الكثير مما يؤكل، كلوا حتى الشبع، ان نباتات حديقتي أفضل وأنظف من نباتات الشارع.
nabiloudeh@gmail.com

38
المنبر الحر / رؤية واقعية...؟
« في: 20:00 24/01/2020  »
رؤية واقعية...؟
من الأدب الساخر: نبيل عودة
 
ثلاثة محققين شباب جدد وصلوا لقسم التحقيقات في الشرطة. مدير القسم قرر، قبل ان يوزعهم على مكاتب قسمه، ان يفحص ما تعلموه في مدرسة الشرطة، ومدى جاهزيتهم للعمل في قسمه، وفحص قدراتهم على التحقق من مميزات هوية الجناة.
أخرج من جارور مكتبه صورة وقال للمحقق الشاب الأول:
- هذه صورة المتهم الذي تطارده، كيف ستتأكد من شخصيته؟
وأظهر له الصورة لخمسة ثوان فقط.
أجاب المحقق الشاب:
- هذا سهل، توجد له عين واحدة فقط.
 قال مدير القسم:
- ايها المحقق، انا أريتك صورة جانبية لوجه المتهم، وبهذه الحالة لن ترى الا عيناً واحدة.
نفس الأمر جرى مع المحقق الشاب الثاني، أظهر له الصورة لخمسة ثوان فقط وقال له:
- هذه صورة المتهم الذي تطارده، كيف ستتأكد من شخصيته?
ابتسم المحقق الشاب الثاني وقال بثقة:
- أوه عزيزي القائد من السهل القبض عليه، لأن له أذناً واحدة.
غضب مدير قسم التحقيقات من الإجابة الثانية أيضاً وقال بنرفزة:
- ماذا يحدث لكما؟ من الواضح انه في الصورة الجانبية لا نرى الا عيناً واحدة وأذناً واحدة وأضاف:
هل هذا هو أفضل ما لديكما؟
وبغضب بارز طلب من المحقق الشاب الثالث ان يتأمل الصورة وسأله بنفاذ صبر:
- هذه صورة المتهم الذي تطارده، كيف ستتأكد من شخصيته؟
المحقق الشاب الثالث تركز في تفكيره، ابتسم وأجاب بثقة:
- المتهم يضع عدسات لاصقة، هذا يسهل القبض عليه.
المدير لم يكن مستعداً لمثل هذا الجواب الجديد، لأنه حقاً لا يعرف إذا كان المتهم يضع عدسات لاصقة. لكنه سعيد بهذا الجواب الجديد من المحقق الشاب الثالث الذي يشير الى محاولة استعمال الفراسة الشخصية. قال:
- جواب مثير حقاً، انتظروا قليلاً، سأفحص ملف المتهم صاحب الصورة.
دخل للحاسوب، بحث عن ملف المتهم وقرأ مقاطع من الملف. بعض لحظات بانت ابتسامة على شفتيه:
- أمر لا يصدق، هذا صحيح، المتهم حقاً يضع عدسات لاصقة. تشخيص ممتاز. قل لنا، كيف استطعت ان تستنتج مسألة بهذه الدقة؟
أجاب المحقق الثالث:
- مسألة بسيطة سيدي القائد، الشخص في الصورة لا يستطع ان يضع نظارات عادية لأن له عين واحدة وأذن واحدة!!
nabiloudeh@gmail.com
 
 

39
المنبر الحر / غريب يدخل حارتنا
« في: 18:38 20/01/2020  »
غريب يدخل حارتنا

نبيل عودة

ظهر في حارتنا فجأة. من الصعب تحديد دقيق لوقت ظهوره، جاء أمس؟ جاء أول أمس؟ تجمعت شهادات مختلفة، بعضها ذهب للإصرار على انه مضى على ظهوره في حارتنا اسبوع بالتمام والكمال، وربطوا بين ظهوره وبين بداية بث التلفزيون لتمثيلية قصة حياة ام كلثوم. آخرون قالوا ان هذه تخيلات، فظهوره محصور بالأربع والعشرين ساعة الاخيرة. فحارتنا صغيرة، وبيوتها قريبة من بعضها البعض، بالأبنية وبالعلاقات، وانه لا يجوز ان يكون جميع اهل الحارة قد اغفلوا ظهوره لهذا الوقت الطويل، الذي يكاد يتجاوز الأسبوع بكامله، وهذا التحليل فيه منطق، كما يعتقد اغلبية اهل الحارة.

هذا النقاش اشغلنا ليلة كاملة، وبعدها لم نعد إليه، صار خلفنا، وصارت حقيقة ظهوره هي الاهم. وباتت معرفة تفاصيل عنه في رأس سلم الأولويات.

ظننته كما ظن ذلك اهل الحارة ضيفاً عابراً عند أحد الجيران. بعد ان طالت ضيافته بدأنا نبادله تحيات اطول، ونحاول في جلساتنا ان نقارن انطباعاتنا ومعلوماتنا عنه، ونستفسر عنه اصحاب الحوانيت في حارتنا، علّهم يوسعون معلوماتنا عنه وعن شؤونه ومن يكون وما علاقته بالمضيفين؟

أيجوز انه ضيف ثقيل الى هذا الحد؟ او يكون أحد ابناء حارتنا الذين غادروا قبل سنين؟!
 كبار السن من أهل حارتنا لم يتذكروا وجود شبيه له او ما يمت اليه بصلة، سلسلوا المرحومين والمسافرين للخارج والمنتقلين لإحياء اخرى، واستصعبوا الوصول الى من يشبهه شكلاً وجيلاً. حتى ام ابراهيم، ذاكرة الحارة وسجل ايامها ومولدة نصف اناثها وذكورها، اعلنت بعجز وأسى خلو سجلها من كل ما يمكن ان يربط الضيف الجديد بحارتنا.

وربما هو ليس مجرد ضيف!! يبدو انه ساكن جديد عند جيران مختلفين بعض الشيء عنا، يحافظون على مسافة من كل اهل الحارة، رغم بشاشة وجوههم وحسن سيرتهم. الله يخلق الناس مختلفين مثل أصابع اليد ولا اعتراض على امره، هذا اكيد!

بدأت تحاك الخطط لكشف ما خفي من امر الضيف/الساكن على غفلة من أهل الحارة، غير ان ما صعب وعقد الخطط، كون الجيران “انعزاليين” حسب تعبير بقال الحارة وقارئ الصحف الوحيد فيها، والذي يتحف جلساتنا بتعابيره الغريبة والمسلية التي يحفظها عن الصحف، ويدبها بمناسبة وغير مناسبة، ولولا وجود اولئك الجيران لما فهم اهل الحارة المعنى الدقيق لكلمة "انعزاليين" البعض توجسوا أن يكون استعمال هذا التعبير يوازي الكفر، فاستغفروا ربهم وطلبوا رحمته.

اما الصعوبة الثانية في كشف المعلومات الموثوقة فكون هؤلاء الجيران بحركة دائمة. الزوج يعود مرة في الاسبوع. وبالكاد تراه ابراج المراقبة، رغم ان كل التحركات ترصد وتبلغ لمجالس السهرة بتفصيلاتها الدقيقة، وحتى نلتزم الدقة، هناك اضافات لا بد منها لجعل السهرات ”رومانتيكية” كما يقول البقال، وقد فهم أهل الحارة ان الرومانتيكية هي المبالغة، غير ان البقال عجز عن اعطاء التفسير الواضح، فطلبوا اليه حفظ سخافات الصحف في تجاويف دماغه. أما الصعوبة الاخرى فكون الزوجة تعمل بالتعليم وتتعلم مساء وهي دائمة الانشغال او “تعمل حالها مشغولة” كما تقول ام إبراهيم.

وهي لذلك تعتذر عن الاشتراك بقعدات القهوة وفتح البخت ومعرفة المخفي، الذي لا يخفى على ام رياض، وام رياض طعنت في السن وبدأت تخربط بين أسماء أحفادها، ويقال ايضاً بين اسماء ابنائها، لكن المستقبل لا يخفى عنها وتورده كما في نشرات الاخبار، مفصلاً ومطولاً، ومليئاً بالتعليقات والتحليلات والتوقعات، والإمكانيات المطروحة، وهي تؤمن ان الانسان ليس مسيراً تماماً لكنه ليس مخيراً بشكل مطلق، وانه يقدر في حالات ما، ان يتوكل على عقله ويغير بعض الامور، لكنه لن يغير المصائر. والحاجة ام سليمان وافقت ام رياض بالكامل لكنها لا تدري اين سمعت هذا القول “اعقل وتوكل” فهي متأكدة انه مكتوب في الكتب.

وما يميز ام رياض كفتاحة بخت هو نصائحها التي لا بد منها لمواجهة كل طارئ تكتشفه داخل فنجان القهوة. وكثيراً ما انقذت (برؤيتها الثاقبة للطالع المثبت في فنجان القهوة) ابناء الحي من غدر عزرائيل او من مصائب اقل قسوة، وهذا مؤكد على ذمة نساء الحارة مجتمعات ومنفردات، ويقلن ان ام رياض كانت تنذر صاحبة البخت بما هو معلوم وواضح في قعر الفنجان او على حوافه، وكيفية الاستعداد الكامل للطارئ القادم، وأحيانا تعطي اشارات لا بد من تذكرها والانتباه لها، وانه لا بد من الاستعانة عندها بالحاجة ام سليمان لتبخير المنزل وتلاوة الآيات الكريمة ورش الملح خارج البيت، اذ يقال ان الارواح الشريرة لا تحب طعم الملح وترتعب من تلاوة القرآن، ومن ثم اذا كان الطارئ مرضا، يجب الانتقال للطبيب، ليواصل ما بدأته الحاجة من علاج وطرد للأرواح الشريرة، مما يسهل استمرار العلاج.

توصلت النساء الى ضرورة اخذ اسرارهم من صغارهم اي من اولاد الانعزاليين الذين يشاركون اولاد الحارة بعض العابهم قبل استدعائهم بلهجة آمرة للعودة الى البيت. لكن الاولاد مقلون بالكلام، نسخة من اهلهم. حثت النساء اولادهن على استقاء المعلومات عن الضيف الغريب من ابناء الانعزاليين، غير ان الاولاد لا يقلقهم ما يقلق ذويهم وينسون ما اوكلوا من مهام حينما تسخن اللعبة.
اشتدت الحيرة بالحارة، وحتى لا نغفل امر ما يجري لا بد من ان نسجل ان محاولات بعض النسوة لاستدراج اولاد العائلة الانعزالية في الحديث لم توفق، وفشلت فشلاً ذريعاً، وكاد يصل حد الفضيحة، اذ انتبهت الام ومنعت اولادها من النزول للعب.
اتهم الرجال نساءهم بأنهن قليلات خبرة في مجال التحري والتحقيق. بل واحتد أحد الرجال واتهمهن بأنهن قليلات عقل. وذكر رجل آخر آية قرآنية كما قال، تؤكد صحة قلة عقل النساء. احدى الزوجات تحدت زوجها غاضبة ان يجلس حضرته ويجري التحريات وعمليات الرصد وجمع المعلومات بدلاً منهن، بدلاً من التلفظ بالتهم الجائرة والاهانات. صاح رجلها بغضب، ان الجواسيس كانوا دائماً من الرجال، وتحدى ان تذكر اسم جاسوسة امرأة؟! ودعم كلامه بأسماء معروفة، مثل رأفت الهجان، الذي شاهدوا حلقات المسلسل عنه في الصيف الماضي، واضاف اخر حتى جواسيس اعدائنا كانوا من الرجال. هل سمعتم باسم ايلي كوهين وما فعله بالسوريين؟! وقال آخر، انه حتى في امريكا، ام المساواة، الجواسيس من الرجال، فهذا بولارد يتجسس لإسرائيل، وصاح شاب متحمس انه حتى الجاسوس جيمس بوند كان رجلاً وان النساء كن لمتعته فقط. فنزل الصمت على رؤوس الرجال، فهم لم يسمعوا بهذا الجاسوس، ولا يريدون ان يظهروا جهلهم امام نسائهم، ثم ان قصة تمتعه بالنساء كانت ثقيلة وغير لائقة لتقال في محضر مشترك بين رجال ونساء الحارة. وكان أفضل لو تركها لجلسة رجالية، وهنا نطق شيخ الحارة حكمه غير القابل للرفض وهو ان الرجال كانوا دائماً قوامين على النساء ديناً وشرعاً وعقلاً.
انسحبت بعض النساء باستنكار، ولأول مرة يحدث انقسام واضح رغم الصمت الذي تواصل بسبب حذر النساء من تأزيم زائد للموقف. ومع ذلك بقي المخفي يستفز اهل الحارة ويثير حيرتهم.
كان الضيف/الساكن الجديد يخرج باكراً كل صباح، مهندماً على آخر طراز، يفوح منه عطر ذكي، مما دفع الرجال للاقتراب منه ومبادلته ابتسامات واسعة وتحيات صباحية عطرة، متنشقين رائحة عطره الذكي، وقد اثار نوع العطر وثمنه خيال الحارة، خاصة الرجال. واضاف حججاً جديدة لضرورة الكشف عن المخفي. البعض قال انه عطر مستورد من مصانع البغاء في الغرب، التي تصنع هذه العطور لجعل المرأة طوع بنان الرجال. آخرون استخفوا بهذا التحليل وقالوا ان صناعة العطور اليوم حدودها السماء، وانه من الخطأ مقارنتها بالكولونيا الرخيصة والمغشوشة التي تباع ببقالة الحارة. وان العطور اليوم اثمانها تشابه اثمان الذهب، هذه المسألة استصعب الرجال استيعابها. اما النساء فتحسرن، مما أثار حفيظة وخوف بعض الرجال، فقطعوا حديث العطور، وقالوا انه من الواضح ان الضيف/الساكن مليونير من اياهم وبالطبع لم يكن من الصعب الطعن بهذه النظرية، لعدم امتلاك الضيف/ الساكن سيارة فاخرة، فهو يستعمل نمرة 44 وهي اشارة للحذاء. وكان الضيف يعود اخر النهار مهندماً معطراً كما لو انه محفوظ في براد. وثار تساؤل جديد، كيف يطيق الضيف ربطة العنق والجاكيت في هذا الحر؟ واضيف هذا السؤال الى لائحة المخفيات التي لا بد من توضيحها وتفسيرها.
المسألة التي تستحق وقفة خاصة ان الراصدات من النساء، اكتشفن ان الضيف ظهر حتى هذا الوقت ب (7) بدلات مختلفة الالوان والتفصيل وب (12) قميصاً بألوان مختلفة. واختلفوا على عدد ربطات العنق، بسبب صعوبة التمييز بين الوانها من نقاط المراقبة والرصد، فمنهن من تصر انها (8) ربطات عنق حتى اليوم، ومنهن من تصر على (12) ربطة عنق تماماً بعدد القمصان. لكنهن اتفقن ان يبقين هذه المعلومات طي الكتمان عن مجلس الرجال، نكاية بهم من الاهانة الجماعية التي طالتهن، غير ان سمر ضعيفة النفس، التي تشترى وتباع بابتسامة من زوجها، اعترفت في لحظة ضعف بهذه المعلومات السرية. وكاد اعترافها يحدث طوشات بيتية بين الازواج وزوجاتهم، بسبب شعور المهانة وفقدان الهيبة، واستهتار النساء الظاهر بمركز الرجال، بإخفاء أسرار يجب الا تخفى، حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه، ويتدهور امن الحارة واستقرارها، وما ينقص رجال حارتنا في هذا الزمن الرديء ان يتعطلوا عن اعمالهم للقيام بمهمات الاستطلاع والرقابة؟! حقاً النساء قليلات عقل، بل وقليلات دين ايضاً كما قال شيخ الحارة وأضاف: “ان كيدهن لعظيم”، اما المسألة التي استصعب رجال حارتنا هضمها، فهي كيف يعرف زوج سمر، الحديث العهد بالزواج والمسؤولية، هذه الاسرار وهم ذوو النفوذ والسطوة تخفى عنهم؟
وجهن النساء اللوم لسمر التي فضحتهن، وتقرر فرض مقاطعة نسائية كاملة عليها عقاباً لها للخروج عن كلمة النساء وفضح اسرارهن. غير ان زوج سمر لم يهزه الامر. طمأن سمر بأن هذه المقاطعة لا تختلف عن المقاطعة العربية لإسرائيل، سرعان ما تصبح فتحاتها أكبر من فتحة طبقة الاوزون. قد يعالجون فتحة الاوزون، مهما طال الزمن، اما اوزون المقاطعة العربية فيتسع باستمرار، ونفس الحالة مع نساء الحارة، وقال لها: ابدئي بجارتنا الحجة ام سليمان فهي المفتاح. تحملي كشرتها وادعيها لتبخر البيت، فهي تعشق هذه المهمة وتكرس لها كل وقتها وتفكيرها واحلامها.
قالت له سمر انها لا تؤمن بهذه الخرافات والتقاليع. طمأنها بأنه لا يختلف عنها، ويعتبرها تمثيليات مسلية، لكننا ابناء حارة يسري علينا ما يسري على الجميع ونقبل ما يقبلون، هكذا السياسة يا سمرة. وبهذا الشرح الوافي والواضح تعلمت سمر اول دروس السياسة، وبناء عليه كشفت لزوجها معلومة جديدة بأن الراصدات سجلن حتى اليوم، استعمال الضيف لـ (3) ازواج من الاحذية المختلفة، فطالتها قبلة من رجلها، وهكذا كان.
مع صباح اليوم التالي، رصدت سمر خروج ام سليمان لبلكون بيتها، مقابل بلكونها بالضبط، فسارعت سمر تلقي على جارتها تحية الصباح بصوت قصدت ان تسمعه عاشر جارة. اجابت الحجة ببرود وبعدم رغبة ظاهرة في تبادل ما هو أكثر من التحية. غير ان سمر عاجلتها بطلب تبخير البيت، خوفاً من ارواح شريرة تكون وراء فلتان لسانها وتخريب سر نساء الحارة. وقالت انها كئيبة وتشعر بتوعك وأنها لولا ذلك لما فتحت فمها، اذ ان زوجها رأى حالتها واصر ان يعرف ما تعانيه ويبدو انها كشفت السر وهي غائبة عن الوعي.
توردت خدود الحجة وفتحت عينيها بيقظة، وانهالت تخاطب سمر ب “يا حبيبتي ويا روحي ويا ضو عيني، ويا فلذة كبدي، والعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن العفاريت والجن”، وتمتمت بآيات مقطعة، وصلت كلمات متناثرة منها لا يربطها رابط بمعنى واضح، وقالت بصوت مرتفع لتسمعها الجارات: “انا في الطريق اليك يا سمر يا روح امك، لن ابقي لهم اثراً بإذنه تعالى”.
وهكذا انتقلت المعلومة من بيت الى بيت، بأسلوب يضاهي بسرعته وانتشاره أفضل محطات التلفزة، مثل تلك التي نقلت لصالوناتهم حرب العراق المسماة "الجزيرة" وحتى أفضل من سرعة انتقال الاخبار المفبركة لدار الإذاعة الإسرائيلية.
دب النشاط في الحارة، وتجمعت الجارات داخل وخارج بيت سمر لحضور طرد الارواح الشريرة من بيتها.
قامت الحاجة بجهد واضح، وبذلت ما في وسعها من قدرة صبر وقوة ايمان، حتى ظهرت شرايين عنقها وأجهدها التعب والعرق، وما ان اتمت مهمتها، حتى تساقطت متهالكة على الكنبة، فسارعت اليها سمر بكوب ماء بارد.
اما المفاجأة الكبيرة التي لم يتوقعها أحد فهي ان الراصدات في الصباح التالي ابلغن المتجمعات في بيت سمر ان الضيف لم يظهر هذا الصباح، فأصابهن الخبر بالذهول والحيرة ومضت عدة ايام وصار عدم ظهور الضيف مرة اخرى حقيقة متجلية.
وتعطلت او كادت مشاريع الرقابة وتوقفت النقاشات واختلافات الرأي وبدأ الملل يتسرب للبيوت، فتطفأ الاضواء في ساعات مبكرة ويلهو كل رجل بما كتب له.
وفي صباح أحد الايام وحتى قبل ذهاب الرجال الى اعمالهم، طرقت ام سليمان باب بيت سمرة بقوة، صارخة بفرح شديد انها تعرف الان حقيقة الضيف المزعوم، فهو ظهور للشيطان بصورة بشرية بهية، اختفى حينما نجحت ام سليمان بإخراج روحه النجسة من بيت سمر وانقذت الحارة من احابيله، فالحمد لله!!

nabiloudeh@gmail.com

40

قصتان من الأدب الساخر: نبيل عودة

1- الايمان

خرج جمال برفقة صديقه جواد الى رحلة. اثناء تجولهم بإحدى المدن وجدا اعلانا على باب كنيسة يقول: كل من يغير دينه الى الكاثوليكية سيحصل منا على الف دولار!!
 
جمال تحمس وقال لصديقه : تعال ندخل وسنحصل سوية على 2000 دولار!!
 
- لن ارتد عن ديني ... قال جواد.
 
- انا سأدخل ولن اقاسمك ولن اقاسمك على ما ساحصل عليه.
 
- انت حر.
 
دخل جمال الى الكنيسة. مرت الساعات وجمال داخل الكنيسة وجواد ينتظره..
 
بعد ان كاد جواد يغادر المكان مللا من الانتظار، ظهر جمال فجأة:
 
- ماذا جرى بك لتبقى ساعات طويلة داخل الكنيسة؟
 
- غيرت ديني.. وتنورت بالإيمان.. واشعر بالراحة والاطمئنان
 
- حقا؟ يا للغرابة.. كنت سعيدا وغارقا في ملذات الحياة. هل بعت نفسك بألفي دولار؟
 
- النقود؟.. انا شخص مؤمن الآن... ما قيمة النقود مقابل الايمان؟ غير المؤمنين من البشر لا يفكرون الا بالنقود؟!
رد جواد: قال احد الفلاسفة "الايمان السيء هو أيضا ان نرى انفسنا كأصحاب قدرات غير محدودة، وبدون أي قيود على حريتنا".
وغادر المكان.
 
************
2 - دعاء
 
كانت جارة لنا تخرج كل صباح جديد، وتنظر الى السماء وتقول بصوت مرتفع: "احفظ يا الهي هذا البيت بعيدا عن النمور" وتعود الى داخل البيت.
هكذا مضت الأيام.. والجيران يضحكون من هذا الرجاء، حتى تجرأت جارة وقالت لها: " ياجارتي العزيزة.. انت تشغلين نفسك بموضوع بعيد عن الواقع، لأنه لا يوجد نمور قريبة من بلادنا، وأقرب نمر الينا يبعد عنا آلاف الكيلومترات.. وحتى يصلنا يجب ان يجتاز اراضيَ وجبالاً وأنهاراً وبحارا"
فردّت عليها الجارة: "هل ترين الآن فعالية رجائي"؟
 
nabiloudeh@gmail.com


41
يوميات نصراوي: في ذكرى وداعك: ستبقين أمي ..!

نبيل عودة

في صباح اليوم الأول بعد وداعك، (أواخر 2000) وعلى غير العادة كانت جريدة “الاتحاد”* ملقاة على باب بيتك.. ودافع قوي يشدني لأقرع الباب وأذكرك انك، على غير عادتك .. لم تأخذي الجريدة بعد.
وقفت طويلا متأمّلا الباب الموصد بحيرة .. متخيّلا إيّاك وراءه .. وانك بين لحظة وأخرى ستفتحين الباب وأشاهد وجهك بهدوئه والابتسامة التي لا تفارقه .. وستأخذين جريدتك، تماما كما تفعلين كل صباح .. وأن ما ظننته وداعا أبديا لك هو حلمٌ مزعج، وهمٌ ثقيلٌ سرعان ما يبدّده ظهورُك. كانت الجريدة الملقاة أمام بابك تقول عكس ما نعرف، كنت أريد أن أصدّق، كنت أنتظر، كجريدتك… أن ينشقّ الباب لتملئيه بتفاصيلك المعروفة لي، ثم تأخذين جريدتك. لا يمكن أن نفقدك بدون أي إنذار مبكر وأنت في قمة نشاطك وعطائك وصحتك… لم أكن مستعدا لأتعوّد على غيابك الأبدي، على بابك الموصد وعلى جريدتك المنتظرة.
حين قرر ابنك الطبيب أن يجري لك فحصا، بعد أن ثارت لديه الشكوك بمرضك، حاولت إقناعه أنْ لا ضرورة لهذه “الغلبة” وأنك، ما عدا قليل من الإمساك، تعالجينه بالدواء المناسب، هذا كل شيء.
 لا أدري إن كنتِ تخفين آلامك عنا؟ لكن وجهك الذي يجعلك تبدين أصغر من عمرك بعقد أو عقدين يؤكد ما تصرين عليه بأن صحتك جيدة ولا تستوجب القلق والفحوصات المتعددة التي حاولت التهرّب منها. لماذا لا نصدّقك؟ لكن طبيبك يصرّ على موقفه وهو ليس كأي طبيب .. إنما هو ابنُك. كان قراره ملزما .. وكان ضجرك من قراره واضحا جليا، واصلتِ بين فحص وآخر حياتك الطبيعية، كنتُ أشعر بسخريتك من قرار “تعذيبك” بالفحوصات .. وكانت “الاتحاد” تنتظرك كل صباح أمام باب بيتك. كان لا بد لي أن ألقي نظرةً كلَّ صباح عند بابك فأرى أنك سبقتِ الجميع في استلام صحيفتك. كنت تبقين باب بيتك أقلَّ بقيراط من الإيصاد الكامل، لأن قهوتك جاهزة بانتظار كل من يطرق بابك من أبنائك بل حتى بائعات اللبن والبقول ..
انظر اليوم إلى الباب الموصد بعجز عن التصديق، برفض لقبول ما أرى، بإحساس مجنون متفجّر انك لا بدّ تقفين، كما أعهدك .. وراء الباب الموصد، أو تجلسين بمكانك المعهود، تطالعين جريدتك وتحتسين قهوة الصباح.
وقفت طويلا أمام الباب وأنا بين دافع الإقدام ودافع التراجع .. وشعور بالثقل يتزايد وأقاوم دمعة تكاد تطفر من عيني.
قبل أن تصبحين مجرّد ذكرى فاجأتِني بأن “أرشيفك” يحوي مختلف المجلات والصحف التي نشرتُ فيها منذ السبعينات، أي مع أول عمل أدبي نشرتُه. بدأتِ تنقلين لي دفعاتٍ تلوَ دفعات أعدادا مختلفة من مجلات “الجديد”، “الغد”، “الأسوار”، “نداء الأسوار”، “الآداب”، “الكاتب”، “البانوراما” وغيرها .. ففوجئت بكتابات نسيتها، بل غابت تماما عن ذهني.
كم تألّمت في الصباح الأول بعد فقدانك، حين نظرت لصحيفة “الاتحاد” مسجّاة أمام بيتك، دون أن يجرؤ أحدٌ منا أو من أولادنا على التقاطها للاحتفاظ بها لك، كما تعودنا في أيام وجودك خارج البيت.
أبقينا جريدتك تنتظر علّك تطلين أخيرا، علّها تكون معجزة تعيدك إليها وإلينا. يعيد لي أشدّ قرّائي حماسة ومثابرة. هل أستطيع أن أكتب الآن وأنا على يقين بفقدانك مع ما يعنيه فقدانك لي ؟
ماذا يسعني اليوم أن أقول أمام بابك الموصد؟ أمام جريدتك المنتظرة بخشوع أن ينشق باب بيتك ..؟ ربما أطمئنك إذا قلت إني سأبقى مخلصا لقلمي ولما زرعتِه فيَّ من حبٍّ للمطالعة والكتابة .. وإن نسيتُ، فلن أنسى أبدا أنك جعلت من “الاتحاد” كتابيَ المدرسيَّ الأول والوحيد، الذي تعلّمت على صفحاته القراءة وأنا في طريقي لجيل الخامسة ولم أكن بعدها بحاجة لأي كتاب مدرسي آخر لتعلُّم القراءة.
بفقدانك سأعزّز ما كسبتُه منك في طفولتي، علّني أجد فيه عوضا عن غيابك .. ستبقين حية فينا .. ستبقين أجمل ذكرى مع إطلالة كل فجر.
ستبقين أمي!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- الاتحاد – صدرت باسم “مؤتمر العمال العرب” في فترة الانتداب البريطاني، اليوم ناطقة باسم الحزب الشيوعي، هي الصحيفة اليومية العربية الوحيدة في إسرائيل. من أبرز محرريها: المؤرخ د. إميل توما، الكاتب إميل حبيبي والشاعر والمفكر سالم جبران. لعبت الاتحاد دورا تاريخيا، سياسيا وتنويريا هاما. علمتني والدتي القراءة على صفحاتها منذ بداية وعيي، نفتقد اليوم للصحيفة التي تثقفنا على اقلام محرريها وكتابها ونهجها. من المؤسف ان هذه المادة (عن أمي) سبق للاتحاد ان رفضت نشرها عام 2000 رغم ان امي كانت نشيطة سياسيا بمنظمة النساء الديموقراطيات الشيوعية … لكن التاريخ أكثر قداسة من الذين حولوا حاضرهم الى مهزلة!!
nabiloudeh@gmail.com

42

رؤية فلسفية: الثقافة لا تنشأ بقرارات فوقية
نبيل عودة
لم نعد نسمع شيئا عن تيار الثقافة والفن الذي عرف باسم "الواقعية الاشتراكية"، جدير بالذكر ان هذا التيار احتل الواجهة الثقافية الاعلامية للتيارات الماركسية بعد ثورة اكتوبر وقيام الاتحاد السوفييتي، الاصطلاح نفسه صاغه الأديب الروسي – السوفييتي مكسيم غوركي صاحب رواية "الأم" الرائعة، التي اعتبرت بداية أدب الواقعية الاشتراكية.
خلال عقود وجود الاتحاد السوفييتي أصبحت الواقعية الاشتراكية معيارا ل "ألأدب الجيد" و"الأديب المناضل الثوري التحرري" في مواجهة التيارات الأدبية "البرجوازية والامبريالية المعادية للإنسان" حسب الصيغة التي روجها النظام السوفييتي واتباعه، لدرجة ان المدارس الأدبية التي برزت في الثقافة الانسانية مثل المذهب التاريخي، المذهب الاجتماعي، المذهب الجمالي، المذهب الكلاسيكي، المذهب الرومانسي، المذهب الواقعي (اطلق عليه ايضا اسم الواقعية البرجوازية)، المذهب الرمزي، المذهب الوجودي، المذهب العبثي وغيرها من التيارات الجديدة مثل تيار الحداثة وما بعد الحداثة... اختصرت كلها تحت صيغة "ثقافة برجوازية" مهمتها فقط تبرير النظام الرأسمالي الاستغلالي.. الخ، بتجاهل كامل لأعمال ابداعية انسانية وفكرية غير مهادنة وداعمة لحقوق الانسان وحق الشعوب المستعمرة بالتحرر من نير الاستعمار، لكنها خارج ما عرف بأدب الواقعية الاشتراكية!!ّ
انا شخصيا تأثرت حتى النخاع بالأدب السوفييتي والروسي الكلاسيكي، بغض النظر عن تسميته واقعي اشتراكي كان بجذوره ادبا انسانيا، وقد قرأت تقريبا كل ما صدر من ترجمات الأدب السوفييتي، وكانت هناك دارا سوفيتية للنشر باسم "دار التقدم". طبعا بعض ما ترجم برزت فيه الدوغماتية الجدانوفية التي اضرت بالمضمون الجمالي.
ابواق الدعاية السوفييتية وابواق اتباعها في الحركات الشيوعية روجوا بشكل واسع للواقعية الاشتراكية، وما زال بعض نقاد الأدب يستعملون هذا الاصطلاح وكأن العالم لم يتحرك باتجاه مضاد حتى قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وسقوط كل المفاهيم عن الواقعية الاشتراكية، ولا اقول سقوط الأدب والفن الذي انتج شكليا تحت صيغتها، لأنه كان ادبا انسانيا رائعا بكل المقاييس.
هنا لا بد من سؤال: هل نشأ حقا تيار ثقافي بروليتاري باسم تيار الواقعية الاشتراكية؟
الأسئلة الجوهرية: هل يمكن نشوء تيار ثقافي بقرار سلطوي وبأوامر من الحزب الحاكم وقادته، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي؟
هل هناك تشابه بين قرار انشاء ادب الواقعية الاشتراكية ونشوء آداب للطبقات الاجتماعية السائدة في المجتمعات قبل المجتمع الاشتراكي؟
هل ما عرف بأدب الواقعية الاشتراكية هو أدب عمالي؟ ثقافة بروليتارية موازية ومعارضة للثقافة البرجوازية؟
الثقافة البرجوازية، او الواقعية البرجوازية كما يحب ان يسميها البعض، ظهرت الى حيز الوجود منذ ستة قرون على الأقل، أي في عصر النهضة (الرينيسانس) وبلغت اوج تفتحها في القرن التاسع عشر، ويمكن رصد بداية التيار الثقافي البرجوازي في عصر الاقطاع مع بداية انشاء الصناعات الرأسمالية الأولى.
التاريخ يبين ان نشوء ثقافة جديدة لطبقة سائدة جديدة، يحتاج الى حقبة من الزمن قد تمتد قرونا ولا تخضع لقرارات قوة سياسية ناشئة واوامر فوقية لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي وبالنهج الفكري السائد، او بالرغبات لنظام سياسي او حزب سياسي.
حتى لو قبلنا فكرة ديكتاتورية البروليتاريا التي لم تطبق اطلاقا بل طبقت ديكتاتورية قيادات حزبية لم يلتزموا اطلاقا بالفكر الطبقي الماركسي الذي ادعوا انهم يمثلوه ويطبقوه. لأنه حتى الدولة الاشتراكية بمبناها لم تختلف عن مبنى الدولة البرجوازية ( ولكنه موضوع آخر) المهم أن مفهوم طبقة البروليتاريا كانت نقلا عن واقع عايشه ماركس في كومونة باريس، وتلاشى هذا المفهوم بسرعة لأنه كان ظاهرة عابرة، وحتى مفهوم الصراع الطبقي التناحري بين البروليتاريا ( او الطبقة العاملة) والبرجوازية الذي يقود الى اسقاط النظام البرجوازي وبناء نظام شيوعي ( حسب نظرية المادية التاريخية لماركس) لم تثبت صحتها نظريا، أكثر من ذلك لم تنشأ البروليتاريا الا في عدد من الدول الأوروبية المتطورة اقتصاديا ولم تنشأ أي بروليتاريا خارج اوروبا، وظاهرة البروليتاريا ارتبطت بقوانين الأراضي في الدول البرجوازية التي قادت الى خراب المزارع واغلاق مساحات شاسعة من المراعي لصالح الصناعة والتطور الرأسمالي، فتدفق الفلاحون المنكوبون لبيع قوة عملهم لدى اصحاب المصانع...وشكلوا الجزء الأكثر فقرا واستغلالا في اوساط الطبقة العاملة، كان من الخطأ جعل اصطلاح البروليتاريا شموليا لكل الطبقة العاملة، لأنه اصطلاح يخص الفئة الأكثر املاقا في المجتمع، أصل الاصطلاح من الدولة الرومانية القديمة حيث اطلقت هذه التسمية على الفئات الأشد فقرا في المجتمع المعفيين من الضرائب. حتى الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي لم تكن ثورة بروليتارية بمضمونها، بل ثورة جمهورها الأساسي من الفلاحين الذين تلقوا وعودا بالحصول على الأرض من لينين قائد ثورة اكتوبر.
لا اكشف أي جديد بالقول ان النظام السوفييتي كان بعيدا عن الماركسية (شوهها لينين وقبرها ستالين) التي ادعى انها نظريته لبناء الاقتصاد، المجتمع والدولة. وقد سقط النظام مع اول محاولة للتصحيح حاول ان يقوم بها الرئيس السوفييتي الأخير غورباتشوف لإنقاذ المجتمع والاقتصاد السوفييتي.. لسبب بسيط، ان الجماهير فقدت ثقتها بالجذور الفكرية التي روج لها النظام بصفتها عدالة اشتراكية وحقوق انسان ورفاه اجتماعي ومسابقة مع الغرب الرأسمالي للتفوق عليه، بينما كل الدلائل اشارت الى تخلف النظام السوفييتي في المسابقة الاقتصادية ومساحة الديمقراطية المتاحة ومستوى الحياة للمواطنين.
كل ما تبقى من تيار الواقعية الاشتراكية كان مجموعة من الدوغماتيين المتمسكين بأوهام لم يتحقق منها شيء في الواقع، والثقافة التي سادت عالمنا ظلت الثقافة البرجوازية، التي طورت اساليب ومدارس جديدة، تميزت بالفهم الانساني للواقع، وليس بالكتابة حسب نظريات وقيود فرضت على المبدعين، دمرت الثقافة ودمرت الأدباء وعاقبت بعضهم بسبب اعجاب الغرب بإبداعهم الأدبي -جكتور زيفاغو مثلا!!.
اذن نشوء تيار ثقافي جديد لا علاقة له بالنظام او بالقرارات الفوقية. ولا بتعيين قوميسار للثقافة أشبه بقائد عسكري يصدر اوامره للكتاب والفنانين حول ماذا يكتبون.
اشتهر القوميسار الثقافي السوفييتي المعروف باسم جدانوف وتعبير قوميسار من اللغة الروسية كان صفة لضباط سياسيين ملحقين بالوحدات القتالية، وأصبح اسم القوميسار جدانوف يرمز للتزمت السياسي والانغلاق الثقافي والقمع للمفكرين والأدباء، واعطاء الأوامر للمبدعين حول ما هو مقبول للنظام وما هو مرفوض ثقافيا وفنيا، لدرجة التدخل بفرض مضمون لشخصيات ابطال النصوص الأدبية او الفنية وما هي المضامين التي يجب الالتزام بها.
جدانوف وصم مرحلة كاملة باسمه وصفت بـ "الجدانوفية"، استمرت بعد وفاته أيضا، فرضت على الأدب السوفييتي نهجا متزمتا ألحق الضرر بالدولة السوفيتية وبالأدباء والفنانين، وبعضهم واجهوا النفي في سيبيريا وغير ذلك من وسائل القمع.
نهجت الجدانوفية على تأميم العقول وقمع الإبداع الثقافي والفني الذي تواصل بعد ستالين ايضا، من الموبقات التي ارتكبت اشهرها طرد وتجريد الكاتب الكبير سولجينتسين من جنسيته السوفيتية عام 1974 وهو في منفاه (من أشهر اعماله روايتيه "أرخبيل غولاغ" و "يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش" حيث فضح واقع معسكرات النفي والعمل القسري في سيبيريا) ، وتعرض الشاعر والروائي بوريس باسترناك لحصار شديد لقيامه بكتابة روايته الرائعة "دكتور جيفاكو" التي منعوا نشرها في وطنه وكان تبريرهم في منعها أنها تسيء إلى الثورة البلشفية، فاضطر أصدقاء باسترناك إلى تهريب "دكتور جيفاكو" إلى الغرب ونشرت الرواية هناك ومنح باسترناك جائزة نوبل للآداب عنها، ثم تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي قام ببطولته عمر الشريف. الرواية لم تكن أبدا معادية للثورة البلشفية، إلا إذا اعتبرنا نقد التصرفات الغوغائية عداء.
اذن يمكن القول بدون تردد، ان الثقافة لا تتطور حسب فرض من السلطة او الحزب، من هنا سقط واختفي تيار الواقعية الاشتراكية. رغم ان الابداع الثقافي السوفييتي حتى الذي التزم (تحايلا) ببعض شروط الرقابة الجدانوفية كان ابداعا راقيا ورائعـا.
ربما تكون الجدانوفية التي استمرت بعد جدانوف من محركات الغضب التي ساهمت بإسقاط النظام السوفييتي أيضا. اليوم لا اجد كاتبا روسيا واحدا يبكي على سقوط النظام السوفييتي. وبالطبع لم اعد أسمع عن بدعة الواقعية الاشتراكية، الا في أوساط تعيش على هامش الثقافة والأدب.

nabiloudeh@gmail.com



43
فلسفة مبسطة: الأبدية (اللانهاية) ما هي؟

نبيل عودة

اثار مصطلح اللانهاية (الأبدية) بلبلة في صفوف الفلاسفة الميتافيزيائيين. على العموم تُفسر الميتافيزياء (الميتافيزيقا) بأنها فلسفة "ما وراء الطبيعة" وتعني الاشياء التي لا تخضع لقوانين الطبيعة.. تتجاوز حدود الطبيعة او ما وراء الطبيعة وصولا الى علم الالهيات. وقد اطلق الفلاسفة على مر العصور تسميات كثيرة على الميتافيزياء أفلاطون وصفها ب "علم المُثل"، عند أرسطو أصبحت تعني "علم العلل"، المدرسة الأفلاطونية الحديثة تطلق عليها اسم "علم الوحدة" ،بينما  ديكارت اعتبرها "علم اللامادي"،  بينما  هيغل اعتبرها "علم الفكرة المحضة أو الحقيقة الروحية الخالصة"..وهناك تسميات أخرى ..
ما هو الفرق بين الفيزياء والميتافيزياء؟
الفيزياء تحاول وصف ما يجري والتنبؤ المسبق به . يقول أينشتاين  عالم الفيزياء المشهور: "إن أكثر ما في الكون امتناعاً على الفهم هو أنه قابل للفهم". وهذا يناقض مفهوم علم الإلهيات الذي ينشغل بقضايا لا تمت للواقع بصلة.. ومتعلق بالغيبيات!! 
  هل السبب في وجود الفكر الميتافيزيائي هو العجز عن الفهم الكامل للكون ؟
منذ فجر التاريخ والفكر البشري يبذل ما بوسعه لاكتشاف العالم والحياة. اي تحويل العالم إلى نماذج تحتل حيزا  في الذهن الفردي والعلم هو أحدث محاولة في هذا السياق. أما الأسطورة او الغيبيات فليست إلا التفسير الذي يرضي القاصرين عن المعرفة.
الميتافيزياء اليوم هي مجال للبحث في بالمبادئ العليا التي لا وجود لها الا في الذهن كحالة متخيلة. وليس كحالة طبيعية (فيزيائية) يمكن ان تعالجها الفيزياء ، وجهة نظر الفيزيائيين، هي الوجهة السائدة في العلوم تقول: ان الميتافيزياء هي نظرة سطحية ومحدودة للعالم!!
اذن النظرة الميتافيزيائية هي التي تؤمن باللانهاية، بالأبدية، أدخلت الميتافيزيائين في متاهة لا نهاية لها.
مثلا يطرح السؤال كيف يمكن لمرحلة زمنية محددة لمريض ما على حافة الموت ان تكون ابدية – لا نهاية لها؟
الفلسفة تروي قصصا مختلفة لتسهيل فهم الموضوع الابدي- الميتافيزيائي، ومن تسجيلاتي وقراءاتي وجدت فكرة لقصة قصيرة مناسبة تشرح فكرة الأبدية بشكل رمزي - ساخر:

حياة ابدية.. !!
مرضت سعاد وتدهورت حالتها الصحية بسرعة بعد أن أجريت لها عملية استئصال لورم خبيث في الاثني عشر.
الجراح قال لها أن الوضع محرج ، اذ ان المرض انتشر الى الكبد أيضا ، وهو لا يظن انها ستعيش أكثر من ستة أشهر.
صعقت للخبر ، وبكت بحرقة ،وكادت تصرخ :
- ستة أشهر فقط ؟
- أنا آسف .. قمنا بكل ما يلزم .. الأمر ليس بيدنا الآن .
- ولكني أحب الحياة .. واريد أن أعيش دهرا كاملا.. أكره الموت وانا لم أصل حتى لمنتصف العمر ..
- يوجد حل ..
قال الطبيب ..
تنبهت سعاد لقول الطبيب وشعرت ببعض التفاؤل. وعندما شعرت ان الطبيب طال صمته عن شرح الحل المفرح حثته :
- وما هو الحل .. ؟
- ان تتزوجي من شاعر .
- شاعر ..؟! وكيف سيساعدني زواجي من شاعر ..؟ هل للشاعر حل لمرضي لا يعرفه الطب ؟!
- آه هذا سؤال جيد .. سأشرح لك ..
طال صمته مرة أخرى . ضايقها تمهله في الكلام وهي تنتظر كلماته على أحر من الجمر .
- أني أنصت .. اشرح لي ؟
- الشعراء مخلوقات مغرورة .. كثيرة الغلبة والطلبات .. مزاجيون متقلبون .. يعيشون في وهم انهم من طينة بشرية عليا.. وما عداهم مخلوقات دنيا.. يدعون انهم مع الناس وهم منعزلون عن الناس . الشاعر منهم يريد من المرأة المتزوجه به ان تكون وفق تقلب مزاجه .. ستسمعين شعر زوجك ليلا ونهارا حتى تتمنين الطرش .. والويل اذا لم تقولي له ان مثل هذا الشعر الرائع لم يسبق لك ان سمعتي مثله .. وربما في يوم القيامة ، عندما يسأله الله عن حسناته وسيئاته سيقول انها كلها حسنات لأنه شاعر كبير ، وان السيئة الوحيدة التي ارتكبها هو زواجه منك ... وان هذه السيئة تغفر عادة للرجال منذ غفر الله لآدم بعد ان أغرته زوجته حواء على الأكل من شجرة المعرفة ، وهو يتوقع ان يقول له الله بما انك أعظم الشعراء ، تعال اجلس بمكاني فأنت أهل لأن تحل محلي. والويل لك اذا كان يكتب قصيدة وتأخر فنجان القهوة .. او جاء سكر القهوة ليس كما يشتهي..سيتهمك بتخريب القصيدة ويصنفك مع مدمري برجي التوأمين في نيويورك . واذا نشر قصيدة وانتُقدت بحدة ستتهمين بأنك قليلة الايحاء وفاقدة للذوق الشعري مثل نُقاده . واذا مدحها الناقد الحداثي الذي لا يفقه ما هي الحداثة ستنالين باقة ورد لتضعيها .. انتبهي ، بجانب سريره .
- ولكني لم أفهم بعد كيف سيشفيني هذا من مرضي.. كيف سيجعلني أعيش دهرا ..؟
- أه سؤال مهم .. الشاعر كما شرحت لك سيجعل حياتك جهنم .
- وماذا مع مرضي وموتي المرتقب بعد ستة أشهر؟
- آه .. وصلنا لجوهر الموضوع .. لن تتغلبي على مرضك .. ستموتين بعد ستة أشهر .. ولكن ستة أشهر مع شاعر ستشعرين انها دهر كامل .. وربما تتمنين الموت قبل نهايتهم !!
 
nabiloudeh@gmail.com
 




44
فلسفة مبسطة: مفهوم الله في تاريخ البشرية
نبيل عودة
 
قرأت قبل سنوات كتاب يحمل عنوانا مثيرا "تاريخ الله" كتبته صحفية انكليزية وهي بالمناسبة راهبة كاثوليكية سابقة، الكتاب مثير بما يطرحه، باستعراضه تاريخ الايمان برب واحد في اليهودية والمسيحية والاسلام، خلال ال 4000 الاف سنة الماضية من التاريخ البشري.
المؤلفة كارن ارميسترونغ، تقود القارئ الى اهم رحلة تاريخية في حياة البشرية، رحلة البحث عن الله. تتناول في كتابها تطور الفكرة الإلهية في تاريخ الشرية. وتستعرض نقاط الاتفاق والخلاف في الديانات التوحيدية الثلاثة، والتأثير المتبادل لكل دين على الدين الآخر.
الفكرة الجميلة في طرحها هو كيف تطورت الفكرة اللاهوتية بعيون سكان الأرض عن رب الجيوش القبلي، لقبيلة قليلة العدد الجالس بأعالي السماء، الى رب عادل رحيم بكل الديانات التوحيدية الكبيرة. وكيف أصبح من رب مخيف الى كيان مألوف، اصبحت له اعتبارات جديدة، وعلاقة جديدة نمت بينه وبين البشرية. حتى انه يمكن القول ان الله الجديد، المتحول من الله الرهيب، أصبح في خدمة البشرية.
تشير المؤلفة ان الله الجديد، لم تعد له صفات العدل والرحمة فقط، بل تحول ايضا الى خادم لأهداف سياسية واجتماعية واقتصادية في اخلاقيات وتفسيرات جماعات المؤمنين. طبعا تشير ارمسترونغ الى ان الفكرة اللاهوتية تصبح عتيقة مقابل الواقع الجديد المتضارب، بحيث تبرز افكار جديدة، تغير حتى فكرة الله القديمة نفسها.
يمكن القول بشكل عام، دون الاقلال من حق المتدينين باي ايمان يطابق ما نشأوا عليه، ان فكرة الألوهية هي احدى الأفكار الأكثر ضخامة في التاريخ البشري، وبنفس الوقت هي احدى أكثر الأفكار اشكالية ايضا. في مختلف الثقافات التي ظهرت في التاريخ البشري، فكر الانسان كيف يحدد مكانته غير الثابتة في عالمه، لذا خاضت البشرية طريقا طويلة ومثيرة للاهتمام من الروحانية إلى الألوهية. ومن يقرأ مثلا سفر التكوين التوراتي، او أي قصة خلق اخرى، دينية كانت ام وثنية، يلمس المكانة العظيمة والقوة الهائلة لفكرة الله في التاريخ البشري اللاهوتي. فهو خالق الانسان والأرض والبحار والسماء والشمس والكواكب والنبت والزرع الى آخره.   
ذلك الرب العظيم لم يكن له صور، ولم يخدمه رهبان او رجال دين، وشيئا فشيئا بدأ يبتعد أكثر وأكثر عن الانسان، وان الفكرة الإلهية بدأت تتلاشى من العقل البشري، لدرجة ان نسبة كبيرة من البشرية لم تعد تؤمن به، او انه اختفي كليا من حياتها. هذا قاد الكثيرين من الفلاسفة والمفكرين الى اسقاطه من تفكيرهم. وانكار كل القصص الدينية التي تطورت خلال ال 4000 سنة الماضية. ووصل الأمر بفيلسوف بارز هو الألماني نيتشه للقول ان "الجنائني قد مات" ويقصد الله.
طبعا الولوج للموضوع فيه الكثير من الألغام، لأن طرح فكرة ما بمجتمع يفتقد لحرية التفكير والتعددية الثقافية والفكرية، ليس سهلا، ولن يفهم انه طرح بإطار ثقافي ومعرفي وليس حثا على التخلي بما يؤمن به الشخص، انما عقلنة وتعميق للمعرفة.
استعرضت فكرة الكتاب (470 صفحة) باختصار شديد ودون توسع، والكتاب تحول الى أحد الكتب الأكثر مبيعا في العالم.
هذا يقودني الى رؤية أنه من غرائب الدين والايمان الديني، هو ان الله يُطرح بشكل مبسط، ان الصفات التي تلصق بفكرة الله هي صفات العدالة والرحمة وجنان الله للمؤمنين والعذاب والحرق للكفرة.
مثلا تُطرح جهنم بتفاصيل رهيبة، الحرق والعذاب وهناك تفاصيل كاملة عن اهل النار والنهاية البائسة لغير المؤمنين.
وتطرح الجنة، او ملكوت الله، بصورة تحمل الكثير من المغريات الجنسية، وكأن ما يهم الانسان من الجنة هو الجنس، والجنس ولا شيء غير الجنس. المسيحية لا تطرح الجنس بل تتحدث عن ملكوت الله للمؤمنين. تعبير لا يقول شيئا. الجنة هي العالم الآخر الذي سيعود اليه الصديقين، وهو مغاير من جهنم حيث يصل الخاطئين.
وفكرة الجنة بدأت مع خلق آدم وحواء، لكن الله اخرجهم من الجنة بسب خطيئة الأكل من شجرة المعرفة. أي ان الله ارادهم بلا معرفة وبلا تفكير.
يمكن القول ان فكرة الله هي فكرة سريالية تطورت مع تطور الذهن البشري ورغبته في فهم عالمه، والظواهر المختلفة التي تواجهه في حياته، فخلق الآلهة لكل ظاهرة، وغير وبدل وصاغ قصصا وحكايات عن الآلهة وصراعها واوجد رب الآلهة.. الخ.
ومن هنا نجد ان الديانات الوثنية لم تكتف بالخضوع لآلهتها الوثنية، بل جعلتها هي خالقة السماء والأرض والانسان والنجوم والشمس، بل صيغت الكثير من القصص التي ترجمت ونقلت للتوراة وكتب دينية اخرى.. مثل الطوفان وقصة موسى وبشارة المسيح وغيرها من القصص المركزية في الكتب الدينية التي مصدرها الديانات الوثنية.
ويبقى السؤال: هل ستبقى شخصية الله الدينية سائدة في عالم بدأ يكتشف كواكب تبعد عن كرتنا الأرضية الاف السنين الضوئية؟
nabiloudeh@gmail.com
 


45
أدب / حوار اوكسترالي بالكلمات
« في: 22:24 20/08/2019  »
حوار اوكسترالي بالكلمات
نبيل عودة
نمر الهواري
- سجل الناصرة يفيض بالحكايات الشعبية
- أتذكر شخصيات لم تمح من الذاكرة
- ماذا يقول اسم نمر الهواري لأبناء الناصرة؟
- انسان خفيف الظل أسرت حكاياته الصغار والكبار.
- كان سوق الناصرة مسرحه المتجول.
- من أجمل أقواله: يا رب تموت كل الأطباء وتهدم كل المستشفيات عشان ما يبقى ولا مريض.

عاشق النهر
- آه لو عرف الناس الفرق بين المستنقع والنهر
- المستنقع يكبر بالفساد
- والنهر يتدفق بالخير
يروي الأرض العطشى
ويطهر الناس.

آخر كلام
- بين الأحبة لا ينتهي الكلام
- يحلق كالفراشات فوق الزهور
- يطير كالعصفور حين يغادر عشه
- يجعل للعيون لغة من الروح
- لغة تنبض مع دقات القلب العاشق.

أحزاب
- انتخابات الكنيست على الأبواب
- كالفطريات تكاثرت الأحزاب
- في كل بيت صار حزبان
- في كل حارة أربعة أحزاب
- صار لكل فرد منا حزبان.
- واحد لشرب القوة والثاني لنشر الشقاق.
مجانين
- من المجنون الانسان ام المسدس؟
- ربما القانون؟
- ربما القلم؟
- ربما الفن؟
- ربما حرية الكلام؟
- ربما كل الناس؟
- ربما الجنون؟
- بس انا مش مجنون!

اوجاع أبدية
- لماذا ولد المسيح بمغارة؟
- لم يستقبل في بيت.
- هل اللاسامية كانت السبب؟
*****
- رجال الدين عملوا من ولادته تجارة.
- واهلك يا مسيح عادوك وصلبوك
- وتطلب المغفرة لمن قتلوك؟
- واحنا بأرضنا صرنا غرابه.
- حقا من مغارتك خرجت البشارة
- الدين لله وليس للتجارة
والحق يؤخذ ولا ينام بمغارة.

كل يوم منسمع خبر
- الدم صار بثمن رصاصة
- او بطعنة خنجر
- صرنا نمشي وننتظر رصاصة
- ربما دورنا لم يحن بعد؟
- الخالق غائب والشرطة في خبر كان
- ونحن في بحر النسيان
- ننتظر رصاصة

بقرة ارض الميعاد
- بقرتنا حلوب
- مرعاها مسلوب
- القهر صهرها
- الخوف هزمها
- الجوع اوقعها
- كانت نطاحه
- رثتها النواحة
(مع الاعتذار لبقرة الشيخ امام)

الولد
- الفار يرعب الأسد
- لأن البلد يحكمها ولد
- حكم قراقوش
- وسياسة قراقيش
- وخلطة وحوش
- ونظام مفيش
nabiloudeh@gmail.com

46

سياسة نتنياهو: تفاهة الأعمال وعظمة الأوهام
نبيل عودة

الواقع السياسي الإسرائيلي يعاني من حالة ابتذال سياسي تعاظم مع صعود رئيس امريكي جعل الابتذال السياسي نهجه الدولي، وطبعا لن يجد أفضل من بيبي نتنياهو، وابتذاله السياسي، حليفا سياسيا لنهجه وابتذاله. وبرز هذا الابتذال بأكثر صوره بشاعة، حين صرح نتنياهو في الانتخابات السابقة بأن الباصات تنقل العرب للتصويت، لإرهاب المصوتين اليهود وحثهم للتصويت لصد ما ادعاه عن الباصات التي تنقل العرب للتصويت، مما يشكل خطرا على يهودية الدولة، أي لصيانة سلطته الشخصية، وسلطة اليمين الاحتلالي المتطرف.
كان أبرز ما عاشه مواطني إسرائيل من هذا الابتذال السياسي والأخلاقي هو ما جرى في الانتخابات الأخيرة، بعد فشله في تشكيل حكومة برئاسته، اوعز لمقربيه ان يطرحوا اقتراح قانون على الكنيست بإجراء انتخابات جديدة، بدل ان يعيد التفويض لرئيس الدولة، وتكليف شخصية غير بيبي نتنياهو لتشكيل الحكومة الجديدة. أي ان ابتذاله السياسي هنا وصل لقمة جديدة برفضه، تكليف شخصية غيره لتشكيل الحكومة، وادخل الدولة بدوامة انتخابات جديدة، تكلفتها مليارات الشواكل، من اجل الفوز (بناء على حساباته، او اوهامه) والعودة لتشكيل حكومة برئاسته، لكن يبدو ان العتمة لا تجيء دوما على قدر يد الحرامي، رغم أنى لا استهتر بقدرته على تعمية السماوات بالعماوات لدى جمهور المصوتين اليهود.
استعملت تعبير "الابتذال" وهو تعبير من عالم الأخلاق، لوصف اخلاقيات السياسة الإسرائيلية، التي يفرضها نتنياهو على المجتمع الإسرائيلي. المستهجن أكثر هو ان كل شخصيات حزب الليكود، اصابهم الخرس، كأنهم أطفال في حضانة أطفال يديرها السيد نتنياهو. الأمر الذي سيترك أثره السلبي على كل شخصيات حزب الليكود، حتى الذين يعرف عنهم انهم أكثر عقلانية وعلى خلاف مع بيبي نتنياهو حول مسائل مختلفة. مع مثل تلك الشخصيات (المرعوبة) لا يمكن بناء سلطة تحترم مواطنيها وقادرة على اتخاذ قرارات مصيرية خاصة في المشاكل الشرق أوسطية وعلى راسها المشكلة الفلسطينية. أي تبنوا الابتذال واخلاقه السياسية، ووفروا الحماية البرلمانية (المؤقتة كما آمل) لاستمرار سلطة نتنياهو، وبرزوا ايضا أيضا بالابتذال الشخصي والسياسي، الذي أتوقع ان يقضي على مستقبلهم السياسي.
يصف فيلسوف الاشتراكية الثوري كارل ماركس أخلاق الابتذال بأنها " تفاهة الأعمال وعظمة الأوهام"، وهو تماما ما نشاهده اليوم في اللعبة السياسية الإسرائيلية، التي يتصرف فيها نتنياهو حسب مزاجه المتقلب. حيت يجري تحويل المنطق العقلي الى تفكير سوقي مبتذل، والهدف ليس سرا، بل ان يفرض سيطرته من جديد على السلطة، وهو موضوع بات واضحا الهدف منه، الحصول على قرار برلماني يوفر له الحماية من القضايا الخطيرة المتهم بها. أي انقاذ جلده من السجن إذا ثبتت التهم عليه.
لا أستطيع ان افهم كيف يقبل أعضاء الليكود، تحقير أنفسهم وإبراز ابتذالهم السياسي والأخلاقي، قد يفيدهم هذا الأمر لمرحلة قصيرة قادمة، لكنه سيجردهم من أي مكانة سياسية او أخلاقية يمكن اعتمادها لتشكيل سلطة سياسية نظيفة، بعد التخلص من نتنياهو ونهجه السياسي المبتذل.
ان نهج الابتذال السياسي للفوز بالسلطة، هو نهج مدمر مهما كان شكله ناجحا في مرحلة ما، رغم كل الدلائل التي يحاول نتنياهو ان يجندها لصالح نهجه، الا انها تشير الى ورطة نتنياهو الكبيرة من إعادة الانتخابات، التي فتحت عليه جبهة انتخابية لم تكن متوقعة، خاصة بعودة رئيس حكومة ووزير دفاع سابق، وشخصية عسكرية لها مكانتها في المجتمع اليهودي، وأعني عودة اهرون براك للسياسة، وبدئه بتشكيل قائمة انتخابية بهدف مركزي أعلنه، اسقاط سلطة بيبي نتنياهو. الى جانب ان قوى أخرى ستزيد حسب استطلاعات الرأي قوتها التمثيلية في البرلمان، وهي ليست محسوبة على نتنياهو، وخاصة القائمة العربية المشتركة التي نأمل ان تجمع صفوفها من جديد، والمتوقع ان تضاعف قوة التمثيل العربي في الكنيست، الى جانب قوى أخرى لها حساب عسير شخصي مع نتنياهو.
ان نهج الابتذال الأخلاقي في عالم السياسة، يبرز أيضا في الغطرسة السياسية والدوغماتية، والجمود الفكري والعقائدي، وفرض نمط سياسي يحاول ان يبرز كل المنافسين ما دون الأخلاق السياسية، باستعمال اصطلاحات سخيفة وتافهة بحد ذاتها، بإطلاق نتنياهو صفة "اليسار" على كل منافسيه حتى اليمينيين الفاشيين، وكأن اليسار جريمة سياسية، هذه الصفة بمجتمع يفقد تنوره الفكري وتسوده روح عنصرية عدائية لمواطنيه العرب وللشعب الفلسطيني برمته تلعب دورا ما، خاصة ضد القوى العقلانية سياسيا، من اليسار والمركز، بحيث يجري ايهام المواطنين البسطاء بان ضم أراضي فلسطينية احتلت عام(1967)، وضم مناطق احتلت أيضا من دول عربية(الجولان السوري مثلا) وليس بدون دعم امريكي، بانه هو الأمر الذي سينهض بدولة إسرائيل واقتصادها ومكانتها الدولية وأمنها، هذا ليس مقامرة، بل مغامرة مجنونة ستقود حتما الشرق الأوسط الى انفجار لا احد يعرف مداه واتساعه ودماره على الجميع. ان وصف كل رافض لنهج نتنياهو حتى بقضايا غير سياسية، بانه يسار، أضحى امرا مبتذلا ومثيرا للسخرية. هذه الفظاظة التي يصف بها كل معارضيه بأنهم يسار، هو منطق ليس مبتذل فقط، بل منطق مريض وقمة في التفاهة السياسية.
ماركس سخر في وقته من الابتذال السياسي والاجتماعي للبرجوازية الصغيرة (في اسرائيل من الصعب التمييز بين البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الخنزيرية الكبيرة الأولى تخدم الثانية ومندمجة بها)، وصفها ماركس بانها "سطحية، مواقفها ثرثرة لا رادع لها، تتميز بالتصلف والتبجح والفظاظة في التهجم، ولديها حساسية هستيرية تجاه فظاظة الآخرين في ردهم عليها".
ترى هل كان ماركس يتنبأ بشخصية سياسية جعلت من الابتذال نهجا سياسيا وشخصيا ناجحا ومجندا لمئات الاف الأصوات الانتخابية؟
nabiloudeh@gmail.com

47
المفــــــــارقة...
قصة: نبيل عودة
 
 
تجمدت عقارب الساعة واستطال ذهوله لوقت من الصعب تعريفه وتحديده بمعايير الزمن المتداولة.
تاه في رحلة بلا معالم.
بحث عن صوته ليطلق صرخة ذهول.. فتلاشى الصوت.
كان الالم يعيث فيه تمزيقا. يبعثر اشلاءه. لم يصب بأذى ويا ليته اصيب. كان ذهوله وحشيا. تداخلت افكاره عليه. فقد القدرة على الفهم. اختلط المكان عليه ففقد الدلائل لتحديد مكان تواجده. تناثر الزمن.. فاختلط عليه الوقت. كان يرى ولا يرى. يعرف ولا يعرف. ينزف دما ولا ينزف. يمزقه الالم ولا يمزقه. يصرخ ولا يصرخ. الصراخ محبوس في صدره. تلاشى امام ذهوله. أحس بضياعه. ضياع يتكثف. خانق، مؤذ، كئيب. قد تفيده الصرخة في تحديد مكانه، في العودة الى عالم معروف والى زمن معلوم والى رؤية محددة.
ركض مرتعبا نحوه .. شنطته متدلية من كتفه .. وصوته ينطلق مرعوبا:
-       بابا…
بابا ممتدة طويلة نصبت شعر جسمه بقشعريرة وايقظت كل حواسه. حتى تلك اللحظة كان كل شيء واضحا.. وبزمن من الصعب تعريفه انتهى احساسه بما حوله. صرخ مستغيثا، صرخ بقوة لم يعهدها في نفسه. ركض نحوه بهمة ظنها تلاشت مع تلاشي الشباب. اشتدت عضلاته، وتيقظت كل حواسه ... للحظات فقط. بعدها تمزق في ضياعه. تاه في رحلته.
رحلة غامضة .. فقد صوته .. لم يعد يشعر بذاته .. تتفكك اطرافه .. لا شيء يجمعها .. لا شيء يربطها .. لا شيء يحركها .. تسمر في مكانه باحثا عن اطرافه . لا يشعر بيديه. لا يشعر بقدميه. لا يشعر برأسه بين كتفيه. لا يجد صوته. لا يجد يقينه. لا يستوعب رؤيته. جسده يفقد ترابطه. يتفكك. ركبتاه تفشلان في استمرار حمله. لم تعد له قدمان، لا يحس بقدميه.. تلاشتا ... وتهاوى فوق الارض الترابية. لم يحس بألم ركبتيه.. لم يحس بأي الم يعتريه. كان ألمه غريبا. يتدفق من داخله. يتفجر بدفعات ... والدم يتدفق. حارا. والنظرات المرعوبة تتعلق به بلا حراك .. ربما فيهما رجاء، رجاء صامت .
-       بابا..
صرخة مرعوبة ممتدة تطرق طبلتي اذنيه، وتترك صدى لا ينتهي. احساسه العارم بالعجز المطلق يزيده ذهولا وألما.. ذهول ممتد وألم متدفق.. طاغ، صرخة مرعوبة ممتدة تمزق طبلتي اذنيه. وصراخه يتراكم في صدره.. لا يجد منفذا له، صراخ اخرس، يكاد يخنقه صراخه المحبوس.. ولم يجد بدا من احتضان الجسد الصغير. احتضنه بأمل ان يجد فيه بقايا حياة. خضب الدم يديه وثيابه.. دم حار. والصرخة المدوية تواصل طنينها.
صرخة مرعوبة ممتدة .. "بابا" كان الدم دمه والالم المه .. والجسد المتراخي جسده، والعينان الجاحظتان عينيه. مد يده يلامس الجبين الذي تدفق العرق منه قبل لحظات. اصطبغ العرق بالدم. كان يجري مرعوبا صارخا للاحتماء به، فأجبرته طلقة على افتراش الارض... منهارا مذهولا امامه. كاد يحتضنه وهو يتدفق حياة .. وها هو يحتضنه ودمه ينزف قطراته الاخيرة.
كل شيء تغير بلحظات، كل شيء اختلف بلحظات. لم يستوعب ما جرى .. وعجز عن التفكير.
تغيرت المشاعر والافكار، انعدمت، تلاشت، وغيرت مضمونها .. احتلته احاسيس اخرى، احاسيس مجهولة لم يدر كنهها. اعترته رؤية غير التي يمارسها منذ نصف قرن. حاسة سمع غير التي اعتاد عليها كل عمره. ألم لم يعرفه من قبل .. حتى حاسة اللمس تفقد مميزاتها القديمة.
الدم الحار المتدفق لا ينتهي. ربما خياله يوحي له ذلك. . والصرخة في صدره تتضخم ولا تجد مخرجا.. تكاد تخنقه. والدم يخضب يديه والارض، والجسد يتراخى بين يديه، وصرخته المرعوبة الممتدة " بابا " تدوي بتواصل لا يتوقف .. وفي عينيه الجاحظتين رجاء .. وهو عاجز امام الرجاء.
لم يشعر بالجلبة التي حوله، لم يسمع صراخ القهر المدوي .. وغرق بألمه وذهوله وعجزه المرعب. ذهوله تجاوز المه .. تجاوز قهره .. تجاوز صراخه. "بابا" تدوي بأذنيه. كان بينه وبين احتضانه لحظة. قطعتها طلقة. بعد الطلقة حل الذهول .. ولم يحتضن الجسد المنطلق، احتضن صرخته المدوية " بابا ".
الطلقة اوقفته على بعد خطوة منه .. وتلوث الجبين الفتي بالدم الحار المتدفق بغزارة.. واحتضن الارض تحت قدميه. واحتضنه الذهول .. وبقي الرجاء في عيني الصغير.
اراد من نفسه اشياء كثيرة .. في تلك اللحظة لم يفهمها. كان في زمان محدد ومكان معرف .. ولكنه خارج ذاته. كان منفصلا عن حواسه، حيا وميتا، موجودا وغير موجود. قريبا وبعيدا. يمسح العرق عن جبين الصغير فيتدفق الدم. الدم الاحمر القاني. دم لا يتوقف. يملأ يديه. يروي الارض الشرهة بغزارة. تصطبغ ولا ترتوي. وصرخات الالم حوله تعلو.. وهو بعيد.. ربما لا يسمع؟ ربما هو المقتول؟ الدماء المتدفقة دماؤه؟ كان خارج نفسه. خارج وعيه. خارج مكان تواجده . وخارج الزمان المعروف. خارج حواسه ومشاعره. وفي اذنيه دوي لا يتوقف .. يمتد مرعوبا .. مدويا " بابا "، وهو لا ينجح ان يجمع نفسه ... فيتهاوى.
للحظات تداخل الحدث في ذهنه بشكل غير منظم. ربما بقي وعيه. ترسبات ذهنية من قبل الذهول.
حين دوت الصرخة اهتز جسده بفزع.. وبشكل خاطف انطلق للخارج باتجاه الصرخة. لم تكن ضرورة ليفكر بما يحدث. كل شيء كان واضحا بالصرخة.
كان يراه شابا يافعا وعروسه ترفل بالبدلة البيضاء وسط غابة من الزهور، والسعادة تملؤه. تلك امنية عمره. رزق به بعد سنوات طويلة من المعاناة ولم يرزق بغيره. كان يرى حفيده. كان يحلم ان يكون له حفيد، يحمل نفس اسمه، يتجدد به. يحقق ما لم يحققه هو. ومن كثرة ما تاه بحلمه صار يشعر بأصابع الحفيد الصغير تلاطف وجنتيه.. تشد شعره. ولكن الصرخة نقلته من حلمه الجميل الى واقعه التعيس. من شطحته الذهنية الممتعة الى حاضره المذهل اللعين.
" بابا" تدوي ممتدة مرعوبة في اذنيه ... تختصر احلاما وامنيات واسعة رحبة. حين ركض نحوه فهم كل شيء بأجزاء من اللحظة. حاول ان يوقف الطلقة بكفه الملوحة للجندي.. او ان يقنع الجندي بتوجيهها نحوه، بدل الصغير المرعوب. ولكن القرار كان جاهزا.. ونفذ بلا تردد.
تأمل لثوان سحنة الجندي الباردة، ولمح ظل ابتسامة. حقا سحناتهم متشابهة. ورصاصهم متشابه، اما تلك السحنة لذلك الجندي مع ظل ابتسامة، بوجهه الطفولي الاجرد من الشعر، وبعينيه الزرقاوين الباردتين، فترسبت في ذهنه.
كان فيها شيء مألوف لم يستوعبه في ذهوله. لأمر ما كانت السحنة تضغط للتجلي .. للبروز. ولكن الصرخة المدوية الممتدة " بابا " افقدته القدرة على اي حس او تفكير او مراجعة ذهنية. افقدته تفكيره وذاكرته. افقدته احساسه بالزمان. افقدته احساسه بالمكان. افقدته معرفة ذاته. ومع ذلك ضغطت سحنة الجندي ذهنه ... ذهنه الخالي الا من ذهوله والمه وصراخه المحبوس .. سحنة لن ينساعا. لأمر لا يفهمه تشده سحنة الجندي نحو حدث لم يتضح له بعد. ولكن ذهوله امام الدم المتدفق والصرخة الخرساء والعينين الباردتين المذهولتين، والارض المخضبة بالدم.. ابعده عن كل ما يوثق عراه مع عالمه. والرجاء يطل من العينين الجاحظتين. صرخاته المحبوسة في صدره تؤلمه. لم يعد يقوى على لملمة نفسه. يتفكك. جمع نفسه، او ربما لم يجمع .. وأخذ الجسد الصغير الدافئ بين يديه. ضغطه الى صدره عله يوقف تدفق الدم. شدته حواسه بين الحار والبارد. ولم يدر ما هو فيه. كانت السحنة ذات الوجه الطفولي الاجرد تضغط في مكان ما في ذهنه.. وتتراوح الصور والافكار بين المعتم والمضيء، بين الواضح والمجهول، بين اليقين والوهم، بين الوعي واللاوعي، والصرخة تدوي ...والدم يتدفق .. وهو يتفكك .. يتحلل، يفقد توازنه، يفقد ذاته، والسحنة تعمق قهره، وذهوله يشتد ... و"بابا " صارخة قوية مرعوبة... اراد ان يصرخ، ان يحتج .. ان يخترق صمته وذاته ... فلم يجد بدا من الانهيار فوق الجسد الصغير .. وفي ذهنه شاب يافع عروسه ترفل بثوبها الابيض الى جانبه وسط الزهور .. مئات الزهور...
********
اقيمت خيمة التعازي في عصر اليوم نفسه. جلس صامتا وصرخة الفزع المدوية " بابا " ترن في اذنيه، تتفجر داخل اذنيه، وتكاد تجعله اصم عن سماع آية كلمة تعزية .. بل يكاد لا يعي احدا من المعزين. عجز ذهنه عن استيعاب الوجوه المعروفة. كان حاضرا وغائبا .. قريبا وبعيدا .. ذهنه يراوح بين التشتت واليقين .. بين الوهم والواقع ... وتلك الصورة المشؤومة للجندي ذي الوجه الطفولي الاجرد، مصوبا بندقيته، ومطلقا رصاصته القاتلة بلا تردد، تمزق هدوء نفسه. تقف حائلا بينه وبين عودته لذاته.. تشده بعيدا، بعيدا جدا عما هو به. خيل له للحظات ان ما يعتريه ليس حزنا على فقدان حلمه، بل ندما على تصرف لن ينساه ولن يسامح نفسه بسببه ابدا. ربما بسببه يتواصل صراخ الفزع الممتد " بابا " مدويا في اذنيه، حتى يكاد يعزله عن كل ما يحيط به .. فلا يسمع الا صرخة الصغير المرعوبة، ولا يرى الا الدم المتدفق من الجبين الفتي، ثم انهياره فوق الجسد الصغير..
كان منفيا عن ذاته غائبا عما حوله. وصورة الوجه الطفولي الاجرد، بالعينين الزرقاوين الباردتين، والبندقية المصوبة، ودوي الطلقة، يكثف قهره ويضاعف قيظ نفسه...والرجاء في العينين الصغيرتين يعمق قهره وعجزه ...
لوهلة اتضحت الملامح واتضحت الصورة. لا بل كان كل شيء واضحا من اللحظة الاولى، حتى من اللحظة التي سبقت الطلقة. ربما هذا ما ضاعف ذهوله وفجر المه بكثافة لم يعهدها. ربما " بابا " ليس نداء استغاثة من مرعوب فقط ..انما توبيخ على حماقة لم تكن ضرورية. هل بتصرفه ذاك ارتكب خطيئة يدفع ثمنها اليوم ؟! .. ليكون هو قاتل ابنه بيديه ؟!
تندفع الدموع لعينيه، يشعر بها لكنها لا تشفي غله. محبوسة مع صرخاته، محبوسة مع المه، محبوسة مع تفجر نفسه بالقهر، تتهدم ذاته وتعذبه افكاره المشتتة، وملامح تلك السحنة من وراء البندقية لا تفارقه... والاحساس بحرارة الدم لا يفارقه. والجسد المرتخي بين يديه يكاد لا يغادره، وهو بعيد عن نفسه، لا يرى الا الجبين المثقوب، والوجه الطفولي الاجرد من وراء البندقية .. وهو بين اليقين والشتات. الصرخات المرعوبة لا تغادر سمعه ... يتواصل دويها. يصدق ولا يصدق .. ويرى صغيره يركض نحوه .. يراه شابا يافعا يسير مع عروسه والزهور تحيط بهما .. ويرى الوجه الطفولي الاجرد من وراء البندقية، يتضخم ليحتل كل شاشات دماغه.
في ظهر يوم قائظ التقى تلك السحنة الطفولية الجرداء. لم يكن ذلك منذ وقت طويل، منذ اسبوعين في خضم الاحداث الاخيرة. وها هو اليوم يدفع الثمن. الصرخات المرعوبة " بابا " تتفجر في اذنيه، توبخه، تصيح به، تتهمه، تؤلمه وتزيد قهره ... ويطل من عينيه رجاء لا يستطع تلبيته.
كان بعض الشباب الهائجين يحيطون بسيارة عسكرية حاولت ملاحقة بعض الفتيان، واستطاعوا ان يوقعوا بها، ويشعلوا فيها النار. ومن البعيد لمح ظل جنديين. أيقن ان النيران ستأتي عليهما ان لم يخرجهما من السيارة. ولأمر لا يدريه نسي كل حقده والمه لما يجري. قال لنفسه انهما لا يختلفان عن صغيره. لهما احلامهما وقلوب تبكي خوفا عليهما. ربما لو سمع عن حادث بعيد عنه لما اهتز .. ولكنه لم يحتمل ان يحرقا امامه. شعر ان الذي يحترق قد يكون ابنه الوحيد واحلامه. فاندفع كالمجنون تحت حجارة الشباب، ورغم الحروق الخفيفة التي اصابته واصابت الجنديان، استطاع ان يخرجهما من السيارة المحترقة ويمنع الشباب من تنفيذ غضبهم ونقمتهم .. ربما شتموه .. ولكنه شعر بكبرياء وراحة. شعر انه انسان .. يعطي الحياة ويعطي الأمل، ليس للعسكريين، انما للإنسانين المرعوبين داخل البزات العسكرية. وأيقن ان رعبهما لا يختلف عن رعبنا، وكرههم للموت لا يختلف عن كرهنا. هذا ما أعلنه مرارا متفاخرا بإنقاذه لعدوين مرعوبين ... " سننتصر بإنسانيتنا " كان يصر رغم سخرية الكثيرين منه. وحين كان ينظر لابنه، ويتأمل احلامه، يعرف انه تصرف التصرف الصحيح، وقد شده وجه أحد الجنديين الطفولي الاجرد بعينيه الزرقاوين. كان مرعوبا وفاقدا لتوازنه فاحتمى به. حماه بجسده. ورافقهما حتى الحاجز. لأول مرة يشعر بالشفقة على عدو له .. شعر بإنسانيته تتجاوز ذاته وتمتد. كان سعيدا لقراره المباغت بإنقاذ الجنديين، ولن ينسى الوجه الطفولي الاجرد المرعوب ... ولكنه اليوم لم يكن مرعوبا .. كان ينظر ببرود من وراء بندقيته .. وابتسامة تعلو شفتيه وهو يطلق رصاصة على الصغير المرعوب الراكض للاحتماء به. وتبعثرت افكاره مرة اخرى .. تبعثرت راحة نفسه التي عاد بعضها اليه .. وعلى حين غرة انفجرت صرخته .. وانطلقت دموعه .. بحر من الدموع والقهر والالم... ليس لفقدانه صغيره فقط .. الذي كان صوته يدوي حادا مرعوبا كل الوقت، ومؤنبا غاضبا " بابا " ... ولكن، ربما لأنه كان انسانا ...؟! لا يدري ما يؤلمه أكثر. كان المه مضاعفا. وكان لا بد له ان يصرخ.
nabiloudeh@gmail.com

48
فلسفة مبسطة: الماركسية بين الجدلية والمركزية
نبيل عودة
نشأت الفلسفة في اليونان القديمة (بلاد الاغريق) على قاعدة تفسير الظواهر الطبيعية عقلانيا بعيدا عن ربطها بآلهة تتحكم بها. لذلك عرفت باسم الفلسفة الطبيعية .. طبعا الى جانب الاهتمام بعلم الأخلاق والقانون وشكل الدولة والتقسيم الاجتماعي وعلم المنطق .. الخ.
الفلاسفة الإغريق في وقتهم حسموا بموضوع أن عالمنا قائم على العقل وليس على النقل. على العلم وليس على الإيمان بالخوارق. الإيمان هو عملية نقل، ظاهرة تنقل بالوراثة وليس بالوعي. لا انفي أهمية الدين الأخلاقية كمحاولة لوضع قواعد تعامل اجتماعية بين البشر، لكننا نواصل منذ ستة آلاف من السنين التمسك بما أثبتت الفلسفة الإغريقية بطلانه ورفضت جعله معيارا فكريا سائدا تفسر به الوجود الإنساني والطبيعة.
في الفكر العربي نجد ان "إخوان الصفا" أقروا أن الفلسفة هي محبة العلوم وأوسطها معرفة حقائق الموجودات حسب طاقة الإنسانية وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم ... اليوم يسود النقيض لفكرهم المتنور!!
ديكارت (ابو الفلسفة الحديثة) قال ان الفلسفة كلها بمثابة شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذوعها الفيزياء وغصونها المتفرعة عن هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى. أي ربط الحصان أمام العربة وليس وراءها، كما يفعل الفكر الديني.
الفلسفة الماركسية التي اعتبرت بجدارة فلسفة القرن العشرين لم تكن اختراعا بل كانت دمجا مع مادية الفيلسوف الألماني المادي لودفيج اندرياس فيورباخ (1804 – 1872). الذي كان في البداية تلميذاً للفيلسوف الألماني جورج فلهلم فريدريش هيجل (١٧٧٠١٨٣١) ثم أصبح من أبرز معارضيه. ويعتبر هيجل أحد أهم الفلاسفة الألمان حيث يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. لقد اعتمدت الفلسفة الماركسية على ثلاث قوانين جدلية (ديالكتيكية) فلسفية رئيسية، اقتبستها من هيجل وهي: قانون نفي النفي ووحدة وصراع المتناقضات وتحول الكم إلى كيف.
حظيت فلسفة هيجل بتأثير كبير وهام على الفكر الحديث، وكان كارل ماركس أبرز الفلاسفة الذين تأثروا واقتبسوا من هيجل فلسفته الجدلية قالبا اياها رأسا على عقب: إذ أن جدلية هيجل هي عبارة عن عملية أو ديناميكية تمضي وفقها جميع القضايا من الأمثل فالأمثل نحو “الفكرة المطلقة” وقد سميت “بالجدلية المثالية”. بينما منهج ماركس الفلسفي الجدلي رأى بأن جدلية الأفكار ليست سوى انعكاسا لجدلية المادة. لذلك اتخذ من مفهوم الجدلية المادية (المادة تسبق الفكرة) أساسا ومنبعا لحركة التاريخ وتطوره. اذن هيجل قدم مساهمة عظيمة حول الجدلية، عبر فكره المثالي (الفكرة المطلقة) بينما ماركس أخذ الجوانب العقلانية لجدلية هيجل معترفا بمساهمة هيجل في تعميق مفهوم الجدلية بقوله: لقد أصبحت الجدلية بين يدي هيجل روحية لكن هذا لا يمنع بأنه أول من بين أنواع الحركة العامة للجدلية بجميع خصائصها، وقال لينين قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية وزعيم البلاشفة في روسيا ان "هيجل كان في جدليته موضوعيا أكثر منه مثاليا".
رغم ذلك لا نشهد ان التطور الفلسفي والثقافي قد ترك آثاره على تطور الفكر العربي او تطور فلسفة عربية. بعض رجال الكهنوت يدعون ان الدين هو فلسفة، لكنها ادعاءات لا تصمد أمام الواقع الفكري البسيط. إذا اعتبرنا الدين فلسفة نجد انه لا يفسر أي شيء بطريقة علمية إنما بالاعتماد على الفكر العجائبي والخرافي.
الفكر الماركسي واجه ويواجه اليوم نقدا حول العديد من القضايا التي كانت تبدو نهائية، مثلا الفكر المادي التاريخي يواجه اليوم إشكالية كبيرة، بل والبعض يعتبر المادية التاريخية لماركس نظرية خاطئة لم تثبت نفسها. الجدلية المادية نظرية تتناول تطور المجتمع البشري وتحولاته حسب فكر الصراع الطبقي الذي يقود الى صراع بين الطبقات يسفر عن انتصار الطبقة البروليتارية(العمال) على البرجوازية وبناء النظام الاشتراكي .. نظام ديكتاتورية البروليتارية. وقد ثبت ان التطورات نقضت هذه النظرية، لكن لا يمكن تجاهل حقيقة هامة ان الماركسية بجوهرها لم تطبق في النظام الاشتراكي (السوفييتي في حالتنا) بل طبق نظاما استبداديا رهيبا لم يتوان عن اعدام ونفي الملايين وقمع كل صوت معارض لنهج ستالين حتى من قادة الحزب الشيوعي السوفييتي وقادة ثورة أكتوبر. بنفس الوقت طرح فكر الصراع الطبقي التناحري، اعتمادا على ما كان سائدا في القرن التاسع عشر، حيث الطبقة العاملة لم تكن قد ارتقت فكريا ومهنيا ومكانة اجتماعية، والنظام الرأسمالي لم يكن قد وصل بثروته الى مستوى سبق فيه العالم الاشتراكي بنسب كبيرة جدا، ووفر للطبقات العاملة شروط عمل واجور ورفاهية تجاوزت ما كان سائدا في الدولة الاشتراكية السوفييتية. 
قرأت وثيقة هامة لقائد شيوعي تفسر مشكلة الماركسية والفكر الشيوعي وتطبيقاتها السوفييتية كتبها مثقف شيوعي عقلاني هو الأمين العام للحزب الشيوعي الأميركي صموئيل ويب (Samuel Webb) كتب:
"قرأت ماركس ولينين ولوكسمبورغ وغرامشي وكتابا آخرين كثيرين كتبوا عن الماركسية وغير الماركسية، ولو سئلت بعد كل هذه القراءات عن النتيجة التي خرجت بها لقلت .. أن البنيان النظري للشيوعيين أي الماركسية اللينينية بوصفاتها الثابتة والمحددة لا ينسجم والتحليلات القائمة التي يكتنفها افتراضات لم يُقطع بها وتقوم بمنهج غير ديالكتيكي (جدلي) شديد المركزية والنتيجة سياسات تتجاهل الواقع"!!
كلام واضح. البنيان النظري للشيوعيين كان شديد المركزية .. أي طروحات ثابتة لا تتغير ولا ترى التحولات العظيمة في عالمنا. أي لا شيء جدلي (ديالكتيكي) في فهمهم للتحولات، واستيعابهم مثلا للتحولات بواقع النظام الرأسمالي، بواقع الطبقة العاملة، تطور مستوى الحياة والرفاهية في النظام الرأسمالي، تطور الحريات ومختلف الحقوق الإنسانية. رغم كل ما تبقى من ظواهر سلبية كبيرة، الا ان الصراع الطبقي بدا يتحول الى نضال طبقي بعيد عن العنف .. حتى دور النقابات العمالية بدأ يتلاشى الى منظمات حقوقية واجتماعية وليس نضالية تؤجج الصراع الطبقي التناحري. أي ان التحولات أضحت عبر صناديق الاقتراع وليس عبر نضال بالشوارع ووراء المتاريس. بينما النظام الاشتراكي فرض نظاما ديكتاتوريا قمعيا رهيبا. انهياره كان بلحظات، ولم يجد من يدافع عنه حتى جيشه الشيوعي الأحمر وقف متفرجا.
طبعا ما اريد تأكيده في هذه العجالة الى ان مجتمعا لم يستوعب التطور الفلسفي والثقافي من عصر الإغريق مرورا بعصر التنوير وصولا الى عصرنا الراهن، وقمع فلاسفته واعتبر فكرهم كفرا وزندقة، هو مجتمع يعيش في الظلام الحالك، حتى لو ملأ الدنيا صراخا وابتهالا وعبادة.
السؤال المقلق والمفتوح: هل يمكن ان ترقى ثقافة روحية وثقافة مادية بظل سيادة فكر ديني يتمتع بجبروت كامل وسيادة مطلقة، وتطور أشكال إرهابية بغلاف ديني؟ هل يمكن ان نشهد عودة الى نشوء فكر فلسفي عربي في الواقع المتهافت الذي يعيشه عالمنا العربي؟
رؤيتي ان التاريخ اخرج العرب من حسابه حتى تاريخ غير معلوم. ولا أرى ان الفكر العربي والثقافة العربية مؤهلة في الظروف المؤلمة السائدة في العالم العربي على إحداث تحول ثوري ينقل الشعوب العربية من الانعزال الى المشاركة في حركة التاريخ. أين نحن من حركة الثقافة العالمية؟ من الإبداع الروحي والإبداع المادي. لا حضارة بلا ابداع مادي، أي إنتاج الخيرات المادية وتوفيرها للمواطنين عبر تحقيق رفاهية اجتماعية. لدينا مبدعون لكنهم أول من يقمع من جهاز السلطة ولا قراء لتعويضهم عن جهدهم الفكري والتفاعل معهم. لدينا طاقات علمية لكنها تغادر أوطانها بحثا عن أسواق عمل تناسب تخصصاتها. مجتمعاتنا تعاني اليوم من فقر في الاختصاصات، أي تفتقد للقوى المفترض ان تقود عصر تنوير عربي.
ان الإفرازات التي يخلفها هذا الواقع تعيث اليوم فسادا ودمارا للطبيعة والإنسان!!
nabiloudeh@gmail.com

49
 
هل أنهت جبهة الناصرة دورها التاريخي؟
نبيل عودة
•   استهجن ان حزبا شيوعيا عريقا وله تاريخه وفكره السياسي والأيديولوجي، يتصرف بحماقة حول قضية تخص المواطنين وليس علي سلام تحديدا.
•   فن الممكن هو اختيار أسلوب النشاط المناسب في الزمن المحدد، وقواعد اتخاذ المواقف، التي تساهم برفع شأن التنظيم. هل حقا تصرفتم على أساس هذه المعادلة؟
•   اول مبادي الماركسية تحقيق مكاسب للشعب. أنتم حققتم خسارة 7 مليون شيكل. هل هذا يبعث الفرح في نفوسكم؟ هل تعتبرونه انتصارا؟ ضد من؟ ضد علي سلام؟
•   أحد قادة الجبهة البارزين في الوسط العربي، قال ان الجبهة في الناصرة بوضع فوضى وتسيب، وان التصويت ضد الميزانية كان انفلاتا مخجلا بلا ضوابط فكرية وسياسية.
•   علق السيد سهيل دياب وهو نائب رئيس بلدية سابق وسكرتير سابق للحزب الشيوعي في الناصرة، على مقال لي بقوله: "علينا الانضمام في وحده قوية ونعمل مع الجهات الحكومية لوقف التدهور في كل محور .." هل تقبل الجبهة هذه الدعوة للوحدة القوية؟ هل اسقاط الميزانية كان من اجل الوحدة القوية؟
أعود مرة أخرى لتصويت المعارضة في بلدية الناصرة ضد إقرار ميزانية البلدية للعام 2018. سأتناول الموضوع من زاويته الفكرية والسياسية.
الحديث بالأساس هنا عن مجموعة جبهة الناصرة الديموقراطية، والتابعين الذين فقدوا تفكيرهم المستقل وانجرفوا وراء موقف الجبهة. خاصة شباب التغيير الذين انشقوا عن الجبهة والحزب الشيوعي وينفذون نفس السياسات التي جعلتهم ينشقون. ليتهم يشرحون منطقهم المريض لجمهورهم، انا لست بحاجة لشرح من مقعدين سياسيا وفكريا.
تعالوا أولا نحدد واقع مجلس بلدية الناصرة.
في الانتخابات المعادة لرئاسة البلدية حصل رئيس البلدية علي سلام على 62% من أصوات الناخبين، وحصلت الجبهة وسائر التابعين لها في التصويت على نسبة38% من الأصوات. وبحساب بسيط علي سلام هو الأكثرية المطلقة، لأنه لو جرت انتخابات معادة للعضوية بنفس الوقت، لكان لدى علي سلام الآن 12 – 13 عضو في المجلس البلدي، وعندها أنتم (الجبهة وربعها) ستكونون مجرد تعبئة الكراسي ليكتمل الرقم الى 19 عضو بلدية .. عندها صوتوا واصرخوا كما يحلو لكم، وسنساعدكم بالتصفيق وأنتم تنشدون "بالطول بالعرض الجبهة تهز الأرض"-طبعا صفر على مقياس ريختر!!
اذن المنطق ان تأخذوا نسبة ال 62% من اهل الناصرة المؤيدين لعلي سلام بحسابكم السياسي، وحسابكم في النشاط البلدي، وعدا ذلك، تعلنون انكم فوضويون ومفلسون سياسيا.
استهجن ان حزبا شيوعيا عريقا وله تاريخه وفكره السياسي والأيديولوجي، يتصرف بحماقة حول قضية تخص المواطنين وليس علي سلام تحديدا ..  وأنا شخصيا كتبت عن الحزب الشيوعي باعتزاز مئات الصفحات في سلسلة "يوميات نصراوي" المنشورة بتوسع في المواقع الالكترونية، طبعا لا ينشرون لنبيل عودة في صحافتهم، رغم ان ما كتبته هو تاريخ النضال المجيد للشيوعيين العرب، وهو تاريخي أيضا، لذلك اعتبره تراثا شعبيا لكل الجماهير العربية. كما يبدو ان حزبكم اليوم في مرحلة الشيخوخة المتقدمة، مصاب ربما بمرض النسيان، ان التصويت على ميزانية خدمات بلدية، يختلف جوهريا عن التصويت على ميزانية الحكومة. هناك اسقاطها أمر بالغ الأهمية، لأنها ميزانية حرب، ميزانية افقار الطبقات الفقيرة، ميزانية تمييز عنصري، ميزانية احتلال واستيطان وعدوان متواصل ضد الشعب الفلسطيني والعالم العربي.
كنت أتوقع ان يكون لدى بقايا الجبهة، وعيا سياسيا بعيدا عن الأحقاد الشخصية، للأسف هذا افتقده منذ وقت طويل جدا. الحزب الشيوعي وجبهته او ما تبقى منهما في الناصرة وسائر البلدات العربية، يحتاجون الى فهم مبادئ أولية وراء منهجهم في النشاط السياسي، وهو "فن الممكن في التخطيط السياسي" أي نفعل ما يمكننا بما لدينا .. وما لديكم هو صفر إذا لم يكن تحت الصفر. او "فن المستحيل" كما يروق لبعض الباحثين هذا الاصطلاح، من منطلق ان الساسة المعاصرين ينهجون في سياساتهم على طريق فن المستحيل، ولدينا نموذج إسرائيلي لا ضرورة لذكره.
فن الممكن هو اختيار أسلوب النشاط المناسب في الزمن المحدد، وقواعد اتخاذ المواقف، التي تساهم برفع شأن التنظيم. هل حقا تصرفتم على أساس هذه المعادلة؟
نجحتم بأفشال ميزانية 2018، وجرى حل المجلس البلدي، لكن رئيس البلدية باق ويواصل ادارة نشاط البلدية التطويري والخدماتي، حسب ميزانية 2017 التي هي اقل ب 7 مليون شيكل عن الميزانية التي اسقطتموها بغباء سياسي وحقد لا يليق بتنظيم له تاريخ نضالي لا أحد ينكره، رغم ان التحول جعله حزبا للصبيان الجاهلين لمبادئ الفكر السياسي النضالي الشيوعي ويدعون الماركسية وهم لا يعرفوا ألف باء الماركسية.
اول مبادي الماركسية تحقيق مكاسب للشعب. أنتم حققتم خسارة 7 مليون شيكل لمواطني الناصرة. هل هذا يبعث الفرح والفخر في نفوسكم؟ هل تعتبرونه انتصارا؟ ضد من؟ ضد علي سلام؟ علي سلام لم ولن يخسر من تصويتكم. سيواصل قيادة المجلس البلدي وبرامج التطوير، والجمهور يعي تماما ان تصويتكم كان تخريبا وضررا ضد مصالحه وحقوقه بميزانيات تساهم في تطوير الناصرة. ربما أنتم قدمتم هدية لعلي سلام بكشف محدودية عقولكم، محدودية فهمكم لإدارة سلطة محلية، محدودية فكركم السياسي ومحدودية فهمكم لألف باء الماركسية التي تتلفعون بها وأنتم أجهل خلق الله بها!!
ثاني مبادى الفكر السياسي الشيوعي هو البحث عن حلول فيها منطق، أي عبر التفاوض، فأنتم بهذه الحالة لا تفاوضون حكومة بنيامين نتنياهو، واليمين المتطرف، بل رئيس بلدية جاء من صفوف الجبهة، وانتصر عليها بعد ان حاولت الجبهة ان تتآمر عليه بطريقة مهينة. ليس هذا المطروح الآن، انما رئيس بلدية او مجلس محلي عربي يعمل ويطور ويغير بشكل ملموس وعميق جدا، فتنشطون في محاولة لعرقلة نشاطه. هل هذا هو دوركم الذي تفخرون به؟ دور التخريب والهدم؟ ام ارتكبتم بتصويتكم جريمة سياسية ستدفعون ثمنها قريبا؟
فكروا معي، واستشيروا رئيس بلدية الجبهة السابق، هل كان يرتكب مثل هذه الحماقة بإسقاط الميزانية؟ انا متأكد انه كان سيمتنع عن التصويت.
بتصويتكم كشفتم تفكيركم الصبياني الفاشل، لا منطق لديكم. الخدمات البلدية ليست للاحتلال والمستوطنين، بل لمدينة الناصرة وأهالي الناصرة بغض النظر عن ميولهم السياسية. أنتم صفعتم الجميع. الصفعة سنردها لكم اضعافا. أنتم تعرفون انه لا مستقبل لكم بالعودة لإدارة بلدية الناصرة. تصرفاتكم في المجلس البلدي لا يشرف أي عاقل، بل هو تصرف يليق به المثل "من قصر ديلك يا أزعر"!!.
علي سلام فاز بأكثرية مطلقة، الجبهة وقادتها رفضوا تهنأته، وفعلوا المستحيل لإسقاطه بحجج بضع اصوات، أخيرا تقرر إعادة الانتخابات وهو الحل المنطقي والقانوني، واثبت المواطنون ثقتهم بعلي سلام، كان على الجبهة ان تهنئ المنتصر وتتعاون معه. كنتم ستكسبون احتراما كبيرا. وتبنون الثقة من جديد مع ابن الجبهة الذي قدم 20 سنة من عمره في خدمتها وخدمة مواطني مدينة الناصرة.  لكن من يعجز عن التفكير واستيعاب مضمون خطواته، يتصرف كما تصرفتم.
أحد قادة الجبهة البارزين في الوسط العربي، طلب ان لا أذكر اسمه قبل ان يتحدث معي، قال ان الجبهة في الناصرة بوضع فوضى وتسيب، وان التصويت ضد الميزانية كان انفلاتا مخجلا بلا ضوابط فكرية وسياسية، بل من منطلقات حقد أعمى، وهذا الحقد هو الد أعداء التنظيمات السياسية. وخاصة تنظيم "جبهوي ثوري ووطني" حسب تعريفه، "يحرص على مصالح العمال والجمهور العربي، يهمه مستقبل الناصرة المدينة الأهم بين البلدات العربية في إسرائيل، بغض النظر عمن يترأس بلديتها" كما قال. 
علق السيد سهيل دياب وهو نائب رئيس بلدية سابق وسكرتير سابق للحزب الشيوعي في الناصرة، على مقال لي بقوله: "علينا الانضمام في وحده قوية ونعمل مع الجهات الحكومية لوقف التدهور في كل محور .." هل تقبل الجبهة هذا الموقف الهام من قائد جبهوي وشيوعي؟ هل اسقاط الميزانية يحقق ما قاله سهيل دياب عن "الوحدة القوية"؟!
رفاق من أيام نشاطي الحزبي والإعلامي في الصحافة الحزبية والتثقيف الفكري والسياسي والنشاط التنظيمي، اتصلوا معي لأمرين، ان أخفف عن رفاقهم في الناصرة، وانهم مقتنعون ان اسقاط الميزانية خطأ سياسي كبير، لن يقدم الجبهة خطوة واحدة في نضالها لاستعادة مكانتها في الناصرة. ما فاجأني إني لم اسمع أي كلمة رفض او تنديد بموقفي، كما كان سائدا حتى قبل أسبوع. كل ما هناك، انتقاد رفاقي لطيف وأخلاقي و ..."خذهم على قدر عقولهم" (هل هي روضة أطفال؟) و "لعلهم يعودون الى وعيهم"، سالت اين قياداتهم لتردهم للوعي؟  بعضهم قالوا انهم سيحاولون تغيير نهج الجبهة في الناصرة بالبحث في هيئاتهم الحزبية، نحو عقلانية سياسية، قلت للأسف "فات السبت..." ورغم ذلك أتمنى لكم النجاح بهذه المهمة المستحيلة حسب قناعتي ومعرفتي بواقع الحزب والجبهة.
بدل ذلك علمت ان عضو كنيست جبهوي، اتصل بوسائل اعلام عديدة مطالبا بعدم المبالغة بنشر مقالات ضد الجبهة وخاصة ما يكتبه احمد حازم ونبيل عودة .. وانا عادة اكتب بدون ان أستعمل تعابير جارحة، وراجعت مقالات الزميل احمد حازم ولم أجد آية كلمة خارج المنطق الإعلامي. يطرح موقفه ورأيه بمنتهى المنطق الإعلامي والتحليلي الأصيل.
هل تظنون انكم بهذا السلوب ستكسبون رضا الشارع؟ المنطق، او العودة الى الوعي يبدأ بان تعتذر الجبهة عن خطأها. إذا كانت تملك القدرة على النقد الذاتي وهو من أهم مبادئ الفكر الشيوعي إذا كانوا حقا يعرفون شيئا عن الشيوعية وفكرها.
 للأسف لم احلم ان أرى نهاية الدور التاريخي لجبهة الناصرة!!
nabiloudeh@gmail.com
       

50
بقر الكيبوتسات أهم من المواطن العربي

نبيل عودة

ما حدث مع أهالي قرية كفر برعم المهجرة هو استمرار لفكر احتلالي يتناقض مع كل الأعراف الدولية، وحتى مع قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية.
 كفر برعم لمن لا يعلم هي قرية مسيحية مارونية تجاور جبل الجرمق الفلسطيني الشاهق، منذ سنوات يتواصل اعتصام اهل برعم في قريتهم مطالبين بتنفيذ قرار المحكمة العليا الذي صدر في سنوات الخمسين، القاضي بإرجاعهم (القرار شمل أيضا مهجري اقرت وهي قرية مسيحية كاثوليكية جرى معها نفس الشيء) الى بلدتهم كما جرى الاتفاق مع الجيش الاسرائيلي الذي اخرجهم من برعم، بالاتفاق معهم ان الأمر لن يتجاوز أسبوع او أسبوعين عام 1948، فخرجوا الى قرية الجش المجاورة، وتركوا كل اغراضهم ومخزونات طعامهم في منازلهم، بل والكثير من الغنم والبقر، على أساس وعد الجيش. ثم قام الجيش بهدم قرية برعم (وطبعا قرية اقرت أيضا) بالقصف الجوي، وأعلنت الحكومة اراضي القرية منطقة عسكرية مغلقة لمنع عودة اهلها.
توجه البراعمة لمحكمة العدل العليا التي اقرت حقهم بالعودة حسب الاتفاق مع الجيش، كممثل لحكومة إسرائيل، لكن قوانين الأراضي الغريبة عجيبة في دولة اسرائيل وكثرتها وكأنها إمبراطورية لا تغيب الشمس عن اراضيها، وقفت سدا مانعا ضد قرار محكمتها العليا. اذ اقر قانون التفافي على المحكمة العليا بتوكيل وزير المالية بوضع يده على أراضي للصالح العام.
طبعا معظم أراضي قرية كفر برعم كما شرح لي كبار العمر، لم تزل غير مستغلة من الكيبوتسات التي أقيمت على أراضي القرية. وهم طالبوا ويطالبون ان تعاد لهم الاراضي غير المستغلة، كحل وسط واولي!!
 لكن لا حياة لمن تنادي.
لذا يعتصم العشرات من أهل برعم، من الجيل الذي هُجر حتى الجيل الذي ورث التهجير، في بلدتهم. ويقيمون صلواتهم أسبوعيا، واحتفالات اعيادهم ومناسباتهم من الافراح الى الاتراح في كنيسة القرية التي قاموا بترميمها. واعادوا بناء المقبرة وتوسيعها وليس بدون صدام مع دائرة أراضي إسرائيل. 
يواصل البراعمة الاعتصام والإصرار على البقاء في ارضهم وإعادة بناء كفر برعم بما تبقى لهم من ارض لم تصادر للكيبوتسات حولهم او لبقر الكيبوتسات.
وزير عدل سابق، اثناء لقاء للتشاور مع البراعمة حول حل يرضيهم، عبر عن قلقه عن مصير ابقار الكيبوتسات التي ترعى في اراضي القرية المهملة والتي لم تزرع منذ هجر أصحابها إلى قرية الجش المجاورة. ما العمل إذا أعيدت للبراعمة الأراضي غير المستغلة للكيبوتسات؟ تساءل: “كيف ستحل مشكلة ايجاد مراع لبقر الكيبوتسات؟!” رد عليه البرعمي ابراهيم عيسى (ابو الرايق -عمره اليوم أكثر من 80 سنة):” هل البقر اهم من الإنسان؟ ارجعونا لقريتنا ونتعهد ان نشترى لهم العلف على حسابنا”.
 هذه الاجابة غير المتوقعة والقاطعة، أزعلت الوزير الذي كان يعتبر من اليسار الاسرائيلي ومن تيار السلام مع الشعب الفلسطيني، ولكن ليس للسلام مع الفلسطينيين من اهل البلاد. لأن مراعي بقر الكيبوتسات أكثر أهمية من حقوق المواطن ألفلسطيني في “اسرائيل الديمقراطية” !!
(المادة من كتاب: يوميات نصراوي)

51
المنبر الحر / رؤية ثقافية فلسفية
« في: 17:30 11/07/2016  »
رؤية ثقافية فلسفية
نبيل عودة
تطورت الثقافة (والثقافة تعني الإبداع الروحي والإبداع المادي للمجتمع) في عصرنا على التنافر بين الفلسفة والدين ، كانعكاس للتنافر بين الإيمان والمعرفة، بين العقل والنقل، بين التفكير والتكفير، وهنا لا بد من سؤال : هل يمكن ان يحتل الدين، أي دين كان، مكان المعرفة؟ أي مكان العلوم والأبحاث ؟ هل باستطاعة الدين وكهنته من كل الأشكال ان يعطوا التفسيرات الكاملة للظواهر الطبيعية مثلا؟ او للفيزياء في مجالاتها الشاملة؟ او لأي علم آخر من العلوم الإنسانية التي لا يمكن ان نتخيل استمرار وجود الحياة والمجتمع البشري بدونها!!
نشأت الفلسفة في اليونان القديمة (بلاد الاغريق) على قاعدة تفسير الظواهر الطبيعية عقلانيا بعيدا عن ربطها بآلهة تتحكم بها. لذلك عرفت باسم الفلسفة الطبيعية.. طبعا الى جانب الاهتمام بعلم الأخلاق والقانون وشكل الدولة والتقسيم الاجتماعي وعلم المنطق .. الخ.
الفلاسفة الإغريق في وقتهم حسموا بموضوع أن عالمنا قائم على العقل وليس على النقل. على العلم وليس على الإيمان بالخوارق. الإيمان هو عملية نقل، ظاهرة تنقل بالوراثة وليس بالوعي. لا انفي أهمية الدين الأخلاقية كمحاولة لوضع قواعد تعامل اجتماعية بين البشر، لكننا نواصل منذ ستة آلاف من السنين التمسك بما أثبتت الفلسفة الإغريقية بطلانه ورفضت جعله معيارا فكريا سائدا تفسر به الوجود الإنساني والطبيعة.
في الفكر العربي نجد ان إخوان الصفا اقروا أن الفلسفة هي محبة العلوم وأوسطها معرفة حقائق الموجودات حسب طاقة الإنسانية وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم ... اليوم يسود النقيض لفكرهم المتنور!!
ديكارت (ابو الفلسفة الحديثة) قال ان الفلسفة كلها بمثابة شجرة جذورها الميتافيزياء وجذوعها الفيزياء وغصونها المتفرعة عن هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى. أي ربط الحصان أمام العربة وليس وراءها، كما يفعل الفكر الديني.
الفلسفة الماركسية التي اعتبرت بجدارة فلسفة القرن العشرين لم تكن اختراعا بل كانت دمجا بين مادية الفيلسوف الألماني المادي لودفيغ أندرياس فيورباخ ( 1804 – 1872). كان في البداية تلميذاً للفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (١٧٧٠١٨٣١) ثم أصبح من أبرز معارضيه. ويعتبر هيغل أحد أهم الفلاسفة الألمان حيث يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. لقد اعتمدت الفلسفة الماركسية على ثلاث قوانين فلسفية رئيسية،اقتبستها من هيغل وهي: قانون نفي النفي ووحدة صراع المتناقضات وتحول الكم إلى كيف.
حظيت فلسفة هيغل بتأثير كبير وهام على الفكر الحديث، وكان كارل ماركس ابرز الفلاسفة الذين تأثروا واقتبسوا من هيغل فلسفته الجدلية قالبا اياها رأسا على عقب:إذ أن جدلية هيغل هي عبارة عن عملية أو ديناميكية تمضي وفقها جميع القضايا من الأمثل فالأمثل نحو “الفكرة المطلقة” وقد سميت “بالجدلية المثالية”. بينما منهج ماركس الفلسفي الجدلي رأى بأن جدلية الأفكار ليست سوى انعكاسا لجدلية المادة. لذلك اتخذ من مفهوم الجدلية المادية (المادة تسبق الفكرة) أساسا ومنبعا لحركة التاريخ وتطوره. اذن هيغل قدم مساهمة عظيمة حول الجدلية، عبر فكره المثالي (الفكرة المطلقة) بينما ماركس أخذ حسب تفسير الماركسيين الجوانب العقلانية لجدلية هيغل معترفا بمساهمة هيغل في تعميق مفهوم الجدلية بقوله: لقد أصبحت الجدلية بين يدي هيغل روحية لكن هذا لا يمنع بأنه أول من بين أنواع الحركة العامة للجدلية بجميع خصائصها، وقال لينين قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية وزعيم البلاشفة في روسيا ان هيغل كان في جدليته موضوعيا أكثر منه مثاليا.
رغم ذلك لا نشهد ان التطور الفلسفي والثقافي قد ترك آثاره على تطور الفكر العربي او تطور فلسفة عربية. بعض رجال الكهنوت يدعون ان الدين هو فلسفة، لكنها ادعاءات لا تصمد أمام الواقع الفكري البسيط. وإذا اعتبرناها فلسفة فهي لا تفسر أي شيء بطريقة علمية إنما بالاعتماد على الفكر العجائبي والخرافي.
الفكر الماركسي واجه ويواجه اليوم نقدا حول العديد من القضايا التي كانت تبدو نهائية، مثلا الفكر المادي التاريخي يواجه اليوم إشكالية كبيرة، بل والبعض يعتبر المادية التاريخية كنظرية خاطئة لم تثبت نفسها.
طبعا ما اريد تأكيده في هذه العجالة الى ان مجتمعا لم يستوعب التطور الفلسفي والثقافي من عصر الإغريق مرورا بعصر التنوير وصولا الى عصرنا الراهن ، وقمع فلاسفته واعتبر فكرهم كفرا وزندقة، هو مجتمع يعيش في الظلام الحالك، حتى لو ملأ الدنيا صراخا وابتهالا وعبادة.
السؤال المقلق والمفتوح : هل يمكن ان ترقى ثقافة روحية وثقافة مادية بظل سيادة فكر ديني يتمتع بجبروت كامل وسيادة مطلقة، وتطور أشكال إرهابية بغلاف ديني؟ هل يمكن ان نشهد عودة الى نشوء فكر فلسفي عربي في الواقع المتهافت الذي يعيشه عالمنا العربي؟
رؤيتي ان التاريخ اخرج العرب من حسابه. ولا أرى ان الفكر العربي والثقافة العربية مؤهلة في الظروف المؤلمة السائدة في العالم العربي على إحداث تحول ثوري ينقل الشعوب العربية من الانعزال الى المشاركة في حركة التاريخ . أين نحن من حركة الثقافة العالمية؟ من الإبداع الروحي والإبداع المادي. لا حضارة بلا ابداع مادي، أي إنتاج الخيرات المادية وتوفيرها للمواطنين عبر تحقيق رفاهية اجتماعية. لدينا مبدعون لكنهم أول من يقمع من جهاز السلطة ولا قراء لتعويضهم عن جهدهم الفكري والتفاعل معهم. لدينا طاقات علمية لكنها تغادر أوطانها بحثا عن أسواق عمل تناسب تخصصاتها. مجتمعاتنا تعاني اليوم من فقر في ألاختصاصات، أي تفتقد للقوى المفترض ان تقود عصر تنوير عربي.
ان الإفرازات التي يخلفها هذا الواقع تعيث اليوم فسادا ودمارا للطبيعة والإنسان!!

   nabiloudeh@gmail.com

52
رد هادئ على بيان متشنج لشباب التغيير:
التطوير والتقدم وخدمة المواطن هي مهام بلدية الناصرة الجوهرية
نبيل عودة
 
يذكرني بيان شباب التغيير (27-05- 2016\عن شرطة البلدية) في تهجمهم المنفلت على رئيس بلدية الناصرة علي سلام، بما كنا نصدره من بيانات سياسية شيوعية في سنوات الستين من القرن الماضي...وانا لا الومهم فهم خريجو مدرسة حزبية بنيت على خطاب سياسي متشنج وفئوي وتحريضي. احترمت قرارهم بالانشقاق عن حزبهم، رغم اني كنت اتوقع ان يحدثوا صعقة كهربائية لحزبهم العتيق يعيد بها  حساباته ويعيدهم الى احضانه ، فهم انشط رفاقه واثبتوا نقاوتهم الثورية، ورفضهم ان يكونوا مماسح لقادة لا يشغلهم الا مناصبهم، توقعت ان يحدثوا  اعادة تفكير لحزب يفقد مكانته السياسية المميزة في مجتمعه، يتفكك تنظيميا ، يتهاوى اعلاميا، ونظرياته تهاوت مثل بناء من القش، وان يلبي حزبهم مطالبهم التي اقل ما يقال عنها انها قشرة رمان لن تغير نهج التفكير والنشاط والتهريج السياسي الذي صار ماركة شيوعية مسجلة، لكن حزبهم العتيق كان عتيقا أكثر مما توقعت، مرهقا بتراكمات من التجاوزات التنظيمية والفكرية،  ووصل الأمر بمسوق اعلامي وسياسي مثلي، رغم قناعتي (حتى وقت قريب) انهم القوة السياسية الأفضل، الى رؤية مصداقية شباب التغيير في انشقاقهم عن حزبهم ، بل ووصلت تدريجيا الى نتائج اكثر عمقا في المجالات  الأيديولوجية والسياسية ، بان حزبهم لم يعد الا مجرد مجموعة متنافسين على مناصب، لا يحملون أي فكر مما يدعون تمثيله ، لا يفقهون اصلا مضامين هذا الفكر الذي نعيش اليوم مرحلة انهياره. يرددون كالببغاوات مقولات نظرية عفا عنها الدهر، كل من يظن انه يمكن عقلنة تفكيرهم ، واعادة بعض المنطق للتنظيم ،  والحفاظ على احترام متبادل بين قيادات انتهازية ورفاقهم والتعامل معهم كزملاء في النضال هو ببساطة يعيش بأحلام رطبة. اضحت الشخصانية والفردانية تسود هذا الحزب ولن اتفاجأ ان يتعمق تفككه وتخلو صفوفه من قوى شبابية واعية ومثقفة (نموذج شباب التغيير)ترفض ان تكون مطايا لقيادات تعيش على حساب وقت سياسي وصل نهايته. الكاتب حنا ابراهيم – شيوعي ومناضل مخضرم سابق من البعنة، (وكان رئيسا شيوعيا لمجلس البعنة المحلي) ابدع في كتابة "ذكريات شاب لم يتغرب" في تقديم صورة مؤلمة لهذا التنظيم وتصرفات قياداته وتعاملهم مع رفاق ونشطاء حزبهم. ظننت في فترة ما انه يبالغ.. لكني ايقنت من تجربتي أيضا، انه لم ينشر الا نصف الحقيقة!!
اعزائي الذين لا بد لي ان اعبر عن رايي ليس من موقفكم من شرطة المدينة، بل من اسلوبكم الذي اراه ترديدا سخيفا لشعارات تنظيمكم العتيق، بتغيير بسيط ان التوقيع هو لشباب التغيير وليس للحزب الشيوعي او جبهته المحروسة.
انتم كنت القشة التي قصمت ظهر الجمل في الانتخابات لرئاسة البلدية. وقد انقذتم الناصرة من ادارة لم يعد لديها ما تقدمه  وتزداد انعزالا عن الجمهور. لذلك وصول علي سلام لرئاسة البلدية كانت بطريقة ما بفضل فضحكم لممارسات حزبكم العتيق وجبهته التي لم تعد الا مجموعة حزبيين واصدقائهم بعد ان جرى فك التنظيمات التي قامت الجبهة على اساها.. وجبهة اليوم لا علاقة لها بالتنظيم الجبهوي الذي احدث اهم واكبر انقلاب سياسي ثقافي وحدوي وتنويري في المجتمع العربي عامة والنصراوي خاصة.
توقعت ان تكونوا عقلانيين في رؤيتكم لاستراتيجية عملكم. لا تحرقوا انفسكم بتقليد فاشل لحزب لا اتوقع له مستقبلا سياسيا. عندما قرأت بيانكم "الشيوعي العتيق" الذي جاء فيه:  " علي سلام فقد مصداقيته وطعن الجمهور النصراوي في الظهر وأنه لا يؤتمن ويُخل بالمعاهدات والاتفاقيات وعلى هذا سيحاسبه أهل المدينة". لم اصدق انه بيانكم. هذا بيان يليق بجريدة التهريج "الاتحاد". هذا بيان لا يصدر الا عن سياسيين يفقدون رابطهم مع التفكير السياسي. هذا بيان اقل ما يمكن ان يقال عنه انه يزرع الفتنة ، وانا على ثقة انكم تسرعتم ببيان اقل ما يقال عنه انه لا يليق بما نعرفه عن شباب التغيير. خرجتم من كهف سياسي فلا تقيموا لنفسكم كهف سياسي بديل .. نحن في زمن سقوط الأكهاف السياسية، في زمن الانفتاح والعقلانية والتنوير والتمييز بين الهام والأكثر أهمية، اردتم صوابا فوقعتم في الخطأ!!
ماذا تعني هذه الجملة التي تصدرت بيانكم:" "لا لشرطة المدينة، لا لأذرع السلطة"؟ أي اذرع سلطة مع شرطة بلدية تحافظ على نظام ما داخل البلدة؟ من قال اننا اعداء للشرطة؟ الا نطلبها بان تنشط اكثر لجمع السلاح وقمع العنف في بلداتنا؟ هل لدينا وسائل اخرى ؟ الا نطالب بزيادة التنسيق بين الشرطة وسلطاتنا المحلية بكل ما يتعلق بقضايا النظام ، مثل انظمة السير، المواقف، قمع العنف والزعرنة، منع السلاح غير المرخص؟
 قلت من البداية اني لا اكتب لأدافع عن وجود شرطة بلدية . لكني اعرف منذ ايام المرحوم توفيق زياد والبلدية تطالب بشرطة مدينة. لا اريد الدخول بمببرات هذه المطالب، لكن كل عاقل بإمكانه ان يفهم ان التعامل مع شرطة بلدية في قضايا النظام والسير افضل الف مرة من التعامل مع شرطة اسرائيل.
طبعا نقاشي مع طرحكم ليس هنا. انما حول اسلوبكم المثير للشفقة.
اولا موقفكم من التعامل الايجابي مع الرئيس الذي ينتخبه شعب الناصرة هو نقطة لصالحكم.. لكنكم كما يبدو تشدكم العقلية العتيقة. انتم بكل احترام عضو واحد، هل من المنطق ان تفرضوا مواقفكم على سائر اعضاء البلدية من الائتلاف والمعارضة؟ ربما تجدون المعارضة تصفق لكم ليس لمصداقيتكم انما لسقوطكم السريع. لماذا لا تأخذون حجمكم بالحساب؟ خلاف الرأي حول الشرطة البلدية قد يحتاج  لحوار مفتوح وعقلاني ووضع تصور لدورها ونشاطها، ما هو مصرح لها  به وما هو غير مصرح لها به.
لا يهمني القرار الذي ستتوصل اليه ادارة البلدية، لكن لا تنسوا انكم شركاء بالتغيير الذي احدث نقله نوعية هامة في علاقة الجمهور مع بلديته ومع رئيس بلديته. واقول لكم اكثر ان النشاط الثقافي والفني والرياضي الذي تلمحون به سيشهد قريبا تحولا عميقا من اجل جعل الناصرة عاصمة ثقافية وفنية لكل الجماهير العربية. المشكلة أعزائي ليست شرطة بلدية، بل وضع اطار لعمل الشرطة، تساهمون انتم باقراره ايضا،  وبلدية الناصرة ورئيسها سيوفرون ال 2 مليون شيكل واضعاف هذا المبلغ لتحويلها لنوادي الرياضة والشباب. لذلك حجة ال 2 مليون شيكل ميزانية شرطة بلدية لا مكان لها ولا تشكل أي عائق لدعم النوادي والرياضة والفن والثقافة. كل متطلبات الشباب هي جوهر العمل البلدي، لأنهم مستقبل المدينة ومستقبل شعبنا. ما تقوم البلدية بإنجازه اليوم ، وما هو مخطط سينقل الناصرة الى واقع جديد، وانتم ببيانكم تبتعدون الى مواقف متشنجة لا تليق بشباب رفعوا شعار التغيير..
التغيير امامكم فمدوا ايديكم لتكونوا جزءا فعليا منه وليس مجرد تسمية.. ولنعتبر بيانكم كبوة فرس من اجل  انطلاقة جديدة الى الأمام.
آمل اني اخاطب وعيكم ومنطقكم السليم. المشكلة ليست شرطة مدينة او أي تسمية أخرى، بل تطوير الناصرة وتعميق النسيج الاجتماعي والتفاهم بين اهل الناصرة.   
nabiloudeh@gmail.com
 
 


53
حوار مع دكتور أفنان القاسم:
 حول مشروعه عقد مؤتمر عربي عالمي

حاوره : نبيل عودة


للتوقيع على معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل لم يكن هناك أقوى من مناحيم بيغين زعيمًا لليكود وتحت قلنسوته اليمين من أقصاه إلى أقصاه، وهذا ما يحصل اليوم مع بنيامين نتنياهو بعد استقالة موشيه يعلون وزير دفاعه، وترشيح أفيغدور ليبرمان بدله للتوقيع على معاهدة السلام بين فلسطين وإسرائيل وبين إسرائيل وكل الدول العربية كما يرتأي أفنان القاسم في مشروعه "المؤتمر العربي العالمي"، وهذه إشارة ثانية هامة وحاسمة بعد رفضه المبادرة الفرنسية التي لا تقدم ولا تؤخر شيئًا، بينما المبادرة الأفنانية تقدم حلاً لكل شيء، حلاً يرضي كل الأطراف، ويضع حدًا لكل المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلى الأبد، وليس هذا كل شيء، فالإشارات الأمريكية كثيرة دعمًا للمؤتمر العربي العالمي وما يرمي إليه من أهداف تنهي حالة الحرب في المنطقة، وتؤسس لحالة سلم دائم، أولى الإشارات الخطوات الجادة لأمريكا نحو حل سلمي للمسألة السورية كما يقترحه المؤتمر على أساس لا غالب ولا مغلوب، وأخير الإشارات لا آخرها من تونس، وحزب النهضة الإسلامي يريد تبني فصل الدين عن الدولة، كما يدعو أفنان في كل مشاريعه التنويرية، كمقدمة لا بد منها وكمحفز من أهم المحفزات لكل الحركة الإسلامية في المنطقة لأجل التأسيس للعلمانية معًا وفاتيكان مكة والمدينة كما يدعو أفنان كذلك، والذي تُرشح أمريكا راشد الغنوشي لرئاسته. مع تسارع دقات الساعة في الساحات العربية والإسرائيلية والعالمية يجيء هذا الحوار المستفيض مع المفكر العربي والمواطن العالمي، وكعادته كان واقعيًا وبراغماتيًا وسحريًا في كل أجوبته، كله أمل، الإحباط لا يعرفه بعد أن تطعم ضده، وكله ثقة.

أفنان القاسم لك مكانتك الفكرية والثقافية، أديب وناقد ومفكر فلسطيني بارز، طرحت فكرة مؤتمر عربي عالمي أسوة بالمؤتمر اليهودي العالمي الذي انطلق لإقامة دولة يهودية في فلسطين. ما هي نقاط التماس بين المشروعين، وما هي نقاط التناقض؟

* إقامة دولة يهودية في فلسطين للمؤتمر اليهودي العالمي كانت الهدف الذي تأسس عليه، والمؤتمر كمؤسسة كان يتكون من منظمات يهودية في شتى أرجاء العالم، نحن لمؤتمرنا إقامة دولة فلسطينية هدف من بين أهداف ترتبط عربيًا ارتباطًا وثيقًا بالمشروع الأعظم الذي هو مشروع الحريات في العالم العربي، ومؤتمرنا كمؤسسة سيتكون من أفراد لا من منظمات، كل فرد في العالم عربيًا أم غير عربي يمكنه المساهمة في تأسيسه، فالعروبية كمفهوم غير العروبة كقومية، العروبية كالشيوعية كالليبرالية كالبوذية كالتاوية كالكونفوشيوسية كالصوفية كالوجودية كالدادائية تقوم على الكونية، فتنفي الانتماء الديني والعرقي والسياسي، نحن هنا على النقيض من الصهيونية التي تسعى لتأطير اليهود ثقافيًا ودينيًا واجتماعيًا، نفتح ذراعينا لكل البشرية حتى لليهود أنفسهم.

لاحظت أن مشروعك أثار اهتمام المثقفين العرب، لكنه لم يثر انتباه رجال السياسة العرب؟ ونحن نعلم أن واقع الثقافة والمثقفين العرب لا يحمل أي تفاؤل أو أي تأثير على نهج السياسة في مجتمعاتهم. كيف يمكن تحقيق هذا المشروع في مجتمعات تعيش كما أرى خارج التاريخ؟

* مشروعي أثار اهتمام المثقفين العرب وغير العرب من المحيط إلى الخليج، وخاصة أحرار بلدان الخليج وأحرار السعودية الذين روجوا لأهدافه، وجعلوا منها أهدافهم في الحرية والتحرير، حرية المرأة وتحريرها قبل حرية الرجل وتحريره، لأنه المشروع البديل لعقود من القهر والحرمان، مشروع الحياة بعد كل هذا الموت الذي ينيخ بالكلكلة علينا منذ عقود طويلة، وأنا دومًا ما أحاول النهوض من الموت، وكأن الموت شرطي الميتافيزيقي، لهذا كان المؤتمر العربي العالمي وليد هذا الشرط، قدمت له بسلسلة من المقالات رافقتها سلسلة من مقالات لكتاب يجمعنا تفاح الأمل، الذي قضمناه معًا، تحت استعارة مقالاتنا التي أتت أُكُلُها، فاستجاب النظام السعودي لنا عندما أنهى أعمال هيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، واستجاب النظام الحماسي لنا عندما حول الأنظار عن انتهاك القدسيات (أنا هنا أعكس كما عكست مع الهيئة) بالاهتمام بالأسرى، واستجاب النظام المصري لنا عندما أوقف تمادي بلطجيته في إشعال النار بين أقباط ومسلمين وإرهاب يصنعه، واستجاب النظام الأردني لنا عندما اهتم لأول مرة في عمره السياسي الطويل بمدينتي الصامدة معان، إلى آخره إلى آخره. الساسة العرب أرعبهم المشروع (أنا لا أتكلم عن الصحفيين السياسيين العملاء لأسيادهم في الحكم)، فتحركوا بخجل، لكنهم تحركوا، اكتفوا بإشارات صغيرة، رغم أني واضح كل الوضوح عندما قلت أكثر من مرة وفي أكثر من مكان إننا لا نريد أن نعمل انقلابات على أحد، نحن نريد أن يتركنا الحكام العرب نعمل عنهم، الله يعطيهم العافية منذ عشرات السنين وهم هنا، ونحن لن نمس امتيازاتهم، وستكون لهم قصورهم كما كانت دومًا. أثَّرَت إذن مقالاتي ومقالات المحبين للمؤتمر على نهج السياسة في مجتمعاتنا، وعن الآخرين، مثقفي الخمسة ملاليم كما يدعوهم بريشت، نحن لا نريدهم، نريد من يريدنا، ونلفظ من لا يريدنا، هم وأفكارهم يقبعون خارج التاريخ، ومعهم مجتمعاتنا كما تقول، لكن هذا لا يمنع تحقيق مؤتمرنا وأهدافه في الحرية والتقدم واللحاق بباقي الأمم، على العكس حافزنا كبير بِنيويًا، لينين ارتقى بشعوبه ومذهبه الارتقاء شعوبه التي كانت في أوضاع أوسخ من أوضاعنا، وماو تسي تونغ، ومانديلا، ومصطفى كمال أتاتورك، ومصطفى كامل باشا، الرافد الثقافي إن لم يكن تصنعه دينامية التغيير، ولا تنس أن الثقافة في عصر التكنولوجيا اليوم ليست حكرًا على أحد.

هل يملك المثقف العربي القوة الدافعة لفرض رؤيته على مجتمع ما زال يعيش أبرز مثقفيه في المهجر؟

* المثقف العربي لن يفرض أية رؤية على مجتمعاتنا، المؤتمر العربي العالمي سيفرض كل شيء على مجتمعاتنا، فهو كمشروع حياتي للتقدم والحرية يقوم على عدة برامج ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية وحُلمية، وكما كانت المنظمات اليهودية في العالم عماد المؤتمر اليهودي العالمي، سيكون المثقفون العرب وغير العرب في العالم العربي والعالم –أضيف دومًا غير العرب لكونية وإنسانية مؤتمرنا- عماد المؤتمر العربي العالمي، جَذْبُهم كل ما نحتاج إليه، وَجَذْبُهم يتوقف على النجاحات التي سيحرزها المؤتمر أولاً بأول.

لا بد من ملاحظة، المؤتمر الصهيوني اعتمد على حالة يهودية مميزة، مستوى ثقافي داخل مجتمعاتهم، مستوى تعليم هو الأبرز بنسبته، مفكرون وعلماء ورجال سياسة لهم مكانتهم المميزة في مجتمعاتهم أولاً وعلى مستوى العالم ثانيًا، هذه الحالة يفتقدها العرب بهذه الكثافة وهذا التميز، ألا يؤثر ذلك على التحديات التي سيطرحها هذا المؤتمر؟

* صحيح ما تقول بخصوص المؤتمر الصهيوني، من ناحية الكم ومن ناحية الكيف، هم متقدمون عنا في زمنهم، وليس في زمننا المفتوح على كل الثقافات من كل الجنسيات، جون لو كاريه الروائي البريطاني الأشهر من نار على علم اعتبر نفسه أول عروبي، حسب المفهوم الكوني الأممي الإنساني الذي أوضحته، نحن نعيش اليوم في زمن، العالم مفتوح على بعضه حضاريًا، فالحضارة التي ترتدي ثوب العولمة العسكرية وتفعل ما تفعل في بلداننا تقابلها حضارة ترتدي ثوب العولمة الإنسانية التي هي العولمة كما نصنعها نحن التواقون إلى الحرية الظامئون لماء العلم القادرون على أن نكون كالآخر الذي هو مثلنا في أحلامه وأفعاله، هذا واحد من تحديات المؤتمر، وبِنيويًا هذه التحديات من السهل تحقيقها، لأنها تتداخل ما بينها وتتداخل ما بينها وبين تحديات لأمم أخرى سبقتنا إلى تحقيق كل ما تصبو إليه. سأقول لك شيئًا هامًا: يجب أن نأتي بالظروف الملائمة إن لم تأت بمحض إرادتها، وهذا ما سيفعله المؤتمر.

كيف تلخص فكرة المشروع اليوم، من مختلف الجوانب وردود الفعل التي تراكمت منذ طرحت مشروعك؟

* المشروع عدة أفكار مترابطة: السلام في العالم يمضي بالسلام بين الدول العربية وإسرائيل، والسلام في العالم يعني اقتصاد سلمي، وتقدم سلمي، ومجتمع سلمي، وكل هذه الكلمات ليست مجانية، لأنها ترتبط بواقع دولي اقتصادي واجتماعي وسياسي لن يكون في مصلحة أحد من أسياد اللعبة في الوقت الراهن سنة 2050، يعني على بُعد رمية حجر. وأنا شخصيًا لا أظن أن أعضاء مجلس الأمن القومي الأمريكي أغبياء إلى هذه الدرجة، وكذلك لا أظن أن حكام دولة إسرائيل فقدوا بوصلتهم، لا أظن أن الحكام العرب مختلون في عقولهم، كل ما هو قائم حاليًا سيزول بحكم التطورات الاقتصادية وبالتالي موازين القوى، وخلال بضع سنين بخصوص العالم العربي بضعة أشهر لن تبقى الأمور على ما هي عليه، تفلت الأمور اليوم من أيدي المخططين لها جيوسياسيًا وجيوعسكريًا، عندنا وعندهم، في فرنسا المظاهرات يومية، والنظام يتخبط، سيسقط النظام في الانتخابات القادمة عام 2017، لكن هذا لا يعني إنقاذ النظام الرأسمالي في فرنسا وفي أوروبا وبالتالي في أمريكا، ومن يقل أمريكا يقل كذلك إسرائيل ابنتها، النظام الرأسمالي الكلبي سيتمزق حلقه من النباح، لأن هذا كل ما سيقدر عليه، النباح، وقد أفلتت الأمور من براثنه. السلام عندنا يعني استثمارات على كل مستوى، يعني الغرب في ورشتنا، وهذا ما سينقذ الغرب اليوم، وما سينقذ الغرب غدًا اعتمادًا منه علينا كقوة اقتصادية لا كقوة حميرية، وفي اعتقادي أن أمريكا وإسرائيل بدأتا تفهمان مشروعي يإشارتين أوليين قبل استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي أرسلتاهما إليّ عندما لم يؤيد كيري المبادرة الفرنسية -مبادرة عجل بها المؤتمر إذا كان البعض يرفض سرقة فرنسا للفكرة مني- وعندما رفضها نتنياهو وبين يديه مبادرتنا السحرية، مبادرة فرنسية ترمي إلى تجميع جُثَثي لحل المسألة الفلسطينية-الإسرائيلية على شاكلة الرباعية الدراكولية أو مثل الدكتاتور الفلسطيني العجوز على صورة نظامه العجوز الذي حان الوقت لتبديله. وعربيًا كان رد الفعل السعودي أهم الردود، عندما اقترح الأمير محمد خطة للتحول، بينما هو يعرف جيدًا أن هناك لن يكون تحول فعلي في السعودية إلا عن طريق المؤتمر وما يقترحه من بدائل تبدل بشكل جذري النظام، فالنظام الحالي لا يمكن تحوله، النظام الحالي غير قابل لأي تحول لأي إصلاح. لهذا يقترح المؤتمر ما يلي: فصل الدين عن الدولة في كل الدول العربية، وهذا لا يعني على الإطلاق مهاجمة الدين، ففصل الدين عن الدولة لن يكون بفصل الدين عن المجتمع، وليحتفظ رجال الدين بكل امتيازاتهم سنؤسس لفاتيكان مكة والمدينة. النظام العلماني العربي سيؤدي بنا إلى حل كل المشاكل الوطنية الأخرى –أو حل الواحدة سيؤدي إلى تثبيت النظام العلماني لأن المسألة بِنيوية- بخصوص فلسطين الحل بإبقاء كل شيء على ما هو عليه، اعتراف متبادل، قدس موحدة وعاصمة واحدة تحت علم بلديتها، التعويض والعمل والسكن أينما أريد، المستوطنون جنسية مزدوجة. بخصوص سوريا تثبيت نظام التوريث، فحافظ بشار الأسد تحت الوصاية يعني لا غالب هناك ولا مغلوب، انتخابات ديمقراطية، واستلام المعارضة للحكم. بخصوص العراق المواطنة بدل المحاصصة ودولة كردية على الطريقة الفلسطينية. بخصوص مصر عودة العسكر إلى ثكناتهم وحكم مصر من طرف ثلاثية علمانية لثلاث سنوات تتم خلالها كتابة دستور حداثي لمصر، والتحضير لانتخابات تكون بالفعل ديمقراطية. بخصوص اليمن حرية القات كباقي الحريات، وهكذا بخصوص كل بلد عربي، لا توجد في قاموسنا كلمة مستحيل. نريد أن نجعل من الملك سلمان، وهو مرتاح في قصره، ملكًا لكل السعوديين بدلاً من ملك النفط السعودي. الإخلاص والطاعة لطاغية، لبرنامج سياسي لا إنساني، لحزب فاشي، يُفرغ الإخلاص ويُفرغ الطاعة من معناهما.

طبعًا لا بد من سؤال بصفتك مثقفًا فلسطينيًا بارزًا، وابنا لشعب النكبة، أين تقع فلسطين في إطار مشروع المؤتمر العربي العالمي؟ هل يمكن سحب صلاحيات المنظمات الفلسطينية المسيطرة اليوم على مقدرات الشعب الفلسطيني؟

* قلتُ أين موقع فلسطين في إطار مشروع المؤتمر، كيف موقع فلسطين شيء آخر: سبق وأكدت أننا لن نقوم بانقلابات على أحد، وهذا يخص فتح وحماس وباقي الفصائل، نحن نريد نقل السلطات، تحت صورة كررتها: تسليمي مفاتيح الضفة ومفاتيح غزة لأسلمها بدوري المؤتمر، القادة الفلسطينيون لن نمسهم أو نمس امتيازاتهم، سنقول لهم الله يعطيكم العافية، فشلتم بعد كل هذا السنين، والآن جاء دورنا. معهم الأزمات من كل نوع، أزمات تتطلب تغيير الطبقة الحاكمة. حكام رام الله سيذهبون بإرادة المحتل الذي أحضرهم، وحكام غزة سيذهبون بإرادتهم بعد اتفاق بين المؤتمر وبينهم. ونحن على أي حال سنحل كل التنظيمات باسم الشعب الذي لم يعد يريدهم، وسنفتح الباب واسعًا لكل الأحزاب ولكل التيارات السياسية بدون أية بطاقة دينية. سنشكل حزبنا، حزب التقدم والحرية، الذي عماده القيم لا الإيديولوجيات، حزب عصري بأتم معنى الكلمة.

هل يمكن إحداث نقلة نوعية تعيد القضية الفلسطينية إلى مقدمة الاهتمام الدولي؟

* المؤتمر سيحدث نقلة نوعية للعالم العربي كقوة حضارية، لا ينقصها أي شيء غير رفع يد التخريب عنها، وسيركز على قضية القضايا، القضية الفلسطينية، لأن كل ما يجري اليوم من مآس للتعتيم على مأساتها، ولكن ليس إلى الأبد، هذا ما يعرفه الحكام الإسرائيليون تمام المعرفة، هذا ما يعرفه الحكام الأمريكيون، هذا ما يعرفه الحكام العرب، هذا ما يعرفه كل حكام العالم، لهذا كفى عذابًا للشعبين ولباقي شعوب المنطقة، اتفاقنا سيكون في كل الأحوال غدًا، إذن لِمَ الانتظار والشمس هي الشمس التي تشرق كل يوم.

هل من دور مثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعتمدتها الجامعة العربية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني؟

* لن يكون هناك أي دور لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد نقل السلطات إلى المؤتمر، بما في ذلك نقل كونها ممثلاً شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، فنحن لن نبدأ من الصفر، نحن سنكمل على طريقتنا المشوار، بشكل يتلاءم مع عصرنا، وبإملاء مما سيستجد على الساحتين العربية والدولية. وعلى العكس، سيكون للعرب في إسرائيل أكبر دور يلعبونه بين مواطنيهم اليهود، فهم سيكونون النموذج الأمثل للمؤتمر في كل شيء، الحقوق المتساوية، الواجبات المتساوية، الأخوة المرجوة، العدالة، الحرية، الحُلم، سيكونون الدينمو لكل شعوب المنطقة، سيضعون حدًا للذُّهان وللهواس هواس الحرب أول هواس، فيزول الحذر من الآخر بفضلهم، والكره، والعداء.

ما هو دور النظام العربي في هذا الواقع المأساوي الذي تجتازه المجتمعات العربية؟ هل من مكان لفلسطين في عالم عربي ممزق وينزل إلى الحضيض الإنساني الأسفل؟ هل بقي شيء من فلسطين في ضمير الإنسان العربي أو في ملفات الأنظمة العربية؟

* النظام العربي كما هو عليه الآن لا دور له، النظام العربي العلماني الجديد نعم سيكون له أكبر دور، سبق وقلت دور النظام الواحد يؤثر في أدوار كل الأنظمة، وأدوار كل الأنظمة تؤثر في دور النظام الواحد، هناك تداخل بِنيوي هو شرط الصعود من الحضيض الإنساني الأسفل. وكما هو مصير النظام الأوسلوي بيد إسرائيل مصير النظام العربي بيد أمريكا، إذن تبديل هذا النظام أو ذاك من أسهل الأشياء عندما يكون المؤتمر الضامن لمصالح الغرب بما فيها مصالح إسرائيل مقابل حاجاتنا الحضارية الوجودية وتحقيق رغائبنا في التحرر والتنفس، إرضاء رغائبنا الحضارية يجعل منا قوة اقتصادية قادرة على حماية أمريكا (وإسرائيل) من الانهيار عام 2050، أنا أتكلم بكلام علمي وأزن تمامًا كلامي، ولا علاقة لكلامي بالوطنية وما غيرها، فالوطنية هي الكيفية التي ننقذ فيها الوطن من الضياع، من الزوال، وأنا لهذا أول وطني. العمل يجعلنا أحرارًا! أي عمل؟ لقهر الآخر؟ أين الحرية إذن؟ الأنظمة العربية لم تبق شيئا لفلسطين ولبلدانها في ملفاتها، لهذا يجب إحراق كل الملفات، وفتح ملفات جديدة للبناء لا للهدم وللرخاء لا للنهب. وعن فلسطين في ضمير الإنسان العربي، اليوم سوريا هي فلسطين، العراق هو فلسطين، اليمن هي فلسطين، البحرين هي فلسطين، فنزويلا هي فلسطين، نيجيريا هي فلسطين، أفغانستان هي فلسطين، أيرلندا هي فلسطين، حتى في الزمن القديم كنعان هي فلسطين، لم يكن هناك أي غزو يهودي حسب علماء الآثار الإسرائيليين، كانت هناك انتفاضات للكنعانيين على حكامهم، فاليهود هم كنعانيون مثلنا، نحن وهم فلسطين، هناك تبديل الاسم فقط، يهود، عرب، فلسطين كانت في الحرب وستكون رمزًا لعذابات البشرية تحت هويات مختلفة، وفي السلم مغناة لفرح الإنسانية. لهذا تعود فلسطين بنا إلى الزمن الحديث، وتقترح على أوباما جائزة نوبل للسلام وهو في آخر فترته – ما فيش إشي متأخر- دخول التاريخ من بابه العريض.

******
تعريف: أفنان القاسم، من مواليد يافا 1944، عائلته من برقة قضاء نابلس، له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وفي موقع الحوار المتمدن، وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية و و و... دكتور دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون ودكتور حلقة ثالثة في الأدب العربي من جامعة السوربون كذلك ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدَرَّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا وفي وفي وفي... قام منذ عدة سنوات بمبادرة سلام حياها الرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورؤساء وزراء كندا وإسبانبا والسويد وبلدان أخرى أوروبية.

nabiloudeh@gmail.com

54

فلسفة مبسطة: الصراع الطبقي .. من ستالين حتى زينب!!

وقصة تعبيرية: زينب تستحق اضافة معاش

نبيـــل عـــودة

حسب الماركسية يتجلى الصراع الطبقي في الحياة الاجتماعية بأكثر صوره شدة في ظل النظام الرأسمالي، وتضيف الماركسية ان الصراع الطبقي بين البروليتاريا (أي طبقة العمال) والبرجوازية يحدد كافة جوانب حياة المجتمع.
تقسم الماركسية الصراع الطبقي الى ثلاثة أشكال من الصراع هي: الصراع الاقتصادي، السياسي والصراع الأيديولوجي. حسب الماركسية تطور الصراع الطبقي يؤدي لا محالة الى وصول البروليتاريا للسلطة وإقامة دكتاتورية البروليتاريا.
طبعا ما حدث هو النقيض المطلق!!
في الواقع ان ما ذكرته أعلاه هي تعاليم سادت في فترة ستالين، وألصقت بماركس والماركسية. الواقع ان ماركس لم يُعرف الطبقة بالشكل الذي ساد "ماركسية ستالين".
ورد تعبير الطبقة والطبقات في كتب ماركس ورسائله دون دخوله إلى إعطاء تعريفات دقيقة.. المفكر اليهودي أمريكي نوعم تشومسكي يقول ان تحليل ماركس للطبقات كان نظريا وتجريديا وكانت حدوده الفكرية تعتمد على الواقع الأوروبي الغربي في القرن التاسع عشر. من هنا يرى الكثير من الباحثين ان البروليتاريا لم تنشا إلا في فترة محدودة تاريخيا في القرن التاسع عشر، ثم تلاشت ولم تنشا أي بروليتاريا خارج الدول الأوروبية الغربية المتطورة اقتصاديا. طبعا لم تنشا بروليتاريا في أمريكا أيضا. فقط العقول المريضة تتوهم بنشوء بروليتاريا في دول الرمال النفطية. من الأسهل ان ينور الملح...من ظهور بروليتاريا في قرننا الواحد والعشرين!!
لا اريد التوسع ببحث أصل تعبير بروليتاريا لكني أضيف نقطة أساسية ان أصل التعبير جاء من الامبراطورية الرومانية، لوصف الفئات المسحوقة المعفية من الضرائب. ثم استعمل الاصطلاح اقتصادي انكليزي للتمييز بين فئتين من العمال، فئة عمال شديدة الفقر وفئة عمال ذوي مكانة اقتصادية أرقى.
اذن ما سجلته الماركسية او سجل عنوة باسمها لم يكن الا بدع فترة ستالين، وقد سادت بالفكر الشيوعي حتى أيامنا هذه دون ان نجد مفكر عقلاني يعيد التفكير ويزيل ألتاثير الستاليني الخاطئ والمدمر للحركة الشيوعية. التي ما زالت أحزابها تتعامل مع الموضوع كمرتكز أساسي في فكرها وتخطيط سياساتها.
السؤال المهم اليوم ، وبتجاهل كامل لما سبق وسجلته: هل يوجد حقا صراع طبقي؟
أين هو؟
كيف لا نشاهد هذا الصراع في الأنظمة الرأسمالية الكبرى؟
ما الذي تغير؟
للأسف الخطأ كان في الفهم المشوه لماركس. لنتخيل، في القصة التالية، الصراع الطبقي بين الشغالة زينب ومشغلتها عبير .. وكيف "تنتصر" الطبقة العاملة على المشغلين البرجوازيين!!

زينب تستحق اضافة معاش/ نبيل عودة

كانت زينب تشتغل مساعدة في منزل، تقوم بكل أشغال المنزل، لأن الزوجة عبير غائبة معظم ساعات النهار، بحجة تواجدها مع صديقاتها، والزوج غائب في عمله بإدارة شركة مقاولات، لكنه بين فينة وأخرى يتردد على المنزل لبعض الوقت.. ومع الأيام صار تردده شبه يومي أحيانا، الا اذا كان على سفر. زينب لا تجهل حقيقة تمتعها بجسد متناسق ووجه يطيب للإنسان النظر اليه، فهو وجه جذاب بتقاسيمه وصفاء بشرته...
في يوم من الأيام وقبل ان تخرج الزوجة للقاء صديقاتها، قالت لها زينب انها تريدها لحديث هام.
-   الا يمكن تأجيل حديثك لوقت آخر؟
-   لا يا سيدة عبير.. لأني يجب ان اقرر .
-   ماذا تقررين؟
-   البقاء في عملي في منزلك او الانتقال للعمل في منزل آخر.
-   لكننا ندفع لك معاشا جيدا.
-   لم يعد يكفي... مقابل ما اقوم به من خدمات منزلية ..
-   هذه هي وظيفتك.. هل تعتقدين انك جئت للراحة هنا؟
-   ان لم نتكلم الآن سآخذ أعراضي وأغادر المنزل.
-   ما هذا الكلام .. تهددينني؟
-   لا اهددك يا عبير ، بل أطالب بحقي...
-   ما هي طلباتك...؟
-   اضافة 20% على معاشي.
-   لماذا يجب ان اضيف لك هذه الزيادة؟
-   اولا انا اعد الطعام وزوجك يقول لي اني طباخة ماهرة وطبيخي أفضل من "الخبيصة" التي تعديها له عندما أكون غائبة.
-   ليسامحه الله.. لا يعجبه العجب.
-   لكنه معجب بما أعده من طعام.
-   هذا ليس سببا كافيا لزيادة معاشك.
-   اقوم أيضا بتنظيف البيت ومسح الغبار وكي الملابس وزوجك يقول لي اني منذ بدأت العمل في بيتكم صار البيت أكثر نظافة وترتيبا ولم يعد بحاجة لارسال ملابسه للكوى.. بل يقول لي اني أفضل منك في كي ملابسه وتنظيف البيت وترتيبه.
-   هذه تفاهات لا تعني شيئا .. وهي ضمن أشغالك المتفق عليها.
-   الم تقتنعي بعد يا عبير بأني استحق إضافة معاش؟
-   لا .. حججك لا قيمة لها يا زينب.. وما تقومين به تقوم به كل شغالة أخرى وربما افضل منك!!
-   حسنا .. يقول لي ما هو أهم وأخطر.. باني افضل منك في السرير...
-   ماذا؟ زوجي نام معك في السرير..؟
-   ليس زوجك فقط، الجار أيضا قال لي اني أفضل منك في السرير!!

nabiloudeh@gmail.com

55
تشديد العقوبات ضد ملقي الحجارة.. ومتى لم تكن مشددة؟!

*الجهاز العسكري يدفع الأولاد لاعترافات بالتُّهَم والوصول الى "صفقة ادّعاء" بدون وجود محامٍ يمثل الأولاد* *الأولاد المرعوبين لا يفقهون ما تخبّئ لهم الصفقة* تحقيق قضائي بريطاني: إسرائيل تنقض ستة بنود من وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة بما في ذلك البند (37أ)الذي يمنع التصرف العنيف وغير الإنساني*المحامي جواد بولس: كل فلسطيني يمثل أمام المحاكم الإسرائيلية مدان حتى يثبت عكس ذلك*
نبيل عودة

ملاحظة: على اثر اتخاذ حكومة نتنياهو قرارا بالبدء بإجراءات مشددة ضد ملقيي الحجارة وانه سيتم توسيع حيز عمل الشرطة الإسرائيلية في محاربة ملقي الحجارة والزجاجات الحارقة ومضاعفة عقوبات السجن، عدت الى مادة سبق وان نشرتها، حول أساليب تعامل الاحتلال مع الأطفال الفلسطينيين، تفضح أساليب التعامل وعدم قانونيتها أصلا وتناقضها مع القانون الإسرائيلي نفسه والدولي أيضا.. الأمر الذي يقول ان التشديد سيكون تجاوزات خطيرة للقانون الإسرائيلي نفسه وربما من هنا رفض المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية يهودا فاينشتاين تحديد الحد الأدنى من العقوبات لراشقي الحجارة (الأطفال يشكلون نسبة كبيرة) وتشديد تعليمات إطلاق النار.
*********
  نائب عسكري:"كل طفل الفلسطيني هو مخرب محتمل"

تعالوا نتخيل حالة عبثية: مسؤول في السلطة الفلسطينية يعلن ان كل طفل يهودي في إسرائيل يجب التعامل معه كجندي محتل.
أضع هذا التخيل العبثي في مواجهة ما قاله مدّعٍ عسكريٍّ إسرائيليٍّ عام لوفد قضائي بريطاني موَّلتْه وزارة الخارجية البريطانية، جاء يحقق في اعتقال وإصدار أحكام ضد أولاد فلسطينيين يُشتمُّ منها ان إسرائيل تخرق وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة.
النيابة الإسرائيلية تنكرت (كالعادة) شكوى الأطفال الفلسطينيين عن سوء معاملتهم، وقالوا للوفد البريطاني "أضحكتمونا" وأضاف ضابط كبير من النيابة العسكرية بصراحة للوفد البريطاني المشكّل من تسعة رجال قانون "ان كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل".
الوفد فحص وحقق بالقانون والتصرفات الإسرائيلية بكل ما يتعلّق باعتقال وصدور أحكام ضد أولاد فلسطينيين.
الوفد أصدر تقريرا من 36 صفحة، بصياغة دبلوماسية لطيفة جدا (يبدو ان ذلك من خصائص الغرب بكل ما يتعلق بإسرائيل حتى لا يتهم باللاسامية). من ضمن ما جاء بلطافة دبلوماسية: "من المحتمل ان بعض التردد بمعاملة الأولاد الفلسطينيين، حسب النهج الدولي سببه من القناعات التي طرحت امامنا من مدعي عسكري بان "كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل". هذا الموقف يبدو لنا انه نقطة الانطلاق الحلزونية لغياب العدل، الذي لا يستطع احد ان يغيره الا إسرائيل نفسها بصفتها قوة الاحتلال في الضفة الغربية".
المدعيان العسكريان الإسرائيليان اللذان تحدث الوفد البريطاني معهما هما المدعي العسكري الرئيسي الكولونيل روبرت نويفيلد ونائبه الميجر رونين شور. الوفد لا يذكر من قال الجملة التي تشكل منطلق النيابة العسكرية الإسرائيلية (ربما الأصح الفكر الاحتلالي الإسرائيلي) بان كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل. وهو الأمر الذي يشكل العلاقة بين الأولاد الفلسطينيين والجهاز العسكري الإسرائيلي، او دولة الاحتلال للدقة بدون لطافة دبلوماسية.
الوفد كشف في تقريره وجود روايات إسرائيلية عسكرية متناقضة حول منهج اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين حسب القانون العسكري. الجهاز الإسرائيلي الرسمي له روايته. منظماتٌ ونشطاءُ فلسطينيون وإسرائيليون ممّن يتابعون مسألة اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين وحتى الأولاد أنفسهم لهم رواية مختلفة. الوفد لم ير ضرورة لقبول رواية ما، حسب لسان التقرير. بل سجل الروايات المتناقضة دون تأكيد صحة قبول رواية طرف من الأطراف، ولكن، وهنا الشيء الأساس، سجّل الوفد في تقريره تبريراً لموقفه بعدم الفصل بين الروايات، بأن "الفروقات المثبتة في القانون بين الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين التي أشغلتهم في فحصهم، هي فوارق موثقة بالفعل، وانه حسب الوقائع الموثقة، التي لم يستطع المتحدثون الإسرائيليون نقضها او إنكارها، وجد الوفد ان إسرائيل تنقض ستة بنود من وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة.
البند2 – التمييز بين الأولاد الفلسطينيين والإسرائيليين.
البند 3- مصلحة الولد مقابل مصلحة الاحتلال.
البند 37 ب – الاحتياج لحجّة مسبقة لاعتقال الأولاد.
البند 37 ج- عدم فصل الأولاد عن المعتقلين الكبار.
البند 37 د- الوصول فوراً لمحام (الاحتلال لا ينفذ هذا الأمر).
البند 40 – التقييد بسلاسل حديدية في المحكمة (الظاهرة الشائعة).

والتزاماً منه بعدم اعتماد أيٍّ من الروايات، يسجل الوفد انه اذا كانت التقارير والشهادات التي وصلتهم من منظمات إسرائيلية وفلسطينية حول اساليب الاعتقال صحيحة، فان هذا يعني ان إسرائيل تخالف المنع عن التصرف العنيف، وغير الإنساني او المهين حسب البند 37 أ في الميثاق.
وتسجل الصحفية عميرة هيس (من صحيفة هآرتس) رأيها بوضوح، متخلية عن اللطافة الدبلوماسية، انه بالاعتماد على ما نشرته "هآرتس" من مراسليها، والتي تشمل عشرات الشهادات حول اعتقال أطفال فلسطينيين، نسمح لنفسنا، كما تكتب عميرة هيس، "ان نكون أقل مجاملة وتردداً، ونقرُّ ان المعاملة القاسية، وغير الإنسانية، او المهينة، هي المعيار. الجيش يتصرف بشكل دارج (روتيني) في اعتقال الأولاد الفلسطينيين في منتصف الليل. وبشكل دارج يُضربون، صفعاً او رفساً أثناء الاعتقال. وفي ثلث الحالات، حسب فحص المنظمة العالمية للدفاع عن الأولاد، يطرح الأولاد على أرضية السيارة العسكرية، أثناء قيادتهم للاعتقال. وبشكل دارج رجال الشرطة يحققون معهم قبل التحقيق الرسمي. وتقريبا بشكل دارج أيضا التحقيق يجري قبل ان يسمح للولد ان ينام، وبشكل دارج لا يحضر والداه في وقت التحقيق معه".
حجّة ممثلي وزارة الدفاع ومنسّق العمليات في المناطق المحتلة، أولا، وهو تقليد إسرائيلي دارج، الإنكار أولاً، ثم قولهم ان "الجنود هم جنود". هذه الملاحظة أقلقت الوفد البريطاني، كما جاء في تقريرهم. وطبعاً قال ممثلو الاحتلال إن الأولاد بإمكانهم تقديم شكوى حول معاملة مسيئة لقسم التحقيق مع الشرطة.
 اقتراح "عبقري" !!
مواطني إسرائيل يضحكهم "قسم التحقيق مع الشرطة" الذي يحقّق مع نفسه، من معرفتنا ل "نزاهته الكبيرة".. الذي يقرر عادة، بشكل دائم ومتوقع، انه "تبين بعد الفحص ان الشكوى غير صحيحة"!!
تبرئة جاهزة لدى قسم التحقيق مع الشرطة.. أليس الأطفال الفلسطينيون مخربين محتملين منذ ولادتهم؟ هل يمكن تصديق المخرب الفلسطيني المقبل وتكذيب الجندي او الشرطي "محرري" الأرض من "مغتصبيها" الفلسطينيين؟!
السؤال الضروري: هل يعي الأولاد مضمون اعترافاتهم؟
تقرير الوفد يذكر باستهجان منضبط جدا (فقط لدى البريطانيين يمكن ان يكون الاستهجان منضبطاً جدا بكل ما يتعلق بالتعامل مع تجاوز إسرائيلي) ان الجهاز العسكري القضائي، لا يسمح لمحامي ان يلتقي مع الأولاد قبل بدء المحاكمة ليمثلهم بشكل معقول وكامل. يذكر التقرير بمرارة منضبطة ان لوائح الاتهام المقدمة للمحاكم العسكرية تعتمد على اعترافات الأولاد  واعترافات أولاد على رفاقهم. يشير التقرير ان الجهاز العسكري يدفع الأولاد لاعترافات بالتُّهَم والوصول الى "صفقة ادّعاء" طبعاً بدون وجود محامٍ يمثل الأولاد، أي لا تجري محاكمة حقيقية للأولاد. من المؤكد أن الأولاد المرعوبين لا يفقهون ما تخبّئ لهم الصفقة، ربما لا يفهمون هذا التعبير ومحتواه القانوني، كل ما يهمُّهم هو التخلُّص من الوضع الغريب والمخيف الذي وجدوا أنفسهم بلا وعي داخله بصفتهم "مخربين محتملين". هذه الظاهرة ليست جديدة، بل وردت في عشرات التقارير للجان حقوق الإنسان والطفل إسرائيلية وفلسطينية ودولية ويردّدها دائماً نشطاء فلسطينيون وإسرائيليون، أوردها المحامون الذين يدافعون عن المعتقلين الفلسطينيين وخاصة عن الأولاد، وقدّموا صورة مذهلة عن المحاكمات التي تصدر أحكاما بالجملة بدون استماع لـ"المخربين الصغار" وبناء على ما تقدمه النيابة العسكرية من "صفقات" جاهزة "توصلت" اليها مع الأولاد، وكأن الأولاد على فهم لمضمون ما يدور حولهم، بغياب أي دور للمحامين لتقديم دفاعهم، اذ يسمح لهم بالظهور في معظم الحالات اثناء المحاكمة فقط، دون ان يتمكنوا من فهم ما يجري مع موكليهم من "المخربين" الصغار.
هناك سيف الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية (وهي صيغة هلامية، تعني بقاء الأولاد في الاعتقال حتى المحاكمة). الحديث يبدو وكأنه عن أشخاص بوعي كامل يتصرفون بناء على فهم وتخطيط وليس عن أولاد لا يفقهون ما يجري حولهم، ولا يعون معنى لتصرفاتهم حتى في حال قيامهم بالمشاركة بمخالفات مثل قذف الجنود بالحجارة، نتيجة استفزاز يومي يرتكب بحقهم او بحق مجتمعهم وأقاربهم وأبناء وطنهم، يرى فيها الاحتلال "تهديداً لأمنه واحتلاله وجريمة أمنية بالغة الخطورة" . الوفد البريطاني التقى مع القضاة العسكريين ومنهم ضباط كبار بدرجات مرتفعة وحملة ألقاب أكاديمية رفيعة جداً ومنها لقب بروفسور مثلاً.
تقرير الوفد القضائي البريطاني يلاحظ أمراً مقلقاً يتوسّع به تقريرهم، حول شكل "محاكمة" الأولاد حيث "يشجع" (ربما الأنسب والأصحّ كلمة "يفرض") الجهاز القضائي العسكري على الأولاد المعتقلين (هل هم بقدرة مواجهة المحققين الإسرائيليين؟) الوصول الى صفقة مع النيابة العسكرية، الأمر الذي يعني عدم إجراء محاكمة حقيقية، في مثل هذه حالة عدم الوصول الى صفقة، يعني انه على النيابة العسكرية ان تُحضِر شهوداً وإثباتاتٍ للتهم التي توجه للأولاد، أيَّ عمل مرهق وشبه مستحيل. على الأغلب لا شهود ولا إثباتات، أي محاكمات "لفلفة" وليس من الصعب إيجاد وصف لهذه المحاكمات في مقالات كتبها المحامين أنفسهم الذين تلخّص كل دورهم بأن يكونوا حضوراً في مسرحية قراقوشية.  الأمر المرعب أكثر ان النيابة العسكرية قد تطلّب ايضاً اعتقال الأولاد حتى انتهاء الإجراءات القانونية  وهو أمرٌ تترتّب عليه أضرارٌ نفسية وجسدية هائلة للأولاد، اذ قد يكون الاعتقال حتى انتهاء "الاجراءات القانونية" أكثر امتداداً من العقاب نفسه. هذا الجانب طرح بمئات التقارير المنشورة في الانترنت أيضا.
الوفد البريطاني قدّم 40 توصية للجهاز العسكري الاحتلالي، من أبرزها ان القانون المدني الإسرائيلي يمنع اعتقال أولاد (القصد أولاد يهود) تحت سن الـ 14 سنة وانه يجب تطبيق هذا القانون على الأولاد الفلسطينيين ايضا.

الفلسطيني مدان حتى يثبت العكس

في تصريحات ل"CNN" قالت عضو وفد المحامين البريطانينن باتريشا سكوتلند، التي شغلت في السابق رئاسة الادعاء العام في بريطانيا، وساهمت في وضع التقرير: "ما فعلناه هو أقرب إلى تقديم تقييم تحليلي قانوني للوضع هناك، لدينا روايات متضاربة حول ما يحصل فعلياً، لم نقم باستنتاجات حول تلك الروايات، بل لجأنا إلى تحليل نصوص القانون الإسرائيلي، ولذلك نعتبر أن الأدلة التي أشرنا إليها لا تقبل الشك". أضافت: "استخدمنا القانون الإسرائيلي كنموذج لمعرفة حقوق الطفل الإسرائيلي، تساءلنا حول السبب الذي يمنع تطبيقها على الطفل الفلسطيني، نظرنا بالقوانين التي تطبق على الطفل الإسرائيلي وتلك التي تطبق على الطفل الفلسطيني، وجدنا أنها مختلفة (مختلفة كلمة في منتهى اللطافة).. وقد سألنا عمّا إذا كان هناك سبباً شرعياً لهذا التباين، فلم تكن هناك إجابة"
الوفد لم يعتمد على تقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية مثلا، وعلى رأسها منظمة "بتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة" التي نشرت وفضحت آلاف الممارسات غير القانونية حتى في المفهوم القضائي العسكري الإسرائيلي الممارس ضد الأطفال الفلسطينيين، ووثّقت الكثير من التجاوزات بأفلام مصورة بوقت وقوع الاعتداء على الأطفال او الكبار في الكثير من الحالات. 
ولنفحص تقارير منظمات إسرائيلية أخرى.
جاء في تقرير اعدته ونشرته منظمة "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية ان المحاكم العسكرية التي يمْثلُ أمامها المعتقلون الفلسطينيون تصدر قرارات بإدانة ما نسبته 99.7% منهم فيما لا تستمر جلسات تمديد الاعتقال حتى نهاية الإجراءات أكثر من دقيقتين فقط، ووصفت الأمر بانه "شيك مفتوح"!!.
وأضاف تقرير "يش دين" ان المحاكم العسكرية والنيابة الإسرائيلية تمتنعان عن ترجمة لوائح الاتهام المقدمة ضدّ الفلسطينيين للغة العربية، فيما مثل أمامها العديد من الأطفال والقُصَّر الفلسطينيين الذين جرت محاكمتهم كبالغين. وقدَّر محققو المنظمة متوسط الوقت الذي تستغرقه محكمة تمديد اعتقال فلسطيني حتى نهاية الإجراءات القانونية بدقيقة و 54 ثانية فقط.
فسّر المحامي جواد بولس، المتفرّغ تماماً لمهمة الدفاع عن المعتقلين والأسرى الفلسطينيين، ظاهرة نسبة الإدانة المرتفعة بالقول: "إنني أعتقد بان كل فلسطيني يمثل أمام المحاكم الإسرائيلية مدان حتى يثبت عكس ذلك".
nabiloudeh@gmail.com



56
تشديد العقوبات ضد ملقيي الحجارة.. ومتى لم تكن مشددة؟!

*الجهاز العسكري يدفع الأولاد لاعترافات بالتُّهَم والوصول الى "صفقة ادّعاء" بدون وجود محامٍ يمثل الأولاد* *الأولاد المرعوبين لا يفقهون ما تخبّئ لهم الصفقة* تحقيق قضائي بريطاني: إسرائيل تنقض ستة بنود من وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة بما في ذلك البند (37أ)الذي يمنع التصرف العنيف وغير الإنساني*المحامي جواد بولس: كل فلسطيني يمثل أمام المحاكم الإسرائيلية مدان حتى يثبت عكس ذلك*

نبيل عودة

ملاحظة: على اثر اتخاذ حكومة نتنياهو قرارا بالبدء بإجراءات مشددة ضد ملقيي الحجارة وانه سيتم توسيع حيز عمل الشرطة الإسرائيلية في محاربة ملقي الحجارة والزجاجات الحارقة ومضاعفة عقوبات السجن، عدت الى مادة سبق وان نشرتها، حول أساليب تعامل الاحتلال مع الأطفال الفلسطينيين، تفضح أساليب التعامل وعدم قانونيتها أصلا وتناقضها مع القانون الإسرائيلي نفسه والدولي أيضا.. الأمر الذي يقول ان التشديد سيكون تجاوزات خطيرة للقانون الإسرائيلي نفسه وربما من هنا رفض المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية يهودا فاينشتاين تحديد الحد الأدنى من العقوبات لراشقي الحجارة (الأطفال يشكلون نسبة كبيرة) وتشديد تعليمات إطلاق النار.
*********
  نائب عسكري:"كل طفل الفلسطيني هو مخرب محتمل"

تعالوا نتخيل حالة عبثية: مسؤول في السلطة الفلسطينية يعلن ان كل طفل يهودي في إسرائيل يجب التعامل معه كجندي محتل.
أضع هذا التخيل العبثي في مواجهة ما قاله مدّعٍ عسكريٍّ إسرائيليٍّ عام لوفد قضائي بريطاني موَّلتْه وزارة الخارجية البريطانية، جاء يحقق في اعتقال وإصدار أحكام ضد أولاد فلسطينيين يُشتمُّ منها ان إسرائيل تخرق وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة.
النيابة الإسرائيلية تنكرت (كالعادة) شكوى الأطفال الفلسطينيين عن سوء معاملتهم، وقالوا للوفد البريطاني "أضحكتمونا" وأضاف ضابط كبير من النيابة العسكرية بصراحة للوفد البريطاني المشكّل من تسعة رجال قانون "ان كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل".
الوفد فحص وحقق بالقانون والتصرفات الإسرائيلية بكل ما يتعلّق باعتقال وصدور أحكام ضد أولاد فلسطينيين.
الوفد أصدر تقريرا من 36 صفحة، بصياغة دبلوماسية لطيفة جدا (يبدو ان ذلك من خصائص الغرب بكل ما يتعلق بإسرائيل حتى لا يتهم باللاسامية). من ضمن ما جاء بلطافة دبلوماسية: "من المحتمل ان بعض التردد بمعاملة الأولاد الفلسطينيين، حسب النهج الدولي سببه من القناعات التي طرحت امامنا من مدعي عسكري بان "كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل". هذا الموقف يبدو لنا انه نقطة الانطلاق الحلزونية لغياب العدل، الذي لا يستطع احد ان يغيره الا إسرائيل نفسها بصفتها قوة الاحتلال في الضفة الغربية".
المدعيان العسكريان الإسرائيليان اللذان تحدث الوفد البريطاني معهما هما المدعي العسكري الرئيسي الكولونيل روبرت نويفيلد ونائبه الميجر رونين شور. الوفد لا يذكر من قال الجملة التي تشكل منطلق النيابة العسكرية الإسرائيلية (ربما الأصح الفكر الاحتلالي الإسرائيلي) بان كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل. وهو الأمر الذي يشكل العلاقة بين الأولاد الفلسطينيين والجهاز العسكري الإسرائيلي، او دولة الاحتلال للدقة بدون لطافة دبلوماسية.
الوفد كشف في تقريره وجود روايات إسرائيلية عسكرية متناقضة حول منهج اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين حسب القانون العسكري. الجهاز الإسرائيلي الرسمي له روايته. منظماتٌ ونشطاءُ فلسطينيون وإسرائيليون ممّن يتابعون مسألة اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين وحتى الأولاد أنفسهم لهم رواية مختلفة. الوفد لم ير ضرورة لقبول رواية ما، حسب لسان التقرير. بل سجل الروايات المتناقضة دون تأكيد صحة قبول رواية طرف من الأطراف، ولكن، وهنا الشيء الأساس، سجّل الوفد في تقريره تبريراً لموقفه بعدم الفصل بين الروايات، بأن "الفروقات المثبتة في القانون بين الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين التي أشغلتهم في فحصهم، هي فوارق موثقة بالفعل، وانه حسب الوقائع الموثقة، التي لم يستطع المتحدثون الإسرائيليون نقضها او إنكارها، وجد الوفد ان إسرائيل تنقض ستة بنود من وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة.
البند2 – التمييز بين الأولاد الفلسطينيين والإسرائيليين.
البند 3- مصلحة الولد مقابل مصلحة الاحتلال.
البند 37 ب – الاحتياج لحجّة مسبقة لاعتقال الأولاد.
البند 37 ج- عدم فصل الأولاد عن المعتقلين الكبار.
البند 37 د- الوصول فوراً لمحام (الاحتلال لا ينفذ هذا الأمر).
البند 40 – التقييد بسلاسل حديدية في المحكمة (الظاهرة الشائعة).

والتزاماً منه بعدم اعتماد أيٍّ من الروايات، يسجل الوفد انه اذا كانت التقارير والشهادات التي وصلتهم من منظمات إسرائيلية وفلسطينية حول اساليب الاعتقال صحيحة، فان هذا يعني ان إسرائيل تخالف المنع عن التصرف العنيف، وغير الإنساني او المهين حسب البند 37 أ في الميثاق.
وتسجل الصحفية عميرة هيس (من صحيفة هآرتس) رأيها بوضوح، متخلية عن اللطافة الدبلوماسية، انه بالاعتماد على ما نشرته "هآرتس" من مراسليها، والتي تشمل عشرات الشهادات حول اعتقال أطفال فلسطينيين، نسمح لنفسنا، كما تكتب عميرة هيس، "ان نكون أقل مجاملة وتردداً، ونقرُّ ان المعاملة القاسية، وغير الإنسانية، او المهينة، هي المعيار. الجيش يتصرف بشكل دارج (روتيني) في اعتقال الأولاد الفلسطينيين في منتصف الليل. وبشكل دارج يُضربون، صفعاً او رفساً أثناء الاعتقال. وفي ثلث الحالات، حسب فحص المنظمة العالمية للدفاع عن الأولاد، يطرح الأولاد على أرضية السيارة العسكرية، أثناء قيادتهم للاعتقال. وبشكل دارج رجال الشرطة يحققون معهم قبل التحقيق الرسمي. وتقريبا بشكل دارج أيضا التحقيق يجري قبل ان يسمح للولد ان ينام، وبشكل دارج لا يحضر والداه في وقت التحقيق معه".
حجّة ممثلي وزارة الدفاع ومنسّق العمليات في المناطق المحتلة، أولا، وهو تقليد إسرائيلي دارج، الإنكار أولاً، ثم قولهم ان "الجنود هم جنود". هذه الملاحظة أقلقت الوفد البريطاني، كما جاء في تقريرهم. وطبعاً قال ممثلو الاحتلال إن الأولاد بإمكانهم تقديم شكوى حول معاملة مسيئة لقسم التحقيق مع الشرطة.
 اقتراح "عبقري" !!
مواطني إسرائيل يضحكهم "قسم التحقيق مع الشرطة" الذي يحقّق مع نفسه، من معرفتنا ل "نزاهته الكبيرة".. الذي يقرر عادة، بشكل دائم ومتوقع، انه "تبين بعد الفحص ان الشكوى غير صحيحة"!!
تبرئة جاهزة لدى قسم التحقيق مع الشرطة.. أليس الأطفال الفلسطينيون مخربين محتملين منذ ولادتهم؟ هل يمكن تصديق المخرب الفلسطيني المقبل وتكذيب الجندي او الشرطي "محرري" الأرض من "مغتصبيها" الفلسطينيين؟!
السؤال الضروري: هل يعي الأولاد مضمون اعترافاتهم؟
تقرير الوفد يذكر باستهجان منضبط جدا (فقط لدى البريطانيين يمكن ان يكون الاستهجان منضبطاً جدا بكل ما يتعلق بالتعامل مع تجاوز إسرائيلي) ان الجهاز العسكري القضائي، لا يسمح لمحامي ان يلتقي مع الأولاد قبل بدء المحاكمة ليمثلهم بشكل معقول وكامل. يذكر التقرير بمرارة منضبطة ان لوائح الاتهام المقدمة للمحاكم العسكرية تعتمد على اعترافات الأولاد  واعترافات أولاد على رفاقهم. يشير التقرير ان الجهاز العسكري يدفع الأولاد لاعترافات بالتُّهَم والوصول الى "صفقة ادّعاء" طبعاً بدون وجود محامٍ يمثل الأولاد، أي لا تجري محاكمة حقيقية للأولاد. من المؤكد أن الأولاد المرعوبين لا يفقهون ما تخبّئ لهم الصفقة، ربما لا يفهمون هذا التعبير ومحتواه القانوني، كل ما يهمُّهم هو التخلُّص من الوضع الغريب والمخيف الذي وجدوا أنفسهم بلا وعي داخله بصفتهم "مخربين محتملين". هذه الظاهرة ليست جديدة، بل وردت في عشرات التقارير للجان حقوق الإنسان والطفل إسرائيلية وفلسطينية ودولية ويردّدها دائماً نشطاء فلسطينيون وإسرائيليون، أوردها المحامون الذين يدافعون عن المعتقلين الفلسطينيين وخاصة عن الأولاد، وقدّموا صورة مذهلة عن المحاكمات التي تصدر أحكاما بالجملة بدون استماع لـ"المخربين الصغار" وبناء على ما تقدمه النيابة العسكرية من "صفقات" جاهزة "توصلت" اليها مع الأولاد، وكأن الأولاد على فهم لمضمون ما يدور حولهم، بغياب أي دور للمحامين لتقديم دفاعهم، اذ يسمح لهم بالظهور في معظم الحالات اثناء المحاكمة فقط، دون ان يتمكنوا من فهم ما يجري مع موكليهم من "المخربين" الصغار.
هناك سيف الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية (وهي صيغة هلامية، تعني بقاء الأولاد في الاعتقال حتى المحاكمة). الحديث يبدو وكأنه عن أشخاص بوعي كامل يتصرفون بناء على فهم وتخطيط وليس عن أولاد لا يفقهون ما يجري حولهم، ولا يعون معنى لتصرفاتهم حتى في حال قيامهم بالمشاركة بمخالفات مثل قذف الجنود بالحجارة، نتيجة استفزاز يومي يرتكب بحقهم او بحق مجتمعهم وأقاربهم وأبناء وطنهم، يرى فيها الاحتلال "تهديداً لأمنه واحتلاله وجريمة أمنية بالغة الخطورة" . الوفد البريطاني التقى مع القضاة العسكريين ومنهم ضباط كبار بدرجات مرتفعة وحملة ألقاب أكاديمية رفيعة جداً ومنها لقب بروفسور مثلاً.
تقرير الوفد القضائي البريطاني يلاحظ أمراً مقلقاً يتوسّع به تقريرهم، حول شكل "محاكمة" الأولاد حيث "يشجع" (ربما الأنسب والأصحّ كلمة "يفرض") الجهاز القضائي العسكري على الأولاد المعتقلين (هل هم بقدرة مواجهة المحققين الإسرائيليين؟) الوصول الى صفقة مع النيابة العسكرية، الأمر الذي يعني عدم إجراء محاكمة حقيقية، في مثل هذه حالة عدم الوصول الى صفقة، يعني انه على النيابة العسكرية ان تُحضِر شهوداً وإثباتاتٍ للتهم التي توجه للأولاد، أيَّ عمل مرهق وشبه مستحيل. على الأغلب لا شهود ولا إثباتات، أي محاكمات "لفلفة" وليس من الصعب إيجاد وصف لهذه المحاكمات في مقالات كتبها المحامين أنفسهم الذين تلخّص كل دورهم بأن يكونوا حضوراً في مسرحية قراقوشية.  الأمر المرعب أكثر ان النيابة العسكرية قد تطلّب ايضاً اعتقال الأولاد حتى انتهاء الإجراءات القانونية  وهو أمرٌ تترتّب عليه أضرارٌ نفسية وجسدية هائلة للأولاد، اذ قد يكون الاعتقال حتى انتهاء "الاجراءات القانونية" أكثر امتداداً من العقاب نفسه. هذا الجانب طرح بمئات التقارير المنشورة في الانترنت أيضا.
الوفد البريطاني قدّم 40 توصية للجهاز العسكري الاحتلالي، من أبرزها ان القانون المدني الإسرائيلي يمنع اعتقال أولاد (القصد أولاد يهود) تحت سن الـ 14 سنة وانه يجب تطبيق هذا القانون على الأولاد الفلسطينيين ايضا.

الفلسطيني مدان حتى يثبت العكس

في تصريحات ل"CNN" قالت عضو وفد المحامين البريطانينن باتريشا سكوتلند، التي شغلت في السابق رئاسة الادعاء العام في بريطانيا، وساهمت في وضع التقرير: "ما فعلناه هو أقرب إلى تقديم تقييم تحليلي قانوني للوضع هناك، لدينا روايات متضاربة حول ما يحصل فعلياً، لم نقم باستنتاجات حول تلك الروايات، بل لجأنا إلى تحليل نصوص القانون الإسرائيلي، ولذلك نعتبر أن الأدلة التي أشرنا إليها لا تقبل الشك". أضافت: "استخدمنا القانون الإسرائيلي كنموذج لمعرفة حقوق الطفل الإسرائيلي، تساءلنا حول السبب الذي يمنع تطبيقها على الطفل الفلسطيني، نظرنا بالقوانين التي تطبق على الطفل الإسرائيلي وتلك التي تطبق على الطفل الفلسطيني، وجدنا أنها مختلفة (مختلفة كلمة في منتهى اللطافة).. وقد سألنا عمّا إذا كان هناك سبباً شرعياً لهذا التباين، فلم تكن هناك إجابة"
الوفد لم يعتمد على تقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية مثلا، وعلى رأسها منظمة "بتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة" التي نشرت وفضحت آلاف الممارسات غير القانونية حتى في المفهوم القضائي العسكري الإسرائيلي الممارس ضد الأطفال الفلسطينيين، ووثّقت الكثير من التجاوزات بأفلام مصورة بوقت وقوع الاعتداء على الأطفال او الكبار في الكثير من الحالات. 
ولنفحص تقارير منظمات إسرائيلية أخرى.
جاء في تقرير اعدته ونشرته منظمة "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية ان المحاكم العسكرية التي يمْثلُ أمامها المعتقلون الفلسطينيون تصدر قرارات بإدانة ما نسبته 99.7% منهم فيما لا تستمر جلسات تمديد الاعتقال حتى نهاية الإجراءات أكثر من دقيقتين فقط، ووصفت الأمر بانه "شيك مفتوح"!!.
وأضاف تقرير "يش دين" ان المحاكم العسكرية والنيابة الإسرائيلية تمتنعان عن ترجمة لوائح الاتهام المقدمة ضدّ الفلسطينيين للغة العربية، فيما مثل أمامها العديد من الأطفال والقُصَّر الفلسطينيين الذين جرت محاكمتهم كبالغين. وقدَّر محققو المنظمة متوسط الوقت الذي تستغرقه محكمة تمديد اعتقال فلسطيني حتى نهاية الإجراءات القانونية بدقيقة و 54 ثانية فقط.
فسّر المحامي جواد بولس، المتفرّغ تماماً لمهمة الدفاع عن المعتقلين والأسرى الفلسطينيين، ظاهرة نسبة الإدانة المرتفعة بالقول: "إنني أعتقد بان كل فلسطيني يمثل أمام المحاكم الإسرائيلية مدان حتى يثبت عكس ذلك".
nabiloudeh@gmail.com


57
صديقنا اختار الموت في يوم قائظ
نبيل عودة
[/size][/color]
 
من المؤكد ان المرحوم اختار توقيتاً سيئاً لمراسيم جنازته  وهذا جعلنا نتذكر يوم موته أكثر من كل الأيام التي عاشها.
قلت لصديقي الجالس قربي، لا ادري كيف ستتدبر النساء أمرهن في هذا الحر داخل غرفة تكاد تكون خالية من الهواء ونحن نكاد نموت اختناقاً في غرفة تهويتها أفضل. قال انه لا خوف على النساء، سيتدبرن أمرهن أفضل منا. قلت في نفسي هل هي عودة لاختلاف الآراء، أم هو موقف من المرأة؟! أضفت بسخرية همساً ان الدموع ستختلط بالعرق  ولن نعرف من منهن أكثر حزناً.
نجحت بالحصول على ابتسامة عريضة استطالت حتى كادت تقيم خطاً واصلاً بين أذنيه. امتدت الابتسامة لوقت أطول مما هو مسموح به في وضع الحزن المفروض ان نظهره في وداع صديقنا المتوفى. الإطالة بالابتسامة لا تليق بالمناسبة ولا تليق بنا. زجرته بنظرة معبرة فضم شفتيه لبعضهما، مستعيناً بكف يده، وكأنه يحاول ان يمنع أمراً ما من الانفلات. ربما ضحكة، "سيسوّد وجهنا!!" تمتمت هارباً من الموقف وكأني أؤكد لنفسي:
-   صديقنا المرحوم كان طيباً..
كانت محاولة لجر الحديث لما هو لائق، بعد ان كاد صديقي الجالس قربي يفضحنا، المرحوم صديقنا منذ وقت طويل، لا يختلف عنا ولا نختلف عنه  وله حالاته ولنا حالاتنا. ايجابياتنا وسلبياتنا تختلط أحياناً حتى يصعب فرزها عن بعض. الطيبة والسوء تندمجان، همومنا اكبر من ان نفرز بين الخصال الطيبة والخصال السيئة، كل شيء في حياتنا متداخل، أحياناً هناك فائدة بل ضرورة لكي تكون سيئاً، رغم جيلنا المتقدم، عشنا حياتنا بكل لحظاتها، فهل نستطيع ان نواصل ما كنا به بعد أن فقدنا  ضلعنا الثالث ..؟!
-    طيبته هي التي جمعت بيننا هذا العمر الطويل، لم نفقد مجرد صديق.. فقدنا أنفسنا أيضا.
نظرت إلى صديقي، فرأيته يهز رأسه علامة الموافقة. مرة أخرى يتفق معي .. أو ربما يعارضني بأسلوب لم أعهده من قبل، قال:
-     الطيبة تبدو سلبية إذا اكتفينا بها لوصف ما كان عليه صديقنا المرحوم بالفعل.
هذه مزايدة علي أم يسخر منه؟! لعله يقصد مدح طيبته الذاتية أيضا؟ سايرته:
    -      الكلمات تعجز عن التعبير، للأسف فقد فقدناه.
    -      خسارتنا كبيرة.
نظرت إليه، فبادلني نظرة بنظرة وتمتم بحزن ظاهر:
-   يرحمه الله !!
همست في أذنه:
-    وليرحمنا معه في هذا الفرن الملتهب..
قال وهو يدفعني خلسة بكوعه:
-   هذا الاختناق جراء الحر الملعون يُصعّب علينا الحديث عن المرحوم.
قلت لنفسي ان عقلنا ذاب ولم نعد نعرف هل نتنفس هواء نظيفاً أم نستنشق ثاني أكسيد الكربون الذي تطلقه أنفاسنا في أجواء هذه الغرفة- الفرن، ويزيدها سوءاً سحابات دخان السجائر في سقفها، ملوثاً هواءها، دون ان يجد له مخرجاً إلا بالعودة مرة أخرى لرئاتنا لكي نتنفسه من جديد.
لعنت الساعة التي قبلت فيها الجلوس داخل الغرفة، بدل الانزواء في ساحة البيت الأكثر تهوية، رغم ان الشمس "تضربها" معظم ساعات النهار، حرارة الشمس أهون من جو الغرفة، على الأقل الهواء خال من دخان السجائر وعملية التنفس أسهل.
-    الله يرحمه.. لم اصدق انه مات.. هل يموت الطيبون أمثاله؟!
التفت إلى مصدر الصوت، وزجرت ابتسامة كادت تفضحني. كان المرحوم يقول عن "صاحب الصوت" انه بصعوبة يرد السلام، ولكنه سيكون أكثر المعبرين عن لوعتهم بفقدانه، ولن يتردد ان يتبوأ مركز الصدارة في الجنازة، وتناول الوجبة عن روحه، والاشتراك في مراسيم التعزية.. وها هي نبوءته تتحقق.. شعرت بسخرية عميقة تجتاحني وتكاد تطلق لساني بما لا يليق بجو العزاء، وتابع "صاحب الصوت" مظهراً لوعته وأساه وحيرته:
-    فقط أمس رأيته.. وقفنا نتحدث لبضع دقائق..
همس لي صديقي ان هذا الحديث افتراء  وانه بصعوبة كان يبادله السلام..
قاطعته:
     -  معلوماتك موثقة بشهادتي.. لم تجدد لي شيئاً، صديقنا المرحوم كما تعلم، غائب عن الوعي منذ أكثر من أسبوعين.. منذ دخل المستشفى،ـ ويبدو ان صاحبنا هذا لم يسمع بتلك التفاصيل، اصبر وسيتغير الأمس إلى فترة ملائمة لرقود صاحبنا في المستشفى، قال لي همساً:
     -  لم يتعرف عليه في حياته ويريد ان يتزعم في جنازته؟!
همس قريب للمرحوم في أذني، بعد ان سمع شيئا من همساتنا:
     -  هذا ابن عمنا، لا "ينفع" إلا في الجنازات .. مهمته ان يقبرنا. عندما يفتح فمه لا يعرف ما يقول. تعودنا عليه.. مصيبتنا به اكبر من مصيبتنا بالمتوفى..
     -   معلوم... كان المرحوم يتشاءم منه ولا يطيق مجالسته.
     -    ما باليد حيلة، نرجو ان يلهمه ربنا الصمت... على الأقل حتى يمر العزاء!
عاد "صاحب الصوت" يزأر:
-   سبحان الذي يغير ولا يتغير.
قلت بصوت مرتفع قاصداً قطع الحديث عليه:
-   الحر هذا الصيف غير طبيعي، روحنا في حلقنا.
تأفف الجميع ... أضفت:
-   الصمت اسلم الأمور في هذا الحر.. الصمت رحمة في هذا الجو الخانق، ما قولك يا ابن عم المرحوم؟!
وصلت الرسالة!! ربما فيها شيء من الوقاحة؟ زأر "صاحب الصوت" بشيء من الضيق وعدم القبول:
-    الموت حق يا اخوان...
قاطعه صديقي تلقائياً، دون ان يشعر انه يتجاوز اللياقة المفروض ان يلتزم بها في مناسبة كهذه، لكن يبدو احيانا ان للياقة معاييرها المختلفة ، قال صديقي :
-    كنت وصديقي (وأشار إلي) والمرحوم لا نفترق عن بعض، ورغم رقوده في المستشفى غائباً عن الوعي لمدة أسبوعين.. إلا ان موته صدمنا.
فهل سيصر "صاحب الصوت" على موقفه انه التقى صاحبنا المتوفي أمس؟! يبدو ان الرسالة وصلت فآثر "صاحب الصوت" الصمت حتى يجد منفذاً جديداً..
تأففت من بطء مرور الوقت، وتيقنت ان هذا شعور الجميع الذين يستعجلون الوقت لإنهاء مهمتهم والتفرغ لشؤونهم الأخرى.
أحيانا تشدني أفكاري لأمور لم أفكر بها من قبل، وأكاد أجزم أن فكري لن يتداولها. ربما هذا هو جزء من تخلفنا؟
استفاق صديقي من صمته وهمس بأذني:
      -   ما بال بغلتك سارحة؟!
      -   لم اعد استطيع احتمال هذا الجو الخانق.
      -  عشان المرحوم كل شيء يهون..
     -   أنت تعرف حساسيتي للدخان. يفقدني وعيي.
     -  اهدأ واصبر.
هل يسخر مني؟!
كالمستفز انتصبت واقفاً ومعتذراً:
-     المعذرة، سأجلس في الساحة، أكاد اختنق من الدخان.
لم يعن الأمر أحدا كما يبدو. شعرت بنظراتهم الباردة في ظهري وانا أتسلل للخارج لاقطاً أنفاسي بصعوبة، أخذت لي مقعداً في الظل شاعراً بتحرري من هم غير قليل. قلت لنفسي ما دامت هذه الحال فمشوارنا طويل . بعد قليل وجدت صديقي يسحب كرسياً ويلتصق بي.
    -   افترض اني مت.. ستلحقني؟!
    -   كل يموت على ذوقه.. ولكن إياك ان تفعلها بالصيف.
كدت ابتسم رغم عصبيتي الظاهرة وقلت:
    -   ما عساي أقول ؟.. كنا ثلاثة لا نفترق فبقينا اثنين، للأسف لا استطيع ان أفكر بشيء. 
     -   ما يرعبني هو هذا الاستقبال البارد للموت حقاً يعز علينا فقدانه ولكني أشارك بجنازته وكأنه واجب، وليس كصاحب فقد صنوه.
    -   ربما نحن في مرحلة ما بعد المشاعر، ما بعد العواطف؟
نظر إلى ساعته ليخبرني:
    -   بقيت أمامنا ساعة
      - ..؟
     -   هل تستعجل التخلص منه؟
     -   أبدا، ولكته اختار الموت في يوم قائظ، وهذا سبب ضيقنا .
     -  هل ستحاسبه؟
تجاهلني وقال:
    -   من المؤكد ان هذه بداية نهايتنا.
    -   اتركنا من تشاؤمك أم ستبدأ بالقاء موعظة ؟
وأضفت:
     -   جئت أستريح من الجو الخانق. فلا تزيد همي، مواعظ كهذه لم اعد أقوى على سماعها.
    -   لا اشعر بحزنك لرحيل صاحبنا ..؟
     - هل تريدني ان أقف "ماعطاً" شعري..؟
     - توقعت منك كلمة مناسبة..
     - قلت لك كنا ثلاثة وبقينا اثنين.. ومن الاثنين سيبقى واحد..
     - أنا أم أنت؟!
     - هل تظنني أتنازل بسهولة؟
قادنا حديثنا بعيداً عن أجواء الجنازة. فلم ننتبه لأنفسنا إلا والرجال يدخلون لحمل النعش في طريقه الأخيرة. فسارعنا نشارك بحمل نعش صديقنا، وللحظات كادت الدموع تفر من مقلتي .
سرت وراء النعش وخاطري مكسور، شاعراً ان جزءاً مني قد انتهى، ولم استطع ان افهم معنى هذا الشعور الذي اعتراني بلا مقدمات ، تابعت سيري وراء النعش أنا وصديقي وفي رأسي تتصارع أفكار شتى لا رابط بينها .
[/size]
nabiloudeh@gmail.com

58
محنة المسيحيين - محنة العالم العربي!! ::

نبيل عودة   

الأسلوب الهمجي في التعامل مع الأقليات المسيحية العربية وغير العربية، ومع أقليات دينية وأثنية اخرى في الشرق الأوسط، وصل الى مستويات من المتطرف الديني الارهابي الجنوني لا يمكن استيعابها، هي نتيجة مباشرة أيضا لتراث معظمه مليء بالعنف والكراهية وتاريخ لا شيء فيه الا تفجير اماكن العبادة والقتل والذبح الدموي.
المسيحية الشرقية خسرت من وزنها الديموغرافي، عدد أبنائها بتقلص دائم ومتواصل، ليس بسبب العنف والقتل فقط، بل ايضا بسبب الهجرة هربا من الاضطهاد الرسمي وغياب أي حماية من الأنظمة، والعنف الدموي للتطرف الاسلامي، كذلك بحثا عن مستقبل آمن، ولا يمكن تجاهل موضوع التناسل حيث ان نسبة الولادات في العائلات المسيحية لا تتجاوز 40% من مثيلتها في العائلات الاسلامية وربما أقل من ذلك أيضا.
يتواصل التعامل مع المسيحيين العرب كجسم غريب، تتواصل الاعتداءات التي لا تصدّ بما تستحقه من حزم، مازال الخوف يسيطر على الطوائف العربية المسيحية رغم الأصوات العقلانية، لكن الصوت لا يملك أسنانا وأظافر قادرة على الفعل الدفاعي، هنا لابد من دور فعال وحازم للأنظمة، لكنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها أولا.. وربما ترى بالعنف الطائفي حلا للكثير من مشاكلها.
الموضوع ليس جديداً، الاضطهاد الذي يعاني منه مسيحيو الشرق، لا يقع بعيداً عن الواقع الأسود للعالم العربي الذي يدفع ثمنه الجميع، مسلمون ومسيحيون.
حان الوقت لتحرك جديد، لعدم الاستهتار بما تفرزه العقول المريضة تحت غطاء كاذب من الدين والتدين، حتى اسطورة الجنة التي تسحر المتطرفين اصبحت طريقها مفروشة بجماجم المسيحيين والأيزيديين واقليات مختلفة أخرى.
لا شك ان للهوية الدينية مكانها في تشكيل الوعي الوطني والثقافي والأخلاقي، اذا ما أُحسن استعمالها، لكن الظاهرة السائدة في عالمنا العربي في العقود الأخيرة هي ظاهرة مقيتة جداً، مأساوية للجميع، بعيدة عن المنطق السليم، تجعل من الدين رافعة لشقّ المجتمع العربي وتفريق صفوفه، وذبح كل من لا ينتمي لتنظيمات التطرف حتى لو كان مسلما لا ينتمي لفكرهم الجهادي.
حتى بدون داعش، هناك آلاف الفتاوى التي تحرض على المسيحيين وتدعو لمعاداتهم وعدم المشاركة بأعيادهم ونبذهم وما هبّ ودبّ من أوصاف سوقية تنطلق من رؤوس مريضة وعقليات متخلفة بدائية، لكن للأسف لا أحد يخرسها ويقاضي أصحابها!!
هناك آلاف الخطب الدينية شكلاً والعنصرية مضموناً، يضجّ فيها الفضاء العربي دون رقيب، دون ان تشعل الأضوية الحمراء لما يريد للمجتمعات العربية ان تقبر مستقبلها فيه.
المسيحيون العرب بما فيهم أبناء العراق من المسيحيين (العرب وغير العرب) أفرزت لهم خانة وكأنهم عنصر دخيل على الفسيفساء الاجتماعية للمجتمعات العربية متناسين أنهم كانوا من المحركات الأساسية لتطور الحضارة العربية الإسلامية.
مواد التعليم مليئة بنصوص تعمّق ظاهرة العداء والرفض للمختلفين دينيا، بل والتحريض على كل من يدعي انه وطني عربي، لان الوطنية، حسب الفكر الموبوء المريض (الوهابي مثلا- وهو التيار الديني الرسمي في السعودية) هي "ظاهرة صليبية"، او انحراف معاد للإسلام، كما يدعي صغار العقل، متجاهلين ان الاسلام كان يعني انطلاقة للقومية العربية أيضا.
لا يمكن تبرئة الأنظمة العربية، حتى النظام المصري الوطني عامَلَ المسيحيين الأقباط حسب قانون عثماني مضت عليه قرون طويلة، لدرجة ان أي عملية إصلاح بسيطة في كنيسة ما كانت تحتاج الى مصادقة من المحافظ او من رئيس الجمهورية. بعد "الربيع العربي" سمعنا ان النظام طرح "العهدة العمرية" كقاعدة للتعامل مع المسيحيين، ولا اظن ان أي عقلاني يقرأ "العهدة العمرية" سيرى بها حلا يضمن المساواة، انما نهجا لا يمكن التعايش معه. وحتى مجرد التأكيد ان الشريعة الاسلامية هي في صلب الدستور، في دول متعددة الديانات والثقافات هو إبقاء الواقع السيّء للأقليات الدينية رهنا لتصرفات السلطة والحركات المتطرفة.
المسيحيون في فلسطين كانوا يشكلون 17% من مجمل المواطنين، نسبتهم اليوم لا تتجاوز 1.5% - 2%. في القدس كانوا يشكلون 50% عام 1920 اليوم لا يتجاوزون 5% من مجمل السكان العرب في القدس وربما أقل!!
عائلات مسيحية كثيرة هاجرت من غزة في فترة الاحتلال الاسرائيلي، وفي فترة عرفات أيضا، نتيجة المضايقات والملاحقات الدينية من المتطرفين الاسلاميين، مما اضطر النساء المسيحيات الى التحجب، وبالتالي سبّب هجرة واسعة للعائلات المسيحية.
رغم ذلك، مازلنا نسمع ونشاهد ما يثير قلقنا وامتعاضنا.
عندما نعبر في الشارع الرئيسي في الناصرة، ونقرأ: "الله مولانا ولا مولى لهم"، وشعارات تحريضية اخرى يقصد بها المختلفين دينا، فمن تخدم هذا الشعارات؟ حتى اسرائيل الديمقراطية وقوانينها المتشددة ضد العنصرية، تنفع في الحالة اليهودية فقط، وليس في مدينة الناصرة او الوسط العربي.
هذا الواقع أثار انتباه شرفاء عرب كثيرين، وكُتبت مقالات هامة منصفة تنبه الى الازمة التي يعيشها المسيحيين العرب وإلى تردي اوضاعهم.
هذا ليس جديدا. دائما وقف الكثيرين من العقلاء العرب، مسلمين خاصة... ضد التطرف الديني الذي يدفع المسيحيين للهجرة.
مازلت احتفظ بمقال نشره الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز في صحيفة النهار اللبنانية (29 كانون الثاني 2002)، تحت عنوان "بقاء المسيحيين العرب" كتب: "ان ما يحدث للمسيحيين العرب نتاج بيئة تفترش التعصب والتطرف وبالتالي العنف المؤدي الى كوارث تاريخية والأهم من ذلك كله فكرة إلغاء الآخر، وان بقاءهم ترسيخ للدولة العصرية وللتنوع الثقافي وللتعددية وللديمقراطية ولمنع استنزاف الطاقات العلمية والثقافية من منطقتنا، وهجرتهم ضربة عميقة توجه الى صميم مستقبلنا".
اضاف: "في عصر النهضة الممتد طوال القرنين التاسع عشر والعشرين لم يغب العرب المسيحيون عن دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاري الجامع والمنفتح على الحضارات الأخرى الناهضة في مرحلة التراجع العربي".
واختتم مقاله بنداء: "إن هجرة العرب المسيحيين في حال استمرارها هو ضربة عميقة توجه إلى صميم مستقبلنا. مهمتنا العاجلة منع هذه الهجرة، ترسيخ بقاء هذه الفئة العربية في شرقنا الواحد، والتطلع إلى هجرة معاكسة اذا أمكن".
هذا كُتب قبل حقبة الدواعش.. لكن الوهابية لا تقل بعقليتها عن الفكر الداعشي، وهي في جذور كل التطرف الاسلامي بدءا من القاعدة وصولا الى داعش ومختلف التيارات الجهادية.
الواقع اليوم رهيب من جميع النواحي، اولا ضد الأقلية المسيحية، ثانيا ضد قوى اسلامية لا تقبل الفكر الداعشي الإجرامي، وثالثا ضد المستقبل العربي وتطوره.
الصحفي المصري محمد حسنين هيكل كتب أيضا في وقته: "أشعر، ولا بد ان غيري يشعرون، ان المشهد العربي كله سوف يختلف حضاريا وإنسانيا وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقرا وأقل ثراء لو ان ما يجري الآن من هجرة مسيحيي المشرق تُرك أمره للتجاهل او التغافل او للمخاوف. أي خسارة لو أحس مسيحيو المشرق انه لا مستقبل لهم او لأولادهم فيه، ثم بقي الإسلام وحيدا في المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهودية – بالتحديد أمامه في اسرائيل".
المفكر المصري جلال امين كتب "ان تحرير الأقباط هو شرط ضروري لتحرير المسلمين"
وطارق حجي كتب: "الأقليات في الشرق الأوسط هي الموصل لعدوى التقدم والتحديث والسير مستقبلا".
اليوم مع انتشار وباء الداعشية وسكاكين الذبح ، تبدو الصورة قاتمة مليون مرة أكثر من العقدين السابقين، عالم عربي يتراجع مئات السنين، هذا ضمن أهداف الحركة الصهيونية أيضا، ابقاء العالم العربي في الحضيض. مجتمع مريض متنازع يذبح بعضه بعضا.
كان رواد القومية العربية من المسيحيين متأثرين من شعارات الثورة الفرنسية. وكانوا على قناعة انه يجب التفتيش عن أرضية مشتركة يقف عليها المسلمون والمسيحيون، من هنا أوجدوا فكرة القومية العربية، فيما بعد أخذت العروبة فكرة القومية بعد أن كانت أرضية ثقافية فقط.
المسلمون العرب الأوائل لم يطرحوا استقلال البلاد العربية عن الدولة العثمانية بل حكماً ذاتياً، في حين أصر المسيحيون على الاستقلال الكامل.
ما اصروا عليه تحول الى سيف مسلط على رقابهم!!
 

59
بطركية الروم وخطة تجنيد المسيحيين لجيش الاحتلال

نبيل عودة
* ما يجري ضد المسيحيين هو مأساة للعالم العربي اولا قبل ان يكون مأساة للمسيحيين والردّ ليس بالتجنُّد - الانتحار في جيش الاحتلال الإسرائيلي* قال جمال عبد الناصر في خطاب الوحدة من دمشق ما معناه:ان ما يربطني بالمسيحي اللبناني أكثر ألف مرّةٍ مما يربطني بالمسلم الباكستاني*

******

مسألة تجنيد المسيحيين، او بمعناه السياسي دقُّ إسفين الفصل بين الأقلية العربية الفلسطينية داخل إسرائيل من جهة وبينها وبين العالم العربي من الجهة الأخرى هو نهجٌ ليس جديدا بأهدافه، انما بتوقيته.
المسيحيون العرب تميزوا عبر تاريخهم بمواقفهم الوطنية، وبكونهم الأقلية التي ساهمت بدور كبير في تعزيز الهوية القومية على حساب أي هوية فئوية أُخرى، ويواصلون هذا الدور بوعي كامل منهم ان لا مستقبل للعالم العربي، لا مستقبل لطوائفه، سوية او كل طائفة على حدة، بدون تعزيز الهوية الوطنية والتكامل الاجتماعي وجعل الهوية الوطنية نقطة انطلاق مركزية.
المساهمة الوطنية للمسيحيين العرب لم تكن تنظيرية فقط، انما نضالية، تنظيمية، فكرية، ثقافية، فنية، تعليمية، تربوية واعلامية ساهمت بدور اجتماعي وطني تربوي وثقافي متميز، احتلّ الصدارة في العالم العربي، بإنشاء الصحف والمجلات وقيادة حركة تنوير عربية قكرية ثقافية وقومية. لا يمكن تأريخ الفكر القومي والثقافي التنويري العربي اليوم، دون إدراج الدور المسيحي العربي برأس القائمة.
حتى على المستوى اللغوي ساهم الأدباء المسيحيون العرب بدور بالغ الأهمية في تطوير اللغة العربية ومفرداتها الحديثة، يكفي ان أشير لأدباء المهجر ولفارس الشدياق وغيره على دورهم الثقافي واللغوي والتنويري الهائل، ليس سراً أيضا ان الآباء اليسوعيين في لبنان لعبوا دورا كبيرا في إنقاذ اللغة العربية من التتريك وفي إدخال أول مطبعة للعالم العربي.
قائمة الإنجازات والدور السياسي والفكري للمسيحيين العرب طويلة للغاية ولا اكتب ذلك من منطلق ديني، بل للتأكيد بأن من كان لهم هذا الدور التاريخي المميز لن يسقطهم الفكر الصهيوني العنصري في خانة الانفصال عن شعبهم بكل طوائفه وعلى رأسها الطائفة الاسلامية، التي نرى بها قوة وطنية عربية بالمقام الأول، لا قيام بدونهم لعالم عربي متطور ومؤثر على الواقع الدولي.
لا أتجاهل الواقع المقلق للمسيحيين العرب في ظل انتشار المد الطائفي الأصولي، لا نربط إطلاقا بين الاسلام وبين التطرف او الإرهاب، الارهاب لا طائفة له، الإرهاب لا دين له، الإرهاب لا قومية له، الإرهاب هو نتاج اجتماعي سياسي ثقافي لواقع عربي مؤلم، يرى العالم يتقدم حوله وهو غارق تحت سيطرة جماعات الفكر الماضوي وأنظمة استبدادية سحقت الحقوق الأساسية للمواطن العربي ان كان مسيحيا او مسلما، سخرت الدين أيضا لخدمتها، أنشأت أجهزة مخابرات متعددة الأشكال والأسماء، الوظائف الأساسية لها صيانة أنظمة الاستبداد والحفاظ على أمنها وتوريثها ضمن إطار العائلة او القبيلة.. وأهملت بشكل مريع أي تخطيط تطويري لمجتمعاتها.
المسيحيون العرب هم ألدُّ أعداء الفكر الصهيوني وأوّل من حذّر من الأطماع الصهيونية في فلسطين في ظل أنظمة عربية خاضعة للسيطرة الاستعمارية أهملت التعليم وأهملت تطوير اقتصادها وعلومها، وهذا يتواصل حتى اليوم.
ما زلت أذكر جملة لجمال عبد الناصر قالها في خطاب الوحدة من دمشق، قال ما معناه "ان ما يربطني بالمسيحي اللبناني اكثر ألف مرة مما يربطني بالمسلم الباكستاني" ونحن المسيحيين العرب ما يربطنا بالمسلمين العرب أكثر أهمية مليون مرة مما يربطنا مع المسيحيين الأوروبيين او الأمريكيين!!
لا ينقص العرب العقول بل ينقصها النظام المجند والمخطط، نظام يصون الوحدة الوطنية لشعبه، يطلق الحريات، يحرر طاقات الإبداع، يمنع هجرة العقول المدمرة لمجتمعه واقتصاده.. يكرس الميزانيات للأبحاث والتطوير التي تعود بالخير على المجتمع العربي وتقدمه واحتلاله مكانة متقدمة بين الشعوب.
في ظل مجموعة من التطورات التي شهدناها في العالم العربي في اطار القضية الفلسطينية، وساهم فيها التعنّت الإسرائيلي في تأزيم العلاقات مع الفلسطينيين، تجيء السلطة العنصرية في إسرائيل لتشقّ صفوف المواطنين العرب باختيارها الطائفة الوطنية العربية المسيحية لزرع بذور الفتنة الاجتماعية والطائفية داخل مجتمعنا العربي الفلسطيني، بما قد ينعكس سلبا على التطورات في العالم العربي.. مستغلة بذلك واقع أبناء الطوائف المسيحية المؤلم والمأساوي في العالم العربي، وبشكل نسبي في إسرائيل ايضا. التجنيد هنا يعني اصطفاف المسيحيين العرب الى جانب دولة اغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني والعدوان المتواصل على الشعب الفلسطيني وشعوب عربية اخرى، وبالتالي تعميق القطيعة الوطنية والاجتماعية والسياسية بين الطوائف الوطنية العربية.. أي ضرب الحركة الوطنية العربية برمّتها.. وهو ضمن المشروع التاريخي الأهم للحركة الصهيونية منذ وعد بلفور واتفاقات "سايكس بيكو" الاستعمارية !!
لا يمكن عدم الربط بين واقعنا وواقع العالم العربي. نحن لن نكون الخنجر الذي تستعمله إسرائيل لتعميق مأساة العالم العربي. أجل ما يجري ضد المسيحيين هو مأساة للعالم العربي اولا قبل ان يكون مأساة للمسيحيين العرب، مأساة تنعكس على الاقتصاد، على التعليم، على الثقافة، على الفكر وعلى التقدم الاجتماعي والعلمي.. وعلى صياغة مستقبل جديد حضاري للعرب!!
تجنيد المسيحيين العرب في جيش الاحتلال، الذي يرتكب جرائم ضد ابناء شعبنا، ضد أطفاله، ضد نسائه ورجاله وضد كل مسيحييه أيضا، هي خطوة انتحارية للمسيحيين العرب، يقصد منها إنقاذ صورة الاحتلال الإسرائيلي وإعطائه شهادة حسن سلوك مسيحية عربية - فلسطينية امام الرأي العالم الدولي بتصوير مشوهّ للنكبة الفلسطينية وكأنها مشكلة مع مجموعات "اسلامية ارهابية" وليس رفضا فلسطينيا وطنيا إسلاميا ومسيحيا لسياسات إسرائيل الاحتلالية والتمييزية التي ترفض الاعتراف بمسؤوليتها عن النكبة، وترفض إعطاء الشعب الفلسطيني ان يستقل بخُمْسِ أرضه الوطنية، من الناحية الأخرى تفكيك العزل السياسي لإسرائيل ومقاطعتها الاقتصادية والعلمية التي تتسع وتضيق الخناق على الاحتلال.
ما يجري في العالم العربي ضد المسيحيين العرب يقلقنا ويثير غضبنا مسيحيين ومسلمين، نرى به حرقا لمستقبل العالم العربي، ليس لمستقبل المسيحيين فقط الذين يتميزون، حسب معلومات عديدة، بمستويات علمية واقتصادية وقدرة على الاندماج في العالم الغربي المسيحي (وهو امر حاصل بالفعل مع الأسف) انما تدميرا وإحراقا للنهضة العربية التي هي حلم الجميع.
الويل لعالم عربي يتخلّص من مسيحييه بسبب العقليات الطائفية المريضة... والويل للأقلية العربية المسيحية في إسرائيل اذا توهّم أيُّ فرد منها ان إسرائيل تقدم له الخلاص او تفتح له أبواب التخلّص من تمييزها العنصري، أمامنا نموذج أبناء الطائفة المعروفية الذين لم يحصلوا على أي مكسب من خدمتهم العسكرية، لا في الميزانيات، لا في الوظائف، لا في تطوير التعليم، لا في وقف مصادرة الأرض ولا في تطوير البنى التحتية أسوة بالبلدات اليهودية..
كان الناطق بلسان البطركية الأب عيسى مصلح قد أدلى لإذاعة الشمس (الناصرة) في أواسط 2013 بتصريحات أشار فيها الى اعتزام البطركية إقالة جبرائيل ندّاف الذي دعا لتجنيد المسيحيين العرب للجيش الإسرائيلي. بنفس الفترة نشرت صحيفة "معريف" العبرية أن البطرك اليوناني ثيوفيلوس يعتزم إقالة الكاهن جبرائيل نداف بسبب دعوته لتجنيد المسيحيين.
ان ما قام به جبرائيل نداف (بلباس كاهن) لا يمثّل مجتمعنا ولا كنيستنا.
التهديد بالإقالة كانت فقاعة صابون، لدي معلومات من أرشمندريت يوناني، طلب عدم نشر اسمه، بأن البطرك اليوناني يقدم لنداف الدعم الكامل بل أعطى أوامره للكهنة الذين قاطعوه، على مستوى كنسي وشخصي، بما فيهم مطران يوناني في مدينة عربية، بان يصالحوا نداف، وارسل له المطران هدية ثمينة... ليرضى عليه ويرضي، كما يبدو، مكتب رئيس الحكومة اذا اراد ان يصير بطركا في المستقبل!!
اذن هل بطرك الروم شريك بحملة نداف؟
صمتُ البطركية رهيبٌ وستكون له اسقاطات خطيرة على مستوى العلاقات والتبعية الدينية والوطنية لأبناء الطائفة الوطنية العربية الأوروتوذكسية مع البطركية!!
هل لمكتب رئيس الحكومة نتنياهو ضلعٌ في التحوّل بموقف البطركية التي من المفترض انها تمثل العرب المسيحيين ولا تمثل سياسة نتنياهو وزمرته اليمينية العنصرية؟
هل من حق كاهن ان يتصرف بما يراه مناسبا لتفكيره، ام ان هناك ضوابط دينية تلزم الكهنة بالتقيد بها كما قال الناطق بلسان البطركية الأب عيسى مصلح في مقابلته مع اذاعة الشمس؟؟ ثم قرر الامتناع عن الإدلاء بأي تصريح جديد...بعد ان صار البطرك الحاضن لنشاطات نداف!
هذه قضايا مطروحة أتركها لمقال قادم حول بطركية الروم وعلاقتنا معها كمسيحيين عرب، ما هو دورها المفترض كممثلة فرضت علينا من الاستعمار العثماني بعد عزل البطرك العربي. وما هي البدائل التي يفترض بنا ان نطرحها امام استمرار تجاهل مصالح الطائفة العربية الاورتوذكسية والتعامل المهين معها وحرمانها من التصرف بأملاكها لما فيه خير ابناء الطائفة خاصة ومجتمعنا عامة، وزجها المسيحيين العرب بمواقف سياسية تسيء للمسيحية وللمسيحيين !!

 nabiloudeh@gmail.com




60
مفاوضات عبثية بلا دور عربي !!

نبيل عودة
ان العودة لتحرير الأسرى مقابل تحرير الجاسوس بولارد، هي خطوة تجميلية لأزمة المفاوضات والمكسب سيكون مكسب انتخابي لبيبي نتنياهو!!
*******
"خطوات من جانب واحد ستواجه بخطوات من جانب واحد"، هذه هي جملة رئيس حكومة اسرائيل بيبي نتنياهو في تبريره للطريق المسدود الذي وصلته المفاوضات مع الفلسطينيين.
نتنياهو كالعادة يبحث عن صياغات تبريرية للتهرب من الوصول الى اتفاق مع الفلسطينيين، لكن هذه المرة جملته كانت سيف ذو حدين. يقول بعض المعلقين السياسيين في اسرائيل ان نتنياهو كان صادقا جدا ومُقِراً للحقيقة، بأن خطوات اسرائيل من جانب واحد، هي التي جرت خطوات فلسطينية من جانب واحد ردا على خطوات اسرائيل من جانب واحد، وذلك على العكس تماما مما كان يعني سيادته. أن وقف تحرير الأسرى الفلسطينيين والاعلان عن مناقصة بناء أكثر من 700 وحدة سكنية جديدة في المناطق الفلسطينية المحتلة، كانت الخطوة التي لابد ان تواجه بموقف فلسطيني لم يتأخر، شكل صفعة سياسية وارباكا دبلوماسيا لنتنياهو وشطارته اللسانية... لدرجة ان وزير خارجية الولايات المتحدة وصف الخطوة الاسرائيلية بـ"بوم" (أي انفجار) وهو تعبير أفضل من مليون كلمة عن الخطوات الاسرئيلية من جانب واحد.
هل كان يقصد نتنياهو تبرير الموقف الفلسطيني اذن؟
هذه المرة يبدو رئيس الحكومة نتنياهو فاقدا لشطارته اللغوية في تبرير تصرفات اسرائيل لدرجة ان الراعي الأمريكي، الحاضن لكل النهج الاسرائيلي المخالف للشرعية الدولية لم يستطع الا ان يطلق تعبيرا من البطن عندما وصف الخطوات الاسرائيلية من جانب واحد ب "بوم". تعبير سيدخل عالم الدبلوماسية الدولي، كاسلوب للتعبير عما يرفض اللسان ان يقوله بوضوح. وهو أبلغ من أي كلام!!
طبعا فيما بعد عادت الدبلوماسية الأمريكية لتلطّف تعبير البطن الدبلوماسي، لكن القول الفصل قيل بوضوح وكل التبريرات الأخرى تبدو مثل اعطاء حبة اسبرين لمريض بالسرطان.
السؤال فيما اذا مُدّدت المفاوضات، هل سيقبل نتنياهو ببحث المواضيع الأساسية وعلى رأسها موضوع الحدود مثلا؟ الى جانب تحديد الهدف من المفاوضات عدا اللقاءات وطحن المواضيع بدون وجود سقف واضح للمفاوضات؟
يجب عدم البناء على دبلوماسية البطن التي أُفلتت من كيري بلحظة ضيق ويأس من التصرفات الإسرائيلية، لأن المرجعية الأمريكية ستواصل المساواة مجددا بين المحتلة أرضه والمحروم من حقوقه منذ قرار التقسيم عام 1947، وبين المعتدي المحتل والمخالف لكل القوانين الدولية، بكل ما يتعلق بالاستيطان وحقوق الانسان تحت الاحتلال.
نتنياهو سيواصل طريق ابتزاز الادارة الأمريكية، حاول ابتزاز السلطة الفلسطينية بوهم انها من اجل اطلاق سراح عشرات قليلة من الأسرى الفلسطينيين ستخضع لإبتزازه. كان الرد الفلسطيني صفعة لنتنياهو والراعي الأمريكي الذي لم يستطع تبرير الموقف الأسرائيلي كعادته.
صيح أن موضوع الأسرaى الفلسطينيين هو موضوع ملحّ ومؤلم، لكن يجب ان لا يتحول الى بديل عن تحرير الوطن كله من الأسر الاسرائيلي.
ربما أخطأت السلطة الفلسطينية من الأساس بتراجعها عن مطلب وقف الاستيطان كشرط لتجديد المفاوضات. فها نحن نقف امام انتهاء مهلة المفاوضات كما حدّدها الراعي الأمريكي دون الوصول لأي سقف يمكن اعتباره قاعدة للوصول الى اتفاق.
الموقف الأمريكي سيواصل توفير الدعم المتنوع، السياسي والدبلوماسي والأمني لاسرائيل، ولن يعلن انه فشل في الوصول الى حلً بسبب تعنّت حكومة اسرائيل ورئيسها بيبي نتنياهو.
ان من يتوقع تحولا في الموقف الأمريكي يعيش بوهم ، و"بوم" كيري كان تعبيرا صادقا من البطن، تعبير لن نسمعه من الناطقين الرسميين لوزارة الخارجية او البيت الأبيض.
ان من ينتظر اقتراحات لحل من الولايات المتحدة او ان تكون الولايات المتحدة صادقة مع نفسها وتعلن عن فشل الحلّ بسبب تعنّت اسرائيل سيصاب بخيبة أمل. المشكلة تبقى في غياب موقف عربي نشيط، مؤثّر وضاغظ على الولايات المتحدة، ودعم مادي واسع للسلطة الفلسطينية لتعزيز قدراتها على مواجهة الضغوط الأمريكية والاسرائيلية، أي ان الحل سيبقى مؤجلا حتى يأخد العالم العربي دوره السياسي ويضع وزنه بكل ما يملكه من طاقات من اجل انهاء المأساة الفلسطينية المتواصلة منذ أكثر من 65 عاما.
ان العودة لتحرير الأسرى مقابل تحرير الجاسوس بولارد، هي خطوة تجميلية لأزمة المفاوضات والمكسب سيكون مكسب انتخابي لبيبي نتنياهو!!
ولا استبعد ان نشهد في الأسابيع القادمة أزمة حكومية في اسرائيل تقود الى اجراء انتخابات جديدة.. خاصة وان استطلاعات الرأي تعطي الليكود ارتفاعا في قوته، وتعطي اليمين الاسرائيلي المتطرف قوة فوق قوته.. ولكن انتبهوا ، ليس قبل ان تنجح حكومة نتنياهو بتحرير الجاسوس بولارد حتى بثمن تنفيذ تحرير الدفعة الرابعة التي تشمل مواطنين عرب من داخل اسرائيل!!
بعدها ستكون انتخابات وبالتالي لا اتفاقات قبل تشكيل حكومة جديدة.. وبذلك تنتهي جولة المفاوضات تحت ستار انتخابات اسرائيلية!!
 
nabiloudeh@gmail.com

61

مـــرة ملكـــة .. دائمــا ملكـــة!!

نبيــل عــودة

ترك الزمن اخاديده على وجهها وجسدها. الجيل غلبها ولم تعد تنفع الأصباغ. مفاتنها أضحت في سجلات التاريخ  المنسي. تشعر بالم عميق . لم يخطر ببالها ان تصبح نسيا منسيا. مجرد كتلة لحم لم يعد يحتاجها أحد. لم تعد تلك الفاتنة المرغوبة التي امتدت شهرتها طول البلاد وعرضها، حتى قيل ان الرجل لا تكتمل رجولته، الا بعد ان يحظى بخدماتها.
جاءوا من الشمال والجنوب، من ساحل البلاد جاءوا ومن الجبال، جاءوا من الحقول ، جاءوا من المصانع. يقول بعض العارفين ان اسمها كان ماركة مسجلة قصدها العديد من السياح أيضا، فهل حقا ساهم جمالها وفتنتها في زيادة عدد السياح القادمين الى البلاد؟
بعد عمر طويل اكتشفت انها لم تعد الملكة المتوجة التي تلقى التودد والتذلل امام سريرها من شخصيات لا تعد ولا تحصى. بعضهم اناس عاديون لم يترددوا في صرف معاش الشهر من اجل ساعة بقربها، بعضهم صرفوا عليها بطيب خاطر وتنافسوا للفوز بها  في نهاية الأسبوع. بعضهم ادعى انه سائق سيارة أجرة ولكن شخصيته اوحت لها انه شخصية كبيرة في جهاز الأمن او الشرطة او الوزارة. حتى رجال دين تخفوا كأشخاص عاديين ليقتربوا من معبدها ويتنشقوا رحيقها الساحر . آخرون لم يخفوا هويتهم، يدفعون المطلوب بطيب خاطر بل ويضيفون حبة مسك بكرم حاتمي ، يهمهم رضاء الملكة!!
رغم ان مهنتها تثير المتاعب الا ان احدا لم يجروء على الاقتراب منها. تعلم انها محمية وانها فوق اي قانون.  الفنادق تستقبلها بترحاب واحترام وتخصص  لها احد الأجنحة الفاخرة لتستقبل زبائنها من أصحاب المداخيل الكبيرة. لم تجب منها اطلاقا اجرة الفندق حتى حين تكون لوحدها في نهاية الأسبوع ، مدراء الفنادق ايضا يتسابقون لجني ثمار خدمتهم. كانت النقود تمطر عليها صيفاً شتاءً.
تعلم انها العنوان لمن يبحث عن ليلة حمراء لا تنسى،عن فخر يرويه بين الرجال وهو منتش كالطاووس. ربما بسبب كونها تتصرف كإمراة تعشق ما تقوم به ولا تقوم به مجبرة او  مضطرة او لسبب اقتصادي او اجتماعي ما ، هذا جعلها الملكة المرغوبة التي تعطي زبونها أجمل ما يحلم به من اثبات رجولة ومتعة لا بعدها متعة  .
بدأت تمارس المهنة القديمة بحب وشغف لا يعرف الإرتواء. كانت تتمتع بجمال وجاذبية نسائية وجنسية من الصعب تجاهلها.
بدأت تاريخها الملوكي بعد فوزها بمسابقة ملكة جمال البلاد. تدفقت عليها الهدايا والجوائز. شعرت بقيمة المال واهميته. تدفقت عليها العروض ، بعضها عروض فاضحة بلا  تورية. اول عرض غير فاضح شكليا تلقته من رجل اعمال في الخمسين من عمره، اقترح عليها أن  ترافقه في يخته بجولة على دول البحر الأبيض المتوسط،  وانه سيرافقه في القارب ثلاثة من أصدقائه. ترددت. قال لها انهم سيدفعون لها أضعاف قيمة الجائزة التي فازت بها بمسابقة ملكة الجمال، وانها غير ملزمة بمعاشرة احد ، ما يهمهم ان يتمتعوا بمرافقة أجمل النساء وأن أصحابه رجال مجتمع محترمين.. وان كأس نبيذ جيد بوجود امرأة جميلة، يخلق جوا شاعريا، هو أقصى أمنيات مجموعته.
أجرت بينها وبين نفسها حسابا صغيرا. فهمت ان الدعوة لا تخلوا من مغامرة جنسية، لكن مائة الف دولار مقابل اسبوع ونصف الأسبوع في اليخت مع الرجال الأربعة ، بدون التزام لأي علاقة ... هذا يبدو امراً مغريا.
لم تكن عذراء. كانت قد مارست الجنس منذ وجودها في الصف التاسع، والتهبت شوقا من يومها. ولكن هل ستشعر بنفس الرغبة مع رجال يكبرونها جيلا مرتين ونصف على الأقل؟
رجل الأعمال يبدو اصغر من جيله، بل يشع رجولة فيها اغراء ما. هل سيكون هو الوحيد الذي ستعاشره؟
ترددت . شعرت بخوف ما، خوف المرة الأولى . ولكن الشيك بقيمة مائة الف دولار قبل ان تقرر مرافقتهم، جعلها تلين وتقبل المغامرة.
كانوا اربعة، رغم جيلهم الذي يقارب الخمسين الا ان رجولتهم مصانة بشكل جيد.
مارست الجنس مع رجل الأعمال الذي دعاها ،وجدته يداعبها ويعريها بلا مقدمات وكأنه متأكد ان موافقتها لتلبية دعوته وقبولها المبلغ الضخم، هو اعلان الإمتثال لرغباته التي لم يفصح عنها مباشرة.  لم تعترض ، بادلته الرغبة برغبة مترددة أولا، زادته التهابا، قبَّلها اينما استطاع، تغنجت بين ذراعيه فازداد شبقاً، ثم اندمجت بلعبته. كانت في الغرفة معه لوحده ، ولكن ما ان انتشت وارتفعت حرارة الاندماج حتى وجدت اصدقائه الثلاثة حولها يتبادلون ملاطفتها، شيئا فشئا وجدت نفسها بينهم  متحررة من ترددها ومن خوفها ، تزداد شبقا وشعورا  بانه لو اجتمع رجال الدنيا كلها في اليخت لما أشبعوها .
كان تلك اجمل عشرة ايام في حياتها. جولة على مدن ساحرة،ومطاعم فاخرة، ملأوها بأجمل الهدايا، البسوها أجمل ما الفاترينات من موديلات، اطلبي ونحن خاتم شبيك لبيك بين يديك. بعدها لم تتوقف. رجال اليخت أصبحوا من زوارها الأسبوعيين. رافقتهم مرات أخرى في رحلاتهم الماجنة ..  امتلأ حسابها وامتلأت خزائنها بما تشتهيه نفسها من ملابس وأحذية وميكياجات وحلى وقطع جميلة للزينة. اصبحت قادرة على الحصول على ما كانت تشتهيه نفسها في مراهقتها. تجولت في العالم طولا وعرضا، بمرافقة عشاقها او بدونهم، وفي رحلاتها المنفردة لم تتردد في معاشرة من طابت نفسها لهم، بعد العودة للبلاد أصبح العديد من زملاء السفر من زبائنها الدائمين. بعضهم اليوم محاضري جامعات، كتاب ، صحفيين ، مدراء شركات، مدراء مدارس، اعضاء برلمان ، رجال دين، تجار ، صناعيين  واكاديميين في مختلف المجالات والمهن الحرة.
كانت غارقة في استعراض تاريخها الملكي وتسأل نفسها أين ارتكبت حماقة حياتها، بحيث أضحت اليوم بالكاد تقيت نفسها. كيف لم تفكر وهي في قمة شهرتها وغناها بتوفير ما  يضمن شيخوختها بكرامة؟ هل حقا توهمت انها باقية ملكة أبد الدهر؟ وهل في مهنتها ملكة لا ينزل التاج عن رأسها؟
اليوم لا أحد يلتفت اليها، صغيرات وجميلات من حولها  احتللن الشارع. تشعر بثقل حركتها. حتى الآلة خربت رغم الرغبة الباقية.
باعت بيتها واشترت بيتا بربع ثمنه، كانت تتهاوى تدريجيا. دخلها من تأمين الشيخوخة لا يفي بمتطلباتها. شركة الكهرباء انذرتها بانها ستقطع التيار الكهربائي عن منزلها اذا لم تسدد دينها، وهو يتجاوز ثلاثة اضعاف دخلها من التأمين. البلدية تنذرها بقطع المياه اذا لم تسدد اثمان المياه فورا. بقالة الحارة لم تعد تستقبلها بنفس الترحاب والحماس ، صاحب البقالة لم يعد ينظر اليها ، يرسل زوجته لتخبرها ان الدين ممنوع. نسي انه كان يحبو على قدمية ويديه مقبلا رجليها قبل ان يصل الى مبتغاه. هل تهدده بكشف المستور اذا لم يلب احتياجاتها؟
 بعد تردد انسحبت بشعور من المذلة.
حاولت الاتصال بمن كانت تعتقد انهم عشاقها حقا، من الذين عرضوا عليها الزواج في الماضي والانتقال الى مكان لا يعرفهم فيها أحد او الى دولة أجنبية. ردودهم كانت جافة جدا. بعضهم طلب بفظاظة ان لا تتصل به، آخرين اقفلوا سماعة الهاتف بعد ان عرفوا شخصية المتحدث.
خدمة التلفون توقفت قبل ايام. العزلة حولها تشتد. التيار الكهربائي انقطع أيضا، البلدية أعطتها مهلة قصيرة بسبب شيخوختها وتدخل احد الجيران  لمنع قطع المياه عنها  شارحا حالها المزرية بدون كهرباء وبدون تلفون وبدون طعام اولي مناسب.
ذلك الجار الذي لم تكن تعرف اسمه، قرع باب منزلها وقال لها انه سيوصلها بالكهرباء عن طريق توصيلة من بيته  لتضيئ منزلها وتشغل ثلاجتها.وانه اتصل مع مسؤول يعرفه في البلدية كي لا تقطع المياه عنها. بكت بحرقة وهي تشكره. قال: لا داعي للبكاء، أعرف وضعك جيدا، لا تتردي بطلب المعونة مني.
قالت كانها تخاطب نفسها:  لا اعرف كيف تدهورت بي الحال .
قال: لا ضرورة للشرح . كلنا بشر، لنا صعودنا ولنا هبوطنا. عندي فكرة تعيدك سيدة فوق رؤوس كل من يتهربون من الحديث معك اليوم.
- اعرف اني انتهيت واتمنى لو يأتي الموت مبكرا !!                 
- اتركي هذه التمنيات لمن كانوا يزحفون على أربعة امام سريرك.
شعرت انه يتحدث من مصدر قوة رغم انها انتقلت لهذه الشقة الصغيرة منذ ستة أشهر فقط ، وكانت تظن انها مجهولة التاريخ هنا. صمتت.
- لدي فكرة لانقاذك مما انت فيه. انا اعمل في الصحافة، سانشر خبرا مع صورتك وانت صبية مرغوب فيها، أعلن فيه بانك تؤلفين كتابا عن حياتك وذكرياتك مع شخصيات مختلفة من مجتمعنا  وما كانوا يقترحونه عليك  وما قمت به من رحلات معهم وما مارسوه معك وما دفعوه بطيب خاطر ونوادرهم وغرائبهم وجنونهم بك  .
- ولكني لا انوي فضح أحد.. لست مؤهلة لفضحهم والتسبب بنزاعات عائلية.
- نحن نتحدث عن مجرد لعبة. لن يكون هناك  كتابا، لا تقلقي.  اتوقع ان يتراكض زبائن الأمس لدفع ما كانوا يدفعونه ايام كنت ملكتهم المتوجة.. على شرط ان لا تذكري أسمائهم بمذكراتك.
- هل سينجح مشروعك؟ انهم يرفضون التحدث معي ..؟
- سنرى.. لن نخسر شيئا. اتوقع ان انقذك من وضعك الحالي ، لا افعل ذلك لأني اريد لهم سوءا بل لأنهم فاسدين ويدعون اليوم ما ليس فيهم.
 ستحدث بذلك هزة أرضية اذا نجحت الفكرة.. هناك شخصيات هامة كثيرة؟-
 لماذا لا تنجح مع المرعوبين من ماضيهم؟ -
- هل يحق لي قانونيا ان اصدر كتابا افضح فيه زبائني السابقين؟
- اتركي القانون نائما، حتى لو قررت حقا اصدار كتاب، القانون لا يمنعك ان تذكري حقائق حياتك واسماء زبائنك. هل وقعت معهم اتفاق بعدم كشف اسمائهم؟
 الن يرسلوا من يعتدي علي؟ بعض زبائني صاروا اليوم من زعماء هذه الدولة؟!-
 لا أظن ان جنونهم سيصل درجة الاعتداء عليك. سيفضحون انفسهم أكثر اذا فكروا بهذه الطريقة.-
بعد يومين صدرت الصحيفة بخبر صغير يحمل صورتها وهي فتية مشتهاة، بانها بالتعاون مع الصحفي اياه ، ستصدر كتاب مذكرات تكشف فيه اسماء الشخصيات الهامة التي مرت في مخدعها ، وما عرضوه عليها ، والى اين رافقتهم في جولاتهم ، وستستعرض نوادرهم وتصرفاتهم وعروض الزواج التي تلقتها منهم.
كان اسمها ما زال ماركة مسجلة، أشهر من نار على علم. تاريخ لا يمحوه الزمن. اختفت نسخ الجريدة من الأسواق قبل ساعات الظهيرة. تلفونها الذي سدد جارها ديونه، عاد يرن بقوة طول النهار والليل. كانت اصوات الكثيرين منهم  مألوفة لها. ارادت ان تسألهم لماذا اغلقوا تلفوناتهم بوجهها والآن يصرون على لقائها؟ لكن جارها الصحفي قال لها لا عتاب ولا كلمة غضب. فقط استقبال ضاحك كأيام زمان.
وأضاف بسخرية :"لنر ما في جعبتهم".
اتفقت على لقاء مع من تعتبره اقواهم ماديا.ذلك الذي رافقها في القارب مع اصدقائه الثلاثة، كان قد تجاوز السبعين من عمره، ولكن مبنى جسمه وهيئته لا يكشفان عمره الحقيقي.
كان حديثه حارا. قال لها انه لا ينسى ايامه معها. كانت أجمل ايام عاشها في حياته، لكنه أب لثلاثة بنات متزوجات، وله أحفاد وحفيدات بجيل واع، ولا يريد ان يكشف ماضيه امام أحفاده ، وهو مستعد لدفع ما يساعدها على الحياة، وقدم لها في ظرف مبلغا كبيرا قال انه سيكفيها لسنتين، وانه لن يكون المبلغ الأخير، وطلب منها فواتير الكهرباء ليسددها عندما علم بان التيار الكهربائي قطع عن منزلها وانه سيعطي امرا لمدير شركته بدفع فواتير الكهرباء من حسابه. ورجاء ان لا تذكر اسمه الحقيقي في كتابها او اسم أصدقائه لأن اثنان منهم قد توفيا ، وفي ذكرهما احراج  غير لائق.
بعده التقت ضابط شرطة ببدلته الرسمية، سألها وهو يضحك بشيء من التذلل :"هل تذكريني؟" وكيف لا تذكر من يحب ان يستعمل لسانه ؟
قدم لها مغلفا فيه ثلاثة الاف دولار، ورجاء ان لا تفقده التعيين الجديد الهام الذي يحلم به منذ سنوات. وختم قوله بوعد وحركة من أصبعه :" ساذكرك دوما ، لا تذكري أسمي في كتابك ، ستصلك مني مبالغ أخرى".
بقال الحارة جاء محملا باكياس عديدة، وشيكا بمبلغ غير صغير، ورجاء ان ترى ببقالته عنوانا لها تاخذ ما تشاء.. وانه آسف على معاملة زوجته لها بمنعها من الاستدانة. وأضاف :"طبعا لا تفضحي ما كان بيننا.."
انقلبت الدنيا ولم تعد تميز بين القادمين والمغادرين، المهم ان صندوق المال امتلأ اكثر مما كان يمتلئ عندما كانت ملكة الشارع بلا منازع. حتى مدير البنك صار يستقبلها راكضا نحو مدخل البنك مجلسا اياها في مكتبه ليسجل ما تودعه من أموال، ولكنها لا تذكر اذا كان من زبائنها سابقا.وهل يتوهم احد ان ذاكرتها تقدر على الاحتفاظ بالاف الزبائن؟!
صارت امرأة محترمة يتسابقون لإلقاء التحية عليها ولمساعدتها في حمل احتياجاتها لباب منزلها.
عبثا حاولت ان تقدم لجارها الصحفي بعض المال فرفض. وقالت انها تريد ان تكون بمثابة ام له، ولكنها خجلة من ماضيها. ابتسم وقال انها افضل ام  الآن. وكثيرا ما دعته لتناول الطعام معها، الذي كانت توصي عليه من مطعم فرنسي مشهور يرفض ان يأخذ مقابل الطعام وفقط تدفع للشاب الذي يحضره.. واحتارت هل من علاقة سابقة ربطتها بصاحب المطعم؟ اسمه لم يعن شيئا لها، ثم لم تعد تسأل. حتى لو لم تتصل كانت تصلها الوجبات الشهية يوميا.
الغريب ما حدث بعد ثلاثة اسابيع.
حضر الى منزلها شابان، بالتأكيد لا شيء يربطها بهما، لوهلة دق قلبها رعبا ان يكون وراء مجيئهما اعتداء مدبر عليها، لكنهما يتحدثان معها بلطافة ، يسألان عن تاريخ اصدار الكتاب. قالت انها لم تنهي بعد تسجيل التفاصيل وان الوقت مبكر على صدوره. اخرج احد الشابين دوسية ومغلف كبير  من حقيبة يد يحملها، وقال لها انه يريد ان يقدم لها خدمة كبيرة ها هي دفعة بقيمة 150 الف دولار، وان تدخل الأسماء والتفاصيل المسجلة في الدوسية ضمن كتابها!!
nabiloudeh@gmail.com










62
أدب / ثلاث كلمات حاسمة
« في: 21:32 17/08/2012  »
ثلاث كلمات حاسمة

ثلاث كلمات حاسمة









(قصة فلسفية)





نبيـل عـودة




- التراجع بلا نهاية يقود الانسان الى لا شيء.


هكذا افتتح استاذ الفلسفة محاضرته.


- هل تعني لكم هذه الجملة شيئا؟


لم يتوقع تعليقاً من طلابه، كعادته في استرساله وعدمانتظاره رد فعلهم. انما هدفه، كما أكد ذلك منذ درسه الأول، إثارة عقولهم الخاملةبعد عطلة نهاية الأسبوع.


- أعرف ان اختياركم للفلسفة كان وراءه دوافع كي يحظى كل واحد منكم بفهم معنى أحداث تدور في محيط حياته ولا يجد لها تفسيرا. فجأة تقع المفاجأة الأولى، يعتلي المنصة محاضر بنظارات سميكة، وملابس متنافرة الألوان، ويبدأ محاضرة حول معنى فلسفة المعنى.


ارتسمت ابتسامات كبيرة على وجوه الطلاب، وتغامزوا بحذر، وهم يتأملون أستاذهم بنظارته السميكة وملابسه متنافرة الألوان، شعره الكثّ المشتاق لحلاق يعطيه شكلاً متناسقاً. اعتادوا مظهره بل عشقوا حضوره وتمتعوا بمحاضراته ذات الأسلوب خفيف الظل،يشرح المسائل الفلسفية بأسلوب سهل، الدرس أحياناً يبدو وكأنه مسرحيد، مليء بنبضالحياة وليس درساً حول قضايا أشغلت وتشغل العقل البشري منذ ظهر عصر الفلسفة قبل2500 عام، محدثاً نقلة حاسمة من نهج الايمانية الوثنية في فهم ظواهر الطبيعة، الىالبحث والتفسير العقلاني لهذه الظواهر.


- لو تحدثنا عن معنى فلسفة المعنى فإننا سنواجه اتجاهات عديدة متناقضة، المرأة ترتب البيت قبل حضور الشغالة، الرجل يرتب السرير بعد مغادرةالشغالة. اذن لكل حالة او شخص معنى مختلف من الشغالة.. ودلالة المعنى تظهر في تصرفاتهم.


ضحك الطلاب، رغم علمهم ان استاذهم يغضب من سماع صوت نشازفي القاعة. أشار لهم بالصمت وواصل:


- اذن معنى فلسفة المعنى يختلف. تماما كما ان المرأة تحبان تسمع كلمة "أحبك" بينما الرجل يحب ام يسمع كلمة "أريدك".هنا يجب ان ننتبه للمدلولات المختلفة من وراء المعاني المختلفة أيضا.


كيف نوفق بينهما؟ هل يتوهم شخص عاقل انه يمكن التوفيق بين المعنيين والمدلولين؟!


ستفشلون عندما تحاولون. ماذا يعني الزوج لزوجة ملت منزوجها بعد سنوات طويلة؟ ماذا ستقول له حتى لا تكون غبية وفظة؟ عليها ان تختار مدلولاً مناسباً لمعنى مللها. ستقول له: آه يا زوجي الحبيب، انت تذكّرني بالقارب البحري الذي ركبناه أثناء شهر العسل قبل ربع قرن. ليس لزرقة عينيك الشبيهة بزرقة البحر، وليست بسبب قمصانك الواسعة الجميلة التي تشبه شراع القارب، وليس بسبب شعرك الغزير الناعم الذي يتطاير في الريح، والسبب يا زوجي الحبيب اني كلما أراك أصاب بالغثيان.


المعاني المتنوعة هنا ومدلولاتها المختلفة توصلنا الىسؤال: هل سيفهم الزوج الحبيب قصد الزوجة؟


اذن معنى فلسفة المعنى لا يتحدد بتعريف مختصر، بل يتفرع فلسفياً الى الاهتمام بمواضيع مختلفة من المعاني والمدلولات.


لنضرب مثلاً حول سفر جابر الى الهند لأجل فهم حكمة الهنود والبحث عن معنى للحياة. مرت أشهر ولم يصل منه أي خبر. سافر شقيقه للبحث عنه وإعادته للبيت. لم يعرف من أين يبدأ. أرسلوه الى كاهن هندوسي يقال انه الأكثر ذكاءفي الهند. لا يخرج من المعبد ولا يستقبل زواره إلا بعد انتظار اسبوعاً على باب هيكله،ولا يسمح لسائله إلا بثلاث كلمات. خلال أسبوع رتّب الشقيق في ذهنه بعد تفكير مضن الكلمات الثلاث الأكثر أهمية للدلالة على هدفه. وانتظر أسبوعاً كاملاً على باب المعبد حتى سمح له بالدخول. وبعد انتظار تلقّى إشارة من الكاهن ان يقول كلماته.ترى ماذا تتوقعون ان تكون كلمات شقيق جابر الثلاث؟


تخيلوا انفسكم في هذا الموقف. وسنعود لمعرفة الكلماتالتي قالها شقيقه للكاهن الهندوسي في آخر الدرس.


لا بد ان يكون للكلمات الثلاث مدلول فلسفي، لشخص ربما لم يلتق بالفلسفة. ولكن تفكيره المنطقي وتحديد الكلام قاده الى صياغة ثلاث كلمات لها معنى ومدلول هام. هذا ما اريد ان أنبّهكم إليه، عندما تثرثرون بدون حساب، وتصبح الثرثرة مقياساً اجتماعياً وسياسياً لمن يثرثر أكثر. الدلالات للمعنى واضحة هنا وليس بالثرثرة تنجز الأهداف. فكروا في الموقف. هل يمكن ايجاد ثلاث كلمات لشرح موضوع فقدان الاتصال مع جابر وقلق أهله ورغبتهم بايجاده واعادته للبيت؟


طلابي المساكين، أعرف ان ذهنكم قد يتعب معي. كما ترونفقد استعملت تعبير المدلول مرفقا لإصطلاح المعنى. هل من علاقة بين المعنىوالمدلول؟ طبعا أنتم تهزّون رؤوسكم بالموافقة. شكرا لكم. المسألة أكثر اتساعاً مماتظنون. لا انتظر موافقتكم بل فهمكم حتى لا ينطبق عليكم المثل الصيني القديم:"في كل جماعة يوجد غبي، الذي لا يراه ولا يميزه، هو الغبي نفسه".


لا بد من سؤال لنتقدم نحو فلسفة المعنى والمدلول. كما يبدو أصبح واضحاً لكم او لبعضكم، لا معنى بلا مدلول للمعنى. اذن المعنى غير مستقل في الفلسفة. لا شيء مستقل عن الأشياء الأخرى. وهنا تكمن قيمة التفكير الفلسفي بالربط بين الأشياء، بين المعاني وبين المدلولات. لا حدود للتفكير الفلسفي. الرئيس الأمريكي الأسبق، ايزنهاور، كان جنرالاً وقائداً للحفاء في الحرب العالمية الثانية في اوروبا. قال أمراً عميق المعنى وعميق الدلالات: "من تجربتي تعلمت ان لا قيمة للخطة العسكرية، ولكن لا بديل للتخطيط العسكري". نحن لسنا عسكريين. ولكن لهذه المقولة معنى اجتماعي واقتصادي وعلمي. حتى للزواج يجب ان يكون تخطيط واضح.الخطة يتقنها الكلاب والقطط أيضا. غريزتهم ترشدهم. التخطيط لا يتقنه إلا الحيوان العاقل الذي لا يعتمد على الغرائز وللأسف مجتمعاتنا بعيدة عن معنى التخطيط ودلالاته. تسودها عقلية الخطة.


الايمان يُنقل للإنسان بالغرائز. هذه عملية نفي قسريللعقل. العلوم تنجز مهامها بالتخطيط. النجاح لا يتحقق بالغريزة، بل بالتخطيطوالتفكير ولا يتحقق بالاتكال بل بالنشاط العملي الواعي. الغريزة هنا لا تساعد.بعضكم سيغضب لكلامي. لأن مدلولات كلامي تتناقض مع عقله الذي لم يتخلص من الغرائزبعد. هذه اصعب مسألة في عالم الانسان ونتيجتها حاسمة في النهاية.


سترسبون في متاهات الفلسفة بدون التخطيط والاحتكام للتفكير العقلاني. غرائزكم التي نشأتم عليها يجب نزعها بدون رحمة من عقولكم وبالتأكيد من عواطفكم أيضا.. او قولوا وداعاً للفلسفة، وداعاً للمنطق، وداعاً للعقل، وداعاً للوعي ووداعاً للمعرفة. ليس سهلاً ما أطلبه. ان تحديد الهدف هو أصعب ما في المعركة. حين يصاغ الهدف بشكل صحيح، يصبح النجاح مضموناً. الفلسفة الصحيحة هي تخطيط دراسي وليس خطة دراسية. الموضوع ليس ذكاءً وحفظاً. هذا ينفع في الحصول على العلامات ولا ينفع في رقي العقل.


لنضرب مثلاً. هل تظنون ان الرجال أكثر ذكاءً من النساء؟


الأجوبة متعددة وتنتشر على مساحة الأفق كله ومدلولاتها تمتد للأعماق. نعم... بإمكاننا تحديد هدف من السؤال. عندها تصبح الإجابة سهلة.مثلاً يمكن الاعتماد على دلالات نشاهدها في الحياة دائماً لأننا أحياناً لا نريدان نعترف بذكاء النساء وتفوقهنّ على الرجال. الطالبات سعيدات؟ لم أقل بعد أي معنى أو دلالة لما أقصد. لنفترض حالة اجتماعية بسيطة. هل شاهدتم امرأة تركض وراء رجل غبي لأنه يملك سيقاناً جميلة؟


لا ضرورة لمزيد من الكلام لنفهم أين الغباء عند الرجال.المدلول واضح ومعناه واضح. ارى ابتسامات وإخفاء ضحكات. لا أقدّم لكم مسرحاً هزلياً. فكروا خيراً من ان تضحكوا.


ما معنى ومدلول ان تفكروا جميعكم بنفس الشيء كما ألاحظ من ابتساماتكم وضحكاتكم المخفية والغبية؟ معناه ومدلوله واحد: لم تفكروا. غريزتكم تحكمت بعقلكم.


اذن ما هو معنى التعلم اذا لم يغير ما نشأتم عليه من فكر مليء بالخوارق والعجائب والتكرار؟


لدينا مدلولات متنوعة لمعنى التعليم. مدلولات لا تطير في الهواء، بل لها قاعدة بلورت شخصية المعلمين. المعلم هو نتاج بيئة اجتماعية، المعلم الأول متوسط القدرات ولا يعرف إلا ان يقول، وعلى الطلاب اتقان السمع والحفظ والتكرار.المعلم الثاني جيد، يشرح، ولكن لا ينجح بالربط بين الشرح والعقل. المعلم الثالث ممتاز، يعرض نماذج لشرحه ويربط مدلولاتها بالمعنى الذي يعلمه. المعلم الرابع معلم كبير يثير التفكير، حيث أن وجهة نظره تقول ان إعاقة التفكير لدى الطالب هو جريمة إنسانية في عالم عقلاني يجب ان يعاقب عليها القانون، وان تنشأ لها محاكم دولية. قتل العقل هو اول مدلولات معنى قتل الجسد البشري. هنا نقتل الزمن الانساني أيضا. اينشتاين في تفسيره لنسبية الزمن قال: "ضع يدك على صفيحة ساخنة ستشعر أن الدقيقة ساعة، اجلس بجانب امرأة جميلة ستشعر أن الساعة دقيقة". تحرير العقل من الغرائز والخوارق وغباء الموروث الذي لا حياة فيه،واندماج الانسان بالوعي والتفكير والتطور هو جلوس متواصل بجانب امرأة جميلة، او شاب جميل حتى لا "تزعل" زميلاتنا.


اذن المعنى والمدلول يخضعان للنسبية ايضا. المدلول هنااكثر اتساعاً من مجرد الظاهرة التي ذكرتها. المدلول هنا ينعكس على كيف سنكون عندما نحمل الشهادات. هل نكون منفتحين على عالم العقل والتفكير؟ ام خاضعين لعالم الغرائز بشهادة لا تنفع إلا لإشعال الحطب في موقد الشتاء؟ انا لا اريد ان أرى مجرد حَمَلة شهادات. لا أريد ان أشعر بتأنيب الضمير كل عمري. ما أريده عقلٌ حرٌ مفكرٌ ومخططٌ ينتمي للعالم الذي لا يحترم المتخاذلين.


هل توصلتم الى الكلمات الثلاث الممكنة التي سيطرحها شقيق جابر امام الكاهن الهندوسي؟


رُفعت عشرُ أصابع ولكن المحاضر سخر من كل الأجوبة لأنها تركزت حول فقدان جابر في الهند. كيف سيفهم الكاهن ان الهدف إيجاده وإعادته؟ لعله فقد بحادث تسبَّب في موته؟ اذن الدلالات لمعنى الفقدان هنا غير واضحة. وقبل ان ينهي شرحه ارتفعت أصبعُ نسرين بإصرار أنها تعرف. قال المحاضر لنسرين: "إن إجابتك حاسمة لمكانة المرأة ورجاحة عقلها، خاصة بين طلاب الفلسفة، فهل تصرين علىهذا التحدي الذي لا يجرؤ عليه الرجال؟".


ردّت بابتسامة وهي تقف وسط القاعة وتقول بثقة:


- الكلمات الثلاث التي قالها شقيق جابر للكاهن الهندوسي لا بد ان تكون "جابر عُد للبيت"!!


- تعنين "جابر عد الى البيت"؟؟ حذفت كلمة الى للحفاظ على ثلاث كلمات . بصراحة تفكير صائب ورائع.. لم أتوقع رجاحة عقلية بهذا المستوى، ما رأي الشباب؟ هل ستغيرون موقفكم من رجاحة عقل المرأة؟


- هل من سؤال قبل ان تنهي الدرس؟


- واصلي نسرين.


- ما هو المدلول للقول ان الحقيقة هي مضمون التنور؟


- سؤال جيد، أتركه للتفكير وفقط أضيف تتمة له، الانسان المتنور هو الانسان الذي يقول الأمر الصحيح وفي الوقت الصحيح!!


قالت نسرين:


- اذن على الانسان المتنور أن يصمت في غالب الأحيان؟!




nabiloudeh@gmail.com

63
أدب / صلاة القلب
« في: 20:24 15/08/2012  »
صلاة القلب

نبيل عودة
[/size][/color]   
 
 
لم يكن ابراهيم يدخل الكنيسة الا في المناسبات التي لا بد منها. لم يثر ذلك انتباه أحد. حضور ابراهيم او غيابه لا يشغل بال المصلين. ابراهيم، كما يتندر بعض سليطي اللسان، هو التجسيم البشري الكامل لقانون الحاضر غائب. حضوره لا يلفت الانتباه وغيابه لا يغير من الحدث شيئا.هو أفقر سكان البلد، ولكن ليست مشكلة الفقر هي السبب، فبعض الفقراء لهم حضورهم ورأيهم. ابراهيم اذا حضر لا ينبس ببنت شفة. لا راي له، لا مجموعة يقف معها،لا يتبادل الحديث مع أحد،لا شيء يتحدث به اذا شاء الحديث الا سوق الحديد الخردة الراكد، ومن يهتم بهذا الفرع؟ وربما لم يسمع به أكثرية ابناء البلد. حتى الخوري لم يحاسبه على غيابه، بل يظن البعض ان حضوره صلاة الأحد لا يلقى ترحيبا من الخوري أيضا، لأن حضوره نافر للأجواء الكنسية ويشبه نبتة بلان شائكة في بستان زهور.. رغم ان احدا لا يقول ذلك من منطلق ان تعاليم المسيح التي لا بد لكل من يدعي الايمان، ان يلتزم بها لا تميز بين الناس، وتطويباته المشهورة بدأت ب: "طوبى لفقراء الروح فان لهم ملكوت السماوات".
كان ابراهيم تاجر خردة، يتاجر بكل ما هو قديم وبال، يجمع ما يجد بالشوارع من قطع حديد او صاج بال، ليبيعه لتاجر من المدينة يحضر مرة كل شهر، وبالكاد يربح ما يسد رمق اولاده الثمانية، وزوجته حسب أقوال نساء الحارة : "امرأة في حبل مزمن". رغم ضيق ذات اليد، الا ان الله باركه بزوجة لا تلد الا الصبيان، وربما هو الأمر الوحيد الذي يحسده علية أهل البلد. ولكثرة الأولاد مستعدة زوجة ابراهيم دوما للقيام بأي عمل يطلب من بيوت البلدة الموسرة، تنظيف، تعشيب الأرض، شراء احتياجات النساء من السوق، مقابل بضعة قروش وبعض الأرغفة والملابس القديمة. وعدا الثمانية، أطال الله عمرهم ووهبهم الصحة والطعام، فقد ثكل ابراهيم وزوجته اربعة أطفال، ويقال ان سبب موتهم قلة التغذية، الأمر الذي حرك عواطف الجيران، ومن يومها لم يتوقف الجيران عن ارسال ما تيسر من طعام زائد، او بعض الخضار والفواكه التي بدأت بالذبول الى زوجة ابراهيم لتقيت اولادها.
لا يعرف أحد سببا لعدم مشاركة ابراهيم وزوجته صلاة أيام الأحد. وكان هناك شبه اتفاق بالصمت، بأن لا يحثوا ابراهيم على ضرورة الاهتمام بالمشاركة بصلاة الأحد من أجل اكتمال دينه. حتى الخوري الذي لا يمل من القول ان الله يحب كل ابنائه بالتساوي، لا فرق بين غني وفقير قوي وضعيف، لم يحاول حث ابراهيم على التواجد في الكنيسة أيام الآحاد.
كان أكثر ما يخيف الخوري ان يؤدي تواجد ابراهيم بينهم بثيابه الرثة، ورائحة عرقه المثيرة للإمتعاض والضيق، الى مشكلة، يتوقعها بتفكيره، من انفضاض المصلين من الجلوس بقربه، وربما عدم عودتهم لصلاة الأحد، الأمر الذي سيترك أثره الكبير على صينية التبرعات النقدية يوم الأحد، وكان الخوري يجد الجواب لنفسه بقوله:" لعل في ذلك حكمة ربانية". ان مصروفات الكنيسة تتزايد مع ارتفاع الأسعار، وحتى سعر الكهرباء صار يحتاج الى "لمة" يحث عليها الخوري في موعظته كلما تلقى وصلا جديدا.
ومع ذلك، والتزاما بتعاليم المسيح، كان الخوري لا يستثني ابراهيم وعائلته من زياراته لبيوت أبناء الطائفة، لمباركة البيت وأهله والدعاء لهم بالصحة والفلاح. وحمايتهم من كل مكروه، وان يبارك الله بيتهم بالذرية الطيبة، وبالوفرة والوفاق. لم تكن زيارة الخوري تسبب الفرح للسيد ابراهيم، ولكنه يخفي ضيقه، ويستقبل الخوري بكل ترحاب، بل ويجمع أولاده ليباركهم الخوري، ثم يبحث في جيبه عن بضعة قروش ليضعها بيد الخوري، الذي يمتنع من أخذها في البداية من منطلقات معرفته لواقع هذا البيت. ولكن ابراهيم يصر ان لا يخرج الخوري مفشلا، وان المسالة ليست بقيمة ما يقدم لأبونا الخوري والكنيسة، انما هي تعبير رمزي عن التقدير الكبير لجهود الخوري في ايصال الرسالة للمخلص يسوع المسيح ان يشمل ابراهيم وأولاده بعطفه ومحبته وخيراته.
صحيح ان الخوري كان يزور بعض البيوت أكثر من غيرها، ويقيم صلوات أطول مما يقيمها في بيوت أخرى.والأقاويل تتردد ان السبب هو التبرعات السخية التي ترد لصندوق الكنيسة من أصحابها.
وهكذا مضت الأيام.. والأشهر والسنوات.. وكأن الرتابة هي قانون لهذه الحياة. وما عدا موسم الزواج الذي يحل كل عام مع حلول الربيع، وبعض الوفيات، لا شيء يشغل الخوري إلا الحفاظ على رابط مع جميع رعيته في البلدة.
ولكن الرتابة كسرت.
في ظهر أحد الأيام استيقظ الخوري من قيلولة الظهر على صوت بكاء وصراخ غير بعيد عن كنيسته.
سارع الى الخارج ليعرف ما حدث، فوجد ابراهيم ملقى على الأرض، والدم ينزف من أنفه، ويبكي ويصرخ بحرقة بشكل هستيري يصعب فهم ما جرى له. وحوله تجمع العديد من عابري السبيل وأصحاب المحلات المجاورة، يحاولون ايقافه على قدميه، ومسح الدم عن وجهه، وهو يجلس مذهولا يبكي بحرقة وألم.
-         ما الحكاية؟ سال الخوري.
-         بعض الزعران اعتدوا عليه وسرقوا نقوده وهربوا.
قال الخوري بشيء من الغضب مجيلا نظره بمن حوله :
-         ولم يساعده أحد ؟
لم تكن ضرورة للجواب. الصمت كان جوابا مجلجلا. مد يده لابراهيم :
-         تعال يا ابني.
استجاب ابراهيم ليد الخوري وقام ذليلا باكيا، وقاده الخوري الى غرفته الملاصقة للكنيسة.
أسعفه ببعض الماء ومسح الدماء عن انفه ووجهه، وغاب للحظات في غرفة ثانية، وعاد ليدس بيد ابراهيم بضع ليرات. ملمس النقود أجفله فتراجع رافضا المال.ولكن الخوري أصر مذكرا اياه ان وظيفة الكنيسة رعاية الفقراء، والفقر ليس عارا. وان هذه النقود من أجل اولاده، وليسامح الله اولئك الزعران لأنهم لا يدرون ما يفعلون.
بعد تلك الحادثة دخل ابراهيم في صباح أحد الأيام، القى التحية بهز رأسه على الخوري والمصلين، وركع لدقائق طويلة امام أيقونة للسيد المسيح معلقا على الصليب، كان يبكي بمرارة مخفيا صوت بكائه، وخرج بعد ان قام بالتصليب ثلاث مرات، وخرج كما دخل لوحده، ومن بعدها اختفى ابراهيم من الحارة ومن البلد.
حتى نساء الحارة لم يلاحظن اختفاء ابراهيم وزوجته واولادهما الثمانية.
تناقل المصلين اقاويل كثيرة عن اختفاء ابراهيم. وانه قام بالصلاة لمرة واحدة في الكنيسة قبل اختفائه، وتمنى الجميع ان لا تكون مصيبة قد نزلت به هي السبب وراء اختفائه. ومضت الأيام وبدأت تتوارد معلومات عن ابراهيم، من الصعب ربطها بابراهيم ابن بلدهم، البعض يقول انه شاهده في المدينة القريبة يجلس بجانب سائق شاحنة كبيرة محملة بالحديد الخردة. وانه كان يرتدي ملابس جديدة، ويبدو أصغر من عمره بعقد كامل. شك البعض بأن الحديث لا اساس له وان ما تناقله البعض عن رؤية ابراهيم من المؤكد انه شخص آخر.
ويبدو ان قصة ابراهيم قد طويت. لم يعد يذكره أحد. عادت حياة البلدة الى مسارها الطبيعي، وكأن ابراهيم لم يكن له وجود بينهم في يوم من الأيام.
ذلك النهار الربيعي كان عاديا. الخوري يجلس على شرفة منزله يقرأ كتابا، وامامه صحن فواكه. وهو يتمطى تحت شمس الربيع الدافئة. حين سمع قرعا خفيفا على باب منزله. لم يتأكد من ان احدا يقرع باب بيته، أنصت ولم يسمع القرع من جديد. وعاد ليقرأ في الكتاب، ولكنه لم يكد يقرأ كلمتين حتى عاد يسمع القرع من جديد، وهذه المرة أقوى. فقام متمهلا ليرى من الطارق.
فتح باب منزله، على شخص ببدلة من الجوخ الإنكليزي الفاخر، تفوح منه رائحة عطر ذكية، نظر اليه من رأسه الى قدميه، ولاحظ حذائه الأسود اللامع، بالتأكيد من نوع فاخر كملابسه. كان الطارق يقف هادئا، ومبتسما ابتسامة خجولة. لوهلة خيل للخوري ان الوجه مألوف له. بل مألوف جدا. لا ليس من المترددين للصلاة يوم الأحد. هل هو قادم جديد للبلدة؟ الوجه قريب جدا من الوجوه المألوفة للخوري. ولكنه متأكد ان فيه تغيير ما.. وفجأة لمعت الصور جيدا بذاكرته، سأل مترددا:
-         ابراهيم..؟
-         أجل يا أبونا انا ابراهيم نفسه
-         تفضل يا ابني، أدخل. أهلا بك في بلدك وبيتك.
مليون فكرة التمعت بثوان في ذهن الخوري. ما تناقله بعض أهل البلد عن ابراهيم الذي شاهدوه في المدينة القريبة يبدو انه صحيح. ربما هذا ابراهيم آخر؟
-         قل لي يا ابني، انت ابراهيم نفسه ابن بلدنا، الذي غادرنا قبل سنة؟
-         انا ابراهيم الذي مددت يدك له بالمساعدة حين وقف الجميع متفرجين على زعران يعتدون علي ويسرقون ثمن خبز الأولاد. جئت ارد اليك الدين الذي في رقبتي.
-         انها قروش قليلة يا ابني.. والمصلين لا يبخلون على صندوق الكنيسة.
-         انه دين كبير يا ابونا، تفضل..
ومد يده بورقة شيك للخوري.
-         يا ابني ما ساعدتك به ليس دينا، انه واجبي...
وصمت الخوري وهو يتأمل المبلغ الذي كتب على الشك.. اجال نظره بين ورقة الشك وابراهيم، عاجزا عن ايجاد كلمات يعبر فيها عن الموقف الذي وضعه فيه ابراهيم بورقة الشيك. وبعد صمت قصير وجد جملة مناسبة:
-         انه مبلغ كبير.. كبير جدا.. عشرة الاف ليرة مرة واحدة؟
-         انه ديني للكنيسة.. ولأهل البلد الذين لولا ما تكرموا علينا به لمات اولادي من الجوع.
-         ومن أين كسبت هذه الأموال؟
-         منذ ركعت في الكنيسة لوداع البلد، فتحها الله بوجهي، أصبح الحديد الخردة تجارة مربحة، اليوم لدي عدة شاحنات وعدد من العمال، اشتريت بيتا، والمسيح فتحها في وجهي بعد ان رجوته في صلاتي الوحيدة ان يتطلف بي وبالأولاد.
-         وانا كاهن واصلي يوميا باخلاص عدة مرات.. ولكني لم احلم ان اكتب يوما شيكا بقيمة عشرة الاف ليره..؟ بالكاد نسدد اثمان الكهرباء والماء والتنظيف.
-         واوصيت للكنيسة على مكيفات هوائية سيحضر الفنيون لتركيبها غدا.
-         كيف من صلاة واحدة، ورجاء واحد وصلت الى ما وصلت اليه، وانا الخوري المؤمن والذي يصلي كل نهاره وليله ويطلب ان يفتحها الله بوجه كنيسته لا نحصل على ما يساعدنا في تغيير مقاعد الكنيسة مثلا ؟
-         الصلاة ليست بالكم، ولا بالصراخ والصوت المرتفع، ولا بالشكل الذي نظهر به في الشارع وليس بملابس غريبة عجيبة. الصلاة يا أبونا الخوري من القلب، والقلب لا يغير شكله ولا قوة دقاته واذا كان الله كما تصفونه فهو قادر على سماعنا وقراءة تفكيرنا.. وساغير مقاعد الكنيسة على حسابي.
-         ولكني اصلي بصمت ومن القلب، وعدة مرات كل يوم؟
-         يبدو انك ملحاح يا ابونا الخوري، هل تظن ان الله لك وحدك؟!

nabiloudeh@gmail.com



64
أدب / وداعا سيدي الرئيس..!!
« في: 10:38 11/08/2012  »


وداعا سيدي الرئيس..!!

(ساتيرا)


نبيل عودة

كلمة "أمباتيا" ماذا تعني ؟ هل هي نفسها كلمة "أباتيا" ؟
الفلسفة عرفت كلمة "أباتيا"، بأنها تعني فتور الشعور وتقود إلى نوع من الزهد في الحياة. فهل "أباتيا" هي الحالة التي أصابت الشعوب العربية مع رؤساء دولها، حاملي القاب "اعداء الأستعمار والصهيونية"،  حتى تواصل طغيانهم وفسادهم عشرات السنين؟
 حتى ابن خلدون قال "إن اختلاف نحل الناس في المعاش يقود إلى اختلاف أخلاقهم". فهل كان للفقر واٌلإملاق صفة غالبة، فرضت أخلاق الخضوع والاستسلام للفساد والقمع والتخلف الاجتماعي والاقتصادي التي ميزت المجتمعات العربية في عهد مومياءات غير مخلده  بن علي والقذافي ومبارك وبشار والحبل على الجرار؟ ربما هي سياسة مدروسة مصدرها ذكاء الرؤساء العرب وفهمهم العبقري لابن خلدون وفلسفته الاجتماعية؟!
 كيف سنعرف درجة ذكائهم وهم يتساقطون مثل الذباب؟
كلمة "أمباتيا" ظلت عالما مبهما أمامي لفترة طويلة قبل أن افهمها.
كثيرا ما سألت نفسي: أين تقع ال "أمباتيا" في عالم البشر، كيف تظهر ؟ كيف تتفاعل؟ وكيف يمكن فهم تفاعلها، أو عدم تفاعلها؟ هل تقع  في حقل المعرفة ؟ في حقل المشاعر؟  ربما في حقل علم الأخلاق، إن أبقى منه الحكام العرب شيئا لشعوبهم ؟ أو في حقل الطمأنينة النفسية بأوهام الحوريات المنتظرات ؟
 حتى في حقل ردود الفعل كانت العرب شواذ عن "قانون نيوتن الثالث" الذي يقول: "لكل قوة فعل قوة رد فعل مساوي لها في المقدار ومعاكس لها في الاتجاه".
 هل الخطأ في نظرية نيوتن ام في الفيزياء العربية ؟
 أنها إشارة واضحة لخروج العرب من الفيزياء أيضا بعد أن أخرجتهم الانقلابات العسكرية "الوطنية الثورية الاشتراكية" من التاريخ؟
هل كان لمضمون  "أمباتيا" دورا في تفجير الانتفاضة العربية مثلا؟
هل لها تأثير على العلاقة بين القامع والمقموع؟
هل هناك "أمباتيا" في الحياة العملية للإنسان، ضمن مجتمعه ، أو ضمن بيته، أو ضمن تشكيلة وعيه السياسي؟
هل لها علاقة بالسلوك البشري؟ أو "مبدأ وحدة النفسية والنشاط"، كما يفسر السلوك فيلسوف "السلوكية" الأمريكي دكتور دافيد واطسون بناء على فكره المادي الميكانيكي، بقوله "ان الأشكال المعقدة للنشاط النفسي، هي نتيجة ردود فعل بسيطة "؟  فهل يصنف "النشاط النفسي المعقد"  الذي أطلق الربيع العربي تحت مفهوم "ردود فعل بسيطة"؟
 ربما أصيب العرب  بحالة "أتاراكسيا "، التي تعني طمأنينة النفس وعدم التأفف أو التذمر، بعد عقود من غياب الأمل بفجر جديد، حتى السماء تجاهلتهم رغم ضجيجهم وصراخهم طلبا لرحمة السماء واضطرارهم لتمجيد نفس مومياء الرئاسة خلال عدة أجيال إمتنعوا خلالها عن ردود الفعل بكل اشكالها حتى الصامتة مهما تراكمت؟!
 حتى لو اضطرتك دولتك الإشتراكية الوحدوية الثورية ،المعادية مع الترصد وسبق الإصرار للاستعمار والصهيونية والرجعية، البحث عن طعامك بأكوام القمامة؟ وبيع شرفك وشرف عائلتك لشيوخ نفطيين، من أجل القضية الكبرى: تحرير الوطن المحتل ، يجب ان تفهم انها الوطنية والتضحية وحذار ان  تتهاون بالشك بوطنيتهم او أن  تشكك بنواياهم او بعدائهم للإستعمار والصهيونية، حتى لا تسحل بالشوارع ، أو تصبح عميلا متآمرا تستحق المعالجة في دوائر الشبيحة.
 اعتبروا انفسكم برلمانيين عرب يستقبلون رئيسهم الضاحك المحبوب، صفقوا وزيدوا الهتاف صخبا، الستم ظاهرة صوتية مميزة بين الشعوب ؟!
هل تُحرر الأوطان الا بتجويع الشعب وإملاقه وحبس مفكريه ومناضليه بالزنازين ودفعه لبيع شرفه؟ ربما ما نشهده هو  تطوير لنظرية سياسية بعثية قومية جديدة ؟!
يمكن القول أن الثورات العربية هي نتيجة ردود فعل بسيطة تثبت نظريات فلسفية عديدة، مثلا تحول الكم الى كيف، تراكم البطش ولد نوعية جديدة من الرد بشكل انتفاضة تحول إلى نوعية أخرى لها كيفية جديدة من الرد ، وقانون نفي النفي لم يقف متفرجا، المومياءات الرئاسية نفت الشعب، بعد تحول الكم القمعي الى كيفية جديدة في الرد، جاء نفي النفي ،  المومياءات التي نفت الشعب قرر الشعب ان ينفيها, وهي قوانين فعالة في حياة البشر وفي الطبيعة، لم يتوقعها الأغبياء المرتاحون على  كراسي رئاسة الدول العربية ، محاطون بجلاوزتهم  وشبيحتهم وبثيناتهم ؟
الخوف ان لا نستبدل الاستبداد السياسي باستبداد ديني أسوأ من سابقه، من منطلق دمجه السياسة والدين... فنعود الى نقطة بداية اسوأ نعيش حلما جديدا  برحمة لن تأتي من السماء!!

حقا، جاءت ردود الفعل متأخرة، ولكن أن يكون الأمر متأخرا، أفضل من ألا يحدث إطلاقا!!
 إذن كيف نفهم معنى "امباتيا" ودورها في الأحداث العربية ؟
بعد البحث المضني وجدت تفسيرا ربما ليس كافيا، وهو ان كلمة "أمباتيا" تعني الشعور بما يعتمل بأعماق الآخرين ، وقدرة التسرب لمشاعرهم ، اختراق تجاربهم ومعارفهم وأفكارهم وأحاسيسهم لدرجة الإحساس بما يطابق أحاسيسهم. بمعنى آخر أن تكون قادرا على وضع نفسك في حذاء الآخر.. أو حتى في كلسونه ، هنا سقط الرؤساء العرب!!
لكن كيف تنطبق على حالة الإنفصام المرضي  بين المواطنين ورؤساء دولهم؟
في دراستي للفلسفة لم أجد الكلمات التي أشرح بها بدقة هذا مصطلح "أمباتيا".
وقعت في إشكالية التشابه بين "أباتيا" و"أتاراكسيا" و"أمباتيا". التقارب بينهما مذهل ومكمل لبعضه البعض. حالة عربية لا شبيه لها في عالم البشر.  هل مصدرهما واحد؟ هل فتور الشعور والزهد بالحياة ، لها رابط ما بالقدرة على التسرب لمشاعر الآخرين وفهم أحاسيسهم ؟ ظلت حيرتي قائمة، حتى سمعت حكاية من امرأة، بعد الانفجار العربي الغاضب،الذي يبدو انه امتد للمناطق المغلقة للمواطنين.
قالت أنها وصلت لوضع ميئوس لم تعد الحياة تعنيها، الفتور والزهد بطيبات الحياة لم يعد يفارقها، زوجها لم يعد يعني لها شيئا، معاشرته وخدمته هي آخر ما يهمها. الموت لم يعد يرهبها، تتمناه وتنتظره، لعله المنقذ من حياة الذل وغياب ما يستحق التمسك به. لا فجر جديد يبشر بتغير الحال، الثرثرة عن تحرير الوطن قتلتنا، يردحون ضد الاستعمار، الذي لا نراه إلا في خطاباتهم، وهم أسوأ منه. في الفترة الاستعمارية كان واقعنا أفضل، تحدثنا على الأقل وتنظمنا احزابا وهيئات شعبية بحرية ، ثرنا وعوملنا كثوار.  بدل أن نتقدم بعد أن صرنا نظاما وطنيا ثوريا اشتراكيا وحدويا نتراجع ، نواصل السقوط في هوة لم نصل قعرها بعد.. بدل أن نحرر ارض الوطن التي أشبعونا غناء ومراجل ضد محتليه، نزداد ثرثرة وفقدانا لرغبتنا في الحياة.
 كيف سنحرره ونحن أفضل ضمانة أمنية  لمحتليه؟
 هل نحرره لشيوخ نفط نبيعهم شرفنا من أجل سد رمقنا؟  لنظام يسرق ثروتنا ويبيعنا أناشيد وخطابات وابتسامات تلفزيونية؟ ماذا تركوا لنا لنتمسك به؟  
 واصلت حديثها الحزين،  قالت:  
- حتى حياتي الخاصة أضحت لوحة مصغرة من حياتي العامة. لم يعد ما يعنيني، فأنا متزوجة منذ أربعة عقود.. بعمر مواز لسيطرة رؤساء الفساد، أي منذ إطلالة نظمنا الثورية، لم أعد أشعر برغبة في الاقتراب من زوجي.. رغم إلحاحه الدائم... اتهمني أني باردة جنسيا، وعربد وهدد بالضرب.. ربما أراد أن يصير زوجا وشبيحا أسوة بسائر الرؤساء، يظن نفسه قائدا لمجلس الثورة في البيت، ومن كثرة عصبيته وإلحاحه ذهبت للعلاج لدى طبيبة مختصة.
سألتني :
 - ما مشكلتك بالضبط ؟
- ربما برودة جنسية.. او ملل من حياة الخضوع، لا أشعر بجاذبية نحو زوجي ولا برغبة في معاشرته، أو الاستجابة لطلباته حتى البسيطة.. أراه عالة علي وعلى بيتي لدرجة لم يعد يهمني أمره، ولا اشتاق لمعاشرته أو خدمته، ولم أعد أحتمل وجوده ولا سماع ثرثرته.
- احضريه معك في المرة القادمة، وسأجري الفحوص المناسبة لأرى ما يمكن ان أفعله.
وواصلت السيدة الحديث :
- بعد أسبوع عدت مع زوجي إلى عيادة الطبيبة. قالت له الطبيبة انه من أجل علاج برودة زوجته الجنسية، وصدها له وابتعادها المتواصل عنه.. وعدم تلبية أوامره وطلباته، عليها أن تفحصه أولا، لتفهم اسباب تمرد زوجته، هل بسبب سطوته في البيت ام بسبب جحودها وخيانتها للأمانة ؟
 وأضافت:  
- رجاء اخلع ملابسك.. لا حاجة للارتباك.. أنا طبيبة ورأيت آلاف مما تظنه مميز رجولتك .. تأكد ، رغم انك رئيس بيت، أو حتى لو صرت رئيسا لجمهورية عربية، فلا فرق، لن تزداد رجولة أو سحرا. هل تعرف، عندما كنت صغيرة استغربت أني لا أملك ما يملكه أخي ويفخر به. شكوت لوالدتي، فماذا قالت لي والدتي ؟ قالت أني بما املكه استطيع عندما أكبر أن املك وأسيطر على  آلاف مثل الذي عند أخي .. لذا لا ترتبك، وليكن واضحا لك ولمعشر الرجال، وبينهم الرؤساء العرب إذا ظل من يوهمهم برجولتهم، أنكم لستم الأفضل بهذا الشيء الذي تفخرون به...الرب منحكم هدية التبول وقوفا، ولكنه منحنا القدرة على الوصول للمتعة الجنسية مرات متكررة ... فما هو الأفضل حسب رأيك؟ لنفترض أن أذنك تحكك بشدة ، ما العمل؟ ستدخل أصبعك وتحكها. بعد ذلك تخرج أصبعك. قل لي من يشعر بالمتعة أكثر ؟ أصبعك أم أذنك؟  
وواصلت الزوجة حكايتها:
- خلع زوجي ملابسه.. بان عاريا كما ولدته أمه.. رغم اشمئزازي من منظره، خجلت عنه .. ولكننا في عيادة للعلاج.
قالت الطبيبة:
- الآن در حول نفسك دورة كاملة.. مرة أخرى.. سر خطوة للأمام .. ارجع خطوتين إلى الخلف.. تقدم كأنك رئيس عربي يستعد لإلقاء خطابه الملكي. حسنا.  الآن استلق على السرير من فضلك .. لا تستر عورتك .. لا تخجل .. لا فرق بينها وبين عورة رؤساء الجمهوريات  البارزة عوراتهم في وجوههم..استلق .. حسنا  .. يداك على الجنبين .. الآن أرى.. قم  وارتد ملابسك وانتظر زوجتك في الخارج.
 قامت تسجل ملاحظات في دفترها.
خرج زوجي وبقيت لوحدي مع الطبيبة. قالت:
- يا سيدتي آنت لا تعانين من برودة جنسية أو من حالة نفسية تجعلك ترفضين النوم معه أو استمرار سيطرته على البيت .. أنا أيضا لم أشعر بجاذبية نحو زوجك، كيف صبرت كل هذه السنين؟؟!!
 
nabiloudeh@gmail.com



65
أدب / قليلات العقل وكاملو العقل..
« في: 16:54 27/07/2012  »
قليلات العقل وكاملو العقل..

قليلات العقل وكاملو العقل..


قصة: نبيـــل عـــودة


مريم فتاة قروية مستورة الحال، صبية جميلة كزهور الربيع اول تفتحها. لمحها تاجر خضار وفواكه متجول ، طابت نفسه لها، طلب يدها من والدها. تردد الأب بسبب فارق الجيل. هل يجوز تجويز البنت من رجل بجيل جدها؟ فكر: في ذمته زوجتين واحدى عشر ولدا. ولم يصل الى قرار.
قال التاجر: "المال يصنع الرجال ويشتري السعادة" .وأضاف: "أملك عدة منازل وقطعة أرض وأموال يسيل لها لعاب الشياطين .. فهل يحلم الأب بضمان أفضل من هذا لابنته وبعد صمت قصير تريث ليرى تأثير خبر ثروته المصرح بها على والد مريم قال: "ولك المهر الذي تطلبه والمؤخر الذي يضمن مستقبلها".
كان جمال الإبنة يثير مخاوف الأهل لكثرة الخطاب، ولكنهم "كحيانين".. رغبتهم بالزواج منها يحركه جمالها. هذا لا يطمئن الأهل من ستر ابنتهم وراحة بالهم من زوج بالكاد يعيل نفسه ، ولا يفكر إلا بليل الدخلة..
اغرق التاجر بيت والد مريم بكل ما لذ وطاب من خضار وفواكه شهية، اراد الأب ان يرده، ولكن قلة ذات اليد، وسعادة اطفاله بهذا الخير الدافق، جعله يمتنع عن الرفض الفوري ويتمهل مفكرا حائرا في أمر ابنته.
وحتى لا يتحمل وزر خطيئة ابنته يوم الحساب، فيما لو حدث مكروه في المستقبل، قرر ان يجمع رجال العائلة، اخوالها وأعمامها ليبلغهم بالأمر طالبا مشورتهم.
قالوا رأيهم بلا تردد وبلا خلاف ان البنت كبرت و"عيون الشباب الصايعين عليها"، والبنات قليلات عقل ودين مثل سائر النساء، هذا حكم ديني واضح، وان ستر البنت ثلثي الدين. والرجل البالغ المجرب أفضل من الشاب "الكحيان" الذي لا يطمع من البنت إلا بالمضاجعة والتشاطر عليها برجولته، والتفاخر انه نكح أجمل بنت في البلد، ثم تذهب الفرحة ويبدأ الجد، فيبرحها ضربا وكأنها المسؤولة عن قلة الرزق، وربما "يأخذها لحما ويرميها عظما".
تاجر الخضار تصرف بشرف وقدم ضمانات، عاد لوالدها يطلب يدها واضعا الشروط على نفسه قبل ان تُطلب منه، تعهد بضمان بيت شرعي لها، تلبية كل احتياجاتها، مهرها المقدم والمؤخر، وانه لن يبخل على والدها، بل فتح لهم قلبه ويده ، وجعلهم لا يشعرون بنقص في مأكل او مشرب. "فهل يرفسون هذه النعمة؟"
لا تعرف مريم كيف زُوجت. لم يسألها أحد أُلبست فستان أبيض جاءت سيارة وحملتها الى بيت زوجها الجديد. كان البيت مجرد غرفة نوم ، ملحق به حمام عبارة عن حفرة بالأرض فهمت انها للصرف الصحي ، لم تتوقع ما جرى لها في الليلة الأولى، شعرت انها فريسة في قفص مع وحش مفترس. وضع فمه فوق فمها كاتما أنفاسها ولجها وهي تصرخ وتطلب الرحمة متوقعة الموت بين لحظة وأخرى. عندما نال وطره منها نزل لمخدع زوجتيه وهو يبتسم ويجعر ان المرة الأولى دائما صعبة وبعدها ستتعلم انها متعة الحياة. تمنت لو تفارق الحياة وهي مذهولة من الدماء التي تلوثها.. ولم يكن حولها لا ام ولا أب لتشكو همها او لتفهم ما جرى لها..
مع مرور الأيام لم تجد لغة مشتركة مع زوجتيه . مجرد تناول الطعام على طبلية واحدة. عشرات الأيدي تتخاطف اللقم من نفس الصينية. أغلب الأحيان لم تشعر برغبة في الطعام، كانت تكتفي بما يسد الرمق..وتقضي معظم وقتها منعزلة تبكي، لا تعرف متى يحل الخلاص مما هي فيه، وكم اشتاقت لأمها، لتشكو همها وتسأل عن الذنب الذي ارتكبته لتعاقب بهذا الشكل، ولكن لا زيارات ولا اتصالات، ولم تجرؤ ان تطلب من الوحش الذي يفترسها بعد العشاء، ان يأخذها لزيارة أهلها. لم تعرف منه إلا وزنه ورائحته النتنة فوق الفراش وأنفاسه الثقيلة وصوته الذي يشبه نهيق الحمار وضحكته الكريهة بعد ان ينهض عنها راضيا عن نفسه..يتركها مذهولة باكية يأكلها القرف من حياتها.. داخل "الزنزانة" التي فهمت انها بيتها الشرعي!!
فجر احد الأيام استيقظت على صراخ الضرتين وبكائهما، صراخ مخيف اشعرها ان مصيبة قد وقعت، بعد لحظات فهمت ان زوجها خرج باكرا كعادته، ووقع بين سيارته وشاحنة كبيرة تصادم مروع، وانه فارق الحياة. لم تشعر بألم ما، بل شعرت بانتهاء كابوس مرعب، كانت تصلي لله ان يميتها ويخلصها من عذابها، فها هو يستجيب لها، أبقاها حية وأمات زوجها الهرم.
جاء والديها لحضور مراسيم الأجر. اختلت فيها امها تشرح لها حقوقها من الميراث ولم تكن تفكر إلا بأنها تخلصت من كابوس مرعب. بكت امها:
- بعدك صغيرة وترملت.. رحمتك يا رب.
- بل شكرا يا رب على لطفك..
- عيب يا مريم.. الرجل زوجك ..
- رمتوني كما ترمى عظمة للكلب. لا اعرف معني الزوجية. كان كابوسا رهيبا انقذني منه الرب. نعم،ارملة شابة ولا زوجة لوحش مفترس..لا اعرف منه إلا رائحته وكأنه يحمل حظيرة خنازير بجسمه وأنفاسه.
- اخرسي انه زوجك.
- لم أختره.. ولم أشعر باني امرأة معه.. بل فريسة يتلذذ بها ولا تعرف من علاقتها معه إلا رائحته المقززة وشهوته الحيوانية...
صمتت امها بحيرة، وهمست ترجوها ان لا تتفوه بشيء مما قالته امام والدها ورجال العائلة الذين نصحوا والدها المتردد بتزويجها. فردت بحرقة غضب:
- بئس الرجال اذا كان هذا تفكيرهم وقرارهم.
عادت مع والديها، لم يكن "زوجها المّلاك والذي يسيل لعاب الشياطين من كثرة أمواله" يملك ما يستحق ان تتقاسمه مع زوجتيه. كان نصيبها بضعة آلاف من الليرات حصتها من تعويضات شركة التأمين لموته بحادث طرق، الحديث عن املاكه كان كذبا، اذ كل ما يملك مرهونا مقابل قروض بنكية.
كثر الخطاب للأرملة الصبية من المطلقين والأرامل وكبار السن والراغبين بإكمال دينهم بزوجة ثانية وثالثة ورابعة، ولكن مريم لم تعد تلك الطفلة التي يمكن ان يقرر لها "كاملي العقل والدين" مرة أخرى، "حتى لو جزت رقبتي بالخنجر" كما اصرت رفضا للخطاب.
وجدت عملا في مخيطة قريبة من القرية، سرها ان تخرج للهواء الطلق، تتنفس بحرية لأول مرة في حياتها، تعاشر زميلاتها في العمل، يأكلن سوية، يضحكن سوية، ويقلقن الواحدة على الأخرى وكأنهن من رحم واحد.. يتحدثن بطلاقة وبلا وجل عن مشاكل الزواج والأولاد والرجال الذين لا أمان لمعظمهم. الأهم شعورها بأنها فتاة حرة،أخذت مصيرها بيدها. ليست ناقصة عقل، او ناقصة دين. بل "أبيع عقلا لمن يريد من الرجال" كما كانت تقول ساخرة بشكل يثير الضحك بين العاملات.
لم ينفع تدخل الأقارب لزجرها عن الخروج الى العمل بحجة ان "بنات عائلتنا كرامتهم في بيتهم وليس بالعمل في المصانع مثل الرجال". كانت ترد بغضب وجرأة "عن أي كرامة تتحدثون يا رجال العائلة الشرفاء، عن تزويجنا من هرم قذر مقابل بعض الخضار والفواكه؟"
الحقيقة يجب ان تقال ، خروجها للعمل وفر لوالدها تزويده بمصروفات اساسية هامة، فآثر الصمت وعدم التدخل بين ابنته وأخوالها وأعمامها طويلي اللحى.. كان يخاف فعلا ان تقتنع مريم بالجلوس في البيت.. كان يردد بشيء من الوجل وبصوت متردد خافت: "لا تضغطوا على البنت ، أخطأنا بتزويجها، وهي تثبت انها أهل للثقة". ويصر رجال العائلة:
- لماذا ترفضين الزواج .. تقدم لك أحسن ناس في البلد؟
- زوجوهم لبناتكم.. لست معروضة للبيع مرة أخرى.
- سنتبرأ منك للأبد.
- يا مرحبا ويا هلا..هل تريدون توقيعي على البراءة؟
ارتفت يد أحدهم بمحاولة لصفعها.
-الذي يمد يده علي سأدخله السجن ولو كان ملك الملوك.
انفض مجلس الرجال خائبا.
أسرن لها زميلاتها ان صاحب المصنع يلاحقها بنظراته، وانه معروف بمغامراته الكثيرة، فخذي حذرك منه. لم يكن ذلك مفاجئا، لاحظت من يوم قبولها ، ان جمالها كان المقرر في استيعابها للعمل. كان يدعوها لمكتبه ويكلفها باعمال شبه مكتبية، ترتيب، تلحيق تسجيلات، كتابة وصولات بيع، ارسال البريد، الذهاب لإحضار البريد، تسجيل ساعات العمل، توزيع شيكات الأجور.. وغير ذلك من الأعمال التي اشعرتها انها تتحمل مسؤولية إدارية وانها عنصر فعال ونشيط وليس خاملا..
لم تكن غافلة عن نظرات صاحب المصنع، وكلماته التي تحمل الكثير من التلميحات. الأمر لم يقلقها. تعرف ما تريد، تعرف الى أين تتقدم.
صاحب العمل في العقد الرابع، له نظرات حادة، ووجهه يعطيه ملامح شبابية أكثر من جيله، أعزب لأنه على ذمة العاملات: "لا يستطيع الإلتزام بامرأة واحدة".
سألها يوما بدون مقدمات:
- انت نشيطة وتتقنين العمل،اريد ان انقلك للعمل كسكرتيرة للمكتب، هل تعرفين الطباعة واستعمال الحاسوب؟
- قليلا.. تعلمت في المدرسة وتنقصني الممارسة.
- لا باس ، سارشدك.. وانا على ثقة انك الأنسب.
التصق بمقعدها ساعة كل يوم لمدة اسبوع بحجة ارشادها على الحاسوب وطلب منها ان تتمرن على الطباعة. كانت تشعر بأنفاسه تلاطفها، بل وتلمس رغبته القوية بالبقاء بلصقها وتنشق رائحة جسدها. تصرفت بشكل طبيعي دون ان تظهر ارتباكها، لكنها لم تعطه الفرصة ليتجرأ بالمزيد...
قررت ان ترتدي في عملها بنطال جينس، وبلايز طويلة الأكمام لا تكشف من الصدر الا قيراطين تحت الرقبة، متحججة بأن المكيف يسبب لها البرد.ولكن البنطال كشف عن قوام فتي ممشوق، غموض ما لا يظهر مثير أكثر.
كان صاحب المصنع يدعوها ليطلع على تفاصيل المبيعات وتركيز ساعات العمل والبضائع المختلفة التي تصل للمصنع، كانت على علم انه مطلع تماما على كل التفاصيل عبر شبكة تصل بين الحواسيب.ولكنها تقوم بما يطلب منها بمنتهى الجدية والتلقائية، وتتلذذ بمراقبة خشوعه عندما تشرح له ، وهي متأكدة انه لا يستمع لشرحها، بل يفكر بها، يتأمل قوامها ووجهها المشرق وحيويتها المذهلة بجاذبيتها، ربما يضاجعها في خياله. يجعلها رقما جديدا في سلسلة مغامراته.
وتفاجئه:
- هل تريد اضافة ما؟
- شكرا .. كل شيء واضح. انا سعيد جدا لاتقانك ادارة المكتب، بت اعتمد عليك ولا ارى المصنع بدونك. كل من يتعامل معنا يحسدني عليك..مديرة بكل معنى الكلمة، دقيقة تماما، جميلة وتشعين الهاما حولك.
ولولا جديتها المبالغة، لتجرأ أكثر.
كانت تتلاشى الرد على تلميحاته الغزلية، مما جعلها تيقن انه يعيد التفكير بحياته، وبمستقبله، وان نجاحه في عمله سيظل ناقصا بدون "...." تهمس لنفسها بسرها الصغير.
تقوم اليه بتصميم. تقف امامه بقوامها الممشوق، وطلتها الساحرة لتستفسر عن موضوع ربما تعرفه أفضل منه، يجيبها شاخصا بنظراته اليها، تشكره بابتسامة تسرق لبه، كأنها تقول له بعينيها ووجهها المتألق المشع كنجم ليلي: "ها انا ملكة، اعرف مكامن سحري، واع جمالي الذي يسرق الألباب، لست للبيع بصحارة خضرة. ولا بإغراء وظيفة، ولا بمال. لا امنح نفسي إلا لمن يختارني وأختاره بحرية كاملة ومساواة كاملة".
استدعاها بجرأة فجر أحد الأيام. كانت لهجته آمرة.
- مريم اريدك لحديث خاص جدا. اقفلي باب المكتب رجاء.
جلست امامه بأناقتها، وابتسامتها التي تخلب لبه.
- هل يريحك العمل معي؟
- انت اعدت لي إنسانيتي العمل معك اثراني ووسع عالمي، لم اعد طفلة مغرورة، ولم اعد فتاة يمكن التلاعب بعواطفها ومصيري اضحى بإرادتي الحرة.
- مريم.. اعذريني على صراحتى، وتحمليني.. لم التق طيلة حياتي بامرأة بمثل جمالك ورجاحة عقلك، واعترف اني مسحور بك ...
- هذا يرضي غروري طبعا حين أسمعة من إنسان أحترمه وأحترم ما انجزه .
- انا في اواخر العقد الرابع يا مريم، وانت أصغر مني بعقدين. فكري جيدا، ولن اغضب لقرار لا علاقة له بعملك ...هل تقبلين الزواج مني؟
- لكني أرملة .. هل فكرت بذلك؟
- انت إمرأة رائعة، الأرملة انسانة ايضا.. هل الترمل جريمة؟ سأكون اسعد انسان اذا قبلت ان تكوني زوجتي؟
طأطأت رأسها بشعور من تحقق حلم كبير، ارادت اخفاء دفق السعادة الذي شعرت به يتفجر من وجنتيها. واختارت كلماتها بتأن ودمعتين تترقرقان في مقلتيها:
- المرأة التي ترفضك تكون بلا عقل، انت انسان رائع ويسعدني ان اكون
شريكتك في الحياة.
*****
لم تعد مريم عاملة في المصنع، صارت صاحبة المصنع تتحمل ادارته بنجاحه وفشله. زوجها تذمر من تدخلها المبالغ، ارادها أكثر في البيت، ربما لرغبات لم يفصح عنها. وأرادت ان تكون نشيطة أكثر في العمل.
مع زوجها شعرت بانثويتها لأول مرة، وأحبتها.
السنوات الأولى لزواجها الثاني كانت مليئة بالحب والتفاهم، لم يرزقا بأطفال رغم كل المحاولات. غياب طفل جعل التنافر يزداد بينها وبين زوجها. خلافات حول ادارة العمل، خلافات حول مسؤوليات البيت. خلافات حول برامج ألتلفاز
كان يحاول ان يعيدها امرأة تقليدية، كانت تثور وتصر ان زمن العبودية للنساء انتهى. عرفت عن بعض مغامراته النسائية ألجديدة، فاتحته  فغضب. انكر ثم اعترف وقال "اذا لا يعجبك الحال الله وعلي معك انا رفعتك من الفقر الى أليسر
- لن تقترب مني أكثر..
- لي حقوقي الزوجية
- ولي حرمة بيتي وحقي بان لا يخونني زوجي.
- انت كنت صفرا، وانأ صنعت منك ما انت عليه اليوم.
- بدوني كنت ستخسر كثيرا.. اصبحت شريكتك في كل شيء. مغامراتك ستدمر المصنع ولن اسمح لك بذلك.
- انت طالق.
- لن اقبل صفة مطلقة. تزوجتني أرملة فأعدني ارملة.
ثار غضبه وخرج مثل الطلق لا يلوي على شيء. شغل محرك سيارته وانطلق بسرعة جنونية. لم يبتعد كثيرا ، أقل من خمسمائة متر، فقد السيطرة على سيارته المنطلقة بسرعة جنونية. اصطدم بعامود كهرباء وفقد وعيه.
لم يكن امام المسعف وفرقة الاطفاء التي اخرجته بعمل مضني وقص لأبواب السيارة المدمرة، إلا الإعلان عن وفاته.
*****
بنت له قبرا جميلا، يعتليه شاهد من الجرانيت الايطالي الثمين. هو يستحق ذلك. نُقش على الشاهد أسمه تاريخ ميلاده ويوم وفاته وصورته. في وسط الشاهد نُقشت كلمات أخرى بناء على طلبها:
"ارسل اليك يا الهي بفرح كبير زوجي العزيز، الذي تزوجني ارملة فقيرة وتركني أرملة غنية، كان زوجا مخلصا لعشر سنين كاملة فهو يستحق لذلك الغفران، انا غفرت له مغامراته الأخيرة ،وأرجو ان تغفر له أنت أيضا".
nabiloudeh@gmail.com

66
لا واجبات متساوية بدون حقوق متساوية



بقلم : نبيل عودة

الطوشة العمومية في اسرائيل حول موضوع الخدمة الوطنية والمدنية تشتد وتتحول الى مناطحات حزبية وانشقاقات في الحكومة وتمرد أحزاب إئتلافية على رئيس حكومتها، والقاسم المشترك بين الجميع المكاسب الانتخابية في الانتخابات البرلمانية المتوقعة قريبا. المميز ان رئيس الحكومة نتنياهو كعادته،غائب عن القرار وهدفه الأساسي اطالة عمر حكومته. ما هو موقفه؟ هذه أحجية كبيرة أضفت عليه صفة "رئيس الحكومة الذي لا يقرر".
لا يهمني موضوع المتدينين المتعصبين اليهود (الحراديم) انما يهمني اسلوب طرح موضوع الخدمة المدنية على العرب في اسرائيل بمقاييس لا تتلاءم اطلاقا مع خصوصيات المجتمع العربي. من جهة ارفض اسلوب الأحزاب العربية وتوجهها، ولا ارفض موقفها بحد ذاته، انما قصر نظرها وعجزها عن مواجهة الطرح بطرح سياسي وبرلماني وقانوني مناسب. الرفض ليس موقفا، انما تعبير بدائي عن اتجاه. مبررات الرفض التي قدمت لا تخدم استراتيجية النضال السياسي للعرب في اسرائيل. مما يثير المخاوف ان فهمهم قاصر حول دوافع المشروع.
الرفض بدون تبرير يعتمد الحجة القانونية والفكرية ليس سياسة ولن يكون سياسة، هذا موقفي منذ طرح مشروع الخدمة المدنية في اسرائيل عبر "لجنة عبري". كل ما استطيع تسجيلة من مواقف الأحزاب العربية وممثليها هو الرفض دون طرح فكر سياسي بعيد عن مجرد التلويح بشعارات الصراخ بلا منهج عمل، ودون الانتباه للناحية الأكثر خطورة من المشروع الجديد، بالتالي لا يبرزون جوهر مطالب الجماهير العربية ليفهم المواطن اليهودي حقيقة الموقف العربي ، نحن لا نخوض نضالنا في فراغ، عداء السلطة للجماهير العربية هي سياسة مبرمجة، الرد على هذه السياسة يحتاج الى استراتيجية سياسية مبرمجة وبعيدة المدى،تأخذ بعين الأعتبار أهداف الأقلية العربية الفلسطينية في اسرائيل كمجموعة سكانية لها خصوصيتها، ويفترض طرح تعريف هوية ذاتية تشمل مختلف مجالات الحياة، السياسي ، الثقافي، الاقتصادي، التعليمي، الاجتماعي، القانوني، المدني وكل ما يخص مجتمع بشري من مميزات ومطالب جوهرية وعلى راسها سياسة الأراضي والتخطيط ويشمل مصادرة الأرض العربية لمصلحة أهداف يهودية مثل مشاريع اسكان يهودية على حساب البلدات العربية وتطورها، السلطات المحلية والمساواة في الميزانيات، الرفاه الإجتماعي، الخدمات الصحية، موضوع الهوية، الثقافة والتعليم، التطوير والعمل واقامة مناطق صناعية والتصنيع ، القوانين والمجتمع العربي وغير ذلك.
هذه القضايا كانت وراء انتفاضة العام 2000 ولا ارى ان الواقع تغير رغم تقرير "لجنة اور" التي بحثت وحققت بموضوع الإنتفاضة ووضعت توصيات ايجابية هامة، لم ينفذ منها شيء ولم أسمع ان أحزابنا قلقة من تجاهل تلك التوصيات رغم نقصانها. كذلك هناك تقرير أكاديمي أكثر أهمية قدم أيضا على أثر انتتفاضة العام 2000 الى رئيس الحكومة في وقته ايهود براك، اعده باحثين جامعيين يهودا وعربا من المستوى الأول في اسرائيل ، تحت عنوان "بعد الأزمة – اتجاهات جديدة لسياسة الحكومة بخصوص العرب في اسرائيل" طرحوا في تقريرهم دراسة علمية مفصلة للمشاكل التي يعاني منها المجتمع العربي واقتراح الحلول. وهذا التقرير الأكاديمي يصح ليكون مستندا سياسيا علميا لسياسة عربية تواجه المؤسسة العنصرية للسلطة في اسرائيل لا تعتمد على "ادعاءات عربية" بل على توثيق طرحه الأكاديميون اليهود والعرب من ذوي الأسماء الأبرز في اسرائيل، ولن يدعي عندها أي موبوء بالعنصرية والعداء للجماهير العربية انه موقف عربي هدام وسلبي.
اسجل هنا مسألة جوهرية أكدها التقرير أيضا، أن الاجحاف والتمييز الذي تمارسه المؤسسة الحاكمة ضد الأقلية العربية في اسرائيل ليس وليد الصدفة، لن ينتهي بمجرد ان حكومات اسرائيل تقوم بزيادة المصادر المالية للوسط العربي. المطلوب تغيير جوهري يطرح فيه من جديد تعريف للأهداف العليا التي توجه سياسة المؤسسة الحاكمة بخصوص المواطنين العرب. هذا يعني ملاءمة التفكير والتخطيط في كل مستويات ونشاطات المؤسسة الحاكمة في التعامل مع العرب في اسرائيل. وفي اقتراح المساوة في الخدمات (أي التجنيد الألزامي للخدمة المدنية) هناك تجاهل لسياسات التمييز العنصري والإضطهاد القومي المتواصلة منذ نكبة شعبنا الفلسطيني، واستمرار سياسة الاحتلال والقمع ضد شعبنا الفلسطيني في المناطق المحتلة بعد 1967 ، ورفض الاعتراف بحقه في الحرية واقامة دولته المستقلة، الذي يجب ان يطرح كجزء من المساواة في الحقوق.
لست واهما من امكانية حدوث مثل هذا التغيير الجوهري من تقرير او توصيات لجان قانونية، لأنه ببساطة سيكون تجاوزا للمفاهيم التي بنيت عليها سياسات السلطة الصهيونية حتى قبل حرب 1948.لكن يوجد بايدينا سلاح سياسي اكاديمي موثق وقانوني وهام. اسرائيل ليست مؤسسة سلطة فقط، بل مجتمع بشري أيضا يشمل كل الأطياف السياسية، ومن يتوهم اننا سننجز أهدافنا بدون تجنيد اليهود العقلانيين، وهم قوة هامة اثبتت نفسها في الانتفاضة الاجتماعية وفي المهرجانات الضخمة من أجل السلام وضد الاحتلال والحرب، هو واهم.
الطرح سابقا كان في اطار خدمة تطوعية مدنية، أي خدمة غير ملزمة . اليوم يطرح مشروع الخدمة الإلزامية، وراء هذا المشروع تقف أكثر الأحزاب عنصرية وفاشية في اسرائيل. والفاشي الصغير مارزل جاء الى الناصرة كي "يجندنا" لنقاتل الأعداء حولنا، وانا لا ارى أعداء من حولنا أكثر منه ومن سوائبه المستوطنين. دعوة مارزل مقبولة!!
تبريرات الرفض للخدمة المدنية التي طرحتها الأحزاب العربية ضعيفة وغير مدروسة وظرفية. لا بد من فهم أعمق لصياغة موقف مضاد، يفضح جذور ما تدعيه السلطة عن "واجبات مقابل حقوق".
مشروع الخدمة المدنية السابق كان يمكن استغلاله، ومعلوماتي الموثوقة تقول ان قيادات لجنة المتابعة العربية العليا في وقته تحمست جدا لتفاصيل مشروع التطوع المدني (غير الإلزامي)الذي قدم لها وكان طموحه لا يتجاوز انضمام عشرات الشباب كل سنة للتطوع في مؤسسات اجتماعية مختلفة داخل المجتمع العربي، تشرف لجنة المتابعة على توزيعهم في المؤسسات المدنية العربية، ولكن اعتراض هيئة داخلها جر اعتراضا واسعا ، وسرنا في "جنازة حامية والميت كلب". الموضوع صار وراءنا.
حول المشروع الجديد قرأت مقالات لعدد من الأكاديميين والمثقفين العرب يدعمون فكرة الخدمة المدنية، وهي فكرة لا ننكر أهميتها، ولكن الإطار الذي تطرح فيه الخدمة الإلزامية اليوم يختلف عن الإطار السابق التطوعي الذي أيدته انا شخصيا أيضا بصفته خدمة اجتماعية مدنية تطوعية وغير الزامية للمجتمع العربي ومؤسساته . الفكرة اليوم تحمل أهدافا مختلفة ، وهذا ما حثني للكتابة وطرح وجهة نظري.
الإقتراح اليوم، خدمة مدنية الزامية ( ليست تطوعية) مرفوض من جذوره، ولكني لم أسمع تبريرات رفضه بمنطق سياسي عبر طرح حقائق التمييز الموثقة التي تتعلق بسياسات المؤسسة الحاكمة،بكل ما يخص الأقلية العربية. التعامل في السياسة يحتاج الى اخضاع كل العوامل من اجل احداث تغيير لصالح المجتمع الذي ندعي اننا نمثل مصالحة العليا.
الحجج التي تطرح ظرفية تماما، بعيدة عن العمق في فهم صياغة استراتيجية وتكتيك مناسبين لمواجهة الإقتراح. الحالة الآن تختلف عن الحالة السابقة(التطوعية) معظم ما يطرح يستند الى ان الرفض هو لأن اقتراح التجنيد للخدمة المدنية هو خطوة نحو التجنيد في الجيش. هذا بعيد عن الواقع بُعد الأرض عن الشمس. لا رغبة ولا تفكير في السلطة الصهيونية لتجنيد عرب في جيش الاحتلال والعدوان. هذا الأمر لا يحتاج الى بحث في الكنيست واقرار قانون حوله، لأنه قانونيا قائم وجرى ايقاف العمل به بقرار وزير الدفاع ورئيس الحكومة الأول دافيد بن غوريون في بداية الخمسينات من القرن الماضي، الأسباب التي دفعته لوقف تجنيد العرب في الجيش ما زالت قائمة بل أصبحت أكثر حدة وخطورة من وجهة نظر المؤسسة الصهيونية السياسية والعسكرية. تجنيد العرب يحتاج الى أمر من وزير الدفاع يلغي فيه قرار وزير الدفاع الأول بن غوريون. لا ارى ان اسرائيل الرسمية معنية بالتورط مع جنود عرب معادين لسياسة الاحتلال والتمييز العنصري، سياسة العدوان والحرب ضد شعبنا وضد شعوبنا العربية. السلطة الصهيونية تعرف اننا لن نقاتل ابناء شعبنا، بل سنناضل مع شعبنا ضد احتلال ارضه وضد سلب حقوقه داخل اسرائيل أيضا، سنقف ضد الفاشية ممثلة بباروخ مارزل وعصابات الفاشيين ولن نوفر الحماية لسوائب المستوطنين واعتادءاتهم على شعبنا الفلسطيني، شباب عرب مسلحين هم مشكلة مخيفة ومرعبة للسلطة الصهيونية واستمرار سياستها العنصرية.
لا اريد ان اقول انها غير محقة بذلك.حجة "خطوة لتجنيد العرب في الجيش" باهتة وصبيانية.
اذن نعود لموضوع الخدمة المدنية الإلزامية كما تطرح اليوم، بتعريفها انها خدمة غير أمنية. الطرح يبدو نظيفا من أهداف عنصرية . هل حقا الأمر كذلك؟
عندما يطرح موضوع الخدمة المدنية كخدمة الزامية من منطلق واجبات مقابل حقوق ( لا نحصل عليها) ، لا بد ان نلاحظ ان الخدمة الألزامية المقترحة لن تكون مخصصة بشكل كامل للمجتمع العربي ومؤسساته، بل خدمات مدنية لكل المجتمع الاسرائيلي الذي نعاني فيه من تمييز في جميع مجالات الحياة، ونموذجا على ذلك ميزانيات التعليم التي تبلغ حصة الوسط العربي منها ما يقارب 7% بينما يشكل الجمهور العربي 20% من المواطنين، وعدد طلابه نسبتهم أكثر من نسبة المواطنين.هذا نموذج صغير والتمييز في سائر الميزانيات والمخصصات أكثر سلبية وحرمانا للجماهير العربية. البطالة مثلا تزيد أضعافا عن الوسط اليهودي ولا توجد مخططات لمشاريع تنموية للوسط العربي اسوة بما يخصص للوسط اليهودي. اذن نحن امام حالة جديدة ومختلفة. ماذا يخفي المشروع الجديد؟ ما هي تبريراتنا؟ كيف نواجه الاعلام النشيط لجهاز السلطة ؟ الم يحن الوقت لنفهم اننا نواجه ماكينة اعلامية صهيونية مشحمة جيدا؟ هل سنظل ارتجاليين؟
اوافق ان واقعنا السياسي ليس واقعا طبيعيا. لكن السياسة ليست كل الحكاية. الى جانب ذلك نحن مجتمع مدني. من المفروض ان لنا حقوقا مدنية، حقوق مواطنين، حقوق انسان، حقوق بالتطور، حقوق بالميزانيات، حقوق بالتعلم وتطوير مرافق التعليم، حقوق بتوسع مسطحات بلداتنا التي صودرت اراضيها وتمنح بلا حساب للبلدات اليهودية، حقوق بمناطق صناعية لا تبقي بلداتنا فنادق للنوم للعمال الذين يعملون في الصناعة والخدمات والمشاريع في المدن اليهودية، حقوق في السكن وتطوير البنى التحتية، حقوق في العمل وليس اتساع البطالة بشكل يتجاوز عدة أضعاف لواقع البطالة في المجتمع اليهودي. هناك تمييز في المجال القضائي أيضا. هناك استبعادنا من الوظائف الحكومية رغم كل وعود السلطة بالتمييز لصالح العرب،هناك حقوق طبية، لم يبن أي مستشفى حكومي في الوسط العربي، والمستشفيات العربية هي مستشفيات ارساليات مسيحية تعاني من تمييز كبير أيضا. جامعة في المناطق المحتلة تخصص لها الملايين بلا حساب، رغم اعتراض الجهاز الأكاديمي وتحذيره من رد الفعل الدولية على اقامة جامعة في المناطق المحتلة، بينما مشروع جامعة عربية في الناصرة لا يحظى بأي دعم وتقام العراقيل أمامه.
يطرحون الواجبات مقابل الخدمات. الحقوق المتساوية هي الوجه الآخر للواجبات.لا واجبات متساوية بدون حقوق متساوية. هذا من جذور النظام الديمقراطي، لكنه غائب،او مغيب،من الوسط العربي.
ما العمل؟
لا بد من تعريف هوية ذاتية تشمل المجالات الحياتية كلها، المجال السياسي، الأقتصادي، الثقافي ، التعليمي، القانوني، ومكاننا كأقلية قومية، وعلاقاتنا بشعبنا الفلسطيني وطرق تواصلنا معه ودعمنا لنضاله.
المطلوب تغيير جوهري يضمن تعريفا للأهداف العليا التي توجه سياسة السلطة الحاكمة في اسرائيل وملاءمة التفكير والتخطيط في كل مستويات النشاطات العامة للمؤسسة الحاكمة بكل ما يتعلق بأهداف التعامل مع العرب في اسرائيل، ومع ابناء شعبهم في المناطق الفلسطينية المحتلة او شبه المحتلة، على راس ذلك فحص برلماني لجدية اعلان رئيس الحكومة نتنياهو في خطابه في جامعة بار ايلان، عن قبوله مبدأ دولتين لشعبين.
بالطبع لست واهما ولا انتظر عجائب سياسية من المؤسسة التي بتنا نعرف تفكيرها ونهجها. ما اعرفه اننا نملك حقائق يجب ان نطرحها امام الجمهور الاسرائيلي وامام الراي العام الدولي.
مثلا ما هو تعريف المواطن في اسرائيل؟ من هو الاسرائيلي حسب مفاهيم المؤسسة الحاكمة؟هذا يفترض اعادة صياغة وثيقة جديدة حول الحقوق والواجبات المتبادلة بشكل متزن ودون تفضيل طرف على حساب طرف آخر على اساس عنصري.
اسرائيل تصف نفسها يهودية صهيونية . العرب ليسوا يهودا وليسوا صهاينة ولن يكونوا، العرب يطرحون دولة كل مواطنيها، دولة مدنية ديمقراطية وليست دولة عنصرية حتى في نشيدها القومي ورموزها.اذن التعريف من جديد هو جزء من الحقوق ومن واجب السلطة امام مواطنيها، خاصة المواطنون العرب. هذا جزء من الحقوق المدنية وحقوق المواطنة، رفضه هو نفي للحقوق، لا واجبات بدون حقوق. لا افهم بالقانون، لكني المس هنا مضمون قانوني ضد فرض التجنيد على مجموعة سكانية غير معترف بها مواطنين متساوي الحقوق، مميز ضدهم في الميزانيات وفي كل مرافق الحياة الأخرى وتوصيات اللجان التي تقيمها الحكومة نفسها لا تنفذ والدولة بتعريف هويتها لا تشملهم ، بل تنقلهم الى وضع مواطنين غير قانونيين.
الجمهور اليهودي الحرادي ( المتعصب) معفي من التجنيد بسبب قوة أحزابهم السياسية داخل الإئتلافات الحكومية، لا واجبات تطلب منهم ولكنهم يحصلون على حقوق حتى المجندين اليهود لا يحصلون عليها. رغم ذلك أحد القادة التاريخيين لحزب العمل ، عوزي بارعام، طرح فكرة ممتازة في مقال له نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم" بتأكيده ان المساوة في الواجبات، يجب ان تبدأ بالتعليم، أي اخراج الشباب اليهود من ما يلقنوا به في التعليم الديني المتزمت الى دراسة المواضيع العلمية والرياضيات ، طبعا لم يذكر انهم يحصلون على ميزانيات خاصة وعادية أكبر من أي وسط آخر في اسرائيل. من هنا رؤيتي ان الواقع العربي مختلف,التمييز في العديد من القضايا هو حاجز لا يمكن تجاوزه بقرار برلماني يفرض التجنيد على العرب بحجة واجبات مقابل حقوق.
أخطر الأهداف من المشروع الجديد، وهذا يلزم دراسة من باحثين تعتمد على معطيات صحيحة، هو ان فرض التجنيد المدني الإلزامي على العرب يعني فقدان الفرص أمام مئات الشباب العرب من مواصلة تعليمهم الجامعي اذا لم يواصلوا فورا تعليمهم كما هو سائد اليوم، ونعرف عن محاولات سن قوانين عنصرية تمنع انتساب الطلاب للدراسة الجامعية الا بعد جيل ال(21)، المقصود من تلك القوانين ( حتى الآن يدور حديث حولها) التضييق على الطلاب العرب الذين يواصلون دراساتهم الجامعية بعد الثانوية مباشرة (بجيل 18 سنة) ، بالتالي سيضطر المئات من الشباب الى الدراسة في الخارج، هربا أيضا من التطوع الإلزامي، هذا يعني أيضا التورط بمشاكل قانونية تمنع عودتهم بسبب العقاب المتوقع الذي يفرضه قانون الخدمة الإلزامية، وربما يمنع سفر الشباب للخارج بدون اذن مسبق من مديرية التجنيد. هنا الإشكالية الكبيرة والخطيرة.
ليس غريبا ان بعضهم سيندمج في المجتمعات الغربية التي دراسوا فيها او بغيرها، وهي ظاهرة قائمة اليوم بنسب صغيرة ولكنها ستتسع مع قانون التجنيد الإلزامي ، سنواجه مشكلة تفريغ المجتمع العربي من ابنائه الجامعيين، البطالة مرتفعة بينهم حتى بدون قانون التجنيد، بعضهم يهاجر يأسا للبحث عن فرص عمل في دول أجنبية.
هذا هو الخطر الأكبر. كيف سيكون مجتمعنا بعد عقد او عقدين من بدء تنفيذ قانون التجنيد الإلزامي؟
بيبي نتنياهو له صيغة مشهورة في تعامله مع الفلسطينيين :"يعطوا يأخذوا ، لا يعطوا لا يأخذوا" لماذ لا يطبقها حضرته مع العرب الذين يعطون ويعطون ولا يأخذوا مقابل عطائهم الا التمييز العنصري وتفليت الفاشيين للتحريض عليهم في بلداتهم؟ عدا المسرحيات البرلمانية العنصرية لسن قوانين فاشية معادية للعرب في الكنيست لدرجة اقتراح قانون يمنعهم حتى من البكاء على نكبتهم وتشريد شعبهم وهدم قراه وسرقة تاريخه ومصادرة أرضه ورفض الاعتراف بدولته المستقلة حتى على جزء لا يتجاوز خمس مساحة وطنه؟
ها هم ابناء شعبنا الدروز فرض عليهم التجنيد الإجباري، ما هي الحقوق المساوية لليهود التي حصلوا عليها عدا المقابر العسكرية؟ لا مساواة في حقوق بل التمييز ضدهم لا يختلف عن سائر الجماهير العربية.من هنا أيضا الى جانب تعمق الوعي الوطني، اتساع ظاهرة رفض التجنيد الإلزامي في الجيش ، وللأسف هناك ظاهرة التجند على قاعدة تطوعية في الجيش والأرقام ليست صغيرة وتشمل كل الطوائف العربية.
ماذا فعلت احزابنا ، قائدة مجتمعنا المدني، لزيادة التوعية ؟ كيف ننقذ الاف الشباب من مقاهي الأرجيلة والسقوط في الجنح؟ كنا مجتمعا مثقفا في القرن الماضي فصرنا مجتمعا "مؤرجلا" في القرن الحادي والعشرين، نعيش ظواهر سلبية عديدة أبرزها وأخطرها تراجع الوعي الاجتماعي العام ، تضعضع الوعي الثقافي، الارتداد للعائلية وتنامي الطائفية المدمرة ، الا تستحق هذه الظواهر السلبية ان تشعل الاف الأضوية الحمراء؟!
ان ازمة الأحزاب العربية تبرز أيضا بنسبة التصويت المنخفضة جدا في الوسط العربي (53%)، وهذا رد فعل تلقائي على حالة اليأس والامتعاض من اسلوب ادارة المجتمع المدني العربي من أحزابه بصفتها الأجهزة المفروض انها تدير شؤون المجتمع المدني العربي. من هنا ارى وجود قطيعة بين من يطمحون ليكونوا قادة وممثلين للجمهور العربي ، وبين جمهورهم. ثلث ال (53%) الذين شاركوا في الانتخابات صوتوا للأحزاب الصهيونية. حساب بسيط يظهر ان جميع الأحزاب العربية التي تتنافس على قيادة الجماهير العربية وتمثيلها لا تحظى الا بثلثي اصوات المشاركين العرب في الانتخابات، أي ثلث مجمل كل الجمهور العربي في اسرائيل باحسن الأحوال. هذا نزع ثقة مرعب، لا ارى ان القيادات الحزبية متنبه لهذا الواقع وقادرة سياسيا وفكريا على تغييره.
طرح سياسة سليمة يعني رفع نسبة التصويت لتصل الى (80%) كما هو الحال في التصويت للسلطات المحلية.هذا سيزيد عدد اعضاء الكنيست ووزن السياسة العربية وتأثيرها في المجتمع الاسرائيلي عامة. انا غير متفائل من مستوى قادة الأحزاب وفهمهم لأهمية دورهم السياسي.لا اعني بالدور السياسي جعجعة الشعارات،بياعي الخضار أيضا يعرفون صياغة شعارات تزيد تسويق بضاعتهم، أعني العمل القانوني والبرلماني والشعبي المنظم. اعني التنسيق وبرمجة العمل النضالي وليس الارتجال والتشاطر للبروز قبل الآخرين. ما طرح من مواقف حتى اليوم حول التجنيد المدني، يثير مخاوفي اننا في الطريق الى المصيدة السلطوية.
ما يعرقل اقرار القانون حتى اليوم محاولة رئيس الحكومة ايجاد صيغة تبقى على تحالفة مع الأحزاب الدينية، بالنسبه له الجمهور العربي بقياداته واساليب النشاط والرفض المتبعة لا يشكل مشكلة او تحديا سياسيا .
ان موقفه المتردد من تجنيد الحراديم، حلفائه الدائمين والمخلصين في السلطة، سيسهل سقوطه السياسي كما يرى الكثير من المحللين السياسيين اليهود، وحسب آخر استطلاع للرأي الليكود بدأ يفقد الكثير من قوته السياسية والبرلمانية لصالح حزب العمل وأحزاب اليسار وحزب يائير لبيد (يش عتيد) الجديد.
لست ضد فكرة الخدمة المدنية الإجتماعية. لكني ضد فكرة واجبات متساوية بدون حقوق متساوية. هنا يجب تركيز معركتنا. المساوة بند اساسي لأي نظام ديمقراطي. المساوة في الواجبات ليست أمنية فقط، أي ليست عسكرية في جذورها. المساواة في الواجبات هي أكثر في الاتجاه المدني والإقتصادي والقانوني. لذلك اقتراح تجنيد العرب للخدمة المدنية دون تغيير استراتيجي في السياسة العنصرية للسلطة، نحو مساواة كاملة بين المواطنين اليهود والعرب واعتراف الدولة بهم كمواطنين كاملي الحقوق في تعريفها القانوني أيضا واسقاط التعريف العنصري دولة يهودية الذي ينفي مواطنة العرب، هذا لن يكون بدون تغيير مضمون سياسة التمييز العنصرية.
التجنيد المدني الإلزامي سيظل اقتراحا عنصريا مرفوضا يهدف جعل اللامساواة أكثر عمقا وأكثر خطرا على المجتمع العربي بظل استمرار السياسات العنصرية والتمييزية وفتح ابواب التشريع العنصري امام الأحزاب اليمينية المتطرفة.
كما أفهم، هذه هي طريقنا لمواجهة سياسات السلطة العنصرية باقتراح قانون التجنيد المدني وبمختلف المجالات.

nabiloiudeh@gmail.com

67
نســــــــــــــــــــاء...!

نبيل عودة

منيرة ورائدة صديقتان منذ أيام الثانوية. ربط بينهما رابط صداقة إنسانية أشبه بتلاحم جبلين لا يمكن الفصل بينهما. طالبتان تتمتعان بجمال خاص.. منيرة سمراء لها سحر الشرق، رائدة شقراء لها سحر الغرب. الأهل يتندّرون ان الشرق والغرب لا يلتقيان ولا يتفاهمان الا بمنيرة ورائدة. مرورهما في الشارع من البيت الى المدرسة صباحاً او من المدرسة الى البيت بعد انتهاء الدوام، يكاد يصيب الشارع بجلطة دموية توقف حركته... حتى عجائز البلد لا يتذكرون روحين بمثل هذا السحر الصارخ للسماء تمشيان على الأرض.
فجعت البلد بنبأ وفاتهما في يوم واحد.   
قال شيخ البلد: سبحان الله على حكمته. جعلهما صديقتين في الحياة وفي الممات!!
حكمة الله لا تناقش ولا اعتراض عليها الا من فاقدٍ للإيمان، البعض يثرثر سراً أن شيخ البلد قال مقولته بأجرة تزيد خمسة أضعاف ما يربحه في سنة كاملة.. لعلها أيضا من حكم الخالق!
ماذا يقصد الشيخ الجليل؟
هذه تفاصيل ما بقي في الذاكرة من سيرة الصديقتين... منيرة السمراء ورائدة الشقراء.
منيرة ورائدة تجلسان متلاصقتين داخل الصف، حتى مدير المدرسة لم ينجح في الفصل بينهما لتخيف الثرثرة أثناء الدروس.. فكان الانتصار الأول للصديقتين.
طيلة أيام العطل والصديقتان معاً. اذا نظّم أهل منيرة مشواراً ما، لا ترافقهم ابنتهم الا بضمان مرافقة رائدة لهم. والعكس صحيح ايضا. وهذا هو الانتصار الثاني.
هذه العلاقة وطّدت الصداقة بين العائلتين لدرجة التخطيط لمشاويرهما بشكل مشترك. وهذا النصر الثالث، وعلى الأغلب لا تتناول الواحدة طعامها الا برفقة صديقتها، وكثيرا ما كان تناول الغذاء في بيت واحدة والعشاء في بيت الأخرى. وهذا النصر الرابع والحاسم، لا ضرورة لانتصارات أخرى، لأن طلباتيهما باتت تنفَّذ على أكمل وجه.
 انهما "توأمان لم يلدهما رحمٌ واحد". كما كان يقول الأهل بسعادة لهذه الصداقة القوية التي أبعدت البنات، كما يظن الأهل.. عن الاستجابة لمعاكسات الصبيان والرجال المسحورين بجمال الشرق وجمال الغرب لدرجة الحلم بجمع الشرق والغرب في سرير واحد.
الصديقتان تحدثتا بجرأة وعلى مسمع من الأهل عن معاكسات المسحورين بجمالهما، وكيف جعلتا من بعض الجريئين مضحكة أمام الناس.
هذا طمأن الأهل ان سيرة البنات "عال العال".وان الواحدة منهما تحرس الأخرى.
الوشوشة بينهما لا تنتهي بعودة كل صديقة لبيتها، فما ان يحطا ركابهما في منزليهما الا والتلفون يُحجز لساعات من اجل استمرار المداولات التي لا تنتهي لدرجة اثارت غضب الأهل لإشغال التلفون وقطع الاتصالات مع العالم الخارجي التي قد تكون هامة، من اجل ثرثرة بنات لا هم ولا غم يشغلهما كما يشغل الكبار من واجبات ومسؤوليات.ولكن تحرير التلفون من ثرثرتهما يحتاج الى خطة استراتيجية محكمة.
ترددت منيرة عندما تقدم أحد الشباب الناجحين لخطبتها. فكرت ان ترفض، ولكنه فتى أحلام عشرات البنات اللواتي كان يسحرهم بمظهره وسيارته الفارهة وبيته الذي هو أشبه بقصور الأمراء. صديقتها رائدة ألحّتْ عليها ألا ترفضه، لأنه "شاب رائع" كما قالت، وأضافت:" ولا يتوفر صيدٌ مثله كل يوم". عندما اختلت منيرة به صارحته بأنها متردّدة لأنها لا ترغب ان تصبح زوجة وتتخلّى عن صاحبتها. طمأنها ان رائدة ستظل أفضل صديقة لهما والبيت مفتوح لها على الرحب والسعة، وانه واعٍ لعمق العلاقة بين الصديقتين، "فهذا ليس سراً في بلدتنا الصغيرة".
 منيرة اقتنعت بما قال وتزوجت وسعدت بزواجها وزوجها.
يبدو أن زواج الأولى، او "الفصل بين الجبلين" كما لاحظ الأهل، فتح الباب على مصراعيه أمام رائدة، فها هم العرسان المتنافسون على الزواج من الشقراء المغرية يتدفقون يوما اثر يوم، بخاطبات وغير خاطبات من رجال دين ورؤساء بلديات وزعماء سياسيين وشخصيات اجتماعية وعلمية هامة، من أجل إقناعها بقبول العريس ابن فلان وحفيد فلان المنتمي بقرابة لذلك الزعيم، او تلك الشخصية، وهذا كان يشعرها بالاشمئزاز. لم يكن الحديث عن العريس الا بصفته ابن فلان وقريب فلان وامه بنت فلان، و"خاله ابو ضراط كان فارس الفرسان" كما كانت تعلق رائدة ساخرة ومصرة على رفض كل من تقدم عبر احدى الخاطبات او الشخصيات وتضيف "لن أتزوج من سرّ مجهول.. انا لست صحّارة خضرة تباع بالكيلو.. لماذا حضرته لا يظهر أمامي ويخاطبني مباشرة بشخصه وليس بنسبه وأهله؟ هل يظنوني مجرد شقراء غبية تنتظر بغلاً تربطه بجانب سريرها لاستعمالها الليلي؟ "
 كانت تشعر بالمهانة من "التقاليد البالية التي تعتبرها حلْيةً لتزيين غرفة النوم" كما تقول بغضب مندفع. لولا منيرة التي حضنتها ولم تتركها وحيدة في ساعات الشدة تلك، لطردت جميع الخطاب والخاطبات قبل ان يفتح أحد فمه بكلمة ولو كان رسولاً لدين جديد.
 "ولكننا عرب ولا نطرد الضيف"، كان يصر والدها برجاء ظاهر... ويضيف مكسوراً أمام إصرارها: "نستقبلهم باحترام ونصرفهم باحترام".
كانت تقول لمنيرة وهي ترتجف ضيقاً وغضباً:
-   هل يعتبروني بضاعة للبيع باوكزيون الزواج لمن يزيد في النسب؟ لن اتزوج بهذه الطريقة من نكره اسمه ابن فلان وحفيد فلان!!
 في الواقع كانت رائدة تقارن من تراه من الخطاب بزوج صديقتها ومكانته، ولا تجد بينهم من يناسبها لتكون في نفس مقام منيرة وبمستوى اجتماعي ملائم لصديقتها وزوج صديقتها. وهذا أشعلها بنيران الغضب، بما بدا لها تقليلاً من قيمتها بأن يتجرأ من لا يسوى شيئاً ان يطلب يدها، لأنها "بنت أمّورة وجميلة وسيرتها حسنة". وكان ينقص ان يضاف بأنها "وجبة ليلية شهية للرجال..".
لكن لكل إشكالية حلاً. فها هو زوج صديقتها يسألها اذا كانت معنية بمقابلة زميل له في العمل، شاب جامعي مجتهد يتوقع ان يكون له مستقبل ناجح. رآها في حفلة عرسه هو ومنيرة، وذاب بسحرها وجمالها ولكنه خجول بطبعه، وعندما سمع ان العرسان يتدفقون لطلب يدها تشجّع ليلحق حاله "قبل ان تطير الشقراء من يده" كما علّق بابتسامة زوج منيرة، وكلف هو، زوج منيرة بدور المبادر و"إيّاك ان تسمّيني خاطبة" أضاف ضاحكاً.... وقال: "ها انا أجسّ نبضك، ما قولك؟.. الشاب لا يطلب يدك، ولن يرسل اهله او الخاطبات ويريد ان تتعارفا أولاً بدون أي التزام.. وكل شيء مفتوح، إما ان تواصلا او يذهب كل واحد في طريقه".
هذا العرض لقي استحسانها.
صمتت رائدة، وراحت تفكر.. سألت زوج صديقتها: "هل تنصحني به؟"
أجاب: "لو كانت لي أختٌ لوجدته أنسب الشبان. التقيه قد لا يعجبك، وقد لا تعجبيه رغم جمالك ورجاحة عقلك."
ابتسمت وقبلت ان تلتقي به.
كان اللقاء أكثر إثارةً مما توقعت. أعجبها بأناقته وهدوئه ورجاحة منطقه، وأسلوب حديثه، وتعليقاته الحرّاقة على العادات البالية، وكأنه يقرأ أفكارها، ومعرفته الواسعة او الموسوعية كما أيقنت من أول جلسة معه في بيت صديقتها. شعرت انها تجلس مع إنسان حضاري، يسحره جمالها بالتأكيد، ولكنه يبحث عن الزوجة المناسبة أيضا.
 كان يتحدث بلا تكلّف. ببساطة وهدوء وبلا عنتريات. تحدث عن نفسه وخططه المستقبلية بمنطق ووضوح ولم يبن لها قصوراً في الجنة، بل طرح أمامها تحدّيات نابعة من التفكير بمسقبلهما المشترك. شدّتها ابتسامته التي تعطي لوجهه بشاشة وراحة لا يملّ الانسان من النظر الى وجهه. الأهم انها شعرت براحة نفسية وهي تبادله الحديث. وكانت متحمّسة لكي تلقاه مرة أخرى.
-   صيد ثمين كما أشعر؟
علق زوج منيرة ضاحكاً. ولم يوضح مَن الصيد ومَن الصائد، ولكنها قبلت تعليقه بابتسامة وراحة نفسية لم تشعر بها منذ بدأ الخُطّاب يُخرجونها عن هدوء أعصابها..
 تزوجت رائدة، ولكنها ثكلت زوجها بعد سنوات قليلة بحادث طريق أليم. صُدمت ورفضت كل عروض الزواج الجديدة التي وصفتها بأنها أشبه بوصفة طبية لمرض اسمه "الترمّل"، وهي لا تراه مرضاً ولا تنتظر شفقة رجال رغبتهم بمضاجعتها وليس ببناء حياة مشتركة معها.
كانت رائدة تزداد أناقة وجمالاً، بملابسها التي صارت أكثر احتشاماً من أيام المدرسة والشباب المبكر. لأول مرّة تنتبه منيرة ان الملابس الأنيقة الرسمية الى حد ما، لا تقهر الجمال، بل تجعله أكثر بريقاً.
منيرة احتارت كيف تصمد صديقتها بجمالها الذي "يلوي الرقاب" في كل محضر وموقع، بلا زوج يمتّع لياليها ويدفئ قلبها وهي تلك المرأة التي تشعّ جمالاً وإغراء لا يصمد أمامه الرجال؟
هل حقاً لا علاقة بين المرئي والمخفي؟ بين الجمال البراق ورغبات النفس المخفية؟
- لا أجد الرجل المناسب.
كانت ترد باقتضاب على من يسألها ولا تضيف.. بل تبتسم مثل الموناليزا ابتسامة ساحرة تقول أشياء كثيرة ولا تقول شيئاً بنفس الوقت.. مما يزيدها جاذبية أنثوية.
توثّقت العلاقات أكثر بين الصديقتين بعد وفاة زوج رائدة، لدرجة ان رائدة لم تكن تتردّد في قضاء بعض الليالي في بيت صديقتها. ولم يكن زوج منيرة يعترض، بل يقوم على خدمتهما ويحدثهما بآخر الطرف، ويمازحهما بلطافته المعهودة، بل ولا يتردّد ان يسبق زوجته للنوم مبكرا اذا كان على سفر او برنامج عمل او بسبب إرهاق العمل والمسؤوليات ويترك الصديقتين تثرثران حتى يرهقهما السهر.
الإشاعات بدأت تتردّد مستهجنة من هذه العلاقة. ولكن السمعة الطيبة لمنيرة وزوجها وخاصة مكانته الاجتماعية وأمواله التي تشتري البلد كلها اذا شاء، كانت كفيلة بإبعاد التعليقات والشبهات تماماً.
صدمت البلد إثر حادث مأساوي غريب.
توفيت الصديقتان في نفس اليوم بشكل غير متوقع وهما في قمة جمالهما. كانتا في قمة توهجهما الأنثوي. يبدو ان الشرق والغرب لا يفترقان حتى في المصائب، ومصيبة طرف هي مصيبة الطرف الآخر.
في استراحة السماء حيث يجري الفرز بين أهل الجنة وأهل النار وقعت المفاجأة الكبرى. التقت الصديقتان على غير موعد:
- رائدة.. ماذا تفعلين هنا؟
- متُّ متجمدةً يا صديقتي... وانت يا منيرة، ماذا حدث لك؟
- متُّ بنوبة قلبية.
- وتركتِ زوجك وحيداً؟
- انها مشيئة الله.
- وكيف أُصبتِ بالنوبة القلبية؟
- آه يا صاحبتي.. انت تعرفين زوجي ورغبته المجنونة بالنساء.. كنت أشك بان له علاقات مع غيري، صحيح اني صارحتك بشكوكي ولكنك قلت ان شكوكي غير واقعية، وقلت: "انه زوج مخلص وحضاري، انظري كيف يعاملك كملكة، ويعاملني كصديقتك مثل أميرة وليس مجرد ضيفة عندك؟" ومع ذلك يا صديقتي رائدة للمرأة مجسات حسية لا تخطئ كنت أشمّ رائحة المرأة الثانية في ملابسه، في أنفاسه، كان يعترف انه مسحور بجنس النساء، ولكنه منذ تزوجني لم يرغب بامرأة أخرى غيري، كان شيئاً يلحّ عليّ انه كاذب. عندما ننصهر لا يناديني باسمي. هل يخاف ان يغلط ويناديني باسم المرأة التي أحسّها بيني وبينه حتى ونحن في قمة لذتنا؟
كنت أحدثك لتساعديني ولكنك شككت بظنوني.. ووصفت شكوكي بانها أوهام..
استأجرتُ مراقباً، تلقّيت منه يوم نوبتي القلبية تلفوناً، يخبرني بأن عشيقة زوجي دخلت البيت وانه شاهدهما من نافذة البيت يتعانقان يتعريان ويدخلان غرفة النوم. ولكنة لا يستطع ان يؤكد قطعاً ما يجري في غرفة النوم. كما قال. فأثار غضبي لغبائه..
عدت الى المنزل مثل المجنونة لأضبطه في لحظة خيانته.
كان الباب مغلقاً. قرعت بقوة.... بعد دقائق خِلتُها دهراً فتح الباب وهو بمنتهى أناقته وملابسه ويمسك جريدته اليومية في يده. فوجئ لظهوري، ولكنه كعادته أراد ان يستقبلني بقبلة. دفعته وصرخت بوجهه:
-   اين المرأة التي كنت تعاشرها؟
 التفت إليّ متظاهراً بالبراءة:
-   هل جُننتِ.. وهل لدي وقت لهذه المغامرات؟
صحت به:
-   المراقب شاهدكما تتعرّيان وتدخلان غرفة النوم، بالتأكيد ليس للصلاة؟
 ضحك وهو ينكر أي استعداد لخيانتي:
-   هل أعد لك كوبَ شاي لتهدأ أعصابُك وشكوكك؟ يبدو ان مراقبك يحب الأفلام العربية والتمثيليات التركية..
 كنت أصرخ:
-   قل لي اين خبأتها؟
-   سأبحث عنها في جيوبي.
قال ضاحكاً وساخراً وبدأ يقلّب جيوب بنطاله ويفرغها.
-   هل رأيت، لا شيء. ربما هنا في جيب القميص؟.. وهل من امرأة تملك سحرك لأخونك معها؟
كنت واثقة انه كذاب. دفعته عني وركضت كالمجنونة داخل المنزل. بدأت أبحث في كل شبر من المنزل. وراء الأبواب، تحت الأسرة في الغرف، داخل الخزائن في الحمامات، في الساحات الخلفية، في الطبقة الثانية، في العلية، نبشت الأسرة لعلها مختبئة تحت الأغطية، أعدت التفتيش وركضت للطبقة الثانية صعوداً على الدرج.. ونزلت ركضاً، وخرجت للساحة، وأعدت الكرّة مرّات ومرّات وأنا ألهث بصعوبة من الإرهاق والغضب لأني على علم انها مختبئة في منزلي ولم تخرج كما أكد بقوة المراقب الذي استأجرته، ولكني لا أنجح في إيجادها. كنت أبحث وانا على يقين ان عشيقته مختبئة في مكان ما. المراقب أكد انها لم تخرج بعد ان اتصلت به للمرة العاشرة، وقال انه شاهدني أدخل وانه هو ما زال خارج المنزل وانه التقط صوراً لها للتأكيد على أقواله وسيعدّ لي نسخاً منها.. ويؤكد بشكل قاطع ان عشيقة زوجي لم تخرج من المنزل.. اذن أين اختبأت؟ عدت أجري من مكان الى مكان والتوتر يضغط على أنفاسي. وركضت صعوداً للطبقة الثانية، ومرة أخرى للغرف والخزائن والأسرة، تحتها وفوقها، وعدت أجري نزولاً للطبقة الأولى.. كنت أزداد قهراً وغضباً وتوتراً وزوجي جالس وكأن الأمر لا يعنيه، يقرأ صحيفته مما أشعرني اني قنبلة موقوتة ستنفجر وتنسف البيت وبما فيه... وفجأة لا اعرف ما جرى لي.. شعرت بوجع هائل في صدري، فارتميت فوق الأرض.. ولا اعرف ما جرى بعد ذلك.. ولكن قيل لي وانا أعبّئ أوراقي الثبوتية قبل الدخول لهذه الاستراحة، اني متُّ جرّاء نوبة قلبية، وها انا هنا معك.. رغم انك أفضل رفيقة ويسعدني وجودك معي دائماً... ولكني لا أتمنى لك الموت المبكر مثلي..
وانت يا صديقتي كيف تجمدت والدنيا صيف وفارقت الحياة؟
- آه يا منيرة يا صاحبتي، لو انك بحثت داخل ثلاجة التجميد لكنت اليوم أداعب زوجك بدل ان يظل وحيداً!!

nabiloudeh@gmail.com

68


كيف صار لله شعب مختار؟


قصة: نبيل عودة



اختلف اساتذة اللاهوت وممثلي الأديان من الشخصيات الدينية رفيعة ألمستوى  في اسباب حصول اليهود دون غيرهم من الشعوب على وصايا الله العشر والتي تعرف أيضا باسم "لوحات العهد" التي تسلمها النبي موسى، حسب قصة ألتوراة، منقوشة على الحجر من رب العالمين في جبل سيناء. وتحول المؤتمر الدولي للتفاهم بين الديانات الى صراع جديد أشغل الإعلام الدولي وقاد الى تدخل الدول العظمى لتهدئة الخواطر ونقل البحث الى الأمم المتحدة،حيث انها المنظمة المخولة في حل النزاعات بين الشعوب.
الأمريكيون كعادتهم، ذهبوا الى التبرير بأن الله منح وصاياه لشعبه المختار من بين جميع شعوب الأرض ، والمسمى بالتوراة باسم اسرائيل أيضا وأنه فضلهم من بين جميع ألأمم وبالتالي أضحى هذا الأمر معيارا للمواقف والمناهج الأمريكية التي تحافظ على التماثل مع ارادة القدير ولا تخل بمشيئته، خاصة وان أمريكا اختارها الله بالتأكيد لتدير شؤون البسيطة بعدالة وديمقراطية وحرية فهل يليق بها ان تنقض ارادة السماء بسبب بضعة مشردين فلسطينيين أو محتجين او لاساميين او رافضين خيارات الله لأسباب عديدة؟
 وأشار المندوب الأمريكي انه لا يمكن نقض الحجة السياسية الإلهية القوية التي نزلت في سيناء وذلك حين منح الله وصاياه لشعب اسرائيل.
هذا الكلام اثار امتعاض مندوبي الدول العربية والإسلامية وشريحة كبيرة من الدول التي ترفض تبرير سياسات عصرنا الراهن بقصص توراتية لا دليل علمي على صحتها ولا منطق باعتمادها وكأن العالم لم يتغير منذ ستة آلاف عام . ولكن  العرب آثروا الصمت  لضمان علاج الملوك والرؤساء العرب والشخصيات المرموقة من الدولة العربية في مستشفيات ألأمريكان او حتى في مستشفيات اسرائيل كما تقول بعض المعلومات دون أي اثبات عملي لها، لأن مستشفيات العرب الوطنية مخصصة كمحطة في الطريق للمنتقلين للسكن في المقابر.
الأوروبيون ترددوا في ألبداية وقالوا ان الموضوع مثير للاهتمام حقا، وبما انهم أقرب لمنطقة الحدث،سيناء وارض الميعاد فلهم وجهة نظر مختلفة قليلا. اولا يقرون ان الله أعطى ابناء اسرائيل اعترافا مميزا انهم المختارون من بين ابنائه.ودائما الأب له ميول نحو بعض الأبناء أكثر من ألآخرين وهذا لا يعني انه يكره بقية الأبناء او يتنكر لهم، بل هي مسائل تتعلق ايضا بذكاء الأبناء ومدى استجابتهم لتوجيهاته، وحفاظهم على ميراثه ، ومواصلة التقيد بما اوصاهم به في التوراة.
ولكن... هناك سؤال يضغط على الفكر. وهنا الفرق عن الموقف الأمريكي المبايع بدون تردد،والموقف الأوروبي الذي يريد ضمان الهدوء في منطقة الشرق الأوسط القريبة منه. وتساءل المتحدثون الأوروبيون: "هل  من علاقة بين ابناء اسرائيل اليوم واؤلئك الذين تاهوا في صحراء سيناء اربعين عاما؟ الم يعاقبهم الله بسبب عقوقهم وعدم استقامتهم، تماما كما يعاقب الأب ابنه العاق واضافوا بتردد ما، بان "الاستنتاج البديهي ان يهود اليوم ليسوا هم يهود الأمس"
  وجاء في تبرير الممثل الأوروبي ان الشعوب اختلطت، والديانات نقلت عن بعضها، وتداخلت قصصها وتفسيراتها، ولم يعد الفرز يشير الى تميز خاص ، وهذا يلزمنا بعدم تبرير كل ما يقوم به ابناء اسرائيل اليوم تحت غطاء مضى عليه ستة آلاف سنة بحساب ألدين ومليارات السنين اذا حسبنا تاريخ الأرض ونشوء الحياة فوقها حسب الأبحاث العلمية وتجربة الانفجار الكبير الذي اثبت كيف نشأت ألأرض.
الموقف الأوروبي المذكور اعلاه اثار زوبعة غضب صهيونية وعرض الأوروبيين لنقد شديد اللهجة بلسان مسؤول كبير من بني اسرائيل جاء فيه :"ألم يتخلص الساسة الأوروبيين حتى اليوم من لاساميتهم؟! ألم يتعلموا شيئا من الكارثة التي اودت بحياة ستة ملايين يهودي في اوروبا نتيجة العداء للسامية التي ميزت كل التاريخ الأوروبي ووصلت ذروتها في النظام النازي؟! وأليست الشعوب أيضا على دين ساستها كما علمتنا التجربة التاريخية؟!".
الغضب الصهيوني اضطر الخارجية الأمريكية الى طمأنة اسرائيل ان التصريح الأوروبي زلة لسان غير مقصودة سيتم علاجها بسرعة.
من جهة أخرى، لولا ادخال موضوع العلوم الغربية الصليبية الكافرة لصفقت الدول الاسلامية والعربية للتفسير الأوروبي. وقال ممثل احدى الدول الاسلامية انه من الناحية العلمية ، الاسلام نسخ جميع الديانات ذلك لان شريعة الإسلام حسب علم الفيزياء الذي اكتشفه علماء الدين في كتابهم الكريم قبل علماء الغرب ألكافر هي آخر ألشرائع وهي ناسخة لما سبقها من الشرائع  ومهيمنة عليها.
 قاطعه ممثل ابناء اسرائيل بان القرآن يعترف بأن اليهود هم شعب الله المختار.ولكن المتحدث الاسلامي أصر رغم المقاطعات الصهيونية والامبريالية والصليبية، ان المسلمين خير أمة اخرجت الى الناس وهذا ينسخ مقولة التوراة او ما ورد في القرآن عن شعب الله المختار في مرحلة سابقة نسخت فيما بعد.
استدعي الممثلون الأوروبيون الى البيت الأبيض لتوبيخهم بسبب تفوهات لا تليق بمن ينتمي للعالم الحر الديمقراطي الذي يحترم حقوق الانسان. على اثر التوبيخ الأمريكي أستدرك ناطق باسم المجموعة ألأوروبية زلة اللسان بالتأكيد ان اللاسامية محظورة بالقانون ألأوروبي وقال ان القانون يعاقب كل من يتفوه بكلمة تفسرها اسرائيل عداء لها ، وعليه، وبسبب زلة أللسان عوض الأوروبيين اسرائيل بغواصتين من الطراز ألحديث  لتعود العلاقات الى طبيعتها من التناغم والتفاهم. ولكن رضاء اسرائيل لم يكن كاملا، ولم يتوقف غضبها نهائيا إلا بعد أن تلقوا تعويضا آخر من ألأمريكيين لم تنشر تفاصيله كاملة، ولكن تسربت معلومات صحفية تشير الى منح اسرائيل، ضمن صفقة رضائها، عشر  طائرات حديثة من نوع الشبح الذي لا تلتقطه الرادارات والمعروفة ب "اف-35" ايضا... وتعهد أمريكي باستعمال حق النقض الفيتو ضد أي قرار يدين أي تصرف اسرائيلي مهما كان عدم توافقه مع القانون الدولي او حقوق الإنسان.
ممثلوا الكنائس المسيحية الشرقية والغربية،اجتمعوا واتفقوا لأول مرة في تاريخهم منذ ايام ألمسيح وأصدروا بيانا، اختلفوا في البداية أي توقيع يكون على رأس البيان ، ثم حلوا المشكلة بإصدار نسختين الأولى توقع اولا من بابا الفاتيكان وعلى رأسها الصليب أللاتيني والثانية توقع اولا من كبير بطاركة اليونان وعلى رأسها الصليب الأورتودوكسي. وترسل النسختان لجميع أعضاء الأمم المتحدة بمغلف واحد. وتنص على عدم تجاهل ان المسيح ابن الله جاء ليكمل الدين ويغير ما لم يعد يلائم الحياة،وينقذ البشر من الضياع ويخلصهم من ألخطيئة وان اتباعه كانوا من اليهود قبل ان ينتشر دينه بين الأمم ، وان من لم يؤمن بالمسيح لا يمكن ان يكون ضمن شعب الله المختار. لأن المسيح هو ابن الله ومتوحد مع الله ومن يرفضه يخسر تصنيفه الديني المميز. ولم يذكر بيانهم تماما ان المسيحيين هم شعب الله المميز الآن، وأن المسيح حين يعود سيجعلهم فوق جميع الأمم. تركوا ذلك لحكمة الفرقاء، وقد فعلوا ذلك بذكاء حتى لا يثيروا مزيدا من النقاش حول مسالة بديهية تؤمن فيها المسيحية بقوة، وعلى هامش النقاش في الجمعية العمومية همس ممثل الفاتيكان في الأمم المتحدة بأُذن المندوب ألأمريكي "ان المخلص حين يعود في نهاية العالم سينقذ اولا من آمن به وبأبيه وينقلهم الى ملكوت السموات"..هذا الأمر أسعد المندوب الأمريكي فرد همسا بأذن ممثل ألفاتيكان " ان الانتخابات الأمريكية على الأبواب والصوت اليهودي يهم الرئيس ، وآمل ان يفهم بابا الفاتيكان حراجة الموقف ألأمريكي وان الموقف في الأمم المتحدة لا يعني تنازل أمريكا عن اولوية المسيحيين في ملكوت الله.. وان أمريكا لن تستعمل حق النقض الفيتو على قرار السماء بشمل اليهود أيضا بملكوت الله". المندوب الفنزويلي المؤيد للعرب علق بسخرية على بيان ممثلي الكنائس المسيحية بقوله: "هل صار المسيح صهيونيا او طالبا للهجرة الى أمريكا ؟".
وعلى اثر ذلك احتد  النقاش من جديد وعلت الأصوات بصخب ومقاطعات . رئيس الجلسة المندوب الروسي خبط بقوة على الطاولة بالمطرقة لتهدئة النقاش الصاخب، فانكسرت يدها. اصابته الحيرة لوهلة، ثم فتح الله عليه بفكرة متذكرا زعيما سابقا لدولته اضطر الى فرض الهدوء على نقاش سابق في الأمم ألمتحدة فنفذها، خلع حذاءه واستعمله بدل المطرقة لتهدئة النقاش الصاخب. فساد الصمت... ثم انفجر الجميع بالضحك والتصفيق الصاخب.
لم يصل البحث الى نتيجة.وقد وقفت الصين ضد أي قرار دولي يعترف بأي طرف كصاحب مميزات أكثر من الآخرين لدى الخالق. وقال المندوب الصيني ان المقياس يجب ان يكون العمل والإبداع ،وليس الأساطير والغيبيات. وانه حتى الديانات الأقدم مثل  الكونفوشية والبوذية قدمتا للبشرية اروع الأفكار وأفضل ألحضارات وهو امر يتجاوز ما يسمى بالديانات ألتوحيدية التي هدمت حضارات سبقتها  ولم تبن غيرها ، كما ادعى، مما اثار غضب المسلمين من تجاهل حضارتهم ألعظيمة ولكنهم "جمطوها" لأن الموقف الصيني يخدم تطلعاتهم. وأضاف مندوب الصين ان الحضارة الحديثة لم تنشأ إلا بعد ان انتفضت اوروبا على التحجر ألكنسي وان الديانات التوحيدية زرعت الأوهام الكبيرة وجعلت أتباعها خاملين منتظرين الخلاص من السماء ومن ترديد نصوص هي أشبه بالأفيون. ولولا هذه الجملة الأخيرة،واستهتاره بالديانات، لصفقت الدول الاسلامية للمندوب الصيني على موقفه ضد اقرار الأولوية لليهودية او المسيحية على سائر الديانات ، وهذه من المرات النادرة التي لم ينجح المندوب الأمريكي بتمرير قرار يعلي شأن ابناء اسرائيل على جميع الأمم. واستهجن المسلمون العقلية الأمريكية الغبية التي تحتضن (15) مليون يهودي وتهمل (1.5) مليار مسلم ؟!
صحيح ان المندوب الروسي أصر ان الكنيسة السلافية الأورتودوكسية هي الأصل ، ولكنه تنازل عن اثارة هذه المسالة الصعبة مقابل تعهد أمريكي بعدم نشر الشبكة المعروفة بدرع الصواريخ على مقربة من حدود روسيا، وبذلك كسبت امريكا الصوت الروسي ضد الدول الاسلامية ، من رؤيتها ان المسيحيين على مختلف كنائسهم وبدعهم هم يهود التاريخ ، وأي اقرار أولوية أبناء اسرائيل لا يتناقض مع الايمان المسيحي بأنهم ( المسيحيون)هم الأقرب الى قلب الله وابنه، لأنهم تاريخيا يهودا قبلوا المسيح الرب كمخلص لهم وعُرفوا باسمه: "مسيحيين".
الأمين العام للأمم المتحدة اقترح امام هذه الاشكالية الصعبة ان تتشكل لجنة تقصي حقائق تراجع الكتب المقدسة ، وتبحث في سجلات التاريخ وان تعطي الاجابة الشافية عن السؤال ألجوهري لماذا اختار الله اليهود ليعطيهم الوصايا ألعشر هل لهذه الحادثة التاريخية اسقاطات على واقعنا اليوم بحيث يعتبر شعب اسرائيل شعب الله المختار، وتبرر كل تصرفات منظماته ودولته؟ وهل ما جاء في التوراة قبل ستة آلاف سنة ما زال ساري المفعول في ايامنا ؟ المضحك كما قال مقاطعا المندوب الصيني :" ان العالم الذي يقدر عمره بمليارات السنين تختصره التوراة الى ستة آلاف عام".وأضاف الأمين العالم للأمم المتحدة في تكليفه للجنة الدولية بعد ان طلب عدم مقاطعته، ان عليها ان تشرح أيضا كيف نفهم انشقاق المسيح عن اليهودية ورفضه لبعض تعاليمها الجوهرية، إلا ينهي ذلك مقولة الشعب المختار من الابن الذي يندمج مع الأب والروح ألقدس ليشكلوا اله واحد كما تقول المسيحية في أناجيلها؟ وعليه طلب الأمين العام للأمم المتحدة من اللجنة ان تقدم تقريرها له بعد انتهاء عملها.وقد قاطع المندوب الاسرائيلي عمل اللجنة لأنها مشكلة من دول مارقة لاسامية، فاضطرت الولايات المتحدة لإعلان وقفها لتمويل عمل اللجنة. فتبرع أمير نفط عربي بتمويل عمل اللجنة بإيعاز من الأمريكيين طبعا.
مفاجأة عظيمة كانت بانتظار اللجنة الدولية ، مع بداية عملها وجدت امامها جبال من التسجيلات والتفسيرات. قدر رئيس اللجنة ان مجرد قراءة عناوين المواضيع يحتاج الى عشرة ألاف ساعة قراءة على الأقل.
عضو اللجنة المندوب الصيني رفض ان يتعب نفسه بقراءة ما لا ينفع في النمو الاقتصادي للصين وفي توسيع التصدير الصيني الى دول العالم. وقال ان وقتهم وجهدهم يذهب هباء، وان المعروف والمثبت ان كل قصص التوراة، هي ترجمة لأساطير بابلية وصينية وهندية وكنعانية وأشورية ومصرية ولا يمكن اعتمادها في عالمنا المعاصر الذي يعتمد على العلوم والتكنولوجيا والهايتك والفلسفة. وان الله نفسه  تعرفه التوراة بأنه مجموعة آلهة، اذ جاء في التوراة اليهودية ان الآلهة (أي "الوهيم") وليس الله ("ايل") خلقت في البدء السموات والأرض، وذلك تمشيا مع الأسطورة البابلية التي ترجمها اليهود انفسهم اثناء سبيهم في بابل وتتحدث عن سبعة آلهة خلقوا السماء والأرض والإنسان والنبات وهلم جرا... هذا ينفي كل ما تلا ذلك من تطورات واختلافات وانشقاقات، وبالتالي مهما بحثنا لن نصل الى تغيير الحقيقة الأولية،لا شيء من السماء بل كل شيء من الأرض، وأضاف المندوب الصيني  ان الباحثين في جامعة شانغهاي توصلوا الى حل منطقي لهذه الإشكالية قد يرضي الجميع، ولكن السؤال يبقى هل من حل يرضي اسرائيل ؟ وما هو الثمن لرضائها هذه المرة؟ هل باستطاعة امريكا والدول الأوروبية دفع الثمن الذي يرضي اسرائيل كلما زعلت؟!
اهتم اعضاء اللجنة، قبل بحث ما يرضي إسرائيل  بمعرفة الحل الذي توصل اليه علماء جامعة شانغهاي ذات الاسم الدولي والعلمي الراقي جدا.
ابتسامة المندوب الصيني اتسعت لتوصل خطا افقيا بين الأذنين. فتح دوسيته وأخرج مستندا، تأملهم للحظة ثم قال بسخرية :
- هل تقرأوه ام أقرأه لكم ؟
- لا نعرف الصينية ترجمه لنا.
- انتم لا تدرون كم تخسرون بجهلكم للصينية. من لا يعرف الصينية في ايامنا يعيش في ظلام دامس. حسنا ما توصل اليه علماء الصين يحل اشكالية الخلاف. حسب المذكرة التي وصلتني أمس وضع علماء الصين  تصورا رمزيا جاء فيه ان الله كلف الملائكة بحمل الوصايا العشر وتقديمها للبشر على الأرض، وذلك كونه كما تقولون عادل ويحب كل ابنائه بنفس القدر .
وهذا ما كان. انطلق الملائكة الى شعوب الأرض قاطبة، وصل ملاك للعرب، سأل كبيرهم:" هذه وصايا من الرب ، هل تريدونها؟" سال كبير العرب:" ماذا فيها؟" قرأ الملاك بنود الوصايا وعندما وصل الى "لا تقتل" قاطعة كبير العرب :"لا هذه لا تنفعنا، هل يقتلوننا ونقف نتفرج ، هل نتنكر لعنترة الذي قال وددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم ؟ هل نتنازل عن تراثنا المليء بالبطولات ؟ الم نجعل للسيف مئات الأسماء ؟ ماذا ستفيدنا سيوفنا اذا تخلينا عنها؟".
جاء ملاك أخر الى الفرنسيين. عرض عليهم الوصايا. سأله كبيرهم:"ماذا بها؟". بدأ الملاك بقراءة البنود العشرة. وصل الى "لا تزن" ، صرخ الفرنسي:"كفى كفى.. لا نريد الوصايا ، نساؤنا جميلات ومغريات ، فهل تريدهن ان يبحثن عن رجال خارج فرنسا ليلحق بنا العار والشنار؟"
وصل ملاك أيضا الى الرومانيين . وعرض عليهم الوصايا وبدأ يقرأ بنودها، وعندما قرأ "لا تسرق" غضب كبير الرومانيين وقال :"كفى، لا تنفعنا، الكل يسرقنا ولا بد أن نرد على السرقة بسرقة؟"
وهكذا وصل الملائكة الى جميع الشعوب ،ولكل شعب كانت له حجته ليرفضها. عادوا الى الله خائبين. زجرهم الرب على قصورهم في تسويق وصاياه وهدد بطوفان جديد، ثم تذكر انهم لم يصلوا لأبناء اسرائيل: "لماذا نسيتم الشعب التائه في صحراء سيناء؟". قال أحدهم:" كنت في ارض كنعان ولم أجدهم".  أمره الرب بالتوجه فورا الى سيناء.
التقى الملاك بعد جهد كبير من البحث بين رمال الصحراء وكثبانها مع بني اسرائيل. كانوا غاضبين متعبين جائعين وعطشى يؤلمهم الضياع الطويل بدون بارقة آمل. أخبرهم الملاك بما يحمله لهم من وصايا الرب. سألوه:" وهل تسد عطشنا وجوعنا؟" قال الملاك:" تنقذكم من عذاب جهنم وتروي أرواحكم وتشبع نفوسكم وتجعلكم اول شعب يقبل وصايا الله وبالتالي المختارون لديه". قالوا:"هذا غير مهم، موسى وعدنا بالخلاص وأضاعنا في سيناء". قال الملاك: "انا اتكلم باسم رب موسى، ووعود الله قاطعة" . سألوه ليصرفوه: "كم ثمنها هذه الوصايا؟".فاجأهم حين قال لهم:" انها هدية مجانية من الله". قالوا بصوت واحد فرحين:" هدية بلا مقابل؟! مجانية؟! حسنا هذا رائع ، هاتها واجلب لنا عشرة أخرى مثلها!"
[/size]

nabiloudeh@gmail.com




 





69
نشرت هذا المقال عام 2011 ويبدو ان الواقع يزداد مأساوية .. وانحدارا. والخسارة ستكون لجميع المواطنين في العالم العربي. خسارة التقدم والديمقراطية والرفاه الاجتماعي- نبيل عودة 


المسيحيون في الشرق: هل هم المشكلة او الغطاء لمشكلة الانظمة الفاسدة؟!
[/size]

نبيل عودة


اثار الاعتداء الهمجي على كنيسة القديسين للاقباط في الاسكندرية ليلة رأس السنة، عواصف من الادانات في العالم العربي، ومن مؤسسات وشخصيات اسلامية مركزية، وامتلأت الصحافة بكل اشكالها بعشرات المقالات الجريئة الرافضة لهذا الاسلوب الهمجي في التعامل مع الاقليات المسيحية العربية وغير العربية.
الموضوع ليس جديدا، والاضطهاد الذي يعاني منه مسيحيو الشرق، لا يقع بعيدا عن الواقع الاسود للعالم العربي الذي يدفع ثمنه الجميع، مسلمون ومسيحيون.
ولكن حان الوقت لتحرك جديد، ولعدم الاستهتار بما تفرزه العقول المريضة، تحت غطاء كاذب من الدين والتدين.
اللوحة التي تفرض نفسها اليوم شديدة الكآبة، وتثير غضب الأوساط المتنورة جميعها، بدون علاقة للانتماء الديني او الاثني.
لا شك ان للهوية الدينية مكانها في تشكيل الوعي الوطني والثقافي والأخلاقي، اذا ما احسن استعمالها. ولكن الظاهرة السائدة في عالمنا العربي في العقود الاخيرة هي ظاهرة مقيتة جداً، ومأساوية للجميع، وبعيدة عن المنطق السليم.
آلاف الفتاوي التي تحرض على المسيحيين وتدعو لمعاداتهم وعدم المشاركة باعيادهم ونبذهم ومما هب ودب من اوصاف سوقية تنطلق من رؤوس مريضة وعقليات متخلفة بدائية.
الاف الخطب الدينية شكلا والعنصرية مضمونا، يضج فيها الفضاء العربي دون رقيب، ودون ان تشعل الأضوية الحمراء لما يريد للمجتمعات العربي ان تقبر مستقبلها فيه.
الاف الشعارات المقيته التي لا تعبر الا عن عقول موبوءة ومصابة بالشلل الفكري والانغلاق، الذي هو اخطر على الانسان والمجتمع من أكثر الأمراض فتكا..
المسيحيون العرب او ابناء العراق من المسيحيين غير العرب، افرزت لهم خانة وكانهم عنصر دخيل على الفسيفساء الاجتماعية للمجتمعات العربية متناسين انهم كانوا المحرك الاساسي للحضارة العربية الاسلامية، وما زالوا يشكلون العناصر الأكثر التزاما بالفكر الوطني والتقدم الاقتصادي واحلال الدمقراطية بدل الاستبداد.
مواد التعليم مليئة بنصوص تعمق ظاهرة العداء والرفض للمختلفين دينيا، بل والتحريض على كل من يدعي انه وطني عربي، لان الوطنية، حسب الفكر الموبوء المريض هي "ظاهرة صليبية"، او انحراف معاد للاسلام،كما يدعي صغار العقل، متجاهلين ان الاسلام كان يعني انطلاقة للقومية العربية أيضا.
العديد من المفكرين العرب طرحوا هذا الموضوع بكل خطورته، ولكن الانظمة التي لا يعنيها الا أمنها وتوريث النظام لا تتحرك، ما دام الشعب ينشغل بالصراع الديني، ويبعد عنها الغضب الشعبي من غياب الدمقراطية، ونهب ثروات البلاد بيد العصابات الحاكمة، وانتشار الامية والفقر بمقاييس مرعبة. وربما ترعى مؤسسات هذه الدول توجيه انفجار الغضب في وجه الاقليات الدينية او الاثنية في مجتمعاتها، ونعرف من التاريخ نماذج كثيرة لمثل هذه الممارسات ، مما يساهم في ضمان استمرار سلطانها الفاسد وحمايته من غضب الشعب. المسيحيون الاقباط محكومون حتى اليوم حسب قانون عثماني مضى عليه قرون طويلة، لدرجة ان أي عملية اصلاح بسيطة في كنيسة تحتاج الى مصادقة من المحافظ او من رئيس الجمهورية. ورغم ان رئيس الجمهورية في مصر يدعي انه بنيت كنائس كثيرة، الا ان استمرار ربط هذا المجال الحيوي للاقباط في مصر وغيرهم من الاقليات الدينية، مثل البهائيين وغيرهم من الأقليات، بقرارات رئاسة الجمهورية، هم امر مرفوض بسبب الرائحة التمييزية العفنة التي تنضح منه وفي جذورها انكم غرباء وتشكلون ظاهرة غريبة في المجتمع المصري ، او المجتمع العربي عامة.... وان الدولة لا تتعامل معهم كمواطنين متساوي الحقوق.
ان التفجير الارهابي في الاسكندرية (وقبله في العراق عدة مرات) الذي اوقع عشرات الضحايا بين قتيل وجريح، لم يكن مفاجئا بعد التهديد الذي اطلقه تنظيم القاعدة، والسؤال: اين كان الامن المصري؟!
الجواب ليس صعباً بأن الامن المصري مشغول بحماية السلطة ورجالاتها فقط، وقد كشفت "الغارديان" البريطانية صورة مثيرة جدا عن اولويات الأمن المصري.
الأمن في مصر لا يخص المواطن المصري، وعلى هذا المقياس يمكن فهم ان الواقع الاجتماعي المتدهور لابناء مصر ايضا، لا يخص النظام، والنظام لا يبالي بالصراع المصري مصري، ولا اقول المصري- القبطي لاني لا أرى تبريرا اخلاقيا او سياسيا او اجتماعيا او اقتصاديا او دينيا لصراع مصري اسلامي مع أقباط مصر المسيحيين.
في وطننا شهدنا ايضا ظواهر مقلقة جدا والماساة حين نكون اقلية قومية تجزء نفسها لاقليات دينية بغباء كامل عن فهم ان هذه التجزئة تحرمنا جميعا ولا تخدم الا سياسة التنكر لحقوقنا، واستمرار التمييز ضدنا، ومعاملتنا كسكان غير مرغوب فيهم، بل وتخدم سياسة تقسيمنا الى طوائف التي تمارسها السلطة باصرار، وليس اقلية قومية.
صحيح ان مستوى وعينا تعالى فوق الظواهر الطائفية المعادية لكل فكر ديني انساني، ونجح بحصر الظاهرة واطفاء الحرائق التي ولدتها.
ورغم ذلك، ما زلنا نسمع ونشاهد ما يثير قلقنا وامتعاضنا.
عندما نعبر في الشارع الرئيسي في الناصرة، ونقرأ: "الله مولانا ولا مولى لهم"، يرتفع السؤال: من يخدم هذا الشعار؟ وعندما تزور شخصيه مسيحية عالمية، مثل بابا الفاتيكان البلاد المقدسة، ساحبا وراءه ملايين السياح المسيحيين،مما يعتبر تنشيط للحياة الاقتصادية في الناصرة خاصة، فتوزع مناشير وتلقى خطب مليئة بالتحريض، من اسوأ الأنواع وأكثرها دموية، يرتفع سؤال: من يخدم هذا الإنفلات؟
بالطبع هناك ظواهر اكثر خطورة، ان لم تسارع كل القوى العقلانية، من احزاب وجمعيات وتنظيمات الى احتواءها، ستقودنا الى انفجار ليس ضد المغتصب لحقوقنا، انما ضد بعضنا البعض.
انا على قناعه كاملة، ان تنامي الظاهرة الطائفية في العالم العربي هي جانب صغير من مشكلة كبرى، مشكلة النمو الاجتماعي والاقتصادي، مشكلة الأمية والفقر، مشكلة البطالة، مشكلة التخلف العربي في مواجهة التحديات على الساحة الشرق اوسطية والدولية، وهي بالاساس مشكلة الدمقراطية الغائبة.مشكلة اجتماعية واقتصادية .
فليوجه الغضب اذن ضد سالبي حقوق جميع المواطنين بدون تمييز.
[/size]
nabiloudeh@gmail.com

70

إستقلال شر من شتات!!

نبيــل عــودة
[/size][/color]

ثلاثة احدات في الذاكرة من استقلال اسرائيل
بينما تحتفل اسرائيل بمرور 64 سنة على قيامها، وكما في كل مناسبة، استعيد في ذاكرتي الكثير من الصور والذكريات المرتبطة بهذه المناسبة.ومنها ثلاثة احداث لا تغيب عن ذاكرتي ابدا .
اولهما: لقاء مع طلاب يهود ثانويين يساريين وشيوعيين في حدود العام (1960) تفاجأ الطلاب اليهود اننا لا نحتفل باستقلال الدولة. وعبثا حاولنا بمفاهيمنا السياسية الأولية ولغتنا العبرية الضعيفة ان نشرح ما يؤلمنا في هذا اليوم. بعد حوار طويل أشبه بالحوار السفسطائي،او حوار بين طرشان،نجحنا بمساعدة مرشدتنا التي هي أيضا لا تعرف العبرية بشكل مقبول،في ايصال ما يؤلمنا. راودتني فكرة. سألتهم: ما هو شعوركم بمثل هذا اليوم الذي يسمى استقلال اسرائيل؟ كان ردهم متشابها ، الشعور بالأمان والسعادة ان لهم دولة تحميهم وتجعلهم اسوة بجميع الشعوب. قلت لهم فورا اول جملة تيسرت لي بالعبرية : هذا بالضبط ما ينقصنا نحن. واضفت بلغة مكسرة بمساعدة سائر الزملاء العرب والمرشدة: استقلالكم يعني تشريد اكثر من مليون فلسطيني من شعبنا. استقلالكم يعني مصادرة اراضينا. استقلالكم يعني اننا صرنا مواطنين اقل شأنا منكم. استقلالكم يعني ارهاب الحكم العسكري وتقييد حريتنا بالتصاريح.استقلالكم جر علينا كوارث تدمير 500 بلدة عربية وطرد سكانها. استقلالكم يعني مجزرة كفر قاسم رغم انهم مواطنين في دولة اسرائيل مساوين لليهود حسب القانون على الأقل.وربما اضفت نماذج اخرى ليست اقل شانا.
كان ذلك منذ أكثر من نصف قرن والتطورات عمقت حدة النزاع مع الفلسطينيين ومع سائر الشعوب العربية حتى التي وصلت بغفلة من زمن عربي ضائع ( وحتى اليوم كله زمن ضائع)، الى "اتفاقات سلام" مهينة لكل منطق سياسي سليم ، على الأقل بتحولها الى "ثنائية مغلقة" بدون أي علاقة بقضية العرب المركزية.
ثانيهما: في مناسبة استقلال أخرى للدولة، وكان الحكم العسكري يتحكم باستبداد وقمع وارهاب بالأقلية العربية الباقية في وطنها،بدون رقيب تحت مظلة قوانين الانتداب الاستعماري البريطاني لفلسطين . كان الحكم العسكري من نصيب المواطنين العرب فقط، تخضع له  جميع مناحي الحياة وخاصة فرص العمل والوظائف في المؤسسات وحق التنقل داخل الوطن (حتى الى العمل خارج بلداتنا كنا نحتاج الى تصاريح عسكرية محدودة بالزمن والساعة ) وبرز تعسف الحكم العسكري بالتحكم بالتعليم العربي والمناهج التعليمية والتوظيف لسلك التعليم. وارهاب المعلمين، وقد ساد الخوف بين المعلمين من امكانية طردهم من التعليم اذا لم يلتزموا بالتعليم حسب الكتب المنهجية الضعيفة والتافهة والتي تشوه اللسان والعقل.وقد انتشرت في تلك الفترة ظاهرة طرد المعلمين العرب من سلك التعليم، لأن الحكم العسكري لم يعد يثق بتبعية المعلم والتزامه بالبرنامج التعليمي المقرر في دوائره.وهناك معلومات ان ظاهرة السيطرة الأمنية على جهاز التعليم ظلت سائدة بقوة حتى سنوات قليلة ماضية وهناك شكوك اليوم بان جهاز التعليم العربي ما زال يخضع لرقابة أمنية شديدة رغم الإتساع الكبير في مساحة الحرية.وهذه الحرية النسبية لم تحدث في فراغ بل بثمن نضالي كبير.
 لذلك كان الخطر على لقمة العيش مسلطا فوق الرؤوس. وساد وقتها جو كئيب في مدارسنا. وامتنع الكثير من المعلمين عن التعبير عن ارائهم او اضافة معلومات والتوسع في مواضيع الدراسة خوفا من سيف الفصل من العمل، والمؤسف ان هذه الظاهرة لم تؤرخ بشكل يظهر ممارسات الحكم العسكري الذي اطلقته دولة اسرائيل على رقاب الأقلية العربية ، واطلقت يده الحرة حتى بالتضييق على لقمة الخبز للمواطنين بطريقة تعسفية استبدادية وارهاب متواصل لدرجة خوف المواطن من التعبير عن رأي لا يقع جيدا على آذان زلم دوائر الحكم العسكري. وقد تحول بعض المعلمين الى مخبرين رغما عنهم،او استسلاما للأمر الواقع ، وربما بعض الطلاب ايضا اصبحوا عيونا تراقب وتدون وتنقل؟!
ونعود لموضوعنا:
في عشية أحدى مناسبات "الاستقلال" وكنت طالبا بالمدرسة الابتدائية. طلب معلم العربية من صفنا ان نكتب موضوع انشاء بهذه المناسبة "السعيدة للعرب"، وشرح لنا استاذ اللغة العربية (مرغم اخاك لا بطل)كيف "تطورنا وتقدمنا" (وصرنا "اشبه بالانسان"؟) وانتشرت المدارس والتعليم وصار العرب بفضل دولة اسرائيل عمالا في المصانع وفي البناء ، دون ان يذكر ان مصادرة الأرض العربية اجبرت الفلاحين للتحول الى العمل المهني ونقلتهم عنوة من مجتمع فلاحي الى مجتمع شبه مدني مع مشاكل هذا الانتقال القسري وتناقضاته الصعبة على جميع المستويات.
كنت ابنا لوالد شيوعي، وام مثقفة اهتمت بتدريسي اللغة العربية على صفحات جريدة الحزب الشيوعي (الاتحاد)..وصرت قارئا ممتازا منذ الصف الثالث ولم اترك كتابا في مكتبات ابناء العائلة الكبار الا وقرأته حتى ولو لم افهم الكثير من نصوصه،وكنا نعاني وقتها من حصار ثقافي، ومنع الكتب من العالم العربي وكل طباعة كتاب يجب ان تمر على الرقابة العسكرية. سحرتني الروايات والقصص ، وبدأت منذ الصف الرابع في صياغة القصص مقلدا ما أقرأ . ومن هنا  عشقت الانشاء العربي ، ولكن شرح المعلم لم يعجبني ويتناقض مع المعرفة التي نشأت عليها والمعلومات التي بدأت تشكل بداية وعيي السياسي المبكر.فكتبت موضوعا عن النكبة والتشريد واللاجئين ومصادرة الأرض والحكم العسكري، لا اتذكر بالتفصيل ما كتبته، ولكن مربي الصف ، ولم يكن هو نفسه مدرس اللغة العربية دخل بوجه غير طبيعي. ظنناه لوهلة مريضا. وضع حقيبته على المنضدة، والتقط دفترا تبين انه دفتري، وناداني بصوت مخنوق شعرته يكبت مخارج الكلام : نبيل ، خذ دفترك واذهب الى غرفة المدير. عرفت انه دفتر الانشاء. لم افهم السبب، ولكن وجه المعلم وصوته المخنوق ادخلني بحالة خوف. ماذا كتبت حتى يستحق هذا التجهم والارسال للمدير الذي كان يعرف بقسوته وهناك حديث عن تعاونه مع أجهزة الأمن ؟
 هل سُر بما كتبته عن استقلال الدولة؟
استقبلني المدير بصراخ وتهديد لم اعهده ، وللحقيقة شعرت بخوف شديد وارتباك وجف حلقي ولم انبس ببنت شفة. شعرت اني بعد قليل سأُعلق على حبل المشنقة. بعد وجبة الصراخ والتهديد والوعيد والتنويه بالخطر على مستقبلي، فهمت اني كتبت موضوعا يعتبر تجاوزا خطيرا يعرضني للعقاب من الشرطة . ويعرض معلمنا لخطر الطرد من التعليم. وأمرني المدير ان انصرف الى البيت ولا اعود الا مع والدي ليتعلم كيف يربيني.
وصلت الى منجرة والدي ، وكان نجارا مستقلا، وبصعوبة افهمه ابنه المرعوب ما جرى. وما اخرجني من رعبي ان والدي بدأ يتذمر بغضب من المدير وسياسة السلطة الغاشمة واعتقادها ان تشويه الحقائق سيغير من الواقع. وكنت عادة أقرأ قصصي ومواضيعي التي أكتبها على مسامع "جمهوري" العائلي، لذلك كان والدي على علم بما كتبت. قال لي لا ترتعب ليذهبوا الى الجحيم ، يريدون ان يعلموا الطلاب على الخنوع والخوف، ان ما كتبته في موضوعك هو الحقيقة التي لا يمكن تزويرها.
شعرت بالاطمئنان والراحة.
رافقني  في الطريق عائدا الى المدرسة.دخل غرفة المدير وانا مختبئ وراءه.ولم يعط للمدير ان يقول اكثر من جملة : هل انت على علم بالحماقة التي كتبها ابنك؟ فرد عليه: ان حماقة ابني أفضل من تضليل جهاز التعليم وتشويه عقول الطلاب. فقال المدير ان مستقبل الولد سيكون في خطر. فقال والدي بغضب : طز في مستقبله اذا بني على الكذب والتزوير.بالطبع ذاكرتي لا تحتفظ بنصوص دقيقة لما جرى.ولكني اكتب عن مجمل الحدث الذي لم يغادر ذهني كلما كتبت مقالا او قصة وربما ذلك الحادث المترسب في ذهني جعلني حادا في مواقفي ، بل وعنيفا احيانا في نقدي لمواقف ارى انها تفتقد للمصداقية.
وهكذا عدت الى الصف منتصرا ومستوعبا ان الحقيقة يجب ان تقال.
ثالثهما: قبل عقد ونصف العقد من السنين.  وصلت الى مدينة الرملة، في زيارة لعائلة زوجتي والوقت كان عشية ما يسمى "عيد الاستقلال".
لفتت انتباهي اعلانات ضخمة تملأ شوارع الرملة ومداخلها تدعو السكان الى الاحتفال ب "تحرير" مدينة الرملة. وعرب الرملة "المحررة" مدينتهم،والذين يسكنون في احياء مهملة تسمى ب "الغيتو العربي" يقرأون عن احتفالات تحرير مدينتهم.
لست هنا في باب الرد على "رواية التحرير" الصهيونية. ولا تفاصيل النكبة الفلسطينية وحصة الرملة فيها وهي حصة كبيرة جدا. انما ساذهب الى تاريخ الرملة التي "حررت" والتي يشملها تشويه تاريخ الوطن الفلسطيني.  وفي حالتنا قد تتحول الرملة الى هدية أخرى من ابراهيم الخليل لأبناء اسرائيل.
كانت الرملة خلال فترة طويلة خاصة في عهد الدولة الأموية عاصمة للولاية الفلسطينية. ولعل في استعراض التاريخ ادراك ان الغطرسة والاستعلاء هي نتيجة طبيعية للصوصية والتزوير.
بنى سليمان بن عبد الملك بن مروان مدينة الرملة عام (710ميلادية) يوم كان واليا على فلسطين في عهد أخيه الخليفة الأموي الوليد (705 – 715م) وواصل سليمان بناء المدينة بعد ان تولى الخلافة بعد الوليد، ولكنه لم يعمر طويلا.اذ توفي بعد عامين ونصف (717م) ولكنه حول الرملة الى عاصمة الولاية بدل مدينة اللد المحاذية لها.
جاء بعده عمر بن عبد العزيز الذي تابع ما بدأه سليمان من بناء مدينة الرملة.فبنى الجامع الأبيض، واذكر هذا الجامع من ذلك الوقت بناء متهالكا، ولكنه رمم فيما بعد. وقام ببناء "العنزية" وهو مجمع لسقي المعزة.وما زال ذلك الموقع من اجمل آثار الرملة التاريخية، ومن معالمها السياحية الجميلة. والعنزية عبارة عن نبع وبركة ضخمة تحت الأرض، ينزلون  اليها بدرج شديد الانحدار، وبالإمكان ركب قارب صغير والتجديف به في ارجاء البركة.
كانت تنشل المياه من البركة لسقي القطيع، ولكن المكان مهمل نسبيا، وتاريخه مشوه.
هناك رواية اخرى تقول ان العنزية بالأصل هي كنيسة اسمها "سانتاهيلانه"،وهو من الأسماء اللتي يعرف بها الموقع حتى اليوم، بنتها ، حسب الرواية الملكة هيلانه ام الإمبراطور قسطنطين،التي يعتبر دخولها للمسيحية ، ثم تحول الدين المسيحي الى دين امبراطورية قسطنطين، بداية لانتشار عالمي واسع للمسيحية، وقد رُسمت هيلانه قديسة بسبب اعمالها في بناء عشرات الكنائس في الأماكن التاريخية للمسيحية ونشر المسيحية. 
وهناك رواية تقول ان العذراء مريم في طريقها الى القدس هربا من هيرودوس،استراحت في ذلك المكان، وان كنيسة سانتاهيلانه المذكورة غمرت ارضها مياه الينابيع بسبب انخفاضها، وتحولت الى بركة ماء تحت ارضية، بني فوقها مسقى العنزية. وبسبب اهمال دائرة الآثار ، للآثار العربية والاسلامية، لم يتم الكشف عن الكثير من سراديب وطرق وابنية الرملة التاريخية، وظلت مغلقة بالأتربة ولا يجري الكشف عنها، هذا عدا عشرات المقامات والأضرحة الدينية الاسلامية ذات القيمة التاريخية، وأبرزها مقام النبي صالح، ببرجه الشامخ ، والبعض يقول ان اسمه النبي الصالح مع "ال" التعريف. كان وقتها مهملا واشبه بمجمع للنفايات. اليوم نظف واستغلت الأرض لمشاريع بلدية .. وقد علمت ان مهندسة رملاوية تقوم بالعمل على كشف "اسرار" الرملة العربية ومعالمها التاريخية.ولكن يبدو ان المهمة أكثر صعوبة من رغبة شخصية ودافع وطني.
ومن الجدير ذكره ان آخر رئيس لبلدية الرملة قبل النكبة هو الشيخ مصطفى الخيري. ولكن البعض يقول انه يعقوب القصيني.ومهما كان الخلاف فالإثنان هما آخر رئيسان لبلدية الرملة العربية قبل ان "تحرر"  الأول مسلم والثاني مسيحي وتلك دلالة هامة لحياة التآخي والتفاهم التي سادت المجتمع الفلسطيني ومدينة الرملة العربية ، قبل الظواهر الطائفية المقلقة التي بدأت تنتشر اليوم وتزيد مجتمعنا تفسخا.
مدينة الرملة التي "حررت" على آخر زمان، كانت خلال تاريخها الطويل، مركزا للثورات العربية التحررية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وذلك منذ اواخر العصر الأموي وحتى الفتح الصليبي ، أي لفترة تزيد عن اربعة قرون وهذه أهم معالم تلك الثورات.
اول ثورة يحدثنا عنها التاريخ كانت ثورةعام(743م)نصب خلالها الثوار احد ابناء سليمان بن عبد الملك قائدا لهم، وذلك حفظا منهم لعهده، وقد بايعوا ابنه يزيد أميرا للمؤمنين.ولكن الوليد الثالث خليفة دمشق استطاع القضاء على الثورة بمعارك دامية.
بعدها كانت ثورة المبرقع اليماني، الذي انتفض على المعتصم خليفة بغداد عام (841م)وقد هزمت جيوش الخلافة المبرقع وأسرته ونقلته الى سامراء العراق.
حين تولى الشيخ عيسى بن عبدالله الشيباني ولاية الرملة ( فلسطين) قام بجهود مضنية لإقناع المعتمد الخليفة العباسي باستقلال فلسطين. ولكن جهوده فشلت، فتمرد على المعتمد، الذي ارسل الجيوش وقضى على تمرد الشيباني ومحاولته اقامة دولة فلسطينية وطرده من بلاد الشام كلها.
في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، والنصف الأول من القرن الحادي  عشر، جرت محاولات كثيرة قام بها آل جراح في سبيل استقلال فلسطين عن دولة الخلافة، وذلك من عاصمة ولاية فلسطين مدينة الرملة.ولكن ثوراتهم وتمرداتهم المتواصلة فشلت في مواجهة جيوش الخلافة العباسية، رغم الفترة الطويلة التي صمدوا بها.
هذا التاريخ يبين ان الشعب الفلسطيني ليس وليد الصدفة،كما تحاول ان تصوره الرواية التاريخية الصهيونية، وانما هو شعب جذوره عميقة بالتاريخ والنضال من أجل الاستقلال. له ثقافته وحضارته الخاصة والتي هي جزء من الثقافة والحضارة العربية. ومن الضروري ان نؤكد ان العرب في بلاد الشام ، كانوا قبل الاسلام بعشرة الاف سنة.
هذه الصور الثلاث تعاودني كلما اقترب ما تسميه اسرائيل عيد الاستقلال. هل حقا هو استقلال حين ندرك انه قائم على الحراب وتطوير اسلحة الابادة الجماعية؟ هل هو استقلال ذلك القائم على العداء للمحيط العربي الذي زرعت اسرائيل داخله بالاعتماد على خطط امبريالية لا ارى  مصلحة للشعب اليهودي بأن يكون أداة لتنفيذها. هل هو استقلال بأن يجري اخضاع الشعب اليهودي ، وليس الشعب الفلسطيني فقط، لأبشع احتلال استيطاني، لا أمان فيه للمستوطنين الا بتواجد عسكري ضخم وقمع متواصل لأصحاب الأرض الشرعيين، وصرف ميزانيات هائلة على مشاريع استيطانية تقود الدولة الى تسانومي عزل سياسي، والأخطر الى سد كل الطرق امام حل سلمي مع الشعب الفلسطيني ومع الشعوب العربية والاسلامية بالتالي؟
انا لا اعرف استقلالا جعل شعبه رهينة للحروبات والعنف والقمع والتمييز العنصري وارتكاب جرائم حرب لم تكشف بعد تفاصيلها رغم مرور 50 سنة على الوثائق السرية حسب القانون ، وجرى تمديد اغلاق الأرشيفات الحكومية لعشرين سنة أخرى مما اثار تساؤلات من اليهود انفسهم عن المعلومات التي تخاف حكومة اسرائيل من كشفها.
لسنا ولن نكون أعداء للشعب اليهودي. بل مقاومين لسياسة الاحتلال الصهيونية . الصهيونية كما قال احد مؤسسيها،كانت هدية اوروبا للشعب اليهودي، ولكني اعارضه بان هذه "الهدية" كانت استراتيجية اوروبية لما بعد الحرب العالمية الثانية، جعلت من الشعب اليهودي رهينة لسياسة قديمة- جديدة، لإبقاء الشرق الأوسط بثرواته الطبيعية ملحقا فقيرا ومتخلفا للنظام الرأسمالي الدولي الذي بدأ للتو حركة نهضة جديدة.
64 عاما بدون ان يحدث أي تقدم نحو الانفراج السياسي تقول امرا واحدا. المشكلة أكثر اتساعا من الموضوع الفلسطيني ، وللأسف الأنظمة العربية الفاسدة، الساقطة واللاحقة، تثرثر حول المؤامرة وهي نفسها أهم نتاج للمؤامرة.من هنا رؤيتي ان مأساة الشعب اليهودي من استمرار الاحتلال لا تقل عن مأساة الشعب الفلسطيني.والتحرر من الاحتلال  هو تحرر للشعبين!!
 وقد بلغ السيل الزبى!!
[/size]

nabiloudeh@gmail.com




71
المنبر الحر / انتفاضـــــة...
« في: 23:22 02/09/2011  »
انتفاضـــــة...

(رواية قصيرة جدا)

نبيـــل عـــودة

لا يذكر ختيارية البلد حادثا شبيها مثل ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة ، الحياة الرتيبة توقفت . التساؤلات كثرت . امتلأت الحارة بالغرباء . سيارات من كل الألوان والأنواع مع صحون كبيرة على سقفها. الكل يتساءل ما الذي حدث؟ هل هي حرب جديدة ؟ الأولاد يقولون أن هذه الصحون هي لاقطات تلفزيونية تنقل الصورة فورا من هنا  إلى كل التلفزيونات حتى التي في أمريكا  . هذا الكلام غير مقنع . أيام العجائب انتهت . الأولاد ليسوا مثل أيامنا. " أكل ومرعى وقلة عقل "، قال ختيار بألم  وأضاف : "كنا في جيلهم نزن نصف وزنهم اليوم ، ولكن عقلنا كان أكبر"  .
توجس الجميع : "ما هذا الهجوم على الحي ؟ هل وجدوا جاسوسا ؟ كلها قضية ضد رائحة قاتلة من حظيرة خنازير .. ؟ "
 وصل عشرات الرجال مع كاميرات طويلة وقصيرة ، وصبايا يركضن حولهم مع أجهزة  مختلفة.
 بقالة  الحارة، استفادت وباعت في اليوم ما تبيعه عادة في أسبوع وأكثر ، ورغم أن البيرة من المحرمات، إلا أن الطلب المتزايد عليها من الغرباء، والتذمر من عدم وجودها في بقالة الحارة، إضطر صاحب البقالة  إلى إحضار عدة صناديق من المشروب المكروه، بعد أن استغفر ربه مرات كثيرة، وبيعها بالمفرق لقليلي الدين، بسعر مربح جدا، وكان يذمهم في سره وهو يستلم أثمان المشروب الذي حرمه الله. ورغم مقاطعة بعض الأهالي لدكانه ، بسبب وجود محرمات إلى جانب البضاعة الأخرى،  إلا أن البيع ازداد أضعافا والربح في الأسبوع الواحد أفضل من سنة كاملة ، والمسألة تحل بفتوى من شيخ الحارة بعد انتهاء مشكلة رائحة الخنازير وما جرته القضية من ضجة واهتمام وكثرة الوافدين للبلدة. ولولا أن الرائحة حقا صعبة، خاصة في ساعات الليل، لتمنى بقال  الحارة أن لا يتغير الوضع. ولكنه يفضل الصمت. ولكن السر الذي يخفيه بقال الحارة أن بعض شباب البلد صاروا يشترون البيرة من بقالته ،بدل الذهاب للمدينة القريبة، ويخفونها داخل الأكياس، ليشربوها على أطراف البلد حيث لا رقيب ولا حسيب. ولم يكن من مصلحته أن يكشف الأسرار، وفلسفته تقول أن لكل إنسان حسابا عند ربه، وليس عند البقال.
 وصلى  صاحب المخبز إلى  ربه أن تطول الحكاية لسنة كاملة حتى يسد دينه المتراكم من تجهيزات  المخبز الجديدة ، وبدأ يحضر كميات أكبر من مناقيش الزعتر ومناقيش الجبنة ، بل وساعدته أم الأولاد على خبز بيتسا بالجبنة الصفراء والبندورة، وحمد ربه ألف مرة على الخير الدافق ، ولولا الحياء لحمد السلطة التي رخصت مزرعة الخنازير على الأرض المصادرة على أطراف البلد.
 وانفردت أسارير صاحب كيوسك الفلافل  الذي رفع السعر كما لو كان على الشارع العام ، وتمنى في سره أن تظل حظيرة الخنازير حتى يتحسن  حسابه البنكي ويزوج إبنه البكر.
 حتى صاحب المقهى صار يبيع القهوة للمراسلين والزوار من المؤسسات وجمعيات الرفق بالحيوان  بكؤوس بلاستيك صغيرة ب : " 2 شيكل يا بلاش" .. ثم رفع السعر إلى 3 شيكل ، لأنها فرصة لن تعود. ولكنه تساءل ما علاقة الرفق بالحيوان بأهل الحي ورائحة الخنازير، ولم يستطيع أن يجد أي علاقة فاستغفر ربه من طارئ مجهول.
ولكن الحق يقال أن أحدا منهم لم يتخلف عن المشاركة في الاحتجاج على إقامة حظيرة خنازير على ارض البلد المصادرة. وافتاها صاحب ألبقالة بقولة:" البزنس بزنس " ولم يفهم علية معظم أبناء البلد القصد من كلمة "البزنس"، فانتشرت التفسيرات المتناقضة، وأعجبها أن البزنس هي دمج بين كلمتين: "بز ونس، أي النهد والنساء".. حيث أن الصبايا الراكضات بين مصوري التلفزيونات، شبه مكشوفات الصدر، ونهودهن المهتزة عبر الفانلات الخفيفة تشد الأنظار ويشربن البيرة مثل الرجال. وهذا من مميزات الحدث الكبير الذي أثار هذا الضجيج حول الشكوى من رائحة الخنازير.
كبار السن قالوا أن ما يجري من أحداث،  وتدفق العديد من الشخصيات وذوي المناصب والصحفيين ورجال الجمعيات، والالتصاق  بأجهزة الراديو، لعدم تفويت نشرات الأخبار، يذكرهم بالانقلابات العسكرية العربية التي كانت تتوقف الإذاعات ليقرأ  أحد الضباط  البيان العسكري الأول  باسم مجلس  الثورة، ولا يمضي شهر آخر وإذا الإذاعة تصدح ببيان عسكري أول  جديد عن انقلاب عسكري جديد ومجلس ثورة جديد. وصار العربي كلما حدث خلل، أو صمت لبضع ثوان في الراديو ، يتوهم أن البث توقف للإعلان عن انقلاب عسكري جديد، فيقرب أذنه لسماعة الراديو حتى لا يفوته خبر الانقلاب العسكري  الجديد وتفاصيله وأسماء الجنرالات الجدد، ولكن المميز الوحيد الباقي في الذاكرة من الانقلابات العسكرية العربية، أن ما كان يتغير من لغة البيان ، فقط  أسماء الجنرالات الذي شكلوا مجلس الثورة الجديد، بدل الجنرالات الخونة السابقين. وكان والدي، رحمه الله ، يقول بسخرية:" ما أكثر الجنرالات عند العرب .. كلما ازداد عددهم ازداد ضياعنا. كثرة بياناتهم العسكرية توهم السامع أنهم مشغولين بالحروب ضد أعداء الوطن، ويبدو أن المواطن صار يفهم تكتيكات الحرب،  أفضل من أكبر جنرال." واليوم عندما استعيد أقواله ، وأستعرض هزائم العرب في الميادين العسكرية والاجتماعية والسياسية والعلمية والأخلاقية، أعرف تماما ما كان يقصد، أو الأصح  ما كان يحس به!!
الانقلابات لم تجلب للعرب إلا رؤساء مؤبدين في الرئاسة، زادوا فقر الشعب وطوروا بجدارة أجهزة الأمن والقمع إلى جانب الأغاني الوطنية التي تشدو بانجازاتهم غير المعروفة إلا للمغني وكاتب الكلمات والملحن، لدرجة أن البعض يظن أن المغنيات ساحرات  الجمال ، وظهورهن شبه العاري المثير لحماسة الشباب،هو الانجاز العبقري للانقلابات العسكرية في مجال تطوير الفن وعروض الصبايا الجميلات!!
أما ذلك الحدث في البلدة فكان انقلابا من نوع آخر ، لا عساكر فيه ولا جنرالات إلا إذا اعتبرنا قادة الأحزاب المتدفقين على البلدة التي كانت شبه منسية،جنرالات سياسيين .
أجل كان انقلابا أشغل البلد والدنيا كلها.. وامتلأت الصحافة بالأخبار والتقارير، وتسابق المراسلون الصحفيون من  التلفزيونات ، وشبكات الراديو ومراسلي الصحف العربية والعبرية والأجنبية لتغطية الحدث، رغم أن الحديث عن بضعة من عرب البلاد، في بلدة شبه منسية، في بلاد كان اسمها فلسطين وصارت إسرائيل، لم  يعد باستطاعتهم تحمل رائحة الخنازير المنبعثة بقوة من حظيرة  الخنازير المحاذية للبلدة والمقامة على أراضي السكان المصادرة...
هل لأننا عرب حقنا مغموط دائما ؟
هذا السؤال ملأ فضاء القرية ، وكالعادة أنكرت السلطة أي علاقة قومية بموضوع إنشاء حظيرة خنازير على أراضي القرية التي صودرت من أجل الصالح العام. وقال ناطق حكومي انه "لا علاقة بين اقتراح قانون منع العرب من القيام بفعاليات بذكرى النكبة، وحقهم بالاحتجاج على رائحة تعمل الحكومة بكل طواقمها المختصة 24 ساعة يوميا لإيجاد حل للمشكلةّ. وانه حتى لو أقرت الكنيست إسقاط مكانة اللغة العربية كلغة ثانية، حسب مشروع القانون المقدم للكنيست، فمن حق السكان أن يرفعوا شعارات بالعربية، وهذا لن يعاقب عليه القانون لأن إسرائيل دولة ديمقراطية".
هذا التصريح الخطير تناقلته كل وسائل الإعلام، وأثار غضب المستوطنين اليمينيين، إذ  انه أثبت أن الحكومة تهتم بمطالب العرب أكثر من اهتمامها بمطالبهم، بتوسيع البناء في المستوطنات.
الراديو المحلي أرسل مراسلا مقيما ليرصد الحدث غير العادي. ونشر تقارير وتعقيبات كل ساعة تقريبا، عن مخاطر الروائح، وضرورة نقل السكان إلى مكان آمن، حتى لا يتأذوا من الرائحة. وان تفرض قيود تحدد عدد الخنازير المسموح تربيتها في الحظيرة، بحيث تجري السيطرة على نسبة الروائح المنبعثة من الحظيرة حتى لا تتجاوز المقاييس البيئية التي تتحملها صحة البشر،حسب معايير وزارة البيئة،وتساءل أحد قادة الاحتجاج في البلدة إذا كانت معايير الوزارة متشابهة بين مختلف البشر المواطنين في الدولة؟  وهل اصطلاح البشر يخص العرب في هذه الحالة؟ مما يعتبر تقدما عن وصف قاله زعيم  سابق بأنهم:"حيوانات تدب على اثنين ". أو يكون الحل بنقل المواطنين العرب إلى بلدة أخرى، وتوسيع الحظيرة التي يزداد الطلب على لحوم خنازيرها، خاصة بعد الهجرة الروسية التي جلبت مليون إنسان جديد، وصارت مزارع الخنازير تشكل مصدرا هاما لميزانية الدولة، لا يمكن الاستهتار به .
احد المستمعين تساءل عبر الهاتف لماذا لا تنقل الحظيرة إلى مكان غير مأهول بدل هذا التشاطر في إيجاد حلول لا تنهي المشكلة؟ وهل نقل السكان العرب جائز ونقل الخنازير غير جائز؟ أم لأننا عرب حقنا مغموط دائما في هذه الدولة، حتى الخنازير لهم أهمية أكثر منا ... رحلوا الخنازير...
و..انقطع البث ووضعت بدلا منه أغنية وطنية للفنانة الوطنية الكبيرة هيفاء وهبي :
" ليك الواوا بوس الواوا خلى الواوا يصح
 لما بوستو الواوا شيلتو صار الواوا بح "
 وذلك تعبيرا عن الواقع الأليم في الحي من رائحة الخنازير القاتلة التي تصلهم مع نسمات الهواء.  ولم يسمح لذلك المواطن بالتعبير عن رأيه كاملا ، إذ صدر أمر من مدير الراديو بقطع البث منعا لهذا التطاول الترانسفيري على الخنازير، ولم يسمح لذلك المواطن بالتعبير عن رأيه كاملا ، وأضاف مدير الراديو توجيها يقول أن الأحاديث حول هذا الموضوع السياسي الخطير، يجب أن تخضع للرقابة  قبل بثها حتى لا تقع أزمة في العلاقات مع السلطة، لأن أصحاب المزارع يهود، وقد يفهم الكلام بأنه طلب لتهجير أصحاب المزارع اليهود من المنطقة وليس الخنازير. ونقل الحظيرة لمكان آخر خال من الناس سيفهم رفضا للنظام الديمقراطي الذي يضمن حرية كل شخص في اختيار مهنته، بغض النظر عن قوميته أو دينه. والويل لنا من هذا الموقف العنصري إذ سيقال أن العرب يرفضون مجاورة اليهود...وسيكون ذلك تبريرا لرفض الحاخامات تأجير بيوت للعرب في صفد والقدس وحيفا وطبريا والناصرة العليا وكرمئيل ومختلف المدن في إسرائيل.
مواقع الانترنت نصبت كاميراتها ترصدا لما سيحدث. كان التوتر شديدا.
وأصل الحكاية....
بدأت الحكاية من شكوى للمحكمة باسم أكثر من مائة صاحب منزل، ضد صاحب مزرعة خنازير أقيمت على أطراف البلد، على أراضي صودرت بحجة إقامة مشاريع حيوية للمواطنين. ولكن السلطة أجرت الأرض لمستثمرين يهود لإقامة حظائر خنازير بعيدا عن المدن والبلدات اليهودية،  بدل أن تقام مدرسة حسب المشروع الأصلي الذي أعدته السلطة المحلية قبل مصادرة الأرض. وصار الهواء يحمل  إليهم رائحة قاتلة  تجبرهم على إغلاق شبابيك منازلهم ليلا ونهارا، والتشظي في حم الصيف القاتل.والمشكلة أن الحظيرة رخصت من وزارة الداخلية التي يديرها يهودي متدين يرى بتربية الخنازير وأكل لحومها تجاوزا لتعاليم التوراة ، وتلويت الأرض المقدسة بما يغضب الرب ويوقف المطر، ويسبب الحرائق في البلاد، ويزيد من انتشار الأمراض القاتلة، ويزيد من الكوارث الطبيعية غير العادية،بل ويجعل النساء يلدن إناثا بدل الذكور، كما يقول بمعرفة وثقة طويلي اللحى والسوالف من الحاخامات الذين لا يرفض الرب طلباتهم، وهم مصدر موثوق للكثير من المواطنين. . ولكن القانون ليس ملك أيمانهم، وبما أن الحظائر أقيمت على أراضي الدولة التي استعيدت من الأغيار الدخلاء ، أو "الصراصير المسممين"  كما وصفهم رئيس أركان سابق للجيش . إذن لا مضرة من إقامة حظائر للخنازير، في المناطق التي يسكنها الصراصير، بدل أن تبقى في أيديهم، مما يشكل كارثة أعظم بعدم استعادة ارض الميعاد كاملة كما كانت مشيئة الرب.  الأهم أن لحوم الخنازير صارت الأكثر طلبا في الأسواق اليهودية أيضا، خاصة بعد الهجرة الروسية الكبيرة، والمعروف أن ذلك يضمن لهم توفر الهبات والميزانيات الضخمة والخاصة، حتى لا تثير أحزابهم أزمة وزارية، مع حكومة العلمانيين ويواصلوا بالتالي دعم بقائها.
أحد  أبناء البلدة المنكوبة برائحة الحظيرة ، ادعى في المحكمة انه فقد من وزنة 10 كيلوغرامات كاملة خلال شهر واحد بسبب الرائحة القذرة  وان الكشف الصحي يظهر فقرا بالدم. وهو متأكد أن السبب تلك الرائحة الرهيبة من مزرعة الخنازير. وان سائر سكان البلدة يعانون من مشاكل صحية مختلفة بسبب الروائح القذرة التي يتنفسها مع الهواء ليلا ونهارا سكان البلدة.
احدهم ادعى أن خطيبته أرجعت له خاتم الخطوبة وأساور الذهب  وكل هداياه لأنها ترفض السكن في المنزل الذي بناه في البلدة المنكوبة برائحة الحظيرة ، وان على صاحب الحظيرة تعويضه عن مصروفه من أيام الخطوبة، حيث تكلف مصاريف مطاعم وجولات في الطبيعة مع خطيبته، وأجرة مرات عديدة فنادق لنصف يوم، لنومة قيلولة الظهر،التي  كان يضطر لها  بعد الطعام الدسم في المطاعم ..
امرأة من الحي المنكوب ادعت أن زوجها صار يبيت في حيفا عند عشيقة يهودية تعرف عليها، وهو صايع في شوارع حيفا هربا من الرائحة  التي ابتلوا فيها، وأنها تطالب صاحب الحظيرة بتعويضها عن زوجها نقدا ومصاريف إيجاد زوج  وزواج آخر.
وشهدت جلسات المحكمة صراعا كاد يتطور إلى الضرب بالأيدي لولا تدخل الشرطة لفرض النظام، واتُهم بعض العرب بالتحريض العنصري وجرى اعتقالهم تمهيدا لمحاكمتهم.  وسببت أعمال الاحتجاج لسكان البلدة، مقاطعة يهودية ، فكسد العمل في مطاعم  الحمص والفول وكيوسكات الفلافل والشوارما. وبسبب منع التصوير داخل قاعة المحاكم، حسب القانون، فات المشاهدين عرض مصور قد يصلح للحصول على جائزة الأوسكار للفلم الوثائقي .. أو يكتفي بسعفة "مهرجان كان" الذهبية.
الضجة التي رافقت هذا النزاع هي أمر لا يصدق. وكان الكثيرون يرددون أن الخوف الأكبر أن تتجدد أنفلونزا الخنازير في العالم ، من هذه المنطقة بالذات ، بعد أن خبا جنون الخوف من هذا المرض ألخنزيري في العالم. وسيكون أهل الحي أول ضحايا تجدد هذا المرض الفتاك .
وأصبحت أغنية شعبولا عن إعدام الخنازير نشيدا قوميا لأهل الحي يذاع من مسجلات البيوت ليلا ونهارا:
" كوارثنا زادت كارثة
 والوضع شكله خطير
قال يعنى كانت ناقصة
 أنفلونزا الخنازير".
الصحافة المطبوعة تخلفت كالعادة في نشر تفاصيل الأحداث المثيرة عن سير القضية أمام القضاء، ومن تفاصيل شخصية أرفقها المشتكون ضد صاحب الحظيرة المستهتر بصحتهم.وما نشرته كان معروفا، وزهق الناس من تبادل الأحاديث حوله في السهرات.
موقع  "العلقة" المشهور سبق الجميع بنشر مئات الصور لأهل الحي ولصاحب الحظيرة، بل ونقلوا صورا للخنازير وكيف يجري شطفها يوميا منعا للرائحة المؤذية، وسجل لقاء مصورا مع صاحب الحظيرة اعترف فيه  أن المشكلة في خنزير واحد تضخم كثيرا، وازداد شراسة ووحشية، وصار الاقتراب منه يشكل خطرا على العمال، مما سبب هذا الإزعاج المؤقت لبعض السكان.وان رافعي الدعوى ضده وضد حظيرته جانبهم الصواب، لأن القضية تتعلق بوزارة  البيئة، التي ترفض تخصيص ميزانية لإخلاء الخنزير الشرس إلى المسلخ. وأن عليهم استبدال الدعوى ضده بالدعوى ضد الخنزير الذي سبب هذا الإشكال.. وضد الوزارة التي لا تقلق كثيرا على البيئة في الوسط العربي، مما يشكل تمييزا عنصريا واضحا للعيان، وانه هو كيهودي صاحب مزرعة في منطقة عربية، ورجل مناضل من أجل السلام، يؤكد على وجود التمييز في هذا المجال فقط.
في تعليقات القراء التي تملأ عادة موقع "العلقة" اهتم المعلقون من جمهور المراهقين والمراهقات ،كما يظهر من تعليقاتهم،  بالحديث عن الصبايا والمغنيات ساحرات الجمال، وتبادل  كلمات الغزل  والتلميحات عن أماكن التواجد في أوقات معينة، بلغة تشبه لغة التشفير العسكرية. وهذا الأمر أقلق أجهزة الأمن من مخاطر تسرب أسرار الدولة إلى الأعداء في الخارج بلغة الشفرة التي طورها المراهقين.وبعض التعقيبات كانت مثلا السؤال : هل سترتدي ميرا التنورة التفتا القصيرة التي تسلب العقل ؟ أو السؤال عن نوع البكيني الذي ستتجلى به  الصبية منيرة على شاطئ البحر،  وهل ستكون لوحدها ، أم مع رقابة عسكرية من أمها وخالاتها وعماتها ؟؟. وهل جدتك يا أم الشعر الأسود، حادة النظر أم نستطيع الاختلاء وراء التينة في حاكورة الجارة ؟
وشاب سأل البنت التي اسمها يبدأ بحرف أل "ف " إذا تلقت صورته الجميلة على الفيسبوك ، ولماذا قطعت الاتصال به فجأة ؟
وواحد ولهان قال ل "قمر الزمان" أن حمالة الصدر تشوه صورتها الجميلة، ورجاء حار أن ترسل له صورة جديدة  بدون هذه الخرقة السخيفة على الصدر.
وقد بلغت التعليقات على الموضوع المقلق أكثر من ثمانين تعليقا، ولكن لم يذكر احد من المعلقين مشكلة الحي مع رائحة الخنازير.إلا معلقان اثنان، الأول  استغفر الله العلي القدير، وطالب بتصفية عرقية للخنازير مثلما جرى في مصر، وقال المعلق الثاني بلغة عربية ركيكة أن الذي يقول هذا الكلام، عن تصفية عرقية للخنازير جبان، ولو ذكر اسمه الصريح في التعليق  لتورط في محاكمة دولية لحقوق الإنسان  في لاهاي.لأنه في الحقيقة يتحجج بالخنازير ليغلف كراهيته لليهود ورغبته بتصفيتهم !!
 وكتب صحفي غاضب في مقاله الأسبوعي  يقول انه أرسل أكثر من تعليق جاد على الخبر والصور لموقع "العلقة"، إلا أن الموقع لا ينشر إلا التعليقات غير الجادة والتي لا علاقة لها بالموضوع المثير والمقلق لكل أهل البلد.
نترك العشاق يعلقون على مشكلة الخنازير، ونذكر أن ما قاله صاحب المزرعة بأن المشكلة هي من خنزير واحد، قد لفتت انتباه وسائل الإعلام المحلية والعالمية وتساءلوا لماذا لا يتم التخلص من الخنزير بمساعدة حكومية؟وهل من ضرورة لكل هذه الضجة بسبب خنزير واحد شرس ذو رائحة مؤذية، يسبب مكارة بيئية للسكان، كما يدعي صاحب المزرعة؟ والأهم يثير ضجة عربية بحيث تبدو ديمقراطية الدولة مشكوك فيها ، أو ديمقراطية تمييزية حصة اليهود فيها كبيرة وللعرب برارتها؟
 واقترح أحد المواطنين العرب بحماس، أن تحل المشكلة برصاصة في رأس الخنزير!
مقترح إطلاق رصاصة على رأس الخنزير كاد يتورط بقضية قضائية، إذ هددوا بتقديمه للمحاكمة بتهمة التحريض على القتل واللسان السيئ  ضد الخنازير، وربما يتحايل بذلك على قتل صاحب الحظيرة أيضا، مما يعتبر إخلالا امنيا، وعملا إرهابيا قوميا يعرض أمن الدولة للخطر، فسارع بنشر اعتذار رسمي في ثلاث صحف وعلى مساحة صفحة كاملة، دفع مقابلها من جيبه أجرة عمل شهر ونصف كاملين ، معلنا انه لا يملك السلاح أصلا،  وان اقتراحه كان غباء مطلقا منه، ويعتذر من الخنزير الضخم ومن سائر أبناء جنسه و"خاصة أعضاء جمعيات الرفق بالحيوان"، كما جاء في الاعتذار المصاغ بشكل خاطئ ومضحك،ومن حسن حظه أنهم لم يفهموا الجملة كما صيغت خطأ باللغة العربية. ويطمئن أصحاب المزارع اليهود، وجمعيات الرفق بالحيوان، انه لا ينتمي لأي منظمة إرهابية، أو معادية للسامية، وانه إنسان مسالم بل ومستعد أن يتبرع أيضا بيوم عمل تطوعي كامل في تنظيف الحظيرة تعبيرا عن ندمه وتراجعه عما تفوه به في لحظة فقدان للتفكير السليم. ولكن بعض نشطاء الأحزاب اعتبروا استعداده للتطوع نوعا من الخدمة العسكرية لدولة ألاحتلال. فاعتذر أيضا لهم، وأعلن انه ضد كل أشكال التطوع، وقاتل الله التطوع والمتطوعين.
وهناك معلومات لم تتأكد بعد تقول أن المخابرات تفحص إذا كانت للمحرضين على قتل الخنزير برصاصة، أو بطرق أخرى، علاقات مع حزب الله وحماس أو مع حركات متطرفة أخرى..
صاحب المزرعة، تمشيا مع أوامر وتوجيهات جمعيات الرفق بالحيوان، التي ترفض استعمال العنف مع هذه المخلوقات الوديعة وغير العاقلة، والتي تعتبر موردا اقتصاديا للمجتمع ولإطعام أكثرية أبناء المجتمع، قرر اقتراح جائزة كبيرة للشخص الذي ينجح بإقناع الخنزير الضخم والشرس، بطرق إنسانية لا غبار عليها ولا عنف فيها، بمغادرة الحظيرة بإرادته الحرة، ليجري تنظيف رائحته القاتلة.
وهمس مواطن عربي في أذن صديق له  وهو يتلفت قلقا حوله خوفا من الآذان التي ترصد كل ما يتفوه به العرب:"لا يعنيهم الأمر ، خاصة عندما تكون المشكلة بإطلاق الرصاص على العرب، أو هدم بيت عربي،  إما التخلص من خنزير واحد أو حظيرة كاملة قتلتنا برائحتها فقد صارت مسألة أمنية ودولية، لأن صاحب الحظيرة يهودي والمتضررين عرب".
الجائزة التي اقترحها صاحب المزرعة  لا تتعدى ثمن ذبيحة واحدة من حظيرته الضخمة بعشرات آلاف الرؤوس، وقد صارت حديث المجتمع، ووصلت للبحث في البرلمان، وقام النواب العرب بالصراخ والمقاطعة، ووصفوا ترخيص الحظيرة بجوار البلدة العربية بالعنصرية والتمييز الفاضح، وهاجموا المتحدث باسم الحكومة بسبب تبريراته المضحكة بان الحظيرة توفر أماكن عمل للعمال العرب. وقالوا له تعال حضرتك وقف لساعة واحدة في شوارع البلدة المنكوبة، هل ستتحمل الرائحة القذرة؟ وجد لنا عاملا يهوديا واحدا يقبل هذا العمل الشاق والمؤذي صحيا. وسأله أحد النواب:" كيف تفسر تفضيل حكومتك العنصرية إقامة مزرعة خنازير بدل مدرسة ، البلدة بحاجة ماسة لها ؟ والأرض أصلا كانت مخصصة لهذا المشروع التربوي؟" مما اعتبره المتحدث تحريضا ضد اليهود أصحاب مزارع الخنازير. فاخرج النواب العرب من الجلسة، واسقط البحث بأكثرية أصوات الائتلاف ودعم المعارضة للموقف الوطني أيضا.
واحتلت مشكلة الرائحة الخنزيرية رأس نشرات الأخبار سابقة حتى الأخبار عن  فضائح زعماء الدولة المالية والجنسية. مما خفف من كشف ما هو أكثر فساد. وسبقت حكاية الخنزير الأخبار عن مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية وتعثرها، وإمكانية إعلان دولة فلسطينية من طرف واحد. وتقدمت على أخبار الخطر النووي الإيراني، والجهود العالمية لمنع إيران من أنتاج السلاح النووي. بل وكادت البلدة تنسى ما يجري في سوريا من مذابح يرتكبها النظام ضد المواطنين ، وأُغرق قائد أحد الأحزاب  بالبصاق لأنه تجاوز الحدود حين قال أن ما يجري في سوريا مؤامرة صهيونية امبريالية لا تختلف عن مؤامرة إقامة الحظيرة قرب البلدة، وطرد شر طردة. وقال معلق القناة التلفزيونية الرابعة والنصف في إسرائيل أن مشكلة الخنزير وأهل الحي المشتكين من رائحته، تشبه حال العرب مقابل إيران فيما لو امتلكت الأخيرة السلاح الذري. وأن الضغط الإسرائيلي السري للقيام بعملية عسكرية تبيد المنشئات النووية الإيرانية هو لمصلحة العرب أولا، وعليهم أن يأخذوا نموذجا حيا من المشكلة البيئية القاتلة التي سببها خنزير واحد تضخم وعفن، وصار مشكلة لأهل بلدة عربية كاملة. وقال تصوروا أن النووي الإيراني هو خنزير ضخم جدا تقتل رائحته مواطني العالم العربي بسبب قربهم من الحدود الإيرانية.
 وتناقلت وكالات الأنباء الخبر عن المشكلة التي سببها الخنزير الضخم والشرس، ووزعته مع تعقيبات القناة الرابعة والنصف، وأثار الأمر موجة من التساؤلات، وحضرت طواقم تلفزيونية دولية لتسجيل التفاصيل والاستفادة من الخبرة الإسرائيلية المهنية في التعامل مع الخنازير وتربيتها وعلاقتها بالخطط ضد النووي الإيراني، وضد حزب الله وحماس. وطلب السكرتير العام للأمم المتحدة تزويده بالتطورات الجديدة التي ترد تباعا من الشرق الأوسط، وسأل مستشاريه إذا كانت من ضرورة لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي. وعقد مشاورات مع السفراء الممثلين للدول الخمسة الكبرى. وبرز بينهم السفير الروسي الذي  ضحك بشدة من خلق مشكلة دولية بسبب خنزير واحد، معلنا استعداد روسيا لرفع الخنزير ونقله إلى المسلخ في موسكو، وإعداد وجبة ممتازة من لحمه يدعى لها قادة العالم، مع أفضل أنواع الفودكا الروسية. وقُدم الاقتراح لحكومة إسرائيل التي رفضت العرض الروسي، وردت بالشكر والاعتذار رافضة ألاقتراح الروسي، لأن الروس في إسرائيل أولى بالمعروف وأحق بلحم الخنزير، ولا تنقص السوق المحلية أجود أنواع الفودكا، ومنها فودكا تصنع في أمريكا.
مقابل الحصول على الجائزة، توافد الكثيرون من خبراء تربية الخنازير في العالم وإسرائيل معلنين استعدادهم لإخراج هذا الحيوان من حظيرته وقيادته إلى المسلخ، وإعادة التفاهم اليهودي العربي بين المواطنين ،والذي تضرر وسبب مقاطعة يهودية لمطاعم الحمص والفول بعد مطالبة سكان البلدة بإنقاذهم من رائحة الخنازير بإبعاد الحظيرة من حدود بلدتهم إلى مكان نائي لا يسكنه أحد .
وقف الخبراء بالدور لتجربة حظهم في تحريك الخنزير للخروج ...  ولكن سبعة منهم فشلوا وهربوا بعد لحظات من ألاقتراب من الخنزير، بسبب رائحته التي تسطل وكأن الإنسان حقن بمخدر شديد المفعول.
هذا الأمر جعل الكثيرين يتراجعون. رفعت قيمة الجائزة  إلى ثمن خمس  ذبائح. تقدم عدد من الأشخاص، لم يفلحوا بالصمود أمام الخنزير، بل وواحد حاول سحبه فكاد يموت بأسنان هذا الحيوان الضخم والشرس،ونقل بطائرة عمودية على وجه السرعة إلى مستشفى "رمبام" في حيفا بسبب إصاباته الصعبة.
قال وزير القضاء أن وزارته فتحت ملفا للتحقيق في الوسائل غير المشروعة التي تقترح وتمارس لإخراج الخنزير من حظيرته. 
وزير البيئة عبر عن خوفه من أن يتوسع الحي العربي في اتجاه المزرعة ببناء غير قانوني بعد نقل الخنزير للمسلخ، وهل سيلحق ذلك الضرر بالوضع الديموغرافي في المنطقة ؟
أهل البلدة العرب عقدوا مهرجانا خطابيا ، تحدث فيه زعماء الأحزاب مطالبين، بترحيل الخنازير، ورفعوا شعار "ترانسفير للخنازير فورا"، مقابل شعار " ترانسفير للعرب" لأحد الأحزاب اليهودية.  زعيم  أحد الأحزاب العربية القومية طالب بإعدام الخنازير، ثم اضطر لمغادرة وطنه قسرا حتى لا يحاكم على ملايين الدولارات التي تلقاها من الخارج وأخفاها .. وألقيت في النهاية الأشعار وعقدت دبكة شارك فيها الأهالي والزعماء، ونحرت الخراف والعجول على شرف الزعماء.والمعركة تتواصل كما تصرخ عناوين الصحف، رغم أن أهل البلدة نحروا معظم قطيعهم لتكريم الزعماء الأفاضل، وتكريم بعض زعماء الدولة والأحزاب اليهودية على أمل إنصافهم وإيجاد حل لمشكلة الحظيرة وروائحها القاتلة، وذلك طبقا للسياسة العربية التي تقول:"اطعم الفم تختشي العين". وقال زعيم حزب يميني متطرف إن الرائحة رائعة، فلماذا يحتج العرب؟ متجاهلا أنها رائحة الشواء الشهية التي أسالت لعابه.
والسؤال بعد نحر كل القطيع بمهرجانات الترحيب والخطابة، هل سيزور الزعماء البلدة لسماع شكاوي سكانها من مصادرة ما تبقى من أرضهم وتوسيع مزرعة الخنازير، في كل الاتجاهات رغم أنها تشكل آفة بيئية، وتسبب في وقف نمو البلدة الطبيعي، بل وحرمانها من أرض لبناء مدرسة جديدة باتت ملحة جدا؟
وحدثت مفاجئة غير متوقعة.. حتى الأجهزة الأمنية المختلفة فشلت في توقع الحدث الخطير..
في الواقع لا احد يعرف كيف انفجر الموقف.. يقال أن صداما حدث في فجر أحد الأيام بين أولاد توجهوا وهم يهتفون بشعار "الخنازير بره بره الأرض العربية حرة"" نحو الحظيرة. جاءت الشرطة لتفرقهم بالغاز المسيل للدموع ، فإذا البلدة كلها تدخل المعركة دفاعا عن أبنائها وعن حقهم في التعبير عن ألمهم ومصيبتهم من الحظيرة وخنازيرها وروائحها القاتلة. واتسعت المواجهات العنيفة لتشمل البلدات المجاورة التي تدعي أن الروائح تزحف إليها وان أراضيها أيضا صودرت وربما لإقامة حظائر جديدة تشدد الحصار على بلداتهم وتذيقهم الأمرين من الروائح القاتلة.... والأهم حرمانها من تنفيذ مشاريع تطوير لبلداتها.. مما يشعرها بالاختناق غير المحمول.
المعارك بين المواطنين وقوات الشرطة لم تهدا، واستؤنفت في اليوم التالي رغم اعتقال العشرات،
وصدرت الصحف على أثر المصادمات تغطي صورة ضخمة كل صفحتها الأولى عن المواجهات العنيفة بين الأهالي مع الشرطة، وعنوانا صارخا على امتداد الصفحة: انتفاضـــــة !!


nabiloudeh@gmail.com





72
السلاح الحاسم الذي نطمح إليه

نبيــل عــودة


1

لفت انتباهي هذا الأسبوع بالأخص القلق الإسرائيلي من بيع روسيا صواريخ عابرة إلى سوريا، ويطلق على هذه الصواريخ أسم "ياخونت" وهي صواريخ مجنحة تفوق سرعتها سرعة الصوت 3 مرات، ويستطيع هذا الصاروخ أن يحمل شحنة من المتفجرات بوزن 200 كيلوغرام لإصابة أهداف مختلفة على بعد 300 كيلومتر.
ليس موضوع بيع الصورايخ إلى سوريا هو ما لفت انتباهي، فالشرق الأوسط مليء بكافة أشكال الأسلحة الأكثر تطوراً وخطراً وتهديداً وجودياً لشعوب الشرق الأوسط، وعلى رأسها السلاح النووي. وطائرات الأف 35 ("الشبح") وغيرها من الطائرات القادرة على إسقاط قنبلة تزن طناً من المتفجرات "ولا يهتز فيها الجناح الا قليلاً" على حد تعبير قائد سابق لسلاح الجو الإسرائيلي دان حالوتس ، مبرراً ارتكاب مجزرة قتل وجرح عشرات الأطفال والنساء والشيوخ والشباب من أجل تصفية شخص محسوب على حماس هو صلاح شحادة..
تقول إسرائيل أنها قلقة من وقوع الصواريخ بيد حزب الله، والسؤال هل اعتدى مره حزب الله على الأراضي الإسرائيلية، أم كان دائماً في موقف الدفاع والنضال من أجل تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة؟ وهل تبرير استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضي سوريه ولبنانية وفلسطينية، يجب أن يكون سبباً لمنع السلاح على أصحاب الأراضي الذين يطالبون بتحريرها؟!
لم أكن ولن أكون من مؤيدي حزب الله أو النظام السوري، ولكني لا أرى بتجاوز للمنطق العسكري العام في الحصول على سلاح في ظروف سباق تسلح مجنون للحفاظ على التفوق التكنلوجي والعسكري من جانب اسرائيل. . والأسلحة الأمريكية تهدف ضمان تفوق إسرائيل النوعي، كما تعلن أمريكا بوضوح وقح، وبنفس الوقت عقد صفقات بمئات المليارات من الدولارات مع الدول العربية، لبيع أسلحة أمريكية، يُعلن بوضوح انها بلا قيمة عسكرية في مواجهة التفوق الإسرائيلي.
اذن لماذا يحتاجونها؟
والمذهل أن الأنظمة العربية تحافظ على صمتها وكأنها لم تسمع ولا ترى ولا تنطق، فما حاجة السلاح إذن اذا لم ينفع في خلق توازن استراتيجي يقود الى حلول غير عسكرية مثلا للصراع الشرق اوسطي؟
هل لتنفيذ ضربة ضد إيران فقط؟ او وضد الشعوب العربية التي تتسلح حكوماتها للحفاظ على النظام الفاسد؟  ها نحن  نشهد كيف يوجه السلاح ضد ثورة الشعب الليبي؟!وكان يمكن ان يكون في مصر سيناريو شبيه بالسلاح الأمريكي ولا ارى ان الموضوع اقفل في مصر.
 وبأي سلاح تواجه ثورة شعب البحرين؟ وقد يوجه السلاح الأمريكي مستقبلاً ضد ثوار 25 يناير في مصر،إذا حاول الجنرالات "سرقة الثورة" والتلاعب باستحقاقاتها كما تشير الكثير من المعلومات المقلقة؟!
تعرض إسرائيل تفاصيل اعتراضها على بيع صواريخ "ياخونت" إلى سوريا، بتفصيل قدرات الصاروخ، فهو صاروخ طور خلال عشرين سنة، وخصص لإصابة كل القطع البحرية من مسافة 300 كيلومتر. وأن حمولته 200 كيلوغرام متفجرات، وهذا يعني أن سلاح البحرية الإسرائيلي، الذي يتجول أمام الشواطئ اللبنانية أو السورية، بحرية كاملة على بعد عدة عشرات من الأميال من شواطئ إسرائيل، ويقوم باعمال قرصنة في المياه الدولية. توجد كل قطعه البحرية في مجال هذه الصواريخ. ولكن المقلق أكثر أن هذه الصواريخ يمكن أن تطلق من الأرض، من الجو ومن البحر، والصاروخ ينطلق بسرعة 3 أضعاف سرعة الصوت والأخطر أنه ينطلق بارتفاع قليل جداً عن سطح الماء، الأمر الذي يصعب اكتشافه. حتى الولايات المتحدة تدخلت لمنع الصفقة، قلقاً، كما هو واضح، من الإخلال بالتوازن، أو بالتفوق الإستراتيجي الذي تضمنه الولايات المتحدة لإسرائيل.ويبدو أن الإدارة الأمريكية، وإسرائيل، لم يستوعبا بعد التحولات السياسية الجارية في العالم العربي.
استطلاع للرأي، أثبتت أن الثورة المصرية، لا تفكر بإلغاء اتفاق كامب ديفيد، ويبدو ان من سيقود عملية جعل اتفاقية كامب ديفيد  خسارة لفرصه تاريخية لإسرائيل، من أجل حل سلمي شامل، لصالحها بالدرجة الأولى، هي إسرائيل نفسها.
حتى النظام السوري، الذي نراه نظاماً لا بد ان يطوله التغيير عاجلاً أم آجلاً ، ونأمل ان يحدث التغيير من داخل النظام ، مستفيدين من الثورات العربية ، حتى هذا النظام ، يطرح على لسان رئيسه بشار الأسد بوضوح كامل رؤية سلمية لحل النزاع.. وقد تكون فرصه أخرى لحل مشكلة احتلال الجولان تضيعها إسرائيل باستمرار فكر التوسع والاحتلال وخلق أمر واقع لن يلزم أي نظام آخر في سوريا، بل قد يكون النظام القادم أكثر تصميماً وحفظا  لكرامة شعبه، وليس نظاماً تقصف أراضيه، ويعتدي عليها ويحافظ على صمته مكتفياً بالتلويح بالتهديدات، التي يمحو نصوصها عن الرمال. موج البحر!
من حق، إسرائيل أن تقلق، ومن حق سوريا أن تقلق، ومن حق حزب الله أن يقلق، ومن حق كل جانب أن يحول قلقه إلى استعداد للآتي.
ولكن ليس من حق قوة متطورة جداً، وبأسلحة تقليدية متفوقة على كل أسلحة العالم العربي، وسلاح نووي لا تعلن عنه، ولكنه لم يعد سراً، أن تصل بها الوقاحة هي والإدارة الأمريكية التي ترعاها، الى التهريج على نوع معين من السلاح، قد يكون مؤثراً ولكنه لن يكون السلاح الحاسم.
السلاح الحاسم الذي نطمح إليه... وتطمح إليه كل الشعوب في الشرق الأوسط، إنهاء الاحتلال وإقرار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والوصول إي اتفاق سلام كامل وشامل!!.

2
انتهــى عصـــر الجماهيـــر الغفـــورة!!


طرح المحامي الأستاذ جواد بولس في مقاله الأخير "لا رأي لحاقن" المنشور في عدد من مواقع الانترنت، مسألة التواصل مع الأنظمة العربية، وأظن أن هذا الطرح بات ضرورياً، خاصة الآن، بعدما اتضحت الصورة، حتى لدى بسطاء الناس، عن عمق الفساد في الأنظمة العربية ونوعية الحكام العرب، الذين تواصل معهم قادة أحزابنا العربية بكل تركيبتها. من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، بدون أي ذرة تفكير منطقية، خاصة من التيار الماركسي (الشيوعي) والتيار القومي.
لا أكتب من منطلق عدائي لأحد فنحن نريد أن ترى حياة حزبية نشيطة، وليس قبائل عصبية تبني مواقفها بعيداً عن المنطق السياسي، وعن الفهم الواعي لحقيقة ممارستها وإسقاطات هذه الممارسات المستقبلية.. كما حدث بزيارتهم واصطفافهم لإلتقاط صور تذكارية مع العقيد القذافي.
والدرس الليبي اليوم هو أفضل مقياس لاستخلاص النتائج للمستقبل .
المحامي جواد بولس يطرح في مقاله نقداً صحيحاً بقوله حول الحاجة الماسة لإجراء تقييم موضوعي ومسئول حول الزيارة التي قامت بها كل كتائبنا الحزبية إلى الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، القائمة في مضارب قبيلة ألقذافي وذهنه المختل، والتي بالكاد تشكل دولة بالمفهوم الحديث للدول.
المحامي بولس ينافش بأسلوب هادئ ويحث على إعادة التقييم لما فيه مصلحة الجماهير العربية.
قد اختلف مع أسلوبه في تناول الموضوع، ولكني لا أختلف مع رؤيته حول الضرر الذي ألحقته هذه الزيارة، بغض النظر عن أساليب التغطية، مثل كون الزيارة للعقيد معمر ألقذافي بكونه رئيساً لدورة القمة العربية، أي يمثل الجامعة العربية كلها، والرؤساء العرب الذي سقط أكبرهم لا حقا آخرين ومتقدما على آخرين.
بالطبع يمكن إيجاد تبريرات. السؤال ما هي نتائج هذه الزيارة؟! وهل قدمت ما يمكن اعتباره مكسباً نضالياً للجماهير العربية في إسرائيل؟! وهل كون ألقذافي رئيس دورة القمة العربية يجعله مختلفاً عن ألقذافي سفاح الشعب الليبي؟! وهو سفاح ليس للثورة الليبية التي ستطيح به، إنما ارتكب نظامه عبر أل 42 سنة، مجازر رهيبة ضد طلاب الجامعات، وضد سجناء سياسيين والحديث عن مئات القتلى الأبرياء، والتلاعب بأموال وثروة الشعب الليبي، وقائمة طويلة من الانتهاكات ضد دول الجوار ونسف طائرات في الجو، والمؤامرات المختلفة التي كلفت الشعب الليبي مليارات الدولارات من ثروته الوطنية، عدا سرقته هو وأبناء عائلته للمليارات التي لا تحصى.
رؤيتي عبرت عنها عندما كنت أعمل نائباً لرئيس تحرير صحيفة "الأهالي"  قبل أكثر من ثمانية سنوات، منتقداً الركض وراء العناوين القومية،بالتواصل مع الأنظمة العربية، واهمال التيارات السياسية العربية التي تعاني من أنظمة القمع والفساد السلطوي. ورأيت فيها استهتاراً بوعي الجمهور العربي ، وبمصلحة النضال اليهودي العربي، هنا داخل اسرائيل، بمواقف تظهرنا قومجيين منعزلين عن واقعنا وبعيدين عن انتهاج سياسة تجد من يصغي لمطالبنا في الشارع اليهودي، بينما تواصلنا مع التنظيمات المعارضة في العالم العربي ، هي الطريق المثلى في حالتنا..
ألم تكن واضحة الصورة منذ ذلك الوقت، إنها أنظمة معادية لجمهورها، وتقامر بمصير الشعوب العربية والوطن العربي؟!
كيف يمكن تبرير التواصل مع أنظمة تقمع شعوبها وتسجن أصحاب الرأي، وتحد من حرية النشر، وترتكب مجازر بشعة ضد كل من يجروء على الاعتراض ، وتبني من السجون أكثر مما تبني من المدارس وتستغل القضية الوطنية للشعب الفلسطيني لإبقاء حالة الطوارئ واستمرار سياسات النهب للثروات الوطنية للشعوب العربية... التي حرمت من التقدم الاقتصادي والعلمي، وأخرجت عملياً من التاريخ، إلى هوامش جعلتها عرضة لفقر رهيب وأمية قاتلة. وأنظمة لا تليق حتى بالعصر الحجري ؟
هل المستشار القومي العربي (عزمي بشارة) في مكتب أمير قطر، يخدم أي قضية وطنية للشعوب العربية؟!
ما الفرق بين أمير قطر وملك البحرين وملك ملوك أفريقيا ومبارك وبن علي وعبد الله  الذي "لا صالح غيره في اليمن" صالح وآخرين لا يقلون سوءاًَ وفساداً وقمعاً لشعوبهم؟
نعم هناك فرق كبير وهائل.
الفرق أن الشعوب العربية هدمت سور برلين العرب الذي أبقاها عقوداً طويلة خارج التاريخ. ودخلت التاريخ بهتاف وحد الشعوب العربية: "الشعب يريد إسقاط النظام".
وكم يبدو فكر التواصل مع الأنظمة التي يريد الشعب إسقاطها هزيلاً، ومريضاً ولا علاج له إلا بالتغيير الجذري في الشخصيات والسياسات والأفكار!!


www.almsaa.net
nabiloudeh@gmail.com






 

73

المسيحيون في الشرق:هل هم المشكلة او الغطاء لمشكلة الانظمة الفاسدة؟!

نبيـل عـودة



اثار الاعتداء الهمجي على كنيسة القديسين للاقباط في الاسكندرية ليلة رأس السنة، عواصف من الادانات في العالم العربي، ومن مؤسسات وشخصيات اسلامية مركزية، وامتلأت الصحافة بكل اشكالها بعشرات المقالات الجريئة الرافضة لهذا الاسلوب الهمجي في التعامل مع الاقليات المسيحية العربية وغير العربية.
الموضوع ليس جديدا، والاضطهاد الذي يعاني منه مسيحيو الشرق، لا يقع بعيدا عن الواقع الاسود للعالم العربي الذي يدفع ثمنه الجميع، مسلمون ومسيحيون.
ولكن حان الوقت لتحرك جديد، ولعدم الاستهتار بما تفرزه العقول المريضة، تحت غطاء كاذب من الدين والتدين.
اللوحة التي تفرض نفسها اليوم شديدة الكآبة، وتثير غضب الأوساط المتنورة جميعها، بدون علاقة للانتماء الديني او الاثني.
لا شك ان للهوية الدينية مكانها في تشكيل الوعي الوطني والثقافي والأخلاقي، اذا ما احسن استعمالها. ولكن الظاهرة السائدة في عالمنا العربي في العقود الاخيرة هي ظاهرة مقيتة جداً، ومأساوية للجميع، وبعيدة عن المنطق السليم.
آلاف الفتاوي التي تحرض على المسيحيين وتدعو لمعاداتهم وعدم المشاركة باعيادهم ونبذهم ومما هب ودب من اوصاف سوقية تنطلق من رؤوس مريضة وعقليات متخلفة بدائية.
الاف الخطب الدينية شكلا والعنصرية مضمونا، يضج فيها الفضاء العربي دون رقيب، ودون ان تشعل الأضوية الحمراء لما يريد للمجتمعات العربي ان تقبر مستقبلها فيه.
الاف الشعارات المقيته التي لا تعبر الا عن عقول موبوءة ومصابة بالشلل الفكري والانغلاق، الذي هو اخطر على الانسان والمجتمع من أكثر الأمراض فتكا..
المسيحيون العرب او ابناء العراق من المسيحيين غير العرب، افرزت لهم خانة وكانهم عنصر دخيل على الفسيفساء الاجتماعية للمجتمعات العربية متناسين انهم كانوا المحرك الاساسي للحضارة العربية الاسلامية، وما زالوا يشكلون العناصر الأكثر التزاما بالفكر الوطني والتقدم الاقتصادي واحلال الدمقراطية بدل الاستبداد.
مواد التعليم مليئة بنصوص تعمق ظاهرة العداء والرفض للمختلفين دينيا، بل والتحريض على كل من يدعي انه  وطني عربي، لان  الوطنية، حسب الفكر الموبوء المريض هي "ظاهرة صليبية"، او انحراف معاد للاسلام،كما يدعي صغار العقل، متجاهلين ان الاسلام كان يعني انطلاقة للقومية العربية أيضا.
 العديد من المفكرين العرب طرحوا هذا الموضوع بكل خطورته، ولكن الانظمة التي لا يعنيها الا أمنها وتوريث النظام لا تتحرك، ما دام الشعب ينشغل بالصراع الديني، ويبعد عنها الغضب الشعبي من غياب الدمقراطية، ونهب ثروات البلاد بيد العصابات الحاكمة، وانتشار الامية والفقر بمقاييس مرعبة. وربما ترعى مؤسسات هذه الدول  توجيه انفجار الغضب في وجه الاقليات الدينية او الاثنية في مجتمعاتها، ونعرف من التاريخ نماذج كثيرة لمثل هذه الممارسات ، مما يساهم في ضمان استمرار سلطانها الفاسد وحمايته من غضب الشعب. المسيحيون الاقباط محكومون حتى اليوم حسب قانون عثماني مضى عليه قرون طويلة، لدرجة ان  أي عملية اصلاح بسيطة في كنيسة تحتاج الى مصادقة من المحافظ او من رئيس الجمهورية. ورغم ان رئيس الجمهورية في مصر يدعي انه بنيت كنائس كثيرة، الا ان استمرار ربط هذا المجال الحيوي للاقباط في مصر وغيرهم من الاقليات الدينية، مثل البهائيين وغيرهم من الأقليات، بقرارات رئاسة الجمهورية، هو امر مرفوض بسبب الرائحة التمييزية العفنة التي تنضح منه وفي جذورها انكم غرباء وتشكلون ظاهرة غريبة في المجتمع المصري ، او المجتمع العربي عامة.... وان الدولة لا تتعامل معهم كمواطنين متساوي الحقوق.
ان التفجير الارهابي في الاسكندرية (وقبله في العراق عدة مرات) الذي اوقع عشرات الضحايا بين قتيل وجريح، لم يكن مفاجئا بعد التهديد الذي اطلقه تنظيم القاعدة، والسؤال: اين كان الامن المصري؟!
الجواب ليس صعباً بأن الامن المصري مشغول بحماية السلطة ورجالاتها فقط، وقد كشفت "الغارديان" البريطانية   صورة مثيرة جدا عن اولويات الأمن المصري.
الأمن في مصر لا يخص المواطن المصري، وعلى هذا المقياس يمكن فهم ان الواقع الاجتماعي المتدهور لابناء مصر ايضا، لا يخص النظام، والنظام لا يبالي بالصراع المصري مصري، ولا اقول المصري- القبطي لاني لا أرى تبريرا اخلاقيا او سياسيا او اجتماعيا او اقتصاديا او دينيا لصراع مصري اسلامي مع أقباط مصر المسيحيين.
في وطننا شهدنا ايضا ظواهر مقلقة جدا والماساة حين نكون اقلية قومية  تجزء نفسها لاقليات دينية بغباء كامل عن فهم ان هذه التجزئة تحرمنا جميعا ولا تخدم الا سياسة التنكر لحقوقنا، واستمرار التمييز ضدنا، ومعاملتنا كسكان غير مرغوب فيهم، بل وتخدم سياسة تقسيمنا الى طوائف التي تمارسها السلطة باصرار، وليس اقلية قومية.
صحيح ان مستوى وعينا تعالى فوق الظواهر الطائفية المعادية لكل فكر ديني انساني، ونجح بحصر الظاهرة واطفاء الحرائق التي ولدتها.
ورغم ذلك، ما زلنا نسمع ونشاهد ما يثير قلقنا وامتعاضنا.
عندما نعبر في الشارع الرئيسي في الناصرة، ونقرأ:  "الله مولانا ولا مولى لهم"، يرتفع السؤال: من يخدم هذا الشعار؟ وعندما تزور شخصيه مسيحية عالمية، مثل بابا الفاتيكان البلاد المقدسة، ساحبا وراءه ملايين السياح المسيحيين،مما يعتبر تنشيط للحياة الاقتصادية في الناصرة خاصة،  فتوزع مناشير وتلقى خطب مليئة بالتحريض، من اسوأ  الأنواع وأكثرها دموية، يرتفع سؤال: من يخدم هذا الإنفلات؟
 بالطبع هناك ظواهر اكثر خطورة، ان لم تسارع كل القوى العقلانية، من احزاب وجمعيات وتنظيمات الى احتواءها، ستقودنا الى انفجار ليس ضد المغتصب لحقوقنا، انما ضد بعضنا البعض.
انا على قناعه كاملة، ان تنامي الظاهرة الطائفية في العالم العربي هي جانب صغير من مشكلة كبرى، مشكلة النمو الاجتماعي والاقتصادي، مشكلة الأمية والفقر، مشكلة البطالة، مشكلة التخلف العربي في مواجهة التحديات على الساحة الشرق اوسطية والدولية، وهي بالاساس مشكلة الدمقراطية الغائبة.مشكلة اجتماعية واقتصادية .
 فليوجه الغضب اذن ضد سالبي حقوق جميع المواطنين بدون تمييز.


نبيل عودة- رئيس تحرير جريدة المساء
www.almsaa.net   
nabiloudeh@gmail.com


صفحات: [1]