عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - كاظم حبيب

صفحات: 1 2 [3]
1001
كاظم حبيب

نحو نهوض شعبي متعاظم لكنس النظم الاستبدادية!

كانت تونس هي البداية ولن تكون النهاية .. هكذا بدت الصورة واضحة للجميع حين هبَّ الشعب المصري مطالباً برحيل رأس النظام الفاسد الذي جوَّع الملايين من البشر ودفع بهم للعيش في المقابر أحياء لا يرزقون ولو برغيف يابس من فتات موائد الأغنياء المتخمين وسراق أموال الشعب المصري من "أهل بيت الحاكم" بأمره والوزراء وأعضاء مجلس النواب الذين شاركوا في تزوير الانتخابات المتتابعة وأعضاء الحزب الحاكم اللاوطني والتجار وأصحاب رؤوس الأموال المنهوبة من الباطن.
كانت تونس هي البداية .. وتسلَّم الرسالة وأدرك الحاكم بن علي بأن الشعب بعد 23 سنة لا يريده وينبغي له أن يرحل قبل أن يعلق على أعواد المشانق واكتفى بقتل عدد غير قليل من البشر المحتج على الجوع والحرمان والبطالة والفقر المدقع. أما حسني مبارك العجوز الذي يعاني من شتى الأمراض فلم يفهم الرسالة كفاية ولا يريد أن يرحل عن مصر, إذ عين لأول مرة بعد 30 عاماً من الحكم الفردي نائباً له ليفاوض المحتجين والمتظاهرين من شبيبة مصر العزيزة ويستخدم السلاح عبر أجهزة الأمنية والبلطجية المرتزقة لقتل المزيد من البشر, كما حصل ليلة أمس (2-3/2/2011) وصبيحة هذا اليوم (3/2/2011), ويطرد شعب مصر منها ليبقى هو الحاكم على ارض الكنانة, يريد أن يستبدل شعب مصر بشعب آخر ..
وفي اليمن غير السعيد تحرك البعثي العتيق والدكتاتور الأهوج علي عبد الله صالح ليقدم تنازلات فات أوانها وليعلن الشعب اليمني عن رفضه لها ويريد منه الرحيل إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم, فهل يفهم ذلك, أم يريد أن يقتل المزيد من الشر جوعاً وبؤساً وبالسلاح.
وفي سوريا يطمئن الوريث غير الشرعي لحاكم لم يكن أصلاً شرعياً أتباعه والعالم بأنه ليس كما في تونس ومصر, فهو مهيمن على السلطة ولا يريد أن يدرك أن الشعب يخبئ المفاجئات دوماً ولا يمكن ان يستكين للمستبدين دوماً وسيهب بوجه الطغاة وأن يوماً لناظره قريب وقريب جداً.
وهكذا حال الدكتاتور الليبي, عميد المستبدين العرب الذي يحكم ليبيا منذ 43 عاماً والذي لام الشعب التونسي على طرد بن علي! ويذكرني حديث الدكتاتور بالمثل الشعبي العراقي القائل: إذا ما حلقت لحية جارك فصوبن لحيتك (صوبن من الصابون أو هيئ لحيتك), إنه بدأ يخشى على كرسيه الذي يريد أن يورثه لبنه من بعده, كما كانت محاولات حسني مبارك وعلي عبد الله صالح وقبلهما ما فعله حافظ أسد بتوريث ابنه بشار الأسد.
أما في العراق فحكام بغداد يتاجرون بالطائفية ويغذون الناس الشيعة بمزيد من الحزن على الحسين الشهيد والابتعاد عن الفرحة البسيمة ونسيان البؤس والحرمان والبطالة بحب الحسين ليبقوا في السلطة على حساب الحسين وأهل البيت. فإلى متى يبقى الناس سكوتاً على ما يجري في العراق من صراع على السلطة والناس يموتون أفراداً وبالجملة.
وفي الجزائر يصر الحكام على قهر الشعب الأمازيغي ومطالبه المشروعة وكذلك حرية بقية السكان ومنهم العرب من أصل أمازيغي. ويمارس الحكام كغيرهم في الدول العربية النهب من أموال الشعب, أموال النفط والغاز, ويبقى الشعب عاطلاً عن العمل ومحروماً من لقمة العيش الهانئة والسعيدة.
وفي السعودية ما يزال الالتزام الأمريكي بحماية النظام العائلي لآل سعود هو الذي يقيهم من غضب الشعب وكرهه للملك الذي يوزع أموال الشعب أولاً وقبل كل شيء على الأمراء والشيوخ ليصل فتات موائدهم إلى الشعب المسكين, شعب الجزيرة العربية وليس الشعب السعودي.
أما في السودان فقد أنهى الحاكم الأرعن والراقص دوماً على حبال الكذب والتزوير والقتل تقسيم السودان بسبب سياسات التمييز واغتصاب الحرية والحياة الديمقراطية في البلاد وتجويع الناس في الجنوب ودار فور والشمال أيضاً, وسيفقد شعب السودان لاحقاً مناطق أخرى مثل دار فور وتوابعها إن استمر على محاولاته في الحكم وتطبيق الشريعة البائسة التي يتمسح بأذيالها في حكم السودان.
وليس أسوأ من كل ذلك سوى ما يمارسه الطاغية الجديد حسن نصر الله, الإيراني النزعة والهوية, في لبنان من بناء جيش داخل البلاد ليهدد الجميع بحكم ولاية الفقيه علي خامنئي على سياسة لبنان وإقامة دولة إسلامية في بلد نسبة المسيحيين فيه عالية جداً ليلتحق بدولة الإسلام الكبرى التي يريد إقامتها الإيرانيون الشيعة الصوفيون في العالم الإسلامي! هكذا قال حين بدأ بتكوين حزب الله المتخلف, وحين كان لا يزال شاباً لا يختلف عن صاحبه العراقي مقتدى الصدر سوى بقدرته على الخطابة وتجييش الشيعة غير المتنورين لصالح ولاية الفقيه في إيران!
من المؤلم حقاً أن الحكام المستبدين لا يستفيدون من تجارب من سبقهم في الحكم, فهم لا يتعلمون ويكررون التجربة البائسة تلو الأخرى في الحكم وبالمصير. 
مصر وشعب مصر, سينتصران على الحكم الظالم فيها, وستنتصر شعوب الدول العربية على حكامها الأوباش الذين مرغوا جباه شعوبهم بالتراب وستبقى الشعوب وحدها وسيرحل الطغاة من شتى الأصناف, سواء أكانوا من الطغاة الفرديين أم الحكام الشوفينيين أو الطائفيين.
ستنتصر إرادة الشعوب الطامحة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والسلام وستُقهر وتُدحر الدكتاتورية في كل مكان من منطقة الشرق الأوسط وسيحل الأمن والسلام بإرادة شعوبها وقواها الوطنية الديمقراطية قرب الزمن أم طال.
3/2/2011                     كاظم حبيب       
 





1002
كاظم حبيب

هل من رياح منعشة وأخرى صفراء عاتية تهبُّ على العراق والدول العربية؟

تشير أجواء العالم العربي إلى أن الأوضاع السياسية والاجتماعية فيها حبلى بالأحداث والمفاجئات الكبيرة. إنها حبلى بنماذج تلتقي أو تختلف عما جرى في العراق أو تونس. ويرتبط كل ذلك بمستوى التناقضات والصراعات الجارية في هذا البلد أو ذاك وبقدرات كل شعب وقواه السياسية على التخلص من أوضاع هذا البلد أو ذاك المزرية وبالمستوى الحضاري الذي بلغه هذا المجتمع أو ذاك وعمق وسعة وشمولية الأوضاع الشاذة التي عاش تحت وطأتها وعانى منها المجتمع والفرد.
كلنا يشهد يومياً أو يعيش تراكم الغضب الشعبي الفردي والجمعي الناشئ عن سياسات الحكام في الدول العربية دون استثناء, سياسات تتميز بالاستبداد والقسوة والقمع, سياسات تكرس التخلف في الاقتصاد والمجتمع وتفتح الأبواب على مصراعيها أمام التجارة الخارجية التي تمنع التنمية الصناعية والزراعية والتراكم الرأسمالي, أو غياب التنمية الاقتصادية والبشرية الواعدة والمطلوبة, والتي تجد تعبيرها في تفاقم البطالة والحرمان والجوع, سياسات غياب العدالة الاجتماعية والسيطرة على الدخل القومي وسوء توزيعه وإعادة توزيعه واستخدامه ونهب خيرات البلاد باسم العشيرة أو العائلة المالكة أو الخاكمة أو الحزب الواحد الحاكم أو باسم القائد, سياسات ترعى الفساد المالي والإداري والمحسوبية والمنسوبية ومواصلة الكذب والضحك على ذقون الشعب كله, سياسات توريث الأباء الحكم  للأبناء, سواء أكان النظام ملكياً أم جمهورياً. هذا الغضب المتراكم يوماً بعد آخر وسنة بعد أخرى وعقداً بعد عقدٍ الذي نشأ بسبب القهر الفكري والديني والمذهبي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي, تكون له إذا ما تفجر أبعاده وعواقبه الوخيمة على الحكام وأتباعهم, كما حصل في العراق أو في تونس, واحتمال أن تكون له نتائج طيبة على المجتمع, إن أمكن قيادته بصورة ديمقراطية ولصالح المجتمع.
إن تراكم غضب الجياع والمحرومين والمنكودين و المقهورين من الناس, غضب العاطلين عن العمل وسكنة البيوت القصديرية والمقابر ومعسكرات الجيش, غضب المثقفين المقموعين بشتى السبل, هذا الغضب المتراكم يغلي في النفوس, وحين ينفجر يهدد باكتساح الكثير من الحكام وربما أقوى بكثير مما حصل في العراق وتونس حتى الآن.
ومن يتتبع ما يجري اليوم في الدول العربية يستطيع ان يتبين مثل هذا الغضب المتعاظم الذي يمكن أن يبشر بانفجارات فعلية: ها نحن أمام الجزائر ومصر واليمن والسودان أمام كل الدول العربية دون استثناء. ويحمل هذا الغضب العارم معه احتمالان: إحدهما يحمل معه الرياح المنعشة للجماهير الكادحة حين يهب الشعب لتحقيق التغيير المنشود مدافعاً عن حريته وكرامته وحياته الديمقراطية وعن خبز يومه والنظام الديمقراطي الذي يسعى إلى إقامته, مكتسحاً أمامه قوى الاستبداد والظلم والتمييز, والآخر يحمل معه الرياح الصفراء المسمومة والعاتية التي تحرق الأخضر بسعر اليابس, وهي لا تختلف في عواقبها عن الثورة التي نهضت بها جماهير الشعب في إيران ثم سرقتها قوى الإسلام السياسية واقامت دولتها المذهبية الشمولية وسياساتها الساعية إلى تصدير نموذجها إلى كل الدول العربية والشعوب الإسلامية.
إن إلقاء نظرة على ما يجري في عدد من الدول العربية الشرق اوسطية من جانب الحكام العتاة, سواء أكان ذلك في السعودية أم السودان أم اليمن أم ليبيا أم سوريا وغيرها, يتلمس الإنسان الاختلال الفعلي في ميزان القوى الراهن في غير صالح القوى الديمقراطية الراغبة في التغيير الديمقراطي والتقدمي بسبب الإرهاب المستمر وبصيغ عديدة الذي تعرضت ولا تزال تتعرض له من جانب حكومات تلك البلدان, في حين تعززت فيها قوى الإسلام السياسية التي وجدت من الجوامع والمساجد والحسينيات وشيوخ وفقهاء الدين سنداً لها ودعماً لسياساتها, إضافة إلى الدعم الذي يصل إليها من الدول المجاورة. وهو ما نتلمسه اليوم في لبنان أو ما يجري في السودان على سبيل المثال لا الحصر.
والعراق, هذا البلد الذي أُنقذ من قبضة وسجن الدكتاتور الفاشي صدام حسين الذي دام 35 عاماً من قبل القوات الأجنبية, الأمريكية والبريطانية على نحو خاص, فرض عليه الاحتلال رسمياً من جانب مجلس الأمن الدولي وتسبب ذلك في مضاعفات كثيرة بما فيها تفاقم الإرهاب الإسلامي الدولي والإقليمي والمحلي. فالعراق يعاني اليوم من هيمنة القوى الإسلامية السياسية الطائفية وممارستها للسياسات الطائفية المقيتة ومن تحكمها في حياة الفرد والمجتمع وبطريق يقترب يوماً بعد يوم مما فرض عليه قبل ذاك من خيمة فكرية واحدة هي خيمة البعث المهلهلة. وهي الخشية الكبيرة التي يفترض أن نضعها نصب عيوننا.
العراق يقترب سريعاً من مغادرة القوات الأجنبية وفق الاتفاقية التي عقدت بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية. وهو أمر إيجابي دون أدنى ريب. ولكن في ذات الوقت يتعرض الشعب العراقي إلى استمرار فعلي في الضربات الموجعة التي توجهها القوى الإرهابية يومياً ويموت بسببها الكثير من ابناء وبنات الشعب في عدد من المدن العراقية ومنها بغداد وكربلاء, أو القتل العدواني الشرير ضد مواطناتنا ومواطنينا من أتباع الديانة المسيحية أو المندائية. ورغم ما تبذله قوات الأمن من جهود, فالعدو لا يتوقف عن القتل والتدمير!
ولكن ماذا بعد؟
دعوني أطرح رؤيتي لما يمكن أن يحصل في العراق, وهو ما لا أتمناه لشعبنا وعراقنا الحبيب, تماماً كما قدمت رؤيتي قبل ما يقرب من سبع سنوات ونصف السنة عما قرره صدام حسين أن يفعله بعد سقوطه. ومن المؤسف والمؤلم حقاً أن تحقق ذلك السيناريو كما وضعته بالتمام والكمال! ولم يكن ذلك اجتهاداً, بل معرفة بطبيعة ونوايا صدام حسين ورهطه. 
واليوم أرى مخاطر جمة تواجه العراق بعد خروج القوات الأجنبية لعدة أسباب لا بد من ملامستها بوضوح.
1 . إن الحكم في أكثريته بيد قوى الإسلام السياسية الشيعية والسنية, ورغم أهمية ودور التحالف الكردستاني والإقليم في الحد من تطرف الحكم الاتحادي, فأن الحكم الفعلي بأيدي هذه الأكثرية الدينية التي تسعى إلى إقامة دولة إسلامية ومجتمع ديني إسلامي.
2 . إن الصراعات الطائفية يمكن أن تتفاقم بفعل فقدان التوازن بعد خروج القوات الأجنبية حيث تستطيع المليشيات المسلحة أن تخوض الصراع لصالح أحزابها وتهدد البلاد كلها بحرب مدمرة, إذ أن التوافق بين القوى الإسلامية ناشيء نسبياً لعدائها المشترك ضد القوى المدنية والعلمانية, وحين يخف هذا يتوجه أحدها ضد الآخر.
3 . إن المبادرة في الحكم لم تعد بيد رئيس قائمة دولة القانون بل فقدها حقاً, وهي اليوم بيد قى مقتدى الصدر والحليف المحتمل هادي العامري. 
4 . إن المليشيات الشيعية التابعة لمقتدى الصدر وفيلق بدر تستعدان منذ الآن لتدبير أمر الهيمنة على الحكم بتحريك الجماهير غير الواعية والمسلحة تسليحاً جيداً للسيطرة على الوضع في البلاد, خاصة وأن لها قوى قد تسربت إلى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وهذا هو الخطر الداهم الذي ينتظر العراق وتسعى إليه إيران بأحر من الجمر.
5 . لم يكن مجيء مقتدى الصدر إلى العراق بعد غيبة ثلاث سنوات عبثاً, بل كان لجس النبض وتحريك قواه لكي لا تصدأ دون حركة وفعل. وقد بدأ بتحريكها فعلاً وبلا مواربة ضد القوات الأمريكية بنداءاته الشعبوية ضدها وترديد أتباعه لها "لا ..لا .. للمحتل, لا .. لا.. لأمريكا", وبدعمه الصارخ لما سماه "قوات المقاومة" في العراق دون أي تحديد لهويتها, وهي رغبة المصالحة مع كل القوى المعادية للعملية السياسية في العراق في هذه المرحلة الحساسة.
6 . إن الهجوم الراهن على القوى الديمقراطية والحريات العامة والثقافة الديمقراطية من قبل مجالس محافظات بغداد والبصرة وبابل وتأييدها غير المباشر من جانب رئيس الوزراء كان لجس النبض أيضاً, ولكنه البداية الفعلية لما يراد للعراق لاحقاً. والصدر في هذا التوجه لا يختلف عن حسن نصر الله إلا في كون الأخير لا يزال غير مدرب تدريباً فكرياً وسياسياً كافياً, كما أنه ليس بخطيب مفوه. وعلينا أن ننتبه لما جرى ويجري اليوم في لبنان, وكيف أن إيران وسوريا بدأتا تلعبان لعبتهما الخطرة في لبنان والمؤججة لكل الصراعات المحتملة في المنطقة.
7 . ومما يزيد من هذا الاحتمال تفكك القوى الديمقراطية وضعفها وابتعاد القوى السياسية الكردية عن التحالف معها ودعمها ليقوى عودها وتستعد لمواجهة ما يراد للعراق خلال الفترة القادمة.
8 . إن موافقة مقتدى الصدر على تعاون أتباعه مع المالكي جاء بفعل الدور والتأثير الإيراني, ولكن مقتدى الصدر لن يغفر للمالكي ما حصل في البصرة وبغداد لأتباعه من الخارجين على القانون, وسوف لن يشفع له وجوده على رأس حزب الدعوة الإسلامية. وعلينا أن نتذكر بوضوح المصير الذي حل بغريمه عبد المجيد الخوئي حال دخوله النجف.
إن عودة مقتدى الصدر إلى إيران تدخل في إطار التحضير للفترة القادمة, وفي العراق ما يكفي من السلاح والعتاد لميليشيات جيش المهدي التي يقودها مقتدى الصدر وفيلق بدر الذي يقوده هادي العامري.
من استمع إلى خطاب الاحتفاء بعودة مقتدى الصدر للعراق والترحيب به من قبل عريف الحفل في النجف يدرك بأن الترحيب كان بـ "القائد", وتكررت كلمة "القائد" التي لها معناها, لم تكن موجهة لأتباعه فحسب, بل وبالأساس للمالكي وللعراق كله, وهو الطريق الذي سار ويسير عليه حسن نصر الله في لبنان.
الجهد يبذل اليوم لخلق حصان طروادة داخل الجيش وآخر داخل الشرطة وثالث داخل أجهزة الأمن, لتعمل يداً بيد مع مليشيات جيش المهدي ومع فيلق بدر. وهنا يبرز مكمن الخطر الداهم.
وفي مقابل هذا علينا أن نلاحظ بوضوح أن قوى أخرى تابعة للقاعدة وحليفها حارث الضاري وقوى حزب البعث وبقايا أجهزة أمنه هي الأخرى تعمل بنفس الاتجاه وتملك قوى إقليمية خارجية تساندها, كما في حالة إسناد إيران لقوى مقتدى الصدر وهادي العامري. 
إن على كل العراقيات والعراقيين الذين يهمهم مصير الوطن ويرفضون التطرف في الحكم ويسعون إلى التعددية والحرية الفردية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وحل المشكلات القائمة بالطرق السلمية والديمقراطية وبعيدة عن التمييز والطائفية والشوفينية ومن أجل دولة اتحادية ديمقراطية ومجتمع مدني ديمقراطي سليم أن لا يتفرجوا على ما يجري في العراق حالياً, بل لا بد من التحرك والعمل لتبيان حقيقة الوضع للشعب وللقوى الديمقراطية ولكل الخيرين في كافة الأحزاب الوطنية الفاعلة في العملية السياسية لمواجهة احتمال التطور بهذا الاتجاه السلبي الذي ملامحه بادية في أفق العراق الراهن وليس البعيد!
26/1/2011                      كاظم حبيب

                   

1003
كاظم حبيب

هل صبركم صبر أيوب ايها الكرد الفيلية؟

منذ أن اُعتقلت في العام 1955 ببغداد وأودعت التحقيقات الجنائية الواقعة على ضفاف نهر دجلة الخير للتحقيق وأنا اسمع بعذابات الكرد الفيلية. حينذاك كان هناك مواطن كردي فيلي اسمه, كما بقي في ذاكرتي, جعفر نزر. كانت التحقيقات الجنائية تعتقله أكثر من مرة في السنة لنشاطه السياسي وترحله مخفوراً بصحبة شرطيين إلى البصرة ومنها إلى المحمرة حيث يُسلم يداً بيد إلى الشرطة الإيرانية. بعدها يعود الشرطيان العراقيان إلى البصرة ثانية ويتوجها صوب مقهى في وسط المدينة لتناول الشاي والراحة قليلاً قبل المغادرة والعودة إلى بغداد. وما أن يجلسا على مصاطب المقهى حتى يشاهدا جعفر نزر جالس في ركن من المقهى قبليهما يحتسي الشاي وكأنه كان ينتظرهما. وكان الطريف في الأمر أن الشرطيين الطيبين يجلسان إلى جانبه ويدفع عنهما ثمن الشاي ولا يعتقلانه ثانية بل يغادران معه سوية إلى بغداد بالقطار ويذهب كل منهم إلى حال سبيله, هما إلى مركز الشرطة وهو إلى داره ولا يخبران عنه. كان جعفر كالعادة يدفع رشوة بسيطة للشرطة الإيرانية فيطلقون سراحه ليعود حالاً إلى البصرة فبغداد ليواصل عمله السياسي مع رفاقه في الحزب الشيوعي العراقي ضد سياسات نوري السعيد. كان هذا ايام زمان!   
حينذاك وفي العهد الملكي كانت للكرد الفيلية معاناتهم, ولكنها لم تكن شديدة حقاً, ولم تختلف كثيراً عن معاناة بقية أبناء وبنات الشعب العراقي, ولكنها كانت معاناة على أية حال.
والحاكم الوحيد الذي قدرهم حق قدرهم الكبير واعتز بهم كاعتزاز الناس الطيبين من العراقيات والعراقيين بهم كان الزعيم الركن ورئيس وزراء الجمهورية الأولى عبد الكريم قاسم. عند استقباله وفداً منهم أشار قاسم: أن الكرد الفيلية هم من أصل أهل العراق.... وكان لهذا الاعتراف الصادق والسليم معناه العميق والخاص في نفوس الكرد الفيلية وفي القانون الدولي وفي لوائح الأمم المتحدة وحقوق الإنسان والوثيقة الخاصة بسكان أصل أهل البلاد, إذ أن لهم حقوقهم المشروعة والثابتة والتي لا يجوز التجاوز عليها, علماً بأن الكثير من التجاوزات قد حصلت ولا تزال تحصل في كثيرة من دول العالم على الناس الذين يطلق عليهم صواباً بأصل أهل البلاد, كما في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا واستراليا ...الخ. ولهذا السبب وغيره لم ينس الكرد الفيلية الزعيم عبد الكريم قاسم في وقت المحنة المشتركة ودافعوا عن الجمهورية العراقية وعنه دفاع الأبطال واستشهدوا في سبيل الوطن وضد الفاشست الأوباش ممن شاركوا في الحرس القومي وقيادة البعث حينذاك والذين مرغوا جباه الشعب العراقي بالتراب وأغرقوا الشعب بالدم والدموع وفتحوا أبواب السجون لمزيد من البشر, ومنهم شخصيات بارزة مثل الدكتور عبد الجبار عبد الله والأستاذ إبراهيم كبة والدكتور محمد سلمان حسن وسلام عادل وجمال الحديري والعبلي وعوينه وعبد الجبار وهبي والكثير ومن الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين وأنصار عبد الكريم قاسم والمئات والألوف من البشر من مختلف القوميات والديانات والمذاهب, وبينهم الكثير من الكرد الفيلية. إن ما حصل أثناء وبعد انقلاب 8  شباط عام 1963 الدموي يفوق كل العذابات التي تعرض لها الكرد الفيلية حتى ذلك الحين. فهل كان سقوط البعث في تشرين الثاني 1963 خاتمة فعلية لعذاباتهم؟ لا ابداً, فالقوميون الشوفينيون بقيادة عبد السلام محمد عارف وحزبه الاتحاد الاشتراكي ورهطه قد ساروا على نهج البعثيين نفسه في موقفهم المخزي العام من الكرد الفيلية. واستمر الموقف الكاره لهم والحاقد عليهم فترة حكم القوميين إلى أن وصل البعثيون ثانية إلى السلطة في تموز 1968, وكانوا هذه المرة يحملون معهم مشروعا عدوانياً ضد الشعب الكردي عموماً والكرد الفيلية خصوصاً, إضافة إلى  عدوانيتهم الموجهة ضد كل الشيوعيين والديمقراطيين والتقدميين والخيرين والطيبين من أبناء وبنات الشعب العراقي. ونفذوا ذلك وفق مخطط إجرامي بدم بارد, ولكن انتهى بهم الأمر إلى مستنقع التاريخ وبئس المصير!
بدأ البعثيون بعمليات التهجير القسري للكرد الفيلية بعد وصول الخميني إلى السلطة واحتل موقع ولاية الفقيه وسرق مع بقية الملالي السلطة من أيدي الشعب وقواه السياسية: فدائيي خلق وتودة ومجاهدي خلق والأحزاب البرجوازية الوطنية. ثم تفاقمت هذه الحملة قبيل الحرب العراقية-الإيرانية بحيث توجه الحكم إلى اعتقال شباب الكرد الفيلية وزجهم في السجون وترحيل النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والمرضى منهم أيضاً إلى إيران بعد أن سلبهم كل أموالهم المنقولة وغير المنقولة وحلي النساء والأطفال عبر مناطق حدودية مليئة بالألغام. لقد قتل النظام البعثي الصدامي الكثير من الشبيبة الكردية الفيلية في السجون أو أرسلهم إلى الموت في جبهات القتال الأمامية مع إيران فاستشهد الكثير منهم ودفنوا مع من قتل منهم في السجون في مقابر جماعية لا يُعرف عن الكثير منهم شيئاً حتى الآن. وفي ذات الفترة هجّر الكثير من العرب الشيعة بذريعة التبعية الإيرانية, كما هجًّر بالقوة والقسر الكثير من أتباع القومية الفارسية الذين عاشوا في العراق وحصلوا على الإقامة أو الجنسية العراقية بدعوى كونهم يشكلون حصان طروادة لصالح إيران في العراق.
لقد عانى الكرد الفيلية الكثير من القهر والذل والضيم وهم في إيران بسبب الفقر والجوع والحرمان, إذ لم يكفِ ما عانوه في العراق ليتسلط عليهم الحرس الثوري الإيراني ويذيقهم في معسكرات اللجوء الضيم الكثير. وأجبر الكثير منهم على مغادرة إيران والعيش في الشتات العراقي في أنحاء كثيرة من العالم. كما كان منهم الكثير الذين شاركوا في حركة الأنصار الشيوعيين والپيشمرگة الکردية في كردستان العراقي في الكفاح المسلح ضد نظام البعث االاستبدادي.
واليوم يواجه الكرد الفيلية الحرمان أيضاً في إيران بسبب الغلاء الفاحش في إيران وسوء الأوضاع المعشية للسكان عموماً والمساعدات القليلة التي تمنح لهم من الحكومة الإيرانية التي تعتبرهم من أهل العراق وليسوا من أهل إيران, وهو صحيح طبعاً. والحكام في إيران لا يعرفون الرحمة ولا يشعروا بعذابات هؤلاء الناس المهجرين قسراً إليها.
وبعد سقوط الدكتاتورية في العراق, ورغم ادعاء الجميع بتبني قضية الكرد الفيلية, لم يتحقق لهم شيئاً إيجابياً سوى الوعود المعسولة, إضافة إلى الحكم الجنائي المهم والجيد الصادر بحق المجرمين الذين ارتكبوا الفظائع ضد الكرد الفيلية من محمكة الجنايات واعتبار الجرائم التي اُرتكبت ضدهم "جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية". وهو قرار إيجابي وجيد. ولكن ماذا بعد؟ لا أحد أبدى الاهتمام الكافي بهم وبمشاعرهم وحقوقهم المغتصبة منذ السنوات الأولى للعقد التاسع من القرن العشرين إلى الآن. إذ كلما كانوا يطالبون بحقوقهم, يوعدون بها خيراً ولكنهم كانوا لا يعودوا من جديد إلا بخفي حنين أو "العشه خباز", كما يقول المثل الشعبي.
قوى التحالف الكردستاني أهملتهم كثيراً, فاشتكوا منها, الشيعة أهملوهم أيضاً, وسعى مقتدى الصدر لإحتوائهم! فمن يا ترى يأخذ قضية الدفاع عنهم؟ لم يبق لهم سوى الحزب الشيوعي العراقي وبعض الشخصيات الوطنية العراقية, وهم لا يستطيعون تحقيق مطالب الكرد الفيلية سوى الكتابة عنهم ونشر الظروف الصعبة التي تعيش فيها هذه المجموعة البشرية المهمة والكبيرة من سكان العراق وبُناته.
ولكن, وأخيراً التفت إليهم السيد رئيس الجمهورية العراقية فصدر قرار عن رئيس الوزراء بتشكيل مكتب خاص في شؤون الكرد الفيلية لدى رئاسة الجمهورية وباقتراح من رئيس الجمهورية. وهو أمر إيجابي إذ قيل قديماً: حين يكون لديك قانون في قضية معينة يمكنك أن تتمسك به وتناضل من أجل تحقيق مضمونه, وأن يأتي القرار متأخراً خير من أن لا يأتي أصلاً!
أصبح للكرد الفيلية مكتب خاص في رئاسة الجمهورية يترأسه الصديق الأستاذ عادل مراد, عضو قيادي ومجرب في الاتحاد الوطني الكردستاني وسفير سابق في رومانيا وكاتب في آن. فماذا يمكن لهذا المكتب أن يحققه للكرد الفيلية؟
للأخ الدكتور عادل مراد معرفة جيدة بالكرد الفيلية, وهو منهم أساساً, وبالتالي فهو عليم بمشكلاتهم الملموسة وحقوقهم المغتصبة ومطالبهم العادلة. ولهذا لا أحتاج إلى إعادة ذكر تلك المطالب, بل إن ما اراه مناسباً الآن هو البدء السريع بوضع القوانين الضرورية والإجراءات اللازمة للمصادقة عليها وتنفيذ تلك المطالب التي نادوا بها منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة, أو تحريك ما موجود من قوانين وإجراءات معطلة لإنجازها.
ارجو أن لا يتأخر العمل لصالح الكرد الفيلية, واتمنى ان يلعب المكتب دوراً فعالاً في جمع كلمة الكرد من خلال الاستجابة لمطالبهم العادلة والمشروعة وان يكون مكتباً فعلياً وفعالاً لكي لا يبدأ الكرد الفيلية بالشكوى مجدداً لأن المكتب لم يلب مطالبهم المشروعة.
إن أجهزة الدولة هي الطرف الأكثر إعاقة في تنفيذ مطالب الكرد الفيلية العادلة والمشروعة بسبب الفساد السائد في الأجهزة الإدارية وسوء الإدارة والمواقف القومية الإيديولوجية المعادية للكرد الفيلية والرشاوى العالية التي يطالبون بها ويتقاضونها فعلاً من أجل الحصول على شهادة الجنسية العراقية التي يستحقها فعلاً, (400 دولار حد أدنى لكل شهادة جنسية لكردي فيلي). والأمثلة كثيرة وموثقة في هذا الصدد واسماء المسؤولين القابضين لتلك الرشوات معروفة لكل كردي فيلي تسلم شهادة جنسيته وجنسية أطفاله خلال السنة المنصرمة. وكذا الحال بالنسبة لمشكلات الأموال المنقولة وغير المنقولة وقضايا الشهداء والتعويضات ومنازعات الملكية ... الخ.
أتمنى على المكتب ورئيسه الأستاذ عادل مراد أن يبدأ بالعمل وينتهي منه قبل نهاية دورة السيد رئيس الجمهورية إذ لا يعرف الإنسان ما سيجري في العراق قبل أو بعد ذاك.
الكرد الفيلية صبروا صبر ايوب وأكثر, ولا يجوز لهم أن يصبروا أكثر فلهم الحق بالاحتجاج والاعتصام والتظاهر السلمي مطالبين بحقوقهم المشروعة حين يشعرون بأن هناك من لا يريد الاستجابة لتلك المطالب العادلة ويعطل تحقيقها لأي سبب غير مشروع كان, وعلى المكتب أن يتناغم معهم في ذلك ويساندهم. وهو ما ينتظره الجميع. لا يحق لمن يطالب بحقه ان يصبر صبر أيوب إذ عندها يضيع الحق واصحابه في آن.
27/1/2011                      كاظم حبيب
 

1004
كاظم حبيب
الإرهابيون وحكومة بغداد!

حصل نوري المالكي على تأييد شعبي واسع حين استطاع توجيه ضربات قوية للميلشيات الطائفية المسلحة في البصرة وفي بغداد, وحين تعاون مع القوات الأمريكية في التزام قوى الصحوات في الأنبار وصلاح الدين بشكل خاص التي استطاعت توجيه ضربات قاسية لقوى القاعدة الإرهابية. واستناداً إلى شعار سيادة واحترام دولة القانون الذي رفعه المالكي وشكل به قائمة دولة القانون, حقق نجاحاً كبيراً في انتخابات مجالس المحافظات والانتخابات العامة لسنة 2010 وليس بقائمة حزب الدعوة الإسلامية. هذه النجاحات أصبحت بعد ثلاث سنوات في خبر كان, إذ أن الإرهاب الدموي عاد إلى بغداد ومحافظات أخرى من العراق بقوة ملموسة ومدمرة لثقة الناس بالوضع القائم. فخلال فترة وجيزة تعرضت بغداد وتكريت وديالى وكربلاء إلى ضربات انتحارية وعبوات ناسفة إدت إلى وقوع مجازر دموية راح ضحيتها المئات من الناس الأبرياء قتلى وجرحى. وهذا التأييد السابق أصبح منذ الآن في خبر كان أيضاً بعد أن مر الآن أكثر من عشرة شهور على الانتخابات العامة ولم ينته رئيس الوزراء من تشكيل الحكومة بكامل قوامها والنسبة المقررة للنساء. إذ أن اقطاب الأحزاب الفائزة في الانتخابات تمارس صراعاً مرهقاً للمجتمع على الوزارات الأمنية التي تراجَعَ نشاطها وقدرتها على ملاحقة الإرهابيين واستطاعت هذه القوى تحريك خلاياها النائمة في وزارات الداخلية والأمن الداخلي والدفاع لتجهز على مزيد من البشر وتدفع بهم إلى طاحونة الموت أو الإصابات البالغة.
وبدلاً من زيادة النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني والبيئي المخرب لمواجهة أوضاع البلاد الشاذة وملاحقة قوى الإرهاب الدموية من جانب أجهزة الأمن والشرطة, راحت بعض قوى الأمن ومجالس المحافظات تتوجه بعملياتها القمعية ضد أتباع الديانة المسيحية, كما حصل في مهاجمة جميعة أشور بانيبال الثقافية بصورة همجية, أو اغتيال أشخاص من أتباع الديانة المندائية وكذلك الاعتداء الغاشم لمرتين متتاليتين من جانب الأجهزة الأمنية على الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق والذي يحتل موقعاً خاصاً في قلوب وعقول كل مثقفات ومثقفي العراق الديمقراطيين من مختلف القوميات وأتباع الأديان والمذاهب الدينية المتنورين الذين يدركون أهمية ودور هذا الاتحاد ومنتسبيه في النضال ضد الدكتاتوريات الغاشمة وضد نظام صدام حسين الدموي ومقارعة التخلف والعنف والعدوانية, والذي قدم التضحيات الغالية من بين أعضائه على هذا الطريق النبيل, طريق النضال في سبيل حرية الشعب وحياته وثقافته الديمقراطية.
وقد بلغت التجاوزات على حرية المواطنات والمواطنين حداً الزمت السيد رئيس الجمهورية إلى إصدار بيان رئاسي جاء فيه "ان رئيس الجمهورية يتابع بمزيد من القلق والاستياء استمرار تعرض المواطنين المسيحيين ومحلات عملهم وتجمّعهم إلى اعتداءات أثمة تشكل مخالفة صريحة للدستور والقوانين المرعية وانتهاكا للحريات الفردية المكفولة بنصوص دستورية واضحة .. فضلا عن ان ديننا الاسلامي الحنيف، دين التسامح والمحبة يعارض العنف المنفلت ويتعارض مع اي اعتداء على ارواح الناس وممتلكاتهم". واضاف "ان الاعتداءات الأخيرة تأتي إثر سلسلة من التجاوزات على الحقوق والحريات في بغداد ومدن أخرى ما يثير قلقاً لدى أوساط الرأي العام. واوضح البيان" ان الرئيس، بحكم التزاماته الدستورية واحترامه لنصوص القانون الاساسي، يدعو الحكومة العراقية، حكومة الوحدة الوطنية والشراكة الوطنية، الى اصدار أوامرها الى الجهات المختصة بالشروع في التحقيق واتخاذ الاجراءات اللازمة لصون الحريات والحقوق وحماية ارواح وممتلكات المواطنين عامة والمسيحيين خاصة وحقهم في العمل وفق ما نص عليه الدستور والتشريعات وانزال العقاب بكل من ارتكب مخالفة او جرما في هذا السياق". ودعا البيان الى" التآزر والتضامن مع الاشقاء المسيحيين والدفاع عنهم واحترام حقوقهم بوصفهم مواطنين اصلاء واخوة في الوطن ..العراق الجديد.. عراق الديمقراطية والتعددية والحريات العامة والخاصة".  (موقع وكالة الأنباء القطرية في 16/1/2011). ومع ذلك, وبعد صدور هذا البيان, قامت عناصر من مجلس محافظة بغداد وثلة من الشرطة المحلية بتدنيس مقر اتحاد الأدباء ثانية وتفتيشه رغم احتجاج مسؤولي الاتحاد. وهو تحدٍ كبير لبيان رئاسة الجمهورية العراقية وتجاوز أخطر على الدستور العراقي وحرمة المؤسسات الثقاية ومنظمات المجتمع المدني.   
إننا إذ ندين هذه التصرفات الفظة غير القانونية والمخلة بالأمن العام التي مارسها رئيس مجلس محافظة بغداد ضد اتحاد الأدباء والكتاب والتهم الموجهة إلى عناصره بالاعتداء على جمعية أشور بانيبال الثقافية بتوجيه وتنظيم منه, نشارك رئاسة الجمهورية بضرورة إجراء التحقيقات الجدية والصارمة ونشر نتائج التحقيق وتقديم المسؤولين إلى العدالة لينالوا الجزاء العادل من جهة, وإلغاء كافة الإجراءات غير المشروعة المتخذة من قبل رئيس مجلس محافظة بغداد ووزارة التربية ضد النوادي والجمعيات الثقافية وضد أكاديمية ومعهد الفنون الجميلة من جهة أخرى, إذ إنها تندرج ضمن التجاوز الفظ والقمعي على حقوق الإنسان والثقافة الديمقراطية وحرية الفرد والشعب وحرية المعاهد والكليات العراقية في وضع المناهج التدريسية وضد الدستور العراقي.
إن على  رئيس الوزراء أن يدرك بأن المجتمع العراقي يتكون من قوميات وأديان ومذاهب واتجاهات فكرية وسياسية كثيرة لا يجوز فرض اتجاه ديني واحد عليه, كما أن الدين الإسلامي لا يحرم الغناء والموسيقى أو الطرب, إذ أن ذلك يشكل جزءاً من الغذاء الروحي للإنسان والذي يفترض أن يحترم وأن تساهم الدولة في تطوير هذه الفنون الإنسانية العريقة التي نشأت مع نشأة الإنسان وتطورت بتطوره. وإذا كان الدستور يتحدث عن أن العراق دولة إسلامية وهو خطأ فادح في الدستور, فأن هذا لا يعني باي حال مصادرة حقوق الإنسان التي كرسها الدستور ذاته أو مصادرة حقوق أتباع الديانات الأخرى بأي حال. إن ما تمارسه بعض قوى الإسلام السياسية في العراق تتقاطع مع الحياة الدستورية ومع المجتمع المدني الذي يراد إقامته في العراق ومع الديمقراطية التي هي أساس المجتمع المدني وقاعدته الفكرية والسياسية. إن على رئيس الوزراء أن يعي ذلك ويدرك فداحة ما يمارس اليوم من بعض أجهزة الدولة ومؤسساته الإدارية ضد الإنسان العراقي وضد حقوقه المشروعة. وأن تأييده للإجراءات المخلة بدستور العراق من جانب رؤساء مجالس بغداد والبصرة وبابل بحديثه عن بناء مجتمع إسلامي أو سكوته على تلك الإجراءات سيقود إلى محاسبته لاحقاً, وأرجو أن لا يحصل ذلك, كما يحاسب اليوم شعب تونس رئيس الجمهورية الهارب من وجه العدالة زين الدين بن علي.
21/1/2011                      كاظم حبيب 
   

1005
كاظم حبيب

حرية الشعب والرأي في العراق في خطر!

لم تتوقف محاولات دفع العراق إلى نفق مظلم حيث تغيب عنه شمس الحرية والديمقراطية وتستعيد الدكتاتورية أنفاسها وتصادر الحرية الفردية وحقوق الإنسان وتستكلب فيه قوى الإرهاب وتنهش وحوش الغابة في لحم الشعب وتشرب من دمائه. فما أن بدأت تلك المحاولات الجادة والوقحة والمتعارضة مع الدستور العراقي في بابل حتى انتقلت إلى البصرة فبغداد وأضحت تشكل تهديداً خطيراً للاستقرار النسبي في العراق وفتحت بدورها أبواب البلاد على مصراعيها أمام صراع متصاعد في المجتمع بين قوى مشاركة في العملية السياسية, مما فسح في المجال إلى تفاقم نشاط قوى الإرهاب والميليشيات الطائفية المسلحة وإنزال المزيد من الضربات الموجعة بالشعب العراقي, وبشكل خاص ببنات وأبناء شعبنا من أتباع الديانة المسيحية وضد دور العبادة. كما لم يتوقف التجاوز على حرية وحياة الصابئة المندائيين. فالإرهابيون لا يكفون عن ملاحقتهم بشتى الطرق لقتلهم, كما حصل لأتباع الديانتين أخيراً.   
إن القوى الظلامية وتلك التي لم تترك فرصة إلا واستثمرتها لوأد العملية السياسية في العراق وإثارة النعرات الطائفية والدينية والقومية وضد الديمقراطية, بدأت معركة جديدة ضد الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وضد بناء المجتمع المدني الديمقراطي والدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية ومن أجل بعثرة الجهود وتفتيت قوى المجتمع لمنعها من إعادة بناء الاقتصاد العراقي ومكافحة البطالة والفقر السائدين في البلاد. ولكن الغريب في الأمر ان الحكومة الاتحادية وكل القوى المشاركة فيها لم تتصد لهذه الحملة الهمجية الظالمة, بل انبرى رئيس الوزراء, الذي طرح نفسه كممثل لدولة القانون والمدافع عنها وخاض الانتخابات العامة على اساس ذلك, عاد إلى مواقعه كرجل دين في حزب الدعوة ليؤيد بطرف خفي مرة وبوضوح مرة أخرى تلك الإجراءات التعسفية التي تجاوزت بشكل فظ على الحرية الفردية والحريات الديمقراطية الشحيحة أصلاً في البلاد ورفض حتى نداءات من يؤيده وراح يدعو له وممن يحسب على قوى المجتمع المدني.
وبدلاً من الاهتمام بمصالح الناس وتوفير الخدمات للشعب الذي يعاني من شحتها وخاصة الكهرباء والعناية الصحية ونظافة المدن العراقية وخاصة بغداد العاصمة والأحياء الشعبية فيها, وبدلاً من الاهتمام بالاقتصاد والتنمية الاقتصادية والبشرية ومكافحة البطالة والفقر والفساد السائد في البلاد, راح المسؤولون من أمثال رئيس مجلس محافظة بغداد ومن لف لفله يطاردون المواطنات والمواطنين في حريتهم الفردية وفي حقوقهم المشروعة ويزيدون من نقمة المجتمع على الحكم القائم الغارق في الصراع على المناصب منذ ما يقرب من عشرة شهور والعاجز عن تنشيط العملية الاقتصادية بمشاريع إنتاجية وخدمية بدلاً من إغراق الأسواق بالسلع المستوردة. مرة أخرى نقول إن حكام العراق لا يريدون أن يتعظوا بعواقب الحكام الذين سبقوهم في بلادنا وفي البلدان الأخرى, ومنها تونس في هذه الأيام العاصفة التي أكد الشعب من جديد مضمون قصيدة الشابي
إذا الشعب أراد الحياة               فلا بد أن يستجيب القدر
إن التجاوز على الحرية الفردية والحريات الديمقراطية بأي شكل كان يعتبر بداية خطيرة لعد تنازلي صوب الاستبداد والظلام وقهر قوى المجتمع السليمة. وهي تذكرنا بما فعله خير الله طلفاح من إجراءات تعسفية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي, أو حملة الدكتاتور الإيمانية في التسعينيات منه. وعلينا أن نتذكر إلى أين انتهى هؤلاء الأوباش!
إن مؤسسة المدى الملتزمة بالكلمة الحرة وبالثقافة والحياة والحريات الديمقراطية تمارس دوراً طليعياً في الدفاع عن الحريات الديمقراطية وفي مواجهة قوى الشر التي تريد إنزال الأذى بالناس الشرفاء. ولكن هذه الحملة التي تقودها بوعي ومسؤولية يفترض أن تشارك فيها كل قوى المجتمع الشريفة والواعية لما يراد لها إن استمر هؤلاء الناس من المتطرفين من أمثال رئيس مجلس محافظة بغداد الذي يمارس تنفيذ عقوبات شرسة ضد المسيحيين وغيرهم كما حصل في جمعية أشور بانيبال الثقافية ببغداد يوم 13/1/2011. إن البعض من هؤلاء يلهون المجتمع بهذه المشكلات لينفذوا مخططات أخرى تسهم في إلحاق أكبر الأذى بالمجتمع, وعلى المجتمع إيقافهم ولجمهم قبل أن يتفاقم دورهم..   
علينا جميعاً تقع مسؤولية المشاركة في تصعيد الحملة من أجل الحريات الديمقراطية لا إضعافها بأي شكل كان, لأن وراء إضعافها أو السكوت عنها عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع وعلى مستقبل العراق الديمقراطي المنشود...
18/1/2011                        كاظم حبيب
     

1006
كاظم حبيب

هل نقد المسؤولين والثوار خط أحمر وأكثر؟

 قرأت وأنا في زيارة لمدينة أربيل, عاصمة إقليم كردستان العراق, مقالاً منشوراً على صفحات موقع "صوت العراق" تحت عنوان "نعم, نقد مسعود البارزاني خط أحمر وأكثر...", للصحفي الكردي "صبحي ساله ي". استغربت من هذا العنوان الغريب. وأصبحت أكثر استغراباً من تلك المبررات التي أوردها الكاتب, إذ إنها لا تجسد, كما أرى, وعياً بالمسؤولية التي يحملها الصحفي أو الإعلامي عموماً إزاء حرية الرأي والحق في ممارسة النقد, كما إنها لا تعبر عن وجهة نظر فكرية وسياسية واجتماعية ناضجة ولا يمكن قبولها بأي حال, إذ ليس هناك أي إنسان في هذا العالم المترامي الأطراف غير معرض للنقد والمساءلة, وبلادنا لا يمكن أن تختلف عن بقية دول العالم في هذا المجال.
ممارسة النقد لكبار المسؤولين بشكل خاص, وللدكتاتور الفرد بشكل أخص, كان ولا يزال هو المحرم في الدول الشمولية المستبدة, ومنها كان النظام البعثي الصدامي المقبور. ففي مثل هذه النظم الشمولية تعمد أجهزة الأمن والمحيطين بالطغاة إلى كم أفواه الناس وخياطة فم الإنسان بخيوط يصعب تفكيكها, ويقيد بقيود يصعب تكسيرها من أجل منعه من الحديث أو الكتابة والنشر.
ولهذا لا بد من تأكيد حقيقة إن جميع المسؤولين في العراق أبتداءً من السادة رئيس الجمهورية ومروراً برئيس الوزراء العراقي ورئيس الإقليم ورئيس وزراء الإقليم وبرئيسي مجلسي النواب في بغداد وأربيل وانتهاءً ببقية المسؤولين دون استثناء هم معرضون للنقد حين يرتكبون أخطاءً سياسية. ومن لا يتحمل النقد يفترض فيه أن لا يحتل موقعاً يرتبط بالشأن العام. هذه هي القاعدة العامة في النظم المدنية والديمقراطية. 
إن المقال الذي كتبه "السيد صبحي ساله ي" هو ليس مدحاً للسيد مسعود البارزاني, بل هو من حيث لا يعلم إساءة له إذ وضعه أمامنا باعتباره منزهاً من كل خطأ محتمل, وهو أمر غير مقبول في أي بلد من البلدان, إذ لا وجود لإنسان منزه. ومثل هذا الطرح من جانب الكاتب فيه محاولة لكم الأفواه ومنع ممارسة النقد, إذ حين يبدأ النظام السياسي في الإقليم بمنع النقد وجعله خطاً أحمراً بالنسبة إلى رئيس الإقليم سينتقل تدريجاً إلى بقية المسؤولين بالتدريج, وبالتالي يحرم المواطن من ممارسة حقه في النقد. عندها يشكل هذا النهج تجاوزاً صارخاً على حقوق الإنسان وعلى الدستورين الكردستاني والعراقي.
إن مثل هذا الطرح يعتبر إهانة للمواطنات والمواطنين وكأنهم من طينة أخرى لا يحق لهم ممارسة النقد إزاء إنسان من طينة أخرى, في حين أنه إنسان مثلي ومثلك, وشعب كردستان العراق هو الذي انتخبه لهذا المنصب ومن حقه أن يصوت له أو لغيره.
إن مثل هذا الطرح لا ينسجم مع أسس المجتمع المدني الذي يفترض أن يبنى في إقليم كردستان, ونشر مثل هذا المقال على الصعيد الداخلي والخارجي سوف يثير تساؤلات عادلة عن طبيعة الوضع في كردستان وسيطرح تساؤلاً عن مدى علم السيد رئيس الإقليم بمثل هذه الكتابات التي تحاول تمجيد الفرد وخلق هالة قدسية حوله ونشر عبادة الفرد التي لا يمكن أن تتناغم مع العصر الحديث ومع التحولات الجارية في العالم.
لا أدري إن كان السيد مسعود البارزاني قد اطلع على هذا المقال أم لا. إذ أن نشر مثل هذه الكتابات مخلة بالديمقراطية وحرية الرأي وحقوق المواطنة والمواطن في ممارسة النقد. إن صحفياً حزبياً مثل السيد صبحي صالحي ينشر مقالاً من هذا النوع ويصل إلى أجهزة الإعلام في جميع أنحاء العالم ويقرأ من كثرة من الناس, سيقنع هؤلاء القراء جميعاً بواقع مصادرة الحرية والديمقراطية في إقليم كردستان.
إن معارفي وتجاربي الشخصية تشير إلى إنه كلما ازدادت معارف الإنسان وخبراته الشخصية ومعايشته للبشر واحتلاله موقع المسؤولية الأولى يزداد تواضعه وينمو حرصه على سماع وجهات نظر الآخرين والاستنارة بها والاستفادة منها والترحيب بالنقد الذي ينير درب المسؤولين ولا يضيق ذرعاً بها ولا يسمح لمثل هذه المقالات التي تجسد قمة التملق بالنشر أو سحبها حين يسمع بنشرها.
كم أتمنى على هذا الصحفي أن يعتذر لكل من قرأ المقال ولكل الصحفيين الذين يتمتعون بحس سليم إزاء قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
9/1/2011                       كاظم حبيب
       

1007
المنبر الحر / توضيح ضروري
« في: 14:07 04/01/2011  »
توضيح ضروري


توضيح من المبادرين والمشاركين في إصدار نداء للاتحاد: نداء الى القوى والشخصيات الديمقراطية العراقية

نشر الأستاذ موسى فرج مقالاً في موقع الناس يرى كثرة التحرك صوب تأسيس كيانات
سياسية جديدة. وجاء على ذكر النداء الذي صدر عن 110 شخصية عراقية, نسائية ورجالية,  ويجري الآن التوقيع عليه من عدد متزايد من العراقيات والعراقيين في داخل البلد وخارجه على موقع الحوار المتمدن والذي نشر ايضاً على مواقع عراقية كثيرة لغرض الإطلاع والتأييد.
إن الموقعين على هذا البيان لا ينوون تشكيل أي تنظيم او كيان سياسي جديد بأي
حال, فالتنظيمات والكيانات السياسية الديمقراطية كثيرة للغاية، بل إن النداء موجه إلى كافة القوى والأحزاب والكتل والجماعات والشخصيات الديمقراطية العراقية من أجل مواصلة اللقاءات والحوارات للوصول إلى وضع برنامج عمل مشترك وقواعد عمل مشترك على صعيد العراق كله. أي الأخذ بصيغة متقدمة من صيغ التحالف الديمقراطي بين القوى الديمقراطية والعلمانية الديمقراطية العراقية التي تستطيع بموجبها خوض الانتخابات القادمة بقائمة موحدة, إضافة إلى اتخاذ المواقف المناسبة إزاء السياسات التي سوف تمارس في العراق من قبل الحكومة الجديدة المشكلة.
لهذا اقتضى التنويه
الموقعون على نداء الاتحاد
في 4/1/2011

1008
كاظم حبيب
هل من سبيل لحياة حرة وديمقراطية في العالم العربي؟


"يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلمه النطق,
وتقضي الأنظمة العربية بقية عمره في تعليمه الصمت!"
         أحلام مستغانمي
من كتاب ذاكرة الجسد, شاعرة وكاتبة جزائرية

يوم أمس ودعت الدول العربية ودول منطقة الشرق الأوسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الميلادي وبدأت السنة الأولى من العقد الثاني منه, فما هو حصاد شعوب الدول العربية في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والسلام؟ وهل من سبيل لبناء حياة ديمقراطية حرة فيها؟
لا مجال للشك في أن الشعوب العربية وبقية شعوب المنطقة قد برهنت خلال العقود المنصرمة على أنها لا تختلف عن بقية شعوب العالم في تطلعها للعيش في ظل الحرية والديمقراطية والتمتع بحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, كما إنها تنشد كغيرها من الشعوب ضمان الأمن والاستقرار والعيش بسلام في ما بينها ومع بقية شعوب العالم.
وشعوب الدول العربية وبقية دول المنطقة لم تتطلع ولم تنشد كل ذلك فحسب, بل هي ناضلت بإصرار كلفها الكثير من الضحايا والآلام خلال العقود المنصرمة من أجل ضمان الحدود الدنيا من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق كل القوميات القاطنة فيها ومن أجل ضمان العدالة الاجتماعية والسلام. فهل تحقق لها ما ناضلت من أجله طيلة العقود المنصرمة أم أنها لا تزال تتعثر كثيراً في تحقيق هذه المهمات؟
كل المؤشرات والمعلومات التي تحت تصرفنا, وكل التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية, بما فيها منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية, والتنمية الاقتصادية والبشرية والنزاهة الدولية.. الخ, تؤكد بما لا يقبل الشك بأن شعوب الدول العربية وبقية شعوب منطقة الشرق الأوسط قد عانت وتحملت الكثير من الآلام والخسائر الفادحة بالأرواح والممتلكات, ولكنها لم تحقق إلى الآن شيئاً يذكر في ما كانت تسعى إليه, بل شهدت ارتداداً وتراجعاً في مجالات غير قليلة. فدول المنطقة كلها دون استثناء قد تراجعت بمستويات مختلفة في ممارسة ما كان موجوداً فيها من قبل مثل بعض الحريات العامة أو الخطوات الأولى التي سارت عليها نحو بناء المجتمع المدني. والعراق الذي تخلص من الدكتاتورية الغاشمةو يعاني اليوم من وجع آخر هو وجع المحاصصة الطائفية السياسية ومحاولة فرض الخيمة الفكرية الدينية الواحدة.
فشعوب المنطقة واجهت خلال العقود الثلاث الأخيرة بشكل خاص العديد من الحروب الإقليمية المدمرة التي كلفت أكثر من مليونين ونصف مليون من البشر ومصادرة أغلب حقوق المواطنة وحقوق الإنسان ومورست ضدها سياسات تميزت بالاستبداد والقسوة والقمع والإرهاب, سواء أكان من قبل حكومات تلك الدول, أم من قبل قوى سياسية إسلامية متطرفة, إضافة إلى غياب العدالة كلية في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي أو في استخدامه لصالح المجتمع, كما ساد الفساد المالي والإداري على نطاق واسع حتى تحول إلى نظام سائد وليس مجرد ظواهر هنا وهناك, كما جرت مصادرة فعلية لحقوق القوميات مما تسبب في الكثير من التعقيدات والصدامات التي الحقت أضراراً فادحة بالمجتمع.
وخلال السنوات المنصرمة برز وتنامى التيار الديني الإسلامي السياسي المتطرف والإرهابي الذي مارس التمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى, مما أدى إلى موت الكثير من البشر في عدد كبير من دول المنطقة أو الإصابة بجروح, إضافة إلى الخسائر المالية والحضارية.
أما المرأة فهي لا تزال تعاني من الاضطهاد ومصادرة الكثير من حقوقها الأساسية وسلب فعلي لإرادتها الحرة على يد الدولة والسياسات الحكومية أو على أيدي منظمات إسلامية سياسية متطرفة. وقد اقترن ذلك بعودة البعض الكثير من الدول العربية وبقية دول المنطقة إلى العقلية والتقاليد والعادات العشائرية البالية إضافة إلى الغوص في التزمت الديني والاجتماعي وتراجع شديد في الوعي الاجتماعي وغياب فعلي للتنوير الديني والاجتماعي والنهضة الاجتماعية المنشودة..الخ.
إن سيادة هذه الظواهر في دول منطقة الشرق الأوسط, ومنها الدول العربية, ليست نتاج هذه المرحلة وحدها, بل هي نتاج متراكم منذ العهد العثماني والدول الحديثة التي تشكلت في ظل الهيمنة الاستعمارية في أعقاب الحرب العالمية الأولى على نحو خاص وارتبطت بعدة عوامل لم تنقطع أغلبها تقريباً, ومنها:
1.   سيادة التخلف الاقتصادي وتشوه البنية الاجتماعية (الطبقية) في ظل علاقات إنتاجية متخلفة.
2.   وجود نسبة عالية من الأمية والجهل السياسي وغياب التنوير الديني والاجتماعي عن المجتمع.
3.   نشوء نظم سياسية غير ديمقراطية واستبدادية تميزت بالتسلط والقمع والقسوة البالغة وعدم تطبيق الدساتير ومتحالفة مع قوى الاستعمار التي كانت تسعى لديمومة وجودها وديمومة الحليف السياسي لها وتحقيق مصالحها.
4.   الدور السلبي للمؤسسات الدينية في نشر الدين الصحيح وتحقيق التنوير والنهضة في المجتمع, وخاصة تلك القوى التي استفادت من تخلف الوعي الاجتماعي وراحت تعمق سقوط الناس الفقراء والمعوزين والكادحين ضحية الغيبيات والطقوس غير العقلانية والمرضية.
5.   منع المثقفين الديمقراطيين والقوى الديمقراطية والعلمانية من إداء دورهم في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والتنوير من خلال ممارستها لسياسات اضطهاد الكلمة الحرة ومنع نشرها بين الناس.   
إلا أن ما يزيد الأمر خطورة ويعرض حياة المزيد من الناس إلى خطر الموت أو الهجرة القسرية أو الوقوع ضحايا للعمليات الإرهابية هي تلك المحاولة التي تبذلها قوى الإسلام السياسية بربط الدين بالدولة, كما يجري اليوم في كل من إيران والسعودية والسودان, على سبيل المثال لا الحصر من جهة, وممارسة التمييز الديني والمذهبي في دول المنطقة إلتي تقود إلى مزيد من التصادم على مستوى سكان البلاد من جهة أخرى. وغالبية الشعوب في المنطقة تعاني من هذه السياسات الجائرة.   
فمن المسؤول عن هذه الحقيقة؟ وكيف يمكن تجاوز هذه الحالة من أجل بناء غدٍ ديمقراطي لكل شعوب الدول العربية وبقية شعوب المنطقة؟
إن الظواهر السلبية التي جرى الحديث عنها لا تزال قائمة بصيغ مختلفة وهي تستنزف الطاقات المتوفرة في دول المنطقة, وخاصة غياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بسبب وجود الحكومات غير الديمقراطية أو الاستبدادية, وهي إما ان تحكم البلاد باسم القومية أو باسم الدين أو بهما معاً. والنماذج كثيرة في منطقة الشرق الأوسط, منها مثلاً إيران التي يتجلى فيها الاستبداد الثيوقراطي المتشابك مع النعرة القومية الفارسية والرغبة في التسلط على المنطقة وتصدير السياسات المذهبية وإشاعة الصراعات والفوضى, أو تركيا التي لا تزال تمارس أقسى أشكال التعصب القومي المتطرف والقوة في مواجهة مطالب الشعب الكردي, في كردستان تركيا, وكذا الحال في إيران حيث تصدر الكثير من أحكام الإعدام ضد المطالبين بالحقوق القومية, او في سوريا حيث الموقف السلبي للحكومة من منح الجنسية السورية للكرد أو ممارسة الاستبداد البعثي فيها, أو استمرار احتلال الدولة الإسرائيلية للأراضي العربية في فلسطين وفي سوريا ولبنان وممارسة العقوبات الجماعية وتهديم البيوت والحصار الاقتصادي, أو النظم الطائفية في لبنان والعراق وإيران على سبيل المثال لا الحصر, إضافة إلى طبيعة  النظم المستبدة في السودان واليمن وسوريا وليبيا على نحو خاص. أما في السعودية فهي الدولة المنتجة حقاً للإرهابيين وعلى نطاق واسع بسبب طبيعة النظام السعودي الثيوقراطي وطبيعة التعليم الديني فيه والتربية غير العقلانية باسم الإسلام ضد الديانات الأخرى والمذاهب الأخرى في الإسلام والتي يمكن البرهنة على ممارسة مثل هذه التربية من خلال الكتب المدرسية والفتاوى التي أغرقت العالم الإسلامي بها وبلجة من التخلف والتطرف وغياب روح التسامح والاعتراف بالآخر.
إن التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبطالة الواسعة والفقر الشديد لفئات اجتماعية واسعة يزيد من مصاعب الحياة في الدول العربية ودول منطقة الشرق الأوسط. ولا يمكن إزالة هذه الحالة ما لم تتجه هذه الدول صوب تغيير واقعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي, ما لم تسع إلى التصنيع وتحديث الزراعة وتغيير البنية الطبقية للمجتمع, هذه البنية التي لا تزال في غالبيتها بنية فلاحية وعشائرية متخلفة ومضرة ومانعة للتطور صوب المدنية والحياة الديمقراطية.
إن مشكلة الدول العربية, كجزء من دول منطقة الشرق الأوسط, تتجلى في ضعف القوى الديمقراطية والقوى العلمانية الديمقراطية فيها من جهة, وتمزقها إلى كتل وتجمعات صغيرة غير متعاونة بل وأحياناً كثيرة متصارعة وينهش فيها داء النرجسية كمرض بحيث يمنعها من التواضع والعمل المشترك للنهوض بمهماتها المشتركة ومواجهة التحديات الراهنة من جهة أخرى.
إن ميزان القوى على الصعيد الإقليمي مختل لصالح القوى الرجعية والجماعات والأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية والقوى القومية المتعصبة, وهو ناتج عن اختلال في ميزان القوى على الصعيد العالمي أيضاً حيث تمارس الدول الرأسمالية الأكثر تطوراً سياسات غير ديمقراطية إزاء الدول النامية عموماً وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً وتدعم التيارات الإسلامية السياسية او الدول الرجعية ضد القوى الديمقراطية بهدف الحصول على مكاسب اقتصادية, وخاصة النفط الخام, من خلال السكوت على التجاوزات الفظة على الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات, إضافة إلى تفاقم الفجوة الدخلية ومستوى المعيشة بين الأغنياء والفقراء, وازدياد عدد الفقراء والعاطلين عن العمل في هذه الدول. وأكبر دليل على ذلك ما يجري في السعودية وتركيا, أو مساهمتها الجادة في تكريس قاعدة المحاصصة الطائفية في الحكم بالعراق. إنها الإساءة الكبرى التي تمارسها الدول الكبرى, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية, في المنطقة, إضافة إلى سكوتها على ما يجري في فلسطين وسياسات اليمين الإسرائيلي التي غذت اليمين الإسلامي السياسي المتطرف في فلسطين وخاصة في قطاع غزة.
أن تغيير ميزان القوى لصالح القوى الديمقراطية في المنطقة يحتاج إلى جهود استثنائية من جانب القوى الديمقراطية في كل بلد من هذه البلدان ولسنوات غير قصيرة, ولكنه يحتاج وفي كل بلد من هذه البلدان إلى دراسة الواقع القائم وتحليله وتحليل قواه السياسية وقدرات المجتمع ومن ثم وضع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية الواضحة التي تلتقي عندها كل القوى الديمقراطية لكسب الناس إلى جانبها من خلال الدفاع عن مصالحها مباشرة ودون تردد, وفضح سياسات القوى التي هي الآن في الحكم.
إن التعاون والتضامن بين القوى الديمقراطية على صعيد المنطقة وتبادل المعارف والخبر وتحديد أولويات النضال في كل بلد منها يعتبر القاعدة الأساسية لضمان مسيرة مظفرة صوب تغيير الميزان المختل حالياً وجعله يتطور لصالح القوى الديمقراطية في الدول العربية وبقية دول المنطقة.
إن إمكانية بناء الديمقراطية في دول المنطقة, ومنها الدول العربية, أمر ممكن طبعا ولا تختلف في ذلك عن بقية دول العالم, ولكن هذه العملية لا تتحقق ميكانيكاً, بل تستوجب بذل الجهود المكثفة والمركزة لصالح الدفاع عن مصالح الناس وضد كل شكل من أشكال الاستبداد ومصادرة الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وضد مصادرة إرادة الإنسان وحريته الفردية. إلى ذلك ينبغي أن نسعى بكل السبل الديمقراطية, وهو آت لا ريب فيه ما دمنا نعمل من أجل الشعوب ولصالح العيش الكريم في دول حرة وديمقراطية مستقلة.               
1/1/2011                     كاظم حبيب
   


1009
د. كاظم حبيب

ملاحظات أولية حول خطة التنمية الوطنية للفترة 2010-2014 في العراق

قبل فترة وجيزة نشرت وزارة التخطيط عرضاً موجزاً لخطة التنمية الوطنية للفترة الواقعة بين 2010-2014 بحدود 87 صفحة على  موقعها على الإنترنيت. وهي بادرة إيجابية في ظل الفوضى السائدة في العراق والأوضاع المعقدة والصعبة التي تمر بها جميع الوزارات دون استثناء, ولكن وبشكل خاص المجتمع العراقي. تضمنت هذه الخطة شرحاً لمزايا وأهداف واستراتيجية الخطة الخمسية من جهة وجداول كثيرة عن مختلف القطاعات الاقتصادية التي يفترض أن تحقق برامجها خلال الفترة المذكورة, إضافة إلى موازنة إيرادات ومصروفات الخطة الخمسية. والسؤال الذي نحاول الإجابة عنه بشكل مكثف يتضمن جانبين: ما هي الجوانب الإيجابية في هذه الخطة, وما هي الجوانب السلبية التي لا تزال بحاجة إلى تغيير؟
2 . إن صدور خطة خمسية للتنمية الوطنية في العراق وفي هذه المرحلة بالذات جاءت نتيجة لمطالبات كثيرة من جانب جمهرة كبيرة من الاقتصاديين والقوى الديمقراطية في  الداخل والخارج, خاصة بعد أن تم سن الدستور في العام 2005 وتشكلت حكومة جديدة, إذ لا يمكن أن تتم عملية تنمية وطنية من دون أن تكون هناك خطة حتى لو سار الاقتصاد العراقي على وفق اقتصاد السوق الحر, كما هو مكرس في خط التنمية الراهنة, وبالتالي فهي خطوة بالاتجاه العام الصحيح بالمقارنة مع الفترات السابقة.
2 . أبدت هذه الخطة اهتماماً ملموساً بخمسة مسائل جوهرية كثيراً ما تحدث عنها الاقتصاديون في العراق, وهي:
أ) حالة الفقر السائدة في العراق والتي تشمل نسبة عالية من السكان؛
ب) التخطيط المكاني والذي يبدى اهتماماً بتنمية جميع مناطق العراق, وخاصة المتخلفة منها, إضافة إلى مسألة التوطين الصناعي؛
ج) مخاطر هيمنة اقتصاد النفط وإيراداته على البنية الاقتصادية العراقية والتفكير بتغييرها؛ د) وظاهرة تكريس الاستيرادات المتعاظمة سنوياً على حساب تنشيط الإنتاج الصناعي والزراعي في العراق ومخاطر ذلك على الاقنصاد وأمن البلاد بسبب الانكشاف الفعلي والكلي على الخارج؛
هـ) الأهمية البالغة لإعادة النظر بالسياسة الاقتصادية لتأمين تطوير القطاعين الإنتاجيين الأسااسيين, الزراعة والصناعة التحويلية من أجل تغيير بنية الاقتصادي وبنية الدخل القومي.       
إن هذا يعني, وأملي أن أكون مصيباً, أن وزارة التخطيط قد أدركت الانقطاع والاختلال الفعلي الحاصل في عملية إعادة الإنتاج في الاقتصاد العراقي وارتباطها المباشر والتبعي بعملية إعادة الإنتاج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال اقتصاد النفط, وبالتالي فهذا يعني انعدام فعلي لقدرة التراكم الرأسمالي الضرورية في الاقتصاد العراقي والتوسع في عملية إعادة الإنتاج وتحقيق التحول من اقتصاد ضعيف ومتخلف بنيوياً وتابع للخارج إلى اقتصاد وطني يتمتع باستقلالية نسبية في ظل ظروف العولمة الراهنة والمتطورة.
3 . كما أن المخطط قد سجل نقطة مهمة في تأكيد التحول من إدارة مركزية للاقتصاد إلى إدارة لامركزية في العلاقة في ما بين الدولة الاتحادية والإقليم والمحافظات, شريطة أن لا تفقد هذه العملية وحدتها العضوية والتنسيق في ما بين فروعها ومشروعاتها الا قتصادية لأهمية التكامل في ما بينها. ولا شك في أن هذه العملية التي يراد إدخالها ستواجه تجاوزات ومصاعب كبيرة إلى أن تستند إلى قوانين وخبرة وتقاليد عمل وتوافق في المصالح.   
4 . نجح المخطط في تبيان خمس مخاطر جدية تواجه الاقتصاد العراقي, بعد أن شخص الفجوة الخطرة القائمة بين دور ومكانة النفط من جهة, ودور ومكانة قطاعي الزراعة والصناعة في الاقتصاد العراقي من جهة أخرى, وأعني بها:
أ) الفقر العام رغم غنى البلاد, ووجود بطالة واسعة, رغم أنه لم يتحدث المخطط عن البطالة المقنعة الهائلة الراهنة في العراق على وفق ما جاء في الموجز الذي بين أيدينا.
ب) واللامساواة واللاتكافؤ في التطور في ما بين المناطق والمحافظات والأقضية,
ج) والفجوة في مستوى التطور والخدمات في ما بين الريف والمدينة؛
د) تزايد حجم الانفاق على الاستهلاك في مقابل توظيف الاستثمارات في الاقتصاد العراقي, أي وجود اختلال شديد في العلاقة بين الاستهلاك والتراكم في الدخل القومي لصاح الاستهلاك, وهو الذي يضعف تعظيم الثروة الوطنية ويساهم في إفقار المجتمع؛
هـ) سوء توزيع الموارد المالية المخصصة للاستهلاك وتباين الفئات الاجتماعية المستفيدة منها في غير صالح الفئات الكادحة والفقيرة, اي سوء توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي إضافة إلى سوء استخدامه. 
5 . ويشير المخطط إلى حصول تعاون ومشاركة من جانب الوزارات والجهات المعنية بالخطة, وهو أمر إيجابي بغض النظر عن مدى جدية وشمولية وفاعلية هذا التعاون في ظروف الوزارات الراهنة.
6 . أبرز المخطط اهتماماً ملحوظاً بالقطاع الخاص المحلي والأجنبي ولكنه لم ينس قطاع الدولة رغم قناعتي بأن الاهتمام بهذا القطاع يفترض أن يكون أكبر لأهميته في المرحلة الأولى من التطور والتقدم الاقتصادي مع ضرورة إجراء تغيير في مفهومه وجدواه الاقتصادية والمجالات التي يفترض التوظيف فيها.   
هذه الجوانب الإيجابية من الناحية النظرية, التي استندنا إلى ما جاء في الخطة المنشورة وليس لما يجري اليوم في الواقع العراقي, رافقتها جوانب سلبية برزت بوضوح في هذه الخطة والتي نحاول الإشارة إليها بأمل تجاوزها وليس الفت في عضد الأجهزة التي أنجزت هذه الخطة.
1 . غياب إستراتيجية تنمية وطنية بعيدة المدى كمؤشرات إرشادية أساسية للتطور اللاحق للاقتصاد الوطني والذي في ضوئه يمكن وضع الخطط الخمسية والسنوية وفي مختلف القطاعات الاقتصادية. وهي الإشكالية التي شكا منها السيد الوزير الدكتور علي بابان في اكثر من ندوة تلفزيونية. وهي لا شك مرتبطة بالوضع السائد في العراق والتباين الشديد في وجهات النظر.
2 . غياب التنسيق والتكامل الاقتصادي بين بغداد وأربيل, بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم, بين وزارة التخطيط والتعاون الانمادية الاتحادية ووزارة التخطيط في حكومة الإقليم, إذ لا يجوز التجميع في الخطة بل التنسيق, وهذا لا يتعارض مع وجود استقلالية نسبية معينة في سياسة الإقليم الاقتصادية, ولكن لا بد من التنسيق والتعاون والتكامل على مستوى العراق والدولة الاتحادية. ويبدو هذا واضحاً في أكثر من مكان في موجز الخطة.
3 . لقد جرت مناقشات لمسودات الخطة في اجتماعين في بغداد واربيل, في حين كان المفروض والمفيد نشر تلك المسودات على نطاق واسع, إذ في ذلك فوائد كبيرة منها مساهمة المختصين في الشؤون المختلفة في مناقشة الخطة, سواء أكانوا داخل العراق أم خارجه, كما أن في ذلك عملية تثقيف وتوعية للناس أو لمن يقرأ الصحافة أو يطلع عليها.
4 . أهملت الخطة, كما اشار إلى ذلك الأخ الدكتور فاضل مهدي بصواب, النمو السكاني في العراق وسبل السيطرة عليه وتنظيمه لصالح المجتمع بما يقلل من معدل النمو الراهن البالغ 3% سنوياً. (قارن: فاضل عباس مهدي وجهة نظر إقتصادية - خطة التنمية العراقية: جهد ملحوظ وسياسة سكانية غائبة, دار الحياة, الخميس, 21 أكتوبر 2010).
 ومع قناعتي بأن وزارة التخطيط والجهاز المركزي للإحصاء لديهما معلومات كافية نسبياً عن معدلات النمو السنوية, رغم عدم إنجاز المسح السكاني إلى الآن, فأن عدم إيرادها يشكل خطأ ونقصاً بارزاً, إذ من غير المعقول أن توضع خطة خمسية دون تحديد معالم التطور السكاني وتوزيعه الجغرافي والتعليمي والمهني ...الخ, إذ كيف يمكن تحديد الحاجات في ظل الإمكانيات والعلاقة بينهما اولاً, وبينهما وبين معدل النمو السكاني في العراق ثانياً ..الخ. وإذا كان صائباً الأخذ بالأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة, الاقتصادي والاجتماعي والبيئي, فكان من الضروري إضافة بعدين آخرين إليهما, وهما البعد السكاني والبعد الاستراتيجي البعيد المدى للتنمية الوطنية.   
5 . يبدو لي إن المخطط لم ينتبه إلى أهمية استثمار الطاقة الشمسية في العراق لإنتاج الطاقة الكهربائية, خاصة وأن تجارب كثير في دول مجاورة مثل تركيا قد برهنت على إمكانية الاعتماد على الطاقة الشمسية, وبشكل خاص وفي المراحل الأولى للبيوت الخاصة, إذ أن امتلاكنا للنفط والغاز لا يعني ضرورة عدم تنويع مصادر إنتاج الطاقة الكهربائية.
6 . لا يمتلك العراق أنهاراً تتفجر في أرضه وتنساب إلى دول أخرى, بل أن مصادر مياهه الأساسية تأتي من تركيا, مثل دجلة والفرات, أو من مجموعة أنهار في إيران. وهذا الاعتماد على الجيران خلق ويخلق للعراق مشكلات كبيرة. ولهذا يحتاج العراق إلى تقنين جدي في استخدام كميات المياه المتوفرة, سواء أكان للزراعة أم الصناعة أم الا ستهلاك السكاني العام من جهة, وإلى تأمين مزيد من الخزانات للاحتفاظ بمياه دجلة والفرات في العراق وعدم انسيابه إلى البحر عبر شط العرب من جهة ثانية, إضافة إلى الجهد الذي يفترض أن يبذل من أجل عقد اتفاقية دولية مع كل من تركيا وسوريا وإيران حول المياه. والقوانين الدولية تبيح للعراق الحصول على كميات معينة من مياه تلك الأنهر سنوياً ثالثاً, كما يفترض ضبط وتنظيم قضايا معدل النمو السكاني السنوي من جهة رابعة, والتثقيف بأهمية التوفير في استخدام المياه أيضاً.
7 . يبدو لي, وارجو أن أكون مخطئاً, أن في نهج المخطط أن يحول منشآت قطاع الدولة إلى القطاع الخاص أولاً, والابتعاد عن إقامة مشاريع اقتصادية مهمة من جانب الدولة ثانياً. وإذا كان هذا النهج هو الذي يراد له ان يسود في العراق فهو خاطئ بالارتباط مع أوضاع العراق الملموسة وأهمية توجيه كميات هائلة من موارد البلاد العائدة لقطاع الدولة والخاص المحلي والأجنبي لإقامة المزيد من المنشآت الصناعية والزراعية لتعجيل التخلص من التخلف والاقتصاد الريعي والاستهلاكي الراهن.
8 . ابتعد المخطط عن التطرق إلى القطاع التعاوني في الاقتصاد العراقي, رغم وجود إمكانيات وضرورات لمثل هذا القطاع إلى جانب القطاع المختلط وبقية القطاعات. ويمكن أن يتم ذلك في الزراعة وفي مجال الاستهلاك أو الخدمات, خاصة وان الزراعة بحاجة إلى تجميع القطع الزراعية الصغيرة في جمعيات تعاونية كبيرة لغرض إقامة مشاريع الإنتاج الكبير وليس السلعي الصغير. كما يمكن للمصرفين الزراعي والصناعي أن يدعما المشاريع الزراعية والصناعية التي يمكن أن تقوم على أساس التعاون بين القطاعين العام والخاص وفق نسب معينة واستثمارات مشتركة وبدعم يتجلى في تقديم قروض ميسرة.         
9 . يقدم المخطط العراقي تصوراً عن وجود 23% من القوى القادرة على العمل عاطلة عنه,  وأن الخطة تسعى إلى تقليص البطالة إلى 16% إلى نهاية العام 2014. علينا هنا أن نشير إلى ثلاث حقائق لا يمكن تجاوزها, وهي:
أ‌)   إن البطالة في العراق هي أكثر من 23% وتصل إلى حدود أو أكثر من 30% وربما تصل إلى 35% من القوى القادرة على العمل.
ب‌)   إن هناك بطالة مقنعة واسعة جداً تصل إلى حدود 50% من القوى العاملة فعلاً في أجهزة الدولة, إذ أن هذه الأجهزة تعاني من التضخم وضياع المسؤولية ومن وطأة التقصير في إنجاز المهمات بسبب هذه البطالة المقنعة. وبالتالي كان لا بد من الحديث عنها وبلورة خطة خاصة حول قوة العمل وتوزيعها لتتمكن من التخلص من البطالة المكشوفة والبطالة المقنعة.   
ج) التفكير الجاد في كيفية تأمين مزيد من فرص العمل للنساء, إذ أن هناك حاجة ماسة إلى إجراء تغيير في واقع المرأة الراهن من خلال زيادة دورها في إنتاج الخيرات المادية والخدمات ومكانتها في المجتمع والعملية الاقتصادية والدولة بشكل عام.
10) إن الخطة الجديدة التي أكدت على الإدارة والأداء القاصر والتخلف في مجمل أجهزة الدولة والاقتصاد, فإنها لم تنتبه ولم تؤكد على حقيقة أخرى هي أن هذه الأجهزة فاسدة وغارقة في المحسوبية والمنسوبية والمحاصصة الطائفية السياسية التي تميز بين الطوائف وسبل الخلاص منها باعتبارها جزءاً من العملية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, التي لا بد من إعارتها أكبر الاهتمام لتأثيرها السلبي على موارد البلاد والتنمية والعدالة الاجتماعية المفقودة حالياً وكلية.   
هناك الكثير من النقاط التي يفترض أن أشير إليها في الجانبين الإيجابي والسلبي, ولكن أكتفي بهذا القدر لتحقيق البدء بحوار بين الاقتصاديين والمختصين وعلى صعيد الإعلام والمجتمع حول الخطة بمختلف جوانبها.
د. كاظم حبيب
  برلين في شهر كانون الأول/ديسمبر 2010


1010
كاظم حبيب
من المسؤول عن قتل وعن حماية اراوح المسيحيين في العراق؟

نشرت بعض وسائل الإعلام في العالم أن عدد القتلى في العراق بلغ في العام 2010 حوالي 3976 قتيلاً من المدنيين, ولم تشر وسائل الإعلام إلى عدد القتلى من غير المدنيين أو إلى عدد من نفذ فيهم أحكام الإعدام خلال العام المنصرم. أن معدل عدد القتلى من المدنيين يومياً قد بلغ حوالي 11 إنسان يومياً, وهو الرقم الرسمي المعلن دون ذكر عدد الجرحى والمعوقين. هل هذا الخبر يدعو إلى الفرح والاستبشار بخير قادم؟ لا يمكن ذلك, إذ أن هذه الآلاف من الشهداء هم أباء وأمهات وأزواج وأخوات واخوة تركوا خلفهم ثكالى ويتامى وأرامل. إنها المجزرة بعينها هي التي يعيش في ظلها العراق. وهذا العدد من القتلى اليومي من المدنيين يأتي بعد مرور ما يقرب من ثمانية أعوام على سقوط الفاشية البعثية الدموية, فهل علينا أن نغتبط أم أن نحزن على موت هؤلاء البشر؟ السؤال موجه إلى رئيس الحكومة والحكومة وكل القوى المشاركة في الصراع على المناصب, وخاصة على وزارات الدفاع والداخلية والأمن الداخلي.
يوم أمس نقل الخبر التالي: "سقط قتيلان على الأقل وأُصيب أكثر من 14 آخرين، في موجة تفجيرات جديدة استهدفت عدداً من منازل المسيحيين في أنحاء مختلفة بالعاصمة العراقية بغداد مساء الخميس (30/12/2010)، بالتزامن مع بدء عطلة نهاية الأسبوع الأخير من عام 2010، وبدء الاحتفال بالعام الجديد." (راجع:www.linga.org  ( وهي موجة ثانية كما يشير ذات الموقع فيقول: "كانت تلك التفجيرات تأتي مشابهة لموجة تفجيرات مماثلة استهدفت عدداً من منازل المسيحيين في بغداد، في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي (2010)، أسفرت عن سقوط ثلاثة قتلى على الأقل، ونحو 25 جريحاً.", إضافة إلى الهجوم الهمجي الذي استهدف كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد, فقد "وصل عدد القتلى المسيحيين 68 شخصاً، بالاضافة الى العشرات من الجرحى، وتهجير مئات العوائل من بيوتهم في بغداد والموصل وتكبيدهم خسائر مادية كبيرة، وهنالك الالاف يتهيئون للرحيل في ظل غياب برنامج حكومي أو أي حل وطني يضع حداً لمحنتهم، وسط مبادرات أجنبية لقبولهم في بلدانهم."(راجع: موقع منظمة حمورابي لحقوق الإنسان).
نحن أمام عملية منظمة واسعة تستهدف تصفية العراق من المواطنات والمواطنين من أتباع الديانة المسيحية, كما أن الصابئة المندائيين مستهدفون ايضاً, وهكذا يراد تصفية أتباع جميع الأديان الأخرى أولاً, ثم تتبعها تصفيات اخرى لأصحاب الأفكار والآراء الأخرى, وبعدها تبدأ التصفيات المتبادلة بين أتباع الدين الواحد من مذاهب مختلفة. فهل نحن أما عراق يراد إشاعة الموت فيه وتحويله إلى أرض يباب بدون بشر؟ ومن المسؤول عما يجري في العراق حالياً؟ وهل الحكومة وأجهزتها الأمنية وحدها مسؤولة عن ذلك؟ أم أن هناك قوى أخرى تشارك في كل ذلك؟
المحنة كبيرة والموت مستمر رغم ما يقال عن تناقصه, فهي موجات يرتفع وينخفض عدد القتلى والجرحى ولكن الموت بالقتل لم يتوقف يوماً واحداً, سواء أكان قتلاً جماعياً أم بإغتيال الأفراد.
لا شك في أن المسؤول الأول هم القتلة المجرمون الذين ألوا على أنفسهم تنفيذ مؤامرة قذرة موجعة ضد أتباع الديانة المسيحية والديانات كالصابئة المندائية والإيزيدية. وهم بلا شك سوف لن يتوقفوا عن ذلك ما لم تتخذ الإجراءات الحازمة والسريعة والكفيلة بوضع حد لها, فلا النداءات الإنسانية ولا غيرها تنفع مع هؤلاء الأوباش من مختلف الأصناف, وربما منهم من هم بالشكل ضمن العملية السياسية, إذ لا أعلم علم اليقين بذلك, والهاجس موجود لدى الكثير من العراقيات والعراقيين, وأنا منهم, قطعاً!
أما المسؤول الثاني فهي الحكومة التي من واجبها تأمين الحماية للمواطنين وتلك القوى التي تسببت في نشوء فراغ سياسي طويل وفي عجز الأجهزة العسكرية والأمنية عن مطاردة المجرمين القتلة, ولا يمكن أن ينشأ خلاف بين الناس حول مسؤولية الحكومة وأجهزتها الأمنية في توفير الأمن للشعب ولكل أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق.
أما المسؤول الجوهري في هذه المآسي فهي قوى الإسلام السياسي التي تقود حملة تثقيف دينية في العراق وخارجه تربي الناس على تكفير أتباع الديانات الأخرى, وتدعو إلى الكراهية والحقد, تدعو إلى رفض الآخر وتستخدم القرآن والشريعة كأداة وذريعة في هذه الأفعال الدنيئة, كما تستخدم الفتاوي الكثيرة الصادرة عن شيوخ دين أوباش في العالم الإسلامي يحللون مثل هذه السياسات والقتل على الهوية الدينية أو حتى الطائفية والفكرية.
كما تتحمل مسؤولية ذلك تلك المراجع الدينية التي تشدد على وتثقف بالتزمت الديني والمذهبي وتدعو إلى تحريم الكثير كالفنون الجميلة أو الاختلاط في الجامعات والكليات أو الخمرة وما إلى ذلك مما يجعل التفكير يتجه نحو خطر وجود أتباع الديانة المسيحية الذين يمارسون الفنون الجميلة والاختلاط والخمرة. إنها الكارثة التي ستحل في العراق حين يصرح السيد رئيس الوزراء أنه يريد أن يبني مجتمعاً إسلامياً في دولة متعددة الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية. إنه الخطر الداهم الذي بدا وكأن حزب الدعوة الإسلامية يقوده ويتزعمه علي الأديب, وزير التعليم العالي الجديد, الذي بادر إلى استشارة واستخارة الشيخ النجفي في ما يفعله في التعليم العالي الذي سلم له آمانة!   
ولا أشك بأن قوات الاحتلال المقرر إنهاء وجودها في العراق هي الأخرى تتحمل مسؤولية ما يجري من قتل وتدمير في العراق, وهي المالكة لقدرات غير قليلة في التصدي لهذه القوى الشريرة, وهي التي نقلت المعركة مع قوى الإرهاب الإسلامية الدولية من الولايات المتحدة الأمريكية ومن أوروبا إلى أرض العراق منذ سنوات سبع. وكلنا يدرك هذه الحقيقة ولكن ليس الجميع من يبوح بها.
إن على القوى الديمقراطية العراقية وكل الأحرار في العراق والدول العربية أن يرفعوا صوت الاحتجاج والإدانة والتصدي للقوى الإرهابية أياً كانت الهوية التي تحملها والتي تمارس القتل ضد بنات وأبناء المجتمع, وخاصة من أتباع الديانات الأخرى, أن ترفع صوت الاحتجاج ضد غياب الحماية التي يجب أن تُقدم لأتباع الديانات الأخرى والتي غيابها يؤدي إلى الموت المستمر لهم.
إن على العالم كله أن يضغط على الحكومة العراقية لتمارس الحماية الفعلية وليس الشكلية لكل المواطنات والمواطنين. وأن علينا جميعاً المطالبة بالتحقيق والكشف عن المجرمين القتلة ومن يقف خلفهم ومن يحميهم ويتستر عليهم في الدولة والمجتمع ومعاقبتهم على الجرائم التي ارتكبوها بحق الناس الأبرياء, وكذلك محاسبة ومعاقبة أولئك الذين اخلوا بواجب حماية تلك المناطق التي تتعرض إلى الإرهاب المتكرر.

31/12/2010                     كاظم حبيب

1011
كاظم حبيب
[قووا تنظيم الحركة الديمقراطية في العراق], ليكن شعار قوى التيار الديمقراطي المرحلي!

مرت الآن ثماني سنوات على سقوط الفاشية في العراق وجرت الكثير من الأحداث وسالت دماء أغرقت العراق بالدم والدموع بسبب السياسات السيئة والخاطئة التي مارستها قوات الاحتلال والقوى الإرهابية وقوى البعث الصدامية الهمجية المسلحة والمليشيات الطائفية المسلحة المتطرفة والتابعة للأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية. وعمق من كل ذلك الفساد المالي والإدراي الذي ساد البلاد. وخلال هذه الفترة لم تستطع القوى الديمقراطية الاستفادة المناسبة من الوضع الجديد الذي نشأ في العراق في أعقاب سقوط الدكتاتورية الغاشمة ولم تبذل الجهود الكافية لتحقيق اتحاد القوى الديمقراطية واليسارية واللبرالية والعلمانية الديمقراطية بالصيغة المطلوبة لبناء قاعدة جماهيرية واجتماعية واسعة ومتينة لها, رغم الرصيد السابق الذي كانت تملكه في الشارع والمجتمع.
لا شك في أن لهذا الواقع أساس موضوعي لا يجوز إنكاره بأي حال, ولكن العقدة الأساسية لم تكن في الجانب الموضوعي, بل في الجانب الذاتي على نحو خاص والتي لا يمكن أن نقول بأنها زالت الآن ولكن نتمنى أن تكون في طريقها إلى الزوال وبهذا القدر أو ذاك, إذ عندها يمكن أن يتحقق ما عجزت قوى التيار الديمقراطي على تحقيقه بشكل مناسب وضروري خلال الأعوام الثمانية المنصرمة. وإذ أشير إلى الجوانب التي أعاقت تحقيق الاتحاد والعمل المشترك والتضامن الضروري بين قوى التيار الديمقراطي, فأنا لا ابغي من وراء ذاك توجيه الاتهام لأحد, بل كلنا مسؤول عن ذلك ونتحمل مسؤولية العمل القادم أيضاً, بل اريد ان نسعى لتجنب ما أعاق إلى الآن نشوء الاتحاد الواسع للقوى الديمقراطية, والتي يمكن بلورتها بالنقاط التالية:  
1.   الرغبة العارمة التي هيمنت على كل حزب وجماعة من القوى الديمقراطية في أن مهمتها المباشرة هي ان تلملم أطرافها وتعزز مواقعها دون أن تلتفت إلى أهمية التعاون والتضامن في ما بينها. وبقدر ما كان هذا صحيحاً, كان من الصحيح جداً وأيضاً أن يبدأ العمل المشترك لتعزيز تعاون قوى حركة التيار الديمقراطي العراقية.
2.   الخلافات والصراعات التي نشبت بين أطراف القوى الديمقراطية والمنافسة غير العقلانية التي سادت والتي تسببت في تشتتها وإضعاف كل منها على حدى. وحين تعاون بعض أطرافها لم يكن ذلك التعاون مستنداً إلى قناعة تامة وإلى قواعد وأسس تساعد على إدامة وتطوير وأغناء التعاون والتضامن في ما بينها وسبل حل الخلافات التي تنشأ في ما بينها.
3.   بروز استعداد واضح للمساومة مع قوى الإسلام السياسي من أجل الحصول على مكاسب محدودة ومؤقتة ولكنها مؤذية في المحصلة النهائية.
4.   المساومة السياسية التي سارت عليها قوى التحالف الكردستاني مع قوى الإسلام السياسي وعدم دعمها للقوى الديمقراطية غير الكردية أو التعاون معها لصالح تعزيز مواقع القوى الديمقراطية عموماً في البلاد, في حين أن الحركة الديمقراطية هي الحليف الأمين والثابت لحركة الشعب الكردي في سبيل حقوقه المشروعة والثابتة .
5.   الدور الأمريكي الداعم لقيام نظام يستند إلى المحاصصة الطائفية والقومية وفي تنشيط التحالفات السياسية القائمة على أساس هذه المحاصصة السيئة ذات الأفق الضيق التي كانت لها آثارها المضرة جداً بالحركة والقوى الديمقراطية وبمفهوم ومضمون المواطنة لحساب الهويات الفرعية.
6.   الإرهاب الدموي الذي مارسته القوى الإرهابية والمليشيات الطائفية المسلحة التابعة للأحزاب الإسلامية السياسية العاملة في العملية السياسية, والتي أعاقت كثيراً حركة قوى التيار الديمقراطي التي لم تكن تملك, ولا تملك, ميليشيات مسلحة أو غير مسلحة ولا أموال لتوظيف حراس لكوادرها ومناضليها.
7.   يضاف إلى ذلك الضعف الذي كانت عليه الحركة الديمقراطية العراقية بسبب الضربات القاسية والمدمرة التي نفذتها الدكتاتورية البعثية الصدامية ضدها قبل ذاك.
وكانت نتيجة انتخابات العام 2010 هي نتيجة منطقية ومطابقة عموماً للواقع الذي تعيش فيه الحركة الديمقراطية. وهي حصيلة أوجعت القوى الديمقراطية ودفعت بالكثيرين من الناس الطيبين إلى حالة من الإحباط الثقيل. ولكن السؤال العادل والمشروع الذي يواجهنا اليوم هو: هل استفادت القوى الديمقراطية العراقية من تجربة السنوات الثماني المنصرمة, لكي تستطيع أن تنهض بأعباء المهمات الجديدة للفترة 2011-2014؟
كتب لي الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح في رسالة خاصة وجهها لي جواباً على رسالتي حول مشاركته في التوقيع على نداء اتحاد قوى التيار الديمقراطي مشيراً إلى ما يلي: "أن القوى التقدمية والديمقراطية كانت هي السبب فيما أصابها من خسارة في الانتخابات لجملة أمور من بينها انها تفتقر لسيكولوجية اقناع الناخب العراقي. فقبل أن تعلن نتائج الانتخابات كنت كتبت مقالة بعنوان (الشيوعيون العراقيون.. قلوب الناس معهم وأصواتهم لغيرهم ).. وهذا ما حصل."
ثم يواصل قوله: " وبعيدا عن الاستطراد وذكر محاولات بذلناها منذ عام 2005 لتوحيد القوى اليسارية والوطنية .. وبهدف أن يكون التحرّك مجديا ومثمرا, انني اقترح أن يصار الى تشكيل هيأة من عشرة الى خمسة عشر شخصية مستقلة تعمل على وضع برنامج تعلنه بعد ان تكتمل تفاصيله برؤية واقعية للتحضير لانتخابات 2014 ..وهي مهمة صعبة ومضنية .. لكنها ليست مستحيلة اذا كان القائمون عليها يجيدون فن التفاوض وادارة الازمات والقدرة على تجاوز الاحباطات."
وفي هذا يمكن تفسير قوله بأن الفشل كان نصيب تلك المحاولات ويقترح وجهة العمل البديلة للفترة المنصرمة.
أدرك أن الفكرة الأخيرة هي بيت القصيد, وهي القشة التي قصمت ظهر البعير, أي غياب العمل المشترك والقناعة بأن كل طرف لا يحتاج إلى الآخرين للفوز بالانتخابات والتقديرات كانت عالية لكل طرف منها. ثم يؤكد على أهمية التعاون ويطرح مشروعاً لهذا الغرض يمكن العودة إلى مقال له حول هذا الموضوع نشر في موقع الحوار المتمدن تحت عنوان (نداء الى القوى والشخصيات الديمقراطية) على محور "العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية" بتاريخ 242010 / 12 /  وبتسلسل 3225.
إن متابعتي لما يجري في الساحة السياسية العراقية وفي إطار القوى الديمقراطية استطيع ان أدعي بحذر: أن مجموعة مهمة من قوى التيار الديمقراطي أدركت إلى حدود بعيدة طبيعة المشكلة التي كانت ولا تزال تعاني منها والتي تتبلور في ضعف الحركة الديمقراطية عموماً وتشتتها والصراع في ما بينها, الذي يزيد من مصاعب تحسين دورها في العملية السياسية وفي التأثير في الأوضاع القائمة وفي إقناع الناخب العراقي بجدية هذه القوى وقدرتها على خوض الانتخابات العامة بحيوية وقدرة فعلية على زيادة وزنها النوعي في المجلس النيابي. وأن على هذه القوى إن شاءت التقدم والتوسع والتأثير, أن تجد لغة مشتركة في ما بينها للتعاون والتضامن تحت شعار مهم جداً لهذه المرحلة ولفترة طويلة لاحقة هو:
"قووا تنظيم الحركة الديمقراطية في العراق"
وهو ما كان يسعى إليه ويقترحه الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح.
لدي القناعة بأن جميع أو غالبية أطراف وقوى وشخصيات الحركة الديمقراطية العراقية بدأت تفكر بعقلية جديدة وبروحية جديدة إزاء بعضها الآخر. وهذا الأمر ربما سيتعثر بعض الشيء في البداية, ولكنه سرعان ما يمكن أن تتعزز الثقة المتبادلة وتتوسع العلاقات في ما بينها وبين الجماهير الواسعة, وهو بيت القصيد.
إن ابرز ما يفترض أن يسود في العلاقات المتبادلة هو التواضع ورفض الوصاية من أحد أو على احد والتعامل بندية عالية مع إدراك القدرات المتباينة للقوى لكي نستفيد منها لصالح الجميع وليس لفرض هيمنة على أحد.
إن التقاط نقاط الالتقاء والاتفاق عليها يسهل التعاون ثم يجري العمل على حل نقاط الاختلاف من خلال تعزيز الثقة المتبادلة. أدرك مصاعب العمل المشترك في ظل الظروف المعقدة الراهنة في البلاد, ولكن من واجب قوى التيار الديمقراطي معالجة الوضع وإيجاد القواسم المشتركة في البرامج وفي قواعد العمل التي يفترض أن تتبناها كل القوى الراغبة في التعاون. وعلينا أن لا نفكر بإقصاء أي تنظيم, إلا إذا أراد هو إقصاء نفسه عن الآخرين!  
نأمل أن نساهم نحن الذين وقعنا على بيان الاتحاد لقوى التيار الديمقراطي والذي يزداد عدد الموقعين عليه يومياً بدفع القوى الديمقراطية إلى وضع الماضي خلفها مع الاستفادة من دروسه لصالح اليوم والمستقبل. إن في الحركة الراهنة التي تسعى إليها قوى التيار الديمقراطي والعلماني الديمقراطي بركة. وهو ما نحتاجه اليوم وغداً.
30/12/2011                     كاظم حبيب
 
  
          

1012
كاظم حبيب

لا خشية من المؤمنين الصادقين الصالحين, بل الخشية كل الخشية من المتشددين بالإيمان نفاقا!

المؤمن بالله ورسوله والصالحين من الأولياء وبقناعة تامة لا يشغل نفسه بملاحقة الناس في إرادتهم الحرة وحرياتهم العامة والفردية, بل يهمه أن تكون له علاقة حميمية مع ما يؤمن به وأن يبشر بالخير والعدالة الاجتماعية وخدمة الناس, ولا يشغل نفسه بالحكم وبالسياسة إلا بقدر ما يمنع نشوء الاستبداد في البلاد والقمع والقهر لإرادة وحرية وحياة الفرد والمجتمع.
المؤمن إيماناً صادقاً بالله ورسوله هو من سَلِم الناس من يده ولسانه, ومن ابتعد عن التدخل في شؤون الأفراد والعائلات, ومن رفض إصدار الأحكام بحق الأديان والمذاهب الأخرى أو الأفكار والاتجاهات الأخرى أو التطرف في الفتاوى والأحكام, فهو يؤمن بأن هذا ليس من شأنه بل من شأن خالقه الذي يحكم على الناس وفق سلوكهم ومواقفهم.
والمؤمن بالله ورسوله يؤمن أيضاً بحق الناس في اتخاذ الدين أو المذهب الذي يرتأوه ولا يميز بين المواطنين والمواطنات على اساس الدين أوالمذهب أو القومية او الجنس, على قاعدة وآية "... لكم دينكم ولي دين...". ومن يسعى إلى رفض التمييز والإساءة لأتباع الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والعقائدية الأخرى.
والمؤمن هو من علَّم الناس على التواضع والحب وحب الآخر والخير والتسامح وعدم تكنيز أو تكديس الأموال والعقارات وضد الفساد المالي والإداري وضد أي حكم جائر.
أما المؤمن رياءً ونفاقاً فهو المتشدد ديناً ومذهباً والمتعصب والرافض لبقية الأديان والمذاهب والاتجاهات الأخرى. وهو الذي يريد فرض الهيمنة على الآخرين من خلال التجارة بالدين والمذهب وحب الأولياء والصالحين, في حين أن حقيقة الأمر هو ضد كل ذلك وبامتياز. والمؤمن المنافق والجبان هو من يصدر قرارات بمنع تدريس الفنون في العراق من فن الرقص والغناء والموسيقى والنحت وربما الرسم ايضاً بذريعة وجود "نص دستوري" وهو غير موجود اصلاً, وهو من يمنع الناس من التصرف على وفق حريتهم دون أن يؤذوا أحداً من الناس. والمنافق هو من ينتقل من حزب البعث إلى حزب إسلامي جاهر بعدائه لحزب البعث وصدام حسين لكي يتسلق المناصب ويؤذي الناس باسم الدين والمذهب وإرادة الله!
والمنافق هو من يريد أن يبني مجتمعاً إسلامياً في بلد متعدد الديانات والمذاهب الدينية ويفرض على الآخرين بسبب ذلك ولأسباب ترتبط بالإرهاب المنظم طرد اتباع بقية الأديان إلى خارج العراق, كما يحصل اليوم مع المسيحيين والصابئة المندائيين أو الإيزيديين في محافظة الموصل من أبناء وبنات الوطن.
إننا أمام قوى تريد أن تفرض الخيمة الفكرية الواحدة على المجتمع, كما فعل صدام حسن وانتهى إلى حيث ينبغي أن يكون, ورفض الأفكار الأخرى. هذا هو ما يجري اليوم في العراق وهي خطيئة كبرى لا يمارسها المؤمن الصادق بل المؤمن المنافق. إن من لا يؤمن بالديمقراطية كفلسفة ويريدها أداة للوصول إلى الحكم ثم الانقلاب عليها هو المنافق دون أدنى ريب, والخشية كل الخشية في أن يصل مثل هؤلاء الناس إلى الحكم ويتولون المناصب المؤثرة في التربية والتعليم ويشوهون بذلك الحياة الثقافية الديمقراطية في عراقنا الحضاري الذي يعتبر أحد مهود الحضارة البشرية.
إن من واجب المدفاعين عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني وحرية الفرد والمجتمع والديمقراطية أن يدافعوا عن حق أتباع الديانات والمذاهب في العراق في العبادة و ممارسة الطقوس الصالحة وحماية كل المؤمنين الصادقين الصالحين من كل الأديان والمذاهب ومكافحة كل المؤمنين نفاقاً ورياءً وانتهازية وغياءً.
إننا أمام مرحلة جديدة أتمنى على كل الوطنيين الديمقراطيين من مختلف الاتجاهات والمدارس الفكرية الديمقراطية ومن كل القوميات أن ينتبهوا إلى ما يمكن أن يحصل في الفترة القادمة مع تشكيل الحكومة الجديدة التي بدأت أعمالها حتى قبل تشكيلها بقرارات مجالس محافظات بغداد والبصرة وبابل وضد أكاديمية الفنون الجميلة والفنون الشعبية والعفو عن مزوري الشهادات العالية والدعوة إلى بناء مجتمع إسلامي لم يرد ذلك في دستور العراق بأي حال, بل ورد نصاً ممارسة حقوق الإنسان أولاً وقبل كل شيء.
أن من الواجب مراقبة نشاط الحكومة وإجراءاتها من قبل الشعب ودون منح الحكم منذ البدء كل التاييد والدعم, كما يفعل اللاهثون وراء تاييد الحكومة حقاً أوباطلاً بذريعة الاعتدال وعدم ارتكاب الأخطاء مجدداً, كما فعلنا سابقاًً!!
29/12/2010                     كاظم حبيب         

1013
كاظم حبيب
الحكومة الاتحادية الجديدة في العراق وأزمتها التي ستتفاقم!

عند دراسة الواقع العراقي بهدف تحليل الأوضاع والخروج باستنتاجات لما ستؤول إليه, لا يمكن المرور على سطح الأحداث والقبول بتصريحات وخطب المسؤولين أو أقطاب الأحزاب الذين تتشكل منهم الحكومة الاتحادية, بل لا بد من الغوص في عمق المشكلات القائمة ومتابعة حركة موازين القوى على صعيد العراق وعلى صعيد القوى التي تشكل الحكومة وفي كل طرف منها, إضافة إلى فعل القوى الإقليمية والدولية في مجمل الأوضاع الراهنة واتجاهات تطورها وقدراتها الفعلية على التأثير  المباشر وغير المباشر من خلال القوى القائمة في البلد أو بطرق أخرى كثيرة.
لقد توقعت نشوء مصاعب جدية في تشكيل الحكومة من جهة, وعدم القدرة على تحقيق برنامج يساعد على نهوض العراق وحل بعض أبرز مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية الراهنة من جهة ثانية, والتصدي الناجح لقوى الإرهاب الداخلية والإقليمية من جهة ثالثة, من جانب حكومة المالكي. ولم انطلق في تشخيص هذا الاستنتاج من موقف شخصي مناهض للسيد المالكي أو لحكومته الجديدة, بل من استنطاق الأحداث والقوى المتصارعة والمصالح المتعارضة والمواقف المتباينة التي تحرك القوى والأحزاب السياسية في الداخل والقوى الإقليمية والدولية المؤثرة في العملية السياسية وفي عملية تشكيل الحكومة العراقية الجديدة, رغم تصريحات السيد وزير الخارجية الذي يؤكد بأن الحكومة العراقية تتشكل في العراق, وكأننا ندعي أنها تتشكل خارج العراق. إنها تتشكل في العراق, ولكن كيف تتشكل في العراق ومن يلعب الدور المحفز والمحرك لهذه التشكيلة وما هو دور القوى الإقليمية والدولية في كل ذلك؟
لقد واجهنا قبل شهر واحد ثلاثة تحالفات سياسية متصارعة في ما بينها حول تشكيل الحكومة هي: القائمة العراقية والتحالف الوطني, وبينهما كان التحالف الكردستاني بشروطه المعروفة ومبادرة السيد مسعود البارزاني لعقد الاجتماعات في أربيل وطرح مقترحات حل أزمة تشكيل الحكومة, حيث كانت هذه التحالفات الثلاثة تبذل المستحيل لتبدو وكأن كلاً منها يشكل كتلة واحدة متراصة وذات موقف واحد. ولكن ما أن بدأ العد التنازلي لتشكيل الحكومة وظهرت أسماء المرشحين لإشغال الحقائب الوزارية, حتى ظهر ما كان معروفاً قبل ذاك وما كان يراد تغطيته بستار مهلهل وبازدواجية كلامية مفضوحة. ويمكن تشخيص الظواهر التالية المعبرة عن اصل المشكلة:
- إنها محاصصة طائفية وقومية فعلاً وبعيدة كل البعد عن روح المواطنة الحرة والمتساوية؛   
- وإنها اتخذت من المنسوبية والمحسوبية قاعدة لتوزيع الحقائب داخل كل طرف؛
- وقاد ذلك إلى انقسام في كل طرف من تلك التحالفات الثلاثة الهشة وبدأ الصراع على الحقائب والمواقع في كل تحالف, إذ أن لجان التفاوض لدى الأطراف المختلفة هي التي احتلت قصب السبق في الحصول على الحقائب الوزارية, في حين خرجت أطراف أخرى خالية الوفاض وغاضبة جداً, وحسن العلوي مثلاً يجسد ذلك بوضوح في تصريحاته الأخيرة؛
- أما المرأة, التي كان الحديث عنها يجري من قبل الأحزاب الفائزة في الانتخابات وعن أهميتها وأهمية مشاركتها في الحكومة الجديدة وعلى وفق ما حدده الدستور, فقد خرجت خاسرة كل الوزارات المهمة والمهنية وراحت تنتظر فتات الموائد, وهو تعبير صارخ عن مجتمع ذكوري بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ سلبية وبؤس اجتماعي وفكري إزاء المرأة. لقد ظهر موقف هذه القوى كلها دون استثناء من المرأة التي هي الأم والأخت والبنت والخالة والعمة والزوجة ايضاً, والتي تشكل أكثر من نصف المجتمع. وما احتجاجات المرأة ومنظماتها إلا التعبير السليم على هذا الموقف المتحيز والخائب؛
- كما خرج الوطنيون المستقلون والقوى التي لم تحقق نجاحاً في انتخابات مجلس النواب وخارج إطار تلك التحالفات الثلاثة بخفي حنين, رغم إن البعض كان يريد المشاركة ولو بوزير يتيم؛
- ولكن الأسوأ من كل ذلك هو بروز وزارة هشة لا ينتظر منها معالجة المشكلات العراقية وفق معايير مهنية وعلمية وعملية مناسبة, بل أغلبهم بعيد كل البعد عن المجال الذي سلم له ليمارس مهمته كوزير. وهي ذات البلوى التي عانت منها الحكومات الثلاث السابقة, واقرب مثال على ذلك وزارة الثقافة العراقية التي منحت على طريقة بتاع كله واي حاجة.
إن التشكيلة الوزارية الجديدة فرضها ميزان القوى القلق الراهن المناهض للاتجاهات المدنية والعلمانية في الحكم, والذي تحرك قليلاً جداً بعد تشكيل الوزارة ولكنه سيتغير أكثر فأكثر بعد مرور فترة من بدء عمل مجلس الوزراء, بسبب الطبيعة غير المتجانسة والبرامج المتعارضة والمشكلات المتفاقمة والتدخل الخارجي المؤثر بقوة على ما يجري في العراق. إن المشكلات العراقية شق كبير وكبير جداً, والرقعة التي تهيأتو الحكومة العراقية الجديدة, صغيرة وصغيرة جداً لا يمكن إلا أن تظهر العيوب كلها في هذه التشكيلة الجديدة وبسرعة.
إن الدراسة المدققة لبرنامج الحكومة الذي طرحه رئيس الوزراء سيخرج المتتبع بحقيقة واحدة, هي أن ليس للحكومة من برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي محدد, وأن رئيس الحكومة ينتظر برامج من الوزارات ليجمعها ويضعها في البرنامج الحكومي, كما عبر عن ذلك بوضوح في خطابه في مجلس النواب. وهذه العملية سوف تستغرق أكثر من سنة كاملة, وسيكون قد أنتهى على تشكيل الحكومة أكثر من سنتين, حيث يبدأ التفكير بالانتخابات الجديدة وبدء المنافسة ولكن دون أن ينفذ من البرامج التفصيلية ما يساعد على نهوض الاقتصاد الوطني أو مكافحة البطالة أو تقليص البطالة المقنعة أو تقليص عدد الفقراء في العراق الذي يتجاوز كل الحدود السابقة أو مكافحة الفساد الذي اصبح حديث العالم كله وليس العراق وحده,وأصبح العراق مضرب الأمثال في هذا الصدد.
إن حكومة المالكي الجديدة عليلة حقاً, بل هي مليئة بالعلل الاجتماعية والسياسية القاتلة ولا ينتظر لها الشفاء, إذ أنها بنيت على أسس غير سليمة وغير ديمقراطية وبعيدة عن روح المواطنة الحقة وعن التحري عن الكفاءة والنزاهة والمهنية العالية, إن الغالبية العظمى, بل كل الوزراء تقريباً هم من الكوادر الحزبية ومن قيادات الأحزاب مباشرة والتي لا تعرف في الغالب الأعم غير الدفاع عن مصالح أحزابها وغاياتهم في الحكومة الجديدة, وهي الطامة الكبرى التي ستواجه المجتمع كله!
وسوف لا يمكن تصور اتخاذ مواقف سليمة إزاء المشكلات القائمة, خاصة وأن رئيس الحكومة قد بدأ بالعفو عن مزوري شهادات الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس والدبلوم, وهم ليسوا قلة, بل كثرة مما دفع بالصديق الأكاديمي والمؤرخ المتميز الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل بالدعوة إلى حرق شهادات الخريجين في ساحة الفردوس, وربما أقترح أن يكون التخلي عن ذكر الألقاب العلمية في النشر هو الأكثر معقولية من حرق الشهادات احتجاجاً على العفو عن مزوري الشهادات.
إن ميزان القوى, الذي يميل إلى جانب القوى المشاركة في السلطة حتى الآن, سيتغير بطبيعة الحال لأنه يتغير مع التحرك الجاري في المجتمع. ولكن حركة التغيير فيه بطيئة بحكم ضعف الوعي الاجتماعي والسياسي الراهنين أو أنه في غيبوبة دينية معقدة من جهة, وبحكم ضعف القوى الديمقراطية واليسارية التي لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بمعالجة أوضاعها من خلال عقد اللقاءات الجدية والدراسية لأوضاعها وأوضاع البلاد وضرورات اللقاء في ما بينها على قواسم مشتركة لكي تستفيد مجتمعة من التغير الذي سوف يحصل في ميزان القوى بسبب أخطاء القوى الحاكمة وعدم تلبيتها لمصالح وإرادة الناس من جهة, وبسبب نشاط القوى الديمقراطية التي يمكنها أن تحل تدريجاً محل تلك القوى الحاكمة من جهة ثانية.
إن هذا التغيير لا يحصل عفوياً بل بفعل نشاط القوى الديمقراطية ووحدتها, ومن هنا أطرح على كل القوى السياسية شعار مرحلي مهم جداً هو "قووا تنظيم الحركة الوطنية" إنها الحلقة المركزية المفقودة في المرحلة الراهنة ومن لا يدرك ذلك سيعاقبه التاريخ الذي لا يرحم. والمتضرر الأول والأخير من عدم فهم شعار المرحلة ستكون القوى الديمقراطية واليسارية كلها دون استثناء. والمستفيد من ذلك معروف لنا جميعاً.
إن عوامل ضعف الحركة الديمقراطية كثيرة ومتراكمة تاريخياً, ولكن هذا الضعف البنيوي ليس مانعاً من ضمان التغيير والتحول إلى قوة فاعلة من خلال إزالة عوامل الضعف الذاتية وعبرها تتغير العوامل الموضوعية أيضاً. إنها عملية جدلية متبادلة الفعل والتأثير. وفي العراق توجد بذور غير قليلة مزروعة في حب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية, إنها زرعت منذ عقود, وهي بحاجة إلى عناية ورعايية وسقي دائم لتنتعش وتثمر.
إن الحكومة الحالية هشة, ضعيفة ومتصارعة منذ الآن, وهي أضعف من سابقتها وربما سيضيع رئيس الوزراء في لجة الخلاقات وبهذا العدد الكبير من الوزراء (44) حقيبة, وسيلجأ إلى ممارسة العمل الفردي, إذ أنه أُجبر على التحالف مع من وقف ضدهم قبل ذاك ومنهم التيار الصدري, الذي لم يتخل عن سياساته السابقة, غضافة إلى قوى أخرى مماثلة. لقد اختار رئيس الوزراء هذه الحالة بنفسه حين اصر على ان يبقى رئيساً للوزراء ولو بوزارة من هذا النوع. وستكون العواقب غير طيبة ويتمنى الإنسان أن لا يكون استنتاجي صحيحاً. ولكن الوقائع تؤكد بالضبط هذا الاستنتاج.

ستبقى الحكومة قائمة ولن تسقط ما دام ميزان القوى الراهن مستمراً على حاله, ولكن سوف لن تنجز ما يحتاجه العراق خلال السنوات الثلاث القادمة من عمر الحكومة ومجلس النواب.
ولكن يبقى واجب القوى الديمقراطية واليسارية أن تعمل على رفع مطالب الناس اليومية والدفاع عن مصالحها وإرغام الوزارات المختلفة على تنفيذ المشاريع التي تساهم في تحقيق التنمية الصناعية والزراعية وترشيد التجارة الخارجية وزيادة فرص العمل ومكافحة الفقر والفساد المالي والإداري من خلال تحريك الفئات الاجتماعية المختلفة وتعبئتها لتحقيق المنشود. إنها الحركة التي تعلم الفئات الاجتماعية بأن المطالب العادلة لا تتحقق إلا بالنضال من أجلها, النضال السلمي والديمقراطي بمختلف صيغه واساليبه المعروفة على الصعيد العالمي. وهو الطريق ذاته الذي يعمق ويشد لحمة العلاقة بين القوى والأحزاب الديمقراطية وفئات الشعب المختلفة ولا بديل لذلك.
25/12/2010                   كاظم حبيب




1014
كاظم حبيب
متى تكف الذكورية في الدولة والحكومة والأحزاب عن تهميش المرأة في العراق؟

الدولة والحكومة والأحزاب الفائزة في الانتخابات الأخيرة بالعراق كلها تتحدث بأصوات مرتفعة وملء الفم عن حقوق المرأة وعن أهمية وضرورة وأحقية مشاركتها في قضايا الدولة والمجتمع وفي المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي بقية المجالات. وتعقد الندوات السياسية التي يتحدث فيها ممثلو الأحزاب عن حقوق المرأة وعن دورها في المجتمع.
الدولة والحكومة والأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات الأخيرة كلها تعلن عن تمسكها بالدستور العراقي وتدعو الجميع للالتزام به وبالقوانين السائدة.
والدستور العراقي الجديد ينص على نسبة تبلغ 25% لصالح وجود المرأة في مجلس النواب ومجلس الوزراء وفي مجالات أخرى.
وولكن الواقع القائم في العراق إن هؤلاء المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات جميعاً ودون استثناء يتجاوزون على الدستور ويتخلون عن كل الوعود والالتزامات والتصريحات حول حقوق المرأة وحصتها في مجلس الوزراء. الكل يدير ظهره للمرأة العراقية ولحقوقها ومصالحها. فهم أول من ادعى الالتزام بها وأول من خالف ذلك, فهل يمكن منح الثقة لدولة وحكومة وأحزاب سياسية تبدأ أعمالها بمخالفة نصوص دستورية صريحة حول حقوق المرأة. إنها مخالفة وخرق فظ للمواد 14 و 16 و 20 من الدستور.
أما السيد رئيس الوزراء فقد أشار عند تقديمه القائمة التي تتضمن أسماء الوزراء إلى أنه جمد مجموعة من وزارات دولة ويتطلع أن يرشح لها نساء, أي حقائب ثانوية وكأن المرأة غير قادرة على تحمل مسؤولياتها في كل الوزارات التي أعلن عنها. وبالتالي يبرئ ذمته من مسؤولية عدم وجود نساء في وزارته الجديدة, في ما عدا وزارة يتيمة, في حين كان عليه ان يرفض أساساً تسلم تلك القوائم من الأحزاب السياسية التي لا تتضمن النسبة المقررة للمرأة في مجلس الوزراء على وفق عدد الحقائب الممنوحة لهم.
إن محنة المرأة العراقية كبيرة في مجتمع ذكوري يستند إلى التقاليد والعادات والقيم العشائرية البالية التي يمجدها رئيس الوزراء ويسعى إلى تكريسها التي لم تعد صالحة لدولة يراد لها أن تستند إلى مبادئ الحرية والديمقراطية وبناء المجتمع المدني الديمقراطي الذي يتعارض تماماً مع مفهوم العشائرية. إن رئيس حكومة يعتبر العشيرة هي الأساس الذي يحافظ على النسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي وللدولة العراقية يتحرى عن "رعية" وليس عن الالتزام المبدئي والمركزي بمفهوم المواطنة الحرة والمتساوية لكل المواطنات والمواطنين, لا يمكنه بأي حال أن يبني دولة حرة وديمقراطية. إن حكومة يقرر وزير التعليم العالي السابق تحريم تدريس الموسيقى والرقص والغناء والنحت, ... والحبل على الجرار, ويراد تدمير التماثيل الموجودة في أكاديمية الفنون الجميلة, لا يمكنها أن تكرس مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن هذه السياسات وهذه المواقف مناهضة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة ولا يجوز القبول بها أو السكوت عنها. ومن المؤلم حقاً أن ترى قوى كانت حتى الأمس القريب تتحدث عن الحرية الفردية وعن الحريات الالديمقراطية وتسجل ذلك في نظمها الداخلية وبرامجها السياسية, تتنكر لها اليون من خلال سكوتها عما يجري في العراق من مناهضة فعلية للثقافة الديمقراطية وتجاوز فظ على الحياة الثقافية واتهام أثيم للمثقفات وللمثقفين الذين تظاهروا في شارع المتنبي بأنهم (مأجورون!), أو الحديث بشكل وقح وصلف بأن المثقفين حين يسكرون يبول بعضهم على البعض الآخر, وكأنه كان بينهم وتلقى شيئاً من ذلك!
إنه البؤس الفكري والسياسي حقاً أن تتشكل حكومة وتبدأ عملها بالتجاوز على نص دستوري ومن كافة القوى والأحزاب المشاركة بالحكومة الجديدة. إنها أول إساءة للدستور ولكنها ليست الأخيرة, كما يبدو لي, رغم تأكيدات البرنامج الحكومي على الالتزام بالدستور. وكما يقول المثل الشعبي "من أول غزاته, انكسرت عصاته".
أدعو النساء العراقيات, أدعوهن في الداخل والخارج إلى الاحتجاج ضد موقف الأحزاب والحكومة والدولة من المرأة ومن حقها الدستوري في المشاركة بربع مقاعد مجلس الوزراء, أدعو المرأة إلى التظاهر السلمي والضغط على كل القوى السياسية الفائزة في الانتخابات من أجل تغيير موقفها من المرأة بدلاً من الادعاء بمبادئ معينة ومخالفتها مباشرة, أدعوها لرفض التهميش الذي يراد تكريسه في الحياة العامة في العراق.
لا يمكن تأمين حقوق الإنسان, ومنها وبشكل خاص حقوق المرأة, دون خوض نضال عنيد ودءوب ومتصاعد من جانب المرأة ومعها كل القوى الديمقراطية التي تدرك الأضرار التي تلحق بالمجتمع من جراء تهميش المرأة في الحياة العامة, في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وتقريم حقوقها المثبتة في الدستور العراقي الراهن.
22/12/2010                   كاظم حبيب
   

 



1015
كاظم حبيب

الاختلاف في فهم معاني استشهاد الحسين بين الموروث الشعبي والفكر المبتذل!

على مدى القرون والعقود المنصرمة تباين الناس في فهم المعاني الإنسانية العميقة لثورة الحسين بن علي بن أبي طالب. لم يكن هذا التباين ناشئاً عن عدم وعي بحقيقة المعاني, بل كان بسبب التباين في المصالح والأغراض التي يسعى لها كل طرف ويدفع بالاتجاه الذي يريده ويخدم مصالحه.
لقد بلغ التفسير المتباين حد التناقض الشديد في فهم أهداف الحسين في محاولة من البعض تخفيض سقفها إلى حد الإسفاف بالتبسيط والتسطيح وجعلها ,وكأنها كانت لتقييد حرية وحركة الإنسان وافعاله, في حين رأى فيها الطرف الآخر إنها أنبل من أن تدفع باتجاه تقييد الحرية الفردية وحقوق الفرد وحقوق المجتمع.
فالثورة كانت اساساً ضد الظلم والطغيان, ضد الاستبداد بالرأي وفي الحكم, ضد التصرف الكيفي بالمال العام وكأنه جزء من خزينة الحاكم الأموي الذي اغتصب الخلافة وأسدل الستار على مبدأ "الأمر شورى بينهم".
ونواجه هذا التزييف لمعاني الثورة الحسينية في قرارات مجلس محافظة البصرة ومجلس محافظة بغداد وبابل وغيرها ممن تجرأ على تشويه مبادئ تلك الثورة العامة واستند إليها لمصادرة حرية الإنسان وحقوقه المشروعة في العصر الحديث.
لم يكتف كامل الزيدي, محافظ بغداد, وكما تشير الكثير من الدلائل أنه بعثي ومن المهرولين السابقين وراء "القائد الضرورة" والمتمسك بالخط الطلفاحي, بإصدار تلك الأوامر القروقوشية لتقييد حرية الفرد والشعب وممارسة حملة إيمانية جديدة مماثلة بل وأسوأ من حملة الدكتاتور المقيت صدام حسين, بل راح يشتم المثقفات والمثقفين من بنات وابناء الشعب العراقي ممن تجمعوا في شارع المتنبي ليعلنوا عن احتجاجهم وإدانتهم لتلك القرارات السلطانية المناهضة لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق وضد القرارات المتخذة ضد مناهج أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ويتهمهم بالمأجورين ليبعد التهمة ذاتها عنه. يشتم مجموعة من البشر ممن يشكل نموذجاً رائعاً للإنسان العراقي المناضل ضد الاستبداد والقمع والقسوة ومن أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. السؤال الذي يواجهنا هو: ماذا يريد هذا الرجل من تلك القرارات؟ هل يريد إثارة جمهرة المثقفين والكثير من بنات وأبناء الشعب ضد الحكم الراهن حتى قبل تشكيل الحكومة الديدة, ويالتالي ينعي مسبقاً العملية السياسية؟ هل يريد اشاعة الفوضى في البلاد وتعميق التناقضات في المجتمع وتشديد الصراعات؟ ولصالح من يقوم بكل ذلك؟ هل لمصلحة من كان سيده في السابق؟ أم سيده في الوقت الحاضر؟ من استمع إلى ردات المواكب الحسينية في كربلاء وتمعن فيها لأدرك بوضوح كبير أن المجتمع يرفض سياسات التقييد للحرية ويرفض الوصاية عليه ويرفض الخيمة الفكرية والسياسية الواحدة, كما رفضها في زمن الدكتاتور صدام حسين, رغم أنه لم يستطع الخلاص منه إلا بقوى أجنبية أزالته ولكنها أدخلت معها الطائفية السياسية المقيتة.
إن ما تجرأ عليه كامل الزيدي لا يدخل في باب الاختلاف في وجهات النظر أو رؤية قابلة للنقاش, بل يدخل في عملية اقتطاع وتقريم جدية لحقوق الفرد وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان وكل الشرائع الأخرى, إن أوامره تعتبر إساءة كبيرة للإنسان وحريته وحقه في التصرف والتحكم بإرادته, إنه السيف الاستبدادي الذي يراد تسليطه على رقاب الناس باسم الدين احياناً وباسم ثورة الحسين أحياناً أخرى. وهم من الدين والحسين براء!
لو تابعنا كتابات الأخوة العراقيين والأخوات العراقيات لوجدنا إن أكثر الناس تاييداً للسيد نوري المالكي, هو الصديق الدكتور عبد الخالق حسين, الذي رفض هذه القرارات وادانها بقوة ووجه رسالة إلى السيد المالكي طالباً فيها رفض تلك الإجراءات باعتبارها مسيئة له ولحكمه وللعملية السياسية, وطالبه بمنع تطبيقها لأنها تعرض حكمه إلى المزيد من المشكلات والصراعات. وهو يرى أن السيد المتالكي لا يقف وراء مثل هذه الإجراءات. أتمنى أن يكون راي الدكتور حسين صحيحاً.
السؤال الكبير الذي يواجهنا جميعاً هو: هل نحن أمام مرحلة جديدة من التشدد الديني والمذهبي وتنغيص عيش الناس والعودة إلى الوراء مع بداية تشكيل الحكومة الجديدة, أم أن الصراع على المواقع والوزارات يدفع بالبعض إلى تبني سياسات وقحة ضد الشعب وحريته وحرية الفرد ويدفع بهؤلاء إلى تبني مثل هذه الإجراءات تماماً كما فعل كامل الزيدي, محافظ بغداد؟ يتمنى الإنسان أن يكون الاحتمال الثاني وليس الأولى.
إلا أن الكلمة التي ألقاها السيد رئيس الوزراء المنتهية ولايته والمكلف بتشكيلها مجدداً في ذكرى عاشوراء والتي نقلت من قناة الشرقية تستوجب التوقف عندها والتفكير الجدي بها, إذ رغم أن السيد نوري المالكي لم يؤيد صراحة تلك الإجراءات ولكنه ضرب على ذات الوتر بطريقة لا تعبر عن وعي عميق بمضامين ثورة الحسين, رغم أنه يقود حزب الدعوة الإسلامية في العراق. فليس التضييق على حرية الإنسان وعلى سلوكه الشخصي من مسؤولية المالكي أو غيره ما دام الفرد العراقي لا يتعرض لحرية الآخرين بالأذى أو الضرر. إن خطاب المالكي في يوم عاشوراء بصدد الموضوع لا يعطي الانطباع بأن جمهرة من الحكام في العراق استفادوا من تجربة النظم الاستبدادية السابقة. فالتضييق على حرية الإنسان تتسبب بعواقب أخرى غير سليمة. فما يمنع من الباب يدخل إلى البلاد وبيوت الناس من الشبابيك, والسلطة التي تحترم نفسها لا تصدر قوانين وقرارات لا يمكن تطبيقها بل تفتح عشرات الأبواب للتجاوز عليها. والأمثلة كثير جداً بهذا الصدد, ومنها الحالة في إيران أو دول عربية عديدة. 
إن من واجب اتحاد الأدباء والكتاب في العراق إقامة دعوى قضائية ضد كامل الزيدي مع تقديم نبذة مختصرة عن حياته السياسية, كما يفترض أن يقدم كل مثقفة ومثقف في العراق ومن شارك في مظاهرة شارع المتنبي على إقامة دعوى قضائية مماثلة ضد الزيدي لأنه أهان كل المثقفات والمثقفين في العراق حين اتهمهم بالمأجورية, وعليه أن يبرهن على ذلك وأن يحاسب عليها قانوناً حين لا يستطيع البرهنة على ما ادعاه, أو أن يتراجع عن إجراءاته وقراراته القرقوشية ويعتذرللشعب ولكل المثقفات والمثقفين في بلادنا, تماماً كما طالب السيد عماد الأخرس بشكل صائب في آخر مقال له حول ذات الموضوع.
إن من واجبنا ومن حقنا أن نطالب القوى المشاركة في الحكومة الحالية أو التي ستشكل الحكومة القادمة, مهما كان رأينا فيها, بالتصدي لتلك الإجراءات المفرقة للصف العراقي والمشوشة على العملية السياسية والمقيدة لحرية الإنسان والمصادرة لحقوقه التي يضمنها الدستور العراقي والمواثيق والعهود الدولية التي وقع عليها العراق, ومنها اللائحة الدولية لحقوق الإنسان. 
20/12/2010                     كاظم حبيب               

 



1016
هيأة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق

تحية وتهنئة إلى مسيحيي العراق والعالم


يطيب لهيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق أن تزجي أحر تحيات أعضاء الأمانة العامة وكل مؤيدي ومساندي نشاط الهيأة في داخل العراق وخارجه وتهانيهم الطيبة بمناسبة قرب حلول أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة.
لقد كان العام الماضي مليئاً بالمآسي والآلام والأحزان لمسيحيات ومسيحيي العراق ولكل العراقيات والعراقيين الذين يعتزون بمكونات الشعب العراقي بتنوعاتها القومية والدينية والمذهبية.. وجاءت تلك المآسي  بسبب الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الكنائس المسيحية, وخاصة كنيسة سيدة النجاة ببغداد, وسقوط عدد كبير من الشهداء الأبرار وكثير من الجرحى والمعوقين فضلا عن كثير من الذين استشهدوا بطرق مختلفة على أيدي قوى الإرهاب في العراق من مختلف الأصول والاتجاهات الفكرية والسياسية المتطرفة.
إننا إذ نرجو للشهداء الذكر الطيب ولعائلاتهم المواساة وهم يفتقدون بناتهم وأبناءهم في احتفالاتهم بهذه الأعياد في عامهم هذا، لنؤكد تضامننا مع عائلات الشهداء وكل مواطنات ومواطني العراق المسيحيين ومن مختلف الأديان والمذاهب الدينية الأخرى من الذين يتعرضون للإرهاب والتمييز والقهر والذين يُدفعون قسرا على ترك العراق بحثا عن مناطق أكثر أمناً وسلامة من وطنهم الأم.. في وقت وقفت عاجرة جميع حكوماته المتتالية منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة عن توفير الأمن والاستقرار والحماية الضرورية لهم.
و لنعلن من جهة ثانية،  مؤكدين مجددا إدانتنا الحازمة للجرائم المرتكبة؛ ومطالبتنا الحكومة العراقية بتوفير الأمن والسلامة لكل مواطني ومواطنات العراق من دون استثناء, وخاصة الجماعات المستهدفة بالعمليات الإرهابية من جهة ثالثة.
إننا إذ نتمنى لكل مسيحيات ومسيحيي العراق والعالم احتفالات طيبة وسعيدة وعاماً سعيداً ومليئاً بالأفراح بعيداً عن قوى الإرهاب وعملياتهم الجبانة، نتمنى لهم الصحة الموفورة والحياة الهانئة.
الأمانة العامة
هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق
20/12/2010


1017
كاظم حبيب

مثقفو إقليم كردستان العراق وموقفهم النبيل إزاء الحملة الجائرة ضد الثقافة الديمقراطية

برهنت, ومن جديد, جمهرة كبيرة وبارزة من مثقفات ومثقفي إقليم كردستان العراق على وعيها العميق بطبيعة الحملة الجائرة التي تتعرض لها الثقافة الديمقراطية العراقية, وعلى إدراكها الواضح والسليم بالمخاطر التي تتعرض لها الحياة الثقافية العراقية بكل تنوعاتها وتعددها وتفاعلها المتبادل وتلاقحها المستمر من جراء تلك الإجراءات الظالمة والمتخلفة التي اتخذتها بعض مجالس المحافظات أو فرضت على بعض المؤسسات الحكومية الموجهة ضد الثقافة والمثقفات والمثقفين في العراق. وأدركت مخاطر سكوت الحكومة الاتحادية, وبشكل القوى الفاعلة فيها والقوى المحسوبة على الصف الوطني والديمقراطي, على صدور تلك الإجراءات ولم تقف بوضوح وجرأة رافضة إياها ومتصدية لها بالاستناد إلى مضامين الدستور العراقي الجديد والمبادئ الأساسية التي تتضمنها لائحة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة والحرية الفردية للمواطنات والمواطنين, وما كانت ولا تزال تتحدث به الحكومة الاتحادية ليل نهار.
إن مضمون النداء الصادر عن الأخوات والأخوة في كردستان يحمل الكثير من المعاني الإنسانية والتضامنية والرؤية المشتركة لمستقبل العراق في حالة نجاح هذه القوى الظلامية والمستبدة في تكريس سياساتهم التي تتناقض مع حضارة الإنسان وتقدمه وحريته ومع الجماليات التي يسعى الإنسان إلى إبداعها ليضفي على حياة الإنسان الغنى الفكري والروحي, ويخفف عنه آلام وويلات الكوارث والمصائب والحرمان والبطالة والفقر التي مر بها أو لا تزال تعاني من آثارها نسبة عالية من بنات وابناء الشعب العراقي, والجديد من المشكلا التي أضيفت خلال السنوات السبع المنصرمة إلى التركة الثقيلة للنظام السابق.
إني إذ أحيي هذه الروح التضامنية والإنسانية الوثابة لدى مثقفات ومثقفي كردستان, أدعوهم إلى تنظيم حملة فكرية وسياسية وإعلامية واسعة وسريعة لتعبئة قوى وأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الديمقراطية المستقلة في الإقليم ضد الحملة الظالمة والجارية في بغداد وفي العديد من محافظات الوسط والجنوب. إن مثل هذه الحملة يمكنها أن تساهم في اتخاذ الأحزاب ورئاسة وحكومة إقليم كردستان وقائمة التحالف الكردستاني ورئاسة الجمهورية العراقية موقفاً واضحاً في رفض تلك الإجراءات وإدانتها والعمل الجاد على إلغائها وإزالة الآثار السلبية التي ترتبت عنها على المجتمع العراقي وعلى المؤسسات الحكومية, ومنها أكاديمية الفنون الجميلة, أو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. كما إنها يمكن أن تحرك الشارع العراقي كله لمواجهة ما يراد له في المرحلة الراهنة من حياة الشعب والدولة العراقية.
إن القوى الديمقراطية العراقية كلها تواجه خطر السعي لفرض خيمة فكرية جديدة لطرف واحد ومعين على مجمل الحياة الفكرية العراقية, تماماً كما فعل صدام حسين في سعيه لفرض الخيمة الفكرية البعثية الشوفينية والعنصرية على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والتي قادت إلى الكثير من النكبات والمآسي في العراق وفي الدول المجاورة. ولهذا يفترض فينا تنشيط عملية التصدي لأي محاولة من هذا النوع. وما الإجراءات الأخيرة لمجالس المحافظات وسكوت أو تاييد مبطن لبعض القوى في الحكومة الاتحادية لها, يمكن اعتباره بالون اختبار لمزيد من الإجراءات الجائرة اللاحقة ضد القوى والثقافة الديمقراطية والتراث الشعبي الحي في العراق, وضد حرية الإنسان.
إننا في العراق نحتاج اليوم وأكثر من اي وقت مضى إلى ترديد ما قاله الشاعر الطيب الذكر كاظم السماوي في الخمسينات من القرن الماضي والعمل على ضوئه :
وإذا تكاتفت الأكف        فأي كفٍ يقطعون
وإذا تعانقت الشعوب         فأي درب يسلكون
 كاظم حبيب
17/12/2010
     


1018
رسالة مفتوحة إلى رئيس قائمة التحالف الكردستاني في إقليم كردستان العراق


الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور فؤاد معصوم المحترم / رئيس قائمة التحالف الكردستاني/بغداد العراق
تحية ودٍ و احترام
وجدت نفسي ملزماً, كمواطن عراقي, أن افاتحكم, ومن خلالكم أعضاءقائمة التحالف الكردستاني كافة وحكومة وشعب وأحزاب كردستان العراق الديمقراطية, بالهموم التي تثقل عليَّ وعلى الكثير من مواطنات ومواطني العراق في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ العراق الحديث.
لقد ناضلنا معاً ضمن قوى ديمقراطية وتقدمية عراقية لسنوات طويلة من أجل سيادة مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والسلام في كردستان والعراق. ولم يكن هذا النضال سهلاً ومرً بمنعطفات حادة وحقق نجاحات وعانى من انكسارات وقدم الكثير من التضحيات الغالية لهذا الغرض. ولا يمكن نسيان التضامن المتين بين القوى الديمقراطية والتقدمية من عرب وكرد وتركمان وكلدان وآشوريين في فترات الحكم الملكي أو في الفترات اللاحقة, وخاصة حين كانت الحركة القومية والديمقراطية الكردية تتعرض إلى التجاوز الفظ والاعتداءات العسكرية والمجازر الدموية من قبل النظم الرجعية أو الفردية والاستبدادية أو حين كانت الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان تتعرض إلى المصادرة في العراق كله.
وقد توفرت فرصة ثمينة, رغم كل التعقيدات, في أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد في ربيع العام 2003, لبناء عراق مدني ديمقراطي اتحادي تزدهر فيه كل المبادئ الخيرة التي ناضلنا من أجلها وتتحقق الأحلام الطيبة التي راودت خيال وأحلام كل المناضلين الشجعان الذين سقطوا في جبال وسهول ومدن وقرى كردستان العراق, أو في وسط وجنوب العراق وبغداد, أو في سجون المستبدين ومعتقلاتهم, أو الذين احتضنتهم القبور الجماعية والذين غيبوا في مجازر عمليات الأنفال وحلبچة والأهوار والحروب الدموية للنظام البعثي الصدامي المقيت.
ومثل هذه الفرصة التي توفرت لم تستثمر من جانب كل القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية من مختلف القوميات لتعزيز صفوفها وتوسيع نشاطها وقاعدتها الاجتماعية والسياسية ولم توحد أهدافها ومهمات نضالها فی المرحلة الجديدة وتطرح بوضوح القواسم المشتركة لما تسعى إليه في أعقاب 2003, بل عمل كل منها منفرداً ومنعزلاً عن النضال المشترك مما أدى إلى مزيد من التباعد في ما بينها وإلى الضعف العام لصالح غيرها من القوى والتيارات الفكرية والسياسية التي تتعارض من حيث المبدأ مع بناء دولة مدنية ديمقراطية اتحادية مزدهرة, دولة المواطنة الحرة والمتساوية حيث تنتعش فيها القوميات العديدة وتحقق أهدافها ومصالحها المشتركة بعيداً عن الطائفية السياسية والمحاصصة والتمييز أو الشوفينية وضيق الأفق القومي.
لقد كان إقليم كردستان في العقود المنصرمة موقعاً مهماً للنضال الوطني والديمقراطي لصالح الشعب الكردي وعموم الشعب العراقي. وما تحقق فيه من منجزات منذ العام 1991, رغم كونها من حيث المبدأ نتيجة فعلية لنضال وتضحيات هذا الشعب الأبي, ولكنها لم تكن بمعزل عن نضال وتضامن وتضحيات الشعب العراقي بکل مکوناته, وخاصة القوى والأحزاب الديمقراطية والتقدمية فيه. وكان لزاماً, كما أرى, على التحالف الكردستاني وحكومة إقليم كردستان والشعب الكردي كله, ولمصلحتهم جميعاً على المدى البعيد, أخذ المبادرة والعمل من أجل وحدة عمل التيار الديمقراطي العراقي العام وتقويته وتعزيز مواقعه على صعيد العراق كله, إذ أن قوى الشعب الكردي وأحزابها الوطنية تعتبر جزءاً أساسياً وأصيلاً منه. ولا أبتعد عن الحقيقة حين أؤكد الحقيقة التالية: أن قوى التيار الديمقراطي هي الضمانة الفعلية لبناء العراق المدني الديمقراطي الاتحادي وضمان حقوق ومصالح وفيدرالية إقليم كردستان العراق والاعتراف له بحقه في تقرير مصيره. ولذلك فأن ضعف التيار الديمقراطي ليس من مصلحة الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية غير الفاشية وغير الطائفية, وبالتالي لا بد من العمل من أجل إيجاد قواسم مشتركة بين جميع مكونات هذا التيار الوطني والديمقراطي للعمل المشترك لصالح الأهداف المشتركة, أهداف الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والاستقرار والسلام في جميع أرجاء العراق الاتحادي.
تشير المعطيات على أرض الواقع في العراق إلى تصاعد حملة منظمة وهادفة إلى مصادرة ما هو متوفر, وهو قليل, من حرية فردية وحقوق أساسية للمواطنين والمواطنات مقترنة بحملة ضد مكونات الثقافة الديمقراطية والتراث الشعبي الديمقراطي وضد حرية المثقفين والمثقفات. وهي بداية خطيرة يمكن, أن لم تُلجم بسرعة وتصميم, أن تتفاقم وتهدد العراق بسيادة الاستبداد الفكري والسياسي والثقافي من جديد على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية العراقية. فم يكن نضالنا المشترك من أجل استبداخ خيمة فكرية شوفينية بخيمة فكرية طائفية بأي حال من الأحوال.
فأوضاع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة ومفهوم المواطنة الحرة في تراجع شديد وتتخذ أبعاداً خطيرة تهدد المجتمع بمزيد من القيود الثقيلة والمحرمات التي لا يمكن تصور حصولها في دولة يتحدث دستورها عن الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة.
إن التضييقات المتفاقمة على الحريات العامة وما حصل ويحصل في محافظات العراق, ومنها البصرة وبابل والأنبار وديالى وبغداد أخيراً وعلى نحو خاص, وما يمكن أن يحصل في بقية محافظات البلاد من إجراءات مماثلة هي بمثابة إنذار خطير لكل القوى الديمقراطية والتقدمية في العراق يؤكد بأن مسيرة العملية السياسية والحياة الحرة والحريات العامة تواجه خطراً مباشراً وشديدا.
إن ما يجري في العراق اليوم يتناقض كلية مع الدستور العراقي وبخلاف ما التزم به العراق أمام الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والوثائق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان, بأن لا يعود العراق إلى الاستبداد والقسوة وقمع الحريات ومصادرة حقوق الأفراد والجماعات ومنظمات المجتمع المدني.
إن ما يجري في العراق على صعيد محافظات بغداد والوسط والجنوب بشكل خاص سوف لن يتوقف عليها, بل سينسحب بطرق عديدة وبأساليب مختلفة ليهدد محافظات كردستان العراق والوضع في كردستان عموماً, فلا يمكن أن يسود على سطح واحد مناخان, كما تقول الحكمة الكردية والمثل الشعبي الكردي.
ولهذا فالسكوت على ما يجري اليوم في بغداد والبصرة وبابل وغيرها غير مقبول ويهدد ما تحقق من مكسب إسقاط الدكتاتورية في العراق, إذ أن ما أخرج بطريق القوة وعبر القوات الأجنبية من الباب, يعود بأساليب أخرى ليلج إلى العراق من شبابيكه ليفرض نفسه على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تحت واجهات دينية وستر مهلهلة.
أدرك أهمية حصول الشعب الكردي على مكاسبه الوطنية والقومية وأؤيد ذلك, كما أيدتها في السابق استناداً إلى المبادئ التي اعتمدها في حياتي السياسية منذ ستة عقود. ولكن لا بد من القول بأن هذه المكاسب سوف تتعرض إلى مخاطر جمة إن استمر االتدهور في أوضاع الوسط والجنوب وبغداد.           
إن مشاركة قائمة التحالف الكردستاني, وأنتم على رأسها, في مجلس النواب العراقي وفي الحكومة الاتحادية وفي مختلف الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية, يضع على عاتقكم شخصياً وعلى عاتق قائمة التحالف الكردستاني ورئاسة وحكومة وبرلمان إقليم كردستان والشعب الكردي مسؤولية كبيرة في الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان وعن الثقافة الديمقراطية العراقية وعن اتحاد الأدباء والكتاب العراقي, الذي هو خير ممثل للثقافة الديمقراطية والتنوع الثقافي في العراق وعن حرية تدريس كل الفنون في أكاديمية الفنون الجميلة. إن السكوت على ما يجري اليوم في العراق من محاولة لتغييب الثقافة العراقية الديمقراطية والتراث الشعبي الثر لن يخدم أحداً, بل يحملهم مسؤولية تدهور الأوضاع في العراق أيضاً, وهو ما لا نرجوه لقوى التحالف الكردستاني.
أتمنى على قائمة التحالف الكردستاني أن تتصدى بقوة ووضوح ضد كل التجاوزات الجارية على الحياة الثقافية والثقافة الديمقراطية العراقية والحريات العامة والفردية, وأن ترفض قرارات التحريم المخالفة لروح ومضمون الدستور العراقي الصادرة عن مجالس المحافظات وتطالب بإلغائها فوراً, أنها إجراءات تجعل من العودة إلى الدكتاتورية والهيمنة والخيمة الفكرية والسياسية لطرف واحد خطراً ماثلاً أمام الجميع. إنها إجراءات لا تبشر بالخير لكل الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه الدينية واتجاهاته الفكرية الديمقراطية.
أتمنى عليكم شخصياً أن تعملوا لمواجهة ومنع انحدار العراق بطرق مختلفة صوب الاستبداد والقسوة والتعسف الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي, صوب القمع وما ينشأ عنه ويرتبط به من إرهاب وفساد. أتمنى عليكم أن تعملوا, بغض النظر عن وجود تحالفكم ومشاركتكم في السلطة, على إيجاد القواسم المشتركة مع بقية قوى التيار الديمقراطي والحركة الديمقراطية العراقية لتعزيز مواقعها وقاعدتها الاجتماعية والسياسية لصالح مستقبل أفضل للعراق وإقليم كردستان العراق.
أرجو لكم أخي الفاضل موفور الصحة والسلامة والعمر المديد.
مع خالص التقدير والاعتزاز.
كاظم حبيب             

1019
كاظم حبيب
عادت حليمة إلى عادتها القديمة, عادت والعود أقبح!!

حين تشعر القوى الظلامية المتسترة بلباس الدين والمدفوعة الثمن بالضعف والتأزم والمحاصرة, وحين تشعر أن الشعب يرفض سياساتها وقراراتها وإجراءاتها التحريمية ضد الثقافة الشعبية والديمقراطية, ضد التراث الحضاري للشعب العراقي الذي شارك منذ العهود البابلية في إغناء الحضارة الإنسانية بالموسيقى والغناء والرقص والشعر والفنون التشكيلية من نحت ورسم وسيراميك..الخ وأبدع في إنتاج الآلات الموسيقية ومنها الهارفة والعود والربابة والناي والطبلة, حين تشعر بأنها أصبحت في زاوية حادة, تبدأ بالهجوم الشرس على القوى الديمقراطية والتقدمية, على القوى المناضلة منذ عقود طويلة من أجل مصالح الشعب والاقتصاد الوطني والديمقراطية وسيادة البلاد واستقلالها, ضد الشيوعيين العراقيين وحزبهم, حزب المناضلين الأحرار.
فمنذ أيام تشن مجموعة من وسائل الإعلام حملة هستيرية ظالمة ضد الحزب الشيوعي العراقي تجلت بشكل خاص في "شبكة نهرين نت" و "قناة الأنوار" في محاولة يائسة وبائسة لتشويه سمعة الحزب الشيوعي العراقي والشيوعيين العراقيين, لأن الحزب الشيوعي العراقي دافع بجرأة ووضوح عن حرية الفرد, عن حقوق الإنسان, عن الثقافة الوطنية والديمقراطية العراقية, عن رفضه لأي تجاوز على اتحاد الأدباء والكتاب في العراق أو على أكاديمية الفنون الجميلة ومناهجها الدراسية, عن القرارات الجائرة والبائسة التي صدرت عن مجالس محافظات بغداد والبصرة وغيرها مما لا يتفق والدستور العراقي ولائحة حقوق الإنسان والتراث العراقي الإنساني.
إن القوى الظلامية التي راحت "شبكة نهرين نت" و "قناة الأنوار" تدافع عن الإجراءات السيئة التي اتخذها مجلس محافظة بغداد أو رئيس المجلس ودفعوا الأموال لتنظيم المظاهرات المؤيدة لإرجاءاتهم الجائرة, كما اكتشفته جريدة المدى الغراء, وتهاجم مظاهرة الأدباء والكتاب العراقيين في شارع المتنبي ضد الإجراءات التعسفية التي تتنافى وحرية الفرد العراقي وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان, ما هي إلا بالون اختبار لما يمكن أن تقوم بمصادرته من حقوق وحريات عامة في العراق.
إن مسؤولية الحكومة الاتحادية وكل القوى المشاركة فيها التصدي:
1 لكل القرارات الصادرة عن مجالس المحافظات, وهي إجراءات منافية للدستور العراقي وللحرية الفردية وحقوق الإنسان, بما في ذلك تلك القرارات المناهضة للفنون الشعبية والتراث الثقافي الديمقراطي العراقي, وأن عليها أن تبطلها فوراً وتعيد الأمور إلى نصابها.
2. التصدي لأي تجاوز على الحريات العامة أو محاولة المس بقوى سياسية ديمقراطية عراقية برهنت على إخلاصها للشعب ورفضت المساومة على مصالح الشعب وعلى حقوقه الاساسية.
3. حق الجامعات والكليات العراقية, بما فيها أكاديمية الفنون الجميلة, في تدريس وتطوير الثقافة الديمقراطية العراقية والتراث الأدبي والفني العراقي ورفض تعطيل تدريس الموسيقى والغناء والرقص والنحت ..الخ في أكاديمية الفنون الجميلة, إذ أن هذا يعتبر تجاوزا على ما جاء في الدستور في هذا الصدد, وتجاوزاُ على لائحة حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية في هذا المجال.
إن على "شبكة نهرين نت" و "قناة الأنوار" أن تبدي اهتمامها بالفساد المالي والإداري السائدين في البلاد, إن كانت مخلصة للعراق وشعبه, وبأولئك المليارديرية ومزوري الشهادات, الذين يراد اليوم إصدار قانون أو مرسوم بالعفو عن الجرائم التي ارتكبوها بذلك التزير, وهي جرائم مخلة بالشرف, رغم أن البعض غير القليل منهم يحتل إلى الآن مواقع مهمة في أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية, بدلاً من الهجوم الشرس على الحزب الشيوعي العراقي. ويبدو أن هذه القوى السوداء لا تسعى من خلال ذلك إلى التغطية على الجرائم المرتكبة في العراق فحسب, بل وإلى التحضير لشن حملة ظالمة ضد كل القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية.     
إن هذا الواقع يملي على القوى الديمقراطية العراقية كلها أن تعي طبيعة المرحلة وما يراد بها, وأن تسعى إلى إعادة النظر بسياساتها ونشاطاتها المنفردة وتوحيد جهودها حول برنامج وطني وديمقراطي يشكل القاسم المشترك الأعظم لمهمات المرحلة الراهنة, مهمات وضع العراق على طريق الحياة الحرة والحريات الديمقراطية والتقدم الاجتماعي. كما أن هذا يتطلب من الحزب الشيوعي العراقي أن يعيد النظر بتكتياكته وعلاقاته السياسية ويسعى إلى الانفتاح على كل الشخصيات والجماعات والكتل والقوى والأحزاب الديمقراطية واليسارية التي تلتزم بممارسة سياسة ديمقراطية وتناضل بأساليب سياسية وديمقراطية في إطار العملية السياسية الجارية في البلاد لصالح البرنامج المشترك البديل عن البرامج الفردية والطائفية المطروحة من جانب الكثير من القوى السياسية العراقية, ومنها بعض القوى الحاكمة. 16/12/2010
 
 
   
         


1020
كاظم حبيب

هل يمكن الجمع بين احترام الكرامة والضمير والترحم على نظام الاستبداد والعهر الصدامي؟

الفهرست

** المدخل   1
** الاعتقال والتحقيق والتعذيب والمحاكمة   3
** التحقيق والمحاكمة   5
** في زنزانات الإعدام   8
** قرار العفو والإفراج والهروب   10


 

** المدخل
في زيارتي الأخيرة إلى استراليا أجرى الصحفي الديمقراطي الأستاذ غسان مخول من إذاعة SBS الاسترالية لقاءً إذاعياً معي طرح فيه مجموعة من الأسئلة المهمة والراهنية حول العراق وأحوال أهله ومستقبله الديمقراطي وبضمنها السؤال التالي: يقال أن هناك من يترحم على نظام صدام حسين وهو يعيش في ظل الأوضاع الراهنة في العراق, فما رأيك؟
نعم, ربما هناك من يترحم على نظام صدام حسين الدكتاتوري الدموي, بل وربما هناك من يترحم على النظام الملكي. ولكن كل الموقفين خاطئ جداً وخطير في آن واحد ويعبران عن ثلاثة احتمالات:
1 . إما عن كون هؤلاء من جلاوزة وأتباع النظامين المقبورين؛
2 . أو أنهم لم يعرفوا العراق وأهله وما جرى فيه من كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية وإنسانية عامة وشاملة؛
3 . أو أنهم قصيرو الذاكرة ونسوا طبيعة هذين النظامين الفكرية والسياسية.
فالنظام الملكي هو الذي أسس لما نشأ بعد ذلك من استبداد وقسوة وخراب في العراق حين شوه في التطبيق العملي واليومي الدستور العراقي الديمقراطي لعام 1925 وزور بفظاظة ووقاحة الانتخابات العامة ورهن العراق بسياسة بريطانيا ومصالحها وأحلافها العسكرية واستغل الشعب لصالح فئات الإقطاعيين وكبار الملاكين والكومبرادور المحلي وضد مصالح الفلاحين والعمال والكسبة والحرفيين والمثقفين وأصدر القوانين الرجعية المخالفة لروح ونص الدستور العراقي ولائحة حقوق الإنسان الدولية التي وقع عليها العراق بل وساهم في وضعها في العام 1948, كما أصدر المراسيم الاستبدادية في العام 1954/1955 بما في ذلك إسقاط الجنسية العراقية عن مجموعة من المناضلين الديمقراطيين الأحرار.
كما أن هؤلاء الذين يترحمون على حكم حزب البعث والدكتاتور صدام حسين ينسون الكوارث المأساوية البشعة التي ارتكبها نظام الجريمة الصدامي خلال 35 عاماً من تاريخ العراق الحديث, ينسون حروبه الداخلية والخارجية المدمرة للعراق وعلاقاته الإقليمية والدولية وعمليات الأنفال العنصرية والإجرامية في كردستان العراق وضرب الشعب الكردي بالسلاح الكيمياوي في حلبچة وبادينان وغيرها وتجفيف الأهوار وتشريد سكانها وترحيل الكرد الفيلية والعرب الشيعة من الوسط والجنوب بتهمة التبعية لإيران, ينسون هؤلاء ما فعله نظام المقابر الجماعية المنتشرة في سائر أنحاء العراق والتي ازداد عددها عن 300 مقبرة مكتشفة إلى الآن ثم الضربات القاسية التي وجهها لقوى الانتفاضة الشعبية في العام 1991 والتي تجلت في الزحف المليوني لشعب كردستان نحو تركيا وإيران أو الهروب إلى السعودية من منتفضي جنوب ووسط العراق, ينسون عواقب سياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية المدمرة, ينسون قرار تصفية السجون العراقية الذي اتخذه النظام في العام 1984 وإعدام ما يقرب من 5000 إنسان عراقي خلال أسبوع واحد فقط, ينسون سياساته التي تسببت في فرض الحصار الاقتصادي الدولي على العراق والخراب الاقتصادي والجوع والحرمان والموت والتهجير والتشريد والتعريب القسري, ينسون إن ضحايا النظام بمختلف السبل يزيد عن 1,5 مليون إنسان منذ وصول البعث للمرة الثانية إلى الحكم في العام 1968, دع عنك جرائمه البشعة جداً والفاشية في القفز الأول على الحكم والإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم, وأخيراً وليس أخراً ينسون هؤلاء عدد المهاجرين والمهجرين قسراً من العراق في فترة الحكم الصدامي والذي بلغ إلى ما يقرب من أربعة ملايين إنسان.
لا يمكن أن يترحم الإنسان العاقل القادر على التفكير السوي على نظام صدام حسين, إلا أولئك الذين فقدوا القدرة على التفكير السليم, رغم أن ما يجري في العراق اليوم يعتبر واحدة من المآسي الكبيرة والجديدة التي حلت بالعراق بعد سقوط الدكتاتورية على أيدي قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية في ربيع العام 2003, إذ أقامت على أنقاض ذلك النظام الهمجي نظام المحاصة الطائفية والتمييز الديني والطائفي وثقافة القسوة والمحرمات. وتم التراجع الشديد عن مبدأ المواطنة العراقية لصالح الهويات الفرعية القاتلة, التي تساهم اليوم في تمزيق النسيج الوطني للمجتمع العراقي. وهي حصيلة منطقية لسياسات النظام السابقة وتركة ثقيلة من تركاته الكثيرة الضاغطة على, والتي لا تزال فاعلة في, المجتمع العراقي. إن إدانة ما يجري اليوم في العراق, وخاصة دور القوى الظلامية في فرض المزيد من المحرمات على المجتمع ومصادرة حقوق الإنسان وحرياته العامة لا تسمح لنا أن نترحم على نظام كان رأسه مسؤول عن عصابة مجرمة ومافيا قذرة دمرت البلاد وقتلت الكثير من الناس الأبرياء ودفعت بالبلاد إلى ثقافة العنف والقسوة والتمييز والعنصرية والطائفية وتعميق واشتداد ظاهرة ازدواج الشخصية لدى الفرد العراقي. ومع ذلك فأن الأجواء السائدة في العراق حالياً واستكلاب القوى الظلامية ضد الثقافة الديمقراطية والفنون والتراث الشعبي العراقي كالموسيقى والغناء والرقص والرسم والنحت والتمثيل ...الخ, يمكن أن تجعل جمهرة من الناس ممن لم يكن يعمل في السياسة أن يرى بأن أوضاع العراق الراهنة هي اسوأ من فترة حكم البعث وهم يشيرون إلى أن فترة النظام البعثي كنا نعرف أن قوى الأمن وأجهزته الأخرى هي التي تعتقل وتغيب أو تقتل, فهي جهة واحدة, ولكننا اليوم لا نستطيع أن نعرف ونحن من هو القاتل, فالجهات عديدة, منهم قوى الأرهاب المتطرفة, ومنها الميليشيات الطائفية المسلحة, سنية كانت أم شيعية, ومنهم قوى البعث التدميرية, وكذلك المجرمون السائبون, إضافة إلى البعض ممن يعمل ضمن العملية السياسية ولكن لديه ذراع تمارس مهمة القتل ويحتمي بغطاء العملية السياسية.
إن رفض ما يجري اليوم في العراق من تجاوز فظ ومرير ومدمر على الحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة الحرة, وما يفرض على المجتمع من طائفية مقيتة ومحرمات قاتلة, وما يطبق من إساءات وقحة على ثقافتنا الوطنية والديمقراطية, وأن النضال ضد هذه السياسات والعمل من أجل وضع العراق على طريق الحرية والديمقراطية والدولة المدنية, لا يتطلب بأي حال الترحم على نظام فاشي أصفر مثل نظام صدام حسين, إذ هو الآخر مسؤول تماماً عما يجري اليوم في العراق.       
ومع ذلك ولكي نقطع الطريق على أي تفكير سقيم بالترحم على نظام دموي واستبدادي صدامي مقيت, سأورد هنا مضمون لقاءٍ أجريته مع أحد مناضلي الحزب الشيوعي العراقي المقيم حالياً في ميلبورن والذي اعتقل في العام 1983 بذريعة "الهروب من الجيش والتعاون مع المخربين والتحريض على الهروب منه والإساءة للسلطة" وحكم عليه من المحكمة المركزية الخاصة لمحاكمة العسكريين بالإعدام رمياً بالرصاص في 14 تموز 1984, ثم صدر العفو العام عنه وعن 109 أخرين, في حين أعدم 5000 سجين سياسي وغير سياسي في العام 1984 تحت شعار "تصفية السجون العراقية" التي كانت قد امتلأت ولم يعد فيها مكان للمحكومين الجدد بالإعدام حينذاك. وهذه الحالة وحدها تكفي للبرهنة على طبيعة نظام البعث وأهمية الخلاص منه ومن رأسه المستبد بأمره صدام حسين وليس الترحم عليه وعلى نظامه. إن ما جرى في العراق أبشع بكثير من هذه الجرائم, فجرائم الأنفال التي قتل وغيب فيها أكثر من 182 ألف إنسان في إقليم كردستان العراق وحدها تكفي للبرهنة على عنصرية وفاشية وهمجية النظام الصدامي, على الجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية, وتكفي لا لعدم الترحم عليه, بل وإنزال ألاف وملايين اللعنات عليه وعلى من تسبب في وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في العراق.   
** الاعتقال والتحقيق والتعذيب والمحاكمة
تبدأ قصة المناضل الشيوعي كفاح صليوة بيتون (أبو جيفارا), من مواليد 1960 ببغداد, بعد عودته من حركه الانصار والتحاقه بدائرة التجنيد بأربيل بعد صدور قرار العفو عن الهاربين من الخدمة العسكرية وبناء على اتفاق مع المسؤول الحزبي لقاطع أربيل في حركة الأنصار الشيوعيين حينذاك, حيث كان كفاح نصيراً, الرفيق ثابت حبيب العاني (أبو حسان).   
أرسل من قبل مديرية التجنيد إلى القطعات العسكرية العراقية في قلعة دزه لكونه مسجلاً ضمن تجنيد أربيل. ولكن لم يمض أكثر من شهر واحد على التحاقه حتى اعتقل من قبل جهاز الاستخبارات للفرقه الرابعه والعشرين في قلعه دزه  وأرسل إلى استخبارات المنظومه الشماليه في كركوك ومنها إلى الشعبة الخامسة ببغداد للتحقيق معه. وكان يطلق على هذه الشعبة حينذاك بـ "الحوتة", إذ كان من يدخلها لا يخرج منها سالماً. يقول المناضل أبو جيفارا ما يلي:
"نقلت ومعي ثمانية أشخاص في حافلة صغيرة يطلق عليها بـالكوستر, (وهي نصف منشأة تستوعب حوالي 15 شخصاً, والمنشأة تعني حافلة كبيرة تستوعب 30 شخصاً أو أكثر), إلى بغداد وقد غطيت عيوننا بقطة قماش سوداء كما قيدت أيدينا إلى الخلف. وصلنا إلى وزارة الدفاع وبقينا في معتقلها ثلاثة أيام, حيث نقلنا بعدها بسيارة أشبه بناقلة قمامة حيث كبست علينا من الأعلى, وبعد فترة قصيرة نقلنا إلى عربة أخرى كانت تدور وتقذف بنا من جهة إلى أخرى كما تفعل خباطة الإسمنت. ثم أخيراً وضعنا في سيارة أخرى مكتوب عليها "مرطبات" نقلتنا, كما علمنا فيما بعد, إلى الشعبة الخامسة حيث جرى توزيعنا على قسمين, قسم خاص بالمعتقلين المدنيين, وقسم آخر مخصص بالمعتقلين العسكريين.
حال وصولنا إلى الشعبة الخاصة خلعت عنا ملابسنا وأصبحنا عراة تماماً عدا القيود التي على ايدينا والأقنعة التي كانت تمنع النور والنظر عن عيوننا حيث بدأت جولة من الضرب المبرح بالصوندات والركلات والكفخات والصفعات من جانب حرس المعتقل, إذ لم نكن نعرف كيف يمكن التخلص من تلك الضربات ولا ندري من أين تأتينا ونحن لا نبصر شيئاً سوى الظلام. لقد كانت جولة مريعة تركت ألاما مبرحة والكثير من الرضوض والجروح في الجسم وفي النفس معاً. ويبدو أن البعض منا قد سال الدم من رأسه بسبب تلك الضربات القاسية والحقد الأعمى الذي حرك الجلادين القساة بأمر من سيدهم الدكتاتور الأهوج صدام حسين. بعد أن تعبوا من ضربنا, سلموا بعضنا ما يستر أجسامنا وبطانية واحدة ودفعونا إلى الزنزانات. البعض منا كان بالالبسه الداخليه والبعض الآخر كان عارياً تماماً.
لم تفتح عيوني إلا بعد أن إدخلت إلى زنزانة مظلمة قدرت مساحتها بحدود 1,5 مترX  1,5 متر تقريباً, وهي من الحديد الأملس وعالية السقف, وفيها فتحة لدخول الهواء دون دخول أشعة الشمس أو النور ولا يوجد فيها مصباح كهربائي. ويبدو أن عددنا أصبح ثمانية أشخاص حتى بعد توزيعنا, إذ كان بعض المعتقلين موجوداً قبل ذاك في الزنزانة. لم يكن في مقدورنا النوم على الأرض وبطولنا, بل كنا نتبادل الجلوس والنهوض أو رفع الساقين ووضعها على اكتاف الآخرين حيث نتبادل المواقع كل ساعة. كان الحرس يقدم لنا وجبتين من الطعام يومياً, كل وجبة مكونة من صمونة واحدة صغيرة ومتخشبة وكوب صغير من الرز وقطعة جبن كرافت وكأس واحد من الماء لكل ممعتقل, وهي بمثابة الفطور ووجبة الغداء معاً, ثم كانت حصة كل منا في العشاء صمونة صغيرة واحدة ومتخشبة أيضاً وصحن صغير فيه شوربة عدس, وكأساً واحداً من الماء.
كان الخروج إلى المرافق الصحية مرتين في اليوم يعتبر عملية تعذيب مريرة إضافية, إذ كان لا يحق لكل شخص أن يبقى فيها فترة تزيد على العد من 1 إلى 5 من قبل الحراس, وأحياناً من 1 إلى 10 حين يكون مزاج الحراس طبيعياً! وحين لا يخرج المعتقل خلال هذه الفترة القصيرة, يدخل عليه الحراس مستخدمين الصوندات والكفخات والركلات ويتم سحبه سحباً. وكان بعضهم ما زال لم يستكمل تغوطه. كان الضرب والشتائم والبصاق هي التقاليد اليومية المرافقة للخروج النهاري. ولم يكن الخروج المسائي بأفضل منه وأحياناً أكثر قسوة. لقد كان الخروج للبول والتغوط بمثابة عملية تعذيب شرسة ومرعبة. كانت توجد في الزنزانة تنكة لأغراض التبول وكان البعض يجبر على التغوط فيها, وكانت الروائح الكريهة والنتنة تمنع عنا النوم أحياناً غير قليلة.
كان الشك وعدم الثقة هما السمتان الغالبتان على العلاقة بين المعتقلين في هذه الزنازين, إذ لم يكن بعضنا يعرف البعض الآخر, خاصة وأن الإدارة كانت قد اعتادت أن ترسل بعض العيون إلى هذه الزنزانات في محاولة منها للحصول على معلومات يمكن أن يتحدث بها المعتقلون وتفيد المحققين. كان الحديث نادراً في ما بين المعتقلين, إلا حين يتعرف البعض على البعض الآخر ويثق به تماماً, إذ عندها يبدأ الهمس الليلي أو النهاري. كان الظلام دامساً فيها لا يمكن لبعضنا أن يرى بوضوح البعض الآخر, فالزنزانة ليل دائم لا يعرف الإنسان ليله من نهاره حتى حين يخرج إلى المرافق الصحية وعيونه مشدودة بقناع أسود أو بكيس أسود. كان هذا الجو القاتم يلحق أضراراً فادحة بأوضاع المعتقلين النفسية والحسية.
كان التحقيق يتم بالنسبة لبعض المعتقلين مرتين في اليوم الواحد, وأحياناً مرة واحدة كل شهر, ولا يعرف الإنسان أسباب ذلك. وكان البعض يعود إلينا بعد التحقيق والبعض الآخر لا يعود ولا نعرف ما حصل له. وحين يعود يتآكلنا الشك حول موقفه, هل من مهمة أسندت إليه للتجسس على الآخرين؟ هل صان أسراره أم اعترف على أصحابه, اياً كانت الجماعة التي ينتمي إليها؟ وكان حين يخرج البعض منا, يجلبون آخرين إلى زنزانتنا, وكذا الحال مع الزنزانات الأخرى. كان البعض يعود وقد جرى تعذيبه بشراسة مرعبة, حتى أن أحدهم كان قد أحرق جسمه بالكامل تقريباً من خلال إطفاء السجائر المشتعلة في كل بقعة من جسمه. كان يئن طوال الليل من شدة الألم, وكان البعض يعاني من تقيح في تلك البقع المحترقة ولم نكن قادرين على مساعدته, ولم يجلبوا لأي من مرضانا طبيب معالج.
** التحقيق والمحاكمة
جرى استدعائي لأول مرة للتحقيق. كانت عيناي مشدودتان بقناع أسود ويداي مقيدتان إلى الخلف. ثم جرى ربط أسلاك كهربائية بأذنَّي ومعصمَّيَ وقدمَّي وبخصيتي. ثم بدأ الاستجواب وقوفاً:
- أين كنت حين هربت من الخدمة العسكرية؟
- كنت هارباً وأعيش في قرية في كردستان.
- ما اسم هذه القرية؟
- آلانه.
- ألم تكن خارج العراق؟
- لا, لم أكن خارج العراق.
- على من تعرفت وأنت خارج العراق.
- لم أغادر العراق.
- من تعرف من سكان القرية   
- لا اعرف غير الذين هم من الهاربين من العسكرية, لا يستخدمون اسماؤهم الفعلية وأسم المختار الذي كان متداولاً في القرية .
لاحظ المحقق أني أحاول أن أنظر من تحت العصابة إليه, فجائتني لطمة قوية وصفعة أخرى مفاجئة وقاسية جداً على وجهي من شخص كان مع المحقق, وكان كما يبدو يقف بجواري دون أن استطيع رؤيته, كما بدا من جهة الضربة, سقطت من جراء ذلك على الأرض وكانت يداي مشدودتان إلى الخلف ولم يكن بمقدوري النهوض, فانهضوني جرَّاً. سألني المحقق: هل كنت تريد أن ترى صورتي يا أبن ...؟ هل رأيتها؟ هل تريد ان تنتقم مني بعد ذلك يا ...؟ وما أن انتهى من شتائمه البذيئة حتى أذهلتني صعقة كهربائية جديدة هزت كل كياني وافقدتني توازني وأسقطتني أرضاً.
جروني جراً للنهوض من الأرض. تكررت الأسئلة. سؤلت عن المناضل الشيوعي حنا عزيز, وهو قريب لعائلتنا, فقلت لا أعرفه, وكان علي أن أقول أني أعرفه لأنهم ربما يعرفون بأنه قريب لي وأرادوا امتحان موقفي العام من الإجابة عن أسئلتهم. هزتني صعقة كهربائية مفاجئة جديدة وهدت كل كياني واسقطتني أرضاً مرة أخرى. ثم أوقفوني ثانية. وعادوا إلى السؤال وكان الجواب مماثلاً للمرة الأولى فجاءت صعقة كهربائية ثالثة. كانت هذه الصعقات الكهربائية تأكيداً بأنهم كانوا يعرفون وجود قرابة بين عائلتي وعائلة الشهيد حنا عزيز. وتكرر الضرب والركل والشتم بقسوة بالغة. ثم أعادوني إلى الزنزانة ثانية بعد أن أصبحت لا أقوى على الوقوف.
خلال وجودي ستة شهور في هذه الزنزانة المعتمة تكرر استدعائي للتحقيق مرة أخرى فقط. لم أسؤل عما إذا كنت شيوعياً أم لا طيلة وجودي في المعتقل, ولكن سؤلت عما إذا كنت مع المخربين أم لا, وكانوا يقصدون بذلك قوى البيشمركة الكردستانية. كان الإنكار مرافقاً لإجاباتي على امتداد التحقيقين. علمت فيما بعد أنهم كانوا يحققون مع آخرين ويسألون عني. كان بعضهم يعرفني ولكن دون أن يعرف هويتي السياسية أو وجودي في حركة الأنصار أو عضويتي في الحزب الشيوعي العراقي.
خلال الأشهر الستة التي قضيتها في هذه الزنزانة وقبل أن أساق إلى المحاكمة, فقدت حقاً إحاسيسي الإنسانية, فقدت الإحساس بالليل والنهار, لم عد اعرف الأيام وتاريخها وتوقف الخيال عن العمل, وحين يأتي معتقل جديد يعلمنا باليوم والتاريخ, ولكن سرعان ما أنسى وينسى الآخرون ذلك لاستمرار الظلام والعتمة الأبدية, والخشية من الاستدعاء والتعذيب. لم أعد قادراً على رؤية أي شيء داخل الزنزانة, كنت أتناول ما يأتون به من طعام دون أن أحس بأي طعم فعلي لطعام أدمي. بدأت أشعر بتناقص وزني وتردي مناعتي وقدرتي على التفكير المركز والهادئ, كنت أحس بالدوار أحياناً بسبب التعرق المستمر وتراجع مقدار الملح في الجسم وقلة الماء الذي اتناوله ويتناوله الآخرون. كان القلق والعذاب النفسي يوحدني مع الآخرين, إذ لا يعرف الإنسان متى سوف يساق إلى المحاكمة لينتهي من هذا العذاب اليومي في هذه الزنزانة الحديدية المعتمة. كان التفكير بالأهل يعذبني لأني كنت أشعر بعذابهم. سعوا لمعرفة مكان اعتقالي, توسطوا لإطلاق سراحي, هذا ما عرفت به حين أنكرت معرفتي بأحد المتوسطين لمعرفة مكان وجودي وما إذا كنت لا أزال على قيد الحياة. لم أكن أعرف الوسيط حقاً, وكان العقاب صعقة كهربائية قاسية وطويلة افقدتني صوابي. كان الوسيط عميداً في القوات المسلحة العراقية وصلت إليه عائلتي عبر معرفة سابقة به. كنا نتعذب يومياً حين يعود إلينا أحد الممعتقلين وهو غارق بدمائه بسبب التعذيب الهمجي الذي تعرض له, نشعر بذلك من خلال صراخه والدماء التي كانت تسيل منه على الأرض ومن دبك جسده. كنا نعتقد بأنه لن يستطيع البقاء ليلة واحدة أخرى على قيد الحياة بسبب ما كان يعانيه. لقد كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. كنا نتعذب معه. ولكن هكذا هو الإنسان, كان يبرهن باستمرار بأنه قادر على تحمل كل ذلك العذاب الذي ينزله به الجلادون القساة بأرادة البقاء على قيد الحياة وكسر شوكة الجلادين ودحرهم. لقد ترك التعذيب النفسي والجسدي جراحاً عميقة في نفسي ولا شك في نفوس جميع الذين تعرضوا للتعذيب النفسي والجسدي. لا أزال أعيش عواقب تلك الفترة في حياتي اليومية الراهنة رغم مرور أكثر من 26 عاماً على ما تعرضت له من عذاب مرير على أيدي أشرار البعثيين وعصابات الأمن العراقي. أحيانا توقظني زوجتي وهي تسمع صراخي ليلاً أو أستيقض بعد أن أكون قد عشت كابوساً ثقيلاً في تلك الزنزانة أو في زنزانة الإعدام. أعيش حياة السجن كثيراً وأشعر بالقهر كلما أسمع بتعرض سجناء إلى التعذيب, أياً كان ذلك الإنسان, فالتعذيب الجسدي والنفسي جريمة كبرى لا تغتفر, لإنها تحط من كرامة الإنسان وتصيبه بأمراض كثيرة نفسبة وجسدية. رغم مرور 26 عاماً لم استطع حتى الآن هضم ما تعرضت له وتعرض له الآخرون من المعتقلين ويسبب لي الأرق والأحلام الكابوسية.
 بعد مرور ستة شهور على وجودي في زنزانات الشعبة الخامسة التي كانت تجسد الجحيم بعينه, قدمت إلى المحاكمة ونقلت مع أخرين في عربة إلى محكمة الثورة. كنت فرحاً بخروجي من تلك الزنزانة, حيث رفعت عن عيوننا داخل معتقل المحكمة تلك الأقنعة أو الأكياس السوداء. سألني أحد المعتقلين عن سبب فرحي أو سروري ونحن في معتقل المحكمة. قلت له ألا ترى الشمس والنور؟ ألا تحس بهما؟ ألا تعيش الفرق بين الزنزانة وهواؤها الفاسد والنتن, وبين هذا الهواء النقي الذي نتنفسه؟ لقد حرمنا من ذلك طيلة الفترة المنصرمة وأنا سعيد بهذه الشمس المشرقة التي تعيد لنا الأمل بالحياة وهذا الهواء النقي ولو لفترة قصيرة, إنها الحياة ذاتها. هذا هو سبب فرحتي وسروري, رغم كل الآلام والعذابات التي عشناها معاً في هذا المعقتل الجهنمي الذي كان يراد منه إذلال كرامتنا كبشر وإسقاطنا كسياسيين مناضلين في سبيل حياة أفضل ومستقبل أكثر إشراقاً لشعبنا الجريح.
في المحكمة سؤلت عن أسمي ومكان ولادتي وأسباب اعتقالي, ذكرت لهم اسمي ومكان ولادتي وقلت بأن المحققين يقولون بأني "هارب من الجيش وحرضت آخرين على الهروب منه والتعاون مع المخربين والإساءة للسلطة". فقال الحاكم: تدعي أيها الكلب أنهم يقولون ذلك, ولا تريد أن تقول أنهم قالوا الحقيقة في ما كنت تقوم به وأنت هارب من الخدمة العسكرية. أرفق ذلك بكمية كبيرة من الشتائم التي تنسجم مع طبيعة هؤلاء الأوباش القساة. بعدها قرر عواد البندر, الحاكم بأمر سيده, أحالتي إلى المحكمة المركزية الخاصة, وهي محكمة شكلت لمحاكمة العسكريين, ومنهم الهاربون من الخدمة العسكرية, وكنت أحد المتهمين بذلك.
نقلت إلى المحكمة الأخرى في نفس اليوم. كان الحكام هذه المرة يرتدون الزي العسكري. كان ذلك في الرابع عشر من تموز 1984 يوم ذكرى ثورة تموز 1958, حيث وجهت لي ذات الأسئلة وذات التهم بعد أن طلب مني رئيس المحكمة الوقوف واحترام المحكمة, بعدها قرأ قرار الحكم القاضي بإعدامي رمياً بالرصاص على وفق المادة الأولى فقرة أ, ب وج. على أن ينفذ حكم الإعدام بعد المصادقة عليه بمرسوم جمهوري. لم تستغرق المحاكمة الشكلية حقاً والمعدة سلفاً سوى دقائق معدودات, كان الحكام قبل ذاك قد أصدروا حكمين بالإعدام رمياً بالرصاص على شخصين آخرين أيضاً وجهت اليهم نفس تهمتي وهما كل من عبد الرحمن محمد امين پيشمرگه من الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) من أهالي كركوك, وحسن علي حسن من أهالي بغداد, كما جرى بعد صدور الحكم عليَّ بالإعدام, إصدار مجموعة  كبيرة أخرى من أحكام الإعدام على آخرين من الأشخاص ولأسباب كثيرة كلها لا تبرر إصدار مثل هذه الأحكام الشائنة ولا حتى الاعتقال.   

** في زنزانات الإعدام 
بعد صدور حكم الإعدام على عدد كبير من الذين كانوا معي نقلنا مباشرة إلى سجن رقم 1 , ولكن بعد يومين نقلت بمفردي إلى سجن الاستخبارات العسكرية في قلعة دزه في إقليم كردستان, ثم حولت إلى سجن خاص يضم المحكومين بالإعدام في كويسنجق. وبعد عدة أيام نقلت إلى سجن أبو غريب ببغداد وكانت عيناي طيلة فترة النقل مشدودتين بقطعة قماش سوداء. حال وصولي إلى هذا السجن خلعت كل ملابسي وأعطوني سروالاً وقميصاً خاكيين ووضعت في المحجر. وجدت في هذا السجن ثلاثة أنواع من الزنزانات يطلق عليها بالخاص والانفرادي والمحجر. وهي على العموم غرف صغيرة متلاصقة وعلى طابقين, حشرت في محجر مع 13 آخرين من المحكومين بالإعدام. كان جميع من معي في المعتقل من العراقيين المسلمين وكنت المسيحي الوحيد بينهم, ولكنهم كما يبدو كانوا من اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة. كان بعضهم من حزب الدعوة الإسلامية. بذل هذا البعض منذ البدء محاولات من أجل أن استبدل ديني بالدين الإسلامي. كانت المحاولات في البداية هادئة وتوضيحية. إلا أن رفضي ذلك بكل أدب, دفع هذا البعض إلى تطويقي وتهديدي! قلت لهم أنا محكوم بالإعدام مثلكم وليس هناك أكثر من حكم الإعداك فعلام هذا التهديد. ثم لا يمكنكم دخول الجنة بتحويلي إلى الإسلام بالقوة. لقد كانوا يعتقدون بأن إقناعي بالانتقال إلى الدين الإسلامي سيمنحهم ثواباً يلجون بموجبه جنات النعيم والتمتع بحور العين بعد إعدامهم. ولكنهم تراجعوا بعد أن أدركوا بأني شيوعي ومسيحي ولن أغير ديني, ولكنهم واصلوا سياسة العزل. كانت الزنزانات جحيماً, وكان هؤلاء بسلوكهم يزيدون من جحيم الزنزانة.
إذا كان هذا سلوك هؤلاء الناس من قوى الإسلام السياسي وهم في زنزانات الإعدام وفي طريقهم إلى الموت, فكيف الأمر معهم وهم على قيد الحياة أو في السلطة, لك قارئ وقارئة أن يتصور ذلك. وما يجري اليوم في العراق يعبر بوضوح عن هذه الحالة المريرة.   
كان جلاوزة النظام من الحرس, وهم لا يختلفون أبداً عن الحرس القومي لعام 1963, يأتون في فترات مختلفة إلى زنازيننا ليبلغوا بعضنا بوقت الإعدام. كان ابو وداد, الجلاد والمسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام شنقاً, يتلمس ويمسد رقاب السجناء ويبشرهم بقسوة الإعدام. كان بعض السجناء يطلب تسريع أمر إعدامه للخلاص من واقعه الراهن ويطلب منه الاتصال بأهله للحصول على مال لقاء تلك "الخدمة" بتقريب وقت إعدامه! كان "أبو وداد" يقوم فعلاً بالاتصال بالعوائل ويلتهم منهم مبلغاً كبيراً من خلال إقناع تلك العائلات بأنه سيرحم ابناؤهم باستخدام حبال أرق بحيث لا يعاني الضحية الآم الإعدام شنقاً بالحبال الخشنة, أو أنه سيحاول إلغاء حكم الإعدام عنهم, علماً بانه لا يستطيع بأي حال التحكم بإلغء أو إبقاء حكم الإعدام أو بموعد تنفيذه.         
** في ساحة تنفيذ أحكام الإعدام في بسماية
في يوم عيد الضحى المصادف 4/9/1984 دخلت علينا مجموعة من الجلادين مصحوبة بمدير السجن. أوعد المدير السجناء بمكرمة كبيرة من "السيد الرئيس صدام حسين حفظه الله ورعاه!" وأن مجموعة ستأتي لتبشرهم بذلك الخبر الطيب. جاءت المجموعة فعلاً مصحوبة بضوضاء وحركة دائبة وطلبوا منا النهوض والاستماع للمكرمة: قرأ أحد المسؤولين أسماء كثيرة, كان ترتيب اسمي الثاني. وصل عددنا إلى 50 محكوماً بالإعدام. شدوا وثاقنا وعيوننا وطلبوا منا الحركة عبر خطين من حراس السجن. طلبوا خفض رؤوسنا وكأنهم أنزلونا إلى سجن مظلم جداً. لا نعرف إلى أين, ولا ما هي المكرمة التي يراد منحنا إياها. كنت وغيري من المحكومين بالأعدام بين مصدق ومكذب لما يجري, هل سيغيرون أحكام الإعدام إلى المؤبد, هل سيطلقون سراحنا بعفو عام, أم أنهم ينظمون لنا حفلة قتل جماعية؟ كان المعتاد في تنفيذ أحكام الإعدام أنهم يأخذوا شخصاً واحداً كل مرة, وليس بهذه الصورة الجديدة. كنا في حيرة من أمرنا والقلق ينهشنا.
كانت هناك مجموعة  كبيرة من الحرس الجمهوري وهي تصرخ بنا وتطلب منا الركض من جهة, وعدم النظر يمنة أو يسرة من جهة اخرى. كان البعض يسقط على الأرض, وكان يسحب من شعره أو من قميصه ليقف على قدميه ثانية ويهرول مع الآخرين.
وصلنا إلى فضاء مفتوح, شعرنا بذلك من خلال الهواء النقي الذي بدأنا نتنفسه. ركبنا المنشآت, اي حافلات النقل. وهنا وضعوا على رؤوسنا أكياساً سوداء تصل إلى حدود أكتافنا, وبعضهم كما بدا بقي دون كيس بل بقطعة سوداء غطت عينه, كما كان الحال معي.                   
سارت بنا الحافلات ونحن لا نعرف وجهتها, ولكن وبعد فترة من السير سمعنا اصوات طائرات سمتية تحلق فوق الحافلات وكذلك مطرسكلات (دراجات بخارية) تسير أمام وبجوار الحافلات. كنت في المنشأة (الحافلة) الثانية وهي تحمل خمسين سجيناً, كانت أجسادنا متلاصقة جداً, ولكن كانت هناك حافلات أخرى تحمل أعداداً مماثلة. وصلنا إلى السجن رقم 1 في معسكر الرشيد. وبدا لنا وكأن الوقت كان بعد منتصف الليل. بقينا في زنزاناتنا حتى الصباح الباكر. وصلت حافلة مدنية, صعدنا فيها وأيدينا مشدودة إلى الوراء وكذا عيوننا. منع الحديث أو الهمس بشكل تام, فأي كلمة من أي منا تكون حصته ضربة من أخمص بندقية في موقع ما من جسده. عرفنا بعد ذلك أن الوجهة كانت صوب ميدان الرماية في (بسماية) على طريق الكوت. عرفنا عندها أن المكرمة الرئاسية الصدامية هي تنفيذ حكم الإعدام فينا! توقفت الحافلات المدنية أمام السدة حيث بلغ عددها وفق أحاديث الحراس في ما بينهم خمس. كل منها يحمل خمسين سجيناً محكوماً بالإعدام تقريباً. كما وصلت شاحنات مليئة بالأعمدة الخشبية التي غرست بالأرض حيث عرفنا من خلال قراءة الأسماء أن عدد ما غرس منها بلغ 25 عموداً.
كانت هناك حمايات في كل المنطقة وكانت الطائرات السمتية تحلق فوق رؤوسنا وفي سماء المنطقة. بدا لنا أن بعض المحكومين قد اغمي عليه, والبعض الأخر بدأ بالبكاء والصراخ والعويل, والبعض الآخر كان يصلي ويطلب المغفرة, في حين رفض البعض الأخر شد عينية وطالب برفع القناع عن عينيه حين تنفيذ حكم الإعدام به. لقد شعر الإنسان بهستيريا فعلية شملت ساحة الإعدام, حيث تراوح العدد كما ظهر من قراءة الأسماء فيما بعد بين 250 -300 سجيناً لتنفيذ الأحكام بهم.
وقف أحد الجلادين وطالب بالهدوء والصمت, ثم بدأ بقراءة الأسماء. قرأ 25 أسماً, لم اكن بينهم. شدوهم إلى الأعمدة المثبتتة على الأرض. عليكم أن تتصورا العذابات النفسية للمحكوم بالإعدام وهو يتابع هذه العملية رغم الغطاء الموجود على عينيه.
بعدها تقدمت مفرزة إعدام يتقدمهم ضابط عسكري. تقدمت المفرزة على شكل ثلاث مجموعات كل مجموعة مكونة من 25 جندياً مقابل 25 سجيناً محكوماً بالإعدام.
أعطى الضابط الإيعاز بصوت مرتفع. إن كنت حاضراً على هدفك .. أرمي!
تم إرسال أول عشر طلقات صوب الضحايا المشدودين إلى الأعمدة. انسحبت لتتقدم المفرزة الثانية. أعطي الإيعاز الثاني بدفعة جديدة, فأرسلت صوب اجساد الضحايا عشر طلقات أخرى, ثم انسحبت إلى الخلف لتتقدم المفرزة الثالثة. أعطي الإيعاز الثالث بإرسال عشر طلقات أخرى صوب أجساد الضحايا التي نخرت أجسامهم بتلك الرصاصات. ساد بعدها صمت مطبق. انقطع بنداء أطلقه الضابط المسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام طالباً تقدم الكادر الطبي لفحص الضحايا وتحديد من مات منهم ومن لا يزال على قيد الحياة لينهوا حياته بـ"طلقة الرحمة!".
فحص الفريق الطبي الضحايا برفقة الحراس الذين صوبوا نيرانهم إلى رأس هذه الضحية أو تلك ممن كان لا يزال بهذا القدر أو ذاك على قيد الحياة.
ثم تقدم أحد شيوخ الدين وبدأ بقراءة الفاتحة على روح الموتى واحداً واحدا. أوقفه الضابط وصرخ بأن ليس لدينا الوقت الكافي وطلب منه قراءة فاتحة جماعية واحدة على أرواح هؤلاء المجرمين الخونة!
بعد ذلك نادى الضابط على فصيل نقل القتلى لنقلهم إلى مجمدات جُلبت إلى موقع الأعدام. تقدم فصيل النقل بنقالاته (سديات) صوب الأعمدة وحل وثاق الشهداء ثم وضعت جثامينهم على النقالات وقذفت وتاحداً بعد الآخر بخشونة إلى داخل المجمدات, ولكن بعضها كا يسقط في المجمدات وبعضها الآخر على الأرض, لييحمل ويقذف من جديد في المجمدات. كانوا يتعاملون مع الضحايا وكأنهم قمامة لا غير!
بعد لعلعة الرصاصات الأولى من مفرزة الرمي الأولى, سمع أهل القرية المجاورة ذلك فخرجوا من بيوتهم رجالاً ونساءً وأطفالاً ليستطلعوا أمر ما يحصل قرب دورهم. إلا أن الحماية قد تحركت صوبهم وكذا الطائرات السمتية التي أجبرت الأهالي بالعودة إلى منازلهم وغلق أبوابهم.
ثم بدأت قراءة اسماء الوجبة الثانية لتحرم عيون الضحايا من النور والرؤية إلى الأبد وترسل بهم إلى المقابر الجماعية.
لم يقرأ اسمي واسم معتقل تبين انه كردي. وفي المحصلة تبين وجود سبعة أشخاص لم تكن اسماؤهم ضمن هذه الوجبات: 2 من الكرد, و 2 من الكلدان, و3 من العرب الشيعة.
تم تنفيذ حكم الإعدام بذات الطريقة بالوجبة الجديدة في حين أعادونا نحن السبعة إلى سجن رقم (1). قيل لنا في طريق النقل بأن من يتحدث بما رأى وما سمع سيقتل فوراً وعلينا الصمت المطبق, ثم أضاف الحراس: لم يحالفكم الحظ بالموت هذه المرة ولكن سيأتيكم الموت قطعاً وليس الأمر بعيداً!!
استمرت هذه العملية سبعة أيام أخرى, إنها ايام عجاف مليئة بالقهر والمرارة والعذابات. وصل عدد المقرر إعدامهم كل يوم إلى أكثر من 300 شخص. وكنت أرسل مع كل الوجبات الأخرى وكذلك السبعة الآخرين. وكان كل مرة يزداد عدد من لم تكن اسماؤهم ضمن قرار تنفيذ الأحكام. وبالمحصلة النهائية أصبح عدد من لم ينفذ بهم حكم الإعدام في نهاية الأيام السبعة 110 محكوماً بالإعدام. أما من نفذ فيه حكم الإعدام فقد بلغ وفق تقديرات من بقي على قيد الحياة بحدود 5000 شخص, والبعض كان يشير إلى أكثر من 3000 شخص. لقد برز اختلاف بين قوائم السجن المعدة للإعدام وبين القوائم التي كان يأتي بها الضباط من الحرس الجمهوريو وهو المسؤول عن تنفيذ أحكام الإعدام. لقد كنا نموت يومياً خلال الأيام السبعة المنصرمة, كنا نتوقع موتنا في كل لحظة, ثم يعاد بنا إلى زنازيننا بانتظار اليوم الثاني لينفذ فينا حكم الإعدام. وهكذا حتى بعد إعادتنا إلى الزنازين وانتهاء حفلات القتل الجماعية لم نكن نعرف ما سيجري لنا لاحقاً. 
كان الحراس يتحدثون أمامنا قائلين بأن الشعب العراقي يبلغ اليوم 18 مليون نسمة, فلا مانع من قتل 10 ملايين من الخونة, إذ يكفي العراق أن يبقى فيه من المخلصين 8 ملايين نسمة!!
** قرار العفو والإفراج والهروب
حين أصبحنا 110 سجيناً فقط, أصبح السجن فارغاً تماماً, ولكنه كان ينتظر الجديد ممن يحكم عليه بالموت في ظل النظام الصدامي حينذاك.
بقينا على هذه الحالة أسبوعاً كاملاً بعد تنفيذ عمليات الإعدام دون أن يحصل شيء لنا ويتآكلنا القلق المرير. بعدها نقلونا إلى سجن آخر وكلنا ينتظر الموت في كل لحظة. كان البعض منا يبكي والبعض الآخر يضحك .. سيطرت البلاهة على البعض منا, فهو بين مصدق باحتمال النجاة من الموت, وبين رؤية قريبة لجنود يحولون جسده إلى منخل (غربال) بزخات من الرصاص القاتل.
بعد عشرة ايام من نقلنا إلى سجن آخر حدثت ضجة كبيرة داخل السجن, كعادة هؤلاء القتلة الأوباش, حيث فتح الباب الرئيسي لزنزاناتنا فتهيأنا للموت. كان سجن رقم 2.
صرخ مدير السجن بصوت مرتفع, غاضب ومغموم : اسمعوا .. صدر بحقكم مرسوم جمهوري, إذ قرر مجلس قيادة الثورة أعفاء الأشخاص المدرجة اسماؤهم من حكم الإعدام وتسفيرهم إلى منازلهم أو وحداتهم العسكرية.. قرأ الأسماء, وكان اسمي من بينها. كانت المفاجأة كبيرة لنا جميعاً, فمن زنزانة الموت إلى الحياة من جديد!
صرخ مدير السجن مجدداً: لماذا لا تصفقون أيها ..., لماذا لا تهتفون بحياة القائد والقيادة التي عفت عنكم ومنحتكم الحياة التي لا تستحقونها من جديد.. رغم هذه الشتائم البذيئة من مدير السجن الجلاد, بدأ الضحك والبكاء في آن واحد. ولكن لم تحصل هتافات.. لم نصدق الموقف .. وفي اليوم التالي سفرت إلى وحدتي العسكرية السابقة بمعية الحرس إلى قلعة دزه  في كردستان. كما سفر الآخرون كل حسب وضعه.
حين وصلت إلى الوحدة بمعية الحرس العسكري, فوجئ أحد الضباط بمجيئي وظهرت على وجهه علامات الاستفهام والاستغراب والاندهاش ثم قال .. لكم هذا كفاح .. كيف جئت ثانية, لقد وصلنا كتاب رسمي يوم أمس يعلن بأن حكم الإعدام قد نفذ فيك! رد الحرس المرافق لي قائلاً بأن قرارا صدر عن مجلس قيادة الثورة يقضي بإطلاق سراحه.
ورغم ذلك وضعت في السجن العسكري في قلعة دزه ثانية. تم الاتصال بوزارة الدفاع ببغداد مستفسرين عن صحة القرار, فأبلغوا بصحة قرار العفو وإطلاق سراح كفاح صليوة بيتون. عندذاك قال لي ضابط الأمن بان علَّي "أن أخرج حالاً وأذهب لصنع قلادة ذهبية تحمل صورة القائد صدام حسين وأضعها في عنقي طوال حياتي"!!! ولم افعل ذلك طبعاً. وأدركت عندها بأني سوف لن أتخلص من مطاردات الأمن العسكري والحزبي في الجيش, وربما الموت أيضاً.
خرجت من السجن وعدت إلى وحدتي العسكرية. ولكن قررت بعد شهر واحد الهروب من الجيش وكانت رغبتي الالتحاق بقوات الأنصار الشيوعيين. لم يكن بمقدوري تنفيذ هذه الرغبة بسبب الأجواء المتوترة التي كانت تسود العلاقات بين الاحزاب الكرديه حينذاك والتي كانت قد تفاقمت في أعقاب أحداث بشت آشان 1983.
لقد تم إعدام المئات والآلاف من الناس الأبرياء بهذه الطريقة الوحشية, فهل يمكن لمن يتعرف على مثل هذه الحالات أن يترحم على نظام فاشي همجي مجرم مثل نظام البعث الصدامي. نعم ممكن, ولكن لا بد أن يكون من يترحم عليه من ذات الطينة والطبيعة الصدامية.
كاظم حبيب
ملبورن/استراليا في 8/12/2010             
           

 
           


                     

1021
كاظم حبيب

بدء نشاط قوى التيار الديمقراطي العراقي في المانيا الاتحادية

وجهت مجموعة من الشخصيات الوطنية والديمقراطية العراقية المقيمة في ألمانيا دعوة إلى العراقيات والعراقيين القاطنين في المانيا الاتحادية من المهتمين بالشأن العراقي واتجاهات تطور الأوضاع فيه ضمن بيان يوضح أهمية مناقشة تأسيس التيار الديمقراطي العراقي في المانيا وانتخاب لجنة لتنسيق فعاليات قوى هذا التيار ومناقشة مسودة البرنامج المقترحة التي تبحث في واقع العراق الراهن ومشكلاته وسبل دفع العراق نحو الديمقراطية بالتعاون الوثيق مع لجنة التنسيق التي تشكلت في العراق وعقدت مؤتمرها الأول في بغداد قبل عدة أسابيع. وقد كانت الدعوة مفتوحة لمن يرغب بالحضور والمشاركة في النقاش.
وفي ضوء هذه الدعوة عقد الاجتماع الأول على الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 11/12/2010 بحضور أكثر من 50 من المواطنين وقلة من المواطنات من المهتمين باتجاه تطور الأحداث في العراق وأهمية بناء دولة مدنية ديمقراطية اتحادية حديثة ودور قوى التيار الديمقراطي في هذه العملية.
وفي بداية اللقاء وقف المجتمعون دقيقة حداد على ارواح شهداء الحركة الوطنية والشهداء الذين سقطوا على ايدي قوى الإرهاب المتنوعة في العراق وعلى روح الفنان المسرحي المبدع والشخصية الديمقراطية العراقية منذر حلمي الذي توفي قبل اسبوعين.
بعد ذلك قدمت فرقة طه حسين الموسيقية نشيد موطني ثم معزوفات موسيقية وأغان عراقية جميلة أنعشت المشاركين بالفن العراقي الأصيل الذي يراد تحريمه في العراق من قبل قوى الظلام والبؤس الثقافي.
قدم الأخ الدكتور والكاتب صادق أطيمش كلمة قيمة باسم اللجنة التحضيرية اشار فيها إلى الأهمية القصوى لنشوء مثل هذا الحركة السياسية لقوى التيار الديمقراطي في ألمانيا لتساند نضال قوى التيار الديمقراطي في العراق في مواجهة الأوضاع الجديدة وتعبئة قوى الشعب لدفع العراق باتجاه الحريات الديمقراطية ورفض المحاصصة الطائفية والعواقب الوخيمة التي تترتب عليها.
لقد تميز الاجتماع, بعد انتخاب هيئة لرئاسة المؤتمر التأسيسي, انتهى دور اللجنة التحضيرية مشكورة على مبادرتها الطيبة والضرورية, بحيوية المشاركة في إبداء الرأي حول عدة قضايا جوهرية, وهي:

1.   أهمية تأسيس مثل هذا التيار في جمهورية ألمانيا الاتحادية للمشاركة الفعلية في تعبئة قوى الجالية العراقية لصالح دفع العراق صوب الحياة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ومواجهة سلبيات الوضع الراهن, وخاصة مشكلة المحاصصة الطائفية أو محاولات ممارسة سياسة المحرمات ضد الكثير من أوجه الثقافة العراقية الديمقراطية.
2.   أهمية الاستفادة من تجارب العمل الديمقراطي المشترك بين قوى التيار الديمقراطي لصالح تأمين مشاركة واسعة لقوى التيار الديمقراطي في الداخل والخارج وتأمين برنامج وطني وديمقراطي يستند إلى  قواسم مشتركة بين قوى التيار والتنسيق بين الفعاليات المطلوبة في إلمانيا من خلال لجنة التنسيق التي تنتخب من قبل المؤتمرين.
3.   الابتعاد عن اعطاء الانطباع وكأن التيار يقاد من جهة واحدة, بل يفترض أن تتجلى في العمل روح التجديد والتضامن والتعاون والتنسيق والمساواة في أهمية الأراء التي تطرح من قبل قوى التيار والاتفاق بصورة ديمقراطية على أساليب وأدوات وطرق العمل والمهمات والخطاب السياسي المشترك لقوى هذا التيار.
4.   ضمان ديمومة هذا العمل الديمقراطي المستقل للرؤية المشتركة لقوى التيار من جهة والتنسيق الفعال مع ما يمكن أن ينشأ من لجان أخرى مماثلة في دول أخرى ومع الداخل وتنسيق الفعاليات من خلال عقد الندوات الفكرية والسياسية والثقافية واتخاذ المواقف المناسبة بصدد الأحداث الجارية في العراق استناداً إلى مصالح الشعب.
5.   أن يلعب الإعلام المشترك لقوى التيار الديمقراطي داخل العراق دوراً مهماً مستقلاً عن إعلام كل قوة فيه ليساهم في إبراز الشخصية المستقلة للجنة التنسيق لقوى التيار والمتكونة من مجموع القوى المشاركة فيه.
وإذ برزت رؤية عامة مشتركة حول هذه المسائل بين المشاركين, طرح بعض المشاركين ملاحظاتهم التي تعبر عن خشيتهم من فشل التجربة في العراق وألمانيا, كما حصل في تجارب سابقة في العراق وتجربة سابقة في ألمانيا. كانت هناك بعض الاختلافات في وجهات النظر حول هذه النقطة التفصيلية أو تلك, إلا أن الرؤية العامة أكدت بشكل واضح أهمية مثل هذا العمل في المرحلة الراهنة وأهمية الاستفادة من التجارب المنصرمة والصراحة في التعامل الديمقراطي ودون وصاية بين القوى الديمقراطية.
ثم بدأ الحوار حول البرنامج السياسي والثقافي المطروح على المؤتمرين لمناقشته. ومع وجود اتفاق عام حول أهم المسائل التي يراد تثبيتها في برنامج مناسب لقوى ديمقراطية تعمل بالخارج ولكنها مهتمة ومسؤولة تماماً عن مصير ومستقبل العراق وشعب العراق, فأن المؤتمرين ارتأوا قيام المشاركين في الاجتماع وغيرهم تقديم ملاحظات ملموسة ومكتوبة حول البرنامج, سواء بالإضافة أو التعديل أو التغيير, ترسل إلى لجنة التنسيق التي ستنتخب حتى نهاية هذا العام (2010) لتوحيدها وطرحها على الاجتماع القادم الذي تقرر مبدئياً أن يعقد في مدينة كولون بالمانيا الاتحادية لضمان صياغة جيدة وبلورة مناسبة لأهداف قوى التيار الديمقراطي في ألمانيا.
وفي نهاية الاجتماع تم الترشيح لعضوية لجنة التنسيق بين قوى التيار الديمقراطي في ألمانيا وحصل على ثقة الحضور جميع من وافق على ترشيح نفسه أو رشح من آخرين ووجد لديه الإمكانية على المشاركة الفعلية في متابعة نشاط هذه القوى. إذ تم انتخاب 11 شخصاً من مختلف المدن الألمانية ذات الوجود الكثيف بالعراقيات والعراقيين على أن يضاف اسمان جديدان حين يشارك آخرون من جنوب ألمانيا. وقد تم انتخاب الشخصيات الوطنية التالية وفق الترتيب الأبجدي لإسمائهم:
السادة:  حسن حسين, د. حسن حلبوص, د. حميد خاقاني, د. صادق أطيمش, د. صلاح الدين علي, عادل ياسر, كامل زومايا, ماجد فيادي, د. محمد الفخري, هيثم الطعان, والسيدة وفاء الربيعي.
في تصريح للأستاذ حميد مجيد موسى لجريدة البيان الإماراتية, والذي نشرت بشأنه مقالاً, حول موضوع قوى التيار الديمقراطي جاء فيه ما يؤكد بأن الحزب الشيوعي العراقي يسعى لأن يأخذ بنظر الاعتبار تلك التحفظات التي أثيرت بشأن تجارب الماضي وضرورات المواقف المرنة والتواضع في التعامل من خلال مضمون التصريحات, ويأمل الإنسان أن يتجلى ذلك في الممارسة العملية اليومية ايضاً.
كاظم حبيب
13/12/2010


1022
كاظم حبيب

تصريحات مهمة للأستاذ حميد مجيد موسى في الموقف من التيار الديمقراطي في العراق

أدلى الأستاذ حميد مجيد موسى, سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي, بتصريحات مهمة إلى جريدة البيان الإمارتية بتاريخ 10/12/2010 حول جملة من الأمور التي تمس واقع العراق ومشكلاته وقواه السياسية وخاصة حول قوى التيار الديمقراطي, حيث يشكل الحزب الشيوعي جزءاً اساسياً وحيوياً منه. إنه الحزب الذي في مقدوره أن يلخص تجربة النضال خلال العقود المنصرمة في مجال عقد التحالفات السياسية وبلورة أهميتها والدروس المستخلصة منها وسبل تحقيقها خلال الفترة القادمة بالنسبة للقوى الديمقراطية العراقية. جاءت هذه التصريحات في فترة حرجة من تاريخ العراق تميزت بعدد من الظواهر السلبية التي لا بد من الإشارة إليها لنقدر مدى أهمية تلك التصريحات وضرورة العمل من أجل تنشيط قوى التيار الديمقراطي العراقي:
1.   الأزمة الطاحنة والشاملة التي تعصف بالبلاد والتي تجلت بشكل خاص بالعجز عن تشكيل الحكومة العراقية نتيجة الصراعات الطائفية على السلطة والمصالح الذاتية للقوى التي يفترض أن تشكل الحكومة في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة, علماً بأن الأزمة في جوهرها بنيوية, أي أزمة نظام سياسي تشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية وبيئية وخدمات عامة.
2.   الهجوم الجديد لبعض القوى السياسية المشاركة في الحكم وفي مجالس المحافظات المناهضة للديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته العامة وللثقافة الوطنية الديمقراطية العراقية والتي برزت هذه الظاهرة بشكل صارخ في الموقف من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق وغلق النادي الثقافي والاجتماعي بقرارات تحريمية غير مبررة تضر بمجمل العملية الثقافية والسياسية في البلاد وتسيء بشكل كبير جداً إلى كل القوى المشاركة حالياً في الحكم, ما لم تسع إلى إلغائها والتصدي لهذا التيار الظلامي في البلاد.
3.   استمرار ممارسة قوى الإرهاب للقتل على الهوية الدينية على نحو خاص, كما حصل في كنيسة "سيدة النجاة" أو غيرها, رغم إلقاء القبض على المزيد من الإرهابيين القتلة في العديد من محافظات العراق في الآونة الأخيرة , إلا أن الدم ما والدموع لا زالا يسيلان على أرض العراق.
4.   تفاقم التدخل الأجنبي الإقليمي والدولي في الشأن العراقي وتزايد تأييد السياسات الإقليمية والدولية, وخاصة الإيرانية والسعودية والأمريكية, لنظام المحاصصة الطائفي وإضعافها المستمر للقوى الديمقراطية والسعي لتهميشها وعزلها عن المجتمع وعن التأثير في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
5.   ضعف التيار الوطني الديمقراطي عموما, وقوى اليسار خصوصاً, وتشتته ومصاعب الوصول إلى قواسم مشتركة وبرنامج مشترك ووحدة عمل مشترك ما بينها, في حين تستوجب الضرورة تحقيق ذلك وبأقصى سرعة ممكنة.
6.   تفاقم البطالة في المجتمع العراقي سواء المكشوفة منها أم المقنعة, واتساع قاعدة الفقراء وتعاظم الفجوة بينهم وبين الأغنياء, والتي سوف تقود إلى مزيد من الاستقطاب وإلى تشديد التناقضات والصراعات السياسية. وهي مسألة مرتبطة بغياب إستراتيجية واضحة وسياسات اقتصادية سليمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتنظيم صادرات واستيرادات العراق ومكافحة الفقر والبطالة.
7.   الفساد المتفاقم الذي قاد ويقود إلى توفير فرص أفضل لتحرك واسع النطاق لقوى الإرهاب والاستفادة منه لصالحها باتجاهات مختلفة وضد العملية السياسية في العراق.
إن كل ذلك وغيره يجعل من الجهد الذي يبذل اليوم من جانب الحزب الشيوعي العراقي للملمة وتجميع وتوحيد عمل قوى التيار الديمقراطية أكثر من ضرورة مهمة في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور. وقد نشط الحزب الشيوعي في الاتجاه الصحيح في ضوء تصريحات الأستاذ حميد مجيد موسى, والتي, كما تبدو له ولي, عملية معقدة وصعبة للغاية بسبب عوامل موضوعية وذاتية كثيرة جاء على ذكرها سريعاً, ولكنها ليست مستحيلة, خاصة وأن نواتها قد توفرت اليوم في لجنة التنسيق قوى التيار الديمقراطي في العراق والتي بدأت تتشكل لها لجان مماثلة مستقة عنها ومتعاونة معها في آن واحد في داخل العراق وفي الخارج, والتي سوف تحتاج إلى مزيد من الجهود والعناية والرعاية لكي تتسع في العراق بتنظيمات ديمقراطية ويسارية جديدة وعدم وضع شروط أمام من يريد الالتحاق بهذا التكوين الجديد والاستفادة من الخبرات التي تراكمت منذ عقود في العمل الجبهوي, إضافة إلى تأمين التعامل المتساوي بين الجميع وبتواضع جم.
والأهم من كل ذلك, والذي اشار إليه الرفيق أبو داوود, يبرز في تأكيده الخاص على العمل مع الشعب وعلى أرض الواقع العراقي ووفق حاجات ومصالح فئات المجتمع, أي أن تكون ساحة عمل قوى التيار الديمقراطي المجتمع والفئات الاجتماعية والمهنية المختلفة.
إن الواقع الجديد في العراق يتطلب من قوى التيار الديمقراطي بلورة نشاطه كتيار فكري وسياسي واجتماعي وثقافي معارض لسياسة الحكومة العراقية الحالية وبرنامجها الضبابي الراهن وطرح برنامج بديل يعبر عن مصالح الشعب وقضاياه الأساسية وفق منظور قوى التيار الديمقراطي وفي إطار العملية السياسية الجارية. أي إن موقف المعارضة السياسية لا يعني عدم تأييد السياسات والإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة والجيدة التي تتخذها الحكومة وتمارسها فعلاً, ولكن قوى التيار الديمقراطي تسعى إلى نقد السياسات الخاطئة والسلبية والطائفية ...الخ وطرح البديل لها, وهو الأمر الجوهري الذي يسمح بتعزيز صلات التيار الديمقراطي بالشعب واستعادة ثقة الشعب وعلاقته النضالية به.
إن الطريق طويل وشاق من أجل بناء عراق مدني ديمقراطي اتحادي مستقل, ووضع ثروات البلاد الوطنية في خدمة التنمية الاقتصادية والبشرية والعدالة الاجتماعية.  
إن الالتزام والتطبيق المسؤول والحيوي لما جاء في تصريحات الأستاذ حميد مجيد موسى حول سبل لملمة قوى التيار الديمقراطي والتعامل الواعي والفعال في ما بينها والانفتاح على الجميع دون استثناء ما دامت تلك القوى والشخصيات تضع نصب أعينها بناء الدولة العراقية الديمقراطية الاتحادية وحماية حقوق الإنسان وحرياته العامة ومستقبلة الآمن ..الخ, يمكنها أن تعجل بتوفير مستلزمات نهوض جديد وحيوي لقوى التيار الديمقراطي في المجتمع العراقي ويساهم في دفع البلاد بالاتجاه الصحيح.
إن التحرك السياسي الراهن يفترض أن يعي بوضوح ودقة واقع ميزان القوى السياسي المختل حالياً في غير صالح قوى التيار الديمقراطي, وأن تغيير هذا الميزان صعب ومعقد جداً وطويل الأمد ومحفوف بالمخاطر والعقبات. ولكنه سيتغير لا محالة بفعل عاملين جوهريين, وهما:
1.   السياسات الخاطئة التي تمارسها منذ سبع سنوات القوى الطائفية المتحكمة بسياسة البلاد حالياً والتي لا تتلائم مع مصالح المجتمع ووحدة النسيج العراقي الضرورية لوحدة العراق ومستقبله المشرق من جهة,
2.   والسياسات الديمقراطية والسلمية التي يفترض أن تمارسها قوى التيار الديمقراطي لكي تتمكن أن تحل محل تلك القوى الحاكمة حالياً التي يفقد الشعب ثقته بها, إذ أن القوى الديمقراطية تعتبر القوة الحقيقية القادرة على بناء الدولة الديمقراطية العراقية والاتحادية المنشودة من جهة أخرى.
إن هذه الوجهة تفترض ضمان التعاون مع كل القوى الديمقراطية على صعيد العراق كله وعلى  صعيد كل القوميات في العراق, إذ من المهم تعزيز قدرات الحركة الديمقراطية العراقية لتساهم في تغيير ميزان القوى لصالح كسب قوى أخرى تتعاون اليوم على اساس تحالفي مع قوى طائفية وتنتهج مبدأ المحاصصة الطائفية, ولكن مثل هذا التحالف ليس من مصلحتها على المدى البعيد, ومنها قوى التحالف الكردستاني.          
إن التداول السلمي الديمقراطي للسلطة هو الذي يفترض أن يسود في البلاد. وفي ظروف البلاد الحالية, حيث يميل ميزان القوى الراهن لصالح القوى التي تقود الحكم حالياً, فأن المهمة التي تواجه القوى الديمقراطية تتركز في العمل على تغيير ميزان القوى من خلال كسب تأييد الشعب وثقته بها ومشروعها الديمقراطي للتغيير.      
ومن أجل أن يطلع من يقرأ مقالي على تصريحات الرفيق أبو داوود بأمل أن يتعرف مباشرة على أهميته في إدراك أهمية وضرورات التنازل والتواضع والمساواة في العمل الجبهوي المنشود ودون إبعاد أي طرف من الأطراف أو الشخصيات الجدية الراغبة هي الأخرى في تقديم التنازلات المطلوبة لتحقيق العمل المشترك ضم التيار الديمقراطي أدرجه كملحق فيما يلي:

نعتبر ما هو عام ومشترك أساسا يستحق أن نتجاوز من اجله العقبات
حميد مجيد موسى للبيان الإماراتية:
نعمل على بث الحيوية والوحدة لقوى التيار الديمقراطي

بيّن سكرتير الحزب الشيوعي العراقي حميد مجيد موسى أن ضعف التيار الوطني الديمقراطي في العراق، وتشتته، هو عامل أساسي من جملة العوامل التي جعلت الأمور في البلاد تأخذ هذا المنحى المعقد. وقال موسى أن هذا الضعف له مسبباته الكثيرة، الموضوعية والذاتية، وفي مقدمتها الظروف القاسية التي واجهها التيار، إضافة إلى التشويش وعدم وضوح الرؤية الذي يسود العملية السياسية في البلاد، التي ارتكزت على الاستقطابات الطائفية والعرقية والمناطقية.
جاء ذلك خلال حوار أجرته معه جريدة (البيان الإماراتية)، حيث أكد على إن ضعف التيار الديمقراطي، للأسباب المعروفة، خسارة كبيرة للشعب العراقي ولقدرته في التأثير على مجريات الأحداث السياسية، ومن اجل وضع العملية السياسية في الاتجاه الصحيح، وتجنيبها الثغرات والنواقص والعثرات، التي لم تعد خافية على الإنسان الواعي.

نهوض التيار لم يتوقف
وحول استعادة التيار الديمقراطي لحيويته في الآونة الأخيرة، من خلال المبادرة التي أطلقها الحزب الشيوعي العراقي للملمة هذا التيار وإبرازه من خلال نشاطات جماهيرية عديدة، قال السكرتير أن "نهوض التيار الديمقراطي لم يتوقف، رغم كل العراقيل"، موضحاً ان "الظرف المعقد الحالي له تأثيره الحتمي في استنهاض الحركة الجماهيرية الواسعة، وبشكل خاص، قوى التيار الديمقراطي التي تحمل في قناعاتها المشروع الوطني الديمقراطي، الذي يعبر عن مصالح أبناء شعبنا، شغيلة اليد والفكر، من العمال والفلاحين والموظفين وذوي الدخل المحدود". وأكد موسى على أن: "التيار لا يناضل من اجل الديمقراطية السياسية فقط، رغم أهميتها، وإنما هو أيضا ذو بعد اجتماعي، يتمثل في النضال من اجل مصالح شغيلة العراق، فهو له أصول وجذور عميقة في المجتمع العراقي، وله أساس موضوعي في هذا المجتمع، ولكن ما عاناه من قمع وإرهاب طوال ما يزيد على أربعين سنة، اضعف من حضوره الآن، وساهم في ذلك ما عاناه من تشرذم وتفتت وتباينات ومنازعات قللت من قدرته على الفعل المباشر".  وقال موسى: "ان الظرف الحالي يضع أمام المعنيين في القوى الديمقراطية مسؤولية تاريخية في التحرك الجاد والمسؤول لتجاوز الصعاب والنزعات الأنانية، والبحث عن المشترك الموحد والمقبول، لكي يستطيع هذا التيار أن يلعب دوره المنشود في إطار حركة شعبنا الوطنية الواسعة، هناك جهود غير قليلة بذلت في هذا السياق".

مهمة صعبة
وحول لملمة التيار الديمقراطي وقواه قال موسى:"يبدو أننا أمام مهمة صعبة ومعقدة، تتطلب تصورا سياسيا وفكريا ناضجا، واتصالات واسعة وجهودا مضنية مثابرة، لتأمين تقارب قوى هذا التيار وشخصياته والتئامها وفق صيغة من صيغ التحالف والنشاط المشترك، لكي يفعل التيار فعله في الحياة السياسية العراقية. وفي هذا الصدد، سعينا إلى عقد لقاءات للتوصل إلى صيغ عمل مشترك ونشاطات جماهيرية ومؤتمرات، وتكونت لدينا تجربة ومحصلة معرفية ووعي لحقائق هذا التيار، وسنجند كل ذلك مع إمكانيات الحزب للإسراع في إيجاد الصيغة الفعالة لبث الحيوية والنشاط والوحدة لقوى التيار الديمقراطي".

الأطر التنظيمية
وحول صيغ التعامل بين مكونات التيار الديمقراطي وصيغ عمله الميداني قال :"في قناعتنا أن المشكلة ليست في الصيغ والأطر التنظيمية، فهذه يمكن أن تأتي كمحصلة لتصاعد النشاط المشترك لقوى التيار الديمقراطي، ويمكن التوصل إلى ما هو مقبول من الصيغ والأطر، بناء على القناعات التي تتولد حول العمل المشترك، والمدى الذي يجب أن يأخذه هذا العمل المشترك من حيث الموضوع، ومن حيث الزمن، ومن حيث المهام".  وتابع: "إذا اعتبرنا أن العوامل الموضوعية التي أحاطت ولا تزال، بعمل قوى التيار الديمقراطي، هي خارج إرادة وقدرة هذه القوى على تجاوزها وتعديلها، فلابد أن نركز على الجانب الذاتي، والشيء الأول الذي نحتاجه هو أن نعتمد على الناس، على النشاط الجماهيري، كي لا تبقى النقاشات نخبوية فوقية، فعندما يكون لنا اندماج واختلاط وفعل جماهيري، عند ذلك نتحرر من الكثير من الإشكاليات والعقد، ويتحرك كل طرف وفق إمكانياته وقابلياته وقدرته على الفعل والنشاط، ويجب أن نتخلص من الحساسيات والنزعات الحزبية الضيقة، و«الأنا» المضخمة".
وأوضح: "اننا نعتبر ما هو عام ومشترك أساسا يستحق أن نتجاوز من اجله تلك العقبات والعراقيل، التي تحد من تعاوننا ومن لقائنا في النشاط الوطني الديمقراطي المسؤول، ولنبدأ من الذات، حيث آلينا على أنفسنا أن ننطلق بمنتهى العقلانية والواقعية والمرونة والرغبة في العمل مع الجميع واحترام استقلاليتهم بعيدا عن الهيمنة والتسلط والاحتكار، وهذا ما أثبتناه نظريا وعمليا في ممارساتنا التي نعيشها ويعيشها البلد منذ سنوات". وأشار إلى: "النشاطات الواسعة التي تبادر منظماتنا إلى إقامتها في كل أنحاء العراق، والتجمعات التي يجري تنظيمها لصياغة أشكال من التعاون والعمل المشترك والنشاط الفعال لحماية مصالح الشعب في مختلف المحافظات، وبضمنها بغداد، كذلك تعاوننا مع جميع منظمات المجتمع المدني، ورعايتنا ودعمنا فعالياتها بدون رغبة أو مسعى لفرض قناعة معينة أو لفرض توجه معين بمعزل عن مشاركة الآخرين في صياغة التوجهات المطلوبة، المنسجمة مع حاجات النضال السياسي العام".

التعاون مع القوى السياسية
وعن القوى التي يعمل معها الحزب الشيوعي من اجل استنهاض التيار الديمقراطي قال حميد موسى: "نرغب في التعاون مع الجميع، مع كل من يعز عليهم امن واستقرار العراق وديمقراطية العراق وتقدمه.. هذه رغبة في العمل مع من يتعامل معنا بمثل ما نتعامل معه، من احترام وتقدير، وهناك من هم اقرب إلى مشروعنا الفكري وعندهم الرغبة في أن نتعاون إلى آماد زمنية بعيدة وعلى مراحل اجتماعية طويلة، وهذا التعاون له مستلزماته، وهناك أيضا من يعملون في إطار توجه التيار الديمقراطي، ومن هم مصرون على بناء مؤسسات سياسية ديمقراطية في البلد.. يكفي أن تبنى العلاقات على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واعتماد أساليب سليمة ونزيهة ومستقيمة في العلاقات السياسية دون هيمنة، ودون محاولات إقصاء وتهميش".
وأوضح: "أما من يجعل من معنى وجوده ونشاطه السياسي العمل على تخريب الحزب الشيوعي والإساءة إليه، فهو ليس من القوى التي نستطيع أن نتعامل معها.. لن نتعامل مع احد يشتم يوميا الحزب الشيوعي، ويسعى للإساءة إليه، فهذا موضوع ثان ومختلف تماما، وأهلا وسهلا بمن يقول ويعمل من اجل رفع الحساسيات والعمل المشترك باحترام متبادل".

نظام مدني لا يعادي الدين
وبشان الخلط بين العلمانية والديمقراطية قال حميد مجيد موسى :"جرى للأسف الشديد تشويش متعمد في تفسير معاني العلمانية، أو في صياغة معالمها، وذلك من اتجاهات مختلفة.. قسم اعتبرها توجها معاديا للدين، أو اتجاها إلحاديا، وهي ليست كذلك إطلاقا، بعض المتزمتين البعيدين عن الإدراك الواعي لا يحتملون اختلافا مع طروحاتهم، وهم من المتعصبين المتطرفين، وآخرون اعتبروا أن هدف العلمانية الرئيس هو مواجهة الدين!"، مبيناً ان "الأمر ليس كذلك، فالتوجه العلماني كما عرفناه في التاريخ مع ظهور ملامحه في أوروبا وانتشاره في العالم، هو نزعة تريد أن تفصل الدين عن الدولة، وتعطي الدين حقه في ميادين النصح والإرشاد والعبادة، وتعطي الدولة تخصصها في إدارة شؤون البلد واقتصاده وعلاقاته السياسية ونظامه الإداري وعلاقات الناس مع بعضها"، موضحاً ان "البشرية جربت التداخل وأسفر ذلك عن نتائج سيئة، لأنه حينما يكون الدين حاكما في الدولة بكل تفاصيلها، وبكل تشعباتها، فانه يلحق أذى كبيرا بالدين ذاته من ناحية، وبالناس من ناحية ثانية، فعندما تسود أحكام قاطعة.. ماذا عن الديمقراطية وحرية المواطنين وعن النزعات المدنية؟". وقال:"نحن نسعى إلى نظام مدني، والمدني يختلف عن الديني، لكنه لا يعادي الدين. للدين حقه، وله توجهاته وله موقعه، ولكن للدولة اختصاصاتها وخصوصياتها ونظامها وأساليب عملها التي لا تتداخل كليا وبشكل مطلق مع الدين".
وعن امكانية وجود نزعة دينية ديمقراطية في المجتمع العراقي، أكد موسى: انه حول هذا المفهوم هناك اجتهادات وتصورات مختلفة، حين نتحدث عن المتدينين، فليس كل المتدينين متطرفين، وليس كل المتدينين معادين للديمقراطية، كذلك ليس من الصحيح الحديث عن أن كل علماني هو ديمقراطي، أو انه لا يوجد دكتاتوريون ومستبدون ومتطرفون تحت لواء العلمانية.. والمجتمع البشري شهد أمثلة كثيرة على أولئك الذين مارسوا الاستبداد وأقاموا الأنظمة الفاشية، وكانوا خلال ذلك ضد المؤسسات الدينية وضد اندماج الدين بالدولة. بالنسبة إلينا تكتسب العلمانية محتواها الحقيقي والعميق حينما تندمج بالديمقراطية.. هناك من يقول أن إحدى سمات العلمانية هي الديمقراطية، وهذا غير صحيح، لان للمفهومين استقلالية نسبية في معانيهما".
وتابع: "العلمانية تكون أصيلة وجادة ومفهومة عندما تمتزج بالديمقراطية، فهي عند ذلك تتسم بالعقلانية، وتتسم بالواقعية في الأساليب والممارسات، وبعكس ذلك يمكن أن تورطها بالحروب والاستبداد والبيروقراطية والعنف وما شاكل، فنحن من القوى التي تدعو إلى ديمقراطية علمانية، ديمقراطية تحترم الدين والمتدينين ولا تنفي الديمقراطية عن الكثير من المتدينين، وليس كل علمانية هي ديمقراطية أو عقلانية أو واقعية، فقد شهدنا الكثير من النماذج السيئة التي تدعي العلمانية ولكنها معادية للديمقراطية وحقيقتها فاشية استبدادية".
10/12/2010

1023
رسالة تحية مفتوحة إلى المؤتمر الثالث عشر للحزب الديمقراطي الكردستاني/ العراق

السيد رئيس المؤتمر الأخ مسعود البارزاني المحترم
السادة اعضاء هيئة رئاسة المؤتمر المحترمون
السيدات والسادة أعضاء المؤتمر المحترمون

تحية ودٍ و احترام

أوجه خالص التحية والأحترام لرئاسة واعضاء المؤتمر الثالث عشر للحزب الديمقراطي الكردستاني وأتمنى للمؤتمر من صميم القلب النجاح التام في بلورة المهمات الجديدة التي تواجه الحزب وإقليم كردستان والعراق في هذه المرحلة الحرجة الراهنة من تطور العراق الاتحادي.
إن هذا المؤتمر يسمح للمشاركين فيه والمتتبعين لدور الحزب النضالي العودة إلى عام 1946 حيث تأسس الحزب قبل 64 عاماً بقيادة قائد الشعب الكردي الراحل ملا مصطفى البارزاني, وإلى المؤتمرات اللاحقة التي تبنت النضال من أجل تحقيق أحلام وآماني الشعب الكردي في الحرية والحقوق القومية والوطنية الكاملة وبناء الحياة الديمقراطية لا في كردستان حسب, بل وفي العراق كله. 
ولا شك في أن المناضلين والمناضلات الكرد يستعيدون في مثل هذه المناسبات, حيث تحققت جملة من المهمات الكبيرة, لوحة النضال المشترك الذي خاضته بتصميم وإصرار كافة القوى الديمقراطية والتقدمية من مختلف القوميات المتآخية في العراق, وبشكل خاص نضال العرب والكرد, في سبيل عراق ديمقراطي وحكم ذاتي ومن ثم حكم فيدرالي لكردستان العراق. ولا شك في أن ذلك التضامن الوطني بين الأحزاب الوطنية والديمقراطية والأحزاب اليسارية كان له أكبر الأثر في دعم نضال الشعب الكردي لتحقيق طموحاته. وكانت التضحيات كبيرة وعزيزة على كل المناضلين, سواء من سقط منهم في ساحات النضال من الكرد أم العرب أم من القوميات الأخرى في العراق. ولا تزال حية تلك النضالات المسلحة التي خاضتها القوى الديمقراطية واليسارية, وخاصة الحزب الشيوعي العراقي, في فترات مختلفة, مع القوى والأحزاب السياسية المناضلة للشعب الكردي على امتداد الفترات التي مارست النظم السياسية العراقية الاستبداد والقسوة واستخدمت السلاح لكسر شوكة النضال والمناضلين. وقد خاب فالها رغم الضحايا البالغة من جانب الأحزاب والقوى الديمقراطية العراقية.
وإذ ينسى الإنسان الكثير من الأحداث, فأنه لن ينسى في كل الأحوال الجرائم البشعة, الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية, التي ارتكبها النظام الفاشي الدموي في العراق, نظام العهر السياسي, نظام البعث العربي الاشتراكي وقيادته الدموية برئاسة أحمد حسن البكر وصدام حسين في العراق. فأمامنا جرائم الأنفال وحلبچة وقتل وتهجير الكرد الفيلية, إضافة إلى تهجير الكثير من عرب الوسط والجنوب, وعمليات التعريب والتهجير القسري والتغييرات الإدارية الكبيرة في جغرافية وديموغرافية المحافظات العراقية.
إن النضال الدءوب الذي خاضته القوى الديمقراطية العراقية, على امتداد العقود المنصرمة والضحايا الغالية التي قدمها الشعب الكردي الصديق وبقية بنات وابناء القوميات في العراق, ومنهم بطبيعة الحال العرب, كان يستهدف تحقيق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة في المواطنة الحرة وضمان العيش الكريم والعدالة الاجتماعية للجميع واستخدام الثروة الوطنية لصالح الشعب والتقدم الاقتصادي والاجتماعي وتنمية الثقافة الوطنية المتنوعة والمتعددة في العراق, إضافة إلى تأمين الحقوق القومية للشعب الكردي.
وخلال النضال الشاق والطويل تأكد للجميع بأن الحقوق القومية والديمقراطية تتعرض لمخاطر جمة حين تغيب الديمقراطية عن العراق وحين تغيب روح المواطنة وتهيمن الهويات الفرعية القومية الشوفينية والطائفية السياسية أو ضيق الأفق القومي. وكانت أكبر تجربة تلك التي رافقت بيان 11 أذار 1970 حيث تعرض مضمون البيان بعد فترة وجيزة إلى التفريغ والتغييب بسبب سيادة الدكتاتورية ومصادرة الحريات العامة والحقوق الديمقراطية في العراق كله. وهذا الدرس الثمين يفترض أن يبقى ملهماً ومؤكاً لنا جميعاً بأن ضمان ممارسة الحقوق القومية لا يمكن أن تنفصل قطعاً عن ممارسة الحريات الديمقراطية وعن وجود النظام السياسي الديمقراطي وعن ممارسة حقوق الإنسان.
إننا, نحن أصدقاء الشعب الكردي ورفاق دربه النضالي الطويل من أجل الديمقراطية للعراق والحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي, إذ ابتهجنا ونبتهج الآن أيضاً لما تحقق للشعب الكردي من فيدرالية كردستانية ضمن الدولة العراقية الاتحادية ومن منجزات أخرى, نجد أنفسنا اليوم مجبرين على رفع صوتنا مؤكدين بأن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة وحقوق المواطنة الحرة والمتساوية التي يفترض أن تسود في العراق تتراجع بسرعة وتنتهك يومياً بفظاظة مُرَّة من جانب مجالس المحافظات والحكومة الاتحادية والأحزاب السياسية التي تقف خلفها بشتى السبل بحيث تجعل من المستحيل بناء دولة عراقية مدنية ديمقراطية واتحادية تتمتع فيها جميع القوميات وجميع الأحزاب والقوى والأفراد بحقوقهم المشروعة.
أن التجاوزات المتفاقمة من جانب قوى فكرية وسياسية في العراق لا تستهدف حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية بشكل عام, بل سوف تستهدف أيضاً وبكل تأكيد الحقوق القومية للشعب الكردي والحقوق الثقافية والإدارية لبقية القوميات. إن من الضروري أن نتذكر بأن تردي الحرية والديمقراطية في قسم من العراق لن يتوقف عند تلك الحدود بل سيتسع التردي ليشمل العراق كله, خاصة وأن ظروف منطقة الشرق الأوسط ودور القوى والدول المجاورة وأوضاعها السياسية وطبيعة نظمها السياسية وميزان القوى السياسية المختل يسمح بمثل هذا التردي. ولهذا فأن من واجب ومصالح الشعب الكردي على المدى المتوسط والبعيد يكمن بالضبط في رفض فرض سياسات مصادرة الحريات والحقوق الأساسية للشعب العراقي, مصادرة الثقافة الوطنية العراقية, مصادرة الفنون الشعبية الرفيعة للمجتمع العراقي, وبشكل خاص الموسيقى والغناء والرقص والرسم والنحت والتمثيل والشعر ..الخ باسم الدين! إن على قيادات الحركة الوطنية الكردية, على أحزابها السياسية ومنظمات المجتمع المدني وكل فرد في المؤتمر وفي إقليم كردستان أن يتضامن مع بقية ابناء الشعب العراقي لمواجهة الهجمة الظلامية الجديدة على الحريات العامة وعلى الثقافة العراقية وعلى حقوق الإنسان لأن استمرارها وعدم لجمها سوف تشمل الجميع.
إني, ومن منطلق الحرص على تطور العراق الاتحادي الديمقراطي الحر والمجتمع المدني السلمي, ومن منطلق الصداقة الصادقة والمخلصة للشعب الكردي والعلاقات النضالية الحميمة مع قواه الديمقراطية وأحزابه السياسية, أتوجه إلى قيادة وأعضاء المؤتمر الثالث عشر للحزب الديمقراطي الكردستاني ومن خلاله إلى قيادات الأحزاب السياسية الكردستانية وقائمة التحالف الكردستاني وكل القوى الخيرة في كردستان العراق وعموم العراق مطالباً إياها في أن تلعب دورها السياسي والاجتماعي والثقافي الوطني لوقف مباشر وسريع لحالة التردي المتفاقمة والفساد المتعاظم في العراق, إذ أنهما تسمحان بدورهما لمزيد من الإرهاب والقتل والتدمير في العراق, إذ أن عواقب ذلك وخيمة على كل المجتمع والدولة في العراق.
إن صداقتي للشعب الكردي لا حدود لها, والتي تمتد لأكثر من ستين عاماً, وهي التي تحركني وتدفعني في أن أتوجه بهذه الرسالة المفتوحة إلى قيادة وأعضاء المؤتمر الثالث عشر للحزب الديمقراطي الكردستاني راجياً التفكير بها والتعامل معها بما يمليه عليكم واجبكم الوطني والقومي, مصالح الشعب الكردي وكل الشعب العراقي.
أتمنى لكم في الختام النجاح في ما تسعون إليه من مهمات وطنية وقومية وديمقراطية.
مع خالص الود والاحترام
أخوكم
كاظم حبيب   
           
         
 


1024
كاظم حبيب
فقيدنا الفنان المبدع منذر حلمي !
ها نحن نفقد فناناً مسرحياً آخر في الغربة والشتات العراقي بعد وفاة الفنانة العراقية الرائعة والمبدعة زينب والممثل والمخرج المسرحي والأكاديمي الدكتور عوني كرومي, إنه الفنان المسرحي البارز والشعبي منذر حلمي, هذا الفنان الذي لم يحقق حلمه برؤية العراق الذي أحبه وناضل من أجل تحرره من الدكتاتورية والعنصرية والقسوة, من أجل عراق ديمقراطي اتحادي حر ومستقل. لقد كان موت أبا سلام مفاجئاً لنا ولكل من كان على معرفة قريبة به, رغم ما كان يعاني منه. لقد عانى الكثير من المرض العضال الذي ألَّم به منذ سنوات, قاومه طويلاً, انتصر عليه مرات ومرات, ولكن تغلب عليه بعده عن الوطن وتفكيره الدائم به وبالكوارث المتلا حقة التي تعرض لها ولا يزال يعاني منها. لقد اختطفه الموت أخيراً من الأخت الفاضلة السيدة أم سلام, الإنسانة الطيبة, ومن عائلته الصغيرة والكبيرة, منا نحن محبيه ومحبي فنه المسرحي الذي أبدع فيه كلما ارتقى خشبة المسرح, غاب عنا جميعاً إلى حيث لا لقاء بعد اليوم. ولم يبق لنا منه إلا الذكر الطيب والذكريات الغالية والمودة الأخوية والابتسامة الحلوة التي كانت ترتسم على شفتيه ومحياه كلما التقى بصديق أو سمع خبراً مفرحاً أو مزحة من صديق.
كان منذر حلمي (أبا سلام) إنساناً رائعاً, رقيقاً وهادئاً, ومثقفاً رفيع المستوى, نهم القراءة وعميق التعلق بالمعرفة والحداثة, متواضعا وودوداً في علاقاته الإنسانية. كان قليل الكلام, ولكنه حين كان يتحاور مع الأصدقاء ويناقش موضوعات مهمة تمس الوطن والشعب والقوى الديمقراطية, كان يشعر المتحدث معه بحيويته الفائقة في طرح أفكاره وعمق تحليلاته السياسية والاجتماعية وصواب نظرته لما كان يجري في العراق, سواء أكان قبل سقوط الفاشية أم بعد سيطرة الطائفية السياسية على الحكم في البلاد.
عانى الكثير في سنوات الهجرة القسرية البغيظة, وحين وصل إلى جمهورية المانيا الديمقراطية بناء على دعم وتزكية من منظمة التحرير الفلسطينية, عاني الكثير من أجل الحصول على إقامة دائمة, وحين كان تنظيم الحزب الشيوعي العراقي يتدخل لدعمه, يقال له أن جاء بناء على توصية من منظمة التحرير وليس من قبل الحزب الشيوعي. وهكذا عانى الكثير من المماطلة للحصول على تلك الإقامة, ولم يقدروا مكانته الفنية في العراق ومواقفه الفكرية والسياسية التقدمية.
في لقاء معي بعد سقوط جدار برلين ووحدة ألمانيا عاتبني على موقف الحزب الشيوعي منه وعدم دعم موقفه للحصول على إقامة دائمية في ألمانيا الديمقراطية, إذ كان يشعر بتقصير حاصل بحقه في هذا الصدد. وإذ كنت على علم ومعرفة جيدة بقضيته, إذ كنت في حينها مسؤولاً عن تنظيم الخارج للحزب الشيوعي العراقي, أوضحت له موقف الحزب الشيوعي العراقي الداعم والمساند له حينذاك. وأخبرته بأني قد وجهت رسالة رسمية باسم المكتب السياسي للحزب موجهة إلى المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني الموحد حينذاك طالباً منهم منحه إق4امة دائمة وشقة مناسبة للسكن, كما تحدثت معهم مباشرة بشأنه وبشأن حل مشكلة إقامته وسكنه ..الخ, ولكنهم أشاروا إلى انهم يعالجون موضوعه مع منظمة التحرير الفلسطينية. ولم يكن ذلك إلا ذريعة غير منطقية, إذ أن منظمة التحرير قد رشحته بناء على اتفاق مع قيادة الحزب الشيوعي العراقي في سوريا حينذاك. وكم كان رائعاً من العزيز أبو سلام حين تقبل ذلك الشرح بروح ودية طيبة واعتبر النقد الذي وجهه لي غير قائم. وهكذا نشأت علاقة ودية وحميمية بيني وبين العزيز أبي سلام رغم قلة اللقاءات.       
بناء على طلبه كنت أرسل له مقالاتي كلها, كان يطالعها ويسجل ملاحظاته عليها, وكان يتصل بي أحياناً عبر الهاتف ليحدثني عن رأيه بهذا المقال أو ذاك ويناقشني على بعض ما جاء في تلك المقالات من أفكار وتحليلات, سواء أكان بتأييد ما جاء فيها وتشجيعي على التركيز على تلك النقاط, أم بطرح بعض الأفكار الجديدة التي فضل لو كان هذا المقال أو ذاك قد تضمنها. وكنا على العموم متفقين في الكثير من الأفكار, سواء أكانت بالنسبة للوضع الراهن في العراق أم بالنسبة إلى الموقف من القوى الديمقراطية واليسارية وسبل خروجها من الوضع الصعب الذي لا تزال تعاني منه. لقد كان يشعر بمخاطر جدية تهدد القوى الديمقراطية واليسارية في العراق, فالقوى الإسلامية السياسية غير ديمقراطية ولا يمكن الثقة بها بأي حال. وكم كان على صواب, إذ ها نحن نتابع مشهد انزلاق المحافظات والحكومةن الاتحادية صوب مصادرة ما هو شكلي من حقوق الإنسان والحريات العامة في البلاد.
حين كنا نلتقي في برلين, ولم تكن لقاءاتنا المشتركة كثيرة, كانت حواراتنا ونقاشاتنا تدور حول أوضاع العراق والقوى الديمقراطية واليسارية, وكان العزيز أبا سلام يحس ببعض المرارة من الضعف الذي تعاني منه هذه القوى الذي اعتبر نفسه جزءاً منها, وهو كذلك, وكان يتمنى لها النهوض والتجديد والحداثة والتقدم والمساهمة بدور أكبر في التغيير الديمقراطي المنشود في العراق يتناسب مع تاريخها الطويل ونضالها المجيد وتضحياتها الغالية.       
لقد فقدنا إنساناً نبيلاً وحميماً, فناناً أصيلاً ومبدعاً فذاً وصديقاً صادقاً  انتزعته الفاشية البعثية من وطنه الحبيب, من العراق, كما انتزعت الكثير من المثقفين والمثقفات, انتزعته من مسرحه البهيج, المسرح الفني الحديث, ومن بين أخواته وأخوته الممثلاث والممثلين المسرحيين وبقية مثقفي العراق وفرضت عليهم الهجرة البغيضة سنوات طويلة بعضهم لا يزال مستمراً في معاناته من الغربة إلى الآن بسبب أوضاع العراق المعروفة لنا جميعاً. وها هو الموت ينتزعه منا وإلى الأبد!
الذكر الطيب للفنان المبدع والأخ العزيز الأستاذ منذر حلمي والعزاء لعائلته ولأصدقاء الفقيد ولنا نحن الذين عرفناه عن قرب وتعلقنا به وتمتعنا برفقته فترة غير قصيرة. الصبر والسلوان لأم سلوان وبقية افراد العائلة الكريمة.   
كاظم حبيب
5/12/2010

1025
كاظم حبيب
هل من سبيل لبناء عراق ديمقراطي اتحادي آمن؟
وما الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى الديمقراطية واليسارية في مسقبل العراق؟
الأخوات والأخوة الكرام
اتقدم بالشكر الجزيل لمنظمي هذا اللقاء من رفاق منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ميلبورن مع الأخوات والأخوة من العراق في ميلبورن للحديث والتفكير المتبادل بشأن ما يجري في العراق وعن شجون وأوجاع أهلنا وتطلعاتهم نحو مستقبل أفضل أكثر إشراقاً وأكثر حناناً على الإنسان العراقي والمجتمع بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية الديمقراطية.
ابتداءً أتقدم بأحر التعازي القلبية والمواساة الشخصية إلى مواطنات ومواطني العراق, من المسيحيات والمسيحيين بشكل خاص لاستشهاد كوكبة كبيرة من نساء ورجال وأطفال مسيحيين جراء الجريمة البشعة التي نفذها القتلة الإرهابيون في كنيسة "سيدة النجاة" ببغداد في شهر تشرين الأول/اكتوبر 2010. كما نفذت جريمة أخرى حين شنقت امرأة عجوز مسيحية ثم قتل شابان مسيحيان على أيدي قتلة مجرمين عتاة, والموت لم يتوقف ولو لللحظة واحدة في الوطن الجريح. لا يمكننا إلا أن نحمَّل الحكومة العراقية مسؤولية عدم توفير الامن والاستقرار في البلاد وحماية حياة المواطنات والمواطنين. كما أن التهجير والتشريد والقتل قد شمل الصابئة المندائيين وكثرة من المسلمين الشيعة والسنة, إضافة إلى جمهرة كبيرة من المثقفين والصحفيين والعلماء والفنانين والكثير الكثير من بنات وابناء شعبنا. 
إننا إذ نعزي ذوي الشهداء ونرجو للشهداء الذكر الطيب ونتمنى للجرحى الشفاء العاجل, نطالب الحكومة العراقية بملاحقة المجرمين وتقديمهم للقضاء لنيل العقاب العادل الذي يستحقونه.
تطرح جمهرة من المسؤولين في العراق في هذه الأيام وكأن الأزمة السياسية الطاحنة التي تعصف بالبلاد قد وجدت حلاً لها بتوزيع الرئاسات الثلاث بين التحالف الكردستاني (رئاسة الجمهورية) وقائمة التحالف الوطني (رئاسة الوزراء) والقائمة العراقية (رئاسة البرلمان) وتحديد 30 يوماً أمام المالكي لتشكيل وزارته الجديدة, فهل حقاً انتهت دوامة الأزمة الطاحنة والمتراكمة, أم أنها ستتعمق وتتخذ أبعاداً جديدة لاحقاً حتى بعد تشكيل الوزارة الجديدة؟ لا يمكنني الاتفاق مع الرأي الرسمي, إذ أن الأزمة العراقية الراهنة بنيوية في جوهرها ولا يمكن معالجتها برقعة صغيرة من هذا النوع؟ فهي من حيث المبدأ أزمة بنيوية تشمل النظام السياسي بكامله, أزمة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وعسكري وبيئي في آن واحد, إزمة نظام سياسي يبتعد عن روح ومفهوم المواطنة وحقوقها وواجباتها ويغوص في الهويات الطائفية المتشددة والمتفاعلة مع الهويات القومية الشوفينية التي تشكل ما يمكن أن يطلق عليها بـ"الهويبات القاتلة", على وفق التعبير الذي استخدمه بصواب كبير الأديب والروائي اللبناني المبدع أمين المعلوف, إنها أزمة حكم شاملة.
فالعراق يواجه اليوم سياسة قائمة على فكر ديني متخلف وذهنية طائفية متبادلة التحيز والتمييز تجد تعبيرها في ولادة قيصرية لحكومة تقوم على أساس المحاصصة الطائفية لا يمكنها أن تعالج الأزمة بل تزيدها تعقيداً, إذ أن إزالة الأزمة يستوجب استئصال الفكر الطائفي السياسي التمييزي المناهض لحقوق الإنسان وحرياته العامة, وليس المقصود هنا المذاهب الدينية بحد ذاتها, وهذا يعني أنها لا تنتهي إلا بتخلص العراق من وجود أحزاب وقوى سياسية تقوم على أسس دينية أو مذهبية, علماً بأن كل الأحزاب الدينية والمذهبية في العالم, وليس العراق وحده, لا يمكن أن تنشأ إلا لتكون أحزاباً دينية طائفية, لأنها تبنى منذ البدء على أساس التمييز الديني والمذهبي وتنهض لتحقق أهدافاً معينة لطائفة دينية معينة ضد طائفة اخرى. وهي في العراق حالة وممارسة يومية يتلمسها المواطنون والمواطنات في جميع مجالات الحياة. وإذا كان النظم السابقة طائفية ايضاً, فأن النظام السياسي الجديد لا يختلف عنها من الناحية الطائفية والتمييز الطائفي, بل أصبح الحديث عن حقوق الطائفة رسمياً ودون اي خجل من مفهوم وروح المواطنة. إن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة المالكي, رغم الصعوبات الجمة التي تعترض طريق توزيع نواب الرئاسات والمناصب الوزارية الأساسية وبقية الوزارات بين القوى الفائزة في الانتخابات, سوف لن يكون في مقدورها معالجة الأزمة, بل ستواجه بعد تشكيلها نفس الأجواء والعقد التي سادت خلال السنوات الخمس المنصرمة, وبالتالي ستتعثر في إنجاز المهمات الكبيرة التي كانت ولا تزال تواجه العراق, إضافة إلى أن التشكيلة الحكومية الجديدة ومجلس النواب سيكونان مقيدان بالكثير من الشروط التي فرضها المسعى التوافقي الذي سيعطل بدوره الكثير من الإجراءات التي تستوجبها الحياة السياسية العراقية. إذ أن هذا المسعى يبتعد كثيراً عن الديمقراطية وعن ضرورات الحلول العملية التي يستوجبها واقع العراق المأزوم. ويزيد في الطين بلة غياب كلي وفعلي للثقة المتبادلة المطلوبة للعمل السياسي بين الأحزاب السياسية القائمة.
والمشكلات السياسية العراقية ليست داخلية بحتة, بل هي متفاعلة ومتداخلة أو متشابكة مع المشكلات الإقليمية المعقدة وغير القابلة للحلول السريعة والمؤثرة مباشرة على الواقع العراقي الراهن وعلى مسيرته الجارية. إذ أن العراق قد تحول ومنذ سنوات كثيرة إلى ساحة مكشوفة للصراع بين عدد من الدول والقوى اللاعبة في الساحة السياسية الإقليمية وخاصة إيران والسعودية وتركيا وسوريا وإسرائيل ودول الخليج, إضافة إلى دور متزايد لقوى سياسية في لبنان وفلسطين, وإلى عامل متفاقم في سباق هستيري للتسلح في المنطقة تغتني منه الدول والاحتكارات المنتجة والمصدرة للسلاح وتخسر بسببه الكثير من موارد الدول المالية ويزداد فقر وحرمان الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة فيها. وعلينا أن نرى ونشخص بوضوح تام بأن اللاعبين الإقليميين لهم في الغالب الأعم قوى متجاوبة معهم أو تعتبر امتدادات لهم في العراق, وإلا لما كان لدول وقوى الجوار هذا الدور الفظ الذي تمارسه اليوم في التدخل المكشوف ودون حياء في الشأن العرقي.
ويفترض أن نتابع أيضاً العلاقة العضوية بين الصراعات الداخلية والإقليمية الجارية أولاً, وبينها وبين الصراعات الإقليمية والدولية ثانياً, ومن ثم الصراعات في ما بين الدول الكبرى وذات المصالح في المنطقة ثالثاً, على العراق وعلى المنطقة وعلى الثروات النفطية وغير النفطية وعلى اتجاهات التطور, والتي تتجلى محصلتها في واقع الحياوة السياسية المعقدة وغير المستقرة والمليئة بالدماء والدموع. لقد أصبح العراق وأكثر من أي وقت مضى جزءاً عضوياً من الاستراتيجيات السياسية و"المصالح الحيوية" للدول الكبرى, وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا, وفي المنطقة, وخاصة إيران والسعودية وسوريا ودول الخليج.
والعراق يواجه من الناحية الأمنية تراجعاً ملموساً يتجلى في تزايد ضربات قوى الإرهاب المحلية والإقليمية والدولية, قوى الإسلام السياسية المتطرفة والقوى البعثية المتشابكة معها وبعض المليشيات الطائفية التي تمارس الإرهاب كلما وجدت ضرورة إلى ذلك لتحقيق ما تسعى إليه. وقد لعبت عوامل مثل الفراغ السياسي والصراع من أجل السلطة والفساد المالي ودعم حكومات وقوى في دول الجوار العراقي دورها في زيادة ضربات الإرهابيين وزيادة عدد القتلى والجرحى والمعوقين من بنات وأبناء الشعب العراقي عموماً, إضافة إلى توجيه ضربات شديدة لأتباع الديانات والمذاهب الدينية خاصة, وبشكل أخص ضد أتباع الديانة المسيحية ودور عبادتهم, كما حصل في كنيسة "سيدة النجاة" ببغداد أو قبل ذاك بالبصرة ومن ثم بالموصل أو ضد الصابئة المندائيين أو ضد الإيزيديين في الأقضية التابعة إدارياً لمحافظة الموصل.
كما أن النظام السياسي القائم في العراق يمارس يوماً بعد آخر سياسة الهجوم على الحريات العامة, حرية الإنسان وحقوقه المشروعة, سواء أكان هذا على مستوى الدولة الاتحادية, أم على مستوى المحافظات دون استثناء. ويمكن لقرارات المحافظات التي تشن حرباً شعواء على الحريات العامة أو للموقف من إلغاء الأغاني والموسيقى من مهرجان بابل, أو الهجوم الأخير على اتحاد الأدباء والكتاب العراقي بمنع فتح النادي الاجتماعي فيه, أن تشير بوضوح صارخ إلى هذه الهجمة الجديدة التي لا تختلف عما كان يمارسه النظام السابق من سياسات عدوانية ضد حريات الشعب وحقوقه الإساسية وحقوق الفرد والمواطنة.   
إن طغيان الطائفية السياسية والهجوم على الحريات العامة والفساد المالي والإداري والإرهاب الدموي والبطالة الواسعة في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية اليومية وغياب فعلي لسياسة اقتصادية واجتماعية وثقافية سليمة أدت بالشبيبة العراقية من النساء والرجال إلى عدم الشعور بالأمن والاستقرار وعدم الإحساس بوجود مستقبل لهم في العراق, وقادتهم إلى مغادرة العراق بأعداد كبيرة تقترب أو تفوق الذين كان يهاجرون العراق في فترة الحروب الصدامية أو بسبب الحصار الاقتصادي للوصول إلى الدول التي يمكن أن يحصلوا فيها على ما فقدوه في العراق, إلى الأمن والسلامة والحرية والعمل وحقوق المواطنة الحرة, وأن قادت هذه الهجرة بعضهم إلى الموت, كما حصل للعراقي السيد أحمد العقابي الذي انتحر في كريسمس ايلاند بسبب عدم قبوله لاجئاً وعدم رغبته في العودة إلى العراق. لقد امتلأ الشتات بالعراقيين والعراقيات من جديد, وأغلبهم من القوى الفنية والمهنية والحرفية والعلمية والثقافية التي يخسرها العراق ولن يعودوا إليه إذا ما استمر الوضع على حاله الراهن. وبالتالي فالدعوة إلى عودة الكفاءات أشبه بصرخة في واد يتلاشى صداه دون أثر يذكر!           
والمشكلات الاقتصادية في العراق كبيرة حقاً, وهي نتيجة منطقية لصراعات المصالح وغياب المصلحة الوطنية عن السياسة الاقتصادية الراهنة بحكم التباين والاختلاف في المصالح والبرامج والمواقف والسياسات وبحكم تراكم التخلف والتخريب الذي تسببت به سياسات وحروب النظام السابق والحصار الاقتصادي الدولي الظالم الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على العراق طيلة 13 عاماً. والسياسة الاقتصادية الراهنة تراهن وتقامر بالنفط العراقي من حيث الصادرات من جهة, وتعتمد على الاستيراد كلية من حيث إشباع حاجات السوق المحلي الاستهلاكية من جهة ثانية, والابتعاد كلية عن التصنيع أو تحديث الزراعة ومعالجة مشكلة الأرض الزراعية من جهة ثالثة, إضافة إلى استمرار شحة المياه في نهري دجلة والفرات وتلك الأنهر التي تصلها المياه من الأراضي الإيرانية, حيث تمارس الدولتان التركية والإيرانية سياسة ابتزازية مناهضة لمصالح العراق من جهة رابعة. إن عواقب هذه السياسات الاقتصادية تجد تعبيرها السلبي في استنزاف موارد العراق المالية وثروته الطبيعية وفي تفاقم انكشافه على الخارج واستمرار وجود بطالة مكشوفة واسعة وأخرى مقنعة كبيرة وغياب الأمن الغذائي ونقص شديد في الخدمات بسبب البطء الشديد وغير المعقول والمتعمد في تسريع إقامة البنية التحتية في العراق, وخاصة الطاقة الكهربائية, حجر الأساس في التنمية الصناعية وتحديث الزراعة وتنمية الخدمات الاجتماعية الحديثة وتفاقم الهجرة العراقية نحو الخارج. ومما يزيد في الطين بلة في كل أنحاء العراق الاتحادي وجود نظام سائد ومعمول به في مجالي الفساد المالي والإداري, إذ لم تعد هناك ظواهر متفرقة, إذ نشأ ذلك منذ سنوات العهد البعثي الفاشي المقبور وتفاقم بفعل دور الشركات الدولية وقوات الاحتلال خلال السنوات السبعة المنصرمة في تنشيط وتطوير هذا النظام في عدم النزاهة. ويلعب الإرهاب الإقليمي والدولي في العراق دوره لا في قتل البشر فحسب, بل وفي تعطيل العملية الاقتصادية وتغيير البنية الاجتماعية. وبالتالي, فأن تجارب العراق والدول الأخرى تشير إلى أن الفساد والإرهاب هما من أبرز العوامل المتفاعلة في ما بينها والتي يستكمل أحدهما دور الآخر في تعطيل مسيرة البناء والتقدم في العراق ويزيدان معاً من تأثير العوامل الأخرى الفاعلة في مختلف جوانب الحياة العراقية والتي أشير إليها في أعلاه وتشكلان وجهان لعملة واحدة.
وعن التركة الثقيلة لنظام صدام حسين وحصاد سياسات السنوات السبع العجاف المنصرمة لنظام المحاصصة الطائفية اللعين, والسياسة المبرمجة التي تمارسها الولايات المتحدة في العراق بتكريسها ودعمها للمحاصصة الطائفية وسكوتها المطبق على مصادرة الحريات العامة في البلاد, تبرز أمامنا الأوضاع والمشكلات الاجتماعية والنفسية والبيئية المعقدة والتي يصعب حقاً معالجتها بسياسات مماثلة للسنوات المنصرمة. 
فأمامنا تنتصب إحصائيات رسمية مخيفة في بلد غني بثرواته كالعراق, رغم عدم دقتها, إذ تشير إلى وجود بطالة تصل إلى أكثر من 30% وإلى نسبة مماثلة تحت خط الفقر, وإلى أرقام مماثلة أو أكثر لبطالة مقنعة ولفقر بنسبة مماثلة تقف أعلى قليلاً من خط الفقر المقرر دولياً, وإلى منافسة العراق للصومال في مجال الفساد المالي, وهما يحتلان الموقعين الأول والثاني في سلسلة الدول الأعلى فساداً والأفقر نزاهة في العالم.
نحن اليوم أمام مجتمع يعاني من مشكلات إبرزها تراجع في المعايير السلوكية السوية وفي تفاقم حالة ازدواج الشخصية والروح الانتهازية وروح الكراهية والحقد والرغبة في الانتقام ورفض الآخر والتطرف الدينيي والمذهبي لدى المسلمين بشكل عام إزاء أتباع الديانات الأخرى أو في ما بين اتباع المذاهب الإسلامية ذاتها, يضاف إلى ذلك واقع وجود ردة فكرية وسياسية يمينية ورجعية متراكمة ومتحكمة في سلوكية أغلب الحكام وفي نسبة عالية من الناس بشكل عام في العراق.
إن الإنسان العراقي بشكل عام يعاني من حالة نفسية معقدة جداً بفعل معاناته الطويلة, فهو يعيش القلق والخشية من يومه ومن المستقبل على نفسه وعلى عائلته, وتراجعت لديه الثقة بالإنسان الآخر والصراحة والشفافية وقول الحق. وانتشرت في صفوفه حالات الضغينة والقسوة والرفض, ولكن في الوقت نفسه حالات الخنوع والذل والقبول بـ"المقسوم!", حالة رفض القانون والخضوع التام للحاكم. في المجتمع العراقي نواجه اليوم موقفاً أكثر قسوة وتزمتاً في مناهضة حقوق المرأة ودورها الطبيعي في مختلف جوانب ومستويات الحياة. فالعنف متفاقم ضدها, وممارسة غسل العار يتخذ أبعاداً وأساليب جديدة تستسيغها حياة الريف والمجتمع العشائري ويقبل بها الحكام لأنها تعبر عن دواخلهم وتتجلى في صدور قرارات عفو خاصة عن مجرمين مارسوا القتل لما يسمى بغسل العار أو إستعادة الشرف المفقود! إن رؤية ثاقبة لما يجري في العراق سيجد المتتبع أمامه لوحة لمجتمع عراقي يعاني من علل وأمراض نفسية وعصبية وبانوراما متناقضة ومعقدة إلى أبعد الحدود لوحة ذات ألوان شاحبة مرضية.
العوامل الداخلية والإقليمية والدولية في فترة حكم الطاغية صدام حسين وفي الوقت الحاضر جعلت من العراق الراهن دولة ضعيفة جداً تتقاذفها الأهواء والمصالح الإقليمية والدولية! والحالة الراهنة في العراق سوف لن تتغير بسرعة وسهولة, إذ أن ميزان القوى يميل بقوة لصالح القوى الحاكمة وخاصة قوى الإسلام السياسية, سواء أكانت شيعية أم سنية, إذ أنها استطاعت أن تنقل صراعها الطائفي إلى بنات وأبناء المجتمع على أوسع نطاق ممكن, وهو ما يتجلى في نتائج الانتخابات في العام 2005 وفي العام 2010. وبالتالي فمن غير المتوقع أن يتحقق تغيير كبير في ميزان القوى خلال الدورتين الانتخابيتين القادمتين على أقل تقدير, ولكن من الممكن تقليص تأثير هذه القوى على المجتمع مع تراجع جدي لثقة الناس بها وبمصداقيتها من جهة, والنضال المتنامي لتحقيق جملة من مطالب الفئات الاجتماعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والصحية والبيئية والخدمية الأخرى من جهة أخرى, وتنامي دور المثقفين والقوى الديمقراطية واليسارية في الكشف عن مكامن الضعف في النظام السياسي القائم, رغم التقييد والمحاربة التي يتعرض لها الثقفون ومنظمات المجتمع المدني الديمقراطية, كما حصل أخيراً لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق, من جهة ثالثة, وعبر تصعيد وتطوير نضالات الفئات الاجتماعية المختلفة وفق أهدافها الحيوية الملموسة من جهة رابعة. ولكن هذه العملية ليست ذات طبيعية ميكانيكية, بل تستوتجب خروج القوى الديمقراطية واليسارية من العزلة التي فُرضت عليها لأسباب موضوعية وذاتية وقيادة العمل السياسي المعارض لسياسات الحكومة العراقية الجديدة وطرح البديل الواقعي والموضوعي لبرنامج الحكومة من أجل تعبئة الناس حول برنامجها الديمقراطي وحولها. إن من الأهمية بمكان أن تنتقل القوى الديمقراطية واليسارية من حالة الدفاع إلى حالة المعارضة الجريئة والطموحة والعقلانية والسلمية, إلى معارضة مسؤولة تدرك مهماتها وواجباتها ومصالح المجتمع الذي تتبنى قضاياه. ومن أجل تحقيق ذلك لا بد من الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف يمكن للقوى الديمقراطية واليسارية العراقية المشاركة الفعالة والمسؤولة في دفع العراق على طريق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, على طريق بناء الدولة الاتحادية الديمقراطية المستقلة والمستقبل الأكثر إشراقاً للمجتمع العراقي ولقواه المنتجة, على طريق الخلاص من الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية؟ ليست الإجابة عن هذه الأسئلة مسألة سهلة, وهي في كل الأحوال إجابات اجتهادية وشخصية ناشئة عن قناعاتي الشخصية وتجربتي الذاتية وتقديري لأوضاع العراق الملموسة في الوقت الحاضر واتجاه تطور الأحداث في العراق والمنطقة. لهذا سألخص رؤيتي في النقاط التالية التي طرحتها في لقاء العراقيات والعراقيين في سدني الذي دعا إليه منتدى الجامعيين العراقي/الاسترالي:                 
1 . إجراء مداولات مكثفة مع كافة المجاميع والشخصيات التي تطرح موضوع الحياة المدنية والديمقراطية والحريات العامة في الحياة السياسية العراقية من أجل إنضاج موقف مشترك صوب إستراتيجة العمل المشترك للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
2 . وضع مسودة أولية لمشروع وطني ديمقراطي للعشرية القادمة (2011-2020) بالتعاون مع القوى والأحزاب والمجموعات والشخصيات الداعية إلى بناء المجتمع المدني الديمقراطي الاتحادي العلماني في العراق.
3 . نشر المشروع المقترح في وسائل الإعلام المتاحة من أجل مناقشته من قبل الفئات الاجتماعية والقوى السياسية العراقية لضمان تحسينه وتطويره وتعبئة مؤيدين له في المجتمع.
4 . عقد مؤتمر موسع لكل القوى الديمقراطية التي ستشارك في المداولات وتلك التي تريد الالتحاق بالأحزاب والمجموعات والشخصيات الديمقراطية من أجل إقرار المشروع الوطني الديمقراطي وتعديله إن استوجب الأمر وجعله الوثيقة المشتركة للقوى الديمقراطية واليسارية في العراق.
5 . تأكيد مبدأ أو شعار أساسي في العمل السياسي في المرحلة الراهنة ولفترة طويلة حقاً ولكل القوى السياسية الديمقراطية واليسارية العراقية دون استثناء: "قووا تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية, تتقوى أحزابكم ويزداد تأثيركم وتتعزز علاقاتكم بالجماهير الشعبية الواسعة", إنها الصيغة الوحيدة للخروج من العزلة والهامشية الراهنة التي تعاني منها القوى الديمقراطية واليسارية في العراق.
6 . انتخاب هيئة قيادية للتجمع الجبهوي الديمقراطي لقيادة العمل المشترك ويمكن أن ينتخب رئيس دوري لها لتعزيز الثقة والمسؤولية المشتركة وروح المبادرة والديمقراطية في العلاقة بين القوى المشتركة.
7 . تأمين لجان متعددة تعمل على أساس المهنية كالطلبة والشباب والنساء والنقابات والفلاحين والأسواق والرياضة والفنون .. الخ على مستويين, المستوى المهني على صعيد لعراق وعلى مستوى المحافظات من أجل تعزيز الاحتكاك بتلك الأوساط والتفاعل معها والتعرف المباشر على مشكلاتها وحاجاتها وتحويلها إلى مطالب للنضال من أجلها في صفوف تلك الفئات والتجمعات.
8 . تعزيز الصلة بالأوساط الشعبية من كافة قيادات وقواعد الأحزاب بهدف الاقتراب منها وفهم أوضاعها وتعزيز الروابط الإنسانية بها, إذ أن العزلة الراهنة تؤذي كل القوى الديمقراطية واليسارية لصالح القوى غير الديمقراطية في الحكم.
9 . عدم المشاركة بالسلطة في المرحلة الراهنة من أجل توجيه الجهود لصالح العمل السياسي المعارض بهدف توجيه النقد الإيجابي البناء وبلورة السلبيات في العمل الحكوميوبنامجها بصورة فعالة ومحركة للمجتمع وتعبئة السكان صوب أهدافها ومصالحها. 
10 . ممارسة جميع اساليب النضال الديمقراطية السلمية لصالح الدفاع عن مصالح الناس والكشف عن النواقص والأخطاء والفساد والظلم أو مصادرة الحريات العامة والتجاوز الفظ الجاري على حقوق الإنسان والضغط المتواصل على الرئاسة ومجلس النواب والحكومة للاستجابة لمطالب الناس والتي ستسهم في تعزيز العلاقة مع فئات المجتمع من خلال النجاح بتحقيق مطالبها.
11 . تنشيط الإعلام الديمقراطي المشترك في محاولة لتأسيس قناة فضائية تتوجه للداخل والخارج, إضافة إلى تأسيس إذاعة وصحيفة نشطة في ما تنشره من معلومات حيوية وحديثة, وكذلك إصدار الكراسات الفكرية والسياسية وفي مختلف المجالات الضرورية.
12 . إن أهم ما في العمل السياسي والإعلامي هو وضع سياسة بديلة لسياسة الحكومة في المجالات السياسية, ومنها الأمنية, والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية شريطة أن تكون واقعية وموضوعية وليس أن "تذرع بالجنة", أو المثل الشعبي المعروف "الهور مرگ والزور خواشيگ". والمسألة الأساسية في المجال الاقتصادي تتبلور في وضع إستراتيجية للتنمية الاقتصادية والبشرية والتصنيع وتحديث الزراعة وعقلنة وتنظيم التجارة ووضعها في خدمة التنمية وتحسين الخدمات ومكافحة البطالة والفقر في المجتمع ووضع نظام ضمان اجتماعي وصحي وسياسة مالية ونقدية ومصرفية متقدمة, والدعوة إلى تطوير جميع القطاعات الاقتنصادية وخاصة القطاع العام والخاص والمختلط والتعاوني والأجنبي, وكذلك إيلاء أكبر الاهتمام للقطاع النفطي مع تأكيد ضرورة وأهمية تغيير بنية الاقتصاد العراقي المتخلفة والمكشوفة على الخارج لصالح بناء اقتصاد وطني ديناميكي ينمي الوحدة العضوية النشطة في بنيته الداخلية.
13 . ولا بد للقوى الديمقراطية أن تعي بأن عمليتين مهمتين يفترض أن تسيرا جنباً إلى جنب, وهما:
أ‌.   التصنيع وتحديث الزراعة وتطوير العلوم والتكنولوجيا وتطويع التقنيات بما يتناغم مع واقع وإمكانيات وحاجات البلاد.
ب‌.   تحرير عقل الإنسان من تأثير المؤسسة الدينة والغيبيات, وجعله عقلاً علمياً فاعلاً ومبادراً ومنتجاً.
إذ كلاهما يلعب دوره المباشر في تأمين نشوء أرضية واقعية وموضوعية للمجتمع المدني الديمقراطي وللدولة الاتحادية المستقلة عن الدين. وبدون ذلك يصعب تصور وجود إمكانية لحقيق التقدم والتطور في البلاد.
14 . الأهمية البالغة لخوض صراع فكري هادف ومدروس ضد الأفكار البالية والرجعية والخرافات والأساطير المعرقلة لتطور المجتمع وتقدمه ومن أجل التنوير الاجتماعي والديني ولصالح ان يكون شعار العراق الدائم واثابت هو "الدين لله والوطن للجميع".
15 . تطوير موقف واضح من المؤسسات الدستورية كمجلس الوزراء ومجلس النواب والقضاء ... الخ, وطرح مشروع لتعديل الدستور العراقي في أهم جوانبه التي تستوجب التعديل وإزالة النواقص والسلبيات التي يعاني منها الآن والتي برزت في الواقع العملي خلال فترة السنوات الخمس المنصرمة, إضافة غلى تطوير الرقابة والمتابعة الشعبية لدور معمل هذه المؤسسات الدستورية.
16 . طرح مشروع واضح وهادف يلخص سبل مكافحة الفساد المالي والإداري ومكافحة الطائفية السياسية وضد معاداة أتباع الأديان الأخرى أو الصراعات المذهبية في العراق, وتكريس مبدأ الاعتراف المتبادل بالآخر.
17 . كما لا بد من تضمين برنامج النضال الوطني قسماً خاصاً بدور ومهمات الجالية العراقية في الشتات العراقي بشكل عام والقوى الديمقراطية واليسارية بشكل خاص في المشاركة في حل المعضلات التي تواجه العراق من جهة, وتبني قضاياهم الملموسة والدفاع عنها من جهة أخرى, وتأمين دورها الملموس في تطوير الإعلام ودعم جهود الإعلام الداخلي.
18 . ولا شك في أن العراق بحاجة ماسة إلى علاقات سياسية واقتصادية وحسن جوار واحترام ومنفعة متبادلتين مع كل دول المنطقة وبعيداً عن التدخل في شؤونها أو السماح لها بالتدخل في الشأن العراقي. وهي عملية ليست سهلة في الظرف الراهن حيث تتحكم الكثير من دول المنطقة والعالم (وخاصة أدوار كل من إيران والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية) في الشأن العراقي وتفرض إرادتها عبر قوى داخلية على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
 هذه, كما أرى, هي بعض جوانب ما يفترض أن تعمل من أجله القوى الديمقراطية واليسارية في العراق خلال العقد القادم, وهي مهمات كبيرة لا يمكن أن ينهض بها حزب واحد أو كتلة واحدة, بل يفترض أن تساهم بها كل القوى الديمقراطية واليسارية من مختلف القوميات العراقية ودون تفريط ولو بإنسان واحد, وأتمنى أن نعي جميعاً ذلك ونسعى إلى معالجته لصالح الوحدة الوطنية والجبهة الديمقراطية الضرورية ولصالح تغيير الأوضاع نحو تأكيد مفهوم المواطنة العراقية الحرة والمتساوية وممارسة مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, والمرأة بشكل خاص, وحقوق القوميات وحقوق أتباع الأديان والمذاهب الدينية والأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام في العراق.
شكراً لحسن انبتاهكم وشكراً لمنظمي اللقاء والحضور الكريم.
ألقيت هذه الأفكار بتاريخ 5/12/2010 في مدينة ميلورن/أستراليا. كاظم حبيب



1026
المنبر الحر / العراق .... إلى أين؟
« في: 14:05 22/11/2010  »
كاظم حبيب


العراق .... إلى أين؟

الأخوات والأخوة الكرام
أبتداءً أود أن أقدم شكري الجزيل إلى الأخوات والأخوة في منتدى الجامعيين العراقي الأسترالي في سدني على الحفاوة الأخوية والدعوة الكريمة لتقديم بعض الأفكار حول واقع العراق في المرحلة الراهنة والحوار مع أعضاء المنتدى وضيوفه الكرام حول أتجاهات وآفاق التطور في العراق وتحت عنوان "العراق إلى أين؟". شكري الجزيل يتوجه أيضاً إلى الأخ الفاضل والأكاديمي المميز الأستاذ الدكتور أحمد الربيعي رئيس المنتدى وإلى اللجنة الإدارية على الكلمات الطيبة التي قيلت بحقي والتهيئة الطيبة لهذا اللقاء الفكري والسياسي. وشكري الجزيل يتوجه إلى الأخ الإعلامي الأستاذ علاء مهدي مقدم الندوة والسيدة الفاضلة الأستاذة سحر كاشف الغطاء عضوة المنتدى وعريفة اللقاء. أحيي بحرارة السيدات والسادة الحضور متمنياً لنا جميعاً حواراً ممتعاً ومفيداً. 
اسمحوا لي أيضاً أن اتقدم بأحر التعازي والمواساة لعائلات شهداء العراق في الكارثة الأخيرة التي تسبب بها الإرهابيون الأوباش والتي وقعت في كنيسة سيدة النجاد ببغداد وبقية الشهداء من أتباع الديانات والمذاهب الدينية من المسيحيين والصابئة المندائيين والأيزيديين وكذلك المسلمين من الشيعة والسنة ومن العلماء والصحفيين والمثقفين وغيرهم من بنات وأبناء العراق, كما أدين بشدة كل الجرائم التي ترتكب في العراق بهدف تهجير المسيحيين وإخلاء العراق من هذا الطيف الرائع من مواطنانت ومواطني العراق الحبيب. وإذ ننحني إجلالاً واحتراماً لكل الشهداء ونتمنى لعائلات الشهداء الأبرار الصبر والسلوان وللشهداء الذكر الطيب والشفاء للمصابين بجروح, نؤكد من جديد بأنها مسؤولية الحكومة العراقية توفير الحماية للمواطنات والمواطنين وضمان حياتهم التي هي أغلى ما يمتلكه العراق.
واسمحوا لي أخيراً أن اتوجه بالتهاني الحارة لمسلمات ومسلمي العراق والعالم من غير ا\لإرهابيين والطائفيين السياسيين بأحر التهاني بمناسبة حلول عيد الأضحى متمنياً لهم الصحة والسلامة والتفاهم والعيش بسلام مع أتباع الديانات الأخرى في كل مكان.
العراق ... إلى أين؟ سؤال يحيرنا جميعاً, إذ يسعى كل منا للإجابة التقريبية عنه. ولكن هناك الكثير من الصعوبات التي تعترض طريق التحليل العلمي العميق والمدقق لهذا السؤال بسبب اختلاط الأوراق وتشابك العوامل والمؤثرات الداخلية والخارجية. وكما أرى فإن صعوبة التحليل تكمن في واقع اللوحة السياسية المعقدة والمركبة والمختلة بسبب الاختلال الحاصل في توازن القوى السياسية والاجتماعية في العراق منذ عقود, واستمراره باختلال من نوع آخر في ميزان القوى الفكرية والسياسية والاجتماعية. فتعقيدات الوضع السياسي الداخلي مرتبطة عضوياً بالصراعات الدائرة على صعيد المنطقة والعالم. فميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط يشير إلى اختلال لصالح القوى اليمينية والدول المتطرفة من جهة, وعجز شعوب المنطقة والمجتمع الدولي عن تغييره لصالح الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم الاجتماعي من جهة ثانية. 
فالكثير من العوامل والمؤثرات الداخلية تلعب دورها المباشر وغير المباشر على القوى السياسية في العراق وعلى سياساتها ومواقفها وإجراءاتها, منها على سبيل المثال لا الحصر نشير إلى ما يلي:
1 . التاريخ والتراث المعقد للعلاقات السياسية في ما بين القوى السياسية العراقية.
2 . العلاقات المعقدة منذ تأسيس الدولة العراقية بين الحكومات العراقية المتعاقبة والقوى الكردية والتي لا تزال قائمة بصيغ مختلفة.
3 . التركة الثقيلة للنظام العراقي المقبور في العلاقات في ما بين القوى المذهبية وقواها السياسية.
4. كما إن الصراع المذهبي الجاري بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية لم يقتصر عليها بل انتقل إلى المجتمع ولم يتجل في صراع المليشيات الطائفية المسلحة الواسعة الانتشار فحسب, بل وفي التصويت الانتخابي للقوائم الإسلامية السياسية الطائفية أساساً.
5 . الدور الأمريكى في سعيه الواضح للحفاظ على الاختلال في توازن القوى السياسية لصالح القوى السياسية الطائفية في العراق.
6 . ضعف شديد ومتراكم للقوى الديمقراطية واليسارية نتيجة عوامل موضوعية  وأخرى ذاتية متفاعلة ومؤثرة بقوة.
7 . كما أن الفساد المالي والإداري السائدين في العراق لم يعودا منذ سنوات ظواهر منفردة بل أصبح ومنذ سنوات نظاماً قائماً بذاته يعمل في مؤسسات الدولة والمجتمع وبالتعاون مع الخارج.
8. استمرار وجود العوامل المنتجة للإرهاب في المجتمع وقدرة القوى الإرهابية الخارجية والمحلية في الحصول على قوى تشاركها استخدام العنف ضد الدولة والمجتمع, وبشكل خاص عدم حل المشكلات السياسية القائمة واستمرار المناخ الطائفي في التعامل اليومي وعلى المستوى الرسمي والفقر والبطالة الواسعتين والفساد المنظم في المجتمع والإحساس بالغبن لدى فئات كثيرة.
9 . ولا بد لي من الإشارة إلى أن هناك تغييراً كبيراً في البنية الطبقية للمجتمع, إذ لم تعد كما كانت عليه منذ نصف قرن أو حتى ربع قرن والتي ارتبطت بالحروب وسياسات النظام الصدامي والحصار والخراب الاقتصادي الواسع وتعطل عمليات التنمية والتصنيع... الخ. (تقلص حجم الطبقة العاملة والفلاحين لصالح نمو كبير في فئات أشباه البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة المدينية .., عودة كبار الملاكين وشيوخ العشائر, ضعف البرجوازية الوطنية الصناعية, هجرة ةاسعة للمثقفات والمثقفين...   
10 . إن مجمل الوضع في العراق خلق ومنذ فترة غير قصيرة ردة فكرية واجتماعية وسياسية في المجتمع, تراجعاً حقيقياً وغياباً فعلياً للتنوير الديني والاجتماعي.
أمام هذه اللوحة الداخلية المعقدة نشير أيضاً إلى دور المنطقة في تشديد المشكلات الداخلية وإعادة إنتاجها بصور مختلفة.
نحن أمام صراعات إقليمية محتدمة منها:
- الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي لم يجد له حلاً حتى الآن, وتراجع نسبي في الصراع العربي-الإسرائيلي.
- احتدام الصراع الإيراني – الإسرائيلي بسبب محاولة إيران إنتاج السلاح وتأييدها لتنظيم حماس وحزب الله.
- الصراع الأمريكي الإيراني المتداخل مع الصراعين الأول والثاني.
- الصراع الإيراني – الإسعودي والإيراني – العربي عموماً, وهما صراعان متفاقمان بسبب دور إيران في المنطقة وأهدافها المعلنة وغير المعلنة.
- الصراع السوري – العراقي على السلطة وبخلفية متناقضة إيرانية من جهة عربية, وعربية من جهة أخرى.
- الصراعات الدولية على المنطقة وخاصة روسيا والصين من جهة, والولايات المتحدة من جهة أخرى.  والصرع الأمريكي – الأوروبي والياباني على النفط والتوظيفات والأسواق. وتؤكد الأزمة الدولية الراهنة حقيقة اختدام هذه الصراعات, ولكنها تبقى تحت السيطرة والمعالجة السلمية لها.
إن الصراعات الإقليمية والدولية تعقد الصراعات الداخلية وتشدد من خناق القوى السياسية العراقية في علاقاتها اليومية السياسية والاجتماعية. وتتجلى في الواقع الذي يعيشه العراق منذ سقوط النظام العراقي البعثي الصدامي.
لقد عطلت تلك الصراعات تشكيل الحكومة العراقية ثمانية شهور, استفاد منها الأرهابيون لقتل المزيد, وهي لم تنته بعد رغم الانتهاء من الاتفاق على الرئاسات الثلاث. لقد كانت عملية قيصرية مرهقة جداً والوليد هزيلاً وقابلاً للموت في كل لحظة. إذ أن تحقيق المساومة بالتوافق على الرئاسات الثلاث واحتمال تشكيل الحكومة برئاسة المالكي سوف لن يعالج المشكلات القائمة بل سيتواصل وجودها وستتجلى في توزيع الوزارات أولاً, ولكن أساساً في عمل الحكومة خلال السنوات الثلاث المتبقية من الدورة النيابية الحالية ومن المشكلات المعقدة التي تواجهها. لقد شاركت قوى سياسية غي الحكم وأيدي مليشياتها المسلحة ملطخة بدم الشعب العراقي. وهي لا تزال لم تتخل عن سلاحها, بل يمكن ان ترفعه في كل لحظة. 
ما هي المشكلات التي تواجه العراق حالياً؟ تواجه العراق بالتحديد مشكلات كثيرة جداً نشير إلى أبرزها فيما يلي:
1 . المشكلات الاقتصادية وخاصة واقع البنية التحتية والنقص الشديد في الخدمات, وخاصة الكهرباء والماء والنقل, ثم البطالة المكشوفة أكثر من (30%) من القوى القادرة على العمل, والبطالة المقنعة والفقر, إذ أن أكلر من (30%) من السكان تحت خط الفقر الدولي للدول النامية) و (30%) فوق خط الفقر بقليل,  وإغراق البلاد بالسلع المستوردة بدلاً من البدء بالتصنيع وتحديث الزراعة ومساندة الصناعات الصغيرة والمتوسطة القائمة.
2 . مشكلات عقود النفط والغاز التي عقدت من جانب حكومتي بغداد وأربيل وسبل التعامل معها في ضوء الدستور العراقي ومصالح العراق النفطية والاقتصادية بشكل عام.
3 .المشكلات الاجتماعية التي تنعكس في أوضاع الناس الحياتية والنفسية والبيئية وفي حالة الفساد وتردي السلوكية المستقيمة والترمل وتشرد الأطفال.
4 . المشكلات السياسية التي تتجلى في القضايا القومية والمذهبية والدينية والعلاقات مع دول الجوار.
5 . الإرهاب المتواصل في العراق ووجود حواضن قديمة وجديدة له بسبب الوضع السياسي.
6 . الوضع البيئي المتدهور.
7 . مشكلات تعديل الدستور وإصدار القوانين وحل المعضلات, ومنها قانون الأحزاب السياسية ومشكلة كركوك أو ما يطلق عليه بالمناطق المتنازع عليها. 
لا يمكن لهذه الحكومة, كما أرى, أن تعالج هذه المشكلات القائمة لصالح المجتمع, لأن بذرة الصراع والنزاع قائمة فيها وناخرة في بنيتها بسبب طائفية تشكيلها الذي يتحكم به ميزان القوى الراهن. وسيستمر سنوات أخرى دون تقدم ملموس على طريق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والعدالة الاجتماعية ورفض الطائفية السياسية.
نحن أمام وضع معقد... فما العمل؟
سوف لن تتمكن القوى الديمقراطية واليسارية العراقية من إجراء تغيير في ميزان القوى خلال العقد القادم (2011-2020), بل سيأخذ وقتاً أطول بكثير ممت نظن ما لم تغير القوى الديمقراطية واليسارية الكثير من سياساتها وأساليب وأدوات عملها وخطابها السياسي وعلاقاتها بالقوى الأخرى وبالمجتمع, وكذلك في بنيتها الداخلية. إذ أن عليها وضع استراتيجة طويلة الأمد ورؤية واضحة لما تريد, وأن تسعى إلى تحقيق تجمع كبير خارج السلطة وفي المعارضة لتلعب دورها في تعبئة الناس لصالح تغيير ميزان القوى وتحقيق مصالح الناس. رؤيتي وأفكاري الأساسية التي أقدمها هنا للمناقثشة تتجه صوب المسائل التالية:     
1 . إجراء مداولات مكثفة مع كافة المجاميع والشخصيات التي تطرح موضوع الحياة المدنية والديمقراطية في الحياة السياسية العراقية من أجل إنضاج موقف مشترك صوب إستراتيجة العمل المشترك للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
2 . وضع مسودة أولية لمشروع وطني ديمقراطي للعشرية القادمة (2011-2020) بالتعاون مع القوى والأحزاب والمجموعات والشخصيات الداعية إلى بناء المجتمع المدني الديمقراطي العلماني في العراق.
3 . نشر المشروع المقترح في وسائل الإعلام المتاحة من أجل مناقشته من قبل الفئات الاجتماعية والقوى السياسية العراقية لضمان تحسينه وتطويره وتعبئة مؤيدين له في المجتمع.
4 . عقد مؤتمر موسع لكل القوى التي شاركت في المداولات وتلك التي تريد الالتحاق بالأحزاب والمجموعات والشخصيات الديمقراطية من أجل إقرار المشروع الوطني الديمقراطي وتعديله إن استوجب الأمر وجعله الوثيقة المشتركة للقوى الديمقراطية واليسارية في العراق.
5 . تأكيد مبدأ أو شعار أساسي في العمل السياسي في المرحلة الراهنة ولفترة طويلة حقاً ولكل القوى السياسية الديمقراطية واليسارية العراقية دون استثناء: "قووا تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية, تتقوى أحزابكم ويزداد تأثيركم وتتعزز علاقاتكم بالجماهير الشعبية الواسعة", إنها الصيغة الوحيدة للخروج من العزلة والهامشية الراهنة التي تعاني منها القوى الديمقراطية واليسارية في العراق.
6 . انتخاب هيئة قيادية للتجمع الجبهوي الديمقراطي لقيادة العمل المشترك ويمكن أن ينتخب رئيس دوري لها لتعزيز المسؤولية المشتركة وروح المبادرة والديمقراطية في العلاقة بين القوى المشتركة.
7 . تأمين لجان متعددة تعمل على اساس المهنية كالطلبة والشباب والنساء والنقابات والفلاحين والأسواق والرياضة والفنون على مستويين, المستوى المهني على صعيد لعراق وعلى مستوى المحافظات من أجل تعزيز الاحتكاك بتلك الأوساط والتفاعل معها والتعرف المباشر على مشكلاتها وحاجاتها وتحويلها إلى مطالب للنضال من أجلها في صفوف تلك الفئات والتجمعات.
8 . تعزيز الصلة بالأوساط الشعبية من كافة قيادات وقواعد الأحزاب بهدف الاقتراب منها وفهم أوضاعها وتعزيز الروابط الإنسانية بها, إذ أن العزلة الراهنة تؤذي كل القوى الديمقراطية واليسارية لصالح القوى الحاكمة.
9 . عدم المشاركة بالسلطة في الفترة الراهنة من أجل توجيه الجهود لصالح العمل السياسي المعارض بهدف توجيه النقد الإيجابي البناء وبلورة السلبيات في العمل الحكومي بصورة فعالة ومحركة للمجتمع وتعبئة السكان صوب أهدافها ومصالحها. 
10 . ممارسة جميع اساليب النضال الديمقراطية السلمية لصالح الدفاع عن مصالح الناس والكشف عن النواقص والأخطاء والفساد والظلم أو مصادرة حقوق الإنسان والضغط المتواصل على الرئاسة ومجلس النواب والحكومة للاستجابة لمطالب الناس والتي ستسهم في تعزيز العلاقة مع فئات المجتمع الناس من خلال النجاح بتحقيق مطالبها.
11 . تنشيط الإعلام الديمقراطي المشترك في محاولة لتأسيس قناة فضائية تتوجه للداخل والخارج, إضافة إلى تأسيس إذاعة وصحيفة نشطة في ما تنشره من معلومات حيوية وحديثة, وكذلك إصدار الكراسات الفكرية والسياسية وفي مختلف المجالات الضرورية.
12 . إن أهم ما في العمل السياسي والإعلامي هو وضع سياسة بديلة لسياسة الحكومة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية شريطة أن تكون واقعية وموضوعية وليس أن "تذرع بالجنة", كما يقول المثل الشعبي العراقي. وأبرز المسائل في المجال الاقتصادي وضع إستراتيجية للتنمية الاقتصادية والبشرية والتصنيع وتحديث الزراعة وعقلنة التجارة وتحسين الخدمات ومكافحة البطالة والفقر في المجتمع ووضع نظام ضمان اجتماعي وصحي وسياسة مالية ونقدية ومصرفية متقدمة, والدعوة إلى تطوير جميع القطاعات الاقتنصادية وخاصة القطاع العام والخاص والمختلط والتعاوني والأجنبي, وكذلك إيلاء أكبر الاهتمام للقطاع النفطي ولكن شريطة تغيير بنية الاقتصاد العراقي المتخلفة والمكشوفة على الخارج لصالح بناء اقتصاد وطني ديناميكي ينمي الوحدة العضوية النشطة في بنيته الداخلية.
13 . ولا بد للقوى الديمقراطية أن تعي بأن عمليتين مهمتين فترض أن تسيرا جنباً إلى جنب, وهما:
أ‌.   التصنيع وتحديث الزراعة وتطور العلو والتكنولوجيا,
ب‌.   وتحرير عقل الإنسان من تأثير المؤسسة الدينة والغيبيات,
إذ كلاهما يلعب دوره المباشر في تأمين نشوء أرضية واقعية وموضوعية للمجتمع المدني الديمقراطي وللدولة المستقلة عن الدين. وبدون ذلك يصعب تصور وجود إمكانية لحقيق التقدم والتطور في البلاد.
14 . الأهمية البالغة لخوض صراع فكري هادف ومدروس ضد الأفكار البالية والرجعية والخرافات والأساطير المعرقلة لتطور المجتمع وتقدمه ومن أجل التنوير الاجتماعي والديني ولصالح ان يكون "الدين لله والوطن للجميع".
15 . تطوير موقف واضح من المؤسسات الدستورية كمجلس الوزراء ومجلس النواب والقضاء ... الخ, وطرح مشروع لتعديل الدستور العراقي في أهم جوانبه التي تستوجب التعديل وإزالة النواقص والسلبيات التي يعاني منها الآن والتي برزت في الواقع العملي خلال فترة السنوات الخمس المنصرمة.
16 . طرح مشروع واضح وهادف إلى مكافحة الفساد المالي والإداري ومكافحة الطائفية السياسية وضد معاداة أتباع الأديان الأخرى أو الصراعات المذهبية في العراق.
17 . كما لا بد من تضمين برنامج النضال الوطني قسماً خاصاً بدور ومهمات الجالية العراقية في الشتات العراقي بشكل عام والقوى الديمقراطية واليسارية بشكل خاص في المشاركة في حل المعضلات التي تواجه العراق من جهة, وتبني قضاياهم الملموسة والدفاع عنها من جهة أخرى,
18 . ولا شك أن العراق بحاجة ماسة إلى علاقات سياسية واقتصادية وحسن جوار واحترام ومنفعة متبادلتين مع كل دول المنطقة وبعيداً عن التدخل في شؤونها أو السماح لها بالتدخل في الشأن العراقي. وهي عملية ليست سهلة في الظرف الراهن حيث تتحكم الكثير من دول المنطقة والعالم (وخاصة أدوار كل من إيران والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية) في الشأن العراقي وتفرق إرادتها عبر قوى داخلية على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
 هذه هي بعض جوانب ما يفترض أن تعمل من أجله القوى الديمقراطية واليسارية في العراق خلال العقد القادم, وهي مهمات كبيرة لا يمكن أن ينهض بها حزب واحد أو كتلة واحدة, بل يفترض أن تساهم بها كل القوى الديمقراطية واليسارية من مختلف القوميات العراقية وأتمنى أن نعي جميعاً ذلك ونسعى إلى معالجته لصالح الوحدة الوطنية والجبهة الديمقراطية الضرورية ولصالح تغيير الأوضاع نحو تأكيد مفهوم المواطنة العراقية الحرة والمتساوية وممارسة مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الأديان والمذاهب الدينية والأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام في العراق.
سدني/أستراليا في 21/11/2010                     كاظم حبيب


1027
كاظم حبيب
مقتل شاب عراقي في لأيبزك/ألمانيأ: هل هو أول الثمار المرة لنهج ساراتسين المعادي للعرب والمسلمين؟

حين اصدر الدكتور تيلو سارتسين كتابه الموسوم "ألمانيا تقضي على نفسها" وقام بحملة صحفية وندوات تلفزيونية كثيرة ومتلاحقة في كل من ألمانيا والنمسا وسويسرا, توقعت بأن هذه الحملة الفكرية والسياسية المعادية للعرب والترك والمسلمين عموماً ستكون لها عواقب سيئة على الأجانب في المانيا وأوروبا, وأن القوى اليمينية المتطرفة والنازية الجديدة ستصعد من حملاتها ضد الأجانب بهدف بث الرعب في صفوفه ودفعهم إلى مغادرة ألمانيا, إضافة إلى تسميم الجو الطبيعي الذي كان يسود العلاقة بين الألمان والأجانب خلال السنوات الخمس المنصرمة.
وقد دفعت حملة ساراتسين الفكرية والسياسية إلى بروز تيار واضح وواسع في المانيا مناهض للعرب والترك والمسلمين بشكل عام تجلى في اللقاءات الصحفية في الشوارع أو في الندوات التي حضرها ساراتسن أو في التلفزة, رغم وجود تيار حكومي وحزبي مناهض لتصريحات ساراتسين.
وأول الثمار المرة والمحرمة الناجمة عن حملة ساراتسين حصلت يوم الأربعاء المصادف 27/10/2010 حين عمد شابان ألمانيان من المجموعات النازية الجديدة باغتيال شاب عراقي من مواليد بغداد يدعى "كمال مجدى قلادة" يبلغ من العمر 19 عاماً, بعد أن قاما بقذفه بالغاز فى وجهه ثم طعنوه 9 طعنات فى بطنه نقل على إثرها إلى المستشفى ثم توفى فى الثانية والنصف عصر نفس اليوم, وفق ما جاء في بيان المدعي العام الألماني في تصريحه لموقع صحيفة "LVZ" الألمانية. 
ألقت الشرطة الألمانية القبض على الشابين المتهمين بقتله وهما الآن رهن الاعتقال والتحقيق, إذ وجهت لهما تهمة القتل. وفي الوقت الذي اشارت الشرطة إلى أن الحادث فردي ولا علاقة به بالعداء للأجانب, أشار السيد المصري المقيم في لايبزك فهيم عيسى إلى أن "المتهم الأول يدعى "دانيال" ويبلغ من العمر 32 عاماً، وكان يرتدى الملابس النازية، والثانى يدعى "توماس" ويبلغ من العمر 28 عاماً وكان يرتدى ملابس كتب عليها "أنتقم من كل أعداء النازية"، وهما من المسجلين وخرجا من السجن حديثاً.."
إننا في الوقت الذي نعزي عائلة وأصدقاء القتيل, نطالب كل القوى الديمقراطية في المانيا والحكومة الألمانية إلى التصدي لكل القوى التي تسعى للاستفادة من الأجواء السلبية التي نشأت بفعل كتاب وتصريحات ساراتسين لشن حملة بث الرعب في صفوف الأجانب من عرب وترك ومسلمين لمغادرة ألمانيا, في وقت يتحدث المسؤولون الألمان عن حق بأهمية مجيء المزيد من الشباب الأجانب إلى ألمانيا للاستفادة منهم في حقول المعرفة والعمل والإنتاج. وإذ يأمل الإنسان أن يبقى الحادث فردياً سنبقى ننتظر نتائج التحقيق بشان هذا الحادث المؤسف والحزين لشاب عراقي لم يبلغ العشرين من عمره.
29/10/2010                     كاظم حبيب





1028
د. كاظم حبيب

نداء عاجل وملح إلى جميع منظمات المجتمع المدني في العراق
====================================

منذ تأسيس الدولة العراقية الملكية في العام 1921 وإلى يومنا هذا مارست كل النظم السياسية العراقية دون استثناء ولا تزال تمارس مختلف أساليب الاعتقال الكيفي والتعذيب أثناء التحقيق أو في السجون والمعتقلات العراقية. كما مارست القتل والاغتيال السياسي والتهجير والتشريد وإسقاط الجنسية العراقية في مراحل مختلفة من تاريخ العراق الحديث, إضافة إلى تنظيم الحملات العسكرية وشن الحروب الداخلية ضد المجتمع لأسباب سياسية أو قومية أو دينية أو مذهبية أو فكرية. وقد كانت الضحايا البشرية هائلة والحزن قد لف المجتمع لعقود طويلة.
وابتلى المجتمع خلال العقود المنصرمة بنظم سياسية قومية وطائفية مارست التمييز الديني والمذهبي وعرضت بذلك حياة المواطنات والمواطنين إلى مخاطر جمة, بل إلى وإلى علل وامراض نفسية وإلى الموت والمقابر الجماعية. وكل ذلك قد عرض النسيج الوطني العراقي إلى التمزق, كما حصل في فترات سابقة وفي عهد الدكتاتور الطاغية صدام حسين, أو كما يحصل اليوم بسبب سياسات التمييز الديني والطائفي المقيت والمحاصصة الطائفية, سواء أكان عبر أجهزة رسمية ام ميليشيات طائفية مسلحة. ولم تكن الأجهزة العراقية وحدها متهمة بمسائل الاعتقال والتعذيب والتغييب فحسب, بل وكذلك قوى الاحتلال الأمريكية والبريطانية, وليست بعيدة عنا ما حصل في معتقل أبو غريب السيء الصيت, أو ما ورد في الوثائق الأمريكية السرية.
إن الوثائق الأمريكية السرية التي نشرت في موقع ويكيليكس في الآونة الأخيرة هي ليست الأزلى ولن تكو ن الأخيرة في ما تعرض له الشعب العراقي, ويمكن أن تظهر وثائق أخرى بشأن الكثير من التجاوزات على حقوق الإنسان وحرياته العامة وكرامته وحياته.
أقترح على منظمات المجتمع المدني العراقية التي تدرك مخاطر التجاوز على حقوق الإنسان وممارسة اساليب الاعتقال والتعذيب والسجن والقتل والاغتصاب في السجون والمعتقلات أن ترفع صوت الإدانة والاحتجاج والمطالبة بالتحقيق الدولي النزيه في كل التهم الواردة في تلك الوثائق, إذ أنها الفرصة الثمينة التي يمكن للمجتمع العراقي أن يضع حد لكلل التجاوزات المحتملة خلال الفترة القادمة, إنها الفرصة الثمينة التي لا يجوز تفويتها, بانتظار فرصاً أخرى, التي يمكن بموجبها معاقبة كل الذين تجاوزوا على الإنسان العراقي وعاملوه بأساليب لا إنسانية بغض النظر عن التهم الموجهة له أو بعد صدور الحكم عليه.
أقترح أن تأخذ منظمات المجتمع المدني وكل القوى الخيرة في العراق على عاتقها تنظيم حملة وطنية واسعة بتوجيه رسالة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي تتضمن طلباً باتخاذ قرار ملزم بتشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق بالمعلومات الواردة في الوثائق التتي نشرها موقع ويكيليس وتنظيم لائحة اتهام ضد المسؤولين عن تلك التهم وتقديمهم إلى محكمة حقوق الإنسان الدولية, إضافة إلى نشر المعلومات على الشعب العراقي وكل الشعوب الأخرى.
أقترح على منظمات المجتمع المدني في الدول العربية وفي سائر ارجاء العالم مساندة هذا المقترح ودعم جهود منظمات المجتمع المدني العراقية من أجل فرض التزام كل الحكومات العراقية القادمة وأجهزة الدولة, وخاصة الأجهزة الأمنية, بالدستور العراقي ودستور إقليم كردستان العراق واللوائح والعهود والمواثيق الدولية الخاصة بشرعة حقوق الإنسان ومعاقبة كل الذين يتجاوزون عليها وفق الدستورين والقوانين التي تحرم الاعتقال الكيفي والتعذيب قبل واثناء وبعد التحقيق أو بعد صدور الأحكام.
أتمنى على كل مناصري حقوق الإنسان والمجتمع المدني أن تساند هذه المقترحات وتدفع باتجاه تبنيه وتنفيذه بتحريك الرأي العام في العراق يوالعالم العربي والعالم.           
برلين في 29/10/2010                الدكتور كاظم حبيب

1029
كاظم حبيب
ألا تثير الوثائق السرية الفزع والقلق بسبب سلوكيات العنف والقسوة السائدة في العراق؟

كلما غاص الإنسان في مطالعة المزيد من الوثائق السرية الأمريكية حول العراق التي نشرت في موقع ويكليكس الإلكتروني في نهاية الأسبوع الماضي, إزداد شعوره بالألم والقرف والفزع واشتد غضبه لما كان أو لا يزال يحصل في العراق من سلوكيات تميزت بالقسوة الشرسة والاستهانة بالإنسان وحقوقه وكرامته وتجاوزت حدود المعقول وقدرة الإنسان على تخيل وجود قوى قادرة على استخدام مثل هذه الأساليب الشريرة في التعذيب وتحطيم الإنسان وكرامته والقتل بدم بارد , من قوى شريرة تنتمي لقوى إسلامية سياسية من مختلف الأطراف, على وفق ما جاء في تلك الوثائق. ويقف الإنسان مبهوتاً أمام الأساليب الوصفية التي كتب بها الجنود والضباط الأمريكيون تلك التقارير وتفصلياتها وكأنهم يتحدثون عن وقائع عادية, بعضها كانت أحداثه المريرة وقتل البشر على مدى 24 ساعة في اليوم دون توقف, كما ورد ذلك على عمليات نفذها ميليشيات جيش المهدي بالتعاون مع أجهزة وزارة الداخلية في فترة حكومة الجعفري.
تقارير متنوعة كلها تبحث في جرائم ارتكبت في العراق بين 2004 و2009 وحصيلتها عشرات ألوف القتلى وأكثر من ذلك من الجرحى والمعوقين والمشوهين , وأكثر من ذلك هم الذين يعانون من صدمات حادة تبرز في كوابيس خانقة لا تنتهي نتيجة تلك الأحدداث. لقد كانت ضحايا عامي 2006 و2007 من القتلى وحده 35026 و35763 شخصاً على التوالي, في حين بلغ مجموع قتلى السنوات بين 2004-2009 109032 نسمة.
يقف الإنسان حائراً أمام وقائع هذه الوثائق ويتساءل مع نفسه: هل حقاً يمكن أن يتحول عدد كبير من أبناء الشعب العراقي, هذا الشعب الذي كان ضحية للاستبداد والعنف والقسوة طيلة خمسة وثلاثين عاماًً في ظل حكم البعث وصدام حسين, إلى جلادين لا يختلفون عن جلادي صدام حسين ونظامه بأساليبهم في التعذيب ومسخ الإنسان في أثناء التحقيق أو عند الاعتقال أو في السجون وبعد صدور الأحكام أو قتلهم بأبشع أساليب القتل قبل أن تجري لهم اية محاكمات؟
هل يمكن أن يتحول الضحية إلى جلاد من هذا النوع؟ هل يمكن أن تساهم التربية الإسلامية بخلق أناس يمتلكون القدرة على التحول من ضحايا إلى جلادين ليمارسوا قتل الإنسان تحت التعذيب وكأن القتلة يمارسون تسلية محببة إليهم, فهم يلهون بحرق الجسم بأعقاب السجائر, ويدخلون القازوق في خلفية المعتقل أو يستخدمون الأجهزة الكهربائية ضد قضيب الفرد والمناطق الحساسة الأخرى, أو يقلعون أطافر اليدين والقدمين أو يهشمون جمجمة الإنسان أو يصبون عليه الماء الساخن بدرجة الغليان, أو يشدون قضيبه بحبل ويجروه أو يغتصبوه جنسياً؟
كم هو مريع أن نقرأ كيف تسربت الأحزمة الناسفة للإنتحاريين من سوريا إلى العراق وعدد الذين تسللوا من سوريا إلى العراق عبر سنجار, وكم هي الأسلحة الفتاكة وأنواعها التي ضبطت وهي مهربة من إيران إلى ميليشيات جيش المهدي أو غيره من ميليشيات القتل والتخريب.
لقد جاءت التقارير حاملة اتهامات إلى قوى القاعدة وتنظيمات البعث وهيئة علماء المسلمين أو غيرها بالقتل والتخريب من جهة, واتهامات أخرى موجهة إلى ميليشيات جيش المهدي وفيلق بدر وغيرها من القوى التي شكلت ميليشيات لها ولم تعلن عن وجودها بممارستها القتل والتخريب أيضاً, ولكنها تحمل اتهامات إلى الحكومة العراقية وإلى الأجهزة الحكومية التي كانت مهمتها حماية الشعب من الإرهابيين وليس المشاركة بالإرهاب والقتل بسبب علاقاتها المتعددة بالقوى التي مارست الإرهاب. 
إن الوثائق المنشورة تحمل في طياتها اتهامات خطيرة لكل الأحزاب الإسلامية السياسية العاملة والحاكمة في العراق دون استثناء, كما تحمل اتهامات خطيرة إلى سياسيين بعينهم, سواء بشكل مباشر أم في فترة وجودهم على رأس الحكومة, وكذلك اتهامات موجهة إلى كل المليشيات الطائفية المسلحة التي كانت أو لا تزال تعمل في البلاد, إضافة إلى اتهامات خطيرة للقوات الأمريكية والفرق الأمنية المرتزقة التي عملت في العراق. وأن هذه الاتهامات لا يمكن أن يحقق بها من هو موض اتهام بممارسة تلك الأفعال الشريرة, سواء أكان فرداً أم حزباً أم كتلة سياسية أم فريقاً عاملاً في الحكومة العراقية أو الأمريكية, بل يفترض أن تقوم الأمم المتحدة بهذا التحقيق الذي يفترض أن يكون نزيهاً وشاملاً للفترة الواقعة بين نيسان 2003 وإلى نهاية التقرير ويمكن مد التحقيق إلى الوقت الحاضر 2010, من خلال تشكيل لجنة من شخصيات مستقلة مختصة بشؤون حقوق الإنسان والجريمة السياسية المنظمة والتعذيب لكي يقدموا لنا صورة واقعية لما كان يجري في العراق خلال الفترة المذكورة, رغم وجود معلومات غير قليلة بهذا الصدد.
نحن أمام جرائم بشعة, مارسها صدام حسين وطغمته للخلاص من خصومه ومعارضيه السياسيين, تكرر استخدام البعض من تلك الأساليب بعد زوال نظامه من قوى سياسية كانت تدين تلك الأساليب وتطالب بالخلاص من ذلك النظام. والآن يجري في العراق ما كان قد أدين سابقاً, وعلينا أن لا نقبل به ونرفضه جملة وتفصيلا.
علينا رفع الصوت للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيقة دولية من أجل الكشف عن المذنبين بدون رحمة, لكي لا يأتي إلى الحكم من مارس أو قرر أو وافق على استخدام تلك الأساليب القذرة في حكم العراق بعد سقوط الدكتاتور ونظامه الدموي.
28/10/2010                         كاظم حبيب     


1030
كاظم حبيب

أين حرية النشر ورقابة السلطة الرابعة في مقاضاة جريدة العالم؟


"يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلمه النطق, وتقضي الأنظمة العربية بقية عمره في تعليمه الصمت"!
         أحلام مستغانمي


في: ذاكرة الجسد, دار الآداب, بيروت. ط 1, 19979
   

آخر المعلومات التي وصلتنا من هيئة النزاهة الدولية تشير إلى أن العراق والصومال يحتلان المركزين الأخيرين في قائمة انعدام النزاهة والفساد في العالم. وهم يعتمدون في ذلك على معايير مجربة ومدققة وسليمة ولا يمكن التشكيك بصحتها.
والأسئلة المشروعة التي تواجهنا إزاء هذه المعلومة كثيرة, منها مثلاً: من يمارس الفساد في العراق, هل هو المواطن الفقير الذي لا يملك شروى نقير أو الجائع والمحروم أم العامل البسيط والفلاح الأكثر بؤساً, أم أولئك الذين بأيديهم ثروة الوطن ويتفاوضون على العقود النفطية وغير النفطية وتوقيعها في كل أنحاء العراق, وكذلك الذين يستوردون السلع لحساب الدولة والذين يوقعون المقاولات لشراء الأسلحة والعتاد وبقية التجهيزات العسكرية؟ من هم الذين يسيطرو على الأراضي والعقارات ودور السكن ويقيمون فيها دون أن يدفعوا أجراً, أهم الكادحون والفقراء والمعدمون وصغار الموظفين, أم السادة من مسؤولين ووزراء وحكام البلاد وقادة ومسؤولي الأحزاب السياسية؟ من الذي شفط المليارات خلال السنوات السبع المنصرمة, أهم بنات وأبناء الخايبة أم الشركات الأمريكية وغيرها التي عملت أو لا تزال تعمل في العراق, وكذلك من عمل وتعامل معها من العراقيين بشكل عام؟ اليس هو المسروق المال العام, أموال الشعب, ومن هو السارق؟ أليس الجواب عند المسؤولين عن إدارة أموال العراق, أموال الشعب؟ عليهم أن يفيدون الشعب والعالم بأجوبة واقعية ومسؤولة عن هذه الأسئلة.   
في العراق أقامت وزارة الشباب والرياضة دعو قضائية لمقاضاة جريدة العالم بسبب نشرها تقريراً صحفياً يتحدث عن الرشوة والهدر وسوء استخدام الأموال في وزارة الشباب والرياضة. والسؤال ه: هل هذه الدعوى هي الجواب الشافي عن تلك الاتهامات؟ أم إنها هروب ورد الفعل بائس ومثير للسخرية.
ألم يكن من واجب وزارة الشباب أن تجيب على ما نشرته جريدة العالم من معلومات تشير إلى وجود فساد مالي وإداري في وزارة الشباب, والكل يتحدث بملء الفم بأن هناك فساداًسائداً في كافة الوزارات العراقية بدلاً من غقامة الدعوى؟ ألم يكن من واجب وزارة الشباب, بدلاً من إقامة دعوى قضائية ضد جريدة العالم وتطالبها بدفع بغرامة خيالية, وكأن الجريدة هي التي شفطت تلك المليارات لكي تستطيع أن تدفع مثل تلك الغرامة لوزارة الشباب الفقيرة جداً, أن تشرح للشعب كله ولمسؤولي جريدة العالم على وفق معلومات أكثر دقة, إن كانت متوفرة لديها, لتفند ما نشرته الجريدة, وأن كانت واثقة من نظافة اليد في وزارة الشباب والرياضة وأن هذه الوزارة دون غيرها تعمل بأسلوب بعيد عما ورد في التقرير الصحفي الذي اتهم الوزارة بالتجاوز والتلاعب والغش والهدر. إن رفع دعوى قضائية ضد الجريدة يراد منه إسكات صوت النقد وحرية التعبير عن الرأي وتنوير الناس بما يجري في العراق في ضوء ما متوفر من معلومات, وكان ولا يزال على وزارة الشباب والرياضة أن تفند تلك الاتهامات وتبتعد عن أسلوب إقامة الدعاوى لإرهاب الناس.
لو كان العراق خالياً من الفساد ولم يحتل المكانة الأولى أو الثانية في الفساد بين دول العالم, لكان من حق وزارة الشباب والياضة أن ترفع الدعوى, ولكن ليست هناك دولة اسوأ من العراق غير الصومال في انتشار وممارسة الفساد في العالم, والفساد في العراق أوسع مئات بل ألاف المرات مما هو عليه في الصومال بسبب الفقر المريع هناك بينما تتحرك المليارات في العراق وأرقام الفساد هي الأخرى بالمليارات وليس بعشرات ألوف الدولارات.
أنصح وزارة الشباب والرياضة أن تبدأ بالاطلاع على المواقع الإلكترونية وعلى الصحافة العالمية لتتعرف على النشر الواسع النطاق الذي يتحدث عن الفساد السائد في البلاد والذي أصبح نظاماً عاماً ومعمولاً به وليس ظاهرة هنا وهناك. وأتسائل مع غيري, هل تعيش وزارة الشباب في جزيرة منعزلة كما عاش روبنسون كروزو بعيداً عن المال والناس والتعامل اليومي بحيث لا يمكن أن ينشأ اي فساد في وحدته الشهيرة؟ كم كنت أتمنى على وزارة الشباب أن تطلب من جريدة العالم, التي يهمها مكافحة الفساد في العراق أولاً وقبل كل شيء أن تتوجه إلى هيئة تحرير جريدة العالم وإلى كاتب التقرير الصحفي وتطلب منهم معلومات إضافية حول التقرير الذي نشرته الجريدة لتشكل لجنة مستقلة تتحرى عن صحة تلك المعلومات وتضبك حالات الفساد والفاسدين والمفسدين فيها أو الذين ساهموا بهدر أموال البلاد والعباد.
ولكن لا يزال أسلوب الزجر والتخويف هما السائدان في بلاد الرافدين, وبالتالي سيبقى الفساد والهدر وسرقة أموال الدولة هي السائدة في العراق ايضاً, ما دام المسؤولون لا يريدون وضع اليد على الفساد. ووزير التجارة العراقية السابق ليس ببعيد عنا, ولا وزير الدفاع السابق في وزارة أياد علاوي على سبيل المثال لا الحصر!
حين تسود الديمقراطية وحرية الصحافة وحرية التعبير والنشر وحرية الرأي والنقد والحياة النيابية الحرة والقضاء المستقل وسيادة الدستور والمواطنة المتساوية ورقابة الشعب ومؤسساته المدنية, عند ذاك يتقلص الفساد وينتهي تدريجاً, وعند ذاك سوف لن نجد جريدة عراقية تعمد إلى نشر مثل تلك التقارير المهمة التي تفضح الفساد وهدر المال العام, إذ أن الحالة الموجودة هي التي تسمح بكتابة تقارير تعبر من حيث المبدأ عن واقع حال وقاعدة سائدة وليست اسثناءً في العراق.
لا يختلف العراق كثيراً عن أفغانستان. فبالأمس كشف النقاب عن تسلم حامد كرزاي مليون دولار سنوياً من حكومة إيران لحسابه الخاص ولسواد عيونه الأفغانية, واضطر أن يعترف بذلك؟ وبالأمس نشرت تقارير تشير إلى تسلم عراقيين أموالاً من إيران والسعودية ودول الخليج والأردن...الخ, وخاصة في فترة الانتخابات وما بعدها, وسوف لن نسمع اعترافاً منهم بذلك, ولكنها في الغالب الأعم حقيقة واقعة. فهل إذا إشير إلى ذلك ستقام دعاوى ضد من يتحدث بهذا الأمر, أم يفترض أن يقوم مجلس القضاء العالي والإدعاء العام بتشكيل لجان للتحقيق بكل ذلك, عندها سيجدون العجب العجاب في هذا المجال. ولا اعتقد بأن المعلومات التي نشرها موقع ويكيليكس هي خاطئة, ولكنها غير كاملة, إذ حجب عنا الموقع, كما يبدو, الكثير من المعلومات التي تتحدث عن فترة حكم أياد علاوي وفترة حكم إبراهيم الجعفري. وكلنا يعرف أن هاتين الفترتين قد اتسمتا بظهور الكثير جداً من حالات الفساد وهدر الأموال وانتشار المليشيات الطائفية المسلحة وتسللها إلى كافة أصناف القوات المسلحة (الأمن والشرطة والجيش) والسيطرة على الوزرارات والتوزيع الطائفي لها.
إن عدم نشر تلك المعلومات عن وزارتي علاوي والجعفري ربما يكون قد نشأ عن اتفاق معين لا أعرف أطرافه إلى الآن ولا على مدى صحة وجود مثل تلك المعلومات, ومن هم وراء عدم نشر كافة المعلومات المتوفرة لدى موقع ويكيليكس والسيد أسانج.
أرى بأن على وزارة الشباب والرياضة أن تسحب الدعوى القضائية المرفوعن منها على جريدة العالم وأن تعتذر لهيئة التحرير, إذ يكفي ما عاناه الصحفيات والصحفيون في العراق من إرهاب وإسكات بكاتمات الصوت أو القتل في الشوارع خلال الأعوام السبع المنصرمة, وهم لا يحتاجون إلى من يخيفهم بإقامة دعوى ضد هيئات التحرير لنشرها تقارير تتحدث عن الفساد وهدر المال العام لأنهم سوف يغلقوا أفواههم ولن يوافقوا على تقييد أيديهم أو  منعهم من الكتابة. إن هذا لن يحصل بعد الآن!
27/10/2010                      كاظم حبيب   
       

1031
كاظم حبيب
من أجل تشكيل لجنة تحقيق عراقية-دولية بشأن التهم الواردة في وثائق ويكيليكس


سمع وشاهد الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي, كما قرأ البعض الكثير منهما, ما نشر في موقع ويكيليكس الشهير من وثائق مسربة من أرشيف المعلومات التابع للقوات الأمريكية في العراق,. وقد تضمنت هذه الوثائق التي نشرت يوم السبت المصادف 23/10/2010,و التي بلغ عددها 400 ألف وثيقة بين عام 2004 ونهاية العام 2009, كمية هائلة من المعلومات الخاصة بأوضاع العراق الأمنية وتصرفات القوات العراقية والأمريكية والحكومة العراقية ودول الجوار في العراق. وجرى تركيز الصحافة وبقية أجهزة الإعلام العالمية والإقليمية والمحلية على بعض أبرز ما ورد في هذه الوثائق التي تثير رعب الإنسان العراقي وتشكك بمجمل العملية السياسية الجارية, كما توجه الاتهامات الثقيلة جداً لرئيس الوزراء والحكومة العراقية, ولكنها في المحصلة النهائية تشكيك في النظام السياسي القائم في العراق.
تبَّرز الوثائق المنشورة التي تم الإطلاع عليها إلى الآن على ست مسائل جوهرية لا بد لنا من وضعها أمام أنظار القارئات والقراء بهدف الخروج باستنتاج يخدم الشعب العراقي أولا وقبل كل شيء:
1 . إن القوات المسلحة العراقية, أي أجهزة الأمن والشرطة والجيش, قد مارست خلال السنوات المذكورة شتى اشكال التعذيب النفسي والجسدي البشعين والمحرمين دولياً وعلى وفق الدستور العراقي الجديد, ابتداءً من الإهانات إلى الضرب المبرح وقلع الأظافر والحرق بالسيجائر والتعليق والكلبسة والاغتصاب الجنسي والقتل في السجون والمعتقلات العراقية ...الخ, تماما كما مارسته القوات الأمنية الأمريكية في سجن "أبو غريب" السيء الصيت قبل عدة سنوات.
2 . كان الجيش الأمريكي والإدارة الأمريكية في العراق ووزارة الدفاع (البنتاغون) على علم كامل بتفاصيل ذلك, ولكن كل هذه الجهات لم تفعل شيئاً ضد التعذيب والقتل والاغتيالات..الخ, بل طالبت القوات الأمريكية بعدم التدخل لمنع وقوعها.
3. قتل المئات من المدنيين عند حواجز تسيطر عليها القوات الأميركية من قبل القوات العراقية وسكوت الأمريكيين عنها.
2 . قامت إيران خلال الفترة المذكور بتزويد المليشيات العراقية, وخاصة ميليشيات جيش المهدي وفيلق بدر, بالسلاح والعتاد والأموال وكل ما تحتاجه هذه القوى لممارسة الإرهاب في العراق وإسكات صوت المعارضة أو الخصم.
3 . قيام سوريا بتولي مهمة تزويد قوى الإرهاب الدموية بالأحزمة الناسفة التي تستخدم للقتل الجماعي عبر العمليات الانتحارية.
4 . إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي نفسه كان يدير "فرق الاعتقال والرعب" المتكونة من أتباع المليشيات العراقية الشيعية التي كانت تقوم بعمليات قتل الخصوم السياسيين, وأن رئيس الوزراء كان على علم بما كان يجري في السجون والمعتقلات العراقية من تعذيب دون أن يتخذ قراراً بإيقافه.
5 . وتشير الوثائق إلى أن اكثر من 15 ألف مدني قتلوا في حوادث كانت مجهولة في السابق. كما إن الوثائق قد سجلت وقوع 66081 حادثة قتل في أماكن غير قتالية من أصل 109000 فقدوا حياتهم.
6 . وجود ضباط إيرانيين ما زالو يعملون في العراق لصالح إيران وانهم معروفون للحكومة العراقية.
وهناك الكثير من القضايا الأخرى التي نتجنب الآن الخوض فيها, لأنها مرتبطة بما ورد في إعلاه بما في ذلك الفساد المالي والإداري والتمييز الطائفي ...الخ.

لو تمتعنا بحسن النية إزاء النظام السياسي القائم حالياً في العراق وسلمنا بأن السيد نوري المالكي المنتهية ولايته غير متورط بما نسب إليه ولا للقوات المسلحة العراقية من اتهامات ثقيلة جداً, وأقنعنا أنفسنا بأن هذه المسائل مجرد اتهامات لا تصمد أمام الواقع, فما العمل لإقناع العالم بذلك من جهة, والتيقن من خطأ تلك المعلومات من جهة أخرى؟
ليس أمامنا إلا المطالبة الجادة من المدعي العام العراقي والقضاء العراقي ورئاسة مجلس القضاء العالي ورئاسة الجمهورية العراقية بتشكيل لجنة تحقيقية عراقية ودولية مختلطة للقيام بالتحقيق الفوري بكل تلك التهم الموجهة لرئيس الحكومة والحكومة العراقية والقوات المسلحة, التي هي تحت أمرة الحكومة, والجهات الأخرى للوصول إلى النتائج الفعلية من أجل نفي تلك التهم أو تقديم المسؤولين إلى المحاكم لينالوا الجزاء العادل/ إما البراءة أو الإدانة.
لا ينفع رئيس الحكومة العاقية أن ينشر مكتبه الخاص إنكاراً لتلك التهم, ولا ينفع أن تعزى تلك التهم إلى محاولة الإساءة لرئيس الوزراء المنتهية ولايته بذريعة وجود مؤامرة ضده بسبب التوقيت لكي لا يختار لتشكيل الحكومة, إذ إن هذا الانكار لا يقنع ولا ينفع احداً, بل إن ما يقنع الناس هي النتائج التي تخلص إليها لجنة التحقيق المشار إليها. وعلى هذه اللجنة أن تحقق أيضاً في مدى مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية, كدولة محتلة, عن تلك التجاوزات والاتهامات الموجهة للحكومة العراقية والقوات المسلحة ورئيس الحكومة والجيش والإدارة الأمريكية في العراق أيضاً.
لا ينفع التسويف والتهرب من الموضوع, بل تشكيل لحنة من قضاة تحقيق يتسمون بالنزاهة ولا يخشون لومة لائم على المستويين العراقي والعالمي للتحقيق بجرائم ارتكبت لا من الطرف العراقي الحاكم وأجهزته فحسب, بل ومن أطراف أخرى مثل إيران وسوريا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وقوات الاحتلال في العراق كافة.
ليرتفع صوت الأحزاب والقوى الوطنية العراقية ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان مطالباً بتشكيل مثل هذه اللجنة الدولية العراقية لتأمين تحقيق عادل ونزيه وأمين على مستقبل العراق ومنع ممارسة مثل تلك الجرائم بحق الشعب العراقي في المستقبل.
24/10/2010                   كاظم حبيب

 


1032
التجمع العربي لنصرة القضية الكردية

المحاكمات الجارية في تركيا ضد الكرد مسيّسة وتتعارض مع تطلعات الحل السلمي

نقلت وكالات الأنباء العالمية الخبر التالي: بدء محاكمة 151 شخصية سياسية واجتماعية وثقافية كردية أمام محكمة تركية في مدينة ديار بكر في جنوب شرق تركيا بتهمة انتمائهم إلى حزب العمال الكردستاني المحظور. ويشار إلى أن من بين المتهمين هناك 12 رئيس بلدية من أعضاء حزب السلام والديمقراطية. كما يشار إلى أن الشرطة التركية تقوم بتهيئة ملفات أخرى ضد مواطنين كرد يراد تقديمهم للمحاكمة قريباً للمحاكمة بتهمة مماثلة، في وقت تؤكد الحكومة التركية إنها ساعية إلى فتح بدء التفاوض مع القوى الكردستانية في تركيا لحل المسألة الكردية. إن هذه الازدواجية في المواقف والإجراءات تعبر عن حالة من الصراع والتخبط في معسكر القوى الحاكمة في تركيا. فالواقع في تركيا يشير إلى أن هناك ضغوطاً محلية وعالمية, ومن الاتحاد الأوروبي بشكل خاص, متواصلة على رئيس الحكومة التركية تدعوه فيها إلى إيجاد حل سلمي ديمقراطي سريع للقضية الكردية بعيداً عن استخدام السلاح والموت والخراب من جهة, ولكن هناك من جهة أخرى قوى سياسية داخلية أخرى تصر على تعقيد العلاقة مع الشعب الكردي في كردستان تركيا من خلال تقديم المناضلين الكرد, الذين يسعون ويؤيدون ممارسة الطرق السلمية والديمقراطية لحل القضية الكردية, إلى المحاكمة لتصدر بحقهم احكاماً ثقيلة غير شرعية وغير إنسانية. ومثل هذا التصرف فيه غزل مكشوف مع القوى الأكثر يمينية والأكثر شوفينية وعنصرية في المجتمع التركي وفي القوات المسلحة, ولكن مثل هذا الموقف المزدوج لا يعبر عن حكمة ولا عن وعي بحقوق الشعوب صغيرها وكبيرها, كما لا يتسم بمصداقية الحكومة التي تعلن بأنها تريد التفاوض, في حين تعمد إلى المحاكمات والسلاح لفرض حل معين على الكرد هو الرضوخ لإرادتها والقبول باستمرار مصادرة الحقوق المشروعة والعادلة للشعب الكردي. لقد أعلن مناضلو الكرد عن وقف المعارك ضد القوات التركية المسلحة بأمل البدء بالتفاوض, وعلى الحكومة التركية القبول بذلك والبدء الفعلي والعلني بالمفاوضات لصالح كل القوميات التتي تعيش جنباً إلى جنب في الدولة التركية.   
إن من يتوجه صوب الحل العملي والعقلاني الحكيم للمسألة الكردية ويسعى للتفاوض مع القوى الحاملة للسلاح, يفترض فيه القيام بثلاث خطوات جدية للتحضير إلى مفاوضات ناجحة, وهي:
1.      إيقاف كل أشكال الملاحقة البوليسية والقانونية ضد الكرد الديمقراطيين الذين ساندوا مطالب الشعب الكردي ودعوا إلى إجراء مفاوضات سلمية بدلاً من تقديمهم للمحاكمة وإدانتهم دون وجه حق, كما يفترض إلغاء كافة الملفات الأخرى التي يراد إعدادها وتقديم أصحابها للمحاكمة.
2.      إطلاق سراح جميع المعتقلين لأسباب سياسية وبسبب من تأييدهم للقضية الكردية بصورة مباشرة او غير مباشرة, ومنهم الأستاذ عبدالله أوجلان.
3.      البدء الفعلي بالمفاوضات مع حزب العمال الكردستاني والأحزاب الكردية الأخرى والقوى التي حملت السلاح دفاعاً عن حقوق الشعب الكردي وعن مصالحه ومطالبه العادلة والمشروعة.
 إن مواصلة المحاكمات هي جزء من عملية الابتعاد عن هذه النقاط, وهي تأكيد أن الحكومة التركية لا تريد حل المسألة الكردية بالطرق السلمية التفاوضية بل تريد المراوغة وكسب الوقت وتخفيف الضغط الدولي والأوروبي لتكريس الموقف التركي الرسمي الرافض عملياً للحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي في إقليم كردستان تركيا.
ولهذا فاستمرار المحاكمات وإعداد ملفات جديدة للمحاكمة لا يعبر عن إصرار فعلي لحل المسألة الكردية والعيش بسلام ووئام في إطار الدولة التركية التي يفترض فيها أن تكون ديمقراطية وآمنة وملتزمة بتنفيذ حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية. كما يدفع بالقوى الكردية إلى الإحباط والإصرار على مواصلة الكفاح المسلح لانتزاع حقوقهم المشروعة.
إن التجمع العربي لنصرة القضية الكردية يدعو الحكومة التركية إلى انتهاج السبل السلمية, كما يدعو القوى المسلحة الكردية إلى مزيد من ضبط النفس والعمل من أجل توفير مستلزمات التفاوض الناجح للقضية الكردية وقضية الأمن والاستقرار والسلام والتقدم في الدولة التركية.
الأمانة العامة
التجمع العربي لنصرة القضية الكردية
19/10/2010


1033
كاظم حبيب

لنعمل معاً من أجل استعادة الكرد الفيلية لحقوقهم المشروعة في العراق

تجارب شعوب العالم كلها تشير إلى واقع أن كل اغتصاب للحقوق القومية أو لحقوق شريحة وطنية اجتماعية من البشر في هذا البلد أو ذاك تقود دون أدنى ريب وباستمرار إلى بروز توترات وعدم استقرار ونزاعات سياسية واجتماعية, إذ أن من اغتصبت حقوقه لا يمكنه السكوت والإذعان والقبول بالأمر الواقع, بل يناضل بكل طاقاته من أجل استعادة تلك الحقوق المغتصبة.
وبناء على هذا الواقع الفعلي الذي خبرته شعوب العالم, جاءت الكثير من اللوائح الدولية, ومنها لوائح حقوق الإنسان وحقوق الشعوب والقوميات وحقوق المرأة وغيرها تؤكد الأهمية الاسثنائية لإقامة علاقات قائمة على الود والتفاهم والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الدينية أو الاتجاهات الفكرية والسياسية في البلد الواحد والتي تقود بدورها إلى توفير أطيب العلاقات بين سكان الدولة الواحدة وعلى الصعيد العالمي وتأمين الأمن والاستقرار والسلام بين الشعوب.
إلا أن هذه الخبرة الدولية المتراكمة لا تمارسها دول  كثيرة في عالم اليوم, بل, وبسبب وجود قوى قومية يمينية متطرفة او إسلامية سياسية يمينية متطرفة أو قوى رجعية متخلفة على رأس السلطة في هذا البلد أو ذاك, يحصل الاغتصاب الفعلي للحقوق وتبرز التناقضات والنزاعات المسلحة. ويمكن أن نجد مثل هذه الحالة في أكثر من دولة في آسيا وافريقيا, ولكن بشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط ابتداءً من إسرائيل ومروراً بتركيا وإيران والسودان واليمن ... الخ.
وإذا كان العراق قد تخلص من نظام صدام حسين واستبداده وعنصريته وقمعه, وإذا كانت القضية الكردية في العراق قد وجدت حلاً إيجابياً معقولاً ومقبولاً من الشعب العراقي بكل قومياته, فأن العراق الراهن لا يزال يواجه مشاكل كثيرة يفترض اعتماد الحق والمنطق والديمقراطية في حلها. ومن بين تلك المشكلات البارزة نشير إلى مشكلة الكرد الفيلية. لقد صادر النظام الدكتاتوري البعثي الصدامي حقوق الكرد الفيلية وصادر جنسيتهم وهويتهم العراقية وسفرهم إلى إيران أو دفعهم إلى جبهات القتال ليموتوا هناك, أو إلى السجون ليقتلوا أو يدفنوا أحياءً في مقابره الجماعية.
ورغم مرور سبع سنوات على سقوط الدكتاتور لم تبذل الحكومات العراقية المتعاقبة الجهود الضرورية لإعادة حقوق الكرد الفيلية المغتصبة غلى أصحابها. وبالتالي فأن هذه الشريحة الوطنية من العراقيات والعراقيين لا زالت تناضل بإصرار عادل من أجل استعادة حقوقها المشروعة والعادلة, ولا زالت تواجه العنت في تنفيذ ما وعد به الحكام قبل ذاك, سواء اثناء وجودهم في المعارضة أم بعد وصولهم للسلطة مباشرة بهدف الاستفادة من اصواتهم في الانتخابات التي جرت في الفترات السابقة. ويذكرنا موقف الحكام في العراق إزاء الكرد الفيلية بقول الشاعر كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً       وما مواعيدها إلا الأباطيل
إن الكرد الفيلية مضطرون إلى عقد المؤتمرات والاجتماعات وإلى إرسال النداءات إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومختلف حكومات وسفارات العالم لجلب الانتباه إلى حقوقهم المغتصبة وعدم استجابة الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط الدكتاتور صدام حسين إلى الآن في تنفيذ ما صدر من قرارات وقوانين بهذا الشأن واستكمالها لصالح تحقيق الوئام مع هذه الشريحة الطيبة من بنات وأبناء العراق.
البعض يعتقد بأن المؤتمرات لم تعد ذات فائدة, والبعض الآخر يشعر بالإحباط ويكف عن العمل لهذا الغرض بسبب غدر الكثير من الحكام بهم. ولكن علينا جميعاً أن ندرك بأن الحقوق لا تستعاد بسهولة ما لم يكن وراء تلك المطاليب والحقوق من يطالب بها ويناضل بعناد وحيوية من أجلها. لهذا فمن الصواب حقاً الاستمرار بعقد المؤتمرات والاجتماعات في الداخل والخارج وتحريك بنات وأبناء الشريحة الكردية الفيلية بشكل خاص للقيام بكل ما هو سلمي وديمقراطي من أجل استعادة تلك الحقوق المصادرة. كما يفترض تنشيط القوى السياسية الديمقراطية لكي تلتزم جدياً بقضية الدفاع عن حقوق الكرد الفيلية وتجعلها واحدة من قضاياها المهمة والملحة وتضعها في برامج عملها.
ويبدو لي ولغيري أيضاً بأن وضع الخلافات الصغيرة بين الجماعات الكردية الفيلية جانباً أصبح ضرورة ملحة وآنية لكي يمكن ضمان الاستجابة السريعة من أية حكومة عراقية قادمة لتحقيق تلك الأهداف. إن غياب الوحدة الضرورية بين بنات وأبناء هذه الشريحة الكردية الفيلية يضعف قدرتها على المطالبة بحقوقها وعلى التعبئة لصالحها من جهة, ويسمح للآخرين بتجاوز تلك المطاليب عند صياغة شروط العمل المشترك مع القوى الأخرى, كما في حالة التحالف الكردستاني حيث غابت قضية الكرد الفيلية عن النقاط التسعة عشر مثلاً, أو عدم الاهتمام بها, كما هو حاصل من جانب أغلب القوى السياسية العراقية إن لم نقل كلها إلى الآن. إن تجمع وحدة كلمة الكرد الفيلية سيفرض على الحكام الاستمارع لها وتنفيذها.
إن المجموعة الكردية الفيلية كبيرة, وكانت تشكل فيما مضى قاعدة جماهيرية  اجتماعية وسياسية مهمة لقوى اليسار الديمقراطي العراقي, وعلى قوى اليسار الديمقراطي العراقية استعادة هذه القاعدة الاجتماعية لها من خلال التزام قضيتها والدفاع الفعلي واليومي عنها.
19/10/2010                         كاظم حبيب       

1034
كاظم حبيب
حزب الدعوة ومفهوم ممارسته للديمقراطية في العراق

كلما تابعت الوضع الجاري في العراق والأساليب المستخدمة في تأخير تشكيل الوزارة الجديدة, تذكرت مباشرة تلك الندوة التي نظمتها قبل أربع سنوات تقريباً قناة الحرة وشارك فيها بعض الأحزاب السياسية الإسلامية, ومنه بشكل خاص حزب الدعوة ممثلاً بالسيد علي الأديب.
كان البحث يدور عن برامج وسياسات وأساليب عمل حزب الدعوة. قدم السيد علي الأديب مطالعة عن أهداف وسياسات واسلوب عمل حزب الدعوة مشيراً بشكل خاص إلى فلسفة حزب الدعوة وأدوات عمله. فأشار بكلمة واضحة لا لبس فيها إلى أن: الديمقراطية ليست الفلسفة التي يلتزم بها حزب الدعوة بل هي أداة. هذه الجملة التي ربما لم يستطع البعض تفسيرها في حينها, يمكن اليوم فهمها بسهولة وبساطة جداً, إذ أنها ليست معقدة بل واضحة, فهي تعني أن الإسلام فلسفتنا, والإسلام هو الحل, وأن الديمقراطية لا تدخل ضمن مفاهيم الإسلام الفلسفية والسياسة, ولكن هذه الديمقراطية "الغريبة عن الإسلام" يمكن استخدامها كأداة للوصول إلى السلطة, ثم نبدأ بتطبيق فلسفتنا وليست الفلسفة الديمقراطية بما تعنية من حقوق إنسان وحرية فردية وحقوق قومية وحرية المرأة ومساواتها بالرجل وحريات ديمقراطية عامة وحياة نيابية حرة وتداول ديمقراطي سلمي برلماني للسلطة ...الخ.
ولكن طرح الأديب لهذه المقولة كان قد تبلور في سلوك الدكتور إبراهيم الجعفري حين رفض ممارسة الموقف الديمقراطي بعد نهاية ولايته وحاول أن يبقى في السلطة بكل السبل, ولكنه فشل, فعوضها براتب كبير شهرياً يكفي لشراء المزيد من القصور في بريطانيا (60) مليون دينار شهرياً, كما يتداوله الشارع العراقي, واستعيض عنه بشخص آخر من حزب الدعوة كان نائبه في الحزب هو السيد نوري المالكي, الذي اتفق عليه "البيت الشيعي"!
هذا الطرح الصريح والواضح للأديب قد غاب عن ذاكرة الناس لفترة حين بدأ السيد نوري المالكي يطرح بخطاباته وتصريحاته موضوع الوحدة الوطنية ورفض الطائفية وتصدي فعلاً لأفعال جيش المهدي المشينة والشنيعة في البصرة وفي مناطق أخرى من جنوب ووسط العراق وكركوك. 
ولكنه عادت مقولة الأديب إلى الواجهة من جديد بعد أن انتهت السنوات الأربع وانتهت ولاية المالكي بعد انتخاب مجلس نواب جديد بطاقم مماثل للمجلس السابق من حيث التوزيع القومي والطائفي, ولكن المالكي رفض بعناد لا مثيل له تسليم الأمور لرئاسة الجمهورية لتكليف شخص آخر على وفق الاستحقاق الدستوري. فهو لا يزال وبعد مرور سبعة شهور على انتهاء ولايته يرفض تسليم السلطة لرئاسة الجمهورية ومجلس النواب لاختياره ثانية أو اختيار البديل الذي يقرره المجلس النيابي. وبذلك عطل المجلس النيابي الذين يتسلم أعضاؤه رواتب دون عمل يؤدونه (راتب النائب يبلغ 20000 $ x 325 نائب= 7,200,000 دور أمريكي في الشهر الواحد) في مقابل عشرات الآف العائلات تتضور جوعاً, وعطل أعمال مجلس الوزراء وراح يستجدي الحكم كالدكتور أياد علاوي, في دول الجوار, وليس من خلال قوى الشعب والتحالفات المحلية, وبهذا سمح لها بتكريس تدخلها رسمياً في الشأن العراقي بموافقة رئيس الوزراء والمرشح الآخر لرئاسة الوزراء!
من هنا يمكن أن نفهم مضمون ما قاله علي الأديب: إن الديمقراطية أداة للوصول إلى السلطة أولاً, ثم نبدأ بتطبق الفلسفة الإسلامية ثانياً, وفق تفسير حزب الدعوة لها, في البقاء على رأس السطة وعدم السماح لغيره في الوصول إليها. ولم يكن تعبير السيد نوري المالكي الشهير ما "ننطيها بعد" للسلطة لغير حزب الدعوة هو المفسر والمكمل لموضوعة السيد علي الأديب باعتباره الديمقراطية أداة وليست فلسفة عند حزب الدعوة, أداة للوصول وليست للمارسة الحياتية في الدولة والمجتمع.
أدرك مخاطر بعض شروط القائمة العراقية, وخاصة في مجال إعادة جمهرة كبيرة من بعثيي النظام السابق إلى الجيش العراقي, وأدرك مخاطر وجود جمهرة مهمة من بعثيي النظام السابق ضمن القائمة العراقية, وكما عبر عنها صديق لي, "في القائمة العراقية كورة زنابير", وليس كلها طبعاً بل فيها الكثير, إذ أن ذلك يخيف القوى الأخرى والشعب الذي عانى من قمع وشراسة ودموية حزب البعث الذي قاد العراق إلى الهاوية بدلاً من قيادة البلاد إلى مواقع إنسانية متقدمة. كما لم يبرهن الدكتور أياد علاوي على ديمقراطيته المزعومة حين كان في الحكم بل كان فردياً إلى حد اللعنة, كما كان فردياً في علاقته مع رفاقه في حزبه, إذ لم يكن عبثاً استقالة 5 من رفاقه في المكتب السياسي بعد أن بدأ علاوي يمارس مهامه في مجلس الحكم وسبل تعامله غير الديمقراطية في اتخاذ وتنفيذ قرارات "حزبه"!
ومع ذلك علينا اعتماد الدستور العراقي والكف عن التلاعب به والتحايل عليه واستخدامه أداة دون أن نعتمده كمضمون ومفهوم سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي شامل وعام لجميع مرافق الحياة, (وقد جرت المحكمة الاتحادية لترتكب الخطأ ذاته), وخاصة في العلاقة بين السلطات الثلاث, وفي العلاقة بين المجتمع والسلطة السياسية والدولة عموماً, وكذلك بالنسبة للعلاقة بين القوى السياسية العراقية ومجلس النواب والسلطة السياسية والشعب, كمضمون يؤكد التداول السلمي والديمقراطي النيابي للسلطة.
إن أسلوب التشبث برئاسة الوزارة وبالطريقة الجارية حالياً لا تعبر إلا عن نهج مناهض للديمقراطية بكل المقاييس, وهي ليست سوى محاولة لفرض شخص على الدولة والمجتمع, في حين يمكن لقائمته وتحالفه ان يطرحا شخصاً آخر غير المالكي, فليس المالكي هو المنقذ الأعرج للعراق, ففي العراق, كما يبدو لي, الكثير من الأشخاص الفرديين الذين يمكن أن يحلوا محله, ولا نقص لدينا في هذه البضاعة التي تعود للقرون الخوالي من النظم العربية والإسلامية, فالواقع العراقي ينتج الكثير من الفرديين المستبدين, وأن كان بوجوه واساليب وأسباب مختلفة.. تتعدد الأسباب والموت واحد.
أتمنى أن يعي السيد المالكي سوءات النموذج الذي يقدمه لنا بهذا الإصرار, والذي أخشى ما أخشاه هو تأكيده بأن الديمقراطية ليست سوى أداة, ولكن الفلسفة هي الانفراد بالسلطة والاستبداد والتشبث بالسلطة أو فرض الرأي الواحد, كما يجري اليوم في محافظة البصرة وفي محافظة بابل من منع للأغاني والموسيقى والتمثيل والإبداع الفني, كما فعلوا في إلغاء الغناء والموسيقى من مهرجان بابل. إنها المأساة بعينها. إذ إن الأكثرية في مجلسي المحافظتين تمثل القوى المتشددة, ومنها قوى في حزب الدعوة ومن يتحالف معه.
وهذه الحالة تذكرني بما ورد في الكتاب الذي اصدرته في العام 1995 في بيروت تحت عنوان "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة", باعتباره سيكون مستقبلاً موحشا توقعته حينذاك, ولم أكن اتمنى أن يحصل ما توقعته, بسبب معرفتي القريبة بالكثير من قوى المعارضة العراقية, وخاصة الإسلامية منها, التي كانت منذ ذلك الحين تعلن عن أهدافها في ممارسة الطائفية والشمولية وليس الديمقراطية.
كم أتمنى أن يستطيع الشعب وعي ما يجري لينهض بأساليب وأدوات سلمية لتقويم وتغيير هذه الحالة البائسة التي يموت فيها يومياً الكثير من العراقيات والعراقيين ويقارن ذلك بما بذل من جهد عظيم لإنقاذ 33 عاملاً من عمال المناجم في شيلي. هذا هو عين الاحترام للإنسان حيث تكون له قميته الأساسية كإنسان وليس ما نعيشه في العراق إذ لا قيمة للإنسان ولا لموته اليومي على أيدي الإرهابيين او تعذيبه في السجون والمعتقلات على أيدي أجهزة الدولة الأمنية, أو إفقاره إلى حد الكراهية والحقد على الحكومة, وبالتالي بدء الاستعداد لمشاركة البعض غير القليل مع قوى الإرهابية ضد المجتمع, ولكن غالبية الناس الفقراء لا تزال لا تنفذ القول العبقري للإمام علي بن ابي طالب حين دعا إلى مقارعة الجوع ولو بحمل السيف, والذي لا أدعوا له اليوم.
 15/10/2010                     كاظم حبيب
       

     

1035
كاظم حبيب
الحكام الأوباش والرجم بالحجارة حتى الموت !

تفنن الأوباش المستبدون في الأرض وفي مختلف بقاع العالم في ممارسة شتى اساليب التعذيب بحق الإنسان, سواء أكان بسبب جرم اقترفه أم موقف مناهض للحاكم بأمره أو بسبب مزاج خاص لدى الحاكم. وقد عرفت الشعوب شتى اشكال الأحكام التي وضعها الحكام في مواد قانونية أعطيت لها صفة الرسمية والشرعية, في حين إنها تبقى غير شرعية وغير حضارية من منطلق الإحساس بإنسانية الإنسان وكرامته.
وتفنن الحكام في أضفاء صفة الشرعية الإلهية على اساليب القهر والتعذيب والقتل. فمرة يتخذ القرار باسم الآلهة, ومرة أخرى باسم الإله الواحد القهار, وثالثة باسم الأخلاق, ورابعة باسم الشعب, ولكنها كلها كانت لا تجسد سوى الرغبة في ممارسة القسوة إزاء الإنسان المخطئ أو الممارس لحريته وحقوقه المشروعة.
ومن بين أساليب القهر والتعذيب التي كانت ولا تزال تصدرها الكثير من المحاكم في العالم هو حكم الموت, إذ لا يحق لأي إنسان أو جماعة أو سلطة سلب حق الإنسان في الحياة أياً كان الجرم الذي ارتكبه. فبعض المحاكم أوالحكام يقرر القتل بالسم, وآخر بالكرسي الكهربائي, وثالث بالشنق حتى الموت, ورابع بقطع الرأس بالسيف, والخامس برصاصة توجه إلى رأس المحكوم عليه بالموت, وسادس بدفنه حياً في قبور جماعية وسابع خنقه وثامن بوضع الإنسان في حوض للحوامض المذيبة لكل شيء, وتاسع بسلخ جلده أو نفخه من دبره حتى ينفجر أو بتقطيع جسم الإنسان...الخ. وهي كلها أساليب همجية لا يمكن أن تشكل جزءاً من عقوبات في حياة مجتمع متحضر وإنساني, مهما كانت الجريمة التي ارتكبها من يُحكم عليه بتلك الأحكام الموغلة بالقسوة, إذ لا يمكن أخذ الثأر من القاتل بقتله, بل يفترض أن يعاقب بالحبس دون أي شكل من أشكال التعذيب أو استباحة الكرامة.
ولكن أكثر الأساليب وحشية وسادية وعدوانية وانتقاماً من الإنسان هو الحكم برجم الإنسان بالحجارة حتى الموت على من يتهم بممارسة الزنا, أي الزانية والزاني, إذ يحكم على الفاعل بالقتل بهذه الطريقة المتوحشة. وغالباً ما حُكم الرجم بالحجارة على المرأة في مجتمع ذكوري يحتقر المرأة ولا يحترمها ولا يعترف بحقوقها المشروعة.
إن النظم التي تدعي الإسلام هي التي تمارس ارتكاب هذه الجريمة الشنيعةو جريمة الرجم بالحجارة حتى الموت. وقد حُكم على الكثير من النساء المسلمات بذريعة الزنا وهن محصنات, أي ما زلن "بعهدة" أزواجهن. 
لقد قتل الكثير من النساء في كل من السعودية وإيران وغيرهما من الدول التي تتبنى الإسلام والشريعة الإسلامية أسلوباً لها في الحكم والحياة, وأذ توقف الرجم بالحجارة منذ عشر سنوات في السعودية كما يبدو, ولكنه لم يلغ إلى الآن, كما تنفذ بحق آخرين أحكاماً أخرى مثل قطع رأس الإنسان بالسيف أو قطع اليد أو ما إلى ذلك من جرائم تشوه الإنسان وتعطله عن العمل وتهدر كرامته إلى حين موته.
إن إيران وقد حكمت على امرأة إيرانية مسلمة هي السيدة سكينة محمدي أشتياني, أذرية القومية وعمرها 43 سنة, بالرجم بالحجارة حتى الموت بتهمة الزنا تجسد طبيعة هذا النظام الشرس المناهض لحرية وحقوق الإنسان والممارس لأقسى العقوبات والتعذيب بحق الناس المحكومين في سجونه, ومنها سجن أيفين في طهران. ويقال أن الحكم قد أجل تنفيذه أو استبدل بالشنق حتى الموت, وهو أمر مشكوك فيه بسبب الكذب الذي تميزت به السلطات الإيرانية. لقد نفذت إيران في الآونة الأخيرة 73 حكماً بالموت, وهي جرائم إضافية تضاف إلى جرائم النظام التي ترتكبها عصابات الحرس الثوري في إيران أو أتباع إيران خارج إيران, كما يجري في العراق مثلاً. 
إن البشرية المتحضرة حذفت من قوانيها عقوبة الإعدام, وبعضها الآخر توقف عن ممارسته وفي طريقه إلى منعه, في حين ان دولاً أخرى غير متحضرة مثل إيران والسعودية والسودان والصين وكوريا الشمالية وغيرها لا تزال تمارس هذه العقوبة على أوسع نطاق وتنفذ القتل باشكال مختلفة, وأبشعها جريمة الرجم بالحجارة, إنها السادية بعينها.
على مناصري حقوق الإنسان أن ينهضوا في جميع ارجاء العالم لإدانة كل أشكال أحكام الإعدام ومنع حصوله, إضافة إلى منع أسلوب الرجم بالحجارة أو قطع الرأس أو القتل عبر كرس كهربائي أو زرق السم بجسم الإنسان أو الشنق أو غيرها من الأساليب غير المتحضرة والمعادية للإنسان.
لنرفع أصواتنا عالياً من أجل منع رجم المرأة الإيرانية المتهمة بالزنا أو إعدامها باي وسيلة كانت, فايقاف حكم الموت مؤقتاً لا يعني عدم تنفيذه بل تأجيله لتجاوز الضجة الدولية ضد الحكم الصادر بحقها. لنعمل من أجل تحريم كل أشكال الإعدام في إيران وفي غيرها من دول العالم التي لا تزال تمارسه.
لنعمل من أجل اجتثاث أسباب الجرائم التي ترتكب وتغيير القوانين التي تحكم بالإعدام ومنع جميع اشكال التعذيب وقهر الإنسان وإهانة كرامته. لنعمل من أجل صيانة حياة وكرامة وحقوق الإنسان. 
لقد اعتقلت السلطات الإيرانية أثنين من الصحفيين الألمان بتهمة ولوج البلاد دون إذن, وكان هم الصحفيينهو اللقاء بالمحكومة أو عائلتها لمعرفة اسباب الحكم ..الخ. ولا شك في أن حياة هذين الصحفيين يمكن أن تتعرض هي الأخرى للخطر بسبب طبيعة هذا النظام الذي لا يرعى حرمة وكرامة الإنسان, وهو لا يختلف في طبيعته عن حكم الموت الذي نفذ بالمواطن البريطاني من أصل إيراني بازفلت في العراق في عهد صدام حسين قبل حرب الخليج الثانية بتهمة التجسس. لنعمل من أجل إطلاق سراح الصحفيين أو من الحكم عليهم بالسجن بتهمة التجسس.
كاظم حبيب

     

1036
كاظم حبيب
مناقشة بعض ملاحظات وأفكار الصديق الصحفي حمدي فؤاد العاني
جواب على  رسالة مفتوحة

وجّهَ الصديق الصحفي الأستاذ حمدي فؤاد العاني عدة ملاحظات ومداخلات حول الأفكار والملاحظات التي وردت في إجاباتي عن اسئلة موقع الحوار المتمدن والتعليقات التي قدمتها على ملاحظات السيدات والسادة الذين ساهموا في نقد أفكاري واجتهاداتي وملاحظاتي. وقد نُشرت رسالته وملاحظاته على موقع الحوار المتمدن بتاريخ 9/10/2010 برقم 3149. ولهذا يفترض في من يريد أن يقرأ مقالتي هذه أن يقرأ قبل ذاك ملاحظات السيد حمدي فؤاد العاني.
ألخص ملاحظاته في عدة نقاط:
1.   حول دور الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي خلال فترة الحرب الباردة.
2.   لا يرى أي ضير في بقاء سكرتير الحزب الشيوعي العراقي عدة دورات في مركز السكريتر العام أو الأول, أو كما يقول: "يا سيدي وما الضير من بقاء سكرتير الحزب مدى الدهر", وفق تعبيره!
3.   لا يتفق مع ضرورة رفد قيادة الحزب بالشباب ولا يرى أي فرق بين الشباب وكبار السن ما داموا يمتلكون اللياقة الفكرية والسياسية.
4.   لا يرى صواب تغيير اسم الحزب الشيوعي العراقي ويصر على بقاء الأسم كما هو.
5.   يعترض على طلبي من الأحزاب الشيوعية في إعادة صياغة برامجها السياسية ومناهجها.
6.   يرى أن الظرف الراهن هو مؤقت وأن القوى الإسلامية السياسية المسيطرة الآن سينتهي دورها. والمستقبل سيكون للحزب.
7.   حول ثورة 14 تموز 1958 وأخطاء قاسم ومؤامرات الأعداء وخطأ سياسة الحزب في عدم تسلم الحكم حينذاك.
     
أبتداءً أشير إلى أن من غير الحكمة مني أن أكرر ما طرحته قبل ذاك من أراء, إذ أن في ذلك جوانب سلبية, منها مثلاً:
** إرهاق القارئات والقراء بأفكار منشورة سابقاً من جانبي وتشعرهم بالملل من الكاتب ذاته لأنه يكرر نفسه.
** تشعر الطرف الموجهة له الملاحظات وكأن هناك ملاحقة للحزب أو محاولة للإساءة له, إذ ما معنى التكرار في وقت قد ذكرت الملاحظات ولم يؤخذ بها, وانتهى الأمر.
** كما أنها تأتي أحياناً في وقت غير مناسب ولا تساعد على خلق أجواء الفهم المتبادل للملاحظات النقدية فتفسر على أنها تريد تعطيل مسيرة أو نشاط هذا الحزب أو ذاك.
وفي حالة عدم الإجابة عن الاستفسارات التي طرحها الصديق حمدي سيشعر بإهمال إلإجابة عن استفساراته أو مناقشاته وكأنها استهانة به وبما ذكره, خاصة بعد أن اتصل الصديق بي شخصياً عبر الهاتف وطلب مني أن أنشر رسالته وأن أناقشه. كان بالإمكان إجابته على رسالته بشكل شخصي وينتهي الأمر, ولكنه أصر على نشرها وعلى مناقشتها علناً. ويبدو أن له حكمة في ذلك لا أعرفها!
 
1 . لا شك في أن الاتحاد السوفييتي برز دوره منذ نشوئه, إذ أن ثورة اكتوبر 1917 قد هزت العالم كله وزلزلت الأرض تحت اقدام الرأسمالية العالمية, كما أن سقوطه قد هز هو الآخر العالم وزلزل الأرض تحت أقدام الحركة اليسارية العالمية والأحزاب الشيوعية على نحو خاص.
برز الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية وفي المساهمة في تحقيق النصر على الفاشية وفي تكوين المعسكر الاشتراكي وبدء الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية على الصعيد العالمي وبدء الحرب الباردة التي تبلورت بعد أن بدأت الدول الغربية تأسيس حلف شمال الأطلسي والسوق المشتركة.. مما دفع بالدول الاشتراكية إلى تشكيل حلف وارشو ومجلس التعاضد الاقتصادي.
كما برز الاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية بسبب تاييده الكبير في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمحافل الدولية الأخرى لقوى حركة التحرر الوطني على الصعيد العالمي ومساهمته في قصم ظهر الاستعمار القديم في كل من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولكنه برز بشكل خاص في صراعات الشرق الأوسط والبحر الكاريبي وموقفه ضد العدوان الثلاثي على مصر وتأييده لثورة 14 تموز 1958 وإدانته محاولة التحرك ضدها من لبنان والأردن. هذا كله صحيح. هذا هو الوجه المشرق للاتحاد السوفييتي, ولكن كان هناك وجهاً آخر لسياسات الاتحاد السوفييتي الداخلية والخارجية التي يفترض أن تكون واضحة الآن بعد مرور عشرين عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية. واقترح على العزيز أن يقرأ بهذا الصد كتاب الرفيق الطيب الذكر عامر عبد الله على اقل تقدير والموسوم: "مقوضات النظام الاشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد" ط 1. مطبعة رمضان بطلب من دار المدى للثقافة والنشر_ دمشق, 1997.
كما يمكن الاطلاع بتفاصيل كثيرة عن العلاقة السابقة بين الحزب الشيوعي السوفييتي, باعتباره مركز الحركة الشيوعية العالمية حينذاك والأحزاب الشيوعية في العالم في الكثير من الكتب الجيدة التي صدرت خلال السنوات العشرين المنصرمة. ويمكن هنا قراءة كتب الصديق كريم مروة أيضاً.

2 . من جانبي ارى كل الضير في بقاء سكرتير أول أو سكرتير عام لأي حزب كان سنوات طويلة على رأس اي حزب سياسي كان, وليس الأحزاب الشيوعية وحدها, للإسباب التالية وهي نتيجة لتجارب غنية لكل الحركة الشيوعية العالمية ولبقية الأحزاب في العالم. وأن الإصرار في الكثير من الأحزاب على أن لا يستمر أكثر من دورتين هي نتيجة لتلك الخبرة والمعرفة التي تشكلت عبر العقود المنصرمة. ما هي سلبيات بقاء أي شخص على رأس حزب ما فترة طويلة؟
أ‌.   مع مرور السنوات يصبح عمل مسؤول الحزب الأول روتينياً ويفقد القدرة على المبادرة والإبداع والتجديد ويصبح العمل بحكم العادة التي تنشأ أثناء العمل.
ب‌.   وإذ يبدأ اي سكرتير جديد بعمل جماعي واحترام قواعد العمل, يتحول بمرور الزمن إلى شخص فردي يفقد الحس بأهمية العمل الجماعي ويهمله ليس في العلاقة مع اللجنة المركزية فحسب, بل وبشكل خاص مع قاعدة الحزب وكوادره.
ت‌.   ثم يصبح تدريجاً مستبداً بأمره لا يتحمل النقد ولا يمارس النقد الذاتي. يحتقن وجهه حين ينتقد ويرتفع صوته ويهدد ويتوعد بأن المنتقدين يريدون القضاء على الحزب أو تدميره. ثم يبدأ بالشعور بأن تخليه عن المسؤولية الأولى تفقد الحزب قيادته التي لا تعوض, ولا يرى في رفاقه من يستحق أن يأخذ موقعه. وحين يكون السكرتير العام وحزبه في السلطة ويواصل دور الشخص الأول تكون الطامة كبيرة والعواقب وخيمة. يحق لنا ويفترض فينا أن نعود إلى تجارب الحزب الشيوعيي السوفييتي والدولة السوفييتية في عهد ستالين وإلى تجار قادة والأحزاب الشيوعية وحكامها في الدول الاشتراكية لنرى بوضوح سوءات استمرار سكرتير ما سنوات طويلة على رأس الحزب والدولة أو أحدى هاتين المهمتين.
ث‌.   يهمل القراءة الفكرية والنقاش الفكري الهادئ ويرى نفسه وكأنه قد ختم العلم. 
ج‌.   يشكل تدريجاً بطانة له تؤيده في كل قراراته وتقف ضد من يمارس النقد أو يسعى لتغييره. ويبدأ ذلك في المكتب السياسي وينتقل إلى اللجنة المركزية ويمتد إلى كوار الحزب وقواعده.
ح‌.   يفقد القدرة على التمييز بين المخلصين من الرفاق المنتقدين له, وبين البطانة المادحة له والمصفقة له حقاً أو باطلاً. ..الخ.
خ‌.   ويجد أمراً طبيعياً ولذة خاصة حين توضع صوره في مقر الحزب أو في مكانات أخرى حيث يختفي التواضع ونكران الذات ويفقد العلاقة الضرورية مع الجماهير ومع الواقع. 
د‌.   وحين يبدأ التراجع في نشاط الحزب لا يسعى إلى التفكير باسبابه الذاتية أو بدوره في الحزب, بل يتحرى عنها في الواقع القائم في هذا البلد أو ذاك, وهو أمر مضر حقاً, أو في بعض المواقع الأخرى في الحزب. إنه يسعى إلى إعفاء نفسه من المسؤولية ورميها على عاتق الآخرين!
في مثل هذه الحالات, التي نجد نماذج كثيرة لها في عالم الأحزاب, ومنها الأحزاب الشيوعية, تنأى الأحزاب عن التجديد الفكري والسياسي والمبادرة والإبداع في العمل ويتقلص دور الحزب ويتراجع في مختلف المجالات, وخاصة في مجال ملاحقة التحولات الفكرية والسياسية على الصعد المختلفة, إذ تسود قاعدة عامة "ليس في الإمكان أبدع مما كان".
وإذا عدنا إلى الحزب الشيوعي العراقي, فمن الضروري أن اشير إلى أن القرار الذي اتخذه المؤتمر الخامس حول حصر انتخاب السكرتير الأول لدورتين فقط لم يأت عبثاً وكان ضرورة موضوعية, وجاءت نتيجة تجربة الحزب الشيوعي العراقي ذاته وتجارب الأحزاب الشيوعية الأخرى. لقد كان القرار صائباً حقاً بغض النظر عمن يكون السكرتير العام. لقد اتخذ القرار في المؤتمر الخامس قبل الظهر, ثم اقترح أحد ممثلي الحزب في تنظيم بريطانيا (د. م ي.) ان يعاد النظر في القرار في اجتماع بعد الظهر. وافق الاجتماع على إعادة النظر بالقرار وتم إلغاء ذلك, وهو مخالف عموماً لقواعد العمل في المؤتمرات الحزبية, وهي بادرة حصلت لأول مرة.
ومع ذلك ليس لي غرض شخصي من مقترح إعادة النظر بقرار أن يبقى السكرتير الأول مسؤولاً أكر من دورتين أو ثلاث دورات أو أكثر أو كما تقول مدى الدهر, بل أنصب تفكيري على  مصلحة الحزب, وهو ليس موجهاً ضد الرفيق ابو داود بل بشكل عام. في كتاباتي السابقة انتقدت بقاء الرفيق عزيز محمد مدة 27 عاماً على رأس الحزب و54 عاماً في اللجنة المركزية و52 عاماً في المكتب السياسي. والآن مر على وجود الرفيق أبو داود 17 عاماً على رأس الحزب وو34 عاماً على ترشيحه وعضويته في اللجنة المركزية, وهي فترة طويلة, كما أرى, ولكن يبقى الأمر متروكاً للحزب وللرفيق ذاته. إذ أن ما ذكرته من جوانب سلبية يمكن أن تظهر في كل حزب ومنها الحزب الشيوعي العراقي.

3 . القاعدة العامة يا رفيقي العزيز أبو حمادة أن الإنسان الشاب, (والمقصود هنا بين 20-45 سنة), يمتلك من الحيوية والطاقة الذهنية والقدرة على المبادرة والإبداع والحركة والتجديد وتحمل المسؤولية والقدرة على اتخاذ القرارات أكثر بكثير جداً من شخص بلغ الستين او السبعين من العمر أو وصل إلى عمرنا, أنت وأنا. إنها مسألة مرتبطة بجوانب بايولوجية الإنسان لا يمكن نكرانها وتجاوزها.
كبار السن يمتلكون الخبرة وربما معارف كثيرة أصبحت قديمة بحكم تقادم العلوم بسرعة هائلة, كما إنها ترتبط بقدرتهم على متابعة الجديد. كبار السن يمتلكون حكمة معينة, ولكنهم لا يمتلكون الكثير من الجوانب الأخرى التي يفتقدها الإنسان بمرور السنين ومنها الذاكرة النشطة. علينا نحن الذين تجاوزنا سن معينة أن لا نأخذ مهمات حزبية قيادية أو مسؤولية مباشرة, بل يمكن أن نساهم بتقديم المشورة والمساعدة قدر الإمكان أو تقديم الملاحظات والنقد البناء, ولكن ليس من واجبنا أخذ وتحمل مسؤوليات كبيرة, إذ أن نتائجها ستكون في غير صالح الأحزاب السياسية. هناك صراع بين الأجيال, ولكن علينا أن نعي أهمية ودور الشباب نحن الشياب دون أن نحس بالغبن او نسيء الظن بقدرات الشباب الذين يريدون تولي المسؤولية ولديهم القدرة والكفاءة وسرعة التعلم والإجادة بأضعاف ما يقدر عليه رجل بمثل عمري.
حين كنت شاباً, عزيزي حمدي, كنت غير كاظم الحالي بكل المقاييس, بما في ذلك القدرة الفكرية والقدرة على التجديد وسرعة المبادرة والحركة والقدرة استيعاب التقنيات الحديثة والجديد وسبل استخدامها, ةكذلك امتلاك قوة الأعصاب في مواجهة الأحداث. إن الشاب قادر على اتخاذ القرارات بسرعة أكبر, في حين تزحف عملية اتخاذ القرارات لدى الأشخاص من كبار السن.  لم أعد كما كنت عليه في السابق, وأنت كذلك. مع ذلك أتمنى لمن تريده ان يبقى مدى الدهر الصحة الموفورة والفكر النير والحياة السعيدة, وأرجو للحزب التوفيق معه وببرفيق أبو داود النجاح في إداء مهماته الكبيرة.
4 . أوضحت رأيي بصدد تغيير اسم الحزب الشيوعي العراقي, ولم تقنعني ملاحظاتك ومداخلتك, رغم احتامي لوجهة نظرك, إذ أن الحنين إلى الماضي وتراث الحزب هو الذي يخيم الآن, وهو غير كاف, إذ أن الحاجة ماسة, كما أرى, إلى اتخاذ خطوة التغيير بجرأة بارتباط مع واقع المهمات التي يفترض النهوض بها. لم يختر فهد ورفاقه اسم الحزب الشيوعي العراقي ابتداءً, بل كان اسم الحزب أولاً, وكما تعرف "جمعية مكافحة الاستعمار والاستاثمار", ولكن الأممية الثالثة فرضت على الأحزاب العمالية كلها أن يكون لها اسماً موحداً هو الحزب الشيوعي. كما تغير اسم الحزب الاشتراكي المصري إلى الحزب الشيوعي المصري, وعانى الحب كثيراً من جراء ذلك ولا زال يعاني. الأمر متروك للحزب الشيوعي العراقي ومؤتمراته ورفاقه, ولا أريد الخوض أكثر من ذلك بهذا المضوع. لكل حزب الحق في اختيار الاسم الذي يناسبه ويرى فيه فائدة له.
5 . بشأن برامج الأحزاب الشيوعية في الدول العربية اقترحت ما يلي:
ارى بأن المرحلة الراهنة تستوجب من الأحزاب الشيوعية التعمق باستخدام المنهج المادي الجدلي والمادي التاريخي في دراسة الماضي والواقع القائم والغوص فيهما وفهم التغييرات والتحولات الجارية على الصعيدين العالمي والإقلمي وعلى الصعيد الداخلي خلال السنوات العشرين المنصرمة على أقل تقدير. ثم القيام بتحليل كل ذلك واستخلاص المهمات التي توضع في برنامج جديد. أشعر بأن ما جرى إلى الآن غير كافٍ ويستوجب جهداً أكبر.
أما إذا كان أي حزب من هذه الأحزاب أنه قد أنجز هذه المهمة فهذا شأنه. ولا أستطيع تغيير ذلك. ولكني لا أزال أرى بأن جميع الأحزاب الشيوعية في الدول العربية بحاجة ماسة إلى ذلك, إلى دراسة الماضي والحاضر واستشراف المستقبل, أي إلى تحديد المشكلات الأساسية  وجوهر الصراعات الجارية والمهمات التي يفترض طرحها والسعي لتنفيذها وتعبئة فئات المجتمع حولها.               
6 . الوضع الراهن في العراق لا يزال سيئاً رغم مرور سبع سنوات على إسقاط الدكتاتورية. وهذا الواقع يستوجب التفكير بالحلول, يستوجب التغيير. والتغيير لا يأتي أوتوماتكياً بل يتطلب العمل, والعمل يتطلب الكثير من الأمور الأخرى. يمكننا أن نقول بأن هؤلاء سينتهون يوماً ما, وهذا صحيح, ولكن متى؟ هذا هو السؤال الذي يفترض ان نعمل من أجله ونسعى إليه, وليس أن نقول أن هؤلاء لا بد أنهم سينتهون!
الجماعات الإسلامية السياسية لا تعود إلى القرن الحادي والعشرين, بل تعود القرن الأول الهجري في ما تريد إقامته في العراق حالياً, ولذلك فهي ليست من هذا العصر, بل من عصر مضى وانقضى, وهم بقايا على الصعيد العالمي ستنتهي لا شك في ذلك. والمستقبل لقوى الديمقراطية والتقدمية. وهذا أمر لا شك فيه ايضاً, لأن حركة التاريخ يمكن ان تصاب بنكسات في بلد ما او مجموعة بلدان أو جزء من كل, ولكنها تبقى على الصعيد الكلي تسير نحو الأمام وتحقق المنجزات وتجر خلفها بقية دول العالم. هذا صحيح, وهو تفكير ديالكتيكي. ولكن المسألة ليست هنا, بل في عملنا وكيف يمكن أن نعجل من العملية وكيف نؤثر على مسيرة حركة التاريخ لكي تتوافق مع ما يجري على الصعيد العالمي أو الكلي؟
علينا ابتداءً أن لا نتحرى عن توافقات غير سليمة مع قوى الإسلام السياسية, أن لا نسعى إلى التناغم مع افكارهم الغيبية أو السكوت عن ممارساتهم أو عدم النضال الفكري والسياسي ضد طروحاتهم. فالنضال الفكري ضروري كضرورة النضال السياسي وعملية التنوير في المجتمع. لحظ مواقفهم إزاء الفن وعموم الثقافة في المجتمع, فن الرسم والنحت والموسيقى والغناء والرقص, لاحظ موقفهم من المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل .. لا يجوز السكوت عن كل ذلك ولا يجوز القبول بطروحتهم.
7 . لقد نشرت الكثير عن ثورة 14 تموز 1958, بما في ذلك موضوعات في الذكرى الخمسينية, ثم كتبت عن موضوع الانقلاب الذي اقترحه البعض في اللجنة العسكرية ضد حكومة قاسم حين بدأ بتغيير سياساته. لا أتفق مع رايك بهذا الصدد. لو قام الحزب بتلك المغامرة لأقتلع من الأرض العراقية حينذاك لأسباب كثيرة يفترض فيك أن تفكر بها جيداً. اعتقد أن كل القوى السياسية في العراق قد ارتكبت أخطاء فادحة حينذاك, قاسم والقوى القومية والبعثية والقوى الكردية والحزب الشيوعي العراقي... الخ. ولكن أكبر الجرائم ارتكبتها القوى القومية اليمينية والقوى البعثية حينذاك التي تعاونت مع القوى الإمبريالية والرجعية المحلية وقوى الإقطاع وشركات النفط الاحتكارية والقوى القومية واليمينية العربية في كل من مصر وسوريا.
أخطاء الحزب الشيوعي ليست قليلة حينذاك, بل لا بد من ذكرها وبجرأة لكي يتجنب الحزب الوقوع بها ثانية وفي أي وقت كان. وعدم قيامه بانقلاب ضد قاسم ليس من بين تلك الأخطاء التي أعنيها.
كنت أنتظر من الرفيق عزيز محمد أن يتحدث أكثر في لقاءاته الصحفية المهمة التي أجراها معه الصحفي السيد موفق التميمي حول أخطاء الحزب في الفترة الواقعة بين 1958-1963 ولا يكتفي بما ذكره في رؤيتنا لعبد الكريم قسم وما كنا نريده منه.

كنت أتمنى عليك صديقي العزيز. أن تقرأ ملاحظاتي بعين أكثر نقدية وأنت الذي تمتلك تجربة نضالية طويلة, رغم التقييد الذي عانيت منه خلال فترة حكم البعث وصعوبة اطلاعك على الجديد مما نشر في العالم, وأتمنى عليك أن تعيد قراءة رسالتك بعين أكثر نقدية ايضاً لتكتشف أحياناً غير قليلة انك تناقض نفسك في الطرح. ولكن ليس بودي أن اذكرك بها, فأنت أكثر قدرة مني على رؤيتها حين تعيد قراءة ما كتبته أنت وأنا.
أشكرك على رسالتك الكريمة وودك الصداقي الصافي متمنياً لك الصحة وطول العمر والاستمرار في النضال في صفوف الحزب الذي اخترته منذ ما يقرب من ستة عقود وضحيت الكثير من اجله ولا تزال.
دمت عزيزاً وسالماً, واشد على يديك.
كاظم حبيب
برلين في 10/10/2010                 

   

1037
كاظم حبيب
هل يتحرك الإرهابيون من المسلمين في العالم دون دعم عربي وإسلامي؟

خلال العقدين المنصرمين تسنى لقوى الإسلام السياسية الإرهابية التي رعتها وغذتها وطورتها ثلاث دول أساسية خلال العقد التاسع من القرن العشرين هي الولايات المتحدة الأمريكية, التي مدتها بالسلاح والتدريب والمعلومات, والمملكة العربية السعودية التي مدت تلك القوى بالتعليم والفكر الديني المتطرف والمال والأفراد, وباكستان التي احتضنت ودعمت لوجستيا ووفرت لها الحماية وعززت تعاونها وتشابكها مع أجهزة الأمن الباكستانية وساعدت على فتح المزيد من المدارس الدينية ذات النهج الحنبلي الوهابي فيها, لكي تنزل الهزيمة بقوات الاتحاد السوفييتي في افغانستان. وقد كان لها ولغيرها من الدول الغربية والعربية ما أرادت فعلاً. ولكن ماذا بعد الاتحاد السوفييتي الذي انتهى أمره في بداية العقد الأخير من القرن العشرين؟ لقد انقلب السحر على الساحر, وكأن المثل الشعبي العراقي ينطبق على هذه الدول حين يقول:
"يا حافر البير لا تغمج مساحيها, خاف الفلك يندار وانت التگع بيها", انقلب على الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وباكستان, ولكنه لم يقتصر عليها بل امتد إلى الكثير من دول العالم. وكان ما كان قبل وبعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 من العمليات الإرهابية الدامية لهذه القوى في مناطق كثيرة أخرى من العالم.
إلا أن نشاط هذه القوى قد تركز في السنوات الأخيرة في كل من أفغانستان والعراق, وسقط بسبب الساحر القديم وسحره مئات الوف الضحايا قتلى وجرحى ودمار واسع وخسائر مالية لا حصر لها. ولم يتوقف عن مناطق أخرى في ذات الوقت. وإذا كانت الولايات المتحدة قد استطاعت إبعاد عمليات الإرهابيين عن بلادها, فإنها عجزت إلى الآن عن إنهاء هذه الحرب ضد الإرهاب, وهي تعلن بين فترة وأخرى عن اكتشاف خلايا جديدة ومحاولات جديدة جادة لعمليات دموية حقاً.
لم يعد تنظيم القاعدة الإرهابي كما كان عليه في السابق, إذ تلقى ضربات قاسية حقاً في كل مكان, ولكنه, ورغم تلك الضربات, لا يزال يمتلك إمكانيات مهمة قادرة على إنزال ضربات شديدة ومتواصلة في كل من أفغانستان والعراق, ومن ثم في اليمن, كما أنه عمد إلى تهديد العالم الغربي بضربات قاسية تنزل أفدح الخسائر بتلك الدول من خلال تحريك بعض خلاياه النائمة فيها او المرسلة إليه بعد إنجاز تدريبها في افغانستان وباكستان. لقد فشلت تلك المحاولات بفضل وعي أجهزة أمن تلك الدول ونشاطها الداخلي في داخل تلك التنظيمات الإرهابية, ولكنها في ذات الوقت تقود إلى عدة عواقب سلبية, نشير إلى بعضها:
1.   توجيه المزيد من الموارد المالية لأغراض حماية سكان الدول الغربية التي تبقى في قلق دائم من احتمال ضربات موجعة تنزل بها.
2.   زيادة الإجراءات الأمنية التي تمارسها تلك الدول الغربية بهدف الحماية, ولكنها تعتبر مقيدة جداً لحرية حركة ونشاط الإنسان وتزيد من متاعب السفر والتنقل والتدخل في شؤون الأفراد.
3.   تسيء إلى سمعة الإسلام والمسلمين والمسلمات, وهي سيئة عموماً في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها, كما ترفع من مستوى الخشية والقلق لدى تلك الشعوب من المسلمات والمسلمين المقيمين في هذه الدول, مما يزيد ويعقد من التفاهم المتبادل والحياة المشتركة في بلد واحد, ويدفع بها إلى اتخاذ إجراءات إضافية ضد الهجرة والإقامة والمراقبة.
4.   وهذه الظاهرة تحرك المزيد من القوى اليمينية في عدائها لا ضد الأجانب عموماً, بل ضد المسلمين من العرب وغير العرب بشكل خاص, وترفع من الكراهية وتنشط الفكر الشوفيني فيها.
5.   وقد وجدت هذه الحالة تعبيرها الواضح في الموقف من إقامة المساجد والجوامع أو من الحجاب في أوروبا, خاصة وأن القوى الإسلامية السياسية قد حولت الكثير من تلك المساجد والجوامع إلى مواقع للخطب السياسية ضد المسيحية وزيادة الكراهية الدينية أو الحجاب وكأنه قضية إسلامية, في حين انها اصبحت سياسية لا غير.
علينا أن نؤكد هنا ومن جديد ما أشرنا إليه في مقالات أخرى ما يلي: لا يمكن تصور وجود تنظيمات إرهابية على نطاق واسع تتحرك بحرية وحيوية وتوجه ضربات قاسية وتهدد الدول العظمى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا وغيرها من الدول الأوروبية الأخرى وتقلق شعوبها ووتنغص حياة البعض منها وتثير حفيظة تلك الشعوب ضد الإسلام والمسلمين القاطنين في بلدانها, دون أن تتسلم دعماً مالياً ولوجستياً متنوعاً وتتزود بمزيد من الإرهابيين الملتحقين بتلك القوى الإرهابية من بعض الحكومات في الدول العربية والإسلامية, ومن منظمات وجوامع ومساجد ومدارس دينية وشخصيات مسلمة غنية تعيش في الدول الأوروبية أو في الدول الغربية عموماً. فإلى الآن تجد قوى الإرهاب الإسلامية السياسية في هذه الجهات المعين غير الناضب في تزويدها بما تريد لممارسة إرهابها على الصعيد العالمي. إذ لو توقف ذلك المعين المجهز بكل شيء, لتقلصت ثم توقفت واندحرت تلك القوى الإرهابية المقيتة. 
من المفيد هنا إيراد بعض النماذج في هذا الصدد:
نموذج 1, السعودية: في الوقت الذي تقوم المملكة العربية السعودية بمحاربة الإرهابيين في بلادها وتطاردهم وتقتل البعض المهم من المنظمين منهم من جهة, تقوم قواها الإسلامية السياسية ومدارسها الدينية والكثير من شيوخ الدين فيها وشخصيات كثيرة من أغنيائها وشركاتها بتقديم مختلف أشكال الدعم لتنظيمات القاعدة الإرهابية من خلال التعليم والتثقيف الفكري والسياسي في المدارس السعودية في المملكة وفي شتى بقاع العالم أو التبرع بالأموال أو تجنيد الأفراد من جهة أخرى, وبالتالي فأن القوى الأخيرة تساهم في تكوين وتوفير إرهابيين جدد تعمل في المملكة وترسل إلى دول أخرى لممارسة النشاط الإرهابي في آن واحد.
نموذج 2, باكستان: في الوقت الذي تتعاون باكستان مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الأطلسي بمكافحة الإرهاب في باكستان, تقوم أجهزتها الأمنية والكثير من العاملين في الجهاز الحكومي بدعم مباشر وغير مباشر لقوى الإرهاب عبر العلاقات القديمة التي نشأت بينها وبين قوى الإرهاب سابقاً وحافظت على تلك العلاقات وجددتها وفق قواعد عمل مشترك جديدة, لأنها أصبحت مرتبطة بها بعلاقات قوية وفساد مالي متفاقم في البلاد. فهم يمدون القوى الإرهابية بمعلومات قيمة عن التحركات المشتركة وعن المواقع التي يمكن ضربها بعيداً عن اعين الشرطة. كما يمكن تزويدهم بالكثير من السلاح والعتاد والمتفجرات من ترسانة النظام الباكستاني لسيادة نظام الفساد في كل البلاد الباكستانية. وبالتالي فأن باكستان تحارب بيد اليمنى, وتمد باليد اليسرى ما تحتاجه قوى الإرهاب الدولي لمواصلة نشاطها. ولم يعد هذا الأمر خافياً على أحد.
نموذج 3, إيران: قوى الإرهاب السياسية الإسلامية على الصعيد العالمي هي قوى تنتمي إلى المذهب الإسلامي الحنبلي الوهابي عموماً, وهو مناوئ للمذهب الشيعي الصفوي السائد في إيران. ولكن لإيران أجهزتها الإرهابية التي تعمل في دول أخرى كالعراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين وباكستان وافغانيتان وغيرها أولاً, وتتعاون ثانياً مع القوى الإرهابية الأخرى التي تلتزم بالمذهب السني الحنبلي الوهابي بأمل تنشيط العداء للولايات المتحدة الأمريكية وتعقيد الأمر عليها في الدول الأخرى, كما يحصل في العراق حيث يوجد مثل هذا التعاون وبصيغ مختلفة, وكذلك في غزة مثلاً, إذ أن القوى الإسلامية السياسية (حماس) تشكل جزءاً من الأخوان المسلمين الأكثر تطرفاً في العالم العربي, كما يبرز ذلك في التعاون الكبير مع قوى إيران في لبنان, قوى حزب الله.
وفي الوقت الذي تقيم قوى افسلامية عموماً الدنيا ولا تقعدها بسبب منع بناء منارة لجامع في سويسرا أو في أي مكان آخر من الدول الغربية تنسى هذه الدول العربية والإسلامية أنها تمنع إقامة كنائس فيها, كما في السعودية, أو تسكت عن حرق الكنائس فيها أو لا تعلن عن تحقيقاتها بهذا الصدد, كما في العراق.   
وهناك نماذج كثيرة أخرى يمكن إيرادها في هذا الصدد أصبحت واضحة لمن يحاول متابعة نشاط قوى الإرهاب في دول "العالمين العربي والإسلامي", أو في الجاليات العربية والإسلامية في الدول الغربية.
إن المهمة المركزية التي تواجه القوى المدنية والديمقراطية في الدول العربية والإسلامية وفي إطار الجاليات الإسلامية والعربية في الدول الغربية هو النضال المكثف ضد فكر وسياسات وممارسات ونشاطات قوى الإرهاب والدول والقوى والجماعات الإسلامية الأخرى التي تدعم نشاطها وتمدها بما يساعدها على البقاء واستمرار قتل البشر والتخريب وتشديد الصراع بين اتباع الديانات المختلفة في العالم.
7/10/2010                     كاظم حبيب     

1038
كاظم حبيب
هل كلما ضعفت إيران دولياً, ازداد تدخلها الفظ في العراق؟

المتتبع لأوضاع إيران السياسية والاقتصادية والاجتماعية, الداخلية منها والدولية, يجد أمامه لوحة داكنة ومحزنة حقاً, لأنها ذات تأثير سلبي مباشر على أوضاع الشعب الإيراني قبل غيره, رغم إنها تؤثر على أوضاع شعوب الدول المجاورة أيضاً. فسياسة الحكومة الإيرانية اليمينية والشوفينية المتطرفة غب نهجها العام تقود البلاد إلى خمس عواقب سلبية وأساسية مباشرة, أشير إليها فيما يلي:
1.   تنامي الاختلالات في السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة الإسلامية الإيرانية التي تبرز في توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي في صالح السياسات العسكرية والعسكرة وإنتاج السلاح النووي في مقابل إهمال واضح للسياسات الاقتصادية التي تنمي الإنتاج الزراعي والصناعي في وقت تزداد مجالات المقاطعة الاقتصادية والمالية بوجه إيران والتي ستبرز في شحة توفر السلع لأفراد المجتمع.
2.   تعاظم الفجوة الدخلية بين الفقراء والأغنياء لصالح النخبة الحاكمة والمتحالفين معها والمقربين منها المهيمنين على السوق الإيراني, رغم ان السوق لا يقف كله إلى جانب هذه الحكومة بسبب سياستها المعطلة لحركة القوانين الاقتصادية الموضوعية. كما أن حالة الفقر والعوز من جهة, وتفاقم شحة المواد في السوق الداخلية من جهة أخرى, وصعوبة التحكم في اسعار السلع الاستهلاكية من جهة ثالثة, ستزيد من التأثير والعواقب السلبية للقرارات الدولية التي تواصل مقاطعة إيران في الكثير من المجالات الاقتصادية والمالية وتشددها بين فترة واخرى.
3.   تزايد الإرهاب المسلط على رقاب الناس وتفاقم الممنوعات في الحياة السياسية والاجتماعية اليومية وامتلاء السجون الإيرانية بمعتقلي الفكر والرأي السياسي, اي لمخالفي رأي وسياسة الحكومة الإيرانية, بمن فيهم قوى إسلامية سياسية تشكل جزءاً من النظام السياسي الإيراني. كما أن هذه السياسة ستزيد من النقمة على الحكومة وتوسع قاعدة المعارضة السياسية في البلاد وتخلق فجوة متسعة بينهما.
4.   تفاقم الصراع القومي بسبب السياسات الشوفينية للنظام الإيراني من جهة, وطموح بنات وأبناء القوميات الأخرى غير الفارسية في إيران في الحصول على حقوقهم القومية المشروعة والعادلة. ويمكن أن نتابع هذا الواقع في التحرك الكردي في إقليم كردستان إيران على سبيل المثال لا الحصر.
5.   ومما يزيد من التبعات المالية على الميزانيتين التنموية والاعتيادية في إيران واقع زيادة دعم الحكومة الإيرانية بالمال والسلاح إلى عدد من الجهات الأجنبية, منها على سبيل المثال لا الحصر, حزب الله في لبنان, حماس في غزة والضفة الغربية, أتباع إيران في العراق, وأتباعها في الخليج العربي والسعودية واليمن وفي غيرها من الدول, وخاصة في باكستان والهند وأفغانستان وإندونيسيا وبعض الدول العربية الأخرى, وخاصة في مصر والسودان.
إن السياسة الخارجية الإيرانية تسمح للمتتبع بوضع يده على الحقائق التالية:
1.   سعي إيران الثابت من أجل تكون القوة العظمى في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص لكي يمكنا التأثير المباشر على سياسات هذه الدول وتتوسع اقتصادياً وثقافياً ومذهبياً فيها. ويُفترض في المذهب هنا أن يُستخدم كأداة لصالح أهداف التوسع الاقتصادي للدولة الفارسية في المنطقة والعالم الإسلامي.
2.   إصرار إيران على إنتاج السلاح النووي بكل السبل المتوفرة ولو جاء على حساب شعوبها وعزلتها الدولية وربما انهيارها المفاجئ.
3.   تشديدها للصراعات الإقليمية باتجاهات ثلاثة مذهبية (شيعة-سنة), وفلسطين-إسرائيل وعلى الصعيد العربي بين لبنان وسوريا من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى, إضافة إلى تشديد الصراع داخل لبنان بين السنة والشيعية وإيصالها إلى حد الحرب الأهلية.
4.   مواصلة النشاط الإسلامي السياسي المذهبي في الدول الأوروبية وتكوين لوبيات داعمة لنشاطها من المسلمين الشيعة من مختلف البلدان لصالح سياساتها ومواقفها وجعل تلك الخلايا نائمة لفتروة طويلة إلى حين توقع أو انفجار فعلي للصراع مع الغرب واستخدامها لأغراض كثيرة.     
5.   تطوير الجهاز الأمني الإيراني في مختلف دول العالم ذات الأهمية لسياساتها الخارجية المرتبط بالسفارات الإيرانية أو شركات الطيران الإيرانية أو المساجد والمدارس الدينية التي تمولها إيران بهدف تزويدها بما تحتاجه من معلومات وتأمين عملاء لها من مواطني تلك الدول أو من مؤيديها من الأجانب. وهي ذات السياسة التي مارسها قبل ذاك الدكتاتور صدام حسين.
إن هذه السياسات المتطرفة وضعت إيران في مواجهة العالم بشكل عام, والعالم الغربي بشكل خاص, وأدت إلى مزيد من العزلة الدولية وإلى زيادة مصاعبها الاقتصادية والمالية والاجتماعية, ولكنها شددت بالأساس من مصاعب الشعب الإيراني الفقير والكادح والمضطهد.
وإزاء هذا الواقع, وللتخفيف من الضغط الداخلي والدولي على سياساتها, تعمد الحكومة الإيرانية ورئيسها الدكتاتور ومرشدها "الأوحد" إلى ممارسة سياسة زيادة التدخل في شؤون المؤيدين لها في منطقة الشرق الأوسط, وبشكل خاص في العالم العربي, وبشكل أخص في العراق ولبنان وفلسطين, بدلاً من تغيير سياساتها الراهنة.
من المعروف عن إيران, ومنذ أن أُسقط النظام الدموي في العراق, إنها قد نجحت في بناء قاعدة أساسية لها في العراق مكنتها من فرض سياساتها على العراق, ومنها:
1.   إقامة أكبر جهاز أمني لها يمتد من البصرة إلى كل الجنوب العراقي والوسط وبغداد ومن السليمانية إلى محافظات كردستان العراق والموصل.
2.   زرع منظمات غير حكومية دينية وغير دينية في مختلف مناطق العراق تأتمر بأوامر إيران وتتسلم الدعم المالي منها.
3.   غلغلة عدد غير قليل من عملاء الأجهزة الأمنية الإيرانية من الرجال والنساء في الأحزاب السياسية الإسلامية العراقية وفي أجهزة الأمن والشرطة العراقية, إضافة إلى مجموعات من الحرس الثوري والبسيج ممن يحملون الجنسية العراقية أو العراقية والإيرانية في آن. البعض من هؤلاء لا يخفي تأييده لإيران من منطلق مذهبي أو سياسي, وبعضهم الآخر يتحرك بعكس الاتجاه, ولكنه جاهز في الملماتلتأدية المهمات. ويمكن أن نرى مثل هذا التوزيع للعمل في الأحزاب الإسلامية السياسية وفي بعض مواقع الدولة والحكومة وفي المليشيات المسلحة التي حلت "رسمياً" أو لم تحل "رسمياً" ولكنها قائمة وفاعلة.
4.   السيطرة الواسعة لإيران على الاقتصادي العراقي من خلال ثلاثة حقول:
أ‌.   شركات التصدير الإيرانية التي تعمل بشكل واسع في العراق وتهيمن على نسبة عالية من قيمة استيرادات العراق وتتقاسم معها بنسبة أقل الشركات التركية؛
ب‌.   شركات إيرانية مقاولة تمارس مهمات البناء والتعمير؛
ت‌.   استثمارات إيرانية في حقول مختلفة سياحية ودينية وثقافية, مثل الفنادق وشركات نقل ومحلات تجارية, تؤسس لإيران مواقع اجتماعية مهمة في المجتمع العراقي؛
ث‌.   ويتغلغل الإيرانيون في أجهزة ووسائل الإعلام والدعاية الحكومية وغير الحكومية, وخاصة في الإعلام الإسلامي السياسي والمذهبي, كما إن نسبة عالية من بثهم الإذاعي والتفزيوني العربي موجهة لقضايا التدخل في الشأن العراق ولبنان وحماس.
إن تأثير حكام إيران المتزايد في العراق لا ينسجم مع ضعف إيران على الصعيد الدولي ولا مع مشكلاتها الداخلية, ولكنه يخدمها من خلال إلهاء الشعب الإيراني بها وخلق إشكاليات للولايات المتحدة الأمريكية. ولكن السؤال المنطقي هو ما هي أسباب تزايد دور إيران في الساحة السياسية العراقية وزيادة تأثيرها على جمهرة كبيرة من السياسيين الإسلاميين؟
لا تنرتكب خطأ حين نشير إلى العوامل التالية التي دللت عليها الفترة المنصرمة, وهي
1.   أن التأثير المباشر لحكام إيران على الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية بشكل عام ناشئ عن ممارسة الضغوط المذهبية وتجسيد الخشية من "عودة السنة" و"عودة البعث" إلى السلطة في العراق, خاصة وان القائمة العراقية تحتضن مجموعة من الأشخاص الذين لا يختلفون حقاً عن بعثيي العراق من الواحي الفكرية والسياسية والسلوكية التي تجلت في فترة حكم صدام حسين, إضافة إلى تضخيم احتمال خسارة الشيعة للحكم و"عودة المظلومية" التي كان الشيعة يشكون منها دوما.
2.   عدم إدانة المرجعيات الدينية الشيعية في العراق للدور الإيراني وضغوطه المتفاقمة على القوى والأحزاب الإسلامية السياسية في العراق. ويبدو هذا واضحاً من التصريح الذي أدلى به مقتدى الصدر في مؤتمره الصحفي الذي عقد في مدينة "قم" الإيرانية حين اشار إلى الضغوط الخارجية المتزايدة عليه وعلى غيره دون أن يشعر بأي حرج من ذكر ذلك ومن خضوعه لتلك الضغوط وتراجعه عن موقفه الرافض لترشيح المالكي.
3.   الدور غير الحكيم وغير الإيجابي الذي لعبته الدول العربية في دعم أياد علاوي بطريقة تؤكد عدم حياديتها وتأييدها الصارخ لقائمة علاوي, باعتبارها تضم أكثر من 90% من السنة, وهي دول ذات نظم سياسية تعتمد شريعة أهل السنة وأن تنوعت.
4.   السياسات الخاطئة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في العراق منذ ولوجها البلاد والتي سمحت لإيران باحتلال أكثر المواقع أهمية وحساسية في العراق وفي بناء قواعد ثابتة لها تستطيع من خلالها التأثير المباشر على السياسة العراقية. ومن الجدير بالذكر أن الإدارة الأمريكية لم تجد إلى الآن الأسلوب الصائب في التعامل مع القوى السياسية العراقية, ولا مع إيران في أزمة الطاقة النووية وغيرها, فهي تتخبط حقاً.
5.   عجز الولايات المتحدة عن التعامل الواعي والعقلاني مع سياسات إسرائيل التوسعية وإيجاد حل للقضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال, مما يسمح لإيران بتحشيد القوى لصالحها في المنطقة, ويدفع بقوى معينة إلى دعم جهود إيران لإنتاج السلاح النووي باعتباره عامل ردع لإسرائيل .   
6.   ضعف القوى الديمقراطية العراقية وعدم قدرتها على منع ممارسة سياسات طائفية في البلاد والتصدي الناجح لدور إيران في العراق.   
إن كل هذه الوقائع سمحت أخيراً بموافقة 140 نائباً تقريباً من نواب التحالف الوطني الشيعي على ترشيح السيد نوري المالكي لرئاسة الحكومة العراقية بهدف منع السيد اياد علاوي من تشكيلها, رغم حصول قائمته على 91 مقعداً في المجلس النيابي في مقابل 89 مقعداً لقائمة دولة القانون. ولكن هل سيحظى المالكي بتأييد مجلس النواب؟
يصعب تقدير ذلك لثلاثة اسباب؟
1.   إن التحالف الكردستاني يرتبط بتحالف إستراتيجي مع المجلس الإسلامي الأعلى في العراق الذي قاطع حضور الاجتماع, وحضره هادي العامري المعروف بتأييده المطلق لإيران وبدون تخويل من المجلس, وهو الشخص الذي كان ولا يزال مسؤولاً عن فيلق بدر. فهل سيقبل التحالف الكردستاني بالتخلي عن حليفه الإستراتيجي مقابل التعاون مع شخصية ليست معه هو المالكي, وحليف يقف ضده هو مقتدى الصدر الذي يرفض الفيدرالية في كردستان العراق؟ إذ أن التحالف الكردستاني يشكل بيضة القبان في تشكيل المالكي للوزارة الجديدة, إذ سيكون عدد النواب أكثر من النصف المطلوب لتشكيل الوزارة الجديدة. وغير معروف في ما إذا كانت مقاطعة المجلس الإسلامي للاجتماع هي لعدم التصويت بالرفض بل التحفظ, أم أنهم مصرون على ترشيحهم لعادل عبد المهدي؟
2.   إن الوزارة الجديدة, إن شكلت بين جزء كبير من التحالف الوطني والتحالف الكردستاني, ستفتقد إلى وجود من يمثل القائمة العراقية التي انتخبت من قبل الغالبية العظمى من أهل الُسنة العرب, فمن غير المعقول إبعاد ممثلو محافظات غرب بغداد وغالبية نواب الموصل عن تشكيل الوزارة الجديدة, علماً بأن القائمة العراقية قد أعلنت مراراً عن رفضها التعاون مع الملكي. وهذا يعني أنها ربما قد تكون قد تركت الباب مفتوحاً بهذا التعبير أمام احتمال قبولها بغير المالكي, كعادل عبد المهدي مثلاً.
إن الحالة الجديدة تؤكد واقع وجود تدخل وتأثير كبير لإيران في الشان السياسي العراقي في مقابل تراجع فعلي لتاثير الولايات المتحدة. وإذا كان الأمر الأخير إيجابياً, فأن زيادة تأثير إيران يشكل عقبة فعلية في بناء سياسة عراقية مستقلة عن السياسة الإيرانية على الصعيدن المحلي والإقليمي.
إن ترشيح المالكي لتشكيل الحكومة لن يعالج الأزمة الراهنة, إذ أنها ستتواصل لأسباب عدة منها احتمال رفض هذا الترشيح والتحري عن مرشح آخر في المجلس النيابي, واحتمال الاختلاف على المناصب السيادية الأخرى ومن ثم توزيع المناصب الوزارية الأخرى. إن الأزمة ستجر العراق معها إلى مشكلات جديدة, رغم أن الإنسان لا يأمل حصول ذلك, إذ أن المستفيد هو من يريد أغراق العراق بالدم والدموع, إضافة إلى أن الطائفية ستستمر في فرض وجودها ودورها المدمر على الساحة السياسية والمجتمع في العراق.
4/10/2010                  كاظم حبيب         
         

1039
كاظم حبيب
مؤتمر المقابر الجماعية الدولي الثالث في أربيل
ومؤتمر الكرد الفيلية المزمع عقده في لندن وحقوق الكرد المهدورة

في الفترة بين 9 - 11 كانون الثاني 2011 سيعقد المؤتمر الدولي الثالث بشأن المقابر الجماعية في العراق في مدينة أربيل. ورغم انعقاد مؤترين قبل ذاك, أحدهما في بريطانيا والثاني في النجف, فأن الحكومة العراقية, كما اشار إلى ذلك نائب رئيس اللجنة التحضيرية السيد طالب الرماحي في اجتماع اللجنة التحضيرة, قد قصرت في واجبها إزاء هذا الفصل الأكثر حزناً وألماً من جرائم الفاشية في العراق.
إننا نأمل أن يجد هذا المؤتمر بما سيبحثه ويقرره أذناً صاغية من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية في العراق بهدف بلورة القرارات إلى قوانين من جهة وبصدد تنفيذ مضامين تلك القوانين من جهة ثانية وتأمين محاكمات جادة ووفق الأسس التي أحيلت محاكمة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت بحق الكرد الفيلية باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية حقاً. وارى لزاماً على الحكومة العراقية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الديمقراطية او التي تتبنى الديمقراطية في برامجها والمجتمع العراقي عموماً النهوض المشترك بهذه المهمة من خلال تحويل هذه المأساة الإنسانية إلى تقليد سنوي لفضح الجرائم التي ارتكبتها القوى الفاشية في العراق, قوى حزب البعث الصدامي والحكومة الصدامية واجهزتها القمعية. كما يفترض أن تنشر معلومات كافية عن ضحايا المقابر الجماعية من الكرد والكرد الفيلية والعرب من الوسط والجنوب وكل من كان ضحية لتلك الجرائم من مختلف القوى والأحزاب السياسية العراقية التي قمعت بشتى السبل في العراق. ولا بد من استعادة عائلات تلك الضحايا حقوقهم المشروعة. ويفترض أن ننتبه إلى ان ما عشرات الألوف من الكرد الفيلية هم من بين ضحايا النظام الذين ربما هم تحت الأرض العراقية في المقابر الجماعية. أتمنى لهذا المؤتمر النجاح في تحقيق ما يتطلع إليه أهل الضحاي وكل الشعب العراقي من قرارات تخدم المهمة المركزية لهذا المؤتمر. أرجو أن تنتبه اللجنة التحضيرية إلى اهمية مشاركة مجموعة من ممثلي الجماعات البشرية التي استشهد منها الكثير ودفن في المقابر الجماعية ومنهم الكرد الفيلية الذين تم تجب دعوتهم في مؤتمرات سابقة.   
أما المؤتمر الثاني الذي يفترض أن يعقد في الربع الأول من العام القادم في لندن, فهو المؤتمر الخاص بحقوق الكرد الفيلية وضحايا جرائم الفاشية من الكرد الفيلية. إن أهمية هذا المؤتمر تأتي من ثلاثة جوانب:
1 . أن الحقوق المشروعة والعادلة التي صادرها النظام الدكتاتوري في العراق غير متحققة إلى الآن, بل إن هناك إصراراً من جانب الحكومة وأجهزة الدولة على عدم تلبيتها.
2 . إن أغلب القوى السياسية العراقية أوعدت وحنثت بوعدها في الاستجابة لهذه الحقوق, ومنها القوى الحاكمة في العراق دون استثناء, ومن استجاب لها لا يمتلك السلطة لتحقيقها.
3 . وأذ تعجز القوى الداخلية والحكومات العراقية المتعاقبة عن حلها أو لا تريد حلها بتعبير أدق, فلا بد للرأي العام العالمي والقوى المحبة للعدالة والمدافعة عن حقوق الإنسان أن تتدخل لتساعد هذا الطيف الرائع من بنات وابناء الشعب العراقي, الكرد الفيلية, للوصول إلى حقوقهم المشروعة كمواطنات ومواطنين لا غير, إذ لم يطالبوا بأكثر من ذلك.
فما هي الحقوق المشروعة لهذا الشريحة الكبيرة من بنات وابناء الشعب العراقي؟
لقد كتب الكثير من الأخوات والأخوة الكرد الفيلية أو ممن التزم الدفاع عن قضيتهم العادلة من العرب, من امثال الأستاذ القاضي زهير كاظم عبود أو الدكتور تيسير الآلوسي والدكتور منذر الفضل أو الأستاذ الكاتب جاسم المطير أو الشاعر فالح حسون الدراجي والكاتب الدكتور عزيز الحاج والكثير من أعضاء التجمع العربي لنصرة القضية الكردية, عن القضايا التي يفترض معالجتها لصالح الكرد الفيلية. وسأحاول هنا الإشارة إلى ما يفترض, كما أرى, ان يثار في مؤتمر لندن بشأن الحقوق العادلة لهذه الشريحة الكبيرة من العراقيات والعراقيين الكرد الفيلية:
أولاً: يفترض الإسراع ودون تأخير تنفيذ قرار منح كل الكرد الفينيلية الجنسية العراقية دون تأخير ودون مطالبة بدفع مبالغ (رشوة) لإنجاز هذه القضايا من جانب الأجهزة العاملة في دوائر الجنسية. فهم عراقيون ومن أهل أصل العراق. فقد وصلتني شكاوى كثيرة بهذا الصدد عجز اصحابها عن دفع ما طلب منهم ولم يحصلوا على ما هم يسعون إليه.
ثانياً: يفترض تقديم المساعدة للعائلات الكردية الفيلية التي تعذر عليها إلى الآن العودة إلى العراق وهي تريد العودة فعلاً وموجودة في إيران أو أجبرت على ترك إيران لأسباب كثيرة وتعيش في الشتات العراقي.
ثالثاً: يفترض تغيير تلك الأشخاص العاملون في الأجهزة الإدارية اذين يرفضون أو يعطلون تنفيذ القرارات التي صدرت حول استعادة الكرد الفيلية لأملاكهم وأموالهم وعقاراتهم...الخ وكل الحقوق المهضومة لهم دون عقبات بيروقراطية لا مبرر لها.
رابعا:ً ينبغي تقديم التعويضات اللازمة لتلك العائلات التي فرضت عليها الهجرة القسرية وعانت وفقدت الكثير من أفرادها وأموالها بسبب ذلك التهجير القسري المشين للنظام الدكتاتوري السابق. (لا بد من الإشارة إن حكومة الإقليم تدفع تقاعد لمجموعة من العائلات الكردية الفيلية التي استشهد لها ابناؤها ودفنوا في المقابر الجماعية).
خامساً: لا بد من التحري عن الأشخاص الذي غيبوا خلال سنوات حكم الدكتاتورية الغاشمة, إذ يتراوح عددهم وفق أقل التقديرات بين 15-20 ألف إنسان كردي فيلي.
سادساً: العمل من أجل الكشف عن الذين دفنوا في المقابر الجماعية من الكرد الفيلية إلى جانب التحري عن كل ضحايا المقابر الجماعية من المواطنات والمواطنين العراقيين.
في 10/3/2008 وقع عدد من الشخصيات العراقية المدافعة عن حقوق الشعب الكردي بياناً لخصت فيه بعض أهم القضايا التي يفترض أن تعالج أوردها فيما يلي:
1 . إلغاء القوانين والمراسيم والقرارات والإجراءات التي صدرت عن النظام الاستبدادي السابق والتي أدت إلى مصادرة حق الكُرد الفيلية في المواطنة ومصادرة جنسيتهم العراقية وأموالهم المنقولة وغير المنقولة. (وإذ صدر مثل هذا القرار, فأن تنفيذه يجري ببطء شديد وعبر معوقات من الأجزة المختصة بالجنسية).
2 . إتاحة الفرصة أمام جميع الكُرد الفيلية بالعودة إلى العراق دون عائق.
3 . أستعادتهم لحقهم الكامل في المواطنة العراقية التامة وحصولهم جنسيتهم العراقية المسلوبة منهم وإلغاء التمييز عنهم.
4 . استعادة كامل حقوقهم التي سلبت منهم , سواء أكانت أموالاً منقولة أم غير منقولة وتوفير مستلزمات العيش الكريم لهم بعد عناء وعذاب طويلين.
5 . إعادة جميع من فصل منهم أو طرد من الوظيفة إلى وظيفته وعمله, ومنح من أصبح في عمر التقاعد, حقه في راتب تقاعدي على أن تحسب له سنوات التهجير القسري أو السجن أو الطرد والفصل لأغراض الترفيع والتقاعد.
6 . تعويض العائلات المنكوبة بأبنائها تعويضاً مناسباً واعتبارهم شهداء سقطوا ضحايا الاستبداد والشوفينية.
7 . إصدار قرار من الحكومة العراقية تؤكد فيه حرصها على تسريع حل هذه الإشكاليات دون عمليات بيروقراطية محبطة للجهود المبذولة لحل المشكلات الراهنة.
أن من حق الكرد الفيلية على كل القوى السياسية العراقية, وخاصة التحالف الكردستاني بأحزابه الكردية, أن يمارسوا الضغوط المستمرة على الحكومة العراقية الراهنة والجديدة لتنفيذ ما صدر من قرارات بهذا الصدد والتي لم تنفذ إلى الآن. لا يكفي أن نقول بأن على الكرد الفيلية أن يعملوا من اجل حقوقهم, بل علينا جميعاً التضامن معهم لضمان تنفيذ ما تقرر لهم خلال السنوات المنصرمة السبع المنصرمة. إذ من المؤلم حقاً أن نعيد كل ذلك بعد أكثر من عامين على صدورها وبعد 7 سنوات من سقوط الدكتاتورية وبعد خمس سنوات تقريباً من تشكيل حكومة المالكي التي أوعدت الكرد الفيلية بالكثير وحنثت بوعودها في جانب التنفيذ فعلاً.
أملي أن تتوحد كلمة الكرد الفيلية حول تلك المطالب والنضال من اجل تنفيذها وتعبئة الرأي العام العالمي لصالحها.
1/10/2010                      كاظم حبيب

1040

كاظم حبيب


هل الكراهية أم الاعتراف بالاخر سبيل التعايش بين البشر؟

في المقال الذي نشر لي حول كتاب الدكتور تيلو ساراتسين الموسوم "المانيا تنهي وجودها بنفسها", علق بعض الأخوة بملاحظات تستوجب المناقشة, إذ أنها ابتعدت عن مضمون الكتاب الذي واجه نقداً شديداً من منظمات المجتمع المدني والأحزاب ولاشخصيات الثقافية لما فيه من غثارة للأحقاد وخلفية عنصرية معادية للعرب والترك وغيرهم من المسلمين.ولا شك في أن الكتناب تضمن ملاحظات مهمة على سلوكية جمهرة من المسلمات والمسلمين المقيمين في ألمانيا او أوروبا وعلى الممارسات الدينية لهذه الجمهرة ومواقفها من الشعب الألماني وتقاليده وعاداته وثقافته. لقد وردت ملاحظات على مقالي تستوجب مني مناقشتها.
أسجل فيما يلي بعض الملاحظات الضرورية بهذا الصدد:
1 . ابتداءً لا بد من تسجيل إدانة صارمة وقاطعة لكل السلوك اللاإنساني والعدواني والعنصري الذي تعرض له المسيحيون, من كلدان وآشوريين وسريان, في العراق, أو في أي بلد عربي أو إسلامي على أيدي قوى الإسلام السياسية, المتطرفة منها وا"لمعتدلة. كما لا بد من إدانة تلك الجرائم التي ارتبكبت في العراق خلال الأعوام السبعة المنصرمة والتي لا يمكن ولا يجوز السكوت عنها. وقد أصدرت هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق, التي أتشرف بعضوية أمانتها العامة, بيانات شجب وإدانة لتلك الجرائم وحملت الحكومة العراقية مسؤولية ذلك بسبب عدم توفير الحماية ودعت الهيئة الحكومة العراقية إلى أداء واجبها بتوفير الحماية لكل المواطنات والمواطنين من أتباع الديانات الأخرى في العراق. وقد أدانت وشجبت كل الجرائم, سواء تلك التي ارتكبت في البصرة أم في بغداد أم في الموصل, وسواء تم قتل الناس أو تهجيرهم بالقوة والسيطرة على دورهم أم حرق الكنائس في بغداد والموصل, وفضحت خلفيتها العنصرية والتعصب الديني الأهوج والتمييز بين البشر.
2 . إن من الواجب تسجيل إدانة صارمة لكل محاولات اتهام الاخر بالتكفير والإساءة له او لدينه, إذ أن هذا تجاوز فظ على اتباع الأديان الأخرى وليس من حق أحد ممارسة ذلك. فالإنسان له الحق في اتباع أي دين او معتقد او فكر أو موقف يتخذه. وبالتالي محاول الإساءة لأتباع الديانات الأخرى بتكفيرهم مرفوضوة ومدانة في آن واحد. إذ أن هناك خللاً كبيرا في التربية الإسلامية والتعليم الديني في كل الدول العربية وفي كل الدول التي تُدعى بـ"الإسلامية" التي تبث الكراهية ضد الأديان واتباع الأديان الأخرى وتطلق عليهم عمداً بالكفار وهم ليسوا بكفار, بل هم موحدون. ويمس هذا الأمر أتباع الدانة اليهودية والمسيحية واديان أخرى. وهو أمر يجب أن يشجب بكل وضوح وصراحة وجرأة لأنه يؤجج الكراهية لا غير.إن التربية الإسلامية خاطئة جداً ومضرة وتثير الأحقاد والكراهية بين الناس.
3 . إن عمليات التهجير القسري أو ممارسة التهديد والقتل ضد العائلات المسيحية وأتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين التي جرت ولا تزال تجري في العراق, والتي شملت المسلمين بسبب اختلاف المذاهب أيضاً, قد أدت إلى هجرة عدد كبير جداً من مسيحيات ومسيحيي العراق وكذلك الصابئة المندائيين والإيزيديين من أقضية الموصل إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وغيرها. وهي عمليات إجرامية أخرى ارتكبت بحق بنات وأبناء الوطن تمت إدانتها وشجبها بكل قوة من جانبي ومن جانب هيئة الدفاع أيضاً, واصدرنا الكثير من البيانات بهذا الصدد. 
4 . إن الشعوب الإسلامية لم تعرف عملية تنوير إلى الآن, في حين عرفت المسيحية ذلك منذ عهد مارتين لوثر, وهو فارق كبير, ويتجلى في الموقف من الأديان الأخرى. وبالتالي فالدول العربية والإسلامية من الناحية الدينية تعيش قرونها الوسطى في هذا الصدد ولهذا نسمع الفتاوى البائسة التي تصدر عن شيوخ دين لا دين لهم حقاً. ولا شك في أن الفقه والشريعة الإسلامية تسمح بذلك
5 . إن الكراهية لا تعالج بالكراهية المضادة, بل يفترض النضال ضد الكراهية التي تثيرها قوى الإسلام السياسية المتطرفة و"المعتدلة" والتي لا تريد أن تسود المدنية والعلمانية في العلاقة بين الدين والدولة, أي فصل الدين عن الدولة, في الدول العربية وفي غيرها, وبالتالي لا تكون الدولة في مثل هذه الحالة حيادية, بل يمكن أن تكون ضد اتباع الديانات الأخرى. وهو الخطأ الذي تخلصت منه أوروبا مع عملية التنوير والتي لم تتخلص منه بسهولة وبسرعة, بل بعد أكثر من قرنين أو ثلاثة بعد ظهور مارتين لوثر.
6 . الحكومة والأحزاب والشخصيات الألمانية الاجتماعية والعلمية والأدبية او الثقافية وقفت كلها ضد ساراتسين لأنها تؤمن حضارياً بحقوق الإنسان وترفض العنصرية والكراهية بين الشعوب أو إثارة الصراعات بين أتباع الديانات المختلفة. والمجتمع الألماني يكره بغالبيته العنصرية والتمييز ضد الأجانب, من أي دين أو مذهب كانوا, فهم يعطون القيمة للإنسان اساساً بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو عقيدته اياً كانت.
7 . علينا أن نرى بوضوح أن جميع المسلمين, اياً كانت قوميتهم أو جنسيتهم, جاءوا من دول غير ديمقراطية, بل هي مستبدة, وبالتالي فالبشر فيها لم يعرفوا في الغالب الأعم حقوق افنسان ولا التنوير ولا الثقافة الديمقراطية, وبالتالي فالكثير منهم يتصرف كما تعلم في بلاده, وهو تعليم سيء. إن إدراك ذلك يجعل من مهمة البلد المستقبل للاجئين والمهاجرين صعبة وثقيلة ولكنها كبيرة ومهمة, هي كيف يساعد هؤلاء البشر على التحول صوب الحضارة الإنسانية التي يعيشها الإنسان في الغرب ويتخلث من الثقافة البدائية والعشائرية والدينية المتخلفة والمتعصبة.     
8 . غالبية المسلمين الترك الذين جاءوا إلى المانيا منذ العقد السابع من القرن العشرين للعمل فيها كانوا من الفلاحين ومن فئات اجتماعية متدينة ومتعصبة دينياً ومحافظة فكرياً وسياسياً واجتماعياً على الطريقة العثمانية المتخلفة, وبالتالي كان لذلك تأثيره السلبي على سلوكهم في المجتمع. والكثير منهم قد تغير, وكذا العرب المسلمين. ولهذا فالنقاط الثمانية موجودة لدى جمهرة كبيرة من المسلمين, ولكن ليست موجودة لدى كل المسلمين. وهنا العيب الذي يرتكبه سارتسين ايضاً. ولذلك ينبغي أن لا يسقط الإنسان بنفس الخطيئة التي يرتكبها المتخلفون من المسلمين إزاء اتباع الديانات الأخرى.
9 . أحس بعمق بالعوامل التي تدفع إلى هذه الحدة في التعبير عن مواقف البعض من المعلقين من مسلمين ومسيحيين, ولكن هل ينفع أن نتخذ مثل هذا الموقف أم يزيد الطين بلة. علينا أن نبذل الجهد كل الجهد لتغيير أوضاع هؤلاء باتجاه تحترام أتباع الديانات المختلفة وتناغمهم مع عادات وتقاليد المجتمعات الأوروبية وتربيتهم بما يسهم في تحسين مواقفهم إزاء الآخر.
10 . من يعرفني ومن قرأ كتاباتي يعرف بأني بعيد كل البعد عن القضايا الدينية والغيبية, إنسان مدني وعلماني وأسعى في أن أكون حراً وديمقراطياً, ولكني أحترم حق الآخر في أتباع الأديان, فهذا اختياره. ولكني اساهم بنقد الدين والفكر الديني معاً. ولكن لا أثير الأحقاد بين اتباع الديانات بل أتصدى لها وارفضها. اشعر بوجود سوء فهم في طريقة التعبير عن رفضكم لما يجري في العراق أو في الدول العربية, فأنا ارفض ذلك ايضاً وأدينه وأُدين كل الذين يمارسونه في العراق أو يسكتون عنه, ولكن لا أعمم المسائل.
11 . إن الكراهية تمنع الإنسان عن رؤية العوامل التي دفعتني إلى نقد تيلو ساراتسين, رغم أني قلت بأن هناك ما يفترض أن ينتقد في سلوك الكثير من المسلمين, ولكن لا يجوز التعميم. فهناك الكثير من المسلمين المدنيين والعلمانيين الذين يرفضون التجاوز على اتباع الديانات الأخرى ويرفضون السلوك الشائن إزاء الألمان أو إزاء العمل أو إزاء الدين المسيحي واتباع الديانة المسيحية السمحاء, وهم نقاد للدين الإسلامي أو الفكر الديني الإسلامي, ولكني أرفض التصنيف الجيني الذي يمارسه ساراتسين إزاء الشعوب اثنيتهم أو وفق أديانهم.
شكراً لمن شارك في التعليق وإثارة الحوار من النساء والرجال.
30/9/2010                   

1041
كاظم حبيب

الكُرد الفيلية في العراق: أين الحل؟
هل هم يتحركون عبثاً وحائرين بين مدينتي نعم ولا؟


العراقيات والعراقيون جميعاً عاشوا مأساة الكُرد الفيلية وعرفوا بها وسكتوا عنها لأنها لم تشملهم, ولكنها شملت الكثير منهم فيما بعد. عاشوا مأساة العائلات التي هُجرت عنوة إلى إيران بعد أن انتزعت منها كل ما تملك من أموال منقولة وغير منقولة, عاشوا مأساة العائلات التي قتلت بعد ان جردت من كل شيء بما فيها الحلي التي كانت على معاصمهم أو صدورهم, عاشوا مأساة الشبيبة الكُردية الفيلية التي اعتقلت وزجت بالسجون ثم صفيت وألقيت في المقابر الجماعية الصدامية, عاشوا مأساة الشبيبة الكُردية الفيلية التي أرسلت إلى الخطوط الأمامية لجبهات القتال مع إيران لتقتل على أيدي الجنود الإيرانيين أو دفعها للسير على الأرض المزروعة بالألغام لتموت هناك. إنها المأساة المستمرة لعدد كبير جداً من الكُرد الفيلية الذين نزعت منهم أولاً وقبل كل شيء الجنسية العراقية, هويتهم الوطنية.
لقد ارتكب الدكتاتور المجرم صدام حسين أبشع الجرائم بحق الكُرد الفيلية, جرائم ضد الإنسانية ومحاولة لإبادة الكُرد الفيلية في العراق وبمختلف السبل المتوفرة لديه. ولم تكن هذه السياسة التي مارسها صدام حسين جاءت صدفة أو بسبب اعتقاده بأنهم يمكن أن يخدموا إيران في فترة الحرب, بل كانت تجسد فكراً وسياسة عنصريتين معاديتين للكُرد أساسً ومنهم الكُرد الفيلية, وهي ناتجة عن مواقف الكُرد الفيلية البطولية في الدفاع عن الجمهورية الأولى ضد انقلاب البعث الفاشي, وهي بسبب وطنيتهم الحميمة وانتمائهم لهذا الوطن الذي اسمه العراق, وهي بسبب رفضهم للحرب ضد الشعب الكُردي في كُردستان العراق وموقفهم الثابت من الحقوق القومية للشعب الكُردي الذي يشكل الكُرد الفيلية جزءاً منه.
لقد كان الكُرد الفيلية وعلى مدى عقود يجدون في حزبين سياسيين موقعاً لهم في النضال من اجل الحرية والديمقراطية والحقوق القومية, في الحزب الشيوعي العراقي وفي الحزب الديمقراطي (الكُردي) ومن ثم الكُردستاني. وكان هذا واحداً من الأسباب في كره وحقد صدام حسين وحزبه وكل القوميين اليمينيين المتطرفين على الكُرد الفيلية. ومن ثم تشكل حزباً ثالثاً ساهم مع الحزبين أيضاً في أعقاب العام 1976 في الدفاع عن حقوق الكُرد الفيلية, وأعني به الاتحاد الوطني الكُردستاني.
شارك الكُرد الفيلية في النضال ضد الدكتاتورية الصدامية وعانوا الأمرين من جراء ذلك. وكل الأحزاب السياسية العراقية المدنية منها والدينية أقسمت أغلظ الإيمان وأوعدت وتعهدت بتأمين كامل حقوق المواطنة للكُرد الفيلية واستعادة ما فقدوه من حقوق وممتلكات بعد سقوط النظام. ثم جاء السقوط وجاء الحنث بالوعد والعهد والقسم الذي أعطي للكُرد الفيلية من جانب كل الأحزاب التي تسلمت السلطة في بغداد دون استثناء, في ما عدا الحزب الشيوعي العراقي الذي تبنى ولم يستطع تحقيق شيء لهم لأنه لم يكن قادراً على ذلك. دعوني أقول, ومع كل الألم الذي يحز في نفسي, أن الأحزاب الكُردستانية التي تبنت قضية الكُرد الفيلية لم تلتزم بوعودها وعهودها, وإلا لكانت قد حققت لهم ما يجب أن يتحقق لهم. وهو ما يوجع الكُرد الفيلية كثيراً وما يقض مضاجهم يومياً ولهم كل الحق في ذلك.
أفهم تماماً حين يشير السيد طارق الهاشمي في رسالته الجوابية على رسالتي التي وجهتها له قبل عدة سنوات حول حقوق ومظلومية الكُرد الفيلية, إلى أن هذه مشكلة معقدة وفيها اراء مختلفة, فلارجل من القوى القومية والإسلامية المعروفة بمواقفها إزاء الكُرد الفيلية, وهم يضاف إلى ذلك من المذهب الشيعي, وهو يعتبرهم من التبعية الإيرانية! ولكني لا استطيع أن افهم قطعاُ أن لا تتضمن مطالب التحالف الكُردستاني للمشاركة بالحكم في بغداد موضوع حقوق الكُرد الفيلية التي اغتصبت في عهد الدكتاتور صدام حسين, منظم الأنفال وحلبجة وتهجير وتشريد وقتل الكُرد الفيلية والتعريب. ولا يمكنني أن أفهم ذلك ولا يمكنني كعربي عراقي مدافع عن حقوق القوميات أن أقبل بذلك. ولهذا أطالب الأخوة والأخوات في التحالف الكُردستاني ورئاسة وحكومة إقليم كُردستان أن يتبنوا فعلياً وعملياً مطالب الكُرد الفيلية ويضعوها في مقدمة مطالبهم في التفاوض مع من يريد تشكيل الحكومة العراقية القادمة.
جاء في رسالة جوابية للصديق الأستاذ عادل مراد على رسالة السيد عصام الفيلي حول الموقف من حقوق الكُرد الفيلية المغتصبة ما يلي:
الاخ الفاضل عصام أكرم
أعتقد بان العلة الاساسية تكمن فينا .. ولكننا نحاول بشتى الوسائل قذف قماماتنا على الاخرين والسبب يكمن في ضياع الذات والتعالي الواحد على الاخر والتقليل من شأن الاخر .. إذ لازلنا نعيش اجواء القرى النائية علما بأننا لم نر القرية وترعرعنا في قلب العاصمة ... فالحسد يمزقنا .. كالفلاح الذي يدعو السماء لان تهطل على ارضه لتجف ارض جاره. مع الاعتذار.
المخلص  عادل مراد   السليمانية
أتفق مع الأخ الكريم إلى أن الفرقة بين الكُرد الفيلية, وهي نتيجة منطقية لما يجري في العراق في المرحلة التي أعقبت سقوط صدام حسين ونظامه العفن, وأن وحدتهم أساسية لاستعادة حقوقهم المشروعة والعادلة. إذ إن كثرة منهم, وليس كلهم, موزعون بين الجانب القومي والجانب الديني المذهبي, وبين الجانبين الفكري والسياسي وكذلك المصلحي أيضاً. وقد لمست هذا بنفسي حين طلب مني أن اشارك في عقد لقاء لهم تحت مظلة التجمع العربي لنصرة القضية الكُرديةدون أن يكون لي وللأخوة في التجمع أي هدف أو قصد ذاتي تحت هذا المشروع سوى تجميعهم وتخفيف أو إلغاء الفرقة عنهم. إنهم بين مدينتي لا ونعم, وكما يقول المثل الشعبي العراقي "بين حانه ومانه ضيعنا الحانه"!
ولكن السؤال الذي يواجهني إزاء رسالة الأخ الكريم هو: هل هذا هو السبب في ذلك أم أن السبب يكمن في حقيقة الفكر والسياسة والمصالح الخاصة للقوى التي تحكم العراق؟ اعتقد أن من واجب الكُرد الفيلية أن يجدوا وحدتهم العملية بغض النظر عن الاختلاف الفكري أو السياسي في ما بينهم, إذ أن هناك الكثير الذي يوحدهم والقليل الذي يفرقهم.
ولكن أليس من واجب الأحزاب الوطنية الديمقراطية أن تتبنى قضيتهم وتدافع عنها, ومنها الحزبين الرئيسين في كُردستان العراق, الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني؟ أليس من واجب الأخ عالد مراد أن يسعى بكل الجهود الممكنة, رغم مرضه الذي أرجو له الشفاء العاجل, أن يبادر بالاتفاق مع الحزب الديمقراطي الكُردستاني وبقية الأحزاب الكُردستاني إلى عقد مؤتمر كبير يوحد الكُرد الفيلية ويتبنى القضايا التي يطرحونها وهي عادلة كلية؟ أليس من واجب رئاسة الجمهورية ورئاسة الإقليم والحكومة الكُردستانية أن تتبنى ذلك؟ لا أنتظر أي استجابة من الأحزاب الإسلامية السياسية لقضايا الكُرد الفيلية, فهم في مواقفهم لا يختلفون عن موقف الحكومة الإيرانية من الكُرد الفيلية, خاصة إذا علمنا ما عاناه الكُرد الفيلية من الحكم الإسلامي الإيراني, وخاصة العراقيات والعراقيين من الكُرد الفيلية!
في الوقت الذي أتفق مع الأخ الأستاذ عادل مراد في ما ذهب إليه حول التمزق الكُردي الفيلي, ولكني أختلف معه في تقديره للمشكلة المركزية, أي فرقة وتشتت الكُرد الفيلية, وليس في الموقف الحكومي العراقي وعموم الموقف إزاء الكُرد الفيلية باعتباره العائق الفعلي لحل المشكلة. هل من المعقول والمفيد مثلاً أن لا ترشح الأحزاب الكُردستانية كُردياً فيلياً واحداً في بغداد ليخوض الانتخابات مثلاً بل ترشح اكراداً من مدن السليمانية وأربيل أو دهوك؟ ولمصلحة من يحصل مثل هذا الأمر؟   
أثير هذه الأسئلة لا لكي أحرج الصديق الأستاذ عادل مراد, وهو الكُردي الفيلي المعروف الذي يتبنى جميع القضايا الفيلية العادلة, وهو فر سالته يعبر عن جرح عميق يعاني منه بصدد هذه المسألة, ولكن لكي أنبه الأخوة في الحزبين الكُرديين الكبيرين أن يلتزموا على الأقل ما يلتزم به الحزب الشيوعي العراقي إزاء الكُرد الفيلية, رغم عدم قدرته على إنجازها غلا أنه موقف مبدئي, إذ لو اتفقت هذه الأحزاب مع الحزب الشيوعي العراقي ومع قوى ديمقراطية اخرى ومع قوى الكُرد الفيلية, لكان بالإمكان تحريك الشارع ايضاً لصالح قضية الكُرد الفيلية.
أتمنى على الأخ الكريم أن يبحث هذا الموضوع مجدداً وأن يعيد النظر بمضمون رسالته لكي لا تكون ذات جانب واحد, بل تُعالج المسألة بجانبيها وتساهم باتخاذ الإجراءات الكفيلة بمعالجة الموضوع.
أتمنى على اعضاء المؤتمر القادم الذي يراد عقده في لندن والخاص بقضايا الكُرد الفيلية أن يحقق ما عجز الجميع عن تحقيقه إلى الآن.
29/9/2010                كاظم حبيب

1042
متابعة سياسية حول أوضاع العراق الراهنة


1.   حول تشكيل الحكومة
لا تزال أزمة تشكيل الوزارة العراقية الجديدة تتفاعل على الصعيد الداخلي ولكنها تراوح في مكانها, إذ عجزت الائتلافات السياسية القائمة في الوصول إلى اتفاق يساعد على عقد جلسة لمجلس النواب لحسم توزيع وانتخاب الرئاسات الثلاث, رغم مرور ما يقرب من ستة شهور على انتهاء الانتخابات وتفاقم الوضع الأمني وتزايد عدد القتلى والجرحى في بغداد والبصرة وديالى وغيرها. وفي مقابل هذه المراوحة ازدادت صور التدخل والتأثير الإقليمي والدولي على القوى السياسية الفائزة في الانتخابات من أجل تشكيل الحكومة كل وفق مصالحه في العراق. واشتد الصراع الداخلي في الآونة الأخيرة بين الائتلاف العراقي والصدريين من جهة, ودولة القانون من جهة أخرى, في إطار التحالف الوطني حيث انبرى المالكي لتبيان أسباب إصراره على الترشيح وحقه في ذلك وقدرته على تحقيق المنشود في العراق. ومباشرة عقد عادل عبد المهدي لقاءً صحفياً خاصاً ليرد على حديث المالكي ويفند ما طرحه المالكي في مؤتمره الصحفي. أما الكتلة الصدرية فقد أعطت رأيها منذ البدء ضد المالكي وساندت الائتلاف في الموقف منه. ويعزى هذا الموقف من المالكي إلى الحملة التي نفذت في البصرة ضد قوى الإرهاب وضد ميليشيات جيش المهدي. إن قراءة مدققة لما صرح به المالكي وعبد المهدي يدرك عمق الفجوة الناشئة بين قوى التحالف الوطني الجديد الذي أقيم حديثاً ويعاني من قلق وصراع شديدين وإلى صعوبة الوصول إلى اتفاق بينهما حول رئيس الوزراء, رغم أن السياسة لا تعرف المستحيل في غالب الأحيان, إذ يمكن أن يتفقوا في اللحظة الأخيرة تحت وطأة ظروف وضغوط كثيرة.
وجد المالكي في الأسبوع الأخير وضعاً مريحاً نسبياً حين زار إقليم كردستان, إذ أوضح كل من السيد رئيس الجمهورية والسيد رئيس الإقليم بأنهما لا يضعان خطاً أحمراً على تولي المالكي رئاسة الوزارة إن التزم بتلك النقاط التي طرحها التحالف الكردستاني للحوار مع جميع القوى والتحالفات السياسية من أجل الموافقة على تسمية الشخص الذي يتولى تشكيل الوزارة الجديدة. ويجري الآن ترويج اتفاق بين دولة القانون والعراقية والتحالف الكردستاني من جانب دولة القانون, وهو أحد المشاهد المطروحة فعلاً.
وإذ تعذر وصول المالكي إلى اتفاق مع علاوي إلى الآن حول الموقف لما يسمى بالاستحقاق الدستوري حول من يتولى تشكيل الوزارة, فأن صعوبات جدية كبيرة تقف حائلاً في وجه علاوي لضمان حلفاء له توافق على تشكيله الحكومة, إذ أن قائمة علاوي تضم فيها جماعات ذات اتجاها فكرية وسياسية متباينة ومتصارعة يمكن أن تتفجر في كل لحظة وتفتت قائمة العراقية, في حين أن قائمة المالكي لا تزال متماسكة نسبياً. إضافة إلى أن الجمهرة الواسعة من الشعب العراقي تدرك وجود نسبة غير قليلة من قدامى البعثيين والقوميين الشوفينيين في القائمة العراقية الذين يشكلون محور توتر مع عائلات ضحايا الكُرد والشعب الكردي, ومع ضحايا البعث الآخرين, وهم غالبية الشعب, من السنة والشيعة ومن أديان أخرى.
وإذ برز في الآونة الأخيرة ميل ضد المالكي لتشكيل الوزارة الجديدة, بل تفضل أحد مرشحي القائمة الصدرية على نحو خاص, فأن ميل الولايات المتحدة اتخذ وجهة تأييد المالكي لتشكيل الوزارة الجديدة بسبب سنوات العمل المشترك خلال دورة الحكومة الأخيرة وقدرتها على التفاهم معه لضمان سرعة مغادرة العراق دون الكثير من المصاعب على وفق الاتفاقيات التي عقدت مع حكومته.
لا يمكن تشكيل الوزارة من دولة القانون والتحالف الكُردستاني, إذ إن العدد لا يكفي, كما لا يريد التحالف الكردستاني التخلي عن تحالفه مع الائتلاف العراقي الذي يقوده عمار الحكيم, ولهذا لا بد من أن تتفق ثلاث قوى هي دولة القانون والائتلاف العراقي والتحالف الكردستاني أساساً من دون القائمة العراقية والصدريين. وفي حالة حصول مثل هذا المشهد, عندها يكون العدد كافياً للحصول على أكثرية في المجلس النيابي لمن يتولى تشكيل الحكومة, كما يمكن عندها الاتفاق مع القوى الأخرى للمشاركة في حكومة واسعة تضم كل القوائم الفائزة. ولكن السؤال: هل سيحصل مثل هذا المشهد؟ غير مستبعد, وهو ما سوف تكشف عنه الأيام القادمة, إذ أن الولايات المتحدة رمت بثقلها في كفة المالكي, ولأن التحالف الكردستاني اتفق من حيث المبدأ مع المالكي على الالتزام بالدستور العراقي في الموقف من المادة 140 من الدستور الجديد وقضايا مهمة أخرى.
كانت تصريحات المالكي الأخيرة تشير إلى أنه يخشى من الطائفية أن تنتصر في الحوارات الجارية, وكذلك انتقالها إلى الجيش والشرطة وقوات الأمن الداخلي. ولكني أتساءل: هل حقاً إن المالكي لا يمثل طرفاً طائفياً في المعادلة السياسية الراهنة؟ يتمنى الإنسان ذلك ولكن لا يمكن تأكيده أو الاطمئنان إليه, خاصة بعد أن صدرت تصريحات من أعضاء في دولة القانون يجري تأكيد عدم التنازل عن رئاسة الحكومة لأن ذلك يخل بتوازن وجود مكونات معينة في الحكومة, أي بالمكون الشيعي, ولم يجد أي حرج في الحديث عن ذلك, بل قالها بملء الفم!
إن التشبث الشديد برئاسة الحكومة من جانب المالكي يثير القلق الشديد لدى الناس الاعتياديين والكثير من السياسيين بسبب السياسات التي مارسها المالكي خلال السنوات الأربع المنصرمة, في ما عدا الجانب الأمني والذي تدهور أخيراً, وهو السكوت الواسع عن الفساد وعن مصادرة الكثير من العقارات من قبل شخصيات في تحالفات سياسية إسلامية معروفة له ولغيره, وبسبب فرديته في العمل والغرور الذي ظهر بشكل صارخ على سلوكه السياسي واعتبار نفسه الشخصية الأقوى القادرة على تسيير أمور العراق!    
إن ما يخيف الكثير من الناس في العراق هو ذلك التشبث الناتج عن موقف طائفي رغم محاولته نفي ذلك, إذ أن ذلك سيؤجج الصراعات الطائفية التي يفترض أن يتركها المجتمع العراقي خلفه وكذا كافة المسؤولين في العراق.  

2.   حول الإرهاب المتفاقم في العراق
الشعب العراقي والرأي العام العالمي يتابعان بقلق شديد تزايد عدد العمليات الإرهابية التي تنفذ في العراق من قبل القوى الإرهابية والمليشيات الطائفية المسلحة التي يذهب ضحيتها كل يوم عدداً كبير من الناس الأبرياء من أطفال ونساء ورجال, إضافة إلى التخريب في المنشآت وشبكات الطاقة الكهربائية والمؤسسات الحكومية والمحلات التجارية ودور السكن. وكان أشد تلك العمليات ما وقع في البصرة إذ سقط أكثر من 250 شخصاً بين قتيل وجريح ومعوق. وهو التعبير عن عود الإرهاب والعمليات الانتقامية في الصراعات الدائرة في العراق والرغبة في نشر وتوسيع عدم الاستقرار ولإفشال الجهود لتشكيل الحكومة الجديدة.
إن وجود حكومة تصريف أعمال منصرفة للصراع حول تشكيل الحكومة ونشوء فراغ سياسي فعلي من جهة, مع وجود قوات مسلحة غير مستقلة عن تلك الصراعات تماماً, بل وربما يرتبط البعض منها بقوى لا تريد الاستقرار للبلاد, من جهة ثانية, وعودة قوى القاعدة وهيئة علماء المسلمين وقوى أخرى طائفية مسلحة من جهة ثالثة, إضافة إلى التدخل الإقليمي المتنوع الاتجاهات والمقاصد, كلها تساهم في تفاقم المخاطر الجدية على الشعب والعملية السياسية, وهي التي قادت إلى التصريحات التي أطلقها رئيس أركان الجيش العراقي بالقول بأن الجيش غير مؤهل حتى الآن من حيث التسليح والآهلية للدفاع عن سيادة البلاد وحماية الأمن الداخلي, وهو ما أشار إليه من بعيد وزير الدفاع الأمريكي بصورة ما, رغم الرغبة الشديدة لدى باراك أوباما بالخروج العسكري من العراق على وفق الاتفاقية العراقية-الأمريكية.  
إن استمرار وجود السياسات الطائفية على المسرح السياسي العراقي ستساهم بالضروري في استمرار وجود تلك المشاعر الطائفية في القوات المسلحة العراقية, وكلاهما يشكل الخطر الكبير على العملية السياسية وعلى  آفاق تطور وحدة المجتمع العراقي. ومن هنا تأتي النداءات غير الكافية بضرورة التخلي عن الطائفية السياسية والتحلي بروح المواطنة المتساوية لكل بنات وأبناء الوطن. وهنا تبرز أهمية أن يزداد وعي الناس ودورهم في الضغط على القوى السياسية للتخلي عن مواقفها وسياساتها الطائفية لصالح تقدم الشعب وازدهاره الاقتصادي والاجتماعي.    
 
3.   حول تصريحات السفير الإيراني الجديد
أدلى السفير الإيراني الجديد في بغداد حسن دانائي فر بتصريحات ليست مثيرة للجدل حسب, بل وتعتبر تدخلاً مباشراً في شؤون المجتمع العراقي وحقه في التعبير عن آرائه ومواقف سياسييه في ما يجري في العراق. والجوهر في هذا التصريح يؤكد عدم تدخل إيران في الشأن العراقي وأن من حق إيران مقاضاة من يصرح بعكس ذلك؟ ولكن هل حقاً لا تتدخل إيران بالشأن العراقي. كانت إيران أول من اعترف بالوضع الجديد في العراق نتيجة عداء إيران لنظام صدام حسين, رغم أن من اسقط صدام هم الولايات المتحدة التي تعتبر الشيطان الأكبر على وفق رأي المسؤولين في إيران. ومنذ اليوم الأول وإيران تتدخل مباشرة في الشأن العراقي, سواء بإرسال الجواسيس ونشطاء الحرس الثوري أم بإرسال الأموال والسلاح والعتاد للعراق أم بالسماح بعبور الإرهابيين القادمين من أفغانستان, أم بتشكيل منظمات مجتمع مدني للتستر على نشاط قوى إسلامية سياسية متطرفة وتشجيع المليشيات المسلحة الطائفية على ممارسة الكثير من الأعمال التي تدخل في باب نشر عدم الاستقرار في البلاد. وهذه المعلومات ليست من عنديات الكاتب بل من تصريحات العديد من المسؤولين في بغداد والبصرة وفي مدن أخرى في العراق. واليوم تساهم إيران في قصف المناطق الآمنة من جبال وقرى كردستان بذريعة وجود مناضلين كرد من كردستان إيران في تلك المناطق الجبلية.
وفي الأيام بينت القوات الأمريكية بدء غيران بتشجيع المليشيات الطائفية المسلحة بمعاودة نشاطها الإرهابي والتخريبي في العراق بأمل الضغط على تشكيل الحكومة بالاتجاه الذي تسعى إليه ويخدم مصالحها وليس مصالح الشعب العراقي.
إن السفير الإيراني قد تجاوز في سلوكه الأصول الدبلوماسية المتبعة والتي يفترض أن تبتعد عن التدخل في الشأن العراق. إذ كان من حق الحكومة الإيرانية أن تتباحث مع الحكومة العراقية بأي أمر تريده, ولكن ليس من حقها لرئيس دبلوماسيتها في العراق التجاوز على حق ثابت من حقوق الشعب العراقي وتضع الحكومة العراقية في وضع محرج, إذ لا بد لها أن تشجب هذه التصريحات وتطلب استبدال هذا السفير بسفير أخر أكثر لياقة ومعرفة بالأصول الدبلوماسية.

4.   حكومة تصريف الأعمال والخدمات العامة للشعب
نحن أمام حالة فريدة في العراق. فبعد مرور سبع سنوات ونصف السنة تقريباً على سقوط النظام الفاشي في العراق, لا يزال الناس يواجهون نقص شديد في الكهرباء والماء وامتلاء المناطق الشعب بأنواع القمامة وما ينجم عنها من أمراض للأطفال بشكل خاص. فدرجة الحرارة التي تجاوزت الخمسين مئوية والبق والذباب اللذان يتكاثران بشكل مرعب في مثل هذه الأجواء وانقطاع التيار الكهربائي أغلب ساعات الليل والنهار في وسط وجنوب العراق, أصبحت تشكل إرهاقاً مرعباً لمزيد من البشر, ولم يجد الكثير من الناس أمامهم إلا السفر إلى خارج العراق ومن لم يستطع ذلك مالياً, فيمم وجهه صوب ربوع إقليم كردستان ليتمتع بالأمن والاستقرار ودرجة حرارة اقل, إضافة إلى توفر الكهرباء والماء والخدمات الصحية الأخرى والطبيعة الخلابة.
لا يمكن تصور مرور أكثر من سبع سنوات والحكومات الاتحادية الثلاث المتعاقبة في بغداد كانت ولا تزال عاجزة عن استكمال نصب محطات وشبكات واسعة للطاقة الكهربائية أو إيصال الماء بشكل مناسب للسكان أو إزالة أكوام القمامة من الشوارع أو تشغيل هذه الأعداد الكبيرة من العاطلين عن العمل, رغم تكديس عدد هائل منهم في دوائر الدولة ليزيدوا من واقع البطالة المقنعة والمعرقلة لسير العمل الوظيفي وإنجاز معاملات الناس. الناس تعتقد جازمة بأن السبب في كل ذلك هو الفساد الذي يعم البلاد والعباد. وهي حقيقة لم ينكرها المسؤولون. وقد بلغ الأمر برئيس هيئة النزاهة أن يشكوا من زيادة التدخل الفظ في شؤون هيئة النزاهة في الناصرية من السياسيين وغيرهم للكف عن ملاحقة الفاسدين والمفسدين الكبار. إنها لمعضلة حقاً في أن الهيئة التي يراد لها النجاح, تقع تحت الضغط لتسكت عمن يشترك في جرائم الفساد. كما أن عصابات الجريمة المنظمة التي تنظم من قبل بعض القوى العاملة في أجهزة الأمن والشرطة العراقية تزيد من ارتكاب الجرائم البشعة ضد العائلات في البصرة وبغداد وفي غيرها أيضاً.
وباختصار شديد فإن الوضع الراهن في العراق لا يبشر بالخير إن واصل السياسيون في بغداد مواصلة الصراع والتشبث بالحكم وعدم إيجاد مخرج لأزمة تشكيل الحكومة والسماح لقوى الإرهاب والمليشيات المسلحة إنزال المزيد من الخسائر في المجتمع وتعطيل العملية السياسية والدفع باتجاه حرب طائفية تحرق الأخضر قبل اليابس.          
            كاظم حبيب

 
  


1043
أ. د. كاظم حبيب


ساراتسين وهستيريا العنصرية والعداء للمسلمين في ألمانيا

الإعلام الألماني كله مشغول خلال هذه الأيام بالتصريحات المثيرة للجدل والاستفزازية إزاء المسلمين المقيمين في ألمانيا وأوروبا التي أدلى بها الدكتور تيلو ساراتسين, عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني ووزير سابق في حكومة برلين الاشتراكية الديمقراطية وعضو هيئة رئاسة البنك الاتحادي الألماني, للدعاية لكتابه الموسوم "المانيا تنهي وجودها بنفسها" الذي صدر مؤخراً.
تجسد التصريحات ومضامين الكتاب روحاً عدائية شرسة وقاسية ضد المسلمين في ألمانيا وأوروبا وتذكر القراء بالنظريات العرقية الشعبوية المبتذلة التي روج لها النازيون الألمان بين 1933-1945 والتي يتبناها النازيون الجدد واليمين المتطرف في ألمانيا حالياً. وهو بالتالي يساهم في تنشيط روح العداء والحقد والكراهية في المجتمع الألماني والمجتمعات الأوروبية ويزيد من خطورة معاداة المسلمين الأجانب ويتخذ موقفاً مناهضاً للمجتمع المتعدد الثقافات.    
** أحكام قاسية ضد المسلمين
يعلن ساراتسين بوضوح ما يلي:
1.   إن المسلمين في ألمانيا وأوروبا لا يمتلكون القدرة على الاندماج بالمجتمع الألماني أو الأوروبي وغير راغبين بذلك وغير مستعدين للانصهار في بالمجتمع والثقافة الألمانية, وهم غير مؤهلين لذلك بسبب ثقافتهم الإسلامية أيضاً.
2.   وهم لا يسعون إلى تعلم اللغة الألمانية ونساؤهم يرتدين الحجاب الذي يتعارض مع الثقافة الألمانية, ولا هم لهن سوى الإنجاب وإنجاب بنات يرتدين الحجاب أيضاً.
3.   إن ألمانيا والدول الأوروبية المجاورة تعتمد العلمانية والديمقراطية وتحترم الإنسان, في حين أن الثقافة الإسلامية التي يأتي منها المسلمون ترفض كل ذلك ولا تمارسه.
4.   إنهم يشكلون عالة على الاقتصاد والخزينة الألمانية ويستهلكون جزءاً من الدخل القومي. إذ أن 40% منهم يعيشون على المساعدة الاجتماعية الحكومية. وبهذا فهم يستهلكون من الدخل القومي الألماني أكثر مما ينتجون.
5.   كما إنهم يتوالدون بكثافة شديدة ويكلفون الدولة أموالاً طائلة وسيغيرون التوازن السكاني بين الألمان والمسلمين بعد ثمانين عاماً. فنسبة الولادات في أوساط الترك والعرب وبقية المسلمين مثلاً هي ضعف نسبة الولادات بين الألمان.
6.   إن المسلمين واستناداً إلى ثقافتهم يعتبرون كسالى لا يحبون العمل ولا يعملون بجدية وحيوية.  
7.   إن وجودهم في ألمانيا يلحق ضرراً فاحاً بالثقافة الألمانية بسبب ثقافتهم الإسلامية العنيفة والمتخلفة, وبالتالي لا بد من إنقاذ الألمان وثقافتهم من المسلمين.
8.   ويؤكد ساراتسين بأنه لا يريد أن يرى أحفاده وأحفاد أحفاده يعيشون في بلد غالبية سكانه من المسلمين الذين يتحدثون العربية والتركية وغيرها من لغات المسلمين.
استنتاجاته ساراتسين العنصرية من تلك الظواهر
استناداً إلى تلك الظواهر الانتقائية التي يعتبرها عامة ويشترك فيها كل السملمين يستنتج ساراتسين ما يلي:
** هناك جينات يشترك فيها اليهود, وجينات غيرها يشترك فيها سكان الباسك في أسبانيا مثلاً. وهكذا الأمر مع المسلمين. وبهذا وسع وعمق ساراتسين من موضوعاته المثيرة للجدل ليشمل اليهود في ألمانيا وأوروبا أيضاً, وبهذا برز ساراتسين ضمن الجماعات المعادية للسامية, إضافة إلى  معاداته للمسلمين المقيمين في ألمانيا وأوروبا.
** أن هناك شعوباً من الناحية الجينية غبية وأخرى ذكية. وأن الشعوب الغبية لا يمكن أن تتغير وتبقى غبية وتتوارث الغباء بالولادة, والشعوب الذكية تبقى ذكية وتتوارث الذكاء بالولادة.
** هناك تمايز بيولوجي بين الفئات الاجتماعية العليا والفئات الاجتماعية الدنيا يتجلى في تباين مستوى الذكاء.
** إن المسلمين القادمين من الدول العربية وتركيا وغيرها هم من الدول الإسلامية يتسمون بضعف الذكاء أو الغباء.
** من الواجب التحكم والتأثير على الولادات عبر تشجيع الولادات في العائلات ذات المستوى الاجتماعي الرفيع وتقليصه في العائلات ذات المستوى الاجتماعي المتدني.
إن هذه رؤية عرقية صرفة وشعبوية مبتذلة وغير علمية تتطابق تماماً مع رؤية أتباع الإيديولوجية العنصرية الذين ظهروا في أوروبا منذ القرن الثامن عشر, ولكن بشكل خاص في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, وتجلى بأعنف وأخس أشكاله في الدولة الهتلرية النازية في ألمانيا حيث احتل العرب واليهود والسود أدنى درجات السلم العرقي. وجماعات غير قليلة من هؤلاء تعيش وتعمل وتفكر بهذه الطريقة في الدول الأوروبية.
** ما هي العنصرية أو العرقية؟
العنصرية أو العرقية مصطلح حديث نسبياً لظاهرة اجتماعية–سياسية-اقتصادية-ثقافية قديمة تنطلق من اعتقاد خاطئ مفاده أن البشرية تتوزع على جماعات بشرية قسمت أحياناً إلى ثلاث مجموعات هي الجنس الأبيض والجنس الأصفر والجنس الأسود, ثم قسمت إلى خمس وأحياناً سبع مجموعات كبيرة وأخرى صغيرة. وفي فترة لاحقة جرى توزيع البشر على أعراق مختلفة كالآرية والسامية والحامية. وأعتقد أصحاب هذه النظريات خطأ أن هناك تبايناً بين "الأعراق", ناشئ عن اختلافات بيولوجية, أي عن تباين في الجينات الوراثية وخصائصها المختلفة لدى الأقوام المختلفة, وتجد تعبيرها في ناحيتين عند البشر هما:
-   اختلافات في مظهر الإنسان الخارجي, مثل لون البشرة وشكل الجمجمة ولون وشكل العينين أو طبيعة الشعر ولونه؛
-   اختلافات في بنية الإنسان البيولوجية وتتجلى في خصائص محددة وثابتة لا تتغير عند البشر, ومنها قدرات الفرد العقلية أو الذهنية, وفي ذكائه وكفاءاته ومواهبه وثقافته. وتنشأ عنها سمات مختلفة أخرى تجد تعبيرها في علاقات الإنسان الاجتماعية وسلوكه وأخلاقه وتصرفاته اليومية وعواطفه ومواقفه عموماً. وينشأ عن هذه الاختلافات كما يرى العنصريون, تمايزاً في القيمة الحقيقية للمجموعات البشرية المنتسبة إلى أعراق مختلفة. ففي الوقت الذي يوجد "عرق" رفيع المستوى ومتطور ومتقدم في قدراته الفكرية والثقافية والسلوكية, توجد بجواره "أعراق" أخرى متدنية المستوى وضعيفة التطور ومحدودة في كفاءاتها الذهنية والفكرية والثقافية والسلوكية وبدائية العاطفة والجنس والتصرف. وأن هذا "التمايز الطبيعي" و "الدائم" بين "الأعراق" يفرض بدوره تمايزاً في الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية, أي يفرض سيادة "العرق" الأفضل والأرقى على "الأعراق" الأخرى الأدنى مستوى". (قارن: هيثم مناع. الإمعان في حقوق الإنسان. الأهالي للطباعة والنشر التوزيع. دمشق. 2000. فقرة "العنصرية" لكاظم حبيب. ص342-349).
ومن هذا المفهوم استقى هتلر تقسيمه للبشرية إلى ثلاث مجموعات هي:
1)   العِرق المبدع والخالق للحضارة والثقافة في العالم؛ 2) والعِرق الناقل لتلك الحضارة؛ 3)
والعرق المستهلك والمدمر لتلك الحضارة. ويعتبر جمهرة كبيرة من الشعوب, ومنها شعوب الشرق الأوسط من الشعوب المستهلكة والمدمرة للحضارة التي لا تنفقع البشرية كثيراً.
إن هذه الاتجاهات الفكرية التي يتبناها ساراتسين هي التي نشطت معاداته للمسلمين من عرب وترك وكرد وأفغان وباكستانيين وغيرهم في ألمانيا وفي أوروبا وكذلك ضد اليهود, إذ أنه يرى فيهم خطراً على الجنس الألماني الأذكى والأرقى وعلى ثقافته الحية.
** ماذا يقترح ساراتسين؟
إن العداء للمسلمين يتجلى في مقترحاته التالية:
•   ضرورة إيقاف قبول اللاجئين والقادمين الأجانب من الدول الإسلامية إلى ألمانيا وأوروبا.
•   إخراج الكثير من الموجودين, وخاصة الذين يرتكبون مخالفات وجرائم لكي تقل مشاكل المجتمع الألماني.
•   تقليص المساعدة الاجتماعية التي تدفعها الدولة للأجانب إلى الحد الأدنى الذي لا يزيد عن 4,50 يورو باليوم, فالمبلغ كاف لتغذيتهم اليومية!
•   تفضيل الألمان في فرص العمل, إذ أن المسلمين ينافسون الألمان العاطلين.
•   ولكن الأسوأ من كل ذلك هو إثارته العداء الحقيقي والكراهية والخوف لدى الألمان ضد المسلمين في ألمانيا وضد من هم ألمان من اصل عربي أو كردي أو تركي أو جميع أتباع الدين الإسلامي أساساً دون تمييز بينهم.
•   ثم يخلص إلى نتيجة خطرة ومثيرة للشعور القومي اليميني المتطرف في ألمانيا مستنداً في لكل على ما ورد في صحيفة "حريت" التركية بقولها: إن ما لم يحققه سليمان القانوني من نجاح عند حصار فيينا في العام 1529, سيحققه الأتراك من خلال الولادات وتغيير البنية السكانية في ألمانيا لصالح المسلمين.
•   إن الخطأ الكبير الذي يرتكبه ساراتسين هو تعميم الظواهر السلبية على كل المسلمين دون تمييز لكي يخرج بتلك الاستنتاجات العنصرية المقيتة والتي تسيء إلى سمعة ألمانيا.
•   يعتمد ساراتسين على إحصائيات غير دقيقة وعلى نظريات مبتذلة أو شاخت حقاً, كما في بعض استنتاجات داروين مثلاً أو مسألة الجينات, في حيت تبلورت نظريات علمية جديدة لم يرجع إليها.
هذه هي الرؤية التي يطلق عليها أسلام فوبيا, ويروج لها العنصريون بترويج الخشية أو الرعب من المسلمين السيئين على وطن وثقافة وتقاليد الألمان وعلى دينهم أيضاً.
** ما الصحيح في فكر ساراتسين
ليس كل ما يعرضه ساراتسين في كتابه خاطئ, بل يتضمن بعض الأوصاف الصحيحة لنسبة قليلة من المسلمين القادمين من مختلف الدول إلى ألمانيا وأوروبا في ظروف وفترات مختلفة, بما فيها الحروب الأهلية, ومن بيئات ومستويات ثقافية مختلفة. فهناك موضوع اللغة أو اعتماد القادمين على المساعدة الاجتماعية أو بروز ظواهر العنف والحجاب أو جرائم القتل لغسل الشرف بين المسلمين أو التهرب من العامل والتحايل والعمل في المخدرات! والمشكلة ليست في صحتها, فهي صحيحة بنسبة معينة من المسلمين, بل المشكلة في تعميمها والاستنتاجات الجارحة والعنصرية التي يخرج بها من دون أن يسعى إلى تقديم الحلول العملية لمعالجة تلك المشكلات التي وضع اليد على بعضها. ولم يقم بذلك حين كان وزيراً للمالية في حكومة تحالف حزبي اليسار والاشتراكي الديمقراطي, بل رفض تقديم الأموال الضرورية لدعم جهود تطوير دمج المسلمين في المجتمع الألماني.
إن كل ذلك قد أثار غضب الكثير من المسؤولين الألمان من مختلف الأحزاب السياسية, بمن فيهم الحزب الديمقراطي المسيحي والديمقراطي الحر واليسار الألماني ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل, إضافة إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي ورئيسه السيد سيگمار گابرئيل, الذي قم مذكرة لطرده من الحزب بعد تنظيم حوار وحساب معه بشأن إدعاءاته, إضافة إلى إنه يُعتبر استفزازاً وإهانة مباشرة لعدد كبير جداً من المسلمين في ألمانيا. لقد وجدت تصريحات گابرئيل صدى عدم تأييد في صفوف اليمين الألماني. فحسب استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة Emnid تبين أن 51% من الألمان يتعاطفون معه, في حين إن 39% كانوا ضد اتهاماته الموجهة للمسلمين في ألمانيا. ولكن 69 % من الألمان يرون صواب إثارته للمشكلة ومناقشتها, في حين رأي 22% فقط أنه كان من الأفضل أن يغلق فمه.    
وكانت الصحافة الديمقراطية قد كتبت الكثير من المقالات التي تفضح فيه فكر وسياسة تيلو ساراتسين ووضعته على مقربة أو في خانة النازيين الجدد والمعادين للأجانب ومن حملة الفكر العنصري لما يحمله هذا الفكر من إساءة صارخة وأحكام نمطية مسبقة الصنع ومخاطر جدية على العيش بسلام بين مكونات المجتمع الألماني.
لا شك في أن هناك من الأجانب المسلمين الذين لا يحترمون الثقافة الألمانية أو التقاليد والعادات الألمانية أو يمارسون الكثير من التجاوز على القوانين المرعية أو يتعاطون ويعملون في بيع المخدرات أو العهر النسائي وغيرها من المسائل المرفوضة اجتماعياً, وبعضهم نزيل السجون. ولكن هذه الظاهرة السلبية محدودة جداً, كما لا تقتصر على المسلمين الأجانب من عرب أو ترك أو غيرهم, بل تشمل أوساطاً ألمانية وأوروبية أخرى, وبالتالي فأن هذا الحقد الذي يملأ صدر ساراتسين غير موجه ضد الأجانب عموماً, بل ضد المسلمين أساساً فهو يعاني من "إسلام فوبيا" أو "الخشية أو الرعب من الإسلام" ويريد نشر هذا الخوف على نطاق ألمانيا والألمان جميعاً.
   وفي الوقت الذي خرجت مظاهرات من الأجانب والألمان ضد تصريحات وكتاب هذا الرجل, الذي نفذ ولم ينزل بعد في الأسواق, وتطالب بطرده من الحزب الاشتراكي الألماني, خرجت مظاهرات يمينية متطرفة ونازية جديدة مؤيدة له. إن تصريحات وكتابات ساراتسين الجديدة تريد أن تبعث من جديد أفكار هتلر وغوبلز المقبورة والتي لا يمكن أن يكون لها مكان في أوروبا القرن الحادي والعشرين. ولكن لا تزال الأرضية القومية التي نبتت عليها العنصرية والفاشية تحتاج إلى المزيد من العمل لحرثها وإزالة الجذور الشوفينية المتبقية.
   ونحن في الدول العربية والإسلامية ومنطقة الشرق الأوسط واجهنا ونواجه قوى شوفينية وعنصرية غير قليلة يفترض التصدي لها لما يمكن أن تجلبه على الناس من كوارث. وفي العراق عرفنا عواقب الشوفينية والعنصرية والتعريب القسري والتهجير والتمييز بين البشر بأجلى معانيها حين وصل البعثيون في المرتين إلى السلطة, وحين تسلم صدام حسين الحكم المطلق ومارس الاستبداد والقسوة والعنصرية والتي تجلت في مجزرة حلبچة وجرائم الإبادة الأنفالية ضد الإنسانية, ضد الشعب الكردي, في إقليم كُردستان العراق التي يندى لها جبين البشرية. ولهذا يدرك العراقيون, من عرب وكرد وبقية القوميات, ماذا تعني ممارسة سياسات الشوفينية والعنصرية حين تبرز من جديد في الدول الأوروبية, إذ أنها تذكر بتاريخ ألمانيا الهتلرية الأسود وعواقب الحرب العالمية الثانية وعشرات الملايين من البشر الذين فقدوا حياتهم فيها وفي المعتقلات النازية المريعة. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه القوى لا حظ لها من النجاح في ألمانيا وأوروبا بعد أن تسببت في حربين عالميتين راح ضحيتها ما يقرب من 40 مليون إنسان وبسبب وجود قوى ديمقراطية في ألمانيا وأوروبا والعالم تتصدى لمثل هذه الاتجاهات العنصرية والنازية الجديدة الخطرة. ومع ذلك لا يحق للقوى الديمقراطية أن تنسى مخاطر الذهنية القومية الشوفينية التي يمكن أن تتفاقم بسرعة حين بروز شخص مثل ساراتسين أو يملك كارزما خاصة ومؤثرة في الناس.  
   برلين, أيلول/سبتمبر 2010                          كاظم حبيب   
   نشر المقال في مجلة گولان/أربيل
   في 28/9/2010

1044
كاظم حبيب

كيف نقرأ تقارير المنظمات الدولية عن واقع حقوق الإنسان في العراق؟

حين كان النظام الدكتاتوري في العراق قبل 2003 يمعن في ممارسة سياساته القمعية الجائرة ضد قوى الشعب بشكل عام وضد قوى المعارضة بشكل خاص, كانت المعارضة العراقية ترفع تقاريرها حول الانتهاكات الفظة التي كانت تتعرض لها حقوق الإنسان إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف وإلى منظمة العفو الدولية وإلى المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة وإلى العديد من المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى وإلى الرأي العام العالمي  ترجو وتؤكد فيها ضرورة التضامن مع الشعب ودعم المعارضة العراقية في نضالها ضد إرهاب النظام. وكانت تلك الانتهاكات القمعية تتميز بالشراسة والاضطهاد البشع والتعذيب والقتل الواسع النطاق شمل الأحزاب والقوى والشخصيات المعارضة من جميع الاتجاهات, كما شمل أتباع القوميات والأديان والمذاهب الدينية العديدة. وخير دليل على ذلك تلك المجازر البشعة في عمليات الأنفال والسلاح الكيماوي في حلبچة في إقليم كردستان العراق وتشريد وتجفيف الأهوار في الجنوب وتشريد وتهجير الكُرد الفيلية والعرب الشيعة, إضافة إلى التعذيب والتغييب والقتل أثناء وبعد قمع الانتفاضة الشعبية في العام 1991. وكانت هذه اللجان والمنظمات الدولية تحاول التيقن من تلك المعلومات بأساليب وأدوات مختلفة ومجربة. وكانت هناك بعض التقارير غير الدقيقة أو ربما معدة سلفاً ودون وقائع فعلية, التي كانت تثير لدى تلك المنظمات الخشية الفعلية على مصداقيتها إزاء العالم كله, إذ أن مصداقيتها هو رأسمالها في الدفاع عن الإنسان السجين والمعتقل والمعذب فيهما من قبل السلطات الحكومية. وكان الشك بأرقام هذه المنظمات الدولية والإقليمية قليلاً حقاً, إذ كانت تعتمد على معايير مهمة ومجربة, وكانت النتائج جيدة بالنسبة للناس المضطهدين والقابعين في السجون حينذاك.
واليوم حيث توجد قوى أخرى في المعارضة العراقية, فهي الأخرى ترفع تقاريرها حول حالة حقوق الإنسان في العراق, كما توجد قوى سياسية مناصرة لقوى الإرهاب الدموي ومؤيدة لها أو منها ترفع تقارير مبالغ فيها حول وضع أتباعها في سجون معتقلات العراق. ولكن لدي القناعة والثقة بأن هذه المنظمات الدولية ذات المصداقية الكبيرة تفحص بدقة وعناية فائقة تلك المعلومات التي ترد إليها حول انتهاكات حقوق الإنسان لكي لا تتورط بنشر معلومات كاذبة, ولكي لا تفقد مصداقيتها لدى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي, ولكي تمارس دورها بشفافية وفعالية ومصداقية, ولكي تحقق نتائج إيجابية لصالح حقوق الإنسان وضحايا الإرهاب أو الحكومات وأجهزتها الأمنية.
ولكن غالباً ما تعترض الحكومات المتتالية بشدة على تلك التقارير بحجة عدم مصداقيتها أو المغالاة فيها. ومثل هذا الإنكار معروف للناس من جانب الحكومات الاستبدادية, وكذلك بعض الدول التي تدعي ممارسة الديمقراطية, ولكنها شكلية حقاً.  ولهذا فأن الإنكار لا ينفعها شيئاً, إذ لا مصداقية لها لدى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي.
ولهذا فأنا, والكثيرون غيري, ممن يثق بصحة المعلومات التي ترد من المنظمات الدولية المستقلة التي تعرض علينا حالة حقوق الإنسان في العراق. والتقارير الأخيرة الواردة عن العراق, وبضمنها أحوال حقوق الإنسان في إقليم كردستان, يمكن اعتبارها صحيحة ونسبة احتمال انحرافها عن الواقع الفعلي ضئيلة جداً جداًً. ولهذا لا بد من أن نتعامل معها بجدية ومسؤولية عالية, لأنها تمس الإنسان وكرامته وحقوقه وحياته.
تشير تقارير حقوق الإنسان حول العراق إلى أربع مسائل جوهرية:
1.    موضوع السجون والمعتقلات, فإلى جانب العدد الكبير من السجناء والمعتقلين الذين يقدر  عددهم أكثر من 30 ألف إنسان, فأن التقارير تشير إلى تعرضهم للتعذيب والمعاملة السيئة التي تُنتهك فيها حقوق الإنسان, وخاصة كرامته, وتتناقض مع التزامات العراق الدولية في هذا الصدد. 
2.    موضوع الفقر والجوع والحرمان الذي يشمل نسبة مهمة من العائلات العراقية.
3.   موضوع الإرهاب الذي يمارس ضد الشعب من جانب القوى الإسلامية السياسية المتطرفة والمليشيات الطائفية المسلحة, ومن القوى البعثية وغيرها.
4.   الفساد المالي الذي يستنزف موار البلاد المالية ويقلص إمكانية استخدامها لأغراض التنمية الوطنية.     
إن المواضيع الأربعة ذات أهمية فائقة بالنسبة لحقوق الإنسان في العراق, سأحاول معالجة الأولى لأهميتها بشأن الواقع العراقي الراهن. وربما سأعالج القضايا الأخرى في حلقات لاحقة.
للعراق سجل قديم غير مشرف في مجال التعامل مع حقوق الإنسان ومع السجناء والمعتقلين بذمة التحقيق, رغم أن العراق كان من الدول التي ساهمت في وضع اللائحة الدولية لحقوق الإنسان ومن أوائل الموقعين عليها, ولكنه كان من أوائل من انتهك مبادئ تلك اللائحة والمواثيق والعهود الأخرى التي صدرت فيما بعد أيضاً.
والغريب بالأمر حقاً هو أن ضحايا انتهاك حقوق الإنسان حين يصلون إلى السلطة يتحولون بين ليلة وضحاها إلى جلادين بكل معنى الكلمة, جلادين ضد من كان يجلدهم قبل ذاك بدلاً من ممارسة المعايير الحقوقية والقوانين التي تحرم التعذيب والقهر والمس بكرامة الإنسان واعتبار المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته والتعامل معه قبل وبعد الحكم عليه بصورة إنسانية. الضحية يتحول إلى جلاد, والجلاد يتحول إلى ضحية, وهكذا عاش العراق في حلقة مفرغة من تبادل المواقع! وهي مسألة مرتبطة دون أدنى ريب بعدد كبير من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والتقاليد والعادات الناشئة عن طبيعة العلاقات الإنتاجية التي سادت أو لا تزال سائدة في العراق, أي أن المسألة مرتبطة بمدى تخلف او تقدم المستوى الحضاري لهذا البلد أو ذاك وطبيعة الدولة والسلطة. 
لا شك في كون العراق يتعرض لعمليات إرهابية مريعة, ولا شك في وجود مطاردة ضد تلك القوى الإرهابية بمختلف أطيافها الفكرية والسياسية, ولا شك في وجود جمهرة من المعتقلين والسجناء لهذا السبب أو ذاك من الأسباب المرتبطة بجرائم قوى النظام السابق أو القوى والعصابات والمليشيات الطائفية الإرهابية في الوقت الحاضر. وإذا كان هذا معروفاً, فأن المعروف في الوقت الحاضر أيضاً أن الحكومات العراقية المتعاقبة خلال الفترة التي أعقبت إسقاط النظام الدكتاتوري وقوات الاحتلال الأمريكية قد سمحت لأجهزتها الأمنية بممارسة أبشع أنواع التعذيب بحق المعتقلين والسجناء السياسيين والإرهابيين. إذ يمكننا أن نشير إلى ما يلي حول واقع حقوق الإنسان في العراق:
1.   هناك عشرات المعتقلات والسجون في العراق, وهي ليست أقل كثيراً من سجون النظام السابق.
2.   هناك سجون سرية يكشف عنها صدفة أو بمساعدة الأهالي وعبر التحري الدقيق من قبل صحفيين ونشطاء حقوق الإنسان أو عن طريق الصدفة.
3.   هناك عدد كبير من المعتقلين الذين لم يقدموا إلى المحاكمة أو حتى التحقيق رغم مرور سنوات على وجودهم في المعتقل.
4.    هناك تأخير كبير في حسم معاملات المعتقلين على ذمة التحقيق مما يزيد من عذابات المعتقلين, إذ أن بعضهم لا يدرك أو لا يعرف حقاً أسباب الاعتقال. فقد أوردت منظمة العفو الدولية عن إقليم كردستان ما يلي:
"وردت تقارير مماثلة عن ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وإن على نطاق أضيق. إذ اعتقل عشرات الأشخاص بلا تهمة أو محاكمة، ولفترات وصل بعضها إلى 0 10 سنوات. وبينما كان بعض هؤلاء ضحايا للاختفاء القسري، تعرض البعض للتعذيب."
5.   هناك تعذيب منظم ومستمر وهادف ضد المعتقلين والسجناء بهدف إسقاطهم وتحطيم كرامتهم للحصول على معلومات منهم. وما حصل في أبي غريب أو المثنى يؤكد مدى الجرائم التي كانت أو لا تزال ترتكب بحق المعتقلين والسجناء في العراق.
6.   إن أساليب التعذيب التي تمارس في المعتقلات والسجون العراقية نفسية وجسدية, حيث يصبح الفرد رهينة بيد جلاديه يمارسون معه الكثير من أدوات التعذيب والتي تقود أحياناً إلى موته أو أن يتعرض إلى الاغتصاب الجنسي أو غير ذلك. وأحياناً غير قليلة تتعرض عائلات المعتقلين والسجناء إلى التعذيب النفسي وغير المباشر أو إلى الابتزاز.
7.   إن الأساليب التي تمارس في السجون هي خليط بين أساليب قديمة من العهود الإقطاعية والشرقية القديمة, وبعضها حديث مأخوذ من ترسانة أساليب التعذيب التي مارستها قوات الاحتلال الأمريكية في سجن أبي غريب الذي عاد للعمل من جديد باسم سجن بغداد المركزي. وهي تذكرنا ببعض الأساليب الذي كان يمارس من جانب حزب البعث وحكمه في قصر النهاية ببغداد. فقد أورد آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية عن حالة حقوق الإنسان في العراق صورة مريعة لأساليب التعذيب الجارية حالياً في العراق نوردها فيما يلي:
" الاغتصاب أو التهديد بالاغتصاب. والضرب بكيبلات الكهرباء وخراطيم المياه. التعليق لفترة مطولة بواسطة الأطراف. والصعق بالكهرباء لأجزاء حساسة من الجسم. وتكسير الأطراف. ونزع أظافر أصابع القدمين بزرديات. والخنق بحشر الرأس في كيس بلاستيكي. وثقب الجسم بمثقاب. والإجبار على الجلوس على أدوات حادة كالزجاجات المكسورة. هذه ليست سوى بعض أساليب التعذيب التي استخدمت ضد الرجال والنساء والأطفال من قبل رجال الأمن العراقيين التي وصفتها منظمة العفو الدولية خلال السنوات الأخيرة وأحد المرافق التي خرجت منها العديد من التقارير عن ممارسة التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة
يقع في «المنطقة الخضراء » وتتقاسمه «وحدة مكافحة الإرهاب » مع «اللواء »56 ، المعروف سابقاً باسم «لواء بغداد » التابع لسلطة وزارة الدفاع والمكلف بمسؤولية حماية «المنطقة الخضراء .»
إن التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة قد تفشى على نطاق واسع في السجون ومرافق الاعتقال في شتى أنحاء العراق على مدار العديد من السنين. وقد نشرت منظمة العفو الدولية عدة تقارير توثِّق استخدام التعذيب على نطاق واسع في العراق، وأثارت بواعث قلقها في هذا الصدد في مراسلات مكتوبة مع السلطات العراقية."   
8.   التغذية في السجون العراقية غير جيدة وكذلك ظروف السجن, كما إن الحياة اليومية للسجناء والمعتقلين بعيدة كل البعد عن حياة البشر والتعامل الآدمي معهم.     
9.   وتؤكد تلك التقارير إلى أن التعذيب في التحقيق وفي المعتقل أو السجن وإساءة المعاملة لا يقتصر ممارسته من جانب أجهزة الأمن التابعة للحكومة الاتحادية, بل يشمل أيضاً أجهزة الأمن التابعة لحكومة إقليم كردستان وفي المحافظات الثلاث. إذ تورد تلك التقارير أسماء العديد من الناس الذين اعتقلوا منذ سنوات ولم تجر محاكمتهم حتى الآن,
10.   وتؤكد التقارير إلى عدد من المعتقلين ممن تعرض إلى التعذيب أو مات في السجون والإدعاء بأنه قد أصيب السجين أو المعتقل على ذمة التحقيق بجلطة قلبية أو ما شاكل ذلك, إضافة إلى الاعتداءات عليهم في الشوارع أو إلى الاغتيالات التي يتعرض لها المواطنون, ومنهم بشكل خاص الصحفيون والعلماء والأطباء, والتي لا يعرف من مارس تلك الاغتيالات, والتي يتراوح الشك باغتيالهم بين عصابات الإرهاب وأجهزة الأمن الحكومية!
إن هذه الملاحظات تكشف بحق عن غياب مفاهيم الديمقراطية وغياب الوعي بحقوق الإنسان لدى قوى الحكومة وأجهزتها وعن التعامل غير الإنساني مع السجناء أياً كانت الجريمة التي ارتكبوها, إذ أن القانون هو الذي يعاقبهم على الجرائم التي ارتكبوها لا غير.
ينبغي أن لا نسكت عن التعذيب في السجون, يفترض أن نرفع الأصوات لإيقافها, ولا يجوز تبريرها بأي شكل كان, ولا اعتقد بوجود مبالغات من جانب المنظمات الدولية بما يجري في السجون العراقية. فعدد 30 ألف سجين, كما أشارت إليه منظمة العفو الدولية هو رقم غير بعيد عن الواقع, بل أقل من الوقاع الفعلي.
إن عدداً كبيراً من العاملين في أجهزة التحقيق والأمن يفكر بطريقة بشعة, بطريقة الثأر والانتقام من السجناء والمعتقلين, في حين أن المعتقل على ذمة التحقيق أو السجين هو أمانة بيد سجانه الذي يفترض فيه أن يعتني به وليس أن يعذبه, يفترض أن يعيده إلى جادة الصواب بطريقة إنسانية بدلاً من تعميق روح القهر والغضب والانتقام لديه.
إن المسؤولية لا تقع على عاتق الأجهزة الأمنية فحسب, بل وبالأساس على حكومة نوري المالكي, وعلى شخصه مباشرة, كرئيس للوزراء, وعلى مجلس الوزراء وعلى وزارات العدل والداخلية والدفاع, وعلى رئيس وحكومة إقليم كردستان العراق ومجلس النواب في كردستان العراق, ومن ثم على رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والقضاء العراقي كله الذي لا يعلن شجبه ويعمل على إيقاف الاعتقالات الكيفية والتعذيب في السجون أو الاعتداءات والاغتيالات السياسية التي تقع بين فترة وأخرى, إضافة إلى العجز عن مواجهة الإرهاب الذي هو انتهاك فظ لحقوق الإنسان.
إن على الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان العراق أن تأخذ بتوصيات منظمة العفو الدولية فوراً, إذ أن أي تأخير في ذلك يعرض المعتقلين والسجناء إلى مزيد من الإيذاء ويحملهم المسؤولية أولاً وقبل كل شيء, كما يسئ إلى ما يتحدثون به عن طريقة النظام السياسي في العراق ومعه الإقليم. إن عدم الأخذ بذلك يفترض أن يعي الشعب العوامل الكاملة وراء التلكؤ وعدم الاستجابة لمنظمات حقوق الإنسان الدولية وما يفترض فيه أن يمارسه في هذا الصد, إذ أن الساكت عن الحق أكثر من إبليس أخرس, بل ومشارك في ما يحصل للمعتقلين والسجناء في العراق.
24/9/2010                     كاظم حبيب





1045
كاظم حبيب

ليس هناك أرخص من الإنسان وحياته في العراق!

يموت الإنسان في العراق يومياً. يموت العشرات منهم يومياً, ويجرح ويعوق عشرات أخرى يومياً, وتخرب دور ومحلات وسيارات الناس يومياً, وهي كلها بيد الله, إنها إرادته, سواء مات برصاص المجرمين القتلة والإرهابيين, أم مات في السجون جراء التعذيب الذي تتحدث عنه منظمة العفو الدولية, أم مات بطرق أخرى غير طبيعية. تعددت الأسباب والموت واحد!
يعتقد الإسلاميون السياسيون المتطرفون من أمثال القاعدة وهيئة علماء المسلمين وجيش المهدي ومن لف لفهم في العراق, إن الناس يقتلون بإرادة الله وهم من ينبغي قتلهم لأنهم يعيشون خارج إطار مذهبهم المتطرف وطريقتهم في العبادة وبسبب عدم تأييدهم لهم أو لأنهم من مذهب آخر. هكذا يقولون المسلمون السياسيون المتطرفون!
ويعتقد الإسلاميون السياسيون "المعتدلون", إن وافقنا على استخدام هذا المصطلح, إن هؤلاء القتلى ماتوا وفق ما هو مكتوب على جبينهم, وهذا هو قدرهم المحتوم, وبالتالي فالموت والحياة بيد الله.
وهكذا يقتل الإنسان في العراق بين فريقين إسلاميين سياسيين, وكلاهما يقول بصوت مسموع: الموت حق على بني البشر في العراق, إنها إرادة الله التي لا مرد لها. هكذا هي مواعظ كل القوى الإسلامية السياسية المتطرفة و"المعتدلة"!
الإنسان في العراق لدى هذه الجماعات المتطرفة و"المعتدلة" شكلاً, لا قيمة له ولا لحياته, كل نفس ذائقة الموت, فليس هناك من سبب للحزن عليهم, إنهم أمانات الله على الأرض, عاد واستعادها إليه! هكذا يدّعون !!!
وها هم أبناء وبنات الشعب العراقي رهائن شاءوا أم أبو بيد هؤلاء القتلة المجرمين من الإرهابيين بمختلف أطيافهم من جهة, وبيد حكومة تصريف الأعمال التي ترفض تسليم الحكم لاختيار حكومة جديدة, وبيد مجلس النواب الذي عطل نفسه ولا يعرف مهمته, وبيد الأحزاب السياسية التي ترفض إلى الآن الانتهاء من تشكيل الحكومة ووضع حد لهذا الوضع القلق وغير المستقر حيث يتحرك الإرهابيون بكل حرية في أغلب أنحاء البلاد, وخاصة في بغداد والمناطق المحيطة بها من جهة أخرى. ويوم أمس كان يوم حشر جديد للعراقيات والعراقيين حيث مات الكثير والكثير جداً, واستمرت ابتسامات السياسيين ترهق الناظر إلى شاشة التلفزة العراقية وغيرها وتعذبه وتدمي قلبه وتدمع عينيه! والسؤال على لسانه يقول: إلى متى نبقى ننتظر حل أزمة الرجلين أياد علاوي ونوري المالكي, أو أزمة الأحزاب السنية والشيعية في العراق؟
ولكن السؤال التالي يضغط علينا جميعاً: ماذا ينبغي علي الشعب أن يفعله؟
ليس أمام الشعب أن ينتظر, عليه أن يقيم المظاهرات احتجاجاً على تعطيل الدولة العراقية, عليه أن يرفض هذا الوضع البائس وهذا الموت اليومي الذي يختطف حياة الناس العصيان المدني ضد الحكومة, عليه أن يعلن الإضرابات ويقيم المظاهرات احتجاجاً على تعطيل الدولة العراقية, عليه أن يرفض هذا الوضع البائس وهذا الموت اليومي الذي يختطف حياة الناس.
لا أدري من أين امتلك هذا الشعب صبر أيوب, من أين جاء بهذه القدرة على تحمل العذاب والاضطهاد والقبول بالموت الخاطف؟ أمن الذل الذي أنزله به الحكام المسلمون في الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية, ومن ثم حكم البعث الدموي الذي طال نيف وثلاثة عقود من سني العذاب والموت والجفاف؟         
إنها لكارثة فعلية أن يقبل هذا الشعب بكل ما يجري له حالياً دون أن يعلن عن رفضه لمن يمارس كل ذلك به دون حياء أو وجل, فالحكام مطمئنون أن هذا الشعب عاجز عن رفع عصا الطاعة ضد حكامه, وأن حكامه المحتمون بحراسهم يمكن أن يوجهوا نيران أسلحة حراسهم إلى صدور المتظاهرين إن مارسوا حقهم في الإضراب والتظاهر, تماماً كما حصل في البصرة والناصرية وغيرها.
كم يحس الإنسان بالاغتراب عن هذا العراق الذي أصبح مقبرة للناس على أيدي أنواع من الإرهابيين القتلة. أحس بالحيرة, رغم معرفتي بما جرى للإنسان خلال الخمسين سنة المنصرمة من تغيرات في بنيته الاجتماعية والفكرية والسياسية والثقافية والأخلاقية, أمام هذا الشعب الذي كان ينتفض بوجه الحكام الملكيين رافضاً سياستهم وسلوكهم, رغم أنهم لم يفعلوا ما تفعله قوى الإرهاب هذه الأيام, ورغم عجز الحكومة عن مواجهة تلك القوى الإرهابية المجرمة, أنا حائر كيف يسكت اليوم هذا الشعب عن كل ما يجري له ويقبل بالموت راضياً مرضياً!!!
يقال أن الظلم إن دام دمر, وأن الفساد إن ساد دمر, وأن الحكام أن عشقوا الحكم استبدوا بالناس, وهو ما نعيشه اليوم, كما يبدو لي فهل أنا مخطئ؟ هل علينا تبديل الشعب بدلاً من تبديل الحكومة كما اقترح برتولد بريشت ساخراً من حكومة بلاده في العام 1952 حين انتفض شعب ألمانيا الديمقراطية ضد سياسة حكومته التي رفضت الاستقالة ووجهت النيران ضد المتظاهرين؟ ربما!!
19/9/2010                     كاظم حبيب   
   



1046
كاظم حبيب

هل مبادرة علماء النفس في العراق قادرة على حل
أزمة تشكيل الحكومة في العراق؟

بادرت مجموعة متخصصة من علماء النفس في العراق إلى تقديم مقترح جرئ ومسؤول إلى كل القوى السياسية العراقية الفائزة في الانتخابات وإلى الحكومة ومجلس الناب وجهات أخرى, كما نشر في الصحافة العراقية, تضمن دعوة إلى قبول وساطة هذه المجموعة المتخصصة من علماء النفس السياسي العراقيين للحوار مع كل الأطراف المعنية لحل العقد الراهنة التي منعت إلى الآن تشكيل الحكومة رغم مرور سبعة شهور على انتخاب مجلس النواب العراقي. فقد جاء في المبادرة ما يلي:
   " كنا طرحنا مبادرة  نشرتها مجلة (الأسبوعية) بتاريخ 5 أيلول 2010، وبثتها وكالة أكا نيوز في اليوم نفسه، نتوسط فيها لحلّ الأزمة السياسية العراقية بوصفنا متخصصين بعلم النفس السياسي وإدارة الصراع في أوقات الأزمات، ومحايدين نقف على مسافة واحدة من الكتل السياسية، يدفعنا إلى ذلك حرصنا على تجنيب البلاد وأهلها ما ينذر بحصول كارثة.
   ولقد تم تشكيل فريق علمي تخصصي من شخصيات أكاديمية عراقية، داخل العراق وخارجه، آملين من الأطراف المعنية منحه الفرصة لانجاز مهمته التي تستهدف خدمة هذه الأطراف أيضا". مدركين إن ما يجمع بين القادة السياسيين العراقيين هو اكثر مما يفرّق، وان المشكلة ليست في الصراع نفسه بل في طريقة إدراك كلّ طرف له، وكيفية تعامله معه.. وان الموقف بحاجة إلى وسيط غير مُسيَّس له خبرة في إدارة الصراع وسيكولوجيا الاقناع.. ونرى في هذا الفريق الوسيط المؤهل للقيام بهذه المهمة. آملين من مجلس النواب العراقي والكتل السياسية والحكومة دعوته للمجيء الى بغداد، متطلعين إلى مؤازرة منظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والأكاديميين والمثقفين والإعلاميين ليكونوا شركاء في تحقيق هذه المهمة الوطنية النبيلة.
إننا بمحاولتنا العلمية التخصصية والمخلصة هذه نكون قد برأنا ذمم مفكّري الأمة وعلمائها من  تقديم النصيحة للمسؤولين عن رعيتها، ووضعنا ذنبا ثقيلا في رقاب السياسيين الذين يصدّون عنها."
أني إذ أحيي هذه المبادرة المهمة والفريدة والمخلصة, أؤكد بأن مجالاً علمياً حيوياً نشأ وتطور خلال النصف الثاني من القرن العشرين ولا يزال يزداد دوره وتأثيره في معالجة المشكلات والصراعات المحلية والإقليمية والدولية, فهو علم نظري وتطبيقي مختص بحل النزاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والمائية ...الخ, والذي تبلورت فيه العديد من النظريات العلمية والتي استندت إلى دراسات تطبيقية وتراكم الكثير من التجارب الناجحة والفاشلة عبر العقود المنصرمة. وقد نشرت الكثير من الأبحاث القيمة في هذا الصدد, ومنها عن المعهد المتخصص بحل النزاعات في برلين والذي عملت فيه لعدة سنوات.
إن مشكلة الحكم في العراق لا ترتبط بالصراع الطائفي السائد حالياً, ولا بسبب الخلافات والسياسات والمواقف المتراكمة قبل ذاك, ولا بالتدخلات الإقليمية والدولية, حسب, بل وبسبب غياب الثقة التامة بين الأطراف المختلفة نتيجة كل ذلك وغيره وبسبب انعدام الصراحة والشفافية والقدرة على المساومة المحسوبة للوصول إلى حلول ترضي الأطراف المختلفة, دون أن تخل بكرامة هذا الطرف أو ذاك أو تعرض مصالح أحد الأطراف إلى الخسارة لصالح الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.
إن الوساطة وإدارة الصراع والتفاوض المرن والعقلاني والتحري عن حلول تساومية عقلانية ومقبولة من جميع الأطراف علم وفن وخبرة متراكمة وحصافة سياسية متميزة لا يملكها بالضرورة المتفاوضون لأسباب غير قليلة, سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم نفسية, في حين يكون في مقدور الفريق الوسيط طرح مقترحات حلول تدرس وفق أسس ديمقراطية مجربة وعبر النقاش الهادئ والبعيد عن التوتر حيث يتم في ضوئها الحل الذي يمكن ان يرضى به الجميع دون خسارة مصالح أو كرامة من هذا الطرف أو ذاك.
إن المقترح المقدم من الأخوة علماء النفس في العراق مسؤول حقاً ويرغب جاداً في إيجاد حل للأزمة الراهنة المتعددة الجوانب, ولكنها في الوقت نفسه محاولة جادة وضرورية لحقن الدماء وإنهاء الأجواء التي تساعد الإرهاب على الاستمرار في قتل الناس وتخريب الممتلكات وإيقاف عملية التنمية والتشغيل. إن المبادرة تدفع باتجاه التصدي لتمزيق النسيج الوطني المهلهل حالياً بفعل الواقع العراقي القائم والتركة الثقيلة للعقود المنصرمة.
إن رفض هذه المبادرة من أي طرف كان لا يعني سوى القبول بالواقع الراهن, باستمرار الأزمة واستمرار الموت اليومي للعراقيات والعراقيين, ولا يعني سوى تحمل النخب السياسية الحاكمة المسؤولية الكاملة عن الدماء التي تسيل على أرض الوطن والدموع التي تنهمر من عيون الثكالى من الأمهات والزوجات والأيتام.
إن مبادرة العلماء قادرة على حل المعضلة لو أتيح لهم ممارسة دور الوسيط فعلاً ولو توفرت الإرادة الحقيقية لدى الأطراف المعنية وليست الموافقة الشكلية لحل المعضلة على وفق دور هذا الفريق.
16/9/2010                     كاظم حبيب   
 


1047
كاظم حبيب


نعيم الشطري ابن شارع المتنبي يعاني من عسف الأمراض ونسيان المسؤولين!

وصلتني عدة رسائل حزينة من بغداد تتحمل معها نبأً عن الصديق والإنسان الطيب نعيم الشطري يؤكد حصول تدهور سريع في وضعه الصحي. وفي كل رسالة يشعر الإنسان من خلالها أن الأخوة هناك عاجزون عن تقديم المساعدة له وإرساله للمعالجة أو توفير العلاج الطبي المكثف له في بغداد, لأن الرجل ذاته لا يملك شروى نقير ويعيش في غرفة بائسة في أحد الأزقة المتفرعة عن شارع المتنبي وهو المختار غير المنتخب لهذا الشارع بعد أن سكن فيه نيف وخمسة عقود وقضى حياته ملازماً للكتاب ومبدعاً في أساليب بيعه وإيصاله للقارئ أو القارئة ومنشطاً ذاكرته بالشعر العربي الجميل منشداً ومشنفاًً بصوته الجهوري أسماع المارة وباعة الكتب وكافة المشترين.
غريب أمر هذه الحياة, أو بتعبير أدق غريب أمر رجالات الحكم في العراق, فقلوبهم رحيمة على أبناء النخبة الحاكمة. فحين يصاب أحد كبار المسؤولين بمرض معين, تتطوع الدولة ويتبارى المسؤولون بإرساله على حسابهم الخاص للمعالجة الطبية في أحدى الدول الأوروبية أو العربية أو يرسل مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية, رغم الغنى الذي هو فيه وليس بحاجة إلى أموالهم فلديه ما يكفي ويزيد. ولكن حين يمرض احد العاملين في الشأن العام, مثل السيد نعيم الشطري, وهو أحد فقراء المال ولكنه غني وعزيز النفس وغني بما يملك من عقل تنور عبر الكتب وتجارب الحياة, لا يجد من يدعمه في هذه الدولة الغنية ومن أولئك الذين تباروا لمعالجة الغني المترف.
رجوته يوماً إن يزور صديقاً مسؤول, بل قل إلى وزير صديق, رجوته عبر الهاتف أن يساعده دون أن أبين وجه المساعدة, ونادراً ما أقوم بمثل هذه الوساطة, ويعرض حالته عليه. ذهب إلى مكتب السيد الوزير والتقاه وكان لطيفاً معه ومع الصديق الذي صاحبه, ولكنه عجز عن بسط حاجته للمعالجة, وحار الصديق الوزير بأمره, ثم عاد بخفي حنين.
هل سيقرأ أحد المسؤولين أو أكثر هذه المقالة القصيرة ويبادر دون الإعلان عن ذلك لتقديم المساعدة له وإطالة عمره ليبقى يغرد في شارع المتنبي وينعش من لم يتسع له الوقت لقراءة بعض أشعار الجواهري أو غيره.
ربما يلتفت إليه اتحاد الأدباء والكتاب رغم فقر حال الاتحاد, ليساهم في إيجاد حل لمعالجة السيد نعيم الشطري سادن شارع المتنبي , شارع الكتاب والفكر والمعرفة, الشارع الذي كان هدفاً لكل الأوباش على امتداد تاريخ هذا الشارع, قبل فوات الأوان, ولكنه كان مزاراً لكل الطيبين وقراء الكتاب الذي هو خير صديق.
12/9/2010                        كاظم حبيب



1048
كاظم حبيب
تعليق واستفسارات وإجابات حول مقال
أليس الاختلاف في وجهات النظر والنقاش هو الطريق لتعميق المعرفة؟
وصلتني رسالة من صديق عزيز على بريدي الشخصي يقول فيها أنه وجماعة من أصدقائه تناقشوا حول مقالي الموسوم "أليس الاختلاف في وجهات النظر والنقاش هو الطريق لتعميق المعرفة؟" وقد تكَّون لديهم تعليق واستفسار حول السؤال الذي طرحته في هذا المقال وهو: "هل يمكن ضمان أن جميع من يعلق على هذا الرأي أو ذاك يمتلك مستوى متقدم من المعلومات والثقافة التي تؤهله لخوض النقاش؟" ثم يطرح الاستفسارات التالية: "هل أفهم من هذا السؤال إن الذي ليس على مستوى متقدم من الثقافة غير مؤهل لمناقشة المثقف؟" " وهل المثقف يكتب للمثقف دون غيره؟ وإذا فهم المواطن العادي مقالة ما بطريقة لا تتوافق ورأيه فما الذي علية فعله؟
أسئلة منطقية يمكن أن تطرأ على البال ولا بد من توضيحها للأخوة المتناقشين ولغيرهم الذين ربما طرأ على بالهم ذات الأسئلة عند قراءة للمقال المذكور:
ابتداءً أقول بأن الكاتب يكتب للجميع دون استثناء, أي لمن يقرأ, خاصة حين يكتب الإنسان بالشأن العام, إذ عموماً لا يكتب لنفسه فقط, بل يكتب للآخرين. والآخرون هنا لا يقصد بهم قلة من المثقفين, بل يعني كل الناس الذين يقرأون باللغة التي يكتب بها المقال أو حين يترجم إلى لغات أخرى.
ولكن ليس غريباً أن نلتقي مع كتاب يكتبون لأنفسهم أو لمجموعة صغيرة من المثقفين, وفق طبيعة الموضوع الذي يكتبونه. ومثل هؤلاء الكتاب قلة, في حين إن الغالبية العظمى من الكتاب تكتب للجميع, بغض النظر عن القراء, سواء أكانوا بمستوى رفيع من الثقافة أو متوسطه أو غير مثقف ومتعلم فقط. ولا شك في أن الكاتب يتمنى أن يقرأ له كل الناس وفي مقدمتهم البسطاء من الناس والطيبين الذين ربما تساعد مقالاته على رفع مستوى الوعي لديهم ويهمه سماع رأيهم في ما يكتب. ولكن يهمه أيضاً أن يقرأ المثقفون كتاباته أيضاً, وأن يطرح من يشاء رأيه في تلك المقالات لصالح الحوار أو النقاش حول الأفكار التي ترد في المقالات التي ينشرها.
ولكن التعليقات التي تصل على كتاباته متنوعة ويمكن أن تصنف إلى عدة اتجاهات:
من حيث المبدأ من حق الجميع أن يعلق على أي مقال ينشر وبالطريقة التي يراها مناسبة ومعبرة عن وجهة نظره. ولكن ليس من حق أي كاتب أو معلق أن يسيء إلى أي كاتب أو معلق أثناء النقاش المباشر أو عبر الإنترنيت أو في الصحافة المرئية والمقروءة. وحين تصل إلى الكاتب تعليقات على كتاباته, يفترض فيه أن يمتلك أعصابه حين يواجه بالنقد السلبي لمقالاته, إذ من واجبه أن يسمع وجهات نظر الجميع, فهو يكتب بالشأن العام. ويمكن للكاتب أن يميز بين عدة أشكال من صياغة التعليقات على مقال ما, منها مثلاً:
1.   يمكن أن يدرك الكاتب من خلال التعليق أن القارئ أو القارئة قد أدركا ما يريد الكاتب قوله, ولكن لديهما وجهة نظر مخالفة له, وهو أمر طبيعي.
2.   ويمكن أن يدرك الكاتب من خلال التعليق أن القارئ أو القارئة لم يدركا وجهة نظره وتشكلت لهم رغبة في توضيح الأمر فيطرحوا الاستفسار أو الرأي المخالف ليستوضحوا, وهو أمر وارد كثيراً.
3.   كما أن هناك احتمالاً آخر هو أن بعض من يقرأ لا يفهم ما يسعى إليه الكاتب, وبدلاً من توجيه أسئلة للتيقن, يبادر إلى خوض النقاش بأسلوب خاطئ ولا يكتفي بذلك بل ربما يشتم الكاتب ويسيء إليه دون التمعن في المضمون.
4.   وهناك من لا يريد أن يفهم الكاتب ويسعى منذ البدء, ولأي سبب كان, إلى شتمه والإساءة إليه من خلال كتابة تعليقات حادة وقاسية ومسيئة للكاتب.
وفي التعليقات التي ترد للكاتب يمكن الكاتب الجيد أن يميز بين أهمية النقد وأسبابه, إذ أن التعليق يعبر بدقة عن مدى وعي المعلق أو أنه يمارس التعليق بوعي معين يستهدف الإساءة. وهذا يعبر عن مستوى متباين في الثقافة والوعي, إذ أن المثقف يفترض أن يكتب وأن يعلق دون إساءات, والإساءة هي التي تعبر عن مستوى صاحبها, سواء أكان كاتباً أو معلقاً.
من حق كل الناس أن يكتبوا ويعلقوا, والأقل مستوى في الثقافة هم الأحوج لأن يكتبوا ويعلقوا ويستفسروا, ويمكن معرفة ذلك من خلال كتاباتهم, ولكن من الضروري الابتعاد عن الإساءة إلى الكتاب أو الآخرين, إذ أنها ليست من الحضارة بشيء ولن تنفع أحداً.     
هذا السؤال الذي طرحته في مقالي السابق موجه إلى الكاتب أكثر مما هو موجه إلى المعلقين, إذ على الكاتب أن يدرك من خلال التعليق بأن المعلق له مستوى معين وعليه أن يتعامل وفق ذلك مع صاحب التعليق وليس رد الإساءة بالإساءة أو الشعور بالغضب وما إلى ذلك.
تصلني يومياً الكثير من الأسئلة التي أجيب عليها, ولكني أهمل من يحاول التجاوز والإساءة عن قصد وهو لا ينتظر جواباً مني بل كان يريد أن يوصل الشتيمة لا غير. وحين تجيب على مثل هذا الشخص, يفرح بذلك إذ أنك تسمح له بتوجيه المزيد من الشتائم إليك, في حين خير ردع له هو عدم الاستجابة لملاحظاته غير الموضوعية.
ليس بمقدور كل الناس أن يعبروا بصيغة سليمة عما يريدون إيصاله في التعليقات التي يكتبونها. ومن واجب الكاتب أن يفهم ذلك ويقدره وأن يتعامل معه بروية وأن يجيب عن الأسئلة بهدوء وموضوعية ودون أي تحسس لا معنى له, وأن لا يتصور ابتداءً أن هذا الناقد يريد استفزازه أو الإساءة له, إلا إذا تكررت وبنفس الصيغة ولا يريد تعديلها.
إن قولي السابق لا يريد غلق أفواه الناس بأي حال, بل أردت إيصال ثلاث أفكار أساسية:
أن نكتب حضارياً , وأن نعلق وننتقد حضارياً, وأن  نجيب حضارياً, حتى لو تكون لنا شعور بأن المعلق يريد أن يستفز أو يسيء, إذ أن التطير من النقد, أو حتى من النقد غير الموضوعي أو من السباب, لا يوصلان إلى نتيجة, ولكنهما يشكلان عدم ثقة ورغبة في الإساءة المتعمدة والمتبادلة.
حين كنت أدرس في الجامعة المستنصرية ببغداد, كان الطلبة والطالبات يستفسرون كثيراً. وكان من حقهم وواجبهم ذلك لاستيعاب المادة. وكان بعض الطلبة على نحو خاص يستفسرون بروحية استفزازية صارخة, وكان عليَّ كأستاذ جامعي أن اقبل الاستفزاز بروح بناءة وإيجابية وأجيب عن الأسئلة لأنها مهمتي وواجبي. وكثيراً ما توصل أولئك الطلبة إلى استنتاجات مفيدة حين حصلوا على إجابات واضحة عن استفساراتهم, ومن ثم غيروا أسلوبهم في طرح الأسئلة, وكان هذا مكسباً للجميع.
نحن جميعاً بحاجة إلى الإكثار من الأسئلة والاستفسارات والتعليقات, إذ أنها الطريق للوصول إلى المزيد من المعلومات والمعارف والتعارف الفكري أيضاً, وهو الضروري في أجواء حياتنا الراهنة وخاصة في العراق الذي يعاني من غياب الحوار والنقاش وحل محله الغضب والقسوة والثأر بدلاً من قيم أخرى ضرورية اختبرت في الكثير من بقاع العالم. ولكننا ما زلنا بعيدين عنها لبعد الحضارة الحديثة عن أوضاعنا وحياتنا اليومية. عراقنا اليوم يقدم نموذجاً لذلك مع الأسف الشديد.     
9/9/2010                         كاظم حبيب

1049
كاظم حبيب
أفكار وموضوعات للمناقشة
هل ستستعيد حركة اليسار دورها الفكري والسياسي على الصعيد العالمي؟
الحلقة الرابعة والأخيرة

نشأت الحركة اليسارية الحديثة في العراق في أوائل عشرينات القرن العشرين وبرزت بوضوح نسبي في جماعة الصحيفة التي كان يصدرها حسين الرحال ابتداءً من العام 1924. أي في فترة الصراع على ثلاث مسائل أساسية كانت موضع نقاش واسع في المحافل السياسية العراقية حينذاك, وهي: 1) مشروع الدستور العراقي الذي وضعته سلطة الاحتلال البريطانية ونوقش وأقر من قبل الجمعية التأسيسية في العام 1925؛ و2) الاتفاقية العراقية-البريطانية التي وضعت من قبل سلطة الانتداب أيضاً في العام 1922 ونوقشت وعدلت عدة مرات ثم أقرت أخيراً من قبل مجلس النواب في العام 1930, والتي أصبحت موضع رفض قوى المعارضة السياسية العراقية؛ و3) واتفاقية امتياز النفط الخام التي عقدت مع شركة النفط العراقية في كركوك في العام 1924, والتي أصبحت مدار صراع شديد مع قوى المعارضة والشعب طوال العقود التالية, إضافة إلى اتفاقيتي الموصل والبصرة اللتين عقدتا في عامي 1938 و1939 مع نفس الشركات الاحتكارية  النفطية.
ولكن لم تكن هذه الموضوعات وحدها موضع نقاش وصراع مستديم حسب, بل كانت هناك قضايا أخرى جوهرية خاضتها القوى الوطنية العراقية عموماً, ومنها قوى اليسار, في بغداد والبصرة والنجف والسليمانية وأربيل والحلة والموصل وبقية المدن الأخرى وتلك التي شاركت في انتفاضتي النجف (1918) والسليمانية (1919) وثورة العشرين (1920) العراقية, ومنها قضايا الانتداب والاستقلال الوطني والتخلف والفقر والجهل والمرض والتربية والتعليم وحقوق المرأة وموضوع الحجاب والسفور. ثم تنوع النقاش ليشمل في العشرينات أيضاً موضوع إقامة وحماية الصناعة الوطنية وتنشيط الحركة النقابية التي برزت في تأسيس جمعية أصحاب الصنائع وعلى رأسها محمد صالح القزاز. وفي الثلاثينات نشأت حركات فكرية وسياسية إصلاحية وطنية ويسارية أكثر عمقاً وشمولية في طرحها للمشكلات التي يعاني منها العراق, إضافة إلى بروز النشاط الشيوعي في كل من بغداد والبصرة والناصرية. ووجدت هذه القوى الوطنية, ومنها اليسارية, أشكالاً مختلفة لتنظيم نفسها كما في الحزب الوطني وجماعة الأهالي والإصلاح الشعبي وجمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار التي نشأ عنها الحزب الشيوعي العراقي. ثم نمت وتطورت هذه الحركات أثناء وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث ظهرت قوى وطنية وقومية جديدة, إضافة إلى بروز قوى وأحزاب يسارية عديدة سعت للحصول على إجازة رسمية لها. بعضها حقق نجاحاً مؤقتاً وبعضها الآخر رفضت إجازته رسمياً وأجبر على العمل في السرية. وأبرز تلك القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية التي عملت في الأربعينات من القرن الماضي, سواء لفترة قصيرة أم طويلة وسواء أجيزت أم أجبرت على العمل السري أو توقفت عن العمل. نشير هنا إلى بعض من أبرز تلك القوى التي ناضلت ضد الاتفاقيات العسكرية والسياسية التي اعتبرتها مخلة بالاستقلال والسيادة الوطنية أو إنها تربط العراق بأحلاف عسكرية دولية تخرج العراق عن حياده الدولي, ومنها: الحزب الشيوعي العراقي وحزب الشعب وحزب التحرر الوطني والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الأحرار وحزب هيوا والحزب الديمقراطي الكردي وعصبة مكافحة الصهيونية التي كان أغلب أعضائها من الشيوعيين اليهود والمستقلين المناهضين للقوى القومية اليمينية اليهودية (الصهيونية). وامتد عمل بعض هذه الأحزاب والقوى في العقد السادس من القرن العشرين, في حين توقف أو اندمج بعضها بالبعض الآخر. وفي الحركة القومية برز حزب الاستقلال ومن ثم حزب البعث فيما بعد في العراق أي في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين, إضافة وجود حزبين لإسلاميين هما جماعة الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي (السنة)؛ ونواة لحزب الدعوة الشيعي. وفي أعقاب ثورة تموز نشأت أحزاب سياسية وطنية ويسارية قديمة وحديثة, بعضها حصل وبعضها الآخر لم يحصل على إجازة عمل رسمية, وتلك التي حصلت على إجازة لم تدم طويلاً, سواء أكان ذلك  قبل سقوط الجمهورية الأولى أم بعد سقوطها بانقلاب القوى البعثية والقومية اليميني المتطرفة في العام 1963.
والحزب السياسي اليساري الماركسي الوحيد الذي استمر يعمل في العراق طيلة الفترة الواقعة من العام 1934 إلى الوقت الحاضر هو الحزب الشيوعي العراقي. أما الحزب الديمقراطي الكردستاني فقد تأسس في العام 1946 وواصل العمل أيضا إلى الآن. ورغم حصول عدة انشقاقات في الحزب الشيوعي العراقي منذ العام 1942 وقيام تنظيمات مؤقتة لتلك القوى التي انشقت عنه, فأن عمرها كان قصيراً جداً ولم تستطع مواصلة العمل السياسي أو أن بعضها تلقى ضربات قاسية من نظم الحكم لم تستطع الصمود أمامها فانتهى وجودها تنظيمياً في الداخل, ولكن بعضها القليل شكل كتلاً صغيرة في الخارج. بعضها لا يزال قائماً إلى الآن وبعضها انتهى في حينه. وفي منتصف ونهاية السبعينيات من القرن العشرين ظهرت قوى وأحزاب وطنية ذات اتجاهات متنوعة, وبضمنها يسارية في العراق وخارجه, وخاصة تنظيمات تشكلت في الخارج أو في سوريا, وأبرزها الاتحاد الوطني الكردستاني (1976) وأحزاب يسارية صغيرة كانت لها تنظيمات صغيرة جداً أو بعض الأفراد في دمشق,   
كل القوى الوطنية الديمقراطية, ومنها قوى اليسار أو في مقدمتها, لعبت خلال العقود المنصرمة دوراً مهماً وحيوياً, سواء أكان في النضال من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية ومكافحة السيطرة الاستعمارية الأجنبية, أم في سبيل الحريات العامة والحياة الدستورية والديمقراطية وحرية التنظيم, أم في سبيل القضايا الاقتصادية كحل مسألة الأرض الزراعية لصالح الفلاحين ومن أجل التصنيع والاستثمار العقلاني لموارد النفط المالية من أجل التنمية وتنويع الاقتصاد الوطني والتنمية البشرية على مستوى العراق كله. كما كانت تناضل من أجل حل المشكلات الاجتماعية, منها مشاكل التربية والتعليم العام ومكافحة الأمية ومكافحة الفقر والبطالة, أو في سبيل حقوق المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومساواتها بالرجل ومن أجل سن قانون للأحوال الشخصية الذي يضع حداً لاستغلال واضطهاد وحرمان المرأة من حقوقها العامة ومن استقلالها الاقتصادي, أي المشاركة في العمل والإنتاج وجميع فروع الاقتصاد. كما كان للحركة الوطنية عموماً والحركة اليسارية خصوصاً دورها الفعال والمباشر في نشر الوعي السياسي والاجتماعي والدعوة إلى تشكيل النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والتنظيمات الشبابية والطلابية والنسائية وحركة أنصار السلام في العراق. وتحمًّل الحزب الشيوعي العراقي القسط الأكبر في هذه العملية النضالية, إضافة إلى بعض الأحزاب الوطنية التي كان بعضها يعمل بصورة موسمية. كما لعب الإعلام الوطني والديمقراطي لهذه القوى في نشر الفكر التنويري الاجتماعي في المدينة والريف, رغم المحاربة الشديدة التي تعرض لها الإعلام الوطني والمستقل واليساري بشكل خاص من النظم التي حكمت العراق بشكل عام, في ما عدا فترات قصيرة امتلكت حرية نسبية في النشر والدعاية الفكرية والسياسية.   
لقد نشأت الحركة اليسارية على الأرض العراقية وفي إطار القوى الوطنية العراقية ونمت وتعززت بفعل تبني قوى سياسية واجتماعية عراقية لها متأثرة بالمبادئ العامة التي نشرتها الثورات في أوروبا والحركات والثورات السياسية في عدد من الدول المجاورة, ومنها مبادئ الثورة الفرنسية والثورة المشروطية في إيران (1905) والثورة الروسية في نفس العام والحركة الدستورية في تركيا في العام 1908 والنشاط الفكري والسياسي الوطني واليساري في كل مصر ولبنان وسوريا, إضافة إلى الثورتين الروسيتين في شباط وأكتوبر (الاشتراكية) وكلاهما في العام 1917 والثورة الألمانية في العام 1918.
وقد تأثر الحزب الشيوعي العراقي بالحركة الاشتراكية في كل من مصر وفلسطين ولبنان وسوريا وبتأثير أفكار الأممية الثالثة تم تشكيل جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار ثم تغير الاسم إلى الحزب الشيوعي العراقي بناء على نصيحة وتوجيه وشرط الانتماء إلى الأممية الثالثة (الأممية الشيوعية) التي كان لها الدور المهم والتأثير الفعال على فكر وممارسات الحزب الماركسي – اللينيني في العراق, والذي كان يطلق عليه وعلى الأحزاب الشيوعية الأخرى "حزب من طراز جديد".                     
إن العمل السري الذي أجبرت عليه قوى اليسار العراقي, وخاصة الحزب الشيوعي العراقي من جهة, بسبب المحاربة الشديدة من نظم الحكم وقوى سياسية دينية وقوى رجعية وقومية وبعثية يمينية ويمينية متطرفة خلال العقود المنصرمة من جهة أخرى, والدعاية والإعلام الاستعماري والرأسمالي الذي وجه جام غضبه ضد الحركة الوطنية العراقية, وخاصة قوى اليسار فيها, من جهة ثالثة, وتأثير المدرسة الفكرية والسياسية للماركسية–اللينينية على فكر الحزب الشيوعي العراقي, باعتباره جزءاً من الحركة الشيوعية العالمية ومن المدرسة الفكرية ذاتها من جهة رابعة, ثم تأثير السياسة الدولية لحليف الحركة الشيوعية الاستراتيجي, الحزب الشيوعي في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية والدولة السوفييتية, من جهة خامسة, والواقع الاقتصادي والاجتماعي والتخلف العام في البلاد ومصاعب الحياة التي كانت تعاني منها الغالبية العظمى من الشعب من جهة سادسة, والمستوى الفكري والسياسي لقوى الحركة اليسارية العراقية ذاتها من جهة سابعة, لعبت كلها أدوارها المتباينة نسبياً وفي فترت متباينة في مدى قوة تأثيرها على فكر وسياسات وممارسات الحزب الشيوعي العراقي, سواء في وضع سياسات صحيحة ومؤثرة على حركة الشعب ووعيه ومهماته, أم أحياناً خاطئة بسبب واقع الهروب إلى أمام في مجمل الحركة الشيوعية العالمية وفي سياسات ومواقف الدول الاشتراكية, أم بسبب عدم التحليل السليم لطبيعة ومهمات وقور المرحلة, مما جعل بعض المهمات غير متطابقة مع واقع الحياة بحيث حملت الحزب ورفاقه وأصدقاء الحزب والجماهير متاعب ومصاعب غير قليلة.
إن استخدام المنهج العلمي المادي الجدلي في دراسة وتحليل واقع واتجاهات تطور قوى الحركة اليسارية العراقية خلال القرن الماضي وإلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين سيسهم في إنارة طريق السير الراهن والمستقبلي لمجمل حركة اليسار والحركة الوطنية العراقية ويساعد على استخلاص الدروس والعبر منه وتجنب الوقوع بالأخطاء, خاصة وإن هذه الفترة مليئة بالعقبات الجدية بسبب تعقيدات الوضع العام الداخلي وتشابكاته مع الوضع والقوى والدول الإقليمية وعلى الصعيد الدولي.
إن المهمة المباشرة التي تواجه المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة تبرز في أهمية وضع اليد مباشرة على العقد الفعلية أو المشكلات التي تواجه المجتمع في مختلف المجالات وعلى كافة المستويات. إن دراسة هادئة وموضوعية باستخدام أدوات التحليل العلمية ستساعد على التشخيص المناسب للمشكلات ومن ثم وضع العديد من احتمالات الحلول العملية والسعي إلى تكرار دراستها من أجل اختيار أكثرها قرباً من الواقع وإمكانيات حركة اليسار وقدرات المجتمع على النضال من أجل تحقيقها.
رغم الدور الكبير الذي تلعبه القوى الدولية والإقليمية في العراق وتأثيرها المباشر وغير المباشر على سياسات البلد والقوى الفاعلة فيه, فأن المشكلة الأساسية تكمن في العراق ذاته, في قواه السياسية ذاتها. فالصراع يدور في ما بينها على السلطة, رغم تأييد وتأثير هذه الدولة الأجنبية أو تلك, سواء أكانت عربية أم غير عربية, إقليمية أم من خارج الإقليم, على هذه القوة السياسية أو تلك, فأن واقع الحال يطرح أربعة مستويات من الصراعات الدائرة في المجتمع:
- صراع شديد ومتفاقم على السلطة من جانب كل حزب سياسي بمعزل عن طبيعته وتكوينه الفكري والسياسي والاجتماعي.   
- صراع طائفي على السلطة بين الأحزاب السياسية ذات الانتماء الشيعي والأحزاب السياسية ذات الانتماء السني للسيطرة على مقاليد الحكم من خلال موقع رئيس الوزراء الذي وضعت في يده كل السلطات بشكل غير ديمقراطي وغير سليم.
- صراع على المواقع والمصالح والأهداف بين ما يطلق عليه بمكونات المجتمع القومية والمذهبية (أي العرب الشيعة والعرب السنة والكُرد),
- وصراع في ما بين أفراد النخب السياسية العراقية الراهنة, إذ أن كلاً منهم يريد أن يكون رئيس الوزراء ليمارس من موقعه سياسة الهيمنة والتصرف في السلطة والنفوذ الاجتماعي وعلى أجهزة الدولة والمال في آن واحد. أي أن المصلحة الشخصية تلعب هنا دورها البارز والمسيء للحياة السياسية ومصالح البلاد. وكل يدعي بأنه لا يعمل بأي حال من أجل مصالحه, وهو مستعد أن يقسم بأغلظ الإيمان على ذلك, وليس هناك من يقول بأنه يعمل لمصلحته بل لمصلحة البلاد. ومن كان منهم مؤمناً حقاً فما عليه إلا أن يدفع كفارة قسمه بعض المال أو "الخبز والكرفس والكراث والجبن" لبعض الناس, فبين مصالح هذا وذاك تضيع مصالح البلاد والشعب.   
وهذه الصراعات تتجلى أيضاً في صراع خامس, إذ لا يزال ميزان القوى فيه غير متكافئ, وأعني به الصراع بين قوى الإسلام السياسية السنية والشيعية من جهة, والقوى الديمقراطية العلمانية من جهة أخرى. فميزان القوى لا يزال يميل إلى الآن وبقوة واضحة جسدتها نتائج الانتخابات المحلية والعامة الأخيرتين لصالح الطرف الأول, إذ أنه يحظى بتأييد دولي وإقليمي واسعين. وهي مشكلة ذات أبعاد فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية كبيرة على البلد والمنطقة عموماً.
وهنا يفترض أن يتحدد الموقف لا من وجود وعمل القوى الأجنبية التي لا تزال تعمل في البلاد في ضوء الاتفاقية الأمنية والسياسية المبرمة مع الولايات المتحدة الأمريكية فحسب, بل والموقف من هذا الصراعات المتنوعة ذات الفعل الكبير في الوضع القائم في البلاد.
إن الصراعات الأربعة الأولى هي التي عطلت تشكيل الحكومة خلال الأشهر المنصرمة منذ انتهاء الانتخابات العامة الأخيرة (2010), وهي التي لا تزال تتفاعل أزمتها مع بقية الأزمات التي تشمل البلاد لتنتج أوضاعاً شاذة ومعقدة.
فالعراق أمام قوى إرهابية نشطة محلياً, ولكنها تجد أكبر الدعم والتأييد والمساندة الفكرية والسياسية والمالية وبالأفراد الانتحاريين والمنظمين من دول الجوار على نحو خاص, وهي التي يفترض أن يتوجه لها الجهد في المكافحة ليس عسكرياً فحسب, بل فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً, أي أن تطرح قوى اليسار سلة متكاملة من مشروعات مواجهة الإرهاب من أجل القضاء عليه والخلاص منه. إن تعدد قوى الإرهاب وتنوع أساليب نشاطها وأدوات عملها وتعدد القوى المساندة والداعمة لها, يجعل من أمر مكافحتها مسألة معقدة حقاً, خاصة وأن سلامة الجهة الأمنية والعسكرية المضادة لها لا تزال قيد الشك النسبي والبحث عن أولئك الذين تسربوا إلى صفوفها ويعملون على تبويشها من الباطن.
إن الحالة التي يعيش فيها العراق غريبة من نوعها, ولكنها طبيعية نتيجة للعقود التي ساد فيها النظام الدكتاتوري والطريقة التي سقط فيها النظام والسياسات التي انتهجت في أعقاب ذلك إلى الآن. فالحرية القائمة فيها الكثير جداً من الفوضى والمخاطر على الفرد وحقوقه, والديمقراطية غير مستوعبة من كثير من الحكام الذين يتحدثون بها ولا يعون مضامينها الحقيقة وهي بالنسبة لهم أداة وليست فلسفة ونظام سياسي. وهي غائبة عن مؤسسات الدولة البيروقراطية ولا توجد شفافية فيها ويسودها الفساد. وهي كلها أمراض وعلل متوارثة ولكن لم تعالج وبالتالي فهي متفاقمة. إن النضال من أجل مبادئ الحرية والحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان ليست شعارات فقط, بل هي مضامين عميقة تحتاج إلى تبني حقيقي ونضال دءوب وبلا كلل من جانب قوى اليسار, وليس مضراً بها أن تبقى في المعارضة من اجل تعبئة المجتمع لصالح تلك المهمات الديمقراطية وبناء المجتمع الديمقراطي.   
ويقف العراق أمام سياسات طائفية تشكل الأرضية الصالحة, بالتفاعل مع الفقر والبطالة والحرمان والفساد والتدخل الإقليمي, لنشوء وتطور الإرهاب وصعوبة القضاء عليه. كلنا يدرك بأن العامل الديني والمذهبي معقد جداً في بلد لم يستطع إلى الآن تحقيق ولو بعض التنوير الديني في المجتمع وممارسة بعض جوانب المدنية والعلمانية في البلاد وفصل الدين عن الدولة, أو الحيادية إزاء مختلف الأديان والمذاهب الدينية. ولا بد من إيلاء هذه المشكلة الاجتماعية أهمية خاصة.     
المجتمع العراقي أمام مشكلة اقتصادية كبيرة تتصارع فيها المصالح والإرادات الخاصة المبعثرة للمجهود المشترك الذي يفترض أن ينصب على التنمية الاقتصادية, وخاصة تحديث الزراعة والتصنيع وترشيد التجارة الخارجية وضبط إنتاج وتصدير واستخدام مورد النفط وأمواله بما يسهم في تسريع عملية التنمية والبنية التحتية المخربة إلى الآن, وخاصة الطاقة الكهربائية ومشكلة المياه والبطالة الجائرة والتضخم الهائل وغير المعقول في الجهاز الحكومي حيث يؤكد المطلعون إلى تجاوزه ألـ 2,5 مليون نسمة.
إن عراق اليوم يواجه عملية غزو تجارية من دول الجوار والعالم كله, بما يقود إلى منع البدء بتنمية صناعية وتحديث وتطوير زراعيين ودعم الصناعات الحرفية التقليدية وتحديثها, وهو ما يفترض الوقوف بوجهه ومنع استمراره, إذ أنه يشكل جوهر السياسة اللبرالية الجديدة في المرحلة الراهنة وهي التمهيد لفرض الجوانب الأخرى من مضامين هذا المشروع المحدد منذ سقوط النظام وباتفاق مع وزارة التخطيط في عهد الوزارة الأولى أثناء وجود الحاكم بأمره پول بريمر على راس الإدارة الأجنبية المدنية والعسكرية في العراق.
إن الفراغ السياسي الراهن وغياب إستراتيجية التنمية الاقتصادية والبشرية والاعتماد على انتقائية من مشروع اللبرالية الجديدة يزيد من تخلف الاقتصاد العراقي ومشكلاته ويسهم في تعطيل العملية الحركية (الديناميكة) الضرورية للعملية الاقتصادية أو التي يحتاجها الاقتصاد العراقي المخرب ويحرم القطاع الخاص وقطاع الدولة والقطاع المختلط في المرحلة الراهنة من النهوض بأعباء التنمية. 
ويبدو لمن يتابع العلاقة المتوترة باستمرار بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية التي تتجلى في تصريحات المسؤولين في قطاع النفط ووزارة المالية وقضايا حدود المحافظات وغيرها, إن هذه الإشكاليات ستبقى تنغص الواقع العراقي ما لم يجر تحديد واضح لتلك المشكلات والجلوس إلى طاولة المفاوضات لمعالجتها. وهذا الأمر يتطلب من قوى اليسار أن يكون لها موقفها الواضح من كل فقرة من فقرات الخلاف, إذ أن وحدة الدولة العراقية وتقدمها يعتمد بشكل فعلي على طبيعة العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
إن مشكلات الوضع الاجتماعي في العراق تشكل عبئاَ ثقيلاً على المجتمع والدولة العراقية والتي هي غير منفصلة عن الوضع السياسي والاقتصادي المعقدين. فليس الفقر, (الذي بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر العام أكثر من 40% من السكان, وأن الذين يعيشون فوق خط الفقر بقليل هي نسبة أخرى عالية حقاً وأن نسبة الأغنياء وأصحاب الملايين من الدولارات وربما المليارات من أصحاب النعمة الحديثة والقطط السمان وتفاقم الفجوة المتسعة بين الغالبية العظمى من الفقراء والأقلية الصغيرة جداً من الأغنياء), فحسب, بل هناك المشكلات الصحية والتربوية والتعليمية والبيئية ومشكلات المرأة والطفل والبطالة والتشرد والفساد المتعاظم وتفاقم حالات العهر وتعاطي المخدرات والتعامل بها, كلها تشكل الخطر الذي داهم المجتمع منذ العقد الأخير من القرن العشرين وتفاقم في أعقاب سقوط النظام الاستبدادي بسبب الفوضى والإرهاب وغياب الحياة الدستورية والديمقراطية السليمة وغياب الحكومة القوية في اعتمادها على الدستور والقوانين وليس بقوة رئيسها أو تحوله إلى فرد قوي ومستبد بأمره.
إن الكفاح ضد الطائفية السياسية وضد النزعات الشوفينية وضيق الأفق القومي تحتل مكانة كبيرة في سلم أوليات قوى اليسار العراقية. إذ أن النضال ضد إقامة دولة دينية في العراق على غرار إيران, أو قومية على غرار سوريا أو ليبيا, أو خليط من ديني وقومي على غرار الدولة المشوهة في السودان واليمن ...الخ, يسهم في معالجة المزيد من المشكلات التي تساعد على بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية والدستورية والمجتمع المدني الديمقراطي. وبغير ذلك ستتعقد مسيرته السياسية الراهنة واللاحقة.
إن البحث في الخطاب الديني والطائفي يفترض أن لا يكون محرماً ولا بد من تحريم الطائفية ومعاقبة من يسوغها ويسوقها في المجتمع وكذا القضايا الأخرى, إذ أنها تخلق براميل بارود يمكن أن تتفجر في كل لحظة في المجتمع العراقي المتعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية. 
إن هذه المشكلات وغيرها كثير تشكل المحاور التي يفترض في قوى اليسار أن تتحرى عن معالجات لها تطرح على شكل مهمات ملموسة يفترض النضال من اجل إنجازها من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة.
إن قوى حركة اليسار العراقية بقوامها الراهن, سواء أكانت أحزاباً أم قوى وتكتلات أم شخصيات يسارية مستقلة, تواجه مهمة أساسية تتلخص في كيفية التنسيق في ما بينها وتوحيد جهودها وإيجاد قواسم مشتركة لها للعمل المشترك لتستطيع إيجاد قواسم مشتركة أخرى مع بقية القوى الديمقراطية العراقية للنهوض من الكبوة الراهنة التي هي نتاج الأوضاع السابقة واستمرار وجود عوامل تعيق تطورها السريع وتوسيع قاعدتها السياسية في ضوء ما تطرحه من مهمات تشمل قاعدة اجتماعية واسعة. إن التعاون في ما بين القوى اليسارية والقوى الديمقراطية واللبرالية العراقية في هذه المرحلة ولسنوات طويلة لاحقة ستحمل معها آفاق جديدة ورحبة لحركة المجتمع وتحقيق أمانيه.
5/9/2010                     كاظم حبيب 

1050
كاظم حبيب
هل ستستعيد حركة اليسار دورها الفكري والسياسي على الصعيد العالمي؟
الحلقة الثانية
ما العمل؟
من أجل أن تستعيد قوى الحركة اليسارية على الصعيد العالمي دورها ومكانتها في النضال من أجل عالم أكثر أمناً واستقراراً وسلاماً وأكثر عدلاً وسعادة لبني البشرً, لا بد لها أن تعيد النظر ببرامجها النضالية على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية من خلال دراسة التجارب المنصرمة وأسباب النجاحات التي تحققت في المسيرة الطويلة منذ ما يقرب من قرنين من السنين وأسباب الإخفاقات التي تعرضت لها والنكسة الكبيرة التي رافقتها خلال العقدين المنصرمين والأزمة الراهنة التي تمر بها. كما يتطلب الأمر تشخيص المشكلات التي تجابه البشرية بشكل عام على الصعيد الدولي وأسبقيات النضال في المرحلة الراهنة وعلى مدى العقدين القادمين مثلاً.
إن الكف عن التفكير بخلق مركز للحركة اليسارية لا يعني الكف عن التشاور بين مكونات وأطراف هذه الحركة على الصعيد العالمي دون وضع عراقيل أو رفض مشاركة هذا الطرف أو ذاك منها, إذ أن التداول والتفاعل أمر ضروري والتقارب يساهم في بلورة الاتجاهات العامة التي يمكن أن تسير فيها الحركة دون إلزام لأي منها بذلك, إضافة إلى الاختلافات في الظروف والشروط المحلية لكل مكون من مكونات هذه الحركة الواسعة.
ويبدو لي أن اهتمام الحركة اليسارية على الصعيد العالمي يفترض أن يتوجه صوب النقاط التالية في المرحلة الراهنة, والتي يكون في مقدورها تعبئة المزيد من الرأي العام العالمي حولها من جهة, مع ضرورة قيام كل طرف من أطرافها في ربط تلك المهمات الدولية بالمهام الإقليمية والمحلية بصورة عضوية وفعالة من جهة ثانية, لخلق التناغم والانسجام في الحركة العامة, إذ أن مستويات تطور البلدان متباين بصورة كبيرة, وخاصة بين الدول الرأسمالية المتقدمة والتي تشكل مراكز العالم الرأسمالي والبلدان النامية التي تشكل محيط هذه المراكز والمستغلة فعلياً منها.
تبرز أمامنا مهمات كونية مثل:
** مخاطر وجود أسلحة الفتك والتدمير الشامل, وخاصة الأسلحة النووية والكيمائية والبيولوجية, في الكثير من دول العالم وسبل منع انتشارها أولاً, والعمل على إزالتها من جميع الدول صغيرها وكبيرها. 
** رفض الحروب والعنف واستخدام السلاح ومنع استمرار سباق التسلح في العالم الذي يهدد المزيد من البشر بالموت المحقق, ومن أجل حل المشكلات والنزاعات حول الحدود والمياه والمشكلات الأثنية والحقوق القومية للشعوب, إضافة إلى معالجة القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والصراع العربي–الإسرائيلي, بالطرق التفاوضية السلمية وعبر المؤسسات الشرعية والإقليمية والدولية على أسس ديمقراطية وعادلة.
** العمل على مواجهة تفاقم الاحتباس الحراري والتغيرات الجارية على البيئة الدولية بسبب تفاقم التلوث بمختلف مكوناته واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتغيير نمط الحياة الاستهلاكية المتفاقمة في البلدان المتقدمة بشكل خاص. ولا بد من تشخيص حقيقة تفاقم الكوارث الطبيعية في العالم نتيجة الاستخدام غير العقلاني للثروات الطبيعية ونزعة الاستهلاك الموغلة بالتبذير والركض وراء معدلات النمو والربح من تلك القوى التي تستغل الطبيعة والإنسان أسوأ استغلال وترفض التعامل مع مشكلات البيئة تعاملاً حضارياً وإنسانياً.
** مع القناعة بان ظاهرة العولمة ليست سوى مرحلة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية موضوعياً على الصعيد العالمي, وإنها من حيث المبدأ ليست ظاهرة سلبية بل هي حتمية مرتبطة بمستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية والقفزة العلمية الثورية الهائلة في التقنيات والاتصالات, ولكن لا بد من التصدي للسياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء شعوبها والفئات الكادحة منها على نحو خاص وإزاء شعوب الدول النامية, إذ إنها تعبر عن نفس جوهر السياسات الاستغلالية للرأسمالية العالمية في مرحلة الاستعمار القديم. ورغم صعوبة هذه العملية إلا أن في مقدور الدول النامية, وعبر منظماتها السابقة التي يستوجب تطوير مضامينها بما يتناسب والتغيرات الحاصلة في العالم, أن تحقق نتائج إيجابية لتقدمها بوتائر أسرع وتحسين ظروف حياتها ومشاركتها في التنمية وتحسين حصتها في الإنتاج والاستهلاك والتبادل التجاري الدولي, وتقليص سلبيات السياسات المبنية على هذه الظاهرة الموضوعية على شعوب البلدان النامية وكادحي الدول الرأسمالية المتقدمة.
** إن العالم الذي نعيش فيه عالم واحد, ولكنه مجزأ إلى عالمين غير متكافئين ومتصارعين, عالم الدول المتقدمة والغنية المكون من 20% من شعوب العالم والذي يهيمن على 80% من الثروة المنتجة في العالم, وعالم الدول المتخلفة والفقيرة المكون من 80% من شعوب العالم ولا يحوز إلا على 20% من الثروة المنتجة في العالم. كما أن كل بلد من بلدان هذين العالمين تتوزع الثورة في مجتمعاتها بصورة غير عادلة ومجحفة, فئات قليلة غنية ومتخمة, وفئات كبيرة وكثيرة فقيرة ومحرومة. كما أن مكانة ودور البلدان النامية في التقسيم الدولي للعمل وفي التجارة الخارجية, وخاصة الصادرات, ضعيف جداً وغير متوازن ولا متكافئ. وتلعب المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة دوراً سلبياً على اقتصاديات الدول النامية والتي يستوجب تغييره لصالح هذه البلدان.
** ويتبلور هذا الواقع في الفجوة الكبيرة جداً ليس في التباين الشديد والفجوة العميقة بين مستوى حصة الفرد الواحد من الدخل القومي في كل من هذين العالمين حسب, بل وبالأساس في مستوى تطور القوى المنتجة وطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في كل منها ومستوى تقدم أو تخلف البحث العلمي واستخدام التقنيات الحديثة والتصنيع وتحديث الزراعة ومستوى التعليم والأمية...الخ, إضافة إلى أن التباين في تقسيم العمل على الصعيد العالمي.
** من هذا الواقع غير العادل ومن مستوى التخلف الحضاري وغياب التنوير الديني نشأ وتطور التعصب والتزمت والتطرف الديني والذي نشأ عنه الإرهاب الديني وانجرار جماعات غير قليلة من البشر إليه, وخاصة في الدول التي أكثرية سكانها من المسلمين. حتى في الدول الريعية المالكة للنفط الخام أو موارد أولية إستراتيجية أخرى يلاحظ وجود فجوة كبيرة جداً في الدخول السنويةً, مما يسهم في إشاعة التعصب الديني وبروز حاد لظاهرة الإرهاب.
** إن السياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة على الصعيد العالمي والجموح الجشع لتحقيق المزيد من الأرباح على حساب الإنسان والطبيعة وتفاقم سياسات المضاربات المالية والفساد المالي المتعاظم على الصعيد العالمي تؤدي إلى تفاقم حالة الإخلال بالقوانين الاقتصادية الموضوعية والتي تنشأ عنها أزمات اقتصادية دورية وأزمات مالية واقتصادية عامة وشاملة على السعيد الدولي, كما في الأزمة الراهنة التي ستبقى فاعلة لفترة أخرى. ومع بروز إمكانيات أفضل للسيطرة عليها دولياً بحكم واقع العولمة الجارية, فأن عواقبها تقع على عاتق كادحي الدول الرأسمالية المتقدمة ومنتجي الثروات والفقراء فيها أولاً, وعلى  عاتق شعوب الدول النامية والكادحين فيها على نحو أخص. وهو ما عاشت في أجوائه شعوب العالم خلال السنتين المنصرمتين ولا تزال لم تنته منه.     
** إن العالم الرأسمالي الذي أجبر في سنوات الحرب الباردة على المساومة مع الطبقة العاملة والمثقفين ومع فئات التكنوقراط والتي تجلت في مكاسب جيدة تحققت لها في مجال تقليص ساعات وأيام العمل والأجور والضمان الصحي والاجتماعي وضمان الشيخوخة والعجز والعطل السنوية وتحسين ظروف العمل والسكن ومشاركة النقابات في الكثير من القضايا التي تمس العمل والعمال, فأن نهاية الحرب الباردة بين الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية وانهيار النظم السياسية في الدول الأخيرة, قد أنهى روح الاستعداد للمساومة لدى أصحاب رؤوس الأموال إزاء مطالب العمال والمنتجين الآخرين والمثقفين, وبدأت روح الجشع ورفض المساومة والإصرار على تحقيق أقصى الأرباح على حساب العمل الأجير. وهي سلبيات بدأت تبرز منذ العقد الأخير من القرن العشرين ولا تزال متواصلة في الواقع المعاش بشكل صارخ, كما سلبت الكثير من تلك المكاسب تدريجاً وعلى مراحل قصيرة خلال الفترة المذكورة, مما يجعل وضع المهمات الاجتماعية ضمن برامج حركة اليسار مهمة آنية وضرورية جداً في آن واحد.
** ويمكن تشخيص جملة من الظواهر السلبية المتفاقمة في هذه المرحلة من تطور المجتمع البشري, منها بشكل خاص انتشار الفساد المالي والإداري في هذا العصر وتنامي عصابات الجريمة المنظمة في مجال المتاجرة بالمخدرات وبالنساء وغسيل الأموال وبأعضاء جسم الإنسان وتهريب البشر, إضافة إلى تفاقم الهجرة البشرية بسبب الحروب المحلية أو الإقليمية. وتزداد نسبة الجماعات البشرية التي تصبح ضحية لكل من هذه الممارسات وغيرها المخالفة لحقوق الإنسان.
** كما تتعرض المرأة في الكثير من بلدان العالم إلى الظلم والاضطهاد ومصادرة الحقوق وانعدام المساواة بين النساء والرجال, إضافة إلى تعرض الملايين من الأطفال إلى المزيد من الظلم والاضطهاد وفقدان الحقوق والعمل في سن الطفولة والصبا والمعاناة من الجوع والحرمان والتعليم.
** وتسجل إشكاليات الهروب من الحروب الأهلية والصراعات القبلية والتغيرات المناخية وتلوث البيئة والتصحر والانهيارات والجفاف والشحة إلى حركة هجرة ولاجئين واسعتين جداً في ما بين المناطق والأقاليم المختلفة والتي تشكل عبئاً ثقيلاً على البشر وعلى المنظمات الدولية التي يفترض أن ترعى المهاجرين واللاجئين وغيرهم
** وإزاء كل هذه المشكلات كيف يمكن تنشيط المؤسسات الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمحكمة الدولية في لاهاي ومحكمة حقوق الإنسان واليونسكو واليونسيف ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني والكثير من المنظمات الإقليمية الأخرى لتلعب دورها الذي خبا لفترة غير قصيرة لصالح الدولة الأعظم, الولايات المتحدة الأمريكية, وعلى  حساب دور ومكانة تلك المنظمات.   
إن تشخيص هذه المشكلات على الصعيد العالمي من جهة, ومعرفة قدراتها في التأثير وتحريك الرأي العام العالمي والحكومات المختلفة بأساليب وأدوات نضالية سلمية من جهة أخرى, يساعدان الحركة اليسارية على صياغة المهمات الآنية على الصعيد العالمي لخوض النضال من أجل حلها لصالح الإنسان والتقدم الحضاري, إذ إن كل فقرة من الفقرات الواردة في أعلاه يفترض أن تصاغ في مهمة أو أكثر لتكون البوصلة والهدف اللذان تؤشران طريق النضال على الصعيد العالمي.         
كما أن الربط العضوي في ما بين المشكلات الدولية والإقليمية والمشكلات المحلية سيسهم في وضع برنامج متكامل مرحلي لقوى اليسار بصورة مستقلة في كل بلد من البلدان بشكل ملموس ودقيق وقابل للتحقيق, إنه الضمانة لقوى حركة اليسار في الابتعاد عن الهروب إلى أمام أو النكوص إلى وراء.
إن لقاءات بين قوى اليسار في كل من القارات الخمس أو أقاليم فيها لتنشيط التبادل الفكري والتجربة المتراكمة والنقاش والتفاعل سيساعد على بلورة شعارات تعبر عن تلك المهمات على الصعد الإقليمية أيضاً, ومتابعة تنفيذها, وليس من أجل خلق وحدة شكلية في ما بينها, بل من أجل التنسيق والتنوير العام لمهمات النضال, في حين عليها ان تمارس مهماتها بصورة مستقلة مع ضمان تحقيق التضامن في ما بينها.
في الحلقة الثالثة سأحاول معالجة المشكلات التي تجابه قوى اليسار في منطقة الشرق الأوسط من وجهة نظري الشخصية وكيف يمكن التنسيق في المهمات التي تواجهها الحركة.

1/9/2010                     كاظم حبيب



1051
كاظم حبيب

افتتاح معرض الفن التشكيلي للفنانين منصور البكري وفهمي بالاي في برلين

كان لي الشرف أن أفتتح, باقتراح من الفنانين, معرض الفن التشكيلي للصديقين الفنانين السيد منصور البكري والسيد فهمي بالاي في برلين في 28/8/2010.
أنا سعيد بافتتاح معرض فنانين تشكيليين من العراق, احدهما عربي والأخر كردي يعملان معاً في مرسم واحد ويسود بينهما التفاهم الكبير والرائع. وإذ يسود التفاهم والتفاعل بين الشعبين العربي والكردي وبقية القوميات في العراق, وإذ تتلاقح ثقافتيهما مع بقية الثقافات, يتمنى الإنسان أن تسود هذه الأجواء بين النخب الحاكمة في الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان أيضاً وأن يعم الصفاء ربوع العراق. 
الصديق السيد منصور البكري فنان متميز, موهوب ومحترف ومندفع لفنه, إضافة إلى كونه يتسم بالنشاط والحيوية المتدفقةً.
لقد تسنى له التعرف على ودراسة الكثير من المدارس الفنية على الصعيدين الملحي والعالمي, كما رسم الكثير من اللوحات الفنية وجرب الكثير أيضاً ليصل أخيراً أن يكتشف أسلوبه الخاص المميز في إنجاز لوحاته الفنية. وهو يعمل بدأب يحسد عليه لتطوير نفسه وتعزيز موقعه الفني.
فإلى جانب لوحاته المتنوعة والجميلة التي نتمتع بها في معارضة الكثيرة, يتسم بقدرة رائعة على رسم لوحات كاريكاتيرية لشخصيات محلية وعالمية كبيرة تتجلى فيه خصائص تلك الشخصيات وإبراز ما يميزها بما يسهم على إضفاء متعة خاصة.
درس الفنان منصور البكري الفن التشكيلي في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد وفي بعض المعاهد الفنية العالية في ألمانيا. ومن خلال ذلك وعبر الدأب المستمر زيارة المعارض والإطلاع على مشاهير الفنانين التشكيليين وعبر مواصلة الرسم, استطاع الفنان أن يراكم الكثير من المعارف والخبر الفنية في مجال اختصاصه, إضافة إلى تعميق وبلورة تكوينه وموقفه الاجتماعي الذي يرفض الاستبداد والقسوة والحروب والظلم وتغييب العدالة الاجتماعية, فهو يقف بثباتً إلى جانب مبادئ الحرية والديمقراطية والسلام. فلوحاته عن الحرب العراقية الإيرانية أو ضحاياها تشير إلى هذا النهج الإنساني. 
في لوحاته يجسد منصور البكري هموم وأحلام وآمال وتطلعات الشعب العراقي في العيش بحرية وأمن وسلام وازدهار. أنه فنان معروف في أوساط الفنانين العراقيين والعرب, وأتلمس مسيرته الفنية الطموحة ووجوده في ألمانيا في وسط أوروبا سيساعده في إغناء التفاعل والتلاقح في لوحاته والخروج من الطوق المحلي والإقليمي إلى التعامل على مستوى الفنانين المعروفين في أوروبا والعالم. إنها رحلة طويلة وشاقة ولكنها مضمونة حين يتسم الإنسان بهذه الجدية والدأب والحب لفنه وحب التعلم.
إنه من رعيل فنانين معروفين على الصعيدين العراقي والعربي وفي الخارج والذين أبدعوا في مسيرتهم الفنية وما زالوا يواصلون العطاء الذي يساهم في تطوير الذوق الفني للمجتمع.
منصور البكري, الفنان المحترف, يجيد تقنيات فن الرسم بشكل ممتاز ويمنحنا الثقة بأنه فنان حساس وقادر على المزج الجميل بين الألوان وعلى الإبداع في تحقيق العلاقة السليمة بين الضوء والظل. وهو ينشد الكمال في لوحاته الفنية, ولا يكتفي بإبراز المظاهر الخارجية حين يرسم الإنسان, بل يلج بعمق في دواخله لإبراز القيم والأحاسيس والسلوكية لمن يرسمه. وفي هذا تبرز إحدى الجواب المهمة في لوحاته التشكيلية. كما له باع طويل في رسم اللوحات الحية والمحركة للأطفال في مجلات الأطفال التي شارك فيها في العقد الثامن من القرن العشرين وخاصة في مجلتي "مجلتي" و "المزمار". ولا بد هنا من الإشارة إلى أن السيد منصور البكري متعدد المواهب والكفاءات وله طاقة متقدمة في مجال التنظيم والإدارة.
أشعر بالسعادة لمسيرته الفنية المتطورة, وأتمنى له الصحة الموفورة والنجاح في تقديم المزيد من اللوحات الرائعة ليسعد برؤيتها الجمهور المحب للفن عموماً والفن التشكيلي بشكل خاص.
أما الصديق العزيز السيد فهمي بالاي القادم من إقليم كردستان العراق, فهو فنان تشكيلي موهوب يمتلك حساسية مرهفة للألوان حقاً. إذ تنعكس في لوحاته البهجة والنشوة والحب والتعطش للحرية والحياة الكريمة, كما يتجلى فيها عمق حبه لشعبه وأرض وطنه دون تعصب. ففيها يجد الإنسان التمازج بين الواقع والخيال, إذ تمنح الناظر إليها مشاعر الراحة والهدوء والتمتع بأحلام عذبة وحب رومانسي جميل. إن فهمي بالاي متعطش كشعبه لتلك الأشياء الحلوة والكثيرة التي افتقدها الشعب الكُردي لعقودً كثيرة وعاني الأمرين تحت هيمنة الاستبداد والقسوة والمجازر الدموية لنظام الحكم ألصدامي.
الفنان السيد فهمي بالاي يمسك بيد الناظر إلى لوحاته ويأخذه معه في رحلة جميلة عبر الكثير من الأحلام اللذيذة والآمال العريضة والألوان المبهجة والمحركة للعواطف, ينسى من خلالها الإنسان مصاعب الحياة وعذابات الماضي التي عاش في طلها الشعب الكُردي أو التي لا يزال يعيشها في أقاليم أخرى من كُردستان.
ألوانه الزاهية ورقة خطوطه وقوتها التي تبدو في لوحاته تحاكي الطبيعة بألوانها الربيعية الرائعة وبألوان الملابس التي يرتديها الإنسان الكردي وخاصة الفتيات الجميلات بأحلامهن الوردية وتطلعهن الدائم نحو آفاق رحبة مفتوحة.
من سنة إلى أخرى نتابع مسيرة تطوره الفنية ويمنحنا الثقة بأنه سيكون من الفنانين العراقيين الكُرد المرموقين. أتمنى له الصحة الموفورة أيضاً والنجاح في تقديم المزيد من اللوحات الفنية التي تبعث الدفء والحنان والسعادة في نفوس الناس.
لست فناناً تشكيلياً ولا ناقداً فنياً, ولكني متذوق للفن ومغرم بالفن التشكيلي وصديق دائم للفنانين التشكيليين المبدعين منذ خمسينيات القرن الماضي حين كنت ألتقي في مقاهي ابو نؤاس مع كاظم حيدر وحميد العطار وأرداش كاكافيان وفنان السيراميك فريش ومجموعة المتحف العراقي, وفيما بعد مع محمد مهر اليدين وعيدان الشيخلي وفائز العراقي .. الخ. ولم أكن بعيداً عن التمتع بلوحات الفنانين العراقيين في إيطاليا وفرنسا وألمانيا, ومنهم فيصل لعيبي وصلاح جياد جبر علوان وعفيفة لعيبي وعبد الإله لعيبي وحسام البصام وعلي العساف وعبد الرحمن الجابري وكاظم الكاظم ويحيى الشيخ وسلام الشيخ ورسمي كاظم الخفاجي وأمير أحمد ومنير العبيدي ويونس العزاوي وأحمد الشرع ورياض البزاز وعشرات آخرون من المبدعين في الفن التشكيلي. إنهم يشكلون مجموعة كبيرة من الذين تجسد لوحاتهم العلاقة الجدلية الجميلة بين الألوان والألحان, بين الرسم والموسيقى.
أرجو أن أجد العذر لدى الفنانين التشكيليين إن أخطأت في التعبير الفني عما يجول في خاطري وما زرعه هؤلاء المبدعون العراقيون فينا نحن المتذوقون للفن التشيلي فشكراً لهم وألف شكر.   
28/8/2010                  كاظم حبيب 


1052
كاظم حبيب
أليس الاختلاف في وجهات النظر والنقاش هو الطريق لتعميق المعرفة؟

ليس جديداً حين نقول: ما كان للفكر والمعرفة وحضارة الإنسان على هذا الكوكب الجميل أن تتطور, وما كان للثقافة الإنسانية أن تغتني وتتعزز وتنتشر وتتلاقح في كل ما أبدعته الشعوب والجماعات والأفراد على مدى تاريخ البشرية, لولا النقاش وبروز الاختلاف في وجهات النظر ثم النقاش حول ذلك مجدداً للوصول إلى الأكثر صواباً أو الأمثل والأقرب إلى الواقع. أوليس النقاش هو الذي أوصلنا غلى تكريس الكثير من مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية ونبذ الحروب والتطلع للسلام؟ أوليس هو الذي كرس الكثير من المثل والقيم والتقاليد الجميلة لدى الشعوب والتخلص مما هو متخلف وغير مفيد ومضر؟
ليس جديداً حين نقول بأن أبرز ما يميز الجنس البشري هو امتلاك الإنسان لتلك القدرات العقلية التي اكتشفت أو خلقت كل شيء على أرضنا المعطاءة, وإن أبرز ما يميز تاريخ الفكر والمعرفة هما النظرة النقدية لدى الإنسان للأمور والاستعداد لخوض النقاش حول كل ما هو قديم وجديد, أو ما كان في الماضي وما هو قائم حالياً وما يفترض أن يكون عليه مستقبلاً, وهي الطريقة الوحيدة لتطوير القيم والمعارف لدى الإنسان والتقدم إلى أمام.
وإذا كان تاريخ البشرية هو من صنع الإنسان, أو بتعبير أدق من صنع كل الناس, فأن للمثقفات والمثقفين دورهم البارز في كل ذلك, وهو الذي يجعل منهم في الوقت نفسه عرضة للنقد أو أن يمارسوا أنفسهم النقد إزاء بعضهم الآخر أو النقد الذاتي إزاء أنفسهم, وهي من السمات الجميلة التي يفترض أن نحافظ عليها ونطورها.
وتاريخ العراق القديم والوسيط والحديث غني بكل ما هو إيجابي, كما أن فيه الكثير من السلبيات والمآخذ التي يستطيع المؤرخون والمثقفات والمثقفون عموماً الكتابة فيه ونقده وفق زاوية الرؤية التي ينطلقون منها والمنهج الذي يستندون إليه والمصالح التي يمثلونها, إضافة إلى مستوى المعلومات والخلفية التاريخية التي يمتلكونها والمستوى الثقافي الذي بلغوه والحصافة التي يتمتعون بها.
واستناداً إلى كل ذلك يمكن أن تبرز تقديرات ومواقف وتفسيرات مختلفة لمسيرة التاريخ وأحداثه وقواه ورموزه والأفكار التي برزت في حقبه المختلفة. كل هذا نشاهده اليوم ونقرأ فيه ولا نجد في ذلك ما يفترض أن نستغرب منه. بعض الكتابات نختلف فيها وبعضها الآخر لا نرتاح لها ونعتقدها مغايرةً للحقائق, رغم نسبيتها, وبعضها الآخر يثير فينا الرغبة في الكتابة ومناقشة ما كتبه الآخر أو الآخرون, كما إن بعضها يكون مؤيداً منا أو من بعضنا. وهو أمر طبيعي حقاً. وكمثقفات ومثقفين علينا أن نقبل بالرأي الآخر دون تعصب لرأينا, رغم احتمال قناعتنا بصواب ما نطرحه دون الآخر, إذ أن الآخر يعتقد بصواب ما يطرحه دون رأينا. وكل هذا يمكن أن يتم في ما بين الكاتبات والكتاب بشكل طبيعي ومقبول. ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه.
وحين يُفتح الباب للتعليقات من قبل آخرين, علينا أن نتوقع الكثير من الآراء المتباينة المؤيدة أو المعارضة أو الرافضة كلية, وهو أمر طبيعي أيضاً. ما دامت النقاشات والتعليقات تدور في إطار احترام الرأي والرأي الآخر, فهي المساعدة على إثارة أي طرف منا للتفكير بما كتبه وما يفترض أن يعيد النظر فيه أو يؤكده.
ولكن الأسئلة المنطقية التي يفترض أن أطرحها هنا هي: هل يمكن ضمان أن جميع من يعلق على هذا الرأي أو ذاك يمتلك مستوى متقدم من المعلومات والثقافة التي تؤهله لخوض النقاش؟ وهل يمكن ضمان أن لا يسيء هذا المعلق أو تلك المعلقة لهذا الطرف أو ذاك من جهة أخرى؟ ثم, هل يمكن إيجاد نظام غربلة لما هو جيد وما هو سيء في نظام التعليقات على صفحات الإنترنيت؟
إذا كانت الإجابة عن السؤالين الأول والثاني بـ "نعم" غير ممكنة, فإن إيجاد نظام للغربلة ممكن بطرق مختلفة ولكن بحدود معينة حقاً وليس كاملة.
لهذا يفترض فينا جميعاً أن نتوقع في إطار النشر على صفحات الإنترنيت جملة من الأمور, منها مثلاً:
** إن المتناقشات والمتناقشين لا يمكنهم أن يتحكموا في المواقع التي تنشر مقالاتهم ونقاشاتهم, إذ أن هناك الكثير من المواقع تأخذ المقالات وتنشرها دون علم الكاتبات والكتاب.
** إن المعلقات والمعلقين لا يرجعون إلى الكاتبات والكتاب ليسألونهم عن مدى صحة ودقة تعليقاتهم بل ينشرونها كما يرغبون, ولا يمكن للآخرين معرفة طبيعة ومستوى التعليقات.
** وعلينا أن نتوقع إساءات يمكن تأتي من هذا المعلق أو المعلقة على هذه الكاتبة أو ذاك الكاتب, ما دمنا نكتب جميعاً في الشأن العام.
** وأن مثل هذه الإساءات رغم كونها جارحة, يفترض فيها أن لا تغيظنا كثيراً إلى الحد الذي تقود بنا إلى عواقب سلبية في العلاقة بين الكاتبات والكتاب أنفسهم أو بين المتحاورين, أو أن نكتب ما لا تجوز كتابته بشأن الآخر أو الانجرار لتعليقات بعض المعلقات والمعلقين غير الودية أو المتحاملة.
** كما أن علينا ونحن نناقش بعضنا الآخر في ما نكتبه, أن نبتعد عن النعوت والاتهامات, بل من حقنا النقد كوجهة نظر مخالفة لوجهة نظر الآخر, وأن لا نتساهل في ما نعتقده خطأ, ولكن دون الاعتقاد بصوابنا المطلق, فليس هناك خطأ مطلق ولا صواب مطلق.
لقد جربنا حواراً طويلاً دار بين الأخ والصديق الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل وبيني حول موضوعات مهمة وذات وجهات نظر خلافية, ولكن حافظنا على ما هو ضروري في الحوار والنقاش من احترام متبادل وصراحة تامة في تبيان وجهات النظر المختلفة.
وجرى حوار بين الصديق العزيز الدكتور عبد الخالق حسين وبيني حول عدة مسائلو ولكن حافظنا بأريحية تامة على الاحترام والود المتبادل رغم الصراحة التامة في تبيان وجهات النظر المختلفة. الكثير من الكاتبات والكتاب تناقشوا واختلفوا ولم تكن هناك أشياء تثير الإساءات المتبادلة, ولكن كان هناك الكثير والكثير جداً من الإساءات المتبادلة أيضاً, وخاصة في مجال التعليقات.   
لم يكن كل ما كتب في المقالات والآراء المتبادلة بين الصديقين العزيزين الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل والسيد الدكتور عبد الخالق حسين هو خال من ضرورة ممارسة النقد, بل كان إبداء الملاحظات والنقد واجباً, رغم أني لم أشارك فيه. ولم يكن كله قائم على الهدوء في إبداء الملاحظات, إذ لا بد من قول ذلك, إذ كان فيه الكثير من التشدد والقناعة بامتلاك الحقيقة كلها. وكان الأفضل, وخاصة في قضايا خلافية مثل دور الدولة العثمانية والعهد الملكي ورموز هذا العهد, أن نقتنع بوجود وجهات نظر متباينة ويحترم بعضنا وجهة نظر البعض الآخر مع ردنا على ما نختلف عليه.
ولم تكن بعض التعليقات التي وردت على آراء وملاحظات الأستاذ سيَّار الجميل سليمة, بل كانت نامية ومرفوضة حقاً. ولكن لا دخل للدكتور عبد الخالق حسين فيها, وهو صادق تماماً في ما أكده لي في رسالته. وإثارة الضجة حوله غير صحيحة. كما علينا أن نتوقع مثل تلك التعليقات النابية. وعلينا أن نقتنع أن بعض المواقع ترتاح لمثل هذه التعليقات المثيرة على طريقة المجلات الفضائحية المعروفة في كل أنحاء العالم. وهناك من يهتم بها قبل غيرها.
إن البيان الذي أصدرناه بشأن الموضوع غير موجه بأي حال ضد الأخ والصديق العزيز السيد الدكتور عبد الخالق حسين ولا إدانة له, بل هو رأي أردنا به أن نحافظ على العلاقة الودية التي تجمع بين الكاتبين من جهة, وإدانة للتعليقات النابية التي وردت على تلك المناقشات من جهة ثانية, ورجونا الجميع إلى التزام الأسس السليمة في النقد عبر الكتابة أو التعليق من جهة ثالثة. نحن أنفسنا, أيها الأصدقاء, غير معصومين عن الخطأ ولسنا حكاماً على آراء الآخرين, بل كان نداؤنا رجاءً عاماً لنا وللجميع وليس غير ذلك.
أتمنى من القلب أن لا نهتم كثيراً بتلك التعليقات التي يراد منها الإثارة وليس النقاش الراغب في الوصول إلى الحقائق, ولكن علينا أن نتوقع حصول ذلك.
كم أتمنى أن يتوقف النقاش حول هذا الموضوع, إذ إن الاستمرار فيه يؤدي إلى مزيد من الإشكاليات شئنا ذلك أم أبينا.
29/8/2010                     كاظم حبيب   


1053
كاظم حبيب
إلى متى تبقى الأزمات الراهنة تطحن المجتمع العراقي؟

عادت القنوات التلفزيونية والإذاعات والصحافة العالمية, وعاد المراسلون المحليون والعالميون والمعلقون السياسيون ينقلون إلينا يومياً وفي كل ساعة , أنباء حزينة ومرعبة تذكرنا بما كان عليه العراق في العامين 2006 و2007, عن الموت اليومي للإنسان العراقي, أنباء تفجيرات متلاحقة ومتزامنة ومنظمة ومنسقة لتشمل مراكز للشرطة في العديد من المدن العراقية, أو مراكز التطوع للجيش العراقي أو مراكز تسلم مجموعات المتقاعدين لرواتبهم أو في الأحياء السكنية أو العمارات ...الخ, ولكي تعطي الانطباع عن القدرة الفعلية التي تمتلكها قوى القاعدة وبقية القوى الإرهابية والمليشيات الطائفية المسلحة عن خلاياها النائمة التي أيقظها نوم الحكومة العراقية وسباتها العميق الذي يمكن تصويره بسبات أهل الكهف الذين لا يعرفون ما يجري في العراق ولا يسمعون أخبار الموت اليومي الذي تنشره الصحافة العالمية أو قناة الحرة أو قناة الشرقية الملتبس وضعها وغيرها. أمس في كربلاء وبغداد وبعقوبة والفلوجة, واليوم في واسط وبغداد والموصل وغيرها من مدن العراق التي تفاقمت فيها صور "المحرومية" العامة والظالمة والمتنوعة وسادت فيها البطالة القاهرة للإنسان إلى جانب الإرهاب الدموي.
حين شاهدت قنوات التلفزة لهذا اليوم واستمعت إلى غضب الناس الذين يواجهون الموت يومياً والذي لم يكن بعيداً عنهم كثيراً, أدركت عمق الفجوة الكبيرة الفاصلة بين النخب السياسية الحاكمة والساعية للحكم وبين بنات وأبناء هذا الشعب الذي ينزف يومياً دماً ودموعاً, أدركت أن الشعب في وادٍ والحكام في وادٍ أخر, وكأني اسمع بالحكام القابعين في بيوتهم والخائفين على أبنائهم من أصوات التفجيرات البعيدة عن حي الخضراء, يقولون "إنا لله وإنا إليه راجعون, هذا هو القدر المقدر من الله سبحانه وتعالى, والموت حق على هؤلاء الناس, وأن الله قد استدعى أمانته, ونحن الحكام غير مسؤولين عن أمر الله, ويرددون مع أنفسهم: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!!!
غريب حين تقرأ نداء تصدره هذه القائمة أو الكتلة البرلمانية أو تلك لتدين فيه التفجيرات والقتلة وتترحم على أرواح الموتى, ولكن لا تجد في قلوب هؤلاء جميعاً الرحمة على هذا الشعب الذي تزهق أرواحه يومياً بسبب هذه الرغبة القاتلة في الاستحواذ على السلطة.
خرج علينا السيد وكيل وزير الداخلية عبر شاشة قناة الحرة ليتحدث لنا عن أجهزة وزارة الداخلية "العملاقة" التي يبلغ تعدادها 600 ألف شخص, ولكن مع ذلك وفي يوم واحد ورغم الإنذارات تقع عشرات التفجيرات والاغتيالات والحوادث المضنية في جميع أرجاء محافظات الوسط والجنوب والموصل وكركوك ونسى هذا المسؤول أن هذه الوزارة قد ملئت بأعداد غفيرة من أعضاء عدد من المليشيات الطائفية المسلحة في زمن الطبيب إبراهيم الجعفري ووزير داخليته حينذاك باقر الزبيدي, وأن التنظيف "ربما" لم يشمل هؤلاء الناس, بل هم "ربما" لا زالوا في مواقع حساسة, ولهذا لا بد من وجود اختراقات أمنية مهمة وفي مواقع كثيرة, وإلا لما حصل ما يحصل اليوم وما سيحصل غداً إن استمرت هذه الأزمات الطاحنة في العراق.
وينقل لنا تلفزيون الحرة أيضاً خبراً مفاده إطلاق سراح جميع المعتقلين الذين شاركوا بـ "مظاهرات الشغب!" في ذي قار. تصوروا, إذلا بد وإنكم انتبهتم أيها القراء والقارئات إلى صياغة الخبر الحكومي, أطلقت الحكومة سراح "المشاغبين!" الذين تظاهروا مطالبين بالكهرباء! هل يعقل أن تعتقل حكومة تدعي خدمة مصالح الشعب اعتقال أبناء الشعب لأنهم تظاهروا من اجل الكهرباء؟ وهل يعقل أن يبقى هؤلاء الناس هذه الفترة الطويلة في المعتقل لأنهم طالبوا بالكهرباء, وربما عذبوا أيضاً! وربما المعتقلون في البصرة لا زالوا في المعتقل, إذ لا خبر عن إطلاق سراحهم والاعتذار لهم. هذه كلها نتاج منطقي للأزمة الطائفية الخانقة في البلاد.
الأزمة السياسية في العراق عميقة تلازمها أزمة اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية شاملة, تتجلى في الصراع الدائر بين الأحزاب الإسلامية السياسية السنية والشيعية على السلطة والمال والنفوذ وغياب الإستراتيجية التنموية ووضوح الرؤية الاقتصادية والاجتماعية والصراع حول وجهة التنمية ..الخ. وينتظر التحالف الكردستاني من يقبل بمطالبه وشروطه ليشارك معه في السلطة على أن لا يتخلى بهذا القدر أو ذاك عن مجلس الأعلى الإسلامي في العراق باعتبار أن هناك "تحالفاً إستراتيجياً قديماً بين الكُرد والشيعة لمظلوميتهم السابقة المشتركة!" حسب تعبير السيد رئيس الجمهورية في آخر لقاء له مع عمار الحكيم. نعم كان على رأس السلطة العراقية على مدى الفترة بين 1921-2003 جماعات من العرب من أتباع المذهب السني, ولكن ليس أهل السنة مسؤولون عن ذلك, حتى لو كانت جمهرة من أهل السنة مستفيدين من وجود النخبة السياسية السنية الباغية في الحكم. علينا جميعاً أن نعي ذلك وأن نبتعد عن تعميق اصطفاف الطوائف الدينية بصورة متعادية, إذ أنها المقتل الفعلي للعراق, ولكي لا تصبح النخبة السياسية الشيعية باغية في حكم العراق.
إن حل الأزمة من خلال الاستحقاق الانتخابي أمر ضروري, ولدي القناعة بأن القائمة العراقية التي لها الاستحقاق ستعجز عن تشكيل الحكومة عبر المجلس النيابي بأكثريته المعروفة, وبالتالي سينتقل هذا الحق لقائمة أو كتلة أخرى, وعليها البدء بتشكيل الحكومة وأن عجزت, لا بد من إيجاد خيار آخر يتم الاتفاق عليه. ولو كان السيد رئيس الوزراء المنتهية ولايته قد تخلى عن إصراره على البقاء في الحكم وتشكيل الحكومة لانتهت الأزمة منذ فترة غير قصيرة. ولكن إصراره يزيد من تعقيد اللوحة السياسية المعقدة أصلاً.
إن سلب مجلس النواب من صلاحياته وتعطيله أمر بالغ السوء, والمحكمة الاتحادية عاجزة عن اتخاذ الموقف الصحيح تشريعياً, لأنها تعاني من ضغوط سياسية كبيرة, وهو عيب كبير منها ومِن مَن يمارس الضغوط عليها.
واستمرار مثل هذه الأزمات, وخاصة السياسية, ستتفاقم منطقياً ست عواقب بشكل خاص:
1) استمرار الفراغ السياسي والأمني الفعلي؛ 2) تفاقم العمليات الإرهابية الدموية واتساع رقعتها وكثافتها؛ 3) استمرار الفساد المالي والإداري السائد في العراق في الدولة والمجتمع المغلوب على أمره؛ 4) استمرار تدهور حياة ومعيشة وأمن المواطنات والمواطنين وتفاقم البطالة في صفوفهم والبطالة المقنعة وزيادة الرواتب التي أصبحت ترهق ميزانية الدولة بما يقرب من 75-80% من دخله القومي وفق تقديرات السيد وزير التخطيط؛ 5) زيادة التدخل الإقليمي بشكل خاص في العراق, سواء أكان من إيران أم تركيا أم الدول العربية المجاورة والبعيدة في الشأن العراقي, كما سيستمر القصف الإيراني والتركي للأراضي العراقية في كردستان العراق ويعجز العراق عن ردها وإيقافها؛ 6) وأخيراً وليس أخراً احتمال استمرار بقاء قوات الاحتلال الأجنبية في العراق وتعديل الاتفاقية الأمريكية العراقية, هو ما تسعى إليه كل الجماعات التي تشارك في إرهاب الشعب العراقي وتشترك في تدمير الدولة العراقية وإخضاعها لإرادتها الإقليمية المتفاعلة مع قوى محلية خانعة. وعلينا أن نؤكد حقيقة إن ليس الإرهابيين وحدهم يساهمون في خلق هذه الأوضاع, بل الذين يواصلون تمديد الأزمة السياسية الراهنة, شاءوا ذلك أم أبوا! 
26/8/2010                      كاظم حبيب       

1054
كاظم حبيب
هل من نهاية للأزمة البنيوية الطاحنة في العراق؟


يمر العراق بمحنة قاسية وأزمة بنيوية مستعصية والموت يتربص بالناس من كل حدب وصوب ويلتقط منهم من يشاء وبأعداد متزايدة يوماً بعد آخر. لقد اختطف الموت في شهر تموز 2010 وحده على وفق البيانات الرسمية 535 إنساناً في العراق على أيدي ميليشيات سياسية إسلامية شيعية وسنية طائفية متطرفة وقوى قومية شوفينية وبعثية متطرفة ومجرمة, بينهم 396 مدنياً والباقي من أفراد الشرطة والجيش, بعد أن كان عدد القتلى المدنيين في شهر حزيران/يونيو 204 شخصاً و275 شخصاً في شهر أيار/مايس من نفس العام.. وهذا يعني أن عدد القتلى في ثلاثة شهور بلغ 1014 شهيداً, كما سقط المئات من الجرحى والمعوقين خلال شهر تموز, إضافة إلى أعداد أخرى من الجرحى والمعوقين في الشهرين السابقين. وفي الوقت الذي اعتبرت وزارة الصحة ووزارة الداخلية أن شهر تموز هو الأكثر دموية منذ العام 2008, أكد بيان للقوات الأمريكية في العراق إلى أن عدد القتلى مبالغ فيه, إذ قدر العدد بـ 222 شخصاً وعدد الجرحى والمعوقين بـ 782 شخصاً, أي ما مجموعه 1004 شخصاً بين قتيل وجريح. وما أن بدأ شهر آب/أغسطس الجاري حتى سقط الكثير من الشهداء, إضافة إلى الكثير جداً من الجرحى والمعوقين في الكوت واغتيالات بكاتم الصوت لخمسة من أفراد الشرطة في بغداد وتفجيرات أخرى وعدد من الشهداء الجدد. وهي لوحة قاتمة حقاً, وهي مرتبطة بالفراغ السياسي والأمن الهش. وإذا كان أمر تقليص عدد القتلى والجرحى في شهر تموز القوات الأمريكية في العراق لكي يسمح لها بعدم تأخير انسحابها, وإذا كان أمر الانسحاب جيد للعراق والمنطقة, فأن تقليص عدد القتلى لن يعفيها من مسؤوليتها الراهنة في العراق كما لا ينفع الشعب العراقي في عدم كشف حقائق الوضع أمامه ليعرف ما يجري في سائر أنحاء العراق باعتباره جزءاً من واقع حكومة تصريف أعمال غير قادرة على النهوض بمسؤولياتها الأمنية في البلاد. الصراحة والشفافية والوضوح مع الشعب هو الطريق الوحيد لكسب ثقة الشعب وليس العكس.
ولا يزال الشعب في البلاد يواجه الطائفية المقيتة والصراع الطائفي على السلطة والمال والنفوذ لصالح قوى الإسلام السياسية الشيعية والسنية المهيمنة على الساحة السياسية العراقية والمتحكمة برقاب الناس بمختلف الصيغ والممارسات. إنها المعضلة البنيوية الراهنة التي لا يمكن أن يستقر العراق دون الخلاص من أسبابها الفعلية, فالمعالجة السطحية لها لا تحل المشكلة المستعصية, بل تزيدها تعقيداً وتؤجل انفجارها ثانية.
الشعب يتجرع مرارة الحرمان من الخدمات الأساسية ومن البطالة والفقر في مواجهة الغنى والتخمة لدى قلة قليلة من البشر, والحكام في بغداد لا يجدون ضرورة الاتفاق على صيغة مناسبة لإنهاء الأزمة فلديهم الوقت الكافي للمفاوضات والمساومات على حساب حياة ومصائر الناس ومصالح الاقتصاد الوطني.
الناس تعيش الضيم والقهر في ظل حكومة تصريف أعمال ومجلس نواب محاصصي معطل منذ خمسة شهور ومجلس رئاسة لم يستطيع إلى الآن إنهاء الأوضاع الشاذة السائدة في البلاد.
ولكن, هل الشعب يتعلم يوماً بعد آخر من تجربته الخاصة ماذا تعني الطائفية السياسية, وماذا يعني التمييز الديني ولطائفي, وماذا يعني الصراع الطائفي بين الأحزاب السياسية على السلطة, وكيف يشوه الدستور, هذا الدستور الذي كتبوه بأنفسهم رغم الملاحظات الكثيرة عليه من جهة, وكيف تغيب عن هذا الصراع مصالح الفقراء والمحرومين والبؤساء من العائلات في الأحياء الفقيرة والمنكوبة بالقمامة والبؤس من جهة أخرى, وكيف يموت الناس زرافات ووحداناً على أيدي المجرمين القتلة من جهة ثالثة؟
هذا هو وضع الحكومة الاتحادية في بغداد, فهل سيتعلم الشعب من هذه الأحداث ويدير ظهره لأولئك الذين نسوا مصالح الناس وغاصوا في أجنداتهم الخاصة ومصالحهم الذاتية ومصالح أحزابهم السياسية؟ هل سيصفع الشعب تلك القوى التي وضعته وجهاً لوجه أمام قوى الإرهاب لتقتل منه من تشاء بغير حساب؟ هل سيمتنع الشعب عن منح أصواته لهذه القوى التي خذلته رغم كل الاحتجاجات والضغوط التي يمارسها كل يوم من أجل تحقيق الانفراج في الوضع الراهن؟
إن العقل والمنطق والخبرة التاريخية المتراكمة لدى شعوب العالم تقول بأن الشعب حين يواجه هكذا أحداث وهكذا قوى يفترض فيه أن يعطي ظهره لهؤلاء الناس, لتلك القوائم التي لم تحترم إرادته وعطلت المجلس الذي انتخبه رغم كل المآخذ على تشكيله أو الملاحظات التي جاءت على تعطيل عمله.
ولكن هل سيتخذ الشعب هذا الموقف في ظل تشوه في الوعي الديني والاجتماعي وتفاقم التربية الطائفية السياسية والتمييز الديني والطائفي والسعي لتحقيق الاصطفاف الطائفي عبر تكثيف وزيادة عدد الزيارات المليونية والسير على الأقدام وعبر المواليد والوفيات الكثيرة وعبر الإعلام الطائفي المتشنج والمتعادي؟
لقد تذكرت وأنا أفكر بالواقع المرَّ الذي يعيش فيه الشعب قول الشاعر:
وستنقضي الأيام والخير ضاحك      يعم الورى والشر يبكي ويلطم
ولكن متى؟ لكي يتحقق ذلك لا بد من تنشيط النضال الفكري والاجتماعي والسياسي للقوى والعناصر الديمقراطية في جميع أرجاء العراق ضد التمييز الديني والطائفي, ضد المحاصصة الطائفية, ضد تقسيم السلطة على أساس الدين والمذهب, وليس على أساس المواطنة.    
إن الوعي المشوه الراهن لا يتبدل بسهولة وبسرعة, بل ستطول هذه الفترة ويمكن تقليصها فقط حين تدرك القوى السياسية الوطنية والديمقراطية العراقية دورها ومهماتها وسبل العمل في ظل أوضاع عراقية وإقليمية ودولية جديدة, وفي ظل بناء اقتصادي واجتماعي وسياسي متخلف ومشوه.
إن الصراع الجاري على السلطة في العراق يتخذ اليوم, كما بالأمس, أبعاداً إقليمية ودولية معطلة لحركة المجتمع والدولة ومعمقة للصراع الداخلي ومسقطة للقرار العراقي المستقل بشأن تشكيل الحكومة. وهذا الصراع لا يجري للسيطرة على القرار السياسي في العراق فحسب, بل هو صراع إقليمي ودولي أيضاً يجري على أرض العراق, إنه التعبير الصارخ عن الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط, سواء أكانت في ما بين بعض الأطراف الإقليمية أولاً, وبينها وبين الدول الكبرى ثانياً. فالصراع الإيراني الأمريكي, والصراع العربي الإسرائيلي, والصراع اللبناني السوري الإيراني, والصراع الإيراني الخليجي, والصراع السعودي الإيراني والصراع التركي الإيراني العراقي, كلها تجري في العراق وعلى أرضه, وهي تكثيف شديد لأحوال منطقة الشرق الأوسط والخليج. وهذا الصراع لا يجري بدون أهداف وأجندات خاصة, فهو صراع على النفوذ والمصالح الحيوية في العراق وفي تلك الدول. فالعراق يعتبر منطقة إستراتيجية بالنسبة للسياسة الدولية والإقليمية عموماً وفي المنطقة والخليج خصوصاً, ونفط المنطقة يصل إلى حدود 70% من احتياطي النفط في العالم حالياً, إضافة إلى كون هذا الاحتياط أخذ بالازدياد يوماً بعد آخر مع اكتشاف احتياطي جديد في العراق والمنطقة وتقلص احتياطي مناطق أخرى من العالم, كما هو حال النفط الخام في الولايات المتحدة, في وقت يزداد الطلب العالمي على النفط الخام, وخاصة الولايات المتحدة والصين الشعبية. كما يزداد وجود الغاز الطبيعي في هذه المنطقة أيضاً, وهو ثروة هائلة تأتي بعد النفط في أهميتها للعراق والمنطقة والعالم. وفي الوقت الذي تشتد الأزمة المالية في العالم, توجد أموال نفطية "فائضة!" غير مستثمرة لدى حكومات البعض من هذه الدول والتي يمكن استخدامها في الاقتصاد الدولي وفي غير اقتصاديات هذه البلدان ومصالح شعوبها.
وحين يجري الحديث عن الخشية من تدويل القضية العراقية, ينسى المتحدثون بذلك حقيقة أن العراق بأوضاعه الراهنة لا يزال يخضع للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح للهيئة الدولية بالتدخل في الشأن العراقي, إضافة إلى أن هناك من الدول من يرفض رفع العمل بقواعد الفصل السابع عن كاهل العراق. إلا أن عدم الاستقرار واستمرار الصراع الطائفي وغياب القدرة على إيجاد قواسم مشتركة في السياسة العراقية يقود إلى استمرار خضوع العراق لهذا الفصل واستمرار غياب الاستقلال والسيادة الوطنية.
إن العراق الضعيف سياسياً يتعرض اليوم للقصف المدفعي واختراق الأجواء العراقية بالطيران الحربي وقصف مواقع في إقليم كردستان العراق تحت أي ذريعة كانت. وما كان ليحصل مثل هذا القصف لو أن العراق قوى بمكوناته القومية وموحد الكلمة وفيه حكومة مستقرة وقادرة على طرح المشكلة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي أو رفعها إلى المحكمة الدولية في لاهاي لأن القصف المستمر ليس تجاوزاً من جانب إيران وتركيا على السيادة الوطنية فحسب, بل وفيه قتل مباشر للناس الأبرياء وتدمير لدور السكن وتخريب وحرق للمزروعات وتهجير وتشريد للسكان من مناطق سكناهم.
إن العراق بحاجة إلى تشكيل حكومة وطنية غير طائفية قادرة على معالجة الأوضاع الداخلية وحل المشكلات المعلقة, سواء أكانت سياسية أم اقتصادية, وخاصة الخدمية, أم اجتماعية, وحل المشكلات مع دول الجوار في ضوء مبادئ وميثاق الأمم المتحدة. وأن أي تأخير في ذلك لا يعني سوى استمرار الأوضاع السياسية والأمنية الهشة وتفاقم الصراع في مناطق الوسط والجنوب والموصل وكركوك والتي لن تقود إلا إلى مزيد من الموت والتخلف والحرمان وتنامي الاستعداد لدى الجماهير في مواجهة القوى الحاكمة العاجزة عن إيجاد حل لمشكلاتها. ولم تكن مظاهرات البصرة والناصرية وغيرها حول نقص خدمات الكهرباء سوى الشرارة التي يمكن أن تتعاظم لاحقاً.
وإذ يتحدث رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن التدخل الإقليمي باعتباره معرقلاً لتشكيل الحكومة الجديدة بعد مرور خمسة أشهر على انتهاء الانتخابات النيابية, وهي مخالفة صريحة للدستور القائم, كما يؤكد ذلك غيره أيضاً, بأنه لا يتشبث بمسؤولية تشكيل الوزارة لشخصه ولصالحه بل لصالح العراق لأن الآخرين لا يريدون شخصية قوية تحكم العراق. الشعب لا يريد شخصية قوية, بل يريد نظاماً سياسياً مؤسسياً وديمقراطياً قوياً, الشعب لا يريد من يتصرف بإرادته فقط وليس بإرادة الشعب ومصالحه, الشعب لا يريد مستبدين فقد شبع منهم حتى التخمة, بل يريد حياة هادئة وهانئة وبعيدة عن التفجيرات والموت اليومي, يريد عملاً لا بطالية ويريد عدالة لا ظلماً, يريد مواطنة متساوية للجميع.  
إن العراق يعيش مأساة ومهزلة في وقت واحد ولا يمكن أن تتوقف ما لم يبادر العقلاء منهم إلى التحري عن الصيغة المناسبة, عن القواسم المشتركة, لتشكيل حكومة وطنية قادرة على حل المعضلات التي تجابه الشعب والوطن بروح المواطنة الحقة والمتساوية وبعيداً عن روح التخندق والطائفية وضيف الأفق القومي والشوفينية المقيتة. إنها الطريقة الوحيدة لمعالجة التخلف والفقر والبطالة والحرمان من الخدمات في مناطق الوسط والجنوب والموصل. إن الناس قد تعبوا ولم يعد في صدورهم المزيد من الصبر!
ولنتذكر قول الشاعر جميل صدقي الزهاوي وهو يخاطب ملك ذاك الزمان في العراق:
يا مليكاً في ملكه ظل مسرفاً              فلا الأمن موفور ولا هو يعدل
تمهل قليلاً لا تغض أمة إذا              تحرك فيها الغيظ لا تتمهل
وأيديك إن طالت فلا تغترر بها            فأن يد الأيام منهن أطول

                     كاظم حبيب



1055
كاظم حبيب
سيبقى صوت كامل شياع يطاردهم ويؤرق حياتهم.. وستبقى قامته شامخة..!

يقيناً إن من كان يقف وراء قتلة كامل شياع سار, ولو لخطوات قليلة, خلف جنازته, وربما تعامى عمداً ووجه العزاء لعائلة الشهيد ليُبعد حركة الأصابع التي كانت ستمتد لتؤشر بها إليه وتصرخ ... أنه القاتل الفعلي...!
ويقيناً إن من كان وراء قتلة كامل شياع حضر أو سيحضر ليشارك في بعض أو كل المآتم التي ستقام في الذكرى السنوية الثانية والقادمات من السنين لقرار ارتكاب الجريمة البشعة, قرار إعدامه رمياً بالرصاص, ليدفع التهمة عنه بعيداً...!
ويقيناً أن القتلة يحومون حول رفاق فكر وطريق وأصدقاء كامل شياع .. إنهم ينتظرون صيداً آخر...أقل حماية وأكثر حيوية في الدفاع عن الإنسان العراقي وعن قضيته العادلة وعن المجتمع المدني الذي كان عزيزاً على عقل وقلب كامل شياع..!
ويقيناً أن القتلة يتربصون اليوم أيضاً بالفكر الحر الديمقراطي, بالفكر الإنساني النير الذي كان يحمله في عقله ويسعى إليه بقلبه وضميره الحي كامل شياع وتصوروا أن الفكر سيموت بموت أحد ابرز حملته .. ولكنهم خسئوا فما مات هذا الفكر ولن يموت..
لثور الفكر تاريخ يذكرنا       بألف ألف مسيح دونها صلبا
خسئي المجرمون القتلة ومن يقف خلفهم.. فقد ترك كامل شياع خلفه فكراً يسارياً حراً وديمقراطياً وجمهرة كبيرة من البشر ممن حملوا معه نتاج الحضارة الإنسانية, نتاج المدنية الحديثة, وأرادوا زرعها مجدداً في الأرض العراقية غير المحروثة منذ زمن بعيد, أرادوا غرسها في عقل الإنسان العراقي الذي تعرض للجدب عقوداً كثيرة, أرادوا تكريسها في الحياة اليومية العراقية.. وهم ما زالوا من بعده يسعون إلى ذلك رغم النكسات والضحايا الغالية..!
خسئي المجرمون فستبقى صورة كامل شياع عالقة دوماً في أذهان العراقيات والعراقيين وشوكة في عيون المجرمين القتلة, وسيبقى صوته الهادئ والناعم والرصين يعلو ويعلو ليدخل حتى إلى تلك الآذان الصماء لتذكرهم بالجريمة التي ارتكبوها, ولكنها ستوقظ أيضاً ودوماً رفاقه لتذكرهم بما يفترض أن يؤدوه لكي لا يذهب دمه هدرا.
قبل وبعد استشهادك أيها الصديق العزيز سالت ولا تزال تسيل دماء العراقيات والعراقيين يومياً في شوارع وأزقة المدن العراقية لتصبغ الأرض العراقية باللون الأحمر القاني, بشقائق النعمان. مئات القتلى والجرحى والمعوقين يتساقطون على أيدي المجرمين القتلة من أتباع القاعدة والبعث ألصدامي والمليشيات الطائفية المسلحة, ودموع الثكالى تتزايد يومياً لتسد النقص المتفاقم في مياه دجلة والفرات.
والحكام في العراق, أيها العزيز, الذين عجزوا عن تشخيص قتلتك, هم عاجزون اليوم أيضاً عن وضع اليد على قتلة أبناء الشعب وإيقاف حمامات الدم, وهم لا زالوا يعانون من انفصام الشخصية, من غياب الثقة, من الخشية المتبادلة, من البسمة الخادعة. إنها المرارة التي تسحق الإنسان العراقي وتدميه قبل أن تصل متفجرات الإرهابيين والقتلة لتحصدهم أيضاً.
اللوعة تمردنا أيها الصديق الأعز, أيها الغائب الحاضر بيننا, والألم يعذبنا وموت الناس يخنقنا ويدمي نفوسنا, ولكن سيبقى الأمل والحلم يعيشان معنا وسنبقى نتطلع ونعمل من أجل أن يعيش هذا الشعب الجريح حياة أفضل وأكثر هدوءاً واستقراراً وأكثر سعادة, تماماً كما كنت تأمل وتحلم في حياتك القصيرة والغنية في آن.          
24/8/2010                     كاظم حبيب

1056
كاظم حبيب
هل من طريق غير التفاوض مع أوچلان لحل المشكلة الكُردية سلمياً في تركيا؟

كانت الحكومة التركية ولا تزال أمام معضلة كبيرة هي عجزها إلى الآن عن إدراك حقيقة أن القضية الكُردية في تركيا لن تحل بالطرق العسكرية وبقتل المزيد من الناس الأبرياء في تركيا وفي المناطق الجبلية من العراق, وأن خبرة الأربعين سنة الأخيرة تؤكد لها وللشعب التركي بأن طريق العنف والقوة والعسكر مسدود حقاً وسيكلف الدولة التركية المزيد من الخسائر البشرية والأموال والمزيد من الخراب وسوء العاقبة وسوء السمعة أمام الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي. إن الفكر الشوفيني لن يساعد على تحقيق الحياة الحرة لكل القوميات المتعايشة في دولة واحدة, بل يتطلب العيش المشترك الاعتراف المتبادل بالحقوق القومية وبالحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام.
إن أمام الحكومة التركية طريق واحد لا غير, طريق المفاوضات مع قوى الشعب الكُردي في إقليم كُردستان تركيا, ومن أبرز تلك القوى الكُردية يشكل, شاءت الحكومة التركية أم آبت, حزب العمال الكُردستاني وقائده المسجون منذ عشر سنوات السيد عبد الله أوچلان.
إن بدء التشاور واللقاء مع عبد الله أوچلان ثم تحديد نقاط الحوار مع القبول المبدئي بوقف القتال بين الطرفين على وفق المقترح المطروح من جانب هذا الحزب, سيكون خطوة إلى الأمام للدخول في مفاوضات تضع الأرضية الصالحة لحل المشكلة بالطرق السلمية وتعزيز لحمة التآخي التركي - الكُردي بدلاً من الاقتتال الذي لا يجلب لأحد غير الموت والخراب والمزيد من الغضب والكراهية والحقد المتبادل.
هل تستطيع الحكومة التركية المتهمة باستخدام السلاح الكيماوي ضد المقاتلين الكُرد من كُردستان تركيا أن تقفز على ظلها وتوافق على كسر العتمة ببصيص من الضوء بدلاً من الغوص باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً والتي يفترض أن تواجه باحتجاج شديد من جانب شعوب وحكومات العالم كله؟ لم يبرز الدليل الكافي إلى الآن على قدرتها في تحمل مسؤوليتها التاريخية في هذا الصدد. ولكن استخدام هذه الأسلحة المحرمة دولياً في شن العدوان على المقاتلين الكُرد وبروز إصابات واضحة على القتلى من هؤلاء المقاتلين سيزيد من عزلة الحكومة التركية ويفضح نهجها المعادي لمبادئ اللائحة الداخلية للأمم المتحدة ولائحة حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
أدرك يوماً بعد أخر بأن الحكومة التركية ستجد نفسها ملزمة على الدعوة إلى بدء حوار ومفاوضات بناءة,عاجلاً أم آجلاً, مع القوى الكُردية لحل المشكلة سلمياً, إذ لا طريق أمامها غير هذا الطريق, وإلا ستبقى تجتر السلوك العنفي العسكري السابق الذي لا طائل منه.
أتمنى أن تستفيد الحكومة التركية من التجربة الكُردية في العراق والتي يمكنها أن تعزز العلاقة بين الشعبين العربي والكُردي, رغم المصاعب التي يواجهها العراق حالياً, سواء أكان بصدد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة, أم المشكلات الداخلية التي لا تزال غير محلولة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في أربيل, علماً بأن الأساس المادي لحل تلك المعضلات موجود في الدستور العراقي.   
على الحكومة التركية أن تستفيد من العرض المطروح للتفاوض والتعلم من تجربة جمهورية جنوب أفريقيا حين أُجبرت على إطلاق سراح نيلسون مانديلا والتفاوض معه لحل المشكلة الكبرى, مشكلة العنصرية وحكم الأكثرية في هذه الجمهورية, وتطلق سراح عبد الله أوچلان وبقية المعتقلين الكُرد وتبدأ بمفاوضات جادة معه للوصول إلى حل سلمي وديمقراطي حقيقي لهذه المشكلة المزمنة. إنه الطريق الأوحد الذي لا بديل له.
24/8/2010                        كاظم حبيب
 



1057
كاظم حبيب
هل عاد المجرمون من كل حدب وصوب ليغرقوا العراق بالدم والدموع؟

نعم, نعم, نعم عاد المجرمون من كل حدب وصوب إلى عادتهم القديمة, عادوا ليغرقوا العراق ومن جديد بالدم والدموع, إنهم من ذات الهويات السابقة التي مارست الإرهاب قبل أعوام وأن لم تنقطع إلا لماما. إنهم ينهلون من ذات المعين المتعدد الجهات الذي كان يغذيهم بالمال والسلاح والقتلة المأجورين, إنهم مجرمون تربوا على أيدي نظم سياسية مجرمة ابتداءً من نظام صدام حسين الفاشي ومروراً بنظام إيران الإسلامي الدموي ومروراً بالنظام السوري المستكين لإيران والمتفاعل معها والمستبد بأمره واستمراراً بالقوى الأصولية المتطرفة الموجودة في السعودية وبعض دول الخليج والقادمين من أوروبا عبر بعض مساجد وجوامع المتطرفين. إنهم قوى وميليشيات مسلحة إرهابية وطائفية متطرفة, شيعية وسنية, تأتمر بأوامر دول الجوار وتنفذ مشاريعها في العراق لنشر عدم الاستقرار والاستمرار بالقتل والتخريب وتعطيل عملية إعادة البناء وكل العملية السياسية, رغم مساهمة القوى السياسية العراقية ذاتها بتعطيل العملية السياسية لمصالحها الضيقة ومشاريعها الطائفية من خلال صراعها على السلطة وبالطريقة البائسة الراهنة.
إنهم يريدون تعطيل انسحاب القوات الأجنبية من العراق ليواصلوا تأكيد وجود قوات أجنبية محتلة في العراق لكي يتذرعوا بذلك ويدعون إلى استمرار مقاومتها الفاشلة, وهي نفس الذريعة السابقة لم تتغير ولن تتغير إلا بتوطيد العاق المنشود, وليس العراق المحاصصي.
إن القوى التي تريد إشاعة الرعب والموت وعدم الاستقرار في العراق ليست غير معروفة للحكومة الحالية ورئيسها, ولكن رئيس حكومة تصريف الأعمال لا يزال متشبثاً بالحكم ويريد الوصول إلى مساومة لصالحها فيغض الطرف عن أولئك الحلفاء أو غيرهم ممن يحمل السلاح ويوجه به ضربات قاسية للجيش والشرطة والناس الأبرياء الآخرين. إن هؤلاء يمتلكون معلومات قيمة وليست ضرباتهم عبثية أو عشوائية. وهي قوى تعرف جيداً أن توجه ضرباتها لتؤجج الأحقاد الطائفية المتشنجة أصلاً والأوضاع غير الهادئة منذ سنوات بفعل الصراع حول السلطة والمال والنفوذ, هذا الثلاثي الذي أصبح مدمراً للعراق وشعبه.
نحن أمام حلقة مفرغة, كل يدعي وصلاً بليلى وليلى هي المستهدفة من كل ذلك, إنه الشعب المستهدف. لا نريد أن نذكر حكامنا في العراق كيف أصبح الدم محتقناً في رؤوس الناس في الداخل والخارج حين يرون المفاوضات الفاشلة والابتسامات العريضة غير الحقيقة ترتسم على شفاه ووجوه الحكام. لقد ملَّ الشعب هذه المسرحية المنهكة للشعب, لقد ملَّ الشروط المتبادلة لتشكيل الحكومة أو المساهمة فيها, إذ كل يريد أن يقتطع أكثر ما يمكن من هذا البلد لصالحه, وكأن العراق أصبح سفينة في بحر متلاطم والنار تشتعل فيه, ولكل الحق في أخذ ما يريد وما يشاء ويهرب به إلى شاطئ السلام دون وقبل غيره.
نحيب العائلات على موتاها وجرحاها متصاعد غلى عنان السماء ودموعهم تشكل نهراً يمر شاقاً طريقه بين النهرين وعبر العراق كله, وأعصاب الناس متوترة وأوضاعهم النفسية في الحضيض وعلاقاتهم متدهورة, وكأننا في صراع ونزاع شديد لا يقبل التأجيل ولا يمتلك الرحمة, كل يسئ إلى صاحبه مع سبق إصرار ويسعى إلى تحقيق الضربة الاستباقية. هذا لم يعد في العراق فحسب, بل انتقل إلى خارج العراق حيث كان الهدوء والتفاهم والسلام يسود بين الناس, إنه نتيجة منطقية وسلبية للإحباط الذي يعيشه الناس في العراق فينتقل عبرهم غلى خارج البلاد. كم يتمنى الإنسان أن تكون لهذا الإحباط نتائج أخرى غير الفرقة والصراع والنزاع والشتائم المتبادلة والإساءات التي لم تكن موجود قبل ذاك, أن يشد البعض إلى البعض الآخر ويعزز لحمتهم لا معاركهم الجانبية, أن يكون الإدراك لا بما فعلته الدكتاتورية وخلفته لنا في العراق وفي الخارج فحسب, بل وما فعلته الطائفية من تقسيم للشعب ومن تفريق للناس ومن إساءة للجاليات العراقية في الخارج.
لم تعد النداءات كافية لإقناع الناس بضرورة الكف عن هذه الطريقة في التعامل في ما بين القوى والأحزاب السياسية ولا مع تجميد مجلس تابع للطوائف والقوميات وليس للشعب كله. لقد أقسموا في أن يكون العراق كله نصب عيونهم, ولكن لا نرى غير الطائفة والقومية هما نصب العيون, فهل أخلَّوا بالقسم؟ هذا السؤال موجه إلى كل نائب يحس بأدميته ويرى ويعيش ما يجري في الوطن من سيول جديدة للدماء وما تنساب من دموع من عيون العائلات الثكلى بقتلاها.
ألا تنفع صرخات العائلات المتصاعدة إلى عنان السماء؟ ألا تسمعون أحاديث الناس والشتائم التي بدأت تنهال على الجميع دون استثناء؟ ألا ترون الموت اليومي في صفوف الناس؟ أم أن عائلاتكم بعيدة عن مثل هذه المخاطر وليكن عندها الطوفان؟
اشعر بالقرف الحقيقي لما يجري في العراق, ولست وحيداً في هذا بل أنه التعبير الجمعي للحالة في العراق. القوات الأمريكية تنسحب وهو فأل خير, ولكن الحصيلة كما نراها فأل شؤم, لأن المحتل يترك العراق وقد عاد الموت إليه وكأنه الجراد الأصفر القاتل, كأنه الطاعون الذي يختطف الناس ليلاً ونهاراً.
لست كارهاً لكم ولا حاقداً عليكم ولكني غاضباً على السياسات التي تمارس في العراق والعذابات التي يتحملها الإنسان العراقي بعد أربعين عاماً من حكم القوى القومية والبعثية الشوفينية والمستبدة, وبعد سبع سنوات من عذاب التعصب الديني والطائفية السياسية المقيتة التي مارست القتل في الناس من كل الأديان والمذاهب ومن كل الاتجاهات السياسية التي ترفض العنف والفرية والتعسف.
لنتوقف لحظة هدوء ونفكر في هذا الشعب وليس بمصالحنا الذاتية التي يمكن أن تذهب كلها ودفعة واحدة هدراً. لنعمل معاً وليرتفع صوت الإنسان العراقي المعذب منذ ألاف السنين, ويطالب باستعادة كرامته المهدورة وسعادته الغائبة, كرامة وسعادة كل المكونات القومية, كل الناس في العراق.
22/8/2010                        كاظم حبيب
   

1058
كاظم حبيب
مناقشة مع السيد مصطفى القره داغي حول ثورة تموز 1958
والعائلة المالكة في العراق

نشر السيد مصطفى القره داغي مقالاً تحت عنوان " أما آن الأوان لمحاكمة قتلة العائلة المالكة العراقية وإعادة الاعتبار لها ولو اعتبارياً؟". وفيه يدين الأحزاب السياسية اليسارية والقومية بسبب نشرها للأفكار الثورية ومسؤوليتها عن "انقلاب 14 تموز 1958 وقتل العائلة المالكة ونوري السعيد وضرورة إعادة الاعتبار للمقتولين ومحاكمة القتلة. ويطالب من يتبنى حقوق الإنسان أن يبرهن على صدقيته في الموقف من ذلك. ويفهم من نص المقال أن الكاتب يدين كل من لا يؤيده في هذا الموقف. هذا ملخص المقال الذي نشر على صفحات صوت العراق بتاريخ 14/7/2010.
ابتداءً أشير إلى أن ما حصل في صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 بشأن مصير العائلة المالكة وعائلة نوري السعيد لم يكن خطأ فادحاً حسب, بل جريمة ارتكبت على أيدي ضابط عراقي أو أكثر كتب عنهم الشيء الكثير ولا يجوز تعميم الاتهام, إذ لم يكن الفعل قراراً من قيادة الضباط الأحرار أو من الزعيم الركن عبد الكريم قاسم أو من اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني ولا من الأحزاب السياسية الأعضاء في الجبهة حينذاك. وكل المعلومات التي نشرت فيما بعد تؤكد ذلك. ولكن كراهية الجماهير لعبد الإله ونوري السعيد والضيم الذي عاشوا تحت وطأته دفعهم لمثل هذا الفعل السيئ والذي لا يجوز ولا يمكن تبريره. ومن المسف والمخزي أيضاً أن نقول بأن تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث فيه الكثير من هذه الأفعال والجرائم التي يندى لها جبين الناس المتحضرين, ولا بد أن يأتي اليوم الذي يتخلص منها الشعب ويلتحق بالحضارة الإنسانية التي انقطع عنها قروناً كثيرة. ومن حق الكاتب أن يطالب باعتبار تلك الحادثة جريمة وأن يطالب بإعادة الاعتبار. إلى هذا الحد يمكن الاتفاق معه باعتباره حقاً من حقوقه في التعبير عن رأيه.
ولكني أختلف معه بالكثير من المسائل التي لم يتسن للسيد مصطفى القره داغي أن يعيشها في العهد الملكي ولا سمع عنها وكان الأجدر به أن يميز بين الصالح والطالح في العهد الملكي وبين الأساليب الشريرة والأفعال الخيرة التي تمت في ذلك العهد, وكذلك بين العقلاء من الحكام وبين الذين أساءوا للشعب, وكان لا بد من محاكمتهم محاكمة عادلة وشرعية وعلى وفق أصول القوانين المرعية. وهكذا كان يفترض فيه أن ينظر إلى ثورة 14 تموز 1958, إذ أن الأمور ليست إما اسود وإما أبيض, إذ أن بين اللونين أطياف من الألوان الأخرى. لقد عشت ردحاً غير قليل من عمري في ظل الملكية وتعرفت على سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة وعلى القوى الاجتماعية والسياسية الحاكمة وعرفت سجونها ومنافيها, وتعرضت مع عشرات الآلاف من العراقيين وجمهرة كبيرة من العراقيات للتعذيب الرهيب والمهين لكرامة الإنسان وحقوقه المشروعة لا لسبب سوى مواقف المعارضة لسياسات ذلك النظام الملكي الذي يبدي الأخ القره داغي حزناً على سقوطه. ومن حقه أن يحزن على نظام سياسي يجده مناسباً له وللمئات الذين يلتقون معه في تقديس الملكية في العراق ومنهم الشريف على بن الحسين. ولكن عليه أن يحترم رأي الملايين من العراقيات والعراقيين الذين يحترمون ذكرى الثورة ويكرمون ما أنجزته للفقراء والكادحين, ولكنهم ينتقدون في الوقت نفسه الأخطاء التي وقعت فيها أو ارتكبت باسمها.
ليس صحيحاً تبرئة النظام الملكي من أخطائه الكبيرة التي قادت إلى الانتفاضة العسكرية ضده ثم تحولت عبر حركة الشعب إلى ثورة تريد تغيير الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة, وليس من الصحيح إدانة ثورة 14 تموز 1958 دون رؤية مدققة لنتائجها الإيجابية ومن ثم أخطاء قيادة الثورة والأحزاب السياسية أو قادة الثورة. التدقيق والتمييز ضروريا وأساسيان في متابعة حركة التاريخ العراقي لا من اجل التخطئة أو التصويب فحسب, بل ومن اجل التعلم من هذا التاريخ لصالح المستقبل.
العراق رفض الملكية بغالبيته, وبالتالي من غير الممكن العودة إلى الملكية في العراق. وإذا كان هناك من يرغب به فهذا من حقه وليس هناك من يقف ضد نضاله من اجل الملكية في العراق ويمكن أن يكون معه بضعة مئات أو عدة آلاف أشير إليها في مقال السيد مصطفى القرداغي باعتبارها تؤيد محاكمة القتلة وإعادة الاعتبار للعائلة المالكة.
وفي المقابل هناك الملايين الذين يرفضون الملكية. وهذا من حقهم أيضاً, وأنا منهم.
ولكن لنكن صريحين مع القارئات والقراء: العبرة ليست في الملكية أو الجمهورية, بل في الدستور والقوانين والمؤسسات والحياة الدستورية والديمقراطية التي تقام في ظل الدولة الملكية أو الدولة الجمهورية. فالسويد ملكية ديمقراطية متقدمة ليس هناك من يريد إزالتها. ولكن الكثير من النظم الملكية في المنطقة وفي دول نامية أخرى تتمنى شعوبها الخلاص منها بسبب ظلمها وعدم عدالة النظم الملكية السياسية القائمة فيها والعقوبات التي هي جريمة بحد ذاتها كقطع الروس والجلد العام وقطع الأيدي أو الرجم بالحجارة ... أو مصادرة حقوق المرأة. وهناك الكثير من الجمهوريات غير العادلة والظالمة في المنطقة والعالم, حيث تمارس الكثير من الموبقات ضد شعوبها وضد حرياتها وحقوقها القومية والفردية.         
ليست الانتفاضات والثورات عمل فرد أو جماعة صغيرة, ليست إرادة فردية, بل هي عملية سيرورة وصيرورة تستند إلى أرضية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ولها شروطها  ومستلزمات نجاحها, ولا تحصل بإرادة هذا الفرد أو ذاك, بل بفعل عوامل كثيرة ينتجها الواقع الذي يسود في هذا البلد أو ذاك. وحين تنجح الثورة, يتيقن الإنسان من تضافر العوامل التي كانت وراء نجاحها. وهذا ما حصل في ثورة تموز 1958 إزاء النظام الملكي.  لم يكن كل ما حصل في أعقاب ثورة تموز سليماً, بل كانت فيه الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها القوى السياسية العراقية القومية منها واليسارية وكذلك الإسلامية كحزب الدعوة وحزب التحرير الإسلامي حينذاك أو الأخوان المسلمين, وكذلك أخطاء فادحة للحكومة العراقية التي ترأسها عبد الكريم قاسم وأخطاء قاسم الفردية بالذات, وهي التي سمحت عملياً بوقوع الانقلاب العسكري في الثامن من شباط/فبراير 1963 ضد الجمهورية الأولى وبدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وشركات النفط الاحتكارية وبعض حكومات الدول المجاورة, وفي المقدمة منها الجمهورية العربية المتحدة ودول حلف بغداد (السنتو) حينذاك.
لا شك في أن النظم الشمولية مدانة والأحزاب التي تحمل شعارات تدفع باتجاه الشمولية يفترض نقدها بقوة, بل حرمان الأحزاب التي تدعو إلى إقامة نظم دكتاتورية شمولية تحت أية واجهة كانت حرمانها من حق العمل السياسي, سواء أكانت أحزاباً إسلامية أم علمانية, وسواء أكانت يسارية أم يمينية أم قومية متطرفة, وسواء أكانت شوفينية أم طائفية سياسية. كما يفترض إدانة كل النظم التي ترفض منح الفرد والشعب حريته وحقوقه الديمقراطية وحقوق المرأة وتلك التي تربط الدين بالدولة أو تمارس سياسات كالتي تمارس اليوم في العراق أو تلك التي مورست في عهود الجمهوريات البعثية والقومية والبعثية الأخيرة, أو تلك التي مورست في العهد الملكي غير الديمقراطي.
البدايات الأولى
كانت رغبة بريطانيا بعد إعلان احتلال العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية أن يبقى العراق تحت الهيمنة والسيادة البريطانية وأن يقاد من قبل حاكم بريطاني, كما كان عليه الحال في الهند. ولكن ثورة العشرين (حزيران/يونيو 1920) قد أقنعت الحكومة البريطانية باستحالة ذلك وأن عليهم احترام إرادة الشعب وإقامة الدولة العراقية. وحين تقرر إقامة الدولة العراقية, طرحت أسماء الكثير من المرشحين من بغداد والبصرة على نحو خاص ليكون أحدهم ملكاً على العراق. إلا أن إرادة بريطانيا كانت غير ذلك, إذ أن مؤتمر القاهرة الذي عقد في العام 1921 قد قرر أن يكون الأمير فيصل بن الحسين, الذي كان قد أطيح به في سوريا وأبعد عنها, أن يكون ملكاً على العراق بدلاً من سوريا. وكانت هذه إرادة مس گيرترود بيل ورضخ السير برسي لإرادتها.
كان الأمير فيصل بن الحسين أحد المساهمين مع مس بيل في مؤتمر القاهرة الذي حضره تشرشل ليقرروا مصير العراق واختيار ملكاً له. فخيار الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق كان بالأساس خياراً وقراراً بريطانياً.
كتب الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف مقدمة لكتاب يرترود بيل تحت عنوان "المرأة التي أنشأت دولة ونصَّبت ملكاً", كما جاء على الصفحة 362 من كتاب گيروترود بيل, "أوراقها الشخصية 1914-1926" من تأليف إليزابيث بيرغوين ما يلي:
"من بين القرارات التي اتخذت في مؤتمر القاهرة فيما يتعلق بالسياسة البريطانية في الشرق الأوسط ذلك الخاص على دعم ترشيح الأمير فيصل بن الحسين لتبوئ عرش العراق". وقد لعبت مس گيرترود بيل, ومعها السير برسي, دوراً كبيراً في إبعاد ترشيح عبد الرحمن النقيب من بغداد وطالب النقيب من البصرة, وكان الأخير وزيراً للداخلية في وزارة عبد الرحمن النقيب حينذاك, والذي اعتقل في بغداد بقرار من السير برسي وبتأييد من گيرترود بيل وأبعد إلى الفاو لكي لا يتسنى له ترشيح نفسه لمنصب ملك العراق. (ص 366/377 نفس المصدر).
لقد أصبح هذا الأمر من الماضي ولا ينفع الحوار فيه, خاصة وأن الرجل كان ناضجاً وواعياً وحاول تأمين تطور إيجابي في العراق. (وجدت في كتاب ثورة العشرين لآل فرعون وثيقة موقعة من شخصيات عراقية في كربلاء بتاريخ 1920 حول تأييد ترشيح الأمير فيصل ملكاً على العراق وكان بين الموقعين اسم والدي الحاج حبيب الملا عبد). كما حاول الموازنة بين مصالح الشعب ومصالح الدولة البريطانية في العراق. في عهده وفي ظل الانتداب وضع الدستور العراقي بمضامينه الديمقراطية العامة. كما وقعت امتياز النفط لصالح شركة النفط العراقية المتعددة الجنسية والتي كانت في صالح شركات النفط تماماً.
سعى الملك فيصل الأول عبثاً إلى تطبيق ذلك الدستور في مجتمع عشائري ريفي وشبه إقطاعي وخاضع للسيطرة الاستعمارية البريطانية والتي تجلت في المادة التي كتبها في بغداد قبل سفره للمعالجة في سويسرا حيث قدم وصفاً صادقاً وواقعياً لأوضاع المجتمع العراقي حينذاك. وعلينا أن نتذكر باستمرار إلى الحكومة البريطانية وأجهزتها ومن سفارتها في بغداد قد لعبوا جميعهم دوراً سلبياً في تطبيق بنود الدستور العراقي وتعانوا مع الحكومات العراقية المتعاقبة على تشويهه والتجاوز عليه بشتى السبل.
لم يستطع فيصل إلى حين مماته أن يوفق بين رغبة البريطانيين في الهيمنة وبين رغبة الشعب في الحرية والديمقراطية, كما عجز عن ذلك الملك غازي بن فيصل , ولكن عهد فيصل الأول كان الأفضل وعهد غازي كان بداية للانقلابات بالمقارنة مع عهد الوصي على  العرش عبد الإله بن علي بن الحسين. لقد مات الأول في سويسرا في أوضاع غامضة ومات الثاني في حادث سيارة مشبوه, وقتل الوصي والملك فيصل الثاني في الأول الأول من وقوع ثورة تموز 1958.
كانت سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي قد شوهت بنود الدستور ووضعت قوانين مخلة بمواده الديمقراطية ومتجاوزة على الحياة العامة والحريات الضرورية للفرد والمجتمع. وكان الدور لسياسات هذه الحكومات قد تبلور في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبشكل خاص في العام 1947 و1948 وما بعدهما.
لقد أصبح المجلس النيابي يوزع بين مجموع بريطانيا ومجموعة البلاط ومجموعة الحزب الذي يحكم, الدستوري أو الأمة. هذه المساومة منعت أحزاب المعارضة من الحصول على مقاعد في دورات مجلس النواب العراقي, وحين كانت تحصل على بعض المقاعد في البرلمان كانت الحكومة تبادر إلى حله المجلس كما حصل في العام 1954 على سبيل المثال لا الحصر. لقد سعت مراكز القوى الثلاثة إلى تشكيل مجالس نيابية نوافق على  قرارات الحكومة التي كانت تنضج مع السفارة البريطانية في البلاط الملكي وبمشاركة رئيس الحكومة, ولهذا أطلق على مجلس النواب بمجلس "الموافج" أي الموافق! 
لقد تقدم العراق خطوات ملموسة على طريق المجتمع المدني في ظل النظام الملكي, رغم بطء تلك العملية والعقبات التي كانت توضع في الطريق, منها مثلاً في مجال التعليم العام وتعليم البنات وفصل الدين عن الدولة في الواقع العملي وإرسال البعثات الدراسية إلى الخارج ووجود منظمات المجتمع المدني رغم منعها من العمل بين فترة وأخرى. إذ كانت هناك نضالات جادة من النخب المثقفة والمتعلمة في العراق من أجل تحسين الأوضاع وممارسة نصوص الدستور والضغط المتواصل على  الحكومة لانتزاع مكاسب شعبية منها, مثل موضوع المناصفة في إيرادات النفط الخام المصدر في العام 1951/1952ا وتشكيل مجلس الإعمار ووزارة الإعمار وقبل ذاك البنك الصناعي والبنك الزراعي, وإقامة المشاريع الصناعية في قطاع الدولة والقطاع المختلط والقطاع الخاص, أو في إقامة السدود والجسور ومشاريع الري والبزل. ولكن نخبة من الحكام, ومنهم بشكل خاص نوري السعيد وصالح جبر وسعيد قزاز والمدفعي والسويدي..., قد زوروا الانتخابات العامة عبر أجهزة الدولة وباعتراف صريح وقاطع من جانب نوري السعيد في جلسة من جلسات مجلس النواب, كما وجهوا ضربات قاسية للمعارضة البرجوازية الوطنية المتمثلة بالحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والجبهة الشعبية, وليس للمعارضة اليسارية فقط مثل حزب الشعب وحزب التحرر الوطني أو الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردي حينذاك. وكان نوري السعيد هو رئيس الوزراء حين أصدر المراسيم الاستبدادية المعروفة في العام 1954  و1955 ضد الحركة الوطنية العراقية وأسقط الجنسية العراقية عن عدد من المناضلين المعروفين وزج بالمئات في السجون والمعتقلات العراقية ووافق على ممارسة التعذيب أثناء التحقيق وفي السجون العراقية ومارس القتل ضد المضربين في السجون العراقية, كما حصل في سجني الكوت وبغداد. وهؤلاء هم الذين وجهوا النيران إلى صدور من رفض معاهدة بورتسموث في العام 1948 التي رفضها الشعب, وكذلك انتفاضة 1952 وانتفاضة 1956 التي انطلقت لرفض العدوان الثلاثي على مصر بصورة سلمية ولكنها  قوبلت بالحديد والنار وقتل البعض وجرح آخرون كما نفذوا حكم الإعدام بثلاثة أشخاص في قضاء الحي في لواء الكوت لمشاركتهم في التظاهرات حينذاك.
لم يكن النظام الملكي ديمقراطياً, بل شوه الدستور الديمقراطي الذي وضع في العام 1925.
ولم يكن النظام الملكي عادلاً بل ساند الإقطاعيين وكبار الملاكين وأصبحت العائلة المالكة التي جاءت إلى العراق ولا تملك شبراً من الأرض العراقية, أصبحت مالكة كبيرة للأرض بدون شراء لتلك الأراضي. وأصبح الفلاحون يعانون الأمرين بفعل موقف نوري السعيد ضد أي إصلاح زراعي حين هوس من دار الإذاعة العراقية "دار السيد مأمونة" والتي لم تكن مأمونة حقا, إذ أسقطت بعد فترة وجيزة من تلك الأهزوجة السعيدية.
لم يكن الحزب الشيوعي العراق من رفع شعار إسقاط الملكية في فترة وجود فهد على رأس الحزب ولا بعدها كسياسة رسمية, بل كان يقدم المذكرات لصالح إصلاح الوضع في العراق وفي ظل الملكية, ولكن سلوك حكومات النظام الملكي والبلاط, وخاصة عبد الإله ونوري السعيد, هي التي قادت إلى انتفاضة الجيش في تموز 1958, والشعب هو الذي حولها إلى ثورة بمطالبته بتحقيق الإصلاحات المعروفة.
لا يمكن نفي وجود شعارات وسياسات متطرفة في الفترة الواقعة بين 1949-1954 من جانب القيادات الحديثة للحزب الشيوعي العراقي بعد أن زج بفهد ورفاقه في السجن وبعد إعدامهم في العام 1949, وهي ردود فعل حادة لسياسات حكومية قمعية. كما يمكن أن نجدها لدى أحزاب أخرى, ومنها الأحزاب القومية بشكل خاص. وهذه المسالة مرتبطة عضوياً بمرحلة تاريخية كان الاستعمار العالمي قد زج بكل قواه من أجل الهيمنة على الموارد, وكان النضال من أجل الاستقلال والسيادة وضد نظم كان تمارس سياسات غير سليمة. التطرف في سياسات تلك الحكومات قاد غلى تطرف في سياسات الأحزاب, في ظل انشطار العالم غلى معسكرين شرقي وغربي, اشتراكي ورأسمالي! إن العودة إلى الماضي ودراسته مفيدة للجميع والتخلي عن التطرف يفترض أن يشكل سمة العصر الذي نحن فيه, ويأمل الإنسان أن يجري التخلي عن العنف والقوة والقسوة والحرب ومعالجة جميع الأمور بالطرق السلمية والتفاوض الديمقراطي, سواء أكانت داخلية في كل بلد أم خارجية وبين الدول.   
ما كان في مقدور أي حركة مسلحة الانتصار على الملكية لو لم تكن الملكية ناضجة للسقوط ولو لم تكن الظروف الموضوعية والذاتية ناضجة لنجاح الانتفاضة العسكرية والمرتبطة بنشاط قوى مناهضة لسياسات تلك الحكومات في الجيش وفي صفوف المجتمع. فإلى  جانب الجيش كانت هناك جبهة الاتحاد الوطني ولجنتها العليا, وهي جبهة سياسية تمثل الأحزاب العراقية حينذاك. يحق لك أن تسمي الثورة انقلاباً عسكرياً, ولكن كان هذا الانقلاب ضد نظام شوه الدستور وداس على حرية وديمقراطية ونزاهة الانتخابات ولم يحترم حقوق الإنسان وحقوق المواطنة المتساوية. من حقك أن تطالب بجر من قتل العائلة المالكة إلى المحاكمة. ولكن أليس من حق الشعب أن يطالب بجر من قتل المئات من أبناء وبنات الشعب العراقي حينذاك في العهد الملكي إلى المحاكمة أيضاً. أليس من واجبك كمدافع عن النظام الملكي أن تطالب محاكمة جميع حكام العهد الملكي وأن يعاد الاعتبار إلى كل من استشهد في العهد الملكي باعتبارك مواطن عراقي. 
لقد قتل النظام الملكي الكثير من الناس, لا في بغداد والألوية العربية, بل وفي الألوية الكردية, إذ رفض بإصرار منح الكُرد حقوقهم القومية المشروعة رغم الالتزام الذي أعطاه الملك فيصل والحكومة العراقية خطياً إلى مجلس عصبة الأمم في مقابل منح العراق عضوية المجلس ورفع الانتداب البريطاني عنه. ومارست الحكومات العراقية المتعاقبة سياسة ضرب المناضلين الكُرد في سبيل حقوقهم في كُردستان العراق وفي الوسط والجنوب أيضاً ابتداءً من منتصف العقد الرابع من القرن العشرين, وعلى القارئات والقراء العودة إلى تاريخ العراق الذي سجله عبد الرزاق الحسني في تاريخ الوزارات العراقية أو في كتب كثيرة أخرى ليرى حقيقة ذلك, بما في ذلك إعدام الكُرد الأربعة في العام 1946 رغم وعود الحكومة بالعفو عنهم. لقد ساهم موقف النظام الملكي في تعقيد العلاقة بين الحكومة المركزية والشعب الكردي بسبب محاولة تهميش هذا الشعب بشكل كبير, إضافة إلى تهميش المجتمع عموماً في ما عدا مصالح النخب الحاكمة ومالكي وسائل الإنتاج, وخاصة الملاك الكبار للأرض الزراعية. ويمكن أن نجد مصداق ذلك في كتاب حنا بطاطو الموسوم "العراق".
إن من لا يرى أخطاء النظام الذي يدافع عنه, ويرى أخطاء النظم التي يعارضها فقط, يصعب عليه التعلم من دروس التاريخ ولا يفيد شعبه حين يكتب المقالات ويفقد مصداقيته في الكتابة, إذ أن للناس عقول وتدرك وتعرف ما كان يجري في العهد الملكي. ولا يبرر نسيان ذلك ما تعرض له الشعب من مصائب وكوارث فيما بعد على أيدي الكثير من المستبدين والقتلة والحكام الأوباش.
لو كان الحكم الملكي ديمقراطياً وعادلاً وحصيفاً لما ناضل الناس ضده وصمموا على محاربته وإسقاطه, ولبقي النظام الملكي إلى الآن قائماً, ولكنه سقط بسبب سياساته الخاطئة والمناهضة للديمقراطية والعدالة الاجتماعية وعدم اعترافه بحقوق القوميات, وبشكل خاص حقوق الشعب الكردي وحقوق الكلدان والآشوريين والتركمان في العراق حينذاك.
       
18/آب/ أغسطس 2010                كاظم حبيب





1059
كاظم حبيب

مرة أخرى حول الواقع العراقي والسياسة الاقتصادية الراهنة في العراق

يسعدني جداً خوض النقاش مع الأخ الأستاذ (ز) حول الواقع الاقتصادي والسياسة الاقتصادية التي تمارسها الحكومة العراقية في المرحلة الراهنة ووجهة  تطور الاقتصاد والمجتمع. كما تهمني المعطيات التي يقدمها في ملاحظاته, إذ أنها تعبر عن وجوده في موقع غير بعيد عن المعلومات الضرورية للبحث في الجوانب الاقتصادية بصورة ملموسة. وبقدر احترامي لملاحظات الأخ السيد (ز), والمعلومات المهمة التي أوردها في التعقيب الثاني على ملاحظاتي الأولى على تعقيبه, سأحاول أن أناقش بعض المسائل الواردة في الجولة الثانية من هذا النقاش.

1) كل من كان يتابع الخطب والتصريحات والمقابلات التلفزيونية والمؤتمرات التي كان يساهم بها أو ينظمها السيد وزير التخطيط خلال السنوات الست المنصرمة سيجد نفسه أمام قضية مركزية واحدة كان يرددها الوزير دون كلل أو ملل مفادها: "غياب الإستراتيجية التنموية في السياسة الحكومية!". وحين كنت أتابع واقع الاقتصاد العراقي وسياسات الحكومة وتعليقات الوزير كنت متيقناً من صواب هذا القول بغياب الإستراتيجية التنموية. ولكن كان السؤال الذي كنت أطرحه مباشرة هو: إن لم تكن وزارة التخطيط هي المسؤولة في إطار الحكومة القائمة عن وضع إستراتيجية التنمية والرؤية الآفاقية لتطور الاقتصاد العراقي ووضع الخطط الخمسية والسنوية في ضوء ذلك, فمن المسؤول إذن غير هذه الوزارة والوزارات الأخرى, أو الحكومة العراقية بمجملها؟ كان الوزير يتجنب بوضوح من الإجابة عن هذا السؤال الذي كان لا يمر على المعنيين بالشأن الاقتصادي, وكأنه يعتمد على عدم معرفة أو غفلة الإنسان الاعتيادي غير العارف بالشؤون الاقتصادية. 
وحين طرحت الخطة في فترة أصبحت فيها الحكومة الراهنة مجرد حكومة تصريف أعمال لا غير من الناحية الدستورية والعملية, ولمجرد الدعاية غير الناجحة للحكومة ورئيس الوزراء ووزير التخطيط, لم تعد هناك من مسؤولية حكومة تصريف الأعمال تنفيذ هذه الخطة, إذ يمكن أن ترى الحكومة القادمة خطأ ما وضع حتى الآن وتسعى لوضع خطة جديدة تستغرق السنوات الأربع القادمة أيضاً. لنتذكر الفترة الواقعة بين 1935-1939 حيث وضعت عدة خطط أو برامج اقتصادية ولم ينفذ أياً منها حينذاك بسبب التبدلات الوزارية المتلاحقة, وكل وزارة بما فيها الانقلابيون في العام 1936, كانت تشطب على الخط السابقة لتضع خط جديدة وحالما تنتهي منها كانت تسقط لتأتي وزارة جديدة وتضع خطة جديدة وهلمجرا. إلى أن أعلنت الحرب العالمية الثانية وتوقفت الحكومات العراقية التالية بما فيها حكومة انقلاب 1941 عن وضع الخطط أو تنفيذها بذريعة الحرب.
والسؤال المشروع الذي يحير المتتبع لتصريحات الوزير بعد أن تم طرح الخطة الخمسية 2010-2014 هو: إذا كانت الإستراتيجية التنموية الحكومية غائبة عن وعي الوزير وأجهزة التخطيط, فكيف تسنى لوزارة التخطيط والوزارات الأخرى وضع خطة تنمية وطنية خمسية في العراق؟ طبعاً أقدر صواب ملاحظة الأستاذ (ز) بأن وزارة التخطيط كانت منشغلة في وضع خطة اقتصادية دون أن تكون لها إستراتيجية أو إستراتيجية مفترضة في رأس الوزير وبعض المدراء العامين القريبين منه, وهي التي سوف لن يكتب لها النجاح في ظل الظروف الراهنة والصراعات الحزبية القاتلة.

2) لقد كانت ولا زالت سياسة الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط النظام الشمولي تركز على زيادة عدد الموظفين في أجهزة الدولة بمختلف مجالات النشاط. كما إنها كانت ذات السياسة التي مارسها الحكام السابقون أيضاً حتى تضخم جهاز الدولة بشكل مريع ومعرقل للعمل وتمشية أمور الناس ومستنزفاً لجزء كبير ومهم من الميزانية الاعتيادية والدخل القومي.
ليس غريباً أن يصل تعداد جهاز الدولة في العراق حالياً 2,5 مليون إنسان, وهو رقم قابل للزيادة بسرعة فائقة, إذ أن كل رئيس حكومة وكل وزير يحاول أن يوظف أكبر عدد ممكن من أعضاء حزبه ومؤيديه في أجهزة الدولة لضمان تأييدهم له. وبهذا وبعد فترة وجيزة ستجد الشعب أن الرواتب التي تدفع للعاملين في أجهزة الدولة والمتقاعدين سوف تستنزف نسبة مهمة وكبيرة حقاً من ميزانية الدولة العراقية وتقلص إمكانيات التثمير الإنتاجي في التنمية الوطنية. إن هذه السياسة نجدها في جميع الدول الريعية, وبشكل أخص الدول الشمولية منها أو التي تعاني من صراعات مماثلة لما هي عليه في العراق. إنه أقصر الطرق للخلاص من البطالة الواسعة ولا يهمهم أن يحصل التضخم وتتقلص المنفعة والمردود الاقتصادي والاجتماعي من وجود هؤلاء الناس في أجهزة الدولة. إنه تحويل جيش العاطلين الجرار إلى جيش موظفين جرار يعيش في البطالة المقنعة المستنزفة لموارد الدولة المالية. إنها جزء من سياسة غبية ومدمرة للاقتصاد الوطني والمجتمع, وهي جزء من سياسة إعاقة التنمية والنمو الاقتصادي وتنويع وتنشيط القطاع الإنتاجي في الاقتصاد الوطني العراقي. وهي جزء من سياسة تحاول ربط هؤلاء الموظفين بالدولة والخضوع لها ولسياساتها باعتبارها ولي أمرهم ونعمتهم! إن هذه السياسة تمارس من جانب حكومة بغداد الاتحادية وحكومة أربيل الإقليمية في آن واحد.

3) السؤال المشروع الذي يفرض نفسه هو: هل حقاً أن العراق لا يسير وفق سياسة اقتصادية واضحة المعالم, وأنها لا تعتمد مفهوم اللبرالية الجديدة في نشاطها العملي؟
لا شك في وجود صراع في العراق متعدد المستويات. فهو صراع في ما بين الأحزاب على المصالح وما يريده كل حزب له ولهذا العراق, وهو صراع حول وجهة تطور الاقتصاد العراقي والنهج الذي يفترض أن يمارسه في التنمية,  فمنهم من يريده اقتصاداً إسلامياً مرجعيته كتاب "اقتصادنا" للسيد الشهيد محمد باقر الصدر, والبعض الآخر يريده اقتصاداً ليبرالياً جديداً يعتمد برنامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة الدولية ويرى في القطاع الخاص أساس وقاعدة التنمية وإبعاد قطاع الدولة عن اي شأن اقتصادي, والبعض الثالث يريده اقتصاداً يهيمن قطاع الدولة على الاقتصاد العراق بشكل كبير جداً ولمن يكون للقطاع الخاص إلا الدور المحدود والثاني, وهو اتجاه في ظروف العراق الراهنة ومساره المعروف يقود غلى هيمنة الحكومة على الاقتصاد والمجتمع ويصبح العراق في ظله شمولياً حقا, ومثل هذا التوجه يسهل على النهَّابة والسَّلابة والفاسدين والمفسدين إمكانية زيادة نهب الدولة والحصول بأسهل الطرق على السحت الحرام وإفقار المجتمع. ولكن هناك من يجد ضرورة تأمين علاقة واضحة وعقلانية بين القطاعات الاقتصادية الثلاثة: القطاعين العام والخاص والقطاع المختلط المحلي, إضافة إلى دور مفيد ومعين للقطاع الخاص الأجنبي في الاقتصاد العراقي لتحقيق التنمية المنشودة وإنهاء الواقع المزري الراهن في الاقتصاد والمجتمع في العراق.
في عالمنا الراهن يلعب الاقتصاد الدولي المعولم دوراً كبيراً على الاقتصاديات المحلية لكل دولة من الدول وبنسب متفاوتة على وفق الواقع القائم في كل دولة. وفي العراق, الذي لا يزال لا يملك دولة مؤسسات قادرة على تحقيق الحرية والديمقراطية لشعبها ولقراراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية, تلعب المؤسسات الدولية الفاعلة والمؤثرة دوراً كبيراً في الاقتصاد العراقي وتؤثر بوضوح تدريجي على وجهة تطوره بالرغم من البعض منا لا يستطيع تلمس هذه الحقيقة بسهولة ويسر. فالعراق غير بعيد عن تأثير تلك المؤسسات وعن دور الولايات المتحدة الأمريكية ألان وفي المستقبل المنظور. وحين يجري الحديث عن إقرار إقامة كذا مشروع اقتصادي في العراق من جانب الدولة, فأن حصيلة ذلك كما نلاحظ أمامنا هو صفر عملياً, لأن الجميع لا يثق بهذه السياسة ولا يريد للعراق التقدم. وحين يشير الزميل (ز) إلى عدم الاهتمام بالقطاع الخاص, فإن هذا لا يعني أن هناك اهتماماً بالقطاع العام, بل يعبر عن عدم الاهتمام بالعملية الاقتصادية عموماً وترك الأمور للتجارة الخارجية بعيداً عن تحديث الإنتاج أو إقامة مشاريع صناعية جديدة أو تحديث الزراعة وتنويع الإنتاج الزراعي وإنقاذ الاقتصاد العراقي التدرجي والمبرمج من وحدانية الجانب المبتلى بها منذ تأسيس العام 1928 وبتعبير أدق منذ بدء استخراج وتصدير النفط الخام في العام 1933.
ولكن ماذا يجري في حقيقة الأمر في العراق؟
إن العراق مشرع البواب والشبابيك على التجارة الخارجية. وهو إجراء اقتصادي ضد تنمية وتطوير وتوسيع قاعدة القطاعين العام والخاص والقطاع المختلط, ضد الإنتاج المحلي. فالاستيراد السلعي يقتل كل مشروع صناعي محلي ويقضي على الصناعة الحرفية التقليدية في العراق وعلى الزراعة أيضاً. إنه جوهر الموقف في السياسة الاقتصادية العراقية الراهنة. إغراق الأسواق المحلية بالسلع المستوردة. هذه السياسة سائدة في مجمل السياسة الاقتصادية لحكومة بغداد الاتحادية وحكومة أربيل الإقليمية. وهو النهج الطاغي الذي يؤكده ويؤيده صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة والكثير من المتنفذين في السياسة الاقتصادية العراقية.

4) المشكلة أن الدولة الراهنة في العراق لا زالت غير دولة مستقرة ومؤسسية, وأمامنا مجلس النواب السابق الذي قضى جل وقته في عطل رسمية وغير رسمية ومن زيارات حج وعمرة وعزاءات ومواليد وعاشوراء والأربعينية والأعياد المتنامية وعمان وبيروت بحيث أصبحت أيام عمل أجهزة الدولة ومجلس النواب ليس 300 يوم تقريباً بل اقل من 120 يوماً بالسنة, وبهذا لم يجد مجلس النواب الوقت الكافي لوضع القوانين التي تنظم الاقتصاد الوطني والحياة العامة. وكذا أجهزة الدولة لم تجد الوقت الكافي لتنفيذ ما عليها من واجبات إزاء المجتمع والاقتصاد الوطني.
أما المجلس الراهن فقد بدأ معطلاً منذ ما يقرب من ستة شهور وسيبقى كذلك ما دام الصراع الطائفي يحرق الأخضر واليابس في آن, حيث دخل المجلس النيابي في عطلة طويلة الأمد إلى أن تحل مشكلة رئيس الحكومة لتبدأ بعدها مشكلة توزيع الوزارات والمقاعد لكل طائفة وقومية في الوزارة الجديدة وما إلى ذلك. وفي هذا الجو تغيب السياسة الاقتصادية والقوانين الواجب وضعها والتي يفترض بها أن تنظم العلاقة في ما بين القطاعات الاقتصادية وكذلك ما يفترض توفيره للقطاعين العام والخاص المحليين والقطاع الخاص الأجنبي والموقف من عدد كبير من القضايا التي تشير إليها بقولك:
"... فلا يوجد أي قانون يعزز مفهوم الشراكة بين القطاع العام و الخاص ولا يوجد أي قانون يحدد إشكال الشراكة و يغطي مخاطرها ، نحن نجد إن الوقت قد حان لإيجاد قوانين تغطي مفهوم الشراكة في العقود المعروفة للشراكة ومنها عقود البناء و التشغيل و نقل الملكية (بي او تي) و عقود الامتياز و عقود الإدارة و عقود تأجير ممتلكات الدولة." (راجع الملحق في نهاية هذا المقال)

5) ليس هناك من خطأ في تأجير مشاريع الدولة على القطاع الخاص, إذ من الممكن أتباع أكثر من شكل واحد في التعامل بين الدولة والقطاع الخاص, إذ يمكن بيعها أو تأجيرها حسب إمكانية القطاع الخاص واستعداده أو أهمية المشروع وضروراته. وعلينا أن نتذكر بأن البنك الصناعي العراقي في فترة الحكم الملكي وحين كان الدكتور عبد الرحمن الجليلي رئيساً له كان يقيم مشاريع صناعية جديدة بأموال البنك الحكومي تستمر بالعمل لفترة معينة ولحين نجاحها وبدئها بتحقيق الربح, يبدأ ببيعها إلى القطاع الخاص أو يشترك معها بالملكية بنسبة 51 : 49 % ليجنب القطاع الخاص الخسارة المحتملة, وهو لا يزال ضعيفاً غير قادر على تحمل الخسارة أو المجازفة غير مضمونة العواقب.
من المفترض أن تدرك أي حكومة عراقية قادمة عدة مسائل جوهرية في الموقف من القطاعات الاقتصادية من حيث طبيعة الملكية, وهي:
** العراق بحاجة ماسة إلى جميع القطاعات الاقتصادية من حيث الملكية, أي القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع المختلط, وأن يتم التنسيق في ما بين هذه القطاعات لصالح تنشيط التنمية. كما أن العراق بحاجة ماسة إلى القطاع الاقتصادي الأجنبي, أي إلى استثمارات أجنبية في الاقتصاد العراقي لا من حيث الحاجة لرؤوس الأموال فحسب, بل وللخبرة الفنية والإدارية والمشاركة في تعجيل التنمية الوطنية والخلاص من الواقع المزري الراهن.
** أن تقدم الدعم الضروري المالي والفني والإداري للقطاع الخاص وأن تصدر القوانين الضرورية التي تحمي ملكية هذا القطاع لأنه ضرورة موضوعية وحاجة ماسة.
** أن تضع القوانين اللازمة والضرورية وتوفر مستلزمات الاستثمار الوطني والأجنبي وتقيم مشاريع البنية التحتية وتوفر الأمن والاستقرار, إذ بدون ذلك يستحيل الحصول على استثمارات أجنبية أو استثمارات قطاع خاص محلية.
** إن تراقب عمل هذه المنشآت الاقتصادية لضمان سيرها على أسس المحاسبة الاقتصادية والمنافسة المشروعة لكي تحقق الربح المناسب إذ بدون تحقيق الأرباح لا يمكن تصور وجود توظيفات استثمارية ولا استمرار العمل في المشاريع الاقتصادية.
** تجنب إغراق منشآت القطاع العام بالأيدي العاملة الفائضة التي تقود غلى تخفيض الإنتاجية ورفع التكاليف وتحمل الخسائر غير المبررة.
** ضمان العمل في هذه المشاريع على وفق قانون العمل وعدم التجاوز عليه في العلاقة مع العمال ونشاط النقابات الرقابي والتعاون بينها وبين أصحاب المعامل أو رؤوس الأموال لضمان نجاح النشاط الاقتصادي لهذه المشاريع.
 
6) لم يكن إجراء الخصخصة الفردي الذي اتخذه بريمر في العراق بعد الغزو الدولي للعراق, كما لم تكن كل سياساته الأخرى بما فيها تكريس الطائفية في حكم العراق من خلال تقسيمات مجلس الحكم المؤقت, مناسبة للعراق حينذاك, بل كانت قرارات فردية واستبدادية تمثل تعبر عن إرادة الدولة المحتلة. كانت الإجراءات الاقتصادية ذات أرضية إيديولوجياً أكثر من كونها قراراتً اقتصادية مناسبة للعراق حينذاك. فليست الخصخصة مثلاً باستمرار هي الصيغة النافعة والمناسبة للتنمية الاقتصادية أو نافعة للقطاع الخاص ذاته.
فخصخصة المشاريع الاقتصادية تستوجب وجود مستلزمات الخصخصة من أمن واستقرار وبنية تحتية صالحة مثل توفر الكهرباء والماء والمواد الأولية ... الخ لكي يستطيع القطاع الخاص الاستفادة منها لتشغيل المصانع التي يراد خصخصتها, في حين أن كل ذلك كان غائباً عن العراق حين شكل هيئة الخصخصة, وبالتالي جمد استخدامها كحد أدنى من قبل العاملين السابقين فيها, رغم أن الدولة هي الأخرى كان بريمر قد قضي عليها بجرة قلم وبموافقة الإدارة الأمريكية والرئيس بوش الابن, أي من قبل القوى التي فرضت قرار الاحتلال على العراق, دون أن تجد البديل المناسب لتلك الدولة غير الفوضى والموت بعد الخلاص من نظام صدام حسين الشمولي الدموي.
الخصخصة يمكن تنفيذها في المشاريع التي يتمكن القطاع الخاص ممارسة العمل فيها وإيصال سلعها إلى السوق المحلي. والتأجير هو الأخر يفترض توفير مستلزمات له. وأغلب المشاريع المعروضة للتأجير أو البيع لا تجد من يؤجرها أو يشتريها لغياب مستلزمات فعلية للتشغيل وتحقيق الربح المناسب لأسباب ترتبط بمجمل سياسة البلاد الاقتصادية.
7) تتحدث عن وجود شركات حكومية وتأسيس شركات حكومية أخرى. ولكن السؤال ما هو فعل هذه الشركات, وما هو دورها في العملية الاقتصادية. الوجود السمي وغياب العملي الفعلي هو الشكل السائد في العراق.
لا أخالفك الرأي بضرورة تقديم الدعم المالي, قروض ميسرة, للقطاع الخاص من البنك الصناعي والبنك التجاري, على سبيل المثال لا الحصر, ولكن هذه المسألة لا تهم البن المركزي ولا سياسات الحكومة, بل الهم الأكبر هو تيسير الأمر للتجارة الخارجية والتجار, للاستيراد وإغراق الأسواق المحلية. لا يكفي الحديث عن الخطوط العامة, بل يفترض الدخول في التفاصيل التي تساعدنا على تأمين الرؤية الواقعية للسياسة المالية والمصرفية في العراق.
   
8) إن من يدمر الاقتصاد العراقي ليس الإعلام, فهو يلعب دوراً متبايناً وثانوياً رغم أهميته الكبيرة وهو إعلام في أغلبه لا يزال يعاني من تأثيرات حكومية عليه, بل هي السياسة الاقتصادية التي تعتمد التجارة الخارجية وإغراق الأسواق بالسلع الاستهلاكية المصنعة المستوردة وبالسلع الزراعية التي تعطل القدرة الصناعية والزراعية في البلاد.
إن القطاعين الخاص الصناعي والزراعي في العراق يعانيان من العبثية في السياسة الاقتصادية ومن اللبرالية الجديدة في التجارة الخارجية, أي سياسة الباب المفتوح في الاستيراد من جهة, والفساد السائد في العراق كنظام فاعل ومهيمن على الدولة والمجتمع من جهة أخرى, وغياب الوعي بأهمية المتابعة والرقابة والمحاسبة على التنفيذ بعد صدور القرارات الحكومية من جانب الحكومة والوزارات ومجلس النواب وبقية الأجهزة ومنظمات المجتمع المدني المرتبطة في أغلبها بالأحزاب السياسية الحاكمة والمتنفذة من جهة ثالثة.
11/8/2010                     كاظم حبيب

الملحق: ملاحظات السيد (ز)


بداية اشكر الأخ الكبير علاء مهدي لإتاحته الفرصة للتحاور مع د. كاظم حبيب حول موضوع مهم يتعلق بشكل و توجهات المستقبل الاقتصادي العراقي، لدي ملاحظة على مقال الدكتور و ملاحظتي لا تنتقص أطلاقا من المهنية العالية و الحرفية الراقية التي يتمتع بها د. حبيب والتي نعتز بها

في أولا من رد د. حبيب
يقول بان النقاط الستة حول أهداف اللبرالية الجديدة في العراق قد استوحاها من  خطب المسئولين العرقيين و نقاشات الحكومة و ورقة عمل نائب رئيس الوزراء السابق و الخطة ألخمسيه التي طرحت فجأة من قبل وزير التخطيط.

اعتقد جازما أن اللبرالية العراقية الجديدة مجرد اصطلاح نظري يطلق وليس له أساس على ارض الواقع  ومن المبكر جدا التحدث عن مثل هذه اللبرالية و نوايا المسئولين الذي ذكرهم الدكتور حبيب لا تعني شيء في هذا الموضوع و تضل خطبهم و تنظيرهم  مجرد حبر على ورق لا يسمن ولا يغني من جوع، حقيقة الوضع الاقتصادي العراقي هذه الأيام يختلف تمام عن مفهوم و روح اللبرالية ، القطاع الخاص يواصل تراجعه أمام شمولية الاقتصاد الحكومي و الدولة مستمرة بنشاطها المحموم بتحييد القطاع الخاص و استنزاف قدراته و مستمرة بالتوسع أفقيا و عامودي و بكل الاتجاهات و حطمت الرقم القياسي بتاريخ العراق لتوظيف الشعب ليصبح عدد الموظفين عام 2009 أكثر من 2,5 مليون موظف عدا أفراد الصحوة الذي بلغ عددهم أكثر من 100 ألف رجل والذين يأخذون معاشاتهم أيضا من الحكومة و إذا اعتمدنا معدل عدد أفراد الأسرة وحسب الجهاز المركزي للإحصاء و تكنولوجيا المعلومات العراقي هو 6,9 فرد فهذا يعني غالبية الشعب العراقي يعيش على رواتب الدولة وان الاقتصاد يتجه نحو خدمة الكلف التشغيلية للحكومة بدلا من التنمية و أيجاد مشاريع جديدة تخدم المجتمع ، باختصار عندما تبنى ميزانية الدولة على موارد غير متجددة مثل النفط فان أي توسع باتجاه توزيع الرواتب و الأجور ستكون جريمة بحق التنمية و بحق الأجيال الحالية و القادمة.

كذلك الحال بخطة التنمية ألخمسيه التي وضعتها وزارة التخطيط العراقية و الحقيقة أن هذه الخطة ليست مفاجئه طرحت قبل أسبوعين كما كتب د. حبيب إذا أن وزارة التخطيط ومنذ أكثر من عاميين تروج لهذه الخطة و تدير الندوات و ورشات العمل و تطلب من الوزارات و المحافظات احتياجاتها للسنوات الخمسة القادمة ، و خرجت الوزارة بخطة خمسيه أشبه ما تكون بخطة لتوزيع الموارد على المحافظات بدلا من خطة تنمية ، الخطة باختصار شديد لمن لم يطلع عليها تتضمن استثمار 186 مليار دولار تصرف خلال السنوات من 2010 إلى 2014 موزعة على 2700 مشروع و الغريب بالخطة افتراضها اشتراك القطاع الخاص بتنفيذ 42 بالمائة من مشاريعها دون أن توفر لهذا القطاع أي من مكونات المشاركة الحقيقة من تعديل القوانين أو استحداث قوانين جديدة أو حتى توفير دعم مالي لهذا القطاع المتهالك فلا يوجد أي قانون يعزز مفهوم الشراكة بين القطاع العام و الخاص ولا يوجد أي قانون يحدد إشكال الشراكة و يغطي مخاطرها ، نحن نجد إن الوقت قد حان لإيجاد قوانين تغطي مفهوم الشراكة في العقود المعروفة للشراكة ومنها عقود البناء و التشغيل و نقل الملكية (بي او تي) و عقود الامتياز و عقود الإدارة و عقود تأجير ممتلكات الدولة .

وبدلا من أن يتم توجيه الموارد إلى دعم المبادرة الفردية و إشراك القطاع الخاص بالدورة الاقتصادية الشاملة للبلد نجد أن الخطة ألخمسيه وتحت باب الصناعات و الطاقة تبشرنا ببناء 48 شركة عامة لتضيفها إلى 190 شركة حكومية موجودة أصلا في قطاعات الصناعة و الزراعة و التجارة و هذا يعني أن الحكومة ستتوسع في هيمنتها الاقتصادية لغاية نهاية الخطة ألخمسيه على اقل تقدير.
ومثال عن بوادر تراجع دعم القطاع الخاص أن أول هيئة تم إلغائها من قبل الحكومة بعد رحيل بريمر هي هيئة الخصخصة التي كان قد شكلها لتنظيم تحويل الشركات الحكومية إلى القطاع الخاص بعد رحيل بريمر نظمت النقابات العمالية لشركات وزارة الصناعة و بمباركة الحكومة تظاهرة في ساحة التحرير ضد الهيئة الوليدة التي لم تقم بأي عمل أصلا ليعاد ملف الخصخصة إلى صلاحيات الوزارات المعنية  والتي ابتكرت بدعة التأجير الطويل و لمدة خمس و عشرين عام أي أن الحكومة ستضل لمدة خمس و عشرين عام القادمة على اقل تقدير تمتلك مصانع و مصالح هي من مهام القطاع الخاص ولكون كلمة خصخصة تخدش حياء الحكومة فلقد تم تغيرها في أدبياتها لتصبح أعادة هيكلة و شتان بالمعنى بين المصطلحين

مثال أخر عن تراجع دعم القطاع الخاص هو ما بشرتنا به دائرة المستشارين في رئاسة الوزراء العراقي بأنها قد أعدت مسودة مشروع قانون الإصلاح الاقتصادي والذي سيمثل نهج الحكومة في تعاملها مع هذا الملف إلا أن القطاع الخاص العراقي لم يشارك في أعداد مسودة هذا القانون ولم يطلع علية لحد ألان أي من ممثلي القطاع الخاص ولم تجرى مناقشته علنا  بالرغم من الترويج الحكومي بان هذا القانون سيكون الأساس في كافة السياسات الاقتصادية للحكومة و سيبني للشراكة بين القطاعين.

أستطيع أن أورد هنا مئات الأمثلة الواقعية التي يعاني منها القطاع الخاص بسبب قوانين و تعليمات و إجراءات الحكومة و استمرار سريان تراث من القوانين البالية التي تحبط أي عمليه إنقاذية لهذا القطاع كما أستطيع أن أورد المئات من الأمثلة الخاصة بتوسع القطاع العام و استمرار نهجه الشمولي و استنزافه الدائم لموارد العراق.

 المؤسف بهذا الموضوع أن الماكينة الإعلامية الحكومية لازالت تعتبر القطاع الخاص هو القطاع الجشع الذي سوف يسرق موارد العراق والذي سيقضي على فرص التقدم و الذي سيزيد من أعداد البطالة و سيدمر برامج الرعاية الاجتماعية والذي سيؤسس للفساد الإداري إلى غيرها من السلبيات وهذا كله يصب في أدبيات الحكومات المتعاقبة لتعزز فكرة كرسي وجب المحافظة عليه حتى لو كان هذا الكرسي في شركة تحقق خسائر و أصبحت ممتلكاتها من الخطوط الإنتاجية تحف تعرض في متاحف الخردة و الانتيك.

احتراماتي


1060
كاظم حبيب
هل ينبغي للسيد السيستاني أن يخشى لومة لائم على قول الحق؟

إلى الأخ الفاضل الأستاذ م. ش. المحترم
تحية طيبة وبعد,
أشكركم على ملاحظاتكم التي أبديتموها على رسالتي المفتوحة للسيد علي السيستاني. ولكن لي ملاحظات على ملاحظاتكم أملاً أن تفكروا بها جيداً, إذ أننا جميعاً نحتاج إلى قلب حار ورأس بارد في معالجة مثل هذه الأمور الساخنة في مجتمع يعاني من أمراض وعلل وأوجاع كثيرة لا حصر لها, ومنها هذه الزيارات المليونية والعطل المستمرة بدون إنتاج وعمل وتلك الطقوس التي نتحدث عنها الآن.
1.   إن من يقوم بالتنوير الديني ليس الشخصيات العلمانية أو السياسية التقدمية بقدر ما ينهض بها شيوخ الدين الذين يعون واقع عصرهم ودورهم في عملية تنوير البشر وإنقاذهم من تلك الغشاوة التي تغلف البصيرة والبصر. ولا بد للشخصيات الدينية الواعية لدينها أن تلعب دورها في التأثير الإيجابي على وعي الناس في تبيان ما هو خطأ دينياً وما هو صحيح. وقد نهض بذلك الكثير منهم في ظروف أخرى, وكان لهم دورهم في تقليص تلك الظاهرة. ولكن ردة فكرية واجتماعية وسياسية مرعبة حصلت في العراق على امتداد العقود التي ساد فيها حزب البعث الدموي والتي أدت إلى تفاقم ما نراه اليوم والذي أصبح يعطل الحياة الاعتيادية والمعيشية في البلاد. في "الزيارة المليونية الزاحفة" نحو الكاظمية بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الأمام موسى الكاظم تعطلت الحياة في الكاظمية لمدة أربعة أيام وتعطل أكثر من مليون إنسان عن العمل لذات الفترة, فمتى كان يحصل في العراق مثل هذه الزيارات؟ ولماذا تحصل الآن, ولِمَ هذا الزحف؟ وهل سيتحول إلى زحف على الركب بدلاً من المشي على الأقدام؟ إنها كارثة تلم بالكثير والكثير من أبناء المذهب الشيعي, فمن المسؤول عنها؟ وما هو دور شيوخ الدين الواعين بحقيقة وطبيعة وأهداف أو أغراض هذه الطقوس؟
من بين تلك الشخصيات الفاضلة أشير إلى السيد محمد حسين فضل الله الذي توفى قبل فترة وجيزة وحصل على موقع ممتاز في المجتمع اللبناني والذي أدان بجرأة وصواب تلك الطقوس واعتبرها بدعاً مؤذية. ولهذا ليس خطأ أن أوجه تلك الرسالة إلى السيد السيستاني لأنه الأكثر تأثيراً على الكثير من بنات وأبناء الشيعة في العراق. بل أجد ضرورة موضوعية أن توجه له مثل هذه الرسالة وأن توقع أنت عليها أيضاً.
2.   ليس هناك من يستطيع تكفير السيد على السيستاني, ولكنهم يستطيعون محاربته بالرزق, وعلى المصلح الديني وشيخ الدين أن يتحمل ذلك إن كان واعياً لدوره في المجتمع ومهماته كشيخ دين وليس مرتزقاً, كما هم الآلاف ممن يطلق عليهم بشيوخ الدين وليسوا بشيوخ دين أساساً. إنهم يعتاشون على جهل الناس وعلى  مواصلة تجهيلهم, ففي ذلك رزقهم البائس.
أنا لا أخشى على السيد السيستاني فله من يحميه من هؤلاء الأوباش الذين يريدون إيذاءه إن ساهم في تخطئة ما هو خطأ أصلاً. إيران ذاتها, التي ينحدر منها, تحرم بعضاً من تلك الطقوس, ولكن جمهرة من الإيرانيين تأتي إلى العراق لتمارس هذه البدع فيه.
3.   إن في سلوك القوى الإسلامية السياسية التي تشجع على ممارسة الزيارات الميدانية والاحتفال السنوي بأكثر من 250 يوماً دون عمل احتفاءً بالمواليد والوفيات والأربعينيات وعاشوراء وما إلى ذلك, فما يبقى للناس لإنتاج ما يأكله ويشربه الناس في العراق غير النفط الخام الذي يباع ونستهلك الأموال المتأتية منه أيها الأخ العزيز والتلميذ البار. هذا الموقف الذي اتخذته, تحدثت به مع الكثير من شيوخ الدين وهم يتألمون لهذه الحالة ولكن بعضهم يتسم بالجبن ولا يجرأ على قول الحق والساكت عن الحق شيطان أخرس أيها الأخ الكريم ولا أريد أن أكون هذا الشيطان الأخرس. أنا لست دونكيشوتاً لكي أحارب الطواحين الهوائية, ولكني أريد أن اسمع من أمثالك الذين يرفضون مثل هذه الطقوس ولا يخشون لومة لائم, إذ أنهم يخشون من نتائج ممارستها على المجتمع.
4.   إن الأحزاب الإسلامية السياسية التي تساهم وتدعو إلى ممارسة تلك الطقوس تريد تعميق الصراع الطائفي في البلاد, تريد خلق الاصطفاف الطائفي في المجتمع ليتسنى لها الاستفادة منها في التصويت أثناء الانتخابات العامة أو المحلية والحصول على السلطة والنفوذ والمال. وأنت الذي تعيش في العراق لا بد وتدرك مدى الأموال والعقارات وما إلى ذلك التي دخلت في جيوب من هم من أكلة السحت الحرام ولا يزال يدخل هذه السحت الحرام في جيوبهم بأساليب وأدوات شتى غير مشروعة؟
5.   أعرف حجم الصراعات والنزاعات بين قوى الإسلام السياسية الشيعية, وليس بين الناس الشيعة, وأدرك من يقوم بتلك المذابح والقتل المتبادل, ولكن أليس من مهمتنا فضح أولئك الذين يؤسسون أحزاباً دينية طائفية, سواء أكانت شيعية أم سنية؟ أليس من مهمتنا كمواطنين واعين لما يجري في الدولة والمجتمع أن نفضح دورهم في الإساءة للدين والمجتمع من خلال المشاركة في ترويج البدع غير السليمة والمؤذية لصحة الإنسان وحياته اليومية وعمله وتعميق الشعور الطائفي والحساسية ضد الآخر. كما في الجانب الشيعي أحزاب تعمل على هذا الطريق, هناك في الجانب السني من يقوم بذلك ومنهم على وجه الخصوص هيئة علماء المسلمين السنة وعلى رأسهم حارث الضاري الذي أصبح مروجاً قبيحاً للطائفية كسلفه عبد السلام محمد عارف.         
6.   أنا أحد المشاركين في الدفاع عن حق أتباع جميع الديانات والمذاهب الدينية في العراق في ممارسة دياناتهم ومذاهبهم وطقوسهم الطبيعية غير المؤذية للنفس والمجتمع بكل حرية ودون ضغوط وإساءات لهم. ولهذا فأنا حين وجهت الرسالة المفتوحة إلى السيد السيستاني, لأن ما يمارس اليوم في العراق هو خارج هذا الإطار, أي خارج إطار الطقوس السليمة لأتباع المذهب. فالتطبير تدمير لشخصية الإنسان ونشر العنف الشخصي والمتبادل بين البشر والموافقة على رؤية الأطفال والصبيان والشباب لهذا الدم الذي يسيل من الرؤوس بل بدأ الكثير منهم يمارس هذه الطقوس وبتشجيع من عائلاتهم الجاهلة دينياً. وهذا غير سليم شرعاً وعقلاً. وكذا الحال مع الضرب بالسلاسل الحديدية المربوطة بسكاكين صغيرة حادة ونابتة على الظهور حيث الدم يسيل أيضاً والآلام مبرحة لأيام كثيرة بالنسبة للمشارك في ممارسة تلك البدع. وكذا الضرب على الصدور. السليم هو إقامة العزاء العادي أو الاحتفاء بذكرى استشهاد الحسين.
لست ضد الطقوس الإنسانية, ولكن ضد تلك الطقوس وطقوس أخرى لدى المسيحيين, كما يجري في بعض الدول الأمريكية اللاتينية مثلاً أو في جنوب إيطاليا, أو لدى اليهود أو أي دين أو مذهب آخر, إذ أنها تلحق الضرر بالإنسان والفرد والمجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن هنا يمكن القول وبوضوح بأن شيوخ الدين الذين لا يدينون هذه الممارسات باسم الدين, فهم يستخدمون الدين المشوه كأفيون للشعوب ضد الواقع البائس الذي يعيشون فيه. فبدلاً من تنظيم المظاهرات والاعتصامات ضد نقص الكهرباء والخدمات الأساسية الأخرى, يلهون الناس بهذه الطقوس التي شجبها واعتبرها إساءة كبيرة  للمذهب الشيعي وأتباعه الكثير من كبار شيوخ الدين الشيعة البارزين. ولكن السياستاني لم يمارس الإدانة إلى الآن ولهذا أطالبه بذلك.
7.   أنا لا أتحدث عن طقوس خرافية أو تقاليد خرافية, لكي تأتيني بكلمة الفيلسوف كلود, وأدرك أن القضايا الدينية أو الدينية المشوهة تبقى طويلاً في المجتمع وتغييرها صعب جداً وطويل الأمد, فلدينا في مجتمعاتنا الكثير منها, ولكن أنا أتحدث عن طقوس بدع مؤذية للإنسان وقيل فيها الكثير من جانب شيوخ دين محترمين ولهم كلمتهم لدى أتباعهم. إن علينا أن نبدأ أو نواصل الدرب في تبيان الأضرار الناجمة عنها وليس السكوت عليها أو مداراتها فهي مدمرة للإنسان وكرامته ومشوهة لوعيه الديني والمذهبي ومعمقة للصراعات المذهبية في المجتمع. أذهب إلى قناة الكوثر أو إلى قناة الفرات أو غيرهما لتجد ما يكفي من إساءات وتجريح وتجاوز على أتباع المذهب السني, كما تجد العكس في قنوات أخرى عراقية وعربية تسيء وتساهم في تعميق الصراع ضد أتباع المذهب الشيعي. أو أذهب إلى قناة العراقية الرسمية لتجد العجب العجاب في هذا المجال, إذ أنها صارت الناقل الفعلي لمثل هذه اللطميات عبر شاشتها وهي التي يفترض أن تكافح بهدوء مثل هذه الطقوس.
8.   لقد كان رد فعل أحد شيوخ الدين في كربلاء والممثل للسيد علي السيستاني في خطبة الجمعة أن اشار إلى أن جمهرة من العراقيين بل والبعض من خارج العراق مغتاظ من هذه الطقوس ويريد إيقاف الزحف المليوني, في حين أنها هي الجامعة لأتباع المذهب والمدافعة عن الإسلام, ودعا الناس إلى المشي والزحف على الأقدام للوصول إلى كربلاء, أي ترك الناس أعمالهم لعدة أيام لتوفير التأييد والمال لهؤلاء الشيوخ. كم هو عجيب وغريب أمر هذا الشيخ الكربلائي, وليس غريباً أن تنشأ في النجف وكربلاء حركات مناهضة لمثل هؤلاء الشيوخ الذين يشجعون على ممارسة هذه الطقوس لإبقاء الناس في جهل مطبق كما كان حال أهل الكهوف.   
أتمنى عليك أن تفهم قصدي وتدرك المرامي الإنسانية والاجتماعية التي أسعى إليها وفحوى الرسالة الموجهة للسيد علي السيستاني.
مع خالص الود والتمنيات الطيبة.
كاظم حبيب
برلين في 2/8/2010
ملاحظة: سأنشر هاتين الرسالتين دون ذكر اسمك في نهاية رسالتك, لأن رسالتك يمكن أن تعبر عن رأي آخرين أيضاً يفترض أن اشملهم في إجابتي هذه. 

رسالة السيد م. ش.
تعليقا على رسالتكم الموجهة للسيد السيستاني

وجه الاستاذ الدكتور ( كاظم حبيب ) رسالة الى السيد ( علي السيستاني ) المرجع الاعلى في العراق والعالم الاسلامي عبر موقع ( الحوار المتمدن ) . يطلب فيها توضيح موققه من بعض الطقوس والشعائر ( اللطم والتطبير ) التي تمارسها الطائفة الشيعية في شهري محرم الحرام وصفر . وقد اوضح بأن العديد من العلماء والمراجع الشيعية قد رفضوا مثل هذه الممارسات .
اثار هذا الموضوع استغرابي الشديد . وكأن هذا الموضوع غريب عن الدكتور حبيب .اوهو وليد اليوم . ثم الم ينظر استاذنا ( كاظم حبيب ) الى ما يمر به عراقنا الجريح من محن وازمات . الم ينظر الى ابنائه الذين ذبحتهم الطائفية . ولايزال الارهاب يحاربهم تحت كل حجر ومدر , واقسم بأن لايتركنا لحالنا مادام فيه نفس يصعد وينزل . الم ينظر الى الخلافات التي حدثت ولاتزال داخل المكون الشيعي حيث قتل الصدري المجلسي ( المجلس الاعلى ) وبالعكس . الم تشهد شوراع بغداد والنجف معارك طاحنة بين ابناء المكون الواحد . الم يقوموا بمنع نشاطات بعضهم البعض الاخر . هذا من جانب و من جانب الاخر السيستاني لا يعترف به الكثير من الشيعة ويتهمونه بشتى الاتهامات ويسخرون منه ويشتمونه علنا في الشوراع والاسواق وقاموا باحراق صوره والاعتداء على وكلائه في بعض المدن . مقابل هذا فهو شخصية مهمةعند الكثير من الشيعة وكلمته تعد كالقنبلة الذرية ربما تحرق الاخضر واليابس خصوصا انه يوجد الكثير من الجهلة والسفهاء في المجتمع العراقي لذلك لم يخرج في وسائل الاعلام ويكتفي باصدار بيانات هادئة وتقليدية على مدار السبع سنوات الماضية . خصوصا ان ( مقتدى الصدر ) يدافع وبشدة عن هذه الشعائر . والكثير من الشيعة يعدون هذه الشعائر خطا احمر ومستعدين ان يدافعوا عنها الى اخر قطرة دم وحتى من مقلدي واتباع السيستاني نفسه . والكثير من العلماء والمراجع يؤيدون مثل هذه الطقوس ويشجعون على اقامتها . اذن ماذا ستكون ردة الفعل اذا عارض السيستاني مثل هذه الطقوس وقال انها لاتمثل الدين وانها من البدع ؟؟ وكم تأويل سيؤولون كلامه . وكم اتهام سيتهم ( عميل للامريكان والبريطانيين . شيوعي ...... ) واحتمال كبير انهم سيصدرون فتوى بفسقه وكفره كما فعلوا مع السيد فضل الله من قبل . ولندع كل هذا جانبا فالطقوس والشعائر الدينية المختلفة هو حق مشروع كفلته جميع الدساتير والقوانيين في العالم بما فيها الدستور العراقي الذي نص في المادة 41 اولا ( أ ) التي نصت على حرية ممارسة الشعائر الدينية بما فيها ( الشعائر الحسينية ) وحتى الدين الاسلامي لم يمنع من ممارسة العبادات والطقوس لكافة الاديان والامم وهذا ما نجده في القران الكريم الذي يصرح بذلك في العديد من اياته ( يايها الذين آمنوا لايضركم من ضل اذا اهتديتم ) ( قل كل يعمل على شاكلته وربكم اعلم بمن هو اهدى سبيلا ) ( ليس عليك هداهم ) ( لست عليهم بمصيطر ) واذا تصفحنا السيرة النبوية سنجد ان الرسول الاعظم سمح للمسيحيين الذين قدموا من نجران للصلاة في مسجده رغم معارضة بعض المسلمين والصحابة .
ولايخفى عليكم استاذنا الفاضل رأي الفيلسوف ( كلود ليفي ستروس ) الذي قال ( ان من يقول عن اي طقس او تقليد انه خرافات او اساطير فأنه خاطىء ولم يصل الى الى مايريده ) وعند ( ستروس ) لاتوجد خرافة او اسطورة كما نعلم . صحيح ان هذه الطقوس والممارسات لا اساس لها من الدين والكثير منها وضعها بعض الاشخاص . لكن ليس لنا الحق التدخل فيها او الحكم عليها لان ذلك متروك لاصحاب الشأن والاختصاص لمعالجتها في الوقت المناسب والخلاصة استاذنا الكبير ان ماطرحته يخدش مشاعر الكثير من المسلمين الشيعية , وربما تخلق لنا ازمات لها اول وليس لها آخر . وبلدنا الحبيب في غنى عنها يكفيه امراضه الذي يحتاج الى سنوات كثيرة حتى يشفى منها . ارجوا ان تنظروا في الموضوع جيدا
 تلميذكم البار
م. ش


1061

كاظم حبيب

السياسة والاقتصاد في أزمة متفاعلة في العراق

منذ نهاية الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق (2010) يعيش المجتمع وكذا الدولة والحكومة في أزمة سياسية طاحنة عجزت القوى الفائزة إلى الآن عن إيجاد حل لها ولمن يتولى رئاسة الوزراء. ويتوقع الجميع معجزة سحرية تحل الخلاف بين القائمة العراقية ودولة القانون أولاً, وبين دولة القانون وبقية قوى التحالف الوطني الجديد الذي شكله البيت الشيعي أخيراً ثانياً. وليس هناك من طريق غير الضغط الشعبي الذي يفترض أن يتصاعد ليفرض على "الفائزين" تشكيل الحكومة وفق برنامج يرجو الإنسان أن لا يكون طائفياً مؤذياً لهوية المواطنة والمواطن.
استثمرت القوى الإرهابية هذه الأزمة المستمرة والصراع والفراغ السياسي لتصعد من عملياتها العدوانية والقتل في صفوف الشعب العراقي, هذه القوى التي استعادت عافيتها نسبياً بع الضربات التي تلقتها قبل ذاك وأعادت نشاطها الدموي في مناطق لم يكن متوقعاً وجودها بهذه الكثافة وحرية الحركة التي تتمتع بها والفعل العدواني ضد الشعب العراقي. هذا الفراغ السياسي القائم , الذي لا يمكن أن تسده حكومة تصريف أعمال غير مقبولة عملياً من عدد غير قليل من القوى الفائزة, قد عمق من المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي ومن الحياة المعيشية الصعبة التي تعاني منها نسبة عالية من سكان العراق وخاصة في مناطق الوسط والجنوب والموصل. فالحكومة على امتداد سنواتها الأربعة المنصرمة لم تنتبه إلى مشكلات الاقتصاد ولم تجد وقتاً لوضع إستراتيجية تنمية وطنية, وبالتالي واصل العمل العفوي في الوزارات وبالوجهة التي كان يدعو إليها البعض من المسؤولين عن الملف الاقتصادي, واصل وجهة ونهج اللبرالية الجديدة, رغم عدم توفر مستلزمات مثل هذا النهج الرأسمالي المتطرف في البلاد.
حين كنا نستمع إلى السيد وزير التخطيط وهو يتحدث إلى القنوات الفضائية, كنا نسمع منه شكوى مرة متكررة عن عدم وجود إستراتيجية للتنمية الاقتصادية في العراق, وكنا نتساءل بحق: من هو المسؤول عن وضع إستراتيجية التنمية الوطنية, أليس هو وزير التخطيط وجهازه الفني؟ أليس من واجب هذا الوزير قبل غيره تشغيل جهازه الفني وبالتعاون مع الوزارات الأخرى لوضع إستراتيجية التنمية الاقتصادية والبشرية, ومن ثم توزيعها على خطط خمسية وسنوية للتنمية الحكومية والقطاع الخاص, كمشروع يطرح على مجلس الوزراء للمناقشة والإقرار ومن ثم يرفع إلى مجلس النواب ليصدر بقانون؟ لقد كانت الشكوى غريبة, وكل شيء أصبح غريباً عجيباً في العراق, رغم كون الرجل اقتصادي متخصص لا بد وأنه يعي واجبه الاقتصادي والفني, وربما كان لا يجد من يدعم عمله وينشط دوره لإنجاز هذه المهمة! 
كل الدلائل التي تحت تصرفنا تشير إلى أن أغلب المسؤولين عن الملف الاقتصادي في العراق يلهثون, بوعي أم بدونه, وراء نهج اللبرالية الجديدة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية. والسؤال المشروع في هذا الصدد هو: ماذا يعني اختيار نهج اللبرالية الجديدة في السياسة الاقتصادية للعراق في الفترة التي أعقبت سقوط الدكتاتورية؟
ليست اللبرالية الجديدة بنت اليوم, بل هي نتاج فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وأن طرأ عليها بعض التغيير, فإنها حافظت على أسسها العامة. فقد طرح ميلتون فريدمان (الولايات المتحدة) وفريدريك أوغست هايك (النمسا) منذ العقد الرابع من القرن العشرين فكرة اللبرالية الجديدة بوهم القدرة على معالجة عواقب الحرب العالمية الأولى وعواقب أزمة الكساد العام في الفترة 1929-1932/1933 بإطلاق العنان لقوى السوق لتتحكم بمسيرة الاقتصاد في الدول الرأسمالية المتقدمة وعلى الصعيد العالمي. إلا أن جون مينارد كينز كان لهم بالمرصاد ومن مواقع الرأسمالية ذاتها التي استندا إليها وانطلقا منها الاثنان لمعالجة ما خلفته الحرب وفترة الكساد الأعظم.  وإذ كان الاثنان يركزان على قوى السوق الحرة, كان كينز يركز على دور الدولة الخاص لتحريك النشاط الاقتصادي لتجاوز الأزمة واستعادة الاقتصاد لعافيته. وكانت البطالة الكبيرة وتردي مستوى المعيشة والخوف من المستقبل ترهق كاهل تلك المجتمعات والعالم حينذاك. (راجع في هذا الصدد: أولريش شيفر, انهيار الرأسمالية. المعرفة رقم 371 لسنة 2010 ومصادر كثيرة أخرى).
إن ما تسعى إليه اللبرالية الجديدة في العراق, وأن تباينت في بعض جوانبها وتعددت اتجاهاتها, هو ضمان ما يلي في وجهة نشاط الاقتصاد الوطني العراقي:         
1 . الالتزام بتنفيذ نهج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الاقتصاد العراقي وما يطلق عليه بـ"سياسات التثبيت الاقتصادي والتكييف الهيكلي" التي في أغلب نقاطها تتعارض مع واقع وحاجة الاقتصاد والمجتمع في العراق.   
2 . إبعاد الدولة عن أي نشاط اقتصادي وخدمي أو إقامة قطاع دولة اقتصادي وترك ذلك للقطاع الخاص.
3 . خصخصة كل ما لدى الدولة من مشاريع اقتصادية وخدمية, إذ ليس للدولة أي شأن فيها.
4 . إبعاد الدولة عن الرعاية الاجتماعية الضرورية في بلد كالعراق للمحتاجين والمعوزين من الأشخاص الفقراء والعائلات الكادحة والفقيرة.
4 . إبعاد العراق عن التصنيع أو تحديث الزراعة بشكل خاص والإبقاء قدر الإمكان على علاقات الإنتاج المتخلفة, إضافة إلى استمرار الضعف في مراكز البحث العلمي النظري والتطبيقي.
5 . تشجيع مواصلة الباب المفتوح في التجارة الخارجية أمام السوق العالمي ورفض وضع قيود لحماية الإنتاج الصناعي والزراعي, والذي هو بأمس الحاجة إلى الحماية الجمركية.
6 . مواصلة استيراد السلع من الأسواق الدولية وإغراق الأسواق المحلية بها, بما يتعارض وحاجات الناس ومتطلبات التنمية والتثمير الإنتاجي.
7 . عدم تنفيذ سياسة مالية تعتمد مبدأ الضريبة التصاعدية على الدخل المباشر لأفراد المجتمع, والذي يزيد من مصاعب العيش على الفقراء ويزيد الرفاهية للأغنياء بشكل خاص.
إن كل المؤشرات التي لدينا من دول أخرى مارست اللبرالية الجديدة في أمريكا اللاتينية أو في أفريقيا أو في آسيا تشير إلى أن هذه السياسة قادت وتقود بالفعل إلى ظاهرة ملموسة هي تفاقم فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء لصالح الأغنياء وزيادة وتوسيع فجوة الفقر عمودياً وشاقولياً في المجتمع. وهذا يقود بدوره إلى تشديد التناقض الاجتماعي وتحوله تدريجاً إلى صراع سياسي ومن ثم نزاع طبقي متفاقم.
فهل مثل هذه السياسة يحتاجها العراق بعد تحرره من نظام استبدادي مقيت وأربعة حروب داخلية وخارجية مدمرة وقمع متواصل دون هوادة ومصالح طبقية متناقضة؟ لا أرى ذلك في كل الأحوال. ليس هناك من يريد القفز فوق الرأسمالية أو تجاوزها, إذ ليست هناك إمكانية من هذا النوع. ولكن ليس من واجب الدولة أيضاً إطلاق العنان لقوى السوق الحر لتلعب دورها غير المسيطر عليه لتخلق المزيد من المشكلات السياسية والاجتماعية على خلفية المشكلات الاقتصادية وتعميق التناقضات والصراعات الطبقية وتغييب أهمية وجود سلم اجتماعي لتحقيق التنمية الضرورية.
إن القوى والعناصر المدافعة عن نهج اللبرالية الجديدة تتوزع, كما أرى, على ثلاث خانات, وهي:
** إما إنها لا تدرك مفهوم اللبرالية الجديدة ولا تعي عواقبه على المجتمع وعلى العلاقات بين الفئات الاجتماعية في هذه المرحلة الحرجة من تطور العراق. وهو اضعف الاحتمالات, ولكنه من جانب أخر أسوأها, إذ من غير المعقول أن يلتزم سياسي بنهج لا يدرك فحواه ولا نتائج تطبيقه.
** وإما إنه ملزم بتطبيق هذه النهج بسبب ارتباطه بقوى دولية تحتضنه وتلتزمه سياسياً لأي سبب كان.
** أو إنه يحمل فكراً ونهجا يتطابق مع قوى اللبرالية الجديدة في الدول الرأسمالية المتقدمة, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية, ومن مواقع الدفاع عن مصالحه وليس مصالح الاقتصاد الوطني والشعب.
إن ترك قوى السوق تمارس دورها العفوي في العملية الاقتصادية لا يعني في ظروف العراق الراهنة سوى إبقاء العراق متخلفاً وحيد الجانب, اقتصاداً ريعياً واستهلاكياً يستهلك ما ترده من موارد مالية نفطية لتغطية أقيام وارداته السلعية السنوية المتعاظمة ولا ينمي الإنتاج المحلي, سواء أكان صناعياً أم زراعياً, ولا ينمي التثمير الإنتاجي ولا يحقق التراكم الرأسمالي الضروري لإغناء الثروة الاجتماعية أو الدخل القومي العراقي. وهذا يعني استمرار وجود البطالة والفاقة في المجتمع. كما يعني تبعية عملية إعادة الإنتاج أو العملية الاقتصادية في العراق للاقتصاد الدولي المعولم وللنتائج السلبية الحادة التي تنشأ عن هذه التبعية.
إن على من يتسلم الحكم في العراق إن يعي مسألة مركزية بأن العراق بموارده المالية المتأتية من النفط الخام يفترض أن توجه للتنمية الاقتصادية عبر الدولة أيضاً بعدة اتجاهات أساسية, وهي:
1.   استخدام تلك الموارد لمواصلة تطوير وتحديث قطاع النفط الخام. كما لا بد من تحديد سقف الإنتاج النفطي بحاجات العراق للموارد المالية السنوية واحتياطي مناسب يعزز موقع الدينار العراقي وسعر صرفه. فالنفط مورد طبيعي ناضب لا نحتاجه ليومنا هذا فحسب, بل نحتاجه للأجيال القادمة أيضاً ولا يمكن توقع الكف عن استخدامه ببدائل أخرى خلال سنوات القرن الحادي والعشرين.
2.   أن تأخذ الدولة بنظر الاعتبار ثلاث مسائل مهمة في وضع إستراتيجية التنمية, وهي:
أ. تغيير بنية الاقتصاد الوطني, ب. الاهتمام بالتخطيط الإقليمي أو الجغرافية والتنسيق الفعال بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية, إضافة إلى التنسيق مع مجالس المحافظات بهذا الصدد, ب. ربط التنمية الاقتصادية بالتنمية البشرية, اي بالتربية والتعليم والثقافة والبحث العلمي وتحسين مستوى حياة ومعيشة الشعب.
3.   تنمية وتطوير القطاع الصناعي والقطاع الزراعي بحيث يشاركان في تغيير بنية الاقتصاد الوطني وبنية المجتمع وبنية تكوين الدخل القومي ويحولان الاقتصاد الريعي الاستهلاكي إلى اقتصاد إنتاجي استهلاكي.
4.   المشاركة في تطير قطاع الخدمات الإنتاجية والخدمات العامة بما يلبي حاجات ويساعد على دعم القطاع الحكومي العام والقطاعين الخاص المحلي والأجنبي ويسهل دخول الاستثمارات الأجنبية إلى الاقتصاد العراقي.         
5.   أن تساهم الدولة في الرعاية الاجتماعية وللسنوات طويلة قادمة, إذ من غير المعقول والمقبول أن تتخلى الدولة عن هذه المهمة وتساهم في تعميق التناقضات الاجتماعية التي تظهر موضوعياً في بلد يسير على النهج الرأسمالي الاستغلالي.
6.   إن مثل هذا التوجه يساهم في توفير الأرضية والشروط الضرورية لنشاط القطاع الخاص أيضاً في البلاد, إذ لا يمكن تصور تخلي الدولة في بلد كالعراق عن واجباتها الاقتصادية والاجتماعية, وهو لا يتعارض مع تأمين مستلزمات حركة القطاع الخاص والأجنبي وفق رؤية إستراتيجية واضحة للتطور الاقتصادي والاجتماعي المنشود في العراق.

4/7/2010                  كاظم حبيب

1062

التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية



من أجل معالجة ديمقراطية وسلمية جادة للقضية الكُردية
في الجمهورية التركية

منذ أكثر من أربعة عقود لم تتوقف القوات العسكرية التركية على وفق أوامر الحكومات التركية المتعاقبة عن مطاردة القوى الكُردية في الجمهورية التركية التي كانت ولا تزال تناضل وتطالب بحل المسألة الكُردية بالطرق السلمية وعلى وفق الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة وحق الشعوب في تقرير مصيرها. ومنذ تلك الفترة وإلى الآن ما زالت المعارك تدور ثم تتوقف لتبدأ من جديد من دون أن يبدو في الأفق أي حل عملي من جانب الحكومة التركية لهذه المشكلة المزمنة. إن استمرار القتال لا يقود إلى المزيد من الخسائر المالية وتعطيل التنمية  الاقتصادية والبشرية في المناطق الكُردية وفي عموم تركيا فحسب بل وإلى المزيد من القتلى والجرحى والمعوقين في صفوف القوى الكُردية المسلحة وبشكل أساس بين المدنيين العزّل في المدن والقرى الكُردية وكذلك في صفوف القوات المسلحة التركية. كما إن استمرار القتال يظل ذريعة للقوات المسلحة التركية لاختراق الحدود والأجواء العراقية والتجاوز على الاستقلال والسيادة الوطنية للعراق عبر القصف الجوي والاختراقات البرية المتكررة  بذريعة مطاردة أكراد مسلحين من كُردستان تركيا في المنطقة الجبلية من كُردستان العراق. وهكذا يشهد العالم القصف الجوي المستمر للمناطق الجبلية من كُردستان العراق مثلما هو حال وجود الدروع والمشاة التركية في الأراضي العراقية, والذي يعدّ تدخلاً فظاً في الشؤون الداخلية للعراق وتجاوزاً على سيادة العراق على أراضيه وإيقاع مزيد من الضحايا في صفوف مواطنيه.
إن تجارب الشعوب في المنطقة, ومنها تجربة الشعب الكُردي في العراق, تؤكد بأن الطريق السليم لحل هذه المشكلة هو القبول المتبادل بإيقاف القتال والدخول في مفاوضات للحفاظ على وحدة تركيا وحياة الناس والتنمية الوطنية وحل المسألة الكُردية بما يحقق التآخي التركي – الكُردي.
إن الأمانة العامة للتجمع العربي لنصرة القضية الكُردية ترى بأن من واجب دول المنطقة وشعوبها والمجتمع الدولي العمل من أجل إقناع الحكومة التركية بأن القوة والعنف والقتال لن تعالج المشكلة بل تزيدها تعقيداً وتطيل من أمدها, في حين أن الحل السلمي والديمقراطي من خلال الجلوس إلى طاولة المفاوضات والاستجابة العقلانية للحقوق المشروعة للشعب الكُردي في إطار الدولة التركية يعدّ الطريق الوحيد الصائب للخروج من الأزمة المستعصية والمزمنة.
إن الأمانة العامة تدعو منظمات المجتمع المدني في المنطقة والعالم إلى التحرك السريع من أجل إيقاف طاحونة الموت اليومي في تركيا, سواء أكانوا من المناضلين الكُرد المطالبين بحقوقهم المشروعة, أم من أفراد القوات العسكرية التركية. وليس هناك أي ضمان لعدم اتساع رقعة القتال وشمولها مناطق جديدة وموت المزيد من البشر ووقوع المزيد من الخراب. 
إن الأمانة العامة للتجمع تقترح على المنظمات الإقليمية والدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان وحقوق الشعوب المضطهدة دراسة إمكانية تشكيل وفد لزيارة مقر الأمم المتحدة في جنيف وفي نيويورك والاتحاد الأوروبي في بروكسل لتقديم مذكرة مشتركة تهدف إلى السعي لإقناع الحكومة التركية بإمكانية قبول مقترح إيقاف القتال مع القوى والأحزاب الكُردية العاملة في تركيا وضرورة الدخول في مفاوضات لحل المشكلة الكُردية وإيقاف نزيف الدم والمال, إذ أن حلها السلمي والديمقراطي العادل سيكون المفتاح الحقيقي لتلبية تطلعات الشعبين التركي والكُردي في العيش بسلام وفي تحقيق التقدم مثلما سيكون سببا جديا مهما في رفع سمعة الدولة التركية ومنحها القوة وزخم التقدم والتطور المنشود ويوفر فرصة أكبر لقبولها في الاتحاد الأوروبي بغاية خدمة آمال تركيا الديمقراطية الجديدة,
إننا في الوقت الذي ندعو إلى التحرك من أجل ترويج هذا المقترح, ندرك في الوقت نفسه العراقيل الكبيرة التي تقف في وجه هذا الحل, ولكنه الطريق الوحيد الذي ستقبل به آجلاً أم عاجلاً القوى المتشددة في أطراف القضية.
 
الأمانة العامة
التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية   
23/7/2010

1063
كاظم حبيب
اتجاهات تطور الوضع السياسي والاقتصادي في العراق

بمناسبة الذكرى السنوية لثورة تموز 1958 الوطنية

مرت قبل عدة شهور الذكرى السابعة لسقوط الدكتاتورية الفاشية في العراق التي جثمت 35 عاماً على صدر الشعب العراقي وأغرقته بالدماء والدموع والبؤس والفاقة والحرمان. وهي ذات القوى التي أطاحت بالجمهورية الأولى وصفت المكاسب الوطنية التي حققتها تلك الثورة في فترة وجيزة وأجهزت على قائد الثورة وجمهرة من قيادييها وعلى عدد كبير من المناضلين الشجعان في سبيل الشعب والوطن.
وكان الشعب ينتظر نهاية ذلك النفق الذي أدخلنا به حزب البعث العربي الاشتراكي القومي الشوفيني والدكتاتور الأهوج صدام حسين ورهطه. ولكن الشعب العراقي الذي تخلص من الإرهاب والدكتاتورية الحاكمة, سقط تحت الاحتلال وفي جحيم الطائفية السياسية المقيتة والإرهاب الطائفي لقوى متطرفة متنوعة سنية وشيعية وتكفيرية وبعثية وقومية.
حين تسلم نوري المالكي رئاسة مجلس الوزراء مثَّل في حينها البيت الشيعي على وفق المحاصصة الطائفية التي كرستها الإدارة الأمريكية وبول بريمر رسمياً. وفي السنة الثالثة من عمر وزارته أدرك نوري المالكي أن لا سبيل له للخروج من الأزمة التي يمكن أن تعصف بوزارته سوى توجيه الضربة الضرورية لقوى تساهم في العملية السياسية ولكنها تمارس الإرهاب خارج إطار هذه العملية, إضافة إلى قوات الإرهاب الأخرى كالقاعدة والبعث ألصدَّامي وهيئة علماء المسلمين وقوى قومية شوفينية متعفنة سياسياً. كما ابتعد نسبياً عن السياسات الإيرانية في العراق في محاولة منه لتمييز نفسه ووضع مسافة بينه وبين سياسة حزبه.
فوجه ضربته الماهرة إلى جيش المهدي, الجناح العسكري للتيار الصدري بالبصرة وبغداد وغيرها, إضافة إلى تشكيل القوات الأمريكية للصحوات العراقية في غرب بغداد والتي أجهزت على  الكثير من المواقع القوية لتنظيمات القاعدة الإرهابية. وبهذه السياسة تحققت بعض النجاحات المهمة في مواجهة عصابات الإرهاب الطائفية المسلحة وفي بروز تحسن ملموس في الوضع الأمني.
وفي ضوء هذا الواقع الجديد نشأت إمكانيات غير قليلة لوضع حلول عملية لعدد غير قليل من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والإنسانية والخدمية الداخلية وفي العلاقات العامة في ما بين أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق وتأمين حمايتهم من الأوغاد.
من المؤسف أن نشير إلى السيد رئيس الوزراء لم يقدم على تلك الخطوات الضرورية بل تعثر في مسيرته وتراجع عن مواصلة السير على طريق دولة القانون التي أسسها لتجاوز القوى الشريرة والطائفية المقيتة, مما أدى إلى إضعاف الجانب الأمني والمكاسب التي تحققت فيه وأصبح الوضع الأمني هشاً وعادت العمليات الإرهابية إلى ممارسة يومية مريعة. لا شك في وجود ظروف معقدة وصعبة, ولكن نوري المالكي تصرف كمنتصر كبير واعتبر نفسه منقذ الشعب وراح يتصرف بصورة فردية, ثم عزز مواقع حزب الدعوة بدلاً من تعزيز الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي العام وكرس الطائفية في مكتبه ومستشاريه. ثم تعززت هذه الروح الفردية والغرور  السياسي في خطاباته الكثيرة وتصريحاته الصحفية قبل وبعد انتخابات مجالس المحافظات بشكل خاص, مما حول الكثير من الناس ضده, إذ دخل باسم دولة القانون, ولكنه خرج بحزب الدعوة غير المقتنع بالديمقراطية كأداة وفلسفة, بل كأداة للوصول إلى السلطة فقط والبقاء فيها "أبد الآبدين!" ونسى المقولة التي تؤكد "لو دامت لغيره, ما وصلت إليه". ومن المؤلم حقاً أن نسبة غير قليلة من سياسيينا ينسون هذه الحكمة القديمة بعد وصولهم إلى السلطة مباشرة.
ونتيجة لهذا النهج غير العقلاني انتهى الوضع في العراق ومن جديدة إلى هشاشة كبيرة, ومنها الجانب الأمني. وأصبح العراق يعاني من مشكلات كثيرة تستوجب التفكير بها ومعالجتها.
فما هي المشكلات التي تواجه العراق في المرحلة الراهنة؟ وما هي الصراعات الناجمة عنها؟  وما هي سبل معالجتها؟
ثلاث قضايا تشغل بال الشعب العراقي وتؤرقه يومياً وتتسبب في المزيد من الإحباط لدى المزيد من لناس, وهي:
القضية السياسية: 
1.   ضعف الحياة الديمقراطية وهشاشة مجمل الوضع الأمني والسياسي في العراق والتجاوزات المتواصلة على حقوق الإنسان والحريات العامة في البلاد وضعف الإعلام المستقل وتنامي محاولات من جانب قوى الحكومة جادة في السيطرة عليه وتوجيهه لصالحها.
2.   استمرار العمل بنظام المحاصصة الطائفية وهيمنتها على الساحة السياسية والتي تبرز بوضوح في الصراع على السلطة بين القوى والأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية على المستوى السياسي المنبثق منها. وهي مشكلة ناتجة عن الرغبة الجامحة لتلك القوى والأحزاب السياسية الإسلامية في السيطرة على النفوذ في المجتمع وعلى الموارد المالية وسبل التصرف بها.
3.   تفاقم الخلافات في "البيت الشيعي" والناجمة عن صراع شيعي - شيعي على مستوى الحكم والأحزاب   الإسلامية السياسية المشاركة في الحكم, وهي لا تبتعد عن الرغبة في الهيمنة على السلطة والتحكم بسياسة وموارد الدولة من هذا الطرف أو ذاك.
4.   استمرار المشكلات بين الإقليم والحكومة الاتحادية دون حل عملي لها رغم مرور فترة طويلة على صدور قرارات تفرض العمل لحلها. وهي مشكلات تتبلور في القضايا المالية وحدود المحافظات وقضية كركوك. كما تبرز بشكل صارخ وخطر في كركوك كصراعات عربية- كردية-تركمانية على مستويات متعددة وتحمل معها مخاطر غير قليلة على كركوك والعراق عموماً.
5.   الإرهاب الدموي غير المنقطع الذي تمارسه ميلشيات عديدة, إضافة إلى قوى القاعدة والبعث الصداميين. وعلينا أن نشير إلى احتمال بدء ميليشيات طائفية مسلحة سابقة نشاطها الإرهابي مجدداً للضغط على الحكومة والقوى السياسية للقبول بحلوبل معينة لتشكيل الحكومة وفرض سياسات معينة عليها.
6.   استمرار القتل والتشريد والتهديد ضد أتباع الديانات الأخرى في العراق من غير المسلمات والمسلمين والتي تتسبب في هروب الكثير من البشر. إنها محنة تلاحق المسيحيين والصابئة المندائيين وكذلك الإيزيديين في الأقضية التابعة إدارياً لمحافظة الموصل.
7.   ولا شك في أن قضية تأمين الاستقلال والسيادة الوطنية تلعب دورها المباشر في صراع مبطن في غالب الأحيان لا يقصد بحد ذاته بل يستخدم كغطاء لمهمات وشعارات أخرى تمارسها العديد من قوى الإرهاب والمليشيات الطائفية المسلحة.
     
 الباب الاقتصادي:
1.   ويتجلى في إصرار الحكومة السير على نهج اللبرالية الجديدة الذي رسمه وكرسه بول بريمر للعراق , إذ لا يزال هو السائد والمعمول به في كل أنحاء العراق, بما في ذلك إقليم كُردستان, رغم ضبابية فهمها لدى الداعين إليها والعاملين من أجلها. إنه الوصفة التي يقمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى الدول النامية, وهي التي تتسبب في الكثير من مشكلات الدول النامية اقتصادياً واجتماعياً ومن ثم سياسياً.
2.   غياب إستراتيجية تنموية وخطط إنمائية والابتعاد كلية عن التصنيع أو تنمية وتحديث الزراعة, بل التركيز على الاستيراد السلعي بالنسبة للحكومتين الاتحادية والإقليمية. وهي واحدة من أكثر السياسات إضعافاً للاقتصاد الوطني وللعملية الاقتصادية.
3.   غياب الإستراتيجية النفطية التي تنسجم وحاجات العراق على المدى القريب والمتوسط, والتوقيع على عقود خدمة كثيرة ستجلب الكثير من المشكلات للعراق, كما أن فيها تفريط كبير بدور شركة النفط الوطنية التي في مقدورها النهوض بالكثير من المهمات التي استولت عليها شركات النفط الأجنبية وبعقود مغرية لها ولسنوات طويلة. وهي سياسة ستؤدي إلى نتائج سلبية على صعيد سوق النفط الدولي والأسعار وتخلق مشكلات جدية لمنظمتي الأوبك والأوابك.
4.   تخلف شديد في الخدمات العامة, ومنها بشكل خاص الكهرباء والماء والخدمات الصحية والتعليمية والبريدية ...الخ. وهي القضايا العقدية التي تؤرق العراقيات والعراقيين إلى أبعد الحدود, وخاصة في فصل الصيف اللاهب وعلى  مدار السنة.
5.   كما إن البطالة واسعة الانتشار على مستوى البلاد وكذلك انتشار البطالة المقنعة المستنزفة للدخل القومي والاقتصاد الوطني والإنسان.
6.   الاستهلاك المتواصل لموارد البلاد المالية المتأتية من النفط الخام عبر سياسات الباب المفتوح أمام الاستيراد والفساد العام.
7.   الفساد المالي المتفشي في جميع أنحاء البلاد وعلى المستوى الرسمي والشعبي, حيث تساهم الشركات الأجنبية, وخاصة الأمريكية, في توسيع وتعميق نظام الفساد السائد ...الخ. إنه البلد الثاني بعد الصومال!
8.   تفاقم الفجوة الدخلية ومستوى المعيشة بين الغالبية العظمى من السكان وبين الأقلية الصغيرة, إضافة إلى وجود نسبة عالية من السكان تعيش تحت خطر الفقر المحدد دولياً للدول النامية.
9.   تفاقم مشكلات البيئة في العراق وما تحمله معها من عواقب سلبية على الاقتصاد والمجتمع والصحة العامة.

 الباب الاجتماعي:
1.   ويتجلى في البطالة والفقر والأرامل وتشرد الأطفال وعمل الكثير منهم وتفاقم التسول.
2.   تزايد عدد المقعدين وذوي الحاجات الخاصة.
3.   تفاقم حالات العهر النسائي واستمرار عهر الصبيان بسبب الحاجة المادية وبسبب التشرد.
4.   تفاقم السلوك الانتهازي وازدواج الشخصية والتحايل والمخاتلة والجريمة المنظمة وما إلى ذلك في أجهزة الدولة والمجتمع.
5.   التمايز الكبير في مستويات الحياة الاجتماعية والمعيشة والسكن والأمن بين النخبة الحاكمة والنخب التشريعية القضائية والصف الأول والثاني من العاملين في الأحزاب السياسية وبين بقية فئات المجتمع.
6.   تفاقم حالات التشوه والأمراض السرطانية في الولادات الجديدة نتيجة الحروب وما استخدم من سلاح وعتاد مشع فيها.
7.   تزايد عدد السجناء والمعتقلين الذين يعانون من مصاعب جمة ويواجهون التعذيب وأوضاعاً مزرية, كما تعاني عائلاتهم مصاعب كثيرة بسبب فساد الأجهزة المسؤولة عن السجون والأمن.
إن السعي لإيجاد حلول عملية لهذه المشكلات أمر ليس بالتعقيد الكبير, ولكن حالة العراق الراهنة لا تسمح بذلك, إذ أن الصراع الراهن على  السلطة في أعقاب إعلان نتائج الانتخابات يزيد من صعوبة ذلك.
كما إن المشكلة الأكثر تعقيداً تبرز في ميزان القوى الراهن الذي يميل لصالح قوى الإسلام السياسية التي تهيمن حقاً على القرارات السياسية العراقية, وتجسد ضعفاً استثنائياً غير معهود للقوى الديمقراطية على صعيد العراق وفي الوسط والجنوب والموصل على نحو خاص, ومصادرة دورها في المجتمع وفي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والأمنية ...الخ, رغم الانشقاق الفعلي في التحالف الوطني الجديد بين دولة القانون وبين الصدريين + الائتلاف الوطني العراقي, والذي يسهم في إضعاف الطائفية وسياسات البيت الشيعي.
وعلينا أن نتذكر بأن الحكومة العراقية الراهنة تلعب دوراً سلبياً في عرقلة الدور الضروري الذي يفترض أن يلعبه المثقفون والمثقفات في الحياة التنويرية والثقافية العامة, وخاصة التنوير الديني والاجتماعي وإزالة الوعي الديني المزيف والمشوه من أذهان الناس.

على الصعيد الإقليمي:
يتفاقم التدخل المباشر, السافر والفظ, في الشأن العراقي من جانب كافة دول الجوار, ولكن بشكل خاص من إيران وسوريا والسعودية وبعض إمارات الخليج وتركيا. ويتخذ التدخل عدة أساليب ملموسة:
1.   الإعلام والدعاية الإسلامية السياسية شيعية, من إيران, وسنية من بقية دول الجوار, سواء عبر القنوات الفضائية أم عبر خطب الجمعة أم في الصحافة والتلفزة والمواقع والتي تريد تعميق الصراع وتحويله غلى نزاع دموي.
2.   الأموال التي تخصص للأحزاب السياسية في العراق سنية وشيعية وبعض القوى "العلمانية" القومية والبعثية.
3.   وجود عدد كبير من المستشارين الذين يعملون في العراق بشكل غير رسمي ويحملون جوازت سفر إيرانية أو عراقية ويمارسون التوجيه المباشر في بعض الأحزاب الإسلامية السياسية.
4.   إرسال المقاتلين الإرهابيين إلى العراق أو السماح لهم بالعبور, وبشكل خاص من إيران وسوريا, ولكن من دول الخليج أيضاً. ومنهم من يصل بصفة زائر أو سائح من إيران ومن الدول الإسلامية الأخرى.
5.   الضربات العسكرية المتتالية التي تنفذها كل من تركيا وإيران على الراضي العراقية في مناطق جبال كردستان وخاصة جبل قنديل والتي تقود إلى تشريد الكثير من الفلاحين من قراهم التي تدمرها تلك الضربات وتقتل العديد منهم.
ويفترض أن لا ننسى بأن العراق أصبح جسراً مهماً لتهريب المخدرات من أفغانستان وإيران إلى دول الخليج ومنها إلى العالم الخارجي, إضافة إلى زيادة تعاطيه في العراق. كما أصبح في مناطق معينة من العراق منتجاً ومستهلكاً لها بصورة غير رسمية.
وعلى الصعيد الدولي:
يبرز التدخل المباشر في الشأن العراقي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وهي القادرة على التأثير بحكم وجودها العسكري والسياسي والأمني والفكري, إضافة إلى الاتفاقيات المعقودة معها. ويتجلى تدخلها على شكل نصائح أو توجيهات. ولكن هذا التدخل لا يصل إلى مستوى تأثير إيران والسعودية. فكلا الدولتين استطاعتا أن تجمعا الشيعة في تكتل والسنة في تكتل آخر. وهي المعادلة الصعبة بين قوى متصارعة على الساحة السياسية العراقية والطامعة بحكم العراق بصورة غير مباشرة, ولهما أتباع في العراق.
يبدو أن الولايات المتحدة تميل إلى القائمة العراقية حالياً لكسر ما ساندته وكرسته من نظام طائفي محاصصي لصالح الشيعة في العراق. فهل هي قادرة على ذلك؟ إذ أن القائمة العراقية لا تخلو من إشكاليات مؤذية ففيها الكثير من العناصر التي ساهمت في قهر المجتمع في إطار النظام السابق.
تريد الولايات المتحدة, وبعد أن عقدت الاتفاقيات الضرورية وثبتت مواقعها, الانسحاب من العراق لمواجهة مشكلة أفغانستان والاستجابة النسبية لرأي الغالبية العظمى في المجتمع الأمريكي وللوعود التي قطعها باراك أوباما, ولهذا فهي مهتمة بتشكيل سريع للحكومة إذ لم يبق على موعد انسحابها أكثر من سنة واحدة, وقد سحبت الكثير من القوات إلى الآن. وهو أمر إيجابي طبعاً. وهذا الانسحاب سوف لن يؤثر كثيراً على دور الولايات المتحدة السياسي في العراق والذي يدعمه إلى الآن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
علينا أن نؤكد بأن الصراعات الداخلية الحالية متشابكة مع الصراعات الإقليمية والدولية, وهي معضلة العراق الراهنة. واللاعبون العراقيون غير أحرار في لعبتهم الداخلية بل يرتبطون بلاعبين إقليميين مؤثرين وآخرين على الصعيد الدولي, سواء بشكل مباشر أم غير مباشر. ولا يمكن معالجة هذه العلاقة المتشابكة بسهولة مع استمرار نهج المحاصصة والتوافق الجارية حاليا. ومما يزيد في الطين بلة ضعف الحكومة العراقية والبرلمان والمؤسسات الأخرى وضعف قدراتها في الدفاع عن الشعب في الداخل أو حماية الحدود مع الدول الأخرى. وخير دليل على ذلك الضربات العسكرية المتزايدة والقصف المستمر من جانب قوات الحكومتين الإيرانية والتركية على مناطق في كردستان العراق أو التفجيرات الانتحارية المتزايدة أخيراً.

الخلاصة: يمكن تلخيص واقع العراق بما يلي:
اولاً: صعوبة الوصول إلى حلول ديمقراطية في ظل النظام الطائفي السائد من جهة, وضعف القوى الديمقراطية وقدرتها الهامشية في التأثير على الأوضاع من جهة أخرى.
ثانياً: غياب الرؤية الموضوعية للمشكلات الراهنة لدى الأطراف الإسلامية السياسية المتصارعة وسيادة الصراع حول المكاسب الطائفية بغض النظر عن الصواب والحق والحقوق.
ثالثاً: التأثير المتفاقم لدول الجوار في تشكيل التحالفات وتشكيل الحكومة, وخاصة إيران وسوريا والسعودية على نحو خاص.
رابعاً: تراجع تأثير الولايات المتحدة الأمريكية على النخب السياسية في مقابل تأثير إيران والسعودية, رغم العلاقة المتينة التي تربط بين سياسات الولايات المتحدة والمملكة السعودية.
ما العمل؟
السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو : من هي القوى أو الفئات الاجتماعية التي يهمها تغيير النظام السياسي الطائفي إلى نظام سياسي وطني وديمقراطي مستقل؟
لا شك في أن القوى والفئات الاجتماعية التي من مصلحتها تغيير الوضع لصالح الحياة السياسية الديمقراطية هي جمهرة العمال رغم تقلصها بالقياس إلى الماضي, وفئات واسعة من البرجوازية الصغيرة في المدينة والبرجوازية المتوسطة, أو الفئات التي يطلق عليها بالطبقة الوسطى, إضافة إلى المثقفين والطلبة وجمهرة الفلاحين, سواء أدركت مصالحها أم لم تدركها. وهذا يعني علينا أن نعمل من أجل تأمين مصالح هذه الفئات الاجتماعية من خلال بلورة المهمات التي تستجيب لمصالحها وربطها بالمصالح والمهمات الوطنية العامة. وهي مهمة كبيرة وثقيلة, ولكنها ضرورية في ضوء التحولات الجارية في البنية الاجتماعية العراقية. 
ليس في مقدور القوى الديمقراطية أو قوى التيار الديمقراطي بفصائله المختلفة في الوقت الحاضر أن تفعل شيئاً كبيراً, فهي ليست من بين اللاعبين المباشرين, بل إنها تلعب دوراً هامشياً في السياسة العراقية لا يعتد به, رغم تاريخها الغني بالتجارب والطويل. ولكن في مقدور هذه الفئات التي تشكل غالبية المجتمع, والتي ربما لم تدرك مصالحها في الوقت الحاضر, أن تفعل شيئاً. كيف يمكن أن يتم ذلك؟ كلنا يتابع نشوء حركة احتجاج شعبية متصاعدة رافضة للواقع المر والأمر الواقع, وتريد انتزاع مصالحها من الحكومة. والقوى الديمقراطية قادرة على ممارسة هذا الدور من خلال التبني الفعلي والثابت لتلك المصالح. وهذا يتطلب الكثير من الجهد والعمل المثابر. هل يمكن تطوير المبادرة الجماهيرية نحو التغيير؟ نعم ممكن, ولكن كيف؟
أشعر بضرورة عقد مؤتمر واسع وعاجل للقوى التي تتبنى الديمقراطية, أحزاباً, وكتلاً وشخصيات سياسية بغض النظر عن قوتها أو ضعفها, مؤتمر يمكن أن يضم إليه ممثلين من تلك الفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في دفع العراق صوب الحياة الديمقراطية الحرة. فالمتفرقون ضعفاء والمتحدون أقوياء. والعراق بحاجة إلى قوى ديمقراطية قوية تعبر عن مصالح تلك الفئات. ومن هنا تأتي أهمية تغيير أولية شعار الحزب الشيوعي العراقي الذي وضعه فهد في الأربعينيات من القرن الماضي من شعار "قووا تنظيم حزبكم, قووا تنظيم الحركة الوطنية" الذي وضع في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية, إلى شعار "قوا تنظيم الحركة الوطنية, قووا تنظيم حزبكم" في ظروف أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي هذا المؤتمر يمكن تشكيل ورش عمل تقوم بتحديد المهمات المهنية للفئات الاجتماعية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية من جهة, والمهمات الوطنية العامة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقلال والسيادة الوطنية واتفاقيات النفط والتصنيع وتحديث الزراعة من جهة أخرى. أي العمل من أجل ربط الشعارات الوطنية بالشعارات المهنية واليومية لفئات الشعب المختلفة. ثم وضع كل ذلك في شعارات يمكن أن ترفعها الجماهير وتناضل من أجل تحقيقها, وبعضها مرفوع فعلاً. ويمكن أن ينسق العمل والتحرك على النحو التالي:
تشكيل جماعات من قوى المؤتمر الديمقراطي وخارجه تعمل وتناضل في مجالات مختلفة على شكل محاورو منها مثلاً:
** المحور الاقتصادي: ويركز محور الاقتصاد الوطني والخدمات العامة على الموضوعات التالية التي تمس مصالح الناس مباشرة, ومنها:
أ‌.   موضوعات عامة: مثل الكهرباء والماء والتعليم العام والابتدائي والصحة والطرق والنظافة العامة وإزالة أكوام القمامة ومشكلة السكن ...الخ.
ب‌.   وضع سياسة نفطية وطنية مستقلة تتناغم مع إستراتيجية التنمية الاقتصادية المستدامة وحاجات المجتمع الفعلية بما يؤكد أهمية وضرورة تغيير بنية الاقتصاد والدخل القومي من جهة, ويحافظ على الثروة الناضبة للأجيال القادمة من جهة أخرى.
ت‌.   وضع سياسة تصنيع حديثة وتحديث الزراعة وتقليص تدرجي مهم لحجم الاستيراد السلعي البذخي والاستهلاكي والكمالي والتصدي لاستيراد النوعيات السيئة بأمل إصدار قانون لحماية الإنتاج المحلي وتنشيط هيئة المواصفات والمقاييس الوطنية وتعزيز دورها في الرقابة على السلع المستوردة.
ث‌.   مكافحة البطالة الواسعة التي تمس المجتمع بالكثير من المشكلات, إضافة إلى البطالة المقنعة في أجهزة الدولة.
ج‌.   الفساد وما حصل ويحصل من تجاوزات على المال العام وتأثيره السلبي على التنمية الاقتصادية وعلى وتوزيع وإعادة توزيع واستخدام الثروة الوطنية أو الدخل القومي.
ح‌.   مستوى المعيشة الواطئ لنسبة كبيرة من السكان وتنامي فجوة الدخل السنوي. وتنامي حجم الفقراء وأهمية أجراء تغيير في البطاقة التموينية لصالح العدد الكبير من الكادحين وليس للمجتمع كله...الخ ووضع نظام للمساعدة المالية للعائلات المحتاجة.
** ورشة خاصة لمهمات النساء والحركة النسوية: تعالج سبل العمل مع النساء والمهمات التي يفترض طرحها بشكل ملموس بما في ذلك الموقف من الطفولة والأمومة والنساء الأرامل ودور الأيتام والمعوقين ومشكلات الأرامل والمشردين ..الخ والمخالفات التي تقع فيها...الخ.
** ورشة خاصة للمهمات الطلابية: تعالج قضايا الطلبة من خلال ورشة عمل خاصة بهم وتشمل المناهج ومستوى التعليم وعدد الصفوف والطلبة والأساتذة والمساعدات المالية للفقراء ....الخ.
** ورشة خاصة تعمل في مجال الشباب والشابات وقضايا الرياضة.
** ورشة خاصة بقضايا المثقفين واتحاد الأدباء وقضايا الفنون والآداب ...الخ.
** ورشة بالعمل والعمال: تبحث وتحدد مهمات تمس العمل والعمال والفلاحين في الريف أو الكسبة والحرفيين. وكذلك ما يمس عمل النقابات والجمعيات المختلفة.
** ورشة خاصة تمس حرية المواطنات والمواطنين في مختلف المجالات وحماية أتباع الديانات والمذاهب الدينية ومعالجة القضايا القومية.
** ورشة خاصة بالقضايا التي تمس الدستور وتعديلاتة ووضع القوانين الجديدة, ومنها قانون العقوبات ومعالجة القضايا العالقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية وقانون الأحزاب ..الخ.
** ورشة عمل خاصة بقضايا الفساد المالي والإداري في البلاد.
** الإصلاح الإداري والتجاوزات على الوزارات المختلفة من خلال الهيمنة الطائفية عليها وكشف اللعبة فيها ورفض الابتعاد الراهن عن مبدأ الإنسان المناسب في المكان المناسب.
** ورشة خاصة تبحث في محور الديمقراطية وحقوق الإنسان وتجاوزات الحكومة وأجهزتها على تلك الحقوق. ويفترض هنا أن يتم تشخص المخالفات بدقة ومسؤولية ومن ثم يفترض التعبئة الضرورية لفضح المواقف الشريرة.   
** موضوع السجون والسجناء والمعتقلين وضرورة الدفاع عن حقوقهم المشروعة ورفض التعذيب ...الخ.
** مشكلات الأطفال والصبية المشردين في الشوارع وسبل معالجتها.
** موضوع الإعلام والتدخل الحكومي المستمر في شؤون الإعلام وتركيز الإعلام الحكومي على الدعايات الحكومية بينما يفترض أن تكون لكل القوى السياسية.
** ورشة خاصة بمنظمات المجتمع المدني وعلاقتها بالدولة وبالأحزاب السياسية ..الخ, إضافة إلى بلورة مجالات عمل منظمات المجتمع المدني وسبل تنشيطها ودفعها صوب الاستقلالية عن السلطة والقوى السياسية المنفردة بما يساعدها على أداء مهماتها والدفاع عن مصالح أعضائها. 
 
** ورشة خاصة حول سبل عمل القوى الديمقراطية في الداخل في ما بينها والتعاون الجاد والمتواصل والتنسيق مع القوى الديمقراطية في الخارج لتعبئة أوسع الأوساط الشعبية المقيمة في الخارج لصالح المهمات الوطنية المشتركة لتنشيط الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي والضغط باتجاه بناء الديمقراطية والتخلي عن السياسات الطائفية والمحاصصة المقيتة في الحكم. كما يفترض أن تكون هناك آذان صاغية للرأي والراي الآخر في إطار القوى الديمقراطية والقبول بالنقد المتبادل لصالح العمل المشترك.
إن ما أطرحه هنا ليس برنامجاً, بل مهمات يفترض تدرس وتوسع وتعمق وتبرمج وتوضع في ملف واسع لتكون تحت تصرف كل المشاركين في هذه الورش والمحاور, ولكن لكل المشاركين في محور ما مهمات خاصة بمحوره, حيث تُبرزّ العلاقة الجدلية بين جميع هذه المهمات والمحاور وأسس العمل لصالح تنفيذها. ويفترض ان تمثل القوى الديمقراطية في هذه المحاور مهما كان عددها كبيراً أو صغيراً.
يضاف إلى ذلك وجود محاور مهمة وضرورية وآنية مثل (محور أزمة تشكيل الحكومة) التي يفترض العناية بها, وبشكل خاص المحاصصة الطائفية اللعينة والموقف الخاطئ للتحالف الكُردستاني إزاء التعاون مع القوى الديمقراطية العربية, إذ أن مثل هذا العمل يجسد المصالح المشتركة ذات المدى البعيد وليست الآنية فقط. ولا يفترض أن يكون هذا التعاون على مستوى الحكم بل على مستوى الأحزاب والقوى السياسية إن كانت تعتبر نفسها قوى سياسية ديمقراطية عراقية أيضاً وليست كردية لا غير...الخ.   
لا شك في أن العبرة ليست في عقد مؤتمر عام وتشكيل ورش عمل ومحاور فحسب, بل العبرة في التعبئة العامة للعمل الفعلي بين أوساط الشعب لتعبئتها لصالح تلك المهمات وبملموسية عالية من جهة, وفي التواصل وعدم قطع العمل بعد فترة وجيزة لأي سبب كان والمتابعة المستمرة لمدى تنفيذ المهمات والعلاقات الديمقراطية بين العاملين ومع المجتمع من جهة ثانية, وتحقيق تعامل ديمقراطي بين الجميع بحيث يشعر كل مشارك أنه مسؤول وليس متفرجاً.
مع شكري الجزيل لحسن انتباهكم.
ملاحظة: ألقيت شفاهاً في نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم في 14/7/2010, وفي البيت الثقافي العراقي الديمقراطي في غوتبورغ في 16/7/2010 أثناء الاحتفال بالذكرى الثانية والخمسين لثورة تموز 1958 وبدعوة كريمة من الجمعيتين واتحاد الجمعيات العراقية في السويد.       

1064
كاظم حبيب

هل يواصل حارث الضاري نشر الكراهية والحقد الطائفي في العراق؟

عرضت قناة الجزيرة الفضائية مساء يوم الثلاثاء المصادف 17/6/2010 تسجيلاً مصوراً لمحاضرة سياسية قدمها الدكتور حارث الضاري, رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق, في جمع صغير من أعضاء ومؤيدي هيئته ونهجه الطائفي المتطرف من العراقيين والعرب على قاعة الزبارة - الميلينيوم في الدوحة, عاصمة إمارة قطر, تحت عنوان: العراق بعد سبع سنوات.. الاحتلال .. إلى أين؟ استعرض فيها أوضاع وأحداث العراق خلال الفترة 2003-2010 على وفق طريقته الانتقائية ورؤيته الخاصة لما جرى ويجري في العراق. وحين أصغيت بانتباه لحديثه المتشدد نشأت لدي مجموعة من الأسئلة منها مثلاً: ماذا يريد أن يوصله المحاضر إلى العراقيين والعرب؟ وهل أنصف المحاضر في استعراضه لأوضاع العراق أم شوه عن قصد مسبق حقائق الوضع والقوى التي تقف وراء كل ذلك؟ وما الهدف من وراء هذه المحاضرة في هذه الفترة بالذات والتي نقلتها الفضائية المعروفة بمواقفها السلبية الشديدة من العراق وشعب العراق والتي تنطلق من موقعين فكريين, قومي شوفيني ومذهبي متطرف؟   
لقد حاول الضاري تقديم جرد للأوضاع الجارية في العراق بعين واحدة, إذ كانت الأخرى ضريرة,  محاولاً إبراز كل ما هو سلبي في الوضع وتجنب كل ما هو إيجابي وعدم ذكر العوامل التي تسببت في نشوب الحرب ووقوع الاحتلال, كما تجنب كلية انتقاد النظام السابق في سياساته الاستبدادية والظالمة التي نزلت بغالبية الشعب والتي كانت ضمن الأسباب التي قادت إلى تلك الحرب.
لقد طرح مجموعة من الأفكار التي تستوجب المناقشة نشير إلى أبرزها فيما يلي:
** فشل سياسة الاحتلال التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق.
** الأكراد كانوا دوماً متمردين ضد العراق, رغم أنهم كانوا يعيشون بشكل طبيعي في البلاد, يزورون بغداد ونزور مدن شمال دون مشاكل.
** تركيا إيجابية في مواقفها في حين أن دولتي إيران وإسرائيل تتدخلان بفظاظة في الشأن العراقي.
** التخلف والبؤس والفاقة والبطالة ونقص الخدمات في العراق.
** المقاومة موجود وستبقى حتى بعد خروج القوات الأمريكية.
** ولم يتطرق إلى دور هيئته في ما حصل من موت ودمار وخراب في العراق.
ثم انتهى إلى القول بأن العراق يعاني اليوم من ضعف اقتصادي شديد إضافة إلى ضعف سياسي في الداخل, ويواجه تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ متعددة, وإلى غياب عن الساحة السياسية العربية والعالمية, كما يعاني من ضعف في قدرته على التعبير والفعل. ثم أكد على وجود أزمة سياسية وعسكرية واقتصادية في العراق.     
يبدو لمن استمع إلى هذه المحاضرة, أدرك بوضوح إن هدفها المباشر يتلخص في تأجيج الصراعات والنزاعات الطائفية في البلاد والدعوة إلى استمرار نزيف الدماء والدموع, وإلى مزيد من الموت والخراب والحرمان للناس البسطاء, وإلى إشاعة عدم الاستقرار وحرمان الناس من الشعور بالأمان.
لم يكن المحاضر حيادياً أو منصفاً إزاء تقييم الوضع, بل كان موتوراً وحيد الجانب, إذ حاول في محاضرته أن ينشر المزيد من الكراهية والحقد في الأجواء العراقية ليزيد من التوتر الراهن ويشدد من الخلافات القائمة, ويصب الزيت على نار لم تخمد ويسعى الشعب إلى إخمادها بكل السبل المتوفرة.
لقد تناسى الشيخ ضاري سعي كل القوى السياسية التي كانت في المعارضة السياسية في فترة حكم الدكتاتور صدام حسين إلى إقناع الدكتاتور صدام حسين بالكف عن سياساته القمعية والتخلي عن استبداده وعدوانيته, حتى أن بعضها دخل في حوار معه من أجل ذلك. ولكن كل تلك المحاولات ذهب أدراج الرياح بسبب إصرار الدكتاتور على ممارسة سياسة القتل والتهجير والإبادة. عندها سعت القوى الوطنية إلى بذل كل الجهود لإسقاطه عبر جميع أشكال الكفاح, بما فيها الكفاح المسلح في إقليم كُردستان العراق وبعض مناطق الجنوب, فلم تفلح أيضاً لأن النظام قد مارس أساليب القتل الجماعي, كما حصل في الأنفال وحلبچة أو التهجير القسري, كما حصل في الوسط والجنوب وكركوك, والقتل الواسع النطاق كما حصل في انتفاضة الربيع في العام 1991 بعد حرب الخليج الثانية المدمرة وبعد طرد قواته الغازية من الكويت. ولم يتخل عن سياسة تجويع الشعب ومواصلة التسلح والمخاتلة مع مجلس الأمن الدولي وتحدي الأمم المتحدة والرأي العام العالمي, والاستمرار في استفزاز مشاعر الناس الجائعة ببناء قصوره الرئاسية التي بلغت حوالي المائة قصر في سائر أرجاء العراق, مما أدى إلى نشوب حرب الخليج الثالثة التي لم يكن يتمناها أحد لو أن النظام قد استمع إلى نصيحة الطيب الذكر رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل مهيان الذي طلب منه ترك الحكم واللجوء إلى الإمارات. وحين سقط النظام لم يكن أي عراقي سليم العقل يقبل بفرض الاحتلال على العراق, بل رفضته كل القوى السياسية العراقية. ولكن تصاعد وتيرة الإرهاب الدموي في العراق جعل ذلك ممكناً عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. واليوم وبعد أن عُقدت اتفاقية انسحاب القوات الأجنبية من العراق في العام 2011 تحاول قوى الإرهاب الدموي, ومعها قوى هيئة علماء المسلمين, إشاعة عدم الاستقرار والفوضى في البلاد عبر ممارسة الإرهاب في بعض مدن العراق, ومنها بغداد بشكل خاص, لكي يتعطل تطبيق هذه الاتفاقية وتبقى القوى الأجنبية في العراق وتتذرع بوجودها قوى الإرهاب لتواصل عملياتها الدموية ضد الشعب العراقي. إن فرض قرار الاحتلال لم يكن سليماً من جانب مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة وبريطانيا, بل كان مسيئاً للجميع. والآن وقد انتهى مفعول هذا القرار بعقد اتفاقية انسحاب القوات الأجنبية من العراق مع حلول العام 2011, وستنفذ بنودها بالرغم من قوى الإرهاب. ومما يؤكد أن مشكلة الضاري ليست في الاحتلال, بل في موقفه الطائفي السياسي المقيت الذي يتلبسه كلية, ما جاء في محاضرته حيث قال: إن "دور المقاومة مشرف وسوف يبقى مشرفا كما هو في بداية الاحتلال وسيبقى مشرفا في نهاية الاحتلال وبعده". لاحظوا هنا كلمه "وبعده" التي تفسر الكثير في هذا الصدد. السؤال العادل هنا هو: من هم المقاومون في العراق؟ كل الدلائل التي لدينا تشير إلى إن "المقاومين" الأوباش الذين حملوا السلاح في العراق لم يحملوه دفاعاً عن استقلال البلاد وسيادتها ولا في سبيل مصالح الشعب, بل حملوا السلاح من أجل عودة البعث ألصدَّامي إلى الحكم أو تسليم السلطة إلى قوى الإسلام السياسية المتطرفة والإرهابية من أمثال تنظيم القاعدة الذي تحالف حارث الضاري معه والذي وفّر له ولأتباعه أرضية العمل والحماية في العراق والتي سيطرت لفترة غير قصيرة على مناطق غرب بغداد وعاثت فساداً في أنحاء البلاد وقتلت الكثير من البشر. لقد حمل هؤلاء السلاح لأغراض طائفية مقيتة وفي إطار صراع طائفي ساهم بقتل الكثير من الناس على أساس الهوية الدينية والمذهبية. وهذه الجماعات لا تشكل "مقاومة شريفة" حين وجهت ولا تزال توجه نيرانها وتفجيراتها الجبانة إلى صدور وظهور بنات وأبناء الشعب العراقي. إن حارث الضاري يؤكد مجدداً بأن قوى "مقاومته" الجبانة سوف تواصل "المقاومة" غير الشريفة حتى بعد خروج قوات الاحتلال. وهو تأكيد إصابة هذه القوى بداء الطائفية العمياء والتطرف والإرهاب الدمويين.
دعونا نواصل الاستماع إلى افتراءات الشيخ الضاري على الكُرد في العراق, فهو يقول: كان الأكراد دوماً متمردين وأنهم كانوا يتمتعون بوضع طبيعي في العراق يأتون إلى زيارة بغداد ونذهب لزيارة مدن الشمال! كان الفاشيون الألمان يرددون دوماً "افتروا ثم افتروا ثم افتروا .. لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس", وللرجل نفس تصور هؤلاء الفاشيين ويعتقد ان الشعب العراقي جاهل لا يعي ما يكتبه من افتراءات.
يتناسى هذا الشيخ حقيقة النضال الذي خاضه الشعب الكردي على امتداد عقود طويلة من أجل تنفيذ ما اتفق عليه الملك فيصل الأول والحكومة العراقية مع مجلس عصبة الأمم في أن تحقق الحكومة العراقية للكُرد جملة من الحقوق القومية العادلة للشعب الكردي في إطار الدولة العراقية. وقد نكثت الحكومات العراقية المتعاقبة بكل تلك الوعود. فأجبر الكُرد على خوض النضال السلمي والمطالبة بحقوقهم المشروعة. وبدلاً من الاستجابة لها, وجهت تلك الحكومات الرجعية الطيران العسكري والقوات المسلحة لضرب المناطق الكُردية المتهمة بالنضال من أجل حقوق الشعب الكردي, ومنها بشكل خاص منطقة بارزان. وهكذا تواصل الأمر طيلة الحكم الملكي, إضافة إلى تهميش الشعب وإقليم كُردستان وسلب كامل حقوقه المشروعة والعادلة. وإذ أُنصف الكُرد لفترة قصيرة في عهد عبد الكريم قاسم حين أكد على الشراكة في الوطن العراقي, إلا إنه لم يستجب للحقوق المشروعة والعادلة لهذا الشعب بل وجه حين طالبه بها, تحت ضغط القوى القومية العربية الشوفينية والدول العربية الرجعية, ضربات عسكرية ضد مواقع القوى الكُردستانية والتي انتهت بإعلان ثورة أيلول 1961.
ثم تواصل رفض الاستجابة للحقوق القومية المشروعة للكُرد في فترة حكم البعث الأول وحكم القوميين العرب ثم حكم البعثيين الثاني والذي تجلى بشن الحروب العدوانية, ثم تتوج بمجازر الأنفال وجريمة الكيماوي في حلبچة وغيرها من المناطق الكردستانية التي تعتبر ضمن جرائم الإبادة والقتل الجماعي, إضافة إلى التهجير القسري الواسع والتعريب القسري في كركوك وفي مدن أخرى كردستانية. لم يكن المتمردون هم الكُرد, بل كانت الحكومات العراقية الرجعية والقومية الشوفينية المتعاقبة هي المتمردة حقاً والرافضة لمنح الحقوق القومية المشروعة. ولكن هل بمقدور الجماعات الشوفينية والعنصرية التعلم من دروس الماضي القريب أو البعيد؟ كل الدلائل تؤكد عكس ذلك, ويتجلى ذلك في محاضرة الضاري.
نعم هناك تدخل إيراني فظ في الشؤون الداخلية للعراق, وهي اليوم تقوم بتوجيه ضربات عسكرية شديدة وعدوانية ضد الأراضي العراقية في إقليم كُردستان. والحكومة العراقية وكذلك حكومة إقليم كردستان تطالبان بوقف هذا العدوان العسكري وحل المشكلات بطرق التفاوض. ولكن تركيا هي الأخرى ورغم محاولات تنقية الأجواء وعقد الكثير من الاتفاقيات الاقتصادية معها تتدخل بالشأن العراقي ولها مواقع في الأراضي العراقية وتضرب مناطق غير قليلة من إقليم كردستان. ويتم شجب هذه الأعمال العسكرية أيضاً من جانب الطرف العراقي والكردستاني والمطالبة بحل المشكلات عبر التفاوض والتفاهم. إلا أن استمرار هذا التدخل ناشئ عن غياب الوحدة الوطنية في العراق والفراغ السياسي الراهن بسبب الصراعات حول تشكيل الحكومة العراقية الجديدة واستمرار العمليات الإرهابية التي تمارسها قوى التطرف المتحالفة مع هيئة علماء المسلمين وقوى البعث الصدّامية بشكل خاص.             
يتحدث حارث الضاري عن واقع التخلف والفقر والبطالة في العراق. وقد كتبنا عن ذلك أيضاً. لكن الضاري يتجنب ذكر الأسباب الكامنة وراء هذا التخلف والفقر والبطالة, سواء أكان في فترة صدام حسين في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وقبل سقوطه في العام 2003 أم بعد سقوطه, والذي ارتبط بتلك السياسات التي مارسها الدكتاتور, ومن ثم بواقع التناحر الطائفي الذي هو وهيئته طرف فيه, إضافة إلى النشاط الإرهابي للقوى الأخرى التي تمنع عمليات إعادة البناء والتنمية. إن السياسات الاقتصادية الراهنة تستوجب التصحيح والتغيير وضمان العدالة الاجتماعية في توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي بطبيعة الحال, وتستوجب وجود إستراتيجية اقتصادية واجتماعية واضحة, كما إن التنفيذ يستوجب الابتعاد عن السياسات الطائفية القاتلة التي يحاول الضاري مع قوى طائفية أخرى تأصيلها في العراق بدلاً من التخلص منها.             
لم يشعر الضاري بالحرج, وهو الذي كان جزءاً من نظام صدام حسين, والذي أسس هيئته بعد سقوط النظام في العام 2003 ولأهداف طائفية بحتة, كما فعلت بعض الجماعات الشيعية التي أسست لها تنظيمات وميليشيات مسلحة بعد سقوط النظام في بغداد, وخاضت المعارك الطائفية المقيتة. وكان أبناء وبنات الشعب من الشيعة والسنة ومن أديان واتجاهات فكرية وسياسية أخرى ضحايا ذلك الصراع الطائفي الدموي المقيت. 
بالرغم من السياسات التي تمارسها القوى الطائفية السياسية, فأن الشعب العراقي يعمل من أجل إقامة دولة مدنية وطنية وديمقراطية اتحادية حديثة, يرفض العنف في معالجة القضايا الداخلية والخارجية, ويسعى إلى حل الخلافات بالطرق السلمية والتداول السلمي والديمقراطي الانتخابي للسلطة, ويعمل ضد الإرهاب, ويسعى إلى تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية وتعزيزهما ويرفض التدخل في الشؤون الداخلية من أي طرف إقليمي أو دولي. ولكن الهج الذي يمارسه الضاري هو بالضد من إرادة ومصالح الشعب العراقي. وسيتمكن الشعب العراقي بكل مكوناته من دحر سياسات العنف والقمع والإرهاب.
كاظم حبيب   
في 23/6/2010



1065
رسالة مفتوحة إلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني

الأخ الفاضل والمواطن العراقي آية الله العظمى السيد علي السيستاني المحترم
تحية واحتراماً
بعد أن أضناني الجهد لتوضيح الموقف من الزيارات المليونية والطقوس التي تمارس في أيام عاشوراء  و الموت المتواصل الذي يلاحق العراقيات والعراقيين عند سيرهم على الأقدام لمسافات طويلة بغرض زيارة مراقد أئمة الشيعة المسلمين في المدن العراقية, كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء على سبيل المثال لا الحصر على أيدي الإرهابيين والتكفيريين, وجدت نفسي مجبراً ن أتوجه لجنابكم براجياً منكم أن تلعبوا الدور المنوط بكم, دور المنور وتساهموا في التنوير الديني لأتباع المذهب الشيعي ومن يقلدونكم في الإسلام., إن ما يحصل في أيام عاشوراء من ممارسات لطقوس غير دينية تجسد, وفق رأيي, قمة التخلف وغياب الوعي الديني السليم لدى المشاركين في ممارسة تلك الطقوس, وسيطرة وعي ديني مزيف روجته قوى وجهات مغرضة أدت إلى عواقب وخيمة على الإنسان كما شوهت أراء ومواقف أئمة المذهب الشيعي الساكتين عن بتلك الأفعال.
وقد كتبت عن تلك الطقوس ورجوت شيوخ الدين الشيعة إلى تحريم هذه الطقوس لأنها ليست من الإسلام, والإسلام الصحيح برئ منها. فاتهمني البعض بالانحياز ضد الشيعة, لست معنياً بهذه التهمة, إذ أني أحترم كل الأديان وكل المذاهب الدينية وأتباع الأفكار المختلفة وأحترم أتباعها دون استثناء ولست مناهضاً لأي منها, ولكني أكتب عن ظواهر غير مشروعة دينياً ومدانة إسلامياً حين يقوم الإنسان بتعذيب نفسه, فهو  محرم في الإسلام. وبما أني من مواليد مدينة كربلاء في العام 1935 فقد تعرفت جيداً على تلك الطقوس وعايشتها سنوات غير قليلة ومارست بعضها, ولكن أدرك اليوم بعمق ومسؤولية, بل ومنذ سنوات طويلة, أضرارها الفادحة والعواقب السلبية التي تترتب على ممارسة مثل هذه الطقوس لأتباع المذهب الشيعي على صعيد الوضع النفسي والعصبي للفرد ذاته وعلى الصعيد المحلي والإقليمي والدولي.
لقد اطلعت بشكل دقيق على آراء الكثير من شيوخ الدين الشيعة الذين رفضوا ممارسة هذه الطقوس وأدانوها بعبارات واضحة تعتبر بمثابة فتاوى فقهية ناضجة. أليكم أدناه بعض من تلك الآراء لمراجع دينية شيعية معترف بها في فقه الدين.
آراء بعض المراجع الشيعية بطقوس عاشوراء

1 - أية الله العظمى السيد محسن الحكيم "إن هذه الممارسات (التطبير) ليست فقط مجرد ممارسات... هي ليست من الدين وليست من الأمور المستحبة بل هذه الممارسات أيضا مضرة بالمسلمين وفي فهم الإسلام الأصيل وفي فهم أهل البيت عليهم السلام ولم أرى أي من العلماء عندما راجعت النصوص والفتاوى يقول بان هذا العمل مستحب يمكن إن تقترب به إلى الله سبحانه وتعالى إن قضية التطبير هي غصة في حلقومنا".
 2 - أية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي: في رده على سؤاله حول إدماء الرأس وما شاكل يقول "لم يرد نص بشرعيته فلا طريق إلى الحكم باستحبابه)) راجع: المسائل الشرعية ج2 ص 337ط دار الزهراء بيروت.
 3 - أية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر في جوابه لسؤال الدكتور التيجاني حين زاره في النجف الاشرف " ان ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجهالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على منعه وتحريمه" راجع: كل الحلول عند آل الرسول ص 150 الطبعة الأولى 1997 م للتيجاني.
 4 - أية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني "ان استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم من أمثالها في مواكب العزاء بيوم عاشوراء باسم الحزن على الحسين (عليه السلام) انما هو محرم وغير شرعي". راجع: كتاب هكذا عرفتهم. الجزء الأول لجعفر الخليلي.
 5 - أية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي "على المؤمنين الأخوة والأخوات السعي إلى إقامة مراسم العزاء بإخلاص واجتناب الأمور المخالفة للشريعة الإسلامية وأوامر الأئمة (عليهم السلام) ويتركوا جميع الأعمال التي تكون وسيلة بيد الأعداء ضد الإسلام، إذ عليهم اجتناب التطبير وشد القفل وأمثال ذلك..."
 6 - أيه الله العظمى السيد كاظم الحائري "ان تضمين الشعائر الحسينية لبعض الخرافات من أمثال التطبير يوجب وصم الإسلام والتشيع بالذات بوصمة الخرافات خاصة في هذه الأيام التي أصبح إعلام الكفر العالمي مسخرا لذلك ولهذا فممارسة أمثال هذه الخرافات باسم شعائر الحسين (عليه السلام) من أعظم المحرمات".
 7 - أيه الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله "... كضرب الرأس بالسيف أو جرح الجسد أو حرقه حزنا على الإمام الحسين (عليه السلام) فانه يحرم إيقاع النفس في أمثال ذلك الضرر حتى لو صار مألوفا أو مغلقا ببعض التقاليد الدينية التي لم يأمر بها الشرع ولم يرغب بها." راجع:إحكام الشريعة ص 247 .
8 - أية الله الشيخ محمد مهدي الاصفهي "لقد دخلت في الشعائر الحسينية بعض الأعمال والطقوس فكان له دور سلبي في عطاء الثورة الحسينية وأصبحت مبعثا للاستخفاف بهذه الشعائر مثل ضرب القامات.". راجع: عن كيهان العربي 3 محرم 1410 هـ.
9 - أيه الله العظمى السيد محسن الأمين ".... كما ان ما يفعله جملة من الناس من جرح أنفسهم بالسيوف أو اللطم المؤدي إلى إيذاء البدن إنما هو من تسويلات الشيطان وتزيينه سوء الأعمال." راجع: كتاب المجالس السنية. الطبعة الثالثة ص 7.
10 - أيه الله محمد جواد مغنية ".... ما يفعله بعض عوام الشيعة في لبنان والعراق وإيران كلبس الأكفان وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في العاشر من المحرم ان هذه العادات المشينة بدعة في الدين والمذهب وقد أحدثها لأنفسهم أهل الجهالة دون ان يأذن بها إمام أو عالم كبير كما هو الشأن في كل دين ومذهب حيث توجد فيه عادات لا تقرها العقيدة التي ينتسبون إليها ويسكت عنها من يسكت خوف الاهانة والضرر." راجع: كتاب تجارب محمد جواد مغنية.
 11 - أية الله الدكتور مرتضى المطهري "ان التطبير والطبل عادات ومراسيم جاءتنا من ارثودوكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم." راجع: كتاب الجذب والدفع في شخصية الإمام علي (عليه السلام).
  وهناك أسماء كثيرة ضد ظاهرة التطبير ومنهم أيه الله العظمى الشيخ الاراكي أيه الله السيد محمود الهاشمي أية الله محمد باقر الناصري والعديد من كبار العلماء.
 
السيد المحترم
أنا واثق بأنكم على إطلاع دقيق على هذه الفتاوى والآراء الناضجة, وأنا واثق أيضاً بأنكم لا تختلفون في التفكير عن السيد ابو الحسن الأصفهاني الموسوي مثلاً وترفضون معه مثل هذه الطقوس والبدع المؤذية للنفس والعائلة والمجتمع ولسمعة المذهب الشيعي عالمياً. ومن هنا ينطلق سؤالي لجنابكم الموقر:
لماذا لا تصرحون بموقفكم الإسلامي ضد هذه الطقوس التي أدانها علماء دين كبار ذكرت بعضهم في أعلاه؟
أنا أرجوكم, بل وأطالبكم, ومن حقي كمواطن وحرصاً على أبناء الشعب العراقي, أن تتحدثوا إلى المسلمات والمسلمين من أتباع المذهب الشيعي وإلى كل مسلمات ومسلمي العالم بأنكم لستم مع هذه الطقوس والبدع التي ليست من الإسلام, بل هي مسيئة للإسلام, وأن تحرمون ممارستها على أتباعكم ومقلديكم على أقل تقدير وهم كثر في العالم الإسلامي.
أن الحسين بن علي بن أبي طالب هو شهيد كل المسلمين, وليس الشيعة وحدهم وطقوس زيارته لا تستوجب اللطم واستخدام السلاسل الحديدية ولا السيوف لشج الرؤوس ولا الزيارات المليونية, بل تستوجب الوقوف الصامت احتراماً لتلك الشهادة.
أتمنى عليكم, وأنتم تمتلكون الشجاعة الكافية, أن تقوموا بإعلام المسلمات والمسلمين والعالم كله بموقفكم الرافض لهذه الطقوس, إذ أن السكوت عن ذلك تعني مواصلة ممارستها وتعني الموت المتواصل للناس وتعني الإساءة المستمرة للمذهب الشيعي الذي أنتم أحد العاملين البارزين في الدعوة له, وهي بمثابة المشاركة في العمل غير المسموح به إسلامياً.
أرجو لكم موفور الصحة وطول العمر.   
مع خالص التقدير والاحترام.
د. كاظم حبيب

1066
كاظم حبيب

من أجل أن تبقى رؤوسنا مرفوعة نحلم بغدٍ أفضل وحياة أسعد!

حين يقرأ الإنسان ما يجري في البصرة من ردة فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية من جانب المحافظ ومن لف لفه بالمقارنة مع ما كانت عليه البصرة قبل خمسين عاماً حتى في أصعب أيامها اللاحقة, يصاب بالدوار ويسأل نفسه, لِمً هذه الردة الاجتماعية لدى الحكام بشكل خاص وفي المجتمع بحدود اقل كثيراً؟
وحين يتابع الإنسان ما يجري في المدن العراقية الأخرى حيث يترك الناس أعمالهم لعدة أيام متجهين صوب الكاظمية أو كربلاء أو النجف أو سامراء, ويجبر آخرون على ترك أعمالهم وغلق محلاتهم بسبب الوضع الأمني, وتنشغل أجهزة الأمن والشرطة والدولة لثلاثة أو عشرة أو أكثر من الأيام تحت وطأة الأمن الهش ومحاولة تأمينه, وحين يسقط العشرات شهداء من أجل لا شيء على أيدي إرهابيين, يسأل الإنسان نفسه لِمَ كل هذه الأعمال التي لم تكن قائمة قبل أربعين أو خمسين عاماً؟ لِمَ هذه الردة الفكرية والاجتماعية, لِمَ هذا التخلف في الوعي الديني, لِمَ هذا التطرف الذي لم يكن موجوداً؟ وحين يعزي رئيس الوزراء عائلات الضحايا ويرجو للضحايا دخول الجنة, ولكنه لم يجرأ ليقول لهم: لا تقوموا بمثل هذه التجمعات المليونية, بهذه التظاهرة غير المطلوبة, لكي لا تتعرضوا لخطر الموت على أيدي الإرهابيين الذين يسعون لإثارة الصراع الطائفي الذي لم يختف بعد من المجتمع ما دام هناك من يدعو له ويؤججه, كما لن يختفي بسبب سيادة الأجواء الطائفية في العمل السياسي العراقي. 
وحين يرى المتتبع للوضع السياسي في العراق أن ديمقراطيين وتقدميين واشتراكيين وشيوعيين, جدد وقدامى, يشاركون في الانتخابات لا من أجل انتخاب قوائم ديمقراطية علمانية أو قائمة اتحاد الشعب, بل يصوتون لقوائم إسلامية سياسية, سواء أكانت شيعية أم سنية, أو أن بعض القوى الديمقراطية دخلت حتى في قوائم طائفية وانتهت بالصفر من المندوبين, حين يرى كل ذلك يسال نفسه: هل نحن في العراق, في هذا البلد الذي كان يناضل من أجل الديمقراطية والحياة الحرة والكريمة على مدى قيام الدولة العراقية الملكية الحديثة؟ هل هذا هو البلد الذي أنجب الحلي والزهاوي والرصافي والجواهري والسياب والبياتي والملائكة ومردان ورشدي العامل والنواب وشعراء وكتاب الحلة والسماوة والموصل والبصرة والناصرية والنجف, الأحياء منهم والأموات, إضافة إلى شعراء كرد مثل گوران ودلزار وبه كس ومئات من الشعراء والكتاب المتحررين القدامى منهم والجدد من محافظات السليمانية وأربيل ودهوك وكركوك؟
وحين يلقي المتتبع نظرة إلى الوزارات العراقية الحالية سيجد العجب العجاب: هذه وزارة مليئة بالشيعة من أحزاب دينية, كل مسؤوليها لهم لحى لا يعلم الإنسان مدى صدقها, وتلك وزارة سنية لا تجد فيها سوى السنة ...الخ, وكلهم لهم جباه وكأنها محروقة من كثرة السجود!, فهي موزعة بين سنة وشيعة, ولم يعد للمسيحيين أو الصابئة المندائيين أي مكان يذكر في الوزارات أو في هذا البلد, وهم من أصل أهل هذا الوطن, بل نجدهم يجبرون على مغادرة العراق والخلاص بجلدهم تاركين خلفهم ذكريات أليمة وحنين لا ينقطع. إنهم مبعثرون في الشتات العراقي, في الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا وأوروبا على نحو خاص.
ويتساءل الإنسان العراقي: هل هذا هو العراق, عراق السومريين والأكديين والبابليين, عراق الآشوريين والميديين والگوتيين, عراق العرب والكرد والتركمان والكلدان والآشوريين, عراق أتباع مختلف الأديان والمذاهب والأفكار, العراق الذي يعتبر أحد مهود الحضارة العالمية القديمة, هل هذا الذي يتحدث عنه التاريخ هو نفس العراق الذي يغوص اليوم في أجواء الطائفية السياسية المقيتة والخانقة, [ وهنا لا يجري الحديث عن المذاهب الدينية في الإسلام التي تجسد التنوع في الاجتهاد والاختلاف في الرؤية والتفسير ], بل عن الطائفية التي تميز بين الأديان والمذاهب الدينية والتي تشدد الخناق على حرية الإنسان بتحريماتها الاجتماعية وممنوعاتها "الدينية" اليومية التي تريد بذلك تحويل العراق إلى جحيم اجتماعي وسياسي لا يطاق؟
هل نحن في البلد الذي كان شعبه لا يقبل بالضيم والقهر, الشعب الذي أُطلق عليه بالمتمرد والذي تساقط شعر المستبد بأمره الحجاج بن يوسف الثقفي بسببه. هذا ما يذكره الأستاذ والكاتب المتميز الدكتور قاسم حسين صالح في مقاله الممتع الموسوم "غضب العراقيين .. وصناعة الحكم", حيث كتب يقول: "... وكان أقسى طاغيتين حكما العراق هما الحجاج(عشرون سنة) وصدّام (ربع قرن)..وكلاهما عاش قلقا" ومنزعجا" من العراقيين. فالحجاج اعترف بأن العراقيين أتعبوه وأصلعوا رأسه (يا أهل العراق، جئتكم وأنا ذو لّمة وافره ارفل بها فما زال بي شقاقكم وعصيانكم حتى حصّ شعري). وصدّام أرعبه العراقيون من قبل أن  تندلع في البصرة شرارة انتفاضة آذار (92) التي امتدت إلى الناصرية فالمحافظات الأخرى وكادت أن تطيح بنظامه لولا حماية أمريكا له." (راجع: الحوار المتمدن, العدد 2010 / 7 / 4 3053 ).
التاريخ يعرف التقدم نحو الأمام, لا يعرف الارتداد على الصعيد العالمي, لا يعرف خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء, ولكن هذا الشعب أو ذاك, هذه المنطقة أو تلك, يمكن أن يعيش أو تعيش التراجع والتقهقر أو الارتداد عما حققه هذا الشعب أو تلك المنطقة قبل ذاك من حضارة متقدمة, إنها الحركة الزگزاگية المحتملة في تاريخ هذا الشعب او تلك المنطقة. هذا هو الوضع الذي تعيش فيه الكثير من شعوب منطقة الشرق الأوسط. هذا هو حال إيران التي تعيش في ظلمات القرون الوسطى من حيث طبيعة الحكم السياسي والديني والمذهبي والاستبداد المريع الذي يئن تحت وطأته الشعب الإيراني بمكوناته القومية العديدة وكذا المرأة الإيرانية, ونعرف جميعاً حجم قرف الناس من هذا النظام الديني والطائفي المتخلف. وهذا هو شعب لبنان الذي يعاني من حزب الله الأمرين ويمرغ جبين الدولة اللبنانية بالتراب بحكم ارتباطه الكلي بولي الفقه وتبعيته السياسية والمالية لإيران, وهذا هو شعب السودان الذي يعيش الفرقة والانقسام تحت وطأة سياسات رئيسها "الإسلامي" الأهوج والمستبد بأمره. وها هي فلسطين تئن تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي وغزاة غزة من منظمة حماس المتطرفة الخاضعة للسياسات الإيرانية في المنطقة مرة وللوهابيين مرة أخرى. وهذا هو العراق الذي يعيش مرحلة جديدة من صراع طائفي مقيت لا يدري الإنسان متى يكون الخلاص منه لتكريس مبادئ المواطنة المتساوية والهوية الوطنية العراقية ومكوناته القومية, لصالح تكريس مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة الاعتيادية وفصل الدين عن الدولة لا عن المجتمع, فهي قضية خاصة بالفرد أو بالجماعات.
لا يمكن أن تستمر هذه الحالة, فالشعب في العراق يعيش في أزمات مستمرة, منها سياسية ومنها اقتصادية ومنها اجتماعية وثقافية, وهي كلها مقترنة بأوضاع أمنية وسياسية هشة, فالموت يومي وعدد الجرحى والمعوقين في تكاثر, ثم يسأل البعض: لِمَ لا يجري الحديث عن المنجزات؟ هل أصبح الأمن منجزاً؟ هل أصبح الوضع في البصرة منجزاً؟ وهل أصبح انقطاع الكهرباء ووصوله المستحيل لمستهلكيه من الناس الاعتياديين في فصل الصيف, وليس للحكام الذين يتمتعون به ليل نهار, منجزاً؟ هل قتل أحد المتظاهرين في البصرة بسبب مطالبته بالكهرباء وسقوط عدد من الجرحى في مظاهرة رفض المسؤولون إجازتها منجزاً؟ وهل ممارسة التعذيب في السجون والمعتقلات مهما كان سبب السجن أو الاعتقال منجزاً؟ وهل تفاقم عدد المشردين من الأطفال في المدن العراقية, كما هو حال مدينة الحلة على وفق ما جاء في مقال مها الخطيب ومقالات لكتاب آخرين منجزاً؟ وهل امتلاء هذه الوزارة أو تلك بالطائفيين أو من بنات وأبناء طائفة معينة, ووزارة أخرى من طائفة أخرى منجزاً؟ هل الصراع على من يكون رئيساً للوزراء وبالطريقة الجارية حالياً منجزاً؟ وهل تدخل الجيران في الشأن العراقي بسبب ضعف العراق السياسي والأمني منجزاً؟
أنا لا أطالب أن تكون في العراق ديمقراطية شبيهة بديمقراطية السويد أو ألمانيا أو بريطانيا العظمى, فهذا كما يقول المثل العراقي (( بعيد اللبن عن وجه الفگر!)), إذ أن هذا محال ولفترة غير قصيرة, فأنا أدرك الفارق بين واقع العراق وواقع هذه الدول من حيث المرحلة التاريخية التي يمر بها العراق وتلك التي تمر بها تلك الدول, وأنا أعرف الأسباب الكامنة وراء هذه الحقيقة المرة, ولكني أطالب من يتحدث عن سيادة الحرية والديمقراطية في العراق أن يفكر ويرى أبعد من أرنبة أنفه, ليرى ما يجري في العراق ولكي يدرك أن الطائفية السائدة مرض اجتماعي يرتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي المريض الذي يستوجب معالجته والشفاء منه, وهذا يعني ضرورة التركيز على تغيير البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية بدلاً من التخفيف عما يجري في العراق من طائفية مسمومة, سنية كانت أم شيعية. لا يمكن الحديث عن الحرية الفكرية والسياسية وعن الديمقراطية والبلد يعيش في أجواء العشائرية وفي وعي ديني ومذهبي مزيف ومع من يريد التشبث بالسلطة بأسنانه أو "أخذناها وبعد ما ننطيها" في حين أن الدستور ذاته, رغم ضعفه, يتحدث عن التداول الديمقراطي للسلطة وعبر الانتخابات.
الوضع الأمني والسياسي في العراق هش وفراغ السلطة شديد, ونحن بحاجة إلى حلول سريعة للأزمة السياسية الراهنة, وبحاجة إلى معارضة ديمقراطية جادة أعضائها في الملمات لا يصوتون للقوائم الطائفية بل لما يمليه عليهم ضميرهم للخلاص من الوضع الطائفي السياسي السائد لصالح عراق المواطنة المتساوية, عراق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, عراق الحضارة الحديثة ولو تدريجاً.9/7/2010                      كاظم حبيب 
       
         

1067
كاظم حبيب

الزيارات المليونية والموت في العراق!
حين يصاب شعب ما أو فئة ما من شعب بوعي مزيف, لا يستطيع تقدير أفعاله ولا العواقب التي تترتب عنها أو عليها. وهذا ما يشاهد اليوم في العراق. فنسبة مهمة من السكان من أتباع المذهب الشيعي المتدينة مصابة بوعي ديني ومذهبي مزيف وخطير غذته ولا تزال تغذيه الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي سعت إلى تعميق الطائفية والصراع الطائفي في المجتمع بأمل الحصول على أكثر الأصوات في الانتخابات العامة وعلى أكثر المقاعد في المجلس النيابي ومجالس المحافظات من أجل الاحتفاظ بسلطة طائفية مهيمنة على  الحكومة رغم مشاركة قوى طائفية أخرى وقومية في الحكم. وهذه الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية غذت ولا تزال تواصل تغذية وعي ديني ومذهبي مزيف يدعي أن زيارات مراقد أئمة الشيعة يعتبر تحدياً مذهبياً ضرورياً لتأكيد التزام هؤلاء الناس بالمذهب الشيعي والتصاقهم بالأحزاب التي تنادي وتدعو إلى ممارسة تلك الطقوس المغالية التي لم تكن في السابق موجودة ومنها السير على الأقدام من مناطق بعيدة جداً صوب كربلاء أو النجف أو الكاظمية أو سامراء على سبيل المثال لا الحصر. ولكن لهذه اللوحه جانبها الآخر الذي يغذي الكراهية ضد السنة كما يحصل في الكثير قراءات الروزخونية وكأن السنة مسؤولون عن دم الحسين وبقية صحبه.
لا شك في أن الأحزاب الإسلامية السياسية تتخذ من الدين ومن الطقوس المذهبية وصلاة الجمعة, سواء أكانت شيعية أم سنية, أداة للتأثير في الناس وكسبها إليها ولا تبالي إن كانت هذه الأساليب تقود إلى الموت, إذ أن الموت في نظرها قضاءً وقدرً من جهة, ومفيد لتشديد الاصطفاف والاستقطاب الطائفي الذي يساعد على بقاء فجوة للكراهية بين الشيعة والسنة في المجتمع من جهة ثانية. وهي الإساءة الكبرى التي تمارسها هذه القوى بحق المجتمع ونسيجه الوطني ووحدته الضرورية. ليس غريباً أن تمارس هذه الأحزاب ذلك, فهي قائمة أساساً على قاعدة طائفية تميز بين الناس على أساس الدين والمذهب والفكر.
إذا كانت ممارسة هذه "الأداة الغلط" والخطرة مفهومة من جانب الأحزاب الإسلامية السياسية, رغم إدانتها من قبل المجتمع ومن كل الوثائق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان, فأن موقف المرجعيات الدينية المحرض أو الساكت عن هذه الممارسات من جانب قوى الإسلام السياسية, يعتبر موقفاً خطيراً وانتهازياً ومسيئاً للدين ويتسبب في موت الكثير من البشر, كما إنه فرصة مناسبة للإرهابيين على توجيه كراهيتهم للإنسان وحقدهم عليه بتفجيرات انتحارية تأخذ معها إلى القبر المزيد من الناس الأبرياء وجرحى ومعوقين غالباً ما يخرجون من دائرة العمل أو المشاركة في النشاط الاقتصادي.
وفي كل من هذه المناسبات "الشيعية" السابقة والمصطنعة والجارية إلى يومنا هذا سقط الكثير من البشر (1000 إنسان دفعة واحدة حين كان الجعفري رئيساً للوزراء). وكان المسؤول عن دماء هؤلاء ليس القتلة الجبناء فحسب, بل وأولئك الذين شجعوا وسمحوا بتنظيم هذه المسيرات والذين لم يقفوا ضدها أو يمنعوها.
من هنا يصعب على الإنسان أن يقتنع بأن المرجعيات غير طائفية ولا تميز بين الناس ولا تقبل بالبدع كالضرب على الصدر (اللطم) والضرب بالسلاسل ذات السكاكين الحادة على الظهر (الزنجيل) أو فج الرأس بالسيف (التطبير), بمن فيهم الرضع والأطفال الصغار, أو السير على الأقدام لمسافات طويلة للحصول على ثواب يتطاير به قبل ذاك جسم الإنسان بشظايا القتلة.         
ايها السادة, يا من تديرون أحزاباً إسلامية سياسية مذهبية, يا من تمارسون السياسات الطائفية في الحكم وخارجه, يا من تفرحون لموت إنسان عراقي لأن هذا الموت يساهم في تشديد وتعميق الكراهية والحقد الطائفي لدى الناس البسطاء من ذوي الوعي الديني والمذهبي والسياسي والاجتماعي المزيف, يا من ترعبون حتى المرجعيات على قول الحق ومنع هذه الممارسات, ويا من تتاجرون باسم الدين لكسب أصوات الناس, كفوا عن هذه السياسة الغبية واللعينة التي تقود الناس إلى حتفهم وتجعل من العراق ساحة مقيتة يموت فيها يومياً الكثير من الناس, كفوا عن سياسة التجهيل والعدمية, كفوا عن تزييف وعي الإنسان بخرافات وبدع لا يقبلها عقل الإنسان السوي والمتنور.
إن وجودكم في السلطة سيتقلص يوماً بعد يوم بالقطع بحكم ممارساتكم المنافية للإنسان وحقه في الحياة والتي لا يرضى بها حتى الخالق الذي تؤمنون به, أن وجودكم في السلطة سيتقلص لأن الإنسان لا يمكن أن يبقى مشدود العينين ومغلق العقل والفؤاد طويلاً وهو يرى كل الفساد المالي والإداري وكل التمييز ضد الإنسان وكل الموت اليومي وكل البعد عن أداء الدولة لدورها في توفير الخدمات, كالكهرباء في حر الصيف اللافح, وإعادة عجلة الحياة الاقتصادية السليمة إلى العمل والإنتاج ومكافحة البطالة والفقر المدقع والفجوة المتسعة بين الفقراء والأغنياء.
إن موت 68 إنساناً إلى الآن من زوار مرقد الجوادين وجرح وتعويق أكثر من 100 إنسان في يوم واحد لا يمنح الشرعية لحكومة لا تحترم حياة أبنائها ولا تتخذ الخطوات الفعلية لمواجهة هذا الإجرام المتصاعد ومنع تلك التحركات الجماهيرية الواسعة وغير المطلوبة ولا الملزمة ضمن فروض العبادة لدى المسلمات والمسلمين عموماً ولا هي ملزمة للشيعة أيضاً.
إن من يُفترض أن يحاكم ليس القاتل الجماعي وحده, بل من وفر له وسهل عليه سبيل ممارسة القتل الفردي والجماعي. إن عدم منع هذه الزيارات تدخل ضمن توفير وتسهيل مهمة الإرهابيين في قتل الناس بدم بارد. ولكن الذي سهل ذلك هو الآخر يمارس اللعبة بدم بارد ولا يهمه موت الناس بل يهمه إبقاء راية الطائفية المقيتة مرتفعة وراية المحاصصة مرفرفة والبقاء في السلطة,
8/7/2010                        كاظم حبيب            



1068
كاظم حبيب

خلوة مع النفس
الصداقة كنز.. وخيانة الأمانة والصداقة رجس شنيع..!

حين أخلوا إلى نفسي أعيش معها تجاربي الحياتية الفاشلة منها قبل الناجحة .. أعيشها ثانية, أعيش بها المرارة والفرحة, أعيش فيها وكأنها تحدث الآن وليست من الماضي القريبة أو البعيد. وغالباً ما تكون التجارب الفاشلة دروساً مهمة يتعلم منها الإنسان الشيء الكثير وغالباً ما تعود إلى الذاكرة لتؤرق الإنسان لأنه يشعر بالذنب لعجزه عن وعي احتمال هذا الفشل قبل وقوعه.. والتجربة الفاشلة التي كانت ولا تزال تثير لدي الاشمئزاز والشعور بالقرف أكثر من غيرها من التجارب الفاشلة التي مررت بها في حياتي القصيرة تلك التي اقترنت بمن كنت أطلق عليه صديقاً وأخاً ورفيقاً عزيزاً.
ولد هذا "الصديق" في عائلة عراقية كريمة ومناضلة. التحق أخوه الضابط العسكري بالحزب الشيوعي العراقي قبل ثورة تموز 1958 وكان من بين تنظيم الضباط الشيوعيين الأحرار الذين عرفوا بموعد ثورة تموز. وكان نموذجاً للضابط الوطني الذي لم يؤذ أحداً من الناس, ومع ذلك فقد اعتقل في انقلاب شباط الفاشي في العام 1963 وعذب ولاقى شتى المصاعب وسجن. ثم أطلق سراحه فيما بعد ولم يعد يمارس السياسة الفعلية واكتفى باتخاذ موقف إيجابي طيب من الحزب الشيوعي العراقي يمارس النقد حين يجده ضرورياً ومفيداًو وخاصة في علاقة الحزب التحالفية مع حزب البعث الحاكم حينذاك.
وكان "الصديق" المفترض قد التحق بالحزب الشيوعي العراقي حين كان طالباً في كلية التجارة والاقتصاد وتخرج منها قبل ثورة تموز. وأصبح ضابط احتياط في الجيش العراقي بعد ثورة تموز. منح فيما بعد زمالة دراسية لدراسة الاقتصاد ونيل شهادتي الماجستير والدكتوراه في تشيكوسلوفاكيا. نال الشهادتين العلميتين وتزوج من امرأة تشيكية وعاد إلى العراق بعد انقلاب 17 تموز 1968.
كان هذا "الصديق" شخصية دافئة وإنساناً وديعاً ومسالماً, لم يكن يحمل الضغينة لأحد, مرح ويحمل روح النكتة, كان كسولاً وأطلق عليه مع بعض من أصدقائه في فترة الدراسة في الخارج بتنابلة السلطان عبد الحميد.  تعرفت عليه حين كنا ندرس في الخارج, أنا في ألمانيا وهو في تشيكوسلوفاكيا وحين كنا نقيم فعاليات طلابية في برلين أو أثناء السفر إلى براغ.
حين عاد إلى العراق بدأ بالتحري عن عمل. تعرفت عليه بشكل أفضل بعد أن التحق باللجنة المختصة بالشؤون الاقتصادية للحزب الشيوعي العراقي, وساعده الحزب في الحصول على وظيفة مدير في إحدى الوزارات العراقية.
تكونت لي علاقة طيبة وصداقة حميمية معه بمرور الزمن, خاصة وأنه كان رفيقاً وجاراً لي في السكن وعملنا معاً في جمعية الاقتصاديين العراقيين.
خلال السنوات تلك لم الحظ عليه ما يقلقني سوى كونه كان يتطلع إلى العمل التجاري والغنى المالي. وكان يمارس شتى أنواع الأعمال إلى جانب وظيفته للحصول على المال وتحسين أوضاعه المعيشية التي لا يمكن أن تؤخذ عليه كنقيصة ما دامت في الإطار العام المقبول.
وحين أُجبر الشيوعيون على مغادرة وظائفهم بعد اشتداد الضغط عليهم, رحل هو الآخر وبدأ يعمل في التجارة إذ كانت له ولزوجته بعض المال الذي سمح له بذلك.
خلال فترة وجودنا في المهجر تعززت علاقاتنا الصداقية وأحياناً العائلية وأتمنته على مال كان وديعة عندي. كان يعمل مع بعض معارفي في النشاط التجاري. حذرني أحدهم منه, واعتبرت ذلك من باب المنافسة بين العاملين في التجارة. وهو في المحصلة النهائية لا زال عضواً في الحزب, رغم أنه تصرف مرة بما لم نتفق عليه وحمَّلَ ذلك المال خسارة معينة, فأن ثقتي به لم تتزعزع, ولكني حذرته من التمادي بالعمل المصرفي الذي يحمل أخطاراً معينة لا قدرة للجهة التي أودعت المالي عندي على تحملها.
حين غادرت الجزائر إلى إقليم كُردستان كنت قد جمعت بعض المال من راتبي الشهري في الجزائر, إذ كان من بدرجة أستاذ يدفع له 70% من راتبه الشهري بالعملة الصعبة, وكان الباقي 30% يدفع بالعملة الجزائرية كافياً للمعيشة في الجزائر وشراء بطاقات السفر في العطل الصيفية, فأودعته عند هذا "الصديق" ورجوته أن يشتغل به ليوفر شيئاً من المال لعائلتي في ألمانيا التي لا راتب ولا عمل لديها هنا, علماً بأن المبلغ لم يكن كبيراً. وكان الحزب الشيوعي يقدم مبلغاً شهرياً لعائلتي يحسب ديناً علي أن أسدده بعد عودتي من كُردستان إلى الخارج, وقد سددت الدين كاملاً غير منقوص في العام 1989 ووفق وصولات محفوظة عندي.
كنت ألتقي بهذا الصديق في لندن أحياناً وفي براغ أحياناً أخرى حين أكون خارج كُردستان وحن أصبحت ممثلاً للحزب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية. أعطيته وكالة بالمال المودع في البنك لكي يستطيع التصرف المحدود بالمال ولم يكن المبلغ الإجمالي المؤتمن عليه قليلاً.
وبعد عدة سنوات أدركت أن هذا المدعو "صديقاً" لم يتصرف بإجمالي المال بشكل نظيف بل كان يستثمره لأغراضه الخاصة ويتلاعب بالحسابات وحمل الجهة التي أودعت المال لدي خسائر لا بالرأسمال الأساسي بل بالأرباح التي كان من المفروض أن تتراكم لتك الجهة, وكذلك بالأرباح التي تكونت في المجالات التي وظف فيها تلك الأموال لم يحسبها لتلك الجهة بل لنفسه. كما ابتلع جزءاً من المال الشخصي الذي وضع لديه لصالح عائلتي في حالة وقوع حادث أثناء مشاركتي في حركة الأنصار الشيوعيين في كردستان, وكان احتمال الشهادة موضوع في الأجندة اليومية للمناضلين, إذ سقط الكثير جداً من الشهداء الأبرار ممن كانوا معي أو في مواقع نضالية أخرى من كردستان العراق.
لقد استعادت تلك الجهة المال, ولكنها لم تحصل على الأرباح كلها بل ابتلعها ذلك" الصديق" الذي خان الأمانة فعلياً.
ولكن المشكلة ليست في هذا المال الذي ابتلعه كأي سارق بائس وشرير, بل تكمن في مكان آخر, وهي التي تؤرقني أكثر وتثير عندي القلق بضعف قدرتي على اكتشاف زيف البعض من الناس.
فقبل فترة وجيزة التقيت بصديق عزيز أخبرني ما لم أكن أعرفه ولم أتوقعه, ولم يكن ما قاله قولاً عابراً بل موثقاً. لقد كان هذا الصديق قد انتقل إلى معسكر صدام حسين, إلى ذلك المستنقع الذي يلتقي عنده جواسيس وعيون النظام الذين يعملون في صفوف قوى المعارضة العراقية ويحملون تاريخاً كان نظيفاً. لقد أصبح "الصديق" جاسوساً على رفاقه وأصدقاء حزبه السابق وعلى قوى المعارضة العراقية. لقد اشتراه النظام بشروى نقير وباع تاريخه النضالي.
لقد حصلت قوى المعارضة العراقية على الملف الخاص به, ولم يكن يعلم بحصول قوى المعارضة, التي هي اليوم بالحكم على ذلك الملف. جاء إلى العراق يطالب بحصته بالحكم, بمنصب دبلوماسي في بلد ما نتيجة "نضاله الطويل" في صفوف المعارضة العراقية ومساهمته في تشكيل كتلة ديمقراطية لم يكن أميناً عليها وعلى حلفائها. الشخص الكبير الذي قابله اعتذر له عن إمكانية إسناد أي منصب له, وحين استفسر عن السبب, رجاه أن يذهب إلى شخص معين كان يتعاون قبل ذاك معه ليريه الملف الخاص به الذي أخذ من أجهزة الأمن العراقية الخاصة بجواسيس النظام في الخارج وفي صفوف المعارضة. أدرك الأمر ولم يذهب لمقابلة الشخص المعني الحائز على الملف.
لقد كان حزني كبيراً ليس على المال الذي سرقه هذا الرجل من تلك الجهة التي جمعت تلك الأموال بجهد جهيد ومن عرق المئات من المناضلين الأوفياء للحركة الوطنية والأنصارية في العراق, رغم أهميتها, وليس على مالي الخاص أيضاً, رغم قلته, فحسب, بل وبالأساس حزني على تلك النفس الضعيفة والدنيئة لهذا الرجل الذي باع نفسه لمستبد لم يرع حرمة عائلة ولا إنسان في العراق, باع نفسه للدكتاتورية وأساء إلى تاريخه النضالي, في وقت لم يكن محتاجاً للأموال, إذ كان يملك ما يكفي من أرث كبير ورثته زوجته.
حين اخلوا إلى نفسي, كثيراً ما استعيد هذا الشريط المحزن وأشعر بالذنب لتلك العلاقة التي نشأت في مرحلة النضال مع "رفيق وصديق وأخ وجار" كنت أعتز به, ولكنه خان الصداقة والرفقة والأخة والجيرة, خان كل شيء ومرغ نفسه وكرامته وسمعته بالتراب, وأجهز على تلك الصداقة والرفقة والجيرة بسحت حرام ومال زائل وسوف لن يفتخر أبناؤه وأحفاده بهذا التاريخ المزري, رغم أنه, كما يبدو, قد اعتاد على العيش على فتات الموائد وعلى السحت الحرام وعلى التلاعب بمشاعر الصداقة, وإلا لكان قد دفن نفسه بالتراب أو قدم اعتذاراً لشعبه وحزبه السابق وإلى من كانوا أصدقاء له,  للأفعال الكريهة والدنيئة التي مارسها في حياته السياسية.
لقد أدركنا جميعاً خطأ الثقة التي وضعتها في هذا الشخص والتي لي لم يكن أهلاً لها.     
ما يؤرقني أيضاً أني لا أعرف إلى الآن متى بدأت خيانة هذا الرجل, متى بدأ التجسس على حزبه ورفاقه وكافة الأصدقاء, وربما على عائلته في العراق, هل بدأت في بغداد في العام 1978 حين اعتقل لفترة قصيرة سبب مخالفة مرورية, أم بدأت حين بدأ العمل التجاري في لندن وبراغ بعد خروجه من العراق, رغم أن الأمر في المحصلة النهائية واحد. ولا أدري حتى الآن ما هي الأضرار التي جلبها هذا الشخص على الحزب الذي احتضنه والرفاق الذين عاملوه بود والأصدقاء الذين وثقوا به, ولكنه كان مسيئاً للجميع ولكرامته التي فقدها منذ أن أصبح سارقاً وجاسوساً لسلطة غاشمة لم يعرف تاريخ العراق الحديث مثيلاً لها.     
لقد كان درساً قاسياً وفشلاً ذريعاً لصداقة كانت مؤذية, وتجربة يفترض أن لا يلدغ الإنسان بمثلها مرة أخرى.
4/7/2010                     كاظم حبيب     

1069
كاظم حبيب

لنعمل من أجل بناء الديمقراطية الغائبة في العراق؟


نشرت قبل فترة وجيزة عدداً من المقالات حول الديمقراطية والمجتمع المدني ودور الدولة ومنظمات المجتمع المدني, وكان أحدها تحت عنوان "هل يمكن بناء الديمقراطية في العراق؟ وفي هذه المقالات سعيت إلى تأكيد عدة مسائل جوهرية, منها تلك التي لا تزال تضعف القدرة على بناء المجتمع المدني والديمقراطي والدولة الديمقراطية في العراق :
1.   بنية المجتمع الراهنة ومستوى الوعي الفردي والاجتماعي العام, وكلها مرتبطة عضوياً بالبنية الاقتصادية, إضافة إلى المعاناة الطويلة تحت هيمنة الدولة الأبوية المستبدة, إذ لا تزال الدولة الراهنة غير الكاملة وتمارس ذات الدور الأبوي. وهذه الإشكالية متبادلة الفعل والتأثير, الدولة لا تريد إنهاء دورها من جهة, ووعي الإنسان ذاته لم يصل إلى مستوى التخلص من طلب هذا الدور الأبوي من الدولة من جهة أخرى.
2.   طبيعة الحكم واستناده إلى المحاصصة والتوافق, وغياب الإستراتيجية الواضحة لبناء الدولة والمجتمع والاقتصاد الوطني, إضافة إلى غياب العمل المنسق والمنظم وفق برنامج متكامل.
3.   غياب المعارضة السياسية القوية والواعية لمهماتها السياسية, إضافة إلى ضعف مواقفها, في ما عدا تلك القوى التي تحمل السلاح وتمارس العنف والإرهاب ضد المجتمع. إن ملامح جديدة تبرز في نهوض معارضة سياسية, ولكنها في بداياتها ولا تزال هشة ويراد تعزيزها وتكريسها في ذهن المجتمع والفرد العراقي, امرأة كانت أم رجلاً.
4.   ضعف أو هزال الرقابة الضرورية لمجلس النواب القائم على قاعدة التوزيع المذهبي للسكان والساعي إلى التوافق في عمله والمتناغم مع سياسة التوافق التي يراد الالتزام بها في العراق.   
5.   غياب المجتمع المدني بسبب غياب شروط وجوده الأساسية إلى الآن, وبالتالي ضعف دور منظمات المجتمع المدني, وكذلك ضعف استقلالية أجهزة ووسائل الإعلام المتعددة. وهذا لا يعني غياب كامل لهذه المنظمات وتلك الأجهزة, ولكن هناك محاولات جادة من قبل الدولة بمؤسساتها المختلفة, وخاصة الحكومات المتعاقبة, للهيمنة على هذه المنظمات وأجهزة الإعلام ومصادرة دورها واستقلاليتها قدر الإمكان.
6.   ويفتقد العراق إلى الآن إلى الأحزاب الديمقراطية بالمعنى الدقيق, سواء من حيث علاقتها بالمجتمع أو علاقتها ببعضها الآخر أم علاقتها بأعضائها أم بالرقابة الشعبية عليها من جانب منظمات المجتمع المدني والمجتمع. هناك إرهاصات ولكنها ليست غير ذلك.
7.   ورغم وجود هيئات للنزاهة, فأن الفساد المالي والوظيفي والمحاصصة الطائفية وهيمنة الأحزاب الإسلامية السياسية على السلطة وجميع أجهزتها, اضعف ويضعف فعلياً القدرة على مكافحة الفساد المالي والإداري والذي يمنع بدوره القدرة على بناء دولة المؤسسات الديمقراطية والمجتمع المدني.
هذا التشخيص لا يحمل إساءة لأحد ولا يريد إغاظة أحد, بل يتحدث عن واقع قائم في العراق. وتغييره  يستوجب الكثير من الجهد باتجاهات كثيرة تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والتنويرية والانفتاح الفعلي على ثقافات وتجارب الشعوب الأخرى من جهة, وإعادة النظر بالدستور والقوانين السائدة وبالنظم الداخلية للأحزاب والقوى السياسية وبدور الدولة والمؤسسات الدستورية ومنظمات المجتمع المدني من جهة ثانية, وبما يمكن تغييره في بنية الإنسان الفكرية والسياسية, أي البنية العقلية للإنسان العراقي وأسلوب التفكير بعد قرون من التخلف والإقصاء الفعلي والتخدير والاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي. (ويمكن العودة إلى شاهدٍ من أهلها, إلى شاهد هو الابن الشرعي لهذا النظام المحاصصي الفاسد القائم, إذ بعد أن أصبح خارج الحكومة أعطى لنفسه الحق في تصريحات قوية لجريدة الشرق الأوسط تفضح ما قلناه سابقاً عن الواقع العراقي الراهن وكان صاحب التصريحات جزءاً أصيلاً من ذلك الواقع المزري. وقال أنه لم يقل كل شيء ويهدد بالقول. ولكن إذا ما أعطي الرجل منصباً جديداً ستغيب تلك اليوميات! راجع في هذا الصدد الشرق الأوسط بتاريخ 30/6/2010, كما نشرت المقابلة في صوت العراق).
قوى الإسلام السياسي تريد بناء دولة إسلامية, وهي تتعارض مع دولة المجتمع المدني, ومؤسسات المجتمع المدني التابعة لها وترتبط بسياسات القوى الحاكمة ولا تقوم بالرقابة عليها, بل هي جزء منها, وتتصارع في ما بينها حين يبدأ الخلاف بين قواها السياسية, وتتوقف حين تلتقي بغض النظر عن مصالح المجتمع, إذ أن مصالحها ومصالح أحزابها تشكل محور عملها واهتمامها. ويمكن للإنسان أن يتابع عدداً من تلك المنظمات المرتبطة بالأحزاب الإسلامية السياسية شيعية كانت أم سنية ليعرف وجهة طبيعتها ووجهة عملها والمصالح التي تتبناها.
من أجل أن نعمل على تغيير الواقع العراقي السياسي الراهن, لا بد من وجود معارضة سياسية ديمقراطية, ولا بد من أن تغير تلك القوى التي تتحدث باسم الديمقراطية من نهجها وخطابها السياسي وأساليب وأدوات عملها لتصبح قادرة في أن تكون معارضة جادة ونافعة للمجتمع وقادرة على توفير فرص التغيير من خلال العمل الدؤوب والطويل النفس والصبور مع فئات المجتمع. المشاركة في الحكم في هذه الفترة لا يقدم للمجتمع شيئاً, بل يواصل النهج السابق التساومي للقوى الديمقراطية والساكت عن أخطاء الحكم والتي تبلورت في مشاركة الكثير من تلك القوى والعناصر ذات الوجهة العامة الديمقراطية في قوائم انتخابية إسلامية سياسية وطائفية بدلاً من معارضتها والدخول بقوائم مشتركة بين القوى الديمقراطية. إن تعزيز المعارضة السياسية الناضجة خارج البرلمان له أثر مهم في حياة الناس وفي تعبئتهم لصالح تحقيق مصالحهم اليومية.
إن المعارضة السياسية في العراق لا تعني معارضة الحكم في كل شيء أو حمل السلاح ضده, بل تعني الوقوف إلى جانب مصالح الشعب وقضاياه العادلة والدفاع الثابت عنها, سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم بيئية أم قضايا قومية أم قضية الاستقلال والسيادة الوطنية, خاصة وان الدولة العراقية تعتبر اليوم الدولة الثالثة بعد الصومال والسودان بصدد المخاطر التي تتعرض لها ما يطلق عليهم بـ"الأقليات القومية والدينية", وفق تقديرات المؤسسات الدولية المتخصصة, وهم مواطنون يعانون من محنة التمييز والكراهية والقتل من جانب قوى معينة في المجتمع ومن قوى ودول الجوار وسكوت من جانب بعض القوى في الحكم.
إن المعارضة السياسية التي تأخذ على عاتقها الدفاع عن مصالح الشعب ستكسب قوى الشعب إلى جانبها فهناك الكثير مما يجب النضال من أجله والدفاع عنه, سواء أكان في مجال التخلف الاقتصادي وتخلف الخدمات والبطالة والفقر والتدهور التعليمي وضعف دور الثقافة والمثقفين بفعل سياسات الحكومة الاتحادية الراهنة, وضعف الدور الرقابي للمجلس النيابي ودور الحكومة في تنفيذ سياسة اقتصادية واجتماعية عقلانية وعادلة, وضعف وفساد أجهزة الإدارات المحلية في المحافظات, وتفاقم فجوة الدخل السنوي ومستوى المعيشة بين النخب الحاكمة والغنية والفئات الكادحة والفقيرة, وتحول الفساد في البلاد إلى نظام معمول به فعلاً من جانب الدولة والمجتمع ...الخ.
يخطئ من يعتقد بأن المجتمع العراقي ستنتعش فيه الديمقراطية في ظل أحزاب سياسية ذات وجهة دينية ومذهبية تسيطر على الحكم ومسؤوليها يساهمون في تمجيد العشائرية والطائفية ويسعون معاً إلى تكريس تقاليدها وعاداتها ودورها في المجتمع بدلاً من دور الدولة والمجتمع المدني. ويخطئ من يعتقد بأن القبول بهذا الواقع يسهم بالتغيير التدريجي للواقع السياسي العراقي.
إن استمرار قوى الإسلام السياسي في الحكم, رغم تراجع نسبة المشاركين في الانتخابات بسبب رفضهم لهذا الواقع, كأحد الأسباب, قد استطاعت أن تضعف القوى الديمقراطية وأن تغَّيب وجودها في المجلس النيابي العراقي بشتى الطرق, خاصة وأن التحالف الكردستاني يرفض حتى الآن تكوين تحالف خارج إطار مجلس النواب مع القوى الديمقراطية العربية, وبالتالي فهو يساهم, شاء ذلك أم أبى, في إضعاف القوى الديمقراطية, ولن ينفع هذا التوجه قوى التحالف الكردستاني على المدى البعيد. وهذا الأمر يستوجب إعادة النظر من جانب قوى التحالف الكردستاني والقوى الديمقراطية معاً للتحري عن قواسم مشتركة, إذ أن استمرار الطائفية في العراق يزيد على المدى البعيد من إشكاليات الديمقراطية والمؤسسات الدستورية في العراق ويمنح قوى الإسلام السياسي الأكثر رفضاً للديمقراطية وللفيدرالية الكُردستانية مواقع قوة إضافية, كما حصل في انتخابات 2010.                 
في مجتمع تغيب عنه إلى الآن شروط المجتمع المدني يصعب بناء منظمات مجتمع مدني ديمقراطية مستقلة عن الدولة قادرة في أن تلعب دورها في المجتمع. صحيح هناك بعض منظمات المجتمع المدني الديمقراطية والمستقلة والتي تبذل جهداً كبيراً في نشاطها لصالح المجتمع, سواء عبر دعم من مؤسسات داخلية وأجنبية أم عبر الدولة العراقية, ولكنها قليلة, ومنها بشكل خاص بعض المنظمات النسائية وبعض أجهزة الإعلام أو بعض الصحف والمجلات النسائية والثقافية والسياسية. 
نحن أمام معضلة دولة ريعية استهلاكية وتقاليد عريقة في الاستبداد والحكم الفردي ولا يمكن زرع الديمقراطية في مثل هذه الدولة لمجرد الرغبة في ذلك, كما تصور البعض ممن اعتقد بقدرة بناء الديمقراطية بمجرد سقوط صدام حسين. ولقد أشرت إلى ذلك منذ العام 1995 حين أصدرت كتابي الموسوم "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة", إذ أن الكثير من الخصائص العامة للنظام كانت موجودة في الكثير من قوى المعارضة حينذاك, وأن الكثير من صفات صدام حسين العامة نفسها, كانت موجودة في عدد كبير من شخصيات قوى المعارضة العراقية. وها هي تقابلنا اليوم في الواقع السياسي العراقي.
الشعب العراقي أمام معضلة لا بد من التغلب عليها, والتغلب عليها يتطلب دوراً أكبر للمجتمع في تغيير واقعه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ووعي الفرد السياسي, وهذا يتطلب دوراً أكبر للمثقفات والمثقفين الديمقراطيين وللنقابات والاتحادات المهنية والأحزاب والقوى والعناصر السياسية الديمقراطية التي يفترض أن تجد طرقاً سلمية وديمقراطية للنضال من أجل تحقيق التغيير الديمقراطي السلمي المنشود في المجتمع وعدم اللهاث وراء المحاصصة الطائفية والمشاركة مقابل فتات الموائد وعدم القدرة في التأثير الفعلي على سياسات الحكم وتحقيق مصالح الشعب المُغَّيبة.
إن المعارضة السياسية العلمية والعقلانية والإيجابية مطلوبة لتعبئة الشعب حول مهماته المطلبية والوطنية, لصالح الشعب وتقدمه اللاحق.
2/7/2010                     كاظم حبيب         




1070
كاظم حبيب
هل من علاقة جدلية بين النضال المطلبي للشعب والنضال في سبيل الديمقراطية؟

كانت الأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية وستبقى تواجه مصاعب جمة في نضالها من أجل حرية الشعب وحياته الديمقراطية والتقدم الاجتماعي وتعزيز استقلال وسيادة البلاد ما لم تربط هذا النضال بحيوية ومبادرة وإبداع بالمطالب اليومية والأساسية للفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة التي تشكل اليوم نسبة عالية جداً من الشعب العراقي بكل مكوناته, إضافة إلى تلك المطالب التي تمس الغالبية العظمى من الشعب. وتتحمل هذه القوى, في ظروف الدول النامية حيث لا تسود في غالبيتها الديمقراطية وحقوق الإنسان بل تداس أحياناً بالأقدام, مسؤولية توضيح العلاقة العضوية والجدلية بين المهمات الوطنية العامة والمهمات المطلبية اليومية لحياة ومعيشة الناس مثل العمل والخبز والماء والكهرباء والتعليم والصحة والنقل والبيئة النظيفة والشوارع المبلطة والمجاري, إضافة إلى المطالب الثقافية والفنون الإبداعية والآداب المتنوعة التي يفترض فيها أن تغذي روح وعقل الإنسان وتساهم في تنويره, وكذلك الأجر المتساوي للعمل المتساوي وحرية المرأة ومساواتها بالرجل ,,الخ. كما لا بد من ربط تلك المهمات الوطنية العامة بمطالب فئات المجتمع المختلفة, سواء أكانت شبابية أم نسائية أم طلابية وتلاميذ المدارس أم كبار السن والتقاعد أم العجز والشيخوخة والضمان الاجتماعي ... الخ. إذ عبر هذا الربط في طرح الشعارات اليومية المناسبة يمكن كسب الناس وتعبئتهم للوقوف إلى جانب القضايا الوطنية والمهنية اليومية الملحة وفي مواجهة التعسف أو الفساد أو مصادرة حقوق الإنسان, ومنها حقوق المرأة والطفل.
ويفترض في العملية النضالية أن تأخذ الأحزاب السياسية الديمقراطية, واليسارية منها على وجه الخصوص, على عاتقها إبراز العلاقة العضوية بين الطبيعة الاجتماعية والسياسية للحكومة وبين سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية, إذ أنهما وجهان لعملة واحدة. فلا يمكن لأي حكومة تريد الدفاع عن المصالح الوطنية أن تهمل عملية التنمية الاقتصادية والتصنيع وتحديث الزراعة وتركز على الاستيراد السلعي وإغراق الأسواق بالسلع من مختلف دول العالم وتستهلك الدخل القومي بعيداً عن تحقيق التراكم الرأسمالي الضروري لتطوير وإغناء الدخل القومي, أو لا تقوم باستخدام عقلاني للدخل القومي المتحقق في البلاد أو لا تنتف سياسة توزيع وإعادة توزيع سليمة بما يحقق العدالة الاجتماعية النسبية في ظل أوضاع العراق الراهنة.
إن التثقيف بهذه الموضوعات من جهة, وتعبئة الناس للنضال اليومي من أجل حقوقهم المشروعة في العمل والعيش الكريم والحصول على ما هو ضروري من خدمات من جهة أخرى, شكل في العراق خلال السنوات السبعة المنصرمة الحلقة المفقودة في نضال القوى الديمقراطية العراقية, ومنها اليسارية. وقد لعب هذا الواقع دوراً بارزاً في تسليم قيادة الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة إلى تلك القوى التي رفعت شعارات يومية تستجيب لمطالب وحاجات الناس وربطتها بصيغة ما بالمهمات الوطنية, سواء أكانت صادقة في ذلك أم لذر الرماد في العيون.
حين جرى لي لقاء في بغداد في خريف العام 2009 مع عدد كبير من ممثلي قوى التنسيق الديمقراطي أكدت للحضور الكريم ملاحظة أساسية لخصتها بما يلي:
"أرى إن واجب القوى الديمقراطية في هذه المرحلة يتلخص في التزام مطالب الفئات الاجتماعية المختلفة, وخاصة الكادحة والفقيرة التي تشكل غالبية المجتمع وتعبئتها للنضال من أجل مطالبها اليومية من خلال جمع التواقيع على مذكرات احتجاجية ومطالب عادلة ومشروعة وتنظيم الاعتصامات لقطاعات مهنية أو لجماهير محلة أو مدينة أو طلبة جامعة, وكذلك القيام بالإضرابات والمظاهرات الشعبية السلمية حين تستدعي الحاجة ذلك. وحين لا تقوم القوى الديمقراطية بهذه العملية الديمقراطية الضرورية, ستقوم بها  قوى أخرى وستأخذ هذه المهمة على عاتقها. ويمكن أن تقود هذه القوى تلك الفئات الاجتماعية إلى طريق خاطئ وأهداف خاطئة غير مرئية.
منذ سبع سنوات والناس تتلوى بسبب نقص شديد ومرير في توفر المياه الصالحة للشرب والكهرباء والمعالجة الطبية المناسبة والرعاية الصحية ونقص التعليم وتشوهه عبر مناهج دخيلة تساهم في تقسيم المجتمع, إضافة إلى انتشار البطالة والفساد المالي والإداري وسيادة المحسوبية والمنسوبية, وانتشار القمامة والمستنقعات المائية وما تنشأ عنها من أمراض في مناطق الكادحين, إضافة إلى هشاشة الوضع الأمني والسياسي واستمرار موت الكثير من البشر كل يوم تقريباً.
منذ سبع سنوات والإنسان العراقي يفتش عن القوى التي تأخذ بيده صوب النضال لتحقيق مطالبه المشروعة. وحين لم يجد من القوى الديمقراطية من يمارس ذلك الدور بدأب وحيوية, التحق يقوى معينة أخذت المبادرة وهي تسيطر اليوم على عقول الكثير من البشر.
في نهاية العام المنصرم حصلت تحركات شعبية حول مطالب الشعب مثل الاعتصام أو التظاهر السلمي أو الإضراب. ولكن لا تزال هذه الحركة بعيدةً كل البعد عن واقع الناس وحاجاتهم وضرورات تنشيط وتنظيم هذه العملية وأخذ المبادرة لكي لا تبقى بأيدي من لا يريد الخير للبلاد.       
إن تخلف القوى الديمقراطية عن أخذ المبادرة والإمساك بزمام الأمور وتعبئة فئات المجتمع لتحقيق مصالحها المشتركة, قد انتهى إلى نشوء حركة شعبية لم تستطع الانتظار أكثر ليأتي من ينظمها ويقودها صوب تحقيق تلك المطالب, فانطلقت في البصرة لتعلن احتجاجها على نقص الكهرباء في فصل الصيف اللاهب, ثم تحركت في بغداد ويمكن أن تتحرك في بقية مدن ومحافظات العراق. ولكن, ولكي تنتهي إلى تحقيق نتائج إيجابية, لا بد من توفير الكوادر المجربة القادرة على تعبئة الناس من خلال الربط العضوي الجدلي بين المطالب وبين الواقع السياسي العام الذي يعاني من هشاشته المجتمع ومن صراع النخب الحاكمة حول مصالحها الضيقة دون التفكير الجاد بمصالح المجتمع.
إن الوضع في العراق يمكن أن يبشر بطلائع مد شعبي مناهض للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم الذي لا يجسد احترام الإنسان ومصالحه الحيوية ومصالح المجتمع, بل يتركز على المصالح الذاتية لهذه المجموعة أو ذلك, وهو أمر بالغ الضرر. فهل في مقدور القوى الديمقراطية, ومنها اليسارية, أن تدرك حقيقة الوضع وتتابع بدقة تطور هذا المد الشعبي الذي يراد الآن إجهاضه من قبل الحكومة وذلك بتوجيه الرصاص إلى صدور المتظاهرين المطالبين بالكهرباء أو بغيره, كما حصل في البصرة.0؟ إن الصراع الطائفي المقيت في البلاد سينقل فئات المجتمع المتضررة إلى مواقع أخرى غير التي كانت عليه قبل الآن, وهي عملية معقدة ومتشابكة وبطيئة, ولكن علينا تقدير حركتها منذ الآن والأخذ بزمام المبادرة.     
الوقت ليس في صالح الشعب وليس من العدالة أن تضيع على الشعب الفرص بانتظار الفرص, إذ إن من يتأخر يعاقبه التاريخ, وها نحن قد رأينا ذلك بأم عيوننا وعشناه يومياً من خلال نتائج الجولات الانتخابية الثلاث المنصرمة (برلمانية عامة, ومجالس محافظات  وبرلمانية عامة).
أملي أن نتعلم من تجارب الماضي من جهة, وأن نشدد على العمل المشترك للقوى الديمقراطية العراقية من جهة ثانية, وأن يبدي الجميع التواضع المطلوب والواقعية المطلوبة لعقد اجتماع موسع لكل القوى الديمقراطي تلتقي عند قواسم مشتركة تنسجم مع طبيعة المرحلة والمهمات العامة والمهنية الشعبية الراهنة التي أصبحت عناوين ثابتة من خلال احتجاجات الناس المتصاعدة بعد صمت رهيب. ويحق لنا أن نتساءل هل كان هذا الهدوء الذي دام سبع سنوات عجاف هو الذي يسبق في العادة العاصفة؟     
لقد برزت بعد الانتخابات, وبالارتباط مع نتائجها, حركة شعبية مطلبية تبنتها بعض القوى الديمقراطية التي لم تحقق نتائج تذكر, ومنها الحزب الشيوعي العراقي, وهو موقف إيجابي يراد تطويره وتكريسه. والمطلوب من هذه القوى, كما أرى, أن تعمل بكل دأب من أجل تدريب الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة والعاطلين عن العمل على ممارسة حقها الطبيعي في الإضراب والاعتصام والتظاهر السلمي للمطالبة بحقوقها المغتصبة, وأن لا تسكت على الضيم والقهر المرير والبطالة والحرمان, وأن تلعب دور المعارض الإيجابي بعد تشكيل الحكومة لتستطيع أن تحقق تحالفاً ديمقراطياً واسعاً وتدريجياً يمكنه في المدى اللاحق لعب دور أكبر لا يقارن بالدور الهامشي الراهن أو الدخول في وزارة بوزير يتيم واحد غير قادر على التأثير ويحد من دور القوى الديمقراطية في المعارضة المبدئية لصالح مطالب الشعب.
إن معارضة فعالة وإيجابية أفضل مئات المرات من مشاركة بائسة بحكومة لا تمتلك ولا تنفذ برنامج وطني وديمقراطي متعدد الجوانب يخدم مصالح الشعب ويكافح ضد المحاصصة الطائفية والفساد المالي والوظيفي ..الخ.
إن ملايين الناس لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع, والكثير ممن ذهب أعطى صوته دون قناعة تامة, ولهذا لا بد من التحرك على هذه الملايين لتفعيل وتنشيط دورها في المجتمع والحياة العامة. ومثل هذا التوجه يحتاج إلى برنامج عمل عملي مرحلي للسنوات الأربع القادمة يتضمن المهمات المهنية والمطالب الشعبية ويشدها إلى المطالب الوطنية العامة لتصبح وحدة واحدة يناضل المجتمع بأسره من أجل تحقيقها.
30/6/2010                        كاظم حبيب 


1071
•   وإلى جانب التأثير المباشر لسوريا على الحركة السياسية المناهضة لبريطانيا في العراق؛ لعبت ثورة 1919 المصرية بقيادة سعد زغلول – كما أشرنا من قبل -  دوراً محفزاً لتلك الأوساط، التي كانت على إطلاع على أخبار الثورة من جهة، وعلى فكر الثورة من جهة ثانية، وهو الفكر الذي كان يتجلى في ما تنشره الصحافة المصرية من معلومات وقيم نضالية ضد الهيمنة الأجنبية، ومن أجل استقلال مصر والدول الإسلامية الأخرى. وكانت تلك المعلومات تتسرب إلى الناس في المدينة على وجه التخصيص . وكانت التحركات الفلاحية في الريف المصري، تنتقل أخبارها إلى الريف العراقي أيضاً، فيجري الحديث عنها في مضايف الشيوخ وفي مجالس المدينة. كتب محمد مهدي البصير - نقلاً عن الدكتور الوردي - يقول: "إن أخبار سعد زغلول والشعب المصري من جهة , وأخبار الملك حسين وأنجاله في الحجاز وسوريا من جهة الأخرى , كانت حديث الخاص والعام في العراق وقلما خلا مجلس من ذكرها" .
•   وكان للعلاقات بين العراق وإيران، ومجيء الزوار الإيرانيين إلى مدن مثل كربلاء والنجف والكاظمين وغيرها من مدن العتبات المقدسة، ومدن جنوب العراق، واحتكاكهم المتواصل بالناس وبشيوخ الدين؛ تأثير خاص سلك اتجاهين هما: تبادل وجهات النظر حول تطور الحياة السياسية في إيران، ودور شيوخ الدين وتجربتهم في النضال من أجل الدستور في الحركة؛ التي عرفت منذ بداية القرن العشرين بالحركة المشروطية، والموقف من الهيمنة البريطانية على إيران من جهة، ونقل أخبار ثورة أكتوبر البلشفية الاشتراكية، والثورة الألمانية، ودور العمال والفلاحين في هذه الثورة من جهة ثانية. ولم تكن كل أخبار الثورة، ولا كل المعلومات التي تصل عنها واضحة المعالم بالضرورة أو مفهومة الأهداف. إذ أن بعض الصحف كانت تشكك بأهداف الثورة ومواقفها من العراق أو الدول العربية، ولكن بعضها الآخر كان يشير إلى الدور، الذي لعبته الثورة البلشفية، في نشر المعلومات والوثائق والمؤامرات التي حاكتها، والاتفاقات التي عقدتها قبل ذاك الدول الاستعمارية لتقسيم مناطق النفوذ بينها. ولاسيما بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية. وفي الوقت الذي يجب أن لا تتم المبالغة فيه بدور هذه الثورات البعيدة عن العراق؛ لقلة الأخبار التي كانت ترد إلى الناس العراقيين عنها؛ يكون من الخطأ نكران أي تأثير فكري وسياسي غير مباشر لها على الحركات السياسية في المنطقة العربية، أو في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. ويتجلى هذا في العديد من كتابات الحكام السياسيين البريطانيين في العراق وفي غيرها، وفي الأخبار التي كانت تصل إلى العراقيين، وتتجلى في ما كانت تتناقله المجلات أو الصحف التي يطلع عليها بعض المثقفين من السليمانية أو من غيرها من مدن العراق. ولا شك في أنَّ المصادر التي تشير إلى وجود صلة مباشرة بين رجال ثورة العشرين - سواء أكانوا من شيوخ الدين أو من غيرهم - برجال الثورة الروسية أو بالقنصلية السوفييتية في إيران شحيحة جداً، ولم يؤكدها رجال الثورة، الذين قيل أنهم كانوا على صلة بالسوفييت. كما في حالة المرزا محمد رضا الشيرازي، وهو ابن حجة الإسلام والمسلمين العلامة المرزا محمد تقي الحائري الشيرازي، الذي لعب دوراً  قيادياً في الثورة، وأعطى فتاوى تنشط التحرك ضد المحتلين البريطانيين، والذي ورد ذكره وهو يجيب عن أسئلة الدكتور عبد الله فياض الواردة في كتابه المشار إليه سابقاً "الثورة العراقية الكبرى" .
•   ومع ذلك فإن الأحداث التي وقعت قبل وأثناء وبعد ثورة العشرين، تؤكد وجود تأثير ضئيل غير مباشر لثورتي شباط البرجوازية 1905 وأكتوبر الاشتراكية في روسيا القيصرية في عام 1917 ثم إقامة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، على أوساط معينة من قادة الثورة، انتقل من خلالهم إلى المقاتلين في جيش الثورة. وفي هذا الصدد يورد (فولفو) في كتابه عن تاريخ الأقطار العربية المعاصر ما يلي:
"وإلى العراق وسوريا، تسربت أنباء الثورة الروسية عن طريق خط الجبهة القفقاسية حيث كان يتجابه الجيشان الروسي والتركي ( ففي 1916 خاضت القوات الروسية غمار المعارك ضد الأتراك قرب خانقين , أي في أراضي العراق) , وكذلك عن طريق إيران والهند. وبين جنود الجيش التركي الذي يضم كثيرين من العرب , انتشرت بسرعة أنباء الحركة الثورية البادئة التي قام بها جنود الجبهة القفقاسية الروسية والمجموعة من القوات الروسية في إيران , ونبأ إطاحة العمال والجنود في روسيا بحكم الملاكين العقاريين والرأسماليين. وكانت واسعة الشعبية على الأخص الأنباء القائلة أن الجنود الروس يطالبون بوقف الحرب على الفور , وعقد الصلح , وتقسيم الأرض بين الفلاحين."  ثم يواصل فيقول: " وإلى المناطق الجنوبية من بلاد ما بين النهرين، تسربت أنباء الثورة في روسيا بصورة رئيسية عن طريق إيران والهند , فأن جيش الاحتلال البريطاني في العراق كان يتألف على الأغلب من جنود هنود. ولن نبالغ إذا قلنا إن شعوب العراق قد شعرت مباشرة بتأثير الثورة الروسية" . 
وجاء في البرقية التي أرسلها السير (أي. تي. ولسن) الحاكم الملكي العام في العراق، إلى وزير الهند في 12/8/1920 تشخيص 14 سبباً للثورة على الاحتلال الإنكليزي. وفي السبب الخامس يذكر ولسن ما يلي: " نقاط الرئيس ويلسون الأربع عشرة، وما أنتجته من هياج وتأثير زاده أثراً الشريف، والأتراك، والبولشفيك من متطوعين ومأجورين" .
•   وكان للعمال الهنود، الذين عملوا في الموانئ العراقية، وفي الثكنات والمنشآت العسكرية والإنتاجية، دور محسوس في إعطاء صورة واقعية عن حقيقة الاستعمار الإنكليزي في الهند؛ وعن المصائب التي تعاني منها شعوب الهند نتيجة لذلك.
•   وكان لتركيا تأثير مباشر على القوى، التي رفعت السلاح - باسم الجهاد الإسلامي ضد الكفار – في وجه القوات البريطانية التي احتلت البصرة في عام 1915. والمعلومات التي كانت بريطانيا تنشرها حينذاك، تؤكد وجود تلك الصلة، حيث كانت تصل الأسلحة والأموال إلى الحركات السياسية المناهضة لبريطانيا في العراق. و الأهم من هذا هو أن الحركة الدستورية لعام 1908 - ومن ثم الثورة الكمالية - كان لهما تأثير مباشر على الحركة السياسية العراقية المطالبة بالحرية واللامركزية في علاقاتها مع الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى. أي أنها كانت من المحفزات الأولى السابقة للتحرك والثورة على بريطانيا.
لقد كان لهذه العوامل وغيرها، تأثير مباشر وغير مباشر، على شيوخ الدين، والمثقفين، والموظفين الأفندية، وشيوخ العشائر في بادئ الأمر، ثم تنتقل من خلالهم إلى جمهرة أخرى من الناس، حتى تصل إلى عموم الشارع العراقي. أضف إلى ذلك المعاناة المباشرة للسكان من ظلم البريطانيين - الذي أشرنا إليه سابقاً - إذ أنها ساهمت في تحفيز همم العراقيين، ودفعت الكثيرين منهم إلى تغيير موقفه تغييراً إيجابياً من الانتصار البريطاني على الدولة العثمانية في بدايته، وإلى المطالبة بتنفيذ التعهد الذي التزمت به بريطانيا أمام الشريف (حسين) والالتزام أمام العراقيين ببيان الجنرال مود المتضمن أنهم جاءوا محررين لا محتلين، أو بالبيان الفرنسي البريطاني المشترك الذي صدر في عام 1918.


3. طبيعة قيادة وجيش الثورة   

كانت قيادة ثورة العشرين، تتكون من مجموعة من شيوخ الدين، وشيوخ العشائر، وبعض كبار ملاك الأراضي الزراعية، ومجموعة من الثوار المنحدرين من صفوف الفئات المتوسطة والميسورة؛ ومن صغار البرجوازيين، والمثقفين والمهتمين بالشؤون الوطنية والقومية والفكر التقدمي. والغالبية العظمى من هؤلاء كانت لا تنتمي إلى أحزاب سياسية، باستثناء قلة منهم كانت في قيادة أحزاب تلك الفترة، أو من المؤيدين لأهدافها الوطنية والقومية والاجتماعية العامة. تميزت قيادة الثورة بالجرأة والرغبة في تحقيق المهمات، ولكنها كانت تفتقد وحدة القيادة، والانسجام الفكري، أو التنسيق المطلوب. وإذا كان الريف والمدن المجاورة له، خاضعة لتأثير وسلطة شيوخ الدين البارزين، وشيوخ العشائر من مالكي الأراضي الزراعية، فإن مدينة بغداد والبصرة والموصل، كانت تحت تأثير الأحزاب السياسية، وأبناء العائلات الميسورة المشاركة في الثورة، وتأثير بعض المثقفين والتجار الوطنيين البارزين والوجوه الاجتماعية. ومن الخطأ هنا تقدير دور وتأثير شيوخ الدين تقديراً يقلل من شأنه على سكان المدن، الذين لم يتخلوا عن تقاليدهم وعلاقاتهم القديمة بالريف العراقي؛ لأنها كانت واسعة وعميقة يصعب التخلي عنها . وكان هناك تباين واسع في رؤية المشكلات القائمة، وأساليب المجابهة، بين أعلام الثورة. حيث كان الأسلوب العشائري- الفلاحي- الفردي هو الغالب المهيمن على تصرفات الثوار، وعلى مراكز اتخاذ القرارات و الخطط والتنفيذ. كما أن طبيعة قيادة الثورة، من حيث تكوينها والشخصيات المشاركة فيها، كانت تفتح مسالك عديدة للمساومة مع سلطات الاحتلال البريطانية، ومع الشخصيات العراقية تلك التي وقفت في وجه الثورة، وتعاونت مع قوات الاحتلال. وصحيح أنّ البنية الاقتصادية، والمواقع الاجتماعية، والمواقف السياسية والفكرية، والمصالح العامة والخاصة، لم تكن متناقضة تمام التناقض، إلا أنها كانت متشابكة شديدة التعقيد، يستطيع المتتبع لها أن يشخصها في عدد من شيوخ العشائر، وكبار مالكي الأراضي الزراعية، الذين كانوا يخشون على الأراضي التي بحوزتهم من المصادرة في حالة فشل الثورة. وفي بعض رجالات حزب العهد وبخاصة أولئك الضباط، الذين أطلق عليهم لقب الضباط الشريفيين (نسبة إلى الشريف حسين شريف مكة)، والذين كان لتخاذل العديد منهم، وارتداد بعضهم الآخر أثناء العمليات العسكرية للثورة، أثره البارز في إضعاف وتفكك قيادة الثورة وجيشها. وفي انعدام التوازن في قدرات المعسكرين، من حيث الكفاءة القتالية، والتنظيم والتسلح، والوحدة القيادية، والاتصالات بين مناطق العمليات الثورية المختلفة لصالح القوات البريطانية. وفي مساهمة الفئات المتوسطة حديثة التكوين العاملة في قطاع التجارة والنقل. فهي رغم كونها أكثر حزماً واستعداداً للمجابهة، إلا أنها كانت أكثر ضعفا وأقل خبرة وأدنى قدرة على التأثير وحسم الأمور، وكان عدد المؤيدين  والمشاركين منها في الثورة يكاد لا يذكر، بالقياس إلى عدد الثوار من أبناء الريف؛ لأنّ دورها الرئيس تمركز في المدن، حيث لم يكن للمدن ذلك الدور المتميز في الثورة ما عدا بغداد، التي كان لتلك الفئات الاجتماعية دور بارز، في نضج العملية الثورية، وفي التعبئة والحشد والمواجهة السياسية مع قوات الاحتلال البريطاني. 

هكذا كانت طبيعة قيادة الثورة، أما الفلاحون فقد شكلوا جيشها الأساس، بجانب أعداد قليلة من أبناء المدن من العاطلين عن العمل، ومن أشباه البروليتاريا ذوي الأصل الفلاحي، ومن العمال، وبعض الكسبة والحرفيين، والمثقفين والمتعلمين ممن استجاب لنداء القوى الدينية، والأحزاب السياسية أمثال: حرس الاستقلال، وحزب العهد، والجمعية الوطنية الإسلامية. ولا يصعب هنا تفسير النسبة العالية من الفلاحين وسكان الريف المشاركين في الثورة، فالفلاحون آنئذ كانوا يشكلون غالبية سكان العراق، وكانت أوضاعهم المزرية، والتدهور الشديد الذي يعاني منه الريف يدفع إلى الثورة. لقد لعب انخراط الفلاحين بكثرة في الثورة، والجيش والقيادة، دوره البارز الملموس في النجاحات الفعلية، التي تحققت في معارك الثورة عند بدايتها، ثم في النتيجة المؤلمة التي انتهت إليها العمليات العسكرية؛ بنجاح قوات الاحتلال في ضرب وتحطيم البنية التي كانت تعتمد عليها الثورة. وتعود أسباب هذا النجاح: إلى التبعثر الفلاحي والتباعد والانتشار الواسع على مناطق العراق. وإلى القيادات الفردية للعشائر المشاركة في الثورة. وإلى صعوبات الاتصال بين الثوار؛ بسبب رداءة الطرق وانعدام الوسائل الأخرى التي تخدم عملية التنسيق بين العشائر والقيادة، وبين الريف والمدينة , بالإضافة إلى قلة التدريب، وضعف الانضباط، وسوء الإعداد، وقلة ورداءة وقدم الأسلحة، التي كانت في حوزة الثوار وندرة العتاد، وإلى الاعتماد الرئيس على الخصائص المميزة للفلاحين في تلك المعارك، التي وإن كانت ذات تقاليد رجولية شرقية وجريئة وعلى استعداد عالٍ للتضحية، إلا أنها كانت مغامرة، وعفوية، وقلقة، وغير منظمة، وغير ملتزمة، وغير عقلانية في آن واحد. وإذا كان الهدف الرئيس واضحاً لبعض القيادات المشاركة في الثورة، فإنه لم يكن واضحاً تماماً لدى عدد كبير من جيش الثوار،  ولم يكن موحداً.
وخلال فترة مقاومة الاحتلال البريطاني - ما بين الحرب العالمية الأولى وثورة العشرين - استنزفت قوات الثورة الكثير من طاقاتها وقدراتها الفعلية. فانتفاضة تلعفر ودير الزور والسليمانية والنجف، وهبّات غيرها في مواقع أخرى، قد مكنت سلطات الاحتلال، من توجيه الضربات المنفردة لها؛ مما عطل مساهمة بعض  تلك المناطق في ثورة العشرين مساهمة فعالة، ولكنه لم يستطع أن يعطل تعاطفها معها  وتأييدها الضمني لها.
   
4. نتائج الثورة

كانت لثورة العشرين نتائج عديدة ومتداخلة، بحيث لا يمكن الادعاء بفشلها في تحقيق أهدافها الأساسية تماماً. كما لا يمكن الادعاء بأنها حققت تلك الأهداف التي سعى الثوار إليها. فالمعركة لم تكن في كل الأحوال متكافئة أو متوازنة بين الفريقين،  والعوامل التالية تشهد على ذلك:
•   امتلاك البريطانيين لجيش نظامي كبير نسبياً مؤلف من الإنكليز والمجندين الهنود، الذين تدربوا على القتال في الهند، في حين كانت قوات العشائر العراقية، تتكون من الفلاحين وسكان الريف، الذين لم يتدربوا تدريباً جيداً على استخدام الأسلحة الحديثة أو على النظام والانضباط العسكريين، أو على خوض المعارك النظامية.
•   امتلاك القوات البريطانية أسلحة حديثة ومتنوعة، تدرب أفرادها على استخدامها طويلاً، في حين كان الثوار لا يمتلكون إلا أسلحة قديمة وبالية وكميات محدودة من العتاد. ولم يكن في مقدورهم على الدوام استخدام الأسلحة التي يغنموها في معاركهم ضد القوات البريطانية.
•   كانت القوات البريطانية، تمتلك قيادة موحدة، وسرعة في الاتصالات وتنظيم العلاقات والالتزام بتنفيذ القرارات. في حين كانت قوات الثوار، لا تمتلك قيادة ميدانية موحدة. كما كانت العشائر تتصرف بحسب ما تمليه عليهم اجتهادات الشيوخ، الذين يتخذون القرارات على ضوء مصالحهم الخاصة القريبة، من دون أن يلجأوا إلى التنسيق الفعال مع بقية العشائر، إضافة إلى تخلف فن قيادة المعارك عند قادة  الثوار. وكثيراً ما كان الانتماء العشائري، ومشكلات التراتبية العشائرية، يمنعان التعاون والتنسيق الضروريين للنجاح، ولا يمكّنان من التخلص من العفوية، التي أعاقت سير العمليات العسكرية لقوات الثورة. وكان الدكتور كاظم نعمة على حق حين أشار في كتابه "الملك فيصل الأول والإنكليز والاستقلال" إلى ما يلي: "وقد تعينت طبيعة الثورة المسلحة عسكرياً باعتبارات عدة. فيما أن العمليات العسكرية قد بدأت بين العشائر فإنها ظلت عفوية ومحلية وغير منسقة استراتيجياً ومقيدة بصورة شديدة بشحة المعدات والمؤن عند العشائر. ولذلك فأن هذه المقيدات لم تعن على تحقيق نتائج مادية كبيرة. وكان النجاح المبكر للعمليات العسكرية يعود إلى حقيقة أن الهجمات سددت إلى أهداف متناثرة دون الاكتراث بآثار ذلك على طبيعة الثورة المسلحة كافة. وحالما أفلحت العشائر في تحقيق نصر تعبوي , أخفقت العشائر في أن تدرك أنها بعملياتها المستقلة المنفصلة لن تقدر على مواجهة التعزيزات البريطانية. ولقد تأكدت من خلال الثورة قوة العشائر في أماكنها التقليدية , غير أن العمليات العشائرية المشتركة تطلبت تنظيماً وقيادة موحدة وهدفاً مشتركاً. ولكن لم تتحقق جميع هذه المتطلبات. فالعشائر لم تتجادل مع متطلبات التنظيم , كما أنها كانت ملازمة بشدة لقيادتها وولائها لرؤسائها. وكان بعض منهم على غير استعداد للتضحية بمنزلته العشائرية والاجتماعية مقابل غاية أعم وأشمل. ولذلك لم تتمخض عن العمليات قيادات عسكرية قادرة على مقاومة السلطات البريطانية , وإنما أضحى الشيخ رجل الاستراتيجية والرئيس الفعلي للجسد السياسي في منطقته بعد تفكك وجود السلطان البريطاني" .   

•   لم يكن التنسيق بين المدن والريف ناجحاً، ولم يجر بينهما في انسجام. فالقوات العشائرية لم تكن لها ثقة بالأفندية ومثقفي المدن. على الرغم من أنَّ هؤلاء الأفندية ومثقفي المدن الثائرين، قدموا خدمات كبيرة للثورة عموماً، وبخاصة في مجال الإعلام للثورة والدعاية لأهدافها.
•   ضعف مستوى وعي الفلاحين في الريف العراقي ضعفاً، لم يسمح لهم بتكوين فهم معمق لأهداف الثورة السياسية. لذلك كان التأثير المباشر للقوى الدينية عليها كبيراً.. ولم يكن هذا الوعي في مستوى واحد، بل كان متبايناً في فهم الوجهة والمهمات والغايات النهائية للثورة.  ولم يكن العراقيون عموماً يشعرون بوجود وحدة فعلية أو وحدة وطنية بين سكان العراق يومئذ. ولكن هذه الشعور - وإنْ بقي في معظمه محصوراً ضمن مستويات معينة من الوعي السياسي والاجتماعي، ولدى فئات محدودة من المجتمع العراقي - سيتغير شيئاً فشيئاً في أعقاب ثورة العشرين وما تلاها من الأعوام والأحداث.  كتب المللك فيصل الأول – وربما كان على حق فيما كتب - عن العراق وسكانه بعد سنوات، فقال: "وفي هذا الصدد وقلبي ملآن أسى , أنه لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد , بل توجد تكتلات بشرية , خالية من اية فكرة وطنية , متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية , لا تجمع بينهم جامعة , سمّاعون للسوء , ميالون للفوضى مستعدون للانتفاض على أية حكومة كانت , …" .     
كانت ثورة العشرين تجربة سياسية غنية للشعب في مواجهة القوات البريطانية: أكدت استعداد الجماهير للقتال في سبيل الأهداف التي تسعى إليها. وعبرت في الوقت نفسه، عن نشوء نوع من الوحدة الوطنية بين العراقيين في مختلف مناطق العراق، ستجسد فكرة العيش المشترك لقرون طويلة في هذه المنطقة من العالم، التي ستصبح فيما بعد العراق الحديث بحدوده التقريبية الراهنة. كما أظهرت وجود أهداف مشتركة إلى حد ما بين تلك القوى، وبين أبناء الشعب العراقي: من عرب وكُرد وأقليات قومية ودينية. برغم المشكلات القومية والدينية والطائفية والإقليمية، التي جثمت بثقلها في قاع الحياة السياسية والاجتماعية العراقية، والتي كانت الصراعات الإيرانية-التركية الطائفية القديمة، التي سخرت لأغراض استعمارية، واستهدفت تحقيق المطامع في الأرض العراقية، تغذيها وتؤججها. وكذلك الصراعات العراقية-الأجنبية البريطانية قد فعلت في العراق ما فعلته الصراعات الايرانية - التركية. وأثبتت الثورة أيضاً أنّ زوال الاختلاف والصراع بين الريف والمدينة، وبين البدو والريف، وبين البدو والمدينة، ممكنٌ حصولُه وتحقُّقه بالصورة التي عرفتها الفترة السابقة من تاريخ العراق. وأصبح معلوماً عند الجميع أنّ اشتراك فئات الشعب، بمختلف قومياته وأديانه وطوائفه بالعمل الثوري ممكن بل ضروري لمواجهة سلطات الاحتلال البريطانية. وقد كشفت ثورة العشرين - رغم كل  الايجابيات التي أشرنا إليها والتي لم تكن مكتملة بسبب ضعف مستوى الوعي لدى الشعب العراقي - عن نقاط الضعف في تلك العملية الثورية، وفي الواقع العراقي القائم حينذاك..
إن دراسة أسباب وأهداف ومجرى وقوى الثورة، مع محاولات الاستفادة من مختلف الدراسات التي صدرت عن الثورة ومن الوثائق التي نشرت حتى الآن عن ثورة العشرين، ستساعد الباحثين بلا شك، في صياغة العديد من النتائج، التي كان لها تأثير بارز على مسيرة العراق اللاحقة. ويمكن الآن تلخيص نتائج الثورة ثورة العشرين في السطور التالية:
أولاً: عجزت الثورة عن تحقيق الهدف المركزي، الذي تمثل في التخلص من الاحتلال والانتداب البريطاني وطرد المحتلين، وأخفقت في تحقيق "الاستقلال التام الناجز" للبلاد. وكان هذا الفشل متوقعاً؛ بسبب طبيعة القوى الدولية والإقليمية والمحلية غير المتوازنة حينذاك، وبسبب الانتصار الذي حققته القوى الإمبريالية في الحرب العالمية الأولى، وقدرات القوات العسكرية البريطانية المتفوقة على مواجهة الثورة. وبنتيجة هذا الفشل؛ تسنى للمحتلين فرض نظام الانتداب فعلياً عليه، وترسيخ وجود القوات العسكرية، وفرض النظام والقوى التي كانت موالية لسلطات الاحتلال والمدافعة عن مصالح بريطانيا في العراق. وفي النهاية أمكن توفير مستلزمات، وشروط عقد الاتفاقيات الضرورية؛ للحصول على امتيازات التنقيب عن النفط الخام في الأراضي العراقية على وجه التخصيص، وعلى تكريس الوجود العسكري البريطاني.
ثانيا: وجهت القوى الإمبريالية، والرجعية المحلية المتحالفة معها، ضربة قوية للقوى والشخصيات الوطنية، وزجت بهم في السجون، أو نفتهم إلى الخارج، ووجهت ضربة قاسية لمصالحهم. كما أوجدت جواً ملائماً للمساومة، واستخدام مبدأ "الجزرة والعصا" مع قادة الثورة والمشاركين فيها. ونجحت – فعلاً - في كسب عدد منهم لاحقاً، لينضموا إلى جانبها، وإلى جانب الحكومات التي شكلتها.
ثالثا: بفعل طبيعة الثورة وأهدافها، توجهت قوى الاحتلال الأجنبي، إلى تكريس العلاقات العشائرية، والتمهيد لفرض سيادة العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في البلاد، بالاعتماد على كبار ملاكي الأراضي الزراعية، والبرجوازية التجارية حديثة التكوين، وعلى عدد كبير من أتباع الشريف (حسين) من حلفاء الحرب ضد القوات العثمانية؛ ممن ارتبطت مصلحته بمصالح قوى الاحتلال البريطانية. وقد أدركت سلطات الاحتلال، أهمية وضرورة تكوين أجهزة عراقية للإدارة المحلية، وقوات الجيش، والشرطة الأمن الداخلي؛ لتكون أجهزة عراقية مستعدة للدفاع عن مصالح بريطانيا القديمة ومصالحها الجديدة في آن واحد. كما أدركت أن العراقيين، يتميزون بوعي سياسي متقدم إلى حد ما، رغم تخلف العراق الاقتصادي والاجتماعي العام، وانتشار الأمية بين صفوف السكان، الذين كان معظمهم من الفلاحين والبدو. وإذا كان هذا الواقع أملى على سلطات الاحتلال، أن تعير انتباهاً خاصاً لهذه الحقيقة، وأن تتعامل معها بوعي لصالح التطور العام في البلاد؛ فأقرت سن دستور مدني ديمقراطي وعلماني – نسبياً - في البلاد، فإنها أقرت في الوقت نفسه العمل بقانون العشائر، وفرضت مصادرة فعلية واسعة على الحريات، وممارسة شرسة لا تعبأ بمبادئ حقوق الإنسان، ولا بالديمقراطية التي نصت عليها في  الدستور الذي اقترحته للبلاد.
رابعا: أكدت ثورة العشرين على وجود عجز بنيوي في تكوين القيادة الدينية-العشائرية؛ منعها عن السير الحازم في طريق النضال، أو من تحقيق وحدة الشعب العراقي بقومياته وأديانه وطوائفه المختلفة. ولكنها أبرزت في الوقت نفسه الدور الذي لعبته فئة الأفندية من المثقفين، وأظهرت طاقاتها الكامنة في العملية النضالية اللاحقة.
خامسا: برهنت ثورة العشرين على حقائق أخرى مهمة، كما تبلورت خلال الثورة جملة من الأمور المهمة خاصة بمستقبل العراق حينذاك، منها – على سبيل المثال - ما يلي:
•   منحت الثورة المجتمع العراقي الإحساس بالكيان الواحد، الذي لم يكن واضحاً في فترة الحكم العثماني. وقد  اتخذ هذا ثلاثة اتجاهات رئيسة، هي:
-تضافر جهود العراقيين من العرب والكُرد. إذ شارك العديد من المدن والمناطق الكُردية بنشاط ظاهر مهم في ثورة العشرين. ومن قبلها في ثورة 1919 في السليمانية. 
    - تضافر جهود الريف والمدينة. وقد توّجت هذه الجهود؛ بالتخلي عن الصراعات التي عرفتها الفترات السابقة.
    - تضافر جهود الفئات الاجتماعية المختلفة في النضال من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية.
وازداد هذا الإحساس قوة أكثر فأكثر، في الفترة التي أعقبت قيام الدولة العراقية الجديدة. فكان لهذا التطور أهمية بالغة انعكست على اتجاهات النضال الوطني العراقي. 
•   قدرة واستعداد الشعب العراقي على خوض النضال من أجل حقوقه المشروعة.
•   أحبطت المشروع البريطاني الطامع في جعل العراق جزءاً من التاج البريطاني - كما كان الحال في الهند - وعطل مشروعهم لتوطين عائلات بريطانية وأخرى هندية بأعداد كبيرة في العراق. كما لو كان العراق موطنهم الأصلي. نقل الدكتور (عبد الرحمن البزاز) نصاً يعبر عما كانت تطمح إليه وتطمع فيه سلطات الاحتلال البريطانية وممثلها (ولسون) جاء فيه: "إن العراق بقي قروناً عديدة يحكم حكماً مباشراً من قبل الأتراك ، وليس له أن يتطلع إلى أن يحكم نفسه بسرعة ، بل إن الإسراع في ذلك يضر العراق، وقد يؤدي ذلك إلى عكس المطلوب". ثم كتب الدكتور (البزاز) قائلاً: "وفي الواقع فإن جميع أقواله وأفعاله كانت تدل على عزمه على إبقاء العراق تحت السيطرة البريطانية الفعلية المباشرة مدة طويلة. ويؤيد هذا السماح للإنكليز المقيمين في العراق بجلب زوجاتهم وأطفالهم للاستقرار فيه. وقد دخل العراق في أواخر سنة 1919 فقط , أكثر من خمسمائة شخص , مما زاد في رعب العراقيين، وأكد لهم أن بريطانية تروم اعتبار العراق جزءاً من الإمبراطورية البريطانية" . ويشير (حسن العلوي) إلى عدد من القضايا، التي كانت تسعى بريطانيا لتحقيقها، من خلال هيمنتها على العراق، وتنصيب الشخصية المتمرسة في مكافحة الحركات السياسية في المستعمرات السير (أي. تي. ولسن) حاكماً عاماً في العراق، قائلاً: "وكان أعظم ما أنجزته ثورة العشرين أنها أجهزت على مشروع ولسن البريطاني، المتمثل بعدم الاعتراف بدولة عراقية أو حكم عراقي. وكان قد طرح الاتجاهات التالية:
1.   تهنيد العراق بتهجير الألوف من الهنود إليه، وربطه بحكومة الهند في مقدراته ومصائره.
2.   جعله مهجراً لليهود تحت ظل بريطانيا إلى جانب السيطرة على فلسطين وجعلها يهودية.
3.   تقسيم العراق بفصل البصرة وإلحاقها بالهند حتى يصبح الخليج بحيرة إنكليزية هندية. ودفع الاحتلال بعض رجالها وملاكيها الممالئين له بتنظيم مضبطة في هذا المآل. وقد تزعم هذا الاتجاه (عبد اللطيف المنديل والشاوي) من البصرة.
4.   تقدم الموصل إلى فرنسا وتستخدم فرنسا الأقليات بها لهذا الغرض.
وبالإجمال فأن الكولونيل ولسن كان لا يرى وجود علاقة للعراق بسائر البلاد العربية من الناحيتين السياسية والقومية وغيرهما".                 
•   المشاركة الواسعة والغنية للفلاحين، رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً وصبية، في النضال من أجل الأهداف الوطنية والاجتماعية. 
- التأثير المتبادل للشراكة النضالية للشعب العراقي: بعربه، وكُرده، وأقلياته القومية والدينية، وبطوائفه المختلفة على العملية السياسية حينذاك. لقد كان لثورة العشرين، وثوارها الشجعان، الفضل الكبير في نشر وتعميق الحس الوطني، والعداء للاستعمار البريطاني والسيطرة الأجنبية، التي تجلت في المعارك النضالية، التي خاضها سكان العراق طيلة العقود التي أعقبت تلك الثورة، والتي سبقت وانتهت بثورة تموز عام 1958. وأدّت ثورة العشرين بشكل ملموس إلى إضعاف الروح الطائفية بين الشيعة والسنة، التي تضخمت كثيراً في فترة الحكم العثماني والصراع التركي – الفارسي. كما أدَّت إلى تعزيز روح الأخوة والتضامن بين أفراد الطائفتين.
- وفرضت طبيعة الثورة بالأهداف التي حملتها، على المحتلين الأجانب تغيير مخططاتهم، والتعجيل بإقامة الدولة العراقية الحديثة، في وقت كان المحتلون فيه ما زالوا إلى ذلك الحين يتشبثون بنظام الانتداب على العراق، ولم يتخلوا عنه إلا بعد عقد من السنين تقريباً.
- ومن النتائج المهمة التي تبلورت حينذاك، بروز العلاقة المتينة بين النضال الوطني والديمقراطي، وبين الطموحات القومية للعرب والكُرد في آن. وكان التفاعل والتأييد لثورة العشرين واضحاً وملموساً في الأقطار العربية.
واستناداً إلى ما سبق، يمكن القول بأن ثورة العشرين - رغم عجزها عن تحقيق أهداف الثوار بشكل مباشر لصالح العراق - شكلت نقطة تحول أساس في سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط  , وكانت السبب في تغيير سياستها إزاء العراق وفي قيام الدولة العراقية.

الهوامش



  عبد الهادي , قاسم. دور بغداد في ثورة العشرين. رسالة ماجستير. بغداد. موقع صحيفة "الجريدة" الإلكتروني. بغداد. 7/12/2007. وثائق. 

  نفس المصدر السابق.

  نفس المصدر السابق.

  الداوودي , غالب علي. الداوودية , ماضيها وحاضرها. دار منشورات البصري. المطبعة الحيدرية. النجف. 1951. ص 42-49. 

  نفس المصدر السابق. ص 48.
  الفياض , عبد الله د. الثورة العراقية الكبرى.  سنة 1920. ط 2. مطبعة السلام. بغداد. 1975. ص 153.

  عبد الهادي , قاسم. دور بغداد في ثورة العشرين. مصدر سابق.

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية من تاريخ العاق الحديث. الجزء الخامس. الثورة العراقية. القسم الأول. مصدر سابق. 16.

  ملاحظة: هناك الكثير من العوامل الداخلية والخارجية المشتركة التي حفزت في حينها على قيام ثورة السليمانية عام 1919 وثورة العشرين التي تسوجب التنبيه والتي لم يجد الكاتب مبرراً لتكرارها عند الحديث عن الثورتين. ك. حبيب.

  جاء في الرسالة الجوابية التي وجهها الشيخ محسن أبو طبيخ على رسالة السير برسي كوكس , الحاكم السياسي على العراق , بصدد ضرورة تعاونه مع قوات الاحتلال الإنكليزية , ما يؤكد أن الهدف المركزي للثورة قد تجسد في تحقيق الاستقلال التام للبلاد , حيث ورد في الرسالة المؤرخة في 9 آيار 1917 بهذا الصدد ما يلي: "إن صداقتنا ومحبتنا لكم الشخصية وصداقة غيرنا الفردية اعتقد أنها لا تفيدكم الفائدة التي تتوخونها في العراق , وإننا نرجو مخلصين أن تكونوا أصدقاء الشعب العراقي جميعاً بما فيه نحن , وأن تحققوا رغباته وآماله بما يريده ويرضيه وهو استقلاله التام الناجز. …". راجع في هذا الصدد "آفاق عربية" مجلة عراقية. العدد 11. السنة 2. 1977. بغداد. ص 84/85.   

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية .. . الجزء الخامس. القسم الأول. ص 14.

  نفس المصدر السابق. ص 15.

  عبد الهادي , قاسم. دور بغداد في ثورة العشرين. مصدر سابق.

     الحسني , عبد الرزاق. الثورة العراقية. بدون تاريخ. طبعة منقحة. المقدمة مكتبوبة بتاريخ 1371 هجرية. ص 67-59. 

  نفس المصدر السابق. ص 67-59.
  نفس المصدر السابق. ص 81.

  الفياض , عبد الله د. الثورة العراقية الكبرى. ط 2. مطبعة دار السلام. بغداد. 1975.  ص 248.
  الحسني , عبد الرزاق. تاريخ العراق السياسي الحديث. ط 7. الجزء الأول. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد. 1989. ص 101/102.

  الحسني , عبد الرزاق. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. ص 140.

  أحمد , كمال مظهر د. صفحات من تاريخ العراق المعاصر. دراسات تحليلية. منشورات مكتبة البدليسي. بغداد. 1987. ص 61.

  نفس المصدر السابق. ص 137.
  نفس المصدر السابق. ص 149.

  الفياض , عبد الله د. الثورة العراقية الكبرى سنة 1920. مصدر سابق. ص 272.

  الراوي , عبد اللطيف عبد الرحمن د. الفكر الاشتراكي في النقد والأدب العراقي المعاصر 1918-1980. رسالة دكتوراه. جامعة بغداد. كلية الآداب. بغداد. 1975. (الرسالة مطبوعة ومسحوبة على آلة الرونيو. ص 6-8.

  نفس المصدر السابق. ص 2-44.

  أحمد , كمال مظهر د. صفحات من تاريخ العراق المعاصر. مصدر سابق. ص 66-74.

  النفيسي , عبد الله فهد د. دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث. مصدر سابق. ص 152/153.

  فياض , عبد الله. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. المقدمة بقلم الشيخ محمد رضا الشبيبي. ص 6/7.

  يختلف الدكتور علي الوردي في تقديره مع الشيخ الشبيبي حول العامل الاقتصادي وأهميته في تأجيج الثورة العراقية عام 1920. فهو يحاول تقليل أهميته إزاء العوامل الأخرى، ويعتبر أن هذا التحليل الذي يتفق عليه المفكرون الماركسيون غير صحيح. راجع في هذا الصدد: الوردي , علي د. لمحات اجتماعية .. . الجزء الخامس. القسم الأول. مصدر سابق. ص 8/9. وفي الملحقين الثاني والثالث. ويبدو لنا بأن العامل الاقتصادي قد لعب دوراً مهماً في التحرك المناهض لبريطانيا إلى جانب العوامل المهمة الأخرى، وأن ذكر العامل الاقتصادي ودوره ينبغي  ألا يقلل من دور العوامل الأخرى , سواء أكانت اجتماعية أم دينية أم سياسية أم نفسية. إذ أنها مجتمعة قادت الناس في العراق إلى الثورة. ولم يؤثر العامل الاقتصادي على الفلاحين وحدهم، بل شمل شيوخ العشائر وكبار ملاكي الأراضي الزراعية وشيوخ الدين الشيعة على نحو خاص، الذين كانوا ولا زالوا يحصلون على رزقهم من أرزاق الناس , من الفلاحين وشيوخ العشائر وسكان المدن أيضاً. ولا شك في أن العراق لم يعرف العلاقات الإقطاعية النموذجية التي سادت أوروبا في القرون الوسطى , ولكن العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية التي قامت على أساس منح الأراضي التابعة للدولة إلى شيوخ العشائر وغيرهم تحت واجهات مختلفة , ومنها أراضي عائلة السعدون في الناصرية , كانت لها آثارها في التحرك أيضاً. لقد كان الفلاح في العراق - ولا يجري الحديث هنا عن البدو الرحل أو شبه المستقرين، بل عن فلاحي الريف العراقي العربي والكُردي - يعاني من صعوبات جمة أشرنا إليها في موقع آخر. وفي مكان آخر يعود الوردي ليؤكد على جانب آخر باعتباره كان عاملاً محركاً للثورة، ويقصد به ارتفاع الأسعار والتضخم النقدي. وما يقوله في هذا الشأن صحيح. ولكن التضخم النقدي يشكل جزءاً مهماً من العامل الاقتصادي وأسبابه اقتصادية بطبيعة الحال، إضافة إلى كونها سياسية واجتماعية. (المؤلف)       

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية.. . الجزء الخامس. القسم الأول. مصدر سابق. ص 20/23.

  ملاحظة: في نهاية الحرب العالمية الأولى، حصلت في ولاية الموصل مجاعة شديدة جداً.  ورد ذكرها في كتاب الدكتور علي الوردي السابق الذكر، الذي نقل عن الدكتور عبد العزيز القصاب قوله: "إنه رأى جثث البشر ملقاة على جانبي الطريق بكثرة لا يمكن وصفها، وعند دخوله القرية "دير قبو" وجد الجياع منتشرين فيها وهم لا يتمكنون من الحركة لشدة الجوع… وشاهد جثة حيوان وقد اجتمع حولها زهاء خمسين جائعاً … كما شاهد مأموري البلدية يتجولون في كل صباح ومساء ومعهم الحمالون ليجمعوا جثث الأموات…". ويقول إبراهيم الواعظ:  إن المجاعة بلغت حداً جعل الكثيرين من الناس يأكلون لحم الكلاب والقطط …". ولكن كان هناك من يتسنى له أكل كمية أكبر مما يأكله في الأيام الاعتيادية…". راجع في هذا الصدد: الوردي , علي د. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. مصدر سابق. جزء 4. ص 390/391.

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية .. . الجزء الخامس. القسم الأول. مصدر سابق. ص 21.

  كاتلوف. ل. ن. ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق. مصدر سابق. ص 64-79.
       - إبراهيم علي. طالب النقيب صريع التاج في العراق. في مجلة آفاق عربية. مجلة عراقية. بغداد. العدد 8. السنة 2. 1976.

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية .. . الجزء الخامس. القسم الأول. مصدر سابق. ص 23-26.

  نفس المصدر السابق. الجزء الخامس . القسم الثاني. ص 66/67. يشير الدكتور الوردي بأن "خصص الإنكليز للشيخ ضاري مرتباً شهرياً قدره 750 روبية , واستمروا في دفع هذا المرتب له حتى أوائل 1918 , ثم قطعوه عنه. ولا نعرف السبب الذي دفعهم إلى ذلك. والمظنون أنهم وجدوا الشيخ ضاري ذا منفعة قليلة لهم. وقد أضمر ضاري لهم من جراء ذلك حنقاً شديداً". ص 66/67. 
  كاتلوف , ل. ن. ثورة العشرين. مصدر سابق. ص 67.

  فياض عبد الله د. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. ص 270.
ملاحظة: كتب كاتلوف ما يلي: "وقد ازدادت الضرائب المباشرة في المنطقة التي احتلها الإنكليز للسنة المالية 1918-1919 ب 1 ,65 مرة بالنسبة لما كانت عليه في عامي  1911 و 1912 , وارتفعت إلى أكثر من مرتين خلال السنوات 1919-1920. وفي سنة 1917-1918 بلغت واردات الإدارة المدنية 15250 ألف روبية , منها 7950 ألفاً من الضرائب الزراعية , و6750 ألفاً من الرسوم المختلفة , أما في سنة 1918-1919 فقد ارتفعت إلى 29300 ألف روبية , منها 21750 ألفاً من الضرائب الزراعية , و6500 ألفاً من الرسوم. وكانت الضرائب التي ألقيت على عاتق المواطن العراقي تعادل ضعف ما فرض على المواطن في المحافظات المستعمرة في كل من الهند والبنجاب , باعتراف أحد الإداريين الإنكليز …". ثورة العشرين. مصدر سابق. ص 66.

  فياض , عبد الله. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. ص 271. 
      - الحسني , عبد الرزاق. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. 132.

  أحمد , كمال مظهر د. صفحات من تاريخ العراق المعاصر. مصدر سابق. ص 72.

  فياض. عبد الله د. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. ص 270.

  ملاحظة: عند استخدام مصطلحات البرجوازية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في المجتمع العراقي يجب أن ترتبط بالفترة التي يجري الحديث عنها , وهي مصطلحات نسبية ترتبط بمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي حينذاك. ويصعب مثلا مقارنة البرجوازية التجارية العراقية بالبرجوازية التجارية البريطانية ولا حتى المتوسطة منها والصغير بتلك التي في بريطانيا. علما[أن الحدود بين البرجوازيات كان إلى حد ما حينذاك مائعاً نسبياً ولكنه كان كبيرا بين البرجوازية الصغيرة والكبيرة. واتخذت صورة هذه الفئات وضوحا أكبر في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

  تستوجب الإشارة إلى أن إيرادات شيوخ الدين الشيعة الكبار وأتباعهم من شيوخ الدين من مختلف المستويات وطلال الحوزات العلمية تأتي مما يدفعه المقلدون لهم وبعدد المقلدين. وكان أغلب هؤلاء حينذاك من الفلاحين المرتبطين بعشائرهم. وتراجع أو زيادة إيرادات هذا الشيخ الديني المجتهد أو ذاك يجد انعكاسه على مستوى معيشة بقية أتباعه.
  أحمد , كمال مظهر د. دور الشعب الكُردي في ثورة العشرين العراقية. مطبعة الحوادث. بغداد. 1978. ص 37/38.

  نفس المصدر السابق. ص 40.
  نفس المصدر السابق. ص 41/42.

  لونگريگ , ستيفنسن همسلي. العراق الحديث من سنو 1900 إلى سنة 1950. الجزء الثاني. ط 1. منشورات الفجر. بغداد. 1988. ص 370.

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. الجزء الخامس. ثورة العشرين. القسم الثاني. مصدر سابق. ص 67.

  نفس المصدر السابق. ص 69/70.

  نفس المصدر السابق. الجزء الخامس. القسم الأول . ص 29/30.

  نفس المصدر السابق. ص 30.
   شبّر , حسن. تاريخ العراق السياسي المعاصر. في جزئين. الجزء الثاني. التحرك الإسلامي 1900م-1957م. ط 1. دار المنتدى للنشر. بيروت. لندن. 1990. ص 241. 

  نفس المصدر السابق. ص 242.

  نفس المصدر السابق. ص 242.

  الحسني , عبد الرزاق. الثورة العراقية الكبرى. طبعة منقحة. الطبع بدون تاريخ وبدون بلد الإصدار. ص 21.

  الفياض , عبد الله د. الثورة العراقية الكبرى. ط 2. مطبعة دار السلام. بغداد. 1975.  ص 248.

  فياض , نفس المصدر السابق. ص 249.

  أنطونيوس , جورج. يقظة العرب. تعريب على حيدر الركابي. مطبعة الترقي. دمشق. 1946. ص 306.

  نفس المصدر السابق. ص 323.

  كتب عبد الرزاق الحسني مشيراً إلى أسماء المنتخبين للمؤتمر الذي عقد في الشام وقرر انتخاب عبد الله ملكاً على العراق , وهم: جعفر العسكري , تحسين علي , إسماعيل نامق , صبيح نجيب , محمود أديب , فرج عمارة , ناجي السويدي , توفيق السويدي , محم نوري القاضي , يونس وهبي , محمد رضا الشبيبي , حمدي صدر الدين , سعيد الشيخلي , رشيد الهاشمي , سامي الأورفلي , أحمد رفيق , عبد اللطيف الفلاحي , توفيق الهاشمي. وهم من بغداد. أما من الموصل فكانوا : جميل المدفعي , علي جودت , إبراهيم كمال , عبد الله الدليمي , ثابت عبد النور , الحاج محمد خيري , مكي الشربتجي. وكان مجموعهم 25  شخصاً. ويشير الحسني أيضاً إلى أن تلك الاجتماعات كانت تعقد طوراً في دار نوري السعيد وطوراً في دار جعفر العسكري. راجع. الحسني , عبد الرزاق. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. هامش 1 صفحة 52.
  أنطونيوس , جورج. يقظة العرب. تعريب على حيدر الركابي. مطبعة الترقي. دمشق. 1946. ص 334.

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية .. . الجزء الخامس. القسم الأول. مصدر سابق. ص 45-48. 

  الحسني , عبد الرزاق. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. ص 220-241.

  فياض , عبد الله. الثورة العراقية الكبرى. مصدر سابق. ص 251-257.

  نفس المصدر السابق. ص 249/250.

  الوردي , علي د. لمحات اجتماعية. الجزء الخامس. القسم الأول. ص 47. نقلاً عن كتاب "القضية العراقية" للشيخ محمد مهدي البصير. بغداد. 1923. ص 76.

  نفس المصدر السابق . ص 286.
  كوتلوف , ل. ن. و أ. ف. فدتشنكو. العراق 1917-1970. في كتاب لمجموعة من الكتاب السوفييت بعنوان "تاريخ الاقطار العربية المعاصر-1917-1970". دار التقدم. موسكو 1975. 22.     
  نفس المصدر السابق. ص 319.

  عبد الهادي , قاسم. دور بغداد في ثورة العشرين. مصدر سابق.
  نعمة , كاظم د. الملك فيصل الأول والإنكليز والاستقلال. الدار العربية للموسوعات. ط 2. بيروت. 1988. ص 46/47.

  الازري , عبد الكريم. مشكلة الحكم في العراق. ط 1. لم تذكر داراً للنشر. لندن. 1991. ص 5.

  قارن: الوردي , علي د. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. الجزء الخامس. القسم الأول. مصدر سابق. ص 14/15.
  أحمد , كمال مظهر. دور الشعب الكُردي في ثورة العشرين العراقية. مطبيعة الحوادث. بغداد. 1978. ص 115-154.

  البزاز , عبد الرحمن د. العراق من الاحتلال حتى الاستقلال. ط 4. دار البراق. لندن. 1997. ص 80.

  العلوي , حسن. التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي في العراق. دار الزوراء. لندن. 1988. ص 86. 

  بطاطو. حنا. العراق. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. الكتاب الأول. ترجمة عفيف الرًّزاز. مؤسسة الأبحاث العربية. الطبعة الأولى. بيروت. 1990. ص 205. 

  الحسني, عبد الرزاق. الثورة العراقية. بدون تاريخ. طبعة منقحة. المقدمة مكتبوبة بتاريخ 1371 هجرية. ص 67-59. 


1072
كاظم حبيب

ثورة العشرين (1920) في العراق


الذكرى ألـ 90 لثورة العشرين



المدخل
شهد العراق في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى اتجاهاً سياسياً رئيسياً وأساسياً في أوساط المثقفين المتعلمين والعاملين في الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان يطمح إلى الخلاص من الهيمنة العثمانية , وأن اختلفت مواقف القوى فيه وتوزعت على مجموعتين: إحداها كانت تسعى إلى الخلاص التام من الدولة العثمانية باعتبارها استعماراً تركيا مفروضاً على العراق وباقي الدول العربية الخاضعة بالقوة للهيمنة العثمانية , تلك الهيمنة التي بذلت أقصى الجهود من أجل تتريك المنطقة بأسرها وبضمنها العراق من جهة , وجماعة أخرى كانت تريد الحفاظ على العراق ضمن الدولة العثمانية "المسلمة" , خوفاً على فقدان الوحدة الإسلامية حتى من حيث الشكل والخشية من الوقوع تحت سيطرة "الكفار!" المسيحيين الإنكليز , مع ضرورة تمتع العراق بالحكم المستقل نسبياً أو الإدارة الذاتية من جهة أخرى. وإذا كان الاتجاه الأول قومياً عربياً إلى حدود ملموسة إذ لم يكن الوعي القومي , سواء العربي أم الكُردي قد تبلور حينذاك , فأن الاتجاه الثاني كان في الغالب الأعم دينياً إسلامياً متزمتاً , وكلاهما كان قد تأثر بشكل واضح بالاتجاهات الوطنية والقومية العربية والتأثيرات الدينية والسياسية المباشرة وغير المباشرة لحركات المعارضة السياسية في كل من إيران وتركيا. أما في فترة الحرب العالمية الأولى فكانت الجماعات السياسية في العراق قد انقسمت إلى اتجاهين ملموسين أحدها يرفض التعاون مع بريطانيا باعتبارها دولة أجنبية غير إسلامية أو استعمارية مسيحية "كافرة!" , وكانت تمثله في الغالب الأعم المؤسسات والقوى الدينية ومجموعات من شيوخ العشائر التي تأثرت كثيرا بمواقف وفتاوى شيوخ الدين. أما الاتجاه الثاني فكان يرى ضرورة التعاون مع بريطانيا وفرنسا ضد الدولة العثمانية المتحالفة مع ألمانيا من أجل الخلاص من الهيمنة العثمانية المتخلفة والقاسية على العراق وسكانه , وكانت القوى القومية الحديثة التكوين ومجموعات من المثقفين والمتعلمين والتجار هي المعبرة عن هذا الاتجاه. ومن حيث المبدأ كان التياران لا يتطلعان إلى أي شكل من أشكال الخضوع لهذه السيادة أو تلك بل من أجل حصول العراق على استقلاله الناجز. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها تحول الموقف المتباين في الاتجاهات السياسية لتلك الجماعات في العراق إلى مجموعة أولى كانت ترفض بأي حال الهيمنة البريطانية وتريد الاستقلال التام والناجز , ومجموعة ثانية كانت تجد أن لا مناص من التعاون مع بريطانيا وتأمين استمرار وجودها في العراق لحماية العراق من التفكك ومساعدته على التقدم , وبمعنى آخر: كانت إحدى المجموعتين تقف بحزم وبلا مساومة ضد الانتداب وترى فيه نكثاً للعهد البريطاني إلى الشريف حسين بن علي ولا تقبل بغير الاستقلال الناجز , وأخرى كانت ترى في الاحتلال البريطاني والانتداب فرصة لحصول العراق على الوحدة والاستقلال من خلال التعاون مع بريطانيا. وقد تبلور هذان الاتجاهان نسبياً في المجموعة التي شكلت الحكومة ووافقت على الانتداب وأيدت فيما بعد عقد المعاهدة العراقية-البريطانية , في حين قادت المجموعة الأخرى انتفاضة السليمانية وثورة العشرين وناهضت الوجود البريطاني في العراق , رغم التباين في الأهداف بين قوى انتفاضة السليمانية وقوى ثورة العشرين حينذاك. وفي هذا الأمر الحيوي اشتد الخلاف وتمايزت القوى وتوزعت على هذين الاتجاهين حتى بعد قيام الدولة العراقية الجديدة , رغم أن عملية التبلور والاصطفاف بين جماعات الاتجاهين لم تكن سريعة ولا تامة , بل كانت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية متداخلة وينتقل بعضهم من موقع إلى آخر دون أن يشعر بتغيير كبير في مواقفه أو تبدل في سياساته. ولا شك في أن قوى المجموعة الأولى قد توسعت بقوى جديدة واغتنت حركتها في مجرى النضال ضد الهيمنة البريطانية بمضامين سياسية واقتصادية واجتماعية وطنية وقومية جديدة , في حين غاص الاتجاه الثاني أكثر فأكثر وسنة بعد أخرى في عملية التعاون مع بريطانيا من مواقع عدم التكافؤ وتنفيذ إرادة الدولة المحتلة والمنتدبة على العراق وتأمين مصالحها في العراق على حساب مصالح الشعب والاقتصاد العراقي. ولا شك في أن الجانب الديني المحافظ وغير المتنور قد لعب دوره في رفض الوجود البريطاني خشية على مواقعه الدينية في أوساط المجتمع وخشية من الانفتاح الحضاري للسكان على الحضارة الغربية وما يمكن أن يحركها صوب بناء حياة أفضل والخلاص من التخلف الاجتماعي والغوص في الغيبيات والبدع المضرة بحياة الناس.

1. العوامل المفجرة للثورة

كان العراقيون عموماً - سواء أكانوا من العرب أم من الكُرد أم من أتباع القوميات الأخرى – قد وقفوا ضد الهيمنة العثمانية، وسعوا للخلاص من صيغة الحكم المركزي المباشر المفروضة على البلاد. مع أن عدداً غفيراً من العراقيين ، لم يكن يرفض بالضرورة استمرار العلاقات الروحية- الدينية مع السلطنة العثمانية. على الرغم من أنه كان يعلم بأنها قد فقدت مضمونها الديني، وتراجعت علاقتها الروحية مع الناس؛ بسبب سياسات الاضطهاد والقهر والحرمان التي مارستها والتي تعرض العراقيون من جرائها إلى أشد المحن، وأقسى ألوان العذاب - سواء أكانوا من أبناء المدن أم من سكان الريف والبادية - .
 وقد حصلت الكثير من الحركات والهبّات والتمردات التي قام بها سكان الريف والبدو المستقرين إلى حدّ ما لمواجهة ظلم الولاة الأتراك وقسوة الجندرمة وجباة الضرائب والأتاوات. ولم تكن المدن بمنأى عن اضطهاد الحكام العثمانيين. وقد شهدت بغداد بشكل خاص , - ومعها المدن الأخرى -  الكثير من الحركات السياسية المناهضة لإجراءات السلطنة العثمانية التعسفية. كانت الاستفزازات العثمانية، تثير الناس في المدينة وفي الريف، وتدفع بهم لمقاومة الاحتلال العثماني. كتب السيد (قاسم عبد الهادي) - في رسالة الماجستير، التي نال عليها درجة جيد جداً - عن الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى واحتلال العراق من قبل القوات البريطانية بصواب ما يلي:
"أعـلن دباغو الأعظمية، الذين كان لهم الثقل العددي في المنطقة، وحاولوا الاعتصام بعد أن اجتمعوا في إحدى القاعات، منذ أوائل شهر محرم الموافق تشرين الثاني عام 1912  وقرروا الامتناع عن العمل، إلى أن يتم رفع أجورهم، و فاوضهم رئيس صنف الدباغين الشيخ (الجلبي) وأقنعهم بالعودة إلى أعمالهم، وهو رد فعل مباشر إزاء حالات التعسف التي وقع تحت نيرها العمال واضربوا للمرة ثانية في أوائل كانون الأول عام 1913 ، وكان يقودهم هذه المرة (عبد الهادي الأعظمي) أحد مثقفي المنطقة، وفعلا تركوا أعمالهم هذه المرة وطالبوا برفع أجورهم بمقدار 25% فاضطرت الحكومة إلى تحقيق رغباتهم فعادوا إلى العمل. ويعد هذا إنجازا للمضربين في الضغط على الحكومة في نيل حقوقهم منها" . ثم يشير في مكان آخر إلى "الأوضاع السياسية والاجتماعية لبغداد قبيل الاحتلال البريطاني لها"  قائلاً:
" لقد خلق الوجود العثماني الطويل الأمد في العراق مشاكل اجتماعية واقتصادية كثيرة ، أدت إلى تدهور الواقع الحياتي ، فقد كانت الضرائب الكبيرة التي تجنيها القوات العثمانية بسبب أو بآخر ، فضلا عن الفساد الإداري والمالي الذي عاشه العراق بسبب هذا الوجود ، فكان ضباط التجنيد يبيعون قرارات الإعفاء من الخدمة الإلزامية لقاء مبالغ مالية كبيرة ، وكانت السلطات العثمانية تقوم ، بمصادرة موجودات الأهالي كحلي النساء والنقود الذهبية ومنحهم أوراق مالية (النوط) بدلا عنها ، فضلا عن مصادرة البضائع التجارية كالأقمشة الحريرية وغيرها، وأصدرت المحكمـة العسكرية العثمانية غرامات وعقوبات شديدة بحق كل من يرفض القبول بالأوراق المالية. ما جعل الأهالي يرفضون مساعدة ومسانـدة الجـيش العثماني في فـرض سيـطرته عـلى الأحـداث والثورات التـي تهـدد الوجـود العثماني" .
منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وجدت بعض القوى العربية والكُردية وغيرها نفسها أمام أحد أمرين : إما أن تكون مع الدولة العثمانية وتبقى تعاني من جورها وتخلفها، ومما يرتبط بذلك من معاناة وعذاب وشدة، وإما أن تكون مع بريطانيا وبقية الحلفاء؛ لتحصل على الحرية والاستقلال والتقدم والوحدة، في ضوء الوعود التي أعطتها الحكومتان البريطانية والفرنسية لقادة العرب والكُرد في آن واحد. وقد أدى ذلك إلى انقسام الناس في العراق إلى جبهتين :
•   الجبهة الأولى: أيدت الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية المسلمة، ودعم قواتها في العراق ضد القوات البريطانية، وأيدت مقاومة احتلال البريطانيين للعراق على اعتبار أنه احتلال أجنبي، مستعمر، كافر في آن واحد؛  تجب محاربته لدواع وطنية ودينية. لذلك خاضت جماعات غفيرة في المعارك جنباً إلى جنب مع الأتراك في البصرة ضد القوات البريطانية. ولم يكن العرب من الوسط والجنوب وحدهم  يشاركون في معارك البصرة، بل كان المتطوعون الكُرد يشاركون أيضاً في معارك الجهاد ضد الإنكليز. فصاحب كتاب "الداوودية.. ماضيها وحاضرها" يذكر على سبيل المثال لا الحصر: كيف تطوعت مجموعات من الكُرد للجهاد ضد الإنكليز، وكيف غادرت إلى البصرة للمشاركة في القتال مع العرب والأتراك . واستشهد في هذه المعارك عدد من شيوخ العشائر الكُردية، ومنهم: "نامق آغا؛ رئيس عشائر الداوودية ،وشيخ قادر؛ رئيس عشائر البادوا، وشيخ لطيف؛ رئيس عشائر الطالبانية، وميرة سور؛ رئيس عشيرة البرزنجة وأفراد آخرون من فرسانهم" . ويشير الدكتور عبد الله الفياض إلى مشاركة الكُرد في النشاط الجهادي ضد القوات البريطانية فيقول: "وقد أسفرت الدعوة للجهاد عن تجمع عدد من أهالي المدن والعشائر يتراوح بين 10 - 15 ألف مقاتل بينهم 1500 مجاهد من الكُرد" .
كما لعبت بغداد دوراً ملموساً، في التعبئة إلى جانب الدولة العثمانية من منطلق ديني واضح.  معلنة ارتباطها بدعوة شيخ الإسلام (خيري أفندي) مفتي الدولة العثمانية، لما أصدر في 7 تشرين الثاني عام 1914 فتوى ذكر فيها الجهاد فريضة عينية على جميع المسلمين، الذين يعيشون في الدولة العثمانية أو في خارجها. وأعلنت كذلك ارتباطها بدعوة الخليفة العثماني إلى الجهاد،  الذي استطاع أن يكسب تأييد العراقيين له عن طريق إعلان الجهاد المقدس. وقد رأى علماء النجف وكربلاء وبغداد والكاظمية، أن تعضيد الدولة العثمانية لابد منه؛ فأفتوا بالجهاد في سبيل الإسلام، ولاسيما عندما استغاث أهل البصرة بالعلماء، فأبرقوا لهم من مختلف الأطراف يطلبون منهم الجهاد والنفير العام، وقد ورد في إحدى البرقيات التي أرسلها رؤساء البصرة إلى الكاظمية وزعمائها جاء فيها :((ثغر البصرة، الكفار محيطون به، الجميع تحت السلاح نخشى على باقي بلاد الإسلام ، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع..))" . كما اصطفت للجهاد إلى جانب الترك مجموعة من الشخصيات الدينية والثقافية العراقية حينذاك. منهم عبد الرحمن الكيلاني، وجميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، والحاج داود أبو التمن، ومحمد فاضل الداغستاني، وشوكت باشا، والشيخ حميد الكيلدار، والسيد محمد الصدر، ومحمد مهدي البصير، ورفعت الجادرجي، والشيخ أحمد الداوود، وسواهم من الشخصيات السياسية والاجتماعية.
•    الجبهة الثانية: - وهي الأكبر - ساندت القوات البريطانية بعد الوعود التي أعطيت للشريف (حسين) وللعراقيين في الحصول على الحرية والاستقلال. وكانت البهجة عظيمة لدى جماهير غفيرة من العراقيين؛ بانتصار البريطانيين على الأتراك. سيشير إليها الدكتور على الوردي.  ولكن الصورة ستتغير بعد فترة وجيزة من احتلال بريطانيا التام للعراق، ولن يتبقى للجماهير من خيار سوى خيار المواجهة مع بريطانيا، التي حلّت محل الدولة العثمانية في استعمار البلاد. وقد أيقظ الموقف المعادي للقوات البريطانية، ووعودها الباطلة وعياً - وإن لم يكن ناضجاً - بطبيعة الاستعمار الحديث وأهدافه، وبالنتائج التي ستترتب من جراء ذلك الاحتلال. كان هذا الوعي مزيجاً متشابكاً يصعب تفكيكه، أو التركيز على جانب منه دون الجوانب الأخرى. كان مزيجاً من الوعي القومي، والوطني، والديني، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والنفسي. وكان يحمل في طياته أصداء تجارب العراق المريرة تحت السيطرة والاحتلال، وذكرى الاجتياحات الكثيرة التي تعرض لها في فترات مختلفة من تاريخه القديم والحديث. ولا ننسى أن شيوخ الدين، كانوا يبذلون جهوداً كبيرة للتركيز في دعايتهم على الجانب الديني، وعلى تكفير البريطانيين والدولة البريطانية؛ على اعتبار أنّ سكان بريطانيا كانوا في غالبيتهم من أتباع الديانة المسيحية. فكان لدعايتهم البدائية نتائج سيئة، خالفت مبدأ الاعتراف بالآخر من النواحي الدينية والمذهبية، وخالفت مبدأ التسامح الديني المتبادل بين المسلمين، وأتباع الديانة المسيحية، بإظهار عدائها بشكل سافر للدين المسيحي - مع أن أتباع الديانة المسيحية هم مواطنات ومواطنون عراقيون مسيحيون، و ليسوا بكفرة؛ بل أصحاب كتاب يعترف الإسلام بدينهم ويجله - في بلد كالعراق مكون من قوميات وأديان متنوعة متعددة، تعيش بوئام جنباً إلى جنب فوق أرض مشتركة
إن دراسة وقائع تلك الفترة، وإخضاعها لمنهج التحليل الموضوعي، ستساعد الباحث على اكتشاف مجموعات من العوامل، التي كانت وراء انفجارها، والتي يمكن توزيعها في مجموعتين منفردتين على حدا، تليهما أربع مجموعات أخرى متتالية. ويمكن تسميتها بالعوامل الداخلية والخارجية حيناً، وبالعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والنفسية حيناً آخر.  





أولاً:  العوامل الداخلية

العوامل السياسية
                
تشير الدراسات التي تناولت هذه الفترة من تاريخ العراق المعاصر - وكذا المضابط والبيانات التي صدرت حينذاك، والصحف التي عالجت مهمات الثورة - إلى أن الهدف المركزي لثورة العشرين، تمثل في تطلع العراقيين إلى الاستقلال والحرية، وإلى التخلص من السيطرة الأجنبية البريطانية؛ أي في النضال من أجل إقامة الدولة العراقية المستقلة.  وهي مفاهيم حديثة - بطبيعة الحال - لم تكن مألوفة في حياة العراقيين قبل ذلك التاريخ. فجلُّ ما كان يطرحه العاملون في الحقل السياسي حتى ذلك الوقت، كان مقتصراً على الحصول على الحكم اللامركزي في إطار الدولة العثمانية. ومن الملفت للنظر في هذا النضال؛ مساهمة مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية الريفية فيه؛ إذ كان الريف في ذلك الحين، يضم السواد الأعظم من سكان العراق؛ حيث المعاناة اليومية من الضغوط والاستبداد والجهل والمرض والفقر. وهي معاناة كانت منتشرة بين سكان كثير من المدن العراقية أيضاً، وبين البدو من بعض القبائل والعشائر المتنقلة، أو شبه المستقرة. وإذا كانت المدن العراقية، تشهد قبل ذاك صراعات بين الريف والمدينة من جهة، وبين البادية والمدينة من جهة ثانية -  كانت المدن تتعرض إلى اجتياحات القبائل المستمرة - فإنها ولأول مرة تعيش في جوّ من التعاون والتنسيق لصالح فكرة الخلاص من الهيمنة البريطانية . وقد برز لأول مرة في تاريخ العراق، دورُ شيوخ الدين المتميز في النشاط الجهادي. كما في معارك البصرة، ومعارك التعبئة لثورة العشرين. وتجلت أهمية شيوخ الدين في قدرتهم على التأثير على شيوخ العشائر وأفرادها، وفي تمكنهم من توحيد كلمتهم وجمع شملهم حول مطالب معينة، يتوجهون بها إلى سلطات الاحتلال البريطانية ولو في حدود نسبية. وهي ظاهرة ذات جانبين، أولهما: ارتباطها بطبيعة القضايا، التي تسعى المؤسسات الدينية لتحقيقها. وثانيهما: تعبيرها عن تبعية غالبية سكان الريف لشيوخ العشائر المتحالفين مع المؤسسات الدينية وشيوخ الدين؛ تبعيةً لم تكن بالضرورة سائرة باتجاهات إيجابية في جميع الأحوال، أو يمكن أنها لم تكن إلا تعبيراً عن غياب التنوير الديني والاجتماعي. وبرزت هذه الظاهرة بظهور دور المؤسسات الدينية في إيران في طرحها لمشروع المشروطية؛ (الحركة الدستورية) في بداية القرن العشرين وسعيها لتعبئة الناس من حولها.  وإذا كانت الأوساط الدينية الوطنية، وشيوخ العشائر، وبعض ملاكي الأراضي الزراعية، وبعض الشخصيات الاجتماعية والمثقفة؛ أو الأفندية من أبناء الفئات الميسورة والبرجوازية الصغيرة، قد لعبت دوراً متميزاً وقيادياً فيها، كلٌّ منها بحسب طبيعة منطقتها التي دارت فيها رحى الثورة؛ فإن جموع الفلاحين الواسعة، وأبناء العشائر، وكادحي المدن المشاركة في الثورة، شكّلت جيشها الأساس، ووقودها المحرك. والجدير بالإشارة أن غالبية أبناء الفئات المتوسطة، التي شاركت في الثورة، أو قدمت الدعم المالي والسياسي لها، كانت تنحدر من أصل ريفي، أو من الأسر الميسورة وأشراف المدن. ولكنها كانت في الوقت نفسه من ملاكي الأراضي الزراعية والعقارات. ومن هنا برزت تلك العلاقات المتشابكة بين الفئات المدينية المتوسطة (أو بدايات تكون البرجوازية العراقية الجديدة) وكبار ملاكي الأراضي الزراعية مرتبطة بعلاقات اقتصادية وروحية قوية مع شيوخ الدين الشيعة خاصة. وكانت بغداد العاصمة النموذج المتميز في المشاركة، ولاسيما من جانب المثقفين وشيوخ الدين .
وقد تجلت نشاطات هذه القوى الاجتماعية السياسية، في فعاليات الأحزاب والجمعيات السياسية، التي تشكلت في العقد الثاني من القرن العشرين، وهي: حزب العهد العراقي، الذي انشطر عن جمعية العهد التي تشكلت في عام 1913 بمبادرة من القائد العسكري والسياسي (عزيز المصري) في ظل الحكم العثماني، وجمعية حرس الاستقلال، والجمعية الوطنية الإسلامية ذات الطابع المحلي. وعمدت هذه الأحزاب إلى شرح الأهداف السياسية للفئات الاجتماعية المختلفة، ثم طرحتها في شعارات محددة بغية تعبئة الناس وتحريك الشارع في سبيل انتزاع الاستقلال. رغم وجود بعض التمايز بين طبيعة حزب العهد العراقي وجمعية حرس الاستقلال الناشئ عن الاختلاف النسبي في التمثيل الاجتماعي لمصالح الفئات الاجتماعية المختلفة.  
أكد حزب العهد العراقي في منهاجه السياسي، على العمل من أجل تحقيق: "استقلال العراق استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية وداخل حدوده الطبيعية... "  . في حين شددّت جمعية حرس الاستقلال على ما يلي: "تسعى الجمعية المذكورة وراء استقلال البلاد العراقية استقلالاً مطلقا." ولكن الجمعية ركزت من جديد على مسألتين مهمتين في هذا الإطار، وهما: الوحدة الوطنية لكل العراقيين أولاً، ثم تأمين العلاقة العضوية بين نضال العراق وبقية الأقطار العربية من أجل الوحدة العربية ثانياً. ولم تشذ الجمعية الوطنية الإسلامية عن هذا النهج السياسي؛ بل رفعت شعار استقلال العراق ومقاومة الاحتلال الأجنبي.
وبدلاً من الاستجابة لمطالب العراق، ومراعاة مشاعر الشعب، ورغبته في الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية؛ أصدرت عصبة الأمم قراراً مجحفاً أثناء انعقاد مؤتمر سان ريمو بتاريخ 25 نيسان/إبريل 1920؛ وضع بموجبه العراق تحت الانتداب البريطاني. وكان هذا القرار بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وفجرت الثورة في حزيران / يونيو من نفس العام. وقد جاء قرار المؤتمر هذا على ضوء ثلاث حقائق أساسية هي:
1.   كانت عصبة الأمم، تمثل من حيث المبدأ مجموعة الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، والتي سعت إلى تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها؛ فكان لها بالتالي تأثير مباشر على قرارات عصبة الأمم، والمؤتمرات التي كانت تعقدها. ولاسيما بريطانيا التي كانت تعتبر الدولة الاستعمارية الأكثر قدرة وتأثيراً في الأحداث؛ والأكثر نفوذاً في عصبة الأمم حينذاك.
2.   كانت المساومات فيما بين الدول الكبرى حينذاك، وبخاصة تلك التي دارت بشأن النفط الخام العراقي، قد سمحت لبريطانيا أن تمرر مشروع الانتداب على العراق من دون أن يلقى اعتراضاً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهي التي وافقت على توزيع أسلاب الدولة العثمانية، على الرغم من صدور إعلان المبادئ، أو شروط الرئيس الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ القاضي بمنح الشعوب التي كانت تحت الاحتلال، حق تقرير المصير. وتمكنت بريطانيا من خلال تلك المساومات إلى إرضاء فرنسا؛ فأصبحت سوريا ولبنان - وكانتا قبل ذاك مع فلسطين، جزءاً من ولاية الشام الخاضعة للدولة العثمانية - من نصيب فرنسا. أما العراق وفلسطين فأصبحا من نصيب بريطانيا.
3.   ولا شك في أن سلطات الاحتلال البريطانية، لم تكن تعتقد بقدرة العراقيين على خوض النضال ضد القوات البريطانية المنتصرة والمعسكرة في العراق. ولم تكن تتوقع نشوب ثورات ضدها أصلاً؛ لأنّ قوى عراقية كثيرة كانت تقف إلى جانب بريطانيا، وتؤيد سياستها في العراق، وعلى رأسها نقيب أشراف بغداد عبد الرحمن الگيلاني. كما أن الاستقبال الحار الذي استقبلت به القوات البريطانية في البصرة، أعطى المسؤولين البريطانيين الانطباع وكأن العراقيين لا يرفضون الانتداب. علماً بأن المس بيل - وكانت المساعدة المباشرة للمندوب السامي البريطاني في العراق السير برسي كوكس - كانت تتوقع حدوث مشكلات كبيرة لبريطانيا في العراق. إن هي رفضت الاستجابة لتطلعات العراقيين في إقامة الدولة العراقية المستقلة.  
لقد جاء قرار عصبة الأمم بشأن العراق حاسماً وجائراً. ورد في لائحة الانتداب ما يلي:
"بناء على نص المادة "132" من معاهدة الصلح، الموقع عليها في سيفر في اليوم العاشر من شهر أغسطس 1920 , التي بموجبها قد تنازلت تركية عن كل حقوقها وتملكها في العراق إلى الدول المتحالفة الرئيسية؛ وبناء على المادة 94 من تلك المعاهدة، التي بموجبها قررت هذه الدول الكبرى، وفقا للفقرة الرابعة من المادة 22 من الفصل الأول "عهد جمعية الأمم" بأن تعترف بالعراق دولة مستقلة، يشترط عليها قبول المشورة الإدارية والمساعد من قبل منتدب؛ إلى أن تصبح قادرة على القيام بنفسها وحدها، وأن تحديد تخوم العراق - سوى ما هو مقرر في المعاهدة المذكورة - واختيار المنتدب، تتفق عليه الدول الرئيسية المتحالفة. وبما أن الدول  المتحالفة الرئيسية قد اختارت صاحب الجلالة البريطانية منتدباً من قبلها على العراق , …." .
وأوردت لائحة الانتداب شروط الانتداب، وحقوق بريطانيا على العراق، التي كانت بمثابة فرضٍ لهيمنة عسكرية وسياسية واقتصادية ومالية غير محدودة، وغير محددة بوقت معين. وقد جوبه هذا القرار، بالرفض الكامل من جانب المجتمع العراقي، في حين وافقت عليه بعض القوى – حين لم تجد في واقع الحال مخرجاً أو حلاً آخر لها - إذ كان عليها بحسب اعتقادها، أن تذعن للواقع الموضوعي القائم، إلى أن يقيض لها أن تعمل على التخلص التدريجي من تلك الهيمنة. ومن بين هؤلاء كان (فيصل بن الحسين) وكذلك العديد من الضباط العراقيين، الذين ساندوا (الحسين بن علي) شريف مكة في تحالفه مع بريطانيا في الحرب.    
إن حركة الاستقلال الوطني، التي انتعشت في تلك الفترة، انعكست بوضوح في البيانات والمضابط، التي رفعها رجالات الثورة، وفي الفتاوى التي أصدرها شيوخ الدين؛ تلك الرافضة للانتداب والاحتلال. جاء في المذكرة التي رفعها رجال الثورة إلى الحاكم السياسي البريطاني في النجف في 8/6/1920 ما يلي:
"لما طال انتظار الأمة العراقية لتحقيق وعود الحلفاء الرسمية , ولا سيما الحكومة المعظمة البريطانية , وتنفيذ وعودهم الدولية المقطوعة باستقلال البلاد التام , رأت أن السكوت عن المطالبة بحقوقها الصريحة لا يجوز لها بوجه من الوجوه , ولا يحسن بالأمة التي عرفت من نفسها الكفاءة على تسلم أزمّة البلاد , وإدارة شؤونها السياسية والاقتصادية , أن تغض النظر عن المجاهرة بمقاصدها الغالبة ورغائبها السامية... فقررنا... أن نطالب الحكومة المحتلة باستقلالنا التام , المؤيد في بياناتها الدولية , وأن تنفذ بسرعة المطاليب الآتية:
أولا- إننا نطالب أن يؤلف الشعب باختياره , مؤتمرا عراقيا قانونيا , يجتمع أعضاؤه في عاصمة البلاد بغداد , ومهمته تأليف حكومة عربية , مستقلة كل الاستقلال , عارية عن كل تدخل أجنبي , يرأسها ملك مسلم.
ثانيا- نطلب رفع الحواجز عن ارتباط الشعب العراقي , وتفاهمه مع الشعوب الأخرى , بحرية المواصلات , وكافة المنشورات والمطبوعات.
ثالثا- نطلب تمكين الأمة عن عقد مجتمعاتها وإقامة منتدياتها في سائر مناطق العراق" .
ويمكن أن يتلمس القارئ بوضوح، أن المسؤولين عن صياغة هذه المذكرة، كانوا يدركون تماماً العلاقة الوطيدة القائمة بين التحرر من السيطرة الاستعمارية وبين الحصول على الحرية والديمقراطية والصحافة الحرة. فضلاً عن  أهمية إقامة علاقات مفتوحة ومستمرة مع الأقطار المجاورة؛ لتسهيل وصول الصحافة والثقافة للسكان، وكذلك لتسهيل طلاعهم على ما كان يجري في تلك البلدان، ولنشر المعلومات عن العراق في تلك الصحافة. وبخاصة في الوقت الذي بدأت فيه الإدارة البريطانية  بانتهاك الحقوق والحريات، والتضييق على الناس، وعلى الصحافة، وعلى دخول صحف الأقطار العربية والمجاورة إلى العراق. كتب الأستاذ محمد مهدي البصير حول موضوع الحريات ما يلي: إن من "أهم الأغلاط التي أثارت سخط الشعب على الحكومة ووقعت في نفوس المفكرين من أبنائه أسوأ وقع … خنق الحرية الفكرية ، ومنع إصدار أي جريدة سياسية غير الجرائد الرسمية…. وقد أدت مصادرة حرية الصحف في البلاد؛ إلى رغبة لا حد لها في قراءة الجرائد السورية الحرة وصحف مصر" .    
أما الزعيم الديني المعروف حجة الإسلام والمسلمين (محمد تقي الحائري الشيرازي) أحد زعماء الثورة وقادتها البارزين، فقد أصدر نداءً؛ اعتُبر بمثابة فتوى دينية وقرار سياسي موجه إلى أبناء الشعب العراقي، يدعوه فيه إلى النضال، وتأييد المقاومة المتصاعدة ضد المحتلين الأجانب ورد فيه ما يلي:
"أما بعد فإن إخوانكم في بغداد , والكاظمية , والنجف , وكربلاء , وغيرها من أنحاء العراق , فقد اتفقوا فيما بينهم على الاجتماع , والقيام بمظاهرات سلمية , وقد قامت جماعة كبيرة بتلك المظاهرات , مع المحافظة على الأمن , طالبين حقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق إن شاء الله بحكومة إسلامية , ...فالواجب عليكم , بل على جميع المسلمين , الاتفاق مع إخوانكم في هذا المبدأ الشريف. وإياكم والإخلال بالأمن , والتخالف والتشاجر بعضكم مع بعض , فإن ذلك مضر بمقاصدكم , ومضيع لحقوقكم التي صار الآن أوان حصولها بأيديكم , وأوصيكم بالمحافظة على جميع الملل , والنحل التي في بلادكم , في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم , ولا تنالوا أحدا منهم بسوء أبدا" . ثم أعقب ذلك بفتوى صريحة ذات أهمية فائقة في مجرى تطور أحداث الثورة واستخدام السلاح ضد المحتلين حيث جاء فيها ما يلي:
"مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين , ويجب عليهم في ضمن مطالباتهم , رعاية السلم والأمن , ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا أمتنع الإنكليز من قبول مطالبهم" .
وكما يلاحظ، فإن هذه الفتوى كانت صريحة في مقاصدها، واضحة في تأكيدها على عدد من النقاط المهمة، التي كانت تعتبر يومئذ حقاً ثابتاً من حقوق الشعوب، وهي كذلك ما تزال تعتبر حقاً ثابتا إلى وقتنا الحاضر، ومنها: حق الشعب العراقي في النضال؛ من أجل انتزاع حقه في الاستقلال والسيادة الوطنية، وحقه في ممارسة جميع أساليب النضال لتحقيق هذا الهدف، إذا ما وجد أن المستعمر يرفض الاستجابة لهذا الحق المشروع. وأن تحقيق هذه الأهداف يتطلب وحدة وطنية صلدة، بعيدة عن التفرقة القومية والدينية والطائفية، أو بعيدة عن الاختلافات الفكرية والسياسية، وبعيدة عن المساس بالناس أو بمصالحهم بسبب الاختلاف في القومية أو الدين أو الطائفة أو غيرها. ومما يجدر ذكره هنا: أن الإمام (محمد تقي الحائري الشيرازي) كان واحداً ممن تسلحوا بوعي سياسي، وحس وطني سليم؛ استطاع أن يجنِّب الثورة والثوار المزالق المحتملة، والصراعات الداخلية غير المبررة. وتبين الفتوى آنفة الذكر بأن شيخ الدين، كان يدعو إلى قيام حكومة إسلامية منذ البداية، وكان يريد أن يطبع الدولة العراقية بطابع الدين الإسلامي. بالرغم من أنّ العراق كان متعدد الأديان والمذاهب. أما السيد (محمد كاظم اليزدي) فكان له موقف مخالف له. إذ حصر مهمة شيوخ الدين بالوظائف الدينية والاجتماعية. ولم يكن مخطئاً في هذا، بل كان على صواب تام في معالجة هذه المسألة. وكان من الناحية العملية قد اتخذ موقفاً يتفق بهذا القدر أو ذاك مع موقف النقيب عبد الرحمن الگيلاني .  
ورغم بُعد العراق عن الساحة السياسية الأوروبية، وعن الحركات الفكرية الدائرة في أوروبا - بسبب الهيمنة العثمانية القاسية التي حجرت عليه الفكرَ والمعلومات والاتصالات الخارجية - فإن الفئات المثقفة والواعية من الشعب العراقي، قد استقبلت بعض الأفكار البرجوازية الديمقراطية الحديثة القادمة من فرنسا عبر الثوار السوريين . إذ كانت أفكار الثورة الفرنسية وشعاراتها الأساسية “ الحرية والإخاء والمساواة" واسعة الانتشار نسبياً في ولايتي مصر والشام. وكان إطلاع جماعات من العراقيين عليها، يتم عبر المجلات والصحف وبعض الكتب - على قلتها - سواء أكانت تأليفاً أم ترجمة. أو عبر الاحتكاك المباشر.  لقد وجدت تلك الأفكار طريقها إلى المثقفين والأفندية العراقيين على قلتهم، فألهب الحماس فيهم، وحركهم ضد المستعمرين وعمق من وعيهم. وكان أغلب المثقفين العراقيين من حملة هذا الفكر التحرري، ينحدرون من عائلات ميسورة، ومن صفوف الضباط الذين درسوا في الأستانة، ومن أبناء الفئات المتوسطة حديثة التكوين، وأشراف المدن، ومن قلة من أبناء البرجوازية الصغيرة. وكانت هذه الأفكار تحمل مضامين تقدمية معادية للاحتلال والاضطهاد وكانت ضد علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية، التي كانت تترسخ يوماً بعد آخر، منذ استكمال احتلال العراق من جانب القوات البريطانية. وإلى جانب هذا الاتجاه الفكري، برزت بعض الأفكار التي كانت تدعو للعدالة الاجتماعية، ومن جملتها بعض الأفكار الثورية والاشتراكية، التي وجدت لها صدى طيباً انتشر بين الناس، ولكنْ في محيط ضيق. وكان حملة هذا الفكر آنذاك، مجموعة صغيرة من المثقفين من أبناء الفئات المتوسطة والبرجوازية الصغيرة، الذين استلهموا فكرهم من ثلاثة مواقع أساسية هي: التراث الحضاري المنقطع النظير للشعب العراقي، بما حوى من نزعات مادية وعقلانية، تمثلت في حياة ونشاط الحركات الفكرية في الإسلام، وظهرت لدى جمهرة من المسلمين الأتقياء وغيرهم من سكان العراق على مدى القرون الماضية. وهي أجلى ما تكون في بعض ممارسات وأقوال (عمر بن الخطاب) و(علي بن أبي طالب) ونشاطات (أبي ذر الغفاري) و(الحلاج). كما نرى آثارها في ثورة الزنج، وفي حركة القرامطة بوجه خاص...الخ. هذا أولاً.  ثانياً: الفكر الاشتراكي المعاصر، الذي انتشر في أوروبا في تلك الفترة، فحرك الملايين من الشغيلة؛ لمواجهة الاستغلال الرأسمالي، وقد ارتبط باسم ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، وبالثورة الألمانية.
 والموقع الثالث الذي استلهموا منه أفكارهم هو: الواقع المزري الذي كانت أوساط واسعة من سكان العراق تعيش فيه؛ حيث كانت مظاهر البؤس والفاقة والحرمان والتخلف الاجتماعي، تضرب أطنابها في كل البلاد. حيث التثقيف الديني في فترة الحكم العثماني، يؤكد أن الفقر والغنى، الشبع والجوع هما من حكم الله، ولا مرد لحكمه! وأن المحروم في دنياه سعيد في آخرته. ولم تكن هذه التربية الدينية، سوى التجسيد الحي لفعل شيوخ الدين، الذين  يعمدون – بقصد أو غير قصد - إلى تخدير يقظة ووعي الشعوب، وهي عملية مطابقة لما أكده كارل ماركس حين قال: "إن الدين أفيون الشعوب" أي أن الدين يُستخدم كأفيون من المستغِلين وأتباعهم؛ لتخدير عقول الناس؛ كي ينسوا أوضاعهم الاقتصادية، والاجتماعية المزرية.  
كانت منافذ وصول الفكر الاشتراكي المعاصر متعددة: فمن مصر كانت تصل المجلات والكتب التي - على قلتها -  كانت تثير وتحرك عقول القراء، وتطرح عليهم أسئلة كثيرة. وكانت هذه المطبوعات تطرح الفكر الاشتراكي بوجه عام وتمتدحه. أو قد تنتقده أحياناً. وكانت أفكار سلامة موسى وشبلي شميل - مثلاً - غير بعيدة ولا غريبة عن قراء العربية المثقفين. كما كانت هذه الأفكار تصل من إيران، أو تأتي عبرها حاملة صدى الحركات الثورية في روسيا، التي كان لها تأثير منذ فترة مبكرة من القرن العشرين - أو ربما منذ نهاية القرن التاسع عشر - على مفكري إيران، الذين  سينقلون بدورهم تأثيره الملموس إلى عدد من المثقفين في العراق. وكان لسفر وعودة العراقيين القادرين على السفر إلى أوروبا، وإلى بعض البلدان العربية، واحتكاكهم المباشر بالحركات العمالية والفكرية والسياسية هناك أثره المادي المحسوس على فكر هؤلاء الرواد؛ الذين سيدخلون العراق حاملين تلك الأفكار والتجارب لنشرها بين أوساط المثقفين.  وفي هذا المجال، يرد اسم (حسين الرحال) الذي قضى فترة من الزمن في ألمانيا، وعاشر أحداث ثورة 1918 التي قادتها منظمة سبارتاكوس الشيوعية، وهي الثورة التي راح ضحيتها القائدان الشيوعيان كارل ليبكنخت، وروزا لوكسمبورغ، اللذان اغتالتهما الشرطة الألمانية إثر فشل الثورة.
ولا ينبغي في كل الأحوال، أن يتمَّ هنا تصويرُ هذا الدور، الذي ساهم في يقظة الوعي السياسي والفكري للعراقيين - رغم أهميته - تصويراً مبالغاً فيه؛ لأنَّ طبيعة الأوضاع الفكرية والاجتماعية المتخلفة المعقدة آنذاك، وضعف العلاقات مع الخارج، وصعوبة الحصول على الأخبار والمعلومات من الدول الأخرى؛ ما كانت تسمح بأن يتسع تأثير هذا الدور في أهل العراق، إلا في حدود ضيقة.
وقبل الانتهاء من هذه الفقرة، لا بد من الإشارة إلى عامل مهم من عوامل تحريك وتوعية المجتمع حينذاك ألا وهو: عامل الصحافة السياسية الوطنية، التي كانت تُعدُّ مرآة عاكسة لواقع المجتمع، وللمشكلات السياسية التي يواجهها، وللحالة النضالية التي كان عليها.  كانت الصحافة قبل الثورة، تمارس دوراً يندد بالهيمنة الاستعمارية البريطانية الجديدة، ويفضح غاياتها وأغراضها، ويكشف الغطاء عن المشكلات التي بدأ المواطن العراقي يتعرض لها في ظل سلطة الاحتلال البريطانية. كما كانت الصحافة تلعب دوراً بارزاً في بلورة أهداف الحركة الوطنية ومهماتها، وتساهم في توسيع ميادين الثورات، وتأجيج الروح الحماسية في نفوس المناضلين. وقد وجدت في فترة الثورة جريدتان هما: "الفرات" و "الاستقلال" لم تستمرا في العمل والنشر طويلاً، إذ أنهما كانتا شوكة حقيقية في عيون المستعمرين وأعوانهم، وأداة ثورية فعلية بيد المناضلين الثوار . وكانت منبراً لبعض قادة الثورة، الذين قاموا بالتحرير فيها، فسلطوا الضوء على المشكلات، التي كانت تواجه المجتمع، فاضحين نوايا البريطانيين السياسية والاقتصادية في العراق، ويعمقون الفجوة التي كانت تفصل حقيقةً بين الادعاء بتحرير العراق من الهيمنة العثمانية، وبين واقع سقوط العراق تحت احتلال استعماري جديد بريطاني الجنسية والهوية.
ولو أن بريطانيا - كما يخيل لي - مارست سياسات أخرى، غير السياسة التي مارستها في الواقع؛ لأمكنها التأثير الإيجابي في المجتمع، وإخراجه من ظلمات العهد العثماني إلى نور الحضارة الغربية الحديثة، ولأمكنها أن تساهم بدور فعال في تنشيط التنوير الديني والاجتماعي، الذي تعطل في مصر أيضاً بفعل تلك العوامل التي عاشها العراق. إذ كانت سياسة وزارة المستعمرات البريطانية قاسية جداً، ومحافظة جداً على مبدأ تحقيق الأهداف الاستعمارية، ولهذا لم يستطع الفكر الديمقراطي البريطاني الولوج في حياة العراق، ونفوس العراقيات والعراقيين بالصورة التي تساعد على التفاعل والتفاهم ومنح الناس حقوقهم المشروعة؛ التي تعطلت لفترة غير قصيرة. لقد كانت وزارة المستعمرات البريطانية، تريد تحقيق نجاحات اقتصادية سريعة على حساب شعوب المستعمرات، وتريد أن تنقل هذه النجاحات على أكتاف الشعوب ومنها الشعب العراقي. وكان لهذا الفعل تأثيره السلبي المباشر على حياة وسلوك الناس، استشعروه رغم التخلف الفكري والحضاري، الذي ساد المجتمع العراقي. وهو تخلف انطبعت آثاره على المؤسسة الدينية أيضاً. ولكن هذه المؤسسة، حين تتهم القوات البريطانية بالكفر - ربما بدافع الخوف من اتهام المثقفين لها بالوقوف إلى جانب المستعمر البريطاني - ستلعب دوراً مفيداً في إضعاف الاستفادة من الوجود البريطاني في العراق، وستسهم في دفع المجتمع العراقي بقوة إلى الأمام في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي مجال التنوير الديني.
إن تجربة الاحتلال البريطاني للعراق وعواقبها وتداعياتها، يمكن لها أن تقدم درساً حياً للمجتمع العراقي في المرحلة الراهنة، التي تشهد واقع وجود قوات احتلال أمريكية وبريطانية ودولية أخرى في العراق.    

ب. العوامل الاقتصادية
 

لم تكن العوامل السياسية سوى الوجه الثاني للعملة. أما وجهها الأول، فتمثَّل بالعوامل الاقتصادية، التي كانت تقف وراء تطور النشاط السياسي، والعمليات المسلحة المناهضة لقوات الاحتلال البريطاني، التي بادرت إلى استخدام السلاح، لإخماد المقاومة. بدأ التحرك السياسي والعسكري ضد الإنكليز في النجف في عام 1918 وتجلى في ثورة السليمانية عام 1919 ثم في ثورة العشرين، التي اتسع نطاقها ليشمل مناطق واسعة من العراق، ولاسيما وسط وجنوب العراق. كما سيتسع في كل المدن التي كانت المؤسسة الدينية فيها ذات تأثير كبير على السكان مثل: بغداد، الكاظمية، كربلاء، النجف. مما يمكِّننا من تلمس العلاقة الجدلية بين المصالح الاقتصادية للمؤسسة الدينية وشيوخ الدين من جهة،  ومصالح الفئات الاجتماعية التي قادت العمليات العسكرية من شيوخ العشائر والفلاحين، الذين انغمسوا في الثورة فكانوا وقودها المحرك من جهة أخرى.
جلبت سنوات الحرب العالمية الأولى معها مشكلات اقتصادية جمة لسكان العراق. فإلى جانب المعارك الحربية، التي كانت تجري على الأرض العراقية، ومحاولات الدولة العثمانية تجنيد العراقيين للقتال إلى جانبها في معاركها ضد الإنكليز، واستخدام الانكليز لأعداد غفيرة من المواطنين في أعمال السخرة في معسكراتهم، وفي شق الطرق ونقل السلاح، استخداماً سيلعب دوراً بارزاً في تقليص الإنتاج الزراعي؛ فإن سلطات الاحتلال البريطانية، وقوات الجيش العثماني ستمارسان في آن معاً، سياسة الاستيلاء على المحاصيل الزراعية - كشكل من أشكال استيفاء الضرائب لتغطية نفقات الحرب - من دون أن تتكفلا بدفع تعويض مالي لأصحاب المحاصيل، أو قد تدفعا تعويضاً مالياً لكنْ محدوداً قليلاً، لا يفي بحاجات أصحابها. والمعلومات المتوفرة تشير إلى واقع مرير تمرغ فيه سكان العراق. كتب الدكتور عبد الله النفيسي في هذا الصدد يقول: "كان إصرار الإدارة البريطانية على تحصيل الضرائب المفروضة على كل محصول زراعي، وعلى كل محصول بستان تحصيلاً كاملاً أمراً مكروهاً لدى الفقير والغني على السواء حتى أن القبائل , كقبيلة بني حچيم من لواء المنتق مثلاً , وجدت نفسها سنة 1919 مرغمة على دفع ضرائب فادحة وذلك لأول مرة في تاريخها. وكان تحصيل الواردات , في تلك السنة نفسها , في لواء المنتفق , أعلى تحصيل في الفترة الواقعة بين 1916 - 1928. وإليك ثبتاً بواردات المنتفق من سنة 1916 - 1918:
1916         52,464     جنيهاً.
1919         1,661,823     جنيهاً.
1922         -
1926       1,002,659     جنيهاً.
1928         1,277,233    جنيهاً.

ففي لواء المنتفق مثلاً , ارتفعت ضريبة الدخل على كل فرد من أقل من خمسة روبيات في سنة 1916 إلى خمس شلنات في سنة 1919 , وبعد اضطرابات سنة 1920 عادت وانخفضت ثانية سنة 1922 إلى شلن. … وكانت المبالغ المحصلة من لواء المنتفق والديوانية والشامية , وهي ثلاثة ألوية شيعية , في سنة 1920 تقدر بـ 5533100 شلن أو قرابة ربع مجموع الدخل من الألوية العراقية وعددها أربعة عشر لواءً (تقديرات الموازنة , 1920 - 1921 ص 4). وكانت المبالغ المخصصة في الألوية الثلاثة 1929440 شلناً (المصدر ذاته ص 5)" .  
كما أدّتِ العمليات العسكرية في مناطق مختلفة من العراق؛ إلى تدمير المزيد من قنوات الري والبزل، وإلى تخريب المزارع، وتلف المحاصيل الزراعية، وإلى إرغام أعداد كبيرة من الفلاحين على ترك الريف والهجرة إلى المدن. إذ أن أغلب العمليات العسكرية، تركزت في المناطق الزراعية من الفرات الأوسط وجنوب العراق. وقد لعب التجار الكبار، والوسطاء دورهم الطفيلي المعروف، في اغتنام فرصة الحرب؛ فاغتنوا اغتناء سريعاً على حساب الكادحين. واستفادت من هذه الأوضاع مجموعات قليلة من التجار والإقطاعيين وکبار الملاکين، التي تعاونت مع المحتلين الجدد، وساهمت بتشديد الاستغلال على الفلاحين. وإذا كانت إجراءات إقرار التشريعات العثمانية بخصوص الأرض الزراعية، التي تم اغتصاب مساحات واسعة منها من الفلاحين على مدى القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وتسجيلها بأسماء الشيوخ وكبار موظفي الدولة وأشراف المدن وتجارها؛ قد أثارت سكان الريف، وفجرت ينابيع الغضب في نفوسهم على المحتلين، وشحذت منهم الهمم لمقاومة قوات الاحتلال. فإن سلطات الاحتلال البريطانية منذ سنة 1918 قد عمدت إلى ممارسة سياسة مماثلة لسياسة العثمانيين؛ أغضبت الفلاحين والكثير من الشيوخ الذين حرموا من الأرض ؛ بسبب مواقفهم الوطنية من سلطات الاحتلال في أثناء الحرب العالمية الأولى، أو في الأعوام التي تلتها. فنظموا العديد من المضابط، والتحركات المعادية للإنكليز في مناطق عديدة، وبخاصة في الفرات الأوسط والجنوب. وكان لهذه التحركات السياسية دورها في تعبئة الفلاحين، وأبناء المدن وإلى تعميق مضمون التناقضات الاجتماعية مع سلطات الاحتلال.
ورداً على تلك التحركات، قامت سلطات الاحتلال بإعداد وتنفيذ حملات عسكرية "تأديبية" شرسة ضد الفلاحين من أبناء العشائر. فكان منها التصدي لانتفاضة تلعفر وثورة السليمانية ودير الزور والنجف. ومنها قمع التحركات الأخرى في بغداد وغيرها من المدن، مما أجج الوضع العام بأكمله. ومع أنَّ العلاقات ما بين العشائر أو ما بين الشيوخ المستغِِلين والفلاحين المستغََلين لم تكن طبيعية. إذ كانت تشوبها التناقضات وضعف الثقة والصراعات. إلا أن شيوخ الدين والأحزاب السياسية ساهموا في تخفيف تلك التناقضات، وتمكنوا من السيطرة على الصراعات وزرع الثقة في النفوس من أجل مواجهة مشتركة ضد الاحتلال البريطاني. يشير الشيخ (محمد رضا الشبيبي) إلى أن ثورة العشرين كانت: "وليدة عاملين خطيرين أولهما الضغط والاستغلال الاقتصادي واستنزاف جهود العاملين في الزراعة خاصة- والعراق قطر زراعي قبل كل شئ- والاستيلاء على مواردها من الخامات بأبخس الأثمان وردها بعد استخدامها في الصناعة الحديثة لتصريفها في أسواق هذه البلاد بأعلى الأثمان , وهذا هو جوهر الاستعمار الحديث... أما العامل الثاني في اندلاع الثورة فهو ذلك الضغط السياسي أو الحجر على الأفكار والحيلولة بين أبناء البلاد وبين التعبير عن آرائهم والمطالبة بحقوقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، واختيار حكامهم وحكوماتهم بملء إرادتهم ثم للمحاولات التي بذلتها السلطة المحتلة لفرض نوع من السيطرة الاستعمارية المباشرة على العراق" . ويتضمن مقتطف الشيخ محمد رضا الشبيبي تأكيداً صريحاً على الوعي السياسي والاجتماعي لعدد من قادة الثورة يومئذ، وفهمهم للأسباب التي دفعتهم للمشاركة بالثورة .
وما خلا ذلك، فإن ظروف الحرب، أوجدت بذاتها نوعاً من الحركة التجارية النشيطة نسبياً في الأسواق المحلية، استفادت منها مجموعات من التجار. إلا أنها اقترنت بإفقار شديد للكادحين من ذوي الدخل المحدود؛ بسبب نقص فرص العمل، والتشرد وارتفاع أسعار السلع والخدمات (التضخم النقدي)  ، وكذلك النهب المتواصل والمتنوع للمحاصيل الزراعية والإيرادات من جانب سلطات الاحتلال الإنكليزي؛ وبعض الإقطاعيين وتجار الجملة، أنتجت في بعض مناطق العراق مجاعات بشعة. ومنها المجاعة التي وقعت في الموصل، والتي أودت بحياة الألوف من السكان.  ويورد الدكتور الوردي في هذا الصدد ما يلي: "ولكن هذه المنافع التي جناها قسم من الناس تقابلها مضار أصابت القسم الآخر منهم. فقد ارتفعت أسعار الحب

1073
كاظم حبيب
هل ينفع حكام إيران ترحيل مشكلاتهم الداخلية صوب الخارج؟

اعتادت دكتاتوريات الشرق الأوسط وبقية بلدان العالم الثالث ترحيل مشكلاتها الداخلية صوب الخارج بافتعال الخلافات والصراعات الحدودية إلى حد الدخول في نزاعات مسلحة مع الجيران من أجل تعبئة الناس وطنياً ورفع حماسهم الوطني للتغطية على المشكلات الداخلية. وغالباً ما نجحت تلك الدكتاتوريات ولفترات غير قصيرة, ولكنها في النهاية تقف وجهاً لوجه أمام تلك المشكلات فتعجز عن حلها ويجد الناس طريقهم إما إلى الانتفاضة والثورة وإسقاط النظام, وإما وقوع انقلابات عسكرية غالباً ما تكون فوقية ونخبوية عسكرية, وإما أن تغوص تلك النظم أكثر فأكثر في مستنقع المزيد من الاستبداد والقمع والقهر لشعوب بلدانها. هذا ما هو حاصل في الكثير من بلدان الشرق الأوسط والعالم النامي, وهو حصل في العراق, إلى إن أُسقط النظام بفعل خارجي حين عجز الشعب عن إنهاء أو إسقاط الدكتاتورية البعثية ألصدامية, وحين كشف النظام كل محاولات الانقلاب السابقة وأرسل أغلب القائمين بها إلى المقابر الجماعية. ولم تكن حالة العراق اعتيادية, إذ غالباً ما كانت تحصل انقلابات داخلية يدعي القائمون بها تغيير الأوضاع لصالح الشعب وسرعان ما يكون التغيير لصالح النخبة الحاكمة الجديدة وبالضد من إرادة الشعب, فتبدأ العملية النضالية مجدداً. ويفترض أن تبقى حالة العراق الأخيرة استثنائية لكي لا تنشأ ذات التداعيات التي نشأت في العراق بعد إسقاط النظام بقوى أجنبية لا تزال مستمرة إلى الآن, ومنها الصراعات ونظام المحاصصة الطائفية والهيمنة الطائفية المقيتة والموت الواسع النطاق.
واليوم تلج إيران طريق العراق المعقد والمتشابك والصعب, طريق الصد ما رد, طريق الموت والدمار والخراب الذي سار عليه صدام حسين ورهطه وحزبه. فالنظام الإيراني تيوقراطي رجعي متخلف واستبدادي شرقي مرعب. يعيش في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وقومية وثقافية ومذهبية متفاقمة تجد تجلياتها في أوضاع الشعب اليومية وفي البطالة المتزايدة والفقر الواسع الانتشار والفساد المالي والإداري, وتحاول حكومة إيران الخروج من أزمتها الداخلية بعدة طرق, منها:
1.   تشديد الصراع مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي وغيرها بهدف السيطرة على منطقة الشرق الأوسط ولعب الدور الأول في المنطقة كدولة إقليمية كبرى.   
2.   تشديد الصراع مع وكالة الطاقة الدولية بشأن الطاقة النووية وتخصيب اليورانيوم في إيران ومخاطر إنتاج السلاح النووي.
3.   تنشيط القوى الإسلامية السياسية المتطرفة في المنطقة باتجاهات عدة, كما يحصل في غزة أو في لبنان والعراق أو في مناطق أخرى في غرب أسيا والشرق الأوسط.
4.   التهديد المستمر لإسرائيل "بإزالتها من الوجود" والتي لا تتطابق مع واقع الحياة والتي تهيج العالم كله ضد إيران, وهي تهدف من وراء ذلك كسب العواطف البدائية للرأي العام العربي والإسلامي ولكنها تثير في الوقت نفسه المزيد من الأحقاد والكراهية في المنطقة والعالم.
5.   التدخل الفظ في الشأن الداخلي للدول المجاورة كما حصل ويحصل حالياً في العراق ولبنان واليمن وفي أفغانستان والخليج. ويمكن أن يتابع الإنسان الضربات العسكرية التي توجهها القوات العسكرية الإيرانية إلى مناطق في إقليم كردستان العراق والتي أدت إلى هجرة الكثير من الفلاحين وسكان الريف لقراهم ومزارعهم, إضافة لمن استشهد من السكان بذريعة وقحة تدعي وجود قوى إيرانية مسلحة تناضل ضد الحكومة الإيرانية في الأراضي العراقية, بدلاً من السعي لمعالجة حقوق تلك الشعوب داخل إيران. كما أنها تتدخل مباشرة في الشأن الداخلي العراقي, بما في ذلك مسألة تشكيل الحكومة العراقية ورئاستها والتحالفات السياسية الشيعية التي قادت بدورها إلى تحالفات سياسية سنية مضادة .. وهلمجرا.
6.   كما تمارس الحكومة الإيرانية قمع داخلياً شديداً موجهاً ضد الحركات التحررية للشعوب غير الفارسية في إيران, وخاصة ضد الشعب الكردي وضد البلوش والتركمان وغيرهم, ومصادرة الحريات الأساسية والحقوق الديمقراطية للشعب الفارسي أيضاً.
إن إيران ترتكب أخطاء فادحة في السياسات التي تمارسها على صعيدي الداخل والخارج, فهي تزيد نقمة الشعب في الداخل من جهة, وتزيد من عزلتها على الصعيد الدولي وتقود إلى مزيد من العقوبات الاقتصادية الدولية على إيران من جهة ثانية, كما تقود إلى حرمان الشعب من الكثير من حقوقه الطبيعية كما حصل في فترة الحصار الدولي ضد العراق من جهة ثالثة.
إن على النظام الإسلامي الطائفي السياسي في إيران, ولكي لا يدفع بالأمور بذات الوجهة التي سارت عليها في العراق, أن يعيد النظر بهذا النظام السياسي المتخلف والغريب عن حضارة البشر في القرن الحادي والعشرين, وأن يعيد النظر بسياساته الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي ويكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وأن لا يصعد الصراع والنزاع في الشرق الأوسط وأن يعالج مشكلاته الداخلية بطريقة أخرى غير القمع وأحكام الإعدام ضد المناضلين الكُرد والفرس وغيرهم من ناشطات ونُشطاء القوميات الأخرى في إيران.
إن سياسة حكام إيران الحاليين تدفع بالأمور إلى نهاياتها المنطقية, إلى السقوط بشكل من الأشكال, كأي دكتاتورية غاشمة ولن تتعظ بما حصل للنظام البعثي العراقي الذي لم يختلف في استبداده عما يجري اليوم في إيران, وبالتالي سيكلف ذلك الشعوب الإيرانية وشعوب المنطقة الكثير من الآلام والدماء والدموع والتخلف.
إن الدكتاتورية التي تمارسها النخبة "الدينية" الحاكمة في إيران وعلى رأسها علي خامنئي ومحمود أحمدي نجاد و"الحرس الثوري" القومي الشوفيني لن تقود البلاد إلا إلى المزيد من العزلة الداخلية والخارجية والمزيد من التأزم والصراع والنزاع, وسوف لن يبقى أمام الشعب غير الحل الأوحد النضال من أجل إسقاط الدكتاتورية قبل أن يحصل التدخل الخارجي بسبب إصرار حكومة إيران الحالية على إنتاج سلاحها النووي. إن تفاعلاً بين مناضلي الشعب في الداخل والمناضلين الذين اجبروا على الهجرة في الشتات الإيراني قد تجلى في اجتماعات كبيرة خلال الأيام المنصرمة ومنها التجمع الجماهيري الكبير في باريس والتي ستثمر يوماً لتعيد الوجه الحقيقي للشعب الإيراني ولثورته الوطنية المغتصبة منذ العام 1979 من قبل قوى الإسلام السياسية المتخلفة في إيران.
28/6/2010                     كاظم حبيب

1074
المنبر الحر / إسرائيل ... إلى أين؟
« في: 11:52 28/06/2010  »
كاظم حبيب

إسرائيل ... إلى أين؟

العالم في حركة دائمة وفي تغير مستمر. وسياسات الكثير من الدول هي الأخرى غير جامدة ومجبرة على الحركة بفعل التغيرات الحاصلة على الصعيد العالمي, رغم الاختلاف في وجهة أو اتجاه ومضمون أو سرعة الحركة والتغيير. ففي الوقت الذي نرى أن حركة التاريخ للعالم كله وكمحصلة نهائية تسير نحو الأمام وبالاتجاه الصحيح عموماً, نجد في الوقت نفسه أن حركة الدول والتغيرات الجارية فيها تعبر أحياناً غير قليلة عن حركة متعرجة زگزاگية فيها تقدم وفيها أحياناً تراجع أو مراوحة في المكان, وبالتالي تخلف عن حركة واتجاه تطور العالم. وهنا يمكن أن نجد نماذج صارخة لهذه الاحتمالات في الشرق الأوسط على نحو خاص, كما نجدها في الدول الأفريقية وأمريكا اللاتينية وغيرها من بلدان العالم.
وإذا كانت سياسة الدول العربية لفترة طويلة جامدة جداً إزاء القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل, فإنها في السنوات الأخيرة قد تحركت وتميزت بالديناميكية والموضوعية حيث طرحت مشروعات أكثر نضوجاً ووعياً بالمسؤولية إزاء مصائر الشرق الأوسط بغض النظر عن طبيعة الحكومات في هذه الدول ومواقفها من شعوبها ومن الحريات العامة وحقوق الإنسان. وقد تجلى ذلك في مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الذي طرحه حين كان لا يزال ولياً للعهد في المملكة السعودية. وهو يتكامل بهذا القدر أو ذاك مع خارطة الطريق التي طرحت في عهد جورج بوش الابن.         
ولكن ما الذي لم يتغير في هذا العالم المتغير؟ إنها دولة إسرائيل بحكوماتها المتعاقبة. فهي لم تتحرك قيد أنملة عن مواقفها السابقة التي تريد التوسع على حساب القسم المخصص للفلسطينيين من دولة فلسطين السابقة في العام 1947 وقبل قرار التقسيم. فمنذ حرب الأيام الستة وإسرائيل تحتل أراضٍ عربية في الضفة الغربية وتحاصر غزة وتحتل القسم الشرقي من مدينة القدس وتحتل مرتفعات الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية وترفض الانسحاب منها إلى الآن وترفض عملياً التفاوض بفعل ما تمارسه من سياسات تفصيلية ويومية في مختلف تلك المناطق وخاصة في الموقف من قيام الدولة الفلسطينية.
حين نقول أن العالم في تغير مستمر, فهذا يعنى بوضوح أن إسرائيل لا تستطيع أن تحتفظ بالأراضي العربية المحتلة وممارسة القمع والعقوبات الجماعية ضد سكان غزة والضفة الغربية أو ممارسة التمييز ضد العرب من سكان إسرائيل طويلاً بالاعتماد على تأييد الولايات المتحدة وبريطانيا أو سكوتهما, ولا على امتلاك السلاح النووي وبقية أسلحة الدمار الشامل, إذ أن القوة العظمى (الولايات المتحدة) تفقد قدرتها سنة بعد أخرى على فرض سياساتها على كل دول العالم كما كان يحصل في القرن العشرين أو إلى الآن, إذ أن ميزان القوى في تغير تدريجي ولكن مستمر ومتسارع نسبياً. ولهذا لا بد لإسرائيل أن تستبدل سياسة القوة والعنف والمجابهة المستمرة من جهة, واقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية وإضافتها إلى إسرائيل من جهة أخرى, وإقامة المزيد من المستوطنات اليهودية في الأرض التي هي لدولة فلسطين التي يفترض إقامتها من جهة ثالثة, بسياسة جديدة تتميز بالرغبة الصادقة والحكمة الضرورية لمعالجة المشكلات مع العالم العربي والتي يفترض أن تلتزم بما يلي:
** الانسحاب الكامل من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب الأيام الستة في العام 1967.
** أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية, في حين تكون القدس الغربية عاصمة لإسرائيل.       
** الموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض التي احتلت في العام 1967 ومنها غزة والضفة الغربية.
** الانسحاب الكامل من هضبة الجولان السورية ومن مزارع شبعا اللبنانية.
** إيجاد حل عملي وإنساني لمهجري ومشردي العام 1948 بين الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية وبالتعاون مع الأمم المتحدة.
** التوقف عن بناء المستوطنات أولاً وتسليم المستوطنات الحالية إلى حكومة فلسطين ثانياً, إذ أن وجودها كان وسيبقى مصدر صراع ونزاع دموي لا يجوز استمراره بين الشعبين العربي في فلسطين والإسرائيلي.
** إقامة علاقات دبلوماسية وسياسية واقتصادية وثقافية بين دولة إسرائيل والدول العربية وإنهاء حالة الحرب التي لا تزال قائمة بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
إن حل قضية فلسطين يعتبر مفتاح الحل للكثير من المشكلات الراهنة في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر واحدة من أكثر مناطق العالم سخونة ومحملة ببراميل البارود والنفط سريعي الاشتعال.
إن إسرائيل التي هي جزء من دول منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن تعيش بسلام ووئام وتعاون دون حل المشكلة الفلسطينية أو عدم التوقف عن الرغبة الجامحة في التوسع على حساب الأرض العربية, إذ أن هذا سيقابل برفض مستمر وعداء متبادل وصراع ونزاع دموي وقتل مستمر ومتبادل للبشر وخراب واسع.
إن على إسرائيل أن تختار بين مواصلة السياسة غير الحكيمة الراهنة واحتمال نشوب حروب جديدة وموت وخراب جديدين في المنطقة بأسرها, وبين مبادلة الأرض بالسلام والعيش المستقر في المنطقة. وليس هناك من خيار ثالث. وإذا تصورت إسرائيل غير ذلك فهي مخطئة, كما كانت الحكومات العربية وبعض القوى القومية والدينية التي كانت تعتقد وتسعى لإزالة إسرائيل, ولكن الأيام أقنعت بعضها بغير ذلك. إن تحول سياسة إسرائيل صوب السلام الفعلي سيساهم في توجيه ضربات سياسية نوعية ضد القوى المتطرفة في المنطقة سواء أكانت دينية أم عنصري ويقوض القاعدة السياسية التي تستند إليها في العالم العربي والإسلامي.     
وعلى إسرائيل أن تقرر إلى أين المسير بعد أن قررت الحكومات العربية السير على طريق السلام والذي لم يتقرر بعد من جانب حكومة إسرائيل!
24/6/2010                     كاظم حبيب

1075
كاظم حبيب
هل سينجح البيتان الشيعي والسني السياسيين الطائفيين في تقسيم المجتمع العراقي؟

الأحزاب الإسلامية السياسية العربية في العراق كلها تتحدث ضد الطائفية السياسية وتعتبرها طامة كبرى بعد أن مارستها جهاراً ولسنوات عدة, ولكنها جميعاً لا تزال تمارس السياسة الطائفية عملياً ويومياً وفي كل لحظة لا دفاعاً عن الجماهير العراقية المؤمنة بالمذهبين الشيعي الاثنا عشر والسني الحنفي, بل عن مصالح هذه الأحزاب وقياداتها على نحو خاص والمنتفعين من السياسات الطائفية دون أن ترمش جفونها.
ليست الأقوال هي العامل الحاسم في هذا الحالة, بل الأفعال وحدها. وما نشاهده اليوم من صراع حول رئاسة مجلس الوزراء يجسد هذه الحقيقة المرة التي يعيش في ظلها المجتمع العراقي, سيادة الطائفية والتمييز الطائفي وانعدام الثقة بين هذه الأحزاب, وكأن بعضها يترصد الآخر ليجهز عليه.
الصراع حول السلطة أمر طبيعي بين الأحزاب السياسية ذات البرامج الوطنية التي يسعى كل منها إلى تأكيد رغبته في خدمة المجتمع ومصالحه الأساسية من خلال وجوده في الحكم, ويحق للمجتمع أن يقرر من هو الأفضل في هذا التمثيل عبر الانتخابات, وبالتالي من يحوز على الأغلبية البرلمانية يحق له تشكيل الحكومة. وهذا التقليد هو المتبع في تلك الدول التي يسودها المجتمع المدني وتسودها الديمقراطية بمفهومها العام ويسودها التداول السلمي للسلطة. ولكن ما يجري في العراق هو أمر آخر, هو صراع بين أحزاب تشارك, بسبب طبيعة أحزابها وتأسيسها على وفق أسس طائفية تمييزية, في تقسيم المجتمع إلى سنة وشيعة, رغم التستر بغطاء قومي لا يحّسن القضية بل يزيدها تعقيداً.
منذ سقوط النظام الدكتاتوري الذي سلط الاستبداد والقهر والقمع على المجتمع ومارس الطائفية بصيغ مختلفة بعيداً عن جماهير الشعب السنة ولمصلحة النخبة الحاكمة والمجموعة المرتبطة به من قوى الدين السياسي السنية العربية من أمثال حارث الضاري وعدنان الدليمي, فأن النظام السياسي الذي جاء مع القوات الأمريكية يجسد الطبيعة الطائفية الشيعية البحتة, التي يبدو وكأنها تريد الانتقام لنفسها من الجماعات السنية التي كانت في الحكم أو خارجه. ومثل هذا التوجه يعقد وضع العراق ويحول الضحية إلى جلاد دون مبرر, وهو الذي يثير المشكلات في البلاد ويشدد من الصراع الطائفي. لقد نجح الطائفيون من الطرفين إلى تحقيق الاستقطاب الطائفي وتشديده لصالح الانتخابات الأخيرة وما قبلها, ووجد ذلك تعبيره في تصويت الكثير من العلمانيين الشيعة والسنة لصالح القوائم الإسلامية السياسية أو دخلوا معهم في قوائم انتخابية, كما فعل البعض ممن كان يوماً ما شيوعياً أو اشتراكياً أو ديمقراطياً تقدمياً, وهو التعبير الصارخ عن ضعف المستوى المدني والديمقراطي لمن يمارس هذا الأسلوب الانتهازي أو يصوت لصالح القوى الإسلامية السياسية, شيعية كانت أم سنية. ولا يمكن لهذه الأحزاب أن تعيش دون تأجيج الطائفية السياسية والتزام الدفاع عن هذه الطائفة أو تلكً, وهو الموقف الذي يشق المجتمع ويشطره إلى شطرين ويسمح للدول المجاورة بالتدخل في الشأن العراقي في ضوء هذا التقسيم السلبي للمجتمع, وهو ما يحصل اليوم على نطاق واسع. ألقوا نظرة على سياسة ومواقف إيران في العراق وإزاء العراق من جهة, ونظرة أخرى على سياسة ومواقف السعودية من جهة أخرى, ستجدون جوهر مجرى الصراع الطائفي في العراق.
حزب الدعوة الإسلامية السياسية ارتدى لبوس القانون وراح يروج لحزبه من خلال هذه القائمة, وكانت النتيجة حصوله على 89 مقعداً في المجلس النيابي الجديدً. وحركة الوفاق جمعت في قائمتها العراقية الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية والقومية الشوفينية وعناصر مستقلة لتحصل في الانتخابات على 91 مقعداًً. في حين فقدت القوى الديمقراطية ما كان لها من مقاعد في المجلس السابق. وإذا كانت قائمة دولة القانون قد اعتمدت على أصوات الشيعة في وسط وجنوب العراق بشكل أساسي, فأن قائمة العراقية قد اعتمدت على أصوات السنة في غرب وشمال العراق (الموصل). وفي هذا تأكيد صارخ على انقسام المجتمع بفضل نشاط تلك الأحزاب الإسلامية والقومية إلى جماعتين متضادتين, وهو ما يقلق كل إنسان وطني شريف في العراق. إن هناك مسعى حقيقي للبننة الحالة العراقية, وهو أمر لا يجوز القبول به!
لم يكتف الطائفيون بكل ذلك, بل راح أحدهم, عدنان الدليمي, وهو رئيس قائمة التوافق الإسلامية, يخطب بهستيرية نادرة ويصرخ بانفعال شديد كادت سدارته تطير من على رأسه, وكاد يفقد أسنانه, بأنه سني طائفي حتى النخاع, وأن العرب جبناء حين لا يعلنون طائفيتهم لإنقاذ العراق من الشيعة الرافضة. وراح يصرخ بضرورة تحويل مؤتمر نصرة الشعب العراقي إلى نصرة أهل السنة في العراق. وهكذا نلاحظ أن هذا التبني للطائفية والطائفة, شيعية كانت أم سنية, تجسد ما أطلق عليه الكاتب أمين المعلوف بـ "الهويات القاتلة" الهويات الجزئية التي تفتك بالهوية الوطنية وتساهم في تفكيك المجتمع وتدميره, وتدفع بمتبنيها إلى هستيريا مرعبة تهدد الفرد والمجتمع بأخطار كبيرة.
يشار دوماً إلى أن السيد علي السيستاني ضد الممارسات الطائفية, وأنه ضد الانقسام الطائفي في المجتمع, وأنه يطالب بتطبيق الدستور واحترام إرادة الناس من جهة, ومن جهة أخرى يزوره سياسيون يريدون تأكيد ارتباطهم بإحدى المرجعيات الشيعية المهمة وخاصة السيستاني, إذ أن المرجعيات لدى الشيعة عديدة, ثم يخرجون من عندهم أو من عند السيستاني ليدلوا بتصريحات تكون حمالة أوجه, ولكنهم في الممارسة العملية يمارسون وجهة محددة تؤكد طائفيتهم. والسؤال هنا من منهم يتحدث بلسان ويعمل وفق لسان آخر؟ هل التزم المالكي والحكيم والجعفري وغيرهم بأقوال السيد السيستاني, وكيف كانت تلك الأقوال؟ وهل التزم أياد علاوي بما قاله السيد السيستاني أو التزم بمرجعيات أخرى؟ كم هو جميل أن يكف هؤلاء عن تحميل شيوخ الدين مسؤولية ما يقومون به من أفعال غير سليمة تلحق أضراراً فادحة بالمجتمع العراقي وبوحدته الوطنية., وكم هو جميل أن تعلن المرجعيات الدينية أنها لا علاقة لها بأعمال هؤلاء السياسيين الذين يتبجحون بعلاقتهم بالمرجعيات ويحملونها ما ليس من مهماتها ومسؤولياتها.
العراق بحاجة إلى حكومة وطنية مستقلة عن برامج الأحزاب الإسلامية السياسية, سواء تلك التي تؤيد على خامنئي كمرشد لها أم مفتي الديار السعودية كمرشد وموجه لها. إذ أن الأمرين واحد ونتائجه سلبية.
25/6/2010                        كاظم حبيب       



1076
كاظم حبيب
إيران تواصل سياستها العدوانية إزاء العراق!
ليس هناك من بلد في العالم يتعرض إلى الإيذاء في منطقة الشرق الأوسط من قبل دول الجوار ومن قوى سياسية فيها بقدر ما يتعرض له العراق, تلك الدول التي تحيط به من جهات أربع, إنها إيران وتركيا وسوريا والسعودية وبعض دول الخليج أو قوى سياسية فيها. ولم يكن في مقدور هذه الدول أو قوى فيها أن تتحرش بالعراق لو كان الشعب موحداً ولو كانت قواه السياسية متعاونة ومتضامنة في ما بينها وبعيدة عن ممارسة الطائفية في السياسة بكل أبعاد هذه الهويات الطائفية القاتلة, ولو كانت للعراق حكومة مدنية وديمقراطية تدرك أهمية وحدة الشعب وتماسكه ومخاطر ممارسة سياسات طائفية مقيتة. إلا أن غياب كل ذلك تقريباً وبشكل خاص غياب مثل هذه الحكومة واستمرار الصراع حول موقع رئيس الوزراء, أوجد حالة غير سليمة تهدد الوضع الأمني بمخاطر جديدة ويمكن أن تنسف كل ما توصل إليه العراق خلال السنتين الأخيرتين من نجاحات في المجال الأمني وليس في المجالات الأخرى ذات الأهمية الفائقة للمجتمع. ورغم تقلص عدد القتلى شهرياً, فهو لا يزال مرتفعاً ويتواصل الموت في مدن مهمة مثل بغداد وديالى وغيرها.
إن الدولة الإيرانية وقوى سياسية فيها تعمل اليوم بدأب ومثابرة استثنائية على تأسيس قاعدة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وثقافية متينة ومتماسكة لها في العراق تستطيع من خلالها التأثير المباشر وغير المباشر على السياسة العراقية وعلى استقلالية القرار العراقي في المجالات الأخرى. وفي هذا تنشأ المصادرة الفعلية للقرار العراقي المستقل الذي يفترض أن يصان ويعزز.
فاستثمارات إيران في مدن ومحافظات الوسط والجنوب آخذة بالزيادة المستمرة والكبيرة, وكذلك في كُردستان, رغم أن كردستان أصبحت موقعاً أساسياً ومهماً للاستثمارات التركية, إذ أن الأخيرة تسعى إلى تكوين وبلورة لوبي لها في العراق من خلال تجديد التعاون مع قوى الإسلام السياسية السنية, كما لإيران مثل ذلك اللوبي في الوسط والجنوب وبغداد بشكل خاص وبين الأوساط الإسلامية السياسية الشيعية. وبهذا نعود إلى الصراع التقليدي القديم بين الدولة الفارسية والدولة العثمانية, رغم إنهما يتفقان في مكافحة حركة التحرر الوطني الكردية في كل من كردستان تركيا وكُردستان إيران.
لا نريد نبش تاريخ العلاقات العراقية الإيرانية وما فيها من إيجابي وسلبي, ففيها الكثير من الإشكاليات التاريخية لسنا بحاجة للعودة إليها. ولكن تاريخ العلاقات العراقية-الإيرانية بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق لا يدعو إلى الارتياح, علماً بأن إيران كانت أول دولة اعترفت بالوضع الجديد في العراق بالرغم من موقفها المناهض للولايات المتحدة الأمريكية, إذ أن الحرب وسقوط الدكتاتورية فتح لإيران, كما لدول الجوار الأخرى, أبواب العراق وجعلها مشرعة بالتمام والكمال أمامها, فولجت في العراق عمودياً وأفقياً وأصبح العراق ساحة فعلية للسياسية الإيرانية إلى يومنا هذا.         
وبدلاً من أن تتجه إيران إلى معالجة المشكلات القائمة مع العراق عبر التفاوض والحوار السلمي ومساعدته على النهوض من عثرات الماضي الكبيرة, عمدت إلى التدخل في شؤونه الداخلية بشكل فظ ويومي وواسع النطاق, ثم بدأت أخيراً بتوجيه نيران مدافعها الثقيلة صوب الأراضي العراقية في إقليم كُردستان فشردت الكثير من أهالي الريف والفلاحين الآمنين وقتلت البعض الكثير منهم وأحرقت المزارع ودمرت بيوت السكن على رؤوس ساكنيها. إنها الجريمة بعينها من دولة جارة.
لا تزال نيران المدافع الإيرانية تشتعل في الأرض العراقية وتحرق الأخضر واليابس في آن, وهي التي تدعي الرغبة في إحلال الأمن والاستقرار والسلام في ربوع العراق.
لقد مارست إيران هذه السياسة في فترة حكم الدكتاتور صدام حسين ودفعته إلى إعلان الحرب وتجاوز الحدود واحتلال الكثير من الأراضي الإيرانية وأسر العوائل فيها ونهب سكانها. وقد أدين صدام حسين بسبب شنه الحرب وعدم رفع شكوى ضد إيران إلى مجلس الأمن الدولي. لقد انجر الدكتاتور للاستفزازات الإيرانية على حدود البلدين في حينها بدلاً من طلب المساعدة من الأمم المتحدة لمعالجة المشكلات بالطرق السلمية. أما اليوم فإيران تدرك بأن العراق لا يزال ضعيفاً وغير قادر على الرد الزجري لاستفزازاتها بسبب أوضاعه الداخلية المعقدة وبسبب اللوبي الإيراني الذي سيمنع تقديم شكوى فعلية ودعوة لعقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي لمواجهة اعتداءاتها على الحدود العراقية الإيرانية.
ولكن على إيران أن لا تفكر بهذه الطريقة, فالعراق حالياً ووفق الاتفاقية المعقودة مع الولايات المتحدة يعتبر حليفاً للولايات المتحدة ويفترض عدم تجاوز هذه الحقيقة. وبالتالي سيكون من واجب الحكومة الأمريكية وفق تلك الاتفاقية مساعدة العراق في رد العدوان عليه. ولو كان جورج بوش في السلطة لسارع إلى استغلال العدوان الإيراني على الأراضي العراقية ليقوم بتوجيه ضربات عسكرية ضدها. وأتمنى أن لا يحصل ذلك حالياً. ولكن لا يجوز لإيران أن تستثمر ضعف العراق ووجود لوبي داخلي لها بممارسة اختراقات عسكرية مستمرة في الأراضي العراقية والقصف المدفعي المتواصل بذريعة تطهير المنطقة من عناصر كردية من مواطني إقليم كردستان إيران, وهي ذريعة باطلة ولا يجوز التعكز عليها لضرب مواقع عراقية بحتة.
إن على الحكومة الإيرانية إيقاف تجاوزاتها الحدودية وقصفها للأراضي الكردستانية وشعب كردستان وعدم التدخل في الشأن العراقي. عليها أن تحل مشكلة الشعب الكردي في إقليم كُردستان إيران في بلادها وليس عبر الحدود.
كما أن على حكومة التركية إيقاف التدخل الفظ في الشأن العراقي, كما حصل ويحصل اليوم أيضا عبر الضربات العسكرية الجوية والولوج في الأرض العراقية واحتلال مواقع فيه أو إقامة قواعد عسكرية للمراقبةً, فهو تجاوز على السيادة والاستقلال الوطني.
إن العراق يعاني من تسلل قوى إرهابية من بوابات الدول العربية على العراق, وإلى تدخل فظ في الشأن العراقي وفي مجرى انتخاباته والتأثير فيها وفي الحوارات السياسية بين قواه الداخلية. ومثل هذا التدخل يعني بصراحة مشاركة تلك الدول وبعض القوى فيها في مسؤولية الإساءة للشعب والجيرة والوجود المشترك في منطقة الشرق الأوسط وللأمن والسلم في المنطقة والعالم. لقد فاض الكأس ومات الكثير من البشر بسبب التدخل المتواصل في الشأن العراق ومن حق الشعب أن يطالب المجتمع الدولي بالعمل من أجل إيقاف هذه التدخلات المتواصلة في الشأن العراقي, وعلى مجلس الأمن أن يتخذ التدابير الضرورية لدعم العراق في موقفه ضد تلك التجاوزات غير المنقطعة. ومن المؤسف أن نداءات الشعب العراقي لحل معضلة رئاسة الوزراء وسد الفراغ السياسي الواسع لم ولن تسمع ولا يريد أحد سماعها وكأن في أذانهم صمم.
24/6/2010                  كاظم حبيب
   




1077
كلمة كاظم حبيب في احتفالية تكريمه في أربيل
سيداتي , آنساتي , سادتي الكرام
أخواتي وأخوتي الأفاضل
رفاقي وأصدقائي الپيشمرگة - الأنصار 

ابتداءً أتوجه بالشكر الجزيل والامتنان الكبير للشعب الكردي الأبي الذي لولا صداقتي الخالصة له ولبقية مكونات الشعب في العراق ووقوفي الكامل إلى جانب التمتع التام بحقوقه القومية على صعيد كردستان العراق وبقية الأقاليم الكردستانية لما حظيت بهذا التكريم الجميل والصادق منه.
كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى الأخوة في رئاسة الإقليم والأخوات والأخوة في حكومة الإقليم ووزارة الثقافة والشباب في الإقليم على هذا التكريم فهو ليس تكريماً لي وحدي, بل هو تكريم لكل المناضلين العرب في العراق وغير العراق, سواء أكانوا أعضاء في التجمع العربي لنصرة القضية الكردية أم خارجه, الذين وقفوا دوماٌ ويقفون بحزم ووضوح إلى جانب قضية الأمة الكردية العادلة والمشروعة, إضافة إلى المواقف التي اتخذها الحزب الشيوعي العراقي إلى جانب القضية الكردية العادلة مع بقية الأحزاب الكردية والديمقراطية العراقية وأخص بالذكر منهم الرفيق والصديق الطيب الذكر الأستاذ عزيز شريف الذي وقف إلى جانب هذه القضية العادلة وعلمنا الكثير على هذا الطريق منذ صدور كراسه الأول في العام 1948/1949, وكان هو الأجدر مني بهذا التكريم وهو الذي حظي بحب واحترام الشعب الكردي وقيادة الثورة الكردية سنوات طويلة قبل وفاته.
وشكري يمتد ليشمل الأخوة الكرام أعضاء لجنة المبادرة في الخارج التي تضم مجموعة من خيرة مثقفي ومثقفات العراق, وكذلك الأخوات والأخوة الذين وقعوا على مقترح المبادرة, والذين سعوا ويسعون إلى تأسيس تقليد جميل في المجتمع والثقافة الكردية. شكري يتجه إلى كل الحضور الكريم وكل الذين شاركوا بكلماتهم الطيبة والودية في هذا الحفل الكردي العراقي الجميل.
أدركت منذ سنوات طويلة بأن النقد الصادق الذي يوجه للأحبة هو جزء من الواجب, واجب الصديق إزاء أصدقائه. والنقد لا يعني بأي حال جانباً واحداً, بل يعني ذكر الإيجابي والتنويه عن السلبي في آن, ومهمته إنارة دربنا غير المعبد وتقليص الأخطاء المحتملة حين نعمل. وأشعر بالحيرة أحياناً من نفسي إذ لا أستطيع إمساك اليد عن الكتابة أو اللسان عن القول حين أجد ذلك ضرورياً فهو دافع داخلي لا مجال لردّه. واعتقد أن أخواتي وأخوتي في إقليم كردستان عرفوا هذه السمة وتعايشوا معها بود واعتزاز. كم يتمنى الإنسان أن تدرس الملاحظات النقدية بالطريقة المناسبة لتساهم في خدمة القضية الكردية والديمقراطية في العراق.
مرَّت على العراق الكثير من الأيام والسنوات والعقود الصعبة والمحن والكوارث الهائلة وتجاوزها بالكثير من الدماء والدموع , مجازر الأنفال وحلبچة وانتفاضة الشعب في ربيع 1991 والنزوح المليوني هي نماذج على السنوات العجاف, ولكن الشعب الكردي بقى يتطلع نحو مستقبل أفضل وحياة أكثر حرية وديمقراطية وأكثر إقراراً بهويته القومية والوطنية وبعقل وقلب متنورين ومفتوحين, ومن حقه على الجميع أن يعيش اليوم في ظروف أفضل, إذ لم يذهب هذا النضال عبثاً بل أتى أكله الأولى بقيام الفيدرالية منذ العام 1992 وتكريسها في الدستور العراقي في العام 2005, وهو يسعى اليوم لتحسين الحياة والعيش الكريم على الصعيدين الكردستاني والعراقي.
أشعر بالفرح والسعادة حين أرى الأمن والاستقرار والعمران المتواصل في الإقليم, وأتمنى أن يكون ذلك في كل أنحاء العراق. وأشعر بالألم والحزن حين يسقط شهيد في الإقليم بعد كل تلك المعاناة الطويلة, وشهداء كثيرون سقطوا في بغداد وبقية أنحاء العراق, وأتمنى أن تتوقف ماكنة الموت ويحل الصفاء والوئام والسلم الاجتماعي. وشروط السلم الاجتماعي تتبلور في ضمان الأمن والاستقرار وحرية المواطن والحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان والقوميات وحرية المرأة ومساواتها بالرجل والفصل الفعلي بين السلطات الثلاث وفصل الدين عن الدولة والمشاركة الفعلية بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وتنشيط واستقلالية منظمات المجتمع المدني, وكذلك سيادة العدالة الاجتماعية والتوزيع والاستخدام العقلاني والفعال والعادل للثروة الوطنية ومكافحة الفساد والمفسدين والإرهاب والإرهابيين. نحن أيها الأخوة والأخوات الكرام أمام مهمات ثقيلة ولكنها ضرورية وملحة ولا مفر من إنجازها.
لقد تغير وجه إقليم كردستان, وتُقدم عاصمة الإقليم أربيل نموذجاً جيداً, وكذا السليمانية,  لباقي المدن الكردستانية والعراقية, وأتمنى أن نشاهد في الفترة القادمة, وبعد أن تميزت الفترة السابقة بإقامة وتطوير البنية التحتية, أن تبنى المصانع الحديثة وتنتعش الحقول الزراعية الخضراء وتنمو الثروة الحيوانية لتساهم كلها في الإنتاج وإشباع متزايد لحاجة السوق الداخلي وتقليص الاستيراد الاستهلاكي لصالح سلع الإنتاج لصالح تشغيل العاطلين عن العمل وتنمية الثروة الوطنية وتحقيق التراكم المنشود, ومن اجل تجاوز الاقتصادي الريعي الاستهلاكي الذي يتميز به الاقتصاد العراقي واقتصاد إقليم كردستان العراق في آن.
إن توسيع وتعزيز الحياة الديمقراطية وتطوير الاقتصاد الوطني وتنشيط قطاع الدولة والقطاع الخاص والقطاع المختلط والعدالة الاجتماعية واستكمال بناء مؤسسات الإقليم الدستورية والديمقراطية وتوسيع وتطوير مختلف مراحل التعليم والحياة الثقافية ودور المثقفات والمثقفين في الحياة العامة وتنشيط دور الإعلام المستقل والحر وحماية حياة الصحفيين كلها سياسات ستساهم دون أدنى ريب في رفع مستوى وعي الإنسان وتطوير العلاقة الجدلية بين الإنسان الفرد والمجتمع في الإقليم وبين تلك المؤسسات والمسؤولين وستقدم نموذجاً جيداً لبقية أجزاء كُردستان وبقية بنات وأبناء الأمة الكردية وسيسعون للاقتداء به والنهل من تجربته الغنية لبناء تجاربهم الذاتية.
كلنا يدرك بأن العراق يمر بمرحلة معقدة تستوجب الكثير من الجهد, وفي المقدمة منها الانتباه للاستحقاقات الانتخابية بغض النظر عن مواقفنا الشخصية, وأن نبذل جهداً مثابراً عبر النقاش لوضع برنامج مشترك لصالح تنمية وتطوير العراق والإقليم, والتخلص من السياسات والمواقف الفردية والطائفية والتمييز القومي والديني والمذهبي وحماية أتباع الديانات في العراق وصيانة حقوقهم وتشديد عملية مكافحة الإرهاب الدموي وإنهاء الأزمة الراهنة التي في مقدورها, إن غابت الحكمة وساد التوجس المتبادل بين الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية العراقية, إلى التسبب في حصول محن إضافية والعودة إلى نقطة الصفر التي كنا فيها في العام 2004 وما بعدها.
لا بد لمن يتسلم الحكم الائتلافي في العراق أن يتخذ التدبير الضرورية والكافية لمواجهة الأوضاع المحتملة بعد خروج القوات الأجنبية من العراق مع حلول العام 2011 , إذ يأمل الشعب بكل مكوناته أن يتعزز الاستقلال والسيادة الوطنية وممارسة سياسة وطنية وديمقراطية تعزز الدولة المدنية الدستورية والديمقراطية الاتحادية في البلاد.
ويُفترض أن يتضمن البرنامج الحكومي معالجات جادة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والبيئية وحل العقد الكثيرة, بما فيها تنظيم العلاقة عبر قوانين واضحة ودقيقة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية وفق بنود الدستور العراقي بما في ذلك المادة 140 منه بعيداً عن الإعاقة والجرجرة التي لا تحل المشاكل بل تزيد من تعقيداتها.
إن وحدة مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية لا تتم إلا بالتخلي عن التمييز القومي والديني والطائفي, وهي ضمانة أكيدة لتطور أكثر أمناً وازدهاراً لكل العراقيات والعراقيين, وهي الضمانة لنجاح عملية التنمية والتقدم الاقتصادي وتقليص تدريجي للاعتماد على النفط الخام في التجارة الخارجية وتكوين الدخل القومي.
إن الشعب الكردي ورئاسة وحكومة الإقليم من جهة والحكومة الاتحادية من جهة أخرى يتحملان معاً مسؤولية تعزيز التفاعل المتبادل والعمل المشترك وتوطيد أواصر الأخوة والمودة لصالح السير سوية صوب بناء دولة ديمقراطية مدنية واتحادية حديثة لكي يمكن على أساسها تحقيق التقدم والرفاهية لمكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية. ويمكن للإقليم شعباً وحكومة أن يلعب دوراً مهماً في هذا الصدد حين يقدم نموذجاً جديداً في ممارسة الديمقراطية وتطوير حقوق الإنسان وتوسيع دور منظمات المجتمع المدني وحمايتها ودعم جهودها لصالح تغيير القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي في كردستان وعلى مستوى العراق كله. 
إن الوعي بالمسؤولية والتداول السلمي والديمقراطي الانتخابي للسلطة والحرص على مستقبل أجيال العراق الراهنة والقادمة يستوجبان المزيد من التفاعل والتسامح والتعاون لبناء العراق وبناء الإقليم, فقوة الإقليم الاقتصادية وحرياته العامة وحياته الديمقراطية وتقدمه الثقافي والاجتماعي والعلمي هي مكاسب وقوة للعراق , والعكس صحيح أيضاً. 
لقد كرمتموني بهذا الاحتفال والحضور الكريم ولا بد أن أرد الجميل في أن أبقى أواصل العمل والكتابة عن إقليم كردستان وعن العراق كله وأمارس النقد البناء بجانبيه لكي أصلح أن أكون صديقاً صادقاً لكم في الإقليم وللعراق كله.
الشكر الجزيل لكم جميعاً متمنياً لكم موفور الصحة والسلامة والتقدم على طريق تعزيز العلاقة الجدلية الشفافة بين الشعب وقواه السياسية والحكم. أتمنى لإقليم كُردستان دوام التقدم والازدهار ولشعب كردستان, نساءً ورجالاً, العمل والرفاهية والكرامة والسعادة والسلام الدائم.     
شكراً لحسن انتباهكم.
كاظم حبيب         أربيل في 17/6/2010


1078
كاظم حبيب
متى يمكن تطبيق مبدأ التداول الديمقراطي للسلطة في العراق؟
كانت الإدارة الأمريكية تروج لرأي مفاده "حين يسقط نظام صدام حسين ستسود الديمقراطية في البلاد"! وكان بوش الابن يعتقد جازماً بأنه مرسل من خالقه لنشر الحرية في العالم والخلاص من "قوى جوج وماجوج" الشيطانية التي تريد تدمير إسرائيل والتي كانت معسكرة في بابل, ثم انتقلت بعد سقوط النظام تحت ضربات القوات الأمريكية إلى المثلث الإيراني – التركي – العراقي لتواصل عملها من هناك. هذه هي تصورات وتفسيرات رئيس أكبر دولة في العالم لما جاء في التوراة (العهد القديم) بهذا الصدد, وهي خرافات لا أول لها ولا أخري! هذا ما نقله جاك شيراك, رئيس جمهورية فرنسا السابق, حول حوار له مع جورج دبليو بوش قبل بدء حرب الخليج الثالثة والأخيرة حتى هذا الحين, إذ كان يريد إقناعه بضرورة خوض فرنسا الحرب مع الولايات المتحدة.
أشك تماماً في أن القوى الواعية في الولايات المتحدة كانت تعتقد بأن الديمقراطية ستسود في العراق بعد سقوط الدكتاتورية كما اعتقد بها الرجل الإنجيلي المذهب والمتعصب وغير المثقف جورج دبليو بوش. كما أشك بقناعتها بما ورد على لسان رئيسهم حينذاك حول قوات الجوج ماجوج.
الديمقراطية ليست صبغة يمكن تلوين العراق بها, بل هي عملية معقدة وصعبة وطويلة الأمدً, إنها عملية سيرورة وصيرورة معقدة ومتشابكة, عملية حضارية ترتبط بالتحولات التي يفترض أن تجري في المجتمع على البنية الاقتصادية والاجتماعية وعملية التنوير التي تسمح بنشوء وعي عقلاني جديد يفتح أبواب فردوس المجتمع المدني الديمقراطي الحديث على أرض وشعب العراق! إنها تراكم معرفي وخبرات وقيم.
ما كان ولا يمكن أن نتصور وجود إنسان عاقل تصور إمكانية بناء الديمقراطية في العراق في ظروف الفترة المنصرمة بعد أن عانى الشعب عبر مئات السنين من الاستبداد الشرقي المشهود له بالعنف والقمع والدموية, وبعد أن ساد الاستبداد القومي الشرقي الأكثر تطرفاً وعدوانية وشراسة طوال أربعة عقود بالتمام والكمال (1963-2003) في ظل حكومات بعثية - قومية, وقومية, ثم بعثية, مع المعرفة التامة بأن الأحزاب السياسية العراقية كلها قد نشأت وترعرعت في ظل تلك النظم, وأن كانت مناهضة لها, ولكنها كانت تحلم بالوصول إلى الحكم ليمارس بعضها أو كلها ذات السياسات أو ما يماثلها ويطبق مبدأ "نمسك الحكم بأسناننا" أو "ما نعطي الحكم لأحد بعد اليوم"!   
أشرت أكثر من مرة إلى أن السيد علي الأديب, وهو قائد في الدعوة, قد أكد بوضوح لا لبس فيه بأن الديمقراطية بالنسبة له ولحزب الدعوة ليست سوى وسيلة وليست فلسفة. واستكمل السيد نوري المالكي هذا التصور لدى حزب الدعوة حين قال في تجمع انتخابي لشيوخ العشائر "أخذناها وبعد ما ننطيها". وقد جسد بذلك فهم ووعي قوى في حزب الدعوة لمقولة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للوصول إلى السلطة, ولكنها ليست فلسفة للممارسة الفعلية بعد الوصول إلى السلطة. وهو ما وجدناه عند السيد إبراهيم الجعفري حين رفض الانصياع وتسليم الحكم لغيره, إلا بعد ولادة قيصرية.
ما نواجهه اليوم في العراق هو نتيجة ومحصلة فعلية متناغمة مع واقع المجتمع الفكري والسياسي والاقتصادي والبنية الاجتماعية, منسجمة مع وعي غالبية أفراد المجتمع. ومن كان يتصور غير ذلك, يصاب بالإحباط الكبير, كما يتجلى ذلك في مقال الدكتور شاكر النابلسي الذي دافع بحرقة عن ضرورة الخلاص من نظام الدكتاتور الأهوج صدام حسين وتمنى أن تستبدل الدكتاتورية بالديمقراطية.
كان الأستاذ جاسم المطير على حق كبير حين أكد أن الديمقراطية هي عملية معقدة حيث ذكر ما يلي "... حقيقة أن الانتقال المفترض من دكتاتورية نظام صدام حسين إلى دولة ديمقراطية ما بعد نيسان 2003 كان وما زال عسيرا بدون شك. الصعاب كثيرة والظروف الموضوعية معقدة لكن مع ذلك كانت السلطة خلال السنوات السبع الماضية قاصرة بالأساس عن تحقيق الانتقال المنشود. كانت فعالياتها الأساسية محجوزة بالبحث عن مواقع (القوة السلطوية) من خلال إحراز المناصب العليا", هذا ما جاء في مقاله الموسوم "الزمان لن يسمح للشارع العراقي أن يبقى مقفراً أو ساكناً" المنشور في الحوار المتمدن في 11/6/2010.
أؤكد هنا حقيقة أن القوى التي شكلت الأكثرية في الوزارات الثلاث المنصرمة كانت إسلامية سياسية شيعية وسنية, وهي لا ترى في الديمقراطية فلسفة للعمل, بل طريقاً للوصول, وهي ترى في الوعي القائم حالياً هو الأصل في وصولها إلى السلطة ولا تريد تبديل هذا الوعي ولا تعمل من أجله. ومن هنا نجد موقفها الرافض لتحقيق عملية تصنيع البلاد وتحديث الزراعة والإبقاء على التجارة الخارجية لتحتل الموقع الأول المستنزف للدخل الريعي الناشئ في قطاع النفط الخام المصدر.
المناورات السياسية الجارية في العراق لا تعبر عن وعي ديمقراطي مسؤول يجسد مفهوم التداول السلمي والديمقراطي للسلطة. فالصراع لا يدور حول ضرورة الالتزام بالديمقراطية بل حول مفهوم آخر "بين من لا يريد أن يعطيها وبين من يريد أن يأخذها". والعلة هنا ليست "في من لا يريد أن يعطيها ولا من يريد أن يأخذها" في ما لو كانت القضية قائمة على أسس من المواطنة المتساوية والهوية الوطنية العراقية, بل إن العلة تكمن في من يعتبر نفسه ممثلاً لطائفة دينية, شيعية أو سنية, فهو صراع بين أحزاب إسلامية سياسية رغم التسميات الأخرى المستخدمة لكل منها ولكنها في الجوهر مذهبية تمارس التمييز المذهبي وتريد ان تحتفظ بالسلطة للاستمرار بممارسة التمييز أو لأخذ السلطة بهدف ممارسة نفس النهج ضد أتباع المذاهب الأخرى. إنها المعضلة الأساسية في الوضع القائم في العراق. فبعد أن كان قومياً شوفينياً متطرفاً, أصبح اليوم طائفياً مقيتاً.
أن تأييد هذا الطرف أو ذاك المستند إلى مبدأ الطائفة السياسي التميزي يضع البلاد على كف عفريت ويحرمها من التقدم خطوة إلى أمام في حل المعضلات التي تواجه البلاد, ومنها الإرهاب والبطالة والفقر وغياب التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والتنوير الديني.. الخ.
إن الدور الضعيف جداً والهامشي للقوى الديمقراطية على صعيد العراق في الحياة السياسية لأسباب موضوعية وذاتية يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً ويقلل من القدرة على تحريك الشارع الساكن والساكت حالياً, رغم إن الزمن كفيل بتحريكه, ولكن متى؟
إن المشكلة في القوى الديمقراطية تبرز في إنها عجزت حتى الآن أن تجد لها سقفاً مشتركاً يلملم أطرافها ويجمع قواها الضعيفة فيخلق منها قوة دافعة قادرة على التحرك والتحريك.
لا يمكن الخلاص من الواقع الراهن دون وجود قوى سياسية ديمقراطية فاعلة قادرة على تقليص مبرمج لقدرة التأثير التي ما تزال تمتلكها قوى الإسلام السياسية في العراق, فهي مهيمنة حالياً على وعي غالبية الناس الذي نتج عبر القرون السابقة وتكرس وتحجر في فترة حكم البعث الدكتاتوري في أذهان الناس.
وهذا بدوره يتطلب من القوى الديمقراطية أن تكون ديمقراطية وحديثة حقاً في فكرها وبرامجها السياسية وخطابها السياسي وفي علاقاتها مع فئات المجتمع ومع أعضاء أحزابها وتنظيماتها وبعيدة عن السلفية في الحنين إلى الماضي الذي لن يعود أو الاعتماد عليه, وإلا فلن يستقيم لها الوضع وستبقى هامشية كما هي عليه الآن, رغم كونها تؤكد أنها قوى المستقبل. ولن يكسب أي حزب المستقبل ما لم يعمل الآن من أجله. إنه الأمر المفقود كثيراً في الوقت الحاضر أو أنه في حدوده الدنيا.         
سيبقى الصراع على السلطة شديداً وستبذل الأطراف المختلفة جهداً لكي لا تلجأ إلى القوة والعنف, بل تواصل استخدام المناورات للاحتفاظ بالسلطة أو لأخذها, ولكن هناك من سيبقى يمارس العنف والقتل والتخريب ما دام يعرف جيداً وجود هذا الصراع بين القوى السياسية وبالطريقة الجارية حالياً لكي يمرر من خلالها مخططاته وأهدافه الشريرة.
وإذ يلعب التحالف الكُردستاني دور بيضة القبان فأن التحالفات التي يراد إقامتها لتشكيل الحكومة القادمة فإنه يواجه موقفاً صعباً ومأزقاً كبيراً, اعترف بذلك أو لم يعترف. فالموقف من القائمة العراقية محفوف بمخاطر جدية ناشئة عن موقف مجموعة أسامة النجيفي التي تحتل المرتبة الأولى في القائمة العراقية, إذ إنها تتخذ من المبدأ موقفاً مناهضاً بشكل صارخ لطموحات الشعب الكردي وحقوقه القومية وفيدراليته ومصالحه والتي لا تختلف سياساتها إزاء المسالة الكردية كثيراً عن السياسات التي مارسها صدام حسين إزاء الشعب الكردي في حالة وصولها إلى السلطة! إنها معضلة حقاً.
وتشخيص هذه المسألة لا يعني أنها متفقة تماماً مع قائمة دولة القانون, بل متعارضة معها في العديد من المسائل كما ظهر ذلك في فترة حكم المالكي المنتهية ولايته عملياً. كما إن هناك في الائتلاف العراقي الموحد من يرفض الفيدرالية الكردستانية, كما في حالة التيار الصدري, في حين هناك تعاون واضح واتفاق مع المجلس الإسلامي الأعلى في العراق بشأن العديد من القضايا. وفي هذه التشكيلات والتحالفات ذات السياسات والمواقف المتباينة يكمن المأزق الكردي في العلاقة مع الأحزاب والقوى والتحالفات السياسية في بغداد. ومع ذلك فالتحالف الكُردستاني حسم ويحسم موقفه لصالح التحالف مع الائتلاف العراقي الموحد ومن يختاره لتشكيل الوزارة القادمة. ورغم أنه لم يعلن عن تبنيه لأي من المرشحين, إلا أنه يميل, كما أرى, إلى السيد عادل عبد المهدي ليكون رئيساً للوزراء.   
سيبقى العاق يراوح في مكانه الراهن بشأن الموقف من الديمقراطية في العراق, بغض النظر عن كيفية تشكيل الحكومة الجديدة, ما لم تبذل الجهود الحثيثة والمكثفة لتغيير وعي الناس الذي لا يتغير بسرعة, ولا يتغير دون إجراء تغييرات فعلية في القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي تساهم بشكل خاص في بلورة وعي الإنسان الجديد وتنويره.   
لقد نشرت قبل أيام مشروعاً لـ "بناء العراق المدني الديمقراطي الاتحادي الحديث" لأغراض المناقشة. وكان هدفي منه الوصول إلى:
1.   تحريك النقاش البناء والجاد والمسؤول بين المختصين بمختلف جوانب المشروع أو جوانب أخرى أغفلها المشروع.
2.   إيصاله إلى كثرة من الطلبة والمتعلمين والمثقفين والقادرين على القراءة والمهتمين بالشأن العراقي بهدف دعم برامج ديمقراطية أخرى لقوى سياسية عديدة, وهي بالتالي محاولة للتثقيف بما هو إيجابي وضروري للعراق ليمكن مقارنته مع ما يجري اليوم في العراق أو مع المشاريع التي تطرحها القوى الأخرى.
3.   أن يكون أداة بيد المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية في العراق, من أجل دفع البلاد باتجاه تحقيق ما يمكن تحقيقه في العراق. وبالتالي فهو أداة ضغط على الحكومات التي تتشكل للأخذ بهذه الفقرة أو تلك أو أكثر.
4.   من المعروف أن قوى المعارضة السياسية في أي بلد من البلدان حين تطرح برامجها تدرك تماماً بأن الحكومات القائمة لا تأخذ بها, ولكنها مع ذلك تطرحها للتثقيف بها والدعاية لها من أجل فرضها أو تغيير الحكومة أو الوضع كله. ومن هذا المنطلق أيضاً يفترض أن ينظر إلى المشروع الذي طرحته للنقاش, رغم قناعتي بأن هذه الحكومة أو تلك لا تريد الأخذ به أو ترفضه جملة وتفصيلا أو يفرض بعضه عليها فرضاً.
5.   أدرك تماماً بأن الأوضاع الراهنة لا تسمح بتحقيق بعض أهم وأبرز تلك الأهداف الواردة في المشروع, ولكن أليس من حقنا أن نعمم ما نريد ونحرك فئات المجتمع للنضال من أجله.
أتمنى أن يُقرأ المشروع في ضوء الملاحظات التي أوردتها في أعلاه ليتبين الهدف منه.
11/6/2010                     كاظم حبيب     
 


1079
كاظم حبيب
خلوة مع النفس
هل القسوة وعدم التسامح يشكلان جزءاً من سلوكنا الاجتماعي؟

كثيراً ما فكرت في سلوكنا اليومي نحن العراقيين, وكثيراً ما شعرت بألم جارح حين كنت التقي في بعض الأحيان بأحبة يعانون من قسوة الآخرين عليهم أو بآخرين يعانون من ممارسة القسوة في ما بينهم. وكثيراً ما حاولت أن أبحث في أصل هذه السلوكية غير السليمة. وغالباً ما سجلت ملاحظات على أمل كتابة مقال بشأنها, رغم أني عالجت هذه المشكلة المعقدة في كتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة في العراق" الصادر في العام 2005. والقسوة لا تبرز بين الأعداء فقط, بل وبين أفراد العائلة الواحدة أو العشيرة أو بين الأصدقاء أو بين أعضاء حزب سياسي واحد وبين أعضاء منظمة مجتمع مدني واحدة أو بين المعلم وتلميذه.
الخلافات بين الناس ممكنة وتباين وجهات النظر ممكن أيضاً, ولكنه لا يحتاج إلى قطيعة, إذ أن لكل ذلك حلول عقلية وبعيدة عن التشرذم والتنافر والتنابز والإساءة أو الانسحاب والانغلاق على النفس أو التخندق. نحن جميعاً بحاجة إلى رؤية واضحة للعلاقة التي تشد الجميع مع الاستقلالية الضرورية للرأي والرأي الآخر وبعيداً عن الإقصاء والتهميش, كما أن هناك أهدافاً مشتركة تجمع بين أفراد العائلة أو بين أفراد الحزب الواحد أو المنظمة الواحدة أو المجتمع الواحد دون الحاجة إلى الغضب وممارسة القسوة بأي شكل كان, سواء بالاعتداء أو بالكلمة الجارحة أو بالنظرة الزاجرة.   
يتشكل سلوك الفرد في مجتمعه. والمجتمع هنا يبدأ بالفرد, فالأسرة ثم يمتد إلى المدرسة والمحلة وموقع العمل والمدينة والدولة التي يولد فيها الفرد ويعيش مع غيره من الأفراد. هنا يتلقى الفرد القيم والمعايير العامة والتقاليد والعادات والأعراف التي تتعامل بها الأسرة والمدرسة والمعمل والمجتمع بشكل عام والسلطات الثلاث, التشريعية والتنفيذية والقضائية, وكذلك المنظمات والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وسبل تعاملها مع الفرد والمجتمع, وبشكل خاص موقف السلطة التنفيذية من الفرد والمجتمع.
القيم والمعايير التي يتلقاها الفرد في مجتمعه ليست سوى نتاج لمجموعة من العوامل المؤثرة والفاعلة والمتبادلة التأثير, إنها عوامل تاريخية وتراثية ودينية ومعرفية أو ثقافية عامة وحضارية بشكل أعم. وهي بشكل عام بطيئة في تغيرها وعميقة في تأثيرها على الفرد وتصرفاته اليومية وتعامله مع نفسه والآخر, 
لا يعني هذا أن كل الأفراد في هذا المجتمع أو ذاك يمتلكون نفس السمات ويمارسون نفس السلوك ويتعاملون مع نفس القيم والمعايير أو التقاليد والعادات والأعراف دون تباين في ما بينهم. إذ أن العوامل السالفة حين تلعب دورها تؤثر في الفرد بشكل متباين أحياناً كثيرة بسبب تأثير أحدها أو أكثر بصورة أقوى أو أخف من تأثير العوامل الأخرى, وبالتالي تكون الحصيلة تباين نسبي بين شخص وآخر. إلا أن هناك بعض السمات والخصائص التي يمكن الإشارة إلى كونها عامة والتي تبلورت في هذا المجتمع أو ذاك عبر مئات السنين والتي تركت فعلها وتأثيرها على الفرد الذي يتلقاها في البيت والمدرسة وتتجلى في سلوك المشرع في صياغته للقوانين التي يراد العمل بها في المجتمع وفي العلاقة مع الدولة, أو التقاليد والعادات والأعراف المعمول بها في المجتمع. والكثير من الباحثين المتخصصين بعلم النفس الاجتماعي قد كتبوا عن هذه الحالة, سواء أكان الدكتور علي الوردي أم الدكتور قاسم حسين صالح أم الدكتور إبراهيم الحيدري أم آخرين, وشخصوا المشكلة التي يعاني منها الفرد والمجتمع في العراق.
المجتمع الذي يتشكل من مجموع أفراده لا يعيش في فراغ ولا يعيش منفصلاً عن بعضه, بل تربطه علاقات متنوعة, منها العلاقات الاجتماعية العائلية والقبلية وفي إطار دولة معينة, ولكن أكثرها تأثيراً هي العلاقات الإنتاجية التي يرتبط بها الإنسان في الريف والمدينة, وهي التي تترك تأثيرها وفعلها على الفرد في إطار مرحلة معينة أو أحياناً تمتد لمراحل عدة من حياة المجتمع ولأجيال كثيرة. إذ ينتج عن هذه العلاقات الإنتاجية الدولة بسلطاتها الثلاث, وما تضعه من قوانين ومراسيم أو من حياة دستورية أو من سلطة استبدادية وقمعية.
والفرد العراقي في إطار مجتمعه العراقي يعيش منذ مئات السنين تحت وطأة عوامل كثيرة وفي ظل علاقات إنتاجية استغلالية, إذ يمكن القول أن هذا الوضع قد بدأ بالدولة الأموية والدولة العباسية ومن ثم الدولة العثمانية والدولة الحديثة والتي لا يزال الشعب يعيش تحت وطأة أوضاعها الاستثنائية, دع عنك الفترات التي سبقت ذلك, أي في العراق القديم.
حين تغيب الديمقراطية وتصادر حقوق الإنسان وحقوق المواطنة, وحين يمارس القهر السياسي والاجتماعي وحين تسود الفاقة الفكرية والثقافية بشكل عام وحين يسود الفقر والعوز في المجتمع, لا يمكن أن نتصور نشوء فرد ديمقراطي ومجتمع ديمقراطي, بل يكون الفرد والمجتمع هو نتاج تلك العلاقات ويمكن أن تتجلى تصرفاته اليومية بالكثير من تلك السمات التي تميز الدولة وأجهزتها المختلفة, رغم وجود من يناضل من أجلها, ولكنه يبقى غير متخلص منها. ويمكن ان يظهر ذلك في تصرفات الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تكافح ضد الاستبداد والقهر والقمع, ولكنها حالما تصل إلى السلطة تمارس ذات السبل والوسائل لقمع الشعب وفرض سطوتها أو تمارس ذلك في العلاقة بين أعضاء حزبها حين لا تكون في السلطة أيضاً.
ما أقوله هنا ليس حالة مطلقة, بل هي نسبية في كل الأحوال. وحين أشير إلى السلبيات التي تبرز في سلوك الفرد والمجتمع لا يعني بأي حال غياب الإيجابيات التي يمتلكها الفرد أو المجتمع العراقي, إذ أنها ليست قليلة. ولكن حديثي هنا يتجه نحو تلك السمات التي يفترض أن تبذل الجهود الحثيثة من أجل تغييرها في صالح الفرد والمجتمع. من هنا أؤكد عدم نسيان السمات الإيجابية في أفراد هذا الشعب أو المجتمع بأسره. ولكني أريد هنا التركيز على معالجة السمات أو الخصائص أو السلوكيات السلبية التي يعاني منها الفرد والمجتمع.
لقد سادت أساليب الاستبداد والقسوة والقمع وغياب العدالة الاجتماعية وغياب الثقة المتبادلة في تعامل الدولة مع الفرد والمجتمع, وكانت ردود الفعل من جانب المجتمع في بعض الأحيان حادة وقاسية أيضاً. كما ساد التعامل الخشن في ما بين أفراد المجتمع في ظل علاقات الإنتاج السائدة, سواء أكان في ما بين أفراد طبقات وفئات المجتمع أو في إطار كل منها أيضاً.
لقد تعاملت الدولة مع الفرد بأسلوب تعسفي قسري بحيث ألغي دور الفرد وشخصيته المستقلة وأضعفت الثقة بنفسه من جهة, ونمت في الفرد روح الثأر والانتقام وعدم التسامح والقسوة في التعامل مع الآخر إلى حد الكراهية والحقد. كما عمدت الدولة في فتراتها المختلفة إلى تربية الأجيال بروح التمييز بين الأفراد على أساس الدين أو المذهب أو القومية أو اللون أو الجنس أو الفكر أو الرأي السياسي. ولم يقتصر هذا التعامل مع الفرد حسب, بل ومع المجتمع بأغلبيته. والواقع الراهن هو حصيلة كل ذلك.
لقد تعمقت جملة من تلك السمات السلبية في الأفراد إلى حد أن وجودهم في مجتمعات حضارية أخرى تختلف عن واقع مجتمعاتنا التي تعاني من التخلف لم تستطع تغييرهم كثيراً رغم مرور نصف قرن على وجود بعضهم في مجتمعات المهجر.
فالكلمة الجارحة والنظرة الخازرة والزاجرة والمتعالية على الآخر, وعدم التسامح إزاء ما يمكن التسامح فيه والإحساس السريع بجرح الكرامة الشخصية وعدم التراجع عن الخطأ, إذ يرى فيه إهانة لذاته بدلاً من اعتبار ذلك فضيلة تحسب له, وهي الصيغة المفضلة في التعامل اليومي وفي الاعتقاد بامتلاك الحق والحقيقة كلها. إن القسوة في التعامل لا تظهر في ممارسة الضرب أو التعذيب الجسدي, الذي يمارس اليوم في العراق من جانب الدولة في السجون ومن جانب قوى إرهابية دموية وطائفية سياسية متطرفة أخرى في الشارع العراقي, حسب, بل وكذلك بالكلمة التي تترك ندباً في روح الإنسان وفي علاقاته اليومية, والتي تتسبب في خلق جو يدعو إلى الثأر والانتقام من الإهانة المحتملة التي وجهت للفرد.
إن الظواهر والسلوكيات السلبية التي يتحدث بها الناس في بلادنا كثيرة, ولكن الكثير منهم يمارسها يومياً, ومجتمعاتنا الصغيرة المغتربة بعيداً عن أرض الوطن والمقيمة في الشتات تندد بتلك السمات والممارسات التي يعيش الشعب العراقي اليوم في ظلها, تمارسها أيضاً رغم تنديدها بها, بل تمارس في داخل منظمات المجتمع المدني, التي وجدت من أجل تعزيز العلاقات الاجتماعية, فإذا بها تتحول إلى مواقع للصراع وتبادل الكلمات القاسية وغياب روح التسامح. إنها السلوكيات الراهنة في المجتمع العراقي بكل تفاصيله ولكن بصورة مصغرة.
ندين ما يجري في العراق من قسوة وخشونة في التعامل في ما بين القوى السياسية العراقية, ولكننا لا ننتبه إلى أنفسنا وفي ما نمارسه في ما بيننا بحيث أصبحنا نموذجاً مصغراً لما ندينه يومياً في عراقنا المبتلى.
يحس البعض بالانتصار على "غريمه" حين يهين زميلاً له بكلمة قاسية ونابية بل وجارحة في حديث معه, يشعر وكأنه قد مسح صاحبه بالأرض وانتصر عليه, كأنه البطل المغوار الذي استطاع تحدي صاحبه وألقمه حجراً. البعض الآخر يشعر بأنه تغلب على "غريمه" حين دفعه للبكاء بعد أن وجه له تهمة ذميمة غير موجودة أصلاً ,وبالتالي أساء إليه بقصد مسبق. لقد راقبت أولئك الذين يوردون أمثالاً شعبية تسيء لحقوق الإنسان لا بهدف الإفادة منها, بل بهدف الطعن والإساءة, ثم ينظر إلى جماعته منتشياً أترون كيف أسئت إليه ولم يجرأ علي الرد.
إنها شيء من السادية المتجذرة التي تميز السلوك القاسي في التعامل مع الآخر.           كم هو جميل أن يبادر من أساء إلى صاحبه أن يعتذر له, وعلى الآخر أن يقبل اعتذار صاحبه بدلاً من التخندق والتصعيد المؤذي للجميع.
عشت تجارب كثيرة في هذا الشأن, ولا أعفي نفسي كعراقي من ذلك. ولكن كيف يفترض فينا أن نسعى للتخلص من تلك السلوكيات غير الحضارية التي تعود إلى ماض سحيق تكرست فينا, ولكن هذه السلوكيات لم تعد تنسجم مع الحضارة الجديدة للإنسان, على الأقل في الدول الأوروبية التي نعيش فيها. كيف نتعلم أن نصغي لبعضنا ونتعامل على أسس المساواة والابتعاد عن الإساءة لبعضنا أو امتلاك روح التسامح حين يعتذر البعض عن التهم أو الإساءات التي وجهها لغيره. قيل قديماً: القيام بثورة ناجحة أسهل بكثير من تغيير الإنسان لنفسه! أفلا ينبغي لنا أن نسعى لتغيير هذه السلوكيات فينا وإزاء بعضنا الآخر.
فيما مضى كان بعض الأفراد والجماعات لهم مرجعيات وطنية يعودون إليها بطلب النصيحة أو الرأي والموقف, سواء أكانت تلك المرجعيات حزباً سياسياً أم منظمة مدنية. إلا أن هذه المرجعيات لم تعد قادرة على تقديم النصح ولم يعد من يسمع رأيها أو نصيحتها ولم تعد قادرة على إسداء الخدمة التي كانت تقدمها حينذاك. وهو أمر غير سلبي بشكل عام لكي لا تفقد الفرد شخصيته وقراره الشخصي. ولكن الأمر أصبح خاضعاً للمصالح الفردية والتدافع بالمناكب لأجل مصالح ضيقة وزائلة. 
إنها المحنة التي تحتاج من كل عراقية وعراقي أن يعالجها فيه قبل غيره, ولا أبعد نفسي عن ذلك. والسؤال الذي يؤرقني هو: هل سيعتبر البعض أن هذه موعظة فارغة أم أنها تعبر عن حالة نعاني منها اليوم في العراق وفي الشتات العراقي, وهي سلوكية تعمقت لدينا بفعل معاناتنا الطويلة جداً من النظم الاستبدادية والاستعلائية والمريضة التي عشنا تحت وطأتها وعانينا من سلوكياتها الأمرين, ورغم إدانتنا لها أخذنا منها الكثير وليس القليل في تعاملنا وسلوكنا اليومي, وهي المحنة ذاتها!
يشعر الإنسان بالإعياء حين يواجه حالات من هذا النوع, ويفقد طعم النوم والعمل حين يرى تجمعاً صغيراً لا يزيد عن عدة عشرات من الناس المثقفين لا يستطيعون أن يجدوا لغة مشتركة في ما بينهم بغض النظر عن هذا المسيء أو ذاك, إذ أن الأمور كلها يمكن حلها حين يمتلك الإنسان الشجاعة على الاعتراف بالخطأ وحين يمتلك الحس الضروري للتسامح الإنساني والتخلي عن الكبرياء والتعالي على الآخر وحين يسعى لتعديل ما يشعر أنه خاطئ بروح إيجابية ووعي بأهمية ذلك وبمسؤولية عالية وبصبر وأناة.
7/6/2010                     كاظم حبيب
   


1080

19
سابعاً : الثقافة


حين يجري الحديث عن ثقافة شعب العراق , يفترض أن يتركز البحث على ست مسائل جوهرية :
** ماضي هذه الثقافة وما فيها من منجزات إيجابية وإنسانية نافعة , وما فيها من سلبيات وجوانب غير إنسانية , تشكل مجتمعة تاريخ الثقافة العراقية مثلاً , ولكن لا يجوز القبول بالسلبي منها وتمجيده أو السعي لتكريسه , بل العمل لتخليص الثقافة العراقية الحديثة  والمنشودة منه ومن آثاره السلبية , رغم أنه يبقى جزءاً من نتاج هذا المجتمع بإيجابياته وسلبياته.
** واقع الثقافة الراهنة ومكانتها ودورها في العملية الثقافية في البلاد , مواطن قوتها وضعفها وقدرتها على تجاوز المحن والأزمات وإمكانيتها في التأثير في المجتمع لدفعه صوب التنوير والتقدم والتفتح والانطلاق من جهة , والعناصر السلبية التي تدفعه باتجاه التقوقع والانغلاق والسلفية المرضية من جهة أخرى.
** آفاق انطلاق هذه الثقافة في المستقبل , وهل تعاني من غربة واغتراب , وما هي العوامل المتسببة في بروز مثل هذه الظواهر , وكيف يمكن فتح الأبواب والنوافذ أمامها لاستنشاق الهواء النقي والتمتع بالحرية والديمقراطية والتفاعل والتلاقح الثقافي بكل معانيه الإنسانية الحديثة.
** ثقافة الشعب العراقي تتميز بثلاث سمات جوهرية , يمكن أن نجدها لدى شعوب كثيرة أخرى أيضاً , وهي:   
   = إنها مكونة من ثقافات عدة لقوميات قائمة بذاتها لها لغتها وتاريخها ومنتجاتها الفكرية والثقافية العامة ولها مبدعيها والمتمتعين بها: الثقافة العربية والثقافة الكردية والثقافة التركمانية وثقافة الكلدان والآشوريين والسريان , كما أن هناك مكونات تفصيلية في هذه المكونات القومية الرئيسية.
   = إنها تحمل في جعبتها الكبيرة ثقافة عشرات الشعوب والأقوام التي مرت بالعراق أو استوطنته طيلة عشرات القرون المنصرمة , وهي لم تطرد بعضها للبعض الآخر , بل تفاعلت وتلاقحت في ما بينها وأثمرت ما وصل إلينا منها في المرحلة الراهنة.
   = لعبت الأديان الوضعية القديمة والأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية والإسلام , وقبل ذاك المجوسية والزرادشتية والأيزيدية والمانية والصابئة المندائية , إضافة إلى الكاكائية والشبكية , دورها الفعال في تكوين الثقافة العراقية , وهي لا تزال بهذا الشكل أو ذاك تؤثر على الإنسان سلباً أو إيجاباً. ليست هناك ثقافة في العالم لا تحمل في طياتها جانبيها , الإيجابي والسلبي. وتقدم لنا ثقافات شعوب في منطقة الشرق الأوسط وعلى الصعيد العالمي تجارب كثيرة وغنية في هذا الصدد.
6. انقسام المثقفين وعلى امتداد القرون المنصرمة إلى مثقفي السلطة المستبدة , ومثقفي المعارضة المقموعة , مثقفي الأقلية ومثقفي الأكثرية , وهي ظاهرة عامة مرت به الكثير من شعوب العالم او لا تزال تعاني منها إلى الآن. وهذا الواقع يستوجب العناية واستخلاص ما يسهم في التخلص من هذا التقسيم , ولكن لا يعني هذا حرمان الثقافة من التنوع في صفوف المثقفين والثقافة العراقية.
لكي تنطلق الثقافة في العراق إلى أبعادها الرائعة وبكل مكوناتها وفروع نشاطاتها تحتاج إلى خمسة شروط أو مستلزمات أساسية :
** الحرية الكاملة لكل مثقفي العراق ليتعاونوا ويتفاعلوا ويتنافسوا في تقديم روائعهم الفكرية والفنية والأدبية والعلمية الإنسانية.
** توفير الموارد المالية الضرورية لمساعدة الثقافة والمثقفين في انطلاقتهم دون وضع الشروط والمعوقات أمامهم وبعيداً عن هيمنة السياسة والسياسيين على مصادر التمويل المالي.
** جعل المنتج الثقافي سهل الوصول إلى الناس من خلال توفير كل ما هو ضروري لذلك , وجعل التمتع بالثقافة لا يكلف الإنسان مالاً لا يستطيع دفعه. ويفترض أن يشمل هذا الكتاب والمسرح والسينما والموسيقى والرسم والنحت والغناء والعلوم ...الخ.       
** فتح نوادي ومراكز ثقافية في جميع محافظات العراق وتنظيم الفعاليات والمهرجانات الثقافية العامة وفتح الأبواب أمام الشباب للاستفادة منها لصالح تطورهم.
** جعل الدراسة في المعاهد الفنية والثقافية وبمختلف جوانبها مجانية للجميع.
** ويفترض تأمين فرص وإمكانية الدراسة الخارجية والتبادل الثقافي والفني وبين الفرق العراقية المختلفة مع بقية بلدان العالم.
** ويفترض أن يحتل العمل بين الشباب والنساء أهمية استثنائية لأهميتهم في حياة المجتمع ومستقبله وتطوره, فالشباب هم أمل المجتمع في بناء الحياة الجديدة والانطلاق نحو العمل المنتج لصالح الفرد والمجتمع والتخلص من كل أردان الماضي القريب والبغيض , كما أن النسوة يشكلن نصف المجتمع غير المستثمر بشكل فعال حالياً لصالح المجتمع , وهو النصف المغضوب عليه والمضطهد والفاقد لحريته والكثير من كرامته بسبب النظم التي سادت أو بسبب البعض الكثير من قوى الإسلام السياسية التي ترى في المرأة عيباً وناقصة عقل ولا يمكن الثقة بها أو اعتماد حريتها , ولا يمكن أن تكون إلا تابعة للرجل! إن تحرير المرأة من قيود الماضي والحاضر ومن هذا التفكير المتخلف هو جزء من عملية التنوير المنشودة ومن العملية التربوية والتعليمية والثقافية في البلاد , ولا بد من النهوض بها , وإلا فأن المجتمع لن يتقدم خطوات إيجابية وكبيرة وضرورية نحو الأمام. ويلعب المثقف العراقي , امرأة كانت أم رجلاً , دوراً أساسياً في إنجاز هذه المهمة الإنسانية النبيلة.
** العمل من أجل أن تسود الثقافة والمثقفين والمجتمع ثقافة الحوار الهادف والهادئ والرصين والموضوعي , بعيداً عن الادعاء والاتهام والسعي لاستئصال الآخر أو الوقوع في النزعات النرجسية المرضية التي يعاني منها السياسيون . وهي الإشكالية الكبرى التي كان ولا يزال يعاني منها المجتمع العراقي وتعاني منها السياسة في العراق والعلاقات في ما بين القوى السياسية.
20
ثامناً : التنوير
 

التنوير يعني عملية إزالة الأخطاء والتشوش والبلي الفكري والديني والاجتماعي من ذهن الإنسان واتجاهات تفكيره وسلوكه وتنقية وعيه من التشوه والزيف وإعادته إلى الرشد. ويمكن بلورة ما يسعى إليه التنوير بالنقاط التالية:
•   نقد الموروث الديني باتجاهين :
أ) تأشير ما فات أوانه وكان مقبولاً حين طرح لأول مرة من جانب الأنبياء والمصلحين لمجتمعاتهم , ولكن لم يعد مناسباً ومنسجماً مع المرحلة الجديدة التي يمر بها المجتمع.
ب) تأشير ونقد ما أضافه شيوخ الدين والفقهاء والمؤسسات الدينية إلى الأسس الأولى التي اعتمدها كل دين من الأديان والتي وضعت لأغراض لا تمت بصلة إلى مضمون الأديان ذاتها. وقد جاء في تعريف الفيلسوف "كانت" للتنوير ما يلي: "التنوير هو خروج الإنسان من أللارشد الذي اقترفه بحق نفسه" , ويمكن أن يضاف إلى ذلك "وما اقترفته المؤسسات الدينية وفقهاء الدين والحكومات الاستبدادية والظلامية من أللارشد بحق الإنسان". 
•   تخليص المجتمع من الأفكار البالية والمعتقدات غير العلمية والخرافات التي ألحقت وتلحق أفدح الأضرار بالإنسان ووعيه وعلاقته بالآخر ومن الأحكام المسبقة التي يحملها إزاء الآخر وما يطلق عليه بالنمطية.
•   توجيه الإنسان نحو الفكر الحر الديمقراطي والعلمي ورفع مستوى وعيه بالواقع الذي يعيش فيه وبحقوقه وواجباته كإنسان وبحقوق الآخرين كبشر والفجوة المتسعة بين الشعب العراقي وبين الشعوب الأخرى المتقدمة نتيجة سيطرة تلك الأفكار البالية على ذهنه ووعيه ووجهة تفكيره وسلوكه وأحكامه المسبقة إزاء الآخر.
•   رفض القبول بأفكار التمييز بين البشر على أساس عرقي أو قومي أو ديني أو مذهبي أو فكري أو التمييز ضد المرأة وعدم مساواتها بالرجل أو رفض منحها كامل حقوقها ...الخ.
ويفترض أن يؤدى التنوير من عدة جهات بالتتابع , ومنها :
1.   من جانب الإنسان الفرد ذاته من خلال نضاله من أجل رفع وعيه ومستوى ثقافته واستيعابه لمفهوم الحرية باعتباره إدراك الضرورة , ونضاله مع المجتمع لنفس الغرض والخلاص مما علق بذهنه من أوهام وأحكام مسبقة وكليشهات عفا عليها الزمن.
2.   من جانب تلك الجهات والمؤسسات التي كرست في وعيه التشوه وحشته بتلك الأفكار المشوهة والعقائد البالية والطقوس الغريبة والخرافات والأساطير التي لا تمت إلى الواقع بصلة , ومنها المؤسسات الدينية على نحو خاص.
3.   من جانب الحكومة التي يفترض أن تسن القوانين والنظم التي تساهم في رفض ما هو قديم وبالٍ , والدعوة لما هو حديث وإنساني متفتح , والذي لم يحصل في العراق إلى الآن.
4.   من جانب المثقف الديمقراطي الذي يحمل فكراً حراً ومبدعا قادراً في التأثير المباشر على فكر الإنسان بالشعر والقصة والرواية , وبالرسم والنحت والكاريكاتير والتصوير الفوتوغرافي والسيراميك (الفنون التشكيلية ..) والخط والموسيقى والمسرح والسينما , بالعلوم الحديثة وما هو جديد يفرض على الإنسان التخلي عن القديم المتخلف منطقياً وعلمياً.
5.   من جانب المؤسسات العلمية , المناهج التربوية والتعليمية في مختلف مراحلها , إضافة إلى منظمات المجتمع المدني , ومنها منظمات حقوق الإنسان.
6.   من جانب أجهزة الإعلام التي يمكنها بوسائلها التقليدية والحديثة إيصال الفكرة السليمة إلى وعي الإنسان بأسلوب سلس وسليم ومتناغم مع العلم والواقع , والتصدي لكل ما هو مناهض للعلم والواقع.
إن أهمية التنوير الديني والاجتماعي تبرز في دورها في تحقيق عدة نتائج أساسية لأي تقدم وتطور في البلاد :
1.   احترام مفهوم الحرية الفردية وخصائص المجتمع المدني والديمقراطية وفصل الدين عن الدولة واعتبار "الدين لله والوطن للجيمع".
2.   مغادرة أجواء الغوص في الغيبيات والخرافات والتقاليد والعادات التي ترسخت عبر قرون منصرمة في أذهان الناس وتناقلتها الأجيال دون التمحيص بها والتخلص منها , والتفتح صوب حياة حرة جديدة واقعية ومليئة بالحياة والحركة والفعل الإيجابي لصالح الفرد والمجتمع.
3.   احترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنة المتساوية واحترام المرأة واستعادتها حقوقها كاملة غير منقوصة ومساواتها بالرجل واحترام حقوق القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية غير العنصرية وغير الشوفينية ورفض التمييز بين الأديان والمذاهب الدينية أو أي شكل آخر من أشكال ظهوره وممارسته.
4.   احترام حق الإنسان باختيار ما يراه مناسباً له من دين أو مذهب أو اتجاه فكري أو حزب سياسي. 
5.   الالتزام بقيم وأسس جديدة لحياة الفرد والجماعة والعلاقة المتبادلة بين الأفراد والجماعات في مجتمع ما وفي ما بين المجتمعات تقوم على أسس التعاون والاحترام المتبادلين والمنفعة المتبادلة.
6.   احترام وممارسة الثقافة الحرة والديمقراطية بمختلف صيغ تجلياتها الفكرية والاجتماعية والفنية والرياضية.
7.   رفض العدوان وأفكار الجهاد والفتح وما إلى ذلك من مخلفات القرون المنصرمة والكف عن تقسيم العالم إلى "ديار حرب وديار سلام" , وبتعبير أدق "ديار الكفار وديار الإسلام".
إلا أن عملية التنوير لا تتم بشكل عفوي , بل تتطلب عملية تغيير فعلية في الواقع الاقتصادي والاجتماعي للناس في العراق , والذي بدوره يساعد على نشوء قيم ومُثل وتقاليد جديدة ووعي اجتماعي وديني جديدين لا يمتان إلى الماضي بصلة إلا بقدر قناعة الإنسان بعقيدة دينية أو فكرية أو بما هو إيجابي من تاريخ الإنسان ومجتمعه.

تاسعاً : البيئة



جميع المعلومات والمؤشرات المتوفرة تشير إلى أن العالم الصناعي المتقدم هو المسؤول الأول عن التلوث الجاري والمتسارع في البيئة الدولية , سواء في ما ينتجه من غازات عبر الإنتاج أم عبر الاستهلاك المتنامي للسلع والخدمات , إضافة إلى الارتفاع المتواصل في معدلات النمو الاقتصادي التي تنعكس في زيادة الإنتاج والاستهلاك الذي يؤكد بدوره زيادة التلوث في العالم , خاصة وأن إجراءات مكافحة التلوث وتنظيف البيئة العالمية محدودة حتى الآن وقاصرة عن مواجهة نسب التلوث السنوية بإطلاق الكميات الهائلة من ثاني أوكسيد الكاربون وغيره من الغازات والمرتبطة بمعدلات النمو العالية.
ولا شك في أن الجهل والفقر من جهة , والغني والتخمة من جهة أخرى , كل له جوانبه السلبية الحادة في زيادة التلوث , كما أن إنتاج الأسلحة واستخدامها في الحروب , وخاصة الأسلحة المحرمة دولياً وذات التدمير الشامل والقتال الجماعي , وتدمير الغابات , رئة الطبيعة والأرض التي نعيش عليها , والاستخدام غير العقلاني لموارد الطبيعة , بما فيها الأرض والمياه ... الخ كلها تزيد من تلوث البيئة وتلحق أضراراً فادحة بالطبيعة وتساهم في تدمير حاضنة الإنسان.
تعرضت البيئة في العراق خلال عقود حكم البعث إلى اكبر تلوث عرفه تاريخ العراق الطويل , وهو يعادل ما تعرض له عبر مئات السنين من التلوث. وهي نتيجة منطقية لسياسات البعث في مختلف المجالات , وخاصة سياساته العسكرية والحربية والتدمير الجريمي للطبيعة , سواء في إقليم كُردستان العراق أم في أهوار الجنوب ومدنه وبساتينه وغاباته ونخيله وإنسانه.
في الحروب العدوانية الأربعة التي عاشها العراق (حرب الخليج الأولى، وعمليات الأنفال وحلبچة , وحرب الخليج الثانية التي نجمت عن غزو الكويت، ثم حرب الخليج الثالثة والأخيرة , وكذلك تجفيف الأهوار وتشريد ساكنيها) استخدم العراق أو الدول المتحاربة ضده ( وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ) أسلحة مدمرة وفتاكة وعتاد بكميات هائلة وأنواع مختلفة , كما استخدمت أسلحة محرمة دولياً , سواء السلاح الكيماوي أم السلاح الجرثومي (العراق وإيران ) أو أسلحة أو ذخائر اليورانيوم ( وهي ليست طلقات حسب ، بل وصواريخ متنوعة وقنابل متنوعة وإطلاقات مدافع وإطلاقات دبابات ، وغيرها) من جانب الولايات المتحدة وحلفاؤها أو القنابل العنقودية ، أو القنابل الفسفورية من جانب الولايات المتحدة ... الخ , إضافة إلى سياسات النظام الأخرى كلها أدت إلى مزيد من تلوث الأرض والمياه والنبات والهواء الذي يتنفسه الإنسان والمنتجات الزراعية التي يتغذى بها والماء الذي يشرب منه.
ولم تساعد السنوات السبع الأخيرة على تحسين البيئة العراقية , بل كل الدلائل تشير إلى تدنيها , خاصة ما يرتبط بانتشار ركام الحرب الملوث ، وتراكم النفايات والقمامة ، إلى جانب انتشار برك المياه الآسنة والمستنقعات في الأحياء الشعبية في المدن والأرياف بما ساعد على انتشار الأوبئة وظهور أمراض جديدة وخطيرة , تماما كما نشأت أمراض سرطانية جديدة على نحو وبائي وحصدت أرواح ألاف العراقيات والعراقيين، صغاراً وكباراً ، بعد استخدام العتاد المشع في حرب الخليج الثانية على نحو خاص.       

ولا شك في أن اقتصاد النفط الخام وعمليات استخراجه والغاز الطبيعي المصاحب الذي يحرق في الهواء وعمليات تكرير النفط كلها عمليات تلعب دورها في تلويث البيئة العراقية. ولم تفكر الدولة في اتخاذ إجراءات معينة لحماية البيئة , وبالتالي حماية حياة ونوعية حياة الإنسان إذ أصبحت المطالبة ببيئة نظيفة غير ملوثة جزء من مبادئ ومهام حقوق الإنسان.
المشكلة الأساسية التي تواجه الدول النامية , ومنها العراق , تبرز في ناحيتين , وهما:
الأولى , أنها بحاجة إلى رفع معدلات النمو الاقتصادي السنوية بسبب أوضاعها الاقتصادية المتدهورة والتخلف الذي تعاني منه والفقر الشديد والواسع النطاق ؛
والثانية , أن أي رفع لمعدلات النمو يتسبب في زيادة التلوث , لأنه يعني نمو الاقتصاد ونمو الإنتاج والاستهلاك في آن واحد. يضاف إلى ذلك إن بلداً مثل العراق يعتمد على النفط الخام باعتباره المصدر الأساسي لدخلة القومي ولإيرادات صادراته , مجبر على استخراج وتصدير النفط الخام , ومثل هذه العمليات تساهم في تلويث البيئة , سواء أكان في عمليات استخراجه أم في تصنيعه وتكريره أم في استهلاكه. ولهذا تقع على عاتق العراق مهمة إيجاد معادلة سليمة تساعد على النمو ولكنها تمنع زيادة التلوث في البلاد.     
يتطلب المشروع الوطني الديمقراطي أن يتضمن مجموعة من السياسات والإجراءات التي تلعب دورها في حماية البيئة والحد من درجة التلوث والعمل من أجل مكافحته. ومن بين تلك الإجراءات نشير إلى ما يلي :
1.   إيجاد صيغة مناسبة تجمع بين النمو الاقتصادي والنمو الاجتماعي وتحسين مستوى حياة الناس من جهة , وحماية البيئة من التلوث من جهة أخرى.
2.   تبني الدولة لإجراءات جدية وفاعلة لمعالجة المشكلات البيئية القائمة ، وأول هذه الإجراءات اعتماد إستراتيجية إدارة الأزمة البيئية ومتطلباتها بالاعتماد على علم الأزمات ، وإصدار قانون حماية البيئة على أسس حديثة ، ونشر التربية والوعي  والثقافة البيئية.
3.   تشكيل مجلس أعلى للبيئة ومشكلاتها الراهنة يضم ممثلين عن مجلس الوزراء الاتحادي ومجلس وزراء الإقليم ووزارات: البيئة ، والعلوم والتكنولوجيا ، والتعليم العالي والبحث العلمي ، والصحة ، والصناعة والمعادن ، والزراعة ، والداخلية ، ومجالس المحافظات ، وبعض منظمات المجتمع المدني ، ووسائل الأعلام.
4.   الموافقة على التعاون الدولي في مجال البيئة , إذ أن عالم العولمة الراهن يستوجب مثل هذا التعاون والتنسيق وأن يكون العراق جزءاً من البرنامج الدولي الذي أقر قبل عقد من السنين في ريودوجانيرو. أي المشاركة مع دول الإقليم والعالم للاستفادة من سياسات وإجراءات حماية البيئة ومكافحة التلوث وتقليص إطلاق ثاني أوكسيد الكاربون إلى الفضاء والعمل على اقتناء تقنيات حديثة غير ملوثة للبيئة.
5.    إقامة أكثر من مركز للبحث في مشكلات البيئة في بغداد والسليمانية وكركوك والموصل والبصرة وبابل لمعرفة مستوى التلوث وتأثيره على الإنسان وعلى الآثار العراقية القديمة.
6.   العمل من أجل إزالة الألغام من الأرض العراقية , وخاصة في المناطق الحدودية , إذ يشار إلى وجود ما يتراوح بين 25- 30 مليون لغم مزروعة في الأرض. كما يفترض تنظيف البلاد من بقايا وأضرار العتاد المشع المنتشر في مناطق جنوب العراق وعلى الحدود مع إيران.
7.   رفض استخدام التقنيات القديمة المنتجة للتلوث , سواء أكان ذلك في مجال الصناعة الاستخراجية والصناعة التحويلية أم في الزراعة ومجالات خدمية أخرى.
8. التربية البيئية والتثقيف الشعبي والرسمي للترويج بأهمية حماية البيئة ومكافحة التلوث وأسبابه وسبل معالجته وأهمية ذلك لحياة الإنسان حالياً وفي المستقبل. كما يُفترض قيادة حملة واسعة من أجل تنظيف البلاد من ركام الحروب والأنقاض والقاذورات والقمامة وبرك المياه الآسنة والمستنقعات وتجميعها للعمل على حرقها , كما لا بد من إقامة منشآت خاصة وحديثة ومتطورة للتخلص من النفايات والقمامة.
9. السيطرة العقلانية على استخدام مياه الأنهر والعيون والآبار الارتوازية وتأمين عمليات بزل وتصريف المياه بما يساهم في تقليل التلوث.
10.   إقامة مشاريع تشجير وأحزمة خضراء حول المدن لمنع هبوب الرياح نحو المدن وإيقاف الزحف الصحراوي عليها , وكذا الحال بالنسبة إلى تشجير الجبال لمنع الانهيارات الجبلية وتحسين مناخ المدن والمناطق السهلية. يضاف إلى ذلك ضرورة وأهمية منع قطع أشجار الغابات بصورة عشوائية بل السعي لتنظيمها وتكثيرها , فهي جزء من رئة العراق. كما لا بد من إعادة نشر النخلة العراقية في مناطق الوسط والجنوب بعد الكارثة التي حلت بها منذ حرب الخليج الأولى.
 
22
عاشراً: الأمن الداخلي


بعد سقوط النظام الدكتاتوري تخلص العراق من أبشع أجهزة أمن داخلية عرفها العراق في كل تاريخه الحديث. فهذه الأجهزة العديدة امتلكت أحدث التقنيات وأكثرها قسوة وشراسة في مكافحة المعارضة السياسية وإخماد صوت المجتمع وإرادته ومصادرة حقوقه كاملة. فهي أجهزة حديثة ومدربة على أحدث طرق التحقيق الفاشية وأكثرها قسوة ووحشية وسادية في الموقف من الإنسان. فقد مارست كل ما هو حديث من تقنيات وأدوات وأساليب لانتزاع المعلومات أو فرض الاعتراف بمعلومات غير صحيحة ضد الإنسان نفسه أو ضد آخرين. وكانت هذه الأجهزة مخولة بممارسة كل الأساليب غير المشروعة للحفاظ على النظام ورأسه. فجرى دس عشرات الألوف من العيون والجواسيس في سائر أنحاء العراق لفرض الرقابة على حركة الإنسان ومعرفة مواقفه وانتماءاته الفكرية والسياسية. كانت هذه الأجهزة منظمة وفق أسس الإدارة الحديثة وبنوك المعلومات وتخصص في العمل إزاء مختلف قوى المعارضة العراقية من خلال هيئات وأقسام خاصة بكل \رف سياسي معارض وكذلك القوى المتحالفة معه أو مراقبة أعضاء وكوادر وقيادات حزب البعث ذاته.
تربت هذه الأجهزة على استخدام العنف وكل أساليب التعذيب الجسدية والنفسية والتشهير الكاذب بالضحية لانتزاع المعلومات , كما منح صدام حسين أجهزة الأمن والاستخبارات الأمان والحق في القتل أثناء التحقيق إن استدعى الأمر ذلك , ولن يحاسب الجلاد القاتل على جريمته النكراء بحق الضحية. وكان أغلب المجندين في أجهزة الأمن الداخلي والاستخبارات والأمن الخاص وفدائيي صدام حسين من أصل فلاحي , في حين كان الضباط من مناطق غرب بغداد , أي محافظة الأنبار وصلاح الدين والموصل وممن انخرط بالحزب وحصل على رتب عسكرية بعد دورات خاصة وقصيرة , ولكن أغلبهم من أصل ريفي وفلاحي فقير.
حصلت هذه الأجهزة على معارفها وتدريباتها وأساليب التحقيق الفاشية والسادية , التي كانت تجبر الضحية على السقوط تحت إرادتها ومصالحها وانتزاع ما تريده منه , من الدول الرأسمالية المتقدمة ومن الدول الاشتراكية ومن مجموعة من الدول النامية.
مع سقوط النظام سقطت أجهزة القمع ألصدامية ومعها أيضاً أجهزة الأمن والاستخبارات وولى أعضاء هذه الأجهزة الأدبار خشية من انتقام الناس الذين عانوا من قمع واضطهاد تلك الأجهزة. وكان فقدان الاتصال بهذه الأجهزة وربطها بالدولة وخضوعها لقراراتها سبباً في بدئها بعد فترة وجيزة بإعادة تنظيم نفسها والتخطيط والتنفيذ للكثير من العمليات العسكرية المعادية للوضع الجديد الناشئ , وللقوات العراقية والقوات الأجنبية وللمجتمع بشكل عام.
وبدلاً من أن تنشأ تدريجاً أجهزة أمنية وطنية عراقية على أنقاض تلك الأجهزة وتمارس أساليب وأدوات أخرى غير أساليب وأدوات القمع الفاشية للنظام ألصدامي , لعبت قوات الاحتلال دوراً كبيراً في العمليات الأمنية من جهة , كما لعبت قوات المليشيات الطائفية الشيعية دوراً كبيراً في عمليات الملاحقة والقتل لمن يقف بوجهها من أنصار النظام السابق أو من القوى الإرهابية الجديدة التي برزت في العراق بعد سقوط النظام , ومنها بشكل خاص قوى القاعدة الإرهابية. وهكذا وتدريجاً تشكلت في العراق أجهزة أمنية تؤمن بالطائفية السياسية في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب من العراق والتي عملت على أساس طائفي سياسي أيضاً. وقد اُرتكبت نتيجة ذلك جرائم بشعة مارستها قوات الاحتلال المسؤولة على المعتقلين والسجناء والقوات العراقية التابعة لوزارة الداخلية والأمن الداخلي والدفاع , إضافة إلى المليشيات الخاصة بالقوى الطائفية المسلحة. ويمكن هنا أن نشير إلى بعضها , ومنها : ما جرى في معتقل أبو غريب من تعذيب ومسخ الإنسان بكل معنى الكلمة من جانب القوات الأمريكية المسؤولة عن هذا السجن الموروث من عهد صدام حسين أو حتى قبل ذاك. كما يمكن أن نشير إلى  ما مارسه جيش المهدي في اعتقال وتعذيب وسلخ جلود وقتل المخالفين للتيار الصدري الديني السياسي في النجف أو في مدينة الثورة ببغداد وفي غيرها من مدن الوسط والجنوب. أو ما كان جري في أقبية وزارة الداخلية التي كان يسيطر عليها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وفيلق بدر وجيش المهدي للمعتقلين هناك , إضافة إلى الجرائم التي ارتكبت في البصرة وفي بقية المحافظات من قبل هذه الأجهزة الجديدة وبالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني. وليس هناك من يستطيع تقديم أي دليل على انتهاء هذه الأعمال بحق المعتقلين  في السجون والمعتقلات العراقية أو في معتقلات قوات الاحتلال الأمريكية إلى الآن , إذ أن التقارير الواردة من منظمات دولية ومحلية تشير إلى استمرار عمليات التعذيب في السجون والمعتقلات وفي سجون غير معروفة بدأت تكتشف تدريجاً.
أي نوع من أجهزة الشرطة والأمن يحتاجها العراق؟
يحتاج العراق إلى أجهزة وطنية وديمقراطية عراقية تتسم بالخصائص التالية :
** أجهزة لا تخضع ولا ترتبط بأي حزب من الأحزاب السياسية العراقية , بل هي مستقلة عنها وتمارس مهماتها وعملها اليومي في صالح المجتمع العراقي ووفق إرادته لا غير.
** أجهزة يؤمن أفرادها بالمواطنة العراقية الحرة ويرفضون العمل وفق أسس ومبادئ القومية الشوفينية وضيق الأفق القومي والعنصرية والطائفية السياسية والتمييز بين أفراد المجتمع من النساء والرجال لأي سبب كان.
** أجهزة شرطة وأمن ديمقراطية تمارس مهماتها وفق آليات ديمقراطية وشفافية عالية واستقلالية ووضوح في المهمات والأهداف لا تخرج عنها.                                                   
** أجهزة لا تهدف إلى مراقبة الشعب العراقي أو قوى المعارضة السياسية للحكومة التي تمارس نشاطها وفق آليات ديمقراطية وسلمية وبعيداً عن العمل التآمري أو ممارسة القوة والإرهاب للوصول إلى السلطة.
** وتتوزع مهمات هذه الأجهزة على الجوانب الأساسية : تنفيذ أوامر القضاء العراقي وملاحقة المخالفات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تخرج عن بنود الدستور وأسس التداول الديمقراطي البرلماني للسلطة أو التي تعمل وفق مناهج فاشية وعنصرية وطائفية سياسية وتؤجج العداء القومي والديني والمذهبي أو تثير الكراهية والحقد الاجتماعي والنزاعات المسلحة , وكذلك المخالفات الاقتصادية والاجتماعية التي تتجاوز على الدستور والقوانين المرعية , وخاصة الفساد المالي والإداري.
** لا يحق لهذه الأجهزة اعتقال أي مواطنة أو مواطن دون قرار من قاضي تحقيق مخول بإصدار أمر الاعتقال , ولا يجوز التحقيق مع المعتقل من قبل أجهزة الأمن بل من قبل قاضي تحقيق وبحضور وكيل الدفاع عن المعتقل.
** لا يجوز انتهاك حرمة دور السكن ومواقع العمل والجامعة ... الخ إلا بقرار من قاضي تحقيق وبحضور المختار ووكيل المتهم.
** كل متهم برئ حتى تثبت إدانته , وحين يدان يعامل وفق قواعد ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان ولا يجوز هدر كرامته أو الإساءة إليه أو تعريضه للتعذيب النفسي والجسدي والعصبي , بل يعامل كإنسان مذنب صدرت بحقه العقوبة القضائية لا غير.
** يرتبط جهاز الأمن الوطني بمجلس الوزراء ويخضع لرقابة السلطة التشريعية (مجلس النواب) والسلطة القضائية.
** أي مخالفة بحق الإنسان من قبل أجهزة الأمن , ومنها الاعتداء على حرمة الإنسان وكرامته أو تعريضه للتعذيب النفسي والجسدي أو التجاوز على الدور أو أماكن الدراسة والعبادة محرم تماماً ويعاقب عليها القانون.
** إن الديمقراطية لا تعني كشف أسرار مطاردة قوى الإرهاب والقتلة والمجرمين , بل يحافظ عليها , ولكن يمكن تقديم التقارير الكشفية عن تلك المهمات حين يطلب مجلس النواب ومجلس القضاء العالي ذلك.
** لا يجوز أن يعمل جهاز الأمن الوطني لمصلحة شخص ما أو حزب ما في السلطة , فهذه ليست مهمته , بل مهمته حماية حرية المجتمع والحياة الديمقراطية والدستور وجمع المعلومات عن المخالفات وتقديمها للقضاء الذي يدرسها ويتحقق منها ثم يتخذ الإجراء المناسب الذي تنفذه الشرطة العراقية وفق اختصاصها. ليس من اختصاص أجهزة الأمن اعتقال أحد , ولكن يمكن التعاون مع أجهزة الشرطة لهذا الغرض ووفق القرارات القضائية الرسمية.
** من حق أجهزة الإعلام الكشف عن مخالفات وتجاوزات أجهزة الأمن والمطالبة بتشكيل لجان للتحقيق في ما يطرح في الصحافة من تلك التهم.
** أن يعمل الجهاز وفق أسس علمية وحديثة ويبتعد عن الإساءة في استخدام المعلومات الخاصة بالأفراد أو استخدام أساليب غير إنسانية وغير قضائية للإيقاع بهذا المتهم أو ذاك.
** أن تمنح العاملون في هذه الأجهزة رواتب ومخصصات مناسبة تمنع سقوطهم في مستنقع الفساد المالي والإداري والتزوير ...الخ.
** ولا بد من اختيار الأفراد الذين يريدون الانتساب إلى جهاز الأمن والشرطة من بين الذين انهو الدراسة المتوسطة على الأقل ليكونوا قادرين على القراءة والكتابة ومتابعة الأحداث وتطوير القدرات الثقافية العامة لهم.
إن تكوين مثل هذا الأجهزة لا يتم بين ليلة وضحاها , بل سوف تستغرق عدة سنوات إلى أن يستقر الوضع الديمقراطي في العراق وإلى أن يمكن وضع أسس سليمة للتوظيف فيها وإبعاد من يتسم بتلك السمات المرفوضة من الذين يعملون في أجهزة الأمن الوطني والشرطة.
23
أحد عشر : القوات المسلحة


لم يكن مفاجئا لأحد حين انهارت القوات المسلحة العراقية في حرب الخليج الثالثة , إذ كان ذلك متوقعاً لأسباب سياسية وعسكرية وأخرى مرتبطة بطبيعة النظام الاستبدادي وعلاقاته الداخلية. إلا أن هذا الانهيار لم يكن يعني الحل الكامل للقوات المسلحة العراقية والسماح بنشوء فراغ أمني وعسكري كبير جداً لم تستطع قوات الاحتلال الأجنبية , وربما في البداية لم ترغب , بملئه , كما لم تكن قوى المعارضة القادمة مع القوات الأجنبية أو الموجودة في البلاد قادرة على سد هذا الفراغ. وقد نشأ عن ذلك ما عانى منه العراق طيلة السنوات المنصرمة.
ورغم أن الجيش العراقي قد تربى في فترة حكم القوميين وحزب البعث على أيديولوجية قومية وشوفينية مقيتة وعلى ذهنية عسكرية عدوانية راغبة في التوسع على حساب الغير من البلدان المجاورة , وأنه شهد "تطهيراً" مستمراً للضباط غير البعثيين والوطنيين والديمقراطيين , وأن أغلب قادته كانوا أعضاءً في حزب البعث , إلا أن هذا لم يكن يعني ثلاث مسائل مهمة , وهي:
1 . كان هناك الكثير من البعثيين ممن اختلف مع صدام حسين من قادة القوات المسلحة وأصبح مناهضاً له بالسر بطبيعة الحال. كما أن البعض منهم أتهم بالخيانة لصدام حسين وقتل شر قتلة على أيدي أعوان النظام واتهموا بالتآمر على صدام حسين.
2 . بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية وما حل بالجيش العراقي في تلك الحرب التدميرية , تحول الكثير من الضباط وضباط الصف ضد صدام حسين ونظامه , إذ كان الجميع يعاني من عواقب تلك الحرب والحصار الاقتصادي الدولي على  العراق. 
3 . كما أن بنية قواعد القوات المسلحة كانت في الغالب الأعم من المناطق المناهضة في موقفها لصدام حسين , أي الجنود والمراتب الصغيرة , سواء أكانوا من الجنود الشيعة أو الكُرد أو من السنة أيضاً.
كما تشكل الجيش العراقي في العام 1921 على أيدي القوات البريطانية , تشكل من جديد في العام 2003/2004 على أيدي القوات الأمريكية على نحو خاص. ولكن التشكيلة الجديدة اقترنت بسلبيات الصراع السياسي الطائفي الذي نشب في العراق في أعقاب سقوط النظام بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية التي هيمنت على النسبة العليا من المقاعد الحكومية والوزارات , ثم أمتد هذا الصراع إلى القاعدة الجماهيرية بحدود غير قليلة.
واليوم يقوم الجيش العراقي بعمليات عسكرية في داخل الوطن وضد قوى الإرهاب , في حين أن مهمته بالأساس هي حماية حدود البلاد من أي غزو أو اعتداء خارجي. ولهذا لا بد من إعادة النظر بمهمات الجيش العراقي وجعلها , بعد انتهاء النضال ضد قوى الإرهاب خلال هذه الفترة العصيبة , محصورة بحماية أراضي وسيادة الجمهورية العراقية , إذ ليست من مهمات الجيش الحفاظ على الأمن الداخلي , بل هي من مهمات وزارة الداخلية والشرطة والأمن الوطني.
ما هي طبيعة الجيش الذي يحتاجه العراق ؟ هذا هو السؤال المهم الذي يحتاج الشعب العراقي الإجابة عنه بوضوح ومسؤولية عالية. وقيل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن العراق بحاجة إلى عقد اتفاقيات دولية وإقليمية تصون وتحمي أمن العراق وسيادته الوطنية واستقلاله من أي اعتداء خارجي , كما يلتزم العراق بعدم الاعتداء على سيادة واستقلال أي بلد مجاور له. وهذا يعني أن العراق يدخل باتفاقيات أمنية مع دول الخليج كافة , وربما مع دول الشرق الأوسط كلها تحظر حل الخلافات بالطرق الحربية بل تعتمد الأساليب السلمية والآليات الديمقراطية والتعاون الدولي. كما ترفض التدخل في الشأن الداخلي لهذه البلدان وتحافظ على علاقات الود والصداقة في ما بينها. كما يمكن للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي أن يضمن استقلال وسيادة العراق ومنع التدخل في شؤونه الداخلية. وفي حالة الوصول إلى  هذه النتيجة ,  فأن العراق :
** لا يحتاج إلى جيش جرار ولا إلى أسلحة هجومية , بل يحتاج إلى جيش صغير يحمي حدود البلاد من التسلل والتخريب وتهريب المخدرات والسلع ... الخ , ويمتلك أسلحة دفاعية حديثة ومتطورة لا غير.
** أن يساهم الجيش في عمليات البناء الاقتصادي والاجتماعي والخدمات العامة.
** أن يبتعد عن العمل السياسي وأن يكون انتماؤه للوطن وليس لأي حزب سياسي أو قوة سياسية أو طائفة دينية معينة.
** أن يعمل وفق أسس ديمقراطية وأن يثقف بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي والديمقراطي للسلطة وعبر الانتخابات العامة.
** أن يلتزم بدستور البلاد وقوانينها ويبتعد عن السقوط في حبائل المؤامرات السياسية والعسكرية والانقلابات.
24
اثنا عشر: العلاقات الإقليمية والدولية

عاش الشعب العراقي تجارب كثيرة ومريرة , ولكنها في الوقت نفسه غنية , في علاقاته الإقليمية والدولية على امتداد القرن العشرين , وكانت أكثرها سوءاً وتدميراً للاقتصاد والمجتمع تلك التي ارتبطت بوجود حزب البعث العربي الاشتراكي على رأس السلطة في العراق وحين تولى الدكتاتور صدام حسين مقاليد الحكم المباشر حيث خاض العراق حروباً دموية وعدوانية كلفت الشعب العراقي بمكوناته القومية والشعوب الشقيقة والمجاورة الكثير من الخسائر البشرية والمالية والحضارية. وكان حصاد هذه الفترة أشد قسوة وظلماً من أي فترة أخرى في تاريخ العراق الحديث.
لا يمكن أن تستمر العلاقات العراقية مع دول الجوار العربية والدول غير العربية ودول الإقليم على حالها الراهن التي تميزت حتى الآن بالتوتر الشديد والتدخل الفظ في الشأن العراقي من جانب هذه الدول وعلى الصعيد الدولي. ولم يكن العراق البعثي قليل التدخل في شؤون الدول الشقيقة والمجاورة , مما أدى إلى زعزعة الثقة بين حكام هذه الدول , إضافة إلى عواقبها الوخيمة على شعوب المنطقة. فالعراق بحاجة إلى علاقات جديدة تقوم على أسس ثابتة من حسن الجوار والصداقة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واعتماد المنفعة المتبادلة من خلال التعاون والتنسيق في مجالات الاقتصاد والمجتمع والحياة الثقافية والبيئة والخدمات العامة وحل المشكلات المعلقة في ما بينها بالطرق السياسية والدبلوماسية وعبر الهيئات الدولية المختصة بحل الخلافات والنزاعات بين الدول في حالة تعذر الوصول إلى حلول عملية عبر المفاوضات الثنائية.
إن العلاقات العراقية مع الدول الأخرى , أياً كانت تلك الدولة , يفترض أن تستند إلى القانون الدولي في العلاقات بين الأمم , وأن تكون الأمم المتحدة أحد أبرز المنابر الأساسية لمعالجة المشكلات , إضافة إلى الجامعة العربية والمبادئ التي تقوم عليها والنظام الذي تعتمده في علاقاتها الداخلية وفي حل الخلافات مع الدول العربية الأخرى , وكذلك عبر محكمة العدل الدولية وغيرها من الهيئات والمؤسسات الدولية.
إن العلاقات التي يحتاجها العراق مع الدول العربية ودول الإقليم تتوزع على حقول ومجالات كثيرة ابتداءً من التعاون إلى التنسيق , ومن ثم التكامل الاقتصادي , والسعي إلى تطوير وتعزيز دور السوق العربية المشتركة والوحدة الاقتصادية , على أن لا يعيق ذلك التعاون المنشود على مستوى دول الخليج والشرق الأوسط , إذ أن مثل هذا التعاون والتنسيق ممكن أيضاً وضروري في آن بين جميع دول المنطقة. وهي ضمانة لحماية الجميع من التدخل المرفوض في الشؤون الداخلية.
ويُفترض أن يستند العراق في علاقاته الدولية إلى اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف ومتعددة الأغراض. ولكن ما يهمنا هنا علاقات الأمن المتبادلة ومكافحة الإرهاب بصورة مشتركة ورفض التسلح النووي وامتلاك أسلحة الدمار الشامل والقتل الجماعي الأخرى , إذ لا بد أن تكون منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأوسط عموماً خالية من أسلحة الدمار الجماعي والشامل. كما يفترض أن تكون هذه الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف مضمونة ومكفولة من جانب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي , والتصدي لأي محاولة لإلغائها أو التجاوز عليها من هذا الطرف أو ذاك.

25
ثلاث عشر : أجهزة الإدارة والاقتصاد


رغم أن العراق دولة حديثة تأسست في العام 1921 , إلا أنها ورثت نظم الإدارة الحكومية والبلديات والإدارة السياسية من نظام حكم الدولة العثمانية الذي جسد مزيجاً معقداً وبالياً بين سلطة كبار ملاكي الأراضي الزراعية والسلطة الثيوقراطية للمؤسسة الدينية والتي كانت تجتمع في ممثلها السلطان العثماني. وكانت هذه الإدارة معزولة عن الشعب ومغتربة عنه وعن قضايا المجتمع , همها جبي الضرائب وتحصيل الإتاوات وإشباع حاجات السلطان وعساكره وإدارته.
ومع تأسيس الدولة العراقية سعت الإدارة البريطانية إلى تأسيس جهاز إداري حكومي مستنبط من الإدارة الحكومية البريطانية في الهند باعتبارها مستعمرة تابعة لبريطانيا. إلا أن هذه الإدارة نمت وترعرعت في ظل صراع سياسي مديد أصبح فيه الجهاز الإداري , كمؤسسة , خاضع لإرادة الحكومة وتابع لها ومحقق لمصالح النخبة الحاكمة , ولم يكن يجسد مصالح المجتمع وإرادته الحرة. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تطورت أجهزة الإدارة الحكومية ونشأت إدارة اقتصادية جديدة تبلورت في وزارة ومجلس الإعمار وفي بقية الوزارات , وتغيرت العديد من أساليب وأدوات ونظم الإدارة التي تعجل من تحقيق المهمات المنوطة بها , ولكنها استمرت على غربة هذه الأجهزة عن المجتمع.
وكان المؤمل أن يحصل التغيير الإيجابي في طبيعة ونوعية عمل وأساليب أداء جهاز الدولة في أعقاب ثورة 1958. ولم يتحقق ذلك لأن أي تغيير في بنية وطبيعة ونظم عمل وقوانين وقواعد العمل فيها لم تتغير. ومع بناء قطاع دولة اقتصادي مهم لم يمتلك الرؤية العلمية للإدارة الاقتصادية السليمة والمحاسبة الاقتصادية التي تساعد على تحقيق المردود الإنتاجي والمالي وإنتاجية العمل المنشودة.
وفي فترة حكم البعث جرى تجديد لأجهزة الإدارة , كما أسس مركز للتطوير الإداري , إلا أن هذا الأجهزة سقطت في براثن الفكر القومي الشوفيني والإيديولوجية الفردية والاستبدادية التي تجلت في كل مفاصل الدولة وأجهزتها الإدارية والاقتصادية والسياسية. ولم تعد هذه الأجهزة موجهة لخدمة الشعب , بل لخدمة الدكتاتور وأفترض أن يصبح الشعب كله في خدمة الدكتاتور الأهوج. وهنا نشأت العزلة الفعلية , رغم شبابية العاملين في تلك الأجهزة ومحاولة الحصول على المعارف الجديدة في الإدارة , إلا أن طبيعة نظام الحكم وسياساته وعلاقاته تجلت هي الأخرى في طبيعة وسلوك وأداء وعلاقات رئيس الدولة وهذه الأجهزة بالمجتمع.
وفي أعقاب سقوط النظام لم يكن مؤملاً أن يجري تغيير كبير في طبيعة هذه الأجهزة وأساليب وأدوات عملها ونظمها الفاعلة لسببين , وهما:
أ. أسلوب إسقاط السلطة عبر الحرب , إذ ان الظروف الذاتية في الحركة الوطنية العراقية لم تكن مؤهلة لإسقاط النظام وإجراء التغيير النوعي المنشود في كل مفاصل وجوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية والأمنية ..الخ من جهة , ولأن ميزان القوى السياسي كان يميل لصالح قوى الإسلام السياسية التي وجدت التأييد والدعم والمساندة من قبل القوات الأجنبية التي أسقطت النظام واحتلت البلاد من جهة أخرى , ولأن الوعي الفردي والجمعي كان ولا زال متخلفا لم يع مخاطر وجود أجهزة ترتبت وفق فكر وأسس غير إنسانية وغير عقلانية ومناهضة للمجتمع.
ب. احتلال العراق من قبل القوات الأجنبية الأمريكية والبريطانية وبقية القوى المتحالفة خارج إطار الشرعية الدولية لمجلس الأمن الدولي والتي أرادت حكم البلاد بقواها الخاصة ففشلت ووضعت المهمة بيد قوتين , إحداهما في كردستان وبيد القوى الكردستانية التي كانت متحالفة في الجبهة الكردستانية بقيادة حزبين , الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني , والثانية بيد قوى وأحزاب الإسلام السياسية الشيعية التي حولت الوزارات لديها ولدى قوى الإسلام السياسية السنية إلى مواقع لقواها السياسية الطائفية , وبالتالي حولت أجهزة الدولة إلى أجهزة موالية للأحزاب السياسية الطائفية أو القومية , ولكنها ليست موالية للمواطنة العراقية الموحدة.
هذا يعني أن الإدارة العراقية قد استبدلت من الإيديولوجية القومية الشوفينية والشمولية إلى الإيديولوجية الإسلامية الشمولية , ولم تنشأ أجهزة تدين بالولاء للوطن والمواطنة عموماً , وهي أجهزة كانت واستمرت في فسادها المالي والإداري بل وتعمقت هذه السمة فيها كثيراً.
26
العراق بحاجة إلى مشروع وطني ديمقراطي في مجال النظام الإداري والإدارة الاقتصادية ينهض على أنقاض النظم السائدة إلى الآن يأخذ بعدد من المبادئ الأساسية , ومنها :
أ . أن تكون مهمات الإدارة العامة والإدارة الاقتصادية (الأجهزة البيروقراطية عموماً) خدمة المواطن والمجتمع وإنجاز الواجبات الملقاة على عاتقها وفق الدستور والقوانين المشرعة وتلك التي تستوجبها عملية إعادة بناء الاقتصاد الوطني وتوفير مستلزمات تحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية والحياة الثقافية.
ب . يفترض أن تكون الإدارة العامة والإدارة الاقتصادية بعيدتان عن التغيرات السياسية في الحكم , فولاؤها للوطن والمواطن والمجتمع وليس للحزب الحاكم أو النخبة الحاكمة.
ج . ويُفترض أن تعمل الإدارة العامة والإدارة الاقتصادية وفق قواعد النظام الديمقراطي الذي يخضع للرقابة بعدة اتجاهات: رقابة مجلس الشعب , ورقابة المحكمة الدستورية , ورقابة الحكومة ورقابة الشعب عبر أحزابه ومنظمات المجتمع المدني , ومنها النقابات والجمعيات , وعبر الإعلام. 
د . العمل وفق مبدأ المحاسبة الاقتصادية والتوفير الاقتصادي وصيانة ثروة المجتمع وحمايتها والعمل على إغنائها والتصدي للفساد المالي ورفض المحسوبية والمنسوبية والتمييز بمختلف أشكاله ومظاهر بروزه في المجتمع , وبشكل خاص التمييز الديني والطائفي أو القومي أو ضد المرأة.
هـ . يفترض أن تأخذ الإدارة العامة والإدارة الاقتصادية بالأسس العلمية الحديثة للإدارة , سواء أكان ذلك في ما يمس توزيع العمل والتخصص , أم في توزيع وتحمل المسؤولية الفردية والخاصة واحترام الموقع والمهمات والحقوق والتدرج الوظيفي دون العوائق والعقبات البيروقراطية المعطلة لانسيابية إنجاز المهمات. وباختصار أن يحتل الإنسان المناسب , أكان رجلاً أم امرأة , المكان المناسب.
و . كسر العزلة المتبادلة والاغتراب الحقيقي بين المواطنة والمواطن من جهة وبين إدارة الدولة والحكومة وإيجاد مواقع لتقديم الشكاوى الخاصة بتعطيل معاملات المواطنات والمواطنين أو التمييز أو أي تجاوز على حقوق الأفراد ومصالحهم.
ز . تنظيم دورات تدريبية وتأهيلية مستمرة لإيصال أحدث المعلومات عن التطور الإداري والتقدم العلمي في هذا المجال إلى العاملين فيه لتحسين الأداء. إضافة إلى تطوير أجهزة وأدوات الاتصالات والتقنيات الإلكترونية الحديثة لصالح تعجيل إنجاز المهمات.
ح . مكافحة التضخم في الأجهزة الإدارية الحكومية وأجهزة الدولة الاقتصادية ورفض البطالة المقنعة في هذه الدوائر التي تقود إلى تعطيل العمل وإعاقة سير الأداء , إضافة إلى التكاليف المالية الباهظة التي تتحملها خزينة الدولة.
ط . وضع سلم جديد للرواتب في أجهزة الدولة الإدارية والإدارة الاقتصادية الحكومية يأخذ بالاعتبار أهمية أن يكون الراتب مجزياً للخريجين والموظفين الجدد بحيث يتسنى لهم النهوض بمهمات تكوين الحياة الجديدة والحياة الزوجية , مع نمو الرواتب وفق قواعد جديدة تسمح بوجود عدالة مناسبة , إضافة إلى تنظيم قضايا الرواتب التقاعدية والمخصصات والحوافز المادية والمعنوية التي تنشط المبادرة والإبداع والمنافسة الديمقراطية العقلانية , وكذلك وضع نظام خاص لمعيشة العا

1081
برلين في 4/6/2010

الأخوات والأخوة الأفاضل
تحية قلبية حارة
أضع بين أيديكم وللنشر أيضاً مسودة لصياغة مشروع "برنامج مدني ووطني ديمقراطي حديث" لبناء العراق الديمقراطي لأغراض المناقشة.
لا شك في أن مناقشة هذه المادة كمسودة ستتيح الفرصة لإغناء موضوعاته من خلال تعديلها أو تحسينها أو تغيير بعض جوانبها حين نتحسس معاً ضرورة مثل هذا المشروع وأهمية المشاركة في مناقشته ووضع صيغته النهائية لأغراض التثقيف العام ولأغراض العمل من أجل جلب انتباه القوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية العراقية لما فيه من أفكار ومهمات تستوجب الأخذ بها و العمل من اجلها.
يمكن لكل من ذوي الاختصاص أن يعالج جانباً واحداً أو أكثر من موضوعاته وعلى صفحات الصحف والمواقع بأمل تعميم النقاش حوله للوصول إلى أفضل صيغة ممكنة.
ليس هدف هذا المشروع منافسة مشروعات وبرامج أي حزب أو تنظيم أو كتلة سياسية, كما ليس هدفه تشكيل حزب أو تنظيم أو كتلة سياسية في العراق أو خارجه, بل هو مادة من أجل النقاش والتثقيف العام ومشاركة عدد كبير من الأخوات والأخوة في العراق في هذا النقاش.
أملي أن يلقى اهتمامكم .
مع خالص الود والتقدير.
كاظم حبيب     

 
د. كاظم حبيب

حول صياغة مشروع مدني ووطني ديمقراطي حديث
للعراق الاتحادي


المدخل:

انقضى من عمر الجمهورية الخامسة 86 شهراً. وخلال هذه الفترة تشكلت ثلاث وزارات. واستحق الآن وبعد الانتخابات الأخيرة في آذار/مارت من العام 2010 تشكيل وزارة جديدة. كانت الغالبية العظمى من الوزراء فيها من الأحزاب الإسلامية السياسية , كما كانت رئاسة الوزراء في حكومتين متتاليتين بيد هذه الأحزاب , أي حكومة الجعفري وحكومة المالكي  , وكلاهما من حزب الدعوة الإسلامية في العراق , والأخيرة لا تزال تمارس مهمة تصريف الأعمال. وهي حكومات استندت إلى تحالف بين القوى والأحزاب الشيعية والتحالف الكردستاني بشكل خاص مع مساهمات هشة ومحدودة لقوى سياسية أخرى ومنها الأحزاب الإسلامية السياسية السنية والقائمة العراقية والحزب الشيوعي العراقي. واستندت الحكومات الثلاث على المحاصصة الطائفية والقومية. ورغم وجود برامج لهذه الوزارات , إلا أنها كانت شكلية. وفي الحكومتين المتتاليتين اعتبر كل وزير وزارته ملكاً صرفاً لحزبه السياسي وطائفته وراح يحولها إلى مقاطعة خاصة بحزبه وطائفته أو قوميته. ورغم مرور أكثر من سبع سنوات على سقوط النظام تواجه الشعب في العراق كثرة من الأسئلة التي تستوجب الإجابة , منها مثلاً :
هل امتلكت الوزارات المنصرمة مشروعاً مدنياً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبيئياً حين تسلمت الحكم؟ وهل تمتلك الحكومة الراهنة مثل هذا المشروع؟ أم أن هذه الحكومة لا تزال تمارس سياسة ردود الفعل وتحوم حول مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي مبهم وعائم ولم تحقق الكثير غير بعض الأمن الذي لا زال هشاً؟ وكيف ستتشكل الحكومة القادمة؟ وهل ستقوم على نفس الأسس الطائفية التي قامت عليها الحكومتان السابقتان؟ وكيف ستتعامل الحكومة القادمة مع المهمات الكبيرة التي يفترض إنجازها خلال السنوات الربع القادمة؟
إن طرح هذه الأسئلة يقترن بالظواهر التي يعيشها العراق في المرحلة الراهنة والأزمة الطاحنة التي لا تزال تحيط بالحكم والمجتمع وتخلف سبل معالجتها. فالأزمة الراهنة هي أزمة تشمل الدولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية , تشمل السلطة التنفيذية بكل أجهزتها والمجتمع بأغلب طبقاته وفئاته الاجتماعية , وهي تشدد من خناقها بشكل خاص ومؤلم على الفئات الكادحة والفقيرة والأكثر عوزاً وصغار الموظفين والمستخدمين وبقية الناس من ذوي الدخل المحدود , أزمة تشمل الأحزاب والتكتلات السياسية وتحالفاتها , أزمة أفراد , وأزمة قيم ومعايير فردية وجمعية , أزمة ثقة عامة ومتبادلة , إضافة إلى كونها أزمة علاقات معقدة ومركبة مع دول وقوى الجوار والعالم , ومنه مع القوات الأجنبية الموجودة في البلاد. وحين يدرك الإنسان هذا الواقع , عليه أن يتحرى عن حلول لجميع هذه الأزمات التي تواجه العراق. وهي مهمة تقع على عاتق الحكومة وجميع المسئولين والقوى والأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية , كما تقع على عاتق المثقفات والمثقفين العراقيين في الداخل والخارج , إضافة إلى مراكز البحث العلمي التطبيقي التي تعالج المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والتربوية في المجتمع... الخ.
حقق العراق , وفق تقديرات أغلب المتابعين , خلال الأشهر المنصرمة بعض المهمات الأمنية والعسكرية الصعبة ونشأت عنها مهمات سياسية جديدة أكثر تعقيداً وصعوبة على المدى القريب وكذلك على المدى المتوسط والمدى البعيد , كما برزت التزامات أكثر استحقاقاً؟ وإذا كانت بعض الأهداف والمهمات التي أنجزت بدت قبل ذاك بصيغتها العامة ودون تفاصيل , فأن تفاصيلها هي التي وضعت ويمكن أن تضع الدولة والمجتمع في العراق أكثر فأكثر أمام مسؤوليات أكبر , وهي التي يمكن أن تضع البلاد على كف عفريت وفوق برميل مليء بالبارود القابل للاشتعال في كل لحظة , ما لم تتبلور رؤية عقلانية ووعي بالواقع العراقي ومشكلاته والقوى التي تحيط به من جهة , ووعي بتاريخ العراق خلال سنوات القرن العشرين من جهة ثانية , وما لم تدرس بوعي  ومسؤولية حاجة العراق وإمكانياته على التقدم المطلوب خلال الفترة القادمة لكي لا تكرر ما ارتكبه الحكام الآخرون من أخطاء وما ترتب عليها وعنها من عواقب وخيمة على كل مكونات الشعب العراقي , وما لم يتجل كل ذلك في برنامج واسع ولكنه شامل لما يفترض أن يتحقق في الفترة القادمة.
حين نتابع تصريحات ونشاط أغلب السياسيين العراقيين في المرحلة الراهنة , يمكننا تشخيص عدد من السمات السلبية التي تؤثر على المجتمع العراقي وعلى حل المشكلات التي تواجه العراق , ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
1. الابتعاد عن الالتزام بمواد الدستور التي تم إقرارها , بل أن كل طرف سياسي يرى ويسعى إلى تطبيق ما ينسجم مع رغباته ويبتعد عن تلك التي لا تتناغم مع وجهات نظره , وفي هذا تجاوز على الدستور وعلى التعامل الواعي والمتساوي مع مواد الدستور , أي أن الأمور تقاس من جانب غالبية السياسيين العراقيين بمكيالين , وكأن بالإمكان حصول مناخين صيفي وشتوي على سطح واحد. كما أن هذا يعني تجاوزاً على كل الاتفاقات التي تمت بين القوى السياسية العراقية المعارضة لنظام الدكتاتورية قبل سقوطه. ولا شك في أن الدستور فيه الكثير من المثالب وحمال أوجه في عدد غير قليل من مواده والتي تخلق بدورها تفسيرات كثيرة واجتهادات لا تساهم في تنفيذ بنود الدستور على أسس ديمقراطية رصينة. كما لم يتم إلى الآن وضع القوانين الكفيلة بتحقيق ما تضمنه الدستور من مواد بهذا الصدد.
2. لا يختلف غالبية السياسيات والسياسيين في العراق بشكل عام عن بقية المواطنات والمواطنين في واقع معاناتهم من انفصام الشخصية والتصريح بشيء في مقابل العمل بشيء آخر , أو امتلاكهم لوجوه عدة , وهو الأمر الذي يُسقِطُ مصداقية الكثير من العاملات والعاملين في الحقل السياسي , إذ أن هذه السمة حين يتميز بها السياسات والسياسيون تكون عواقبها أشد سلبية على الإنسان العراقي وعلى المجتمع وعلى التطور والتقدم المنشود وكذلك على العلاقات الداخلية والخارجية.
3. غياب الصراحة والمجاهرة والشفافية الضرورية مع المجتمع لمواجهة ما ينتظره من مشكلات وسبل معالجتها والعقبات التي تعترض سبل الحل. ومثل هذه المشكلة تساهم في تحويل الصراعات حول قضايا معينة غلى نزاعات سياسية تتخذ مجرى أخر مضر بالمجتمع.
4. هيمنة الروح الفردية ونموها وتحولها إلى استبداد فردي قاهر ينتشي تدريجاً في ذهنية ونشاط غالبية السياسيين في العراق , وأقل من ذلك بالنسبة للسياسيات. وتبرز عواقب ذلك في حصول كوارث متلاحقة على العراق وشعبه. وقدم مجلس النواب إلى الآن نماذج مهمة وصارخة لهذه الظاهرة السلبية.
5. الإهمال الجدي وغير المسئول لإرادة ومطاليب ومشاعر المجتمع والتصرف باسمه وكأن هذا السياسي أو ذاك هو الممثل الشرعي والوحيد لهذا المجتمع بكل طبقاته وفئاته الاجتماعية. بل يصل الأمر برئيس الوزراء مثلاً إلى إهمال مجلس الوزراء والوزراء والتصرف بقرارات فردية غير مدروسة وغير مقررة. بما فيها تلك الأمور البسيط التي يتخذها المسؤول دون التفكير العميق بعواقبها الاجتماعية , ولكنه ينطلق من ذهنية دينية محافظة مثل منع حفلات الزفاف في الفنادق والأماكن العامة وحصرها بفنادق الدرجة الأولى , أي للقطط السمان وأصحاب النعمة الحديثة , أو منع المشروبات الروحية في مجتمع متعدد الديانات والثقافات والاتجاهات الفكرية ...الخ!
ومن جانب آخر فالمجتمع العراقي يعاني من اقتصاد مخرب وعاجز عن تلبية حاجات السكان اليومية ويعتمد بالدرجة الأولى على الاستيراد بسبب وجود موارد النفط المالية التي تستهلك دون أن تساهم في إغناء الثروة الوطنية والدخل القومي من خلال تحقيق التراكمات الرأسمالية في الاقتصاد.
ورث الحكام الجدد من النظام الاستبدادي السابق اقتصاداً مخرباً ومديونية كبيرة , وزاد في الطين بلة مجموعة من العوامل الأساسية , ومنها على نحو خاص:
1.   التدمير الهائل للبنية التحتية الذي حصل نتيجة القصف الجوي في حرب الخليج الثالثة والتي اقترنت بإسقاط النظام الدكتاتوري , رغم ضعف ومحدودية مقاومة قوى النظام للقوات الأمريكية والدول المتحالفة معها.
2.   السياسة الاقتصادية الاستعمارية المشينة التي مارسها المحتلون الأمريكيون والحاكم المستبد بأمره پول بريمر في العراق والتي أدت إلى المزيد من المشكلات وإلى تعميق التخلف والتبعية في الاقتصاد العراقي لاقتصاد النفط الخام واعتماد سياسة اللبرالية الجديدة المتطرفة في العراق دون إدراك الأضرار التي تلحق , والتي لحقت فعلاً بالاقتصاد العراقي والمجتمع من جراء تلك السياسات.
3.   غياب البرنامج الاقتصادي الواضح لدى مجلس الحكم الانتقالي ولدى الكثير من قوى المعارضة العراقية وعجزها عن التحكم بالسياسة الاقتصادية العراقية , إذ كان الراسم الوحيد لها هو پول بريمر.
4.   الإرهاب الدموي الذي ساد البلاد قبل الحرب وسقوط النظام وبعد الحرب وخلال السنوات المنصرمة من قبل قوى الإرهاب (القاعدة وفلول البعث ألصدامي) والمليشيات الطائفية المسلحة والقتل على الهوية من تلك القوى التي كانت مرتبطة عضوياً بقوى سياسية إسلامية عراقية والتدمير الهائل والتعطيل الفعلي للقدرة على ممارسة سياسة إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية بحدود غير قليلة.
5.   الفساد المالي الذي اقترنت به إدارة پول بريمر والكثير ممن عمل معه في الوزارات اللاحقة وفي أجهزة الدولة المدنية والعسكرية بحيث أصبح نظاماً فاعلاً في الاقتصاد والمجتمع العراقي. لقد كان الفساد منتشراً في العراق منذ منتصف العقد الثامن من القرن الماضي , وخاصة مع بدء الفورة النفطية , وتحول تدريجاً إلى نظام فاعل وتعمق أكثر فأكثر بارتباطه بالشركات الأجنبية الفاسدة التي دخلت العراق مع القوات الأمريكية , إذ جعلت من هذا الفساد نظاماً قائماً بذاته يستنزف ثروات البلاد ووطنية الإنسان لحساب المال الحرام.
6.   التناحر بين القوى السياسية العراقية الذي منع تشكيل رؤية واضحة لتنفيذ مشروعات البنية التحتية في الاقتصاد العراقي. وهنا يفترض القول بأن إقليم كردستان العراق حقق خطوات مهمة على طريق بناء البنية التحتية بخلاف الوسط والجنوب والمحافظات العربية في غرب بغداد , إضافة إلى محافظة كركوك رغم ما تخلل ذلك من فساد مالي وإداري ومحسوبية ومنسوبيه أيضاً. ومن هنا تبرز معاناة غالبية فئات الشعب وخاصة الفقيرة والكادحة منها من نقص في الكهرباء والماء وبقية الخدمات العامة والأساسية , ومنها تراكم القمامة والمياه الآسنة في الشوارع والطرقات وخراب شبكة الطرق والمواصلات.
7.   ولا شك في أن التعليم بمختلف مراحله غير مصاغ بطريقة تسهم في خدمة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبناء الإنسان الجديد , بل انه لا زال مثقل بالكثير من سلبيات الماضي مضافاً إلى ذلك الكثير من الفكر الديني الطائفي الذي يثير الصراع بدلاً من تأمين الوحدة الوطنية.
8.   ويمكن أن نرى التخلف الحاد في مجال الرعاية الصحية للمواطنين , وبشكل خاص في الريف العراقي والمدن الصغيرة والذي له عواقب وخيمة على المجتمع.     
الشعب العراقي لا زال أمام أزمة شاملة رغم مرور هذه السنوات العجاف على الشعب العراقي , وهو بحاجة ماسة إلى مشروع وطني وديمقراطي يجري تنفيذه من أجل الخروج من هذه الأزمة الطاحنة ووضع العراق على طريق الحياة الديمقراطية المستقلة والسيادة الوطنية. وهذا الكراس يعتبر محاولة لصياغة أفكار أولية لمشروع وطني ديمقراطي لبناء العراق المدني الديمقراطي الاتحادي الجديد , أضعه تحت تصرف الباحثين والسياسيين والمهتمين بالشأن العراقي لمناقشته وتعديل أو استكمال جوانب النقص فيه وجعله قابلاً للتطبيق.
 

المشروع الوطني الديمقراطي
1
المشروع الوطني الديمقراطي الذي أطرحه للمناقشة يتضمن خطوطاً عامة وأساسية تشمل جميع قطاعات وفروع الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والتنويرية البيئية والعسكرية , حزمة من المشروعات الداخلية والعلاقات الإقليمية والدولية المستقلة عن بعضها , ولكنها متشابكة ومتفاعلة ومتبادلة التأثير في ما بينها والمتسمة بالديناميكية والمرونة والقابلية على التعديل والتطوير والإغناء , والتي تشكل في المحصلة النهائية خطاً واحداً تلتقي عند إستراتيجيته والتي يفترض فيها أن تدفع بالبلاد نحو التقدم المنشود, أي نحو الأهداف المركزية التي يمكن أن تتحدد في المشروع الوطني الديمقراطي والتي يأخذ بها القطاع الخاص المحلي والقطاع الحكومي أو القطاع الأجنبي. ويمكن أن يطلق على هذا المشروع الوطني الديمقراطي والمدني الحديث "إستراتيجية التنمية الوطنية الشاملة" على المستويين الاقتصادي والبشري , وعلى المستويات الداخلية والإقليمية والدولية.
ومثل هذا المشروع في خطوطه الأولية غائب إلى الآن عن السياسة العراقية وعن برنامج وهدف الحكومة بشكل خاص , وهو ما أكده الكثير من المسؤولين والمختصين والعاملين في العراق , كما يؤكده عشرات المختصين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ...الخ. وبالتالي يصعب على العراق أن يجد حلولاً للأزمات التي يعاني منها حالياً وفي مختلف المجالات وعلى صعد الدولة والحكومة والمجتمع دون أن يمتلك مثل هذا المشروع الوطني والديمقراطي الحديث.
2
يُفترض وضع المشروع الوطني الديمقراطي بالتعاون الوثيق في ما بين الجهات التالية بصورة مباشرة أو غير مباشرة:
1.   الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية وفيدرالية كُردستان ومجالس المحافظات وفق مراحل مختلفة من عملية وضع المشروع. وتلعب السلطة التنفيذية المركزية وحكومة إقليم كُردستان ومجالس المحافظات الدور الأول والأساس في مجمل هذه العملية مصحوبة بمراقبة ومصادقة مجلسي النواب في كل من بغداد وأربيل.
2.   مشاركة فعالة وفعلية من جانب الأحزاب والقوى السياسية في تقديم المقترحات ومناقشة ما تضعه الدولة في هذا الصدد.
3.   مشاركة منظمات المجتمع المدني التي يفترض , في أجواء وظروف الحكم الديمقراطي , أن تمارس دور الرديف المستقل والفعال والمؤثر للحكومة في مجمل نشاطها وفي هذا المجال أيضاً لصالح قواها والمجتمع في آن.
4.   مشاركة الجامعات ومراكز البحث العلمي والمؤسسات المختصة والمختصين.
5.   مشاركة الإعلام بكل أجهزته وأدواته ووسائل وأساليب عمله في مجمل عملية وضع المشروع حيث يسهم بدور فعال ومكمل لبقية الأدوار في الوصول إلى الإنسان الفرد والمجتمع ليحركهم جميعاً صوب المشاركة في مهمات وعمليات وضع المشروع وتنفيذه ومراقبة التنفيذ. ومع تطور أجهزة ووسائل وأدوات الإعلام وفق التقنيات الحديثة , أصبح لهذا العامل الدور الكبير والمتزايد أهمية وخطورة في إنجاز هذه المهمة المتعددة الجوانب والأهداف.
6.   ويفترض هنا أن تلعب وزارة التخطيط الدور المباشر في ثلاث مراحل من عملية وضع إسترايجية التنمية الشاملة , مرحلة وضع التوجهات والخطوط الأساسية التي تكون موجهة لكل الوزارات والمؤسسات في ضوء ما تمتلكه من معلومات وإحصائيات , والمرحلة الثانية حيث تأخذ الوزارة على عاتقها عملية تجميع وتنسيق المشروعات التفصيلية التي يراد إقامتها على صعيدي الاقتصاد والمجتمع , ثم تبدأ المرحلة الثالثة بمناقشة وتطوير وتحسين الإستراتيجية وتفاصيلها لتنتقل إلى الإقرار والتنفيذ في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية.
7.   ويتوجب أن تلعب وزارات: العلوم والتكنولوجيا ، والبيئة ، والصحة ، والتعليم العالي والبحث العلمي ، والثقافة , دوراً أساسياً في  وضع إستراتيجية في ضوء دراست وتقييم المشاكل البيئية والصحية القائمة ورسم خطط قصيرة المدى وبعيدة المدى لمعالجتها بمساعدة ودعم الوكالات الدولية المتخصصة ، مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة ، والوكالة الدولية للطاقة النووية، ومنظمة الصحة العالمية ومراكز الأبحاث الإقليمية والوطنية المعنية ، وخاصة في الدول المجاورة..
3
يفترض أن يشمل المشروع الوطني الديمقراطي المجالات الأساسية التالية التي تتفرع عنها بطبيعة الحال مجالات فرعية أخرى وتتداخل مع بعضها بسبب المهمات المشتركة التي تمارسها وتسعى إلى تحقيقها. فالمشروع الوطني الديمقراطي يتوزع على الحقول التالية: 
السياسة, الاقتصاد , الخدمات الاجتماعية والتنمية البشرية , التربية والتعليم , الصحية , الحالة النفسية , البيئة , العلوم ومراكز البحث العلمي , الثقافة , التنوير , الأمن الداخلي , القوات المسلحة , والعلاقات الإقليمية والدولية. وسأحاول تناول بعض هذه المفردات بالبحث وطرح التصور الأولي لمثل هذا المشروع , والذي سأضعه تحت تصرف الباحثين والمختصين والراغبين في مناقشته وجعله قابلاً للتنفيذ , علماً بأن وضع وتنفيذ مثل هذا المشروع من جانب الحكومة يستوجب ابتداءً وجود حكومة وطنية ديمقراطية تعبر عن وحدة القوى السياسية العراقية , وأن يشكل هذا المشروع القاسم المشترك الأعظم الذي تعتمده تلك القوى المتعاونة في الحكومة وخارجها.

4
أولاً : السياسة

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ما هي المكونات السياسية للمشروع الوطني الديمقراطي الحديث؟ وكيف يمكن عبر هذا المشروع توفير مستلزمات وأجواء إقامة مجتمع مدني ديمقراطي حر وحديث؟
نشير هنا إلى ما نراه ضرورياً لواقع العراق وتطوره الديمقراطي المستقل , إذ يفترض أن يستند نشاط السلطة إلى المبادئ التالية لا نظرياً , بل وبالعمل الفعلي أيضاَ:
** النظام السياسي الديمقراطي له فلسفة من جهة وآليات وأدوات من جهة أخرى. وتقوم فلسفته من حيث المبدأ على مبدأ أن الحكم للشعب ويتم عبر الشعب ومن يخترهم ليمثلوه في المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية وأن يحقق الحكم مصالح الشعب. أي حق الشعب في اختيار ممثليه أولاً والتداول السلمي والديمقراطي للحكم وتأمين العدالة الاجتماعية في الحكم لصالح الشعب. وأدوات وآليات الحكم هي السلطات الثلاث وأجهزتها المختلفة وأساليب عملها وحل المشكلات والصراعات بالتفاوض والطرق السلمية والتحري عن حلول ديمقراطية. وهذا يعني ضرورة:
** الالتزام بمفهوم الاحتكام إلى الشعب في القضايا الأساسية وإلى ممثليه المنتخبين ديمقراطياً , وإلى مبدأ الأكثرية والأقلية واحترام الأقلية وحقها في التعبير عن رأيها والأخذ بمفهوم القوى الحاكمة والقوى المعارضة للحكم وفق أسس موضوعية وسلمية وآليات ديمقراطية.
** مفهوم المواطنة المتساوية بغض النظر عن القومية والدين والمذهب والفكر والرأي السياسي أو اللون واللغة ...الخ. وبغض النظر عن الجنس , سواء أكان رجلاً أم امرأة. وهنا لا يقتصر الأمر على النظر إلى الإنسان كمواطن متساوٍ في الحقوق والواجبات , بل يمارس عمله عملياً من خلال وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب , والأجر المتساوي لعمل متماثل , والحق في الوصول إلى كل المناصب في الدولة بغض النظر عن القومية أو الدين أو المذهب أو الفكر أو الجنس ... الخ.
** رفض إخضاع السياسة للدين أو الدين للسياسة , فكلاهما حقل مستقل عن الآخر ولا تداخل بينهما , وكذلك الالتزام بمبدأ الاحترام المتبادل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة الحكومية وعدم التداخل في ما بينهما. ويفترض هنا أن يسود مبدأ "الدين لله والوطن للجميع".
** ليس المطلوب من السياسيين أن يتخلوا عن قومياتهم أو دياناتهم أو مذاهبهم الدينية أو اتجاهاتهم الفكرية بأي حال إذ أنها قضية شخصية , ولكن المفروض أن يتخلوا عنها سياسياً , إن كانوا متأثرين بأي من العلل الاجتماعية , ومنها بشكل خاص التعصب القومي والطائفية السياسية والتمييز الديني والمذهبي أو التمييز ضد المرأة أو الالتصاق بالعشيرة والمحلة على حساب الوطن والمواطنة. وهذا يمس الجميع , ولكن بشكل خاص من يتسلم مسؤوليات في الدولة والمجتمع. إن تمسك أي مسؤول سياسي بأي موقف طائفي أو تشم منه رائحة طائفية سياسية , يقود إلى المزيد من المصاعب وإلى إعاقة التحول صوب المشروع الوطني الديمقراطي , وإعاقة خلق مستلزمات أساسية لبناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث. كما يفترض أن تصدر القوانين الصارمة التي تدين وتكافح من يدعو أو ينشر أفكاراً أو يمارس العنصرية والطائفية والتمييز بمختلف أشكاله , ومنه التمييز ضد المرأة.
** احترام المرجعيات الدينية للأديان والمذاهب الدينية القائمة في العراق وإبعاد تدخل السياسيين في شؤونها أو تدخلها في الشؤون السياسية والأحزاب السياسية القائمة. ورفض إقامة أحزاب سياسية على أسس دينية أو مذهبية إذ أنها لا تعني سوى ممارسة سياسة تدين بالتمييز بين أتباع الديانات والمذاهب الدينية.
** التبشير بمبادئ وشرعة حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب ونشرها على أوسع نطاق ممكن وممارستها فعلاً ومعاقبة من يعمل ضدها , كما يفترض تدريسها في مختلف المدارس والمعاهد والجامعات وتثقيف العاملين في المؤسسات بها وتنشيط دور منظمات المجتمع المدني في هذا الصدد.
** إصدار القوانين الديمقراطية المنظمة للحياة الدستورية والبرلمانية والحياة الحزبية والتداول الديمقراطي السلمي للسلطة , إضافة إلى تنظيم تشكيل ونشاط وحقوق وواجبات منظمات المجتمع المدني المهنية والوطنية والديمقراطية وبما يخدم قضايا الشعب والوطن.
** تنظيم عمل الحكومة بما يستند إلى الجماعية في العمل وتداول الرأي مع واتخاذ القرارات بالأكثرية والتخلي الكامل عن الفردية لدى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس الوزراء والوزراء ومؤسسات الدولة التي تقود إلى الاستبداد. ولنا في ذلك تجارب مريرة.
** إصدار التشريعات المدروسة جيداً والمقرة من جانب الحكومة المركزية وحكومة إقليم كُردستان قبل تقديمهما إلى البرلمانين لإقرارهما حول العلاقة بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة الإقليم في أربيل بشأن جميع القضايا التي تمس النشاط الحكومي الداخلي والعلاقات الدولية في مجالات السياسة والتنمية والاقتصاد واقتصاد النفط والتجارة الخارجية والمال والخدمات العامة والاجتماعية ومؤسسات النقل والمواصلات والصحية والتربية والتعليم والثقافة والفنون ...الخ , إضافة إلى سبل وآليات وأدوات حل الخلافات المحتملة في أي مشكلة يمكن أن تنشأ بين الطرفين , وخاصة عند المحكمة الاتحادية أو المحكمة الدستورية ذات التشكيلة القضائية المستقلة والخاصة. وهذه المسالة تشمل العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليمية من جهة , ومجالس المحافظات من جهة أخرى.
** تأكيد الالتزام بحل جميع المشكلات المعلقة , أياً كانت طبيعتها وحجمها وتعقيداتها , بالطرق السلمية التفاوضية ووفق الدستور وبآليات ديمقراطية , والتخلي الكامل عن العنف والقوة أو التهديد باستخدامهما في العمل السياسي. وهذا يمس القضايا المعلقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في مسائل التشكيلات الإدارية للإقليم والمحافظات أو في ما بين المحافظات العراقية التي نشأت بسبب المضمون العنصري والشوفيني والطائفي لسياسات وإجراءات النظام الاستبدادي السابق, وخاصة سياسات التعريب والتهجير القسري وتغيير جغرافية المحافظات.
** تطوير مراكز خاصة للبحث العلمي التطبيقي الخاص بمعالجة وحل المشكلات الداخلية والإقليمية قبل أن تتحول من مشكلات أولية إلى صراعات ومن ثم إلى نزاعات سياسية يصعب تقدير عواقبها. إن الاهتمام بهذه المراكز العلمية التطبيقية التي تعتمد على نظريات علمية وتطويرها محلياً يعني بشكل مباشر خلق مصدات سياسية واجتماعية جيدة لمواجهة المشكلات المحتملة أو القائمة قبل استفحالها في المجتمع وفي إطار القوميات أو أتباع الديانات والمذاهب الدينية أو بشأن قضايا الحدود الإدارية أو الإقليمية ومشكلات المياه ...الخ.
** ويفترض في هذا الصدد أن نفهم العلاقة الجدلية المتبادلة بين ثلاث مكونات وأن نتعامل معها بكل دقة وبحساسية عالية , وأعني بذلك:
"الالتزام بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والمساواة بين المرأة والرجل من جهة , وضمان أمن وسلامة الفرد والمجتمع واستقلال الوطن من جهة أخرى , وضمان العمل والخدمات العامة والعدالة الاجتماعية في المجتمع من جهة ثالثة".

5
ثانياً : الاقتصاد الوطني

إن عملية تصفية أوكار الإرهاب وتجفيف منابع مدهم بالأفراد والمعلومات والأموال والأسلحة والمهمات لا يمكن أن تتم بإجراءات أمنية وعسكرية صرفة على أهميتها حسب , بل تستوجب مشروعاً وطنياً ديمقراطياً واسعاً وجذرياً يحتل الجانب الاقتصادي منه موقعاً أساسياً كبيراً وحيوياً , إذ بدونه يمكن أن تعود تلك الجماعات المتوحشة لتمارس أفعالها الإجرامية ضد المجتمع من جديد. وهذا الدرس الكبير تقدمه لنا تجربة دولة الجزائر خلال العقدين المنصرمين تقريباً. فالبطالة الواسعة والفقر المدقع والشعور بالمهانة والحيف وملامسة التمييز الاقتصادي والاجتماعي والقومي والديني والمذهبي والجنسي في التعامل اليومي والتعرض للاستغلال الفاحش ومواجهة الغنى والتخمة الفاحشتين كلها من بين أبرز وأهم العوامل التي تحرك باتجاه الانعزال والاغتراب داخل المجتمع والشعور بالمذلة والحقد والكراهية والاستعداد لممارسة الإرهاب أو الالتحاق بتنظيمات قوى الإرهاب. علينا أن لا نستخف بعواقب الجوع والحرمان والفاقة , فهي تقود إلى البؤس الفكري والسياسي وإلى التمرد ونشوء احتمالات كثيرة وباتجاهات مختلفة لمن يعاني وعائلته من كل ذلك. وبهذا الصدد أورد رئيس بعثة الأمم المتحدة آد  ميلكرت في تقرير قدمه لمجلس الأمن الدولي في الخامس والعشرين من شهر أيار الحالي (2010م) لبحث آخر التطورات في العراق، إن "الأمم المتحدة تنصح جميع الأطراف بالتركيز على تقاسم الإيرادات النفطية في جميع أنحاء العراق، ومن ضمنها إقليم كردستان العراق وكركوك واتخاذ الخطوات الكافية بهذا الخصوص لحل مشاكل البلاد الاقتصادية".  واعتبر مليكرت في تقريره أن "الاقتصاد العراقي يواجه تحديا يتمثل بترجمة التوقعات الكبيرة بشأن التقدم المحرز على المستويين السياسي والأمني وتحويله إلى نمو اقتصادي بما يسهم بخلق فرص عمل تساهم بتحسين الظروف المعيشية للمواطن العراقي بشكل جذري"، لافتا إلى "وجود عجز في جميع الميادين الاقتصادية في البلاد".
6
يواجه الاقتصاد العراقي خمس مسائل جوهرية يفترض البت فيها ديمقراطياً , ومنها على مستوى الدستور , والذي ما تزال الكثير من مواده حمالة أوجه , والتي يمكن تلخصيها في النقاط التالية:
أ. الاحتفاظ بالثروات الأولية , وخاصة النفط والغاز الطبيعي , ضمن ملكية الشعب كله ولا يجوز تحويلها إلى القطاع الخاص , سواء أكان محلياً أم أجنبياً.
ب. تستوجب المرحلة الراهنة دوراً كبيراً يفترض أن يمارسه القطاع الحكومي دون أي تغييب لدور ومهمات القطاع الخاص المحلي والإقليمي والأجنبي , بل السعي للاستفادة منها وفق منظور إستراتيجي واضح يساهم في دعم الجهد لتعجيل التنمية وتحسين مستوى توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي. وفي المرحلة الراهنة يفترض أن تدرس عملية الخصخصة , التي يركز عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بصورة غير مشروعة , بشكل جدي وعقلانية بعيداً عن التسرع والتشنج والموافقة على ما تطلبه هاتان امؤسستان الماليتان الدوليتان التي تسيطر عليهما الولايات المتحدة والاحتكارات الدولية , دون تمحيص دقيق لعواقبه على الاقتصاد والمجتمع وبما يساعد على احتفاظ الدولة بشيء مناسب وضروري من التأثير الإيجابي على العملية التنموية والنشاط الاقتصادي وحماية الإنسان العراقي من الكثير من العوامل والعواقب المضرة بالفرد والاقتصاد الوطني. ولا بد من دعم جهود القطاع الخاص ومده بالقروض الميسرة , وخاصة بالنسبة لبعض فروع الاقتصاد الوطني وبعض مناطق العراق المتخلفة التي تستوجب التطوير وتحقيق التوطين الصناعي وتحديث ودعم الزراعة.
ج. تنمية وتطوير القطاع الصناعي وتحديثه ومشاركته الفعالة في إشباع جزء متزايد من حاجة السوق المحلي للسلع المصنعة. ويفترض أن يرتبط التصنيع المنشود بعدد مهم من المؤشرات الجوهرية:
- استخدام التقنيات الحديثة وتطويعها بما يسهم في رفع إنتاجية العمل وجودة الإنتاج وقدرته على المنافسة الفعلية من حيث حجم الإنتاج والتكاليف والجودة - اعتماد مبادئ الإدارة الحديثة، وبضمنها الإدارة البيئية، وتقييم الأثر البيئي للمشروعات،والجدوى الاقتصادية ، والعمل من أجل اختيار تقنيات مناسبة والعمل على تطويعها بما يساعد على حماية البيئة وصيانتها من التلوث. وتحقيق التعاون العلمي الدولي من أجل تنفيذ المبادئ المذكورة ، وتطوير هذه التقنيات محلياً ووفق واقع العراق والمنطقة. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة تضررت البيئة والطبيعة العراقية كثيراً بسبب الحروب المتواصلة واستخدام أسلحة محرمة دولياً , كما تضرر المتبقون من سكان العراق من جراء تلك السياسات والحروب وعدم حماية البيئة والطبيعة.   
- تشجيع إقامة وتطوير المشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة في المرحلة الراهنة حيث تسود البطالة الواسعة , إذ بإمكان مثل هذه المنشآت الصغيرة والمتوسطة استيعاب نسبة مهمة من العاطلين عن العمل ونقل قوى البطالة المقنعة إلى مجالات عمل جديدة.
- تحديد حجم الإنتاج من هذه السلعة أو تلك في ظروف عدد من المؤشرات التي ترتبط بوضع السوق المحلي والأسواق الإقليمية.. الخ ودراسة الجدوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من هذه الصناعة أو تلك بالنسبة لقطاع الدولة , مع تقديم المقترحات بالنسبة للقطاع الخاص الذي يمكنه أن يلعب دوراً مهماً في عملية تصنيع البلاد.
- العناية التامة بالتوزيع الجغرافي العقلاني المناسب للمنشآت الصناعية بما يساعد على توطينها وتطورها وامتصاص البطالة فيها وتغيير نوعية الحياة في المجتمع ، وبما لا يضر البيئة والصحة العامة.
- العمل من أجل توفير مستلزمات نمو وتطور القطاع الصناعي الخاص ومشاركته في عملية التنمية والتشغيل وإنتاج الدخل القومي. كما يمكن في الوقت نفسه توفير مستلزمات دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى الاقتصاد العراقي من خلال تهيئة البنى التحتية الضرورية والأمن الداخلي وحماية رؤوس الأموال والأرباح.     
- إمكانية التنسيق والتكامل مع الدول العربية ودول الجوار أو دول أخرى في العالم بشأن تحديد طبيعة وحجم وموقع التصنيع الحديث لهذه السلعة أو تلك وتأمين اسواق أكبر لتصريف السلع المنتجة.
- أهمية اعتماد مبدأ التعاون والتنسيق بين مراكز ومعاهد البحث العلمي ووضع المعاهد والمراكز والجامعات العراقية , وخاصة الدراسات العليا , في خدمة مشاريع التنمية المتعددة الأغراض وربط البحث العلمي بها.
- تطوير الفروع والدراسات المهنية والفنية التطبيقية على نحو خاص , يما يسهم في خلق الكوادر الفنية والمهنية الوسيطة للتنمية الصناعية والزراعية , وعدم إهمال البحث النظري في العلوم الصرفة.
- إلزام القطاعين العام والخاص المحلي وكذلك القطاع الأجنبي الصناعي باستقبال وتدريب عدد متزايد من خريجي الدراسات الابتدائية (التي يفترض أن تصل الدراسة فيها إلى ثماني سنوات بدلاً من ست سنوات , والمتوسطة أو الثانوية للتدريب في مؤسساتهم لفترة معينة وقبل دخولهم إلى المعاهد الصناعية والفنية مع قيام الدولة بالتعاون مع القطاع الخاص لتحمل أجور وتكاليف هؤلاء المتدربين.
إن إمكانيات العراق الفعلية تساعد على إقامة سلاسل صناعية مهمة , سواء بالاعتماد على الموارد الأولية المتوفرة في العراق كالنفط والغاز الطبيعي وبعض الموارد الأولية الأخرى مثل الكبريت والفوسفات ... وفي الصناعات الزراعية الغذائية , سواء أكان ذلك بالنسبة للخضروات أو الفواكه أو التمور أو اللحوم أو التبوغ  , وفيما بعد الأسماك. ويوفر إقليم كُردستان العراق منطقة ملائمة للصناعات الزراعية والتعليب وصناعة السجائر والسجاد والملابس والصناعات البتروكيماوية والإنشائية .., الخ.
7
د : اقتصاد النفط الخام والغاز الطبيعي
يشكل النفط الخام والغاز الطبيعي الثروة الوطنية الأساسية في الاقتصاد في الوقت الحاضر ولسنوات طويلة من القرن الحادي والعشرين , وبما أن النفط ثروة وطنية ناضبة لا بد من استخدامها وفق أسس عامة وعلمية تكون ملزمة للدولة والمجتمع , ومنها :
-   استمرار عمليات التنقيب عن النفط الخام في كل أنحاء العراق والتي يمكن أن يكتشف فيها النفط , سواء للاستخدام المحلي أم للتصدير.
-   الاستخدام الفعلي للثروة النفطية والغاز الطبيعي في عمليات التصنيع الحديثة والصناعات البتروكيماوية وسلسلة من الصناعات الأخرى المرتبطة بها , إضافة إلى تطوير وتوسيع مصافي النفط في مختلف مواقع وجود النفط الخام وتلك القريبة من الموانئ وخطوط نقل المنتجات النفطية والغاز الطبيعي لأغراض التصدير والنقل الداخلي. كما يفترض أن يجري تطوير جاد وسريع لاستخدام بقية المواد الأولية والمنتجات الزراعية في عملية التصنيع , وخاصة الصناعات الزراعية . إن هذه الوجهة تساهم في وضع برنامج خاص للأمن الغذائي في العراق والذي يفتقده العراق حالياً , رغم تنامي الحاجة إليه , كما برهنت الحياة على ذلك , كما أنه يمكن أن يوفر مواد أولية زراعية لتنمية الصناعات الغذائية والتعليب لأغراض السوق المحلي أساساً وللتصدير لاحقاًً.
ولا شك في أن قطاع النفط الخام يستوجب وضع سياسة وطنية مدروسة بعناية تأخذ بالاعتبار عدداً من الأمور الجوهرية التي نشير إلى أهمها , رغم أنها معروفة للكثير من المتابعين لقطاع النفط الخام , ولكن حولها اختلاف وخلاف غير قليل , ومنها :
  + إبقاء اقتصاد النفط ضمن ملكية الدولة للموارد الأولية , فهذه الثروة ملك الشعب للأجيال الراهنة والقادمة والتي يفترض أن تستغل لصالحه ووفق معايير وأسس واضحة وشفافة.
 + تشكيل شركة وطنية واحدة أو أكثر تأخذ على عاتقها إنتاج النفط الخام وتسويقه وفق الأسس والمعايير الدولية ومصلحة الاقتصاد الوطني العراقي.
 + الأخذ بالمبادئ الأساسية التي تضمن للعراق مصالحه في قضايا استخراج وتصدير أو استخدام النفط الخام محلياً , سواء تم ذلك من خلال عقود الخدمة أم الحصول على التقنيات الفنية أو التأجير , على أن تعطى الأسبقية للشركات الوطنية العراقية التابعة للدولة. ولا تمنح عقود المشاركة بالإنتاج لتلك الحقول التي اكتشف فيها النفط أو المنتجة فعلاً, إذ في مقدور الشركات العراقية القيام بذلك.
+ يمكن منح عقود المشاركة في الإنتاج في تلك المناطق التي لم يكتشف فيها النفط والتي تستوجب البحث والتنقيب وحفر الآبار ومد الأنابيب .. الخ والتي تحتاج إلى الكثير من رؤوس الأموال. ويتم ذلك وفق أفضل العطاءات وأكثرها في مصلحة العراق , إضافة إلى الأخذ بالاعتبار المعايير والأسس الدولية المعمول بها في سوق النفط الدولي في وقت عقد الاتفاق عند منح مثل هذه العقود , سواء أكان من حيث نسب توزيع النفط المستخرج أم الفترة الزمنية للعقود ...الخ.
+ تجميع وتوزيع موارد النفط الخام مركزياًً وفق الأسس التي أقرها الدستور والقانون الخاص الذي يفترض صدوره لتنظيم توزيع موارد اقتصاد النفط الخام.
+ يجري الصرف على اقتصاد النفط الخام مركزياً من حيث البحث والتنقيب واكتشاف واستخراج النفط الخام وتسويقه.
+ يمكن الاتفاق على عقد الاتفاقيات النفطية من جانب الشركات الوطنية التي تشكل وفق قانون خاص بها شريطة أن تخضع تلك الاتفاقيات لإقرار الحكومة الاتحادية أو اللجنة الخاصة بهذا القطاع لدى مجلس الوزراء من حيث شروط الاتفاقية ومدى مطابقتها للمصالح الوطنية والقواعد والأسس الدولية في هذا المجال.
+ التحديث المستمر والتطوير الدائم لهذا القطاع ليكون على مستوى التقني الدولي الحديث , إضافة إلى التأهيل المستمر لكوادره وتنشيط البحوث العلمية فيه وتأسيس معهد خاص ببحوث النفط والغاز الطبيعي وتكوين الكوادر العلمية.
+ معالجة المشكلات الصحية الراهنة وسط شغيلة قطاع النفط في الحقول الجنوبية الناجمة عن التلوث الإشعاعي نتيجة عمليات استخراج النفط وبسبب ضرب المنطقة بالذخائر المشعة أثناء الحروب.
+ النفط ثروة ناضبة ولا بد من الاستخدام الفعال لها استناداً إلى بعض القواعد المهمة , وهي:
•   أن تخضع كميات الاستخراج والتصدير لحاجات العراق المالية وقدراته في استخدام فعلي بعيداً عن الهدر امالي الذي شهدته العقود المنصرمة.
•   أن توجه نسبة جيدة ومتزايدة سنة بعد أخرى من هذه الثروة الخامية المستخرجة لأغراض الاستخدام المحلي سواء أكان في التصنيع أم التكرير وإنتاج مشتقاتها.
•   أن يجري العمل في هذا القطاع بشفافية عالية وكشف حساباته ومكافحة الفساد المالي فيه ومنع تهريب هذه الثروة بأي طريقة كانت. 
+ كما يفترض أن يسعى مشروع الحكومة إلى استخدام بدائل أخرى لإنتاج الطاقة في العراق لضمان استمرار النفط أطول فترة ممكنة في باطن الأرض العراقية واستخدامها من قبل الأجيال القادمة ولن تبور هذه الثورة بأي حال. ومن الممكن استخدام العراق للطاقة الشمسية لأغراض الإضاءة والتدفئة والكثير من المجالات الأخرى , أو استخدام مياه العيون ومساقط المياه لإنتاج الطاقة الكهربائية في أرياف كُردستان أو استخدام الصحراء لمد التوربينات الهوائية أو مولدات الهواء لإنتاج الطاقة. 

8
هـ : القطاع الزراعي


يطرح القطاع الزراعي المهمات التالية على الحكومة والمجتمع:
* حل مشكلة الأرض الزراعية التي عجزت قوانين الإصلاح الزراعي الأول والثاني وتعديلاتهما والقانون رقم 90 لسنة 1975 عن حلها , رغم صواب الكثير من المواد التي وردت في تلك القوانين الثلاثة. ولم يكن الخلل في القوانين , وخاصة القانون الأول , بل كان العيب يكمن في سياسات الحكومية فيما بعد وفي دور أجهزة الدولة الإدارية المسؤولة التي كانت في تعارض مع مضمون تلك القوانين , إضافة إلى الصراعات الطبقية والسياسية التي تفاقمت حينذاك. ومن هنا يفترض استصدار قوانين ملزمة تعاقب في حالة عدم التنفيذ .
* تنظيف الأراضي الزراعية والمناطق الحدودية الملوثة بالمواد المشعة والأسلحة الكيمياوية وبالألغام المزروعة فيها.
* إن ضرورات تنمية وتحديث الزراعة كثيرة ومعروفة للجميع , ولكنها تستوجب إقرار وتنفيذ مجموعة من السياسات والإجراءات , كما تتطلب تعبئة المجتمع عموماً وسكان الريف والعاملين في القطاع الزراعي خصوصاً , وأهمها:
 - العمل من أجل تغيير بنية الإنتاج الزراعي لصالح التنوع وتكامل الدورة الزراعية لتحسين خصوبة الأرض وزيادة الإنتاجية والإنتاج وتحسين مستوى السلع المنتجة والوارد المالي منها. كما يفترض التصدي للجهود السيئة التي تبذل حالياً لإدخال مجموعة من المحاصيل لإنتاج المخدرات على الطريقة الأفغانية التي تهدد الاقتصاد الوطني والمجتمع بمخاطر جدية. وهذا الخطر ليس وهمياً , بل هو قائم حالياً في بعض مناطق الوسط والجنوب وفي شمال العراق وفي كُردستان.


- تحديث أساليب وأدوات ووسائل الإنتاج الزراعية وزيادة استخدام المكننة الزراعية والسماد العضوي والبذور المحسنة والابتعاد عن استخدام البذور التي جرى تغيير كبير ومضر في جيناتها والتي يمكن أن تتسبب في بروز مشكلات صحية للإنسان , كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد فرضت دول الاتحاد الأوروبي إجراءات مشددة ضد استيرادها أو استيراد منتجاتها رغم الضغوط الأمريكية المتزايدة على الاتحاد الأوروبي.
- تأمين التوظيفات المالية والقروض الميسرة والخدمات الزراعية التي تساهم في مساعدة الفلاح على تحسين مستوى إنتاجيه الغلة في الدونم الواحد وتحسين النوعية وزيادة مدخولاته المالية السنوية لتحسين ظروف معيشته وحياته.
- العودة إلى إصلاح شبكات الري والبزل التي أهملت والتي أدت إلى زيادة كبيرة في ملوحة الأرض وتراجع خصوبتها وغلتها , إضافة إلى تنظيم مشكلات المياه لحوضي دجلة والفرات والمناطق الأخرى لضمان استخدام عقلاني للماء الذي تزداد سنة بعد أخرى شحته لأسباب عديدة. كما أن استخدامه غير العقلاني والتبذير الشديد فيه قاد ويقود إلى عواقب سلبية على الأرض والمنتجات والإنسان.
- التأثير الإيجابي على أسعار السلع الزراعية من خلال تقديم الدعم المالي لتحقيق التوازن العقلاني في مصروفات وإيرادات الفلاح وحاجاته الفعلية واستمرار عمله في الزراعة.
- بذل جهود حثيثة لتطوير الريف ومده بالخدمات الاجتماعية , وخاصة الطرق والجسور والكهرباء والماء والمدارس والمستوصفات ومراكز الإرشاد الزراعي ومخازن نظامية للخزن السلعي والنقل المناسب للمنتجات الزراعية وتسويقها , ومحطات المكننة وإقامة دور ثقافية ودور عرض الأفلام السينمائية والجوالة ومسارح جوالة ...الخ.
إن هذه وغيرها من السياسات والإجراءات التي ستسهم في تحقيق خمس نتائج مهمة تساعد على تحقيق الكثير من الأغراض التي عجزت نظم وحكومات القرن الماضي إلى الآن على تحقيقها , وهي:
** زيادة في الإنتاجية أو الغلة والإنتاج الزراعي الإجمالي وزيادة الدخل القومي المنتج في الريف وتحسين القدرة على تحقيق التراكم الذاتي أيضاً.
** تقليص الحاجة إلى استيراد المزيد من السلع الزراعية وتقليص الانكشاف على الخارج وتحسين مستوى الأمن الغذائي للسكان وتقليص الموارد المالية الموجهة لأغراض الاستيراد السلعي الزراعي.
** تحسين مستوى حياة ومعيشة وظروف عمل الفلاح وأفراد عائلته وتأمين المجال لبنات وأبناء الريف على التعليم والتزود بالثقافة الحديثة والتمتع بالرعاية الصحية.
** تقريب مستوى حياة الريف من مستوى حياة المدينة تدريجاً بهدف إزالة التفاوت الراهن والكبير بين المدينة والريف خلال العقدين القادمين , رغم تخلف المدينة ذاتها.
** تقليص الهجرة السكانية غير المنقطعة من الريف إلى المدينة والتخفيف من المصاعب التي تعاني منها المدينة حاليا بسبب هذه الهجرة , والعمل من أجل تحقيق هجرة معاكسة مطلوبة قدر الإمكان لصالح الريف والاقتصاد الوطني , كما يسهم في تقليص البطالة الراهنة .
 

9
و : التجارة الخارجية

يتميز الاقتصاد العراقي بسمة التبعية الكاملة للتجارة الخارجية استيراداً وتصديراً. فصادرات النفط الخام كانت ولا تزال تشكل أكثر من 95 % من قيمة إيرادات التجارة الخارجية العراقية , في حين كانت ولا تزال الحكومات المتعاقبة تصرف النسبة الأكبر من هذا الدخل على استيراداتها السلعية وخاصة الاستهلاكية منها ولأغراض التسلح وحروب النظام الداخلية والخارجية وبذخ الحكام و"عطاياهم" نحو الداخل والخارج. والميزان التجاري العراقي يتسم بالسلبية والتشوه بدون النفط ولكن يتحول إلى الحالة الإيجابية , مع استمرار التشوه , مع إيرادات النفط الخام. ويتطلب هذا الواقع إجراء تغيير تدريجي وجذري في بنية التجارة الخارجية العراقية استيراداً وتصديراً. ومثل هذه ا

1082
بيان احتجاج وإدانة شديدين
جريمة إرهابية بشعة ترتكبها دولة إسرائيل في مياه المتوسط الدولية !

ارتكبت دولة إسرائيل صباح يوم 31/5/2010 جريمة إرهابية بشعة ضد "قافلة الحرية" في مياه البحر الأبيض المتوسط الدولية راح ضحيتها ما يقدر بـ 16 شخصاً من المتضامنين مع سكان غزة المحاصرين من قبل إسرائيل. وقافلة الحرية لم تكن تحمل سوى مواداً غذائية وأدوية ضرورية لسد بعض النقص الكبير الذي يعاني منه سكان القطاع. ولم تكن هذه القافلة سوى عمل رمزي من أجل إيصال صوت سكان غزة إلى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي ليعملا معاً من أجل فك الحصار الظالم المفروض على سكان القطاع من جانب دولة إسرائيل. وكانت القافلة المكونة من ست بواخر محملة بالأغذية والأدوية وعدة مئات من حركة التضامن العالمية ضد الحصار الاقتصادي , وهم يحملون جنسيات عدد كبير من دول العالم. ولم تكن الباخرة محملة بالأسلحة أو أية معدات حربية.
إن الهجوم العسكري الشرس من جانب القوات المدججة بالسلاح الحديث على الباخرة التركية مرمرة لم يكن متكافئاً , إذ لم يكن فيها سوى أناس مسالمين لا يحملون السلاح أياً كان نوعه. ولا يمكن تصنيف هذه العملية العسكرية في المياه الدولية إلا بكونها إرهاب دولة لا تحترم القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان.
إن هذه الجريمة البشعة التي ارتكبتها إسرائيل مع سبق الإصرار تدلل على الطبيعة العدوانية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية الراهنة وتتناقض مع كل إدعاءات إسرائيل بأنها تريد الصلح والسلام مع الشعب الفلسطيني , وهي في حقيقة الأمر ضد مصالح إسرائيل في المنطقة بأسرها , إذ المفروض أن تعيش إسرائيل مع جيرانها العرب بأمن وسلام وكذلك مع الشعب الفلسطيني الذي لا زال يسعى لإقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض ما تبقى من فلسطين.
إن هذه العملية الجبانة لا تعبر إلا عن عدم وجود رغبة صادقة لحل المشكلة الفلسطينية بالطرق السلمية , بل الدلائل تشير إلى أن إسرائيل تسعى إلى ابتلاع المزيد مما تبقى من فلسطين عبر التسويف والمماطلة بالمفاوضات وارتكاب جرائم من هذا النوع التي تدفع بالمفاوضات إلى طريق مسدود.
لقد كانت السياسات الإسرائيلية المتطرفة من جهة , والتدخل الإقليمي في الشأن الفلسطيني من جهة أخرى , من الأسباب المباشرة لتنفيذ حماس انقلابها العسكري على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الشرعية الدولية , وهي بهذه السياسة لا تنشط قواها الداخلية الأكثر يمينية وتطرفاً وحقداً على الفلسطينيين حسب , بل هي تنشط أيضاً القوى اليمينية المتطرفة في الجانب الفلسطيني التي لا تريد إجراء المفاوضات مع إسرائيل.
إننا إذ نحتج وندين بشدة هذه السياسة الهوجاء من جانب إسرائيل وارتكابها هذه الجريمة البشعة , نطالب في الوقت نفسه بتشكيل لجنة دولية محايدة للتحقيق في هذه الجريمة المرتكبة من جانب إسرائيل لإنزال العقوبات الدولية بالحكومة الإسرائيلية وبمنفذي تلك الجريمة البشعة.
الخزي والعار للقتلة والذكر الطيب لشهداء حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة.
الأمانة العامة                  الأمانة العامة   
التجمع العربي لنصرة القضية الكردية          هيأة الدفاع عن أتباع الديانات
 والمذاهب الدينية في العراق

31/5/2010



1083
كاظم حبيب
هل من سبيل لحل أزمة تشكيل الوزارة في بغداد؟

بعد مرور شهرين على إعلان نتائج الانتخابات لا زالت جمهرة السياسيين في العراق تتصارع على مركز رئيس الوزراء في حين تتجمع السحب الداكنة حول سماء العراق وتنذر بمخاطر جدية على الأرض, إذ أن خلايا القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى المناهضة للعملية السياسية التي كانت في قيلولة أو المشكلّة حديثاً بدأت تعمل بجدية كبيرة وتنزل ضربات قاسية بالشعب العراقي وتحاول إشاعة الفوضى والشكوكية وعدم الثقة بين الأطراف السياسية العراقية من خلال عمليات الاغتيال لشخصيات سياسية تحسب على هذه القائمة أو تلك, كما حصل بالنسبة للشهيد العگيدي.
حين انتهت الانتخابات السابقة (2005) تشبث الجعفري برئاسة الوزارة ورفض تسليمها لعضو حزبه المالكي أو لأي شخص آخر حتى انتزع مكاسب شخصية له بشكل خاص نشرت مئات المرات وفی مئات المواقع. وها نحن نواجه مشكلة جديدة هي تشبث المالكي برئاسة الوزارة ورفضه أن يتخلى عنها لا لعلاوي ولا لغيره من أعضاء حزبه أو ائتلافه السياسي. فقد قال مرة لأحد الشيوخ "بعد ما ننطيها" , وكأنها ملك له ولحزبه.
لست مع المالكي ولا مع علاوي, فكلاهما لا يجسد الشخصية السياسية التي يحتاجها العراق, كما أرى, فكلاهما فيه من صفات الفردية والنرجسية والذهنية القومية أو الطائفية ما يمنعني عن تأييده في أن يكون رئيساً لوزراء العراق. ولكن هذا الموقف الشخصي النابع من قناعتي الشخصية تصطدم بواقع آخر يملي علي موقفاً آخر. وأعني به الأخذ بالاستحقاق الانتخابي.
في جميع أرجاء العالم حيث تسود الحياة الدستورية والديمقراطية يمنح الحزب الحاصل على أكثرية الأصوات والمقاعد الحق في البدء بمحاولة تشكيل الوزارة وليس الكتلة التي تتشكل في مجلس النواب بعد الانتخابات ومن عدة أحزاب. أي أن الاستحقاق الانتخابي هو لرئيس القائمة العراقية من الناحية الدستورية التي أرى فيها البعض الكثير الذي لا أميل له ولا يمثل وجهة نظري بل هو ضد تصوراتي للعراق الجديد مائة في المئة. ولكن ورغم ذلك عليه أن يبدأ بمحاولة تشكيل الوزارة وحين يفشل تعطى إلى الشخص الذي قائمته حصلت على المرتبة الثانية, وأعني به المالكي. وهكذا تسير الأمور بصورة طبيعية ودون تعقيدات إضافية للعراق المبتلى بالتعقيدات الكثيرة والمتشابكة.     
إن إصرار المالكي على البقاء وتشكيل الوزارة , كما يبدو لي وأرجو أن أكون مخطئاً, هو منطلق طائفي مريض لا يجوز قبول به بأي حال, وهو بالضد مما كان يدعيه قبل ذاك بأنه يرفض الطائفية والمحاصصة الطائفية. وإذا كان هو ضد الطائفية فلم الإصرار على بقاء رئاسة الوزارة بيد حزب إسلامي شيعي أو ائتلاف شيعي؟   
إن موقف المالكي والمتحدثين باسمه, كعلي الدباغ, يسيرون بالاتجاه الخاطئ ويعطلون العملية السياسية برفضهم الموافقة على بدء علاوي بتشكيل الوزارة الجديدة, وهو أمر بالغ السوء للعراق كله وعلى مستقبله غير الطائفي الذي يفترض أن يكون.
كما أن تفسير المحكمة الاتحادية للدستور يتناقض حقا مع العرف الدستوري على الصعيد العالمي والعربي (إن وجد عند الدول العربية قانون وعرف في هذا المجال!) وبالنسبة للدستور العراقي, إنه تفسير سياسي غير موفق. وبدلاً من أن تكون المحكمة الاتحادية حّلالاً للمشاكل خلقت بتفسيرها السياسي وليس القانوني الخاطئ مشكلة إضافية كان المفروض أن تنأى بنفسها عن هذا الموقف الذي يقلل من مصداقيتها أمام الشعب العراقي وأمام العالم.
نحن بلد لم يمارس الديمقراطية وليست لديه تقاليد فيها, وعلينا التعلم من الدول الديمقراطية وان نفسر الدستور, في حالة وجود أوجه مختلفة لتفسيره أو مادة تعتبر حمالة أوجه, وفق التقليد الديمقراطي العالمي وليس العكس.
أتمنى على المالكي أن يقدم درساً مهماً في هذا المجال وأن يمنح قائمة علاوي فرصة تشكيل الوزارة, وفي حالة عجز القائمة العراقية وفق ميزان القوى الراهن أن يحال الأمر لقائمة دولة القانون لتشكيل الوزارة وفي حالة فشلها يحال لشخص آخر يتم الاتفاق عليه ..
إن الفراغ السياسي الراهن يخلق مصاعب أمنية جديدة ويعقد عمل الأجهزة الأمنية والشعب هو الذي يتلقى الضربات الإرهابية, ففكروا بالشعب لا بالمناصب.
 27/5/2010                         كاظم حبيب   

1084
كاظم حبيب
العراق والسرقة الأدبية... !
أكد لي صديق عزيز وهو حزين لم يعد شيئاً في العراق لم يسرق, حتى الكتب بدأت تسرق وتطبع دون علم المؤلف أو الدار التي تعاقدت على نشره. فكل شيء مباح في العراق في ما يمكن تسميته فوضى الحرية أو حرية الفوضى.
نحن أمام مجتمع عانى من هيمنة واستبداد الدكتاتورية ما يزيد على أربعة عقود, وبالتالي ضاعت الكثير من القيم والمعايير في خضم غرها وقمع وبؤس وفاقة المجتمع. وهناك سعي من أجل تغيير هذه الحالة وسوف تستغرق وقتاً ليس بالقصير لكي تستقر معايير وقيم حضارية جديدة تستجيب لطموحات وإرادة وحقوق الإنسان ويفترض وضع العراق على السكة الصحيحة فيندفع إلى الأمام ويتخلص من اثار الماضي المرير.
عاش العراق سنوات عديدة حيث كان الإنسان يقتل على الهوية الدينية والمذهبية أو الفكرية والسياسية , أو من أجل الاستيلاء على ما في جيبه من نقود, أو من أجل الثأر والانتقام الشخصي دون الذهاب إلى القضاء, أو بتكليف من جهة أو الاختطاف والتغييب أو السطو على البيوت وسرقة ساكني  الدار وربما قتلهم من الوريد إلى الوريد, كما حصل مع بعض أفراد عائلتي وعائلات عراقية كثيرة لا تزال يلفها الحزن والأسى على موت أحبتهم.
كلفني صديق في بغداد أن أرسل كتاباً لصديق طُبع في بغداد دون علم وأذن المؤلف الصديق. والكتاب لا يحمل اسم دار للطباعة أو دار نشر ولا مكان وسنة النشر. والكتاب وضع له عنوان من عنديات "حرامي بغداد" الذي قام بتنزيل المقالات التي نشرت تباعاً في مؤسسة إيلاف الإلكترونية والتي تتحدث عن ذكريات الصديق العزيز والكاتب المبدع والمتخصص باللغة العربية وآدابها والمحقق للكثير من كتب العرب الأولين الأستاذ الدكتور شموئيل موريه (سامي المعلم).
كتب لي الصديق شموئيل موريه يحتج على طبع مقالاته في كتاب دون علمه وبأخطاء فادحة وطباعة غير جيدة. كتبت له أواسيه وأبين له بأني قد نقلت له الكتاب من بغداد, وناقل الكتاب المسروق لصاحبه ليس بسارق الكتاب أو مسؤول عن سرقته. وطيبت خاطره بالكتابة له بأن كتبي التي وصلت نسخ قليلة منها إلى العراق طبعت دون علمي أو إعلامي بصدورها, وهكذا جرى التعامل مع الكاتب الروائي والشاعر المميز الصديق الدكتور فاضل العزاوي والصديق الدكتور رشيد الخيون وغيرهما من الكتاب. كان هذا يجري ضمن الفترة التي هيمن فيها صدام حسين على العراق ومنعت كتبنا بل كان يحكم من يعثر في بيته على أحد كتب ما يقرب من 1000 كاتب وكاتبة عراقية وعربية وأجنبية. وكان طبع كتبنا بهذه الطريقة مقبولاً, ولكن لم يعد هذا الأمر مقبولاً الآن لأن إمكانيات طبع ونشر ووصول الكتب إلى السوق العراقي لم يعد صعباً أو ممنوعاً.
وكتبت له: أخي الفاضل كل شيء غير محرم في العراق الراهن, كل شيء حلال بما فيها سرقة الكتب, دع عنك سرقة الناس والأموال ودور السكن والمقابر وما إلى ذلك, فلا تحزن على كتابك المسروق مع سبق الإصرار. المحرم في العراق هو أن تكون لك حريتك في اختيار مسيرتك وما تمارسه, يحاول البعض منع ما لا يمكن منعه, ومنها المشروبات الكحولية, رغم أن من يحاول أن يمنع يعرف مقولة العراقيين الشهيرة على مدى قرون: "ما دام بالنخل تمر .. ما جوز من شرب الخمر". أما ابن خلدون في مقدمته فقد ذكر ما مضمونه: "أن العراقيين كانوا أذكياء فأطلقوا على المشروب الكحولي اسم "العرق" بدلاً من "الخمر" لأن العرق لم يذكر في القرآن ولم يحّرم.
المحرم في البصرة الجميلة وفي بعض مناطق العراق المشروبات الروحية ونزع العباءة التي كافح من أجل نزعها العراقيات والعراقيون منذ أوائل العشرينات من القرن الماضي, وها نحن في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين والعراقيات يجبرن على ارتداء أشكال من الأغطية السوداء التي تحجب الشمس والحرية وجمال الحياة عن عيون المرأة وتسلبها إرادتها وكرامتها وتمنعها من رؤية الناس مباشرة, علماً بأن كلا الجنسين يولدان عراة وليس بينهما من يرتدي العباءة أو الجادور أو القناع أو الپوشية حين ولادته. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
لا تغضب عزيزي سامي المعلم فسارق مقالاتك يبقى أفضل بما لا يقاس من ذلك المجرم الذي يختطف الإنسان ويقتله أو يفجر نسفه ليقتل عشرات ومئات من الناس أو من يستعبد المرأة !       
 22/5/2010                     كاظم حبيب
     


1085
كاظم حبيب
مات صديقنا العزيز أبو عشتار ... مات عبد الرحمن الجابري..

" ستبقى لوحات الجابري حية تذكرنا به وتتحدث عن إنسان نبيل أحب الحياة والإنسان وعشق الطبيعة والفن ...".

منذ الصباح الباكر نقل لي الزميل فاروق الوادي الخبر المحزن والأليم, خبر وفاة الصديق العزيز عبد الرحمان الجابري. ودون وعي مني اغرورقت عيني بالدموع وتحشرج صوتي وأنا أساله عن وقت الوفاة وكأنها مهمة بعد أن مات العزيز. لم اصدق الخبر رغم علمي بمرضه, فقد كان قبل فترة وجيزة في بيتي قضينا الليلة في أحاديث ممتعة وذكريات قديمة حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل بعد أن شاركنا معاً في حفل زواج ابنته عشتار من أحد أبناء تونس الخضراء في برلين. كان يبدو بصحة مناسبة وكانت الفرحة في تلك الليلة غامرة إذ أن ابنته العزيزة, تلك الفتاة الجميلة والرقيقة تحتفل زفافها.
أربع لوحات زيتية بحجوم مختلفة تحيط بي في غرفتي وشقتنا رسمها الفنان أبو سلام في فترات مختلفة, بعضها كان هدية كريمة منه وبعضها الآخر اقتنيتها منه ووعدني بخامسة حين أقوم بزيارته في مدينة إقامته بألمانيا, لكنه فارقنا على حين غرة وتكرنا نستعيد بعده الذكريات.
لوحاته تعبر عن امتلاك هذا الفنان البديع المبتسم للحياة دوماً عن حس مرهف للألوان وحرفية عالية ووعي عميق بالعلاقة بين الضوء والظل, بين المكان والإنسان, بين الإنسان والطبيعة, بين الحب والحياة, بين الغربة والوطن, بين الاستبداد والقسوة والموت والخراب, كل لوحاته كانت تعبر عن حبه الفائق للحياة وللإنسان. مات عبد الرحمن الجابري وترك خلفه عشرات بل مئات اللوحات الفنية التي ستبقى حية لتذكر الناس به وبفنه الأصيل. أرى لوحاته ولا اصدق أنه فارقنا وتركنا بدونه, فقد كان دائماً معنا في كل مكان, كان معنا بمشاعره ولوحاته ونكاته الجميلة, كان معنا بما يحمل من هموم شعبه.
كنا في السنتين الأخيرتين نتبادل الأخبار بكثافة أكبر عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف عن أوضاع العراق وعن بعض خيبات الأمل التي يصاب بها الإنسان من جراء ما يجري في العراق من صراعات ونزاعات طائفية مريضة ومقيتة. كان المرض يوجعه وأوجاع العلاج اشد وأمر, ولكن كانت أوضاع العراق هي التي تؤرقه وتحول حياته في لحظات معينة إلى جحيم مرهق ويحاول أن يتغلب عليها بنكتة تجسد واقع العراق الراهن أو بقرص مسكن يساعده على عبور شدة الأوجاع. كان رحمن وطنياً صادقاً ويساريا ثابتاً وماركسياً واعياً وصديقاً ودوداً للضعفاء من الناس, للفقراء, للمقهورين من الناس في كل أرجاء العالم. حين جاء إلى برلين جلب لي معه هدية ثمينة هي عبارة عن لوحة زيتية (150 x 150سم) رسمها في العام 1989 تحمل صوراً رسمت لشهداء الدكتاتورية العسكرية الغاشمة في الأرجنتين وصوراً رسمت الأمهات الثكالى بأبنائهن حيث يرتسم الحزن على وجوههن وهن يطالبن بحكم القضاء العادل ضد الدكتاتورية ورفض إصدار العفو على القتلة منهم. لقد تجلت في هذه اللوحة بألوانها الغامقة وتجاعيد وحركات وجوه الأمهات والسماء ذات الألوان المتداخلة عن أفق مشرق غير بعيد ينبئ بانتصار العدالة الاجتماعية. كانت اللوحة تجسد روحه الأممية التي لا تعرف الحدود دفاعاً حقوق الإنسان وحقوق القوميات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية, وضد الاستبداد والقمع والقسوة أينما وجد.
الأشهر الأخيرة كتب لي يقول لقد بدأت أرسم لوحات جميلة, لم اعد أرسم ألواناً غامقة, بل حياة فرحة ومرحة وألواناً ضاحكة منطلقاً من مقولة "تفاءلوا بالخير تجدوه!".
حين كان راقداً في المستشفى يعالج مرض السرطان الذي أصيب به قبل عدة أعوام, وجهت له رسالة حكيت له فيها عن رجل كان مريضاً بالسرطان ولكنه كان ينظر إلى الحياة بروح إيجابية وقاوم المرض وانتصر عليه, وقلت له أني أثق بانتصارك على المرض أيضاً. أرسلت هذه الرسالة لأكثر من صديق كان مصاباً بالسرطان. فرح بها كثيراً. انتصر لعدة سنوات على مرضه, ولكن في الآونة الأخيرة ضعفت مقاومة حسده ونحل وازدادت الآلام المربحة عليه فصرعه المرض بعد أن انتشر في جميع أنحاء جسمه ولم يعد قادراً على المقاومة وغادرنا بعد منتصف ليلة حالكة السواد دون أن يودعنا وأن نمنحه قبلة الوداع الأخير. لقد فاجئنا بموته ونحن نيام!
ولكن "ابو عشتار" سيبقى حياً في ذاكرتنا بلوحاته ورسائله المرحة ونكاته الطيبة والهادفة, فإلى عائلته الكريمة وأصدقائه ومحبي فنه أحر التعازي وله الذكر الطيب.
16/5/2010                     كاظم حبيب
     
 

1086
كاظم حبيب

أصوات الشهداء تتصاعد من مقابرنا الجماعية, فهل نحن صاغون لها؟

استقر الرأي في العراق, وكما يبدو, على أن يكون السادس عشر من أيار/ مايس من كل عام يوم المقابر الجماعية التي امتلأت بها أرض العراق. وتشير المعلومات المتوفرة إلى الآن عن اكتشاف 240 مقبرة جماعية موزعة على 100 موقع في مختلف مناطق العراق, وفق ما جاء في المؤتمرين المهمين اللذين عقدا في لندن والنجف للبحث في أمر المقابر الجماعية. ولم ينته البحث عن بقية المقابر الجماعية إلى الآن ولا بد من مواصلته.
هذه المقابر الجماعية تحتضن رفات عشرات ألوف الناس الذين قتلوا أو استشهدوا في فترات مختلفة من حكم نظام البعث, وخاصة بعد الانقلاب الدموي الذي نظمه صدام حسين ضد مجموعة كبيرة من قياديي حزب وحكومة البعث في تموز من العام 1979 حيث قتل منهم 63 شخصاً بعد اتهامهم بالتآمر على حكمه وقيادته, ومن ثم إزاحته لأحمد حسن البكر الذي شاركه في كل الجرائم التي ارتكبت في العراق حتى نهايته على أيدي جلاوزة النظام السياسي الفاشي الذي شارك في بنائه في العراق.
تضم المقابر الجماعية عدداً كبيراً من بنات وأبناء وأطفال العراق ممن قتل أو استشهد لأسباب مختلفة على أيدي جلاوزة النظام منهم بشكل خاص:
1.   مناضلون سياسيون قتلوا تحت التعذيب أو في السجون والمعتقلات البعثية وهم مؤيدون أو ينتمون إلى مختلف القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والأحزاب السياسية.
2.   عدد كبير جداً من الكُرد الفيلية الشباب الذين هجرت عائلاتهم إلى إيران وقتلوا في السجون والمعتقلات.
3.   الكُرد الذين استشهدوا أو غيبوا وهم أحياء ودفنوا في مقابر جماعية, سواء أكانوا من النساء أو الأطفال أو الرجال , والذين قدر عددهم بحوالي 182 ألف نسمة في عمليات ومجازر الأنفال ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
4.   الجنود والضباط الذين قتلوا بتهمة الجبن أو الاختلاف مع "القائد الضرورة" أو جمهرة من الجنود الذين قتلوا في جبهات القتال وكانت عائلاتهم مهجرة, سواء أكانوا من عرب الجنوب والوسط أم من الكُرد الفيلية.
5.   عدد غير قليل ممن حاول التآمر على صدام حسين ونظامه الدكتاتوري ثم جرى الكشف عن تلك المحاولات وقتل أفرادها , سواء أكانوا أعضاء في حزب البعث الحاكم أم من المستقلين.
إن هؤلاء جميعاً نسمع أصوتهم تتصاعد من المقابر الجماعية تعلن احتجاجها وتطالب المجتمع العراقي والدولة العراقية بالكشف عن المجرمين القتلة الذين تسببوا في تلك الجرائم ومعاقبتهم وإعادة حقوقهم إلى من تبقى من عائلاتهم.
ولكن علينا أن ننتبه إلى أن في العراق مقابر جماعية أخرى غير تلك التي تسبب بها نظام البعث الدموي, مقابر جماعية نشأت بفعل الجرائم التي ارتكبتها قوى الإرهاب والمليشيات الطائفية, سواء أكانت سنية أم شيعية, في المناطق التي سيطرت عليها وقتلت الكثير من الناس الأبرياء. وكذلك أولئك الذين عذبوا وقتلوا في السجون والمعتقلات الأمريكية والعراقية بواسطة أجهزة أمن وقوات الدولتين, والتي كشف عن  هذه الرفات أو لم يكشف عنها إلى الآن, والتي دفنت في مقابر جماعية جديدة, ترفع هي الأخرى صوت الاحتجاج وتطالب بالكشف عن المجرمين القتلة وتقديمهم للعدالة بدلاً من السكوت عنهم. إذ أن السكوت عن مثل هذه الجرائم يسهم في توفير مستلزمات تكرارها دون رادع أو وزارع من ضمير.
إن التفكير الإنساني السليم يفرض على الحكومة العراقية اتخاذ كافة الوسائل الكفيلة بالكشف عن كل الجرائم المرتكبة في العراق خلال العقود الخمسة المنصرمة, ومنها شهداء المقابر الجماعية, سواء تلك التي تسبب بها نظام البعث أم قوى الإرهاب والصراع الطائفي السياسي والقتل على الهوية الدينية والمذهبية والفكرية.
لنتذكر دوماً الشهداء الذين تحتضنهم المقابر الجماعية فهم من بنات وأبناء هذا الشعب ومن حقهم علينا أن نبحث عن قتلتهم وأن نعوض عائلاتهم وأن نسعى للتخفيف النفسي والعصبي عن تلك العوائل التي تحملت الكثير من جراء ظلم وجبروت واستبداد وقسوة النظام في العراق ومن شراسة قوى الإرهاب والقوى السياسية الطائفية المتطرفة والمسلحة التي تسببت في موت الكثير من البشر.
الذكر الطيب للشهداء والخزي والعار لقتلتهم. 
 15/5/2010                      كاظم حبيب       



1087
كاظم حبيب

اتساع الفجوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء في العالم الرأسمالي: ألمانيا نموذجاً

تشير المعلومات التي تحت تصرفنا إلى أن العالم الرأسمالي الذي نعيش فيه, منذ انتهاء المنافسة الاجتماعية بينه وبين الدول الاشتراكية التي غابت نظمها السياسية من الخارطة العالمية ابتداءً من أوائل العقد الأخير من القرن العشرين, يشهد مجموعة من الظواهر السلبية المتفاقمة التي تعتبر من حيث المبدأ جزءاً من طبيعة النظام الرأسمالي العالمي, فنحن اليوم إزاء:
1.   تنامي سريع في عدد أصحاب المليارات والملايين في العالم في مقابل,
2.   تنامي أسرع في عدد الفقراء والمعوزين في العالم, خاصة أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر وفق معايير الاتحاد الأوروبي بالنسبة لأوروبا (من هو دخله أقل من 60 % من متوسط دخل الدولة التي يعيش فيها), وكذلك في الدول النامية التي لا يتجاوز دخل الفرد اليومي عن دولار أو دولارين في اليوم. فوفق الأرقام المتوفرة عن العام 2010 فأن نسبة المهددين بالفقر في الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مجتمعة بلغت 17% أو ما يعادل 80 مليون إنسان. وهي متباينة من بلد إلى آخر تتراوح بين 28% في ليتوانيا وبين بحدود 10% في الجيك.   
3.   تفاقم فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء, وكذلك بين أصحاب المليارات والملايين ورواتب مدراء ومسؤولي المؤسسات والبنوك وشركات التأمين وغيرها من جهة, وبين ذوي الدخل المحدود والمتوسط. بحيث أصبح أضعافاً مضاعفة وأكثر بكثير من فترة العقد التاسع والعقد الأخير من القرن العشرين لصالح المجموعة الأولى.
4.   تزايد عدد العاطلين عن العمل على الصعد الوطنية والإقليمية والدولية.
5.   تفاقم درجة وشدة الاستغلال التي يتعرض لها المنتجون, الطبقة العاملة والفلاحون والكادحون وجمهرة كبيرة من المثقفين,
6.   زيادة مستمرة في الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات في مقابل تقليص مستمر للضرائب المباشرة على الدخل والأرباح السنوية المحددة للشركات الرأسمالية الإنتاجية والرأسمال المضارب وكبار الرأسماليين في الدول المختلفة.
7.   إعلان المزيد من حالات الإفلاس يومياً في الصحف المحلية والدولية لذوي المشاريع الصغيرة والمتوسطة أو ابتلاع منشآت من قبل منشآت أخرى أقوى منها.
8.   رمي ثقل أعباء الأزمة المالية والاقتصادية الدولية على عاتق الفئات الكادحة وذات الدخل المحدود والمتوسط من دافعي الضرائب, في مقابل الحصول على أرباح متعاظمة لتلك القوى الرأسمالية المضاربة. ويمكن أن نلاحظ عواقب الأزمة الأخيرة على سكان شعوب الدول النامية وكذلك على الفئات الاجتماعية المنتجة في الدول الرأسمالية المتقدمة, حيث منحت البنوك أموالاً طائلة لمعالجة المشكلات التي خلقتها هي ونظامها المالي والنقدي وأساليب عملها واقتطعت من دافعي الضرائب.
9.   استمرار الهجوم على المكاسب التي تحققت للعمال والمستخدمين وذوي الدخل المحدود في العقود المنصرمة مثل الرعاية الصحية والتعليم والثقافة والخدمات الأخرى وتقليص الأجور والمساعدات الاجتماعية بذريعة البطالة والرغبة في إعادة الاستثمار ...الخ.   
إن هذه الظواهر السلبية الصارخة تؤكد واقعاً جديداً هو تفاقم غياب العدالة الاجتماعية التي يجري الحديث عنها في الدول الرأسمالية واشتداد البرودة في العلاقة بين الطبقات والفئات الاجتماعية وتنامي التناقض الاجتماعي والصراع الطبقي على الصعيدين المحلي والدولي لما كان عليه قبل عشر سنوات مثلاً. وهذه الصراعات لا تزال تتجلى في النشاط النقابي والإضرابات العمالية النقابية, والتي لم تتخذ حتى الآن مسارات حادة ,ولكن لا يمكن إنكار احتمال نشوئها كما هو الحال في اليونان حالياً, وما يمكن أن يحصل في كل من إسبانيا والبرتغال وأيرلندا لاحقاً أو حتى إيطاليا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي دعْ عنك الدول النامية الفقيرة والأكثر فقراً. 
فلائحة أصحاب المليارات في العالم تشير بالنسبة لعام 2010  إلى وجود 1011 مليونير ينتمون إلى 55 بلداً في حين كان العدد 793 ملياردير في العام 2009. وقد بلغت ثروتهم في 3/آذار 2010 (3600) مليار دولار أمريكي. 403 منهم من الولايات المتحدة ويمتلكون ثروة قدرها 1300 مليار دولار أمريكي, ثم في أوروبا حيث يوجد 248 ملياردير ويمتلكون 1000 مليار دولار أمريكي, 52 منهم في ألمانيا يملكون حوالي 200 مليار  دولار أمريكي. أما في روسيا فيوجد اليوم 62 ملياردير تبلغ ثرواتهم مجتمعة 297 مليار دولار أمريكي. ويوجد في الدول العربية 50 ملياردير تبلغ ثرواتهم 207 مليار دولار أمريكي. ورغم الأزمة فكما نلاحظ فقد ازداد عدد أصحاب المليارات وازداد حجم ثرواتهم, وهي كلها على حساب شعوب البلدان النامية وكادحي الدول الصناعية المتقدمة والتي كانت على حافة التحول صوب الرأسمالية, وهي الدول الاشتراكية السابقة وبعض الدول النامية.
ومع حلول الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي لم تصل إلى عمقها النهائي حتى الآن, يزداد الأمر سوءاً بالنسبة لفئات اجتماعية بعينها بسبب تفاقم البطالة والطرد من العمل وإعلان الإفلاس لعدد متزايد من المنشآت الصغيرة والمتوسطة أو ابتلاع بعضها من منشآت أخرى, إضافة إلى الهجوم الشرس على الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدمها الدولة للمنتجين وذوي الدخل المحدود والفقراء.
ومن يتابع اتجاه تطور الاقتصاد الألماني سيجد أمامه الظاهرتين الأساسيتين الناجمتين عن طبيعة النظام وعن السياسات التي تمارسها الحكومات المتعاقبة وخاصة اليمينية منها, أي في تنامي عدد وحجم ثروات الأغنياء من جهة, وتزايد عدد الفقراء وحجم الفقر من جهة ثانية. فوفق المعلومات المتوفرة لعام 2008 يلاحظ المتتبع ما يلي, علماً بأن السنوات 2009 و2010 كانت هذه الظواهر أكثر تفاقماً:
1.   ازدياد عدد الفقراء والمهددين بالفقر في ألمانيا إلى 11,5 مليون إنسان من مجموع 82 مليون نسمة يشكلون سكان ألمانيا, أو ما يعادل 14% من السكان وهي قابلة للزيادة.
2.   2,5 مليون طفل مهدد بالفقر, ونسبة عالية من هؤلاء تعيش اليوم تحت خط الفقر الخاص بالدول الأوروبية. إن أكثر الفئات التي تعاني من حالة الفقر وسوء التغذية والرعاية الطبية هم الأطفال من أبناء العائلات الفقيرة, ثم النساء اللواتي لهن أطفال ويعشن دون شريك حياة, وكذلك العائلات بطفلين فأكثر.وتشير المعلومات إلى عدم وجود أطفال من العائلات العمالية ممن يحسب على المتفوقين في الدراسة بسبب سوء ظروف حياتهم ومعيشتهم وسكناهم وصحتهم.   
3.   بلغ عدد العاطلين عن العمل 3.406.000 نسمة في نيسان من العام 2010 أو ما يعادل 8,1% من مجموع عدد القادرين على العمل.
4.   يبلغ عدد مستلمي المساعدة الاجتماعية 2.9 مليون نسمة أو ما يعادل 3,5% من مجموع السكان.
ولكن ما يمكن تسجيله في هذا الصدد أيضاً هو الإجراءات المستمرة التي تتخذها الحكومة الألمانية المحافظة واليمنية منذ عدة سنوات بشأن تقليص مستمر للخدمات الاجتماعية والمكاسب التي تحققت للسكان في فترة المنافسة الاجتماعية مع الدول الاشتراكية, وخاصة في مجال الصحة والتعليم والثقافة ورياض الأطفال ورواتب المتقاعدين, إضافة إلى الارتفاع المستمر للضريبة غير المباشرة على السلع والخدمات, مما يزيد من متاعب الفقراء وأصحاب الدخل المحدود, في وقت تخفف نسبة الضريبة التي تفرض على الدخل لذوي الدخل العالي والشركات الكبيرة وأصحاب المليارات والملايين.
إن لم تكن هناك فائدة من وجود المعسكر الاشتراكي في حينها, ففائدته الأساسية كانت في حصول الطبقة العاملة وعموم السكان على مكاسب مهمة في الدول الرأسمالية لأن الرأسماليين كانوا يخشون من قوة المثل في الجانب الاجتماعي لتلك الدول, وبالتالي كانوا مجبرين على أعطاء بعض الحقوق المشروعة والعادلة والضرورية للعمال وغيرهم من المنتجين للسلع والثقافة والخدمات العامة والتي كانوا محرومين منها سابقاً.   
إن الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها العالم حالياً تتجلى في ما هو حاصل في اليونان وما يمكن أن يحصل في دول أوروبية أخرى دعْ عنك الدول النامية التي تعاني أصلاً من مشكلات كبيرة حتى قبل الأزمة الجارية. إن القروض الراهنة التي تقدم اليوم إلى اليونان في ضوء اجتماع وزراء المالية في الثاني من أيار/مايس 2010 لا تعني سوى المزيد من وقوع اليونان تحت رحمة القارضين وفرض شروطهم القاسية على اليونان التي تزيد من مصاعب عيش الفئات الكادحة من الشعب اليوناني وليس الأغنياء والمترفين منهم وتزيد من عدد العاطلين عن العمل لأنها تقلص القدرة الشرائية للغالبية العظمى من السكان وتقلل من الدخل الحقيقي لهم وتقلص من حجم الخدمات التي تقدم لهم أو تفرض تعريفات إضافية عليها. إنها سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تخدم بالأساس الدول والشركات الأكثر غنى. إن محاولة إنقاذ الاقتصاد اليوناني من الانهيار والإفلاس لا يرتبط بالرغبة في مساعدة الشعب اليوناني بقر ما يرتبط بالخشية من انهيار العملية الأوروبية الموحدة اليورو في مقابل العملات الأخرى والتي بدأت بالوضوح حالياً في العلاقة بين اليورو والدولار الأمريكي.
إن العالم الرأسمالي سيواجه دون أدنى ريب مصاعب وتناقضات اجتماعية ونزاعات سياسية معقدة لعدة أسباب جوهرية, وهي:
1 . إن كبار الرأسماليين وشركاتهم وممثليهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية على نحو خاص يرفضون العودة إلى المساومة التي برزت في عقود الحرب الباردة بين العمل ورأس المال بما يخفف من درجة شدة الاستغلال ويخفف من التناقضات الاجتماعية, فهم يطبقون اليوم رأسمالية استغلالية خالصة ترفض المساومة على توزيع الدخل القومي بين الأجر وفائض القيمة لصالح فائض القيمة, بل يسعون بكل السبل إلى زيادة أرباحهم على حساب الأجور ومدخولات الأفراد.
2 . إن هذا الواقع يوسع الفجوة الراهنة بين الغنى والفقر في كل بلد رأسمالي وفي العالم عوماً ويعمق الاصطفاف الطبقي الراهن,
 3. إن هذا التناقض الأساسي والرئيسي يمكن أن يقود إلى صراعات طبقية ونزاعات متنوعة في المجتمع الواحد وعلى الصعيد الدولي.
4 . وأن العلة تكمن في طبيعة النظام وفي السياسات المالية والنقدية, ومنها المصرفية والتأمينية والضريبية وسياسة الأسعار والمضاربات المالية لكبار الرأسماليين وشركاتهم العملاقة, إضافة إلى غياب دور الدولة في الرقابة والتوجيه والتعديل والإشراف على نشاط المؤسسات المالية والنقدية والمصرفية وغيرها. 
ويبدو لي أن حركة شعبية واسعة ستنهض تدريجاً لتفرض على الحكومات في تلك الدول صيغاً جديدة وسخونة في الصراع, وفي حالة مواصلة الإصرار على السياسات الرأسمالية الدولية الراهنة التي ترسمها الدول السبع الكبار + واحد, ستنشأ أجواء ثورية يصعب على العالم الرأسمالي احتواء نتائجها.
إن الأزمة التي تعاني منها الدول الرأسمالية تبرز في الجانب السياسي والاجتماعي في تنامي التوجهات اليمينية ونقص الديمقراطية بالنسبة للجماهير الواسعة في الدولة الواحدة لصالح التمثيل في الاتحاد الأوروبي والذي خلق إشكاليات كبيرة في كل من هذه المجتمعات.
نحن في بداية حالة جديدة في الحركة الفكرية والسياسية والنقابية العالمية. ومن لا يقبل على "دفع الجزة (فروة الخروف) سيجبر على دفع الجزة والخروف" وفق المثل الشعبي العراقي.
إن الطبقة العاملة, التي اتسع مفهومها في المرحلة الجديدة وفي عالم معولم اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وعسكرياً وبيئياً ... لتشمل أوساطاً جديدة من فئات المجتمع ..الخ, يفترض فيها أن تسعى على وحدة الصف في مقابل وحدة كبار الرأسماليين على الصعيد العالمي من خلال تنسيق السياسات والمواقف ومن أجل فرض تغييرات عميقة على الواقع الراهن لصالح المنتجين والكادحين في المجتمع. فالجشع الرأسمالي لا يقف عند حد أبداً, والرأسمالي ينادي دوماً: هل من مزيد؟, إن لم يلجم بسياسات فعالة وعقلانية ومدروسة جيداً من جانب النقابات والأحزاب اليسارية الديمقراطية وممثلي العمال والكادحين في الدول المختلفة وعلى الصعيد العالمي.
9/5/2010                            كاظم حبيب


المصادر: أشير هنا إلى بعض المصادر, وهي كثيرة بهذا الخصوص.
Berliner Zeitung. Das Risiko steigt. von Eva Rot. Nr. 105 vom 7.5.2010. h. S. 9 
Europäisches Jahr zur Bekämpfung von Armut und sozialer. Webseite  Ausgrenzung: Europäische Kommission. 9L5L2010.
Zahl der Armen in Deutschland wächst rasant. Spiegel Online. Von 17/2/2010
Die Sozialpolitik ist gescheitert. News. de

1088
كاظم حبيب
هل يمكن مواجهة وجود الطائفية السياسية بشعار
"الدين لله والوطن للجميع" ؟
"لا شيء يكون بدون علة".
مارتين هيدگر
فيلسوف ألماني

لا شيء يكون بدون علة, هذا ما يدركه كل إنسان عاقل ومعقول في تفكيره. وهكذا يمكن أن نجد العلة في كل مشكلاتنا, فالجهل والفقر والمرض هي نتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي في السياسات غير العقلانية للحكومات العراقية المتعاقبة وكذلك في الفساد المالي الذي لا يبقي مالاً كافياً للتنمية وتشغيل العاطلين. المذهبية ترتبط بتباين الاجتهادات إزاء الدين أو تفسير القرآن والحديث أو ما يطرحه المجتهدون. والطائفة هي التي تؤمن بهذا المذهب أو ذاك, أي المجموعة البشرية التي تؤمن بهذا المذهب أو الرأي أو ذاك. وهو أمر طبيعي واعتيادي. ولهذا فالمشكلة في العراق ليس في وجود مذاهب أو طوائف مختلفة في إطار دين واحد هو الدين الإسلامي, بل المشكلة في الطائفية السياسية السائدة في العراق, أي التمييز بين الطوائف في التعامل اليومي, وهذا ما عاشه الشعب العراقي خلال السنوات السبع المنصرمة, وهذا ما نراه أيضاً في تشكيلة الوزارات والمؤسسات التي يرأسها شيعة أو سنة. عندها يمكن أن نفهم معنى الطائفية. ولهذا لا يجوز الالتفاف على المعنى المقصود حين يكتب البعض الطائفية وحده, بل المقصود استخدام الطائفية سياسياً لمصالح فئة معينة ضد مصالح الطوائف الأخرى. والأحزاب السياسية القائمة على أساس طائفي أو مذهبي تمارس الطائفية السياسية, أي تمارس التمييز بين المواطنات أو المواطنين على أساس مذهبي.
لم يكن العراق خال من الطائفية, سواء أكان ذلك في العهد الأموي أو العباسي أم العثماني أم في فترة العهد الملكي وفي فترة حكم الأخوين محمد عارف أو ففة حكم البعث الأولى والثانية. وهذا الواقع يتناقض مع ما يصرح به البعض بأن العراق كان خالياً من الممارسة الطائفية التمييزية وليس المذهبية السوية. وكانت فترة حكم عبد السلام محمد عارف أولاً ومن ثم فترة حكم البعث الدكتاتوري الأخيرة هي من أخس واشرس الدكتاتوريات التي عرفها العراق والتي مزجت بين الاستبداد والقسوة والقمع من جهة وبين الشوفينية والطائفية السياسية من جهة أخرى.
وكان الشعب في غالبيته العظمى ومن أتباع جميع الديانات والمذاهب الدينية ومن جميع الاتجاهات الفكرية غير الفاشية ضد الدكتاتورية والقسوة والشوفينية والطائفية السياسية وضد التمييز في الحكم والتي ومصادرة الحقوق الفردية والقومية التي جسدها نظام البعث الفاشي خلال فترة حكمه. وتصور البعض أن سقوط النظام الفاشي سيزيل الطائفية السياسية من اذهان الكثير من القوى السياسية في العراق وسيفتح الطريق أمام الديمقراطية. ولم اشترك, كما لم يشترك الكثير من الكتاب الديمقراطيين, في هذا الرأي, إذ كان يعتمد ذلك الرأي على تسطيح للواقع العراقي وإلى تصور ميكانيكي ساذج للعلاقة بين الظواهر وتداعياتها في المجتمع.
التقسيم الطائفي قد أقر من جانب العديد من قوى المعارضة العراقية منذ اجتماع دمشق في العام 1990 ومن ثم في مؤتمر بيروت (1991) واجتماع فيينا (1992) ومؤتمرات صلاح الدين (1992) ومؤتمر واشنطن (1999) ولندن (2002) المتتالية. وما حصل في فترة حكم المستبد بأمره پاول بريمر كان تنفيذاً لذلك التوزيع السابق وبالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية. لم تشعر قوى المعارضة العراقية بمخاطر هذا النهج في الفكر والسياسة, إذ أن الجميع كان مستهدفاً من جانب نظام البعث, إلا أن سقوط نظام البعث وضع المجتمع وجهاً لوجه أمام طائفية سياسية من نوع آخر لم يعرف قبل ذاك في العراق, رغم أن الطائفية السياسية هي واحدة من حيث العواقب التي تتسبب بها.   
لقد توقعت حصول هذا التوجه في السياسة العراقية بعد أن تتم الإطاحة بالنظام وخشيت منها على مستقبل العراق ومسيرة الشعب منذ التسعينيات حين صدر كتابي الموسوم "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة" في العام 1995, كما برز أيضاً في كتابي الموسوم "المأساة والمهزلة في عراق اليوم" الصادر في 2000.
أشرت وأشار الكثير من الكتاب إلى أن التحولات الجارية في أسماء القوائم ليس الدليل على تغيرات فعلية جارية على المواقف الفكرية والسياسية للقوى والأحزاب السياسية الإسلامية العراقية, سواء أكانت شيعية أم سنية, فهو تكتيك يراد منه كسب أولئك الناس الذين أصبحوا ضد الطائفية السياسية وممارساتها اليومية بسبب ما عانوا منه خلال السنوات السبع المنصرمة, وأن هذه الأحزاب, كما أرى, لم تغير من اتجاهاتها الفكرية والسياسية لأنها قائمة على هذا الأساس. كما لم ينفع كسب بعض العلمانيين والديمقراطيين إلى قوائم إسلامية سياسية في تغيير نهجها أو وصول بعضهم إلى المجلس النيابي , فهذه المسائل لم ولن تغير من طبيعة وحقيقة تلك الأحزاب. وهذا ما نعيشه اليوم إذ النتائج تشير إلى ما يلي:
** عادت القوى الإسلامية السياسية الشيعية إلى تشكيل البيت الشيعي مجدداً من حيث دمج دولة القانون بالائتلاف الوطني العراقي, فالأصل هو الائتلاف الوطني العراقي.
** ارتفاع عدد النواب الفائزين الذين مارست قواهم السياسية العنف الشديد إزاء المجتمع ومارست الطائفية السياسية بعنف وشراسة في مقابل تراجع من يسمون بالمعتدلين!
** عدم حصول الديمقراطيين والعلمانيين الذين التحقوا بالأحزاب الإسلامية السياسية, بأمل الحصول على مقعد أو وزارة, على أي مقعد في المجلس الجديد.
** دفع هذا الأمر حتى قبل الانتخابات إلى حصول استقطاب شديد للسنة في قائمة العراقية بحيث أصبحت الممثل لهم والتي لا يمكن تجاوزها بأي حال.
** من هنا نقول عادت الطائفية والمحاصصة الطائفية إلى الصدارة لتلعب دورها في تحديد مسار العمل السياسي العراقي في السنوات الأربع القادمة بخلاف ما كان ولا زال الادعاء من الطرفين!
** ولم يعد التحالف الكردستاني قادراً على التأثير كما كان في السابق أو تغيير الصيغة والمعادلة التي تريد فرضها القوائم الإسلامية السياسية الشيعية بشكل خاص, فقد تراجعت حصته من 60 مقعداً إلى 43 مقعداً. ومع ذلك فهو يعتبر بيضة القبّان ارتباطاً بتمثيله للشعب الكردي الذي لا يمكن تجاوزه في تشكيل أي حكومة عراقية.
كتب الأخ الأستاذ ضياء الشكرچي مقالاً يشير فيه إلى أن "الأحزاب الإسلامية السياسية لا مستقبل لها في العراق", وهذا الاستنتاج صحيح من حيث المبدأ وعلى المدى البعيد, ولكن علينا استكمال هذه المقولة الصحيحة بالمقولة التالية التي أدعيها بأن "مستقبل العراق غير مشرق في ظل الأحزاب الإسلامية السياسية التي تمارس الطائفية السياسية", إذ إنها ستبقى ولفترة أخرى في الحكم ولكنها سوف لن تكون لصالح وحدة الشعب وحريته العامة وحرية الفرد ولا لصالح الحياة والحريات الديمقراطية. وهذا الاستنتاج يشمل الأحزاب القائمة على أساس طائفي والتي تمارس الطائفية السياسية والتي برهنت عليها خلال الأعوام المنصرمة.
لم تعد الإدارة الأمريكية هي القوة الفاعلة في العراق, وهذا أمر جيد, ولكن الفعل الراهن في العراق هو لإيران بالدرجة الأولى وللصراع العربي الإيراني بالدرجة الثانية, أي تدخل حكام الدول العربية في الشأن العراقي, وهو الأمر السيئ حقاً. وهذا الأمر سيعقد إلى حدود بعيدة إمكانية إلغاء وجود العراق تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة, بسبب المخاطر التي يمكن أن يشكلها العراق بسبب الوجود الأمني والسياسي الكبيرين لإيران في العراق, إضافة إلى التحالف الإيراني مع سوريا من جهة, ومع بعض المليشيات الشيعية في البلاد من جهة أخرى. ولكن المشكلة تبرز أيضاً في التدخل المتواصل لحكومات بعض الدول العربية, وخاصة السعودية والخليج وسوريا.   
يواجه عراق اليوم محنة عصية بسبب نتائج الانتخابات وغياب قدرة التيار والقوى الديمقراطية العربية في التأثير على الأحداث وعلى مسار تشكيل الحكومة بسبب غيابه أو ربما تغييبه عن قبة ومقاعد مجلس النواب. ولكن هكذا أراد الشعب, وكلنا يعرف أسبابه وجرى البحث فيه كثيراً.           
ويصعب التكهن بما سيؤول إليه الوضع بشأن تشكيل الحكومة أولاً, وبشأن السياسات التي ستنتهجها في الفترة القادمة ثانياً, والمخاطر التي ستبرز بسبب نشاط قوى الإرهاب والمليشيات المسلحة على حياة ومصالح المجتمع ثالثاً.
إن التخويل الممنوح لقوى الإسلام السياسي الشيعية والسنية كبير حقاً وهو يهدد بتكريس ظاهر الاستقطاب الطائفي السياسي وما ينجم عنه من ظواهر سلبية في حياة الإنسان والمجتمع, إذ أن هذا التخويل يهدد مبدأ المواطنة الحرة ولا يسمح بتطبيق شعار "الدين لله والوطن للجميع", وفي هذا تكريس الانشطار الشعبي والممارسات غير الديمقراطية من جانب السلطة وقوى في المجتمع.
إن الوضع القائم في العراق لن يسمح بتشكيل حكومة من طرف واحد بل ستكون حكومة تشترك فيها كل القوائم الفائزة وسيجري توزيع الحقائب الوزارية وفق أسس معينة, أي وفق الاستحقاقات الانتخابية, ولكن ستبقى أوضاع الوزارات في بنيتها الطائفية السياسية وفق الحالة التي كانت عليها في العام 2005, وفي هذا تجاوز على حقوق المواطنة التي يفترض أن لا تميز بين الأفراد على أساس الدين أو المذهب أو العقيدة أو القومية أو الفكر والسياسة.
8/5/2010                      كاظم حبيب   

1089
كاظم حبيب

هل يمكن بناء الديمقراطية في العراق ؟

حين احتل الإنكليز كل العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى, كان العراق غارقاً في بحر من الظلمات العثمانية. فكانت العلل الثلاث, الجهل والفقر والمرض, سيدة الموقف في كل أرجاء العراق, وكانت هذه العلل ناشئة عن قاعدة اقتصادية متخلفة وعلاقات إنتاجية شبه إقطاعية استغلالية, حيث كانت هناك طبقتان أساسيتان تشكلان بنية المجتمع, وهما طبقة الفلاحين الفقراء, وتشكل غالبية المجتمع, وطبقة الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية, وتشكل الأقلية, وكانت بجوارهما فئات اجتماعية كادحة مثل البرجوازية الصغيرة المدينية وجمهرة صغيرة من مثقفي ذلك الزمان من خريجي المدرسة الفكرية والسياسية العثمانية. كما كانت هناك مؤسستان تهيمنان على الاقتصاد والمجتمع وعلى الوعي الاجتماعي للإنسان, وهما: المؤسسة العشائرية التي تخلت عن العلاقات الأبوية لصالح التملك الخاص للأرض الزراعية من قبل شيوخ العشائر, بعد أن كانت الأرض تستثمر من قبل أفراد العشيرة. وأصبح شيخ العشيرة هو المستثمر للأرض والمستغل لأفراد العشيرة من الفلاحين. وأصبح الفلاحون أداة لاغتناء الإقطاعيين وكبار الملاكين وعيشهم المرفه, أما المؤسسة الدينية فكانت مصالحها متشابكة مع مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين في الريف, وكانت قادرة على التأثير بالناس عبر الدين. وفي إطار هذا الواقع وفي ظل حكم عثماني أوتوقراطي كان العراق لا يعرف من المدنية الحديثة ومن حضارة المجتمع المدني الغربي شيئاً يذكر. ولم يسمع المجتمع بمصطلح الديمقراطية قبل ذاك, في ما عدا بعض الأفراد الذين تسنى لهم قراءة بعض المجلات أو الكتب أو الذين تسنى لهم السفر إلى الغرب والإطلاع على حياة مجتمعاتهم.
لهذا كان دخول البريطانيين إلى العراق واحتلاله بداية الاحتكاك مع الغرب والحضارة الغربية ومع الاستعمار الحديث ومع مصطلح الديمقراطية في آن, وبعد أن أصبح فيصل بن الحسين ملكاً على العراق في أعقاب ثورة العشرين.
حينذاك طرح البريطانيون مسودة الدستور العراقي الذي أقر في العام 1925 بعد أن نوقش وعدل في بعض جوانبه من جمهرة صغيرة من العراقيين الذكور, إذ لم يكن للمرأة في حينها مكان في المجتمع الذكوري غير البيت والحقل, وكانت مضطهدة بكل معنى الكلمة ومن كافة الجهات.
كانت المسودة وما جرى عليها من تعديلات ذات مضمون ديمقراطي لا ينسجم مع واقع المجتمع وعموم الحال في العراق, إذ لم تكن في العراق قاعدة اقتصادية واجتماعية لبناء مجتمع مدني ديمقراطي, كما لم يكن في العراق ديمقراطيون, إذ أن الديمقراطيين لا يخلقون من فراغ. فكان الدستور وحده هو الديمقراطي الوحيد في البلاد. وبسبب غياب مستلزمات وجود مجتمع مدني ديمقراطي, سار العمل في تطبيق الدستور منحاً غير ديمقراطي, منحاً شوه في الممارسة بنود الدستور وزيف وعي الناس. إذ كان هدف الانكليز الحفاظ على القاعدة الاقتصادية دون تغيير وعلى الاستغلال الإقطاعي في البلاد بجوار استغلالهم الرأسمالي. ثم نشأت, بالرغم من المستعمرين, وبسبب حاجتهم إلى استثمار ثروات البلاد واستغلال شعبها, مشاريع اقتصادية وموانئ وطرق حديثة ورؤوس أموال تتدفق في قطاع النفط الخام. ثم نشأت تدريجاً بعض الأحزاب السياسية وقلة من منظمات المجتمع المدني على غرار ما هو موجود في بريطانيا دون أن تكون لها مضامين ديمقراطية مكرسة ومستندة إلى قاعدة متينة وثابتة في أرض الواقع العراقي. وكان الديمقراطيون عملة نادرة والغالبية تستخدم الكلمة دون أن تدرك عمق مضمونها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأبعادها الحضارية.
فكان الدستور ديمقراطياً والحكم غير ديمقراطي والممارسة بشكل عام غير ديمقراطية. وحين نشأ الصراع بين الحكم والمعارضة, التي حاولت أن تكون ديمقراطية,  لم تكن تحكمه الديمقراطية بل القوة ومن يفرض نفسه بالسلاح من جانب الحكم, أو من يمتلك القدرة في السيطرة على الشارع (الأحزاب). وكان الكسب مرة لهذا ومرة لذاك ويبقى الوضع على حاله دون تغيير ولفترة طويلة.
هذه الحالة, مع الاختلاف في الزمان والأحزاب والشخوص, بدأت تتكرر في العراق منذ ربيع العام 2003. شنت حرب خارجية وفرض الاحتلال الأمريكي على العراق, رغم الحديث عن التحرير, كما في المرة الأولى ولكن من قبل البريطانيين حينذاك, بعد إسقاط دكتاتورية مريعة بلغ عمرها 35 سنة, ولكنها في الواقع يبلغ عمر الاستبداد والقسوة والقمع في العراق قروناً كثيرة.
مجتمع تسوده العشائرية ثانية ويتعاظم تأثير المؤسسة الدينية والمذهبية على وعي الناس. لقد تمكن صدام حسين من خلق وعي مجتمعي مشوه ومزيف وإرادة مفككة’ لم ينته بسقوطه بل تفاقم من أوجه معينة.
لا توجد أرضية ولا قاعدة صلبة لمجتمع مدني ديمقراطي, كما لا توجد أحزاب ديمقراطية بالمعنى السليم للديمقراطية, فالأحزاب, كما هو معروف, تشكل جزءاً من البناء الفوقي الذي يقوم على قاعدة اقتصادية معينة, وهي مكونات تنبثق من صلب المجتمع فهي البناء الفوقي الذي يمكن أن يتميز عليه بقدر ضئيل لا غير. الأحزاب لا تتعامل مع الديمقراطية حتى باعتبارها أداة, دعْ عنك أن تكون فلسفة ومبادئ وقناعات.
هذه الحقيقة المرة يلمسها المواطن والمواطنة اليوم بشكل صارخ. فليست الأحزاب وحدها لا تمتلك وضوحاً ولا تمارس الديمقراطية, بل وكذلك الكثير من الناس عموماً, إضافة إلى المصاعب التي يواجهها القضاء بسبب ما يواجهه من ضغوط وتأثير بعض الأحزاب السياسية, وكذلك المؤسسات "الدستورية" المنبثة من هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
هل نحن ديمقراطيون؟ ليس سهلاً على الإنسان العراقي, وخاصة السياسي, الإجابة عن هذا السؤال بـ "نعم", بل الإجابة أقرب ما تكون إلى "لا". وليست هذه إساءة لأحد, بل هو استنتاج يستند إلى واقع الحال وما يجري في العراق من مسرحية عمرها سنوات سبع, ولكن وبشكل خاص منذ أن بدأت الحملة الانتخابية الأخيرة. إنها تجربة تؤكد غياب الديمقراطية الفعلية عن أرض وسماء وغالبية سياسيي العراق. خذوا علاقاتنا الحزبية, سواء أكانت في داخل كل حزب أم في ما بين الأحزاب السياسية؛ خذوا اللغة التي نتصارع بها سياسياً والاتهامات بالعمالة التي لا تنفك تلصق بالناس جزافاً؛ خذوا الموقف من المال العام وما يجري الحديث عنه علناً من فساد ونهب للمال العام؛ خذوا الموقف من المرأة وحقوقها عائلياً ومجتمعياً وعلى المستوى الرسمي؛ خذوا الموقف من حقوق الإنسان المهدورة والمهضومة, ومنها حقوق المعتقلين والسياسيين والمحتجزين وما يجري من تعذيب فيها, إذ ستجدون العجب العجاب؛ خذوا الموقف من النقد الذي يوجه لهذه الشخصية السياسية أو تلك أو لهذا الحزب أو ذاك, إذ يعتبرون النقد سبة وإساءة للشخص أو للحزب, وبالتالي على المنتقد أن يتلقى الحجارة. وإذا كان بيت المنتقد من زجاج, فسيدفن تحت أكوام الحجارة! وإن لم يكن كذلك فستبقى محاولات التشويش والتشويه مستمرة لأخذ الثأر من المنتقد! يمكن أن يورد الإنسان مئات الأمثلة عن غياب الديمقراطية في طريقة تفكيرنا وتعاملنا اليومي. وهي ليست مشكلة فردية, بل هي مشكلة جمعية, وهي ليست تهمة إزاء أحد, بل هي من واقع المجتمع وعلاقاته ومستوى تطوره. خذوا الموقف من النقد الذي يوجه لهذه الشخصية السياسية أو تلك أو لهذا الحزب أو ذاك, إذ يعتبرون النقد سبة وإساءة للشخص أو للحزب, وبالتالي على المنتقد أن يتلقى الحجارة. وإذا كان بيت المنتقد من زجاج, فسيدفن تحت أكوام الحجارة! وإن لم يكن كذلك فستبقى محاولات التشويش والتشويه مستمرة لأخذ الثأر من المنتقد! خذوا أخيراً هذا المقال الذي لم يجد طريقه للنشر في بغداد بسبب صراحته وشفافيته مع المجتمع العراقي والمسؤولين في العراق!
نحن بحاجة إلى خلوات مع النفس والحديث معها بصراحة وشفافية عالية لكي نتبين مدى عمق سلوكنا الاستبدادي ومدى قسوتنا في التعامل في ما بيننا ومع الآخر. نحن بحاجة إلى معرفة المشكلات التي تعاني منها شخصيتنا التي هي من تنشئة هذا المجتمع ومن سلوك وتصرفات الحكومات العراقية المتعاقبة على مدى الحكم الوطني. ولكن هذا يعود إلى ماض سحيق سار بنا ومعنا منذ مئات السنين.
هذه ليست من بنية جينات العراقيات والعراقيين, بل هي من تربية المجتمعات والحكام الذين هيمنوا على بلادنا وحكموا شعبنا على مدى مئات بل آلاف السنين. ويكفي أن نقرأ ملحمة گلگامش لنجد كيف هذا الشاعر العبقري قد بين لنا طبيعة الحاكم المستبد مثلاً وعلاقته بالنساء, إذ لم يترك امرأة واحدة إلا ودخل فيها, أو لنقرأ ما سجل من شريعة على مسلة حمورابي. فمن 282 مادة, توجد هناك (52 مادة) تعاقب على مرتكبي الجرائم بالموت وبطرق مختلفة, وهي مساوية لعدد صيغ أحكام القتل عند الطاغية صدام حسين. 
سنبقى ندور في حلقة مفرغة نفتش عن الديمقراطية ولا نجدها وسنطالب بالديمقراطية وصوتنا يضيع في سوق الصفافير, بل سنجد ما يسمى بفوضى الحرية التي تعني بالضبط غياب الديمقراطية وتعني ما يجري اليوم في العراق.
علينا أن نبدأ بتغيير واقعنا الاقتصاد والاجتماعي, لنخلق الأساس المادي للديمقراطية, علينا تغيير مناهج التعليم في جميع مراحله في بلادنا, علينا تغيير أحزابنا وتغيير وجهة تفكيرنا وعقلانية الموقف من حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والحلول السلمية لمشكلاتنا المتنوعة. ما لم نكف عن التفكير بممارسة العنف باعتباره خير وسيلة لانتزاع أو فرض الحق,
السيف أصدق أنباءً من الكتب     في حده الحد بين الجد واللعب
ستطول الفترة حتى نستطيع بناء الديمقراطية, وستكون أطول بكثير حين لا نفكر بتغيير بنية اقتصادنا وبنية مجتمعنا, وسنبقى مجتمعاً ريعياً, استيرادياً واستهلاكياً لا غير, وبالتالي لن تتغير بنية تفكيرنا ووجهة عملنا.
أتمنى أن يختلي كل منا إلى نفسه, أن يختلي كل سياسي عراقي بشكل خاص, مع نفسه ليحاورها, ومن ثم لنتحدث ويتحدث كل فرد بصوت مرتفع بحيث يسمعه الآخرون ويساعدوا في الإمساك بما يقود إلى التغيير. إحداث ثورة في بلد ما, أسهل بكثير من تغيير ما في النفس. فهل نحن قادرون؟ إنه التحدي الكبير..
30/4/2010                     كاظم حبيب


1090
كاظم حبيب

هستيريا الصراع على السلطة في العراق ... إلى أين؟

ها نحن شهود احتدام صراع هستيري على السلطة يجري في بغداد بعيداً عن مصالح الشعب ومستقبل البلاد, صراع يتخذ طابعين ملموسين لا يمكن تغطية مضمونهما السياسيين المرفوض من قبل المتنورين من بنات وأبناء الشعب, فاحد الطرفين يلجأ إلى المدن الشيعية, كربلاء مثلاً, ليحرض على الطرف الآخر بدعوى التهديد بتدمير حي الخضراء وتدويل القضية العراقية وكأنها غير مدوّلة حتى الآن, والثاني يتغطى بعباءة قومية عربية مهلهلة يختفي وراءها عرق طائفي سني أيضاً. مع أن الطرفين والشخصيتين بالذات قد وقعا على البيان الختامي الصادر عن مؤتمر صلاح الدين في العام 1992 والذي أكد رفض الطائفية السياسية وأدان النظام الدكتاتوري ألصدَّامي لممارسته لها والذي تكرر مرات ومرات في بيانات اجتماعات ومؤتمرات المعارضة العراقية قبل وصولها إلى السلطة. وقد جاء فيه ما يلي:
" وأجمعوا [أي المجتمعين في مؤتمر صلاح الدين 1992, ك. حبيب] أن لا سبيل لوضع حد للتمييز والاضطهاد الطائفي وبالتالي للقضاء على الطائفية السياسية إلا بالقضاء على النظام القائم وتصفية تركته البغيضة ومحاولاته لدق الأسافين وزرع البغضاء والكراهية بين المسلمين الشيعة وإخوانهم المسلمين السنة، الذين هم كذلك تعرضوا للقمع على أيدي النظام مثلما تعرض العديد من أعضاء الحزب الحاكم إلى البطش بسبب رفضهم للنظام ومحاولاتهم التخلص منه ، مما يثبت أن هذا النظام لا يمثل أية طائفة أو قومية أو فئة بل هو معاد للشعب كل الشعب." [راجع ملف "مؤتمرات المعارضة العراقية" إعداد السيد محمد عثمان أمين, رئيس دائرة الإنصات في الإعلام المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني". ها قد زال النظام قبل سبع سنوات, وها نحن نتابع ما يجري في العراق فذات الأطراف التي تحالفت في العام 1992 وساهمت بالدعوة لإسقاط النظام هي اليوم اشد خصومة وأكثر استخداماً للطائفية السياسية وللمواقف القومية الضيقة التي لا تختلف قطعاً من حيث الخلفية الفكرية عن سابقاتها من السياسات الطائفية والقومية الشوفينية.
وجه السيد المالكي اتهاماً للقائمة العراقية ورئيسها, دون ذكر اسمه, بأنه يتجول في العالم ويدعو لتدويل القضية ويهدد بتدمير حي الخضراء ويعد لانقلاب سياسي على السلطة بتحالف إقليمي ودولي وداخلي مستخدمين الانتخابات لتحقيق هذا الهدف. يبدو لي أن السيد المالكي, كما كان من قبله الجعفري, غير قادر على تحمل التداول السلمي للسلطة ويعتبر ذلك انقلاباً على السلطة إن تقرر أن يكون غير المالكي رئيساً للوزراء. ويبدو أن الديمقراطية كأداة وليست فلسفة كما تحدث عن ذلك السيد علي الأديب, نائب رئيس حزب الدعوة الإسلامية, قد تخلى حتى عن كونها أداة أيضاً.
وفي المقابل وجه السيد علاوي همه لإثارة العالم الخارجي والأمم المتحدة للتدخل ومعالجة المشكلة الداخلية القائمة والتي يمكن معالجتها عبر الدستور والقضاء العراقي, رغم ما يبدو من تدخل فظ في شأن القضاء العراقي من جانب السياسيين. وهو بذلك يدعم تلك الدول التي لا تريد إلى الآن رفع العقوبة المفروضة على العراق ووجوده تحت البند السابع الذي يطالب العراق بحق رفع هذا القيد عنه.
حين يلقي الإنسان نظرة واقعية على نتائج الانتخابات يستطيع أن يقتنع بأن ليست هناك مؤامرة يراد منها قلب نظام الحكم أولاً, كما لا توجد حاجة بأي حال لتدخل دولي لمعالجة مشكلة الحكم في العراق ثانياً, بل العراق بحاجة إلى لقاء سياسي واسع يجمع كل الأطراف السياسية العراقية, اجتماع مجلس الأمن الوطني العراقي الذي يرأسه السيد رئيس الجمهورية العراقية وفيه ممثلون عن كل القوى السياسية العراقية تقريباً ليتدارس الأمر ويقرر من يكون رئيس الوزراء في ضوء نتائج الانتخابات والرؤية الصائبة لتفسير الموقف بشأن القائمة الفائزة أو الكتلة الانتخابية الأكبر.
إن ما يجري في العراق اليوم ليس سوى هستيريا مريرة تقود إلى مزيد من المرارة وترفع من مستوى الفراغ السياسي وتفسح في المجال لمزيد من العمل الإرهابي الذي لا يلوح أو يصل إلى هؤلاء السياسيين, بل يقتل بنات وأبناء الشعب مباشرة وبالجملة.
لا أجد أي حكمة في ما يمارسه السيد المالكي, ولا أسلوب تعامل علاوي مع الأزمة. فكلاهما متعطش للسلطة وينبغي أن يبتعدا عنها لأنهما وبالطريقة التي يتعاملان بها غير مؤهلين لأخذ السلطة بأيديهما, كما ليس في من طرح من الكتلة الصدرية من هو ملائم للسلطة. وعلى القوى والأحزاب السياسية أن تفتش عن شخصية تجمع بين الحكمة والثقافة والوعي بالمسؤولية إزاء الشعب ومصالحه ومستقبله بعيداً عن تأثيرات دول الجوار أو القوى الدولية التي يتهمها المالكي بالتدخل بالشأن العراقي وهو المتعاون مع بعضها, كما يتعاون علاوي مع بعضها الآخر.
لا أجد ما يؤيد وجود رغبة لإحداث انقلاب سياسي. والأكثرية كانت ضامنة للكتلة الشيعية الكبيرة أن تشكل الوزارة بالتعاون مع التحالف الكردستاني حتى في حالة رفض الكتلة الصدرية للمالكي, ولكن الأجواء التي خلقها المالكي لا تساعد على قبوله لرئاسة الوزارة. كما أن علاوي غير مقبول من غالبية الشعب العراقي, كما ألاحظ ذلك من نتائج الانتخابات رغم حصول قائمته على مقعد واحد أزيد. ومن هنا تأتي أهمية التحري عن شخصية وطنية قادرة على العمل بانسجام مع جميع الأطراف, شخصية محايدة ولكنها واثقة من نفسها وقادرة على جمع الكلمة لا تفتيتها ومواجهة كل قوى الإرهاب والمليشيات المسلحة, وأن بدت غير مسلحة حالياً فهي موجودة ومستعدة في كل لحظة إلى أخراج وتنظيف واستخدام سلاحها الذي لم يقصر في قتل العراقيات والعراقيين في سنوات ماضية.       
أتمنى أن يقلل السياسيون العراقيون من خطبهم النارية التي ترمي المزيد من الحطب على النيران الطائفية التي أصلاً لا تزال غير خامدة, أتمنى عليهم أن يفكروا بالشعب ومصالحه لا بالكرسي الوزاري الأول. نحن أمام عملية انتخابية لها استحقاقاتها وعلينا القبول بنتائجها, رغم الاختلالات فيها والتي بدأت مع مواد القانون ذاته وتجاوزه على الشرعية الدستورية من حيث المبدأ.
ليس من مصلحة أحد أن يستمر الوضع الراهن, إذ أن لذلك تداعيات وعواقب ليست في مصلحة الشعب ولا في مصلحة جميع الأطراف السياسية العراقية. فليدعو السيد رئيس الجمهورية إلى اجتماع يضم كل القوى السياسية العراقية للتداول وإيجاد مخرج للأزمة الراهنة قبل أن تتحول إلى كارثة جديدة في العراق.           
1/5/2010                     كاظم حبيب

1091
كاظم حبيب
هل سيبقى الهم العراقي خلف ظهور الفائزين بالانتخابات؟

جميل أن يتخلص المجتمع من قتلة مجرمين تسببوا في موت المئات بل الآلاف من بنات وأبناء الشعب العراق وخربوا البلاد ودمروا البنية التحتية  وشاركوا في تعطيل البناء والتنمية من أمثال أبو أيوب المصري وأبو عمر البغدادي أو قبل ذاك الزرقاوي, وهو عمل لا شك يحسب لصالح المسؤولين, وخاصة أجهزة الأمن والشرطة وقوات الجيش ومن تعاون معهم وساعدهم في إنجاز هذه المهمة غير السهلة. ولا شك في أن هناك الكثير من هذه العناصر الخبيثة والتي تقف خلفها منظمات إرهابية يفترض دحر مخططاتها الشريرة الموجهة ضد وحدة الشعب العراقي ومن أجل إشعال الفتن الدينية والطائفية في البلاد.
وعلى أهمية هذه الخطوة والتي لا يجوز التقليل منها, إلا أن المسائل الأساسية التي تهم الشعب العراقي أيضاً والتي تفسح في المجال إمكانية فعلية لإزالة العوامل التي تسمح بوجود الإرهابيين والنشاط الإرهابي, وأعني بذلك سبل معالجة المشكلات الأساسية التي تواجه المجتمع جنباً إلى جنب مع مكافحة قوى الإرهاب والفتنة في البلاد, هي التي يفترض أن تحتل موقع الصدارة في المعالجة لا أن تهمل تحت ضغط الصراعات السياسية الراهنة.
فهناك أولاً إشكالية تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتهاء من التيقن من النزاهة النسبية التي تمت بها عملية فرز الأصوات في الانتخابات العامة الأخيرة وفق القرار الأخير لمحكمة المفوضية, والتي تستوجب الاتفاق على رئيس الوزراء وعلى بقية المشاركين في الحكم, إذ من الصعب حقاً تسيير دفة الحكم بحكومة تصريف أعمال وعدم عقد اجتماعات لمجلس النواب, بغض النظر عن رأي الناس فيه. كما لا بد من مواصلة الجهد السياسي لتفتيت البؤر السياسية الإرهابية التي تمارس القوة والعنف والسلاح في مقارعة الحكم القائم من خلال ممارسة سياسة حصيفة قادرة على تحقيق الفرز الواقعي بين تلك العناصر والكتل بما يسهم في شلها عن العمل وإبطال مفعول تأثيرها وعزلها عن الكثير من قواها وعن المجتمع. ومثل هذه السياسة تتطلب تخلصاً واقعياً من المحاصصة الطائفية التي لم تنته مع هذه الانتخابات بل تكرست بطريقة أخرى, وهي إشكالية تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد والجدية في مكافحتها. ولدي القناعة الشخصية بأن من الصعوبة بمكان, إن لم يكن مستحيلاً, الخلاص منها بوجود أحزاب تؤمن أصلاً بالطائفية السياسية لأنها قائمة من حيث المبدأ على أسس مذهبية متناحرة.
المشكلات التي تؤرق الشارع العراقي في يومنا هذا كثيرة وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي الصعب حيث البطالة الواسعة والفقر الكثير في المناطق الفقيرة والكادحة من العراق والتي يقع أغلب سكانها تحت خط الفقر المعترف به دولياً للدول النامية, إضافة إلى غياب الجهد, رغم وجود وزارة تخطيط, لوضع إستراتيجية للتنمية والجدوى الاقتصادية وإعادة بناء الاقتصاد العراقي بإقامة المشاريع الصناعية أو توفير مستلزمات تطوير وتحديث وتنشيط القطاع الزراعي وتعزيز العمل لإنجاز مشاريع البنية التحتية وخاصة الماء والكهرباء والصحة والتعليم..., بل يبدو أن كل الجهد موجه الآن لصالح الاستيراد, فهو الأسهل للمسؤولين, في حين أنه, وكما يجري اليوم, يشكل إساءة كبيرة للاقتصاد الوطني وبنية الدخل القومي وهدراً للموارد المالية وتقليصاً لقدرات التشغيل وتحقيق التراكم المنشود للثروة الوطنية, إنها وبالصورة الجارية تعتبر شكلاً فاضحاً من أشكال إفقار المجتمع والاقتصاد الوطني.
إن الانشغال السياسي للفائزين بالانتخابات في الصراعات والحوارات اليومية وتعطيل عمل الوزارات وجهدها لوضع إستراتيجية تنمية وطنية شاملة من جهة, وتوزيع ذلك على خطط وبرامج ومشاريع توضع قيد التنفيذ من جهة ثانية, هو الذي يساهم في تهيئة المناخ الداخلي العراقي لنشاط الإرهابيين. كما أن استمرار الفساد المالي والإداري يمنح الإرهابيين فرصة ثمينة لتمرير عملياتهم الإرهابية وتنفيذها في الزمان والمكان المرغوبين منهم.
نحن أمام سلة كاملة من المهمات السياسية والأمنية والإعلامية والتنويرية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية, والأمر الوحيد القادر على وضع كل تلك المهمات في مكانها وزمانها المناسبين يتلخص في توفر رؤية واقعية سليمة وعقلانية لدى الأحزاب السياسية الحاكمة لما هو مطلوب إنجازه في العراق على المديين البعيد والقريب, أي أن يتجلى ذلك في إستراتيجية تنمية اقتصادية وبشرية قادرة على استثمار قدرات العراق المالية, وخاصة إيرادات النفط الخام, والبشرية لتحقيق إعادة الإعمار وتغيير وتطوير البنية الاقتصادية مقترنة بسياسات مالية ونقدية سليمة, باعتبارها الأداة التنفيذية لإستراتيجية التنمية الوطنية. وهنا لا بد من العمل الجاد من أجل توزيع عقلاني لموارد النفط المالية, أو عموم الدخل القومي, بين حصتي التراكم والاستهلاك, بما يساعد على تنشيط عملية البناء وتحقيق التراكم الرأسمالي الضروري من جهة, ويوفر مستلزمات الاستهلاك الفردي والاجتماعي أو الخدمات العامة من جهة أخرى. وبغير ذلك سوف تكون قضايا الشعب الملحة ومطالبه العاجلة قد تركت خلف ظهر الفائزين في الانتخابات وبعيداً عن أي شعور بالمسؤولية إزاء المجتمع والاقتصاد الوطني.       
24/4/2010                     كاظم حبيب



1092
كاظم حبيب

الفاشيون المجرمون يوغلون بدماء الشعب العراقي...!

المجرمون القتلة يمارسون مهنتهم يومياً وينجحون في اختطاف أرواح الأبرياء من نساء ورجال وأطفال بالجملة, هؤلاء القتلة الأوباش يمارسون فعلتهم ويقبضون عليها إما المال الحرام, وإما الأجر الذي وعدوا به من شيوخهم, الأكثر خسة ودناءة وكراهية منهم لبني البشر, في السماء ويوم الحساب!!
يفترض أن لا نتوقع من هؤلاء المنحطين سلوكياً والمتحجرين عقلياً والمتخلفين حضارياً أن يكفوا عن ارتكاب جرائمهم كلما تسنى لهم ذلك وكلما وجدوا أناساً أغبياء مشوهين دينياً ومؤمنين كقطعان الغنم ومعوزين مالياً على استعداد لتنفيذ مثل تلك المهمات الحقيرة, مهمات قتل الناس الأبرياء في شوارع العراق وفي عاصمة السلام الغائب بغداد.
ولكن ماذا على الحكومة والشعب والقوى السياسية أن تفعله؟ ما هي مهمات هذه القوى التي تتحدث ضد هؤلاء المجرمين؟ ما هي مهمات الجيش وقوات الأمن والشرطة؟
ليس في العراق من يقف أمام طلسم لا يفك أو سر غير مكشوف, فالجميع يعرف ما يفترض فعله, وخاصة الحكومة وأجهزتها المختلفة. فلماذا إذن لا يمارس ما ينبغي القيام به لوأد الإرهاب في العراق؟
نحن أمام عدو مصمم على تخريب كل شيء في العراق, والعدو ليس واحداً بل عدة أطراف متشابكة ومتعاونة. وهذه الأطراف تستند في ذلك إلى الوعد الذي قطعه الدكتاتور صدام حسين بأنه لن يترك العراق إلا وهو أنقاض وخرائب وأشلاء. وهو نفس الوعد الذي قطعه المجرم أسامة بن لادن على نفسه في أن يشعل نار الفتنة الطائفية في العراق ليدمر العراق وأهله. كما أن هناك من يحاول أن يعيد تأهيل نفسه عسكرياً للعودة غلى الساحة العراقية, وأن كان لم يخرج منها أصلاً!!
ومن هنا تبرز المهمة الكبيرة والصعبة والمتعددة الوجوه التي لا أعجز ولا أمل من تكرارها وتأكيدها باعتبارها الطريق الوحيد والضامن للنجاة من إرهاب القتلة المرسلين من دول الجوار وقوى فيها ومن جماعات داخلية متعاونة معها لتخريب الحياة العامة في العراق.
نحن أمام الواقع التالي:
** حكومة تصريف أعمال معطلة في أعمالها عملياً؛
** أحزاب وقوى سياسية ذات خلفيات ومصالح طائفية وشخصية تتصارع في ما بينها على رئاسة الحكومة لتنفيذ أجندتها الخاصة؛
** أجهزة أمنية منشغلة لوحدها بمطاردة القتلة وهي في بعضها مخترقة؛
** ولكن الشعب بأغلبيته بعيد عن هذا وذاك لأنه مبتلى بأوضاعه ويسعى إلى تأمين خبز يومه وتدبير أمور حياته.
وحين يغيب تعاون الشعب مع الحكومة وأجهزتها, عندها يصعب حقاً على أجهزة الأمن والشرطة والجيش وضع يدها على هؤلاء القتلة والقبض عليهم قبل تنفيذ مخططاتهم الإجرامية, خاصة غذا كان هناك من هم في الحكم أو حواشيه يدعمون قوى الإرهاب بصيغ شتى.
لن تستطيع الحكومة العراقية إنهاء الإرهاب في العراق وإيقاف نزيف دم الشعب ما لم تعمل الحكومة والأحزاب التي تقف خلفها على تأمين جملة من المهمات التي يفترض تنفيذها دفعة واحدة, فهي أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية, إنها السبيل الوحيد لمواجهة قوى الإرهاب بقوى الشعب وليس بغيره. وهي الأداة التي لم تتحقق حتى الآن, لأن الشعب ورغم منحه الأصوات لهذه القائمة أو تلك, لا يزال غير واثق منها, وهي إشكالية تكمن في غياب المصداقية لدى الشعب إزاء الحكومة وتلك القوى.
لم يكن المحرك لمنح أصوات الناخبات والناخبين برامج وأهداف تلك القوى والأحزاب, بل انتمائها المذهبي أو الطائفي السياسي, وهو ما تجلى بصيغة توزيع الأصوات بين جنوب العراق وغربه, حتى أن قوى ديمقراطية راحت لتلتحق بها من منطلقات عدة.
ما لم يتحرك الشعب ضد قوى الإرهاب سيصعب حقاً على الحكومة العراقية تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد. ولا يمكن كسب الشعب بالنداءات الطيبة وإثارة المشاعر الوطنية, إذ لم تعد كافية قطعاً, ما دام الفساد سيد الموقف, وما دام الصراع على المقاعد يحتل مركز الصدارة في عمل القوى السياسية وما دام المواطن والمواطنة منزويان في ركن مهمل من برنامج الحكومة أو القوى السياسية التي تمتلك الأكثرية وبيدها زمام المبادرة, ما دامت البطالة واسعة والفقر منتشر والفجوة بين الأغنياء والفقراء في تفاقم, وما دام الإنسان المستقل عن الأحزاب الحاكمة لا يجد له موقعاً في هيئات وأجهزة الدولة ووظائفها العليا, وما دامت المحسوبية والمنسوبية والحزبية والمذهبية الضيقة هي سيدة الموقف في كل ذلك.
تشعر المواطنة ويشعر المواطن في عراق اليوم أنهما غريبان في وطنهما, إنه الاغتراب الفعلي الذي يعاني منه الإنسان العراقي, الاغتراب عن الحكومة ومجلس النواب ومجلس الرئاسة وعن سياسات هذه الرئاسات ومواقفها.
على حكومة تصريف الأعمال والحكومة القادمة, وعلى الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة في البلاد أن تعيد النظر بسياساتها ومواقفها وبرامجها وأساليب وأدوات عملها, أن تسعى إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء هذه الغربة التي تحكم العلاقة بينها وبين الشعب رغم الأصوات الممنوحة لها, فهذه الأصوات ليست تزكية لها, بل ناجمة عن استقطاب طائفي سائد في العراق والذي اشتد من جديد قبل الانتخابات العامة الأخيرة بأسابيع وبفعل سلوك رئيس الحكومة والقوى المنافسة له وما طفح من ذلك في الإعلام العراقي وعلى الصعيد الإقليمي.
سيبقى القتل ديدن القوى الإرهابية, فكيف نحرك الشعب كله لمواجهة هؤلاء المجرمين؟ إنها مهمة الحكومة وكل القوى السياسية العراقية, إنها المهمة العاجلة والملحة التي تجمع بين المهمات السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنويرية والإعلامية والتي على الحكومة والقوى السياسية استيعابها والتفاعل معها وممارستها. علينا أن ندرك بأن مؤامرة تحاك خارج الحدود لخلق ما يماثل حزب الله اللبناني في العراق. ولن يكون بعيداً تلمس ذلك ممن لم يتلمسه إلى الآن.
24/4/2010                      كاظم حبيب           


1093
كاظم حبيب
هل من جديد في تجربة القوى الديمقراطية – العلمانية في العراق؟
(1)
حين يمر الإنسان بتجربة معينة, وحين تكون هذه التجربة لا تمسه وحده بل تمس جمهرة كبيرة من البشر أو شعباً بأكمله, عندها, وحين يمتلك الثقة بالنفس, سيسعى بكل جدية ووعي بالمسؤولية إلى معرفة عناصر ومراحل التجربة من بدايتها إلى نهايتها ومروراً بتفاصيل التحضير لها والحوارات مع الآخرين بشأنها ومسيرتها ومن ثم نتائجها. هذا هو طريق البحث في التجربة, طريق البحث العلمي المسؤول الذي يقف عند دراسة التجربة بكل تفاصيلها من موقع الحياد الفعلي بهدف الوصول إلى استخلاص الدروس منها والتمعن في سبل الاستفادة منها في قادم الأيام. وبغض النظر عن مدى نجاح أو فشل تلك التجربة الذي يمكن أن يتجلى بنتائج الجهد, فلا بد من تقييمها وتقويمها لصالح المستقبل. وبدون هذه المراجعة الصادقة مع النفس لا يمكن التقدم خطوة إلى أمام. وهذه هي مسؤولية كل فصائل التيار الديمقراطي العراقي على امتداد الساحة العراقية ومن جميع القوميات, ولا يمكن إعفاء أي فصيل عن هذا التقييم والتقويم.
خلال الأعوام المنصرمة مرت القوى الديمقراطية والعلمانية العراقية بتجربة الانتخابات ثلاث مرات, التجربة الأولى 2005 (انتخابات برلمانية عامة) والتجربة الثانية 2009 (انتخابات مجالس المحافظات) والتجربة الثالثة 2010 (انتخابات برلمانية عامة).
والتجارب الثلاث غنية بالدروس والعبر لمن يريد أن يتعلم منها ويستفيد في قادم الأيام منها. يدعي البعض أحياناً بأن النجاح في أي عمل يخوضه الإنسان لا يقاس بالنتائج, ولكن هذا القول ناقص, فالنتائج لها أهمية كبيرة حين يرتبط الأمر بالمجتمع وقضاياه الأساسية والتحولات المنشودة في البلاد. النجاح ليس وحده, ولكنه مهم جداً للمسيرة اللاحقة. ولكن الفشل يفترض أن لا يخلق الإحباط والعجز عن التفكير بوضوح وطرح الأخطاء والنواقص بجرأة ومحاسبة النفس قبل محاسبة الآخرين أو وضعها على شماعة الظروف الموضوعية وحدها.
خاضت القوى الديمقراطية, وهي قوى كثيرة وليست قليلة في العراقً حقاً ولها ماضٍ مشرف, الانتخابات بصورة منفردة عموماً ومبعثرة على قوائم صغيرة وضعيفة. وكان البعض الكثير يعرف منذ البدء أن الحظ في فوزه ضعيف, إذ أن نشاطه لم يكن بالمستوى المطلوب. وهكذا كان, إذ توزعت القوى والعناصر الديمقراطية في العراق لا على قوائم منفردة وصغيرة حسب, بل وتبعثر بعضهم ليدخل في قوائم كبيرة, ولكنها من وجهة غير وجهته التي ناضل ويناضل من أجلها وفي قائمة ليست من طبيعة فكره وسياساته ومقاصده, بل هي من طبيعة فكرية وسياسية وأهداف أخرى. هذا التبعثر والتشتت وركوب الرأس والعناد من جهة, وهذه الرغبة في التفرد والشعور بالقوة والقدرة على تحقيق ما لا يستطيع غيره تحقيقه وأن مهمته أن يترأس قائمة حتى لو كانت من عدة أفراد ولو لم يكتب لها الفوز من جهة أخرى, قد أعطى أكله المُرة لجميع القوى الديمقراطية دون استثناء. التجربة ضرورية والتعلم منها ضروري أيضاً, ولكن الوقوع في فخ التجارب المتكررة ليس عيباً حسب, بل وإساءة للمجتمع الذي يراد تمثيله أو النيابة عنه والدفاع عن مصالحه. ويفترض التعلم من قول المؤمنين: "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين", فكيف والحال حين يلدغ الإنسان الديمقراطي والعلماني أكثر من مرتين. فهل ستتعلم قوى التيار الديمقراطي من تجاربها المنصرمة؟ هم وحدهم قادرون على الإجابة عن هذا السؤال, هم الذين يعملون ويتحملون مسؤولية عملهم.
لم تكن هذه المعركة الانتخابية حاسمة قطعاً, بل كانت مجرد دورة انتخابية مهمة لم يستعد لها الديمقراطيون والعلمانيون كفاية ولم يجدوا سقفاً يجتمعون تحته ويتفقون على قواسم مشتركة تمس حياة ومصالح الشعب كله ويمارسون دورهم النضالي من خلال البرنامج المشترك. كما لم تكن هذه الانتخابات تحدياً ديمقراطياً للقوى الإسلامية السياسية ولا لغيرها, فميزان القوى كان منذ البدء واضحاً, ولم يكن يحتاج الإنسان إلى عبقرية استثنائية ليقدر نتائج هذه الانتخابات. لم تكن هناك مفاجئات كبيرة, وقد حاولت الإشارة إلى ذلك في مقال لي نشر في الأسبوع المنصرم في جريدة المدى الغراء.
السؤال هو: ماذا تحتاج قوى التيار الديمقراطي للمنازلة السلمية والديمقراطية في الدورة الانتخابية القادمة؟
يبدو لي أن القوى الديمقراطية والعلمانية بحاجة أولاً إلى ثلاثة أسس للعمل المشترك:
** الاعتراف المتبادل بالوجود والحق بالعمل المستقل والتواضع الجم في التعامل المتبادل في ما بين قوى هذا التيار وسعيها للتقارب في ما بينها.
** الاعتراف بأن الانفراد لا يساعدها على تحقيق نتائج إيجابية بل يشتت قوى التيار وأصواتها ويباعد بينها ويضعف تدريجاً حماس العاملين والناخبين. 
** أهمية وضرورة الإدراك بأن الفرقة تضعف الجميع والتجمع يعزز الجميع ويساعدها على تشكيل فريق عمل يعتد به ويسمع رأيه ويحقق للناس مكاسب مطلوبة.
إذ اتفقنا على ذلك عندها نحتاج ثانياً إلى عدة مسائل أخرى:
1 . تعبئة كل قوى التيار الديمقراطي للعمل في صفوف الشعب, وخاصة تلك الفئات الاجتماعية التي تسعى قوى التيار الدفاع عن مصالحها وإرادتها وحقوقها, وهي فئات واسعة وكثيرة في المجتمع العراقي ببنيته الاجتماعية الراهنة. إذ أن علاقة هذه القوى بالشعب ضعيفة وتأثيرها على فئاته المختلفة معطلة إلى حدود بعيدة. وخلال العقود المنصرمة حلت قوى أخرى محلها لا يمكن إزاحتها إلا بالعمل الدءوب والكفاح من أجل كسب ثقة هؤلاء الناس.
2 . الإدراك بأهمية دور المرأة في المجتمع ومعاناتها اليومية وكذا الشباب, وبالتالي ضرورة التوجه صوبهم والسعي لتأمين تأييدهم من خلال نشاطات وفعاليات وأعمال تضامن في ما بين فئات المجتمع.
3 . عقد ندوة مشتركة لمناقشة نظام عمل وبرنامج نضالي سلمي وديمقراطي خلال السنوات الأربع القادمة يطرح منذ الآن وليس قبل الانتخابات بفترة قصيرة بحيث لا يصل إلى عيون وأسماع الناخبات والناخبين إلا في فترة متأخرة جداً.
4 . العمل المسؤول والموضوعي, سواء أكان في المجلس النيابي أو من خارجه, كمعارضة وطنية ديمقراطية تزن الأمور بمنظار مصالح المجتمع وسيادة الوطن واستقلاله وإنهاء وجود القوات الأجنبية وفق الاتفاقيات المعقودة, إضافة إلى مساندة كل جهد يبذل من أجل إنهاء وجود ونشاط قوى الإرهاب. 
5 . الاتفاق على أن نجاح أي مرشح في الانتخابات القادمة من أي فصيل في التيار الديمقراطي يعتبر مكسباً للجميع, وبالتالي إبداء المرونة والاستعداد للقبول بمختلف المرشحين وبشكل موضوعي من أجل إنجاحه في دائرته الانتخابية وليس التنافس معه بحيث تضيع أصوات ناخبي هذه الكتلة أو تلك في التيار. ولا بأس في اختيار عناصر ديمقراطية مستقلة, سواء أكانوا من بين المثقفين أو الكسبة والحرفيين أو العمال, لكي يصبحوا مرشحين لكل قوى التيار حين تكون لهذه الشخصيات سمعتها الطيبة ومقبولة من الأوساط الشعبية ويقدر نجاحها.
6 . ومن النافع حقاً أن تبذل الجهود للحصول على إمكانية فتح قناة فضائية تعمل لصالح كل قوى التيار الديمقراطي وتقاد من هيئة تنتخب أو يجري اختيارها من قوى التيار, إذ أن هذا التيار هو بحاجة ماسة إلى صوت إعلامي يجسد رؤية قوى التيار لمستقبل العراق ويمكن وصوله إلى الكثير من الناس في الداخل والخارج.
 لا شك أن وعي دروس التجربة شيء والتعلم منها وممارستها شيء آخر. ولكن لا بد من النضال من أجل أن يلتقيا الوعي والممارسة ليحققا ما هو منشود, إذ لا طريق آخر غير هذا الطريق من أجل أن يُسمع صوت التيار الديمقراطي وأن يساهم في رسم سياسة البلاد وتحقيق مصالح الشعب واحترام أرادته. ولا بد أن تتحرك قواعد قوى التيار الديمقراطي والمؤيدين لها ومن يريد أن يراها في المجلس النيابي أو أن تشارك في الحكم لصالح الشعب, أن يلعب دوره في الضغط على كل قيادات قوى التيار لدراسة التجربة وتعميم دروسها بكل وضوح ومسؤولية وبعيداً عن التبرير بأي شكل كان, فالتبرير لن يسهم في الاستفادة من دروس التجارب المنصرمة.
16/4/2010                        كاظم حبيب
 

1094
كاظم حبيب
رسالة شكر وتقدير واعتزاز

السيدات والسادة الكرام
الأخوات والأخوة الأعزاء
الصديقات والأصدقاء الأعزاء

أتوجه بالشكر والامتنان إلى كل الذين شاركوا بالمجيء إلى برلين أو تكرموا وأرسلوا تحياتهم الأخوية أو كتبوا المقالات تهنئة لي ببلوغي سن الخامسة والسبعين, أو قدموا الهدايا والزهور, أو من اتصل عبر الهاتف راجياً لهم جميعاً موفور الصحة والسلامة وطول العمر والحياة السعيدة والهانئة.
تحية شكر وتقدير إلى كل المنظمات المدنية الديمقراطية العربية والكردية والتركمانية والكلد-آشورية والقوى السياسية في الداخل والخارج التي تكرمت ووجهت لي التهاني بهذه المناسبة الخريفية السائرة بي نحو شتاء قارص لا شك فيه حيث يحتاج الفرد فيه إلى هذا الدفء الإنساني النبيل.
أوجه شكري الجزيل إلى أصدقائي في اللجنة التي تشكلت وهيأت دون علمي وعملت على تنظيم الاحتفاء وأرهق الأحبة أنفسهم بعمل إضافي راجياً لهم الصحة والعافية والعمر المديد.
تحية لمن وجد في إقامة مثل هذا الاحتفاء تجاوزاً عليه أو على قيم يؤمن بها ولأي سبب كان أو من وجه النقد المباشر أو غير المباشر لي ولمسيرتي المتواضعة المنصرمة, وكل أمل أن امتلك القدرة الكافية في الاستفادة منها, فالنقد ينير طريق الإنسان لا يعتمه. وسأبقى أمارس النقد في خلوة مع النفس أو بصوت مرتفع إزاء نفسي ومع من اعتقد بضرورة ممارسة النقد مع ما يفعل أو يكتب متجنباً الإساءة أو الاستفزاز.
أرجو أن يقبل الجميع مني كل الود والشكر والامتنان وقد وضعوا طوقاً سليماً حول عنقي, إذ سأبقى على العهد الذي قطعته على نفسي أن أحترم الرأي والرأي الآخر مع احتمال الاختلاف, واحترام حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحق الإنسان باعتناق ما يراه مناسباً ومقتنعاً به والتزام قضايا الشعوب ومن أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام ودفاعاً عن مواقف ومواقع اليسار الديمقراطي التقدمي في العراق وخارجه.
سأبقى أميناً لتراث شعبنا العراقي وقيمه الحضارية والثقافية المتعددة وحضارة وثقافة بقية الشعوب ومن أجل التفاعل والتبادل في ما بينها وبين كل قوميات العراق ودفاعاً عن المضطهدين والمغتصبة حقوقهم في العراق وخارجه. وسأبقى أميناً لحق شعبنا العراقي بكل قومياته في الحياة الآمنة السعيدة بعيداً عن الاستبداد أياً كان صيغة ظهوره وضد الإرهاب والقتل والتدمير وضد الهيمنة الأجنبية بكل أشكالها ومن أجل استعادة العراق لاستقلاله وسيادته الكاملة على أرضه بعيداً عن التدخل الخارجي ومن اجل ضمان أفضل العلاقات مع دول الجوار والدول العربية الصديقة والشقيقة. 
لكم مني جميعاً الاحترام الفائق والاعتزاز الصادق والود.
كاظم حبيب
برلين في 19/4/2010

1095
كاظم حبيب
قراءة حزينة في كتاب
شاهد عيان [ذكريات الحياة في عراق صدام حسين]

اسم الكتاب: شاهد عيان (ذكريات الحياة في عراق صدام حسين)
اسم الكاتبة: جُمان كبة
دار النشر: الوراق للنشر - لندن والفرات للتوزيع – بيروت
سنة الإصدار: 2009
اللغة الأصلية للكتاب: الإنجليزية, وصدر في الولايات المتحدة في العام 2003
الترجمة العربية: معينة نايف الغنام
عدد الصفحات: 279 صفحة   

تصدر سنوياً الكثير من الكتب السياسية التي تفضح بصورة علمية موثقة طبيعة الدكتاتوريات وممارسات القسوة التي ينتهجها الدكتاتوريون وطغمهم الجائرة والفاسدة في التعامل مع الإنسان الفرد ومجتمعاتهم. كما تُنتج الكثير من الأفلام في هذا الشأن أيضاً. وهي دون أدنى ريب تلعب دوراً مهماً في رفع وعي الإنسان بضرورة مواجهة الاستبداد والقسوة ومحاولة تحصين الإنسان بمبادئ تقيه من الوقع بشباكها.
ورغم صدق تلك الكتب وصواب ما فيها من معلومات قيمة, إلا أنها غالباً ما تخاطب العقل وحده, وهي بذلك تعجز عن الولوج إلى قلب وعاطفة الإنسان لأنها جافة, وهي بخلاف تلك الكتب التي تكتب من شهود عيان يشكلون جزءاً من تلك العائلات التي عاشت تحت وطأت تلك الأنظمة وعانت مرارتها, إذ أنها تلج العقل والقلب في آن واحد وتحرك جميع مشاعر الإنسان دفعة واحدة وتضعه أمام واقع وحقيقة الدكتاتورية وتعري أساليبها وأدواتها بكل بساطة وبيقين لا يتزعزع وثقة بالنفس.
مثل هذه الكتب تضع القارئات والقراء وجهاً لوجه أمام عمق مأساة الإنسان ومصيره المعلق في الهواء وكذلك تحث القلق والأرق اللذين يفتكان بأعصاب الإنسان وينهشان حالته النفسية. ومثل هذه الكتب لا تقتصر على شرح حالة شخص واحد أو عائلة واحدة حسب, بل هي تقدم نموذجاً حياً لما يجري في المجتمع كله, وتفضح بشكل إنساني معبر عن أوضاع المجتمع الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تعيش تحت وطأتها تلك العائلات أو أولئك الأفراد والعواقب الوخيمة التي تترتب على مصائر هؤلاء الناس.
صدرت الكثير من الكتب وصورت الكثير من الأفلام عن هؤلاء المستبدين القتلة وعن جلاوزتهم ومخابراتهم, وكانت قيمة ومفيدة وساعدت منظمات حقوق الإنسان على ملاحقة هؤلاء الأوباش الذين يولغون بدماء الوطنيين الشرفاء من الناس. ولكن فلماً بسيطاً واحداً سجل عن حياة دكتاتور كوريا الشمالية السابق كيم إل صونگ ووالد الدكتاتور الجديد كيم إل يونگ وهو يحتضن أطفالاً صغاراً ويقبلهم, استطاع ببساطة كبيرة تجسيد طبيعة هذا الدكتاتور الذي كان يمارس الأبوة والهيمنة الشمولية لا على أطفال كوريا الشمالية, بل على المجتمع الكوري الشمالي كله. وحين نستعيد في الذاكرة تلك الصور التي نشرتها وعرضتها أجهزة الإعلام العالمية عن صدام حسين وهو يحتضن أطفالاً أجانب في إحدى مناطق العراق حين احتجزهم كرهائن ودروع بشرية ضد احتمال ضربات الطيران الأمريكي لبعض المواقع العسكرية في العراق, إذ أنها عجزت عن تقديم صدام حسين كإنسان يحب للأطفال أو يحنو عليهم, بل جسدت فيه روح الكراهية للإنسان والحقد على البشرية ووضعت أمام أنظار العالم بشاعة هذا الرجل وسخريته بالرأي العام العالمي.
في الكتاب الذي قرأته للسيدة جُمان كبة يعتبر من بين تلك الكتب ذات الصدقية العالية والشفافية في عرض الأحداث والأحوال وفيها الكثير من القوة الفاعلة والدافعة نحو القناعة بمضامين الكتاب وفي قدرة كلماته على الولوج السريع إلى قلب الإنسان وإلى عقله, حيث تستقر فيهما, إذ تضع الإنسان أمام حقائق عاشت الكاتبة يومياً وكل ساعة تحت وطأتها وهي ما تزال طفلة, ثم عاشت معاناتها وهي ما تزال صبية ولسنوات طويلة بلغت 35 عاماً.
طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها 8 سنوات ثم صبية لا يتجاوز عمرها 13 أو 14 سنة تعيش مأساة عائلتها وتستقر في الذاكرة لتتفاعل طوال ثلاثة عقود لتصدر بعدها ذلك الخزين المعرفي في كتاب يجسد تلك المرحلة بكل أبعادها ومآسيها وكوارثها. إنها لا تعيش مأساة ومصير عائلة عراقية طيبة من أوساط المتعلمين والمثقفين فحسب, بل هي بهذا الكتاب تجسد للقارئة والقارئ مأساة شعب بكاملة من أقصى الشمال وكُردستان إلى أقصى الجنوب.
عائلة متعلمة ومثقفة تنحدر من فئات اجتماعية متوسطة. الوالد مهندس والوالدة معلمة, وهما لا يتدخلان بالسياسة وغير منتميين إلى حزب سياسي. لهما ثلاث بنات وثلاثة أولاد. العائلة تعيش بهدوء واستقرار وراحة بال. الأب والأم يمارسان عملها الوظيفي بكل إخلاص ومسؤولية. تربيتهما المنزلية, وهما من مدينتين مختلفتين (بغداد والموصل), جعلتهما يحترمان الإنسان وحقه في العمل والحياة والعيش بكرامة وحب الوطن وخدمة الشعب. والعائلة لا تطمح إلى أكثر من ذلك. هذه العائلة الطيبة لا تختلف عن عشرات بل مئات ألوف العائلات العراقية التي تريد العيش بهدوء واستقرار وسلام مع النفس ومع الآخرين وتمارس عملها لصالح الوطن. وهي لا تهتم في من يكون في السلطة ما دام يمنحها هذه الفرصة, فرصة الحياة الهانئة والكريمة والمستقرة. والسؤال الذي يدور في البال دوماً والذي أجابت عنه هذه الكاتبة المقدامة هو: هل يمكن لمثل هذه العائلة, عائلة المهندس مكي كبة, أن تعيش بهدوء وكرامة في ظل نظام استبدادي يتفاقم استبداده يوماً بعد آخر وسنة بعد أخرى وتشتد قسوته وتتعاظم نزعته العدوانية والعسكرية ويتلذذ بممارسة العنف ضد الإنسان والمجتمع والجيران؟
يتضمن هذا الكتاب القيم إجابة شافية عن هذا السؤال. فالكتاب يحتوي على مقدمة وستة فصول وخاتمة, تستعرض الكاتبة فيها حياة ومسيرة ومصير عائلة عراقية, عائلتها بالذات. فهي تعيش الأحداث يوماً بيوم وما لا تراه تسمعه من أمها وأبيها ومن أخوتها في البيت, ولكنها تعيش الأحداث والعذابات العائلية بكل تفاصيلها. إنها طفلة وصبية جعلتها الأحداث دفعة واحدة امرأة تعيش المآسي العراقية ولا تجد تفسيراً لها, ولكنها تهضمها تدريجاً وتجد لها أسباباً وتحليلاً يكمن في طبيعة ذلك النظام البعثي الدموي الذي سيطر على العراق وفي ذلك الدكتاتور الجلف الذي عرّض الوطن والمجتمع إلى تلك المآسي الإنسانية المتلاحقة التي لا يزال الشعب كله يعاني من عواقبها.                     
تتحدث جُمان مكية عن عائلتها التي تعيش حياة هادئة وطبيعية ثم تنقلب الحياة دفعة واحدة وبعد مجيء البعث إلى السلطة إلى جحيم لا يطاق, إذ هيمن الأوباش على الحكم وبدأوا بتغيير كل شيء, الهيمنة على الدولة والاقتصاد والمجتمع, الهيمنة على فكر الإنسان وعقله, الهيمنة على كل حركة في البيت والمدرسة والشارع. الهيمنة على الإعلام وإصدار الكتب والمجلات والصحف. أصبح الإنسان في داره يخشى أخيه وأبيه وولده وعمه, الجار يخشى الجار, فجواسيس وعملاء ووكلاء النظام وعيونه منتشرون في كل مكان ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة ويكتبون التقارير تلو التقارير التي تتسبب في اعتقال أو سجن أو قتل الناس.
فرض الحزب الحاكم والحكم عضوية الحزب باستخدام الجزرة , وحين لا تنفع فالعصا حاضرة دوماً. ومن لم ينفعه كل ذلك يكون السجن والتعذيب والقتل على أيدي جلاوزة وبقية أوباش النظام في الحزب وفي مؤسساته الأمنية, ومنها المخابرات العامة وفي منظماته غير الشعبية.
تتحدث الكاتبة عن أحداث "أبو الطبر" وبأسلوب هادئ ومنطقي سليم تتوصل إلى أن والدها, بحكم عمله, قد تعرف على من هم الذين يقفون خلف أبو الطبر, من هم الفاعلون باسم "أبو الطبر" فعلياً, أنهم المخابرات العامة, إنه القصر الجمهوري الذي كان يديره أحمد حسن البكر وصدام حسين حينذاك. ومن هنا, من هذه المعرفة بحقيقة "أبو الطبر" ومن الدفاع عن موظفيه في قسم الهاتف (البدالة) الذين تعرضوا إلى إيذاء قوى القصر الجمهوري, تبدأ مأساة الوالد بعد أن أصبح البيت ملغماً بأجهزة التسجيل عبر المرأة المعينة ياسمين, وهي مصرية, وبدعم من عم العائلة أو زوج أخت الأم. يعتقل الأب بذريعة بائسة مفادها إنه قد ضحك في غرفة نومه مع زوجته على نكتة تدور حول القيادتين القطرية والقومية يتحدث بها الناس وسجلها الإنصات السري في البيت. ويبدأ التعذيب وتبدأ مأساة كل العائلة ويحكم الوالد بالسجن لمدة عام دون أن تكون هناك تهمة فعلية ولا تحسب له مدة التوقيف التي تجاوزت عدة شهور. ثم تتوالى الأحداث على أفراد العائلة وخاصة على الابن عامر, الذي يعتقل بتهمة زيارة كربلاء والمشاركة في تقاليد عزاءات أيام عاشوراء في كربلاء.
وتتحدث الكاتبة عن الأهوال النفسية التي عانتها الأم بسبب اعتقال الأب ومحاولات زيارته التي تنظم عبر علاقات مع قوى النظام لمرة واحدة لتجد التغيير المرعب الذي طرأ على زوجها, ذلك الرجل المهيوب بقامته الطويلة وبنيانه المتين وهدوءه والعافية التي كان يتمتع بها, لتجد أمامها زوجها وقد هزل جسده وتمزقت ثيابه وتوسخت, طالت لحيته ولم يعد ذلك الرجل الذي عرفته, رغم تنامي ما في داخله من حب للزوجة والعائلة وكراهية لمن عذبوه أبشع تعذيب. وكان الأبشع من كل ذلك أن يرى كيف يعذبون الآخرين أمامه ويسمع صراخهم, إنها لمحنة إنسانية مريرة!
الكتاب يجسد عاطفة الإنسان إزاء عائلته وكل فرد فيها. كيف يجبر الناس على الابتعاد عن العائلة التي يلاحقها أزلام النظام, كيف تعيش الوحدة ويصعب عليها الاتصال بالآخرين خشية عليهم أو خشية الآخرين من عواقب زيارة العائلة المنكوبة بحقد النظام وملاحقته. كيف يجبر أحد أفراد العائلة على التجسس على عائلته, كيف يوظف المعينون, ومنهم العرب والأجانب, في بيوت الناس ليتجسسوا على تلك العائلات التي استخدمتهم بهدف الحصول على معلومات عن أحاديث وهواجس وأحلام العائلة لينزلوا جام غضبهم عليها.
تمنح الكاتبة القارئة والقارئ فرصة ثمينة للتعرف على أسلوب عمل دولة بوليسية لحمتها وسداها عدم الثقة بالمواطنات والمواطنين والتجسس اليومي عليهم ومضايقتهم واعتقال الكثير منهم لبث الرعب في نفوس الناس. ولم تكن قصة "ابو الطبر" سوى واحدة من تلك الأفعال القمعية الرذيلة التي اعتمدها النظام لإسكات الناس إذ كانت الخشية يومية والناس شخصت ابتداءً المنظم والمنفذ الفعلي لتلك الجرائم البشعة التي ارتكبها أبو الطبر, إذ كان الناس يؤكدون: لا يمكن أن يكون الفاعل خارج مجموع النظام.
تستعرض السيدة جُمان كبة أوضاع العراق لتخبص من خلالها إلى تشخيص أساليب وأدوات الدكتاتورية وأكاذيبه والعمل على قاعدة غوبلز "اكذبوا ثم اكذبوا ثم اكذبوا لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس", وقسوته في التعامل اليومي وكرهه للإنسان الحر والمستقل في تفكيره وإرادته. دولة عصابات الجريمة الحكومية والحزبية المنظمة التي أحدى صيغها جرائم "أبو الطبر" وأساليب قتله للناس والعلاقة القائمة بين هذا الأسلوب والمخابرات العراقية.
تشير الكاتبة العراقية إلى ظاهرتين متعارضتين برزتا في تلك الفترة في إطار المجتمع العراقي, فرضهما واقع الحال على جميع العائلات العراقية تقريباً, وهما:
** روح التضامن والتكافل مع من يتعرض لإرهاب السلطة, سواء من بقية أفراد العائلة والعائلات القريبة أم من الأصدقاء. وكان هذا التضامن بارزاً في بداية حكم البعث بشكل خاص.
** ولكن, وبعد أن اشتد الإرهاب والخطف والتغييب والسجن والقتل, برزت ظاهرة الخشية والابتعاد عن الزيارة والدعم من قبل العائلات القريبة جداً بسبب الخشية من الاضطهاد والملاحقة.
لقد تفشت وتفاقمت في المجتمع الكثير من العلل الاجتماعية السلبية ما كان لها أن تظهر وتتفاقم لولا الاستبداد والقسوة والعنف التي مورست ضد الإنسان والمجتمع.
لقد استطاع الأبد أن يسفر بناته وأولاده إلى خارج العراق لينقذهم من مصير مجهول, ثم غادر وزوجته في الغربة الأوروبية وفي عمر يصعب معه التكيف مع الحياة الجديدة.
لقد دللت الأم عن حب وشهامة وكرامة لا مثيل لها في موقفها النبيل من العائلة ومن الزوج الذي أصيب بجلطة دماغية أقعدته وشلت حركته وأصبح نزيل المستشفى الدائم, لقد خدمته بحنان ومحبة وماتت وهي تخدمه كأفضل زوجة وأطيب أم. ثم مات الزوج حسرة وغماً على وفاة زوجته بعد فترة وجيزة, وهو التعبير الصادق والأصيل عن الحب الإنساني الذي جمع بين الزوجين. 
اعتقد أن إنجاز هذا الكتاب قد حرر الكاتبة ذاتها من ذكريات الماضي الأليمة وأعاد التوازن النفسي إليها, وهي ضرورة ماسة للإنسان الذي عاش في صغره تلك التجارب المريرة والقاسية, ولكن هذا الكتاب مهم أيضاً للآخرين الذين عاشوا التجربة ذاتها وما يماثلها ولكنهم عاجزون عن الكتابة فيها أو التعبير والحديث عنها, كما أن الكتاب ثمين جداً لمن لم يعش هذه الفترة المليئة بالحروب والكوارث الإنسانية.
إن قراءة هذا الكتاب ضرورة لكل عراقي ولكل قراء العربية لأنه يوضح لماذا فقدت العائلات العراقية ولسنوات طويلة البسمة والفرحة والضحكة والحلم أيضاً, ولٍماذا سيطر الهم والغم والحزن والبكاء والعويل على تلك العائلات التي فقدت الكثير من أبنائها وبناتها سواء أتم ذلك عبر الحروب أم عبر الخطف والسجن أم القتل أو الذين طمروا في المقابر الجماعية ومن مختلف قوميات وفئات المجتمع..       
وأنا اقرأ الكتاب أحسست بألم في قلبي ودمعة تنساب من عيني دون إرادتي, إنه الكتاب الذي غزا قلبي وعقلي في آن واحد, لأنه صور ليس حياة هذه العائلة العراقية الطيبة فحسب , بل جسد حياة الشعب العراقي بأغلبه حينذاك.  لا يمكن لهذه السطور أن تعبر للقارئات والقراءة ما تضمنه هذا الكتاب من حقائق ستبقى صفحة سوداء في جبين حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قاد حكم العراق مرتين (1963 و1968) وفي كل مرة كان جزاراً للشعب وقواه الوطنية, وخاصة في مجيئه الثاني للسلطة. ومن مهمة الجميع في العراق والمنطقة والعالم منع هذا الحزب من العودة إلى الحياة السياسية والسلطة للمرة الثالثة.
شكراً وألف شكر للكاتبة الفاضلة وتعازي القلبية بوفاة الوالدين وتهاني بسلامة بقية أفراد العائلة.
16/4/2010                   كاظم حبيب

1096
كاظم حبيب
المرأة والكتابة والنشر في موقع الحوار المتمدن

رغم النضال العنيد والمتواصل الذي كانت تمارسه المرأة في منطقة الشرق الأوسط, وخاصة في الدول العربية ومن مختلف القوميات, فإنها لم تستطع فرض نفسها في حقول الإعلام والصحافة ونشر الكتب, رغم ما لديها من إمكانيات وطاقات كبيرة كامنة وغير مستثمرة. وكانت التقاليد والعادات ودور الذكور, إضافة إلى غياب الحريات الديمقراطية في أغلب الدول العربية إن لم نقل كلها,  كانت من بين العوامل التي جعلت المرأة قليلة الكتابة وأقل من ذلك النشر لما تكتبه في مجالات الشعر والقصة والرواية أو المشاركة في الكتابة الصحفية وفي حقول العلوم والفنون التشكيلية. ومع ذلك برزت أسماء لامعه عربيات وغير عربيات في منطقة الشرق الأوسط كان لهن أثرهن الكبير في نهوض تدريجي للمرأة ودورها في الحياة العامة وفي مختلف المجالات, ولنا من الدكتورة نوال السعداوي أو أحلام مستغانمي أو حياة شرارة واختها بلقيس شرارة أو عفيفة ألعيبي أو هناء أدورد وبخشان زنكنة ونرمين عثمان وغادة العاملي وبقية الناشطات النسويات في الدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل في العراق وبقية دول المنطقة.
إلا أن التقنيات الحديثة وعالم الأنفوميديا قد خلق أجواءً جديدةً لتشارك المرأة بطريقة أفضل وأوسع وأكثر تحرراً وحرية في الكتابة والنشر وفي الإبداع الفني والأدبي والثقافي عموماً. وهو ما نشهده اليوم. ويمكن لموقع الحوار المتمدن أن يقدم نموذجاً يحتذى به في هذا الصدد.     
فحين بدأ الحوار المتمدن خطواته الأولى على طريق النشر الإعلامي منطلقاً من مواقع الفكر اليساري الديمقراطي الحر, لاحظ المشرفون والمشرفات على الموقع بروز أسماء نسوية قليلة وخجولة في الكتابة, ولكنها واعدة, وهو ما لاحظته أيضاً كقارئ وكاتب على صفحات موقع الحوار المتمدن. وأتذكر أني كتبت للأخوات والأخوة في الحوار المتمدن أثمن دورهم في النشر النسوي وأدعوهم إلى فتح أبواب الموقع أكثر فأكثر للكاتبات الشابات حتى لو كانت كتاباتهن لا تزال في خطواتها الأولى, إذ يفترض أن يأخذ الحوار المتمدن على عاتقه تنشيط دور المرأة في الكتابة والنشر. وكان رأي الأخوات والأخوة في الحوار المتمدن مماثلاً ومشجعاً. وأمكن أخيراً وبمبادرة من السيدة بنيان صالح جبريل والعاملين معها إلى تأسيس مركز مساواة المرأة الذي يساهم في مكافحة العنف ضد المرأة.
واليوم حين نتصفح موقع الحوار المتمدن سنجد فيه الكثير من الكاتبات اللواتي يكتبن وينشرن في مختلف حقول الأدب والفن والسياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية, وهي ظاهرة صحية ورائعة يفترض تشجيعها وتعزيزها باستمرار. وأتوقع أن تكون الفترة اللاحقة محملة بالكثير من الكتابات النوعية المتنوعة والممتازة وكذلك الكتابات الصحفية المعبرة عن آمال وأحلام وطموحات المرأة, إضافة إلى واقع المرأة المر في الكثير من الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط ومن قوميات مختلفة.
لقد فتح الانترنيت أبواباً واسعة أمام المرأة للكتابة والنشر والتي لم تكن متوفرة لهن قبل ذاك.
ونظرة سريعة على ما يصدر من مجلات نسوية في العراق, ومنها, مجلة نرجس ومجلة نون, على سبيل المثال لا الحصر, تؤكد قدرة المرأة على اقتحام الصعاب في مجتمع لا تزال العشائرية تهيمن على مشاعر وسلوك الناس, إضافة إلى نتائج الانتخابات الأخيرة حيث أمكن فوز الكثير من النسوة بطريقة مباشرة في حين عجز الكثير من السياسيين المتنفذين في الحصول على أصوات مماثلة.
تحية للحوار المتمدن على فتح أبوابه الواسعة لكتابات المرأة, وتحية للمرأة التي تكتب في الحوار المتمدن وفي غيرها من المواقع والمجلات والصحف أو إصدار الكتب بمختلف الحقول ومنها الشعر والقصة والرواية والعلوم والموسيقى والفنون التشكيلية بتنوعها الكبير.
13/4/2010                   كاظم حبيب       

1097
كاظم حبيب
هل من علاقة بين نتائج الانتخابات والإرهاب الدموي في العراق؟
(1)
لم يكن قانون الانتخابات العامة يجسد الروح الديمقراطية الضرورية التي يفترض أن تتوفر فيه ليعبر عن رأي الناخبات والناخبين بصورة ديمقراطية ويمنع الاعتراضات الواقعية التي نشأت والتي تسببت بمصادرة نسبة مهمة جداً من أصوات الناخبات والناخبين, وبالتالي حرمان مجموعة من المرشحات والمرشحين من الفوز بالانتخابات والجلوس مع الآخرين تحت قبة البرلمان لتعبر عن رأي الناخبات والناخبين في القضايا التي يعالجها المجلس النيابي. لقد كان الأفضل أن يكون العراق دائرة انتخابية واحدة ويؤخذ بالقاسم المشترك لعموم العراق وليس كما جرى وأخل كثيراً بأصوات الناخبات والناخبين. ولا بد من معالجة هذا الأمر بروح ديمقراطية بعيدة عن ضيق الأفق الطائفي أو القومي أو الحزبي وذلك بتعديل القانون.
(2)
لم تكن الحملة الانتخابية التي سبقت يوم الاقتراع نظيفة, بل تخللتها الكثير من الحوادث التي كان المفروض معالجتها قبل ذاك وبهدوء وموضوعية. لم يكن غريباً على بلد مثل العراق أن تحصل فيه بعض الأمور التي نعتبر تجاوزات فعلية على ديمقراطية الانتخابات والتي مارستها بعض القوائم أو بعض المرشحين مثل تقديم الهدايا والعطايا وتوزيع الأموال لشراء الأصوات أو ممارسة التأثيرات الدينية والمذهبية والعشائرية على الناخبات والناخبين. وكان على المفوضية المستقلة استخدام حقها المشروع في متابعة ومحاسبة أولئك الذين ارتكبوا هذه الظواهر السلبية التي أخلت كثيراً بسلامة العملية الانتخابية. ولكن الظاهرة الأكثر سلبية والتي أججت من جديد روح الطائفية وخلقت اصطفافاً طائفياً لعيناً برزت في تلك الضجة غير الطبيعية التي أثارها رئيس الوزراء السيد نوري المالكي حين طرح وقبل الانتخابات بأسابيع معدودة حملة واسعة تشير إلى احتمال عودة البعثيين إلى السلطة لدعم من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية, كما طرح بشكل متأخر جداً موضوع الدكتور صالح المطلگ ومظفر العاني في هيئة المساءلة والعدالة والتي كان بالإمكان معالجتها في فترة مبكرة من حصولهم على عضوية البرلمان في انتخابات العام 2005. وقد استثمر الآخرون ذلك الخطأ الفادح بإشاعة جو الصراع الطائفي المقيت واستنفار كل القوى القومية والبعثية, إذ أن المالكي بطريقة طرحه لم يساعد على تحقيق الفرز الضروري بين تلك القوى, بل وضعهم في خانة واحدة رغم أنهم لم يكونوا يوماً في خانة واحدة بل خانات كثيرة.
(3)
ليس غريباً أن يحصل في بلد مثل العراق تزويراً أو تزييفاً بنسبة معينة. إلا أن هذه النسبة التي حصلت لا يمكنها أن تغير كثيراً من الصورة التي خرجت بها الانتخابات ونسبة الانحراف لن تكون أكثر من 5% في أسوأ الأحوال, وبالتالي كان لا بد من الاعتراف بالنتائج وتقديم اعتراضات بطريقة هادئة على تلك الدوائر التي يعتقد بوجود بعض التزوير فيها, وهو أمر محتمل في كل الأحوال. إلا أن الطريقة التي تعاملت بها قائمة دولة القانون والقائمة العراقية بشكل خاص لم تكن سليمة, إذ كان التهديد واضحاً وسلبياً على مستوى الوطن كله. وهو ما يفترض أن يدان أياً كان البادئ به أو الممارس له, إذ أشاع القلق والتحفز وبعض العدوانية في نفوس القوى الحزبية وفي صفوف المجتمع دون أدنى مبرر.
ومن الجدير بالملاحظة أن المفوضية المستقلة لم تحرك ساكناً وتدين هذه الممارسات وتتصدى لها من مطلق حيادي مستقل مطلوب.
(4)
وقبل بدء الانتخابات, ومن أجل إشاعة الفوضى والخراب وعدم الثقة بقدرة رئيس الحكومة وحكومة المالكي على تأمين الأمن والاستقرار, نفذت قوى عديدة لا يمكن حصرها بالقاعدة والبعثيين من أتباع عزة الدوري وحدهما, مجموعة من العمليات الإرهابية التي دللت على خمس مسائل جوهرية لم تنتبه لها الحكومة ولما تمارس دورها في وضع حدٍ لها, وهي:
1. هشاشة الوضع السياسي والحكومي والأمني واستمرار الصراعات التي كانت ولا تزال تنهش في كيانها وتضعف دورها في الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية؛ 2. المبالغة في منجزات الحكومة وضعف يقظتها إزاء النشاط الإرهابي واعتقادها بأنها قد أنهت دور القاعدة وقوى البعث ألصدّامية وأن هذه القوى لم تعد قادرة على التحرك ضد الشعب؛ 3. كما أنها لم تضع في حسابها وجود قوى أخرى غير القاعدة والبعث الدموي من قوى دول الجوار التي تريد إشاعة الموت والفوضى والخراب في البلاد والبرهنة على عجز المالكي في توفير الأمن للعراق؛ 4. لا تزال قوى الأمن الداخلي والشرطة والجيش قليلة اليقظة وضعيفة القدرة على توفير جدي ومستمر للأمن الداخلي وحماية المواطنات والمواطنين من عبث القوى الإرهابية, إضافة إلى وجود اختراقات غير قليلة في هذه الأجهزة وفي نقاط التفتيش والرقابة؛ 5. التدخل المستمر من جانب دول وقوى الجوار في الشأن العراقي الداخلي واستمرار تأييدها ودعمها المباشر وغير المباشر لقوى الإرهاب في العراق ووجود قوى داخلية مستعدة حتى الآن, بسبب صراعاتها وعدم تحقيق مصالحة مع القوى النظيفة منها, على حماية قوى الإرهاب ومنحها غطاءً واقياً ضد مطاردتها من قبل القوات العراقية.
(5)
تميزت العملية الانتخابية في يوم الاقتراع بالهدوء ودون حوادث كبيرة, كما شهدت إقبالاً جيداً على صناديق الاقتراع وبمشاركة واسعة من بعض المناطق التي لم تشارك قبل ذاك بذات الهمة والحمية مدفوعة بالأجواء السلبية التي نشأت قبل الانتخابات بفترة قصيرة. فكان الاستقطاب, شاء الإنسان أم أبى, طائفياً لم يمنع من بروزه دخول بعض العناصر العلمانية والديمقراطية في البيتين الشيعي والسني, وبالتالي برزت قوائم تتحدث عن المواطنة ولكنها تعبر عن النسيج القومي والمذهبي في العراق, العرب الشيعة والعرب السنة والكُرد. وغابت عن المجلس الجديد قوى التيار الديمقراطي العربي بكل مكوناتها واتجاهاتها الفكرية والسياسية وخسر الكثير من عناصر هذا التيار الذين كانوا في دورة المجلس 2005-2009 مقاعدهم في هذه الدورة.
لقد حصل حراك بسيط في هذه الدورة عن الدورة السابقة. استطاعت بعض قوى الإسلام السياسية الشيعية تعزيز مواقعها على حساب قوى أخرى فيه مثل حزب الدعوة والصدريين على حساب المجلس الإسلامي الأعلى, كما حصل نفس الحراك في القائمة العراقية وقوى الأحزاب الإسلامية السياسية السنية حيث تراجعت قوى التوافق والحزب الإسلامي كثيراً لصالح غيرها في هذه القائمة.
لقد استطاع المالكي من طرف وأياد علاوي من طرف أخر أن يحرزا على أكثر المقاعد لسببين, وهما: الاستقطاب الذي حصل في الآونة الأخيرة من الحملة الانتخابية من جهة, ونداءات الطرفين بالكف عن الطائفية والالتزام بالمواطنة العراقية من جهة ثانية, رغم عدم التزام الطرفين عملياً بالسبب الثاني. 
(6)
إن المشاركة النسبية الواسعة بالانتخابات (62%) ونتائجها والبدء بحوارات بين مختلف الأطراف واحتمال تشكيل حكومة عراقية تستند إلى قواسم مشتركة وأسس واضحة, رغم الصعوبات التي تعترض هذا الطريق والمدة الطويلة نسبياً التي يمكن أن تستغرقها هذه العملية, وتأييد العالم لنجاح العملية الانتخابية رغم نواقصها المعروفة, قد أشاع القلق الشديد والرعب في صفوف كل قوى وجماعات الإرهاب المحلية والإقليمية والدولية فدفعها إلى استنهاض جماعاتها التي كان بعضها في قيلولة مؤقتة لتنفذ سلسلة من العمليات الإرهابية التي تشيع الموت الواسع والخراب وتثير الإحباط في نفوس الناس وتشدد الصراع بين القوى السياسية وتسمح ببروز اتهامات متبادلة في ضوء ما تثيره بعض القنوات الفضائية بإصرار بغيض ومقصود مستندين في ذلك إلى التهديدات التي صدرت في أعقاب الإعلان عن النتائج الجزئية المسيئة للعملية الانتخابية وبالطريقة البائسة التي مارستها وقدمتها المفوضية المستقلة للجمهور العراقي والإقليمي والدولي. إن هذه القوى الإرهابية والقوى المحركة لها تستفيد اليوم من الفراغ السياسي الذي بدأ منذ أن أصبح دور الحكومة مجرد تصريف أعمال, وحل الإحباط الشديد برئيس الحكومة وبوزيري داخليته ودفاعه ومستشار الأمن القومي.
(7)
على مدى أسبوع واحد وقعت سلسلة من العمليات الإرهابية الدموية الموجهة بشكل خاص صوب الهيئات الدبلوماسية وجماهير الشعب الكادحة. وهي هادفة إلى زعزعة ثقة دول العالم بحالة الاستقرار الممكنة وتأكيد هشاشة الوضع الأمني والسياسي في العراق وقدرة قوى الإرهاب على ممارسة عملياتها في وضح النهار وبالرغم من كل ادعاءات الحكومة بقدرتها على لجم الإرهابيين ومن يقف وراء كل ذلك. لقد فقد العدو الإرهابي أعصابه وراح يمارس تهديداته السابقة بقتل الناس ومنع عودة السلك الدبلوماسي الأجنبي إلى العراق وممارسة أعماله ضد أمن واستقرار الناس. هذه هي مهمة قوى الإرهاب وهذا هو دورها, ومن يريد التيقن من ذلك فما عليه إلا أن يتابع قناة الشرقية والجزيرة ليتعرف بشكل دقيق إلى ما يريده الإرهابيون ويسعون إليه حالياً. سوف لن تتوقف العمليات الإرهابية ما لم يطرأ شيء جديد على الوضع السياسي في العراق, فما هو المطلوب حالياً؟
(8)
لقد قضيت عدة أسابيع في العراق والتقيت بالكثير من الناس من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية ومن مختلف القوميات ومن أتباع الديانات والمذاهب الدينية, كما استمعت إلى الكثير من الآراء والملاحظات من كوادر قيادية في أحزاب سياسية ومن أعضاء في تلك الأحزاب, إضافة إلى أراء الناس البسطاء الذين يعون جيداً ما يجري في العراق. لقد عدت تواً من بغداد (5/4/2010) وكففت عن الكتابة خلال فترة السفرة بهدف الاستماع بإذن صاغية إلى آراء من عانوا من صراعات ونزاعات القوى السياسية والأوضاع الاقتصادية والفساد المالي والإداري ومن أكتووا بنيران وعواقب عمليات  قوى الإرهاب الدموية.
يدرك أغلب العراقيات والعراقيين, وخاصة أولئك الذين يتابعون الوضع السياسي ويعرفون علله ويعانون منها, أن حكومات وقوى دول الجوار كانت ولا زالت تتدخل في شؤون العراق الداخلية, إذ أن لكل من هؤلاء "مصالحه الحيوية" في العراق وضمن إستراتيجيته الإقليمية المناهضة لاستقرار العراق وسيادته على أرضه وقراراته. ولا يمكن لأي منا إيقاف هذا التدخل ما دامت هناك قوى داخلية تقبل بذلك وتعتمده في نشاطاتها السياسية. ولكن الذي يشير إليه الناس في العراق ويستغربون منه هو أن يتوجه السياسيون العراقيون إلى تلك الدول بطلب المساعدة لتحقيق التحالفات المنشودة في ما بينها. وهو الأمر المضحك المبكي لما آلت إليه هشاشة القوى والأوضاع السياسية في العراق, هشاشة وضعف الدولة العراقية. فمنهم من رحل إلى إيران واغتاظ الآخرون لأنهم لم يدعون إليها, وذهب آخرون إلى السعودية, واغتاظ آخرون لأنهم لم يدعون إليها ذلك, وكذا الحال حين رحل آخرون إلى سوريا والسعودية وإيران في آن بطلب الدعم والمساعدة. ومنهم من رحب بالتدخل التركي في شأن الموصل وعموم العراق. ولا شك في أن كل تلك الزيارات خارج الصدد, إذ أن على العراقيات والعراقيين تدبير شأن بلادهم دون السماح بتدخل القوى والدول الأخرى.
(9)

يواجه عراق اليوم إحدى حالتين:
** إما الغوص في مستنقع الصراعات والنزاعات وتفاقم العمليات الإرهابية التي تسعى إلى تنشيطها قوى كثيرة داخلية وخارجية؛
** وإما تحري القوى السياسية العراقية الفائزة في الانتخابات وغير الفائزة أيضاً عن حالة من قبول بعضها بالبعض الآخر وبنتائج هذه الانتخابات, بغض النظر عن الموقف الخاص لكل منها بها, والتحري عن قواسم وطنية مشتركة تنقل العراق إلى شاطئ الأمن والاستقرار والسلام. وهي الحالة الأمثل والمطلوبة من قبل الشعب العراقي.
وهذه الحالة تعني القبول بما هو مسجل في الدستور العراقي والبدء بحوارات جادة دون استبعاد أي طرف فائز, وكذلك الحوار مع غير الفائزين بغض النظر عن مشاركتهم أو عدم مشاركتهم في تشكيل الحكومة الجديدة. إن المجتمع العراقي قد أعطى رأيه في أن لا يستبعد أي طرف فائز من المشاركة في تشكيل الحكومة. وحين الاتفاق على آليات تشكيل الحكومة ووضع برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني وإقليمي ودولي مشترك لها, حينذاك يمكن أن تتشكل حكومة قوية قابلة للحياة من جهة, وربما تتشكل معارضة سياسية قوية نسبياً, سواء في داخل البرلمان أو خارجه, قادرة على التأثير في الأحداث نسبياً من جهة أخرى, وقادرة على تنفيذ البرنامج المشترك.
لا شك في وجود عقبات تبدو عصية على الحل مثل تحديد رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب بعد أن تم الاتفاق مبدئياً على رئيس الجمهورية, وكذلك توزيع الحقائب الوزارية بين المشاركين في بنية الحكومة الجديدة. إلا أن مواصلة المسيرة السياسية ومعالجة المشكلات القائمة وتعطيل وإنهاء نشاط وعمليات قوى الإرهاب والمقاومة غير الشريفة في العراق, هو الذي يفرض على الجميع الاستماع إلى صوت العقل والحكمة والتجربة المنصرمة للسير على طريق التعاون والتنسيق وليس التصارع والتنازع.
لا شك في وجود احتمالات وسيناريوهات كثيرة في تشكيل الحكومة الائتلافية, ولكن أكثرها أمناً هو دخول القوائم الأربعة في ائتلاف سياسي للسنوات الأربعة القادمة ببرنامج وطني ديمقراطي لحل المشكلات التي لم تعالجها الحكومة السابقة رغم ضرورة معالجتها برؤية جديدة تطمح إلى نشر الأمن والاستقرار والتفاهم في البلاد. إنه مطمح الناس الطيبين والبسطاء في العراق, فهل سيستمع سياسيو العراق إلى صوت الناس, صوت العقل والحكمة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام والأسابيع القادمة.
              

1098

تحية وفاء ووقفة إجلال لشهداء الكُرد الفيلية , شهداء الشعب العراقي ..

في ذكرى يوم الشهيد الكُردي الفيلي

الأخوات والأخوة الكُرد الفيلية الكرام
شارك الكُرد الفيلية على امتداد الحكم الوطني في العراق في بناء العراق الجديد , كما شاركوا بحيوية ومسؤولية وإبداع في النضال من أجل قيم الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية وفي سبيل إقامة نظام حكم مدني وديمقراطي مكين وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي  في البلاد. وعلى هذا الطريق الطويل غير المعبد قدم الكُرد الفيلية عدداً كبيراً من الشهداء الأبرار ممن كانوا مع الآخرين في طليعة النضال الوطني والديمقراطي وفي كافة المجالات. ولم يكن دفاعهم العنيد عن أهداف ومنجزات ثورة تموز 1958 والخسائر الفادحة في الأرواح التي قدموها في مقاومة الانقلابيين الفاشيين في الثامن من شباط / فبراير من العام 1963 سوى واحدة من ملاحم البطولة الوطنية للكُرد الفيلية , دفاعاً عن تلك الثورة المغدورة التي اعترف قائدها , الزعيم عبد الكريم قاسم , بحق بأن الكُرد الفيلية هم من أصل أهل العراق وليسوا طارئين عليه , كما يحلو للقوى الشوفينية العربية المتطرفة ترويجه. فهم جزء من الشعب العراقي , كما أنهم يشكلون جزءاً من الأمة الكُردية على امتداد أرض كُردستان, وهم شركاء في هذا الوطن.     
لقد أدركت الطغمة البعثية الحاكمة في العراق عمق وطنية الكُرد الفيلية ومدى التصاقهم بالوطن والشعب منذ أن قاوموا بشجاعة الانقلاب البعثي الدموي , فبدأوا , حين عادوا إلى السلطة بانقلاب القصر في السابع عشر من تموز 1968 , بمعاقبتهم بصيغ وصور شتى إلى أن وصل الأمر بهم إلى ممارسة ثلاثة أساليب  فاشية ودموية ضدهم:
1.   الاعتقال والتهجير القسري إلى خارج العراق لعشرات الألوف منهم بذريعة التبعية الإيرانية التي رفضها الشعب وأدان القوى المروجة لها , إضافة إلى مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
2.   زج جمهرة كبيرة من شبيبة الكُرد الفيلية من الذكور في الجبهات الأمامية في السنوات الأولى من الحرب العراقية – الإيرانية والتي أدت إلى موتهم , ومن لم يمت منهم بالحرب , قتل فيها على أيدي جلاوزة النظام.
3.   اعتقال عدد كبير من الشباب الكُرد الفيلية وزجهم في السجون ثم قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية يجري الكشف عنها يوماً بعد آخر بعد سقوط الدكتاتورية الغاشمة.
 لقد عانت عائلات الكُرد الفيلية الأمرين على أيدي نظام البعث الفاشي. وكان هذا الموقف يعبر عن كراهية وحقد عنصريين ضد الشعب الكردي عموماً والذي برز أيضاً في عمليات ومجازر الأنفال وحلبچة في كردستان العراق.
إلا أن الكُرد الفيلية , ورغم سقوط النظام الدموي , لم يستعيدوا حقوقهم وحقوق الشهداء المغتصبة رغم كل الوعود التي قطعها المسؤولون في العراق لهم في الاستجابة المشروعة لمطالبهم العادلة. إن استعادة الكُرد الفيلية لحقوقهم المشروعة وحقوق شهداء الكُرد الفيلية الأبرار هو حق وواجب على كل مواطنة عراقية ومواطن عراقي وهو الحد الأدنى الذي يفترض أن تمارسه أي حكومة وطنية عراقية في أعقاب سقوط النظام.
وفي الذكرى السنوية ليوم الشهيد الكُردي الفيلي , شهيد الشعب العراقي , ضد الدكتاتورية والعنصرية والطائفية والقسوة أنحني إجلالاً وتكريماً وعهداً للدفاع عن حقوقهم المشروعة والعادلة , فللشهداء الأبرار الذكر الطيب ولعائلاتهم والشعب العراقي أحر واصدق التعازي.
كاظم حبيب
برلين في 10/4/2010       


1099
كاظم حبيب
ملاحظات مطلوبة على تعليقات حول مقالاتي بشأن تصريحات السيد طارق الهاشمي

حين استمعت إلى تصريح نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي يذاع من قناة الجزيرة عادت إلى ذاكرتي, كفلم مسلسل, صور الماضي غير البعيد, صور تمتد من أربعينات وخمسينات وستينات .. القرن الماضي إلى الوقت الحاضر وتجسدت أمامي تلك الخلافات والصراعات والنزاعات التي أعقبت ثورة تموز 1958 والعوامل الكامنة وراء كل ذلك وتوقفت عند بداية الخلاف ونشوء الصراع وطرح شعار الوحدة العربية الفورية من جهة, ومحاولة الالتفاف على ما ورد في دستور العراق من أن العربَ والكُرد شركاء في الوطن العراقي, حين طرح البعثيون والقوميون ومعهم عبد السلام عارف شعار العراق جزء من الأمة العربية والوطن العربي الذي أثار الكُرد بحق وبدأ العد التنازلي للعلاقات في ما بين القوى والأحزاب الوطنية التي تحالفت قبل ذاك في جبهة الاتحاد الوطني ثم الصراعات والانقلابات والاغتيالات التي عمَّت العراق, وخاصة بالموصل في حينها.
لقد اغتيلت الثورة العراقية بمؤامرات عراقية – مصرية – سورية – أمريكية تم الكشف عن مختلف جوانبها في كتابات واعترافات الكثير من البعثيين والقوميين العرب, وخاصة القادة المصريين في مقابلات حول الفترة المنصرمة, إضافة إلى اعترافات السفير الأمريكي كريستوفر هيل الأخيرة الذي أكد بأن الولايات المتحدة كانت تفضل وتعمل من أجل أن يكون البعثيون في السلطة بدلاً من سيطرة الشيوعيين عليها, ولم يكن الشيوعيون في السلطة في حينها بل عبد الكريم قاسم ولم يتأمر الشيوعيون ضد سلطة قاسم, لقد كانت الولايات المتحدة وبريطانيا وشركات النفط الاحتكارية ضد حكومة وشخص عبد الكريم قاسم.
هذه اللوحة بتفاصيلها لا تزال في ذاكرتي وذاكرة الكثير من العراقيات والعراقيين ووجدت من الضروري تنبيه المجتمع العراقي بما يراد له الآن حين ينطلق السيد الهاشمي بتصريح مماثل لذلك الذي انطلق به عبد السلام عارف في حينها. إنه ليس هجوماً على الهاشمي بقدر ما هو كشف عن النوايا التي تكمن وراء مثل هذا التصريح والعواقب التي يمكن أن تترتب على ذلك. إنه ليس دفاعاً عن رئيس الجمهورية الحالي أو تأييداً لانتخابه دورة أخرى بأي حال, بل هو الانطلاق من مبدأ أساسي لا يقبل الخطأ هو "أن كل العراقيات والعراقيين , وبتعبير أدق كل المواطنات والمواطنين في العراق لهم الحق في اعتلاء هذا المنصب بغض النظر عن قوميتهم ودينهم ومذهبهم أو رأيهم السياسي حين يكونون في إطار القوى غير العنصرية وغير التي تميز بين أتباع الديانات والمذاهب الدينية, أي غير الطائفية. أي من حق كل عراقية وعراقي, سواء أكان عربياً أم كردياً أم تركمانياً أم كلدانياً آشوريأ, أم مسلماً أم مسيحياً أم صابئياً مندائياً أم كاكائياً أم شبكياً أم إيزيدياً, أن يكون رئيساً لجمهورية العراق حين يكون مؤهلاً لذلك وحين يقرر الشعب ذلك عبر ممثليه أو بالانتخاب المباشر. هذا هو المبدأ الذي يفترض أن نحتفظ به وندافع عنه وليس أن نشترط في أن يكون رئيس الجمهورية العراقية عربياً لأن العراق دولة عربية. هنا هو بيت القصيد وهنا هو المقتل الفعلي للوحدة العراقية ووحدة النسيج الوطني العراقي الذي يفترض تجاوزه في إعلامنا ودعايتنا. وهو الذي لم يتجنبه طارق الهاشمي بل أصَّر عليه وبلغة واضحة وبأسلوب متشدد لا يقبل التأويل.
لقد شارك عبد السلام عارف في قيادة ثورة تموز ونفذ أصعب المهمات وكان مقداماً في تلك العملية وحصد تأييد الشعب تماماً كما حصده عبد الكريم قاسم. ولكن الرجل لم يكن حصيفاً وحكيماً بل كان, وهذا ما تبلور بعد فترة وجيزة من الثورة, نزقاً ومتهوراً جداً وغير مثقف, وكان بعيداً عن الرؤية الواقعية والموضوعية للعراق وبنيته القومية والاجتماعية, وبرزت عليه خصائص القومي المتعصب والمسلم السلفي والطائفي المتزمت في آن واحد. والطائفية مرض مقيت حين يصاب به الإنسان. ومن المؤسف القول بأن كل الأحزاب السياسية التي تبنى على أساس ديني تقوم على مذاهب معينة وتتمسك بسياسات طائفية تميز بين أتباع الأديان والمذاهب. وكان عبد السلام من هذا النوع رغم أنه لم يكن عضواً في حزب إسلامي.
لقد شارك عبد السلام عارف بإسقاط نظام البعث في تشرين الثاني 1963, ولكنه كان المساهم الأكبر في انقلاب شباط 1963 وكان المشارك الأكبر في القتل دون محاكمات بمن فيهم قتل عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء دون محاكمات وبعيداً عن الشهامة والضمير. خفف حكم عبد السلام عارف من القمع والاضطهاد نسبيا, وإلا لما استطاع مواصلة الحكم, ولكن النظام العارفي لم يتوقف قطعاً عن الاضطهاد والقمع والاعتقال والسجن والتعذيب, وفي هذا أدلة كثيرة وشواهد لا يمكن تجاوزها أو إنكارها. وكان عبد السلام عارف طائفياً بالمطلق تماماً كما هو حال الكثير من الطائفيين السابقين والحاليين المتعصبين من الشيعة والسنة, والطائفية شيء مقيت بخلاف المذاهب التي يحق لكل إنسان الإيمان بها, إذ أن الطائفية إن سادت تقود البلاد إلى ما لا تحمد عقباه. وكان عبد السلام يختلف في عمق وعنف طائفيته عن أخيه عبد الرحمن الذي تميز بهدوء أكبر واقل تزمتً من حيث الدين او القومية أو المذهب.
لو عاد البعض الذي يقول بأن عبد السلام عارف غير طائفي أن يعود إلى تركته الثقيلة في العراق ليرى كيف تعامل الرجل مع هذه المسألة. من المؤسف أن البعض ينسى ذلك والذاكرة عند البعض قصيرة جداً أو لا يعود إلى ما كتب بهذا الصدد ويعتقد بأن من يكتب عن ذلك هو طائفي معاكس.
لقد كتبت رسالة منذ سنتين إلى السيد طارق الهاشمي, نائب رئيس الجمهورية, بشأن الكُرد الفيلية, حين طلب مني أن أكون على رأس وفد لمعالجة هذا الموضوع مع المسؤولين العراقيين, ولم يتسن لي المساهمة بالوفد, وضرورة معالجة قضية الجنسية وعودتهم إلى العراق, إذ أن معاناتهم كبيرة وهم مواطنون عراقيون بحق ولا يجوز استمرار معاناتهم ومصادرة حقوقهم المشروعة التي صادرها نظام البعث السابق. فكان جوابه برسالة يؤكد فيها بأن هذه المشكلة ليست سهلة وفيها الكثير من الإشكاليات ولا يمكن حلها بهذا الشكل! ألا يذكرنا هذا الموقف بموقف أولئك الذين اتخذوا قرار إبعاد الكُرد الفيلية وعرب الوسط والجنوب بتهمة التبعية لإيران قبيل الحرب العراقية الإيرانية وأثناء الحرب أيضاً وقتل الكثير من شباب هؤلاء في السجون والمعتقلات؟
وحين جئت إلى بغداد بزيارة خاصة طلبت اللقاء بالسيد طارق الهاشمي برسالة وباتصال هاتفي وعرفتهم بشخصي. وبعد الاتصال به من جانب مكتبه أُعطيت موعداً للقاء به. بعدها وقبل يوم من الموعد اتصل بي سكرتيره الخاص وطلب تأجيل الموعد ليوم آخر وتحدد الموعد أيضاً. فوافقت. ثم اتصل بي سكرتيره الخاص ثانية وأخبرني بإلغاء الموعد دون تبيان السبب. شكرته ولم أعلق على الموقف, إذ من حقه أن يوافق أو يرفض, رغم إن الرفض لم يعبر عن لياقة مناسبة في التعامل معي.
تبين لي حقاً بأن الرجل يعاني من عقدة قومية كما كان يعاني الكثير من القوميين العرب العراقيين وليس كل القوميين, ولهذا لا بد من التمييز بين القوميين العرب. فمجموعة الأستاذ عبد الإله النصراوي والدكتور قيس العزاوي (الحركة الاشتراكية العربية) هم من القوميين الديمقراطيين المتفتحين على القوميات الأخرى في العراق وبشكل عام بخلاف مجموعات أخرى ترى وتتصرف بغير ذلك.
ليس لدي أي تحامل على السيد طارق الهاشمي, بل لدي ملاحظات جدية على اتجاهاته الفكرية وسياساته ومواقفه أثناء وجوده كنائب لرئيس الجمهورية وطريقة تعامله مع الأحداث, وهو من حقي كسياسي عراقي ومطلع بشكل مناسب على الأفكار والسياسات والمواقف التي تحرك مثل هذه الشخصيات العراقية.
في الوقت الذي أرجو له الصحة وطول العمر, أتمنى عليه أن يفكر كثيراً بالعراق ومستقبله, بعراق متضامن وقائم على اسس المواطنة المتساوية والواحدة. فليس هناك من يمكن أن يغير الخارطة الجغرافية العراقية, العرب بجوار الكُرد, أوالكرد بجوار العرب في دولة واحدة, وكذا الحال مع بقية القوميات, وعلينا أن نتعايش بود وسلام ووئام وبعيداً عن التعصب, بل بروح المواطنة المتساوية ولا فرق بين أتباع القوميات إلا بما يقدمونه من خدمات للعراق وتعزيزاً للوحدة الوطنية وتقدم وازدهار العراق وأمنه وسلامة مواطناته ومواطنيه. إن من واجبنا أن ندافع عن المواطنة. هذا هو المهم في وطن مثل العراق.   
       10/3/2010                  كاظم حبيب

1100
كاظم حبيب
إذا كانت أحداث عبد السلام عارف في الفترة 1958-1963 كمأساة ..
     فيمكن أن يصبح طارق الهاشمي, وما يفتعله من أحداث, كمأساة وملهاة في آن!


في العام 1958 رفع عبد السلام محمد عارف راية القومية العربية والوحدة العربية بصورة مقلوبة وطرح شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة وحرك جزءاً من الشارع العراقي بشعاره المعروف "وحدة وحدة عربية ... لا شرقية ولا غربية" في وجه الغالبية العظمى من المجتمع العراقي حينذاك مؤيداً بذلك ما طرحه البعثيون والقوميون الناصريون اليمينيون أيضاً. وبذلك هيأ عارف لخلاف بدأ داخل قوى اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني وانتقل إلى أعضاء تلك القوى والأحزاب السياسية , ومنها كالنار في الهشيم إلى الشارع العراقي الذي انقسم إلى جبهتين: جبهة الأكثرية المؤيدة للتأني والدخول باتحاد فيدرالي مع مصر وسوريا في إطار الجمهورية العربية المتحدة, وجبهة الأقلية القومية التي تنادي بالوحدة الفورية معها. ولكن جبهة الأقلية وجدت الدعم والتأييد من القوميين العرب والبعثيين في الدول العربية ومن بعض حكومات الدول العربية خشية من تقدم العراق على طريق الديمقراطية والحلول الجذرية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية القائمة وتشكيله نموذجاً يحتذى به في المنطقة. وكان لا بد من تخريب وقتل هذا النموذج وهو في المهد. ووجد الغرب في هذا الشعار, رغم رفض الغرب لمضمونه جملة وتفصيلاً, الأداة التي يمكن بها تمزيق الوحدة الوطنية العراقية ودق إسفين الخلاف بين قوى الشعب وأحزابه المختلفة, وبالتالي يمكن استثمار ذلك لضرب الجمهورية الفتية. وكلنا يتذكر تصريحات السفير الأمريكي الأخيرة كرستوفر هيل الذي أكد دور الولايات المتحدة في دعم عملية الانقلاب البعثية خشية من وصول الشيوعيين إلى السلطة. فكانت محاولة الاغتيال وكان التآمر المتتابع والمتعدد الجوانب وبدعم مباشر من الجمهورية العربية المتحدة والرئيس المصري جمال عبد الناصر, وكان آخر المطاف القطار الأمريكي الذي نقل قوى البعث والقوى القومية وعبد السلام عارف إلى الحكم وأقيمت أول جمهورية فاشية سياسياً مارست كل أشكال الاعتقال والقمع والسجن والتعذيب والقتل بحق الوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين والمستقلين. ثم توالت الانقلابات العسكرية القومية تحت شعار الوحدة العربية, ذلك الشعار الذي لم ينفذه البعثيون ولا القوميون حين وصلوا إلى السلطة, بل تحولوا إلى أكثر المتزمتين قطرياً وأكثرهم بعداً عن تحقيق الوحدة, إذ كان البعض منهم يتطلع إلى السيطرة على بقية الدول العربية وفق منظور هذا البعض الشوفيني والمشوه للوحدة العربية.
ومنذ تلك الفترة التي انتهت, بتضافر جهود كل القوى المعادية لحرية العراق وحياته الديمقراطية, بالإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم الفردية وإلى قيام جمهوريات وحكومات مستبدة وقهرية وعسكرية قمعية بتأييد ومساندة من الغرب بشكل مباشر. وكانت مسيرة ما يقرب من خمسين عاماً مليئة بالدماء والدموع, مليئة بالموت اليومي الذي ملأ أرض العراق بالقبور الجماعية التي احتضنت العرب والكُرد والكلدان والآشوريين والتركمان في آن واحد. لقد كانت المآسي والكوارث تتوالى على العراق في كل لحظة واختطفت الكثير من البشر والأموال ودفعت بالعراق إلى فقر وجوع وإلى بؤس وفاقة حضارية مريعة لا تزال مستمرةً بصيغ مختلفة. وكانت البداية لهذه المأساة المستمرة ذلك الشعار الديماغوجي عن "الوحدة" العربية البعيد عن الواقع. وكان أتباع هذا الشعار يتنكرون لوجود قوميات أخرى في العراق ولها حقوق وعليها واجبات كما للعرب ويطرحوا بصورة استفزازية: أن العراق دولة عربية وأن العراق جزء من الوطن العرابي وأن العراق جزء من الأمة العربية وكأن ليس هناك قومية كردية وأخرى تركمانية وثالثة كلية آشورية وأرض كردستانية.
واليوم تبدأ شخصية عسكرية (مقدم ركن, آخر رتبة له في العام 1975) مماثلة لشخصية عبد السلام محمد عارف من بعض النواحي, وخاصة الجانب الطائفي والقومي, من أعضاء الحزب الإسلامي العراقي الذي انتمى إليه منذ العام 1960, أسمه طارق أحمد بكر الهاشمي, وأخرج منه قبل فترة وجيزة, ليطرح من جديد شعار العراق دولة عربية وأن يكون رئيسها عربياً أيضاً. ويبدو أن الرجل يطمح برئاسة الجمهورية. ومن حيث المبدأ يحق لكل عراقي ذلك شريطة أن يتمتع بمؤهلات رئاسة الجمهورية!
هنا تبدو لي أهمية ما كتبه الفيلسوف الألماني فريدريك هيگل (1770 0 1831) إذ قال "أن الأحداث الكبرى في التاريخ عادة ما تتكرر مرتين", ولكن أدخل الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818-1883) إضافة مهمة على هذا النص حين قال " في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كملهاة", ويمكن أن أضيف عليها في حالة  العراق "أن تكون في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمأساة وملهاة في آن". وهذا ما نعاني منه في الوقت الحاضر, وهذا ما يريد تحريكه طارق الهاشمي.
إن ضحايا 1963 تستصرخ ضمائر الأحياء من الناس في العراق أن أوقفوا هؤلاء الذين يريدون تكرار مأسي وكوارث الصراعات القومية التي فجروها في أعقاب ثورة تموز 1958 اليوم في العام 2010 وبعد الانتخابات مباشرة ليعرقلوا المسيرة  السلمية والسياسية بغض النظر عن نواقصها التي نراها ونلمسها جيداً والتي يفترض العمل الجاد من أجل معالجتها لصالح الشعب وتقدمه وسلامته.    
أعرف جيداً بأن الشعب العراقي لا يقبل ولا تفوته مثل هذه المطبات بعد أن فوت على صيادي الماء العكر الصراع الطائفي والحرب الأهلية الطائفية, مطبات يمكن أن تقود إلى صراعات قومية جرى تجنبها بقيام دولة عراقية اتحادية تضم فيها فيدرالية إقليم كردستان وفق الدستور العراقي, واعرف أن الشعب العراقي يقرأ الممحي والمكتوب, وأعرف أنه يقرأ ما بين السطور ويستطيع أن يشم الروائح النتنة من بعيد ويتجنبها, إلا أن التحذير من مغبة ما يمارسه طارق الهاشمي وفق تصريحه الأخير في يوم 8/3/2010 ضروري جداً لأنه يحمل في طياته الكثير والكثير جداً من الديناميت الذي يمكن أن يفجر الوضع في العراق كله , على طريقة اقتلوني ومالك!
قاد الهاشمي قائمة (تجديد) بعد استبعاده من الحزب الإسلامي, ثم انضم إلى القائمة العراقية التي يرأسها الدكتور أياد علاوي, وهو يعمل ضمن أجواء إسلامية وقومية ملبدة بالغيوم تعيش كلها في كنف قائمة علاوي مثل النجيفي ومجموعة صالح المطلگ وظافر العاني وغيرهم, كما فيها وجود إنسانية طيبة, وخاصة النسوية ومنهن المهندسة ميسون الدملوجي. وسيحوز الهاشمي على مقعد في مجلس النواب كما يبدو من سير العملية الانتخابية, لهذا أرى أهمية التصدي لهذا الشعار من جانب السياسيات والسياسيين والكاتبات والكتاب في العراق وفي الخارج لإبعاد العراق عن احتمال نشوب صراع قومي بعد أن تراجع الشعار الطائفي نسبياً.
ينبغي على الشعب العراقي إفشال هذه الورقة أيضاً لحماية نفسه من الاقتتال القومي والطائفي المتشابك.
العراق ملك العراقيات والعراقيين من عرب وكرد وتركمان وكلدان وآشوريين وسريان, ملك للمسلمين بكل مذاهبهم, وللمسيحيين والصابئة المندائيين والكاكائيين والشبك وما بقي من يهود العراق على أرض العراق أيضاً, إنها ليست ملك العرب خارج إطار العراق ولا ملك للفرس أو غيرهم وعلى طارق الهاشمي أن يعي ذلك وان يدرك بأن من يقرر من يكون رئيس الدولة أو رئيس مجلس النواب أو رئيس الوزراء هو الشعب العراقي وحده وبكل مكوناته وليس غيره!!
إن عودتي للكتابة في هذا الموضوع تنطلق من إدراكي للمخاطر التي تنطوي عليه تصريحات طارق الهاشمي والعواقب الوخيمة التي تترتب عنها على الشعب العراقي بكل مكوناته القومية.
10/3/2010                     كاظم حبيب  
      

1101
كاظم حبيب
ليس تأييداً لأحد... بل إدانة للمناهج الطائفية والقومية المريضة!
حذاري .. حذاري.. ثم حذاري من شعارات تمزق الوحدة الوطنية
هل شاهدتم وجه نائب رئيس الجمهورية العراقي طارق الهاشمي على شاشة التلفزيون وهو يدلي بتصريح جديد بعد غلق صناديق الاقتراع. لقد كان الوجه عابساً مكفهراً وغاضباً حتى النخاع!
هل سمعتم صرخته الطائشة من نفس القناة وهو يتحدث بلهجة وكأنها قاطعة ومليئة  بالكراهية والحقد إزاء الآخر عن الدولة العراقية باعتبارها دولة عربية وينبغي أن يكون رئيس الجمهورية فيها عربياً أيضاً!
لقد كان طارق الهاشمي على امتداد السنوات المنصرمة وقبل أن يصبح الرجل نائباً لرئيس الجمهورية كان صياداً للمشاكل الطائفية طارحاً إياها وكأنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي صوب. وحين فشل في طائفيته اللعينة بالرغم من كل الإسناد اليومي من قناة الشرقية, وحين تخلى الطائفيون الآخرون من أمثاله, سواء أكانوا من الشيعة أم السنة عن الحديث حول الطائفية بل وإدانتها باعتبارها تجزئ العراق وتدمر النسيج الوطني للشعب العراقي , وحين أدركت الغالبية بأن الطائفية ليست السبيل المناسب لحكم العراق , أصيب الهاشمي بأزمة فكرية وسياسية وهو الإسلامي الطائفي المتخندق, وأدرك بأن نتائج الانتخابات ستأتي بغير ما أرادها بعض ربانيها , فتفجرت قريحته عن شعار جديد عتيق كان السبب في تفكيك الوحدة الوطنية العراقية وإنهاء وجود جبهة الاتحاد الوطني التي كانت وراء ثورة تموز 1958 التي قادها الضباط الأحرار وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم, وكان أحد الأسباب في تراجع الثورة وضربها بالانقلاب الفاشي الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي , عن شعار يقول أن العراق دولة عربية, في حين أن الدستور العراقي يتحدث عن المحيط العربي للعراق وليس عن العراق العربي, وعن القوميات الحرة والمتساوية في العراق وليس عن القومية العربية.
إن طارق الهاشمي وهو يودع قريباً كرسي النائب الثاني لرئيس الجمهورية يجد في نفسه, كما يبدو, الشخص المناسب لرئاسة الجمهورية, في حين كل الدلائل تؤكد عكس ذلك, وخاصة في مواقفه التي تميزت بالطائفية الصارخة.
العراق متعدد القوميات ومتعدد الأديان والمذاهب. ومن هنا تأتي أهمية أن يُحكم العراق على أساس وطن ومواطنة, تحترم فيه جميع القوميات وبالتساوي, وتحترم فيه كل الأديان بالتساوي, وتحترم فيه كل المذاهب بالتساوي, ويحترم فيه كل الأشخاص ومن النساء والرجال بالتساوي أيضاً. لا فرق بين عربي أو كردي أو تركماني أو كلداني أشوري إلا بقدر ما يقدمه كل مواطن لهذا الوطن , والكل يتمتع بحقوقه الوطنية والقومية بعيداً عن المزايدة وشق الصف الوطني. ففشل الدعوة الدينية والطائفية ينبغي أن يعطي للآخرين درساً بأن التشبث القومي لا يختلف في منهجه عن التشبث الطائفي, سواء أكان من القومية الأكبر أو القومية الأصغر. فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات, ولا بد للعراق أن يكون وأن يبقى دولة المواطنة الحرة  المتساوية أمام الحقوق والواجبات, أمام الدستور والقانون.
إن محاولة البدء بإثارة المشكلة القومية أمام المجتمع والبرلمان في دورته الجديدة في أعقاب غلق صناديق الاقتراع مباشرة تريد أن تثير الاسطوانة المخرومة السابقة, أن تفجر الصراعات بين أتباع القوميات المختلفة, بين كافة المواطنات والمواطنين, وتريد أن تحرك الدول العربية لتقف إلى جانب محاولة شق الصف الوطني بشعار "أن العراق دولة عربية وجزء من الوطن العربي والأمة العربية".
لست معنياً بمن سينتخب لرئاسة الجمهورية, سواء أكان عربياً أم كردياً أم تركمانياً أم كلدانياً-آشوريا, فالكل له الحق في ذلك, ومن يستحق منهم من حيث الكفاءة والمقدرة والقبول الجمعي له, ومن يتم الاتفاق عليه وينتخب من المجلس النيابي العراقي, ولكن لست مع من يريد سلب حق أي مكون من هذه المكونات العراقية في هذا المنصب, فمن حق الجميع اعتلاء منصب رئاسة الجمهورية , بمن فيهم النساء فلهن الحق بذلك أيضاً.
أتحدث في هذا الموضوع عن تجربة مريرة مررنا بها في الفترة 1958-1963 حين بدأ البعثيون والقوميون العرب بطرح هذا الشعار, إذ أن كل المصائب والكوارث بدأت مع طرح شعار "العراق دولة عربية وجزء من الأمة العربية والوطن العربي" والتي اقترنت بشعار الوحدة العربية الفورية ثم طرح الشعار المضاد اتحاد فيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا), في وقت لم يكن العراق كذلك ولا يمكن أن يكون كذلك. للعراق محيط خليجي وعربي وإسلامي وشرق أوسطي ومحيط دولي أيضاً. وعلينا احترام موقعه ومكانته وكل مكوناته.
أتمنى أن نستمع إلى صوت العقل والحكمة والكف عن طرح شعارات طائفية وقومية شوفينية أو ضيقة تقود إلى عواقب وخيمة على العراق والشعب العراقي بكل قومياته وأديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية غير الطائفية وغير العنصرية وغير الممزقة للصف الوطني العراقي.
المطلوب من طارق الهاشمي, كما أرى, أن يكف عن طرح مثل هذه الشعارات المفرقة للصفوف وأن يدعو إلى انتخاب من يستحق من المواطنات والمواطنين لهذا المنصب وليس بالتحديد عربياً. ففشل مشروعه ومشاريع الآخرين الطائفية  يفترض فيها أن لا تدفع إلى الواجهة شعارات قومية ذات نزعة شوفينية قاتلة. فمثل هذه الهويات قاتلة حقاً حين يستعاض بها عن هوية المواطنة.
9/3/2010                      كاظم حبيب     

1102
المنبر الحر / رسالة مفتوحة
« في: 21:27 03/03/2010  »
برلين في 25/2/2010
رسالة مفتوحة
الزميل رئيس الهيئة الإدارية لنادي الرافدين الثقافي العراقي المحترم
الزملاء الأعزاء أعضاء الهيئة الإدارية لنادي الرافدين الثقافي العراقي المحترمون
تحية طيبة
أرجو لكم الموفقية والنجاح في عملكم التطوعي وأداء مهماتكم بعد انتخابكم أعضاء في الهيئة الإدارية, وأتمنى لكم موفور الصحة والسلامة.
لقد مرت علينا جميعاً خلال الأشهر الأخيرة أزمة مرهقة, ولكن بشكل خاص خلال الأسابيع التي سبقت عقد المؤتمر وأثناء المؤتمر ومواصلته إلى حين الانتهاء منه. والتركة ليست سهلة ولكنها قابلة للحل.
ورغم تقديمنا الشكر لجميع أعضاء الهيئة الإدارية السابقة على ما أنجزته من مهمات, ومنها المهرجان الثقافي السنوي وبالتعاون مع اللجنة المسؤولة عن تنظيم وتنفيذ مشروع المهرجان والندوات الثقافية خلال العام المنصرم, إلا أن عمل الهيئة الإدارية قد اقترن باختلال شديد في العلاقة بين أعضاء الهيئة الإدارية ومن ثم انتقال ذلك إلى أعضاء الهيئة العامة. وإذ أني لا أريد أن استبق الأحداث, إلا أني متيقن من عدة قضايا بودي أن أضعها أمامكم في محاول لتجنب الوقوع بما يماثلها في عمل الهيئة الإدارية الجديدة.
1 . لقد حصلت مشكلات في الهيئة الإدارية في العام 2008 وكان المفروض أن تدرس الهيئة الإدارية الجديدة لعام 2009 سبل تجاوزها في العمل الإداري للهيئة الجديدة والتي لم تحصل, كم أن الحساسيات السابقة أوجدت وضعاً قابلاً للتوتر والخلاف. إن الأخطاء التي يرتكبها عضو الهيئة الإدارية أو الهيئة العامة يفترض, كما أرى, أن لا تقابل بتوتر مماثل أو بالشدة واللجوء إلى قرارات تشدد من المشكلة ولا تحلها, بل المفروض عقد اجتماع للهيئة العامة وعرض المشكلة لمعالجتها جماعياً قبل تفاقمها, كما يمكن أن تقدم الهيئة الإدارية مقترحاً لحلها, وهو الذي لم يحصل.
2 . إن رئيس الهيئة الإدارية يفترض أن يتسم بالمرونة والسلاسة في التعاطي مع المشكلات وبعيداً كل البعد عن المزاجية والشدة ورد الصاع صاعين, إذ أن هذه المعاملة يستطيع كل إنسان ممارستها, بل الحصافة في مركز الرئيس تبرز عند التخلي عن هذا الأسلوب والتحري عن سبل معقولة لمعالجة الأمور. وهو الذي لم يحصل أيضاً. وحين نعتقد بأن هناك من يريد استفزاز الهيئة الإدارية أو تعطيل العمل, فما على الهيئة الإدارية إلى الدعوة لاجتماع عام وطرح الأمر بكل وضوح ومسؤولية وبعيداً عن الانفعال. وهو الذي لم يحصل أيضاً إلا في فترة متأخرة ومتوترة.
3 . إن من الأهمية بمكان إشراك الهيئة العامة بمسؤولية عالية في مهمات وأوضاع النادي ودفعهم للمشاركة في معالجة المشكلات التي تحصل. ولا يغير من هذه الضرورة وجود هيئة استشارية تساعد الهيئة الإدارية في معالجة المعضلات التي تبرز في أثناء العمل. وهذا لم يحصل كما ينبغي وقبل تفاقم المشكلة, مما دفع ببعض الأعضاء إلى جمع تواقيع لعقد الاجتماع. ومن الأهمية بمكان إشراك الهيئة العامة في اجتماعات متقاربة, وهي ليست خاصة بالانتخابات بل لمناقشة جملة من الأمور وتقديم مقترحات لتطوير العمل.
4 . إن النادي منظمة مجتمع مدني ديمقراطية ومستقلة عن كل القوى السياسية العراقية والألمانية. ومثل هذا الأمر مثبت في دستور النادي, وبالتالي لم أجد أي مبرر في تأكيد رئيس الهيئة الإدارية السابق في إيضاح أصدره على منظمة بعينها في عدم تدخلها في شؤون النادي, في حين أن هذه المنظمة بالذات لم تتدخل في شؤون النادي, علماً بأن أعضاء الهيئة الإدارية الآخرون لم يقتنعوا بذكر تلك المنظمة في الإيضاح, وهي التي أثارت من المشكلات ما لا ضرورة منه.
5 . لدي القناعة التامة بأن النادي قد فقد مجموعة من الأعضاء خلال الفترة المنصرمة, بغض النظر عن الأسباب, سواء أكانت صائبة أم خاطئة, ومن المناسب جداً أن نتحرى عن أسلوب مناسب لإعادة من يمكن البحث معه ومعالجة المشكلات التي أدت إلى ذلك الموقف وإعادته إلى العمل في النادي سواء كعضو أو كضيف, إضافة إلى الجهود الضرورية لكسب أعضاء جدد من العراقيات والعراقيين, وخاصة الشبيبة العراقية. وفي هذه النقطة أشعر بضرورة الإسراع بعقد لقاء مع الهيئة الاستشارية لمعالجة مشكلة الأخوة الذين قاطعوا حضور الجلسة الختامية للهيئة العامة لانتخاب الهيئة الإدارية.
6 . علمت من الزميل العزيز مصطفى القرَداغي أنه اختير من الهيئة الإدارية ليكون عضواً في الهيئة الاستشارية. أشعر بعدم ضرورة وصواب الموقف لا رفضاً للزميل العزيز بل من حيث الأصول العملية في مثل هذه الأمور, ولا بد من التنسيق بين رئيس النادي أو نائبه ورئيس الهيئة الاستشارية حين يتم انتخابه, وليس أن يكون عضواً في الهيئة الاستشارية.
7 . اشعر بضرورة البدء باختيار لجنة تحضيرية للمهرجان الثقافي القادم منذ الآن أولاً, ووضع برنامج ثقافي للفترة القادمة من خلال دعوة من يرغب من أعضاء الهيئة العامة لطرح المقترحات بهذا الصدد ثانياً, إذ أن هذا سيكسر الجمود والجو السابق ويهيئ أجواء جديدة للعمل.
8 . بسبب أوضاعي الصحية أعتذر عن أن أكون عضواً في أية لجنة تختارونها, ولكن مستعد للتعاون بصورة كاملة مع الهيئة الإدارية وأضع إمكانياتي المتواضعة تحت التصرف بعيداً عن عضوية أي من اللجان التي تشكلونها.
لكم مني خالص الود والتمنيات الطيبة
زميلكم
كاظم حبيب
ملاحظة: الرسالة موجهة إلى رئيس وأعضاء الهيئة الإدارية, ورئيس النادي هو الذي يمكنه توزيعها على أعضاء الهيئة الإدارية.     
لعدم إعلامي بوصول الرسالة والموقف منها, وددت أن أجعلها تحت تصرف أعضاء النادي ومن يرغب بالإطلاع عليها. 2/3/2010
   


1103
كاظم حبيب
الانتخابات تدق الأبواب .. وصوتي لن يضيع هدراً, فهو لقائمة وبرنامج اتحاد الشعب

لم يبق على موعد منح الأصوات سوى عدة أيام. ومنذ بدء الحملة الانتخابية شنت القوائم المتنافسة التي لها تمثيل كبير في مجلس النواب المنتهية ولايته حملة اتهامات متبادلة نجدها في خطب نوري المالكي وعمار الحكيم وأياد علاوي على نحو خاص وحملة تشكيك بالانتخابات وفي ممارسة التزوير المحتملة في هذه الدورة الانتخابية أيضاً. ومن جانبي اعتقد بأن مثل هذه الاتهامات تستند غلى عمل هذه القوى المشترك قبل ذاك ومعرفة كل منهما بأساليب الآخر, وبالتالي فنحن نخشى حقاً من الاحتمالين, من احتمال تدخل دول الجوار في التأثير على وجهة النتائج أولاً وفي محاول التزوير ثانياً.
وحين نعود إلى كتابات القراء واستطلاع الرأي في العراق نجد هناك شهادات كثيرة جداً ووقائع قائمة على أرض الواقع تؤكد خمس مسائل جوهرية بشأن قائمة اتحاد الشعب حيث يشكل الشيوعيون عمودها الفقري:
1.   امتلاكهم لبرنامج وطني وديمقراطي متميز ورافض للتمييز القومي والديني والمذهبي ورافض للطائفية المقيتة والداعي إلى الأخذ القاطع بمبدأ المواطنة التامة والمتساوية, سواء أكان بين أتباع القوميات أم أتباع الأديان والمذاهب, أو بين الجنسين الإناث والذكور. وهي لعمري عملة نادرة في عراق اليوم.
2.   التزامهم الثابت بقضايا الشعب والوطن والدفاع عن مصالح الناس اليومية وحل المشكلات القائمة, وخاصة قضايا التصنيع وتحديث الزراعة وضبط التجارة ومكافحة البطالة والفقر في البلاد.
3.   دعوتهم الصريحة والملحة لاستكمال السيادة والاستقلال الوطني وإخراج كافة القوات الأجنبية من العراق وفق الاتفاقية المحددة ورفض أي تدخل خارجي بالشأن العراقي, ومنها رفض التدخل بالانتخابات وتمويلها من الخارج.
4.   تميزهم بالنزاهة التامة وإدانتهم القاطعة للفساد المالي والإداري ورفضهم للمحسوبية والمنسوبية والطائفية في التعيينات في دوائر الدولة وتقديم المتهمين بالفساد المالي وبالتمييز القومي والديني والطائفي إلى العدالة وحماية أتباع الدينات الأخرى من قوى الإرهاب الدموي, وخاصة عائلات المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين.
5.   دعوتهم الملحة لإصلاح النظام المالي والإداري في أجهزة الدولة وإقامتها على أسس الشرعية والفصل بين السلطات الثلاث وتنظيم العلاقة السليمة والقانونية ووفق الدستور بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وبين الحكومة الاتحادية والمحافظات وحل المشكلات القائمة على أساس الدستور.
إن برنامج قائمة اتحاد الشعب يمثل القاسم المشترك الأعظم بين أتباع القوميات والأديان والمذاهب في العراق, بين أبناء وبنات الشعب العراقي من الجنوب إلى الشمال وإلى كردستان.
من أجل ذلك ومعرفتي الجيدة بما يسعى إليه الشيوعيون وقائمة اتحاد الشعب سأصوت لهم وأدعو الناس الطيبين في العراق للتصويت لهم.
3/3/2010                     كاظم حبيب      
   

1104

إجابات كاظم حبيب عن أسئلة صفحة المثقف حول الانتخابات العراقية القادمة.


يقف العراق أمام طلائع مرحلة جديدة لم تتبلور معالمها بعد, كما لم يتبلور وعي الإنسان العراقي بإبعاد هذه المرحلة ومضامينها واتجاهات تطورها, وهي وليدة تناقضات وصراعات عميقة داخل المجتمع وفي كل فرد في, وبالتالي فالفرد والمجتمع سيحتاجان إلى فترة أطول لوعي هذا الواقع والمشاركة في تغييره ومن ثم تطوير الوعي الفردي والجمعي معه , إذ أن عملية وعي الواقع والتفاعل مع المتغيرات الجديدة بحركتها البطيئة الراهنة التي ترتبط بدورها بعمق التخلف والتشوهات التي عاشها المجتمع والتدهور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي خلال أربعة عقود منصرمة على نحو خاص, كما ترتبط عضوياً بأهمية وضرورة التحولات المطلوبة في البنية الاقتصادية للاقتصاد العراقي وتكوين الدخل القومي وعملية توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي, وما ينشأ عن كل ذلك من تغيرات بنيوية عميقة في التركيبة الطبقية للمجتمع وفي عملية التنوير الاجتماعي والديني المرتبطة بدورها بواقع التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسية الجارية في المجتمع وداخل كل فرد فيه, تناقضات وصراعات بين الماضي والحاضر المتطلع نحو مستقبل أفضل, بين القديم والجديد, بين الفكر العلماني المدني والديمقراطي وبين الفكر الديني الغيبي المتخلف, بين حرية الإنسان وحقوقه وبين سلب إرادة الإنسان وغمط حقوقه, بين الحلول السلمية والتفاوضية لمشكلات العراق وبين العنف والقوة والإرهاب, بين فكر وأعمل, وبين لا تفكر لها مدبر!
والانتخابات القادمة لا تجسد إلا النزر اليسير من عملية الصيرورة والسيرورة المتفاعلة في رحم المجتمع, ليست سوى حلقة واحدة, رغم أهميتها, في مجمل العملية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الجارية في العراق.
علينا أن نكون شفافين صريحين في رؤيتنا للواقع العراقي ولعلاقة الإنسان بالدولة والمجتمع. ليس الإنسان كفرد حراً في العراق, رغم توفر الحد الأدنى من الحرية, ففكر الإنسان عموماً لا يزال مشدوداً إلى خيوط وقيود شديدة الاستحكام تجره إلى الوراء في وجهة التفكير والممارسة, والإنسان العراقي في الغالب الأعظم ليس حراً لأنه مشدود إلى واقعه المعيشي المتخلف الذي يجبره على مد يده أو قبول ما يُمد له من قبل أيدٍي أخرى غير نظيفة تشتري صوته وهو ليس حراً بمنحها. والإنسان في العراق لا يزال مشدوداً إلى بعض المرجعيات الدينية التي لا تحترم إرادته بل تفرض إرادتها عليه من خلال تأييدهاً سراً أو علناً لقوى سياسية معينة في المجتمع.
والإنسان العراقي في غالبيته لا يزال محكوماً بدينه وطائفته, إذ تراجع مبدأ المواطنة المتساوية والوطن لصالح الدين والطائفة والمدينة والمحلة والعشيرة وشيخها. لم يعد مفهوم المواطنة يحتل مركز الصدارة, بل الطائفة رغم شجب الكثير من البشر لها, فهم لا زالوا يلهثون خلفها!
ورغم التحسن النسبي في وعي الإنسان وموقفه من قوى الإسلام السياسية نتيجة تصرفات وسلوكيات تلك القوى خلال الأعوام السبعة السابقة دون استثناء, فأنها سوف تحوز على نسبة عالية من أصوات الناخبين الذي عاشوا في الشهرين المنصرمين أجواء التصعيد الطائفي بصيغ جديدة وغبية على المدى البعيد رغم ربحيتها على المدى القصير. فالطائفية قائمة ولم تختف, رغم التغييرات التي جرت على تسميات القوائم وأدخلت رتوشات عليها بأسماء علمانية وديمقراطية, ورغم الشروخ التي أصيبت بها من جراء سلوك تلك القوى وميليشياتها المسلحة, سواء أكانت شيعية أم سنية. لقد سعى الكثير من حكام العراق الحاليين إلى تعميق وتشديد الاستقطاب الطائفي خلال الأسابيع المنصرمة لصالح القوى الطائفية رغم استخدامهم لأساليب أخرى في الطرح, وغالباً ما سعى هؤلاء إلى جعل الانتخابات تحصل على مقربة زمنية من مناسبات دينية طائفية بحيث يتأثر منح الصوت بالعاطفة الدينية أو الطائفية المتغلبة حالياً على عقل الإنسان وعلى تصرفاته.
لو ألقينا نظرة على الحملة الانتخابية لواجهتنا الوقائع التالية:
** قوى حاكمة تمتلك القدرة الفعلية على استخدام فعال لأجهزة الإعلام الحكومية وأجهزة الأمن والحماية, وخاصة رئيس الوزراء وبعض القوى المالكة لمواقع مهمة في الحكومة, في تسيير حملتهم الانتخابية. وكذا الحال لأحزاب أخرى في الحكم ومنهم عمار الحكيم.
** قوى مالكة للأموال وتصرف بسخاء لا مثيل له في العراق قبل الآن, وكأن السماء قد أمطرت عليها أموالاً, أو أنزلت السماء لها أكياساً من الذهب الخالص بالزنبيل, وهي قادرة على شراء ضمائر الناس (أصواتهم) بأبخس الأثمان العطايا!
** هذه القوى "تمتلك" قنوات تلفزيونية وتمتلك مواقع إلكترونية وتمتلك صحفاً وصحفيين, وتمتلك العربات الفارهة التي يمكنها سلب لُبّ الناخبين وجلبهم للتصويت لها.
** هذه القوى المتحكمة تجرأت على اتهام الأمم المتحدة على تزوير الانتخابات, في وقت كانت ولا تزال هي المتهمة بذلك, فهل تسير على قاعدة الهجوم خير وسيلة للدفاع أو "اتغدى بيهم قبل أن يتعشوا بينه!".
** اتهموا الولايات المتحدة  باحتمال قيامها بتزوير الانتخابات وهم اقرب الناس إليها وعلى  صلة بها, والحال أن المتهم هو من يوجه مثل هذا الاتهام و"اللي جوه أبطه عنز يبغج".     
في مقابل هذا هناك العديد من القوائم والمرشحين من لا يمتلك كل تلك الإمكانيات التي يمتلكها الآخرون من حكام العراق, ولكنه يخوض الانتخابات مؤملاً أن لا تُزور بشكل واسع وأن يحصل على قدر معقول من الأصوات والمقاعد في البرلمان.
ربما وأتمنى أن تكون الانتخابات القادمة أفضل من سابقتها, وأن تكون اقل تزويراً من سابقتها, وأن تكون نتائج الانتخابات أفضل في بنية توزيع النواب من بنية المجلس الراهنة. ولكني واثق تماماً بأن سيكون هناك تزوير, وسيكون هناك تجاوز على قواعد النشاط الانتخابي, وستكون هناك رشوات وعطايا ومنح من أمثال مسدسات رئيس الوزراء وبطانيات جلال الصغير وصوباته أو الوعود بمنح بعثات وزمالات دراسية أو وظائف حكومية ومستشارية أو توزيع أراضي الدولة الأميرية على شيوخ العشائر وكبار الموظفين أو قطع سكنية, أو استخدام الإساءات الطائفية كما فعلها بهاء الأعرجي.
الفترة الراهنة شهدت تراكماً مستمراً في المشاهد المثيرة للإنسان العراقي, سواء على صعيد فتاوى التحريم الكثيرة التي أصدرتها قوى الإسلام السياسية ضد حرية الإنسان وإرادته الحرة, كما في الموقف من المشروبات الروحية أو فرض الحجاب في دوائر الدولة أو المدارس, أو المشاركة بالفساد أو تعطيل البناء وإعادة الإعمار ...الخ, أم على صعيد التصرف الطائفي في أجهزة الدولة والتعيين والتوظيف, أم على صعيد الفساد المالي والإداري أم على صعيد نقص الخدمات وعدم العناية بالأرامل والأطفال والتعليم والصحة والخدمات الأخرى, وخاصة الكهرباء. وأدرك الناس طبيعة العوامل والقوى الكامنة وراء هذه الظواهر السلبية. ولكن هذا التراكم الكمي لم يتحول بعد إلى حالة جديدة, إلى حصول تغيير كيفي في رؤية الإنسان للوضع وفي الموقف الفكري والممارسة الفعلية منها, بل هي بحاجة إلى فترة أطول وعملية أكثر عمقاً وأكثر تحريكاً من جانب القوى الديمقراطية.
العنف في العراق قد مورس من منظمات إسلامية سياسية متطرفة وإرهابية مثل القاعدة. ولكن العنف مورس أيضاً من أطراف في الحكم أيضاً, والبعض ممن هم في الحكم أو على هامشه مارسه خلال الفترة الأخيرة أيضاً من أجل مسح ما تحقق من منجزات تقليص العنف المنطلق من المليشيات الطائفية المسلحة. وهي التي ستقرر: هل ستعود إلى العنف من جديد أم تضعه جانباً وتستخدمه عند الحاجة؟ سيظهر هذا في أعقاب ظهور النتائج ومكانة كل منها في المجلس. ويعتمد على دول الجوار ومدى مكانة اللوبي المرتبط بها في المجلس وقدرته في التأثير على سير أعمال المجلس ومصالحها.
الواقع العراقي معقد ومركب, ويزيده تعقيداً ضعف الحكومة ودورها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لا تنفع الخطب وحدها, فلو كانت كافية لما فشل الدكتور الجعفري في البقاء في السلطة ولما وصل نائبه إلى رئاسة الوزراء. وهكذا الحال بالنسبة للآخرين.
طبعاً سيبقى الدور الأمريكي والإيراني والسوري والسعودي والخليجي فاعلاً في هذه الانتخابات, ولا يمكن أن أتصور غير ذلك. ولكن سيختلف هذا الدور. سيكون دوراً يتسم بالفظاظة والوقاحة, كما في دور إيران وسوريا أو السعودية والخليج, وبين أن يكون بشكل غير مباشر, كما كان في الموقف الأمريكي الذي طرحه السفير الأمريكي في العراق كريستوفر هيل قبل بضعة أيام, وكان في منتهى الصراحة والوضوح ووضع حداً لاتهام الإدارة الأمريكية برغبتها في مجيء البعثيين إلى الحكم. إن الاتهام الموجه للإدارة الأمريكية يتلخص في كونها كانت السبب وراء تسلط القوى الإسلامية السياسية الطائفية على الحكم في العراق وفي كافة الانتخابات التي جرى التزوير فيها لصالح هذه القوى وليس لغيرها. 
أتوقع أن تكون هناك مشاركة جيدة من جانب الناخبات والناخبين في هذه الدورة الانتخابية, ولا أتوقع حصول مقاطعة سياسية للانتخابات إذ لا معنى لها, ولكن سوف تبتعد نسبة غير قليلة عن التصويت لأنها لم تشعر بفائدتها خلال دورة 2005. وهو تقدير خاطئ يشجع عليه البعض.
أتمنى أن تزداد المشاركة, إذ أن المقاطعة تعني تكريس الواقع السلبي الراهن, والانتخابات القادمة ستجلب بعض التغيير, ولكن ببطء شديد ومحدود نسبياً, ومع ذلك فهو مطلوب ومفيد. والانتخابات القادمة ليست مصيرية ولا حاسمة, بل هي مهمة وخطوة هامة على طريق طويل في الصراع المتواصل من أجل مستقبل العراق ومستقبل الإنسان فيه, وهذا ما يستوجب النضال من أجل دفع الناس للمشاركة الأوسع بالانتخابات, مشاركة أولئك الصامتون والمغيبون من الساحة العامة في البلاد, أولئك المحرومون من العمل والعيش الكريم, أولئك الذين يشككلون الغالبية العظمى من الشعب العراقي.           
البعثيون غير مرغوب بهم في العراق ولن يصلوا إلى الحكم بعد اليوم. وقد برهن الدكتور خضير المرشدي, ممثلهم في سوريا, على أنهم لم يتعلموا من وجودهم في الحكم طيلة 35 عاماً, وأنهم لم يدركوا أي درس مهم من دروس الفترة المنصرمة, وهم لا زالوا يتسمون بالعنجهية البعثية وبالصلافة غير الاعتيادية, ولم يقدموا أي اعتذار للشعب العراقي على الجرائم التي ارتكبوها في كل بيت عراقي, بل وفي بيوت جمهور من أعضاء وقياديي وكوادر حزبهم أيضاً, وأنهم كانوا السبب في الحروب وموت البشر والقبور الجماعية على امتداد أرض العراق وأنهم المسؤولون عن خراب البلاد ودمار الاقتصاد وعن الاحتلال ايضاً.
يفترض فتح العين ضد أولئك الذين تلطخت أيديهم بدماء وشرف وضمير الناس, ولكن لا يجوز رميهم في قدر واحد, بل لا بد من تنشيط عملية الصراع داخل كل بعثي ليتخلص من أردان الفترة المنصرمة ويعود إلى أحضان الشعب, ولكن ليس للطائفية المقيتة أو المشاركة في الصراعات الطائفية..الخ. 
إن حراكاً مهماً حصل في بنية التحالفات السابقة, كما حصلت اصطفافات جديدة على مستوى العراق كله, أي الوسط والجنوب وكردستان, وبالتالي سيؤثر كل ذلك وبهذا القدر أو ذاك على بنية وطبيعة التحالف الحكومي القادم, وسوف لن يكون أسوء مما نحن عليه الآن. 
برلين في 1/3/2010             د. كاظم حبيب


1105
كاظم حبيب
حمى الانتخابات ونسيان مشكلات الطفولة في العراق
في فترة الانتخابات يفترض أن يزداد اهتمام المرشحين بمشكلات الشعب والفئات المنتجة والكادحة والفقيرة والعاطلة عن العمل , إذ أن هذه الفئات تشكل الغالبية العظمى من سكان العراق, ليكسبوا ودهم ويدفعوا بقضاياهم إلى المقدمة لتوعية الناس بواقع تلك المشكلات وسبل معالجتها. ثم يواصلوا ذلك في الدورة النيابية.
ولكن خلاف هذه القاعدة العامة ما يجري اليوم في العراق, فالكثير من القوى والأحزاب السياسية والقوائم الكبيرة التي تخوض الانتخابات تخلت عن هذه القاعدة وراح البعض الغني منهم أو من اغتنى بأموال الدولة أو دول الجوار أو غيرهم ممن يوزع الهدايا الثمينة ابتداء من المسدسات والساعات الثمينة ومروراً بالمدفئات والبطانيات والملابس النسائية الداخلية والعباءات أو غيرها بأمل كسب أو شراء أصوات الناس وليس بالتزام قضاياهم العادلة والدفاع عنها والنضال من أجل تحقيقها وتعبئة الناس حولها وزيادة الوعي بها. ومنهم من ندر ووجد في مجلس النواب حتى وصل غياب البعض أكثر من 75% من مجموع جلسات مجلس النواب في الدورة التي ستنتهي قريباً. ولكن هذا لا يعني أن الجميع يمارس ذلك أو تغيب بهذه الصورة البشعة, بل هناك حقاً من حمل ويحمل على عاتقه طرح هذه المشكلات والتنوير بها لحمل الناس على النضال من اجل معالجتها, رغم أنه لا يملك المال الكافي للدعاية الانتخابية.
واحدة من تلك المشاكل الكبيرة التي تواجه الدولة والمجتمع العراقي وكل حكومة راهنة أو قادمة هي مشكلة الطفولة العراقية. حرم الطفل من العناية, عانى الأمرين في فترات الحروب المنصرمة ومن الحصار الاقتصادي ومن سياسات النظام الدكتاتوري المغرقة في العداء للإنسان. غاب عن الصفوف الدراسية والتسكع في الشوارع يجمع أعقاب السجاير أو يبيع العلكة وقناني الماء أو يمتص السم من الأكياس البلاستيكية. من بين تلك المشكلات اختطاف الأطفال وابتزاز عائلاتهم للحصول على المال, أو قتلهم وأخذ الأجزاء المناسبة منهم ودفنهم , أو بيع الأطفال في سوق النخاسة أو استخدامهم في الاغتصاب الجنسي.
لم يكن العراق خال من هذه الحالات على امتداد تاريخ العراق الحديث, أي منذ تشكيل الدولة العراقية الملكية. كان يحصل هذا وكانت العائلات تنبه أطفالها من احتمال الاختطاف واستخدامهم لأغراض مختلفة. وحصل هذا في الفترات اللاحقة وخاصة في فترة الحصار التي استمرت قرابة 13 عاماً كانت عجافاً حقاً, فحصل فيها ما حصل للأطفال الأبرياء من مرض وموت بسبب نقص المعالجة الطبية أو سوء الأوضاع الصحية أو نقص التغذية والمناعة ,,,الخ.
وبعد سقوط النظام تمنى الإنسان الذي ناضل ضد نظام البعث والدكتاتورية أن تنتهي تلك الفترة وتبدأ فترة جديدة تتطور تدريجاً لصالح الإنسان والأيتام والأرامل والمرضى والذين عانوا من اضطهاد وقهر النظام. ولكن وبعد مرور سبع سنوات عجاف جديدة, أضع أمام أنظار المسؤولين في العراق نص الخبر الذي وصلني بتاريخ 20/2/2010 عبر الإنترنيت:
 
"التلفاز السويدي يعرض تحقيقا حول سوق لبيع الاطفال العراقيين وسط بغداد

معلومات عن اطفال العراق
اثار التحقيق الصحفي الذي نشر على ست صفحات من اوسع واكبر الصحف السويدية انتشارا ووكالة الاخبار العالميه اكسبريس والذي ترجم الى اكثر من ١٢ لغه عالمية خلال الاربع والعشرين ساعه الماضية ضجة كبيرة في السويد.
واوضح التحقيق ان الصحفية السويدية (تيريس كرستينسون) وزميلها (توربيورن انديرسون) تخفيا في سيارة فولكس واكن برازيلية مهترئة ليتابعان عن كثب بالصورة والصوت السوق الكبير لبيع الاطفال الرضع والمراهقين وسط بغداد وهو الامر الذي أبكى القراء والمشاهدين من المجتمع السويدي لحظة نشره في الصحف والتلفاز السويدي! 
واشار الصحفي ( انديرسون ) في تحقيقه ان فتاة عراقية ذات أربعة أعوام تباع وسط بغداد بمبلغ 500 دولار ، وهو المبلغ الذي لا يساوي قيمة الزهور الصناعية التي يضعها رئيس الجمهورية الحالي جلال الطلباني ا! . ثم يسترسل الصحفي وهو يقول " ان أطفال العراق تباع في سوق النخاسة ، وأرقام مخيفه عن عدد القتلى اليومي ، وأحزاب تنهب ما فوق الارض وتحتها وتقدم لشعب العراق رصاصة الموت تحت رغيف الديمقراطية .. جوع ووباء وسوء تغذية وتلوث بيئي وفوضى سياسية .. ويُقتل الإنسان بمبلغ لا يساوي قيمة قسيمة ملء الهاتف النقال " .
وأكد الصحفي السويدي في ختام تحقيقه ان تداعيات هذه القضية ستأخذ مداها على أفق مختلفة في الأيام القليلة المقبلة ، إذ أعلنت السويد فوراً عن فتح استقبال الأطفال العراقيين ممن يتعرضون لسوء المعاملة ومنحهم اللجوء مباشرة ، حيث يحق للطفل بعد الإقامة لم شمل ولي أمره". (انتهى الخبر ك. حبيب).
وجهت هذه الخبر إلى أكثر من صديق في العراق للتيقن من صحة الأمر. ومنهم الأخت الفاضلة المهندسة ميسون الدملوجي. قيل لي من أكثر من صديق أن الظاهرة موجودة ولكن ليس هناك سوق بهذا المعنى, وأنها ظاهرة كانت موجودة قبل ذاك وتفاقمت. ولكن هناك ما يكفي من القوانين الجيدة التي تحمي الطفولة العراقية حقاً, ولكن لا توجد آليات لتطبيق هذه القوانين!
أجزم بوجود قوانين جيدة ومطلع عليها عبر الدستور الجديد, ولكن ما فائدة الدستور الجيد والقوانين الجيدة حين لا توجد آليات للتنفيذ والرقابة على سبل تطبيق القوانين وحماية الطفولة من كل المجرمين الذين يتاجرون بالطفولة العراقية.
ولكن أليس من واجبنا أن نطالب الحكومة وهي المسؤولة عن الطفولة المعذبة في العراق أن تمارس دورها في هذا الصدد, أليس من حقنا أن نطالب جميع المرشحين للانتخابات بأن يضعوا بنوداً خاصة حول حقوق المرأة والطفولة في برامجهم الانتخابية, إن كانت للكثير منهم برامج انتخابية. علينا أن لا نكتفي ببرنامج اتحاد الشعب أو برنامج السيدة المهندسة ميسون الدملوجي ومواقفها الممتازة في مجلة نون وفي البرلمان وخارجه, أو نشاط منظمة الأمل ورئيستها هناء أدور أو منظمة رعاية الأرامل في العراق ورئيستها سلمى جبو, أو السيدة الوزيرة نرمين عثمان أو المرشحة في قائمة اتحاد الشعب السيدة شميران مروكل, بل أن نجعل الجميع, نساء ورجالاً, يطالب بها ويلتزم بوضع آليات تنفيذ تلك القوانين حين يفوز بالانتخابات ويراقب سير التنفيذ.
إن أطفالنا اليوم هو شباب المستقبل, وحين ينمو الأطفال في الأجواء الراهنة في العراق وما يواجهونه من مشكلات سوف لن يكونوا قادرين على النهوض بمهمات العراق الثقيلة القادمة. علينا أن نضع هذه الحقيقة أمام أعيننا حين نتوجه إلى صناديق الاقتراع لنتعرف من خلال البرامج على من وضع مشكلات وقضايا الشعب نصب عينيه, سواء أكان قائمة أم مرشحة أم مرشحاً للانتخابات, علينا أن نحكّم ضميرنا لصالح شعبنا, لصالح أطفال هذا الشعب ومستقبلهم ومستقبل العراق..
28/2/2010                      كاظم حبيب 

1106
كاظم حبيب
سياسيو الهدايا وهدايا السياسيين!
من كان بيته من زجاج, لا يرمي بيوت الناس بالحجر!
هذا العنوان الذي وضعته لأكتب مقالاً جديداً عن العراق بعد قراءة ملاحظة سجلها الفنان الكاريكاتيري الأستاذ سلمان عبد. وذد ذكرني هذا بما كان يجري الحديث عنه في القرن التاسع عشر حول فلسفة البؤس وبؤس الفلسفة التي يتبناها البعض. وإذا كان العنوان القديم ينطبق على الفكر والرؤية الفلسفية البائسة لبعض الفلاسفة حينذاك وما ينجم عنها, فأن هذا العنوان الذي وضعته ينطبق بشكل دقيق على الفكر والممارسة السياسية في العراق في هذه المرحلة الهشة من تاريخ العراق السياسي ومن بؤس السياسة التي تمارس في العراق وبؤس الكثير من السياسيين لا من الناحية المالية, بل من الناحيتين الفكرية والسياسية وما ينشأ عنها من محاولة لشراء الذمم في مجتمع لا زال يعاني من الفقر والفاقة والحرمان ويتعطش للمال, وهي الطريقة المقابلة لأولئك الذين يشترون الناس لقتل الناس جسدياً بسبب فقر من يبيع نفسه مالاً وتنويراً, وهنا يتم القتل فكرياً وسياسياً.
كانت الانتخابات في العهد الملكي تتسم بعدم النزاهة والغش والرشوة بحدود معينة وخاصة لشيوخ العشائر وكبار الموظفين من أجل تعبئة أفراد عشائرهم ودوائرهم لخوض الانتخابات. وكانت الرشوة تبرز على شكل تعيينات في الوظائف أو الحصول على قطعة أرض أو تضمين أراضي زراعية من الدولة أ, ..., ثم اتخذت في المرحلة الأخيرة دفع بعض النقود لشراء الأصوات بصورة غير مباشرة وعبر وكلاء للمرشحين الكبار.
وفي عهد صدام حسين حين بدا يمارس الانتخابات لمجلسه النيابي القرَقوزي, كان يمنح العطايا الكبيرة والكثيرة لعدد كبير من شيوخ العشائر وكبار الموظفين وأحياناً بعض العلماء والأدباء الذين خصوه بالمديح. وكانت بعض هذه الهدايا تقدم على شكل ساعات عليها صورة "قائد الأمة المغوار!" صدام حسين أو سرجون العراق الجديد! وكانت بنادق كلاشنكوف الروسية أو مسدسات من الأنواع الممتازة, إضافة إلى توزيع العربات المرفهة من مرسيدس أو غيرها من الماركات المعروفة عالمياً. وكانت هذه الهدايا غالية الثمن لا يتحملها ضلع العراق المكسور في فترة الحصار الاقتصادي, ولكنه واصل منحها بالرغم من جوع الناس وموت الفقراء المرضى بسبب نقص الأدوية والعناية الطبية.
وفي الفترة التي أعقبت سقوط النظام حتى قبل بدء الانتخابات بدأ بعض الحكام الجدد يوزعون الهدايا الثمينة. فالدكتور أياد علاوي بدأ بتوزيع الساعات الثمينة جداً والغالية الثمن وسويسرية الصنع على وزراء حكومته وكبار موظفيه والمحيطين به. وكان البعض يتصور أن سعرها لا يتجاوز الألف دولار. وحين استفسر أحدهم عن سعر الساعة الواحدة من أحد باعة الساعات قيل له بأن سعرها على الأقل ثمانية ألاف يوروو أو ما يعادل حينذاك عشرة ألاف دولار أو يزيد بقليل. ولم تكن هذه الهدايا لوجه الله, بل كانت لوجه البقاء في الحكم. وخاب فأله, لأنه لم يكن حاكماً جيداً وعرف عهده الكثير من النهب والسلب, ومنهم وزير دفاعه الشعلان الذي عرف كيف ينهب الدولة ويغادر العراق في الوقت المناسب. وكان عهده لا يختلف عن عهد الجعفري الذي جاء من بعده وأصبح في فترة قصيرة صاحب قناة تلفزيونية وما لم يكن يحلم به يوماً في حياته من مال وجاه ورياش. فالجعفري من مدينيتي وأعرف عائلته (الأشيقر) جيداً والبعض من أقاربه القريبين كان معي في الثانوية, وهم من السادة الذين يقومون بمرافقة زوار الحضرة الحسينية.
واليوم نحن أمام ظاهرة قديمة جديدة. فقد بدأ رئيس الحكومة العراقية الجديد, ومع بدء الحملة الانتخابية, يوزع هدايا لا تختلف عن هدايا صدام حسين, يوزع سلاحاً لا دعوة فيه للسلام والأمان, بل هي الرمز للعسكرة والحرب والموت. فمن أين جاء المالكي بهذه النقود؟ فمعرفتنا بعائلته وأملاكه وإمكانياته المالية الشخصية معروفة للجميع, فلماذا يوزع مسدسات غالية الثمن ( ثلاثة آلاف دولار للمسدس الواحد ) على شيوخ العشائر كتب عليها هدية السيد رئيس الوزراء, تماماً كما كان يكتب عليها صدام حسين؟ كان صدام حسين ناهباً لخيرات الوطن والشعب, فلا حساب عليه, وقد أخذ حسابه أخيراً وأرسل على مزبلة التاريخ.
نحن الآن أمام رئيس الوزراء, اقترح عليه أن يوزع تلك النقود إن كانت من ماله الحلال على الفقراء والمعوزين المتجمعين أمام بوابات مزارات الكاظمية والأعظمية وشارع الشيخ عمر وكربلاء والنجف وسامراء وليس على شيوخ العشائر الملئا بطونهم والذين لا يحتاجون إلى مسدساته فعندهم ما يكفي من الأسلحة.
ألا يحق لنا أن نطالب السيد رئيس الوزراء بكشف الحساب عن أموال حملته الانتخابية وعن أمواله الخاصة تماماً كما فعل بعض النواب وبعض المسؤولين؟ ألا يحق لنا أن نتساءل وهو الذي وجه الاتهام لمن يلتقي ببعض المسؤولين العرب, ومنهم ملك السعودية, بـ "اللاوطنية", أن نشير إلى أن هناك من يأتي إلى العراق من دول الجوار, وأخص بالذكر هنا علي لاريجاني, رئيس مجلس النواب الإيراني, قبل الانتخابات والتقي بالكثير من السياسيين, بمن فيهم رئيس الوزراء, فما هو حكم رئيس الوزراء على تلك الزيارات وعلى من استقبلوه؟ علماً إن أحد الموضوعات كانت الانتخابات العراقية والتحالفات السياسية.
العراقيات والعراقيون يدركون تماماً بأن هناك تدخلاً فظاً من إيران وسوريا والسعودية والخليج ولبنان وغيرها من الدول المجاورة والعربية والإسلامية في الشؤون العراقية, ومنها الانتخابات, ولا يمكن إيقاف هذه التدخلات ما دامت هناك أحزاباً إسلامية سياسية طائفية أو "علمانية" متخلفة تميل لهذا الطرف أو ذاك, وما دامت الحكومة العراقية ضعيفة وقائمة على أسس المحاصصة الطائفية, وما دام الكثير من أبناء وبنات الشعب العراقي يعيشون في حالة يائسة من الفقر والحرمان ومادام الفساد المالي يهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد. وما دام هناك من السياسيين من يقبل أخذ الهدايا من الخارج أو الداخل من جهة, ويقبل بتوزيعها للفوز بالانتخابات من جهة أخرى! 
سياسيو الهدايا ينبغي أن لا يفوزوا بالانتخابات لأنهم إذ بدأوا بهذه العملية وبهذه الصيغة غير السليمة, فكيف سيكون الأمر بعد فوزهم؟ هدايا السياسيين يمكنها أن تعمي البصر والبصيرة ولكن إلى متى؟ هذه هي الرغبة والأمنية والأمل. ولكن أوضاع العراق الراهنة لا تسمح بتحقيق هذه الأمنية , بل تسمح مع الأسف الشديد بعبور سياسيو الهدايا إلى مجلس النواب!
 يتصل بعض المرشحين من فقراء الحال بأصدقاء لهم في الخارج يرجونهم تأمين عدة مئات من الدولارات لهم لإدارة حملتهم الانتخابية المتواضعة, والبعض الأخر يصرف الملايين من الدولارات أمام أنظار الشعب ولا يسأل أحد عن أصل هذه الأموال, من أين وكيف وصلت إلى العراق!
من أين للسيد إبراهيم الجعفري هذه الأموال للصرف على قناة تلفزيونية وإذاعة ومكاتب في الداخل والخارج ومراسلين ودور؟ ومن أين لغيره من أمثاله من المرشحين من الأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية هذه الأموال؟ من حقي الكامل كمواطن أن استفسر عن كل ذلك ومن حق القضاء العراقي أن يستفسر من أين لك هذا" إن هذا ليس من فضل ربك, بل من فضل غيرك! فمن هو الغير؟ هنا تسكب العبرات! لسنا أما طلسم لا يحل, بل الحل موجود لدى الشعب, فهو الذي يقرأ الممحي والمكتوب, ولكن من المؤسف حقاً أن الوعي المزيف الراهن لا يعطي هذا الشعب إمكانية التصريح بما يشاهده ويعيشه في العراق. البعض يتصرف على طريقة صم, بكم, عمي فهم لا يفقهون! ولكن السؤال العادل : إلى متى سيستمر هذا الوضع .. إلى متى... إلى متى؟؟؟
27/2/2010                   كاظم حبيب       

1107
كاظم حبيب
المعايير الهشة في الموقف من الديمقراطية الغربية وواقعنا العراقي..!

المجتمعات الغربية قائمة منذ عدة قرون على أساس النظام الرأسمالي, وهو نظام اقتصادي سياسي يستند إلى قوانين اقتصادية موضوعية ذات طبيعة استغلالية, كما أن الطبقة الحاكمة فيها هي الطبقة البرجوازية بشرائحها الكبيرة وفي بعضها بمشاركة الشرائح المتوسطة وهي تستند إلى ما يطلق عليه بالديمقراطية البرجوازية. ولا شك في أن هذه النظم تستخدم الديمقراطية بما يتناغم ومصالحها الأساسية, ولكنها عبر القرون المنصرمة طورت نوع من الآليات التي تضمن حدوداً معينة من الديمقراطية التي تسمح بانتخابات حرة وبأجواء معينة  يمكن للمجتمع والنظام القضائي أن يكشفا عن الاختلالات التي تحصل فيها كما يمكن أن تكشف عن الفساد المالي والإداري, كما تنشر الصحف الفضائح التي تحصل في الدولة في مختلف المجالات, بما فيها المسائل الأخلاقية.
هذه الديمقراطية البرجوازية أو الغربية لم تنشأ بصورة عبثية ولم تأت بهدية من الطبقة الحاكمة بل عبر نضال طويل للطبقة العاملة والكادحين والمثقفين والنقابات ومنظمات المجتمع المدني, وهو مكسب كبير جداً للمجتمع, كما تعززت في فترة الصراع الشرقي –الغربي بسب المنافسة والخشية من تحول الناس صوب الاشتراكية في العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بشكل خاص.
نظرتنا نحن أبناء الدول النامية عموماً هشة ووحيدة الجانب إلى هذه الديمقراطية لا نرى منها سوى الجانب المظلم, في حين يصعب علينا أن نرى الجوانب الأخرى التي تساعد المجتمع على مواصلة النضال لإجراء التغيير الديمقراطي وتعميقه عبر نضال سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي لصالح الغالبية العظمى من نساء ورجال المجتمع, رغم كل الصعوبات التي تعترض هذا النضال. فهو في كل الأحوال أفضل من واقعنا العراقي أو العربي أو عموم الدول النامية.
سأحاول هنا تناول مسألة واحدة يدور حالياً النقاش الواسع والحامي حولها, إذ تظهر يوماً بعد آخر حقائق فضائحية جديدة في المجتمعات الغربية وخاصة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأيرلندا وألمانيا. وتنشر الصحف اليومية مقالات وأخبار عن فضائح قبيحة جداً جرت منذ الثمانينات من القرن الماضي في مدارس اليسوعيين والمدارس الكنسية الكاثوليكية الأخرى وكذلك في الكنائس الكاثوليكية, حيث كشف النقاب عن ممارسة مجموعة غير قليلة من أساتذة هذه المدارس أو قسسة في الكنائس, وهم جميعاً قسسة بمراتب دينية مختلفة وغير متزوجين, اغتصاب صبية في تلك المدارس بأشكال مختلفة بما في ذلك اللواط بهم أو فرض مص ذكر القس من جانب الأولاد والبنات, أو ممارسة الضرب المبرح والأشغال المرهقة. وغالبية الذين تعرضوا لسوء المعاملة أو الاغتصاب بأنواع هم من الصبية, ولكن بين من اغتصب أو أسيء معاملته كانوا من البنات أيضاً.
وقد تجرأ الشباب والشابات الذين تعرضوا إلى تلك الإساءة والاغتصاب من قبل شيوخ الدين أن يعرضوا قضاياهم على الرأي العام الألماني أو الأيرلندي أو الأمريكي وسلمت القضايا إلى المدعين العامين في هذه الدول وفي غيرها أيضاً.
قدم كبير القساوسة مسؤول المدارس الكاثوليكية, ومنها مدارس اليسوعيين, اعتذاره الرسمي للضحايا وذويهم في ألمانيا. وفي الوقت الذي بدأت أيرلندا بدفع تعويضات كبيرة للضحايا, وكذلك الولايات المتحدة بملايين الدولارات, بدأ الحديث في ألمانيا عن ضرورة أن يحصل ذلك في ألمانيا, وأن لا تعتبر هذه القضايا تجاوزت فترة المحاسبة القانونية والعقاب.
إن كشف هذه الفضائح ما كان ليحصل لو أن النظم في هذه الدول غير علمانية, أي لو كانت تربط في دساتيرها بين الدين والدولة أولاً, ولولا وجود ديمقراطية وحرية ووجود صحفيون يبحثون بحرية للكشف عن مثل هذه الجرائم البشعة ثانياً.
والسؤال المشروع هو: هل في مقدور النظم الحالية في الدول العربية, ومنها العراق, حيث تحصل مثل هذه التجاوزات الأخلاقية والسلوك غير الطبيعي من قبل جمهرة غير قليلة من شيوخ الدين الذين يدرسون في المدارس الدينية وفي المدارس الأخرى أن تكشف عنها وتعري أصحابها وتقدمهم غلى المحاكمة والمحاسبة ودفع تعويضات الآلام لمن تعرض لهذا السلوك المشين؟ وهل يمكن طرح هذه الأمور في الشارع العربي, وهل يتجرأ أي إنسان ذكر تعرض للاغتصاب أن يعرض قضيته على المحاكم في الدول العربية ويفرض حبس ومعاقبة من مارس الاغتصاب وتعويض من مورس بحقه الاغتصاب. وأتوجه بهذا الأمر إلى المسؤولين في المدارس الدينية الكثيرة في عموم العالم الإسلامي, سواء أكانت في باكستان أم إيران أم السعودية أم العراق أم دول الخليج أم غيرها من الدول التي يفترض فيها أن تتحرى عن هذه الظاهرة المنتشرة في بلداننا, ولكن لا أحد يهتم بها, رغم أن أولادهم هم الذين يتعرضون لمثل هذه المعاملة القاسية والاغتصاب.
إن ربط الدين بالدولة من جهة, وغياب الحرية والحياة الديمقراطية من جهة ثانية, وضعف شفافية القضاء وسوء التربية اليومية من جهة ثالثة, هي التي تجعل من الصعوبة بمكان بل من المستحيل في المرحلة الراهنة طرح ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي من تجاوزات على الصبية والبنات, بما في ذلك الاغتصاب الجنسي لمعالجة المسالة بكل جدية وعلمية.
إن الصراحة في طرح المشكلة والشفافية في معالجتها هي التي تساعد المجتمع على الخلاص منها, إذ أن الذين يتعرضون لمثل هذا الاغتصاب يعانون من عقد نفسية ومن كوابيس مزعجة, ويمكن أن يبدأوا بممارسة ذات السلوك المشين مع آخرين انتقاماً لأنفسهم.
إن ما يذكر عن أطفال العراق وعما يجري لهم في بعض المجالات تحز بالنفس كثيراً, ويشعر الإنسان بالألم إذ لا حكومة عراقية فكرت حتى الآن بهذه الحالة وسعت إلى توفير جهاز يساعد على متابعة هذه الأمور والكشف عنها ومعالجتها لصالح الفرد والمجتمع.
علينا أن نواصل الكتابة حول هذه الموضوعات. فالتقارير التي نشرت حتى الآن تؤكد وجود وانتشار هذه الظاهرة في العراق, وخاصة مع الصبية الذين تيتموا أو هم مشردون الآن الذين يعملون للحصول على لقمة عيش عائلتهم وهم صغار السن, وإلى أن جمهرة من شيوخ ومدرس الدين والميسورين في الخليج وفي مناطق أخرى, وليس كلهم طبعاً, يمارسون هذه الأمور لا مع أبناء وبنات بلدانهم فحسب, بل ومع أبناء المغتربين والعمال العاملين في دولهم. وعلينا أن نفضح تلك الفتاوى الملعونة التي تجيز اغتصاب الطفلات الصغيرات اللواتي يعقد قرانهن على رجال كبار السن وهن ما زلن يزحفن على أربع بأساليب مختلفة, وما أكث الفتاوى المذلة للإنسان تصدر عن شيوخ دين في العالم الإسلامي فقدو الذمة والضمير مرة وإلى الأبد.   
24/2/2010                      كاظم حبيب
     
         


1108
كاظم حبيب
خلوة مع النفس ... إلى من لا همَّ له غير ذاته!!
قبل أيام قليلة صادفت عدداً من الأصدقاء القدامى, سألني أحدهم عن صحتي فأجبته شاكراً بأنها أفضل قليلاً منذ خروجي القريب من المستشفى. والجديد إني فقدت ستة كيلوغرامات من وزني. انبرى صديق بجواره قائلاً لازم عندك هموم! لم أجبه إذ شعرت بأنه غير جاد بما خرج من فمه دون تفكير, في حين كان صاحب السؤال جاداً في الاستفسار عن صحتي لمعرفته بالذبحة الصدرية التي أعاني منها وبالفقرات المشدودة بعدد من قضبان مادة التيتان وبالركبتين الاصطناعيتين اللتين أحملهما معي ليحملا ما تبقى من هذا الجسد ولما تبقى من سني العمر.
حين ابتعدت عن المجموعة الطيبة وجلست في القاعة التي احتفلت بها قائمة اتحاد الشعب ببرلين بدعوة كريمة من منظمي الحفل, سرحت مع نفسي بعيداً عن القاعة أفكر بالجملة التي نطق بها هذا الشخص "لازم عندك هموم!" إذ أهملت الإجابة واكتفيت بابتسامة فيها شيء من المرارة.
سألت نفسي في خلوة معها, رغم ضجيج القاعة, وكأن ليس فيها من ضجيج: هل هذا السؤال من شخص عاقل معقول حقاً في أوضاع العراق الراهنة؟ ألا يعيش هذا الرجل هموم العراق, ألا يرى الموت الذي يخطف العشرات من البشر والخراب الاقتصادي والبؤس الثقافي الذي يعم والجهل الذي يُستثمر ويُستغل من قبل قوى وأحزاب سياسية للحصول أصوات الناخبين وبالتالي على مقاعد في البرلمان دون وجه حق, إذ لم تبرهن على صواب وجودها في المجلس؟ ألا يعيش وضع المرأة العراقية والأرامل اللواتي يزداد عددهن وبؤسهن يومياً, ألا يدرك وجود أطفال خارج صفوف الدراسة يتسكعون في الشوارع يجمعون أعقاب السجاير أو يحملون أكياس النايلون ليتنفسوا بها, أطفال مشردون يتسكعون بين القبور في مدينة كربلاء مثلا, هذه المقبرة التي سرق كل طابوقها والتي أصبحت في وسط المدينة ولم تبق فيها شواهد على من في القبور إلا ما ندر, يبيعون زجاجات الماء أو يتسولون من أجل عدد من الدنانير للعيش بها.
ألا يرى أولئك الذين يستغلون هذه الحالة في الكثير من مدن العراق ليغتصبوا الصبية أو يشتروا من أفراد عائلاتهم بعض أجزاء هؤلاء الأطفال أو يختطفونهم بصيغ مختلفة.
ألا يحس بالفجوة المتسعة بين الفقراء والأغنياء, بين المتخمين والجياع, بين الغنى والفاقة, ألا يحس بآلام أولئك الين ينامون على الطوى جوعاً, ألا يرى النظام المحاصصي الطائفي الذي قسم المجتمع وشدد بذرة الصراع والنزاع والرغبة في تشديد الاستقطاب من قبل القوى والأحزاب الطائفية رغم رفض وإدانة الدستور العراقي للطائفية.
هل وحدي أنا المهموم بأوضاع العراق, أم الغالبية العظمى من سكان العراق, من هو غير المهموم من العراقيين حول أوضاع العراق؟ إنهم الإرهابيون والقتلة والمجرمون, إنهم الفاسدون والمفسدون وسرّاق قوت الشعب , إنهم الذين يأكلون السحت الحرام, تلك الأموال التي يفترض أن توجه لبناء المدارس وصفوف الدراسة وبناء المستوصفات والمستشفيات وإقامة شبكات الكهرباء والماء وتأمين الأمن والاستقرار في البلاد.
إن الهموم التي تسحقني يومياً تسحق الكثير من البشر في العراق وخارج العراق, من جانبي أحاول تصريف بعض هذه الهموم عبر الكتابة, عبر مقالات شبه يومية أكتبها وأنشرها مجاناً, إنها عصارة حياتي وما تبقى من هذا العمر الذي أحمل ثقله على كتفيي, إنها غضبي المكبوت, إنه كظم الغيظ, وهو الأسلوب الذي يجعلني اشعر بأدميتي وبعراقيتي لأن شعب العراق يسحق بالصراعات الطائفية والحزبية الضيقة يومياً.
كنت سعيداً حين ابتعدت عن الدخول مع السائل بنقاش غير مجدٍ, أو الإساءة إليه بكلمة جوابية جارحة, إذ أن الكلمة التي تخرج من فم الإنسان لا يمكن إعادتها للفم.
قطع خلوتي صوت السيدة وفاء, عريفة الحفل, تدعوني لإلقاء كلمة بمناسبة الدعاية الانتخابية لقائمة اتحاد الشعب, هذه القائمة التي تعاني من نقص شديد بالمال لإعلامها وتعاني من صعوبة الظهور على شاشة القنوات الفضائية التي ترفع من أسعار الدقائق التي تظهر الدعاية, فالأغنياء من الأحزاب الحاكمة والقوى التي تحصل على دعم خارجي لا مانع لديها من دفع عشرات بل مئات الألوف من أجل هذه الدعاية, وليس هناك من يسأل هذه القوى من أين جاءت بهذه الأموال الكثيرة. إنها قضية النعجة التي خلفت في فترة قصيرة من الزمن ثلاث ألاف نعجة, كما حدثنا بها خالد القشطيني في أحد مقالاته الأخيرة, فهل هذا ممكن؟ وإلا فمن أين جاءت إليه؟           
نسيت دعابة الرجل السمجة "لازم عندك هموم!", وتوجهت لأحدث المستمعين ومن يمكن أن يقرأوا كلمتي من على منصة هذا الحفل وأنا أدعو لانتخاب قائمة اتحاد الشعب ومرشحيها أهمية أن يحكّم الإنسان ضميره قبل أن يكتب اسم القائمة أو اسم المرشح في صندوق الاقتراع. الضمير الذي ينبغي أن لا يباع ويشترى, فمن يبيع ضميره يفقد الكثير جداً من إنسانيته وكرامته, يفقد شيئاً أساسياً منه, ومن يشتري الصوت سيفتضح أمره كما افتضح أمر أولئك الذين وزعوا البطانيات ومدافئ علاء الدين وغيرها, إذ أن حبل الكذب قصير.
كم أتمنى أن تقرأ البرامج الانتخابية ليدركوا أهمية هذا البرنامج الوطني الديمقراطي الذي وضعته وتبنته وطرحته القوى المؤتلفة بقائمة اتحاد الشعب لكي يجدوا الفارق بين الوعود الطنانة والرنانة, وغالباً ما تكون مثالية أو فارغة, وبين البرنامج الواقعي الذي طرحته قائمة اتحاد الشعب.
23/2/2010                  كاظم حبيب


1109
كاظم حبيب
خلوة مع النفس
حول تصرفات من يحتل موقعاً مهماً في الأجهزة الدولة
2
ارتقيت سلم الطائرة المتجهة من أربيل إلى فيينا بعد زيارة ممتعة ومتعبة إلى العراق, اهتديت إلى مقعدي في الدرجة السياحية مروراً بركاب الدرجة الأولى ودرجة رجال الإعمال. بعد وهلة قليلة هدأت حركة المسافرين إذ احتل الجميع مقاعدهم ثم أقلعت الطائرة وساد الصمت والهدوء التامين على متن الطائرة, ولم يخلْ بهما سوى مرور هذه المضيفة الجميلة أو ذاك المضيف المؤدب ذهاباً وإياباً.
في مثل هذه الحالة وغالباً ما يغوص الإنسان في داخله وتمر في مخيلته سلسلة من الأفكار ثم وتتداعى الذكريات ويجد أمام ناظريه وكأن شريطاً سينمائياً منوعاً يتنقل به من فكرة إلى أخرى ومن موقف إلى آخر. إنها الخلوة مع النفس التي غالباً ما يحتاجها الإنسان لمواجهة زحمة الحياة وحركتها المتسارعة والمتوترة في ظل التقنيات الحديثة والإجهاد اليومي وتوتر الأعصاب. وهكذا حصل معي.
توقف شريط الذكريات عندي على حالة لم تكن غريبة على المجتمع العراقي, ولكنها تفاقمت منذ سقوط الفاشية في العراق. ولا يدري الإنسان لماذا؟ فالمفروض أن من وصل إلى السلطة واحتل مواقع مهمة في أجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية كان الكثير منهم من وقف ضد النظام وكره العلاقة العدائية بين الإنسان والمجتمع من جهة وبين الحكام وكبار موظفي الدولة من جهة أخرى وعمل للخلاص منها. إلا أن الإنسان يعتقد خاطئاً بأن التغيير في الدكتاتورية ينهي معه التقاليد والعادات والقيم السلبية التي تكرست وترسخت في المجتمع وأن الذين كانوا من الثوريين يمكن أن تفسدهم المقاعد الوفيرة وينسون ما ناضلوا من أجله قبل ذاك!
الظاهرة التي أتحدث عنها ذات جانبين عشتها بنفسي أحياناً, ولكن من يعاني منها حقاً لست أنا بل هم الغالبية العظمى من لمواطنات والمواطنين, فأنا لا أعيش في وطني الأول, العراق, وليست لدي معاملات أنجزها بالعراق, وبين فترة وأخرى أقوم بزيارة استطلاعية ودراسية وأعود محملاً بجملة من الأفكار والملاحظات التي تساعدني في الكتابة والبحث, وبالتالي, ليس لهذه الظاهرة من تأثير سلبي عليَّ, ولكنها تمنحني الفرصة للتفكير بالعوامل الكامنة وراء هذا التصرف الأخرق.
الجزء الأول من هذه الظاهرة يبرز في تصرف جمهرة من الأصدقاء والمعارف حين يحتلون مواقع مهمة في جهاز الدولة, سواء في الحكومة أو على مقربة من المسؤولين الكبار, إذ أنهم ينسون أن كانت لهم صداقات ومعارف كانوا يسعون إلى إقامة علاقات معهم ويخطبون ودهم ويسعون إلى زيارتهم, وإذا بهم اليوم يتحاشون اللقاء بهم, رغم أن هؤلاء الذين كانوا يسمون أصدقاء أو معارف ليست لديهم حاجة عند هؤلاء يريدون إنجازها. وإذا ما صادفك في المطار يدير لك وجهه وكأنه لم يلمحك. ولا يجد الإنسان سبباً مباشراً لهذا التصرف!       
الجزء الثاني من الظاهرة يبرز بصيغة أخرى. حين تكون لك علاقات طيبة مع أحد المسؤولين في أجهزة الدولة وتلتقي به أحياناً, يبدأ بالهش والبش بوجهك لأنه يعتقد بأن كانت لك علاقة جيدة مع مسؤوله الأعلى , وحالما يعلم بطريقة ما أن العلاقات ولأي سبب كان ليست كما كان يعتقد, عندها سرعان ما يدير لك ظهر المجن ويبتعد عنك ويسعى إلى عدم اللقاء لك ولو بالصدفة.
وأنا أفكر بهذه الظاهرة لاحظت بأنها تجتمع بجانبيها في الغالب الأعم, وليس بالضرورة, في الشخص الواحد, أو إنهما تشكلان وجهان لعملة واحدة. والسؤال هو: ما هي العوامل الكامنة وراء بروز هذه الظاهرة, ولماذا يبرز مثل هذه التصرف لدى أناس يعتبرون ضمن الفئة المثقفة بالعراق؟ قلت لنفسي, لا تتعب نفسك بالتحري عن إجابة شافية وافية عن هذا السؤال, فالأسهل عليك أن تحيله إلى الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح فهو أدرى بدروب النفس البشرية وأكثر إلماماً بما فعلته الحياة بالناس عبر عقود من الحروب والاستبداد والقهر والخراب والدمار. ولكن عدت إلى نفسي ثانية وقلت, ولكن ليس كل هؤلاء الذين يتصرفون بهذه الطريقة كانوا يعيشون بالعراق, بل الكثير منهم كان يعيش بالغربة وفي بلدان متحضرة تقدر معنى الصداقة وتعي أضرار التعالي على البشر وتتميز بالشفافية ولا تخشى لومة لائم في علاقاتها الاجتماعية والإنسانية.
كانت طريقتي في التعامل في البشر اعتيادية جداً من يرغب أن يقيم علاقات معك فأهلاً به ومن لا يريد ذلك فهي قضيته دون أدنى شك, وليس هناك ما يضيرني شخصياً هذا الموقف أو ذاك, ولكن فيها خسارة لصداقة أو معرفة مفيدة لكل الناس, فألف صديق أفضل من عدو واحد, هكذا تقول الميثولوجيا الشعبية العراقية. ولكن المشكلة لا تكمن عندي, بل في علاقة مثل هذا الموظف "الكبير" بوظيفته والصغير بنفسيته وبنيته الفكرية ببقية الناس البسطاء والطيبين وذوي الحاجة الماسة عنده.
تصورت أن أحد هؤلاء الكبار الصغار قد أنجزت له للتو بدلات جديدة ارتدى واحدة منها ونظر لنفسه بالمرآة, ثم جلس في سيارة مرسيدس خاصة أو السيارات الكبيرة المحروسة بأخريات مقاربة لها تنقه من البيت غلى مكتبه, وقد وضع الستائر لكي لا ير من هم خارج السيارة من في داخلها. يدخل مكتبه يجمل أحدهم حقيبته, يجلس خلف منضدة واسعة جداً تتصدر غرفته ذات الرياش تذكرنا بالعهد ألصدّامي, منتفخ الأوداج لا تظهر البسمة على وجهه مطلقاً, وهي نسبية, إذ أن الاستثناء يبرز حين يمر سيده الكبير, مسؤوله الأعلى عبر غرفته أو حين ينادي عليه مسؤوله الأول, عند ذاك تجده يقف مشدود اليدين إلى بطنه وينحني بظهره وكأنه وصل في صلاته إلى حالة الركوع.   
لا شك في أن الشخص الذي يتخذ مثل هذه المواقف يعاني من نقص شديد أو بتعبير أدق, من خلل في تكوين شخصيته, وأن الموقع الذي يحتله أكبر بكثير من قامته الفعلية, أو كما يقال في الأدب الأوروبي أنه يرتدى بدلة تفوق حجمه عدة مرات, وإلا لما تعالى على الناس ولبقيت قدماه مشدودتان إلى أرض العراق الطيبة ولتذكر قول الحكمة الشعبية: ما طار طير وارتفع, إلا كما طار وقع!
إنها تصرفات تعبر عن اختلال في شخصية الإنسان, عن تعال فارغ, وخشية قاهرة على وظيفته من مسؤوله تفرض عليه هذا التصرف إذ يمكن أن لا يرتاح هذا المسؤول لعلاقاته الخاصة, إنها الانتهازية الصارخة والبؤس في التفكير والتصرف.
لقد استغرقت هذه الظاهرة وقتاً غير قليل من وقت الرحلة حتى نبهتني المضيفة الناعسة وهي تحمل بيدين ناصعتي البياض صينية الطعام وتنظر نحوي بعينين زرقاوين وابتسامة خجولة ارتسمت على شفتين ذكرتني بأبيات شعر بديعة قالها أمين نخلة: 
أنا لا اصدق أن هذا‏ الأحمر المشقوق فم‏
بل وردة مبتلة‏ حمراء من لحم ودم‏
أكمامها شفتان خذ روحي وعللني بشم
إن الشفاه أحبها كم مرة قالت: نعم ..

21/2/2010                      كاظم حبيب
 

1110
كاظم حبيب
زكية خليفة المناضلة المقدامة والشخصية الدافئة
كانت كبقية المناضلات والمناضلين تحلم بغدٍ أفضل لشعب العراق, بحياة أكثر حرية وسعادة وأكثر دفئاً ووفاء وعدلاً للفلاحين الذين ولدت في صفوفهم وفي قرية صغيرة من قرى لواء العمارة, وللعمال المنتجين للخيرات المادية وللفقراء والمعوزين, وكانوا ولا زالوا يشكلون الغالبية العظمى من الشعب العراقي. وكانت زكية خليفة نموذجاً حياً للنساء المناضلات من أجل حرية المرأة وتمتعها بحقوقها المغتصبة ومساواتها بالرجل ووجدت ضالتها في رابطة المرأة العراقية التي أصبحت واحدة من مؤسساتها ومن أنشط النساء في الرابطة وشديدة الصلة بالدكتورة نزيهة الدليمي وروز خدوري وبقية المناضلات حينذاك. وكانت تمتلك من الحيوية والشجاعة والاستعداد للتضحية ما جعلها واحدة من خيرة المناضلات الشيوعيات في حزبها الشيوعي العراقي اللواتي تحملن الكثير من عذابات السجون ومحن الحياة اليومية والمصاعب والمصائب التي كانت تطارد أعضاء وأصدقاء الحزب المناضلين من أجل "وطن حر وشعب سعيد".
دخلت السجن وهي شابة. حين اعتقلت وهي في محطة القطار ببغداد تحمل أدبيات الحزب وبريده من قبل أجهزة التحقيقات الجنائية, صرخت بصوت مرتفع ليسمع الجميع : أخبروا الحزب الشيوعي العراقي بأن زكية خليفة قد اعتقلت". لقد كانت تريد أن يصل خبر اعقالها عبر أحد الطيبين إلى الحزب لتجنيب رفاق الحزب الوقوع بحبائل العدو. حُكم عليها من قبل محاكم العهد الملكي القرقوشية بالحبس عشر سنوات, قضت الكثير من فترة محكوميتها في السجن قبل إطلاق سراحها في أعقاب انتصار ثورة تموز 1958. ليتصور الإنسان ظلم المحاكم حينذاك: امرأة تحمل بطاقة العضوية في الحزب الشيوعي العراقي وتحمل أدبيات الحزب, ويحكم عليها بالسجن عشر سنوات, أي عدالة وأي قضاء مستقل وعادل في العهد الملكي يتحدث عنه البعض, وخاصة القضاء الذي كان مسؤولاً عن المحاكمات السياسية والذي كان خاضعاً بشكل تام تقريباً للتحقيقات الجنائية وليس عملياً لوزارة العدل. 
كانت زكية خليفة الزيدي تردد دوماً قول لينين: " أعطني خبزاً ومسرحاً ، اعطيك شعباً مثقفاً". وبقدر ما أحبت الحزب الشيوعي العراقي, عشقت أيضاً المسرح الشعبي وتقديم المسرحيات للفلاحين الكادحين لتساهم برفع وعي هذه الفئة الكبيرة من بنات وأبناء الشعب العراقي التي تعرضت لأبشع أشكال الاستغلال في كافة العهود ولا تزال تعاني من ذلك ايضاً. 
كانت تتميز بالفطنة والمبادرة وسرعة البديهة, وكانت يقظة مفتوحة البصر والبصيرة في عملها السياسي والحزبي. حين كُلفتُ بزيارة بعض التنظيمات الحزبية للأشراف على عملها في العام 1977 و1978, تسنى لي أن أزور تنظيم "العمالية الصغيرة" و"الكرادة الشرقية", وفيما بعد البصرة. وجدت ما يدير الرأس في واحدة وما ينعش النفس في الثانية. لقد تبين لي بأن عدداً من أعضاء اللجنة العمالية كان قد تسرب إليها وهم من عملاء البعث أو تحولوا إلى عملاء, وكان المسؤول عن التنظيم ضعيفاً وغير يقظ, إذ استطاعت أجهزة الأمن البعثية لا أن تسرب لهذا التنظيم العديد من العملاء حسب, بل وأن تستخدم هذه المنظمة لترحيلات أخرى عبرها إلى منظمات حزبية أخرى. وحين زرت منظمة الكرادة الشرقية حيث كانت زكية خليفة مسؤولة عنها, وجدت بأن المنظمة قوية ومتماسكة وواسعة ونظيفة عموماً, إذ عجزت أجهزة الأمن عن الحصول على موقع لها في اللجنة القائدة أو في تنظيمات تابعة لها. لقد كانت زكية تتابع كل رفيق ورفيقة في المنظمة بنفسها, وتتابع الترحيلات التي تصلها بنفسها بحيث تتيقن من نظافة الترحيل, وكانت تتابع أي رفيق يعتقل لترى ما حصل له. وبقدر ما كانت لطيفة وهادئة, بقدر ما كانت يقظة وصارمة وحذرة من تسرب الأعداء للتنظيم الحزبي الذي تقوده.     
لقد نذرت زكية خليفة نفسها للنضال في صفوف الحزب الشيوعي العراقي ولم تبخل بشيء لصالح تقدم الحزب وتطوره وأعطت ستة عقود من عمرها لهذا الحزب ونضاله وعانت معه من ظلم واضطهاد النظم الرجعية والفاشية.
أحبها المحيطون بها والعاملون معها, سواء أكان ذلك في صفوف الحزب أم في رابطة المرأة العراقية أم في المسرح أم في العمل الجماهيري اليومي, واعتز بها الأستاذ يوسف العاني ومن عمل معه حينذاك. وكانت واحدة من النساء اللواتي أبدعن في عملهن المسرحي وبشكل خاص في مسرحية "النخلة والجيران" للكاتب غائب طعمة فرمان بجوار زينب وناهدة الرماح, إضافة إلى المسرح الريفي وقراءة الشعر الشعبي.
رغم مرضها وافقت زكية أن تترشح ضمن مجموعة الحزب الشيوعي العراقي في انتخابات العام 2005, والمرض هو الذي اجبرها على مغادرة الوطن للعلاج في السويد, وهناك في مستشفى سويدي توقف قلب الرفيقة والمناضلة العزيزة زكية خليفة المتعب مبكراً.
فإلى عائلتها وإلى رفاق الحزب الشيوعي وأصدقاء الفقيدة العزاء بفقدها, ولها الذكر الطيب.
20/1/2010                     كاظم حبيب 
   
     

1111
طبيعة الدولة وأساليب حكم نظام البعث في العراق
2-3
   في ضوء التصريحات التي أدلى بها ظافر العاني , النائب العراقي حالياً ورئيس كتلة جبهة التوافق , وعضو القائمة العراقية التي يقودها الدكتور أياد علاوي, والتي وضعت هيئة المساءلة والعدالة اسمه ضمن من يُمنع من الترشيح للانتخابات القادمة , التي مجد فيها نظام البعث والدولة البعثية ,وأساء لقوى وشخصيات مناضلة , وجدت مفيداً أن أنشر وبشكل مكثف وعلى حلقات جزءاً من الدراسة الموسعة حول السمات التي ميَّزت الدولة البعثية في فترة حكم البعث الثانية في العراق وقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين لهذه الدولة المشوهة, أي الفترة بين 1968-2003, والتي هي امتداد لدولة البعث الأولى شباط/فبراير 1963- تشرين الثاني/أكتوبر 1963, وهي جزء من دراسة كنت قد قدمتها إلى مؤتمر حقوق الإنسان الذي عقد في العام 2000 بالدار البيضاء في المغرب. 
السمة الثالثة


فرضت النخبة الحاكمة على البلاد , أيديولوجية واحدة هي أيديولوجية حزب البعث القومية ذات التوجهات اليمينية والشوفينية المتطرفة ورفضت وجود أيديولوجيات وأفكار أخرى بجوارها. كانت تصريحات المسؤولين وعلى رأسهم الدكتاتور صدام حسين يؤكدون ما يلي: "لا بد لفكر البعث أن يكون الخيمة التي تنضوي تحتها كل الأحزاب والكتل الفكرية والسياسية الأخرى" فلا مكان لغير فكر البعث في العراق , وأصبح قانوناً عملياً إذ لا يجوز لي فكر أو وجهة نظر أخرى أن تخرج عن إطار فكر وسياسة البعث.
وفي ضوء ذلك افترض المسؤولون أن تكون الإيديولوجية القومية البعثية هي السائدة في الدولة ومؤسساتها وأجهزتها المدنية والعسكرية وفي المجتمع وفي المنظمات التي حدد البعث هويتها الحزبية والحكومية , بما فيها النقابات واتحادات الطلبة والشبيبة والمرأة …الخ , أي أن الحكم كان يسعى إلى صبغ الفكر المجتمعي والفردي بلون فكري واحد يكون هو السائد والقائد , ولا يحق أو يجوز لغيره الوجود وممارسة النشاط الفكري والسياسي في العراق.
والفكر البعثي الذي ساد في العراق كان في جوهره فكراً قومياً انتقائياً متطرفاً , ولكنه قطع الحاجز الرفيع الذي كان يفصل بينه وبين الفكر العنصري القائم على التمييز بين الإثنيات والشعوب لا في التشريع فحسب , بل وفي الممارسة العملية. إن الهيمنة الأيديولوجية للحزب الحاكم أدت إلى ممارسة سياسة المصادرة التامة لحرية الصحافة والنشر وإبداء الرأي المخالف. فالحكم سيطر من خلال قطاع الدولة على كامل أجهزة الإعلام السمعية والبصرية, المرئية والمقروءة, وسلط عليها عدة أجهزة للمراقبة والتجسس.
شكل مجلس قيادة الثورة لجان حزبية حكومية خاصة لمراقبة الصحافة وأجهزة الإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما , ومراقبة الكتب المدرسة والجامعية , ومجالات الثقافة والنشر الحكومي والخاص. وفي عام 1979 أصدرت وزارة الإعلام قائمة طويلة تضم مئات الكتاب العراقيين والعرب والعالميين من مختلف الاختصاصات الذين منعت تداول كتبهم بالبيع والشراء والقراءة , وقامت بمصادرتها من المكتبات العامة والخاصة وأحرقتها. وكانت الرقابة مفروضة على جميع المجلات العربية والدولية التي يراد إدخالها إلى العراق. لقد عاش العراقيين تحت وطأة المصادرة الكاملة لحرية الكلمة وحرية الاطلاع على ما ينشر في العالم. وقُدم الكثير من الكتاب والصحفيين إلى المحاكم الخاصة بسبب نشرهم مقالاً أو قصيدةً أو كتاباً, إذ اعتبر بعض أو كل ما فيه مساً بالقائد أو الحزب القائد أو الثورة ومجلسها بأي شكل من الأشكال , وصدرت بحق هؤلاء الأدباء والشعراء والكتاب من خيرة مثقفي العراق الكثير من الأحكام القاسية , كما تم تغييب الكثير منهم أو قتلهم بأساليب مختلفة خلال السنوات المنصرمة, كما حصل الدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح مصطفى الدرة والكاتب والناشر عزيز السيد جاسم على سبيل المثال لا الحصر.
السمة الرابعة
الهيمنة الكاملة لحزب البعث وقيادييه وكوادره والمنتسبين له على المراكز القيادية والأساسية في مؤسسات الدولة المختلفة وفرض الرقابة التامة على الإعلام والتربية والتعليم والنشاطات الاجتماعية وعلى أجهزة الدولة الاقتصادية والمنظمات المهنية والنقابات. فهي كلها فروعا أو أنشطة تابعة وينبغي لها أن تكون خاضعة لا بالنسبة لقيادتها فحسب , بل في فكرها وممارساتها لسياسات ومواقف وقرارات قيادة حزب البعث , وبتعبير أدق "للقائد التاريخي". وقد نشأ عن ذلك أن مارس البعث سياسة التبعيث للجماهير الواسعة وفرض عليهم الولوج إلى حزب البعث عبر ما يطلق عليه بمبدأ "الجزرة والعصا". وخلال فترة وبعد أن كان هذا الحزب لا يمتلك سوى عشرات الأعضاء , أصبح يضم من الأعضاء المنتسبين والأنصار المسجلين عدة ملايين. إن الفكر التسلطي الفاشي ينطلق من دور الرجل القائد في قيادة الأمة والبلاد. لقد ظهر هذا في ألمانيا , وفي إيطاليا وفي اليابان , كما ظهر في بقية الدكتاتوريات مثل سالازار في البرتغال , وفرانكو في أسبانيا , وسوموزا في نيكارغوا وباتستا في كوبا , وصدام حسين في العراق , كأمثلة على ذلك. وفي العراق هيمن صدام حسين على رئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس التخطيط ورئاسة لجنة المتابعة والقائد العام للقوات المسلحة , ورئيس مجلس الأمن القومي والرئيس الفعلي لأجهزة الأمن والاستخبارات والأجهزة الخاصة , والأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي والأمين العام للقيادة القطرية العراقية , إضافة إلى كونه الأب القائد والرائد والبطل الفذ والتاريخي , إذ لم يبق أي لقب قديم أو حديث إلا وألصق باسم صدام حسين. لقد ازداد اسماء وألقاب صدام حسين عن الأسماء التي منحها المؤمنون للإله. والدكتاتورية الفاشية أو الدولة التسلطية المطلقة ليست سوى هيمنة حزب أو جماعة أو عشيرة أو فرد على مقاليد الحكم وقيادة البلاد لمصلحة هؤلاء لا غير, حيث تنعدم الحرية والديمقراطية والشرعية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات. وليست المؤسسات التي تنهض في مثل هذه الحالة سوى الستار المهلهل الذي يراد به التستر على الاستبداد القائم أو ورقة التين التي لا تستر عورة الإنسان.

السمة الخامسة


ممارسة سياسة ثابتة في مصادرة كاملة للحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان السياسية والمدنية والاقتصادية وغياب حقيقي للعدالة الاجتماعية. وقد نجم عن ذلك أن زج بعشرات الألوف من الناس من ذوي الرأي الفكري والسياسي والقومي والديني والمذهبي الآخر بالسجون والمعتقلات وعرضهم أبشع أساليب التعذيب. كما قتل تحت التعذيب الآلاف من الناس , إضافة إلى خوض المعارك الدموية واستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد أبناء وبنات الشعب العراقي عموما وضد الكُرد وعرب الوسط والجنوب وضد التركمان والآشوريين والكلدان والأرمن والصابئة المندائيين والأيزيديين وغيرهم. وقد قادت هذه السياسة لا إلى امتهان كرامة الإنسان وحرمانه من الاستقرار والأمان الشخصي والعائلي , بل وإلى مصادرة حق الإنسان في الحياة بشكل خاص. والإشكالية الكبيرة التي يعاني منها الشعب العراقي في ظل حكم البعث هي ممارسة سياسة التمييز بين المواطنين. فالحكم في العراق يقوم اليوم على أسس عشائرية وإقليمية ضيقة , كما له توجهات طائفية كريهة , ولكنها في الوقت نفسه سياسة شوفينية وعنصرية مكشوفة , إضافة إلى إنها سياسة ذات سمة حزبية احتكارية ضيقة جدا. 

السمة السادسة

والسياسة العنصرية التي يمارسها النظام ليست تهمة عبثية يحاول المناوئون للنظام إلصاقها به , بل هي حقيقة فعلية يمكن أن يلاحظها الإنسان المتتبع في ثلاثة اتجاهات واضحة هي:
•   العداء العنصري الصارخ للكُرد والذي قاد إلى استشهاد عشرات الألوف الناس الأبرياء منهم بسبب دعوتهم ونضالهم من أجل التمتع بممارستهم لحقوقهم المشروعة. ويفترض أن يشار هنا إلى ثلاث حوادث أساسية هي:
1.   استخدام الأسلحة الكيمياوية في مدينة حلبچة الكُردية المجاورة للحدود الإيرانية , وفي منطقة بهدينان المجاورة للحدود التركية , إضافة إلى استخدام مختلف الأسلحة في معارك الأنفال التي تشير قوى المعارضة الكُردية ومنظمات حقوق الإنسان بأن عدد ضحايا مجازر الأنفال في كُردستان العراق قد بلغ أكثر من 182 ألف قتيل ومغيب. ويمكن أن تكون جثث المغيبين في المقابر الجماعية المنتشرة في أنحاء العراق.
2.   الضربات العسكرية الوحشية التي استخدمت أثناء الانتفاضة الشعبية في العام 1991 وقادت إلى هجرة ما يقرب من مليون إنسان إلى الأرضي التركية والإيرانية ,على المئات صوب الحدود السعودية وأدت إلى فرض الحماية الدولية على شمال العراق , وخاصة كُردستان العراق , إضافة إلى الضربات الوحشية ضد المنتفضين في كل من البصرة وكربلاء وبقية محافظات الوسط والجنوب واضطرار جمهرة غفيرة من السكان الهروب إلى المملكة السعودية. وقد سقط عدد كبير من الضحايا قتلى وجرحى في عمليات الانتقام الوحشية من المنتفضين التي قادها قادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة. 
3.   الحرب الطويلة الأمد التي تواصلت بسبب رفض النظام ممارسة الشعب الكُردي لحقه الطبيعي الذي أقر في العام 1970 , أي الحكم الذاتي لإقليم كردستان وفق بيان آذار / مارت , مما قاد إلى إشعال الحروب المتواصلة والتي أودت بحياة أبناء وبنات الشعبين وغيرهم من الأقليات القومية في المنطقة.
•   الكراهية الشنيعة المنبثقة من منطلقات عنصرية ضد الفرس الإيرانيين مما دفع النظام إلى تهجير أكثر من 350 ألف إنسان عراقي من عرب الوسط والجنوب ومن الكُرد الفيلية بحجة كونهم من تبعية إيرانية , علما بأنهم يحملون الجنسية العراقية ويقطنون العراق منذ مئات السنين , أي باعتبارهم ليسوا من عرق عربي أصيل. لقد حاولت قيادة الحزب الحاكم , وعلى رأسهم صدام حسين , غلغلة الفكرة القائلة بأن زواج العراقيين من نساء فارسيات يساهم في إفساد الدم العربي النقي. وقد برزت هذه الظاهرة لا في عملية التهجير الواسعة لمن اعتبروا من أصل فارسي فحسب , بل في الإغراء والضغط الشديدين وتقديم الدعم المالي لمن يطلق زوجته "الفارسية" الأصل أو المرأة التي تطلق زوجها "الفارسي" الأصل, بذريعة كونها أو كونه من التبعية الإيرانية , أو زجهم في السجون واغتيالهم فيها للتخلص ممن أطلق عليهم بالفرس المجوس. ويلاحظ هنا تشابك بين سياستي العِرقية والتعصب الديني لتنجب تمييزا وكراهية وحقدا على الفرس أو على العراقيين الذين اعتبروا من أصل فارسي , رغم أنه لم يعد بين الفرس في إيران من هو على دين المجوس , وعلما بأن الإسلام أعتبر المؤمنين بالمجوسية من أهل الذمة. جاء في كراس كتبه طلفاح خير الله وصدر عن دار الحرية للطباعة في بغداد ووزع بشكل واسع , وهو أحد أقطاب النظام البارزين والمتنفذين وخال صدام حسين وأب زوجته ساجدة , حول مجموعة من المسائل منها الموقف من الفرس واليهود والشعوبية والزنادقة ...الخ. وكتب الكراس لكي يوزع في العراق والدول العربية. وحول الفرس في إيران جاء فيه ما يلي:
"أخي العربي فارس عدوك الأول فهم الذين قاوموا دعوة الإسلام في صدر الإسلام وهم الذين قتلوا الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب وتسببوا في قتل الخليفة الثالث وإثارة فتنة الخوارج التي قسمت الإسلام إلى معسكرين وهم الذين قتلوا الخليفة الرابع سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فخسر العرب عالمهم الأول وفارسهم الأول ومسلمهم الأول بواسطة أحد شعوبييهم عبد الرحمن بن ملجم أحد شعوبيي الفرس ومن يهودها وهم الذين أسقطوا أمية ودولة العباسيين وأخيراً أخذوا الأحواز العربية وجزر الخليج العربية وراحوا يعتدون على العراق لا بصفته عراقاً بل بصفته جزءاً من الأمة العربية في وطنها الأكبر". (خير الله , طلفاح. "ثلاثة كان على الله أن لا يخلقهم وهم : الفرس واليهود والذبان". دار الحرية للطباعة بغداد. 1982). بهذه العقلية القذرة حكم العراق طوال 35 عاماً بالتمام والكمال.

•   التثقيف الذي هيمن وما يزال يهيمن على نشاط وممارسات أجهزة الإعلام والدعاية وأجهزة التربية والتعليم والتأليف والنشر تحت ما سمي بإعادة كتابة التاريخ بما يسمح بالادعاء بالعروبة في كل شيء بما فيه تاريخ العراق القديم والتمجيد الاستثنائي بالعروبة بما لا يخرج عن النهج العنصري للفاشيين والنازيين وغيرهم من العنصريين , رغم معرفتهم بتاريخ العراق القديم والشعوب التي قطنت فيه والحضارات التي نشأت وانقرضت ابتداء من عهود السومريين ومروراً بالبابليين والأكديين والآشوريين والكلديين.
 
السمة السابعة
   
   النهج العدواني التوسعي الذي تميز به النظام والتحري عما يسمى بـ "المجال الحيوي" للدولة العراقية العربية. وقد بدأت هذه السياسة "بتنقية" الأجواء الداخلية وتأمين مستلزمات عدم المعارضة لأهداف ومشاريع النظام والتي اقترنت بتصفية ما كان شكليا حياة حزبية تعددية , ثم الغوص في دماء المعارضة السياسية والقومية للبعث الحاكم. وبعد أن تم له نسبيا ذلك وحقق تسليحا عاليا جدا يفوق كثيرا حاجات الدفاع الوطني في المنطقة , شن النظام حربه التوسعية التي دامت طوال ثماني سنوات ضد إيران , ومن ثم غزا الكويت ودفع بالعراق إلى حرب مدمرة , هي حرب الخليج الثانية , وساهم في خلق التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية , وسمح بوقوع المنطقة كلها تحت الهيمنة الأمريكية الراهنة وإضعاف التوازن تماما بين العرب وإسرائيل لصالح الأخيرة , والتأثير السلبي لذلك على القضية الفلسطينية وقضايا المناطق المحتلة في الجولان وجنوب لبنان , ومشكلة الحدود والمياه وما إلى ذلك.
   لقد أدت حروب النظام إلى خسائر هائلة في أرواح العراقيات والعراقيين وأرواح المواطنين من الدول المجاور والشقيقة, إضافة على الخسائر المالية والمادية والحضارية وتدمير البنية التحتية وما بناه العراق طيلة عشرات السنين, إضافة إلى تخريب البيئة العراقية والأرض العراقية التي هي مليئة الآن بالألغام, وخاصة المناطق الحدودية مع إيران.
   لقد صرف النظام مئات المليارات من الدولارات الأمريكية على شراء واقتناء السلاح والعتاد والأغراض العسكرية الأخرى وكذلك لإنتاج أسلحة الدمار الشامل وخاصة السلاحين الكيماوي والجرثومي, كما وجه مبالغ طائلة لشراء التقنيات الضرورية والخبرات الفنية لإنتاج السلاح النووي.
   وتشير الأرقام المتوفرة إلى أن النظام صرف بين 1976 – 1990 مبلغاً قدره 251 مليار دولار أمريكي على الأغراض العسكرية, وهي تزيد عن عوائد النقط الخام المصدر لهذه الفترة, مما أدى على زيادة مديونية العراق ووصولها على ما يقرب من 100 مليار دولار في العام 2000.     
   كاظم حبيب
 
   

1112
طبيعة الدولة وأساليب حكم نظام البعث في العراق
1-3
   
في ضوء التصريحات التي أدلى بها ظافر العاني , النائب العراقي حالياً ورئيس كتلة جبهة التوافق , وعضو القائمة العراقية التي يقودها الدكتور أياد علاوي, والتي وضعت هيئة المساءلة والعدالة اسمه ضمن من يُمنع من الترشيح للانتخابات القادمة , التي مجد فيها نظام البعث والدولة البعثية , وأساء لقوى وشخصيات مناضلة , وجدت مفيداً أن أنشر وبشكل مكثف وعلى حلقات جزءاً من الدراسة الموسعة حول السمات التي ميَّزت الدولة البعثية في فترة حكم البعث الثانية في العراق وقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين لهذه الدولة المشوهة, أي الفترة بين 1968-2003, والتي هي امتداد لدولة البعث الأولى شباط/فبراير 1963- تشرين الثاني/أكتوبر 1963, وهي جزء من دراسة كنت قد قدمتها إلى مؤتمر حقوق الإنسان الذي عقد في العام 2000 بالدار البيضاء في المغرب.
   
وصل حزب البعث إلى السلطة مرتين,  وكلاهما عبر انقلابات عسكرية, وإذا كان بع الانقلاب الأول مارس حملة فاشية استمرت طوال تسعة شهور قتل فيها الكثير من المناضلين الشجعان وأعتقل وسجن وأهان الكثير من أبرز الشخصيات الوطنية السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية والثقافية وأتى على كل المكاسب التي تحققت في فترة وجيزة من حكم عبد الكريم قاسم وصادر بشكل مطلق كافة الحريات والحقوق الأساسية للمجتمع العراقي وضرب عرض الحائط بكل القيم والمعايير الإنسانية, إنه البعث بمختلف مكوناته حينذاك, سواء ما سمي بعد ذلك باليسار أو اليمين. وجند الحرس القومي الذي لم يختلف عن رجال ألـ SS والغستابو الألمان وأطلقه كالذئاب الجائعة ووضع بيديها البيان رقم 13 لممارسة القتل دون مساْلة أو عقاب.
أما في المرة الثانية فلم يكن الحكم البعث سوى استمراراً للفترة الأولى من حكمه وتعميق لنهجه الفاشي الدموي.وكان هذه المرة ما يطلق عليه بالبعث اليميني أو قيادة ميشيل عفلق لهذا الحزب. وهذه المقالة المكثفة هي محاولة لصياغة السمات التي تميزت بها دولة البعث ونظامه السياسي في العراق خلال الفترة 1968-2003 والتي يمكن بلورتها في النقاط التالية:   
السمة الأولى
   منذ البدء افتقد نظام البعث في العراق إلى الشرعية في وجوده على رأس السلطة في العراق , كما أنه لم يستند إلى الشرعية الدستورية لا في طريقة وصوله إلى السلطة ولا في طريقة وأسلوب ممارسته للحكم. لقد عاش العراق في ظل حكم البعث بدون دستور دائم , وبدون مؤسسات دستورية حقيقة ومنتخبة من قبل الشعب وفي ظل الأحكام العرفية أو الطارئة. وكان الحاكم الفعلي هو مجلس قيادة الثورة الذي ترأسه حاكم مطلق بدا بأحمد حسن البكر وانتهى بصدام حسين. وكلا الرجلين من طينة واحدة وعقلية واحدة وأساليب حكم واحدة وسمات مشتركة. احتكر مجلس قيادة الثورة , وبتعبير أدق أحمد حسن البكر ومن ثم صدام حسين بالمطلق , السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية , بيديه وحده , إضافة إلى هيمنته الكاملة والمطلقة على السلطة الرابعة , أجهزة الإعلام , ومنها الصحافة والتلفزة ودور النشر الحكومية. لقد وصلت المجموعة الحاكمة إثر انقلاب عسكري تم في السابع عشر من تموز عام 1968 , تبعه انقلاب أخر قادته مجموعة البعث , وهي إحدى المجاميع التي شاركت في الانقلاب الأول ثم في الانقلاب الثاني في الثلاثين من تموز من نفس العام. وهذه المجموعة البعثية التي كرست وجودها في الحكم , مارست التصفية الجسدية لمجموعات عديدة ممن شارك في الانقلابين ومن قادة الحزب الحاكم , ومن أعضاء مجلس قيادة الثورة والقيادتين القومية والقطرية لحزب البعث الحاكم. والدستور المؤقت , الذي لم يطرح للمصادقة عليه , بل وضع من جانب مجلس قيادة الثورة وصدر بقرار عنه , باعتباره السلطة التشريعية في البلاد , يؤكد السيادة المطلقة لمجلس قيادة الثورة ويقرر الدور القيادي لحزب البعث العربي الاشتراكي في الدولة والمجتمع. وإذا كان الحكم قد بدأ بهيمنة جماعة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي , أي كتلة ميشيل عفلق , فأنه قد انتهى , وبعد فترة غير طويلة , إلى سيادة وهيمنة فرد واحد هو صدام حسين , رغم الدور الكبير المماثل الذي لعبه أحمد حسن البكر في قيادة مجلس قيادة الثورة حتى تمت إزاحته وتصفيته المحتملة نهائيا في أعقاب تسلم صدام حسين للقيادة مباشرة في شهر تموز/يوليو 1979. 
السمة الثانية
   وبهذا المعنى فالحكم لم يستند إلى أسس ديمقراطية , ومنها التداول الديمقراطي للسلطة وفق دستور ديمقراطي وحياة برلمانية حرة وديمقراطية , بل كان مجلس قيادة الثورة قد قرر ابتداءً أن يكون الحكم بيد حزب البعث العربي الاشتراكي , رغم أنه ومنذ النصف الثاني من العقد الثامن لم يكن الحكم بيد حزب البعث , بل كان بيد رجل واحد فقط لا غير. ولم يلغ الحزب الحاكم حرية جميع الأحزاب والكتل السياسية العلنية والسرية ويطاردها حتى في شتات الغربة حسب , بل وجه اضطهاده أيضاً ضد أعضاء ونشطاء حزب البعث الحاكم الذين اختلفوا معه أو عارضوا بعض أو جميع سياساته أو شك الدكتاتور في ولائهم له , إذ أنه صفى الكثير من أعضاء القيادة القومية والقطرية ومجلس قيادة الثورة والوزراء وكبار المسؤولين من القادة العسكريين والمدنيين ومن محترفي العمل السياسي في حزب البعث الحاكم. إذ كان الحاكم بأمره يرفض الاختلاف في الرأي داخل الحزب الحاكم , وكان يريد أن يسمع رأيا واحدا وصوتا واحداً ويرى صورة واحدة , أن يسمع رأيه وصوته ويرى صورته. وهكذا كان الأمر في العراق طوال وجود الدكتاتور على رأس السلطة.
   ولكن هذا الحاكم بأمره سخر حزب البعث بالكامل لأغراضه مباشرة, سواء أكان في التجسس على الناس أو في ممارسة القمع الدموي والقهر السياسي واجتماعي أم في الدعاية له وترويج أفكاره البائسة والمتخلفة والعنصرية أم في التعبئة لحروب النظام وسياساته المختلفة.
   ورغم إقرار النظام بوجود "مجلس وطني" , فأنه لم يكن سوى أداة خانعة وخاضعة خضوعا كاملا لرئيس مجلس قيادة الثورة وصورة مشوهة بالكامل بالمقارنة مع المجالس التشريعية الديمقراطية , إذ كان صدى يردد ما يريده "القائد الضرورة!" ويوقع أعضاء المجلس على قرارات القائد بدم أعضاء برلمانه ليبرهنوا له عن ولائهم المطلق للحاكم المطلق. فكان الترشيح للانتخابات يخضع لرقابة لجنة يشكلها مجلس قيادة الثورة ويجب أن يكون أعضاء اللجنة من حزب البعث , كما ينبغي أن يكون المرشح عضوا في حزب البعث أو من أنصاره ومؤيديه , كما أن الانتخابات ليست سرية بل علنية , إذ يوضع على ظهر ورقة الانتخاب اسم الناخب وعنوانه , وبالتالي من ينتخب اسما من غير القائمة المعطاة له يتعرض لما لا تحمد عقباه , أو حتى من رمى ورقة بيضاء يحاسب عليها , والأمثلة كثيرة في هذا الصدد , بما فيها انتخاب رئيس الجمهورية التي لم تخرج عن هذا الأسلوب , بل كانت أكثر صرامة وقسوة في التعامل مع من لا يصوت لصدام حسين. لقد كان المرشح واحداً والفوز لهذا المرشح الواحد بما يفوق نسبة المصوتين في بعض الأحيان. لم يعد صدام حسين يكتفي ب 100% بل كان يريد أكثر من ذلك بكثير. والغريب في هذا العالم أن كان هناك من يصدق هذه الأكذوبة بهدف أساسي هو الاستفادة من النظام لتحقيق بعض المكاسب والمصالح الاقتصادية.
   ويفترض في هذا الصدد أن نؤشر بعض المسائل الجوهرية التي تعتبر نتاجا منطقيا وموضوعيا لهذه السمة , وهي:
أ‌.   قاد غياب الحرية الفردية والديمقراطية والتعددية السياسية والحياة الدستورية والبرلمانية الحرة ومصادرة حرية وحق التداول الديمقراطي للسلطة بالضرورة إلى قيام النظام بمواجهة المعارضين لهذا النهج بالعنف واستخدام ما يمتلك من قدرات قهرية لتأمين مستلزمات القضاء على أصوات المعارضة , سواء أكانت من خارج صفوفه أو من داخلها. وسجلات المعارضة العراقية ومنظمات حقوق الإنسان ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مليئة بأسماء عشرات ألوف الناس ممن تعرضوا لإرهاب الدولة والحزب الحاكم في العراق خلال السنوات المنصرمة , كما نشرت منظمات حقوق الإنسان قوائم بأسماء السياسيين المختطفين والمغدور بهم ويصل عددهم إلى عشرات الألوف , إضافة إلى اكتشاف عشرات المقابر الجماعية حيث دُفن فيها من قتل على أيدي أجهزة الأمن والأجهزة الخاصة والاستخبارات العسكرية تحت التعذيب أو بالقتل الجماعي أو دفنوا وهم أحياء.
ب‌.   وأن هذه الأجواء قادت بالضرورة إلى تطور الدولة وفق ذهنية عسكرية فردية تميزت بالعنف والقسوة , كما اقتنت ترسانة هائلة من الأسلحة وأنشأت قوات مسلحة واسعة وأجهزة أمن تتدخل في شؤون الحياة العامة للسكان , إذ كانت بمثابة عيون صارمة وظالمة على الناس في كل مكان. لقد حول صدام حسين العراق إلى بلد لا يأتمن الإنسان أفراد عائلته , ولا الأب ابنه , ولا الصديق صديقه , كما لم يعد للإنسان الحق في الحلم! كانت عيون النظام وأجهزته تراقب أفراد المجتمع , سواء أكان ذلك في الأحياء السكنية والبيوت أم في مواقع العمل والمدارس والجامعات ودوائر الدولة والقوات المسلحة أم في الريف , وباختصار في كل مكان حتى في الغرف الزوجية. لقد نصب النظام كاميرات لتصوير حياة الأزواج للاستفادة منها في إسقاط السياسيين والمعارضين أو من أعضاء حزبه. كما حاول إرسال العاهرات من الجواسيس للإيقاع بالسياسيين وإغرائهم والتقاط الأفلام لهم وهم في حالة اتصال جنسي لإسقاطهم عبر التهديد بنشرها على الملأ.
ت‌.   كما أن غياب الديمقراطية بالكامل وممارسة أساليب العنف ومبدأ "الجزرة والعصا" قاد إلى نشوء جملة من الأمراض النفسية والعصبية وبرزت أو تعمقت آفات اجتماعية غير قليلة بما فيها الخشية الدائمة ون المجهول والانتهازية والنرجسية والشعور بالعظمة والذهنية العسكرية عند الحكام وأمراض ازدواج الشخصية والانتهازية والخوف والقلق من المستقبل والعنف وروح الانتقام والخشية من الآخر والكثير من الأمراض العصبية عند جمهرة واسعة من السكان. إن قائمة معسكرات الاعتقال تحت الأرض التي أقيمت في العراق خلال فترة حكم البعث , دع عنك السجون والمعتقلات الأخرى المعروفة , كانت تضاهي عدد قصور الحاكم بأمره , إنها قلاع تحت الأرض وفي الصحراء وفي مواقع كثيرة لا تختلف كثيرا عن معسكرات الاعتقال النازية من حيث الأساليب التي مارستها والأدوات التي استخدمتها تلك الأجهزة ضد ضحاياها. ويمكن تقديم قائمة واقعية بأساليب التعذيب التي مارسها النظام العراقي والتي تصل إلى أكثر من خمسين نوعا معروفا لضحايا التعذيب في العراق, بما فيها ماكنات فرم أجساد المعتقلين وهم أحياء أو ماتوا تحت التعذيب ورمي اللحوم البشرية المفرومة إلى الأسماك.
تشير المعلومات الغزيرة المتوفرة لدى المنظمات الدولية والعربية والعراقية الخاصة بحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية منذ نهاية الستينات إلى أن أجهزة النظام الأمنية والأجهزة الخاصة التابعة للقصر الجمهوري مارست مجموعة كبيرة من أشكال وأساليب التعذيب النفسي والجسدي التي تسببت بوفاة السجين الأعزل بعد تحمله عذابات شديدة ومهينة لكرامته , وهي تزيد على 50 نوعا من أعمال التعذيب الجسدي والنفسي , التي كانت تدمج بين أساليب القرون الوسطى والعهود المظلمة في حياة البشرية وبين الأساليب الحديثة التي اعتمدت على أحدث الأجهزة المصنوعة في البلدان الصناعية المتقدمة. ومن بين أساليب ممارسة التعذيب استخدام الكاويات الكهربائية والتيار الكهربائي , والصوندات المطاطية المصنوعة بأسلاك داخلية , وخراطيم المياه , والكوي أو الحرق بالسجائر في المناطق الحساسة من الجسم , وإدخال القازوق , أو القنينة في مؤخرة الضحية أو نفخ بطن الإنسان على حد الانفجار والتمزق , واستخدام الشمعة لحرق أسفل القدمين المعلقتين في الهواء والمربوطتين بالقيود الحديدية التي لا تسمح بأي حركة للضحية , والتعليق بالمراوح , والجلد بأعواد الرمان (الخيزران) , واستخدام الفلقة , أي الضرب المبرح على باطن القدمين , وفرض الهرولة بعدها على الضحية لكي لا تصاب القدمين بالتعفن , ولكنها تهيئ للضحية فصلا خاصا مليئا بالآلام المبرحة , وتسليط الأضواء على العينين والمنع من النوم واستخدام ما يثير الأعصاب من أصوات رتيبة متكررة , أو ترك قطرات ماء باردة تسقط على يافوخ الإنسان بصورة متتابعة ولفترة طويلة ترهق الضحية إلى أبعد الحدود وتسئ إلى حالته النفسية خاصة وأن التحقيق يستمر ساعات وساعات , وهو غير قادر على إبعاد يافوخه عن تلك المنطقة. ويمارس في التعذيب الركل المتواصل في كل مكان بما فيها على الخصيتين , وتجري محاولة استعمال أو اغتصاب الضحية , سواء امرأة كانت أم رجلا. كما يمارس الجلاد شدّ قضيب الرجل الضحية بحبل ثم جر الحبل بقوة , وقلع أظافر أصابع اليدين والقدمين , وإدخال الرأس في أحواض الماء إلى حد الاختناق , أو صب الماء الساخن على المناطق الحساسة من جسم الضحية , أو ترك الضحية تحت أشعة الشمس المحرقة لساعات طويلة دون ماء أو شيء يستر الجسد , أو ترك الضحية على سطح الدار من دون ملابس في ليالي الشتاء القارس , أو إعطاء الضحية السم بأنواعه المختلفة ذات المفعول السريع أو البطيء مذوبا باللبن أو الشاي المحلى , ورمي الفطريات على جسم وملابس الضحية. ويفرض على الضحية الجلوس في وسط مرحاض معطل ومليء بالغائط وإجبار الضحية على تناول بوله , أو وضعه في غرف مليئة بالحشرات القارصة بدون غطاء أو حتى ملابس تقيه شرها , وتركه في غرف مظلمة لا تدخلها أشعة الشمس أو ضياء النهار ورطبة لأشهر ودفع وجبات الطعام الشحيحة والرديئة والماء له من ثقب في باب حديدية موصدة دوما...الخ. ويعصب الجلادون في غالب الأحيان عيني الضحية لكي لا يتعرف عليهم , كما تطلق باتجاهه العديد من العيارات النارية من مسدسات وبنادق رشاشة الجلادين لإرعابه وإيهامه بأنهم ينوون قتله , ويقتل أحيانا حقا. ويمارس التعذيب النفسي , بما فيه مشاهد تعذيب الآخرين , يتواصل سوية مع التعذيب الجسدي. وغالبا ما يحتسي الجلاد الخمر فتزداد قسوته ويفقد أعصابه بسبب عجزه عن إسقاط الضحية رغم كل تلك العذابات فيغوص في وحل التعذيب أكثر فأكثر ويفقد كلية كل ذرة من إنسانية الإنسان التي ربما كان يحملها في لحظة من اللحظات. وتجلب أحيانا زوجة الضحية أو الزوج أو الابن أو البنت ويتم التعذيب أمامهم وربما حتى تعريته أو تعريتهم وممارسة الاعتداء الجنسي المهين على الضحية أو على أفراد عائلته , وهم ضحايا إضافية. ويطلق الجلادون مجموعة من سجناء الحق العام على الضحية في غرفة يجلب إليها خصيصا فيتناوبون في تعذيبه وضربه ضربا مبرحا لعدة ساعات , حيث يتكرر هذا المشهد لعدة أيام. ويمارس الضرب الشديد وبالأحذية على رقبة الإنسان بما يمكن أن يؤدي إلى إصابة الضحية بعطل في دماغه. وغالبا ما يطلب من الضحية أن يمشي على أربع ويمتطيه أحد الجلادين في حين يقوم جلاد آخر بضربه على قفاه لتسريع زحفه. ويطلب أحيانا من ضحايا أسقطها التعذيب الهمجي للقيام بضرب وتعذيب رفاقهم وأقرب الأصدقاء إليهم لتحطيم معنويات الاثنين وتخريب النفس. ومنذ سنوات عمد النظام وهو في قمة مصادرة حقوق الإنسان إلى فرض عقوبات قطع الأيدي أو الآذان أو الساق أو حتى جدع الأنف لتهم موجهة للمعتقلين. والكثير من هؤلاء هم من السياسيين الذين اتهموا بتهم الحق العام للإساءة إلى سمعتهم بين الناس. إنها جرائم يصعب على الإنسان ذكرها أو حتى الحديث عنها. لقد مات تحت التعذيب عدد كبير جدا من المواطنات والمواطنين العراقيين من مختلف الأعمار , ومن مختلف الأحزاب والمنظمات , ومن مختلف القوميات والأديان والطوائف. ومن خرج منهم سالما بقى يعاني من كابوس تلك العذابات سنوات طويلة , أو أصبح مقعدا ومشلولا , كما حصل لمجموعة من الضباط الشيوعيين العراقيين. وكذلك ما حصل لـ 32 من العسكريين الذين وجهت لهم تهمة الانتساب للحزب الشيوعي العراقي , فاعتقلوا وعذبوا لفترة طويلة وبشراسة منقطعة النظير ثم اعدموا جميعا في العام 1978. وجدير بالإشارة إلى أن عددا كبيرا من مواطني الدول العربية كانوا ضحية أجهزة الآمن والاستخبارات العراقية بسبب رفضهم مسايرة النظام أو المشاركة في الحروب التي خاضها العراق. جلب الكاتب والصحفي الألماني , المتخصص بمتابعة مناطق الأزمات الساخنة في العالم في كتابه الموسوم "صورة عن الحرب , أيامي في بغداد" الذي صدر في العام 2003 وفي أعقاب سقوط النظام , انتباه العالم إلى أن النظام البعثي الصدامي قد استخدم في عمليات التعذيب والقتل في معتقلاته مكينة عملاقة لتكسير وفرم أجسام المعتقلين حيث يرمى المعتقل وهو حي يرزق أو بعد أن يقتل تحت التعذيب في جوف الجهاز العملاق ليخرج لحماً وعظاماً مفروماً يقذف من الجهاز مباشرة إلى نهر نصبت عليه هذه الآلة الجهنمية داخل بناية المعتقل حيث تقتات عليها الأسماك هناك.
Fröhder , Christoph Maria. Ein Bild vom Krieg , Meine Tage in Bagdad. Taschenbuch. Hoffmann und Camp Verlag. Hamburg. 2003. (ISBN 3455094198). 

وتؤكد جميع المعطيات التي لدينا بأن المعتقلين والموقوفين والسجناء ومن حكم عليهم بالإعدام لم يشهدوا محاكمات حرة وديمقراطية , بل واجهوا محاكم شكلت خصيصا وأحكامها كانت قد قررت سلفا , حتى أن الكثير منهم صدرت الأحكام بحقهم وهم أموات , أو كانوا قد قضوا عشر سنوات أو يزيد في سجون النظام. تشير الفقرة الأولى من المادة 9 من البرتوكول الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلى ما يلي: "لكل فرد الحق في الحرية والسلامة الشخصية. ولا يجوز القبض على أحد أو إيقافه بشكل تعسفي. كما لا يجوز حرمان أحد من حريته على أساس من القانون وطبقا للإجراءات المقررة فيه"(الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. مصدر سابق. ص 51). كما تؤكد الفقرات الأخرى إلى مجموعة من الضوابط في حالة الاعتقال , ومنها ضرورة تقديم المقبوض عليهم إلى محكمة تتسم بالشرعية. والبرتوكول الدولي لا يعترف بتلك القوانين التي تخالف هذه النصوص. وتعتبر مواد البرتوكول الدولي تطويرا مهما وتوسيعا ضروريا لما جاء من مبادئ أساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ضوء التجارب التي عاشتها , أو لا تزال تمر بها حالة حقوق الإنسان في العالم (نفس المصدر السابق. ص 30). ولكن ماذا يجري في العراق عمليا في هذا المجال؟ المعلومات الغزيرة المتوفرة تشير إلى قيام أجهزة أمن النظام باعتقال من ترى ضرورة اعتقاله من السياسيين وغير السياسيين , أي من مختلف الأحزاب والكتل والجماعات السياسية ومن المستقلين المعارضين للنظام , ومن غير السياسيين مثل التجار والصيارفة وأصحاب الأعمال وذوي الشذوذ الجنسي والمتهمين بالتزوير والسرقة ...الخ , حتى دون قرار بإلقاء القبض عليهم أو قرار بالتوقيف صادر عن حاكم تحقيق. ويبقى هؤلاء المعتقلون أسابيع وأشهر وأحيانا سنوات دون محاكمات. وعندما كان يقدم البعض منهم إلى المحاكمة , فلا تكون إلا أمام محاكم خاصة يشكلها مجلس قيادة الثورة وتحكم وفق الإحكام التي يقررها صدام أو من يخوله بذلك , كما حصل بالنسبة إلى المتهمين من أهالي الدجيل بمحالة اغتيال صدام حسين حيث أعدم الحاكم بندر 148 شخصاً دون محاكمات فعلية وتحقيق شرعي. ويكون المتهم قد مرّ قبل ذاك بسلسلة من عمليات التعذيب وهدر الكرامة وربما أشرف على الموت. كما لا يتمتع المعتقل عمليا بحق توكيل المحامي للدفاع عنه. وتكلف تلك المحاكم بعض المحامين من مرتزقتها لالتزام مسؤولية الدفاع الشكلي عنهم. ومن يحكم عليه بالسجن يودع في أحد السجون الكثيرة التي أقيمت خلال العقدين المنصرمين حيث يفتقد السجين إلى كل مقومات الحياة الطبيعية ويواجه إرهابا يوميا وتعذيبا جسديا ونفسيا وتغذية سيئة إلى أبعد الحدود , وكانت تمنع عن السجين السياسي الزيارات والمواجهات الاعتيادية. ووفق المعلومات المتاحة فأن قسما من المعتقلين قد مرّ على حجزه ما يقرب ربع قرن دون أن يقدم إلى المحاكمة , وبعضهم تجاوز احتجازه أكثر من 15 سنة كما في حالة الدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح الدرة والسيدة عائدة ياسين وغيرهم الذين لقوا حتفهم على أيدي النظام وفي سجونه الوحشية.
ث‌.   وكانت أجهزة الأمن والاستخبارات الصدّامية تنظم عمليات اختطاف واسعة لمواطنات ومواطنين من بيوتهم أو من محلات عملهم أم من الشوارع. وقد سجل الفريق العامل للأمم المتحدة عدد المختفين المسجلين لديه ب 15781 حالة. وكانت المعلومات التي لدى المعارضة العراقية والتي يعرفها المواطنون العراقيون تشير إلى أن عمليات الخطف تزيد بمقدار الضعفين عن الرقم الذي المذكور , إذ أن غالبية العوائل كانت تخشى تسجيل حالة الخطف بسبب خشيتها من المطاردات والمضايقات والسجن.
إن هذه الوقائع تسمح بتسجيل الموضوعة التالية: كان القضاء العراقي في عهد صدام حسين لا يتمتع بأي قدر من الاستقلالية وكان خاضعاً خضوعا تاما ومطلقا لرئيس مجلس قيادة الثورة شخصيا , وبالتالي فقد كان القضاء عاجزاً عن تأمين أي رقابة على أجهزة الدولة , وأن هؤلاء الحكام في أغلبهم كانوا يمثلون تلك الجهات أساسا , أي أجهزة الأمن والاستخبارات العسكرية , وبعضهم لا يحمل حتى شهادة تخرج من كلية الحقوق أو كلية القانون والعلوم السياسية , بل هم من العاملين في الجيش والشرطة والأجهزة الخاصة التابعة للقصر الجمهوري. وإذا ما وجد حاكم يتمتع بشيء من النزاهة والرغبة في الحيادية , فهو لم يكن قادراً على ممارسة عمله أو كان الفرد مجبراً على مسايرة الوضع القائم خوفا حقيقياً على رأسه أو على عائلته , وكحد أدنى , على وظيفته وعيشته.       
ج‌.   وخلال فترة حكم البعث وجد عدد يتراوح بين 2.5-3.0 مليون إنسان عراقي في الشتات. والقسم الأكبر من هؤلاء الناس كانوا قد تركوا العراق لخمسة أسباب رئيسية هي: 
1.   الإرهاب الدموي الذي تعرضت له قوى المعارضة العراقية بعد مجيء حزب البعث إلى الحكم.
2.   التهجير القسري الذي تعرضت نسبة مهمة من بنات وأبناء الشعب العراقي باعتبارهم من أصل غير عراقي أو عربي , سواء أكانوا من الكُرد الفيليين أو من أصل عربي شيعي أو ممن قطن العراق من الفرس منذ قرون أو عقود , وربما كانوا في الأصل من العرب أيضاً من أجيال قديمة يعود منحدرها إلى فترة الحكم العباسي في العراق.
3.   الهاربون من حروب النظام المختلفة , سواء أكان الهروب خشية من التجنيد لحروب النظام أم خشية الموت تحت قذائف المتحاربين أم على أيدي جلاوزة البعث لأسباب شتى.
4.   الوضع الاقتصادي المتردي الذي تفاقم تدهوره وازداد حجم البطالة بين السكان القادرين على العمل.
5.   الهروب بسبب سياسات التمييز الشوفيني والديني والطائفي إزاء المواطنين وأساليب الأجهزة غير الأخلاقية والدنيئة في ملاحقة العائلات , وخاصة النساء من أديان أخرى.     
والجدير بالإشارة إلى أن المغتربين قسرا ولأسباب سياسية لم ينجوا من ملاحقات النظام والإساءة لهم بأشكال مختلفة , كما تعرض العديد منهم إلى الموت من جانب نشطاء الأمن العراقي في الخارج وخاصة في سنوات العقدين الثامن والتاسع.

   كاظم حبيب

1113
كاظم حبيب
1 : إذا كان الكلام من ... فالسكوت من ذهب يا من لم تكن بهياً في فكرك وممارساتك!!

الطائفية سمٌ زعاف, ومن يمارسها وينادي بها ويروج لها بأي صيغة كانت يرش السم القاتل في مياه دجلة والفرات ليشرب منه البشر وينتهي يموت الكثير والكثير من البشر إلى أن تعود مياد الرافدين إلى نقاوتها السابقة وخالية من سم المسمومين في الوطن الجريح. ولكن الطائفيين ما أن يجدوا بداية جديدة لحالة الصفاء التي يطمح إليها الشعب ولو بالحدود الدنيا إلا ويبدأوا من جديد بنشر سمومهم القاتلة بصيغ وأساليب كثيرة بما فيها استخدام وسائل الإعلام.
هكذا كانت السنوات السبع المنصرمة مليئة بالسموم القاتلة للطائفيين من مختلف الأصناف, وعلى هذا المنوال مارست المليشيات الطائفية المسلحة التي كانت تمارس القتل على الهوية أو قتل أتباع الديانات الأخرى أو قتل ذوي الأفكار والسياسات والاجتهادات الأخرى. هكذا كانت ممارسات جيش المهدي وعصائب الحق وهيئة علماء المسلمين وجماعات أخرى غير قليلة إضافة إلى تنظيم القاعدة الإجرامي وجند الإسلام وميليشيات البعث المسلحة. ولكن الممارسات الطائفية المقرونة بالقتل والتفجيرات الانتحارية لم تقتصر على الأجنحة العسكرية لهذه القوى, بل كان السياسيون المرتبطون بقيادات تلك المليشيات المسلحة يمارسون دورهم الدنيء في تأجيج الصراعات بين المسلمين الشيعة والسنة من خلال التوغل بالتاريخ وقراءته قراءة خاطئة بتعمد وظالمة, إذ يراد منها تشديد الصراع والاستقطاب الطائفي للحصول على فرص إضافية للفوز بأصوات الناخبين من خلال تأجيج عواطفهم البدائية غير المتنورة وغير المستقرة على وعي سليم بتاريخ الإسلام والمسلمين وبتاريخ العلاقات بين الخلفاء الراشدين وسبل حل المشكلات التي كانت تجابههم حينذاك.
أحد هؤلاء الذين ينفثون السم اليومي, سواء أكان من على منبر البرلمان أم في القنوات الفضائية أم الإدلاء بتصريحات في الصحافة, هو بهاء الأعرجي. إنه رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب! فهل يمكن للإنسان العراقي أن يطمئن لحكمة وشفافية رجل يدين بالولاء للطائفية حتى النخاع, وينتمي إلى مجموعة طائفية ويشارك في ممارسة العنف ضد الآخر.
لقد كان على الحكومة العراقية وعلى القضاء العراقي وعلى مفوضية الانتخابات أن تنتبه إلى تصريحات ومقابلات وممارسات هذه الشخصية الصدرية القمعية لتقدمه إلى القضاء أولاً, وتحرمه من الترشيح للانتخابات ثانياً, لأنه يشارك باستمرار وإصرار في تأجيج الأحقاد والكراهية في صفوف الشعب العراقي والذي يرفضه الدستور العراقي الجديد ويعاقب عليه.
إن على مفوضية الانتخابات التي تتحدث عن الحيادية والاستقلالية أن تبرهن على استقلاليتها من خلال وضع اسم هذا المرشح عن الكتلة الصدرية في قائمة الممنوعين من الترشيح, إذ أن في ذلك سلامة للانتخابات وأجوائها أولاً, وإعطاء درس لمن تخوله نفسه بث الكراهية ونشر الأحقاد بين مواطنات ومواطني العراق.
     
2: أوقفوا نزيف الدم في الموصل, امنحوا المرشحين المسيحيين الحماية من القتل!
مرة أخرى يسيل الدم الزكي في الموصل, مرة أخرى يسقط شهداء أبرار من الكلدان والآشوريين والسريان, مرة أخرى تعجز الحكومة وأجهزتها العسكرية والأمنية عن توفير الحماية للمرشحين وللمسيحيين بشكل عام.
القتل لا يستهدف منع المسيحيين من الترشيح أو التصويت فحسب, بل يراد منه دفع المسيحيين إلى ترك الموصل والهجرة إلى بغداد أو إقليم كردستان أو إلى الخارج. إن نية وهدف هؤلاء الأوباش القتلة ومن يقف خلفهم هو تصفية الوجود المسيحي في الموصل. وعلينا أن نعمل على إفشال هذا المخطط الإجرامي الذي لا تقف وراءه جهة واحدة بل جهات متعددة. والسؤال هو: من المسؤول عن استمرار قتل المسيحيين؟ إنها الحكومة العراقية بشخص رئيسها, أنها وزارة الداخلية بشخص وزيرها, إنها وزارة الدفاع بشخص وزيرها وكذلك وزارة الأمن, إنها مسؤولية القوات المسلحة العراقية الموجودة في الموصل, إنها الشرطة والأمن العراقيين, أنه من مسؤولية مجلس محافظة الموصل ورئيس المجلس والمحافظ بالذات, إن هؤلاء جميعاً مسؤولون سياسياً ومعنوياً عن موت المسيحيين لأنهم لم يعملوا بما فيه الكفاية أبداً على توفير الحماية للمواطنين المسيحيين رغم معرفتهم بأنهم مستهدفون.
إن علينا جميعاً أن نزيد من الضغط المحلي والإقليمي والدولي على الحكومة العراقية التي توفر كل الحماية لها, ولكنها عاجزة عن توفيرها لمواطنيها. علينا أن نطالب الحكومة بتأمين الحماية للمسيحيين ولكل الناس الذين يتعرضون للإرهاب والقتل الفردي.
العزاء لعائلات الضحايا والذكر الطيب للشهداء والشفاء العاجل للجرحى.
18/2/2010                      كاظم حبيب     

1114
كاظم حبيب
صوتي هو ضميري فإلى من يرشدني لأدلي به؟
منذ عشرات السنين حُرم العراقيات والعراقيون من أن يدلوا بأصواتهم في انتخابات شرعية وعادلة ونزيهة وأن يمنحونها لمن يستحق الحصول عليها ويعبر عن تطلعاتهم وطموحاتهم.
كان هذا في العهد الملكي حيث كانت الانتخابات تجري بصورة مشوهة ومزورة ومتجاوزة ديمقراطية الدستور, وحين نجح 12 مرشحاً من قوى المعارضة في الفوز بعضوية المجلس رغم التزوير الفظيع في انتخابات العام 1954, عمد نوري السعيد على حل المجلس النيابي وأتى بمجلس جديد مطلق التأييد له وللنخبة الحاكمة حيث كانت توزع المقاعد على أربع جهات: حصة البلاط الملكي, حصة السفارة البريطانية, حصة حزب الحكومة (الاتحاد الدستوري ورئيسه نوري السعيد) وحصة حزب الحكومة البديل (الأمة الاشتراكي ورئيسه صالح جبر). وكلا الحزبين كانا يتبادلان المواقع في الحكم أم خارجه.
ولم تجر بعد سقوط الملكية مهازل الانتخابات في العهود الجمهورية الثلاث. ولكنها بدأت من جديد في عهد الدكتاتور صدام حسين. وكان المجلس المشكل يتناغم ورغبات ومقاسات وأهداف صدام حسين, إذ كان المختارون لعضوية المجلس جميعاً دون استثناء ابتداءً من رئيس المجلس د. سعدون لولاح حمادي وانتهاءً بآخر عضوٍ فيه "إمعات" مطلقة لما يقوله ويريده صدام حسين, وكان خطر الموت يهدد أي ناخب يمكن أن يجرأ ويعطي ورقة بيضاء في التصويت على رئاسة الجمهوري الذي فرض على الشعب اختياره رئيساً مدى الحياة, بالرغم من إرادة الشعب.
ثم جرت في عراق ما بعد صدام حسين ثلاث جولات انتخابية, الأخيرة منها كانت لمجالس المحافظات, وها نحن أمام جولة رابعة لانتخابات عامة. برهن الشعب خلالها على تحدي الإرهاب والعنف وخطر الموت في كل لحظة. وكان في هذا شجاعاً حقاً. كما برهن في الجولة الأخيرة على وعي مناهض نسبياً للطائفية وموقف أكثر شكاً بقوى الإسلام السياسية, مما أجبر البعض على محاولة تغيير الهوية واسم القائمة التي ينضوون تحتها.
في كل هذه الجولات الانتخابية لعبت عوامل كثيرة دورها في الحد الكبير جداً من نزاهتها. ولكنها لم تكن كلها مزورة, ولكن ما كان مشوهاً هو الوعي الذي نشأ عبر سنوات حكم البعث وما بعده والفقر الذي كان يدفع البعض الكثير إما إلى الإرهاب وإما إلى بيع الصوت.
الكثير من العوامل غير السليمة لعبت دورها في تشويه الانتخابات منها مثلاً: تدخل الدين بقوة في السياسة على صورة مرجعيات مؤيدة ومؤازرة لهذه القائمة أو تلك, أو الطائفية السياسية التي تُميز بين أتباع الأديان والمذاهب وتدفع بالطائفية إلى الصراع والنزاع والاستقطاب داخل المجتمع وليس بين أعضاء الأحزاب الإسلامية السياسية فقط. ولعبت عوامل البطالة والفقر والحاجة دورها في كسب الناخبين لصالح القوائم التي كانت ولا تزال قادرة على الدفع المالي أو العيني أو الدفع زائداً القسم بعلي بن أبي طالب أو بالحسين بن علي أو بشكل خاص بالعباس أبو رأس الحار. ولكن لم يقصر أولئك الذين يجبرون على القسم بالإمام الأعظم أو بالشيخ عبد القادر الگيلاني. لقد كان زج الدين والأئمة والشيوخ الصالحين في المعارك الانتخابية إساءة كبيرة للحياة السياسية وللانتخابات في العراق, والتي لم تستخدم من قبل سياسيي العهد الملكي بأي حال.
اختلف التزوير في مناطق العراق المختلفة, وكان على أشده في مناطق الوسط والجنوب وبغداد, ولكن لم تخل منه كُردستان.
التزوير اتخذ ويتخذ صيغاً مختلفة بما في ذلك التفاوت في القدرة المالية في الصرف على الدعاية الانتخابية لهذه القائمة أو تلك, أو التدخل الخارجي الفظ والتمويل الخارجي, أو التهديد بالقتل والخشية من النتائج أو نقص الحماية ومخاطر الموت للمرشحين من خارج قوى الحكومة المتنفذة.
ومع ذلك لا يمكن أن تعزى خسارة القوى الديمقراطية العربية في تلك الانتخابات إلى التزوير إلا بنسبة ضئيلة, إذ إن السبب يعود إلى طبيعة قانون الانتخابات والثغرات الجدية التي يتضمنها والاختلال في القدرات المالية وفي المواقع الحكومية وفي الاستقطاب الطائفي, ومن ثم في بطء حركة القوى الديمقراطية في السنوات السابقة ولأسباب كثيرة, ومنها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي, وضعف عملها المشترك وتحالفاتها وعلاقتها بالمجتمع, إضافة إلى انحراف البعض نحو قوائم طائفية بحتة تغطي عليها من خلال كسب بعض الديمقراطيين إليها, ومن ثم التركة الثقيلة التي خلفها عهد الدكتاتورية على قدرات القوى الديمقراطية التي لاقت الأمرين على أيدي النظام المقبور, وبشكل خاص الحزب الشيوعي العراقي.
واليوم يواجه المجتمع جولة الانتخابات الجديدة ويواجه الكثير من القوائم الانتخابية المتحالفة والمتنافسة. ولكنها تواجه أيضاً ثغرات جدية في القانون, وتمايز شديد في القدرات التنافسية بين القوائم لصالح القوى الحاكمة والمتنفذة, والحماية الأمنية التي يمتلكها المتنفذون في جولاتهم الانتخابية بخلاف من لا يملك تلك الحماية ...الخ. تابعوا حماية رئيس الحكومة أو رئيس الائتلاف الوطني في حملتيهما الانتخابية, ثم تابعوا حماية الصديق العزيز حامد العاني (أبو حمادة) المرشح في قائمة اتحاد الشعب مثلاً فسوف لن تجوا إلا نفسه أو رئيس قائمة اتحاد الشعب أو أي مرشح من هذه القائمة أو السيد أياد جمال الدين كمرشح أو السيد ضياء الشكرجي كمرشح أيضاً وليس كعضو في قائمة وزير الداخلية, ستجدون الفارق الكبير في توفر الحماية, وبالتالي مخاطر الاعتداء عليهم من قبل القوى الإرهابية أو الطائفيين المعروفين بتطرفهم ورغبتهم في القتل على الهوية الفكرية أيضاً.
ومع ذلك لا بد من خوض الانتخابات, ولا بد من الكفاح ضد احتمالات ومحاولات التزوير والتدخل الديني أو التدخل الخارجي أو دور الحكومة في التأثير على وجهة الانتخابات.
إن القوى التي تطرح شعاراتها الوطنية والديمقراطية والمدنية في برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية متماسكة من جهة, والتي لا تتبنى التمييز الديني والطائفي وترفض الهوية الطائفية وتتمسك بالهوية الوطنية والمواطنة المتساوية لكل بنات وأبناء العراق من جهة أخرى, قليلة جداً على صعيد العراق كله. وفي مقدمة هذه القوائم قائمة "اتحاد الشعب" التي لا تملك الكثير من الأموال ولا تملك الكثير من الحماية ولا تُعطى الكثير من الفرص للظهور على شاشات التلفزة ولا تملك جهاز دعاية ضخم مدفوع الرواتب, ولكنها تملك الثقة والإرادة الكافية لخوض الانتخابات ساعية إلى كسب ثقة الناخبات والناخبين الحرة والديمقراطية والحصول على أصواتهم, أصوات الذين يُحكًّمون ضمائرهم الحية ويفكرون أكثر من مرة لمن يفترض أن يعطوا أصواتهم التي لا تقدر بثمن.
هذه الانتخابات ليست مصيرية بطبيعة الحال وليست آخر المطاف, ولكنها مهمة جداً وخطوة مهمة على طريق طويل لضمان التقدم لهذا العراق بعيداً عن الطائفية والتمييز الديني والقومي والمذهبي وبعيداً عن الفساد المالي ومن أجل إنهاء الإرهاب الدموي وإنهاء الوجود الأجنبي في العراق.
إن البرنامج الذي تطرحه قائمة اتحاد الشعب كفيل من حيث المبدأ أن تتحد عليه قوى كثيرة يهمها مستقبل العراق الحر الديمقراطي والاتحادي, منها مثلاً التحالف الكردستاني أو التغيير أو الحزب الوطني الديمقراطي, إضافة إلى الحزب الوطني الديمقراطي الأول المؤتلف في قائمة اتحاد الشعب, أو مجموع الأستاذ ضياء الشكرچي أو مجموعة الدكتور كامل العضاض أو مجموعة ... مثلاً . ولكن للواقع المعقد في العراق أحكامه.
إن قائمة اتحاد الشعب تطرح برنامجاً وطنياً وديمقراطياً اتحادياً يشمل العراق كله ويدافع عن مصالح كل القوميات ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي. مصالح أغلب الفئات الاجتماعية ابتداءً من العمال ومروراً بالفلاحين والمثقفين والطلبة والكسبة والحرفيين وبقية فئات الكادحين والفقراء والمعوزين, إضافة إلى الفئات الاجتماعية التي يهمها تطور العراق الاقتصادي والاجتماعي, وخاصة التصنيع الحديثة وتحديث الزراعة والحد من إغراق الأسواق بالسلع الأجنبية ورفض اللبرالية الجديدة والعمل من أجل تنشيط جميع القطاعات الاقتصادية من حيث الملكية, الحكومي والخاص والمختلط. إن برنامج قائمة اتحاد الشعب برنامج وطني عام يصلح لهذا المرحلة ولسنوات قادمة.
أتمنى لهذه القائمة الحصول عل مزيد من الأصوات وإلى عدد جيد من الممثلين في المجلس النيابي الجديد لكي يستطيع أن يؤثر في الأحداث الجارية في العراق ولكي يستطيع أن يؤثر إيجابياً على القوانين التي تصدر عنه, فهو أقدم حزب في البلاد, ومن أكثر الأحزاب خبرة وتجربة, ومن أكثر الأحزاب العراقية التي قدمت خلال 76 سنة الضحايا الغالية والعزيزة على طريق الوصول إلى حرية العراق وسيادته ومستقبله الأفضل, وهو الحزب الذي لم تدنس سمعته أموال المال العام.
17/2/2010                        كاظم حبيب
   
     
 
   
     


1115
كاظم حبيب
هل الدكتور بارق شبّر على حق في موقفه من اللبرالية الجديدة؟
الحلقة السادسة والأخيرة

جمعت الإدارة الأمريكية عدداً كبيراً من السياسيين العراقيين المرتبطين بأحزاب سياسية معارضة أو عناصر مستقلة بمستويات وخبرات متنوعة بهدف تأمين معلومات ضرورية للمسؤولين والقوات الأمريكية التي كانت تقود تحالفاّ دولياً لم يحض بتأييد مجلس الأمن الدولي لشن حرب ضد النظام الدكتاتوري في العراق وإسقاطه. ولو كانت المعارضة العراقية قادرة ذاتياً على تحقيق هذا الهدف لما حل هذا التدخل الدولي, إذ أن أساليب النظام الفاشي في مواجهة قوى المعارضة لم تترك أي مجال في تحقيق هذا الهدف بقواها الذاتية, فكان التدخل الخارجي. ومن هنا يمكن القول بأن الظرف الموضوعي لم يكن متطابقاً مع الظرف الذاتي حين أُسقطت الدكتاتورية في العراق في التاسع من نيسان/ابريل 2003.
قدمت مجموعة الخبراء التي بلغ عددها 132 شخصاً معلومات كثيرة وتقارير غنية عن سبل التعامل مع الظرف الجديد الذي سينشأ في أعقاب سقوط النظام. وأصبحت لديهم ملفات ضخمة في هذا الصدد وفي مختلف المجالات.
ولكن على عادة قادة الولايات المتحدة وكذلك أولئك الذين نسبوا للعمل في العراق لم يبدوا أي اهتمام بتلك التقارير ولم يكن هناك من هدف مباشر أمامهم غير إسقاط النظام وتحويل العراق إلى ساحة قتال ضد قوى القاعدة وقوى الإرهاب, إضافة إلى  الأهداف الأساسية الأخرى التي تقف وراء كل حرب من هذا النوع وفي منطقة الشرق الأوسط الغنية بخاماتها, وخاصة النفطية منها. ولكن ماذا بعد الإطاحة؟ ليكن الطوفان! وحصل الطوفان فعلاً!
كان بول بريمر يمثل الشخصية النموذجية الأسوأ بين المسؤولين الأمريكيين الذين أداروا دفة الحرب والعمل في العراق. لم يكن بريمر يعرف شيئاً عن العراق ولم يكلف نفسه مشقة قراءة تقارير الخبراء العراقيين, كما لم يبذل جهداً للاستفادة منهم في العراق, بل ضيق عليهم الخناق حتى تخلصوا منه أو تخلص منهم, وكان لرئيس هيئة إعمار العراق العراقي الدور المعلى في تقصير قامة هؤلاء الخبراء وفي هروبهم من العمل معه.
جاء بمريمر إلى العراق وهو جاهل بكل معنى الكلمة بتاريخ العراق وأحوال شعبه ومشكلات المجتمع التي تراكمت عبر عقود من الاستبداد الدموي وبعيداً تماً عن وعي طبيعة هذا الشعب, وكان رأسماله الأول والأخير أنه من الجماعة المؤمنة بالنيولبرالية ومن أتباع المحافظين الجدد في آن واحد, ومن المقربين للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش. جاء معتقداً بضرورة ممارسة ما يلي:
1 . تدمير كامل لدولة البعث في العراق, دون أن يدرك دور الدولة وبعض مهماتها المشتركة في العراق, سواء أكانت بعثية أم غير بعثية. وكانت المصيبة أنه دمر جهاز الدولة العسكري والمدني وسمح للفوضى بالسيادة وللنهب والسلب بالسيطرة على الشارع.
2 . تدمير قطاع الدولة والدعوة للقطاع الخاص دون أن يعمل على توفير مستلزمات نهوض قطاع خاص فاعل ومؤثر وقادر على أخذ مهمات إعادة البناء والتنمية في البلاد.
3 . رفض عملية التنمية الاقتصادية ورفض التصنيع أو تطوير وتحديث القطاع الزراعي, بل ركز جل اهتمامه على قطاع التجارة الخارجية, أي تصدير النفط الخام واستيراد جميع أنواع السلع. إن تقسيم العمل الدولي الذي يؤمن به هو التصنيع والإنتاج عموماً يتم في الدول المتقدمة, والاستهلاك يتم في الدول النامية, إضافة إلى تصديرها للمواد الأولية دون استخدامها في التصنيع المحلي.
4 . وكان يسعى لأن تدير الولايات المتحدة الشؤون العراقية لأطول فترة ممكنة بعيداً عن القوى والأحزاب السياسة. وحين عجز بريمر عن تحقيق ذلك, أُجبر على تشكل مجلس الحكم الانتقالي. وحين أقام هذا المجلس أقامه شكله على النمط الذي تبناه للعراق, على أساس محاصصة دينية وطائفية وقومية. وكانت البداية للخراب الذي عم العراق في السنوات السبع المنصرمة.
5 . وخلال فترة حكمه المباشر كدكتاتور صغير ساعد بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الفساد والإفساد الذي كان قائماً أساساً وعلى انتشاره في سائر أنحاء العراق وبين كبار المسؤولين عبر الشركات الأمريكية بشكل خاص والشركات الأجنبية القليلة الأخرى التي عملت مع الشركات الأمريكية في العراق. وخسر العراق عبر النهب والاستخدام السيئ مبالغ طائلة من الأموال العراقية والمساعدات الخارجية وكميات كبيرة جداً من النفط الخام.
6 . ولم يستطع العراق التقدم خطوات إلى أمام في مجال تأمين إعادة البناء أو إعادة  الخدمات أو تشغيل العاطلين عن العمل ومكافحة الفقر والبؤس والفاقة, حتى الإرهاب لم يستطع المساهمة في دحره.
هذه الوقائع يصعب على أي إنسان عاقل أن يشكك بها أو يتجاوزها في الحديث عن العراق في فترة حكم بريمر. وبعد حكمه واصل العراق مسيرته في مختلف المجالات وبشكل خاص في الموقف من الدولة ومن قطاع الدولة ومن الفساد المالي والإداري والمحاصصة الطائفية. كما تم تجميد المشاريع الصناعية التابعة  لقطاع الدولة بهدف خصخصتها عملياً, ودفع الدولة أجور العمال والموظفين في تلك المنشآت لأن الحكم لا يريد أن ينشأ في العراق قطاع دولة, رغم أهميته في المرحلة الراهنة  وضرورة وجوده.           
لم يكن هناك أي تصور عقلاني وإيجابي لبريمر في تنمية الاقتصاد والمجتمع. لقد تصور قادة الولايات المتحدة أن سقوط النظام وتدمير الدولة البعثية سيجلبان الحرية والديمقراطية ونشاط القطاع الخاص. ولكن عقليتهما لم تتسع لتدرك بأن سقوط النظام والدولة البعثية من جهة, ونشر الحرية والديمقراطية من جهة  أخرى لا يدخلان بعلاقة ميكانيكية, بل هي عملية معقدة ومركبة وطويلة الأمد, إذ لا يمكن تحقيق ذلك بالتصور والرغبات وبدون دولة مؤسسية تهيئ تدريجاً القاعدة المادية لسيادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. كما أن الدولة هي القادرة ولفترة طويلة حقاً على النهوض بأعباء الكثير من العمليات الإنتاجية والخدمية دون أن يعيق ذلك بناء وتطوير القطاع الخاص من خلال تهيئة مستلزمات نهوضه.
إن تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث أو المعاصر يؤكد بشكل قاطع أهمية الدولة ودورها وجملة من مهماتها, إضافة إلى قطاعها الاقتصادي في مجال اقتصاد النفط والعديد من المشاريع الصناعية والمشاريع الخدمية في المرحلة الراهنة وفي المستقبل أيضاً.
وأن نسيان ذلك يقود إلى عواقب وخيمة, تماماً كما حصل في فترة حكم بريمر, وكما هو الوضع الراهن الذي ه استمرار لفترة بريمر.
إن الخطوات التي قطعت في مواجهة نسبية للإرهاب والمليشيات الطائفية المسلحة وفي توفير إمكانية للشعب على التحرك والتمتع بحرية نسبية وعلى المشاركة بنقد الأوضاع القائمة والدعاية الانتخابية, على أهميتها, فإنها لا تزال مقيدة بالكثير من المسائل, بما فيها العمليات الإرهابية والاغتيالات الفردية, وقدرة الخارج على التدخل في الشأن العراقي وانسياب الأموال والأسلحة والمخدرات عبر جميع بوابات الحدود التي لا تزال غير محكمة.
لا تزال الحكومة العراقية في الوقت الحاضر تمارس سياسة بريمر في مجال الاقتصاد, إذ لا يزال التفكير المهيمن نيولبرالي, وخاصة في الموقف من دور الدولة وقطاعها الاقتصادي ووسبل التعامل مع مكونات الاقتصاد الكلي ومن التصنيع وتحديث الزراعة ومن إغراق الأسواق المحلية بالسلع الأجنبية التي تساهم اليوم في تدمير ما تبقى من إنتاج صناعي حرفي أو إنتاج زراعي, حتى لبن أربيل المشهور لم يعد قادراً على الصمود في المنافسة مع الألبان الإيرانية والتركية والسعودية والسورية وغيرها, ولم يعد يصل إلى بغداد لكي تعرِّف به وزارة الدفاع العراقية, كما في السابق.
نحن أمام حالة مماثلة لما كان يقول به طه الجزراوي ولكن بصيغة أخرى: "نحن نملك الأموال النفطية, ومن حقنا أن نستورد كل شيء, ولسنا بحاجة إلى تصنيع أي شيء".
أغلب الذين يقودون القطاع الصناعي في العراقي اليوم يتبنون الفكر النيولبرالي, وكل المصانع التابعة لقطاع الدولة مجمدة بأمل بيعها بأبخس الأثمان, ولكن مجلس النواب هو الذي أوقف هذا المشروع الذي أراده بريمر للعراق. لقد كانوا يريدون تحقيق الخصخصة التامة قبل الانتخابات القادمة, إذ من الممكن أن يأتي مجلس جديد يرفض الخصخصة الكاملة لمشاريع الدولة. إلا أن المنافسة الانتخابية الراهنة ساعدت على منع بيعها وبالطريقة التي أرادت ممارستها وزارة الصناعة العراقية واستعجلت في تقديم المشروع لمجلس النواب.
نحن أمام نهج غير سليم ومضر بالاقتصاد والمجتمع في العراق. ليس هناك من يقف ضد القطاع الخاص, بل لا بد من وجوده ومساهمته وتطويره, وليس هناك من يريد منع وصول رؤوس أموال أجنبية للعراق, ولكن كيف وبأي شروط ووفق أية معايير, ولكن هناك من يقف ضد قطاع الدولة وضد الدعم الحكومي للفقراء والمعوزين, بما فيها البطاقة التموينية.
العراق بحاجة إلى قطاع الدولة والقطاع المختلط, إضافة إلى القطاع الخاص. العراق بحاجة إلى الدعم الحكومي للفئات الفقيرة والمعوزة والبطاقة التموينية, ولكن ليس للجميع بل للفئات المحتاجة لهذه البطاقة وليس للأغنياء والمتخمين. هنا ينبغي التمييز بين المواطنين لصالح الفقراء والمحتاجين. وسيبقى دور الدولة قائماً ومطلوباً للمشاركة الفعالة في تنظيم الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وفي هذا التقي مع الأخ الدكتور حيدر سعيد حين يقول:
"لقد كانت التجاربُ الأساسية للتحديث في المنطقة، من قبيل تجربة تركيا، هي من صناعة الدولة، غير أن العقل الأميركي لم يستطع أن يفهم منطق الدولة هذا والأهمية التي تحتلها في منطقتنا، ولم ير من فائدة وضرورة لها سوى أنها شرطي يواجه التطرف الإسلامي، وهو الذي جعل الولايات المتحدة تدعم الأنظمة القائمة في المنطقة، بعدما تبيّن لها أن إسقاط نظام صدّام قد أطلق نزعات أصولية نائمة.
لقد كان التفكير في الدولة في منطقتنا ينطلق من قدرتها على تمثيل المجتمع: هل هي تعبِّر عن أمة واحدة، أو مجتمع متعدد؟ نحن لا نفكر في الدولة، هنا، من حيث انها جهاز بيروقراطي (يبدو، للمفارقة، أن إصلاحه لن يتم إلا بضربة نيوليبرالية)، بل من حيث هي ناظم اجتماعي.
وهكذا، يبدو أن السنوات المقبلة ستكون عملا لإعادة إنتاج وبناء وترميم النزعة الدولتية."
(راجع: الدكتور حيدر سعيد. الدولتية وسؤال التحديث. مجلة الأسبوعية. العدد 109 بتاريخ 14م2/2010. بيروت).
ومن هنا جاء اختلافي مع ملاحظات الصديق الدكتور بارق شبر.
الدكتور بارق شبر يتبنى سياسة مقاربة من حيث المبدأ للسياسة التي مارستها ألمانيا الاتحادية, والتي تسمى باقتصاد السوق الاجتماعي. وهي سياسة منبثقة عن النيولبرالية, كما ذكرت في حلقة سابقة. ولكن العراق بحاجة إلى سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي التي تتطلب مسائل أخرى غير التي مورست في ألمانيا, ومنها:
1.   تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي وكناظم سياسي واجتماعي وثقافي غير مؤثر سلباً على حرية الفرد وحركته الفكرية, بل منشطاً لها ودافعاً للمبادرة والإبداع.
2.   العمل من أجل توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي وفق أسس عقلانية بين التراكم والاستهلاك, وكذلك بين الاستهلاك الفردي والاستهلاك الاجتماعي, وكذلك سبل توزيع الحصة الموجهة للتراكم, أي للاستثمار بين القطاعات الإنتاجية وتنشيط القطاعات الخدمية المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية. 
3.   تنظيم السياسات المالية والنقدية باعتبارها الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية, وتنظيم سياسات الضريبة وفق أسس تصاعدية على الدخول المباشرة وتقليص الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات.
4.   مشاركة الدولة في العملية الاقتصادية من خلال قطاعها الاقتصادي, وكذلك تنشيط دور القطاع الخاص والقطاع المختلط ودعمهما ليساهما بالنهوض الاقتصادي العراقي.
5.   تأمين دور للدولة في التأثير على السياسة الاستثمارية والقروض والتسهيلات الائتمانية للمصارف العراقية بما يشجع على التصنيع وتحديث الزراعة وفرض الحماية للصناعة والزراعة الوطنية من خلال سياسات جمركية فعالة. إضافة على دعم تطوين وتطوير شركات التأمين وإعادة التأمين لتساهم بفعالية في دعم التنمية الاقتصادية وفهم دورها في مجمل العملية الاقتصادية.
6.   تأمين سياسة فعالة لمكافحة البطالة وتنظيم المساعدات الحكومية من جانب الدولة للعاطلين عن العمل والمحتاجين للمساعدة.       
7.   إصدار القوانين التي تحمي الفئات الاجتماعية المنتجة للخيرات المادية والفكرية من شدة استغلال رأس المال وسوء استخدام الثروة والضرائب التي يدفعها المنتجون وغالبية المستهلكين. ويشمل هذا تنظيم الحد الأدنى للأجور وتحديد ساعات وأيام العمل الأسبوعية والعطل والضمانات الصحية والشيخوخة ...الخ.
8.   تنشيط دور منظمات المجتمع المدني, بما فيها نقابات العمال والمستخدمين والموظفين...الخ, في الدفاع عن مصالح الأعضاء والمجتمع, كذلك دورها كرقيب على الحكومة وأجهزتها والسلطات الثلاث في الدولة والشركات العامة والخاصة في نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي ...الخ.
إن هذه الاتجاهات وغيرها لا تلغي وجود الرأسمالية في البلاد وفي مرحلة التحول من علاقات متخلفة إلى علاقات إنتاجية أكثر تقدماً في مضمار التطور التاريخي للنظم الاجتماعية, ولكنها تسعى للحد من الجوانب السلبية الكبيرة في الاقتصاد الرأسمالي, سواء أكان على النطاق المحلي أم النطاقين الإقليمي والدولي.
16/2/2010                     كاظم حبيب                     



كاظم حبيب
هل الدكتور بارق شبّر على حق في موقفه من اللبرالية الجديدة؟
الحلقة السادسة والأخيرة

جمعت الإدارة الأمريكية عدداً كبيراً من السياسيين العراقيين المرتبطين بأحزاب سياسية معارضة أو مستقلين بمستويات وخبرات متنوعة بهدف تأمين معلومات ضرورية للمسؤولين والقوات الأمريكية التي كانت تقود تحالفاّ دولياً لم يحض بتأييد مجلس الأمن الدولي لشن الحرب ضد النظام الدكتاتوري في العراق وإسقاطه.
وقد قدمت هذه المجموعة التي بلغ عددها 132 شخصاً معلومات كثيرة وتقارير غنية عن سبل التعامل مع الظرف الجديد الذي سينشأ في أعقاب سقوط النظام. وأصبحت لديهم ملفات ضخمة في هذا الصدد.
ولكن على عادة قادة الولايات المتحدة وكذلك أولئك الذين نسبوا للعمل في العراق لم يبدوا أي اهتمام بتلك التقارير ولم يكن هناك من هدف مباشر غير إسقاط النظام وتحويل العراق إلى ساحة قتال ضد قوى القاعدة وقوى الإرهاب, ولكن ماذا بعد ذلك؟ ليكن الطوفان! وكان بول بريمر هو النموذج السيئ للمسؤولين الأمريكيين الذين اداروا دفة العمل(الحكم) في العراق. لم يكن يعرف شيئاً عن العراق ولم يكلف نفسه مشقة قراءة تقارير الخبراء العراقيين, كما لم يبذل جهداً للاستفادة منهم في العراق, بل ضيق عليهم الخناق حتى تخلصوا منه أو تخلص منهم. جاء بمريمر إلى العراق وهو جاهل بكل معنى الكلمة بتاريخ وأحوال ومشكلات وطبيعة شعب العراق كلية, وكان رأسماله الأول والأخير أنه من الجماعة المؤمنة بالنيولبرالية ومن أتباع المحافظين الجدد في آن واحد. جاء معتقداً بضرورة ممارسة ما يلي:
1 . تدمير كامل لدولة البعث في العراق, دون أن يدرك دور الدولة وبعض مهماتها المشتركة في العراق, سواء أكانت بعثية أم غير بعثية.
2 . تدمير قطاع الدولة لصالح القطاع الخاص دون أن تتوفر مستلزمات نهوض قطاع خاص فاعل ومؤثر وقادر على أخذ مهمات إعادة البناء والتنمية.
3 . رفض عملية التنمية الاقتصادية ورفض التصنيع أو تطوير وتحديث القطاع الزراعي, بل الاهتمام يجب ان ينصب من وجهة نظره لقطاع التجارة الخارجية, تصدير النفط الخام واستيراد جميع أنواع السلع. إن تقسيم العمل الدولي الذي يؤمن به هو التصنيع والإنتاج عموماً يتم في الدول المتقدمة والاستهلاك يتم في الدول النامية, إضافة على تصديرها للمواد الأولية دون استخدامها في التصنيع المحلي.
4 . أن تدير الولايات المتحدة أطول فترة ممكنة الشؤون العراقية بعيداً عن القوى السياسة. وحين عجز بريمر عن تحقيق ذلك, أجبر على تشكل مجلس الحكم الانتقالي, ولكن أقامه على النمط الذي تبناه للعراق, على أساس محاصصة دينية وطائفية وقومية.
5 . وخلال فترة حكمه المباشر كدكتاتور صغير ساعد بشكل مباشر أو غير مباشر على تعميق الفساد والإفساد الذي كان قائماً أساساً وعلى انتشاره عبر الشركات الأمريكية بشكل خاص والشركات الأجنبية القليلة التي عملت مع الأمريكية في العراق. وخسر العراق عبر النهب والاستخدام السيئ مبالغ طائلة من الأموال العراقية والمساعدات الخارجية وكميات كبيرة جداً من النفط الخام.
6 . ولم يستطع العراق التقدم خطوات إلى أمام في مجال تأمين إعادة البناء أو إعادة  الخدمات أو تشغيل العاطلين عن العمل ومكافحة الفقر والبؤس والفاقة, حتى الإرهاب لم يستطع المساهمة في دحره.
هذه الوقائع يصعب على أي إنسان عاقل أن يشكك بها أو يتجاوزها في الحديث عن العراق في فترة حكم بريمر. وبعد حكمه واصل العراق مسيرته في مختلف المجالات وبشكل خاص في الموقف من الدولة ومن قطاع الدولة ومن الفساد المالي والإداري والمحاصصة الطائفية. حت المشاريع الصناعية التابعة  لقطاع الدولة مجمدة عملياً وتدفع الدولة أجور العمال والموظفين لأن الحكم لا يريد أن ينشأ في العراق قطاع دولة, رغم أهميته في المرحلة الراهنة  وضرورة وجوده.           
لم يكن هناك أي تصور إيجابي في البناء في العراق. لقد تصور قادة الولايات المتحدة أن سقوط النظام وتدمير الدولة البعثية سيجلبان الحرية والديمقراطية ونشاط القطاع الخاص. إن سقوط النظام والدولة البعثية من جهة, والحرية والديمقراطية لا يدخلان بعلاقة ميكانيكية, بل هي عملية معقدة وطويلة الأمد ولا يمكن تحقيق ذلك بدون دولة مؤسسية تهيئ تدريجاً القاعدة  المادية لسيادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. كما أن الدولة هي القادرة ولفترة طويلة حقاً النهوض بأعباء الكثير من العمليات الإنتاجية والخدمية دون أن يعيق ذلك بناء وتطور القطاع الخاص من خلال تهيئة مستلزمات نهوضه.
إن تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث أو المعاصر يؤكد بشكل واضح أهمية الدولة ودورها وجملة من مهماتها, إضافة إلى قطاعها الاقتصادي في مجال اقتصاد النفط والعديد من المشاريع الصناعية والمشاريع الخدمية في المرحلة الراهنة وفي المستقبل أيضاً.
وأن نسيان ذلك يقود على(إلى) عواقب وخيمة, تماماً كما حصل في فترة حكم بريمر, وكما هو الوضع الراهن.
إن الخطوات التي قطعت في مواجهة نسبية للإرهاب وفي قدرة الشعب على حرية الحركة والكلام والدعاية الانتخابية, على أهميتها, لا تزال مقيدة بالكثير من المسائل, بما فيها العمليات الإرهابية والاغتيالات الفردية, وقدرة الخارج على التدخل في الشأن العراقي وانسياب الأموال والأسلحة والمخدرات عبر الحدود الشرقية والغربية والجنوبية.
إن الحكومة العراقية في الوقت الحاضر لا تزال تمارس سياسة بريمر في مجال الاقتصاد, لا يزال التفكير نيولبرالي, وخاصة في الموقف من دور الدولة وقطاعها الاقتصادي ومن التصنيع وتحديث الزراعة ومن إغراق الأسواق المحلية بالسلع الأجنبية التي تساهم اليوم في تدمير ما تبقى من إنتاج صناعي حرفي أو إنتاج زراعي, حتى لبن أربيل المشهور لم يعد قادراً على الصمود في المنافسة مع الألبان الإيرانية والتركية والسعودية والسورية وغيرها, ولم يعد يصل إلى بغداد لتعرف به وزارة الدفاع العراقية, كما في السابق.
نحن أمام حالة مماثلة لما كان يقول به طه الجزراوي ولكن بصيغة أخرى: نحن نملك الأموال ونستورد كل شيء ولا نحتاج إلى تصنيع أي شيء.
أغلب الذين يقودون القطاع الصناعي في العراقي اليوم يتبنون الفكر النيولبرالي, وكل المصانع التابعة لقطاع الدولة مجمدة بأمل بيعها بأبخس الأثمان, ولكن مجلس النواب هو الذي أوقف هذا المشروع الذي أراده بريمر للعراق. لقد كانا يريدون التخلص منه قبل الانتخابات القادمة, إذ من الممكن أن يأتي مجلس يرفض الخصخصة الكاملة لمشاريع الدولة. إلا أن المنافسة الانتخابية الراهنة ساعدت على منع بيعها وبالطريقة التي أرادت ممارستها وزارة الصناعة العراقية.
نحن أمام نهج غير سليم ومضر بالاقتصاد والمجتمع العراقي. ليس هناك من يقف ضد القطاع الخاص, بل لا بد منه ومن تطويره, وليس هناك من يريد منع وصول رؤوس أموال أجنبية للعراق, ولكن كيف وبأي شروط ووفق أية معايير, ولكن هناك من يقف ضد قطاع الدولة وضد الدعم الحكومي للفقراء والمعوزين, بما فيها البطاقة التموينية.
العراق بحاجة إلى قطاع الدولة والقطاع المختلط إضافة إلى القطاع الخاص. العراق بحاجة إلى الدعم الحكومي لفئات الفقيرة والمعوزة والبطاقة التموينية, ولكن ليس للجميع بل للفئات المحتاجة لهذه البطاقة وليس للأغنياء والمتخمين. هنا ينبغي التمييز بين المواطنين لصالح الفقراء والمحتاجين. وسيبقى دور الدولة قائماً ومطلوباً للمشاركة الفعالة في تنظيم الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وفي هذا التقي مع الأخ الدكتور حيدر سعيد حين يقول:
"لقد كانت التجاربُ الأساسية للتحديث في المنطقة، من قبيل تجربة تركيا، هي من صناعة الدولة، غير أن العقل الأميركي لم يستطع أن يفهم منطق الدولة هذا والأهمية التي تحتلها في منطقتنا، ولم ير من فائدة وضرورة لها سوى أنها شرطي يواجه التطرف الإسلامي، وهو الذي جعل الولايات المتحدة تدعم الأنظمة القائمة في المنطقة، بعدما تبيّن لها أن إسقاط نظام صدّام قد أطلق نزعات أصولية نائمة.
لقد كان التفكير في الدولة في منطقتنا ينطلق من قدرتها على تمثيل المجتمع: هل هي تعبِّر عن أمة واحدة، أو مجتمع متعدد؟ نحن لا نفكر في الدولة، هنا، من حيث انها جهاز بيروقراطي (يبدو، للمفارقة، أن إصلاحه لن يتم إلا بضربة نيوليبرالية)، بل من حيث هي ناظم اجتماعي.
وهكذا، يبدو أن السنوات المقبلة ستكون عملا لإعادة إنتاج وبناء وترميم النزعة الدولتية."
(راجع: الدكتور حيدر سعيد. الدولتية وسؤال التحديث. مجلة الأسبوعية. العدد 109 بتاريخ 14م2/2010. بيروت).
ومن هنا جاء اختلافي مع ملاحظات الصديق الدكتور بارق شبر.
الدكتور بارق شبر يتبنى سياسة مقاربة من حيث المبدأ للسياسة التي مارستها ألمانيا الاتحادية, والتي تسمى باقتصاد السوق الاجتماعي. وهي مدرسة منبثقة من النيولبرالية, كما ذكرت في الحلقة الأولى من هذه السلسلة من المقالات. ولكن العراق بحاجة إلى سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي التي تتطلب مسائل أخرى غير التي مورست في ألمانيا, ومنها:
1.   تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي وكناظم سياسي واجتماعي وثقافي غير مؤثر سلباً على حرية الفرد وحركته الفكرية, بل منشطاً لها ودافعاً للمبادرة والإبداع.
2.   إصدار القوانين التي تحمي الفئات الاجتماعية المنتجة للخيرات المادية والفكرية من شدة الاستغلال وسوء استخدام الثروة والضرائب التي يدفعها المنتجون وغالبية المستهلكين. ويشمل هذا الحد الأدنى للأجور وساعات العمل والعطل والضمانات الصحية والشيخوخة ...الخ.
3.   المشاركة في العملية الاقتصادية من خلال قطاع الدولة وكذلك تنشيط دور القطاع الخاص ودعمه ليساهم بالنهوض الاقتصادي العراقي.
4.   تنظيم السياسات المالية والنقدية وتنظيم الضريبة التصاعدية على الدخول وتقليص الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات.
5.   تأمين دور للدولة في التأثير على السياسة الاستثمارية والقروض والتسهيلات الائتمانية للمصارف العراقية بما يشجع على التصنيع وتحديث الزراعة وفرض الحماية للصناعة والزراعة الوطنية من خلال سياسات جمركية فعالة. إضافة على دعم تطوين وتطوير شركات التأمين وإعادة التأمين لتساهم بفعالية في دعم التنمية الاقتصادية وفهم دورها في مجمل العملية الاقتصادية.
6.   تأمين سياسة فعالة لمكافحة البطالة وتنظيم المساعدات الحكومية من جانب الدولة للعاطلين عن العمل والمحتاجين للمساعدة.       
7.   تنشيط دور منظمات المجتمع المدني, بما فيها نقابات العمال والمستخدمين والموظفين...الخ, في الدفاع عن مصالح الأعضاء والمجتمع, كذلك دور الرقيب على الحكومة وأجهزتها والسلطات الثلاث في الدولة والشركات العامة والخاصة في نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي ...الخ.
إن هذه الاتجاهات لا تلغي وجود الرأسمالية في البلاد وفي مرحلة التحول من علاقات متخلفة على علاقات إنتاجية أكثر تقدماً في مضمار التطور التاريخي للنظم الاجتماعية, ولكنها تسعى للحد من الجوانب السلبية الكبيرة في الاقتصاد الرأسمالي سواء على النطاق المحلي أم النطاق الإقليمي والدولي.
16/2/2010                     كاظم حبيب                     



1116
كاظم حبيب
هل الدكتور بارق شبّر على حق في موقفه من اللبرالية الجديدة؟
الحلقة الخامسة
دولة البعث والاقتصاد العراقي
من المعروف أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة. فحزب البعث حين وصل إلى السلطة عمد إلى استكمال بناء دولة الرعب البعثية التي بدأ بها في العام 1963 وانقطعت لعدة سنوات عبر ذهنية القوى القومية الناصرية القلقة والمترددة بين الاستبداد واللبرالية,  بناء جمهورية الرعب السياسي والاجتماعي والثقافي, جمهورية الأيديولوجية القومية الشوفينية الواحدة, التي كانت ترفض بقسوة وغلو بقية الإيديولوجيات وتسعى إلى وأدها وتصفية أصحابها فكرياً وجسدياً, الدولة التي كان يقول حاكمها بعنجهية المستبد المطلق والظالم: "أن العراقيين بعثيون وأن لم ينتموا", شاءوا ذلك أم أبوا! وأن الدولة البعثية باقية وإلى الأبد!!
لقد مارس رأس النظام البعثي كل المجون والعهر السياسي والقهر في التعامل مع الإنسان العراقي ومع الأحزاب والأيديولوجيات الأخرى وسعى بكل السبل المتاحة لديه إلى ضربها وتصفيتها وإسقاط أو قتل المنتمين إلى الأيديولوجيات والأحزاب الأخرى, أياً كان الآخر ما دام غير بعثي بسلوك صدامي, أو غير ملتزم بصيغة ما بالولاء "للقائد الضرورة" و "القائد التاريخي للأمة العربية" , بل قام بقتل جمهرة كبيرة من البعثيين من رفاقه القادة لاختلاف في الرأي أو منافسة في المواقع أو خشية من أمر ما.
لقد سيطر حزب البعث على السلطة وسخر الدولة كلها بما فيها من أدوات قمع للإجهاز على الآخرين, واستثمر لهذا الغرض طاقات الدولة المالية الكبيرة المتأتية من قطاع النفط ألاستخراجي على نحو خاص, وبما فيها من أدوات حراسة له ولنظامه, إذ أن الدولة التي عرفناها حتى الآن كانت ولا تزال تمارس مهمتين : مهمة قمع معارضي النظام وحراسة من بيدهم الحكم.
حين استولى حزب البعث على السلطة السياسية عمد إلى اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتأمين هيمنته الكاملة على الحياة الاقتصادية وعلى منتج الثروة في البلاد, على الإنسان, وعلى مصدر الثروة في العراق, النفط الخام. ومن أجل تحقيق ذلك عمد إلى مجموعة من السياسات الملموسة, منها في مجال بحثنا:
1.   توسيع جهاز الدولة بالمزيد من البشر, الناس الذين يعتمدون في عيشهم وتدبير أمور حياتهم اليومية ومصدر أجرهم أو راتبهم على الدولة مباشرة. مثل الجهاز الإداري, وأجهزة القوات المسلحة, بما فيها الجيش والشرطة والأمن الداخلي والخارجي والوكلاء والعيون الساهرة على مراقبة حركة الشعب وشرطة الحدود والأجهزة الخاصة.
2.   توسيع قاعدة نشاط قطاع الدولة الاقتصادي في مجال الإنتاج والخدمات ووضع قطاع النفط الخام بكامل ثروته وعوائده بيد هذه الدولة البعثية, والذي تم بقرارات التأميم في العام 1972.
3.   توسيع دور الدولة في الحياة الثقافية والخدمية بحيث تهيمن على القطاع التعليمي بكل مراحله وبصورة كاملة وعلى أجهزة الإعلام بشكل مطلق وكذلك على  مجرى الحياة الثقافية التي صبغت بلون وفكر حزب البعث إلى ابعد الحدود الممكنة, إلا من فلت منها بطريقة "كليلة ودمنة".
4.   تقليص دور ومكانة القطاع الخاص وجعله خاضعاً لجهاز الدولة البيروقراطي من خلال علاقاته الباطنية أو ما يمنحه من إمكانيات مقيدة برغبة الدولة, فهي التي تمنحه أو تمنع عنه ما تريد, وبالتالي فهو قطاع تابع لها وليس حراً بتصرفاته.
كان النظام ألصدامي انتقائي في تصرفاته وسلوكه الاقتصادي بما يخدم أغراض القائد الفرد. من هنا فأن الدولة البعثية التي نتحدث عنها لم تكن دولة تخضع لمعايير معينة غير معيار الاستبداد وممارسة القسوة والعنف إزاء الإنسان والمجتمع.
لقد أقامت دولة البعث قطاع دولة رأسمالي, ولكنه لم يعتمد على الربح في تسييره الذاتي, بل كان يعتمد على تحمل الدولة خسائر قطاعها الاقتصادي لأنها لم تكن بحاجة إلى أموال مشاريع الاقتصاد العراقي في ما عدا موارد النفط الخام التي تعاظمت منذ عملية التأميم وازدياد الطلب عليه وارتفاع أسعاره وبما أطلق عليها بالفورة النفطية.           
سعى البعث إلى تكوين قطاع دولة رأسمالي يكون في خدمة الدولة البعثية وأهدافها وليس في خدمة المجتمع وتطور الاقتصاد الوطني وزيادة معدلات نموه. لقد أبدت قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة اهتمامهما الأكبر بالهيمنة على قطاع الدولة وجعله أداة بيد الحكم من أجل:
1.   السيطرة على وجهة تطور قطاع الدولة الاقتصادي والتحكم بالمشاريع التي يقيمها والوجهة التي يتطور نحوها.
2.   السيطرة على قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والمصارف وشركات التأمين, وبالتالي السيطرة على وجهة الاستثمارات ومن يحصل عليها وسبل استخدامها.
3.   التحكم بالبرجوازية الوطنية وفرض وجهة نظره علها.
4.   إخضاع المجتمع بأسره لإرادة قيادة الدولة ومصالحها والوجهة التي تسعى إليها.
5.   إخضاع جميع مكونات الدولة لها وجعل كافة السلطات بيد مجلس قيادة الثورة ومن  ثم بيد الفرد القائد. وهي دولة استبدادية ولا تقوم على  مؤسسات دستورية بل تنطلق من إرادة ورغبات القائد وممثلة له وليس للشعب.
لقد سادت في العراق في فترة حكم البعث بين 1968-2003 دولة فرضت على الشعب أن يستند إليها في عيشه, ولكنها لم توفر الحماية له, بل استخدمته في حروبها وأجزاء منه في تنفيذ سياساتها في الحروب الداخلية والقمع الداخلي, وكانت دولة الحروب والقمع والإبادة الجماعية وضد الإنسانية والمقابر الجماعية, فهي دولة استثنائية لا تندرج تحت باب من أبواب الدولة المعروفة, بل تمثل شكلاً من أشكال الفاشية السياسية.
لقد عارضت حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية, فتسببت بنشوء اختلالات استثنائية في الاقتصاد العراقي. كانت دولة ريعية, استهلاكية وبذخية متمردة على القيم الحضارية وعلى مصالح الإنسان العراقي, دولة عصابات منفلتة من عقالها لا قيم ولا معايير تسيّرها غير رغباتها الجامحة وأهدافها في الهيمنة والتوسع. 
في الفترة الأولى من حكم البعث حيث تعاظم المورد النفطي توجهت السياسة نحو تنمية سريعة لقطاع الدولة وإقامة مشاريع صناعية وزراعية وري واسعة, إضافة إلى التوسع في الخدمات, فكانت السياسة مزيجاً من اللبرالية المنفتحة والتوجيه الحكومي المرتبط بإرادة مجلس قيادة الثورة أو المسؤول عن الاقتصاد العراقي حينذاك, صدام حسين. فانتعشت الفئات المتوسطة العاملة في مجالات الصناعة والمقاولات والصناعات الصغيرة الحرفية وفي قطاع التجارة والعقار, إضافة إلى الأجهزة المتنفذة العاملة في قطاع الدولة وتلك التي كانت تتعامل مع الشركات الأجنبية, وازداد البذخ في إقرار إقامة المشاريع الجاهزة وتسليم المفتاح وازداد عدد دورات الدينار العراقي السنوية وتحسنت السيولة النقدية مع ارتفاع سريع وتضخمي في الأسعار. وأطلق على هذه الفترة النفطية المنتعشة بالفترة الذهبية لعصر البعث, وكان الدكتاتور الأرعن طه الجزراوي يخطب بصوت مرتفع ويقول : "لدينا الأموال, نريد الأحسن" متجاوزاً كل أجهزة التخطيط التي كانت تحاول إعداد خطط اقتصادية عقلانية ومعقولة.
كتب الصديق الدكتور جعفر عبد الغني معلقاً بملاحظات صائبة على ملاحظات الدكتور بارق شبر في ضوء تعليق الأخير على المقالة المختصرة للدكتور حيدر سعيد في موقع العالم, إذ كتب يقول فيها ما يلي:
"كنت قد أعددت دراسة تحليلية بعد الإحصاء العام لسنة 1975_1976 فقدت مسودتها مع الأسف الشديد يتبين من خلالها أن أكثر الفئات الاقتصادية استفادة في تلك الفترة كانت الطبقة الوسطى ليس من الموظفين بل من الصناعيين والمقاولين و التجار و الحرفيين. ففي الوقت الذي كانت استثمارات القطاع العام هي الطاغية كانت مؤسسات هذا القطاع تعاني من الخسارة المزدوجة أي كلفة رأس المال و كلفة الدعم المقدم للإنتاج و أن القيمة المضافة المتولدة في هذا القطاع لم تتعد أجور العاملين و حسب. أما القيمة المضافة المتولدة في القطاع الخاص فاغلبها الربح و اقلها الأجور, خطان متعاكسان تماما.
و لكن الحكم ألصدامي قضى على هذه الظاهرة في نهاية السبعينات عندما صادر مكتسبات هذه الطبقة و سلمها إلى وكلائه و مخبريه و أقاربه. هذه ملاحظة تصحيحية ربما تستحق الدراسة الجدية". (الرسالة محفوظة في أرشيفي, كز حبيب).
واتسعت في هذه الفترة ظاهرة الفساد المالي على نطاق واسع وفتحت الكثير من الحسابات في الخارج لتحويل العمولات إليها لعدد كبير من المسؤولين وكبار الموظفين المتعاملين في إقرار وتوقيع العقود مع الشركات الأجنبية. وسيطر صدام حسين نفسه على ألـ 5% حصة كولبنكيان في عوائد نفط العراق في أعقاب التأميم, إضافة إلى الأموال التي تسربت إلى القيادة القومية لحزب البعث والقوى المساندة لحزب البعث في الخارج من عرب وأجانب على  حساب خزينة الدولة ومصالح الشعب.
ولكن هذه الفترة تعطلت وتراجعت مع بدء حروب النظام وما اقترن بها من توقف للمشاريع الاقتصادية وتدمير البنية التحتية وخاصة في الحربين الأولى والثانية من حروب الخليج ثم غزو الكويت والحصار الاقتصادي.
ومع بدء تنفيذ قرار النفط مقابل الغذاء بحدود منتصف العقد الأخير من القرن العشرين, بل حتى قبلها, ازداد اعتماد المجتمع على أرزاق الدولة, على كوبوناتها وعلى عطاءات القائد المتسلط. لقد انهار سعر العملة العراقية وانقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة غنية صغيرة جداً هي الفئة الحاكمة والمحيطين بها, والفئة الأكبر الفقيرة التي أصبحت غير قادرة على العيش دون تلك الحصة التموينية. وهنا كانت الدولة شراً لا بد منه حقاً لتلك الغالبية العظمى من المجتمع. إذ لم يكن في مقدور البشر العيش دون تلك الحصة التموينية ودون دعم الأسعار, إذ كانت حالة المجتمع قد بلغت الحضيض حين سقط النظام تحت أقدام قوات الاحتلال الأمريكية البريطانية بشكل خاص وحيث صدر قرار مجلس الأمن الدولي باعتبار العراق دولة محتلة من قبل القوات الأمريكية والبريطانية.
وحين ازداد الجرح نزفاً في المجتمع والأوضاع المالية تدهوراً عمد صدام حسين إلى ممارسة خمس مسائل متناقضة مع أوضاع المجتمع والفقر المدقع لنسبة عالية منه:
1.   زيادة الصرف على احتفالاته بأعياد ميلاده السنوية والعطايا التي يمنحها والهدايا التي يستقبلها من المجتمع وهي مقطوعة من ميزانية مؤسسات قطاع الدولة والدوائر الحكومية.
2.   زيادة عدد قصوره الرئاسية وقصور حاشيته التي تميزت بالفخامة والبذخ الكبير.
3.   زيادة عطاءاته من كوبونات لقوى خارجية من أجل كسب ودها ومساندتها لحكمه.
4.   زيادة مصروفاته على التسلح والتجسس وخنق صوت المجتمع المعارض له.       
5.   زيادة المكاسب للأجهزة القريبة منه والحامية له بما يزيد من اعتمادهم عليه واعتبار مصيرهما مشترك.
من هنا يمكن أن نتبين بأن دولة صدام حسين لم تكن دولة للقانون بل دولة الفرد القائد وهو القانون. ومثل هذه الدولة البعثية لا يمكن أن توضع في خانة الدول اللبرالية أو النظم النيوليبرالية أو أي شكل أخر من النظم السياسية, ولكنها كانت في كل الأحوال تشكل جزءاً من نظام العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية والرأسمالية الطفيلية والمتخلفة, إنها دولة عصابات شوفينية متمردة, دولة التجسس والبوليس, دولة الاستبداد الشرقي المستحدث بأساليب وأدوات قمعية حديثة. ولكن, في هذه الدولة الريعية, ازداد المجتمع اعتماداً على الدولة في الحصول على  جزءٍ أساسيٍ من عمله وقوت يومه, لقد كانت الدولة الشر التي لا بد منها, في حين أن الدولة بعمومها ليست الشر الذي لا بد منه , بل هي الناظم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والبيئي الذي يمكن اعتماده بجوار المجتمع المدني الديمقراطي الحديث!
إن المحدد لطبيعة الدولة دستورها والقوانين التي توضع في ضوء الدستور والمؤسسات التي تنهض على أساسه, ومن ثم النظام السياسي الذي ينشأ في ضوء ذلك الدستور, وبتعبير أكثر قرباً للواقع وملموسية, في ضوء طبيعة القوى الطبقية التي تقود البلاد وترسم سياساته وتحدد المصالح التي تسعى إليها.
14/2/2010                   كاظم حبيب
انتهت الحلقة الخامسة وستليها الحلقة السادسة والأخيرة.

1117
كاظم حبيب
خلوة مع النفس والتفكير بصوت مرتفع حول واقعنا الراهن في العراق
أتابع يومياً قراءة الكثير من المقالات والتصريحات والبيانات التي يشير أصحابها إلى أنهم ديمقراطيون أو علمانيون أو مدافعون عن حقوق الإنسان أو حقوق القوميات أو مناهضون لممارسة العنف ضد المرأة, وأنهم ضد التمييز الديني والطائفي وإلى جانب مبدأ الوطن والمواطنة المتساوية. ويسعد الإنسان أن يجد مثل هذا التوجه في أدبيات الكثير من القوى السياسية العراقية ويشعر بالارتياح من حيث وجهة ومضمون الخطاب السياسي الذي بات وكأنه المسيطر على ما ينشر في الصحف أو في بقية أجهزة الإعلام العراقية, إذ أمارسه أنا أيضاً مثل هذا الطرح في الكتابة اليومية. ولكن, حين أعود إلى ممارسات الكثير ممن هم في المحيط الذي أتحرك فيه أو ممن أعرفهم في العراق أو من التقيت بهم أو من أتابع نشاطاتهم وأفعالهم اليومية, ولا أعزل نفسي عن الكثير من هؤلاء, اشعر بخيبة مريرة, وأدرك عندها عمق الفجوة بين القول والفعل, بين الادعاء والممارسة. وكما قال فريدريك إنجلز فأن الممارسة لا تلتقي أو تتطابق مع النظرية, إذ تبقى الفجوة قائمة بينهما, ولكن ما نتابعه في العراق وفي تصرفات من يطرحون تلك المبادئ هي التي تهز كيان الإنسان وتسقط مصداقية الكثيرين ممن يدَّعون ذلك.
فالكثير ممن يتحدث عن الديمقراطية, يريدها له أو لحزبه لا غير, فهي ليست لغيره أو للأحزاب والقوى الأخرى, أو أنها أداة يستخدمها للوصول إلى هدف معين, أو إلى السلطة, ولكنها ليست فلسفة حياتية يخضع لها تصرفاته وتصرفات حزبه. وبالتالي فالديمقراطية هنا معطوبة تفقد مضمونها الأساسي, ويفقد من يمارسها مصداقيته بعد فترة وجيزة أمام أنظار المتابعين والجمهور.
والكثير ممن يدعي تبني العلمانية في الحديث, يشعر المتتبع أنه في الممارسة العملية لا يعنيها صدقاً ولا يلتزم بها بل يمارس عملياً سياسة مناهضة لها, فالعلماني يفترض أن يكون ديمقراطي الوجهة والعمل, يرفض التمييز بين الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية غير الفاشية والعنصرية, ويرفض الطائفية المقيتة ويرفض ربط الدين بالدولة, إذ بعكس ذلك يقود البلاد إلى ويلات إضافية للمجتمع. ومن هنا نجد أن من يدعي العلمانية ويرفض التمييز الديني والطائفي, هو يرتبط بحزب مذهبي طائفي أو بائتلاف طائفي وينشر كل ما يصله من فكر طائفي مضاد لأتباع المذاهب الأخرى بذريعة أن حامل الكفر ليس بكافر!
والكثير ممن يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان, يتجاوز عليها يومياً بعلاقاته مع الآخرين وفي طريقة معالجته للمشكلات التي تثار يومياً أو يريد من الآخرين ممارستها, ولكنه يرفضها ولا يلتزم بها في تعامله مع أفراد عائلته أو مع أخته وزوجته وينتقص من حرية النساء في إطار عائلته, ولكنه يريد التمتع بكامل الحرية مع النساء الأخريات ... حقوق الإنسان له ولكن ليس لغيره عملياً.
الكثير ممن يدعي احترام وحب قوميته والاعتزاز بها, يتجاوز على حرية وحقوق القوميات الأخرى, ربما دون أن يعي ذلك, إذ أن ثقافته وحيدة جانب ولا تسمح له برؤية التناقض بين الموقفين. وفي حقيقة الأمر فإن من لا يحترم القوميات الأخرى, لا يمكن أن يحترم قوميته والعكس صحيح أيضاً. وفي عالمنا العربي الكثير والكثير جداً من هذه النماذج, وكذلك في صفوف أبناء القوميات الأخرى. فاحترام قومية الفرد يفترض أن تتكامل باحترام القوميات الأخرى والاعتراف بحقوقها وممارستها فعلاً.
وهناك من يروج ويدعو إلى الكف عن ممارسة العنف ضد المرأة, ولكنه يمارس ذلك في بيته مع زوجته أو أخته أو ابنته وبأساليب شتى. كما أن هناك نسوة يناضلن ضد ممارسة العنف ضد المرأة, ولكن يسمحن لأنفسهن بممارسة العنف ضد أزواجهن أو أخوتهن الصغار في الدار. وهي ظاهرة موجودة رغم أنها محدودة وليست شائعة كثيراً, كما في حالة العنف ضد المرأة. ولكن وجودها أصلاً يعبر عن وضع المرأة المعقد في بلد مثل العراق وشعورها الثأري الذي يبعدها من الناحية المبدئية عن موقفها المعلن في مكافحة العنف ضد المرأة.     
وهناك من يدعو نظرياً إلى ممارسة النقد والنقد الذاتي باعتباره أسلوباً ينير له الطريق, ولكنه في الممارسة العملية لا يستطيع تحمل النقد وتسود بعينيه الدنيا حين يقرأ نقداً موجهاً له أو لحزبه أو مجموعته السياسية. حين ينتقد كاتب ما الحكومة تقوم الدنيا ولا تقعد, وكأن الحكومة معصومة من الخطأ, وهكذا مع الكثير من الأحزاب والقوى السياسية والأفراد. وهي كارثة حقيقية, إذ بدون النقد لا تصلح الأمور في العراق.   
إن هذه الوقائع الحياتية تؤكد مجموعة من الاستنتاجات المهمة التي يفترض في كل منا التفكير بها جدياً وأن يسعى إلى التعرف عن أسبابها الكامنة في صلب تربيتنا وتقاليدنا وعاداتنا البالية التي لا تزال تحركنا بعكس الاتجاه الذي نتحدث فيه. هذه العلل وغيرها موجودة فينا بنسب متفاوتة, ومهما كانت ضعيفة في أي منا, فهي مؤذية للفرد وللمجتمع. كل منا بحاجة إلى خلوة ومكاشفة مع النفس, إلى الصراحة مع الذات, إلى ممارسة النقد الذاتي لكي نستطيع معالجتها, فمن لا يعترف بأخطائه وعيوبه لا يستطيع معالجتها ابتداءً. إن الحملات الانتخابية الراهنة تكشف عن هذه المشكلة بشكل ساطع, ولهذا علينا امتلاك الناظور القادر على مساعدتنا في التمييز بين القول والفعل, بين النظرية والممارسة, بين الادعاء والواقع. ويمكن الإشارة هنا إلى بعض الملاحظات:
1.   إن هذه المصطلحات المهمة, الديمقراطية, العلمانية, حقوق الإنسان ...الخ ليست فقط جديدة علينا حسب, بل هي ليست صبغة نلون بها أجسادنا فقط, إنها تجسد في مضمونها ثقافة, حضارة, وممارسة يومية في إطار مجتمع مدني ديمقراطي حديث, مجتمع تخلص من بقايا علاقات الإنتاج البالية ومن تقاليد والعادات القديمة...الخ.
2.   إن أسلوب تربيتنا والتعامل في ما بين أفراد العائلة الواحدة داخل البيت وفي المدرسة وفي محل العمل, وكذلك القيم التي تشبعنا بها منذ الصغر من جهة, وتلك القيم والمعايير الحضارية الحديثة من جهة أخرى, أوجدت فينا صراعاً وازدواجية شديدة وحركت التناقض في دواخلنا ولم ترس على أسس قويمة وثابتة حتى الآن وستأخذ وقتاً طويلاً لأنها عملية سيرورة وصيرورة معقدة وطويلة الأمد, إذ أنها تستوجب وجود مستلزمات تساعد على تكريس الجديد وإزالة القديم المترسخ. 
3.   إن النظم السياسية التي سادت في بلادنا منذ قرون كثيرة تميزت كلها دون استثناء كبير, وارتباطاً بطبيعة علاقات الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة, والمستوى العام للوعي, بالفردية والاستبداد والقهر الاجتماعي والفكري للمجتمع من جانب النخب الحاكمة والقوى الاجتماعية التي تمثلها تلك النظم والنخب السياسية.
4.   ولا شك في أن أساليب ممارسة الأديان والمذاهب من جانب الغالبية العظمى من شيوخ الدين وترويجها في المجتمع كانت ولا تزال تساهم في تعميق تلك الازدواجية لأنها ضد الجديد من القيم الحضارية ومن المعايير الجديدة المرتبطة بتطور حضارة وثقافة الإنسان, ولأنها كانت ولا تزال تخشى على مواقعها ومنزلتها الاجتماعية ومصالحها الاقتصادية وتأثيرها على الفرد والمجتمع, ولأن الجديد يهز تلك القناعات ويضعف الإيمان والالتزام بها.
5.   إن من الصعوبة بمكان بل الاستحالة عملياً تحقيق التغيير في سلوك الفرد والمجتمع ما لم نعمل على تغيير الأرضية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي نقف عليها. إن تغيير تلك الأوضاع, مع ممارسة عملية تنوير ديني واجتماعي واسعتين, هي التي تسمح ببروز قوانين وقواعد عمل جديدة وأخلاقيات وسلوكيات فردية ومجتمعية جديدة, إضافة إلى وعي جديد يحفز على التغيير والتطوير والتفاعل.
6.    الإشكالية هنا لا ترتبط بفرد واحد أو مجموعة من الأفراد المثقفين, بل بالكتلة البشرية الكبيرة, بالمجتمع كله, بالنظام المؤسسي القائم, بعلاقات الإنتاج وبمستوى تطور القوى المنتجة وبدور الدولة ومؤسساتها ومنظمات المجتمع المدني, وباختصار بالبنية التحتية والبناء الفوقي. إنها العملية المديدة التي لا بد منها والتي سيصل إليها المجتمع العراقي بكل قومياته وفئاته الاجتماعية دون أدنى ريب, ولكن بعد حين...
13/2/2010                  كاظم حبيب
     

1118
كاظم حبيب
هل الدكتور بارق شبّر على حق في موقفه من اللبرالية الجديدة؟
الحلقة الرابعة
دور الدولة في العراق  حتى انقلاب البعث الثاني

تأسست الدول العراقية الملكية في العام 1921, نشأت بعد انهيار الدولة العثمانية وبدء الاحتلال البريطاني للعراق في العام 1917, وفي أعقاب انتفاضة السليمانية 1919 ومن ثم  ثورة 1920, وهي نتاج مركب ومعقد من الذهنية التي سادت العراق في العهد العثماني والتحديث البريطاني للعراق الذي جاء به الاستعمار البريطاني وتجلى ذلك في الدستور الحديث الذي لم يتخلص من مسألتين: التأثير الفكري والسياسي  للعهد العثماني وطبيعة علاقات الإنتاج التي سادت العراق في تلك الفترة أولاً, والديمقراطية البريطانية التي جاء بها الحكم البريطاني للعراق ولكن قرمتها كثيراً الذهنية الاستعمارية البريطانية ذاتها وممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة والسفير البريطاني في بغداد ثانياً.
كان يراد إقامة دولة مدنية تستند إلى الدستور والسماح لعلاقات رأسمالية تهيمن في مجال التجارة والعقار ولكنها لا تقترب من التصنيع وتحديث الزراعة وفي ظل "الإسلام" دين الدولة وقانون دعاوى العشائر العراقية بجوار الدستور الحديث. وكان يراد إقامة دولة وفق سمات حديثة مأخوذة من الدول البريطانية على أرضية فكرية إسلامية يلعب شيوخ الدين في المجتمع دوراً كبيراً وفي ظل استمرار وجود علاقات إنتاج متخلفة, أي أن الأرض لم تحرث لصالح الوطن والمواطنة, بل استمر ما كان يطلق عليه الأمة الإسلامية ورعايا الخلافة الإسلامية عملياً. لقد كانت ثورة العشرين تجسد صراعاً بين الطموح إلى بقاء الوضع على حاله خشية التغيير من جانب شيوخ الدين وفقدان مواقعهم الدينية والاجتماعية والسياسية ومواردهم الاقتصادية, وبين تطلع ذلك الجزء من المثقفين والتجار صوب التغيير وتحديث العراق وفق منظور خليط بين الوطنية والرؤية البريطانية الجديدة. 
 نشأت في ضوء ذلك علاقات رأسمالية مستوردة في قطاع التجارة وفق ذهنية لبرالية, ولكنها مقرمة ومحصورة في القطاع التجاري وفي صالح المصالح والهيمنة الاستعمارية البريطانية على العراق. وبجوار الدستور المدني أقر قانون دعاوى العشائر وعملا جنباً لجنب في حياة المجتمع العراقي في الريف والمدينة. وبمرور الزمن اتسع النشاط اللبرالي للدولة العراقية بفضل نضال قوى المعارضة الديمقراطية من أجل التصنع وتطوير الزراعة ومعالجة مشكلات الأرض ومن أجل قطاع اقتصادي بيد الدولة وبناء جهاز كبير يمسك بزمام الأمور لصالح النظام السياسي القائم. لا بد لنا أن نلاحظ هنا بأن السلطات البريطانية كانت تسعى إلى بناء دولة سياسية الذي يحتاج بدوره إلى شعب أو أمة, وبين الممارسة العملية المناهضة لمفهوم الدولة وبناء الأمة الذي يفترض أن يجد له أساساً اقتصادياً واجتماعيا وكسر مفهوم الرعية بالمواطنة, هذا التناقض أعاق عملياً تسريع عملية بناء الوطن والمواطنة لحساب الإحساس بالأمة الإسلامية والرعايا. ومن هنا كان دور الدولة مطلوباً, ولكنه معطلاً لدوره في تكون فكر وثقافة الوطن والمواطنة.
 وبعد إنهاء الانتداب المباشر ودخول العراق عصبة الأمم الذي سبقته الموافقة على عقد امتياز استخراج وتسويق النفط العراقي مع الشركات البترولية الأجنبية العملاقة وبدء تدفق موارد مالية من النفط الخام إلى الحكومة العراقية تزامن ذلك مع نهاية الأزمة العامة التي شملت العالم كله وبدء تطبيق نظرية كينز في السياسات الاقتصادية الغربية. ولذلك وجد ذلك تعبيره في السياسة الاقتصادية العراقية حين بدأت الدولة  بوضع برامج اقتصادية لعدة سنوات, ثم بدأ الضغط عليها للتصنيع, صدر قانون حماية الصناعة  في العام 1929 مثلاً, وفعّل لاحقاً ونشط دور الدولة وفيما بعد, وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى, دفع الدولة بإقامة مشاريع صناعية كما في صناعة الاسمنت مثلاً. 
وأمكن في ظل انتعاش الكينزية أن توافق الحكومة العراقية على مشاريع صناعية لصالح قطاع الدولة, وخاصة مع المناصفة في عوائد استخراج وتصدير النفط الخام العراقي مع شركات النفط الاحتكارية الأجنبية ونشوء مجلس الإعمار ومن ثم وزارة الإعمار. فالدولة العراقية كانت قد بدأت بإرساء أسس أولية لدولة مدنية مؤسساتية قائمة على منهج لبرالي, ولكنها في الممارسة العملية كانت الحكومة ذاتها تنتقص من هذه الدولة في مجالات السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والمجتمع المدني.
لقد أخذ النظام الملكي من تاريخ العراق في العهود القديمة بعد تشكيل الدولة المركزية,أي بعد توحيد دويلات المدن القبلية, ومن العهود الأموية والعباسية والعثمانية, بعض مهمات الدولة الشرقية وسمات النمط الآسيوي المركزي, إذ كانت طبيعة النظم وواقع المنطقة الجغرافي والمناخي قد فرضا قيام الدولة بمجموعة من المهمات ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي, ولكنها أخذت في الوقت نفسه من المدنية والدولة الحديثة بعض ملامحها.
لقد مارست الدولة العراقية الملكية مجموعة من المهمات الخدمية بعد انتهاء الانتداب وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية, ومنها خدمات التعليم والصحة والنقل العام (السكك الحديد والطيران ومن ثم حافلات نقل الركاب في بغداد, وكذلك الري والبزل, كما شيدت جهازاً كبيراً جداً تابعاً للدولة ويعتمد في تدبير لقمة عيشه على الحكومة, وأصبحت الدراسة متجهة بالأساس صوب تكوين موظفين للدولة, رغم التحسن النسبي الذي طرأ في الخمسينات على وجهة التعليم والتخصص والتعليم المهني.     
حين سقط النظام الملكي في العراق لم تكن البلاد قد استطاعت تكريس الحياة الدستورية والديمقراطية المؤسساتية, رغم وجود المؤسسات, كما لم تستطع تعزيز وتكريس النهج اللبرالي في الاقتصاد, إذ أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية لم تكن هي السائدة, بل كانت إلى ذلك الحين تترافق مع وجود العلاقات الإنتاجية شبة الإقطاعية في الريف وأحياناً وجود العلاقات الأبوية القديمة في الريف والمستندة إلى العلاقات العشائرية ذات المضمون الأبوي. كما أن البرجوازية الوطنية, وخاصة الصناعية, لم تستطع احتلال موقع مهم في الاقتصاد العراقي, إذ أن القطاع العام كان أقوى من القطاع الخاص في قطاعات مختلفة من الصناعة العراقية بفضل نشاط مجلس ووزارة الإعمار والمشاريع الصناعية المهمة نشأت في الفترة بين 1951/1952 حتى سقوط الملكية في العام 1952, إضافة إلى وجود قطاع صناعي مختلط اهتم بتكوينه المصرف الصناعي العراقي.
بعد سقوط الملكية في انتفاضة الجيش وسعي الشعب إلى تحويلها إلى ثورة بأمل أن تجري تغييراً في علاقات الإنتاج وتطلق العنان لتطور القوى المنتجة المادية والبشرية وتطلق الحريات الديمقراطية وتعزز الهوية الوطنية العراقية والمواطنة العراقية. وكانت فرصة ثمينة لتحقيق الدولة المدنية القائمة على المؤسسات التي تستند إلى دستور ديمقراطي وحياة مدنية ديمقراطية وحياة اقتصادية جديدة تهشم علاقات الإنتاج القديمة عبر تنفيذ صارم لقانون الإصلاح الزراعي وبناء علاقات إنتاجية رأسمالية على أنقاضها وتدفع بالبلاد على طريق التطور الرأسمالي الذي يفرضه واقع العراق حينذاك. وكان هذا التوجه مقروناً بثلاث سمات ميزت العراق على امتداد قرون طويلة مع ملامح حديثة لبعض تلك السمات, وأعني بها ما يلي:
1.   اعتماد المجتمع على الشخصية الكارزمية, على الشخصية الحكومية التي تقف على رأس الدولة, المنقذ من أوضاع المجتمع البائسة وغير الديمقراطية, ونجده شاخصاً في حياة القبيلة وفي دور الخليفة أو السلطان أو الوالي, كما نجده في الميثولوجيا الشعبية وبصور شتى ابتداء من العراق القديم إلى الوقت الحاضر. وقد برزت بشكل صارخ في فترة حكم عبد الكريم قاسم, حيث ارتفع الصوت الصارخ: ماكو زعيم إلا كريم, وعاش الزعيم الأوحد, وأصبح لفترة غير قصيرة معبود الملايين, بل هو لا يزال كذلك. وهو مأخوذ إلى حد ما من الهتاف المعروف لدى الكثير من الشيعة: ماكو ولي إلا علي ونريد حكم جعفري!!   
2.   اعتماد المجتمع على حكومة مركزية لتأمين جملة من القضايا التي كانت مسؤولة عنها في السابق أيضاً, ومنها الري والبزل والخدمات الاجتماعية والتوظيف في جهاز الدولة والاعتماد عليها في الحصول على الرواتب والأجور.
3.   الدعوة إلى إقامة قطاع عام تديره الدول ذاتها, إلى جانب الدعوة لإنعاش نشاط القطاع الخاص. وهذه المسألة ترتبط بالتوظيف في جهاز الدولة الاقتصادي من جهة, وبالرؤية الحديثة لدور قطاع الدولة في توفير سلع وخدمات رخيصة للسكان وغالبيتهم تعاني من التخلف والفقر والبطالة والتي لم تعارضها النظرية الكينزية بل ساندتها حتى في المستعمرات أو الدول التابعة أو المستقلة حديثاً.
في هذه الفترة بدأ جهاز الحكم بالتضخم, وكذلك قطاع الدولة الاقتصادي وتفاقم دور البيروقراطية في حياة المجتمع. وعجز النظام الجديد عن حل المعضلات الأساسية التي واجهت المجتمع: ومنها وضع دستور ديمقراطي للبلاد, بناء حياة ديمقراطية ومؤسسات دستورية, الفصل بين السلطات الثلاث, تطبيق قانون الإصلاح الزراعي, تراجع المجتمع المدني وتنامي ممارسة القوة والعنف في المجتمع وعجز عن حل مشاكل القوميات في العراق, كما سادت الفردية في الحكم وفي اتخاذ القرارات بما فيها تلك التي تمس مصير المجتمع والدولة, ومنها الحرب في كردستان والمطالبة بالكويت على سبيل المثال لا الحصر. لم يكن المجتمع بمستواه الفكري والاجتماعي أو الثقافي العام قادراً على الدفع بالاتجاه الصحيح, بل بحكم تربيته وأسلوب تفكيره قد ساهم في دفع عبد الكريم قاسم إلى تكريس حكمه الفردي والذي انتهى إلى  النتيجة المعروفة.
لقد أخذت الدولة باللبرالية الكينزية إلى حدود بعيدة, رغم أنها لم تكن واضحة لمن مارسها في العراق, ولكنها كانت ضعيفة التطور ومتخلفة. وأعني بذلك الدمج بين الاعتماد على الدولة تنشيط القطاع الخاص لمعالجة مشكلة البطالة والتشغيل ومنح الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً بعض المعونات التي تساعد على تحسين ظروف حياتهم, إضافة إلى مشاركة الدولة في الخدمات الاجتماعية, ومنها الحياة الصحية والتعليمية والحياة الثقافية ..الخ.
لم يتسن لهذا الاتجاه أن يستقر فقد سقط بانقلاب نفذه البعثيون وسانده بعض الدول الكبرى على الصعيد العالمي والجمهورية العربية المتحدة والسعودية والأردن وتركيا وإيران على صعيد المنطقة.
والنظام الجديد في الجمهورية الثانية كان نظاماً شمولياً فاشياً في ممارساته السياسية والاجتماعية وفي ساديته ونرجسية قادته وبؤس ثقافتهم وغياب وعيهم الوطني واعتماد موقف عروبي يميني وشوفيني متخلف بعيداً كل البعد عن المدنية وعن اللبرالية بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي, وعن مفهوم الوطن والمواطنة المتساوية, إذ سادت الفوضى وعم الفساد والقتل بالجملة والحرب في كردستان وغياب دور الدولة المؤسسية.
لم يعرف في العراق في هذه المرحلة دولة مدنية مؤسساتية, بل كانت عصابات منفلتة من عقالها سيطرت على الحكم بالقوة, ولكنها سرعان ما سقطت تحت حراب حلفاء الأمس.
برز في فترة حكم الأخوين عارف اتجاه نحو تخفيف الضغط على المجتمع والاعتماد بقدر ما على القوى القومية اليمنية التكنوقراطية ذات الانتماء القومي الناصري. فسعت إلى توسع جهاز الدولة السياسي والإداري والاقتصادي والخدمي وإلى محاولة امتصاص الكثير من العاطلين من الخريجين فيه, كما عمدت إلى الاعتماد على قطاع الدولة الرأسمالي, وإهمال نسبي للقطاع الخاص في حقول الإنتاج والنشاطات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية, ولكنها تركت له المجال في المقاولات والمضاربة بالعقارات. كان التركيز على قطاع الدولة قد انطلق من محاولة التماثل والوحدة مع مصر, إضافة إلى اعتماد سياسة تقليم أظافر البرجوازية الصناعية, التي رفضت حكمها وطالبتها بدستور دائم وإقامة دولة مؤسسية حرة والفصل بين السلطات, بتأميم مشاريعها الاقتصادية في المصارف والصناعة والتجارة والتأمين. ولم يكن للدولة أي وجهة مدنية عقلانية, بل كانت دولة استبدادية قائمة على حكم الفرد ووفق أسس قومية عروبية وأسس طائفية بغيضة عجزت عن تحقيق أي مهمة سياسية أو اقتصادية أو حل مشكلات اجتماعية, ولكنها كانت أقل شراسة في القتل والسجن والتعذيب من سابقتها. عطلت تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي وغيرت من محتواه في غير صالح التقدم في الزراعة والريف وسعت إلى تنشيط قطاع النفط الخام ولكنها عجزت عن عقد اتفاقيات مناسبة لصالح الاقتصاد العراقي واستفادت من موارد النفط الخام المصدر لأغراضها الاستهلاكية والعسكرية وحربها المتقطع ضد حركة التحرر الكردية وفرطت في تلك الموارد ولم تنفذ إلا القليل من برامج التنمية الاقتصادية التي وضعتها خلال الفترة 1963-1968.
لقد كانت دولة انتقائية وحكم قائم على الانتقاء في السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون أي فلسفة في الحكم أو منهج يضيء لها الطريق فتعثرت كثيراً رغم الانفتاح السياسي النسبي في نهاية حكم عبد الرحمن محمد عارف الذي تسلم الحكم بعد موت أخيه عبد السلام محمد عارف في حادث طائرة في سماء جنوب العراق. لقد سقط النظام الذي انتشر فيه الفساد ودور المضاربة بالعقار والاغتناء على حساب سرقة قطاع الدولة ونهبه من الباطن والاستيراد المفتوح لمن يبني الجوامع والمساجد في العراق, وخاصة من البطانة والمحيطين بالنخبة العسكرية الحاكمة, كما لعب العسكريون والمتقاعدون منهم على نحو خاص دوراً مهماً في الحصول على إجازات استيراد وبيعها لآخرين وفق عمولة, إذ أصبحت باباً رحباً ومفتوحاً للاغتناء على حساب الشعب ومالية الدولة. سقط هذا النظام ومعه الجمهورية الثالثة تحت وطأة ضعفها والتآمر من داخل الحكم والقصر على النخبة القومية اليمينية والشوفينية الحاكمة. وبدأت الجمهورية الرابعة, جمهورية الرعب, على حد التعبير الدقيق للدكتور كنعان مكية. وخلال حكم الأخوين عارف ازداد دور الدولة وازداد الاعتماد عليها, وادعى العاملون في هذه الدولة أنهم يسعون إلى بناء الاشتراكية العربية, وهي في الحقيقة لم تكن سوى لبرالية كينزية مشوهة وانتقائية وثأرية في الممارسة,
ولا بد من الإشارة إلى أن ما تحقق في ظل النظام الملكي من خطوات على طريق التمدن وبناء الدولة المدنية قد انقطع, وكان المفروض أن تواصله ثورة تموز 1958, إلا أنها عجزت عن ذلك بفعل عوامل داخلية وخارجية, مما فسح المجال لتراجع عما تحقق من خطوات على طريق تمدن الدولة والمجتمع وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية والقائمة على الدستور والتقاليد المؤسساتية حتى نهاية حكم العارفين, فماذا حصل لدور الدولة في ظل حكم حزب البعث والطاغيتين أحمد حسن البكر وصدام حسين, وما هي طبيعة النهج الاقتصادي الذي مورس في هذه الدولة الاستبدادية المشوهة, هذا ما سأحاول التعرض له في الحلقة الخامسة.   
انتهت الحلقة الرابعة وتليها الحلقة الخامسة
11/2/2010                      كاظم حبيب


               







1119
كاظم حبيب
في الذكرى ألـ 31 للثورة الشعبية المسروقة في إيران
هل ستكون لعبة القط والفار نهاية الدكتاتورية والدكتاتور الصغير احمدي نجاد؟
منذ سنوات والدكتاتور الصغير في إيران يراوغ ويتحايل على المجتمع الدولي ويتلاعب بالألفاظ والتصريحات المتناقضة وينفذ ما يأتيه من توزع للأدوار بين المرشد الأعلى وبينه, بين وزير الخارجية ورئيس مجلس النواب وبين صالحي المسؤول عن الملف النووي في إيران, أحدهم يرفع والآخر يكبس, أحدهم يهدد والآخر يخفف من وطأة التهديد. ولكن الهدف منذ البدء كان ولا يزال واضحاً, كما كانت الأدوات والوسائل واضحة تماماً لكل ذي بصر وبصيرة.
الهدف: إنتاج السلاح النووي.
الوسائل والأدوات: عديدة ومهمة وذات أثر فعال في الواقع الدولي والإقليمي والإيراني الراهن, ومنها:
1 . اللعب على الصراع بين روسيا والصين إذ أن للدولتين النوويتين مصالح "حيوية" مهمة في إيران من جهة, وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي هي الأخرى لها مصالح في منطقة الشرق الأوسط من جهة أخرى, كما يجري اللعب على دور دول الاتحاد الأوروبي التي كانت ولا تزال تتحرك قلقة حائرة بين الموقفين من جهة ثالثة, إذ أنها أضاعت الكثير من مصالحها "الحيوية" في إيران والمنطقة لصالح الولايات المتحدة وروسيا والصين.
2 . المتاجرة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي من أجل فرض نوع من الحيادية أو حتى ميل لصالح إيران في الموقف من إنتاج السلاح النووي لدى الشعوب العربية والحيرة والقلق لدى حكومات الدول العربية. وأخر تصريح للمرشد الإيراني علي خامنئي أكد مالي كما جاء الخبر على موقع بحزاني: "طهران - أعلن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي إن تدمير إسرائيل "وشيك"، ودعا إلى مواصلة "المقاومة" ضد الدولة العبرية وقال خامنئي أمام الأمين العام للجهاد الإسلامي رمضان شلح "أنا متفائل جدا بالنسبة إلى مستقبل فلسطين، واعتقد إن إسرائيل باتت على الهاوية"، بحسب ما نقلت وسائل الإعلام الإيرانية"!! (أخذ المقتطف بتاريخ 10/2/2010 من موقع بحزاني الإلكتروني).
3 . الاستفادة من عواقب الحرب في أفغانستان والعراق بالنسبة للدول المشاركة في الحربين والصعوبات التي واجهت ولا تزال تواجه القوات المسلحة في البلدين لصالح منع أي حرب ثالثة ضد إيران في المنطقة, فمن يبدأ بحرب لا يستطيع أن يتكهن متى وكيف ستنتهي.
4 . الاستفادة من سهولة الحصول على ما تحتاجه إيران من معدات وأجهزة ومواد وتقنيات لإنتاج السلاح النووي وأسلحة دمار شامل أخرى من السوق السوداء وتجار الحروب, كما فعل الدكتاتور صدام حسين.
كل هذا وغيره يقود إلى العامل الأساس في استخدام هذه الوسائل والأدوات وأعني به الاستفادة من عامل الزمن, كسب الوقت, لاستكمال مهمة إنتاج السلاح النووي, قبل احتمال توجيه ضربات عسكرية من جانب إسرائيل أو قبل إنزال عقوبات شديدة من جانب المجتمع الدولي.
حتى الآن استطاع الدكتاتور الصغير أن يضحك على ذقون دول العالم والمجتمع الدولي وربما الرأي العام العالمي أيضاً. ولكن السؤال إلى متى سيبقى ضاحكاً على ذقوننا جميعاً؟
من يتتبع وسائل الإعلام الدولية والإيرانية يدرك أن احمدي نجاد بحاجة إلى ثلاث مسائل مهمة في المرحلة الراهنة:
** كسب الوقت لإنجاز عملية التسلح النووي. وقد صرح أخيراً بأنه أوعز يوم الأحد إلى "رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية علي اكبر صالحي "البدء بإنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20%""، في كلمة بثها التلفزيون الرسمي. وتلقي هذه الخطوة شكوكًا على إمكانية التوصل لاتفاق مع الغرب". (راجع موقع إيلاف بتاريخ 10/2/2010).
** إثارة الصراع مع المجتمع الدولي للتغطية على ما يجري في الداخل والجرائم التي ترتكب بحق قوى المعارضة الإيرانية وقتل المزيد من الناس بأساليب شتى بما فيها إعلان أحكام الإعدام وتنفيذها للجم المعارضة الداخلية؛
** تعبئة القوى المناهضة لإسرائيل في العالمين العربي والإسلامي, وخاصة قوى الإسلام السياسية المتطرفة والقوى القومية الشوفينية وبعض الدول الاستبدادية مثل سوريا, لتنفيذ مهمات عسكرية ضد إسرائيل في حالة توجيه ضربات جوية عسكرية ضد إيران. كل هذا يجري في وقت يتم فيه الاستعداد للاحتفال بالذكرى 31 لانتصار ثورة إيران المسروقة من الشعب لصالح قوى الإسلام السياسة المتطرفة في جو مشحون بالتوتر بين أنصار المعارضة والحكومة خاصة بعد الإعدامات التي تمت وإعدامات أخرى لتي يمكن أن تتم في هذه الأيام. ورغم الاحتجاجات العالمية فأن النظام مصمم على اغتيال حركة المعارضة بهذه الوسائل الفاشية. إلا أنها ستزيد من غضب الناس وتراكم الاحتجاجات والانفجار في وقت غير محدد.
ولكن هل تساعد هذه المحاولات الحكم في إيران على الإفلات من الحبل الذي بدأ يُشد بقوة على رقبة الحكم ؟ لا أرى ذلك. فإيران أصبحت اليوم أشبه بالفأر بين أقدام القطة. تتركه يتحرك يمنة ويسرة ويعتقد أنه قد استطاع الهروب ولكنه لا يفلت منها, فهو قادر على الحركة في دائرة محددة حتى يحين مصيره المشؤوم.
ونحن اليوم نتعرف على عنجهي آخر, خلف بن أمين جديد, هو بشار الأسد, ونظام استبدادي آخر هو نظام البعث في سوريا. ففي حرب الأيام الستة في العام 1967 كانت الحرب بين مصر وسوريا فدخلت سوريا على الخط متضامنة مع مصر, فكانت النتيجة احتلال مرتفعات الجولان. وإذا كان التضامن حينذاك مبرراً من الناحية العربية, فأن التضامن السوري مع إيران اليوم غير مبرر أصلاً, وبالتالي فأن الوقوف إلى جانب إيران والسماح لها بتهريب المزيد من الأسلحة والصواريخ رسمياً إلى حزب الله, وكذلك تلك الأسلحة المصدرة منها إلى غزة أيضاً, فإنها سوف لن تنفع في ضوء معركة لن تكون متكافئة بأي حال وستكون النتيجة وبالاً على إيران وسوريا وغزة ولبنان في آن واحد, وهي المشكلة التي لا يريد هؤلاء العرب, ولا أقصد كل العرب, فهمها واستيعاب عواقبها الوخيمة.
لقد اعتقد صدام حسين أن الولايات المتحدة لا تشن حرباً ضد ابداً, وراح يعوي كالذئب بأنه سينتصر في هذه الحرب, وحين وقعت الحرب لم يجد نفسه إلى في جحر الفئران المرتعبة. هكذا يمكن أن يكون مصير المستبدين. حين تحاول الدجاجة أن تحاكي صياح الديك تختنق! وهو الأمر الذي يتطلب التنبيه إليه قبل فوات الأوان.
إن المشكلة الكبيرة تكمن في الضحايا التي يمكن أن يتحملها الشعب الإيراني أولاً, ولكن من الممكن أن تشتعل النيران في الكثير من دول المنطقة ثانياً, وهي الخطورة التي لا يعي البعض الكثير بشاعتها ولا يريد أن يفهم تداعياتها.
إن على العالم, الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي, أن يسعى للجم حكام إيران بإجراءات تمنع وصوله إلى إنتاج السلاح النووي وتوقف تدهور الوضع إلى حافة الهاوية, إلى الحرب الجوية, وإن يقدم الدعم للشعوب الإيرانية في نضالها لإسقاط الدكتاتورية "الإسلامية" المتطرفة ذات الأساليب والأدوات الفاشية في مواجهة حركة الشعوب الإيرانية المعارضة وتسعى للتوسع في المنطقة.
أن العالم يعرف بأن المعارضة الإيرانية لا بد لها أن تستفيد من يوم غد, يوم ذكرى الثورة بالتظاهر وإعلان احتجاجها على أحكام الإعدام والسجن القاسي ضد المعتقلين من المعارضين, وأنها ستواجه المظاهرات بالحديد والنار وسترتكب جماعات أخرى وتصدر أحكاماً جديدة, ولهذا فعلى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي أن يتحرك لفضح هذه النية المبيتة ضد المعارضة الإيرانية وشجب استخدام القوة والعنف ضد المعارضين الوطنيين..  
11/2/2010                      كاظم حبيب

1120
كاظم حبيب
هل الدكتور بارق شبّر على حق في موقفه من اللبرالية الجديدة؟
الحلقة الثالثة
ما هي مضامين برنامج "الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي"؟
وماذا يراد منه للدول النامية؟

حين انتصرت ثورة تموز 1958 في العراق وثورة كوبا في العام 1959, وقبل ذاك كانت قد برزت حركة الحياد الإيجابي ومن ثم دول عدم الانحياز ومؤتمر باندونغ في إندونيسيا, ومعركة تأميم قناة السويس والعدواني الثلاثي على مصر, وتصاعد حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وتحقيقها نجاحات متميزة, برز اتجاه واضح صوب كسر الطوق المضروب على البلدان النامية, أي على الدول المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة, في علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية وتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية معها. كما برز اتجاه صوب الأخذ من بعض تجارب هذه الدول في مجالات القطاع العام والتصنيع والإصلاح الزراعي ...الخ. يضاف إلى ذلك بروز حركة تضامن بين قوى وشعوب ودول حركة التحرر الوطني في القارات الثلاث.
شكل هذا الاتجاه الجديد خطراً جدياً على العلاقات والمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الرأسمالية الأكثر تقدماً, إذ بدأ يعزز دور وتأثير قوى دول عدم الانحياز واتساع تعاملها مع الدول الاشتراكية على حساب العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى, كما أضاف وزناً جديداً في الحرب الباردة لصالح دول المعسكر الاشتراكي حينذاك. مما دفع بمنظري هذه الدول والعاملين منهم في الحقول والعلاقات الاقتصادية الدولية إلى التفكير بوضع أسس جديدة للعمل والتعامل مع الدول النامية والتي تبلورت باتجاهات خمسة, وهي:
1.   تقديم مساعدات مالية إلى الدول النامية في إطار ما أطلق عليه بمشروع التنمية العالمية. وقدرت تلك المساعدات بحدود 0,7 % من إجمالي الناتج المحلي للدول الغنية.
2.   تقديم المزيد من القروض الميسرة إلى الدول النامية لشدها اقتصادياً إليها وزيادة تأثيرها في وجهة تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
3.   ربط تقديم تلك القروض بشروط اقتصادية وسياسية واضحة لا تقبل الخطأ في ما تسع إليه.
4.   إبعاد هذه البلدان قدر الإمكان عن الأخذ ببعض جوانب النموذج السوفييتي في التنمية ودفعها لانتهاج سياسة السوق الحر, إضافة إلى كسبها إلى جانبها في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
5.   العمل من أجل تفتيت قوى حركة التحرر الوطني باتجاهين ملموسين, وهما:
أ . رفع شعار محاربة الشيوعية وتعبئة القوى حوله, باعتباره الخطر المباشر على الدين وعلى القيم والتقاليد السائدة في تلك المجتمعات. وكانت تهمة الشيوعية تلصق بكل الوطنيين الديمقراطيين والتقدميين واليساريين من غير الشيوعيين أيضاً.
ب . تشجيع نشاطات القوى القومية اليمينية وقوى الإسلام السياسية المناهضة للشيوعية لتعزيز مواقعها الاجتماعية والسياسية وتبني نهجها الاقتصادي ومواقفها السياسية, في مقابل تقديم دعم متنوع لها. وكان هذا يتم في العالمين العربي والإسلامي, في حين كانت تستخدم أدوات دينية أخرى في العالم غير الإسلامي,
 وانسجاماً مع هذا التوجه وتأكيداً له صدر في العام 1969 التقرير الذي أعده لستر بيرسون, رئيس وزراء كندا الأسبق, تحت عنوان "شركاء في التنمية Partners in Development", فتبنته الأمم المتحدة وتضمن قاعدة اقتطاع 0,7 % من الناتج المحلي الإجمالي في الدول الغنية لصالح التنمية العالمية في الدول النامية لعقد السبعينات من القرن العشرين. 
وقد اقترن هذه التوجه بعدة ظواهر مهمة, وهي:
1 . تفاقم غير منظور للرأي العام العالمي, ولكنه كان ملموساً للخبراء الدوليين في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الاشتراكية منذ منتصف السبعينات, خاصة وأن الحرب الباردة كانت تستنزف إمكانيات الدول الاشتراكية مالياً من خلال توجيه الكثير من الموارد المالية والتقنيات الحديثة صوب الصناعة العسكرية وإهمال تحديث القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية والحياة الاجتماعية المدنية, إضافة إلى تنامي علاقات التبادل التجاري في مجال السلاح على الجوانب الاقتصادية الأخرى مع الدول النامية. ويمكن التعرف على  ذلك من خلال كتابات الكاتب الأمريكي ألفين توفلر، في كتابه (الموجة الثالثة) الصادر في العام 1980, وكتابات زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في فترة رئاسة جيمي كارتر, على سبيل المثال لا الحصر.
2 . تراجع جدي في المضمون التقدمي والديمقراطي لحركة التحرر الوطني في غالبية الدول النامية, والتي تجلت في بروز نظم استبدادية وشمولية مما أضعف التفاعل بين هذه النظم ومجتمعاتها وقاد تدريجاً إلى عزلتها بسبب إهمالها لمصالح شعوبها ايضاً.
3 . ونتيجة لسيادة مثل تلك النظم المستبدة, سواء أكانت تحت تسميات مغرية ولكنها مضببة, مثل "الدول ذات التوجه الاشتراكي", أم "الدول ذات التطور اللارأسمالي", أم "حكومات البرجوازية الصغيرة الثورية", فإنها فشلت في تحقيق عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وأساءت لدور وسمعة قطاع الدولة وموارد البلاد وتوجهاتها الخاطئة نحو التسلح, مما جعل تلك النظم مرفوضة من جانب شعوب بلدانها. 
4 . تشديد الهجوم الرأسمالي وتقديم نماذج رأسمالية ناجحة في عدد من الدول في جنوب شرق آسيا والتي أطلق عليها بالنمور الأربعة ثم النمور الثمانية. وقاد هذا الواقع إلى اختلال في العلاقة بين الدول الاشتراكية والدول النامية لصالح الدول الرأسمالية المتقدمة, ر غم أن تلك النجاحات جاءت على حساب الفئات الأكثر فقراً وكدحاً.
5 . وقد أعطى هذا الواقع الفرصة للمؤسسات المالية والتجارية الدولية لتلعب دورها في طرح أو استكمال المشروع السابق الذي طرحه لستر بيرسون بمشروع جديد من جانب جون ويليمسون نائب رئيس البنك الدولي في العام 1989, أي بعد عشرين عاماً عل المشروع الأول, أطلق عليه وثيقة "توافق واشنطن" (Washington Consenus) التي ادعى فيها أنها يمكن أن " تطبق على أي فترة تاريخية ، وأي اقتصاد ، وأي قارة ، وباستهداف التوصل بأسرع ما يمكن إلى تصفية أي هيئة أو تنظيم من جانب الدولة أو غيرها ، والتحرير الأكمل بأسرع ما يمكن لكل الأسواق, الثروات، رؤوس الأموال، الخدمات، البراءات، .. الخ" .. وفي النهاية إقامة حكم كسوق بلا دولة ، وسوق عالمي موحد ومنظم ذاتياً تماماً ". [راجع: عبد المجيد راشد. سياسة الإصلاح الاقتصادي و فخ العولمة المتوحشة. الحوار المتمدن. العدد: 1744 في 24/11/2006].
ولكن ما هو مضمون هذه الوثيقة, وبتعبير أدق ما هي المبادئ التي اعتمدتها هذه الوثيقة الأخيرة للتعامل مع الدول النامية وتقديم القروض المالية لها؟ إنها جاءت على النحو التالي:
" 1 ـ من الضروري – في كل بلد مدين – البدء في إصلاح المالية العامة وفق معيارين: تخفيض العبء الضريبي على الدخول الأكثر ارتفاعاً ، لحفز الأغنياء على القيام باستثمار إنتاجي ، وتوسيع القاعدة الضريبية ، وبوضوح ، منع الإعفاءات الضريبية للأفقر ، من أجل زيادة مقدار الضريبة.
2  ـ أسرع وأكمل تحرير ممكن للأسواق المالية.
3  ـ ضمان المساواة في المعاملة بين الاستثمارات الوطنية والاستثمارات الأجنبية من أجل زيادة مقدار – وبالتالي ضمان – هذه الأخيرة.
4  ـ تصفية القطاع العام بقدر الإمكان ، وتخصص المنشآت التي تملكها الدولة أو هيئة شبيهة بالدولة .
5  ـ أقصي حد من إلغاء الضوابط في اقتصاد البلد ، من أجل ضمان الفعل الحر للمنافسة بين مختلف القوي الاقتصادية الموجودة.
 6ـ تعزيز حماية الملكية الخاصة.
 7ـ تشجيع تحرير المبادلات بأسرع الوسائل الممكنة ، بهدف تخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 10 في المائة كل سنة.
8  ـ لما كانت التجارة الحرة تتقدم بواسطة الصادرات فينبغي في المقام الأول تشجيع تنمية تلك القطاعات الاقتصادية القادرة على تصدير منتجاتها .
9 ـ الحد من عجز الميزانية.
10 ـ خلق شفافية الأسواق : فينبغي أن تمنع معونات الدولة للعاملين الخاصين في كل مكان ، وعلى دول العالم الثالث التي تقدم دعماً من أجل إبقاء أسعار الأغذية الجارية منخفضة أن تتخلي عن هذه السياسة ، أما عن مصروفات الدولة فينبغي أن تكون للمصروفات المخصصة لتعزيز البني الأساسية الأولوية على غيرها. [راجع: نفس المصدر السابق].
من خلال هذه النقاط نستطيع أن نتبين الوجهة الطبقية الصارخة التي يراد دفع الدول النامية إليها. إنها باختصار ضد فئات المجتمع المنتجة والكادحة والفقيرة وإلى جانب أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء والمتخمين, وهو برنامج يقود دون أدنى ريب إلى ما يلي:
1 . إنه يقود إلى منح الدولة الحد الأدنى من القدرة على الحركة والنشاط في مختلف المجالات في ما عدا حماية القطاع الخاص والملكية الخاصة ونظام السوق الحر.
2 . وأنه يقود إلى خلق مجتمع طبقي شديد التمايز بين طبقة المنتجين والفقراء, وبين طبقة مالكي وسائل الإنتاج أو رأس المال والأغنياء والمتخمين, والذي يقود بدوره إلى تشديد الاستغلال وبالتالي الصراع الطبقي.
3. ولا شك في أن مثل هذه الدولة التي تأخذ بهذا البرنامج ستمارس سياسة الدفاع عن مصالح أصحاب رؤوس الأموال من خلال السماح لهم بتحقيق المزيد من الأرباح على حساب خزينة الدولة والمجتمع من خلال تخفيض الضرائب على الدخل (الضريبة المباشرة) وفرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات مما يحمي أصحاب الدخول العالية من ضريبة تصاعدية عادلة وضرورية ويجهد أصحاب الدخول الواطئة.
4. كما أن هذه الدولة ستقوم بحرمان الفئات الكادحة والمنتجة من أي دعم حكومي للسلع والخدمات ذات المساس المباشر بمستوى حياة ومعيشة تلك الفئات. ولكنها ستمارس باستمرار تخفيض الضرائب على أرباح رؤوس الأموال بذريعة توفير الفرص للاستثمار وإعادة التوظيف وتوسيع عملية إعادة الإنتاج وعدم فتح باب تهريب رؤوس الأموال.
5 . وأن هذا البرنامج لا يقود إلى حرمان الدولة من إقامة المشاريع الاقتصادية, الإنتاجية منها والخدمية, حسب, بل ويطالب الدولة بخصخصة مشاريعها الاقتصادية القائمة فعلاً.
6 . وأنه يقود إلى منع الدولة من إقامة مشاريع صناعية أو تحديث الزراعة, بل جعلها معتمدة على التجارة الخارجية المستنزفة للدخل القومي وحارمة البلاد من إمكانية تحقيق التراكم الرأسمالي وتنمية الثروة الوطنية.
7 . ويقود هذا الاتجاه إلى تفاقم البطالة في المجتمع وإلى تنامي التوتر الاجتماعي والصراع الطبقي, والذي يقود بدوره إلى نزاعات سياسية واجتماعية لا مفر منها.
8 . وتهمل الدولة, التي تأخذ بهذا البرنامج, مهماتها الاجتماعية والنفسية والثقافية, والتي تؤدي بدورها إلى بروز الكثير من المشكلات التي يعجز المجتمع على حلها وتغوص الدولة في وحل المشاكل العويصة.
9 . إن اعتماد الدولة على التجارة الخارجية يقود إلى انكشاف صارخ للاقتصاد الوطني على الخارج, أي التبعية للخارج والاستيراد من جهة, كما يعتبر تفريطاً بأموال الدولة التي يفترض أن توجه لأغراض التثمير الإنتاجي وزيادة التراكمات الرأسمالية لإغناء الثروة الوطنية.
10 . إن تطبيق سياسة الباب المفتوح ليس أمام التجارة الخارجية حسب, بل وأمام حركة رؤوس الأموال والأيدي العاملة والابتعاد عن تطبيق قوانين ملزمة لحماية العمل والعمال وسياسة جمركية عادلة لحماية الإنتاج الوطني من المنافسة الحادة, وضمان الحد الأدنى للأجور ..الخ ستقود إلى عواقب وخيمة من النواحي الاجتماعية والثقافية والنفسية على الفرد والمجتمع.   
11 و ومن هنا يمكن القول بأن السياسة المالية والنقدية, بما فيها سياسة المصارف الاستثمارية ودور ونشاط شركات التأمين والسياسة الضريبية والجمركية والأسعار ..الخ,  التي تضعها الدولة في هذا النموذج ستكون موجهة لمصلحة أصحاب الاستثمارات الأجنبية والنشاط الاقتصادي الأجنبي وسياسة الاستيراد المفتوحة, وكذلك في مصلحة الفئات المستغِلة في المجتمع وضد المستغَلين.
12 . إن المهمة المركزية لهذا البرنامج هي ربط العملية الاقتصادية لاقتصاديات الدول النامية بالاقتصاد الرأسمالي العالمي عبر عملية إعادة الإنتاج بمراحلها المختلفة من جهة, وتوسيع الفجوة الفاصلة بين مستوى تطور الدول المتخلفة والدول المتقدمة لصالح الأخيرة من جهة أخرى. وتبدو هذه اللوحة أكثر وضوحاً في ظل ممارسة سياسات العولمة في العلاقة بين المجموعتين في عالم واحد منقسم على نفسه: عالم التخلف والفقر وعالم التقدم والغنى. إنها مهمة الحفاظ على بنية وطبيعة التقسيم الرأسمالي الدولي للعمل, أي أن تبقى الدول النامية استهلاكية وريعية بما تصدره من موارد أولية كالنفط مثلاً ومستهلكة لدخلها القومي بما تستورده من سلع استهلاكية وتدور في محيط المراكز المتقدمة, في حين يتواصل التطور في مراكز الدول المتقدمة باعتبارها دولاً منتجة ومصدرة للسلع والخدمات والتقنيات ومغنية ومنمية بمعدلات جيدة لدخلها القومي. ويتجلى ذلك بوضوح كبير في الاختلال الصارخ في المؤشرات الإحصائية وأرقام التجارة الخارجية ونسب المشاركة في الإنتاج الصناعي أو الإنتاج الزراعي, وكذلك الاختلالات في الموازين التجارية وموازين المدفوعات وتفاقم الديون الخارجية للدول النامية والفوائد السنوية المترتبة عليها. 
إن إشكالية التقدم والتخلف لا تبدو في الدخل القومي ومعدل حصة الفرد الواحد منه سنوياً فحسب, بل وبالأساس في بنية هذا الاقتصاد ودور القطاعات المختلفة في تكوين الدخل القومي وفي مستوى تطور القوى المنتجة والتطور العلمي والتقني التي هي نتاج لطبيعة علاقات الإنتاج السائدة, وكذلك مستوى ونسب البطالة إلى القوى القادرة على العمل وتوزيعها الإقليمي ومستوى البحث العلمي ومستوى التعليم والأمية وبراءات الاختراع .. الخ. والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية والبيئية في هذا الصدد كثيرة جداً وصارخة في التمايز بين المجموعتين من الدول. فعودة سريعة إلى التقرير السنوي للتنمية البشرية خلال السنوات المنصرمة مثلاً, أو حتى تقارير البنك الدولي السنوية والكثير من التقارير السنوية الأخرى, بما فيها التقرير الاقتصادي العربي الموحد, يستطيع كل متتبع إدراك واقع هذا البون الشاسع والآثار السلبية الحادة جداً لتلك السياسات النيوليبرالية, التي يقترحها لنا البعض, على اقتصاديات ومستوى حياة ومعيشة شعوب الدول النامية.
إن 80 % من شعوب العالم, وهي الدول النامية, تستهلك 20 % من الكثير من المواد الخام والطاقة وتنتج أقل من 20 % في الصناعة والزراعة  وتساهم بتلويث البيئة بنسبة 20 % من غاز ثاني أكسيد الكربون تقريباً, في حين أن 20 % من شعوب العالم, وهي الدول المتقدمة, تستهلك 80 % من تلك المواد الأولية أو تساهم بهذه النسبة في التجارة الدولية أو في الإنتاج الصناعي والزراعي, كما تشارك في تلوث البيئة بنسبة 80 % بثاني أكسيد الكربون, على سبيل المثال لا الحصر. [راجع في هذا الصدد:
]Stiftung Entwicklung und Frieden. Globale Trends, Fakten Analysen Prognosen: Für die Jahre 2000, 2002, 2003, 2004 / 2005. Fischer Taschenbuch Verlag, Frankfurt am Main.[
إن انتهاج سياسة اللبرالية الجديدة في الدول النامية لا تقود إلا إلى تعميق هذه الفجوة وزيادة عدد فقراء العالم وتقود إلى تركيز ومركز الثروة في العالم بأيدي مجموعة قليلة من دول العالم المتقدمة. وهو ما يفترض أن لا نقبل به, بل نرفضه بحزم وصرامة ونسعى إلى تغييره. 
9/2/2010                   كاظم حبيب
انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة. 













1121
كاظم حبيب
في الذكرى السنوية لانقلاب شباط الفاشي 1963
1-2
الكارثة العراقية التي اسمها "انقلاب شباط/فبراير 1963"

لم تكن هناك مفاجأة, ولم يكن هناك من السياسيين وغيرهم من كان لا يعرف أن مطبخ المؤامرات الدولية والإقليمية والعربية والمحلية قد أنضج طبخة غير اعتيادية تدفع بالعراق إلى دكتاتورية عسكرية ملوثة بالفاشية والعنصرية وكره الشعب ومصادرة مكاسب الشعب وثورته. بيد أن الكل كان ينتظر ويترقب وقوع الكارثة, الكل كان مشلولاً, وخاصة قائد الحكومة والمسؤول الأول عن صيانة الجمهورية الأولى. 

في الثامن من شباط/فبراير 1963 نجح الانقلابيون الجدد الإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم الوطنية واختطفوا السلطة وقضوا على مكاسب الشعب. اقترن هذا الانقلاب بسيل من دماء قادة ثورة 14 تموز 1958 ومن مناصري الجمهورية الأولى من قادة وأعضاء القوى والأحزاب الوطنية العراقية والناس الأبرياء. ولم تكن حركة الانقلاب الناجحة مفاجئة لأغلب القوى السياسية العراقية, إذ كانت تتوقع ذلك في كل لحظة, حتى الفريق الركن عبد الكريم قاسم, رئيس الحكومة كان يعرف ذلك, ولكنه كان مشلولاً! كان قاسم يعرف أن حركة انقلابية تتجمع خيوطها لتطيح بنظام حكمه, وكان يعتقد بقدرته على إلقاء القبض على المتآمرين وهم متلبسون بجريمتهم. ذكر الأستاذ محمد حديد أن حديثاً جرى بينه وبين الزعيم قاسم منبهاً إياه إلى وجود مؤامرات تحاك ضده, فكان جوابه أنه يعرف ذلك وينتظر بدء تحركهم.
لقد كان لدى الحركة الوطنية, وبضمنها الحزب الشيوعي العراقي, معلومات مؤكدة تشير إلى أن حزب البعث والقوى القومية والمتحالفة تستعد لتنفيذ عملية انقلابية ضد نظام الحكم وبلغ قاسم بذلك عبر الكثير ممن كانوا يتصلون به حينذاك, ولكن قاسماً كان قد فقد الثقة بهؤلاء واعتمد على حسه الشخصي وعلى جواسيس البعث والحركة القومية الذين احتلوا مواقع مهمة في أجهزة الأمن العراقية.
كان عبد الكريم قاسم يعتقد جازماً بأن الشعب كفيل بإسقاط المحاولة وإفشال الواقفين وراء العملية, إضافة إلى تصوره الخاطئ بولاء كل من كان قريباً منه ومن أبدى له شكلياً جانب الولاء, رغم تلقيه التهديد الواضح الذي جاء على لسان مندوب شركات النفط الأجنبية عضو الوفد المفاوض وممثل شركة ستاندارد أويل أوف نيوجرسي.
كان عبد الكريم قاسم مخطئاً باعتماده المطلق على أجهزة أمنية غير مخلصة له ولا للجمهورية, وعلى قدرة الشعب في التصدي للمؤامرة, وهو الذي انتزع من الجماهير كل أسلحتها النضالية والوقوف إلى جانبه, كما عمل كل شيء من أجل إثارة كل المناهضين له للتوحد والعمل المشترك ضد وجوده في السلطة وضد الجمهورية الأولى. وحين طالب سلام عادل تسليم الشعب سلاحاً تدافع به عن الجمهورية  وعنه وعن المكاسب وعن نفسها في آن واحد, رفض ذلك!
يتحمل عبد الكريم قاسم الجزء الأساسي من مسؤولية تدهور الوضع السياسي في العراق وانعدام الحياة البرلمانية الديمقراطية القائمة على أساس دستور ديمقراطي ومدني حديث. وهذا لا يغير من دور القوى المناهضة في تدهور الوضع في العراق حينذاك. تكتب الأستاذ إبراهيم كبة بشأن دور حكومة قاسم في سقوط الجمهورية الأولى مؤكداً أن حكم قاسم مَّر بمرحلتين, المرحلة التي تميزت في السنة الأولى من الثورة, ثم الفترة الثانية التي شهدت الانتكاسة حيث كان الفكر الرجعي يحاول طمسها. وهو ما حصل فعلاً.
وكان الأستاذ كامل الجادرجي وحزبه الوطني الديمقراطي قد رفضا التعاون مع عبد الكريم قاسم لرفضه إنهاء فترة الانتقال ووضع دستور ديمقراطي دائم وإجراء الانتخابات وتسليم الحكم للقوى المدنية وعودة  الجيش إلى  ثكناته والتي لم يصغ لها قاسم بأي حال.
منذ العام 1959 دخل قاسم في معارك عديدة ومعقدة جداً وبعضها غير عادل, فقد ناهض الحزب الشيوعي في أعقاب أحداث الموصل وكركوك وبدأ بتوجيه ضربات للحزب وللمنظمات المهنية المساندة له ويشهر بها ويثير الناس ضده.
اتخذ قرارات جادة ضد شركات النفط بإصدار القانون رقم 80 لسنة 1961 ووضعها في موقع العداء المطلق له, ولم يدعم ذلك بتحقيق وحدة الشعب ومناصرته لهذا الإجراء.
رفض الحوار الهادئ والبناء مع القوى الكُردستانية ومطالبها مما دفع باتجاه تشديد الصراع ومن ثم النزاع المسلح وإعلان ثورة أيلول 1961 المتسرع بسبب الأخطاء التي ارتكبها قاسم ذاتها وأخطاء القيادة  الكردية.
طالب بصورة غير معقولة ومن أجل إبعاد الأنظار عن المشكلات الداخلية بالكويت وعبأ قوى عربية وبريطانيا وكل الغرب ضده, ولم يكن واقعياً في ذلك.
لم يطهر أجهزة الدولة ولم يبعد القوى البعثية والقومية المناهضة له من مواقع المسؤولية في الجيش والشرطة وأجهزة الأمن. ولم يدعم تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي الذي وقعه بنفسه, بل ترك القوى المناهضة للقانون تشن حملات ظالمة ضد الفلاحين.
لقد نشا التحالف المناهض لحكومة عبد الكريم قاسم على قاعدتين, قاعدة طبقية اجتماعية مناهضة لكل المكاسب التي حققتها الثورة للمجتمع وللكادحين وسيادة البلاد, وأخرى فكرية وسياسية تستند إلى إيديولوجية قومية شوفينية عربية وخلفية دينية متزمتة ومناهضة لقانون الأحوال الشخصية.
لم ينفرد حزب البعث العربي الاشتراكي بالتحضير لانقلاب شباط وتنفيذه, بل شاركت معه مجموعة من القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية التالية التي كان يهمها الخلاص العاجل من حكومة عبد الكريم قاسم, رغم وجود فوارق واضحة في الجهد الذي بذل من جانب مختلف القوى لتنفيذ المخطط الانقلابي. ويمكن بلورة القوى التي شاركت في هذا التحالف من الناحية الطبقية الاجتماعية والسياسية فيما يلي: 
* فئات البرجوازية التجارية الكبيرة والبرجوازية العقارية وأوساط غير قليلة من البرجوازية البيروقراطية التي كانت ثورة تموز 1958 قد وجهت ضربات سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية إلى مواقعها ومصالحها في البلاد وأجهزت على نظام حكمها الملكي الإقطاعي.
* فئات الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية التي أصابت الثورة مصالحها الاقتصادية في الصميم فصادرت مساحات واسعة جداً من تلك الأراضي التي كانت في حوزتها وأضعفت نفوذها وتأثيرها السياسي والاجتماعي, علماً بأن هذه الفئات قد استطاعت منذ عام 1961 استرداد الكثير من مصالحها المفقودة بإجراءات وقرارات صدرت عن حكومة قاسم نفسه.
* بعض أوساط البرجوازية المتوسطة, وخاصة التجارية منها, التي أرعبتها حركة الجماهير وتصاعد نضال العمال والفلاحين وتنامي نفوذ الشيوعيين في أوساط الشعب وتأثيره على الشارع والمبالغة بقوته. وعلى المتتبع أن لا ينسى بأن بعض فئات البرجوازية العراقية كانت على صلة متينة بالريف والأرض, وكانت تمتلك مساحات غير قليلة وتحصل على جزء غير قليل من الريع المتحقق في الزراعة, وبالتالي لم تكن منسجمة مع قانون الإصلاح الزراعي, رغم أن القانون كان إصلاحياً برجوازياً يخدم مصالح البرجوازية المتوسطة والصناعية وينشط عملية تراكم رأس المال والتنمية الزراعية الحديثة.
* أوساط قليلة من البرجوازية الصغيرة العاملة في القوات المسلحة ودوائر الدولة ومن حملة الفكر القومي الشوفيني. وجدير بالإشارة إلى أن جمهرة غير قليلة من الضباط القوميين العرب قد وجدت نفسها بعيدة عن مواقع المسؤولية في الثورة, وأن الثورة قد سارت, حسب رأيها في طريق مناهض للوحدة العربية, وبالتالي بدأت تمارس مختلف النشاطات لمناهضة حكومة قاسم وإسقاطها سواء بصورة علنية أم سرية وبالتعاون مع بقية القوى المناهضة لحكومة قاسم. لقد أصيبت هذه القوى بخيبة أمل كما يشير إلى ذلك بصواب الأستاذ الراحل حنا بطاطو.1 وإذ فشلت عدة مرات بإسقاط قاسم نجحت هذه المرة.
* القوى القومية الكُردية التي اصطدمت بسياسات قاسم إزاء المسألة الكُردية ولم يستجيب لمطالبها العادلة في الاعتراف بوجود شعب كُردي له حقوق وواجبات, كما له الحق في تقرير مصيره بنفسه, وبالتالي اصطفت مع القوى المعادية لحكومة قاسم والراغبة في إسقاطه والخلاص من نظامه السياسي.
* القوى والدول المجاورة, وخاصة الأعضاء في حلف بغداد والكثير من الدول العربية,  التي رأت في وجود حكومة وطنية في العراق خطراً داهماً على نظمها السياسية.
* الدول الإمبريالية وشركاتها النفطية التي وجدت في قاسم نموذجاً خطراً على مصالحها في المنطقة, سواء بالقرار 80 أم باقتراح وتشكيل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك).
* لا شك في أن القوى والأحزاب السياسية الوطنية كافة تتحمل مسؤولية ما آل إليه الوضع في العراق حينذاك ابتداءً من تفاقم الصراع في ما بينها وعجزها عن الائتلاف الواقعي, وانتهاءً بتشديد الصراع ضد حكومة قاسم التي لم تكن قادرة على السير خطوات إضافية إلى الأمام.
لقد كان الانقلاب, الذي هيأت له ونفذته دمويا قوى عراقية جاءت بقطار أمريكي وإقليمي ودعم مستمر, قد مهد السبيل لممارسة مختلف الأساليب الفاشية لتصفية أقطاب الحكم الوطني والخصوم السياسيين, وخاصة قتل الشيوعيين والديمقراطيين التقدميين وجمهرة من أنصار قاسم. وإذا كانت المواقف السياسية للقوى القومية قد بدأت منذ فترة مبكرة للإطاحة بقاسم, فأن تحالفها الفعلي نشأ منذ العام 1961 حيث تشكلت الجبهة القومية من ثلاثة أحزاب قومية هي حزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الاستقلال وحركة القوميين العرب. ولم يسجل التحالف القومي من حيث المبدأ سوى هدف رئيسي وأساسي واحد هو الإطاحة بنظام الحكم وانتزاع السلطة من عبد الكريم قاسم.
والتقت على شعار واحد أساسي ورئيسي:
" يا أعداء عبد الكريم قاسم, ويا أعداء الديمقراطية اتحدوا".
إلا أن ترجمة هذا الشعار كانت تعني بلا شك الإطاحة بالحكم الوطني وإقامة البديل القومي الشوفيني المستند إلى تأييد الغرب والرجعيات العربية والقوى القومية الشوفينية.
وفي ضوء هذا الواقع وتلك الاتجاهات العقائدية المركبة اتخذت قوى الانقلاب التي تسلمت السلطة مجموعة من الإجراءات التي تعبر عن التصميم في ممارسة العنف والقسوة بأبسط وأقصى أشكالها. نشير في أدناه إلى أبرزها:
1. تشكيل مجلس قيادة الثورة من مجموعة أساسية من قياديي حزب البعث ومن بعض الجماعات القومية العسكرية, مع منح أنفسهم, وفق قانون صادر عنهم دون أي شرعية دستورية, السلطات الثلاث, التنفيذية والتشريعية والقضائية, واحتكار جميع أجهزة الإعلام دون استثناء وفرض الأحكام العرفية في البلاد.2 وهو قرار مخالف لمبدأ الفصل بين السلطات الذي اقر في الوثائق الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة وكذلك في شرعة حقوق الإنسان بكل أجزائها.
2. تشكيل محاكم خاصة لمحاكمة من يلقى القبض عليه مباشرة ومنح هذه المحاكم حق تنفيذ تلك الأحكام دون تأخير3. وهو قرار مخالف للشرعة الدولية ودساتير الدول الديمقراطية وحقوق الإنسان.
3. تشكيل لجان تحقيق خاصة سلمت قيادتها بيد البعثيين بشكل خاص مع مشاركة من بعض القوميين العسكريين. منحت هيئات التحقيق هذه الصلاحيات الكاملة دون استثناء في التعامل مع المعتقلين بما في ذلك التعذيب بكل صوره والقتل والدفن أو الرمي في نهري دجلة والفرات من الناحية الفعلية. وكانت لجان التحقيق الخاصة تخضع إلى لجنة تحقيق مركزية مقرها في بغداد, كانت في البداية تحت أمرة ضابط عسكري قومي يدعى مصطفى عبد الكريم نصرت, ومن ثم تحت قياد ضابط عسكري طيار من قياديي حزب البعث يدعى منذر الونداوي. وكان صدام حسين حينذاك عضواً في لجنة التحقيق المركزية4 التي مارست كل أشكال التعذيب بحق المعتقلين وقتلت الكثير منهم أثناء التحقيق وعلى أيديهم وأيدي جلاوزة التعذيب الآخرين.     
4. تشكيل القوات العسكرية الخاصة التي سميت بالحرس القومي. منح هذا الحرس حق مطاردة واعتقال وقتل من يهدد أمن الحكم الجديد5. وقد صدر بهذا الصدد البيان رقم 13 لسنة 1963 الذي منح الحرس القومي حق قتل الشيوعيين في الموقع مباشرة. وضم الحرس القومي عدداً كبيراً من الشباب القومي الجامح أو المنحدر من الريف أو من بسطاء الناس من مختلف الأعمار الذين انجروا لهذا الحرس وراحوا يمارسون ما يطلب منهم إزاء الآخرين الذين وصفوا بالأعداء. كما ضم الكثير من المجرمين العتاة الذين كانت صناعتهم المفضلة هي التعذيب والقتل. 
5. تأمين السيطرة الكاملة على أجهزة الدولة ومنع ممارسة الحياة الحزبية والسياسية أو إصدار الصحف والمجلات على كل القوى السياسية في البلاد وفرض الرقابة على إصدار الكتب والنشر بشكل تام.
6. شن حملة اعتقالات واسعة جداً شملت الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين الحزبيين والمستقلين وأنصار عبد الكريم قاسم والكثير من الشخصيات السياسية الوطنية والشخصيات الاجتماعية والعلمية وجمهرة كبيرة من الأدباء من شعراء وكتاب وكذلك مجموعة كبيرة من الفنانين من مسرحيين وسينمائيين وموسيقيين ومغنين وآخرين, إذ اعتبر هؤلاء كلهم وغيرهم في عداد المناوئين للنظام الجديد.
7. ممارسة شتى أشكال التعذيب القديمة والحديثة مع المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم حول تنظيماتهم ومواقع رفاقهم أو ممارساتهم السابقة ودورهم في دعم حكم عبد الكريم قاسم ...الخ. وقد قتل على أيدي هيئات التحقيق عدد كبير من قياديي الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضاء الحزب, إضافة إلى بعض الوجوه المحسوبة على أنصار عبد الكريم قاسم.
8. لم تكن ممارسات الاستبداد والعنف والقسوة مقتصرة على قياديي وكوادر وأعضاء حزب البعث فحسب, بل مارسها قادة الجماعات القومية الناصرية وغيرها أيضاً, رغم أن القوى الأخيرة حاولت رمي العبء كله على قوى البعث وحدها وحاولت إبعاد نفسها عن الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيات والعراقيين في تلك الفترة في أعقاب سقوط حكم البعث. 
لقد كان هذا الانقلاب الدموي والنظام الذي أقيم على أساسه البداية الفعلية لكوارث متلاحقة وصاعقة من إرهاب وقمع وغزو وحروب وأنفال وتهجير قسري وتعريب ومقابر جماعية  حلت بالشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية دامت أكثر من أربعة عقود, والكوارث بصيغة ما لا تزال مستمرة بفعل الاحتلال وقوى الإرهاب وسيادة الطائفية في الحياة السياسية والاجتماعية وبالواقع الاقتصادي المتردي وغياب التنوير الديني والاجتماعي ودفع دور المثقفين والحياة الثقافية إلى الوراء بدلاً من تنشيهم وتنشيطها.
نحن أمام وضع جديد يفترض أن نعي بأن القوى التي تسببت بكل ذلك لم تكن القوى الخارجية والعربية الإقليمية ودول الجوار فحسب, بل بالأساس كان الفكر القومي الشوفيني الذي حملته بعض القوى القومية العربية وحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة ميشيل عفلق والبكر وصدام حسين وعلى حسن المجيد وبقية الطغمة التي حكمت العراق ولا تزال تريد إنزال غضبها على الشعب بكل قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية الديمقراطية. 
شباط/فبراير 2010             كاظم حبيب

الهوامش
   بطاطو. حنا. العراق. الكتاب الثالث. الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار. ط 1. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. 1992. ص 282.
2 تشكل مجلس قيادة الثورة في أعقاب انقلاب شباط من الأسماء التالية:
3 تشكلت محاكم أمن الدولة والمحاكم الخاصة لمحاكمة عدد كبيرٍ جداً من المعتقلين بتهم كثيرة...
4  الحرس القومي: تكونت قيادته من الأشخاص التالية أسماؤهم:
العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت ثم المقدم الطيار منذر الونداوي وعضوية:
نجاد الصافي ومنح رتبة رئيس, أبو طالب عبد المطلب الهاشمي ومنح رتبة رئيس, أحمد العزاوي ومنح رتبة ملازم, صباح المدني ومنح رتبة ملازم, حازم سعيد ومنح رتبة ملازم وعطا محي الدين  ومنح رتبة ملازم.
5  أما مكتب التحقيق فقد تكون من:
عمار علوش وناظم كزار, وعبد الكريم الشيخلي, صدام حسين التكريتي. خالد طبرة, شاهين الطالباني, كنعان الجبوري, علي رضا باوة, سعدون شاكر, فائق أحمد فؤاد, فاضل أحمد, أحمد العزاوي, وآخرين.


2-2
نماذج من أساليب التعذيب البعثية
      
إن فترة التحالف البعثي – القومي في الحكم, التي دامت قرابة عشرة شهور, تقدم للقارئة والقارئ نماذج صارخة جداً لسلوكية العنف والقسوة والإمعان في تعذيب الإنسان نفسياً وجسدياً ومحاولة تحطيمه معنوياً وتدمير حياته, سواء بالموت أو التعويق أو الإنهاء السياسي أو تحويل السياسي إلى مخبر يعمل في صفوف الحاكمين ضد رفاق دربه السابقين. وقد سجلت أقلام المعذبين أحياناً وشهود عيان أحياناً أخرى والتقارير التي كشف عنها في فترات لاحقة أو ما نشرته القوى القومية, بسبب صراعها مع البعثيين عما جرى في تلك الفترة, صوراً ومشاهد يصعب على الإنسان السوي تصور حدوثها أو أن في قدرة الإنسان ممارستها إزاء أخيه الإنسان. وسنحاول في أدناه عرض بعض المشاهد من أساليب التعذيب التي مورست في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق السياسي.   
تعرض جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء إلى مختلف أساليب التعذيب الجسدي والنفسي, مع الفارق في نوع وشدة ومدة التعذيب ونهاياته وعواقبه على الفرد, ومن ثم على العائلة. ففي الوقت الذي تعرض بعض المعتقلين للضرب والتعليق والفلقة وما شاكل ذلك, إضافة إلى الإهانات المستمرة, تعرض آخرون إلى أشكال أخرى من التعذيب الأكثر شراسة واستخدام أدوات أخرى لتهشيم وتقطيع جسم الإنسان أرباً إربا. ننقل بعض المشاهد الواقعية دون تعليق أو إضافات:
نشر كتاب "المنحرفون" إفادة الدكتور علي الزبيدي, الأستاذ المساعد في كلية الآداب بجامعة بغداد, جاء فيها وصفاً لعملية التعذيب التي تعرض لها, كما تعرض لها معتقلون آخرون يقول فيها ما يلي:
"إنهم يربطون يد الموقوف وراء ظهره ثم يربطونها بحبل يتدلى من بكرة في السقف ويجذبون طرف الحبل الآخر فيرتفع جسم الإنسان .. إن اليدين المعلولتين ترتفعان مع الحبل إلى أعلى من الجهة الخلفية وما أن تصل إلى مستوى قريب من الكتف حتى تشعر الضحية بالآم هائلة وتزداد هذه الآلام كلما ازداد الجذب وتصل إلى غايتها عندما يرتفع الجسم كله .. وكانوا لا يرفعون الجسم إلى ارتفاع عال بل إلى الدرجة التي تظل القدمان تلامسان الأرض بأصابعه ... ويعلو صراخ الضحية وهي تتوسل بهم أن ينزلوها ... ولكنهم يستمرون في التحقيق والصراخ: تكلم .. اعترف أنك قد .. وتتوالى الكلمات البذيئة والسب الرخيص فإذا أصر على عدم الاعتراف كما يريدون يجذبون الحبل أكثر فأكثر فيشتد الصراخ والاستغاثة ... ثم ينهالون عليه بالضرب بالعصي الغليظة .. أو بأنابيب المطاط (الصوندات) .. وعندما تصل ألام المتهم إلى حد لا يطاق يحشون فمه بالقطن فإذا أغمي عليه أنزلوه وسكبوا عليه سطلاً من الماء أو حقنوه بإبرة خاصة ليعاودوا تعذيبه حتى يخبرهم بما يريدون .. وإذا قصر أعادوه إلى مكانه بعد أن يتعبون من تعذيبه ويتركونه في غرفة التعذيب أو يحملونه ويعيدونه إلى مكانه السابق في القاعة... وهكذا كان .. يأتي الحرس إلى المكان ليأخذوه مرة أخرى .. لن تتجاوب أرجاء القصر المشؤوم (المقصود هنا قصر النهاية, أي قصر الرحاب الخاص بسكن الوصي على عرش العراق عبد الإله بن علي بن الحسين سابقاً, ك. حبيب) بصراخ المعذب ... لقد شرعوا بتعليقه مرة أخرى ويستمر هذا الصراخ مدة تطول أو تقصر ثم تخمد فجأة .. وما أن تمر فترة ربع ساعة أو أكثر من خمود الصوت حتى يأتي الحرس إلينا ثانية يقود رجلاً آخر إلى جحيم التحقيق والتعذيب وجمد الدم في عروقنا .. كان كل منا ينتظر أن يأتيه الدور ولكن متى؟"1.
جاء في هامش الكتاب الذي أصدره الدكتور والمؤرخ الراحل علي كريم سعيد بشان تعذيب أعضاء قيادة الحزب الشيوعي العراقي ما يلي:
"أولاً: روى خالد طبرة (وهو أحد أعضاء هيئة التحقيق الخاصة. ك حبيب) لصفاء الفلكي (سفير في أكثر من بلد وبعثي ساهم بكل المراحل السابقة) قائلاً له: حفرنا أنا وسعدون شاكر (وزير داخلية ومدير أمن عام بعد ناظم كزار) قبراً لمحمد صالح العبلي وجئنا به وأنزلناه إلى القبر (الحفرة) وبعد مدة بداخله, طالبه سعدون شاكر بالاعتراف أو الموت؟ فرد عليه العبلي بشجاعة واتهمنا بخيانة الوطن. فأطلق عليه سعدون شاكر (الرصاص) فمات فوراً دون أن يعترف أو يتنازل, وحصل الأمر مع مهدي حميد.                     
ثانياً: المحامي حمزة سلمان الجبوري عضو لجنة مركزية جيء به مع الضابط الشيوعي مهدي حميد من نقرة السلمان إلى بغداد (مركز تحقيق المأمون) وطالبوه أمام حشد من المعتقلين بالاعتراف ثم طلبوا منه أن يعد من الواحد إلى العشرة وقبل أن تنتهي أطلق عليه (الرصاص) فمات. ثم جيء بمتي الشيخ مباشرة فرفض الاعتراف فقتل بنفس الطريقة.
ثالثاً: قتل عضو المكتب السياسي جمال الحيدري والصحفي عبد الجبار وهبي بعد اعتقالهما مع العبلي في دار فاضل الخطيب والد الدكتور الراحل عطا الخطيب والدكتورة عطية الخطيب, فوراً بعد رفضهما الاعتراف, وقتل معهما أبن جمال الحيدري ونرجس الصفار الصبي فاضل الحيدري, وعمره 14 سنة, وكان يقوم بنقل البريد أحياناً.
رابعاً: مقتل توفيق منير العاني بدار هاشم عبد القادر المملوكة لعزيز شريف, مقابل السفارة المصرية والمجاور لدار عز الدين الراوي (أخو عبد الهادي الراوي). وتمت العملية بعد أن أبلغ أحد عناصر الأمن بوجوده فنزل عليه الحرس القومي من سطح الدار, وعلى عكس ما أشيع من أنه قاتلهم فقتل, لم يكن الراحل يحمل سلاحاً بل بادره بالرمي بصليات كثيرة فتناثرت دماؤه في كل مكان. ويذكر أن نوري السعيد كان قد سحب جنسيته العراقية مع كامل القزانجي (من قادة الحزب الوطني الديمقراطي السابقين) (الذي قتله البعثيون في محاولتهم الانقلابية في آذار العام 1959 في الموصل, ك. حبيب) ومع آخرين في العام 1954 وسفَّره إلى خارج البلاد. وكان توفيق منير حائزاً على جائزة جوليو كوري للسلام.
خامساً: أعتقل متي الشيخ مع الدكتور محمد الجلبي في دار الأخير ونقلا إلى مركز المأمون, فقتل متي الشيخ مع عضو اللجنة المركزية الآخر حمزة سلمان الجبوري, ومهدي حميد, في حين نقل الجلبي إلى قصر النهاية, ووضع في السرداب مع سلام عادل والآخرين2, ثم نقل عضو اللجنة المركزية نافع يونس إلى بناية محكمة الشعب, وقتلا هناك في تموز 1963, أي بعد شهر من تقرير د. علوش"3.                   
يصف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حينذاك والراحل صالح مهدي دگلة الوضع بعد اعتقاله مباشرة كالآتي:
"وفي الحال جاءني ضابط الحرس القومي الجلاد أحمد أبو الجبن (أحمد العزاوي, الذي قتل في دمشق في العام 1976 على  أيدي الأمن العراقي الصدامي, ك. حبيب), وقد منحه الانقلابيون رتبة ملازم واصطحبني إلى القاعة الرئيسية لنادي الاقتصاديين الذي حولوه إلى مقر رئيسي للحرس القومي. وأمام العشرات من المعتقلين صار يوجه اللكمات ويزعق أنه هو (يقصدني) الذي كتب وطبع هذا النداء "الخياني الحقير". وكان يتصور أنه بالتستر على المطبعة يستطيع خداعنا ولكن يقظة الثوريين من الحراس سرعان ما كشفت بوسائلها الذكية جهاز الخيانة. أعادوني إلى غرفة التعذيب ورموني على الأرض بحراسة صبي يحمل رشاشة سترلنگ. عرفت, مع الأسف, فيما بعد أنه فلسطيني من المفترض أن يتعاطف مع كل المضطهدين أمثال شعبه ولكن ما العمل وهو مضلل صار يتسلى بشتمي حيث جاوز حدود الأدب واللياقة فبدأ يكيل لي ولعائلتي أقذع الشتائم, فما كان مني إلا أن أرد عليه بمثلها وبأقذع منها. هنا لم يتمالك الصبي "الحارس القومي" أعصابه فراح يطلق عليَّ الرصاص من رشاشته وأصابني في مناطق مختلفة من جسمي وأصاب الحائط الذي اتكأت عليه أيضاً.والذي انطلقت منه شظايا أصابت وجهي واستقرت في أسناني. أما الإصابات البليغة فواحدة في صدري وأخرى استقرت في مفصل ركبتي فضلاً عن شظية كبيرة استقرت في صدغي الأيسر بالقرب من الأذن"4.
وهذا نص آخر يوضح الأساليب التي مورست في تعذيب المناضل الراحل حسين الرضي (سلام عادل) السكرتير الأول اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بعد أن اعتقل في التاسع عشر من شهر شباط/فبراير 1963 وأعلن عن إعدامه وإعدام رفيقيه محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة في السابع من آذار/مارس من نفس العام. وكان القادة الثلاثة  قد قتلا تحت التعذيب, ولم يكن إعلان الإعدام سوى ذر الرماد بالعيون وإخفاء حقيقة التعذيب القاتل.
" وبعد أن فشلت كل أساليبهم في النيل من إرادته الفولاذية ضربوه بالهراوات حتى أدموه, علقوه من رجليه مشدوداً إلى السقف, أوقعوه مغشياً عليه ... قطعوا من لحم ساقه وذروه بالملح ... كسروا عظامه ...طوحوا به في سراديب "قصر النهاية" أياماً وليالياً ... مطروحاً في مياهها الآسنة الباردة مقيداً عارياً ... حرموا عليه الأكل والشرب والمنام, لم يبقوا في جسده مكاناً تمتحن فيه بطولة وإرادة الإنسان الشيوعي إلا وسلطوا عليه آلات تعذيبهم الجهنمية. وامتدت أيديهم الآثمة إلى عينيه الجريئتين رغم كل هذا العذاب ... ضغطوهما بالأصابع حتى ينزف منهما الدم وسال منهما ماء الرؤية ... وأخيراً طرحوه أرضاً .. مهشماً .. مشوهاً .. بقية إنسان كبير كان بالأمس مليئاً بالحيوية والحب للخير .. لكل البشرية ... للشعب العراقي .. وسيروا فوقه عجلة حديدية ضخمة (حادلة, ك. حبيب) سحقت جسده النحيف..."5.         
نشر كتاب المنحرفون قوائم كثيرة عن أشخاص قتلتهم قوات الحرس القومي أو غيبوا بعد إحالتهم على هيئة التحقيق الخاصة, كما عرضوا لصندوق خشبي صغير استخدم لنقل متتابع لـ 120 جثة قتل أصحابها من قبل لجنة التحقيق الخاصة ودفنت في مناطق مختلفة6, كما عرض الكتاب لمقبرة جماعية دفن فيها الكثير من القتلى حيث جاء تحت صورة المقبرة الجماعية ما يلي: "منطقة الجزيرة ما بين بغداد-الكوت .. وقد دفنت عشرات الجثث في هذه المنطقة الخالية من قبل مكتب التحقيق الخاص التابع إلى الحرس اللاقومي.. أخذت الصورة يوم 15/12/1963"7.
وفي الملحق رقم 1 الذي نشره الدكتور الراحل علي كريم سعيد في كتابه الموسوم "العراق البيرية المسلحة حركة حسن سريع وقطار الموت 1963" والصادر في عام 2002 يؤكد على تنظيم مهرجانات من التعذيب والقتل لعدد كبير من الضباط الأحرار في أعقاب نجاح انقلاب 8 شباط ومن ثم في أعقاب فشل حركة حسن سريع في عام 1963, أولئك الذين ساهموا في ثورة تموز  كالزعيم الركن داود الجنابي, والمقدم إبراهيم الموسوي, والعميد عبد المجيد جليل, والعقيد حسين خضر الدوري الذي قلع له طه الشكرجي أذنيه بكلابتين, قبل رميه بالرصاص بأمر من صالح مهدي عماش. كما يذكر بأن طه الشكرجي كان قد قتل تعذيباً في مقر اللواء 19 في معسكر الرشيد النقيب عمر فاروق جلال من حماية عبد الكريم قاسم وآخرين. كما كان "على قائمة الإعدام 34 ضابطاً من أصل حوالي مائة معتقل في مقر اللواء 19, فنادى عليهم (طه الشكرجي, وهو أحد الضباط البعثيين المسؤولين عن التحقيق, ك. حبيب) وأخذهم بسيارة لوري إلى منطقة قريبة من عكركوف, وتم هناك رميهم ودفنهم في نفس المكان, وكان بين القتلى المقدم فاضل البياتي, والرئيس الطيار منعم حسن شنون, والرئيس الأول جلال أحمد فهمي, والنقيب عباس الدجيلي والرئيس هشام إسماعيل صفوت, والنقيب حسون الزهيري وكلهم من الضباط الأحرار, وإبراهيم الحكاك ولطيف الحاج وصاحب أحمد المرزا (طالب بكلية الطب) وصبيح سباهي وغيرهم".8       
وفي مكان آخر يشير الدكتور سعيد إلى أن الملازم أيوب وهبي الملقب بابن شيتا قد دخل في عام 1963 إلى نادي الأولمبي الذي كان أحد مقرات التحقيق والتعذيب السيئة الصيت ببغداد "فرأي مجموعة من الضباط يقفون جانباً, فسأل مَن هؤلاء؟ فقالوا هذا الرائد حافظ علوان مرافق عبد الكريم قاسم, وهذا الملازم نوري ناصر أحد مرافقي قاسم, والملازم الطيار طارق محمد صالح أبن أخت عبد الكريم قاسم والملازم الطيار كريم صفر والرئيس غازي شاكر الجبوري, فسحب أيوب وهبي أقسام رشاشته ورماهم جميعاً دون تردد, فلم ينج غير حافظ علوان الذي احتمى بعامود كونكريتي, وغازي الجبوري الذي اكتشفه فيما بعد ناقل الجثث بسيارة الإسعاف إنه ما زال حياً, فأخذه إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث أنقذه أطباؤها بأعجوبة"9.         
عرف الشعب العراقي في أعقاب ثورة تموز 1959 صحفياً بارزاً ومتميزاً في كتاباته ومقالاته الصحفية حيث كان يكتب باسم "أبو سعيد" في جريدة اتحاد الشعب, وكان أحد الكوادر المتقدمة في الحزب الشيوعي العراقي, إنه الإنسان الطيب عبد الجبار وهبي. اعتقل عبد الجبار وهبي مع رفيقيه جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وتعرض إلى تعذيب شرس يصف جزءاً من عواقب التعذيب عليه بعض البعثيين الذين شاهدوا وهبي في قصر النهاية, إذ كتب الدكتور على كريم سعيد يقول:
"يقول الضابط محمد علي سباهي الذي كان عضواً وأحد مؤسسي المكتب العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي قبل 8 شباط: "في عام 1963 زرت في قصر النهارية عمار علوش وكان مشرفاً على التحقيقات, فرأيت عنده عبد الكريم الشيخلي (وزير الخارجية فيما بعد)وأيوب وهبي وخالد طبرة, وفوجئت بالصحفي عبد الجبار وهبي ممدوداً على الأرض وكان على وشك الموت ويطلب الماء, ويجيبه خالد طبرة (مدير عام فيما بعد): "ها گواد (قواد) تريد مي (ماء)!!", ولم يعطه. وكان الدكتور فؤاد بابان قد أخبرني بمدينة السليمانية عام 2001 قائلاً: كنت معتقلاً في قصر النهاية "فرأيت عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) منشور الرجل من تحت الركبة بآلة نشر خاصة, وكان إلى جانبه شخص آخر لديه يد واحدة معلق منها"10.
يشير طالب شبيب, وكان في قيادة البعث ووزير خارجية حكومة الانقلاب, إلى أن ستة من مدراء البلديات الذين عينهم وزير الشؤون البلدية محمود شيت خطاب وذهبوا لتسلم مناصبهم ووجهوا بالحرس القومي الذي تناولهم بالضرب تأديباً لهم لكي لا يعودوا ثانية إلى مناصبهم, فليس الوزير يعين مدراء البلديات, بل هم الذين يقومون بتعيين مدراء البلديات. جاء وزير الشؤون البلدية بهؤلاء الستة إلى مقر حازم جواد وكان طالب شبيب موجوداً هناك. فسألوه عما جرى لهؤلاء الجرحى "وكأنهم خارجون تواً من غرفة إسعاف وتضميد, يحملون رؤوساً معصوبة وأيدي وأرجلاً وأقدماً مجبَّرة. وكان منظرهم أشبه بتظاهرة أثارت استغرابنا, فقال إنهم رؤساء البلديات الذين وافقتم على تعيينهم, قام رجال الحرس القومي بضربهم تأديباً لهم, وطلبوا منهم أن يعودوا مرة أخرى إلى مراكز عملهم, لأن قيادات الحرس القومي قد اختارت بنفسها رؤساء بلديات آخرين, وهم الآن يمارسون وظائفهم دون الرجوع إلى وزير البلديات"11.   
وبصدد أساليب التعذيب التي مارسها البعثيون ضد المعتقلين كتب المحامي خالد عيسى طه في مقال له حول تجربته مع المندائيين أثناء وجوده في المعتقل كتب يقول:
".. أدخلونا ذات ليلة في غرفة .. و في الصباح التالي رأيت منظرا لن أنساه ما حييت إذ رأيت شخصا كهلا ، شيخا مسنا قد وثقت يديه ورجليه بكرسي وكان هناك رجل من الحرس القومي يمسك بيده شمعة ويريد بها حرق لحية الشيخ بينما كان شيخنا يصرخ و يصرخ .
فكرت في داخلي إذ لم أكن أتخيل يوما أن يكون هناك حزبا بكامله يحمل السلاح ويهدد لحية رجل مسن بريء!!!! فبدا لي أن حرسا قوميا يمثل حزب البعث قد ترك كل الأهداف المعادية وركز على لحية الشيخ المندائي" الصابئي" ....
سُحبت إلى الغرفة بعدما عذبوني بقيادة حرس.. ولم أدرك بعدها النتائج ولكن علمت فيما بعد بان هذا الشيخ كان يعود لعائلة تلقب ب(الصگر..).
أيام تلت أيام و سنين تلت سنين و تبدلت الأجواء و حدث انقلاب على انقلاب البعث وجاء عبد السلام عارف .. وكانت كل معرفتي بالمندائية أنهم أناس طيبون جل احترافهم يكمن في الصياغة  ..وما كانت صورة الشيخ لتغادر مخيلتي وسألت نفسي: ترى ما الذي فعله ذلك الشيخ وما الذي اقترفه ليعذب هكذا ؟؟؟؟" 12
شباط/فبراير 2010-01-31               كاظم حبيب
الهوامش

1 هيئة الدليل الدولي. المنحرفون من الحرس القومي في المد الشعوبي تحت أشعة 18 تشرين الثاني 1963. مصدر سابق. ص 84/85.
2 ملاحظة: من الجدير بالإشارة إلى أن جميع هؤلاء الذين قتلوا على أيدي الحرس القومي وأعضاء لجنة التحقيق الخاصة كانوا قد تعرضوا لأشرس أشكال التعذيب الهمجي الذي يصعب تصوره ثم قتلوا بأبشع صور القتل بما في ذلك قطع الأصابع والأيدي وأعضاء من الجسم, في ما عدا أولئك الذين قتلوا على عتبة بيوتهم أو الذين قتلوا في دورهم مباشرة وحال اعتقالهم. ك. حبيب. ويمكن التدليل على ذلك من أكثر من مصدر في هذا الصدد, ولكن بشكل خاص ما كتبه الدكتور علي سعيد كريم في كتابه عن طالب شبيب نقلاً عما ذكره الدكتور تحسين معلة, وهو من البعثيين البارزين وكان يحتل موقعاً مهماً في حزب البعث الحاكم, حيث قال ما يلي:
"بعد اعتقال قيادة الحزب الشيوعي بأربعة أيام طلب مني حمدي عبد المجيد الحضور إلى "قصر النهاية" لعيادة بعض المرضى. ذهبت إلى هناك وبدأت من السرداب فرأيت سلام عادل نائماً وسط القاعة طاوياً نفسه على الأرض مشدود العينين مدًّمى. وعبد الرحيم شريف العاني بنفس الحالة وكذلك حسن عوينة وعبد القادر إسماعيل البستاني وحمدي أيوب العاني وآخرين لم أتعرف عليهم وكانوا بحالة مزرية ينامون مباشرة على أرضية السرداب الرطبة. حاولت تضميد جراحهم وانتقلت لردهات أخرى وكتبت لهم الأدوية المطلوبة وكنت أعودهم يومياً لمدة أسبوع. وتعاملت معهم كما يتعامل طبيب مع ردهة اعتيادية للمرضى حتى جيء في أحد الأيام بهاشم جواد (وزير خارجية قاسم) وأعطوه وجبة عشاء "خبز وتمر" فسألته : هل تشكو من شيء؟ فأجاب مذهولاً "شنو يعني؟" فقال له أحد الحراس القوميين: هذا د. تحسين معلة, فوقف مرتجفاً" نعم نعم!! قلت أنا طبيب وأستطيع أن أخدمكم...".  ويبدو أن الدكتور تحسين معلة كان يقصد بأن الدكتور هاشم جواد كان قد فقد جزءاً من قدرته على التفكير بسبب التعذيب الذي تعرض له أيضاً مع الآخرين وسوء المعاملة اليومية وسوء التغذية. ك. حبيب.   
3 سعيد, علي كريم د. عراق 8 شباط 1963, من حوار المفاهيم إلى حوار الدم. مراجعات في ذاكرة طالب شبيب. طبعة أولى. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 1999.  ص 200.   
5 دكله, صالح مهدي. من الذاكرة. "سيرة حياة". دار المدى للثقافة والنشر. دمشق. ط 1. 2000. ص 97/98. 
5  الغد. مجلة كانت تصدرها لجنة الدفاع عن الشعب العراقي, ومقرها مدينة براغ في جيكوسلوفاكيا. العدد 2/ 1964.
راجع أيضاً: خيري, زكي وسعاد. دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراق. اليوبيل الذهبي. طبعة أولى. لندن. 1984. ص 386.   
6 هيئة الدليل الدولي. المنحرفون منشورات عربية سلسلة رقم 1/ 1964. مصدر سابق. ص 62.
7 نفس المصدر السابق. ص 63.
8 سعيد, علي كريم د. العراق البيرية المسلحة, حركة حسن سريع وقطار الموت 1963. الفرات للنشر والتوزيع. بيروت. 2002. ص 141/142.
 9 نفس المصدر السابق. ص 142.
10 نفس المصدر السابق. الهامش ص 59.
11 نفس المصدر السابق. ص 167/168.
12 (موقع بحزاني الإلكتروني بتاريخ 27/3/2007).


1122
هل الدكتور بارق شبر على حق في موقفه من اللبرالية الجديدة؟
الحلقة الثانية
ما هي الليبرالية الجديدة؟
أعطى انتصار التحالف الدولي في الحرب العالمية الثانية على دول المحور, ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية, التي كانت تهدف إلى الهيمنة على مناطق كثيرة من العالم وإعادة تقسيم مناطق النفوذ الاستعماري القديم لصالحها وانتقاماً لخسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى التي بدأت الحرب الجديدة, زخماً جديداً وكبيراً لحركات التحرر الوطني في المناطق المستعمرة والتابعة في كل من آسيا وأفريقيا, إضافة إلى تنشيط جديد للحركات الديمقراطية والتقدمية في أمريكا اللاتينية. وقد وجدت حركات التحرر الوطني دعماً وتأييداً كبيرين من جانب الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطية الشعبية, التي كانت قد تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وشكلت سوية المعسكر الاشتراكي كنتيجة من نتائج تلك الحرب. وتحررت الكثير من مناطق العالم من الهيمنة الاستعمارية المباشرة وشكلت دولها الوطنية المستقلة ودخلت في عضوية هيئة الأمم المتحدة التي كانت قد تشكلت لتوها لتحل عملياً محل عصبة الأمم, وتلقى الاستعمار القديم الذي استند إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ضربات موجعة وسريعة خلال العقدين الخامس والسادس حتى منتصف السابع تقريباً من القرن الماضي, مما دفع بهذه الدول إلى التفكير بأساليب وأدوات جديدة لمواصلة هيمنتها واستغلالها لشعوب وثروات تلك البلدان الحديثة التكوين, كما لم تستطع المدرسة الكينزية إنقاذ الرأسمالية من أزماتها الدورية أو المظاهر الجدية التي برزتوشكلت بديايات أزمة هيكلية طويلة الأمد للرأسمالية على الصعيد العالمي, والتي أطلق عليها بـ "الموجة الطويلة" كما سميت بـ "موجات كوندراتيف" نسبة إلى الاقتصادي الروسي نيكولاي كوندراتيف Nikolai Kondratieff (1892-1938) الذي اكتشفها والذي صدر بحقه قرار الإعدام رمياً بالرصاص ونفذ فيه في العام 1938 على أيدي أجهزة أمن ستالين القمعية في إطار حملة "التطهير" الكبرى التي تعرض لها الكثير من الشيوعيين والمثقفين الروس المعارضين لسياسات جوزيف ستالين حينذاك, علماً بأنه كان من مؤيدي سياسة لينين التي أطلق عليها بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) التي بدأ بها في العام 1921, وتوقفت مع صعود ستالين إلى قيادة الحزب والدولة حتى قبل وفاة لينين في العام 1924.
لقد دفعت هذه الظواهر الجديدة بمنظري الرأسمالية للعودة والأخذ بمبادئ نظرية اللبرالية الكلاسيكية ضاربين عرض الحائط نصائح وسياسات كينز ومضيفين إليها بعض الرتوشات والسياسات مما سمح لهم بتسميتها بـ "النيوليبرالية" أو "اللبرالية الجديدة". لقد بدأ منظرو الرأسمالية بالعمل منذ الستينات, رغم بروز بعض هذه الأفكار في الثلاثينات من القرن الماضي بالارتباط مع الكساد الأعظم حيث برزت النيوليبرالية من جهة, والنظرية الكينزية من جهة أخرى, ولكن الأولى لم تستطع فرض نفسها في حينها بل أخذ العالم الرأسمالي بنظرية كينز, وبقيت الأولى جنينية تبحث عن فرصة مناسبة للظهور إلى أن تبلورت أكثر فأكثر في الستينات والسبعينات من القرن العشرين بعد أن بدا لاقتصاديي وسياسي الدول الرأسمالية المتقدمة بأن الكينزية لم تعد مناسبة لتحقيق المزيد من الأرباح التي كانوا يتوقعونها منها, فانتعشت أفكار اللبرالية الجديدة من جديد باعتبارها معارضة للكينزية مع بروز أزمة الدولة السوفييتية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات من القرن الماضي ثم تسارعت مع سقوط الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان "الاشتراكية" في نهاية العقد التاسع من القرن الماضي. وقد اقترن ذلك بانتشار سريع لفكر وممارسات العولمة الرأسمالية واستثمار ذلك من أتباع هذه النظرية لصالح الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى على نحو خاص, ولكن بشكل خاص لمراكزها الثلاثة: الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية أو الاتحاد الأوروبي واليابان من خلال ممارسة سياسات عولمية شديدة التطرف والاستغلال. فما هو جوهر هذه النظرية الاقتصادية (القديمة) الجديدة التي يطلق عليها أحياناً بالنظرية الكلاسيكية الجديدة   neoclassic؟       
اللبرالية الجديدة شارع عريض للفكر البرجوازي في الدول الرأسمالية المتقدمة في مرحلة العولمة, إذ برز فيها العديد من الاتجاهات المتقاربة طبعاً مع وجود بعض الاختلافات. وقد لعب الصراع الفكري والسياسي والعملي مع الاتحاد السوفييتي دوره البارز في سرعة نهوض هذه النظرية, وبشكل خاص المدرسة الألمانية التي أطلق عليها أيضاً بـ Ordoliberalismus وهي التي سميت أيضاً بـ Soziale Marktwirtschaft  أي اقتصاد السوق الاجتماعي, والذي بدا منظروه يسعون إلى تخفيف الصراع والنزاع بين العمل ورأس المال من خلال جملة من القرارات الإدارية والقوانين التي تضعها الدولة, أي محاولة السيطرة على الصراع الطبقي وتقليص النزاعات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال في مرحلة الصراع والحرب الباردة مع المعسكر "الاشتراكي".
نحن أمام مدرستين أساسيتين أنبثقتا عن المدرسة الأنگلوسكسونية وهما: (مدرسة شيكاغو) كما يطلق عليها أحياناً (أولاد شيكاغو) ومدرسة فيينا أو النمساوية - الألمانية. وهي كلها تنطلق من حيث المبدأ من القاعدة الأساسية أو المبادئ المتحكمة باللبرالية والتي أشرت إليها في الحلقة السابقة.  NÖRR, Knut Wolfgang/STARBATTY, Joachim (Hg.) ]
1999: Soll und Haben - 50 Jahre Soziale Marktwirtschaft. Marktwirtschaftliche Reformpolitik. Schriftenreihe der Aktionsgemeinschaft Soziale Marktwirtschaft. N.F. Stuttgart, S.3-5.[
كان أحد نماذج مدرسة شيكاغو المتشددة دولة شلي في عهد الدكتاتور أوغستينو بينو شيت, في حين كان النموذج الألماني هو الأقل قسوة. 
ومن الجدير بالذكر أن اللبرالية الجديدة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي, كما يشاع في غالب الأحيان, بل تشمل الجوانب الفكرية والاجتماعية والنفسية والسياسية والعسكرية والبيئية التي كانت تتجلى بشكل صارخ في سياسات رونالد ريگن في الولايات المتحدة الأمريكية, ومارگريت تاتچر في بريطانيا, وهيلموت كول في ألمانيا وبينوشيت في شيلي على سبيل المثال لا الحصر, ومن ثم اتخذت مسارها الصارخ في سياسات بوش الأب والابن على حد سواء.
لخص الدكتور أشرف منصور في مقال له اللبرالية الجديدة في الدول الرأسمالية المتقدمة على النحو التالي: " ... ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج الأزمة يتمثل في عودة اقتصاد السوق و تركه يعمل بحرية، و التخلص من العبء الثقيل للدولة و أجهزتها البيروقراطية التي تم النظر إليها على أنها من أسباب الأزمة، و التخلي عن كل الالتزامات السابقة للدولة مثل برامج الرعاية الاجتماعية و التأمين و إعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزتها و دينها الوطني. و مع الليبرالية يعود مبدأ حرية المنافسة في الظهور، و تعود الفكرة القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح بفعل قوانين السوق الضرورية، و يعود من جديد مبدأ "دعه يعمل" Laissez Faire. [راجع: أشرف منصور. الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي. موقع الحوار المتمدن. العدد 1787 بتاريخ 6/1/2007.]
ويفترض هنا القول بأن اللبرالية الجديدة تدعو من منطلقها الإيديولوجي البحت إلى الحرية المطلقة للفرد, والمساواة التامة أمام القانون الذي يقود تلقائياً, كما ترى, إلى تحقيق العدالة الاجتماعية, وقصر نشاط الحكومة على الحد الأدنى من المهمات, إذ يفترض أن يقتصر دورها على ضمان تكافؤ الفرص, حماية الفرد, منع التمييز, وضمان الشروط الضرورية لنجاح اقتصاد السوق الحر. وقد اعتقدت مدرسة أولاد شيكاغو (Chicago Boys  (, التي تبنت وعملت على تطبيق اللبرالية الجديدة في شيلي, إلى أن الدولة الاستبدادية أو التسلطية هي وحدها القادرة على تأمين حرية الفرد المطلقة وحرية السوق. (راجع: هريرت شوي. الليبرالية الجديدة : الأسس النظرية والسياسية, من كتاب له بعنوان:
)Herbert Shui. Neoliberalismus: politische und theoretische Grundlagen Wollt Ihr den totalen Markt? Der Neoliberalismus und die extreme Rechte, München 1997.(
وبدا هذا النهج واضحاً مع انهيار المعسكر الاشتراكي وغياب المنافسة السياسة والاقتصادية بين المعسكرين وتوقف الحرب الباردة مؤقتاً, كما يبدو, إذ اتخذت سياسة اللبرالية الجديدة مساراً رأسمالياً صارخاً أو ما يطلق عليه أحياناً من جانب النقابات(Pur Kapitalismus) في محاولة جادة لانتزاع كل المكاسب الاجتماعية والسياسية التي حققتها الطبقة العاملة وفئات المثقفين والفلاحين خلال العقود الثلاثة التي سبقت سقوط المعسكر الاشتراكي, وبدأ الجو الاجتماعي بالبرود والتوتر, وبدأ الرأسماليون الكبار وممثلو الشركات الاحتكارية والمتعددة الجنسية يرفضون المساومة التي كانت قد برزت في تلك العقود بين العمل ورأس المال وراحوا يشددون بالضغط على جملة من الأمور منها على سبيل المثال لا الحصر: الحد الأدنى للأجور, العمل من أجل العودة إلى ستة أيام عمل في الأسبوع, زيادة ساعات العمل اليومية, عدم دفع أجور عن ساعات العمل الإضافية, تقليص المكاسب الاجتماعية وزيادة الضريبة غير المباشرة المفروضة على السلع والخدمات وتقليص الضرائب عن الشركات وأصحاب رؤوس الأموال والأرباح العالية, ثم الضغط على دور النقابات في الدفاع عن مصالح العمال والموظفين والمستخدمين, وفرض تعريفات إضافية على الأدوية والطبابة والمعالجة الطبية في المستشفيات والمصحات, كما اتسعت البطالة وازدادت نسبة عدد العاطلين عن العمل إلى عدد القادرين على العمل وتقليص مقدار ما يدفع من تعويض شهري للعاطلين عن العمل أو لمستحقي المساعدة الاجتماعية التي تقدم للمعوزين شهرياً...الخ. وتقدم ألمانيا والكثير من دول الاتحاد الأوروبي نماذج صارخة في هذا الصدد. ولم يكن هذا وحده بل جرت عملية خصخصة للمشاريع الاقتصادية التي كانت بيد الدولة وكانت ناجحة وتحقق عوائد مالية جيدة لخزينة الدولة, وكانت في الوقت نفسه عوناً في إنتاجها وأسعارها للفئات الفقيرة والكادحة, سواء أكان في مجال الكهرباء أو الماء أو النقل أو الإنتاج السلعي وغيرها من مشاريع الخدمات العامة والإنتاجية, كما تراجعت أو انتهت مشاركة الدولة في المشاريع الاقتصادية الإنتاجية في عدد غير قليل من المجالات الاقتصادية والخدمية, إذ أن فلسفة اللبرالية الجديدة هي إبعاد الدولة عن كل نشاط اقتصادي واجتماعي وثقافي وجعلها تلعب دوراً رقابياً وإدارياً عاماً. وحتى هذا الدور لم تقم به كما يجب, كما رأينا في أزمة العقارات والبنوك في الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الأوروبية وفي دول جنوب شرق آسيا أو النمور الثمانية أو في أمريكا اللاتينية, وكذلك تفاقم عمليات المضاربات المالية الهائلة في العديد من البورصات التي أدت إلى انهيارات كثيرة في الكثير من دول العالم في الثمانينات والتسعينات وفي الآونة الأخيرة أيضاً. إن اللبرالية الجديدة تستخدم السياسات المالية والنقدية بما يخدم مصالح رأس المال وليست في صالح الكادحين والمنتجين الفعليين للثروة الوطنية وترمي بثقل المكاسب التي تقدم للشركات الكبرى البنوك وغيرها على عاتق دافعي الضرائب, كما حصل في محاولة معالجة الأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة التي لا تزال مستمرة وستبقى لفترة طويلة. والإيذاء الفعلي لهذه الأزمة لا يشمل المنتجين والفقراء والعاطلين عن العمل في الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة حسب, بل وترهق كثيراً كاهل شعوب الدول النامية, وخاصة الفقيرة منها. إن بلداً مثل ألمانيا, باعتبارها واحدة من أغنى الدول الرأسمالية المتقدمة, يوجد فيه الكثير من الأطفال الفقراء. فوفق تقرير نشر في DW دويچة فيله جاء فيه ما يلي: الجدير بالذكر أن عدد الأطفال الذي يعانون من الفقر يتزايد في ألمانيا سنة بعد أخرى. وتقدر كل من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) والاتحاد الألماني لحماية الأطفال أن 2,5 مليون طفل يعيشون في ألمانيا في ظروف مالية واجتماعية صعبة، أو ما يسمى بالفقر النسبي. وهو مصطلح ينطبق على الحالات التي يكون فيها معدل دخل عائلة ما أقل من نصف متوسط الدخل العام". كما جاء في الدارسة التي قامت بها مؤسسة هانز بوكلر. المؤسسة التي تعمل بالتعاون مع النقابات العمالية في ألمانيا أوضحت أن هناك نحو 7.4 مليون موظف يحصلون على مساعدات من الدولة لانخفاض دخولهم، وهو عدد أقل من عدد الموظفين الذين يحق لهم الحصول على المساعدات وهو 10 مليون موظف. واتهمت المؤسسة الحكومة الألمانية بأنها لا تعلن إلا نصف الحقائق، وأنها بذلك تتسبب في أن تعيش ملايين العائلات في حالة من الفقر ويعاني معهم أطفالهم. [راجع موقع DW بتاريخ 7/2/2010 مقال تحت عنوان "رعاية الأطفال أولى ضحايا ظاهرة الفقر في ألمانيا", رغم أن ألمانيا تمارس ما يسمى بسياسة السوق الاجتماعي التي بدأ نسف الجانب الاجتماعي منها تدريجاً مع سقوط الاتحاد السوفييتي على نحو خاص. كما بدأت الحياة الديمقراطية العامة والاستفتاءات الشعبية بالتقلص لصالح التمثيل البرلماني حيث بدأت الفجوة تتسع بين النواب والمجتمع, كما بدأت مصداقية السياسيين والسياسة بالهبوط الشديدين.
إن السياسات التي تمارسها المراكز الأساسية للدول الرأسمالية الصناعية ومؤسساتها المالية والنقدية والتجارية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية) موجهة بالأساس ضد اقتصاديات الدول النامية ولصالح الدول المتقدمة. ويمكن للتقارير السنوية لهذه المؤسسات أن تكشف عن حقيقة تلك الأوضاع وحقيقة زيادة واتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية وبين الأغنياء والفقراء واتساع قاعدة الفقراء والجياع في العالم. والأهم من كل ذلك هو اتساع الفجوة في مجال العلم والتعليم والبحث العلمي ومستوى تطور القوى المنتجة والتقنيات المستخدمة في الإنتاج وحجم الإنتاج الإجمالي ومعدلات الإنتاجية السنوية ومعدل حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي أو الدخل القومي.
إن سياسة اللبرالية الجديدة التي التزمت بها قوى المحافظين الجدد ومارستها بإصرار وتشديد تجلت في الجانب السياسي, أي في سياسة توجيه ما يسمى بـ "الضربات الاستباقية" والعقوبات الردعية والمقاطعة والحصار الاقتصادي بدلاً من المفاوضات والتحري عن حلول سلمية تفاوضية, فالقوة العسكرية هي اللغة المفضلة والعامل الحاسم في حل الخلافات من وجهة نظر اللبرالية الجديدة وقوى المحافظين الجدد, وهو الدور الذي تعطيه هذه النظرية للدولة على نحو خاص. وكان العقدان التاسع والأخير من القرن العشرين وكذلك الفترة الأولى من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نموذجاً لممارسة هذه السياسة المتوحشة.   
يشير الكاتبان "تيمونز روبيرتس" و "أيمي هايت" في كتابهما المشترك الموسوم "من الحداثة إلى العولمة" بشأن التوجه الشديد في أمريكا اللاتينية للأخذ بنظرية السوق التي أطلق عليها بسياسة "التعديل اللبرالي الجديد" بصواب إلى أن الوصفة قد تكونت من "سبع خطوات أساسية:
1 – انفتاح من جانب واحد على التجارة الخارجية.
2 – خصخصة شديدة لمشاريع الدولة.
3 – تحرير السلع والخدمات وأسواق العمل من القيود.
4 – تحرير السوق الرأسمالي مع خصخصة شديدة لأرصدة المعاشات الحكومية للتقاعد.
5 – تعديل مالي مرتكز على تقليص شديد للنفقات العامة.
6 – إعادة تشكيل وتخفيض معدل البرامج الاجتماعية المدعومة من قبل الحكومة والتركيز على خطط تعويضية للفئات الأكثر حاجة.
7 – نهاية "السياسة الصناعية" وأي شكل آخر لرأسمالية الدولة, والتركيز على الإدارة الاقتصادية الضخمة. (دياز 1996 Diaz)" [راجع: "تيمونز روبيرتس" و "أيمي هايت. "من الحداثة إلى العولمة" ترجمة سمر الشيشكلي. سلسلة عالم المعرفة 310. أيلول سبتمبر 2004. ص 263].
ويستكمل الباحثان الفكرة فيشيران إلى التغييرات الاجتماعية التي احدثتها هذه الوصفة النيوليبرالية كما يلي:
1 – إعادة تقييم للربح الرأسمالي كأمر مرغوب به ومتطابق ومنسجم مع المصالح الوطنية.
2 – تلازم التقليل من قيمة العمل التنظيمي والصناعة المحلية على أنها "ملاجئ حماية مستأجرة" معادية للكفاءة الاقتصادية.
3 - دعم الاستثمارات الأجنبية كضرورة من أجل تنمية مدعومة ومحمية.
4 – تجديد الثقة بالسوق عبر تقليل التأثيرات من أجل تقليص اللامساواة الاجتماعية.
5 – إعادة توجيه مصادر الفخر والثقة الوطنية بعيداً عن مقاومة التسلط الأجنبي بالتوجه نحو معاودة الدخول بتأهيل جيد في مجالات التجارة العالمية (كاسلز ولاسيرنا 1989و ايفانو 1995, مالك مايكل 1995)" [نفس المصدر السابق].   
لا شك في أن انتهاج هذه السياسة أمكن بها السيطرة على بعض حالات التضخم والارتفاع الشديد في الأسعار, ولكن هذه "الوصفة السحرية!" عجزت عن تحقيق التنمية المنشودة والتشغيل ومكافحة البطالة ومكافحة الفقر والحرمان في تلك الدول التي مارست هذه السياسة بل اتسعت كل تلك المظاهر السلبية فيها, كما عجزت عن إيقاف أزماتها ومنها الأزمات المالية, ومنها ما حصل في المكسيك مثلاً, رغم أن النتائج كانت متباينة نسبياً في هذه البلدان, ولكنها على العموم لم تكن إيجابية, كما إنها حققت بالأساس, وهذا هو الجوهري في اللبرالية الجديدة, الكثير من الأرباح للرأسمال العالمي وللشركات الرأسمالية الاحتكارية المتعددة الجنسية وللبرجوازية الكبيرة في كل دولة من هذه الدول.
إن سياسة اللبرالية الجديدة الموجهة للدول النامية في المجال الاقتصادي تتجلى في وصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تسعى إلى فرضها على جميع الدول النامية على حد سواء والموسومة بـ "الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي". فماذا يعني ذلك بالنسبة للكثير جداً من الدول النامية؟ هذا ما سنعالجه في الحلقة الثالثة.
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة.
 8/2/2010                       كاظم حبيب

 


   
   

1123
كاظم حبيب
مسقط رأسي يعيش حزناً قاهراً, ينزف دماً, يصرخ وجعا عارماً!!  فمتى ينتهي..؟
مدينتي الحزينة أبداً, مسقط رأسي, يعيش أهلها في كربٍ وبلاء دائمين, يعيش بنوها وبناتها في همٍ قاتل وفي محنة لا تنتهي. استشهد فيها الحسين وصحبه الكرام في صراعهم ضد الظلم والطغيان. فحولت جمهرة من شيوخ الدين تلك الشهادة الغالية إلى مآتم لا تنتهي, بدلاً من جعلها مشهداًَ يجسد انتصار الإنسان على الظلم عبر الاستشهاد. وأصبحت المدينة سنة بعد أخرى مرتعاً للحزن الدائم واللطم القاهر وسيل من الدماء بأيدي الناس أنفسهم بشج رؤوسهم يعيش عليه ومن خلاله الكثير من البشر!
على مدار السنة يعيش الناس أياماً كثيرة في حزن متواصل, وأفراح الناس في هذه المدينة العطشى للفرح والبسمة والهناء نادرة. شباب المدينة وشاباتها لا يمتلكون غير الفراغ القاتل والحسرة على العمر الضائع في كرب دائم, حتى الحب الذي هو ركيزة الإنسان في الحياة في خطر دائم وفي خشية من آخرين!
كانت المدينة في السابق مبتلاة بالكثير من شيوخ الدين المتخلفين والكثير من تجار المواكب, وكانت مبتلاة بنظام دكتاتوري يطارد الناس في حياتهم اليومية وينكد عليهم عيشهم المنكد أصلاً. أما اليوم, فالناس في كربلاء يعيشون تحت وطأة بلايا ثلاث, تحت وطأة الكثير من شيوخ الدين المتخلفين غير المتنورين ويصرون على مساراتهم السابقة ولم تتغير لديهم الحياة قيد أنملة بل تعمقت أكثر فأكثر, ومجالس محافظات وأحزاب تنكد عليهم عيشهم كما في السابق في تنظيم مثل هذه البدع المرفوضة دينياً, ثم أضيف إليها منذ سنوات عدة جمهرة متنوعة من الإرهابيين الأكثر تطرفاً والأكثر دموية الذين يمارسون قتل الناس بمتفجرات لا تكتشفها الأجهزة الفاسدة التي استوردتها الحكومة لتكتشف المتفجرات فأصبحت وبالاً على الناس لا رحمة لهم. أما المرأة فمبتلاة بأسوأ من الرجال فهن يعشن في ظلام دامس, أسوأ مما كانت تعيش فيه أمي وخالاتي وعماتي وكل نساء كربلاء قبل سبعين وتسعين ومائة عام!   
هناك من ينظم المواكب الحسينية سيراً على الأقدام, وهي بدعة جديدة نجدها في الكثير من الديانات, ويزيد من عدد المناسبات الحزينة والزيارات, فتصرف الدولة الملايين تلو الملايين من الدولارات الأمريكية لحماية الزائرين, ومع ذلك يبدو أن أصحاب المواكب وكأنهم يهيئون المجال لقوى الإرهاب, إذ يجد هؤلاء فيها خير مناسبات وأكبر تجمعات يمكن فيها قتل أكبر عدد ممكن من الناس, فهي التجمعات الأمثل لتنظيم مجازر بشرية. ولا نسأل عما يربحه من أموال الكثير من أولئك الذين ينظمون تلك المواكب الحسينية. كما أن العبرة هنا وبيت القصيد هو تشديد الصراع والنزاع والكراهية والحقد الطائفي بين اتباع المذاهب العديدة.
شيوخ الدين الكبار, منهم من مات ومنهم من ينتظر, يعرفون خطأ تلك المشاهد الكربلائية ومخالفتها للدين, سواء في العشرة الأولى من شهر محرم أم الأربعينية أم غيرها من مناسبات وفاة الأئمة الاثنا عشر وذويهم, حيث تسكب العبرات ويلطم الناس الخدود والصدور وتنزل السلاسل الحديدية بسكاكينها الحادة على ظهور الناس, وتضرب القامات أو السيوف على الرؤوس فيسيل الدم مدرارا, ولكن بعضهم الكبير لا يجرأ على ذلك وبعضهم يسانده لتخلفه أو يخفف من أثره. ولكن هناك من  كتب رافضاً ذلك مثل السيد أبو الحسن الموسوي, والشيخ محمد حسين القمي والسيد الخوئي, كما كتب عنه السيد محمد باقر الصدر وكاظم الحائري وغيره وغيره من كبار فقهاء المذهب الشيعي من المسلمين.
"إليكم بعض آراء المراجع الشيعية العليا في جلد الذات وإدمائه .... :
1 . أية الله العظمى السيد محسن الحكيم: " إن هذه الممارسات ( التطبير) ليست
فقط مجرد ممارسات... هي ليست من الدين وليست من الأمور المستحبة بل هذه
الممارسات أيضا مضرة بالمسلمين وفي فهم الإسلام الأصيل وفي فهم أهل البيت
عليهم السلام ولم أرى أي من العلماء عندما راجعت النصوص والفتاوى يقول بان
هذا العمل مستحب يمكن إن تقترب به إلى الله سبحانه وتعالى ان قضية التطبير هي
غصة في حلقومنا"
2 . أية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي:في رد على سؤاله حول إدماء
الرأس وما شاكل يقول: " لم يرد نص بشرعيته فلا طريق إلى الحكم باستحبابه".
المسائل الشرعية ج2 ص 337 طبع دار الزهراء, بيروت.
3 . أية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر في جوابه لسؤال الدكتور التيجاني
حين زاره في النجف الاشرف " ان ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من
فعل عوام الناس وجهالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على
منعه وتحريمه". كل الحلول عند آل الرسول ص 150 الطبعة الأولى 1997 م للتيجاني.
4 . أية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني: " ان استعمال السيوف
والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم من أمثالها في مواكب العزاء بيوم
عاشوراء باسم الحزن على الحسين (عليه السلام) اما هو محرم وغير شرعي" كتاب
هكذا عرفتهم الجزء الأول لجعفر الخليلي.
 5 . أية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: " على المؤمنين الأخوة والأخوات
السعي إلى إقامة مراسم العزاء بإخلاص واجتناب الأمور المخالفة للشريعة
الإسلامية وأوامر الأئمة (عليهم السلام) ويتركوا جميع الأعمال التي تكون
وسيلة بيد الأعداء ضد الإسلام، إذ عليهم اجتناب التطبير وشد القفل وأمثال
ذلك".
6 . أيه الله العظمى السيد كاظم الحائري: " إن تضمين الشعائر الحسينية لبعض
الخرافات من أمثال التطبير يوجب وصم الإسلام والتشيع بالذات بوصمة الخرافات
خاصة في هذه الأيام التي أصبح إعلام الكفر العالمي مسخرا لذلك ولهذا فممارسة
أمثال هذه الخرافات باسم شعائر الحسين (عليه السلام) من أعظم المحرمات".
7 . أيه الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله: "... كضرب الرأس بالسيف أو
جرح الجسد أو حرقه حزنا على الإمام الحسين (عليه السلام) فانه يحرم إيقاع
النفس في أمثال ذلك الضرر حتى لو صار مألوفا أو مغلقا ببعض التقاليد الدينية
التي لم يأمر بها الشرع ولم يرغب بها". إحكام الشريعة ص 247.
8. أية الله الشيخ محمد مهدي الاصفهي: " لقد دخلت في الشعائر الحسينية بعض
الأعمال والطقوس فكان له دور سلبي في عطاء الثورة الحسينية وأصبحت مبعثا
للاستخفاف بهذه الشعائر مثل ضرب القامات." عن كيهان العربي 3 محرم 1410 هـ.
9 . أيه الله العظمى السيد محسن الأمين: ".... كما ان ما يفعله جملة من الناس
من جرح أنفسهم بالسيوف أو اللطم المؤدي إلى إيذاء البدن إنما هو من تسويلات
الشيطان وتزيينه سوء الأعمال." كتاب المجالس السنية الطبعة الثالثة ص 7.
10 . أيه الله محمد جواد مغنية ".... ما يفعله بعض عوام الشيعة في لبنان
والعراق وإيران كلبس الأكفان وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في العاشر من
المحرم إن هذه العادات المشينة بدعة في الدين والمذهب وقد أحدثها لأنفسهم أهل
الجهالة دون ان يأذن بها إمام أو عالم كبير كما هو الشأن في كل دين ومذهب حيث
توجد فيه عادات لا تقرها العقيدة التي ينتسبون إليها ويسكت عنها من يسكت خوف
الإهانة والضرر." كتاب تجارب محمد جواد مغنية.
11 . أية الله الدكتور مرتضى المطهري: " ان التطبير والطبل عادات ومراسيم
جاءتنا من ارثودوكس القفقاز وسرت في مجتمعنا كالنار في الهشيم." كتاب الجذب
والدفع في شخصية الإمام علي (عليه السلام)."
(راجع في ذلك الكثير من المصادر, ومنها منتديات يا حسين, ك. حبيب)
وأخيراً وليس آخراً سقط 41 قتيلاً و 144 جريحاً ومعوقاً. بعدها قُتل آخرون في تفجيرات انتحارية جديدة. فمتى سينتهي البكاء في مسقط رأسي الحسين؟ متى يتوقف نزيف الدم العراقي بأيدي الطبارين أنفسهم, أو بأيدي الإرهابيين القتلة. متى تبتسم مدينتي احتفاءً بذكرى شهادة الحسين الذي ضحى بنفسه ضد الظلم والطغيان, ومن أجل أن يسود العدل؟ متى .. متى ...؟ صرخة لا بد لها أن تدوي يوماً فتصل إلى آذان كل الناس في العالم الإسلامي وإلى آذان شيوخ الدين قبل غيرهم من أجل أن يوقفوا هذه المآسي المتكررة سنوياً.   6/2/2010                      كاظم حبيب   

1124
هل من عمليات عسكرية جديدة محتملة في منقطة  الخليج ؟

المؤشرات التي تحت تصرفنا وما يكتب في الصحافة الدولية أو ما يجري تداوله عبر الكواليس أو الأجهزة الأمنية وما طفح منها ونشر في بعض وسائل الإعلام تؤكد مجموعة من الحقائق المهمة التي يفترض الانتباه إليها عند تحليل الوضع في منطقتي الخليج والشرق الأوسط . وهي ذات أهمية فائقة للعراق. سنحاول لملمة أطراف الوضع الراهن بالنقاط التالية:
1.   ترفض إيران الكشف الكامل عن نواياها في إنتاج الأسلحة النووية وتكشف فقط عن تطور وتقدم أسلحتها الصاروخية بأبعادها المختلفة. وهذه القضية تثير بشكل خاص قلق متأزم لدى إسرائيل ودول الخليج, كما تثير القلق في عموم المنطقة والعالم. رغم وجود بعض العرب وبعض الدول العربية من يهلل لذلك.
2.   تمارس إسرائيل ضغوطاً دولية مكثفة على الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن الدولي ودول الاتحاد الأوروبي لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي. وآخر تلك اللقاءات الضاغطة كان مع رئيس وزراء إيطاليا برلسكوني وتصريحاته الصريحة.
3.   بدأت التهيئة الواسعة والمكثفة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في بناء جدار دفاعي وقائي متقدم ضد احتمال الهجمات الإيرانية الصاروخية على إسرائيل ودول الخليج. كما بدات بسلسلة تجارب على دفاعات جديدة متقدمة.
4.   بدأت إسرائيل تهيئ نفسها باتجاهين: أ. احتمال قيامها بضرب مؤسسات تخصيب اليورانيوم والأجهزة المستخدمة لإنتاج السلاح النووي؛ ب. وتعزيز دفاعاتها ضد ردود الفعل واحتمالات شن هجمات عسكرية صاروخية من ثلاث جهات: القوات الإيرانية, ميليشيات حزب الله في لبنان ذات الانتماء الإيراني, وقوات حماس في غزة. كما يلاحظ الأسلوب الجديد الذي تمارسه قوات حماس في إرسال عبوات ناسفة مليئة بالمتفجرات إلى الشواطئ الإسرائيلية والتي يمكن أن تدفع إسرائيل إلى توجيه ضربات جديدة ضد غزة , والتي يمكن ان تقود غلى معارك أخرى تستفيد منها إيران مع اشتداد الحملة ضدها.
5.   بدأ المطبخ الدولي, وخاصة الأوروبي, يسعى إلى اتخاذ قرارات سريعة وجادة لمعاقبة إيران بما يسهم في درء خطر تفاقم الوضع وإيقاف مسيرة التدهور صوب معركة عسكرية جوية محتملة في حالة إصرار إيران على مواصلة طريقها في كسب الوقت لإنتاج السلاح النووي وعبر طرح مقترحات ترفض من المجتمع الدولي.
6.   وبدأت إيران تهيئ قواها الداخلية العسكرية والحرس الثوري وقوات البسيج لهذا الغرض ومن خلال توجيه ضربات قاسية لكل صوت معارض لسياسة إيران الداخلية والخارجية من طرف, ولكنها بدأت تهيئ من طرف آخر حلفاء إيران في العراق ولبنان وسوريا من أجل اتخاذ موقف التأييد لها في حالة وقوع أي حدث محتمل ضد إيران. وأكثر تلك القوى التي بدأ العمل على تهيئتها هي جيش المهدي وعصائب أهل الحق بقيادة الشيخ قيس الخزعلي المنشق سابقاً عن جيش المهدي, والذي بدأ مسيرة العودة إلى صفوف جيش المهدي بقياده مقتدى الصدر, كما يمكن العودة لتهيئة قوى أخرى, مثل منظمة بدر بقيادة هادي العامري وحزب الله العراقي, ترتبط باحتمال اضطرار القوات الإيرانية اختراق الحدود العراقية لتجد الدعم والمساندة المباشرة من هذه القوات.
7.   إن المشكلة الملموسة هي أن إيران تعتقد جازمة بأن الولايات المتحدة لا تجرأ على شن حرب جديدة في إيران نتيجة الأوضاع على أرض الواقع في كل من أفغانستان والعراق, وبالتالي فهي ليست بحاجة إلى دولة ثالثة تمر بذات الظروف. ولكن إيران تتحدث عن جانب واحد من الحقيقة, إذ أن الجانب الثاني هو أن المجتمع الدولي لا يقف إلى جانب إيران بل ضدها وإل جانب إسرائيل, وبالتالي فإيران سوف ترتكب حماقة كبيرة إن اعتقدت بعدم احتمال توجيه ضربات لها, كما أخطأ صدام حسين في ذلك.
إن الأوضاع في العراق ذاته تدعو إلى القلق الكبير نتيجة تفاقم نشاط القوى الطائفية في الأحزاب السياسية وأن غطي بعضه بمسائل أخرى, وتصعيد الصراع والاصطفاف الطائفي في العراق بحجة الانتخابات والتي يمكن أن تكون محملة بالكثير من المشكلات الإضافية التي تستثمر من القوى الحليفة لإيران من أجل الهيمنة التامة على الوضع والذي يمكن أن يدفع باتجاهات حرب أهلية خطرة. ويمكن ملاحظة ذلك في بيانات الحركة الشعبية لاجتثاث البعث في الآونة الأخيرة, وبشكل خاص البيان الصادر في بغداد بتاريخ 03/02/2010 .
من هنا يفترض العمل الجاد من جانب المجتمع الدولي لإقناع روسيا والصين بضرورة التنسيق مع بقية الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي من أجل وضع حد لسياسة إيران الراغبة في كسب الوقت لإنتاج السلاح النووي.
8.   كما لا بد من العمل لإقناع إسرائيل بضرورة التفاوض مع القيادة الفلسطينية قبل أن تتفاقم المشكلة وتقود إلى عواقب أبشع مما انتهت إليه الأوضاع حتى الآن. إذ إن حكومة نتنياهو اليمينية لا تزال عاجزة عن إدراك مخاطر عدم حل القضية الفلسطينية باتجاه حل الدولتين وأن تكون القدس الشرقية عاصمة لها ووفق حدود 1967 ومدى تأثير ذلك على قدرة إيران في استخدام هذه القضية لمواصلة إنتاج السلاح النووي وكسب عواطف الكثير من العرب والدول العربية إلى جانبها, سواء صرحت بذلك أم لم تصرح به.
نحن أمام مجموعة من العوامل التي يمكنها الدفع باتجاه استخدام السلاح في حل قضية إنتاج اليورانيوم المخصب في إيران, وهذا الحل يمكن أن يفجر المنطقة كلها, وبالتالي لا بد من اتخاذ الكثير من الإجراءات الحاسمة والصارمة لوقف إيران عن التمادي بسياساتها الداخلية والخارجية من جهة, وإقناع إسرائيل بالتوقف عن استخدام الضربات الجوية لتدمير المفاعلات النووية في إيران من جهة ثانية والسعي لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً من جهة ثالثة بما يسهم في إبعاد المنطقة من حرب محتملة. 
4/10/2010                     كاظم حبيب
     



1125
كاظم حبيب
حوار مع السيد الدكتور بارق شبر
هل الدكتور بارق شبر على حق في موقفه من اللبرالية الجديدة؟
الحلقة الأولى
ما هي اللبرالية؟
كتب الزميل الدكتور بارق شبر نقداً موجهاً إلى الزميل الدكتور حيدر سعيد بتاريخ 25/1/2010 حول موقف الأخير من نقد فكر وممارسات النيوليبرالية في العراق والذي نشر في موقع العالم حيث نُشر مقال الدكتور حيدر سعيد, متهماً إياه وبعض المثقفين بأنهم لم يفهموا هذه المدرسة الفكرية بشكل صحيح وعلى هؤلاء دراستها, إذ يقول " لست بصدد الدفاع عن النيولبيرالية ولكني اعتقد بأنه ينبغي على بعض المثقفين العراقيين فهم أفكار المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية بشكل صحيح، سيما وان كانوا لم يتعمقوا في دراسة مبادئ الاقتصاد الكلي الحديث وسياساته المتعددة الجوانب وفي مقدمتها المالية والنقدية. بالتأكيد لا تعني المدرسة النيوليبرالية اضعاف الدولة او تهميشها كما يفترض الكاتب حيدر سعيد وإنما إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الانشطة الانتاجية والتي غالباً ما تتسم بانخفاض الكفاءة الاقتصادية وهدر الموارد، وهذا واضح في حالة العراق وفي وضع المؤسسات العامة المملوكة للدولة والتي تشكل عبأً كبيراً على الموازنة العامة".   
ثم يورد الزميل نموذج العراق في عهد البعث ليبرهن على فشل مشاريع الدولة إذ كتب الزميل د. شبر ما يلي: " من الواضح ان كاتب المقال يخلط بين حجم الجهاز الاداري للدولة العراقية والذي هو متضخم ومترهل بجميع المقاييس وبين الوظيفة الاقتصادية للدولة والتي يجب ان تقتصر من منظور المدرسة النيولبيرالية على بناء وتطوير الاطر (المؤسسات) الملائمة والمساعدة على الانشطة الاقتصادية للقطاع الخاص بما في ذلك الطبقات الوسطى المنتجة وليس طبقة البيروقراطية الطفيلية التي تعيش على الريع النفطي من دون انتاج او خدمات ملموسة للمواطن العراقي. وتجدر الاشارة الى ان الطبقات الوسطى تلعب دوراً محورياً في اقتصادات الدول الرأسمالية والتي تتبنى فلسفة المدرسة النيوليبرالية. من ذلك يبدو لي ان استنتاج الكاتب بأن النيوليبرالية اضعفت
الطبقات الوسطى في العراق بعيد جداً عن الواقع. ما حدث فعلاً في الواقع هو عكس
ذلك، حيث ان الطبقات الوسطى في العراق وبمفهوم الكاتب المختزل على موظفين جهاز
الدولة ازداد عددها الى اكثر من 3 مليون موظف اي ما يعادل حوالي 40% من قوة
العمل في العراق، كما تحسن مدخولها بشكل واضح للعيان منذ التغيير في 2003."
كما ترون فأن الدكتور شبر لا يريد أن يدافع عن النيوليبرالية ولا يرى أنها تريد إلغاء دور الدولة الاقتصادي أو تهميشه, وإنما "إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الأنشطة الانتاجية". [انتهى تعليق الزميل د. بارق شبر, الخبير الاقتصادي الدولي].
كم كان حيراً بالصديق الدكتور بارق شبر أن يرى في ما طرحه الزميل الدكتور حيدر سعيد  اختلاف في وجهات النظر وليس "عدم فهم لنظرية اللبرالية الجديدة بشكل صحيح". إذ أنه في هذا يجافي الواقع ومستوى معارف ووعي الدكتور حيدر سعيد.
طبعاً ليس بودي أن أفقد التواضع وأقول للزميل د. شبر, يبدو لي أنت الذي لم تفهم طبيعة هذه المدرسة بكل أبعادها وخاصة الاجتماعية والسياسية والبيئة والعسكرية منها, إضافة إلى الاقتصادية, كما قال هو ذلك بحق جمهرة من الزملاء المثقفين العراقيين المطلعين جيداً على المدرسة اللبرالية واللبرالية الجديدة. بل أتمنى عليه أن يكون في المستقبل أكثر تواضعاً مع المثقفين الاقتصاديين العراقيين, فهم مثقفون حقاً ويدركون جيداً ما يكتبونه, وأن من المفيد للزميل نفسه إعادة النظر برأيه وموقفه من هذه النظرية الاقتصادية وأتمنى له الابتعاد عن محاولة الانسجام مع التيار الرأسمالي النيولبرالي المتوحش الذي ألحق ويلحق أفدح الأضرار بالاقتصاد العراقي وبالفئات الكادحة من المجتمع وخاصة تلك المنتجة للدخل القومي,
المدرسة اللبرالية الجديدة, التي هي بالأساس ذات المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية اللبرالية القديمة التي ساد تطبيقها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى حلول الأزمة العالمية الأولى التي فرضت على الرأسماليين والمنظرين الاقتصاديين تعديل بعض أهم جوانبها برؤية كينزية, (جون مينارد كينز John Maynard Keynes، اقتصادي إنجليزي 1883 -  1946), لدور الدولة وقضايا التشغيل ودور النقود والفائدة, والتي استمرت طوال الفترة الواقعة بين نهاية الكساد العظيم, والتي تجلت حينذاك في سياسة العهد الجديد New Deal لروزفلت, وبين تبني اللبرالية الجديدة في الستينيات من القرن الماضي, التي اقترنت بالتخلي عن النظرية الكينزية والعودة إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ذاتها مع بعض الرتوشات التي زادتها قسوة وظلماً وجوراً على الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل وزادتها شدة في ممارسة الاستغلال على المنتجين الكادحين من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والعسكرية, والتي تجلت بشكل خاص في سياسات رونالد ريگن وإليزابيث تاتچر, وقبل ذاك في سياسات الجنرال أوغستينو بينوشيت في شيلي بعد الانقلاب على حكومة سلفادور الليندي في العام 1973, وفي سياسات المكسيك وأزمتها المالية المدمرة, ومن ثم في سياسات جورج بوش الأب وجورج دبليو بوش الابن وبشكل أخص أضرارها الفادحة على شعوب البلدان النامية في ظل سياسات العولمة التي تفاعلت مع سياسات اللبرالية الجديدة في الولايات المتحدة والعديد من الدول الرأسمالية الأخرى. 
والآن من المفيد أن نتبين بوضوح ما هي اللبرالية وما هو الفرق بينها وبين اللبرالية الجديدة. ثم نتطرق إلى مخاطر اللبرالية الجديدة على اقتصاديات العراق بشكل ملموس, وما هو مفهوم سياسة السوق الاجتماعية التي هي من حيث المبدأ اشتقاق نمساوي-ألماني من نظرية اللبرالية الجديدة التي طرحها بشكل خاص فون هايك والتي مارسها بحدود معينة المستشار الألماني السابق لودفيگ ايرهارد في ألمانيا التي هي تختلف عن مدرسة "أولاد شيكاغو" ميلر وفوكسلي الأكثر تشدداً.
تؤكد النظرية اللبرالية الكلاسيكية على ثلاث مسائل جوهرية, كما وضعها أدم سميث  (1723 - 1790) باعتباره أول من صاغ مبادئ الليبرالية الاقتصادية, وهي:
1.   حرية التجارة.
2.   حرية كاملة لكل أفراد المجتمع في نشاطهم الاقتصادي.
3.   الالتزام بنظام السوق الحر.
ويفترض الالتزام بهذه المبادئ تحقيق الرخاء والرفاهية.
ماذا يعني ذلك؟ إن هذا يعني الكثير من النتائج في ضوء التجارب الفعلية لسياسات اللبرالية في العالم الرأسمالي المتقدم والتي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:
1.   سيادة الملكية الفردية على وسائل الإنتاج, وخاصة رأس المال.
2.   انقسام المجتمع إلى طبقة مالكة لوسائل الإنتاج وطبقة غير مالكة لوسائل الإنتاج بل مالكة لقوة عملها التي هي مجبرة على تبيعها في سوق العمل, رغم ما يبدو من حقها في بيعها أو عدم بيعها والموت جوعاً.
3.   تحقيق أقصى الأرباح الممكنة عند توزيع الدخل القومي بين العمل ورأس المال, بين الأجر وفائض القيمة أو الربح.
4.   حرية التجارة ورفض جميع أشكال القيود.
5.   ممارسة سياسة مالية ونقدية تتناغم مع الأهداف الاقتصادية للرأسمالية, إذ أن السياسات المالية والنقدية هي الأدوات التنفيذية للسياسة الاقتصادية.
6.   عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي, وما عليها إلا العمل في مجال الرقابة العامة والدفاع عن هذا النظام وحمايته وإصدار التشريعات التي تساهم في استمراره وتطبيق القوانين ضد من يتجاوز على هذا النظام ويطالب بتغييره.
7.   عدم الاهتمام بالمسائل الاجتماعية التي تمس قوة العمل وسبل تجديدها وإعادة إنتاجها.
8.   الالتزام بحرية حركة السوق وفعل قوانينه بالنسبة لرأس المال والعمل.
9.   عدم تدخل الدولة في تحديد الأسعار أو الأجور أو ساعات العمل.
وتقدم لنا الدراسات الغنية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين صورة حية وواقعية عن حياة المجتمعات الرأسمالية المتقدمة حينذاك, وبشكل خاص الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ... وغيرها, حيث تجلى في بشاعة وبؤس حياة ومعيشة وشروط عمل الطبقة العاملة والكادحين من جهة والاستغلال البشع الذي كانت تمارسه الطبقة الرأسمالية التي كانت تجد الدعم والحماية من جانب الدولة والتي أطلق فلاديمير إيليچ إليانوف لينين على الحياة الفعلية وانقسام المجتمع البريطاني إلى مجتمعين أو إلى عالمين مختلفين, إلى طبقتين, عالم وطبقة الأغنياء مالكي وسائل الإنتاج, وعالم الكادحين الفقراء المنتجين للخيرات المادية والمالكين لقوة عملهم الفكرية والجسدية. وعلينا أن نتذكر الأسباب التي دعت العمال في الولايات المتحدة إعلان الإضراب في الولايات المتحدة في العام 1886 والذي أقر في الأممية الاشتراكية الثانية في العام 1889 باعتباره يوماً عالمياً لتوحيد لنضال الطبقة العاملة في سائر أرجاء العالم, وكيف جوبه نضال عمال أمريكا من جانب الشرطة وكاسري الإضرابات حينذاك. ويمكن العودة لكتابات ماركس وإنجلز, على سبيل المثال لا الحصر, للتعرف الدقيق على حياة عمال المصانع في بريطانيا, ومنها مانشستر, لنأخذ صورة حقيقية عن تلك الفترة. 
لقد أدى تطبيق النظرية اللبرالية الكلاسيكية إلى تعميق الفقر وتوسيع قاعدته وتوسيع الفجوة الطبقية بين المنتجين والرأسماليين ولأنه أهمل كلية الجانب الاجتماعي ودور الدولة الاقتصادي الذي يفترض أن يسهم في تعديل الكثير من قوى السوق الحر, أو قوانين السوق الرأسمالية أو آلية حركة قوانين السوق الحر غير المقيدة, في حين يدعي آرثر لويس (1915-1991) أن العامل الاجتماعي لتعديل البرامج التي تهدف إلى تقليص الفقر وعدم المساواة يجب أن ينبع من السوق بدلاً من أن يأتي من خلال تدخل الدولة. وهذا هو الخط العام للبرالية الكلاسيكية.   
إن فشل نظرية اللبرالية الكلاسيكية في مواجهة أزماتها الدورية وأزمتها العامة التي حصلت في فترة الكساد العظيم (1929-1932) قد دفع بمنظري السوق الحر أن يجروا تعديلات مهمة على بعض آليات وأدوات عمل الرأسمالية والتي بلورها بشكل خاص كينز, ولكن لم تستمر هذه الفترة طويلاً حتى عاد منظرو الرأسمالية إلى اللبرالية الكلاسيكية محاولين تجديدها بإضافات على النظرية وممارستها. ولعبت المنظمات المالية والنقدية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الحرة دورها في هذا المجال من خلال سياساتها المالية والنقدية, سياسات الإقراض للدول النامية بفرض شروط اللبرالية الجديدة على هذه الدول ومنها برنامجها المشهور تحت عنوان "سياسة الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي", التي سنأتي على هذا البرنامج في حلقة لاحقة.
ولا بد من ملاحظة أن تطور وتطبيق هذه النظرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد اقترن بالهيمنة الاستعمارية القاسية جداً لبعض الدول الاستعمارية على مناطق واسعة من بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من أوروبا والتي عانت من الاستغلال البشع لشعوبها واستثمار مواردها الأولية على حساب فقر وفاقة وتجويع هذه الشعوب. وخلال هذه الفترة أيضاً انفجرت الكثير من الثورات الاجتماعية ضد الرأسمالية وبقايا العاقات الإقطاعية وانتصرت ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية في روسيا القيصرية, كما فجرت الدول الاستعمارية الكثير من الحروب العالمية والإقليمية وبشكل خاص الحربين العالميتين الأولى والثانية لأهداف استعمارية استغلالية.   
لا شك في أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية, وحاملها الطبقة البرجوازية, كانت الأداة التي أمكن بها التخلص من العلاقات الإنتاجية الإقطاعية ومن الطبقة الإقطاعية المالكة للأرض والفلاحين الأقنان, وهي خطوة كبيرة على طريق تقدم المجتمع البشري, رغم أن كلا العلاقتين الإنتاجيتين استغلاليتان.

4/2/2010                   كاظم حبيب
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية حول مفهوم اللبرالية الجديد’

1126
رسالة مفتوحة إلى
الصديق العزيز الكاتب والفنان التشكيلي الأستاذ كفاح محمود كريم المحترم
تحية طيبة
قرأت مقالك الموسوم "نحو فضائية كُردية ناطقة بالعربية". المقال جيد ويستحق كل اهتمام أولاً, والمباشرة في التنفيذ ثانياً.
حين نبحث في القضية الكُردية ونتحرى عن مدى فهم المواطن والمواطنة في الدول العربية لهذه القضية العادلة التي عمرها في العصر الحديث أكثر من ثمانين عاماً, كنا نتوصل إلى رأي مشترك مفاده أن السياسيين الديمقراطيين الكُرد والعرب العراقيين, وكذلك أجهزة الإعلام الكردية والعربية الديمقراطية,  قد قصروا كثيراً خلال الأعوام المنصرمة في البحث الهادئ والموضوعي والمتسم بالعقلانية في طرح واقع القضية الكردية ومعاناة الشعب الكُردي لا على مستوى العراق فحسب, بل وعلى  صعيد منطقة الشرق الأوسط بأسرها والعالم, وأن القوى العربية والتركية والفارسية الشوفينية كانت أكثر حيوية وهجومية وشراسة في الإساءة لنضال الشعب الكردي, كما لعب النظام الدكتاتوري والعنصري البعثي في العراق بأمواله ونهجه الفكري والسياسي الشوفيني ودعاياته المضللة إلى تشويه هذه القضية. ولا شك أن بعض العناصر والجماعات المتطرفة من الكُرد والقوميين المتشددين, الذين لا يختلفون في أسلوب تفكيرهم ونشاطهم عن كل الشوفينيين في العالم, قد لعبوا دورهم في تعقيد القدرة على فهم القضية لمن هم ليسوا على اتصال مباشر مع واقع هذه القضية.
لا شك في أن الإعلام الكُردي في السنوات التي أعقبت انسحاب الدكتاتورية من بعض مناطق إقليم كردستان العراق قد تميز بعضه بالحيوية والجرأة والوضوح. إلا أن هذا لا ينسحب على كافة وسائل وأساليب الإعلام الكُردي. ويمكن أن يفهم الإنسان المعاناة الشديدة التي تعرض لها الشعب الكُردي وانعكاسات ذلك على المواطن والمواطنة في كُردستان وبالتالي على الإعلام الكُردي. إلا أن الحركة الديمقراطية الكُردستانية استطاعت أن تفرض اتجاهاً عاماً جيداً ومؤثراً. وبرز هذا في أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري على  نحو خاص.
إن البرامج العربية السياسية التي كانت تعرض في الفضائيات الكُردية كانت عموماً جيدة ومحفزة للتفكير بخلاف المسرحيات, وخاصة "برنامج لنتحاور" الذي لم يقتصر على مؤيدي القضية الكردية بل شارك من لم يفهمها جيداً أو من كان ضدها أيضاً ليخوض حواراً مفيداً ينتهي أحياناً بمواقف إيجابية. كما كانت إلى جانب فضائية كُردستانTV , فضائية كُرد سات التي كانت تقدم لقاءات ومقابلات جيدة مع بعض الشخصيات العربية. ثم توقف البرنامجان عن بث برامج عربية. وهي خسارة كبيرة للمستمعين العرب والكُرد في آن, والقرار خاطئ بكل صراحة وشفافية وناشئ عن وجهة تفكير خاطئة وضيقة, خاصة حين غياب البديل على سعيد العراق والخارج. ولا شك في أن الحرية لا تزال غير واسعة الانتشار وكانت فيها برامج جيدة.
ليس كل الإعلام الكردي الراهن إيجابي وفعال ومؤثر, سواء أكان الحكومي أو الناطقين باسم الحكومة منه, أم الحزبي, إذ فيه الكثير من التسرع في الأحكام وضيق الأفق والشدة في التصريحات, وكأن قسوة الكلمات في التصريحات والإعلام تعالج المشكلات.
إن كُردستان بحاجة إلى أكثر من فضائية كردية ناطقة بالعربية من أجل أن تصل إلى المواطن العربي والمواطنة العربية في كل مكان وتنظيم برامج علمانية متقدمة وتثقيفية وتنويرية مؤثرة تساهم في التفتح الفكري والسياسي والاجتماعي والقومي.
إن القبول بموقع مؤقت في فضائية كردستان TV أمر مقبول ولكن إلى متى, في وقت أصبح إقامة فضائية هي من أبسط الأمور خاصة مع وجود كادر كُردي متميز في هذا المجال.
لهذا أحييك على المقترح الذي تقدمت به أملاً أن يجد القبول المناسب والسريع وأن يتسنى للمشروع الظهور في الواقع العملي وأن يساهم بفعالية في تطوير وتعزيز الإعلام الديمقراطي المستقل والمتميز في كردستان العراق.
مع خالص التقدير والتمنيات الطيبة
كاظم حبيب       
 


1127
كاظم حبيب
من يمارس الإرهاب في العراق ؟ ومن يسهل مهمته؟

لا أدعي الغيب ولا القدرة على التنبؤ ولا أضربُ أخماساً بأسداس, بل أنطلق من رؤية واقعية لما يجري في العراق والعالم العربي ودول الجوار غير العربية في محاولة مني لفهم تعقيدات الوضع الجاري في العراق والمشكلات التي تؤرق المجتمع ومواقف القوى السياسية العراقية المختلفة وتشل قدرتها على الحركة الضرورية لمواجهة الأحداث الكارثية, ومن ثم استخلاص بعض الاستنتاجات.
حين سقط نظام البعث تحت ضربات القوات الأجنبية وفُرض الاحتلال على العراق, كنت قد كتبت في شهر سقوط الطاغية ونظامه سلسلة مقالات تحت عنوان "نشاط قوى صدام حسين ما بعد سقوط النظام في العراق والخارج" أشرت فيها إلى ما قام به صدام حسين وحزبه من إجراءات لمواجهة أوضاعهم ودورهم ما بعد السقوط, إذ كان الطاغية متيقناً, وبعد أن بدأت الحرب, بأن نظامه لن يخرج منها سالماً. وقد برهنت الحياة, ومع الأسف الشديد, على صحة ما توقعته حينذاك. وقد استندت في حينها إلى معرفتي المتواضعة ببنية تفكير وشخصية صدام حسين والطغمة الفاعلة في حزب البعث الحاكم حينذاك. ورغم أن تلك المقالات قد ترجمت من جانب مراسل ألـ BBC في واشنطن ومن ألـ CIA, كما أُخبرت به من أخوة خبراء عراقيين كانوا يعملون ضمن فريق الخبراء في واشنطن والذين وزعت عليهم تلك المقالات قبل انتقالهم للعمل في بغداد وتحول أغلبهم إلى مجرد مترجمين لا غير, فأن الإدارة الأمريكية لم تدرس الحالة المحتملة ولم تتخذ أي إجراء حقيقي لمواجهة ما طرحته تلك الرؤية وما سيقوم به حزب البعث في الداخل, بل سارت في غيها وغرورها, ولعب الدكتاتور الصغير پول بريمر دوراً بارزاً في هذا الصدد, مما تسبب في ما صار إليه العراق خلال الأعوام السبعة المنصرمة.
القوى التي تساهم في تعقيد أوضاع العراق وتحرث الأرض التي يعمل عليها الإرهابيون القتلة, سواء أدرك البعض منهم بهذا الدور أم لم يدركه, فالحصيلة واحدة. فمن هي القوى الإرهابية ومن هي تلك القوى التي تسهل مهمة الإرهابيين شاءت ذلك أم أبت؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال المعقد وأملي أن يحظى بالعناية الكافية, إذ أن إغفال ما فيه يمكن أن يقود إلى كوارث إضافية لا نتمناها لشعبنا المبتلى.
1 . القوى التي تمارس الإرهاب مباشرة معروفة للجميع وهي خليط غير متجانس, ولكنها تشترك في هدف مركزي واحد هو استمرار زعزعة الوضع في العراق وإبقاء حالة القلق وعدم الاستقرار والعجز عن البناء وإنزال المزيد من الخسائر البشرية والمادية بالمجتمع العراقي. وهذه القوى تشترك في تحالف سياسي يحتضن فيه: تنظيم القاعدة, ومجموعة هيئة علماء المسلمين, التي لا زال يرأسها الدكتور حارث الضاري, ومجموعة البعث التي يرأسها عزة الدوري وتلك الأخرى التي يرأسها محمد يونس الأحمد, ثم مجموعة من القوميين العرب الأكثر يمينية وتطرفاً والتي تدار من بيروت ويمكن أن نجد بعضهم في المؤتمر القومي العربي. هذه المجموعات تجد الدعم والتأييد من جانب بعض الدول وبعض القوى والتنظيمات السياسية المتنوعة والمتباينة في اتجاهاتها في منطقة الشرق الأوسط وتستخدم أساليب وأدوات مختلفة في عمليات الدعم والتأييد. وهي قوى تتبادل المعلومات والخبرات ولها أعوان في مفاصل كثيرة في الدولة العراقية وتستفيد بشكل صارخ من حالة الفساد المالي السائد في البلاد, وهي لا تزال قادرة على إنزال ضربات قاسية بالمجتمع العراقي.
2 . القوى التي تسهم سياساتها ومواقفها وجملة من إجراءاتها ودعاياتها, شاءت ذلك أم أبت, في حرث الأرض وتوفير المناخ الصالح بصورة غير مباشرة لنشاط وتخريب قوى الإرهاب الدموية. إنها القوى الطائفية, الشيعية منها والسنية, التي تؤجج المشاعر الطائفية وتستبيح المحرمات في دعايتها وتناقض بنود الدستور الذي يرفض تلك المظاهر الطائفية والعنصرية والتمييز, والمتمثلة في مواقف بعض الأحزاب الإسلامية السياسية المتشنجة في إطار العملية السياسية والعاجزة عن استخدام تكتيكات سياسية صائبة لتفليش شعور الخشية من الانتقام لدى الجماعات البعثية السابقة, رغم أن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية تضم في صفوفها وفي ميلشياتها المسلحة الكثير من "البعثيين التوابين" الذين يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا أبشع الجرائم بحق قوى المعارضة العراقية في عهد النظام المقبور!
إن من يحمل عقلاً سليماً وحساً وطنياً صادقاً وضميراً حياً لا يرفض معاقبة ومحاسبة المسؤولين عن ضحايا النظام البعثي, ضحايا التهجير القسري والتعريب والأنفال وحلبچة, ضحايا العرب والكُرد الفيلية الذين هجروا عنوة إلى إيران, ضحايا القبور الجماعية الذين يصعب معرفة عددهم الهائل ضحايا القوى السياسية العراقية من شيوعيين وديمقراطيين واشتراكيين وإسلاميين أو بعثيين وقوميين أيضاً بل يطالب بذلك, إذ إن النظام البعثي الذي حكم تحت قيادة البكر وصدام حسين كان نظاماً فاشياً دموياً وعنصرياً وطائفياً قذراً ومعادياً لمصالح الشعب والوطن. ولكن المسألة ترتبط في جانب آخر, وأعني به أهمية وضرورة التمييز بين قوى البعث, وليس الأخذ بما دعا إليه السيد كاظم الحسيني الحائري منذ أربع سنوات حين طالب بقتل كل البعثيين تقريباً, في حين كان جيش المهدي مليئاً بـ"البعثيين التائبين" الذين ساهموا بالعمليات الإجرامية التي مارسها جيش المهدي في الوسط والجنوب وبغداد! إن أغلب قوى الإسلام السياسية, وبسبب استعدادها لممارسة العنف, عاجزة عن ممارسة أسلوب الفرز السياسي الضروري بين قوى حزب البعث بحيث لا يُحرق الأخضر بسعر اليابس من جهة, وبحيث لا يتسلل من له علاقات بقوى الإرهاب إلى مواقع معينة تتيح له فرصة استخدام تلك المواقع لضرب المجتمع أو دعم الإرهابيين من جهة أخرى, وهي عملية معقدة بجانبيها ولكنها ضرورية. ليس كل من هو في الأحزاب الإسلامية مؤمناً, كما ليس كل من كان في حزب البعث مجرماً. فهل يعني من يحاول الاستفادة من أسلوب اجتثاث البعث لجمع أصوات الناخبين للانتخابات القادمة؟
لقد غير مجلس النواب قانون "اجتثاث البعث" السيئ الصيت إلى قانون "المساءلة والعدالة". وهذا التغيير لم يكن شكلياً, بل لا يزال يتضمن مفهوماً معيناً وسياسات وإجراءات معينة تختلف عن تلك التي كانت تتحكم بموضوع الاجتثاث والهيئة التي كانت مسؤولة عنه وعلى رأسها الدكتور أحمد الچلبي, بما في ذلك تعيين قضاة يملكون المعرفة القانونية والخبرة العملية والحصافة بما يؤهلهم لتحمل مسؤولية الفرز الدقيق والتحقيق الأمين بمن يتهم بارتكاب جرائم في عهد الطاغية صدام حسين وحزب البعث الحاكم. ومن هنا يتطلب الأمر ممارسة الروية والحكمة وليس العاطفة التي يمكن أن تقود إلى عواقب وخيمة على المجتمع. فهل بعض حكامنا المسؤولين مباشرة يملك مثل هذه الحكمة والروية في إصدار التصريحات والخطب والأحكام؟
إن رفع الصوت عالياً والتهديد والتقطيب في محاولة يائسة لكسب عطف ضحايا الإرهاب البعثي لضمان أصوات الناخبين في الانتخابات العامة القادمة لا تعالج المشكلات القائمة, بل تزيدها تعقيداً ويدفع الشعب ثمن ذلك غالياً.     
3. العوامل التي تساعد قوى الإرهاب على ممارسة عدوانيتها ضد الشعب لا تقتصر على السياسات الطائفية التي تمارسها الأحزاب الإسلامية السياسية, شيعية كانت أم سنية,  حسب, بل تمتد لتشمل حالة الفقر والبؤس والفاقة والحرمان التي تسود نسبة عالية جداً من عائلات المجتمع والتي تقدر بأكثر من 30%, أي التي تعيش تحت خط الفقر, في أحسن الحالات, وأكثر من تلك النسبة بكثير في أسوأ الاحتمالات. وهذا يعني بشكل ملموس بأن سياسة الحكومة العراقية غير متوجهة صوب معالجة المشكلات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية لنسبة عالية من السكان مما يترك في المجال فسحة واسعة لنشاط الإرهابيين وقوى الظلام. إن المجتمع العراقي يعيش استقطاباً صارخاً بين الفقراء والأغنياء, بين الجياع والمتخمين, بين من تسرق لقمة عيشه, ومن يضع المسروق من المال العام في جيبه, بين من يحتمي بحي الخضراء ومن يعيش بين سواد الشعب   
أيها السادة: إن الإرهاب في العراق سيستمر ما دامت عوامل استمراره لا زالت قائمة وفاعلة في المجتمع العراقي وفي الساحة السياسية العراقية. وليس أدل على ذلك التفجيرات الإجرامية المتتالية ليومين متتالين في بغداد, بالرغم من كل الادعاء بالقضاء على تنظيم القاعدة وقوى البعث الصدَّامية, إنهما جزء أساسي من القضية ولكنهما ليس كل القضية!
4. لن يهدأ العراق ما دامت بعض دول الجوار العربية وغير العربية تعمل بكل ما تملك من طاقة على منع الاستقرار, وهي تستفيد من حالة التشتت والصراع الداخلي وأساليب الحكم غير السليمة والطائفية المستمرة وأعوانها أو امتداداتها في الداخل. ولكن يمكن أن يهدأ العراق حين نجد حلولاً عملية للمشكلات الداخلية, عندها يعجز, وإلى حد كبير, بعض هؤلاء الجيران الأعداء على الصيد في ماء غير عكر. إن توجه أصابع الاتهام إلى إيران وإلى سوريا وإلى بعض القوى السياسية في الخليج والسعودية ليست عبثية أو عفوية, فهي صحيحة وهادفة وعلينا العمل من أجل تفليش أهدافها.
إن على القوى السياسية العراقية أن تدرك بأن معالجة أوضاع العراق الراهنة تستوجب استعمال العقل والحكمة وتفويض الأمور للقضاء العراقي والقوانين في ما يخص موضوع شطب أسماء أو قوائم من حق المساهمة بالانتخابات, على أن يكون للقضاء حساسية سياسية مرهفة من أجل تجنيب الشعب المزيد من الضحايا والخراب وتعثر عملية البناء والتقدم, من أجل أن لا ندفع بالمزيد من الناس إلى التحول ضد العملية السياسية والوقوف إلى جانب القوى الشريرة الحاملة للسلاح ضمن مجموعات القاعدة والبعث الصدّامي ومن لف لفهما..
26/1/2010                   كاظم حبيب
     
           

1128
كاظم حبيب
حكام وقضاة إيران يزيحون أقنعتهم ويكشفون عن وجوههم الكالحة وضمائرهم الميتة!

نفذ حكم الإعدام شنقاً حتى الموت بوطنيين إيرانيين من أوساط المعارضة السياسية للنظام الاستبدادي في إيران, وهما محمد رضا علي زماني وآرش رحماني بور. بسبب مشاركتهما في المظاهرات السياسية العارمة التي اجتاحت إيران وهزت النظام وقادته وعرش المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي والتي أعلنت عن احتجاجها بسبب تزوير نتائج الانتخابات لصالح الدكتاتور الصغير محمود أحمدي نجاد. وتشير الأخبار الواردة من طهران إلى أن النظام الإيراني يهيئ الأجواء لإعدام تسعة أشخاص آخرين متهمين بالمشاركة بالمظاهرات.
إن من واجب كل إنسان شريف وملتزم بمبادئ حقوق الإنسان وحق الفرد في الحياة وفي ممارسة حقوقه بما فيها حقوق التجمع والتظاهر وإعلان المعارضة ...الخ, أن يرفع صوت الاحتجاج عالياً ويدين تنفيذ حكم الإعدام بالفقيدين, وأن يطالب بإيقاف المجزرة المحتملة بحق تسعة آخرين من قوى المعارضة السياسية. وحين أعلن عن احتجاجي وإدانتي لهذه الأحكام القاسية وارتكاب جريمة إعدامهم وأطالب بإيقاف المجزرة  اللاحقة  المحتملة, وأتمنى لذوي الشهيدين الصبر والسلوان وللفقيدين الذكر الطيب وللمعارضة الانتصار على أعداء الشعب.
إن النظام الإيراني قد فقد الثقة بنفسه واستمرار وجوده, فراح يتخبط بسياساته الداخلية, ومنها التجاوز الفظ على حقوق الإنسان والتدخل في شؤون القضاء الإيراني, فالحكم في إيران ليس غير ديمقراطي فقط, بل هو استبدادي شمولي شرس, لم يعد قادراً على تحمل حتى  تظاهرات سلمية تنظمها المعارضة الإيرانية. إن السلطات في إيران متركزة بيد شخص واحد هو المرشد الأعلى علي خامنئي ومعه منفذ سياساته على الصعيد الرسمي محمود أحمدي نجاد, وهما الممثلان الفعليان للشوفينية الفارسية والتعصب الديني والمذهبي وأعداء الحرية والديمقراطية.
إن أحكام الإعدام التي نفذها صدام حسين بحق الكثير والكثير جداً من قوى المعارضة العراقية, ولكنها لم تنجه من العاقبة التي انتهى إليها وشهدها العالم كله من على شاشة التلفزة. فهل سيكون مصير قادة إيران وبقية المسؤولين عن أحكام الإعدام هو نفس مصير طغمة صدام حسين المجرمة؟ سؤال مهم يفترض أن يجيب عليه كل من تعز عليه قضية الإنسان. بأن مصير هذه الطغمة سيكون نفس مصير صدام حسين,  أرى ذلك ما دام النظام يواصل سياسة الاستبداد والقمع الوحشي والقتل في الشوارع وأحكام الإعدام بحق المعارضين, إضافة إلى سياسات إيران الخارجية التي تتدخل في شؤون الكثير من بلدان المنطقة وتؤجج الصراعات والنزاعات فيها وتشارك في توجيه العملية السياسية من خلال أذناب لها في تلك البلدان وسعيها لامتلاك الأسلحة النووية التي تهدد شعوب وبلدان منطقة الشرق الأوسط بشكل مباشر.
كم هو جميل الحكمة الشعبية العراقية القائلة, فهل سيتعظ بها حكام إيران القساة:
يا حافر البير لا تغمج مساحيها         خاف (تره) الفلك يندار وأنت التگع بيها
28/1/2010                        كاظم حبيب

  
    


1129
كاظم حبيب


شر البلية ما يضحك, وما أكثر البلايا في عراقنا "الجديد"!!


تتطلع المرأة في عشرات الدول المتحضرة أن تحتل موقعها المناسب لا في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي فحسب, إذ أن هذا لأمر مفروغ منه, بل هي تسعى لاحتلال المناصب الرئاسية في الوزارات وأجهزة الدولة والمصارف والشركات الكبرى التي لا يزال الذكور يهيمنون على الكثير منها. ويوماً بعد يوم تفرض المرأة نفسها على هذا المراكز القيادية بحيث أصبحت تنافس الذكور حقاً لا بل بمعارفها وخبرتها وحكمتها ودرايتها الإدارية والمالية والثقافية والصحية والتعليمية..الخ فحسب, بل وبما تحققه من نجاحات مميزة في المجالات التي تأخذ على عاتقها قيادتها. وهو أمر ينعش العقل ويفرح القلب ويبهج النفس, بعد أن عانت المرأة في جميع بقاع الأرض من شراسة الفحولية المغتصبة لكل مجالات الحياة إلا المطبخ ورضاعة  الأطفال والبيت, والكثيرات منهن كن سجينات لدى الذكور الأوباش!
في هذه الفترة حيث تتفتح عقول المجتمع على المرأة ودورها في الحياة بمختلف جوانبها, نجد عراقنا الجديد يقيد المرأة بأشد القيود الممكنة التي تتجاوز حتى ما ألفناه في العراق في النصف الأول من القرن العشرين حين كان جميل صدقي الزهاوي وحسين وأمينة الرحال وغيرهم يناضلون في سبيل حقوق المرأة, أو حتى في سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين, في هذه الفترة بالذات تفتقت عبقرية مجلس محافظ واسط مثلاً على طلب حمايات للنائبات في مجلس المحافظة من أفراد عائلاتهن, والذي شُجب من غالبية الناس في العراق وتعجب العالم بانزعاج ًمن إبداعات بلاد الرافدين, بلاد الحضارات القديمة في الموقف من المرأة. وكان الناس أكثر عجباً وسخرية حين خرج جيش المهدي النسوي ولا يرى الإنسان منهن سوى عيونهن القادحات شرراً والسلاح الفتاك بأيديهن الذي لا يليق بالمرأة ولا بالرجل, وحيث ساد اللون الأخضر واللون الأسود! وقد اعتبر من عجائب الدنيا العراقية الجديدة!, بعد أن كانت حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع.
أما اليوم, ومع بدء الحملة الانتخابية, فقد تفتقت عبقرية زوج أحدى المرشحات للانتخابات النيابية القادمة بنشر صورته بدلاً عن صورتها ليروج الدعاية لانتخاب السيدة أم سجاد. وبدلاً من أن يعرفها بما قامت به من أعمال لخدمة الشعب العراقي, عرف بنفسه وبأخيه وعشيرته! ويبدو أن الرجل يفكر أن يأخذ مكانها إن فازت بالانتخابات ويجلس على مقعد في مجلس النواب باعتباره زوج المنتخبة, وباعتبار أن النساء عموماً "ناقصات عقل وحكمة", ويحق له تمثيلها في المجلس, واعتبر هذا الترشيح بمثابة "كيان النزاهة والبناء"!! هل سمعتم يا بنات وأبناء العراق بمثل هذه الصرخة الجديدة في عالم الدعاية الانتخابية, بهذه (الپلتيقة) أو (القوانه) الجديدة المعطوبة التي لم يسمع بها العباد ولا من قبلها في البلاد. يقول السيد المحترم زوج المرشحة للانتخابات "انتخبوا من هو منكم وفيكم السيدة أم سجاد". كيف تكون هذه السيدة منا وفينا وهي لا تنشر صورتها ولا تريد رؤيتنا ولا تريد أن نراها ولو محجبة, كما هو حال النساء في مجاهل أفغانستان! زوج السيدة أم سجاد رجل متين البينان, يزن ما يقرب من مئة كيلوغرام ولا يزال يمتلك شعراً على رأسه فهو ليس بأصلع ومقبول من حيث الشكل رغم جهامته, ويستطيع حماية زوجته, فهو سيكون ضمن الحماية ويتسلم راتب الحماية, كما يبدو, وهذا كاف لانتخاب زوجته. ولكن ما علاقة كل ذلك بالمرشحة ذاتها؟ العلم عند مفوضية الانتخابات التي توافق على مثل هذه الدعاية الانتخابية!
هل يمكن أن يصل العراق إلى هذا الدرك اللعين؟ هل يمكن أن يقبل الشعب بمثل هذه السخرية القاتلة؟ هل يمكن أن تقبل المرأة بهذه الهيمنة الذكورية, بهذه الإهانة المباشرة؟ وهل يمكن لمثل هذه المرأة أن تدافع عن حقوق المرأة في العراق؟ وهل يمكن مقارنتها مثلاً بالسيدات ميسون الدملوجي ونرمين عثمان وهناء أدورد أو الكثيرات الأخريات في رابطة المرأة العراقية ومجلة نون وغيرهن ممن وضعن أنفسهن تحت مجهر المجتمع ليقدر دورهن في الحياة العامة ومصالح الشعب؟ نعم يمكن أن يصل العراق إلى هذا الدرك بفضل البعض الكثير من حكامنا الجدد, بفضل أولئك الذين يصدرون القرارات التحريمية, تحريم نزع العباءة في المدارس, تحريم مصافحة المرأة للرجل, تحريم الخمور, حتى العرق محرم, هذا الذي قال فيه العراقيون, "ما طول بالنخل تمر ما جوز من شرب الخمر", قال ابن خلدون, صاحب المقدمة, ما معناه, إن العراقيين أذكياء أطلقوا على مشروبهم المفضل اسم "العرق", والعرق غير محرم بالقرآن, إذ أن المحرم هو الخمرة! كان هذا في القرن الرابع عشر الميلادي, فهل نحن العراقيين والعراقيات واعون لما يجري في العراق من تخريب للقيم الإنسانية والعامة. حتى وزير التربية أصبح يدعي إعادة بناء العقل العراقي وهو الذي يحتاج إلى من يعيد بناء عقله ويصحح مسار تفكيره! 
وهكذا يعيش الشعب في العراق تحت حكم المحرمات, وهو نوع شديد من أنواع الاستبداد, نوع خاص وظالم, بعد أن كان العراق يعيش تحت وطأة استبداد عنصري شرس ومن نوع آخر. إن التجربة الحياتية تبدأ بمثل هذه المحرمات, كما حصل في البصرة, وكما طالبت إحدى النائبات المحصنات والمحسنات, لينتهي إلى استبداد شمولي قاتل. وإيران نموذج صارخ وقاطع ودال على ما أقول. لقد قال رئيس الوزراء الحالي في إحدى لقاءاته مع العشائر بأن الحكم لن يخرج من بين يديه بعد اليوم, ولكن الكثيرين أدعو ذلك. وكان آخرهم صدام حسين, ولكنهم أصبحوا في خبر كان, فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك!  28/1/2009             كاظم حبيب
إليكم نص الإعلان, فهو حقيقة وليس مزحة!
 

1130
كاظم حبيب
لو تحترم الحكومة نفسها لتقدمت باستقالتها بعد فضيحة الأجهزة الفاشلة!

عجيب أمر هذا العراق وحكومته .. عجيب أمر هذا الشعب ومصائبه ... عجيب أمر هذا الوطن الذي يتحمل كل هذه المآسي ولا ينزل لعناته على حكامه "الميامين!" ولا يثور.. كل شيء عجيب في هذا العراق الجديد, كما كان أمر الشعب عجيباً مع بقية حكام العراق.
حكومة عراقية تستورد أجهزة للكشف عن المتفجرات بقيمة 85 مليون باون استرليني من شركة بريطانية, وفق ما جاء في تقرير نشر يوم أمس في الـ BBC ووزع على طريقة الفيديو, غير قادرة على اكتشاف المتفجرات وتسببت حتى الآن في موت ما لا يحصى من الضحايا, دون أن تنطق بكلمة واحدة حول هذه الجريمة النكراء لا نفياً ولا تأكيداً ولا اعتذاراً ولا تهمة توجه لطرف دون غيره, ودون أن تسارع لإيقاف العمل بها واستخدامها لكي تمارس أساليب أخرى في نقاط التفتيش عن المتفجرات. ويقال أنها شكلت لجنة للتحقيق. وقيل قديماً حين تريد أن تبتلع قضية ما فشكل لها لجنة! فهل مثل هذه الحكومي تستحي من نفسها, لا أقول من شعبها؟ سؤال, إنه مجر د سؤال من حق من اكتوى بنيران الإرهابيين في ظل الحكومات الثلاث المتعاقبة على حكم العراق أن يوجهه إلى رئيس الحكومة, إلى المالكي الذي يملك في يديه وحده زمام الأمور في بغداد والعراق.
أما الحكومة البريطانية, التي تحترم نفسها وشعبها والشعوب الأخرى, فقد قامت باعتقال الشخص المسؤول عن الشركة المعنية للتحقيق معه. كما نشر من المعلومات في بريطانيا مئات المرات أكثر مما نشر في الإعلام الحكومي العراقي.
لو كانت أي حكومة حتى في الـ "واق واق" تواجه مثل هذه الفضيحة لقدمت استقالتها حالاً  واعتذرت لشعبها ووضعت نفسها تحت تصرف القضاء العراقي لتجيب عن أسئلة مشروعة؟ منها مثلاً: من استورد هذه الأجهزة ؟ من وقع على عقود الشراء؟ من فحص الأجهزة الملعونة للتيقن عن مدى صلاحيتها؟ لمِ َ لم يكتشف أمرها قبل الآن؟ من له ضلع في هذه القضية؟ هل هناك من تسلم عمولة عن هذه الصفقة؟ ومن هو؟ ما هي العمليات الإجرامية التي حصلت بسبب فساد هذه الأجهزة؟ وما هو عدد الضحايا الذي تساقط بسبب ذلك؟ من المسؤول عن كل ذلك؟ أليست الحكومة هي المسؤولة مباشرة عن ذلك؟
ألا يحق لنا أيها السيد رئيس الوزراء أن نتساءل, أن نحتج, أن نتظاهر, أن نطالب باستقالة الحكومة؟ لو كان قد حصل هذا في عهد نوري السعيد, فماذا كان قد حصل حقاً؟ لخرجت المظاهرات وصدرت البيانات الاحتجاجية ولأعلنت حتى "المرجعيات" إدانتها ومطالبتها باستقالة الحكومة. وأني لعلى ثقة بأن نوري السعيد, وهو الغائب لكان قد استقال وغاب عن الأنظار مرة وإلى الأبد! ألا نتذكر وثبة كانون 1948 وانتفاضة تشرين 1952 وانتفاضة العدوان الثلاثي على مصر 1956, إلا نتذكر ثورة تموز 1958؟ إنها كلها حصيلة لأسباب أقل بكثير مما يحصل اليوم في العراق, ولكن لا أحد من بنات وأبناء الشعب يحتج على ما يجري في العراق, لا أحد يتظاهر, لا أحزاب تدعو للاحتجاج والتظاهر وإعلان رفضها لما يجري من فساد وإفساد وسكوت عن الكوارث؟ لقد كان حرياً بالأحزاب الوطنية أن تعلن تضامنها مع الضحايا, أن تدعو إلى تظاهرة شعبية واسعة تجميع كل القوى حولها تطالب الحكومة بالاستقالة, تطالب بالتحقيق الفوري بالفضيحة النكراء, تطالب بتسليم القضية إلى القضاء العراقي.
كم هو مرير هذا الشعور بالإحباط الذي يعيش الشعب تحت وطأته حيث تتوالى الانفجارات في مناطق مليئة بنقاط التفتيش ومليئة بتلك الأجهزة الفاشلة, كما يبدو, وتعجز عن اكتشاف المتفجرات لتصل إلى أهدافها راضية مرضية ومطمئنة لتقتل خلال يومين متتالين عشرات الناس الأبرياء وتسقط الكثير من الجرحى والمعوقين وتنزل الخراب بالكثير من العمارات ودور السكن, ولا يتحرك هذا الشعب ليعلن عن احتجاجه. هل روض هذا الشعب بهذه الصورة؟ هل روضت الأحزاب السياسية بهذا الشكل؟ هل دُجنّا جميعاً بهذه الصورة المقيتة؟
كان على المالكي أن يعيد النظر بحساباته, كان عليه أن يفكر جدياً بما يفترض أن يقوم به لمواجهة الحالة الجديدة, كان ولا يزال عليه أن يقدم استقالته, فهو رئيس حكومة استوردت هذه الأجهزة الفاسدة, كما تنقل وكالات الأنباء العراقية. حتى وزير داخليته البولاني لم يفكر بذلك, بل ما زال يتبختر على رأس قائمة انتخابية, فأي حكومة هذه مشغولة بالانتخابات بأمل البقاء بالحكم, في حين أنها مهملة للكثير مما هو ضروري لحماية هذا الشعب المستباح!!
  27/1/2010               كاظم حبيب
     


1131
كاظم حبيب
موازنات عراقية – كردستانية تستوجب التفكير!
وأخيراً نشرت موازنة 2010 العراقية في بغداد ولم تقر حتى الآن, كما صادقت حكومة الإقليم على ميزانيتها لنفس السنة. ولم يتم حتى الآن إقرار الموازنتين من مجلس النواب. ولهذا سيكون مفيداً مناقشة هاتين الميزانيتين في محاولة لمعرفة المضمون الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهما من خلال ما توفر من معلومات شحيحة.
يشبَّه علماء الاقتصاد والإحصاء في الغرب الإحصائيات التي تنشرها أجهزة الإحصاء في الكثير من دول العالم, وخاصة الدول النامية, بمايوه السباحة البكيني, فما يُظهر من جسم المرأة كثير, ولكن ما لم يكشف عنه هو الجوهري. وهكذا هي حالة الميزانيتين في بغداد وأربيل. ومع ذلك فهما يسمحان لنا أن نكشف عن طابعهما الفعلي.
كتب الصديق الدكتور صالح حسن ياسر مقالاً مهماً وجيداً عن موازنة 2010 تحت عنوان "أسئلة تبحث عن أجوبة واضحة - ملاحظات أولية حول مسودة موازنة عام 2010 - (2-2), وهي ليست ملاحظات أولية بل تفصيلية. ولهذا سأركز من جانبي على موازنة الإقليم. ولا شك في أن هناك نقاط التقاء بين الميزانيتين في الجوانب السلبية. 
يردد الاقتصاديون بصواب ان السياسات المالية والنقدية هي تجسيد واقعي لمضمون ومعبر عن السياسات الاقتصادية وال اجتماعية التي تمارسها الدولة أو الحكومة في هذا البلد أو ذاك. والموازنة السنوية هي التعبير الأكثر ملموسية على مدى سنة لمضمون السياسة الاقتصادية ونهجها الاقتصادي والاجتماعي, والتي يفترض أن تكون جزءاً من إستراتيجية اقتصادية اجتماعية تلتزم بها الدولة وتنفذها عبر عدد من السنوات, وتجد تعبيرها في الميزانية الاعتيادية وميزانية التنمية. وموازنة 2010 تعبر عن الميزانيتين في آن.
وفي مقدور الموازنة السنوية عبر مؤشراتها المهمة أن تكشف بدورها عن الطابع الطبقي أو الاجتماعي والنهج الاقتصادي لهذه الحكومة أو تلك, وهي:
1.   مصادر الموارد المالية المخصصة للميزانية والتي تجسد بدورها طبيعة بنية الاقتصاد الوطني لهذا البلد أو ذاك, أي مدى تنوعه وتقدمه أو مدى تشوهه وتخلفه.
2.   اتجاهات توزيع تلك الموارد السنوية على حقلين جوهريين حقل التراكم وحقل الاستهلاك, ومن ثم كيف يوزع التراكم على القطاعات الاقتصادية المختلفة, وكيف يوزع الاستهلاك بين الاستهلاك الفردي والاستهلاك الاجتماعي وسبل توزيع هذه الموارد في هذا الحقل أيضاً ولمصلحة من, ألمصلحة الفئات المنتجة والكادحة والفقيرة, أم لمصلحة الفئات الحاكمة والغنية المتخمة.
3.   ثم وجهة توزيع ما يراد به تحقيق التراكم الرأسمالي, أي توزيع الموارد المخصصة للتثمير الإنتاجي بين مختلف القطاعات الاقتصادية الإنتاجية من أجل تغيير بنية الاقتصاد وتحقيق إغناء وتطوير الاقتصاد الوطني والثروة الوطنية.
4.   وهل ستترك الدولة الاهتمام بالتصنيع وتحديث الزراعة وتتوجه صوب الاستيراد وتهتم باستيراد السلع الاستهلاكية, بما فيها السع الاستهلاكية البذخية التي تساهم في التفريط بموارد البلاد, في حين تهمل حقاً استيراد السلع التي تساهم في تنمية الإنتاج المحلي الذي يسهم في إغناء المجتمع والثروة الاجتماعية ويقلص البطالة ويحسن مستوى معيشة الفرد.
5.   كما في مقدور الميزانية الكشف عن النهج الاقتصادي للدولة أو الإقليم في ما يخص الموقف من قطاع الدولة وموارد الحكومة والقطاع الخاص والقطاع المختلط بما يحقق التوازن المنشود في دولة تمتلك موارد أولية مهمة وموارد مالية سنوية كبيرة, ثم أين يتجه التركيز ولمصلحة من.
وحين نبحث في ميزانية الإقليم, فنحن نبحث في اقتصاد ريعي استهلاكي متخلف ومشوه وموروث من الماضي لا يختلف عن طبيعة الاقتصاد العراقي في بقية أجزاء العراق, لم يجر حتى الآن أي تغيير حقيقي ولو تدريجي في بنية هذا الاقتصاد منذ انهيار حكم صدام حسين في كردستان العراق في نهاية العام 1991 أو حتى بعد سقوط النظام في العام 2003, في ما عدا إقامة بعض مشروعات البنية التحتية. فهو لا يزال اقتصاد يعتمد على إيرادات النفط الخام وتراجع استثنائي في دور القطاع الزراعي وغياب الصناعة المحلية والتصنيع واستمرار وجود جيش من العاطلين بشكل مكشوف أو مقنع. وهو بذلك اقتصاد ريعي استيرادي استهلاكي لا يغني الثروة الوطنية بل يقلصها ولا يحسَّن ظروف حياة الشغيلة, بل يزيد غنى فئات معينة في المجتمع وفق أساليب غير سليمة بالارتباط مع الفساد المالي الذي يسود العراق كله, ومنه الإقليم. وفي مثل ها الاقتصاد يفترض في حكومة الإقليم عند وضع ميزانية العام 2010 أن تتجلى فيها خطوات عملية حثيثة وتدريجية تساهم في تغيير بينة  الاقتصاد والمجتمع, تغيير الواقع المرفوض. فهل تساهم الموازنة التخمينية التي صادق عليها مجلس وزراء الإقليم للعام 2010 في ضمان بداية فعلية باتجاه التغيير المنشود أم إنها تواصل إتباع سياسات خاطئة مورست حتى الآن في العراق كله وفي الإقليم أيضاً. والحقيقة المرة تشير إلى إن الموازنتين في بغداد وأربيل تساهمان في إبقاء التخلف والتشوه في الاقتصاد العراقي وفي إقليم كُردستان. كما أن الموازنتين يعبران عن مصالح الفئات الاجتماعية المستفيدة حالياً من أوضاع الاقتصاد العراقي عموما وأوضاع اقتصاد الإقليم السيئة. إذ أن الفارق بينهما ليس جوهرياً بل شكلياً ولا يؤثر على السمات السلبية التي تجمع بين اقتصاد الجزء (الإقليم) واقتصاد الكل (العراق).         
تبلغ الميزانية المخمنة للإقليم لسنة 2010 ( 11.4) ترليون دينار. خصص منها (7.9) ترليون للنفقات الاستهلاكية الجارية, و(3.5) ترليون لقطاع الاستثمار.
وهنا يبرز التناسب غير العقلاني والمضر باقتصاد كُردستان, التناسب بين الاستهلاك والتراكم  69,3 : 30,7, في حين أن كردستان بحاجة إلى المزيد من التراكمات الرأسمالية, وكان المفروض أن تكون الصورة مقلوبة, أو بتناسب آخر يميل لصالح التراكم.
وحين إمعان النظر وفق ما هو منشور من أرقام في موقع حكومة الإقليم فإنها لا تكشف عن الجوهري من الأمور, كما في حكاية "المايوه البكيني", إذ يلاحظ توجيه (2.4) ترليون دينار عراقي من إجمالي المبلغ المخصص للاستثمار لتغطية المشاريع القديمة, وهي كلها لم تكن استثمارات في القطاع الصناعي أو الزراعي الأساسي, كما لم تجر الإشارة إلى طبيعة تلك المشاريع والتخصيصات الموجهة لها والمدى الذي قطعته. ولم يبق من إجمالي المبلغ الموجه للاستثمار سوى 1,1 ترليون دينار عراقي أو ما يعادل 31,4% والتي وزعت على النحو التالي:
** (350) مليار دينار  لصندوق هيئة الاستثمار ودعم بناء وحدات سكنية.
** 150 مليار دينار لبناء مدارس.
** 50 مليار للمصرف الزراعي.
** (30)  مليار دينار  للمصرف الصناعي.
من هنا يتبين أن الدولة لم تخصص أي مبلغ حقيقي للتنمية الصناعية والزراعية في قطاع الدولة أو القطاع التعاوني, بل وجهت المبلغين المحدودين إلى المصرفين الصناعي والزراعي لأغراض التمويل الخاص عبر القروض والمساعدات. الخلل ليس هنا, بل الخلل في إهمال قطاع الدولة وفي قلة الموارد المالية التي يفترض أن توجه لهذين القطاعين. وهذا يعني أن الاقتصاد الكردستاني سيبقى متخلفاً ومشوهاً في بنيته وتابعاً للاستيراد الخارجي ومكشوفاً بشكل كامل على جيرانه والعالم وفاقداً للقدرة على التشغيل في القطاعات الإنتاجية التي تحقق التراكم الرأسمالي الضروري والمشارك في إغناء الثروة الوطنية والمحفز للنمو الاقتصادي الأكثر استقراراً والأكثر ازدهاراً.
إن اقتصاد كُردستان بحاجة إلى تثمير إنتاجي أولاً وقبل كل شيء, وهو الذي ينمي الاقتصاد ويغير بنيته ويشغل العاطلين عن العمل ويرفع من مستوى الدخل الفردي والدخل العام ويساهم في تغيير بنية السكان وفي تنمية الوعي ويوفر أرضية صالحة لنمو المجتمع المدني والخروج من المجتمع العشائري الفلاحي المتخلف, رغم قلة الفلاحين في ريف كردستان.
كلنا يعرف أن النظم السابقة لم تهتم بالاقتصاد الكردستاني وأهملته, ولكنها أهملت أيضاً الكثير من مناطق العراق الأخرى. وقد كانت هذه السياسة محور نقد شديد من قوى المعارضة العراقية بمن فيهم قادة الحزبين الحاكمين, الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, وكذلك موضع نقد بقية قوى المعارضة السياسية حينذاك, ولكن السؤال العادل هو: لماذا لا يبدي أبناء وبنات كردستان, وهم في الحكم, اهتماماً أكبر وأفضل بتطوير اقتصاد كردستان؟ ولماذا يجري الإصرار على إهمال قطاعات الصناعة والزراعة والطاقة حيث يجبر الإقليم على استيراد الطماطة والفجل والعنب وكل ما كان ينتج بكميات كبيرة في إقليم كردستان العراق؟ هذه ليست (حزورة) فزوره. فقد وصلت القوى المعارضة إلى السلطة وكان عليها ممارسة السياسات التي لم تمارسها النظم السابقة وكانت تطالب بها والتي نكتشفها في أدبيات أحزاب المعارضة العراقية عموماً والكردستانية منها خصوصاً.
عند متابعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية لإقليم كردستان العراق لا نجد دليلاً واحداً على اختلاف في جوهر السياسات الاقتصادية التي كان ولا يزال لزوم تغييرها لتساهم في تغيير طبيعة الاقتصاد الكردستاني وتستثمر موارد النفط المالية وكمادة خام في التنمية الصناعية والزراعية وليس في صرف الأموال على المزيد من الاستيراد الاستهلاكي والبذخي الذي يفرط بالموارد المالية ولا يساهم في تنميتها.   
لم يكشف المبلغ المخصص (350) مليار دينار عراقي لصندوق هيئة الاستثمار ودعم بناء وحدات سكنية عن شيئين مهمين فيه, وهما: ما هي تلك المشاريع أولاً, وكيف كان عمل هذه الهيئة قبل ذاك ثانياً؟ إن المبالغ الموجهة لبناء المدارس ليست كثيرة ولكنها ضرورية, والسؤال الذي يفترض أن تجيب عليه السياسة الاقتصادية للحكومة هو من سيحصل على عقود بناء هذه المدارس وغيرها؟ وهل ستجري بطريقة المناقصة السرية أو ستوزع كما في الماضي وفق إرادة المسؤولين واختياراتهم؟ وما هو الموقف من المنافع والخدمات الاجتماعية الأخرى الضرورية للمجتمع مثل الصحة والاتصالات وتحديث بنية أجهزة الدولة ... الخ. 
 دعونا نتابع جانباً آخر في الموازنة التخمينية للإقليم.
خصصت حكومة الإقليم مبلغاً قدره 90 مليار دينار عراقي أو ما يعادل 76,9 مليون دولار أمريكي لمساعدة الأحزاب السياسية, يذهب منه أكثر من 60 مليون دولار أمريكي للحزبين الحاكمين والباقي 17 مليون $ أمريكي يوزع من حيث المبدأ على بقية الأحزاب والمنظمات. أي بنسبة 86,7 : 13,3. وهذا المبلغ الكلي يزيد عما هو مخصص لقطاعي الصناعة والزراعة في إقليم كردستان. فمجموع المبلغ المخصص للأحزاب والصناعة والزراعة هو 170 مليار دينار عراقي أو ما يعادل 145,3 مليون دولار أمريكي ونسب التوزيع هي 52,9 % للأحزاب السياسية, و47,1% للمصرفين الصناعي والزراعي. وهو أمر لا يمكن أن يفهم من اقتصادي عراقي يدرك المشكلات التي يعاني منها اقتصاد الإقليم, كما يفترض أن لا يقبل به أي سياسي يعي مسؤوليته في تغيير بنية الاقتصاد والمجتمع في الإقليم ويكافح البطالة والفقر.   
منه يمكن أن نشير إلى أن نسبة مهمة من الإنفاق الجاري لا تذهب إلى الخدمات الاجتماعية الضرورية بل إلى جهات ووزارات خدمية غير معنية بالتنمية أو بالخدمات الإنتاجية أو الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والتنويرية ...الخ.
من هنا يمكننا القول بأن الموازنة التخمينية للإقليم تتميز بما يلي:
1.   إنها ميزانية ذات طبيعة طبقية مشوهة وبعيدة كل البعد عن خدمة مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة والمنتجة, وهي بالتالي تخدم مصالح التجار المستوردين والمقاولين والشركات الأجنبية العاملة في الإقليم والفئة البيروقراطية, سواء أكانت حزبية أم إدارية.
2.   وهي ميزانية هادرة لموارد الإقليم وغير منمية للدخل القومي, كما أنها سياسة تفتقد إلى الرؤية الاقتصادية الإستراتيجية ولا تساهم في إزالة التشوه ولو تدريجاً وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.
3.   وهي تنطلق من ذهنية لبرالية جديدة قاصرة عن وعي الواقع القائم في كردستان وضروراته, ولكنها مشوهة وفاقدة لفهم طبيعة ومضمون هذا النهج اللبرالي الجديد في السياسات الاقتصادية, إذ أنها لا تجسد حتى مصالح الطبقة البرجوازية المتوسطة في المجتمع والبرجوازية الصغيرة, دع عنك أهمية نمو طبقة عاملة منتجة للدخل القومي. إن من يدافع عن اللبرالية الجديدة لا يعي عواقبها الوخيمة على الاقتصاد والمجتمع في البلد النامي, رغم اتهامه للاقتصاديين الآخرين بأنهم لا يعون مضمون اللبرالية الجديدة رغم كل الكوارث التي تسبب بها سياسات اللبرالية الجديدة على الصعيد العالمي, وكأنه الوحيد الذي يفهم ميكانزم (آليات عمل) هذا النموذج الاقتصادي الرأسمالي الاستغلالي المتطرف والمناهض  لمصالح شعوب الدول النامية, ومنها العراق, ومنه إقليم كردستان!   
4.   وأن هذه الميزانية مستنزفة لموارد النفط المالية وتبقي التشوه في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوعي الاجتماعي ولا تستخدم النفط الخام كمادة أولية لأغراض التصنيع المحلي وبالتعاون والتنسيق مع حكومة بغداد.
أتمنى على مجلس النواب في الإقليم أن يدرس هذه الميزانية التخمينية ويجري تغييرات جذرية عليها وفق مصالح تطور اقتصاد ومجتمع الإقليم, وخاصة تلك الفئات الاجتماعية التي كانت وراء انتصار قضية الشعب الكردي, تلك الفئات الكادحة التي كانت وقود الثورة الكردستانية على مدى ثمانين عاماً. وأتمنى على حكومة الإقليم أن تعيد النظر بهذه الموازنة لصالح شعب كردستان وتقدمه ولصالح العراق عموماً.
25/1/2010                     كاظم حبيب       
   

1132
كاظم حبيب
هل لبعض من هم في السلطة أو على رأسها أن يحظى بثقة الشعب وتأييده؟

بعد نشر مقالتي الموسومة " هل نحن أمام لعبة صدق أو لا تصدق؟ وأين دور الحكومة في نشر الحقيقة ؟ وصلتني عشرات الرسائل المؤيدة ومن أخوة في داخل الوطن وخارجه, كما نشرت تعليقات في مواقع إلكترونية نشرت هذه المقالة. وإحدى هذه الرسائل المهمة, التي اخترتها لأهمية ما جاء فيها, تقول ما يلي:
" تحية أخوية... قرأت موضوعك في الجيران وأريد أن أضعك في صورة الحقيقة فيما يتعلق الأمر بالأجهزة الفاشلة لكشف المتفجرات والتي عندما كنت أذهب لمكان ما خلال ... يمسكون هذه الأجهزة ويبدأ الشخص يدور حول السيارة وبيده جهاز صغير مثل لعبة الأطفال كما تقول. ذلك في شهر مايس – حزيران من عام 2009 وقد التقيت مسئولا في حزب الدعوة زارني في منطقة ... وتوطدت علاقتي به حيث يسكن في نفس منطقة ... الحكومية – الرئاسية سابقاً. وذات ليلة وفي معرض حديثنا عن الفساد المستشري في الدولة، كشف لي أنهم وجدوا بأن هذه الأجهزة التي تستعمل في كشف المتفجرات فاشلة وأنها مستوردة بقيمة 65 ألف دولار للجهاز الواحد فيما سعر بيع الجهاز بالمفرد في بيروت بخمسة آلاف دولار وسعره في تايلاند ألف دولار للجهاز الواحد بالمفرد وبالجملة 500 دولار. ومن هذه الأجهزة استوردوا الآلاف ففي كل نقطة تفتيش في العراق هناك جهاز من هذه الأجهزة التي لا تكشف شيئا .. وهكذا الوطن المستباح أمام أعيننا والخافي أعظم .. محبتي .." (انتهى نص الرسالة, ك. حبيب).
أين تكمن أهمية هذه الرسالة؟ إنها تشير بوضوح إلى أن الشخص المقصود هنا هو أحد أعضاء حزب الدعوة, وهو عضو في حزب حاكم, ويعيش في المنطقة الخضراء, أي من المسئولين, ويعرف بأن هذه الأجهزة غير صالحة, وهذا يعني أن حزب الدعوة المشارك في الحكم يفترض أن يكون قد عرف ذلك أيضاً, ويفترض أن يكون رئيس الحكومة قد وصله هذا الخبر, فلِمَ إذن هذا التهاون في التحري عن الحقيقة وإيقاف استيراد هذه الأجهزة ومنع استخدامها بسبب عجزها عن الكشف عن المتفجرات, ولِمَ لم تبذل الجهود للكشف عنالحقيقة في حينها؟ لا أمتلك إجابة قاطعة عن هذه الأسئلة, ولكن الإجابة اليقينية عند الحكومة ورئيسها السيد نوري المالكي وحزب الدعوة الحاكم حالياً وعند الناطق الرسمي باسم الحكومة الدكتور علي الدباغ, فهل سيمنحنا الإجابة أم يجعلنا نتحرك بين مدينتي "نعم ولا" على حد تعبير الشاعر الروسي افتوشنكو.      
في الوقت الذي يخرج إلينا الدكتور على الدباغ في كل مناسبة وغير مناسبة بتصريحاته المشوشة, سكت هذه المرة سكوت أبي الهول, فلم هذا السكوت؟ الجواب عنده أيضاً!
يشعر الإنسان بالغثيان مما يجري في العراق الراهن ومن سياسات الحكومة ومن الخطب النارية بسبب الحملة الانتخابية والتي غالباً ما تحمل وعوداً فارغة من لدن الحاكمين.
يبدو لي أن الإرهابيين ما زالوا يستفيدون من فشل تلك الأجهزة في الكشف عن المتفجرات والانتحاريين مما يتسبب بالمزيد من الموتى والجرحى والمعوقين والخراب. ويتمنى الإنسان أن لا يكون تفجير اليوم الإجرامي قد نجم عن فشل تلك الأجهزة في الكشف عن المتفجرات التي استخدمت في العملية أيضاً.
أليس من حقي وحق غيري أن نتساءل: هل يمكن لبنات وأنباء الشعب العراقي, الذين يتلظون يومياً ويحترقون بنيران قوى الإرهاب ويحصدون الموت أو الإعاقة بسبب سيادة الفساد في الدولة وفي الأوساط الحكومية وأجهزة الدولة ووجود الكثير والكثير جداً من المتسللين إلى مواقع المسئولية حيث سمحوا بما حصل اليوم في العراق مثلاً, أن يثقوا بقوى الإسلام السياسية الحاكمة, وهي تشكل الأكثرية في الحكم, وتحالفاتها التي لا تصب, كما برهنت السنوات السبع المنصرمة, في مصلحة الشعب, بل في مصلحة أفرادها.      
كم أتمنى أن يكون الشعب العراقي قد استفاد من خبرة السنوات السبع المنصرمة وأدرك بأهمية الذهاب إلى صناديق الاقتراع ومنح أصواته لمن يجسدون مصالح الشعب والوطن, لمن يبتعدون عن الشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية المقيتة, لمن يتبنون مبدأ المواطنة المتساوية للجميع وكذلك للنساء والرجال على حد سواء, لمن يكافحون الفساد والإرهاب في آن واحد.
كم أتمنى أن تكون السنوات المنصرمة كافية لرفع مستوى الوعي التنويري لدى الجماهير الكادحة لكي تعرف وتميز بين من وقف ويقف إلى جانبها في السراء والضراء, ومن يقف إلى جانب مصالحه الخاصة ويغرف بالمال الحرام ليملأ به جيبه ولو على حساب موت وبؤس الناس, كما في حالة شراء الأجهزة غير الكاشفة عن المتفجرات والمضللة لقوى الأمن والجيش والشرطة, وضحيتها لم يكن سوى أبناء وبنات هذا الشعب المستباح!    
25/1/2010                        كاظم حبيب



1133
كاظم حبيب
هل نحن أمام لعبة صدق أو لا تصدق؟ وأين دور الحكومة في نشر الحقيقة ؟

لا يمر يوماً على العراق "الجديد !" إلا ورائحة الفضائح تزكم الأنوف وتصل إلى عنان السماء معلنة عن إن العراق هو ثاني دولة في العالم في مجال الفساد المالي والإداري بعد الصومال.
ولا يمر يوماً إلا وفي العراق ضحايا أبرياء يتساقطون من جراء العمليات الإرهابية التي تمارسها قوى الظلام والعدوان ضد شعب العراق.
ولا يمر يوماً دون أن نستمع إلى خطب تشدد من واقع الصراع السياسي في العراق وتثير الأحقاد والضغائن بدلاً من إيجاد حلول عملية للمشكلات القائمة التي يعاني منها الفرد العراقي أشد المعاناة, وفي وقت يتضور أكثر من 30 % من السكان من الجوع والحرمان, وقلة قليلة من النخب الحاكمة والسياسية والطفيلية هي التي تعيش التخمة بكل معانيها وبكل ما تحمل كلمة الجشع من معان اجتماعية حقيقية.
اليوم نشر الخبر التالي في موقع "المختصر" الإلكتروني:
"قالت صحيفة نيويورك تايمز في مقال لها اليوم الأربعاء أن أجهزة كشف المتفجرات الذي صرف عليها العراق أكثر من 200 مليون دولار لا تساوي حتى أن تكون لعب للأطفال وهي أكذوبة ومهزلة بحيث يكلف الجهاز الواحد ما بين 15000 إلى 60000 دولار.تقول الصحيفة أن القوات الأمريكية في العراق قالت للعراقيين مرارا وتكرارا أن هذه الأجهزة لا تصلح لكشف المتفجرات وأن الشركة البريطانية التي باعت هذه الأجهزة للعراقيين غير قادرة على إنتاج أي أجهزة تكشف المتفجرات وإنما لكشف العطور وبعض المواد الكيمياوية او قد تكشف حشوة الأسنان من الذهب والبلاتين. وإضافة أن المسؤول في وزارة الداخلية الذي تبنى استيراد الأجهزة من شركة ATC البريطانية قال للصحيفة أن الأمريكان لا يفقهون في هذه الأمور وأنه يفهم أحسن بكثير منهم وأنه الخبير الوحيد في العالم في ما يختص بالكشف عن المتفجرات". أما صحيفة الإندبندنت فقد ذكرت ب" أن الأجهزة المغشوشة تسببت في إخفاق الجهود للكشف عن متفجرات في العراق", وتسبب ذلك "بسقوط مئات الضحايا الأبرياء".
هل يمكن أن نصدق هذا الخبر أم نكذبه؟ هل يمكن لوزارة الداخلية العراقية أن لا تفحص تلك الأجهزة وتتيقن من صلاحيتها في الكشف عن المتفجرات؟ هل يمكن قبول واقع سقوط مئات وربما ألاف الضحايا من نساء ورجال وأطفال أبرياء رغم وجود حراسات وأجهزة الكشف عن المتفجرات والأسلحة, دون أن تفكر الحكومة بالأسباب الكامنة وراء ذلك؟
لا يمكن لصحيفة أمريكية وأخرى بريطانية محترمتين أن تنشرا هذا الخبر ونشر اسم الشركة البريطانية دون أن تكون لديهما معلومات موثقة عن هذه الجريمة البشعة, ألا يحق لنا أن نتساءل : هل يمكن أن يحصل ذلك دون أن يكون هناك تواطؤاً بين الشركة والمستورد العراقي, أياً كان المسؤول عن استيراد هذه الصفقات التي بلغت قيمتها, كما تشير الأخبار, إلى أكثر من 200 مليون دولار أمريكي. 
إن على الحكومة العراقية أن تكشف عن الحقيقة بكل أبعادها وكل المتورطين بها والعواقب التي ترتبت عليها وتقديم المسؤولين عنها إلى القضاء العراقي وإقامة دعوى دولية على الشركة البريطانية إن صح الخبر المشار إليه في أعلاه.
23/1/2010                     كاظم حبيب

1134
كاظم حبيب
تعليق
على تعليقات حول مقال هل قرار شطب اسم وقائمة الدكتور صالح المطلگ عادلاً؟

وردت تعليقات كثيرة, مهمة ومتناقضة حول المقال الذي كتبته تحت عنوان " هل قرار شطب اسم وقائمة الدكتور صالح المطلگ عادلاً؟. وهو أمر طبيعي وأجده نافعاً لخوض حوار حول جملة من المسائل المهمة التي تمس مستقبل عراقنا.
بغض النظر عن المواقف المتباينة في ما جاء في التعليقات على مقالي الخاص بقرار شطب اسم الدكتور صالح المطلگ وقائمته من حقهم في الترشيح للانتخابات القادمة, فأني أشكر جميع المعلقين, وارجو لي ولهم حواراً هادئاً وموضوعياً.
سأحاول مناقشة بعض الأفكار لضرورة البحث فيها وباختصار:
أولاً: أرجو أن تميزوا بين رأيي ورأي الحزب الشيوعي العراقي, إذ لا يجوز قبول هذا الخلط, وبالتالي استغلال رأيي الشخصي في محاولة لاعتبار ذلك هو رأي الشيوعيين وهم لا دخل لهم ولا للحزب الشيوعي في ما اكتبه وما أنشره من مقالات أولاً, ومحاولة يائسة للإساءة للحزب الشيوعي العراقي, هذا الحزب الوطني العتيد والمناضل منذ أكثر من 75 عاماً, وهو أقدم الأحزاب السياسية العراقية القائمة حالياً وليس هناك من حزب استطاع الصمود في أوضاع العراق كهذا الحزب الوطني, والذي قدم من الشهداء ما يعجز عن ذكر العدد واجتراح مناضليه البطولات الحقيقية التي جلَّها العدو قبل الصديق. وأؤكد مرة أخرى بأن الحزب الشيوعي لا يتحمل مسؤولية أفكاري ومواقفي السياسية, فأنا رجل مستقل رغم تأييدي العام للحزب الشيوعي العراقي عموماً وفي الانتخابات القادمة أيضاً.  
ثانياً: على من يريد أن يناضل ضد أي فكر سياسي غير ديمقراطي يفترض فيه أن يميز بين مسألتين: بين المكافحة الفكرية السلمية لهذا الفكر وبأساليب عقلانية, وبين المكافحة العنفية غير المجدية لهذا الفكر أو ذاك. إذ لا يمكن القضاء على أي فكر سياسي بالعنف أو أو بإجراءات ردعية, بل هو يتعزز ويحصل على أتباع جدد ويشدد من التزمت لدى مؤيدي هذا الفكر. هكذا تقول التجارب العالمية وتجارب العراق أيضاً. الفكر الفاشي يكافح بفكر ديمقراطي حر وبعقلانية وليس بفكر طائفي أو شوفيني مماثل. وتجربة ألمانيا الراهنة تؤكد بأن التشدد وفرض المنع على القومية اليمينية ذات الوجهة والنزعة النازية الجديدة لم تساعد على انتشار وزيادة أعضاء هذه الجماعات المتطرفة يمينياً, بل أن المواقف العقلانية في مكافحتها فكرياً وعدم منع وجودها ساعد على تقلص عدد العاملين فيها ومؤيديها حقاً. ورفضت المحكمة الدستورية الألمانية حتى الآن المطالبة بمنع وجود تلك الأحزاب في الساحة السياسية الألمانية, وبعضها ممثل بشكل ضعيف جداً في بعض البرلمانات المحلية.  
ثالثاً: المجتمع العراقي أقر بأغلبيته عدة مسائل  جوهرية, منها بشكل خاص:
-   محاسبة ومعاقبة من تلطخت أيديهم بدماء العراقيات والعراقيين من قوى النظام البعثي الدكتاتوري ووفق القانون والقضاء العراقي.
-   التمييز بين قوى النظام السابق, أي بين قوى البعث, بين أولئك الذين كانوا رموزا دموية للنظام وبين من أجبر على الانضمام للبعث أو من كان انتهازياً وأراد الاستفادة, وهو فارق كبير بين الجماعة الأولى والجماعتين التاليتين. حيث تعاقب الأولى وفق القانون وعبر القضاء, ويعفى عن الآخرين ويراد كسبهم للعملية السياسية الديمقراطية التي لا تزال غير متوفرة في العراق بصورتها الصحيحة, وهو أحد أركان المصالحة الوطنية والفرز الضروري في قوى البعث.
-   رفض القوى التي تحمل السلاح وتدعي ممارسة "مقاومة شريفة", فهي قوى تصب في مجرى العداء وتلتقي مع قوى الإرهاب ما دامت تحمل السلاح ولا تقاوم أو تعارض الوضع القائم بأساليب سياسية, فالمعارضة السياسية للوضع القائم ممكنة ومفيدة, ولكن ليس بحمل السلاح وقتل الناس.
-   كلنا يدرك بأن ما فعله البعث في العراق لن يسمح له الشعب بالعودة إلى الحكم, ولن يتمكن من ممارسة جرائم أنفال أخرى, أو تهجير العرب الشيعة من الوسط والجنوب أو تهجير الكُرد الفيلية بذريعة التبعية الإيرانية. وهذه المسألة كفلت بواقع جديد ومضمونة دولياً, ولهذا لا يجوز المبالغة بتهديد البعث, رغم أن الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية مليئة بالبعثيين القدامى الذين كما قيل أنهم من التوابين. وخطرتم أنهم يشكلون جزءاً من المليشيات الطائفية المسلحة التي يمكن أن تعود ثانية لقتل الناس على الهوية التي عاش الشعب عذاباتها طويلاً.
-   الحياة السياسية والاجتماعية الحرة والديمقراطية وسيادة مبادئ حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة هي التي تضمن تطور العراق صوب الأفضل والأكثر استقراراً وأمناً وليس المليشيات الطائفية المسلحة أو السياسات الطائفية السياسية المقيتة التي تعزز الاصطفاف المذهبي والتمييز بين أوساط الشعب العراقي, كما يجري اليوم وقبل الانتخابات العامة القادمة بشكل صارخ. وشطب اسم الدكتور صالح المطلگ وقائمته سوى واحداً من أساليب هذه العملية غير السليمة التي تشدد وتعمق الاصطفاف الطائفي في العراق.
-   ليس حباً بشخص الدكتور المطلگ, فهو واحد من جمهرة لا استسيغ أفكارهم وسياساتهم ولا أجدها نافعة للشعب العراقي لأن فيها الكثير مما لا أتفق معهً, ولكن هل يحق لي ما دام يمارس السياسة منذ سبع سنوات وتحت قبة البرلمان أن أنفيه من العملية السياسية لأحوله وأتباعه إلى معارضين بالسلاح وتعزيز القوى المسلحة بحليف جديد.
يفترض أن لا تعرف السياسة روح الانتقام, بل المحاجة بالفكر والمواقف السياسية.
أتمنى أن يدرك الأخوات والأخوة الكرام بأني شخصياً قد تعذبت على أيدي البعثيين وعائلتي سقط لها أكثر من شهيد على أيدي النظام البعثي, فهل يحق لي أن انتقم من هؤلاء شخصياً أو أن القانون, أي القضاء, هو الذي يعاقب طغمة النظام السابق, وأن علي أن أحمي القانون وأن أميز بين البعثيين لكي أساهم في تغيير أساليب العمل السياسي في العراق الذي نريده ديمقراطياً حراً واتحادياً مستقلاً وعقلانياً وغير انتقامي وغير طائفي أو شوفيني.      
  
10/1/2010                     كاظم حبيب

1135
كاظم حبيب
ليست القضية دفاعاً عن صالح المطلگ, بل عن سبل ممارسة القوانين!
لقد كتبت مقالتين بشأن قرار منع ترشيح الدكتور المطلگ وقائمته للانتخابات القادمة, ولم يكن جوهر المقالين دفاعاً عن هذا الرجل بل التزاماً بالأسس القانونية للانتخابات ووفق الدستور العراقي, إذ أن أي خرق لهما يقودان غلى عواقب سلبية لاحقاً. وكان اعتراضي واضحاً وملموساً هو أن القرار جاء في وقت غير مناسب وكان المفروض أن يتخذ قبل هذا التاريخ بكثير إذ أن المطلگ كان قد دخل العملية السياسية منذ سبع سنوات وهو لا يزال عضواً في البرلمان العراقي. وكانت له خطب وتصريحات سيئة جداً كان المفروض أن يحاسب عليها في حينها وتتخذ الإجراءات الضرورية الصارمة بحقه. كما أن القرار جاء في وقت وجود وزير خارجية إيران الذي يمكن ان يفسر القرار بصورة أخرى. وعدا عن ذلك فأن هناك الكثيرين ممن ولج في الأحزاب الإسلامية السياسية الذي لا يختلف عن هذا الرجل سوى بعدم الظهور أو من ارتكب جرائم بشعة بحق الشعب وعلى الهوية, إذ أشرت غلى ذلك في المقالتين بهذا الصدد.
إن قرار لجنة المساءلة والعدالة يفترض أن لا يعلن بل يرسل إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره ومن ثم إعلانه, وهذا الأمر هو الآخر لم يتم بل أعلن عنه من قبل اللجنة مباشرة.
لقد كانت لدي معلومات كثيرة عن الدكتور المطلگ وعن تاريخه السياسي في العراق ممن يعرفونه حق المعرفة حين كان في كلية الزراعة وحين منح زمالة لدراسة الماجستير في بريطانياو ولنه عاد بالدكتوراه دفعة واحدة. والآن وصلني مقال منشور في صوت العراق  بتاريخ 8/1/2010 تحت عنوان "من هو صالح المطلق ـ إلى د. نزار مع التحية " بقلم حميد النعيمي, فيه الكثير من المعلومات عن الدكتور صالح المطلگ التي يمكن أن أضعها تحت تصرف الأخوات والأخوة ليعرفوا من هو صالح المطلگ, وليدركوا بأن دفاعي لم يكن عنه, بل عن السبل القانونية من جهة والتوقيت في اتخاذ مثل هذه القرارات وعدم إخضاعها للأمزجة وتأخر سبع سنوات لأخذ هذا القرار, في حين كان بالإمكان تقديم طلب لمجلس النواب بدراسة عضويته في المجلس حالياً قبل اتخاذ مثل هذا القرار. كاظم حبيب
"من هو صالح المطلق ـ إلى د. نزار مع التحية "
بقلم حميد النعيمي
إنا من المتابعين لكتاباتك المدافعة دائما ً عن أشخاص دون غيرهم . ولكن لي طلب أن تعرف من هو صالح المطلق .
صالح المطلق كان بداية السبعينات رئيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق ـ كلية الزراعة ـ أبو غريب . وكان من ضمن الكوادر الصِدامية لحزب البعث ، حيث كان و مجموعته يلاحقون و يضربون حتى الموت جميع من يشكون في تعاطفه مع الحزب الشيوعي . كان صالح المطلق و محمد عبد الرحمن محل و إياد السامرائي مسلحين بكل شئ من اجل قتل كل الشيوعيين في كلية الزراعة، لأن كلية الزراعة ـ ابو غريب في ذلك كانت مغلقة للشيوعيين . كان سلاح الشيوعيين الثقافة و سلاح صالح المطلق و جماعته المسدس . صالح المطلق يلعن الطائفية حسب ما يقول و لكنه يغط بها حيث كان يقول كل أبناء الجنوب شيوعيين يجب التخلص منهم . بعد أن تخرج من كلية ألزراعه أرسله حزب البعث بعثة دراسية إلى بريطانيا لتكملة الدراسة مكافئة لما قام به في كلية الزراعة وكذلك الاتصال بالبعثيين هناك . في بريطانيا أصبح رئيس الاتحاد الوطني هناك وله اتصال بالمخابرات العراقية عن طريق السفارة العراقية . أرسل محمد عبد الرحمن محل إلى بلغاريا و إياد السامرائي إلى أميركا . بعد ثلاث سنوات رجع صالح المطلق و يحمل شهادة الدكتوراه من أحدى الجامعات ( التعبانة ) ـ تصور د. نزار أنت رجل علم طالب عراقي يذهب الى بريطانيا ويكمل الماجستير و الدكتوراه في ثلاث سنوات من ضمنها كورس اللغة ـ اترك التعليق لك ـ .
عندما رجع من بريطانيا لا يملك صالح المطلق غير سيارة الكفاءات ـ حسب القانون ـ وسكنَ في القسم الداخلي لكلية الزراعة مع شخص أخر من الموصل اسمه نوفل الطالب و كان نوفل أمين سر منظمة البعث للقطاع الزراعي ( كلية الزراعة وكلية الطب البيطري و المعهد الزراعي ). عندما رجع صالح كانت درجته الحزبية عضو قيادة فرقة ـ هذا في السبعينات . بعد أشهر قليلة أصبح صالح المطلق عضو قيادة شعبة . وبعد سنة تفرغ صالح مع شخص أخر يدعى محسن الشيخ راضي ( عضو قيادة قومية لحزب البعث سابقاً ) للعمل في مزارع زوجة صدام ـ ساجدة ـ بعد أن أصبحا الاثنان جزء من المنظومة المخابراتية . تحول صالح المطلق من شخص يسكن القسم الداخلي في كلية الزراعة إلى تاجر يسكن في المنصور و يركب سيارة مرسيدس أخر موديل . استثمارات ساجدة كانت أكثر من 10 ملايين دينار و كانت كل الاستثمارات بأسم صالح و محسن . بعدها طرد محسن و بقي صالح المطلق المسئول عن جميع الاستثمارات . لقد حصل صالح المطلق من البنك سلفه قدرها 4 ملايين دينار عراقي اي ما يعادل 12 مليون دولار ( الرقم في الثمانينات ) لاستثماره في حقول الصويرة و الراشدية ، بعد أن استولى صالح على جميع البيوت الزجاجية في الراشدية لغرض الاستثمار ـ البيوت الزجاجية في الراشدية كلفت الدولة العراقية ملايين الدولارات و ذهبت بدون ثمن الى ساجدة ( صالح ).
توسعت استثمارات ساجدة لتشمل العقارات بدأت بشراء القطع و الأراضي لجميع العراقيين الذين غادروا العراق . وكان صالح هو المسؤول عن الاستثمارات الجديدة . لذا اتصل بمكتب الغزالية لصاحبه ابو حازم و الموجود في الغزالية قرب أسواق الزاوية سابقا ً و بدأ صالح يبحث و بطرق مخابراتية على جميع حملة الشهادات الذين غادروا العراق للبحث عن لقمة العيش من اجل ابتزاز عوائلهم و شراء أراضيهم او دورهم بأبخس الأسعار ـ اسأل مكتب الغزالية وصاحب المكتب ابو حازم و ابنه ـ . أصبح صالح المطلق عضو فرع مفرغ لاستثمارات ساجدة حيث أن جميع الاستثمارات مسجلة بأسم صالح لحد الآن . ـ لحد هذه اللحظة صالح يرسل جزء من مبالغ الاستثمارات إلى ساجدة في قطر ـ . اسأل أخي الكريم الدكتور عبد الجبار النعيمي حاصل على الدكتوراه من بلغاريا ـ من أصدقاء صدام ـ عمل في جامعة البصرة و بغداد و طرد من ليبيا لعدم الكفاءة .
إنا لا أريد أن أطيل عليك لأنني املك معلومات كثيرة عن هذا الرجل ، و لكن لكل حادث مقال. أتمنى من كل قلبي لكم بالتوفيق في جميع أعمالكم و أن يزيد من قدرتكم في الدفاع عن العراق.“ 

1136
كاظم حبيب
هل قرار شطب اسم وقائمة الدكتور صالح المطلگ عادلاً؟

منذ سقوط نظام البعث الدكتاتوري تحت ضربات القوات الأمريكية والبريطانية وبدء تحرير العراق من عبودية الدكتاتورية الصدّامية ووقوعه تحت الاحتلال الرسمي المشين للدولتين العظميين, شارك الدكتور صالح المطلگ, المفصول من حزب البعث الحاكم لأي سبب كان, في العملية السياسية في العراق. وكانت مواقفه كلها معارضة بشكل عام. وكان نشاط هيئة اجتثاث البعث برئاسة الدكتور أحمد الچلبي ناشطة جداً حينذاك ولم تتخذ قراراً بإبعاد الدكتور صالح المطلگ من العملية السياسية أو من مجلس النواب الذي انتخب وأصبح عضواً فيه.
لا شك في أن سياسات ومواقف الدكتور المطلگ لم تعجب الكثير من الناس في العراق, وبشكل خاص القوى الطائفية الشيعية لأنه كان ضمن القوى الطائفية السنية, كما أنه لم يتخل عن مواقفه القومية العروبية المتشنجة. ولم أكن في كل الأحوال مرتاحاً من السلوك السياسي ومن جملة من تصريحات الدكتور المطلگ الاستفزازية التي كان يطلقها بين فترة وأخرى, سواء أكان يتحدث بها من على منصة البرلمان أم خارجه, وسواء أكان في بغداد أم في عمان. كما أن جماهير غير قليلة كانت ضد تصريحات العشرات من أعضاء مجلس النواب الشوفينيين والطائفيين من الشيعة والسنة التي كانت تطلق في أحايين كثيرة تثير العداء بين أتباع الأديان والمذاهب الدينية, إضافة إلى واقع أن أجنحة عسكرية لقوى إسلامية سياسية كانت ولا تزال تساهم في العملية السياسية وفي البرلمان تسببت في قتل المئات بل الآلاف من المواطنات والمواطنين العراقيين خلال السنوات المنصرمة لم يحرموا من المشاركة في الانتخابات العامة أو يمنعوا من الترشيح للانتخابات. ولهذا فقد جاء قرار لجنة المساءلة والعدالة, التي كما يبدو لا يزال يرأسها الدكتور أحمد الچلبي التي تمارس نهجها السابق المتشدد والبعيد عن جو المصالحة الوطنية والوعي بالمسؤولية, بشطب اسم الدكتور صالح المطلگ وقائمته من قوائم المرشحين للانتخابات القادمة, بعيداً عن العدالة والوعي بالمسؤولية ويثير غباراً لا مبرر له. ويمكن إعطاء تفسيرات وعوامل عديدة تقف وراء مثل هذا القرار غير العادل, بغض النظر عن الموقف الشخصي لكل منا من سياسات وأراء ومواقف الدكتور صالح المطلگ وقائمته التي أنظمت بدورها إلى القائمة العراقية التي يقودها الدكتور أياد علاوي. إن هذا القرار يشير إلى ما يلي:
1 . عدم الرغبة في السير صوب المصالحة الوطنية مع عناصر معتدلة وعدم الرغبة في التأثير على عملية الاصطفاف الضرورية داخل قوى النظام السابق لصالح كسب الكثيرين منهم لصالح العملية السياسية الجارية.
2 . وإنه يصب في صالح رغبة أولئك الطائفيين الذين يسعون إلى تشديد الاصطفاف الطائفي من القوى الشيعية بأمل جر كل أتباع المذهب الشيعي إلى جانبهم في الانتخابات القادمة بذريعة أن الصراع على السلطة هو بين أتباع المذهبين وليس بين أتباع أحزاب ذات نهج طائفي مقيت.
3 . كما أنه يريد تشديد الصراع بين القوى التي تسندها الدول العربية وتلك التي تسندها إيران الطامعة بالعراق وبالهيمنة على سياساته ومواقفه وأرضه, بعد أن أعترف وزير خارجيتها تجاوز إيران على الأرض العراقية في فكة لأسباب تكتيكية لا غير.
4 . كما أن هذا القرار وبهذا الوقت الحرج يعبر عن تأثير إيران الفعلي على البيت الشيعي الذي يضم فيه الدكتور أحمد الچلبي الذي يترأس لجنة المساءلة والعدالة وضمن القائمة التي يترأسها عمار الحكيم. كما أنه صدر في فترة وجود وزير خارجية إيران في بغداد وكأن القرار هدية تقدم لإيران.
5 . إن هذا القرار يعبر عن أن هذه الهيئة غير معنية وغير مهتمة باحتمال تعكير المياه وإثارة وتشديد الصراعات الطائفية من جديد والتي تفتح بدورها أبواباً جديدة لقوى الإرهاب لتنفذ منها وتمارس بحرية تامة قتل العراقيات والعراقيين وتدمير الاقتصاد العراقي وإشاعة الفوضى فيه, فالغاية عندها تبرر الواسطة ولو على موت الناس وخراب العراق.
إن على هيئة الرئاسة ومجلس النواب ومجلس الوزراء والمحكمة الدستورية أن تمارس دورها في منع دفع الأمور إلى مزيد من الصراعات والنزاعات وإثارة الشغب من قوى غير مدركة لمسؤوليتها, إذ أن رغبتها في الانتقام تهيمن على عقلها وتسلب منها القدرة على التفكير الهادئ والمتزن لصالح استقرار العراق وأمن شعبه.
9/1/2010                     كاظم حبيب               
           

1137
كاظم حبيب
ماذا يجري في عالمنا العربي؟ وهل هو بخير؟
من كان يعتقد ويأمل أن تتراجع مشكلات مجتمعاتنا في الدول العربية وتتعلم نظمها السياسية من تجاربها المنصرمة في معالجة المشكلات المتراكمة والمتفاقمة سنة بعد أخرى في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وفي العلاقات الدولية وفي ما بينها, أصيب بخيبة أمل شديدة وأحس الكثير من البشر بالإحباط والألم, إذ أن نسبة عالية من سكان هذه الدول قد عانت الأمرين على أيدي حكامها المستبدين.
ومن كان يأمل من الجامعة العربية أن تساهم في معالجة المشكلات في ما بين الدول العربية وفي كل منها والتي تفاقمت في عدد غير قليل منها, أصيب بإحباط أكبر وابتعد عن التفكير بأهمية هذه المؤسسة وبدورها ويريد أن ينسى أنها موجودة أصلاً ومنذ 65 عاماً بالتمام والكمال. وغالباً ما يتذكر الناس أغنية عزيز علي عن الجامعة العربية التي يقول فيها "جامعتنة الما لمتنة", أي "الجامعة العربية التي عجزت عن جمع كلمتنا", وهو تعبير عن الفجوة التي كانت ولا تزال قائمة بين هذه الدول والتباين الشديد في سياساتها التي لا تصب عموماً في مصالح شعوبها بل في جيوب نخبها السياسية والمهيمنين على ثرواتها والمتصرفين بأموالها تماماً كما كان يفعل أبو جعفر المنصور حين بلور ذلك في خطبة له يوم عرفة حدد فيها برنامجه السياسي فقال:
"أيها الناس, إنما أنا سلطان الله في أرضه, أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده, وحارسه على ماله, أعمل فيه بمشيئته, وإرادته وأعطيه بإذنه, فقد جعلني الله عليه قفلا, إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم, وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني". [إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية- دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي, سلسلة عالم المعرفة رقم 183, الكويت. ص 219]. ولا شك في أن الحكام العرب الحراس على أموال الأمة مفتوحون على أنفسهم فقط وبالتمام والكمال!
ترتفع عماراتنا لتصل إلى عنان السماء وتنافس من هم أكثر تقدماً منا, ولكن خلفيتنا مكشوفة لمن شاء الوصول إليها. فمجتمعاتنا تجسد الوقائع التالية:
** التخلف الفكري والسياسي وغياب التنوير الديني والاجتماعي.
** الأرض الغنية بثرواتها الخامية من جهة, والشعوب المحرومة من تلك الثروات التي يهيمن عليها الحكام ويسيئون توزيعها واستخدامها.
** التخمة ترهق النخب الحاكمة والمالكة لوسائل الإنتاج والمهيمنة على أموال الدولة والشعب من جهة, والفقر المدقع والبطون الخاوية للغالبية العظمى من سكان الدول العربية من جهة أخرى.
** المظاهر الشكلية للحضارة الحديثة هي المهيمنة على الدول العربية, وفقر الفكر والروح الحية والتعامل العشائري الأبوي التعسفي اليومي سائد في مجتمعاتنا.
** التعددية الدينية والمذهبية التي تعبر عن حركة العقل مقترنة بغياب الاعتراف المتبادل والتسامح لدى المسلمين عموماً وشيوخ الدين والمتشددين منهم خصوصاً والذي يتجلى بشكل صارخ في المزيد من القتلى من أتباع الديانات الأخرى الأكثر قدماً في الأرض ومن أصل أهل البلاد. العراق نموذجاً صارخاً, وأخيراً مصر حيث قتل أخيراً ثمانية من أبناء البلاد الأقباط.
** غياب متواصل وتراجع عما بني في بعضها من مظاهر ومضامين محدودة لقيم المجتمع المدني لصالح القيم والنزعات والتقاليد القبلية البالية.
** مجتمعات تبني وتنتج في الغرب المتحضر, ومجتمعاتنا, بفضل سياسات حكامها, تستهلك وتفقد الكثير من ثروات بلدانها وتستنزف ثروات الأجيال القادمة لصالح النخب الحاكمة.
** تتعمق مضامين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والقوميات لدى المجتمعات المتحضرة, وتغيب في الوقت تلك الشموس المشعة عن شعوبنا وهيمنة الاستبداد والحكام المستبدون على إرادة شعوبها.
** تشتد الخلافات والنزاعات المسلحة ويتفاقم التطرف الديني والمذهبي في بلداننا وتتسع فتاوى المتعصبين والمتخلفين من شيوخ الدين ويتسع الموت على أيديهم لا في بلداننا فحسب, بل يمتد قطع رؤوس الناس من بلدان وشعوب أخرى.
** وإذ تتسع وتتنوع حقوق المرأة وتحتل مكانها الطبيعي في المجتمعات المتحضرة, تنمو ذكورية حكامنا وتهيمن على سلوك مجتمعاتنا في غير صالح المرأة وحقوقها المشروعة ومساواتها بالرجل, كما يزداد العنف ضدها وتقتل يومياً بذريعة غسل العار السيئ الصيت وبذريعة مخالفة الشريعة!
** وأذ تتنافس شعوب وحكومات على نظافة اليد ونزاهة النفس, يتسع الفساد المالي والإداري في بلداننا ويتنافس حكامها على احتلال بلدانهم الموقع الأكثر فساداً في العالم والأكثر تفريطاً بأموال الشعب.
** وأذ تتخلى جمهرة من الدول المتحضرة عن حكم الإعدام أياً كان السبب, يتبارى ويتفنن الكثير من حكامنا في أشكال قطع الرؤوس ومصادرة حق الإنسان في الحياة وكأنهم يرددون قول المستبد بأمره الحجاج بن يوسف الثقفي لشعب العراق " والله إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وأني لصاحبها...". وأغلب حكامنا, وبصيغ مختلفة, أصحاب قطع الرؤوس ويشاركهم فيها حكام أغلب الدول الإسلامية غير العربية أيضاً.
** مصادرة حقوق القوميات الأخرى في تقرير مصيرها, ولنا من السودان والدول المغاربية وغيرها نماذج صارخة, إضافة إلى العديد من الدول الإسلامية كتركيا وإيران وسوريا على سبيل المثال لا الحصر.
 قائمة المتناقضات كثيرة يمكن الاستمرار بتسجيلها, ولكنها كافية لتبرز ما يجري في عالمنا العربي ونحن نعيش في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, إذ أن إلقاء نظرة على الصومال واليمن والسودان بأوضاعها وصراعاتها وما ينشأ عنها يقدم الدليل على خراب أوضاعنا وعجز الجامعة العربية عن المساعدة فيها مما يلزم الدول الأخرى التدخل في شؤونها ومساعدتها, في حين أن حكامها يلتهمون تلك المساعدات ويوزعونها على أتباعهم لكي يبقوا في دست الحكم لا غير.
كل هذا وغيره يجري في عالمنا العربي, فهل نحن بعد كل هذا بخير؟ من حق الناس جميعاً أن يطرحوا هذا السؤال ويجيبوا عنه, وأن يكونوا صادقين مع أنفسهم في الإجابة عنه. نحن لسنا بخير, نحن في حالة يرثى لها, نحن نعاني من جمهرة من الأوباش يحكمون الكثير من بلداننا! 
الأسئلة التي يثيره الوضع العربي مثلاً:
الم يكن في مقدور المليار ونصف المليار دولار التي وظفت لبناء برج خليفة في الإمارات مساعداً للنهوض باقتصاد اليمن وتشغيل عشرات الألوف من العاطلين عن العمل في بناء صناعة وطنية وتطوير زراعة اليمن وتحسين ظروف حياتهم, وكانت بدورها تشكل تراكماً للمال وأرباحاً لأصحاب هذه الأموال؟
الم يكن في مقدور حكام المملكة العربية السعودية توجيه نسبة من إيرادات "نفطهم!" السنوية لصالح هذا "اليمن غير السعيد" لإعماره وتطوير حياته, رغم وجود الفقر في السعودية ذاتها بسبب سوء توزيع الثروة وسوء استخدامها من قبل الحكام وبخلاف كل الأسس الخلقية في توزيع الثروة مثلاً؟
ألم يكن في مقدور بعض الحكام الآخرين, مثل حكام ليبيا, القيام بمهمة مماثلة في اليمن؟
ألم يكن في كل ذلك ما يساعد على تعزيز وحدة اليمن وحل صراعاتها ونزاعاتها ومنع نشوء تلك الأرض الخصبة التي تنمو عليها تنظيمات القاعدة المجرمة, الفقر والبطالة والجوع والحرمان والتمييز والاستبداد؟
يصعب إقناع الحكام الذين اعتادوا على قهر ونهب وتمريغ جباه شعوبهم بالتراب أن يتعظوا ويعودا إلى رشدهم. إنهم بسلوكهم يدفعون بشعوبهم إلى الثورة ضدهم في نهاية المطاف. وبعضهم يذهب إلى القوى المتطرفة والإرهابية التي تمتهن القتل والتدمير.
وتاريخ الدول العربية مليء بمثل هذه الثورات, إذ أن الظلم إذا دام دمر, والسكوت على التدمير لا يمكن أن يدوم طويلاً, ولكنه مليء بالحركات المتطرفة والإرهابية التي يمكن أن تنتشر إلى مناطق أخرى ومنها بقية دول الخليج مثلاً.
9/1/2010                                          كاظم حبيب   


1138
كاظم حبيب
رسالة مفتوحة
إلى الأخ السيد الدكتور برهم صالح المحترم / رئيس وزراء حكومة إقليم كُردستان العراق

منذ ثلاثة أشهر تقريباً توليتم مسؤولية رئاسة حكومة إقليم كُردستان العراق , وهي مهمة ومسؤولية كبيرة حقاً , ولدي القناعة الشخصية بأنكم قادرون على النهوض بها بما يتناغم ومصالح شعب كُردستان خصوصاً والشعب العراقي بكل مكوناته عموماً.  كما أتمنى أن تجدوا الدعم والتأييد الكامل لوضع وإنجاز برنامج يسهم في صياغة وجهة عملية التحول الديمقراطي سياسياً واجتماعياً وثقافياً في كردستان العراق والعراق عموماً.
كنت وما أزال أتابع مسيرة كُردستان العراق على امتداد الفترة المنصرمة , وخاصة في أعقاب تحرير الإقليم من هيمنة حزب وحكم البعث والطاغية صدام حسين وعلي حسن المجيد (كيماوي) , ومن ثم في أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري. وكنت أمارس الكتابة والنقد بشأن التجربة والمسيرة الكُردستانية حين أجد ذلك ضرورياً , سواء من خلال تبيان الجوانب الإيجابية المتحققة أم الإشارة الواضحة للجوانب السلبية التي كانت ولا تزال تستوجب التغيير أو التعديل أو التحسين من منطلق الحرص على هذه التجربة التي لا تمس الإقليم والعراق حسب , بل وبقية الدول المجاورة التي فيها شعب كُردستان وأقاليم كُردستانية.
ولا شك في أن ملاحظاتي كانت وستبقى بطبيعة الحال وجهة نظر شخصية تحتمل الخطأ والصواب. إلا أن من واجب العاملين في الشأن العام أن يمارسوا هذه المهمة , مهمة الإطلاع والمتابعة وممارسة النقد البناء الذي يفترض أن يسهم في تعزيز المسيرة الديمقراطية والتقدمية والبناء المستديم في الإقليم وفي عموم العراق.
لا شك في أن إقليم كُردستان العراق قد قطع خلال السنوات الأربع المنصرمة شوطاً طيباً في حفظ الأمن والاستقرار والسلام في الإقليم وحقق نجاحات ملموسة في مجال البناء والعمران بشكل عام وفي إقامة مشاريع البنية التحتية وتأمين بعض الخدمات العامة التي لم يتم تحقيقها حتى الآن في بقية أنحاء العراق , وهي نتيجة تحسب لصالح حكومة إقليم كُردستان. ولكن هناك الكثير من المسائل التي تستوجب المعالجة من خلال تدقيق السياسات السابقة لتأمين مسيرة أكثر قوة وتبنى على قاعدة مادية متينة لا تهتز بسهولة وتصبح نموذجاً للبناء في بقية أنحاء العراق؟ والسؤال هو: هل هذا ممكن في أوضاع كُردستان الراهنة؟ الجواب: نعم , لو بادرت حكومة الإقليم ووضعت سياسة جديدة منسقة بين مختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية على أسس ديمقراطية بحيث تنسجم مع متطلبات الوضع الجديد , أي لو بادرت حكومتكم بدراسة جادة لتجربة السنوات المنصرمة وتوقفت عند كل مفاصلها الأساسية وتفاصيلها ودققت في نجاحاتها وإخفاقاتها وما يفترض أن يتخذ من إجراءات لمعالجتها خلال السنوات الأربع القادمة مثلاً ووضعت إستراتيجية تنموية جديدة ذات جانبين:
الجانب الأول يرتبط بواقع إقليم كُردستان العراق وحاجاته وطاقاته وما يمكن أن يتحقق فيه , والجانب الثاني يستوجب الأخذ بالاعتبار أهمية استمرار وتطوير العلاقة العضوية الضرورية بين إقليم كُردستان العراق وبقية أنحاء العراق الفيدرالي في مجمل عملية التنمية الاقتصادية والبشرية والبيئية , أي أهمية التنسيق والتكامل بين السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية باعتبارهما اقتصاداً واحداً , بما في ذلك اقتصاد النفط الخام , وسوقاً وطنياً واحداً.
حين أطرح تصوراتي الشخصية لا أتقدم بتصور متكامل وجاهز , بل أطرح أفكاراً أضعها في خدمة الحوار داخل حكومة الإقليم وفي المجتمع الكُردستاني وعلى مستوى العراق , أي أنها جملة من الأفكار والملاحظات التي تستهدف التحفيز على الحوار بأمل الخروج بنتائج تخدم المسيرة التي يفترض أن تكون ديمقراطية تحقق مصالح مكونات الشعب في إقليم كُردستان العراق وعلى مستوى العراق , رغم ما سأطرحه هنا يمس إقليم كُردستان بالأساس , إذ أن الرسالة المفتوحة موجهة إلى جنابكم باعتباركم رئيس وزراء الإقليم.
لقد تم تقليص عدد وزارات حكومة الإقليم من خلال إلغاء أو دمج بعضها بالآخر, وهو أمر إيجابي حقاً. إلا أن هذا التقليص يلقي على عاتق السيد رئيس الوزراء والسادة الوزراء مهمات إضافية لوزارات كانت قائمة وذات مهمات محددة , وبالتالي لا بد من اتخاذ إجراءات تسهم في سد الثغرات المحتملة في هذا المجال لصالح التنفيذ الأفضل للمهمات وعمل الوزارات. وفي الوقت نفسه يفترض أن يستند عمل الحكومة إلى قواعد ومعايير عمل ثابتة ومستقرة ومتطورة بتطور عمل ومهمات حكومة الإقليم , وهو أمر لا يخفى عليكم بحكم تجربتكم السابقة في السليمانية وفي بغداد.
من متابعاتي الشخصية أدرك بأن رئيس الحكومة يحتاج إلى كادر علمي متخصص يحيط به وليس إلى ديوان يديره شخص واحد بغض النظر عن كفاءة هذا الشخص أو ذاك , بحيث يتوزع العمل على الكادر المتخصص وفق القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية... الخ والمهمات المشتركة في ما بينها بما يساعد على تأمين وضوح الرؤية في ما يجري في الوزارات المختلفة والعلاقة في ما ينتج عن عمل تلك الوزارات. وهذا يعني بدوره ما يلي , رغم أن ما أشير إليه يفترض أن يكون من البديهيات التي غابت عن العمل بشكل عام :
مجلس الوزراء بحاجة إلى اجتماعات دورية أسبوعية أو نصف شهرية منتظمة , كما أخذتم بهذه القاعدة حالياً , على أن يعد لها بشكل جدي جدول عمل وموضوعات مهيأ لها جيداً بحيث يمكن معالجة الأمور بتفاصيلها وأن لا تترك الأمور معلقة ولا يعرف من المسؤول عن التنفيذ أو المتابعة. إن تباعد الاجتماعات وعدم دوريتها وضعف إنجاز جداول عملها يقود بالضرورة إلى التسيب والعفوية وعدم الاهتمام بأهمية تلك الاجتماعات.
مجلس الوزراء بحاجة إلى برنامج عمل يضم إليه برامج الوزارات أو مهمات كل الوزارات خلال السنوات الأربع القادمة والتي توزع بدورها على السنوات الأربع وعلى الفصول الأربعة في كل سنة.
أن يكون لمجلس الوزراء مكتب متابعة من المتخصصين. يتابع هذا المكتب مدى تنفيذ تلك الوزارات والمؤسسات التابعة لمجلس الوزراء لمهماتها وأين تحصل الاختناقات وأين تكمن العقد التي تستوجب الحل بصورة علمية أو فنية أو إدارية , وكيف تسير عمليات معالجة تلك الاختلالات. إذ أن غياب المتابعة ينسي المهمات وينسي حصول اختناقات , وتنعكس سلباً على واقع الحال وليس على مجلس الوزراء وحده , ولكن في المحصلة النهائية يتحمل رئيس الوزراء قبل غيره مسؤولية الإخفاق بسبب ضعف أو عدم وجود متابعة منهجية لعمل ومهمات وبرامج الوزارات.
إن وضع برامج وجدولة العمل والمتابعة الدقيقة والمباشرة ثم الأخذ بمبدأ تحفيز الهمم والمحاسبة والمكافئات التقديرية للوزارات والمسؤولين لها والعاملين فيها لها دورها الكبير في تنفيذ المهمات وفي المبادرة والإبداع , إضافة إلى الزيارات المباشرة لرئيس الوزراء لوزاراته واللقاء بكل منهم على انفراد لمعالجة مشكلات كل هذه الوزارات ذات أهمية فائقة لتبيان الاهتمام الفعلي من جهة , وشعور الوزير بمسؤولياته من جهة ثانية.     
ولا بد من ممارسة العمل الديمقراطي مع العاملين في جميع الوزارات من خلال تنشيط دور المسؤولية الفردية والجماعية إزاء عمل كل وزارة وكل الوزارات في آن , إذ بدون ذلك يصبح الاهتمام شكلياً في الوزارات , في حين تستوجب الضرورة تنشيط كل العاملات والعاملين في كل وزارة.
وهذا يصح على أهمية وضرورة اللقاء بأجهزة الإعلام ومنظمات المجتمع المدني لتنشيط حالة الرقابة على عمل الوزارات وتشجيع عملية النقد البناء والمسؤول والمنطلق من مصلحة المجتمع أولاً وقبل كل شيء دون محاباة أو مجاملة او سكوت على الأخطاء والنواقص والبيروقراطية القاتلة.
لقد اعتاد العاملون في المكاتب الخاصة لرئيس الوزراء أو الوزراء , كما عو معروف على نطاق واسع , تقديم تقارير لا تعبر بالضرورة عن حقيقة ما يجري على صعيد الإقليم أو الوزارات. وهذا ينطبق على العراق كله. وغالباً ما يحاول هؤلاء تقديم تقارير ترضي المسؤولين وتبهجهم وتريحهم , وكأن كل شيء هادئ في الجبهة الغربية , في حين أن كل شيء متحرك في تلك الجبهة وربما يسير من سيء إلى أسوأ دون أن يعلم رئيس الوزراء بما يجري في وزاراته. ولهذا قيل قديماً بحق "الثقة جيدة , ولكن الرقابة أجود".
أنا واثق جداً من أنكم , وكذلك السيد نيچرفان بارزاني, رئيس وزراء الإقليم السابق , وكذلك السيد رئيس الإقليم , تعرفون بوجود مشكلات كثيرة وكبيرة تستوجب المعالجة والحل , أشير إلى بعضها الأهم فيما يلي:
وجود كثرة من الأشخاص يحتلون مواقع وظيفية لا يستحقونها , في حين أن هناك أشخاصاً آخرين يستحقون تلك المواقع , ولكنهم مبعدون عنها لأسباب حزبية أو علاقات قرابة أو غيرها. وهو أمر يفترض أن يتغير بصورة منهجية من خلال مجلس خدمة نزيه ومستقل ويعتمد العلم والكفاءة والمواصفات الضرورية لكل وظيفة.
إرساء قواعد العمل الإداري العلمي في الوزارات والمؤسسات الحكومية كافة , تتسم بالشفافية والوضوح وتلتزم بمعايير علمية معروفة. 
رفض العمل وفق معايير مزدوجة تمارس اليوم إزاء الأشخاص والمواقف والتي تؤثر سلباً على موقف المجتمع من الحكومة ومن إجراءاتها التي تميز بين الأفراد والمواقف , ومنها الامتيازات المتكررة التي تمنح للوزراء أو أقارب من هم في الحكم مثل توزيع الأراضي السكنية لعدة مرات.
التشابك غير المقبول بين مهمات الأحزاب الحاكمة ومهمات الحكومة بما يجعل الحكومة يتحمل نواقص وأخطاء الأحزاب الحاكمة , أو أن الأحزاب تتحمل نواقص وأخطاء الحكومة.
معالجة  الفجوة الناشئة بين الحكومة وبين الفئات الشعبية أو عموم المجتمع والتي تطرقت إليها في مقالات غير قليلة خاصة بأوضاع كُردستان العراق.
استمرار وجود الفساد المالي على نطاق معروف لكم ولا يخفى على كافة المسؤولين الكبار والذي تم الوعد بمكافحته عدة مرات ومن جميع كبار المسؤولين ولم يتحقق حتى الشيء القليل في هذا الصدد.
إن الأوضاع الأمنية غير المستقرة في وسط وجنوب العراق ألزمت كثرة من المتخصصين الانتقال إلى  إقليم كُردستان العراق للعمل هناك. وقد غطت هذه الحالة نقصاً كبيراً في الكادر العلمي والمتخصص في الإقليم. إلا  أن هؤلاء يمكن ان يتركوا العمل في فترة لاحقة وحين تحسن الوضع الأمني والاستقرار في الوسط والجنوب , وبالتالي سيتركون فراغاً في كُردستان لا بد من الأخذ بالاعتبار هذا الأمر والعمل على تكوين الكادر المناسب الذي يمكنه الحلول محل من يغادر كُردستان لمناطق أخرى في العراق.
الأهمية الفائقة لإعادة النظر بالعلاقة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية. ومبادرتكم التي ظهرت قبل فترة وجيزة في هذا الصدد مهمة. وإعادة النظر لا تقتصر على حكومة الإقليم , بل تشمل الحكومة الاتحادية أيضاً , إذ أن حل المشكلات العالقة يحتل أهمية كبيرة في نشوء وضع طبيعي متقدم في العلاقات بين الطرفين.
خلال الدور البرلمانية السابقة لم تكن هناك قوى سياسية معارضة متبلورة في إقليم كُردستان العراق. ولكن خلال السنوات الربع المنصرمة , ولأسباب موضوعية وذاتية طبيعية , نشأت معارضة سياسية وذات برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي واضح , بغض النظر عن مدى تطابقه أو اختلافه عن برامج الحزبين الحاكمين. وهذه المعارضة ممثلة في برلمان الإقليم. ومثل هذه الحالة الطبيعية يفترض أن تتحمل حكومة الإقليم مسؤولية التعامل الديمقراطي الواعي والمسؤول مع المعارضة السياسية بما يؤدي إلى نشوء تقاليد ديمقراطية في هذا المجال الحيوي وبروز معارضة موضوعية تمارس النقد البناء والفعال لسياسات الحكومة أو سياسات ومواقف البرلمان. ويمكن للحكومة أن تلعب دورها الفعال في إنجاح هذه التجربة الجديدة على إقليم كُردستان ولصالح الإقليم والمجتمع الكُردستاني. فرأي الأقلية يفترض أن يحترم ويعامل بصورة جدية بأمل المنافسة للوصول نحو الأفضل لصالح الشعب.     
لا شك في أن معرفة هذه الأمور وطرحها من جانب المسؤولين أمر مفيد لتوصيف الحالة , ولكن الأهم هو السياسات والإجراءات العملية الملموسة والمباشرة التي تساعد على تجاوز تلك المشكلات وإقناع المجتمع بجدية الحكومة في مكافحة العلل القائمة.
السيد رئيس الوزراء المحترم
أود الآن أن أبدي بعض الملاحظات حول قضايا التنمية الاقتصادية في الإقليم والتي أرجو أن تحظى بعنايتكم.
من متابعتي لتصريحاتكم ومشاريع المقترحات التي قدمتموها إلى مجلس الوزراء العراقي أو خطبكم في المؤتمرات الدولية التي عقدت بصدد العراق , إضافة إلى سياسة إقليم كُردستان خلال الفترة المنصرمة تبين لي , وأرجو أن أكون مخطئاً ,  بأنكم لا تعطون موضوع التصنيع في العراق عموماً وفي إقليم كُردستان خصوصاً أهمية تذكر , بل تركزون على التقسيم الدولي الرأسمالي الراهن للعمل الذي يهدف إلى إبقاء الدول النامية , ومنها الدول النفطية _والعراق أحدها_ , مستهلكة للسلع المصنعة المستوردة من الدول الصناعية المتقدمة ومصدرة للنفط الخام , مستندين في ذلك إلى موقف فكري وسياسي واقتصادي واجتماعي غير مؤيد للتصنيع أو من التنمية الصناعية بشكل عام في الدول النامية. وقد أبديتم والسيد رئيس وزراء الإقليم السابق اهتماماً خاصاًُ بتجربة "دبي" التي ليست بالنموذج الملائم لها ولا للعراق أو للدول النامية. وما الأزمة الأخيرة العميقة التي تمر بها سوى البرهنة الإضافية على فشل هذا النوع من التطور الاقتصادي المشوه الذي لا يبنى على قاعدة مادية متينة تساهم في تحقيق الوحدة العضوية والديناميكية في العملية الاقتصادية والاجتماعية في البلد.
إن إقليم كُردستان العراق محاط بدول جوار لها موقفها الخاص من الإقليم ومن الفيدرالية في العراق , وهذا الموقف يستوجب من الإقليم جهداً إضافياً لتأمين عدة مسائل جوهرية , منها:
إيجاد علاقات متينة وجيدة مع الحكومة الاتحادية في بغداد من خلال العمل المشترك والتنسيق في السياسات الاقتصادية والاجتماعية وفي المواقف , وهذه العلاقة بمثابة شارع باتجاهين.
بناء قاعدة اقتصادية تستند إلى التصنيع الحديث وتحديث الزراعة والتكامل بين هذين القطاعين على صعيد كُردستان والعراق.       
الاستفادة القصوى من موارد العراق المالية لتطوير قطاع الدولة , ولكن في ذات الوقت الاستفادة القصوى من إمكانيات القطاع الخاص المحلي والإقليمي والدولي بما يسمح في تعجيل عملية التنمية المتعددة الجوانب وتأمين الأمن الغذائي بشكل خاص والعمل للمجتمع.
الاهتمام بقطاع النفط الخام لا على أساس التصدير حسب , بل ومن أجل استثماره في عمليات التصنيع المحلي وبالتنسيق مع الحكومة الاتحادية لتعظيم الثروة الوطنية.
بالرغم من توفر الظروف الموضوعية والمادية لبناء الكثير من القطاعات الإنتاجية من صناعة وزراعة لتعزيز قدرة الإقليم على الاكتفاء الذاتي النسبي إستراتيجياً, إلا أن الإقليم يبقى عاجز عن سد الجزء الأكبر من متطلباته. وهنا تبرز أهمية التنسيق والتكامل مع بقية أنحاء العراق. ومن الجدير بالذكر تتوفر إمكانيات جيدة لقيام صناعات ناجحة في قطاعات المواد الإنشائية والصناعات الزراعي والغذائية والمنسوجات والوقود ومنتجات الصناعة النفطية.
يتمتع الإقليم بموارد طبيعية تؤهله لاحتلال موقع متميز في مجال السياحة والنشاطات والصناعات المرتبطة بها , ومنها صناعة الفندقة. وتزداد أهمية هذا القطاع بتحسن مستوى المعيشة في العراق إذ سيكون له مستقبلاً زاهراً حقا ليصبح واحدا من أهم مصادر الثروة والتشغيل وتكوين طبقة متوسطة مزدهرة.
ويفترض أن تلعب سياسة التجارة الخارجية والسياسات المالية والنقدية دورها في توفير مستلزمات تنفيذ عملية التنمية الصناعية والزراعية والتنمية البشرية في آن , لا أن تكون سياسة التجارة الخارجية عبئاً على ميزانية الإقليم ومستنزفة ومستهلكة للدخل القومي وبعيدة كل البعد عن تحقيق التراكم الرأسمالي الضروري لإغناء الثروة الوطنية في الإقليم.
وتزداد الحاجة للعناية بالبيئة والمشكلات التي نشأت بسبب سياسات النظام الدكتاتوري وحروبه الداخلية والخارجية وتدميره للكثير من المناطق الطبيعية التي تستوجب العناية الفائقة.
تبقى الحاجة ماسة في إقليم كُردستان العراق إلى وجود مفوضية تتعاون بشأن شؤون حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وملاحقة مشكلة العنف ضد المرأة أو المخالفات التي تقود إلى ضياع حقوق المجتمع والفرد , وهي إشكاليات ترتبط بمدى جهدنا لتطوير المجتمع المدني ومؤسسات المجتمع المدني.
إن التهميش الذي لحق بكُردستان خلال العقود المنصرمة يفترض أن ينتهي مع وجود حكومة قوامها من أبناء الإقليم لا أن يتواصل التهميش الاقتصادي من خلال إهمال التنمية الصناعية وتحديث الزراعة أو تأمين التكامل والتنسيق بينهما والاعتماد على الاستيراد لا غير. إذ أن مثل هذه السياسات تواجه بطالة حقيقية في المستقبل بين بنات وأبناء الشعب في الإقليم.
إن كل التجارب السابقة تؤكد بأن السياسة في منطقة الشرق الأوسط لها الأولوية على كل المجالات الأخرى. وهذا يعني إن بإمكان الجيران تطبيق سياسة تطويق إقليم كُردستان العراق متى وجدوا ذلك مفيداً لأهدافهم السياسية. وهذا الهاجس الفعلي يستوجب تطوير صناعات تعتمد بشكل خاص على المواد الأولية المتوفرة في الإقليم , ومنها النفط وخامات أخرى وعلى الزراعة بسبب خصوبة الأرض الجيدة في الإقليم وتطوير محاصيل تخدم التنمية الصناعية, وأن تلعب التجارة الخارجية دور المنشط في هذا المجال من خلال تنفيذ سياسة استيراد تنشط التنمية لا تعرقلها. إن الأمن الغذائي مسألة ذات أبعاد سياسية واجتماعية يفترض أن يؤخذ جدياً بالاعتبار من جانب الحكومة.
ومن هنا تنشأ أيضاً أهمية التنمية البشرية التي يفترض أن تأخذ بالاعتبار أهمية تكوين قدرات علمية وفنية ومهارات مهنية وعملية في مستويات مختلفة ولجميع فروع الاقتصاد الوطني والبحث العلمي, والذي يتطلب تحديد القبول في الفرع الإنسانية لصالح تلك الفروع التي تخدم التنمية والبحث العلمي.
إن المسح الجاري في إقليم كُردستان حول الموارد الأولية المتوفرة في الإقليم يفترض أن ينتهي بوضع خطة بعيدة المدى أو آفاقية وخطط خمسية وسنوية لإغراض تنمية الاقتصاد الوطني وتوزع مشاريع هذه الخطط على القطاعات الاقتصادية من حيث الملكية (عام وخاص ومختلط وإقليمي وأجنبي) ..الخ.
لا أطرح في هذه الملاحظات العامة تصوراً متكاملاً , بل أفكاراً عامة رغبة مني في تحريك الجو للنقاش وتبادل المعلومات في ما بين الباحثين والعاملين في السياسة والاقتصاد والمجتمع في الإقليم. وأتمنى أن تحظى بعنايتكم.
أرجو لكم النجاح في أداء مهماتكم وتحقيق طموحات شعب كُردستان في الحرية والديمقراطية والتقدم والازدهار.
مع خالص الود والتقدير
د. كاظم حبيب     

1139
كاظم حبيب
لمن يفترض أن يمنح المواطنات والمواطنون أصواتهم في الانتخابات القادمة ؟


مرت أكثر من أربع سنوات على الانتخابات العامة الماضية حيث صوت غالبية الناخبين والناخبات في القسم العربي من العراق لصالح قوائم تدين بالولاء للمذاهب الدينية وعلى أسس طائفية سياسية. وقد جاءت هذه النتيجة لعدة أسباب نشير إليها فيما يلي :
1.   الأجواء السياسية السلبية العامة التي سادت البلاد ووقوع الحكم بأيدي القوى الإسلامية السياسية التي تحكمت بالكثير من المفاصل الأساسية وفي الإعلام والدعاية الانتخابية ومراكز الانتخابات.
2.   الإرهاب الدموي والطائفي الذي شنته قوى الإرهاب الدموية ضد المجتمع وعلى أساس طائفي مقيت مما شدد من الشعور بالانتماء المذهبي والموقف الطائفي.
3.   نشاط المليشيات الطائفية المسلحة التي كانت ترعب الناس وتسيطر على مناطق مختلفة من العراق, إذ لم تكن الجرائم التي ارتكبتها قليلة, بحيث وجد الناس أنفسهم أمام خيار النجاة بالنفس بدلاً من فقدانها بسبب الإدلاء بصوتها.
4.   التثقيف الطائفي المتشدد لأتباع المذهبين الشيعي والسني ووقوف المرجعيات الدينية وشيوخ الدين المسلمين من شيعة وسنة إلى جانب الأحزاب السياسية الإسلامية التي تدعو للطائفية وتبشر بها وتعمق من التباعد بين بنات وأبناء المذاهب الإسلامية أو المواطنين والموطنات على أساس الدين أيضاً.
5.   الأموال الطائلة والعطايا العينية التي كانت القوى الإسلامية السياسية تغدقها على الناخبات والناخبين المعوزين والفقراء الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من السكان لشراء أصواتهم وفرض "الَقسم" عليهم في منح أصواتهم لهذا الحزب الإسلامي السياسي الطائفي أو ذاك.
6.   القانون الانتخابي الذي وجدت فيه الكثير من النواقص والمضامين غير الديمقراطية التي تبتعد عن مضمون الدستور العراقي, رغم نواقص الأخير أيضاً.
7.   التزوير المتعدد الوجوه الذي وقع على صناديق الانتخابات لصالح قوائم أحزاب وائتلافات قوى الإسلام السياسية.
8.   يضاف إلى كل ذلك الجهود الإقليمية التي كانت تبذل لصالح هذا الفريق المذهبي أو ذاك وبشكل خاص من دول الجوار وقواها السياسية وأحزابها ومنظماتها , إضافة إلى حكومات البعض المهم منها.
وفي مقابل هذا لم تكن القوى الديمقراطية والعلمانية قادرة في إطار تلك الأجواء السياسية المناهضة للديمقراطية والعلمانية على مواجهة فعالة مع تلك القوى المهيمنة, إذ كانت مخاطر الموت قاب قوسين أو أدنى من الكثير من عناصر هذا التيار, إضافة إلى خلو اليد من الأموال التي امتلكتها تلك القوى والطريقة التي حصلت عليها من الداخل أو الخارج. وليسوا قلة أولئك الذين خسروا حياتهم على طريق النضال من أجل الحرية والديمقراطية قبل أو بعد الانتخابات.
فهل تغيرت الأوضاع في العراق بين 2005 و2010 ؟
الكثير من الدلائل التي تحت تصرفنا والتي رأيناها ولمسناه مباشرة في العراق تشير إلى عدة حقائق مهمة؟
1.   إن قوى الإسلام السياسية الطائفية لا تمتلك نفس الرصيد السابق, كما إنها تعيش صراعاً شديداً على السلطة بحيث يسمح بعضها بالعمل لتدمير الآخر بشتى السبل الممكنة. وما حصل في كربلاء ومناطق أخرى يشير إلى طبيعة هذا الصراع.
2.   ولكن هذا الواقع قد اقترن بسعي قوى الإسلام السياسية إلى تشديد الصراع الطائفي السياسي بين أحزاب المذهبين السني والشيعي بهدف تشديد الاستقطاب بين القوى المذهبية وأتباع المذهبين لصالح هذا المذهب أو ذاك, رغم أنها في دعايتها المكشوفة تتحدث ضد الطائفية وتدعو لمبدأ المواطنة, ولكن في عملها مع الناس مباشرة تدعو إلى التشدد في هذا الصدد. وما التحالفات التي نشأت وبالرغم من تشابك في المواقع, إلا أنها لم تختلف كثيراً عن الفترة السابقة.   
3.   كما أن استمرار وجود قوى الإسلام السياسية الطائفية بالسلطة يمنحها القوة والاندفاع لوضعها في خدمة قوائمها, وخاصة في المحافظات المختلفة في القسم العربي من العراق.
4.   ولا تزال الأموال متوفرة بكميات كبيرة لدى القوائم الإسلامية السياسية التي تسعى لشراء أصوات الناخبات والناخبين. وحادثة توزيع البطانيات والصوپات و"الكلاوات" مثلا في انتخابات مجالس المحافظات تمنحنا وضوح الرؤية في ما يمكن أن يحصل في هذه الانتخابات.
5.   ولا تزال دول الجوار تلعب دورها في التأثير على العملية السياسية وعلى مجرى التحضير والسیر فی المعركة الانتخابية القادمة.
6.   ولا تزال الكثير من المليشيات الطائفية تلعب دورها, وكذلك قوى الإرهاب الدموية وأن تراجع دورها نسبياً في التأثير غير المباشر على هذه الانتخابات.
7.   يضاف إلى كل ذلك واقع استمرار معاناة غالبية الشعب العراقي من نقص في الخدمات العامة والبطالة والحرمان واستمرار الفساد وتراجع في الوضع الأمني نسبياً, كما أن نسبة تزيد عن ثلث السكان تعيش تحت خط الفقر الدولي الخاص بدول العالم الثالث ومنها العراق, ووجود أكثر من ثلاثة ملايين إنسان عراقي يعيش في المهجر, وهو نفس الوضع الذي كنا نعيبه على نظام الدكتاتورية الغاشمة, نظام حزب البعث وصدام حسين.
وفي مقابل هذا استطاعت القوى الديمقراطية والعلمانية أن تفضح الكثير من ألألاعيب الانتخابية ونواقص القانون الجديد وتراجعه عن الوجهة الديمقراطية المنشودة في جوانب كثيرة منه, بما في ذلك الموقف من أتباع القوميات والديانات الأخرى غير العربية والكردية أو غير الإسلامية. كما تكشف يومياً عن النواقص الجدية البارزة في الوضع المعيشي وعموم الوضع الاقتصادي للعائلات الفقيرة والمعوزة والموقف من العنف ضد المرأة ومعاناة الطفولة واليتامى منهم بشكل خاص والنساء الأرامل..الخ.
إن السمعة النظيفة العامة للكثير من القوى الديمقراطية والعلمانية تعزز ثقة المواطنات والمواطنين بها, رغم أنها لا تزال تعاني من تبعثر القوى والتحاق البعض الديمقراطي لأسباب ضيقة بقوائم القوى الإسلامية السياسية, أو الانخراط بصورة منفردة بقوائم خاصة به.
لقد تشكلت قائمة اتحاد الشعب من ثلاثة قوائم هي قائمة الحزب الشيوعي العراقي وقائمة الحزب الوطني الديمقراطي الأول (بقيادة هديب الحاج حمود) وقائمة كلدو أشور الديمقراطية, وهي تخوض الانتخابات بقائمة موحدة في محافظات العراق وتضم فيها شخصيات وطنية شيوعية وديمقراطية ومستقلة ذات وجهة ومهمات ديمقراطية مدنية, وتطرح برنامجاً انتخابياً وطنياً وديمقراطياً موحداً يعبر بصدق وموضوعية عن مصالح الشعب العراقي بكل مكوناته القومية وبعيداً عن النزعات الدينية والمذهبية أو الطائفية أو النعرات القومية الشوفينية أو الضيقة. بالرغم من النواقص الجدية وغير الديمقراطية التي تضمنتها بعض بنود قانون الانتخابات الجديد.
إن قائمة اتحاد الشعب, وهي تخوض الانتخابات العامة القادمة وفق برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الديمقراطي, تدرك بأن الكثير من العوائق قد وضعت في طريقها وطريق القوى الديمقراطية عموماً, في ضوء الواقع الاقتصادي والوعي السياسي والاجتماعي من جهة, والمضامين غير الديمقراطية التي تضمنتها بعض مواد قانون الانتخابات الجديد وغياب قانون الأحزاب من جهة أخرى, وضعف الموارد المالية التي يمكن توجيهها لصالح الدعاية الانتخابية الضرورية للقائمة وللمرشحين, وهيمنة إعلام الحكومة على وسائل الإعلام لصالح القوى المتنفذة في الحكومة, من أجل منع فوز نسبة مهمة من المرشحين للانتخابات القادمة. إلا أن قوى قائمة اتحاد الشعب قررت خوض المعركة, وهو قرار سليم, بثقة عالية بالنفس تشير إليها حركة الكوادر والأعضاء والقوى المؤيدة لقائمة اتحاد الشعب في الوصول إلى الناخبات والناخبين من أجل دفعهم للمشاركة في الانتخابات أولاً, ومنح أصواتهم لقائمة اتحاد الشعب ثانياً, بهدف تمثيل أكبر عدد ممكن من مرشحي القائمة في المجلس النيابي الجديد ليكونوا, كما برهنا عليه ممثلا الحزب الشيوعي العراقي في المجلس النيابي الحالي من نظافة اليد والاستقامة والنزاهة والجدية والحضور الدائم دفاعاً عن مصالح الشعب وفئاته الكادحة. وهم ضمن نواب آخرين زكتهم لجنة النزاهة حين كشفوا عن أوضاعهم المالية أمام لجنة النزاهة في مجلس النواب وأمام الشعب.
إن أمام الناخبة والناخب حق الاختيار بين القوائم وبين المرشحين, ولكن عليه أن يحكّم ضميره لكي يختار هذه القائمة أو تلك التي تبتعد في نهجها عن الانتماء الديني والمذهبي والسلوك الطائفي السياسي أو القومي الشوفيني أو الضيق لصالح مبدأ المواطنة العراقية المتساوية والموحدة في العراق. إن قائمة اتحاد الشعب تضم في صفوفها شخصيات وطنية من كل القوميات ومن أتباع كل الأديان والمذاهب ومن اتجاهات فكرية وسياسية ديمقراطية وعلمانية ومدنية متعددة, وهي جديرة في الحصول على تأييد الناخبات والناخبين وثقتهم من أجل تكريس دولة القانون الديمقراطية, الدولة العراقية الديمقراطية الاتحادية الموحدة, من اجل تعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية وإنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق والقضاء على الإرهاب والطائفية السياسية والفساد والتخلف. إن ثقة قوى ومرشحي قائمة اتحاد الشعب بالنفس وبالشعب العراقي كبيرة وهي التي تدفع بهم إلى تحدي الأوضاع السلبية التي لا تزال تهيمن على الواقع السياسي العراقي الراهن وعلى المجرى الراهن للعملية الانتخابية والمشاركة بالانتخابات بكل طاقات أعضاء ومؤيدي وأصدقاء قوى قائمة اتحاد الشعب, قوى الشعب العراقي. إن المعركة الانتخابية القادمة تعتبر واحدة فقط من مجالات النضال في سبيل خدمة الشعب ودفع تقدمه إلى الأمام, وليس كلها. فهناك الكثير من المجالات الأخرى التي يجري النضال فيها على مستوى المحلات والمدن والمناطق والنقابات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الأخرى لصالح تحقيق أهداف الشعب وتأمين الخدمات العامة  والضرورية له أو النضال في سبيل تغيير وجهة التعليم العام في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات, أو في تغيير وجهة التنمية الاقتصادية أو الكفاح ضد البطالة ومن اجل تحسين مستوى حياة ومعيشة الفئات الفقيرة والكادحة من المجتمع أو ضد التمييز بمختلف أشكاله وأوجه بروزه وممارسته.
سأعالج موضوع الانتخابات العامة في إقليم كُردستان في مقال آخر, إذ أن الانتخابات هناك لا تجري على أساس طائفي, بل وفق مسائل أخرى تستوجب المعالجة الخاصة.
وقبل الانتهاء من هذا المقال أود أن أضيف ملاحظة مهمة لكل من يهتم بمطالعة مقالاتي لأقول له: حين أقرأ مقالاً أو مادة ما وأشعر بوجود أي خطأ فكري أو سياسي, وفق قناعتي الشخصية, في إطار عمل قوى التيار الديمقراطي أو حتى من غير هذا التيار, عندها أجد نفسي ملزماً بتوجيه الملاحظة أو النقد الذي يهدف إلى إصلاح الخلل, إذ أن السكوت عنه يقود, كما أرى, إلى تداعيات أخرى, وليس القصد من ذلك النقد توجيه أنظار الناس إلى موقع أخر غير الموقع الذي يفترض الاهتمام به أو الإساءة أو ينطلق من مواقع التربص. ومثل هذه الانتقادات لا تعني بأي حال التربص والترصد للآخر, الذي هو ليس آخر, كما يظن البعض, فمثل هذا الظن خطأ فادح يقود إلى ممارسة النقد بتجريح شخصي لا ينفع أحداً ولا يستطيع منع النقد عند الضرورة, كما لا يمكنه البتة إقناع الناس بمحاولة كاظم حبيب أو جاسم حلوائي الإساءة لقوى التيار الديمقراطي أو للحزب الشيوعي العراقي أو التربص والتعريض برفاق الحزب الشيوعي, إذ مثل هذا التصور وهم زائف ووجهة خاطئة. إذ أن مثل تلك المقالات التي تكررت في الآونة الأخيرة تجلب الضرر الشديد والإساءة الكبيرة على المحرك لكتابة مثل تلك المقالات المسيئة وعلى الأسماء, سواء أكانت حقيقية أم وهمية, التي تخط تلك المقالات. أملي الاستفادة من الملاحظات النقدية حتى في فترة المعركة الانتخابية, فهي كالنور الذي ينير درب النضال والمسيرة الديمقراطية ويفترض شجب تلك المقالات المسيئة للأشخاص وليس للأفكار والسياسات التي تمارس النقد الرصين. ك. حبيب   

1140
كاظم حبيب
هل أن النحت في حجر هو مجدنا... لا غير؟
تحت باب "تأملات" في جريدة طريق الشعب وفي مواقع إلكترونية كثيرة نشر صديقي ورفيقي في النضال من أجل غدٍ أفضل للشعب العراقي الأستاذ الكاتب رضا الظاهر مقالاً تحت عنوان "ننحت في حجر.. هذا هو مجدنا!". وتضمن جملة من الأفكار التي تستوجب المناقشة وتبادل الرأي لأنها تتضمن مفاهيم أرى أنها خاطئة ويصعب القبول بها كما وردت في هذا المقال, ويمكن أن تكون لها نتائج سلبية لا مبرر لها.
لا أعتقد بأن القوى المتنفذة اليوم تعتقد بأن الزمن متوقف, بل هي مدركة لحقيقة حركة الزمن والتحولات والتغيرات المحتملة عبر الزمن, ولكنها تريد أن تستفيد من اللحظة الراهنة لتبني عليها ما تريده لاحقاً, فهي مدركة أن هناك سباقاً مع الزمن وتريد أن تكرس مواقعها وتحقق مكاسب لها بحيث يمكن من خلالها إطالة عمر وجودها في السلطة. إنها تلاحظ, وربما أكثر من غيرها, أن تحولات كثيرة قد جرت حتى على قواها ومواقعها خلال السنوات السبع المنصرمة, وبالتالي فهي أمام منافسة حادة وتريد الفوز بها بأي ثمن. وبما إنها الأكثرية حالياً في مجلس نواب طائفي دافع الكثيرون عن شرعيته, فإنها تسعى إلى تحقيق مكاسب لها ولا يهمها إن تم ذلك بصورة دستورية أم غير دستورية. فمجلس النواب هو الجهة المشرعة وهي تمثل الأكثرية التي أقَّرت قانون الانتخابات الجديد. من حق هذا الفريق أو ذاك أن ينتقد وأن يتحفظ وأن يرفض, ولكنها تقول بأنها وصلت إلى هذا القانون عن طريق الأكثرية وتوافقات الأكثرية. لهذا فمبدأ الأكثرية والأقلية غير ثابت ومتغير, فالكل يعرف ذلك, وليس في هذا من جديد, ولكنهم يريدون أن يستثمروا هذه الأكثرية الراهنة لصالح أكثرية قادمة في مجلس النواب القادم .. وهلمجرا. وهل ينفعنا بشيء أن اعتمدنا على نصوص قرآنية للبرهنة على إمكانية غلبة فئة قليلة على فئة كثيرة؟ إلا يعبر الاعتماد على هذا النص عن ضعف في تفسير الأوضاع الراهنة في العراق. وما فائدة هذا النص للأقلية ما دامت أحزاب الأكثرية الإسلامية السياسية وتحالفاتها المتنفذة ستحقق نتائج لهم في الانتخابات القادمة التي تتقاتل في ما بينها للوصول إلى أكثرية مرضية لها, وهو هدفها الراهن وليس غير ذاك, إذ أنه يضمن لها استمرارها لسنوات أربع في الحكم, وأنت وأنا تريدنا أن نستمر في النحت في حجر! أشعر رفيقي العزيز إن خط السير الذي تريد التبشير به خاطئ ويستوجب إعادة النظر به قبل فوات الأوان.
رفيقي العزيز, تقول في مقالتك "فهذا الانقلاب هو تجسيد لنهج الاستحواذ على السلطة، وإقصاء وتهميش "الآخرين"، وحرمانهم من مشاركة فعالة، مثمرة، ونزيهة في البرلمان والحياة السياسية. وهو، قبل هذا وذاك، مرحلة جديدة في احتكار صنع القرار السياسي والتبرّم بالتعددية والتنوع". (راجع: رضا الظاهر. ننحت في حجر.. هذا هو مجدنا" طريق الشعب في 29/12/2009 وفي مواقع الحوار المتمدن وصوت العراق والناس وغيرها بنفس التاريخ).
أخي الفاضل, إنهم يستحوذون على السلطة منذ سبعة أعوام ويمارسون ما يريدون بالأكثرية الكافية التي لديهم في مجلس النواب ولم يجر الحديث عن ذلك صراحة وجهارا وعن سلطة مستبدة ومجلس بائس قبل الآن , في حين تشير إلى وقوع انقلاب في مجلس النواب. ليس هناك من انقلاب, بل أن هناك استمراراً في انتهاج ذات السياسة التي لم تنتقد قبل ذاك وتقوم بنقدها الآن. هناك ضرورة لنقدها ولكن لا على أساس النحت في حجر, بل بالممارسة العملية التي يقوم بها الحزب الشيوعي العراقي الآن في سعيه لتحريك الجماهير صوب مطالبها المشروعة التي عجز الحكم في السنوات السبع المنصرمة عن تحقيقها.
من حق أي حزب أو أشخاص وكتل سياسية واجتماعية أن ترفض قانون الانتخاب, الذي كتبت أنا أيضا ضده, وأن تذهب إلى المحكمة الدستورية لتطرح رأيها وتحاول النجاح في ذلك. فما دمنا قبلنا بمجلس النواب السابق وبأكثريته, فمن حقنا أن نحتج ونرفض ونطالب بالتغيير, ولكن هذا لا يعد انقلاباً, بل هو جزء من طبيعة النظام القائم والتوافقات المخلة بالديمقراطية والتي رضينا بها طويلاً. الانقلاب يحصل ضد وضع قائم باتجاه مغاير, في حين أن القرار الصادر عن مجلس النواب لا يختلف عن القرارات الأخرى الصادرة عن نفس المجلس وبذات الأكثرية المتنفذة. من ينحت في حجر, عليه أذن الصبر والاستمرار بالنحت, فهو ينحت وهم يمارسون الحكم ويكررون النجاح في الانتخابات.
تقول في مقالتك ما يلي: " وأما أولئك الذين يريدون أن نتوقف عن المسير فسنخيّب ظنهم .. لن نستسلم، فهذا ما يبتغون .. ولن نختار مقاطعة الانتخابات، كما يدعو متطرفون وعدميّون، لأن هذا الاختيار لن يعني سوى الخنوع والانعزال عن الناس والحياة."(راجع: نفس المصدر السابق).
أنا لست من دعاة وأنصار مقاطعة الانتخابات, رغم إدراكي منذ الآن باحتمال كبير في تزويرها لأسباب عدة بما فيها نص القانون والأوضاع السائدة في العراق وهيمنة قوى الإسلام السياسي على الحكم والتحالفات السياسية غير الديمقراطية السائدة والأموال والمواد العينية الكثيرة التي بدأت تنهال لتوزع على الناخبين ...الخ. ولكن, أليس من حق أي إنسان في العراق, سواء أكان شيوعياً أو ديمقراطياً أو اشتراكياً أو أي مواطن كان, أن يدعو إلى مقاطعة الانتخابات؟ وهل من حقنا أن نتهم من يدعو إلى المقاطعة بأنهم "متطرفون وعدميون, لأن هذا الاختيار لن يعني سوى الخنوع والانعزال عن الناس والحياة", ومت أعطاك هذا الحق, الذي فيه الكثير من الاستبداد والإطلاق, باتهام مثل هؤلاء الناس, بمن فيهم من يحتمل أن يكون عضواً الحزب الشيوعي العراقي أو مؤيداً وصديقاً له. أبهذا الأسلوب نقمع الرأي الآخر ونقنع الناس برأينا؟ من حقك الكامل أن تطرح رأيك, ولكن ليس من حقك قمع الرأي الآخر. 
إن المقالة كلها وكأنها تصب في مجرى الخشية من الفشل في الانتخابات القادمة؟ حتى هذا الهاجس إذا ما وجد, فيفترض أن يطرح بطريقة أخرى وليس بهذا الأسلوب الغيبي, أسلوب النحت في حجر.   
أتابع مجرى النشاط الجديد الذي يقوم به الحزب الشيوعي العراقي, وهو بعيد كل البعد عن النحت في حجر, بل بدأ يطرح منذ فترة مشاكل الناس ومطالبها بصورة أفضل من السابق وبحيوية منشودة ويطرق أبواب الدور ليتحدث ببرنامجه مع الناس ويدعوها للمشاركة في الانتخابات والتصويت له. وهذا أمر جيد وضروري, وهو ما كنت أطرحه في مقالاتي السابقة وغيري أيضاً. إنه الأسلوب النقدي المطلوب إزاء الحكومة والحلفاء وغيرهم, وهو ليس نحتاً في حجر!     
صديقي العزيز, تقول في بداية المقال ما يلي: "بينما يتفاقم صراع السلطة والامتيازات، يسعى متنفذون إلى طمس حقائق وتشويه أخرى". (نفس المصدر السابق) والسؤال الذي يدور في بالي وبال الكثيرين: هل هذا الصراع على السلطة والامتيازات بدأ الآن ومع القانون الجديد, أم أنه جار منذ سقوط النظام الدكتاتوري؟ وهل أن طمس الحقائق هي ظاهرة برزت الآن أم أنها كانت منذ سنوات عدة؟ بل عليَّ أن اقول حتى قبل سقوط النظام حين كانت محاولات إبعاد أو عزل الحزب الشيوعي من جانب بعض قوى الإسلام السياسي, وحتى بعد سقوط النظام. هل نسينا ذلك, وهل الذاكرة قصيرة إلى هذا الحد؟ لا اعتقد ذلك, خاصة وأنت المثقف والكاتب اللامع.
أعرف أنك دقيق وصبور في الكتابة, ولكن لم تكن في مقالتك هذه تعبر بصورة موضوعية عن واقع الحال وعن المشكلات التي كان عليك معالجتها وليس إتحافنا بهذه المقالة التي تضعف الثقة لا تعززها, رغم قولك " لقد اخترنا التحدي ومقاومة تأبيد الراهن وثقافته السائدة، ونحن نعرف أن طريقنا مليئة بأشواك الجزر، وهي أشواك لا تستطيع أن تحجب زهور المد. وإذا ما هُزمنا في معركتنا، فأننا لن نلقي الرايات، ذلك أننا ناظرون الى نجوم، ومتطلعون الى أفق، وخائضون جولات وجولات في طريق يمتد أمامنا وفيه نغذّ المسير." هل يمكن تفسير هذا القول بوجود ثقة بالنفس أم الإحساس بالفشل المسبق والمراهنة على "نحت في حجر". كان فهد يقول: "لا تضيعوا الفرص بانتظار الفرص", فهل كان فهد مخطئاً في هذا القول أم كان يدرك بأن العمل مع الجماهير والدفاع عن مصالحها اليومية ونقد الأوضاع الراهنة بجرأة فائقة هو السبيل الوحيد لتحقيق نتائج إيجابية وليس النحت في حجر!
إن خسارة انتخابات لا تعني الانكسار والتقوقع, بل تعني دراسة أسباب ذلك والبدء مجدداً, ولكن يفترض أن لا يتوقع خائض الانتخابات الخسارة مسبقاً, وبالتالي فان قولك التالي هو الأصح حين ورد فيه ".. وإذا ما هُزمنا في معركتنا، فأننا لن نلقي الرايات، ذلك أننا ناظرون إلى نجوم، ومتطلعون الى أفق، وخائضون جولات وجولات في طريق يمتد أمامنا وفيه نغذّ المسير. وهذا لا يعني أبداً النحت في حجر. ورغم اللمسة الأدبية في هذا القول فكان الأفضل أن نقول .. إننا ناظرون إلى الناس ومتطلعون إلى ثقتهم وخائضون مع الناس جولات وجولات ....
أخي الكريم , كم أتمنى عليك أيها الأخ العزيز أن تعيد النظر في تأملاتك, إذ تبدو هنا وكأنك تسكن في صومعة معزولة عن الناس وليس في مقدورك سوى التأمل و"النحت في حجر". لدي القناعة بأن الحزب الشيوعي العراقي لا يقبل بهذا الأسلوب ولا "النحت في حجر", وإذا قبل به فهو مخطئ. ولكني أعرف جيداً بأنه بدأ يعمل بحيوية أكبر مع الناس, مع الكادحين والفقراء المدقعين وفي الأحياء الشعبية ومع المثقفات والمثقفين ومع أولئك الذين تبلغ نسبة من يعيش منهم تحت خط الفقر أكثر من 30 % من سكان العراق. ليس مجداً لنا الحفر في حجر, بل العمل الجاد والدؤوب مع الجماهير الشعبية في سبيل انتصار مصالحه وإرادتها في إقامة عراق ديمقراطي اتحادي حر ومستقل.
29/12/2009                      كاظم حبيب   

1141
كاظم حبيب
هل بدأ العد التنازلي للدكتاتورية الثيوقراطية في إيران؟


نعم, فالكثير من الدلائل تشير إلى أن الدكتاتورية الثيوقراطية في إيران بدأت تفقد المزيد من قاعدتها السياسية التي استندت إليها حين سرقت الثورة الشعبية الإيرانية قبل ثلاثين عاماً واحتكرت الحكم لنفسها وزجت بالكثير جداً من القوى الديمقراطية في السجون أو أرسلتهم إلى مقابر جماعية ستكتشف حين يسقط هذا النظام الدموي, أو اضطروا إلى الهجرة قسراً هرباً من ظلم النظام.
خلال أكثر من ثلاثة عقود والنظام الدكتاتوري في إيران يسلط أبشع استبداد إسلامي سياسي طائفي مقيت على الشعب الإيراني بكل قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه الدينية وأحزابه العلمانية السرية أو القوى الإسلامية المعتدلة والمعارضة لسيطرة هذه الجماعة المحافظة والرجعية على الحكم في إيران والتي تعيش عزلة شديدة بسبب سياساتها الداعية إلى تصدير "الثورة الإسلامية الإيرانية" إلى الدول الأخرى. وكان خاتمة تلك السياسات تزوير الحكم لانتخابات الرئاسة الإيرانية وفوز مرشح المرجعية الدينية بها زوراً وتأييد ولاية الفقيه, التي أسست للدكتاتورية في إيران, لنتائج تلك الانتخابات وفرضت هذا الدكتاتور القزم فرضاً على الشعوب الإيرانية.
إن الرد الواقعي والصارم على  هذا التزوير وتلك السياسات جاء من القوى المعارضة لسياسات الحكم الإيراني حيث انطلقت المظاهرات الشعبية معلنة عن عدم قبولها بنتائج تلك الانتخابات واستمرار المظاهرات التي جوبهت بالحديد والنار وسقط الكثير من الضحايا وكان أخرها وليس نهايتها ما حصل في يوم الأحد الدامي (27/12/2009) في طهران حيث سقط ثمانية أو تسعة من المتظاهرين شهداء في الشوارع الإيرانية على أيدي "الحرس الثوري" القومي الشوفيني وقوى الإرهاب الحكومية. إن الشعوب الإيرانية وقواها السياسية المعارضة, وكما يبدو من تطور الأحداث, ترفض الرضوخ لسياسات الحكم وقررت خوض النضال إلى حين الخلاص من هذا الحكم الثيوقراطي الذي لا يتعارض مع إرادة ومصالح الشعوب الإيرانية فحسب, بل ومع مسيرة التاريخ والعصر الذي نعيش فيه. فالدلائل الكثيرة تشير إلى أن العد التنازلي لوجود هذا النظام قد بدأ فعلاً وأن الزمن مهما طال سينتهي لصالح الشعوب الإيرانية وفرض إرادتها الحرة والمستقلة.
إن الحكم في إيران يحاول أن يثير الصراعات والنزاعات على الصعيدين الإقليمي والدولي ليبعد أنظار الشعوب الإيرانية عن المآسي التي تعيش فيها يومياً وعن التدهور المتواصل في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسكان الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل الذين تضخم عددهم كثيراً. فمحاولة إشغال الشعوب الإيرانية بالصراع مع العالم حول القضية النووية بذريعة الدفاع عن حق إيران في امتلاك الطاقة النووية من جهة, ومواصلة تأجيج الصراعات في كل من اليمن ولبنان وفلسطين والعراق وغيرها بذريعة الدفاع عن الإسلام الشيعي أو الإسلام عموماً في تلك البلدان من جهة ثانية, وأخيراً احتلال حقول النفط في فكة التابعة لمدينة العمارة بذريعة الدفاع عن مصالح إيران الاقتصادية وهي المعتدية منذ فترة طويلة على هذه الأرض الطيبة, لم يعد ينفع الحكام ولن يبعد أنظار الشعوب الإيرانية عن واقعها المرّ المتفاقم.
لقد كتبنا الكثير بهدف الكشف عن الوجه الحقيقي للحكم الإيراني أمام أنظار الشعب العراقي, وخاصة سكان الوسط والجنوب, ومهما كان مقنعاً, فأن احتلال إيران لفكة وأسلوب تعامل القوى الإسلامية السياسية الشيعية العراقية مع هذا الحدث, كان الدليل الجديد الأكثر إقناعاً للكثير من سكان العراق على الأهداف والأطماع الإيرانية في العراق. ولم نكن في ما قلناه عن الحكم في إيران خاطئاً, بل عين الحقيقة والواقع.     
إن إيران بسياساتها الطائفية تثير المزيد من الطائفيين السياسيين من مذاهب أخرى وتؤجج الصراع بدلاً من إيجاد أرضية للتفاهم بين أتباع المذاهب الإسلامية, كما هو حال بقية المتطرفين, ومنهم قوى القاعدة الإرهابية, من أتباع المذاهب الأخرى.
تعيش إيران عزلة دولية متفاقمة ويتهددها الحصار الاقتصادي, الذي سوف يرهق الشعوب الإيرانية وليس حكامها المتخمين بأموال الشعوب الإيرانية والفاسدين الذين يتصرفون بخزينة الدولة دون حسيب أو رقيب. وأن هذه العزلة ستثير المزيد من البشر في إيران ضد النظام الثيوقراطي المتخلف. وسيقنع ما يجري في إيران المزيد من بنات وأبناء الشعب العراقي بان قوى الإسلام السياسية في العراق هي الأخرى لن تستطيع أن تقيم نظاماً سياسياً ثيوقراطياً أفضل مما هو قائم في إيران, وأن الحياة والعصر الجديد لم تعد تقبل مثل هذه النظم في أي دولة من دول العالم.
على حكام إيران أن يدركوا بأن ليل الدكتاتورية مهما طال, ومهما كانت طبيعتها, ومنها الدكتاتورية الثيوقراطية, سينقشع عن صبح بهي وعن حياة حرة وديمقراطية على أيدي الشعوب الإيرانية ذاتها كما انتهت إليه الكثير من النظم الاستبدادية في العالم. وها هي الشعوب الإيرانية تمارس إرادتها كما عبر عن ذلك الشاعر التونسي الشاب الفقيد أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة    فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بـد لليـل أن ينجـلي    ولا بد للقيـد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة    تبخـر في جوها واندثر       

1142
كاظم حبيب
هل سيتعلم العرب والترك والفرس من فكر ورؤية عزيز شريف للقضية الكردية؟
في الذكرى السنوية 105 على ميلاد عزيز شريف والذكرى 19 على وفاته.

المدخل
مرت هذا العام الذكرى السنوية 105 على ولادة الشخصية الوطنية والتقدمية العراقية وعضو مجلس السلام العالمي عزيز شريف والذكرى 19 على وفاته. ترك لنا عزيز شريف مجموعة كبيرة من المقالات المهمة المبعثرة التي لم يتم جمعها حتى الآن , سواء ما نشر منها في العراق أم سوريا ولبنان, وكذلك الخطب التي ألقاها أو التصريحات التي أدلى بها في القضايا العراقية والعربية والدولية حين كان رئيساً لمجس السلم والتضامن في العراق, إضافة إلى مذكراته الغنية بالمعلومات والتحليل العلمي والمواقف الوطنية التي لم تنشر بعد, وكذلك الكراس المهم الذي نشر في العام 1950 حول المسألة الكردية في العراق وعموم القضية الكردية في المنطقة. ويحق لمن عرف عزيز شريف أن يعتز بتراث هذه الشخصية الوطنية والأممية النبيلة التي قدمت الكثير لصالح العراق والمنطقة وناضل بحيوية لا تعرف الكلل من أجل منع الحروب واستتباب الأمن والسلام في العالم وفي سبيل تحقيق التضامن بين شعوب بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وضد الاستعمار والرجعية والهيمنة الأجنبية ومن أجل العدالة الاجتماعية.
وكان موقفه المشرف والسليم من القضية الكردية متميزاً يستوجب الإشارة إليه لما فيه من علمية ومبدئية عالية ورؤية قومية تقدمية سليمة تستوجب الدراسة والتدقيق من جانب تلك أبناء وبنات القوميات أو الشعوب التي توزعت على دولهم الأرض الكردستانية والأمة الكردستانية, وهي دول إيران وتركيا والعراق وسوريا لكي تستفيد من تاريخ هذه القضية ودروسها المنصرمة في مواقفها من هذه المسالة الحيوية, ولكي تستفيد من تجربة العراق الراهنة, ورغم النجاحات التي تحققت, فإنها لا تزال بحاجة إلى رؤية عقلانية وموضوعية لصالح الشعب الكردي والشعب العراقي برمته.
ومن أجل التذكير بالأستاذ عزيز شريف الذي فارقنا عن عمر ناهز 86 عاماً تقريباً, ومن أجل أن يجري التفكير بإقامة نصب تذكاري لهذه الشخصية الوطنية على أرض العراق وفي إقليم كردستان أنشر هذا المبحث المختصر الوارد في الكتاب الخامس من كتابي الجديد الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين في عشرة أجزاء, والذي صدر الجزء الأول منه في السليمانية في العام 2009 عن مؤسسة حمدي للطباعة والنشر.
لقد وجدت مناسباً أن أنشر ما سجلته في كتابي غير المنشور حتى الآن عن الفقيد "عزيز شريف والمسألة الكردية" في هذه الفترة بالذات بسبب السياسة الشوفينية للحكومة التركية والقضاء التركي غير النزيه إزاء قضية الشعب الكردي وحزب المجتمع الديمقراطي الذي منع بذريعة وجود علاقة له مع حزب العمال الكردستاني وإزاء الشعب الكردي في شمال كردستان أو كردستان تركيا, لكي تدرك تلك القوى بأن حكومة لأمة كبيرة تضطهد أمة أخرى ليست حرة وليست جديرة بالاحترام ويفترض النضال ضدها لصالح الأمة المضطهدة.
وكما كتب الصديق الدكتور زهدي الداوودي بحق:
"إن القومية الكبيرة التي تستعبد القومية الصغيرة، ليست حرة. ولقد آن الأوان كي يفهم القوميون العرب والأتراك والفرس هذه الحقيقة التي تحققت ضمن كيان حكومة فدرالية كردستان العراق. هذه الفدرالية التي لم تقسم العراق، بل رسخت وحدته وديمقراطيته ." [الحوار المتمدن بتاريخ 26/12/2009].

عزيز شريف والمسألة الكردية

" لا يجوز للعرب , وليس في صالح قضيته أن يكون سوط العذاب بيد الجلادين المستعمرين يلهبون به جلود الأقوام المضطهدة ويقطعونها على ظهورها."
         نصير (عزيز شريف)

حاولت في الفقرة السابقة أن أوضح مع الصديق الدكتور زهدي الداوودي في كتابنا المشترك ÷فهد والحركة الوطنية في العراق" أن موقف الحزب الشيوعي العراقي كان من حيث المبدأ ومنذ البدء سليماً حين أكد على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره في العام 1935 ثم السكوت عن هذه المسألة فترة طويلة, ثم بدأ الموقف يتطور تدريجاً ويتحسن لصالح الشعب الكردي والقضية الكردية. إلا أن الموقف الذي اتخذه الحزب وفق قرار جماعي صدر عن الهيئات الحزبية المسؤولة حول المسألة الكردية كان في العام 1956 أثناء انعقاد الاجتماع الحزبي الموسع (الكونفرنس الحزبي الثاني) بعد توحيد قوى الحركة الشيوعية العراقية الثلاث (الحزب الشيوعي العراقي بقيادة سلام عادل , وراية الشغيلة بقيادة جمال الحيدري , ووحدة النضال بقيادة عزيز شريف).
إن تفرد عزيز شريف في طرح موقفه المبدئي الصائب مبكراً إزاء المسالة الكردية هو الذي جعلني أخصص مبحثاً خاصاً به , باعتباره من أوائل الماركسيين العراقيين الذين تميزوا بالجرأة والوضوح في وضع القضية الكردية في إطارها الصحيح وفي طرح المواقف السليمة منها وفق المنهج المادي والفكر الماركسي والوعي بقضية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها.
أن موقف عزيز شريف المبدئي من المسالة الكردية , حتى قبل تأسيس حزب الشعب الذي ترأسه , وعمل من أجله فترة طويلة إلى أن صدر له في العام 1950 الكراس المهم الموسوم: "المسألة الكردية في العراق" لا يستحق التقدير والثناء حسب, بل والدراسة من جانب كل العرب ليتبنوا من خلاله إن الكتاب لا يخدم القضية الكردية حسب, بل والقضية العربية أيضاً. إذ لا يمكن ان يكون شعب حراً وهو يستعبد أو يهيمن أو يرفض منح شعب آخر حريته وحقه في تقرير المصير. ويبدو هذا الموقف المبدئي لعزيز شريف من أول صفحة في الكراس حين يعرض المسألة الكردية على النحو التالي:
"ظاهرتان لمسألة الكردية في العراق:
الظاهرة الأولى تمثل الوجه السلبي للمسألة الكردية أي أثر السياسة الاستعمارية الرجعية التي قضت باستعباد الشعب الكردي وتمزيق أوصاله وإبقائه في مستوى من العيش البهيمي.
أما الظاهرة الثانية للمسألة الكردية في العراق فإنها تمثل الوجه الإيجابي لهذه المسألة وهو كفاح الشعب الكردي في سبيل حرياته وفي سبيل تقرير مصيره.
والمسألة الكردية في العراق ليست عراقية صرفة , إنها جزء من مسألة الشعب الكردي في جميع موطنه كُردستان وأن مزقته السياسات الاستعمارية الرجعية المحلية الجائرة وأن تعددت لهجاته حتى بدت أحياناً كأنها لغات مختلفة بسبب العزلة. وأن ترابط أجزاء المسألة الكردية يبدو جلياً في التدابير السياسية والبوليسية العسكرية المنسقة التي تقوم بها قوات الحكومات السائدة في العراق وتركيا وإيران ومن فوقها ومن ورائها الاستعمار الانگلو أمريكي لقمع أية حركة انتفاضة كردية , تقع في أي من الأقطار الثلاثة وأحدث مثال لهذه التدابير المنسقة هو التعاون العسكري بينها لسحق حركة البارزانية عام 1945." 
ويعالج الكاتب في متن كراسه الظاهرتين بتفصيل دقيق وسليم ويدين السياسات الرجعية التي ترفض الاعتراف بحق الشعب الكريي لا في العراق فحسب, بل في كل الأقاليم الأخرى التي توزعت على الدول المتجاورة فيشرح خصائص القومية الكردية ونضالها التحرري, كما يطرح الموقف ألأممي البروليتاري كما يراه لهذه المشكلة القومية التي تعقدت بفعل قوى الاستعمار وأطماع القوى القومية الشوفينية في الدول الثلاث التي توزعت عليها الأرض الكردستانية وشعب كردستان.
وقبل أن ينهي عزيزي شريف ويلخص نتائج بحثه كتب يقول:
"بقيت نقطتان نرى ضرورة التنويه بهما , وهما :
 أولاً: إن مسالة الاتحاد الاختياري ليست مسألة مطلقة دائماً وفي كل مكان وزمان , يقول لينين : (ومن ناحية أخرى على الاشتراكي المنتمي إلى أمة صغيرة أن يؤكد في دعايته على الشطر الثاني من الصيغة العامة –الاتحاد الاختياري- بين الأمم. ويسوغ له دون إخلال بواجباته بوصفه أممياً أن يفضل إما استقلال أمته السياسي أو إلحاقها في دولة مجاورة ..الخ وعليه في كل الحالات أن يكافح ضد ضيق ذهنية الأمة الصغيرة وضيق الفكر والترفع , عليه أن يناضل في سبيل الاعتراف بالكل والعموم وفي سبيل تبسيط مصالح الخاص إلى مصالح العام.) (راجع ستالين , الأسس اللينينية).
والنقطة الثانية : هي أن الضرورات الا قتصادية هي الأساس العام الدائم للاتحاد الاختياري بين الشعوب.
بيد أنه في ظروف الإمبريالزم يكون للاعتبارات السياسية وزن هام وأن كان موقوتاً في تقرير الحوادث المعينة. لأن الأوساط الاستعمارية تستغل الحوادث للتآمر على حريات الشعوب كلما وجدت إلى ذلك سبيلا. ...
وخلاصة القول في هذه الناحية إن الكفاح ضد العزلة في الأمم الصغيرة عام ومطلق ودائم. أما الدعوة إلى الاتحاد الاختياري بين الشعوب فإنها ليست مطلقة وهي في التطبيق خاضعة لما تمليه الضرورات القائمة في كل حادثة من الحوادث المعينة.
وفي نظرنا إن دعوة الديمقراطيين الأكراد في العراق إلى الاتحاد الاختياري كانت مصيبة بالنظر إلى الظروف الاقتصادية والسياسية الحاضرة معاً."
وانتهى عزيز شريف إلى الخلاصة التالية :
"إن حل المسالة الكردية في العراق يتضمن ما يلي:
1 -  نضال الجماهير العربية الكادحة في سبيل حرية وتقرير المصير للقومية الكردية بما في ذلك الانفصال وتأليف دولة مستقلة.
2 -  نضال التقدميين الأكراد المطلق ضد الميول الانعزالية بين الجماهير الكردية ودعوتهم إلى الاتحاد الاختياري بالعراق (في الظروف الراهنة القائمة).
على أن هذا النضال بوجهيه لا يتجزأ من الحركة الوطنية التحريرية ضد الاستعمار وعملائه المحليين من جهة , ومن الكفاح العام ضد الإمبرياليزم بنوع خاص ضد المؤامرات الحربية العدوانية الانگلو أمريكية , من جهة أخرى." 
كان عزيز شريف ينتقد القوى التقدمية في مواقفها الضعيفة والمترددة إزاء حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. وكان هذا النقد وارداً للحزب الوطني الديمقراطي وبعض القوى الديمقراطية الأخرى , كما كان وارداً بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي في فترة النكسة الشديدة التي تعرض لها الحزب قبل وفي أعقاب استشهاد فهد , ومجيء قيادات ضعيفة وغير مثقفة ثقافة ماركسية متينة والذي تجلى في اتهام عزيز شريف بالتروتسكية والتيتوية بسبب ما طرحه من موقف مبدئي إزاء القضية الكردية. فنحن نقرأ في المقدمة التي كتبها للطبعة الثانية من كراسه الموسوم "المسألة الكردية في العراق باسم "نصير" حيث يقول:
"ولكننا مع صرف النظر عن سياسة التمييز الاستعمارية ومع صرف النظر عن شوفينية البورجوازية الرجعية نجد أن التقدميين العرب في العراق لمي يعيروا هذه الحقيقة ما تستحقه من أهمية ولذا فقد تضمنت الطبعة الأولى من هذا الكراس لوماً لمن أسميناهم (الجبهة التقدمية) . [ لموقفها الفاتر من الحركة القومية الكردية مع أن الشيوعيين يدينون بحرية تقرير المصير للقومية الكردية لم يبرز بينهم شعار قوي للدعوة إلى هذا المبدأ ونشره وجعله قوة محركة].   
وبعيد ظهور تلك الطبعة وما قوبلت به من عداء سافر للحل اللينيني الذي تضمنته قد كشف عن قصور ذلك النقد , فبعد أن حاربت جماعة القاعدة هذا الكراس بالصمت ولما لم يجد الصمت في قتله لجأت إلى أسلوب الهجوم المكشوف فوصفته في العدد التاسع من جريدة القاعدة ( أواسط تشرين الثاني 1950 ) بكونه (يحل المسألة بالشكل الذي طالما دعا إليه الانتهازيون , وراق ذلك له (كذا وردت) المستعمرون ...) وانحدرت إلى التشهير باسم عزيز شريف باعتباره واضع هذا البحث , كما انحدرت أكثر في العدد الثاني و زعمت أنه يحرض الجماهير الكردية ضد العرب وافترت افتراءً بذيئاً مصرحة أن للمؤلف (نصير) غرفة في السفارة البريطانية."
إن هذا الموقف الخاطئ الذي تميز بروح المهاترة غير الودية إزاء قوة ماركسية أخرى من جانب قيادة الحزب الشيوعي العراقي حينذاك عبرت عن المستوى المتخلف لتلك القيادة. وقد استمر هذا الموقف فترة قصيرة إلى أن تم تعديله بقرار وموقف من قيادة الحزب التي كان بهاء الدين نوري (باسم) سكرتيرا للجنة المركزية للحزب حينذاك, حين رفع شعار حق تقرير المصير للشعب الكردي. ثم اغفل ثانية, ثم عاد إلى الواجهة في تقرير سلام عادل إلى الاجتماع الحزبي الموسع الثاني في العام 1956.
أتفق كل من سلام عادل وجمال الحيدري وعزيز شريف على التعاون المشترك لصياغة التقرير الذي قدمه سلام عادل إلى الاجتماع الحزبي الموسع الثاني الذي عقد في العام 1956 في ما يخص المسألة الكردية, إذ يجد المتتبع أن الحل الذي طرحه عزيز شريف في العام 1950 قد انعكس في هذا التقرير أولاً وأن دراسة جمال الحيدري الخاصة بالمسألة الكردية التي أنجزها في العام 12957 تحوي نفس الوجهة التي التزم بها وناضل من أجلها الأستاذ الفقيد عزيز شريف.
لقد كان عزيز شريف قومياً تقدمياً نزيهاً في وعيه للمسألة القومية الكردية من منطلق الوعي بالقضية القومية العربية أيضاً, وكان وطنياً أميناً وحريصاً على مصالح الشعب العراقي بكل مكوناته القومية والذي كان يتجلى في نضاله الدؤوب ضد الاستعمار والرجعية والظلم والاضطهاد ومن أجل الديمقراطية وحقوق القوميات والعدالة اجتماعية , كما كان ماركسياً واعياً مستخدماً المنهج المادي في التحليل والاستنتاج ورسم السياسات, إضافة إلى كونه أممياً صادقاً من حيث الموقف العام في النضال ضد الإمبريالية وفي التضامن بين شعوب البلدان المستعمرة والتابعة من أجل نيل حريتها واستقلالها وسيادة  بلدانها, وفي سبيل استتباب الأمن والسلام في العالم. وقد برهنت الحياة على صواب الموقف الذي التزم به عزيز شريف إزاء القضية الكردية طوال حياته, وهو نفس الموقف الذي توصل إليه الحزب الشيوعي العراقي أيضاً خلال تلك الفترة وما بعدها. 

1143
كاظم حبيب
الآلام العراقية كثيرة وأشدها وجعاً اضطهاد الأيتام في ملاجئ حمايتهم!

الكثير والكثير جداً من القيم والمعايير الإنسانية التي سادت في العراق في فترات مختلفة من حياة الشعب العراقي, رغم الكثير من الجوانب السلبية في النظم السياسية التي سادت في العراق الحديث, اختفت من التعامل اليومي منذ أن استولى "حزب البعث العربي الاشتراكي" على السلطة ثانية في البلاد, حيث انتشرت الكثير من القيم والمفاهيم والمعايير السيئة والمشوهة والخبيثة في حياة الدولة والمجتمع. وتعمقت هذه الحالة بعد سقوط النظام الدكتاتوري حيث فرض الاحتلال وحصل الانفلات الأمني والسقوط الأخلاقي بنسبة غير قليلة من الناس وسيادة الطائفية السياسية, التي حلت محل الدكتاتورية المغتصبة لحرية الإنسان وحقوقه الأساسية وأرادته الحرة. فلم تعد حياة العنف والقسوة تتجليان في عمليات القتل والتدمير اليومية المريعة التي تمارسها عصابات الإرهاب والمليشيات الطائفية المسلحة, ولا في عمليات الاختطاف والابتزاز أو التعذيب النفسي والجسدي للمعتقلين والسجناء من جانب ذات القوى, ولا في عمليات النهب والسلب والسطو على أموال الشعب فحسب, بل وفي صيغ التعامل اللاإنساني مع الأطفال الأيتام المعوقين الذين أدخلوا إلى تلك الملاجئ التي شيدت وأقيمت لغرض حمايتهم من حياة التيتم ومنحهم بعض الحب والحنان تعويضاً لهم عن فقدانهم للأبوين ولأي سبب كان ومساعدتهم بسبب العوق الذي يعانون منه.
فالصور الجديدة التي وصلت لي ولغيري من بغداد تكشف عن بشاعة التعامل اليومي مع هؤلاء الأطفال الأيتام المعوقين والتي تشكل الفضيحة الثانية بعد الفضيحة الأولى التي اكتشفت من قبل القوات الأمريكية أيضاً وفي قلب العاصمة بغداد في مراكز حماية الأطفال المعوقين عقليا في فترة حكم إبراهيم الجعفري أو المالكي أيضاً. ولا يعرف الإنسان عدد الملاجئ الأخرى التي فيها من الفضائح ما يزكم الأنوف ويهين كرامة البشر. إنها صور تكشف عن القسوة والجشع والبؤس الفكري وانعدام الضمير لا بالنسبة للعاملين في هذه الملاجئ الذين يسرقون اللقمة من أفواه الأيتام والملابس من أجساد البؤساء المعوقين فحسب, بل وعن قسوة وعنف الحكومة التي لا تراقب حياة هؤلاء الأيتام وتسكت عن هذا الوضع, وكذلك المجتمع الذي يقبل بوجود مثل هذه الحالات ولا يحتج عليها ولا يتظاهر ضدها, رغم بروزها قبل ذاك ولم يطالب حتى الآن بالكشف عن حقائق ما يجري في هذه الملاجئ وغيرها .
كتب الشاعر الرقيق والمبدع الرائع يحيى السماوي يقول بأن "محطة "سي بي أس" التلفزيونية عرضت فضيحة جديدة في العراق, طالت الأطفال هذه المرة, كاشفة عن ملجأ يضم 20 يتيماً عراقياً، يحتضرون وأيديهم مكبلة إلى الأسرّة، وعظامهم البارزة ينهشها الذباب". أطفال معوقون مقيدون, جياع حولهم الجوع والمرض إلى هياكل عظمية, مرميون على بلاط الغرف الباردة في فصل الشتاء, أجسام رقيقة ولكنها قذرة يحيط بها البول والغائط, تنهش بها جموع الذباب.
إن هذا الإداري الذي يسرق القليل من أفواه هؤلاء الأيتام الجياع والمرضى والمعوقين, يطعم بما يسرقه أطفاله. وهو لا يحس بحقيقة ما يقوم به, إذ أنه يعتقد جازماً بأن في الحكومة التي تدير أموره وفي المؤسسات الأخرى المسؤولة عن أموال الشعب من يسرق من أفواه الشعب قوتهم. وإذا كان يسرق القليل, فأن هناك من يسرق الكثير والكثير جداً. وهو يردد مع نفسه:
إذا كان رب البيت في الدف ناقر       فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
والمقصود برب البيت هنا ليس فرداً بذاته, بل هو الرمز الذي يشير إلى الجهات والمؤسسات العليا في الحكومة والدولة, ولا شك في أن فيها من هو نزيه وأمين على أموال الشعب وفيها من هو نهاب خسيس!   
وتقول القوات الأمريكية التي اكتشفت هذا الملجأ صدفة, بأن الحكومة  تعهدت لها بالتحقيق, وكان عليها أن تتعهد للشعب والدستور أولاً وأخيراً. حتى الآن لم تكشف الحكومة عن نتائج التحقيق الذي تعهدت به حكومة الجعفري في الفضيحة الأولى, ولا عن وجود الكثير من أمثال هذا الملجأ وفيه من الفضائح ما يثير الرعب والألم.
إن حياة الأطفال في العراق عموماً أليمة, وحياة الأيتام منهم أكثر ألماً ولكن حياة المعوقين من الأيتام أكثر وجعاً على عقول وقلوب الناس الذين يملكون ضميراً حياً وحساً إنسانياً بالمساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان, وحقوق الطفل على نحو خاص.
إن غالبية حكامنا نسوا أنهم كانوا يوماً في المعارضة وعملوا ضد النظام الدكتاتوري وعواقب حكم الدكتاتورية, وهم في الحكم لا يعملون ضد تلك العواقب, بل سمحوا لها بأن تتراكم. ونسوا أن هناك الكثير من الجياع والأيتام بسبب الحروب والفاشية والقبور الجماعية. وهنا يمكن أن استعين بشاعر العراق والعرب الكبير محمد مهدي الجواهري في هذا المقام وأردد معه بعض أبيات شعره:
نامي جياع الشعب نامي       حرستك آلهة الطعام
نامي فأن لم تشبعي         من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود         يداف في عسل الكلام
نامي تزرك عرائس          الأحلام في جنح الظلام
               نامي فقد أضفى (العراءُ)        عليك أثـواب الغـرام
وليس هناك في العراق من هم أكثر جوعاً وعجزاً من الأطفال الأيتام المقعدين الذين ينتظرون من الدولة أو الحكومة ومؤسساتها الرعاية والحنان وليس الإهمال والاضطهاد, كما يجري اليوم في الملاجئ "الخيرية" التي, كما يبدو, تحول الكثير منها إلى مواقع لاضطهاد وتعذيب الأطفال وزيادة وجعهم المبرح.
23/12/2009                  كاظم حبيب
 

1144
هل إن رفض بناء المآذن رفض للإسلام في سويسرا؟

قبل فترة وجيزة صوت السويسريون ضد بناء المآذن في الجوامع الجديدة التي يراد إقامتها في المدن السويسرية. وهذا يعني أن القرار لا يمنع إقامة الجوامع بأي حال ولا يمنع المسلمين والمسلمات من تأدية فريضة الصلاة والعبادة, بل يرفض إقامة مآذن ترتفع في السماء حيث يرتقيها المؤذنون خمس مرات في اليوم ليعلنوا عن إقامة الصلاة أو ليؤذنوا من داخل الجوامع ويمتد الصوت إلى مسافات بعيدة من خلال مكبرات الصوت التي تنصب فوق المآذن لتوقظ المسلمات والمسلمين ناس للصلاة. ولكن هذه المآذن لا توقظ المسلمات والمسلمين فقط بل وتوقظ أتباع بقية الديانات الذين لا علاقة لهم بدين وصلاة المسلمين, بل يحترمون ذلك طبعاً. والمئذنة في الأصل ليست من أصل الدين ولم تبن الجوامع بمآذّن إلا في فترة متأخرة ولم يتحدث عنها النبي محمد ولم ترد في القرآن, فهي واحدة من إبداعات المسلمين في منافسة نواقيس المسيحيين علواً وارتفاع صوت. ولهذا فهي ليست ضرورية, إذ يمكن أن يتم الآذان في داخل الجوامع وبدون مكبرات صوت.
ومن جو هذه المنافسة كتب أبو العلاء المعري أبياته الشعرية الجميلة:
في اللاذقية ضجـة       ما بيـن أحمد والمسيح
               هذا بناقـوس يـدق      وذا بمـأذنـة يصـيـح
كل يعـزز ديـنه         يا ليت شعري ما الصحيح

 
إن هذا الإجراء الذي جاء بعد استفتاء شعبي فرض على الحكومة السويسرية إجراؤه بموجب الدستور السويسري يختلف في جوهره ومضمونه الديمقراطي عن السلوك الاستبدادي لجهتين أساسيتين في المجتمعات العربية والإسلامية نشير إليها فيما يلي:
1 . الموقف الحكومي لعدد من الدول العربية التي لا تسمح بإقامة الكنائس المسيحية في بلادها أو أن يسكن المسيحيين فيها, ومنها أولاً وقبل كل شيء الدولة السعودية التي لم يبق فيها من أتباع الديانات الأخرى أي فرد ولم ترتفع أي كنيسة على هذه الأرض. ونجد هذه الممارسة في عدد آخر من الدول حيث حولت الكنائس فيها إلى مساجد, كما في تركيا مثلاً.
2 . السلوك المتوحش للمتطرفين والإرهابيين من المسلمين والمسلمات الذين قتلوا أو هجروا أعداداً كبيرة من المسيحيين وأتباع الديانات الأخرى من ديارهم ومنازلهم وشتتوهم في بلدان أخرى أكثر احتراماً للديانات, ومنها الإسلام. وأقرب مثال على ذلك قتل وتهجير المسيحيين من البصرة والموصل وبغداد أو الصابئة المندائيين من جنوب العراق وبغداد أو قتل الإيزيديين في أقضية الموصل ... وليس ما يجري في إيران ضد أتباع الديانات الأخرى بخاف على أحد, رغم الأسلوب الهادي الذي يمارس هناك لتهجير المسيحيين من موطنهم الأصلي إيران. علينا أن نتذكر حرق الكنائس في العراق وتركيا,
علينا أن نتذكر السلوك الوحشي للمتطرفين والإرهابيين والطائفيين المسلمين ضد المسلمين من طوائف أخرى في العراق أو في الهند أو باكستان أو أفغانستان أو إيران أو في السعودية واليمن. وما جرى ويجري في العراق حتى الآن يمنحنا الثقة العالية بأن الإجراء السويسري حضاري وديمقراطي إلى ابعد الجدود ما دام لا يمس الدين أبداً ولا أتباع هذا الدين, بل يمس بدعة من بدع المسلمين الكثيرة ومنها إقامة المآذن, مع ما يجري في بلدان العرب والمسلمين ليس إزاء أتباع ودور العبادة لأتباع الديانات الأخرى فحسب, بل وضد أتباع الدين الإسلامي أيضاً. 
إن الدستور السويسري يمنح المسلمات والمسلمين إقامة الجوامع وإقامة الصلاة في أوقاتها المحددة وليس هناك من يحرمها ذلك. ومن حق الناس أن تبني ما تشاء من الجوامع أو المساجد شريطة أن لا تقيم المآذن, وهذا الإجراء غير متعارض مع حقوق الإنسان وحرية الفرد في أداء طقوس الدين والعبادة.
ولكن من المفيد أيضاً تقديم اقتراح إلى السويسريين في أن يمنعوا بناء منارات خاصة لكنائسهم الجديدة لكي لا تنصب فيها الأجراس الكبيرة ويمنع دق النواقيس في الكنائس التي أصبحت تمتلك ذات الرمزية المآذنية للمسلمين. وهو مقترح لا غير!
إن المتطرفين والإرهابيين وكذا المحافظين والمتزمتين من المسلمين والمسلمات سيثيرون ضجة كبيرة في سائر بلدان العالم ضد الإجراء السويسري بذريعة معاداة  هذا الإجراء للإسلام والمسلمين والمسلمات, وهو موقف خاطئ وخطير في آن واحد وسيقود إلى عواقب سلبية, إذ يمكن أن يتجرأ البعض بممارسات إرهابية وقتل البشر بدون مبرر. وعلى شيوخ الدين ان يلعبوا دورهم في تهدئة الخواطر المتهيجة وليس في إثارة العاطفة المرضية والحماس البدائي لدى البعض من الناس الجهلة الذين لا يعرفون أن المنارة ليست من أصل الدين. 
أتمنى أن ينتصر العقل لدى العرب المسلمين وغير العرب من المسلمين بحيث لا يجدوا في هذا الإجراء سوى ممارسة جماعة سكانية حقها المشروع وفق دستور بلادها وليس في جوهره عداً للمسلمات والمسلمين أو الإسلام.
10/12/2009                   كاظم حبيب

1145
كاظم حبيب
إيران واللعب والمراهنة على كسب الوقت!

كل الذين كانوا يراهنون ويصرون على الرأي القائل بأن إيران لا تهدف إلى تعزيز قدراتها العسكرية بامتلاك السلاح النووي والصواريخ ذات المدى المتوسط والبعيد , وأن إيران لا تريد أن تكون دولة عظمى في الشرق الأوسط وتفرض سياساتها على المنطقة وتصدر ثورتها الدينية ودولتها الثيوقراطية المتخلفة إلى الدول الأخرى , برهنوا على أنهم كانوا حسني النية وعجزوا عن الإمساك بالخيط الأساسي وما يسمى في العراق مجازاً بـ (رأس الشليلة) الذي يوجه إيران وسياستها في المنطقة وعلى صعيد العالم الإسلامي. فمنذ سقوط نظام الشاه في إيران وهيمنة قوى الإسلام السياسي الطائفية على السلطة برزت نزعتان إضافيتان للدولة الإيرانية الإسلامية بالمقارنة مع دولة الشاه , إضافة إلى التعصب القومي الفارسي , وهما: التعصب الديني والقناعة بأنهم يمثلون الدين الإسلامي الصحيح أولاً , والسعي لتصدير الثورة الإيرانية  إلى الدول الإسلامية , ومنها الدول العربية, ثانياً. ومن هذه العناصر الثلاثة : الذهنية القومية الشوفينية , التي كانت لدى الشاه أيضاً , والذهنية الدينية الطائفية المتعصبة وتصدير الثورة الإسلامية , نشأ تطلعها غير المحدود نحو تحويل إيران إلى دولة عظمى في منطقة الشرق الأوسط وفي إطار الدول الإسلامية بحيث تلعب دوراً مميزاً في السياسة الدولية. وتوقعت بأنها ستكون عاجزة عن تحقيق ذلك بالقدرات العسكرية التي كانت لديها والتي برز ضعفها في الحرب ضد العراق , ولهذا توجهت مصحوبة بذهنية مركبة بالعناصر التي أشرت إليها صوب التسلح النووي وامتلاك أحدث الأسلحة والصواريخ ذات المدى المتوسط والبعيد التي يمكن أن تصل إلى أهداف محددة ترى فيها عدواً يهدد مصالحها ومشاريعها وأهدافها. ولم تعلن عن عودتها إلى ذلك رغم وجودها في عضوية لجنة الطاقة الدولة التي تفرض رفض قيام دول جديدة بامتلاك السلاح النووي.
واليوم نلاحظ أن إيران تلعب بالنار حقاً وتراهن على الصراع الدولي بين روسيا الاتحادية والصين الشعبية من جهة , والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى , لتكسب الوقت المناسب لإنتاج السلاح النووي , الذي كما تعتقد سيعرقل قدرة العالم على التحرش بها , إذ أنها ستهدد إسرائيل بسلاحها النووي. ولكن إيران تنسى بأن السلاح النووي موجود لدى إسرائيل أيضاً وبكمية اكبر مما تستطيع إنتاجه إيران خلال الفترة القادمة , إضافة إلى وجوده بيد حلفاء إسرائيل الدوليين.
إن ممثل الحرس الثوري , الرئيس الإيراني الراهن , مصاب بجنون العظمة والرغبة الجامحة بامتلاك إيران للسلاح النووي , ولا يختلف كثيراً عن جنون صدام حسين الذي دفع العراق لخوض مغامرات قاتلة كانت عاقبتها فرض الاحتلال رسمياً على العراق من جانب مجلس الأمن الدولي , وسلم هذا الدكتاتور  ما يقرب من مليون ونصف المليون إنسان عراقي إلى ملك الموت خلال حكمه الشائن. ولكن ما سوف يترتب على السياسة الإيرانية , إن سارت بهذه الوجهة الراهنة وإذا ما وصل رئيس جمهوريتها والقوى المحافظة الأكثر يمينية بدفع إيران إلى حافة الحرب مع الغرب , , سيكون أسوأ من ذلك بكثير. لا يمكن لإيران أن تراهن على الصراع الراهن في داخل الولايات المتحدة بشأن الانتخابات إذ أن تلك الأحزاب كلها سوف تقف ضد التسلح النووي الإيراني وستقابله بتدمير كامل لهذا السلاح وتعيد إيران إلى ما قبل الفترة الصناعية , كما حصل مع العراق. كما على حكام إيران القوميين والطائفيين والمستبدين أن لا يراهنوا على الصراع الروسي الأمريكي , إذ أن روسيا بدأت تدرك المخاطر التي وراء نهج التسلح والعسكرة الإيرانيين والذي يهدد مصالحها وأمن منطقة الشرق الأوسط أيضاً.
ولكن المخاطر في حالة نشوب حرب لن تكون على إيران وحدها , بل ستشمل جميع دول المنطقة , وبالتالي يمكن أن تتسبب في موت عدد كبير جداً من الشر وتحمل خسائر مادية وحضارية بالغة. ولهذا لا بد للعالم أن يتحرك وأن يتضامن في هذه المرحلة الحرجة بالذات وقبل فوات الأوان من أجل وقف التسلح النووي الإيراني ومنع انتصار جنون العظمة وجنون الدولة العظمى التي يسعى الحكام الإيرانيون إلى بلوغها , إذ أنها ستكلف البشرية غالياً. ولا بد من وقف تدخل إيران في شئون دول المنطقة , سواء أكان ذلك في العراق أم في لبنان أم في فلسطين , إذ أن لذلك عواقب وخيمة على الشعوب العربية بشكل خاص , في حين تبقى إيران في مثل هذا الصراع بعيدة عن الأحداث ولكنها تلعب دور الموجه والمشرف والمعبئ إعلامياً وفكرياً وسياسياً والممول بالمال والسلاح والعتاد والرجال. لنواجه المخاطر الإيرانية الآن وقبل فوات الأوان.
7/2/2008                         كاظم حبيب
   

1146
كاظم حبيب

الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية ودولة إيران الإسلامية الشيعية

الدول المتجاورة جغرافياً وحدودياً لا سبيل لها لتغيير مواقعها والخلاص من هذه الدولة الجارة أو تلك, فأراضي دول الجوار متلاصقة شاءت هذه الدولة أو تلك أم رفضت. وهذا الواقع الذي لا خيار فيه يفرض على الدول المتجاورة أن تلتزم بممارسة صارمة وحازمة لمبادئ حقوق الدول التي أقرتها الأمم المتحدة وضمنتها في لائحتها الأساسية وأصبحت ملزمة لجميع الدول كبيرها وصغيرها, وأعني بها: مبادئ الاحترام المتبادل للاستقلال والسيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والسعي لإقامة علاقات حسن جوار وتعاون وتبادل المنافع المتعددة الجوانب وحل المشكلات بالطرق التفاوضية السلمية في ما بينها أو بمساعدة طرف ثالث أو الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية. والالتزام بها يعتبر ضمانة فعلية لسيادة الأمن والاستقرار والسلام والاحترام والمنفعة المتبادلة لجميع الأطراف. وبعكس ذلك تنشأ الكثير من الصراعات والنزاعات والحروب ويعم الموت والخراب والكراهية والحقد بين حكومات وشعوب البلدان المتجاورة. وتاريخ العالم يقدم لنا دروساً غنية ومريرة في هذا الصدد, ومنها تاريخ منطقة الشرق الأوسط, إضافة إلى الحرب الاستعمارية الأولى 1914-1918 وكذلك الحرب العلمية الثانية 1939-1945. وتاريخ الدولتين العثمانية والفارسية يقدم, على سبيل المثال لا الحصر, ما يكفي من الأدلة الدامغة للبرهنة على غياب تلك المبادئ في العلاقة بين الإمبراطوريتين في تلك العهود, أي قبل قيام عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة. كما أن تاريخ العلاقات بين العراق وإيران في الربع الأخير من القرن العشرين ما يؤكد على سيادة قانون الغاب وليس النظام الداخلي للأمم المتحدة.
في الواقع العراقي الراهن ما يؤكد ضرورة العودة لدروس الماضي في العلاقة بين الدولتين الفارسية والعثمانية في العراق لتجنب مأساة الصراع المذهبي الذذ حكم تلك العلاقة بنوايا استعمارية طبعاً. فقد اشتد الصراع والنزاع بين النخب الحاكمة في الإمبراطوريتين لا على استمرار احتلال إحداهما أو الأخرى للعراق واستغلال شعبه وخيراته في هذه الفترة أو تلك وخوض الحروب على الأرض العراق وما اقترن بذلك من خراب ودمار وموت وأحقاد فحسب, بل وإشاعة وتأجيج الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة والتجاوز الفظ والاعتداء على دور العبادة والمراقد المقدسة لأئمة الشيعة والسنة في المدن العراقية والتي ساهمت بافتعال مجازر دموية مرعبة ضد سكان العراق, إضافة إلى العداء والإيذاء المتواصل للكُرد في كل كردستان وفي كرُدستان العراق على نحو خاص. لقد كانت فترات مريرة في تاريخ العراق والشعوب العراقية والإيرانية والتركية والكردية والقوميات الأخرى التي كانت ولا تزال تعيش على أراضيها في هذه المنطقة من العالم. وإذا كانت الدولة العثمانية قد مارست سياسة هادئة إزاء المسيحيين واليهود, بسبب علاقاتها مع الدول الأوروبية, إلا أنها لم ترحم الإيزيديين باعتبارهم مرتدين عن الدين الإسلامي! كما لم ترحم الصابئة المندائيين أو أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى في إطار هذه المنطقة الجغرافية. وكذا الحال مع الدولة الفارسية في سياساتها إزاء القوميات وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى.
ولسنا بعيدين عن سياسة نظام البعث الدكتاتوري في عدائه القومي والمذهبي لجمهرة كبيرة جداً من سكان العراق اتهموا بالتبعية الإيرانية, سواء أكانوا من الكُرد الفيليين أم عرب الوسط والجنوب, وهم من أتباع المذهب الشيعي.
ولكن أسوأ المعاناة برزت في فترة الحرب بين العراق وإيران التي دامت قرابة ثماني سنوات عجاف. ولا شك في أن حرب الخليج الأولى قد بدأ بها نظام البعث ألصدامي, ولكن إيران الإسلامية لم تكن بريئة تماماً وبدون مسؤولية إزاء وقوع الحرب, إذ أنها بدأت تتدخل بشكل فظ في الشأن الداخلي العراقي ودفعت بالدكتاتور إلى مزيد من الإرهاب الداخلي وإلى شن الحرب ضد إيران. وراهن النظامان المستبدان على قدرتِهما في إسقاط الآخر عبر هذه الحرب. ومعاناة الشعبين كانت كبيرة جداً من الحرب ومن سياسات حكومتيهما في الداخل.   
والآن فنحن أمام حالة جديدة بعد سقوط النظام الدكتاتوري عبر حرب خارجية واحتلال العراق من قبل قوات الدولتين الأمريكية الشمالية والبريطانية ومجموعة من الدول المتحالفة معهما وما جر هذا الأسلوب في إسقاط النظام وما بعده من تداعيات على الساحة السياسية العراقية والإقليمية والدولية. إذ أن ترك أبواب العراق مشرعة أمام من كان يريد ولوج العراق, قد سمح ليس بحرية التنقل للناس الطيبين بين البلدان المتجاورة حسب, بل وسمح أيضاً بدخول قوى الإرهاب من مختلف الجنسيات والهويات الفكرية والسياسية, ومختلف عصابات الجريمة المنظمة ومهربي القطع الأثرية المنهوبة والأموال وموردي السلاح بالسوق السوداء ومن قبل الدول الراغبة في الهيمنة على سياسة العراق, ومنها الدول المجاورة, وخاصة إيران والسعودية وسوريا ودول الخليج, إضافة إلى دول أخرى شاركت في كل ذلك. وكان هم الولايات المتحدة سحب الإرهابيين إلى الأرض العراقية لخوض المعركة معها على أرض العراق, واعتقدت بأنها قادرة بهذه الطريقة البائسة على كسب المعركة ولم تدرك بأن قوى الإرهاب يمكنها أن تتحرك في كل الاتجاهات وغير مقيدة بحدود كما هو حال الجيوش النظامية, ما دامت هناك الكثير من النظم السياسية يساعدها في نشاطها الإجرامي. وقادت هذه السياسة وغيرها إلى مآسٍ دموية وخراب اقتصادي ونهب وسلب لا مثيل له في تاريخ العراق الحديث, وهي حالة لا تزال بهذا القدر أو ذاك قائمة ويعاني منها شعب العراق بكل قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه مع فارق ملموس ومهم في إقليم كردستان العراق, إذ كان الشعب الكردي قد تخلص من سيطرة نظام صدام حسين المباشرة منذ العام 1991¸وكان الوضع الأمني مستتباً في الإقليم واستمر حتى الوقت الحاضر. وهي حالة ممتازة.
وفي مثل تلك الأجواء التي نشأت ما بعد سقوط النظام الاستبدادي تسنى لإيران دخول العراق وفرض هيمنة سياسية واجتماعية فعلية على منطقتي الوسط والجنوب وإلى حدود بعيدة على بغداد أيضاً, رغم أن الهيمنة من حيث إصدار القرارات كانت بيد الحاكم بأمره بول بريمر, إلا أن التنفيذ لم يكن بالكامل بيد الولايات المتحدة وبريطانيا, بل كان يتأثر بالدور الإيراني وسياستها في العراق بصورة غير مباشرة,
لا أتهم الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية بأنها كانت وراء ذلك أو أنها تابعة لإيران, فهي أحزاب عراقية, رغم أن بعضها تأسس في إيران, كما في المجلس الأعلى الإسلامي, ولكن دخلت القوى الإيرانية إلى صلب هذه الأحزاب ومعها جمهرة واسعة جداً من ثلاثة أصناف من الناس , وهي:
قوى سياسية مؤمنة بأهمية دور إيران الشيعية الصفوية في العراق الذي يراد له السيطرة طائفياً على حكم العراق الحديث بعد حكم السنة الذي قارب الثمانية عقود, إذ أنها ترى وتعتقد بأنها غير قادرة على الحكم دون دعم إيران, الدولة الكبرى في المنطقة. وعلينا أن نفهم تداعيات مثل هذا التصور على بقية القوى العراقية السنية والدول المجاورة التي تدين بالمذهب السني.
قوى سياسية إيرانية بهويات عراقية ولجت إلى هذه الأحزاب واستطاعت أن تسير الكثير من الأمور وتصدر الكثير من القرارات بما يخدم مصالح إيران قبل أن يخدم مصالح العراق.
قوى بعثية شيعية ولجت إلى هذه الأحزاب باتجاه التوبة, وهي في ممارساتها أصبحت في الكثير من الجوانب تدين بالولاء لإيران أكثر مما تدين بالولاء للأحزاب السياسية الإسلامية العراقية, وكانت من بين القوى التي ساهمت بقتل الكثير من البشر. وجمهرة غير قليلة من هؤلاء من الجنود الذين أسروا وجرى غسل أدمغتهم وإرسالهم ثانية للعراق أو التحقوا بفيلق بدر, المنظمة العسكرية التابعة "للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية". 
واستطاعت إيران الهيمنة على عدد كبير من منظمات أهلية اجتماعية ودينية وسياسية أسست على أساس أنها منظمات مجتمع مدني وأحزاب إسلامية صغيرة تحت أسماء كثيرة للغرض نفسه. ومن خلال كل ذلك كانت إيران تسعى إلى تحقيق ما يلي:
1 . الهيمنة الكاملة على الحكم والسياسة العراقية لا في الداخل حسب, بل وباتجاه الدول العربية والدول الإسلامية والخارج, رغم وجود الولايات المتحدة التي تحكمت لسنوات عدة بإصدار القرارات والعجز النسبي عن التنفيذ, إذ كان التنفيذ بأيدي قوى أخرى عملياً.           
2 . التأثير المباشر على دور المليشيات الطائفية المسلحة في العراق ودفعها باتجاه تنفيذ مهمات تخدم مصالح إيران في العراق, ومنها قوى في منظمة جيش المهدي وفيلق بدر, رغم وجود صراع بين الاثنين على التحكم بالسلطة والشارع.
3 . العمل على تهديد وقتل وتشريد وتهجير واختطاف أتباع الديانات الأخرى من مسيحيين وصابئة مندائيين في جنوب ووسط العراق لإفراغهما منهم تماماً. والكثير من المختطفين نقلوا إلى إيران وتمت تصفيتهم هناك.
4 . تهديد وقتل وتشريد وتهجير الكثير من العائلات والعناصر الديمقراطية التي ترفض الانصياع لها ولمواقفها السياسية إزاء ما يجري في العراق. وسجل القتلى والجرحى والمعوقين من هؤلاء الضحايا لا يزال ينمو ويكبر بأسماء جديدة.
5 . وتسنى لأتباع المليشيات الطائفية المسلحة الشيعية الولوج بشكل خاص إلى مؤسسات وقوات وزارة الداخلية ووزارة الأمن الداخلي والجيش في فترة وجود الدكتور إبراهيم الجعفري على رأس الحكومة العراقية ولفترة غير قصيرة. إذ لم يكن الدخول على شكل أفراد فحسب, بل من خللا السيطرة على هيكلية هذه الوزارات وأجهزتها المسؤولة عن الأمن ومكافحة الجريمة أو مطاردة الإرهاب, في حين كانت هي بالذات قوى إرهابية. وتعتبر فترة وجود الجعفري على رأس الحكومة الفترة الذهبية لإيران حقاً وانتعاش دورها ومؤسساتها الأمنية والإرهابية في العراق والتأثير على وجهة العمل أيضاً, ولكنها كانت في القوت نفسه أسوأ فترة خلال السنوات السبع المنصرمة, حتى كان بيت الشعر التالي ملائماً لهذه الوزارة:
       أي طرطرا تطرطري        تقـدمي تأخـري
       وزارة من كركـري      يرأسها الجـعفري
 
ورغم الضربات التي وجهتها القوات المسلحة العراقي ة لمليشيات جيش المهدي المسلحة بقرار من رئيس الوزراء, والتي لم تمس قوات فيلق (منظمة) بدر التي حافظت على وجودها بذات القوى والرئاسة والوجهة والأهداف والتسلح, لم تتضرر هيكلية جيش المهدي وحافظت على  بنيتها التي غادرت إلى إيران ثم بدأت تعود تدريجاً منذ سنتين, وهي لا تزال تمتلك قواها الخاصة وتأثيرها على مناطق من بغداد والعراق وتتحكم بسكانها, إذ بمقدورها, ومقدور ميليشيات أخرى, استخدام كواتم الصوت لإسكات أي صوت لصحفي أو لسياسي معارض لهذه القوى يمكن أن يتعرض أو يهدد مصالحها الأساسية أو يكشف عن فضائح معينة في العراق.
هل يعرف رئيس الوزراء العراقي هذه الأمور وغيرها؟
لدي القناعة, وأرجو أن أكون مخطئاً, بأنه يعرف جيداً دور إيران وقواها في العراق, وأنه على الأقل مطلع بما فيه الكفاية على عدة مسائل جوهرية, وهي:
1 . إنها مالكة لزمام المبادرة والتأثير المباشر على جوهر سياسات ومواقف غالبية الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية في العراق, ولكنها ليست بالضرورة قادرة على ممارسة التأثير المباشر على بعض العناصر المهمة في هذه الأحزاب.
2 . وإنها مالكة لقوة مهمة ومؤثرة في كل من وزارة الداخلية ووزارة الأمن الداخلي, كما لديها في العراق جهاز أمن سري تابع لأجهزة الأمن الإيرانية والحرس الثوري الإيراني ومتغلغل في أوساط واسعة وفي الجوامع ومنظمات المجتمع المدني, إضافة إلى العديد من الوزارات.
3 . وأنها تساهم مع أجهزة الأمن السورية وقوى فيها في إشاعة عدم الاستقرار في العراق.
4 . وأنها أصبحت تهيمن على نسبة مهمة من التجارة الخارجية للعراق وعلى السوق المحلي في الوسط والجنوب وبغداد, وأن هذه الهيمنة تمنحها القدرة في التأثير غير المباشر على حركة الاقتصاد الوطني وعلى السياسة الداخلية العراقية.
5 . وأن كل هذه العوامل تساعدها في التأثير غير المباشر وأحياناً المباشر على سياسات ومواقف الحكومة العراقية.
6 . وأنها تتجاوز منذ سنوات على حقول النفط العراقية في العمارة وتفرض هيمنتها عليها, وهو تجاوز فظ على سيادة العراق, على أرضه وثرواته. 
ومع هذا فأن رئيس الوزراء العراقي يرفض حتى الآن التعرض لإيران ودورها السلبي في العراق, ولكنه يتحدث عن دور سوريا في لعراق, وهو يعرف أن سوريا تلعب دور التابع الذليل للسياسة الإيرانية في العراق, بدلاً من التوجه صوب الرأس المحرك والدافع للأموال من أجل إشاعة عدم الاستقرار في العراق. وإذ أصبح العدوان صارخاً ودخلت قوات إضافية غلى الأرض العراقية, ارتفع صوت الناس قبل صوت الحكومة.
وكان الكاتب الدكتور رشيد الخيون قد أصاب الهدف حين أشار إلى ابتعاد رئيس الوزراء العراقي عن توجيه الاتهام لإيران رغم وجود أدلة كافية لدى القوات الأمريكية على الدور التخريبي لإيران, ومنها تهريب الأسلحة والإرهابيين وتهريب المخدرات والأموال لمساعدة قواها وأتباعها في العراق.
إن الخطب والتصريحات التي يلقيها السيد رئيس الوزراء لم تعد مملة للناس وعافت عن سماعها الآذان فحسب, بل هي بعيدة كل البعد عن واقع الحال في العراق. فالنوايا الحسنة التي يريد إقناعنا بها عن الدور الإيجابي لإيران يمكنها أن تقود الشعب إلى جهنم وبئس المصير. وهو ما ينبغي تجنبه. والسؤال الذي يدور في البال هو: هل في مقدور رئيس الوزراء أن يتحدث بما يعرفه عن النشاط الإيراني في العراق, أم أنه عاجز لأسباب نعرفها ويعرفها هو أيضاً؟
لم يستطع حتى مستشار الأمن القومي, المعروف بطائفيته ومشهود له بها, أن ينكر دور إيران في العراق والعواقب الوخيمة المترتبة عن هذا الموقف.
ليست هناك من أسرارٍ غير معروفة بهذا الصد, ولكن من المفيد بلورة بعض النقاط:             
** من المعروف عن قيادة حزب الدعوة الإسلامية, ورغم التزام قائده المؤسس الشهيد محمد باقر الصدر بولاية الفقيه, وبخاصة بعد إسقاط نظام الشاه وتولي الخميني مسؤولية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران, إنها اضطرت على مغادرة إيران والتحول إلى سوريا أو الدول الأوروبية وكندا للعيش فيها ومواصلة العمل السياسي بهدف التخلص من الضغوط الإيرانية عليها والتدخل في شؤون الحزب الداخلية وبأمل التصرف باستقلالية إزاء الوضع في العراق والتحالفات السياسية التي تراها القيادة  ضرورية. وقد سجل هذا الموقف المستقل لصالحه. ولكن هذا الحزب, ونتيجة تلك الضغوط انشطر على نفسه, كما خرج منه محمد باقر الحكيم الذي شكل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي كان أكثر التصاقاً بإيران والسياسة الإيرانية, ولا يزال كذلك, إضافة إلى الصدريين الذين نواتهم الأساسية من جماعة الشهيد محمد باقر الصدر. وفي الغربة انشطر حزب الدعوة الإسلامية عدة مرات ولأسباب كثيرة. ولهذا كان الحديث يجري عن تنظيم الخارج وتنظيم إيران أو تنظيم الداخل, وكانت سياساتها ومواقفها غير موحدة تماماً.
** وحين وصل هذا الحزب, الذي رفض الحرب كما رفضها الحزب الشيوعي العراقي ودخلا في تعاون مشترك بهذا الصدد, مع بقية القوى السياسية العراقية إلى السلطة, كان الدكتور إبراهيم الجعفري على رأس الحزب ثم تسلم رئاسة الحكومة في ضوء وجوده بتحالف البيت الشيعي أو الائتلاف الوطني العراقي. مارس الجعفري سياسة طائفية سياسية وسياسة موالية لإيران وللمليشيات الطائفية الشيعية المسلحة, وخسر بذلك تأييد الكثير من القوى الداخلية, وأجبر على مغادرة الحكم وتسلمه إلى نائب رئيس الحزب نوري المالكي. ونتيجة ذلك كانت انشطارا جديداً في حزب الدعوة قاده الدكتور الجعفري المسحور والمفتون بالسلطة إلى حد اللعنة, في حين قاد المالكي وعلي الأديب حزب الدعوة الإسلامي والحكومة في آن. إن هذا الموقع الجديد الذي أحتله المالكي في الحزب والحكومة ممثلاً عن الائتلاف الوطني العراقي الذي كان يقوده عبد العزيز الحكيم قد وضع رئيس الوزراء الجديد تحت تأثير عوامل عدة ضاغطة باتجاهات مختلفة وكانت أمامه تجربة الجعفري الفاشلة جداً, كانت نتيجتها عدم وجود سياسة واضحة في مختلف المجالات وغياب القدرة على اتخاذ قرارات جريئة لمعالجة الوضع في ما عدا الضربات المحدودة التي وجهت لجيش المهدي وكذلك ضربات جماعات الصحوة بدعم من الولايات المتحدة لقوى القاعدة مما أسهم في خلق وضع أمني أفضل حصل من خلاله على تأييد ونجاح واضحين في انتخابات مجالس المحافظات. وقد ساعد هذا الموقف على طرح شعار المواطنة بدلاً من الهوية الطائفية, الذي كرره كثيراً دون تلمس نتائج له.
** إن هذا الشعار الوارد في خطب وتصريحات المالكي لم يخرج إلى حيز التنفيذ, وهي نتيجة مباشرة للضغط المتزايد عليه من ثلاثة أطراف, وهي: أ) البيت الشيعي الذي أسسه الدكتور أحمد الجلبي لخوض الانتخابات الأولى بتركيبته الطائفية الجديدة, رغم تطعيمها بقوى الحزب الوطني الديمقراطي (نصير الجادرجي) وعامر حسن فياض, ب) جماعات في حزبه لا تزال ترى ضرورة التحالف مع الائتلاف الذي يضم المجلس والصدريين, ج) إيران التي ترى ضرورة ممارسة سياسة طائفية في العراق لترتبط عضوياً بالسياسة الإيرانية, إذ لم تكن زيارة رئيس البرلمان الإيراني للعراق في فترة تشكيل التحالفات عبثية ودون محاولة للتوفيق بين القوى الشيعية.
وهذه الضغوطات كانت ولا تزال تمنع رئيس الوزراء من توجيه الاتهامات لإيران في سعيها لإشاعة الفوضى في العراق واتهام سوريا فقط, وهو المدرك حقاً للعلاقة العضوية الراهنة بين إيران وسوريا ولأنهما ينسقان في السياسة إزاء العراق. كما لم يتحدث, وكذا وزير النفط, عن تجاوز إيران على حقول النفط العراقية وغيرها.
إن القوى الإسلامية الشيعية, ومنها حزب الدعوة بجناحيه المنشق (الجعفري) والأصل (المالكي-الأديب), وكذلك الأحزاب الإسلامية الشيعية الأخرى, ترى في إيران دولة كبرى في منطقة الشرق الأوسط داعمة وحامية لوجود هذه الأحزاب في السلطة ومخففة من ضغوط الدول العربية ذات الهوية السنية عليها, كما أن إيران ترى في استمرار وجود هذه القوى في السلطة لصالحها, إذ أنها لا تسلك سياسة معادية لإيران, بل تمارس سياسة الدفاع عن إيران.                     
** من يعرف طبيعة الأحزاب الإسلامية السياسية, يدرك أنها لا تتبنى الديمقراطية في الحياة السياسية ولا تشكل عندها فلسفة مقبولة, بل اعتبرتها في الآونة الأخيرة أداة للوصول إلى السلطة والسعي الكامل بكل السبل للبقاء في السلطة. وهذا الأمر ينطبق بالكامل على حزب الدعوة الإسلامية. إذ أن هذا الحزب ينطلق من ذات الأهداف التي حددها الشهيد محمد باقر الصدر والتي لا تختلف عن أهداف الخميني أو علي خامنئي. وما الاختلاف في الأساليب والأدوات إلا التعبير عن تباين في الإمكانيات وفي الظروف الراهنة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية. 
من هنا يفترض في المواطنة والمواطن العراقيين أن يتمعنا ويتابعا الحالة التالية:
هل أن تصريحات وخطب رئيس الوزراء العراقي المتكررة حول الديمقراطية والمواطنة تنطلق من تحول فعلي في مواقفه ومواقف حزبه الإسلامي السياسي أم أنها مجرد تكتيكات تمارس لمواصلة البقاء في السلطة, وهي ذات التكتيكات التي مورست من قبل قوى سياسية أخرى ولكنها تحولت عنها بعد أن وصلت إلى السلطة. وأنها ستسلك سبيلاً آخر وتمارس نهجاً آخر غير ما ادعته قبل الانتخابات.
علينا أن نراقب الموقف من حرية الإعلام وسبل التعامل مع الصحفيين والكتاب, إذ إن إشارات غير قليلة ذات وجهة تنتقص جدياً من حرية الصحافة أو الإعلام بشكل عام بدأت تبرز في سياسة رئيس الحكومة في الآونة الأخيرة. وهي الإشارات التي يمكن أن تصبح نهجاً وتمتد لتشمل بقية الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية ...الخ. وغالباً ما يبدأ الاستبداد بفرض الرقابة على حرية الإعلام وتهديد الصحفيين والكتاب أو قتلهم بطرق شتى!
أدرك تماماً بأن حزب الدعوة لا يمكنه حالياً ممارسة النهج الاستبدادي أو احتكار السلطة كما يرغب أو كما يجري حالياً في إيران لأسباب منها ما يرتبط بالواقع السياسي العراقي, ومنها ما يرتبط بالتكوين القومي والديني والمذهبي للعراق, ومنها ما يرتبط بالتجربة الغنية والمريرة التي مرَّ بها الشعب العراقي مع الدكتاتورية والفاشية ومع أي رداء يمكن أن تختفي خلفه الدكتاتورية, إضافة إلى محيطه الإقليمي بطابعه القومي والمذهبي, وكذلك الوضع الدولي ووجود القوات الأمريكية في العراق ودورها الراهن. كما أن القوى الكردية سوف تلعب دورها المضاد لأي سياسة استبدادية على صعيد العراق, إذ أن الفيدرالية لا يمكن أن تعيش في ظل الدكتاتورية والاستبداد في بغداد, بل تنتعش وتتطور في ظل الحرية والديمقراطية على صعيد العراق كله. إلا أن هذا يتطلب تعديلاً جدياً في سياسات القوى الكردستانية وحكومة الإقليم بما يسهم في تعزيز القوى الديمقراطية على صعيد العراق كله والانطلاق من أهداف عراقية عامة وعدم إخضاع كل الأمور للأهداف الكردستانية التي تضيق الأمور إلى حد بعيد, بحيث تتعرض مكاسب الشعب الكردي كلها إلى مخاطر جدية. فتجاربنا غير قليلة بهذا الصدد. وواقع العراق الراهن ليس نهاية التاريخ ولا المكاسب المتحققة, بل هي قابلة للتراجع والتقدم. وعوامل عديدة سوف تلعب دورها في أي من الاتجاهين, ومنها دور الشعب الكردي وكل القوى الديمقراطية العراقية.
ستبقى إيران طالما بقي الحكم الراهن فيها, تواصل فعلها المباشر وغير المباشر بالتدخل في الشأن العراقي, ولكن علي كل الشعب العراقي تقع مسؤولية إيقاف التدخل الإيراني المستمر في العراق وفضح أهداف إيران في العراق والمنطقة, كما فعل أخيراً النائب السيد أياد الجمالي, وليس على رئيس الوزراء وحزبه الذي لم يمارس فضح دور وطبيعة السياسات الإيرانية في العراق والمنطقة حتى الآن بل دافع باستمرار عن إيران واعتبرها لا تتدخل بالشأن العراقي وهاجم التابع لإيران الكامن في الدور السوري وفي دور السعودية. وقد تعرض أياد جمال الدين بسبب مواقفه الصارمة والصريحة من إيران إلى عدة محاولات اغتيال نجا منها بأعجوبة من ذات القوى التي تؤيد إيران أو من قوى إيرانية فاعلة في العراق في الغالب الأعم.
إن الأيام والأشهر القادمة ستبين لنا مدى حرص رئيس الوزراء العراق على الديمقراطية والمواطنة والحرية التي تحدث عنها, ومدى قدرته في التصدي للأهداف الإيرانية في العراق. وكل آت قريب!
21/12/2009                كاظم حبيب   

1147
كاظم حبيب
الساعون إلى السلطة كثيرون, بعضهم على استعداد لحكم البلاد بلا شعب!!

الإرهابيون القاعديون والبعثيون الصدَّاميون القتلة, وأعضاء المليشيات الطائفية المسلحة الشيعية والسنية القتلة, هم كثيرون ومنتشرون في أنحاء مختلفة من العراق. إنهم عراقيون من الداخل, كما أنهم من العرب والفرس والأفغان والباكستانيون ومن جنسيات أخرى قادمون من وراء الحدود السورية والإيرانية والخليجية, بما فيها السعودية, فهم قتلة يسعون إلى إشاعة الفوضى والخراب والموت والدمار في العراق, بعضهم يتحرك ويقتل حالياً, وبعضهم الآخر أُدِخلَ في قيلولة بانتظار الأوامر لينهض بعدها ويفجر نفسه أو يفجر شاحنة فيقتل معه أو بدونه مئات الأبرياء من العراقيات والعراقيين من مختلف الأعمار.
كل هؤلاء القتلة ينتظرون الصعود إلى السماء السابعة والدخول إلى الجنة الموعودة بمفتاح القتل الممنوح لهم من شيوخهم القتلة الأوباش والحلم بالعيش في "جنة تجري من تحتها الأنهار وفيها ولدان وحور!..." أنهم الراغبون في الخلاص من العيش على الأرض حيث يواجهون حالات من البؤس والفاقة الفكرية والسياسية والوعي الغائب أو الغاطس في مستنقع من الطقوس الدينية المشوهة والمتخلفة والجائرة.
إن هؤلاء القتلة مأجورون بصيغ مختلفة وهم مقتنعون بما يقومون به بسبب جهلهم المطبق وتخلف عقولهم وبؤس حياتهم اليومية, ولكن الذي يقف وراء هؤلاء القتلة هم القتلة الحقيقيون, هم الموجهون والمخططون لتلك العمليات الجبانة, وهم الذين يحددون الوقت المناسب لتفجير أنفسهم من أجل قتل الآخرين أو تفجيرات عن بعد وفق ظروف المكان والزمان والمهمة المكلفين بها. إن هؤلاء هم المجرمون الفعليون الساعون إلى السلطة بأي ثمن. إنهم مستعدون لحكم البلاد بلا بشر, أو كما قال صدام حسين: لن أترك العراق إلا على خرائب وجثث الضحايا! 
بعضهم يمارس السياسة ويشارك في العملية السياسية, ولكن جناحه العسكري يمارس القتل لإشاعة الفوضى والخراب والدمار والموت في البلاد, إنهم يعيشون بيننا, بعضهم يعمل في القوات المسلحة ويرتدي الملابس العسكرية لتنفيذ عملياته الإرهابية متخذاً منها حماية له ولمن معه. وبعضهم الآخر يمارس عمله اليومي بصورة عادية, ولكنه يمارس القتل ليلاً أو نهاراً كما حصل للسيد العبادي أو للكاتب الشهيد كامل عبد الله شياع أو مئات وآلاف من القتلى والمعوقين الآخرين. بعضهم يقف على مسافة من العملية السياسية رافضاً المشاركة فيها ويمارس جناحه العسكري القتل كلما سنحت له الفرصة لفرض مطالب معينة على العملية السياسية, وبعضهم الآخر يائس من الوصول إلى السلطة, ولكنه يحلم بها ويعمل من أجل تخريب الوضع فيمارس القتل حيثما أمكن. إن القتل والتدمير هما الوسيلتان المناسبتان لهؤلاء السياسيين المجرمين في سبيل الوصول إلى السلطة.
أما القوى الإرهابية في الدول المجاورة فهي لا تريد السلطة لها مباشرة, بل لقوى مؤيدة لها التي أبدت حتى الآن استعداداً تاماً للخضوع لإرادتها وممارسة سياساتها في العراق, إنهم الطائفيون الأشرار من إيران وأفغانستان والسعودية والخليج ومن يتعاون معهم من مواطني دول عربية وإسلامية أخرى, كما في حالة سوريا أو السودان أو المغرب.
إن ممثلي حكومات دول عديدة يجتمعون تحت شعار مكافحة الإرهاب في العراق, ولكن أغلب دولهم مسؤول عما يجري في العراق من إرهاب أسود وموت غير منقطع وعمليات معرقلة لإعادة إعمار البنية التحتية والخدمات الأساسية والاقتصاد الوطني.
التفجيرات التي لم تنقطع منذ الأربعاء والاثنين الداميين وما بعدهما, ومنذ البدء بالتهيئة للانتخابات العامة في العراق, إذ عاد المجرمون القتلة لإشاعة الفوضى, وليبرهنوا بأن الحكم في العراق غير قادر على إشاعة الأمن والاستقرار في البلاد, رغم أن بعضهم يساهم في الحكم, ولكن يريد الحكم له وحده. فمن هم هؤلاء القتلة؟ إنها مهمة غير سهلة, فوضع اليد على العدو أو العدو الحليف أو العدو من ذات المعسكر يتطلب تحقيقاً حراً ومستقلاً ودولياً, وهو ما يفترض الإصرار عليه ليساعد شعب العراق في الكشف عن هويات الدول أو القوى التي تقف وراء تلك العمليات الإجرامية والضحايا البريئة التي هدر المجرمون دمها.   
والسؤال الكبير الذي يفترض الإجابة عنه هو: هل القتلة من بين الأوساط الحاكمة أم من خارجها؟ إن على التحقيق الدولي أن يكشف لنا عن هذه الجرائم البشعة ومن يقف وراء كل ذلك.   
ها هم القتلة يعودون, كعودة حليمة إلى عادتها القديمة, يفجرون ثلاث سيارات محملة بالمتفجرات في مواقع مختلف من بغداد مزدحمة بالسكان, ليقتلوا المزيد والمزيد من البشر, إنه التحالف العدواني القديم الذي عاد للأفعال الشريرة بعد أن شعر بأن قانون الانتخابات لا يناسبه فبدأ يعيد شد الخيوط التي لم تنقطع ليثير الفوضى من جديد ويمنع حصول انتخابات جديدة أو يعرقلها أو بأمل التأثير فيها لعودة القوى الطائفية المقيتة وذات الجماعات والقوى والعناصر المماثلة إلى مجلس النواب العراقي.
إنها المحنة مع حكومة تعلن عن قدرتها على حماية الأمن وتعجز عن كشف مخابئ المجرمين القتلة سواء في صفوف القوى المضادة لها أو من بين صفوفها, إنها محنة الشعب والوطن ونتيجة السياسات الطائفية وسياسات قوى الإرهاب ودور الدول المجاورة في كل ذلك. إنه الطريق الطويل الهادف في الوصول إلى شاطئ الأمن والسلام.
15/12/2009                                                                 كاظم حبيب           

1148
كاظم حبيب
ناس تأكل بالدجاج ... وناس تتلگه العجاج..!!

ناس تأكل بالدجاج ... وناس تتلگه العجاج مثل شعبي قديم, منذ أن بدأ تقسيم العمل الاجتماعي وبروز فائض إنتاج والملكية الفردية لوسائل الإنتاج ونشوء الاستغلال في المجتمع البشري.
وفي العراق يجسد هذا المثل الشعبي وعياً اجتماعياً عميقاً وتلخيصاً لتحليل علمي لواقع اقتصادي ومعيشي قائم تئن تحت وطأته الغالبية العظمى من السكان والكادحين منهم على نحو خاص. إنها الحكمة القديمة التي انبثقت من قلب المجتمع ومن الأوساط الشعبية الجائعة في العراق والتي لم تكف عن دق أبواب الحكام والأغنياء, وهم غارقون في تخمتهم وسادرون في غيهم وفي أذانهم صمم.
هذا المثل الشعبي الرائع المعبر عن وعي طبقي وجمعي صارخ الذي انطبق دوماً على واقع العراق, أصبح اليوم أكثر انطباقاً من أي وقت مضى في البلد الذي حبته الطبيعة بأرض طيبة تختزن ثروة هائلة أسيئ استخدامها على أوسع نطاق منذ أن تم اكتشافها والبدء باستخراجها إلا  في فترة قصيرة, هي الفترة الأولى من حكم قاسم في العراق. 
امرأة شعبية فقدت جزءاً مهماً من أسنانها ويبدو عليها الإملاق والإجهاد والمرض وسوء التغذية, وهي لا تزال في سن الأربعين, تصرخ بأعلى صوتها : " ناس تلعب بالمليارات.. وناس لا تدري وين تنام ولا تدري شتاكل". هذه صرخة حزينة ومتمردة على الخوف تنطلق من فمها كالطلقة لتصل لمن يحكم العراق اليوم ومن بدا وهو في المعارضة وكأنه كان يناضل ضد الجوع ولصالح الجياع, وإذا به يشارك في إشباع ذاته حتى التخمة وإشباع الجائعين بمزيد من الجوع والحرمان.
مضمون صرخة المرأة صحيح ومعبر وأليم, فهو صحيح ومعبر عن واقع قائم. فهناك حسب تصريحات مسؤولين كبار في البلاد زيادة كبيرة في عدد أصحاب الملايير في العراق, وعددهم الكبير لا يقاس بأي حال مع تلك القلة من أصحاب النعمة الحديثة المسروقة من أفواه وبطون عائلات كادحة, من أفراد عائلة وحاشية وبعض أفراد طغمة الدكتاتور المقبور صدام حسين, أولئك الذين يلعبون اليوم بالمليارات لم يحصلوا في الغالب الأعم عليها من عرق جبينهم, بل من نهب المال العام, من نهب خبز الجياع, من الفساد المالي بكل أشكاله.
ومثل هذا الظلم لا يجوز أن يدوم, فأن دام دمر.
كثرة من الحكام والساسة مشغولون بالانتخابات وقانون الانتخابات وسبل الحصول على الأصوات وكيف يمكن إقناع الآخرين على انتخابهم وبسبل مختلفة, بما فيها توزيع النقود لكسب الأصوات, ولكنهم في الغالب الأعم والأغلب منهم نسى هؤلاء الجياع الذين دعا لإنقاذهم من الجوع حين كان معارضاً وحين أصبح حاكما وأحس بدفء الكرسي نسى هؤلاء ولم يتذكر منهم سوى الأقربون له من أفراد العائلة أو من أفراد الحزب المقربين جداً.
وأنا أكتب هذا المقال تذكرت قول الشاعر الزهاوي :
يا مليكاً في ملكه ظل مسرفاً      فلا الأمن موفور ولا هو يعدل
تمهل قليلاً لا تغض أمة إذا       تحرك فها الغيظ لا تتمهل
وأيديك أن طالت فلا تغترر بها      فأن يد الأيام منهم أطول       
وأنا أتابع كرم السادة رؤساء الوزارات في العراق وهم يوزعون أراض الشعب العراقي, أراضي الدولة على الوزراء والنواب والأحباب بمساحة تصل إلى 600 م2 وربما لعدة مرات, تذكرت مقطعاً من قصيدة للشاعر محمد صالح بحر العلوم حين قال:
وفتاة ما لها غير غبار الريح سترا
تخدم الحي ولا تملك من دنياها شبرا
وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا
                                       وإذا الحفار فوق القبر يدعو
أين حقي
وهل ننسى صرخات الفلاحين المماثلة لصرخة المرأة التي تقول ملينة والله ملينه من هذي العيشة الگشرة حين راحوا يهزجون بتمرد واعٍ:
كريم ياكل عنبر       وأنه بليه دنان       اسمع يا مفوض
كريم يركب كاديلاك    وأنا بليه نعال       اسمع يا مفوض
فهل للسادة الحكام في العراق أن يدركوا هذه الحقيقة, التي تعيش تحت وطأتها نسبة عالية من بنات وأبناء الشعب العراقي, في حين هم لاهون في حمى مناقشة قانون انتخابات غير موفق وفيه من الجور غير قليل؟
5/12/2009                   كاظم حبيب            
     
   

1149
كاظم حبيب
ليس هناك سجناء فكر وسياسة, ولكن هناك قتلى فكر وسياسة في العراق .. !!

يفتخر بعض المسؤولين الكبار في الحكومة العراقية ويعبر عن ذلك بصوت مرتفع مدعياًً أن ليس هناك سجناء فكر وسياسة في العراق, ولكن هذا البعض لا يتحدث عن القتلى المتزايد عددهم بين الكتاب والصحفيين من النساء والرجال بسبب نشاطهم الفكري والصحفي وبسبب كشفهم لملفات الفساد المالي والإداري أو جرأتهم في عرض جملة الاختلالات الجارية يومياً في مجلس النواب وأجهزة الدولة ونشاط الحكومة أو رئيس الوزراء, أو بسبب النقد الصريح الذي يوجهونه لممارسات الأحزاب والقوى السياسية الإسلامية أو غير الإسلامية لممارساتهم وممارسات مليشياتهم العلنية منها والسرية, أو كاشفاً عن البؤس والفاقة التي يعيش فيها أكثر من ثلث سكان العراق من جهة, والنخبة المتزايدة غنى وتخمة على حساب مال الشعب والبطون الخاوية لنسبة عالية من سكان العراق من جهة أخرى.
أغلب الجرائم التي ارتكبت في العراق ضد الكتاب والصحفيين أو المثقفين بشكل عام لم يتم الكشف عنها حتى الآن, [باستثناء تلك التي وقعت ضد أحد أتباع التيار الصدري], ولم تنشر الحكومة نتائج ما ادعت عن وجود لجان تحقيق بشأن تلك الجرائم. فهل اكتشفت الحكومة من خلال وزارة الداخلية القتلة فعلاً؟ وإذا كان قد حصل ذلك, فلم لم  تنشر حتى الآن النتائج لمعرفة القتلة؟ ولِمَ لم يُقدم هؤلاء للمحاكمة؟ هل هم من الوسط الحكومي؟ هل هم من وسط أحزاب سياسية متهمة بامتلاكها ميليشيات مسلحة وطائفية؟ هل هم من إيران أو من سوريا أو من أي بلد آخر؟
حتى الآن قتل من 346 صحفياً عراقياً بصورة غادرة, فهل ننتظر المزيد من القتلى في ظل الأوضاع الراهنة؟
بالأمس مارس عماد العبادي في ندوة عقدت في قناة البغدادية نقداً جريئاً جسدت ثقة بالنفس ووعياً سليماً للأوضاع الراهنة في العراق. وكان النقد موجهاً صوب الحكومة ورئيس مجلس الوزراء نوري المالكي مباشرة مشيراً إلى النواقص الجدية الكبيرة جداً في العملية السياسية وفي أوضاع الناس وعمل الحكومة عموماً. وبعد هذه الندوة بأيام قليلة جرت محاولة لاغتيال الصحفي عماد العبادي شبيهة  بتلك التي أودت بحياة الأستاذ الكاتب والفقيد كامل شياع. فمن المسؤول عن هذه المحاولة الجبانة؟
لا أستطيع أن أحدد الجهة التي جاء منها القاتل, فأنا لست محققاً ولا عالم بالغيب, ولكن ما نشر وقيل حتى الآن وما يدور وراء في شوارع العراق وفي الصحافة يشير إلى أن أصابع الاتهام تتجه صوب جهتين, وليس بينهما تنظيم القاعدة أو حزب البعث الصّدامي أو هيئة علماء المسلمين, فالنقد لم يكن موجهاً لهم بل اتجه صوب الحكومة, إلى:  
جهتين تعملان في إطار العملية السياسية, وبتعبير أكثر ملموسية صوب قوى مشاركة في السلطة بالارتباط مع الصراع الدائر حالياً بين القوائم الانتخابية في إطار القوى الشيعية, بين البيت الشيعي وحزب الدعوة الشيعي ومن معه:
1.   يؤشر البعض, إلى أن القوى المناهضة لقائمة دولة القانون وضمن معسكر القوى الإسلامية السياسية هي الجهة الأولى التي رأت مفيداً اغتياله من أجل توجيه أصابع الاتهام صوب رئيس الوزراء وحزبه بسبب النقد الذي توجه له ولحكومته من قبل هذا الصحفي الجريء عماد العبادي.
2.   ويؤشر البعض الآخر إلى أتباع رئيس الوزراء باعتبارهم الجهة المتهمة الذي يفترض أن يتوجه نحوها الاتهام, لأن النقد الشديد والجريء والواضح من الصحفي عماد العبادي كان موجهاً ضد الحكومة وصوب شخص رئيس الوزراء, ولأن هذا النقد قد أغاض هذه الجهة جداً ولم تتحمله وقررت إسكاته وبه يمكن إسكات الآخرين.
ليس فينا من يستطيع أن يقول هذا أو ذاك ولا أن يبعد القوى الإرهابية الأخرى عن الاتهام, إذ يمكن أن يكون في خلفية تفكيرها ما تفكر به الجهة الأولى الواردة في أعلاه.
الوحيد القادر على  حسم الأمر هو التحقيق, ولكن السؤأل: من هو المحقق؟ وهل سيصل التحقيق إلى نتائج فعلية؟ وهل ستنشر نتائج التحقيق أم تذهب أدراج الرياح كما ذهبت غيرها من لجان التحقيق التي شكلها رئيس الوزراء أو وزير الداخلية أو القوات الأجنبية؟ قبل عامين قتل ابن أختي السيد احمد جواد هاشم الهاشمي وزوجته وابنته. وكتبت عدة رسائل إلى وزير الداخلية ولم يكلف نفسه هذا الوزير, الذي يترأس الآن قائمة مع أحمد أبو ريشة, حتى الإجابة عن تلك الرسائل, وكأن القتلى الثلاث ليسوا بشراً والمطالب بالتحقيق لا يستوجب حتى إعلامه بالتحقيق, في حين أن الفساد الذي ظهر في أمانة العاصمة يمكن أن يشير إلى القتلة, إذ أن الضحية كان مديراً عاماً في أمانة العاصمة وأحيل إلى التقاعد قبل قتله, وكان قبل ذاك قد أشار إلى الفساد والفاسدين في أمانة العاصمة بناءً على طلب رسمي من لجنة النزاهة, فكان الموت نصيبه ونصيب عائلته!
من هو الذي مارس محاولة الاغتيال بكاتم الصوت؟ ومن هي الجهة السياسية التي وجهت القتلة لتنفيذ ذلك؟ على وزارة الداخلية الكشف عنهما وإعلانه على  الملأ.. وإلا فالشكوك والإشاعات ستشمل دائرة أوسع من الدائرة الراهنة لتشمل مسؤولين آخرين أيضاً.
أما مجلس النواب العراقي فلا هم له سوى المزيد من المكاسب الشخصية وإصدار قانون انتخابات غير حر وغير ديمقراطي وغير مدني, أما حرية الصحافة وحرية وحياة الصحفيين, أما القتلى من الكتاب والصحفيين فهي ليست من مهمات مجلس النواب ولا من شؤونه, وإذا تسنى للبعض غير القليل من أعضاء المجلس أن يتخلصوا من أجهزة الإعلام الحرة لفعلوا ذلك.  فهو في بنيته الراهنة بعيداً كل البعد عن الديمقراطية وعن وعي أهمية الإعلام ونشاط الصحفيين الحر وعن القبول به أو الاستعداد للدفاع عن الرأي الآخر. إن عدداً كبيراً من أعضاء مجلس النواب لا يحترم الرأي الآخر ولا يحترم الآخر, بل لا يحترم نفسه أيضاً, لأن من لا يحترم الآخر لا يحترم نفسه في آن.
ولكن ماذا على نقابة الصحفيين والصحفيين عمله إزاء هذه العمليات الجبانة؟ ماذا يفترض أن يقوموا به لمنع كتم الأصوات بالقتل أو الفصل أو الطرد والمحاربة بالرزق؟
على نقابة الصحفيين أن لا تكتفي بزيارة رئيس النقابة للمسؤولين وتقديم الاحتجاجات والبيانات على أهمية ذلك, بل يفترض في النقابة والصحفيين أن يحتجوا بالتظاهر والإضراب والكف عن الكتابة والنشر ليوم أو يومين, أن يدعو النقابات الصحفية في الأقطار العربية وفي الإقليم والعالم إلى التضامن مع صحفيي العراق بصيغ مختلفة لمنع الموت الذي يلاحقهم أو منع الرزق عنهم وحرمانهم من العمل بصيغ مختلفة. لنتذكر جميعاً حالة الأستاذين أحمد عبد الحسين وفلاح المشعل!!  
علينا كصحفيين مواصلة الكتابة والنشر وفضح كل ما هو سلبي وسيء في البلاد, فهو الطريق الوحيد للمساهمة في بناء عراق حر وديمقراطي في المستقبل.
علينا أن نشير إلى ملاحظة مهمة وخطيرة حقاً, وهي تمس جميع الأحزاب السياسية العراقية وجميع السياسيين العراقيين دون استثناء, وأن كانت بنسب متفاوتة وفق الموقع في الحكومة أو خارجها, إنها الموقف من الكتابات النقدية والكتاب والصحفيين الناقدين للأوضاع والأحزاب والسياسيين في العراق, أولئك الذين يمارسون النقد الجاد والمسؤول والمفيد, فهم معرضون للإساءة من قبل هذا الحزب أو ذاك وهذا السياسي أو ذاك, معرضون للتهديد والوعيد, وحين تكون الأحزاب حاكمة أو تمتلك ميليشيات مسلحة فالرصاصة هي القول الفصل أو التغييب وطرق الخلاص من هؤلاء كثيرة ومتنوعة والخزين العراقي المتراكم في هذا المجال كبير وكبير جداً. 29/11/2009 كاظم حبيب

    

1150
كاظم حبيب
ما هي الأهداف التي يسعى كل حزب إلى تحقيقها 
من مشاركته في الانتخابات العامة؟

في ظروف الدول المتقدمة تشكل الانتخابات العامة فرصة أمام كل حزب يعمل على ساحة هذا البلد أو ذاك لتحقيق ثلاثة أهداف جوهرية:
1.   التبشير والتثقيف الواسعين والترويج للبرنامج الانتخابي الذي يتبناه بين أوسع أوساط الشعب.
2.   سعي كل حزب في الحصول على مساندة ودعم الناخبين لبرنامجه الانتخابي من خلال منحهم أصواتهم له دون غيره من الأحزاب.
3.   السعي من خلال حصوله على أصوات الناخبين والحصول على مقاعد في البرلمان يمكن أن تؤهله إلى تشكيله الحكومة بمفرده أو بالتعاون مع قوى أخرى, أو مشاركته في الحكم مع الأكثرية أو وقوفه في صف المعارضة النيابية. وفي حالة عدم حصوله على أي مقعد في المجلس النيابي, يحاول أن يكون معارضاً جاداً وموضوعياً من خارج قبة البرلمان لكي يبرهن على التزامه بالبرنامج الذي تبناه والمصالح التي يدافع عنها.
وليس هناك من حزب يدرك مسؤوليته إزاء البلد والشعب يمكنه أن يستهين بمقاعد مجلس النواب ولا يعتبرها هدفاً من أهم أهدافه, لا لأن مقاعد المجلس النيابي هي الغاية بحد ذاتها, بل لأنها الوسيلة المهمة للمشاركة في تحقيق مصالح الناس وفق برنامج هذا الحزب أو ذاك باعتباره المنبر الرسمي الذي يمكن طرح مشكلات ومصالح الناس, إضافة إلى إمكانية الاستفادة من الموارد المالية التي تصل للنواب لصالح المزيد من نشاطات هذا الحزب أو ذاك في المجتمع وفي النشاطات خارج قبة البرلمان.
ولم أعثر على حزب سياسي واحد في العالم يمكنه أن يستهين بمقاعد المجلس ولا يعتبرها هدفاً مهماً ضمن أهداف أخرى. هذا في الدول المتقدمة, فهل تختلف الرؤية في الدول النامية, ومنها العراق؟ ليس هناك أي اختلاف من حيث الأهداف. ولهذا لا يجوز لأي حزب أن يستهين بأهمية حصوله على مقاعد في البرلمان, إذ أن الأهداف الثلاثة الواردة في أعلاه متكاملة ولا يجوز فصل بعضها عن البعض الآخر. ولكن الاختلاف في الوسائل والأدوات والأساليب ومدى نزاهة وشفافية الانتخابات ودور من هو في الحكم في التأثير المتعدد الجوانب عليها. وهي المشكلة الكبيرة التي تعاني منها جميع الدول النامية, وخاصة العراق الذي لا يزال يعاني بقوة من الطائفية السياسية في الحكم ومن دور وتأثير المرجعيات الدينية ودور الجوامع, وكذلك من نواقص جدية ومخالفات دستورية في قانون الانتخابات, إضافة إلى الأموال التي تبذل لصالح هذه القائمة أو تلك من جانب الأحزاب الحديثة النعمة, بما في ذلك التدخل الإقليمي.
دخل الحزب الشيوعي العراقي في قائمة مستقلة التحقت به وتعاونت معه بعض القوى الديمقراطية الضعيفة عموماً. وهو أفضل بأي حال من الدخول مع قوائم طابعها العام طائفي رغم محاولات التغطية على هذه الطائفية. ومن المؤسف أن التحق البعض من القوى والشخصيات الديمقراطية بتلك القوائم لأي سبب كان. ولكن ليس هناك من يمكن تغيير حالة التشرذم في صفوف القوى الديمقراطية والعلمانية في هذه المرحلة.
ويفترض أن تبذل قائمة اتحاد الشعب المزيد من الجهد المضني باتجاهين أساسيين ومكثفين بعد أن انتهى الأمر إلى الحالة الراهنة:
** السعي الكثيف للوصول إلى أوسع أوساط الشعب العراقي والفئات الفقيرة والمتوسطة والفئات المثقفة والواعية لأهمية الديمقراطية في العراق والترويج الواسع لبرنامج قائمة اتحاد الشعب لأنه الأفضل حقاً من بين البرامج التي تمس مصالح العراق كله بكل قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه وليس شريحة أو جماعة بعينها أو منطقة أو إقليماً بعينه.
** دعوة الناخبين بكل حرارة وقوة إلى التصويت لصالح قائمة اتحاد الشعب. ومثل هذه الدعوة يفترض أن تنطلق من الثقة بالنفس وأن حصول القائمة على مزيد من الأصوات يسمح لها بالدفاع الأفضل عن مصالح الشعب وتحقيق ما يمكن تحقيقه منها.     
وفي هذا أختلف تماماً مع الملاحظة التي أعتبرها غير سليمة من الصديق جاسم الحلفي, عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي, والتي وردت في التصريح الذي أدلى به ونشر في موقع الطريق, تلك الملاحظة  التي كررها بصيغة أخرى السيد محمد جاسم اللبان, عضو المكتب السياسي, والتي أرجو أن لا تكون هي السياسة التي تعبر عن موقف الحزب الشيوعي وقائمة اتحاد الشعب :
".. وأشار الحلفي، أيضا، الى ان الحملة الانتخابية للقائمة سوف لن تعتمد على طريقة دعوة الجماهير الى انتخابها، بل سوف تبذل جهدا في تبني مصالحهم والدفاع عن مطالبهم المشروعة في أكثر من مجال." [موقع الطريق في 23/11/2009]
كان على الصديقين العزيزين أبو أحلام وأبو فلاح, أن يؤكدا ما يلي:
إن دفاع الحزب المستمر عن مصالح الجماهير وأهدافها الحيوية خلال الفترات المنصرمة هي التي تجعل قائمة اتحاد الشعب تتوجه بندائها إلى الناخبات والناخبين لإعطاء أصواتهم لصالحها, إذ أنها ستبقى الأمينة على هذه الأصوات والصادقة في الدفاع عن مصالح الشعب والوطن.
إن هذه العبارة تعبر عن الثقة بالنفس, في حين أن عبارة الحلفي فيها هروب إلى أمام في خشية مسبقة من عدم الحصول على مقاعد, وأرجو أن تكون غير مقصودة. ولكن جاء تأكيد ذلك في تصريح آخر للسيد محمد جاسم اللبان حين أكد بأن مهمة قائمة اتحاد الشعب ليست الحصول مقاعد في البرلمان, بل الدفاع عن مصالح الناس؟ ولكن السؤال أليست المقاعد في البرلمان لحزب ما هي التي تساهم أيضاً وبدور مهم في الدفاع عن مصالح الناس, إضافة إلى النضال غير البرلماني في العراق الراهن؟
إن اختلافي في هذه القضية أو تلك مع هذا الحزب أو ذاك من قوى التيار الديمقراطي لا تسقط الود والاحترام والتأييد العام من جهة, ولا تؤكد بالضرورة صواب أو خطأ وجهة نظري من جهة أخرى.
أتمنى للقائمة الوصول إلى الكثير من الناس في الداخل والخارج, كما أتمنى لها النجاح في نشر برنامجها وفي الحصول على أكبر قدر من الأصوات والجلوس في مجلس النواب دفاعاً عن مصالح الشعب والوطن. كما أدعو المزيد من المواطنات والمواطنين في الداخل والخارج إلى منح أصواتهم لقائمة اتحاد الشعب.
25/11/2009                   كاظم حبيب   
 

1151
كاظم حبيب
هل هناك من يريد خلط الأوراق في الموقف من قانون الانتخابات؟
من يتابع التصريحات التي تدلى في هذه الأيام في أجهزة الإعلام العراقية وفي القنوات الفضائية ومن يتحدث في مؤتمرات صحفية في مجلس النواب العراقي أو بعض المقالات التي تنشر يدرك أن هناك محاولة جادة لخلط الأوراق ومحاولة غير مسؤولة لتضييع القضايا الأساسية التي يطرحها منتقدو قانون الانتخابات الجديد الذي أقره مجلس النواب العراقي والمخالف للدستور العراقي ذاته ولأسس الديمقراطية في محاولة وضع المنتقدين كلهم في خانة واحدة, خانة الطائفية السياسية, وكان الداعين لها هم من أتباع المذهب السني أو من البعثيين القدامى أو من يريد الدفاع عن وصول البعثيين للسلطة والتي تتعانق مع حملة واسعة تريد البرهنة على خطر البعثيين الراهن. كما أن هناك رؤية استبدادية تريد اعتبار من ينتقد القانون أو يرفض التوقيع يمارس عملاً تخريبياً ضد العملية السياسية في العراق وأن من يؤيد هذا القانون, بمن فيهم الصدريون, هم المخلصون لهذا البلد المبتلى بالمحاصصة الطائفية والإثنية. علماً بأن القوائم التي تدعي الطلاق مع الطائفية السياسية, لم تتخلص منها حتى الآن رغم التطعيم النسبي لبعضها بأسماء أشخاص يعتبرون ضمن القوى المدنية أو العلمانية أو الديمقراطية.
لقد تغيرت سياسات ومواقف بعض الأشخاص, وهذا من حقهم ولا تهمنا أسباب هذا التغيير, ولكن لا يجوز لهم ما يلي:
** اعتبار من لم يغير رأيه بأشخاص معينين وقوائم معينة أنهم مخربون,
** ونسيان حقيقة أن هذا القانون غير ديمقراطي وغير عقلاني ويحتاج إلى إعادة نظر انطلاقاً من واقع العراق الراهن وما يحتاجه المجتمع حالياً.
المثل العراقي يقول: "قف معوجاً ولكن تحدث باستقامة", فهل التزم البعض بهذه الحقيقة.
القانون يتضمن أخطاءً فادحةً لا بد من تأكيدها ثانية وقد صدرت حتى الآن أكثر من مذكرة تدعو إلى إعادة النظر بالقانون حتى قبل أن يرفض السيد طارق الهاشمي التوقيع على  قرار رئاسة الجمهورية. لنتذكر معاً أن الحزب الشيوعي العراقي كان أول من سجل ملاحظاته الجادة والمسؤولة والصحيحة على القانون قبل أن ينطق الهاشمي بكلمة واحدة بهذا الصدد. كما كتب العشرات من الكتاب بهذا الصدد, وطرح الكثير من الكتاب موقفاً معارضا لقائمة التحالف الكردستاني حين أيدت تلك القائمة إصدار القانون في البرلمان, ثم وقف مجلس النواب الكردستاني ضد القانون في ضوء ملاحظات الكثير من الكتاب الديمقراطيين والتقدميين التي لم تنتبه لها قائمة التحالف الكردستاني قبل ذاك.
أدرك جيداً منجزات حكومة المالكي في مجال الأمن وهي مهمة لأنها قلصت موت العراقيات والعراقيين, ولكنها لم تستطع إيقافه طبعاً لأنها لم تحقق المصالحة الوطنية وفق أسس قويمة, إذ أن الأحد الدامي والأربعاء الدامي غير بعيدين عنا من حيث الزمن. والتحسن في مجال الأمن هي منقبة تحسب للمالكي وللجيش العراقي ومجالس الصحوة وتلك القوات الأمريكية الإضافية التي وصلت لدعم جهد قرار فرض القانون في العراق. ولكن هذا شيء والواقع العراقي عموماً شيء آخر وكلنا يدرك ذلك. ولهذا فليس إنصافاً مهاجمة من ينتقد الحكومة في سياساتها الأخرى التي لم تحقق الكثير لصالح تحسين أوضاع الجماهير الواسعة, ومنها مجال الخدمات العامة والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. ومن شعر بالانتعاش بعد زيارته لبغداد فهنيئاً له, ولكن لا يفترض فيه أن يعتقد بأن على كل من يزور العراق أن يعتقد بأن ما قاله مطابقاً لكل الحقيقة, في وقت كان هو في ضيافة وحماية الحكومة, رغم التحسن الأمني.
أريد أن أؤكد ثانية بأن هناك الكثير من النواقص في القانون الحالي, وأبرزها ما يلي:   
2. القانون غير ديمقراطي إزاء القوميات وأتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين ومن غير العرب والكُرد؛
3. والقانون غير ديمقراطي في الموقف من المواطنات والمواطنين في الخارج؛
4. وغير ديمقراطي من حيث عدد المقاعد التعويضية بالنسبة للقوائم والأشخاص الذين لا يحققون المتوسط العراقي في عدد الأصوات المطلوبة؛
5 وغير ديمقراطي في زيادة سكان محافظات بعينها كالموصل وإبقاء محافظات أخرى دون تغيير في سكانها مثل السليمانية وأربيل ودهوك الكردستانية وكأن لا ولادات فيها ولا نمو سكاني, في حين كانت المحافظات الأخرى ومنها الموصل قد أعطيت نسبة نمو 15 %, مما سيزيد من مقاعدها في المجلس دون وجه حق!
5 وغير ديمقراطي في رفضه اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة, إذ بها تضيع الكثير من أصوات الناخبين الممنوحة للقوائم أو للمرشحين؛
6   وغير ديمقراطي في فرص الإعلام التي تمنح للقوائم المختلفة؛
7. وغير ديمقراطي بالنسبة للأموال التي تسخر لخوض المعركة الانتخابية بين القوائم الكادحة وقوائم الأغنياء والمتخمين بالأموال أو الذين يتلقون المساعدة المالية السخية من دول الجوار "الشقيقة والصديقة!".

لقد وجه رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر الأستاذ الدكتور تيسير الآلوسي مثلاً مذكرة إلى رئاسة الجمهورية والمحكمة الدستورية في العراق طالب فيها, ومعه مجموعة من المنظمات العراقية, نقض القانون وإعادته إلى مجلس الناس لإجراء تغييرات فيه في ضوء الدستور العراقي. وبسبب أهمية هذه المذكرة نورد الجزء الأساسي منها فيما يلي:
"إنَّنا في البرلمان الثقافي العراقي في المهجر ومعنا عدد من المنظمات العراقية التي وقعت هذه الشكوى؛ ومن منطلق الواجب الوطني المؤمّل نتقدم إليكم في المحكمة الدستورية كيما تتفضلوا بالفصل في حقنا باسم الملايين من عراقيي المهجر في طلب تعديل المادتين الأولى والثالثة بما يكفل حق مواطني العراق بالمساواة التي كفلها الدستور الأمر الذي يفرض التزام القوانين الصادرة بنصوص الدستور وروحه.. وفي ضوء ذلك ندعو محكمتكم الموقرة بردّ القانون المشار إليه في المادة المخصوصة لعدم دستوريته، ولأنّ إجراء الانتخابات في ظل قانون غير دستوري يأتي بنتائج لا تقف عند التعارض والدستور العراقي حسب بل يأتي بنتائج مخلة بتمثيل العراقيين ويحيق بملايين منهم بالظلم وبالاعتداء على حقوقهم الثابتة ويهدد السلم الأهلي ومستقبل النظام الدستوري الديموقراطي الفديرالي في العراق..
ونحن هنا نحيلكم إلى أنَّ القانون الذي جرى تمريره في البرلمان العراقي قد تمَّ بخلاف الحوارات وأشكال النصح والمشورة القانونية سواء من عدد من السادة أعضاء المجلس أم من محكمتكم الموقرة في إجابة استشارية سابقة أم من ممثلي منظمات المجتمع المدني وأحزاب سياسية ومن مسؤولين مكلفين بحماية الدستور ومصالح الجمهور. وجميع هذه الآراء اتفقت على تعارض المادتين الأولى والثالثة من القانون مع مبدأ مساواة العراقيين كافة  أمام القانون ونص المادة يتعارض ومواد الدستور بالإشارة إلى المواد 14 و46 و 49 و 65 منه..
لقد طاول القانون مكونات شعبية تطلعت للمساواة والإنصاف بعد سنوات التهجير القسري والنفي والإبعاد، فخصم من نسبتهم الحقيقية أكثر من ثلثي المقاعد التي يستحقونها، كما فرض نظاما انتخابيا مختلفا وحرمهم من حق اختيار الشخصيات التي يرونها ممثلة لهم باستخدام القائمة المغلقة في التصويت بخلاف قرار استخدام القائمة المفتوحة وطنيا (في الداخل)..
وفضلا عن ذلك فقد فرض قسرا إحصاءات مشكوك فيها وغير متفق على تفاصيل استخدامها بما أفضى لاعتماد معايير وأسس تقدير التغيرات السكانية بطريقة متباينة مختلفة بما أخلّ في تحديد مقاعد المحافظات بطريقة عادلة ممتلكة للصدقية والدقة.. بالإشارة هنا إلى مضاعفة المقاعد لمحافظة نينوى على سبيل المثال والتراجع (النسبي) لمحافظات إقليم كوردستان.   
وبالإشارة هنا إلى حقوق المكونات العراقية المسماة تهميشا واعتداء قانونيا وإنسانيا بـِـ (الأقليات) يعزز قانون الانتخابات الجديد موقفه في توكيد التهميش متغافلا عن نصوص الدستور الذي أكد (أصلا) واجب استكمال الهيأة التشريعية التي تدعو إلى تكوين البرلمان من مجلس نواب ومجلس اتحادي . فحسب الباب الثالث من الدستور العراقي وفي الفصل الأول تحديدا من هذا الباب، تنص المادة (48) على أنّه "تتكون السلطة التشريعية الاتحادية من مجلس النواب ومجلس الاتحاد. ويُشار في أولاً  إلى  مجلس النواب  فتذكر المادة (49)
على أنه يتكون "من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، ...". وهذا ما  نقضته المادة أولا من القانون ما يجعل القانون غير دستوري وواجب التعديل لتوفير دستورية القانون والتزامه بسمو الدستور وبنصوصه وقواعده الثابتة.
وبشأن تمثيل المكونات العراقية بعيدا عن التهميش والمحددات في [مقاعد الكوتا] ، تنص المادة (65) على ما يأتي:

 
"يتم إنشاء مجلسٍ تشريعي يُدعى بـ (مجلس الاتحاد ) يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقليم، وينظم تكوينه، وشروط العضوية فيه، واختصاصاته، وكل ما يتعلق به، بقانونٍ يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب."
إنَّ هذا تحديدا هو الغطاء الدستوري القانوني لتمثيل المكونات من المجموعات القومية والدينية بجميع المناطق والأقاليم والمحافظات العراقية تمثيلا عادلا بما يخرجها من الكوتا المحدودة والتهميشية، ولأن مجلس النواب قد تأخر عن سن القانون الذي يتيح استكمال الهيأة التشريعية ويضمن حقوق المكونات فإن الواجب عليه إتاحة توفير حجم تمثيل نسبي يماثل الحجم النوعي الحقيقي لهذه المكونات، وهو ما لم يحصل بحجم المقاعد الثمانية التي تمّ تعيينها وهو ما لم يحصل أيضا بسبب تشكيل الأحزاب والتحالفات الكبرى على أساس عرقي و\أو طائفي ما استبعد المكونات العراقية الأخرى عبر المنافذ الطبيعية وطنيا، وأقصاها فعليا عن التمثيل في مجلس النواب فضلا عن عدم وجود مجلس الاتحاد ما يحرمها من التمثيل الصائب بالمخالفة مع نصوص الدستور بالخصوص، سواء بشأن المساواة أم بشأن التآخي والعدل وتعزيز التفاعل بين المكونات وطنيا.. فضلا عن التعارض مع الطبيعة الفديرالية التعددية التي أقرها الدستور وعن استئثار جهة واحتكارها السلطات بخلاف مبدأ الديموقراطية التي ثبتها الدستور العراقي الدائم.
وإذا ما نظرنا إلى الظروف العامة التي قضت بنظام الكوتا للنساء العراقيات اللواتي يمثلن أكثر من نصف المجتمع على وفق الإحصاءات الرسمية، فإنَّ هذا النظام (الكوتا) يستلب حقوق المكونات العراقية بخلاف نصوص الدستور وروحه وبخلاف الإحصاءات الرسمية المعنية..
وبناء على ما تقدم، نؤكد مجددا عدم دستورية القانون الصادر عن مجلس النواب وواجب  ردِّه للتعديل في البنود والمواد المشار إليها، بقرار من محكمتكم الموقرة على أساس الصلاحيات الدستورية المتوافرة بمهام محكمتكم؛ من جهة للتوجيه بالتعديل الملزِم  بما يتضمن إعادة حقوق عراقيي المهجر ومن جهة أخرى بما يتضمن تعديل نسب  تمثيل المكونات العراقية بطريقة منصفة مع التوصية بسقف زمني لتشريع قانون مجلس الاتحاد لا يتجاوز منتصف الدورة التشريعية التالية للخلل الدستوري القانوني الصريح في استمرار عمل مجلس النواب منفردا في تمثيل الهيأة التشريعية المنصوص عليها في المادة 65.
وسيبقى إجراء الانتخابات  بنصف الهيأة التشريعية وتمرير القوانين مناقضا لحقوق الشعب العراقي  في تمثيله الكامل وغير المنقوص في هيأة تشريعية تعبر عن مكوناته وتركيبته المدنية المعاصرة التي لا تعبر عنها تشكيلات ما قبل الدولة الحديثة من تلك التي تعتمد التشظية والتشطير والتقسيم بخلاف روح الدستور في وحدة العراق الفديرالي الديموقراطي وشعبه وصدقية ظهور تمثيل مكوناته كافة في جميع السلطات الاتحادية...".
 
إنَّ إجراء الانتخابات بظل هكذا قانون وبأقلية ضئيلة من الناخبين لن يبقى بحدود الإجراء الشكلي السلبي، ولكنه سيفضي إلى تداعيات أخطر من عزوف الناخب عن التصويت وتشكيل مجلس نواب بتمثيل مختلف عليه وإنما أيضا تبقى الهيأة التشريعية ذاتها منقوصة التركيب بالمخالفة والمواد الدستورية المشار إليها في مذكرتنا التفصيلية هذه.
ومن هنا فإنّنا ندعو سيادتكم وأعضاء المحكمة الاتحادية الموقرين لرد القانون مع التوصية بالتعديلات الدستورية الواجبة وصياغته بما يكفل الانسجام مع الدستور والصدقية والإتيان بتمثيل حقيقي سليم للتعددية والتنوع وما ينسجم وتركيبة المجتمع العراقي المدنية المعاصرة وما يعزز من مسيرة عراق ديموقراطي تعددي فديرالي..
آملين أن يجري هذا مع احترام لتوقيت إجراء الانتخابات في موعدها المقرر بالاعتماد على حسم القرار في محكمتكم وتوجيه المفوضية المعنية بالانتخابات لاستكمال الإجراءات التفصيلية وبما يمنع التذرع (السياسي) غير القانوني وغير الدستوري  باحتمال الفراغ الدستوري إذا ما جرى تعديل القانون وهو التذرع الذي يريد فرض تمرير ما هو غير دستوري لأربع سنوات أخرى فيما يحذر من فراغ دستوري غير وارد إذا ما صدر قرار المحكمة الدستورية الاتحادية بالطرق القانونية والآليات المعروفة لديكم والمنصوص عليها دستوريا..". (مقتطف طويل من نص المذكرة الموجهة في 16/11/2009 إلى رئاسة الجمهورية والمحكمة الدستورية العراقية).
21/11/2009                        كاظم حبيب

 
   

1152
كاظم حبيب
السيد أحمد أبو ريشة والقضية الكردية
قطعت القضية الكردية في العراق شوطاً طيباً على طريق الحل الصحيح في إطار الدولة العراقية, بعد أن عاني الشعب الكُردي بشكل خاص وبقية أبناء وبنات الشعب العراقي من القوميات الأخرى محاولات تصفية القضية الكردية بقوة السلاح والتي انتهت لا بالفشل الذريع فحسب, بل وسقوط كل النظم التي حاولت التصدي لحقوق الشعب الكردي المشروعة, إضافة إلى مئات ألوف الضحايا الغالية والخسائر المالية والحضارية. فمنذ أن تحرر إقليم كُردستان العراق من هيمنة وسطوة البعث الفاشي والدكتاتورية الغاشمة في نهاية النصف الثاني من العام 1991 وتسلم السلطة من جانب القوى الكردستانية وانتخاب البرلمان الكردستاني الذي أقر الفيدرالية الكردستانية في إطار الدولة العراقية, وبعد سقوط النظام العدواني في بغداد, جرى تكريس هذا الحل الصحيح في الدستور العراقي الذي صوت له غالبية الشعب العراقي ثم إقرار ذلك من جانب البرلمان العراقي في العام 2005, رغم الطبيعة التي نعرفها عن هذا البرلمان..
ولا شك في أن تنشأ مشكلات ملموسة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بصدد الكثير من القضايا المهمة والثانوية بالارتباط مع عدة حقائق, منها:
** إن العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم حديثة العهد والتجربة قليلة في سبل التعامل والتعاون والتكامل, وهي تحتاج إلى فترة غير قصيرة من الزمن وتراكم الخبرة.
** عدم وجود قوانين تحكم هذه العلاقة بالملموس في ضوء الدستور العراقي والتي كان يفترض وضعها من قبل البرلمان العراقي.
** وجود مشكلات معقد واختلاف في وجهات النظر بشأنها, ومنها قضايا كركوك وخانقين وغيرها, أو عقود النفط أو الميزانية ...الخ التي تستوجب المزيد من الصبر والهدوء في معالجتها لصالح العراق الديمقراطي الاتحادي وبعيداً عن أجواء التهديد والوعيد وجعجعة السلاح.
** دور دول الجوار في تشديد الاختلاف والخلاف والسعي لتحويله إلى صراع فنزاع يأكل الأخضر بسعر اليابس في كل العراق.
في الآونة الأخيرة بدأت بعض القوى السياسية العراقية, وبدعم إقليمي ملموس تشكك بهذا الحل السليم وتطرح نهجاً لا يختلف بأي حال عن نهج صدام حسين ورهطه ولا عن نهج القوى القومية الشوفينية التي فشلت في فرض حلولها السابقة على الشعب الكردي خصوصاً والشعب العراقي عموماً من خلال التصريحات التي تعبر عن رفضها للحل الذي توصل إليه الشعب العراقي. فآخر التصريحات التي أدلى بها رئيس مجلس صحوة الأنبار السيد أحمد أبو ريشة تشير إلى هذا النهج القديم الجديد الخطير الذي يمكن أن يدفع بأوضاع العراق إلى متاهات جديدة وعواقب وخيمة على الجميع. فقد ذكر في تصريحاته ما يلي:
"إن الأكراد استفادوا من الصراع السني الشيعي لصالحهم، فمنذ الستينات وهم ضد العراق الموحد، ولهذا قاتلهم النظام السابق، الذي أضطر للتنازل عن جزء من أرض العراق لإيران مقابل إيقاف الدعم للأكراد (ضمن اتفاقية الجزائر عام (1975)، ثم ألغى النظام السابق الاتفاقية مع إيران ودخلنا حربا معها، والأكراد لم يكونوا معنا بالحرب وأنا كنت ضابطا في الجيش العراقي حينها." ثم يواصل حديثه فيقول:
أن «الأكراد يطالبوننا اليوم بكركوك، وهم لهم إقليم وحكومة وميزانية تبلغ 17 في المائة من مجمل التخصيص العام، وهذا ناتج عن الخلاف ما بين الشيعة والسنة، هذه لا تسمى سياسة بل هي مهزلة واستغلال ظرف صعب نمر به». وأضاف «نحن نقول لهم إذا لا ترغبوا بنا خذوا محافظاتكم الثلاث واذهبوا ولا تشجعوا الخلاف بيننا، يمكن أن نعمل تحالفا قويا بين الشيعة والسنة ونشكل الحكومة ونخرج الأكراد ويبقى العراق إما 18 محافظة أو 15». ويتألف إقليم كردستان العراق من ثلاث محافظات هي أربيل والسليمانية ودهوك".

وقال أبو ريشة إن «رئيس الوزراء نوري المالكي لم يتفاوض مع الأكراد نهائيا، ويمكن القول إنه كان الأشد عليهم من غيره، وقال لهم أما انتم مع العراق الواحد أو لا»، واستطرد قائلا «لم يعد هناك الآن شيء اسمه أقاليم فهذه الفكرة تبناها الائتلاف العراقي الموحد (يتألف من القوى الشيعية)، وألان هو أول من شكل تحالف وطني الآن وهكذا بقية الكتل كلها شكلت تحالفات وطنية، كما أن أهل الجنوب رفضوا الفكرة برمتها وصوتوا على عدم قبولها بشكل رسمي بإشراف الأمم المتحدة، إذا هو مشروع فاشل ولا يمكن تحقيقه". راجع: شبكة دولة القانون, أخذ النص بتاريخ 18/11/2009).
ماذا يتضمن هذا النص الذي طرحه السيد أحمد أبو ريشة؟ يمكن تلخيص أفكاره بالنقاط التالية:
1.   إن الأكراد كانوا ضد وحدة العراق, تماماً كما كان يدعي صدام حسين ذلك وكل القوى العربية الشوفينية المتطرفة التي وجدت في مطالب الكُرد العادلة تقويضاً لوحدة العراق لكي تستطيع تعبئة الناس العرب في العراق والعالم العربي ضد الشعب الكردي ومناضليه. إن هذا الطرح يذكرنا بمحاولات نعت كل من يطالب بحقوقه القومية المشروعة بأنه يريد تدمير وحدة العراق, في حين أن السياسات الشوفينية التي يريد أحمد أبو ريشة العودة إليها وممارستها هي التي تسببت في تدمير العراق وهي التي يمكن أن تتسبب مجدداً في تدمير العراق إن تسنى له العودة بالعراق إلى الوراء, كما يحلم بذلك, وهي أضغاث أحلام وكابوس مزعج. 
2.   وأنهم السبب في عقد اتفاقية الخيانة بين النظام ألصدامي وإيران في الجزائر. هذا ادعاء وترديد لإدعاءات النظام ألصدامي, في حين كان عليه أن يدرك بأن رفض مطالب الشعب الكردي ومحاولة الالتفاف على الحكم الذاتي حينذاك ومحاولة اغتيال ملا مصطفى البارزاني ...الخ, إضافة إلى الذهنية العسكرية والفاشية والتوسعية وجنون العظمة لدى "القائد الضرورة!" صدام حسين, هي التي كانت ضمن الأسباب الأساسية وراء ما حصل في العراق حينذاك وعقد تلك الاتفاقية المذلة مع شاه إيران من أجل ضرب وتصفية الحركة الكردية التحررية المسلحة والتي عادت من جديد بعد فترة وجيزة لأنها قضية مشروعة وعادلة.
3.   وأن الحرب التي خاضها النظام كانت بسبب فسخ الاتفاقية من طرف واحد وخاض الحرب من أجلها. إن السيد أبو ريشة لا زال يحن للماضي ألصدامي الذي لن يعود حيث كان ضابطاً في الجيش العراقي, ولا زال يرى إن الحرب ضد إيران كانت سليمة وعادلة وليست مجنونة وجريمة بشعة أرتكبها النظام العراقي حينذاك والتي ولدت بدورها حروباً أخرى أكثر إجراماً وجنونا, ومنها غزو الكويت, في حين أن الشعب العراقي بأكثريته قد أدان تلك الحرب المجنونة وبقية الحروب العدوانية التي شنها النظام العراقي في الداخل والخارج. وبسبب تلك الحروب فقد العراق جزءاً جديداً من أراضيه في ما عدا تلك التي أهداها للغير.
4.   وأن الأكراد لم يكونوا معنا في الحرب, بل كانوا ضدنا. إن هذا القول يتفق مع المشهد البعثي ألصدامي الذي قام بعمليات مجازر الأنفال وحلبچة بحجة أن الكُرد وقفوا مع إيران في الحرب العراقية – الإيرانية. رغم أنه لم يذكر ذلك صراحة, ولكن في خلفية تفكيره تكمن هذه الفكرة ألصدّامية. 
5.   ثم يعود السيد أبو ريشة لينكر وجود إقليم كردستان القائم رسمياً ووفق الدستور العراقي ويريد إلغاء ما هو قائم, والغريب بالأمر أنه يدعي بأن اللقاء الكردي الشيعي هو الذي منح الكُرد إقليماً, ولم يدرك بأن إقليم كردستان العراق ووجود الكُرد في هذه المنطقة هو أقدم بكثير من وجودنا نحن العرب, وأبو ريشة عربي أيضاً, في هذه المنطقة أولاً, وأن فيدرالية إقليم كردستان نهضت في العام 1992 ولم تكن الأحزاب السياسية الشيعية في الحكم بل في المعارضة وكان صدام المدعي بأنه سني على رأس الحكم, وهو الغريب والدخيل على أتباع هذا المذهب ثانياً, وأن الاتفاق بين كل قوى المعارضة العراقية بمن فيهم القوى السياسية السنية قبل سقوط النظام وفي فترة النضال ضده كانوا قد اتفقوا على الاعتراف بالفيدرالية في إقليم كردستان ثالثاً, وكان ذلك قبل وصول القوى الراهنة إلى الحكم. فما دخل التحالف الشيعي - الكردي في هذه القضية؟ التحالف الشيعي الكردي له دخل في موضوع فيدرالية الجنوب كجزء من الفيدراليات عموماً, أي كان موقف هذا التحالف لصالح فيدرالية الجنوب التي كان يسعى إلى إقامتها المجلس الإسلامي الأعلى والتي رفضها الشعب العراقي بأغلبيته, ولكن الشعب لم يرفض فيدرالية كردستان التي هي لشعب كردي غير الشعب العربي ولقوميات أخرى تسكن كردستان العراق, الكلدان والآشوريين والتركمان وجمهرة غير قليلة من العرب أيضاً, ضمن إقليم كردستاني يشكل مع الإقليم العربي الجمهورية العراقية الاتحادية. إن هذا هو جزء أصيل من حق الشعوب في تقرير مصيرها ومن حق الشعب الكردي أن يقرر ذلك دون وصابة من أحد ولا حتى  من رئيس مجلس صحوة الأنبار السيد أبو ريشة.   
6.   إن أحمد أبو ريشة يدعو إلى اتفاق ووحدة بين الشيعة والسنة لا لغرض تحقيق الوحدة العراقية, بل من أجل الوقوف بوجه الشعب الكردي, وبالتالي فهو يدعو عملياً إلى التقسيم أو إلى حرب جديدة ضد الكُرد حين تتحقق وحدة السنة والشيعة! إن هذه الفكرة هي من أسوأ الأفكار التي يمكن أن ترد على الطائفيين, فكرة أن يتحدوا لا لغرض خير وسليم بل من أجل الوقوف بوجه مكون آخر من مكونات الشعب العراقي الأصيلة. إنه الجنون بعينه, إنها المأساة والمهزلة في آن واحد في عراق اليوم, كما كانت في عراق صدام حسين من حيث استمرا وجود وفعل الفكر القومي الشوفيني.   
7.   علينا أن ندعو إلى إلغاء الفكر الطائفي السياسي وليس إلغاء وجود المذاهب, فالأخيرة حق مشروع وتعبير عن حركة الفكر المتنوع, وعلينا أن ندعو إلى وحدة الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه ومذاهبه, ولكن ليس من أجل اتفاق بين طرفين سياسيين طائفيين ضد طرف ثالث هو الشعب الكردي.   
8.   ثم يقترح أبو ريشة على الكُرد أن يغادروا العراق إن رفضوا الحل الذي يريد فرضه على الكُرد. ومن هنا يتبين لنا من هو الانفصالي الفعلي, ليس الكُرد هم الانفصاليون, بل من يدعو إلى فصل الكُرد عن العراق, في حين أن الكُرد قد اقروا الفيدرالية في إطار الدولة العراقية الواحدة الموحدة.   
9.   أما بصدد كركوك فقد كتب السيد أحمد أبو ريشة في ا آب/أغسطس 2009 يدعو إلى حل القضية لصالح الجميع وبالطرق السلمية وبعيداً عن السلاح, وكان التصريح سليماً وعقلانياً. ولكنه عاد في 17/11/2009 ليهدد الكُرد بالويل والثبور حين تعود الوحدة بين الشيعة والسنة وبطريقة تختلف كلية عن مقترحه بحل المسألة سلمياً, وه حل غير سليم وغير عقلاني في كل الأحوال, إذ هو يعرف كما يعرف غيره أن هناك أسساً قد أُقرت دستورياً لمعالجة القضية, وبغض النظر عن موقف كل منا بشأنها. وبالتالي يفترض أن يبقى الحل سلمي تفاوضي وديمقراطي وبعيداً كل البعد عن القوة والتهديد والإثارة الفجة التي مارسها أحمد أبو ريشة في تصريحاته الأخيرة.
10.   ويشير أبو ريشة إلى أن السيد رئيس الوزراء رفض التفاوض مع القيادة الكردية ورحب بهذا الموقف الشديد الذي لم يقفه غيره, [ونسى هنا ماقف صدام حسين وعلي حسن المجيد وغيرهما], إن كان ما قاله صحيحاً فرئيس الوزراء كان مخطئاً بهذا الموقف, إذ ليس هناك من عاقل يرفض التفاوض, والبديل لا يكون غير تفاقم الصراع والنزاع وما إلى ذلك. وما كان من حقه أن يتحدث عن لسان رئيس الوزراء بأي حال, إذ أن الأخير كان قد اجتمع مع رئيس الإقليم في كردستان وتباحثا بشأن القضايا المعلقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وأبديا رغبة في حل المشكلات وفق أسس سليمة ودستورية, رغم التلكؤ في ذلك.
إن حل قضية كركوك يفترض أن يستند إلى الدستور وأن يعالج بحكمة من قبل كافة الأطراف, خاصة وان مستقبل العراق مشترك بين جميع قومياته ولأمد طويل حقاً.
11.   وفي هذا المقال يسعى أبو ريشة, الضابط السابق في الجيش العراقي, إلى الدفاع عن حق البعثيين في المشاركة في الانتخابات واعتبار أن البعث كان يضم ستة ملايين عراقية وعراقي. من حق كل العراقيات والعراقيين أياً كان رأيهم الفكري والسياسي أن يمارسوا حقهم في الانتخابات, وهو حق مطلق لا يمكن أن يتنكر له أحد. ولكن أبو ريشة يحاول بهذا الطرح ان يضع نفسه محامياً عن البعثيين ليتقرب إلى الحلفاء السابقين ليمنحوه أصواتهم, خاصة وأنه حاول أن يكون شوفينياً مثلهم في تلك التصريحات التي أدلى بها أخيراً. يضاف إلى ذلك أن الرقم الذي قدمه لنا غير صحيح ومبالغ به, إذ أن البعثيين قد اتفقوا هم على أن حزبهم ضم بين 2-3 مليون إنسان في أوج فترة فرضهم العضوية بالقوة على الناس. وسعيه للمبالغة بعدد البعثيين يهدف إلى كسب أصواتهم له ولكي يحصل على 160 مقعداً بقوة البعثيين كما ادعى في تلك التصريحات.
نسى السيد أبو ريشة أن حزب البعث قد فقد دوره في الفترة الأخيرة من وجود صدام حسين في الحكم وأن كثرة كبيرة من الأعضاء والمؤيدين المجبرين كانت قد انسحبت بعيداً عن المشاركة حتى في الاجتماعات السياسية البعثية.
يتمنى الإنسان على أحمد أبو ريشة, الذي ساهم مع الجيش العراقي والقوات الأمريكية في دحر قوى القاعدة, أن يعيد النظر بمواقفه إزاء الشعب الكردي, وأن يمعن النظر بتاريخ العلاقات بين الحكومات العراقية المتعاقبة والشعب الكردي والعواقب التي جرها الموقف الشوفيني العربي والدكتاتورية الغاشمة إزاء الشعب الكردي, إلا إذا كان يريد للحكومة العراقية القادمة أن تكون عاقبتها مثل عواقب الحكومات السابقة التي تنكرت لحقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة.
20/11/2009                      كاظم حبيب

1153
كاظم حبيب
هل الرأسمالية هي نهاية التاريخ؟
بمناسبة منح الزميل والمفكر الكبير الأستاذ الدكتور سمير أمين جائزة أبن رشد التقديرية في برلين.
حين تخلى فرنسيس فوكوياما عن موضوعته المثيرة للجدل التي سعى من خلالها إلى تأكيد "أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ وليس هناك من نظام اقتصادي اجتماعي بديل لها" باعتبارها مقولة خاطئة لا تستند إلى حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي, بدأ آخرون يسعون إلى تبني ذات الفكرة الخاطئة لفوكوياما من أوساط أخرى كانت ضد الرأسمالية وإلى جانب التوجه صوب الاشتراكية, إضافة إلى أتباع الفكر الرأسمالي أو البرجوازي عموماً.  وكما يبدو لي بأن هذه المجموعة من الأشخاص لم تكن واعية للمنهج المادي الديالكتيكي ولا لحركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي, ولهذا تخلت عن كل ذلك حين اصطدمت بانهيار الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان المنظومة, حتى أن هذا البعض أصبح أكثر دفاعاً عن الرأسمالية واندفاعا لها من أيديولوجيي الرأسمالية أنفسهم. ويبدو أن هذا البعض بدأ يخلط بين فشل النظم السياسية التي نهضت في الاتحاد السوفييتي ومجموعة من بلدان أوروبا الشرقية من جهة, وبين الفكر الاشتراكي  العلمي الذي لم يمارس بوعي ومسؤولية ومنهجية مادية ديالكتيكية في تلك الدول بل بإرادة ذاتية ورغبات خاصة, كما أنه النقيض للفكر الرأسمالي من جهة ثانية. ويبدو لي بأن البعض الآخر راح يخلط بين إمكانية بناء الاشتراكية على الصعيد العالمي في مستقبل مفتوح الأفق الزمني, وبين الدعوة إلى إقامة الاشتراكية في دول نامية, الدول التي لا تزال العلاقات الإنتاجية الرأسمالية ضعيفة التطور فيها أو أنها لا تزال تعيش تحت وطأة العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية.
في حوار أجاره معي الصديق والفقيد الغالي المغدور كامل عبد الله شياع في تسعينات القرن الماضي عن الاشتراكية والرأسمالية, أشرت إلى أن الاشتراكية لم تخسر المعركة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع الرأسمالية, والرأسمالية لم تنتصر على الاشتراكية, ولكن النظم الرأسمالية السائدة انتصرت على تلك "الاشتراكية القائمة في الواقع" حينذاك, تلك التي أقيمت في الاتحاد السوفييتي وبلدان أخرى, كما قلت بأن الدول النامية بشكل عام والتي تتوزع بمواقع مختلفة من حيث مستوى التطور على دوائر تبتعد أو تقترب من مراكز الرأسمالية في العالم تقف أمام مهما إما تصفية بقايا العلاقات ما قبل الرأسمالية أو بناء وتوسيع قاعدة وتطوير العلاقات الإنتاجية الرأسمالية, وهي بالتالي ليست أمام أهداف ومهمات اشتراكية. وقد نشر هذا الحوار في مجلة الطريق اللبنانية على عددين.   
لقد فشل الاتحاد السوفييتي في بناء الاشتراكية لا لأن الاشتراكية لا يمكن تطبيقها في أي بلد من بلدان العالم, بل لأن القوى التي كانت تتبنى الاشتراكية وصلت إلى السلطة في تلك البلدان التي لم تكن مستلزمات بناء الاشتراكية فيها متوفرة, بل كانت تقف أمام مهمات أخرى لم تؤخذ بنظر الاعتبار من جانب لينين إلا قبل وفاته بفترة قصيرة وبسياسة "النيب" (السياسة الاقتصادية الجديدة) التي جاءت متأخرة جداً ووحيدة الجانب والتي أهملت كلية من جانب ستالين. ورغم غياب المستلزمات حاول الحكام بناء الاشتراكية بأساليب زجرية قهرية وبيروقراطية في بلدانهم. فجاءت النتيجة بعد سبعة عقود تقريباً في الاتحاد السوفييتي وأقل من ذلك في دول الديمقراطيات الشعبية. إن غياب الشروط والمستلزمات الضرورية والقاعدة المادية لبناء الاشتراكية قد غيب معه الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية التي قامت ثورة أكتوبر 1917 لتحقيقها, كما غيب بدوره الوعي الاجتماعي والسياسي الضروريين لبناء الاشتراكية في أي مجتمع من المجتمعات وعلى الصعيد الدولي.
إن من مهمات الفكر الاشتراكي أن يربط بصورة عضوية بين العدالة الاجتماعية من جهة وبين الحرية الفردية والمجتمعية والحياة الديمقراطية والحياة الدستورية وحقوق الإنسان من جهة ثانية.
يتطلب منا حين نبحث في مسألة الرأسمالية والاشتراكية أن نفصل بين الواقع القائم حالياً, حيث يفترض أن يسعى العراق مثلاً إلى بناء القاعدة المادية للتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي, وخاصة التصنيع وتحديث الزراعة وتغيير بنية وأسس التعليم والبحث العلمي في مختلف مراحله وإيجاد فرص عمل للعاطلين ومحاربة الفساد ونهب المال العام, وإلى تصفية بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والأبوية السائدة في الريف والموجودة في المدينة أيضاً, وإقامة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية باعتبارها أكثر تطوراً وتقدماً رغم كونها علاقات استغلالية أيضاً من جهة, وبين الدعوة غير العقلانية لبناء الاشتراكية في العراق في الوقت الحاضر من قبل بعض القوى التي لا زالت تحلم وهي بعيدة كل البعد عن وقع الحياة اليومية للمجتمع العراقي. إن هذا يعني أن واقع التطور الاقتصادي والاجتماعي في العراق هو الذي يفترض أن يحدد المهمات والشعارات وليس الرغبات الذاتية لهذا الحزب أو ذاك أو لهذا الشخص أو ذاك. فمن يريد أن يبني الاشتراكية في العراق عليه أن يزيل قبل ذاك معوقات البناء الرأسمالي لكي يستطيع إقامة وتطوير العلاقات الرأسمالية الوطنية وإقامة الصناعة والزراعة الحديثة وتأمين مستلزمات تغيير البنية الاجتماعية والوعي الاجتماعي.. الخ, وهي عملية تستوجب الكثير والكثير جداً من الزمن, إضافة إلى تلازم ذلك مع جملة من التغييرات الجادة في دول الجوار والإقليم والعالم في آن واحد.
ولنأخذ العراق كنموذج في هذا الصدد. لا شك في أن الدولة العراقية اليوم, كما هي بالأمس, تعتبر دولة نامية كانت منذ أربعينيات القرن الماضي تسعى إلى تنشيط عملية التراكم البدائي لرأس المال. وقد تحقق بعض التطور البسيط على هذا الطريق, ولكن أصيبت الدولة العراقية بردة فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية شديدة منذ نهاية العقد الثامن والتي تفاقمت في الحرب ضد إيران والحروب اللاحقة وما بعدها, ولا تزال هذه الدولة الغنية بمواردها المادية والبشرية تعيش تحت وطأة هذه الردة الفكرية والاجتماعية, رغم تخلصها من النظام الاستبدادي وسياساته الفاشية بسبب فرض الاحتلال وقيام قوى الاحتلال بالمساعدة الجدية في فرض هيمنة فكر إسلامي سياسي وطائفي متخلف وحكم يستند إلى المحاصصة الطائفية والإثنية ومحاولة فرض وجهة تطور تتعارض مع قوانين التطور الاجتماعي.

لهذا فأن العراق لا يقف اليوم أمام مهمات اشتراكية, بل أمام مهمات وطنية وديمقراطية أساسية والتي تبلورت بهذا القدر أو ذاك في بعض برامج قوى التيار الديمقراطي في العراق. وحين نتحدث عن بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية لا يعني بأي حال عدم مكافحة الاستغلال أو سعي الرأسماليين إلى تشديد درجة الاستغلال على الطبقة العاملة بمفهومها الواسع وعلى الفلاحين في الريف وبقية فئات المجتمع, بل يفترض وضع قوانين تحد من ذلك لصالح الاقتصاد الوطني والمجتمع ولصالح حماية المجتمع من تفاقم التناقضات والصراعات الطبقية المعرقلة للنمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وإلى حين نضوج ظروف ومستلزمات التحول صوب الاشتراكية. ولا نقصد في هذا نضوج المستلزمات بصورة ميكانيكة أو عفوية بل وبفعل النضال من أجلها وفق وعي المراحل التي يمر بها المجتمع والمهمات التي ي فترض طرحها في كل مرحلة من تلك المراحل المحتملة.
وحين يجري الحديث عن اقتصاد السوق الحر لا يعني بأي حال غياب الرقابة على مجمل العملية الاقتصادية بمختلف مراحلها أو عدم تأمين سياسات اقتصادية ومالية ونقدية وطنية, بما فيها السياسات المصرفية والتأمينية والضريبية والجمركية والسعرية, مدروسة جيداً ومتوازنة وفعالة لصالح تنمية وتحديث فروع وقطاعات الاقتصاد الوطني وزيادة التراكم الرأسمالي (العلاقة بين التراكم والاستهلاك مثلاً) وتوسيع قاعدة البحث العلمي وتطوير معدلات النمو وتحسين مستوى المعيشة, كما لا يعني ذلك تغييب البرمجة الاقتصادية أو التخطيط الاقتصادي وتحدي إستراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وطرح المؤشرات الأساسية لوجهة التطور الاقتصادي, وخاصة مسائل التوظيف أو الاستثمار والتشغيل والأسعار أو عموم السياسة المالية والنقدية. ولا يعني ذلك الاقتصار على القطاع الخاص دون الاستفادة التامة والعملية من موارد الدولة المالية لأغراض تنمية قطاع حكومي متقدم وفعال ومنافس وقائم على أساس الكفاءة الاقتصادية ومعايير الربح والخسارة فحسب, بل يفترض التفكير الجاد بوجود القطاعين العام والخاص والقطاع المختلط, إضافة إلى القطاع الأجنبي في ظروف العراق التي تستوجب نشاط ودعم كل هذه القطاعات ووفق منظور اقتصادي واجتماعي وطني سليم.         
حين نتحدث عن الحلم الذي كنا نعمل من أجله في العقود المنصرمة فهو يتضمن جانبين ايجابي وسلبي, وهما:
•   إن الحلم أو الأمل في بناء الاشتراكية لا يخضع للإرادة الذاتية للفرد أو الجماعة, بل يرتبط عضوياً بواقع التطور المتعدد الجوانب في هذا البلد أو ذاك, وبالتالي فقد كنا نحلم حقاً حين كنا نسعى لإقامة الاشتراكية في بلد لا يزال بعيداً كل البعد حتى عن الرأسمالية, وفي هذا كان الخلل.
•   وهذا يعني أن الخلل لم يكن في إمكانية بناء الاشتراكية في مستقبل آت في العراق أيضاً ولا ريب فيه. أي أن الأمل في البناء الاشتراكي يبقى قائماً ولكن ليس على المدى القريب أو المتوسط بل على المدى البعيد الذي لا يمكن تقديره الآن بل يخضع للعمليات الاجتماعية الجارية على الصعد الملحية والإقليمية والدولية في آن واحد, وليس على واحد منها فقط.
هذه المسألة التي يجري الحوار حولها والنقاش بشأن تفاصيلها تستحق بذل كل الجهد الفكري لتوضيحها وتبيان الموقف منها لكي لا يخلد البعض إلى الراحة ويعتقد بأن العالم ألغى كلية من تفكيره إمكانية بناء الاشتراكية في يوم من الأيام, وأن الرأسمالية انتصرت وإلى الأبد على الفكر الاشتراكي, وأن من ينادي بالاشتراكية أصبح وكأنه يتحدث عن ماضٍ ولى ولن يعود. لن تعود تجربة النظم السابقة, هذه حقيقة, ويأمل الإنسان أن لا ترتكب أخطاء مماثلة في هذا الصدد, ولكن الاشتراكية لن تغيب عن ذهن وعقل الإنسان لأنها تجسد القيم الإنسانية الأساسية التي تعتنقها البشرية منذ قرون, ومنها العدالة الاجتماعية والمساواة والإخاء ومبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, بما فيها حقوق المرأة, والسلام والأمن وحماية البيئة والطبيعة, كما أنها تتناغم مع قوانين التطور الاجتماعي للمجتمع البشري. وفي هذا تكمن واحدة من ابرز خصائص الأبحاث التي يقدمها لنا الكاتب والمفكر المتميز الأستاذ الدكتور سمير أمين منذ أن أنهى رسالة الدكتوراه في مجال "التبادل غير المتكافئ" وتواصلاً مع الكثير من كتبه, ومنها  كتاب ما بعد الرأسمالية وإلى أبحاثه ودراساته الفكرية الأخيرة والقيمة, بما فيها تلك الدراسات الناقدة للتجارب "الاشتراكية في بلدان "المنظومة الاشتراكية" في حينها.
إن إغناء البحث الفكري في مسائل العصر, ومنها الرأسمالية والعولمة الرأسمالية والأزمة التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي والعوامل الكامنة ورائها واتجاهات معالجة هذه الأزمة والحلول العملية لها وقضايا الاشتراكية ومستقبل النضال في سبيلها على الصعيد العالمي, وقضايا البلدان النامية والمهمات التي تجابه شعوب هذه البلدان كلها من الموضوعات المهمة التي ساهم ويساهم الأستاذ سمير أمين في البحث فيها وبصورة ريادية متينة. إن البحث في الماضي والحاضر على أسس علمية ومنهجية سليمة تساعدنا على  رؤية المستقبل وآفاقه المشرقة رغم المصاعب التي يمر بها الإنسان على هذا الطريق الطويل. إن أروع وأعمق ما في أبحاث الدكتور سمير أمين هي تلك الروح الشابة والوثابة والجادة والمسؤولة والمتطلعة لمستقبل أفضل للبشرية جمعاء. وأبحاثه تقدم زاداً غنياً للباحثين الشباب وللعاملين في مجالات الفكر الاقتصاد والمجتمع بشكل خاص.   
لقد أنصف الأساتذة في لجنة التحكيم الذين شاركوا في اختيار ومنح الأستاذ سمير أمين هذه الجائزة التقديرية من بين مجموعة مهمة من الباحثين الاقتصاديين والمفكرين في الدول العربية. فلهم منا ولمؤسسة ابن رشد للفكر الحر الشكر الجزيل.
19/11/2009                      كاظم حبيب
                                                                                                                 
   ملاحظة: من الجدير بالإشارة إلى أن صموئيل هنتنكتون فش هو الآخر في محاولاته نشر وتعميم مقولته الخاصة بصراع الحضارات أو الثقافات على خلفية مقولته بانتهاء الصراع الطبقي, في حين لم يستطع رؤية أن هذه الصراعات الدينية يكمن في جوهرها صراع طبقي اتخذ مساراً خاطئاً بحكم التعصب الديني والتطرف المذهبي لدى مختلف الديانات ومنها الدين الإسلامي, وأن معالجة التناقضات الاجتماعية والتمييز القومي والديني والمذهبي ... الخ تساهم كلها في نشر علاقات الاعتراف المتبادل والتفاهم والتسامح بين الشعوب ولا تثير الضغائن والكراهية والأحقاد والحروب.


1154
كاظم حبيب
هل ستكون الانتخابات العامة القادمة في العراق نزيهة ونظيفة؟
لم يعرف العراقيون الانتخابات قبل نشوء الدولة العراقية الملكية الحديثة, ومع ذلك طالبوا بالاستفتاء على طريقة الشورى التي لم تكن يوماً شورى بالمعنى الصحيح, بل كانت "تؤخذ الدنيا غلابا وبحد السيف", كما جرى في عهد معاوية بن أبي سفيان حين أراد أن يكون ابنه يزيد خليفة له:
".. عندما أرسل يطلب رأيهم في أمر أخذ البيعة ليزيد "وليا للعهد" قام يزيد بن المقنع , فلخص الموقف الأموي من الخلافة في عبارة موجزة بليغة عندما جمع فأوعى!. قال: "أمير المؤمنين هذا" وأشار إلى معاوية.. "فإن هلك , فهذا" وأشار إلى يزيد.. "فمن أبى, فهذا" وأشار إلى سيفه!.. فقال له معاوية: "أجلس , فإنك سيد الخطباء"!!(راجع: إمام, إمام عبد الفتاح د. الطاغية - دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي-. عالم المعرفة 183, سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت. مارس/آذار 1994 م. ص 205/206).
هذا في عهود الدولة العربية والإسلامية. أما في العهد الملكي فقد عبر عن ذلك بوضوح كبير نوري السعيد, ميكافيلّي العرب, حين كان يؤكد بأن من المستحيل حصول مرشح لمجلس النواب على مقعد فيه ما لم يجد الدعم والمساندة الحكومية, وبهذا كان يتحدى جميع النواب وتحت قبة البرلمان ذاته. (محاضر مجلس النواب العراقي في العهد الملكي).
هذه هي التقاليد المتوارثة التي نشأ عليها النظام السياسي العراقي حتى سقوط الملكية, وهي تقاليد سيئة وتزوير دائم للانتخابات واستهانة كاملة بإرادة الناس أو الناخب. فعلى سبيل المثال لا الحصر حين فاز 12 نائباً في انتخابات مجلس النواب في العام 1954 لم يتحمل نوري السعيد هذه النتيجة, فحل مجلس النواب وأجرى انتخاب ضمن كل أعضاء المجلس لصالح مشاريعه والمراسيم الاستبدادية التي أصدرها في العام 1955.
وفي العهد الجمهوري الأول لم تكن هناك انتخابات في ما عدا انتخابات النقابات التي جرى السعي لتزويرها أيضاً. وغياب الدستور الدائم والانتخابات العامة تسببت في تفاقم فردية قاسم وسوء سياسات الأحزاب والقوى إلى تدهور الأوضاع وانتصار الانقلاب الفاشي في العام 1963.
وأكثر الأساليب شراسة وعدوانية وتزييفاً لإرادة الإنسان والشعب جرت في عهد البعث وصدام حسين بعد أن وصلا إلى السلطة مرة أخرى. ففي هذا العهد البعثي كان التصويت يتم بورقة كتب خلفها اسم وعنوان الناخب ومنها يتبين لمن أعطى هذا المواطن أو ذاك صوته, وحينها تبدأ أجهزة الأمن بمطاردة الضحية التي لم تمنح صوتها لصدام حسين وقائمة البعث ليجد نفسه إما في السجن أم في المقابر الجماعية. والشعب العراقي كله شاهد على ذلك.
وفي العهد الجديد لعبت المليشيات الطائفية المسلحة دورها في حصد رؤوس من يقف ضد مرشحيها أو القوائم الدينية الشيعية على نحو خاص, وكذلك حصل فيما بعد بالنسبة للقوائم السنية أيضاً.
بعدها وأثناء ذلك أيضاً جاء دور البطانيات والثلاجات والمدفئات والأموال لتمنح للفقراء والبسطاء من الناس, وهم الغالبية العظمى في العراق, لقاء القسم برأس أبو فضل العباس أبو رأس الحار الذي يسطر (يصفع) من لا يوفي بقسمه لمنح هذا الصوت أو ذاك لهذه القائمة أو تلك أو هذا المرشح أو ذاك. يضاف إلى ذلك أساليب أخرى متنوعة.
ثم كان التزوير المفضوح في وضع أوراق إضافية أكثر من عدد الناخبين في صناديق الاقتراع في الكثير من الدوائر الانتخابية.. وكانت مفضوحة جداً, ولكنها عبرت ولم تجد المفوضية ضرورة إعادة الانتخابات فيها... وثم..الخ.
لقد شهدت انتخابات 2005 حصول عمليات تزوير كبيرة وعدم نزاهة, إذ كانت هذه الظواهر هي سيدة الموقف. فماذا يمكن أن يحصل اليوم؟ وهل ستتكرر العملية والتقاليد السلبية؟
لدينا في مجلس النواب كتلاً عديدة تهيمن على الموقف في المجلس الراهن, وهذه الكتل الكبيرة هي التي حسمت الموقف من قانون الانتخابات الجديد. فقد حصل توافق بينها, ولكن هذا التوافق الذي أدى إلى صدور قانون الانتخابات في الكثير من جوانبه غير ديمقراطي سواء من الناحية المبدئية, أم من ناحية الممارسة العملية وباتجاهات عدة, منها:
** فهو قانون غير ديمقراطي إزاء القوميات وأتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين ومن غير العرب والكُرد؛
** وغير ديمقراطي في الموقف من المواطنات والمواطنين في الخارج؛
** وغير ديمقراطي من حيث عدد المقاعد التعويضية بالنسبة للقوائم والأشخاص الذين لا يحققون المتوسط العراقي في عدد الأصوات المطلوبة؛
** وغير ديمقراطي في زيادة سكان محافظات بعينها وإبقاء محافظات أخرى دون تغيير في سكانها وكأن لا ولادات فيها ولا نمو سكاني, في حين كانت المحافظات الأخرى ومنها الموصل وكأن السكان قد تضاعفوا فيه, مما سيزيد من مقاعدها في المجلس دون وجه حق!
** وغير ديمقراطي في رفضه اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة؛
** وغير ديمقراطي في فرص الإعلام التي تمنح للقوائم المختلفة؛
** وغير ديمقراطي بالنسبة للأموال التي تسخر لخوض المعركة الانتخابية بين القوائم الكادحة وقوائم الأغنياء والمتخمين بالأموال...
هذا ابتداء, ولكن ماذا سيجري في مجرى العملية الانتخابية وفرز الأصوات؟ .. هذا ما يمكن تقديره والتنبؤ بنتائجه وفق تجاربنا السابقة وتقاليد الحكام العرب والمسلمين بشكل عام.
هل ستكون هذه الانتخابات أفضل من سابقاتها؟ من الممكن أن تكون كذلك, خاصة وأن القوى الإسلامية السياسية اُجبرت تحت ضغط الشارع العراقي والرأي العام العالمي إلى كسب مرشحين وقوى غير إسلامية سياسية أو علمانية في قوائمها, فهل هي محاولة لعبور العاصفة ثم العودة إلى الطائفية السياسية للأحزاب السياسية الإسلامية لتكريس مواقعها في الحكم؟ إذ أن الأحزاب الإسلامية بنيت على أسس طائفية صارخة ولم تتخل عنها عملياً حتى الآن ولم تغير برامج أحزابها بما يساعد على القول بأنها قد تغيرت حقاً لصالح المواطن والمواطنة العراقية. هذا ما نتوقعه وما سوف تكشف عنه الأيام رغم رغبتنا بأن لا يكون الأمر بهذه الصورة. ويمكن أن تكون هناك مفاجئات, ولكنها سوف لن تكون استثنائية في ظل الأوضاع الراهنة وموازين القوى الداخلية.
رغم التحسن النسبي في أوضاع الأمن الداخلي, إلا أن الأوضاع العامة ومستوى الوعي العام لا يضمنان انتخابات نزيهة ونظيفة كما يرغب الإنسان أن تكون عليه, ولكن لنعمل من أجل أن تكون نظيفة ونزيهة قدر الإمكان وبحدهما الأدنى, رغم المقدمات التي تمنع من أن تكون ديمقراطية.
ويبدو لي أن من واجب رئاسة الجمهورية رفض هذا القانون والاستجابة للمطالبة المتنامية بضرورة إجراء تعديلات عليه لصالح انتخابات حرة أقل تزويراً وأكثر نزاهة وتعبيراً عن رأي الناس.
وعلى العموم يمكن أن نجد الجواب عن السؤال الرئيسي في هذا المقال في مجرى وفي أعقاب 21/1/2010 حين تنتهي الانتخابات وحين يتم فرز الأصوات, وحين يكون قد فات الأوان لأي تعديل مناسب إلا أثناء الدورة البرلمانية الجديدة ما لم تبادر رئاسة الجمهورية وتقترح إجراء تعديلات جادة على هذا القانون قبل التوقيع عليه.
17/11/2009   كاظم حبيب          
 

   

1155
د. كاظم حبيب
شيء عن حقيقة الأنفال الصدّامية في كُردستان العراق!
بناء على دعوة وجهت لي من لجنة الوفاء لمبدعي الثقافة العراقي من الأحياء والأموات واحتفاءً بذكرى وفاة الكاتب والصحفي الأستاذ ناجي صبري عقراوي شاركت في ايام ثقافية ثلاثة أقيمت في مدينة أربيل بين 28/10-30/10/2009 وبالتعاون والتنسيق مع وزارة الثقافة في حكومة إقليم كُردستان العراق. وفي هذه الندوة تسنى لي تقديم المداخلة التالية حول واحدة من أبشع العمليات الإجرامية التي ارتكبتها الدكتاتوريات الغاشمة في بلدان العالم في النصف الثاني من القرن العشرين ضد الشعب الكُردي والتي أصبحت تعرف بـ"مجازر عمليات الأنفال وكيماوي حلبچة" , والتي تعتبر جزءاً وتدخل ضمن مفهوم "عمليات الإبادة الجماعية وضد الإنسانية". وإلى السيدات والسادة الكرام اقدم نص هذه المداخلة:
المضمون الفاشي لمجازر الأنفال وحلبچة في كُردستان العراق
المدخل
أين تكمن أهمية البحث في هذا الموضوع ؟
حين اخترت الكتابة في هذا الموضوع في ضوء الدعوة التي وجهت لي للمشاركة في مهرجان الذكرى السنوية لوفاة الكاتب والصحفي الكردي ناجي صبري عقراوي, هذا الكاتب والمثقف الذي عالج المشكلات الكردية والعراقية باللغة العربية, انتصبت أمامي الملاحظات التالية:
1.   إن المهرجان يُعقد بحدود الشهر الذي توقفت فيه عمليات مجازر الأنفال ضد شعب كردستان في تشرين الأول/أكتوبر 1988, وبالتالي فهو يبحث في ذكرى حدث مهم ونهاية  لكارثة إنسانية كبرى.
2.   وأن أصدقاء الكُرد من العرب وكذلك قوى الشعب الكردي الديمقراطية لم تستطع حتى الآن ورغم مرور 21 عاماً على تلك الأحداث المأساوية أن تقنع نسبة عالية جداً من بنات وأبناء الشعوب العربية بدموية تلك الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الكردي الذي لم يكن يطالب بأكثر من حقوقه القومية المشروعة وجوبه بتلك العمليات الجهنمية. وبالتالي لا يزال هناك الكثير من العرب ومن المثقفين العرب الذين لم يصدقوا وقوع تلك الجرائم في كُردستان العراق.
3.   وأن الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان لم تستطيعا حتى الآن إعادة بناء مدينة حلبچة والمشاركة في تعويض عائلات ضحايا الأنفال أو توفي السكن اللائق والعمل المناسب والمعالجات الطبية والنفسية الضرورية.
4.   وأن فكر الكراهية والحقد ما زالا يفعلان فعلهما في الساحة السياسية العراقية وفي المجتمع العراقي, سواء أكان فكراً شوفينياً أو عنصرياً أو مناهضاً لأتباع ديانات أخرى أو مذاهب أخرى, وأن ثقافة العنف والقسوة والتمييز لا تزال هي التي تلعب دورها في العلاقة بين المكونات رغم تراجع العنف والإرهاب الدموي نسبياً.
5.   ولأن الحكومة الاتحادية في بغداد لم تع حتى الآن أهمية وضرورة الاعتذار لما مارسته الدكتاتورية في كردستان باسم القومية العربية وباسم الحكومة العراقية بحق الشعب الكردي.
6.   ولأن الراحل كان قد كتب الكثير من المقالات التي تدين جرائم عمليات الأنفال والتي تفضح الفكر والذهنية والممارسة التي كانت تكمن وراء ذلك ومن أجل منع وقوعها ثانية في العراق أو في أي بلد أو منطقة في العالم.  
*********
  تمر علينا في هذه الأيام الذكرى الحادية والعشرون لنهاية مجازر الأنفال التي مارسها النظام الفاشي في العراق والتي بدأت في شهر شباط/فبراير من العام 1988. وقد كتب عنها الأخ الراحل الأستاذ ناجي صبري عقراوي الكثير وسعى لإنصاف ضحايا الأنفال. وتأكيداً لما ناضل من أجله بهدف تشديد فضح الخلفية الفكرية والسياسية لتلك العمليات وإعادة بناء ما خرب من كردستان, وخاصة بالنسبة إلى تلك المناطق التي شملتها الضربات العسكرية لقوات الحكومة الفاشية, وخاصة حلبچة, أقدم هذه المساهمة في الحديث عن الطبيعة الفاشية لحملات مجاز الأنفال وحلبچة من قبل النظام البعثي.
لقد شهد العالم خلال سنوات القرن العشرين الكثير من المجازر البشرية التي راح ضحيتها عشرات بل مئات ألوف وملايين الناس الأبرياء لأسباب ترتبط بالطبيعة العنصرية للنظم والقوى السياسية التي مارست تلك العمليات والتي استهدفت إبادة مجموعة قومية أو أثنية أو دينية أو مذهبية أو فلسفية أو فكرية وسياسية والتي اعُتبرت كلها مجازر جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية . وكانت مجازر الأنفال وقصف حلبچة بالكيماوي واحدة من أبشع المجازر تلك التي تعرض لها شعب كُردستان في العام 1988 والتي كانت القمة المرعبة في ما مارسته كل الحكومات العراقية السابقة.
وكمواطن عراقي من أبناء القومية العربية اشعر بالألم والخجل لما ارتكبه الفاشيون العرب في كردستان العراق من جرائم يندى لها جبين البشرية وتطالبنا تلك الضحايا البشرية جميعاً بالنضال من أجل منع وصول مثل هذه القوى المجرمة إلى الحكم ثانية في العراق أياً كان الرداء الفكري والسياسي والديني والمذهبي الذي يمكن أن تتلفع به أو تدعيه.
وأتمنى أن يساهم كل مواطن عربي في العراق وفي أي مكان آخر بحمية عالية في تعرية الخلفية الفكرية والأهداف الحقيقية وراء ما حصل في كردستان وأن يمارس الشجب والإدانة ضده بكل وعي ومسؤولية إزاء التآخي بين مختلف الشعوب في البلد الواحد وفي أرجاء المعمورة. إن الوعي القومي حين يشذ عن الطريق ويتشوه, حينها يمكن أن يمارس كل الجرائم المريعة باسم القومية والدفاع عنها والحفاظ على نقاوتها, وهي الشوفينية والعنصرية المقيتة بعينها وليس غير ذلك.  
لم تكن هذه المجازر التي تواصلت طوال تسعة شهور نتيجة رد فعل أو موقف سياسي إزاء الحركة الكردية التحررية المسلحة في كردستان العراق, بل كانت تعبر عن أيديولوجية فاشية وذهنية عنصرية مناهضة للقوميات الأخرى تلبست قوى البعث الحاكم وكانت ترفض الأخر وتسعى إلى تصفية حركة شعب يطالب بالحرية والديمقراطية وممارسة حقوقه كاملة غير منقوصة بما فيها حقه في تقرير مصيره بنفسه ودون وصاية من أحد.
إن عمليات مجازر الأنفال والضربات الكيماوية في حلبچة كانت قمة الأفعال العسكرية والعدوانية التي جابهت بها الحكومات المركزية في العراق الشعب الكردي الذي كان طالب قبل تأسيس الدولة العراقية بحقوقه المشروعة واستمر في المطالبة عليها طيلة العقود المنصرمة إلى أن حقق جزءاً أساسياً منها في العام 1991/1992 والتي تستوجب التكريس دستورياً وعبر قوانين واضحة وتمارس فعلياً.
لقد رفض المحتل البريطاني تحقيق حلم الأمة الكردية بالوحدة وواصل وعمق ووسع من حالة التقسيم التي منيت بها أرض كردستان منذ معارك جالديران في العام 1534 ووزعت إلى أربع دول بعد أن كانت حينذاك تحت احتلال الدولتين العثمانية والفارسية.
ثم رفضت الحكومات العراقية المتعاقبة, بعد أن ألحقت ولاية الموصل بالعراق في العام 1926, الاستجابة لمطالب الشعب الكردي وتنفيذ ما اتفق عليه في قرار عصبة الأمم والرسائل المتبادلة بين رئاسة العصبة والملك فيصل الأول والحكومة العراقية. واتخذت سياسات الحكومات المركزية المتعاقبة تهميش الشعب الكردي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً, إضافة إلى محاولات أولية في تغيير البنية السكانية لبعض مناطق كُردستان العراق دون أن يتبين منها أنها تريد ذلك والتي بدأت في منطقة الحويجة.
وحين كانت الأصوات الكردية ترتفع مطالبة بحقوقها المشروعة, كانت الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي تواجه ذلك بالادعاء بوجود تمرد كردي لتتوجه بإنزال ضربات عسكرية ضد مواقع مناضلي الشعب الكُردي, ولم تتورع عن إعدام من كان مشاركاً في هذا النضال من العسكريين الكُرد, كما حصل في الموقف من الضباط الأحرار الكُرد الأربعة في حركات عام 1946.
ورغم النضال الذي خاضه الشعب الكردي والدعم الذي حصل عليه من المناضلين العراقيين العرب والأحزاب الديمقراطية لم يتحقق للشعب الكردي حتى سقوط الملكية أي مطلب من مطالبه العادلة وبقى التهميش متواصلاً ولم يحصل حتى على جزء ضئيل من موارد نفطه المالية لتصرف على عمليات التنمية والإعمار والتشغيل في كردستان العراق. وإذ شارك بعض الكُرد في مجلس النواب أو الحكومات المركزية العراقية المتعاقبة, فلم تكن تلك المشاركة حقيقية أو مدافعة عن مصالح وإرادة الشعب الكردي بل كانت تجري تحت مظلة الحكم الملكي ولصالحه وضد الشعب الكردي وحقوقه. كما أن البعض من ابرز هؤلاء قد شارك في اضطهاد كل الشعب العراقي بمن فيهم الشعب الكردي. ونورد هنا نماذج قليلة على سبيل المثال لا الحصر: بكر صدقي العسكري سعيد قزاز وعمر علي.
لم يكن الحكم الملكي عنصرياً أو فاشياً, بل كان رجعياً ومناهضاً للديمقراطية رغم وجود دستور ديمقراطي وكان قومياً عربياً شوفينياً, رغم الأصول الكردية أو التركمانية للبعض منهم. ووجد هؤلاء التأييد من القوى القومية العربية الشوفينية في الموقف من المسألة الكردية ومن حقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة.
وبعد ثورة تموز 1958 بدأ الحكم الجديد بمحاولة جادة لإنصاف الشعب الكردي والاعتراف له بحقوقه المشروعة على أرض العراق وعلى المشاركة في الوطن والحقوق والواجبات. إلا أن هذه البداية من رئيس الحكومة وقائد الثورة عبد الكريم قاسم قد تعثرت بفعل عوامل كثيرة بما فيها الفردية والحكم غير الديمقراطي وغياب المؤسسات الدستورية من جهة, والعجالة في تحقيق المطالب من جهة أخرى, ودور القوى القومية العربية الشوفينية الداخلية والدول العربية والدولية من جهة ثالثة, كما بدأ النزاع العسكري المسلح بين قوات الحكومة وقوات البيشمرگة الكُرد, وبهذا بدأ استكمال تراجع الثورة لا عن حقوق الشعب الكردي فحسب, بل وعن مجمل مسيرتها الديمقراطية وانتكست بثورة الردة الفاشية في شباط/فبراير 1963.
ومارست الحكومات القومية المتعاقبة سياسات مناهضة للكُرد ومتميزة بالشوفينية والذهنية العنصرية والاستبداد وممارسة القسوة في معالجة  المشكلات الداخلية. ولم تبذل أية جهود حقيقية لمعالجة المسألة الكردية, بل استمر التهميش بكل أشكاله واستمر استخدام القوة والسلاح لفرض إرادة الحكم المركزي وذهنيته الشوفينية على الشعب الكردي. وإذ حاول الدكتور عبد الرحمن البزاز, وهو القومي القانوني المنفتح, أن يعالج المشكلة بصيغة ما, وجد المقاومة من القوى العسكرية في حكومة عبد الرحمن عارف مما قاد إلى تنحيته وإلى بدء نزاع عسكري جديد ومتواصل.
وحين جاء حزب البعث مجدداً إلى الحكم واصل القتال ولم يكن في نيته تحقيق أي هدف من أهداف الشعب الكردي, وحين أجبر عليه في 11 آذار 1970, كان في خلفية تفكيره وأهدافه القضاء التام على الحركة الكردية وعلى مطالب الشعب الكردي. كان يتبجح في الظاهر القبول بـ "الحكم الذاتي لبعض محافظات الشمال" وليس الاعتراف بإقليم كردستان العراق أولاً, ومن ثم الإصرار على تصفية الحركة في أقرب فرصة تتاح له, وحين توفرت له وجه ضربته القاسية والتي تجلت في مضامين اتفاقية الجزائر المذلة والمعادية لمصالح الشعب الكردي وعموم الشعب العراقي في آن واحد.
إن سياسات الحكم المركزي في العراق قد تفاقمت تدريجاً لتتحول إلى نهج شوفيني عنصري فاشي الفكر والممارسة. وتبلور ذلك قبل وخلال فترة الحرب العراقية الإيرانية وتصاعد تدريجاً حتى نهاتها حيث توجه النظام البعثي بعدوانية لا مثيل لها والتي تجلت في تنفيذ عمليات مجازر الأنفال وضربات حلبچة في كردستان العراق
وإذ كانت كردستان مسرحاً لعمليات عسكرية مستمرة طيلة فترة الحرب العراقية الإيرانية, فأن النظام لم يبخل بالإرهاب والقمع والقتل والتهجير للكرد الفيلية, وهم جزء أصيل ومتميز من الشعب الكردي, ومن عموم الشعب العراقي, وكذلك شمول ذلك لعرب الجنوب والوسط بذريعة التبعية الإيرانية وتصفية الجبهة الداخلية من الجيوب العميلة !!  
أشير هنا ومن جديد أؤكد بأن عمليات مجازر الأنفال جاءت وفق ذهنية استبدادية عسكرية وأيديولوجية عنصرية وأساليب فاشية في القهر والتصفية وفي عمليات التعريب والتهجير القسريين والتغيير الديموغرافي لمناطق من كردستان.
العوامل التي تجعل من عمليات الأنفال ذات طبيعة عنصرية في الفكر وفاشية في الأساليب
- الأيديولوجية القومية اليمينية المتطرفة التي يستند إليها حزب البعث العفلقي منذ تأسيسه حتى اليوم.  
_ رفض القوميات الأخرى واعتبار القومية العربية هي الأفضل والأرقى وهي خير أمة في العالم ورفض احترام أو حقوق القوميات الأخرى واعتبارها الأدنى مستوى.
- معاداة القوميات الأخرى الموجودة في الدول العربية والسعي لصهرها في القومية العربية أو التخلص منها بأي سبيل كان.
- فرض الاستبداد والعنف في الممارسة السياسية وفي الموقف من القوى الأخرى والتربية بذهنية عسكرية والاستعداد لسحق من يقف في طريق القوى العربية الشوفينية.
- فرض الفكر الواحد والنهج الواحد والسياسية الواحدة للحزب القومي, سواء أكان بعثياً أم قومياً يمينياً شوفينياً على شاكلة القوى الموجودة في الدول العربية.
- رفض الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية.
- رفض الحياة الدستورية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة.
- اعتبار كل الدول العربية جزءاً من الوطن العربي واعتبار الشعوب الأخرى خاضعة له وينبغي أن تسير تحت رايتها شاءت ذلك أم أبت, ورفض جميع الحقوق القومية للقوميات الأخرى.
- العمل من أجل التوسع نحو الأراضي التي كانت يوماً ما في الدول الإسلامية والأراضي التي فتحت بالقوة واعتبارها جزءاً من الأراضي العربية التي يفترض لها أن تعود للدولة الأم. وهي لا تتورع عن خوض الحروب الخارجية من أجل تحقيق ذلك.
- ممارسة قاعدة الغاية تبرر الواسطة التي مارسها المستعمرون والفاتحون في كل الأوقات للهيمنة على دول وشعوب أخرى وإخضاعها لهم.
- وتمارس الفاشية في الحكم أساليب القهر اليومي والسجون والتعذيب النفسي والجسدي بكل أشكاله القديمة والحديثة والقتل والمقابر الجماعية لكل من تعتقد بكونه ضدها ومن تعتبره ضمن من تطلق عليهم تسمية الشعوبيين. وهي بالتالي تمارس نشر الكراهية والحقد بين الشعوب.
التصميم المسبق والتهيئة الفعلية لممارسة عمليات الأنفال
منذ أن وقع البعث بيان 11 آذار 1970 كانت في خلفية تفكيره تأمين السبل للتخلص من الحركة الكردية المسلحة وتصفية الحركة الديمقراطية الكردية وفرض الهيمنة الكاملة على كردستان. وتوفرت فرصة أولية لتحقيق ذلك حين اتفق مع شاه إيران في عقد اتفاقية الجزائر وكانت الضربة قاسية وشديدة. ولكن الشعب الكردي وقواه السياسية نهضت مجدداً وواصلت حمل السلاح. في هذه الفترة عمد النظام إلى مجموعة من الإجراءات حتى قبل بدء الحر مع إيران, وأهمها:
** تطوير القوات المسلحة العراقية وزيادة عددها وعدتها.
** تأمين ترسانة كبيرة جداً من السلاح الدفاعي والهجومي استيراداً وإنتاجاً, إضافة إلى السعي لإنتاج أسلحة الإبادة الجماعية, وخاصة بعد عملية التأميم وبدء تدفق الموارد المالية الكبيرة,
** نشر الفكر المناهض للكرد والكاره لهم باعتبارهم قوى انفصالية شعوبية وجيب عميل يحاول منع الوحدة العربية وتطور الحكم في العراق.
** بناء الثكنات العسكرية الكثيرة في مناطق جبال كردستان وممارسة إقامة المجمعات السكنية القسرية, إضافة إلى تهجير الكٍرد الفيلية وتهجير واسع النطاق للكُرد من كركوك إلى وسط وجنوب العراق أو إلى مناطق كردية أخرى.
** تصفية أي وجود علني للقوى السياسية الأخرى في البلاد وإنهاء آخر تحالف داخلي له مع الحزب الشيوعي بضرب قيادات وقواعد وتنظيمات الحزب الشيوعي على نطاق القطر كله, مما صفا له الجو لتنفيذ سياساته العدوانية ضد الشعب الكردي.
** كما عمل على تعبئة الرأي العام العربي ضد الكُرد بأساليب دعايته الجيماگوگية والمستمدة من الترسانة الفكرية السياسية للنازيين في ألمانيا ومن قول غوبلز "أفتروا ثم أفتروا ثم أفتروا, لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس".
** شن حرب فعلية ضد الشعب الكُردي في الوقت الذي كان خوض الحرب العدوانية والتوسعية ضد إيران.
** تدمير الكثير من القرى والأرياف والغابات والمزروعات في كردستان العراق لضمان كشف المنطقة أمام ضربات القوات الجوية العراقية, إضافة إلى تدمير البنية التحتية والاقتصاد الزراعي وقدرة الفلاح العراق على ممارسة الزراعة والمشاركة في الإنتاج, وتحميل المجتمع والإقليم والدولة خسائر مالية فادحة, إضافة إلى خراب البيئة وتلويثها على أوسع نطاق.  
** تعزيز الوجود العسكري العراقي في كردستان العراق والتهيئة لتوجيه ضربات قاسية لقوات الپيشمرگة المسلحة ومناطق وجودهم فيها.
** تعزيز القيادة الحزبية والعسكرية للقوات الحكومية والجحوش وقوات الأمن. وقد تم تكليف المجرم علي حسن المجيد بمهمة قيادة العمليات العسكرية في كردستان العراق.
** ومع بدء عمليات الأنفال دعا الدكتاتور صدام حسين في آذار من العام 1988إلى التفاوض مع القوى المسلحة والأحزاب المناهضة له بهدف التغطية على عملياته العدوانية الإجرامية ضد الشعب الكردي والتي رفضت من قبل كل القوى السياسية الوطنية العربية والكردية الديمقراطية.
إن كل هذه الإجراءات كانت تؤكد وتدلل على النية الكاملة والتصميم والتخطيط والتنظيم لتنفيذ العملية في الوقت المناسب الذي تم اختياره وتحديده قبل نهاية الحرب العراقية الإيرانية بفترة وجيزة من جانب الدكتاتور المقبور صدام حسين.
ثالثاً : ثالثاً : التنفيذ الإجرامي لحملات ومذابح الأنفال
استخدم النظام العراقي في حملاته العسكرية الجديدة في العام 1988 كل تلك الأساليب والأدوات التي أشرنا إليها سابقاً, إضافة إلى ما يلي, سواء بالتتابع أم كلها دفعة واحدة وفي ظروف متباينة ومواقع مختلفة:,
1. استخدام الأسلحة الكيماوية: وهذا ما تحدث عنه قائد الحملات العدوانية بنفسه علي حسن المجيد بعد أن كان قد قطع شوطاً بعيداً في حملات الإبادة الجماعية. ورغم إنكاره في المحكمة استخدام السلاح الكيماوي, إلا أنه أبدى الاستعداد الكامل لتكرار ذلك إذا ما طلب منه ذلك في ظروف مماثلة.
عمد النظام إلى تدمير كامل لأكثر من 4200 قرية كردية بعدد متباين من النفوس في كل منها, وتدمير المزروعات والحيوانات فيها. ومن أجل إنجاز الحملة العسكرية على شعب كردستان استخدمت قوات النظام القصف الجوي قاذفة بالأسلحة المحرمة دولياً ومنها الناپالم والأسلحة الانشطارية, كما استخدم المدافع الثقيلة لهذا الغرض. ولم تقصف هذه القرى بعد تخليتها من السكان باستمرار, بل خرب الكثير منها على رؤوس ساكنيها في غالب الأحيان.
قام النظام بعمليات تمشيط واسعة لأغلب القرى والأرياف الكردية تم خلالها حجز سكانها وتجميعهم في مراكز معينة, ثم نقلهم بشاحنات إلى مناطق مجهولة بهدف تصفيتهم جسدياً.
تؤكد المعلومات المتوفرة أن النظام كان قد شكل بعض الفرق الخاصة التي أخذت على عاتقها تصفية هذه المجاميع الكبيرة من السكان من خلال قتل عشرات الآلاف منهم ودفنهم جماعياً أو دفنهم وهم أحياء في حفر واسعة والدوس على قبورهم الجماعية وتسوية الأرض بالجرافات التابعة للقوات المسلحة. ولم ينج من هذه المجازر في الغالب الأعم لا الأطفال ولا النساء ولا المرضى والعجزة ولا الشباب والشابات. وكان الفاعلون, وهم أدوات بيد الجلاد, ذات نزعات سادية بيد الجلاد,  يسلبون ضحاياهم كل ما هو ثمين.
5. توجد حالات أخرى قام الجلادون بفرز الرجال والشباب عن النساء والأطفال, ثم وضعوا مجموعة الرجال في شاحنات عسكرية نقلوهم تدريجاً حيث الموت المحقق, في حين أخذوا النساء والأطفال إلى أماكن مختلفة. فمنهم من أرسل إلى نقرة السلمان ومنهم من أرسل إلى تكريت وبعضهم أرسل إلى السليمانية حيث تركوا في عربت. وكانت المعسكرات الكثيرة والكبيرة عاجزة عن استيعاب كل هؤلاء الذي طالتهم عمليات الأنفال .        
6.    نفذ النظام عمليات إعدام أخرى في المدن والقرى التي أشرنا إليها سابقاً بسبب ولوج مناطق محظورة أمنياً أو بسبب اتهام الناس بالتعاون مع قوى الپیشمرگة أو الشك بإخلاصهم. ولم يكن الموت نصيب هؤلاء وحدهم, بل نصيب أقرباء هؤلاء الضحايا من الدرجة الأولى, إضافة إلى تهديم بيوتهم ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.    
7. تشير الكثير من الدلائل إلى أن المجموعات الخاصة التابعة لقوى الأمن العراقية هي التي كانت تقوم بعمليات اغتصاب النساء والشباب في أقبية الأمن أو في المواقع التي يتجهون إليها.
8. وخلال الفترة الواقعة بين بدء العمليات العسكرية ضد إيران في عام 1980, عمد النظام في كردستان إلى استخدام كل السبل المتوفرة للقضاء على مقاومة الشعب الكردي. وكان من تلك السبل الخسيسة والغادرة إعطاء مكافأة مالية كبيرة لكل من يقوم بقتل واحد أو أكثر من الپیشمرگة/الأنصار ويأتي برأسه وسلاحه. وشكل النظام فرقاً لهذا الغرض كما عمد إلى تنشيط المجرمين للقيام بهذه العمليات لقاء بعض المال.
9. وعمد النظام إلى تدمير فعلي للبنية التحتية والاقتصاد الفلاحي في الريف الكردستاني ساعياً إلى اغتصاب الحياة فيها من السكان ومنعهم من العودة إليها بتاتاً . أقدمت قوى النظام وبتوجيه من صدام حسين مباشرة على تدمير 1757 مدرسة 2457 مسجداً و271 مستوصفاً في القرى التي قامت بتدميرها .
   وعلينا أن نتذكر باستمرار بأن حملات الأنفال المرعبة كانت قمة العدوان الفاشي والانحطاط الأخلاقي والإنساني للجلادين لما ارتكبوه من جرائم بشعة إزاء الناس من نساء ورجال وأطفال كردستان العراق. إنها عار في جبين النظام وقادته وجناته. ولكن ما هي حصيلة عمليات الأنفال المرعبة؟

رابعاًً : ماذا يمكن فعله لضحايا الأنفال في كردستان العراق؟
إن الدراسة الجادة والمعمقة والمسؤولة لسياسات الحكومات العراقية المتعاقبة على امتداد الفترة منذ العهد الملكي حتى سقوط النظام البعثي (1921-2003) إزاء إقليم كردستان وشعب كردستان تشير بما لا يقبل الشك لا إلى التهميش فحسب, بل وإلى القهر والاستعداء والعداء. كما أن عمليات الأنفال تؤكد هذه الحقيقة بأجلى معانيها. ومن هنا يفترض فينا أن نستخلص الدروس المناسبة لهذه التجربة الطويلة أولاً, وان نعمل من أجل تصحيح تلك العلاقة ثانياً, وأن نفكر في كيفية إنصاف ضحايا الأنفال وعائلاتهم ثالثاً. وهذا يتطلب منا:
1. يفترض العمل من أجل بناء القاعدة المادية لقيام مجتمع مدني ديمقراطي علماني وتربية فكرية وتنوير اجتماعية ضد الشوفينية والعنصرية ومعاداة الأديان الأخرى وضد الطائفية السياسية والتمييز الديني والطائفي, ومن أجل تكريس روح المواطنة المتساوية, وضد الاستبداد والعنف والقسوة والالتزام بحل المشكلات بالطرق السلمية وبآليات ديمقراطية.  
2. يفترض نشوء علاقة دستورية واضحة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية في مجال الصلاحيات والحقوق والواجبات وان توضع تلك النصوص الدستورية في قوانين ملزمة لتلك العلاقة ومحكمة دستورية تفض النزاعات حين تحصل بين الحكومتين. والمضمون الأساسي لهذه العلاقة هي المصالح المشتركة بين الشعبين والحكومتين وبقية القوميات الموجودة في العراق.
3. وفي مجال ضحايا الأنفال يفترض فينا جميعاً العمل من أجل ما يلي:    
1.    الاتفاق على تأسيس مركز علمي موحد في كردستان العراق لجمع وتصنيف وترتيب وحفظ الوثائق الخاصة بما ارتكب بحق الشعب الكردي من جرائم خلال العهود المنصرمة, ولكن بشكل خاص خلال الفترة التي أعقبت مجيء البعث إلى الحكم في العراق.
2.    تشكيل لجنة دولية لإعادة إعمار المناطق التي دمرت من قبل القوات العسكرية العراقية وخاصة تلك التي ضربت بالكيماوي, من خلال دعوة معماريين دوليين لإعادة بناء حلبچة الجديدة لتبقى القديمة تشير إلى الجرائم المرتكبة. ويمكن أن تقام عملية جمع تبرعات دولية لصالح بناء المدينة الجديدة مما يشير إلى التضامن الدولي مع هذه المدينة المغدورة.
3.    تقديم طلب رسمي باسم اللجنة الدولية الدائمة والمسئولين في كردستان العراق إلى الأمم المتحدة من أجل اعتماد تنظيم ندوة دولية خلال العقد الجاري تبحث في أسباب وعواقب مجازر عمليات الأنفال التي مارسها النظام العراقي, باعتبارها أعمالاً عنصرية استهدفت التطهير والإبادة الجماعية للشعب الكردي في كردستان العراق, واستخلاص الدروس والسياسات والإجراءات الممكن اتخاذها لمعاقبة النظام ومن أجل منع تكررها في كردستان العراق أو في أي مكان من العالم, وهي بمثابة تحذير لكل الحكومات والقوى والسياسات العنصرية في المنطقة, وخاصة في تلك الدول التي تعيش فيها بقية أجزاء الأمة الكردية.
4.    مواصلة محاكمة كافة المسؤولين الأساسيين عن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية في كردستان العراق.
5.    فتح صفحة خاصة على الإنترنيت باسم حملة الأنفال الدولية وإصدار نشرة خاصة بها بلغات مختلفة.
6.   قيام اللجنة الدولية بتنظيم ندوات أو مؤتمرات سنوية تعقد في كردستان العراق من أجل مواصلة فضح هذه السياسات والكشف عن السبل والأساليب والأدوات التي أستخدمها النظام في قتل هذا العدد الهائل من السكان الأكراد في كردستان العراق وعن بقية جرائم النظام بحق الشعب الكردي وبنات وأبناء القوميات الأخرى.
7.    تأمين إقامة معارض فنية تشكيلية حول الواقع العراقي ومجازر الأنفال, ومنها حول جريمة حلبچة, ونضال الشعب الكردي وإصدار البوم خاص بتلك اللوحات ونشرها على نطاق واسع, على أن يدعى لها أوسع عدد ممكن من الفنانين العراقيين من مختلف القوميات, إذ في ذلك إدانة فعلية للعنصريين من العرب بسبب المجازر التي ارتكبوها بحق الشعب في كردستان, وفي مقدمتهم قادة الحكم القائم في العراق وعلى رأسهم صدام حسين وعلي حسن المجيد.
8.    إيلاء اهتمام كبير بالناس المتبقين والفالتين من عمليات الأنفال لضمان استكتابهم أو إجراء المقابلات معهم للحصول على أوسع وأدق التفاصيل عن هذه العمليات العنصرية وتسجيلها صورة وصوتاً ونشرها بشكل منظم ومبرمج.
9.    كما يفترض إيلاء اهتمام خاص من جانب الأحزاب الوطنية الحاكمة في كردستان العراق, وفي العراق بالناس الذين نجوا من المذابح, ورعاية أطفال وعائلات شهداء مذابح الأنفال.
10.    بناء متحف في كردستان لضحايا الشعب الكردي وخاصة ضحايا مجازر الأنفال ليكون موقعاً ومعلماً يزوره الناس ليتعرفوا على طبيعة الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في كردستان العراق من جانب النظام والذهنية التي حكمت ذلك, كما يمكن أن يتحول إلى مزار لكافة سائحي كردستان أيضاً.
11.    إقامة نصب تذكارية مركزية ونصب أخرى لضحايا الأنفال تقام في مواقع مناسبة من كردستان وبغداد.
12.    عناية الحكم الفيدرالي وكذلك الحكم الاتحادي في بغداد بدعم الكتب التي تبحث في المجازر والمحن التي تعرض لها الشعب الكردي وبقية القوميات في كردستان العراق من أجل فهم العوامل الكامنة وراء ما حدث واستيعاب دروسها ومنع حصولها مستقبلاً.                
13.    إدخال حملات عمليات الأنفال مادة خاصة ضمن حقوق الإنسان في المناهج التعليمية والتدريسية لتعميق الوعي بمناهضة التجاوز على حقوق الإنسان بكل أشكاله.
14.    الطلب من حكومة بغداد المركزية بتعويض ضحايا الأنفال وفق تقديرات علمية صحيحة. وهناك دراسة بهذا الصدد وضعها فريق عمل مستقل لصالح وزارة المؤنفلين في إقليم كردستان يفترض أخذها بنظر الاعتبار في هذا الصدد.
28/10/2009                                            كاظم حبيب  

  

1156
مسيرة الأحزاب السياسية ونتائج انتخابات الإقليم الأخيرة
الحلقة الثالثة والأخيرة
 المعارضة السياسية الاحتجاجية في كُردستان العراق
المدخل: دور ومهمات المعارضة السياسية
لا شك في أن وجود معارضة سياسية فاعلة ومؤثرة يعتبر أحد معالم الديمقراطية في أي بلد من البلدان حين تمارس حقها المشروع كحكومة ظل في نقد سياسات الحكومة التي تشكل الأكثرية في المجلس النيابي وتطرح في الوقت نفسه برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي ومشروعاتها التي يمكن أن تتعارض أو تتفق في بعضها وتختلف في بعضها الآخر مع سياسات الحكومة. وكلما كانت المعارضة قوية وموضوعية وواعية لدورها ومهماتها وهادفة في سعيها للوصول إلى السلطة عبر التداول الديمقراطي السلمي, تسنى لها أن تمارس النقد الموضوعي البناء, إذ تؤيد ما هو إيجابي وسليم في سياسة السلطة, وترفض ما تعتبره خاطئاً.
لا تنشأ المعارضة السياسية الديمقراطية من فراغ, بل لا بد لها أن تقوم على قاعدة المجتمع المدني المتطور, كما لا بد أن تستند سياسات الحكومة ومواقفها إزاء المعارضة السياسية إلى أسس مبدئية وقيم يقرها الدستور, ومنها الاحترام للرأي الآخر أو احترام رأي قوى المعارضة أو الأقلية وأخذها بنظر الاعتبار في حالة كونها مقنعة وصالحة وليس الرفض مسبقاً. ومثل هذه الممارسة تحتاج إلى تقاليد ديمقراطية وحضارية ورؤية واعية لأهمية المعارضة السياسية ولدورها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والأمنية من جانب قوى الحكومة, وكذلك الرؤية الواقعية من جانب قوى المعارضة لدور الحكومة وسياساتها باعتبارها تمثل الأكثرية التي تحققت لها عبر انتخابات عامة ونزيهة.
ولا شك في أن وجود معارضة سياسية لا يعبر وحده, من حيث المبدأ, عن وجود حياة ديمقراطية في هذا البلد أو ذاك, بل هو أحد معالم النظام الديمقراطي المدني, إذ يفترض أن تقترن بجملة من الخصائص والسمات الأخرى التي تعطي الحق بتسمية هذا البلد أو ذاك بالديمقراطي, ومن بينها وجود دستور ديمقراطي فاعل وحياة ديمقراطية فعلية ووجود مؤسسات دستورية ديمقراطية, إضافة إلى الفصل بين السلطات الثلاث والفصل بين الدين والدولة والاحتكام للشعب لا في إجراء الانتخابات فحسب, بل وفي استشارته (الاستفتاء العام) في أهم القضايا التي تمس مصالح المجتمع بأسره.
ويمكن للحكومة من طرف وللمعارضة من طرف أخر, سواء أكانت حزباً واحداً أم عدة قوى متحالفة, الاتفاق على برنامج سياسي واحد بالنسبة للطرف الذي يقوم بتشكيل الحكومة, في حين يمكن لقوى المعارضة أن تتحالف أو تبقى منفردة في طرح برنامجها والتعريف بمواقفها إزاء برنامج وسياسات الحكومة. ومثل هذه التحالفات يمكن أن يعلن عنها قبل أو بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات والبدء بالمحادثات الخاصة بتشكيل الحكومة.   
لا شك في أن المنافسة الانتخابية, أو بعد إجراء الانتخابات, تسعى إلى كسب تأييد الفئات الاجتماعية المختلفة من خلال تحقيق البرامج المطروحة التي يمكن أن تتخذ صورة صراعات فكرية وسياسية هادئة وموضوعية وهادفة, كما يمكن أن تتخذ صورة مهاترات واتهامات متبادلة, كما يمكن أن تبرز حالة بين الحالتين أو منهما في آن واحد. إلا إن ذلك كله يعتمد على عوامل عدة بما فيها التقاليد الانتخابية الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك. وغالباً ما تتخذ المنافسة الانتخابية في دول العالم الثالث وحتى في دول أوروبية متقدمة الحالة الوسطية بين الحالتين, وهو أمر سلبي بطبيعة الحال, والحالة الديمقراطية تلك التي تبعد المرشحين والقوائم والأحزاب السياسية والناخبين عن المهاترات والبقاء على أرض الواقع واستخدام أسلوب التنافس السلمي الديمقراطي للحصول على مقاعد المجلس والسعي لتحقيق مصالح المجتمع.
من هنا تبدو أهمية وجود ودور المعارضة في الحياة السياسية في أي بلد ديمقراطي, إذ أن النقد يساعد على تنوير الطريق وإصلاح الخطأ وليس التخريب والهدم والإساءة. ولا شك في أن قوى المعارضة السياسية تسعى لوصول إلى السلطة دون أدنى ريب, وسعيها هذا طبيعي ومطلوب شريطة أن تبرهن للناخبات وكذلك للناخبين أنها تمتلك برنامجاً أفضل وطاقة أعلى ورؤية أوضح واستعداداً أكبر لخدمة قضايا الشعب وتحقيق مصالحه في الواقع العملي وليس بالحديث والخطاب السياسي فقط.

المعارضة السياسية في إقليم كُردستان العراق
كل القوى السياسية الكُردستانية كانت في المعارضة السياسية حين كان العراق كله, بما فيه الجزء الكُردستاني, تحت الهيمنة الفاشية للدكتاتورية الصدّامية. ولكن ومنذ أن تسلمت الجبهة الكُردستانية السلطة في النصف الثاني من العام 1991 تغير الوضع. وكانت القيادة الفعلية بيد الحزبين الرئيسين, الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني, وانتهى دور الجبهة الكُردستانية عملياً الذي ما كان له أن ينتهي بتلك السرعة ودون مبرر مناسب.   
وبعد التخلص من الدكتاتورية تغير الوضع تماماً, فلم تعد هناك معارضة سياسية, بل كان الوضع يشير إلى صراع بين الحزبين الرئيسين الحاكمين, إذ تم تشكيل حكومتين منفصلتين في أربيل ودهوك من جهة, وفي السليمانية من جهة أخرى وأقيمت الحدود المفتعلة.
ولم تظهر معارضة جادة حينذاك حيث كان الفصل بين الحكومتين قد جعل وجود معارضة في كل طرف مستحيلاً تقريباً. ومنذ بدء التوحيد الحكومي بدأت تبرز معارضة سياسية جديدة كانت مغمورة وفي العتمة. وكانت حاجة بعض الأحزاب الصغيرة لأموال الحزبين الكبيرين تبعدها عن المعارضة السياسية والسكوت!   
ولهذا يمكن القول بأن لم تكن في إقليم كُردستان العراق حتى الأمس القريب معارضة سياسية واضحة المعالم وجادة وواعية لدورها, بل كانت معارضة سياسية مبطنة وباطنية أو من الباطن, أي تبرز في كل حزب من الأحزاب السياسية القائمة, وبشكل خاص في الحزبين الرئيسين.
لقد شاركت في البداية أغلب الأحزاب السياسية في تشكيل الحكومة بغض النظر عن حجم المشاركة. ومن بين التقاليد السيئة الموجودة في العراق أن الأحزاب التي تشارك في الحكم تكف عن إبراز مواقفها المختلفة عن سياسة الحكومة وتبتعد عن ممارسة النقد حين تتعارض إجراءات السلطة مع برامج تلك الأحزاب أو حين يمارس الحزب الحاكم الأكبر سياسة منفردة دون الأخذ بالاعتبار وجود قوى مخالفة لتلك السياسات أو الإجراءات أو غير مقتنعة بها مستنداً إلى القول الشعبي "تريد أرنب أخذ أرنب, تريد غزال حصتك أرنب".
إلا أن وجود الحزبين الرئيسين في الحكم لسنوات طويلة وتراجع كبير لدور الأحزاب السياسية الأخرى في الحياة العامة وفي العلاقة مع فئات المجتمع وتراجع مصداقيتها أمام الناس من جهة, وتفاقم المشكلات التي أشرت إليها سابقاً, برزت في السنوات الثلاث المنصرمة على نحو خاص صيغاً عدة للمعارضة, منها:
1.   معارضة شعبية صامتة متنامية, لكنها غير خافية على أحد وتدور بين أفراد المجتمع حول المظاهر السلبية التي تسجلها رؤيتها للمسيرة. وهي في تراكم متواصل لأنها لم تتم مراجعة سياسات الحزبين والحكم ومعالجتها.
2. معارضة حزبية داخلية من قوى داخل الحزبين وفي الأحزاب الأخرى بصوت منخفض وغير مسموع في البداية ثم أصبح قوياً يردد في دوائر مغلقة متسعة تدريجاً ثم انفتح على  المجتمع, كما في الآونة الأخيرة وفي إطار الأحزاب الصغيرة أيضاً, ومنها الحزب الشيوعي الكردستاني. وقد أثار هذا إشكاليات للأحزاب الحاكمة وغير الحاكمة لأن الأعضاء بدأوا يفقدون  القدرة على الدفاع عن سياسات أحزابهم في الأوساط الشعبية ويفقدون مصداقيتهم في آن.
1.   ونتيجة للسياسات السابقة برزت معارضة من داخل الأحزاب ذاتها ومن الأوساط المستقلة ومن الأحزاب القليلة غير المشاركة في الحكم وجدت تعبيرها في مقالات تنشر في بعض الصحف والمجلات والبرامج التلفزيونية غير الحكومية والتي استطاعت أن تستقطب تدريجاً الكثير من الناس إلى جانبها, وخاصة الكثير من تلك القوى الصامتة التي كانت تخشى التصريح برأيها لأي سبب كان, مستفيدة من الحرية النسبية الموجودة في كُردستان العراق وفي العراق بشكل عام.
إن قوى المعارضة السياسية التي ظهرت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة كانت في الغالب الأعم من داخل الحزبين الحاكمين الرئيسين. وتسنى لها أن تستقطب الكثير من الناس في الشكلين الأول والثاني, سواء أكان في أوساط الحزبين أم في أوساط المجتمع, وهي في اتساع ملموس.
المعارضة التي نهضت في داخل الحزبين لم تكن في البداية ضد الحزبين, بل كانت معارضة سياسية قلقة وأحياناً كثيرة لأسباب شخصية, تسنى لها أن تستقطب تدريجاً الكثير من المحتجين على سياسات الحزبين الحاكمين والمتضررين من الأوضاع السائدة التي تعيشها الفئات الاجتماعية الكادحة وغياب العدالة الاجتماعية وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء والتي ترى فيها ضرراً على حياتها الراهنة ومستقبل إقليم كردستان.
ومع إنها برزت وتبلورت في جماعة سياسية من بين قادة وكوادر وأعضاء الاتحاد الوطني الكُردستاني التي استخدمت أموال الحزب ذاته في تعبئة القوى حولها, فإن قوى أخرى مماثلة لم تستطع بلورة قوامها في الحزب الديمقراطي الكُردستاني أو التحضير والدخول بقائمة موحدة في الانتخابات الأخيرة لأسباب ارتبطت بعدم حسم الموقف داخل الحزب الديمقراطي الكُردستاني بخلاف ما حصل في الاتحاد الوطني الكُردستاني. وهذا لا يعني أنها غير موجودة, بل هي موجودة وواسعة أيضاً.
لم تكن القوى المحتجة المعارضة في الاتحاد الوطني الكُردستاني تختلف في سياساتها ومشاركتها ومسؤوليتها عن القيادات الأخرى في سياساتها السابقة, بل كانت جزءاً منها ورفعت شعار التغيير الذی أصبح شعاراً جماهيرياً منذ أن انتصر به باراك أوباما, مع تناغمه موضوعياً مع تطلعات ورغبات الناس فی التغيير, كما أن قيادتي الحزبين الحاكمين لم تأخذا مصالح الناس والسلبيات المتزايدة وهذه القوى المعارضة بالجدية الضرورية ولم تعمدا إلى مبادرة جريئة لتحقيق التغييرات المنشودة في أوضاع حزبيهما, قيادة وقاعدة, وفي سياسات حكومة الإقليم, بل واصلتا سياستيهما السابقتين بذات النهج والأساليب والأدوات والشخوص والخطاب السياسي, وبالتالي عجزتا عن معالجة الموقف الجديد. ومن هنا حصل الانشقاق الفعلي في الاتحاد الوطني حتى قبل إعلانه بفترة غير قصيرة رغم بقائه في إطار الاتحاد الوطني حتى عقد الاجتماع الموسع وفصل قياديي گوران من الاتحاد الوطني الكُردستاني, إذ بدا قبل ذاك وكأن القائمين به ليسوا سوى قائمة انتخابية فقط, في حين كان الأمر منذ البدء غير ذلك, لقد بدأ حزباً سياسياً تحت اسم التغيير أو گوران كان يأمل إما أن يسيطر على  الاتحاد الوطني كله أو أن يشكل حزباً جديداً, وهذا ما حصل. إلا أن هذه القوى لا تختلف حتى الآن, كما أرى, عن ذات الطبيعة والأهداف العامة وأساليب وأدوات العمل في الحزب الأم,
من كان يتتبع تطور الأحداث والأوضاع في كردستان العراق, كان في مقدوره أن يتوقع حصول ذلك قبل وقوعه بفترة غير قصيرة, إذ كانت كل الدلائل تشير إلى ذلك, 
وخلال الفترة القادمة سيساعد هذا الوضع على بلورة المعارضة السياسية في أربيل ودهوك أيضاً إذا ما استمر الوضع في الحزب الديمقراطي الكُردستاني على حاله, وإذا عجز الحزبان الحاكمان عن ممارسة سياسات وإجراءات جديدة لتغيير أوضاع حزبيهما والحكم الذي يقودانه. ومع ذلك ستبقى المعارضة موجودة وهو أمر طبيعي ومفيد لغرض المنافسة وتحسين الأوضاع الناس وخاصة الكادحين منهم.
إن وجود معارضة سياسية ليس خطأً بل ضرورة موضوعية, وواجبها أن تلعب دوراً إيجابياً في الحياة السياسية وفي المنافسة على الحكم وتقديم الأفضل في برامجها وفعلها وعلى مستوى العلاقة مع الشعب ومصالحه وتجديد أساليب وأدوات الحكم والتوجه صوب الديمقراطية والحداثة. فهل في مقدور هذه المعارضة أن تمارس مثل هذا الدور؟ وهل ستسمح القوى الحاكمة ذلك؟ وهل ستكون المنافسة سلمية وديمقراطية؟ هذا ما ستكشفه الأيام.
المعارضة السياسية الراهنة لا تزال احتجاجية وتتشكل من 40 نائباً من مجموع 111 (100 للكُرد و11 للقوميات الأخرى) ترتبط بعدة أحزاب سياسية بعضها متحالف في ما بينه (13 نائباًً), كما أن گوران يمتلك 25 مقعداً, وتمتلك الأحزاب المؤتلفة على بقية المقاعد. وسيكون في مقدور الأحزاب الحاكمة الحصول بسهولة على الأكثرية في أي تصويت داخل البرلمان الكردستاني, ولكنها سوف لن تكون حرة كما كانت عليه قبل بروز هذه المعارضة. وهو جانب إيجابي في مجمل الوضع في كُردستان العراق, كما ستجد نفسها مضطرة إن أرادت البقاء في الحكم أن تمارس سياسات جديدة, فهل ستفعل ذلك؟ هاذ ما يفترضه المنطق والعقل الفعال.
والمشكلة لا تمس الوضع الداخلي لكُردستان وحده فحسب, بل تمس العلاقة مع الحكومة الاتحادية وسبل معالجتها للقضايا الخلافية الراهنة.
إن الواقع الجديد سيجد تعبيره في الانتخابات القادمة التي لم يبق على بدئها سوى 70 يوماً, فهل سيكون في مقدور قيادتا الحزبين الحاكمين تحسين أوضاعها ومعالجة الاختلالات التي تعانيان منها خلال الفترة المتبقية وما بعدها لا بهدف الحصول على  مقاعد أكثر فحسب, بل وبالأساس بهدف  تغيير وتحسين علاقتها بفئات المجتمع واعتماد مصالح الناس قبل غيرهم. كما يفترض أن يجري التغيير المناسب في العلاقة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية ومن جانب الحكومتين ووضع قوانين جديدة تحكم هذه العلاقة في ضوء الدستور القائم.
إن مرحلة سياسية جديدة بدأت في كُردستان والتي من بين إيجابياتها أن قيادة الاتحاد الوطني الكُردستاني قد وضعت في الاجتماع الموسع الأخير على المحك لما يفترض أن يقوم به في الفترة القادمة وإزاء منافسة مجموعة گوران له في السليمانية وكركوك بشكل خاص, إذ يفترض فيه, إن أراد الاحتفاظ أو استعادة ما فقده من قواه الذاتية, إن يجري تغييرات واسعة وعميقة في الشخصيات والكوادر القيادية والاعتماد على الشباب والنساء وفي بنية الحزب وفي أساليب وأدوات عمله وعلاقاته مع فئات المجتمع والمثقفين ...الخ, إضافة إلى مكافحة الفساد في صفوفه وعلى مستوى  الأجهزة الحزبية والحكومية,
كما سيكون الحزب الديمقراطي الكُردستاني أمام حالة مماثلة دون أدنى ريب تفرض عليه إجراء التغيير, وإلا ستنطلق معارضة سياسية من داخله بصورة موضوعية وحتمية أيضاً. وسيبقى السؤال المهم: كيف سيتعامل قادة الحزب الديمقراطي الكُردستاني مع التغيير المطلوب والذي يفترض أن يمس القيادة والكوادر قبل القاعدة؟
إن من بيده الحكم هو القادر عملياً وقبل غيره على القيام بعمليات التغيير في الإقليم, وليس في مقدور المعارضة ذلك إلا من خلال تشديد النقد وتعبئة القوى ضد الأحزاب الحاكمة حين ترفض تحقيق التغيير المنشود. إن الدور التاريخي السابق لأي حزب من الأحزاب لم يعد كافياً لكسب الشعب, بل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والأمنية ومصالح الناس اليومية والخدمات التي يمكن تقديمها وتحسين مستوى المعيشة ومكافحة البطالة بمختلف أشكالها والفساد المالي والإداري السائدين والتواضع في التعامل مع الناس والاحتكاك المباشر بفئات الشعب وبعيداً عن الوسطاء من الموظفين البيروقراطيين المسؤولين عن مكاتب المسؤولين الذين يخفون عن رؤسائهم المشكلات الحقيقية, باعتباره الطريق القويم إلى عقول وقلوب الناس.
15/11/2009                  كاظم حبيب   


1157
مسيرة الأحزاب السياسية ونتائج انتخابات الإقليم الأخيرة
الحلقة الثانية 
الأحزاب السياسية الكُردستانية
المدخل
"ويل لعالم لا ينفتح على غيره, وجاهل منغلق على نفسه"
حكمة مندائية قديمة
الحياة الحزبية الكُردستانية العراقية ليست حديثة العهد, بل هي قديمة وتعود إلى سنوات العقد الثالث والرابع من القرن العشرين والتي برزت في أحزاب سياسية قومية ويسارية, وتبلورت أكثر فأكثر في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية وما بعدها والتي تجلت عملياً في حزبين رئيسين هما الحزب الديمقراطي الكُردي, (الكُردستاني فيما بعد), والحزب الشيوعي العراقي (فرع كُردستان). ثم انشطر الحزب الأول إلى حزبين عملياً منذ العام 1964 تقريباً, بعد أن ظهرت مجموعة المكتب السياسي بقيادة إبراهيم أحمد وجلال الطالباني نتيجة ذلك الانشطار, إلى جانب الحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة ملا مصطفى البارزاني, ثم تبلور الحزب المنشطر في العام 1975/1976 في أعقاب النكسة المريعة بسبب الاتفاق الشائن مع شاه إيران في العام 1975 وعقد اتفاقية الجزائر الخيانية, إذ برزت مجموعة المكتب السياسي مع مجموعات أخرى مثل كومله والخط العريض لتشكل سوية "الاتحاد الوطني الكُردستاني", ثم ظهرت أحزاب أخرى في الثمانينات كالحزب الاشتراكي الكُردستاني وباسوك وغيرهما, وكلها من ضلع الحزب الأم أو فيما بعد من الاتحاد الوطني الكُردستاني, إضافة إلى الحزب الأشوري والحزب الكلداني ومن ثم بعض القوى الإسلامية. كما أصبح للشيوعيين الكُرد حزبهم السياسي المستقل ذاتياً والمرتبط بالحزب الشيوعي العراقي بعلاقة تضامنية ونضالية خاصة, باسم الحزب الشيوعي الكُردستاني.
واليوم يمكن أن يجد المتتبع أكثر من ستة عشر حزباً سياسياً في كُردستان. وأكثرها بروزاً هما الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني وجماعة گوران أو "جماعة التغيير". ولا شك في أن في هذه الأحزاب توجد تيارات فكرية وسياسية متنوعة ومتصارع داخلياً, إضافة إلى صراعات أخرى. كما توجد أحزاب أخرى ممثلة في المجلس النيابي, ولكنها لا تزال ضعيفة أ ضعفت كثيراً في السنوات الأخيرة مثل الحزب الشيوعي الكُردستاني, في وقت تعززت مواقع الحزب الإسلامي. سأحاول هنا الحديث عن الحزبين الرئيسيين الحاكمين.
الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني 
احتل هذا الحزبان موقع الصدارة في أعقاب انسحاب القوات العراقية من إقليم كُردستان, إذ تم الانسحاب من المحافظات الثلاث, أربيل والسليمانية ودهوك, ولم يتم الانسحاب من كركوك. وشكلا الحكومة المشتركة ثم الحكومة الخاصة بكل منهما في كل من أربيل ودهوك من جهة, والسليمانية من جهة أخرى. ثم توحدت الحكومتان في حكومة واحدة, ولكن ذيول هذا التوحيد الحكومي لم تنته حتى الآن رغم تشكيل حكومة واحدة لدورة نيابية سابقة وحالية. والأسباب معروفة للقاصي والداني.
امتلك هذان الحزبان قاعدة اجتماعية وسياسية متباينة ولكنها متقاربة بسبب طبيعة تكوين المجتمع الكُردستاني. كما أنهما كانا ولا زالا يعتبران أكبر حزبين سياسيين في كُردستان العراق, رغم الصعوبات التي تواجههما, ولكن الكثير من الأعضاء ليسوا أعضاءً حقيقيين أو فاعلين جيدين, بل هذه الكثرة ناشئة عن كون الحزبين في السلطة ويمتلكان موارد مالية كثيرة. وللعراق, كما للعالم, تجارب كثيرة وغنية في هذا الصدد والتي لا تساعد هذين الحزبين بل تزيد من الأعباء عليهما وعلى المجتمع, لما في طبيعة هؤلاء الأعضاء من انتهازية ومصالح آنية أو من شعور بالعضوية المفروضة عليهم وعبر صيغ مختلفة.
والغريب أن غالبية الأحزاب السياسية الأخرى, رغم وجود حريات نسبية مناسبة في إقليم كُردستان, لا تمارس النقد للظواهر السلبية في نشاط وعمل الحزبين أو الحكومة المنبثقة عنهما, بل تسكت عن تلك الأخطاء علناً وتمارس بعض النقد سراً أو داخلياً ولا يؤثر على مجرى العملية السياسية, مما أدى إلى خسارة تلك الأحزاب للكثير من قواعدها السياسية والاجتماعية وفقدان تأييد الناس لها والتي ظهرت بشكل صارخ في نتائج الانتخابات الأخيرة في كُردستان, إذ لم تعد لتلك الأحزاب الكثيرة مصداقية لدى الجماهير الواسعة. إن هذه الظاهرة السلبية لا تخدم الحزبين الرئيسين والحاكمين, بل تلحق بهما أضراراً كثيرة آنية وبعيدة المدى. والذي تبلور في الانتخابات الأخيرة أيضاً.
ومن المؤسف أن الحزبين الرئيسين لا يسعون إلى إقناع القوى والأحزاب الأخرى بضرورة الشفافية والصراحة وممارسة النقد العلني والفعال, بل هما في ارتياح بعدم ممارسة النقد وكأن "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية".
في أعقاب انكسار الحركة التحررية الكُردستانية المؤقت في العام 1975 برزت على الساحة الكُردستانية ولأول مرة العديد من الأحزاب السياسية بجوار الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني والحزب الشيوعي العراقي. ومنذ العام 1991 تسلم الحزبان السياسيان الرئيسان في كُردستان العراق السلطة, وبتعاون هامشي مع قوى سياسية أخرى. وهذا يعني أن الفترة التي يحكم فيها هذان الحزبان بلغت حتى الآن حوالي ثمانية عشر سنة. فماذا حصل لهذين الحزبين خلال السنوات التي تقترب من عقدين؟ أسجل هنا ملاحظاتي بكل صراحة وشفافية ورغبة مني في أن يجد الحزبان فرصة للتفكير بطريقة عقلانية لتحقيق التغيير في الحزبين وليس لمواصلة الوضع القائم حتى الآن. فمن يبقى في الحكم طويلاً لا يفقد ثورته وعلاقته بالمجتمع فحسب, بل يمكن أن يسود فيه الدفء والفساد والجفوة مع الناس والفجوة أيضاً. وينتقل هذا المرض إلى الحزبين فقط فحسب, بل وإلى الحكم ويعاد إنتاج الخصائص والسمات السلبية, وهو الخطر الأكبر.
لقد ورد أخيراً على لسان السيد نيچرفان برزاني, عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكُردستاني, بأن على الحزب أن يجري تغييراً في أوضاعه, كما أقر الاجتماع الموسع للاتحاد الوطني الكُردستاني في نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر من هذا العام (2009) ما يؤكد أيضاً على ضرورة التغيير والتجديد والمصارحة والكشف عن النواقص. ومن هذا المنطلق أضع أمام قيادتي وأعضاء الحزبين رؤيتي لواقع الحال في الحزبين وأهمية إجراء التغييرات الضرورية على مختلف المستويات لصالح الحفاظ على الدور الضروري لإقليم كُردستان على مستوى الإقليم ذاته وعلى مستوى العراق كله, باعتبار الإقليم ضمانة مهمة لعدد من المسائل التي تمس الوطن العراقي كله. وهي ملاحظات أملي أن لا تعتبر محاولة لإلحاق الأذى بالحزبين, بل تنطلق من حرصي على تجربة إقليم كُردستان العراق والحياة الحزبية فيه. وفيما يلي أشير إلى أهم تلك الملاحظات:
1.   الترهل الشديد في العضوية والمؤيدين من طلاب المصالح الآنية والخاصة ومن غير المهتمين بمصالح الناس والإقليم. وهي ظاهرة نعرفها لدى أحزاب حاكمة أخرى في العراق وفي بلدان العالم النامي أيضاً.
2.   تراجع شديد في المستوى الفكري والوعي السياسي لدى الكادر القيادي وعلى مختلف المستويات.
3.   وصول عناصر إلى القيادات الحزبية واحتلالهم مواقع مؤثرة في أجهزة الإقليم لا هم لها غير مصالحها الخاصة والرغبة في الاغتناء على حساب الشعب والإقليم, وبالتالي أصبح هناك كثرة من الأشخاص غير المناسبين في المواقع غير المناسبة على أهمية تلك المواقع ودورها في العلاقة مع المجتمع.
4.   تنامي ظاهرة البيروقراطية في الحزب وفي الإقليم وعمل روتيني بعيد عن المبادرة والإبداع وخدمة الناس وتراجع في الروح الثورية التي ترى في خدمة الناس ومصالحها هدفها الأسمى وليس مصالحها الخاصة.
5.   نشوء فجوة واسعة وتزداد عمقاً بين قيادتي الحزبين والقاعدة الحزبية وبين الحزبين والمجتمع, بين مهمات الحزبين ومهمات الشعب في كُردستان العراق.
6.   فالركض وراء الامتيازات الخاصة والحصول على مزيد من الأراضي والأموال أصبح الشغل الشاغل للكثير من الكوادر الحزبية والحكومية, ولم يعد هذا خافياً على الناس, بل الحديث عنه يجري في الشوارع ويتحدث به سواق التاكسيات على نطاق واسع, وهي تعبر عن واقع قائم لا غير.   
7.   تراجع كبير في مستوى إعلام الحزبين ودوره في الحياة الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية ونكوص شديد عن الرؤية النقدية لعمل الحزبين في تلك المجالات ولعمل حكومة الحزبين أيضاً, وقصور عن رؤية الوضع العام للفئات الشعبية الكادحة.
8.   الازدواجية في العمل, أي التشابك بين العمل الحزبي والعمل الحكومي مما أدى إلى غياب التمايز فنواقص عمل الحزبين تحسب على الحكومة ونواقص الحكومة تحسب على الحزبين, وبينهما مداراة للنواقص وسكوت عنها, وخاصة من المقربين والعاملين مع المسؤولين الذين يسعون إلى تقديم الجميل وإخفاء القبيح من النتائج أو تشويه الحقائق.
9.   صراع على المواقع والمصالح داخل الحزبين وعلى مختلف المستويات وغالباً ما يتم عملية طرد للجيد وجذب للسيئ من الناس لأسباب ترتبط بالمحسوبية والمنسوبية والقرابة العائلية.
10.   وحين تسود مثل هذه الظواهر يصبح الهم الاجتماعي والاقتصادي للشعب بعيداً عن هم الحزبين, شاءوا ذلك أم أبوا, فهذا هو منطق الأحداث الفعلية الجارية, وهذا هو ديالكتيك العملية والتي تكون لها عواقب سلبية إن تواصلت على نفس الحالة طويلاً.
11.   إبعاد الكثير من العناصر المستقلة وغير الحزبية وذات الكفاءة العالية عن مسؤوليات المديريات العامة والمستشارين وحصرها بالحزبيين من الحزبين بغض النظر عن كفاءتهم وقدراتهم الفعلية مما يغيض جمهرة كبيرة من البشر, خاصة وأن أكثرية المجتمع من غير الحزبيين.       
 أدعي, في ضوء متابعاتي ومشاهداتي, بأن نتائج الانتخابات الأخيرة بالنسبة للحزبين تعتبر دليلاً صارخاً على صواب ما أدعيه. وإذا كان الأمر قد برز واضحاً بالنسبة للاتحاد الوطني الكُردستاني, فأن الحزب الديمقراطي الكُردستاني قد تجنب هذه النتيجة بطريقته الخاصة, إذ لو كان قد ظهر شخص معارض مثل نوشيروان مصطفى أمين في أربيل ودهوك لحقق نتائج أكبر أو مقاربة لما تحقق لجماعة گوران, إذ أن الأخير لا يحظى بتأييد الكثير من الناس الكُرد أو من قوى سياسية أخرى ويعتبر مسؤولاً عن كل ما حصل خلال السنوات الأخيرة في الاتحاد الوطني الكُردستاني, إذ كان عملياً المسؤول الأول عن تنظيمات الحزب ونشاطه العام قبل أن يبتعد عن العمل القيادي. وعلينا أن نعي أيضاً بأن ما تحقق لگوران في إقليم كُردستان لم يأت من قوى الاتحاد الوطني الكُردستاني وحده, بل من قوى مؤيدة للحزب الديمقراطي الكُردستاني أيضاً.
لقد كانت نتائج الانتخابات ضربة موجعة للاتحاد الوطني الكُردستاني خاصة, ولكنها كانت ضربة موجعة للحزبين ولقيادتيهما أيضاً, ولكنها كانت متوقعة بالنسبة لي, وللكثير من المتتبعين لمجرى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كُردستان العراق, منذ فترة طويلة وقد كتبت بشأنها عدة مقالات قبل الانتخابات بفترة غير قصيرة, كما أرسلت رسائل خاصة إلى السيد رئيس الإقليم أو عبر التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية لشرح تصوراتي وتصورات التجمع عن الوضع في كُردستان. ولكن, وبدلاً من الاهتمام بها وأخذها بنظر الاعتبار, ازدادت الجفوة لكاتب المقالات وللتجمع أيضاً, رغم أن الهدف كان خدمة التجربة الكُردستانية. كما كتبت سلسلة مقالات عن الاقتصاد العراقي العام وعن اقتصاد كُردستان العراق وكانت تهدف إلى مناقشة اتجاهات التطور في هذا المجال مع السادة المسؤولين في كُردستان العراق ومنهم الدكتور برهم صالح والسيد نيچرفان بارزاني. ويمكن لمن يرغب الإطلاع على مقالاتي العودة إليها في موقع الحوار المتمدن وصوت العراق وموقع الناس مثلاً ليتبين موقفي من مواطن الخلل والضعف في التجربة الكُردستانية وفي عمل القوى والأحزاب السياسية ومواقع القوة في هذه التجربة الغنية أيضاً.
إن التفكير يفترض أن يذهب إلى الوضع القيادي وإلى العمل القيادي في آن واحد, إضافة غلى الخطاب السياسي والعلاقة مع فئات المجتمع والعدالة الاجتماعية.
لا أشك في أن في الحزبين الكثير من العناصر الجيدة وعلى مختلف المستويات, ولكن الكثير منها غير قادر على لعب دوره المطلوب ولأسباب كثيرة يفترض في الحزبين التحري عنها, خاصة وأنهم أدرى بحزبييهم ويأمل الإنسان أن يجري التحري عنهم ووضعهم في المواقع المناسبة. 
14/11/2009                كاظم حبيب
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة حول المعارضة السياسية والاحتجاجية في كُردستان العراق. 


1158
كاظم حبيب
مسيرة الأحزاب السياسية ونتائج انتخابات الإقليم الأخيرة
الحلقة الأولى
غنى التجربة في كُردستان العراق
المدخل
كانت زياراتي للعراق خلال السنوات الخمس الأخيرة تمر عبر إقليم كُردستان العراق, وكانت هذه الزيارات المتكررة سنوياً ولفترات مناسبة تفسح لي في المجال إمكانية الاحتكاك المباشر بأوضاع العراق والتطورات والتحولات الجارية على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, إضافة إلى الأوضاع الأمنية وحياة الاستقرار والسلم الاجتماعي. وغالباً ما كان الاحتكاك يتم مع مختلف القوى والأحزاب السياسية ومع الكثير من المواطنات والمواطنين ومنظمات المجتمع المدني. وكنت في كل زيارة أسجل الكثير من الملاحظات لاستفيد منها في كتابة المقالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على  نحو خاص والتي كانت تتضمن الجوانب الإيجابية والسلبية, سواء على صعيد العراق عموماً وصعيد كُردستان العراق خصوصاً. وكانت هذه المقالات تستقبل بمواقف متباينة, بعضها يحمل الترحيب والتأييد, وبعضها يتراوح بين القبول والرفض لبعض ما فيها من أفكار وملاحظات, وبعضها الثالث كان رافضاً لها لا من منطلق خطأ تلك الملاحظات بل من منطلق ليس لمصلحة التجربة والقوى السياسية في العراق وفي كردستان العراق أن يجري البحث في النواقص, أو أن البعد عن العراق لا يسمح بنقد موضوعي أولاً, ولأن تعقيدات الوضع غير مفهومة للمقيمين في الخارج ثانياً. وكلاهما لا يصمدان أمام النقاش الميداني المفتوح والشفاف.
لا شك في أن ما أكتبه يمثل وجهة نظري وقناعتي بشأن ما يجري في العراق وفي إقليم كُردستان العراق وفق مشاهداتي وحواراتي مع الناس وما تتبلور لدي من أفكار وملاحظات ملموسة أجد مناسباً طرحها على القراء من مسؤولين في الحكم وعلى المواطنات والمواطنين المسؤولين عن مصالحهم وعن الوطن بهدف المناقشة والدعوة للتفكير بما يكتب حول تجربة العراق الجديدة وتجربة كُردستان التي بدأت منذ نهاية العام 1991 ومتواصلة حتى الوقت الحاضر. ومثل هذه الأفكار والملاحظات تحتمل الصواب والخطأ, ولكن قناعتي بها هي التي تدفعني إلى نشرها ويترك لمن يقرأها من مسؤولين في الحكم أو غيرهم مناقشتها وتقدير مدى الاستفادة منها أو تصحيحها عبر ممارسة النقاش الهادف والموضوعي. وفي ضوء هذا فأنا أتحمل وحدي مسؤولية هذه الأفكار والملاحظات وهي تنطلق من حرصي, كما أرى, على ما يجري في العراق وعلى مستقبل الوطن المشترك لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
وهذا المقال يبحث في بعض جوانب تجربة إقليم كردستان العراق.
غنى التجربة في كُردستان العراق
تقدم لنا تجربة الفيدرالية الكردستانية دروساً غنية لأنها نشأت وتبلورت في أحضان المجتمع الكردستاني بكل قومياته وقواه السياسية المناضلة, ولأنها تعمدت بدماء وأرواح ضحايا بشرية هائلة لا تقل منذ تشكيل الدولة العراقية حتى سقوط النظام الاستبدادي عن ربع مليون إنسان, إضافة إلى مختلف الخسائر المادية والمعنوية الأخرى والعلل النفسية والاجتماعية التي أصيب بها المجتمع الكُردستاني خلال تلك الفترة الطويلة والتي تصل إلى ما يقرب من ثمانية عقود. كما أن الفيدرالية الكردستانية تشكل أملاً وتطلعاً لا للشعب الكردي وبقية القوميات في كردستان العراق في العيش الكريم فحسب, بل تقدم أملاً ونموذجاً لبقية الشعوب الكردية في المناطق الأخرى من كردستان أو بقية بنات وأبناء الأمة الكردية المجزأة في الدول الأربعة المجاورة. والفيدرالية الكُردستانية, شاء الإنسان أم أبى, تعتبر ضمانة مهمة جداً لمسيرة العراق الراهنة, وخاصة في الموقف الرافض لإقامة دولة دينية في العراق, رغم الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريق إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة وإنسانية في آن.
قدمت تجربة الفيدرالية الكردستانية العراقية منجزات مهمة للشعب الكردي والقوميات المتعايشة معه منذ إعلانها في العام 1992 حتى الآن, ولا شك في أنها ستتواصل في العطاء الإيجابي ولصالح العراق كله.
أبرز تلك المنجزات أن الحكم في كُردستان بيد أبنائه وبناته ولم يعد يفرض عليه من بغداد ولم يعد يمكن تهميش دور الشعب الكردي أو كردستان في الحكم في كردستان أو على صعيد العراق أو في السياسة والاقتصاد والمجتمع والحياة الثقافية والعسكرية, كما حصل له منذ إلحاق ولاية الموصل بالعراق في العام 1926 من جانب حكومة بغداد. وهذا الإحساس هو الذي يمكن أن يشد إليه بقية أجزاء كردستان الكبرى ويدفع بها للنضال من أجل الوصول إلى ذات الهدف وبهذا القدر أو ذاك, مع احتمال لوصول إلى حلول مقاربة أو مماثلة للقضية الكردية في العراق.
والمنجز المهم والأساسي الثاني هو الاستقرار الأمني والعيش بسلام بالنسبة لسكان الإقليم, وبشكل خاص منذ الاتفاق الذي تم في العام 1998 بين الحزبين الحاكمين حتى الوقت الحاضر, رغم حصول بعض الاختراقات والتفجيرات بين فترات متباعدة حصدت المئات من القتلى ولكنها لم تستطع أن تغير الهدوء العام والأمن السائد في كردستان في مقابل ما يجري في بقية أنحاء العراق رغم مرور ما يقرب من سبع سنوات على التغيير الذي حصل في بغداد والعراق.
كما تبلورت خلال الفترة المنصرمة فكرة أساسية هي أن شعب كُردستان يستطيع أن يتصرف بموارده المالية التي تخصص من موارد العراق المالية الكلية وفق مشيئته وإرادته ومصالحه, شريطة أن تستقر هذه العلاقة المالية مع العراق وتنتظم وفق الدستور والقوانين الملزمة من جهة, وشريطة أن تستخدم من جانب حكومة كردستان بما يسهم في تنمية الاقتصاد الوطني وبناء البنية التحتية والقاعدة المادية الصناعية والزراعية لإغناء الدخل الوطني وتحقيق مستويات أفضل للمعيشة وتوزيع واستخدام أفضل للثروة وتحقيق النمو والتقدم والتطور العام من جهة ثانية. 
وخلال الفترة المنصرمة تحققت منجزات كبيرة منها إعمار مناطق كثيرة من كردستان العراق وإنشاء شبكة من الشوارع والجسور وتحقيق تقدم على مستوى خدمات الطاقة الكهربائية التي يصل وصولها إلى السكان بحدود تقترب من 24 ساعة في اليوم. كما جرت حتى الآن دراسات كثيرة على الموارد المتوفرة في كردستان العراق وعلى سبل استخدامها والتي لم تبدأ عملية التنفيذ حتى الآن.
ومن يزور كردستان يستطيع أن يشخص التحسن الملموس والمهم على مستوى معيشة الناس عموماً وعلى معدل حصة الفرد الواحد من الدخل الوطني سنوياً, رغم وجود تمايز شديد وهائل بين الغني والحد الأدنى الفعلي لدخل الفرد الواحد.
وتحسنت حرية النشر وطباعة الكتب بحيث تتوفر في كردستان الكثير من الصحف والمجلات ودور الطباعة والنشر والمكتبات, كما ازداد عدد الجامعات وعدد الطالبات والطلاب وعدد التلاميذ في المدارس وعدد الخريجين من الناحية الكمية ومن مختلف المراحل الدراسية.
ولا شك في أن علمانية إقليم كُردستان لها أهميتها البارزة, إضافة إلى وجود الكثير جداً من منظمات المجتمع المدني, ومنها منظمات نسائية قوية ومدافعة عن حقوق المرأة, وجدت أو نشأت الكثير من الأحزاب السياسية, بغض النظر عن قوتها ودورها في المجتمع والحياة السياسية الكردستانية.
كما تعقد في كردستان الكثير من المؤتمرات والندوات الثقافية العامة والمفتوحة التي تسمح بزيادة ورفع وعي الإنسان الكردستاني وتساعده على تلمس دربه وتشكيل مواقفه الفكرية والسياسية, رغم أن هذه الحالة لا تزال مقتصرة على المدن ولم تصل إلى الريف الكردستاني, إذ يزداد تقلص دوره في الاقتصاد والحياة الاجتماعية وفي بنية وحجم السكان.     
هذه جوانب مهمة وضرورية في فيدرالية كُردستان العراق التي لا بد من ذكرها وإبرازها باعتبارها جزءاً من مكاسب الشعب ونتيجة منطقية لنضاله الطويل والعنيد, ولكنها تعتبر جانباً واحداً, إذ لا تزال هناك الكثير التي ينتظر الحل, ومنها مشكلة التشابك بين الحزبي والحكومي على صعيد الدولة وفي جميع المستويات والمجالات, ومسألة الفساد الإداري والمالي والبيروقراطية القاتلة في دوائر الإقليم والمحسوبية والمنسوبية العائلية والحزبية والشخص غير المناسب في المكان غير المناسب, والتوزيع والاستخدام غير الفعال للدخل وغير العادل أيضاً والغلاء المتفاقم لأسعار السلع والخدمات دون رقيب أو حسيب, والابتعاد الفعلي عن التصنيع أو تحديث الزراعة والعمل لتحقيق بعض التنسيق والتكامل بينهما, إضافة إلى سوء السياسة المالية والنقدية كجزء من السياسة المالية العراقية غير الجيدة والتي هي بدورها تشكل جزءاً من غياب الإستراتيجية التنموية والأهداف الواضحة على صعيد العراق وكردستان العراق في آن واحد, حيث تعتبر السياسات المالية والنقدية الأداة التنفيذية للسياسات الاقتصادية.       
13/11/2009                     كاظم حبيب
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية   


1159
كاظم حبيب
مجلس النواب يقاضي المدى والشعب في آن واحد!

هدد السيد رئيس مجلس النواب العراقي بمقاضاة كل من يرتفع صوته على صوت مجلس النواب وكل من يسيء إلى هذا المجلس. والأسئلة العادلة التي تدور في البال هي: كيف يمكن للشعب أن يقاضي المجلس الذي أساء إلى الشعب ومصالحه وقضاياه العادلة؟ وكيف يمكن للشعب أن يقاضي مجلساً يصدر قوانين ومراسيم وقرارات مخالفة للدستور العراقي, رغم نواقص هذا الدستور؟ وكيف يمكن للشعب أن يقاضي مجلساً قضى الكثير من أعضائه خلال الدورة الحالية أوقاتهم في الخارج أكثر مما كانوا في الداخل وأقل من ذلك تحت قبة البرلمان؟ وكيف يمكن للشعب أن يقاضي مجلساً ماطل في إصدار الكثير من القوانين وكاد يقود أو قاد إلى حدوث مآسي في المجتمع؟ وكيف يستطيع الشعب أن يقاضي هذا المجلس الذي يزيد يومياً من امتيازاته الخاصة على حساب مصالح وقوت الشعب, والمجلس يرى بكل عيون أعضائه أن نسبة عالية من بنات وأبناء الشعب يتضورون جوعاً ويعيشون تحت خط الفقر؟ وكيف يتعامل الشعب مع مجلس خلال أربع سنوات من دورته الحالية لم يعالج بعدل وإنصاف مشكلة الكُرد الفيلية مثلاً الذين اغتصب الدكتاتور ونظامه حقوقهم المشروعة طيلة ثلاثة عقود منصرمة؟ وكيف يتعامل الشعب مع مجلس يُمنح أعضاؤه 600 م2 على نهر دجلة وهم لهم دورهم وقصورهم وأطيانهم وأموالهم ورواتبهم العالية ومخصصاتهم ومخصصات حمايتهم وسياراتهم الحكومية الشخصية وخدمهم, في وقت لا تمتلك نسبة عالية من أبناء وبنات الشعب, من العائلات العراقية الكادحة, قطعة أرض صغيرة حتى لو كانت عشرين متراً لكي تعيش على أرض العراق؟ إلا يصح على أفراد مثل هذه العائلة قول الشاعر العراقي "
وفتاة مـا لها غير غبـار الريح سترا
تخـدم الحي ولا تملك من دنياها شبرا
وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا
وإذا الحفار فوق القبر يدعو
أين حقي؟
     
هناك عشرات الأسئلة الأخرى التي يمكن طرحه وعند الإجابة عنها ندرك أي وضع يعيشه مجلس النواب العراقي, وأي وضع يعيش فيه الشعب العراقي المبتلى بكل شيء خاطئ, ومنه هذا المجلس, وليس هناك من صحيح إلا وجود هذا الشعب بهذه الحالة المزرية! وعلى هذه الحالة المزرية يرفع البعض صوت القانون. ليتذكر السيد رئيس المجلس والكثير من أعضائه هنا القول الشعبي المشهور والنابت:
هذا قانون يعزفون به في الليل ويحكمون به في النهار!!!
العالم المتحضر والمجلس النيابي المتحضر يقاضي شخص ما أو صحيفة ما حين يتجاوزان على شخص بعينه ولا يملكان ما يبرران ذلك التجاوز أو الإساءة لكرامة الشخص وعلاقاته العائلية مثلاً, أما نقد مجلس نواب ومؤسسة حكومية أو حكومة ورئيس دولة, فهي من واجبات كل مواطن حر وكل صحيفة حرة, وهي جزء من الحرية الفردية وحرية الصحافة والحرية التي يضمنها الدستور وقوانين الصحافة في العالم وكذلك لائحة حقوق الإنسان.
وكما يبدو فأن هذا المجلس الذي قام على أسس طائفية سياسية مقيتة يعتبر "إن التجاوز على حقوق الشعب حلال في حلال, أما نقد مجلس النواب وتبيان حالته الراهنة أمام أنظار الشعب فهو حرام في حرام ويعاقب عليه الإنسان". لنتذكر معاً قول الشاعر الرصافي الكبير حين قال:
علم ودستور ومجلس أمة          كل عن المعنى الصحيح محرَّف
ولم ترفع قضية ضد هذا الشاعر, رغم نواقص مجلس النواب ورغم سوءات الحكومة العراقية الملكية حينذاك. ويمكن ويحق لكل ذي عقل أن يقارن بين الحالتين!
إن مقاضاة المدى وكتاب المدى من جانب هذا المجلس العليل يراد بها إسكات صوت الشعب والعودة به إلى الوراء من جانب مجلس المطلوب منه الدفاع عن الحريات الفردية والعامة! ولكن هذا المجلس سيعجز عن إسكات المدى وغيرها من الصحف الديمقراطية وإسكات الشعب, لأن الصحافة الحرة والنقد الحر هما السبيل لتغيير واقع الحال المزري الذي نراه في مجلس النواب وفي العراق عموماً, وهي قضية الشعب الملحة.. 
11/11/2009                     كاظم حبيب   

1160
كاظم حبيب
الخونة المجرمون يسعون لإشاعة الفوضى والموت في العراق
لقد غاص المجرمون القتلة حتى قعر مستنقع الخيانة للوطن والشعب, لقد فقد القتلة الأوباش كل حس إنساني إزاء البشر, ليس الذين ينفذون بين فترة وأخرى عملياتهم الإجرامية التي تستهدف المئات من المواطنات والمواطنين من مختلف الأعمار بمن فيهم الأطفال في رياضهم فحسب, بل وقبل ذاك أولئك الذين يمارسون التنظيم والتخطيط وتوفير مستلزمات تنفيذ الجلادين للعمليات الإرهابية. وهؤلاء ليسوا أفراداً, بل هم منظمات وأحزاب ودول تقف وراء مثل هذه العمليات. إنه التحالف الذي يضم ثلاث قوى تغوص في الجريمة مباشرة وخلفها تقف الكثير من القوى المساندة في الدول المجاورة, إنهم:
1.   بقايا تنظيم حزب البعث الصدامي الذي يقوده عزة الدوري؛
2.   وتنظيم هيئة علماء المسلمين السنة الذي يقوده حارث الضاري؛
3.   ومن ثم بقايا تنظيم القاعدة.
وخلال السنوات المنصرمة ورغم كل الجهود المبذولة استطاعت هذه القوى وغيرها الولوج إلى مواقع مهمة يمكنهم من خلالها تسهيل مهمة المجرمين في توجيه الضربات وبأهداف مختارة ومتى قرروا تنفيذ عملياتهم. إنهم يمتلكون حرية الحركة وأغطية متنوعة, إذ يكفي أن يكون لهم حارساً أو موظفاً واحداً في وزارة ما ليمكن من خلاله دخول المجرمين إلى  هذه الوزارة أو تلك وتنفيذ ما خططوا لأفعالهم الدنيئة.
إنه التحدي الأكبر الذي يفترض أن نأخذه بنظر الاعتبار, لا يكفي أن ندعي بعجز المجرمين عن ارتكاب الجرائم لأننا رفعنا القضية إلى مجلس الأمن الدولي, ومن ثم ترتكب الجريمة بعد يومين من مثل هذا التصريح, فهؤلاء المجرمون لا يخشون مجلس الأمن الدولي ولا يحترمون الهيئات الدولية, ويسعون لفرض التحدي.
لقد سقط أكثر من 130 شهيداً في تفجيرات يوم 25/10/2009 وأكثر من 600 جريحاً ومعوقاً, وبينهم مجموعة من الأطفال بعمر الجنابذ العطرة. ويمكن أن يسقط غيرهم في الفترة القادمة وقبل بدء الانتخابات, لأن المجرمين مصممون على تفجير الوضع والصراع. فكيف سنواجه هذه الجرائم البربرية؟
لا يمكن قطع دابر الإرهاب, وهو يقع كل يوم في عدد غير قليل من الدول, والسؤال هو كيف نقلل مثل هذه العمليات وكيف نقلص عدد الشهداء والجرحى والمعوقين ومن قم نقطع دابرهم؟ هذه هي مهمة الحكومة وسياساتها اليومية ودورها في معالجة مشكلات المجتمع اليومية لكي ترفع من يقظته وتكاتفه في مواجهة هذه القوى الشريرة التي ستبقى تعمل من أجل إشاعة الفوضى والخراب واستمرار نزيف الدم العراقي ودموع الثكالى والأيتام.
مرة أخرى أحاول أن أشير إلى أن الخبرة العراقية رغم تحسنها, فإنها لا تزال غير كافية لمواجهة قوى الإرهاب ودحرها, إذ لا يزال العراق بحاجة إلى معارف وخبرات وقدرات فنية دولية, وسواء أكان ذلك من دول أوروبية أو غيرها لكي يشكل فريق عمل دولي يساعد الحكومة العراقية ووزارة الداخلية وأجهزة الأمن في ملاحقة الجريمة. ليس عيباً أن نستعين بخبرات الآخرين, بل العيب أن يستطيع الإرهابيون قتل المزيد من البشر, إذ تتحمل الحكومة عواقب هذا العيب. إذ أن قوى الإرهاب المجرمة تستعين بخبرات وأموال ومعارف وأجهزة أمن قوى وأحزاب ودول إقليمية عديدة لتنفيذ جرائمها البشعة في العراق.
إن من يدعي بعد اليوم بأن هذه الأفعال الشريرة مقاومة شريفة, فأنه يرتكب يشارك في ارتكاب هذه الجرائم البشعة ويغوص معهم في مستنقعها, وهي  الخيانة بحق الشهداء الأبرار وبحق الشعب والوطن.
25/10/2009               كاظم حبيب
   
     

1161
كاظم حبيب

التيار الديمقراطي وأزمة تحالفاته المستمرة!
حين أسعى إلى فهم منطق الصراع داخل التيار الديمقراطي وعجز قواه في الوصول إلى اتفاق سياسي لخوض الانتخابات القادمة أو الوصول إلى اتفاق استراتيجي يسمح بإقناع الفئات الاجتماعية بقدرته على تحقيق منجزات إيجابية له من خلال زيادة دوره وتأثيره في الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والعسكرية والبيئية والعلاقات الدولية الجارية في العراق, أجد نفسي أنا الآخر أكثر عجزاً عن فهم هذا اللغز الذي يصعب على كل عاقل فهمه ما لم يدخل في تفاصيل الأمور ويسعى إلى فهم أو استيعاب صعوبات العملية الجارية في العراق والمناورات والوعود التي تمنحها القوائم الكثيرة ذات القاعدة الفكرية الإسلامية السياسية والطائفية السياسية التي تشكلت لخوض الانتخابات القادمة تحت تسميات جديدة قديمة. ليست التسميات الجديدة سوى التعبير عن فشل قوى التيار الطائفي السياسي عن إقناع الناس بصواب منهجه المقيت. وهو أمر جيد, رغم أن أساسه الفعلي يقوم على المثل الشعبي القائل "أخاك مجبر لا بَطل".
قبل سقوط النظام الدكتاتوري البعثي كانت الأحزاب كلها ممنوعة, بما فيها الأحزاب الإسلامية السياسية, إلا أن الأخيرة كانت تمتلك بيوت الله حيث كانت قواها المتخفية, وبدعم من المرجعيات الدينية لتلك القوى, تمارس نشاطها في العراق وتعوض عن وجود قيادات أحزابها في العمل بين الناس, في حين لم تستطع القوى العلمانية الديمقراطية أن تمارس ذلك في بيوت الله, بل كانت مهددة بالموت دوماً, ولكن بعضها كان يمارس العمل حتى تحت تهديد المقصلة وقتل الكثير من عناصر جميع القوى السياسية دون استثناء.
وبعد سقوط النظام انفتح الجو للجميع ولكن بصورة غير متكافئة, إذ كان الانفتاح لقوى الإسلام السياسية والقوى الكردستانية أكثر بكثير من انفتاحه على القوى الديمقراطية العربية, إذ جرى تطويق وحصر القوى الديمقراطية بالفكر الإسلامي السياسي وبالفكر الطائفي من جهة وبالفكر المناهض لما حصل في العراق من تغيير من جهة أخرى. ولم يكن دور الاحتلال مساعداً لقوى التيار الديمقراطي , بل كان معززاً لقوى التيار الديني في السلطة والمجتمع من جهة ثالثة.
وهكذا لم تستطع القوى الديمقراطية أن تحقق مواقع مهمة وواسعة في صفوف المجتمع رغم الجهود الخيرة التي بذلت على هذا الطريق, خاصة وأنها كانت مهددة أكثر من غيرها بالقتل من جانب كل قوى الإرهاب, سواء أكانت من قوى القاعدة, أم من قوى البعث ألصدّامية أم من قوى هيئة علماء المسلمين السنة, أم من قوى جيش الهدي أو المليشيات الطائفية الأخرى, وقد قتل الكثير منهم فعلاً. وهي لا شك تعمل في ظروف فكرية وسياسية معقدة وفيها الكثير من ردود الفعل الطائفية لسياسات النظام البعثي الشوفيني والطائفي السابق.
أما اليوم فنحن أمام تكتلين سياسيين هما الائتلاف الوطني العراقي وائتلاف دولة القانون. وهذان الائتلافان يسعيان بكل جهد, ومن خلال مواقعهما في السلطة ولدى المرجعيات الدينية,  للوصول إلى تمزيق التيار الديمقراطي العلماني من خلال التفاوض مع بعض قوى التيار الديمقراطي لكسبه إلى جانبها, ومن خلال تطويق بقية قوى التيار الديمقراطي بنشاطها ومنع حركته الفاعلة. وحركة الكسب محمومة جداً والوعود بمناصب ودور أكبر في الحياة السياسية معسولة وتتجه لعناصر معينة في التيار الديمقراطي. وقد استطاعت أن تكسب فعلاً بعض عناصر قوى التيار الديمقراطي. فالدكتور عامر حسن فياض التحق بالائتلاف الوطني العراقي, والدكتور مهدي الحافظ بعد انتقالات وتشكيلات ومحاولات كثيرة استقر في صف ائتلاف دولة القانون, وهما نموذجان لعدد آخر من عناصر كانت تعتبر تقليدياً جزءاً من التيار الديمقراطي أو محسوبة عليه, وهما على سبيل المثال لا الحصر.
ولم يكن هذا كافياً بل توجهوا صوب القوى الأساسية في التيار الديمقراطي وتحرك الدكتور أحمد الچلبي ليجر إليه من يمكن جره, كما تحرك السيد علي الأديب ليكسب هو الآخر من يستطيع كسبه. وإذ نجح الچلبي بسهولة, كما يبدو, في كسب الحزب الوطني الديمقراطي مجموعة السيد نصير الجادرجي والدكتور هاشم شبلي), وهو أمر مثير للشجن وصعوبة الهضم, عجز الاثنان أو التكتلان الإسلاميان عن كسب الحزب الشيوعي العراقي وبعض المنظمات السياسية الديمقراطية الجديدة والتي لا تزال في بدايات عملها المنظم أو في تكوين تحالفاتها الجديدة. لقد أصبح التيار الديمقراطي في العراق (عدا الكُرد الذين لهم التحالف الكردستاني وقائمة التغيير حتى الآن) عرضة للنهب والسلب من قبل قوى التيارات الأخرى, وهي والحق يقال مشكلة كبيرة يفترض أن تعالج بعقل بارد وقلب دافئ من قبل قوى التيار ومستقبله ونضاله.
إن هذا الكسب لبعض قوى التيار الديمقراطي من جانب القوى الإسلامية السياسية والطائفية يبدو وكأنه كسر للطائفية, وهو ينطوي على نصف الحقيقة, أي ينطوي على مسألتين, وهما حقيقة فشل التوجه الطائفي في الدولة والمجتمع إلى حدود مهمة, وليس كلية,  بين صفوف الجماهير من جهة, ولكنه في الوقت نفسه انحناء مؤقت أمام العاصفة المضادة للسياسات الطائفية من جهة أخرى. ولهذا يفترض في من تبقى من التيار الديمقراطي الرافض للركض وراء سياسات المكاسب الجزئية والشخصية, أن يتحروا عن أسلوب عمل يساعدهم على تعبئة من تبقى من قوى التيار الديمقراطي, وهم ليسوا بقلة, فهم الحزب الشيوعي العراقي ومنظمات وشخصيات أخرى, وتحت اسم وطني وديمقراطي عام يستطيع أن يعبئ كل القوى الديمقراطي حوله وتحت رايته, إذ يمكن لمثل هذا التحالف أن يكسب إلى جانبه حتى عناصر ومجموعات من بين صفوف أولئك الذين انتقلوا إلى صف قائمة أهل البيت الشيعي (قائمة ائتلاف العراقي الموحد السابقة) أو قائمة ائتلاف دولة القانون أو التجمع الذي نظم أخيراً وبمشاركة طارق الهاشمي. لنعطي قائمة التيار الديمقراطي اسماً أرحب من اسم يقترب من حزب بعينه, لنمنح القائمة اسم قائمة الشعب الديمقراطية أو قائمة "المستقبل الديمقراطي العراقي", أو قائمة "الديمقراطية والتجديد" لكي يمكن به تعبئة القوى وليس الانفراد بقائمة مستقلة, فقائمة متحالفة هي الأداة الأفضل والأكثر حكمة في المرحلة الراهنة لنضال من تبقى من قوى ديمقراطية في الساحة السياسية العراقية أو في القسم العربي من العراق, وهي ليست قليلة حقاً ويمكن العمل في صفوفها لصالح المسيرة الديمقراطية للقوى العراقية, خاصة وأن أغلب القوى المتبقية التي لم تلتحق بقوى التيارات الأخرى هي ديمقراطية يسارية لا اعتقد بصعوبة الوصول في ما بينها إلى اتفاق انتخابي مناسب. لا أنكر وجود اختلافات, ولكن يمكن لوي عنقها لصالح التحالف المشترك.
أتمنى على الجميع بذل أقصى الجهود لتحقيق هذه الخطوة المهمة, خطوة ضمان بروز قائمة مشتركة لقوى التيار الديمقراطي, لتلك القوى التي لم تتخل عن مواقفها المبدئية لصالح مستقبل العراق الديمقراطي. المساومة المحسوبة هنا ضرورية, والقبول المشترك بها ينفع الجميع. ليس لي غير أن أتمنى, رغم أن التمني هو رأس مال المخلص لمثل هذا التحالف الديمقراطي بين قوى التيار الذي يراد تفتيته والتضييق عليه وحصره في زاوية حادة.
 25/10/2009                     كاظم حبيب
         
           

1162
كاظم حبيب
الفنان الكاريكاتير سلمان عبد والظواهر السلبية في المجتمع
حين تصلك يومياً تقريباً لوحة فنية كاريكاتيرية من الفنان المبدع سلمان عبد, تدرك بسرعة وارتياح أن هذا الفنان يلاحق الواقع العراقي ويتابعه بنظرة إنسانية عميقة وعراقية صادقة ويلتزم بإصرار بعدد مهم وأساسي من القيم والمبادئ الديمقراطية التي تعبّر بدورها عن رفض المزيد من الاستغلال للفقراء والجائعين لصالح تسمين القطط السمان وذات النعمة الحديثة والفاسدين والمفسدين, ضد الاستبداد والقسوة والعنف والإرهاب, وضد تهميش المثقفين في الحياة العامة وضد المواقف السلبية من الفنون الإبداعية التي تعبر عن حاجة المجتمع وضرورات تطور حياة الفرد والمجتمع, وهي كلها تجسد في تتبعه للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية والعسكرية في العراق, وكذلك الموقف من الحكام وضد الطائفية والشوفينية وضيق الأفق القومي ومن أجل حياة حرة وكريمة ولصالح حقوق المرأة وإخراجها من البؤس والفاقة والحرمان من الحقوق المتساوية مع أخيها الرجل.
وأخيراً رأيت له اللوحة الكاريكاتيرية الجديدة التي نشرها بتاريخ 20/10/2009 التي صورت حالة الحياة السياسية الراهنة المنتشرة في العراق: سجل على اللوحة الكلمات التالية: "ابيتنه ونلعب بيه شله غرض بينه الناس", ثم وضع كلمات "الحسود لا يسود", وأعطى العنوان التالي: "البرلمان رفض النقد وسيقاضي من ينتقده!!!" إنها لا تصور حالة البرلمان العراقي فحسب, بل تصور كامل الحياة السياسية العراقية كلها, فهي تعبر عن:
** استمرار روح الرفض للنقد التي لا تزال تهيمن على أخلاقيات الحياة السياسية في العراق, وهي جزء أصيل من روح الاستبداد وعدم الاستعداد للاستماع للرأي الآخر, وبمعنى آخر, م أنتم وما نقوم به, إنها قضيتنا وليست قضيتكم وابتعدوا عن التدخل في شؤوننا.
 ** الشعور بأنهم يقدمون الأفضل وليس هناك ما يفترض نقده, وأن على الجميع أن يروا ما هو مليان من الكأس وليس الفارغ منه.
** وأنهم سعداء بما بلغوه حتى الآن, ولهذا يرون بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان, وأن روح النقد القادم ينطلق من الحسد على ما بلغوه من تقدم وليس من الرغبة في التحسين والتطور والإغناء. ويتمنون أن تكون في عين الحسود عود.
** وأن على الفرد والمجتمع أن يكف عن النقد وإلا فالعاقبة غير محسوبة!
كم أتمنى على مجلس النواب وعلى أعضائه وعلى كل الأحزاب السياسية في العراق أن يرتقي الإدراك بأن النقد حتى لو جاء حاداً, فهو يريد صلاح الحياة السياسية وتقدمها وتطورها صوب الديمقراطية وليس الإساءة لأحد, رغم أن مجلس النواب قد بني على أسس طائفية ولا يزال يعمل بنفس الوجهة حتى الآن, وهي كارثة. والقوى السياسية في العراق تأخذ اتجاه فعلها, شاءت ذلك أم أبت, تسير بذات الوجهة العامة التي تسود البلاد ومجلس النواب, رغم النضال ضد تلك الظواهر السلبية.
لقد حاولوا اعتقال سلمان عبد وكان التهديد واضحاً وليس مبطناً, ولكن الرجل المرتبط بشعبه وقضية الديمقراطية والتقدم الاجتماعي ومساعدة الفقراء والكادحين من أبناء المجتمع, كان ولا يزال جريئاً يرتضي تحمل العواقب لصالح هذا الشعب ولصالح العراق.
21/10/2009                      كاظم حبيب
     

1163
دعوة للمشاركة في التوقيع على مقترحات 
لدعم إدخال تعديلات مهمة على قانون الانتخابات في العراق

على موقع الحوار المتمدن
نحن الموقعين أدناه ندعو مجلس النواب العراقي والحكومة العراقية ومجلس رئاسة الجمهورية إلى دعم المطالب التالية من أجل إجراء تعديلات مهمة على  قانون الانتخابات العامة لضمان حماية حقوق وصوت المواطنة والمواطن في العراق:

1.   اعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة لضمان عدم ضياع صوت الناخبة أو الناخب أينما أعطيا صوتيهما، ولضمان اشتراك عراقيي الخارج في الانتخابات.
2.   ضمان الأخذ بقاعدة القائمة المفتوحة.
3.   ضمان حصول النساء على الحصة المقررة لهم دستورياً, وهي ربع مقاعد مجلس النواب.
4.   ضمان أن يتراوح عمر الترشيح لمجلس النواب العراقي بين 25-30 سنة. 
5.   ضمان حق العراقيات والعراقيين المقيمين في الخارج المشاركة في الانتخابات العامة.
6.   اعتماد إبراز هوية الأحوال المدنية أو جواز السفر العراقي أو شهادة الجنسية العراقية لإثبات الشخصية في الانتخابات العامة.
7.   مشاركة منظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية في المراقبة على سير نزاهة العملية الانتخابية.
8.   ضمان الاستفادة المتساوية لكافة المرشحات والمرشحين والقوائم الانتخابية من جميع أجهزة إعلام الدولة لصالح الدعاية لبرامجهم الانتخابية.

الموقعون
د. صادق البلادي
د. راقيا الرازقي
د. حسن حلبوص
د. منذر الفضل
د. غالب عبد العزيز العاني
السيد ضياء الشكرجي 
السيد جاسم المطير
د. كاظم حبيب



1164
كاظم حبيب
هل من مشروعية لتدخل الحكومة العراقية في شؤون النقابات العراقية؟

تتكرر حالة التدخل الحكومي في شؤون الاتحادات والنقابات العراقية والمنظمات المهنية الأخرى. فقبل فترة وجيزة أعلنت الحكومة دون وجه حق أن رئيس اتحاد الصناعات العراقي, الأستاذ هاشم الأطرقچي لا يمثل الاتحاد المذكورو واثار ضجة مفتعلة ضده دون أدنى مبرر سوى الرغبة في السيطرة على الاتحاد لصالح طرف معين في الحكومة. واعتبر هذا الموقف من عدد كبير من النقابات والاتحادات تدخلاً فظاً في شؤون هذه الاتحاد ودوره في تنمية الصناعات العراقية. وهو موقف مناقض لأسس العمل النقابي والمهني والقانون الخاص بهذا المجال,
وها نحن اليوم أمام قرار جديد للجنة الوزارية العليا المشرفة على تنفيذ قرار مجلس الحكم رقم ( 3 ) لسنة 2004 تعلن فيه عن فتح باب الترشيح لتشكيل لجنة تحضيرية لانتخابات الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق تتولى التهيئة لانتخابات الاتحاد ولتشكيل ( مجلس إدارة دائمي ). فهل صدور مثل هذا القرار يدخل ضمن باب التدخل الفظ في الشأن النقابي أم يعتبر قراراً مشروعاً للحكومة العراقية؟
أصدر الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق بياناً توضيحياً استنكر فيه صدور مثل هذا الموقف عن اللجنة الوزارية, إذ أنه يتنافى مع القانون الخاص بتنظيم الانتخابات, كما "يتنافى كلياً مع ما نص عليه قانون التنظيم النقابي للعمال النافذ رقم ( 52 ) لسنة 1987 وما جاء في النظام الداخلي للاتحاد العام. حيث أكدت الفقرة ( سادساً) من المادة ( 27 ) من القانون: يتولى المكتب التنفيذي ما يأتي: إصدار التعليمات الخاصة بالإجراءات التنظيمية المتعلقة بانتخابات التنظيمات النقابية. وكذلك الفقرة ( ثانياً ) من المادة ( 44 ): تنظم بأنظمة داخلية يصدرها المكتب التنفيذي للاتحاد العام لنقابات العمال ما يأتي: إجراء  الانتخابات للتنظيمات النقابية". كما يتعارض مع ما التزمت به الوزارة في تنفيذ ما أصدرته من كتب رسمية وتعليمات ومنها كتاب وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني ذي العدد ج ق / 106 في 13 / 2 / 2008 وبناءً على الأمر الإداري الصادر عن المكتب التنفيذي للاتحاد العام لنقابات العمال في العراق ذي العدد 3 في 2 / 1 / 2008 حيث شكلت لجنة تحضيرية مهنية ومحايدة تتولى الإعداد للانتخابات العمالية وتمارس واجباتها المحددة ومنها (التنسيق مع اللجنة الوزارية لإطلاق صرف الرواتب للموظفين العاملين في الاتحاد العام والاحتياجات الضرورية لإدامة عمل الاتحاد). وأصدرت اللجنة التحضيرية تعليماتها حول الانتخابات وحددت يوم 22 / 6 / 2008 ومن ثم الأول من آذار/2009 موعداُ لبدء العملية الانتخابية في جميع مواقع العمل في بغداد والمحافظات" . هذا ما جاء في بيان الاتحاد العام, وفيه إشارة صريحة وواضحة بأن موقف الوزارة يعتبر تدخلاً فظاً ومريباً وغير ديمقراطي بشان لا يخص الوزارة بل يمس العمال وحدهم واتحادهم العام.
ويحق لي أن أشير هنا إلى أن القرار الصادر عن الوزير المذكور لا يعبر عن رأي الوزير الخاص فحسب, بل يعبر من حيث المبدأ والواقع عن رأي وموقف رئيس الحكومة العراقية, إذ من غير المعقول أن يتصرف وزير دون العودة إلى رئيسه في قضية من هذا النوع وفي قضية مماثلة تتكرر كثيراً. وهذا الموقف يتناقض مع يبشرنا به رئيس الوزراء وناطقه الرسمي بأنه لم يعد شمولياً كالقوى الإسلامية السياسية الطائفية, وليس قومياً شوفينياً كالقوميين الشوفينيين السابقين أو الموجودين في العراق وفي الحكم أيضاً, وأنه ليس مستبداً بل ديمقراطياً ويسعى إلى تطبيق القانون, ولهذا السبب شكل قائمة في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة باسم دولة القانون وفاز بأصوات كثيرة لهذا السبب وليس لحزب الدعوة الذي يقوده, ويريد أن يدخل الانتخابات العامة بقائمة جديدة تحت نفس الاسم >دولة القانون", فهل مثل هذا التصرف من وزير في وزارته يعتبر تطبيقاً لدولة القانون أم تجاوزاً فظاً عليها من الحكومة التي تريد حفظ وحماية القانون وتطبيقه.
إن على الحكومة العراقية أن تعيد النظر بهذا الموقف الذي لا يبشر بالخير إن تواصل في الممارسة العملية, عليها أن تترك النقابات العراقية والمنظمات المهنية ومنظمات المجتمع المدني أن تمارس نشاطها وتجري انتخاباتها بشكل مستقل وبعيداً عن تأثير أي طرف مشارك في الحكومة, أو أي حزب من الأحزاب السياسية العراقية بحيث يتسنى لها وضع مصلحة العمال والاقتصاد الوطني والمجتمع نصب عينيها. إن على الحكومة أن تعي بأن مثل هذا التدخل يسقط كل الدعايات الحكومية بأنها تريد ممارسة الحياة الديمقراطية في العراق وتكريسها في حين تمارس التدخل في الشأن النقابي وبطريقة فجة لم يمارسها إلا البعثيون قبل ذاك وقادوا إلى تشويه العمل النقابي وجعلها في خدمة الحزب الحاكم وليس في خدمة العاملات والعمال في العراق.
أملي أن يقتنع رئيس الحكومة بخطورة هذا الإجراء من الناحية الديمقراطية وينبغي أن لا يسير على الطريقة البراغماتية القائلة: " أن الغاية تبرر الواسطة", أي غاية السيطرة على النقابات وإخضاعها لحزب الدعوة يبرر سلوك هذا الطريق البائس الذي يتعارض مع أبسط مبادئ الديمقراطية وحقوق النقابات.
إن على العمال أن يساندوا موقف اتحادهم المبدئي ويدافعوا عن حقه في تنظيم انتخاباته دون أي تدخل من طرف الحكومة أو من غيرها وأن يمارس الدفاع العادل عن حقوق العمال.
15/10/2009                   كاظم حبيب  
 

1165
كاظم حبيب
لم التشاؤم من إمكانية تشكيل جبهة وطنية أو تحالف سياسي انتخابي؟
حين بدأت بكتابة سلسلة مقالات متباعدة عن موضوع التحالفات السياسية بين القوى الديمقراطية برزت ثلاثة اتجاهات حول ما كتبته حتى الآن بهذا الصدد:
الاتجاه الأول: يدرك أصحاب هذا الاتجاه صعوبات إقامة مثل هذه الجبهة الوطنية الطويلة الأمد أو التحالفات السياسية لأغراض خوض الانتخابات العامة القادمة, ولكنه يدرك أيضاً أهمية ذلك في العراق في المرحلة الراهنة, وبالتالي فهو غير فاقد الأمل في إمكانية الوصول إلى هذا الهدف المنشود لأهمية ذلك لقوى التيار الديمقراطي والشعب العراقي ومستقبل الوطن. ولو كان التشاؤم هو السائد في قوى التيار الديمقراطي لما توجهت صوب الحوار والتفاوض في محاولة جادة للاقتراب والتفاعل والتفاهم والاتفاق.
الاتجاه الثاني: أبدى هذه الاتجاه تشاؤماً شديداً من إمكانية تشكيل جبهة وطنية أو تحالفات سياسية أوسع من التحالف السابق "مدنيون". وأكد على أن ما أكتبه لن يجدي نفعاً والأفضل أن أكف عن ذلك, وكأن القوى الديمقراطية مصابة بمرض عدم الاتفاق. ويمكن متابعة هذا الرأي لدى عدد من الكتاب ومنهم الأستاذ محمد علي محي الدين, الذي أحترم كتاباته ورأيه, ولكني لا أتفق معه في هذا الموقف التشاؤمي, رغم احتمال عدم وصول القوى الديمقراطية إلى اتفاقات في هذا الشأن. ولكن السياسة ليست معركة واحدة وينتهي الأمر, بل هي عملية معقدة وطويلة الأمد وهي سيرورة وصيرورة صعبة جداً.
الاتجاه الثالث: أبدى البعض تذمراً شديداً بقوة إزاء ملاحظاتي النقدية وأساء كثيراً ووضعني في خانة أعداء الحزب. ولا شك في أن هذا البعض كان مخطئاً بهذا الموقف, سواء أكان مخلصاً للحزب أم مناهضاً لا يريد النقد البناء لسياسة الحزب أو التيار الديمقراطي بشكل عام. ومثل هذا البعض لن يستطيع دفعي إلى هذا الموقع بأي حال, لأن الشيوعيين مخلصون لوطنهم, وهم مناضلون بحرص على مستقبل العراق وشعبه, ولهذا فملاحظاتي النقدية تصب في دفع الحزب للتحرك بشكل أسرع وأخذ المبادرة في هذا الصدد, وليس الإساءة له حتى حين تحدثت عن توقف الساعة, فهي قابلة للتحرك.
وأمس صرح الأستاذ حميد مجيد موسى مشيراً إلى بدء التفاوض للوصول إلى تشكيل جبهة وطنية, وفي حالة تعذر ذلك السعي لتحقيق تحالفات سياسية, وأن تعذر ذلك فسيدخل الحزب بقائمة منفردة.
هذا الموقف سليم من حيث المبدأ ويستوجبه الواقع, إذ لا بد من بذل أقصى الجهود لتحقيق هذه المهمة باعتبارها وسيلة مناسبة لتأمين تأثير إيجابي في أحداث العراق. ولكن هذا الموقف لا يُطلب من الحزب الشيوعي العراقي وحده, بل هو مطلوب من بقية القوى الديمقراطية التي تريد تحقيق الجبهة أو التحالفات السياسية الضرورية لهذه المرحلة, إذ أن يداً واحدة لا تصفق, بل لا بد من المزيد من الأيدي. ولا يمكن رمي عبء عدم تحقيق هذا الهدف على طرف واحد والسكوت عن الأطراف الأخرى في حالة تعذر الوصول إلى رؤية مشتركة وبرنامج مشترك ومن ثم تفاصيل أخرى لتنظيم مجرى العملية الانتخابية وما بعدها.
لم تعد هناك من فائدة أن نتحدث عن التأخر في بدء المفاوضات, علماً بأن البحث فيها لم يبدأ الآن بل هو جارٍ منذ فترة غير قصيرة, ولكن يبدو أن الوقت قد حان للقاء القيادات للتباحث في هذا الصدد. ويأمل الإنسان أن تبذل المزيد من الجهود لتذليل الصعاب وإيجاد قواسم مشتركة للمهمات التي يراد صياغتها, وسواء أكان ذلك لإقامة جبهة وطنية بعيدة المدى وذات أهداف إستراتيجية, أم تحالفات سياسية لخوض المعركة الانتخابية القادمة أولاً, ومن أجل إيجاد آلية لترتيب المرشحين بحيث لا يضيع الجهد الذي يبذل الآن للوصول إلى اتفاق وفي حالة الوصول فعلاً إلى اتفاق ثانياً.
كم أتمنى أن تُقدر كل قوة من قوى التيار الديمقراطي إمكانياتها الفعلية في جميع المحافظات لكي لا تبتعد عن الواقع وتطالب بما لا يتناسب وقدراتها, وبالتالي نضيع الفرصة التي يفترض تحقيق الاتفاق بشأنها, رغم أن هذه المهمة تأتي لاحقاً وليست في هذه المرحلة من التفاوض.
أرجو لقوى التيار الديمقراطي النجاح في سير المباحثات والتفاوض على البرنامج, إذ أن هذه القوى تعمل على الساحة العراقية كلها, وهو الأهم, فهي ليست لأتباع قومية واحدة وليست لأتباع دين واحد أو مذهب أو طائفة واحدة, بل تمس كل المواطنات والمواطنين في داخل وخارج العراق.
14/10/2009                      كاظم حبيب       
       


1166
كاظم حبيب
لتكن قضية الكرد الفيلية والمهجرين قسراً
واحدة من أبرز القضايا في الحملة الانتخابية

ليست القضايا المهمة والملحة التي يفترض النضال من أجلها في المرحلة الراهنة قليلة, بل هي كثيرة حقاً. ورغم تقديرنا للظروف الصعبة التي مر بها العراق والعوامل التي أعاقت تحقيق الكثير المهم منها, إلا أنها ليست كافية للتعكز عليها وإبقاء المشكلات دون حل, ومنها مشكلات الكهرباء والماء والبطالة الواسعة وتفاقم التصحر والتلوث الرهيب للبيئة في العراق وخاصة جنوب العراق ... الخ. إلا أن هناك الكثير من المسائل التي طرحت بإلحاح كبير ولكن بقيت دون حل إيجابي يساهم في استعادة الكثير من العائلات لحقوقهم المشروعة في العراق. وقد تبنت الكثير من القوى الوطنية هذه القضايا, كما سافر وفد عراقي من الخارج والتقى بالمسؤولين لمعالجة المشكلة,  ولكن كل تلك الجهود لم تثمر عن نتائج إيجابية كافية ترضي هذه الجماعات السكانية الطيبة التي عانت الأمرين بفعل سياسات الدكتاتورية الغاشمة والعنصرية والطائفية البغيضة.
شريحة الكُرد الفيلية تعتبر إحدى تلك الجماعات السكانية ذات الأصل العراقي التي عانت من سياسات القوى القومية العربية اليمنية والشوفينية وذات النهج الطائفي, فهم كُرد ينتسبون إلى الأمة الكردية الموزعة على دول أربع, وهم شيعة حوصروا بتهمة الشعوبية والتبعية الإيرانية وهجروا إلى إيران بذريعة الخشية من دورهم في دعم إيران في فترة الحرب العراقية الإيرانية, كما هجر الكثير من العرب الشيعة من الوسط والجنوب بنفس التهمة الوقحة أيضاً. ويذكرني هذا الموقف بالمحاكم القرقوشية التي كانت تحكم في فترات البعث والقوى القومية اليمينية حين كان يقال المتهم المحكوم عليه بحكم ثقيل , "لك أنت هم شيوعي, وهم شيعي وهم شروگي"! وحين طلبت اللقاء بنائب رئيس الجمهورية السيد طارق الهاشمي حول نفس الموضوع, ذكر بأن هذه القضية شائكة وبشأنها وجهة نظر! 
لقد اعتقد الكُرد الفيلية أن الأحزاب الإسلامية السياسية ستحل مشكلتها فصوتت لها في الانتخابات الأولى, ولم تحظ بشيء, ثم أعطيت هذه الشريحة الوطنية المعذبة الكثير من الوعود من ذات الأحزاب في الانتخابات الثانية, ولم تعالج القضية إلا جزئياً. ثم توزعت أصوات الناخبين الكُرد الفيلية على الكثير من القوى ولم تفلح في الوصول إلى نتيجة إيجابية حتى الآن رغم مرور أكثر من ست سنوات على سقوط الفاشية الغاشمة التي عذبت وقتلت الكثير من هذه الشريحة الوطنية الطيبة.
لقد دافعت قوى ديمقراطية كثيرة, ومنها الحزب الشيوعي العراقي, خلال الفترة التي أعقبت سقوط حكم عبد الكريم قاسم, عن حق الكُرد الثابت في المواطنة وفي العيش بحرية وسلام في العراق, موطنهم الأصلي. واليوم ترفع ذات القوى الديمقراطية شعار إنصاف الكُرد وتنظيم حقهم في العودة واستعادة حقوقهم المغتصبة, ومنها أموالهم المنقولة وغير المنقولة. ولا شك في أن سيكون حقهم المغتصب جزءاً من شعارات الحملة الانتخابية التي يفترض أن تستقطب الكُرد الفيلية في الانتخابات القادمة. إن الغالبية العظمى من الكُرد الفيلية يشكلون جزءاً من قوى وقاعدة أساسية للتيار الديمقراطي العراقي على مدى عمر العراق الحديث, وكانوا جزءاً أساسياً من القوى التي دافعت عن ثورة تموز 1963 في حي الأكراد في بغداد واستجابت لنداء الحزب الشيوعي في مقاومة الانقلاب, وكان الكثير منهم أعضاء ومرشحين وأصدقاء ومؤيدين للحزب الشيوعي العراقي. وهم اليوم لا يبتعدون عن نفس التيار ويجدون في هذه القوى, ومنها الحزب الشيوعي العراقي, كما يفترض أن تكون منها الأحزاب الديمقراطية الكُردستانية, سنداً لقضاياهم العادلة.
نثق بأن قوى التيار الديمقراطي, التي يتطلع الإنسان إلى تحالفها القريب لخوض الانتخابات القادمة, أن تضع ضمن أولوياتها إنصاف هذه الشريحة من الشعب العراقي, إنصاف الكُرد الفيلية والدفاع عن حقهم في العودة واستعادة حقوقهم المغتصبة وتنفيذ القرارات الخاصة بالجنسية العراقية دون عرقلتها بأساليب بيروقراطية أو عبر أجهزة كارهة لهم لأي سبب كان.
14/10/2009                         كاظم حبيب   
 
 

1167
كاظم حبيب
ما الموقف من سياسات الحزب الشيوعي
والقيادة المركزية من الحكم العارفي في العراق
نشر الصديق الروائي والكاتب إبراهيم أحمد مقالاً تحت عنوان "عزيز الحاج: في آب بغداد الساخن". بعدها نشر الصديق الدكتور عزيز الحاج مقالاً ناقش فيه ما جاء في المقال الأول. وكلا المقالين يبحثان في أحداث الفترة التي أعقبت سقوط البعث في تشرين الثاني 1963 على أيدي الحلفاء القوميين للبعثيين.
إن المقالين ناقشا موضوعاً مهماً هو: الإستراتيج والتكتيك في السياسة وبشكل خاص حول سياسة الحزب الشيوعي العراقي في فترة الحكم القومي والحكم البعثي ومن ثم في الفترة الراهنة بشكل شديد التكثيف والاختصار.
الموضوع غاية في الأهمية, وكان النقاش هادئاً ومفيداً, لكنهما لم يستندا إلى وثائق ضرورية بل على الذاكرة بشكل خاص من جانب الأستاذ إبراهيم أحمد ولهذا برزت بعض المسائل غير المدققة التي اشار إليها عزيز الحاج. ولا شك في أن كليهما يمتلك الوثائق المهمة وبشكل خاص الدكتور عزيز الحاج حيث كتب الكثير في هذا الموضوع.
سأناقش من جانبي ثلاث مسائل جوهرية وردت لدى الكاتبين وبرؤية متباينة أو متفقة.
المسألة الأولى: هل كان خط آب سليماً إزاء حكم عبد السلام محمد عارف أم خاطئاً؟
المسالة الثانية: هل كان الموقف إزاء فترة حكم عبد الرحمن محمد عارف سليماً أم تضمن مواقف خاطئة؟
والمسألة الثالثة: هل كانت سياسة الحزب الشيوعي أو سياسة القيادة المركزية خلال هذه الفترة صائبة أم خاطئة خلال هذه الفترة؟
*****
المسألة الأولى: لم تكن سياسة خط آب 1964 للحزب الشيوعي العراقي صائبة حينذاك, بل كانت خاطئة لأنها لم تكن تنسجم مع واقع العراق حينذاك, رغم الشعور بالتخفيف العام الذي حصل في أعقاب إزاحة الحكم البعثي الدموي واحتلال القوميين الناصريين واليمينيين الشوفينيين منهم للسلطة بالكامل. وقد كانت مشاركة القوميين في أحداث 1963 مماثلة لدور البعثيين.
بعد تنفيذ الانقلاب ونجاحه اعتلى عبد السلام محمد عارف سدة الحكم وأصبح رئيساً للجمهورية ورئيساً لمجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة بصلاحيات استثنائية مطلقة ومفتوحة. وكان موقف الحزب الشيوعي في البداية أو في أعقاب الانقلاب سليماًً حين طالب بحياة دستورية والتحول صوب الحكم المدني وإدانة الجرائم السابقة, ولكن تغير هذا الموقف مع اجتماع 1964 وبتأثير فعلي من الحزب الشيوعي السوفييتي, إذ لم يكن هذا الخط واقعياً ولا موضوعياً, إذ كان النظام يمارس سياسة استبدادية والحزب يدعو إلى سلوك طريق التطور اللارأسمالي, ولم يعر النظام أي اهتمام لهذه السياسة. من هنا يفترض فينا الإجابة عن الأسئلة التالية: هل توفرت للحزب إمكانية فعلية للتعامل مع الحكم الجديد؟ وما السمات التي اتسم بها قائد النظام السياسي القومي الجديد؟ وما هي طبيعة هذا النظام؟
تميزت شخصية عبد السلام محمد عارف بما يلي:
1. عقلية استبدادية شمولية وعنجهية وروح مغامرة جامحة وشراسة في مواجهة الآخر وعدم التردد في القتل للوصول إلى الغاية التي يسعى إليها والاستعداد المستمر للتآمر ضد من يتحالف معه.
2. لم يكن عبد السلام محمد عارف مثقفاً ولا يعي مفهوم الديمقراطية وحق الآخر في إبداء الرأي, وكان ضد الأحزاب بشكل تام وأياً كان هذا الحزب, ولم يبادر إلى تشكيل حزب الاتحاد الاشتراكي لاحقاً إلا تحت تأثير الناصريين من أجل رفض إقامة أحزاب سياسية أخرى ومنعها من التأسيس والعمل العلني الشرعي, ومطاردة الأحزاب السرية لوأدها من الوجود أصلاً. وكان الهم الأكبر حل الحزب الشيوعي واحتواء رفاقه.             
3. وكان عبد السلام محمد عارف مشدوداً إلى القبيلة التي انحدر منها شداً لا فكاك منه, كما كان يسعى إلى وضع المراكز الحساسة والأساسية في أيدي أبناء قبيلة الجُمَيلة بشكل خاص لضمان استمراره في الحكم.
5. هيمنت على فكر عبد السلام عارف الإيديولوجية القومية المتعصبة والانشداد الفعلي للماضي وللفكر اليميني الشوفيني الذي يرى بأن هناك من يريد تدمير القومية العربية ويكره الأمة العربية وتاريخها ومستقبلها, واتهم الجميع بالشعوبية لأن لهم وجه نظر أخرى.
6. كما كان مسلماً سلفياً متزمتاً وطائفياً متعصباً, لكنه كان بعيداً عن أن يسلم السلطة للقوى الدينية, وكان كارهاً عميقاً لا للمذهب الشيعي فحسب, بل وللشيعة "الرافضة!" عموماً. وكان يتهمهم جميعاً بالشعوبية.
7. وكان شديد الكراهية للشيوعية والاشتراكية وللحزب الشيوعي العراقي على  نحو خاص. إذ تميزت مشاركته مع البعثيين وعهده بقمع شرس للحزب الشيوعي العراقي وقوى اليسار الديمقراطي, وقتل بيديه وبيد عبد الغني الراوي الكثير من الشيوعيين. وفي فترة حكمه في الجمهوريتين الثانية والثالثة لقي غالبية شهداء الحزب الشيوعي حتى ذلك الحين نهايتهم الحزينة بالموت بأساليب مختلفة.   
8. وكان عبد السلام محمد عارف واحداً من أبرز وأشد المناهضين لمنح الشعب الكُردي حقوقه القومية المشروعة والساعين بكل السبل, وخاصة العسكرية, للقضاء على الحركة المسلحة التي كان يقودها ملا مصطفى البارزاني.
9. ورغم حديثه عن القومية والوحدة العربية كان أكثر القوميين قطرية ورغبة في الاحتفاظ بالحكم بيديه.
هل تركت هذه السمات أثرها على طبيعة الحكم في فترة حكمه؟
10. كما كان يحمل حقداً لا مثيل له لعبد الكريم قاسم برزت بشكل صارخ في جريمة قتله في دار الإذاعة العراقية وعلى أيدي عبد السلام محمد عارف وأحمد حسن البكر وبقية الطغمة في شباط 1963.   
لم يكن هناك أي وهم لدى القوى السياسية العراقية المختلفة في أن حكومة عبد السلام محمد عارف ليست سوى استمراراً للحكم العسكري الذي هيمن على البلاد والذي جاء بالبعث إلى السلطة, وأن غلاة العسكريين القوميين هم الذين يهيمنون على السلطة, وأن حكومة عارف–يحيى غير عازمة على تحقيق الديمقراطية في العراق وفسح المجال أمام مختلف القوى السياسية للعمل بحرية ووفق الشرعية الضرورية, بل كل الدلائل كانت تشير إلى أنها حكومة ذات نهج استبدادي مطلق وقومي يميني وشوفيني وطائفي, وهي غير راغبة في التوجه صوب الحياة الدستورية والديمقراطية والحزبية والتعددية السياسية أو احترام حقوق الإنسان وحقوق القوميات. تجلى ذلك في انتزاع عبد السلام محمد عارف قرارات واضحة بصلاحيات استثنائية واسعة جداً من مجلس قيادة الثورة الذي كان على رأسه ومنحه سلطة مطلقة في البلاد, بما في ذلك عدم العودة إلى المجلس الذي منحه تلك الحقوق المخالفة لمبادئ الحرية والديمقراطية والدولة المؤسسية, كما أن مثل هذه الصلاحيات المطلقة لم تحترم بأي حال إرادة الشعب وحقه في التعبير عن مصالحه والمطالبة بتنفيذها بل كانت تخضع لإرادة الدكتاتور الفرد.
لم يكن الحزب الشيوعي العراقي وحده من دعا إلى إنهاء الحكم العسكري والعودة بالبلاد إلى الديمقراطية والحياة الدستورية, بل شاركت فيه كل القوى السياسية الأخرى في توجيه انتقاداتها الشديدة للحكم الجديد باعتباره حكماً عسكرياً واستبدادياً ويمينياً وشوفينياً وطائفياً منافياً للديمقراطية والشرعية الدستورية وحقوق المواطنة المتساوية. وكان من بين أبرز المنتقدين الأستاذ إبراهيم كبه والأستاذ كامل الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل والشيخ محمد رضا الشبيبي والدكتور محمد سلمان حسن وغيرهم. ولكن عارف لم يستجيب لكل ذلك, حتى بعد إصداره للدستور المؤقت أو صدور قرارات التأميم في تموز 1964.
من هنا أرى بأن موقف الحزب في رفض خط آب ورفض محاولة حل الحزب الشيوعي العراقي كان صائباً في فترة حكم عبد السلام محمد عارف, إذ لم يكن بالإمكان تخليص العراق من الحكم العسكري والحكم المطلق وبناء الديمقراطية والحياة الدستورية, ولكن لم يكن بالإمكان إسقاطه بحمل السلاح والعمل الحاسم, إذ لم تكن للحزب مواقع مناسبة في القوات المسلحة حينذاك, وفي هذا أؤيد رأي الدكتور عزيز الحاج, إذ أنه الأكثر دقة وقرباً من الواقع العراقي حينذاك. إذ كنت في حينها في العراق ومطلع على الوضع بشكل تفصيلي,
المسألة الثانية: تَسلَمَ عبد الرحمن محمد عارف السلطة بعد موت أخيه في حادث الطائرة. وجاء بتأييد من العسكريين من أتباع عبد السلام محمد عارف والقريبين منه عائلياً وعشائرياً. ولكن عبد الرحمن كان يختلف عن أخيه. كان هو الآخر أحد أعضاء حركة الضباط الأحرار التي ساهمت بإسقاط النظام الملكي, ولكنه تميز بالهدوء ورغبة أقل في ممارسة الحكم وتطلع أكبر في معالجة القضايا العالقة في البلاد بحلول وسطية وسلمية, كما لم يكن مستبداً, ولكنه كان عاجزاً عن المبادرة والتأثير في الأحداث بسبب ضعف شخصيته إزاء الضباط الآخرين الذين رشحوه ليحل محل أخيه بعد موته وعدم قدرته على تغيير الحكم العسكري وإقامة الحياة الدستورية. وبالتالي كان يعيش التردد إزاء الموقف من الحريات العامة ومن القضية الكُردية ومن تدخل الجيش في الحياة السياسية والاقتصادية والتأثير على مسيرة الدولة ومن اتخاذ مواقف واضحة في مجال اقتصاد النفط الخام, رغم رغبته الشخصية بحل كل هذه القضايا. ولعب الدكتور عبد الرحمن البزاز دوراً مهماً في محاولته حل المسألة الكردية, ولكن العسكريين لم يسمحوا له بذلك واُجبر عبد الرحمن محمد عارف على  إزاحته من الحكم بعد عودته من سفرة عمل في الاتحاد السوفييتي.
ولكن العراق عاش تحسناً في مجالات عدة, ومنها الحياة التعليمية والثقافية والنشر والقدرة على الحركة السياسية, رغم استمرار اعتقال الشيوعيين وزجهم في السجون. ومع ذلك كانت الفترة تستوجب إعادة النظر بسياسات القوى الوطنية العراقية, ومنها سياسة الحزب الشيوعي التي تقررت في 1965 وتعزت في العام 1967. فبدلاً من شعار إسقاط النظام كان المفروض أن يكون شعار التحول صوب الحياة الدستورية والديمقراطية والمساهمة في منع وقوع انقلابات ومن أجل حل المسألة الكردية بطرق سلمية.
المسالة الثالثة: كان شعار الإطاحة بالسلطة وعبر العمل الحاسم, أي العمل العسكري, غير سليم وغير منسجم مع واقع العراق وقدرات الحزب الشيوعي العراقي, وبالتالي كانت المعارضة بهذه الطريقة هروباً إلى أمام وسياسة يسارية انعزالية متطرفة قادت إلى تسهيل مهمة البعثيين بشكل غير مباشر في الإطاحة بالسلطة, رغم أن السبب في سقوط النظام العارفي يكمن في طبيعة النظام وسياساته وعدم الانفتاح على الشعب والديمقراطية.
وكانت سياسة القيادة المركزية أكثر تطرفاً وأكثر تشنجاً وبالتالي أدت إلى إضعاف الحزب الشيوعي وإلى نشوء حالة من المنافسة والمزايدة اليسارية التي آذت الحزب والوضع العام. لقد التزم عزيز الحاج بالخط الذي وضعه مع زكي خيري, الذي رفض الانشقاق رغم تأييده للخط الفكري المتياسر المشترك لهما.
في العام 1967 وقبل الانشقاق وضع عزيز الحاج وزكي خيري مشروع برنامج للحزب تضمن المهمات الجديدة للمرحلة الثورية الجديدة, وهو يختلف عن برنامج الحزب الشيوعي, وكانت على النحو التالي:
"إن المهام أنفة الذكر هي مهام وطنية ديمقراطية وليست مهاماً اشتراكية, وهي ما خلفته ثورة [14 تموز] الثورة الوطنية الديمقراطية غير المنجزة, جراء انقطاعها بثورة الردة, وعلى المرحلة الجيدة من الثورة إنجازه. بيد أن المرحلة الجديدة من الثورة لن تكون ثورة ديمقراطية خالصة. فالشيء الأساسي, الأكثر أهمية, في كل ثورة هو السلطة السياسية في الدولة, هو مسألة من سيمسك بزمام سلطة الدولة, أية طبقة وأي حلف بين الطبقات ستمثله الدولة الثورية الجديدة؟ أي طبقة ستكون الطليعة والقائد للدولة الجديدة؟ إن انتصار الثورة الحاسم, لا يمكن أن يتحقق إلا بقيام جمهورية ديمقراطية ثورية, تضطلع فيها الطبقة العاملة وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي, بالدور الطليعي والقائد السياسي, وتعتمد بالأساس على حلف العمال والفلاحين. إن الاستعمار سيبقى هو العدو الأساسي والرئيسي للثورة, ولكن اتجاه الضربة ضد الاستعمار قد تبدل.فلم يعد اتجاه الضربة مسدداً ضد الاحتلال الأجنبي والحكم الاستعماري [الكولونيالي] المباشر كما كان في ثورة [1920] الوطنية العامة, ولا ضد النظام الملكي شبه الإقطاعي التابع للاستعمار كما كان في ثورة [14 تموز] الوطنية الديمقراطية, بل ضد الدكتاتورية العسكرية البوليسية الممثلة للبرجوازية المعادية للثورة الآن, فأن المصالح والهيمنة الاستعمارية تختفي الآن وراء ستار هذه الدكتاتورية الرجعية الشوفينية المعادية للشعب وللديمقراطية وللقومية الكُردية وللشيوعية ولحركة التحرر العربي الثورية المتهادنة مع الاستعمار واحتكاراته"( مشروع منهاج الحزب الشيوعي العراقي. مسودة أولية للمناقشة العامة. المسيرة التاريخية للثورة العراقية نحو جمهورية ديمقراطية ثورية. منشورات الحزب الشيوعي العراقي. عام 1967. ويشار هنا إلى أن هذا الكراس قد كتب بالا تفاق بين زكي خيري وعزيز الحاج وطرح للمناقشة باسم الحزب الشيوعي العراقي).
ثم خلص التقرير إلى المهمة التي تواجه الطبقة العاملة والحزب الشيوعي العراقي فأكد ما يلي:
"إن السلطة الثورية الجديدة بقيادة الطبقة العاملة هي وحدها القادرة على إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية التي لم تنجز بعد والتي يطالب تسعون بالمائة من سكان العراق إنجازها. ولكن يترتب على السلطة السياسية الجديدة, على الجمهورية الديمقراطية الثورية, ليس فقط إنجاز واجبها الأساسي والغالب: مهام الثورة الوطنية الديمقراطية, بل بإمكانها ومن واجبها أيضاً إنجاز المهام الانتقالية الأولية للثورة الاشتراكية. يعني المباشرة بالخطوات الأولى من الثورة الاشتراكية. فأن المرحلة الثورية الجديدة ليست مرحلة وطنية ديمقراطية وحسب, بل إن المرحلة الختامية من الثورة الوطنية الديمقراطية يمكن ويجب أن تمتزج بالثورة الاشتراكية, بالمرحلة الانتقالية الأولية من الثورة الاشتراكية. إن الحلقة المشتركة بين الثورتين هي السلطة الثورية الجديدة, هي الدكتاتورية الديمقراطية الثورية التي تقودها الطبقة العاملة وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي." (نفس المصدر السابق).                             
على ماذا يستدل من هذه المقاطع الضافية من مشروع منهاج الحزب الشيوعي العراقي حينذاك. يبدو لي بوضوح ما يلي:
إن المجموعة التي أيدت هذا الخط كانت متأثرة بشكل خاص بالاتجاهات الماوية والتروتسكية التي تبلورت في أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا والتي كانت تدعو إلى مثل هذه الاتجاهات, وهي لم تكن سوى محاولة تنظير لا ترتبط بالواقع العراقي المعاش حينذاك وطبيعة المجتمع والمشكلات المباشرة التي تواجهه. كما إنها كانت ردة فعل للخط اليميني الذي طرحه الحزب الشيوعي في خط آب 1964 ومحاولات التشبث بذلك الخط السياسي. 
لقد عبر هذا الخط عن ذهنية يسارية وخط يساري انعزالي يرفض دور البرجوازية الوطنية ويخونها, كما يرفض دور البرجوازية الصغيرة ويعتبرها عاجزة عن تحقيق مهمات المرحلة الوطنية الديمقراطية, في حين كان المجتمع لا يزال يعيش في مرحلة تسودها العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والطبقة العاملة لا تشكل إلا نسبة ضئيلة جداً من السكان, وأن الغالبية العظمى من السكان هم الفئات الفلاحية الفقيرة على نحو خاص. ثم يربط بين مهمات المرحلة الوطنية والمرحلة الاشتراكية من خلال سلطة الدولة متجاوزاً على كل القوانين الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية التي تتحكم بعمليات التحول الاجتماعي وبعيداً كل البعد عن واقع العراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الفعلي. لقد كان المشروع هروباً إلى أمام ومزايدة لا معنى لها في واقع الحزب وصراعاته حينذاك. كما أن المشروع لم يأخذ بعين الاعتبار التغير الذي حصل في العراق بعد حادث طائرة عبد السلام محمد عارف وحلول أخيه عبد الرحمن محمد عارف في الحكم, حيث تبلورت مواقف أخرى كان لا بد من دارستها بعناية ومعرفة مدى إمكانية الاستفادة منها لتحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق دون اعتبار النظام القائم ديمقراطي, إذ لم يكن ديمقراطياً بأي حال, ولكنه لم يكن أيضاً على شاكلة حكم عبد السلام محمد عارف. 
من هنا يتبين بأن سياسة الحزب حينذاك لم تكن سياسة واقعية معبرة عن واقع وإمكانيات الحزب أو الجماهير الواسعة. ولكنها لم تكن السبب في ما حل بالعراق من كوارث, فالسبب الحقيقي يكمن في سياسات القوى التي وصلت إلى السلطة حينذاك وتلك القوى التي تأمرت مع البعث لإسقاط حكم عبد الرحمن محمد عارف والمجيء بحكم البعث الفاشي.   
وقد شخص كل من عزيز الحاج, وكذلك إبراهيم أحمد, بصواب خطأ تلك السياسة التي دعت إلى حمل السلاح للإطاحة بالحكم العارفي, وخاصة عارف الثاني, وأن تلك السياسة قد أضعفت النظام العارفي الثاني, ولكنها لم تكن السبب في إسقاط النظام, بل كانت طبيعة النظام هي السبب الرئيسي في سقوطه, إضافة إلى التآمر البعثي والأمريكي أو الخارجي عموماً.     
كاظم حبيب      14/10/2009

1168
كاظم حبيب
من أجل إنجاز برنامج واقعي للتحالف الديمقراطي العراقي المنشود
من أجل الإسراع بإنجازه لضمان الدعاية له والتعبئة حوله
يقترب موعد الانتخابات العامة القادمة ويزداد الحديث عن قانون انتخابات ديمقراطي يفترض وضعه وإقراره. كما أعلنت بعض القوى عن تحالفاتها وعن الجماعات المشتركة فيها, والتي تشير إلى عدم تغيير كبير في صورتها السابقة واكتفت بوضع مساحيق لم تغير من الطبيعة الفعلية لتلك التحالفات وبرامجها وسياساتها وأساليب عملها, وبعضها شدد من الطابع الطائفي رغم الحديث عن المواطنة أو ضم بعض من كان في الصف الديمقراطي إلى قوائمه, وهو من نفس الطائفة الدينية.
وهذه الحقيقة تضع على عاتق القوى الديمقراطية التي لا تزال تخوض الحوارات والنقاشات في ما بينها لتصل إلى صياغة برنامج مشترك ومن ثم الدخول في المشكلة الأكثر تعقيداً ألا وهي تحديد أسماء المرشحين من القوى والأحزاب المشاركة في التحالف والتي يراد خوض الانتخابات بها, مسؤولية كبيرة باتجاهات عدة والتي لا اعتقد بأي حال أنها غائبة عن أنظار المشاركين في الحوار الديمقراطي الراهن. إلا أن التذكير بها ضروري وتأكيده باستمرار على قاعدة "المعرفة جيدة, ولكن تأكيدها المستمر أجود, وممارستها الفعلية أكثر جودة وأهمية":
1.   التمييز بين البرنامج العام لكل حزب أو منظمة سياسية من جهة وبين البرنامج الانتخابي الذي يراد خوض الانتخابات به من جانب التحالف الديمقراطي من جهة أخرى, ولكن بطبيعة الحال لا يمكن نسيان العلاقة الجدلية بينهما.
2.   أهمية التركيز على المشكلات الراهنة التي تعاني منها أوسع الأوساط الشعبية ومصالح مختلف الفئات الاجتماعية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقومية, وكذلك مصالح المرأة والشبيبة والطلبة وقضايا البطالة والفقر ومكافحة الفساد. مع اختيار شعار مركزي للحملة الانتخابية يمس المجتمع بأسره.
3.   عدم طرح شعارات فيها مزايدة ولا يمكن تحقيقها في حالة الوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها, إذ أن ذلك لا يمكن أن يقنع الناس وخاصة الجماعات الواعية والمتعلمة والمثقفة بصدق المناضلين من أجل تحقيق تلك الأهداف.
4.   الربط العضوي بين البرنامج المطروح في الانتخابات وما عجزت الحكومات المتعاقبة عن تحقيقه والاستفادة من المعلومات والإحصائيات الكثيرة المتوفرة لتبيان عجز الحكومات المتعاقبة عن تحقيقها رغم توفر الإمكانية.
5.   عدم نسيان القوات المسلحة التي يفترض أن تكون ذات وجهة وطنية عامة وتؤمن بالمواطنة وبعيداً عن السلوك القومي الشوفيني أو ضيق الأفق القومي أو الطائفية السياسية.
6.   الدعوة الواضحة بالابتعاد عن العنف والقوة في معالجة المشكلات بل التفاوض السلمي وبآليات ديمقراطية ومشروعة.
7.   التعجيل بالانتهاء من النقاشات من أجل تأمين فترة كافية وفرصة مناسبة للدعاية الانتخابية وخوض المعركة بأفكار وأهداف واضحة وقابلة للتنفيذ.    
8.   وارى ضرورة تشكيل هيئات مشتركة لخوض الحملة الانتخابية بحيث تعكس الانسجام والتناغم بين القوى المتحالفة لخوض الانتخابات لأهمية خوضها المشترك بعيداً عن التناقضات والصراعات.
9.   محاولة إيجاد أسلوب عملي وموضوعي يساعد على أن لا تكون عملية تشكيل قوائم المرشحين صعبة أو معرقلة للوصول إلى اتفاق. وحين الاتفاق يعتبر كافة المرشحين يمثلون التحالف الديمقراطي المشترك وليسوا لحزب أو منظمة بعينها, وهو أمر ضروري في هذه المرحلة من نضال الشعب لانتخاب مجلس أكثر حيوية وموضوعية وأكثر استقلالية لصالح العراق وشعب العراق.
10.   وخلال هذه الفترة وإلى حين إقرار قانون جديد للانتخابات العامة يفترض النضال من أجل خمسة مسائل جوهرية, وهي القائمة المفتوحة مع الحفاظ على النسبة المقررة للمرأة, واعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة, والموافقة على ممارسة المواطنات والمواطنين في الخارج لحقهم الانتخابي, والموافقة على اعتبار جواز السفر أو هوية الأحوال المدنية أو شهادة الجنسية أساساً لممارسة حق الانتخاب بدلاً من البطاقة التموينية, وإجراء تعديل في مفوضية الانتخابات ليكونوا مستقلين عن الأحزاب السياسية, والإصرار على  حق مساواة جميع المرشحين والقوائم في الاستفادة المتساوية من إعلام الدولة لصالح حملتهم الانتخابية والعمل من أجل خوض انتخابات نزيهة وديمقراطية ومراقبة من جانب الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.
أتمنى على الجميع بذل الجهود لتسهيل النقاشات والمفاوضات لتحقيق البرنامج الانتخابي المشترك وتشكيل القوائم المشتركة, أتمنى أن يتحقق ذلك بأسرع وقت ممكن وأن نوجه كل الجهد لصالح تأمين كل مستلزمات تحقيق التنوير الاجتماعي والسياسي ومن ثم تحقيق نتائج إيجابية لصالح الديمقراطية والتقدم والسلم الاجتماعيين في العراق.
كاظم حبيب                     12/10/2009

1169
كاظم حبيب
كم من حاكم مستبد ونرجسي يمسك برقاب شعوب منطقة الشرق الأوسط؟
كم من مأساة وملهاة تعيش تحت وطأتها شعوب المنطقة؟


نحن بنات وأبناء منطقة الشرق الأوسط نواجه ظاهرة قديمة متجددة, ظاهرة يعاد إنتاجها دون انقطاع, رغم المآسي التي تسببت بها هذه الظاهرة المريعة لشعوب هذه البلدان حتى الآن, إنها ظاهرة الحاكم المستبد بأمره المصاب بالنرجسية والتعالي والسادية والاستهانة بشعبه, المستبد المتمرد على شعبه والمتحكم برقاب سكان بلده والرافض لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة والضارب عرض الحائط حتى الشريعة التي يتمسح بها, هذا المستبد الممارس لكل المظالم والغارق في الجهل والأمية السياسية والثقافية والفاقد لمعنى الثقافة والمنتعش بجدبها وبهدر كرامة الإنسان والمالئ لسجونه ومعتقلاته بالكثير والكثير جداً من أصحاب الرأي الآخر والعقيدة الأخرى. كما أن هذا الحاكم مستعد إلى استئصال من يقف بوجهه أو يطالب باحترام حقوقه شخصاً كان أم جماعة, فما أسهل عليه أن يقول للمنتفضين "سنستأصلكم عن بكرة أبيكم!", كما قال الدكتاتور صدام حسين مرة اقتل 2000 أو 3000 أو 10000 ولا ترتعش يدي!, إذ فعلها حقاً في الأنفال وحلبچة مثلاً "دون أن يرمش له جفن!".
كم من حاكم لدينا يرى في نفسه أنه الأعقل بين حكام العالم وأكثرهم عدلاً ورقة وشعبية, ويرى الحكام الآخرين أقل موهبة وحكمة وعدالة منه وأقل هيبة منه لدى شعوبهم!
كم من حاكم في هذه المنطقة من العالم, التي ظهر فيها المصلحون ومشرعو اللوائح القانونية والدساتير والأنبياء, مصاب بجنون العظمة وازدواج الشخصية وكل الأمراض النفسية الأخرى التي يمكن تشخيصها فيه من جانب علماء علم النفس الاجتماعي. كم من حاكم يسعى إلى أن يطأ بإقدامه القذرة رؤوس الناس الطيبين من بنات وأبناء شعبه ويريد من الناس أن تطأطئ له رؤوسها وتنحني إجلالاً له, وهو الفاسد والمنافق والحاقد.
نحن أمام أناس يعتقدون أنهم ليسوا ملوكاً وأمراء وحكاماً في الأرض فحسب, بل هم وكلاء وأولياء الله على الناس, بل أن بعضهم يرى في نفسه إنه الله بعينه! إنه ملك الملوك وإله الآلهة كلهم!
كم من سياسي, مدني كان أم عسكري, ثار على الملكية وأطاح بها عبر القوات العسكرية أو بأساليب أخرى بذريعة إعادة الحق إلى أهله ونصابه وممارسة العدل والإنصاف, ثم أصبح هو الملك المتوج وراح ينعت نفسه بأسماء لا أول لها ولا آخر ولا معنى لها مثل "ملك ملوك أفريقيا", ثم تنتفخ أوداجه حين ينادي أحد رؤساء الدول العربية صاحبنا بهذا الاسم الذي لا يلائم سوى المجانين على أرض الواقع ونزلاء مستشفى الأمراض العقلية؟
كم من حاكم يعتقد بأنه لا يمكن أن يُعوض بغيره من فرط دهائه وحب الشعب له بسبب "إخلاصه" للوطن, فهو المتفرد وهو الأوحد والأمثل والأكمل, وعليه فلا بد له من أن يبقى على رأس السلطة مدى الحياة, وعلى الشعب أن يوقع له بالدم على ذلك. ومثل هذا الحاكم المستبد بأمره لا يريد أن يعي ويدرك بأنه لا يساوي في نظر شعبه وشعوب العالم شروى نقير, حتى أصبح البعض الكثير منهم أضحوكة لبقية حكام العالم كله وشعوب الكرة الأرضية, إنها "المأساة والملهاة" في آن واحد التي تعيشها أغلب شعوب منطقة الشرق الأوسط!
لقد أسقط البعض منهم الملكية لينهي نظام السلالات الوراثية, وأقام الجمهورية, ولكنه بدأ بتكريس سلالته لتشكل نظاماً جديداً يمكن أن نطلق عليه "الجمهلكية" (الجمهورية الملكية)! وليفرض الاستبداد من جديد على رؤوس الأمة!
كم من حاكم فاشي النهج والممارسة, يقف متحدياً العالم كله وشاتماً إياه وممزقاً اللائحة الدولية التي تنظم عمل الأمم المتحدة من على منصة الأمم المتحدة متحدياً شعوب ودول الأرض كلها, أو حاكم آخر يقسم بالطلاق في أنه سيستأصل قبيلة الحوتيين في "اليمن السعيد!" جداً, بدلاً من تأكيد أهمية حل المشكلات بالطرق السلمية التفاوضية, في وقت ترتفع أصوات المحتجين في الجنوب مطالبين بالانفصال عن المستبد بأمره بسبب تفاقم الفقر والبطالة والتمييز, وحاكم آخر في هذه المنطقة من العالم يتحدى العالم كله ويثير الناس ضد شعب فلسطين وقضيته العادلة بذريعة الدفاع عن قضية فلسطين ومحو إسرائيل من خلال تحدي الحقائق التاريخية بشأن الهولوكست ضد اليهود في ألمانيا وفي أوروبا التي نفذها النظام النازي والفاشي في ألمانيا في النصف الثاني من العقد الرابع من القرن العشرين وأثناء الحرب العالمية الثانية ومعسكرات الاعتقال التي أدت إلى قتل أكثر من خمسة ملايين إنسان من أتباع الديانة اليهودية, إضافة إلى عشرات ألوف القتلى من شيوعيين واشتراكيين وديمقراطيين مسحيين, وكذلك الكثير من بنات وأبناء قوميات سلافية والروما والسنتي (أي الغجر أو النوريين), دون أن يكون له أدنى مبرر وأدنى سند حقيقي لمثل هذا الإنكار العدواني؟ يكفي هذا الحاكم أن يزور المعتقلات النازية في ألمانيا, ومنها: ساكسن هاوزن, بوخن فالد, داخاو .., وغيرها, أو أوسشفتس في بولونيا أو غيرها في دول أوروبية أخرى ليتيقن مما يسعى إلى تكذيبه ويثير لشعوبنا في المنطقة المزيد من المشكلات التي هم في غنى عنها. ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن مجموعة غير قليلة من العرب قد وجدت في هذه المعسكرات النازية الرهيبة. جاء في كتاب المستشرق الألماني "گيرهارد هب" الموسوم "العرب في المحرقة النازية ضحايا منسيون" الذي ترجم إلى العربية من قبل السيد محمد حديد ونشر في دمشق ما يلي: "في مجمل الإحصاء حتى الآن وجد نحو ألف معتقل عربي على الأقل. وتتصدّر الجزائر اللائحة (248 معتقلاً) ويليها المغرب (27) ثم تونس (22) والعراق (4) وفلسطين (4) ثم لبنان وسورية، علاوة على ليبيا واليمن الدولتين اللتين لم يشملهما الإحصاء. ومن الملاحظ أن يهوداً عرباً من ليبيا واليمن والمغرب والعراق، كانوا في عداد هؤلاء." (راجع موقع نسيج الإلكتروني بتاريخ 8/10/2009)
كم من حاكم أبله يحمل عصاه بيديه ويرقص كالقردة ليُضحِك الآخرين من أعضاء حزبه ويتحدى العالم كصاحبه المقبور المهووس بالصور والتماثيل والأزياء والألقاب صدام حسين في عدوانيته ومقابره الجماعية وجرائمه ضد الإنسانية. وحين ينتهي هذا النظام ستظهر المقابر الجماعية وتكتشف وتعرض على العالم ليروا بأم أعينهم ما فعله هذا "الدكتاتور المسلم".
وكم من حاكم يشبه في أوهامه دون كيشوت الذي يقاتل الطواحين الهوائية متصوراً إياها جيوش جرارة لعدو مدجج بالسلاح, 
كم, وكم, وكم من الحكام المستبدين ابتلت بهم شعوب الأرض منذ نشوء البشرية حتى الآن؟ إنهم كثيرون لا يحصون, ولكن أغلبهم ولد وترعرع وحكم على هذه الأرض الطيبة, على أرض منطقة الشرق الأوسط, في بلدانها العربية وغير العربية.
كان لنا في العراق حكام أوباش قتلة, يكفينا أن نقرأ ملحمة گلگامش لشاعر مبدع لنتيقن من الاستبداد الذي ساد تلك الفترة والذي وجد تعبيره في الملك الذي لم يترك امرأة متزوجة أو مخطوبة أو عذراء إلا ودخل فيها عنوة, ألم يكن في العراق الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد بن زياد بن أبي سفيان وزياد بن أبيه والسفاح وجمهرة من الخلفاء العباسيين الذين تميزوا بالظلم والاستبداد وناصبوا الإنسان العداء, ومن ثم كان لنا الجزار ومؤسس القبور الجماعية صدام حسين وأول من استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه في منطقة الشرق الأوسط. وإذا كان علي حسن المجيد قد استحق لقب "علي كيماوي", فأن اللقب اللائق بصدام حسين هو "أبو القبور الجماعية", إذ كان هو الجزار الحقيقي في بلاد الرافدين وكردستان العراق.
ثم للنظر معاً إلى إيران وما في سجونها من بشر يقبعون في ظلمات الدهاليز حيث يتعرضون للتعذيب على الطريقة "الإسلامية!" والاغتصاب "الإسلامي!" للنساء والرجال, ولا يكف عنهم "حراس الثورة" ليل نهار بذريعة التأديب وفرض التوبة. أنظروا كيف يواجه كل العالم حاكمهم المجنون ويسعى لامتلاك السلاح النووي ويجوع شعبه تماماً كما فعل قبله من كان حاكماً أفّاكاً في العراق, وسينتهي إلى نفس مصير صدام حسين إن سار على درب الصدّ ما ردّ!ً
لم يكن العراق بعيداً عن كل ذلك, بل كان في القلب من هذه المنطقة التي حملت وأنجبت المئات والمئات من الحكام المستبدين والذين مرغوا وجوه شعب العراق بالتراب وشنوا به الحروب وهدروا كرامته وعزة نفسه. مات الكثير من هؤلاء الحكام المستبدين, ولكن الأرض العراقية, كما يبدو, لا تزال تعيد إنتاج المستبدين, فمتى يتوقف هذا البلد عن إنجاب المستبدين والفاسدين والمفسدين, متى يعم الهدوء ربوع الأرض الطيبة وينتشر إلى بقية بقاع هذه المنطقة المبتلاة بهم.
غنى الشاعر التونسي الشاب أبو القاسم الشابي بأبيات شعر, ولكنه مات وهو في ريعان الشباب ولم يطل به العمر ليمتحن المضامين التي وردت في شعره ليرى إن كان مصيباً في ما قال:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة          فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بـد لليـل أن ينجلـي          ولا بد للقيـد أن ينكسر
أشك في أن القدر سيستجيب لرغبة الشعوب وإرادتها الحرة في الخلاص من حكامها المجانين والمستبدين ما لم تأخذ هذه الشعوب الأمر بيديها وتغير من أسلوب حياتها ومن بنية اقتصادها وعلاقاتها الاجتماعية ووعيها السياسي والديني والاجتماعي في هذا البلد أو ذاك من بلدان المنطقة التي يفترض أن تكون لها عقلية وتربية ووعياً جديدا وسلوكاً اجتماعيا وسياسياً آخرين وتنتج تقاليد وعادات وقيم أخرى غير السائدة حالياً والعائدة لعقود وقرون سحيقة في القدم لا تزال تُسيَّر الناس وتتحكم بإرادتهم وأفعالهم وتخلق لهم من الحكام المستبدين ما يكفي لقهر العالم كله بهم.
إن المشكلة التي تبدو للعيان حالياً هي أن هؤلاء الحكام يسعون أن يخلقوا في شعوبهم الكثير ممن على شاكلتهم, أن يكونوا نموذجاً لهم, حينها تكون المصيبة أعظم والعذاب أطول والحياة أكثر إرهاقاً على البشر.
في العام 1976 صرح صدام حسين بأنه يسعى إلى خلق شبيبة مماثلة له, وأن يكون نموذجاً لها في المأكل والملبس والتصرف والسلوك والعلاقات. وقد ترك لنا كما يبدو الكثير في ما أراد إعادة إنتاجه! ولكن ذلك لم يقتصر على حزب البعث الحاكم حينذاك, بل ترك أثره الملموس ونهجه في التعامل مع المجتمع ومع الآخر على عدد غير قليل من الناس, ولكن بشكل خاص على أعضاء أحزاب سياسية أخرى نعيش تحت وطأتها سياساتها وممارساتها في يومنا هذا.
حين يموت هذا المستبد أو ذاك يطاح بحكمه وبه, فهذا لا يعني أن المستبدين قد انتهوا, إذ أن إعادة إنتاجهم سيتواصل إلى أن تصفى الأرضية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي ساهمت وتساهم أساساً في إعادة إنتاج المستبدين...       
9/10/2009                      كاظم حبيب

1170
كاظم حبيب
قانون الانتخابات والديمقراطية في العراق !

مر العراق حتى الآن بعدة تجارب انتخابية كان آخرها انتخابات مجالس المحافظات ثم انتخابات إقليم كردستان العراق. وقد بينت هذه التجارب مجموعة من الاختلالات والنواقص الجدية التي تواجه الناخب العراقي والتي يفترض معالجتها من جانب مجلس النواب العراقي, بغض النظر عن موقف الأفراد والجماعات المختلفة من هذا المجلس ومن الواقع الأمني والاجتماعي والفكري والسياسي المتردي الذي أنتجه وحدد مستوى ومضمون مسيرته السلبية خلال السنوات الأربع المنصرمة.
ولا بد لكل مواطن يعي أهمية الانتخابات والمهمات الملقاة على المجلس الجديد المنتخب, رغم كل الأحاسيس التي تشير إلى احتمال غير قليل ببروز مشكلات وأجواء تجعل من تأمين نزاهة مناسبة في الانتخابات مهمة غير سهلة بأي حال.
إن تأخير إقرار قانون الانتخابات يعتبر جزءاً من محاولات بعض القوى السياسية إعاقة إصدار العديد من القوانين الضرورية في المرحلة الراهنة للدولة والمجتمع لزيادة التعقيدات والمشكلات التي يواجهها المجتمع ومسيرة الدولة العراقية. ويكمن وراء هكذا مواقف العديد من الأهداف الأنانية التي تريد الوصول إلى نتائج ترضيها وتعبر عن مصالحها وليس عن مصالح الشعب العراقي وأمنه واستقراره وتعزيز سيادته.
فالتأخير يعتبر شكلا من أشكال إعاقة مسيرة العملية السياسية وبهدف استمرار وجود النظام السياسي الطائفي والتوزيع المحاصصي الطائفي للسلطة. ولكن المشكلة الجوهرية لا تكمن في التأخير حسب, بل وفي مضمون قانون الانتخابات الذي يفترض إقراره. فالأكثرية البرلمانية الراهنة التي تحتل مقاعد مجلس النواب العراقي ليست ديمقراطية. ومن يتابع تصريحات أعضاء مجلس النواب واتهاماتهم له في فترة بدء الحملة الانتخابية للانتخابات الجديدة تكشف حقيقة وطبيعة بنية أكثرية هذا المجلس وتؤكد غياب الديمقراطية عنه, إذ نشأ في ظل القوائم الطائفية والمحاصصة الطائفية ووفق قانون غير ديمقراطي في الكثير من مواده, مع العلم بأن الدستور ذاته يتضمن الكثير مما يفترض العمل على تعديله.
أين تكمن عدم ديمقراطية القانون بالارتباط مع أوضاع العراق بشكل ملموس؟
إنها تكمن, كما أرى, في عدد من الملاحظات الأساسية, إضافة إلى الملاحظات الخاصة بالموقف من المرأة ومن أتباع القوميات الأخرى, أشير إلى أهمها فيما يلي:
1.   يفترض أن يعتبر العراق دائرة انتخابية واحدة. فالمرشح الذي ينتخب ويحتل مقعداً في مجلس النواب يفترض فيه أن لا يمثل المجموعة التي صوتت له أو المنطقة التي رشح فحسب, بل كل الشعب العراقي. وهي مهمة ترفع من دور النائب ومن روح المواطنة فيه ومن إحساسه بالوطن الذي يمثله. ومثل هذه الدائرة الراقية المفتوحة لا تسمح للأصوات بالضياع, مهما كان عدد الأصوات المعطاة في محافظة معية, بل تحسب الأصوات على صعيد البلاد كلها. إنها الممارسة الأكثر ديمقراطية والأكثر ضرورة في المرحلة الراهنة للعراق. إن الحالة الراهنة تحصر النائب في دائرته فقط, في حين أن القائمة المفتوحة تجعله مسؤولاً عن المحافظة التي أعطته أكثر الأصوات, ولكنها يحس بمسؤوليته إزاء بقية أنحاء العراق من خلال حصوله على أصوات فيها حسبت له في المحصلة النهائية. فالناخب عراقي ويمنح صوته لهذا المرشح أو ذاك ولهذه القائمة أو تلك, وحيثما كان يفترض أن يحسب الصوت له.
2.   لا بد أن تكون القوائم مفتوحة لأهميتها في الوصول إلى أفضل المرشحات والمرشحين الذين يختارهم الناخب أو الناخبة بكل حرية وبمعرفة جيدة بالمرشح أو المرشحة التي يراد انتخابهما. إلا أن الأخذ بالقائمة المفتوحة يفترض أن يحافظ في الوقت نفسه على النسبة المقررة دستورياً للنساء لا أن يتم التجاوز عليها بسبب القائمة المفتوحة, ومن ثم اختيار الرجال فقط.
3.   أن أي محاولة لرفع الحد الأدنى لحق الترشيح للانتخابات من 30 إلى 35 سنة يعتبر تجاوزا على حقوق الإنسان البالغ سن الرشد, إذ من غير المعقول أن نمنع من يعتبر قد بلغ سنة الرشد وبالتالي فهو يمتلك حقوق المواطنة لبالغي سن الرشد. إن شعوب العالم تسعى اليوم إي تخفيض الحد الأدنى لتجعله 18 عاماً, فيحين يسعى البعض في بلادنا إلى رفعه إلى 35 سنة. إن من حق الشباب الترشيح للانتخابات واحتلال مقاعدهم في المجلس ليعبروا عن إرادة ومصالح وتطلعات ملايين الشباب الذين بعمرهم أو اقل من عمرهم. ومن هنا يفترض أن يتم تعبئة الشباب من النساء والرجال للنضال من أجل تغيير الحد الأدنى إلى عشرين سنة وليس إلى رفعه إلى 35 سنة لنرى وجوهاً شابة وفكراً متقداً وحيوية الشباب تسيطر على أجواء ونقاشات وقرارات وكذلك القوانين التي يصدرها المجلس.
4.   إن المشكلة الأخرى تبرز في محاولة إبعاد ربما أكثر من مليون إنسان يقطنون خارج البلاد عن حقهم في التصويت لصالح هذا المرشح أو المرشحة أو هذه القائمة أو تلك, في حين أنه حق منحه الدستور العراقي. وبالتالي لا يجوز اتخاذ مثل هذا الإجراء الذي يراد, كما يشار, اعتماده في القانون الجديد أو التعديلات التي يراد إدخالها على القانون السابق, إذ أن مثل هذا الإجراء يكرس الرؤية والممارسة اللاديمقراطية في المجلس النيابي.
5.   أما النقطة الأخرى فهي التي تؤكد حق الناخبة أو الناخب الإدلاء بصوتهما حين يحملان معهما البطاقة التموينية, وهو أمر لا يمكن تصوره بسبب ضحالة القرار, إذ المفروض أن يؤكد على واحدة من الهويات الثلاث التالية:
أ‌)   جواز السفر العراقي, ب) هوية الأحوال المدنية, ج) شهادة الجنسية العراقية.
إن عدم الالتزام بالأسس المعقولة للانتخابات لا يعبر إلا عن فعل عوامل غير ديمقراطية تمس الوضع الانتخابي في العراق وعدم ديمقراطية قانون الانتخابات وتخلف التفكير الديمقراطي لدى بعض القوى التي ترى في ذلك مصلحة لها ولا تريد أن تهتم بمصالح الشعب العراقي كله.
أتمنى أن يصدر القانون الجديد المنظم للانتخابات العامة القادمة. وأن يقر المبادئ الديمقراطية التي تسمح بتطور العراق صوب الأفضل, لا أن تدفع به إلى الوراء.
إن الانتخابات القادمة لا تجري في ظل أجواء مناسبة للجميع, فهناك القوى الماسكة بزمام الحكم والقادرة على التأثير فيها, وهي المالكة للسلطة وثروة المجتمع وأجهزته المختلفة, وتلك القوى المالكة للموارد المالية والتي تسمح لها بتوزيع البطانيات والساعات والأموال لصالح شراء أصوات الناخبات والناخبين. ومن المحزن حقاً وجود مواطنات ومواطنين يبيعون أصواتهم لمن لا يستحق هذا الصوت إذ أنه يبدأ بالرشوة ويسعى إلى استرداد ما وزعه من هدايا وأموال بل وأكثر من ذلك مئات المرات عبر نهب الدولة. كما أن المرشحين والمرشحات كافرا داو كقوائم لا يمتلكون نفس مستلزمات خوض الانتخابات في مجال الإعلام. فأجهزة الدولة مسخرة اليوم لمن في السلطة وليس لأبناء الخايبة والذين يسعون إلى تمثيل الفئات الكادحة والمسحوقة في المجتمع والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم.
8/10/2009                     كاظم حبيب
               

1171
مع المفكر السياسي الدكتور كاظم حبيب
رئيس هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراقية
تحيات عراقية طيبة

لا يخفى عنكم حملة الإبادة اللاإنسانية المنظمة التي يقودها الظلاميون ضد الوجود المندائي في بلدهم الأصلي العراق. والتي اتخذت مظاهر القتل المتعمد واغتصاب النساء وفرض العقيدة الدينية الإسلامية وما صاحب ذلك من ابتزاز ومصادرة الأموال والاستيلاء على البيوت الآمنة، في ظل واقع يكاد يكون شبه صامت ولا أبالي من قبل مؤسسات الدولة وحمايتها المفترضة لأبنائها.
في هذا الظرف العصيب الذي يمر به أبناء طائفتنا المسالمة، وبعد عمليات قتل متواصلة تعرض لها عدد من أبناء الطائفة الأبرياء، كان آخرها عملية قتل الشاب وئام لازم  بكاتم صوت داخل محله الصغير في بغداد، يكون لصوت المثقفين والمفكرين المتنورين من أبناء بلدنا، تضامن إنساني مع محنتنا، ومواقفك الإنسانية المسالمة والمتسامحة التي عودتمونا عليها في كل مناسبة، تمثل احد ابرز الأصوات التي نحمل لها اعتزازا وتقديرا كبيرين.
بمناسبة الأحداث الأخيرة المفزعة التي يتعرض لها أبناء وبنات طائفتنا المسالمة، اطرح عليكم يا أستاذنا الفاضل مجموعة من المحاور أتمنى أن تتاح لكَ الفرصة والوقت المناسب للإجابة عنها لغرض نشرها في وسائل إعلامنا المندائية و العراقية والعربية
وتقبل خالص شكري وامتناني
                                        موسى الخميسي/ كاتب وفنان تشكيلي عراقي
                         عضو الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق

 

أخي الكريم الأستاذ الفنان التشكيلي والكاتب موسى الخميسي المحترم/ عضو هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق
تحية طيبة
أولاً أعتذر عن التأخير عن الإجابة بسبب غيابي عن برلين. سأحاول الإجابة عن أسئلتك المهمة فيما يلي:
* - في كتاباتكم التي تؤكد على الاحترام المتبادل بين الديانات كنتيجة ضرورية من نتائج الاعتراف بالاختلاف باعتبار أن لكل أهل دين خصوصياتهم الدينية ولكل فريق أو مذهب داخل الدين الواحد خصوصيته الفكرية، لماذا برأيك لا تراعى مثل هذه الطروحات الواقعية من قبل المرجعيات الدينية العراقية وعدد من الأحزاب السياسية في العراق؟

*** انطلق في كتاباتي من مبادئ أساسية ثبتت في اللائحة الدولية لحقوق الإنسان التي صدرت في العام 1948 وبقية العهود والمواثيق الدولية التي صدرت بشكل خاص في العام 1966 والتي تشكل مجتمعة "شرعة حقوق الإنسان", وهي كلها لوائح وعهود ومواثيق صادرة عن الأمم المتحدة وعن الهيئات والمنظمات الدولية المختصة بهذا الشأن والتي كلها تؤكد على حق الإنسان الفرد أو الجماعات البشرية وحريتها في الإيمان بأي دين أو مذهب أو عقيدة أولاً, ومن واجب الدولة والمجتمع احترام إرادة الإنسان أو الجماعات البشرية في اختيار الدين أو المذهب أو العقيدة التي يرونها متناغمة مع المثل والقيم التي يعتنقها الفرد أو تعتنقها جماعة بشرية معينة. ومن هذا المنطلق التقينا مجموعة من مثقفي العراق ومن المناضلين في سبيل تكريس حقوق الإنسان على هذه المبادئ وشكلنا "هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق", والتي التحق بها, إضافة إلى أعضاء الأمانة العامة الكثير من العراقيات والعراقيين الذين يحترمون الإنسان أساساً ويرون بأن صيانة كرامة الإنسان وحريته وحقوقه هي المسألة المركزية في حياة المجتمع ونشاط الدولة.
إن الرؤية العقلانية والحضارية هي التي ترى بأن الناس في جميع القارات سواسية لا يختلفون ألا في اللغة أو اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب أو العقيدة أياً كانت, وبالتالي يفترض أن لا ينشأ أي تمييز أو عدم مساواة بين البشر لأي سبب كان, لأنهم سواسية حقاً.
من المحزن والمؤسف أن نشير إلى أن البشرية كلها شهدت على امتداد تاريخها الطويل الكثير من المظالم والتمييز وعدم المساواة بسبب الإثنية أو القومية أو الدين أو المذهب أو أي عقيدة أخرى كتابية أو غير كتابية وبسبب الجنس, وغالباً ما كانت الرغبة في الاستغلال والاستعباد أو الفتح والهيمنة أو الاستعمار سبباً في بروز مثل هذه المظاهر السلبية في حياة البشر .
ولقد عانى العالم العربي كله من هذه المحن المريرة عبر التاريخ. أما العراق فكانت محنه كثيرة في هذا الصدد والمظالم التي تعرض لها أتباع الديانات العديدة في العراق كثيرة جداً وعلى امتداد التاريخ, رغم الأحاديث الفنطازية التي تتحدث عن المساواة والاعتراف بالآخر والتسامح بين الديانات في العراق. نعم كانت هناك مواقف فعلية تعبر عن الاعتراف المتبادل والتسامح والتفاعل بين أتباع الديانات والمذاهب الدينية من جانب الناس العامة الطيبين , ولكن الحكام وكثرة من شيوخ الدين هم الذين كانوا في الغالب الأعم يؤججون العداء لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى, ويحصدون من وراء ذلك ما لذ لهم وطاب, ولكن الموت أو الصراع كان نصيب المجتمع.
يبدو لي بأن المشكلة الكبرى في العراق تبرز في وجود وفعل ثلاثة عوامل جوهرية, وهي:
1 . عرف العراق في تاريخه الطويل مجموعة كبيرة من الحكام المستبدين والقساة الذين مارسوا العنف والقسوة إزاء الناس ولم يحترموا الآخر ولا الرأي الآخر أو الدين الآخر عملياً, كما ميزوا بين أتباع الديانات الأخرى. ومنذ نشوء الدولة العراقية, غيب الدستور الديمقراطي لعام 1925 وشوهت المؤسسات التي أقيمت, ومنها البرلمان. ومنذ وصول القوى البعثية والقومية إلى السلطة غاب الدستور الديمقراطي كلية وغابت المؤسسات الدستورية والديمقراطية. واليوم نشاهد دمجاً غير عقلاني بين الدين عن الدولة ووجود حكومة ذات نهج طائفي مقيت.
2 . تخلف المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ووعياً فكرياً وغياب عملية التنوير الديني والاجتماعي للفرد والمجتمع على صعيد العراق بشكل عام, وتراجع شديد في دور المثقفة والمثقف في الحياة العامة وفي نشر القيم والمعايير الإنسانية والديمقراطية التي تدعو إلى المحبة والمساواة وعدم التمييز واحترام الرأي والرأي الآخر وأحترام كل الأديان والمذاهب الدينية والاتجاهات الفكرية غير الفاشية وغير الشمولية.
3 . هيمنة الفكر الغيبي وسيطرة المؤسسات والمرجعيات الدينية التي ترى في المجتمع المدني خطراً عليها, وفي حقوق الإنسان مصادرة أو تغييباً لدورها وحقها في إصدار الفتاوى, إضافة إلى رفض ممارساتها التمييزية. وبسبب غياب نقد الفكر الديني والتنوير الديني تسود الآن في العراق النزعة المتعصبة للدين أو المذهب والمتزمتة إزاء الآخر والمميزة نفسها عن الآخر والتي تقود إلى عدم المساواة وعدم الاعتراف بالآخر وبالفكر أو الدين أو المذهب الآخر.
إن هذا الواقع يؤكد غياب المجتمع المدني في العراقً, بل نحن أمام مجتمع لا يزال يلهث وراء العلاقات العشائرية والمراجع الدينية, كما أن الأرضية الصالحة للمجتمع المدني لم تنشأ في العراق حتى الآن, رغم المحاولات الدستورية التي بدأت في العام 1925 وغيبت بعد فترة وجيزة. إلا أن هذا الواقع هو الذي يدفعنا إلى تشديد النضال من أجل بناء القاعدة المادية للمجتمع المدني, من أجل تحقيق التصنيع والتحديث الزراعي وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى والطبقة العاملة وفئة المثقفين وتطوير وعي الفرد والمجتمع التي تشكل كلها الأساس المادي لبناء المجتمع المدني والديمقراطي الحديث.          
عاش الناس طوال قرون في علاقات عامة طيبة, رغم وجود مصاعب غير قليلة عانى منها اليهود في العراق أو عانى منها الإيزيديون في فترات معينة أو بقية أتباع الديانات والمذاهب الأخرى, كما في حالة أتباع المذهب الشيعي أو أتباع البهائية مثلا. إلا أن هذا لم يكن على مستوى الحكم, فالتمييز كان سائداً ومستمراً دون انقطاع.
وفي العراق نجد, ومنذ سقوط نظام الاستبداد والقسوة والتعذيب والعهر السياسي في العام 2003, وضعاً مأساوياً حقيقياً بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى, ولم يتخلص منها حتى أتباع الدين الإسلامي من السنة والشيعة. والممارس لمثل هذه الأعمال الوحشية ضد الشيعة, هم جماعات سنية إرهابية متطرفة. والممارس لهذه الأعمال الوحشية ضد السنة هم جماعات من الشيعة الإرهابية المتطرفة, إذ أصبح القتل على الهوية شيعية أم سنية لعدة سنوات والخطر لا يزال قائماً.
إلا أن تلك الجماعات, سواء أكانت سنية متطرفة ومتوحشة أم شيعة متطرفة ومتوحشة, كلها توجهت بالحقد والكراهية والأعمال الوحشية الجبانة ضد أتباع الديانات الأخرى, أتباع الديانة المندائية والديانة المسيحية والديانة الإيزيدية وديانات أخرى موجودة في العراق. لقد قتل الكثير من أتباع هذه الديانات وأحرقت معابدهم واغتصبت جمهرة من نسائهم وتمت السيطرة غير القانونية على بيوتهم وأثاثهم وما يملكون وهجروا قسراً إلى خارج العراق لتتم السيطرة على ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة. ولم تقم الحكومة بما يكفي لمواجهة هذا الوضع, رغم الدعوة المتزايدة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بقطع دابر هذه الأوضاع المشينة.        
هناك قاعدة عامة تقول بأن من لا يحترم نفسه, لا يمكن أن يحترم غيره, وهكذا فمن لا يحترم الديانات أو المذاهب الأخرى, لا يحترم دينه أو مذهبه بالذات.
إن بعض المشكلات تكمن في الدين ذاته. فحين تتحدث التوراة عن كون اليهود هم "شعب الله المختار", أو عندما يتحدث القرآن عن : "كنتم خير أمة أخرجت للناس .. .", فلا بد أن تظهر علامات تقلل من أهمية شعوب أخرى أو ترفع من الإحساس لدى المسلمين بأنهم الشعب الأفضل بين أمم العالم من جهة, وأن دينهم هو أفضل الديانات, وهي مشكلة معقدة تخلق أحكاماً مسبقة إزاء الشعوب والديانات الأخرى, رغم وجود مواقع أخرى في التوراة أو الإنجيل أو القران تؤكد على حرية الرأي والدين, كما جاء في القران, "... لكم دينكم ولي دين... " مثلاً من جهة ثانية .  
  

*- لقد أكدتم على الدوام انه لا يجوز أن يساء إلى الإنسان بسبب عقيدته وان أيمان أهل دين ما بصحة عقيدتهم وحقيقتها يجب أن يورث شعورا بالأفضلية ولا بالتميز ولا يؤثر سلبا على العلاقات الإنسانية بين العراقيين، لكن ما هو حاصل الآن على الساحة العراقية يقرأ بشكل مختلف.

*** أؤكد هنا ومن جديد على عدة مسائل أساسية:
1 . من حق أي إنسان أن يؤمن أو يعتنق أي عقيدة دينية أو غير دينية, وعلى الآخرين احترام هذا الحق في كل الأحوال. وهو حق ضمنته لوائح شرعة حقوق الإنسان والدساتير المتحضرة في العالم, كما ضمنه الدستور العراقي الجديد.
2 . إن اعتناق هذه العقيدة أو تلك من هذا الإنسان أو ذاك يأتي عبر ولادة هذا الشخص أو ذاك من أبوين يدينان بهذه العقيدة أو تلك, وهذا يتم بدون اختيار المولود الجديد, بل يورث له اجتماعياً وتقليداً أسرياً من جهة, ويأتي عبر تبني الإنسان وبإرادته الحرة لهذه الدين أو العقيدة أو تلك, إذا ما توفرت له فرصة الدراسة المتفحصة والقناعة بصواب هذا الدين أو العقيدة التي اختارها. أو تأتي عبر فرض دين أو عقيدة معينة على شخص أو مجموعة بشرية تحت ظروف معينة بحيث يتحولون من دين أو عقيدة إلى دين آخر أو عقيدة أخرى بالقسر, ولكنها تتكرس لديهم ولدى من يولد في عائلاتهم بمرور الزمن.
وفي كل هذه الأحوال لا يحق أتباع كل الديانات والمذاهب اعتبار عقيدتهم هي الأفضل, فهي مسألة نسبية بالنسبة لكل فرد أو جماعة, فالموقف يفترض أن يكون متساوياً إزاء جميع الأديان والمذاهب وإزاء أتباعها.
حتى في حالة اعتبار هذا الفرد أو تلك الجماعة بأن دينها أو عقيدتها هي الأفضل, فلا يحق لهم في كل الأحوال ممارسة التمييز إزاء العقائد الأخرى أو الإساءة إليها أو إلى أتباعها. وإذا ما تم ذلك فهذا يعني وقوع تجاوز فظ على الدين الآخر وعلى معتنقي الدين أو العقيدة الأخرى. وهذا ما نلاحظ حصوله اليوم في العراق. وهي كارثة حقيقية ألمت بالعراق وستبقى تستنزف الكثير من الدماء والدموع إلى أن يتسنى للمجتمع تغيير هذا الواقع وفصل الدين عن الدولة واعتبار "الدين لله والوطن للجميع", والبدء ببناء دولة المواطنة.      
في علم النفس الاجتماعي نجد لا في العراق فحسب, بل وفي دول أخرى أو في العالم كله نوع من النمطية في رؤية الإنسان إلى نفسه من جهة وإلى غيره من جهة أخرى. وإذا كانت هذه ترتبط بالشخص وخصائصه وتقاليده الاجتماعية .. الخ, فأنها تنعكس أيضاً على قضايا الدين ومجمل البنية الفوقية في المجتمع. حيث نلاحظ نشوء مسألة ألـ "أنا" والـ "آخر", فأنا الأفضل والأكثر تألقاً والأكثر ثقافة والأكثر وطنية ودين من الآخر ودين الآخر وثقافة الآخر... هذه نظرة نمطية وحكم مسبق يمارسه الكثير من الناس إزاء الآخرين أو شعب إزاء شعب آخر وحزب إزاء حزب آخر. وهو سلوك غير مناسب وغير مقبول وهو الذي يخلق المزيد من المشكلات بين الشعوب أو القوميات أو أتباع الديانات والمذاهب الدينية. وإذا كانت قد برزت في الجانب القومي بشكل خاص, حيث يرى القوميون من كل الشعوب أنهم الأفضل والأقوى والأعظم, في حين يرون في الشعوب الأخرى الأدنى والأضعف والأقل أهمية, فأنه قد برز أيضاً لدى أتباع الديانات المختلفة في الموقف من دينهم ومن الديانات الأخرى. وإذا وجدت هذه النظرة لدى الجماعات البشرية الصغيرة في الموقف من دينها, فأنه سيؤثر سلبياً بشكل عام على العلاقات مع الديانات الأخرى, ولكنه سيشكل خطراً كبيراً حين ينشأ هذا الموقف لدى الجماعات البشرية الكبيرة التي تؤمن بهذا الدين أو ذاك في موقفها من الديانات الأخرى. وهو ما نلاحظته في المجتمعات الإسلامية إزاء الديانات الأخرى, ومنها الديانة المندائية.
3 . لقد بدأ المجتمع في أعقاب ثورة تموز يتراجع عن الرؤية التمييزية لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى بفعل زخم الثورة الديمقراطي ومعاناة الناس قبل ذاك من بعض مظاهر التمييز في العهد الملكي. ولكن لم يستمر زخم الثورة الديمقراطي طويلاً, إذ سرعان ما هيمن القوميون العرب اليمينيون والبعثيون على السلطة ومارسوا التمييز بمختلف أشكاله وقادوا إلى بروز ظواهر سلبية لدى أتباع الديانات والمذاهب الأخرى, خاصة وأن الحكم كان في أيدي جماعات قومية رفعت راية الإسلام السني زوراً وبهتاناً. وكانت لسياسات وممارسات حزب البعث وصدام حسين خلال ثلاثة عقود ونصف العقد قد أوجدت أرضية صالحة للتمييز القومي والديني والفكري والطائفي... وحين سقط النظام اشتدت هذه الظاهرة السلبية, خاصة وأن الحكم قد أصبح طائفياً مقيتاً بجدارة! ثم تفاقم ذلك بوجود قوى إرهابية وميليشيات طائفية مسلحة بعضها الكثير يكره أتباع الديانات الأخرى وبعضها الآخر يكره أتباع المذاهب الدينية الأخرى, وبعضها الثالث يكره الجميع. وهكذا حصد الموت الكثير من البشر من مسلمين شيعة ومسلمين سنة, من مسيحيين وصابئة مندائيين وإيزيديين وغيرهم على أيدي هذه العصابات الجبانة التي كانت تقف وراءها قوى وأحزاب سياسية لم تتورع عن دعم ذلك, إذ ممارسته هي أيضاً.
هناك ردة فكرية وسياسية وثقافية واجتماعية وأخلاقية عميقة في المجتمع العراقي, وسوف تستغرق وقتاً طويلاً للخلاص منها, إذ أن الأساس المادي للخلاص منها لا يزال غير متوفر, وهي المشكلة الأكثر إثارة للفزع لما يمكن أن يحصل في العراق.
إن هناك توجهاً صارخاً يسعى إلى إبعاد أتباع الديانات الأخرى من العراق, وهي جريمة لا تغتفر ويفترض النضال ضد مثل هذا الوجه مهما كان صغيرا أو كما يدعي البعض محدوداً.          
  

* تطال الأقليات الدينية ذات الأصول المتجذرة في هذا البلد ومنذ سنوات حملة إبادة منظمة تقوم بها القوى الظلامية والسلفية شملت حملات قتل واغتصاب وفرض العقيدة الإسلامية على الرجال الذين تم ختانهم تحت سلطة السيف واغتصاب نساء وبنات( موظفات وطالبات) أمام أزواجهن وآبائهن، ولم تتحرك مؤسسات الدولة لفرض الحماية إلا بنطاقها الضيق ولم تصدر المرجعيات الدينية أي فتوى بتحريم قتل أصحاب الوطن الأصليين. برأيك سبب هذا الصمت المتواطئ؟

*** أشرت إلى أن السبب المركزي في بروز مثل هذه الحالات والممارسات الوحشية تكمن في طبيعة ومستوى تطور المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً, المتميز بالتخلف والضعف, إضافة إلى التردي في مستوى الوعي الاجتماعي للفرد والغالبية العظمى من المجتمع وغياب التنوير الديني ليس عند أفراد المجتمع حسب, بل ولدى الكثير جداً من شيوخ الدين والمؤسسات والمرجعيات الدينية ذاتها التي لا تقف بوجه هذه الممارسات, وربما بعضها يؤيد ذلك لأنه يريد حقاً تفريغ المجتمع من الكيانات القومية والدينية الأخرى.
لقد اصدر بعض شيوخ الدين فتاوى ضد القتل, ولكنها لا تعادل عدد الفتاوى والتصريحات والإدانات التي صدرت عن شيوخ دين آخرين نشطوا كل تلك العمليات بصورة مباشرة أم غير مباشر, إضافة إلى دور بعض دول الجوار في كل ذلك.
إن الكثير من شيوخ الدين السلفيين وغير السلفيين لم يفهموا دينهم جيداً, وبعضهم فهمه على أنه حمال أوجه ويقبل بكل التفاسير وممارسة كل الأساليب, وبعضهم فهمه هكذا ولا يجده رادعاً عن القتل أو التعذيب أو الاغتصاب أو الفساد المالي ونهب المال العام ... الخ, خاصة وأن بعضهم يجد في دفع الكفارة حلاً وغفراناً لكل ذنوبه وجرائمه.
القرآن اعترف بالعديد من الديانات التي اعتبرت ديانات كتابية مثل اليهودية والمسيحية والمندائية والمجوسية... وكان هذا الاعتراف يفرض على المسلمين احترام أتباع هذه الديانات ورفض تعريضهم للأذى. ولكن المشكلة تكمن في موقف جمهرة  كبيرة من المسلمين, وخاصة شيوخ الدين والمؤسسات والمراجع الدينية, من الإسلام, إذ يعتبرون دينهم هو آخر الديانات وهو الأفضل بينها وله البقاء, وبالتالي فأن ظهور الإسلام, دين محمد, نسخ جميع الديانات الأخرى, وبالتالي, على أتباع الديانات الأخرى جميعاً أن يتحولوا إلى مسلمين, وإلا فهم كفرة! وفي هذا المأزق لا يوجد أي تنوير عن أهمية وضرورة الاعتراف ببقية الديانات, بل نرى التثقيف يجري برفض الأديان والمذاهب الأخرى. إن لوائح خقوق الإنسان ترفض مطالبة أي إنسان بتغيير دينه أو فرض دين عليه وتمنحه الحق في اختيار دينه أو مذهبه, سواء أكان ديناً كتابياً أم غير كتابي, وفق المصطلح المتداول بين المسلمين.
وما جرى في العراق منذ سقوط النظام البعثي يعتبر كارثة حقيقية بالنسبة للناس ولأتباع مختلف الديانات والمذاهب, إذ لم يخل دين ومذهب إلا وتعرض لأشكال التجاوزات والموت أو التعذيب أو فرض تغيير الدين من خلال أساليب قمعية وإرهابية ولا أخلاقية في آن.
من المؤسف أن أقول بأن المجتمع العراقي لا يزال يعيش ردة فكرية عميقة لم يخرج منها بعد وستبقى لفترة أخرى وستكون قاسية على الجميع, ولكن بشكل خاص على الديانات الأخرى من غير الإسلام.        

*- ما هو السبيل لقيام حملة تضامنية تقوم بها هيئة الدفاع عن الأقليات الدينية العراقية، مع محنة الأقليات العراقية يتم من خلالها دعوة المرجعيات والهيئات الدينية بتحريم الفتاوى التي تحارب وجود أبناء وبنات الأقليات الدينية العراقية وتحرمهم من حقوقهم الإنسانية المشروعة؟ والمطالبة الصريحة لإصدار فتاوى من المرجعيات والهيئات العليا بالضد من  الفتاوى التي يصدرها البعض ضد وجود الأقليات وإحلال دمائها؟

*** إن ما يجري في العراق من اعتداءات واضطهاد وتشريد وقتل فردي وجماعي من جانب القوى الظلامية المتطرفة والقوى الطائفية المناهضة لأتباع الديانات الأخرى إزاء أتباع الديانات والمذاهب الدينية الكثيرة الموجودة في العراق منذ ألاف السنين هو تجاوز على كل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية التي تقع تحت طائلة القانون, كما إنها تجاوز فظ على كل الشرائع والديانات السماوية وغير السماوية. ومن هنا يفترض القيام بما يلي:
- تشديد الضغط المتواصل والمكثف على الحكومة العراقية لإلزامها بممارسة مسؤوليتها في حماية المواطنات والمواطنين من أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق من أي تجاوز على الكرامة أو الحقوق أو الحياة أو ممارسة التمييز بكل أشكاله ضدهم. إن هذا الضغط يتطلب التحرك على ثلاث مستويات:
** المستوى الأول هو تشكيل هيئة غير حكومية في العراق يتمثل بها أطراف أو أحزاب وقوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني تسعى إلى تشكيل الوفود لمقابلة المسؤولين, وخاصة الرئاسات الثلاث لوضعها أمام مسؤولياتها والحصول على التزامات واضحة بهذا الصدد. ويتطلب هذا الأمر تحريك الشارع العراقي من أجل ممارسة الضغط على الحكومة لمواجهة الحالة التي أصبحت غير استثنائية في قتل المواطنين من الصابئة المندائيين أو المسيحيين والاعتداء الظالم عليهم وإيقاف هذه الأعمال بكل السبل المتوفرة.
** المستوى الدولي, أي إثارة الموضوع على مستوى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وتشكيل وفد كبير يتحرك على مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان لممارسة الضغط على الحكومة العراقية لتوفير الحماية الكافية لأتباع الديانات العراقية من أجل استمرار وجودهم في العراق وممارسة حقوقهم المتساوية كمواطنات ومواطنين.
** البدء بحملة مكثفة في أجهزة الإعلام الدولية والإقليمية والمحلية لفضح سكوت الكثير من المؤسسات والمراجع الدينية وبعض أطراف حكومية وغير حكومية في العراق عن إدانة تلك التجاوزات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بوضع حد لكل ذلك.
لا شك في أن بعض المراجع الدينية قد أدانت وتدين هذه الممارسات, ولكنها كانت وستبقى دون المستوى المطلوب. هناك من أصدر فتاوى ضد قتل المسلم, ولكنها لم تتحدث عن الموقف من قتل المواطنة والمواطن العراقيين, إذ لا بد من تحريم قتل الإنسان العراقي أياً كان دينه أو مذهبه أو عقيدته أو قوميته, إذ أن القضية تمس الإنسان أساساً, فهو الذي يذبح في العراق من جانب القوى الإرهابية والظلامية والطائفية السياسية والمليشيات الطائفية المسلحة.
إن القوى الإرهابية والظلامية التي تمتلك السلاح وتمارس القتل تسعى إلى تصفية وجود أتباع الديانات من غير المسلمين في العراق بكل جبن ونذالة, وهي التي تقف خلفها قوى سياسية بعضها صريح في ما يمارسه, ومنه قوى القاعدة العدوانية, وبعضها لا يفصح عن نفسه ولكنه يمارس ذلك في الوقت الذي يمارس العمل السياسي أيضاً.
إن علينا العمل بجدية وبسرعة لكي نمنع تحقيق مثل هذا الهدف الدنيء, هدف تصفية وجود أتباع الديانات الأخرى في العراق بجوار أتباع الدين الإسلامي من مختلف المذاهب الدينية.        
  

 *- ألا تعتقدون بأنه آن الأوان للدولة ورئاستها بتشكيل مجلس أمني مرتبط بها مباشرة يتولى الحماية المباشرة لأبناء الأقليات الدينية؟

*** بناء على هذه الرؤية أشرت إلى ضرورة تشكيل وفد لزيارة الرئاسات الثلاث ومنها رئاسة الجمهورية, إذ فيها نجد وجود قومي, عربي وكردي, ونجد وجود ديني طائفي, شيعي وسني, في حين يغيب عن هذه التشكيلة وعن تشكيلات بقية الرئاسات أتباع الديانات الأخرى في العراق. وفي مثل هذه الحالة القائمة على أساس طائفي, لا بد من تأخذ هذه الرئاسات الثلاث (والحالة المحاصصية ذاتها نجدها في رئاسة الحكومة وفي رئاسة مجلس النواب, إذ أنهما قائمان على نفس التقسيم غير المدني), على عاتقها مهمة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق لا أن تقتصر مهمتها على من تمثلهم من القوميات أو من أتباع الدين الإسلامي بمذاهبه العديدة, بل الدفاع وحماية كل المواطنات والمواطنين في العراق بغض النظر عن القومية أو الدين أو المذهب.
من حيث المبدأ لا أرى مناسباً ولا صحيحاً أن نتحدث عن أقليات قومية أو دينية, فبغض النظر عن عدد السكان من أتباع هذه القومية أو تلك ومن أتباع هذا الدين أو ذاك, أو هذا المذهب أو ذاك, فهم مواطنات ومواطنون لهم حقوق متساوية مثبتة في الدستور, رغم كل نواقصه, وأمام القانون, رغم الكثير من عيوبه, إلا أنه يضمن من حيث المبدأ وليس من حيث الواقع حقوق كل المواطنات والمواطنين من حيث المساواة في الحقوق والواجبات.
إن الحل العملي لمشكلة العراق يكمن في تخليص العراق من الدمج بين الدين والدولة والطائفة الدينية والدولة ولا بد من فصلهما, إذ بهذا نضع العراق على طريق "الدين لله والوطن للجميع", وهذا هو المفقود حالياً في العراق.  
من الممكن تشكيل اللجنة المقترحة شريطة أن تفعل الحكومة دور أجهزتها الأمنية والشرطة في مواجهة الأفعال الإجرامية للقوى المناهضة لأتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق.            

1172
كاظم حبيب

ما العلاقة بين النقد والعاملين في الشأن العام في العراق؟

نشأت وتطور عبر الزمن وفي حياة البشرة ومجتمعاتها المختلفة ظاهرة قيمية سليمة وأن اختلف الموقف منها والنظر إليها بين المجتمعات المتحضرة والمجتمعات التي لا تزال تسعى إلى اللحاق بهذه المجتمعات, رغم الفجوة المتسعة بينهما. وهذه الظاهرة القيمية الناضجة فرضتها حياة الإنسان والمجتمعات ذاتها لأنها ارتبطت ولا تزال ترتبط بحاجة الإنسان إلى  تقوييم مسيرته وتصحيح خط سيره وتنمية قدراته. وقد التصقت منذ زمن بعيد بأولئك الناس الذين يشتغلون في الشأن العام, أي في السياسة والثقافة والعلاقات الاجتماعية, إذ أن من يعمل في هذا المجال يكون مكشوفاً على المجتمع كله, وبالتالي فأن تصرفاته وسلوكه العام والخاص ونشاطه السياسي والثقافي والاجتماعي, وربما العائلي للأفراد, كشخص, أو كحزب يكون معرضاً للملاحظة والمتابعة والنقد, كما يمكن لهذا الفرد أو ذاك, أو هذا الحزب أو ذاك أن يمارس النقد الذاتي إن امتلك المستوى الحضاري والثقافي المناسب والشجاعة الكافية والثقة بالنفس الذي يساعده على ممارسة ذلك.
لا شك في أن من يمارس النقد إزاء هذا الشخص السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو هذا الحزب أو ذاك يفترض فيه أن ينتظر رد فعل معين, في ممارسة النقد المضاد أو ضد ما طرحه من ملاحظات نقدية إزاء الآخرين كأفراد أو كأحزاب. وهي ممارسة طبيعية وإنسانية ويفترض أن تكون اعتيادية إذ لا ضير فيها بأي حال حين تكون موضوعية وهادفة إلى التحسين وليس إلى الإساءة, بل تعتبر مساهمة فعالة في تحسين أوضاع معينة لدى هذا الشخص أو ذاك ولدى هذا الحزب أو ذاك.
وردود الفعل يفترض أن تحافظ على المستوى المناسب في النقد, إذ لا فائدة من تصعيد النبرة وتحويلها إلى قضية شخصية لا مسألة عامة تمس المجتمع وأن تحركت صوب أشخاص معينين ولكنها لا تمس أو تسيء إلى قضايا شخصية, بل وجه النقد بسبب نشاطه في الشأن العام.
وتشير التجارب المنصرمة إلى أن استخدام أسلوب غير منطقي ودون مسؤولية في ممارسة الإساءات والشتائم أو التهديد بكشف أوراق غير موجودة أصلاً, بل من أجل جعل الأمر معلقاً في الهواء, وكأن الأمر أشبه بماء سكب ولا يمكن جمعه, قرأه من قرأه وتمت تداوله دون أن يكون لدى هذا الشخص أو ذاك أي شيء يهدد به, إذ كان الأصوب له ولغيره أن ينشر ما لديه مباشرة دون التهديد والوعيد بالنشر.
أقول هذا لمن لم يتعلم أن يسمع النقد وأن يتفهم الأهداف الأساسية  الكامنة وراء هذا النقد إذ ليست هناك نوايا تخريبية, أقول هذا لكي يكف البعض عن تهديد الناس بما لا يملكون لكي لا يثيروا لغطاً يرد عليهم بمفعول عكسي.
ممارسة النقد ظاهرة حضارية وممارسة التهديد والوعيد ظاهرة قبيحة في المجتمعات المتحضرة, ولكنها تقبل لدى البعض بسبب الجهل والأمية السياسية والحضارية وعدم وعي لمفهوم النقد, فالنقد الذاتي بالنسبة للبعض كمن يبصق من أسفل إلى أعلى, يعود البصاق إلى وجه, أما النقد فكمن يبصق من أعلى فيصل إلى وجه ذات الشخص. أنه منطق أفلج, إذ هكذا يفهم البعض النقد والنقد الذاتي.
وظاهرة النقد تحدث عنها الكثيرون وكان أكثرهم وضوحاً ذلك الذي قال النقد ضوء ينير الطريق لمن يريد أن يستنير به, أو الذي قال "لا تصدق الذي يضحكك ويطبطب على كتفيك ويمسح جوخك, بل صدق من يمارس النقد الواقعي إزاء عملك, والشعب يقول ببساطة "لا تركض وراء الذي يضحكك, بل أركض وراء ا الذي يبكيك", فهل سنتعلم من هذه الحكمة الشعبية.
كم أتمنى أن يتعلم البعض هذه الحكم الشعبية المجربة بدلاً من توجيه من يكتب وبأسماء مستعارة للإساءة للآخرين. فمثل هذا الأسلوب غير ذي فائدة وغير منتج لما هو نافع للمجتمع وللشخص نفسه.
علينا جميعاً أن نتعلم, فنحن ما زلنا نزحف بعيداً عن جرف الديمقراطية, نحن ما زلنا نحمل سلوكاً مستبداً لا يبرز في الحاكم وحده, بل في المحكوم أيضاً, في سلوكنا اليومي إزاء البعض, كم كنت أتمنى أن استمع إلى نقد موضوعي لكي أناقش بصورة موضوعية ما يطرح من أفكار تنتقد ملاحظاتي النقدية وليس إلى من كان ينتظر أن يشتم الرجل ليقولوا أحسنت فقد حان أوان إسكاته!
كم هم مخطئون هؤلاء الناس, كم هم غرباء عن الفكر العلمي الذي يسعى إلى  تقديم موضوعة للمناقشة في مقابل موضوعة أخرى, ويبدأ النقاش للوصول إلى رؤية موحدة أو متقاربة, إلى موضوعة ثالثة أكثر نضوجاً للجميع.
إنها محنة التخلف ومحنة الاستبداد بالرأي ومحنة الاعتداد والرغبة في التسلط ومنع ممارسة النقد. ليس هنام ما هو محرم, والخطوط الحمراء تبدأ حين تبدأ الشخصنة والإساءات والشتائم.
الحياة تقول لنا شيئاً آخر تعبر عنها بدقة عالية حكمة مندائية رائعة تعبر عن قدم هؤلاء الناس وتجربته الكبيرة والغنية في الحياة:
"ويل لعالم غير منفتح على غيره, وويل لجاهل منغلق على نفسه"

كم أتمنى أن تفهم هذه المقولة لكي لا يتكرر ما لا ينبغي تكراره في ممارسة ردود فعل غير محسوبة العواقب لنقد لم يستهدف سوى الخير لمن وجه له النقد. كم أتمنى أن نعي جميعاً أهمية النقد والنقد الذاتي, فهو ليس رذيلة بل فضيلة.
27/9/2009                                                 كاظم حبيب


1173
كاظم حبيب

ماذا يمكن أن نقرأ في ثنايا رواية "رسائل حب خليجية"
للكاتب والقاص والسياسي المعروف جاسم المطير؟
عنوان الكتاب : رسائل حب خليجية
اسم الكاتب    : جاسم المطير
الناشر     : الدار العربية للعلوم ناشرون, بيروت
سنة النشر    : طبيعة أولى 2008
عدد الصفحات : 288

للكاتب العراقي المعروف جاسم المطير الكثير من المؤلفات الغنية شكلاً ومضموناً, فهو منتج غزير وقارئ دؤوب وناقد سياسي واجتماعي ساخر, ومساميره ستبقى تلاحق من يستحق الملاحقة والنقد. قرأت الكثير من الكتب التي صدرت له خلال العقود الأربعة المنصرمة, كما قرأت له المئات من المقالات السياسية والنقدية التي نشرها في المهجر, أو قبل ذاك حين كان يمارس العمل الكتابي والصحفي في مجلة النفط والتنمية وفي صحف أخرى. وقد أكسبه العمل السياسي والعيش في السجون خبرة ومعرفة قيمة بالبشر, وعواقب التعذيب في سجون ومعتقلات نظامي البعث الأول والثاني تعيق اليوم حركة جاسم المطير وأتعبت جسده, ولكنها عجزت عن تعطيل عقله وفكره النير وثقته العالية بصحة القضايا التي يناضل من أجلها وقدرته على الكتابة والتعبير الصادق عما يختلج في داخله وممارسة النقد. ومع ذلك ورغم مرارة الغربة يمتلك الكثير من الحيوية والعقلانية والعفوية الواعية في الكتابة وفي التعبير النافذ لما يريد إيصاله. وقد أعجبتُ كثيراً بما قرأته له خلال الفترة المنصرمة. ولكن رواية "رسائل حب خليجية" منحتني فرصة التعرف بشكل أجود على المستوى الفني الرفيع الذي يمتلكه الصديق جاسم المطير في كتابة الرواية وحبكة أحداثها واللغة الغنية المتماسكة والشفافة التي استخدمها في إنجاز هذا العمل الروائي الجديد كل الجدة على أدبنا العربي والشرق أوسطي. فالكاتب قدم لنا في "رسائل حب خليجية" لوحة أدبية ذات قيمة تاريخية وذات مستويات وأبعاد عدة, إنها أشبه بلوحة تشكيلية متباينة في مستويات النظر إليها.
أبدع الكاتب في عملية المزج الممتع والهادف بين الحقيقة والخيال, بين الواقع والاغتراب عنه, بين الحب والكراهية, بين الادعاء بالدين والدين, بين الظاهر من الأمور والباطن منه, بين الصدق والمخاتلة, بين الأمس واليوم. وكان التاريخ أداة طيعة بين يديه للتعبير عن الواقع الراهن عبر الماضي المتجدد بصيغة ما دون إقحام قسري لما يجري اليوم في واقع الحال. إنها رسائل حب غير اعتيادية, فرائحة الذهب الأسود, وقبلها اللؤلؤ, يفوح منها. إنها المواد التي تجلب رأس المال لتضاعفه عشرات بل مئات المرات على حساب شعوب هذه المنطقة.   
الأسئلة التي تدور في بال القارئة والقاري لهذه الرسائل الخليجية في الحب كثيرة, ولكن على الأقل يمكن طرح سؤالين الأول: لِماذا اختار الكاتب هذه الموضوع, ولم أختار هذه الأسلوب في الكتابة؟ والسؤال الثاني هو: ماذا نقرأ في هذه الرواية الصادرة في العام 2008؟
لا أعرف بالضبط الدوافع التي دفعت بالصديق الكاتب على اختيار هذا الموضوع, ولكن اقدر بأن الأحداث المتتابعة منذ عدة عقود في المنطقة ومن ثم في دولها يعاد إنتاجها مرات ومرات ولكن بصيغ مختلفة وبأشخاص آخرين, ولكن الأهداف تبقى واحدة والعواقب على شعوب المنطقة واحدة, وهي التي أراد بها الكاتب جلب انتباه القارئات والقراء إلى هذه الحقيقة, رغم أنه يعتقدون بالمقولة القائلة "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين, في حين أن المؤمنين من شعوبنا لدغوا مئات المرات ومن نفس الجحر لا غيره, ولم يتعلموا منه شيئاً. واشعر بأن الأسلوب الذي اختاره أراد به أن يكشف عن الوجه المزدوج أو الوجوه العدة لأولئك الذين يسعون إلى تحقيق أهدافهم في بلداننا على حساب شعوبنا ويمارسون الأساليب الغبية التي تمر علينا ولا نحس بها لأننا ما زلنا نياماً وكأننا في سبات عميق لا نختلف كثيراً عن أهل الكهف. أن الطريقة التي عالج بها الموضوع استنفذت منه كتاباً واحداً, في حين استنفذت من الراحل الكاتب المبدع عبد الرحمن منيف خمسة أجزاء في كتابه الموسوم "مدن الملح" ليعبر عن نفس الموضوعات ويصل إلى نفس النتائج, ولكن بتكثيف رفيع وغير مخل.   
يطرح الكاتب حاسم المطير في هذه الرواية مجموعة من الإشكاليات الكبيرة التي عاشها الخليج العربي خلال الفترة  الواقعة بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, استفاد في ذلك من فن كتابة "الرسائل المتبادلة" بين عاشقين أوروبيين, وبتعبير أدق إنكليزيين, بين بطلي الرواية ليكشف لنا عن تلك المشكلات التي عانى منها الخليج والتي نحصد اليوم نتائج وعواقب تلك الفترة.
الكاتب يقدم لنا بشكل خاص رؤية تفصيلية لما كان يدور في رأس الرجل العربي في تلك الفترة, وخاصة الرأس العربي البدوي قاطن الصحراء, ومدى ارتباط ذلك بما هو تحت الحزام. لقد استطاع الروائي المبدع جاسم المطير استخدام "رواية ألف ليلة وليلة" خير استخدام وقدم أفضل وأدق تحليل حول العلاقة بين الرجل والمرأة وحول إعادة إنتاج هذه العلاقة جيلاً بعد جيل في هذه المنطقة من العالم, كما أشار إلينا بشكل فني ممتع ودون إسراف كيف تتم مثل هذه العملية المعقدة والمتوارثة اجتماعياً وليس جينياً عبر تكريس العادات والتقاليد والتربية اليومية وما يمكن تطويعه عبر الدين في تربية الأطفال.
فالمرأة سلعة تباع وتشترى, إنها سلعة لأغراض متعة الرجل وليست للمشاركة مع الرجل في المتعة الجنسية, إنها متعة من طرف واحد لا غير. فالرجل سيد الموقف, ولكن السيد الفعلي الذي يتحكم به ليس عقله بل سلاحه البائس المنتصب دوماً بين فخذيهً.
فالرجل البدوي أو العربي يحمل سلاحه الذاتي شاهراً إياه في وجه المرأة فيقتنص الواحدة تلو الأخرى ليزيد عددهن عما سمح به القرآن, إذ أن النبي كانت له أكثر من 10 زوجات وقيل 15 زوجة, يقول الشيخ صالح الكرباسي في مركز الإشعاع الإسلامي ما يلي: "إختلفت الأقوال في عدد نساء النبي محمد ( صلَّى الله عليه و آله) ، لكن المختار لدينا إعتماداً على ما رُوِيَ عن أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) أنَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلَّى الله عليه و آله ) تَزَوَّجَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَة ، منها ما دَخَلَ ( صلَّى الله عليه و آله ) بهنَّ من نسائه",(راجع: موقع مركز الإشعاع الإسلامي"للشيخ صالح الكرباسي بتاريخ 2/10/2009, ك. حبيب), إذ يشير الشيخ صالح الكرباسي إلى أن النبي دخل بثلاث عشرة منهن ولم يدخل باثنين منهن. أما المجلسي فيذكر ما يلي: هناك أقوال أخرى منها ما رواه العلامة المجلسي عن " المبسوط " ، و ابن شهر آشوب عن أبي عبيدة أنه قال : تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثمانية عشر امرأة و اتخذ من الإماء ثلاثا ، راجع : ما ذكره العلامة محمد باقر المجلسي ، المولود باصفهان سنة : 1037 ، والمتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، في كتابه بحار الأنوار : 13 / 389 ، و 22 / 191 ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية ، و راجع أيضاً : ما ذكره محمد بن شهر آشوب المازندراني ، المولود سنة : 489 هجرية بمازندران ، و المتوفى سنة : 588 هجرية بحلب ، في كتابه مناقب آل أبي طالب : 1 / 159 ، طبعة : انتشارات علامة ، سنة : 1379 هجرية ، قم / إيران" (راجع: موقع مركز الإشعاع الإسلامي"للشيخ صالح الكرباسي بتاريخ 2/10/2009, ك. حبيب). في حين لم يسمح القرآن إلا بأربع زوجات (لا غير!), وما ملكت أيمانكم (لا غير أيضاً!). أما الخلفاء المسلمون في عهود الأمويين والعباسيين وسلاطين العثمانيين وأولياء الله "الصالحين" والولاة وقادة الجيوش "المغاوير", فكانت لهم زوجات وجواري يصعب عدّهن في غالب الأحيان, إذ كانت خزائن الأمة مفتوحة لهم بشكل مطلق!, وقد زادوا على ذلك حين امتلكوا الكثير من الغلمان, فهم يعتقدون بأن الله يسمح لهم بذلك ما دام سيوفره لهم في الجنة كما جاء في الآيات الثلاث التالية: "تحدّث القرآن الكريم عن "الولدان المخلّدون" في ثلاث سور هي الواقعة والطور والإنسان: "على سرر موضوعة، متكئين عليها متقابلين، يطوف عليهم ولدان مُخلّدون، بأكواب وأباريق وكأس من معين" (الواقعة، 15-18)، "ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون" (الطور، 24)، "ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا" (الإنسان، 19)." (راجع: من هم الولدان المخلدون في القرآن ؟, بقلم ناصر بن رجب). 
المرأة العربية أو الشرق أوسطية هنا في ألف ليلة وليلة وفي الحياة العربية اليومية ليست سوى مشروع جنس وإشباع غير منقطع لِِلذات وشهوات الرجال, ووظيفتها إنتاج المزيد من الأبناء دون البنات والبقاء وراء حجاب. المرأة خائنة, خانعة, ذليلة, مهذارة, راضية بالخنوع للرجل رغم العدد المتزايد من الزوجات فوق رأسها وكثرة هائلة من الجواري الحسان المستعدات لفتح سيقانهن لسيدهن في كل لحظة يشاء أو لغير سيدهن كما يشاء صاحب الجواري الحسان. أما الرجل فهو النموذج والأسد القادر على إخضاعهن جميعاً وغير الواثق منهن والرافض لاحترامهن. إنها مصيبة الرجل في نظرته البائسة والوقحة إلى المرأة, إلى الأخرى! وهنا يذكرني أسم أحد الرؤساء الأفارقة الذي حين يترجم إلى العربية يكون كالآتي: الديك الذي لم تنجو منه دجاجة. هل يتذكر القراء من هو؟ إنه الحاكم الشمولي موبوتو سيسيسيكو, الذي حكم كونغو المستقلة (زائير) 32 عاماً من 1965-1997!   
ليست تلك الجارية العالمة في الفقه والطب والتاريخ والحياة العامة التي أعجبت هارون الرشيد سوى محاولة يائسة من مؤلف قصص "ألف ليلة وليلة" للتقليل من أثم الرجال ورفع الغبن المسلط على عقل النساء, لاتهامهن أو اعتبارهن "ناقصات عقل!". هل تذكر بنات وأنباء هذه المنطقة وكل المسلمات والمسلمين أين يرد مثل هذا النص, النساء ناقصات عقل؟ وحين تجتمع المرأة والرجل في مكان واحد فالشيطان ثالثهما! هل يمكن أن يكون يزايد أحد على هذا الشك اللعين والظالم بحق المرأة؟         
جاسم المطير يمنحنا بهذه الرواية الجميلة فرصة التعرف أيضاً على الحب الذي لا يخضع للتمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس, أو يدلنا على الحب الشبقي الذي لا يُجهد المصابين به إلا من قلة الجنس, أو الحب الذي يعيش على اجترار الذكريات, وكذا الجنس الذي يخضع للوظيفة الحكومية والمصالح الدولية ومن أجل الوصول إلى توقيع وثيقة بالذل الدائم للشيخ الذي ارتضى لنفسه نهش قبيلته من أجل لحظة تجلي جنسي لا غير, "لقد نكح لندن ورب الكعبة" هكذا صرخ الشيخ عبد الله بعد أن استطاع أن ينام ليلة مع كريستين التي انتزعت منه في هذه الليلة جل ما كانت تسعى إليه لصالح بريطانيا, ولكن هذا الشيخ "الفحل!" نسى تماماً أنه بذلك فتح الأبواب أمام "نكح كل شعبه" وسرقة "ثروة قومه", ورب الكعبة! وكذلك الحب الوظيفي الذي يسمح للعاشق أن يقبل بأن تنكح حبيبته لصالح وظيفته ومركز أعلى لهما مقابل تقدمها خدمة تقدمها لوزارته!
وبهذا كشف لنا الكاتب عن تلك الشبقية التي يتميز بها أمثال هذا الرجل العربي الذي أبدى استعداداً لا حدود له من أجل إشباع شهواته الجنسية في التوقيع على اتفاقيات أبقت شعبه أسير تلك الاتفاقيات لعقود طويلة لاحقة. إنه ليس شخصاً بعينه, إنه الرمز الذي تكرر ويتكرر مرات ومرات. 
كما يمنحنا الكاتب فرصة ثمينة للتعرف على النوايا والمخططات الاستعمارية والصراعات بين الدول الاستعمارية وبين الشركات الاحتكارية حول النفوذ في منطقة الخليج والمؤامرات والمناورات والأساليب الملتوية التي كانت تحاك في وزارات الخارجية وأجهزة التجسس لصالح الحصول على ما يمكَّنها من البقاء واحتكار المنطقة لصالحها ومصالح شركاتها دون غيرها, إنها "المصالح الحيوية!". ولم تكن تجارة السلاح إلا شكلاً من أشكال الهيمنة وإثارة الصراعات والنزاعات بين القبائل وتحقيق أقصى الأرباح ومن خلالها الوصول إلى أفضل المواقع والامتيازات.
رواية "رسائل حب خليجية" تقدم لنا, إضافة إلى أسلوبها الأدبي الرفيع والجديد, أربع مسائل مهمة, وهي:
1 . الدور الذي لعبته المرأة في السياسة البريطانية. وعلينا أن نتذكر هنا "مس بل" ودورها في تنصيب ملك العراق وتشكيل الوزارات في العراق وفي البناء الأول للدولة العراقية, إضافة إلى علاقاتها الوطيدة بشيوخ العشائر وتأثيرها الكبير على عبد الرحمن النقيب أول رئيس وزراء عراقي ومن كان على شاكلته والذي كان يناديها بـ"خاتون". فجاسم المطير لم يخترع كريستين, ففي السياسة البريطانية الكثير من أمثال هذه المرأة ممن لعبن أدواراً مهمة في السياسة البريطانية في الدول المستعمرة والتابعة حينذاك. لقد كانت المرأة مهمة في مخططات السياسة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط لما لها من تأثير كبير وحاسم أحياناً غير قليلة على "الفحولة" العربية!
2 . المبدأ الذي تعتمده السياسة الاستعمارية, "الغاية تبرر الواسطة", إذ كانت تمارس كل الأساليب الملتوية والمضللة, بما في ذلك اللعب على قاعدة "فرق تسد" قبلياً ودينياً ومذهبياً للوصول إلى تكريس مصالحها في المنطقة. ولم تكن الاغتيالات السياسية غريبة عنها, ومن هنا لم يقبل سكان العراق حتى الآن بأسباب موت الملك فيل الأول في سويسرا أو مقتل الملك غازي بحادث سيارة.
3 . أهمية إبقاء هذه المجتمعات متخلفة, رغم كون السياسة الاستعمارية تفتح مجبرة أبواب الحداثة على هذه الدول بسبب ركض المستعمرين الأعمى وراء مصالحهم وليس حباً في تقدم هذه الشعوب, سواء أكان ذلك عبر تكريس ممارسات الصراع والنزاع والتمييز بين القوميات والأديان والمذاهب, أم بتكريس عدم ثقة الرجال بالنساء, أم بإبقاء المرأة خاضعة للرجل ولا تمارس حياة المساواة والحرية المطلوبتين والضروريتين لتطور المجتمع وتقدمه.
4 . والكاتب يضع أمامنا بانسيابية وموضوعية العوامل الكامنة وراء الأرتال الأولى من السياسيين والعاملين في أجهزة الأمن البريطانية أو الفرنسية التي وصلت إلى المنطقة بهدف التهيئة والتحضير وتوفير مستلزمات الحصول على قواعد اجتماعية مؤيدة للوجود الاستعماري في المنطقة, وعن الهدف المباشر من هذا الوجود الذي لم يكن يعني سوى استغلال ثروات هذه المنطقة. فإذا كانت في البداية مسألة الغوص في البحار لاستخراج "اللؤلؤ" ليحقق لهم أقصى الأرباح, فأن التنقيب فيما بعد عن الثروات في باطن الأرض, وخاصة النفط الخام, أصبحت هي المهمة التي استحوذت على عقول وسلوك كل العاملين, هذا الذهب الأسود الذي حقق لهم ولا يزال يحقق لهم أقصى الأرباح, في حين كلف ولا يزال يكلف شعوب منطقة الشرق الأوسط سيولاً مريعة من الدماء الزكية, كما لا يزال الفقر يعم نسبة عالية من سكان منطقة الشرق الأوسط, رغم غنى المنطقة بثرواتها أو خاماتها الأولية. وكانت المنطقة غنية بمستبديها والفاسدين والمفسدين ممن حكموا فيها والذين وجدوا الدعم والتأييد من تلك الدول.
وعلى امتداد الرواية يقدم لنا الكاتب معلومات قيمة عن العادات والتقاليد والطقوس القبلية, صراعات هذه القبائل ونزاعاتها, تحالفاتها واتفاقاتها وعهودها, وسبل حل الخلافات في ما بينها والأسس القويمة لهذه العلاقات, إضافة إلى علاقة الشيخ بقبيلته, ومدى الغنى الذي يتمتع به على حساب قبيلته وكثرة زوجاته وجواريه والعواقب الوخيمة لمثل هذه العلاقات ومصروفات الشيخ المالية على المنطقة وثرواتها.   
إن الكتاب يضع أمام القارئة والقارئ لوحة كبيرة ملونة تجسد العلاقات البدوية وحياة البداوة وقبل انتقال تلك القبائل إلى حياة المدينة. ويمكن للمتتبع أن يقارن بين ما كانوا عليه هؤلاء القوم وبين ما هم عليه اليوم, فالسلوك لا زال بدوياً والعواقب لا زالت ذاتها رغم التقنيات الجديدة, فالعقلية ذاتها وما تحت الحزام ذاته لا ينقطع عن تسيير سيده!
إن الكتاب يكشف بما لا يقبل الشك عن كون الهدف الأساسي والمركزي للسياسات الاستعمارية في المنطقة كان اللؤلؤ والنفط وبقية الخامات, كان توظيف رؤوس الأموال والهيمنة على السوق وصادرات السلاح لها, وكذلك الاستفادة القصوى من الأيدي العاملة الرخيصة حينذاك, ولكنه مع ذلك أجبر على فتح نوافذ على حضارة وثقافة الغرب, كما اضطر إلى إقامة الشوارع والسدود والموانئ والسكك الحديد لكي يستطيع تمشية أموره الاقتصادية والتجارية والمالية, كما لم يكن أمامه إلى فتح مدارس .. وكان على شعوبنا أن تتابع هذا التناقض في هذه السياسة وأن تستفيد منه قدر الإمكان, ولكن الفائدة حتى الآن كانت ضئيلة.
أتمنى أن يُقرأ هذا الكتاب على أوسع نطاق, إذ أنه ليس جديداً بأسلوب روايته واعتماد الرسائل في متابعة الأحداث حسب, بل باللغة الغنية التي استخدمها الكاتب ومضمون الرواية وتسلسل الأحداث عبر الرسائل المتبادلة أيضاً. إن الرواية تمس الماضي, ولكنها تقربنا اليوم وبعفوية محببة من أحداث مختلفة من حيث المكان والزمان والأشخاص والأحداث, ولكنها متماثلة من حيث الفكر والعقلية والمضامين والعواقب.

23/ أيلول/سبتمبر 2009                كاظم حبيب                         




1174
كاظم حبيب
لا يمكن إخضاع مبادئ وشرعة حقوق الإنسان للإرادة الذاتية للحكام,
ولا يجوز ممارسة أساليب لا شرعية في مخيم اشرف في العراق!!

يتصور البعض الذي يتحدث بحقوق الإنسان إنها قابلة للتجزئة, يمكن القبول ببعضها ورفض البعض الآخر, في حين أن مجمل شرعة حقوق الإنسان التي تتكون من اللائحة الدولية لحقوق الإنسان 1948, والعهد الدولي للحقوق والحرّيات المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966, إضافة إلى كل المواثيق الأخرى التي صدرت فيما بعد والتي تضمنت الكثير من المسائل التفصيلية في ما تضمنه اللائحة الأساسية والعهدين الدوليين, ومنها حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق السجناء السياسيين والحقوق البيئية وتحريم التمييز العنصري وتحريم التعذيب ...الخ, هي التي يفترض أن تحترم وتمارس من قبل جميع دول العالم دون استثناء. ولكننا نعيش التجاوزات يومياً على حقوق الإنسان, سواء أكان من حكومات أم من قوى سياسية متطرفة ورافضة للآخر ومتجاوزة على  القوانين التي يفترض أن يكون معمولاً بها في الكثير من البلدان. 
ومن بين تلك الحقوق تؤكد كل اللوائح والمواثيق الدولية إلى حق الإنسان في اللجوء السياسي واحترام كرامته وعدم تسليمه للدولة التي ينحدر منها أو التي حمل جنسيتها والتي أجبر على ترك بلاده بسبب سياساتها التي لم يتفق معها ويعارضها, إضافة إلى احترام بقية حقوقه المشروعة كإنسان. ويفترض أن ينطبق هذا الأمر على سكنة مخيم أشرف في العراق.
وخلال الفترة التي أعقبت سقوط شاه إيران بثورة الشعب الإيراني, كانت هناك قوى سياسية وطنية إيرانية معارضة لنظام الشاه الإيراني, ومنها حزب توده وحزب مجاهدي خلق وحزب فدائيي خلق, إضافة إلى أحزاب برجوازية وطنية أخرى وقوى معارضة مستقلة. إلا أن قوى الإسلام السياسية بقيادة آية الله العظمى روح الله الخميني قد سيطرت على الثورة وهيمنت على الحكم وبدأت بعد فترة وجيزة إلى محاربة كل القوى السياسية التي كانت معارضة للشاه بهدف احتكار السلطة. ورفضت تلك الأحزاب الثلاثة هذه السياسة وعارضت سياسة الخميني, مما أدى إلى شن حملة قمعية ظالمة ضد هذه الأحزاب الثلاثة وقوى برجوازية وطنية أخرى, مما أجبر بعض قواها على مغادرة البلاد, في حين زج بأعداد غفيرة ومن قوى المعارضة في السجون والمعتقلات الإيرانية ووضعوا تحت رحمة الحرس الثوري الإيراني, الذي مارس كل الأساليب القمعية في التعذيب لفرض ما يسمى بـ"التوبة" عليهم والابتعاد عن أحزابهم والعودة إلى "جادة الدين!" بالقوة الغاشمة. وكان ولا زال ما يحصل في سجن إيفين الذي كشفت عنه قوى إسلامية من داخل المعسكر يؤكد صواب ما يتحدث به العالم ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية والمحلية عن جرائم الحرس الثوري وأجهزة الأمن الإيرانية بحق المناضلات والمناضلين الإيرانيين من قوى المعارضة السياسية لنظام هذه القوى الطائفية الحاكمة.
ومنذ سنوات قبل سقوط نظام الشاه في إيران وافق النظام العراقي على قبول جماعات من قوى المعارضة للشاه في أن تقيم في العراق, وهم جماعات من حزب توده وفدائيي خلق ومجاهدي خلق. وحين أعلنت الحرب العراقية الإيرانية عمدت الحكومة الإيرانية إلى ملاحقة مشددة وكثيفة ضد القوى التي عارضت سياساتها, مما أجبر الكثير من أعضاء ومؤيدي حزب توده مجاهدي خلق وفدائيي خلق على الهرب والالتحاق بجبال كردستان, وكنت شاهداً على وجودهم في جبال كردستان العراق وعمل بعضهم معي في إعلام الحزب الشيوعي العراقي وكانوا من فدائيي خلق ومن الحزب الديمقراطي الكردستاني في كردستان إيران مثلاً حيث احتضنهم الحزب الشيوعي العراقي. كما أن بعضهم قد وصل إلى بغداد واعتبروا لاجئين سياسيين, ومنهم الصديق الراحل, الذي اغتيل في النمسا من قبل أجهزة الأمن الإيرانية, الدكتور عبد الرحمن قاسملو, رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في كردستان إيران.
وقد ازداد عدد هؤلاء بمرور الزمن, خاصة بعد احتدام الحرب بين العراق وإيران, حيث اشتد الاضطهاد ضد القوى المعارضة للنظام السياسي الإيراني متسترين بغطاء الحرب والحفاظ على الجبهة الداخلية. وفي حينها حاول العراق الاستفادة منهم في صراعه ومساومته مع النظام الإيراني, خاصة وأن قوى معارضة عراقية كانت موجودة على الأرض الإيرانية وقريبة من حدود البلدين, إضافة إلى وجود واسع للمعارضة العراقية في كل من سوريا ولبنان وفي دول أخرى في العالم.
وأثناء انتفاضة الشعب العراقي ضد النظام العراقي في ربيع العام 1991 "يقال" أن النظام العراقي الاستبدادي حاول استخدام مجموعة من أعضاء مجاهدي خلق في ضرب انتفاضة الشعب العراقي. ولكن ليست هناك معلومات مدققة حول هذا الموضوع, والذي يمكن التحقق منه بطبيعة الحال عبر لجنة تحقيق مختصة ومحاسبة من أمر بذلك, علماً بأن النظام العراقي كان قد فرض على العرب من غير العراقيين أيضاً المشاركة في مثل تلك الفعاليات أو حتى في خوض الحرب العراقية الإيرانية.
إن وجود هذه الجمهرة الكبيرة من مجاهدي خلق في العراق يمكن أن تشكل نقطة احتكاك مع النظام الإيراني, ولكن غالباً ما كان مثل هذه الوجود لقوى معارضة لنظام معين نقطة احتكاك مع مضيفي قوى المعارضة في بلد آخر, كما كان الحال بين العراق وسوريا حين احتضنت سوريا قوى عراقية معارضة كثيرة ومتنوعة في فترة حكم البعث الصدامي.
إن من واجب الحكومة العراقية أن تحترم المواثيق الدولية في هذا الشأن وأن تبتعد عن اعتقال أو إبعاد هذه المجموعات الإيرانية المناهضة للحكم في إيران. إن ما حصل خلال الأشهر الأخيرة يعتبر كارثة إنسانية لا يجوز القبول بها بل إدانتها والعمل من أجل إيجاد حلول عملية مع الأمم المتحدة والدول الكبرى. إن من واجب الحكومة العراقية عدم تسليم أي من الجماعات القاطنة في العراق وفي مخيم أشرف إلى الحكومة الإيرانية, إذ أن ذلك لا يعني سوى الموت لهذه العناصر, وهو أمر مرفوض دولياً كما هو مرفوض ومذموم عرفاً وتقليداً في العراق. ولكن من حق الحكومة العراقية أن تطالب قاطني أشرف بعدم ممارسة النشاط السياسي ضد الحكم الإيراني من الأراضي العراقية.
إن الأخبار الواردة من العراق تشير إلى نقل 36 سجيناً من سكنة مخيم أشرف إلى بغداد بنية تسليمهم إلى إيران, وإذا ما حصل ذلك فأنها تعتبر جريمة سياسية حقاً يفترض محاكمة من ينفذ مثل هذه الجريمة. وعلى الأمم المتحدة أن تعمل من أجل تسلم هؤلاء السجناء ومنع تعذيبهم في بغداد أو تسليمهم إلى قوى الأمن الإيرانية وحرسها الثوري. إن حياة هؤلاء الناس الرهائن أمانة بيد الحكومة العراقية وعليها عدم تعريضهم لخطر الموت بأي حال.
لا بد من التحقيق في أسباب العمليات التي جرت ضد مخيم اشرف ومعاقبة المسؤولين عن قتل مجموعة من سكان المخيم أو حتى عن قتل أو جرح بعض الشرطة بسبب صدور أوامر بالهجوم على المخيم ومن فيه.
إن حملة عالمية ينبغي أن تنطلق لوقف أي استفزاز أو اعتداء أولاً, ثم التعاون مع سكان مخيم أشرف والأمم المتحدة لإيجاد حلول عملية لهؤلاء اللاجئين السياسيين على الأرض العراقية ثانياً.
ليس من حق الحكومة العراقية أو الدولة العراقية التدخل في الشأن الإيراني, رغم تدخل إيران الفظ واليومي في الشأن العراقي, ولكن من حق الرأي العام العراقي وأحزابه السياسية التعاطف مع الشعب الإيراني ومع القوى المعارضة لهذا النظام وتقديم التأييد لنضال الشعب الإيراني للخلاص من الحكم الثيوقراطي المستبد في إيران.
2/10/2009                        كاظم حبيب                 

1175
كاظم حبيب
هل العراق بحاجة ماسة إلى جبهة ديمقراطية واسعة؟

إن المتابعة الدقيقة والمستمرة لما يجري على الساحة السياسية العراقية خلال الفترة التي أعقبت إسقاط النظام الدكتاتوري الفاشي حتى الآن تؤكد بما لا يقبل الشك أن العراق بحاجة إلى ضمان مسألتين مهمتين, وهما:
1 . إنه بحاجة إلى قوى سياسية يسارية ذات نهج ديمقراطي تناضل من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة في المواطنة ورفض التمييز بمختلف أشكاله وصور ظهوره ومكافحة البطالة وتحسين ظروف العمل وحل المسألة الزراعية وتعجيل التوجه صوب التصنيع وبناء قاعدة اقتصادية متينة تستند إلى الموارد الأولية المتوفرة في البلاد, ومنها بشكل خاص النفط الخام والغاز الطبيعي, ومن أجل بناء المجتمع المدني الديمقراطي والدولة المدنية الديمقراطية التي تستند إلى الحياة والمؤسسات الدستورية والبرلمانية والفصل بين السلطات والتداول السلمي الديمقراطي البرلماني للسلطة. وهو بحاجة إلى قوى يسارية متآلفة ومتحالفة وقادرة على تشكيل رقم مهم مؤثر في الحياة السياسية العراقية لا تبقى تتحرك على هامش الحياة السياسية وتكتفي بالتثقيف العام للمجتمع أو تتحرك في مكانها. كما أن من المفروض أن تدرك جميع قوى اليسار في العراق بأن كلاً منها على انفراد غير قادر على تحقيق نتائج إيجابية كبيرة, سواء أكان على صعيد الانتخابات العامة, أم على مستوى مجالس المحافظات, أم على صعيد تحقيق أهداف الفئات الاجتماعية الكادحة المنتجة للخيرات المادية والفقيرة والمعوزة لتقديم الدعم والمساعدة لها للخروج من حالة الكفاف أو العيش تحت خطر الفقر الدولي المحدد للدول النامية أو البطالة الهادرة للكرامة.
2 . ولكن الساحة السياسية العراقية بحاجة ماسة حقاً إلى أكثر من ذلك , إنها بحاجة إلى قوى ديمقراطية أخرى أيضاً, إلى أحزاب سياسية وطنية ديمقراطية قادرة على تعبئة قوى الوسط ويسار ويمين الوسط في إطار الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة وغيرها من الفئات الاجتماعية, وبمعنى أخر, فالعراق بحاجة إلى أحزاب وطنية ديمقراطية يمكن أن تلتقي في جبهة عريضة مع أحزاب اليسار الوطنية بسبب أهدافهما الوطنية العامة المشتركة وبسبب سعيهما المشترك لصالح إقامة الدولة الديمقراطية البرلمانية والمجتمع المدني الديمقراطي القائم على أساس الحياة الدستورية والدولة المؤسسية والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة.
إن الطبقة الوسطى في العراق تتكون لتوها مجدداً بعد أن غيبت عملياً ما يقرب من أربعة عقود وفي الكثير من المجالات الاقتصادية والحياة السياسية, رغم أنها لا تزال ضعيفة وبعيدة عن المجال الصناعي الحديث والذي كما يبدو أنها سياسة مقصودة يراد بها إضعاف الطبقة الوسطى الصناعية وإبقاء البلد خاضعاً لموارد النفط المالية والاستيراد من الخارج وأن يبقى مكشوفاً لها, إضافة إلى إبقاء المجتمع العراقي مجتمعاً عشائرياً استخراجياً واستهلاكياً غير منتج للسلع الزراعية والصناعية يستهلك دخله القومي دون أن يعظّم الثروة الوطنية ويحقق التراكم المنشود وبما يسهم في تغيير بنية الاقتصاد الوطني وبنية الدخل القومي والبنية الاجتماعية وكذلك الوعي الاجتماعي والديني في البلاد. إنها سياسة خطرة لا يمكن مواجهتها إلا بتحالف القوى الديمقراطية من مختلف الفئات الاجتماعية وعلى مستوى العراق كله.
إلا أن هذا التوجه نحو قوى اليسار والقوى الديمقراطية الأخرى باعتبارها قوى سياسية وأحزاب وطنية غير كاف لمواجهة تحالفات سياسية يمينية, سواء أكانت إسلامية سياسية طائفية أم قومية, ما لم يجر التحرك على عدة اتجاهات أساسية في المجتمع العراقي, وهي:
أ . نحو منظمات المجتمع المدني الديمقراطية مثل النقابات العمالية والمهنية الكثيرة في العراق والجمعيات العاملة في مجالات الفنون والآداب والموسيقى والغناء والثقافة بشكل عام للتأثير الإيجابي عليها للمشاركة في الحياة العامة والانتخابات مع بقائها مستقلة من حيث المبدأ سياسياً.
ب . التوجه صوب الشبيبة العراقية, من النساء والرجال, التي تشكل نسبة عالية من سكان العراق والتي يهمها أن تعيش في أجواء الحرية والديمقراطية ورفع القيود المحددة لحركتها ونشاطاتها المتنوعة وضمان توفير كل مستلزمات تطورها الفكري والاجتماعي والفني والرياضي...الخ.
ج . التوجه صوب النساء العراقيات اللواتي حُرمن من الكثير من حقوقهن المشروعة والعادلة في الدستور أولاً, وفي الحياة العملية والممارسة اليومية ثانياً, وخضوعهن لإجراءات وعادات وتقاليد بالية تحط من مكانة ودور واستقلالية شخصية المرأة وكأنها إنسان من الدرجة الثانية.
إن النساء في العراق يشكلن قوة كبيرة فهن أكثر من نصف المجتمع ويهيمن على نسبة كبيرة منهن الجهل والأمية والخشية من التقاليد والعادات ومن الرجل, إضافة إلى دور المؤسسات الدينية والكثير من شيوخ الدين في تعميق هذه الوجهة السلبية في حياة المرأة. نحن بحاجة إلى توعية تنويرية في المجتمع النسوي العراقي, بحاجة إلى رفع الغشاوة عن عيون وعقول الغالبية العظمى منهن, علينا أن نبدأ مجدداً في العمل الدؤوب لتغيير واقع المرأة ووعيها ودورها في المجتمع وفي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية, إنها المهمة الكبيرة التي يفترض أن تنهض بها القوى الديمقراطية لأن غيرها من القوى لا يريد للمرأة غير الحالة الراهنة أو أكثر غوصاً في الجهل والأمية ومزيداً من الاختفاء وراء الحجاب. 
د . وعلى القوى الديمقراطية أن تتوجه صوب أتباع القوميات الأخرى وأتباع الأديان الأخرى أيضاً, هذه الجماعات السكانية تعاني اليوم من التمييز في المواطنة وفي التعامل اليومي والتي تواجه أخطار الموت على أيدي القوى الإرهابية المتطرفة والطائفية المقيتة, رغم أن قوى الإرهاب تلاحق الشعب العراقي كله, ولكن هناك نية مبيتة لدى الأوساط الإسلامية السياسية الإرهابية والكثير من القوى الطائفية المتطرفة التي تسعى إلى "تنظيف العراق!" من أتباع هذه القوميات وأتباع الأديان الأخرى. وعلينا أن نلاحظ ذلك بوضوح كبير, إذ ما جرى مع المسيحيين والصابئة المندائيين أو الإيزيديين المقيمين في الأقضية والنواحي التابعة لمحافظة الموصل إدارياً يمكن أن يتكرر في كل لحظة. إننا إذ نعمل بحرص ومسؤولية للحفاظ على حياة هؤلاء الناس, نحافظ في الوقت نفسه على التنوع الرائع في الحياة القومية والدينية في العراق, فهو موزائيك جميل وينبغي منع تفليشه.
هـ . إن العمل في هذه الأوساط الاجتماعية والفئات العمرية المختلفة يستوجب صياغة شعارات تمس مصالحهم الآنية وحاجاتهم المشروعة الراهنة والابتعاد عن تلك الأهداف المستقبلية التي يفترض أن يتضمنها برنامج حزب سياسي يساري أو ديمقراطي بشكل عام, إذ أن البرنامج مطروح للنقاش وعلى المجتمع كله ويمكن ترويجه باستمرار, في حين أن البرنامج الانتخابي يفترض أن يتضمن ما هو راهن وعملي يوضع في المقدمة من الحملة الانتخابية والتحري عن السبل في كسب هؤلاء الناس للمطالبة بتحقيق تلك الأهداف, مثل الكهرباء أو الماء أو النقل أو العمل أو تنظيف الشوارع وتخليص الناس من أكوام القمامة وتعمير الشوارع المدمرة وإقامة ساحات للرياضة أو توفير ملاعب للأطفال أو تأمين الكتب الدراسية أو تنظيم القبول في الجامعات والكليات والبعثات الدراسية والزمالات التي تمس الطلبة مباشرة وعائلاتهم لمنع استخدام أساليب غير نظيفة, أو استعادة بناء مجلس الخدمة العامة لتجنب المحسوبية والمنسوبية والمحاصة الطائفية, أو مكافحة الفساد المالي والإداري ابتداء من نشاط الرئاسات الثلاث ومجلسي الوزراء والوزراء والوزارات والمؤسسات ومجالس المحافظات, وتنظيم التجارة الخارجية والداخلية والرقابة على النوعية من خلال هيئة المقاييس وضبط أسعار السلع وسبل تنظيم الدعم الحكومي والكوبونات للعائلات الكادحة والمحتاجة فقط....الخ.
و . ولا بد من خوض نقاش واسع مع برامج القوى الأخرى, وخاصة برامج قوى الإسلام السياسية الحاكمة, التي "ذرعت بالجنة" وعمدت إلى إعطاء الانطباع بأنها ستجعل "الهور مرگ والزور خواشيگ" والعشاء لم يكن في حقيقة الأمر سوى "الخباز", إن على القوى الديمقراطية أن تقدم البراهين, وهي ساطعة على ما يعانيه الناس في مقابل الوعود من جهة, وكيف تعيش الفئة الحاكمة برفاهية وكهرباء مستمر من جهة أخرى. .       
إن الانتخابات القادمة تستوجب تكثيف العمل المشترك لكل القوى الديمقراطية والعلمانية العراقية من أجل بناء جبهة سياسية واسعة أو تحالف واسع لصالح خوض الانتخابات والتي ستكون قاعدة وأساساً جيداً لبناء التحالف الاستراتيجي المنشود, إن النجاحات الصغيرة هي التي تخلق أرضية مشتركة لنجاحات أكبر وعلاقات أمتن وتقرب تدريجاً من الفهم المتبادل لما يحتاجه العراق خلال الفترة القادمة.
 لنعمل من أجل رفع الهمم لتحقيق ما عجزنا عن تحقيقه حتى الآن رغم الجهود المبذولة والتي كما يبدو لم تكن كافية, كما جاء في مقالة العزيز الدكتور حسان عاكف, عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي. إن إدراك المصاعب التي تواجه تحقيق مثل هذه العملية لا يمنع من العمل من أجلها, بل يتطلب المزيد من الجهد ومن الجميع لضمان الوصول بأقرب فرصة ممكنة لتحقيق ذلك, وأن نستمر في الحفاظ عليه وتطويره وليس نسيانه بعد الانتهاء من الانتخابات أياً كانت النتائج التي يمكن أن يخرج بها تحالف القوى الديمقراطية العراقية. من المفيد أن يستعيد تحالف "مدنيون" دوره ويتوسع مع قوى ديمقراطية أخرى ليصبح قادراً على التأثير الإيجابي في الانتخابات القادمة.
المسيرة طويلة والمهمات كثيرة ومعقدة, ولكنها تستحق وتستوجب بذل المزيد من الجهد لصالح تأمين مستلزمات تحقيقها ولو على مراحل.         
2/10/2009                     كاظم حبيب

1176
كاظم حبيب
مقابلة صحفية في الشأن العراقي
وجه الصحفي والكاتب العراقي الأخ السيد سعدون محسن هليل عدة أسئلة للإجابة عنها.
وقد أرسلت له للنشر في جريدة المدى العراقية في أوائل أيلول/سبتمبر 2009 بتاريخ .
الأسئلة
= البناء الديمقراطي في العراق ،  ماهي المعوقات والتحديات التى تواجة هذا المشروع  ؟
= كيف يتم بناء دولة ديمقراطية في العراق ومجتمع ديمقراطي ؟
= الازمة العراقية هل هي ازمة بناء مجتمع ام ازمة بناء دولة ؟ ماهي القوى الاساسية التي بستطاعتها بناء دولة؟
= من مهام الدولة الحديثة تفكيك الولاءت الطائفية والقومية والاثنية وان تكون الدولة المحور الاساسي  هل حدث هذا التحول في العراق منذ العام 2003 ؟
= الطبقة الاجتماعية الوسطى الشرط الاجتماعي لقيام وبناء دولة  ماهي الشروط الاقتصادية لاعادة ترميم الطبقة الوسطى ؟

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الجواب الأول
** تتوزع معوقات  البناء الديمقراطي بالعراق على عاملين أساسيين متشابكين, وهما:
العامل الموضوعي الذي يرتبط بواقع المرحلة التي يمر بها المجتمع ومستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والتركة الثقيلة التي تعيد إنتاج مكوناتها, ومن ثم تجليات ذلك في مستوى الوعي الاجتماعي للفرد والمجتمع أولاً, ومن ثم العامل الذاتي الذي يرتبط بالقوى والأحزاب السياسية العراقية وبرامجها واتجاهات نشاطها وأساليب عملها والمستوى الحضاري الذي تجد نفسها فيه ويؤثر بقدر كبير على دورها ودور فئات المجتمع في مجمل العملية السياسية في العراق ثانياً.
وحين نسعى إلى تحليل أو تفكيك هذا العامل الموضوعي, سنجد أنفسنا في مواجهة ثلاث مشكلات جوهرية, وهي:
1.   استمرار وجود وفعل بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في الريف وتأثيرها المباشر وغير المباشر على سكان المدينة وعلى مجمل العملية الاقتصادية وتخلف عملية التخلص من تلك العلاقات وبناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية التي تعتبر مرحلة متقدمة من مراحل التطور الاجتماعي للمجتمع العراقي والتي لم يبلغها بعد. وطبيعة هذه العلاقات الإنتاجية تمنع عملياً التراكم الرأسمالي في التنمية الصناعية والزراعية والبحث العلمي وفي تغيير البنية الاقتصادية وتبرز إلى السطح النزعة الاستهلاكية بدلاً من التراكم الضروري الُمعظم للثروة الوطنية. 
2.   إن هذا الواقع يرسم لنا الخريطة الطبقية للمجتمع, إذ تشكل فئات الفلاحين والهامشيين والفقراء والكادحين والعاطلين عن العمل النسبة الكبرى من السكان, في حين نجد ضعفاً شديداً في عدد وبنية الطبقة الوسطى والطبقة العاملة وفئات المثقفين والمتعلمين في المجتمع.
3.   ويجد المتتبع تجليات هذا الواقع في البنية العقلية والوعي الاجتماعي والديني للسكان من جهة, وفي ضعف الطبقات الاجتماعية الحاضنة للمجتمع المدني الديمقراطي في العراق من جهة أخرى, في حين يرتفع دور مؤسسة العشائر والمؤسسة الدينية, وهما مؤسستان متحالفتان في مواجهة ثلاث مسائل أساسية في المجتمع العراقي, وهي:
** ضد التصنيع وضد تنامي مكانة ودور الطبقة الوسطى أو البرجوازية الوطنية الصناعية والطبقة العاملة في الاقتصاد الوطني وفي الحياة السياسية أولاً ودور ومكانة الفئة المثقفة في الحياة السياسية والثقافية والتربوية والتعليمية ثانياً.
** ضد بناء المجتمع المدني الديمقراطي والحريات العامة وحل مشكلة الأرض الزراعية والتنمية الزراعية الحديثة وضد تعليم البنات.
** ضد الانفتاح على ثقافات العالم والتلاقح الثقافي وتنشيط الحياة والحريات الديمقراطية وضد تحرير المرأة ومساواتها بالرجل ...
وفي مثل هذه الأجواء يتدنى الموقف من الهوية الوطنية والوطن والمواطنة ويتفاقم الاعتماد على الهويات الثانوية التي يمكن أن تكون قاتلة للهوية الوطنية وممزقة للنسيج الاجتماعي كالهويات الطائفية أو الهويات القومية الشوفينية أو الهويات القومية ذات الأفق القومي الضيق, ثم الهويات العشائرية (القبلية) والأسرية والإقليمية والمحلية.
إذن نحن أمام واقع قائم لم ينشأ اليوم, ولكنه قادم مع التركة الثقيلة السابقة والمتفاقمة بفعل الواقع الراهن الذي يتجلى بالعمليات التي تعطي الذريعة بعدم التوجه صوب التنمية, والتي هي تشير إلى نصف الحقيقة وليست الحقيقة كلها.

أما العامل الذاتي فهو نتاج العامل الموضوعي من جهة, ونتاج ما يفرزه العامل الموضوعي من نتائج في مجال الشرعية الديمقراطية وغياب الحياة الدستورية الحقيقية وتقريم الحريات الديمقراطية والفصل بين السلطات الثلاث وفصل الدين عن الدولة وضعف الوعي الاجتماعي, ومنه الوعي الديني وضعف مجمل البناء الفوقي للمجتمع بما فيه الأحزاب السياسية.
فالأحزاب السياسية تنشأ من أعماق هذا المجتمع وتأخذ سماتها منه, رغم محاولتها طرح بدائل فكرية وسياسية, ولكن لا يوجد تطابق بين الواقع وبين النظرية أو بين البرنامج المتبنى حتى من القوى التي تدعو للديمقراطية أو تسعى للالتزام بها وبين الممارسة الفعلية, إذ أنها ليست مسألة ترتبط بالرغبات والإرادة الذاتية, بل هي عملية موضوعية.
فأغلب الأحزاب القائمة في العراق, كل العراق تستند إلى مؤسستين: العشائرية والدينية, ومن الاثنين تبرز المؤسسة القومية. وهي تدعو إلى إقامة دولة غير ديمقراطية ولا تسعى إلى المجتمع المدني من خلال عدم سعيها لتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع العراقي, رغم ما تدعيه بغير ذلك, إذ أن الواقع يؤكد هذا الاستنتاج. والأحزاب الديمقراطية والعلمانية واللبرالية حين تنظر إليها بعناية وتفحص سلوكها اليومي وعلاقتها ببعضها أو بمؤسسات الدولة, ومنها الحكومة والمجلس النيابي والمجتمع, ستجد أنها لا تسير وفق نهج ديمقراطي سليم. وحين تصل إلى السلطة ستكون الفجوة بينها وبين ما تسجله في برامجها كبيرة حقاً.
لم يكن صدام حسين غريباً عن المجتمع العراقي, فهو من هذا المجتمع الفلاحي, العشائري والديني, ومن أمثاله لا يخلو المجتمع, رغم أن بعضهم لم يتسن له الحكم حتى الآن. ولهذا جاء في مقال لي, مات الدكتاتور, فهل انتهت الدكتاتورية في بلادنا أو توقفت عملية إعادة إنتاج الدكتاتوريين.
إذا أردنا بناء دولة ديمقراطية اتحادية حديثة في العراق نحتاج إلى تغيير في العاملين المشار إليهما سابقاً, أي نحتاج إلى:
1.   النضال من أجل بناء القاعدة  المادية للمجتمع المدني الديمقراطي, بناء القاعدة الاقتصادية الصناعية والزراعية الحديثة, وتوسيع قاعدة  الطبقة الوسطى والطبقة العاملة والمثقفين باعتبارها الفئات الحاضنة للمجتمع المدني والقادرة على تنمية الوعي الاجتماعي والديني والمنشطة للحريات والحقوق الديمقراطية والتداول الديمقراطي للسلطة ...الخ. وهذه الوجهة تفسح في المجال إلى مكافحة البطالة والبطالة المقنعة وتوفير الأساس السليم لحماية كرامة الإنسان من الفقر والفاقة والحرمان.
2.   النضال من أجل إرساء المؤسسات التشريعية الديمقراطية والعمل بها وبناء الحياة السياسية والحزبية على وفق أسس حديثة وإعادة بناء الأحزاب السياسية وتجديدها وإلزامها بالعمل وفق قواعد ديمقراطية وبعيدة عن الاتجاهات الفكرية العنصرية والشوفينية والطائفية السياسية والتمييز بمختلف أشكاله.                 
3.   الالتزام باللوائح الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية واللوائح الدولية الخاصة بالعلاقات مع الدول الأخرى وسبل حل الخلافات الداخلية وعلى المستويين الإقليمي والدولي.
4.   وهذا التوجه يوفر أرضية صالحة لمحاربة الفساد المالي والإداري والكشف عنه بسرعة حين وقوعه من جهة, ومكافحة الإرهاب والأساليب الإرهابية في ترويع المجتمع وقتل الناس الأبرياء وتدمير الاقتصاد الوطني والثروة الاجتماعية من جهة ثانية. 
ومن هنا تبدو للمتتبع حقيقة التفاعل والتشابك الضروريين بين العامل الموضوعي والعامل الذاتي والذي لا ينشأ بصورة ميكانيكية, بل يتطلب نضالاً دؤوباً من جانب القوى المثقفة والواعية في المجتمع.
الجواب الثاني
إن الإجابة عن السؤال الأول تكشف جوهر الإجابة عن السؤال الثاني من حيث البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربية والتعليم, وتضع نصب أعيننا, ونحن نناضل من أجل بناء الدولة الديمقراطية, أهمية منح القضايا التالية اهتماماً أكبر:
1, الاهتمام بالعملية التربوية والتعليمية التي تستغرق وقتاً طويلاً إلى حين الحصول على نتائج طيبة, تربية وتعليم وثقافة إنسانية ديمقراطية حرة بعيدة عن التعصب الديني والقومي أو التمييز بمختلف أشكاله. إن مكافحة أمية القراءة والكتابة لم تعد كافية, بل يفترض مكافحة أمية التعامل الواعي مع التقنيات الحديثة والثورة الجديدة في الحضارة الإنسانية الأكثر حداثة وتقدماً.
2. إعادة صياغة الكثير من بنود الدستور العراقي لجعله مفهوماً وواضحاً وليس حمالاً لأوجه عديدة أو تشوبه مسحة طائفية سياسية مريبة لا تمت إلى الدساتير الديمقراطية بصلة.
3. الفصل الفعلي بين السلطات الثلاث والاستقلال التام للقضاء وفصل الدين عن الدولة وممارسة بنود الدستور العراقي في ما يخص نزاهة الانتخابات العامة ووضع القوانين الكفيلة بممارسة الحياة الحزبية والسياسية بصورة عقلانية والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة. وليس هناك أهم من رفض بناء الأحزاب العراقية على أسس طائفية سياسية أو مذهبية, إذ أنها السبيل لزعزعة الوحدة الوطنية العراقية وتدمير النسيج الوطني للشعب العراقي بكل مكوناته القومية.
4. إن التفكير العقلاني يطرح ضرورة منح المثقفة والمثقف في العراق الدور المناسب والفعال في الحياة العامة وفي تعميق الوعي الوطني والديمقراطي للمواطن وعلى أساس المواطنة الحرة, وعلى أساس عدم التمييز بين المرأة والرجل, بل المساواة بينهما.   
5. ولا بد من إلغاء المحاصصة الطائفية الراهنة التي عمقت ما كان موجوداً من تمييز طائفي في العراق قبل ذاك ومنذ تأسيس الدولة العراقية وتفاقم بعد ذلك, وخاصة في فترة حكم القوميين العرب والبعثيين الذين دمجوا عملياً بين القومية والمذهب السني واتهموا الشيعة بالشعوبية والعداء للعرب ظلماً وبهتانا. 
إن بناء الدولة الديمقراطية عملية معقدة وصعبة كما أنها طويلة الأمد, إذ تبدأ بتغيير بنية الاقتصاد والمجتمع والوعي وتتواصل متزامنة ومصاحبة لدور فعال لوسائل الإعلام والثقافية والتربية والتعليم والمناهج التربوية والدراسية والممارسة الفكرية والسياسية للأحزاب العراقية.
الجواب الثالث
الأزمة العراقية أزمة مركبة تجمع بين الأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية والأزمة الثقافية والتربوية والتعليمية, إضافة إلى أزمة أخلاقية وقيم حضارية, أزمة دولة ومجتمع في آن واحد. وتبرز تجليات هذه الأزمات لا في كل مجال على انفراد حسب, بل وفي فعل كل منها وفي تشابك أفعالها وتداخل عواقبها أو التأثير المتبادل في ما بينها. هنا يمكن أن أورد مثالاً واحداً على المجال التربوي والتثقيفي:
حين نواجه في الساحة السياسة أحزاباً طائفية سياسية تعتمد المذهب كهوية وتمارس التمييز الطائفي السياسي, وحين تمارس هذه الصيغة في توزع المناصب الوزارية, سنجد تجليات ذلك في داخل كل وزارة وفي العلاقة بين الوزارات وكذلك بين كل الوزارات والمراجعين المتتبعين لمعاملاتهم اليومية, وستخلق إشكالية اجتماعية وحكومية في آن واحد وستنعكس على بقية مجالات الحياة. أو حين تكون المناهج الدراسية في المدارس الابتدائية محملة بفكر طائفي سياسي وقومي شوفيني سينعكس ذلك سلباً على العلاقة بين الطلبة ويتفاقم لينعكس على العائلات وعلى المجتمع بأسره, ثم ينمو في داخل الدولة ويتفتت النسيج الوطني. ويخلق أزمة ثقة في ما بين الناس وبين الناس والحكومة...الخ.
والأزمة الاقتصادية القائمة في العراق ذات طبيعة بنيوية, وتتجلى في بنية الاقتصاد وتجليات ذلك في البنية الاجتماعية. ويخلق هذا الواقع المتخلف بطالة واسعة وبطالة مقنعة, وتبرز تجلياتها في مشكلات اجتماعية ونفسية وأخلاقية كبيرة, وهو ما يعاني منه العراق حالياً.
الأزمات العراقية المتداخلة والمتبادلة الفعل والتأثير ليست بنت اليوم, وهي متراكمة عبر الزمن, ولكنها متفاقمة مع الأيام وبفعل عوامل عديدة جئت على ذكر أهمها في الإجابتين السابقتين, إذ لم تجر معالجتها بصورة سليمة.   

الجواب الرابع
 لقد نشأت الدولة العراقية باتجاهات ثلاثة, وهي:
1.   دولة تقوم على أساس دستور مدني ديمقراطي يعتمد الملكية الدستورية الديمقراطية قاعدة للحكم في البلاد.
2.   دولة اعتمدت المذهب السني في الإسلام, رغم أنها تميزت بالعلمانية من الناحية العملية, ولكنها لم تخل من التمييز الطائفي الممارس فعلاً.
3.   دولة تعتمد قانون العشائر كمرادف للدستور المدني الديمقراطي.
وفي الممارسة العملية كنا نجد هذه الحالات الثلاث مع موقف شيعي ينبع من المؤسسة الدينية الشيعية مشجع على عدم المشاركة في الدولة ثم المشاركة فعلاً من جانب فئات المجتمع وبرز موقف المواطنة بوضوح أفضل, ولكنه بقى يعاني من التمييز, إضافة على التمييز ضد المرأة. وقد شكا الملك فيصل الأول من واقع المجتمع وفئاته المثقفة حينذاك.
جاءت ثورة تموز 1958 فأعطت زخماً جديداً لمبدأ المواطنة   العراقية ومحاول معالجة المشكلات الطائفية بروح تقدمية, خاصة وأن قائد الثورة كان من أب سني وأم شيعية ولم يلتزم بالطائفية بل كان ضدها وعمل من أجل المواطنة والتي تجلت حين سؤل كيف يعين العالم الكبير الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيساً لجامعة بغداد وهو صابئي مندائي الدين, فقال لهم بوضوح تام أنا عينته ريساً لجامعة بغداد وليس أماماً لجامع.
ثم جاء حكم البعثيين والقوميين, فكان التمييز الطائفي على أشده وتفاقم سنة بعد أخرى حين بدأت صحافة عدي صدام حسين بالإساءة لأتباع المذهب الشيعي بصورة وقحة وقبيحة, مما عمق مشاعر الخلاف, ولا يجوز بأي حال اتهام أتباع المذهب السني بالمسؤولية عما مارسته القيادة البعثية وعائلة صدام حسين في هذا المجال.
وحين سقط النظام دار الدائرة بعكس الاتجاه وأصبح المجتمع يعاني من طائفة مستفحلة شددتها الأحزاب السياسية الإسلامية والقائمة على أسس مذهبية وممارسات طائفية سياسية,
والدولة التي نهضت في أعقاب إسقاط النظام الدكتاتوري عبر الحرب الخارجية قامت على أسس طائفية وجدت تعبيرها في بنية مجلس الحكم الانتقالي. وبالتالي لم تنهض الدولة العراقية بتفتيت النهج الطائفي بل كرسته وعمقته ونقلته إلى الأوساط الشعبية وما اقترن بذلك من قتل متبادل على الهوية ونشاط قوى الإرهاب الطائفية والمليشيات المسلحة في هذا الصدد.
نحن بحاجة إلى ثلاث عمليات:
1.   التخلي عن إنشاء أحزاب سياسية تقوم على أساس مذهبي وتمارس سياسات طائفية, بل نحتاج إلى أحزاب وطنية عراقية لا تعتمد الدين والمذهب أساساً لها.
2.   التخلي عن ممارسة مبدأ المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب في الدولة وفي الوزارات والمؤسسات. ومن المؤسف أن نتابع الآن عودة قوى  إسلامية سياسية مذهبية مرة أخرى إلى تحالفات ذات نهج مذهبي طائفي سياسي لا يقود إلا إلى انتعاش الطائفية السياسية المقابلة وإلى تصليب الانقسام والاصطفاف الطائفي في المجتمع. ومثل هذا النهج لا يفتت الطائفية بل ينشطها. وما جر بعض العلمانيين من أتباع المذهب الشيعي إلا محاولة جادة لتفتيت القوى الديمقراطية وعزلها عن محيطها ودورها الديمقراطي.
العراق ليس بحاجة إلى دولة مركزية جامدة ومتصلبة, بل بحاجة إلى دولة مدنية اتحادية ديمقراطية تعي دورها ومهماتها, وتضع القوانين الكفيلة بتوزيع المهمات على ثلاث مستويات على مستوى الحكومة الاتحادية وعلى مستوى ح-كومة الإقليم وعلى مستوى المحافظات. وهي الصيغة التي تجعل الجميع قوياً من خلال ممارسته لصلاحياته أو حقوقه وواجباته لإنجاز المهمات الملقاة على عاتقه.   

الجواب الخامس
خلال سنوات العهد الملكي نمت الطبقة الوسطى العراقية ببطء شديد وعانت الكثير من المصاعب, ولكنها, وبالتعاون مع الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة والمثقفين, لعبت دوراً مهماً في النضال من أجل إقامة المجتمع المدني ونشر الديمقراطية. وكانت لهذه الطبقة الوسطى ممثلون سياسيون مثل الحزب الوطني الديمقراطي, معبراً عن الوسط ويسار الوسط بشكل عام, في حين كان حزب الاستقلال معبراً عن يمين الوسط أو اليمين القومي للفئات الوسطى, أم حزب الجبهة الشعبية فكان يتحرك بينهما.
وفي تموز من عام 1964 تلقت الطبقة الوسطى الصناعية ضربة قوية من قبل القوى القومية, حين أصدر عبد السلام محمد عارف بناء على توصيات القوميين الناصريين, ومنهم الدكتور خير الدين حسيب, قرار تأميم مشاريع الطبقة الوسطى في الصناعة والتجارة على نحو خاص, بهدف التقارب مع إجراءات وقرارات التأميم التي أصدرها جمال عبد الناصر في مصر في الفترة بين 1961-1964. وقد أعاقت هذه الإجراءات نمو الطبقة الوسطى في العراق, وخاصة في مجال التصنيع, كما كانت قد أعاقت قبل ذاك تطور الاقتصاد المصري وأجهزت على الطبقة الوسطى بشكل خاص.
ثم تمتعت الطبقة الوسطى في العراق ببعض المكاسب في العقد الثامن من القرن العشرين والذي لم يستمر طويلاً, حيث كانت الغوص في سياسات الاستبداد ومصادرة كل شكل من أشكال الحرية ثم الحروب المتتالية. وتعرضت البرجوازية المتوسطة إلى ضربات قوية ولم تعد هناك في تسعينيات القرن العشرين طبقة وسطى بل انحدر أصحابها إلى مستوى الفئات البرجوازية الصغيرة مثلاً أو تركوا البلاد إلى الخارج. ونمت على  أنقاض هذا الواقع بعض القطط السمان من أصحاب النعمة الحديثة من أتباع النظام وحاشيته وحواشيه.
واليوم لا نجد طبقة وسطى فعلية في البلاد, ولكن هناك نشوء جديد لطبقة وسطى لا تزال لا تحظى بأي اهتمام ورعاية ودعم. والمجال الملائم والضروري لنمو البرجوازية المتوسطة أو الطبقة الوسطى هو القطاع الصناعي والاستثمار الزراعي الحديث والنشاط التقني والأبحاث وفي مجالات التجارة الداخلية والمصارف والتأمين التي تعتمد على المنتجات المحلية وليس الاستغراق في الاستيراد إلى حد منع نمو طبقة وسطى صناعية وزراعية حديثة.
العراق يواجه مصاعب جمة في هذا المجال والذي تجسده تصريحات مهمة صادرة عن رئيس اتحاد الصناعات العراقي ورئيس اتحاد رجال الأعمال, إضافة إلى ما يطرحه الاقتصاديون المتخصصون في مجالات التنمية والتصنيع في البلاد.
إليكم الملاحظة التالية:
خلال الأشهر الأخيرة, دع عنك منذ تولي السيد المالكي رئاسة الوزراء التقى عشرات المرات بشيوخ العشائر والتجمعات العشائرية ألقى فيه العشرات من الخطب, ولكن لم يلتق ولا مرة واحدة باتحاد الصناعات العراقي أو باتحاد رجال الأعمال أو بأساتذة الجامعة, في ما عدا اجتماع ذوي الكفاءات القادمين من الخارج, كما لم يلتق بالاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. إنها لظاهرة سلبية تعبر عن الموقف من المجتمع المدني من جهة, ومن المجتمع العشائري من جهة أخرى. وهي ظاهرة سلبية غير مقبولة ومؤثرة سلباً على وجهة تطور المجتمع.   
      5/9/2009         كاظم حبيب



1177
كاظم حبيب
قوى التيار الديمقراطي ستبقى بحاجة إلى مزيد من الجهد لتوحيد صفوفها

خلال السنوات الست المنصرمة خاضت قوى التيار الديمقراطي عدة انتخابات وبصيغ مختلفة, سواء أكان ذلك بصورة منفردة أم بتحالفات جزئية, وكانت النتائج غير مريضة للجميع, رغم أن الانتخابات لا تعني الوصول إلى المجالس النيابية بالضرورة فحسب, بل تعني التثقيف والتنوير الديني والاجتماعي ورفع مستوى المسؤولية لدى المواطنة والمواطن إزاء مصائر الشعب. إلا أن هذا التأثير يفترض أن يتجلى في عدد الأصوات الذي تحرزه قوى هذا التيار ومدى القدرة على إيصال صوت القوى الديمقراطية إلى البرلمان, رغم ما يشوب تلك الانتخابات من تشويهات وتزويرات متنوةعة وإساءات ورشوات أو فرض القسم على الناخب ليمنح صوته لجهة إسلامية معينة دون غيرها من القوائم ...الخ.
ها نحن نقترب من موعد انتخابات عامة جديدة سوف لن تكون سهلة, كما لا يمكن ضمان نزاهتها, مثلما يفترض أن تكون عليه أية انتخابات عامة, وها نحن نلاحظ حمى العمل من أجل تشكيل التحالفات السياسية, سواء تلك التي تعتمد على بعض المرجعيات الدينية وشيوخ العشائر والهوية المذهبية, أم تلك التي تعتمد على الانتماء القومي وتضييق مجال الانفتاح على كل القوميات في العراق. وبعض هذه التحالفات يحظى بإسناد إقليمي كبير ومتنوع, في حين لا تزال قوى التيار الديمقراطي لم تتوصل إلى نتيجة تساعد على تعبئة كل أو أغلب قوى التيار الديمقراطي في ائتلاف سياسي يضمن لها حركة موحدة في الشارع العراقي ويؤمن لها قوة عددية ونوعية جيدة نسبياً في الانتخابات القادمة تستطيع بها التأثير الإيجابي على مجرى الأحداث السياسية في العراق, وخاصة تلك التي تمس مصالح الفئات الكادحة في المجتمع.
لا نقلل من أهمية عقد الاجتماعات التي تحصل في ما بين القوى الديمقراطية, فهي ضرورية كما أنها تشكل الدرب الموصل إلى عقد اتفاقات. ولكن قرب الانتخابات يجعل من عقد مؤتمر عام للقوى الديمقراطية أكثر فائدة وأكثر تأثيراً في الناخب العراقي ويساعد على تعبئة القوى الديمقراطية ويزجها في العملية الانتخابية, رغم كل المعوقات, بصوت واحد وهدف واحد حالياً, وأعني به إيصال أكبر عدد ممكن من المرشحين إلى المجلس النيابي. ولن يتم هذا بعقد المؤتمر وحده, بل هو أحد الأدوات المهمة, في حين أن الأدوات الأخرى هي الدفاع عن مصالح الناس, كما حصل في اعتصام الرصافة, والمطالبة بحل مشكلات الناس اليومية وخاصة موضوع الكهرباء وما إلى ذلك وعدم نسيان إمكانية استخدام الإضراب والمظاهرة وأشكال الاحتجاجات الشعبية الأخرى.
أدرك أن الكتابة في هذا الموضوع تتكرر ويضيق صدر البعض بسبب الإلحاح عليه ونقد الجوانب السلبية, و خاصة ضعف وتفتت الحركة في حين أن الوقت يسير بسرعة ويصعب اللحاق بأولئك الذين يملكون النقود والدولة والتأييد الخارجي وأساليب أخرى تساعدهم في حركتهم وإشباع حاجات بعض الناس بالبطانيات أو المدافئ لضمان الصوت ونحن نقترب من فصل الشتاء, أو غير ذلك من أدوات إسكات الضمير الحي لدى الناخب.
في الحركة بركة, وفي بطئها ضرر, وفي سرعتها مع وضوح الرؤية والهدف وتجميع القوى منفعة لقوى التيار الديمقراطي والشعب وتحقيق الاستقرار والأمن في البلاد. لا زلت عند رأيي بأن الحركة بطيئة والاجتماعات لم تتوصل إلى نتائج مثمرة حتى الآن في ما بين قوى التيار الديمقراطي, وأن الجهد موجه صوب نشاط كل حزب أو جماعة لتنشيط جماعته.
ليس هناك من بديل للطائفية السياسية غير القوى الديمقراطية والعلمانية على صعيد العراق كله, طال الوقت أم قصر, ولكن كلما أمكن تقصير وقت وصول القوى الديمقراطية إلى مواقع المسؤولية والمشاركة في رسم سياسية البلاد الداخلية والخارجية, أمكن معه تقليص الآم الشعب وحل مشكلاته الراهنة وإعادة الأمن والاستقرار والسلام للبلاد بعد سيادة الموجة الطائفية المقيتة في ربوع البلاد وما صاحبها ولا يزال من إرهاب دموي مرعب..
على قوى التيار الديمقراطي, وأحسب نفسي منها, أن توطن نفسها على سماع النقد وان نتعلم جميعاً سبل ممارسة النقد الديمقراطي البناء. الديمقراطية ليست صبغة يمكن أن يتلون بها من يشاء, بل هي حضارة وممارسة يومية وثقافة حوار هادئ وموضوعي ونقد هادف, ونحن جميعاً بأمس الحاجة إلى كل ذلك.
إن النداء الذي يوجه إلى قوى التيار الديمقراطي يتفرع إلى عدة اتجاهات:
•   العمل من أجل تعزيز الصلة بالجماهير من خلال الدفاع عن مصالحها اليومية بالعمل اليومي وقيادة نضالاتها من أجل تأمين الخدمات لها وإيجاد فرص عمل للعاطلين.           
•   القبول بالآخر والتفاعل معه وإيجاد قواسم مشتركة للعمل المشترك بين جل أو أغلب قوى التيار الديمقراطي من أجل خوض الانتخابات القادمة التي تسهل مهمة الوصول إلى إستراتيجية عمل مشتركة بين القوى الديمقراطية.
•   أن يكون شعار المرحلة قووا تنظيم الحركة الوطنية يتعزز من خلاله تنظيم كل قوة من قوى التيار الديمقراطي وينمو التفاعل والانسجام في ما بينها, وهي ليست بديلاً عن شعار الرفيق فهد "قووا تنظيم حزبكم, قووا تنظيم الحركة الوطنية", ولكن المرحلة تتطلب توجهاً مشتركاً لغرض مواجهة قوى مشتركة تريد فرض تحالفات طائفية والمجيء بمجلس طائفي وحكومة طائفية.
•   توجيه النقد اللازم للسياسات التي تمارسها الحكومة في الكثير من المجالات بما في ذلك نقص الخدمات والطائفية السياسية والفساد المالي المتفشي في البلاد.
•   إن تكتيك التحالفات السياسية حول مهمات يومية تمس مصالح الفئات الاجتماعية الكادحة والمثقفة ومصالح الاقتصاد الوطني, وتكتيك خوض الانتخابات بقوى ديمقراطية مشتركة تلتقي عند تلك المهمات هو الطريق العملي والمضمون للوصول إلى إستراتيجية تحالفات سياسية طويلة الأمد, وليس العكس, إذ من الصعوبة بمكان الاتفاق على إستراتيجية طويلة الأمد من دون الخوض المشترك لتجارب نضالية يومية لتعزيز الثقة المتبادلة والوعي المتبادل بأهمية الآخر وضرورات التحالف والعمل المشترك.
•   الاستماع بأذن صاغية إلى الملاحظات النقدية التي تصل إلى قوى التيار الديمقراطية من كل من يوجه النقد بغض النظر عن مصدره والغاية منه, إذ في كل ذلك فائدة لقوى التيار الديمقراطي ويخدم مسيرتها النضالية وتحالفاتها المنشودة, كما ينبه إلى مواطن الخلل ومواطن القوة في آن وما يفترض أن يعزز أو يعالج بالتصحيح.  أتمنى أن لا يفقد البعض صبره وبصيرته حين يتعرض للنقد الصريح والشفاف والمخلص.
•   أهمية الابتعاد عن التحالف مع قوى الإسلام السياسية التي فرضت الطائفية في البلاد وكرستها في الدستور الدائم وتعمل اليوم وفق هذا النهج أيضاً, بغض النظر عن التسمية التي تتسمى بها, فهي في المحصلة النهائية واحدة.
15/9/2009                         كاظم حبيب 



1178
كاظم حبيب


التردي الحضاري في السلوك الأكاديمي لجامعة تكريت وموقف الدكتور محمد صابر عبيد!

تعاني الجامعات العراقية منذ أكثر من ثلاثة عقود من تفاقم حالة التردي في المستوى المناهج الدراسية والتعليم, إضافة إلى التجاوزات الفظة على المستوى المهني للدراسات العليا. كان من النادر حقاً أن تجد كليات استطاعت أن تحافظ على مستوى معين من العلمية والدراسات الأكاديمية بسبب التدخل المباشر للدولة وأجهزتها في الشؤون الأكاديمية. وقد لعب حزب البعث العربي الاشتراكي باتجاهاته القومية الشوفينية وسياساته الطائفية ومناهضته العدوانية للفكر الآخر دوراً أساسياً في تعميق التردي الذي حصل في المستوى الأكاديمي للجامعات العراقية, بحيث غادر الكثير من الأساتذة جامعاتهم للخلاص من ذلك التدني في المستوى والتأثير الحزبي وتدخل منظمة الطلبة البعثية في الشأن العلمي وفي نتائج الامتحانات وفي فرض منح الشهادات وطبيعة ووجهة ومضمون الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه). كما كان للاستبداد والقمع والإرهاب البعثي دوره في كل ذلك.
ولم يستطع سقوط النظام العراقي تغيير هذه الحالة, إذ سقط العراق في لجة الصراع الطائفي والقتل على الهوية وقتل الأساتذة والمثقفين والكثير من بنات وأبناء العراق. وقد أصبح العراق بالنسبة للمثقفين الديمقراطيين والعلمانيين جحيماً لا يطاق. ولم ينقطع التردي الحضاري في المستويات الجامعية بعد سقوط النظام, بل تفاقم, كما يتبين ذلك من الدراسات والتقييمات الموضوعية التي أعدها باحثون عن واقع الجامعات العراقية ومستوى التعليم والمناهج ومستوى الدراسات العليا.
ورغم كل ذلك لم تجرأ جامعة عراقية في فترة حكم البعث أن ترفض البحث في حياة شاعر أو كاتب عراقي بسبب الانتماء الطائفي الذي يراد دراسة شعره أو كتاباته. وغالباً ما كان الرفض يستند إلى قضايا فكرية وسياسية.
ومن هنا جاء الاستنفار العادل الذي بدأ به الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق حين استعرض لنا ما حصل في كلية التربية في جامعة تكريت. لقد رفضت لجنة خاصة في كلية التربية طلب أحد طلاب الدراسات العليا في كتابة أطروحة دكتوراه حول الشاعر العراقي المعروف والمبدع حسب الله يحيى. ولم يأت هذا الرفض لأسباب علمية مشروعة, بل جاء صريحاً يحمل في طياته الجرح الذي لا يزال الشعب ينزف بسببه, جرح الطائفية المقيتة والعداء للفكر الآخر, للشيوعية والاشتراكية , ويحمل روح التحدي الفظ للمواطنة العراقية الحرة والمتساوية.
ليس غريباً أن يرفض موضوع معين من جانب الأستاذ المشرف على طالب الدراسات العليا لسبب علمي وعملي, ولكن الغريب حقاً أن يرفض الطلب بسبب أن الذي يراد البحث عنه وعن شعره ينتمي إلى طائفة دينية معينة وإلى فكر آخر ورأي سياسي آخر وإلى نهج آخر في الكتابة وحب الحياة؟ وتبرز الغرابة في جانبين:
الجانب الأول: كيف تسمح لجنة علمية جامعية لنفسها أن توجه أسئلة لأستاذ جامعي عبر الهاتف تستفسر منه عن الشخص المطلوب دراسة شعره من جهة, وأن الاستفسار لا يرتبط بمستواه الشعري عن هويته الفكرية والسياسية وعن هويته الدينية والمذهبية وعن اتجاهات كتاباته الشعرية.
والجانب الثاني: كيف يسمح أستاذ جامعي, وهو يحمل شهادة الدكتوراه ويدرك متطلبات مهنته الجامعية, لنفسه الإجابة عن أسئلة من هذا النوع ويقدم للجنة السائلة معلومات شخصية عن الهوية الفكرية والسياسية "شيوعي" للشاعر المطلوب دراسة شعره, وعن هويته المذهبية "شيعي", وعن وجهته في البحث حيث كتب الأستاذ محمد صابر عبيد يقول " إن شعره يمجّد الحياة واللذة الدنيوية", دون أن يشعر بالخجل من نفسه وهو يقدم للجنة مثل هذه المعلومات؟
ما كان بودي أن أخوض في هذا الموضوع بعد أن كتب فيه العديد من الأخوة الكرام بعد صدور بيان الاتحاد, ولكن التوضيح الذي نشره الدكتور محمد صابر عبيد في "موقع إيلاف أقنعني الإلكتروني" بيَّن لي بأن الرجل لم يدرك الخطأ الفادح الذي ارتكبه وهي خطيئة أكاديمية وزمالية في آن واحد, كما أنها إساءة كبيرة لروح المواطنة العراقية. يضاف إلى ذلك أن الدكتور محمد صابر عبيد لم يجرأ على تقدم الاعتذار عن ذلك الخطأ إلى زميله حسب الله يحيى ولا إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الذي يجمعهما في عضويته, ولا إلى كل الأكاديميين بسبب انتسابه لهم.
إن كل ذلك يعبر عن عدم احترام الرجل لشهادته ومهنته وللزمالة التي تجمعهما معاً, رغم الاختلاف بينهما, وأن ما طرحه في التوضيح يدخل في باب "عذره أقبح من فعله". وحين تجنب ذكر أقبح ما في إجابته حين أشار للجنة الطائفة الدينية التي ينتمي إليها ليقول للطائفيين في جامعة تكريت إنه شيعي وأنتم سنة حنفية, وليؤكد لهم أنتم صداميون وهو شيوعي مناهض لكم, وأنتم متدينون (!), وهو شاعر يكتب ويمجد الحياة واللذة الدنيوية.
إن على وزير التعليم العالي من جهة, واتحاد الجامعات في الدول العربية من جهة أخرى, أن يدرسا مدى صلاحية مثل هذه اللجنة "العلمية" في تقييم وتقويم قبول أو رفض طلبات طلبة الدراسات العليا للموضوعات المقترحة لرسائلهم العلمية, إذ أن الرفض أو القبول لا يرتبط بالمستوى العلمي للمشروع ومدى منطقيته وبنيته الداخلية, بل يستند إلى المذهب الذي ينتمي إليه والفكر الذي يحمله والوجهة التي يكتب بها الشاعر المطلوب دراسة حياته وشعره.
كما أن المطلوب من كلية التربية أن ترفض موقف اللجنة وتسمح أما بتشكيل لجنة أخرى لدراسة الطلب أو تسمح لطالب الدكتوراه الشروع بالبحث والكتابة عن الموضوع الذي اختاره لرسالة الدكتوراه, وبهذا تصحح إدارة الكلية خطأ كان المفروض أن لا يقع, كما أن المفروض أن لا يتكرر.
15/9/2009                      كاظم حبيب    
  

1179
حين تتوقف ساعات بعض أو كل القوى الديمقراطية في العراق,
فإن الزمن لن يتوقف قطعاً!

تشير الأحداث الجارية في العراق إلى إمكانية توقف ساعات البعض أو كل القوى الديمقراطية والعلمانية في العراق, حينها يتصور هذا البعض أو الكل بأن الوقت قد توقف أيضاً, في حين يقول الواقع غير ذلك, إذ أن الوقت لم ولن يتوقف بتوقف تلك الساعات قطعاً. فهل القوى السياسية التي نتحدث عنها ويهمنا أمرها أدركت هذه الحقيقة البسيطة  وهضمت مضمونها وأبعادها. وقال العرب قديماً وأمنوا بحكمة لم ولا يعملون بها حتى الآن: إن الوقت كالسيف إن لم تقطعه يقطعك! وها نحن نعيش هذه الحكمة بكل أبعادها. ومن هنا جاءت الحكمة الصادقة التي أوردتها في مقالي السابق والقائلة بأن من يأتي متأخراً تعاقبه الحياة! فكيف تتعامل قوى التيار الديمقراطي مع هذه الحكم المجربة؟
تؤكد المعطيات المتوفرة لدَّي أن القوى الديمقراطية العراقية لا تزال متأخرة وبطيئة في حركتها صوب الحوار, ولا تزال منشغلة بمتابعة تحالفات الآخرين من التيارات الأخرى وتحليلها وتحليل المواقف وتكوين رؤية أولية عنها, ولكنها لا ترى أن الوقت يمر سريعاً جداً ولا تسعى بالصيغة المطلوبة لمتابعة أوضاعها وتحليل أسباب تخلفها عن تحقيق التحالف الضروري. فهي لا تدرس من المسؤول عن إعاقة التحالف وكيف يفترض تذليل الصعاب التي تعترض طريق الوصول إلى تحقيق وحدة الموقف من عملية الانتخابات القادمة في ظل غياب قانون ديمقراطي سليم للانتخابات وفي ظل تحالفات طائفية خانقة وذات عواقب وخيمة على البلاد ومستقبله وسيادة شعبه والالتزام بإرادته الحرة.
نحن أمام وقائع ومواقف للقوى الديمقراطي غير مفهومة ويصعب هضمها دع عنك القبول بها. فالوضع الذي تعيش في ظله القوى الديمقراطية معقد ومتشعب حقاً, وزاد السياسيون العراقيون وأجهزة الدولة الأمنية من هذا التعقيد بسبب فجائع الأربعاء الدامية والمريرة والتصريحات المتناقضة الصادرة عن المنفذين الفعليين للعمليات الإجرامية وعن من يقف وراءها, وهل فيها كشف عن البعض والتغطية عن البعض الآخر من الدول والقوى؟
إليكم نموذجاً جديداً للتفكك في التيار الديمقراطي: لم تكتف شخصيات وطنية ومثقفة ورجال أعمال بوجود حزبين يمثلان الحزب الوطني الديمقراطي السابق, بل أسست جماعة جديدة حركة جديدة باسم "الأهالي اليوم", وهي حركة تريدي تذكيرنا بجماعة  الأهالي التي نشأت في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي. وأن بعض مؤسسيها من قدامى المناضلين في الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يقوده كامل الجادرجي وبعضهم جديد أعلنوا عن برنامجهم الذي يحتاج إلى مناقشة, إذ أن فيه ما ينطبق عليه المثل القائل خطوة إلى الأمام, خطوتان إلى الوراء بشأن بعض أهم القضايا العقدية في العراق, ومنها الموقف من القضية الكردية ورفضها للفيدرالية, كما يبدو من البرنامج ودعوتها للامركزية. وفي هذه التشكيلة الجديدة مجموعة من المثقفين من رجال الأعمال والمثقفين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى في المجتمع, ولكنهم لم يجدوا حزباً يمثلهم ويحركهم فأسسوا جماعة جديدة هي جماعة "الأهالي اليوم". وسنجد خلال الفترة القادمة نشوء جماعات أخرى على هذه الشاكلة.
فهل هذا التشكيل الجديد والتشكيلات الأخرى المتفرقة والمشتتة حقاً قادرة على إحراز نجاحات مهمة في الانتخابات العامة القادمة والحصول على عدد من المقاعد قادرة في أن تشكل قوة يعتد بها في رسم السياسة العراقية وقادرة على مواجهة البرامج التي تتبناها بعض القوى الحاكمة ومنها القوى الطائفية السياسية؟ كل الدلائل تؤكد, ومع كل الاحترام للأخت والأخوة المؤسسين لجماعة أهالي اليوم, فأن هذا لا يصب في خانة تعبئة القوى وتجميعها ودفعها للعمل لصالح انتصار الديمقراطية في العراق. ليست لي مواقف ضدهم ولي معرفة طيبة ببعضهم وأبارك لهم عملهم, ولكن هذا لا يخدم وحدة القوى, بل يزيد من مصاعب توحيدها وعملها المشترك.
لا زلت اعتقد بأن النزول عن البغلة والاتفاق على عقد مؤتمر عام للقوى الديمقراطية, ومنها العلمانية واللبرالية واليسارية, ودعوة الجميع لهذا المؤتمر ومناقشة نقطة واحدة مركزية: هل يمكن تحقيق النجاح للقوى الديمقراطية بهذه البعثرة للقوى والقوائم المنفردة والتنظيمات المتنافسة وفق أسس ضعيفة. أم يفترض أن نختار طريقاً آخر يساعدنا على الوحدة والاتفاق والتكامل لخوض الانتخابات القادمة.
هناك جماعة "مدنيون" التي تضم ثلاثة أحزاب سياسية, وهناك الائتلاف الديمقراطي العراقي بالجماعات السبع الذي تم تشكله أخيراً, وهناك لجنة التنسيق التي تحتضن عدد أكبر من القوى السياسية, وبضمنهم "مدنيون" إلى جانب بعض ابرز الأحزاب الكردستانية, ومنها الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, وهناك الثلاثي الذي ترك القائمة العراقية خلفه ويسعى إلى إيجاد موقع له للعمل مع الآخرين لصالح الديمقراطية وضد الطائفية, وهناك الشخصيات الأخرى التي يمكن أن تلتقي بمثل هكذا تجمع لتناقش سوية الموضوع المركزي: كيف يمكن الوصول إلى تعاون مشترك وفق أهداف تعتبر قواسم مشتركة للقوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية في المرحلة الراهنة.       
في هذا المؤتمر سيظهر بجلاء من الذي يريد أن يعبئ القوى ويسعى إلى تجميعها وزجها ككتلة واحدة لخوض الانتخابات القادمة وما بعدها من جهة, كما يمكن أن يكشف عن المواقف المخالفة من جهة أخرى.
أتمنى أن ننتبه إلى حركة الزمن وأن لا نقيس ذلك على ضوء ساعات أحبتنا التي توقفت عن الحركة لأي سبب كان.                       9/9/2009            كاظم حبيب       

1180
رسالة مفتوحة إلى من يهمه الأمر في قوى التيار الديمقراطي العراقي!

علمتنا عقود النضال الصعبة وتاريخ نضال الشعوب دروساً ثمينة منها على سبيل المثال لا الحصر: إن من يأتي متأخراً تعاقبه الحياة, وكان فهد يؤكد دوماً ينبغي أن لا نضيع الفرص بانتظار الفرص. وكثيراً ما عوقبت القوى الديمقراطية العراقية, ومنها الحزب الشيوعي العراقي, خلال الفترات المنصرمة لأنها أدركت متأخرة ما كان عليها أن تدركه قبل ذاك وتعالجه بجرأة مسؤولية.
ومنذ سقوط الدكتاتورية تحرك الجميع ولكن بتعجيل متباين. وكانت حركة القوى الديمقراطية العراقية, وخاصة العربية منها, بطيئة جداً إلى حد اللعنة, كما أن تحركها كان باتجاهات مختلفة ومتصارعة ومتنافسة ومتخندقة أيضاً بدلاً من أن تسير باتجاه متقارب أو متماثل وتتعاون في ما بينها وفق أسس جديدة وعلى  قواسم مشتركة. في حين سارت القوى الإسلامية السياسية باتجاه طائفي, رغم الاختلاف في ما بين طائفية شيعية وسنية, ورغم التباين في مستوى سلفيتها وتطرفها ومدى ممارستها للسياسة الطائفية والتمييز إزاء الديانات والمذاهب الدينية العديدة الأخرى.
تشكلت تحالفات عديدة في ما بين تلك القوى وحققت نتائج مهمة, في حين عجزت القوى الديمقراطية والعلمانية, وخاصة العربية, في الوصول إلى تحالف متين ومتماسك يخوض الانتخابات العديدة بقائمة واحدة على صعيد البلاد كلها. ما السر في ذلك؟ ليس هناك من سر غير معروف, بل أصبح الأمر معروفاً للجميع. فالكل يريد أن يترأس, أن يقود, أن يكون في المقدمة, أن يكون ممثلاً في المجلس, وليس هناك من يقبل أن يكون الثاني, فكل واحد منهم يريد أن يكون الأول حتى لو جاء ذلك على حساب خسارة الجميع. إنها الكرامة التي يحس أنها تجرح حين يكون الثاني, إنها الهيبة الزائفة (البرستيج) التي يفتش عنها  البعض, وهي التي لن تقود إلا إلى نتائج سلبية وتداعيات في الموقف ومزيد من التفكك.
لو توفر التواضع والوقوف على أرض الواقع وعدم التحليق في السموات العليا لدى أطراف وقيادات القوى الديمقراطية, لو أدرك كل واحد منهم, إنه وبهذا التفكير يعد ضمن الخاسرين, ويساهم في خسارة الجميع, لتغير ربما الموقف وتحقق ما يفترض أن يحصل منذ عدة سنوات.
الأيام تمر متسارعة, ولا نزال نفكر بعقلية متأخرة جداً عن الزمن الجاري بسرعة والفرص تمر من بين أيدينا كما يمر الماء دون أن نحس بتغيره وتغير  تدفقات جريانه. لا أتحدث هنا عن هوى وبدون حقائق, بل هي الحقيقة بعينها رغم نسبيتها.
بالأمس صرح سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الأستاذ حميد مجيد موسى داعياً إلى إعادة تشكيل التحالف الذي نشأ قبل سقوط النظام, رغم أن الحزب الشيوعي وحزب الدعوة لم يكونا ضمن التحالف الذي ارتضى إسقاط النظام عبر الحرب ورفضا الحرب , وبالتالي أبعدا عن المشاركة في التحالفات التي كانت قائمة في أعقاب سقوط النظام لولا إصرار البعض (القوى الكردستانية), إذ عندها أمكن دخولهم في مجلس الحكم الانتقالي والعملية السياسية.
من المحزن حقاً أن الأستاذ حميد مجيد موسى لم يلاحظ كم هو متأخر في طرح هذا المقترح غير الواقعي الداعي إلى العودة وإقامة التحالف القديم من قوى ساهمت بالأساس بتكريس الطائفية وتعميق الاصطفاف الطائفي السياسي في العراق, كما أنها قامت الآن بمبادرة بائسة بتشكيل تحالفها الجديد على وفق الأسس الطائفية نفسها التي تشكل في ضوئها البيت الشيعي قبل انتخابات العام 2005 وبمبادرة من الدكتور أحمد الجلي, وكانت إيران هي العرابة الفعلية لذلك التحالف الشيعي., وهي اليوم عرابة التحالف الطائفي الشيعي الجديد, الذي يمكن ان يدفع غلى تحالف طائفي سني بالمقابل,
وبدلاً من أن يوجه الأستاذ حميد مجيد موسى همه وكل طاقة حزبه صوب العمل من أجل قيام تحالف بين قوى التيار الديمقراطي, وبدلاً من أن يوقف التداعي الجاري في قوى التيار الديمقراطي والتحاق البعض منها بقوى طائفية مقيتة, يدعو إلى العودة لما يمكن العودة إليه, إذ فات أوانه منذ سنوات ونشأت ظروف جديدة وكرست مواقع ومصالح جديدة غير تلك التي سادت في أعوام 2002 و2003. وعلى الماشي يطرح موضوع الاهتمام ومتابعة ائتلاف القوى الديمقراطية!
كم كان الأجدر بالأخ جاسم الحلفي (حشع) والأخ د. صباح عقراوي (حدك) وهما يجتمعان مع بقية أعضاء لجنة التنسيق أن يفكرا في أسباب تفتت القوى  الديمقراطية والتحاق البعض بالائتلاف الوطني العراقي بدلاً من توجيه الدكتور صباح عقراوي اللوم والتوبيخ للحزب الشيوعي العراقي, الذي بلغ عمره 70 عاماً ولم يستطع ان يكتشف أن شخصاً من أعضاء التنسيق يغادر الموقع ليحط في الائتلاف الوطني العراقي, وكأن حزبه غير مسؤول عن هذه الظاهرة وعن عدم نهوض تحالف ديمقراطي واسع في العراق والاقتصار على تحالف القوى الكردستانية, التحالف الذي تفتت في الآونة الأخيرة أيضاً.
كم كان حرياً بممثلي الحزبين العمل الجاد ضمن لجنة التنسيق وخارجها لتجميع كل القوى الديمقراطية وبكل تواضع ومسؤولية من أجل البحث في سبل توحيد القوى قبل أن يتواصل ويستفحل التسرب والتداعي, خاصة وأن الحزب الديمقراطي الكردستاني هو لا يزال حليف المجلس الإسلامي الأعلى الذي يشكل العمود الفقري في الائتلاف الوطني العراقي وباسمه الجديد.
إن الحضور الشكلي لممثلي الأحزاب السياسية في لجنة التنسيق لم ولن ينجز شيئاً وعلى  القوى المنظمة, وهي القوى الكردستانية, أن تبذل جهداً أكبر لتحقيق تحالف ديمقراطي عراقي واسع سيحقق الكثير من النتائج الطيبة في الانتخابات القادمة بدلاً من الركض وراء التحالف مع القوائم الطائفية السياسية أو الانتظار لفرج لن يأتي.
كم أتمنى على  اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي أن تبادر إلى طرح أفكار جديدة للتحالف, بعد أن انتهت عطلة البرلمان وعاد القادة إلى عملهم, في ما بين القوى الديمقراطية بدلاً من الانتظار الذي لن يجلب لهم ولبقية القوى غير المزيد من خسارة الوقت والتعبئة للانتخابات بالتعاون مع بقية القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية.
ليست الغاية الدخول في البرلمان فحسب, بل الغاية أيضاً تحريك وتعبئة الفئات الاجتماعية للدفاع عن مصالحها, لتنظيم الإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات ضد الأوضاع السيئة التي تعاني منها الفئات الكادحة وفئات البرجوازية الصغيرة والكثير من المثقفين وغيرهم, من أجل كسبها إلى جانب برنامج وطني وديمقراطي يعالج مشكلاتها اليومية ويحقق لها مصالحها أولاً وقبل كل شيء. من أجل التصدي للإرهاب وتخليص أجهزة الدولة من القوى المندسة ومن الفساد المالي والوظيفي ومن البطالة والفاقة المتفشية في الأوساط الشعبية, من أجل العناية بالعلاقات العربية والإقليمية والدولية والاستناد إلى أسس سليمة ومعلومات دقيقة عند طرح الاتهامات ومعالجتها الجادة مع المؤسسات الدولية ومنها مجلس الأمن الدولي والجامعة العربية..
7/9/2009                   كاظم حبيب             


1181
مهرجان الحزن والفرح المتشابك,
مهرجان الحب والحنين والحياة في برلين
 
التقت في برلين على مدى أربعة أيام مجموعة كبيرة من مثقفات ومثقفي العراق, من أدباء في الشعر والقصة والرواية, ,من كتاب وصحفيين ومبدعي الغناء والموسيقى والمسرح والفن التشكيلي, التقت هذه النخبة المبدعة قادمة من دول أوروبية عديدة لتساهم بحيوية ومسؤولية عالية في المهرجان الخامس لنادي الرافدين الثقافي العراقي وتمارس دورها وتواصل نشاطها في التفاعل المتبادل بين هذه الجمهرة مع الحضور البرليني وتنعش الحياة الثقافية للعراقيات والعراقيين في المهجر الألماني وتساهم في مزيد من شدّْ الإنسان العراقي بوطنه الحبيب, بالعراق الذي لا يزال ينزف دماً ويسقي أرضه العطشى بدموعه.
كان المهرجان مناسبة للقاء الأحبة والتعارف وتجديد الصداقات وخوض الحوارات الفكرية, بحماسة العراقيات والعراقيين المعهودة, في تلك القضايا التي تشغل بال كل عراقية وعراقي في الوطن الجريح وفي الخارج, إضافة إلى التمتع بالجديد من الشعر والموسيقى والغناء والمسرح واللوحات الجميلة لمجموعة من مبدعي الفن التشكيلي.
كانت الأيام الأربعة مليئة بالحيوية والفاعلية تبدأ قبل الظهر بقليل لتنتهي مساءً ثم تتواصل في مكان سكن الضيوف حيث تتواصل السهرة حتى بعد منتصف الليل بساعات. وهي الساعات الحرة التي تنطلق الحناجر بالأغاني المحببة من كل ركن من أركان القاعة  والأحاديث الشيقة.
يصعب الإلمام بكل ما قدم في هذه الأيام الأربعة. فالشعر الحديث والشعر الشعبي كان له النصيب الأوفر من الوقت, فالعراق بلد الشعر بالدرجة الأولى وبلد الفن التشكيلي أيضاً, فهما على مستوى واحد من حيث الأهمية والاهتمام وغنى العراق بهما. الشعر الذي قدم من شاعرة مبدعة وشعراء مبدعين أبكوا الحضور حقاً بما تجلى في تلك القصائد من لوحات عشق "جنوني" بالوطن والأهل ومرابع الطفولة, فالوطن أم والغربة زوجة الأب! وزاد الحنين ألماً هي الخشية الدائمة على حياة الناس والأهل والأحبة في الوطن الذي ما زال المجرمون فيه ومن حوله يقتلون الإنسان زرافات ووحدانا!
والحديث عن أدب وكتابات الغربة كان مفعماً بالتعبير عن واقع المهاجرين والمنفيين ورغبتهم في الاحتفاظ بتلك العلاقة المتينة بالوطن وقضاياه ومشكلاته الذي كان موضع حوار مع الكاتبة والقاصة والصحفية التي قدمت المادة.
والحديث عن الحزن في الأغنية العراقية احتل موقعه المناسب, إذ أن الحزن بلف المجتمع العراقي منذ قرون غير قليلة, وأفراحه السعيدة نادرة وتعد على أصابع اليد الواحدة. والبحث المقارن بين الفكر الواحد والرؤية الواحدة ورفض الأخر والسعي لاستئصاله من جهة, والتعدد الفكري والثقافي وتنوعهما والقبول بالرأي الآخر والآخر واحترامهما من جهة ثانية, كان مثار حوار شديد السخونة ولكنه بالحدود المعقولة, وكان نقد الفكر الديني ونقد الفكر العلماني الداعيين إلى الوحدانية أو الرؤية الواحدة مكانه المناسب في حوار المحاضرين والحضور. فالرؤية الواحدة التسلطية تخلق الجحيم والتعدد والتنوع تخلق النعيم والانفتاح والإبداع, إنها حصيلة النقاش العقلاني الذي شهدته قاعة المهرجان.
وكان للمسرح المتجدد والحداثي حضوره الجميل أيضاً وحاز ارتياح الحضور.
وكان للسيدين المحاضرين عن أدب الراحل الطيب صالح حضور كبير في المهرجان لعمق ما قدماه لنا من تحليل علمي دقيق وواضح لأدب هذا الكاتب السوداني الكبير الذي ترك أثره الواضح لا على أدب السودان فحسب, بل والأدب العربي الحديث. فكان الحديث عن روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" وعن "الطيب الصالح في عيون الألمان".
كما أبدع المحاضر عن أدب وشعر الشاعر الألماني الفذ والراحل هاينرش هاينه في عرض جميل عن حياته وشعره, وكان للموضوع موقعه المناسب في المهرجان بالنسبة للبلد الذي يعتبر الوطن الثاني الذي وفر الأمن واستقرار للمنفيين والمهاجرين من العراق.     
وكانت واحدة من أجمل اللحظات حين قدمت دراسة قيمة ومتنوعة عن الفنان العراقي الكبير محمود صبري, ثم كرم هذا الفنان المبدع وابن الشعب والباحث الأكاديمي في الفن العراقي وصاحب نظرية الكم في الفن بهدية جميلة, (نحت), قدمها نادي الرافدين الثقافي العراقي للفنان محمود صبري, وهي من عمل الفنان المبدع الأستاذ الدكتور سلمان داود عنان والتي قدمها الفنان عنان هدية مجانية منه للنادي لتقدم باسم النادي إلى محمود صبري وبناء على طلب النادي.     
واتفق المشاركون في المهرجان على تأكيد تنفيذ مشروع الجائزة السنوية التقديرية لأحد مبدعي الفن والأدباء والكتاب والعلماء من عراقيات وعراقيين في المهجر, يتم التبرع بقيمتها من مثقفات ومثقفي المهجر أو من الداخل.
ولأول مرة شارك في هذا المهرجان شاعر عراقي هو وكيل وزارة الثقافة في العراق ساعياً إلى التعبير عن وجه مشرق للوزارة, وكان يدرك بأن الحضور يعرفون وجهها الآخر الذي لا زال فاعلاً ومؤثراً بشكل سلبي في حياة المجتمع.
وكانت التفاتة جميلة أن تحضر واحدة من ابرز المتخصصات المهتمات بالآثار العراقية لتقدم محاضرة عن وضع الآثار في العراق في العقود الأربعة  المنصرمة والوقت الحاضر. وكانت السيدة رائعة في حبها للآثار العراقية ودفاعها عن التراث ورغبتها في حمايته وصيانته من السرقة أو التدمير الذي يلحق بالمناطق الأثرية من جراء الاعتداء عليها وسرقة بعضها وتدمير كمية أكبر. ولأول مرة شارك في هذا المهرجان شاعر عراقي هو وكيل وزارة الثقافة في العراق ساعياً إلى التعبير عن وجه مشرق للوزارة, وكان يدرك بأن الحضور يعرفون وجهها الآخر الذي لا زال فاعلاً ومؤثراً بشكل سلبي في حياة المجتمع. (ملاحظة لا بد منها: لقد ارتكبت السيدة هناء الجبوري, مديرة العلاقات والإعلام في مكتب الوكيل فوزي الأتروشي, خطأ حين أشارت في بيانها الأول عن وفاة الشاعر العراقي الرائع والكاتب المتميز الدكتور حميد خاقاني, في حين كانت تقصد خسارتنا بالشاعر والكاتب أنور الغساني, ولم تصدر السيدة هناء حتى الآن تصحيحاً لهذا الخطأ. نتمنى لصديقنا العزيز الخاقاني طول العمر والصحة والإبداع).
الأشياء الجميلة في هذا المهرجان هو ذلك الجهد الكبير والمنتج الذي قدمته اللجنة التحضيرية للمهرجان  رئيساً وأعضاءً, رغم قلة عدد أعضائها, وبدعم مباشر من الهيئة الإدارية للنادي رئيساً وأعضاءً. ويعرف الجميع أن مثل هذا العمل التطوعي لا يحظى باستمرار بالتقبل الحسن فحسب, بل وبالنقد أيضاً, وكلاهما ضروري لتطوير العمل وتنشيطه. ولكن مع ذلك فهم مقتنعون بأن مثل هذه المهرجانات العراقية البرلينية ضرورية لهم ولكل من يحضر أو يسمع به وبما يحصل فيه. لقد كان هنا جنود مجهولون مارسوا العمل بحيوية, إضافة غلى أعضاء اللجنة التحضيرية ومنهم أولئك الذين كانوا مسؤولين عن المطبخ وتهيئة الطعام للضيوف وبوجه بشوش ومشرق دوماً.
لقد نجح المهرجان في ما كان يسعى إليه, وكان نجاحاً كبيراً جسد خبرة المهرجانات المنصرمة وعبر عن الاستفادة منها في هذا المهرجان. وتجلى هذا النجاح في ما كتب عن المهرجان من كاتبة وعدد من الكتاب الذين شاركوا في المهرجان. إن الجوانب المشرقة قد ذكرت بشكل طيب, وعليَّ الآن أن أتناول ما أراه ضرورياً للمهرجانات القادمة:
1.   رغم التنظيم الجيد في هذا العام فأن اليوم الأول تميز بخلل تنظيمي كبير أثار نقد الحضور, ومنهم الضيوف الألمان, أذ يبدو أننا تعودنا على ضعف التنظيم.
2.   لقد تحملت اللجنة التحضيرية أولاً, والهيئة الإدارية ثانياً, وبعض الأعضاء القلة ثالثاً, مهمات العمل. كم كان ضرورياً أن يساهم عدد أكبر من أعضاء النادي في التهيئة والتحضير أو في تحمل مسؤوليات معينة أثناء سير المهرجان.           
3.   زج في المهرجان عدد كبير من الموضوعات بحيث لم يتسن للحضور الخوض في نقاشات وبد الأمر وكأننا نستمع إلى محاضرة لا غير وليس إلى حوار متبادل. وقد برز هذا في أغلب الندوات التي عقدت, وهي خسارة كبيرة للمحاضرين وللحضور في آن. وكانت هذه الحالة موضع نقد من أغلب المشاركين.
4.   خلا المهرجان من شعر وثقافة القومية الثانية في العراق, القومية الكردية, في حين أن اسم المهرجان هو الثقافة العراقية. ولهذا أرى مناسباً أن يخصص يوم كامل في المهرجانات القادمة للثقافة الكردية. ومفيد أن نهتم بالثقافات الأخرى أيضاً.
5.   جرت دعوة عدد كبير من الشعراء ليساهموا في إلقاء الشعر. وقد أبدعوا حقاً. ولكن الخلل, كما أرى, يكمن في كون أغلب الشعراء المدعوين جاءوا من الجنوب, وبالتحديد من الناصرية. ورغم صداقتي للجميع ورغبتي في رؤيتهم والاستماع لشعرهم, إلا أن العراق مليء بالشعراء وكان المفروض أن ندعو شعراء آخرين من محافظات أخرى يعيشون في المهجر أيضاً.
6.   أقترح أن يخصص نصف نهار مثلاً لأكثر من ندوة تقدم من كاتب وشاعر أو جهة ألمانية ليكون مجالاً للتماس الثقافي مع الألمان, إذ أن في ذلك فوائد عديدة للمثقفات والمثقفين العراقيين والألمان في آن واحد مع تهيئة الترجمة العربية, كما حصل هذا العام,
لقد برهن نادي الرافدين الثقافي العراقي خلال الفترة المنصرمة على عدة مسائل جوهرية, وأبرزها ما يلي:
** إنه بيت كل العراقيين من جميع القوميات والأديان والمذاهب الموجودة في العراق ومن كافة الاتجاهات الفكرية والسياسية. فهو منظمة مجتمع مدني ديمقراطية مستقلة وواعية لمهماتها ورؤيتها العلمانية للوطن والمواطن.
** إنه البيت الثقافي الفعلي الذي تهمه الثقافة والحياة الثقافية العراقية في المهجر, كما تهمه عملية التفاعل والتواصل بين المثقفات والمثقفين العراقيين في المهجر ومع الداخل.
** عن تضامن فعلي بين أعضاء النادي لدعم الهيئة الإدارية أو اللجنة التحضيرية عند الضرورة وحل كل المشكلات التي يمكن أن تحصل بين أعضاء بالود والتفاعل, إذ لا يمكن أن تخلوا التجمعات الثقافية من مشكلات بأي حال.
** كما يهم هذا البيت أن يحتضن القادمين الجدد من العراق ممن أجبر على المغادرة ليكون بيته الجديد حيث يجد فيه المساعدة والدفء والود العراقي.
ملاحظة: أرفق ملحقاً مع هذه المقالة يتضمن برنامج المهرجان ليتسنى للقراء الاطلاع على ما قدم ومن شارك في تقديم فقرات البرنامج. 

5/9/2009                   كاظم حبيب
الملحق

 
عمل الفنان فيصل لعيبي
اليوم الأول الخميس : 20 / 8 / 2009

قاعة المسرح - الطابق الثاني

الوقـت

الفعالية

12:00- 13:30 ألافتتاح
مقطوعات موسيقية يقدمها الفنان سيف كرومي
1ـ كلمة الهيئة الادارية للنادي : ناصر السماوي رئيس الهيئة الادارية
2 – كلمة اللجنة التحضيرية : لطيف لحبيب ، رئيس اللجنة التحضيرية
3ـ كلمات الضيوف
14.00-13.30 عرض فلم الاخضر بن يوسف اخراج جودي الكناني / باسل علي عمران
15.30 – 14.30 فترة الغداء في مكان الفعاليات
17.30-16.00
محور ثقافة الطفل العراقي
1- عرض فلم حي ابن يقظان للفنان ثامر الزيدي
2- حوار حول تكوينات ثقافة الطفل العراقي يشترك فيه الفنانون:
ثامر الزيدي , منصور البكري
18.00-20.00 أمسية شعرية للشاعر سعدي يوسف
تقديم : د. حميد الخاقاني
مرافقة على الة الجلو

اليوم الثاني : الجمعة 21/ 8/ 2009

قاعة المحاضرات - الطابق الثاني
12.30- 11.00
افتتاح المعرض التشكيلي : يسـاهم فيه الفنانات والفنانون :
داود سلمان , صلاح جياد ,على فنجان , قاسم الساعدي, منصور البكري , يونس العزاوي ,رياض البزاز , عدنان شينو , ,احمد الشرع، فهمي بالاي , صفاء حسين, ابراهيم الجزائري ,, احمد امير , ايمان على خالد , حسين الشنون, منير احمد , نسرين شابا, حسين هاتف جاسم
14.00-13.00 محاضرة بعنوان : الادب في المنفى
تقديم : الدكتورة سالمة صالح
15.30-14.30

فترة الغداء في مكان الفعاليات

17.30-16.00 نافذة على الثقافة العربية
محاضرة عن الكاتب السوداني الراحل الطيب صالح
عرض : الدكتور صلاح نيازي
تقديم: الدكتور حامد فضل الله
21.00- 18.30

ندوة : الثقافة العراقية بين نعيم التنوع او جحيم النظرة الاحادية
يشترك فيها:
د. صادق اطيمش د. حسين كركوش د. هاتف جنابي. د.حميد الخاقاني،
يدير الندوة ويشارك فيها د. كاظم حبيب

العشـاء في مكان الاقامة

تقيم مكتبة الطعان معرضاً للكتب في الطابق الثاني- في الرواق المؤدي لقاعة المحاضرات – حيث ستعرض إصدارات جديدة .



اليوم الثالث : السبت 22/8/2009
قاعة المحاضرات - الطابق الثاني

14.00 – 12.00 محاضرة بعنوان : حضارة وادي الرافدين بين الماضي والحاضر
عرض : الأستاذة ماركريت فان أس باللغة الألمانية
تقديم : د. بارق شبر
15.30- 14.30
فترة الغداء في مكان الفعاليات

17.30 -16.00 محاضرة بعنوان:
هاينريش هاينة شاعرالرومانسية الساخرة ورائد القصيدة السياسية الألمانية
تقديم : الأستاذ ماجد الخطيب ، د.ممتاز كريدي
20 .00- 18.30 واحة الرافدين الشـعريــة :
تقديم ومساهمة الشعراء

عدنان محسن , هاشم شفيق , جمال جمعة , محمد الجاسم، بلقيس حسن

15 دقيقة استراحة
20:15-21:00 الشعرالشعبي
كامل الركابي ، سامي عبد المنعم
تقديم : طه رشيد
العشـاء في مكان الاقامة

اليوم الرابع : الاحد 23- 8 -2009
قاعة المسرح - الطابق الثاني

13.30- 12.00 عرض مسرحية : اشتعال .. أنطفاء
نص وتمثيل الفنان صالح حسن فارس اخراج : كيتا هاخام
15.30- 14.30
فترة الغداء في مكان الفعاليات

17.30-16.00 محور الحزن في الاغنية العراقية
يشترك فيه الفنان طالب غالي والاستاذ الشاعر داوود امين
19.30- 18.00 حفل تكريم الفنان محمود صبري
تقديم الفنان فيصل لعيبي
1- عرض فيلم (عكس الضوء) للفنان قتيبة الجنابي.
2- محمود صبري .. طليعي الوعي الفني وآخر الأعمدة الحية, ما يتكشّف عنه الأثر الريادي للتجربة الفنية بشقيه ؛ الزمني والإبداعي
للناقد كفاح الحبيب
كلمة ختام المهرجان الكلمة الختامية للمهرجان يليقها الزميل ناصر خزعل مدير ادارة المهرجان

24.00-20.00
الحفل الفني الساهر يشترك فيه :
الفنان طالب غالي
الفنان لطيف الدبو
الفنان سيف كرومي
الفنان مروان كرجوسلي
فرقة Elandarab : الفنان الامين بلال والفنانة حنان شموتي

إيضاحات حول الاشتراك في مهرجان ايام الرافدين الثقافية العراقية 2009

1- يتحمل المشارك الضيف في فعاليات المهرجان بطاقة سفره ذهابا وايابا ويتحمل المهرجان تكاليف اقامته في برلين ( السكن ووجبات الطعام) .
2- يتحمل الضيف غير المشارك في فعاليات المهرجان بطاقة سفره ذهابا وايابا ويدفع مبلغ قدره 100€ عن تكاليف اقامته في برلين في مقر إقامة المشاركين الضيوف المهرجان ( السكن ووجبات الطعام).

استقبال المشاركين سيكون في يوم الاربعاء 19/8/ 2009 ، من الساعة العاشرة صباحا وحتى الساعة السابعة مسـاءً ، وذلك في مقر النادي الكائن في : Weser Str.21/22 Berlin 12045
طريقة الوصول :
قطار الأنفاق : رقم U8 من الكسندر بلاتس اتجاه هيرمان شتراسة Hermann Straße

محطة النزول : هيرمان بلاتس Hermann platz


للإنصــــال : تليفون النادي : 004930- 29 006689
فاكس : 00493060031252

Mobil: 017662278345 ناصر السماوي رئيس الهيئة الادارية :
Mobil: 017649245575 لطيف الحبيب رئيس اللجنة التحضيرية للمهرجان :
E-Mail : irakkulturtage5@gmail.com

عنوان مقر السكن وطريقة الوصول

Jugend Begegnungsstätte
Tunnel Str. 12
10245 Berlin
من المحطة الرئسية لمدينة برلين الكسندر بلاتس
القطار السريع S5 اتجاه Strausberg
النزول في محطة Warschaur Str ثم الصعود في الباص رقم 347 اتجاه
Stralau/Tunnel Str. ، النزول في المحطة الاخيرة عند مقر السكن

مع تحيات:
الهيئة الإدارية لنادي الرافدين الثقافي العراقي و اللجنة التحضيرية للمهرجان الخامس

1182
ماذا يجري في صفوف القوى الديمقراطية العراقية ؟
أتطرق في هذه المقلة إلى بعض الظواهر السلبية في صفوف الحركة الديمقراطية, واستميح العذر إن بدا في بعض ما يرد في هذا المقال تجاوزا على البعض فليست هي رغبتي هذه بل حرصاً على ما اعتبره ضرورة ذكره لجلب الانتباه إليه:
أولاً: إن ما يجري في صفوف القوى الديمقراطية العراقية يعبر عن فوضى وعجز واغتراب فعلي عن فئات الشعب الواسعة وضعف أمام الواقع القائم, فهي ليست قوى مبعثرة فحسب, بل أصبح البعض منها أو بعض أفرادها لقمة سائغة للقوى الإسلامية السياسية التي تريد ابتلاعها بصيغ مختلفة ومن ثم الإجهاز عليها بطريقة أخرى غير الطرق المقترنة بالعنف, بل عبر الاحتواء. وهكذا ينسلت البعض ليلتحق بقائمة دينية مذهبية معروفة كانت وستبقى تمارس سياسة طائفية تساهم في تعميق الاصطفاف المذهبي والصراع الطائفي في البلاد بالذريعة التالية: باعتباري ديمقراطياً استطيع, حين التحق بهذه القائمة الطائفية أو تلك أن احتل موقع معمم لا خير فيه أو يلحق ضرراً بالمجتمع. أو يقول لنا: لكي أؤثر بقدراتي الفكرية والسياسية بالبنية الفكرية والممارسات السياسية للقوى الإسلامية السياسية, أو يقول: إن من الأفضل لي أن أحتل كديمقراطي الموقع في المجلس النيابي بدلاً من أن يبقى أجتر مواقفي مع بقية القوى الديمقراطية دون الوصول إلى نتيجة منطقية معها. أي أنه لم يعد يرى مفيداً بذل الجهد الحقيقي لتوحيد صفوف القوى الديمقراطية!
وهكذا ينسلخ من جسد القوى الديمقراطية البعض الديمقراطي ليقع في أحضان قوى الإسلام السياسية ويعتقد بأنه قادر على تغييرها. وربما ستلتحق هذه الكتلة أو ذاك الحزب بهذا الائتلاف المذهبي أو ذاك بذات الذريعة مضحياً بكل تاريخه السياسي العلماني ويفقد الموقع الذي بناه طيلة عقود أو سنين غير قليلة.
إن من السذاجة القاتلة أن يتصور البعض بأن في مقدوره تغيير بنية قوى الإسلام السياسية وهي مبنية من حيث المبدأ على أسس مذهبية ووفق قواعد طائفية تريد انتزاع حقوق هذه الطائفة من طائفة أخرى في الإسلام. إنه ألعمي السياسي بعينه إذا حصل مثل هذا الالتحاق, إذ لا يراد منه سوى نشر الغشاوة على عيون الناس لتمرير مثل هذه التحالفات البائسة.
ثانياً: إن ضعف الأحزاب الديمقراطية كان ولا يزال يقود وفي غالب الأحيان إلى سياسات ذيلية وإلى عجز عن التحرك لإعادة بناء القدرات الذاتية, وبالتالي وبدلاً من بذل جهود أكبر لتغيير الأوضاع داخل الحزب ومع الجماهير, تمارس قيادات تلك الأحزاب سياسات لا تتفق مع الأسباب التي دعت إلى تشكيلها, وبالتالي لا تعزز مواقعها, بل تفقد الكثير من قواها الذاتية وينسلت الكوادر منها إلى أحزاب أخرى لأنهم لا يجدون فارقاً بينهم وبين تلك الأحزاب الوطنية. وهذا ما حصل في الحزب الشيوعي الكُردستاني خلال الأعوام المنصرمة وخاصة بعد سقوط النظام ومشاركة الحزب في الحكم بوزير واحد.
والبيان الذي أصدره اجتماع رفاق هذا الحزب في الخارج ومن ثم المقابلة الصحفية التي أجريت ونشرت مع الشيوعي المخضرم كريم أحمد (أبو سليم) والأحاديث التي يتداولها الشيوعيون الكُرد في الداخل والخارج كلها تؤكد صحة ما أقول.
كل زيارة أقوم بها إلى كُردستان أزور مقر الحزب الشيوعي الكُردستاني وأحياناً محلية أربيل أيضاً. وقبل ثلاث سنوات زرت منظمة الحزب الشيوعي الكُردستاني في أربيل حين كانت في مكان واحد مع محلية أربيل وقبل النباء الكبير الذي بني للحزب. والتقيت في حينها بمسؤول الإعلام المركزي لهذا الحزب. أطلعني هذا الرفيق بأن عدداً كبيراً من رفاق الإعلام عندهم في الحزب انتقلوا إلى صفوف الحزب الديمقراطي الكُردستاني, وذكر لي على سبيل المثال لا الحصر, أسماء عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر سرو قادر, وشمال, وكروان عقراوي, وأسو كريم, وفؤاد صديق وآخرون. وهم يحتلون اليوم مواقع مهمة وقيادية في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي الكردستاني. وكنت أعرف هذه الحقيقة قبل ذاك. ثم أخبرني عن أسباب هذا الانتقال التي لا ترتبط بالمبادئ بل بسياسة الحزب ووضع التنظيم والعلاقات الحزبية وأفق التطور للحزب الشيوعي الكُردستاني, إضافة إلى مسألة المال والجاه والنفوذ التي يحصل عليها الشخص حين يكون في الحزب الحليف.
لقد كان أغلب هؤلاء يعملون في إعلام حركة الأنصار الشيوعيين التابعة للحزب الشيوعي المركزي حين كنا في جبال كُردستان, وكنت يومها مسؤولاً عن البعض منهم أو أغلبهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فاستفسرت منه وبجدية متناهية: متى ستنتقل أنت أيضاً إلى صفوف الحزب الديمقراطي الكُردستاني؟ فابتسم بطريقة تعبر عن بعض العتب, ولكن ليس فيها أي روح احتجاج! سجلتها في ذاكرتي تلك الابتسامة القلقة!
بعد عام من هذا اللقاء زرت إقليم كُردستان ثانية. والتقيت عن طريق الصدفة في بيت صديق مشترك لنا في أربيل بنفس مسؤول إعلام الحزب الشيوعي في كُردستان العراق وبحضور مجموعة كبيرة من الأصدقاء, وأردت الاستفسار منه عما حصل للإعلام في الحزب الشيوعي الكُردستاني خلال الفترة المنصرمة, وإذا بآخرين يخبروني على عجل بأن مسؤول الإعلام المركزي للحزب الشيوعي الكُردستاني قد انتقل منذ فترة قصيرة إلى صفوف الحزب الديمقراطي الكُردستاني ولأسباب عدة لا تختلف عن أسباب من سبقه واحتل موقعاً مهماً وحصل على امتيازات مهمة!
وبالأمس كتب رفيقي وصديقي منذ أيام الأبعاد السياسي في بدرة في العام 1956 أبو سليم (كريم أحمد الداوود) ما هو محتمل أن يحصل في الحزب الشيوعي الكُردستاني ما لم يغير نهجه وسياسته ومواقفه, إذ يمكن أن يبرز من يبني حزباً آخر ليحل محل الحزب الشيوعي الكُردستاني أو أن تقدم قاعدة الحزب إلى انتخاب قيادة جديدة أو يستمر في هامشيته الراهنة في الحياة السياسية الكُردستانية إن واصل هذا النهج الخاطئ في السياسة وفي العلاقات.
عمم أبو سليم هذه الحالة على الحزب الشيوعي العراقي أيضاً, وأشار إلى مسائل كثيرة تستوجب القراءة الهادئة والجادة والاستفادة منها لمن يريد أن يستفيد فعلاً.
لم "يجفص" أبو سليم هذه المرة, بل قال الكثير من الحقائق بصراحة وشفافية عالية وعلى طريقته المعروفة, وعبّر عن ذلك بقلب ممزق مشيراً إلى حالة التفكك والتدهور في شعبية وتأييد جماهير كُردستان للحزب الشيوعي الكُردستاني على نسبيتها السابقة والتي بدأت مع وجود أبو سليم ذاته على رأس الحزب, لكنه ما كان في مقدوره أن يرى ذلك حين كان مسؤولاً ولا يرى ذلك المسؤولون الحاليون أيضاً.
حين التقيت مع أبو سليم في بغداد خلال سفرتي الأخيرة إلى بغداد, تحدثنا عن أوضاع الحركة الديمقراطية ومصاعبها وعن أهمية حماية المكتسبات التي تحققت في كُردستان من خلال سياسات أكثر واقعية وأكثر حيوية وأكثر انسجاماً مع ما يطلق عليه بفن الممكنات في السياسة.   
الجماعة التي انتقلت من مواقع الحزب الشيوعي العراقي إلى مواقع الحزب الديمقراطي الكُردستاني تحتل اليوم مواقع مهمة في الإعلام المركزي لهذا الحزب, ولكنها عاجزة عن تقديم ما يمكن أن تقدمه له في مجال الإعلام, رغم أنها تمتلك كفاءات وقدرات طيبة وذات خبرة مناسبة, رغم حاجتها إلى إعادة التأهيل باستمرار, إذ كلما انتقد هؤلاء المنتقلون سياسات ومواقف وإجراءات معينة في الحزب الديمقراطي الكُردستاني, ذكروهم بتاريخهم الشيوعي, مما دفع ويدفع بهم إلى السكوت المطبق بدلاً من الإصرار على الرأي باستقلالية عالية ولصالح الحزب الديمقراطي الكُردستاني الذي انتقلوا إليه إذ يفترض أن يخلصوا له من خلال ممارسة النقد حين يكون النقد ضرورياً, بل هم يعمدون إلى السكوت وربما التغطية على الأخطاء لتجنب المصاعب الشخصية, وبالتالي أصبح الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي الكُردستاني أشبه بإعلام خشبي جامد يفتقد الروح الحية ولا يحمل معه الديناميكية الضرورية المحركة لقواعد الحزب الذي انتموا إليه والمجتمع الذي ينتظر منهم مواقف صادقة في مقابل الامتيازات التي حصلوا عليها بانتقالهم إلى صفوف الحزب الديمقراطي الكُردستاني. وأدى ذلك إلى خسارة الحزب بسبب ذلك ولأسباب أخرى الكثير من تأييد الأوساط الشعبية. ونتائج الانتخابات الأخيرة يفترض فيها أن تدفع قيادة الحزب الديمقراطي الكُردستاني إلى دراسة العوامل التي قادت إلى هذه النتيجة. وهذه النتيجة تشمل أيضاً الحزب الشقيق له, الاتحاد الوطني الكُردستاني, الذي كانت خسارته ولأسباب أخرى  كثيرة حقاً ومعطلة للكثير من طاقاته. وعلى مؤتمرات هذه الأحزاب أن تعيد النظر بأوضاعها جدياً وأن تغير من لا يملك الكفاءة ومن وضع لأسباب عائلية في مواقع المسؤولية في مجالا  الحزب والإعلام أو في أي موقع أخر.
لقد كف إعلام الأحزاب الكُردستانية الحاكمة عن ممارسة النقد والنقد الذاتي لحزبهم ولحكومتهم, وهو خلل كبير يفترض أن ينبه الآن قيادتا الحزبين لمراجعة سياساتهما في مختلف المجالات وأن يبدأ العمل الجدي لنقد القضايا السلبية في الحياة اليومية للإقليم والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والحياة الحزبية, ومنها السياسة الإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعلاقة مع الكادحين الذين كانوا وقوداً دائماً للثورة. ولكن لم تكف الصحف المستقلة أو المعارضة عن ممارسة هذه المهمة وبقة وشجاعة كبيرة وحظيت بتأييد الناس وتجلى في الانتخابات الأخيرة بشكل واضح.
ثالثاً: يفترض في الحزب السياسي المسؤول عن قضية عادلة أن يرفض من يسبح بحمد المسؤولين, إذ يلحق عبر هذا التسبيح أضراراً فادحة بالحزب وبالإقليم وبالوطن, وكذلك بهؤلاء المسؤولين, ومن حقنا لا أن نهمس في آذان المسؤولين وننبههم إلى الأخطاء التي ارتكبوها أو يرتكبونها فحسب, بل أن نتحدث بصوت مرتفع بحيث يُسمع منهم ومن الناس الآخرين من أجل أن يصححوا المسارات أو يتخلوا عن المواقع.
إن الحزب الشيوعي الكُردستاني بحاجة إلى إعادة النظر بسياساته ويضعها وفق أسس سليمة, وعليه أن يفكر بإعادة النظر باسم الحزب أيضاً وبطبيعة المرحلة التي تستوجب مهمات أخرى وتستوجب اسماً يطابق مهمات الحزب الراهنة ولفترة طويلة قادمة. 
إنه بحاجة إلى وقفة طويلة وخلوة مع النفس, وأن يثق بأن السياسة المستقلة التي يفترض أن يمارسها لا تلحق ضرراً بإقليم كُردستان أو تعيق توطيد مكتسباته, بل تعززها وتعزز الديمقراطية أيضاً.
إن عدم إعادة النظر بسياسة الحزب ومجمل نشاطه وبرنامجه ومواقفه وكادره يعني استمرار الضعف وخسارة المزيد من أعضاء الحزب والمساندين له والتحول أكثر فأكثر إلى حزب يعيش على  هامش الأحداث وعلى  المساعدات التي لا تغني ولا تشبع, بل تزيد الحزب ضعفاً وهزالاً.
وعلى صعيد العراق أتمنى أن تدرك القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية الخطر الذي يتهددها من إعادة بناء البيت الشيعي والبيت السني على أسس طائفية مريضة وجر المزيد من العناصر الديمقراطية إلى المواقع الطائفية حتى أولئك الذين يدعون المتانة الفكرية وكانوا ينظّرون في المسائل الفكرية للديمقراطية طيلة السنوات المنصرمة.
إن هذا الانسلاخ سيزداد يوماً بعد آخر ما دامت القوى البارزة في التيار الديمقراطي عاجزة عن إيجاد لغة مشتركة في ما بينها. وإذا ما ابتلعوا اليوم بعض الديمقراطيين, فغداً يمكن أن يبتلعوا أحزاباً بقدها وقديدها! أرجو وأتمنى أن لا يحصل ذلك, وأن لا يقال لي أن التمني ليس سوى رأس مال المفلس أو العاجز!       
2/9/2009                         كاظم حبيب


1183
الضحية هو شعب العراق والجلاد متعدد الهويات!
كان شعب العراق منذ نصف قرن ولا يزال حتى الآن يحتل موقع الضحية الفعلية في حين تحتل الكثير من دول الجوار والدول العربية وبعض الدول الكبرى موقع الجلاد الذي لا يعرف الرحمة ولا يمتلك ذمة أو ضمير, وغالباً ما يحمل الجلاد الجنسية أو الهوية العراقية, ولكنه في الغالب الأعم يمثل حامل الهراوة التي تعود لهويات فكرية وسياسية أخرى, تعود لعدد غير قليل من دول الجوار. فالضربات تأتي من جميع الجهات المحيطة بالعراق وأن اختلفت الأسباب والأهداف في مراحل مختلفة, ولكن يبقى الشعب العراقي في المحصلة النهائية هو المبتلى بعواقب تلك الضربات. ومن يتتبع تاريخ العراق خلال نصف قرن يرى بوضوح واقع التحالفات الداخلية والإقليمية والدولية التي كانت تنشأ لمصادرة حق الشعب العراقي في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فمرة كان الجلاد العراقي يأتي حاملاً راية شركات النفط الاحتكارية, ومرة أخرى يأتي عبر السفارة البريطانية في بغداد, وثالثة يأتي بقطار أمريكي, ورابعة يختفي تحت عمامة أو عباءة إيرانية, ومرة خامسة يأتي وهو يلبس رداء معاوية بن أبي سفيان ويحمل في رأسه أساليبه في تصفية الخصوم بصورة هادئة أو بشكل غير مباشر, ويأتي مرة سادسة وهو يحمل على ظهره وفوق رأسه أكياساً من أموال الخليج النفطية وعوائد الحج التي تجعل الإنسان يفقد البصيرة والبصر فيعبث بحياة الناس وفق رغبة دافع النقود. ولم يكن نادراً فيما مضى أن يكون الجلاد العراقي يتسلم السلاح من سفارة عربية زائداً البيانات الديماغوجية والأموال. والعودة إلى فترة حكم قاسم كفيلة بتوضيح الكثير من الأمور.     
واليوم يتناقش العراقيون والعراقيات في ما بينهم وبكل جدية حول سؤال كبير: من هو الجلاد الفعلي الذي يقف وراء حامل السوط المباشر أو المتفجرات؟ هل هو إيراني الهوية أم سوري الجنسية, أم هو من بلدان أخرى؟. والجميع يدرك بأن الجلاد قادم من هذه الدول كلها, سواء أتي باختياره أم باختيار منظمات وقوى غير حكومية أم بدفع وتحريض غير مباشر من حكومات بعينها. والجميع يدرك أن هناك تحالفاً فعلياً قائماً على الساحة العراقية تشترك فيه كل تلك الجماعات والقوى والمؤسسات الأمنية السياسية أو حتى الحكومات. والجميع يدرك بأن الهدف يتجه صوب منع الهدوء والاستقرار والسلام والتطور في العراق؟ من يستطيع أن يدلنا بشكل ملموس على الجلاد الفعلي للشعب العراقي؟ هل يمكننا أن نخمن ونقدر مثل هذه المسألة الخطيرة التي يذهب ضحيتها مئات الناس الأبرياء من بنات وأبناء الشعب العراقي, كما حصل أخيراً في بغداد أو قبل ذاك في تلعفر وفي الموصل ...الخ؟ من يساعدنا على معرفة الجاني ومن يقف خلفه لكي لا نضيع في متاهات التخمين والجدل غير المجدي نتيجة التخمين, ولكي لا يتهم هذا الطرف أو ذاك بأنه يمارس أسلوباً غير أخلاقي حين يتهم هذا البلد أو ذاك بمثل هذه العمليات المجرمة.
كلنا نعرف حقائق معينة لا جدال فيها, نعرف مثلاً:
** وجود قوى بعثية محلية تعتبر من بقايا جلادي الشعب العراقي في عهد الدكتاتور صدام حسين, وهي متحالفة مع قوى عديدة في الداخل والخارج وتمارس دور الجلاد حالياً.
** وجود قوى تابعة لهيئة علماء المسلمين متحالفة مع القاعدة وقوامها جزء من البعثيين والقوميين السابقين أيضاً, إضافة غلى جمهرة من إخوان المسلمين, وهي تمارس الجلد أيضاً.
** وجود قوى تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين التي تشكل أحد أبرز جلادي الشعب العراقي والمتحالفة حالياً بشكل مباشر أو غير مباشر مع بقية القوى المناهضة للوضع الراهن.
** وجود ميليشيات شيعية مسلحة تمارس العمليات العسكرية في ما بينها أو تريد خلق الإحباط في نفوس الناس أو ترويج حالة عدم الاستقرار وتبويش الأرضية التي يقف عليها المالكي ونسف سياسته في دعم دولة القانون. كما أن فيها الكثير من الضغط للوصول إلى أهداف معينة للحملة الانتخابية القادمة
** وجود نشاط لقوى أجنبية لها مواقع في الأحزاب الإسلامية السياسية, سواء أكانت شيعية أم سنية, وهي تشترك في هدف أساسي نشر عدم الاستقرار, وهي تستخدم الهوية العراقية لإنجاز مهماتها التخريبية والدموية, وسواء أكانت موجهة للعراق أم كانت موجهة للولايات المتحدة.
** وجود اندساسات غير قليلة في مواقع الدولة العسكرية والمدنية وفي الأحزاب السياسية والمؤسسات الأخرى التي تستطيع قوى الإرهاب الولوج من خلالها للحصول على المعلومات الكافية لإنزال الضربات بالمجتمع العراقي. فالهوية التي لم تنتصر بعد في هذه المجالات هي هوية المواطنة العراقية.         
كل هذا موجود في البلاد واكتشاف الفاعل من هذه التجمعات ليس سهلاً بسبب التداخل والتشابك والتحالف حول هدف مشترك واحد هو عدم إعطاء فرصة لاستنشاق هواء الطمأنينة والاستقرار والأمان.
ومن أجل أن نكتشف الجلاد دون توجيه اتهامات, والمتهم برئ حتى تثبت إدانته, فما علينا إلا أن نطلب من مجلس الأمن الدولي الموافقة على أخذ مهمة التحقيق بالمسالة وتشكيل محكمة جنائية دولية لمتابعة الجرائم التي ارتكبت وسوف ترتكب في العراق خلال الفترة القادمة, إنه السبيل الجاد والعملي لترك الاتهامات المتبادلة جانباً وإعطاء التحقيق والتحري عن أدلة إثبات قوية ضد الفاعلين, والذي يمكن أن يخلق أرضية ثقة متبادلة حين يكتشف الفاعل ويقدم للمحاكمة ويعاقب على  الجرائم التي ارتكبها. أتمنى أن يعي الجميع أهمية ذلك ودعم طلب العراق الموجه إلى مجلس الأمن الدولي على غرار محكمة قتلة رفيق الحرير وصحبه.
1/9/2009                                            كاظم حبيب         

1184

اقتصاد السوق
وامكانيات التطبيق في الاقتصاد العراقي

     د. عبد الامير رحيمة العبود

اولاً:  ألسمات الرئيسية لاقتصاد السوق او الاقتصاد الحر

ويسمى احيانا بأقتصاد الدول الرأسمالية الحرة ، وما يميز هذا النظام هو الحرية الاقتصادية التي تعني ابتعاد الدولة عن تنظيم الحياة الاقتصادية ، وانحسار دورها على القيام بنشاطات الامن الداخلي والدفاع عن البلد ، والقيام بنشاطات السياسة الخارجية ، وتوفير بعض الخدمات الضرورية للسكان ، كتوفير الطاقة والمياه والصرف الصحي والرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم الاساسي ، وان ينفرد القطاع الخاص بمزاولة النشاطات الاقتصادية سواء عن طريق الشركات او الافراد ، وان تكون السوق هي المحدد لفعالية وربحية النشاطات الاقتصادية بتأثير تيارات العرض والطلب داخل السوق ، دون تدخل الدولة لحمياتها وتنظيم نشاطاتها ، توخيا لتحقيق المنافسة المتكافئة بين المؤسسات الاقتصادية داخل السوق.
وتنفيذا لهذا التوجه ، اصبحت المنظمات الدولية وبخاصة منظمة صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، ومنظمة التجارة الدولية ، تشترط للحصول على عضويتها ، والاستفادة من نشاطاتها ، ان تلتزم الدولة بعدم تطبيق القيود على حركة انتقال السلع ورؤوس الاموال فيما بينها وبين الدول الاخرى ، مثل اجراءات الدعم ، واجراءات حماية الاقتصاد الوطني التي تشمل الرسول الجمركية واجراءات منع الاستيراد وحصص الاستيراد في سبيل توفير المنافسة المتكافئة بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الدول الاخرى.
ومن الدول التي تطبق هذا النظام حاليا كل من الولايات المتحدة الامريكية ، ودول الاتحاد الاوروبي ، واليابان ، وكندا واستراليا.

ثانيا: تطبيقات اقتصاد السوق على الاقتصاد العراقي:
تتجه الكثير من دول العالم نحو تطبيق اقتصاد السوق وفق الصيغ التي تأخذ بها الدول المتطورة بعد فشل الانظمة الاشتراكية ، والمصاعب الكثيرة التي تعاني منها الدول النامية من جراء تطبيق اجراءات الحماية وتدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية.
ومن هنا يثار السؤال:
هل ينبغي تطبيق نهج اقتصاد السوق وفق الصيغ التي تطبقها الدول المتطورة عندنا في العراق ، في الوقت الحاضر؟
في سبيل الاجابة عن هذا السؤال لا بد في البداية من الاشارة الى واقع الاقتصاد العراقي حاليا. ذلك لان الاقتصاد العراقي يعاني في الوقت الحاضر من مشاكل مستعصية ، ولان قطاعاته المنتجة شبه معطلة ، فالقطاع الزراعي الذي يعتبر المصدر الرئيسي لتوفير الاغذية للسكان ، والمواد الاولية ذات الاصل الزراعي للصناعة ، والذي يعتاش على موارده اكثر من ثلث السكان، اصبحت اراضيه الصالحة للزراعة تتناقص بشكل سريع بسبب مشاكل شحة المياه ، والتملح ، والتصحر ، والفلاح العراقي اصبح في الغالب عاجزا عن مواجهة هذه المشاكل بامكانياته المالية والتكنولوجية الشحيحة ، فضلا عما يعانيه من ارتفاع كلف عناصر الانتاج في السوق المحلية. ولهذا اصبح الفلاح العراقي عاجزا عن منافسة السلع الزراعية المستوردة بعد ان قامت الدولة ، في النظام الجديد بتخفيض الرسوم الجمركية او الغائها ، وكذلك الغاء القيود الكمية على الاستيراد، وبعد ان اصبحت مستويات الدعم التي تقدمها الدولة للانتاج الزراعي غير مجدية.
لذلك وازاء هذه المنافسة الشديدة للسلع الزراعية المستوردة تدهور الانتاج الزراعي واضطر الكثير من الفلاحين العزوف عن الانتاج الزراعي والهجرة الى المدن او العمل في المؤسسات الحكومية او غيرها من مجالات العمل غير الزراعي.
اما القطاع الصناعي فهو ليس افضل حالا ، اذ ان اغلب المؤسسات الصناعية اما متوقفة عن العمل كليا ، او ان تعمل بظروف صعبة للغاية نتيجة تقادم اجهزتها التكنولوجية ولارتفاع تكاليف انتاجها ، وهي بسبب هذه المصاعب الانتاجية اصبحت هي الاخرى عاجزة عن منافسة السلع الصناعية المستوردة التي تحصى بمزايا النوعية الجيدة وانخفاض تكاليف الانتاج.
يضاف الى هذه الحالة المزرية للقطاعات الانتاجية معاناة البلد كما هو معروف من تفاقم البطالة ، حتى اصبح عدد البطالين يتجاوز 30% من السكان الراغبين في العمل ، بينما تتجاوز البطالة المقنعة 50% من العاملين فعلا. ولا شك فإن ازدياد نسب البطالة هو انعكاس لتردي حالة المؤسسات الانتاجية لان الانتاج هو المصدر الرئيسي لتشغيل القوى العاملة.
من هنا يبدو واضحا بأن تطبيق اسلوب اقتصاد السوق وفقا للنموذج الذي تطبقه الدول المتطورة ، الذي يعني الغاء اجراءات الحماية والدعم وفتح الاسواق على مصراعيها ازاء السلع المستوردة سوف يفضي الى منافسة الانتاج الوطني والقضاء عليه.

لا غبار حول تحقيق المزايا والفوائد من تطبيق اجراءات اقتصاد السوق في الدول المتطورة التي تتوفر في اقتصاداتها الامكانات المادية والتكنولوجية ومزايا الانتاج الكبير. ففي هذه الدول تنتفي الحاجة الى تدخل الدولة لحماية الانتاج الوطني ، وان تضحي الدولة باموالها لاسعاف المؤسسات الضعيفة ، لان الافضل عندها ان تترك المؤسسات الضعيفة الساحة لمن هي افضل منها ، وان تذهب الى مجالات اقتصادية اخرى تستطيع فيها ان تحقق المزايا التي تساعدها على الوقوف بوجه منافسة الاخرين. لكن الامر هنا لا يتعلق باقتصاد متطور بل ببلد نام هو العراق الذي تعرض طيلة العقود الثلاثة الماضية لثلاث حروب خاسرة ، ونظام لم يهتم بالانتاج والمنتجين والمستهلكين ، وحشد كل طاقات البلد لتوجهاته السياسية والعسكرية الهوجاء ونزوات حكامه. وكان من ضحايا ذلك النظام اغلب مرافق الانتاج التي تعرضت للاهمال والتدمير. وأن الفترة بعد تغيير ذلك النظام عام 2003 لم تتمخض عن تحسن ملموس في عملية الانتاج بسبب غياب الامن وتفشي الارهاب وتعثر عملية التنمية الاقتصادية ، بل ان وضع الانتاجين الزراعي والصناعي ازداد سوء بسبب الغاء الجراءات الحماية وتقليص اجراءات الدعم وفتح الاسواق على مصراعيها امام السلع المستوردة التي راحت تنافس الانتاج الوطني وتقضي عليه كما اشرنا توار.
وازاء هذه المصاعب التي يعاني منها الانتاج الوطني العراقي لا بديل امامنا في الوقت الحاضر غير العودة الى تطبيق اجراءات الحماية الاقتصادية المتمثلة بزيادة الرسوم الجمركية على السلع المستوردة وغيرها من اجراءات الحماية ازاء السلع المنافسة للمنتجات الوطنية الزراعية والصناعية والاخذ بتطبيق اجراءات الدعم الاقتصادي المختلفة.
ومن الامور التي تثار للنقاش بشأن تطبيق اجراءات الحماية والدعم موقف المنظمات الدولية وبصورة خاصة صندوق النقد الدولي الذي راح يطالب الحكومة العراقية في السنوات الاخيرة بالغاء اجراءات الدعم وبخاصة دعم المستهلكين عن طريق توزيع مواد البطاقة التموينية كشرط لموافقته على قيام اعضاءه من الدائنين للعراق بتخفيض ديونهم بنسب تصل الى 80%.
لا يوجد من كان لا يقر بأهمية تخفيض الديون على العراق التي بلغت في حينها 120 مليار دولار كما هو معروف، لكن مثل هذا الموضوع وغيره من اجراءات الحماية والدعم هو ، كما نعتقد ، كان ولا يزال قابلاً للتفاوض مع ادارة صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات الدولية ، وقد اقترن هذا التفاوض بالتفهم لظروف العراق الاقتصادية الحالية ، بدليل ان ادارة صندوق النقد الدولي قد تفهمت ، في الاونة الاخيرة ، ضرورة توزيع المواد الغذائية الضرورية المدعومة من قبل الدولة والمشمولة بالبطاقة التموينية على اصحاب الدخول المنخفضة من المواطنين ، والاكتفاء بحجبها عن اصحاب الدخول المرتفعة ممن تزيد مدخولاتهم الشهرية عن مليون وثلاثمائة الف دينار عراقي.

الخلاصة والاستنتجات

اتضح مما سبق بأن ظروف العراق الاقتصادية الحرجة في الوقت الحاضر ، وما اتسمت به من تدهور الانتاج العراقي وتعثر عملية التنمية تقتضي قيام الدولة بتطبيق اجراءات الحماية الاقتصادية والدعم ، وقيامها في التدخل لتنظيم الحياة الاقتصادية ، وبخاصة توسيع دورها في عملية التنمية الاقتصادية ، والقيام الى جانب ذلك ، في الوقت ذاته بدعم وتشجيع القطاع الخاص ، وكذلك تشجيع نشاط الاستثمار الاجنبي ، اما الاجراءات التي ينبغي الاخذ بها في الوقت الحاضر فهي:
1.   زيادة الرسوم الجمركية على السلع المنافسة للانتاج الوطني بنسب لا تقل عن 15% بالنظر لدور هذه الرسوم في حماية الانتاج الوطني من منافسة السلع الاجنبية فضلا عن دورها في توسيع موارد الدولة.
2.   تطبيق نظام الحصص والاجازات بالنسبة لاستيراد السلع التي لا يغطي انتاجها الوطني حاجة السوق المحلية على ان يتسم هذا النظام بالدراسة الدقيقة والمرونة بحيث لا يفضي تطبيقه هذه الاجراءات الى احتكار السوق من قبل المنتجين المحليين والاضرار بمصلحة المستهلكين.
3.   تطبيق اجراءات منع الاستيراد ، في اوقات محددة ، حينما يفيض الانتاج الوطني عن حاجة السوق المحلية ، وان يقتصر تطبيق هذا الاجراء على منع السلع الزراعية المستوردة التي يفيض انتاجها الوطني عن حاجة السوق الداخلية ابان ذروة المواسم الزراعية وحينما تتميز السلع الزراعية المنتجة بالنوعية الجيدة والاسعار المتهاودة وصعوبة التصدير الى الخارج.
4.   قيام الدولة بزيادة الدعم المالي والعيني للمنتجين الزراعيين والصناعيين بخاصة تقديم القروض الميسرة للفلاحين والصناعيين ، وكذلك تقديم مختلف اساليب الدعم العيني للفلاحين بكميات مجزية ونوعيات جيدة ، كالاسمدة والبذور المحسنة ومواد الوقاية من الاوبئة والمعدات الزراعية ، ومعدات الرش والتنقيط وغيرها من المواد المستوردة المدعومة الضرورية لعمليات الانتاج وكذلك شراء الحبوب من الفلاحين باسعار مجزية ، والجدير بالذكر هو ان العراق يقوم بتطبيق هذا الاجراء منذ امد طويل ، لكن الذي نقصده من وراء الاشارة اليه هو ضرورة التوسع في تنفيذه والحرص على تطويره وتكيفه وفقا لمتطلبات العمليات الانتاجية.
5.   ولعل الجانب الاكثر اهمية في تحقيق النهوض والتطور الاقتصادي السريع هو توسع دور الدولة في اعداد خطط التنمية الاقتصادية القصيرة الامد والطويلة الامد والحرص على تنفيذ بنودها. ذلك لان اعداد الخطط الاقتصادية وتنفيذها هي الوسيلة الاكثر فعالية في تطوير المؤسسات الاقتصادية القائمة ومعالجة مشاكلها وتزويدها بالتكنولوجيا الحديثة ، وكذلك اقامة المشاريع الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدمية الحديثة ، ذات الاثر الكبير في تحقيق النمو والنهوض الاقتصادي والاجتماعي ، نظرا لضعف امكانيات القطاع الوطني الخاص في اقامة مثل هذه المشاريع في المرحلة الراهنة.
6.   ومن الجوانب ذات الاثر الكبير والسريع في تحقيق النهضة الاقتصادية وتطوير القطاع الخاص في آن واحد هو قيام الدولة بانشاء المشاريع الاقتصادية ، ثم المبادرة الى بيعها على القطاع الخاص ، بخاصة بيعها الى العاملين في هذه المشاريع بعد اكتمال انشائها ونجاحها في الانتاج ، ويعرف التاريخ الاقتصادي دور هذا النموذج في التنمية في تطور الاقتصاد الياباني ، ومن امثلة ذلك قيام الدولة بانشاء المشاريع الزراعية النموذجية بالقرب من المدن ، والتي تقوم على اساس التكامل الزراعي الصناعي ، والاعتماد على الاساليب التكنولجية الحديثة ، كاستعمال المعدات الزراعية الحديثة ، واساليب الري بالرش والتنقيط وغيرها من الاساليب العلمية الزراعية ، واستغلال اراضي المشروع في زراعة الاعلاف والفواكة والخضروات والمحاصيل ، الى جانب القيام بتربية الاغنام والابقار والدواجن ، ثم القيام بتصنيع منتجات المشروع عن طريق اقامة مشاريع صناعية صغيرة داخل المشروع لانتاج البيض واللحوم والالبان وتعليب المنتجات الزراعية.
ولا يخفي دور مثل هذه المشاريع الانتاجية في تجهيز المدن بالمنتجات الزارعية ذات النوعيات الجيدة ، وكذلك تشغيل عدد غير قليل من العمال المهرة وخريجي كليات الزراعة والبيطرة. كما ان المبادرة الى بيعها فيما بعد الى العاملين في المشروع او الى الشركات المساهمة او المحدودة ، سوف يساهم في توسيع دور القطاع الخاص وتعزيز موقعه في القطاع الزراعي. فضلا عن دورها في انجاز عملية الارشاد الزراعي للفلاحين في المناطق المحيطة والقريبة من موقع هذه المشاريع.
7.   ولغرض تحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية السريعة ، ومعالجة مشاكل الاقتصاد الوطني المتعددة ، وفي سبيل استغلال الموارد الاقتصادية المعطلة بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة ومزايا الانتاج الكبير ، لا يمكن الاستغناء عن الاستثمارات الاجنبية. بالنظر لما يمتلكه الاستثمار الاجنبي من امكانيات مالية وتكنولوجية وتسويقية هائلة يعجز الاقتصاد العراقي بقطاعيه الحكومي والخاص عن توفيرها.
وتبدو اهمية الاستثمارات الاجنبية واسعة بالنسبة لقضايا الاستثمار في حقول استخراج النفط والصناعات النفطية والبتروكيماوية. والمعروف ان العراق يمتلك احتياطيات هائلة من النفط الخام، وان ما ينتجه العراق حاليا من النفط الخام لا يغطي الا نسبة متواضعة من حصته في منظمة الاوبك ، بينما تقوم الدول الاخرى الاعضاء في هذه المنظمة بتصدير ما يتبقى من حصته، بمعنى ان العراق يفقد في الوقت الحاضر فرصة استغلال احتياطياته النفطية على الوجه الاكمل بسبب عجزه عن زيادة الانتاج ، في الوقت الذي هو فيه بامس الحاجة لزيادة عوائده من الصادرات النفطية لمعالجة مشاكله الاقتصادية والاجتماعية ، في وقت لم تكن الصورة في الاقتصاد العالمي واضحة عن مستقبل اسعار النفط في السوق العالمية في الامد المنظور ، وهل سوف تنهار اسعار النفط بتأثير ازدياد اعتماد دول العالم على مصادر الطاقة البديلة التي تتحدث عنها وسائل الاعلام يوميا ، ام انها سوف تحافظ على الاستقرار او الارتفاع ، لا يعلم احد ، لكن الامر لا يزال خاضعا لكافة التكهنات.
لا جدال حول اهمية وافضلية الاعتماد على شركاتنا النفطية في عمليات الاستخراج والتصدير ، لكن المسألة المطروحة النقاش هي: هل ان شركاتنا النفطية بامكانياتها التكنولوجية الحالية ودور الدولة في توسيع عملياتها الانتاجية قادرة في الوقت الحاضر على زيادة الانتاج وفقا لحصة العراق من التصدير وما تقتضيه حاجة العراق الى الموارد النفطية.
الجواب بالتأكيد هو النفي ، وان ما حصل من تلكؤ في الانتاج خلال السنوات الست الماضية يؤكد هذه الحقيقة ، وهو ما يؤكد الحاجة الى الاستثمارات الاجنبية في مجالات استخراج النفط وتصنيعه.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال التفريق بمصلحة البلد لصالح الشركات النفطية الاجنبية فهنا من الممكن صياغة عقود الاستثمار وفق ما يضمن مصلحة البلد ، لكن التلكؤ في الاستفادة من مزايا الاستثمار الاجنبي بخاصة بالنسبة لعقود الخدمة سوف يعني فقدان الفرصة في استغلال عنصر الزمن للاستفادة من هذا الجانب الهام ، وقد تفيدنا الاشارة الى ما يقوم به الاستثمار الاجنبي من دور في تحقيق الازدهار الاقتصادي في كل من الصين والهند وغيرهما من دول العالم في المرحلة الراهنة ، التي اصبح فيها الاستثمار الاجنبي شريك لا غنى عنه في اغلب القطاعات الاقتصادية في تلك الدول ، الى جانب دوره في النهوض الاقتصادي والاجتماعي لاغلب دول العالم.

1185
قناة العراقية الحكومية تشجع على ممارسة العنف المضاد!

مارس الإرهابيون جرائم بشعة ومرعبة في آن في يوم الأربعاء الدامي الذي سقط بسببها المئات من القتلى والجرحى والمعوقين. ولا شك في أن الإرهابيين سيسعون إلى تنفيذ المزيد من مثل هذه العمليات الدموية.
لا شك في أن المجرمين الذين ارتكبوا هذه الجريمة يجب أن يقدموا إلى المحاكم وينالوا اقسى العقوبات التي يسمح بها القانون العراقي. وليس أمام الحكومة العراقية التي تحترم نفسها وتحترم الدستور والقانون سوى الطريق الأمثل والأفضل, طريق ملاحقة القوى التي تقف وراء هؤلاء المجرمين الأوباش لاعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة لينالوا جزاؤهم العادل.
ولكن ما هي الطريقة التي تتعامل معها قناة العراقية والتي يقوم بنقلها مراسلو القناة عبر استطلاع رأي الناس لتنشر الأقوال المرعبة التالية:
تقول امرأة عراقية تقول:
بوية هذولة اللي نفذوا الجريمة لازم نشنقهم ونقطعهم وصلة وصلة ونعلقهم على أعمدة الكهرباء, لازم نمثل بيهم, لازم .. لازم .
ويقول عسكري عراقي:
هذولة المجرمين لازم نعدمهم شنقاً, لازم نعلقهم على الأعمدة بكل مكان من العراق, هذولة يستحقون التمثيل بيهم, لازم نمثل باجسادهم...
كانت هذه الصرخات تذاع يوم الثلاثاء على الساعة  الثامنة والربع مساءً. ويكرر في أوقات الاستراحة بين وقت عرض فلم عراقي منتج للتلفزيون.   
هل بهذه الطريقة العنفية نثقف الشعب ليلتزم بالقانون ويرفض التمثيل بالجسد الذي هو محرم دينياً ايضاً.
أنه مواطنون لا يعون ما يقولون فللاغضب قد سيطر عليهم, ولكن أليس من واجبنا أن نرشح ما هو سلبي وما هو غيجابي, لكي نبعد عن الرأي العام مثل هذه الأفكار التي تحمل في طياتها الهمجية التي مارسها البعثيون في تعذيبهم للشعب العراقي..
لا أدري كيف يسمح لنفسه مسؤول البرامج في تقديم مثل هذه التصريحات الخطيرة التي تعني التصرف بصورة همجية تقترب من همجية القتلة الذين مارسوا التفجيرات في العراق, إنه من نفس الذهنية والعقلية البعثية التي قامت بتعليق المشنوقين في ساحة باب الشرقي بتهمة الخيانة, أو كالبعثيين الذين مثلوا بجثث القتلى في المعتقلا ت والسجون.
كم أتمنى أن يفكر صحاب دولة القانون والناطق الرسمي بدولة القانون إلى مثل هذه الدعاية السيئة التي تدعو إلى  القتل والتمثيل ربما حتى دون محاكمة, فالتمثيل الذي تروج له القناة مرفوض شرعاً وقانوناً.
إن ذهنية من يوجه قناة العراقية يسقط مرة في مستنقع الطائفية السياسية, ومرة في مستنقع المناهضة للقانون وينشر افكاراً تدعو إلى التمثيل بالجسد وتقطيع أوصال المجرمين وتعليقهم على أعمدة الكهرباء, فهل هذه قناة تثقيفية أم قناة تدعو للطائفية والهمجية؟ ليس سوى سؤال, ومن حق المواطن أن يوجه مثل هذا السؤال. وعلى  المسؤولين متابعة ذلك!
25/8/2009                      كاظم حبيب

1186
شارع المتنبي ونعيم الشطري وجهان لكتاب واحد هو الإنسان ...

مع بداية ربيع هذا العام (2009) زرنا زوجتي وأنا لأول مرة شارع المتنبي بعد إعادة بنائه. كنت مهموماً بما حصل لهذا الشارع حيث دمر وقتل الكثير من الناس الطيبين بمن فيهم عائلة الشابندر. كانت زوجتي تعرف ما حصل لهذا الشارع وسكانه الأوفياء للكتاب والثقافة. وكان الخوف يسيطر عليها قبل دخولنا الشارع خشية أن تتكرر المأساة. فهذا الشارع شهد واحدة من أعتى العمليات الإرهابية وأكثرها بشاعة ة وإحراماً وأعمقها حقداً وكراهية للإنسان والكتاب والثقافة والعراق.   حين اقتربنا من وسط الشارع تقريباً, ونحن في طريقنا إلى حضور ندوة المعماري المبدع رفعت الجادرجي في ديوان المدى الثقافي في شارع المتنبي, حيث كان الشارع مزدحماً بقراء وباعة الكتب حتى ارتفع صوت متين ومتماسك, صوت رجل قارب الستين من عمره وهو يقرأ أبياتاً من قصيدة الجواهري الكبير.
سلام على  جاعلين الحتوف           جسراً إلى الموكب العابر
سـلام على مثقل بالحـديد          ويشـمخ كالقائد الظافـر
لا يمكن أن أخطئ التقدير, فهو صوت ذلك الإنسان الذي عشق الكتاب والشارع وأصبح جزءاً منه, رغم أن الشارع لم يجلب له العيش الرغيد ولا المال الكافي, بل جلب له الطمأنينة والصداقة مع الكتاب وحب الناس ومزيداً من حب الثقافة والمثقفين, إنه نموذج للإنسان الحر والأبي وصاحب فكرة مزاد الكتب في هذا الشارع المقدام, إنه نعيم الشطري, الذي تعتز به الشطرة والعراق كله.
جلب الصوت انتباه زوجتي أم سامر وراحت تمعن النظر بالرجل الذي يقرأ الشعر بصوت قوي ولكنه منفعل ومتفاعل مع مضمون البيتين. فنست خوفها, وهي ترى الزحام وهذا الإنسان بجسمه الممتلئ وروحه الوثابة التي هي روح الشباب وحيوية العاشق للإنسان والكتاب, فراحت تسألني عن القارئ وما عمله.
أعرف الشطري منذ السبعينات وسمعت عنه ولم نلتق. ثم التقنيا ونشأ ود أصيل بيني وبينه أحببته كثيراً وودت لو تحظى مكتبته بعناية خاصة. فكتبه مكدسة فوق بعضها يصعب استخراج كتاب منها, ولكنه العليم بموقع الكتب القادر على استخراج أي كتاب بلمح البصر. 
بعد ثلاثة شهور من زيارتي الأولى له, زرت شارع المتنبي ونعيم الشطري للمرة الثانية حين وصلت بغداد للمشاركة في مؤتمر ومهرجان حركة الأنصار الشيوعيين ببغداد. زرت الشارع هذه المرة لألتقي بنعيم الشطري ومازن لطيف ومحمد وبقية الصحب الكرام.
كان يقف كالطود الشامخ يقرأ الشعب رغم المعاناة من قلة بيع الكتب ورغم العيش المرهق في تلك الغرفة الصغيرة المنزوية خلف شارع المتنبي.
ولد الطفل نعيم لأبوين شطريين  كادحين, فسمي النعيم ليكون نعمة لعائلته , ونعم التسمية. ولد الطفل حسن الوجه وبهي الطلعة وعربي الملامح. نما وترعرع في مدينة الشطرة, وحين اصبح شاباً يافعاً بدا مربوع القامة أقرب إلى القصر منه إلى الطول, ولد بمدينة الشطرة الفقيرة والكادحة والتابعة لولاية الناصرية المشهورة بظلم الإقطاعيين وإمارة آل السعدون الذي منح رئيسهم لقب باشا في العهد العثماني, وسميت المدينة باسمه, ناصر باشا السعدون. التحق بصفوف الحركة الوطنية العراقية, تلك المدينة التي نمت وتطورت فيها الحركة الوطنية وجماعة ابو التمن ومن ثم صدر منها أول بيان شخصي للشيوعي يوسف سلمان يوسف.
سجن بسبب ممارسته السياسة التقدمية دفاعاً عن الحرية والديمقراطية وكرهاً لمشوهي الدستور العراقي وخاطفي الديمقراطية من حياة الناس. كان الرجل عاشقاً منذ الصغر, عاشقاً للأدب, وخاصة الشعر, والكتاب والقراءة الشغوفة.
فتح مكتبة ليتمتع بقراءة وبيع الكتب للناس وليشجع على امتلاك كل إنسان لخير صديق وخير جليس بعد ثورة تموز في العام 1958. لم يتمتع بهذه الهواية أيضاً بسبب المضايقات, فغادر الشطرة قاصداً بغداد العاصمة بعد انقلاب شباط من العام 1963. وحط الرحال في شارع المتنبي الذي سلب لبه وسيطر على عواطفه, وجعله أسير قراءة وبيع الكتب, وما أحلى مثل الأسر بين الكتب بالنسبة للشطري نعيم, رغم شظف العيش وصعوبة بيع الكتب حتى بات في فترات يصدح شجياً ومتحسراً على أيام أفضل حين كان الكتاب يلتهم في أعقاب ثورة تموز بالبيت التالي:
كل من يكلك زين كلّه أنتَ كذاب        الشطري صار أسبوع ما بايع كتاب
ها هو الشطري يقترب من نصف قرن يعيش ويأكل وينام بين الكتب في غرفة يسميها حقيرة خلف شارع المتنبي في منطقة جديد حسن باشا! فمن يعيش من كده يعيش فقيراً, ومن يعيش بغير جهد وبالسحت الحرام يصبح متخماً ويعيش في القصور ويمتلك قناة تلفزيونية لم يكن قبلها يملك شروى نقير! 
حين حضر مسرحية يدور مضمونها حول كارثة شارع المتنبي في إطار مهرجان حركة الأنصار الشيوعيين في مطعم فندق السدير, أنطلق من بين الحاضرين صوته الشجي ينشد ويشنف أسماعنا بأبيات شعر حزينة, فتهدج صوته وبكى وأبكانا معه. وزاد من فعل الحزن روعة التمثيل وجودة الإخراج. 
كم أنت طيب أيها الرجل الحكيم, كم أنت شهم أيها الإنسان الذي لا يبيع إلا الثقافة الحية, لا يتعامل إلا بالكتب النظيفة مضموناً, كم تستحق أن تعيش في بيت نظيف وواسع وفيه مكتبة واسعة لتقضي حياتك التي أتمنى لها أن تكون طويلة, في قراءة الكتب وكتابة مذكراتك التي سوف تكون قيمة ومهمة بعد أن تكون قد اقتربت من السبعين وعشت الكثير والكثير جداً من أحداث وكوارث ومآسي العراق الحزين حتى الآن, رغم سقوط النظام فقوى الإرهاب لا تريد أن يهدأ العراق أو يعيش بسلام, فهل سنسمح لها بممارسة هذه الحرفة والهواية النذلة؟ كلا وألف كلا....
لا تجد الرجل يجلس وحده أمام مكتبته الصغيرة والمليئة بالكتب, بل يجلس معه أو تقف بجواره مجموعة من أصدقاء الشطري, ومنهم الصديق صاحب اللحية الرشيقة والرجل الطيب سعد حرزة عويز والصديق العزيز مازن لطيف .     
كم هو منسي هذا الرجل من حكام العراق في كل العهود, لأنه يتعامل مع الكتاب الجيد, وكم هو مذكور ومطلوب ومحبوب من فقراء وكادحي ومثقفي العراق. كم أتمنى أن ينتبه له الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ليقدم اسمه مع مكن يستحق التقاعد والمكافأة والعيش بسلام.
يشكل الشطري وشارع المتنبي وحدة واحدة, كلاهما يحمل هموم العراق وكوارثه وآماله وطموحاته, فإذ تحققت لشارع المتنبي حين أعيد بناؤه, فمتى يتحقق للشطري إعادة بناء حياته المعذبة, رغم حلاوة العيش بين الكتب وقراء الكتب, فله الحق على الدولة أن يكون له بيتاً ومكتبة وراحة بال وراتب تقاعدي بعد مضي أكثر من نصف قرن في التعامل مع الكتب والكتاب والقراء.
تحية وألف تحية للشطري الجميل والحكيم والشهم وبائع الكتب الطيب في آن.
25/8/2009                   كاظم حبيب 

1187
الثقافة العراقية ما بعد 2003

السيدات والسادة الكرام, ايها الأحبة
المدخل
أشعر بحاجة ماسة لأن أقول لكم ومن هذا المنبر وبصراحة تامة.. نحن لا نمتلك حريتنا, نحن نفتقدها.. نحلم بها .. ولكنها لا زالت بعيدة عنا وعن حياة الناس اليوميةو عن ممارساتنا و عن الأجواء التي تسمح لنا بتفعيلها.. فالحرية الفردية والعامة لا تنفصلان عن الديمقراطية, إن أن كليهما يشكلان الدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي .. نحن نفتقد الدولة المؤسسة الديمقراطية .. نفتقد, بتعبير أكثر دقة وموضوعية, الأساس المادي للدولة المدنية الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي, نفتقد القاعدة اقتصادية والاجتماعية لهما.       
فالصناعة الحديثة والزراعة الحديثة يشكلان القاعدة المادية للتنمية الاقتصادية والبشرية, وهما المولدان للطبقة البرجوازية المتوسطة والطبقة العاملة وفئات المثقفين في بلانا, وهي الفئات الحاضنة والمنمية والمطورة للمجتمع المدني الديمقراطي والدولية الديمقراطية. وهذا يعني نحن بحاجة إلى كسر حلقة التخلف والفقر والتبعية الشديدة لاقتصاد النفط الخام التصديري - الريعي والمجتمع الاستهلاكي. فلا بد من توفير مستلزمات بناء المجتمع المدني والوعي الاجتماعي والثقافية المصاحبين له. نحن بحاجة إلى مكافحة التخلف والتبعية والبطالة والحرمان والجوع واللامساواة المستفحلة ضد المرأة التي لا تجد له مكاناً سوى البيت والمطبخ والحجاب.
لا يمكن الحديث عن الحرية الفعلية وفي كل لحظة يمكن أن يقطع رأس, كما حصل للكثير من علماء ومثقفي العراق أو يقتل برصاصة من كاتم صوت, كما حصل للراحل العزيز كامل شياع, لا يمكن الحديث عن الحرية حين يفصل أو يعطى إجازة طويلة من العمل بسبب مقال يفضح فيه الفساد, كما حصل مع الصحفي الزميل أحمد عبد الكريم .. لا يمكن الحديث عن الحرية المنشودة حين يُجبر الأستاذ فاضل ثامر, الأديب والناقد ورئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق على رفع صوته ليطالب بإنصاف المثقفات والمثقفينو بحمايتهم, بتأين العيش المناسب لهمو بتأمين المطلوب لتطور مكاتب وبناية ونشاط ودور المثقفين في حياة البلاد وفي عملية تنويره. حتى الآن ليس هناك من يسمع له كفاية ويستجيب لطالبه العادلة والمشروعة والبسيطة في آن.
نحن لا نمتلك ما يكفي من الحرية.. نحن في وهم حين نتحدث عن حرية مشوهة مقيدة يتربص بها وبممارسيهاالموت, وبالمثقف الذي يتحدث بحرية... أياً كان القاتل.. حين يغيب الأمن الضروري, فاحرية والديمقراطية وأمن المواطن صنوان لا ينفصلان..
من هنا يفترض أن نتحدث عن الثقافة والمثقفة والمثقف بعد 2003 وعن هامش الحرية النسبي المتاح.
دور الثقافة والمثقفين ما قبل وما بعد 2003
على امتداد سنوات القرن العشرين لعب المثقفون المتنورون دوراً كبيراً في التأثير على وجهة التطور الاقتصادي والاجتماعي في العراق. حمل المثقفون الأوائل وما زالوا يحملون راية الفكر التنويري الحر, فكر الحب والحرية والعدالة, فكر الأخوة والمساواة في المواطنة, فكر التقدم ومساواة المرأة بالرجل, فكر تعليم المرأة وزجها في الحياة العامة, فكر تحرير المرأة من البيت والمطبخ والحجاب, فكر بتاء المجتمع المدني الديمقراطي, كما لعبوا دورهم في دفع البلاد صوب التحولات الاقتصادية والا جتماعية المدنية رغم معوقات العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ودور المؤسسة الدينية والذهنية الفلاحية العشائرية.
وجدنا دور المثقفات والمثقفين في الشعر والشعر الشعبي, في القصة والرواية والمسرح, في الموسيقى والغناء والرقص, في الرسم والنحت وتنوعات الفنون التشكيلية, كما وجدناه في البحوث العلمية والإنسانية ونقد الفكر الديني في الجامعات والدراسات الاجتماعية وفي التاريخ وفي النشاط السياسي والعمل الإعلامي. وقد أثرت جميع تلك الفنون والعلوم والأداب على أجيال عدة وساهمت في رفع وعي الإنسان في المدينة على نحو خاص وعبأت الكثير من القوى لصالح التغيير الاقتصادي والاجتماعي.
لقد حمل المثقف راية المجتمع المدني الديمقراطي, راية الحرية والحياة الجديدة, إذ كان لكل ذلك دوره في النضال الوطني, ولكنه عانى من دور السياسي المهيمن على دور المثقفة والمثقف ولفترة غير قصيرة. وكان لذلك دوره السلبي على انطلاقة المثقف نسبياً, إلا أنها تقلصت وتراجعت واشتد دور السلطة في أعقاب ثورة تموز نسبياً ثم في الفترات اللاحقة أكثر فأكثر.
ومنذ اربعة عقود حتى سقوط النظام البعثي الصدامي هيمنت على البلاد ثقافة قومية شوفينية عربية صفراء انطلقت من مواقع السلطة السياسية وعملت من أجل فرض نهجها الواحد المتخشب والتجهيلي على الثقافة والمثقفين, ولكنها اصطدمت بثقافة أخرى ومثقفين آخرين رفضوا الانصياع للدكتاتور, وسعوا إلى نشر ثقافة الانفتاح على الثقافة العالمية والتلاقح معها, ثقافة ديمقراطية تنويرية فاعلة ومحفزة على طلب الحرية والديمقراطية وتنويع أوجه الحياة الغنية والتقدم.
وفي هذا الصراع انتصرت السلطة البعثية في فرض ثقافتها لسنوات طويلة وساد الجدب في العراق إلا من اقلام حية عرفت كيف تستخدم أدوات واساليب أخرى لتمير ثقافة عدم الاتصياع والتمرد على القائم, والبعض مارس أسلوب كليلة ودمنة, إلا من ترك العراق ومارس العمل الثقافي في الخارج ليشارك في تعرية النظام وفضح طبيعته العدوانية. كانت حصيلة الصراع ولسنوات كثيرة موت الكثير من المثقفين المبدعين أو زجهم في السجون أو إرسالهم إلى جبهات القتال أو هجرة الكثيرين منهم ليعيشوا في المنافي ويكتبوا للعراق والشعب العراقي.
لم تهزم الثقافة الديمقراطية بل حافظت على إصالتها لدى الكثير من مثقفات ومثقفي الداخل إضافة إلى مثقفات ومثقفي الخارج. وكانت الخميرة التي تناضل اليوم من أجل أن يكون لها دورها في حياة المجتمع العراقي بكل مكوناته القومية.
إلا أن العراق يعيش ومنذ سنوات ثقافة ظلامية لا تختلف كثيراً عن ثقافة السلطة البائدة إلا من حيث الرداء الذي ترتديه. فإذا كانت ثقافة البعث الصدامي ثقافة قومية شوفينية وعنصرية صفراء, فأن ثقافة البعض المهيمن اليوم هي ثقافة دينية ط\ائفية سياسية صفراء ايضاً وهي في الجوهر متداخلة بثقافة قومية أيضاً. والتي تجد تعبيرها في المناهج التربوية والتعليمية وفي سوق الكتب وعلى المنابر ايضاً. إنها ثقافات لهويات قاتلة ومفرقة للصف الوطني.
نحن أمام ظاهرة جديدة سلبية ترفض الثقافة والفنون الإبداعية كالرسم والنحت والغناء والرقص والموسيقى والمسرح المفتوح والحر أو شعر الحب والغزل, وترفض باسم الخطر الغربي المهدد للثقافة العربية الإسلامية التلاقح والتفاعل الثقافي مع العالم الخارجي.
ولكن هذه الثقافة المشوهة هي عملة خاسرة, رغم هيمنتها النسبية البارزة في الحياة العامة بسبب تداعيات الحرب وفرض قرار الاحتلال والمحاصصة الطائفية والقومية السياسية, وستسود موضوعة التعدد والتنوع الثقافي في العراق الذي نريد ان يبنى ليكون بستاناً للثقافات العراقية العديدة والمتنوعة وليس لثقافة واحدة ورأي واحد ونظرة واحدة.
والصراع اليوم شديد ومتعدد الجوانب, ومن بيده السلطة يستطيع أن يعزز مواقعه وثقافته ويحارب الثقافات الأخرى, بسبب امتلاكه للسلطة والنفوذ والمال العام, وبسبب احتكاره لمؤسسات الدولة الإعلامية والثقافية من جهة, ومنعه أو غلقه أبواب الصرف على المؤسسات الديمقراطية للثقافة العراقية وللمثقفات والمثقفين في العراق. لا شك في وجود مقاومة ديمقراطية لمثل هذا النهج الذي برز في وزارة الثقافة وفي وزارات التربية والتعليم. ولا شك في أن مثل هذا الصراع كلف ويكلف حياة أناس كثيرينو ومنهم مثلاً قاسم عبد الأمير عجام وكامل شياع, على سبيل المثال لا الحصر.
علينا ان نتصدى لحرمان المثقفات والمثقفين من ممارسة النقد للفكر الديني (وهنا وردت لدي كلمة النقد للدين التي صححا الأتساذ فاضل ثامر في كلمته القيمة في أعقاب كلمتي, والتي برز فيها أهمية التعدد والتنوع في الثقافات والنقد لا يوجه للدين بل للفكر الديني الذي يبرز في الكثير من الأوجه ومنها بعض الفتاوي).
ليس هناك من يراقب الصحافة والصحفيين وما ينشرونه, وليس هناك من يراقب الكتب والمطبوعات, وليس هناك من يراقب المواقع الإلكترونية أو ما يدخل العراق من كتب ومجلات وجرائد, وهو أمر جيد وخطوة محمودة. ولكن في الوقت نفسه ليس هناك من يضمن حياة الصحفي والكاتب وصاحب المقال أو الكتاب, بل يمكن في كل لحظة أن تنزل عليه اللعنة بأشكال مختلفة, سواء التهديد من على منبر أو الطرد من الجريدة, كما فعل شيخنا المعمم محمد جلال الصغير وما نفذه فلح المشعل, أو كما فعل أصحاب كاتم الصوت مع قاسم عجام وكامل شياع أو الدكتورة المعملجي, أو ... الخ.       
علينا إيصال صوت الاتحاد العام للأدباء والكتاب إلى كل العراقيات والعراقيين, إلى كل المسؤولين, علينا النضال بطرق سلمية وديمقراطية من أجل تنشيط التنوع الفكري والثقافي, وإلى تلاقح الثقافات وليس غلى تناحرها.
أن مؤسسات التربية والتعليم والثقافة, التي تمتلك الموارد المالية والأجهزة, في مقدورها, وفي مقدور المنظمات غير الحكومية, رغم فقرها, المشاركة في رفع الوعي ونشر التنوير, شريطة أن تتميز كلها بالروح الحية وبقيم الحرية والديمقراطية.
إن المثقفة والمثقف في العراق يواجه نضالاً متعدد الجوانب, مضالاً من أجل تغيير البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية والوعي الا جتماعي والتنوير الديني والاجتماعي, إذ بدون ذلك تبقى عملية التغيير السلمي والديمقراطي صعبة ومعقدة ومليئة بالتضحيات.
في نهاية مداخلتي في ضوء الدعوة التي وجهت لي للحديث في قاعة الاتحاد العام للأدباء والكتاب بتاريخ 8/8/2009, تحدث الأستاذ فاضل ثامر وأبدى, كما سجلتها في ذاكرتي, ثلاث ملاحظات مهمة:
1.   تحدث عن مسيرة الثقافة في العراق منذ بداية تشكيل الدولة العراقية, الذي اختصرته من محاضرتي.
2.   عن النسبية في فهم الحرية وما متاح الآن منها في العراق وأهمية تكريسها وتطويرها.
3.   عن نقد الدين, إذ أشار إلى نقد الدين ونقد الفكر الديني, وإذ رفض الأول أيد وأكد الثاني.
لقد تضمنت مداخلته نقداً ودياً وأخوياً وغير مباشر لي, أحترمه وأتقبله دون أدنى ريب, فليس هناك من يمتلك الحقيقة كلها, ولي باستمرار أذناً صاغية لكل من يوجه النقد لي.
وفي مداخلتي بينت إلى أهمية نقد الفكر الديني, ولكن أحد حقوق الإنسان هو حقه في نقد الدين, كما يحصل اليوم في الديانة المسيحية او اليهودية أو غيرها من الديانات, ولكن ما جاء في كلمتي هو نقد الفكر الديني, وخاصة الاتجاهات الطائفية السياسية والعنفية والسلفية الجامدة والمتخلفة منه.
في نهاية الاحتفال شرفني الشاعر المبدع والصديق العزيز, سكرتير الاتحاد, الأستاذ ألفريد سمعان باسم الاتحاد درع الجواهري الكبير, فشكراً وأف شكر على هذا التقييم والتكريم الجميل, وكان الاتحاد قبل ذاك بأشهر قد شرفني بالعضوية فيه.
للاتحاد وأمانته العامة وجميع عضواته وأعضاءه الصحة المفورة والسلامة والتقدم.
24/8/2009                 كاظم حبيب                                                       

1188
هل من صعوبات أمام تحقيق التعاون والتنسيق
أو التحالف بين القوى الديمقراطية العراقية؟
الحلقة الأولى
لن أكون مغالياً ولا مبالغاً حين أدعي بأن الخلافات الراهنة بين فصائل التيار الديمقراطي  العراقي لا تمت إلى المبادئ بصلة ولا إلى الأهداف الأساسية التي تمس مصالح الشعب في هذه المرحلة من مراحل تطور العراق التي تتميز بالتعقيد والصعوبة والتي يفترض أن تناضل وتشارك القوى الديمقراطية العراقية في تحقيقها. فهي مشاكل من نوع آخر, مشاكل ترتبط بخمس جوانب جوهرية من وجهة نظري, لا بد من طرحها بصراحة ووضوح بأمل العمل على تجاوزها. وقد تيقنت لدي هذه الرؤية بعد اللقاء الممتع والمهم الذي حظيت به مع جمهرة كبيرة ومهمة من الأحبة من ممثلي الكثير من قوى هذا التيار. ويمكن تلخيص تلك النقاط فيما يلي:
أولاً: بروز النزعة الذاتية الحادة في التعامل المتبادل ورغبة كل طرف في هذا التيار الحصول على موقع أفضل تحت الشمس في تحالفاته وعلى حساب الآخرين. 
ثانياً: غياب واضح للثقة المتبادلة والود المتبادل ووجود احترام شكلي متبادل بين أطراف الحركة الديمقراطية العراقية.
ثالثاً: ضعف الممارسة الديمقراطية في العلاقة بين قوى التيار اتي تتفاعل مع غياب الرؤية الموضوعية لواقع كل منها وقدراته وعلاقته بفئات المجتمع, إذ أن دلائل كثيرة تشير إلى وجود عزلة فعلية للكثير منها, إن لم نقل كلها وبمستويات مختلفة عن الشعب وعن العلاقة المطلوبة مع فئات المجتمع ذات المصالح المتنوعة والمختلفة.
رابعاًً: ضعف الوعي بالمخاطر التي تحيط بالعراق وبالشعب وبها في آن واحد, وكأن الأمور ستسير في المحصلة النهائية لصالحها.
خامساً: الاستهانة بقوى الأطراف الأخرى, وخاصة قوى الإسلام السياسية, والاعتقاد بأنها فقدت أرضيتها الاجتماعية الدينية, وأن الانتخابات القادمة ستبعدها عن الهيمنة على نسبة عالية من اصوات الناخبين الذين يتأثرون بعاملين هما: عامل العشائرية وعامل المؤسسة الدينية والطائفية السياسية والتلاحم بين هذين العاملين, سواء أكان بالنسبة لقوى الإسلام السياسية الشيعية أم السنية. كما يعتقد البعض بأن المرجعيات سوف تقف على الحياد في الانتخابات القادمة , وهو خطأ قاتل أن استمرت قناعتهم بذلك, فللمرجعية أساليبها وأدواتها في الدعم المباشر أو غير المباشر.
وحين تلتقي بهذا الحزب أو الكتلة على انفراد ستجد الشكوى مرة من الأطراف الأخرى, وهو تأكيد لضعف الصراحة والشفافية في ما بينها, وضعف السعي لمعالجة ضعف الثقة المتبادلة, رغم وجود أهداف مشتركة مرحلية وبعيدة المدى أيضاً, إضافة إلى وجود رؤية مضخمة للذات, للـ"أنا" والـ "نحن" في مقابل الـ "آخر" و"هم"!     
ومن هنا أقول بأن الخلاف لا يرتبط بالمبادئ والأهداف الأساسية التي تمس مصالح الشعب, بل بالقضايا الذاتية التي ترتبط بموقع كل منها في التحالف المنشود, وهو الذي يفرقها, وحين تتحالف يفرقها الموقع أو التسلسل الذي تحظى به في قوائم المرشحين للانتخابات. وحين دب الخلاف في تحالف "مدنيون" مثلاً واقترحت عليهم حلاً, رضي به البعض ورفضه البعض الآخر بذريعة أنه الأفضل من الآخرين ويمتلك قوة صوتية أعلى تؤهله للفوز بمقاعد في مجالس المحافظات, ولكن الجميع خسر حتى المواقع التي كان قد حصل عليها في الدورة السابقة بحكم وجوده في إطار التحالف مع القائمة العراقية.
علينا أن نتيقن بأننا لا نملك غير هذه القوى التي يفترض فيها أن تتعاون, لا يمكننا استبدالها بقوى أخرى, كما لا يمكن استبدال شعبنا بشعب آخر, وعلينا بذل الجهد لتذليل الصعاب في إطار القوى المتوفرة لدينا. وهي كثيرة ومهمة وقابلة للتكاثر. كما كان ساخراً برتولد بريشت حين قال ما معناه: بما إننا لا يمكننا تغيير الحكومة, فلا بد إذن من استبدال الشعب!
ولكن ما هي أسباب ضعف القوى الديمقراطية العراقية حالياً؟
لا ابالغ أيضاً حين اقول أن الضعف الحقيقي يكمن في العزلة الشديدة التي تعاني منها قوى التيار الديمقراطي عن فئات الشعب الأساسية وخاصة الفئات الكادحة والمهمشة في المدينة والريف, ومعزولة عن القوى المثقفة والواعية والقادرة على تعبئة الناس حول شعارات ملموسة وعملية ومثمرة, ومعزولة عن أولئك الذين تتحدث عن رغبتها في تمثيلهم والدفاع عن مصالحهم, في حين علاقتها بهم على اضعف ما يكون. فقوى التيار لا تمتلك علاقات نضالية جادة مع فئات الشعب رغم أنها تحمل شعارات مطلبية صائبة عموماً, لكن لا تناضل فعلياً وجماهيرياً من أجلها أو تعبئ الشعب حولها وتدفع بهم للمطالبة بها عبر احتجاجات جماهيرية أو إضرابات أو مظاهرات لتضع السلطة أمام مسؤولياتها الفعلية.
لقد تشظت قوى التيار اليمقراطي, ولكنها تبذل بعض الجهود لتلتقي في ما بينها وتتحاور, ولكن البعض منها غير مستعجل للوصول إلى اتفاق مناسب لخوض الانتخابات, بل يفكر بوضع استراتيجية بعيدة المدى, وهو أمر يحمل خللاً فكرياً, إذ من غير المعقول أن نفرط بفرصة بانتظار فرص محتملة لاحقاً. إن من المفيد أن نبدأ بالتحالف لخوض الانتخابات ووفق شعارات محدودة ومرحلية, ثم نواصل الحوار لإنجاز اتفاقات استراتيجية بعيدة المدى. يبدو أن البعض لديه نفس طويل ومرتاح للوضع الهادئ نسبياً في الوقت الحاضر, وكفى الله المؤمنين شر القتال!
البعض الآخر لا يريد الدخول بصراع مع رئيس الحكومة, وكأن الرجل هو الأمثل للمرحلة الراهنة, وبالتالي تراجع النقد الذي يفترض أن يوجه له بأمل التحالف معه بصيغة ما. إن الخشية من النقد للحكم بسبب مساهمة هزيلة في الحكم تقود إلى عواقب وخيمة عاشها الحزب الشيوعي الكردستاني/ العراق في علاقته مع الحزبين الحاكمين, إذ تشكل تحالف الحرية والعدالة بسبب رفض الحزبين التحالف مع قوى أخرى ومنها الحزب الشيوعي الكردستاني, مما اجبر الحزب على  بناء تلك الجبهة الهزيلة, وكانت النتيجة محزنة لتاريخ هذا الحزب وتراثه ونضاله الطويل. إن النقد والمعارضة لا تعنيان مناهضة وعداء موجه ضد الحكومة في ظل أجواء ديمقراطية, بل تعني رفع مستوى المسؤولية والوعي بالواقع وعواقبه المحتملة. وما يجري على مستوى البلاد مماثل نسبياً مع ما جرى ويجري على مستوى كردستان العراق.
أعتقد بأن عوامل ذاتية ورؤية قاصرة عن فهم الواقع الجديد ومستجداته ومشكلاته هي التي تعيق الوصول إلى اتفاق بين قوى التيار الديمقراطي. ويمكن تذليل هذه العقبة لو أمكن تحقيق بعض التغييرات في جميع قوى التيار الديمقراطي, وخاصة التي ترى في نفسها أنها الأكبر أن تتقدم بتواضع وبعيداً عن المماحكات بمشروع لعقد مؤتمرات في النواحي والأقضية والمحافظات وصولاً إلى بغداد لتأمين علاقات أفضل بين قواعد قوى التيار الديمقراطي من العرب والكرد وبقية القوميات التي تواجه مصاعب جدية في التعامل مع الأحزاب الإسلامية السياسية أو المغرقة في السياسات القومية الشوفينية.
نحن بحاجة إلى رؤية جديدة ولا بد من أخذ المبادرة, لا بد من البدء واستثمار الفرصة بدلاً من الدخول باستراحة صيفية طويلة الأمد يستفيد منها الآخرون على حساب التيار الديمقراطي الذي بدأ البعض من قواه يمنح نفسه فرصة الاستراحة الصيفية الطويلة.
19/8/2009                      كاظم حبيب
     
 

كاظم حبيب
هل من إمكانية لتحقيق التعاون والتنسيق بين أطراف القوى الديمقراطية العراقية؟

الحلقة الثانية
إن متابعتي لأوضاع القوى الديمقراطية تؤكد لي بأن ثلاثة عوامل تؤثر سلباً على تأمين التعاون بين قوى التيار الديمقراطي العراقي, والتي أشرت إليها في الحلقة الأولى والتي يمكن تلخيصها بنقاط ثلاث, وهي:
1 . ضعفها بشكل عام ونشوء تنظيمات جديدة خارجة من تنظيمات سابقة نشأت بسببها علاقات متوترة تستوجب التنقية.
2 . تركة غير ديمقراطية في مجمل العلاقات في ما بين القوى الديمقراطية وضعف الثقة, يضاف إلى ذلك شعور عام لدى كل طرف بقدرته وقوته ورغبته في البروز تحت تأثير ذاتية شديدة تؤثر سلباً على علاقات بعضها بالبعض الآخر.
3 . عزلتها عن الشعب وعن النشاط الجماهيري والتي نشأت تحت وطأة عوامل عدة منها الإرهاب والتهديد بالموت للكوادر السياسية وسقوط الكثير من الديمقراطيين والمثقفين شهداء على طريق النضال.
ولكن هناك الكثير من المسائل التي يفترض أن يجري التفكير بها من جانب القوى الديمقراطية العراقية والتي تستوجب تلاقيها والبحث في أوضاعها وتحويل المسار 180 درجة صوب التعاون والتحالف لخوض الانتخابات القادمة وتأمين استراتيجية تحالف لاحقة في ما بينها. وسأتطرق في هذه المقالة غلى بعض القضايا التي ربما تثير النقاش حولها لتقريب وجهات النظر. ومن باب تحيل حاصل أن نشير إلى أن القوى الديمقراطية تمتلك تجارب غنية في التحالفات السياسية, بينها ما هو ناجح وأخرى فاشلة, وبينها ما هو غث وبعضها كان سميناً. ومثل هذه التجارب يفترض أن تكون عوناً لنا جميعاً في التحري عن إمكانية لتحقيق الوحدة الوطنية لا على اساس اندماج الجميع في كيان واحد, بل على اساس التحالف السياسي لتحقيق أهداف معينة في إطار استراتيجي مناسب. ويفترض عند التحري عن إقامة مثل هذه التحالفات أن ينطلق من عدة مؤشرات أساسيةو منها بشكل خاص ما يلي:   
1 . الواقع المزري الذي يعيش فيه الشعب والمشكلات التي تبدو أكثر تعقيداً مما مضى وتستوجب الحل, ومنها الأجواء المحيطة والمحركة للعملية السياسية والتصورات المتناقضة بهذا الصدد.
2 . الآفاق التي تبدو مرة مشرقة ومرة أخرى مظلمة لاتجاهات التطور في ضوء المشكلات المعقدة على مستوى العلاقات بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد, وكذلك العلاقات المتوترة بين القوى السياسية.
3 . الجهود التي تبذل لإقامة تحالفات ذات بعد طائفي مقيت يمكن أن يدفع بالبلاد غلى  ظلامية لا يمكن تقدير عواقبها السلبية, كما لا يمكن تقدير مدى قدرة القوى الديمقراطية  كل على  انفراد على تلك الصدمة ومواجهة الحالة الجديدة المحتملة.
4 . التعرف على مدى استعداد ورغبة وقدرة القوى الديمقراطية على تحقيق التعاون والتنسيق في ما بينها لصالح التحولات الديمقراطية لا على أساس انتخابي فحسب, بل وإلى ابعد من ذلك ايضاً.
5 . مدى تأثير الأوضاع الإقليمية والدولية المحبطة بالعراق والمحبطة أو المنشطة للقوى الطائفية السياسية من جهة, وللقوى الديمقراطية من جهة أخرى على التحرك وتحقيق التحالف الوطني والديمقراطي.
الواقع العراقي الراهن يشير إلى مجموعة من الظواهر المهمة التي يفترض أخذها بنظر الاعتبار عند العمل من أجل تأمين التحالفات الديمقراطية لتحقيق التغيير المنشود في وجهة تطور العراق الراهن, ومنها:
** التفتت الشديد والصراعات المحتدمة بين قوى الإسلام السياسية على السلطة والنفوذ والمال, رغم كل الجهود المبذولة لتحقيق التنسيق والتعاون في ما بينها وتشكيل أئتلاف جديد مشابه من حيث المبدأ للائتلاف المتفكك. وهذه الظاهرة لا تشمل القوى افسلامية السياسية الشيعية فحسب, بل والسنية ايضاً.
** التفتت الجديد في القوى الديمقراطية والسياسية والبرالية الكردستانية التي تجلت في قوائم خوض الانتخابات وفي النتائج التي انتهت إليها وفقدان نسبة الثلثين لدى الحزبين الرئيسيين الحاكمين, واحتمال بروز تأثير ذلك على الساحة العراقية, إضافة إلى ساحة غقليم كردستان العراق.             
** استمرار التفتت في قوى التيار الديمقراطي واللبرالية والعلمانية العراقية, رغم كل المحاولات الجارية لتحقيق التعاون والتنسيق, رغم بروز نجاحات بسيطة وجزوئية في نشوء الائتلاف الديمقراطي الجديد أو وجود لجنة تنسيق القوى الديمقراطيةو أو خروج مجموعة من القائمة العراقية لتشكيل كتلة ديمقراطية ربما تنسق مع قوى أخرى أيضاً.
حتى  الآن تشير المتابعة اgسياسية إلى أن حظ قوى الإسلام السياسية إلى تحقيق التعاون في ما بينها هو أكبر من حظ القوى الديمقراطية بسبب ضغوط قوى الجيران من الشرق والغرب والجنوب, ولكن لا يفترض أن نقبل بهذا الاستنتاج, إذ لا بد من تكثيف الجهود بهدف الوصول إلى نتيجة إيجابية أخرى.
وإذا كان التحالف الكُردستاني حتى الآن يتحرك على خطين ويسعى للاستفادة من الجانبين رغم تحالفه مع الجماعات الطائفية الأقوى التي ضعفت في الفترة الأخيرة جدياً وفقدت الكثير من قاعدتها في محيط القوى المتدينة, والتي ساهمت في غضعاف القوى الديمقراطية العربية وبشكل عام ايضاً, فأن احتمال استمرار التحالف معها قائماً, رغم محاولة هذا التحالف التحري عن بديل للتعاون بسبب النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات في الإقليم والتي خسرت الكثير من القوى التي كانت لها ومحسوبة عليها. التحالف الكردستاني يسعى لإيجاد تعاون مع قوى الإسلام السياسية السنية أيضاً بأمل تحقيق توازن معين في البلاد, ولكن مثل هذا التوازن لا ينهي التدخل الفظ من جانب القوى الإقليمية الشيعية والسنية في الشأن العراقي. والحل الأمثل للتحالف الكردستاني يكمن في ضرورة العمل لتأمين تحالف وطني عراقي ديمقراطي واسع مع القوى الديمقراطية العربية والتركمانية والكلدانية لخوض الانتخابات القادمة عبر تعاون مشترك يمكن أن يضمن لها مستوى إيجابي مناسب على مستوى العراق.
إن الخسارة التي منيت بها بعض قوى الإسلام السياسي لصالح قوائم إسلامية أخرى تحت واجهة قائمة فرض القانون, دفع بها إلى سلوك سياسة قريبة من الانتخابات السابقة والتي تتبلور في النقاط التالية:
* تنشيط الاستقطاب المذهبي القائم على نهج طائفي مقيت يؤدي بدوره إلى استقطاب في الطرف الثاني.
* تنشيط زيارة المراقد المقدسة لدى الشيعة بأمل ضشدهم إليهم وتعميق الإحساس بالارتباط بالمذهب والطائفة التي تأتي على حساب روح المواطنة المتساوية والانسجام الوطني.
* تحريك بعض أو كل المرجعيات الدينية لتأييدها في الانتخابات القادمة بحجة أن الصراع هو بين الإسلام والإلحاد. وبعض المعطيات تشير إلى مثل هذا التحرك.
* شن حملات ظالمة ضد القوى الديمقراطية واللبرالية والعلمانية بهدف تشديد الصراع وتأمين الاستقطاب الذي تنشده.
* كما ستواصل دفع المزيد من الموارد المالية والإعانات لجمهرة كبيرة من القوى المهمشة اقتصادياً لأخذ أصواتها في الانتخابات القادمة على طريقة البطانيات وما يماثلها
وستبرز هذه الوجهة في الانتخابات القادمة, وهي إشكالية كبيرة ليست في صالح القوى الديمقراطية, خاصة وأن الإعلام الحكومي موجه لخدمة ذات القوى, وكذلك الكثير من القوى التي لها علاقة بالانتخابات القادمة.   
قوى تيار الديمقراطي تقف أمام واقع اقتصادي اجتماعي وثقافي يتسم بالردة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية, وهي بحاجة إلى استنهاض الهمم وتنشيط العمل الفكري والسياسي والثقافي بعد الخسارة التي منيت بها في انتخابات مجالس المحافظات ومن خلال طرح شعارات تلامس نبض الشارع وحاجات الناس اليومية ومعاناتهم مع مشكلات الكهرباء
والماء والنقل والخدمات الصحية والبطالة والفساد المالي والإداري والحزبية الضيقة والطائفية الأضيق والأكثر سلبية ... الخ.
المطلوب من القوى الديمقراطية بمختلف فصائلها واتجاهاتها الدعوة إلى عقد مؤتمر عام يحضره ممثلون عن تلك القوى في المحافظات بعد عقد مؤتمرات او لقاءات لها في المدن والأقضية وحيثما أمكن للبحث في موضوعات ثلاث:
- سبل تحقيق التحالف الاستراتيجي في ما بينها وما هي الأهداف والمهمات التي تثبت للعمل من أجلها والتي تعتبر القاسم المشترك الأعظم في ما بين أهداف هذه القوى مجتمعة.
- التحالفات التكتيكية وصولاً لتحقيق الاستراتيج الأبعد, ومنها التحالف الضروري لخوض الانتخابات القادمة في العراق كله وفق برنامج مشترك وقوائم مشتركة.
- سبل وأدوات النضال الجديدة التي يفترض ممارستها إلى حين الانتخابات القادمة وما بعدها وعدم التخلي عن اساليب الاحتجاجات والاعتصام والإضرابات والمظاهرات التي يفترض أن تمارس كلها بطرق سلمية وديمقراطية بهدف تنشيط الضغط على قوى الحكومة والوزارات المعنية لضمان أوضاع أكثر جدية وحداثة والتزاماً.
على ضوء كل ذلك واستناداً إليه وإلى غيره من العوامل الدافعة صوب ضرورة تحقيق التحالف بين القوى الديمقراطية على صعيد اعراق كله اقترح التالي مرة أخرى:
أولاً: عقد مؤتمر واسع ومفتوح لكل القوى الديمقراطية واللبرالية والعلمانية بدءاً بالمحافظات وانتهاء ببغداد.
ثانياً: بلورة المهمات الجديدة ذات المدى الاستراتيجي والمهمات التكتيكية المرتبطة بالانتخابات القادمة.
ثالثاً: تحديد الأدوات والأساليب والسبل الجديدة لتنشيط النضال المطلبي من أجل مصالح الشعب وحل مشكلاته الأساسية التي تمس جميع مجالات الحياة ابتداءً من الحريات العامة والتنمية الاقتصادية ومكافحة البطالة والمهمات الاجتماعية وحقوق المرأة والطفل والمهمات التربوية والتعليمية والحياة الثقافية وتطهير البلاد من القمامة وحماية البيئة, ...الخ.
رابعاً: توجيه المنظمات الحزبية والكتل السياسية والشخصيات التي تسعى للعمل في إطار القوى اليمقراطية بكل فصائلها إلى إبداء المرونة والاستعداد للمساومة من أجل الوصول إلى التحالف المنشود, سواء ما يمس الأهداف أو تشكيل القوائم الانتخابية.
ليس هناك ما يؤكد قدرة الجميع على الخروج بتحالف عام وشامل لكل القوى الديمقراطية, ولكن ربما يكون ممكناً تعبئة أوسع تحالف ممكن يمكن فيما بعد كسب بقية القوى إليه, إذ أن المعركة الانتخابية القادمة سترسي قاعدة مهمة لاتجاهات التطور القادمة.
إن من هو موجود في الساحة السياسية العراقية أدرى بشعاب بغداد والعراق عموماً, ولكن أملي أن نعمل لتحقيق التحالف ومواجهة المهمات الجديدة بوحدة واعية وقادرة على تأمين تأييد المزيد من العراقيات والعراقيين في الداخل والخارج. ولكن علينا أن لا نستهين بأي عنصر عراقي يريد المشاركة في النضال الجاري من أجل عراق أفضل, عراق ديمقراطي اتحادي خال من القوى الأجنبية والتدخل الفظ في الشأن الداخلي ومن الطائفية والتعصب القومي والتمييز والفساد.     
19/8/2009                     كاظم حبيب       

1189
التفجيرات الأخيرة ... ماذا تعني؟

بعد قرار انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية واقتصار عملها على التنسيق الأمني, اتخذ رئيس الوزراء العراقي قراراً برفع الحواجز الكونكريتية من تلك المناطق التي نصبت فيها باعتبار أن أجهزة الأمن العراقية قد استطاعت السيطرة على الوضع الأمني وليست هناك مخاطر كبيرة تهدد الناس في حياتهم. وقد أشرت في مقال لي بعد صدور هذا القرار مشيراً إلى خمس نقاط أجد مناسباً ذكر مضامينها, وهي:
1 . إن رفع الحواجز الكونكريتية يراد به طمأنة المواطنات والمواطنين إلى أن الأمن قد استتب في العراق عموماً وبغداد خصوصاً, وأن هذا الموقف يحمل معه بداية لحملة انتخابية يري بها رئيس الوزراء خوضها مبكراً. ولكن هذه السرعة تحمل مغامرة غير محسوبة العواقب جيداً.
2 . إن هذا القرار فيه تحدٍ لكل قوى الإرهاب التي برهنت خلال الأسابيع الأخيرة على أنها لا تزال تمتلك القدرة على إنزال الضربات بالمواطنات والمواطنين, وفيه تأكيد آخر أن أجهزتنا الأمنية غير مخترقة, وأن رئيس الوزراء يؤكد بأن من يشكك بأجهزة الأمن لا يخدم مكافحة الإرهاب! وقد برهنت الأيام على خطأ موقف رئيس الوزراء.
3 . وأن هذا القرار لا يتناغم مع عجز رئيس الوزراء عن تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة وأن تحالفاً جديداً نشأ بين عدة أطراف مناهضة للوضع في العراق لتأجيج الصراع الطائفي.
4 . وأن التصريحات التي يطلقها رئيس الوزراء ضد الطائفية لا تجد تعبيرها في الممارسة العملية, بل أن الطائفية قد كرست في هذه الفترة, وأن المواطنات والمواطنين من أتباع المذهب السني يشعرون بالحيف اللاحق بهم, ومنهم قوى الصحوة التي رعتهم الولايات المتحدة وكفت عن ذلك نسبياً الحكومة العراقية.       
5 . كما أن رئيس الحكومة العراقية لم يبذل الجهود الضرورية لمعالجة المشكلات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم التي تسمح لقوى الإرهاب استثمارها في مناطق مختلفة من العراق لتشديد الصراع.
إن هذا الواقع يسمح بتحركات إقليمية نشطة من جانب بعض حكومات وقوى دول مجاورة على بعض القوى الداخلية الطائفية, شيعية وسنية, بعثية وقومية وإسلامية سياسية متطرفة, لإعادة العراق إلى نقطة الصفر قبل بدء حملة "فرض القانون".   
لقد سقط ما يقرب من مئة شهيد وأكثر من ألف جريح ومعوق, إنه يوم دام ومرير لكل العراقيات والعراقيين المحبين لشعبهم ووطنهم. إنها جريمة بشعة تؤكد شراسة القوى المناهضة لاستتباب الأمن العراقي وعن إصرارها على مواصلة القتل المتواصل وتدمير البنية التحتية وإشاعة الخوف والقلق وتنشيط الهجرة من العراق من جهة, كما تؤكد ضعف كفاءة وقدرات وخبرات ومعارف ونشاط أجهزة الأمن العراقية وغرور قادتها من جهة أخرى, وعن وجود ثغرات جدية واختراقات لهذه الأجهزة ومن حولها من جهة ثالثة, واختراقات حدودية من الدول المجاورة وبشكل خاص وصول المساعدات المالية والانتحاريين القادمين من دول عربية وإسلامية, ومنها سوريا والخليج وإيران وشمال أفريقيا من جهة رابعة.
 ولا بد لنا من الإشارة إلى  جانب آخر وأعني به مشكلة الغرور الذي هيمن على رئيس الوزراء وبعض العاملين معه وحزب الدعوة وكذلك بعض أجهزة الأمن التي لم بدأت تستهين بإمكانيات القوى المناهضة, ومن يستهين بها يرتكب حماقة كبيرة. وهو ما يواجهنا اليوم بشكل ملموس.
علينا أن ندرك تماماً بأن القوى المناهضة في الداخل والخارج لن تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم ولن تكف عن العمل ضد استقرار العراق ولو للحظة واحدة ومهما حصل العراق على تطمينات, فهي لن تكون جدية بل شكلية ودعائية, إذ أن الأهداف التي تكمن وراء تلك القوى واضحة. ولكن علينا أن ندرك بأن هذه القوى لا يمكنها أن تنجح حين نسد جميع الثغرات التي يمكن من خلالها ممارسة عملياتها العدوانية التي تقتل من خلالها المزيد من البشر وتدمر الكثير من البنية التحتية.
وبصراحة وشفافية تامتين, وأنا قادم لتوي من العراق, أؤكد بأن الشعب العراقي بمختلف قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وأغلب اتجاهاته الفكرية والسياسية غير مرتاح لما يجري في العراق. نعم هناك بعض الأمن, وثبت لنا الآن بأن هذا الأمن غير مستقر قطعاً, وباقي الأمور غائب جدياً: الكهرباء, الخدمات الهاتفية, الماء الصالح للشرب, الخدمات الصحية والطبية, التربية والتعليم وسيادة الفكر الطائفي السياسي الرجعي, التمييز في التعيين والتوظيف والبعثات والقبول في الجامعات, القمامة في الشوارع, حتى في حي الخضراء وقرب دار رئيس الوزراء القمامة موجودة وقد رأيتها بأم العين حين مررت بقربً الدار بالسيارة في زيارة لأحد الأصدقاء.         
الشعب غير مرتاح بكل فئاته عدا القطط السمان الذين اغتنوا بالسحت الحرام بشكل خاص. الجياع كثيرون والبطالة واسعة والهامشيون والمهمشون ينتشرون في أنحاء الوسط والجنوب, المثقفون جزعون لأن كل شيء مغلق في وجوههم, في ما عدا ما يقدم لهم من "عطاءات" وليس كحق ثابت وهو قليل وقليل جداً, والصحفيون معرضون للطرد في كل لحظة بعد أي خطبة من شيخ جاهل وحاقد على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والنقد وحقوق المرأة, والمرتشون كثيرون جداً والفاسدون من سارقي أموال الشعب يساهمون بإثارة الشعب ويمارسون بصيغ شتى في دعم الإرهاب بطرق مباشرة وغير مباشرة.
من المؤسف حقاً أن رئيس الوزراء لا يمتلك من يقول له هذا صح وهذا خطأ من مستشاريهالكثيرين جداً, فهو كبقية الحكام العرب منفرد في رأيه ومستشاروه غير مستعدين للمجازفة بمناصبهم بتقديم النصيحة الجيدة له أو أنهم غير كفوئين لا يملكون نصيحة جيدة ولا يعون اهمية المنصب وضرورات الكفاءة الجيدة ...الخ, والقائمة طويلة ..
نحن أمام حرية يمكن أن نسميها "حرية المغامرة" التي يتورط بها المواطن وخاصة الكاتب والصحفي والمثقف عموماً والسياسي غير المحمي بالمنطقة الخضراء وما حولها. للإنسان الحق في أن يكتب ويتحدث بما يشاء, ولكنه لا يعرف متى تأتيه الرصاصة من كاتم صوت ومن هو المسؤول عن هذه الرصاصة: هل جاءت من الجماعات الإرهابية المتطرفة من أتباع تنظيم القاعدة, أم من مجموعة عزة الدوري المجرمة, أم من مجموعة هيئة علماء المسلمين وعلى رأسها حارث الضاري, أم من منظمة بدر أم من جيش المهدي أم من غيرها من عصابات القتل وفق مبلغ مدفوع, أم من جماعة الحرس الثوري الإيرانية أم من مجموعة تابعة بشكل غير مباشر إلى الأمن السياسي السوري أم من جماعات خليجية وسعودية غير قادرة أن ترى الطائفية الشيعية السياسية هي المهيمنة على الحكم وتريد الحكم للطائفة السنية السياسية ...الخ, دون أن تعي أهمية المواطنة غير الطائفية في العراق وفي بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب ...الخ..
نحن أمام مشكلات لا يراد حلها ولكي تبقى ترهق الوضع وتسمح لقوى الإرهاب الاستفادة منها لإشاعة الفوضى في البلاد. ودون أي حل لهذه المشكلات لن يستقر العراق ونقول هذا بكل ثقة, إذ لا ينفع العمل مع أجهزة الأمن والعمل العسكري فقط, بل العمل في كل الاتجاهات والمجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمية والتنويرية ...الخ.
20/8/2009                     كاظم حبيب
 
 

1190
مرَّ عام وقتلتك غير معروفين يا أبا إلياس!! .. فهل هم صادقون في ذلك؟؟

ها نحن أمام الذكرى الأولى لاستشهادك يا أبا إلياس على أيدي قتلة مجرمين نتنين لا يعرفون معنى الحياة وربما لا يعرفون لماذا قتلوك, إذ أن العارفين بأسباب القتل هم من يقف خلفهم من أعطاهم القرار بتوجيه كاتم الصوت إلى رأسك النير وقلبك الطاهر ونفسك الأبية وشخصك الدافئ وشخصيتك الحميمة مع الجميع...
الأجهزة الأمنية للدولة الأمريكية والأجهزة الأمنية "للدولة!" العراقية لم تصل كلها حتى الآن, كما يقولون, إلى تشخيص أو معرفة القاتل أو الجهة الموجهة  للقتل, فهل نحن على بينة لما يجري في العراق؟ وهل هم صادقون؟
لا استطيع أن أتهم أي إنسان بهذا القتل, فأنا لست محققاًً قانونياً ولا قاضياً ولا أملك البراهين الكافية لكي أوجه اصابع الاتهام إلى من سفك دمك إيها الإنسان الطيب والصديق الحميم. ولكن أنا وغيري نستطيع أن نشخص بوضوح كامل تلك الإيحاءات التي تطلق بين فترة وأخرى لكي توجه بعض الناس وبعض الجهات لقتل من تشاء بتلك الإيحاءات. فالتهديد والوعيد أو التعبير عن الكراهية أو عدم الارتياح في الوزارة من هذا المسؤول الكبير المتنفذ أو ذاك المرتبط بهذه الجهة الظلامية أو المتطرفة أو المتعصبة طائفياً ودينياً أو تلك, هي كافية حقاً لكي يوجه كاتم الصوت نيرانه صوب هذا الرأس أو ذاك. وهكذا كان الأمر ببساطة مع الإنسان العقلاني المتنور كامل شياع, حيث قتل في وضح النهار بكاتم صوت ليكون درساً لمن يسير على دربه!! فهل هم قادرون على منع التقدم والتطور بمثل هذا الجرائم الدنيئة؟ كلا وألف كل, بل هم الخاسرون في نهاية المطاف وفي المحصلة النهائية.
بالأمس عشنا تجربة جديدة اقترنت بالمقال الذي كتبه الصحافي السيد أحمد عبد الحسين, بالأمس ارتفع صوت, وأي صوت, من على منبر جامع براثا مهدداً متوعداً بالويل والثبور لمن كتب هذا المقال, شاتماً إياه متحدثاً باقبح الكلمات, أرعبت مسؤول الجريدة وخشى على وظيفته وربما على نفسه أيضاً, قادت إلى إبعاد الرجل من الصحيفة الرسمية التي يعمل بها صحيفة الصباح التي يفترض أن تكون ناطقة باسم كل العراقيات والعراقين ويفترض أن تكون معبرة وحرة عن اراء كل المواطنات والمواطنين. ولا ندري كيف سيتطور الأمر مع الزميل أحمد عبد الحسين, إذ ليس لدينا القدرة على حمايته ونتمنى له السلامة من تلك الكلمات الحاقدة التي يمكن أن تتحول في لحظة ما ومن قبل شخص ما أو أكثر إلى رصاصات تصيب القلب والعقل. فهعؤلاء الناس أدرى بأن كلماتهم لدى بعض الجهلة تعني أشياء كثيرة ومنها الموت!!
إنها الكلمات, إنها الجريمة غير المباشرة التي ارتكبت وأدت إلى استشهاد كامل عبد الله شياع, المستشار الثقافي في وزارة الثقافة العراقية. ولكنها في واقع الأمر تشير إلى الجهة أو الجهات التي نفذت العملية ضد هذا القامة الثقافية الديمقراطية الشامخة في العراق والعالم العربي. وعلينا غيقاف مثل هذه الجرائم غير المباشرة والمباشرة, فهم نحن قادرون؟
لا يجوز أن نتحرى عن القاتل المباشر فهو مأجور, وحين يلقى القبض عليه يمكن أن يجد من اتسأجره قاتلاً آخر لتنفيذ أوامر القتل .. وهلمجرا, فالقتلة المأجورون كثرة في عراقنا الحبيبو عراقنا الجائع والمريض والمتخلف في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق, بل علينا أن نتحرى عن "من يقف وراء القتلة", على من دفع مالاً أو موقعاً للقاتل في الجنة, لجاهل أهوج لكي يمارس القتل. على المسؤولين في أجهزة الأمن, إن كانوا جادين, أن يفتشوا عن القتلة في الخطب وفي التصريحات وفي الأحاديث التي أطلقت قبل قتل الأستاذ الراحل كامل شياع من جانب مجموعة غير قليلة من الذين كانوا يعملون مع المستشار الثقافي من هويات طائفية جارحة ومقيتة ألَّبت وحرضت على قتل كامل شياع. وهي لا تزال تحرض على قتل آخرين. وعلينا أن نتذكر تلك الضجة التي افتعلت حين اقيم مهرجان المربد في ايام 26 و27 و28 من شهر نيسان من هذا العام في البصرة, وقيل أنهم بعثيون يريدون الاحتفال بميلاد الدكتاتور صدام حسين في 28 منه! أفليس هذا تحريضاً وبغض النظر عن قائله ضد هذا الإنسان أو ذاك أو ضد هذه الجماعة أو تلك؟ ألا يحق لنا أن نطالب بإبعاد مثل هؤلاء الطائفيين الحاقدين عن مواقع المسؤولية التي لا يستحقونها وهم قابعون في واحدة من أكثر الوزارات أهمية ومسؤولية في المشاركة في نشر الوعي الثقافي, نشر الاعتراف المتبادل والتسامح والتفاعل والتعاون, نشر المحبة وضد الكراهية والحقد بين الناس, نشر فكر وشرعة حقوق الإنسان وليس اغتصاب حق الحياة أو الدفع باتجاه اغتصاب حياة إنسان.
أتوجه إلى مجلس الوزراء ورئيس الوزراء ووزارة الداخلية ووزارة الأمن الوطني وأجهزة الأمن العراقية لتذكيرهم جميعاً بأنهم لم يؤدوا حتى الآن واجبهم الرسمي باكتشاف قتلة كامل شياع وقتلة شهداء آخرين سقطوا في العاصمة بغداد وفي وضح النهار, سواء في الشوارع أم في البيوت وبأساليب شتى. نتمنى عليهم أن يكثفوا الجهود لاكتشاف من يقف وراء كل ذلك أولاً, ولكي يمنعوا المزيد من القتل المماثل ثانياً, ولكي يضعوا حداً للمحرضين على القتل سواء من على المنابر أم في قاعات واجتماعات احتفالية أو حزبية أو غير ذلك ومحاسبتهم أياً كان الموقع الذي يحتلونه والمكانة التي يتمتعون بها, فهم حين يقومون بذلك لا يستحقون تلك المواقع ولا تلك المكانات.               
إلى عائلة ورفاق واصدقاء وقارئات وقراء الشهيد كامل شياع أحر التعازي القلبية والمشاركة الوجدانية بالخسارة الفادحة, وله الذكر الطيب والدائم.
19/8/2009                الموجوع بموته كاظم حبيب     

1191
لا لتطويع الكتاب والصحفيين .. لا لكم الأفواه ...!!

كتبت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانم في روايتها "أحلام الجسد" تقول بحق أن الأم تبذل سنوات عدة من عمرها لكي تعلم الطفل كيفية النطق, في حين تبذل الحكومات العربية سنوات طويلة وأموالاً طائلة لتسكت الإنسان. هكذا عاش الكتاب والصحفيون وقوى المعارضة في العراق عقوداً طويلة ومريرة يعانون من سياسة كم الأفواه أو قضاء سنوات من عمر الإنسان في غياهب السجون الصدامية وسراديب الأمن العراقي أو الهروب إلى المنافي البعيدة أو الاختفاء القسري أو العثور على جثة الضحايا في المقابر الجماعية أو عدم العثور عليها أصلاً حيث كانت قد ذوبت في أحواض مليئة بحوامض تغيب جسد الإنسان كلية, أو رمي جسد الضحية, حياً كان أو ميتاً, في مكائن فرم هائلة تفرم اللحم والعظام وترمي بها إلى قنوات ماء حيث تتغذى عليها الأسماك!
لقد عاش الشعب المرارة والهزيمة والانسحاق, عاش الظلم والاضطهاد والقهر اليومي, عاش الألم والدم والدموع, عاش الجوع والحرمان, حمل الكثير من بنات وابناء الشعب على أكتافه البنادق لمقارعة المستبدين في أرض العراق. مات الكثير من الناس الطيبين الذين كانوا يحلمون بغدٍ أكثر أمنا وسلاماً وازدهاراً, أكثر ديمقراطية وحيوية وأكثر إنسانية مما نواجهه اليوم.
مات الإنسان العربي وبجواره مات الكردي, ثم مات التركماني والكلداني والآشوري, مات الصابئي المندائي ومات الأيزيدي والكاكائي والشبكي, ماتوا تحت حراب الدكتاتورية. كان كم الأفواه والموت يلاحق الجميع, مات صباح الدرة وصفاء الحافظ وعائدة ياسين, مات محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى, مات عزيز السيد جاسم..., ابتلع الموت الكثير من العراقيات والعراقيين على مدى أربعين عاماً, إضافة إلى السنوات الأخيرة تحت حراب التكفيريين والمليشيات الطائفية المسلحة والبعث الصدامي الهامد, أفلا يكفي كل ذلك؟ هل نحن نعيش في جهنم, كما صورها لنا القرآن, التي تطالب دوماً ودون انقطاع : هل من مزيد؟
على أولئك الذين يحملون معاول الهدم بحجة الدفاع عن الدين من على منابر المساجد والجوامع والحسينيات أن يكفوا عن محاولة تكميم الأفواه, فلن نسكت بعد اليوم عن أي فاسد ومفسد, ولن نقبل بأن نُقدم كالخراف للطعن أو جز الصوف أو الذبح. لن نقبل أن نكون خرافاً ونسكت عما يجري تحت سمع وأبصار الجميع من نهب وسلب, وإذا ما تحدث أحدنا, رفع أحدهم عقيرته ناهقاً بالشتم والإهانة والتهديد والوعيد. وما أن ينتهي من خطبته حتى يجد الكاتب أو الصحفي الكاتب نفسه خارج دائرة العمل, مطرود من وظيفته, وهناك من ينفذ هذا الأمر غير الرسمي والقادم إليه من على منبر حسيني دون مناقشة, لأنه يخشى على نفسه بعد أن سمح بنشر مثل هذا المقال ضد الفساد. قيل قديماً إذا ما حلقت لحية جارك, فأقرأ على  لحيتك السلام.. هكذا يتعامل بعض الناس ممن يخشون على وظائفهم من بعض الحكام والمتنفذين الحاليين, لأنهم كانوا في فترة البعث ممن رفع راية التأييد للبعث وتغني بصدام حسين أو كان مجبراً على ذلك!
الزميل أحمد عبد الحسين لم يتحدث كثيراً, كتب مقالاً قصيراً, وضع يديه على ما يتحدث به الشارع يومياً وفي كل ساعة, بل في كل لحظة. عشت ذلك في بغداد وكربلاء والحلة وفي أربيل والسليمانية ودهوك, عشت ذلك في كل مكان في أجهزة الدولة, في دائرة التسجيل العقاري وفي محاولات البعض في العودة إلى الوظائف من أجل الحصول على التقاعد رغم شرعيته, وعشت أخذ الرشوة حتى من بعض من يدعي الديمقراطية والتقدمية, بل والشيوعية. وتابعت ذلك كما عاشه الجميع في الحملة  الانتخابية الأخيرة. أليس من حق صحفي عاقل ويشعر بالمسؤولية أن يكتب عما عرف به وعاشه يومياً؟
لن ينفع كم الأفواه بعد اليوم من بعض القوى التي تريد كم تلك الأفواه بكل ثمن. ولكن لم يستطع حتى صدام حسين كم كل الأفواه, رغم الموت الذي طال الكثيرين جداً من بنات وأبناء الوطن.
لنرفع صوتنا عالياً مطالبين بثلاثة مطالب لا غير في هذا المجال:
-   الحرية الكاملة للصحافة والصحفيات والصحفيين وتأمين الحماية لهم من الموت والطرد من الوظيفة ومنع المحاربة بالرزق.       
-   الكف عن استخدام المنابر الحسينية والجوامع أو المساجد في محاربة الحريات الديمقراطية والحياة الحرة والدعاية الإيديولوجية الدينية ضد القوى الأخرى ومنها القوى الديمقراطية والعلمانية أو ضد المذاهب والأديان الأخرى.
-   إعادة كل من طرد من الوظيفة بسبب غياب حرية الصحافة إلى عمله ومعاقبة قانونية لمن تسبب في ذلك, ومنهم السيد أحمد عبد الحسين.
وحين لا تقوم الحكومة بذلك علمنا ممارسة اسلوب الإضراب السلمي والتظاهر السلمي لإيصال صوتنا إلى المجتمع العراقي والدولي في آن لينتصر لنا, ونفرض بأسلوب سلمي وديمقراطي مطالبنا المشروعة والعادلة... 
16/8/2009                        كاظم حبيب       


1192
ما الذي كشف عنه أحمد عبد الحسين لينحى ويُهدد بأسوأ العواقب؟

 من مارس الكتابة والصحافة يدرك بأن هناك أساليب كثيرة في تناول المشكلات الاجتماعية والسياسية والفساد المالي والإداري وغيرها من القضايا اليومية الحاصلة في العراق. ولا يمكن أن يحاسب الكاتب والصحفي عن الأسلوب الذي يختاره ويكتب به القضايا التي يريد معالجتها, خاصة حين تشترك كل الأساليب في تشخيص قضية معينة ونتيجة واحدة في المحصلة النهائية. وفي حالة الزميل الصحفي الأستاذ أحمد عبد الحسين فقد عالج موضوعاً مهماً وجريمة بشعة تعرض ويتعرض لها الشعب العراقي يومياً, سواء أكانت بصورة نهب أموال الدولة بطريقة تبدو شرعية, أم بالنهب والسلب من المال العام كما حصل ويحصل مع النفط الخام والمقاولات وغيرها, أم بطريقة العصابة المجرمة التي قتلت ثمانية عراقيين شجعان دافعوا عن المال العام (ويفترض أن يقيموا ويمنحون أوسمة الشجاعة وتحتضن وتدعم عائلاتهم رغم فوات الأوان). وبدلاً من أن يأخذ المسؤولون في الأحزاب والقوى وفي الإعلام إجراءات حازمة وصارمة لوضع حد لمثل هذه الممارسات ودراسة المادة التي كتبها السيد أحمد عبد الحسين وغيرها, ارتقى أحد شيوخ الدين المنبر الديني واستخدم الدين ليهاجم بشراسة وعدوانية ولغة تهديدية لا مبرر لها وغير مقبولة, بل مرفوضة, ضد الأستاذ أحمد وضد المسؤولين عن إعلام جريدة الصباح التي نشرت ما كتبه الأخ أحمد, في حين يدرك الجميع بأن الصحافة العالمية تنشر يومياً مئات المرات مقالات أكثر نقداً وتعرية مما نشره الزميل وأكثر صراحة من ذلك, ولكن لا تحدث مثل هذه الضجة المفتعلة ولا يفصل الكاتب والصحفي من وظيفته ويركن في الموت يخشى من عصابات الموت على نفسه.
لا يجوز استخدام الدين والمساجد أو الجوامع أو الحسينيات لأغراض سياسية, فهو استخدام سيء وظالم ومؤذي في آن واحد, إذ يمكن أن يقود إلى عواب سلبية على الشحص الذي يوجه له النقد, فهو تحريض مرفوض من الناحية القانونية ويفترض أن يحاسب عليه من يمارس ذلك, وكان على شيخ المنبر أن يكتب مقالاً وينشره حيثما شاء وربما في نفس الصحيفة بدلاً من التهديد والوعيد المبطم. لا يجوز مطلقاً استخدام المنبر الديني لهذا الغرض أو لأي غرض سياسي آخر.
ما أشار إليه الزميل في زاويته الصغيرة كان يفترض أن ينتبه له المسؤولون ويشكرونه عليه, إذ في حماياتهم من لا يمكن الوثوق إليه, فمنهم من يمكن أن يكون بعثياًً من أتباع عزة الدوري, أو من أتباع حارث الضاري حليف القاعدة, أو من يكزون من أتباع القاعدة المجرمة أو من أتباع قوى سياسية وميليشيات طائفية مسلحة أو "منزوعة السلاح!" تريد الإساءة لهذا المسؤول أو ذاك بهذه الأساليب الدنيئة.
لم أتعرف على السيد عادل عبد المهدي, نائب رئيس الجمهورية, رغم ذلك لدي القناعة الكاملة بأن الرجل بعيد كل البعد عن مثل هذا الأساليب الدنيئة والنذلة والجرائم البشعة, بل ربما جاءت ممن يريد الإيقاع بهذا الرجل ونحن على أبواب انتخابات ساخنة. وكان على وزارة الداخلية أن تكون شديدة الحرص على أسلوبإطلاق بياناتها.
من الأصوب والأفضل والأكثر عقلانية أن تعالج الأمور بطريقة أخرى من خلال إلقاء القبض على كل المجرمين الذي ساهموا بهذه الجريمة وأن يحاسبوا حساباً عسيراً وأن ويتم الكشف عن القوى الموجهة والمخططة والمنظمة لهذه العملية ولعمليات أخرى مقاربة. إن الهجوم على السيد أحمد لم ولن يحل المشكلة, بل كان يراد, كما يبدو لي, تضييعها وإبعاد النظر عن ما جاء فيها من تهم وجلب الانتباه إلى مسألة أخرى, في حين كان ولا يزال يفترض التحقيق في صحة ما نشره عن 800000 بطانية أم النمر وعن الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق ثمانية من الأشخاص الطيبين والمال العام.
يفترض في جميع الكتاب والصحفيين أن يتضامنوا بحرص ومسؤولية مع الأخ الصحفي والكاتب والشاعر السيد أحمد عبد الحسين وأن يطالبوا بعودته إلى الكتابة في صحيفته الصباح ويحتل موقعه السابق وأن يتم الاعتذار له عما جرى بحقه وأن يحاسب من أساء إليه وحرض ضده من على منبر جامع براثا وربما من على غيره من المنابر. وأن لم نفعل ذلك فستشملنا نحن الكتاب والصحفيين هذه السلوكية المرفوضة من قبل الروابط والجمعيات والنقابات الصحفية العالمية ومن قانون الصحافة العراقي ومن لائحة حقوق الإنسان.

أربيل في 10/8/2009                   كاظم حبيب

1193
القوى الديمقراطية العراقية وحساب الشعب العسير !!

من جاء متأخراً عاقبه التاريخ, وبتعبير أدق, عاقبه الشعب, سواء أكان فرداً أم جماعة أم حزباً سياسياً أم نظاماً سياسياً, إذ أن التاريخ لا يعمل سوى تسجيل الأحداث التي تمر بها المجتمعات البشرية. والقوى الديمقراطية بكل تكويناتها ومكوناتها تواجه اليوم مرحلة جديدة تتميز بمجموعة من المؤشرات التي تستوجب الدراسة والتدقيق ثم الإقدام على اتخاذ الخطوات والإجراءات الضرورية لممارسة سياسة جديدة تستوجبها طبيعة المرحلة والمهمات التي يفترض أن تنهض بها. لقد برهنت نتائج الانتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات في العراق, ثم نتائج الانتخابات الأخيرة لبرلمان إقليم كردستان إلى حصول بداية جدية لتغيرات مهمة في فكر الناخب العراقي وفي الساحة السياسية العراقية, ولكنها لا تزال في بدايتها, وهي بحاجة إلى فترة أطول لتختمر وتتبلور ومن ثم تتحول إلى تجاه على نطاق أوسع.
والأسئلة التي تواجهنا بإلحاح شديد هي: هل في مقدور القوى الديمقراطية, وبضمنها القوى العلمانية واللبرالية, إدراك حقيقة التغيرات الجارية في الواقع السياسي العراقي ؟ وهل هي قادرة على التصرف بعقلانية لصالح الغالبية العظمى من فئات المجتمع وفق ما يفرضه هذا الواقع المتغير تدريجاً ولكن بثبات نسبي؟ وهل ستجد كل هذه القوى الديمقراطية نفسها ملزمة على التفاعل المتبادل والتعاون والتنسيق لوضع برنامج يوحدها كقاسم مشترك أعظم لخوض الانتخابات القادمة؟
إنها أسئلة ليست سهلة في ظروف بلادنا الراهنة والتي تتميز بتفاقم فعل ظواهر سلبية كانت موجودة أصلاً, ولكنها أصبحت معرقلة لتحالفات سياسية مطلوبة كالرغبة الجامحة في الزعامة والبروز وتصدر كتل سياسية حتى لو كانت من ثلاثة أفراد, والرغبة في التفرد والانفراد, رغم كل الصواعق التي نزلت وتنزل على رؤوس البعض ممن يحاول التزعم ويرفض التحالف إلا حين يكون اسمه في الصدارة أو في الموقع الأول أو الثاني أو الثالث, أو وضع تحفظات على التعاون مع هذه الجماعة السياسة أو الحزب أو ذاك .. وهلمجرا. إنها المحنة التي تواجه المجتمع.
أذكر حادثة طريفة حصلت لجماعة قومية عراقية في دمشق تجسد حقيقة الوضع هناك وفي الوقت الحاضر أيضاً.
كانت هناك مجموعة قومية صغيرة جداً اختلف المسؤولون عنها في ما بينهم فانشق البعض على البعض الآخر. فقال أحدهم: كنا ثلاثة والآن أصبحنا "مجموعتين" مجموعة من اثنين مقابل مجموعة من شخص واحد, فلا هو قادر أن يحصل على شخص آخر, ولا أنا قادر في الحصول على شخص ثالث! ولكن أصبح لكل منهما حزباً سياسياً جديداً واسماً جديداً ومساعدة مالية من ليبيا ومن سوريا وربما من طرف ثالث, وعلى مدى سنين لم يزداد عددهم ولو بشخص واحد ولم ينقص!
القوى الديمقراطية في العراق تعاني اليوم من هذه الظاهرة التشرذمية التي تتوزع أصوات ناخبيها على عدد كبير من الكتل الصغيرة القزمية أو على أحزاب لا تزال ضعيفة, رغم كل الاحترام للفرد الواحد أو الكتلة الصغيرة أو الحزب. إلا أن هذا لن يخدم عملية التحول المنشودة صوب الديمقراطية, ولن ينهي الطائفية في العراق وهيمنتها على الجو والساحة السياسية العراقية رغم تفتت قواها.
خذوا مثالاً واحداً هو الحزب الوطني الديمقراطي, الذي أكن له الاحترام والتقدير. فهو حزب عريق بلغ عمره الآن 63 عاماً, وفي الحقيقة بلغ عمره ابتداءً من جماعة الأهالي أو الإصلاح الشعبي 76 عاماً بالتمام والكمال. وهذا الحزب يعاني اليوم من ضعف شديد رغم حاجة المجتمع لمثل هذا الحزب. وزاد بالطين بلة انقسامه إلى حزبين غير متعاونين بل متصارعين, مجموعة الأستاذ نصير الجادرجي ومجموعة الأستاذ هديب الحاج حمود. والخلاف بينهما لا يمس المبادئ بأي حال, وفق إطلاعي وتقديري, بل يمس المواقع! كم أتمنى عليهما أن يعيدا النظر بهذا الأمر وتسليم الأمر إلى شبيبة وليصبحا معاً رئيسين فخريين لهذا الحزب بغض النظر عن من هو الأول أو الثاني, بل نأخذ بمبدأ الحروف الأبجدية في ترتيب الأول والثاني مثلاً أو العمر. أنطلق في هذه الملاحظة من حرصي على هذا الحزب العتيد وعلى الفئات المتوسطة التي يمكنه تعبئتها لصالح التغيير الديمقراطي السلمي في العراق, وهو حرص يشمل كل القوى الديمقراطية في العراق. كما أن هناك جماعات انفصلت عن الحزب الشيوعي العراقي لأي سبب كان, وهو أمر ممكن, ولكن هذا لا يفترض أن يدفعها إلى عدم التعاون والتنسيق مع الحزب الشيوعي والاتفاق على قضايا مشتركة, وتبقى الخلافات على قضايا أخرى قائمة. كما يفترض أن لا يختزل الحزب الشيوعي وجودها ويعتبر هذه المجموعة أم تلك ممن خرجوا من الحزب, ولأي سبب كان, لا تستحق التعاون أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع بقية القوى الأخرى. أقول كل ذلك مجازاً لكي أبدد كل الحجج التي تدعي أن ليس هناك من يمكن التعاون معه, ومن هي تلك القوى الديمقراطية التي تريد منا التعاون معها, إنها مجرد رؤية نظرية ومن بعيد, وحين تكون في المعمعان السياسي العراقي الذي يدير رؤوس الناس ستجد مصاعب ذلك. أدرك مصاعب التعاون والتنسيق ولي تجاربي الشخصية في الخارج, ولكن لا ينبغي لهذا أن يبعدنا عن بذل الجهود, إنه التحدي الأكبر والامتحان العسير الذي يطالب الشعب به في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق السياسي.
وأشعر بأن قوى التحالف الكردستاني وبقية القوى الكردستانية بعد أن تدرك العوامل التي أدت على تحقيق تلك النتائج في الانتخابات الأخيرة, ستكون أكثر استعداداً للتعاون مع بقية القوى الديمقراطية العراقية وأكثر تواضعاً وأكثر قدرة على المساومة للوصول إلى خطاب سياسي مشترك لخوض الانتخابات القادمة.
30/7/2009                     كاظم حبيب
                 

1194
المرأة العراقية وأختها في مناطق أخرى من العالم!

كلما تركنا العراق  ويممنا وجهنا شطر الدول المتحضرة لشعرنا بمدى البؤس والفاقة والحرمان وفقدان الحقوق الذي تعيش فيه المرأة العراقية, وهي جزء واقعي من أوضاع المرأة العربية والمرأة المسلمة بشكل عام, فهي فاقدة للحقوق بشكل استثنائي, رغم كفاحها الطويل من أجل هذه الحقوق. وما حصلت عليه في فترات معينة, كما حصل لها في قانون الأحوال الشخصية الذي صدر في عهد حكومة عبد الكريم قاسم صودر في الفترات اللاحقة وأُعدم القانون كما أعدم رئيس الحكومة الذي أصدر القانون. وهي فاجعة مزدوجة لا تزال المرأة تعاني منها. ولم تستفد المرأة حتى الآن كثيراً من النسبة التي خصصت لها والبالغة 25% في إيصال نسوة يدافعن بحق عن حقوق المرأة كاملة غير منقوصة وعن مساواتها بالرجل, فهن قليلات حقاً. هناك قلة قليلة, سواء أكن في المجلس أم خارجه, يناضلن بعناد وجرأة استثنائية من أجل حقوق المرأة, إضافة إلى جمهرة من الرجال الواعين لمكانة ودور ومهمات المرأة في المجتمع العراقي الراهن, رجال تحرروا من رق الذكورية وأدركوا أن حريتهم من حرية المرأة والعكس صحيح أيضاً.
في بلد شقيق هو السودان تقدم امرأة سودانية صحفية مثقفة إلى المحاكمة بتهمة ارتداءها ملابس غير محتشمة, هي الزميلة لبنى الحسيني. ماذا كانت ترتدي؟ كانت ترتدي البنطلون العادي, ولكن المرض النفسي والعقلي المصابة به جمهرة الشرطة وجمهرة من رجال القانون قررتا الحكم على عشرة نساء قبلها بتهمة عدم الحشمة لنفس السبب, وهي ها هي تواجه حكامها وقضاتها لأنها ترتدي البنطلون. أي نظام يعيش به السودانيون وأي قضاة أولئك الذين يجلدون المرأة أربعين جلدة لأنها ترتدي البنطلون الذي يثير غرائزهم الحيوانية والمريضة. ولنا من أشباه الرجال هؤلاء كثرة كثيرة في العالمين العربي والإسلامي.   
حققت المرأة الأوروبية والأمريكية, وعموما المرأة الغربية على كامل حقوقها نظرياً, رغم أن التطبيق العملي لا يزال يعاني من تمييز نسبي, سواء أكان في الأجور أم في احتلال المواقع القيادية أم تحمل غضب الرجال المزري أحياناً حين يمارسون العنف ضد المرأة. وهي ظواهر سلبية من بقايا العهود المنصرمة يناضل المجتمع, نساءً ورجالاً, من أجل إزالتها والكشف عنها بجرأة ومسؤولية لمكافحتها علناً. وحين تقارب مع حقوق المرأة في العراق فسنجد البون شاسعاً كبعد الأرض عن السماء!
ففي العراق لا يزال المجتمع يتمتع بذكورية مضخمة مرضية, بفحولة منفوخة ومزرية, بامتهان غير مشروع للمرأة وكرامتها وحقوقها, سواء في طريقة تعامل أكثرية الرجال معها أم في حرمانها من ممارسة حقوقها وتلك القوانين الموروثة التي لا تزال تغطي كل تلك التجاوزات على المرأة وتساهم في إعادة إنتاج واستمرار هذه الظواهر.
نحن بحاجة إلى تحالف سياسي متين من جانب كل القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية على صعيد العراق كله, ونحن بحاجة لأن تشكل المرأة جزءاً أساسياً فاعلاً فيه وتشكل مهمات استرداد حقوقها المشروعة والمغيبة والمصادرة ومساواتها بالرجل جزءاً عضوياً من مهمات نضال مثل هذا التحالف السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والبيئي المنشود. 
كلنا يدرك تماماً بأن المرأة حين تشارك في حوارات القوى الديمقراطية العراقية, فأنها قادرة على الإسهام في تسريع نهج التفكير بالتعاون والتنسيق لخوض الانتخابات القادمة. فلغتها أخرى غير لغة الذكور, وقدرتها على الاعتراف بالآخر والتسامح أكبر بكثير من قدرة الذكور, ورغبتها في التعاون أوسع بكثير من قدرة الذكور وفرديتهم بشكل عام. 
وحين تشارك المرأة في أي مجتمع بدورها الفعال, فإنها قادرة على تحسين أجواء الحوار وتسهم في تقريب وجهات النظر والوصول إلى نتائج إيجابية, إنها العنصر الذي يخفف من سعي الرجال للهيمنة أو فرض الرأي الواحد على الجميع.       
إنها عنصر وئام في الغالب الأعم وليست عنصر خصام, ويتمنى الإنسان أن تلعب المرأة دورها في المجتمع العراقي لتساهم بالتغيير المنشود صوب المجتمع المدني الديمقراطي الاتحادي, صوب الدولة الاتحادية التي تلعب المرأة دوراً بارزاً ومهماً فيها.
29/7/2009                         كاظم حبيب   


1195
التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية
يشجب العدوان التركي الجديد على أرض كُردستان في العراق


مرة أخرى تؤكد الأخبار الدولية بعودة الحكومة التركية إلى عادتها القديمة, عادت لممارسة القوة والعنف وضرب مناطق سكنية في جبال كُردستان مدعية بذلك دكها لمواقع تابعة لقوات بارتزانية تابعة لحزب العمال الكُردستاني, وهي بذلك متجاوزة على السيادة العراقية وعلى شعب كُردستان العراق.
مرة أخرى تؤكد الحكومة التركية أنها لم تتعلم حتى الآن من تجارب الحكومات العراقية المتعاقبة طيلة ثمانية عقود مع القضية الكُردية التي تميزت باستخدام القوات المسلحة والعنف والقسوة والتي تتوجت بمجازر الأنفال وحلبچة وتشريد مئات الألوف من الناس الكُرد في انتفاضة 1991 والتي لم يستطع كل ذلك العنف إنهاء المشكلة بل زادها في حينه تعقيداً. إن أسلوب العنف والقسوة وإشراك القوات المسلحة بدلاً من الحل السلمي والديمقراطي سيزيد من تصلب المناضلين الكُرد وسيدفع بالجديد والكثير من الشابات والشباب إلى درب الكفاح المسلح وحمل السلاح دفاعاً عن النفس وعن الحقوق المهدورة في كُردستان تركيا, بدلاً من التحول صوب النضال السلمي لتأمين الحقوق القومية المشروعة للشعب الكُردي.
إن الحكومة التركية وبسبب الرؤية والذهنية الشوفينية التي تسيطر على عقول وأفئدة القوات المسلحة التركية والأحزاب السياسية التركية فهي في أغلبها عاجزة حتى الآن عن فهم واستيعاب أن كل شعب على  هذه الأرض له الحق في تقرير مصيره وفي ممارسة حقوقه كاملة غير منقوصة, وأن هذا الحق لا يقتصر على الشعب التركي, بل هو حق ثابت من حقوق الشعب الكُردي في كُردستان تركيا.
إن شن الغارات الجوية والادعاء بوجود وضرب مواقع قوات الأنصار التابعة لحزب العمال الكُردستاني لن يحل المشكلة أبداً, بل أن الحل يتم على أرض كُردستان تركيا وفي الدولة التركية ذاتها وليس خارجها. وعليه لا بد من الدخول بحوار مع ممثلي الشعب الكُردي, كمل لا بد من القبول بمقترح إيقاف القتال والبدء بالتفاوض مع حزب العمال الكُردستاني لأن هذا هو الطريق العملي والواقعي لحل المشكلة.
إن التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية إذ يشجب هذا الاستفزاز المبيت لمشاعر الشعب الكردي وكل الشعب العراقي والتجاوز على السيادة العراقية وضرب المناطق الآمنة من إقليم كُردستان العراق ويرفض كل الذرائع التي تقدمها الحكومة التركية للرأي العام العالمي والمجتمع الدولي, يطالب المجتمع الدولي بشجب هذه السياسة ورفضها والتدخل من أجل وضع حد لهذه الحملات الجوية الوقحة أولاً, والضغط على الحكومة التركية من أجل الإقرار بحقوق الشعب الكُردي في كُردستان تركيا والبدء بالتفاوض مع ممثليه ثانياًً, وأن هذا الطريق هو الدرب الوحيد القادرة على إيجاد حل عملي للقضية الكُردية, بالتالي, فأن هذا الحل سيكون لصالح كل القوميات التي تعيش على أرض الدولة التركية.
كما نطالب الرأي العام العالمي بدعم وتأييد حق هذا الشعب في امتلاك إرادته الحرة لتقرير مصيره بنفسه ضمن ما هو مطروح من جانب القوى الكُردية من خلال إيقاف القتال المتبادل والدخول في مفاوضات جادة وهادفة لحل المشكلة.
 الأمانة العامة
التجمع العربي لنصرة القضية الكُردية
كتب في 25/7/2009
     


1196
رسالة مفتوحة موجهة للقوى السياسية والشعب الكردي الصديق في العراق

منذ ستة عقود ومنذ بداية ارتباطي بالحركة الطلابية العراقية (اتحاد الطلبة العام) والعمل السياسي (الحزب الشيوعي العراقي), تسنى لي أن أشاهد اتجاهين ملموسين:
أولاً: حركة وفعل الفكر القومي اليميني والشوفيني العربي في العراق ومواقفه إزاء القضايا العراقية ومنها القضايا القومية, ثم قرأت الكثير عن هذا الفكر منذ الثلاثينات من القرن العشرين في العراق وكتبت عنه, ثم عشت تجربة الفكر والممارسة الفعلية للقوى القومية العربية في الدول العربية والنظم العربية اليمينية التي برزت ومارست السياسة في بعض الدول العربية مثل مصر وسوريا منذ النصف الأول من القرن العشرين أو ما كان لهذا الفكر من تأثير مباشر وغير مباشر على سياسات دول عربية أخرى.
هذا الفكر القومي لم يعان منه العرب فقط, بل عانى منه بالأساس وبصورة صارخة بنات وأبناء القوميات الأخرى, سواء أكان ذلك في العراق أم في دول أخرى مثل الجزائر والمغرب أو السودان وسوريا أو مصر وحيثما وجدت قوميات أخرى أو أتباع أديان أخرى.
ففي العراق عانى منه الشعب الكُردي والتركمان والكلدان والآشوريين بشكل خاص, بسبب السياسات والمواقف الشوفينية والتي تحولت في ظل حزب وحكم القوميين ومن ثم بشكل خاص حكم حزب البعث إلى سياسات عنصرية وتطهير عرقي وتعريب وتشريد وتغيير بنية سكان بعض المدن العراقية, وخاصة في إقليم كردستان. وتبلورت الصورة القبيحة للفكر القومي اليميني والشوفيني والعنصري في مجازر الأنفال والضربات الكيماوية في حلبچة وفي قتل وسلب وتهجير الكُرد الفيلية, إضافة إلى  الجانب الموقف القومي والعنصري في تهجير العرب الشيعة من مناطق الوسط والجنوب بتهمة التبعية لإيران.   
ثانياً: وخلال هذه الفترات وتلك السياسات كلها كنت شاهداً ومساهماً في النضال المشترك لأتباع كل القوميات, وخاصة العرب مع الشعب الكردي وقضيته العادلة. وكان لهذا أثره البالغ والطيب على الحركة الوطنية العراقية وعلى نفوس كل الوطنيين والديمقراطيين الكُرد. إذ بسبب تلك السياسات القومية الشوفينية تعانق أتباع القوميات في العراق وتشابكت أيديهم في نضال مشترك ضد تلك النظم التي مارست تلك السياسات. كما لا يمكن أن ينسى نضال الأنصار الشيوعيين وأصدقاء الحزب الشيوعي العرب وقوى أخرى إلى جانب الپيشمرگة الكُرد والقوى الوطنية والديمقراطية الكردية في سبيل عراق ديمقراطي وحكم ذاتي لإقليم كردستان أو رفع شعار الفيدرالية من جانب الحزب الشيوعي العراقي فيما بعد وكمبادرة منه جاءت على  لسان المناضل الشيوعي الراحل الدكتور رحيم عجينة منذ بدء التوقيع على اتفاقية عقد الجبهة الكُردستانية في العام 1988.
واليوم أتابع بقلق كبير, وكصديق للشعب الكردي, بروز ظواهر سلبية لم تكن شديدة  الظهور في فترة النضال من أجل الحقوق القومية للشعب الكردي, وإذا كانت موجودة فكانت ضعيفة وهامشية ومحدودة في إطار الحركة السياسية الكردية, وكان لهذا أثره الطيب على القوى الوطنية والديمقراطية العربية. أما اليوم فأنا أتابع بقلق واضح وجود ظواهر جدية لما نطلق عليه بضيق الأفق القومي في الحركة السياسة الكردية وهي في السلطة وفي تصريحات ونشاطات بعض القوى السياسية الحاكمة التي يمكن أن تكون لها آثار سلبية على مجمل الحركة السياسية العراقية وعلى إقليم كردستان والعراق بشكل عام. لا أبالغ في ما أقوله في هذا الصدد, إذ أراقب بقلق تحول أو ابتعاد الكثير من الديمقراطيين العرب من أصدقاء الشعب الكُردي في العراق وفي الخارج عن التضامن مع القضية الكردية, حتى أن أعضاء "التجمع العربي لنصرة القضية الكردية" الذين وقفوا دوماً إلى جانب القضية الكُردية من منطلقات مبدئية وإنسانية, حيث أمارس في هذا التجمع صفة عضو الأمانة العامة وأمينه العام, عن التجمع ويمارسوا نقداً سليماً لبعض مواقف الحكومة الكُردستانية والتصريحات المتوترة والمثيرة أحياناً غير قليلة لبعض المسئولين الكبار في الإقليم.
إن من واجبي كصديق للشعب الكردي وكمناضل في سبيل حقوق القوميات في العراق والدفاع عن مصالحها ضد كل تجاوز عليها, أن أشير إلى الأخوات والأخوة الكُرد بأهمية إعادة النظر بأسلوب طرح وتناول القضايا الخلافية وأسلوب معالجتها على الصعيد العراقي, إذ لا يجوز التفريط بالتضامن الأخوي بين القوى الديمقراطية العربية مع القوى الديمقراطية الكردية ومع قضية الشعب الكردي في العراق, رغم معاناة القوى الديمقراطية العربية في العراق في المرحلة الراهنة من ضعف وتشتت, إذ أن هذا الضعف ليس حالة دائمة بل مؤقتة وهي الحليف الأكثر ثباتاً مع نضال القوميات الأخرى في سبيل حقوقها المشروع بالعراق.
إن الإصابة بالرؤية القومية الضيقة لدى الكُرد لا تختلف كثيراً عن إصابة العرب بالرؤية القومية الشوفينية في ما تتسبب به من عواقب سلبية على المجتمع بأسره.
كلي أمل في أن يعيد الأخوة المسئولون الكُرد في إقليم كُردستان العراق النظر بما يمكن أن يتحول إلى رؤية قومية ضيقة على صعيد المجتمع الكردي التي لا تساعد على حل المشكلات بطرق التفاوض السلمي وبآليات ديمقراطية مجربة على الصعيد العالمي وتقود بالعراق إلى نقطة الصفر, إذ أن هناك الكثير من القوى الذي يتمنى حصول ذلك, وهو  ما يفترض أن نواجهه بقلوب دافئة وعقول باردة في صالح التضامن العربي – الكردي ومع بقية القوميات في العراق ولصالح بناء عراق مدني ديمقراطي اتحادي موحد.
23/7/2009                      كاظم حبيب

1197
الزنگين يأكل, والفقير جوعان وبالضيم حاله ... ملينه يا ناس والله ملينه... !!!"


انطلق صوت مثقل بالهم والعذاب, صوت امرأة عراقية, أم عراقية, ترتدي الفوطة والعباءة وتمسك بيدها ملفاً أحمر بهت لونه من كثرة الإمساك به ومراجعة دوائر الدولة دون فائدة, أنطلق صوتها عبر قناة الفيحاء العراقية لتقول لحكام العراق, كل العراق, قبل المستمعين أينما كانوا " الزنگين (الغني) يأكل والفقير جوعان وبالضيم حاله .. ملينه يا ناس والله ملينه.. ما عدت خائفة, ليفعلوا ما يشاءون, بعنا كل شيء ولم يبق شيء لنبيعه.. ". بهذه الكلمات المليئة بالحياة والمليئة بقهر السنين والحرمان وعذابات مراجعة الدوائر الحكومية دون فائدة رغم التغيرات المتعددة والمتنوعة التي طرأت على العراق, ولكن الشيء الوحيد الثابت لهؤلاء الناس الطيبين هو استمر حالة الفقراء والكادحين والمعوزين على حاله, لم يتغير!
لم يرحمهم أحد غير الزعيم الركن عبد الكريم قاسم حين, لأنه كان يحس بحالهم فهو منهم, من وسط الكادحين الفقراء, لم يدخل جيبه فلساً واحداً غير نظيف, حتى هذا الفلس النظيف تبرع به لعائلات كان يعرف أنها بحاجة له, مات ولم يستفد حتى من قطعة الأرض الصغيرة التي منحت له وفق القانون. بنى لكادحي وفقراء مدينة الثورة وفي غيرها دورأ وأوجد لهم عملاً وتبنى قضيتهم لأنه كان منهم ... في حين عاش العراق في ظل النهب والسلب والاغتناء الفاحش من السحت الحرام في فترات حكم أغلب حكام العراق الذين أتوا من بعده, منهم ومن غيرهم حتى يومنا هذا.
الكل حين يكونوا في المعارضة يستخدموا أوضاع الفقراء والمعوزين والكادحين أداة لنضالهم ويرفعوا شعارات تعزف على حالة الفقر والبطالة والحرمان والتجاوز على حقوق الإنسان, وحين يصلوا إلى السلطة ينسى الكثير والكثير جداً من هذا الكل كل ذلك ولم يبق في ذهنه سوى الغرف بأقصى ما يمكن ليملأ جيوبه المتضخمة بالمزيد من مال السحت الحرام وليتحول إلى  مليونير مرئي أو غير مرئي, ثم يحتفل البعض بوجود كثرة من المليونيرية في العراق الذين لا يريدون إخبارنا كيف أصبح هؤلاء بفترة وجيزة ضمن مليونيرية العراق, بل مليارديريته!
إن فقراء العراق والكادحين لا يجدون من يساعدهم ولا يجدون حتى وظيفة أو عملاً لهم, أو يحصلون على دخل محدود لا يسد الرمق. فالتعيين لا يتم عبر مجلس للخدمة ليعامل الجميع بالتساوي ووفق المؤهلات, كما كان يجري في العهد الملكية أو في فترة حكم عبد الكريم قاسم, بل حتى في فترة صدام حسين كان هناك مجلس للخدمة رغم استخدامه بشكل غير سليم في فتر الدكتاتور الأهوج صدام حسين, فالوزير والمدير العام التابع لهذه الطائفة أو تلك أو لهذا الحزب أو ذاك هو الذي يعين اليوم من يشاء ومتى يشاء ممن يحمل معه بطاقة عضوية هذه الطائفة أو تلك أو هذا الحزب أو ذاك, ومن يأتي ويحمل يسده "كارتاً" موقعاً من إمام أو شيخ هذه الطائفة أو هذا الحزب أو ذاك.   
المرأة العراقية, التي نفتخر بها, فهي أمنا وأختنا وزوجتنا وبنتنا, ووهي التي تتحمل الكثير بصبر ودأب ونضال فعلي ضد مجرى التيار,  كانت على حق وتتحدث باسم الغالبية العظمى من سكان العراق.. لقد ملَّ الناس كل ذلك, لقد تعبوا من الجوع وأنهكوا من المراجعات لدى دوائر دولة فاسدة ومرتشية ولا تمارس عملاً إلا بالرشوة, وهم لا يملكون لما يسد الرمق فكيف بدفع الرشوة!
أيها الحكام جميعاً .. اسمعوا صوت المرأة . اسمعوا صراخها فقد وصل عنان السماء ولم تسمعوه حتى الآن , فكيف ومتى ستسمعوه؟ لقد امتلأ الكأس وفاض, فهل من سميع من حكام العراق, كل العراق؟
23/7/2009                   كاظم حبيب
   

1198
هل أغلقت كل الطرق أمام معالجة المشكلات
بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في العراق؟

لم أكن مغالياً حين وجهت رسالة مفتوحة إلى رئيسي الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة الإقليم في أربيل داعياً إياهما إلى حل المشكلات القائمة بطرق الحوار والتفاوض السلمي وبآليات ديمقراطية ووفق الدستور العراقي. ولم أكن مخطئاً حين توجست خشية من استمرار الجمود في العلاقة بين الطرفين وتوقف التحرك المطلوب صوب معالجة جادة وهادئة للمشكلات التي تفاقمت عبر الزمن والأحداث وسياسات النظم المستبدة والعنصرية. خاصة وأن اللغة الاعتيادية بين قوى متحالفة في حكومة واحدة لم تعد هي السارية في العلاقات بين الطرفين, بل جرى تصعيدها من الطرفين وبصورة غير مريحة للجميع.
ولكن المشكلات التي تواجه الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم قابلة للحل في ضوء الدستور وقابلة للحلول الوسطية في عدد غير قليل منها, إضافة إلى وجود محكمة دستورية لمعالجة تلك المشكلات التي لا يصل الطرفان إلى موقف مشترك. ولكن الشرط الأول في كل ذلك هو الاستعداد للحوار وصدق النوايا والاستعداد المتبادل للمساومة والقبول بالوساطة في حالة الضرورة وليست ممارسات القطيعة وعدم اللقاء أو الاستعلاء هي الحل.
ليس حلاً ما يطرحه الصديق الدكتور عبد الخالق حسين, إذ ليس هناك أما أبيض أو أسود, إذ بين اللونين الكثير من الأطياف الأخرى, ويشعر الإنسان أن في ما يطرحه ضيق الصدر ونهاية الصبر , في حين أن القضايا السياسية والاقتصادية المطروحة هي ليست من نوع المعارك العسكرية كما أنها ليست جولة ملاكمة تنتهي بضربة قاضية من أحد الطرفين.
من باب تحصيل حاصل أن نؤكد حق الشعب الكُردي في أن يقرر مصيره بنفسه, بما في ذلك حق الانفصال وتشكيل دولته الوطنية المستقلة على أرض كُردستان. ولكن الشعب الكُردي والبرلمان ورئاسة وحكومة الإقليم قررت كلها تحقيق الفيدرالية في إطار دولة عراقية اتحادية ديمقراطية. وبالتالي, فمن باب التعجيز والهروب إلى أمام حين يطلب الأخ الدكتور عبد الخالق حسين من قيادة الإقليم وحكومته وشعب كُردستان أن يقرروا إما الاستقلال أو الفيدرالية, لأنه يرى في ما تمارسه رئاسة وحكومة الإقليم تجاوز على مبادئ الفيدرالية.
وفي الجانب الآخر ليس من الحكمة بمكان أن تنطلق تصريحات سياسية من مسئولين كبار كُرد تشير إلى أن الوضع بين الحكومتين أصبح قاب قوسين أو أدنى من حرب طاحنة, إذ أن هذا هو الآخر هروب إلى أمام وتهديد لا مبرر له ولا يساعد على إيجاد الحلول العملية للمشكلات بل يعقدها. إن من الواجب على  الجميع اختيار أسلوب التناول العقلاني الذي يبعدنا عن تعقيد الأمور.   
علينا أن نسجل هنا عدداً من المسائل الجوهرية, إذ أن نسيانها, كما أرى, لا يساعد الجميع على تجاوز المصاعب والتعقيدات التي تقف في طريق حل المشكلات, وهي:
1. أن الفيدرالية ليست هبة من أحد للشعب الكُردي, بل انتزعها من الحكم الدكتاتوري بنضاله وتضحياته الغالية والطويلة وبدعم وتضامن عراقي ودولي.
2 . إن غالبية الشعب العربي في العراق, وكذا الكلدان والآشوريين وجمهرة غير قليلة من التركمان, وقفت إلى جانب الشعب الكُردي في نضاله من أجل الحكم الذاتي أولاً, ومن أجل الفيدرالية فيما بعد. وقد تجلى ذلك في شعارات رفعت في أعقاب ثورة تموز 1958 " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكُردستان" أو تطوع الكثير من العراقيين ومن مختلف القوى والأحزاب في النضال الأنصاري في كردستان العراق ضد النظام الصدامي.
3 . أن الفيدرالية الكُردستانية ليست كباقي الفيدراليات في الولايات المتحدة أو في ألمانيا, فالفيدرالية الكُردستانية تقوم على أرض كُردستانية ضمن الدولة العراقية أولاً, وفيها شعب كُردي يشكل الأكثرية ولكن هناك قوميات أخرى كلدانية, أشورية وتركمانية على هذه الأرض ثانياً. وأن لهذا الشعب لغته وتاريخه وتراثه المميز, مع وجود الكثير من المشتركات مع القوميات الأخرى. وأن هذا الشعب قد عاني الأمرين من جميع الحكومات المركزية في العراق سواء أكانت بسبب الذهنية الشوفينية أو الفكر العنصري. وعلينا الاعتراف بذلك وليس تغطيته من خلال القول أن العرب عانوا أيضاً. الكل عانى من الاستبداد والقمع, ولكن الاستبداد شيء والعنصرية والتطهير العرقي والتعريب والتهجير القسري شيء آخر. وعلينا أن ندرك بأن الشعب الكردي قد تعرض للاستبداد والعنصري وبقية القائمة, كما تعرض له الكُرد الفيلية, إضافة إلى حروب النظام التي تعرض لها الجميع. ول شك في أن من اتهموا بالتبعية الإيرانية من عرب الوسط والجنوب قد تعرضوا لعنصرية نذلة أيضاً.
إن علينا أن ندرك ذلك, وأن نضع أنفسنا في موضع الكُرد, إذ بدون ذلك سنكون مخطئين في فهم الوضع النفسي للشعب الكردي وتجاربه المريرة مع الحكم المركزي في العراق.
ولا يجوز إجراء مقارنة بين نضال الشعب الكُردي في كُردستان العراق مع نضال الشعب الكُردي في كُردستان إيران أو كُردستان تركيا أو سوريا, رغم أن الشعبين الآخرين وكذلك الكُرد في سوريا قد ناضلوا حقاً, ولكن كانت هناك بعض السمات الخاصة, ومنها نضال القوى الديمقراطية العربية مع شعب كُردستان العراق, التي ميزت وساعدت على تحقيق النجاحات الراهنة. العيب ليس في ما تحقق في العراق, بل العيب في ما لم يتحقق في الدول الأخرى. والأسباب معرفة لنا جميعاً, كما أرى.     
إن تجارب الماضي مع الحكومات المركزية , وبعض الدلائل التي ظهرت على سياسات حكومة المالكي وخاصة بعد حصول قائمته  على قوة صوتية عالية نسبياً في انتخابات مجالس المحافظات, تأتي خشية الكُرد من القوات العسكرية العراقية التي وجهت لهم ضربات قاسية في الماضي, وفيها من لا يمكن الاطمئنان إليه, وكانت المنفذ السيئ لقرارات كل الحكومات السابقة في الفترة التي سبقت سقوط النظام, ولكن هذا لا يعني أن كل العسكريين حينذاك كانوا سيئين, ولكن كمؤسسة  تعاملت بشكل غير ديمقراطي بسبب قرارات الحكومات المسئولة عنها.
وبالتالي فوجود دستور ووجود رئيس إقليم ووجود برلمان ووجود حكومة إقليم ووجود قوات مسلحة في الإقليم تعتبر جزءاً من القوات العراقية, ولكنها تحافظ على مستوى معين من الاستقلالية ضماناً لعدم تكرار ما حصل في السابق, إذ أن احتمالات التغيير في الأوضاع والسياسات تبقى دائماً محتملة. وليس في هذا ضير إن التقت الإرادات وحسنت النيات وتعززت الثقة المتبادلة ووجدت القوانين المحددة للصلاحيات والواجبات لكل من تلك المؤسسات. ومن هنا أقول بأن ما يجري في كُردستان هي حالة تقع بين الفيدرالية ولكنها اقل بكثير من الكونفدرالية التي لم يطرحها الكُرد. والدستور العراقي وافق على ذلك.
4 . من الواجب أن يجري تحديد الصلاحيات الواضحة للحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على الصعيد الداخلي في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية, وكذلك العلا قات الدولية وقضايا العقود النفطية والتمثيل الدبلوماسي  وغيرها, وفق قوانين ونظم عمل على  وفق الدستور العراقي وتقر في البرلمانين وتصبح نافذة المفعول ويلتزم بها الجميع. وحين يتم وضع هذه القوانين المنظمة للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم تصبح القضايا الأخرى مفهومة ولا تستوجب التوتر. إن التأخير في وضع تلك القوانين ناشئ عن قناعة لدى قوى الإسلام السياسي باحتمال حصول تغيير في ميزان القوى يساعد على تقليص صلاحيات الإقليم وفق منظورها أو حتى رفض بعضها الكثير للفيدرالية أصلاً.
5 . ليس العراق الدولة الوحيدة التي تعاني من مشكلات حدودية داخلية ودولية أو مشكلات مالية أو علاقات دولية. ولكن السؤال كيف نعالج هذه الأمور؟
أشعر هنا بأن رئاسة الحكومة الاتحادية تريد أن تترك بعض الأمور ليحلها الزمن وحده من خلال السعي إلى تغيير في ميزان القوى الداخلية والدولية وامتلاك القوة الكافية وبعد رفع قرار البند السابع عن العراق وخروج القوات الأمريكية من العراق, وهو أمر سلبي طبعاً, بينما تريد رئاسة وحكومة الإقليم حلها بسرعة ووفق ما جاء في الدستور ووفق المادة 140 , ولكنها تستعجل في إصدار مواقف لا تساعد على تعبئة الشعب العراقي كله حولها. وكل الدلائل تشير إلى ذلك, وبالتالي فأن نية الحكومة الاتحادية ورغبتها غير نية حكومة الإقليم ورغبتها. وفي هذه المساحة تتحرك السلبيات التي يعيشها العراق في العلاقة بين الحكومتين.
أشعر بأن الحكومة الاتحادية تسعى على تعبئة الرأي العام العربي ضد حكومة الإقليم وما يجري هناك, في حين يفترض عدم اللجوء إلى ذلك بل السعي لحل المعضلات مع حكومة الإقليم, كما ليس من مصلحة إقليم كردستان انعزالها, عبر سياسات غير مدققة بل وخاطئة, عن العرب, وعن أكثر حلفاء الكُرد العرب الذين وقفوا إلى جانب الشعب الكُردي في أحرج الظروف ودخلوا السجون واستشهدوا في سبيلها وفي سبيل الديمقراطية للعراق كله.   
من حق حكومة كُردستان أن تضع دستوراً لها, وكان لها ذلك منذ العام 1992. ومن حقها أن تضع دستوراً جديداً مقراً على صعيد العراق كله, لا ضير في ذلك أبداً. فالفيدراليات في جميع أرجاء العالم لها دساتير للدول ودساتير للفيدراليات. ولكن السؤال يقع في جانبين: ألم يكن مفيداً إقرار الدستور في فترة لاحقة أولاً, ومضمون هذا الدستور ثانياً؟
يمكن إبداء الملاحظات التالية إزاء هذه المشكلة الجديدة التي برزت بين الحكومتين بل هي أوسع من أن تكون بين الحكومتين, وهي
1 . أن الفترة الدستورية لدورة البرلمان الكردستاني كانت منتهية ومددت لغرض إقرار الدستور, ولم يكن ذلك مفيداً لقوة الدستور ذاته ولا هي قانونية.
2 . إن الانتخابات كانت على الأبواب, وبالتالي كان في الإمكان الانتظار لفترة أخرى, ولم يكن ينقلب العالم إن كان قد تأجل إقرار الدستور, الذي كان يريده الكُرد منذ عقود أو أكثر.
3. كما كان بالإمكان انتظار انتهاء الانتخابات العامة في العراق والتي يفترض أن تجري في بداية العام القادم.
4. إن الدستور يتضمن مشكلا ت خلافية تستوجب الحسم السياسي والعملي قبل تثبيت ذلك في الدستور, ومنها القضايا المتنازع عليها, كما اصطلح على تسميتها أخيراً ودخل وسيط من الأمم المتحدة لحلها, فالهروب بها إلى أمام ليس في مصلحة أحد. وعلينا أن ندرك بأن إيجاد حلول لما يسمى بالمناطق المتنازع عليها لا تحل بقرار أو بوضعها في دستور, بل بقرارات مشتركة, فما دام الحديث يجري عن التوافق, فيفترض أن يكون التوافق في هذه القضايا أيضاً, وليس على طريقة الصَّيادين"حين قال أحدهم للآخر تريد الأرنب خذ الأرنب, تريد الغزالة خذ الأرنب", إذ أن الحقوق فيها واضحة, سواء أكان بعضها للكُرد وبعضها الآخر للعرب, وفي الحالتين للشعب العراقي بكل مكوناته. وليس قلة أولئك العرب الذين ابدوا أراءً واضحة بهذا الصدد.   
5 . كما أن بنوداً أخرى في الدستور تستوجب المزيد من التدقيق لكي لا تتعارض مع الدستور العراقي أو يجري تصحيح الدستور العراقي في ضوئها.
6 . والكل يعرف بأن القوى في كردستان لم تكن كلها متفقة على إقرار الدستور بهذه العجالة وكانت المطالبة, كما أرى, عادلة بتأجيل إقراره في البرلمان, والآن بضرورة تأجيل الاستفتاء عليه لفترة من الزمن. أملي أن لا تكون الانتخابات التي ستجري في 25/7/2009 سبباً في عملية التصعيد لأغراض انتخابية لا مبرر لها.       
إن إقرار الدستور من البرلمان لم يحل المشكلات بل عقدها, ومثل هذه المشكلات لا تحل على طريقة "كلما اشتدت حلَُّت". ونحن لا نحتاج إلى تعقيد الأمور بل إلى تبسيطها, أو تفكيكها من أجل معالجتها وشدها من جديد لصالح الجميع.
لدي انطباع يكاد يكون قاطعاً إذ أرى بأن الطرفين لا يتصرفان بالحكمة المطلوبة والعقلانية التي تستوجبها المرحلة ولا تستند إلى الخبرة التاريخية والتجارب الغنية والمريرة الطويلة, سواء أكان ذلك في مجال إطلاق التصريحات أو الخطب, أم بالتهديدات واحتمال نشوب حرب, أم بالمقاطعة وعدم الدخول بحوارات مباشرة. إن هذا الوضع يضيع على الشعب العراقي بكل مكوناته القومية فرص معالجة  كل الأوضاع الراهنة بصورة عقلانية وموضوعية وواقعية, ويمنح القوى الإرهابية المزيد من الأمل بانفجار الوضع بين الحكومتين, وليس بين الشعبين, لأن الشعبين يريدان السلام والتضامن وحل المشكلات بهدوء وسلام.     
منذ نعومة أظفاري ومنذ أن عرفت أن هناك قضية كُردية, وقفت إلى جانبها وكنت إلى جانب منح هذا الشعب حقوقه القومية الكاملة والتزمت بموقف عام وسليم للحزب الشيوعي العراقي إزاء هذه القضية, وكذلك موقف المناضل الراحل والشخصية الوطنية والسياسية المعروفة عزيز شريف في هذا الصدد, ولكني أدرك أيضاً بأن قضية إقامة دولة كُردية على  أرض كُردستان كلها لا يزال هدفاً بعيد المنال أولاً, وأن قيام دولة كُردية على ارض كُردستان العراق هي الأخرى بعيدة عن التحقق حالياً لأسباب دولية وإقليمية أو حتى محلية في إطار القوى الكُردستانية, وأن الفيدرالية هي الآن خيار كردي أيضا, ولهذا فنحن نعيش دهراً طويلاً قادماً سوية, وعلينا أن نشعر بالمصير المشترك, ومن هذا المنطلق يفترض أن نتصرف بالموقف من حدود الإقليم والدولة والمحافظات.
أتمنى على الجميع أن يعيدوا النظر بمواقفهم ويعالجوا الشاكل بالحكمة والخبرة السياسية التي يمتلكونها وبالتجارب المريرة التي عاشها الشعب. ليس هناك من غالب ولا مغلوب, بل أن الجميع سيخسر, ولكي لا تتكرر تجارب الماضي ولا تحل علينا جميعاً لعنة أوضاع بلدان مماثلة تعاني الأمرين في الوقت الحاضر, ولن ينفع الندم من أي طرف كان بعد فوات الأوان.
21/7/2009                        كاظم حبيب   
         

1199
هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق

تهنئة بحلول العيد الكبير للصابئة المندائية


تزجي الأمانة العام لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق أحر التهاني وأطيب الأمنيات وأصدق مشاعر الود والاعتزاز إلى  مواطناتنا ومواطنينا من الصابئة المندائيين, سواء أكانوا داخل الوطن أم في المهجر, بمناسبة حلول العيد الكبير راجين لهم ولكل الشعب العراقي بهذه المناسبة السعيدة موفور الصحة والعافية والسلامة.
إن شعبنا العراقي الطيب بكل قومياته وأديانه ومذاهبه يعتز كبير الاعتزاز بهذا المكون الرائع من مكونات شعبنا, فأنتم من أصل هذه البلاد ومن المشاركين بفعالية في بناء حضارة وادي الرافدين والمساهمين بحرص كبير على مجالات الفنون والآداب والعلوم والصناعة اليدوية, فمنكم كانت الحكمة القائلة "ويل لعالم لا يفتح نفسه, وويل لجاهل منغلق على نفسه".
وبهذه المناسبة العزيزة على  قلوب الصابئة المندائيين وقلوبنا جميعاً نرجو أن لا  يصيبهم أي مكروه من جانب تلك القوى الشريرة التي هجرت الكثير منهم ومن قوميات وأديان أخرى إلى  خارج العراق أو أبعدتهم عن ديارهم.
مرة أخرى  نشد على  أيديكم ومهنئكم بهذه المناسبة السعيد, مناسبة العيد الكبير.     

الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق
كنب في 20/7م2009

1200

هل الجمهورية الإسلامية الإيرانية تسير على طريق الصَّد ما ردَّ؟

ليس هناك من لم يتابع الأحداث التي جرت ولا تزال تتفاعل في إيران, سواء أكان في فترة التحضير للانتخابات الرئاسية أم أثناء ذلك أم بعدها, وليس هناك من فوجئ بالنتائج التي انتهت إليها الانتخابات إلا القليل من البشر ممن لم يعرفوا بصورة جيدة البنية الداخلية للجمهورية الإسلامية وبنية القوى الحاكمة ودور المؤسسة الدينية المهيمنة على القرار السياسي بإيران. وليس هناك من فوجئ بالطريقة التي تعاملت بها أجهزة الأمن والشرطة والحرس الثوري والبسيج مع المتظاهرين والمحتجين على عملية التلاعب بالانتخابات التي يستطع أحد إنكارها ولكنهم قللوا من شأنها في التأثير على النتائج المعلنة.
حين دعيت إلى ندوة تلفزيونية حول نتائج الانتخابات قبل أقل من ساعة من إعلانها وما يمكن أن يحصل, توقعت ثلاث مسائل أساسية:
1 . أن القوى الحاكمة لن تسمح بمجيء قوى معارضة للسلطة حتى لو كانت من داخل النخبة الحاكمة ومن المؤسسة الدينية الواحدة لأنها تملك أجندة خاصة متفق عليها بين المرشد الأعلى والقوى المحافظة التي يترأسها وحمدي نجاد المنفذ المباشر لرؤية المرشد والحرس الثوري والبسيج معاً.
2 . والأجندة الفعلية للحكومة الإيرانية تتضمن ثلاثة أهداف جوهرية, وهي:
   إ. مواصلة السعي لتصدير "الثورة" الإيرانية أو "أفكار الثور الإسلامية" الشيعية إلى بلدان الشرق الأوسط وبعض البلدان الآسيوية والأفريقية الأخرى وإلى المسلمين في الدول الغربية.
   ب. مواصلة بذل الجهود لإبقاء الوضع غير المستقر في كل من العراق وفلسطين ولبنان على وجه الخصوص وإعاقة أي حلول عملية للمشكلات القائمة في هذه الدول وتأمين استمرار نشاط القوى الفاعلة فيها والمؤيدة لإيران.
   ج. مواصلة العمل لإنتاج السلاح النووي لتأمين القوة الرادعة لإيران وفرض دورها كدولة كبرى شرق أوسطية وتأمين التناغم معها في سياسات الدول الأخرى. 
3. وأن الحكومة الإيرانية الراهنة مستعدة لتوجيه أقسى الضربات واستخدام أقصى أشكال العنف والسلاح في مواجهة قوى المعارضة المحتجة على سياسات الحكومة الإيرانية والمرشد الأعلى وزج المئات بل مستعدة  لزج الآلاف في المعتقلات الجهنمية متهمة إياهم بالعمالة للأجنبي.
ومجرى الأمور في إيران خلال الأسابيع المنصرمة برهن على صحة هذا التدقيق الذي يشترك فيه الكثير من المطلعين على الوضع السياسي في إيران. فقد مورس العنف بقسوة كبيرة فسقط الكثير من الشهداء المحتجين والمتظاهرين, كما اعتقل أقطاب في المعارضة وزج بالمئات في المعتقلات الإيرانية, وجرت وتجري ممارسة التعذيب ضدهم لانتزاع اعترافات غير صحيحة بأمل الخلاص من التعذيب الشرس.
إلا أن هذه الاحتجاجات والمظاهرات لم تكن الجولة الأولى وليست الجولة الأخيرة, بل سنتعرف تدريجاً على جولات نضالية أخرى للشعب الإيراني ضد حكامه, إذ أن "النظام الإسلامي" الإيراني بدأ فعلياً بالتفكك من داخل المؤسسة الحاكمة ومن داخل المؤسسة الدينية ذاتها.
رغم التباين في شكل الحكم في عراق صدام حسين وإيران المرشد الأعلى واحمدي نجاد, فإن النظامين في الجوهر شموليان واستبداديان ومعاديان لحرية الفرد والديمقراطية وحقوق الإنسان وبعيدان كل البعد عن حقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, وتعاملا مع المجتمع الدولي والرأي العام العالمي بخفة واستهتار وعنجهية لا مثيل لهما وبرزا قوتهما العسكرية وكأنهما يستطيعان التغلب على  العالم كله. فسقط الأول إلى حيث وبئس المصير وسيلحق به النظام الثاني إلى نفس المستنقع الذي حط فيه النظام الصدامي ولن تسكب عليه دمعة واحدة  بل ستعم الفرحة في إيران وسائر أرجاء العالم.
ستسعى حكومة إيران إلى مواصلة تصدير مشاكلها الداخلية صوب الخارج بانتهاجها سياسات أكثر تطرفاً وغباءً في آن واحد, رغم تصور الحكام بأنها أساليب ذكية لأنها تلعب على الصراع الأمريكي الروسي والأمريكي الصيني, ولكن هذه اللعبة لن يساعد إيران لفترة طويلة, وما حصل لنظام صدام حسين يفترض أن يكون درساً لإيران لا من حيث احتمال شن حرب ضدها, بل من حيث عزلتها عن الشعب والرأي العام العالمي والمجتمع الدولي وبالتالي نهايتها.
إن الأوضاع الداخلية في إيران صعبة للغاية والمجتمع الإيراني يعاني من بطالة واسعة وبطالة مقنعة وجيش جرار يفترض الصرف عليه وسباق تسلح لا مثيل له يستنزف نسبة عالية من دخلها القومي والحرمان يزداد بين الفقراء والكادحين وتأييد الفلاحين الفقراء للمرشد الأعلى سيكون له نهاية مؤكدة بسب تردي أوضاعهم المعيشية وارتفاع وعيهم السياسي وإدراكهم لأوضاعهم الراهنة الموجعة, كما أن الأزمة الراهنة والحصار المتزايد تدريجاً سيقودان إلى أوضاع بشرية أكثر صعوبة. ولهذا فالفترة القادمة في إيران لن تكون وردية ولن تكون في صالح النخبة السياسية الحاكمة, كما أنها لن تكون في صالح الشعب وحياته المعيشية, وستكشف الأيام عن وجهة تطور وحدة الصراع السياسي والاجتماعي الجاري في البلاد.
إن المعالجات الترقيعية لن تنفع ولن تنقذ النظام الإيراني من المصير الحتمي, وهي قاعدة تشمل جميع النظم الشمولية المناهضة لمصالح شعوبها, والشعب الإيراني كفيل بأخذ زمام المبادرة للخلاص من النخبة الحاكمة, كما أن المرشد الأعلى قد فقد مصداقيته وظهر زيف ادعائه بالأمانة للشعب واحترام إرادته, فالنخبة الحاكمة والنظام الإسلامي الإيراني سائران معاً على طريق واحد نحو الهاوية طال الوقت أم قصر, على درب الصدّْ ما ردّْ.

17/7/2009    كاظم حبيب[/b]

1201
إرهابيون قتلة يحصدون أرواح الناس,
ودعاية انتخابية حكومية تتحدث عن المكاسب!

الشعب العراقي في واد وأغلب القوى السياسية العراقية في وادٍ آخر. فالشعب يواجه مصائب التهديد والقتل اليومي الفعلي, مع بدء اتساع عدد العمليات الإجرامية التي تمارسها القوى الإرهابية المتنوعة وعدد القتلى بعد تقلصها النسبي, ومصاعب الحياة اليومية, ومنها نقص الخدمات في عز الصيف العراقي, وخاصة الكهرباء والماء, واستمرار وجود أكوام القمامة التي تملأ شوارع المدن العراقية في الوسط والجنوب (راجع مقال الشاعرة المبدعة والكاتبة بلقيس حسن حول سفرتها الأخيرة إلى الناصرية وغيرها في موقع صوت العراق) والمناطق الشعبية في بغداد وليس منطقة الخضراء والقادسية بشطريها وليس شارع الأميرات في المنصور .., بل مدينة الثورة والشعلة والطالبية وبعض أجزاء الرصافة والكرخ, ومنها البتاويين وشارع فلسطين وبغداد الجديدة والگريعات وغيرها. والشعب يعاني من البطالة والبطالة المقنعة بكل مشكلاتها السياسية والاجتماعية والإدارية وتخلف سير معاملات الناس. كما يواجه الشعب بشكل مباشر ويومي استمرار الفساد المالي والإداري والحزبي بكل قسوته وتخريبه للحياة اليومية للناس, في حين تقف القوى السياسية في واد أخر, خاصة وأن جمهرة كبيرة من كوادر وأعضاء هذه الأحزاب تحتل مواقعها في أجهزة الدولة وهي التي تمارس الفساد المالي والإداري إضافة إلى أصحاب النعمة الحديثة والقطط السمان, وهي التي تتمتع بالمكاسب التي تجعلها لا تشعر بسوء حياة الآخرين, إذ أن أغلب المراكز المهمة في الدولة موزعة على ممثلي تلك الأحزاب الحاكمة. والأحزاب السياسية منشغلة بحملة انتخابية مبكرة للوصول إلى مجلس النواب وإلى تحقيق الأكثرية في المجلس وتشكيل الحكومة القادمة دون أن تقدم لهذا الشعب ما يفترض تقديمه, وهي التي تتحدث عن المكاسب التي تحققت وتضخمها إلى الحد الذي لا يصدقها ابن الشارع لأنه يعرف عدم صحتها وبالتالي تسقط مصداقية السياسيين الذين يتحدثون بذلك وخاصة كبار مسئولي الحكومة, وكأن ما مارسته في الآونة الأخيرة في مجلس النواب ضد وزير الداخلية أو اعتقال البعض القليل هو الشكل السليم لمكافحة الفساد المالي وليس تغيير النظم والقوانين والحياة الثقافة في المجتمع وإبعاد الكثير جداً من أهل العمائم ومن يماثلهم من الذين يربطون الحكم بالدين ويمارسون الفساد وهم في الحكم وحوله ثم يغطى كل ذلك باسم الدين, والدين منهم براء. ليس هؤلاء وحدهم من يسلب الشعب قوته, بل هناك بعض العلمانيين ممن يمارس ذلك أيضاً.
بدأ الموت يحصد من جديد وعلى الحكومة أن تدرس العوامل الكامنة وراء ذلك, عليها أن تعرف أين يكمن العيب؟ أليس ذلك نتيجة لسياساتها الطائفية وتخلف معالجة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضعف دور القوى الديمقراطية والنهج الديمقراطي لصالح قوى الإسلام السياسي الرجعية والطائفية البشعة. إن استمرار قتل المسيحيين والشيعة يهدف بالضرورة إلى الرغبة في إشعال حرب طائفية ويوجه الاتهام ضد أتباع المذهب السني, وعلى الحكومة الحذر من ذلك, إذ لا شك في وجود قتلة في هذا الجانب , ولكن هناك قتلة في جانب أتباع المذهب الشيعي الذين وجدوا فرصة أيضاً لممارسة الإرهاب إضافة إلى أتباع القاعدة وحارث الضاري.     
وإذ يجري كل ذلك في العراق يجري بجواره محاولات مستمرة لتحقيق تحالفات جديدة دون أن تبذل غالبية الأحزاب السياسية الجهد الضروري لوضع برامج جديدة وأهداف جديدة واقعية ودون أن تسعى لإشراك قوى الشعب بما يفترض أن يكون جديداً ومحركاً للواقع الراهن في العراق. إن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي يستوجب تشكيل تحالفات جديدة على صعيد العراق كله, ويستوجب التخلص من القوائم الطائفية أو القومية الشوفينية أو القومية الضيقة, بل يستوجب الانفتاح على العراق كله على القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية, ومنها قوى إسلامية ديمقراطية ليبرالية ترفض الربط بين الدين والدولة, كما يستوجب الابتعاد عن تلك التحالفات التي ألحقت أضراراً فادحة بالعراق وخاصة تلك التحالفات التي تسببت في التوزيع الطائفي للحكم ومقاعد مجلس النواب والقضاء العراقي أيضاً وكل وزارات العراق, وهي التي تحولت إلى حصون محكمة ومغلقة لهذا التحالف الإسلامي السياسي أو الحزب الديني أو القومي أو ذاك. وهي المسئولة عن الخسائر الهائلة في الأرواح والدماء التي هدرت في العراق والدموع التي سكبت فيه ولا تزال الدماء تهدر والدموع تسكب.
الشعب يعاني ويواجه المشكلات وأغلب القوى السياسية لا تريد أن ترى ذلك بعينين مفتوحتين وسليمتين وتتصرف في ضوء ذلك. حين تتحدث منظمات حقوق الإنسان الدولية, ومنها منظمة العفو الدولية التي كنا نحتمي بها ونطالبها بدعم ضحايا الإرهاب الصدامي, عن التجاوزات الفظة على حقوق الإنسان الجارية حالياً في العراق, ينبري السيد رئيس الوزراء ويرد على منظمات حقوق الإنسان التي تطالب بحماية حقوق الإنسان المهدورة ويقول لها عليها أن لا تبالغ بذلك وأن لا تسيَّس حقوق الإنسان ظلماً وبهتاناً, في حين هو يعرف قبل غيره أن حقوق الإنسان مغدورة ومهدورة في العراق, ومنها الموت اليومي والاعتقالات والتعذيب في السجون ومصادرة حقوق المرأة. وأقرب حالة نجدها في التفجيرات الأخيرة, ثم ما اكتشف في مؤسسة السجون التابعة لوزارة الداخلية. وحين يتحدث الناس عن المشكلات الكبيرة والفعلية القائمة في العراق, ينبري السيد رئيس الوزراء أيضاً وكأنه لا يعرف بما يجري في العراق ويقول بأن العراقيين يسيَّسون كل شيء, وكأن الأشياء غير مسيَّسة في العراق وأن الناس يفتعلون قسراً تسييسها. وحين تُحمل صورته من عسكريين في مسيرة عسكرية ويقال له "تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي" بكل صدق وحرص من جانب رسام الكاريكاتير المبدع والناقد الاجتماعي والسياسي المميز سلمان عبد لكي تذكره بأن الشعب لا يريد العودة لما كان عليه العراق في ظل حكم صدام حسين وطغمته الفاسدة والجائرة, يخشى الإنسان من أن "يزعل" السيد رئيس الوزراء وأتباعه مثلاً, ويمكن أن تتوجه مفرزة أمن وشرطة جديدة لاعتقاله في كربلاء كما حاولت قبل ذاك بسبب معرض الرسم الكاريكاتير الذي أقامه في كربلاء! 
السيد رئيس الوزراء يدعو إلى الابتعاد عن الطائفية. وهو أمر جميل, ولكن اشرح لي أيها الأخ الفاضل, كيف يمكن مكافحة الطائفية السياسية وأنت تترأس حزب سياسي يقوم على المذهب الشيعي الجعفري الاثنا عشري الطائفي, فحزب الدعوة قد تأسس على هذا الأساس, وهو حزب مذهبي طائفي سياسي ليس في عضويته أي إنسان عراقي منتسب إلى  دين أو مذهب آخر ولا من قومية أخرى غير شيعية؟ كيف يمكنني أن أتصور بأنك غير مذهبي وغير طائفي ما دمت تقف على رأس هذا الحزب المذهبي الطائفي !!
السيد رئيس الوزراء يمارس عملية تنشيط العشائرية والأجواء العشائرية في العراق ليكسبها إلى جانبه في الانتخابات القادمة, فكيف يمكن بناء مجتمع مدني ديمقراطي في العراق في ظل العشائرية والدور المتزايد للمؤسسة الدينية والإسلام السياسي؟ كيف يمكن ممارسة الديمقراطية وممثل حزبه يدعو إلى  الأخذ بالديمقراطية  كأداة والابتعاد عنها كفلسفة, فماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الهدف هو استخدام الديمقراطية للوصول إلى الحكم وليس ممارسة الديمقراطية في الحكم وفي حياة المجتمع, كما عبر عن ذلك بوضوح لا ريب فيه على الأديب, النائب الأول في حزب رئيس الوزراء وهو الرئيس الفعلي لهذا الحزب بسبب مشاغل رئيس الوزراء الحكومية.
يدعو السيد رئيس الوزراء إلى التحالف مع المجلس الإسلامي الأعلى, وهو الحزب المركزي الذي يتبنى الطائفية السياسية ويتبنى ولاية الفقيه ويدير منظمة بدر, مثل صنوه جيش المهدي, أي ولاية علي خامنئي على شيعة حزبه, كما يسعى لتكون ولاية الفقيه على كل شيعة العراق.
السيد رئيس الوزراء يتعاون بكثافة مع قوى حزب البعث في الموصل, إذ يريدها أن تكون ضد القوى الكردستانية, كما صرح بذلك محافظ الموصل الجديد, ولا يسعى إلى حل الخلافات مع القوى الكردستانية وفق المادة 140 من الدستور العراقي, بل يعمد إلى  التعاون مع قوى قادت العراق إلى الحضيض الذي عشنا فيه ولا يزال المجتمع لم يخرج من عواقبه, وهي مجموعة بعثية وقومية شوفينية مقيتة لا يمكن الركون إليها والتعاون معها أو القبول بها في حكم محافظة من محافظات البلاد.
السيد رئيس الوزراء, كما أرى, بحاجة إلى رؤية أكثر صفاء ونقاء لفهم تعقيدات الوضع في العراق من أجل عدم تعقيد الوضع, إذ تقع على عاتقه حل تلك المشكلات. ومن أجل أن تكون له رؤية أكثر موضوعية, عليه أن يحل حزبه أو يخرج منه وتشكيل حزب عراقي جديد لا يستند إلى عناصر طائفية سياسية أو لا تؤمن بالديمقراطية بل تعتبرها أداة لا غير, يستند إلى قوى علمانية وليبرالية وديمقراطية وإسلامية ديمقراطية لا تريد ربط الدين بالدولة, وهي كثيرة ومستقلة في العراق, ويطرح برنامجاً جديداً يفصل بين الدين والدولة في الحكم ويتعامل بواقعية مع الواقع العراقي القومي, ويعمل وفق آليات ديمقراطية مجربة ويمارس الحكم على أسس جديدة تحارب كل ما هو خارج عن وعلى القانون, وخاصة ممارسة الطائفية والتمييز القومي والتمييز ضد المرأة ...الخ.
السيد رئيس الوزراء ليس بحاجة إلى خطب انتخابية كثيرة, إذ تعب الشعب منها, إذ أنها دون طائل, بل يريد برنامجاً واضحاً وتعبئةً للمثقفات والمثقفين العراقيين وفق أسس ديمقراطية وعلمانية, وليس في إبعاد هؤلاء الذين يحملون في رؤوسهم وعلى أكتافهم ثروة العراق الثقافية والعلمية والأدبية وتقاليده الطيبة وتراثه الحضاري الجيد وينزعون بثقافتهم ونشاطهم من رؤوس الكثير والكثير جداً من الحكام والناس ثقافة العنف والقسوة والاستبداد والفساد في الحكم والحياة اليومية.
سيبقى الشعب يعيش في وادٍ والحكم والقوى السياسية في وادٍ آخر ما لم تتغير الحياة السياسية والحزبية في العراق, ما لم تتجدد تلك الأحزاب, ما لم يوضع الإنسان ومصالحه في مركز البرامج السياسية وما لم تتخلص البعض من هذه الأحزاب من بنيتها وطائفيتها وشوفينيتها أو قوميتها الضيقة وعشائريتها كهوية, وما لم تتطلع نحو الجديد والحديث والهوية الوطنية العراقية.
16/7/2009                         كاظم حبيب
                   

1202
هل من روية جديدة لخوض الانتخابات العامة القادمة في العراق؟

تشير مستجدات الوضع في العراق إلى حصول واقع تفتت فعلي لجميع التحالفات السياسية السابقة التي أقيمت خلال السنوات الست المنصرمة على ثلاثة أسس ابتعدت بالعراق عن طريق المواطنة العراقية الحرة والديمقراطية والتصقت بقوة بالهويات الثانوية لواقع العراق الراهن, وأعني بها:
-   التحالف المذهبي القائم على أساس طائفية سياسية مقيتة تميز بين العراقيات والعراقيين على أساس المذهب, فهنا تحالف شيعي وهناك تحالف سني وكلاهما منعزل عن أتباع الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى.
-   التحالف على أساس قومي الذي تبلور في التحالف الكردستاني الذي لا يضم غير الكُرد, وتحالف يضم بعض القوى القومية العربية التي تلاحمت نسبياً مع القوى الطائفية السياسية السنية على نحو خاص ولا تضم إليها من أتباع قوميات أخرى, مما سمح بنشوء قوائم أخرى للكلدان والآشوريين والتركمان.
-   تحالفات سياسية لم ترتق إلى مستوى الهوية الوطنية المنشودة وجمعت جملة من المتناقضات.
كل هذه التحالفات تفتت وراحت قواها تفتش عن تحالفات أخرى, بعضها لا يخرج عن الإطار السابق ولكنه يريد أن يظهر بمسميات أخرى يراد لها كما يبدو أن تغطي على حقيقة النهج الفكري والسياسي ذاته لتلك القوى. كما أن القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية لم يكن لديها أي تحالف جدي يسمح لها أن تلعب دوراً أكبر في الحياة السياسية العراقية.
التفتت لم يأت من فراغ, بل جاء لأسباب جوهرية منها:
- غياب الهوية الوطنية العراقية عن تلك القوائم وانغلاقها على هويات ثانوية في وضع العراق الراهن, رغم أهمية الهوية القومية لمكونات العراق القومية.
- السياسات والمواقف التي اتخذتها الكثير من قوى تلك القوائم لم تكن مقبولة من جانب الشعب العراقي بمختلف مكوناته ولم تعبر عن مصالح تلك المكونات.
- غياب الديمقراطية والشفافية عن الحياة الداخلية لتلك الأحزاب وعن العلاقة في ما بينها ومع قوى الشعب وفئاته الاجتماعية الكادحة والفقيرة وعدم تنفيذ ما جرى الالتزام به أمام ناخبيها وضعف دفاعها عن مصالحهم بشكل عام.
- استمرار الفساد المالي والطائفية في حياة الدولة والمجتمع والذي ألحق أضراراً فادحة بالدولة والمجتمع والاقتصاد الوطني , ولكن كان في صالح مجموعات من المشاركين في الحكم ومن هم حولهم.     
- ضعف صارخ في معالجة المشكلات القائمة, سواء أكانت على مستوى الخلاف بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم, أم في مجال البطالة المكشوفة والمقنعة, أم الفساد المالي والإداري, أم نقص الخدمات العامة والأساسية, إضافة إلى الاغتناء الشخصي لجمهرة من السياسيين بحيث أصبح الشعب في واد وكثرة من السياسيين في وادٍ آخر من حيث مستوى المعيشة والدخل ...الخ, وأصبحت الفجوة واسعة جداً في مستوى حياة الفئة الاجتماعية الحاكمة والمحيطة بها من جهة وبقية فئات المجتمع من جهة أخرى.
كما لا بد من ذكر حقيقة الدور السلبي الذي لعبته قوى الإسلام السياسي في أربعة مجالات, وهي:
** التمسك السيئ بالمذهبية والطائفية السياسية في حكم البلاد.
** تفاقم قائمة الممنوعات والمحرمات على الشعب والتي تنطلق من ترسانة رفض الحرية الفردية والحياة الديمقراطية.
** القتل والتشريد والتهجير القسري الذي مارسته القوى المتطرفة والإرهابية والمليشيات الطائفية المسلحة, بحيث لم يعد من الممكن معرفة الفاعل, فكلهم تقريباً متهمون وكلهم تقريباً مشاركون في ذلك. ولا تزال الحالة سارية حتى الآن في عمليات تفجير الكنائس كما حصل لخمس كنائس في بغداد وكنيسة في الموصل, وهي موجهة ضد المسيحيين ووجودهم في العراق, كما أنها موجهة ضد الصابئة المندائيين والإيزيديين أيضاً.
** تشديد التعامل مع حقوق المرأة المعترف بها دولياً واغتصاب هذه الحقوق والهيمنة على إرادتها الحرة.
والآن نحن أمام وضع جديد, فما هو المطلوب من القوى الديمقراطية العراقية ومن مختلف القوميات لخوض الانتخابات العامة القادمة؟           
في آخر ندوة عُقدت لي في لندن في أوائل هذا الشهر (تموز-يوليو 2009) وبحضور جمهرة كبيرة من القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية أشرت إلى أهمية وضرورة أن تدرك هذه القوى بأنها خسرت الكثير خلال الأعوام المنصرمة لأنها لم تدرك أهمية تحالفها وتعاونها في خوض الانتخابات ولأنها فتشت عن مصالح قصيرة الأمد وضيقة ولم تفكر بالمهمات الأبعد والأكثر أهمية والأكثر قرباً من مشاعر وحاجات الناس, وبالتالي لم تأخذ بالاعتبار ولم تتعلم من دروس الماضي منذ سقوط الملكية حتى الآن. إن الطريق الموصل للنجاح يمر عبر التعاون والتكاتف والتحالف وليس عبر الانفراد والتنافس والصراع والادعاء. إن الواقع العراقي الراهن بحاجة إلى تحالف وطني واسع لكل القوى الديمقراطية  والعلمانية واللبرالية وفق برنامج غير واسع ومؤسس وفق حاجات المجتمع للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات كلها دون استثناء والعدالة الاجتماعية. نحن بحاجة إلى تحالف وطني واسع يضم إليه العرب والكُرد والتركمان والكلدان والآشوريين والسريان, ويضم إليه الشخصيات الوطنية السياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية إلى جانب الأحزاب والقوى والتكتلات السياسية وقوى المجتمع المدني التي تدرك مخاطر الواقع المحتملة خلال الفترة القادمة والمهمات التي يفترض النهوض بها لصالح كل القوى المشاركة في التحالف, لصالح المجتمع بأسره.
من أجل تحقيق هذا التعاون والتحالف اقترح تشكيل هيئة تحضيرية تضم إليها ممثلون عن جميع القوى والأحزاب والكتل السياسية الديمقراطية والعلمانية واللبرالية من جميع المكونات القومية في العراق ومجموعة من الشخصيات الديمقراطية المستقلة من النساء والرجال تهيئ لمؤتمر سياسي واسع لكل هذه القوى لتناقش ورقة عمل تعدها الهيئة التحضيري لتكون أساساً لتحالف هذه القوى لخوض الانتخابات القادمة على أساس قائمة موحدة على مستوى العراق كله, رغم الوقت الضيق لمثل هذه العملية المهمة. من الممكن أن يعتذر البعض عن المشاركة, وهو احتمال ممكن, ولكن المؤتمر يعقد بمكن يحضر ويشارك في الهيئة التحضيرية.
إنها الفرصة المناسبة والضرورية لكي تجتمع القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية العربية والكردية (التحالف الكردستاني وبقية القوى الديمقراطية في كردستان) وغيرها لكي تعود للساحة السياسية العراقية بقوة كبيرة وقدرة في التأثير على الأحداث الجارية في العراق وتدفع بالعملية السياسية صوب المجتمع المدني الديمقراطي.
أتمنى أن يقرأ هذا النداء كل القوى المعنية بعقد هذا المؤتمر ويتعامل معه بمسئولية عالية.
15/7/2009                   كاظم حبيب           

1203
د. كاظم حبيب
في الذكرى 51 لثورة تموز/يوليو 1958
الدروس والمهمات الراهنة
-1-
يستقبل الشعب العراقي في هذا اليوم الذكرى 51 لانتفاضة وحدات من الجيش العراقي بقيادة حركة الضباط الأحرار وقائدها عبد الكريم قاسم لإنهاء نظام الحكم السياسي القائم وسعي الشعب لتحويلها إلى ثورة اجتماعية تنقل العراق من علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية إلى علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة وبناء المجتمع المدني الدستوري حيث تسود فيه مبادئ الحرية الفردية والحياة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتأمين حياة آمنة ومستقرة وسعيدة للشعب بأسره. 
ومنذ سنوات, وكلما اقتربنا من الذكرى السنوية, تظهر كتابات غير قليلة تقدم تحليلات متباينة عن طبيعة ثورة تموز 1914 وعن العوامل الكامنة وراء تلك الثورة وعن دورها في الحياة السياسية العراقية منذ وقوعها حتى الآن. ويبدو أن هناك وجهتي نظر تتصارعان, إحداهما تشير إلى أن الثورة لم تكن ضرورية وأنها المسؤولة عما جرى ويجري في العراق, والثانية تؤكد بان لم يكن ممكناً إيقاف الثورة, وإنها كانت نتاجاً لعملية موضوعية لا مرد لها في ظل الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية التي سادت حينذاك. فما هي حقيقة هذه الثورة وما هي العوامل الكامنة وراء التحرك العسكري والشعبي وما النتائج أو العواقب التي نشأت بسببها؟
-2-
لم تكن انتفاضة وحدات من الجيش العراقي عملية عفوية أو عبثية أو نتيجة غير متوقعة لما كان يجري في العراق حينذاك, بل كانت عملية موضوعية ونتيجة منطقية لما كان يعاني منه الشعب العراقي طوال عدة عقود. وهي تجسيد لتفاعل وتشابك عوامل موضوعية وذاتية نضجت وتبلورت خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وأحداث فلسطين, ثم تفاقم التناقض والصراع في ما بين الشعب العراقي والمصالح البريطانية في العراق وموقف الحكم من مصالح الشعب ومصالح الاحتكارات النفطية وفئات الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقاريين. ولم تكن الوحدات العسكرية بقيادة حركة الضباط الأحرار واللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني سوى الأداة التاريخية لقطف ثمار ما كان قد نضج فعلاً وما كان الشعب يسعى إليه. وقد تجلى ذلك في أعقاب وقوع الانتفاضة حين برز بوضوح عجز النظام عن الدفاع عن نفسه من جهة, واستعداد القوى السياسية المعارضة والشعب بكل فئاته الاجتماعية لا في قبول عملية التغيير التي أطلق شرارتها تنظيم الضباط الأحرار حسب, بل والمشاركة الفاعلة فيها وضمان انتصارها وحمايتها. من عاش هذه الفترة أو من قرأ تاريخ هذه الفترة والفترة التي سبقتها بإمعان, سيدرك الشروط الموضوعية والذاتية التي كانت قد نضجت فعلاً وقادت إلى انطلاق الانتفاضة العسكرية, ومن ثم السعي لتحويلها إلى ثورة اجتماعية. فقد سبقت ذلك أحداثاً كثيرة, ومنها:
* الحركات القومية السياسية والعشائرية في فترة 1932-1935 مثلاً؛
* انقلاب بكر صدقي العسكري في العام 1936 وانقلاب مايس/ايار 1941.
* النضالات السلمية للفترة الواقعة بين 1942-1947 التي استهدفت تكريس الحياة الدستورية والبرلمانية النزيهة, ولكن دون جدوى, حيث مارست قوى الحكم سياسات قهرية ضد قوى المعارضة ومطالب الشعب.
* وثبة كانون الثاني 1948 بالارتباط مع الرغبة في إلغاء معاهدة 1930 والسعي لفرض معاهدة بورتسموث المماثلة على العراق والسياسات غير الديمقراطية للحكم.
* الصدمة التي تلقاها الجيش والشعب في أحداث فلسطين في العام 1948 والشعور بوجود تأمر حكومي على مستوى الدول العربية ضد الشعب الفلسطيني ومجاراة السياسة البريطانية في المنطقة.
* عمليات الإعدام التي لم يشهدها العراق الحديث إلا عند تنفيذها في قادة حركة مايس 1941 العسكريين الأربعة, والضباط الكُرد الأربعة بعد أحداث 1946 رغم الوعود التي قطعت لهم بعدم تقديمهم للمحاكمة, وكذلك إعدام خمسة من قادة الحزب الشيوعي العراقي في العام 1949.
* قانون إسقاط الجنسية عن اليهود وترحيل قسري عملياً لأكثر من 130 ألف يهودية ويهودي عراقي من البلاد ودفعهم إلى إسرائيل وفق مؤامرة اشتركت فيها ثلاثة أطراف هي بريطانيا وإسرائيل والحكومة العراقية.
* انتفاضة تشرين الثاني 1952.
* مجازر نظمتها الحكومة ضد سجناء سياسيين في سجني بغداد والكوت وراح ضحيتها الكثير من السجناء العزل, وكلهم أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي أو من مناصريه.
* المراسيم الجائرة التي صدرت في العام 1955 في فترة حكومة نوري السعيد, ومنها إسقاط الجنسية العراقية عن عدد من المناضلين العراقيين, ثم العدوان الثلاثي على مصر وموقف الحكومة العراقية السلبي من الدفاع عن مصر ومن انتفاضة 1956 الشعبية وقتل وإعدام العديد من المناضلين.
* إقامة الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن دون العودة إلى الشعبين لاستشارتهما وإجراء الاستفتاء الشعبي حول الاتحاد.
* ابتعاد الحكم عن التفكير بأوضاع الناس الاقتصادية والمعيشية واستمرار حالة الفقر والبطالة وضعف التوجه صوب التنمية وتشغيل العاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة الناس الفقراء وتفاقم استغلال كبار الملاكين للفلاحين الفقراء في ريف العراق. 
-3-
لقد جوبهت جميع تلك النضالات الشعبية بسياسات استبدادية جائرة والتصدي للمشاركين فيها بقسوة بالغة وزج الناس بالسجون والمعتقلات أو القتل العمد وأحكام قاسية, سواء أكان بالسجن والنفي أم بالتعذيب والإعدام بدلاً عن الالتزام بإرادة الشعب وتحقيق التغييرات المنشودة والتخلص من الحكومات الفاسدة, مما قاد إلى تشديد الصراع بين النخبة الحاكمة والمجتمع بأغلبه. لقد أخل نظام الحكم بالقانون الأساسي (الدستور) العراقي في بنوده الديمقراطية من جوانب عدة نشير إلى أبرزها:
1. عدم الفصل بين السلطات الثلاث عملياً رغم وجودها شكلياً, وعدم استقلال القضاء وفق ما أقره القانون الأساسي (الدستور).
2. التجاوز الفظ على القانون الأساسي من خلال تشويه مؤسسات الدولة الدستورية وتزييف الانتخابات النيابية وتخريب الحياة السياسية في البلاد وباعتراف الحاكمين أنفسهم, ومنهم نوري السعيد.     
3. التجاوز على مضمون الدستور بإصدار تشريعات (قوانين ومراسيم) ذات مضمون قمعي استبدادي ورجعي في آن واحد.
4. عدم الالتزام بقرارات الحكومة وتعهداتها أمام عصبة الأمم بشأن حقوق الشعب الكردي والقوميات الأخرى والتي تبلورت في تهميش حقيقي للشعب الكردي وقواه السياسية, إضافة إلى الابتعاد عن احترام إرادة  الناس.
5. الاستبداد والعنف والقسوة في التعامل مع مطالب الشعب والحياة السياسية الديمقراطية من خلال إصدار أحكام ظالمة بالسجن والنفي والقتل والإعدام للمواطنين والمواطنات دون توفير فرصة الدفاع المشروع والنزيه عن النفس.
6. ضعف استخدام موارد العراق النفطية والمالية والموارد الخاصة في عملية التنمية, سواء أكان من جانب الدولة أم القطاع الخاص, والذي أدى إلى نمو البطالة والبطالة المقنعة في دوائر الدولة ووجود فئات واسعة من الفقراء والمعوزين بجوار تنامي ثروة الأغنياء.
7. مساهمة البلاط بشخص الوصي على العرش عبد الإله بن علي بن حسين في رسم وإقرار وممارسة تلك السياسات المناهضة لمصالح الشعب العراقي والتي حصدت كراهية الشعب ورفضه لها وللبلاط, رغم افتراض أن الملك مصون غير مسؤول وفقاً للقانون الأساسي.
8. البدء بدخول العراق في نهج ومخطط السياسات العسكرية للدول الرأسمالية في فترة الحرب الباردة حينذاك والتي تبلورت في مشروع الشرق الأوسط وحلف بغداد, الذي أصبح العراق عضواً أساسياً فيه إلى جانب تركيا وإيران وباكستان وبريطانيا والولايات المتحدة كمراقب ومن ثم مشارك فعلي.
-4-
قاد هذا الواقع إلى نشوء فجوة عميقة وواسعة يصعب ردمها بين الشعب وقوى المعارضة السياسية من جهة, ونظام الحكم والقوى الحاكمة وكبار ملاكي الأراضي الزراعية والعقاريين والبلاط الملكي من جهة أخرى, وإلى حصول تحرك جديد في صفوف الجيش, إضافة إلى التحرك الجديد في صفوف الشعب والمعارضة. فنشأت حاجة موضوعية لعملية التغيير ولم يعد هناك من يستطيع إيقاف سير العملية الموضوعية إرادياً, وإلا لما نجحت الانتفاضة ولما وجدت التأييد العارم من أوساط الشعب الواسعة.
-5-
لا شك في أن الوضع في منطقة الشرق الأوسط وعلى صعيد الدول النامية كان في حراك دائم, غذ تصاعد المد الثوري على صعيد حركة التحرر الوطني وأحرزت أفريقيا واسيا الكثير من النجاحات في نضالها لإقامة دولها الوطنية المستقلة أو تعزيز استقلالها وسيادتها الوطنية, إضافة إلى دور بلدان المعسكر الاشتراكي في دعم حركات التحرر الوطني على الصعيدين الشعبي وفي الأمم المتحدة وأخبار النجاحات والعدالة في توزيع الثروة الوطنية التي كانت تصل إلى مسامع شعوب الدول النامية عن أوضاع الدول الاشتراكية في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتطلع شعوبها للحرية والعدالة الاجتماعية. لقد كان العالم في حراك والرأسمالية تكشف عن المزيد من مصاعب الحياة فيها, وخاصة أزماتها الاقتصادية, في حين لم يكن العالم يسمع عن أزمات ومصاعب اقتصادية في الدول الاشتراكية رغم وجودها والتي تسببت فيما بعد, بسبب عدم الاعتراف بها ومعالجتها وأسباب أخرى إلى انهيارها.
-6-
كل هذه العوامل الداخلية والإقليمية والدولية وغيرها لعبت دورها في جعل قيام الثورة أمراً مطلوباً وليست حالة طارئة أو قسرية, مما أدى إلى نجاحها في إسقاط الملكية وقيام الجمهورية العراقية.
لا شك في أن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم لعب دوراً أساسياً ورئيسياً في إنجاح الانتفاضة العسكرية من خلال عدد من الإجراءات المهمة, ومنها:
* تشكيل تنظيم الضباط الأحرار وتوحيد المجاميع التي وجدت حينذاك أو التعاون والتنسيق مع بعضها الآخر.
* تشخيص مجموعة من المهمات الوطنية والاجتماعية والديمقراطية والخارجية التي كان الشعب يدعو لها ويؤيدها والتي ساهمت بتوفير أرضية مناسبة للاتفاق مع برنامج اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت في العام من أربعة أحزاب سياسية (الحزب الوطني الديمقراطي, حزب الاستقلال, الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي ومشاركة غير مباشرة لحزب خامس هو الحزب الديمقراطي الكردستاني في العام 1957.
* الاتصال بالقوى والأحزاب السياسية المدنية للتعاون والتنسيق معها في تنفيذ الانتفاضة العسكرية, إذ أن صلة هذه الأحزاب كانت قوية وهي الضمانة لتعبئة فئات المجتمع إلى جانب الانتفاضة والتي تمثلت بقوى الجبهة.
* الاحتفاظ بسرية عالية في التحضير للانتفاضة واختيار اللحظة المناسبة لتنفيذ العملية وإنجاحها. وكان نجاح الانتفاضة وتحولها إلى مسيرة ثورية وثورة شعبية قد ارتبط بما اتخذته القيادة العسكرية والحكومة من سياسات وإجراءات في الأسابيع والأشهر الأولى. ولكنها لم تكن كافية لمواصلة المسيرة.
لقد كانت هذه المواقف والإجراءات ضمانة لنجاح الانتفاضة وسر انتصارها.
-7-
لقد أخل عبد الكريم قاسم بعدد من المسائل التي ألحقت الضرر الكبير بالثورة ومسيرتها واتجاهات تطورها, ومنها بشكل خاص:
1. انفراده مع عبد السلام محمد عارف في اختيار ساعة الصفر وإبلاغ وحداتهما بموعد العملية دون إبلاغ بقية قيادة حركة الضباط الأحرار بالموعد للمساهمة بها. خلق هذا الموقف مشكلات وحساسيات كثيرة رافقت مسيرة الثورة ولعبت دورها السلبي لاحقاً في صفوف الضباط الأحرار وفي زعزعة الثقة والتضامن بين حركة الضباط وبدء المنافسة في ما بينهم والتآمر على بعضهم. ويفترض أن نشير هنا إلى التمايز الذي حصل في أعقاب نجاح الانتفاضة العسكرية في توزيع المناصب الوزارية والمواقع الأساسية في الدولة والقوات المسلحة بين جماعة معينة من الضباط وإبعاد جماعة أخرى من أعضاء حركة الضباط الأحرار عن مواقع المسؤولية السياسية المهمة. وكان الأفضل والأصوب هو انسحاب كل العسكريين إلى ثكناتهم.
2. تراجع قاسم عن الوعد الذي قطعه على نفسه ومع اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني في تسليم السلطة بعد فترة انتقالية وجيزة إلى المدنيين وعودة القوات المسلحة إلى معسكراتها استفادة من تجربة 1936.
3. عدم تنفيذ الالتزام بوضع وإقرار دستور البلاد الجديد والبدء بإقامة المؤسسات الدستورية والحياة الحزبية الشرعية.
4. الاعتماد على قرارات وسياسات فردية دون أن يسمح لمؤسسات الدولة القائمة والحكومة وأجهزتها في أن تلعب دورها الطبيعي في دراستها وإقرارها أو رفضها, مما ساعد على نشوء الفوضى والعفوية والصراعات وما نشأ عنها من نزاعات دموية.     
5. تخلى قاسم فعلياً عن مهمة إجراء تغيير مدروس ومنظم وديمقراطي في أجهزة الدولة لتتماشى هذه الأجهزة مع التغيرات التي حصلت في المهمات والأهداف واتجاه تطور البلاد, وبالتالي أبقى على نقطة الاحتكاك بين مصالح المجتمع ومصالح أجهزة الدولة التي برزت عملياً في رفض أو عرقلة وتعطيل تنفيذ قرارات رئيس الحكومة والقوانين الصادرة عن مجلس الوزراء ومجلس السيادة.
-8-
عبَّر نجاح حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على السلطة في بغداد في الرابع عشر من تموز من عام 1958 عن دور وأهمية التكامل والتفاعل الإيجابي المثمر بين نضوج الظروف الموضوعية لعملية التغيير السياسي والاجتماعي, وبين الاستعداد الواعي للقوى المنتفضة وتنسيقها وتناغمها النسبي مع حركة الجماهير الشعبية الواسعة المعارضة للسلطة الملكية - الإقطاعية وللهيمنة الأجنبية غير المباشرة حينذاك. كما عبَّر في الوقت نفسه عن أهمية التحالفات السياسية- الاجتماعية التي كانت قد نشأت قبل ذاك في إطار جبهة الاتحاد الوطني في توفير المستلزمات الضرورية لنجاح مثل تلك الانتفاضة, وخاصة دورها في نشر الوعي السياسي وفضح سياسات نظام الحكم وتأمين التفاف أوساط واسعة من الشعب حول الحركة وقيادتها السياسية, رغم التباينات التي كانت قائمة في ما بين تلك الأحزاب والقوى على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية, أو التباين بينها وبين القيادة العسكرية للحركة. ومنذ الوهلة الأولى لانتصار الحركة المسلحة سعت الجماهير الشعبية الواسعة إلى التدخل الفعلي لحسم الموقف لصالح الانتفاضة وإلى فرض وجودها وثقلها السياسي على القيادة السياسية الجديدة وإلى محاولة تحويل تلك الانتفاضة العسكرية المسلحة إلى ثورة شعبية تتبنى مضامين سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة تستجيب لطبيعة المرحلة ومضمون المهمات الداخلية والعربية والدولية التي ناضل من أجلها الشعب, وكان من الممكن تحقيقها, إذ إنها كانت تعبر بشكل عام عن المصالح الأساسية والحيوية للقوى الاجتماعية والسياسية المساهمة في العملية الثورية.
-9-
وقد لعب التباين في طبيعة القوى العسكرية المشاركة في الانتفاضة وفي إسنادها بعد وقوعها إلى حصول حالات قتل وسحل ثلاثة من قادة الحكم الملكي (الوصي على العرش ونوري السعيد وولده صباح) مع قتل الملك وآخرين. وقد أساء هذا العمل الوحشي إلى مجمل العملية السلمية التي تميزت بها الانتفاضة العسكرية. وكان لهذا الفعل أثره السلبي على الموقف من الثورة محلياً وعربياً ودولياً. وقد جاء هذا الفعل كرد فعل انتقامي غير مشروع لضحايا النظام والتعبير الصارخ عن حقد وكراهية متراكمة ضد النخبة الحاكمة والبلاط الملكي. وتستوجب الشفافية والصراحة أن نشير إلى ثلاث ملاحظات مهمة, وهي:
* أن هذا العمل غير سياسي وغير أخلاقي وانتقامي وغير مبرر بأي حال ومهما كانت الأسباب.
* إن هذا العمل لم يكن مقرراً من جانب قائد حركة الضباط الأحرار, بل جاء بمبادرة من بعض الضباط وخاصة عبد السلام محمد عارف, كما أنه لم يكن مقرراً من جانب اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني.
* ولكن لا بد من الإشارة بصراحة ووضوح إلى أن تاريخ العراق الطويل مليءٌ بالكثير من هذه الأفعال الشائنة التي كان الحكام يشجعون عليها, وهي لا تعبر عن مستوى حضاري إنساني, بل عن فعل انتقامي مرفوض ومدان.
-10-
وبعد أن بدأت الحركة الشعبية تفرض جملة من شعاراتها على السلطة السياسية وتتجلى في مجموعة من القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستويات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية, بدأت الخلافات في الرؤية والأهداف والمواقف تظهر على سطح الأحداث وتجد تعبيرها الصارخ والمضر لا في الشارع السياسي حسب, بل وعلى صعيد السلطة السياسية وفي القوات المسلحة حيث احتدمت الخلافات بين مختلف الأجنحة العسكرية والمدنية, وخاصة الحزبية منها. وعندها أبتعد العمل السياسي عن الحلول الديمقراطية والسلمية والتحري عن سبل للمساومة وعن أرضية أو قواسم مشتركة, وأتجه تفكير وعمل الجميع نحو الإقصاء والحسم باستخدام أساليب القمع أو التآمر والتحضير لانقلابات عسكرية لمعالجة المشكلات التي تفاقمت بين الأحزاب والقوى السياسية المحلية. وهنا لعبت القوى العربية والإقليمية والدولية, وخاصة الدول القومية العربية (مصر وسرويا) والمملكة الأردنية الهاشمية ودول الخليج العربية ودول الجوار غير العربية وشركات النفط الاحتكارية الدولية, دورا كبيرا وأساسيا لا في تأجيجها وقطع الطريق عن معالجتها سلميا وديمقراطيا حسب, بل وفي مدّ بعض القوى المتصارعة بالمزيد من الدعم والتأييد المادي والسياسي والإعلامي وبالأسلحة لتشديد نهجها الانقسامي داخل صفوف الشعب والقوات المسلحة.
-11-
لقد كانت أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية حينذاك تتطلب من قيادة الدولة الجديدة معالجة سبع قضايا أو مهمات أساسية, وهي:
أ. التحول صوب المجتمع المدني وتسليم السلطة للمدنيين من أجل وضع دستور ديمقراطي دائم للبلاد وعودة القوات المسلحة إلى ثكناتها بدلاً عن مواصلة الحكم.
ب. إطلاق الحريات الديمقراطية بما فيها حرية التنظيم الحزبي والمهني وحرية الصحافة والتعبير والتجمع والتظاهر والإضراب وفق قوانين جديدة, إضافة إلى إنهاء نشاط ووجود أجهزة الأمن أو التحقيقات الجنائية القديمة والكف عن الاعتقال الكيفي وتأمين تنظيم الحياة المدنية... الخ. وكانت هذه الوجهة تستوجب الالتزام بوضع واستفتاء الشعب على دستور ديمقراطي جديد يستند إلى أسس وقواعد المجتمع المدني الديمقراطي والعلماني والحياة البرلمانية الحرة وتسليم السلطة إلى المدنيين ممن يحوز منهم على تأييد أصوات غالبية الناخبين.
ج. معالجة القضية الكردية على أساس الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الكردي ومنحه حق إقامة الحكم الذاتي في إطار الجمهورية العراقية والاستجابة لمطالب القوميات الأخرى الثقافية والإدارية المشروعة.
د. حل المشكلة الزراعية باتجاه تصفية العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في الريف وتأمين مستلزمات التطور الرأسمالي في الزراعة.
هـ. توفير مستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للتخلص من التخلف والتبعية وضمان السيطرة التدريجية على موارد البلاد الأولية وخاصة النفط الخام وموارده المالية, في خدمة التنمية, ومنها التنمية الصناعية والزراعية, وزيادة التشغيل وتقليص عدد العاطلين عن العمل, وتحسين مستوى حياة ومعيشة الشعب, وضمان تطور معجل للقطاعين الخاص والعام والقطاع المختلط في المشاركة في هذه العملية.
و. إقامة علاقات تعاون وتنسيق وتضامن واسعة وشاملة مع الأقطار العربية ومع بقية بلدان منطقة الشرق الأوسط, وخاصة دول الجوار.
ز. إقامة علاقات تعاون متعدد الجوانب وممارسة سياسة الحياد الإيجابي في السياسة الدولية وفي العلاقة مع الدول الكبرى, إضافة إلى التخلص من سياسة الأحلاف العسكرية والوجود العسكري الأجنبي في البلاد وإلغاء المعاهدات المقيدة لحرية البلاد وسيادته.
-12-
       
بدأ الحكم الجمهوري السير على هذا الطريق عندما أصدر وتحت ضغط الشارع العراقي أو بمبادرة منه جملة من الإجراءات التي كانت تعتبر جزءا من تلك الأهداف والتي كان بدونها يصعب الحفاظ على الزخم الثوري للحركة وعلى تأييد الجماهير لها. ويمكن الإشارة في هذا الصدد, على سبيل المثال لا الحصر, إلى:
• الانسحاب الفوري من حلف بغداد (السنتو),
• الانسحاب من منطقة النفوذ الإسترليني.
• إلغاء معاهدة 1930 وفرض انسحاب القوات العسكرية البريطانية من قاعدتي الحبانية والشعيبة.
• إصدار قانون الإصلاح الزراعي الديمقراطي رقم 30 لسنة 1959.
• البدء بعملية تنمية وتصنيع جديدة وممارسة سياسة تجارة خارجية أكثر واقعية.
* إقامة علاقات جديدة وواسعة مع بعض بلدان المنظومة الاشتراكية, وبشكل خاص مع الاتحاد السوفييتي.
• الدخول في مفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية حول سبل استثمار النفط العراقي وحصة العراق فيه, وانتهت تلك المفاوضات, بسبب تعنت الشركات الأجنبية, إلى إصدار الحكم الجمهوري الجديد القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي صادر بموجبه أكثر من 99,5% من الأراضي التي كانت تحت تصرف شركات النفط الأجنبية والتي لم تكن مستثمرة حتى ذلك الحين عمليا, كما تم بموجبه تأسيس شركة النفط الوطنية.
• المبادرة إلى الدعوة لتشكيل منظمة البلدان المنتجة والمصدرة للنفط أوبيك OPEC لحماية مصالحها إزاء الدول والشركات البترولية الاحتكارية الدولية.
• إصدار قانون العمل والعمال الذي تميز بمضامين ديمقراطية جديدة وعبر بمجمله عن التقدم الذي كانت تتسم به الحركة النقابية العراقية التي كانت قد نشأت في وقت مبكر في العراق, رغم قرارات المنع والتحريم والمطاردة التي تعرضت لها تلك الحركة النقابية.
• إصدار قانون الأحوال الشخصية وضمان جملة من الحقوق المشروعة للمرأة العراقية.
* اتخاذ جملة من الإجراءات الشعبية لخدمة مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة والنازحة  أساساً من الريف إلى المدينة وتقطن في حواشي المدينة, كما في مدينة الثورة ومنحهم قطع أرض وبناء دور لهم مثلاً.
* إنصاف الكُرد الفيلية باعتبارهم مواطنين من أصل البلاد ويشكلون جزءاً من نسيجه الوطني والاجتماعي. وهو أول حاكم عراقي يعترف بهذه الصراحة ويقر للكُرد الفيلية بحقوقهم كعراقيين ومواطنين لهم حقوق وواجبات متساوية.
-13-
ولكن قيادة الدولة, بشخص رئيسها اللواء الركن عبد الكريم قاسم, قد تعثرت كلية في معالجة عدة مسائل مركزية, وهي:
** رفض العودة إلى الحياة المدنية وإقرار دستور ديمقراطي جديد للبلاد وحياة برلمانية حرة ونزيهة والإصرار على احتفاظ قاسم بالسلطة وعدم نقلها إلى المدنيين. وقد لعبت شعارات الجماهير الشعبية "عاش الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم" وتأليه شخصيته ونسج الحكايات الشعبية الخرافية الممتزجة بمشاعر الحب عن شخصه في تكريس الإحساس لدى قاسم بأنه الشخص الوحيد القادر على التعبير عن مصالح الشعب, مما عمق من الفردية لديه والتي قادت بدورها إلى:     
** اتخاذ موقف سلبي صارخ من الحياة الديمقراطية, وخاصة الحياة الحزبية والتعددية السياسية, وإرساء الحياة السياسية في البلاد على أسس دستورية وديمقراطية قويمة؛
** واتخاذ موقف سلبي من حقوق الشعب الكردي اتسم بنظرة ضيقة إزاء الحقوق المشروعة للقوميات, رغم الاعتراف بأن العرب والكُرد شركاء في الوطن, إضافة إلى دور القوميين والبعثيين في تعطيل إرادة التغيير في الموقف من حقوق الشعب الكردي والخشية من تعقيدات الوضع على الصعيد العربي بذريعة رغبة الكُرد في الانفصال. وقاد هذا الموقف إلى صدام بين حكومة عبد الكريم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والحركة الكردية بشكل عام, فاستخدم قاسم القوات المسلحة والطيران لضرب مواقع القيادة الكردية في بارزان ومواقع أخرى مما دفع بالملا مصطفى البارزاني إلى إعلان الثورة المسلحة على الحكم في أيلول/سبتمبر 1961, وهي ثورة لم تكن ناضجة ولا حكيمة قادت على تداعيات كبيرة, رغم صحة  وأهمية مطالب الشعب الكُردي.
** الفشل في معالجة جادة وعقلانية للعلاقات العربية ومع دول الجوار. ولم يكن سبب ذلك بالضرورة سياسة قاسم بقدر ما كانت سياسة الدول العربية, وخاصة تلك التي حملت راية القومية العربية والوحدة الفورية, وعلى رأسها مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر من جهة , وتلك التي تضررت من سقوط الملكية, وخاصة الأردن والسعودية ودول الخليج العربي من جهة أخرى.
** السياسة المغامرة وغير الحكيمة التي مارسها قاسم ومطالبته بضم دولة الكويت الشقيقة إلى العراق والتعبئة الإعلامية وممارسة التهديد ضد الكويت, في وقت كانت المشكلات في العراق تتفاقم, فسعى إلى  تحويل الأنظار صوب الصراع مع الكويت, وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير.
نجم عن كل ذلك تفاقم في الصراع الداخلي بين القوى السياسية في البلاد وفي داخل السلطة, وخاصة بين مجموعات الضباط الأحرار, وما نجم عن ذلك من مؤامرات وفوضى سياسية داخلية وجهود دولية وعربية كانت تسعى أساساً إلى تقويض الحكم الجمهوري والإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.
-14-
مع كل التقدير الكبير للدور الذي لعبه عبد الكريم قاسم, ومعه بقية الضباط الأحرار, في إعلان الانتفاضة العسكرية ضد الحكم الملكي ونجاحهم في انتزاع السلطة, ومع كل التقدير لشخصية قاسم الوطنية والنزيهة والصادق في تبنيه لقضايا الشعب والكادحين, فأن المشكلة التي عانى منها لم تختلف عن مشكلات بقية العسكريين الذين جاءوا إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية, إذ تغلبت عنده النزعة العسكرية الفردية والاعتداد بالرأي إلى حد الاستبداد ورفض الرأي الآخر. لقد عجز قاسم عن التفكير الجدي بالتخلي الفعلي عن السلطة وتسليمها إلى القوى المدنية المتمثلة بالأحزاب السياسية العراقية, كما برهن عن عجز فعلي في ممارسة الحياة الديمقراطية وفق أسس دستورية وعن إيجاد حلول عملية للصراعات التي بدأت تجتاح البلاد, كما لم يلعب دورا إيجابيا منذ البدء بوضع الدستور الدائم وإقامة دولة المؤسسات الدستورية والمجتمع المدني مما فسح في المجال للعمل السياسي والعسكري ضد السلطة الجديدة وإلى سيادة العفوية والفردية والفوضى في البلاد. لقد كان الوعي المدني الديمقراطي لدى الضباط الأحرار, بغض النظر عن شخوصهم, ضعيفا وبعيدا عن فهم حاجات المجتمع وضرورات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الديمقراطي. ولم يكن هذا الوعي القاصر محصورا بالضباط الأحرار فحسب, بل شمل أغلب القيادات السياسية للأحزاب الوطنية حينذاك, كما شمل الشارع العراقي أيضاً. وهي مسألة مرتبطة عضويا بالمستوى الحضاري وبمستوى تطور العلاقات الإنتاجية وبنية الاقتصاد والمجتمع ومستوى الوعي السياسي والاجتماعي, إضافة إلى واقع التركة الثقيلة لعهود الاستبداد والهيمنة العثمانية والبريطانية الطويلة على العراق.
-15-
من عاش أحداث تلك الفترة يستطيع أن يشَّخص بوضوح مظاهر صارخة لفعل التفاوت والتناقض بين طبيعة القيادة العسكرية التي تسلمت الحكم وأشركت معها في السلطة مجموعة من المدنيين من ممثلي بعض الأحزاب السياسية, وبين طبيعة ومنحى حركة الجماهير الشعبية الواسعة التي كانت الثورة قد فجرت قدراتها المكبوتة ولم يعد ممكنا فرض الحجر عليها في الحدود الضيقة التي كانت تريدها لها ذهنية جزء مهم من تلك القيادة العسكرية. أي إن الثورة قد واجهت ابتداءً تناقضاً بين الذهنية العسكرية, بغض النظر عن أشخاصها حيث تتفاوت تأثيرات هذه السمة على سلوكهم العملي, وبين حركة الجماهير ذات المضمون الاجتماعي التي عرفت لأول مرة في تاريخها السياسي الحرية بمعناها العملي وما اقترن بهذا الفهم من عفوية وفوضى وتمرد على القوانين لاحقاً, وبين العملية الديمقراطية التي تعطلت بفعل بقاء العسكر في السلطة وبدء الصراعات في ما بينهم, وكذلك الصراع في ما بين الأحزاب والقوى السياسية الراغبة في امتلاك السلطة. وقد تبلورت هذه التناقضات بشكل أكثر وضوحا في المهمات التي واجهت الثورة والتي طرحتها فئات الشعب المختلفة على السلطة السياسية الجديدة لتحقيقها وبين القيادة العسكرية-السياسية التي كانت لديها تصورات وإمكانيات أو حتى استعدادات محدودة في الاستجابة لمثل تلك الأهداف. وكان لغياب المؤسسات الدستورية أثره السلبي البالغ على اتخاذ الموقف المناسب لحل التناقضات والصراعات والنزاعات السياسية الناشئة عن وإزاء تلك القضايا.
-16-
ولا شك في أن الدول العربية ذات الوجهة القومية والنهج الشوفيني أو ذات النهج الرجعي, والدول المجاورة المناهضة للديمقراطية, ومنها إيران وتركيا من مواقع واتجاهات حلف السنتو السياسية والعسكرية, قد مارست كلها أدوراً سيئةً ومدمرة في العملية السياسية الجديدة في العراق من خلال التدخل الفظ والمباشر في شئون الدولة العراقية وفي التأثير المباشر على قوى الثورة والأحزاب السياسية الفاعلة فيها وعلى النخبة العسكرية الحاكمة باتجاهات مختلفة, مما أدى إلى تشديد تلك التناقضات والصراعات السياسية والاجتماعية وتحويلها إلى نزاعات وإلى تنشيط القوى المضادة لتلك الثورة والجمهورية الأولى, سواء أكان ذلك في الموقف من الحريات الديمقراطية أم من الإصلاح الاقتصادي, ومنه الإصلاح الزراعي, أم من قانون الأحوال الشخصية, أم من موقف التعاون مع الاتحاد السوفييتي وبلدان المنظومة الاشتراكية حينذاك, أم من مفاوضات النفط مع الشركات الأجنبية, أم من محاولة قاسم اليائسة اعتبار الكويت جزءاً من العراق! وقادت هذه المشكلات إلى بروز عملية ذات اتجاهين مختلفين ولكنهما كانا يصبان في مجرى واحد, وهما:
* تنامي ضعف الحكومة وارفضاض جزء مهم من السكان والقوى السياسية عنها وعن تأييدها, وبتعبير أدق, غياب الوحدة الوطنية الضرورية لحل المشكلات المستعصية بعد أن انتهى وجود جبهة الاتحاد الوطني من جانب,
* وتفاقم النشاط ألتآمري على حكومة الجمهورية الأولى من أغلب القوى السياسية التي اختلفت مع سياسات قاسم بقوة ودأب وإصرار مدعومة بتأييد وإسناد من جانب شركات البترول الدولية على نحو خاص ومن الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة أو الدول الإمبريالية بشكل عام من جانب آخر. 
-17-
ومما زاد في الطين بلة أن الحكم الجديد لم يمس أجهزة الدولة التي كانت قائمة منذ العهد الملكي, بما فيها القوات المسلحة, بالتغيير, سوى إبعاد الصف الأول من النخبة الحاكمة. وكان هذا يعني نشوء تناقض وصراع بين الحداثة والطابع المدني المنشود للجمهورية العراقية وما يفترض أن تنجزه من مهمات المرحلة, وبين الطابع شبه الإقطاعي والعشائري الضيق للعلاقات الاجتماعية والسياسية التي سادت البلاد وطبعت نشاط المؤسسات القائمة. كما لعبت المؤسسة الدينية وشيوخ الدين دوراً سلبيا كبيراً في محاولة منها لعزل عبد الكريم قاسم عن أوساط شعبية معينة والتحالف مع قوى مناهضة له بسبب إجراءاته التقدمية والقوانين التي أصدرها, وخاصة قانون الأحوال الشخصية وحقوق المرأة وخشيتها من فقدان مكانتها وتأثيرها على أوساط المجتمع. ولا بد من الإشارة إلى أن المؤسستين الدينيتين الشيعية والسنية قد تضافرت جهودهما ضد حكومة قاسم والنظام السياسي الجديد.
إن هذه التناقضات والصراعات أعاقت عملياً حركة الدولة "الجديدة" والمجتمع نحو الأمام باتجاه الاستجابة لحاجات المجتمع المدني وتنفيذ مضامين القوانين الديمقراطية التي أصدرتها قيادة الدولة حينذاك. لقد ساهم جهاز الدولة البيروقراطي المناهض في بنيته للتحولات الجديدة المنشودة في أعاقة تطور قدرات الدولة والمجتمع على تأمين مستلزمات بناء المجتمع المدني السلمية والديمقراطية ومعالجة مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية ونزاعاته السياسية. لقد كان على جهاز الدولة القديم أن ينفذ مهمات التحولات الرأسمالية الحديثة والتقدمية التي طرحتها طبيعة المرحلة الجديدة, ولكن لم يكن هذا الجهاز مهيئاً لذلك ولا مستعداً له وقاد إلى طريق مسدود.
-18-
لقد ارتكبت الأحزاب السياسية العراقية خطأً فادحاً حين وافقت على الاستمرار في العمل السياسي بوجود العسكر وعدم تحويل السلطة إلى المدنيين من جانب قاسم. إذ بعد فترة وجيزة انفرط عقد الجبهة وبدأ التناحر بين بعض أعضائها. ويبدو لي بأن الأستاذ كامل الجادرجي, الذي رفض المشاركة في السلطة منطلقاً من تجربته السابقة في انقلاب بكر صدقي وتحول قيادة الانقلاب ورئيس الحكومة إلى مواقع الفردية والاستبداد في حينها ثم موافقته على التعاون مع حركة الضباط الأحرار كجزء من جبهة الاتحاد الوطني والموافقة على إسقاط النظام الملكي عبر انتفاضة الجيش, هي التي منعته من المشاركة المباشرة بالحكم, إذ كان صادقاً مع نفسه وصائباً في تشخيصه لاحتمالات المسيرة إن أصر قاسم على البقاء على رأس الحكومة وعدم إبعاد الجيش عن الحكم وإعادته إلى  ثكناته العسكرية وممارسة مهمة الدفاع عن حدود الوطن.
كان الجادرجي غير مرتاح أصلاً من مشاركة حزبه في الحكومة الجديدة التي تشكلت في أعقاب سقوط الحكم الملكي في العراق, ولكنه وافق لرغبة قادة حزبه في ذلك. إن بعد النظر الذي تميز به الجادرجي وخشيته على المنجز الذي تحقق, يراد اليوم جعله من قبل البعض نقيصة وأنانية لدى الجادرجي لأنه فقد الأضواء التي حاز عليها قاسم. إن هذا التحليل التبسيطي ليس سوى محاولة غير موفقة لشخصنة الأمور الأساسية التي لا تخدم المسيرة الراهنة ولا تسمح بنمو وعي ديمقراطي حر وجرئ ورافض للمساومات غير العقلانية في تقرير مصير البلاد. ولا بد من الإشارة إلى أن مثل هذه الحصافة السياسية لم تتوفر لدي القيادات السياسية للأحزاب الأخرى, بما فيها قيادة الحزب الشيوعي العراقي التي لم تكن موحدة في الموقف من سياسات قاسم ودوره. وقد كان سلام عادل على وفاق مع كامل الجادرجي بشأن خشيته من استمرار وجود الحكم بيد العسكريين. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى وعي عميق بالواقع وبضرورات الديمقراطية في البلاد من جهة, ورفض المشروعات الطائفية السياسية التي تمزق النسيج الوطني وتشدد الصراعات والنزاعات في البلاد من جهة أخرى. كما أجد مناسباً أن أشير هنا بوضوح وبلا تردد إلى أن قاسماً لم يكن يملك الأذن الصاغية للاستماع إلى منتقديه والاستفادة منهم لصالح مسيرة الثورة, وفي مقدمتهم الأستاذ الراحل كامل الجادرجي, بل كان يستمع إلى مادحيه الذين ساهموا بوعي أو بدون وعي في التفريط بالثورة. لقد قدم الجادرجي ملاحظات صريحة وجريئة وصادقة إلى عبد الكريم قاسم لإنقاذ البلاد من الفردية والضياع والتحول بالبلاد صوب الدولة المؤسسية الدستورية والديمقراطية البرلمانية. ولكن قاسم اعتبرها مناهضة له, رغم احترامه للجادرجي.   
-19-
أشرت إلى أن ثورة تموز والفترة اللاحقة عجزت عن تحقيق المهمات التي كانت تواجه المرحلة, رغم صدور قوانين وقرارات بشأنها ورغم البدء بتنفيذ العديد منها, ولكنها تعثرت وتعرقلت ثم تراجعت فارتدت إلى فترة ما قبل ثورة العشرين في بعض جوانبها, وخاصة الاجتماعية منها وغياب التنوير الديني والبؤس الثقافي ووجود قوات أجنبية محتلة, فعادت المؤسسة العشائرية والمؤسسة الدينية لتلعبا دورهما السابق المعرقل لنمو المجتمع المدني.
لقد وئدت ثورة تموز, اغتيلت,واغتيل الكثير من قادتها, فهي الثورة المغدورة, كما عبر عن ذلك الكثير من الكتاب والمحللين السياسيين.
واليوم يواجه المجتمع مهمات كبيرة تقف في الواجهة منها مسألة بناء الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية والمجتمع المدني الديمقراطي, دولة ومجتمع يستندان إلى دستور مدني ديمقراطي غير طائفي وغير قومي شوفيني أو يعاني من ضيق الأفق وإلى حياة برلمانية مستقلة ونزيهة, وإلى حل واقعي للمسألة الزراعية والتخلص من بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والعلاقات العشائرية ومن التأثير المباشر أو غير المباشر للمؤسسة الدينية على الدولة العراقية من أجل إبقاء اقتصاد النفط الخام بيد الدولة وفي إطار قطاعها الاقتصادي, وكذلك البدء بعملية تصنيع تحويلية وزراعة حديثة ومتنوعة وربط التجارة الخارجية بمهمات التنمية الوطنية وتأمين المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم على أساس القومية أو الدين أو المذهب أو الرأي الفكري والسياسي ورفض العنصرية والشوفينية والطائفية السياسية والتمييز على أساس الدين أو التمييز بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات والتخلي الفعلي عن المشاريع الطائفية السياسية في إقامة فيدرالية الجنوب وتعزيز العراق الاتحادي ومكافحة الفساد المالي والإداري السائدين حالياً.
-20-
وهذه المهمات المتعددة لا تعني سوى أننا ما زلنا بعيدين عن المرحلة التي بدأت بها ثورة تموز في بعض الجوانب المهمة منها, وفي بعضها قد تجاوزت تلك الفترة كما في المسألة الكردية. ولكن بشكل عام لا تزال تلك المهمات ي تواجه الشعب وتنتظر الحل, ومنها إنهاء الوجود الأجنبي وإنهاء الإرهاب والفساد المالي والوظيفي والطائفية والبطالة بمختلف أنواعها في البلاد. ومثل هذه المهمات لا يمكن أن يتحملها حزب واحد أو مجموعة واحدة بل تتطلب تضافر جهود كل العراقيات والعراقيين المدركين لمسؤولياتهم إزاء الشعب ومستقبل البلاد والذين تعلموا من دروس انتكاسة ثورة تموز والعقود الخمسة المنصرمة. إنها مهمة الجميع, والطريق إليها سوف لن يكون سهلا ولا قصيرا بأي حال, ولكن لا يملك الشعب العراقي ولا قواه الديمقراطية سبيلاً غيره.
-21-
إننا إذ نحيي ثورة تموز في ذكراها 51 ونتحدث عن جوانبها الإيجابية والسلبية وعن غنى التجربة والدروس التي يمكن استخلاصها من تلك المسيرة الطويلة والصعبة والمعقدة, فأن ما نسعى إليه من وراء ذلك هو اجتناب ارتكاب تلك الأخطاء في المرحلة النضالية الراهنة التي ساهمت في حينها في تفتيت القوى الوطنية, ثم التحري عن سبل تجديد وتحديث فكر وممارسات وأساليب عمل وأدوات وخطاب القوى الديمقراطية العراقية السياسي والعمل من أجل اكتشاف الاختلالات والنواقص الراهنة في بنيتها السياسية والتنظيمية ونشاطها لمعالجتها والسير صوب تعاونها والتنسيق في ما بينها لصالح دور أكبر لها في الحياة السياسية العراقية الراهنة والتخلص من الدور الهامشي الذي تلعبه وتعاني منه حالياً.
في 14/07/2009        كاظم حبيب

1204
هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق

مرة أخرى وأخرى يتوجه الإرهابيون صوب كنائس المسيحيين في بغداد والموصل بهدف تدميرها ونشر الرعب بين المواطنات والمواطنين وإيصال رسالة مجرمة تقول لهم بأنهم مستهدفون في العراق وعليهم مغادرته.
ومرة أخرى وأخرى تعلن أوساط في الحكومة وأجهزة الأمن عن أسفها وشجبها للعمليات الإرهابية وعن سعيهم لتوفير الحماية للمسيحيين وكنائسهم في بغداد والموصل, وكأن الضربات القاسية التي لحقت بهم في الموصل قبل فترة وجيزة وأدت إلى قتل 14 مواطنة ومواطناً مسيحياً وهجرة عدة ألاف منهم إلى سهل الموصل والأقضية والقرى المجاورة وإلى إقليم كردستان, ومنهم من غادر البلاد أصلاً, لم تكن كافية لتأمين أقصى حالات الحماية لهم من قوى الإرهاب التي تستهدف أتباع القوميات والأديان الأخرى في العراق بهدف فرض الهجرة الخارجية عليها.
ثم تتكرر الحالة ويتكرر الاعتذار, ولكن الواقع يشير إلى استمرار تقلص عدد المواطنات والمواطنين المسيحيين في العراق, عدد الكلدان والآشوريين والسريان في البلاد, وهم من اصل أهل البلاد. وإذا ما جرى إحصاء جديد للسكان المسيحيين في العراق لوجدنا أن العدد قد تقلص إلى اقل من النصف إن لم يكن قد تراجع إلى الثلث, كما تشير بعض وسائل الإعلام المطلعة.
وهكذا هي حالة أتباع الديانة الصابئية المندائية الذين تقلص عددهم إلى نسبة ضئيلة جداً بالمقارنة مع فترة ما قبل سقوط النظام الدكتاتوري, وهم لا زالوا مشردين عن مناطق سكناهم أو في خارج البلاد.
ليس غريباً أن تبذل قوى الإرهاب الدموية بكل أصنافها المزيد من عمليات الإرهاب لإشاعة الفوضى والخوف في نفوس الناس والتشكيك بقدرة الحكومة وأجهزة الأمن على ملاحقتها وحماية المواطنات والمواطنين منها, إضافة إلى هدفها في منع انسحاب القوات الأجنبية من العراق وفق الجدول الزمني المحدد, ولكن الغريب أن تعجز الحكومة وأجهزة الأمن وقوات الشرطة عن منع وقوع مثل هذه العمليات الإجرامية ليس فقط ضد المسيحيين, بل وضد بقية أبناء وبنات الشعب العراقي, كما حصل خلال الأسابيع الأخيرة في بغداد وتلعفر وفي غيرها وآخرها تفجير الكنائس في بغداد والموصل.
إن الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق إذ تعلن عن إدانتها الشديدة واحتجاجها ضد هذه العمليات الإجرامية ضد بنات وأبناء شعبنا من الكلدان في بغداد والموصل, نطالب الحكومة العراقية وأجهزة الأمن أن تبذل كل الجهد وتعمل من أجل إيقاف هذه العمليات التي تستهدف بإصرار تهجير أتباع الديانة المسيحية من العراق. ونأمل أن يتعاون الشعب العراقي من أجل وضع اليد على  هؤلاء المجرمين واعتقالهم ومعاقبتهم واعتقال من يقف وراءهم.

كتب في 14/7/2009   الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق

1205
كاظم حبيب
هل السودان دولة شوهها الاستبداد والعنف والقسوة؟
وهل هي دولة تجسد استهتار البشير بحقوق الشعب والإنسان؟


كلنا نعرف طيبة الشعب السوداني ونزوعه الشديد لحياة السلم والتضامن والتعاون والاعتراف بالآخر والتسامح, وكلنا يعرف أن الشعب السوداني عموماً ومثقفيه خصوصاً كانوا ولا زالوا يناضلون من أجل التمتع بالحرية وسيادة الديمقراطية ورفض الاستبداد والعنف والقسوة, وكلنا يعرف نضال هذا الشعب من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية. ولهذا فوجئ الجميع حين ارتكبت عمليات القتل التي رافقت بعض الانقلابات وتنفيذ أحكام الإعدام. إلا أن هذه المفاجئة تبخرت تدريجاً, وخاصة حين نفذ البشير وأتباعه الانقلاب المتطرف لقوى الإسلام السياسي وسيطروا على  السلطة السياسية وبدأوا بتنفيذ مخطط مناهض للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق سكان الجنوب وتشديد الحرب ضد قوى الجنوب وضد شعب دار فور. وحين تفاقم الصراع داخل قوى الإسلام السياسي نفذ البشير انقلاباً ضد حسن الترابي وركل رفاقه القدامى وزج ببعضهم في السجون.
حاكم السودان لا يمتلك الشرعية الدستورية, فهو لم يصل إلى  السلطة عبر انتخابات حرة وديمقراطية بل عبر انقلاب عسكري دموي, وحاكم السودان عسكري مستبد لا يعرف معنى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وهو متهم بتنفيذ أبشع الجرائم ضد قوى الجنوب إلى أن فُرض عليه التوقيع على اتفاقية المشاركة في الحكم لقوى الجنوب باعتبارهم جزءاً من شعب السودان, ولكن بقومية أفريقية أخرى غير عربية ودين آخر غير الدين الإسلامي.
وحين انتهت المعارك ضد الجنوب توجه بقوة ضد شعب دار فور. فها هو لا يزال يواصل, رغم كل الدعوات الدولية, الإساءة لشعب دار فور وتعطيل الوصول إلى حلول عملية مع القوى المنتفضة على النظام الاستبدادي في دار فور.
لم يكن عبثياً تقديم هذا المستبد إلى المحكمة الدولية لمحاكمته بسبب اتهامه بارتكاب جرائم بشعة ضد شعب دار فور أو إصدار القرارات بارتكاب تلك الجرائم. وسوف يحاكم هذا الدكتاتور, طال الوقت أم قصر, ليلقي الجزاء الدولي العادل نتيجة اضطهاده للشعب السوداني ومصادرته للحريات الديمقراطية والحياة السياسية الحرة, ولن تنفعه دعوات الحكام المماثلين له بالكف عن ملاحقته.
وأخيراً هذه جريمة أخرى ترتكب من جانب الشرطة والقضاء في السودان, حيث اعتقلت دزينة كاملة من الفتيات السودانيات بذريعة ارتداء بناطيل لصيقة بالجسم تخدش مشاعر الناس! إن هؤلاء الذين تخدش أحاسيسهم ملابس النساء معتلون ومصابون بعلل نفسية وعقد جنسية عميقة ولا ينطلقون من أرضية دينية إسلامية, بل هم يشاركون في تشويه الحياة العامة ويريدون فرض إرادتهم المشوهة على إرادة النساء خصوصاً والناس عموماً. لقد حكم على عشر نشاء بالجلد ونفذ الجلد فعلاً. والآن يراد محاكمة الصحفية لبنى أحمد الحسن والحكم عليها بالجلد 40 جلدة أيضاً وتنفيذها علناً.
إن هؤلاء الناس يخشون حرية المرأة ويخشون التحرك الشعبي المناهض للحكم الدكتاتوري وسعيه لفرض فكره البائس والمتحجر على الإنسان ومنعه من الحركة الحرة والحياة السوية.
إن ما يجري في السودان يعود إلى قرون خلت, فالسودان لا يعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين, بل يعيش في القرن الثاني عشر للميلاد من حيث العلاقة بين المجتمع والحكم, وبين الدين والدولة وسيادة سلطة الاستبداد التي تمارسها القوى المتخلفة ضد حرية أفراد المجتمع.   
 لنعمل بداً واحدة للكشف عن الاستبداد الذي يمارسه النظام السوداني وعن استهتار شرطة وقضاء ورئيس السودان بحياة وحرية وحقوق الإنسان في السودان.   
 

1206
كاظم حبيب
أوضاع العراق والدعاية الانتخابية


الشعب العراقي في واد وأغلب القوى السياسية العراقية في وادٍ آخر. فالشعب يواجه مصائب التهديد والقتل اليومي, رغم تقلص عدد العمليات الإجرامية التي تمارسها القوى الإرهابية المتنوعة وعدد القتلى, ومصاعب الحياة اليومية, ومنها نقص الخدمات في عز الصيف العراقي, وخاصة الكهرباء والماء, وأكوام القمامة التي تملأ شوارع المدن العراقية في الوسط والجنوب (راجع مقال الشاعرة المبدعة والكاتبة بلقيس حسن حول سفرتها الأخيرة إلى الناصرية وغيرها في موقع صوت العراق) والمناطق الشعبية في بغداد وليس منطقة الخضراء والقادسية بشطريها وليس شارع الأميرات في المنصور .., بل مدينة الثورة والشعلة والطالبية وبعض أجزاء الرصافة والكرخ, ومنها البتاويين وشارع فلسطين وبغداد الجديدة وغيرها. والشعب يعاني من البطالة والبطالة المقنعة بكل مشكلاتها السياسية والاجتماعية والإدارية وتخلف سير معاملات الناس. كما يواجه الشعب استمرار الفساد المالي والإداري والحزبي بكل قسوته وتخريبه للحياة اليومية, في حين تقف القوى السياسية في واد أخر, خاصة وأن جمهرة كبيرة من كوادر وأعضاء هذه الأحزاب تحتل مواقعها في أجهزة الدولة وهي التي تمارس الفساد المالي والإداري, إضافة إلى آخرين, إذ أن أغلب المراكز المهمة في الدولة موزعة على ممثلي تلك الأحزاب الحاكمة. والأحزاب السياسية منشغلة بحملة انتخابية مبكرة للوصول إلى مجلس النواب وإلى تحقيق الأكثرية في المجلس وتشكيل الحكومة القادمة دون أن تقدم لهذا الشعب ما يفترض تقديمه, وكأن ما مارسته في الآونة الأخيرة في مجلس النواب ضد وزير الداخلية أو اعتقال البعض القليل هو الشكل السليم لمكافحة الفساد المالي وليس تغيير النظم والقوانين والحياة الثقافة في المجتمع وإبعاد الكثير جداً من أهل العمائم ومن يماثلهم من الذين يربطون الحكم بالدين ويمارسون الفساد وهم في الحكم وحوله ثم يغطى كل ذلك باسم الدين, والدين منهم براء. ليس هؤلاء وحدهم من يسلب الشعب قوته, بل هناك من العلمانيين من يمارس ذلك أيضاً. 
نحن أمام محاولات مستمرة لتحقيق تحالفات جديدة دون أن تبذل غالبية الأحزاب السياسية الجهد الضروري لوضع برامج جديدة وأهداف جديدة واقعية ودون أن تسعى لإشراك قوى الشعب بما يفترض أن يكون جديداً ومحركاً للواقع الراهن في العراق. إن الواقع الاجتماعي والسياسي يستوجب تشكيل تحالفات جديدة على صعيد العراق كله, ويستوجب التخلص من القوائم الطائفية أو القومية الشوفينية أو القومية الضيقة, بل يستوجب الانفتاح على  العراق كله على القوى الديمقراطية والعلمانية واللبرالية, ومنها قوى إسلامية ديمقراطية ليبرالية ترفض الربط بين الدين والدولة, كما يستوجب الابتعاد عن تلك التحالفات التي ألحقت أضراراً فادحة بالعراق وخاصة تلك التحالفات التي تسببت في التوزيع الطائفي للحكم ومقاعد مجلس النواب والقضاء العراقي أيضاً وكل وزارات العراق, وهي التي تحولت إلى حصون محكمة ومغلقة لهذا التحالف الإسلامي السياسي أو الحزب الديني أو القومي أو ذاك. وهي المسئولة عن الخسائر الهائلة في الأرواح والدماء التي هدرت في العراق والدموع التي سكبت فيه.
الشعب يعاني ويواجه المشكلات وأغلب القوى السياسية لا تريد أن ترى ذلك بعينين مفتوحتين وسليمتين. حين تتحدث منظمات حقوق الإنسان الدولية, ومنها منظمة العفو الدولية التي كنا نحتمي بها ونطالبها بدعم ضحايا الإرهاب الصدامي, عن التجاوزات الفظة على حقوق الإنسان الجارية حالياً في العراق, ينبري السيد رئيس الوزراء ويرد على منظمات حقوق الإنسان التي تطالب بحماية حقوق الإنسان المهدورة أن لا تبالغ بذلك وأن لا تسيَّس حقوق الإنسان ظلماً وبهتاناً, في حين هو يعرف قبل غيره أن حقوق الإنسان مغدورة ومهدورة في العراق, ومنها حقوق المرأة. وأقرب حالة هي ما اكتشف في المؤسسات السجنية التابعة لوزارة الداخلية. وحين يتحدث الناس عن المشكلات الكبيرة والفعلية القائمة في العراق, ينبري السيد رئيس الوزراء أيضاً وكأنه لا يعرف بما يجري في العراق ويقول بأن العراقيين يسيَّسون كل شيء, وكأن الأشياء غير مسيَّسة في العراق والناس يريدون قسراً تسييسها. وحين تُحمل صورته من عسكريين في مسيرة عسكرية ويقال له "تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي" بكل صدق وحرص من جانب رسام الكاريكاتير المبدع والناقد الاجتماعي والسياسي المميز سلمان عبد لكي تذكره بأن الشعب لا يريد العودة لما ساد في ظل حكم صدام حسين وطغمته الفاسدة والجائرة, يخشى الإنسان مكن أن "يزعل" السيد رئيس الوزراء وأتباعه مثلاً, ويمكن أن تتوجه مفرزة أمن جديدة لاعتقاله في كربلاء كما حاولت قبل ذاك بسبب معرضه في كربلاء! 
السيد رئيس الوزراء يدعو إلى الابتعاد عن الطائفية. وهو أمر جميل, ولكن اشرح لي أيها الأخ الفاضل, كيف يمكن مكافحة الطائفية السياسية وأنت تترأس حزب سياسي يقوم على المذهب الشيعي الجعفري الاثنا عشري, فحزب الدعوة قد تأسس على هذا الأساس, وهو حزب مذهبي طائفي سياسي ليس في عضويته أي إنسان عراقي منتسب إلى  دين أو مذهب آخر ولا من قومية أخرى غير شيعية؟ كيف يمكنني أن أتصور بأنك غير مذهبي وغير طائفي ما دمت تقف على رأس هذا الحزب المذهبي.
السيد رئيس الوزراء يمارس عملية تنشيط العشائرية والأجواء العشائرية في العراق ليكسبها إلى جانبه في الانتخابات القادمة, فكيف يمكن أن يبني مجتمعاً مدنياً ديمقراطياً في العراق في ظل العشائرية  والدور المتزايد للمؤسسة الدينية؟ كيف يمكن ممارسة الديمقراطية  وممثل حزبه يدعو إلى  الأخذ بالديمقراطية  كأداة والابتعاد عنها كفلسفة, فماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الهدف هو استخدام الديمقراطية للوصول إلى الحكم وليس ممارسة الديمقراطية في الحكم وفي حياة المجتمع, كما عبر عن ذلك بوضوح كامل لا ريب فيه على الأديب, النائب الأول في حزب رئيس الوزراء وهو الرئيس الفعلي لهذا الحزب بسبب مشاغل رئيس الوزراء الحكومية.
يدعو السيد رئيس الوزراء إلى التحالف مع المجلس الإسلامي الأعلى, وهو الحزب المركزي الذي يتبنى الطائفية السياسية ويتبنى ولاية الفقيه ويدير منظمة بدر, كصنوه جيش المهدي, أي ولاية علي خامنئي على شيعة حزبه, كما يسعى لتكون ولاية الفقيه على كل شيعة العراق.
السيد رئيس الوزراء يتعاون بكثافة مع قوى حزب البعث في الموصل, إذ يريدها أن تكون ضد القوى الكردستانية, كما صرح بذلك محافظ الموصل الجديد, ولا يسعى إلى حل الخلافات مع القوى الكردستانية وفق المادة 140 من الدستور العراقي, بلي يعمد إلى  التعاون مع قوى قادت العراق إلى الحضيض الذي عشنا فيه ولا يزال المجتمع لم يخرج من عواقبه, وهي مجموعة بعثية وقومية شوفينية مقيتة لا يمكن الركون إليها والتعاون معها أو القبول بها في حكم محافظة من محافظات البلاد.
السيد رئيس الوزراء, كما أرى, بحاجة إلى رؤية أكثر صفاء ونقاء لفهم تعقيدات الوضع في العراق من أجل عدم تعقيد الوضع, إذ تقع على عاتقه حل تلك المشكلات. ومن أجل أن تكون له رؤية أكثر موضوعية عليه حل حزبه وتشكيل حزب عراقي جديد لا يستند إلى عناصر طائفية سياسية أو لا تؤمن بالديمقراطية بل تعتبرها أداة لا غير, يستند إلى قوى علمانية وليبرالية وديمقراطية, وهي كثيرة ومستقلة في العراق, ويطرح برنامجاً جديداً يفصل بين الدين والدولة في الحكم ويتعامل بواقعية مع الواقع العراقي القومي, ويعمل وفق آليات ديمقراطية مجربة ويمارس الحكم على أسس جديدة تحارب كل ما هو خارج عن وعلى القانون, وخاصة ممارسة الطائفية والتمييز القومي والتمييز ضد المرأة ...الخ.
السيد رئيس الوزراء ليس بحاجة إلى خطب كثيرة, بل إلى برنامج واضح وتعبئة للمثقفات والمثقفين العراقيين وفق أسس ديمقراطية وعلمانية, وليس في إبعاد هؤلاء الذين يحملون في رؤوسهم وعلى أكتافهم ثروة العراق الثقافية والعلمية والأدبية وتقاليده الطيبة وتراثه الحضاري الجيد وينزعون بثقافتهم ونشاطهم من رؤوس الكثير والكثير جداً من الحكام والناس ثقافة العنف والقسوة والاستبداد في الحكم والحياة اليومية.
سيبقى الشعب يعيش في وادٍ والحكم والقوى السياسية في وادٍ آخر ما لم تتغير الحياة السياسية والحزبية في العراق, ما لم تتجدد تلك الأحزاب, ما لم يوضع الإنسان ومصالحه في مركز البرامج السياسية وما لم تتخلص البعض من هذه الأحزاب من طائفيتها وشوفينيتها أو قوميتها الضيقة وعشائريتها كهوية وما لم تتطلع نحو الجديد والحديث والهوية الوطنية العراقية.
13/7/2009                         كاظم حبيب
                   

1207
كاظم حبيب

القاعدة والاستثناء في الواقع العراقي الراهن والجهد المطلوب لتغييرهما !

حين يحمل الإنسان الوطن في عقله وقلبه وعلى كتفيه, عندها يحس هذا الإنسان بكل حركة تحدث في هذا الوطن, سواء أكانت حركة جميلة حيث تبعث الدفء والانتعاش في العقل والقلب وتخفف من عبء السنين المحمولة مع الوطن على الكتفين, أم تعِّرض الوطن إلى ضربات وحشية موجعة وقاتلة, كما تحصل في هذه الأيام ومن جديد في أكثر من مكان في العراق, حيث يحس الإنسان بوخزات حادة وقاسية تمر عبر العقل والقلب لتحط بثقلها الشديد على الكتفين فترهق النفس وتتسبب بعلل يطلق عليها علم النفس الاجتماعي بـ "علل الجسد النفسية" psychosomatics , تخففها أحياناً الدموع التي تنساب على  الخدين في محاولة عفوية لغسل الألم الدفين الذي تزيده الغربة عمقاً وسعة وحرقة, وتقود أحياناً إلى جلطة دماغية أو قلبية أو إلى شلل مميت. وأخبار الوطن بالنسبة للغريب كثيراً ما تقود إلى تلك العواقب, إلا لمن نفض يديه من هذا الوطن الجريح وقرر نسيانه ونسيان الألم الذي يختزنه هذا الوطن بسبب البعض الكثير من أبنائه قبل الأجانب!
ها نحن نعيش عودة الوطن المستباح ليستباح من جديد من جانب قطعان الذئاب الجائعة للدم, هذا الدم الذي لم ينقطع نزيفه والدموع التي لم تتوقف طوال عقود, يتعرض إلى ضربات مجنونة جديدة من ذات القوى السوداء المرعبة التي لا هم لها سوى قتل الناس وإشاعة الفوضى ونشر الحزن والألم والبؤس والفاقة بين الناس.
أدرك وغيري يدرك أيضاً بأن وراء هذه الضربات الجديدة التي أسقطت خلال أسبوع واحد أكثر من 250 قتيل ومئات الجرحى والمعوقين (وأخرها بتلعفر وفي مدينة الثورة ببغداد) تكمن جملة من الأهداف القاتلة التي لا تريد الأمن والاستقرار والسلام والطمأنينة لبلد السلام أولاً, وأنها لا تنطلق من جهة واحدة بل هناك أكثر من طرف يمارسها, سواء أكان عبر تحالف تم في ما بينها أو باتفاق مسبق على مواصلة الضربات وتوزيع الأدوار والأفعال الشريرة بما يسهم في توسيع الضربات وتنويعها وإشاعة القلق وعدم الثقة في القدرة على تحقيق الأمن في البلاد. فمنهم من ينطلق من داخل العملية السياسية الجارية والمتباطئة حقاً, ومنهم من ينطلق من خارجها ولكن في داخل البلاد, ومنهم من يقف وراء الحدود ليتحرك على هواه ويحصل على ما يشاء من الدعم الخارجي, العربي والإسلامي! 
والقوى المشاركة في ممارسة الإرهاب تدرك تماماً ما تريده للعراق, ولهذا فهي تواصل أفعالها المنكرة ولن تتوقف برغبتها أو برغبة من يدعمها, سواء بتوجيه من داخل البلاد أم من وراء الحدود بالاتجاهات الأربعة, فهي في الواقع واحدة, رغم تنوع شخوصها وأسماء تنظيماتها وأساليب عملها والقوى التي تقف خلفها. ولكن السؤال هو: هل ندرك نحن بالعراق كيف السبيل لمواجهة هؤلاء الأشرار, أياً كان الفكر الذي يحملونه والتنظيم الذي يتسترون به والجهة التي تقدم لهم التأييد والدعم؟ وهل نعمل كل شيء مشروع حقاً من أجل مواجهة هؤلاء الأشرار؟ هل يساهم كل فرد منا في مواجهة كل ذلك؟
لا أريد هنا أن أتحدث عن العراق المشارك بفعالية في بناء حضارة الإنسان عبر التاريخ أو المنتج للكثير من المنجزات لصالح الإنسانية, فلم يعد هذا خافياً على أحد, ويعرفه الناس خارج العراق أكثر من كثرة من العراقيات والعراقيين الذين لم يتسن لهم دراسة تاريخ بلدهم أو التعرف عليه عن كثب أو السفر عبر محافظاته وإقليمه أو الإطلاع على مكتشفات التنقيبات الأثرية في العراق, كل العراق. لا أريد الحديث عن الفلاح الكادح والعامل المنتج والطبيب والمعلم والمهندس, أو عن المرأة الأم والأخت والبنت والزوجة أو العمة والخالة, فنحن جميعاً نعرف كل ذلك ونتحدث عنه باستمرار, فهم يمارسون حياتهم ويسعون للمشاركة في إنجاز أعمالهم.
ولكن ما ينبغي الحديث عنه والبحث فيه بكل صراحة وجدية والإلحاح لبلورته وإبرازه إلى الناس من أجل معالجته يتركز حول: ظواهر العنف والقسوة والاستبداد والتعالي والكبرياء المفتعلة التي نتميز بها ونمارسها يومياً بصيغ وأشكال شتى دون أن نحس بها أو ندرك أضرارها على الذات وعلى الآخر. ونرى ذلك أولاً وقبل كل شيء لدى الحكام, ولكن لدى السياسيين عموماً.
لقد كان السعي المتواصل للحكام الشوفينيين والمتزمتين دينياً هو تكريس ألـ "أنا" فينا, ضد ألـ "أخر", سواء أكان المقصود الآخر هو القومي أو الديني أو المذهبي أو الأيديولوجي أو السياسي, فأنا الأفضل والآخر هو الأسوأ , وأنا صاحب القومية أو الدين أو المذهب أو الأيديولوجية أو الرأي السياسي الأفضل أو في كل ذلك, والآخر الذي لا يمتلك غير الأسوأ من كل ذلك! وقد تربينا أيضاً على القوة والعنف لاسترداد ما نعتبره حقاً لنا, بغض النظر عن صواب أو خطأ هذا الاعتقاد. وهذا الحكم نجده في ألـ "أنا" الرجل مقابل ألـ "آخر" المرأة ! 
إن القرون الطويلة التي مر بها المجتمع العراقي بكل مكوناته وما تراكم في الميثولوجيا العراقية تؤكد واقع وجود ظواهر العنف والقسوة والاستبداد إلى جانب ظاهرة الخوف من الآخر والخشية من المستقبل. وهي ظواهر عامة تواجهنا يومياً في حياة وسلوك الفرد وهي التي تشكل القاعدة في حياتنا وتتجلى حتى في اللغة التي نستخدمها والتصريحات التي نطلقها والتي لا تحمل سوى لغة التهديد والوعيد والقطيعة والتعالي على الآخر, في حين أن ظواهر رفض الراديكالية بمعنى التطرف أو العنف والقسوة والابتعاد عن ممارسة الاستبداد, كالحوار الحضاري والاعتراف بالآخر والتسامح والتفاهم, تشكل استثناءً في الدولة والمجتمع في العراق, وخاصة بين الحكام والسياسيين.
وحين نتابع هذه الظواهر علينا أن نوجه أنظارنا إلى التربية العائلية, إلى موقف الأب من أبنائه, من زوجته وابنته أو ابنه, من علاقات الناس بجيرانهم, إلى الموقف من المرأة عموماً, من الآخر, موقف الحاكم من "رعيته", موقف شيخ الدين من المؤمنين الخاضعين لإرادته, إذ سنجد أنها تتميز بصيغ الاستبداد والعنف والقسوة في التعامل, وأنها هي السائدة , في حين أن الظواهر الأخرى هي النادرة جداً مهما ادعينا عكس ذلك, ولم تعد لدينا مصداقية بها وبالتالي انعدمت الثقة المطلوبة في المجتمع وبين الأحزاب على نحو خاص.
لا شك بأن ما أطرحه ليس نتيجة  جينات فينا, كما أن مثل هذه الظواهر لا ينفرد بها شعب العراق بكل مكوناته, بل نجدها لدى شعوب أخرى, وأن اختلفت في بعض جوانبها أو حدتها وأشكال ظهورها واستمراريتها. إنها ليست جينات خاصة بنا قطعاً, ولكنها تربية دينية وسياسية رسمية مكرسة منذ قرون, إنها تربية أبوية تسلطية يومية في البيت والمدرسة والشارع والعمل والمزرعة وفي دوائر الدولة والدولة ذاتها, في نظام الحكم والحكام, في الأحزاب والقوى السياسية وفي كل مكان في بلادنا. استمعوا إلى ترنيمة الأم لابنها في المهد:
دللول يا الولد يا أبني دللول                       عدوك عليل وساكن الچول
إنها خائفة على وليدها الجديد فتغذي فيه الخشية من وجود عدو يتربص به ولكنه بعيد وعليل في آن, وعليه أن لا يخشى منه, وهي تنسى أو لم تتعلم أن تدندن له بوجود أحبة له بدلاً من الأعداء.   
استمعوا إلى محفوظات المدرسة الابتدائية التي كنا نقرأها في العهد الملكي:
يا ليتني كنت حساماً ماضيا    أو عسكرياً مستعداً غازيـا
أذود عن قومي وعن بلاديا    وأحرز النصر على أعدائيا
إنه العدو الذي يهدد الجميع, إنه الآخر, وأنه مستعد لغزو البلد الآخر للذود عن الوطن !! ليس هناك من صديق, أنهم الأعداء المتربصون بنا أبداً! 
استمعوا إلى نشيد البعث المتسم بالروح والذهنية الفاشية, بغض النظر عمن قاله, وهي صورة مرضية سادية مرعبة لا تسكن الشاعر وحده, بل كل الذين كانوا يرددونها عن وعي أو بدون وعي لمضمونها السادي.
حزب تشيده الجماجم والدم    تتهدم الدنيا ولا يتهدم
أو ذلك الشاعر العربي الذي قال بنفس سادية مجنونة:
سأقتلك .. سأقتلك .. وقبل أن تقتلني .. سأقتلك
وقبل أن تغوص في دمي .. أغـوص في دمـك
أو قول الشاعر العربي القديم:
السيف أصدق أنباءً من الكتب    في حده الحد بين الجد واللعب
....الخ
لم يجد الدكتاتور صدام حسين أجمل من أن يظهر أمام الجمهور وهو يحمل بندقية مهداة له ليطلق منها رصاصة وبيد واحدة, أو يحمل سيفاً يتباهى به لرهافة حده في قطع رؤوس الناس متمثلاً قول مثيله المستبد بأمره الحجاج بن يوسف الثقفي:
أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها, وأني لصاحبها...".
نحن بحاجة, كما قال الصديق الفاضل الدكتور جلال الماشطة في مدونته القيمة ضد العنف, إلى ثقافة أللاعنف, إلى ثقافة الحوار ومناهضة العنف والقسوة وروح الاستبداد, وهي غير متوفرة في مجتمعنا بشكل عام. نظرة واحدة إلى مجموعة كبيرة من السياسيين العراقيين من مختلف الأحزاب والقوى السياسية سنجد مصداقية ما نقول. 
لقد عاش العراق 40 عاماً (1963-2003) تحت الهيمنة القومية اليمينية والبعثية المتوحشة التي شاركت في تربية أجيال عاشوا في ظل العنف والقسوة وحياة الاستبداد والحروب والقتل واعتاد الكثير منهم عليه. وكان صدام حسين يسعى لأن يكون النموذج الذي يحتذى به من جانب الشباب العراقي في كل أخلاقياته وسلوكه وحتى في مظهره. وقد ترك الكثير السيئ مما كان يسعى إليه وما تميز به قائماً في واقع الحياة العراقية, ومنها تلك الظواهر السلبية التي يعيشها الشعب كل يوم تقريباً. إن هذه التركة بحاجة إلى تنظيف جذري, ولا يُنظف ذلك بفكر طائفي مريض أو قومي شوفيني أو قومي ضيق أيضاً, بل بفكر سليم خال من الاستبداد والعنف والقسوة, خال من الشوفينية وضيق الأفق القومي, خال من العنصرية والطائفية والتمييز الديني, خال من إشاعة الكراهية والحقد ضد الآخر, خال من التعالي والكبرياء, وخال من التمييز ضد المرأة, وهو غير متاح على صعيد الدولة والمجتمع حتى الآن.
لهذا فنحن بحاجة إلى ثقافة إنسانية حضارية جديدة, ثقافة التآخي والتضامن والتعاون والاعتراف بالآخر والتسامح, وبحاجة ماسة إلى دور المثقفين الديمقراطيين والسياسيين والإعلاميين العقلانيين, وليس إلى شخصيات باهتة ومحرضة على الطائفية السياسية والتمييز من أمثال صدر الدين القبانچي وحارث الضاري ومحمود حسين الصغير ومن لف لفهم.     
السؤال العادل الذي يواجهنا هو: من يمارس الإرهاب في العراق؟
أطراف أربعة تدعو إلى العنف وتمارس الإرهاب في العراق بصور شتى وبأساليب مختلفة, سواء أكان بالكلمة أم بالمتفجرات والانتحاريين أم بلنهب والسلب والفساد, أكرر, ليس طرفاً واحداً, ليس أتباع القاعدة وحدهم, وليس أتباع القوى القومية المتطرفة والبعثية الفاشية بقايا الحثالة الصدامية وحدهم, وليس أتباع حارث الضاري المتلبس برداء الطائفية المقيتة والقومية الشوفينية اللعينة وحدهم, بل معهم تلك القوى الطائفية الشيعية والسنية المسلحة التي مارست التهجير القسري والتشريد والتعذيب والقتل أيضاً, وهي وأن أخفت سلاحها اليوم أو سلِّمت بعضه, فهي لا تزال تمتلك ما يكفي من أسلحة ومتفجرات لقتل المزيد من الناس أو لتعذيبهم في معتقلات العراق, كما حصل أخيراً وصرح به وزير الداخلية العراقي علناً بعد أن لم يعد ما يمكن التستر عليه والذي كما يبدو لم ينقطع حتى الآن في سجون ومعتقلات عراقية أخرى. وعلى السيد رئيس الوزراء أن يقتنع بأن قوى ومنظمات حقوق الإنسان لا تتحدث عن هوى حين تشير على الاعتقالات التي تجري أو التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون, فلديها ما يكفي من معلومات, وهي لا تسيَّس ولا راغبة في تسييس حقوق الإنسان, بل تطالب بما هو حق وعدل, كما كنا سابقاً نطالب به من حكام بغداد الأوباش. ويمكن للسلاح أن يصل إلى العراق في كل لحظة, فالحدود طويلة والرغبة جامحة في إيصاله لمن يريد التشويش على حياة العراقيات والعراقيين.
إن بعض قوى ودول الجوار لا تريد للعراق الخير والتقدم, بل تريد فرض سياساتها وهيمنة كل منها على الشأن العراقي, لا تريد أن ترى القوات المسلحة الأجنبية قد غادرت العراق, بل تريدها موجودة لتدعي الكفاح ضد القوات الأجنبية أو تدعي الاحتماء بها. ولا تريد أن يجد العراق حلولاً لمشكلاته الداخلية غير الإرهاب والبطالة ونقص الخدمات, بل المشكلات السياسية والحدود الإدارية للإقليم والمحافظات العراقية, بل تريد استمرار التناقض والصراع وبدء النزاع السياسي!
وبعض القوى السياسية الحاكمة في العراق هي الأخرى, وكما يبدو من سير الأحداث, لا تسعى إلى إيجاد حلول عملية للمشكلات القائمة, بل تريد المراوحة في مكانها لحين الحصول على فرصة مناسبة لتقوض ما أنجز وتقفز على الحكم وتعيد العراق إلى مربع الاستبداد والعنف والقسوة وأن كان بأردية أخرى غير الرداء البعثي المزري.   
لقد عمّ الشعور بالانتصار لما تحقق من منجز نسبي هش في الجانب الأمني, فتصاعد التعالي والغرور لدى المسئولين المباشرين عن الملفات العديدة في العراق, فبدأوا بإثارة مشكلات بحجة حصول تطور في الوضع بحاجة إلى تغييرات سريعة في حين لا يزال الوقت غير ناضج لطرحها أو لحلها.
العراق بحاجة إلى معالجة مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, إضافة إلى البيئية وشحة المياه بأساليب جديدة وواعية وموحدة للقوى, وهي القادرة على تعزيز الأمن, بحاجة للخلاص الفعلي من الطائفية السياسية الشيعية منها والسنية, والتخلص من الطائفيين بإبعادهم عن مواقع الحكم والمسئولية من خلال كشف العواقب الوخيمة وراء النهج الطائفي, فهم الذين يساهمون في وضع العصي في عجلة التقدم والأمن والاستقرار والوحدة الوطنية في العراق, سواء أكانوا من الشيعة أم السنة.
يبدو لي بأن السيد رئيس وزراء العراق لن يستطيع تحقيق ما يدعو إليه ما لم يكف عن الدعوة لعودة الائتلاف الشيعي السيئ الصيت إلى العمل ثانية ولكن تحت اسم أخر. فقوى الائتلاف الشيعي الموحد لا يمكنها أن تنزع عنها رداء الطائفية السياسية بهذه السرعة, وهي التي خاضت الانتخابات الأخيرة بأكثر الشعارات السياسية طائفية وإساءة للوحدة الوطنية والتي تصب في الوجهة التي دعا إليها خطيب جمعة النجف السيد صدر الدين القبانچي, أي الدعوة لإقامة نظام حكم شيعي في العراق, ما لم تنه عملها الحزبي على أساس طائفي وتتحول نحو قاعدة المواطنة العراقية والالتزام بمبدأ "الدين لله والوطن للجميع!
أشعر بمرارة وأقول بكل تواضع يفترض أن يتحلى به الإنسان, بأن جمهرة غير قليلة من المسئولين السياسيين في العراق, والحديث هنا عن كل العراق وليس عن جزء منه, لا يتحلون بقدر كاف من المسئولية إزاء مصائر الشعب وعراق المستقبل, وبالتالي, فهم لا يسعون بما فيه الكفاية لمعالجة المشكلات الشائكة بدأب وحيوية, مع معرفتي الكاملة بكل الصعوبات التي تكتنف القضايا التي تستوجب الحسم على مختلف الأصعدة, ومنها المشكلات القائمة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية التي تستوجب أقصى الجدية والوعي بالمسئولية الاستعداد لاتخاذ القرارات الصعبة من جانب وعبر الحوار. أي أن الحوار المسئول والمستمر والمساومة المحسوبة والمطلوبة من الجميع هي التي في مقدورها أن توفر الأجواء المنشودة وإمكانية الوصول إلى ما يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار والسلام وحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية وحدود الإقليم والمحافظات وغيرها. وهو ما يصبو إليه كل عراقي وعراقية في الداخل أو الخارج.
إن الحديث عن الوحدة الوطنية والتخلي عن الطائفية مثلاً جميل وسهل ومقبول بل ومطلوب حالياً, ولكن ممارسة ذلك بالواقع العملي والوصول به إلى النتائج المرضية هو الأصعب وهو الذي يستوجب بذل الجهود الاستثنائية ومن قبل الغالبية العظمى من أفراد المجتمع أن تعذر عمل وفعل الجميع في ظروف العراق الراهنة. 
9/7/2009                        كاظم حبيب              

1208
مهمة على طريق استكمال الاستقلال والسيادة  الوطنية

" ليس للحرية الفلسفية حدود، فإما أن نفكر بكل حرية، وإما ألا نفكر أبداً ".
                                                                      ب. سبينوزا

مع بزوغ فجر هذا اليوم تكون الوحدات العسكرية الأمريكية قد تركت مواقعها في داخل المدن العراقية وانسحبت إلى مواقع خارج جميع المدن لتبقى في معسكراتها المؤقتة حتى نهاية العام 2011 لتقدم الدعم الضروري المحتمل في مواجهة قطعان الذئاب من قوى الإرهاب وما يطلق عليه بـ "المقاومة" غير الشريفة, كلما استدعت الحاجة وطلبت الحكومة العراقية والقوات المسلحة ذلك. وبهذا الانسحاب يكون باراك أوباما قد أوفى بأول خطوة من الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الإدارة الأمريكية على أن تستكمل بخطوات لاحقة تنتهي بالانسحاب الكامل من الأراضي العراقية.
لم يكن أي مواطن عراقي شريف يريد أن تكون القوات الأمريكية أو أية قوات عسكرية لدول أخرى في العراق, وليس هناك من عراقي شريف وافق على قرار مجلس الأمن الدولي باعتبار القوات الأمريكية والبريطانية الموجودة في العراق هي قوات احتلال مؤقت. هذا صحيح تماماً. ولكن ما لا ينبغي نسيانه أبداً هو الجواب عن الأسئلة التالية: من كان المسئول عن وجود هذه القوات في العراق أولاً؟ ومن أذل الشعب العراقي ومرغ كرامته بالتراب ثانياً؟ ومن نفذ عمليات القتل الجماعي والقبور الجماعية في العراق ثالثاً؟ ومن خطط ونفذ الحروب الهمجية المجنونة في المنطقة (ضد إيران, غزو الكويت) رابعاً؟ ومن نفذ عمليات الأنفال وقصف حلبچة بقذائف صاروخية تحمل السلاح الكيمياوي خامساً؟ ومن هجَّر الكُرد الفيلية وعرب الوسط والجنوب وأسقط عنهم الجنسية وقتل شبابهم وهجر مئات الألوف منهم بذريعة وقحة هي التبعية لإيران؟ ومن جفف أهوار الجنوب وشرد سكانها؟ ومن غير التركيبة السكانية لمناطق عديدة في العراق؟ ومن تسبب في هجرة أكثر من ثلاثة ملايين إنسان إلى خارج الحدود العراقية وفي الشتات العراقي؟ من تسبب في تلويث المياه والأرض والبيئة عموماً في العراق؟ ومن شارك في التفريط بثروات العراق في عمليات وحروب وقمع جنوني خلال 35 عاماً؟ من سرق البسمة من وجوه الناس؟ من فرط بالأرض العراقية وشط العرب لقمع حركة وطنية للشعب الكُردي كان يطالب بحقوقه من خلال عقد اتفاقية العار في الجزائر في العام 1975؟ من .. ومن ... ومن ؟ علينا أن نتذكر باستمرار بأن النظام العراقي الصدامي كان السبب المباشر في كل الحرب المنصرمة, بغض النظر عن معرفتنا بأهداف القوى والدول الأخرى.
يفترض أن نتذكر كل ذلك حين يجري الحديث عن الحرب التي نفذتها الإدارة الأمريكية ضد نظام صدام حسين الدموي وبموافقة غالبية قوى المعارضة العراقية. وعلينا أن نتذكر بأن القوات الأمريكية قد اُستقبلت بالورود حين سقط الدكتاتور المتوحش ونظامه الدموي تحت ضربات القوات الأجنبية. فالموقف من السقوط لم تكن المشكلة بين غالبية الشعب والإدارة الأمريكية, بل ما تبع ذلك من سياسات وإجراءات مخالفة للكثير من قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية, بما فيها صدور قرار الاحتلال وترك حدود العراق مفتوحة والنهب والسلب والتدمير الذي لحق بمؤسسات الدولة  وطريقة حل الجيش العراقي وما حصل للمعتقلين من أعمال إجرامية مخزية في سجن " أبو غريب" أو مواقف بريمر السياسية والإدارية المستبدة, أو فرض المحاصصة الطائفية في حكم العراق, أي استبدال الشوفينية العربية بالطائفية المقيتة...الخ.
لقد تسبب الإرهاب الدموي من جانب قوى القاعدة المجرمة ومن قوى الإرهاب البعثية الصدامية والمليشيات الطائفية المسلحة, سواء أكانت شيعية أم سنية, باستشهاد وجرح وتعويق مئات ألوف العراقيات والعراقيين, بمن فهم العلماء والمثقفات والمثقفين وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والصحفيات والصحفيين والسياسيات والسياسيين, إضافة إلى عدة ألاف من الجنود والضباط الأجانب من مختلف الدول التي وجدت في العراق وشاركت في مواجهة تلك القوى الشريرة التي لم تقتل الناس فحسب, بل ودمرت مؤسساته الاقتصادية والخدمية وأعاقت إعادة البناء وساعدت على  استمرار وجود القوات الأجنبية في العراق.
إن خروج القوات الأمريكية, وقبلها البريطانية, من المدن على طريق الخروج النهائي, يعني حصول تحسن في الوضع الأمني ووجود أفق لتكريس هذا التحسن بإجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية  وثقافية, رغم حالة الهستيريا التي تعيشها قوى الإرهاب خلال الأسبوعين الماضيين والتي دفعتها على  قتل المزيد من البشر بعملياتها الإجرامية الدنيئة.
إن خروج القوات الأمريكية من العراق لم يكن مطلباً عراقياً وحيد الجانب, بل هو مطلب أمريكي أيضاً, وجد تعبيره في الحملة الانتخابية لباراك أوباما, الرئيس الحالي للولايات المتحدة. وهو أمر إيجابي يفترض عدم نسيانه, رغم كل التعقيدات والتشابكات التي أحاطت ولا تزال تحيط بالوضع في العراق منذ الحرب الأخيرة في العام 2003 حتى الوقت الحاضر.
إن كان الشعب العراقي بكل مكوناته القومية وقواه السياسية يعتبر خروج القوات الأمريكية من المدن خطوة مهمة ومرحلة جديدة, فأن عليه أن يجسدها حقاً في سياسات ومواقف وإجراءات جديدة تماماً تختلف عما حصل في العراق خلال الأعوام الفائتة, سياسة تلح على الطلاق الثلاثي مع الطائفية السياسية والفكر الشوفيني وضيق الأفق القومي في حل المشكلات المعلقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم, ويعني إطلاق الحرية والحريات الديمقراطية وقانون الأحزاب وقانون النفط, ويعني التصرف بمسئولية كاملة إزاء أتباع القوميات والأديان والمذاهب المختلفة ومحاربة محاولات قتل وتهجير المواطنات والمواطنين من مسيحيين وصابئة مندائيين وإيزيديين وغيرهم, يعني محاربة الفساد المالي والمحاصصة الطائفية الوظيفية, ويعني التوجه صوب العدالة الاجتماعية ... يعني التوجه صوب الحوار السلمي ووفق آليات ديمقراطية لمعالجة كل المشكلات المعلقة وبعيداً عن التهديد والوعيد أو استخدام القوة.
إن منابر الخطابة السياسية غير نافعة باستمرار لحل المشكلات, إذ أنها في أحيان غير قليلة تزيد الأمور تعقيداً وتزيد من ضبابية السياسات والمواقف والأهداف, بل اختيار نهج الحوار والجلوس حول الطاولة المستديرة لمناقشة كل شيء من أجل التفاهم وإبداء الاستعداد للمساومة على بعض الأمور في وطن يجمعنا بقومياتنا العديدة. 
تحية إلى كل من عمل لمواجهة الإرهاب وكسر شوكته, تحية لكل الشعب العراقي الطامح إلى  العيش بحرية وأمن واستقرار وعيش كريم, تحية لكل المناضلين في سبيل حرية الكلمة وحرية التفكير وحرية الرأي وحرية العقيدة والفلسفة والتعددية الفكرية والسياسية, تحية للمرأة المناضلة في سبيل حقوقها المشروعة ومساواتها بالرجل, رغم الظروف الصعبة التي تواجهها يومياً واضطهاد المجتمع الذكوري الذي تتعرض له بسبب طبيعة وبنية ومستوى تطور الدولة والمجتمع, وتحية إجلال لكل الذين سقطوا على أرض العراق وهم يكافحون بحزم وإصرار كل القوى الشريرة التي عاثت في أرض العراق قتلاً وفساداً وتخريباً ودمارا.
30/6/2009                كاظم حبيب                             


1209
كاظم حبيب
هل الحكم الاستبدادي الإيراني في واد, والشعب في واد آخر؟

حين انطلقت الثورة الشعبية الإيرانية قبل ثلاثين عاماً, قرر الشاه الإيراني عدم استخدام القوة والسلاح لضرب جموع المتظاهرين, بل أجبر على التراجع والهروب من إيران. فانتصرت ثورة الشعب العارمة والسلمية. إلا أن هذه الثورة الشعبية سُرقت في غفوة وغفلة من التاريخ من الشعب لصالح الحوزة الدينية التي كانت قيادتها في حينها للسيد الخميني. وانفرد شيوخ الدين بالحكم ووجهوا تدريجاً الضربات تلو الضربات للقوى السياسية العلمانية والدينية المعتدلة التي كانت وقوداً للثورة لسنوات طويلة. فامتلأت السجون الإيرانية بالقوى التي عارضت الشاه وناضلت ضده وساهمت في إسقاطه. وتعرض السجناء الجدد إلى التعذيب النفسي والجسدي والقهر اليومي في محاولة إلى إجبارهم على تنفيذ ما يسمى بـ " التوبة ", أي العودة إلى الدين الإسلامي, كما يفهمه الحكام الجدد, وكأن كل هؤلاء كانوا خارجين عن الدين الإسلامي, ولكنهم بالقطع لم يكونوا طائفيين كالحكام. وبدأت أساليب العنف والإرهاب والاستبداد تمارس إزاء المطالبين بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية واضحةً في سلوك النظام "الإسلامي" منذ بداية هيمنة شيوخ الدين على السلطة السياسية وبناء أجهزتها القمعية, ومنها "الحرس الثوري" الإيراني, الذي لا يختلف في التخلف الفكري والممارسة الفعلية قيد أنملة عن فكر وممارسات الحرس القومي الذي شكله حزب البعث في أعقاب إسقاط الجمهورية الأولى في بغداد في شهر شباط الدموي في العام 1963. 
وحين انطلقت انتفاضة الشعب الإيراني الجديدة بعد ثلاثين عاماً بسبب التزوير المريع للانتخابات وفرض فوز الفاشي الجديد محمود احمدي نجاد المرتدي لباس الدين والمتخفي وراء سيده الخامنئي, جوبهت, على عكس ممارسة نظام الشاه قبل ثلاثين عاماً, هذه الانتفاضة السلمية المناهضة لنتائج الانتخابات بالعنف الدموي والسلاح والقتل في شوارع طهران. وقد استخدم حكام إيران أصحاب الملابس المدنية (البسيج) والحرس الثوري وأجهزة الأمن الداخلي والشرطة الرسمية وقوى من الجيش لممارسة القتل العمد ضد المتظاهرين. وسقطت ورقة التوت عن عورة شيوخ الدين الحاكمين في إيران وظهرت أيديهم الملطخة بدماء البريئات والأبرياء الذين استشهدوا في زنزانات النظام خلال العقود الثلاثة المنصرمة. علينا أن نتذكر بأن نظام صدام حسين قد دام هو الآخر أكثر من ثلاثة عقود ولكنه انتهى إلى حيث وبئس المصير! 
لم تكن نتائج الانتخابات الأخيرة سوى القشة التي قصمت ظهر البعير في إيران, إذ أن الأزمة في إيران أعمق بكثير من تزوير تلك النتائج وإعلان فوز احمدي نجاد فيها بعكس الفوز الفعلي لمرشح المعارضة السيد حسين موسوي. فما هي الأسباب الكامنة وراء هذه الانتفاضة, وهل ستنتهي أم ستكون لها تداعيات كثيرة لاحقة؟
تؤكد المعطيات التي تحت تصرفنا إلى أن الحكم الاستبدادي في إيران أصبح بعد مرور ثلاثين عاماً على الثورة يعيش في واد والشعب الإيراني يعيش في وادٍ آخر تماماً, وأصبح الحوار, منذ وصول احمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية وأكثر من أي وقت مضى, بين السلطة والغالبية العظمى من المجتمع أشبه بحوار الطرشان. فالحكومة لا تريد أن تسمع مطالب الشعب بل توجه الرصاص إلى صدور الناس, ولم يعد الشعب يريد هذه السلطة وغير قادر على تحمل أوزارها. وسبب ذلك يكمن في عددٍ من العوامل التي يفترض الإشارة إليها فيما يلي:
1.   المصادرة الفعلية من جانب الفئة الحاكمة لحرية الإنسان وحقوقه المشروعة وتدخلها في حياة الفرد الخاصة, رجلاً كان أم امرأة, عبر نشر ودور أجهزة الأمن والمخبرين والجواسيس في أنحاء البلاد, وهؤلاء جميعاً يحصون كل حركة من جانب أفراد الشعب  ويتربصون بهم وغالبا ما ينتهي أمر الكثير منهم إلى الاعتقال الكيفي والزج في السجون.
2.   تفاقم البطالة بين القوى القادرة على العمل واتساع ظاهرة الفقر المدقع بين الناس وتفاقم المشكلات الاجتماعية التي لم تعد محتملة حتى أن الإنسان الإيراني يتحدث عن "الموت التدريجي لحياة الإنسان في إيران " "زنديگي ما مرگ تدریجی", كما عبر عن ذلك أحد ركاب باصات نقل الركاب العامة في طهران لصاحبه في العام 1988 حين كنت لفترة قصيرة في طهران في تلك السنة.
3.   تنامي متواصل للفجوة المتسعة بين حياة أفراد الفئة الحاكمة والمهيمنين على أجهزة الدولة وحواشي الحكومة من قوى الحوزة الدينية من جهة, وقوى الشعب المنتجة والكادحة والفقيرة والمعدمة من جهة ثانية, إضافة إلى تفاقم الفساد المالي والإداري بشكل يصعب تصوره, فالعمامة والعباءة أصبحت من أكثر رموز الفساد المالي والإداري في البلاد التي تغطي تحتها تلك المفاسد. وهذا لا يعني أن جميع من لبس العمامة والعباءة هو من هذا الصنف السيئ من شيوخ الدين, ولكن الغالبية العظمى من الحكام ومن المحسوبين على الحكم الراهن. وقد ذكرني ذلك بقصيدة الشاعر محمد صالح بحر العلوم حين قال:
ليتني أسطيع بعث الوعي في بعض الجماجم
لأريح البشر المخدوع من شر البهائم
وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم
من مآس تقتل الحق وتبكى: أين حقي؟!
 
يا ذئابا فتكت بالناس آلاف القرون
أتركينى أنا والدين فما أنت وديني
أمن الله قد استحصلت صكاً في شؤوني
وكتاب الله في الجامع يشكو: أين حقي؟!
4.   الاضطهاد المشدد الذي تتعرض له وتعاني منه المرأة الإيرانية سواء بحرمانها الفعلي من المشاركة في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو فرض سلوكيات معينة عليها لا تتناغم مع حرية الإنسان في ما يفترض أن يسلكه في حياته الخاصة.
5.   تفاقم سياسة عسكرة الاقتصاد الإيراني, سواء عبر استيراد المزيد من السلاح أم التوسع في إنتاجه محلياً لإقامة أوسع ترسانة عسكرية في منطقة الخليج, بسبب سياساتها التوسعية في المنطقة وسعيها المستمر لتصدير السلاح للحركات المناهضة للنظم المحلية في تدخل مباشر لها في شئون الدول الأخرى. وهي السياسة التي تكلف خزينة الدولة مبالغ طائلة تبعد تلك الأموال الحكومية عن البناء الاقتصادي السلمي وتوفير فرص عمل للعاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة السكان, وخاصة الفقراء والكادحين والفلاحين.
6.   التوجه نحو إنتاج السلاح النووي والصواريخ ذات المدى المتوسط والبعيد, إذ أن إيران تسعى على فرض سياستها في المنطقة وإخضاع حكومات دول المنطقة لسياستها وإرادتها. وهي التي تكلف بدورها خزينة الدولة مبالغ طائلة وتزيد من المصاعب المالية في البلاد وتنعكس سلباً على حياة الفرد. وخير مثال على ذلك حب الله الإيراني في إيران, والحماس ذات النهج الإيراني والتمويل والتسليح الإيراني في فلسطين المحتلة.
7.   الهجرة المتزايدة لمزيد من الناس من إيران إلى بقية بلدان العالم لأسباب ثلاثة أساسية:
أ‌.   تفاقم الاستبداد ومناهضة قوى المعارضة والخشية من الاعتقال والقهر السياسي.
ب‌.   تفاقم البطالة والرغبة في العيش بحرية وكرامة في الدول الأخرى.
ت‌.   تفاقم السياسة الشوفينية المناهضة لأتباع القوميات الأخرى وعدم منحهم حقوقهم القومية المشروعة, إضافة إلى السياسة الدينية والمذهبية الضيقة والطائفية الشيعية ضد أتباع المذاهب الدينية الأخرى. 
ويقدر عدد المهاجرين الإيرانيين المقيمين في الخارج بأكثر من عشرة ملايين إنسان, أغلبهم في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية وفي استراليا والدول المجاورة.           
8. التدخل الفظ في الشأن الداخلي للدول الأخرى بهدف تصدير الثورة الإيرانية والمذهب الشيعي ومعاداة المزيد من دول العالم بهدف فرض كونها الدولة الأكبر والأقوى والأكثر تسلحاً في منطقة الخليج وربما الشرق الأوسط وبرغبة التحكم بسياسات الدول الأخرى وتقديم الدعم لقوى المعارضة فيها من منطلقات قومية شوفينية ودينية وطائفية متطرفة.
 إن سياسات معاداة مصالح الشعب ومطالبه وممارسة القوة والعنف الدموي في مواجهة ذلك ستزيد من حدة التناقض وشدة الصراع بين الفئة الحاكمة المرتبطة بالخامنئي واحمدي نجاد وتلك المجموعة من الحوزة الدينية التي تقف خلفها ومرشدها الأعلى, وبين الجماهير الشعبية الواسعة المتزايدة غضباً وإصراراًً على التغيير. ومن هنا يمكن القول بأن ما بدأ في الانتفاضة الأخيرة لا يمكن إسكاته, وما لا ينجح اليوم سينجح غداً, فعملية التناقض والصراع ستنموان من الناحية الكمية خلال الفترة القادمة لتفرض تحولاً نوعياً جديداً للوضع القائم والذي يمكن أن يقضي على الدولة الدينية الطائفية المتطرفة في إيران لصالح حرية الإنسان والحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان المشروعة والطبيعية ورفض تصدير الثورة والتدخل في الشأن العراقي والدول الأخرى, وخاصة لبنان وفلسطين واليمن.

25/6/2009                         كاظم حبيب 
 

1210
كاظم حبيب
رؤية أولية للحوار
حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إقليم كردستان العراق وسبل معالجتها
الحلقة الثالثة
نحو تكريس إستراتيجية التنمية الوطنية المشتركة بين المركز والإقليم

حين يجري الحديث عن إستراتيجية وطنية مشتركة بين المركز والإقليم لا بد من التنبيه هنا إلى عدة حقائق جوهرية مرَّ بها الشعب العراقي خلال العقود المنصرمة والتي يفترض الانتباه إليها وعدم نسيانها بالنسبة لأوضاع العراق ومستقبله, إذ أنها كانت أحد أهم أسباب الكثير من المشكلات والكوارث, أي بسبب سياسات التهميش والإساءة والسياسات الشوفينية والمركزية المشددة وعدم التنسيق وعدم التشاور والاتفاق مع قوى الإقليم وشعب كردستان, وأعني بذلك ما يلي:
1 . لا بد من تحديد مفهوم مصطلح المركز أو الحكومة المركزية حين استخدامهما, إذ ينبغي أن لا تعني أكثر من كونها تعبر عن الحكومة الاتحادية, بحيث لا تعني المركزية المشددة والانفراد بالسلطة والقرارات لكل العراق, إذ بغير هذا التحديد لا يعني سوى العودة إلى نقطة الصفر التي لا يفترض أن يسعى إليها أي إنسان في العراق. وهذا يتطلب التنسيق في جميع القضايا والقرارات التي تمس العراق كله وتمس الإقليم في آن واحد وكذلك جميع المحافظات العراقية, كما أن من واجب الإقليم والمحافظات عدم الإنفراد بالقرارات وكأنه استقلالاً عن الدولة العراقية وحكومتها الاتحادية. ومثل هذا الموقف السليم من جانب الحكومتين يعزز الثقة المتبادلة المطلوبة ويهيئ فرصة التعامل المتساوي البعيد عن الشعور بالتعالي والهيمنة والانفراد أو الرغبة في ممارسة ذلك.
2 . محاربة الاتجاهات الفكرية الشوفينية التي تجلت في مسارات الحكومات العراقية على مدى تاريخ العراق الحديث إزاء القوميات الأخرى ومنها القوميات الكُردية والتركمانية والكلدية- آشورية, كما لا بد من مكافحة الاتجاهات القومية الضيقة والمغالية في اندفاعها القومي, كما تبرز في المرحلة الراهنة والتي لا تخدم المسيرة لإقامة عراق مدني ديمقراطي, كما تثير المزيد من المشكلات بدلاً من تعزيز الوحدة والتعاون والتنسيق والتكامل. وبالنسبة لي فأن هذا الموقف لا يتجاوز بأي حال حق الشعب الكردي في تقرير مصيره, إذ أني هنا أتحدث عن قرار اتخذ من قبل برلمان كُردستان بعراق فيدرالي يتمتع فيه إقليم كُردستان بالفيدرالية ضمن الدولة العراقية.
3 . أن يأخذ كل من الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم المصالح المشتركة وعدم التفريط بأحدهما لصالح الآخر, بل إيجاد الصيغ الديمقراطية المناسبة للتطور المتسارع والمنسق لكل العراق دولة وإقليماً ومحافظات.
4 . الأخذ بالاعتبار من جانب الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم مصالح شعوبها, سواء أكنا نتحدث عن الشعب العراقي بكل مكوناته أم نتحدث عن مصالح العرب والكُرد والتركمان والكلدان والآشوريين, إذ أنهم كانوا بشكل عام مهملين والذي يتجلى في أوضاعهم المعيشية ومعاناتهم من البطالة ونقص الخدمات ...الخ.
5 . التنسيق والإصرار على مكافحة الفساد المالي والإداري والمحاصصة الحزبية الضيقة أو الطائفية التي لاستمرارها عواقب وخيمة على مجمل الشعب العراقي بكل مكوناته القومية وعلى الناس المستقلين وعلى مبدأ " الإنسان المناسب في الموقع ألمناسب ".
إن الأخذ بنظر الاعتبار هذه المسائل المهمة سيكون في صالح كل العراق دون استثناء, كما سيساعد على تحديد إستراتيجية واحدة في التنمية الاقتصادية والبشرية للعراق كله, مع إمكانية تفاصيل أخرى تمس الإقليم أو المحافظات المرتبطة بمجالس محافظاتها, وفي مهمات المركز المشتركة, إذ أن جوهر ما يطمح إليه الشعب الكردي وبقية القوميات في إقليم كردستان العراق, بل والعراق كله, هو التغيير بالاتجاه المدني الديمقراطي وبالاتجاه العلماني الذي يؤكد بأن "الدين لله والوطن للجميع" وعلى حد سواء. ويطمح المجتمع الكردستاني إلى أن تكون الانتخابات القادمة ونتائجها بداية فعلية لعملية التغيير المنشودة في كردستان, إذ من غير المتوقع أن تتشكل النتائج تغييراً جذرياً في تركيب البرلمان من ناحية التوزيع الحزبي, بل سيحرز الحزبان, الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, الأكثرية في المجلس وستعتمد عليهما وضع السياسات القادمة التي تستوجب التغيير. ولكن الجديد الذي يمكن ان يحصل هو نشوء معارضة إسلامية من جهة وعلمانية من جهة أخرى لسياسات حكومة الإقليم, وهو أمر ديمقراطي, رغم أن قوى الإسلام السياسية لا تعرف الديمقراطية, بل تعتبرها أداة للوصول إلى السلطة وليس فلسفة ديمقراطية, وبالتالي تتخلى عنها حال وصولها إلى السلطة.
ماذا ينبغي أن تتضمن إستراتيجية التنمية الوطنية في إقليم كردستان العراق؟
أ . اعتماد الموارد المالية المتأتية من تصدير النفط الخام والغاز الطبيعي في عملية التغيير الملحة لبنية الدخل القومي على صعيد الإقليم, وعلى صعيد العراق كله, وهي مهمة إستراتيجية مشتركة.
ب . الاهتمام بتوفير مستلزمات إشباع الحاجات المادية لأفراد المجتمع من خلال تنفيذ سياسة تجارة خارجية عقلانية تساهم في توفير تلك الحاجات من جهة, ولكنها تساهم في تنمية الثروة الوطنية من خلال تنمية الصناعة والزراعة وتقليص الحاجة إلى الاستيراد سنة بعد أخرى , بدلاً من إغراق الأسواق المحلية بالسلع الاستهلاية والكمالية ذات النوعيات الرديئة والمستوردة لأغراض سياسية بحتة.
ج . وهذا يعني بوضوح كبير توجيه هذه الموارد وتوزيعها على خمسة اتجاهات أساسية في المرحلة الراهنة:   
أولاً: استكمال وتطوير وإنشاء مشاريع البنية التحتية بكل أجزائها, إذ يفترض أن يتم الاهتمام في هذا القطاع والإصلاح الإداري معاً لأهميتهما في العلاقات الاقتصادية المحلية والدولية.
وأهمية البنية التحتية تكمن في كونها القاعدة الفعلية والضرورية لتعجيل التنمية الوطنية في إقليم كُردستان وفتح الأبواب على مصراعيها لدخول الاستثمارات الأجنبية إلى الإقليم.
وهي تشمل مشاريع الكهرباء وشبكة المياه الصالحة للشرب والطرق العامة والاقتصادية الداخلية والخارجية والجسور والنقل السلعي والبشري والمخازن الاعتيادية والمبردة والصحة والتعليم والفنادق والقوانين المرتبطة بها, كما أنها ترتبط بالمدينة والريف.
تتوزع مهمات إقامة مشاريع البنية التحتية في المرحلة الراهنة, وبسبب التخلف الكبير الموروث في هذا القطاع, على عاتق حكومة الإقليم وعلى عاتق الحكومة العراقية المركزية بسبب وجود ارتباطات وعلاقات واسعة في هذه المشروعات والتي تستفيد منها كلا الحكومتين, وبالتالي يكون الصرف عليها من الجانبين. إلا أن القطاع الخاص يستطيع أن ينهض بأعباء غير قليلة ويساهم في توفير القاعدة الصالحة لتطور نشاط واستثمارات القطاع الخاص المحلي والأجنبي.
كما يفترض أن تتوفر الضمانات الاجتماعية والأمن الصناعي والصحة والعناية بالمنتجين وبالمستثمرين المحليين والأجانب ووضع القوانين الضامنة لكل ذلك. ...الخ.
كما يفترض الاهتمام بتغيير واقع الإدارة والإصلاح الإداري من خلال ترشيق تدريجي لمؤسسات الدولة ووضع الأنظمة والضوابط الإدارية التي تخفف من البيروقراطية والبطالة المقنعة وترفع من مستوى الشفافية وتسهل وتبسيط العمليات والمعاملات الخاصة بالسكان وبإقامة الشركات أو نشاط المستثمرين وتمنع التعيينات غير المناسبة لأي سبب كان لكي لا يأتي الشخص غير المناسب وتساعد على معالجة مشكلات المواطنين وإدخال المحاسبة الاقتصادية والرقابة والمتابعة إلى مختلف مجالات الاقتصاد والخدمات والحياة الاجتماعية.
إن تأسيس المزيد من مراكز البحث العلمي الصرف والتطبيقي والمكاتب الهندسية الحكومية والخاصة والسعي إلى ربط نشاطها واتجاه بحثها بمؤسسات الإنتاج والخدمات لخدمة أغراضها مباشرة, من جهة, وبالجامعات والمعاهد من جهة أخرى, وبمراكز مماثلة في الدول المتقدمة علمياً وتكنولوجياً سيوفر ما تحتاجه عملية إقامة مشاريع البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية الأخرى من دراسات حول الجدوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من تلك المشاريع ويساعد على تقليص التكاليف وتسريع العملية كلها.
وإذ أشرنا إلى مشروعات الطاقة في مكان آخر فيهمنا هنا أن نشير إلى أهمية إقامة شبكة واسعة من مشاريع الماء الصافي لسكان المدن والأرياف, إذ أنها الضامن لتحسين المستوى الصحي للسكان وتقليص الكثير من الأمراض. ويمكن أن ينهض القطاع الخاص بهذه المهمة وبدعم من حكومة الإقليم أو أن يوضع على عاتق الحكومة.

ثانياً: الصناعة: توجيه المزيد من الموارد المالية الحكومية لأغراض التنمية الصناعية الحديثة المراعية لمسائل حماية البيئة وتقليص التلوث التي تجعل من إقليم كردستان بلداً صناعياً متقدماً بتشابك ويتكامل مع التصنيع مع باقي أجزاء الدولة العراقية. ويمكن هنا أن نشير بوضوح إلى وجهة التطور الصناعي في إقليم كردستانالتي تشمل خمسة مجالات أساسية, وهي:
- التوسع في عمليات التنقيب عن النفط الخام والموارد الطبيعية الأخرى في كُردستان للاستفادة منها في عمليات التصدير والإنتاج المحلي في آن من جهة, واستخدام الموارد المالية المتأتية من النفط الخام وغيره لأغراض عملية الاستثمار الإنتاجي ودعم الميزانية الاعتيادية.
- التوسع في إنتاج الطاقة, سواء الكهربائية أم المائية أم الشمسية, وكذا الحرارية على مستوى العراق, وفق الإمكانيات المتاحة, لتوفر الإمكانيات الفعلية لعملية التنمية الشاملة والمستمرة.
- ويمكن لهذا الغرض إقامة المشاريع الكهربائية الصغيرة والكبيرة على مستوى إقليم كُردستان والعراق عموماً, ويمكن هنا الاستفادة من الخزانات المائية الكبرى وكذلك الخزانات الصغيرة لهذا الغرض أيضاً.
وفي مجال الصناعات التحويلية يفترض الاهتمام بما يلي:
- صناعة المشتقات النفطية والغاز المسيل والصناعات البتروكيماوية المناسبة لكُردستان. ويمكن أن يقام أكثر من مصنع متوسط الحجم للمشتقات النفطية والغاز المسيل في أكثر من مدينة كُردستانية لتغطية الحاجات المحلية والمشاركة في حاجات العراق, في حين يمكن التنسيق بصدد المشاريع الكبرى في هذا الصدد على صعيد العراق والمنطقة.
- الصناعات الإلكترونية والآلات الدقيقة القائمة على التجميع وكذلك صناعة أجهزة الاتصالات الحديثة.
- الصناعات الزراعية, بما في ذلك صناعات التعليب النباتي والحيواني والألبان والفواكه المجففة, وصناعة التبغ والغزل والنسيج والسجاد والملابس .. الخ.
- الصناعات الإنشائية وخاصة المقالع والأسمنت والمرمر والطابوق.
ويمكن أن تتوسع هذه الصناعات على مستوى الإنتاج الصغير والعائلي والقسم الأخر الذي يستوجب تقنيات عالية وإنتاج متقدم ومشاريع متوسطة أو كبيرة وفق التعرف على السوق الكُردستاني والعراقي والإقليمي أو التنسيق على الصعيد الدولي.

ثالثاً: الزراعة: توجيه المزيد من الموارد المالية لإغراض التنمية الزراعية والتي تتجه صوب:
-   تأمين المياه الكافية للإنتاج الزراعي, من خلال إقامة السدود والخزانات الصغيرة والمتوسطة, إضافة إلى أهمية وضرورة تقنين الاستفادة من الثروة المائية. وتلعب هنا أهمية كبيرة الاهتمام بمياه العيون والأنهار وإقامة الجسور والخزانات الصغيرة والمتوسطة لتجميع المياه والاستفادة منها في فصول شحة المياه.
-   الاهتمام بتحديث الزراعة وتطوير تقنياتها والابتعاد عن التقنيات البالية والمرهقة للفلاح وبما ينسجم مع الطبيعة الجغرافية والمناخية لكُردستان.
-   الاهتمام بالزراعة الحقلية كالحبوب الضرورية لاقتصاد كُردستان وكذلك البستنة وخاصة الفواكه والكروم والتفاح والخضروات والتبغ والكرزات التي تساهم في تنمية الصناعات الزراعية أيضاً وتشبع حاجة السوق المحلي الكُردستاني والعراقي.
-   تطوير الثروة الحيوانية كالدواجن والماشية وتنمية المراعي الطبيعية لهذا الغرض وكذلك الثروة السمكية وحمايتهما.
-   الاهتمام بالغابات الطبيعية وتنميتها وحمايتها, إضافة إلى زيادة التشجير ومعالجة مشكلة الانجرافات الأرضية والانهيارات.

رابعاً: السياحة: توجيه المزيد من الموارد لأغراض التنمية السياحية, بما فيها صناعة الفندقة, إذ يمتلك إقليم كُردستان إمكانيات كبيرة ومتنوعة لتنمية السياحة الاصطيافية أو الاستجمامية والحضارية والدينية, وهو ما يفترض الاهتمام به. ويتم ذلك عبر:
-   تطوير قسم السياحة والفندقة في المعاهد والكليات المختلفة, بما في ذلك إقامة كلية خاصة أو أكثر لهذا الغرض بما يسهم في تكوين كوادر إدارية وفنية وعلمية في مجال تنظيم وتطوير السياحة والفندقة في جميع أنحاء كُردستان. فهذا القطاع لا يعتبر مورداً مالياً فحسب, بل ومورداً معرفياً وحضارياً وإنسانياً في آن واحد. 
-   الاستفادة من الكوادر السياحية المتوفرة في العراق والتي لا يمكن الاستفادة منها حالياً لهذا الغرض بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية المتردية هناك.
-   الاستفادة من الأمم المتحدة (اليونسكو) لتطوير المواقع الأثرية والحضارية في كُردستان, إضافة على فتح دورات لتدريس وتدريب كوادر مهنية وفينة لهذا الغرض.
-   العناية الجادة بالمواقع الأثرية الكثيرة القائمة في كُردستان وكذلك المزارات الدينية لمختلف الأديان والطرق الدينية.
-   الاهتمام الواسع بالمناطق السياحية الخاصة بالاستجمام والاصطياف في كُردستان وهي كثيرة وممتازة من خلال إقامة سلسلة من الفنادق والطرق المساعدة للوصول إليها على أساس المبادرة الفردية وتقديم القروض والمساعدات المناسبة للقطاع الخاص لهذا الغرض.
-   حملة إعلامية من أجل التثقيف بقضايا السياحة وسبل التعامل مع السائحين الأجانب لخلق وعي سياحي.
-   حملة إعلامية من أجل التثقيف بأهمية حماية البيئة من التلوث من قبل المواطنات والموطنين والسائحات والسائحين في آن واحد. 
 
خامساً: البنوك وشركات التأمين: يحتل هذان القطاعان أهمية استثنائية في الاقتصاد الكُردستاني باعتبارهما يمثلان بعض أهم الأدوات التنفيذية في السياسة المالية والنقدية للإقليم التي يفترض فيها أن تساهم في تنفيذ السياسات الاقتصادية لحكومة الإقليم. نعرف جميعاً بأن كُردستان بحاجة إلى:
 سلسلة من البنوك التابعة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي وبالنسبة إلى مختلف القطاعات الاقتصادية. ويفترض أن تساهم هذه البنوك ذات الاختصاص (مصارف صناعية وزراعية وسكنية وتجارية), سواء أكانت تابعة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي أم تابعة للحكومة, في عمليات التمويل الائتماني للنهوض بالمشاريع الاقتصادية الصناعية والزراعية والتجارية والاجتماعية الصغيرة والمتوسطة على نحو خاص, من أجل تشجيع المبادرة الخاصة لتحسين وسائل الإنتاج والقدرات والمهارات البشرية وتحسين مستوى الإنتاج وزيادة الإنتاجية والتشغيل والدخل والربح المتحقق لأصحاب المشاريع والعاملين. ويمكن أن تقدم هذه التسهيلات والقروض إلى الأفراد والشركات والمؤسسات. ويمكن أن تمنح القروض على آجال مختلفة وفق طبيعة وأهمية المشروع. ومن المفيد أن تساهم الحكومة في هذه العملية بسبب ضرورتها الآنية للتنمية وتشجيع وتعجيل إقامة المشاريع من جانب الأفراد, ما دامت الحكومة قادرة على تقديم القروض وبفوائد واطئة جداً ومنشطة للعملية الاقتصادية.
كما تلعب هذه البنوك دورها الأساسي في العمليات المصرفية مع البنوك الأجنبية لتنظيم العلاقات والمعاملات المالية والتحويلات المصرفية وما إلى ذلك.
وقد يكون من المناسب في هذه المرحلة تأسيس بورصة لتداول الأوراق والأسهم المالية.
كما أن اقتصاد الإقليم بحاجة ماسة إلى النشاط التأميني الذي يمكن أن تنهض به شركات التأمين وإعادة التأمين التي تسهم في دعم النشاط الاقتصادي والتمويلي في الإقليم. وهي مؤسسات اقتصادية تساهم في عملية الادخار من جهة, وفي تعويض عمليات اهتلاك رأس المال الثابت والخسائر التي تتحملها الشركات والأفراد لأسباب مختلفة مثل الكوارث الطبيعية أو الحرائق أو السرقات أو الموت على سبيل المثال لا الحصر. إنها تعبر عن ضمانة مالية واقتصادية كبيرة ومهمة للاقتصاد الكُردستاني وللأفراد والشركات والمجتمع في آن واحد.
ويتطلب قطاعا البنوك والتأمين وجود كوادر علمية وفنية مختصة تضع الأسس العملية والعلمية والفنية لإنشاء البنوك وشركات التأمين في كُردستان العراق وتطويرها وتحديد علاقتها ببغداد وبالعالم الخارجي.
ويبدو لي ضرورة وإمكانية وضع تقارير خاصة عن هذين القطاعين بحيث يمكن البدء بتنفيذها في كُردستان مباشرة, إذ لا بد من البدء بذلك مع البدء بعملية الإصلاح الإداري والاقتصادي وعملية التنمية في الإقليم. فهي جزء من آليات السياسة المالية المسؤولة عن تنفيذ السياسة الاقتصادية والاجتماعية.
علينا أن نؤكد هنا مجدداً بأن الإنسان هو هدف هذه الإستراتيجية وهو في الوقت نفسه الإدارة المركزية التي يتم عبرها تنفيذ هذه الإستراتيجية, فهو هدف وهو أداة في آن, وإذا ما أدرك الإنسان أن هدف الإستراتيجية هي لصالحه, أي لتوفير العمل والحياة الكريمة له ولأفراد عائلته ولصالح الأجيال الطالعة في إقليم كُردستان العراق, فأنه سيبذل أقصى الجهود والهمم لتحقيق هذه الإستراتيجية, وهي بدورها تعتمد على الأدوات الديمقراطية التي يفترض أن تستخدم لتحقيق الأهداف الإستراتيجية. (يمكن بهذا الصدد العودة إلى الدراسة التي أنجزت من قبل الدكتور كاظم حبيب والدكتور جعفر عبد الغني).

1211
محاولة لخوض غمار حوار جاد
سعى له الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح بوعي ومسئولية
1 . أهمية وعي مفهوم النقد 
كأي عالم حصيف متمرس في اختصاصه ومفكر ساع إلى طلب الحقيقة على نسبيتها ومساهم فعال في نشر الوعي الإنساني والحضاري الحديث طرح الأخ الفاضل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح مجموعة كبيرة من الأسئلة التي تفتح باباً واسعة لحوارات بين الناس ونقاشات فكرية معمقة وهادئة. والأسئلة التي طرحها الأستاذ الكريم تفتح بدورها مجالاً رحباً لمزيد من الأسئلة التي لا شك أنها تتداعى في مخيلة الإنسان وهو يقرأ أو يعالج مثل هذه المسائل الحياتية والحيوية اليومية. سأحاول في النقاط التالية مناقشة بعض الأفكار الواردة في الحلقتين الأولى والثانية من مقال الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح الموسوم "تساؤلات محرجة .. في الدين - الحلقة الثانية - التطرفان الديني والإلحادي .. وصناعة الموت" المنشورين في العددين 2665 و2666 بتاريخ 2/3/ و3/3/2009 على التوالي على موقع الحوار المتمدن.
يفترض من حيث المبدأ الاتفاق حول مشكلة لا تزال تعتبر معطلة للكثير من ضرورات وحيوية النقاش حول مسألة الدين, وأعني بذلك نقد الدين. فليس كل ناقد للدين ملحد. وليس كل نعت يوجه لقضية ما تعتبر تطرفاً أو رفضاً للفكر الآخر أو اعتداءًِ على الرأي الآخر, إذ أن مثل هذه الأحكام تمنع التوصيف الضروري لأفكار معينة أو إيديولوجيات معينة دون أن يكون في نية الكاتب الاعتداء على الرأي الآخر أو سلب حق الآخر في امتلاك رأي أو موقف آخر. فحين نشير إلى الفكر الشوفيني والعنصري وأساليبه في التعامل مع أتباع القوميات أو الإثنيات الأخرى بالفاشية التي تمارس الاستبداد والعنف السادي والقسوة, فلا يعني ذلك تجاوزاً على حاملي هذا الفكر النازي ألألماني أو الفاشية الإيطالية بل توصيفاً صادقاً لهذا الفكر العدواني, وحين نشير إلى الموقف المناهض لحرية ومساواة المرأة بالرجل بالتخلف والظلم بحق المرأة والتجاوز على إنسانيتها فلا يعني هذا التوصيف تطرفاً أو اعتداءً على الرأي الآخر, سواء انطلق من أتباع الدين الإسلامي أم اليهودي أم المسيحي أم أي دين آخر. وحين نشير إلى نظم سياسية بعينها ونصفها بالشمولية والاستبداد الفكري والسياسي والاقتصادي, كما في بعض النظم العربية أو الإسلامية فلا يعني هذا تجاوزاً على الرأي الآخر, ومثال ذلك الحديث عن الوهابية المنطلقة من فوهة ومضمون المذهب الحنبلي المتشدد, أو حين الحديث عن المذهب الشيعي الإثنا عشري الصفوي الإيراني والتزامه بولاية الفقيه باعتبارهما نموذجين للشمولية في الحكم والدكتاتورية والتوزيع غير العادل والاستخدام السيئ للثروة الوطنية, فلا يعني ذلك تجاوزاً عليهما بل توصيفاً لحالتيهما الفعلية المدانة. وحين نصف الفتاوى التي تحرم تقديم باقات الزهور إلى المرضى في المستشفيات باعتبارها بدعة غربية مسيحية من جانب بعض شيوخ الدين السعوديين بالتخلف والرجعية فلا يعني هذا إساءة لأحد, بل شرح حالة معينة يراد بها الفرقة والإساءة والتخلف في فهم دور الزهور في إنعاش روح المريض الراقد في المستشفى والتخفيف من ألامه. وحين يطرح إمام الجمعة في النجف إقامة دولة شيعية على أساس مذهبي شيعي, أفلا يعني ذلك أن هذا الرجل طائفي متعصب وبعيد كل البعد عن مبدأ المواطنة في الحضارة الإنسانية الحديثة والمجتمع المدني؟ أفلا يعني ذلك تخلفاً ورجعية وتمييزاً لمن هم من غير الشيعة, سواء أكانوا من المسلمين السنة أم من المسيحيين أو من الصابئة المندائيين أو غيرهم من أتباع الديانات والمذاهب في العراق أو حتى من غير المؤمنين بدين؟ ألا تعني هذه الدعوة اعتداءً على سكان العراق ووحدتهم ونسيجهم الوطني؟ ألا يعني ذلك استفزازاً للسنة في العراق ولأتباع الديانات الأخرى وتحريضاً على الكراهية وتشديد الصراع وتوفير مستلزمات النزاع الدموي الذي عانى منه العراق خلال السنوات الست المنصرمة والتي لم تنته بعد حتى الآن؟ أ لا يحق لنا نعت ذلك بما يستحقه, أـم يعتبر تجاوزاً على رأي السيد صدر الدين القبانجي؟ 
يفترض من حيث المبدأ احترام كل الأديان والمذاهب, ولكن هذا لا يتعارض مع نقد الأديان والمذاهب من أي زاوية شاء الإنسان توجيه النقد له, فليس في ذلك أي تجاوز ما دام بحدود الأدب واللياقة. كان الصديق الراحل والأستاذ إبراهيم كبة يمارس نقد الدين المسيحي في كتبه حول التاريخ الاقتصادي, وكان يعني بذلك كل الأديان, ومنها الدين الإسلامي, ولكنه كان يتجاوز ذلك بحكم الواقع الاجتماعي حيث كان يصعب عليه ممارسة نقد الدين الإسلامي مباشرة, هذا ما أخبرني عنه حين كنا نلتقي في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين في غرفتي الصغيرة في الجامعة المستنصرية ونتحدث عن شئون الاقتصاد وعن الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد.
كلنا يعرف بأن نقد الدين يأتي من شخصيات مؤمنة لأنها ترى في ذلك ضرورة لاستمرار وجود الدين, فلا يمكن أن يبقى الدين على حاله لأكثر من 3000 سنة أو 2000 و 1000 عام مع كل التغيرات التي تطرأ على الإنسان وحياته وظروف معيشته ووعيه ومستوى ثقافته... الخ. كما يمارس الملحدون نقداً موجهاً للدين من حيث الأساس أو من حيث مظاهر ممارسته وما نشأ عنه وما علق به خلال الفترات المنصرمة.
حين يواجه الإنسان المثقف, بغض النظر عن إيمانه الديني أو إلحاده, ما يتعارض مع العقل, وبغض النظر عن مسألة وجود أو عدم وجود إله, يتعارض في الممارسة مع العقل السوي, فليس أمامه إلا توصيف الحالة ونقدها بما يساعد على التخلص منها. وربما يفترض أن يكون المؤمن أكثر إلحاحاً على التغيير لحماية دينه من التطرف والبدع الإضافية التي يحتضنها الدين ويتسبب بها شيوخ الدين أو المؤسسات الدينية. فالنقد ضرورة, سواء أكان ذلك من إنسان مؤمن صوب دينه أم صوب الإلحاد, كما أن من حق الملحد أن يمارس النقد إزاء الدين أو ما يرتبط به من مظاهر. النقد ضرورة موضوعية في حياة الإنسان وفي مواجهة القديم البالي والجديد المتطلع للتكريس. إن صياغة بعض الأسئلة التي طرحها الأستاذ الدكتور قاسم حسين واعتبر بعض النعوت التي توجه لحالات معينة تطرفاً يصعب القبول بها, سواء أكانت موجهة للقوى الدينية أو لمدعي العلمانية غير الديمقراطيين. فلا بد من توجيه النقد ووسمها بنعوت معينة حين ادعى صدام حسين في بداية حكمه العلمانية وقبل أن يرتدي زيفاً قناع الحملة الإيمانية, أو حين ادعى هتلر في حينها العلمانية أيضاً وكانت له مواقف ضد الكنيسة, رغم مساومة الكنيسة لسياساته ضد اليهود وضد القوى السياسية غير الفاشية. وفي هذا ليس تطرفاً, بل التطرف كان في تلك السياسات, بما في ذلك الكنيسة المساومة أو القوى الإسلامية المساومة لصدام حسين تحت شعار "حاكم ظالم خير من فتنة!".
النقد الموضوعي الواعي والواضح والصارم وغير المساوم, والمؤدب والهادئ وفق التعبيرين اللذين استخدمهما الأستاذ قاسم حسين صالح, ينير الطريق لمن يريد أن يستنير بالرأي الآخر ويستفيد منه, النقد لا يتضمن إظهار الجوانب السلبية فحسب, بل يمكن أن يشير إلى الجوانب الإيجابية إن وجد الجانبان في فكر معين وعمل معين. ولكن النقد غير ملزم بتبيان الجوانب الإيجابية, ويحق له التركيز على السلبيات من الفكر والممارسة. والنقد محرك نحو التقدم والتغيير والتفاعل مع الواقع القائم.
2 . العوامل الكامنة وراء الاحتراب والصراع في المجتمعات؟ 
طرح الدكتور قاسم حسين صالح النص التالي المحمًّل بالكثير من الأسئلة:
"هل أن كل أرض يهبط عليها دين تكون بعد ألف سنة أكثر بقاع العالم صراعا واحترابا وتنغيصا للحياة وفقرا وأمراضا وأميّة ؟. هل السبب في الدين ؟.. أعني لو لم ينزل على الناس دين من السماء لكانوا عاشوا في سلام ، أو لصاروا بوضع أفضل مما هم عليه الآن ؟
لو كان السبب في الدين لما آمنت به الملايين ، بل لظهر حزب او جيش او منظمة او ميليشيا تدعو إلى الإلحاد ومحاربة كل دين .. ولقاموا بثورة ليتخلصوا منه كما يفعلون مع الأنظمة الدكتاتورية والسلطات التي تحتكر الثروات لنفسها . ستقول : إن السبب ليس في الدين إنما في السلطة التي توظف الدين لخدمة مصالحها وضمان بقائها .. وهذا صحيح . فتاريخ المنطقة يحدثنا أن كل السلطات التي حكمتنا على مدى أكثر من ألف وأربعمائة عام ، كانت ظالمة ودكتاتورية ، وأنها كانت تحكم باسم الدين . ولكن معظم الثورات التي قامت ضد هذه السلطات ثارت أيضا باسم الدين ، فإذا كان الدين واحدا فكيف يكون له تفسيران متناقضان ؟ وكيف يكون له ممثلان ( جبهتان ) متعارضان أحدهما: خير وعدل وسلم ، والآخر: شرّ وظلم وسفك دماء ؟. [نص راجع بشأنه الحلقة الأولى من مقال الأستاذ قاسم حسين صالح].
في هذا النص العديد من الأسئلة التي تحتمل أكثر من رأي وليس مجرد القول مع أو ضد, كما أنها متشابكة وتستوجب التدقيق والملموسية. لا شك عندي من أن الدين من صنع الإنسان, وهو في جوهره عملية إصلاحية يطرحها المصلحون حين تبرز في مجتمع ما حاجة فعلية تفرضها الضرورة الموضوعية, سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية وثقافية. وقد برزت هذه الظاهرة منذ آلاف القرون ويصعب تحديد وقت ظهور الدين, ولكن برزت الكثير من الأبحاث الدولية التي تشير إلى العوامل الكامنة وراء ظهور الدين وجوهر الدين. والعراق القديم أو منطقة الشرق الأوسط شهدت الكثير من الديانات والديانات المتفرعة عنها أو المذاهب المتفرعة عن كافة الأديان تقريباً بمرور الزمن وبالحاجة على التغيير. كما أن أدياناً انقرضت أو لم تبق على صيغتها القديمة أو أن أتباعها أصبحوا قلة قليلة. كما أن البعض منغلق على دينه. والعراق وحده عرف عشرات الديانات المعروفة لنا اليوم أو غير معروفة, إذ أن الكثير من تلك الديانات التي نشأت فيه أو نزحت إليه مع النازحين واستقرت فيه أو تداخلت مع أديان العراق الأخرى. ولست معنياً في هذه الملاحظات بكيفية نشوء الدين فقد بحثت ذلك بشكل مكثف في كتابي الموسوم "الأيزيدية ديانة قديمة قاومت نوائب الزمن", بل أحاول أن أطرح الرأي التالي:
مر الإنسان بمراحل تطور عديدة. السمة المميزة فيها هو تطورها وتقدمها في سلم الحضارة البشرية بشكل عام وعلى الصعيد الدولي, مع وجود انقطاعات وتراجعات أو انكسارات جزئية في بعض مناطق العالم أو تخلف عن التطور واستمرار الحياة كما كانت عليه قبل مئات السنين أو يزيد عن ذلك. والعالم الآن يتسم بشكل عام بمستوى حضاري معين, ولكن نجد في هذا العالم الواحد مناطق لا تزال تعيش في مراحل التطور المختلفة التي عاش فيها الإنسان, كما يطلق على مجاهل أفريقيا أو جنوب شرق آسيا, وبشكل خاص في مجاهل إندونيسيا أو في بعض مناطق في أستراليا, على سبيل المثال لا الحصر. وسنرى في تلك المناطق ديانات قديمة أنتجها الإنسان والتزم بها وسار عليها.
الديانات حين ظهرت في أي من مناطق العالم كانت لأغراض معينة, إذ كانت من حيث المبدأ للإصلاح والتغيير والتجديد, ولكن وفي كل الأحوال استثمرت ووضعت في خدمة الحاكم بشكل عام, كما نشأت في فترات معينة من التاريخ القديم والحديث صراع بين الدين والسلطة على الموقع الأول في المجتمع والموقع المؤثر في مسيرة الدولة. الدين من صنع الإنسان سواء أكان حاكماً أم محكوماً, ولكن المشكلات التي نشأت في العالم لم يكن سببها بالأساس الدين, بل لعب الدين دوره في تبني وجهة معينة لحلها وكانت في الجوهر لصالح الحكام بشكل عام, إلا ما ندر.
المشكلات تنشأ بسبب أوضاع اجتماعية- اقتصادية – سياسية. أي تنشأ أوضاع اقتصادية واجتماعية تقود إلى مشكلات سياسية بين فئات المجتمع بسبب الاستغلال والعيش بمستويات متباينة تقود على تناقضات اجتماعية وتتحول إلى صراعات, وحين لا تجد حلولاً عملية لها من جانب الحكام تتحول إلى نزاعات سياسية ويمكن أن تتخذ طابع الانقلاب أو الثورة أو النزاع المسلح, الذي غالباً ما يقود إلى نزيف الدم وينتهي إلى وضع معين. وفي هذا المعمعان المحتمل يتخذ شيوخ الدين موقفاً معيناً يمكن أن يقود إلى تبني أتباع هذا الدين ذات الموقف أو بنقسمون إلى مجموعات ذات رأي وموقف متباين .. وهي حالة يعيشها العالم الراهن, كما حصلت وذكرت بصيغ كثيرة جداً في كتب التاريخ.       
الدين نتيجة نشاط الإنسان وليس سبباً في نشاط الإنسان, ولكن هذه النتيجة يمكن ان تصبح سبباً لمشكلات قادمة لأسباب ترتبط بشكل استخدام الدين. ومن هنا جاء التقدير الخاطئ لصموئيل هنتنكتون بأن الدين سيكون العامل الأساسي في الصراعات القادمة وانتهى الصراع الاجتماعي أو الطبقي في المجتمع, أو كما عبر عنها بطرقة أخرى حين قال فرنسيس فوكوياما بأن الرأسمالية نهاية التاريخ, ثم عاد عن رأيه الخاطئ مصححاً بأن الرأسمالية لا تشكل نهاية لحركة التاريخ وتطور المجتمع.
لو تحرى الدكتور تاريخ العالم لوجد الكثير من الثورات التي سعت لا إلى تغيير الدين, بل إلى تغيير النظام الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي, وإلى تغيير العلاقة بين الدين والسياسية وما يتبعها من تغيير ملازم للعلاقة بين الدين والدولة. هذا حصل في أوروبا وكل العالم الغربي, وهذا ما سيحصل في بلداننا حين تصل إلى مستوى التحضر الراهن في أوروبا. أي المشكلة ترتبط بطبيعة أسلوب الإنتاج السائد والعلاقات السياسية والاجتماعية  المنبثقة عنها. لا يمكن إزالة دور الدين في مجتمع تسوده العلاقات العشائرية ويغيب عن المجتمع التطور الصناعي والزراعي ومستلزمات بناء المجتمع المدني الذي يخلق وعياً جديداً ودوراً جديداً للدين من جهة وللدولة من جهة أخرى وللإنسان بشكل خاص.
ولكن ليس كل شعب استطاع أن يثور وينتصر على حاكميه أو على النظم التسلطية التي سادت في البلاد والتي اعتمدت على نظام اقتصادي اجتماعي وسياسي معين تميز بالتخلف والاستبداد والعنصرية والسادية المرعبة. كما ليس كل شعب قادر على أن يتخلص وبسهولة من تأثير الدين وشيوخ الدين, بل هي عملية معقدة وطويلة الأمد وتستوجب التغييرات التي أشرت أليها. فالعراق مثلاً لم تستطع القوى والأحزاب السياسية والمجتمع العراقي كله الخلاص من نظام صدام حسين الاستبدادي, رغم توفر كافة الشروط الموضوعية لإزاحته, إذ أن العامل الذاتي لم يكن متوفراً. ولكنه سقط بفعل العامل الخارجي. وهذا العامل الخارجي لم يأخذ بنظر الاعتبار عدم توفر الشروط والمستلزمات الذاتية للنهوض بأعباء ما بعد السقوط, فكانت التداعيات التي شهدناها خلال السنوات الست المنصرمة والتي لن تنتهي بسهولة وبسرعة كما يتمناها الإنسان.         
الكلمة التي تحدث بها كارل ماركس كانت صائبة جداً حين قال باختصار شديد بأن "الدين افيون الشعوب". الدين بحد ذاته ليس شيئاً فاعلاً دون الإنسان الذي يتبناه. فالإنسان هو الذي يتعامل بالدين ويتفاعل مع المبادئ التي يطرحها هذا الدين أو ذاك, وكلها على امتداد التاريخ متقاربة وفي الغالب الأعم ذكورية. والقول السابق يعني بأن استخدام الدين بشكل سيئ يقود إلى تخدير المجتمع, إلى محاول جعل الإنسان ينسى واقعه المرير والاستغلال البشع الذي يتعرض له. ولم يكن كارل ماركس مسيئاً في هذا القول لأي دين بل ثبت حقيقة كانت قائمة حين كان يستخدم الدين لأغراض الحكام, كما حصل ويحصل بحدود معينة في أوروبا, أو كما حصل ويحصل على امتداد تاريخ العرب والمسلمين حتى الوقت الحاضر وبشكل خطير ومرضي.
المشكلة تكمن أذن في النظام الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي القائم في هذا البلد أو ذاك, ومنه العراق أيضاً وفي الوعي الاجتماعي والسياسي المنبثق عن هذا الواقع. ولكن هذا لا يعني أن الوضع ميئوس منه, بل أن التطور العالمي سيساعد في تسريع تطور العوامل الداخلية, أي أن التغيير يفترض أن يحصل من وفي الداخل, ولكن أصبح للعامل الخارجي الأثر الأكثر أهمية من السابق.         
10/6/2009                         كاظم حبيب


1212
كاظم حبيب
هل الإنسان أولاً أم إثنيته وقوميته ودينه ومذهبه وفكره؟

صدر منذ سنوات الكتاب القيم للكاتب والروائي المعروف الأستاذ أمين معلوف تحت عنوان "الهويات القاتلة", وقد حظي هذا الكتاب باهتمام كبير من جانب الكتاب والقراء على حد سواء. وقد تسنى لي قراءة هذا الكتاب الإنساني بإمعان وأخذت منه بعض المقتطفات حين كتبت بعض مقالاتي مشيراً إلى أهميتها وداعياً إلى الاهتمام بمضمون هذا الكتاب وخاصة في دول منطقة الشرق الأوسط المتعددة القوميات والأديان والمذاهب والعقائد الأخرى وذات الاتجاهات الفكرية العديدة. ومن لم يتسن له قراءة هذا الكتاب, أملي أن يسعى للحصول عليه ومطالعته. ويحمل هذا الكتاب إلى القارئات والقراء فكرة جوهرية أساسية هي أن الإنسان هو الأول وهو الأساس وليست هويته أياً كانت, خاصة وأن إنسان الشرق الأوسط, لا يحمل هوية واحدة بل هويات عديدة لا يمكن ولا يجوز تقليصها إلى هوية واحدة, ولكن الأهم من كل ذلك والذي يجمع بين البشر هو الإنسان ذاته الذي يفترض أن يُحترم وأن يمارس حقوقه وواجباته بمساواة تامة ودون تمييز وبعيداً عن الهويات المفرقة للبشر.
وحين نشرت مقالي الموسوم "هل يحق للعرب والمسلمين إنكار المحارق والمجازر الفاشية ضد اليهود", مشيراً إلى المحارق الرهيبة والمجازر الدموية التي ارتكبت بحق الإنسان في ألمانيا الهتلرية, وخاصة ضد اليهود والعدد الهائل منهم الذين قتلوا على أيدي العصابات النازية الفاشية, كتب المدعو السيد أبو نيرودا الذي خجل من ذكر اسمه الصريح بسبب عدوانية وعنصرية التعليق الذي نشره في الحوار المتمدن بتاريخ 11/6/2009 وتحت عنوان "ما هكذا تورد الإبل يا دكتور كاظم" يقول: " دكتور كاظم ماعرف مادخلك بالموضوع هل انت يهودي وهل ماتدعية اسرائيل والصهيونية العالمية صحيحا ؟ نعم هناك مجزرة ولكن من يقف وراء المجزرة لماذا القفز على الحقائق؟ كل اليهود في اوربا كانو مليونان فكيف هتلر قتل سته؟لماذا لا يقبل اليهود بالتحقيق ولماذا كلما انتقد احد او اراد البحث انقلبت الدنيا ولم تقعد ؟ ارجوك يا دكتور كاظم ان تعتذر للعرب على تهجمك لصالح فئه انت تعرفها." أترك للقارئ معرفة الأخطاء النحوية والإملائية الكثيرة في هذا المقطع القصير. وهذا ليس بالأمر المهم, إذ من المحتمل أن يكون الرجل لم يحظ بعناية المدرسين أو لم يكن مجتهداً لتعلم اللغة العربية. إذ أن الأهم من كل ذلك هو ما ورد في هذا المقطع القصير من أفكار بائسة وذات وجهة شوفينية وعدوانية. ومع شكري للأخوة السادة الذين كتبوا مشيرين إلى الأخطاء الفكرية التي ارتكبها, فلا بد لي من مناقشته لتبيان الخلل والأخطاء القاتلة التي ارتكبها في ما كتب وليس كل الأخطاء التي تستوجب المناقشة.     
لم يبرهن الأخ أبو نيرودا على أنه لا يعرف شيئاً في فن الكتابة والإملاء فحسب, بل لا يعرف شيئاً عن التاريخ الأوروبي وعن عدد السكان اليهود في أوروبا حينذاك وتوزيعهم الجغرافي, في حين كان في مقدوره أن يعود على الحاسب الإلكتروني والإنترنيت ليوفر له الأرقام الدقيقة عن عدد سكان أوروبا التي وقعت تحت الاحتلال الألماني أو التي كانت ضمن مناطق المعارك الحربية في الحرب العالمية  الثانية أو التي سارت على طريق الفكر العنصري لهتلر. لقد أصبح الإنترنيت يوفر مثل هذه الإمكانية لأبسط الناس, فكيف بمن يحاول التعليق على قضية مهمة من هذا القبيل. فالدخول إلى google  أوYahoo  كفيل بمساعدة  أي إنسان في الحصول على المعلومات الضرورية عن عدد مواطنات ومواطني الدول الأوروبية في العقد الرابع والخامس من القرن العشرين. وأنصحه أن يقوم بذلك, إذ كان الأجدر به أن يقوم بذلك قبل أن يرد على ما كتبته. ويتساءل أبو نيرودا, بعد أن يعترف بوجود مجزرة ضد اليهود وغيرهم, ولكن من يقف وراء هذه المجزرة؟ والسؤال بطريقة صياغته يوجه الاتهام إلى الصهيونية العالمية التي كانت تسعى إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين وفق وعد بلفور 1917. دعني أقول بأن الصهيونية قد رغبت في كل الأحوال بأن تقنع اليهود في مختلف بقاع الأرض للهجرة إلى فلسطين, ومنها يهود ألمانيا. ولكن هل بهذا السؤال يريد أن ينفي عن النازية الألمانية صفة الفاشية والعداء للسامية واليهود منهم على نحو خاص؟ هل يريد أن يبرئ, حتى لو كانت الصهيونية هي المسئولة جدلاً, الأداة التي نفذت تلك الجريمة البشعة بحق مواطنات ومواطني أوروبا بتلك الوحشية؟ أمر غريب ومنطق أفلج يمارسه كل من فقد الرؤية الإنسانية السليمة وبوصلة التفكير العقلاني! كانت الصهيونية العالمية دون أدنى ريب تسعى إلى أن يهاجر يهود أوروبا إلى فلسطين, ولكنها لم تنجح في ذلك, كما فشلت في الثلاثينيات والأربعينيات في إقناع يهود العراق للهجرة إلى فلسطين, لأن مواطنات ومواطني أوروبا والعراق كانوا متمسكين بالبلد الذي ولدوا فيه وعاشوا فيه وعملوا فيه وأصبحوا منذ مئات السنين جزءاً من شعوب تلك البلدان. ولكن الفاشية التي عمدت إلى قتل اليهود وتصفية وجودهم في أوروبا هي المسؤولة عن تلك الجرائم البشعة في ألمانيا وعن هرب من استطاع الهرب من أوروبا على الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها من الدول للحفاظ على الحياة. والقوى القومية العربية اليمنية والفاشية هي التي كانت مسئولة عن الفرهود في العراق وهي التي دفعت اليهود لمجموعة من اليهود للتفكير بالهجرة, في حين أن قرار إسقاط الجنسية هو الذي فرض عليهم الهجرة القسرية. لقد قال العرب بحق "أجلس أعوج ولكن أحكي عدل أو باستقامة ", وكم كان مهماً للسيد أبو نيرودا أن يلتزم بهذه الحكمة المجربة       
ثم يتساءل هذا السيد فيقول "دكتور كاظم ما أعرف دخلك بالموضوع هل أنت يهودي.... والسؤال هو أقبح من فحوى بقية التعليقو إذ أنه ينفي عن الإنسان إنسانيته ويربطه بهوية معينة ثانوية. والسؤال المضاد هو: هل ينبغي للإنسان أن يكون يهودياً لكي يشجب ما حصل لليهود في ألمانيا أو في بقية أنحاء أوروبا في زمن الهتلرية أو ما حصل لهم في العراق في فجيعة الفرهود في 1 و2 من شهر حزيران/يونيو 1941 وما نشأ عنها من مخاوف لدى اليهود؟ هنا يفترض أن نعي تلك الموضوعة التي أدت إلى عواقب وخيمة في العلاقات بين البشر, أي العلاقة بين "أنا" و "الآخر". ينسى هؤلاء الناس الذين يطرحون المسألة: أنا الأفضل والأحسن والأفهم ومن الإثنية الأرقى والأعلم, في حين ينحدر الآخر من الأدنى والأسوأ والأكثر جهلاً, بأنهم ينطلقون من أرضية التمييز بين البشر وينطلقون من أحكام مسبقة ونمطية متخلفة في الرؤية إلى الذات وإلى الآخر. إن إدانة محارق ومذابح اليهود في أوروبا أو عمليات القتل والسلب في الفرهود أو مذابح الأنفال في كُردستان العراق أو المذابح في أفريقيا من البيض ضد السود أو المذابح ضد شعب دار فور في السودان ... الخ لا تحتاج لأن يكون الإنسان يهودياً أو مسلماً أو مسيحياً أو من أي أثنية أو قومية معينة أو من السود أو البيض لكي يدين هذه المجازر, بل يكفي أن يحس الفرد, امرأة كانت أم رجلاً, بأنه إنسان ويتعامل مع أخيه الإنسان, لأن الإنسان هو اثمن ما في هذه الدنيا بغض النظر عن هويته الأثنية أو القومية أو الدينية أو المذهبية أو الفكرية, حتى الإنسان العنصري أو الفاشي لا يجوز قتله, وفق ما أرى, بل وضعه في السجن, إن ارتكب الأخطاء أو مارس الدعاية الفاشية والعنصرية لتجنب احتمال ارتكابه جرائم بحق الناس لأنه في مثل هذه الحالة غير محسوب العواقب. الإنسان هو الأول وليس الدين أو المذهب أو القومية أو أي شيء آخر. إذ أن كل ذلك يأتي بالدرجة الثانية, ولا هوية يمكن أن تعلو على هوية الإنسان.
السيد المعلق على مضامين مقالي المشار إليه سابقاً نسى تماماً أو لا يعرف شيئاً عن محاكم نورنبيرغ في ألمانيا التي عقدت في الفترة بين 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1945 و1 تشرين الأول/ أكتوبر 1946, إضافة إلى محاكمات أخرى جرت في دول أوروبية أخرى في أوروبا وفي اليابان ضد مجرمي الحرب وضد الذين ارتكبوا جرائم جماعية وضد الإنسانية, وفي مقدمتها الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود أو ضد المجموعات البشرية الأخرى ومنهم الغجر (السنتي والروما) في أوروبا أو ضد المسيحيين والشيوعيين والاشتراكيين من جانب النازيين وأتباعهم في أوروبا من منطلقات عنصرية وفاشية استبدادية ومعاداة الآخر. إنا لست مسيحياً أو إيزيدياً أو صابئياً مندائياً عراقياً, كما لست كردياً أو تركمانياً, ولكني شجبت وأدنت كل الجرائم التي ارتكبت في العراق ضد هذه المجموعات البشرية من مواطنات ومواطني بلادي, العراق, وكذلك شجبت وأدنت تلك الجرائم التي ارتكبت من الإسلاميين السياسيين المتطرفين والمليشيات الطائفية المسلحة ضد المسلمين السنة والشيعة في السنوات الست المنصرمة أو في فترات حكم القوميين والبعثيين. والسبب في ذلك هو أني كأي إنسان سوي آخر أحس مع بقية البشر بإنسانيتي, وحين يفقد الإنسان إنسانيته يتصرف كقومي وكمسلم وكمسيحي ويهودي ...الخ  متعصب في مواجهة الإنسان الآخر, أي ينطلق من مواقع التمييز بين البشر. وهو الخطأ الفادح الذي عرض البشرية إلى الكثير من المجازر العنصرية الجنونية, بما فيها الحروب الصليبية أو موقف البيض من السود في الولايات المتحدة على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أو حتى النصف الأول من القرن العشرين, وبعض التمييز لا يزال قائماً, بالرغم من انتخاب أوباما, لدى بعض قوى البيض في الولايات المتحدة. يمكن للسيد أبو نيرودا أن يطلع على موقع الحوار المتمدن على مقالاتي المنشورة حول العنصرية والفاشية وعواقبها على  البشر. وللعلم لم يرفض اليهود في أوروبا أجراء التحقيقات بشأن تلك المجازر, بل كانت هناك معاهد علمية أنجزت الكثير من الأبحاث والدراسات الميدانية حول دور الفاشية والنظام النازي, ولا تزال هناك دراسات مهمة بهذا الصدد. ويمكن قراءة مئات الكتب حول تلك الجرائم التي يندى لها جبين البشرية بالعار والشنار.
حين يتنكر المدعو محمود أحمدي نجاد لجرائم الفاشية أو "الهولوكوست ", فهو لا يجسد إنسانية وعدلاً وموضوعية, بل يعبر عن فكر ونهج سياسي ودعاية فاشية قومية ودينية متعصبة بشعة. وسيقود إيران إلى عواقب وخيمة بعد أن انتخب بالتزوير لرئاسة الدولة ثانية, كما تشير الأخبار العالمية والمعارضة الإيرانية. إنها البداية لنهاية محتملة غير قصيرة لهذا النظام الإسلامي المزيف والبشع في إيران.       
لقد طلبت من الأخوات والأخوة العرب الذين سكتوا عن تلك الجرائم وأيدوا الدكتاتور أو هللوا له  أن يستنكروا الجرائم التي اقترفها النظام البعثي ضد الشعب الكردي وضد الكُرد الفيلية في العراق, كما طلبت منهم أن يستنكروا الجرائم التي ارتكبها نفس النظام ضد العرب في الوسط والجنوب أو في مناطق غرب بغداد, لأن ذلك تعبير عن وعي متأخر, ولكن ضروري لبشاعة الجرائم التي ارتكبت. وأشرت إلى ضرورة الاعتذار لأن النظام اقترف تلك الجرائم باسم العرب والعروبة والدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية. وهو مطلب عادل لا لأنهم اشتركوا في ارتكاب تلك الجرائم, بل لأنهم سكتوا والساكت شيطان أخرس, أو أيدوا وهللوا وبالتالي فهم قد ساهموا بصورة غير مباشرة في ذلك. أما أن يطلب مني الاعتذار للعرب حول ما قلته عن أولئك الذين ينكرون تلك الجرائم البشعة فهي المأساة والمهزلة, وهو تعبير عن عقلية سقيمة ورؤية بائسة.
إن احترام الرأي والرأي الآخر ضروري جداً, شريطة أن يبتعد هذا الرأي عن فكر العنصرية والفاشية أو تأليه الدكتاتورية أو الدفاع عن جرائمها مجتمعة ضد الإنسانية.
15/6/2009                      كاظم حبيب 
             
 

1213
رؤية أولية للحوار
حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إقليم كردستان العراق وسبل معالجتها
الحلقة الثانية
توفير مستلزمات الرؤية الواقعية للتنمية الاقتصادية في الإقليم

قبل التطرق إلى إستراتيجية التنمية والمهمات التي تواجه إقليم كُردستان نشير إلى عدد من الملاحظات التي نقترح أن تدرس من جانب حكومة الإقليم:
أ‌.   معالجة التحديات والمهمات المختلفة, وخاصة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, على أساس افتراض إن الإقليم - كياناً مستقلاً - يجب توفير كل مستلزمات إدامة وجوده واستمرار تطوره.
ب‌.   معالجة ذات التحديات باعتبار أن إقليم كُردستان يشكل جزءاً متكاملاً من الاقتصاد والمجتمع في العراق بما يوفر حرية الحركة والعمل والتفاعل المتبادل والشامل.
ت‌.   الأخذ بنظر الاعتبار التعاون في الظروف الراهنة بين الوضع في بغداد والإقليم ووضع برنامج مؤقت لكُردستان العراق يهدف إلى استغلال المزايا المتوفرة في كُردستان العراق لتوفير قدر مهم من احتياجات العراق من المنتجات والخدمات من الإقليم ذاته لدعم عملية التنمية في الإقليم من جهة, وللحد من استنزاف موارد العراق في الدول الأخرى من جهة أخرى.
ث‌.   وضع إستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى تأخذ بالاعتبار البدء بعمل مشترك عندما تصبح المحافظات العراقية في القسم العربي من العراق قادرة على التنسيق والعمل المشترك.
ج‌.   أن يكون الاعتماد على المبادرة والقطاع الخاص في عملية التنمية واقتصاد السوق الاجتماعي الذي يسعى إلى تأمين علاقة عقلانية بين العمل ورأس المال, وبين النمو الاقتصادي والحياة الاجتماعية للسكان لضمان السلم الاجتماعي في كُردستان والتطور الهادئ.
ح‌.   تنشيط دور الدولة في مجالات لا يستطيع القطاع الخاص ولوجها, أو أنها تمس أمن وسلامة وثروات الإقليم والمجتمع بشكل عام وفي شؤون الإدارة والأمن وحماية البيئة والثروة الوطنية.
خ‌.   الاعتماد على الاستثمارات المتوفرة في داخل الإقليم وتلك الاستثمارات الموجودة في الجانب العربي من العراق والسعي لمنع هربها إلى الدول المجاورة, وكذلك تحفيز رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في داخل الإقليم وفي العراق, إضافة إلى استثمار موارد الدولة والمساعدات والقروض الخارجية, لتأمين تسريع عملية إعادة إعمار كُردستان والتنمية الشاملة الاقتصادية والبشرية.
د‌.   ضرورة التوسع في  مناطق اقتصادية حرة تسمح بحركة رؤوس الأموال والتوظيف وبناء المشروعات الاقتصادية, الإنتاجية والخدمية, في المدن الكُردستانية المختلفة.
وتتطلب الفقرتان الأخيرتان بشكل خاص إصدار التشريع المناسب حول الاستثمار الأجنبي والمناطق الاقتصادية الحرة التي تنظم النشاط الاقتصادي لرؤوس الأموال الأجنبية وتمنح المحفزات المناسبة لتنشيط دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى اقتصاديات كُردستان العراق. وهناك مشروع قانون مطروح للمناقشة, بدا لنا مناسباً لهذه المرحلة من تطور الإقليم. 
تشكل فيدرالية إقليم كردستان العراق جزءاً من الدولة العراقية الاتحادية. وكأي دولة اتحادية تتوزع المهمات السياسية والاقتصادية والبيئية والعسكرية والأمنية بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وفق ما يقرره الدستور العراقي والقوانين التي تصدر وتنظم تلك العلاقات المتنوعة, سواء الخارجية منها أم الداخلية. وهذه القضية ليست بدعة بل هي موجودة في كل الدول الاتحادية, وخاصة تلك التي تتشكل من قوميات عدة, والتي هي ليست دولة كونفدرالية, بل فيدرالية أو فيدراليات داخل دولة واحدة. وتوزيع المهمات لا يعتمد على الثقة المتبادلة, رغم أهميتها بل تثبت بقوانين منظمة لتلك العلاقات ووجود محكمة دستورية عليا تحكم حين وقوع خلافات أو اختلاف في الرأي حول قضية معينة, وحين لا يمكن حليها سياسياً فيكون القضاء هو الحكم الأخير. والتنسيق القانون للمهمات يتوزع على جميع المجالات دون استثناء لاستبعاد المشكلات التي يمكن ان تظهر في مجرى التطبيق العملي للنظام الفيدرالي. ونحن الآن نتحدث عن الجانب الاقتصادي في المهمات التي يفترض أن تعالج. ويبدو لي أن مهمات الإقليم تتوزع على ثلاثة اتجاهات, وهي: 
1.   تأمين التنسيق والتكامل الاقتصادي والاجتماعي بين برنامج الحكومة المركزية وبرنامج حكومة الإقليم, بما يساعد على تجنب التعارض أو التكرار في المشاريع.
2.   توزيع المهمات على مستوى الدولة والإقليم, وعلى المستوى الحكومي في الطرفين أو على مستوى القطاع الخاص, أي تلك المشاريع التي يفترض أن تقام وتمول من الحكومة المركزية وتلك التي يفترض غقامتها وتمويلها من ميزانية الإقليم أولاً, وتلك التي يمكن ان ينهض بها القطاع الخاص على مستوى العراق كله أو على مستوى الإقليم, إذ يفترض أن يكون العراق كله مفتوحاً على توظيفات القطاع الخاص المحلي وافقليمي والأجنبي ووفق معايير يفترض أن تكون واحدة لمصلحةالعراق وجميع الأطراف.
3.   البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الخاص بحكومة الإقليم والذي يمول من حكومة الإقليم والقطاع الخاص.
4.   لا بد من التزام الحكومة المركزية المسئولة عن تسلم الموارد المالية المتأتية من صادرات النفط الخام أو غيرها من الموارد الأولية أو المساعدات المالية غير المحددة لمشاريع معينة سواء أكان على مستوى المركز أو افقليم والمحافظات, بتسليم حصة الإقليم والمحافظات في المواعيد المقررة لها لكي لا يحصل أي اختلال في العملية التنموية في الإقليم والمحافظات أو على مستوى المشاريع المركزية.
5.   تنظيم جلسات دورية لرئيسي الورزاء في المركز والإقليم ومحافظي المجالس المحلية في المحافظات للتدارس بشأن تلك البرامج وسبل تعجيلها أو تجاوز المشكلات فيها, إضافة على اجتماعات الوزراء والمسئولين كل في مجال اختصاصه. 
وعلى جميع الأصعدة لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار مصلحة الإقليم ومصلحة بقية المحافظات العراقية من جانب المركز بما يسهم في تحقيق تطور متناسق ومتكامل ويساعد على تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية وينمي الثروة الاجتماعية ويسهم في تقليص وإنهاء البطالة المكشوفة والمقنعة ويرفع من مستوى حياة ومعيشة السكان ويقلص تدريجا وبشكل ثابت التفاوت القائم بين مستوى جميع محافظات البلاد الناشئة عن السياسات التهميشية السابقة.
إن تحقيق معدلات نمو عالية, إضافة إلى تحقيق بقية الأهداف يتطلب لزوماً وجود رؤية إستراتيجية بعيدة المدى لدى راسم السياسة الاقتصادية ومقررها, أي جهاز التخطيط أو وزارة التخطيط وجهازها المتخصص بإستراتيجية التنمية, كما يتطلب وضع برامج خماسية وسنوية هادفة ومترابطة باعتباره الطريق الوحيد والضامن والقادر على تحقيق التطور المستقل للعراق, ومعه الإقليم. من هنا يمكن القول بأن المهمات تتلخص في العمل الهادف إلى التخلص المدروس والمبرمج والمنظم تنظيماً جيداً من كل السمات السلبية التي أتينا على ذكرها في الحلقة الأولى من هذه المجموعة من المقالات التي قدمنا فيها وصيفاً للواقع الكردستاني, والذي لا يختلف كثيراً عن مجمل الواقع العراقي مع تحسن عام في أوضاع الناس في إقليم كردستان بالمقارنة مع أوضاع الوسط والجنوب أو حتى بغداد.
إن من واجب المخطط والمشرع للتنمية أن يأخذ بالاعتبار التحديات الكبيرة التي يواجهها الإقليم في هذه المرحلة بالذات والتي هي أكثر من أي وقت مضى, بسبب أن الفيدرالية قد قطعت شوطاً مهماً وأن القوى التي ترفض هذه الفيدرالية متنوعة وليست عراقية فقط, بل وعربية ودول مجاور وإقليمية. إنها تحديات   على المستوى السياسي, وخاصة العلاقة مع الحكم المركزي ببغداد والعلاقة مع دل الجوار وإقامة المجتمع المدني وتنشيط دور الفئات الاجتماعية وكسبها إلى جانب مسيرة التنمية وأخذ مصالحا بنظر الاعتبار أولاً وقبل كل شيء وتعزيز الفيدرالية في إطار الدولة العراقية وممارسة حقوق الإنسان وحقوق القوميات الأخرى وحرية الصحافة وإيقاف الممارسات المخلة في السجون وإطلاق سراح معتقلي الرأي. وعلى المستوى الاقتصادي تبرز بشكل خاص في ضرورة تغيير بنية الاقتصاد والتصنيع والأمن الغذائي وتقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتحسين مستوى معيشة الفئات المنتجة والكادحة والفقيرة. وعلى المستوى الاجتماعي تبرز المهمات في تكريس منظمات المجتمع المدني وحقوق المرأة وتعميم الحياة الثقافية وخاصة لأوساط الشباب وتنويعها وكسر حالة الخمول والروتين والضجر, وتطوير أسس التربية والتعليم وتنمية مراكز البحث العلم. يضاف إلى كل ذلك الحفاظ على الأمن والاستقرار وتعزيزه. 
وفي ضوء كل ذلك يمكن تحديد المهمات العامة بما يلي: (راجع في هذا الصدد الدراسة المشتركة للسيد الدكتور جعفر عبد الغني وكاظم حبيب).
•   إزالة التخلف المتعدد الجوانب من خلال تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية وإزالة واعية ومستمرة للاختلال الهيكلي الراهن.
•    زيادة الموارد المالية للإقليم وتوجيهها لدعم الميزانية الاعتيادية وميزانية التنمية الاستثمارية ودعم الفئات الكادحة من السكان والاعتماد في ذلك من خلال المراحل الأولية على زيادة الموارد النفطية. يضاف إلى ذلك ضرورة استثمار بقية الموارد الأولية لتقليل دور النفط على المدى البعيد.
•    التنمية البشرية التي تشكل قاعدة البناء والتطور الاقتصادي والتقدم الحضاري لإقليم كُردستان خلال العقدين القادمين. 
•    تطوير مراكز البحث العلمي والتكنولوجي بتعزيز العلاقات مع معاهد العلم والتقنيات في العالم المتقدم, إضافة إلى ربط تلك المعاهد ومراكز البحث العلمي بالمؤسسات والمشاريع الاقتصادية والجامعات والكليات.
•    تطوير إنتاج الطاقة والصناعات التحويلية وخاصة الصناعات الإلكترونية والآلات الدقيقة ومشتقات النفط والصناعات البتروكيماوية, إضافة إلى الصناعات الزراعية لتطوير الأمن الغذائي.
•   إيلاء أهتمام كبير بالقطاع الزراعي وتنويعه وتحديث وسائل الإنتاج وتنظيم الإرواء والاستفادة القصوى من عيون الماء واستخدام التقنيات الحديثة في العملية الإنتاجية  والنقل والتخزين والتسويق.
•   إيلاء عناية خاصة بالسياحة المحلية والخارجية بما يجعل منها صناعة فندقة وخدمات سياسحية متقدمة,
•    وضع برنامج للإصلاح الإداري ومكافحة الفساد المالي والإداري والمحسوبية والمنسوبية والحزبية الضيقة. 
•    الاعتماد على الاستثمارات المتوفرة في داخل الإقليم وتلك الاستثمارات الموجودة في الجانب العربي من العراق والسعي لمنع هربها إلى الدول المجاورة, وكذلك تحفيز رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في داخل الإقليم وفي العراق, إضافة إلى استثمار موارد الدولة والمساعدات والقروض الخارجية, لتأمين تسريع عملية إعادة إعمار كُردستان والتنمية الشاملة الاقتصادية والبشرية.
•    ضرورة التوسع في  مناطق اقتصادية حرة تسمح بحركة رؤوس الأموال والتوظيف وبناء المشروعات الاقتصادية, الإنتاجية والخدمية, في المدن الكُردستانية المختلفة.
وجدير بالإشارة أن الإقليم قد أصدر التشريع المناسب حول الاستثمار الأجنبي والمناطق الاقتصادية الحرة التي تنظم النشاط الاقتصادي لرؤوس الأموال الأجنبية وتمنح المحفزات المناسبة لتنشيط دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى اقتصاديات كُردستان العراق. وهذا القانون يغطي الفقرتين الأخيرتين مما ورد في أعلاه.
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة


كاظم حبيب

1214
ما هدف الأوساط الإسلامية السياسية الداعية إلى إقامة نظام إسلامي طائفي في العراق؟

ورد في موقع السيد علي السيستاني على الإلكتروني بتاريخ 31/آيار 2009 النص التالي:
"وقال مصدر رفيع في مكتب السيد السيستاني "السيد السيستاني لا يزال عند رأيه من أن العراق لا يحكم بأغلبية طائفية أو قومية وإنما بأغلبية سياسية من مختلف الشعب العراقي تتشكل عبر صناديق الاقتراع". هذا النص منقول عن الموقع المنقول عن جريدة الصباح العراقية.
للسيد السيستاني الحق في اختيار الطريقة التي يصرح بها والمكان الذي ينشر فيه تصريحاته, ولكن, بما أنه يمتلك موقعاً خاصة به, فكان الأفضل, كما أرى, لكل القارئات والقراء أن يقرأوا التصريح صادراً عنه مباشرة وفي موقعه أولاً ويؤخذ عن الموقع لينشر في الصحف العراقية ومنها جريدة الصباح. كما لم يكن سليماً بأن الناطق الرفيع المستوى لم يذكر اسمه, وبالتالي يمكن التخلي عن هذا التصريح في أي لحظة, إذ ليست هناك مسؤولية مباشرة عن صاحب التصريح خاصة وان المتحدث رفض الإعلان عن اسمه. وهو أمر غريب بحد ذاته ايضاً.
ومع ذلك فأن مثل هذا التصريح المهم من الناحية الرسمية, إن كان صحيحاً, يفترض أن تكون له نتائج على أرض الواقع والحوزة الدينية في النجف وبالنسبة للسيد صدر الدين القبانجي والمجلس الإسلامي الأعلى, خاصة وأن القبانجي لا يزال يحتل موقعاً مهماً في الحوزة الدينية من جهة, وموقعاً قيادياً في المجلس الإسلامي الأعلى من جهة أخرى, وخطيب الجمعة في جامع النجف من جهة ثالثة, وهي كلها مواقع مهمة يستطيع من خلالها ممارسة دوره التثقيفي المؤيد لإقامة دولة طائفية وحكم طائفي في العراق يمثل المذهب الشيعي حسب فهمه الطائفي السياسي لهذا المذهب.
إن السيد صدر الدين, ومعه زميليه العضوين البارزين في المجلس الإسلامي الأعلى, يلعبون اليوم دوراً تخريبياً في العلاقات الوطنية من خلال رفع شعارات مضادة للعلمانية والدعوة إلى دولة دينية طائفية, في حين أنهم يدركون أن أغلب القوى السياسية الكردستانية تتحدث بالعلمانية وقوى ديمقراطية عربية تتحدث بالعلمانية أيضاً, وهم يهاجمون العلمانية التي تعني الكثير في عالمنا العربي والإسلامي والعراقي أيضاً, فالمدارس الحديثة هي جزء من نظام العلمانية, والدولة العراقية الفيدرالية هي جزء من العلمانية, والدستور المدني العراقي هو جزء من العلمانية, رغم وجود نصوص تتناقض مع العلمانية مثل دين الدولة هو الإسلام, في حين أن الدولة لا يمكن أن يكون لها دين باعتبارها شخصية اعتبارية وليست إنساناً عاقلاً يحق له حمل دين معين. وهم بذلك يفسدون على المجتمع القدرة على تعزيز نسيجه الوطني العراقي ويتنكرون للهوية الوطنيةو هوية المواطنة العراقية, وأن شعب العراق يتكون من قوميات وأديان ومذاهب واتجاهات فكرية وسياسية متعددة, وبالتالي فهم يدعون إلى رؤية شمولية في الدولة العراقية, أي رؤية استبدادية قسرية وطائفية سياسية مقيتة, وهو أمر مرفوض.
لقد قبل بعض هؤلاء الذين يدعون إلى مهاجمة العلمانية ومظاهرها في المجتمع ويمارسون ذلك فعلاً, خدمة النظام الصدامي. فعلى سبيل المثال لا الحصر أرجو من الحوزة الدينية في النجف أن تراجع المجتهد العلامة محمد كلنتر رئيس جامعة النجف الدينية وتسأله, إن لم تكن قد فعلت حتى الآن, الدور الذي كان يمارسه الأخ غير الشقيق لمحمد جلال الصغير, المدعو الدكتور غير المعمم منذ حكم صدام حسين, محمد حسين الصغير في مكتب المجتهد في جامعة النجف الدينية. لقد كان المجتهد رئيس الجامعة في التسعينيات من القرن العشرين يبكي وهو يحدث أصحابه عن مجيء هذا الرجل يومياً إلى مكتبه لمراقبة دخول وخروج وأحاديث من يحضر إلى غرفة رئيس الجامعة, إذ كان مكلفاً بذلك أيضاً, وأنه كان يخشى على نفسه وعلى هؤلاء الناس من انتقام البعث, إذ كان الدكتور محمد حسين الصغير وكيل أمن أو مخبر أمن, لا أستطيع البت في أحدهما أو غيرهما, بل ضرورة العودة إلى ملفات الأمن في النجف وفي بغداد لمعرفة التفاصيل الدقيقة عن هذا الموضوع. وهو اليوم يرفع صوته عالياً ليشتم العلمانيين والديمقراطيين ويدعو مع أخيه الصغير الآخر إلى رفض العلمانية وإدانة تناول المشروبات الروحية أو بيعها ...الخ.
أدعو إلى حملة وطنية عراقية, إدعو الكتاب العراقيين الحريصين على وحدة الشعب والمجتمع المدني, أن يبدأوا بالكتابة لإدانة هذا النهج السيء والخطير الجديد الذي يتبناه هؤلاء ومن يقف خلفهم من الأحزاب والقوى السياسية, لأنه البداية لأمور أخرى حلت في إيران المجاورة والتي يمكن أن تتواصل في العراق أيضاً وتقود إلى صراعات نزاعات لا آخر لها.
7/6/2009                         كاظم حبيب          
        


1215
هل السيد صدر الدين القبانجي مصاب بلوثة الطائفية المقيتة؟

يفترض أن يكون السيد صدر الدين القبانجي قد قرأ وتعرف على ما تضمنته لائحة حقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية الأخرى من مبادئ وقيم حضارية توصل إليها بني البشر عبر قرون من الكوارث غير الطبيعية والحروب والمعاناة والآلام والدماء والدموع. ويفترض أن يعي بأن عليه أن يحترم تلك المبادئ التي تضمنت حقوق الإنسان, والتي سجلت بوضوح ما له وما عليه. ومن بين هذه المبادئ أن الإنسان حر في ما يؤمن به أو يعتقد به أو يقتنع به وليس لأي من الناس حق التدخل بشأن هذا الإنسان أو ذاك ما دام الإنسان حين يمد يده لا يمس أنف غيره!
من المؤسف حقاً أن النظم السياسية والبيت والمدرسة وأسس التربية والتعليم والمؤسسات الدينية والكثير جداً من القوى السياسية, إن لم نقل كلها, لم تربي وتعلم الإنسان في العراق وفي العالم العربي والإسلامي وفي الكثير من الدول الأخرى على مثل هذه المبادئ والأسس الإنسانية القويمة بصدد العلاقة في ما بين البشر من جهة, والعلاقة بين الإنسان وإيمانه من جهة أخرى, وبين الدين والدولة من جهة ثالثة. ونشأت عن ذلك تربية وأسس خاطئة في بنية التفكير والفكر لدى الإنسان في بلادنا. وأحد هؤلاء الذين يعانون من ذلك هو السيد صدر الدين القبانجي.
لست معارضاً لأيمان السيد صدر الدين القبانجي بالدين الإسلامي أو بغيره, كما لست مناهضاً له في تبنيه للمذهب الشيعي الإثنا عشري أو أي مذهب آخر, فله في ذلك كل الحق, ولا أعترض عليه إن أراد تغيير دينه أو مذهبه أو فكره, فله في ذلك كل الحق أيضاً, وهي حقوق تقرها لائحة حقوق الإنسان وكل المواثيق والعهود الدولية أو شرعة حقوق الإنسان, وكذلك الإنسان المتحضر. ولكن أعترض عليه حين يتحول من إيمانه بمذهب إلى إيمانه بالطائفية السياسية, سأقاومه تماماً كما قاومت الدكتاتور المجرم صدام حسين, فلا فرق بين من يريد أنم يفرض علينا رؤية شمولية قائمة على أساس قومي يميني شوفيني متطرف, ومن يريد أن يفرض علينا رؤية دينية مذهبية شمولية قائمة على أساس طائفي سياسي متطرف يميز بين البشر على أساس الدين والمذهب. في هذه المسألة لا يمكن أن يقف الإنسان محايداً, إذ أن القضية ترتبط بحياة الإنسان في العراق, بقضية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات... الخ.     
لا شك في أن القبانجي قد واجه نظاماً مارس الاستبداد والعنف والقسوة في مواجهة الرأي الآخر والفكر الآخر والعقيدة الأخرى والقومية الأخرى والمذهب الآخر وفي نهاية المطاف ضد كل الناس من غير صبغته, ولا بد أنه تابع ما تعرض له الإنسان العراقي بسبب وجود مثل هذا النظام الدكتاتوري, نظام صدام حسين, في حالة أنه لم يواجه شخصياً مثل تلك المعاناة, كما في حالة الدكتور محمد حسين الصغير, الأخ غير الشقيق للشيخ محمد جلال الصغير, الذي خدم نظام صدام حسين حتى ضد حوزته الدينية بكل أريحية وعاش في بحبوحة لا يحسدها عليه إلا من هم من أمثاله. وإذا كان القبانجي قد تعرف على كل ذلك, فلا أدري لماذا أذاً يلح على دفع البلاد إلى طامة أخرى مماثلة للطامة السابقة التي عانى منها الشعب العراقي في ظل نظام البعث, لماذا يريد إقامة وفرض نظام طائفي مقيت على الشعب العراقي. ليس هناك أي إنسان سوي أو عاقل يقبل بإقامة نظام طائفي في العراق. الملوثون بالطائفية السياسية هم وحدهم الذين يريدون إقامة نظام طائفي في العراق, سواء أكانوا من الشيعة أو السنة, وهم الذين يريدون تمزيق وحدة النسيج الوطني للشعب العراقي, هذا الشعب المتنوع بقومياته وأديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية المطرز بزهور الحياة وليس بوحدة الفكر الواحد والرأي الواحد واللون الواحد, سواء أكان اللون أبيضاً أم أسوداً أم أي لون وحيد آخر. إن أمثل هؤلاء الناس مصابون بلوثة عقلية حقيقية لأنهم لا يريدون للشعب أن يعيش بوحدة وتناغم بغض النظر عن القومية والدين أو المذهب أو الاتجاه الفكري أو السياسي. إنهم يريدون إقامة نظامٍ لا يختلف عن أي نظام استبدادي آخر في هذا العالم!         
إن إصرار القبانجي على ذلك وسكوت حزبه عن هذا الإصرار يقدم الدليل على تناغم وانسجام قيادة هذا الحزب مع رؤية القبانجي, فهل كلهم مصابون بلوثة الطائفية السياسية البشعة, مع كل الاحترام للمذهب الذي يؤمنون به؟ لا أرجو ولا أتمنى ذلك, إذ حسب علمي فأن الصديق السيد الدكتور أكرم الحكيم مثلاً غير مصاب بهذه اللوثة, ولذلك أعطي مسئولية لجنة المصالحة وأصبح وزيراً للمصالحة الوطنية. ولكن التمني شيء والواقع الذي نعيشه شيء آخر. وهو ما يفترض أن يتولى المجلس الإسلامي الأعلى توضيحه. إنها مسئولية قيادة هذا الحزب أن يوضح للشعب: هل هو حزب طائفي سياسي أم ماذا, رغم علمي بأن كل الأحزاب السياسية التي تبنى على أسس مذهبية لا يمكن أن تكون إلا طائفية, ومنها حزب الدعوة الإسلامية الذي يترأسه عملياً السيد على الأديب, الديمقراطي أداة وغاير الديمقراطي فلسفة!؟       
أتمنى على غير الطائفيين في مجلس النواب أن يبادروا بمسائلة قادة المجلس الإسلامي الأعلى الأعضاء في المجلس حول الدور التخريبي الذي يلعبه أحد قادتهم السياسيين في النجف في الحياة السياسية العراقية وسعيه لإثارة الصراع والنزاع الطائفي في العراق والعودة إلى المزيد من نزيف الدم في بلد أغرق حتى اليوم بالدماء والدموع والضحايا الأبرار.
إن إجابتي عن السؤال الوارد في عنوان هذا المقال هي على النحو التالي: لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يطرح على مجتمع متعدد القوميات والأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية السياسية مثل العراق إقامة نظام سياسي طائفي, ومن يمارس ذلك فهو مصاب بلوثة عقلية لا محالة, بغض النظر عن من يكون هذا الإنسان مع كل الاحترام للمذهب الذي يؤمن به هذا الإنسان أو ذاك!     
 4/6/2009                                                                                     كاظم حبيب



1216
هل للطفل حقوق في العراق؟

لا أطرح هذا السؤال لاستفزاز أي أب أو أم ولا العائلات العراقية ولا المجتمع العراقي, بل هو مجرد سؤال يسعى إلى التعاون الفكري والسياسي والاجتماعي لمعرفة الحقيقة, أي العمل الجاد مع كل الناس الذين يسعون إلى معرفة الحقيقة على نسبيتها, فالحقيقة نسبية وليست مجردة, كما قال أوسكار وايلد بصواب.
دعونا نتثبت من بعض الأوضاع التي يعيش فيها المجتمع العراقي منذ قرون, وعاشها في العقود الخمسة الأخيرة بشكل ملموس ومباشر. فالمرأة في بلادي ليست حرة ولا تتمتع بالحرية والغالبية العظمى منهن لا يعرفن معنى الحقوق العامة, دع عنك حقوق الإنسان وحقوقهن بالذات. والمرأة العراقية غير متحررة من عبودية الرجل وهيمنته المطلقة على حياتها وحركتها ومصيرها, وهي غير مالكة لإرادتها ورسم مستقبلها وعلاقاتها ودورها في المجتمع. والمرأة العراقية في الغالب الأعم حبيسة فتاوى المؤسسة الدينية الرجعية وشيوخ الدين غير المثقفين والجهلة وغير الواعين وغير الديمقراطيين, إذ أن غالبيتهم يعيش في أجواء الغيبيات التي لا صلة لها بالواقع القائم وحياة الإنسان الفعلية والحضارة الإنسانية. والمرأة العراقية , بشكل عام وفي الغالب الأعم, حبيسة الدار والمطبخ والحجاب ومحرومة من العلم والثقافة والتربية الحديث. والشعب الذي لا يحترم المرأة لا يحترم نفسه, والشعب الذي يشطب على نصفه لا يمكنه أن ينهض بأعباء التقدم والتطور وبناء أجيال أكثر احتراماً لنفسه, بل يعيد إنتاج تخلفه وركوده القاتل.
المرأة العراقية, هذه الإنسانة المقيدة بقيود من حديد في مجتمع لا يعي حتى نفسه, تزهو حين تتوفر لها فرصة المنافسة الفعلية مع الرجل في أوروبا وأمريكا وحيثما توفرت لها حرية الحركة والتعلم والمساواة وممارسة الحقوق الأخرى.   

أما الرجل, وفي الغالب الأعم, يُعتبر سيد الدار والحاكم المطلق في عائلته ولا يختلف عن المرأة في تدني ثقافته وعلمه وتربيته الحديثة وفي وعيه للواقع الذي يعيش فيه, كما أنه حبيس المؤسسة الدينية وشيوخ الدين في الموقف من المرأة ولا يختلف عن هؤلاء الشيوخ والمؤسسة بل يمثلها أسوأ تمثيل في البيت وفي العمل والشارع وفي المجتمع وعلى مستوى الدولة. وهؤلاء الرجال البؤساء, أغلب الرجال, يشكلون المجتمع الذكوري المسيطر على المرأة والمانع عنها حريتها وإرادتها في دولة ذكورية مستبدة ومتحكمة بحياة ورقاب وحقوق وحرية المرأة. الرجل الذي لا يحترم المرأة لا يحترم نفسه, والرجل الذي لا يرى في المرأة سوى عيباً, هو العيب وليس غيره. والرجل الذي يقتل المرأة بدعاوى تطهير الشرف وغسل العار, هو العار وهو الفاقد للشرف وليس غيره. والرجل الذي يصادر حرية المرأة, مصادرة حريته أصلاً, وفاقد الشيء لا يعطيه.
حين تكون الأم فاقدة لحقوقها, وحين يكون الأب فاقداً لحقوقه ومشوهاً في ممارسته بعض الحقوق التي يمتلكها تقليداً وليس أصالة, ومستبداً في بيته, فهل في مقدورنا بعد كل هذا وذاك أن نتحدث عن حقوق للطفل في العراق؟ 
الطفل في بلادنا محروم من الطفولة أولاً, ومن الحقوق ثانياً, ومشروع موت في كل لحظة. وليس من باب المبالغة حين نتحدث عن موت مئات الألوف منهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
فالقبور الجماعية التي أوجدها صدام حسين في كل أنحاء العرق, وخاصة الأطفال الذين استشهدوا في الأنفال أو الكيماوي أو المهجرين في دروب الهجرة الحدودية والمضرجين بدمائهم بسبب التفجيرات الانتحارية وغيرها, أو الذين ماتوا في الحروب التي استعرت في العراق أو مئات الألوف الأخرى من الأطفال التي ماتت بسبب الحصار الاقتصادي الدولي, بسبب الجوع ونقص الدواء والحرمان, أو بسبب الإرهاب الدموي وسياسات الاحتلال والطائفية البشعة.
العائلة التي لا تعرف حقوقها لا تعرف أيضاً حقوق أطفالها, فهي حين لا تعي مصادرة حقوقها لا تناضل من أجلها, وحينها يصعب تصور أنها تناضل في سبيل حقوق أطفالها. والفئة الحاكمة هي من هذا المجتمع المتخلف والمريض نفسياً والمعطلة حقوقه أو المصادرة, وهي بالتالي مصابة بذات العلل ويصعب تصور أنها تسعى لتأمين حقوق المرأة والعائلة والطفل.
هل يمكن تصور أباً يعرف حقوق الطفل ويسمح له بها, حين يأخذ طفله الصغير لكي يضرب بسكين حادة على رأسه المحلوق ليسيل الدم منه على وجهه وعلى القماش الأبيض الملتفع به بسبب احتمال موته أثناء عملية التطبير "الحسينية!" في كل المدن العراقية التي أغلبية سكانها من أتباع المذهب الشيعي الاثنا عشري المبتلية بالجهلة من شيوخ الدين الذين لا يجرءون على منع هذه الممارسة الوحشية خشية تراجع تأثيرهم ومداخيلهم المالية في العراق أيضاً. ومن تحدث منهم كان صوته واطئاً وكأنه يهمس لنفسه لا لغيره.
من هنا يمكن الادعاء بأن الطفل محروم من الحقوق لأن الأم والأب محرومان من الحقوق قبل ذاك, وهما في الغالب الأعم لا يعرفان أن لهما حقوق أصلاً, وبالتالي فحقوق الطفل أسوأ حالاً من حقوق الأبوين. وهكذا ينمو الطفل في وضع لا حقوق له, وحين يصبح شاباً لا يتمتع بحقوق الشباب, بل هو محروم منها أيضاَ... وهكذا تستمر عملة إعادة إنتاج غياب الحقوق من المهد إلى اللحد.
الطفل في بلادنا فاقد لطفولته في البيت, وفاقد لشخصيته في البيت والمدرسة وفي الشارع, وفاقد لتربية سليمة على أيد معلماته ومعلميه لأن أغلبهم لا يمارس حقوقه ولا يعيها ولا يعي حقوق الطفل أيضاً.
نسبة عالية من أطفال بلادي لا تحصل على  تغذية مناسبة, بل تعاني من جوع دائم وصحة عليلة ونقص في المعالجة والدواء. ونسبة مهمة منهم لا تجلس على مقاعد الدراسة بل تتجول في شوارع الوطن الغني بثرواته طلباً لشيء من مال تسد به غائلة الجوع. من يتجول في شوارع كل مدن العراق سيجد هذه الظاهرة البشعة أطفال بعمر الزهور وأجمل منها يعملون لكسب العيش أو يبيعون الماء والعلكة في المقابر وعلى قارعة الطرق والتسول بين السيارات العابرة والمارة. نسبة من أطفال بلادي بدأوا يتعاطون المخدرات, سواء عبر أكياس النايلون أم تناول المخدرات مباشرة. ونسبة مهمة من أطفال بلادي عرضة للاغتصاب وهي تسعى للحصول على لقمة العيش أو تتعرض إلى الاختطاف وسلبها بعض أعضائها لبيعها لمن يشتري تلك الأعضاء!
والفساد المالي والإداري المنتشر في بلادي وسوء التربية والتعليم والمناهج الدينية والتعليمية والمناهج التلفزيونية الباهتة والبائسة والطائفية والبعيدة عن العلم في أغلبها تزيد كلها وتوسع وتعمق من هذه المشكلة الإنسانية حيث يعاني الأطفال منها بشكل عام.
هذه كلها وغيرها صيغ تجسد فقدان الطفل لحقوقه في بلادي, وهذه الصيغ من التعامل تُنقل عبرهم لأطفالهم لاحقاً وهلمجرا. هذه الحلقة المفرغة التي يفترض كسرها لا تكسر بالدعاء ولا بالنداءات أو التمنيات الطيبة, بل تكسر بالنضال من أجل تغيير الواقع القائم في العراق, تغيير بنيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية البائسة حاليا, تكسر بالتنمية الاقتصادية والبشرية وبتغيير وعيه المتخلف, بتوفير مستلزمات تغيير هذا الوعي لدى الفرد والمجتمع, بممارسته لحقوقه, سواء أكان رجلاً أم امرأة. إنها الحلقة الشيطانية التي يفترض كسرها والتي يفترض مساهمة قوى المجتمع الواعية, وبشكل خاص القوى المثقفة والأحزاب والقوى الديمقراطية الواعية نسبياً رغم تباين وعيها لمخاطر هذه الحلقة المغلقة من فقدان هذه الحقوق أو تشويهها أو الهيمنة على المرأة وحرمانها من حقوقها من قبل الذكر والدولة الذكورية والقوانين الذكورية الجائرة والتشريع الديني ألذكوري الكاره للمرأة والرافض لحقوقها ومساواتها بالرجل. والدولة التي تعتمد العشيرة والدين قاعدة وأساساً لها تبتعد عن حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الإنسان والقوميات ولا تقترب منها, بل تجهض المسيرة نحوها, ومن هنا يفترض النضال من أجل إبعاد الدين عن السياسة وعن الدولة والالتزام بالقاعدة الأصوب: "الدين لله والوطن للجميع".     
إن النضال في سبيل حقوق المرأة والعائلة والطفل يعبر عن وعي سليم لأهمية ذلك في بناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث, وأن الطفولة الحالية هي حاملة المستقبل وهي الناهضة بمهماته اللاحقة, وعلى بنائها الراهن يتحدد بناء المجتمع القادم الذي نريد له أن يكون حراً وديمقراطياً وحديثاً.
3/6/2009                     كاظم حبيب
     

1217
هل تحمل خطبة القبانجي محاولة جادة لتبويش المالكي والمنجزات الأمنية؟

حقق السيد نوري المالكي نجاحات مهمة في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة , إذ رشح أعضاء حزبه وكافة مؤيديه باسم قائمة "فرض سلطة القانون" وبعيداً عن اسم حزب الدعوة الإسلامية. ولم تأت تلك النجاحات بقدرة قادر أو عبثاً , بل تحققت له بفعل عدة عوامل أساسية أركز عليها , رغم وجود عوامل أخرى أيضاً, وهي:
1 . نزول أتباعه ومؤيدي سياسته في فرض القانون تحت قائمة غير قائمة حزب الدعوة, وهو تكتيك تأكد نجاحه لابتعاد الناس عن الحزبية الطائفية المذمومة.
2 . إعلانه المستمر عن رفضه للطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية وتأكيده على المواطنة العراقية, رغم عدم تخلصه من بعض المجموعة الطائفية الملتفة حوله حتى الآن.
3 . تحسن ملموس في الوضع الأمني رغم استمرار وجود ضحايا بشرية تسقط سائحة بدمائها على أيدي قوى الإرهاب والأعداء المناهضين للوضع الراهن والراغبين في منع الاستقرار, ومنها قوى القاعدة والبعث الصدامي وقوى ميليشيات طائفية نزعت أسلحتها ولكنها لا تزال تمارس الإرهاب المبطن لإشاعة الفوضى غير المنقطعة والتشكيك بقدرة الحكم على حماية الناس.
4 . ضرب المليشيات الطائفية المسلحة إلى حدود معينة, وخاصة في البصرة ومدينة الثورة ببغداد, وتركها تعمل سياسياً, رغم إدراكه بأنها توجه المليشيات المسلحة السابقة التي نزعت شكلياً أسلحتها, إذ أن بعض أهم أسلحتها مخبأ وبعضه الآخر يصل باستمرار, كما كشفت ذلك أجهزة وزارة الداخلية أخيراً والقادمة من إيران.
5 . شعور الناس بحريتها النسبية بسبب تراجع ضغط قوى الإسلام السياسي الطائفية والمليشيات المسلحة على حرية الأفراد وعلى تصرفاتهم الشخصية التي لا تؤذي أحدا, إضافة نراجع نسبي في تدخلها بشئون العائلات المباشرة.
6 . توقيعه على اتفاقية لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق في نهاية 2011/2012.
هذه النتائج المحدودة, ولكنها مهمة وطيبة وضرورية, أغاضت أبرز قوى الإسلام السياسية وحلفائها في إيران وحركتها باتجاه معارضة سياسات المالكي.
ولا بد من الإشارة أن هذه المنجزات تبقى هشة ما دامت الإجراءات السياسية لا تزال غير متحركة, كما في قضية العلاقة بين المركز والإقليم, إضافة إلى عدم وجود سياسة اقتصادية تساهم في تغيير تدريجي في الواقع الاقتصادي العراقي الراهن والابتعاد عن الاستثمار في الصناعة الوطنية وتحديث الزراعة وإغراق البلاد بالاستيراد السلعي. والسؤال هو: كيف تتم معارضة سياسة المالكي؟
القرار المتخذ, كما يبدو بوضوح كامل, هو تبويش هذه السياسة وتقويض أركانها المعلنة من جانب المالكي, وخاصة تحريك القوى الطائفية لمعارضة تصريحات ضد الطائفية السياسية والمحاصصة الطائفية من خلال شخصية دينية مثل صدر الدين القبانجي بصوته الطائفي المرتفع والمقيت أبداً, وبسبب قربه من الحوزة الدينية في النجف وتمثيله للسيد علي السيستاني. وبالتالي يبدو للناس وكأن المتحدث هو السيستاني ذاته. إن لم يتنكر لها السيستاني فهي تعبر عن رأيه ايضاً!
أين يفترض أن يبدأ مخطط التخريب من جانب القبانجي؟
نحن الآن أمام قضية جوهرية تمس المجتمع العراقي وشعوب وحكومات دول الجوار. فهي تمس عدداً من الأمور التي يفترض التفصيل النسبي بها لنرى مخاطرها على المجتمع العراقي. والنقاط التالية هي التي تفسر لنا وجهة عمل القبانجي ومن يقف خلفه ويسانده:
1. إن عليه مهمة تشديد الصراع والدفع به إلى نزاع سياسي أو حتى إلى نزاع مسلح داخل المجتمع العراقي. فهو حين يدعو إلى إقامة نظام إسلامي مذهبي شيعي في العراق, فهو بهذا يقف ضد المذهب الإسلامي السني أولاً, ويقف ضد كل القوى السياسية التي ترفض الطائفية من منطلقات ديمقراطية علمانية ومدنية ثانياً, ويقف ضد حكومة المالكي التي تتحدث يومياً عن نظام غير طائفي سياسي وضد المحاصصة الطائفية ثالثاً. إن مثل هذا المشروع الذي يطرحه القبانجي علناً هي دعوة صريحة للاحتراب الداخلي وتعبر عن إحباط في داخل هذه القوى الطائفية وليست عن قوة فعلية. إنه يدفع مجدداً, وإلى سطح الأحداث, النقاش البيزنطي المعهود الدجاجة أولاً أم البيضة, هل الصحابي أبو بكر الصديق الخليفة الأول , أم الصحابي علي بن أبي طالب هو الأول, والتاريخ يذكرنا بأن الإمام علي بن أبي طالب قد اقر بالخلافات الثلاث التي سبقته بغض النظر عن الأسباب التي دفعته إلى ذلك, ولكنها تعبر عن حصافة وحرص وثقة بالنفس وبحق الاختيار. فهل نجعل هذه المسألة نقطة خلاف وصراع مجدداً في العراق ليحترق الأخضر بسعر اليابس ونقود المجتمع إلى حرب أهلية ماحقة؟ إنها سياسة الجهل والتحريض المرفوض الذي يفترض أن يدان بقة وصرامة ومحاسبة.
2 . والقبانجي بهذا يثير جميع الدول العربية التي ترفض إقامة نظام طائفي في العراق والتي سعى السيد رئيس الوزراء إلى القول بأن العراق يرفض إقامة نظام سياسي طائفي في العراق ويرفض المحاصصة الطائفية. والقبانجي بهذا يعطي الحجة لتشديد الصراع ضد العراق والتأليب عليه وتقديم الدعم لمن يقف ضد الطائفية الشيعية في العراق من أتباع المذهب السني.
3 . إن هذه التصريحات تستبطن تحركاً قوياً من الحوزة الدينية الشيعية والأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية الطائفية, بسبب شعورها بالضعف والتراجع, إلى التعبئة واستقطاب المجتمع لصالح الانتخابات القادمة التي يراد لها أن تشطر المسلمين إلى معسكرين متصارعين ومتنازعين ومتحاربين شيعي وسني, وبهذا نعود إلى نقطة الصفر التي بدأ بها العراق بعد سقوط نظام البعث الدكتاتوري, والتي رفضها المجتمع بعد معاناة طويلة وقاسية.
4 . إن هذا التوجه الطائفي في خطاب القبانجي يحمل في طياته مسألة أخرى هي دعوة وقحة موجهة إلى إيران لمواصلة دعمها للحوزة الدينية والأحزاب والقوى الطائفية بمختلف أشكاله, ومنها المجلس الأعلى وجماعة مقتدى الصدر وبدر وممارسة الضغط على  المالكي لتغيير تصريحاته بشأن المجتمع غير الطائفي في العراق ورفض المحاصصة الطائفية, وكذلك الدعوة للتعاون من أجل إزاحته عن الحكم. وهم يستفيدون من الخلاف القائم والقابل للحل بين السيدين المالكي والبارزاني بشأن العلاقة بين حكومتي المركز والإقليم لهذا الغرض أيضاً.   
5 . يقول القبانجي بوقاحة بالغة متحدياً سلطة الدولة العراقية بأن المرجعية الدينية أو الحوزة الدينية حين تقول حول قضية ما "لا" فالناس كلها تقول "لا", وإذا قالت "نعم" كل الناس تقول "نعم". إن هذا هو أكبر تحدي تواجهه سلطة الدولة والحكومة والدستور والقانون, إنها محاولة جادة وخبيثة لوضع الرجل فوق الدستور والدولة والقانون وضد إرادة الأفراد الحرة وكأنهم قطيع من الغنم لا غير يقادون من الحوزة الدينية دون أي احترام لإرادة البشر وشخصياتهم المستقلة , من أجل تبويش وإفراغ دولة القانون من أي محتوى يراد تحقيقه وتحويلها إلى دولة مذهبية طائفية بائسة تأتمر بأوامر المرجعية الدينية الشيعية , وهي مرجعية طائفية بأجلى معاني الطائفية السياسية. وهي محاولة كثيفة للضغط على المالكي ليبتعد عن تصريحاته التي ترفض الطائفية, فأقوال القبانجي تنفث سماً قاتلاً لقوى المجتمع وتنبعث منها رائحة  قيح مثير للتقزز والكراهية والحقد, إنها الطائفية المقيتة, التي تؤمن وتعمل على أساس التمييز بين المواطنين بسبب اختلافهم الديني والمذهبي, وهي تحمل كراهية لكل الأديان والمذاهب الأخرى.   
وتصريحات القبانجي دعوة صريحة وشرسة لكل الشيعة للمبارزة مع كل قوى السنة على السلطة, أي نسف كل الجهود التي بذلت خلال السنوات الستة المنصرمة من أجل تقريب وجهات النظر والتفاعل المتبادل لإبعاد الحكم عن الطائفية السياسية, في حين يسعى القبانجي لا إلى تكريسها فحسب, بل وإلى جعل الطائفية السياسية معياراً للحكم في العراق.
لقد حان الوقت لتدرك قوى المجتمع السليمة التي ترفض الطائفية السياسية بغض النظر عن دياناتها ومذاهبها الدينية واتجاهاتها الفكرية وبرامجها السياسية الوطنية بأن المجتمع لا يمكن أن يتعايش مع الطائفية السياسية لأنها مدمرة وعليه أن يرفض أي تدخل للمؤسسة الدينية في الحياة السياسية وفي تسيير سلطة الدولة, لقد آن الأوان لكي يفكر كل مواطنة ومواطنة المستنقع النتن الذي يريد القبانجي ومن لفّ لفّه دفع العراق وشعب العراق إليه. إنها الحرب الأهلية التي فشل مجرمو القاعدة وقوى البعث ورأسها العفن عزة الدوري, الذي أصبح يطلق على نفسه لقب المعتز بالله, وكأن الدرويش عزة الدوري أصبح خليفة الله في أرضه كما في توقيعه لرسالته الموجهة على تايه عبد الكريم, وبعض القوى القومية اليمينية والطائفيين الآخرين, في إشعالها, يريد الآن القبانجي إشعالها بطريقة لا تخدم إلا القوى المناهضة للعراق, سواء أكانت إيران أم سوريا أم غيرها من الدول.       
إن المطلوب من السيد رئيس الوزراء إدانة هذه التصريحات والمطالبة بمحاسبته لأنه يدفع باتجاه إثارة الأحقاد والكراهية والحرب الأهلية في العراق. إنه سينشَّط الصراع المذهبي من على منابر المساجد, تماماً كما كان يحصل في فترة الصراع العثماني الفارسي في العراق, ويحوله على الشارع . وهي مخاطر جدية على الوحدة الوطنية العراقية وعلى  مستقبل العراق.
29/5/2009                      كاظم حبيب 

1218
الحوزة الدينية في النجف والنظام السياسي الطائفي في العراق

كلما مادت الأرض تحت أقدام الطائفيين من كل نوع وصنف, ازدادوا صراحة في الكشف عن أوراقهم المذمومة وأنيابهم الجارحة, وازدادوا عداءً للعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات, وازدادوا غلواً في الطائفية السياسية والتمييز الطائفي والتخندق ومعاداة الآخر. هذه ظاهرة عامة لا تمس العراق وحده, بل تمس كل العنصريين والطائفيين أينما وجدوا في عالمنا الكبير. وهي الظاهرة السائدة في إيران , وهي التي ساهمت في نشوء صراعات ونزاعات وحروب دموية في فترات مختلفة من تاريخ البشرية. ولم تكن لوحة الحرب الأهلية في أيرلندا إلا نموذجاً صارخاً وطويلاً لها, كما لم يكن الصراع الطائفي والحرب الأهلية في لبنان إلا التجسيد الحي للممارسات الدينية والطائفية السياسية السيئة. وفي عراق ما بعد سقوط صدام حسين تجلت هذه الظاهرة بأجلى أشكالها, إضافة إلى عنصريته المقيتة. وهي اليوم وبعد مرور ست سنوات على سقوط البعث تتجلى الطائفية في العراق بأقبح صورها بؤساً وفاقة فكرية وأسوأ مظاهرها عداءً وكراهية وأشدها فرقة للصف الوطني وإساءة للوحدة الإنسانية بين البشر, إنها تتجلى اليوم في العراق, هذا البلد المتعدد القوميات والمتنوع الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية, وهي الوجهة التي جرَّت وستجَّر على العراق المزيد من الكوارث والمآسي أن تواصل خطاب المرجعيات الدينية على هذا المنوال العقيم والمؤذي الذي تحدث به صدر الدين القبانجي في 27/5/2009 في النجف.
لقد شخصنا منذ سنوات وبعد سقوط النظام بأن الحوزة الدينية في النجف ومرجعياتها المتعددة تمتلك خطابين أحدهما عام يمارس على مستوى الشعب عامة, وهو خطاب يبدو فيه الاعتدال, والآخر خاص يتميز بالتطرف ويمارس وينفذ عبر القوى والأحزاب السياسية الشيعية المرتبطة بالحوزة الدينية الرئيسية التي يتربع على عرشها السيد علي السيستاني. وإذا كان الخطاب العام هو المعروف للعراقيات والعراقيين, فأن الخطاب الخاص داخلي ولا يكشف عنه إلا في الملمات, وحين تكون هناك أزمة في الصف السياسي الشيعي أولاً, وحين يكون هناك تراجع في القدرة على فرض الإرادة بطرق عادية ثانياً, وحين يلاحظ بأن قوى سياسية أخرى من غير الطائفيين بدأت تنتعش وتستعد لجولات نضالية من أجل الهوية الوطنية وليس من أجل الهوية الطائفية الضيقة والمثيرة للفرقة والصراع والنزاع ونزيف الدم ثالثاً, وحين تكون البلاد على  وشك إجراء انتخابات عامة يراد منه توحيد الصف الشيعي السياسي الطائفي رابعاً, وحين يتزايد الضغط الإيراني على الحوزة الدينية بصيغ شتى لصالح تكريس الطائفية السياسية اللعينة في العراق خامساً. وفي مقال لي قبل فترة غير قصيرة أشرت إلى أن الأحزاب السياسية الشيعية في العراق في الغالب الأعم, ليست سوى طيارات ورقية خيوطها بيد المرجعية الدينية. وهذه حقيقة برهنت عليها الحياة ومن يخرج عن إرادتها يواجه بعين غاضبة ونتائج غير طيبة وأحياناً مدمرة. فلم يكن مقتدى الصدر في تطرفه العسكري, والجعفري في تطرفه الطائفي وفسح المجال للطائفية الشيعية أن تسيطر على أجهزة الدولة العسكرية والسياسية, والمجلس الأعلى في سلوكه المزدوج بين بدر والسياسة ولكن بتوجه طائفي مقيت, بين ممارسة سياسة العصا والجزرة, وبين تجميع المزيد من الثروات والأراضي وقوة النفوذ والتسلط , سوى توزيع أدوار معينة لا يخلوا من صراعات ذاتية وشخصية حول المناصب والزعامة والرغبة في فرض القوة والحصول على التأييد المطلق من المرجعية, رغم أن المرجعية لا تمنح الدعم المطلق لجهة واحدة من قواها بل لأكثر من واحدة وهي أشبه بسياسة "شد وحل" بين هذه القوى والأحزاب السياسية.
 لم تكن المرجعية الدينية, ومن يمثلها في المحافظات وفي النجف ذاته ومنهم القبانجي, بعيدة عن مجمل التحولات التي جرت في العراق منذ سقوط النظام, سواء بتعجيل الانتخابات قبل استتباب الأمن, أو المطالبة بوضع دستور عراقي يتسم بالطائفية قبل التيقن من تطور وعي الناس وقدرتهم على التحكم بإرادتهم الحرة وإدراكهم لأهمية وخطورة ما يقومون به وما يحمله الدستور لهم من أجواء قادمة...الخ. لقد تحكمت بطريقة استثنائية في الوضع, وتحول پاول بريمر إلى أداة غير مباشرة لتنفيذ الوجهة الطائفية في العراق, مع قناعة معينة تامة لدى الإدارة الأمريكية بأن هذه الفرقة الدينية والطائفية في العراق مفيدة للولايات المتحدة في حينها "فرق تسد", ولم يستطع بريمر ولا جورج دبليو بوش إدراك أضرار تلك السياسة على الولايات المتحدة ذاتها في المستقبل حين تتداخل الأجندات العراقية الإيرانية وحزب الله في لبنان في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أن الوضع لم يصل إلى هذه الدرجة من التدهور في الوقت الحاضر, إلا أن اتجاهات التطور غير واضحة حتى الآن والاحتمالات عديدة ومعقدة, ولم تظهر سياسة المالكي بأبعادها الفعلية حتى الآن, إذ أنه لا يزال ينسق مع السيد السيستاني, الذي كشف ممثله عن عورة السياسة الطائفية التي تسعى إليها المرجعية بحسب رأي القبانجي, المتحدث باسم المرجعية وإمام الجمعة في النجف.
ويبدو أن ناقوس الخطر قد دق في الحوزة الدينية في النجف حين ارتقى صدر الدين القبانجي, إمام الجمعة في النجف وممثل السيد على  السيستاني, منبر الخطابة في الملتقى الشهري "لأساتذة وفضلاء وطلبة الحوزة العلمية والذي حضره جمع غفير منهم" كما جاء في التقرير المنشور في موقع صوت العراق، مؤكداً أولويات الشيعة في العراق:
1.   الأولوية الأولى: تثبيت اصل النظام الإسلامي وحق الإمامة للإمام علي(ع).
2.   الأولوية الثانية: إن الحاكمية في العراق هي لأهل الشيعة, أي المحافظة على حقوق الأكثرية، مضيفاً: شيعة أهل البيت في العراق تمثل الأكثرية، ومن حقنا أن يكون الحكم وتكون الحاكمية لشيعة أهل البيت، وأكد: إن الدفاع عن حق الأكثرية هو دفاع عن النظام الدستوري, .. وحاكمية الشيعة في العراق أصلٌ لا نتنازل عنه.
3.   الأولوية الثالثة: إن الحوزة العلمية هي المسؤولة عن حماية هذه التجربة السياسية الجديدة، ومن ثم تكون هي المسؤولة عن حماية حق الأكثرية، وهي القادرة على كسب رأي الناس، فالمرجعية الدينية إذا قالت(لا) فالناس يقولون(لا).
4.   الأولوية الرابعة: لا يمكن تحقيق ذلك إلا بوحدة البيت الشيعي. بدون وحدة البيت الشيعي لا ننتظر حاكمية، مشيراً إلى أن آليات الحاكمية هي أن الأكثرية في البرلمان هم الذين ينتخبون رئيس الوزراء فلا بد من تحقيق الأكثرية، ولكن أيضاً لا تكفي الأكثرية العددية، قائلا: نحتاج إلى أكثرية متحدة متحالفة مؤتلفة ويكون رأيهم رأي واحد، وهذه الأكثرية تستطيع أن تحقق(نصف+1)، مشيداً بدور المرجعية الدينية العليا في العراق وإنها هي التي بدأت مشروع الائتلاف ورعته، ثم بدأت التجربة تأخذ خطواتها البعديّة بما في ذلك من تجارب وأخطاء ونجاحات.
5.   الأولوية الخامسة وأهميتها تنبثق من الألوية الأولى , وهي الشعور بتهديد الحاكمية الشيعية في العراق, إذ قال: إننا نواجه تهديداً حقيقياً لحاكمية الشيعة في العراق ولهذه التجربة السياسية الجديدة، فكثير من الدول أغاضها ذلك ويريدون أن يقلبوا لنا ظهر المجن ويسلبوننا هذا الحق، موضحاً إلى أننا بحاجة إلى تكريس وتعزيز ثقافة حق الشيعة في الحكم، لتبقى هذه القضية بديهية على مرّ السنين وهي أن الحاكمية في العراق هي لشيعة أهل البيت، مع الحفاظ على حقوق الآخرين.
وعلينا أن نتذكر هنا بأن التنسيق بين الأحزاب الشيعية قد بدأ بمبادرة من الدكتور أحمد الجلبي وبرعاية وتأييد السيد السيستاني حيث تم ذلك بتشكيل ائتلاف البيت الشيعي أو الائتلاف الوطني العراقي منذ سنوات. ثم غادره الجلبي غير مرغوب فيه.   
بهذه الأولويات ظهر لنا الوجه غير المشرق للسيد القبانجي الذي كشر عن أنيابه دفعة واحدة  معبراً عن رأي المرجعية, إذ أن البلاد تقترب من الانتخابات العامة والخشية من فقدان الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية للأكثرية في المجلس النيابي وعلى الحكم. إن المرجعية على لسان ممثل السيستاني تريد تكريس الطائفية في العراق كنظام سياسي لا يعتمد مبدأ المواطنة في الحكم بغض النظر عن مذهبه ودينه وقوميته, وبمدى آهليته وقدرته ومواطنته العراقية, بل بالطائفة التي ينتمي إليها وبمدى إخلاصه للطائفية السياسية وممارسته لها بقوة, كما هو جار منذ سنوات حيث تحولت الوزارات العراقية إلى خنادق للقوى الطائفية, شيعية وسنية. وهذه حالة مخالفة كلية لأي نظام مدني ديمقراطي ومقاطعة حقيقية للائحة حقوق الإنسان الدولية وكل اللوائح والمواثيق الدولية بهذا الصدد. حتى نظام صدام حسين لم يعلن صراحة عن طائفيته, ولم يجرأ على ذلك, ولكن المستبد الجديد صدر الدين القبانجي يسعى إلى  ذلك ويريد فرض الأولويات التي تقود إلى المزيد من الاختلاف والخلاف ابتداءً من أول أولوية إلى آخرها التي هي ليست أقل أهمية من الأولى بالنسبة للقبانجي والمرجعية. إنها مواقد للصراع والنزاع والموت.
إن علينا, نحن العراقيات والعراقيين, أن درك ما يطبخ لنا في مطبخ المرجعية الدينية وبعض أبرز الأحزاب الإسلامية السياسية والمخاطر الجديدة التي تنتظرنا, وأن نرفع راية النضال ضد هذه الوجهة الطائفية المقيتة في الحكم, فلا نريد حكماً للمذهبية الشيعية أو المذهبية السنية أو أي مذهبية أخرى, بل نريد حكماً وطنياً بهوية وطنية عراقية بهوية المواطنة العراقية غير المقيدة بمذهب أو دين معين, فالوطن للجميع والدين لله. نريد نظاماً يحترم كل الأديان والمذاهب ولا يتعرض لها, ولكن يمارس حكماً وطنياً لا يخضع لدين أو طائفة بل لدستور مدني ديمقراطي حر.
إن القبانجي الذي كشف عن وجهه الطائفي المريض يريد للعراق أن يكون مريضاً مثله ومماثلاً لما حصل ويحصل في إيران من نظام طائفي شمولي مقيت ومرعب, وهو ما يفترض أن نرفضه ونناضل ضده.
إن تنسيق الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية مع المرجعية هو في غير مصلحة العراق, وبالتالي فهي تسير وفق وجهة لا تخدم وحدة النسيج الوطني العراقي بل تفرقه وتدفع بالبلاد إلى مزيد من الصراع والتطرف. إن خطاب القبانجي, كما ورد في موقع صوت العراق بتاريخ 27/5/2009, هو طامة كبرى, هو كارثة حقيقية, كما يجسد المأساة والمهزلة في العراق في آن واحد, وسوف لن يختلف الأمر كثيراً عما كنا عليه سابقاً ولكن بصورة مقلوبة والحصيلة واحدة.     
إن القبانجي يلعب على أوراق خاسرة عل المدى البعيد, ولكنه يلعب على أوراق برهنت الحياة على سلبياتها الحادة خلال السنوات المنصرمة وعلى عواقبها الكارثية بالنسبة للشعب العراقي, وأنه يلعب على ورقة الجهل والأمية والبؤس الفكري والاستبداد والقسوة والتطرف الطائفي الذي خلفه لنا نظام صدام حسين في العراق, وعلينا مواجهة هذا التطرف الطائفي للقبانجي والأهداف التي أعلنها القبانجي باسم الحوزة والمرجعية الدينية التي يمثلها أيضاً, تماماً كما قاومنا قبل ذاك تطرف نظام صدام حسين. إن القبانجي يريد بخطابه هذا توتير الأجواء ثانية من أجل المزيد من الاستقطاب والتخندق الشيعي ضد السني ليحصل على النصف+1 , كما أنه يريد هذا التخندق ليمنع الديمقراطيين والعلمانيين واللبراليين في الحصول على أصوات المواطنات والمواطنين من الشيعة  والسنة. إنه الهدف المثير للاشمئزاز الذي يسعى إليه القبانجي. إن من الحكمة بمكان أن يرفض السيد رئيس الوزراء نوري كامل المالكي هذا التوجه, إن كان يقف حقاً ضد الطائفية السياسية والتمييز الطائفي أو إقامة حكم طائفي التي يعلن عنها دوماً في الفترة الأخيرة, كما يسعى إليه القبانجي والمجلس الأعلى ومن لف لفهما في العراق. إنه الغاية  الإيرانية التي يفترض أن نتصدى لها ويمنع حصولها في العراق, لأنها تثير الأحقاد والكراهية وتشعل محارق وتعيد وقوع مجازر جديدة وتمرر ما سعى إليه الإرهابيون من إشعال حرب أهلية شيعية-سنية في العراق.       
28/5/2009                     كاظم حبيب

1219


هل عاد صدام حسين ثانية بحملة إيمانية مزيفة جديدة أم هناك من حل محله؟

 
ما أن بدأ الناس باستنشاق نسيمات من الحرية المحفوفة بمخاطر قطع الرقاب من جانب قوى الإرهاب بمختلف تكويناتها وأشكال وجودها بعد أن تراجع الإرهاب الواسع النطاق وعدد العمليات الإرهابية اليومية نسبياً وبعد أن تقلص نسبياً وبشكل ملفت للانتباه عدد ضحايا عمليات الانتحاريين الأوباش, وما أن بدأ الناس بالسعي لتأمين حقهم المكفول دستورياً في التصرف بحرية ودون وصاية من مؤسسة دينية أو سياسية أو شخصية من دون أن يسيئوا إلى حرية الآخرين, وما أن بدأ الناس التفكير في احتمال بدء مرحلة جديدة في العراق يتراجع فيها الضغط الإرهابي النفسي على الفرد العراقي الذي تعرض له طوال حياته, وخاصة في فترة حكم الطاغية صدام حسين, وما تعرض له بعد سقوط النظام أيضاً من جانب قوى إسلامية سياسية متطرفة ومليشيات طائفية مسلحة كانت ولا تزال تهدد الإنسان إزاء أي تصرف يمكن أن يمارسه في حياته اليومية كأن يكون حلاقاً أو أن تكون امرأة حلاقة للنساء أو فتح محلات بيع المشروبات الروحية أو تناول هذه المشروبات في بارات التي كانت بغداد مليئة بها على امتداد قرون طويلة, وما أن شعر الناس بجو جديد يمكن أن يساهم بامتلاء شارع أبو نواس العتيد والمبهج حتى بدأت قوى خفية تتستر برداء الدين وتخفي أهدافاً أخرى تهاجم بأسلوب استفزازي شرس ومثير للقلق والتذمر والاحتجاج حقاً العلمانيين والديمقراطيين واللبراليين, ثم وبشكل خاص, متناولي المشروبات الروحية, ضد شاربي العرق العراقي أو غيره في حين أن كثرة كاثرة من العراقيين كانوا لا يتركون مناسبة إلا وذكرونا بالمقولة الشهيرة "ما طول بالنخل تمر, ما جوز من شرب الخمر", حتى أن ابن خلدون, صاحب كتاب المقدمة الشهير, إذ كتب يقول بأن العراقيين أذكياء فقد سمّوا المشروب الروحي المنتج من التمر عرقاً وليس خمراً, لأنه لم يأت ذكر العرق في القرآن بل الخمر, وبالتالي فهو غير محرم, رغم وجود تباين في الموقف من الخمر بين شيوخ الدين من مختلف المذاهب الإسلامية وفي المذهب الواحد أحياناً غير قليلة.
نحن أمام حملة "إيمانية" جديدة يقودها الشيخ جلال الدين الصغير وتروجها قناة الفرات الفضائية, الشديدة الطائفية والتمييز الطائفي وإثارة النعرات الطائفية في المجتمع, التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي في العراق الذي يقوده عمار الحكيم ويقدمها الصحفي المتوتر والمتعصب وغير الحيادي المدعو جواد كاظم, إذ بدأ الناس عن حق يتساءلون "هل نهض صدام حسين من قبره وتردى برداء جلال الدين الصغير وأخيه محمد حسين الصغير ليقودا معاً حملة "إيمانية" جديدة مزيفة وبائسة لا تختلف عن حملات خير الله طلفاح وصدام حسين ومن لف لفهما, أم أن هناك من هم من أمثال صدام حسين وخير الله طلفاح يريدون قيادة مثل هذه الحملة لأغراض سيئة وخبيثة ولا يختلفون عنه إلا بالثوب الذي يرتدونه والعمامة التي يضعونها على رؤوسهم ليستروا بها تهلهلهم الفكري والسياسي والتعبير عن الخشية من فقدان المواقع التي يحتلونها الآن ويدفعوا إلى تهييج الجهلة من الناس, وهم كثرة حالياً في العراق, بقضايا أخرى بائسة ومثيرة للسخرية.
ينسى هؤلاء الناس أن الإنسان يولد حراًً ولا يحق لأي إنسان أن يقيد حريته بهذه الطريقة العدوانية. فالإنسان مالك لعقله وعليه أن يتصرف بالطريقة التي يراها مناسبة دون أن يؤذي أحداً أو يتجاوز على حقوق أحد, لا أن يفرض هؤلاء أنفسهم أوصياء على الناس. ومنذ قرون تحضرت الشعوب حين وضعت لها دساتير وقوانين وقواعد تسهم في تنظيم حياة البشر وتمنع العدوان أو التجاوز من أي كان على الإنسان وحريته. وليس هناك من يمارس الحكم باسم الله على الأرض. والعراق يملك الآن دستوراَ وعلى الجميع الالتزام به إلى حين تعديله وفق ما تتفق عليه الأكثرية.
ولا بأس أن أذكر هنا بأن منع المشروبات الروحية والتجاوز على من يتناولها أو يبيعها هو تجاوز على الدستور والقوانين وعلى حرية الإنسان أولاً, وأن على جلال الدين الصغير, ومن هم من أمثاله وأخيه, أن لا ينسى بأن العراق متعدد الأديان والمذاهب والقوميات, وبعض هذه الأديان تبيح شرب المشروبات الروحية ومن حقهم بيعها في كل بقعة من أرض العراق. نسى هؤلاء أن الكثير من أهل كربلاء من المسلمين الطيبين كانوا يذهبون مجاميع كبيرة وفي باصات كبيرة لمشاهدة الأفلام في سينما مدينة الهندية (طويريج) وتناول المشروبات الرةحية , كما كانوا يسافرون إلى سدة الهندية أيضاً لشرب العرق أو البيرة المثلجة هناك, إذ لم تكن هناك سينما في سنوات العقد السادس. نسى هؤلاء أن نادي الموظفين في كربلاء كان يقدم العراق والبيرة وغيرهما لمن يريد تناول الخمور في عهود كثيرة. ونسى هؤلاء أن أنبياءً ومؤمنين وشيوخاً صالحين من مختلف الأديان كانوا يتناولون العرق أو سواه, أو أنهم لم يحرموه ولأسباب كثيرة.
لقد توجه هؤلاء المتعصبون في تفكيرهم والراغبون في الهيمنة على فكر وممارسات الإنسان ضد الأديب العراقي إبراهيم خياط في ندوة أدارها المدعو المتحيز والمتشدد والفقير فكرياً السيد جواد كاظم ليهاجم بأسلوب غير معقول ومتوتر السيد إبراهيم الخياط الذي أبدى كياسة ووعياً في طريقة التعامل مع هؤلاء الذين لا يعرفون معنى لحقوق الإنسان وحرياته ولا يعرفون معنى في ضرورة عدم التجاوز على حياة الفرد الشخصية وعلى من يريد تناول المشروبات الروحية. كما حرم الأستاذ عبد الرحمن الباشا من الكلام عملياً ولم يعطه الوقت الكافي للتعبير عن رأيه. وكان المدعو جواد كاظم فظاً في تعامله وأسلوب حديثه ليثبت للشيخ الصغير وغيره أن مخلص لهم, إلا أن عينيه كانتا وكأنهما تفضحان سيرته الذاتية وتعاطيه لما يهرج به ضده.             
أنا لست من مشجعي تناول المشروبات الروحية, ولكن ليس من حقي منعها. وعلى من يريد أن يفرض على الناس التعامل بوجهين وليس بصراحة وحرية تامة, فما عليه إلا أن ينظر لما جرى ويجري في الدولة الإيرانية الإسلامية المتطرفة. فإيران واحدة من أكثر دول العالم استخداماً للخمور والمخدرات, وهي مصدرة للمخدرات أيضاً. والكثير من الناس يموتون لأنهم يتناولون كحولاً سيئة ومدمرة للصحة وليست مراقبة من قبل الدولة أو جهات صحية مسئولة عن المواصفات والمقاييس المقررة لها.
لقد جند الشيخ جلال الدين الصغير أخيه غير الشقيق الدكتور محمد حسين الصغير, وهما ولدا الراحل الشيخ علي الصغير, وكان خطيباً في جامع براثا, لهذه الحملة, وهو يعرف تماماً بأن الدكتور محمد حسين الصغير كان قد كلف في زمن صدام حسين بمراقبة دار وتصرفات وحركة السيد علي السيستاني وكتابة التقارير لجهاز الأمن الصدّامي بهذا الشأن حينذاك, وأهل النجف أدرى بذلك ويعرفون تفاصيل هذه الحقيقة ويتحدثون عنها علناً لأن ملفات الأمن قد ظهرت إلى النور وكشفت عن هذه الحقيقة المرة التي أعانته على العيش في بحبوحة وبعيداً عن المخاطر. إن المزيفين من الناس لا يمكن أن يمارسوا الكذب طويلاً, إذ سرعان ما يفتضح أمرهم. وهو نفسه الذي أصدر في العام 1959 كتاباً تحت عنوان "الشيوعية كفر وإلحاد" الذي قدم لها القومي اليميني الذي ناصب عبد الكريم قاسم العداء الدكتور عبد الرزاق محي الدين لا ليهاجم الشيوعيين والديمقراطيين وقاسم وأتباع قاسم فحسب, بل ليحرض على قتل الشيوعيين حينذاك, وينسجم مع ما صدر فيما بعد من فتوى في هذا الصدد. كم أتمنى على الشيخ جلال الدين الصغير, وهو النائب في المجلس النيابي, أن يهتم بأمور المجلس وأمور الجياع من الناس وأن يلاحق نهّابة وسلابة المال العام, وأتمنى أن لا يكون أحدهم, وليس الناس الطيبين الذين يتناولون الكحول لأي سبب كان, أو أن يعمل ضد العلمانيين ويلاحق الناس الطيبين والبسطاء والمثقفين في معيشتهم وفي حريتهم. أتمنى أن تنشر ملفات الأمن الخاصة بالدكتور محمد حسين الصغير أو ليكتب من لديه معلومات موثقة أكثر عنه لكي يتوقف هذا الرجل عما يمارسه وأخيه في هذا الصدد المجحف بحق الناس.
وآخر ما علمت وكتبت عنه الصحافة والمواقع الإلكترونية أن الشيخ جلال الدين الصغير قد هدم قبر الأستاذ الراحل الدكتور علي الوردي ليفتح طريقاً أمناًً لمروره. أملي أن لا يكون صحيحاً وأن يجري التحقيق بذلك وكشف الحقيقة, إذ أن هذا الأستاذ الجليل له مكانة كبيرة في عقول وقلوب الناس الطيبين وهو من أبرز العناصر العلمية التي أنجبها العراق والمناهضة لكل أشكال التمييز, ومنها الطائفية.
إن الحملة الإيمانية الجديدة لن تنفع الناس ولن تنجح لأنها مخالفة لروح العصر ومخالفة لطبائع الناس وعشقهم للحرية والديمقراطية, وهي لن تستطيع إشغال الناس عن قضاياهم وعن الإساءات التي لحقت بالناس من جراء تصرفات الكثير من قوى الإسلام السياسية, ومنها المجلس الأعلى وبدر وجيش المهدي, إضافة إلى قوى القاعدة وحارث الضاري ومن لف لفهم خلال السنوات السبع المنصرمة.
إن تشكيل قائمة "فرض القانون" لم تكن حالة عبثية بل مقصودة, كما أن حصولها على مزيد من الأصوات على حساب القوائم الإسلامية السياسية الأخرى لم يكن تصرفاً عبثياً من الناخبة والناخب العراقيين, بل عقوبة استحقتها تلك القوى التي لم تحترم الإنسان وحريته وحقوقه المشروعة. إنه الدرس الذي يفترض أن يتعلمه الجميع.
إن عملية حرق 25 شخصاً عراقياً "اتهموا" بالمثلية الجنسية, كما نقلت الأخبار ذلك, هي جريمة لا تغتفر ويندى لها جبين العراق كله, إنها جريمة بحق الإنسان والدستور العراقي والقوانين التي لا تبيح لأحد قتل آخر خارج إطار القانون ومن دون محاكمات شرعية وليست محاكمات قرََقوشية, كما فعلها جيش المهدي في النجف منذ عدة سنوات, أو كما مارستها محاكم تنظيم القاعدة الإجرامية. إن هذه الجريمة قدمت من جديد للعالم كله السلوك المتوحش لهؤلاء الناس الذين يريدون فرض أخلاقيتهم على المجتمع كله, وهم يعرفون أن هذا البعض الذي ساهم في القتل ربما كان من المثليين أيضاً. تكشف حقائق في جميع الأديان أن الكثير من رجال الدين يمارسون المثلية سراً ويشجبونها علناً, وعلينا متابعة هذه الحقيقة لدى بعض رجال الكنيسة, حيث توجد حرية وشفافية يكشف عنها بسرعة, في حين أنها موجودة أيضاً وليست بعيدة عن أتباع ديانات أخرى. وهكذا هي حالة جمهرة كبيرة من الناس في العالمين العربي والإسلامي, ولكنهم يستقبحون ذلك ويشجبونه علناً ويمارسونه سراً, وهي مصيبة المجتمعات المتخلفة.
ثبت بالدليل العلمي القاطع بأن المثلية ليست سوى نتاج هورمونات موجودة في جسم الإنسان وفي التكوين البيولوجي للشخص المثلي, امرأة كانت أم رجلاً. وأنه غير قادر على التخلص منها, بل هي التي تشكل تكوينه الجنسي. وأن على المؤمنين من شيوخ المسلمين أن يبتعدوا, ما داموا مؤمنين بالله واليوم الآخر, عن معاقبة إنسان خلق بهذا التكوين البيولوجي وليس بغيره. فهم مؤمنون, وهذل وفق إيمانهم, من خلق الله وعليهم القبول بما كتبه الله في جبين هذا الشخص أو ذاك لا أن يدعوا البعض منهم إلى قتل المثليين كما حصل أخيراً في بغداد, بحجة الدفاع عن الأخلاق, في حين أن القاتل هو الفاقد للأخلاق الحسنة وهو المجرم.
27/5/2009                      كاظم حبيب 


1220
نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح
نائب رئيس الوزراء العراقي

الحلقة الرابعة
هل يتستر المعدل السنوي للفرد الواحد من الدخل القومي على سلبيات الواقع الاقتصادي؟

في لقائه مع قناة الشرقية ذكر الأخ الدكتور برهم صالح بارتياح ملموس ما يلي: "أنا أول الذين يقول بأن المواطن العراقي يستحق المزيد لكن لنتذكر بعض الأرقام المهمة: سنة 2003 موارد الدخل في العراق كانت (465 $) (المقصود هنا 465 دولار أمريكي للفرد الواحد في العام 2003, ك.حبيب) حسب إحصائيات البنك الدولي معدل الفرد العام تجاوز (3200$). البطالة كانت في 2005 (28%) الآن حسب الإحصائيات الموجودة (17.5%). (مأخوذ من نص الحديث وفق ما جاء في الإنصات المركزي للاتحاد الوطني الكردستاني بتاريخ 5/5/2009). سنحاول تناول المسألتين المذكرتين في الحديث:
أولاً: حول معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي:
عندما بدأت أقرأ تصريحات الأخ الفاضل الدكتور برهم صالح ووصلت إلى المقطع أعلاه تذكرت حادثة شهيرة معروفة لمن عاش فترة العهد الملكي, ومفادها أن أحد الصحفيين سأل أحد الفراشين العاملين لدى أحد المدراء العامين في مجلس ووزارة الإعمار في بغداد عن راتبه الشهري. فأجاب الفراش: أنا والمدير العام نتسلم 203 دينار عراقي شهرياً. ألّح الصحفي بالاستفسار عن راتبه الشهري منفرداً وليس مع راتب المدير العام. فقال الفراش بخجل بالغ: راتبي 3 دنانير عراقية فقط وراتب المدير العام 200 دينار عراقي لا غير! وهذا يعني أن الراتب السنوي للمدير العام 2400 دينار, وراتب الفراش السنوي 36 ديناراً لا غير, ومجموعهما 2436 دينار عراقي, والتناسب بينهما: 98,52% للمدير العام و 1,48% للفراش. وكان للمدير العام طفلان, والفراش ستة أطفال.
هكذا يضع الأخ الدكتور برهم صالح مستوى معيشة الفرد الواحد في العراق في ضوء هذا المؤشر العام الذي لا يعبر عن حقائق الوضع في العراق وعن التمايز الجارح للكرامة الإنسانية. دعونا نبحث في هذا الرقم لنرى ما يخفي حقاً.
حين ننقل هذا الرقم إلى بنية وواقع الاقتصاد العراقي سنجد أمامنا الوقائع التالية:
1.   حول بنية الاقتصاد العراقي: أن القسم الأعظم من هذا المؤشر ناشئ من إيرادات قطاع النفط الخام المصدر وليس من القطاعات الاقتصادية الإنتاجية الأخرى كالصناعة والزراعة على سبيل المثال لا الحصر. وهذا تعبير عن تشوه وخلل كبير في بينة الاقتصاد العراقي أولاً, ومن ثم فهو قابل للزيادة أو النقصان بفعل ثلاثة عوامل: 1) حاجة  الطلب الدولي على النفط والكميات الممكن تصديرها سنوياً؛ و2) وسعر البرميل الواحد المتقلب وفق العرض والطلب؛ و3) الأوضاع السياسية المحيطة بالبلد أو علاقات البلد بالدول والمجتمع الدولي ومدى تأثير ذلك على إنتاج وتصدير النفط الخام. وإذا ما قارنا إيرادات العام الماضي بإيرادات هذا العام حيث استفحلت الأزمة سنجد الخبر اليقين في الخطورة والخطأ الفادح في الاعتماد على اقتصاد النفط الخام فقط بدلاً من تنمية وتطوير الصناعات التحويلية والزراعة المحلية ..الخ. ولا نريد أن نذكر هنا ما حصل للعراق في فترة الحصار الاقتصادي أو الحروب التي خاضها النظام الدكتاتوري. بمعنى آخر أن هذا الرقم لا يشير للقراء إلى أن الاقتصاد العراقي اقتصاد ريعي واستهلاكي يخسر أغلب دخله القومي في الاستيراد ولا ينمي تراكماته الرأسمالية عبر تنمية الإنتاج, وأنه ليس اقتصاداً إنتاجياً واستهلاكياً يغني الثروة الوطنية ويشغل الأيدي العاملة ويزيد من السيولة النقدية في آن ويحسن مستوى معيشة السكان.
2.   ففي الوقت الذي بلغت إيرادات العراق من تصدير النفط الخام في العام 2008 وفق تصريح وزير النفط العراقي الدكتور حسن الشهرستاني 61 مليار و883 مليون $, فأن تقدير إيرادات النفط لعام 2009 الجاري يقترب من نصف هذا المبلغ أو أقل, وسينعكس هذا بالضرورة سلباً وبشكل مباشرة على المؤشر الذي قدمه لنا الدكتور برهم صالح حول معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي في السنة.  
3.   وأن هذا المؤشر لا يدلنا على واقع التوزيع الفعلي للدخل بين أفراد المجتمع, إذ أنه يأخذ المعدل الوسط بين الناس, وفي المثال الذي أوردته عن الفراش والمدير العام نرى بأن معدل حصة الفرد الواحد من راتبهما المشترك هو 101,5 دينار لكل منهما, في حين أن الحقيقة غير ذلك حيث يتسلم المدير العام 200 دينار والثاني يتسلم 3 دنانير في الشهر لا غير. وهنا نجد بكل وضوح أن هذا المؤشر يتستر على غياب العدالة في التوزيع عند الحديث عن هذا المؤشر, وهو رقم يراد به التشويش على واقع التوزيع الطبقي المجحف وغير العادل للدخل القومي في المجتمع وفي غير صالح الغالبية العظمى من أفراد المجتمع, بل في صالح فئة صغيرة منه.
4.   وهذا المؤشر لا يدلنا على كيفية توزيع الدخل القومي بين القطاعات الاقتصادية لاستخدامه في عملية التنمية, أي ما هي حصة القطاعات الإنتاجية والقطاعات الاستهلاكية, وكيف يوزع بين أرباح لرأسماليين وكبار الملاكين العراقيين والأجانب, وبين أجور العمال مدخولات الفلاحين وصغار المنتجين, إذ كما نعرف يقسم الدخل القومي إلى جزئين هما فائض القيمة أو الربح والريع من جهة, والأجور ومدخلات الفلاحين والمنتجين الآخرين من جهة أخرى. ومن هنا يتبين أيضاً من هو الذي يستفيد لا من عملية توزيع الدخل القومي فحسب, بل ومن عملية إعادة التوزيع التي تتجلى في الخدمات الصحية والتعليم والخدمات الأخرى التي يفترض أن يتمتع بها كل الموطنات والمواطنين على حد سواء, في حين تكون حصة الأغنياء والميسورين وكبار موظفي الدولة حصة الأسد, في حين أن الفقراء والمعوزين في المدينة والريف يعيشون على  فتات الموائد, أو لا يتمتعون بشيء يذكر...الخ.
5.   وهذا المؤشر لا يدلنا على واقع الفساد المالي في الدولة العراقية الراهنة وما هو حجم المسروق من الدخل القومي سنوياً, وهل هذا الرقم قبل أو بعد النهب الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني. وفي الغالب الأعم يقصد بالرقم بعد النهب غير المعروف من حيث الكمية, ولكن النهب يستمر فيما بعد أيضاً من خلال العمولات والرشوات وسوء التصرف في العقود والمقاولات ومواد البناء أو الاستخدام السيئ للموارد ... الخ.
إن هذا المؤشر حين يستخدم بالصورة التي استخدمها الدكتور برهم صالحو أدرك ذلك أم لم يدركه, مؤشر خادع يفترض أن لا يستخدم إلا في أغراض معينة, إذ أنه لا يعكس حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق, بل يراد منه تغطية التشوه والانكشاف على الخارج والتوزيع غير العادل والاستخدام السيئ للدخل القومي, رغم التحسن النسبي الحاصل الذي لا نريد السكوت عنه. والسؤال هو من المستفيد من هذا التحسن النسبي؟ أعتقد إن إجاباتنا ستختلف بحكم الخلفية الفكرية التي نعتمدها في تقييم وتقويم الأمور الجارية في العراق, خاصة وأن الأمم المتحدة تتحدث عن النسبة العالية لمن يعيش في العراق تحت خط الفقر المعترف به دولياً للدولة النامية والتي تتراوح بين 30-40% من مجموع الشعب العراقي.

ثانياً: حول البطالة:
يشير الدكتور برهم صالح إلى أن البطالة تبلغ الآن في العراق 17,5 %, وهو رقم يثلج الصدور في ظروف العراق الراهنة إن كان الرقم صحيحاً, حيث كانت البطالة تزيد عن 50 %. ولكن تدور في البال الأسئلة التالية:
هل هذا الرقيم صحيح؟ وكيف استخرج؟ وما هو حجم البطالة المقنعة في الوقت الحاضر؟ ثم كيف نعالج هذه المشكلة؟
السبب في إثارتي لهذه الاستفسارات هو ذاكرتي التي لا تزال طرية في فترة العمل في وزارة الزراعة والمجلس الزراعي الأعلى حيث كانت الطريقة تتم على النحو التالي: تقدير مساحات الأراضي المزروعة بالحنطة في كل محافظة, ثم تقدير معدل غلة الدونم الواحد, ثم ضرب المساحة المقدرة بالغلة المقدرة ليكون الإنتاج السنوي المقدر. والفارق كان باستمرار كبيراً بين حساب الحقل وحساب البيدر, بين الواقع الفعلي والحسابات التخمينية لقسم الاقتصاد الزراعي في وزارة الزراعة العراقية! والنتيجة كانت تؤثر على تقدير حجم الاستهلاك والحاجة للاستيراد التي غالباً ما تكون مؤذية للمستهلك أو ترهق ميزانية الدولة.
إن البطالة في العراق تزيد كثيراً عن هذا الرقم. إليكم بعض الأرقام غير الدقيقة التي تسجلها وزارة التخطيط التي اعتمد عليها الدكتور برهم صالح في إيراد الرقم 28,1 % بالنسبة لعام 2008 % :
نشرت جريدة الصباح الخبر التالي:  "أشارت نتائج مسح أجرته وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي بالتعاون مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في العراق إلى أن معدل البطالة بين السكان بعمر 15 عاماً فأكثر  يبلغ 28.1% لكلا الجنسين، وقد بلغ معدل البطالة للذكور 30.2 % في مقابل 16 % للنساء. وبحسب "تقرير عن نتائج مسح التشغيل والبطالة بلغ معدل البطالة في المناطق الحضرية 30% في مقابل 25.4% في المناطق الريفية". (جريدة الصباح. التخطيط تقدر حجم البطالة في العراق بأقل من ثلث السكان. أخذ المقتطف بتاريخ 16/5/2009, ك, حبيب).
ماذا يعني هذا في واقع الأمر؟ يعني إن المسح المشار إليه قد اعتبر أغلب نساء العراق ربات بيوت حتى لو كن بعمر 15 سنة فما فوق, وهو أمر غير مقبول, إذ أن نسبة عالية منهن عاطلات عن العمل ولا يجدن فرصة عمل فعلية وغير متزوجات ولسن طالبات أيضاً. ومن هنا أدى هذا التقدير إلى تقليص نسبة البطالة بين الجنسين إلى 28,1%, وهو رقم لا يمكن القبول به بأي حال, إذ يتعارض مع الواقع في العراق. كما أن أجهزة الدولة تضم ما يقرب من 43% من القوى العاملة ويقدر البطالة المقنعة بين هذه النسبة بما يتراوح بين 30-50%. الرقم الذي يطرحه السيد الدكتور برهم صالح غير واقعي ولا يعبر عن حقيقة البطالة في العراق بأي حال وهو بالتالي مضلل لمن يريد تنمية الاقتصاد ومعالجة  البطالة, رغم أن الدكتور صالح لا ذنب له في هذا الرقم فهو صادر عن جهة رسمية. ولكن بحكم كون إحصائياً كان يفترض أن يقدر واقع البطالة في العراق, ومنه إقليم كردستان حيث البطالة المقنعة فاحشة حقاً, دع عنك البطالة المكشوفة.
وإذا اقتطفنا مقطعاً من مجلة "الأسبوعية" الصادرة في بيروت والقريبة من الدكتور برهم صالح, فإننا سنقرأ فيها ما يلي:      
" تلفت التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة إلى وجود بطالة مقنعة في العراق تقدر بما يتراوح بين 30 و50 في المائة وفقاً للبيانات المتداولة. وفي الوقت الذي قدرت منظمة العمل الدولية نسبة البطالة في العراق بما بين ربع أو ثلث القوى الإنتاجية، تشير الأرقام التقديرية للبنك الدولي، بحسب موقعه الالكتروني، إلى أن إجمالي الناتج المحلي العراقي تراجع في العام 2003 بنسبة الثلث تقريباً، واتجه نحو الربع في العام  2004, واستمر في تراجعه ما بين الربع والثلث خلال الأعوام 2005-2006-2007 – 2008، ويؤشر هذا التراجع الخطير إلى إرباك واضح للاقتصاد العراقي" راجع : الأسبوعية. 11-20 نيسان/أبريل 2009). ولا شك في أن الأمر أكثر من إرباك واضح, بل هي سياسة ينبغي لها أن تتغير!  
من هذين المؤشرين نريد أن نؤكد أن في العراق تركة ثقيلة عمرها عشرات السنين من القهر والإرهاب والتهميش والتخلف والتبعية والنهب والسلب. وأن العراق يحتاج إلى وقت طويل لإزالة الأوضاع السيئة للنسبة العالية من السكان التي تعيش تحت خط الفقر, وفق تقديرات الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات. ولكن السؤال هو: هل يوصلنا فكر وذهنية وسياسة اللبرالية الجديدة المتطرفة التي يلتزم بها ويقترحها للعراق الدكتور برهم صالح إلى إزالة الواقع الذي يعيد إنتاج الفقر أم يبقي عليه ويكرسه, وفي الوقت نفسه يزيد من عدد المليونيرية من جهة ويزيد من عدد الفقراء والعاطلين عن العمل من جهة أخرى؟ وعلينا أن نتذكر الحكمة القائلة "ما بات متخم إلا وبجانبه جياع". ألا ينبغي للعراق اختيار نموذج آخر وإستراتيج آخر لعملية التنمية والتقدم في العراق بدلاً من كوارث اللبرالية الجديدة؟    
إجابتي عن ذا السؤال واضحة, ولكن لنستمع إلى رأي طرح في مجلة "الأسبوعية" ذاتها حيث جاء في ذات المقال عن البطالة في العراق يقول:
" ويرى اقتصاديون عراقيون أن الضرورة تتجه إلى تفعيل القطاعات الإنتاجية (الصناعية الزراعية) وتوسيع قاعدة الاستثمارات؛ سعياً لخلق فرص عمل تستوعب معدلات البطالة.
وترى دراسات اقتصادية مستقلة أن تسريع عملية إعادة الإعمار وتنفيذ عدد من المشاريع الاستراتيجية وتفعيل عدد من المعامل وفتح الاستثمارات في قطاع الزراعة من مقومات امتصاص البطالة، وتحريك الدورة الاقتصادية الساعية إلى تخليص الاقتصاد العراقي من اعتماده المفرط على النفط كمصدر دخل أساسي". هذا الرأي يتجاوب مع الرأي العام العراقي, ولكنه يتعارض مع نخبة من أصحاب الملايين.
إن البطالة في العراق تزيد حالياً عن هذا الرقم بنسبة عالية وأكثر من الضعف على أقل تقدير إن احتسبت مع البطالة المقنعة. إن جولة صغيرة في أجهزة الدولة والإدارات المحلية في جميع أنحاء العراق, ومنه غقليم كردستان العراق, ستنكشف أمام أصحاب البصيرة والبصر سعة البطالة المكشوفة والبطالة المقنعة المرهقة لميزانية الدولة والمعطلة للعمل. وهذا يعني أن عواقب البطالة المقنعة ليست تفريطاً بموارد البلاد المالية وعدم مشاركة هؤلاء بالإنتاج وإنتاج الدخل القومي فحسب, بل وفي عرقلة العمل والتخلف عنتلبية حاجات الناس وتأخير إنجاز معاملاتهم في دوائر الدولة. إن الإجابة عن السؤال الوارد في العنوان: نعم!
إن اقتصاد العراق, ومعه اقتصاد إقليم كردستان العراق, هو أحوج ما يكون إلى التنمية الصناعية والزراعية وليس إلى زيادة الاستيراد وإغراق الأسواق المحلية  بالسلع المستوردة ذات النوعية الرديئة وسريعة الاستهلاك ومحاربة الإنتاج المحلي واستمرار البطالة المكشوفة والمقنعة واستمرار الفقر واتساع الفجوة بين مدخولات الفقراء والمنتجين وأصحاب النعمة الحديثة من القطط السمان. أتمنى على الدكتور برهم صالح أن يتخلى عن ذهنية اللبرالية الجديدة المتطرفة وليس عن فكره الرأسمالي, فهذا غير مطلوب منه, ولكن المطلوب منه أن يفكر بمصالح كل مكونات الشعب العراقي, ومنه شعب إقليم كردستان العراق, على المدى القريب والبعيد!
20/5/2009                     كاظم حبيب
انتهت الحلقة الرابعة وتليها الحلقة الخامسة والأخيرة  






نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح
نائب رئيس الوزراء العراقي

الحلقة الخامسة والأخيرة
هل من رؤية واقعية للتنمية الصناعية في فكر وسياسة الدكتور برهم صالح؟
سأحاول في هذه الحلقة أن أعالج مسألة واحدة ترتبط بموضوع التصنع واللبرالية الجديدة, رغم وجود الكثير من المسائل الأخرى التي تستوجب النقاش مع السيد الدكتور برهم صالح بسبب جرأته في طرح وجهات نظره والحيوية التي يتحرك ويمارس عمله بها, وكثرة المسائل التي تتوجه اهتماماته لها والتي لا مجال لمعالجتها بمقالات قصيرة وسريعة. وأعد القراء بمناقشتها.
من المعروف إن الأطراف الثلاثة المبشرة والداعية إلى الأخذ بإيديولوجية اللبرالية الجديدة وسياساتها الاقتصادية على صعيد الدول النامية هما المؤسستان الماليتان الدوليتان, البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ذات النفوذ الكبير في وعلى هاتين المؤسستين. وتسعى هذه الأطراف إلى توقيع اتفاقيات مع الدول الأخرى, ومنها دولة العراق للالتزام ببرنامجها من أجل تقديم المساعدة أو الدعم لها أو إعفائها من بعض الديون التي بذمة الدول النامية. وهذا ما حصل في العراق والذي تجلى في إقناع العراق بتطبيق ما يطلق عليه بـ"برامج وسياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي" التي تشمل رؤية  محددة التزم بها ونفذها بريمر وواصلها السيد الدكتور برهم صالح في مواقفه وسياساته الاقتصادية ومناقشاته في مجلس الوزراء وفي خطبه المختلفة. وتشمل هذه السياسة كل فروع وقطاعات الاقتصاد الوطني والسياسات المالية والنقدية والتجارية وتخفيض الإنفاق العام وإيقاف الدعم الحكومي للسلع والخدمات والحد من ارتفاع الأجور مع الرغبة في زيادة ارباح الرأسماليين ... الخ, ولكن بشكل خاص رفض وجود قطاع دولة اقتصادي وخصخصة جميع مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية والأخذ المطلق بمبدأ وسياسة التجارة الحرة غير المقيدة  بأي قيد حكومي, أي سياسة الباب المفتوح ورفض أي حماية للسلع المنتجة محلياً, سواء أكانت سلعاً صناعية أم زراعية أم حرفية. ومثل هذا الموقف يقود في بلدٍ مثل العراق إلى عواقب وخيمة منها: ارتفاع حجم البطالة واستهلاك واسع للدخل القومي دون تحقيق التراكم الرأسمالي وتفاقم التباين في مستوى المعيشة والفجوة الداخلية بين الفئات الاجتماعية واحتمالات التضخم وارتفاع الأسعار غير المنضبط وتراجع جدي في حجم ونفوذ ودور الطبقة الوسطى الصناعية والزراعية والخدمات الإنتاجية, وتعاظم المضاربات في الأسواق المالية وتنامي التناقضات الاجتماعية وتحولها إلى صراعات سياسية وبالتالي إلى نزاعات سياسية لا يعرف الإنسان عواقبها. إن هذه العملية تبقي وجود فئات اجتماعية تعيش على هامش الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وتتفاقم المشكلات التي تتفجر في مثل هذه الأوساط الاجتماعية البائسة والمنسية من جانب الدولة.
وكل المعطيات التي تحت تصرفي والتي تجمعت لدي من خطب ومقالات وتصريحات أدلى بها الأخ الدكتور برهم صالح تشير إلى أن السيد نائب رئيس الوزراء مؤمن إيماناً قاطعاً حتى الآن بهذه الإيديولوجية الرأسمالية المتطرفة, اللبرالية الجديدة, بأشد أشكالها ابتعاداً عن واقع الحياة في الدول النامية وحاجاتها للتنمية الإنتاجية, وخاصة في قطاعي الصناعة والزراعة. ومجرد القبول برفض قوانين وقواعد الحماية الوطنية للإنتاج المحلي من جهة والقبول المطلق بالتجارة الحرة غير المقيدة من جهة ثانية, يعني القول دون أدنى تردد بأن الدكتور برهم صالح ضد التصنيع المحلي وضد البرجوازية الصناعية ولكنه إلى جانب البرجوازية التجارية التي تعتمد على الاستيراد وعلى إبقاء الاقتصاد الوطني العراقي ومنه اقتصاد إقليم كُردستان العراق, شاء ذلك أم أبى وأدرك ذلك أم لم يدركه, في حالة من التخلف والتبعية واستهلاك الدخل القومي دون تحقيق تعظيم الثروة الوطنية على أسس سياسة عقلانية واعية.
كلنا يعرف, حتى إن لم يكن الإنسان اقتصادياً, بأن الصناعة والزراعة في أي بلد من البلدان هي عصب الحياة النابض, وهي القادرة على خلق فرص عمل جديدة ومنشآت اقتصادية مكملة جديدة وتراكم الثروة الوطنية وإنتاج الدخل القومي وتنويعه وزيادة الأجور المدفوعة وتحسين السيولة النقدية وتقليص الاستيراد والاحتفاظ بقسط من إيرادات النفط لصالح التثمير الإنتاجي. وأن بلداً مثل العراق يملك الثروة النفطية والموارد المالية, يكون في مقدوره أن يطور سلسلة طويلة من الصناعات المحلية باستخدام الأموال العامة أموال الدولة النفطية لصالح التنمية الزراعية والصناعية لا في مجال البنية التحتية, ومنها الري والبزل والطاقة الكهربائية والماء الصالح للشرب والنقل والتعليم العام والمهني ومراكز البحث العلمي النظري والتطبيقي والصحة ..الخ فحسب, بل وفي التنمية الصناعية والزراعية في قطاع للدولة, إضافة إلى تنشيط القطاع الخاص المحلي والأجنبي وتوفير مستلزمات مشاركته في التنمية.
لا يختلف إثنان في واقع أن السادة, الدكتور برهم صالح, نائب رئيس الوزراء, والدكتور علي بابان, وزير التخطيط, والأستاذ فوزي حريري, وزير الصناعة, كلهم من ملتزمي اقتصاد السوق الحر, وأنهم يسعون إلى تكريس هذا الاتجاه في الاقتصاد العراقي, ومنه اقتصاد كُردستان, كما أن الأستاذ نيجرفان بارزاني, رئيس وزراء الإقليم, يشترك معهم في التزام اقتصاد السوق الحر أيضاً. ولكن في نجد تبايناً واضحاً حتى الآن بين الدكتور برهم صالح وبين عضوي الحكومة العراقية الاتحادية في الموقف من التصنيع ومن بعض التفاصيل المهمة. يقول السيد وزير الصناعة في إجابته عن بعض الأسئلة التي وجهت له ما يلي:          
"يمكن لي أن أعزو السبب الرئيس إلى غياب الخطة الاقتصادية الشاملة خلال فترة ما بعد التغيير في العام 2003 حتى الآن، وأقول إن الصناعة لم تكن حاضرة في أذهان الحكومات السابقة منذ مجلس الحكم مروراً بالحكومات الانتقالية بسبب طغيان الأولويات التي تتصل بالجانب الأمني فضلاً على عدم توفر التخصيصات اللازمة الموازنة الاستثمارية للعام 2006، اعتمدت للوزارة 14 مليار دينار فقط، كانت 41 مليار دينار في العام 2007 و 438 للعام 2008 وهي تقارب ألـ 50 مليار دينار للعام الحالي 2009 وهي في مجملها لا تغطي حاجة القطاع الصناعي الفعلية. وماذا عن القوانين التي يمكن ان تسهم في تفعيل الصناعات الوطنية؟ لا تزال تراوح في اروقة مجلس النواب، وقد اقرت ثلاثة مشاريع قوانين اعتبرها غاية في الاهمية من قبل مجلس الوزراء، هي قوانين حماية المنتوج الوطني والتعرفة الجمركية وحماية المستهلك وهي في طبيعة الحال تمثل بيئة تشريعية مثلى يمكن ان تعطي دفعاً للمنتجات الوطنية وأن تحد من الاغراق السلعي وتؤمن منافسة حقيقية للبضائع والسلع المستوردة ذات المناشئ والمواصفات الرديئة التي تعج فيها الاسواق العراقية حاليا. يقدر الخبراء الكلفة الفعلية لتفعيل القطاع الصناعي بـمليار دولار، ماذا عن هذه التقديرات؟ اؤكد ان حاجة الصناعة العراقية تتجاوز هذه التقديرات لتصل الى اكثر من 1.5 مليار دولار وعلى مدى سنتين وعن طريق الاستثمار وفق خطة لتفعيل الشركات والمعامل وتوسيع القدرات الانتاجية وصولا الى ناتج الطاقات التصميمية". كما كنت قد أشرت في حلقة سابقة إلى موقف السيد وزير التخطيط الإيجابي من الصناعة الوطنية والإنتاج المحلي بشكل عام.  
إن المسألة لا ترتبط برغبتنا أو عدم رغبتنا بالقطاع الخاص, بل ترتبط بمدى قدرة الدولة على توفير المناخات والمستلزمات والمحفزات المناسبة لتنشيط توجه أصحاب رؤوس الأموال المحليين والأجانب صوب التثمير الإنتاجي في الصناعة والزراعة وفي القطاعات الخدمية, وبشكل خاص موضوع الأمن والاستقرار السياسي والبنية التحتية. ومهما عقدت من مؤتمرات دولية في بريطانيا أو في دول أخرى لإقناعهم بالاستثمار في العراق, فأن الاستجابة ستبقى في الحد الأدنى ما لم يتم توفير الضمان الأمني والمحفزات الأخرى.
إن الحديث عن أهمية القطاع الخاص لا يختلف فيها اثنان, ولكن السؤال: كيف يتم ذلك؟ علماً بأن الجهود المبذولة لهذا الغرض نادرة حقاً. ووفق تصريح السيد رئيس اتحاد الصناعات العراقي فأن 90% من المنشآت الصناعية متوقفة عن العمل ولم تبذل الجهود لإعادة العمل بها, في حين أن ال 10% تعمل بفعل المبادرة الذاتية. وهنا يفترض أن نتساءل عن دور الحكومة لدعم القطاع الخاص.
24/5/2009                      كاظم حبيب          

1221
نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح
نائب رئيس الوزراء العراقي
الحلقة الثالثة
فحوى إستراتيجية التنمية وأهميتها للاقتصاد العراقي
حين قدمت وصفاً للحالة الفعلية التي يعاني منها المجتمع في الجانب الاقتصادي, كنت أهدف من وراء ذلك الوصول إلى تحديد إستراتيجية التنمية في العراق خلال الفترة القادمة والتي يمكن أن تمتد لعشرين سنة قادمة, أي تحديد الأهداف الأساسية التي يفترض بذل كل الجهد لتحقيقها, إذ أنها تشكل الأساس المادي لخروج العراق من الواقع الراهن وعلى مراحل أربع تتجلى في برامج أو خطط خمسية وسنوية. وهي مشكلة لا تنتهي بذلك التحديد فقط, بل تستوجب من أجهزة التخطيط وضع عدد من السيناريوهات أو المشاهد التي يتمكن العراق من خلالها اختيار الأكثر قرباً للواقع والأكثر قدرة على تحقيق ما يصبو إليه المجتمع. وعند تحديد الاستراتيجية وأدوات تحقيقها يمكن أن يبرز الخلاف بين المفكرين والعاملين في الحقل الاقتصادي. وهذا ما لمسته في صيغ الطرح المختلفة للاقتصاديين العراقيين. ولكن أبرز الخلافات في الشأن الاقتصادي العراقي ينشأ حالياً بين متبني اللبرالية الجديدة الأكثر تشدداً في تطبيق مبادئها, والتي ينتمي إليها المهندس والإحصائي الدكتور برهم صالح, وبين من يرى ضرورة الأخذ باقتصاد السوق الاجتماعي الذي ينسجم مع واقع البلاد الراهن. ورغم الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في النظام الرأسمالي العالمي التي لعبت سياسة اللبرالية الجديدة أكبر الأدوار في تفجرها, فأن هذه الإيديولوجية لا تزال تجد من يدعو لها وأكثر من منظري الدول الرأسمالية المتقدمة ذاتها, إذ أن أوباما مثلاً يسعى للتخلص منها.
فما هي استراتيجية التنمية التي أدعو إلى التفكير بها بصيغتها العامة والتي تستوجب التحديد الملموس ووضع المشاهد المتعددة لاختيار المشهد الأكثر تناغماً مع واقع وإمكانيات وحاجات العراق.
1.   يتحدد الهدف المركزي منذ الآن وعلى مدى السنوات العشرين القادمة في تخليص العراق من التخلف والاعتماد الوحيد الجانب على موارد النفط في تكوين الدخل القومي. أي تنويع وتطوير الإنتاج ومصادر تكوين الدخل القومي. وهذا الهدف يتم الوصول إليه عبر ثلاثة أهداف, وهي:
2.   تحقيق التنمية الصناعية استناداً لما موجود في العراق من موارد أولية خامية (النفط والكبريت والفوسفات والحديد ..) وثروة زراعية بشكل خاص. ويتوزع هذا الهدف إلى :
أ‌.   تجديد وتحسين التقنيات المستخدمة في استخراج وتخزين ونقل النفط الخام وتسويقه لزيادة موارد العراق المالية الضرورية للتنمية السنوية.
ب‌.   توجيه جهود مكثفة وكبيرة لتنمية الصناعات التحويلية التي تعتمد على النفط والموارد الأولية الأخرى, ومنها الصناعات الزراعية.
ت‌.   تنظيم التجارة الخارجية (الاستيراد بشكل خاص) والسياسة المالية, ومنها الجمركية, بما يسهم في حماية الإنتاج المحلي من المنافسة غير المتكافئة.
3.   تحقيق التنمية والتحديث الزراعي (الثروة النباتية والحيوانية والسمكية). وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية وضرورة التنسيق وتحقيق الترابط العضوي بين القطاعين الصناعي والزراعي.
4.   التنمية البشرية التي تستوجب مكافحة الأمية بين الجنسين وفي المدينة الريف وتغيير مناهج التعليم العام والمهني والفني وتطوير مراكز البحث العلمي النظري والتطبيقي والتعاون والتنسيق مع المجتمع الدولي في هذا الصدد.
5.   مكافحة البطالة المكشوفة والمقنعة بين الجنسين.
6.   تحسين مستوى معيشة الأفراد من خلال تحقيق العقلانية والعدالة في عمليات توزيع وإعادة توزيع واستخدام الدخل القومي.
7.   تأمين التنسيق بين التنمية الاقتصادية العامة والتنمية الإقليمية لمناطق العراق المختلفة, ومنها تنمية إقليم كردستان العراق وتنمية المحافظات وعلى مستوى المركز, من أجل إزالة تدريجية للتباين بين مختلف المناطق والمحافظات.   
8.   إيجاد علاقة سليمة بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة من التلوث في بلد يمتلك ثروة أولية مُلوِثة للبيئة واقتصاد متخلف وفقر واسع يساعد على حصول المزيد من التلوث.
إن تحقيق هذه الاستراتيجية في اقتصاد العراقي يستوجب التزام أدوات قادرة على المساهمة الجادة لتحقيق هذه المهمات, ومنها بشكل خاص:
 1. الاستفادة من إمكانيات القطاعين الخاص والحكومي في عملية التنمية, بما في ذلك القطاع الخاص العربي والإقليمي والدولي, إضافة إلى التعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
 2. حماية الإنتاج المحلي من المنافسة الأجنبية خلال المراحل الأولى من تنفيذ إستراتيجية التنمية, أي تنظيم التجارة الخارجية بما يسهم في زيادة استيراد سلع الإنتاج وتقليص تدرجي لسلع الاستهلاك ووضع سياسة جمركية تساعد على تحقيق ذلك.
3. التحكم بتأمين انسياب نسبة تتراوح بين 60 – 70% من إيرادات النفط الخام صوب التثمير الإنتاجي وتنشيط القطاع الخاص لهذا الغرض ايضاً.
4. وضع سياسة مالية ونقدية, بما فيها السياسة الضريبية والجمركية, وسياسة جادة للتأمين وإعادة التأمين على نطاق البلاد كلها تتناغم مع إستراتيجية التنمية الوطنية وتساهم في تحقيق تلك الأهداف الأساسية وتنقل البلاد من حالة الاقتصاد الشمولي المتخلف إلى حالة الاقتصاد المتقدم, اقتصاد السوق الاجتماعي , إذ أن السياسة المالية والنقدية, ومعها التأمين, هي الأدوات التنفيذية للسياسات الاقتصادية.
4. تأمين وجود جهاز متقدم وحديث للتخطيط والمتابعة يأخذ بعين الاعتبار الجدوى الاقتصادية والاجتماعية من إقامة المشاريع والاهتمام الفعلي بالتنمية القطاعية والإقليمية.
5. تأمين الرقابة والمتابعة الرسمية على مستوى مجلس النواب والحكومة, والرقابة الشعبية على مستوى النقابات ومنظمات المجتمع المدني, بما فيها الأحزاب السياسية, والمجتمع بشكل عام وكذلك الإعلام بكل مكوناته.
...الخ.
إن هذه الإجراءات لا تتعرض لآليات عمل السوق, بل تسعى على تنظيمها والرقابة عليها بما لا يقود إلى تجاوزات على القوانين الاقتصادية الموضوعية وعلى مهمات التنمية أو تشديد التناقضات والصراعات الاجتماعية. 
اين يبرز الاختلاف بين رؤيتي ورؤية السيد الدكتور برهم صالح لاسترايجية التنمية الوطنية؟ أختلف معه في الموقف من وحدانية الاعتماد على موارد النفط الخام ومن رفضه للتنمية الصناعية والزراعية في البلاد. فهو غير مهتم بإزالة التبعية الكاملة للنفط الخام ولا بتنمية الصناعة والزراعة, بل يبتعد عن ذكر ذلك في كل خطبه وتصريحاته وتقاريره المنشورة. وما يطرحه في مجال الزراعة يبتعد كل البعد عن حاجة العراق للتنمية الزراعية, وسياسته تساهم في تجريد ما تبقى من أرض لدى الفلاحين لصالح كبار الملاكين وأصحاب رؤوس الأموال. إذ أن الإنتاج الكبير لا يعني تجريد الفلاحين من ملكية الأرض, بل يمكن إيجاد صيغ متنوعة في هذا الصدد.   
إن السياسة الاقتصادية التي يدعو لها الدكتور برهم صالح تتلخص في نقطة واحدة: الأخذ بحرية التجارة المطلقة وفتح الأبواب على مصاريعها أمام الاستيراد, دون الأخذ بالاعتبار واقع حاجة البلاد إلى التنمية الصناعية والزراعية وتنويع مصادر الدخل القومي. ونتائج هذه السياسة بارزة للعيان في كردستان العراق وفي عموم العراق حيث اختفت عملياً السلع المصنعة محلياً لتحل محلها السلع المستوردة, حتى السمنت العراقي بدأ يعاني من ذلك, وغابت السلع الزراعية, بما فيها لبن أربيل, ليحل محله ومحل بقية مشتقات الألبان السلع المنتجة والمستوردة من السعودية وتركيا وإيران وسوريا ودول الخليج. إنها سياسة مدمرة للإنتاج المحلي, إذ تجري في ظل غياب التكافؤ في فرص المنافسة تماماً, بين اقتصاد عراقي مخرب لم تساهم سياسة الحكومة في إنهاضه حتى الآن, بل في تراجعه لصالح الاستيراد, وبين سلع مستوردة من الخارج, رغم نوعيتها السيئة.
إن سياسة الباب المفتوح على طريقة اللبرالية الجديدة وجورج دبليو بوش وپول بريمر, أو منظمة التجارة الحرة, والتي يتبناها الأخ الدكتور برهم صالح, لن تخرج العراق من تخلفه ومن إنكشافه الكامل على  الخارج ولن تنقذه من وحدانية الجانب والاعتماد على موارد النفط المالية, وهي ثروة ناضبة بالنسبة لأجيال العراقيات والعراقيين القادمة, بل تزيد من ذلك ولا تحقق التراكم الرأسمالي البدائي الذي يحتاجه العراق حالياً في القطاعين الإنتاجيين, في الصناعة والزراعة.
في مؤتمر بدائل التنمية في العراق أشار السيد رئيس الوزراء نوري المالكي بكلمات واضحة وبسيطة إلى هذا الموضوع فقال: ".. نحن ضد مبدأ الإيراد الواحد ولا بد أن نتجه الى زيادة عائداتنا النفطية لإحياء القطاعات الأخرى وإدامة العملية الإنتاجية". وفي مجال نموذج التنمية فقد اشار إلى ما يلي بصواب: " ان نظريتنا الاقتصادية ينبغي ألاّ تتخلي الدولة من مسؤولياتها بالكامل في نفس الوقت الذي لايمكن للدولة أن تنهض دون أن يكون القطاع الخاص الى جانبها". (راجع مؤتمر بدائل التنمية في العراق, راجع جريدة المدى).
أما السيد وزير التخطيط الدكتور علي بابان فقد اشار في نفس المؤتمر حول إسترايجية التنمية, وبخلاف رأي السيد الدكتور برهم صالح, إلى نقاط أربع, ولكن يهمني منها في هذا المجال ما يلي: "ان القطاعات الاقتصادية شهدت إهمالا وتراجعا خلال السنوات الماضية جراء الاعتماد على سياسة الإيراد الواحد، واننا لا نهون من صعوبة مهمتنا في هذا الجانب اذ ان استمرار الإهمال سيجعل الاصلاح أكثر كلفة.. وأشار بابان إلى أربعة تحديات تواجه الاقتصاد العراقي مطالبا التصدي لها بجدية وحزم, .. أولا: تحرير الاقتصاد العراقي من التبعية الكاملة لإيرادات النفط وتفعيل القطاعات لتعظيم الانتاج المحلي وزيادة دخل المواطن .. ثانيا: إعادة التوازن لموازنة الدولة لصالح البرنامج الاستثماري على حساب النفقات التشغيلية".
إن السياسة التي يريد الدكتور برهم صالح انتهاجها ستحول العراق إلى مستهلك لا منتج, إلى مستخرج للنفط الخام ومصدر له, وإلى مستلم لموارد النفط لينفقها على الاستيراد, وبهذا يكون تعظيم الثروة في الدول الأخرى, أما العراق وفق هذه السياسة فسيتحول إلى مفرط بثروته النفطية وموارده المالية في آن دون أي يحقق التراكم الضروري ووتعظيم للثروة وزيادة التشغيل وتحسين مستوى توزيع واستخدام الدخل.
يتمنى الإنسان على الأخ الدكتور برهم صالح, وهو الماسك بالملف الاقتصادي أن يعيد  النظر بمواقفه الفكرية والسياسية من العملية الاقتصادية لصالح العراق حالياً ومستقبلاً, وكذلك لصالح إقليم كردستان العراق الذي تحول إلى مستهلك لا منتج في المجال الزراعي, بعد أن غابت عنه سابقاً الصناعة أيضاً.
25/5/2009                     كاظم حبيب
نشر المقال في جريدة المدى 

1222
السيد المالكي والديمقراطية في العراق!

حين دعيت من الأخوات و الأخوة في مؤسسة المدى في بغداد قبل حوالي السنتين لإلقاء محاضرة عن رؤيتي للوضع القائم في العراق وآفاق التطور حينذاك , سؤلت من أحد الأخوة الأفاضل من أساتذة الجامعة عن فحوى مقال كنت قد كتبته في بداية مجيء السيد نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء بعد أن تسلم تركة ثقيلة لا من العهود السابقة فحسب, بل ومن مخلفات سياسة الدكتور الجعفري الطائفية التي أطلقت العنان للطائفية في تتكرس في أجهزة الدولة, وخاصة في أجهزة الأمن والشرطة وانتعاش المليشيات الطائفية الشيعية, وأنعشت معها المليشيات السنية, وهل توجد إمكانية في أن يتحول الناس من موقع فكري وسياسي مذهبي وطائفي إلى موقع فكري وسياسي مدني وديمقراطي؟ وكان المقصود بذلك, كما فهمت في حينها, هو: هل يمكن للسيد المالكي أن ينتقل من موقع يحتل فيه المسئولية الأولى في حزب سياسي شيعي مذهبي وطائفي, إذ لا يمكن تأسيس أحزاب مذهبية إلا على أساس طائفي, نحو مواقع المدنية والديمقراطية؟ وكان جوابي نعم, هذا ممكن في ظل ظروف وشروط معينة, وغير ممكن في ظروف وشروط أخرى. وإمكانية التحول تقترن بضرورة توفر الاستعداد الذاتي والتفتح الفكري لدى الشخص المعني, سواء أكان المالكي أم غيره من السياسيين العراقيين, مع عدم نسيان صعوبات وتعقيدات مثل هذا التحول والتغيرات السياسية المحتملة التي تفرض نفسها على الشخص. وكان في بالي من الناحية الإيجابية التحول الديمقراطي الذي برز لنا بوضوح وبشكل متميز منذ فترة مبكرة لدى الأخ والصديق الأستاذ ضياء الشكرچي ولدى الأخ الأستاذ محمد عبد الجبار شبوط وغيرهما. وكذلك إمكانية التحول من أيديولوجية كانت تدعي امتلاك الحقيقة كلها إلى فكر ديمقراطي يعترف بالتعددية وحرية الرأي والرأي الآخر. ومثل هذه العملية لا يمكن نفيها عن أي إنسان بأي حال, ولكن يصعب تعميمها أيضاً. فهي مقيدة بشروط وظروف مناسبة ومساعدة لتحقيق مثل هذا التحول لدى شخص ما بالارتباط مع مستواه الفكري وتفتحه الثقافي وتجاربه الحياتية والتي يعيشها راهنياً وحين تبرهن له الحياة خطأ الالتزام بخطه السابق, ويعمل على تبني نهج جديد بعيد عن الطائفية وفي صالح المواطنة والديمقراطية والمساواة بين المواطنات والمواطنين...الخ.
وعند متابعتي لخط التطور لدى السيد المالكي, وهذا رأي شخصي خاضع للخطأ والصواب, يتلمس الإنسان لديه مرونة على التحرك, ولكن تحركه حتى الآن كان زگزاگياً صعوداً وهبوطاً, وهي المسألة المقلقة في نهج المالكي, إذ أن السير خطوة إلى أمام يمكن أن تلحق بها خطوتان إلى الوراء. وتكون الحصيلة سلبية. ويمكن أن يكون السير خطوتان إلى أمام وخطوة إلى الوراء, وعندها تكون الحصيلة إيجابية رغم سلبياتها. ولكن يصعب الوثوق بمثل هذا التحرك غير المنظم وغير المبرمج وغير المحسوب مسبقاً, والذي يمكن أت تترتب عنه وعليه عوائق غير محمودة لا يتمنى لها الإنسان بالظهور.
وبما أن المسألة موضوع البحث ترتبط برغبة السيد المالكي التحول إلى النظام الرئاسي فلا بد لنا أن نعود إلى تاريخ وتقاليد هذه الشخصية السياسية العراقية التي اقترنت حياته السياسية حتى الآن بقوى إسلامية سياسية (حزب الدعوة) وموقف قادة هذا الحزب من الديمقراطية على  أنها أداة وليست منهجاً وفلسفة حياتية, كما عبر عنها السيد على  الأديب, إضافة إلى الأجواء المحيطة به وطبيعة حزبه القلقة الذي عرف الجعفري رئيساً له, ثم وضع السيد المالكي النفسي أثناء عملية التفكير بالتحول من موقع إلى آخر. وهذه العوامل المتفاعلة تتجلى في إشكالية تجد تعبيرها في طريقة عمله في مجلس الوزراء وفي الحياة السياسية العراقية وكذلك في الإجراءات التي يتخذها للوصول إلى الهدف الذي يسعى إليه والذي يمكن أن يعبر عنه "البراغماتية" و"الغاية تبرر ألواسطة وكذلك عن مدى وعيه للديمقراطية لا من مفهوم ديني, بل من مفهوم مدني حديث, خاصة وأنه يتحدث عن أن الديمقراطية في العراق ستكون بعد ثلاث سنوات!
إن آخر مسألة طرحها السيد المالكي في الوسط السياسي العراقي هو دعوته للأخذ بالنظام الرئاسي في العراق ودعوته إلى تغيير الدستور لصالح تكريس مثل هذا النظام الرئاسي. وقبل الإدلاء برأيي في هذا الصدد, أشير إلى ما يلي:
لا بد للإنسان وهو يبحث في مثل هذه الأمور أن يعود إلى تاريخ وتراث وتقاليد وعادات ومسيرة شعوبنا عموماً ومكونات الشعب في العراق خصوصاً, سواء بالنسبة للعرب أم الكُرد أم التركمان أم الكلدان والآشوريين, وأن كان بنسبة أقل, وأن يتذكر واقع أن الإنسان العراقي يميل إلى الفردية في العمل والمركزية المتشددة والفوقية أو الآمرية حين يكون في المسئولية وكذلك النزوع صوب الاستبداد الفردي بذريعة فرض النظام وممارسة العدل عبر الاستبداد, ولهذا وجد في تراثنا المكتوب المستبد العادل والمستبد الظالم, والرغبة في التحكم بمصائر الآخرين. وهذه الظاهرة العامة نجدها لدى أغلب الساسة العراقيين ولم ينجو منها السيد المالكي, كما أرى, فهو ابن هذه البيئة العراقية وأبن العشائر العراقية, حيث يسعى إلى تكريس العشائرية بأساليب مستحدثة والحصيلة واحدة ولغايات ضيقة, كما أنه ابن المؤسسة الدينية أو القوى والأحزاب الدينية التي يؤكد تاريخ العراق الطويل نزوعها صوب الفردية والفكر الواحد والتحكم بإرادة الناس. وتاريخ العراق في الدول الإسلامية ابتداءً من الدولة الأموية ومروراً بالدولة العباسية وانتهاء بالدولة العثمانية  ثم الدولة الملكية الحديثة فالجمهوريات الأربعة المنصرمة والمرحلة الراهنة كفيل بتأكيد هذا الواقع المؤلم.
لقد عاش العراق خلال العقود الأخيرة وفي ظل حكم القوى القومية اليمينية والبعثية في نظام شمولي فردي مطلق, سواء أكان على رأس الحكم عبد السلام محمد عارف أم أحمد حسن البكر أم صدام حسين, والأخير هو الأكثر دموية وكراهية للإنسان الآخر والفكر الآخر وحرية الآخر وأكثر من كل السابقين نرجسية وسادية وجنون العظمة وأكثر من كل الحكام العرب. وهي المشكلة التي يفترض في كل السياسيين العراقيين أن يدركوا بأنهم يمكن ان يقعوا في هذا الطب, أن يصابوا بهذه العلل الاجتماعية المرضية, وأن من واجبهم مراقبة سلوكهم اليومي لتجاوز احتمال السقوط في هذا المستنقع الذي ركد فيه صدام حسين.
كلنا يعرف بأن التحول في العراق قد بدأ بإسقاط الدولة الشمولية بالقوة, بصورة مشوهة وبطريقة غير طبيعية وعبر عملية قيصرية, الحرب, بعد 35 عاماً من النظام الفاشي, والتي اقترنت بدورها بالدماء والدموع والضحايا المرمية على قارعة الطريق وفي القبور الجماعية وفي مياه دجلة والفرات والقتل على الهوية الفكرية والدينية والمذهبية وعبر ممارسات بعبثية تدميرية لا سابق لها في العراق وبهذه الصورة البشعة.
وبعد كل هذا وذاك اقر المجتمع دستوراً جديداً وانتخب برلماناً جديداً وشكل حكومة مسئولة أمام البرلمان, رغم كل ما في هذه العملية  والمؤسسات من نواقص معروفة ومحاصصة طائفية وقومية لم تعد مرغوبة, وهي بداية لطريق طويل يحتاج العراق إلى  فترة غير قصيرة لهضم عملية التحول من الشمولية إلى وضع آخر يمكن أن يضع العراق على طريق المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية بدلاً من العنصرية والاستبداد والطائفية المقيتة. ولا شك في أن مثل هذه العملية ستواجه الكثير من المصاعب والأخطاء لسبب بسيط جداً هو غياب التقاليد الديمقراطية والتباين في وجهات النظر والرغبة في حسم الأمور بالقوة أو بالإجبار ورفض الرأي الآخر. ومثل هذه الحالة يفترض أن لا يتطير منها السياسي الذي يحتل مركز رئيس حكومة, بل أن يتفاعل معها ليلعب دوره في التأثير عليها وتغييرها صوب الأفضل. ولكن من غير المقبول أن يطالب رئيس الوزراء بتجاوز البرلمان ورئاسة الجمهورية ليبدأ بالدعوة إلى إقامة نظام رئاسي يسمح لرئيس الوزراء أن يمارس صلاحيات يراها مناسبة على طريقة نفذ ثم ناقش. وهي البداية لشروط التحول صوب الاستبداد الذي تميز به الشخص العراقي عموماً والسياسي خصوصاً وامتلأ به تاريخ العراق السياسي.
يأمل الإنسان في أن تكون الانتخابات العامة القادمة أكثر حيوية ومشاركة ونزاهة وأكثر قدرة على انتخاب جمهرة من النائبات والنواب تكون قادرة على وعي أعمق وممارسة أكثر صرامة وحيوية لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وقادرة على وضع القوانين المناسبة لتأمين التوزيع العادل والسليم للواجبات والصلاحيات بين المركز وإقليم كُردستان والمحافظات وقانون ينظم الأحزاب ونشاطها, وقانون النفط وحل المشكلات التي لا تزال عالقة بما فيها التغييرات التي أجريت على حدود المحافظات والأقضية التي استهدفت إجراء تغيير سكاني في المناطق المعنية من العراق ...الخ.
إن المسافة بين الديمقراطية والشمولية يمكن أن تكون في الدول النامية, ومنها العراق, قصيرة جداً وأقصر مما يتصورها الإنسان, ولكن مهمة المثقفين وجميع الناس الديمقراطيين منع وقوع مثل هذا التحول, منع تقليص المسافة بل توسيعها إلى أقصى الحدود لتجنب العودة بالعراق إلى أي شكل من أشكال حكم الفرد والاستبداد والشمولية والطائفية تحت أية واجهة كانت.
19/5/2009                        كاظم حبيب            

1223
نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح
نائب رئيس الوزراء العراقي
الحلقة الثانية

هل من نموذج للتنمية في العراق؟

كاظم حبيب
السؤال المشروع الذي يستوجب الإجابة الصريحة عنه هو : هل تمتلك الحكومة العراقية الراهنة إستراتيجية تنموية, أم لا تزال الأمور تراوح في مكانها رغم مرور ست سنوات على سقوط الفاشية السياسية, ورغم وجود وزارة للتخطيط ومسئولين عن الملف الاقتصادي؟ وهل هذا ناشئ عن تضارب في الآراء والمواقف والمصالح للقوى والأحزاب المختلفة المشاركة في الحكم في تشخيص وجهة وحاجات وآليات التنمية المنشودة أم أن شيئاً آخر وراء الأكمة؟
كل الدلائل تؤكد عدم وجود إستراتيجية للتنمية على  صعيد العراق كله, ومعه طبعاً إقليم كردستان, وهذا ما أكده السيد وزير التخطيط علي بابان أكثر من مرة. ولكن هناك بعض الأفكار والمواقف التي يلتزم بها المشاركون في الحكم وخارجه ويلتزمون بهذا النموذج أو ذالك في التنمية وفي تحديد الإستراتيجية, كما في حالة الأخ الدكتور برهم صالح أو حكومة إقليم كردستان أو بعض الأطراف الأخرى المشاركة في الحكومة المركزية ببغداد. وقبل الإجابة عن رؤيتي لاستراتيجية ووجهة التنمية وآلياتها يفترض الحديث عن النموذج الاقتصادي الذي يراد الأخذ به للتنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي في العراق. أي, ما هي العوامل التي تفرض على الحكومة العراقية تحديد النموذج الاقتصادي الذي يراد الأخذ به خلال الفترة القادمة؟
حين نمعن النظر في أوضاع الاقتصاد والمجتمع في العراق سنجد أمامنا الواقع الكارثي الموروث والمستحدث التالي :
1.   يعتبر العراق من البلدان النامية التي تعاني من تخلف اقتصادي شديد ومن انكشاف كبير على العالم الخارجي. وقد أدت السياسات التي مارسها النظام السابق والحروب العدوانية التي فجرها وخاضها والتفريط الوحشي بموارد البلاد المالية وثرواته الوطنية من جهة, والسياسات غير الرشيدة التي مارستها الإدارة الأمريكية والحاكم بأمره بريمر وتفاقم الطائفية السياسية والتمييز الديني والطائفي, وتفاقم الإرهاب الدموي وتكريس سياسية التوزيع الحصصي للسلطة وانتشار الفساد والنهب المالي من جهة أخرى, قد عطلا العملية التنموية طيلة السنوات المنصرمة في أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري. والعامل الأخير حاول دفع البلاد في طريق مسدود حقاً لا يتناغم مع حاجات ومتطلبات وقدرات العراق.
2.   وبدت سوءات وجسامة وخطورة حالة الانكشاف على الخارج في فترة الأزمات والحروب والحصار الاقتصادي التي مر بها العراق في عهد النظام الاستبدادي , ولكنه يلاحظ اليوم أيضاً بالارتباط مع الأزمة الاقتصادية العميقة التي لا تزال لم تستكمل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي تجلت بالنسبة للعراق في انخفاض إيرادات النفط الخام بسبب تراجع الطلب عل النفط وانخاض سعر البرميل الواحد بنسبة عالية جداً من 146 دوراً إلى أقل من 40 دولاراً للبرميل الواحد, وبقاء اسعار الاستيراد السلعي عالية جداً بالقياس مع سعر الخامات الأولية.
3.   والاقتصاد العراقي ليس مشوهاً من حيث بنيته الداخلية فحسب, بل ومخرباً تماماً بسبب تلك السياسات والحروب وما أعقبها من سياسات, إضافة إلى سيادة الفساد المالي والإداري الذي ضيع بطرق مختلفة ما وصلت للعراق من أموال من مانحين دوليين لأغراض إعادة الإعمار, حيث تعرقلت هذه العملية حتى الوقت الحاضر. والدكتور برهم الح المسئول عن العهد الدولي والذي إدار الكثير من اجتماعات المانحين يدرك أكثر من غيره التبذير والتفريط والضياع والفساد الذي ألم بتلك الأموال والنزر اليسير منه هو الذي بقي في العراق واستخدم لصالح الناس. 
4.   واقتصاد العراق, كما هو معروف, نفطي استخراجي ريعي وحيد الجانب, وتعتمد ميزانية الدولة الاعتيادية والتنموية فيه على إيرادات النفط الخام بشكل خاص من جهة, كما أنه اقتصاد استهلاكي يعتمد على الاستيراد السلعي في تغطية الحاجة المحلية بنسبة عالية جداً ويعتمد على موارد النفط الخام في دفع مبالغ الاستيراد الا ستهلاكي السنوية.  أي أن إيرادات العراق المالية يذهب معظمها لأغراض الاستيراد السلعي الاستهلاكي.
5.   وهذا يعني أن الاقتصاد العراقي محروم تماماً من عملية تراكم رأس المال ومن تنمية وتعظيم للثروة الوطنية من خلال تنشيط القطاعات الإنتاجية السلعية (الصناعة والزراعة) المحلية. ويتجلى ذلك بوضوح كبير في أسلوب علاقات الإنتاج المهيمنة والمضيعة لفرص الاستثمار وتحقيق التراكم من جهة, وضعف نمو العلاقات الإنتاجية الرأسمالية المنشطة للتراكم الرأسمالي وتخلف الأطر الضرورية لتعجيل التنمية الوطنية, وتنشيط القطاعين الخاص, المحلي والأجنبي, والقطاع الحكومي. ويمكن للتظاهرة الا حتجاجية التي نظمها اتحاد الصناعات العراقي مع بعض النقابات العراقية حول الموقف السلبي للحكومة من القطاع الصناعي تأكيد لما نقول في هذا الصدد.
6.   ورغم الحديث عن الجهود المبذولة في إقامة البنية التحتية والخدمات الأساسية, فأن العراق لا زال يعاني من تخلف شديد وشكوى مرة في هذا المجال أيضاً, وبشكل خاص في مجال الطاقة والماء والمجاري والهاتف والنقل...الخ , رغم توفر الإمكانيات لتنشيط العمل في هذا القطاع والذي يمكن أن يستوعب الكثير من الأيدي العاملة العاطلة حالياً.   
7.   كما أن هذا الواقع قد تجلى في وجود بطالة واسعة أكثر بكثير مما يصرح به المسئولون, إضافة إلى سعة قاعدة البطالة المقنعة المتراكمة في أجهزة الدولة المتضخمة والمستنزفة للكثير من موارد العراق المالية. وهي التي ستبقى تثير المزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتهيئ أرضية تحرث دوماً لصتلح قوى الإرهاب والحصول على من ينفذ عملياتهم الإرهابية.
8.   ولا شك في أن العراق لا زال يعاني من نقص قاعدة المعلومات والبيانات ومراكز البحث العلمي النظري  والتطبيقي, إضافة إلى الضعف الشديد الذي تعاني منه الجامعات العراقية ومناهجها ونقص الجهاز التعليمي وضعفه ومعاناته من قوى الإرهاب وتدخل قوى الإسلام السياسي في الشأن الجامعي والتعليمي وفي وضع مناهج متخلفة ولا علمية واضطرار عدد كبير من الكادر العلمي إلى مغادرة العراق, إضافة إلى العدد الكبير الذي استشهد في حروب النظام المريرة وخلال الأعوام المنصرمة.
9.   ولا بد من الإشارة الواضحة إلى التدهور الشديد في بنية القوى العاملة في العراق من حيث مستوى التعليم العام والمهني والفني وتراجع مستوى المهنية والحرفية لدى الأيدي العاملة. وهذه الحالة تستوجب التغيير في وجهة التعليم العام والمهني والمناهج وإعادة التأهيل. وهي حالة مرتبطة بتراجع في حجم الطبقة العاملة وجمهرة الفلاحين لصالح الفئات المهمشة اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وتعليمياً وثقافياً وانضباطاً.   
10.   ولا شك في أن الشرط الأساس لاختيار ووضع وتنفيذ إستراتيجية تنموية هو الأمن والاستقرار والتفاهم والتعاون وحل المعضلات بالطرق السلمية والآليات الديمقراطية بين الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في تكوين الحكومة, إضافة إلى موقف المجتمع من سياسات الحكومة. وأن ما يعيشه العراق حالياً هو غياب الثقة المتبادلة والتنافس بالمناكب المتبادل لانتزاع "اقصى الحقوق" في العراق الجريح والمخرب والإنسان العليل والمهمو حقاً.
11.   وبسبب الفوضى التي سادت العراق خلال عدة أعوام منصرمة وتحول مظاهر الفساد المالي والإداري الكبيرة في العهد الصدامي إلى مستوى النظام الفاعل في الدولة والمجتمع, وانسياب المليارات الكثيرة من الدولارات إلى جيوب الفاسدين والمفسدين, نشأت فجوة متسعة وأكثر من أي وقت مضى بين قلة قليلة مالكة للأموال ومرفهة, وبين أكثرية تعاني من الفقر والعوز وشظف العيش , رغم الحديث عن متوسط حصة الفرد الواحد من الدخل القومي الذي لا يعني شيئاً كما سنتحدث عنه في الحلقات اللاحقة.
12.   وقد أوجدت هذه الحالة تراجعاً شديداً وسريعاً في مصداقية الناس وثقتها بقوى المعارضة السابقة والحاكمة حالياً على مستوى العراق كله. فالثقة بالدولة وحكومة الإقليم ومجالس المحافظات ضعيفة جداً والثقة في ما بين القوى السياسية متردية, مما يزيد من حالة التأزم الجارية في البلاد.
13.   والشيء الوحيد المنتعش في العراق هو الاستيراد وإغراق الأسواق الملحية بالسلع المصنعة السيئة النوعية من دول الجوار والدول الأخرى ذات الإنتاج الردئ, وهي ظاهرة سلبية بسبب استنزافها لموارد العراق المالية, وإعاقة البناء الصناعي والزراعي في البلاد, إضافة إلى إعاقة تشغيل العاطلين عن العمل. 
هذا هو الواقع الذي يواجه العراق حالياً, رغم التحسن الأمني الهش الذي حصل في المحافظات مع تراجعه في كل من بغداد والموصل وديالي وربما كركوك. وهذا الواقع المزري اقتصادياً والموروث والمضاف إليه سلبيات جديدة, يفرض على الحكومة العراقية وحكومة الإقليم ومجالس المحافظات الأخذ بنموذج اقتصادي معين للتنمية في العراق. وتتلخص الأسباب الكامنة وراء الدعوة للأخذ بالنموذج الذي نطرحه لاحقاً بما يلي:
1.   العراق ليس بالدولة الفقيرة, بل مالكة للخيرات الأولية التي يمكن تحويلها إلى موارد مالية كبيرة توضع لتحقيق التنمية المعجلة. والنفط يشكل أبرز تلك الموارد المادية, إضافة إلى وجود خامات أخرى قابلة للتنمية الصناعية, كما أن أرض العراق متنوعةو قابلة للتنمية الزراعية الحديثة.
2.   والعراق مالك لطاقات بشرية متخصصة رغم فقدان نسبة كبيرة منها عبر الحروب والاستبداد والإرهاب, إضافة إلى اضطرار الكثير منهم للعيش في الشتات, ولكن يمكن الاستفادة منهم عند توفير الأطر المناسبة لعودتهم وعملهم في الوطن.
3.   والعراق مطلوب على الصعيد الاقتصادي العالمي لا من حيث ثرواته النفطية فحسب, بل ومن حيث قدرته على استيعاب الكثير من التوظيفات لأغراض التنمية التي تحقق أرباحاً طائلة لأصحاب رؤوس الأموال المحليين والأجانب, وكذلك من حيث كونه ثروة صناعية سياحية هائلة. إذ كل بقعة من العراق تعتبر موقعاً لجذب السياح والزائرين, سواء أكانت سياحة دينية لكل الديانات والمذاهب الدينية المعروفة, أم سياحة للآثار القديمة في بابل ونينوى وغيرهما, أم سياحة جبلية ومصايف كردستانية أم صحراوية.
4.   ويمكن للعراق أن يمارس عملية التعاون والتنسيق الاقتصادي على الصعيدين العربي والإقليمي وعلى الصعيد الدولي في مجال إعادة الإعمار والتنمية المستدامة والاستفادة من الخبرات والكفاءات والتقنيات الحديثة في عملية التنمية في كوكبنا المعولم.         
إن كل ذلك يفرض علينا أن نختار النموذج المناسب للتنمية بحيث يحقق للعراق الربط العضوي بين النشاط المعجل والمتسع والمكثف للقطاع الخاص المحلي والإقليمي والدولي, وبين النشاط الموجه والحركي لقطاع الدولة. ويمكن للقطاع الأخير أن يتوجه صوب القطاع الصناعي الإستخراجي للنفط والغاز الطبيعي ومنتجاتهما وصوب البنية التحتية وجملة من مشاريع الصناعة التحويلية التي يفترض أن ينهض بها القطاع الحكومي لصعوبة مساهمة القطاع الخاص بها. وبهذا يكون لدينا نموذج اقتصادي لا يعتمد على القطاع الخاص وحده, ولا على  القطاع الحكومي وحده, بل يجمع بين القطاعين ليحدد مسار التنمية الوطنية للعشرين سنة القادمة على أقل تقدير.
وفي هذه النقطة بالذات أختلف مع السيد الدكتور برهم صالح الذي يدعو إلى النموذج اللبرالي الجديد الأكثر تشدداً في مقاومة دور الدولة وقطاعها اقتصادي, والذي اثبت فشله وضرره للعالم كله, ولكن بشكل خاص للدول النامية. وفي قناعتي الشخصية أرى بأن الاقتصاد العراقي لا يمكنه أن يستغني بأي حال وعلى مدى العقود الثلاثة القادمة عن قطاع الدولة أو أن يستغني عن القطاع الخاص المحلي والأجنبي, وبالتالي لا بد من إيجاد صيغة تعاون وتنسيق عملية تنهض بالاقتصاد العراقي من كبوته الشديدة, وهي المهمة الأولى المركزية حالياً في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية التي في مقدورها أن تعالج أزمة البطالة المستفحلة وأزمة الفقر المدقع لفئات واسعة في المجتمع.. الخ. ومنذ مجيء بريمر إلى العراق حتى الآن اشتدت الدعوات إلى:
** توقف الدولة كلية عن النشاط الاقتصادي وجعله بيد القطاع الخاص بشكل كامل, في وقت يعجز القطاع الخاص على النهوض بهذه المهمة, وفي وقت يحتاج الاقتصاد العراقي إلى جهود الدولة.
** تصفية مشاريع القطاع العام من خلال بيعها للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي (الخصخصة) دون النظر إلى أهمية بقاء البعض منها في يد قطاع الدولة لأسباب كثيرة ودون النظر إلى عدم رغبة القطاع الخاص فيها, مع توفر إمكانية تشغيلها حكومياً.   
* ابتعاد الدولة عن التصنيع التحويلي كلية والاكتفاء باستيراد السلع المصنعة من الخارج, أي استمرار جعل الاقتصاد العراقي اقتصاداً إستخراجياً ريعياً واستهلاكياً لا غير , وهذا يعني عجز الحكومة عن تغيير عدة مسائل سلبية على الأقل:
أ. إبقاء الاقتصاد العراقي اقتصاداً ريعياً من حيث النفط والزراعة, واستهلاكياً في اعتماده على استيراد نسبة عالية جداً من احتياجات السوق المحلية.
ب‌. استنزاف شديد للموارد المالية المتأتية من النفط الخام دون المشاركة في إغناء الثروة الوطنية.
ت‌. عدم تحقيق تراكم رأسمالي ضروري جداً للعملية التنموية ولإغناء الثروة الوطنية والا حتفاظ بالثروة داخل البلاد وإحداث تغيير في بنية الاقتصاد الوحيد الجانب وتخليصه من تبعيته الشديدة الراهنة.
ث‌. العجز عن تأمين العمل لمزيد من الأيدي العاملة في دولة لا تزال نسبة الأطفال والصبية والشباب كبيرة جداً وتضخ سنوياً الكثير من الأيدي العاملة الجديدة إلى سوق العمل.
ج‌. العجز عن ضمان الأمن الغذائي من المنتجات الزراعية والصناعية في البلاد والانكشاف الشديد على الخارج, وخاصة في فترات الأزمات والتعقيدات مع دول الجوار.
وستكون لمثل هذه السياسة عواقب سلبية على المدى البعيد والأجيال العراقية القادمة, رغم أن الجيل الراهن سيعاني من البطالة والفقر بشكل خاص, إضافة إلى استمرار فعل بقية المشكلات الاقتصادية.
نحن أمام صراع ملتبس في غالب الأحيان بشأن العلاقة بين القطاعين العام والخاص من جهة, وبشأن العلاقة بين الصناعة والزراعة والتجارة من جهة أخرى, لسببين هما:
• الخلفية الفكرية والسياسية والمصلحية التي يحملها كل طرف من أطراف الصراع والمبنية على أحكام مسبقة وجاهزة.
• والتباين أو الضعف في وضوح الرؤية لبعض جوانب الواقع الراهن ومهمات المرحلة التي يعيش فيها شعب العراق ومن ثم مهماته الراهنة ومهمات أجياله القادمة.
وهذا النقد يتوجه صوب المغالين المتخندقين في اتجاهين متناقضين وليس باتجاه واحد, سواء من يرفض القطاع الخاص أو يرفض القطاع العام, في حين نحن ولسنوات طويلة قادمة بحاجة إلى الاثنين.
القطاع العام والقطاع الخاص لا يعنيان شيئاً في خضم الصراع من أجل السلطة السياسية. فالدولة الاشتراكية السوفييتية التي كانت تمتلك كل شيء, فرطت بكل شيء لأسباب كثيرة, ولكن بشكل خاص بسبب البيروقراطية وغياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والفساد الحزبي والحكومي والمالي والإداري .. وبسبب التعسف في هيمنة الدولة على كل شيء الذي أدى إلى فقدان السيطرة على كل شيء, إضافة إلى أسباب كثيرة جوهرية أخرى.
إن جوهر القضية في العراق يكمن اليوم في موقفنا من مبادئ وممارسة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ومدى الوعي بمهمات المرحلة ومستوى العدالة الاجتماعية الذي ننشده, وليس بالشعارات التي تطرح وفيها الكثير من المزايدات التي لا تتطابق مع الواقع القائم ولمدى ربع قرن قادم على اقل تقدير.
المرحلة الراهنة تستوجب الصراحة في طرح الأفكار والمواقف. نحن أمام مهمة بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في العراق ولسنا أمام أي مهمة أخرى. ولكن الرأسمالية التي يفترض أن تبنى في العراق يستوجب اعتمادها على قطاعين, على القطاع الخاص, أي على دور البرجوازية الوطنية وعلى نشاطها الاقتصادي التصنيعي والزراعي والتجاري ...الخ ومعه القطاع الخاص الأجنبي, وعلى قطاع الدولة الذي يمتلك الموارد المادية والمالية, إذ لا بد من مشاركتهما في عملية التنميةالمستدامة بالارتباط مع واقع المجتمع وحاجاته.  نحن أمام مهمة إزالة بقايا العلاقات القديمة المتخلفة والبالية المعرقلة لنمو الرأسمالية والتصنيع الحديث وتحديث الزراعة والتغيير الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. ولكن, ونحن نبني العلاقات الرأسمالية , نحتاج إلى عتلات مهمة أو إلى آليات يفترض فيها أن تساند وتساعد تعجيل عملية التنمية والنمو وتحقيق التراكم الرأسمالي وتنظيم هذه العملية في اقتصاد السوق من جهة , ولكن بحن بحاجة أيضاً إلى كوابح يفترض فيها أن تحد في الوقت نفسه من شراسة الاستغلال المحتملة وأن تساهم في تنظيم العملية الاجتماعية بقوانين ملزمة بحيث يتجنب المجتمع احتدام الصراعات الطبقية بسبب نشوء فجوة متسعة في مستويات المعيشة والغني والثروة من جهة أخرى. ومثل هذه الإمكانية متوفرة وضرورية, أي أننا بحاجة إلى اقتصاد السوق ولكن بوجهة اجتماعية منظمة للعلاقات والضمانات في المجتمع. لقد كان بريمر يدفع بالعراق صوب الرأسمالية الأكثر عتواً واستغلالاً, وهذا ما يدعو إليه الكتور رهم صالح بوضوح كبير لا يقبل الا لتباس, وتصريحاته وخطبه كفيلة بتأكيد ما توصلت إليه.     
كلنا يعرف بأن القوانين الاقتصادية الموضوعية في الرأسمالية هي واحدة, ولكن فعل تلك القوانين متفاوت بالارتباط مع مستوى التطور والمراحل التي قطعها التطور الاقتصادي الرأسمالي في كل بلد من هذه البلدان والسياسات التي تمارسها الدولة. وهذا يعني أن التجارب متباينة من حيث الزمان والمكان ومستوى التطور ومن حيث التعامل مع تلك القوانين الاقتصادية الموضوعية ومع القواعد والآليات التي تنظم العملية الاقتصادية. ومن هنا علينا أن ننتبه وننبه بأن ما نفذ في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو ألمانيا أو أسبانيا أو البرتغال أو غيرها من سياسات وإجراءات لا يمكن أن تكون ذاتها في العراق , رغم كون القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة للرأسمالية واحدة. إن وعي هذه القضية ضروري لكي نبتعد عن الجمود والنصية والتجريبية والخضوع لهذا النموذج أو ذاك, إذ لا يمكن أن يكون ذاته مناسباً لكل الدول. إن عملية التحول من الاقتصاد الشمولي الذي ساد في العراق صوب اقتصاد السوق ليس سهلاً, ولكن لا يجوز أن يتم على حساب مالح البشر والفقراء والمعوزين منهم على نحو خاص. ومن هنا يأتي مفهوم اقتصاد السوق الا جتماعي.
نحن بحاجة إلى تطور رأسمالي بالقطع ودون أي لف أو دوران , ولكن نحن بحاجة إلى ضوابط تسمح بنشوء سلم اجتماعي يساعد على مشاركة الجميع في البناء وفي الاستفادة من التقدم الاقتصادي , ونحن بحاجة إلى تسريع العملية الاقتصادية والبناء الرأسمالي والتغيير الاقتصادي والاجتماعي وينقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى. نحن في العراق لا نزال في قعر التخلف والفوضى والبؤس والفاقة رغم غنى الأرض وقدرة الإنسان العراقي على البناء. نحن بحاجة إلى  اقتصاد السوق الاجتماعي وليس إلى اقتصاد رأسمالي متوحش. الحوار حول هذه المسألة جار على قدم وساق في سائر ارجاء العالم والأزمة الاقتصادية الشاملة الجارية عمقت هذا النقاش وساعدت على مشاركة الكثير من الناس به, وعلينا خوضه لصالح شعب العراق بكل مكوناته القومية والاجتماعية بهدف الوصول إلى ما يخدم الشعب. 

انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة الخاصة باستراتيجية التنمية في العراق.
نشرت الحلقة الثانية في جريدة المدى البغدادية بتاريخ 17/5/2009

1224
كاظم حبيب
هل من جديد في الحياة السياسية في كردستان العراق؟

حين تتأخر الأحزاب السياسية عن إدراك التحولات الجارية في العالم والمنطقة أو في بلادها, وحين لا تتخذ الإجراءات التي تستوجبها تلك التحولات في اتجاهات تفكير وبرنامج وعمل أحزابها لأنها لم تدرك أهمتها وضرورتها الموضوعية ولم تتناغم معها, أياً كانت تلك الأحزاب السياسية, وأياً كانت الجماهيرية التي كانت تتمتع بها في فترة ما, وأياً كان حجم النضال الذي خاضته والتضحيات التي قدمتها, وأياً كانت الكارزما التي تمتع أو يتمتع بها بعض قادتها التاريخيين, سوف يعاقبها أعضاء الحزب ويعاقبها المجتمع والتاريخ بصيغ وأساليب شتى. وحينذاك لا ينفع الندم, إذ تكون قوى أخرى قد بدأت تحل تدريجاً محلها لأنها أهملت وعي حركة التطور والمرحلة الجديدة وحاجات الناس ومطالبها وانغمست في الركض وراء مصالحها والمكاسب الشخصية الزائلة والبقاء في دست الحكم. وقد مر العراق بتجارب مريرة في هذا الصدد. إذ غالباً ما تبرز قوى أخرى يفرضها واقع الحال وحاجة الناس إلى التغيير, تأخذ على عاتقها تأشير مواطن الخلل في العملية والحياة السياسية الجارية في البلاد وتقنع الناس بصواب النقد الذي توجهه إلى الأحزاب التقليدية والذي تعيشه الجماهير ذاتها يومياً. ويمكن أن تبقى تلك الأحزاب في الحكم ولكن علاقتها بالناس والمجتمع تصبح هامشية حقاً. ولا شك في أن مثل هذه العملية لا تتم بين ليلة وضحاها, بل تتخذ مساراً طويلاً ومعقداً ومحفوفاً بالمخاطر للجديد من جانب القوى القديمة التي, رغم النقد الصارخ الذي ترسله الأوساط الشعبية إلى أسماع المسئولين يومياً, لأنها لا تزال تمتلك القوة والقدرة المتمثلة بأجهزة الحكم التي في يديها على معاقبتهم ومحاولة وضع العصي في طريق التحول. وربما يكون بعض الجديد يحمل أخطاء القديم أيضاً بسبب انبثاقه منه وتحمله مسئولية ما جرى حتى هذه اللحظة, كما يمكن أن يكون بعض الجديد غير جديد بل بالِ تعيق, كما في حالة قوى الإسلام السياسية التي تريد إقامة نظام حكم لا يمكن أن تقوم له قائمة في القرن الحادي والعشرين, يشكل خطراً على المجتمع ذاته. ولكن تلك الأحزاب التي لا تزال في يديها مفاتيح الحكم والتغيير لا تريد التغيير وتجد أن "ليس في الإمكان أبدع مما كان" لأن التغيير, يأتي على مصالحها الأنانية الضيقة أو بعض قوى فيها.
والغريب بالأمر أن النقد الذي نوجهه لمجرى العملية السياسية ولوضع الناس والفساد المالي والإداري والحزبية الضيقة والهيمنة الأسرية ... الخ تؤخذ وكأنها عملية تجريح للأحزاب الحاكمة وليس من أجل تخليص تلك الأحزاب من العلل التي أصبحت تعاني منها وتهيمن على الواقع السياسي والاجتماعي في الإقليم بعد مرور ما يقرب من عقدين من السنين وهي في الحكم.
لقد قدم شعب كردستان تضحيات جليلة ومديدة لضمان حريته وتمتعه بحقوقه القومية والقضاء على التهميش الذي عانى منه طوال عقود. ومن حق هذا الشعب أن يتمتع بحريته وأن يعيش في أجواء الديمقراطية والحياة الدستورية وأن يكافح ضد كل أشكال الفساد المالي والإداري وضيق الأفق الحزبي وإهمال المستقلين من الناس, وهم الغالبية العظمى واستمرار البطالة, رغم توفر الموارد المالية والابتعاد عن التصنيع رغم حاجة الإقليم إلى ذلك وتخلف الزراعة رغم ضرورتها وإمكانياتها المتوفرة في الإقليم.
إن شعب إقليم كردستان يمتلك حرية التعبير والنقد بحدود معينة ويمتلك حرية النشر والصحافة بحدود معينة, ولكنه لا يمتلك حق المشاركة في رسم سياسة الإقليم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية, وكأن هذه المهمات ليست له ولصالحه وعليه إبداء الرأي بشأنها , بل هي من مهمات الحزبين الحاكمين, وبتعبير أدق قيادتي الحزبين الحاكمين, الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, وهو أمر لم يكن لتقبله قيادتا هذين الحزبين حين كانتا في المعارضة.
وكأني بهما يقولان للجماهير " لا تفكروا نحن ندبر لكم الأمور!
ونتيجة لسياسات الحزبين الرئيسين في الإقليم برزت قوى أخرى كانت تعتبر جزءاً من الحزبين أو كانت في تحالف مع الحزبين, ولكنها لم تعد قادرة على السير على  طريقة "موافج" المعروفة من العهد الملكي, بل تريد أن تبدي رأيها في كل صغيرة وكبيرة. والأحزاب التي سكتت عن أخطاء سياسة الحزبين في الحكم وإدارة شئون الإقليم خسرت جماهيرها تماماً وأصبحت لا تملك المصداقية عند الجماهير التي أودعت ثقتها بها. وهذا أحد العوامل الذي دفع بعض القوى التي كانت متحالفة مع الحزبين أو مع حزب واحد منها, إلى التفكير في مصير حزبها إن سارت على  نفس النهج والسكوت عن النواقص والأخطاء الحاصلة في الإقليم أو على صعيد العراق كله.
لقد كتبت مجموعة من المقالات بعد كل عودة لي من زيارة قمت بها إلى العراق حيث كنت أقضي أسابيع في كردستان وأرصد الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الإقليم وأتابع أحاديث الناس من مختلف الفئات الاجتماعية, وخاصة سائقي التاكسيات, أو من مسئولين في الأحزاب ومن أوساط ثقافية وإعلامية وأصحاب المخازن, وكنت أشعر بأن مقالاتي النقدية بجانبيها الإيجابي والسلبي تجد صدى طيباً في الأوساط الشعبية لأنها تكتب بصراحة ومن منطلق الحرص على التجربة الكردستانية وعلى تضحيات الشعب الكردي, الذي كان هو قبل غيره وقوداً لوثباته وانتفاضاته وثوراته, والحرص على العملية السياسية والأحزاب السياسية المتحالفة وليس من منطلق التشفي بالنواقص أو الرغبة في الإساءة لأي من المسئولين.
شعب إقليم كردستان العراق مقبل على الانتخابات البرلمانية في 25 تموز/يوليو 2009. ولم تعد هناك قائمة واحدة, كما في السابق, بل ما يقرب من أربعين قائمة, كما أن القائمة الموحدة السابقة للإقليم لم تعد واحدة في الإقليم بل هناك أربع قوائم معتبرة تتنافس بقوة على مقاعد البرلمان. وأجواء الانتخابات ساخنة نسبياً وهي إلى حدود بعيدة مفتوحة. كما أن رئيس إقليم كردستان العراق السيد مسعود بارزاني أكد على أنه يريد انتخابات نزيهة وأنه يشجع على وجود ممثلين للأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان لمراقبة الانتخابات.
لا شك في أن هذه الانتخابات مهمة لأنها لم تعد هناك قائمة واحدة, رغم اتفاق الحزبين الرئيسيين على مناصفة المقاعد التي ستفوز بها القائمة المشتركة, بل عدة قوائم. ولا شك في أن الانتخابات لا يمكن لها أن تجري بصورة متكافئة بسبب التباين في امتلاك القنوات الفضائية والمحلية وامتلاك الأموال والوجود في السلطة ...الخ, إلا أنها ستبقى مهمة وبداية جديدة لحراك سياسي جديد ومنعش في إقليم كردستان, إنه بداية مهمة على طريق طويل لتحقيق التغيير باتجاه إقامة مجتمع مدني ديمقراطي تسوده الحريات الديمقراطية والحياة الدستورية واحترام وممارسة حقوق الإنسان وحقوق المرأة كاملة ومكافحة الفساد المالي والإداري ورفض الحزبية الضيقة في التعيين في أجهزة الإقليم, مجتمع يتم فيه الفصل الفعلي بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وتتقلص الفجوة بين أصحاب الملايين والفئات الكادحة التي ناضلت من أجل انتصار الحياة الحرة والكريمة والعيش الرغيد في الإقليم, إقليم يسعى إلى التنمية الصناعية والزراعية وتحقيق الأمن الغذائي واستخدام الموارد المالية لصالح التنمية ولا يفتح أبواب الإقليم على مصاريعها, كما يجري في بقية أنحاء العراق, أمام استيراد السلع الاستهلاكية بالطريقة الراهنة التي تجهز على الإنتاج المحلي, وخاصة الزراعي, وتمنع بروز صناعة في الإقليم.
أتمنى للانتخابات البرلمانية في إقليم كردستان العراق النجاح في أجواء من الحرية والديمقراطية والنزاهة, وأتمنى التماسك لشعب كردستان العراق والنجاح في إدخال ممثليه في الدورة البرلمانية الجديدة التي تعزز ممارسة الإقليم لحقوقه المشروعة وتعزز الوحدة والتنسيق والتكامل مع بقية أجزاء العراق الاتحادي وحل المعضلات مع المركز في بغداد وفق الآليات الدستورية الديمقراطية وعبر التفاوض السلمي.
17/5/2009                      كاظم حبيب

1225
نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح
نائب رئيس الوزراء العراقي
المدخل
تابعت بعناية مستمرة خطب وتصريحات ومقابلات السيد الدكتور برهم صالح, نائب رئيس الوزراء العراقي, وبشكل خاص تلك المتعلقة بالشأن الاقتصادي العراقي, وكان آخرها مقابلته الصحفية مع "فضائية الشرقية" التي نشرت في نشرة "الإنصات المركزي" التابعة لهيئة الإعلام المركزي في الاتحاد الوطني الكردستاني بتاريخ 5/5/2009, وقبل ذاك خطابه في مؤتمر الاستثمار الذي عقد أخيراً في لندن. وما عرضه الدكتور صالح من أفكار واتجاهات في السياسة الاقتصادية التي يسعى إلى تحقيقها في العراق تستحق المناقشة وإبداء الرأي بشأنها, إذ لم تطرح مثل هذه الأفكار من أي مسئول عراقي حتى الآن بمثل هذا الوضوح لما يريده للعراق خلال السنوات القادمة. ولا شك في أن القضايا السياسية التي يطرحها هي الأخرى تستحق النقاش ايضاً لأهميتها في العملية السياسية الجارية في العراق, إلا أني سأوجل النقاش حول الأفكار السياسية المهمة التي طرحها لوقت آخر وأركز على السياسة الاقتصادية التي يريد للعراق أن يتبناها ويسير عليها.
إن مناقشتي لأفكاره, سواء بالتأييد أو الاختلاف, ستنصب على عشر نقاط جوهرية, يمكن صياغتها على شكل أسئلة فيما يلي:
1.   هل كان اقتصاد الدولة في العراق اقتصاداً اشتراكياً حقاً, كما يشير الدكتور برهم صالح أم شيئاً آخر, وما هو الموقف من قطاع الدولة الاقتصادي؟
2.   وهل يمتلك العراق استراتيجية اقتصادية, أم لا يزال يراوح في مكانه رغم مرور ست سنوات على سقوط الفاشية السياسية في العراقي؟
3.   وما هو الموقف من البنية التحتية المخربة, ومن يفترض أن ينهض بها؟
4.   وما هو الموقف من القطاع الصناعي العراقي, وهل يجوز إهماله, كما عليه الآن؟
5.   وكيف يفترض معالجة المسألة الزراعية؟
6.   وكيف يفترض أن يعمل القطاع التجاري العراقي, وهل الهدف قطع الطريق على تصنيع البلاد؟
7.   وما هو الموقف من الاستثمارات الأجنبية, وكيف يمكن تحريكها صوب الاقتصاد العراقي؟   
8.   وهل يعبر معدل حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي عن تحسن فعلي في حياة الشعب, وما هي أهمية هذا المعيار في العملية الاقتصادية في العراق وفي حياة الناس؟
9.   وكيف يفترض معالجة المشكلات الاقتصادية بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كُردستان العراق؟
10.   وكيف يفترض معالجة قطاع التأمين وإعادة التأمين في العراق ليلعب دوره الاقتصادي وكاحتاط ضروري لثروات العراق؟
لا شك في وجود أكثر من مسألة أخرى في مطالعات وتصريحات وخطب ومواقف السيد الدكتور برهم صالح التي يفترض وضعها على طاولة النقاش, سواء أكان الإنسان متفقاً معه أو مختلفاً معه بشأنها, ولكني سأكتفي بمناقشة هذه النقاط العشر في حلقات عدة لكي تصبح موضع نقاش مفتوح بين جمهرة الاقتصادين من النساء والرجال في داخل العراق وخارجه.
*******************
الحلقة الأولى
هل كان اقتصاد الدولة في العراق اقتصاداً اشتراكياً حقاً أم شيئاً آخر , وما هو الموقف من قطاع الدولة الاقتصادي؟
جاء بشأن هذه النقطة في تصريحات السيد الدكتور برهم صالح ما يلي:
"هناك إجراءات مهمة لنتذكر ايضاً السياق العراقي له إرث إداري وقانوني كبير متعلق باقتصاد الدولة واقتصاد الاشتراكية نحن نتحول من ذلك الإرث إلى ما نريده من اقتصاد مفتوح, ..." ص 3 من حواره مع فضائية الشرقية.
فهل هذا التقدير صائب؟ كل الدلائل التي تحت تصرفنا تؤكد بأن السيد الدكتور برهم على خطأ فادح حين يعتقد بأن الاقتصاد العراقي في فترة حكم حزب البعث وصدام حسين كان اشتراكياً. فمن عاش في العراق ومن عرف الاقتصاد العراقي حينذاك عن كثب ومن عمل في المجال الاقتصادي يدرك دون أدنى ريب عدداً من القضايا الجوهرية, وهي:
1.   إن الدولة العراقية في عهد حزب البعث وقيادة صدام حسين كانت دولة شمولية مطلقة, دولة من حيث السياسة والممارسة فاشية, وكانت دولة تقوم في أحسن الأحوال على أساس "اشتراكية الحزب النازي" الرأسمالية الصرفة, ولكن وفق أوضاع اقتصاد متخلف وتابع, ولم يكن لهذا الاقتصاد أية صلة بقوانين الاقتصاد الاشتراكي بأي حال.
2. وأن ملكية الدولة لرأس المال لم يحولها إلى دولة اشتراكية , بل كان الاستبداد والقرارات الفردية هو المهيمنة على هذا الاقتصاد ويعمل لمصلحة النخبة الحاكمة والقوى البيروقراطية المهيمنة على أجهزة الدولة والمتحكمة بحركة ونشاط وموارد قطاع الدولة.
4. وأن الإدارة الاقتصادية في هذا القطاع لم تنهض على أسس اقتصادية, سواء أكانت رأسمالية أم اشتراكية, ولم تخضع للقوانين الاقتصادية الموضوعية, ومنها قوانين السوق, كما لم تلتزم بالمحاسبة الاقتصادية والحساب الاقتصادي, بل كانت تنشأ وفق رغبات وقرارات فوضوية ولا تمت إلى الجدوى الاقتصادية والاجتماعية باي صلة.
5. كما أن الأداة الرئيسية لوجهة التنمية في العراق تمثلت بما أطلق عليه بـ "التنمية الانفجارية", التي فجرت الحياة الاقتصادية والاجتماعية حقاً , وقبل ذاك السياسية في المجتمع بأسره ولم يحصد االمجتمع من هذا النظام وسياساته غير الركام.
6. وقد اقيمت هذه المشاريع على اسس غير اقتصادية وبذخية في فترة الفورة النفطية وما بعدها وحين كان وزير الصناعة العراقي السابق طه الجزراوي يقول "نريد الأفضل ونمتلك النقود". ومن خلال هذه المقولة وغيرها تم التفريط الفاحش بأموال الشعب بصورة غبية.
ومن هنا نقول أن الاقتصاد العراقي وقرارات السلطة العراقية حينذاك لم تكن اشتراكية ولا تمت للاشتراكية بصلة, كما لم تكن رأسمالية, بل كانت تخبطاً من جماعات لا ذمة لديها ولا ضمير.
إن هذا الواقع وما تسبب به النظام السابق يفترض أن لا يعني بأي حال بأن على العراق أن يبتعد كلية عن أن يكون له قطاعاً اقتصادياً حكومياً بمستوى معين ومجالات اقتصادية معينة, سواء أكان ذلك في مجال اقتصاد النفط الاستخراجي أم في القطاع الصناعي التحويلي, أم ي قطاات البنية التحتية (الهياكل الارتكازية), بل لا بد من ذلك في اقتصاد متخلف ومدمر مثل الاقتصاد العراقي الذي يستوجب ويحتاج كل الطاقات والإمكانيا والكفاءات لإعادة بناء الاقتصاد العراقي ووضعه على السكة السليمة التي تساهم في تغيير بنيته الراهنة لصالح بنية اكثر توازناً وتكاملاً.
إن مشاركة الدولة في التنمية الاقتصادية من خلال قطاعها الاقتصادي لا تعني الاشتراكية, بل الرأسمالية بعينها في مرحلتنا الراهنة أولاً, وهذا لا يعني عدم فسح المجال بأوسع نطاق ممكن أمام حركة القطاع الخاص واستثماراته, سواء أكان محلياً أم أجنبياً, إذ أن العراق بحاجة إلى كل تلك القطاعات بما فيها القطاع المختلط الذي يربط بين المحلي والأجنبي والحكومي.
من يدرك عمق الأزمة الجارية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي, ومن يدرك حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية, ومن وعى العوامل الكامنة وراء هذه الأزمة, سيعي ايضاً, وخاصة بالنسبة للدول النامية والنفطية, ومنها العراق, المخاطر الجدية الكبيرة في عدم مشاركة قطاع الدولة في التنمية الاقتصادية وفي الرقابة الفعلية  على حركة ونشاط رأس المال, سواء أكان مصرفياً أم عقارياً أم صناعياً ام تجارياً ام مضارباً في سوق الأوراق المالية ...الخ.
إن إهمال قطاع الدولة والتركيز على القطاع الخاص وحده لا يعني باي حال الرأسمالية, بل يعني اللبرالية الجديدة الأكثر تطرفاً وتوحشاً, كما عاشتها الولايات المتحدة وبريطانيا في السنوات العشر الأخيرة على نحو خاص. ولهذا فمن غير الممكن أن نرفض القطاع الحكومي في الاقتصاد بحجة أن النظام السابق سار باشتراكية مزعومة. إن الانفتاح الاقتصادي لا يعني رفض دور وقطاع الدولة في العملية الاقتصادي, بل يستوجبه في ظروف العراق الراهنة وأكثر من أي وقت مضى, وهو المنشط الفعلي للقطاع الخاص والذي سيسهم في توفير الأطر الضرورية للنمو والتوسع والنجاح.
ومن هنا تنشأ أهمية ان يقتنع الدكتور برهم صالح بأهمية وضرورة قطاع الدولة في العراق أولاً, وأن ليس مطلوباً من وزارة الصناعة أن تبيع جميع مصانع قطاع الدولة إلى القطاع الخاص, ما دامت هناك إمكانيات مناسبة لتطوير هذا القطاع وجعله اللبنة المناسبة للتنمية الصناعية في الاقتصاد العراقي ثانياً, مع توفير مستلزمات النهوض به إدارياً وفق أسس اقتصادية ومحاسبية سليمة ورقابة فعلية.
رغم ان النظام الاستبدادي العراقي كان سيئاً في سياساته الاقتصادية, إلا ان السنوات الأولى من العقد الثامن من القرن العشرين شهدت نمواً في القطاع الصناعي الحكومي ونجاحاً في أدائه وفي منتجاته, إلا أن الفورة النفطية وسياسة التنمية الانفجارية والرغبة في الهيمنة على الاقتصاد والحياة الاقتصادية للتحكم برقاب الناس وارزاقهم وعملهم هي التي أدت إلى عواقب سلبية على القطاع الصناعي العام والخاص في آن. وعلينا ان نتذكر بأن عمليات التأميم في العام 1964 في العراق كانت ضد المصلحة الوطنية وضد البرجوازية الوطنية وضد التطور الاقتصادي الصناعي وأعاقت حركة الاستثمارات المحلية صوب التنمية. ونحن اليوم أمام حركة معاكسة تسعى إلى إنهاء وجود قطاع الدولة لا في الصناعة فحسب, بل وفي قطاع النفط الاستخراجي وتكرير النفط والصناعات التحويلية الأخرى.     
إن الدعوة إلى إلغاء قطاع الدولة الاقتصادي هو الركض وراء نموذج البنك الدولي وصندوق الدولي الذي أصبح بائراً منذ فترة غير قصيرة من جهة, ولا تعبر عن حس اجتماعي لمصالح الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة التي يفترض أن تنهض الدولة بأعباء اقتصادية معينة وإنتاج سلع ذات استعمال واسع من جانب جميع فئات الشعب من جهة ثانية, والمشاركة في تأمين الأطر المناسبة لحركة وفعل ونمو القطاع الخاص من جهة ثالثة. كما أن أهمية هذا القطاع تكم في ما تملكه الدولة من موارد مالية تتيح فرصة أفضل لاستخدامها في قطاعات اساسية تساهم في تراكم الثروة وإغناء الدخل القومي وتحسين مستوى حياة الناس. علينا أن لا نفكر بالمنافسة بين القطاعين, بل التكامل بينهما من جهة, ولكن المنافسة تكون على إنتاج السلعة الأفضل نوعية والأقل تكلفة والأكثر فائدة للاقتصاد الوطني والمجتمع. 
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية.
9/5/2009                       كاظم حبيب
نشر في جريدة المدى/ بغداد

1226
كاظم حبيب
ابو عمر البغدادي في قبضة العدالة,  وماذا بعد؟
حققت قوى الأمن العراقية نجاحاً مهماً بإلقائها القبض على أحد أبرز الإرهابيين والمسئول الأول عن تنظيم القاعدة الإرهابي في العراق, أبو عمر البغدادي, الذي احتل موقع المجرم القاتل ابو مصعب الزرقاوي بعد مقتله في مواجهة مع قوى الأمن العراقية. لا شك في أن هذا الاعتقال سيسهم في:
•   تعزيز ثقة قوى الأمن الداخلي بنفسها وسيساعدها على تنشيط دورها أكثر فأكثر , كما أنه سيسهم في تعزيز ثقة المواطنات والمواطنين بها.
•   الوصول إلى معلومات إضافية مهمة عن تنظيم القاعدة وعن القوى المتحالفة معه وتلك التي تمونه بالسلاح وتموله بالمال وتجهزه بالانتحاريين من الداخل والخارج. وبها يمكن توجيه ضربات جديدة لقوى القاعدة الشريرة.
•   إضعاف تنظيم القاعدة في العراق وبث الخشية في صفوفه من أحتمال وقوع أفراده بأيدي قوى الأمن العراقية.
ولكن هذا الاعتقال لا يعني بأي حال أن هذه القوى ستتوقف عن تنفيذ عمليات إرهابية جديدة في العراق بأمل إعطاء انطباع للناس بأن الاعتقال لا يؤثر على نشاطها في العراق, كما يمكن أن تشتد روح الانتقام والعدوانية في صفوف هذا التنظيم. ولهذا يفترض المزيد من اليقظة والحذر ومواصلة مطاردة هذا العدو الشرس المجروح باعتقال قائده. والمهمة الكبيرة تبرز في ضرورة التوسع في العمل الاستخباراتي في صفوف قوى الإرهاب لتقليص العمليات العسكرية وتخفيف عبئها على ميزانية الدولة وحياة الناس زتسريع عملية إلقاء القبض عليهم قبل ممارسة عملياتهم البشعة.
إن اعتقال أبو عمر البغدادي, ورغم إضعافه لقوى القاعدة, لن يصفي وجود التنظيم في العراق بسرعة أو وجود ونشاط قوى إرهابية أخرى, بل ستسعى إلى تعويضه بمجرم غادر آخر. وسبب ذلك يكمن في استمرار وجود الأرضية الصالحة لوجود ونمو قوى الإرهاب في العراق أولاً وللنشاط الخارجي المعادي للعراق ولاتجاهات تطوره ثانياً. فما العمل من أجل تطهير أرض العراق من قوى الإرهاب والأرض الخصبة التي تنتج المزيد منهم؟
لا نأتي بجديد بقدر ما نذكر مرة بعد أخرى بأن الأمر يتطلب توجه القوى السياسية العراقية, ومنها القوى المشاركة في الحكم, إلى اتخاذ خطوات جريئة لطرح حلول عملية للمشكلات العالقة والتي تعطل مسيرة العراق نحو تكريس الأمن والاستقرار والسلام, ومنها قضايا تعديل مواد الدستور المتفق عليها, وإنجاز قانون النفط الخام, ومعالجة المشكلات القائمة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية, وبشكل خاص في مجال عقود النفط التي وقعها الإقليم بعد أن انتهت الفترة التي تحددت في اتفاق بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم لإصدار قانون النفط ولم يصدر, الذي نمتلك نصه ونشر في الصحف العراقية ايضاً, والبدء بوضع أسس الاتفاقيات الجديدة بعد تشريع القانون الخاص بالنفط العراقي وعدم تعطيل العملية بأمل إلغاء تلك الاتفاقيات التي لن تلغى, إضافة إلى إنهاء مشكلة كركوك والمناطق الأخرى المماثلة وفق الدستور العراقية وما ورد في المادة 140, وتغيير الأجواء التي نشأت أخيراً في الموصل والتي تهدد الوضع هناك بما لا تحمد عقباه.
ويبدو, ورغم كل تصريحات السيد رئيس الوزراء وغيرهم, أن الموقف من المصالحة الوطنية غير واضح والمصطلح يحتاج إلى تفسير وفق أسس دستورية وديمقراطية تخدم مسيرة العراق السلمية, خاصة وأن هذه الوجهة تساعد على نزع فتائل غير قليلة ووضع حد للاختلاف بين القوى السياسية العراقية حول الموقف من المصالحة الوطنية.
إن المشكلة الكبرى, التي يمكن أن تتسبب في نشوء أوضاع مساعدة لقوى الإرهاب وتحبط المساعي لتعزيز الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي, تبرز في حياة الناس اليومية ومشكلات نقص الخدمات والبطالة الواسعة والفساد المالي في أجهزة الدولة والبيروقراطية المرتبطة بالفساد والرشوة واستمرار الهوية الطائفية تفعل فعلها في الحياة اليومية للإنسان بالرغم من تصريحات رئيس الوزراء برفضها. فالمسافة والفجوة بين القول والاقع بعد السماء عن الأرض.
إن العمل الحكومي المشترك والموحد غير موجود حالياً, وكل وزير يعمل أو لا يعمل وفق رغبته, وبالتالي تزداد مصاعب متابعة القرارات والتوصيات التي يتخذها مجلس الوزراء أو رئيس المجلس, إذ لا يملك مجلس الوزراء نظام ولا نظام متابعة للقرارات التي يتخذها, إضافة إلى اختلاط الأوراق وبروز الخلافات والعمل وفق الأمزجة الشخصية. ورغم أن المطالبة بالتعديل الوزاري قد فاق كل تصور, فأن الحكومة ذاتها لم تقدم على مثل هذه الخطوة الضرورية بانتظار الانتخابات العامة القادمة التي أصبح موعدها نقطة خلاف جديدة في مجلس النواب, رغم أن مفهوم السنة التقويمية لا يستوجب حصول خلاف بشأنه. ويبدو أن الوضع الراهن يستوجب تحركاً شعبياً واسعاً للضغط على رئاسة الدولة ومجلس الوزراء ومجلس النواب لاتخاذ الخطوات الضرورية التي تفرج الغمة التي يعاني منها المجتمع في المرحلة الراهنة ويخفف من ألام الكادحين والمهمشين الذين يشكلون نسبة عالية من بنات وابناء هذا الشعب.
   
                 

1227
العلمانية تفتح الطريق صوب الحرية أيها السادة في الأحزاب الإسلامية السياسية!
عند متابعة أجواء وحالة قوى الإسلام السياسية بعد مرور ست سنوات على توفير الإدارة الأمريكية وسلطات الاحتلال الأمريكية الفرصة لها لأن تلعب دوراً أكبر يفوق كثيراً أفق وحجم ودور هذه القوى في الحياة السياسية العراقية, سيواجه خمسة مؤشرات مهمة هي:
1.   أن هذه القوى مارست سياسات عاتية في المجتمع لا تقل سوءاً عن سياسات العتاة حين يهيمنون على الحكم في أي بلد من البلدان, ومنها إيران والسعودية أو سوريا أو ليبيا. 
2.   وسعت هذه القوى الإسلاميةي السياسية إلى فرض الإيديولوجية الدينية الواحدة والمذهب الواحد وفق تفسيرها الاستبدادي المتخلف للدين والمذهب والعلاقات مع البشر على المجتمع وبدأت بمحاربة كل فكر آخر لا عن طريق الفكر والحوار بل عبر البندقية.
3.   وأنها مارست القسوة في التعامل مع الإنسان, إضافة إلى تفاقم الفساد المالي والإداري الواسعين بحيث فاق الفساد الذي ساد في زمن الدكتاتور صدام حسين, وأصبح يمارس كنظام قائم بذاته ومقبول ومعمول به بصيغ مختلفة من قبل الدولة والحكم والمجتمع.
4.   وشكلت هذه القوى لها ميليشيات طائفية مسلحة مارست القتل والتهجير ومصادرة البيوت وكل ما هو مرفوض ومحرم , ومن بين ضحاياها في الفترة الأخيرة العلماني الشهيد كامل شياع حيث هرب المجرمون , كما يدعون إلى إيران. ووضعت المرأة في آخر السلم بالنسبة لمن يملك العقل , وهي من ناقصي العقل وعوملت بهذه الطريقة الفجة!
5.   كما هيمنت على الوزارات وفق تقسيم حصصي بالغ السوء ووضعت الناس العراقيين من النساء والرجال المستقلين بعيداً عن المراكز الحكومية وعن الضوء.
وحين تلمس الناس كل هذه الظواهر المرعبة, بدأ العد التنازلي لهذه القوى وبدأ الابتعاد عنهم وبدأت خشيتهم من عواقب ذلك عليهم, إذ لم يكن الإرهابيون المتطرفون وحدهم يمارسون شتى الأفعال الظالمة, بل ميليشيات طائفية أخرى مارست ذلك باسم الإسلام والمذهب, إنها الأحزاب الإسلامية السياسية. وكلنا قرأت الاتهامات الي وجهت لها بتزوير الانتخابات العديدة الماضية بأساليب شتى.
وهذه الحقيقة الواقعة هي التي جعلت السيد نوري المالكي يتخلى عن قائمة باسم الحزب الذي يقوده, حزب الدعوة, ليمنح قائمته اسماً آخر, الأسم الذي لا يبدو فيه اسم حزب الدعو الإسلامية الذي شكل على أساس مذهبي, اسم قائمة "فرض القانون" بعد أن بدأ بمكافحة المليشيات الطائفية المسلحة وسار فيها قليلاً ثم توقف عنها. وقد سمحت له جملة من العوامل الأخرى, بما في ذلك التحسن الأمني الحصول على مزيد من الأصوات.
وحين تم جمع عدد الأصوات التي فاز بها العلمانيون المتبعثرون في عشرات القوائم, كان عددها يقارب أو يزيد على عدد الأصوات الذي فازت به قوى الإسلام السياسية. وهو درس ثمين لتلك القوى الديمقراطية والعلمانية في ما يفترض منها ان تقوم به لمواجهة الأوضاع الجديدة.
وحين لاحظت قوى الإسلام السياسي الخسارة النسبية المهمة التي لحقت بها في انتخابات مجالس المحافظات لم تجد أمامها عدواً آخر غير القوى العلمانية, فراحت تنزل عليها جام غضبها وتستخدم بيوت الله لشتم العلمانيين والديمقراطيين واليساريين بلغة من أدرك التحولات الجارية في المجتمع, وهي عادة ما تمارس هذا الأسلوب حين تفقد الثقة بقدرتها على المواجهة الفكرية والحوار السليم. وهذا ما حصل أيضاً في العام 1961 حين أصدر عبد الكريم قاسم قانون الأحوال الشخصية وتسبب في تدهور الأوضاع والتي استثمرها البعثيون والقوميون المشوفينيون ليقزوا على السلطة ويمارسوا تلك السياسة العاتية ضد الشعب وضد الديمقراطيين والعلمانيين والشيوعيين منهم على وجه الخصوص.
كان المفروض أن تقوم هذه القوى بإعادة النظر بافكارها وسياساتها وممارساتها اليومية التي بدأت بتحويل الناس عنها, بدلاً من الإساءة من على منابر الجوامع إلى العلمانيين الذين لا يمتلكون الحكم, بل لا يزال بيد القوى الإسلامية السياسية على نحو خاص, ورئيس الحكومة هو من نفس المعسكر الإسلامي السياسي, رغم أنه يحاول تمييز نفسه عنهم, ولكن من في قيادته لا يترك له فرصة السير قدماً في الطريق الأفضل.
إن العلمانيين أيها السادة لا يشكلون خطراً على العراق, بل هم الرحمة للعراق , والخطر يأتي ممن يريد فرض دمج الدين بالدولة, ومن يحاول تسخير الدين لغاية في نفس يعقوب. إن العلمانيين يدعون إلى أن يكون "الدين لله والوطن للجميع" وأن تسود هية المواطنة العراقية وحقوق المواطنة المتساوية, لا الهوية الدينية والطائفية, فهل من سميع منكم لكي يدرك ما وصل إليه المجتمع بسبب السياسات التي مورست حتى الآن في العراق من جانب أغلب قوى الإسلام السياسية؟
العلمانيون لا يملكون أيديولوجية واحدة ولا يسعون إلى فرض فكر أيديولوجية واحدة على المجتمع, بل يسعون إلى نشر مبادئ الحرية والفكر الحر وحرية الإنسان وإلى بناء وتكريس دولة القانون الديمقراطية, يسعون إلى أن تزدهر في العراق ألف زهرة وزهرة وأن تتقدم البلاد على طريق الديمقراطية والنزاهة والبناء ومشاركة الجميع من النساء والرجال وعبر المساواة في بناء هذا المجتمع الخالي من الفساد والتمييز والطائفية.
العلمانية تعني امتلاك حرية ممارسة الناس للأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية المتعددة , وتعني الحرية في ممارسة الطقوس والتقاليد والمعتقدات واحترام الرأي والرأي الآخر, وتعني رفض تدخل الدولة بالأديان والمذاهب أو تدخل الأديان والمذاهب بشئون الدولة, وتعني سياسة التعايش السلمي الحر والاحترام المتبادل بين بنات وأبناء المجتمع من مختلف القوميات والأديان والمذاهب أو المعتقدات والآراء الفكرية والسياسية الأخرى.
4/5/2009                        كاظم حبيب
             

1228
إيران والعراق , هل من جديد؟
كلما أبدى المسئولون العراقيون مزيداً من حسن النية والود والتعبير عن الحرص والرغبة في تعميق الصداقة وعلاقات الجيرة مع الشعب الإيراني والدولة ونظام الحكم في إيران, وكلما أتسعت ونمت أوجه العمل الاقتصادي مع الشركات الحكومية وغير الحكومية الإيرانية بهدف ضمان علاقات تعاون وتنسيق أفضل, تفاقم بالمقابل النهج السياسي الإيراني تشبثاً بمواقفه المناهضة لأي تحولات إيجابية في الساحة السياسية العراقية وفي العلاقات الفعلية بين الدولتين اابتداء من كُردستان العراق ومروراً بوسط العراق وجنوبه.
ويتجلى هذا بوقائع جديرة بالاهتمام, إذ أنها يمكن أن تقود, عند استمرار السكوت عنها وغض النظر عنها, إلى عواقب وخيمةن في العلاقات بين البلدين والشعبين, إضافة إلى بين الحكومتين, رغم تماثل بعض الاتجاهات الفكرية والسياسية والممارسات العملية لبعض أطراف الحكم من ما يجري في إيران.
فقبل أيام نشرت وكالات الأنباء خبراً عن قيام الطائرات السمتية الإيرانية بقصف مناطق من إقليم كردستان العراق تابعة لمحافظة السليمانية وكانت على ارتفاع منخفض غير معهود, وكأنها تريد استفزاز القوات العراقية, ومنها قوات الپيشمرگة. وقد أدى هذا القصف إلى دمار واسع في المنطقة, ولكنه لم يؤد من حسن الحظ إلى وفيات بين سكان المنطقة. وهذه العملية تعتبر بكل المعايير الدولية والإنسانية والجيرة تجاوزاً فظاً على سيادة العراق وإقليمه الكردستاني وعلى المبادئ الدولية التي تحكم العلاقات بين الدولتين. وهو بالتالي استهانة بالدولة العراقية والحكومتين في بغداد وفي الإقليم في آن واحد, رغم كل تصريحات حسن النية والمدح غير المبرر الذي تحصل عليه القيادة الإيرانية من مجموعة من السياسيين العراقيين, لا يجوز السكوت عنه ويستوجب رفع مذكرة احتجاجية إلى الأمم المتحدة لإدانة هذا العمل العسكري العدواني ووقف التدخل ورفض ممارسته في المستقبل. ولا يمكن قبول أي ذريعة واهية تتذرع بها الحكومة الإيرانية وقواتها العسكرية.
إن الشعب العراقي الذي وقف بأغلبيته ضد الحرب التي بدأ بها النظام الاستبدادي العراقي ضد إيران, رغم التدخل المعروف من جانب إيران في الشأن العراقي حينذاك ايضاً, إذ كان يفترض أن يحل بطرق أخرى غير إعلان الحرب وخوضها لثماني سنوات عجاف, يقف اليوم بأغلبيته أيضاً ضد هذا التدخل الفظ في الشأن العراقي ويطالب الحكومة الإيرانية بالامتناع عنه وتقديم اعتذار رسمي إلى الحكومتين في بغداد وأربيل والالتزام بتقديم تعويضات عن الخسائر التي لحقت بالمنطقة والسكان.
وفي الوقت الذي يفتر شجب التدخل الإيراني في الشأن العراقي, يجب إدانة التدخل التركي في الشأن العراقي والذي يتخذ أبعاداً وصيغاً مختلفة, كما يفترض إدانة التنسيق الراهن والجاري بين الحكومتين التركية والإيرانية والاتفاق على مواصلة التدخل العسكري في الشأن العراقي والاعتداء على الأراضي العراقية. ويأمل الإنسان أن تجد الأمم المتحدة والجامعة العربية والمؤسسات الدولية الأخرى كلمة تقولها في هذا الصد وتشجب العدوان المتكرر على الأراضي العراقية في إقليم كُردستان بشكل خاص وفي هذه الفترة بالذات. 
3/5/2009                  كاظم حبيب       

1229
كاظم حبيب
مرة أخرى حول الحكم الذاتي للشعب الكلدي الأشوري السرياني!

كنت أتوقع ردود فعل بعض الأخوة الكرام على رؤيتي وموقفي من قضية الشعار المطروح منذ العام 2007 والخاص بغقامة الحكم الذاتي لمناطق الشعب الكلداني الآشوري السرياني. وليس في ذلك ضير. فالرأي والرأي الآخر مطلوب لتأمين الرؤية الواقعية لما نعالجه من مشكلات. والاختلاف في الرأي يفترض أن لا يضيع للود قضية. فإلى جانب التعليقات التي كتبت بشأن الموضوع وصلتني رسالة من صديق عزيز يؤكد نفس الآراء التي وردت في تعليقات العديد من الأخوة أو مقالاتهم , ومنهم السيد أنطوان دنخا من شيكاغو , كما تحدثت عبر الهاتف مطولاً حول الموضوع مع بعض الأصدقاء.
من أطلع على افكاري ومواقفي السياسية يعرف تمام المعرفة موقفي من حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولم يكن موقفي عبثياً حين وقفت على جانب الحكم الذاتي للشعب الكردي ومن ثم إلى جانب الفيدرالية الكردستانية , وقد قاتلت مع غيري في سبيل ذلك. فحق الشعوب في تقرير مصيرها مسألة ثابتة ولا تحتاج إلى نقاش. ومن حق أي جماعة بشرية أينما كانت أن تطالب بما تشاء ولن اقف بوجهها. ولكن ماذا تعني المطالبة بالحكم الذاتي , ومدا واقعية تحقيق مثل هذا الشعار لا في ظل العراق الراهن , بل وفي المستقبل غير البعيد أيضاً؟
يبدو أن البعض يخلط بين موقف المبدئي من حق تقرير المصير وبين موقفي السياسي الذي يرتبط بتحليل واقع العراق وظروفه الملموسة وما يفترض ان يبنى على ذلك من مواقف واهداف وشعارات, ومثل هذا الخلط وقع فيه الكثيرون من الأحبة لأنهم فوجئوا بموقفي, في حين أن الأصدقاء يعرفون هذا الموقف.
بعض الأخوة الكرام لم ينتبهوا إلى رأيي وموقفي الصريح والواضح من فيدرالية الجنوب التي وقفت ضدها ايضاً, رغم جملة من الأصدقاء الذين دعوا إلى أكثر من سبع فيدراليات في العراق,  لأني كنت ولا زلت مقتنعاً بأنها سوف لن تكون في صالح الشعب العراقي وستزيد الأمور تعقيداً, إذ أنها لن تكون سوى فيدرالية طائفية مقيتة تساهم في زعزعة الأوضاع في العراق وتنشط التدخل الإيراني المباشر في الشأن العراقي, ولكني دعوت إلى إقامة فيدرالية رافدينية في الوسط والجنوب , وبالتالي يتكون العراق من فيدراليتين وحكومتين إقليميتين وحكومة اتحادية , كما يمكن أن ينشأ مجلس نيابي على أساس المواطنة ومجلس اتحادي على أسس قومية.
لا بد لي من الإشارة إلى أن الأخوة الذين يقطنون في الخارج مثلي لا يريد البعض منهم أن يدرك حقيقة الوضع في العراق ولا حقيقة الصراع عليه محلياً وإقلميا ودولياً , ولا يريد  هذا البعض أن يدرك وجود مؤامرة حقيقية لتهجير كل مسيحيي العراق إلى خارج العراق, تماماً كما حصل للمواطنات والمواطنين اليهود في العراق والذين بلغ عددهم في العام 1946/1947 وقبل التهجير الجماعي بحدود 150 ألف نسمة. ولم يبق منهم في العراق في الوقت الحاضر نفر واحد. وقد سجلت هذا في كتابي الموسوم "محنة يهود العراق الذي صدر عن مؤسسة حمدي للطباعة والنشر في السليمانية في العام 2006.
جماعات محلية في العراق تعمل ليل نهار وبشكل دءوب ومنظم لتهجير المسيحيين, كل المسيحيين بدون استثناء. إيران وبعض الدول العربية تسعى إلى ذلك أيضاً وبقوة متعاظمة وإصرار عجيب. قوى القاعدة وقوى إسلامية سياسية شيعية وسنية متطرفة تعمل من أجل هذا أيضاً. والتسيق بين الداخل والخارج قائم على قدم وساق وباتجاهات وتحالفات مختلفة. وفي دول الاتحاد الأوروبي يجري السعي الحثيث لقبول المزيد من اللاجئين المسيحيين, بل يتخذ هذا الاتجاه أبعاداً جديدة وخطيرة, وهناك مواقع في دول معينة توظف أموالاً طائلة لتنشيط هذا التوجه. ولولا الخشية من أتهام أوروبا بالتحيز للمسيحيين لقبلت عدداً أكبر من المسيحيين المهاجرين من العراق أو حتى لحصرت القبول بهم فقط. وأتحدث عن هذا الموقف بدراية تامة وليس من باب الاعتقاد أو التصور. وقبل سفري إلى العراق بقليل تحدثت مع الكنيسة الكاثوليكية في برلين وفي ندوة مفتوحة كيف أنهم بسياساتهم الراهنة يشجعون التآمر, سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه, على تهجير المسيحيين من العراق. وهكذا هو الأمر مع الصابئة المندائيين. 
هذه الحقيقة, سواء رغب البعض بإدراكها أم لم يرغب, فأنها حقيقة قائمة وستأخذ ابعاداً جديدة, ومن المؤسف حقاً أن أتحدث عن هذا والألم يحز في قلبي لأني أدرك ماذا يجري وماذا يراد أن يحصل في قادم السنين.
ولكن المندفعين من قوميي الشعب الكلدني الآشوري السرياني المتعصبين لا يريدون سماع ذلك فهم لا يسمعون إلا صوتهم ولا يريدون سماع الصوت الآخر الذي يحذرهم من مغبة ما يمكن أن يحصل ويحاول تجنب الوقوع في مطب يزيد من آلام الجميع.
أقدر بوضوح كفاءة الأستاذ جورج منصور واقدر دوره المتميز في قناة عشتار الذي أسس لها ووضع برامجها الأساسية وأدارها بحيوية واستقلالية فائقة وأرساها على اسس سليمة. ويمكن لأي متتبع لقناة عشتار الفضائية أن يلاحظ الفرق الشاسع بين ما كانت عليه القناة حين كان مديرها العام السيد جورج منصور, وبين ما آلت إليه بعد أخراجه منها. لا أختلف في ذلك مع من اشار إلى إمكانيات وكفاءات الأستاذ منصور لأني أعرفه حق المعرفة.
النظم السياسية والإدراية ليست غاية بذاتها, بل هي أداة لتحقيق المهمات وتحقيق الأهداف. والإدارة المحلية للمدن والمناطق التي يعيش في ظلها المسيحيون أو الشعب الكلداني الآشوري السرياني هي الضمانة الفعلية لتأمين حقوقهم القومية والإدارية والثقافية, وهي أفضل بكثير من اي حكم ذاتي حالياً يتوارى خلف الإقليم أو العراق. ولن أبوح بسر حين اقول بأن قيام حكم ذاتي في الإقليم سوف لن تدمج به المناطق المقامة في القسم العربي من العراق.
لم أطلع على تصريحات قادة إقليم كُردستان حول موضوع الحكم الذاتي للشعب الكلداني الآشوري السرياني, وإذا كانت القيادة الكردستانية تشجع حقاً وتريد إقامة حكم ذاتي للكلدو اشور سريان في المنطقة, فلتبدأ بالمناطق الموجودة في إقليم كردستان العراق وتحت إدارتها, ولتجمع شتات تلك المناطق في كيان واحد وتعيد المناطق المقطعة من نواحي واقضية تلك المناطق وغيرها إلى حدودها الإدارية القديمة التي كانت عليها منذ العام 1962 مثلاً. عندها يمكن القول بتطابق التصريحات مع الوقائع. ومن جانبي أشك بذلك, لأن هذا ليس من مصلحة أحد, فهو ليس في مصلحة الكرد ولا في مصلحة الشعب الكلد اشوري سرياني مثل هذه التجزئة حالياً. وأعتقد أنهم يتفقون تماماً في أن تكون هناك إدارة ذاتية في الأقضية والنواحي وفي القرى, سواء اكانت مسكونة بالكلدان أم بالآشوريين أم السريان. كم أتمنى أن تكون الطروحات أكثر وعياً بالواقع العراقي وأن تبتعد عن التصورات والرغبات الذاتية التي لا يزكيها الواقع الراهن ولا المستقبل.
الآشوريون والكلدان يشكلون جزءاً أساسياً وأصيلاً من بناة الحضارة العراقية القديمة والحديثة والمعاصرة. وهذا القول ليس لدغدغة المشاعر أو المجاملة, بل هم حقاً كذلك وعليهم أن يمارسوا ذلك لاحقاً. وإذا كنت أرى أن الإدارة المحلية هي الأصوب لهم, فليس من حقي أن أمنع من يريد يرفع شعارات أخرى, وارجو له الموفقية, شريطة أن يأخذ بالاعتبار ما يسميه البعض المخاوف الزائدة, وأتمنى أن تكون مخاوف زائدة لا غير. الحكم الذاتي سيكون المقدمة للذوبان الفعلي والتهجير القسري العدواني وطمس التراث والتاريخ والحقوق, وأتمنى أن لا يكون ذلك وأن نناضل من أجل منع وقوع ما أخشاه. لست عالماً بالغيب ولا منجماً أو قارئاً في فنجان, ولكن لي تجربتي السياسية التي تقول ما لا أريد التصريح به تماماً, رغم أني لا أخشى لومة لائم, ولكن لكي لا يقول البعض بأن الرجل يبالغ بالخشية والمخاوف. وإذا كان البعض يعتقد بأن ملايينه تساعده على فعل السحر فليجرب ذلك, شريطة أن لا يضحي بالشعب الذي أحترمه وأحترم تراثه وتقاليده وحضارته!
27/4/2009                   كاظم حبيب     
       

1230
كاظم حبيب

ما الذي يجري في العراق؟ وما السبيل إلى إدراكه؟

حين عدت قبل أيام من زيارة للعراق, وجدت نفسي عاجزاً عن الإمساك بالقلم والكتابة عن أوضاع وطني الجريح, رغم التباين الصارخ بين منطقة وأخرى, سواء أكان ذلك على صعيد البلاد كلها أم على صعيد بغداد, أم على صعيد كل مدينة من مدن العراق المبتلى. القادم الجديد إلى البلاد يرى أشياء لا يراها بالضرورة المقيم الدائم فيها والغارق في مشكلات البلاد العامة والشخصية اليومية. وحين تتحدث مع القوى والأحزاب والأشخاص ستجد أمامك لوحة معقدة جداً وصعبة التفكيك. فالكل يسعى إلى استثمار الفرصة لتحقيق أقصى ما يريد على حساب الآخر, والكل يريد تعزيز مواقعه على حساب الآخر, والكل يريد, أن أمكن ذلك, إقصاء أو الخلاص من الآخر بكل السبل, والكل يدرك أن هذا غير ممكن وغير جائز, ولكنه لا يفوت الفرصة لممارسة عكس ما يدركه أو الإساءة للآخر. والكل خائب في مسعاه. صورة قاتمة يصاب الإنسان فيها بالدوار حين يتابع عن قرب حركة القوى والأحزاب السياسية والأفراد والناس والأسلاك المتشابكة في وسط الشوارع والغبار المتصاعد من كل مكان. 
الناس في العراق لم يفقدوا الأمل, ولكنهم يعانون كثيراً, ومسئولية رفع المعاناة تقع على عاتق الحكومة أولاً, وعلى عاتق كل الأحزاب والقوى السياسية ثانيا, وعلى الإنسان العراقي ثالثاً. ولا شك في أن أساليب الولايات المتحدة الأمريكية في عهد بوش الابن في معالجة الوضع تتحمل مسئولية كبيرة في ما وصل إليه العراق بعد سقوط النظام, وهي مشاركة في مسئولة تحسنه أيضاً. ومن باب تحصيل حاصل حين نقول إن كل ذلك هو نتاج التركة الثقيلة والمزرية للنظام الاستبدادي الشوفيني السابق.
لا شك في أن نتائج إيجابية تحققت خلال الفترة الأخيرة, وكان المفروض أن تتواص على مختلف المستويات دون تأزيم الوضع وتوتير العلاقات والأجواء وتشديد الخلافات بين الأطراف المختلفة. إلا أن هذا لم يحصل, بل تواصل الصراع دون تحقيق حلول تساومية ضرورية مطلوبة لمعالجة مشكلات البلاد. إذ حل الغرور والشعور بالنشوة والرغبة في الانفراد وفي تصعيد الخلافات بأمل حلها على خلفية" "إن اشتدت حلت" فحصل العكس. كما أن الطائفية المقيتة لا تزال تمارس بقوة في العراق وفي كل المستويات وبصيغ كثيرة مفضوحة ومستترة, وليس من طرف واحد, بل من كل الأحزاب القائمة على أساس مذهبي تمييزي واضح. 
تلقت قوى القاعدة ضربات قاسية وكذا القوى البعثية من أعوان عزة الدوري المنهمكة بالإرهاب, وكذا قوى جيش المهدي المباشرة. ولكن الشعور بالرضى عن النفس في أوساط رئيس الوزراء والحكومة ولدى بعض القوى العسكرية وانتفاخ المستشار الأمني بما تحقق, وفر لهذه القوى المعادية, ومنها قوى القاعدة والبعث وقوى أخرى شريرة, التي دفعت بخلاياها قبل ذاك إلى أخذ قيلولة ضرورية وإيقاف جملة من عملياتها الإرهابية وإعادة ترتيب أوضاعهاً والبدء بتكوين تحالفات جديدة في ما بينها وبدعم مباشر وغير مباشر من أعداء العراق في دول الجوار أولاً, ثم لتبدأ من جديد وبزخم واضح عملياتها لتؤكد للمجتمع العراقي والعالم بأنها :
1. لم تنته بعد, بل هي لا تزال قادرة على متابعة الوضع وجمع المعلومات عن المواقع التي يراد ضربها واختيار الوقت المناسب لها, وإنزال أقسى الضربات بالناس الكادحين وزعزعة الأمن والاستقرار.
2 . وأن الحكومة وقواتها عاجزة عن الوصول إليها أو جمع المعلومات الاستخباراتية عن مواقعها وقواها وعملياتها.
3. وهي تريد تعطيل خروج القوات الأجنبية من العراق ليبقى شعارها الكاذب "أخراج القوات الأجنبية".
4 . وهي تريد أن تؤكد للمجتمع بأن القوات والإدارة الحكومية مخترقة من جانبها ولصالحها.
5 . وهي تريد أن تجرب إشعال الفتنة الطائفية في العراق من جديد, إذ ترى بوضوح أن الطائفية لم تزل تمارس دورها, وستمارس توجيه الضربات لأتباع الديانات الأخرى أيضاً وبقسوة بالغة.
6. وهي تريد استغلال الصراعات والخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان لخلق أجواء أخرى تستفيد منها لصالح عمليات إجرامية جديدة في مختلف أنحاء العراق.
** يتطلب الأمر أولاً إدراك أن قوى محلية وإقليمية ودولية لا تريد الخير للعراق وتريد إبقاء الإرهاب مستمراً, مهما حاولت القوى العراقية وبسذاجة كبيرة إبداء حسن النية لها ومدحها على قاعدة فاشلة"شيم ألمعيدي وأخذ عباته", إذ أنها تستخدم ذلك لتزيد من رمي الأحطاب في النار المشتعلة وإشاعة عدم الاستقرار.
** ويتطلب الأمر إعادة الثقة المفقودة تماماً بين القوى السياسية العراقية لا من خلال ابتسامة مبطنة ويد مصافحة, في حين تمسك اليد الأخرى بخنجر وتتآمر عبر مناورات بائسة, بل بالصراحة والشفافية والوضوح والحوار والاستعداد للقبول بالآخر وبالمساومة لحل المشكلات.
** ويتطلب الأمر وعي واقع الجماهير والبؤس المتراكم وتصاعد الشكوى من البطالة والحرمان والغنى الفاحش والفساد واللامساواة والتمييز الصارخ والموت غير المنقطع.
إن المنجزات المتحققة, وخاصة الأمنية, يمكن أن تصبح في خبر كان, وقد حذرنا من ذلك مراراً, ما لم تعي القوى الحاكمة والقوى الفاعلة وقوى المجتمع ما يجري في العراق وما يراد له وسبل التعامل مع هذا الواقع وبتجرد نسبي من المصالح الذاتية والكف عن تشديد الصراعات وحل المشكلات بالتفاوض والحوار السلمي الديمقراطي والإدراك بأن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
26/4/2009                       كاظم حبيب

1231
كاظم حبيب

رأي في الحكم الذاتي والشعب الكلد- آشور- السريان في العراق

يحتدم النقاش حول موضوعة الحكم الذاتي للشعب الكلدو - اشوري - السرياني في العراق ويتخذ أبعاداً جديدة وبدأ أخيراً يلحق أضراراًً فادحة بمواطنات ومواطني هذا الشعب دون أدنى مبرر وبما يسيء إلى علاقتهم مع الشعبين العربي والكُردي في آن واحد دون أن يكون لبنات وأبناء هذا الشعب دور في كل ذلك.
هناك جملة من الحقائق التي لا بد من ذكرها لكي نكون على بينة مما نريد ودراية بما يمكن أن يقود إليه رفع شعار الحكم الذاتي أو العواقب المحتملة التي يمكن ان تترتب على الشعب الكلدي الأشوري السرياني في العراق خلال هذه الفترة والفترة القادمة.
فهذا الشعب المتعدد القبائل في تكوينه الأساسي نزح إلى العراق القديم منذ أكثر من ألاف السنين وأقام دوله المركزية في شمال العراق وكردستان وكذلك في وسط وجنوب العراق. فالآشوريون هم الخلف للشعب الآشوري والدولة الآشورية في آشور والحضارة الآشورية, والكلدانيون هم الخلف للشعب الكلداني والدولة الكلدية التي أقيمت في بابل والحضارة البابلية, ولغتهما المشتركة الأساسية هي الآرامية ومنها السريانية. وبالتالي, فهم من أصل البلاد ولهم الحق في العيش والإقامة في كل العراق القديم والحديث بحدوده الحالية الاتحادية من أقصاه إلى أقصاه. وهم الآن موزعون على العراق فعلاً. فهم في البصرة وبغداد والناصرية والعمارة, ولكنهم أيضاً في نينوى ودهوك وأربيل والسليمانية. وأسماء المدن التي عاشوا فيها أو أقاموا دولهم عليها لا تزال وستبقى تذكرنا بهم بغض النظر عن محاولات تغيير بعض تلك الأسماء التي يفترض أن نعتز بها ونحترم التاريخ الذي ارتبط بهذه المدن. وفي حينها تضافرت القبائل الكلدانية مع القبائل الميدية, التي يعود الشعب الكردي ببعض قبائله إليها, لإسقاط الدولة الآشورية, ومنها انبثقت المملكة الميدية من جهة, والمملكة الكلدية من جهة أخرى, على أنقاض الدولة الآشورية, وكان ذلك في العام 612 ق.م.     
فالشعب الكلدي – الآشوري _ السرياني له الحق في العيش في كل العراق ويفترض أن يكون العراق كله  مفتوحاً عليه وله الحق في العيش حيثما يرغب.
وهذا الشعب الكريم والمعطاء موزع اليوم في العراق الاتحادي وفي إقليم كُردستان باعتباره جزءاً من الدولة العراقية الاتحادية. بعض هذا الشعب يعتبر ضمن الدولة العراقية الاتحادية, وبعضه الآخر يعتبر ضمن فيدرالية إقليم كُردستان العراق. وبعض هذه المناطق أو الأقضية والنواحي والأرياف نشأ خلاف على واقعها الجغرافي منذ سنوات طويلة وكلنا يعرف أسباب هذا الخلاف وأدوار الحكومات الرجعية والاستبدادية المتعاقبة في نشوئه: هل تقع ضمن حدود إقليم كردستان, أم ضمن حدود نينوى باعتبارها جزءاً من القسم العربي من العراق؟ والمناطق التي يعيش فيها المسيحيون هي موزعة حقاً ضمن حدود الدولة الاتحادية وبعضها الآخر ضمن حدود الإقليم الذي يعتبر ضمن الدولة العراقية الاتحادية. وهنا تنشأ المشكلة التي لا بد أن تثير القلق والمخاوف لدى الناس القاطنين في هذه المناطق , خاصة وأنهم لم يشاركوا في خلق هذه المشكلة ولا هم يشكلون عاملاً في الصراع الدائر, ولكن لهم حقوق قومية وإدارية يفترض الاعتراف بها وممارستها.
حين كنت أتابع برنامج في قناة عشتار الفضائية قبل ثلاث سنوات تقريباً شاهدت برنامجاً خاصاً لمقابلة مع رئيس إقليم كردستان العراق السيد مسعود البارزاني. وكان مقدم هذا اللقاء هو السيد مدير عام قناة عشتار حينذاك, طرح على السيد رئيس الإقليم  سؤالاً لم يكن معهوداً عن رأيه بإقامة حكم ذاتي للشعب الكلدو-أشوري في العراق. فوجئ السيد رئيس الإقليم وقال له بأنه لم يفكر بهذا الموضوع قبل ذاك. وكان, كما بدا لي, صادقاً وواضحاً في قوله. ولكن كان هناك من يقف وراء هذا السؤال, إنه المالك لهذه القناة, إذ كنت قد خدعت بمالكها قبل ذاك واعتقدت بأنهم ممولون كلدان من الولايات المتحدة, في وقت كان السيد سركيس أغا جان هو المالك وهو الممول وهو الموجه للقناة وبرامجها, وكان في حينها نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للمالية في إقليم كردستان العراق في أربيل! وقد فوجئت أنا أيضاً بذلك السؤال. وحين تسنى لي اللقاء بالسيد مدير عام القناة قلت له بأن هذا السؤال لم يكن في محله وكان محرجاً ومضراً في آن واحد وسيخلق مشاكل إضافية في العراق وتمنيت عليه أن لا يكرره لأنه لا ينسجم مع مصالح الشعب الكلدو- أشوري-السرياني ولا مع ظروف العراق الراهنة. وقد أدركت في حينها وبوضوح كبير أنها قنبلة موقوتة ستساهم في خلط الأوراق وأنها في كل الأحوال ليست في مصلحة الشعب الكلدو اشوري وستثير ألف مشكلة ومشكلة بين العرب والكُرد, وسيكون السكان المسيحيون ضحيتها الأولى.
وقد كف فعلاً السيد مدير عام قناة عشتار عن التطرق لهذا الموضوع, إذ كان قد أدرك مخاطره قبل ذاك, ولكنه كان ملزماً بطرح السؤال, كما أنه لم يبق طويلاً في منصبه, إذ لم يرق لممول القناة السكوت عن هذه المسألة, كأحد عوامل الفراق المفاجئ بين الاثنين.
السياسة علم وفن في آن واحد, وهي في الوقت نفسه تجسد مصالح هذا الطرف أو ذاك. وأن طرح مثل هذا الشعار وفي ظل الأوضاع الراهنة والصراع على المناطق لا يساعد في تهدئة الأمور وحل المشكلات بل يزيدها تعقيداً وصعوبة وشظاياها تصيب المسيحيين قبل غيرهم, إذ أن السؤال الأول الذي سيطرحه العرب والكُرد هو: أين سيكون الحكم الذاتي ضمن حدود الدولة الاتحادية أم ضمن حدود الإقليم في إطار الدولة الاتحادية؟
الجواب الذي أدلى به السيد سركيس أغا جان حين وجه له هذا السؤال هو: أننا سنقرر ذلك بعد الحصول على الحكم الذاتي! ماذا يعني ذلك؟ كان ولا زال يعني إما إلى الحكومة الاتحادية أو حكومة الإقليم, وكان الموقف بالنسبة للعرب والحكومة الاتحادية واضحاً أنه يريد الالتحاق بحكومة إقليم كردستان, وهو ما أثار قلق العرب في نينوى وفي القسم العربي من العراق, وكذلك عند الإسلاميين السياسيين العرب, مما خلق مشكلات إضافية للمواطنات والمواطنين المسيحيين في العراق عموماً وفي نينوى على نحو خاص. ولست واثقاً من إن هذا الجواب قد أثار الارتياح لدى القيادة الكردية التي تسعى إلى حل المشكلات العالقة قبل زيادة التعقيد فيها, إذ أن السيد سركيس أغا جان قد طلق غباراً شديداً شوه اللوحة, كما أرى, التي يفترض أن تبقى ناصعة من أجل حل القضايا العالقة.
إن العراق الديمقراطي الذي نسعى إليه يفترض أن يوفر الحقوق القومية الثقافية, ومنها الحريات الدينية واللغة, للشعب الكلد-أشوري-سرياني على صعيد العراق كله, وأن يمنح هذا الشعب حقوقه الإدارية ضمن الوحدات الإدارية التي يعيش فيها. كما أن من الممكن أن تشكل لجنة عليا على مستوى الوحدات الإدارية للتنسيق بين هذه الإدارات سواء أكانت تلك الوحدات الإدارية في حدود الإقليم أم في حدود العراق الاتحادي العام. إنه الحل الأمثل للمرحلة الراهنة وأتمنى على الأخوات والأخوة أن يتمعنوا فيه. فالهدف هو تأمين الحقوق الثقافية والإدارية بما يتناغم والديمقراطية المنشودة للعراق الجديد المنشود.   
في مكالمة هاتفية أجراها السيد سمير اسطيفو شبلا نشرت في موقع شبكة زهريرا الإخبارية قال الأسقف الدكتور لويس ساكو بشأن الحكم الذاتي في المرحلة الراهنة ما يلي:
"في البداية إنني احترم جميع الآراء، إن كانت مع الحكم الذاتي اليوم أم لا، لأنهم حقاً غيورين على شعبهم المسيحي، ولكن من جانب آخر حقاً وقعوا في نفس الفخ المنصوب لنا ككلدان وكمسيحيين، وذلك بـ:
إنني قلت حرفياً إن الحكم الذاتي اليوم هو وهم وفخ، واعني بذلك كلمة "اليوم" أي أن الظروف الذاتية والموضوعية لم تنضجا بعد "اليوم" للمطالبة بالحكم الذاتي".             
لقد صرفت حتى الآن الملايين من أجل الدعاية والترويج لهذا الشعار, وكان الأفضل أن توجه هذه الملايين للعناية بأوضاع المسيحيين على صعيد العراق كله بدلاً من أن تساهم في ما أطلق عليه السيد ساكو بالفخ والوهم.
أتمنى على  الأخوات والأخوة أن يتمعنوا في هذا الرأي المنطلق من حس وطني وقومي في آن يحرص على سلامة وحقوق ومصالح هذا الشعب في المرحلة الراهنة وعلى المدى اللاحق.
25/4/2009                       كاظم حبيب


1232
نداء عاجل : من هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب المختلفة في العراق
 
لنتحرك جميعاً ونتصدى للإرهاب الموجه ضد أتباع الديانة المندائية في العراق!
د. كاظم حبيب
برلين
 
في خضم الفوضى والنزاعات الطائفية السياسية السائدة في العراق وفي بغداد على وجه التحديد, اتسع نطاق التعرض الشرس والاضطهاد والعمليات الإرهابية ضد بنات وأبناء وعائلات الصابئة المندائية.

وهي عمليات إجرامية تستهدف فرض الهجرة عليهم من مناطق سكناهم ومن العراق عموماً, أو فرض تغييرهم لدينهم الذي كانوا وما زالوا يعتقدون ويؤمنون به منذ ألاف السنين والتحول صوب الإسلام خلال 24 ساعة، إلا فعليهم مغادرة بيوتهم أو يتم شنقهم أمام دورهم ويعلقون فوق أبوابها. ورغم كل النداءات التي توجهنا بها إلى المجتمع العراقي والأحزاب والقوى التي تمارس هذه الأساليب وتلك التي تدعي أنها لا تمارسها, وإلى المجتمعات الإقليمية والدولية, طالبين منهم العمل الجاد والمسؤول والتدخل المباشر من أجل وضع حدٍ لأعمال التهديد والاختطاف والابتزاز والاغتصاب الجنسي والتخريب والتدمير والقتل الفردي أو فرض تغيير الدين بالقوة وكل الأفعال الدنيئة الأخرى التي تتعارض مع السلوكية الإنسانية والحضارية لشعب العراق ومبادئ حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية بهذا الخصوص. ومن المحزن أن نعلن للملأ بأن جميع هذه الممارسات مستمرة في العراق, سواء أكان ذلك في بغداد أم كركوك أم البصرة أم في مناطق أخرى من العراق من قبل ميليشيات إسلامية سياسية متطرفة وسلفية وبعضها مدفوع بقوى محلية وأخرى بقوى خارجية هدفها الإساءة للمجتمع العراقي ومواطناته ومواطنيه وإلى العملية السياسية السلمية التي يراد استمرارها وتطويرها في العراق. وإزاء هذا الوضع الجائر أجبرت مئات العوائل المندائية إلى مغادرة البلاد إلى الأردن وسوريا وبعضها يعيش على أرصفة الشوارع نتيجة التدني السريع والكبير في إمكانياتهم المالية, كما أجبرت 14 عائلة مندائية من أصل أهل الناصرية كانت تعيش حتى الأمس في بغداد أن ترحل إلى الناصرية ثانية لتحتمي بالعشائر العراقية التي كانت لها علاقات طيبة قديمة.

لم يبق في مدينة الدورة في بغداد التي كانت مليئة بالصابئة من يسكنها منهم, وتحول الإرهابيون على مدينة العامل ليهجروا الناس منها, وقد اشتكت العوائل المهددة بالرحيل أو الإسلام أو الزوال إلى رئيس الديانة المندائية رجل الدين الكبير السيد ستار جبار الحلو, الذي أوصل الشكوى إلى الحكومة ولكن دون طائل أو جواب نافع! إن الشعب العراقي يعرف جيداً الدور الإنساني والحضاري الكبير الذي ساهم ويساهم به الصابئة المندائيون في العراق على مر التاريخ, ويعرف أنهم من أهل أصل البلاد ومن بين أقدم الأديان المعروفة في العراق والمعترف بها من قبل الإسلام, وأن هؤلاء الناس المسالمين عاشوا مئات السنين على أرض وادي الرافدين ولا يمكن ولا يجوز اقتلاعهم من جذورهم الممتدة عميقاً في هذه الأرض الطيبة أو فرض الدين الإسلامي عليهم. إن الشعب العراقي يدرك أيضاً من هي تلك الأيدي الخبيثة والقذرة التي تمتد لتؤذي بنات وأبناء هذه الديانة القديمة وتفرض عليهم الهجرة إلى خارج العراق أو الموت على أيديهم المجرمة. إنها جماعات إرهابية دموية لا تخرج عن دائرة القوى التالية التي ينبغي شل أيديها قبل أن تزيد إساءة للمجتمع العراقي:

1- جميع قوى الإسلام السياسي المتطرفة والسلفية التي ترفض الاعتراف بالأديان الأخرى أو ترفض وجودها على الأرض العراقية, وهم في الغالب من متطرفي المذهب الوهابي.

2- جميع قوى الإسلام السياسي الطائفية التي تمارس التمييز الديني والطائفي, وهم في الغالب من أتباع المذهب الشيعي وميليشيات مسلحة في بغداد وكركوك والجنوب أيضاً الذين يجدون الدعم والتأييد في ما يقومون به من قوى رجعية وأخرى إيرانية متعصبة.

3- بعض الجماعات البعثية الصدامية التي تريد إشاعة الفوضى والخراب في البلاد.

4- ولا شك في أن عصابات الجريمة المنظمة تستثمر الفرصة لإرهاب وتهديد وابتزاز أتباع الديانة المندائية أيضاً. فقد تم اختطاف الكثير من الأفراد وأفرج عنهم بعد ف\دفع الفدية.

5- إنها منظمات غير حكومية تدعي الإسلام وتأتمر بأوامر من خارج الحدود, من قوى موجودة في إيران أو في أفغانستان أو في السعودية. نحن أعضاء هيئة الدفاع عن حقوق أتباع الأديان والمذاهب المختلفة في العراق نؤكد وندعو إلى ما يلي:

- وتقع على عاتق علماء الدين المسلمين في العراق وعلى المجتهدين المتقدمين في العلوم الدينية والاجتهاد الديني والاجتماعي والمتميزين بالحكمة, وعلى رأسهم آية الله العظمى السيد علي السيستاني والسيد المدرسي وغيرهم, مهمة القيام بدور إنساني واجتماعي وثقافي مسؤول يؤكد رفضهم وإدانتهم لهذه الممارسات الشنيعة والإجرامية ضد الصابئة المندائية, والعمل الجاد والسريع من أجل إيقافها فوراً واعتبارها خروجاً عن الدين الإسلامي وعليه.

- ندعو رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب ورئاسة إقليم كردستان في أن تلعب كل هذه الرئاسات دورها في إيقاف العنف المنفلت من عقاله ضد أتباع الديانة المندائية في العراق, وكذلك إيقاف النزاعات الطائفية السياسية وتلك التي تدور حول أهداف قذرة وفساد مالي أشرنا إليها في مقالات أخرى.

- ندعو جميع الناس الخيرين والطيبين في العراق أن يسندوا أخوتهم في المواطنة ويرفضوا تلك الأفعال الشريرة ضدهم ويقفوا إلى جابهم في المحنة الراهنة, حيث تكاثرت المحن على كل الشعب ومنهم الصابئة المندائية, إخوتنا في المواطنة.

- ندعو الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية ومنظمة العفو الدولية أن تبادر إلى إدانة الإساءات المستمرة والاضطهاد غير المتوقف ضد أتباع الديانة المندائية في العراق واعتبار الحكومة العراقية مسؤولة عن تأمين الحماية لهم ورفض طردهم أو تهجيرهم من مناطق سكناهم, باعتبارها عملية تطهير ديني محرمة دوليا تطال هذه المجموعة الطيبة والمسالمة من بنات وأبناء الوطن.

- ندعو قيادة وشعب كردستان إلى الوقوف إلى جانب الصابئة المندائية الذين يتعرضون اليوم إلى التطهير العرقي ومحاولة فرض الدين الإسلامي عليهم بالقوة, تماماً كما فعل البعثيون العنصريون ضد الشعب الكردي, وخاصة في كركوك ومناطق أخرى, وفي فرض الخيار عليهم: بين البقاء على ارض كردستان مقابل التحول إلى القومية العربية, وبين المغادرة أو حتى احتمال الموت غدراً.

- ندعو السيد مسعود بارزاني, رئيس إقليم كردستان, الذي دعا كل العراقيين الذين يعانون من الاضطهاد في مناطق سكناهم إلى المجيء إلى كردستان للحصول على الأمن والاستقرار والعمل والعيش الكريم في وسط الشعب الكردي وبقية القوميات المتآخية. كان ذلك في لقاء أسبوع المدى الثقافي في أربيل في نهاية شهر نيسان من هذا العام (2006). فالبعض من بنات وأبناء أتباع الديانة الصابئة المندائية معرضون اليوم إلى شتى أنواع الاضطهاد, وقد وصلتنا صيحات استغاثة من أخواتنا وأخوتنا المندائيين, فهم معرضون للابتزاز والاختطاف وتغيير الدين والقتل, لهذا نأمل أن يحصلوا على ملجأ مؤقت لهم في كردستان العراق إلى حين حل أزمة الإرهاب والقتل والتدمير في العراق. إذ أن الحكومة ما تزال بعيدة عن اتخاذ إجراءات بهذا الخصوص, رغم مسؤوليتها المباشرة, كما لم تتخذ حكومة الجعفري أي إجراء حقيقي للتصدي لهذه الموجة البربرية المناهضة لأتباع الصابئة المندائية وتفاقمت في فترة حكه النزاعات الطائفية ذات الطبيعة العدوانية.

- ندعو جميع مثقفات ومثقفي العراق للوقوف صفاً واحداً, بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي, إلى جانب مواطناتنا ومواطنينا المندائيين.

- ندعو كبير رجال الدين المندائيين, السيد ستار جبار الحلو, والمجلس المندائي في بغداد إلى بذل أقصى الجهود لتعبئة الرأي العام العالمي لمناهضة الجرائم التي ترتكب في العراق ضد الصابئة المندائيين.

- ندعو جميع العراقيات والعراقيين في الخارج إلى شن حملة واسعة وعقد ندوات وكتابة مقالات والمشاركة في ندوات تلفزيونية لفضح الجرائم التي ترتب في العراق بحق المندائيين أو بحق أتباع الديانات والمذاهب المختلفة في العراق لضمان حمايتهم.

- إننا نحمل الحكومة العراقية أولاً وقبل كل شيء مسؤولية ما يجري في العراق ونطالبها باتخاذ أكثر الإجراءات حزماً لمعاقبة الضالعين بهذه الجرائم, كما ندعو إلى وضع قانون يحمي حقوق ومصالح مختلف الأديان والمذاهب في العراق ويعاقب بشدة أي تجاوز عليها.

- إن هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب المختلفة في العراق تدعو الرأي العام العالمي إلى الوقوف إلى جانب المندائيين لضمان حمايتهم من القوى المتطرفة والإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة في العراق وتحميل القوات الأجنبية العاملة في العراق مسؤولية ما يجري فيه أيضاً. كما تدعو الهيئة كل العاملين معها ومؤيديها إلى المزيد من أعمال الاحتجاج ضد ما يجري في العراق. لنكن يداً واحدة تمنع الأذى عن أهلنا الصابئة المندائيين, ولنكن صوتاً واحداً يهدر صارخاً بوجه الإرهابيين العتاة والطائفيين السلفيين المقيتين أن توقفوا عن إلحاق الأذى بهؤلاء الناس المسالمين أو تهجيرهم قسراً, ولنردد معاً ومن جديد مع الشاعر كاظم السماوي قوله:
وإذا تكاتف الأكف فأي كف يقطعون
وإذا تعانقت الشعوب فأي درب يسلكون

* د. كاظم حبيب
عن الأمانة العامة لهيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق
برلين في 29/5/2006 [/b] [/size] [/font]



 

1233
جولة استطلاعية في ضيافة قناة عشتار الفضائية في عنكاوة
كاظم حبيب

كانت المفاجأة سارة حين استقبلني الصديق الأستاذ جورج منصور, رئيس مؤسسة عشتار للإعلام والثقافة ومدير عام قناة عشتار الفضائية وبقية العاملات والعاملين في القناة في ربيع عام 2006 وتجولت بارتياح كبير في أقسامها المختلفة. والمفاجأة السارة كانت متعددة الجوانب.
إذ أن فكرة إقامة قناة فضائية عراقية جديدة كانت قد بدأت في ربيع عام 2005, وكانت تشغل بال الصديق الأستاذ جورج منصور, وكان يتحرى عن اسم مناسب لهذه القناة التي قال عنها أنها يفترض أن لا تكون صفراً على شمال عدد الفضائيات القائمة بل رقماً مهماً وإضافة جديدة في عالم الفضائيات المتسع دوماً على صعيد العراق والشرق الأوسط.
وفي صيف نفس العام بدأ العمل من أجل التحضير لإقامة ما كان يدور في البال ووأطلق على القناة اسم "قناة عشتار الفضائية" تيمناً طيباً بحضارة العراق القديمة التي ساهم السومريون والأكديون وبقية البابليين والآشوريون والكلدان والگوتيون والميديون وغيرهم من الأقوام التي قطنت العراق حينذاك في بناء حضارة وادي الرافدين التي تعتبر أحد أبرز مهود حضارة الإنسان والتي ما تزال معالمها منتشرة في مناطق شتى من العراق حتى الآن.
وكانت عشتار إحدى أبرز الآلهة في تلك العصور, إلهة رائعة ومعبودة تشترك في عبادتها كافة شعوب العراق القديم, فهي رمز الخصب والنماء والحب والحياة والأمومة والجمال والإبداع وواجبها الإلهي رعاية وحماية كل ذلك.
وفي أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية من العام 2005 بدأت القناة الفضائية ببثها التجريبي, ثم انتقلت بعد فترة وجيزة إلى البث اليومي المنتظم ولمدة ثماني ساعات, ثم يعاد بث البرنامج اليومي ليصل إلى النصف الثاني من الكرة الأرضية. فقناة عشتار تبث عبر خمسة أقمار صناعية تجوب الكون كله, وتصل في بثها إلى شعوب القارات الخمسة.
والمفاجأة السارة أيضاً أنها, وبعدد مناسب من العاملات والعاملين من المختصين بالصحافة والفن والرياضة والتقنيات الهندسية, تبث برامجها اليومية بثلاث لغات هي اللغة العربية والكردية والسريانية. ويمكن أن تتسع لتبث باللغة التركمانية أيضاً لتعبر عن المكونات القومية الأربعة للشعب العراقي, وهم العرب والكرد والكلد أشور سريان والتركمان.
من هنا يتبين أن الفترة بين فكرة تأسيس قناة عشتار وبدء بثها التلفزيوني في مدينة عنكاوة التابعة لمدينة أربيل التاريخية في كردستان العراق لم تتجاوز الثمانية شهور فقط, وأنها منذ البدء حتى الآن حصلت على موقع طيب ومتميز في عالم الفضائيات في العراق والشرق الأوسط, وهي مقبلة على تطورات جديدة خلال الفترة القادمة.
أقام الأستاذ جورج منصور, وبمساعدة مهندسين وفنانين بارعين, في دار ضيافة سابق في مدينة عنكاوة التاريخية ذات الشوارع والأزقة النظيفة والحركة العمرانية والسكانية الدائبة, قناة عشتار الفضائية, وهي بناية جميلة محاطة بحديقة واسعة معتنى بها جيداًُ, ثم جهز الاستوديو الرئيسي فيها لتصوير الحوارات وتقديم نشرة الأخبار والتقارير الصحفية, كما نصب أجهزتها الحديثة ومولدات الطاقة الكهربائية الكبيرة لتجنب انقطاع البث عند تكرار انقطاع التيار الكهربائي عدة مرات في اليوم الواحد.
وهو أمر لم يتغلب عليه المسؤولون في إقليم كردستان حتى الآن رغم الجهود المبذولة في السيطرة على إنتاج الطاقة وإيصالها إلى المستهلك.
وفي هذه البناية ذات الغرف الكثيرة المكونة من طابقين وطابق تحت الأرض انتشرت مجموعات من خيرة العاملات والعاملين في الإعلام والتقنيات والفن ووضع البرامج والإخراج والإنتاج والإدارة ممن له خبرة طويلة في هذه المجالات, إضافة إلى مجموعة من الشبيبة الطموحة المستعدة للتعلم وتبوء مكانة لائقة في عالم التلفزة المتطورة يومياً والمزودة بأحدث الأجهزة التقنية والتي تبدي رغبة في المطالعة والتعلم والـتأهيل المتواصل .
إن طموح رئيس المؤسسة كبير ومشروع في آن واحد. فهو يسعى إلى إصدار مجلة فصلية جديدة باسم "عشتار الحضارة", وإذاعة جديدة باسم راديو "صوت عشتار", وربما يتسع العمل ليقيم مركزاً ثقافياً متعدد الأغراض الثقافية والإنسانية الحضارية. وهي أهداف نبيلة لا تبدو لي بعيدة المنال, إذ أن كردستان خصوصاً والعراق عموماً والشعب الكلداني الآشوري السرياني بشكل أخص بحاجة إلى كل ذلك نتيجة التهميش السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تعرض له الإقليم طيلة عقود طويلة والفراغ الذي يحس به الشباب من البنات والبنين والذي يفترض أن يُملأ بما يساهم في تطور وتحديث الحياة في جميع أرجاء الإقليم.
إن الأحاديث التي خضتها مع السيد رئيس المؤسسة ومدير عام القناة ومع عدد من مدراء الأقسام خلال الأيام التي قضيتها في عنكاوة تشير إلى أنهم كانوا وما زالوا يعملون من أجل أن تجسد القناة واقع العراق الراهن وتتحرى عن السبيل لتطوير البلاد وتقدمها من خلال اتخاذ موقف مستقل في نشاطها وبرامجها اليومية. وأن إدارة القناة تلتزم بما يلي:
1.   استقلالية القناة وعدم ارتباطها أو عائديتها لأي حزب أو جماعة سياسية أو حكومة, فلها رؤيتها الخاصة باعتبارها قناة عراقية وتبث برامجها اليومية للعراقيات والعراقيين في الداخل والخارج ولكل من يفهم اللغات التي تبث بها برامجها.
2.   وهي حيادية وأمينة في نقل الأخبار والأحداث والمعلومات التي يفترض أن تصل إلى جمهور المشاهدين وتمتلك الحرفة الصحفية المناسبة لممارسة هذا الموقف المطلوب من قناة عشتار الفضائية.
3.   وهي تدعو إلى وحدة الشعب العراقي بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية من أجل تجاور الصعوبات التي يواجهها في المرحلة الراهنة والعمل من أجل تقدم العراق وازدهاره.
4.   وهي تدعم الجهود المبذولة من أجل بناء دولة عراقية ديمقراطية فيدرالية تعددية حيث تسودها الحياة المدنية الدستورية ودولة القانون الديمقراطي ومبادئ حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية وحيث تتطور وتزدهر الثقافات في مجتمع متعدد الثقافات وتتفاعل وتتلاقح في ما بينها لصالحها المشترك.
5.   وهي تساند تعزيز فيدرالية كردستان وتقدمها وتطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي حيث تعيش وتتآخى القوميات الكردية والكلد آشورية سريانية والتركمان وتعمل من أجل أن تتمتع جميع القوميات بحقوقها الإدارية والثقافية المشروعة والتي تعتبر انتصاراً للجميع وتكريساً للحرية.
6.   والقناة تدعو إلى نشر المحبة وثقافة الحوار بدلاً عن الكراهية والحقد وسيادة ثقافة العنف في حياة المجتمع وفي العلاقة ما بين السلطة والمجتمع على صعيد العراق كله وفي كردستان العراق, والاعتراف بالآخر واحترام الرأي والرأي الآخر, سواء أكان الآخر قومية أم فكراً أم ديناً أم مذهباً أم رأياً سياسياً. وهي تساند حرية المرأة ومساواتها التامة بالرجل.
إنها قناة فضائية تلتزم مبادئ الحرية والديمقراطية والعلمانية واللبرالية السياسية, وأن تقديمها اللقاءات والحوارات الفكرية والسياسية والثقافية اليومية لا يفترض أن ما يأتي على لسان الضيوف معبراً بالضرورة عن فكر القناة أو نهجها الفكري والسياسي الحيادي, بل يجسد اعتراف واحترام القناة لحق الإنسان في إبداء الرأي والتعبير عن قناعاته مع ضرورة احترام الموضوعية والنقد البناء والابتعاد عن الإساءة أو توجيه الاتهامات إلى الآخر بأي حال.
7.   وهي تسعى لأن تكون واحدة من أكثر القنوات حداثة وقرباً من الواقع وحاجات الإنسان العراقي وتطلعاته المشروعة والحضارية وأن تساند كل جهد على هذا السبيل بما في ذلك التعاون الجاد والمسؤول مع بقية الفضائيات العراقية والعربية والدولية بما يخدم تطور العراق ونشر الثقافة الإنسانية فيه وتمتعه بالتقدم.
وترى القناة ضرورة خوض المنافسة النزيهة والمدنية السليمة من أجل خدمة المشاهدة والمشاهد بدلاً من التزاحم وعدم التعاون أو عدم مد يد المساعدة الضرورية, كما يفترض أن يكون عليه العمل المشترك في مؤسسة واحدة.
8.   استقطبت القناة جمهرة مهمة من خيرة العاملات والعاملين في الحقل التلفزيوني, سواء أكانوا من العرب أم الكرد أم من الكلد أشور سريان ومن مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية الديمقراطية, إذ أن المحدد للتعيين هو الخبرة والمعرفة وتقبل حيادية القناة الفكرية والسياسية واحترام استقلاليتها.   
والجدير بالإشارة إلى أن قناة عشتار, التي تحترم استقلاليتها وحياديتها وعراقيتها, تجد المساندة والتأييد لهذه الأسس من جانب السيد رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ومن السيد رئيس مجلس الوزراء في إقليم كردستان نيچيرفان بارزاني ومن بقية المسؤولين والمجتمع.
وجدير بالذكر أيضاً أن قناة عشتار لا تمول من أحزاب سياسية أو حكومات بل من مجموعة من المسيحيين العراقيين القادرين على تمويل مثل هذه القناة لصالح العراق وشعبه ولصالح الكلدان والآشوريين والسريان في آن.   
وفي ضوء هذه الأسس وغيرها تابعت خلال وجودي في كردستان, وعلى مدى شهر كامل, وقبل ذاك أيضاً, برامج قناة عشتار, فتعرفت من خلالها على نشاط دائب وحركة سريعة من جانب العاملات والعاملين من أجل نقل الحدث أو نقل المؤتمرات واللقاءات الثقافية والحوارات الفكرية واستقدام الضيوف وتنظيم الندوات لهم ومعهم.
فخلال فترة وجيزة التقى مدير عام قناة عشتار في برنامجه "حصرياً على عشتار" مع السيد رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ومع السيد رئيس البرلمان في كردستان عدنان المفتي ومع غبطة البطريارك مار عمانوئيل الثالث دلي بطريارك على الكلدان في العراق والعالم ومع نخبة من المفكرين والمثقفين العراقيين كالسادة الدكتور فالح عبد الجبار ومحمد سعيد الصگار ونوري عبد الرزاق حسين وزهير الجزائري والدكتور صلاح نيازي وزهير كاظم عبود كريم مروة وعباس بيضون وغيرهم, كما أجريت العشرات من اللقاءات الثقافية والصحفية المهمة ونقلت الكثير من الاجتماعات واللقاءات الفكرية والسياسية والثقافية العامة وحفلات الغناء والموسيقى التي نظمت خلال الفعاليات الكثيرة والمهمة في أسبوع المدى الثقافي الرابع في أربيل في الفترة بين 22-30/4/2006.
لا شك في أن قناة عشتار وهي في بداية تكوينها ونشاطها في هذا المجال الحيوي من العملية الإعلامية والثقافية والفنية تحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد لترتقي إلى مصاف القنوات الدولية التي تستقطب الملايين من البشر.
رغم أن المعلومات الواردة من مختلف المناطق تشير إلى تتبع المزيد من العراقيات والعراقيين في الداخل والخارج إلى برامج قناة عشتار ولهم فيها رأي إيجابي وملاحظات إيجابية, كما لديهم مقترحات لتطوير القناة. فالقناة تحتاج إذن إلى برنامج خاص يطلق عليه, كما أرى, "بريد المشاهدين" مثلاً لكي ينقل أراء الناس حول القناة وبرامجها بروح نقدية بناءة, بإيجابيات النقد وسلبياته, لكي تساهم تلك الآراء في تطوير القناة وتحسين مستوى الأداء.
ولا شك في أن القناة تحتاج إلى مزيد من الجهد والعمل لتكريس عدة قواعد للعمل كانت وما تزال غائبة في أجواء العراق الراهنة نسبياً بسبب الفترة الزمنية المنصرمة التي ضاعت فيها الكثير من القيم والمعايير في ظل الدكتاتورية الشرسة والمركزية القاتلة التي تنتهي بفقدان النظام والالتزام واحترام الوقت والقانون أو قواعد العمل.
وأبرز تلك القواعد, هي الالتزام بالوقت واحترام المواعيد وتطوير إنتاجية العمل لزيادة الإنتاجية وتقليص التكاليف, وخلق روح التعاون الخلاق والمنافسة الشريفة بدلاً من الصراع بالمناكب أو وضع العوائق في طريق عمل الآخرين, والاحترام والتعاون المتبادلين, وتنمية الرغبة لدى مسؤولي الأقسام بنقل معارفهم وخبراتهم إلى الآخرين العاملين في القسم وابتعاداً عما يسمى بـ "سر المهنة" الذي لم يعد مناسباً بعصرنا وفي مجال التلفزة والثقافة بشكل خاص.
والقنوات الفضائية لا تستوجب إصدار القرارات وتسجيلها على الورق فحسب, بل العمل من أجل تنفيذها بحيوية وإبداع ومتابعة التنفيذ بما يسمح بإنجاز ممتاز وتقييم جيد لمجرى النشاط وتقييم العاملات والعاملين وفق أسس عقلانية وموضوعية هادفة إلى تحسين وتغيير ما هو سلبي.
ويبدو لي أن العاملات والعاملين في قناة عشتار يحتاجون إلى ترك الأجواء التي سادت العراق أو ما تزال سائدة خلفهم والتي لا يعير الموظف أي عناية مطلوبة بالممتلكات الخاصة بالمؤسسة وصيانتها وإدامتها وحمايتها من التلف السريع, وبالتالي تحميل القناة خسائر مالية غير قليلة, كما يحصل في دوائر الدولة حيث تضيع المسؤولية ويغيب الحرص على الممتلكات العامة ابتداءً من أجهزة التصوير والمكائه والأثاث وانتهاءً يسيارات النقل ودور السكن التابعة للمؤسسة.
إن قناة عشتار تحتاج إلى ثلاث مسائل أساسية خلال الفترة القادمة, وهي:
1.   المزيد من الاستوديوهات لكي يتمكن العاملون من استخدام الوقت بشكل أفضل لتنظيم الكثير من الحوارات والبرامج في آن واحد بدلاً من تركزها على أستوديو واحد. كما يمكن لهذه الاستوديوهات تقديم الخدمات لقنوات تلفزيونية أخرى عبر صيغ عديدة للعمل المشترك والتأجير.
2.   المزيد من الكاميرات والمصورين والأجهزة الضرورية للعمل وتطوير الجانب الفني والتقني في الديكور الحديث بشكل خاص.
3.   المزيد من المحاورين من ذوي الكفاءة والقدرة على خوض الحوارات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفنية مع الضيوف لكي لا تتركز الحوارات على مدير القناة أو على شخص آخر فقط.     
                 
بدا لي أن قناة عشتار تعيش كعائلة واحدة تسعى لتحقيق أهداف القناة الأساسية, لأن أهدافها عراقية مشتركة يلتقي عندها الجميع وتحرص إدارة القناة على فسح المجال أمام الجميع للتعبير عن رأيهم بوعي وموضوعية بناءة. فإلى العاملات والعاملين في هذه القناة أقدم تحياتي وشكري الجزيل لحسن الوفادة والاحتضان الأخوي راجياً لهم النجاح والتقدم والمزيد من الجهد لإنجاح ما صمموا على إقامته وإنجازه على صعيد القناة والمؤسسة وبما يرفع اسم المؤسسة والعاملين فيها إلى مستويات عالمية منشودة.

كاظم حبيب 
برلين في 12/5/2006 [/b] [/size][/font]
 

صفحات: 1 2 [3]