عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - سـلوان سـاكو

صفحات: [1]
1
أدب / حنيّن منّ تبقّى لكِ
« في: 13:26 29/10/2023  »

حنيّن من تبقىّ لكِ


سلوان ساكو

ثوباً ابيض وأياديٍ مخضبة بالدماء…
حلمًا مزعج وحِبال تشتدُ حول العنق…
بًئرٍ من آلام لا قرار له وحزناً عميق… 
يعلوا صراخاً من القبور…
عودوا لم يحن وقتكم بعد…
فنحن قد طوانا النسيان…
اما انتم فلستم من الأموات بل من الاحياء…
ترميّ أم ثوبا نحو طفلها المُسجًّى في قبرٍ صغير…
ارتديه يا ولدي فالبردُ قادم…
الجميع قد رحلوا وانتِ تستغيثين ببكاء أن لا يرحلوا…
تصرخين بآلم يُزعزع الجبال ويفتح القبور…
واحد اثنين ثلاثة ورابعهم جاءكِ نبأه ما قبل المساء…
عند المساء تأتي الفواجع ويحل الظلام…
غابت الشمس يا حنين ورحلوا ما بعد الأفق البعيد…
وبات الانتظار لهم من الماضي البعيد…
يا حنين من يحنو عليكِ بعدهم ومن يُمسد شعركِ الجميل…
ضاقت بهم الحياة وباتوا اليوم تحت التراب…
يشربون من المطر ماءاً دثار…
حنين لا تسألي من فعل هذا فالكل متهم…
والجميع تعلوا وجهه طبعة الشيطان…
حنين انقطعت الأزمان بينكم…
وصارت الأعين والأجفان أراضيٍ سُهاد…
والأماكن خالية من ذكرى عزيز غاب…
والذكريات الألام تذبح من الوريد إلى الوريد…
والابتسامة لم تعد موجودة…
والضحكة صارت من الماضي… 
حنين هذا هو المنتهى والباقي فراغ في فراغ…
كيف ينهض طائر الفينيق من رماده…
بأجنحةٌ مُحترقة…
هو لن ينهض بعد اليوم…لن ينهض…
حنين عبرتي المدى والأفق ورائكِ….
وارتحلت الشمس وراء روابٍ….
وصارت تبكي كطفلة تُركت وحدها في ارضاً قِفار….


2
ليلة النجوم
قصة حب وحريق
مستوحاةٌ من آلام عرس الحمدانية.
بقلم/ سلوان ساكو
 قبل ليلة العرس بيومان.
نهار جميل والشمس مشرقة تبعث على التفاؤل والأمل والحب، والخريف يطرق أبواب الشتاء ويحول أوراق الشجر من خضراء إلى ذهبية اللون سرعان ماتنتهي وتيبس.
زوجين في سنّ الربيع يهيئان انفسهم لدخول قفص الزوجية، كانا منشغلين بتجهيزات الحفل، يرسمان لأنفسهم دنيا مشرقة وينسجون من خيوط حرير ناعم أحلام حياة جديدة يقطفان من دفء القلوب ثماراً أنضجها الحب الحقيقي الصادق. كل شيء من حولهم كان يبشر بالخير، ألا القدر كان له قول آخر.

قبل ليلة العرس بيوم واحد
اقترب الموعد، وبات الجميع ينتظرون الحفل للمشاركة في هذا العرس الكبير، ومعالم الفرحة والبهجة مرسومة على وجوه الناس الذين جاءوا من أماكن مختلفة تسبق خطواتهم ابتسامة عريضة تشع من القلب، وبخور من رائحة العود معجونة بالحب تعطر المكان وتجعل الأجواء دافئة وجميلة ... ليلة الزفاف كانت ليلة العُمر.

الفردوس (الليلة ألأخيرة)
كل من كان داخل الصالة يقول بأن الوضع جيد ويسير على ما يرام، لا شيء يوحي أن كارثة حقيقية سوف تقعّ خلال لحظات. الجميع منطلقين ومتحمسين وفرحين. كل شيء سار على أكمل وجه حتى قبل ساعات قليلة، القران عُقد والصالة ممتلئة بالمدعوين والأجواء جميلة تشع بهجة وحبور. الأطفال جالسين على عتبة المسرح يشاهدون أبراجاً من ألعاب نارية تعلوا وتهبط بشكلٍ عامودي يغمرهم فرح طفولي وهم ينظرون نحوها،  الكل مبتهج والغبطة تبعث على المسرة، وفجأة تغير المشهد برمته وعلاّ صوت الصراخ والعويل يمزق ارجاء المكان، الصالة صارت بؤرة لهيب تصَلّى من حولها وتقذف حِمم بركانية من الأعلى وباتت اللظّى تلتهم كل شيء،  كأنة هاوية من الجحيم السفلى فتحت ابوابها على الناس تستدعيهم للدخول. الجمعّ يركض وسعير النار تجري ورائهم تريد أن تلتهم من تبقى في الداخل، مخارج الطوارئ مفقودة، الأبواب الرئيسية مغلقة، الإنارة مطفأة دخان قاتم يملأ المكان كأنة ساحة معركة خاسرة نقلت ارضها على وجه السرعة إلى هذا المكان المظلم، إضطرام وفوهة من جهنم ليس لها قرار فُتحت على حين غرة. الكل يريد ان يُخلص أسرته وأطفاله من هذه النار المستعرة، صغار ينوحون في بحثهم وسط نار عن امهاتهم المتفحمة، رجال كانوا قُبيلة لحظات يرقصون فرحين على أنغام الطيور اصبحوا رماد ينبعث منها دخان كثيف ينبثق منه روح متألمة فارقت الحياة دون عودة. ألسنة النار تعلوا وتعانق السماء حاصدة ارواح أبرياء كُثر جُل غايتهم هو أن يفرحوا في عرس تحول إلى مأتم ، كل شيء حدث سريعاً، ولكن المأساة لم تنتهي سريعاً حيث تغير المشهد برمته إلى الأبد وبدأ فصل آخر من أسى وكرب سوف يستمر طويلاً.

نهاية البداية
عروس في ثوب الحداد يوم عرسها والإكليل على رأسها شوكٌ يقطر دماءً غزيراً، يلفها حزناً عميق كأنها زهرة قصفتها عاصفة شتوية، تُشاهد الان حلم كابوسي يريد أن يستحوذ علّى روحها النقية وكلما حاولت الخلاص من هذا الكابوس ازادت الظلمة، تريد وتريد الخلاص من هذا السواد الدامس الذي يلف عنقها بحبل غليظ ولكن دون جدوى. هذا هو  طريق جلجلتها المر، طريق الآلم والحزن، حنين عشتروت جديدة، روح هذه العروس ستنزف طويلاً، هي عصفورة الحب والنار الهالكة على الشوك، من قطرات دمعها تبكي وتبكي حتى تستنفذ كل الدموع، أين والديها، أين اخوتها، أين أطفالهم، أين البقية، أين الناس، أين الفرح الذي كان قبل الماضي بدقائق معدودة. غربت الشمس من حولها وصارت سماؤها معتمة، المشكاة متعددة الألوان باتت الآن لون واحد هو لون الدم الأحمر. هذه الارض الملعونه تحمل اليوم دماء مذبوحة وأجساد محترقة وصرخات ثكالى ودموع يتامى.  هي أرض الاحلام المفقودة والرغبات المذبوحة.
العريس مذهول من شدة الصدمة والحزن يلف روحه، شاخص بنظره للمجهول دون هدف، كل تلك الأحداث تتزاحم برأسه بسرعة هائلة لا يستطيع فهم كل تلك المصائب التي جرت من حوله دفعة واحدة؟ سؤال يتناسل من رحم الاخر في دائرة معلقة في فضاء صالة العرس كانوا قبل ساعات شاخصين النظر أليها وهي تتحول الى حلقة نار هائلة تسقط عليها، لتحرق الصورة الزاهية التي كانت تلون سماء الليل.
هي جدارية وسط ركام الموت وحطام الأفئدة وأجساد محترقة، الوجع والحزن يلف كل مكان وكل شيء، جدارية تختصر قصة حب لم تكتمل فصولها بعد؛
أوجاعها أوجاعه، وآلامه هو ذاته آلامها،
دموعها الغزيرة دموعه، وجراحها الغائرة جراحه.
آهاتها التي تمزق قلبها آهاته، قطرات دمه هي ذاتها قطرات روحها النازفة ونبض قلبها نبضات قلبه.
جسديهما الان مهشّمان وارواحهم ممزقة.
أدارت حنين رأسها نحو ريفان ودموعها لا تتوقف قائلة أرجوك لا تتركني…
ردّ ريفان قائلا؛ نحن أبناء النور،  والنور في النهاية سيغلب الظلمة، لا تخافي…. غفت حنين على ذراع ريفان وقد شعرت بسلام ملائكي يخيم على روحها.

موتنا الحقيقي يكون حين يتعرى الفرد من إنسانيته ويتحول إلى كائن ادنى بكثير من الحيوان، يخنق الفرحة ويغتصب الابتسامة ويقتل البريء، هناك يكون موت الروح لا موت الجسد.  >:(

3
قاعة الهيثم محرقة عراقية. 
ربما لم تخطئ كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية حينما قالت سوف نخلق مجالات حيوية لفوضى خلاقة في العالم وخاصة في عراق ما بعد التغيير.
 كل شيء في العراق يدل على إن هناك فوضى ولكن غير خلاقة وغير اخلاقية وغير مسبوقة في التاريخ الحديث على الاقل تزيد عمرها عن ال 20 عام من سنة الاحتلال والى اليوم. حكومات متعاقبة على هذا البلد المنكوب منُغمسة بالفساد والمفسدين والرشاوي والمحسوبية والعنصرية والطائفية والقبلية، كل شيء عاد إلى ما قبل الدولة الحديثة وما قبل المدنية والتمدن، كل شيء يقول لك وبالقلم العريض ليس ثمة دولة في العراق وأنما مجرد عصابات ولصوص وميليشيات مسلحة تقوم بسرقة المال العام والخاص، الأمثلة على ذلك كثيرة، سرقة القرن والتي تعد بالمليارات الدولارات، سرقة نفط آبار البترول في البصرة وغير البصرة، فضيحة سرقة معدات مصفى بيجي للمنتجات النفطية، هذه عينة من فيض غزير من الفساد المالي الرهيب وثقب اسود يبلع كل شيء، هذا يقود حتماً إلى انهيار الدولة واجهزتها الحكومة وفروعها التنفيذية وبالتالي يقود هذا إلى عدم متابعة المقصرين ويكرس للترهل في جميع اجهزة الحكومة، وبالتالي نحصد الكوارث وتحصل المأساة، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، على سبيل المثال لا الحصر،حريق مستشفى الحسين للعزل الصحي في الناصرية سنة 2021، ذهب ضحيتها حوالي 92 قتيلا و110 جريحاً، غرق العبارة السياحية في الموصل عام 2019 ذهب ضحيتها أكثر 120 شخص، من حاسب من، وأين هم اصحاب المسؤولية عن هذه الحوادث الفضيعة، واليوم نجني ثمار كل هذه الفوضى وهذا الفساد في مأساة جديدة مروعة في قضاء  الحمدانية على أرض قاعة الهيثم للمناسبات. ومع كل هذا من حق المواطن أن يتسائل، من أعطى إجازة ممارسة المهة لصاحب القاعة بدون اِستيفاء شروط  السلامة، كيف شيّدت القاعة بالاساس من ألواح الساندويتش بّنَل المنتشرة في العراق في الاونة الأخيرة وكيف دخلت بغفلة عن اجهزة السيطرة النوعية، أين معايير وقوانين الدفاع المدني، من المؤكد أن الصالة كانت تفتقر إلى أبسط مقومات السلامة العامة، من مخارج الطوارئ إلى أسطوانات إطفاء الحريق ونظام رشّ الماء من السقف، واجهزة الاستشعار بالحرائق التي لا يتجاوز سعر الواحد 20 دولاراً، مما أدى بالنهاية إلى تلك الكارثة التي ذهب ضحيتها العشرات وجرحى يقدر عددهم بالمئات، هؤلاء الضحايا حقهم يقع على من، ؟ على صاحب القاعة الذي لم يفكر سوى بجني المال على حساب سلامة الناس، أم على الحكومة الفاسدة وعلى رأسها رئيس الوزراء، أم على المسؤولين الذين ينهبون العراق ليل نهار دون أي مسائلة، أم على المقاولين الذين يستوردون كل ما هو رديء وسيء ورخيص من الصين قافزين  على جميع اختبارات السيطرة النوعية، أم على الموظفين المُرتشين الذين امتلأت كروشهم بالمال الحرام، الجميع في دائرة الاتهام ولن تقف الكوارث عند هذا الحد بل سوف يشهد العراق كوارث اخطر ويذهب ضحيتها الآلاف بسبب عجز الحكومة وفساد السلطات بكل أطيافها التشريعية والقضائية والتنفيذية والإدارية.
 وبالنهاية يكون الله بعون المواطن العراقي الفقير البسيط الذي يعيش وسط أزمة غير مسبوقة بكل تجليتها تجاوزت العشرين سنة.

4
الغَيتّو العراقي
مازال المهاجر العربي بصورة عامة والعراقي بصورة خاصة يعيش داخل غيتو في مناطق تواجده في أستراليا وغير أستراليا، هذا على الأقل حسب ما لاحظته أنا من فترة ليست بالقصيرة وكان لا بد من التوقف عند هذه الظاهرة قليلًا.
أولًا الغيتو أو الغَيْت يشير إلى منطقة يعيش فيها، طوعاً أو كرهاً، مجموعة من السكان يعتبرهم أغلبية الناس خلفية لعرقية معينة أو لثقافة معينة أو لدين ما. أصل الكلمة يعود للأشارة إلى حي اليهود في المدينة، مثل الغَيت في مركز مدينة روما. ويرجع مصطلح الغيتو (Ghetto) إلى اسم الحي اليهودي في البندقية الذي تمت إقامته عام 1516، وبعد ذلك في كل أنحاء العالم تقريباً كان هناك أحياء خاصة لليهود.
لنعود للعصر الراهن ونأخذ منطقة craigieburn على سبيل الطرح، والواقعة ضمن حدود بلدية هيوم في ولاية ملبورن الأسترالية، فكل التمظهرات ومفردات الحياة اليومية تدل ودون شك إنك داخل غيتو أو معزل، من أسواق سمانة عربية الى العيادات الطبية والصيدليات وصالونات التجميل والحلاقة…. الخ. حتى الشخص لا يحتاج الى أستعمل اللغة الانجليزية. نعم من الناحية العملية يكون التعامل مع مفردات الحياة اليومية سهلة في هكذا حاله فأنت في النهاية لا تحتاج الى  لغة أخرى غير العربية أو السورث المحكية في التعامل فيصبح الوضع أسهل بشكل معين، ولكن مع هذا هناك خطأً في مكان ما فأنت في النهاية لا يمكن ان تتجاوز أبعاد المشلكة في أيّ حال من الأحوال حيث أن البلد لغته الرسمية هي الإنكليزية في التعامل وفي الدوائر الرسمية والغير رسمية، عدم الإلمام بالغة كفعل تواصل مع الأخرين يعكس مدى الفجوة القائمة بين اللاجئ وبين المجتمع الذي يعيش فيه. من المؤكد ليس المطلوب هو الانصهار الكامل وترك الهوية الثقافية للشخص القادم من دولته ألأم، ولكن أيضا ينبغي السعي وراء تعلم ثقافة المجتمع الجديد والانخراط فيه بشكل أكبر والانفتاح على افكار جديدة. هذا أيضًا وفي صورة ثانية له علاقة وبأثر رجعي بحركة التاريخ، على سبيل المثال النزوح الطوعي او القصري لسكان قُرانا في منطقة سندي أو غيرها بداية الخمسينات حتى تقريبًا نهاية سنة 1975، حيث نزحت العوائل بتجاه بغداد والموصل وكركوك، منهم حتمًا من انخرطوا وبشكل أكبر مع محيطهم وانفتحوا على الأخرين وتلاقحوا من باقيه الثقافات، أخذوا منهم واعطوا لهم، ومنهم وهم كُثر من تقوقع داخل صدفة ثقافته التي نزح معها من الريف الى المدينة فلاقى صعوبة في التعامل مع الوضع الجديد فبات أسير الماضي الذي انقضى ولن يعود، حتى الجيل الذي تلاه وجد صعوبة في تعلم لغة البلد المحكية. وهكذا باتت الامور أكثر صعوبة مع الوقت، الذي حال دون مزيد من التعقيد هو الهجرة الشبه جماعيه بعد التغير آي بعد عام 2003, ولكن تكرر ذات السيناريو في دول المهجر فبتنا ودون أرادة منا داخل  غيتو خاصة. 
مجرد طرح مثل هكذا تساؤلات هو بحد ذاته مهم. على الرغم من ذلك كلّه، يبقى مطلوبا التفكير في ما يمكن عمله لتجاوز عنق الزجاجة والانخراط بشكلٍ أفضل مع مُحيطنا والحيلولة دون العيش في غيتو أو منعزلين عن العالم الخارجي.

5
بيان إستنكار شديد اللهجة صادر من جمعية مار سوريشوع.
أننا أبناء جمعية  امرا مار سوريشىوع  (الجمعية العامة)،  في ولاية ملبورن الاسترالية، ندين ونستنكر بشدة قرار رئيس الجمهورية العراقية  السيد عبد اللطيف رشيد والقاضي بسحب المرسوم الجمهوري رقم 147  الخاص بتعيين سيادة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم.
ونحن أعضاء وأبناء الجمعة في الوقت الذي ندين فيه مثل هذا السلوك وهذه التصرفات المُشينة نضم اصواتنا مع باقي الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والقوى الوطنية والسياسية التي أدانت واستنكرت مثل هكذا أفعال لا تليق برمز ديني رفع بمستوى سيادة الكاردينال مار لويس روفائيل الأول ساكو حيث يُمثل طائفة كبيرة داخل الوطن وخارجه.
وعليه نعبر عن استنكارنا وإدانتنا لما أقدمت عليه الحكومة العراقية مُتمثلة بالرئيس عبد اللطيف رشيد وبناءً على ذلك نعلن نحن أبناء وأعضاء الجمعة وقوفنا الكامل مع غبطة ابينا البطريرك وإدانتنا لهذا السلوك الغير مسؤول والغير مسبوق مستنكرين كل مابدر عن هذه الجماعات التي تعمل على تخريب النسيج الوطني العراقي ودق إسفين الفتنة بين أبناء شعبنا المسيحي.


أبناء جمعية اومرا دمار سوريشوع
ملبورن/ أستراليا
                                                              16/07/2023

6
الكنيسة الكلدانية تغفرّ ولكن لا تنسىَ
بقلم/ سلوان ساكو
تبدوا الظروف مناسبة لشرح أسباب الأزمة الأخيرة بشيء من التفصيل، حيث لم يكن هناك في يوم من الأيام أي توافق ما بين المدعو المُدان ريان سالم (الكلداني)، وبين البطريركية الكلدانية ممثلة طبعاً بشخص سيادة الكاردينال البطريرك مار لويس رفائيل الاول ساكو.
 من البداية كان هناك ثمةْ صدّ واضح من جهة غبطة البطريرك، لِمَا مثله ويُمثله ريان مَن تجاوُزًا لكل الخطوط الحمراء، والقفز  على المرجعيات الدينية المسيحية، خاصة الكنيسة الكلدانية، وتنصيب نفسه متُحدثاً رسمياً لِعموم الطائفة في العراق دون وجه حق.
الأزمة ليست بالحديثة ولا هيّ وليدة اللحظة الراهنة وما الاحتقان الحالي المتفاقم مع الأيام غير انعكاسًا للصورة المشوهة السابقة الذي أراد ريان وزمرته ومن يدعهم تسويقها في الشارع العراقي، فقد بدأت إرهاصاتُها مع بداية السقوط في عام 2003، وما خلفه الأحتلال من فراغ أمني رهيب، هنا برزت أسماء وعنوانين كثيرة، وميليشيات مسلحة، سنية، شيعية، كردية، تركمانية، وتركيبة عجيبة من رجال العصابات المنظمة، أو (المافيات)، تُسيطر على مُقدرات ومفاصل البلد. فكان لابد من ظهور شخصية تتولى زمام أمور المسيحين، أو بمعنى أصدق كما يقول (الكلداني) هو ذاته، حمايتهم من العصابات المسلحة، وهو نفسه عصابة مسلحة وسط تلك المجاميع، بعد أنهيار الأجهزة الأمنية زمن النظام السابق، أمن، شرطة، مخابرات، استخبارات، حزب.
 في 7 تموز يوليو سنة 2003 وفي بيروت لبنان إنتقل مثلث الرحمة البطريرك مار روفائيل الأول بيداويد الى الأخدار السماوية بعد صراع مرير مع المرض والألم. تولى بعد ذلك سدة الرئاسة البطريركية في المنصور ببغداد مثلث الرحمة مار عمانؤيل الثالث دلّي من نفس العام في الثالث من ديسمبر كانون الأول. الرجل ومن البداية كان مُجهد بسبب تقدمه بالعمر، وبسبب مشاكل صحية ألمّت به، أستغل ريان (الكلداني) مرض الأخير والفوضى التي كانت تعم الكنيسة الكلدانية واسُقفياتها المنتشرة في جميع أصقاع العالم، ففي ظل هذه الظروف الصعبة برز اسم ريان تحت أسم الشيخ ريان سالم (الكلداني). للوهلة الأولى لم يكن الموضوع ذوّ أهمية كبيرة في ظل الخراب والدمار الذي حلَّ بالبلاد، ومع التصفيات الجسدية والأغتيالات والأبتزاز التي طالت أبناء شعبنا من عموم مسيحي العراق والهجرة خارج الوطن والنزوح داخله، لم يُعّر أحد كبير أهمية (للشيخ ريان)، ولكن السرطان كانَ ينموّ  ويستفحل ويمد الجسور الاخطبوطية مع باقي العصابات والميليشيات المسلحة العاملة في العراق، تحت إشراف إيراني بحتّ، في عمليات القتل والسرقة والأبتزاز، فلاّ يتصور أحدٍ أن ميليشيا ريان خارجة عن هذا الأطار، وإلاَّ السؤال الأهم من إين له كل هذا التمويل وهذه الترسانة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة!. هُنا حصل تحول دراماتيكي غير من المشهد برمته، فقد استقال البطريرك دليّ في عام 2012 وبالتحديد في كانون الأول، تحت تأثير المرض وعدم القدرة على حمل أعباء الطائفة الكلدانية الممزقة والمتشرذمة في عموم البلاد بالإضافة الى التكلسات العتيقة والترهلات والمشاكل الداخلية التي إصابتها في الصميم.
 في 1 شباط من عام 2013  اِعْتَلَى السدة البطريركية الكلدانية من روما سيادة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو. الأزمات والتحديات والمصاعب واجهت البطريرك الجديد منذ البداية، وهو بعد على مقعد طائرته متجهاً صوب الوطن. أزمة المهاجرين، النازحين، المؤمنين المنطوين تحت لواء الكنائس البروتستانتية في دول المهجر، التصفيات الجسدية، الكهنة، الأساقفة، هجرة الكفاءات، والإرث الثقيل التي تنوء بحملها الجبال من جميع الأشكال. هنا ظهرت بوادر الأزمنة  ما بينْ ريان سالم والبطريرك، فقد تمّ إلغاء كلمة المشيخة من التداول وعلى جميع الأصعدة وسحب كل الصلاحيات المنوطة لريان بموجب تصريح رسمي صادر عن البطريركية الكلدانية. هذا كان بمثابة إعلان حرب بين الطرفين، ريان وعصابته ودعمه من قِبل رئيس الوزراء وقت ذاك نوري المالكي، وغبطة البطريرك ساكو  وثقله الديني والأجتماعي المحلي والعالمي وما يشكله من آراء ومواقف سياسية ومرجعية كبيرة لأكبر طائفة مسيحية متواجد على أرض الوطن، يُحتذى بها على جميع المستويات، الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية. هنا حدث ما لم يكن في الحسبان مرة آخرى، فقد سيطر تنظيم الدولة الإسلامي على مساحات شاسعة من العراق ودقَّ أبواب بغداد من ناحية الفلوجة في حزيران من عام 2014. فأطُلق النفير العام، والفتوى المشهورة للمرجعية الشيعية العليا علي السستاني من النجف. محافظة الموصل والقرى والبلدات المحيطة بها باتتّ تحت سيوف تنظيم داعش، فأصبح البطريرك الجديد مع هذا الملفّ الشائك والخطير والحساس في وضع لا يُحسد عليه أبداً، يواجه مصاعب جمةّ ومصيرية تتعلق بشعب بأكمله كان ينعم بنوع من الأمان والاستقرار قبل قدوم هذه المجاميع الارهابية، بات الآن مهجر بين ليلة وضحاها. هنا وفي خضم هذا الصراع  والاقتتال على أكثر من جبهة ظهرت حركة كتائب بابليون، وهي حركة وقوات يقودها ريان (الكلداني) نفسه، تأسست في العام الأخير، منضوية تحت لواء الحشد الشعبي ومدعومة بشكل كامل منه  بالسلاح والمال.
مجدداً أصدرت البطريركية الكلدانية بيان تؤكد به أن لا علاقة لها بكتائب بابليون ولا بقائدها ريان (الكلداني) ولا تمثلها مطلقاً. توسعت الهواة بين الأثنين أكثر وصارَ أصلاح ذات البين بين الأطراف مستحيل. ومع بداية المعارك بين تنظيم داعش والقوات العراقية والحشد الشعبي في أكتوبر من عام 2016، اطلق (الكلداني) تصريحه الناري، حيث قال، (أن المسيحيون سوف يأخذون بالثأر في محافظة نينوى، وسوف تكون معركتنا في محافظة نينوى مصيرية، هم أحفاد يزيد ونحن أحفاد جون ووهب، معركة ستكون مسيحية مع أحفاد يزيد. التاريخ يعيد نفسه). سرعان ما ردّ إعلام البطريركية الكلدانية عبر بيان وتصريح موجز في 15/2/2017 بعنوان: (البطريركية الكلدانية تستنكر تصريحات السيد ريان (الكلداني)، حول الانتقامات من أهالي الموصل). ولكن الكل كان مشغول في حروب تحرير المناطق التي تحت سيطرة داعش والتي انتهت في 10 يوليو من عام 2017، بمشاركة الغطاء الجوي الأمريكي  والجيش العراقي وميليشيات الحشد الشعبي. كان لكتائب ريان بابليون مشاركة ونصيب في المعارك، وأيضا في الأنتهاكات والسرقات التي جرت إبان حروب التحرير. كما سيظهر في التقرير الأمريكي لاحقاً.
في الأنتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة من العام 2021، حصدت حركة بابليون 4 مقاعد من أصل 5 في البرلمان المذكور من حصة المكون المسيحي، الذي لم يصوت للحركة وانما جاءت الأصوات من مناطق لا يوجد مسيحيين فيها أبدًا، كان هذا بدعم شيعي واضح بات اليوم أكثر  معروفًا من كان يقف وراءه.
 ظلَ حديث الأتهامات والتخوين هو سيد الموقف، فما كان من ريان (الكلداني) غير تلفيق  اتهامات عن طريق شخص هو من دفع به متهمًا البطريرك ببيع أملاك عائدة للطائفة ضمن جغرافية أبرشية البصرة بواسطة المطران نوزات، مع الوقت ظهر أنه لا وجد لشخص لا داخل العراق ولا خارجه ضمن الإطار الاسقفي الكلداني بهذا المنصب ولا بهذا الاسم، فتبين بعد ذلك بطلان الدعوة، وعدم مصداقيتها من الأساس.
مع العقوبات الأمريكية التي طالت ريان سالم وآخرين بتهمة الإرهاب، وإنتهاكات لحقوق الإنسان وتُهم بالفساد والسرقة والاستيلاء على املاك وعقارات المسيحيين في سهل نينوى وغيرها، دخلّ الأخير في مرحلة أخرى وتبعات خطيرة، حيث أن هذه الُتهم تتبعها جملة من القرارات، منها تجميد أصول أموال ريان وحركته، عدم دخول الولايات المتحدة الأمريكية، عدم التعامل مع كافة البنوك الغربية. وهكذا أصبحت حركة كتائب بابليون تنظيم إرهابي بين عشية وضحاها، لا تفرق بشيئ عن حزب الله اللبناني، والحرس الثوري الإيراني وكتائب عبد الله عزام وباقي المنظمات الإرهابية الخارجة عن القانون.
 اليوم باتَ كل شيء واضح بالنسبة (للشيخ ريان)، من أنتهاكات لحقوق الأنسان،  والاستيلاء على أملاك المسيحين في سهل نينوى دون وجه حقّ، والسطو المسلح على ممتلكات الغير والسرقة.
 سقط ريان ومن معه في بئر لا قرارَ له، وتَعَرَّى من ورقة التين الأخيرة، وبات مكشوفً للعلن. وتبيّن مع مرور الوقت البضاعة الفاسدة التي روج لها، والأستثمار في الأغراض الغير شريفة والغير أخلاقية، ليستكمل ما  بدأه من الأول، ومع هذا نكون في المشهد الأخير والفصل النهائي من المسرحية التراجيدية  لهذه الشخصية المريضة والغير سوية، والتي أثرت سلباً وبشكل مباشر في المشهد العراقي عامة والمسيحي خاصة.
في النهاية سيادة البطريرك مار لويس ساكو كان على حق في التصدي لريان ومن معه من اللصوص الافاقين  سماسرة الأزمات المستثمرين في الفوضى والفساد الذي يعم العراق من زهاء 20 عام، فهذه مواقف لا تساهل ولا مهادنة معها مطلقًا، إذا ما تُرك لهم الفرصة للتوغل والانتشار فى المجتمع أكثر ينشرون الشائعات وإثارة الفتن وتأجيج الأوضاع.
 الحياة موقف، حتى السيد المسيح كان له موقف صارم مع التلميذ بطرس، رغم مكانته الكبيرة بين التلاميذ، وتأثيره في الديانة المسيحية واستشهاده بعد ذلك، ولكن كان له موقف حاد وحاسم معًا حين قال له اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ» متى 23:16

7
المؤتمر البطريركي الكلداني الناجح. 
لا يمكن إلّا التوقف عندَ المؤتمر الصحفيّ الصَادر من البطريركية الكلدانية في بغداد المنصور، والذي يُشير وبوضوح إلى وجود مشكلة حقيقية متفاقمة من مدة ليست بالقصيرة بين البطريركية الكلدانية بشخص سيادة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو ذاته، وبين مجموعة ريان سالم الملقب ( ب الكلداني). يطرح المؤتمر الصحفي الذي كان ضروريًا وملحًا وفي وقته وجهة نظر المرجعية الكلدانية العليا في العراق والعالم لجملة قضايا تتعلق بإدعاءات كاذبة من قبل زمرة ريان ببيع أملاك الطائفة الكلدانية من تحت الطاولة خاصة في محافظة البصرة وصولًا إلى حملة تشهير تطال سمعة البطريرك ذاته، والذي هو فوق كل هذه الشبهات بشهادة القاصي والداني.
الجميع كان بحاجة الى هذا المؤتمر الأخير وأن كان قصير نسبيًا، لكن أَبَانَ وبوضوح  جوانب عدة أهمها التصرفات المشُينة لريان سالم والمطلوب دوليًا على خلفية اتهامات بانتهاكات لحقوق الإنسان وعمليات فساد طالته هو وغيره من قادة الميليشيات المسلحة في العراق تحت قانون ماغنيتسكي للمساءلة العالمية، وأيضًا لكي يضع العالم في وجه الحقيقة والصراع الدائر منذ فترة ليست بالقصيرة بين المدعو ريان ومن لف حوله من جه، وبين البطريركية الكلدانية من جهة أخرى وتحول الصراع بعد ذلك إلى شخصي، أخذًا منحى أكثر استهتارًا في التقليل من شأن مرجع ديني كبير وشخصية عالمية بحجم الكاردينال مار لويس ساكو، مع حفظ الالقاب طبعًا.
يبدو ومن وقت ليس بالقليل  إن المدعو ريان سالم يريد فرض نفسه واجندته الخاصة  على المسيحيين وبالتي على البطريركية الكلدانية، هذا لم يكن وليد اللحظة ولكن كانت له إرهاصات قديمة، بدأت مع التغير والاحتلال الامريكية للعراق عام 2003، وما فرضته من تغيرات سياسية وأزمات جيوسياسية كبيرة عصفت بالبلاد والمنطقة بأسرها.
بعد أن تسلم سيادة البطريرك مار لويس ساكو سدة الرئاسة البطريركية في بغداد  بداية شهر شباط من العام 2013، بانت بوادر أزمة في الأفق، بين ريان وعصابته مدعوماً من جهات شيعية باتت معروفة جدًا للجميع اليوم، وبين البطريركية الكلدانية برمتها، حاول ريان قدر المستطاع أن يُترك له الحبل على الغارب ويستفيد من الفوضى التي كانت تعم العراق وغياب الرقابة وانفلات القانون والمحاسبة، يسرق وينهب كيف ما يشاء وتسول له نفسه، ولكن مع قوة وعزيمة البَطريَرك الجديد وضع الأمور في نصابها الصحيح، وحدَّ من تصرفات ريان الشاذة وقطع الطريق أمامه في أن يكون المتحدث الرسمي الحصري باسم الكلدان.
أمّا النقطة الثانية آلتي تثير التساؤل فهي تتعلق بمدى جدية الحكومة العراقية للتصدي لهكذا عملية تشويه وافتراء لشخصية دينية كبيرة بحجم البطريرك الكلداني، ومدى قدرتها على تحجيم دور ريان ومن شابهه في الافعال والسلوك في ظل حكومة محمد شياع السوداني،  وتعاطيها مع هكذا ملف يمس رمز ديني رفيع المقام.
ليس أمام المواطنيين العراقيين وغير العراقيين الشرفاء سوى محاولة فهم المغزى الحقيقي وراء حملات التشهير التي طالت البَطريَرك ومن فترة بعيدة، الذي يبشّر بالخير حقًا مدى تفهم وتفاعل المجتمع المحلي والإقليمي والدولي مع ملف القضية ومدى الاستنكار والشجب لحملة التحريض هذه.
في كلّ الأحوال، ما بني على باطل فهو باطل ولا أحد يستطيع أن يحجب ضوء الشمس بالغربال ولا أن يطمسها كذاب أو محتال، هذه حقائق ومسلمات لا ريان ولا غير ريان تستطيع أن يقف في وجه الحق. وكما قال المثل، إن كنت لا تحمل في عربتك إلا القش فلن تصبح يوماً تاجر حبوب.

8
المَوصّل تَرتديّ حلتها الجَديدة.
بقلم/ سلوان ساكو
من المؤكد أن محافظة نينوى تشهد تغييرًا ملحوظًا على أرض الواقع بعد حملة الإعمار والبناء وإعادة التأهيل التي تشهدها المدينة مؤخراً، والتي يُنقل مشاهد منها بين الحين والآخر من خلال منصات التواصل الاجتماعي والتي تصل حتى أقاصي الأرض فُيشاهد محبيّ الموصل ومواطنيها الأصليين الذين باتوا اليوم مُشتتين في كل إرجاء العالم هذا الحدث المبهج. جاءت هذه الجهود طبعًا بعزيمة ومثابرة المحافظ الحالي نجم الجبوري والذي يتصرف بحكمة ونزاهة مفقودة في العراق من وقتٍ ليس بالقليل بعكس سلفه السابق أثيل النُجيفي سَيِّئ السُّمْعَة والذي كان متواطئ مع الجماعات المسلحة الارهابية، وأيضًا بجهود أبناء المدينة أنفسهم الذين خبروا في الماضي القريب أبشع أنواع الحكم متمثلًا بتنظيم الدولة الإسلامي داعش، الذي قفز وسيطر على المحافظة بلمح البصر واستقطع أراضي واسعة ليس من العراق فحسب ولكن من الجارة سوريا أيضًا، فأصبح واسع الانتشار وبسط نفوذه وسيطرته على مساحات شاسعة من الرقة وصولًا حتى حدود العاصمة بغداد، كل هذا كان قبل سنوات قليلة ليس ألاَّ. ولكن هذا لا ينفي أن شريحة واسعة من أبناء الموصل كانت متعاطفة ومساندة لهذا التنظيم الارهابي، يؤكّد ذلك عدد الاعضاء الملتحقين بصفوف بداعش بعد أحتلال الموصل في العام 2014. ثمّة كلام كثير عن تلك المرحلة من التاريخ الحديث للعراق ولكنّ ما يجدر التوقف عنده هو الهجرة الواسعة للمكون الأصيل للمدينة آيَّ المسيحيين والتي باتت الموصل خالية منهم تمامًا اليوم، والقريب منها ليس في المدينة وإنما في الإقليم الكردي، أما في أربيل أو دهوك، لا يجرؤن العودة الى منزلهم خوفًا من تصفيات جسدية أو عملية أبتزاز تطلهم كما حدث بعد العام 2003 وصعودًا، إحداثًا عديدة حصلت في المحافظة تجسد حالة الفوضى الامنية والانتقام البشع الذي طال السكان المدنيين، ولكن الأكيد أن نقطة التحوّل الأهمّ كانت في حادثين كانا لهم الأثر الكبير على جميع المسيحيين وعلى كل المستويات، الأول في قتل المطران مار بولس فرج رحو والثاني في قتل الأب رغيد كنيّ ورفاقه الثلاثة، ليظل الحادثين البشعين متجذرا في الأذهان طويلًا وجرحين غائرين في الذاكرة الجمعي للناس. إذا كان من درس يمكن استخلاصه من تلك التطورات الخطيرة التي عصفت بالموصل فيمكن القول أنها لم تكن في ذلك الوقت صالحة للعيش والسكن وبات النزوح والهجرة الطريق الوحيد للخلاص من موجات العنف الطائفي الذي ضرب المحافظة والعراق ككل.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بعد هذا التغيير الذي طرأ على المدينة وباتت ترتدي حلة جديدة أكثر إشراقًا من تلك السوداء التي نقبت فيها نفسها، هل هناك ثمة تغيرًا حقيقيًا في عقلية ووعيّ وفهم الناس، هل هناك ثمة مقارنة بين كل ما له علاقة بالأخرين وقبول الاختلافات مهما كانت الانتماءات، والأديان والمذاهب، يبدو واضحا أنّ المسافات التي تفصل الإنسان عن اخيه الإنسان بغض النظر عن هويته مازالت عالقة ومستمرة وتحتاج لاعادة هيكلة وتصورات جديدة. من الواضح أنّ ثمة حاجة إلى تغيير جذري في الفهم العام بعيدًا عن لغة التكفير والإقصاء وبلورة إرادة حقيقية تتعامل مع الأخر بشكلٍ سوي ومواطن حقيقي على درجة واحدة من الاحترام، هكذا فقط يمكننا القول أن الموصل ترتدي حلة جديدة.

9
 الكَهَنة الشّباب وموّاعَظ اليوم
من حسّنات مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الإنترنت بكافة أطيافها وأشكالها المختلفة إنها توصل الحدث بساعته وحينه، سواء كان ندوة أو مؤتمر أو موعظة في قداس.
مواعظ كثيرة متوفرة على محرك شركة اليوتيوب لكُهان شباب وفي مقتبل خدمتهم الكهنوتية، وهذا جيد فعلًا وخاصة في هذا العصر الذي باتت فيه الشبكة العنكبوتية تستحوذ وبشكل كبير على مفاصل حياتنا اليومية وتدخل في العديد من المجالات بشكلٍ مباشر في أحيان كثيرة وغير مباشر في مرات آخرى. ولكن مع هذا يوجد بعض السلبيات في مواعظ هؤلاء الشباب القساوسة والتي تجدر الإشارة إليها ربما بغرض التنويه لا أكثر، فبعض المواعظ تأخذ منحى ماديًا اجتماعيًا أكثر من اللزوم وهذا يأتي بالطبع على حساب الروحي واللاهوتي للكلمة المراد طرحها. على سبيل المثال لا الحصر، الحديث عن الفارق في مجالس التعازي بين الفقراء والأغنياء، وحضور جمهرة غفيرة الى تعزية الغني بينما الفقير حينما يموت بالكاد يحضر أحد. وإحترام الاغنياء وجلوسهم في صدور الديوان، بيننا الفقراء يوزعون القهوة والشاي، والى ما هنالك من هذه التفاصيل التي لم ولن تنتهي مادامت تشرق شمس على البشر.
في كل مجتمع هنالك أغنياء وفقراء، وهذا من الطبيعة البشرية ومن ركائز حركة المجتمع، ومن فضاءاتها الواسعة، وأيضًا من أسئلة الكون الغامضة فهي جزءً من الأسئلة الكبرى التي يواجهها الإنسان بالحياة، شخص يولد غنيًا جدًا وأخر على بعد خطوات منه مُتَسَرْبِلٌ برداء الفقر والعازة بالكاد يجد لقيمات يتناولها، لذلك نجد تعريفاتٍ عديدة لهذا الموضوع، منذ فلاسفة الإغريق وحتى كانط وجون لوك وروسو ونيتشه، وغيرهم. الغني الناس توده لنفوذه وماله وسلطته، وهذا شيء طبيعي وعادي، وحتى عندما وصلنا الى دول المهجر الغربية بانت التفارقات الاجتماعية بشكل جليَّ، حيث هنالك متوسطي الدخل وفقراء، وأيضًا اغنياء، وهذا ما يدعى الطبقات المجتمعية، ليس من اليوم بل من وعيَّ الإنسان الأولي بذاته وبيئته ومجتمعه، وأنقسم على هذا النمط الناس وبات هناك فئات متفاوتة في الكفاءات والإمكانات والمكانة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. هذه هي معادلة الكون منذ فجر التاريخ حيث تخضع لصوابية العامل البشري.
مع الأسف يُصار اليوم الى تعويمّ وتسطيح الفكر المسيحي والذي هو بالأساس فكر عميق ويحتاج لإيمان وصدق ووعي لفهم المغزى الحقيقي لهذا العمق. الله لم يره أحدٍ، قال القديس يوحنا الرسول الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الكائن في حضن الآب هو خبر" أي هو الذي أعطانا خبرًا عن الله، عرفنا الله. فهناك فكرة مغزاها أن الله قد تجسد بالكلمة وصار إنسان وجاء على الأرض متخذًا شكل بشري من خلال يسوع المسيح الناصري، وهذه فكرة عميقة وتحتاج لفهم واسع، فقد تحولت هذه الشراكة بين الله والإنسان الى علاقة صداقة وحب وتضحية مبنية على رؤية مشتركة بين البشر والله. بمعنى آخر صار تحول جذري من الميتوس الأسطورة إلى  اللوغوس الكلمة عقل الله الناطق. فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ، يوحنا. هنا نحتاج لتلك حبة الخردل التي تكلم عنها المعلم، لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذِهِ الْجُمَّيْزَةِ: انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ، لوقا.
يجب إعادة النظر في المفاهيم المتعلقة بطرح العقيدة وإعطاء جرعات لاهوتية أكبر سواء في المواعظ أو الندوات أو المحاضرات التي تقام بشكلٍ أسبوعي أو فصلي. وألا في نهاية المطاف يفرغ المحتوى الرئيسي للمسيحية من مضمونه ونبقى دائمًا على حافة الهامش ندور وندور في حلقة مفرغة من المواضيع السطحية التي تحدث كل يوم وفي كل زمان ومكان.
إن دور الواعظ والكاهن مهم وحساس في إيصال كلمة الله الحية مع عمق روحي وإيمانًا حقيقيًا ينبع من بعد لاهوتي مبني على العقلانية والمنطق، وأن يكونوا بمستوى المسؤولية المناطة على عاتقهم كيما تستفيد منه الأجيال الجديدة.

10
العزيز نذار عناي المحترم:-
شكرا جزيلًا على مداخلتك المهمة والتي جاءت في سياق متصل مع المقّال.
نعم هي محاولات لبسط الحقيقة والتنويه عن الخلل الحاصل في المجتمعات العربية والاسلامية.
شكرا لك.

11
بين سلمان رشدي ودان بروان
حينما رأت النور رواية شيفرة دافنشي للمؤلف الأمريكي دان بروان سنة 2003 حدثت ضجة فكرية في وقتها، وعُقدت ندوات شبابية تطرح آراء الكاتب ونصوص الرواية والتي كانت تشوه العقيدة المسيحية وتطرح فكرة لم تكن متداولة حتى ذلك التاريخ، مع أن عدة مؤلفات صدرت بهذا السياق قبل الشيفرة ولكن لم تلاقي الرواج مثل ما أنتشرت Da Vinci Code حيث حققت الرواية مبيعات كبيرة وصلت إلى 60 مليون نسخة في وقت قياسي وترجمت الى 44 لغة حية منها العربية.
 تدور أحداث الرواية والتي تقع في حوالي 600 صفحة في كل من فرنسا وبريطانيا، وتبدأ بالتحديد من متحف اللوفر الشهير عندما يستدعي عالم أمريكي يدعى الدكتور روبرت لانغدون أستاذ علم الرموز الدينية في جامعة هارفارد على أثر جريمة قتل في المتحف. وملخصها أن صورة العشاء الأخير للمسيح مع تلاميذه للفنان الإيطالي ليوناردو دا فينشي والتي رسمت في عام 1498 تحمل رموز ومعاني عديدة غير تلك المتعارف عليها وقلة من المطلعين يعرفونها. من خلال السرد يتناول الكاتب شخصية يسوع المسيح وعلاقته بمريم المجدلية بشكل منافي تمامًا لما جاء في الكتب المسيحية، أثمرت هذه العلاقة بين المسيح والمجدلية الى فتاة،  فكانت بالنهاية بطلة الرواية صوفيا ابنة تلك السلالة التي تعود إلى تلك العلاقة. الذي حدث أن الفاتيكان حظر تداول تلك الرواية وكان هذا الحظر  رمزيًا أكثر منه فعليًا. فلقد أنتشرت الرواية بشكل أكبر من السابق، بعد ذلك بوقت قصير أصدرت الكنيسة القبطية الارثوذكسية كُتيب أوضحت فيه أخطاء المؤلف التاريخية واللاهوتية على لسان القمص أبرام داود سليمان، ولم تصدر فتوى لا بقتل الكاتب ولا بإحراق الكتاب وسارت الأمور بعد ذلك طبيعية واصدر Dan Brown روايات بعد ذلك هاجم فيه الكنيسة الكاثوليكية أكثر من الأول.
في سنة 1988 صدرت في لندن رواية آيات شيطانية للروائي الهندي سلمان رشدي بواقع 546 صفحة. الرواية بختصار عن شخصيتين رئيسيتين هما صلاح الدين جمجة الذي هو هندي عاش منذ صغره في بريطانى وانسجم مع المجتمع الغربي وتنكر لأصوله الهندية و جبرائيل فريشته الذي هو ممثل هندي متخصص بالأفلام الدينية، فقد إيمانه بالدين بعد إصابته بمرض خطير حيث لم تنفعه دعواته شيئا للشفاء، يجلس الاثنان على مقعدين متجاورين في الطائرة المسافرة من بومبي الى لندن، الطائرة تتفجر وتسقط نتيجة عمل تخريبي من قبل جماعات متطرفة وأثناء سقوط هذين الشخصيتين يحصل تغييرات في هيئتهم فيتحول صلاح الدين جمجة إلى مخلوق شبيه بالشيطان وجبرائيل فريشته إلى مخلوق شبيه بالملاك. في أحد أحلام جبرائيل فرشته يرجع الكاتب إلى فترة صلح الحديبية وتبدأ  فصول الرواية من هذا المحور. الذي حدث أن الإمام خميني أصدر فتوى من طهران في عام 1989 بإهدار دم سلمان رشدي وكل مترجمي كتبه مما اضطر الكاتب للاختباء وتغير مكانة في كل فترة، ومع هذا حدث التالي  حيث أن مترجم الكتاب إلى اليابانية قتل طعناً بالسكاكين عام 1991، وتم الاعتداء بالسكاكين أيضاً على مترجم الكتاب إلى الإيطالية، وأطلق الرصاص على صاحب دار النشر التي نشرته بالنرويجية عام 1993، ونجا روائي تركي من محاولة اغتيال بعد نشره أجزاء من كتاب.
مرت 35 سنة على فتوى الخميني في تلك الفترة لم يكن هادي مطر المولود في إمريكا من أصل لبنانى قد ابصر النور بعد ولكن فكرة قتل سلمان رشدي كانت مترسخة فيه الى أن أتته الفرصة فطعن رشدي بالسكين قبل إلقائه محاضرة في ولاية نيويورك الأسبوع الماضي، من حسن حظ الكاتب الهندي أنه لم يفارق الحياة، ولكن برز اسمه مجددا على الساحة وبات الطلب على كتابه آيات شيطانية أكثر.
الفرق بين قراء الكتاب الأول وقراء الكتاب والثانية مع أن الثاني أي آيات شيطانية لم يترجم للعربية مطلقًا يكمن في استيعاب أية فكرة دون مصادرة حق أحد ولا إهدار دم أي شخص ولا قتله، هنالك حق الرد كما حدث مع كتاب دان بروان. الى اليوم راسخة في أذهان العالم بصفة عامة والفرنسين بصفة خاصة حادثة شارلي إبدو التي ذهب ضحيتها 12 شخصاً وإصابة 11 آخرين سنة 2015 لأسباب تافهة.
يحتاج العرب والمسلمين اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تقبل ثقافة الأخر، وقبول الاختلاف مهما كانت الظروف والأفكار المطروحة، وهذا يتطلب صياغة مفاهيم جديدة ووعي بتَضَادّ العقول تتماشي مع روح هذا العصر والإنسانية والانفتاح على الغير وتخطي عقلية السلف الصالح التي باتت مشكلة حقيقية اليوم.

12
المَرأة وسَرابْ الَذَاكرة
بقلم/ سلوان ساكو
ملاحظة هامة قبل البدء في القراءة، هذه المقالة مجازية من منطلق رمزي وأيَّ تشابه مع الواقع هو عبارة عن تناص للواقع وليس أكثر.
أخذت حادثة الشرطية الامريكية فيكي وايت صداً كبيرًا خلال الأسبوع الماضي حين ساعدت المجرم الخطير كايسي على الهروب من السجن حيث كان يقضي عقوبة مدتها 75 عام متهمًا بالسطو المسلح والشروع بالقتل، وبعد ملاحقة رجال الآمن والشرطة لهم تم إلقاء القبض على الهاربين، ولكن الشرطية فيكي وقُبيل إلقاء القبض عليها انتحرت بأطلاق رصاصية على رأسها. الغريب في الامر إن فيكي كانت طول خدمتها الطويلة في سلك الشرطة لم ترتكب أي خطأ ولا حتى مخالفة مرورية ولا آي شائبة في سجل خدمتها، هذا ما ترك الجميع في ذهول وحيرة.
في سياق آخر متصل ثمة أمرأة تعيش مع زوجها واولادها في أمان وسعادة لنقل في أستراليا مثلًا، تذهب في زيارة تفقدية لأهلها، أمها والدها أخوتها في الولايات المتحدة الأميركية، وامريكا هنا حصرًا، والسؤال لماذا أمريكا حصراً انا نفسي لا أعرف، المهم تظل هناك شهر أو شهرين وحين تعود الى أسرتها تتغير كثيرًا كأنها ليست هي ولا كما كانت قبل المغادرة حيث لا تطيق العيش في بيتها ولا أن ترى زوجها، ماذا حدث حتى تغيرت طبيعة العلاقة القائمة قبل شهر، هنا مكمن الخلل.
هواجس ومشاعر تعتري بعض النساء، تكون في كثير من الاحيان حقيقية تعكس ما هو عليه من تراكم الأحاسيس هناك في أعمق منطقة في اللاوعي، تراكم أحداث السنين، والتي تنفجر بدون توقيت مُسبق، هل هي أزمة ضمير أو أخلاق أمَّ هي فقدان بوصلة التوجيه والإرشاد ربما تكون مزيج من كل ما وردّ؟.
حسنًا، ماذا يحدث في وعي وعقل المرأة لتتغير كل هذا التغير بين ليلة وضحاها، بمعنى أصح ما هي الدوافع وراء هذا التحول الجذري في أنماط التعامل مع الوقائع العادية، زوج سيء، مدمن على كحول، مدمن على القِمّار، كل هذا ربما يكون جائزًا ولكن يظل التوصل إلى بلورة صحيحة لفهم الفكرة الجوهرية ناقصًا مما يجعلنا أمام إزدواجية في المعايير بدون أيةَّ توليفة منسجمة للمعطيات اللحقة حتى يتسنى لنا الفهم والوُصولِ إلى أبعد نُقْطَة مُمكنة في أعماق الشُّعور الإنساني الذي يصبح شاذ في أحيان كثيرة، هنا وفي هذا المنعطف الحاد والخطير من عمر الكائن البشري لا بد من توازن نفسي كيما يضمن للانسان ضبط جميع العناصر المتغيرة والوافدة الجديدة من الأحداث اليومية المُعاشة.
التساؤل في نهاية المطاف هل يمكننا إسقاط حالة أو حالتين أو ثلاثة من حالات كثيرة كنموذج معياري للحكم على الأشياء ألاّ يجب علينا بحكم الأمزجة المتغيرة أن نتمهل قليلًا في أطلاق الأحكام جُزافًا، هنا تكمن المفارقة الحقيقية والتي ربما لن نتوصل إلى مكنوناتها ودوافعها الحقيقية في يوم ما.

13
تجليات مفهوم الشرَّ عندَ المطران مار باوي سورو.
ثلاث محاضرات كانت كفيلة بأن تزيح الغموض والالتباس واللغط عن مفهوم الشرّ والشرير، من خلال سلسلة ندوات معروضة على اليوتيوب تحت عنوان (مقاومة الشر وقوة الشرير في حياة المؤمن). للمطران مار باوي سورو في كندا، ليس فقط من الناحية اللاهوتية وحسبّ ولكن أيضاً من الناحية الاجتماعية الواقعية ضمن حدود هذا العالم، نعم السلسلة قديمة بعض الشيء ولكنها مهمة وحافلة بالأمثلة من حياتنا وواقعنا اليومي المُعاشَّ.
بهدوء وتأني أختار المطران سورو مع حفظ الألقاب، كلماته بدقة وعناية، وأعطى مساحة أوسع لفهم أبعاد الموضوع وطبيعة الشر والشرير nature of evil، وعاد بالموضوع إلى الخطيئة الأصلية لآدم، وكيف كان صديقاً ل الله، (فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرا وانثى خلقهم) تكوين، مسلطا الضوء على بيئة الخلق الأولى، ومن ثم وبعد الجزء الثاني من السلسلة فهو يعرض عدة نقاط محوري نتحسس من خلالها مجتمعاتنا المعاصرة مما يؤهلنا لمجابهة القضية بوعي أكبر وتطوير أدواتنا المعرفية بشكل افضل، فالحرية الفردية individual freedom المعطاة للكائن البشري من قبل الله تعطيه الفرصة الكافية لاختيار طريقه كيفما يشاء. جاء المِثال من ذات المتنَّ والذي يُكرر في الكنيسة ضمن قانون الأيمان في إشارة ما يُرَى وما لا يرى، أيَ هناك أدراك حسي وواقعي لهذا العالم وبُعد آخر لعالم ثاني غير محسوس وغير محدود، ليأتي في سياق المحاضرة الأولى الحادثة الواقعية التي حدثت مع صديق المحاضر ذاته والذي تعرف عليه أبان دراسته في روما، بعد ذلك أصبحا صديقين، هذا الكاهن الصديق وقعت له تجربة إخراج شيطان من إحدى السيدات وكيف كانت تصله رسائل تهديد بالقتل من هاتف السيدة الممسوسة مع أن هاتفها الجوال كان في صندوق الأمانات في المشفى التي كانت تتعالج فيه، توثيقاً لحادثة ربما لم نشاهدها إلاَّ في السينما.
من المهم بمكان أن نلاحظ أن مثال الشر يتضمن بعض التصورات عن المجتمع والسياق الذي جاء فيه، يقول المطران كان الشيطان وعن لسان تلك المرأة يتحدث اللغة الآرامية وهي لغة قديمة، وجاء السؤال لماذا يتحدث الشيطان لغة قديمة لكونه هو ذاته مخلوق قديم.
يتبينّ اليوم كم هي مهمة هذه المحاضرات وغيرها في خلق وعي وفهم جديد لكل ما له علاقة بقوة الشيطان Devils power والشر، فالدارج اليوم بين المجتمعات الغربية خاصة هو لا وجود لماهية الشيطان، أيَّ بمعنى أنه كائن خرافي وكذبة من وحي وخيال ونسيج الإنسان ذاته وليس له وجود وكينونة Entity قائمة بذاتها بالأصل وهذا يضرب جذور العقيدة المسيحية من الأساس، وهذا ربما هو من أعمال إبليس ذاته لجعل نفسه أكذوبة حية، (لأنه كذاب وأبو الكذاب). يوحنا 44:8
ليس ما يعكس حال الضياع اليوم أكثر غير تسطيح المسألة برمتها وركنها فوق الرفَّ، بكلام أوضح لم يعد أحد يهتم بهكذا قضايا ويشغل وقته فيها، يكفي اليوم البحث وقتل جُلّ الوقت في مواقع التواصل الاجتماعية، من هذا المنطلق نفهم لماذا أزداد الشر واستفحل وشاع، أليست الحرب في أوكرانيا اليوم قبس من تجليات الشيطان العديدة، بداعي الحفاظ على مصالح روسيا، إنه عائق يَعَبر عن مدى جهلنا للمخاطر المحيقة بالإنسانية. قد يكون العقد المبرم بالدم بين ميفستوفيليس من طرف ومن فاوست من طرف آخر لمّ تنتهي صلاحيته بعد، وتلك الأعوام الأربعة والعشرين لم تنقضي إلى الساعة، فروح فاوست إلى اليوم تغمر روح العالم، فالشر يتناسل من الشر، من هنا نتلمس هذا السعير المحتدم لاستعمال أسلحة الدمار الشامل في وصفها الحل النهائي. لقد كرّس علماء كِبَار جلّ جهودهم لهذه الغاية، وهذه الجهود أعطت ثمارها في نهاية الأمر.
قدَّ يتردد سؤال في ذهنَّ القارئ عن مفهوم الشيطان ولماذا لا يستوعبه الكثيرين أو يتخطونه في أحسن الأحوال، ولماذا كل هذا الالتباس والغموض، ربما الجواب صعب بعض الشيء، ولكن هذا هو دور الشيطان في نهاية المطاف، بمعنى أدق أنه يقدم خدماته إلى كل من يريد أن يتبعه أو يسير في طرقه ليوقع أكبر عدد من البشر في الخطيئة والمعصية والهلاك، مع أنه في بداية التدشين لم يكن هكذا فهو ملاك ساقط. على سبيل الطرح طبيعة تكوين العقرب هو اللدغ المميت، وتكوين طبيعة العنكبوت هو غزل الهلل أو الشبكات بدقة بالغة من مادة بروتينية، هذه طبيعتهم ووظيفتهم الأساسية.
سيعتمد الكثير في نهاية الأمر على فهمنا لأبعاد الموضوع ومراجعة كل طرق التفكير وإعادة قراءة المسألة بشكل أعمق وأشمل ولكن ليس من أجل طرح تأويل جديد لا ينفع وإنما بهدف المراجعة لفكرة غابت عنا طويلاً في ظل زحمة وفوضى وخراب هذا الكون. يبقى السؤال الذي سيطرح نفسه أيضاً، هل سوف نتعلم من اخطائنا وعثراتنا وزلاتنا وإعادة بناء ذواتنا، أم نتخطاها كحادث عرضي عادي يقع يومياً وبشكل مستمر.
فمن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له. رسالة يعقوب 17:4     

14
الأسيّر المنسيْ….ولكن
خطوة طيبة تُحسب للكنيسة الكلدانية في ولاية ملبورن الأسترالية لقيامها مؤخرا بتكريم عدد من أسرى الحرب العراقية الإيرانية من أبناء الجالية المتواجدين في الولاية.
فعلّ ينمّ عن مشاعر الحب والتقدير والمسؤولية لمجموعة من الرجال بقت منسية في أرض الشتات مع أنهم ضلوا يقبعون في السجون الإيرانية سنين طويلة دون ذكر أو حتى بطاقة شكر أو عرفان على ما قدموه للوطن من عمر عزيز ذهب أدراج الريح وراء القضبان سُدّىَ، في وقت أصبح التذكر والذكرى بهذه الوقائع المأسوية للأجيال الجديدة مهمة صعبة للغاية أن لم تكن مستحيلة. الاحتفال والقداس حصل في كنيسة مار كوركيس، أقام الذبيحة الإلهية راعي الخورنة الأب ساند باسيل ولفيف من الشمامسة والجوق، بعدها وزِعّ على الأسرى هدايا رمزية ولقطات تذكارية تُخلد هذا اليوم.
 على حدّ تواجدي في الولاية ومن فترة ليست بالقصيرة نسبيًا هذه هي المرة الاولى التي يحدث فيها مثل هكذا تكريم، ربما الكّهنة السابقين لم تكن لهم مثل هكذا رؤية أو هكذا توجه، نعم راعي الأبرشية أي المطران هو الذي يرسم الخطوط العريضة، ولكن المبادرة يجب أن تصدر من الكاهن أولًا وهنا  تكمن الاستجابة لفعل أهم وهو أن الكنيسة ليست ليتورچيا طقوس وصلاة فقط بل عمل وأَبْداع واستنباط وقائع لها صلة بالحاضر تحاكي المجتمع، أيَّ الجماعة المؤمنة، فوق ذلك كلّه إن الكنيسة الكاثوليكية أم حقيقة وحاضنة للجميع تفرح مع أبنائها وتحزن عليهم اذا ما أصابهم مكروه.
يبدو واضحاً اليوم أن الاجيال الشابة من الكُهان الكاثوليك لهم تصور ورؤى جديدة ويعملون وفق هذه الاستراتيجية وأن كان الطريق طويل والعقبات والتحديات عديدة ولكن لا بأس أن تكون الخطوات الاولى على هذا النحو من مُزَاوَلَة النشاطات الرعوية. سيتوقف الكثير على ما سوف يقدمه هؤلاء الشباب من الآباء لرعاياهم وكنائسهم خاصة في دول المهجر حيث هناك تكمن المشكلة والصعوبة الحقيقية، ضعف الإيمان من جهة، وعزوف الناس من ارتياد الكنائس من جهة ثانية وهذه المشكلة باتت تزداد تعقيدا وصعوبة مع مرور الزمن، حتى بعد تخفيف القيود التي كانت مفروضة بسبب جائحة كورونا ظل الإقبال على دور العبادة في يوم الآحاد خاصة ضعيف بشكل يثير الدهشة والتساؤل.
مرة أخرى كانت الكنيسة موفقة في خطوة تكريم الأسرى المنسيين، المطلوب منهم اليوم  أن يسعوا لتحقيق مثل هكذا خطوات وفعاليات أجتماعية تخلق جوًا من الألفة والمحبة والمرح والتعارف بين أفراد الجالية العراقية في دول الاغتراب.

15
العزيز وسام موميكا المحترم
ارجو منك أن تكتب شيء يفيد القارئ، بعيدا عن هذا التفاهات التي لا تنفع أحدًا، في النهاية أخي الكريم الإناء ينضح بما فيه.
تحياتي لك

16
السيد العزيز وسام موميكا المحترم.
في البداية شكرا على المداخلة….
أولًا لا يوجد لي سيد ولم اوجه من أحد لا من سيادة البطريرك ولا من أحد ثاني، الذي كتبته لمحات تأريخية من محطات عديدة مرّ ويمّر به العراق.
ثانيًا انتّ تتغنى بانتمائك إلى حركة بابليون وكنت أحد مؤسسيها كما تقول في المداخلة، والجميع يعرف أن الحركة والقائمين عليها يتبعون أجندات إيرانية وهي جزء لا يتجزأ من فصائل الحشد الشعبي الشيعية، بمعنى أدق طهران تتحكم بكل هذه القوات وتحركها حسب مصالحها الحيوية، هذا باتّ واضحًا اليوم، ولا تُحجب الشمس بالغربال، لا داعي لاستحضار المزيد من القرائن والادلة، فغسيل الحركة قذر بما فيه الكفاية.
ثالثًا لماذا انت مبتعد عن الكتابة كما تقول، أكتب والثاني يرد والآخر يُعلق، والبعض تعجبهم المقالات والآخرون يرفضونها، ويستنكرونها وهذا هو حال الكتابة دوماً وديدنها.
مع تحياتي لكّ.

17
العزيز(ة) soraita
شكرا لكم على المداخلة التي جاءت تعقيبًا على المّقال. ربما يوجد شخص ثاني مثل ما ادعيتم تكلم باسم الكلدان ، وهذا شيء طبيعي في ظل تلك الفوضى والاجواء المشحونة والتوترات الحاصلة، ولكن الذي أنا متأكد منه أن ريان الكلداني كان متحدثًا رسميًا وعلى المنابر والقنوات التلفزيونية باسم المسيحين الكلدان ولفترة ليست بالقصيرة، إلى ان إنتهى كل هذا الهراء وهذا الضحك على الذقون مع أستلام البطريرك الاخير المنصب.
فلأ أضن هنالك كذب او تلفيق او زيادة في الطرح، كل ما جاء في متون النصّ هو من أرض الواقع وحدث فعلًا.
مع تحياتي لكم

18
تاريخّ المَيليشيات المَسيحَية العّراقية.
الكثير من الناس يظن، وهذا من سوء حظّ وتقدير الباحثين والمؤرخين إن لا وجود للتنظيمات الشبه عسكرية، أي ما يعرف اصطلاحًا بالميليشيات للمكون المسيحي في العراق قبل الاحتلال الامريكي في العام 2003. وأن البعض منهم كان يعمل تحت لواء وأعين الدولة والحزب الحاكم قبل العام الأخير كما سوف يأتي لاحقًا.
هذا التطور الذي ظهرت ملمحه بعد الغزو لم يتأتى من فراغ بل كانت له إرهاصات وإن كانت خافتة بعض الشيء ولكنها كانت موجودة ومتواجدة على الساحة من التيارات اليسارية مثل الحزب الشيوعي العراقي الذي ضم العديد من الشخصيات النضالية، على سبيل المثال لا الحصر، المرحومين ألفريد سمعان وتوما توماس الذي عمل في الكفاح الانصاري المسلح منذ العام 1963 الى أن تسلم مهام قيادة هذه القوات ضمن قاطع بهدينان، والذي أنزو تحت هذه الراية الكثير من الشباب ذو التوجهات اليسارية من المسيحيين ضمن جغرافية المناطق الكردية. بعد معارك كرّ وفر وهجوم وتراجع بين الأنصار من جهة والدولة من جهة ثانية تغيرت الكثير من المعطيات وبشكلٍ جذريًا بعد حملة الأنفال سيئة الصيت. بدأت الحملة عام 1986 واستمرت حتى العام 1989، كانت قاسية وعنيفة على الجميع، وقائد أركانها علي المجيد كان شرساً بما فيه الكفاية ليقضي على كل الآمال العريضة للحركات الكردية والتحررية ومن كان يدور في فلكهم، فقد تشتت الجميع وتبددت الأحلام الوردية على صخرة غاز الخردلّ القاتل. من جهة آخرى وفي نفس الوقت كان هناك من يعمل مع الحكومة العراقية ويندرج ضمن سياقاتها، كانت هذه القوات رسمية وغير رسمية في آن واحد، خاصة في المناطق الكردية التي كانت تحت سيطرة الحكومة المركزية في بغداد حيث كانت تضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الخروج على نظام الدولة، فقد  أنتسب عدد ليس بالقليل من أبناء تلك المناطق من المسيحيين بما عُرف وقتها بسرايا الدفاع الوطني (الفرسان) أو (الجتا) كان يقودها مستشارين أكراد تغدق الحكومة عليهم المال من أجل الولاء والتي كانت تضم بين صفوفها الكثير من الشباب في تلك السنوات، حيث شاركت كقوة إسناد خلفية في الحرب العراقية الإيرانية 1988-80، وطبعًا كان الكثير منهم لا يلتحق في هذه  السرايا والراتب الشهري يذهب إلى جيب آمر السرية، أي المُستّشار. منتسبي هذه القوات كانوا يحصلون على هويات صادرة من مديرية الاستخبارات العسكرية، ولكن لم تكن بتلك القوة، فكان يتعامل معهم من قبل مفارز الأمن والسيطرات والانضباط العسكري بشيء من المهانة والاستفزاز إلى أن انتهت ولم يتبقى لها قوة تذكر بعد حرب الخليج الثانية، لا بل عاد معظم أمري تلك السرايا إلى الشجرة الأم بعد انفصال الإقليم الكردي في العام 1991 محملين بالأموال التي جنوها ثمن مقاتلين لم يكون نصفها موجود أصلًا. في تلك الفترة من الربع الأول من سنوات الثمانينيات كان الكثير من الخدم والطباخين والمراسلين من أبناء الطائفة المسيحية يعملون في القصور الرئاسية للرئيس الراحل صدام حسين، ولكن على ما يبدو كانت عائلة حنا جَجَوّ لها مكانة خاصة وحُظْوَة لدى الرئيس، فقد كان طباخه الخاص ومتذوق طعامه من نفس العائلة وبالكاد يفارقه، حتى قال في مرة من على شاشة التلفزيون (المقطع متوفر على محرك البحث اليوتيوب) أن له ثلاثة أبناء، في إشارة عدي وقصي وكامل، ولكن تجاوز كامل حنا ججو الخطوط الحمراء لعائلة الرئيس الداخلية فقتل على يدّ عدي في 18/ 10 من العام 1988. كان البعض من أفراد عائلة ججو  ومن قرية إنشكي بالذات من أعمال محافظة دهوك قريبين من وزير الدفاع آنذاك الفريق عدنان خير الله أبن خال الرئيس، لا بل كان مراسله الشخصي  عزيز ججو معه في نفس الطائرة العامودية التي سقطت في 5/5/1989 في منطقة المخمور، ولكن لم يمت وقتها، توفي لاحقاً، اقترحوا على الوزير المقرب منهم تشكيل نواة قوة مسيحية خالصة تجمع بين دفتيها  كل من يريد الانخراط في هذه القوة من المسيحيين بالإضافة من كان هاربًا أو متخلفًا من الخدمة العسكرية، بمعنى أوضح الذين لا يرغبون في الالتحاق على خطوط التماس (الحِجابات)، مع العدو الإيرانية، فتشكل خط خدمة ملحق بوزارة الدفاع من هؤلاء المقاتلين كقوة عسكرية صغيرة عُرفت بقوات ملكو، أو فوج ملكو، يقودها ضباط برتب عسكرية متوسطة نقيب، رائد، مقدم، مدعومة بشكلٍ أساسي من قبل الوزير عدنان خير الله. انتهت هذه القوة فعليًا مع مقتل الأخير، صحيح أن الحرب العراقية الإيرانية وضعت أوزارها قبل ذلك بسنة تقريبًا، ولكن ما كانت لتنتهي بهذه السرعة لولا مقتل الفريق الأول الركن.
أيضًا كان هنالك عدد لا بئس به من المسحيين أعضاء في حزب البعث العراقي، وبالتالي كان عدد منهم ضمن قوة هذا الحزب، أي أفواج الطوارئ الحزبية، وهي ميليشيا خاصة بالحزبين، تحمل السلاح الخفيف والمتوسط وترتدي الملابس المدنية والعسكرية. وعلى ما أذكر بلغ عددهم في محافظة نينوى في فروع الحزب الأربعة، الموصل، ونينوى، والجزيرة، وأم الربيعين، بضعة عشرات.
وحتى في ميليشيا فدائيو صدام، تفصيل عارض، كان هناك من وجد له مكان في هذا التنظيم الشبه عسكري وتجحفل معه حتى النهاية.
إنتهى وتبدد كل هذا مع الغزو الأميركي للعراق. في البداية كانت الساحة خالية تقريبًا من أي تنظيم  أو قوة مسيحية شبه مسلحة سوى لأعضاء ومقاتلي الحركة الديموقراطية الآشورية زوعا الذين واكبوا القوات الكردية والأجنبية في عملية الغزو والتي دُعيت من قبلهم حرب تحرير العراق. أستقرت هذه القوات الآشورية بعد إنهيار الدولة والجيش والأمن خلال أيام قلائل في بعضًا من فرق وشعّب حزب البعث والبنايات الأخرى، خاصة القريبة من سور نينوى الأثري على أساس إعادة بثّ أمجاد دولة أشور القديمة، ولكن بعد فترة وجيزة تم استهداف تلك المقرات من قبل فصائل المقاومة وقتل عدد من منتسبي الحركة في منطقتي الجامعة والدواسة في الموصل.
مثل هذا الزلزال في التوازن المحلي والإقليمي والدولي خلقّ العديد من الفرص لبروز تيارات سياسية جديدة على أرض الواقع، في بغداد العاصمة  كانت الأجواء السياسي والأحزاب العديدة والمؤسسات الجديدة والشركات الأجنبية من كل حدبّ وصوب والميليشيات المسلحة تتبلور كل يوم على شيءٍ جديد، في تسارع ملحوظ بالأحداث والمتغيرات والانقلابات في ظل انفلات أمني رهيب. هنا وفي هذا الوقت بالذات ظهر على خشبة المسرح الممتلئ مهرجين وممثلين وكومبارس شخص أدعى أنه الممثل الرسمي باسم مسيحي العراق أسمه الشيخ ريان الكلداني، إستطاع بغفلة من المرض وعجز الشيخوخة تحصيل مرسوم بطريركية كلداني مختوم مقبل البطريرك وقت ذلك مثلث الرحمة مار عمانوئيل الثالث دلي يخوله التكلم بإسم طائفة الكلدان في الدوائر الحكومية العراقية، لاحقًا أبُطل هذا المرسوم حين تسلم البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو السدة البطريركية. لا حاجة هنا إلى الذهاب بعيدا في وصف التوتر الحاصل بين البطريركية الكلدانية من جهة وريان من جهة ثانية، والذي ما زال قائما حتى الآن. خلال هذه الفترة كان ريان قد تشعب ومدّ الأيادي مثل الأخطبوط ينسج من هنا وهناك علاقات عديدة في ظل التغيرات الكبيرة في سوسيولوجيا المجتمع والتفاعلات الهائلة في بنية وتطور هذه المجتمعات، الى أن أتته الفرصة الذهبية في العام 2014 حين قام تنظيم الدولة الاسلامية داعش بالسيطرة على الموصل وقرى سهل نينوى وعدة محافظات في الفرات الاوسط إلى أن طرقْ أبواب العاصمة بغداد وصولًا لمنطقة التاجي. كان هذا المبدأ يتضاعف في ظرف كتلك الظروف الشاذة لشغل حيزّ في ذلك الفضاء الفوضوي فجاءت المهمّة سهلة في خلق قوة تحت مسمى مسيحي كلداني لأنّ الجنون هنا بدا مطلوباً بشكلٍ ملفت، فجاءت الفتوى واضحة وصريحة وسريعة من قبل المرجعية الشيعية العليا علي السستاني بتشكل فصائل لمقاومة هذا المدّ السني والذي عُرف بالحشد الشعبي. كان جمال إبراهيمي أو أبو مهدي المهندس واحد من أهم قادة ومؤسسي هذا الحشد بأشراف مباشر من قبل الجنرال الإيرانية قاسم سليماني. أصبح المهندس نائبًا لرئيس هيئة الحشد في وقت لاحق حيث كان الكلداني مقربًا من المهندس والذي دعمه وأعطاه الضوء الأخضر في تأسيس كتائب بابليون الذراع العسكرية لريان وجماعته. بعد سنوات قُتل المهندس وسليماني في بداية يناير كانون الثاني من العام 2020 بغارة آمريكا على أرض مطار بغداد الدولي. بعد سنوات قليلة وبفضل هذا الدعم الشيعي استحوذت حركة بابليون على أربعة مقاعد من أصل خمسة في الدورة الآخيرة للبرلمان العراقي.
من بين الأمور التي لا يمكن تجاهلها في الوقت الحاضر هو انكفاء وخفوت الكثير من الأحزاب والتيارات السياسية المسيحية، ليس أولها الحركة الديموقراطية الآشورية زوعا وليس أخرها المجلس الشعبي الذين فقدوا من زخمهم وحضورهم كثيرًا في الآونة الأخيرة، وكأنهم غير معنيين بهذه المستجدات والمتغيرات التي تحدث على الساحة السياسية.
 يبدوا واضحاً أن العراق يمر بمرحلة جديدة مختلفة عن سابقاتها. المرحلة الاتية في غاية من الخطورة، إيران الغير راضية عن الانتخابات البرلمانية لا تريد أن يجتاز البلد عنق الزجاجة من جهة، ومن جهة ثانية فقدان الكثير من الأحزاب الشيعية التي كان لها ثقل كبير أصواتها وحضورهم، كل هذا أعطى دفعة قوية لتنظيم داعش الإرهابي أن يظهر من جديد يستعيد أنفاسه وينفذ عمليات. من بعث النار فيه بعد أن كان رماد، هنا السؤال الكبير.
الخلاصة يظل الخاسر الوحيد في هذه المعادلة الصعبة هو نفسه هذا الشعب المسيحي المنكوب الذي أخذ البلد يفرغ منه يوم بعد أخر في هجرة ما انفكت تزداد أكثر.

19
الأخ العزيز حسام سامي المحترم:-
مداخلتك الآخيرة مهمة وتحمل الكثير من الدلالات والمعاني، ومع هذا لا أظن من الصواب بمكان أن نحصر الموضوع بشخص البطريرك، البطريرك والبطريركية لهم وجهات نظر قد تكن صائبة وقد تكون مخطئة وهذا طبيعي، في النهاية هم ليسوا نواب في البرلمان ولا وزراء ولا زعماء أحزابًا، اللوم يقع على كاهل من كان نائبًا لسنوات طويلة ولم يقدم شيء، المسؤلية الحقيقية في الإخفاق والفشل يتحملها من جاء في ركب القوات الغازية، مآلات الأفعال والنتائج تقع على كل من جلس على مأدبة بول بريمر وغيره  وأستلم حفنة من الدولارات البخسة وباع الوطن.
آخي العزيز رجل الدين مهما فعل يظل محدود الحركة ومرصود في ذات الوقت، ولكن رجل السياسة يلعب في ملعبه وعليه أن يلم بالأدوار والقوانين والفرص المتاحة من أجل تسديد ضربة تسجل له، أن لم يحسن التصرف واللعب يُطرد وُيهان  ويُرذل ويذهب بالتالي الى نفايات التاريخ ، كما يحصل اليوم.
تحاتي القلبية لك.

20
الاستاذ العزيز Husam   Sami المحترم.
شكرا جزيلا على مداخلتكم المهمة على المقال.
نعم هناك سلبيات كثيرة على كل المرشحين، ليس من الان ولكن من وقت تأسيس المجلس، أي من زمن برايمر.
انا أقول في صيغة أخرى، إن كل التجربة السياسية المتعلقة بالمكون المسيحي بعد العام 2003 أي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق فاشلة بالأساس سواء كان الشخص ذو منصب في الحكومة أو نائب في البرلمان العراقي.
عزيزي Sami أثبتت الأيام وهذه الايام (عمرها 18 عام)  بما لا يقبل الشكّ أن السياسي المسيحي العراقي يفتقر للخبرة والحنكة والدهاء الذي يحتاجه كل سياسي من أجل تحقيق اهدافه، هذا هو ديدنّ السياسة وهذا هو عالمها، هو يبقى على الهامش يعيش في الظل لا يستطيع أن يبلور فكرة خاصة به ولا أن يحقق أي اهداف تذكر لا على المنظور القريب ولا البعيد. هذا هو مع الاسف الشديد واقع حالنا شئنا أم أبَينا.

21
العزيز قشو إبراهيم نيروا المحترم:-
اخي العزيز شكراً لكم على المداخلة.

22
الكوتا المسيحية المريضة
لم تكن الانتخابات العراقيّة الآخيرة سوى تسجيل لواقع يتمثّل في تراجع مُلفت للحضور المسيحي على كل الأصعدة، جاءت الانتخابات لتقول أنه لم يعد هناك من يهتم بهذه العملية بالأساس ولا حتى من يمثلهم داخل البرلمان، لهذا العزوف وعدم المبالاة أسبابه الكثيرة ربما في وقت آخر نشرحها بمزيد من التفصيل.
استحوذت قائمة بابليون على أربعة مقاعد من أصل خمسة مخصصة للمسيحيين تدعى كوتا أي (حصة)، فرزها الاحتلال الامريكى في العام 2003، حصل ذلك أم لم يحصل لا يُغير من المعادلة السياسية داخل قبة البرلمان العراقي بشيء، ماذا تستطيع أن تقدم خمسة أصوات قبالة 329 صوت، ليست سوى ذر الرماد في العيون لا أكثر ولا أقل، أو نوع من الدعاية والبروباغندا يحتاجها العراق في المحافل الدولية مفادها أن الأقليات لهم من يمثلهم في البرلمان، هل لهم  قوة ونفوذ، هذا لا يهم كثيرًا.
جاءت الانتخابات النيابية الآخيرة لتثبيت هذا الفشل الذريع لكل هذه القوى السياسية المسيحية والتراجع الكبير لها، بدءاً من الحركة الديموقراطية الآشورية (زوعا) الذي إستطاع أمين عامها يونادم كنا تحويلها إلى مزرعة خلفية له يتحكم بمفاصلها كيف يشاء، دون لا محاسبة ولا رقيب، مرورًا بالمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري، الذي فقد زخمه وحضوره السياسي والاجتماعي في السنوات القليلة الماضية، الاسباب وراء ذلك عديدة، ولكن أهمها هو سقوط الموصل والمناطق المحيطة به في يد تنظيم داعش، مما سبب خلل في الموازين على أرض الواقع، ابرزها عملية الهجرة الجماعية خارج الوطن في تلك الفترة وما تلاها، وشبه انتهاء  بما يعرف بقوة الحراسات.
لا يختلف إثنين على أن مرشحوا قائمة بابليون الأربعة حازوا على الأصوات من خارج صندوق المكون المسيحي، من أين جاءت كل تلك الأصوات من الناصرية والبصرة والعمارة وغيرهم، إذا لم يكن هنالك حضور مسيحي يذكر. هذا جزءً من الفساد والتزوير وشراء الذّمَم  والاصوات الذي شابّ العملية الانتخابية.
كتائب بابليون التي يتزعمها ريان سالم الكلداني جزء من فصائل الحشد الشعبي وهم بالأصل  ميليشيات تابعة مباشرة ل الجمهوريّة الإسلاميّة، وتأتمر بأمرها، ولولا الدعم الشيعي له ما كانت الكتائب لتبصر النور ولا أن تلعب هذا الدور الذي يزداد نفوذًا مع تراجع باقي الحركات والأحزاب المسيحية العراقية، لكن يبقى السؤال الأكثر خطورة، ماذا يستطيع أن  يقدم شخص مثل ريان الكلداني مدرج على لائحة قائمة الإرهاب الدولية أن يقُدم للبلد، غير الإرهاب والفساد والسرقة، من المؤكد إن نوابه الأربعة على نفس الشاكلة.
على الرغم من ذلك كله كان الحضور المسيحي خجول في الانتخابات البرلمانية، وهذا يعكس مدى عزوف الفرد المسيحي من ناحية ومن ناحية أخرى عدم ثقته بالمرشح المسيحي بالأساس، وهذا يتحمل جزءً كبير منه يونادم كنا نفسه، الذي جاء على ظهر الدبابات الأميركية في العام 2003، حيث لم يستطيع بلورة أي رؤيا سياسية ذات أفكار جديدة، أو أستطيع أن ينجز شيءٍ يذكر، من ذلك الوقت وحتى أيام قليلة خلت، ثمانية عشر عامًا لم يتمكن من خلالها أن يفعل أو أن يقدم أي شيء،  فكانت النتيجة النهائية تكريس لمفهوم القطيعة مع كل ما يمت بصلة للسياسة ورجال السياسة إذا كانوا على مستوى كنا وغيره.
وحده الوقت سيكشف هل النواب الأربعة الجُدد يستطيعون خلق صورة جديدة مُغيرة عن الأولى، أم هم مجرد ذراعًا للحشد الشعبي تُحرك خيوطها طهران.
يظل هناك ما هو أبعد من الانتخابات العراقيّة، هو مصير مكون أساسي كان له جذورًا عميقة في التربة العراقية، أين هو حضوره وما هو مصيره، أم إنّ الهجرة نخرته في الصميم ولم يعد له أيّ حضور يذكر. هذا هو السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح اليوم.

23
كورونا…آواخر القرن
من ضاقَ بمن؟ الناس أم الأرض التي ترزح تحت رحمة وباء لا يرحم، حصد حتى الان ما يقارب خمسة ملايين شخص والرقم ذاهب نحو المزيد. ضقنا وضاقت الأرض بمن على ظهرها.
لنفترض جُزافاً أن رواد رحلة مركبة الفضاء أبولو عادوا للأرض بعد رحلة مدارية استغرقت فترة سنتين. طوال هذه الفترة لم يكونوا يعرفوا أن كوكب الارض مُصاب بڤيروس قاتل وأن سكانه قد تغيروا. المعتاد في مثل هذه الحالات أن يتم حجر الرواد الوافدين من الفضاء الخارجي لحتمال أن يكونوا حاملين بكتريا من ذلك السديم اللانهائي، ولكن يتفاجؤون أن سكان الارض هم المصابين والناس هم من يرتدون الأقنعة الواقية من البكتريا، في النهاية يكتشف اصحاب مركبة أبولو  إن كوكب الأرض هو الفضاء الغريب عليهم وليس درب التبانة الذين كانوا فيه.
تغير الناس مع تغير الحال الذين وُضعوا فيه، وبات الجميع يخاف من الجميع. المصافحة باليد باتت تُشكل هاجسًا وخوف من انتقال العدوى، هذا القول ذكرني بشخص ألتقيته في الموصل عام 2013 قل لي هنا في المدينة الكل يخاف من الكل.
الأزمات الكبيرة تخلق بدورها  ظروفًا أخرى لم تكون بالحسبان وهذا بدوره يُكرس لأنماط مختلفة من التعامل والمعيشة والحياة الاجتماعية والإنسان بطبعه قابل للتغيير هذه حقيقة كالشمس لا تُحجب بالغربال، كمّ طرأت تغييرات خلال هذه السنتين الماضيتين علينا؟.
تبين مع مرور الوقت إلى أيّ حدّ إن الإنسان هش وضعيف ومهزوم مهما إدعى القوة، فيروس لا يُرى بالعين المجردة هزمه وقضى على كبريائه. مشكلة هذا الإنسان الأزلية تكمن في غروره، غرور حواء، غرور شمشون، غرور گلگامش، مائدة مستديرة من الكبرياء والغرور الأعمى يجلس عليها الجميع.

24
الاخ العزيز ناصر عجمايا المحترم.
شكرًا جزيلًا على مروركم.
نعم بات الوضع جدًا صعب في أستراليا بشكل عام وفي ولاية فكتوريا بشكل خاص. مما أدى لتفاقم الازمة الاقتصادية والاجتماعية لحد كبير وهذا بدوره انعكس بشكلٍ سلبيًا على حياة المواطنيين، من كل النواحي، حتى الاطباء والصيدلي والعاملين في مجال الطب والصحة باتوا اكثر عصبية وأقل صبرًا حتى على اتفه الأسباب. وعلى ما أضن هذا الوضع سوف يفرز حالات أكثر تعقيدا وتوترًا.

تحياتي لك.

25
أهمية الإصلاح والتغيير في ملبورن.
(إنه جسدي، إنه خياري)، بهذه العبارات بدأ عمال البناء والإنشاءات بالصراخ من أمام مقر نقابة العمال في ولاية ملبورن، وبدا الوضع يتفاقم أكثر مما تسبب بالاشتباك  مع رجال الآمن وتمّ تحطيم زجاج المبنى. هاجم المتظاهرين نقابة العمال إحتجاجا على فرض اللقاح واجبار العمال على آخذه، مع أن منظمة الصحة العالمية طلبت من الدول عدم إجبار الناس على آخذ اللقاح، يبقى كل شخص مسؤول عن نفسه في أخذ اللقاح من عدمه، وهذا مُطبق في جميع دول العالم تقريبًا.
 يأخذ قطاع البناء والتشييد العمراني في الولاية مكانة كبيرة حيث يعمل به شريحة واسعة من الناس ضمن مجالات مختلفة وعديدة لا مجال لحصرها الآن. الحكومة المحلية بزعامة رئيس الوزراء Daniel Andrews فرضت نفسها بقوة على هذا القطاع المهم وقطاعات آخرى لا تقل أهمية على أقتصاد السوق المالي، فقد كان من المتوقع وبعد أن أخذ الكثير من الناس الجرعة الأولى من اللقاح اذا ما قلنا الجرعتين خلال الفترة الماضية أن تشهد الولاية إنفراج جزئي على المصالح الاقتصادية والتجارية وتعود الحياة لمجاريها ولو على مراحل، مع الإشارة أن أعدادًا كبيرة ينتظرون دورهم في آخذ اللقاح بأنواعه، مع العلم أن العيادات الطبية ومراكز الخدمة التخصصية في إعطاء اللقاحات تعُين مواعيد بعيدة، تصل حتى شهرين أو ثلاثة، الذي حصل هو العكس فقد فرضت الحكومة المزيد من القيود الصارمة وهذا الآمر لا يتحمله المواطن الذي بات يحمل أعباء اكثر من طاقته، مثل المعيشة والفواتير والإيجارات.
كان وعدّ الحكومة المحلية التي حنثت به هو أن تصل نسبة اللقاح المُعطى للناس الى حدود معقولة وهذا ما حصل، ولكن الحكومة لم تخفف من القيود المفروضة، لا بل زادت عليها سوءًا مع أرتفاع ملحوظ بالإصابات.
ملاسنات وإتهامات وتراشق بالكلام بين الناس والحكومة يعكس مدى التوتر الذي يعتمل في الشارع الآن، فليس من الحكمة وبلحظة انفعال يغلق الحاكم أندرو قطاع البناء ولمدة أسبوعين قابلة للتجديد، هل تحول الرجل إلى دكتاتور فعلًا في ظل غياب كامل للمحاسبة أو المحاكمة، ماذا يعني أن يجلس آلاف العمال في منزلهم وتكليف ميزانية الدولة خسائر فادحة مع العجز المالي أصلًا.
الناس في حيرة من أمرهم، تسأل ما هو المطلوب الآن بعد وصول نسبة لا بأس به من الجرعات الأولى والثانية، متى تنتهي هذه الدوامة المفرغة والمفزعة من الإغلاقات المُزعجة والتي القت بظلالها الثقيلة على الجميع دون أستثناء، واذا كان رئيس الحكومة المحلية دانيال أندرو  Daniel Andrews لا يستطيع تحمل مثل هكذا مسؤولية لماذا لا يستقيل ويفسح المجال لغيره ربما تكون له رؤية جديدة وواضحة ويضع مشروع خطة للخروج من هذه المنطقة الرمادية وهذا الوضع المُقلق. في النهاية الولاية ليست ملكًا حصريًا لأحد، والمنصب ليس استحواذٍ وفرض الآراء بالقوة والغرامات المالية والاعتقالات، وإلا تصبح أستراليا دولة فاشلة بعيدة كل البعد عن حقوق الإنسان والمدنية والديموقراطية، ونكون جميعًا خاسرين في هذه المعادلة الصعبة.

26
ولاية ملبورن والفرضية الأسوأ.
تعيشّ ولاية فكتوريا أيامًا صعبة لا سيما في الفترة الآخيرة، حيث تشهد ملبورن ومن عدة أسابيع أنماطًا مختلفة من الصور، أبرزها المظاهرات التي تعمّ شوارع المدينة، والاعتقالات بين صفوف المدنيين، وإعتداءات المدنيين على رجال الشرطة، وضرب رجال الدركّ الناس بالهراوات ورشّ غاز مسيل الدموع عليهم، مما يتسبب بفوضى في الشوارع الرئيسية وإغلاق اغلب الطرق، في حالة شاذة وغير متداولة من قبل،  وغريبة على المجتمع المحلي في الولاية. 
السبب الرئيسي وراء تلك الأحداث هو الإغلاق الجائر الذي تفرضه الحكومة على الناس بحجة انتشار وباء كورونا الذي دخل في مرحلة جديدة. الإغلاق يشمل جميع قطاعات العمل تقريبًا، من رياض الأطفال والمدارس وصولًا للجامعات، وطيف واسع من الأعمال التجارية، الكبيرة والصغيرة والمتوسطة متوقفة تمامًا، مع فرض تجوال ليلي يبدأ من الساعة التاسعة مساءً وينتهي مع ساعات الفجر الأولى، مع مسافة تحرك بسيطة لا تتجاوز الخمسة كيلومترا كحد أقصى، الغرض هو الحد من انتشار رقعة نشاط الفيروس، ولكن الحكومة المحلية بقيادة رئيس الوزراء دانيال أندرو Daniel Andrews فشلت في استيعاب الأمور وامتصاص غضب الشارع، والذي خرج عن نطاق السيطرة، وبات الناس تتذمر من هذه الوضعية المُزرية التي حولت الحكومة الولاية إلى شبه جزيرة معزولة عن العالم الخارجي، ما أن العالم الخارجي كله ذاهب نحو الانفتاح والعودة مجددًا للحياة الطبيعية مع أخذ اللقاحات طبعًا.
تحولت الولاية النابضة بالحياة بين ليلة وضحاها إلى مدينة ميتة، تعمها الفوضى والبطالة واعتقالات تُطال المتظاهرين.
المواطنيين ومع هذا العزل الإجباري الذي وضعهم بين مطرقة الحكومة وسندان المعيشة الصعب الذي بدأ مع الوقت يتفاقم أكثر ومع توقف الأشغال تمامًا، فقدوا الثقة بالحاكم أندرو، خاصةً وأن اعداد الإصابات ومع هذا الإغلاق القاسي في إزدياد مستمر. كانت الإصابات في البداية بالعشرات، ثم فجأة أصبحت بالمئات. الجميع يريد إجابة على السؤال الأهم لماذا تزداد حالات الإصابة المجتمعية في ظل إستمرار الغلق؟، وإذا كان هذا الغلق لا ينفع في الحد من منع إنتشار المرض لماذا موجود إذًا بالأساس، أسئلة مشروعة ويجب على الحكومة الإجابة عليها في اسرع وقت وإلا كما يُقال سبق السيف العذل، وننتهي إلى ولاية ضعيفة أقتصاديا وماليًا، طاردة لرأس المال والشركات والاستثمارات، ينفر  الناس من العيش به.
نعم ربما في وقتٍ ما تصدرت ملبورن قائمة أكثر المدن رخاءً وضمان إجتماعي وصحي ومعيشة، ولكن هذا لا يمنع من إنها على شفير الهاوية، والسقوط الحر في وسط دائرة الخطر بسبب توقف الأعمال والشركات الضخمة والمطارات ونسب البطالة الغير معهودة.
بالنهاية إذا لم تتحمل الحكومة الحالي في فكتوريا مسؤولية إجتياز هذا الوضع الشاذ ووضع خارطة طريق للخروج من الأزمة الخانقة وإنهاء الإغلاق سريعاً، فسوف تكون النتايج كارثية على الجميع ويكون الوضع أسوأ مما نتصوره، وأرجو أن لا نصل لتلك المرحلة الخطرة.

27
العزيز Michael Cipi المحترم
شكرا لمروركم على نصوص المقال.
مع تحياتي.

28
 حينما يرجعّ الكلدان لجذورهم.
صيغةْ مقالات كثيرة في الآونة الآخيرة حول تحويل آسم بطريركية بابل على الكلدان، إلى أسم بطريركية الكلدان، دون ذكر بابل. منها ما كان رافض والأقل مؤيد، وعلى هذا كان رد فعلّ الكُتاب والمهتمين بالشأن الثقافي العام والقومي خاصة رافضًا للتسمية الآخيرة، أي حجبّ مدينة بابل من العنوان الرئيسي للكلدان الكاثوليك. كل هذا جاء في جدول أعمال السينودس الكنسي لمطارنة الكلدان السنوي المُنعقد من 9 ألى 14 آب 2021 في بغداد مقر البطريركية الكلدانية في منطقة المنصور. وجاء قرار التصويت على التسمية الجديدة بالإجماع من أصحاب السادة المطارنة، حسب موقع البطريركية الرسمي.
في تقديري، إن التعاطي مع هكذا إشكالية يُحتم علينا ضرورة الاستعانة بالتاريخ، التاريخ الصحيح وليس التاريخ الذي يُدغدغ العواطف والمشاعر وبدون سند حقيقي يثبت ذلك. لنكن واقعيين قليلًا، فقبل حوالي 75 عامًا انتحر ادولف هتلر زعيم الرايخ الثالث، وإلى اليوم لم تؤكد عملية الانتحار تلك، أمّ كانت هروبًا، مع كل هذا التطور العلمي وتحاليل ال DNA والمسح الجيني ولكن إلى اليوم لم يُجزم بشيء فعليّ، كلها نظريات تقف عند عتبة اليقين لا أكثر. فما بالك عزيزي القارئ بشعوب عاشت قبل 1763 أو 2000 عاما قبل الميلاد. من يجزم بجدّ ويقين من أين آتت الشعوب الكلدانية، والشعوب الآشورية والشعوب الحثية وغيرهم من سكن تلك البلاد الشاسعة قبل آلاف السنين، خذ مثلًا الباحث العراقي جواد علي يقول أن مدينة الجرها تقع في القطيف، على ساحل الخليج العربي في السعودية (نجد والحجاز) هي موطن الكلدان الأصلي وكانت تتمتع بعلاقات جيدة مع بلاد بابل. وهذا أحمد سوسة له رأي أخر حيث يرجح أن موطن الكلدان الأصلي هو شواطئ الخليج العربي أقصى جنوب العراق. وهناك من يرى أنهم قد هاجروا من الجنوب الشرقي من جزيرة العرب (عُمان) في حدود الألف الثاني ق.م، زاحفين باتجاه الشمال  واستوطنوا في جنوب ووسط بلاد الرافدين، وسكنوا الأهوار والمستنقعات وعاشوا على طول المجرى السفلي للنهرين بين الخليج العربي والمدن الواقعة في اقصى جنوب بلاد بابل. الآراء متضاربة وعديدة ومن الطبيعي مع هذا القِدم أن يشوبها بعض الغموض والضبابية في الطرحّ.
الذي يهمنا في هذا المقّال هل المسيحيين من الطائفة الكلدانية اليوم هم أحفاد كلدان الأمس، وهل إلصاق مدينة بابل لهم تاريخياً صحيحة، أم مجرد أسم أطلق عليهم في وقتًا ليس بالبعيد.
فكما هو معروف أن أول من أطلق تسمية كلدان هو البابا مبارك الثاني عشر في قبرص عام 1340 على مجموعة من أبناء كنيسة المشرق كانت متواجدة على أرض تلك الجزيرة هربًا من الاضطهاد أرادت الانتماء للكنيسة الكاثوليكية، ولكن لم تجري الأمور طويلًا بين المذهبين فعاد المتحدين للعقيدة النسطورية مرة ثانية، وفي عام 1445 أعيد النظر في التسمية أثر مجمع فلورنسا، على زمن البابا أوجين الرابع، ولكن لم تستقر التسمية نهائيا ألا عام 1828 على زمن البطريرك يوحنا هرمز. حتى في وقت البطريرك مار يوحنا سولاقا (1510- 1555)، كان الأسم الكلداني مُتذبذب لم يستقر بأذهان بالجماعة بعد. بمعنى أن هذه التسميات حديثة بعض الشيء.
المعضلة تكمن في أن بعض الأزمات التاريخية تُربك الناس، حيث ارتبط اسم الكلدان حتى إلى وقت قريب على مسيحيين كانوا بالأصل سريان مشارقة، أو أتباع كنيسة فارس، أو الكنيسة الفارسية، واستقرت في الأذهان لتغدو مع الأيام كأنها هي الأصل من منظور تاريخي. فكما هو متداول أن للعراق تسميات عديدة قديمة وحديثة، حيث تُطلق كلمة بابل على العراق ككل، وبلاد وادي الرافدين Mesopotamia، في الجامعات والدراسات الغربية، وبلاد آشور، وبلاد سومر، وأرض السواد، وفي التوراة جاءت بصيغة أَرَامِ لنَّهْرَيْنِ، بمعنى أدق ومباشر لو أطلق الحبر الروماني البابا أوجين في ذلك الوقت على المسيحيين الذين يسكنون جزيرة قبرص أسم الأكاديين تيمنًا بأسم مدينة أكد لكنا اليوم مسيحيين أكاديين، أو الوركاء ( أوروك)، لكنا أيضًا مسيحيين أوركيين، أو كنيسة سومر لكنا مسيحيين سومرين، ولسارت التسيمة مع الوقت وباتت هي الدارجة عند الجماعة ويصبح لها سندّ وعمق ثقافي في وجدان الناس وبُعد روحي أيضًا.
غياب رؤية شاملة للتاريخ يعطي نظرة ضيقة للأفق وقراءة محدودة. فحتى الآشوريين اليوم ليسوا من سلسلة دولة أشور القديمة. حيث أول من أطلق عليهم أسم الآشوريين كان شخص بريطانى جاء في بعثة لشمال بلاد أشور القديمة جغرافيًا على مجاميع تسكن تلك المناطق. حسنًا إن كانوا صحيح إدعائهم بأنهم أحفاد الآشوريين القدماء لماذا لم يُسموا أنفسهم بالاسم الآشوري قبل البعثات الإنكليزية لهم في المناطق الجبلية في قوجانس وسلامس. هنا التاريخ يقول كلمة الفصل، ففي 7 ينايركانون عام 1870 أطلق رئيس اساقفة كانتربيري أسم مسيحي بلاد أشور على السريان  الذين يقطنون تلك النواحي على تخوم الدولة الآشورية القديمة. ومن هنا كانت هذه هي الإرهاصات الاولى في بعث اسم آشور والأشوريين. وقد لعب أعضاء البعثة الإنكليزية كل من  آرثر ماكلين وولين وهنري دورًا هاما في إبراز هذا الاسم، وليس عمقًا تاريخيا للدولة الآشورية القديمة. حتى الكنيسة الآشورية اليوم عمرها لا يزيد عن 45 سنة، والجناح الآخر من الكنيسة لا يسمون أنفسهم بالآشورية أصلًا، فهي كنيسة المشرق القديمة كرسي ساليق وقسطيفون، لا آشور ولا غير آشور.
في ظلّ مثل هكذا أوضاع والذي يعكس تخبطًا في التعابير والتعاريف والمصطلحات وحتى التاريخ ذاته يظلّ إلقاء المسؤولية على الآخرين بمثابة لجوء إلى الحلّ السهل.
الخلاصة من كل ما تقدم، إن الأمر الوحيد الذي يمكن أن يأتي بأيّ نفع على الجميع ومن كل الطوائف والمذاهب هو إعادة قراءة العقيدة والدين المسيحي قراءات جادة ومُعمقة من جديد، على سبيل المثال لا الحصر  كم من الكلدان يعرفون ما هي طبيعة السيد المسيح وهم على المذهب الكاثوليكي.
 في النهاية يستطيع كلّ مؤمن كلداني أو غير كلداني أن يسأل نفسه ما الذي تستطيع الأحزاب السياسية المسيحية القومية أو الإتحاد القومي أو أعياد أكيتو تقديمه لهم.
نحن اليوم في امس الحاجة إلى الابتعاد عن المزايدات التي لا تنفع أحد خاصة في هذا التوقيت بالذات، مع الهجمة الشرسة التي يشنها البعض ضد الكنيسة، من كان يصدق أن شخصية مهمة تأتي بعد البابا مباشرةٌ مثل الكاردينال جورج بيل يقبع وراء القضبان أكثر من عام دون جريرة تذكر، فقط لأنه وقف ضد تيار المثلية الجنسية Homosexuality.
يبقى الأهمّ من ذلك كلّه هل نستطيع نحن تجاوز  هذه، التسميات والنظر للمهم، وهل ينتصر صوت العقل بالنهاية، هنا يكمن السؤال الاكثر اهمية، برأي المتواضع تصعب الإجابة في الوقت الحاضر عن هذه الأسئلة.
 الزُبْدَة تكمن في مقولة شيشرون، من لا يقرأ التاريخ يبقى أبد الدهر طفلًا صغيرًا.




المصادر:-
سوسة- احمد (اليهود والعرب في التاريخ).
سوسة- أحمد( تأريخ يهود العراق).
علي- جواد ( من هم العرب).
المطران لويس ساكو ( خلاصة تاريخ الكنيسة الكلدانية) كركوك 2006.
ألاب ألبير أبونا ( تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية) الجزء الثاني.

29
الأخ العزيز وليد حنا بيداويد المحترم.
تحية من الأعماق لكّ، وشكراً على إهتمامك بنصوص المقال.
تقبل تحياتي.

30
الأخ العزيز يعكوب ابونا المحترم:-
تحية طيبة
شكرًا جزيلاً على مداخلتك المهمة سواء في النص الأساسي أو التعليقات تحت المتنّ والتي اعطت زخمًا آخر للمقّال، مع العلمّ إن مسألة المطهر  لم تكن هي القضية الوحيدة.
مني لك كل الشكر والامتنان.

31
الأستاذ Michael Cipi المحترم:-
مرةٌ ثلاثة مرحبًا بك.
طيب من قال لك لا تجتهد وتقرأ وتستوعب النصوص،  ليسّ الدينية منها فحسب بل الفلسفية وقضايا المجتمع كافة، والذي تفعله هو عين الصواب برأي. أخي الكريم، الديالكتيكية مهم في وصف النقاشات، ليس من الآن بل حتى ما قبل سقراط وأفلاطون، وما نظرية الكهف التي جاءت غير دليل على الاجتهاد والنقاش والتطلع وبالتالي الرقي العقلي واستنباط الفكرة من غيرها، ومن هنا تطورت البشرية في صيرورة أزلية عبرة تعاقب الأحداث ونشوئها وبالنهاية ارتقائها، وبالمناسبة هذه الأمور لن تنتهي ولن تتوقف، واذا توقفت فمعناها أن البشرية تموت.
لكنّ السؤال المهمّ الذي سيطرح نفسه، هل الكل يملكون هذه المعرفة وقدرة التحليل والوصول للمغزى الحقيقية والهدف المرجو، أتمنى أن يملك الجميع هذا الحسّ وهذه  المنصة المعرفية.
الخلاصة عزيزي مايكل، هناك أسئلة كثيرة أخرى ستطرح نفسها في مرحلة ما، أهم تلك الأسئلة هل يظل الجيل الحالي خاصة في الغرب، من أستراليا إلى كندا مرورًا بالولايات المتحدة واوربا، على سطحيته، مشغول بقضايا  سخيفه تستهلك طاقته الاستيعابية والمعرفية، أتمنى من كل قلبي أن يصل الفرد الكاثوليكي لفكرة النقاش والجدل والاجتهاد، ولكن الرهان في هذا الوقت عليهم صعب للغاية.
تحياتي لك.

32
الأستاذ Michael Cipi المحترم:-
آهلًا بمروركم مرة ثانية.
بالنسبة لي أستفدتُ كثيرًا من محاضرات المطران آنف الذكر، ليس فقط في مسألة المطهر التي تركز علها، بل في قضايا آخرى، مثل الشرّ والشيطان، والزواج والقداس الإلهي… الخ. وإلا لم كنت لأكتب عليه.
حسنًا المطهر وحسب اللاهوت الكاثوليكي هو مكان للآلم والقصاص، حيث العدالة الإلهية، تطهر الأنفس لتصبح مستعدة لدخول الملكوت، إنه مكان وسطي بين السماء حيث الفرح الأبدي، والجحيم حيث الآلم الأبدي.
وهذا النصّ جاء في مجمع ليون الثاني سنة 1274، وأيضا في متى 32:12 يقول الرب: (كل من قال كلمة على الروح لا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الأتي)،  وأيضًا في سفر المكابيين الثاني 42:12-46، تسطيع العودة لتك النصوص للاستفاضة والاستفادة أكثر. وأيضًا في متى الإنجيلي، (يُجازي كل واحدٍ حسب أعماله). 27:16.
في النهاية يقول القديس أوغسطينوس (بعض الناس لا يعانون العذبات الزمنية إلا في هذه الحياة، وبعضهم بعد الموت فقط، وغيرهم في هذه الحياة وبعد الموت. إلا انهم جميعا يقفون بين يدي هذه المحكمة الصارمة الأخيرة).

33
الأستاذ Michael Cipi المحترم:-
شكرًا جزيلاً على مروركّ في نص المّقال.
لم تكن عقيدة المطهر التي جاءت في متن المقال هي الركيزة الأساسية التي نوهتُ عليها، بل أكثر من محور، والمطهر ما كان غير مثال واحد من عدة محاور، القصّد كان أعمق وأوسع.
لابأس إذا نوهنا على مواضيع مهمة وحساسة من حين وآخر، وإن أثارت النقاش والجدل.

34
المطران مار باواي سورو والمائدة اللاهوتية. 
يفعل حسناً سيادة المطران مار باواي سورو مطران أبرشية مار أدي الكلدانية في كندا، في تقديم محاضراته والتركيز على القضايا الحساسة والمهمة، وتبسيط الصعبّ منها فيما يخص المسائل اللاهوتية المُعقدة، على سبيل المثال لا الحصّر ندوته حول عقيدة المطهر الكاثوليكية حصراً، فهي غير معترف بها في المذهبين الأرثوذكسي والبروتستانتي، وأن كانت قديمة بعض الشيء أي المحاضرة، ولكن يمكن العودة أليها من خلال اليوتيوب لكونها مهمة وتسلط الضوء على مكان وسطي بيت الجنة والجحيم وهي بالأساس فكرة العدالة الإلهية، والتي أجزم أن الكثير من الكلدان الذين هم على المذهب الكاثوليكي لم يفهموها بشكلها الصحيح، فقط دفع مبلغ مُعين للمتوفي وقراءة إسمه في نشرة يوم الأحد، وبالتالي لم نستوعب الفكرة الأصلية لتلك العقيدة لتظل غامضة على الجماعة المؤمنة، حالها حال الكثير من المصطلحات والأسرار التي لم تُفسر بشكلٍ واضح، أيضًا  له سلسلة محاضرات (القداس والقربان المقدس) والتي غطى من خلالها أهم القضايا المتعلقة بتقسيم القداس الإفخارستيّا وهو قمة الدينية المسيحية، والذي بات اليوم مع الأسف شكل من أشكال الطقس التقليدي بمعنى آخر فلكلورياً لا أكثر.
بعض التواضع ضروريًا بين الحين والأخر، بمعنى أن نتعلم ونفهم من تلك المحاضرات المتوافرة على شبكة النيتّ، ليس الشعب وحده بل طبقة الأكريلوس أيضًا، فالشعب لا يريد تكبد عناء البحث والمعرفة واِسْتِقَاء المعلومة، والكُهان ينقصهم الأسلوب وكيفية طرح المواضيع بشكلٍ مبُسط وعميق في آن معًا، التبسيط لا يعني السطحية وركاكة الجملة وبالتالي ضياع الوقت في كلام غير مفهوم وضبابي، بل يعني عمق الفكرة اللاهوتية المطروحة بشكلها الروحاني وكيف لها أن تصل بسلاسة إلى المتُلقي وتدخل في حنايا قلب وروح السامع، وأضن أن المطران متمكن من هذه الناحية بشكل ممتاز باللغُتين العربية والإنجليزية.
عندما لا نستوعب فكرةٌ معينة تبقى مجهولة الهوية والمصدر ومع الوقت نتعامل معها كأنها غريبة علينا مع العلم أنها في صميم معتقداتنا اللاهوتية والليتورجيّا، الله يخاطب الشعب ولكن يخاطبهم عن طريق أشخاص متنورين يملكون مِنصات معرفية لإيصال المّسجات إلى الباقين بيّسر. وهنا جدير بإن نذكر  التقدم المُتاح للجميع وسهولة الوصول إلى تلك المناهل، فمن المُحال التوجه  كل مساء سبت من أستراليا أو أوروبا أو الولايات المتحدة إلى كندا  لسماع محاضرة، ولكن من السهولة بمكان فتح الرابط على اليوتيوب. مع هذا تظل هنالك عقبات وجودية كبيرة أمام من يريد الحصول على المعلومة الصحيحة، عقبات إبستمولوجية ونفسية وذاتية، أي لا نريد أن نجهد العقل بالمعرفة وفهم محاور الدين والعلاقة بينهم، يكفي الانشغال بي TikTok و Snapchat وغيرهم، لماذا لا نسمي الاشياء بأسمائها الحقيقية، نعم هنالك ضعف عام لدى أبناء الطائفة الكلدانية في فهم أهم أسرار المذهب الكاثوليكي، وهذا جزء منه يقع على عاتق الكُهان الكلدان أيضاً من حيث طرح الفكرة ودلالة المعلومة وتحليلها وشرح أبعادها الروحية واللاهوتية وحتى الفلسفية، نقول أن يسوع المسيح هو الله المتجسد، الله الكلمة أو اللوجوس Logos أي عقل الله الناطق، ونزل من السماء، ومولد غير مخلوق مساوٍ للآب في الجوهر،  هذه قضايا عميقة ومهمة وحساسة لكونها في صلب المسيحية ذاتها وتحتاج لشرح وتبسيط، وتحتاج لإيصال، خاصة في هذا العصر، الموضوع ليس صراخ وحركات عصبية في وسط الكنيسة لا مبرر لها أبدًا، الموضوع أوسع وأعمق وذّ أبعاد روحية عميقة لتوظيف الإمكانات المعرفية والدينية وطرحها على أسماع الناس كيما تخرج سواء كانت موعظة يوم الأحد أو ندوة في قاعة الكنيسة بغذاءٍ روحيًا يستمر معهم طويلًا.
 مئات العوائل من الكلدان  في إمريكا وغيرها غيروا حياتهم بدخول البروتستانتية لو قَيَّضَ لهم فهم مذهبهم بشكل صحيح ما كان لهم أن يتنازلوا عنه بهذه البساطة.
يبقى الأهم من ذلك كلّه، هل نأخذ عبرة من تلك الدروس أمّ لا. ثمة حاجة إلى قراءات جديدة وفهم أعمق لكل ما يدور حولنا، لعلّ أخطر ما في الأمر أن نظل هكذا سطحيين تتلاطم بنا أمواج البحر كيفما تشاء.

35
السيد lucian المحترم تحية طيبة:
شكراً جزيلا على مروركم في نصوص المقّال.
سيدي الكريم، مداخلتك مهمة وواسعة وتحتاج لوقفة أوسع.
 انكّ أدرجت عالم المُثل لدى افلاطون، حيث جاء هذا العالم  من عملية التمييز بين الحقيقة والمظاهر، في العالم الموجود والعالم المثالي الرياضي، حيث أوضح افلاطون أن هناك عالم حقيقي والذي توجد فيه جميع الأشياء الحقيقية والتي تكون في صيغة الكمال والتي لها صيغ مُتشابها في عالمنا المادي، ولكنها غير أصلية، صورة مزيفة عن الأولى، في النهاية أعتبر فيلسوف آثينا أن هذا العالم غير مهم وهو صورة عن عالم أفضل وأنقى. وبما أننا في عالم افلاطون بعد نحتاج لنستعين بمثال الكهف وهو مثال مهمًا جداً ويعطينا فرصة لنفكر ونتأمل أكثر، وجاء أيضًا ليمنحنا تصوراً استعارياً لطبيعة الإنسان وحظوظه من معرفة الحقيقة. هنا وضع افلاطون بطريقة عبقرية العقل البشري على المحك، حتى القديس  أوغسطينوس لم يستطع الخروج والفكاكّ من هذا العالم  وتلك الحركة الثنائية المتشعبة والواسعة.
أخي الكريم، لم يعد قارئ اليوم يبحث في تفاصيل الأمور والتوغل به أكثر، العالم برمته توجه نحو السرعة نحو التبسيط والولوج السريع نحو الخبر، تغيرت تقنيات المعلومة والاتصال بها.
مع هذا، ما تفضلتم به مهما جدًا، ويحتاج لقراءات أعمق….. تقبل تحياتي. 

36
الأخ العزيز نذار عناي المحترم:
شكراً جزيلًا على مداخلتكَّ المهمة والتي جاءت في صلب الموضوع تماماً، لا بل أثرت المقالة وغطت جوانب حساسة وخطيرة.
نعم كل ما جاء في تعقيبكم صحّ وهنالك بعض ضعاف النفوس يستغلون عاطفة الناس البسطاء ويعزفون على وترّ القومية وهم بعيدًا كل البعد عن هكذا قضايا.
مرة ثانية شكرًا على مرورك المهم أخي العزيز.

37
الأخ العزيز ناصر عجمايا المحترم:
شكرًا على مروركّ مرة ثانية.
حينما نأخذ موضوع  القومية نأخذه كمصطلح ظهر وأنتشر على نطاق واسع  في القرن الثامن عشر، ومن عدة محاور  أهمها بعتقادي المنظور السوسيولوجي، والذي يهتم في علم المكان والاجتماع كحركة مجتمعية واسعة أثرت وتأثرت بالمحيط الثقافي والسياسي والديني، ولم أتوغل في ثنايا التاريخ كثيرًا. حسنًا هل القومية حدثًا منفرداً، أمّ هي سلسلة من الأحداث تخص مجموعات بشرية؟، وهل يسير التاريخ في مسار مستقيم، أم على شكل دوائر؟ هل يتحرك التاريخ دوماً للأمام؟  لا إجابة واحدة على هذه الأسئلة، تعكس هذه الأسئلة مغزى أعمق من الأمور، وربما تحتاج لفرد دراسات ومقالات مطولة حولها.
 لن أتفرع في الامثلة كثيرًا فقط مثال واحد، في بولندا، كانت القومية تتميز دائمًا بالولاء للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، مجموعات سياسي مثل النهضة الوطنية لبولندا أستخدام شعارات بولندا الكاثوليكية العظمى.
أخي العزيز مهما حاولنا فصل القومية مع محركات الدين لن نفلح، فانهم تجمعهم روابط متينة.

وتقبل مني أحترامي.

38
الأخ العزيز ناصر عجمايا المحترم:-
شكرًا جزيلاً على المداخلة القيمة في متنْ موضوع القومية.
لا أضن ثمة أختلاف كبير بين ما تفضلتم به حول تعريف القومية وما جاء به المقال أعلاه، مع أختلاف طفيفّ.
إن موضوع القومية واسع ومُشرع على مصرعيه  وعلى كل الثقافات والاتجاهات، وبالتالي يفتح أبواب الإتفاق والاختلاف.
 هل الدين يدخل في تصنيف القومية؟، نعم  يدخل وبقوة!، وابسط مثال على ذلك الدين  اليهودي، والذي تجلىّ عنه الصهيونية الدينية، وهي أيديولوجية تجمع الصهيونية واليهودية الأرثوذكسية. أو الدين الهندوسي أو كما يُعرف البراهمية، مع أن الهندوسية دين فقد وجدوا لأنفسهم ثقافة تحولت مع الوقت إلى قومية تتحرك بإزاء الدين تمامًا. حتى في المسيحية اللعب على وتر الدين كثيرًا ما يُمارس لصالح القومية، خاصة في الولايات المتحدة الاميركية، تيار القوميون المسيحيون، والمسيحية المتصهينة، راجع خطابات بيلي غراهام، المقرب من جورج دبليو بوش. في الدين الإسلامي، التوظيف القومية للدين بارز لا يحتاج لتنظير طويل، باكستان ترتبط إرتباطا وثيقاً بالقومية الإسلامية والإسلام دين الدولة الرسمي. حركة حماس حزب قومي فلسطيني ذو عناصر إسلامية واضحة. رجب طيب اردوغان ذاته إسلامي ومتطرف يرتدي زيّ القومية التركية.
ربما من الصعب فصل الدين في مجالات كثيرة عن المفهوم القومي بعمقه السياسي والتاريخي.


وتقبل أمتناني وشكري.

39
قومَيتَنا والحلّمَ الزائّف.
في الآونة الأخيرة كثرَّ الحديث عن القومية بشقيها الآشورية والكلدانية. كلامًا على كلامّ من على منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، منه ما هو منطقي ومعتدل ومعقول، ومنه الخالي من المعنى وينحدر نحوَ التعصبّ والبعيد كل البُعد عن العقلانية وروح هذا العصر، لنتخبط في النهاية بعناوين كثيرة وشبكة عنكبوتية من الخيوط المتشابكة لِنخرج معها بمصطلحات شاذة لا تعبر عن المعنى الحقيقي للكلمة، لا لغوياً ولا معرفيًا، وندخل في منطقة رمادية من اللغوَّ الذي لا طائل منها غير بعثرة الأمور والتي لا تحتاج لبعثرة أكثر في ظل تخبط ما أنفكَّ يزداد مع مرور الوقت مع استدلالات عقلية مفقودة.
تستحيل بلورة أيَّ فكرة دون تعريف دقيق للمصطلحات ومن أيّ معدنّ لغويا قُدّت، لكي يتسنى للباحث أو الدارس أو المطلع الوصول السهل للمعنى الصحيح الذي جاءت من آجله الكلمة والتعريف الدلالي للعِبارة.
في البدء لنأخذ مثلًا بسيطًا يُسلط الضوء على مدى فوضى التعابير المستعملة في المجتمع خاصة في هذا الوقت، والذي يرتبط ارتباطًا جوهريًا بالموضوع المطروح، أيَّ مصطلح القومية. فالشخص المهاجر  إلى دول الغرب، أستراليا، أمريكا ، كندا….الخ، وبعد أن يستكمل الشروط القانونية اللازمة للحصول على حق التوطين وقدّ أجتاز الامتحان، يحصل على حق المواطنة في ذلك البلد وهي تُعرف اصطلاحًا (Citizenship)، وهذا المصطلح يندرج ضمن طيف واسع من المعاني، مثل، مواطن مدني، تابع، قاطن، ساكن، مُقيم، ضمن فئة خاصة من المعاني، وهذا يختلف عن مصطلح  الجنسية (nationality)، لأن الجنسية تُعطى فقط في البلد الأصلي أيّ مسقط رأس الشخص الأولي، أي الولادة في الأمة (Nation)، وهذا أيضا في القوانين والمعاجم  له ارتدادًا بأثر نگوصي، فهو يُشير إلى القومية، الاستقلال السياسي، الصفة القومية، والسَائد بيننا أننا نستعمل كلمة حصلنا على الجنسية الأسترالية أو الكندية كخطأ شائع يندرج ضمن سلسلة أخطاء تُطلق عشوائيًا  مع الوقت أصبحت عادية وطبيعية جدًا.  بمعنى أدق لا أحد من المُهاجرين (immigrants) يبحث عن أصول في القومية الأسترالية أو الكندية أو الأمريكية، لأن هذا الأمر لا يعينهم بكل بساطة، وهذا لا يفسر على أنه عدم حبَ أو أحترام لهذه الدول التي أوتَّ المهاجرين وشمِلتهم برعايتها، لا أبدًا، الموضوع أعمق بكثير ومرتبط بالشعور الوجداني الأصلي.
حسنًا لنعود لمصطلح القومية (nationalism) وأنتبه عزيزي القارئ إلى التشابه الكبير بين القومية والجنسية (nationality)، فهم من عائلة لغوية واحدة وفعلًا واحد. فالقومية لغويًا تتأتى من الجذر قوم، جماعة، عشيرة،  تعيش في مكان ما تربطهم صلة معينة تنشأ تزامنًا مع خصائص وجدانية وعاطفية مُشتركة تربطهم بعلاقة قوية، لتُشكل أعتقاد من عقيدة( Doctrine) لدى الشَّعب في أنّه يشكّل جماعة متميِّزة ذات خصائص تميِّزهم عن الآخرين كهوية ذاتية تشترك في سمات، ومن أهم تلك السمات الوطن، التاريخ، اللغة والاهداف، وعلى هذا المبدأ يُضحي المرء بنفسه من أجل الوطن الأمة (Nation).
وللقومية أنواع متعددة وليست واحدة كما يروج لها البعض اليوم، كالقومية الاثنية، والقومية الدينية، والقومية الليبرالية، والقومية الثقافية، والقومية الرومانسية، ولكل واحدة منهم شرح مُفصل وأبواب واسعة لا يتحملها هذا المّقال الآن. والقومية أيضًا عقيدة وأيدولوجيا سياسية هامة للغاية تهدف إلى بناء هوية وطنية واحدة والحِفاظ عليها من خلال المنهاج السياسي، بناءاً على خصائص اجتماعية مشتركة، الثقافة، العرق، الموقع الجغرافي، اللغة، الدين، التقاليد. على سبيل المثال لا الحصر، جمهورية أرمينيا، ودولة اسرائيل.
يمكن التنظير عن مفهوم القومية طويلًا، ولكن قُبيل ذلك هل وفرنا لها الظروف المناسبة في إمكانية خلق وعيًا قوميًا وهوية خاصة سواء كانت كلدانية أو آشورية، والسؤال الأهم هل هنالك نُضُوج قومي لدى الكلدان  أو الآشوريين يكفي لخلق تيار وفكر أيديولوجي يُعبر عن روح تلك الجماعات ويستأثر بها، أشكّ في ذلك كثيرًا. نعم هناك نقطة يمكن أن تنطلق منها عملية بلورة شيء ذات قيمة ولكن تحتاج لمجهود وإدراك واستيعاب اللحظة التاريخية، تعزز من ثقافة الاطلاع والقراءة بين أبناء الجاليات في دول المهجر.
في أختبار  بسيط أنا قمتُ به لقرابة عشرين شخصًا أعمارهم تتراوح بين العشرين والأربعين، حول موضوع القومية، كل الإجابات جاءت مع الأسف سطحية وبسيطة جدًا، وكأنهم في رُقاد من هكذا مواضيع، لا داعي لذكرها، وهذا ليس بالمستغرب أبدًا على أبناء جلدتنا، فالوعي السياسي بمعناه الاجتماعي مُتدني إلى درجة كبيرة، وهذا إيضاً له رواسب عميقة تمتد إلى حقبة الحزب الحاكم الواحد، والذي كان هو الموجه الوحيد حسبّ أيديولوجيته التي يراها بغض النظر عن إختلاف المشارب والاتجاهات والمذاهب الفكرية والعقائدية، فيصبح الاتجاه العام برمته مع الوقت واحد دون تنوع، ليوظف لاحقاً لفكرة أحادية ترىّ الجميع بعين واحدة. ومع الآسف الشديد أنتقلت هذه الآفة مع انتقالنا الى دول اللجوء مع توافر إمكانية الحصول على معلومات أكثر وضوحاً وسهولةٌ من خلال منظومة الانترنت وخدمات ال Google، للاستفادة منهم بشكلٍ كبير. ولكن على ما يبدو أن هناك عدم مبلاة وعزوف إتجاه كل ما يمت بصلة بالثقافة.
الخلاصة تكمن في خلق جوًا مناسبًا لقيام منهج قومي يعكس انتماء الفرد لمجتمعه وهويته والتكيف معها، بعد ذلك يُصار إلى تنظيم تيارات وعقد إجتماعات كيما تكون حجر الزاوية في تكريس مفاهيم جديدة يستوعبها العامة تكون لها قاعدة ورصيدًا بين جميع الطبقات، يتحدثون بها في الجلسات والمقاهي والمنازل كشيء طبيعي عادي لتنصهر هذه الأفكار وتنتج لنا رؤيا جديدة، غير ذلك البقية حرث في الماء ودوران في حلقة مفرغة، لا أكثر ولا أقل.

40
أستراليا والنهايات المفتوحة
بقلم/ سلوان ساكو
 أسترالية دولة كبيرة، وذات إمكانات ضخمة، سواء على صعيد الآقتصاد، الثروات الطبيعية مثل الغاز والفحم الحجري ومناجم الذهب الغير مستعملة أو الثروة الزراعية والحيوانية، مع عدد السكان القليل، مقارنة بمساحة الارض، قرابة 25 مليون على مساحة 7.5 مليون كيلو متر مربع تقريبًا، وهذا تافه جداً مقارنة بالهند أو الصين مثلًا، وعلى هذا المبدأ هاجرت المجاميع الأولى صوب القارة الجديدة، أملين بعيش حياةٌ كريمةٌ في ظل نظام يحترم الجميع ويقفْ على مسافة واحدة من الكل، بغض النظر عن المعتقد أو الدين أو الخلفيات العرقية، وهذا ما تحقق وإن كان على فترات زمنية طويلة مع أول دفعة من المُهاجرين الجُدد، يحلمون بأرض الأمل، ونظام يُخلصهم من نّير الظلم والقهر والرفض الذي تعرضوا له في بلدانهم الأصلية، يرغبون بكل الوسائل المتاحة إجتياز  هذا النفق المُظلم والوصول إلى حيث الحرية الثقافية والكرامة الإنسانية والتنوع الاجتماعية، دون وصاية من أحد ولا إقصاء لشخص. ولكن على ما يبدوا إن هذه الأمور سوف تتغير عاجلًا ام أجلًا ، والنظام المعمول بها حاليا سوف يشوبه العطبّ، والاتجاه العام يسير نحو الأسوأ بدون أدنى شكّ إذا لم نفعل شيء ينقذ الموقف برمته.
في أستراليا نظامان رئيسيان لتشغيل الدولة والمجتمع،
الأول هو الضمان الاجتماعي Centrelink، والذي يحمي المواطن في النهاية من العوزّ والفقر  ومدّ يدّ الْمعُونَةِ من شخص ما وبالتالي تلافي الاسْتِعطَاءِ والاستجداء. والنظام الثاني والذي نحن في صدده هو الضمان الصحي Medicare، والذي يضمن للمواطن والمُقيم، ( الذي لا يحمل جنسية أسترالية)، حقّ المُعالجة ومراجعة الطبيب والتداوي في المستشفيات والمراكز الصحية التابعة للدولة مجانًا دون مُقابل، وهذا نظام راقي جدا يُعمل به في الدول المتقدمة التي ترغب في الحِفاظ على مستوى معيشي وصحي أفضل لمواطنيها ورعاياها.
حكومة الائتلاف الحالية  برئاسة رئيس الوزراء
‏Scott  Morrison زعيم الحزب الليبرالي الأسترالي، تسعى جاهدة لتقليص مفردات بطاقة الضمان الصحي ال Medicare، وحجب الكثير من الامتيازات الممنوحة لحامل هذه البطاقة، مثل عمليات القلب والمكلفة جدًا على الشخص العادي، وعمليات الكسور، والتصوير بجهاز الرنين المغناطيسي MRI، والاشعة السينية، والكثير من المفردات التي تهم الناس البُسطاء العاديين والشغَيِلة الذين يدفعون ضرائب ثمن خدمات تقدمها الحكومة لهم ولأسرهم، والتي إن تحققت مطالب الحزب الليبرالي سوف يصبح هناك مشكلة حقيقية وموقف لا يحسد عليه الأستراليين، مشكلة الطبقة الفقيرة والطبقة  الغنية والصراع بينهما، وتنتهي بذلك الطبقة الوسطى التي تسود البلاد الآن.
حسنا هل يمكن إعادة تأهيل هذا لنظام ورفض هكذا شروط قاسية ومجحفة بحق الناس والتي سوف تزيد من صعوبة العيش وضغط على كاهل المواطنيين، الجواب نعم، من خلال التصويت بالرفض عبر الإنترنت والفيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي، أو الخروج على الحكومة الحالية بمظاهرات جادة نرفض من خلالها مثل هكذا مشروع فاشل يُكبل الشعب بمدفوعات هو في غنى عنها خاصة في هذا الوقت بالذات، حتى وإن استقالت الحكومة وحُل البرلمان.
بكلام أوضح يجب التصدي والوقوف بحزم ضد هذه القضية الحساسة والتي سوف تؤثر حتمًا على الجميع بدون استثناء.
كلّما تغيرت الأمور نحو الأفضل كلّما زادت فرص العيش برخاء واستقرار وسلام حتى وأن ضحينا بعض الشيء فهذا ثمن لا بد أن ندفعه جميعًا.

41
ما بعد  الزيارة البابوية للعراق.
بقلم/ سلوان ساكو
بدون أدنى شك إنّ الزيارة البابوية للعراق قبل شهورًا قليلة كانت جيدة وناجعة، من الناحية الدينية والسياسية والزخم الإعلامي الذي رافق الحدث والذي أدى دوره بشكلٍ  ممتاز، وإن كانت هناك حاجة ماسة لزيادة فاعلية العمل على قراءة مضامين الرسالة البابوية بشكل أكبر، وربما هذا يحتاج لوقتاً أطول كيما تتبلور صيغْ جديدة في فهمّ المدلولات العميقة لتلك الزيارة التاريخية.
لكن هناك ثمة خطابًا أخر، أكثر تعقيدًا وتشابكًا مما نظن، ويندرج هذا الخِطاب ضمن جولة فلسفية في إطاراً لاهوتيًا صرف بعيدًا عن الهالة الإعلامية المصحوبة بهكذا أحداث عادةً. لا يهم هنا كثيرًا إن جاء المّقال متأخرًا بعض الشيء، وربما هذا هو الأفضل، لنُشكل تصورات أشمل، ونبلور أفكارنا من منُطلق أعمق، حيث يستدعينا البحث للوقوف والاستنتاج، وأخيرًا للتأويل واستنباط العِبَرة من الواقعة، وعلى هذا الأساس سوف نحّصر الآمر في مكان وآحد فقط تجنبًا لبعثرة الفكرة الموضوعة على طاولة النِقاش.
السؤال المهم هل كانت زيارة قداسة الحبر الروماني الأعظم البابا فرنسيس للمرجعية الشيعية العليا علي السيستاني في النجف صحيحة؟، قدّ تكون صحيحة، وجاءت نتيجة جهود مبذولة بين الطرفيين، وتتأتى ضمن إستراتيجية التعايش  السلمي وحوار الأديان السماوية وتعزيز ثقافة العيش المشترك، ومن المؤكد إن هذا صحيح وذُ بعد أخلاقي رفيع. ولكن في أتجاه أخر ضمن سياق  إبستمولوجي معرفي أو غاية قصدية عن طريق وضع فروقات حاسمة بين الأفكار ومدلولاتها من هذا العمل أو ذلك، والرغبة الكامنة في الاستدلال العقلي لإدراك الأفكار التي تكمن وراء الأفعال لفهم أوسع.
من المهم هنا بمكان العودة إلى محاضرة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، في 12 سبتمبر عام 2006، والتي جاءت بمناسبة زيارته الرعوية إلى مقاطعة بافاريا‫. حيث كانت ‬محاضرة تعليمية في القاعة الكبرى في جامعة ريغينسبورغ بعنوان، (الإيمان والعقل والجامعة: ذكريات وتأملات‫). ‬
طبعًا جميعنا يتذكر تلك الواقعة، والتي سببتْ نقاشًا كبيرًا وحادًا في جميع الأوساط الإعلامية والدينية والسياسية، والحملة العنيفة ضدّ البابا السابق والتي تلت المحاضرة مباشرةٌ‫. حيث كانت غنية بالدلالات البعيدة النظر وعمق لاهوتي بحت ‬حول موضوع العلاقة بين الإيمان المسيحي والعقل البشري، وبين الكنيسة والعالم، بين المسيحية والأديان الأخرى‫. ‬
في ريغينسبورغ لم يضيع البابا جوزيف راتسنگر الوقت في أسئلة هامشية، بل ذهب بكل جدية إلى المسألة الرئيسية المتمثلة بقناعة المسيحية بأنها الديانة الحقيقية والأكثر اهتمامًا بالإنسان والإنسانية.
الحوار التاريخي كان بين مانويل الثاني بليولوغس، الإمبراطور البيزنطي، وعالم إسلامي فارسي مثقف في حدود عام ‫1391. ‬
دون الخوض في تفاصيل فقهية من نوع الكفار وأهل الذمة والجزية الخ من هذه المصطلحات التي ما أنفكت أن زادت في الآونة الاخيرة، خاصة مع بروز  تنظيمات ارهابية متشددة، داعش والقاعدة والنصرة وغيرهم، حيث أخذت على عاتقها مهمة إعادة إحياء الخلافة الإسلامية في أراضي سيطرت عليهم وما زالت تسيطر على بعض تلك المناطق، مع العلم أن المرجعية السنية في الأزهر لم تصدر أيّ بيان تكفير بحقّ تلك الجماعات على ماقترفته من مجازر وإبادة جماعيه بحق المكون الإيزيدي واجتثاث كامل للمسيحيين ضمن نطاق محافظة نينوى وقراها في الأعوام 2014 وما بعدها، وليس تهجيرْ كما يروج له البعض، لو كان تهجيرًا لعادة العوائل لدورها وزاولوا اعمالهم كما في السباق، ولكن هذا لم يتحقق حتى بعد أن تم تحرير الموصل من تنظيم ألدولة الإسلامي.
 نعود للمحاضرة لنأخذ تلك المسألة المحورية حول العلاقة بين الدين والعنف عامة، إذ قال الإمبراطور (فقط أرني ما أتى به محمد وجاء جديدًا، عندها ستجد فقط ما هو شرير ولا إنساني، كأمره نشر الدين الذي نادى به بالسيف)، وبعد أن عبر الإمبراطور عن نفسه بهذه القوة إنصرف ليشرح للفارسي تفصيلًا لماذا يعتبر نشر الإيمان بالعنف أمرا منافياً للعقل والمنطق. هنا ارادَ البابا توصيل فكرة مفادها إن العنف لا يتوافق مع طبيعة الله الأزلية، أي يقول، إن الله لا يسر مطلقًا بالدماء المسفوكة باسمه، وإن التصرف بدون عقلانية مناقض لطبيعة الله. بمعنى أن الله مملوءا بالخيّر، ومن طبيعته أنه يكره الشر وكل ما يأتي من فعل الشر، الله صالح ويحب الصالحين. هنا وجد  البابا بندكتوس السادس عشر تناقضًا عجيباً بين فقرات من القرآن، أحدها تقول أنه (لا إكراه في الدين)، والأخرى تتحدث عن نشر الإيمان بالعنف أو السيف.
نعم هناك أسئلة كثيرة ولا أجوبة عن أيّ منها، ربما في المستقبل تكون الاجوبة متوفرة، من بين تلك الأسئلة التي لن يكون مفرّ من التعاطي معها عاجلًا أم أجلًا، هل يتوصل الدين الإسلامي إلى بلورة فكر إنساني أكثر تماشيًا مع روح هذا العصر؟، هل هنالك أمكانية لتجاوز بعض الآيات القرآنية التي تحض على القتل والإرهاب وإقصاء الآخر؟، هل ثمة فرصة في تغير المناهج التي تُدرس الان في الأزهر وغيره لقيام أجيال تؤمن بالعنف والقتل، ولا تؤمن بالحب ولا بالقيم الإنسانية، وحترام الشخص بعيدًا عن دينه ومعتقده، بغض النظر عن هويته المذهبية والطائفية.
 قدّ تكون هناك فرصة حقًا ولكن تحتاج لجهود خاصة لتجاوز هذه المرحلة الحرجة. ربما نحتاج لوقفة جادة وحقيقية لِسَبر أغوار هذه الزيارة البابوية للمرجعية الشيعية في النجف، وهل سوف تأتي ثمارها أمَّ مجرد ذرّ الرماد في العيون.







الهوامش والمصادر :-

إذاعة الفاتيكان.
رسالة المونسينيور جامباولو كريبالدي: أمين سر المجلس الحبري، عدالة وسلام.
الفنومينولوجيا – ديفيد وودروف سميث / ترجمة: وائل ضياء الدين شويحة.
محاضرة ريغنسبورغ. مطبعة القديس أوغسطين ، 2007.
البابا بنديكتوس السادس عشر ، الإيمان والعقل وذكريات الجامعة وتأملاتها .

42
بيان شجب واستنكار
تؤكد جمعية مار سوريشوع في ولاية ملبورن، أستراليا عن شجبها المطلق وأدانتها الشديدة للاتهامات التي طالت رمزًا دينيًا رفيع بمستوى غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل الأول ساكو، بطريرك بابل على الكلدان في العراق والعالم.
معتبرة الجمعية أن هذا الاتهام الغير أخلاقي مؤشر خطير على تجاوز البعض لمن تسول لهم نفوسهم على التطاول والمساس وتشويه سمعة رجل دين بارز يخدم وطنه وشعبه وطائفته.
وتشدد الجمعية على أن ما جرى يمثل اعتداءا سافرًا وحالة غير مسبوقة للنيل من أسم وسمعة ابينا البطريرك.
وبناء على ما جاء في بيان الشجب والاستنكار، فإن الجمعية بكامل هيئتها الإدارية وأعضائها لا يسعها إلا أن تقف بجانب صاحب السيادة البطريرك مار لويس ساكو  وتؤازره بكل أنواع الدعم المعنوي وتستنكر هذا العمل المُشين، وتطالب باتخاذ الاجراءات القانونية على الفاعل وعلى القناة المُروجة لهذه الدعاية الكاذبة ولكي لا تتكرر مثل هكذا حالات في المستقبل .

جمعية مار سوريشوع في ولاية مالبورن/ أستراليا.

43
البَطريَرك ساكو ودائرة الاتَهام.
بقلم/ سلوان ساكو
ما يحدث الآن من لغوًا وتشويه سمعة وإتهامات لرموز دينية مسيحية رفيعة المستوى بدرجة بطريرك أو كاردينال ماهو ألاّ شيءٍ طبيعيًا في ظل هذا الواقع المرير الذي نحياه. وهذا أيضًا له آثر في التراث الإنساني على الصعيدين الديني والاجتماعي. بالتوازي طبعًا مع معطيات كل عصر من العصور.
في البداية لم يشأ المعلم سقراط أن يشارك في الحياة السياسية لأثينا وتَجَنّبَ ذلك قدر إستطاعته، ومع ذلك ذهب سقراط ضحية مؤامرة نسجها له خصومه السياسيين، في النهاية تجرع كأس الشوكران ومات، رغم تدخل تلميذه النجيب أفلاطون لإطلاق سراحه برشوة الحراس، ولكن أبى سقراط غير تجرع كأس الُسم، قائلًا مقولته الشهيرة، (الحياة دون ابتلاء لا تستحق العيش). وفي مرة ثانية أرادت أثينا محاكمة أرسطو  بتهمة الإساءة للدين والآلية الإغريقية، فقال بعد أن فرَ هاربًا الى أملاك والدته، (لن أسمح للأثينيين أن يرتكبوا الخطيئة نفسها مرتين ضد الفلسفة). في التقدم إلى الأمام قليلًا نرى إن التهم الموجهة للسيد المسيح كانت عديدة، هنا نبتعد عن العقائد الأساسية واللاهوتية التي جاء من أجلها المسيح، مثل فداء البشرية وخلاص النفس والتجسد، ونحصر الموضوع في سياقه الإجتماعي ضمن حركة التاريخ، حيث لم يرى بيلاطس ما يسيء في شخص يسوع، (خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ، لأَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً)، يوحنا 19- 6. وهذا ما جعله يغسل يداه من دم الفادي قائلًا، (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ)، متى 27: 24. بمعنى أن هذه التهم الموجهة للناصري لا تستحق لا الصلب ولا الجلد، وهي إدعاءات واهية وسخيفة، حتى زوجة بيلاطس قالت له؛ (إياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله). متى 19. وفي النهاية صرخ الشعب بصوت عاليًا، (دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا). متى 27-25.
 والمُتتبع لخطى بولس الرسول، سيجده كثير التنقل بين السجون والمحاكم، في فيليبي، خلال رحلته التبشيرية الثانية، وفي روما قضى بولس حينها عامين في السجن من 60-62م. وكتب رسائله من هناك، يقول متابعين خطى رسول الأمم، أنه قضى بين 5 إلى 6 سنوات في السجون حتى تم قطع رأسه من قبل الرومان حوالي مايو أيار أو يونيو حزيران من عام 68.
لا أحد يستطيع ينكر  معركة الفيلسوف سبينوزا مع جاليته اليهودية في هولندا، حيث أصدرت السلطات الدينيّة أمراً بالحرمان واللعنة، حتى عائلته رفضته وحرمته من الميراث. وفي ذات السياق نذكر محنة الفيلسوف أبن رشد الذي حاول الانتصار للعقل، والتوفيق بين الدين والفلسفة والتي وقعت سنة 1195 على يدّ الخليفة يعقوب المنصور في دولة الموحدين. وأيضًا إدانة غاليليو غاليلي سنة 1633  لأنّه ناصر نظرية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس. وإذا ما نظرنا حولنا عن قربّ نجدّ مشكلة الكاردينال جورج بيل المسؤول الكبير في دولة الفاتيكان، حيث تمت محاكمته في ولاية مالبورن بي 6 سنوات، والذي قضى منها وراء القضبان أكثر من سنة، وفي النهاية أمرت المحكمة العليا الأسترالية بأن يتم أطلاق سراحه فورًا وبدون شرط أو قيد بعد أن ظهرت براءته، حتى هو وصف المحاكمة قائلًا، (أنّها عالجت الظلم الخطير).
عرفتُ البطريرك مار لويس ساكو  وانا لا أزال فتىٍ، بعد ذلك وأنا شاب، ليس بحكم القرابة التي تربطنا معاً، ولكن بحكم مواقفه الإنسانية العديدة والتي يصعب حصرها في هذا المقال المتواضع، وأيضًا بسبب حضوره الفعال على مستوى خورنة كنيسة أم المعونة في الموصل. أتذكر جيدًا أنه أفتتح عيادة خيرية مجانية في منطقة الدواسة، زمن الحصار القاسي على العراق، كانت مُشرعة ابوابها لجميع فئات الشعب. أتذكر أنه كان ينقل بسيارته التويوتا الكورونا الدواء للعيادة، ربما الأطباء الذين كانوا يعالجون المرضى والمنتشرين اليوم في جميع أصقاع العالم يتذكرون تلك الأيام، وأيضًا منظمة الاغاثة الدولية الكاريتاس، والكثير من النشاطات والفعاليات الإنسانية التي رفدت المدينة بالغذاء والدواء والتي كانت تشمل الجميع بغض النظر عن الدين أو المذهب. من المؤكد إن أعضاء مجلس الخورنة من أبناء الموصل الأصلاء لديهم تفاصيل أكثر منيّ في هذا الصَدّد.
المواقف والصفات الحميدة المحسوبة لسيادته عديدة، وهي التي سوف تؤرشف تاريخه الحافل بالمنجزات بالنهاية، مع النِتَاجّ الفكري والفلسفي من الكُتب التي ألفها والمقالات التي دونها ويدونها بستمرار، والتي ستكون حتماً مفاتيح مهمة في فهما له مستقبلًا، وليس مهدي ناجي أو قناة مثل السومرية المدفوعة من جهة سياسية التي تريد التنكيل بسمعته، فكل هذا لا يتعدى كونه زوبعة في فنجان محتواه آسن لا أكثر.
لا يحتاج المُتابع النبيه الكثير من الوقت ليعرف أين تكمن الحقائق وأين مصدرها، والمتتبع لخطى الكاردينال ساكو  يعرف تمامًا كيف يتعامل مع المواقف الحساسة والحرجة، فيما يخص القضايا الكبيرة فهو منفتح على جميع المستويات والثقافات وذُ خبرة ثرية في مجالات عدة.
في النهاية الإنسان الذي يُوقف حياته من أجل رسالة سامية وصاحب مبدأ لا يتزعزع أمام رياح صفراء، لا يحتاج تذكرة تزكية من أحد، فهو يعرف جيدًا معنى الآية، (أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ)، مرقس 17:12. هذا سوف يساعد لاحقًا في تكريس فهما للخطاب العميق والشفاف لغبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، سواء المكتوب أو المتلفز، خطاب يعني الكثير، وأكثر ما يعنيه إن على الكاهن المكرس أن يخدم بإخلاص من أجل كنيسته وليس من أجل المادة التي تفنى مهما طال به الأمد، (مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا)، متى 8:10. وألاّ ما الفائدة من الرسالة بالأساس أن لم تكن روحية بعيدة عن المزايا المادية. (مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا). يوحنا 36:18.
 في كل الاحوال الناس تتكلم وسوف تتكلم، وهذا دَيَدنَّ البشرية من الحلقة الأولى للخليقة وحتى الآن، واليوم لا يوجد سلطان على أحد في قول ما يريد وقتَ ما يشاء في ظل هذا الانفتاح الرقمي الهائل، ولكن يبقى قول الحق هو حق مهما حاول البعض تزوير الشهادات والحقائق. (وجاء يوحنا المعمدان لا ياكل خبزا ولا يشرب خمرا فتقولون به شيطان. وجاء أبن الإنسان ياكل ويشرب فتقولون هوذا إنسان اكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة) لوقا 7: 33-34.

44
المنبر الحر / بَلبَلةّ بَابَل
« في: 07:29 30/04/2021  »
بلبلَةّ بَابَلّ
بقلم/ سلوان ساكو
جاء في الكتاب المقدس سفر التكوين 11: فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ، لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْض.
دراسة علم اللغة تتَخذ حيزًا قويًا في العلوم الإنسانية، وفي الدراسات اللسانية الجادّة في أيّامنا هذه. لما لها أهمية في معرفة الحضارات والثقافات التي كانت موجودة قبل آلاف السنين.
معنى بابل الحقيقي، هو باب الآلهة وأصله من اللغة الأكّادية، أقدم اللغات السامية، إيّ باب ايليم وهو ترجمة للفظة السومرية كادنجرا.
تحمل قصة برج بابل الكثير من المعاني والدلالات التي يستطيع الفرد أن يصل منها الى معنى للغة والسياق الحضاري الذي جاءت منه وبالتالي ظهور المجتمعات الإنسانية التي لولا تلك اللغة أو اللغات، لأصبح من المستحيل التواصل والتعامل فيما بينهم وبالتالي اندثارهم ولا يَبْقَ لَهم أَثَرٌ، فإذا عامل اللغة هو المحرك الأساسي الذي دفع تلك المجتمعات على التفاعل والانخراط والانصهار فيما بينها.
اللغة هي نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة من أدوات المعرفة وهي من أهم طرق التواصل بين البشر. في أي لغة هنالك خط زمني مستقيم تسير عليها هذه اللغة، ماضيٍ وحاضر، وبعد ذلك يُصار  الإثنين معاً إلى مستقبل، كل هذا يُقاس بمحددات لغوية، على سبيل المثال لا الحصر، زيد مواليد بغداد، أسم لفعل ماضي قد انتهى، زيد يدرس ألان في الجامعة، وقت حاضر، زيد سوف يتوظف، مبني للمجهول. فأذا هنالك ثمة لغة تربط الحالة الزمنية مع بعضها، المدينة مكان الولادة والجامعة والتوظيف. هذا هو سلوك البشر العادي. حسنًا ماذا لو لم يكن الزمن خطي مستقيم، أي يكون متكامل يندرج في سياق واحد، الماضي والحاضر والمستقبل، جميعهم نراهم مرة واحدة وفي وقت واحد حيث الزمن لا يتجزأ إلى مراحل حيث يكون زيد ولدَّ ودرس وتخرج في نفس الوقت. في تلك الحالة ما نوع اللغة التي سوف تُستعمل؟. ربما تكون هذه فكرة إلهية يُرى الكون ككتلة واحدة في حيزّ سرمدي خارجة عن مقولة الزّمان، السؤال الأكثر إثارة وجدلية وبعيدًا عن الميتافيزيقيا، ما هي نوع الجُمل والكلمات التي سوف تُستعمل آنذاك، وبأي لغة تُلفظ، فكل اللغات المتداولة علميًا هي ضمن سياق خطي مستقيم واحد، لها بداية ووسط ونهاية ليتجلى لنا ذلك في مصفوفة موحدة. ولتعويم المقال وتبسيطه في تسليط الضوء على هذه الإشكالية المعرفية الخطيرة، نأخذ فكرة الزمن الدائري المتمثلة في فلم الوافد( Arrival)، للمخرج العبقري دينيس فيلتون وكتابة اريك هايزرر. في سياق الفلم تهبط 12 مركبة فضائية الى كوكب الأرض في مناطق مختلفة، تظل المركبات قرابة 48 ساعة دون فعل ما يسيىء للبشر، إلى أن يحصل تفاوض بين الجانب الأمريكي متمثلًا بالممثلة  أيمي آدمز ( لويز) المختصة في علم اللسانيات، وعالم الفيزياء إيان ( الممثل جيرمي رينر)، على متن تلك المركبة في صالة مخصصة للمحادثات حيث المخلوقات تكون وراء حاجز زجاجي، من خلال الأحداث تكتشف لويز أن لغة المخلوقات الفضائية لغة غريبة عبارة عن دوائر دخانية تحمل رموز وشفرات، لتُشكل البنية الأساسية للفلم التي تشير إلى دائرية الزمن وعلاقته باللغة. هنا وفي منعطف حاد تكتشف لويز شفرة هذه اللغة التي كانت تتنبأ بما سوف يحدث للأرض خلال  3000 الف سنة قادمة، وهم أي المخلوقات يريدون أن ينقذوا الأرض من دمار محقق.
من خلال السرد تُشاهد لويز رؤيا مستقبلية لحياتها  وهي على متن المركبة الفضائية، حيث تكون قد تزوجت من زميلها الدكتور إيان وتنجب فتاة تُصاب لاحقًا بمرض نادر وتموت هذه الفتاة، وحين تهبط تقول لإيان تعرف الآن لماذا تركها زوجها، فيستغرب هو من هذا الامر، ويقول بستغراب هل أنتِ متزوجة. ربما يتملكنا الاستغراب من أطروحة الفلم الفلسفية، ولكن ثمة فكرة مجازية في الطرح حيث أراد المخرج عن طريق لويز أن يقول لنا إن إدراكنا لفكرة الزمن محدودة للغاية، وإننا نظن أن الحياة محطة نهائية يتوقف عندها كل شيء، لكن دكتورة لويز تؤكد أن حياتنا هنا رحلة ولابد أن ندرك كل التفاصيل بها رغم الألم الذي سوف يلحق بها في المستقبل.
هنا جاء وقت السؤال الأكبر  والذي طرحه الفيلم بشكل غير مباشر، إلى أي مدى يمكن للغة أن تؤثر على مستقبلنا وحياتنا؟، حيث يعتقد العلماء أنها تتحكم في كل شيء تقريبا، والبعض الآخر يرى تأثيرها متوسطا.
في النهاية هل يستطيع الإنسان تجاوز فكرة الزمن كلغة وخلق إنسان يتجاوز حدودهما معاً، ربما كان الفيلسوف نيتشه على حق في تصوره للرجل الخارق السوبر مان، حيث يسبق منظومة المكان والزمان حيث يروم من خلالهما تجاوز النمط السائد من المعرفة.
يبقى الرهان منفتح على معرفة الديالكتيكية معقدة عابرةٌ لأطروحة الزمن الحاضر  مُضافٍ إليها عامل اللغة، ولكن في النهاية تظل كل هذه محض تأويلات واستنتاجات في كون شاسع مليء بالاسرار والغموض.

45
الذكرى الأليمة للعراقيين
ليسَ من الصدفة أبدًا أن تتزامن مناسبتان خطيرتان من عمر وطن ومن حياة شعب أن تمر هكذا مرور الكرام دون أن تثير الكثير من الأسئلة العالقة في الأذهان، تكون مشحونة بذكريات موجعة وأليمة.
تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في في 7 نيسان/ أبريل من عام 1947، من قبل ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي، في العاصمة السورية دمشق، بعد أن تشبعوا بأفكار الثورة الفرنسية، يحملون شهادات جامعية عليا من باريس نفسها، تجمع الثلاثة معاً في مقهى يدعى الرشيد (اللونابارك) ليظهر حزب جديد تحت مسمى حزب البعث العربي، ليحتفل البعثين لاحقًا بهذا اليوم كيوم وطني في الدول التي يحكمون بها، على الأقل سوريا، والعراق حتى قبل عام 2003.
جاء الحزب ليقدم نظرية علمانية اشتراكية وفقًا لمبدأ الوحدة والحرية والاشتراكية، هذا كان شعار البعث في المكاتب والفروع والشَعب والفرقة. أعتمد الحزب على الفكر العلماني والتغير الثوري،  فأنحى مسألة العقيدة الدينية جانباً ووظف المؤتمرات القومية والقطرية لتبنى وجهة النظر هذه، وهي بالمناسبة وجهة نظر خطيرة إذا ما قيض لها أن تنجح، وكانت بمثابة إشارة مستقبلية لتغيير في عقيدة الإسلام ذاتها، وعلى هذا الآساس كانت المصادمات مع التيارات الإسلامية حاضرة في كل وقت ومكان. 
لا أحد يستطيع أن ينكر أن بدايات أستلم البعث للسلطة كان متوافق مع النظريات السياسية والاقتصادية منها، جاء قرار تأميم النفط العراقي ليتوج تلك المرحلة من عام 1972، ومجانية التعليم لجميع المراحل الدراسية، وبناء قطاع اشتراكي لا بأس به، تأسيس نقابات وإنشاء مؤسسات حكومية وقطاعات زراعية وصناعية وتجارية، كل هذا خلق جوًا مشجعًا استثماريًا لشركات أجنبية مهمة في ذلك الوقت، جاءت لتعمل وفق خطة أستراتيجية لتطوير العراق. طبعًا مع وجود سلبيات كثيرة ومتعددة في هذه المرحلة من عمر الوطن لا مجال لحصرها الأن.
ثمّة ملاحظة مهمّة لا يمكن تجاهلها تتعلق بكيفة عمل الحزب بعد أحداث الكويت، وهل أُبعد الحزب عن الساحة السياسية العراقية تمامًا، أم ضل حاضرًا ولكن بصورة مغايرة عن ما هو مرسوم له بالأساس، أمّ كل هذا كان تحصيل حاصل لا أكثر؟، الحقيقة إن هناك مشكلات في بنية التفكير الأيديولوجي الذي نهجه البعثيين نفسهم، فتحول الولاء لشخص صدام وليس للحزب وهذا تحول لا يستهان به طبعًا، فبين صيف عام 1990 وصعودًا تغير الكثير في العراق، حتى الحملة الايمانية التي حمل لواءها الرئيس الراحل كانت مجرد محاولة لإعادة الثقة بشخصه، بعد أن فقد الكثير منها.
كشفت الأزمة فيما كشفته أن حزب البعث على المحك، وأنه مقبل على انعطافات خطيرة ما لم تتدارك القيادتين القطرية والقومية ذلك، هذا ما كشفه المفكر الدكتور شبلي العيسمي لصدام حسين مباشرةٌ بداية التسعينيات، بعدها توترت العلاقة بين الشخصيتين وأُبعد العيسمي من القيادة وسِحبت صلاحياته وتم الاستخفاف بالرجل وتَوَارَى خَلْفَ مؤلفاته الأدبية والحزبية.
مشكلة صدام العويصة أنه ضل أسير  الفكر العشائري والبداوة، لم يستطع الخروج من هذه المنطقة وهذه البوتقة مطلقًا، الأخوة الغير الأشقاء، وأبناء العمومة الجهلة. لعلّ من المفيد التذكير في هذا المجال أزمة حسين كامل والتي كانت بمثابة بداية النهاية لحكم العائلة.
في النهاية حصل ما حصل لينهار البلد كاملًا من أعلى بشكلٍ دراماتيكي محزن في 9 نيسان أبريل من عام 2003 أي بعد 56 سنة من ميلاد البعث.
ما نشهده حاليا في العراق بمثابة تتويج لسلسلة من السياسات الخاطئة عمرها 18 سنة لم تقدم فيها النخبة الحاكم بعد الاحتلال الأمريكي أي شيء ذو قيمة. فساد مستشري في جميع المجالات والدوائر والمؤسسات، ميلشيات مسلحة حدث ولا حرج، المدّ الإيرانية متغلغل في جميع مفاصل الدولة إذا كان هناك دولة بالأساس، حدود مفتوحة لتركيا وغير تركيا، سيادة مفقودة، شعب مُشتت ومهجر في جميع الأصقاع، هل هناك أكثر من ذلك؟.
ستكون هناك حاجة أكثر من أيّ وقت مضى في إعادة النظر الى ما يحصل للبلد وين تذهب مقدراته وثرواته الهائلة، وأن تستنفر الجهود الوطنية الحقيقية لبناء اقتصاد قوي وكسب ثقة الشركات العالمية لتهيئة بنية تحتية متطورة وخلق بيئة استثمارية جيدة وفرص عمل حقيقية على غرار دول الخليج، وألا لن يكون هناك بلد أسمه عراق أبداً بعد اليوم.

46
قرابين على مذبّح الشكْ
بقلم/ سلوان ساكو
تتغير الحوادث التاريخية مع تغير الوقائع من حولنا في اتجاهات مختلفة، وفي سياقات عديدة، منها ما يكون ديني أو سياسي أو أجتماعي، ليبحث هذا التغير في مكان ما يتمحور حوله أو يُشكل مكانة خاصة ضمن إطار معين ليصير لاحقًا مذهب أو عقيدة أو اتجاه فكري في أحيان آخرى. في النهاية تصبح هذه الاتجاهات مجموعة أقوال وأفعال بأُطُر مُقعنة يقذفونها مخترعيها داخل هذا المجتمع بكل قوة لتتبلور  وتتخذ لها مكان ما. نعم هناك بعض الأمور الغير مفهومة بالحياة، كخشية الناس من بعض الناس، وسطوتهم عليهم والسيطرة على عقولهم بالكامل مما يجعلهم أسرى لذلك الشخص أو ذلك المُعتقد.
في عام  1965 أدعى القس جيم جونز أنه المسيح المنتظر، كان ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية. قال جونز فيما قاله أن العدالة والمساوة والتسامح يجب أن تكون بطريقة ماركسية اشتراكية، ومن خلال هذه الأفكار تمكن من السيطرة على رؤوس المئات من البسطاء والجهلة والمعوزين وأيضًا بعض المثقفين. حقن رؤوسهم برماد الوهم الايدلوجي والذي كان  يعدهم من خلاله بالخلاص المقدس والدخول إلى فناء اورشليم العليا هناك في الفردوس السماوي.
تمكن هذا الإنسان العجيب الذي لن يتكرر مرة ثانية، من السيطرة المطلقة على الجماعة، وحولهم إلى قطيع يُمارس نفوذه عليهم بشكلٍ كامل. واستطاع في النهاية من إلغاء مريديه نهائياً وحولهم إلى جماد طوع بنانه. أخذهم حيث أراد وأسس معبداً سماه معبد الشعب في غويانا في أمريكا الجنوبية وتحديداً في الجزء الشماليّ الشرقيّ منها، وقال لأتباعه إنه يريد تأسيس مجتمع جديد خالٍ من العنصرية والظلم والاستغلال، فبات مُجمع الشعب يضم مئات العوائل من كافة شرائح المجتمع ومثقفيه. هنا خرجت الأمور عن السيطرة داخل الكونغرس الاميركي وتوجس الرأي العام انذاك من هذه الجماعة الشاذة، وأرادوا معرفة الحقيقة خاصة بعد أن سلحهم جيم بالسلاح والذخيرة الحية، فقام أحد اعضاء المجلس بالسفر إلى غويانا، وبعد وصوله بساعات أمر جيم جونز بقتل ليو رايان العضو البارز، كان ذلك في 17 نوفمبر تشرين الثاني من عام 1978. خاف جونز من هجوم وشيك تشنه عليهم القوات الأميركية فأمر جميع مريديه بالانتحار الجماعي، وقال مقولته الشهيرة (لقد حان موعد الليلة البيضاء)، فوقفوا في طوابير طويلة لتلقِّي أكوابٍ من السيانيد القاتل، بدأ بتسميم الأطفال أولاً فتجاوز عددهم 300 طفل، مع نهاية المجزره أطلق جونز رصاصة على رأسه، كانت حصيلة القتلى تتجاوز 900 شخص، تلك الحادثة هزت الرأي العام الأميركي وحازت اهتمام الدارسين والباحثين على مدار عقود. فقد مثلت تلك الحادثة نموذجاً غير مسبوق من السيطرة على جمعّ كبير من البشر بينهم أفراد متعلمين ومثقفين.
سار هؤلاء القوم وراء وهم كبير معتقدين أن الخلاص يأتيهم من شخص مريض أو في أفضل الحالات صاحب  مَأْرَب دنيئة، يستغل الناس أبشع الاستغلال، في النهاية كان السقوط مريع وذهبوا بتجاه هاوية واسعة لا قرارة لها.
تكرر  ويتكرر هذا المشهد عبرَ تجليات اخرى، مثلًا فرقة الحشاشين وزعيمها حسن الصباح، تنظيم ألدولة الإسلامية وابو بكر البغدادية، حتى رجب طيب أردوغان رئيس تركيا الحالي هو جزء من هذا المدّ بشكلٍ  ما، يتلاعب بمشاعر الناس عن طريق الوتر الديني.
 هناك دروس في التاريخ تصلح لأن تكون عبرة وحكمة، لفهم هذا العالم الواسع وعدم الانقياد مثل القطيع وراء أهواء أشخاص يستثمرون توجس وخوف ناس وبالتالي إيقَاعِهم في ضلال مبين.

47
الحلقةّ المفقودة في الزيارة البابوية.
بقلم/ سلوان ساكو
أخيرًا تحققَّ حلمْ العراقيين في زيارة الحبر الروماني الأعظم للبلد، جاءت الزيارة تتويجًا للجهود المبذولة منذ سنوات طويلة، حيث أرادَّ البابا الراحل يوحنا بولس الثاني زيارة بغداد، لكن لم تكن هنالك ثمة رغبة، أو بقول آخر حماسة من جانب الحكومة العراقية، وعلى ما يبدو أيضًا لم يرغب الأمريكان في هذه الزيارة للبابا القديس، والالتقاء بصدام حسين والتشكيل الحكومي وقتذاك، المعارضة العراقية والإعلام أيضًا كان لهم دور في إخفاق تلك المبادرة الرعوية، في النهاية أُجهضت العملية برمتها.
نعم يحتاج العراق لمثل هذه الزيارة التاريخية، لعدة أسباب أهمها، مجموعة الحروب الطائفية التي طحنته منذُ الغزو الأميركي من عام 2003 ولحد اليوم، لعلة الجراح تندمل في يوم ما، تناقص وهجرة المكون المسيحي الأصيل بشكلٍ خطير، تمزق الوحدة الوطنية بين الديانات والطوائف والمذاهب، والأهم من هذا وذاك هو انعدام الثقة بينهم، وفقدان السلم الأهلي الذي يضبط ايقاع المجتمعات ويعصمها من التناحر والاقتتال فيما بينها، وهذا الذي حدث ويحدث في العراق.
خارطة طريق زيارة قداسة البابا فرنسيس، بابا الفقراء، والتي تبدأ من العاصمة العراقية بغداد، ومقابلة ممثلين عن المرجعيات كافة سنةً وشيعة، ومقابلة كِبار المسؤولين في الدولة، مرورًا بزيارة المرجعية الشيعية في النجف علي السيستاني، ثم الذهاب إلى أور الكلدانية مهد النبي إبراهيم في محافظة الناصرية جنوب العراق، بعد ذلك الانطلاق نحو عاصمة الإقليم الكردي في أربيل، وإيقامة الذبيحة الإلهية هناك، بعد ذلك التوجه إلى محافظة نينوى، داخل الحي القديم في الجانب الأيمن من الموصل، يتخلل ذلك زيارة إلى قضاء الحمدانية ( قراقوش). كل هذا جيدّ وحسنّ، ولكن ثمة أسئلة تحتاج لإجابات، وتحتاج في نفس الوقت إلى تمعن وتفكير عميقين. مثل ماذا سوف تقدم هذه الزيارة لبلد جراحه مازالت تنزف بغزارة، هل هي مجرد لقاءات وديةّ مع المرجعيات الدينية والسياسية فقط؟. طيب ماذا تفعل زيارة مدتها 36 ساعة لبلد  اِسْتَنْزَفَ وإِسْتَهْلَكَ وتمزق وتهاوى نحو الدرك الأسفل بسبب حروب طاحنة لم تتوقف منذ ما يزيد عن 18 عامًا. نعم سوف يذهب قداسة البابا الى مدينة الموصل، ويقف على أطلالها المُتداعية في حوش البيعة، وماذا بعد ذلك؟. سؤال سوسيولوجي بسيط، كيف وصلت مدينة مثل الموصل كانت تحتضن أغلبية مسيحية متنوعة، من سريان وكلدان وأشور، حتى الإنجيليين والسبتيين (الأدفنتست) كانت كنيستهم تقع وسط منطقة الدواسة، لم يتبقى منهم أحد على الإطلاق، كيف حدث كل هذا، ومن كان ورائه ومن هي الجهة المستفيدة من كل ذلك، صحيح جاء تنظيم داعش الارهابي وكنس الجميع بغتة، ولكن التهجير والتصفيات الجسدية والمعاناة بدأت قبل ذلك بكثير.
نعم أنها زيارة رعوية أبوية ذات دلالات كبيرة ومعطيات تاريخية في هذا الوقت بالذات، ولكن ثمّة حاجة أكثر من أيّ وقت مضى في التفكير في كيفية أعمار العراق، وكسبّ ثقة الشركات العالمية، ومكافحة الفساد والتي باتت تُشكل جزءا من ثقافة هذا البلد المنكوب. والحرص على البقية الباقية من المسيحيين، هذا المكون الأساسي والحضاري ذو الجذور العميقة، وليس كما وصفهم رئيس الوزراء السابق جواد نوري المالكي بالجالية، هؤلاء هم السكان الأصليين لبلاد ما بين النهرين بتنوعاتهم وثقافاتهم الزاخرة، والتي هي جزء من هذا  الفسيفساء الكبير وقبس من نور أصلي، إذْ انطفأ عم الظلام وتفشى الجهل سائر المعمورة، وهو مع الأسف الشديد على وشك الانطفاء.

48
رغد صدام حسين بين نارين
أتت المُقابلة الحصرية من على قناة العربية لإبنة الرئيس الراحل صدام حسين لتُبين للمشاهد مدى هشاشة اللقاء والتدليس الإعلامي له. جاءت المقابلة في ستة أجزاء، تحدثت بها رغد عن تفاصيل عائلية، وأخرى سياسية واخرى عادية كأيّ عائلة عراقية آخرى. بعيدًا عن السخافات والسطحية التي قالتها رغد كمثل، أن شقيقها عدي كان يصوم يومين في الأسبوع، وأن والدها منعهم من شرب البيبسي كولا، والى أخره من هذه التراهات التي لا طائل منها، والجميع يعرف خاصة الخّدم  والمُراسلين الذين كانوا يعملون لديهم، والكثير منهم (مسيحيين) بالمناسبة والذي تشتتوا في بقاع العالم أجمع، أن هذا غير صحيح أبدًا، وإن ميزانية الدولة كانت  مُسخرة من أجل رفاهيتهم.
للوهلة الأولى بدت رغد واثقة من نفسه، تتحدث من منطلق القوة، ومن له سلطة، ويمسك بزمام الأمور والمبادرة، نعم هذا صحيح من نظرة أولية، ولكن في الأعماق كانت الصورة لديها مهزوزة، تتخبط في سردّ الحوادث والوقائع المصيرية التي آلت إليها الأوضاع، يشوب الحوار الكثير من الكذب والخداع. في البداية أرادت رغد أن تقدم نفسها على أنها رأس الحربة بعد نكبة العائلة بالرجال. تحدثت عن زوجها حسين كامل المجيد كثيراً، وقدمته أنه جندي جريء ورجل سلطة وصاحب خبرة كبيرة في شؤون الحكم والدولة. والجميع يعرف أنه لا يجيد الكتابة بالكاد يقرأ، لم يحصل على الشهادة الابتدائية، تبوء مناصب رفيعة في الدولة العراقية بواسطة الرئيس، والذي أصبح حماه لاحقًا بعد أن كان ضمن حاشية الحماية الخاصة. تقدم حسين كامل للواجهة بعد مشاكل عائلة واسعة بين الأخوة الغير أشقاء للرئيس، برزان، سبعاوي، وطبان، وبدعم من ساجدة زوجة صدام حسين، فأصبح الصهر المدلل على عناد الكل، وأخذ رتبة فريق أول ركن، ورئيس هيئة التصنيع العسكري، يتحكم في جزءً كبيرًا من ميزانية وثروة العراق. في النهاية لم يتحمل الصراع الشديد الدائر في القصر الجمهوري، والذي كان على المحك في تلك الفترة، فهرب الى الأردن وأعلن انشقاقه برفقة أخيه صدام كامل وزوجاتهم عام 1995. كذبت رغد أيضًا حين قالت أن قرار العودة الى العراق كان بدافع حب الوطن، وإن حسين لا يستطيع الابتعاد عنه، الصحيح وكما يعرفها الجميع اليوم أن المخابرات الأمريكية ال سي آي أي لم تُعيره أي إهتمام يذكر ولم تدعمه أبدًا، لأن مشروعها ليس شخص مهما كان منصبه، مشروعها هو تدمير العراق ككل. بعد خيبة الأمل هذه طلب اللجوء السياسي الى سوريا فرفضت السلطات في دمشق استقبالهم، تقدموا أيضًا بطلب لجوء سياسي أخر إلى إسبانيا، في البداية وافقت مدريد على الطلب بعدها بيومين تمَّ رفض الطلب، فلم يجدوا مناص غير العودة إلى العراق، خاصة بعد عفوًا رئاسيًا من صدام حسين شخصياً، ولكن حدث ما لم  يتوقعه الشقيقان أي حسين وصدام كامل، وبقية القصة يعرفها كل العراقيين وغير العراقيين.
تحدثت رغد كثيراً وبإسهاب في بعض الأمور العامة، ولكن حين جاء مقدم البرنامج الى سؤال مفصلي في تاريخ العراق وتاريخ المنطقة وحتى تاريخ العالم، إجابته إجابة ملتوية سطحية باردة، بعيدة كل البعد عن الحقيقة التي باتت معروفة للكل، فقد سألها عن أحتلال دولة الكويت، تلك الفاجعة التي ألمت بالعراق كوطن والعراقيين كشعب، والتي لم نستفيق منها حتى اليوم وربما لن نستفيق منها أبدًا، وهي أم المصائب على هذا البلد المسكين إذا جاز لي التعبير، وسببًا رئيسيًا في دماره، ولو قُيض له البقاء والارتقاء لكان أفضل بلد في المنطقة على الأقل، إجابته رغد في معرض ردها على السؤال (هم اخطأوا ونحن اخطأنا)، إلى ساعة كتابة هذا المقال لا يوجد شخص يستطيع أن يقول بماذا اخطئت دولة الكويت الجارة، هل في مسألة الحدود؟، هل في مجال المضاربة باسعار البترول؟، هل من أجل حقل نفطي تافه متنازع عليه ؟. لا يوجد سبب حقيقي واحد يسمح لبلد قوي في تلك الفترة أن يجتاح دولة جارة صديقة، والذي قدمت المساعدات السخية إبان فترة الحرب العراقية الإيرانية، ماذا كان يفعل محمد مبارك الفجي في بغداد كل شهر غير تزويد العراق بالأموال الكويتية، هذه حقائق لا يمكن غض الطرف عنها، أم اراد صدام حسين فرض إتاوة (خاوة) على الكويت البلد الصغير.
تظل المقابلة فقاعة صابون لا أكثر ولا أقل، لا تقدم ولا تؤخر بشيء سواء في داخل العراق أو خارجه. العالم تغير، خارطة المنطقة تغيرت كثيرًا خاصة خلال العقد الأخير، الوعي والسلوك العام للأفراد والجماعة تغير، لم يعد كما كان في السابق، اليوم هنالك منصات سياسية واقتصادية جديدة، تبدأ من التطبيع الكامل مع إسرائيل ولا تنتهي مع تفتت الدولة الوطنية القومية، أين سورية اليوم، وهي واقعة تحت نيرّ خمسة إحتلالات، إيراني، تركي، روسي، أمريكي، إسرائيلي. ماذا حلّ بالعراق المُفتت والواقع تحت هيمنة الأحزاب الشيعية والتي ولاءها أولًا وأخيراً للجمهورية الإسلامية. مصر صاحبة 106 مليون نسمة، اليوم تغرق في سيل جارف من الديون الخارجية والتي ما انفكت تزداد عليها يوم بعد أخر. العالم ككل تغير، وقواعد اللعبة السياسية الدولية تغيرت أيضًا، لا يمكن لعقارب الساعة العودة إلى الوراء ولا أن يسير التاريخ بشكل عكسي، كان هناك فترة حكم إنتهت مع أنتهاء المرحلة، العودة الى المربع الأول محُال.
تبين مع خلاصة المقابلات الستة أن رغد صدام حسين بعيدة كل البعد عن الواقع الحالي، ربما تريد أن تتبوء منصب ما على أساس أنها منقذة العراق، وهذه مجرد أضغاث الأحلام لا أكثر، من الصعوبة بمكان أن يتحقق بأي شكل كان.
تبقىَ رغد صدام حسين سطر ثانوي على هامش التاريخ والذاكرة، لا مقدرة لها على صياغة أو كتابة شيء في السَفرّ الكبير للأحداث،  لسبب بسيط واحد هو أن العالم تغير والتاريخ لا يعود للوراء مطلقًا.

49
المنبر الحر / الثقافة في حياتنا
« في: 04:17 07/02/2021  »
الثقافة في حياتنا
بقلم/ سلوان ساكو
في الكثير من الاحيان نطلقّ أحكامًا مستعجلةْ ومتسرعة على أشخاص نُقابلهم لأول مرة وتكون معرفتنا بهم قصيرة في الغالب الأعمّ، فنقول على هذا أنه شخص مُثقف وعلى ذاك أنه غير مثقف، فُلان صاحب شخصية قوية، أو صاحب شخصية ضعيفة، هذا له كاريزما وحضور بارز، وذلك لا يملك مُقومات النجاح... الخ، من الأحكام الغير دقيقة في مُجملها، لأنها جاءت حسب أهواء ومزاجية من يطلقها، بدون تفحص كبير للحالة ولا السياق الذي تكون به هذه الشخصية، حيث من الصعوبة بمكان تحديد كل الملامح والصفات والمهارات في وقت قصير وجلسة واحدة، لتتمحور وتتبلور الفكرة المُسبقة على الشخص ويتشكل وعينا ويكتمل نضجه لرسم هذه الصورة نحو الأخر حتى وإن كانت بعيدة عن الحقيقة.
ما يهمنا في هذا المقال هو مصطلح الثقافة بشكله العام من حيث العِبارة للكلمة، والدلالة للموضوع، وفي أيّ سياق تأتي به، فهذا مهم جدًا، فالناس في معظمهم ليسوا في وضعية واحدة دائماً، طبعًا لا يُفهم من هذا على أنه فصام بالشخصية (شيزوفرينيا)، أو اضطراب نفسي، فهذا موضوع أخر تمامًا لسنا بصدده الآن. فشخص ما يتطلب عمله أن يكون شديد العزم وصاحب شخصية قوية، في البيت يختلف الموقف والموقع فتختلف معها الشخصية. الثاني محيطه يتطلب منه الانصياع للأوامر والنواهي، في مكان أخر ليس مُجبر أن ينفذ تلك الاوامر والنواهي، هنُا تتغير الشخصية حسب الظرف والمكان والتوقيت، وهذا طبيعي جدًا، فلا يوجد  أبيض دائما ولا أسود دائما بين اللونين هناك الرمادي وألوان أخرى، لنقوم نحن بتأطير الصياغة المفاهيمية وندرك معانيها الحقيقية، حيث في الكثير من الاحيان ما تنخلط  علينا الأمور والدلالات المعرفية. لهذا السبب وليس لغيره جاء هذا المقال لإيضاح بعض الالتباسات الحاصلة في المجتمع.
يعتبر السير إدوارد تايلور مؤسس علم الأنثروبولوجيا الثقافية أول مع وضع تعريفاً للثقافة، حيث قال أنّ (الثقافة هي كل شيءٍ يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والعادات وأى قدرات اكتسبها الإنسان كعضو فى المجتمع). وقد عرفها  الفيلسوف الأمريكي ويليام هيرد كلباتريك بأنها، (كل ما صنعه عقل الإنسان من أشياء ومظاهر إجتماعية فى بيئته الاجتماعية)، بمعنى كل ما قام باختراعه واكتشافه الإنسان، وكان له دور فيه. فإذاً الثقافة عبارة عن مجموعة من الأنماط السلوكية تحكم الجماعة وتؤثر فى سلوكياتهم الموجودة فى تلك المجموعة، وبالتالي تُشكل شخصياتهم  وتتحكم فى خبراتهم وقراراتهم. وكل ما له علاقة بالتقاليد والاعراف والعادات التي توجد في كل مجتمع وبيئة ومنطقة حيث تربطهم معاير وأعراف مشتركة لتُشكل في النهاية حركة ثقافية خاصة بهولاء القوم، الجماعة، المَلة، العشيرة، وليس بالضرورة أن تكون الحركة الثقافية ندوة فكرية أو محاضرة فلسفية أو توقيع إصدار  أدبي جديد، كما سوف نرَ لاحقاً. أما على صعيد  أخر فنقول على إنسان ما أنه غير مثقف للدلالة على واقعة مرفوضة حين يكون قد أرتكب فعلاً غير لائقّ اجتماعاً، أو نطلق لفظ جاهل المتأتية من الجّهل، على شخص قد أرتكب  خطأً ما غير مُحبب وسط جماعة بشرية استاءت من هذا الفعل، حيث تسقط الآداب هُنا في منطقة مظلمة من اللاوعي الإنساني المتحكم في أغلب الاحيان في الوعي بالذات. وهذا ليس بالخطأ في الكثير من المواقف، حيث تكون تصرفاتنا غير مؤاتية مع مُحيطنا الذي نحى فيه. في محل ثاني نقول على الكُتاب والشعراء والرسامين والفنانين انهم مثقفين، وهذا ما نلحظه في تعريف الفيلسوف الإيطالي (أنطونيو غرامشي) للمثقف حيث يقول، (إن ما يحكم تعريف المثقف ليس الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني فحسب، بل الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المثقف لمجتمعه)، ففي  ثقافة كل  مجتمع Community culture يوجد جانب من جوانب السلوك الإنساني يشمل جميع ما يعرف بالوعي السلوكي للمجتمع Behavioral awareness of society، وينطوي تحت هذا المستوى كل الممارسات الاجتماعية، من لغة وفن وطعام وملابس وطقوس وموسيقى ورقص، ليغطي المصطلح كل مناحي الحياة. فتعرف الشعوب حسب ثقافتها، على سبيل المثال لا الحصر، ثقافة قبيلة الهيمبا في الشمال الغربي لدولة ناميبيا تقُدم نسائها للضيف كترحيب له، وتسمى هذه الفعالية إهداء الزوجة للضيف أو في لغتهم (أوكوجيبيسا)، هذا الفعل أو هذه الممارسة الغريبة في الثقافة العربية تعتبر عيباً كبيرًا ومرفوضة جملة وتفصيلاً، ولكن كتركيبة أنثروبولوجيا لها امتداداً عميقًا في ثقافة تلك الشعوب، وليس لها علاقة بالمنظور الاخلاقي، بل هي تركيبة مُترسبة في وعي تلك الجماعات من تلك البلاد، والبصق أيضًا مرفوض اجتماعًا لدى الكثير من الشعوب خاصة الشرقية، ولكن عندّ الشعب الماساي في كينيا يُعتبر شكل من أشكال البركة، كما أنه دلالة على الاحترام ويستخدمونها لتحية الاصدقاء في توديعهم ومغادرتهم. بمنظور أدق الثقافة هي الخصائص التي تُشكل سمات وهوية ذلك المجتمع والبيئة التي يعيش به هذا الإنسان.
لا شك أن هناك علاقة مترابطة بين الحضارة الإنسانية والثقافة حيث تشكلت وتبلورت عبر مئات السنين لتكتسب صفة أو نمط أو طريقة مُعينة، لتكون في النهاية هوية الشخص ذاته، ومؤشراً على سلوكه وأسلوب عيشه، ومن هنا يمكن أنّ نفهم لماذا كل هذه التذبذبات والاختلافات في الثقافات العالمية، وما اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، ألا لتحقيق نظرية قبول الأخر، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق، أو الدين، لأن الأساس هو المبدأ الإنساني الذي يضم الكل تحت مظلة الحب والخير والجمال.

50
عقلانية المّوت وجدليته
بقلم/ سلوان ساكو
في عام 2013 كنتُ في زيارة لمصر استغرقت أسبوعين، جلتُ خلالها الكثير من الأماكن التاريخية والمعالم السياحية، ومنها طبعًا أهرامات الجيزة التي تقعّ على الضفة الغربية لنهر النيل. منظر الهرم الكبير خوفو شدني كثيراً لضخامة البناء المُشيد قبل 2550 سنة قبل الميلاد تقريبًا، الطريقة الانسيابية للمبنى ورفع الكتل الصخرية الكبيرة في ذلك العصر والدهاليز والممرات والأنفاق الداخلية، ومواقيت شروق وغروب الشمس مع حِساب رياضي دقيق، كل هذه أدهشني حقاً. في طريق العودة إلى الفندق في شارع طلعت حرب، أخذني التأمل بعيداً، حيث أن كل هذه الأبنية الهائلة والصخور الجبارة ليست سوى مقابر تعود لأسر ملكية مصرية لا أكثر ولا أقل، المهم أستنتجت أن كل تلك المواقع ليست سوى أمكنة  لدفن الموتى، سواء بُعثوا بعد الموت أمّ لا، لكنها حتمًا نهاية شيئاً ما.
يلعب الموت دوراً أساسًا في التجربة الإنسانية برمتها من حيث الموضوع والغموض المحيط به. فمواجهة الموت مع نهاية الحياة الدنيا جدْ ضرورية بغض النظر عن طول المدة أو قصرها، فالمبدأ واحد، ولا مناص هناك من ردعه أو تأجيله أو إلغائه لفترة ثانية. تجربة الموت لا تتكرر ابداً، لكل شخص موته الخاص وتجربته الذاتية. كل شيء في هذا العالم يمكن أن يُحدد أو يؤجل أو يُترك نهائياً، التعليم، الزواج، العمل، السفر، حتى ولادة أطفال جُددّ ممكن أن تلغى الفكرة من أساسها، فقط فكرة الموت تبقى يقينية لا تتزحزح، لتترسخ في كينونة الشخص كشيء أصيل ينبغى عقلّه وفهمه وإدراكه. يؤكد حكيم أثينا سقراط على حقيقة خلود النفس بعد الموت، بمعني أن النفس لا تفني بفناء الجسد. بل هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة.
الإنسان واعياً لذاته لأنَّ وعيه نقله من مرتبة الحيوان إلى مرتبة أرقى نسبيًا. فهو الكائن الوحيد الذي يدفن موتاه، شاذٍ بطريقة مختلفة عن باقي الكائنات الحَيّة، ليرتفع ويرتقي عن الموجودات من حوله.
ليس بالضرورة الحتمية أن المُتوفى يموت ساعة دفنه، فقد أكدت الأبحاث والدراسات إن خلايا جسم الإنسان بمعناها البيولوجي لا تتوقف إلا بعد أسابيع من موت الشخص، ربما يكون هذا رفض أو تمردّ من نوع ثاني، يرفض هذا الإنسان الرضوخ والاستكانة والقبول من حوله ليجعل من الحياة منبرًا لأقواله وأفعاله، ولكن في النهاية الفناء الحتمي مصيره مع كل ما يبذله من مجهود، حيث سعى البشر ومنذُ البداية للرفض، فَهُوَ يرفض قبول الواقع من حوله كما يرفض فكرة الفناء ويحاول قدر الإمكان الخلود والبقاء. يقول الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل أن الرفض هو ما يـميّـز الإنسان عن سائر الكائنات، وما يشكل سـمتـه الرئيسية.
لا شك أن تكون الفكرة الأساسية التي تقوم عليها عقلانية الموت هي فكرة ديالكتيكية جدلية بامتياز، وتحول من الفيزيقي إلى الميتافيزيقي، من الطبيعة إلى ماوراء الطبيعة في حدود مجرد الفهم والوعي، إنها بعبارة أكثر عمقًا وتجردًا حيث تكمن الآنا.
الموت لدى مارتن هايدغر هو الإمكانية الوحيدة التي تُهدّدني كإنسان في كل لحظة من حياتي، وتجعلني إنساناً مهموماً على الدوام، الموت دائماً يصنع لي القلق الذي يحيطني أنا الإنسان المقذوف بي قسرًا في هذا العالم، يضيف قائلًا إن الموت هو أبرز الأحداث الوشيكة.
مرة ثانية مثلت فكرة الموت أو العبور أو الانتقال عبرَ كل العصور فكرة محورية لكل الشعوب والقبائل والأجناس عبرَ تأريخها الطويل في صيرورة دائمة وتعاقب الأحداث والثقافات لظهرت طقوس الموت والدفن في أغلب الديانات، حتى قبل الإبراهيمية منها، واختلفت طرق الدفن والتعامل مع الجثث، ولكن أغلب الحضارات استعانت بالقبور لأنها تمثل مكانًا فاصلًا بين مرحلتين، الأولى معلومة والأخرى مجهولة، حيث يستعد فيه الميت للحياة المقبلة أو البعث الجديد، الفرعون الميت كان يُدفن معه الخدم والحرس والحلىّ والطعام والشراب، على أمل النهوض بعد فترة وجيزة في العالم الثاني.
يشكل الموت نقطة العبور الإلزامية بين ما هو خاص وما هو عام، بين الفرد والنوع بين السلالة والأصل. يموت الفرد لكن النوع الذي ينـتمي إليه هذا الفرد يستمر. وموت الفرد هو شرط استمرارية النوع. بكلام آخر هنالك ضريبة يدفعها الفرد لاستمرار الحياة والنوع البشري.
يقول المفكر الفرنسي إدغار موران، بين ضرورات الموت الثلاث ضرورة الفكرة الميتافيزيقية المطلقة وضرورة النوع البيولوجية المطلقة وضرورة المجازفة المطلقة في سبيل التقدم الإنساني وتأكيد الذات.
يبقَ الموت لغز الألغاز، وسراً عميقاً لن نكشف مكنوناته الدفينة مهما كانت هناك أسئلة وإجابات مستترة خلف الكُتب وفي ثنايا المعرفة. تظل هناك أشياء غامضة في هذا الوجود، مِمَا يجعلنا نتأمل ونُفكر ونسرح بخيالنا بعيداً في فضاءات وعوالم ثانية لنتمكن في النهاية من بلورة فكرة نتكئ عليها ونراها مسوغًا لكتاباتا وحافزًا لتفلسفنا ودافعًا لبروز تلك الآنا القوية من صميم الذات. ربما تكون إِيذَاناً لميلاد جديد من رحمَّ عالم مجهول غير مرئي، من يدري؟.

51
إسكوبار بائع الزهور
بقلم/ سلوان ساكو
يُقال إنّ بابلو إسكوبار بارون المخدرات في كولومبيا، كان بائعًا للزهور في بداياته، تلك المهنة الشريفة والرقيقة التي تنمّ عن رهافة في الحسّ وذوقَ إنساني رفيع، كيف تحولت زهور الكاميليا وزهور الليلك وزهور الزنبق إلى الماريغوانا والقنبّ الهندي، ليتحول لاحقاً لأكبر تاجر مخدرات عرفته البشرية. مسؤول عن أدخال أكثر 80% من الحشيشة إلى الولايات المتحدة وحدها، مِمَا أدخل له من أرباح قرابة 60 مليون دولار يومياً، وموزع حصري في الأميركيتين، وثروة لا تعد ولا تحصى، حتى أكتشف في يوم ما  إن الفئران تقضم ما يقارب 2 مليار دولار سنوياً بسبب سوء التخزين والحفظ. وحتى البرد كان له نصيب من هذه الثروة الطائلة حين أصابة أبنته والذي كلف تدفئتها 2 مليون دولار، لم تمنع كل هذه المليارت وجبال من النقود والذهب والفضة من أختراق رصاصة زهيدة لا تساوي سنتات بخسة أذنه اليسرى والخروج من الجهة الثانية في وسط عرينه، كان ذلك في الثاني من ديسمبر عام 1993.
جيفري إبستاين، رجل اعمال أمريكي بدأ حياته كمصرفي بسيط ثم كون ثروة بعد ذلك لا بأس بها، حتى شكل شركته الخاصة وسماها ج. إبستاين وشركاه. رجل طموح ومُثابر، وبفضل الكاريزما والذكاء الذين تمتع بهما نجح في جذب كبار الأغنياء حول العالم، وصل خلال فترة قصيرة نسبيًا إلى درجة الملياردير وصاحب العلاقات الواسعة في عالم المال والاقتصاد والسياسية، ومع كل النفوذ والجاهّ والمال كان هوسه الجنوني الشاذ بالفتيات الصغيرات القاصرات لا ينقطع، فدخل باب تجارة الدعارة من بابها الواسع في مغامرات انتحارية والتي قادته في نهاية المطاف إلى الانتحار في سجنه يوم 10 اغسطس من عام 2019.
نماذج عديدة من التجارب تنسجها خيوط أحداث كثيرة منها ما يكون سعيد ومنها ما يكون تعيس، وكثيرًا ما تتبدل حيوات البشر في تقلبات شتى، فمن يسعى الى الأفضل بكل جهد ومثابرة حتى يصل إلى هدفه المنشود والأمل المرجو، ومن يركض سريعاً للهبوط إلى الدرك الاسفل في هذه الحياة. هذه هي دراما البشرية في تراجيديا ما تنفك إن تتكرر دومًا، ولكن يظل قول المعلم هو رأس الحكمة في فلسفة هذه الحياة المُعقدة حيث قال (لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟).

52
المنبر الحر / قتل بلاَ قيدّ
« في: 04:57 05/12/2020  »
قتل بلاَ قَيدّ
بقلم/ سلوان ساكو
لسنا ننشد عالمًا خاليًا من القتل، نحن ننشد عالمًا لا يصبح فيه القتل مبرر. من رواية الغريب لألبير كامو.
تُشكل الأحداث والوقائع التي تتبلور من حولنا الى فهمّ أعمق وتصور أوضح، بعد أن نضعها تحت المجهر ونسبر أغوارها وندخل في دروبها الوعرة ومجالاتها الضيقة لنخلق تصور هُنا واستنتاج هنالك لذلك الحدث أو تلك الواقعة، لنخلق لاحقاً رأي يتماهى ولو بشكل مقارب نوعًا ما للفعل أو الواقعة بحدّ ذاتها، لأن عملية التطابق والتناسخ تكون مستحيلة في تحديد الأفعال، لأنّ لكل حالة خصوصيتها وفردنياها، حتى وإن تشابهت بذات الفعل ونفس الدوافع، فمثلًا جريمة القتل واحدة، لكن تختلف في التفاصيل والسياقات التي جاءت به، لتضعنا أمام مشرط الجراح، فنقوم بعملية تفكيك خيوط الجريمة الحاصلة،  ليس من الناحية الجنائية وهذا ما ليس اختصاصنا، وإنما عن طريق خط سيكولوجي نفسيّ، وبعد فلسفي عميق، لتظل الأسئلة هنا تتناسل الواحدة من رحم الأخرى في صيّغ شتى ومحيرة في الكثير من الأحيان، أو حتى تقودنا نحو طُرقْ مسدودة غير مفهومة، نقف ازائها حائرين لا نفقه شيء. لماذا البشرية في قِتال أزلي الواحد مع الأخر منذ القِدم، لماذا كل هذا الانتقام من ذات الجنس الواحد، إلى أين يُفضي طريق الجريمة، لماذا قتل قابيل أخاه هابيل، وهل حقاً البشرية برمتها حسب الميثولوجيا القديمة من نسل القاتل، لأنهم كانوا أثنين فقط، مات البريء وظل القاتل. والسؤال الأهم  ما فائدة أو معنى الحياة مع هذا الكم الهائل من القتل والجرائم البشعة والانتهاكات والاغتيالات والحروب التي ما انفكّت تزداد قتامة وشراسة يوم بعد أخر، وتتطور وتأخذ صيغْ حديثة كلما توسعت مدارك ووعيّ ومعرفة هذا الإنسان الذي يسعى دومًا وابداً إلى قتل أخيه، في بعض الأحيان بسبب وفي كثير منها بدون سبب، كما يدل ذلك من الأفعال البشعة والحروب الدائرة كل يوم تقريبًا لنحصل في النهاية على عناوين بالخط العريض، تُفسر هذه الوضعية الشاذة التي بات البشر أسرى لها.
جريمة بشعة قام به أحد الشبان  من أبناء الجالية العراقية، قبل فترة وجيزة أثارتَ ضجة كبيرة في ولاية مالبورن الاسترالية، حيث قام بقتل فتاة بعمر الورد ذات 23 ربيعًا، جميع دوافع الجريمة، وحسب الأخبار يشوبها الغموض والإبهام!، من نوع كان يحبها حباً جماً وتخلت عنه، أو طُرد من العمل بسببها، المهم في نهاية هذه التراجيديا، دخل إلى بيتها فجرًا وطعنها بالسكين، وجرى راكضاً يسلم نفسه للشرطة ويديه مخضبة بالدماء، لتنتهي القصة وتأخذ طريقها نحو القضاء وتحقيق العدالة واكتساب الدرجة القطيعة من الحكم، وبالتالي الحبس وراء القضبان لما تبقى له من عّمرَ، وهو أبن الخامسة والثلاثين. المسألة ليس في الجريمة بحد ذاتها،  فيوميًا تحصل آلاف الجرائم حول العالم، وأنما في الفعل والذي يصوغ جوانب عديدة من تجاربنا  والذي يُعبر عن تلك المأساة الحقيقية للفرد الواعي، لتُصار في النهاية تجسيدًا عينيًا لحياتنا البدائية التي فُطر عليها الكائن البشري منذُ الإرهاصات الأولى للتفكير، حيث كان نزوع الإنسان يميل نحو الشرّ والحسد والبغضاء والكراهية، وعلى هذا المبدأ قامَ الأخ بقتل أخيه خلسة تاركًا تلك الجريمة أو التدشين الأولي في ثنايا تصورات ذهنية ازدادت قتامة مع الوقت حيث تمت صياغتها مع تحددَّ الوعي بالفكرة ذاتها، هُنا علينا العودة إلى جذور تلك العلاقة لفهم أشمل لمفهوم فعل القتل النفس ذاته وطبيعة تلك العلاقة بين المجرم والضحية، وكيف لاحقاً يتكيف الإنسان مع جريمته لتصبح أمر عادي مع مرور الزمن، أو تُنسى أو تتناسى مع الأيام. ويأخذني هنا قول والدة ميرسو في رواية الغريب لكامو، (إن الأمر لينتهي بالإنسان على أن يتعود على كل شيء). بمعنى من المعاني أن هذا الإنسان يتكيف مع كل ما يحيطه من ظروف وأنّ كانت تأنيباً للضمير أو الشعور بالخزي والعار، ولكن في نهاية الأمر تبدو عادية جدًا ليُخلق منها عوالم ومدارات خاصة، حتى وإنَّ كان يقبع المتهم خلف زنزانة مظلمة أو اقبية باردة. لنستنتج من كل هذه الأسطر، أنّ الجريمة تحصيل حاصل وقد رافقت البشرية على مدار التاريخ لتكون واحدة من أشد المعضلات إشكالية وجدلية في الحياة ومحل تساؤل ونقاش دائماً.

53
الفتىَ الحالم، أوراق من التاريخ المُبعثر.
بقلم/ سلوان ساكو
(أيها الفتى الحالم حين كنتَ مراهقا تلهو مع اقرانك في العراق كنتُ أنا أقود البعث في سوريا). هذا كان ردّ منيف الرزاز على وساطة صدام حسين.
في الطائر المنطلقة من عَمان بتجاه العاصمة العراقية بغداد، كان الملك الراحل الحُسين بن طلال يفكر بكيفية إقناع الرئيس العراقي صدام حسين بأخلاء سبيل الدكتور منيف الرزاز سوري الأصل أردني الجنسية، والعودة به الى الأردن، المهمة صعبة جدًا ومن المستحيل إقناع صدام بأمر كهذا، هكذا يقول حدسّ الملك الراحل، ولكن لا بئس من المحاولة. على ضفاف نهر دجلة وبعد وليمة دسمة من السمك المسكوف، فاتح الملك الرئيس بالأمر، أخذ صدام دقائق يتأمل النهر الجارف من حوله قبل أن يردف قائلًا، اذا تركنا منيف يخرج فسيكتب مرة أخرى التجربة الأمرّ، في إشارة إلى استمراره في النقد الشرس. كانت الإجابة أكثر من واضحة بالنسبة للملك، وأيقن ساعتها إنَّ الدكتور الرزاز لن تطأ قدماه المملكة الهاشمية ما دام يبصر نور، عاد الملك إلى المملكة خالي الوفاض. وظل منيف الرزاز في بيته في حي القادسية  تحت الاقامة الجبرية إلى أن مات في أيلول من عام 1984. تقول زوجته الأديبة لمعة بسيسو، (لقد خلق لنفسه أعداء كثر، إثر انتقاداته للبعث في العراق خاصة في كتابه التجربة المرة والذي أثار حفيظة صدام حسين بشكل خاص). من جانب ثاني عارض منيف حرب العراق مع إيران، قائلًا للرئيس (إن الحرب مكانها في فلسطين).
بدأت ملامح الصراع الأيديولوجي بين الإثنين تتبلور من خلال المواقع التي شغلها الدكتور منيف الرزاز، ففي عام 1965، انتخب أمينًا عامًا للقيادة القومية لحزب البعث، فانتقل إلى دمشق، قبل أن يغادرها إثر انقلاب شباط عام 1966، هُنا حكم عليه بالإعدام غيابيًا، فعاد للأردن وبقي فيها حتى سنة 1977 حين انتخب أمينًا عامًا مساعدًا لحزب البعث في بغداد، فستقر به.
منذ البداية لم تكن الأمور بين صدام حسين  والأمين العام المساعد للحزب الدكتور الرزاز على ما يرام، لتتخذ أشكالًا عديدة من المناكفات والسجالات ضمن دائرة البعث الضيقة. صدام وصعوده السريع في صفوف الحزب، وفي منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، والماسك الحقيقي بمقاليد السلطة والدولة امنياً وسياسياً، والمتحكم بمفاتيح الحكم، من جهة أخرى الدكتور منيف الرزاز أمين قومي مساعد للحزب، ورجل ذو باع طويل في العمل النضالي على الصعيد العربي، وله كلمة في الأوساط الرفيعة للبعث محليًا وعربياً، صحيح لم يكن عراقيًا، ولكن في تلك الفترة من أواسط السبيعنيات كان للبعد القومي العربي وضع خاص، فكان لا بد من التصادم الحتمي بين الرجلين. بعد حادثة قاعة الخُلد المشهورة في العام 1979. اتخذ الرزاز موقفًا أكثر تشددًا من القضية برمتها وشخصية صدام حسين ذاته، الأرشيف الغير مُعلن يحمل الكثير من التفاصيل، حيث حاول صدام امتصاص غضب الرزاز، وعرض عليه سماع شهادة أحد اعضاء القيادة القومية الموثوق بهم بتفاصيل المؤامرة المزعومة ضد الحزب والدولة، هنا وحسب أقوال الشهود من بقية منهم حيّ، صرخ الرزاز بوجه صدام وقال له بالحرف الواحد( أتشكك بكلامي وتريدني أن اسمع لذلك الجبان). هنا قُطعت شعرة معاوية بينهم تمامًا، وطلب من صدام حسين، أن يطلق جميع الرفاق المعتقلين، وبعد ذلك يتم التحقيق كل شخص على حدة ويحاكم من تثبت أدانته فقط، لم يتحمل النائب الشاب وقتها هذا القول وأمر بوضع الرزاز تحت الإقامة الجبرية. حاول القائد المؤسس فعل شيء ولكن لم ينجح في مساعيه، لإنه ذاته كان متهم من قِبَل الرزاز بنقل الكثير من أفكاره من كُتب ليون تروتسكي، تشكلت وساطات عربية وجهات متنفذة داخل العراق وخارجه لأصلاح ذات البين ولكن كل الجهود ذهبت ادراج الريح، فقد قضىّ الأمر.
النقد اللاذع لإدارة الدولة والحزب كان من أبرز سمات منيف، فقد كان ناقداً لا يتهاون مع أحد، مبادئه واضحة لا يُجامل أحد على حِساب الآخر، مما رفع كلفة عمله السياسي طيلة حياته، فقد كان ينتمي الرزاز إلى مدرسة مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها الباقين، لتصل في نهاية الأمر لطريق مغلق من جميع الجهات، يقول الروائي مؤنس الرزاز صاحب رواية الشظايا والفسيفساء (أن والدي كان يعرف هذا المصير، ولكن أبشع شيء أنه عوقب على ذنب لا يعرفه، وعلى خطيئة جاهلا بمحتوياتها).
لا ضير اذا كتبنا بين الحين والآخر عن تجربة وفترة حكّم البعث في العراق، وهي فترة ليست بالقصيرة أبدًا، قد تُناهز الأربعين عاماً، بكل ما عليها من سلبيات وإيجابيات، والتي أثرت ومازالت تؤثر على المشهد والأحداث من حولنا، في سياقات سياسية وتاريخية وأيضًا إجتماعية مختلفة، لتؤول في النهاية الى التراجيديا ما نحن عليه اليوم من صورة ضبابية إزدادت قتامة وسواد بعد مجيء مجموعة من الأوْباش واللصوص الى الحكم بعد 2003، من سدنة المال والفاسدين، كل هذا أرخ لاحقًا لمرحلة خطيرة دخل العراق بعد عام التغيير، ليتشكل مع كل هذا خليط عجيب غريب من الأحزاب السياسية والميليشيات المسلحة والتيارات الدينية السلفية المتشددة، تفرض أجندتها بالقوة والعنف والتصفيات الجسدية، ولاءها الأول والأخير للجمهورية الإسلامية ودولة الملالي، ولتأكل النار الأخضر  واليابس في العراق، وليذهب الوطن إلى هاوية جحيم  دانتي ما زال القائمين على الحكم والمتنفذين في الدولة تمتلئ جيوبهم وأرصدتهم الخارجية بالمال والنفط المسروق. تواطؤا في تخريب البلاد، الجميع لصوص بدون أستثناء، هذا ما يقوله المشهد السياسي العراقي اليوم، بعد ثمانية عشر عامًا من الاحتلال، والذي أثبت بجدارة فشل المشروع الأمريكي وفشل نظام الحكم الذي وضعّ أُسسه بول بريمر، وهذا ما تؤكده الإدارات الأميركية اللحقة التي جاءت بعد فترة حكم جورج دبليو بوش لتنسدل الستارة على المشهد العراقي في إطلالة مأساوية كارثية يرثى لها، سرعان ما تصبح كوابيس تخنق العراقيين.

54
الاستاذ العزيز knara drokha المحترم :-
انا ممتن لك في المشاركة في التعليق المهم الذي جادَّ به قلمك الحر، وقد اوضحت بعضًا من جوانب السياسية السلبية التي تسود هذا العصر، فشكراً لك.

55
الكاتب العزيز وليد حنا بيداويد المحترم:-
شكرًا جزيلاً على المداخلة القيمة في سيَاق الموضوع.

56
الهزيمة الأرمنية والانتصار الأذري
بقلم/ سلوان ساكو
لمّ يكن النزاع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ متكافئاً منذ البداية. هذا كان جليًا حتى للمُتابع العادي للأحداث، ومن أنطلاق الرصاصة الأولى من فوهات البنادق. ما حسمّ الصراع سريعاً لصالح باكو هو دخول المرتزقة التركية من السورين والجيش التركية ذاته على خط القتال وأن كان بشكل مُستتر، مما أعطى دفعّة قوية للقوات الأذرية في مواصلة المعارك والدخول في عمقّ الإقليم المتنازع عليه منذ عقدّ التسعينيات والاستحواذ على الأراضي. في المقابل تُركتّ أرمينيا لوحدها تخوض غِمار الصولات على الجبهات المشتعلة بنيران الرصاص المضاد والقوي، في حين كان الدبْ الروسي يقبع في سّبات عميق. حاولت فرنسا في البداية أن تتدخل، وحاول إيمانويل ماكرون أن يفرض رأي أخر على أبجدية الصراع على جبهات القتال وأن يقدم يدّ العون للأرمن، ولكن في نهاية المطاف لم تنفع كل الجهود المبذولة في جمع الحشد والتاييد من بعض الدول الأوربية ففشل المشروع الفرنسي لتقديم العونّ والمساعدة للحليف الأرمني. على الجانب الروسي كانت موسكو تفكر كثيراً في مساعدة الجارة العاجزة في الدافع عن أرضهم وقوميتهم وبقائهم، والتي تربطهم ببعض إتفاقيات مشتركة للدفاع والأمن، فأصيبوا بخيبة أمل كبيرة وطعنة في الظهر لم يتحملوها، في نهاية الأمر لم تنفع المُقاتل الأرمني كل تلك الاغاني والرقصات والدبكات والأهازيج لشحذَّ هِممّ الجنود في ساحات الوغى.
حصل اتفاق بين الطرفين الأرمني والأذري، أو لنقل بصورة أدق هزيمة للطرف الأرمني، هنا كان وصف رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان دقيقاً (الاتفاق مؤلم جدًا)، مِمَا سبب  في اندلاع موجة غضب شديدة في أرمينيا، واقتحم محتجون مبنى البرلمان في العاصمة يريفان، واعتدوا على رئيس البرلمان بالضرب.
في بداية النزاع عولت أرمينيا على الحليف الرئيسي لها وهي  روسيا، ولكان تبين لاحقاً أن موسكو لها أجندتها الخاصة ونمر من ورق لا غير أمام الجحافل التركية التي جاءت على وجه السرعة للصف والقتال مع قوات أذربيجان المتقدمة بتجاه كاراباخ. كل هذه الأحداث أرخت قبل أيام لإتفاقية تنازل عن مقاطعة  شوشا أو شوشي للحكومة الأذرية واخلائها من جميع سكانها الأرمن. فما كان من قاطنيها غير حرق منازلهم ومحتوياتهم قبل المغادرة القصرية.
مرة ثانية تخاذلت روسيا أمام تركيا، الدرس كان واضحًا منذ العام 2015 حين أسقطت الدفاعات التركية المقاتلة الروسية سوخوي 24 عن قصد وعمد وقتل أحد طياريها وأسر الثاني. لم تفعل شيء موسكو إزاء الحادث غير التصريح البارد من عاصمة الثلوج. علامات الانكسار والهزيمة واضحة في شوارع العاصمة يرفان، والانتصار والفرح في شوارع العاصمة باكو، هذه هي الحقيقة دون مزيدة، لا داعي لنكأ الجراح أكثر.
شئنا أم أبينا ذلك، تبقى أنقرة ماسكة ومسيطرة على الأمور في مناطق عديدة من العالم، ليبيا، سوريا، الشمال العراقي، قطر، وغيرهم، ولم تكن الزيارة الأخيرة للرئيس أردوغان للشطر التركي من جزيرة قبرص المحتلة، وبالذات مدينة فاروشا الحدودية مع قبرص اليونانية غير رسالة واضحة المعالم، أن هنالك ثمة متغيرات جديدة على أرض الواقع تفرضها أنقرة متى تشاء، وأن تركيا ماضية في سياساتها التوسعية غير أبهة بأحد، لا أوروبيًا ولا حتى لأمريكا ذاتها.

57
المنبر الحر / جنون العّقل
« في: 04:11 07/11/2020  »
جنون العّقلَ
بقلم/ سلوان ساكو
لم تتصور إيلين ريتمان يومًا ما أن تلقى مصرعها خنقًا على يدّ زوجها الفيلسوف والمفكر  الفرنسي الماركسي المشهور لويس ألتوسير، في 16 نوفمبر من العام 1980، بعد أن أصابته نوبة جنون، مما دعا رئيس فرنسا وقتها جيسكار ديستان أن يقول مقولته الشهيرة، (هل يوجد دولة تحبس عقلها). في النهاية التحقيقات أُودع ألتوسير، محتجز  سانت ـ آن، للأمراض العصبية إلى أن مات عام 1990.
 يتساءل الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، (هل يمكننا الانتشاء بالتدمير). هنالك جدلية بين الإبداع والتدمير، الفكر الحر  الخلاق والركون إلى العقلانية من الداخل لتفرز انماطا مختلفة من الأفعال نحو الخارج تظهر لاحقًا للعلن شاذة في أحيان كثيرة، وغير مقبولة اجتماعيًا.
 في فلم K-PAX، والمُنتج سنة 2001، يظهر  رجل من الفراغ وسط محطة قطار ويدعي أنه آتٍ من كوكب آخر أسمه k-pax. أراد البطل خلق عالم أخر يتماشى مع تطلعاته وتوجهاته الخاصة. الممثل كيفن سباسي ابدع في طرح الفكرة العبقرية في كيفية أصابة عَالمّ رياضي فذّ بصدمة عميقة تؤثر على عقله فيصرح أنه أتٍ من كوكب يبعد عن الارض الف سنة ضوئية.
يقول ميشيل فوكو (الجنون يغري لأنّه معرفة، إنّه معرفة لأنّ هذه الصور العبثية كلها تمثّل في الواقع عناصر معرفة صعبة، ومنغلقة، وباطنية، إنها تجربة في ميدان اللغة، واجه من خلالها الإنسان حقيقته الأخلاقية بقواعد جديد).
ظلت تلك الفتاة الصغيرة مُلازمة للبروفسور جون ناش كل عمره تقريبًا ، كان المفكر العبقري الحاصل على جائزة نوبل للفيزياء لأحد عشر نظرية هو خلقها من الفراغ، طوال فترة حياته كان يتقدم في السن والفتاة تظل في نفس العمر، كان يراها في الجامعة وفي المؤتمرات وفي المشفى وفي البيت، ربما تكون صور الفتاة  تنمّ عن مرض عميق في التفكير يتمحور حول انواع شتى من الإسقاطات العقلانية فقط هو من كان يُشاهدها ويلاحظ وجودها.
حينما توقف الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أمام حصان يجرّ عربة حيث كان الحوذي يضربه بالسوط بوحشية، صار نيتشه يصرخ بأعلى صوته وسط المارة، اتركه فهذا أخي، هامسا في أذن الحصان، ( أنا أفهمك). هنا كان الجنون قد اطبق عليه تمامًا وتركه يرقد في الفراش أحد عشر عامًا دون حديث. في كتابه هكذا تحدث زرادشت قال (دائماً يوجد بعض الجنون في الحب، لكن دائماً يوجد بعض المنطق في الجنون أيضاً). تتلاءم هذه العقلية مع مفاهيم غريبة كتبْ به نيتشه مؤلفاته.
 قديماً قيل إن ما بين العبقرية والجنون شعرة واحدة. هناك دومًا ثغرات وهفوات وحماقات في عقلية كِبار المفكرين والمبدعين والعباقرة لِتظل مستترة خلف قناع الوقار والحكمة والنبوغ، من الممكن جدًا من يصنع التاريخ أو يُغير مجراه يكون شاذ التفكير، بمعنى عبقري أو مجنون، ألم يكن الرسام الهولندى فان جوخ عبقري ومجنون في آن واحد، ليمزج تلك الألوان مع بعضها وتظهر في النهاية لوحة فنية تُباع بملايين الدولارات. ألم يكن هاينريش هيملر مجرم حرب وعالمًا في الإنتاج النباتي في نفس الوقت.
العشوائية والفوضوية جزء من هذا الكون، والبشر جزءا من هذا الكون ايضا وهذا يحدد حالات العبقرية والجنون  السويتين الموجودة عند البشر.

58
العزيز IUCiAN المحترم:
شكرا على المداخلة في سياق المّقال.
في البداية قصة المرأة العراقية على جسر الأئمة، أكثر متداولة ومعروفة من زوجة جوبلز وزير الدعاية النازي، لكون الأولى جاءت متلبسة بالجرم المشهود عبر منصات التواصل الاجتماعي المرئية بكافة أطيافها.
في التعليق جاء ما يلي، ( انا شخصيا احس بظلم مزدوج يقع على المراة العراقية)، وهذا ليس دقيقًا جداً كما اظن، فكل ما يقع من ظلم وحيف وامتهان للكرامة، لا يعطي الحق مطلقًا بأنّ تقوم أم بقتل أطفالها، مهما حدث. فالعنف الاسرى والضرب اليومي شيء والقتل مع سابق الإصرار، شيئًا أخر، ففي خضم هذا المعترك يوجد جملةٌ من الحلول، أولها الطلاق، الانفصال، هجر بيت الزوجية....الخ.
في القسم الثاني من الرد، جاء التالي،(وبالتالي هي تفكر بانها تقدم خدمة لاطفالها عندما تقوم بتخليصهم من هذا العالم). إذا كان الموضوع على هذا النحو فأننا إزاء حالات مرضية مُستعصية وخلل في وظائف المخ، كي لا نعطي تبريرا للفعل الشنيع، ونقع في حفرة التأويلات والاستنتاجات الخاطئة. فالسيدة التي كانت على جسر الأئمة مثلاً كانت واعية تماماً لِمَا كانت تقوم به، وعلى هذا النحو اختارت وقتً يكون فيه حركة المارة والسيارات قليلة لتنفيذ مُخططها، ولولا وجود كامرات المراقبة، لما تمكن أحد من اكتشف الجريمة.
كل شيء يحدث له سياق يوضع فيه، لنتوصل في نهاية الأمر لتحليلات منطقة واجوبة تُساعدنا على فهم الواقعة أو الحدث من حولنا بشكل أفضل وصورة أشمل.

59
قتلْ الأحَياء من الأطفال
بقلم/ سلوان ساكو
لم يرفّ لها جفنٌ، ولا شعور بأيَّ ذنَب، ولا تأنيب ضمير من أي نوع كان، حينما أقدمت ماغدا رتشيل جوبلز، Magda Goebbels، بقتل أطفالها الستة بدماً باردًا، مع زوجها وزير الدعاية النازي في عهد أدلف هتلر يوزيف جوبلز Paul Joseph Goebbels، فبعد أن حاصرت قوات الحلفاء العاصمة برلين عام 1945 وانتهاء فترة حكم حزب العمال القومي الاشتراكي، النازي. إنتهت حياة جوبلز المهنية، فلم يرَ مناص غير الانتحار هو وعائلته جميعاً، فتم إعطاء الأولاد دواءً منومًا في البداية، بعد ذلك تم تسميم الستة بالسيانيد على شكل قطرات عن طريق الفم. قتلتهم واحدًا تلو الآخر دون رادع أو خوف أو شعور بالذنب حتى، إلى أن أُزهقت ارواحهم البريئة معاً. إحساسا من نوع ما انتاب الفتاة الكبرى هيلغا، فسألت أمها عن سبب نوم أخوانها الخمسة بهذا الشكل الغريب مع زرقة باهتة تلوح على الوجوه ووهنّ ملحوظ، فقالت ماغدا أنهم ليسوا نائمين، بل أنهم موتى، ونحن سوف نلحق بهم أيضًا الأن، فليس لدينا شيء بعد على هذه الأرض نعيش من أجله، فقد مات الفوهرر. وبعد أن تم قتل الستة، قاما الأم والأب بالانتحار أيضًا.
حادثة جسر الأئمة الأخيرة في العراق مُتشابها من حيث دلالتها وبعدها السيكولوجي النفسي، وذلك الخلل في وظائف مهمة من المخ واضطرابات الدماغ والأعصاب، والتي سولت  لأم بأن تقوم  بقتل أطفالها دون وازع أو رادع، بعيداً عن التأويلات العقائدية، نعم يمكن أن يوجد اختلافٌ كبيرٌ في الحادثتين من ناحية السياق، أي سياق الجريمة، ولكن يظل مبدأ القتل واحد.
أم تسير الهوينى على جسر الأئمة وسط العاصمة بغداد، يربط الجسر الكرخ بالرصافة، المارة قليلون وحركة مرور السيارات محدودة في تلك الساعة المسائية النحسة، ولكن التقنية الحديثة متوفرة، لتكشف المستور وتلتقط خيوط الحكاية المأساوية. تنظر الأم ذات اليمين وذات الشمال، وعندما لا ترَ أحدًا ترفع حر الذي لم يعد حراً اليوم أولًا، وتلقي به وسط نهر دجلة الجارف وهي تنظر إليه كيف يبتلعه الماء المخضب بالأرواح البريئة، لم تكتفي بذلك بل بعد ثواني قصيرة من زمن الهلاك والشر المتفشي في ثنايا نفسها المضطربة المريضة ترفع الطفلة معصومة وترميها أيضًا في عُمق اليمَّ المُهلك لتتوارى عن الأنظار خلال لحظات سرمدية من عمرها الغضّ الضائع، أراد دجلة المسكين إعادة الطفلين إلى حضن أمهم الدافيء، ولكن أبت أن تأخذهم مرة ثانية، لقد فقدت الآن غريزة الأمومة الأساسية، وباتت في منزلة أدنى من منزلة الحشرات بكثير. فذهبوا تتقاذفهم أمواج باردة في هذا الفصل الخريفي الأسود الى لحداً مائياً لا قرارة له. هكذا توصل البشر في عزل إنسانيتهم وبلوغ الدرك الأسفل من العنف والشر والكراهية.
في مملكة الحيوان، حينما يموت مولود أنثى الشِمْبانزِي الحديث الولادة لسبب أو لآخر، فأنها لا تتركه بسهولة، تظل متشبثا به، تُمسدّ شعره، تُمرر كفها عليه بحنان غريزي، دلَّكه، تُقبله، تأبى أن تصدق إن وليدها قد فارق الحياة، إلى أن يأتي زعيم الجماعة ويقنعها بصمت بأن الذي بين يديها قد مات ولا جدوى من كل ما تفعله، ذلك الحين فقط ترضى أن تتخلى عن طفلها وهي دامعة العينين. لنعرف إنّ الإنسان إذا استخرج دوافعه الهمجية ومكامنه الشريره، ونوازعه البدائية يصبح أسوء من الحيوان بكثير، لا بل الحيوان ذاته يخجل من أفعال الإنسان إذا وعاها وعقِلها.

60
الأستاذ العزيز متي اسو المحترم:
شكرا جزيلاً على الكلمات الرقيقة التي وصفتَ به المّقال، وهذا طبعًا ينمّ عن ذوق رفيع ورهافة عالية بالمشاعر والثقافة.

61
الاخ العزيز Eddie Beth Benyamin  المحترم، شكرا  جزيلاً على المداخلة  المهمة  في  ذات  الموضوع.
حينما كتبتُ مقال نحن والصور، لم يكن القصدَّ من ذلك هو الفوتوشوب أو الرتوش أو التعديل أو التلاعب في الصور الفوتوغرافية، ابداً،  كانت  الغاية الأساسية من ذلك هو بُعد اللقطة الفلسفي العميق المُتأصل في وعي وعَقل الإنسان الدارك لللحظة، لتتمحور هذه الصورة المجازية لاحقاً إلى ذكريات وومضات داخلية، الصور الخارجية  كانت  مجرد تحريك  أولي لِمَا  تجيشُ به النفوس من مشاعر وأحاسيس وقلق وجودي من مراحل العمر الضائع، لترتبط في النهاية بمشهد أو ومضة مرَّ بها الشخص ذاته، ولكن مع القِدمَّ  وتراكم  الذكريات  أصبحت نسيا منسياً، إلى أن جاءت الصورة لتستحضر روح تلك اللحظة، فهي  في نهاية  الأمر  إِشارة  لتحريك  الشعور الغائب في دهاليز الوجدان.

62
نحن والصور الفوتوغرافية
بقلم/ سلوان ساكو
ضمنّ سلسلة مقالات نحن، قررتُ اليوم الكتابة عن الصور الفوتوغرافية، سواء كانت القديمة بالأسود والأبيض، أو الحديثة منها نوع الديجيتال الرقمية فالهدف واحد دون شكّ.
أحد الفلاسفة المعاصرين قال إن الصورة نوع من القيامة، ربما يحتوي قوله على نوعًا من الغموض الغير مفهوم، فما علاقة القيامة بالصور بشكلها العام، وما الرابط بينهم بالأساس، لتظل تلك الاسئلة مستترة خلف نوعًا آخر من الإجابات، وهذا هو دَيَدن الفلسفة من يوم ما أُنشأت إلى اليوم.
كاميرا  KODAK تلتقط صورة أو شكـل Form، لإصبية عددهم سبعة، قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، تتداول هذه اللقطة على منصة التواصل الاجتماعية، من فيسبوك إلى سناب شات إلى تويتر، الصورة حاملة للحقيقية بشكلها الطبيعي، فالمجموعة التي كانت في اللقطة كبرت، لا بل منهم من أنتقل اصلاً من هذه الحياة، والآخر موجود، تشتت شمل الجميع ولكن اللقطة باقية، اللحظة التي تم فيها سحب الصورة فعليًا أنتهت مع وميض الكاميرا، وانتهت أيضًا من عُمر الصبية ذاتهم، فهيَ أي اللحظة في النهاية لن تعود مهم حصل، لتظل الصورة فقط، ومن هنا تصبح الصورة ذاكرة لمكان أو لشخص، لم يعد لهم من وجود.
المصور، أو حامل الكاميرا شاعر ورسام، من نوع خاص، تسربل برداء الومضات من خلال الصورة الشاعرية الخيالية أو الذهنية لأن الكون مليئاً باللقطات المتتالية اللامحدود.
للصورة الفوتوغرافية وعياً، بمعنى أنها تستقر في قرارة العقل لتتمحور لاحقًا إلى ذكريات، فقد تُخاطب الصورة العقل من خلال العين، لا يهم أن كانت الصورة أُتخذت بإتقان أو عشوائية، ربما تكون الفوضوية في التصوير أهم من الدقة، على أعتبار إن الكون بطبيعته فوضى وعشوائي ومُتظارب، أو أن تكون اللقطة حزينة أو أن تكون سعيدة، مبعثةٌ للمَلْهَاةُ أو للمأساة، للناظرين إليها. فكم من ألبوم للصور أثار مشاعراً دفينة داخل نفوسنا، فسالت الدموع من المآقي تنحدر مدرارا، لتُجسد في النهاية شريط هويتنا. كثيرين يقولون، كل شيء ليذهب إلى الجحيم من مال وسيارات وأثاث، فقط لتبقى الهوية، أي الصور، لإنها ذكريات الزمان الذي لن يعود مطلقًا، فجزء من الصورة هو نحن، إذا ما قيست على شكل استعارة.
للصورة أدوار ووظائف عديدة أهمها، حفظ المورث المتراكم من المشاعر في من ألبومات دفترية أو رقمية على فهرس الأحرف، وفي المرحلة الأخيرة من الصورة الفوتوغرافية، أنها غير قابلة ابداً للطبع أو الاستنساخ، بمعنى الإعادة من البداية. لقد كتب برغسون قائلاً (لم يعد بالامكان النظر الى الحركة كحقيقة فيزيائية داخل العالم الخارجي بل يجب النظر على الصورة كحقيقة نفسية داخل الشعور).
في النهاية تبقى الصورة حية، عصية عن النسيان وعن التلاشي وعن الزوال، أو عصية بمعنى أعمق عن الموت، أصحاب الصور لا يموتون، يحضرون من وقت لأخر في نفوس مُحبينهم، على شكل شريط موزع يحتوي كل هذا الكم الهائل من الذكريات الماضوية الجريحة، وعلى هذا المبدأ تكون الصورة خالدة بشكلاً ما.

63
المنبر الحر / رد: نحنّ واللغة
« في: 09:23 09/10/2020  »
الأخ يوسف الباباري المحترم
شكرًا على المداخلة أخي الكريم:-
يقول علماء الفيلولوجيا البحثية في نتائجهم بأن البابلية هي اللغة الأم القديمة التي تكلم بها البشر منذ ما يزيد عن 5000 عام، وذلك تماشيا مع أقدم السجلات المكتوبة والمعروفة حتى الآن. ولكن يبدو أن الإنسان القديم، أي الإنسان العاقل (الهوموسابيان)، تطور من سلالة القردة، وبالذات عن جنس الشامبازيات خلال 5 إلى 6 مليون سنة مضت، أحتاج فقط للإشارات البسيطة منها للدلالة على الأشياء، وإنسان اليوم بدوره تطور عبر الزمن في فترةٍ تقارب 200 آلف سنة الأخيرة، حتى الظهور الجلي للسلوك اللغوي الحديث منذ ما يقارب 50 ألف إلى 150 ألف سنة، والقردة اليوم في الغايات وحدائق الحيوانات، لا تحتاج للكلام في التعامل اليومي، يبدو أن الإنسان احتاج للغة فصنعها على مراحل أمتدت طويلاً، وهذا ما يحاول علماء الأنثروبولوجيا اكتشافه اليوم. وحسب العالم المشهور ستيفن بينكر Steven Pinker أن اللغة تطورت تطورًا تدريجيًا عبرة فترات طويلة، لتتخذ شكلها النهائي على هذا النحو الموجود اليوم.

64
المنبر الحر / نحنّ واللغة
« في: 05:43 08/10/2020  »
نحنّ واللغة
بقلم/ سلوان ساكو
اللغة هي جُملةٌ من المفاهيم والصيغّ النطقية، تُلفظ للتعبير والدلالة على شيء مُعين، مثل، ماء، أرض، بيت، شارع، سوق ....الخ، تأتي في سياق طرح الكلام لِتُكونَّ في النهاية فكرة أو مجموعة أفكار تدور في خَلد الإنسان قبل لحظات من النطقّ بها لتُشكل مع هذا المزيج كل الخبرات والتجارب والأفعال التي اعتملت داخل هذا الكائن الناطق الحي، حيث يمكن صياغتها دوماً عن طريق قوالب لغويّة، سواء في حالة التفكير الداخلي، أو الخارجي، والمفروض أن يكون هذا الكائن أعلى درجه من باقي الكائنات الأرضية، والتي تشترك معه في كل شيء ما عدا النطق بالكلمات، فالنحل والنمل، قد توصلا خلال آلاف السنوات إلى نوع من المحادثات والتفاعلات الكيمائية، المعقدة الى درجة كبيرة، يخاطبون بها بني جنسهم في مملكتها المتحدة بكل سهولة ويِسَر، كما يتحدث الإنسان اليوم مع إنسان أخر، ولكن الفرق هنا أن العلم لم يتوصل إلى فك هذه الشيفرة المُعقدة عند النحل والنمل، وربما لن يكتشفها ابدا.
خذ عزيزي القارئ ايقاع كلمة كنيسة مثلاً، لها بداية، وهو حرف ك، ووسط هو حرف س، ونهاية هو حرف ة، لتكتمل في وعينا كلمة كنيسة، في دلالة معرفية لدار عِبادة خاص بالديانة المسيحية، وهكذا مع جامع، وكنيست، وحفلة وعزاء، وملعب... الخ. كل عبارة لها صورة ثلاثية الأبعاد في مخزون معلوماتنا المتراكمه، منها ما تكون مصفوفة في عقلنا الواعي واخرى في عقلنا الباطن.
في فلم Arrival، الوافد أو الواصل، والمنتج عام 2016، كان هنالك فرضية التماهي مع اللغة بنظام ثاني، ووعي آخر، اكثرا تطورا مما نملكه نحن البشر. فقد جسدت الممثلة البارعة لويز بانكس الدور، بكل إتقان وبراعة، في فك لغة مخلوقات من كوكب أخر. لعبت لويز  في الفيلم واحدًا من أهم أدوارها، حيث تُحاول أن تفك شفرة لغة مجموعة من الكائنات الفضائية، حيث تكتشف أن لغتهم ليس بها تحديد للزمن، فلا يوجد مسار للوقت يمشي فيه بشكل خطي من بدايته إلى نهايته، وهنا تكمن عبقرية المخرج، حيث يصبح التمكن من التحدث بلغة تلك الكائنات بمثابة القدرة على إعادة تشكيل وعي الفرد لتجاوز خطية الزمن. فنحن البشر محكومين بنظام الزمن والمكان في اللعب على أوتار اللغة.
يقول القديس أوغسطين في كتابه الاعترافات، (اللغة هي أول ما ينقذنا من وحشة الوجود). وهذا كلام ينطوي على قدر كبير من الوعي والعمق الفلسفي في ماهية الوجود. بمعنى أنطولوجي. أنا أفكر إذن أنا موجود، بمعنى أعمق أنا أشعر، إذن أنا موجود، ديكارت. (كتاب مقال في المنهج)، لتكرس لاحقاً للفهم الوجودي ككل، وبدون هذا الوعي لا يكون هناك وجود حقيقي، أي شعور بأدوات الكلمات التعبيرية، ولكن يظل هذا الوجود رغم كل شيء لا معنى له  بدون تفكير ولغة. ومن هنا كان يجب فرزّ واختراع لغة الإشارة لذوي الاحتياجات الخاصة، الصم والبكم للتواصل غير الصوتية معهم.
كان الإنسان القديم قبل ملايين السنين يستعمل لغة الإشارة، إلى أن توصل في مسيرته نحو الكمال لتطوير أحرف ومصطلحات وعبارت وكلمات يستعملها في احتياجاته العامة اليومية، مع تقدم العصر طور من هذه الأدوات ووزعها على شكل مفردات يفهم منها ما يريد، لتتفرع لاحقًا الى مستويات أكثر تطورًا، فبات هناك مختصين بدراسة اللغة، علم اللغة، علم الأصوات، علم اللسانيات، كل هذا لفهم  أنثروبولوجيا الإنسان، لتكتمل في نهاية المطاف الصورة الكلية وكيفية تكيفهم مع البيئات المختلفة وتواصلهم واختلاطهم مع بعضهم البعض، وترويض سلوكهم وأنسنتهم في نهاية الأمر.

65
الأرشيف وكشّف المستورْ
بقلم/ سلوان ساكو
في دهليز  مُظلم داخل مبنىّ واسع يقبع تحتَ حراسة سبعة جنود أميركيين، يقودهم ضابط برتبة ملازم، دخل رجلان يحملان مصابيح خافتة الإضاءة في السرداب المُعتم ورائهم الملازم الأمريكي يلحّ في السؤال، ماذا يوجد داخل هذا الدهليز؟، يجيب واحد من الإثنين، أنه كنز....كنزًا حقيقياً. التاريخ سنة 2003، المكان العاصمة بغداد، الموقع أمانة سر القطر.
تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي أول مرة تحت أسم حركة البعث العربي، في أبريل/نيسان من عام 1947، في العاصمة السورية دمشق على يدّ شباب عائدين من فرنسا، يحملون أفكاراً علمانية اشتراكية ثورية، هم، ميشيل عفلق، صلاح البيطار، زكي الأرسوزي، تاليًا أندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي، والذي يقوده أكرم الحوراني في عام 1952، ليشكل في النهاية حزب البعث العربي الاشتراكي، وتمّ إنتخاب الأستاذ ميشيل عفلق زعيماً للحزب عام 1954.
في العراق أسس فؤاد الركابي فرع البعث عام 1957، بعد أن كان خلايا قليلة جداً نظمها كل من سعدون حمادي الذي كان طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت، والشاعر سليمان العيسى وزميله صدقي إسماعيل.
في الثامن من شهر شباط فبراير من عام 1963، قام حزب البعث بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم، وقد شهد هذا الانقلاب قتالاً شرساً دار في شوارع العاصمة بغداد، وبعد أن نجحتّ الحركة تشكلتّ أول حكومة بعثية، برئاسة اللواء أحمد حسن البكر. بعد تسعة أشهر من الحكم، نشب خلاف بين الجناح المعتدل والجناح المتطرف بقيادة علي صالح السعدي داخل البيت البعثي، فاغتنم عبد السلام عارف هذه الفرصة وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق. في 18 نوفمبر تشرين الثاني سنة 1963، عين عبد السلام عارف أحمد حسن البكر نائباً لرئيس الجمهورية مع صلاحيات محدودة جداً.
في شباط من سنة 1964، أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضواً في القيادة القطرية لفرع الحزب العراقي. بعد ذلك بقليل اِنقسم الحزب إلى قسمين، قسم كانت تقوده قيادة دمشق لحزب البعث العربي الإشتراكي، وقسم آخر في بغداد، واحتفظ كل من حزبي البعث بنفس الأسم ونفس السياقات التنظيمية، وحافظوا على هياكل موازية في الوطن العربي، ولكن قيادة قطر العراق كانت أكثر فعالية، بسبب الموارد المالية والاقتصادية للحكومة. فبات هناك  قيادتان قطريتان وقيادتان قوميتان. كل واحدة تستأثر بالنضال وتوحيد الأمة العربية عن طريق أيدلوجية اشتراكية علمانية.
في عام 1968، توجه القائد المؤسس ميشيل عفلق إلى بيروت بعد خلافات حادة داخل صفوف الحزب هناك، ومنها توجه إلى بغداد، حيث تمّ انتخابه أميناً عاماً لقيادة حزب البعث في العراق، وظلّ في نفس المنصب حتى وفاته في 23 من شهر حزيران/ يونيو من عام 1989.
في السابع عشر من تموز  عام 1968، حصل انقلاب، عرف فيما بعد بالثورة البيضاء، على الرئيس عبد الرحمن عارف، حيث سيطر حزب البعث الجناح العراقي على مقاليد السلطة في بغداد، وفي الثلاثين من ذات الشهر جرت محاولة أنقلاب ثنائية ثانية، من قِبل أحمد حسن البكر وصدام حسين وحردان التكريتي وذياب العلكاوي لطرد أبرز العسكريين الذين قاموا بالحركة الأولى قبل ثلاثة عشر يوم فقط، وهم إبراهيم الداود وعبد الرزاق النايف. كان هذا الحدث كبيراً في تعاطيه مع الأحداث السياسية لاحقاً. وأسس لمرحلة جديدة من عمر البلاد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأرخى لحقبة واسعة من المتغيرات الهائلة، المحلية والإقليمية والدولية. لم تمر غير سنوات قلائل حتى أستحوذ الرفيق صدام حسين على السلطة بشكلاً كلياً تمامًا.
هنا وعلى عدة مراحل جاء عدد من أعضاء القيادة القومية للعيش والعمل في الإطار الحزبي للبعث في العراق، وكان الأمين القطري سخيًا معهم لدرجة كبيرة. منهم على سيبل المثال لا الحصر، الدكتور منيف الرزاز، الدكتور عبد المجيد الرفاعي، الدكتور إلياس فرح، شبلي العيسمي، أمين الحافظ، وأخرون. فأصبح لهم بنايةٌ في وسط بغداد على تقاطع القادسية السريع، تضم بين دفتيها قاعات واسعة، ومكتبة تحتوي على سلسلة كُتب سياسية واقتصادية واجتماعية متنوعة، منها لكارل ماركس نفسه، ومدرسة للإعداد والتطوير الحزبي، وأرشيف كبير من الوثائق الرسمية والشبه رسمية، أهم بكثير من أرشيف القيادة القطرية. حاول أعضاء القيادة القومية تطوير مناهج جديدة للحزب خاصة مع الدكتور  إلياس فرح، حاصل على دكتوراه في التربية وعلم النفس من جامعة جنيف، فقد ركز  على النظرية الثورية للبعث، باعتبارها ليست نظرة فلسفية كونية، وليست دينا بل هي نظرية ثورية ذات منظور حضاري للأمة العربية والتي ترفض رؤية القضايا ومعالجتها من خلال الأفكار التجريدية أي السطحية منها، ويجب أن تذهب نحو منهج علمي جدلي تاريخي ماركسي، يتجاوز الأحكام السابقة، مدركًا أيَّ الدكتور فرح أن لكل أمة من الأمم منظورها الحضاري الذي يتجلى من خلال القيم والممارسات والخصال والثقافة المُحددة للهوية الحضارية. حاول فرح الجمعّ والمُزاوجة بين الأفكار الماركسية وفلسفة البعث من خلال كتابه (تطور الإيديولوجية العربية الثورية). ولكن في النهاية ظلت الأفكار أفكاراً دون تطبيق عملي على أرض الواقع.
 في الجانب الآخر من العاصمة العراقية بغداد وفي منطقة الصالحية بالذات، أصبح هناك قيادة قطرية للبعث، أمين سرها صدام حسين، تهتم بكل ما يدور في العراق من شؤون محلية وتنقلات الوزراء والمسؤولين، بالإضافة لحركة الحزب وأعضاءه، والفروع والشِعاب والفرق في عموم البلاد، عبر مراسلات بريدية ورقية تتمّ بين أمانة سر القطر  والفروع في المحافظات كافة، تشمل كل شيء تقريبًا، هذه الوثائق كانت تُنظم وتؤرشف في إصدارات وإضبارات. حصل كل ذلك مع نهاية السبعينيات وصولاً الى عام 2003، أي ما يقارب الخمسة والعشرين سنة من الأوراق والملفات والتقارير والخِطابات والفعاليات الحزبية المختلفة، في كل ما يخصّ العراق. أرثاً كبيراً، وحمل ثقيل تنأى بحمله الجِبال، ولكن حملته الطائرات الأمريكية من ذات العام الأخير، بعد أن أشرف عليه الكاتب والمؤلف كنعان مكية، ورئيس الوزارء الحالي مصطفى الكاظمي، حيث كان صحفيًا مغمورًا، أثناء عملهما في مؤسسة الذاكرة العراقية، والتي كان مقرّها بيت المعماري الراحل محمد مكية في حي كرادة مريم وسط بغداد. ضمَ هذا الأرشيف 6 ملايين وثيقة، بما في ذلك الصور الفوتوغرافية والوثائق الحكومية الرسمية والاتصالات الأجنبية، والكثير من المواد الأخرى ذات الصلة. نُقل هذا الأرشيف إلى العاصمة الأمريكية واشنطون، حُلل البعض منه، ودُرس البعض الآخر، وأستُنسخت الأوراق ذات الطابع الخاص، والباقي وضِع على جنب، إلى أن طالب به من نضده ونقله، حيث باتَ مسؤولًا كبيرًا في العراق، فأعاده إلى منشائه الأصلي على طائرة عسكرية أميركية أيضًا.
عاد الأرشيف الى العراق أخيرًا بعد رحلة دامت سبعة عشر عامًا، لتؤرخ لمرحلة من عمر البلاد، في سلبياتها وإيجابياتها، خطأها وصوابها، شئنا ذلك أم ابينا، فهذا هو واقع الحال، وتاريخنا المُدون. ومع هذا تنسدل الستارة على المشهد الأخير من  الدراما العراقية لحزب حكم لسنوات طوال، لكن السؤال الباقي والذي لا يزال يدور في البال، متى يأخذ العراقيين دروساً وعبراً من أخطائهم وتجاربهم الكثيرة، بدلاً من الركض خلف سراب الأحزاب والمرجعيات الدينية والمليشيات المتطرفة، فالوطن غالي وفوق كل الأحزاب والتيارات والمذاهب.

66
إصدار جديد ...

صدر عن دار take off design للنشر كتابًا جديدًا للكاتب ممتاز ساكو  حمل عنوان "هكذا أحب الله العالم"، وهو الرابع في سلسلة إصداراته، فقد كان اصداره الاول كتاب مترجم من الانكليزيه بعنوان " الإرشاد الروحي ما هو وما فائدته"، للكاتب الأب مايكل  دي ستوبعام 2014. وفي عام 2015 صدر له كتابًا بعنوان " افرحوا دائما بالرب "، وترجم كُتيب بعنوان، "كيف نقرأ الكتاب المقدس بطريقة علمية"،عام 2017.

 (هكذا أحب الله العالم)، ضم بين دفتيه 127 صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على إثنا عشر باب. الغلاف الخارجي للكتاب يحمل صورة لأرض جافة قاحلة وفي وسطها تنبتّ زهرة بنفسجية اللون مع أغصان خضراء، علامة على الحياة والبعث بعد الموت، (إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ). يوحنا 24:12. وفي صفحة الإهداء جاء، (إلى روح الأب عمانوئيل خوشابا مؤسس رعية مريم العذراء حافظة الزروع). يبدأ الكتاب من الباب الأول تحت عنوان، الثقة بالذي هو الحياة، وصولاً للباب الأخير تحت عنوان، آيات من الكتاب المقدس لكل حالة. مستعرضًا الكثير من نصوص الكتاب المقدس بعهديه الجديد والقديم، مسلطاً الضوء  على أهم التعاريف والمصطلحات الموجودة ليجد القارئ نفسه بين متونّ نصية جائت بأسلوب مبسط مستساغ لأي شخص.





ملاحظة:-

الكتاب متوفر في مكتبة كنيسة  مريم العذراء حافظة الزروع، وأيضًا في مكتبة كنيسة مار كوركيس. في ولاية ملبورن، وبأسعار مناسبة.

67
عهَد البطولَة الزائفّ
لا نذيعّ سرًا إذا قلّنا إنّ أفشل مشروع مرّ في هذه الحقبة الزمنية الحساسة والخطيرة من تاريخ العراق الحديث سواء كانت أفكارًا أيديولوجية، أو عمل سياسي، أو برنامج نهضوي عرفته البلاد ما بعد التغير، هو الأحزاب المسيحية العراقية بكافة أشكالها وتنوعاتها وفروعها، إذا جاز ليّ  التعبير. فمع كل المُتغيرات والمنعطفات والمعطيات الجيوسياسية التي حصلتّ على أرض الواقع لم تكن هناك إرادة حقة للتيارات والحركات المسيحية في فعل شيئًا حقيقيًا للوطن، لِمَا تحمله من عناصر النكوص وازدواجية المعايير والخطاب الفارغ، والذي فقدّ خلال السنوات الماضية الكثير من مصداقيته، فلم يعدّ أحدٍ يثق بهذا الطيف الواسع من السياسيين، بعد أن انكشفت الكثير من الحقائق التي كانت غائبة عن الناس.
 من عام السقوط في 2003، تبين إن الجميع نمور من ورق لا أكثر، يخضعون للمصالح الشخصية فوق أي أعتبار وطني ومصلحة عامة، زِمَامَهم ليسَ بأيديهم. يعود كل ذلك إلى شيء جذري هو قلةّ التجربة السياسية في المرتبة الأولى، الحنكة والدهاء في المرتبة الثانية، وعدم المعرفة  بالأدوات اللازمة لتحقيق وخلقّ وعيًا سياسيًا يخدم المصالح الوطنية ثالثًا.
جاءت الأحزاب والحركات والفعاليات بين قوسين المسيحية منها لتزيد من الإخفاقات العديدة التي حصلت في بلاد ما بين النهرين، لتجرّ وراءها أَذْيال الهزيمة والخيبة والعار، والتي ما فتئت تزداد يوماً بعد آخر.
ماذا قدمت الحركة الديموقراطية الآشورية( زوعا) خلال هذه الفترة من عمر العراق الجديد غير تشبث الزعيم الروحي لهذه الحركة يونادم كنا بكرسي البرلمان المكسور، ماذا فعل المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري، والذي هو بالأساس صنيعة كردية، غير اِنقسام  وتشظي  يُضاف على الإنقسامات الموجودة أصلًا داخل هذا البيت المتصدع الجدران. ماذا قدمت حركة بابليون الشيعية بالأصل، والتي يقودها ريان الكلداني المصنف على لائحة الإرهاب، غير إعتداءات وسرقة طالت المسيحيين قبل غيرهم، ماذا فعلَ المحسوبين على التيار القومي المسيحي خلال السبعة عشر عاما الماضية، سؤال طبيعي الكل يسأله، من كان في داخل الوطن أو خارجه.
يجب على جميع السياسيين أو أشباه السياسيين أن يخجلوا ويُحاسبوا أنفسهم على الأخطاء التي إرتكبوها عن قصدًا وتعمدًا، ففي عالم السياسة لا يوجد خطأ غير مقصود، فكل إخفاق وقرار غير صحيح مهما كان بسيطًا هو عبارة عن سلسلة من الاخفاقات السابقة والقرارات الغير مدروسة تكورت بالتدريج مثل كرة الثلج التي تكبر مع السقوط الحر من أعلى الجبل.
هناك من دون شكّ فراغًا كبيرًا في المنظومة السياسية المسيحية، فالمسألة أبعد من ذلك بكثير، ليست شخصانية، أو حقد وحسد على أحد، المسألة تخص شعب مازال يعيش على أرض وطن يلعق جراحه الكثيرة إلى اليوم. الثابت الوحيد، وبدون تفاصيل أكثر وشرح أدق، وعلى كل الأصعدة والنواحيّ هو فشل الخِطاب السياسي المسيحي في تطوير منهج أو سياق أو آلية عمل تقوم وفقَّ خطط مدروسة وعملية  لتنهض بالمستوى المطلوب والآمال المعلقة عليهم في صياغة سياسات ناجعة ومستقبلية، وبلورة أفكارًا جديدة تعطي ثمارها للسياسي ذاته وللشعب الذي ذهب وأعطى أصواته لهم، من خلال صناديق الانتخابات خلال  العقد الأخير من تاريخ العراق المنكوب.
يظل هناك بارقة آمل مع كل ما حصل ويحصل، من مراوغة وخداع وتهكم ومصالح شخصية، ويبقى تصحيح الأخطاء والمسّاو السياسي لهذه القوى المتناحرة بينهم ممكن إذا كانت هناك عزيمة حقيقية وتضحية وبعض التنازلات من قبل الفرقاء السياسيين، وأن يصعد جيلًا جديدًا مُثقف ومُتعلم، يؤمن بعدالة قضيته ورسوخ هويته الوطنية والقومية وإنتمائه لأرضه وأرض آبائه وأجداده، من خلال الانتخابات البرلمانية المُبكرة التي التزام بإجرائها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، للنهوض بالعمل الجماعي لتحقيق أفضل حل لهذا الشعب المُهمش والمسكين، والذي لم يرَ الراحة والسكينة منذُ أَمَدًا بَعِيدًا وفترة طويلة، فبين حرب وحرب كانت هناك حرب.

68
المنبر الحر / ملبورن بينَ نارينّ
« في: 07:14 11/09/2020  »
ملبورن بينَ ناريّن
بقلم/ سلوان ساكو
لم تشهد ولاية أستراليا في الإتحاد الفيدرالي الأسترالي، عزلّ وحَجّر وحبسّ داخل مربع قطره 5 كم مربع، كما تشهده ولاية فكتوريا الآن ومنذّ ما يُقارب الأربعة أشهر المنصرمة من عُمر الحرب على فيروس كورونا.
تم إكتشاف الفيروس التاجي عالمياً في بداية العام الحالي تقريبًا، كان الحدث كبير ومخيف في وقتاً واحداً. وضع الكثير من الدول العظمى والعواصم الاوروبية في العزل والحجر الصحي التام، باريس، روما، مدريد، نيويورك، إلى أن رأوا  إنَّ الوضع برمته شاذ وغير مقبول وخارج سياق المنطق والعقل، بالنهاية فعلوا ما فعلته السويد، ففتحوا كل شيء، لكن ضمن حدود وشروط معينة، لا تخلّ بسلامة وصحة المواطن، وفي ذات الوقت تُحافظ على مصدر عيشه  واقتصاد البلد وإنتاجية الأسواق التجارية. تبينَ مع مرور الوقت أن الخطوة كانت ناجعة وصحيحة، وبالتالي تمّ الخروج من عنق زجاجة الكورونا بأقل الخسائر الممكنة، وعادة الحياة تدريجًا تدبْ في نبض الشارع وإن كانت بصورة بطيئة.
في دولة أستراليا تأخر وصول الفيروس إلى الداخل بعض الشيء، كانت الحكومة الفدرالية متساهلة في المطارات والموانئ، مما زادَّ الأمر سواءً، وفاقم من الوضع الصحي برمته، ومع هذا التخبط الغير مدروس والفوضوي داخل أجهزة الدولة المختصة، دخلّ المصابين وبأعداد كبيرة إلى داخل البلاد، فأصبحوا تحصيل حاصل لا أكثر. حين أخذت أرقام الإصابات بالارتفاع بشكلٍ ملحوظ، حاول  رئيس الوزراء الفدرالي  سكوت موريسون  Scott Morrison، وضع خطة مرنة ومعقولة وقابلة للتطبيق للتعامل مع الجائحة المُستجدة في عموم البلاد، تصبّ في أمرين، أولاً مكافحة وتحجيم رقعة إنتشار الفيروس قدر الإمكان، وثانياً السيطرة على الحياة الاقتصادية الذاهبة بتجاه الانهيار بالنسبة للفرد أو الدولة على حدًا سواء، حيث حققت الميزانية الوطنية عجزا بلغّ 85.8 مليار دولار أسترالي للسنوات 2019-2020. ومع مرور الأيام تبين أن تلك السياسة كانت صحيحة وفعالة بشكل مُعين في التعاطي مع هذه المرحلة الحرجة والخطيرة من تاريخ البلاد، ومرة اخرى تنفس الجميع الصُعّداء، بعد عناءً وتعبٍ تجشمه الكل.  هذا كان على الصعيد الفيدرالي، أما على الصعيد المحلي في ولاية ملبورن، فقد أزدادت حدة الإصابة بمرض COVID-19 مع مرور الوقت، وباتَ هناك عجزاً كبيراً في إستيعاب الحالات المرضية، وجائت فضيحة دار رعاية المسنين وبالتالي موتهم وحدهم وفي غرفهم وعلى أسرتهم مدوية، والفندق الموبوء الذي كان يحتوي على نزلاء مصابين بالفيروس ارادَ الجيش الوطني حماية الفندق بمحاذير مدروسة للتعامل معهم، رفضت حكومة آندروز الأقتراح، وأعطت لشركة آمن اهلية أمر حماية النزلاء المعزولين، بعدَ أيام معدودة اِنصابَ رجال الآمن نفسهم وإنفرط عقد العزل، لتُظهر مدى الفوضى والعجز الذي تملك الحكومة والكوادر الطبية في المستشفيات والمراكز الصحية. فكان لابد من فرض قيود صارمة وجدية، ابتداءاً من المرحلة الأولى وصولاً للمرحلة الرابعة، أيّ إغلاقًا بشكلٍ كامل تماما، جواً وبحراً وبراً، في جميع المجالات وعلى حدود الولاية ككل. تبين لاحقًا أن العزل غير فعال وفاشل، وأن الإصابات في إزدياد مُضْطَرِد، والوفيات وصلت إلى أرقام مخيفة، تجاوزت التسعين حالة في اليوم الواحد. ومع الحالة الاقتصادية السيئة، وإغلاق المحلات والمصالح التجارية والصناعية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة منها، ومع الحالة النفسية المُزرية التي صاحبت الأزمة، سَادَ التَّذَمُّرُ بَيْنَ النَّاسِ وبات هناك سخط عام في الوسط الأجتماعي وعدم رضا أتجاه حاكم الولاية دانييل آندروز Daniel Andrews وحزبه الحاكم  في تحقيق أنجح الطرق للخروج من هذه الوضعية الخانقة التي عصفت بالبلاد ووضعته في مأزق كبير جدًا وحقيقي، ربما لن تتعافى منه الولاية لسنوات طويلة، مِمَا جعل الناس تخرج في مظاهرات واستنكار وشجب، تُطالب بعودة الحياة الى طبيعتها، وفكّ القيود، والعودة الى المرحلة الثانية على وجه السرعة، وهذا حق طبيعي يتمتع به كل مواطن يعيش على هذه الأرض.
في النهاية أخفقت حكومة دانييل آندروز في التعاطي بشكل منطقي وممنهج وإستراتيجية مع فيروس كورونا، ووضعت الولاية على المحّك، وقَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى من الفوضى والدمار على الصعيد والاقتصادي والسياسي، وهذا واضح بشكلٍ جليّ في الصراع الدائر بين حكومة ولاية فكتوريا والحكومة الفيدرالية في العاصمة الأسترالي كانبيرا.
على حكومة Daniel Andrews، أخذ خطوات جادة وحاسمة، تتسم بمزيد من العقلانية والعملية، والعمل على عودة الحياة الى سابق عهدها، ورجوع حركة السوق والإعمال والمهنّ التجارية الى وضعها الطبيعي، حيث لم يعد يتحمل المواطن العادي المزيد من الضغوطات اليومية المتزايدة والانتكاسات المالية الكبيرة، وألا أنفجر المرجلّ في وجهّ الجميع ويحصل ما لا تحمد عقباه. فالكل مسؤول ويعيش على هذه الأرض، وله حق التعبير عن رأيه سواءً في النقد أو التقيم أو الحكم على الاخطاء في سير وعملية النظام، أو التظاهر سلميًا.

69
لم يَمتّ الصائغ يومًا
في الطريق بين أنقرة وأدنة كانت صور الجبال والوديان والطُرقّ والسهول الخضراء مُدهشة وساحرة للناظرين إليها، في تلك البقعة من الطبيعة الأخاذة والخلابة كانوا أربعة في سيارة واحدة يقطعون الفَيْفُ والغابات، يسرحون بنعيم جنة عدن الأرضية وتجول بِأفْكَارِهِم الدنيا السعيدة. أبراهيم اليتيم وزوجته، يوسف الصائغ وزوجته جوللي، عائدين من رحلة كانت على تخوم أوروبا الشرقية. ثمة شاب يقف على قارعة الطريق يبيع تفاحً، طلبت السيدة جوللي أن تشتري بعضًا منها وتنعم بثمار هذه النواحي الغنية بفاكهة البساتين الطبيعية، توقف اليتيم واشترت سيدة التفاحات الأربع من الشاب الذي كان يقف تحت ظل شجرة تينة وارفة وأعطت لكل واحد من المسافرين تفاحة، واحتفظت بالأربع الباقية كي تنقلهم إلى بغداد وتهديهم لمن تشاء، ولكن لم تصل الأمانة، ولم يتسنى ليوسف أن يسألها لم سوف تُعطي هذه التفاحات حين تصل عاصمة الرشيد، ظل الجواب لغزا. في منعطف حاد خارج عن إطار الزمن تدهورت أحوال السيارة واختلت السياقة، وأبراهيم فقدّ السيطرة على المقود، فتدحرجت وانقلبت مرتين في وادي منخفض، إلى أن استقرت وأخذت وضعيتها الصحيحية، لم يحدث شيء غير طبيعي، كأنه عبارة عن حادث بسيط، الكل بخير ألا جوللي، ومعها التفاحات الأربع في حضنها، فقد فارقت الحياة إلى الأبد، بكامل زينتها وجمالها وثوبها الأبيض، كأنه كفنها العُرسي الذي ارتدته في رحلتها الآخيرة نحو ديار الخالدين. من ذلك اليوم وبالتحديد في 14 آذار مارس 1976 مات يوسف الصائغ حقاً، يوسف الفنان والشاعر والقاص والروائي والتشكيلي والنحات.
لم يكن موته في سوريا في 12 ديسمير عام 2005 غير استكمالًا للموت الأول، وطريقٌ ثانوياً سارَ عليه الشاعر مرغمًا، والباقي يظل حواشي من حوارًا على هامش السنوات والذكريات الضائعة. بين مادحًا وكاتبًا لِعامود في مجلة ألف باء ومدير دائرة السينما والمسرح، فهو مسجونًا للماضي مهما طالت الأيام والسنون، فهناك نصلاً حاد يمزق الأحشاء.
ماركسيًا أو بعثيًا كان، اشتراكياً او ليبراليًا، متصوفٍ في محراب الفن أم ناسكٍ في الجبال العالية، لا يهم كثيرًا. كاتب إعترافات مالك بن الريب هو، لعبته إنتهت مع أنتهاء شغفه المتجرد بالحياة. دمشق كانت المحطة الأخيرة في قطار العمر الطويل. سنوات من المرض والوهن والعجز، المسافة كانت قريبة بينه وبين الجواهري في مقبرة الغرباء والباب كان مُوَارَب على مصرعيه في الحديث والسمر في ليالي الشتاء الباردة داخل تابوت من خشب رخيص يُزقزق من هزة ارضية خفيفة. أرادَ العوده ولكن هَيْهَات أَنْ تَعُود الْمِيَاه إِلَى مَجَارِيهَا، من يعود من الجُبّ يا يوسف غير يوسف الصديق.
يقينا مات الشاعر الكبير يوسف نعوم الصائغ أبن الموصل الحدباء، ولكن شعره ومؤلفاته لم تمت أبدًا، فهي باقية وشاهدة عليه وعلى إرثه العظيم فهو إمتداد لملك أبن الريب بدون ريب.
ما هذا زمن الشعر
ولا هذا زمني
هذا زمن مسدود
يخرج منه الدود
صار الشعراء قرودا فيه
والعشاق يهود
باركني بيديك الحانيتين
وامنحني
غفرانك ياوطني.

70
من الكاظمي إلى الحريري
يقوم رئيس الوزارء العراقي مصطفى الكاظمي بمجهودات جبارة لإعادة العراق إلى الحاضنة العربية والاقليمية والعالمية، بعد طول غياب من على الساحة العامة، وبعد أن أستحوذ ملالي إيران على مقدرات البلد من جميع النواحي. وهذا لم يتأتى من فراغ، بل جاء استكمالًا لم قامّ به الرئيس السابق الغير مأسوف عليه باراك أوباما، حيث سلم كل مفاتيح السلطة السياسية والغير سياسية للجمهورية الإسلامية دون مقابل، لتفعل ما يتماشى مع مصالحها فوق أي أعتبار لكيان دولة يدعى العراق، المهم هو توسعها، وفرض مشروعها المذهبي وهيمنتها على ثروات وخيرات البلد، وهذا ما نجحت فيه إلى حدًا بعيد، على الأقل في البلدان التي أمتد فيها مرض السرطان الإيراني فيه، كسوريا واليمن ولبنان والعراق.
لا شك أن الكاظمي يحمل مشروع وطني يتماهى مع تطلعات كل مواطن شريف يريد خيرًا للوطن، هذا ما أثبتته الأيام القليلة الماضية، وما كانت الزيارة الآخيرة للبيت الأبيض في عاصمة صنع القرار واشنطن سوى دليل واضح على أن العراق مُقبل على تغيرات كبيرة وعلى أكثر من صعيد، أمني سياسي أقتصادي طبي، والذي هو اليوم في أمس الحاجة الى إعادة الهيكلية ومشاريع إعمار بنى تحتية، وأن كانت البداية  من الصفر إن لم تكن تحت الصفر أصلًا. فمن عام 2003 لم نشهد أي تقدم أو حركة بناءً وإنشاء، حتى المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كانت مشاريع نصب واحَتيال وسرقة وفساد، ليس بعدها فساد ونهب لمقدرات تعد بالمليارات الدولارات، حتى أصبح المسؤول في الدولة مدعاة سخرية وتهكم ومحل شبه أين ما حلّ وذهب في عراق ما بعد التغيير.
 الجميع اليوم ينظرون وينتظرون بفارغ الصبر إلى رئيس مجلس الوزراء الحالي، معلقين آمالهم العريضة لِغداً أفضل يتكلل بالإنجازات والمشاريع الحيوية التي يطمح إليها خلال فترة رئاسته، نتمنى ذلك، ولكن ثمة أمر أخر يسترعي التوقف والانتباه عنده، فالعراق إلى اليوم  يرزح تحت وطأة وسيطرة الميليشيات المسلحة بشكلٍ كامل، وهذا لا يختلف عليه أثنين، وما ميليشيا الحشد الشعبي إلا وجه قبيح من هذه الوجه المتعددة. ولا ينبغي أن يغيب عن أبصار الناس إنّ الإرهابي الأكبر نوري جواد المالكي، إلى اليوم له قوة وسطوة وعصابة قوية، وهو على رأس هرم السلطة وأن كان بشكلٍ أخر. ألم يشارك فعلياً في تفجيرات السفارة العراقية في بيروت عام 1981 وراح ضحيتها 61 شخصًا بما فيهم السفير العراقي عبدالرزاق لفتة وبلقيس الرواي زوجة نزار قباني، وقد نفذ العملية حزب الدعوة الذي يتزعمه المالكي بتنسيق وترتيب من المخابرات السورية. أليسْ هو من سلمّ الموصل على طبق من فضة إلى تنظيم داعش الإرهابي عام 2014، والى الآن هو مسؤول في الدولة العراقية ويتزعم حزب له نواب أغلبية في البرلمان. ميليشيا الصدر وحزب الله العراقي وغيرهم الكثير ليسوا أفضل حال من البقية، فهمّ يتحكمون في مفاصل الدولة ولهم أتباع كُثر في جميع المؤسسات والدوائر الحكومية والغير حكومية. الخوف أن يتكرر المشهد المأساوي الذي حدث في بيروت سنة 2005، حينما قام أعضاء من حزب الله اللبناني وبتنسيق مخابراتي سوري باغتيال رئيس الوزراء وقتها رفيق الحريرى وسط العاصمة. هو أيضًا كان يحمل مشروع نهضوي لإرساء أساسات قوية تحمي البلد من الضياع والفوضى، وإعادة الدم الى شرايين لبنان بعد أن توقفت عن النبض والحركة، بدعم خليجي وعربي ودولي، ولكن في النهاية أُجهضت العملية برمتها ومات الوليد، وتمّ اغتيال صاحب المبادرة في عقر داره، وانتهى شيء كان أسمه لبنان الى الأبد.
اليوم ما أقرب مصطفى الكاظمي من هذا السيناريو المُحتمل في أيّ وقت وأيَّ مكان، مع وحوش المال والسلطة والأرهاب المتعطشين دومًا الى دماء كل عراقي تصل أيديهم أليه ولينهشوا جسده، وقَابَ قَوْسَيْن أَو أَدْنَىٰ من عملية اغتيال مدبرة، تقوم به مجاميع تترصد كل حركة يفعلها أو تصريح قوي يدلي به أو يحل ميليشيا ويلقي القبض على أنصارها. وبعد ذلك ينتهي البلد إلى الأبد، فلا تقوم له بعدها قائمة.

71
أدوات اللعبه الجديدة.
في 26 كانون الثاني من عام 2008 توفي الحكيم جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقتها كنتُ مقيمًا في دمشق، فأثرتُ الذهاب إلى العاصمة الأردنية عمان لحضور مراسيم الدفن والجناز في كنيسة الروم الارثوذكس والتي تنتمي إليها عائلة حبش. في معبر جابر – نصيب الحدودي بين الأردن وسورية، طلب مني الضابط الأردني توضيحًا لدخولي الأراضي الأردنية، فقلتُ له أود حضور عزاء الدكتور جورج حبش في عمان، تطلع لي بستغراب وعلى محياه ابتسامة صفراء وأردف، هل يوجد شاب مثلك يتذكر كل هذا اليوم!. فأيقنت حينها فقط إن الكثير من البديهيات قد تغيرت على أرض الواقع.
تغير الكثير من حولنا ومعه ملف القضية الفلسطينية من عام 2003 وإلى يومنا هذا، أيّ من وقت سقوط العراق، لم يعد العالم بعد هذا التاريخ كما هو، فموازين القوى تبدلت الى حدًا كبير.
شكلت نكسة حزيران في سنة 1967 هزيمة للعرب ما بعدها هزيمة، ارتداداتها مازالت قائمة إلى ألان. أكثر ما تغير في وعيّ العربي العَاقل هو عملية السلام، واندراجها ضمن نطاق العمل المشترك الذي يحقق المصلحة العامة للدولة، أيَّ دولة كانت. حققت إتفاقية أوسلو في 13 سبتمر 1993 بين ياسر عرفات وشمعون بيريز بمباركة الرئيس الأميركي بيل كلينتون الكثير على أرض الواقع، ترجمة فيما بعد إلى  تفاهمات لكلا الفريقين. حتى قبل هذا الموعد كان هناك تسويات مهمة حيث كان مؤتمر السلام في مدريد عام 1991، حدثًا متميزًا وجوهريًا في الصراع العربي الإسرائيلي، الكل عرفّ بما فيهم الزعماء العرب أن لغة السلاح القديمة لم تعد تنفع مع تحول في أساليب العمل السياسي، والتي تُوجت لاحقًا لمبادرات السلام العربية والانفتاح والتطبيع مع دولة اسرائيل، إن كان بشكل علني مثل الأردن ومعاهدة السلام في وادي عربة عام 1994، أو تحت الطاولة كقطر والبحرين، فمن مجموع 193 دولة مرتبطة بهيئة الامم المتحدة هنالك 163 دولة تعترف بالدولة العبرية، ولها قنصليات وسفارات وتمثيل دبلوماسي وملحقيات عسكرية وثقافية وفعاليات رياضية حتى. لنفهم الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها الأمارات العربية المتحدة في التطبيع الكامل مع اسرائيل مؤخرا، يجب أن نعلم أنه قبل 42 سنة حصلت إتفاقية مشهورة أسست لما هو لاحق، تدعى إتفاقية كامب ديفيد، وقعها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في 17 سبتمبر 1978، بمباركة أمريكية.
الانفتاح مع تل أبيب لم يكن وليد اليوم، بل له إرثا قديمًا وجذور عميقة، وما كانت زيارة رئيس الورزاء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى سلطنة عُمان في اكتوبر عام 2018 غير رسالة واضحة من السلطان قابوس إلى العالم العربي والإسلامي يقول فيها إن الوضع السياسي القديم قدّ تغير، ويجب فتح قنوات إتصال مباشرة مع اسرائيل، وأن السلام لا يمكن إن يحدث ألاّ عن طريق المفاوضات والمحادثات، وأيام الصراع وخطف الطائرات والعمليات الانتحارية والفدائية إنتهت دون عودة. لم يمضي وقتًا طويلًا حتى مات قابوس بن سعيد، ولكن رسالته كانت قد وصلت وبقوة هذه المرة، وشرعت الباب لدخول مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية بين العرب واليهود.
ربما دخلت القضية الفلسطينية منعطفًا خطير وبات الحديث عن تحرير القدس والأراضي العربية المحتلة من أيدي اليهود والصهاينه ضرب من التاريخ الكلاسيكي. من يتذكر اليوم دلال مغربي، وديع حداد، خليل الوزير، أحمد جبريل، علي حسن سلامة، حتى محمود عباس ابو مازن، أين هو اليوم من كل هذا؟.
الجيل الفلسطيني الحديث، تيقن إن مرحلة النضال لاستعادة الأرض قد تبدلت، لم تعد تجدي نفعًا الأدوات القديمة في التعامل، صار هنالك تطورات مهمة في آليات العمل مع اسرائيل، وشراكة في تقسيم الدوائر والأدوار، غير ذلك حرثًا في الماء.
في نهاية الأمر سوف تتطلع كل الدول العربية إلى إنفتاح كامل وشامل مع الدولة العبرية، لسبب في غاية البساطة، وهو لا يمكن المضي قدمًا في السوق والتجارة الحرة والسياسة الخارجية والمالية والبنوك والمؤسسات المعنية دون التعامل مع إسرائيل، هذا بات واضحًا للجميع، وهذه أيضًا أهم شروط اللعبة والتسوية في تعاملات العالم اليوم. وهنا يجب أن لا نغفل التغيرات الجيوبوليتيكية في المنطقة، يُضاف إلى كل هذا طبعًا صفقة القرن أو خطة ترامب للسلام.
يظل الخاسر الوحيد من لم يعرف كيفية التعامل مع الأدوات الجديدة في ظل تطورات ما فتئت تتغير  يوم بعد أخر، أسرى مصطلحات وشعارات قديمة لم يبقى منها شيءٍ يذكر، الرهان اليوم يقع على من يستطيع العمل من أجل مصلحة وطنه وشعبه.

72
المنبر الحر / شريَحة الشيّطان
« في: 06:43 14/08/2020  »
شريحة الشيطان
كثرّ في الآونة الآخيرة الحديث عن  بيل غيتس Bill Gates قطب التكنولوجيا ومؤسس شركة مايكروسوفت، وصاحب أكبر منتج ومصنع ومكتشف للقاحات في العالم، عن الشريحة الصغيرة، تلك التي توضع تحت الجلد، حيث يبلغ حجمها حجم حبة الأرز أو أكبر قليلًا، لها استخدامات مختلفة في الحياة اليومية، فهي تحمل بداخلها تذاكر السفر والبطاقات البنكية وبطاقة الهوية، وتقيّ أو تنبه أو تعطي مؤشرات عن الأمراض في الجسم والفيروسات التاجية وغير التاجية منها، COVID-19 وصعودًا.
المقاطع المُحملة على موقع اليوتيوب بهذا الخصوص عديدة، لا حصر لها، تحت مُسميات مختلفة، خذّ مثلًا، شريحة الدجال، الرقائق الإلكترونية، الشريحة الماسونية، وغيرها، وكأننا إزاء سيناريوهات من عوالم مختلفة؛ أو تم غزونا من قبل مخلوقات دقيقة من مجرات أخرى. نظرية المؤامرة والتي تعجّ بها منصات التواصل الأجتماعي، خاصةٌ خلال الثمان أشهر الآخيرة، أيّ في فترة إكتشاف فيروس كورونا وما بعدها، حدث ولا حرج، وكل شيئ أصبح في سياق المؤامرات والعوالم الخفية والنخبة التي تقود البشرية. الشريحة موجودة؛ ولكن ليس على هذه الصيغة المبتذلة والسطحية التي يتعاطى معها البعض، أسمها العلمي هو ID2020، وكان لها إرهاصات في أفلام هوليوود التي تُحاكي المستقبل، على سبيل المثال لا الحصر في فلم The Matrix أو المصفوفة، حين يعطي البطل Keanu Reeves جواز سفره لشرطي المطار، فيقول له الشرطي إن الجواز منتهي الصلاحية من سنة 2000، بمعنى إن العالم القديم قد أنتهى مع أنتهاء القرن العشرين، وأن العالم الذي تعيش به اليوم هو عالم افتراضي يُسمى الـ matrix. فإذاً هو صراع افتراضي وهميّ بين النظام System والبشر Humans. لنأخذ مثل آخر وهو مشروع الشعاع الأزرق، أو الهيلوغرافيا، بمعنى أوضح، أنت جالس في البيت، الزمن هو صيف عام 2020 وفجأة تظهر لك كوكب الشرق أم كلثوم بشحمها ودمهم وتغني لك أغنية سيرة الحب، وربما تُسلم عليكَ وتُجالسكّ، ولكن في النهاية كل هذا وهمّ؛ ومقطع افتراضي، وضرب من الخيال الممزوجة بالتقنية العالية، بالمناسبة أول مرة تم استعمال هذه التقنيه كان إبان حرب الخليج الأولى في سنة 1991 حيث تم نشر صور لدبابات على الأرض وهي في الحقيقة كانت مجرد  خيال وسراب مشحون بنظام الديجتال، بالعودة للموضوع الأساسي، حيث لم يذكر غيتس شيءٍ عن الرقائق الالكترونية في لقاءاته المتلفزة، وقد حور كلامه من منطلق ثاني كان يتطرق له، حيث قال( ستكون لدينا بعض الشهادات الرقمية لإظهار من تعافى أو من تم اختباره أخيرا، أو تلقى اللقاح، بعد الحصول عليه) هذا الاقتباس من بيل غيتس نفسه، ولا ذكر فيه عن رقائق للزرع في البشر. ما تمتلكه شركة ميكروسوفت هو براءة اختراع لنظام العملة المشفرة باستخدام بيانات مثل الساعة الذكية والهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية والأجهزة الذكية وغيرها، والتي تحول الإنسان إلى آلة في نهاية المطاف.
ربما تتحقق نظرية الرقائق في المستقبل بكل بساطة؛ أو بعد سنوات إن طالت أمّ قصرت، وفي ذلك الوقت يكون الناس قد أستقبلت الفكرة بشكلها الجديد، وتوضع في سياقها التاريخي كأي سلعة ثانية تطورت مع تطور البشر ذاته، وتبلورت في الوعي الجمعي والثقافة العامة، ويكون لها مراكز وعيادات ومختبرات وخبراء متخصصين في هذا المجال، وفي النهاية يتقبلها الجمهور مثل ما تقبلوا الراديو والتلفزيون والطائرة وتكون وقت ذاك شيءٍ عاديًا كأي مادة في السوق.

73
لنعمل معاً من أجل فكتوريا
اخطر ما يمكن أن يتصوره المرء هو أحد الآمرين، دخول البلاد في حرب خارجية، أو أن تواجه وباء، مثل وباء اليوم الذي يضرب الولاية مؤخراً، حتى في رواية الطاعون لألبرت كامو، أشارَ لذلك خلسةٌ على لسان الدكتور برنارد ريو الذي تعثر في فأر ميت عندَ الرواق حينما كان يهم بمغادرة مكتبه.
تدخل ولاية فكتوريا المرحلة الرابعة من الأغلاق الشبه الكامل، والذي يشمل الكثير من المصالح الكبيرة والصغيرة والشركات، بعد أن تبين أن فيروس كورونا يسر على قدم وساق في مركز الولاية وضواحيها. المفارقات السُريالية المحُيطة بالجائحة غريبةٌ بعض الشيء، فمن المفترض أن تقل أعداد المصابين بعد أجبار الناس على إرتداء الكمامات Masks، أو أن يُشكل العزل الجزئي ثمَ الكلي إلى نزول في الحالات المصابة، ولكن ظهر مع الأيام إرتفاع حاد في COVID-19 والتي كان يجب أن تقل من الخطوات الاحترازية التي سنتها الحكومة المحلية. حاكم الولاية دانييل آندروز ما فَتِئَ يُحذر من مغبة الوقوع في فخّ الاخطاء التي وقعت فيها أوروبا، وإن كان بطريقة دبلوماسية دمثة، ولكن في النهاية وقعنا في المطبَّ بشكل أسرع من ووهان الصينية ذاتها، إهمال من الجميع بدون أستثناء. حسنًا ماهو المطلوب منا خلال هذه المرحلة المهمة والحرجة من عَمرّ الولاية، والتي لم تمرّ بهكذا ظرف صعب من أول مستعمر وطأت قدماه أرض الجزيرة، الأجوبة بسيطة جداً، وهي الالتزام بتعليمات السلامة، التباعد الاجتماعي Social spacing، أرتداء الأقنعة Face masks، عدم الخروج ألا في الحالات الضرورية، والأهم من ذلك كله هو عدم خروج المصابين بالفيروس من محل أقامتهم مطلقاً إلى حين تعافيهم. للوهلة الاولى تظهر هذه الأمور بسيطة ولكنها جدّ ضرورية، فالحفاظ على الدولة ليست مسؤولية الحكومة فقط، بل تقع على عاتق كل مواطن يعيش على أرضها، فالدولة كما قال الفيلسوف الألماني هيجل هي الفكرة الأخلاقية، أي هي الرُّوح الأخلاقية بصفتها إرادة جوهرية والتي تتجلى وتظهر وتفكر في ذاتها، وهي في ذات الوقت تمثل روح الجماعة، والفرد هو عضو في تلك الإرادة والجماعة. ومن هذا المنطلق نفهم إن لا رئيس الوزراء الفيدرالي سكوت موريسون ولا الحاكم في ولاية ملبورن أندروز يمثلان الدولة، هم جزءً منها ولكن الفرد أيضًا هو أساس قيام هذه الدولة بصفته إنسانًا واعيًا، وهو من يحميها أو يدافع عنها ويُشارك في أحداثها وديمومتها. ينبغي على كل مواطن اليوم أن يفهمّ ويعيّ هذه الصيغة الجوهرية، فبدون دولة قوية نضيع، ونحن العرب بشكل خاص، العراقيين اللبنانيين السوريين، يجب أن نفهم أكثر من الغير ، لأنّنا لم نستوعب فكرة الدولة فخسرنا الكثير، تصورنا الأحزاب والوزراء والشرطة والجيش هم الدولة فقط، وهذا أدى إلى كارثة حقيقية نجني ثمارها اليوم.
في فلم الفنتازيا الشهير The Lord of the Rings سيد الخواتم، يطلب أراجورن من الشجرة أن تساعده في مواجهة المخلوقات الوحشية، فترفض الشجرة في البداية المساعدة، فيقول لها أراجورن أنتِ تعيشين على هذه الأرض وتشربين من ماؤها وتستنشقين هواؤها ويجب أن تساعدينا في إنقاذ الأرض فترضخ له الشجرة، لأنها عرفت إن لها دورًا مهمًا في ثبات وديمومة الكوكب مهما صغر دورها، هذه رمزية الشجرة فكيف بنا نحن البشر.

74
قهوة العراقيين المرةّ
بقلم/ سلوان ساكو
من المؤكد أن الوضع في العراق لا يسر أحداً، خاصةً من هم في الداخل، وفي المناطق الساخنة بالذات، ومن المؤكد أيضًا إن الإخفاقات والفشل صاحب مسيرة التغير والاحتلال من عام 2003 وإلى يومنا هذا، مع كل الوزارات التي تشكلت والمؤسسات الحكومية والغير حكومية والأحزاب الكثيرة، من الحاكم المدني بول بريمر والى برهم صالح ووزارة مصطفى الكاظمي اليوم. إخفاق وفشل وفساد في كل شيء، في كل ما تطوله اليدّ، النفط، الكهرباء، الدفاع، الأمن، الخدمات العامة والصحية، التعليم والتربية، النازحين والمهرجين، حدث ولا حرج، يُضاف إلى كل هذا دور السياسيين العراقيين المحبط والمخزي، وعدم إنتمائهم لشيء أسمه وطن، عدم قدرتهم على تجاوز الماضي، وعدم إمتلاكهم الكفاءة الكافية في إدارة شؤون دولة غنية كالعراق، كل هذه التراكمات كرست لمرحلة باتْ العراق فيه في مصاف الدول الفقيرة، وفي اسفل سلّم الدول النامية وتحت خط الفقر وفي أسوأ مؤشرات التنمية البشرية، كل هذا وغيره من كَلاَمٌ يَنْدَى لَهُ الجَبِينُ وخلال السنوات الثمانى عشر الماضية من عمر الانهيار أصبح المواطن العادي المُعدم يسأل سؤال بسيط ولكنه مهمّ، إلى متى يظل الوضع المُزْرى على ما هو عليه، إلى أين سوف تَفَضَّى كل هذه السنوات من العمر الضائع مع أشخاص وحكام وقادة همهم الوحيد هو السرقة والمتاجرة بمصالحهم وأرزاقهم.
في أستفتاء غير رسمي لقناة محلية تجوب شوارع بغداد أظهرت كمية السخط والحنق والغيظ الذي يكنه العراقيين للساسة الحاليين، لا بل أصبحوا يحنون للماضي بكل ما يحمله الماضي من محنًا وقسوة، ولكن لم يصل الأمر بأن يقتل العراقي أخيه من أجل حفنة من المال، أو من أجل مذهب أو طائفة مغايرة له. حتى حزب البعث الحاكم من سنة 1968 والى 2003، لم يجرء على المساس بالسلم الأهلي والمُسلمات الدينة واللعب على وترّ الأديان، هذه كانت من الخطوط الحمراء، نعم كانت هناك تجاوزات تحصل بين الفينة والأخرى ولكن لم ترتقي إلى أن تكون حالة منظمة وبشكل سافر وعلني. نعم كانت هنالك ثمة حاجة ملحة في مواكبة التطورات العصرية في العالم، وكان أيضًا الكثير من السلبيات على صعيد الدولة والحزب، ولكن كان هناك قانون يتمثل في الدولة وقوة تتجلى بأشكال مختلفة من شرطي المرور في الشارع مرورًا بالموظف والوزير، وبعد سنوات الفوضى والتشتت والغزو ضاعت الدولة وتَسَربَلَ العراق برداء الدماء التي إرَاقَتها الميليشيات والعصابات المسلحة، لم ينجح أحد من الذين جاؤوا على ظهور الدبابات الاميركية في بلورة رؤيا مستقبلية استراتيجية واضحة للعراق، فساد وسرقة ومصالح شخصية لا أكثر ولا أقل.
التشظي والاعتداءات والمَهانَة ليست في الداخل فقط، بل طالت الحدود ودول الجوار أيضًا، تركيا لها معسكرات في قضاء بعشيقة، بمعنى أدق هي على مرمى حجر من الموصل، إيران تعتبر العراق ضمن نطاقها المذهبي الذي هو جزءً من ولاية الفقيه، الكويت ومشاكل الحقول النفطية على الحدود بين الدولتين تُثير جدلاً لن ينتهي، عن أي سيادة نتحدث، وعن أيَّ دولة؟.
لا يمكن تجاهل كل هذا تتحمّل إيران المسؤولية الأكبر  في جميع الإخفاقات مع الساسة العراقيين الموالين لها. بين 2003 و2020، تغيّرت أمور كثيرة في البلد من جملة ما تغير الفرد العراقي ذاته، لم يعد له ثقة في الأحزاب السياسية والحكومات، ولا يمكن أن توجد هذه الثقة ما لم يلمس المواطن شيئاً على أرض الواقع، اليوم ليس لدى السياسيين العراقيين ما يقدموه للشعب سوى الكذب والنفاق وعملية نهب منظّمة لعائدات العراق من النفط.
البلد اليوم على حافة الإفلاس مع تهاوي أسعار النفط العالمية، وسوف يظل المواطن المسكين يُعاني الى أمد طويل في ظل هذا العجز الكبير في الميزانية والدين العام الذي يبلغ حاليا 37 مليار دولار ويتضمن أيضا ديون نادي باريس.
لا يعي من همّ على رأس السلطة في العاصمة العراقية بغداد إن السيل قد بلغ الزبى، ولم يعد أحد يتحمل كل هذا الفشل في أبسط الحقوق والخدمات العامة مع هذا القيظ الشديد.
السؤال الأهم، هل سوف يُقدم رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي على خطوة جدية نحو إعادة هيكلة النظام وبناء دولة محترمة تحرص على سلامة وأمن مواطنيها مع نهاية العام الجاري وبداية السنة المُقبلة، آمّ سوف نشهد إنتكاسة جديدة وما أكثرها في العراق الحديث وتسوء الأحوال أكثر من السابق.

75
لم يكنّ تحويلًا كانَ فَتْحًا مُّبِينًا
الأطماع التركية في الضم والسرقة والاعتداء على حقوق الغيرّ ليست وليدة اللحظة، بل لها جذورًا تأريخية يصعب حصرها الآن، على سبيل المثال لا الحّصر، في عام 1997 طالب رئيس وزراء تركيا حينها نجم الدين أربكان بعودة مدينة الموصل للحضن الوطني التركي، وعلى هذا الإساس حركّ بعضاً من قطعاته العسكرية المُتاخمة للحدود بين البلدين، جاء ردّ الرئيس الراحل صدام حسين سريعاً وقويًا في آن واحد، بإنزال الجهاز الحزبي (البعثيين) بأكمله في المحافظة  إلى الشارع مع حمل السلاح، وقطع الطريق الواصل بين دهوك والموصل مع تحريك بسيط لعدد من الوحدات العسكرية العراقية، لم تمر غير ليلتان ألاّ وأربكان يعتذر عن سوء الفهم الذي حصل، والخطأ الذي تخلل خطابه وتحوير كلامه. كانت هناك ثمة قوة ودولة يحسب لها آلف حساب، ذهب كل هذا اليوم.
حقق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمنيته في الصلاة في كنيسة آيا صوفيا في وسط إسطنبول. لم يكن التاريخ الذي أختاره اعتباطيا، بل جاء من عقلية خبيثة تُحاكي الماضي لتوظف للمستقبل، التاريخ جاء ليقول تركيا تنهض من جديد، تركيا التوسعية، أو الإمبراطورية التركية الحديثة. ففي 24 تمور من عام 1923 تم توقيع إتفاقية لوزان والتي أنهت حكم العثمانيين ودشنت للجمهورية التركية الحديثة، جاء التوقيت ليقول أن الاتفاقية أصبحت من الماضي وتركيا اليوم بقيادة أردوغان تدخل مرحلة جديدة.
من المؤكد أن ولاية إسطنبول لا تحتاج لمزيد من الجوامع والمساجد، ففيها مايقارب 3200 مسجد، وفي عموم البلاد يوجد ما يناهز 82693 مسجدًا، فلا يمكن لعمل مُشين مثل هذا أن يُضيف شيئًا للعدد الكلي، ولكن الرسالة كانت واضحة والتي ارادها الرئيس التركي إيصالها نجح فيها، خاصة ما ترافق معها من بروباغندا، مثل السيف الذي كان يحمله إمام المصلين. 
من الأكيد لن يحصل شجب عالمي على مستوى عالٍ، أكثر من هذا سوف تظل تركيا اليوم قوية تهدد بقضم باقي جزيرة قبرص، وجيش ينتشر على خمسة  جبهات في عدة دول بتمويل قطري أخواني وحلف مع تنظيمات ارهابية، هذا ما أدركه العالم اليوم، ولو جاء متأخرًا. اليونان في قلب الأحداث، ولو تدخل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في نزع فتيل الأزمة بين تركيا واليونان لنشبت حرب بحرية، ربما تطورت لنزاع كبير لا تحمد عقباه.
الحلف القوي بين بنيامين نتانياهو  وأردوغان أعطى ثماره تمثل في الضوء الأخضر الإسرائيلي للتحرك على أكثر من جبهة، وبالتالي تكون هذه موافقة ضمنية من الولايات المتحدة لتركيا.
مع كل ما قيل تظل أطماع أردوغان في الاحتلال والضم والسرقة والتلاعب بمشاعر العالم مصدر إزعاج وقلق كبيرين، خاصة إذا عرفنا البرنامج الانتخابي القادم لعام 2023 لحزب العدالة والتنمية، وإعلان عودة تركيا للخلافة الإسلامية وما تعنيه هذه المصطلحات في القاموس السياسي والأخلاقي والجمعيّ للناس.
شئنا ام ابينا التحولات السياسية قادمة لا محالة، في ظل هذا العجز الأوروبي في إتخاذ القرارات التي تُدين أنقرة على الانتهاكات، من حقوق الانسان والحريات المدنية إلى ممارسة الارهاب والعنف بشكلٍ مباشر وعلني.
 سوف يحل يوم، ويوم قريب يُهدد فيه رجب طيب أردوغان معقل المسيحية، في روما حاضرة الفاتيكان، إن لم يتحرك العالم في الوقت المناسب.

76
المنبر الحر / المسيّحي الأخيرّ
« في: 06:50 22/07/2020  »
المسيحيْ الأخيرّ
بقلم/ سلوان ساكو
قطعَ الغرب مشوارًا طويلًا في رحاب العلمّنة Secularization، والمعلوماتية والذكاء الصناعي، ما لم يفعله بشر على مدار العصور، ربما نكون محظوظين لنشاهد كل هذا بِأم أعيننا، أو نكون تُعساء لنرى المشهد الأخير من أَفْؤُل الكوكب  أو حالات من الضعف التدريجيّ ستصيب الأرض بمعنىً مجازي طبعًا. وتأتي هنا في صيغتين منفردتين، الأولى العلم Science، والثانية بمعنى العولمة، Globalisation. لتؤطر حياة كاملة من القيم والأخلاق والعادات، بعيدة كل البعد عن روح المسيحية كما سوف نرَى.
ليسَ من المستغرب اليوم خاصة في الدول الغربية أنّ يحدث كل هذا الجفاء والابتعاد والبرود عن الكنائس وعن فهمّ العقائد Doctrines التي بدورها تؤثث مسارات المذاهب وتضعها في سياقاتها الصحيحة، كيمّا يعرف المؤمن أين هو في كل ما يجري حوله. وليس غريبا أيضًا أن لا تحتوي الكنائس اليوم غير كِبار السن والعجزة، مع عزوف طبقة الشباب من الذهاب والحضور، ربما تكون الكنائس الشرقية في دول المهجر أفضل حالاً من البقية، ليتبيّن كلّ يوم، خصوصاً مع التطور وتغير المنظومة الاجتماعية أن الكثير من المعطيات فقدت رسوخها والكثير من دواخل البشرية تبدلت جذريًا، غير مكترثة بالدين بحدْ ذاته باعتباره خلاصًا للروح من هذه الدنيا الزائله مهما طال الانتظار فيها ومهما كابر البشر في خلق فرص البقاء على أرضها، ففي النهاية ثمة حساب وقضاء أخروي يضع الإنسان بين يديّ الخالق. لم يعد أحد يكترث لكل هذا، أو لنقل بشكلٍ مباشر، لم يعد أحد يفكر بكل هذه المسائل اللاهوتية التي تحتاج لسياق توضع فيها ليفهم الإنسان إلى أين تتجه البوصلة، لا يمكننا تجاهل كل هذا ولا يمكننا أيضًا حجب الشمس بالغربال. إذًا كيف ستكون الصورة في المستقبل القريب والبعيد إذا ما بقت الأمور على هذا النحو الخاطئ!، من المؤكد إن الكل ستظل على مسيحيتها في صيغتها الحالية، أيّ مسيحية بالأسماء فقط دون إيمان وانتماء، مسيحية على الورق الثبوتية والحكومية، مسيحية من أجل الزواج والعماذ وصلاة الموتى الراقدين، أي مسيحية فلكلورية في أفضل الحالات. وأكرر مرة أخرى خاصة في الغرب. المسيحية المستقبلية سوف تكون للخاصة وليست للعوام، ذات رُؤًى وأبعاد خاصة، لأن العامة رفضت أن تكون هويتها الحقة مسيحية، والخاصة تعرف مع من تتعامل، خاصة متعالية عن التفاهات الارضية المنتهية في نهاية المطاف، (أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي). يوحنا 14:10. وسوف يكون الحصاد كثير للعوام ولكن!، ( إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ)لوقا 2:10. من سيستمر في النكران والجحود لن ينفعه شيء(وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ)متى 33:10. المسيحية ليست كما يظن الجميع سهلة والدخول لها سهل، هي عقل mind، ومنطق Logic وإيمان Faith، وكلمة (فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ). يوحنا 13:1. الباب ضيق جدًا للداخلين ليس مفتوحًا بمصراعيه، (اجْتَهِدُوا أَنْ تَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا وَلاَ يَقْدِرُونَ). لوقا 24:13.
من اليوم في الغرب يستوعب فكرة التجسد!، من يهتم أساسا بالله!، فقد تنازل الله من حالة سموّه الإلهي ليظْهر للبشر بحالة غير إلهية هي حالة الإنسان البشري، إلا أنه طبعا بقيَ الله. ولكن لشدة محبّته للبشر قرّر أن أن يتنازل عن مستواه الإلهي وينحدر إلى المستوى البشري ليعايش الإنسان على الأرض في نفس ظروف عيشه وتحت نفس القيود التي تربطه، من يُحاول اليوم الوصول لهذا الجوهر الأساسي في صلب المسيحية.
فكرة الأخلاق والضمير  Ethics and conscience خطيرة جدًا ما لم تُعقل من (العقلانية)، فالذي لا يسرق والذي لا يغش والذي لا يكذب جيد بنظر الناس، وهذا صالح وجيد بدون أدنى شك، ولكن المشكلة هنا تكمن إن المؤمنين والملحدين يتصفون بهذه الصفات، وهنا ماهية المشكلة، فالمعلم جاء للمتعبين، (تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ). متى 28:11 . وإن لم يشعر الناس بالتعب ووطأة الأثقال ما العمل حينئذٍ؟، وهذا ما ينبئ بالخوف، لأن البرود الديني يعتلي كل شيء. (لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ). متى 24:15. وفي مكان ثاني. (لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَ). مرقس 17:2.
لم يفهم الإسخريوطي طُوال مدته مع السيد المسيح أن مملكة السيد ليست هنا، ليست على هذه الأرض، ليست في هذا البُعد المكاني،( مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا). يوحنا 36:18. ربما كان يحلم يهوذا بدولة لليهود أو اقليم يجمع شتاتهم، مع قريبه برباس، ولكن كل هذا زائل  وتبقى الكلمة، (اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ). لوقا 33:21.
فبدون إيمان حقيقي تذوي التفاصيل وتتراجع ثم تغيب للأبد، أمّا الإيمان فإنما يعني المعرفة، عرفناه بالكشف الإلهي الصريح.
بشكل أدق، اليوم الرغبة للفهم مفقودة، أو فُقدت مع تراكم المشاغل وزحمة الحياة اليومية، تلاشت تحت وطأة الزمن ومصاعب المعيشة؛ اضمحلَّت وصارت إلى العَدَم. ولكن مع كل هذا يبقى الطريق أمام استعادة الفرصة لإنشاء تصورات صحيحة متوفرة، مع إعادة بناء المفهوم ذاته الذي أصابه العطب مِمَا يخول للمرء في النهاية التمعن في كل شيء من حوله بدل التلهي بأمور أرضية في أحسن الاحوال زائلة، إنّ لم يكن اليوم فالأكيد غدًا، ولكن الجوهر باقي لا يزول.

77
الطلاق الغيرّ مُعلن في الكنيسة
ليسَ في هذا العصر فقط، وإنما في جميع الأوقات والأزمنة واجهت الكنيسة الكثير من التحديات والصعوبات، منها ما كان لاهوتيًا يخص العقائد والمعتقدات، ومنها ما كان إجتماعي حياتي يخصْ الجماعة المؤمنة، وعلى هذا الأساس عُقدت الكثير من المجامع المسكونية Ecumenical Councils لدرء المخاطر والفتنة عنها. تحولات كثيرة طرأت على البنية الهيكلية والمفاهيم العامة خلال الألفي سنة الماضية، ولكن يبقى ما يؤكد أن المسيحية راسخة قوية، تُحاكي مفهوم Concept عميق جداً ذوّ أبعاد Dimensions جوهرية  في قلب الديانة ذاتها.
 ما يُثير الانتباه اليوم ويُعتبر ظاهرة غير مريحة إزدياد نسبة الطلاق بين العوائل في الآونة الآخيرة، الأسباب عديدة ومتنوعة لن نخوض في غِمارها الأن، مما يعطي مؤشرا قوياً على أن نمط الحياة الذي يعيشه المسيحي اليوم تغير كثيرًا عن السابق، هذا وغيره يتطلب وقفة لتكن، دينية، إجتماعية، حياتية، لنشق الجرح بمبضع الجراح ونضع أصبعنا على مكامن الإشكالية.
السيناريوهات مُتعددة والأسباب كثيرة التي أدت وتؤدي لانفصال الأسر، فلا يمكننا أن نفهم ما لم نعود للأصل، والاصل يقول (إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ). متى 6:19. وأيضًا ( وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي). متى 32:5. فإذا المبدأ واضح كل الوضوع، لا يوجد طلاق في الكنيسة ألا لعلة الزنة، الثابت أنّ هناك إصرارا على تزوير الحقائق من البعض والعمل على قلب النصوص المقدسة، ومن الواضح أيضا أن هناك تهاون أو لنقل بشكل أدق تساهل من جانب الكنيسة، لكنّ ذلك لا يعني أن الحبل متروك على الغارب، ويفهم من هذا أن الأمور فوضوية داخل الكنيسة، ولكن الزيادة هي ما تُثير القلق!.
الأسباب الشرعية، ( المحاكم الكنسية) التي تُبيح تطليق الرجل لزوجته أو مطالبة الزوجة بتطليقها من زوجها معروفة سلفاً، على سبيل المثال لا الحصر، العنف الأسري، سوء الاخلاق، التخلف العقلي بعد الزواج أثر صدمة ما، العجز الجنسي، غيب آحد الأطراف لمدة طويلة في جهة مجهولة. هذه بعض الاسباب، ولكن أخطر وأهم من كل هذا هو انعدام المحبة بين الطرفين، فيصبح العلاج صعب وردم الهوة بينهم مستحيل، لأنه لم يعد هناك هامشًا للتنازل للطرف المُقابل والتضحية من اجله. والعقد أو العهد أو الميثاق أو الوعد بينهم فقد معناه الروحي والرمزي، وباتتّ وورقة بالية لا أكثر ولا أقل. ففي هذا الوقت أصبح الانفصال أمرًا سهل على الزوجين، فبمجرد ظهور بوارد أزمة مهما كانت صغيرة وبسيطة داخل العائلة يُحال الكلام فورًا إلى الطلاق، وكأنه أجراء بسيط وسهل، وفي بعض الحالات لا يمر على الزوجين وقتًا طويلًا من عقد القِران حتى يتم  بعده الانفصال ومن بعده الطلاق. هنا يحاول احدهم إخضاع الآخر وإثبات انه القوي الممسك بزمام الأمور، ليدخل في صراع من أجل إثبات الذات بغض النظر عن الخسارة التي سوف تلحق بالعائلة. لا شكّ أنّ عوامل أخرى لعبت دورا في إزدياد الحالات بشكلٍ غريب، نعم لا احد ينكر أنه ثمة صعوبات ومشاكل كبيرة تواجه الاُسر، منها الاجتماعية ومنها الاقتصادية المعيشية، فيُمكن لمجُمل هذه الأمور ان تدفعنا للشكّ والقلق تنعكس بالتالي على نفسية الأفراد والأولاد داخل العائلية ذاتها والتي تعتبر أول نواة للمجتمع الذي تنبثق عنه الحياة. وليس سرًا أيضًا إن التحديات الكبيرة تكمن في الغرب ودول المهجر أكثر من سواهم، مع الأخذ بنظر الاعتبار تغير المنظومة التشريعية وقانون الاحوال المدنية بالنسبة للمرأة، فكل القوانيين تقف بجانبها.
يتطلب الفهم  الصحيح للنُظم الغربية الكثير من الحكمة والشفافية ومصارحة الأخر بكل عقلانية. ورغم هذا كله تظل معرفة الغير، الزوج، الزوجة، غامضة غموض الذات الإنسانية. ولتجاوز هذا الغموض يجب  الكشف المبكر عن المشاكل الزوجية الصغيرة التي تكون في أغلب الأحيان ككرة الثلج الصغيرة  قبل تفاقمها أكثر مع مرور الأيام.
باختصار شديد يجب علينا اليوم الاختيار الصحيح بما يتناسب مع وضعنا وثقافتنا وتطلعاتنا، لأننا في النهاية نبني أسرة تكون حجر الزاوية في البنيان العام للمجتمع حريصين كل الحرص على إدامة مشروعنا الذي يتطلب في الكثير من الأحيان التضحية والثبات والصبر والحب وفهم الأخر من أجل العيش المشترك.

78
المنبر الحر / الكنيسّة الجامع
« في: 04:14 12/07/2020  »
الكنيسة الجامع
بقلم/ سلوان ساكو
حينما حصلت مذبحة كرايست تشيرتش النيوزيلندية على يد الارهابي الأسترالي برنتون تارانت، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينها إنه سوف يبعث الأستراليين الموجوديين في تركيا بتوابيت إلى بلدهم، ( سيُرسلون في نعوش مثل أجدادهم في معركة غاليبولي في الحرب العالمية الاولى).
ليس من الصعب معرفة دوافع تحويل كنيسة الحكمة الألهية آيا صوفيا (بالتركية Aya Sofya) الى جامع في الاونة الأخيرة. فتوجه أردوغان من البداية ومن التأسيس هو  إخواني إسلامي بحت، سعى ويسعى منذُ البداية إلى إعادة إحياء الخلافة العثمانية بكل السبل والطرق، مع تواطؤ وخوف العالم منه، فلا أحد يتصور أن تركيا تستطيع أن تتدخل في ليبيا كل هذا التدخل دون ضوء أخضر من الولايات المتحدة الأميركية واسرائيل، ولا أن تتوسع في العمق السوري وتحتل كل هذه المساحات دون علم الإدارة الامريكية، أو أن تنشأ قواعد عسكرية في العراق داخل قضاء بعشيقة وتقصف الإقليم الكردي بشكلٍ مستمر دون أي إحترام لسيادة وكرامة العراق، أو أن تُشييد معسكرات في الصومال وقطر دون علم وإطلاع الغرب. السؤال المطروح هو هل أوروبا تخاف من أردوغان، الجواب نعم بدون شكّ، فمع النجاحات الكبيرة التي حققها  الجيش التركي في العاصمة الليبية طرابلس بتجاه سرت وبنغازي، وتبوئه الصدارة في حلف الشمال الاطلسي الناتو بعد الولايات المتحدة كأقوى جيش في الحلف، ومع تهديد أردوغان المستمر والاستفزازي بإغراق أوروبا باللاجئين السوريين وغير السوريين، كل هذا أعطى مخاوف جيوسياسية تنعكس بالتالي على القادة السياسيين في أوروبا. أراد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التصدي لأطماع تركيا في ليبيا، ولكن لم يستجب له أحد، ولم تسانده أي دولة، فظل كلامًا عبارٍ دون فعلٍ حقيقي. حتى روسيا اليوم لا تستطيع الوقوف بوجه أطماع تركيا، ففي عام 2015 أسقطت الدفاعات التركية طائرة من طراز سوخوي - 24 ولم تفعل موسكو شيئًا يذكر غير تصريح من فلاديمير بوتين على الضربة الجوية أنها (طعنة في الظهر) لا أكثر.
هناك قبل كلّ شيء رسالة واضحة من الرئيس التركي، مفادها أن تركيا قوية رغم تراجع الليرة في الفترة الماضية، وأن تركيا مقبلة على سياسات خارجية توسعية تضمن لها تدفق الأموال والنفط والغاز. هناك جانب آخر يتمثل في إن طيب أردوغان متأكد أنه سوف يفوز في أنتخابات عام 2023 دون منازع، وكل الحديث عن خسارة حزب العدالة والتنمية لمقاعد مدينة إسطنبول ليس له معنى، حتى رئيس حزب المستقبل أحمد داود أوغلو المنافس الشرس لأردوغان لا يشكل أي تهديد حقيقي له. هناك ما يشير إلى ان المرحلة المقبلة  على أوروبا والعالم  في ظل ألرئيس التركي صعبة للغاية مع كل الاستفزازات والتهديدات. يكفي أن نذكر بأن تركيا تسعى لضم باقي جزيرة قبرص إليها بعد أكتشاف إحتياطي الغاز  فيها.
لا تزال المعركة طويلة مع السلطان الجديد، ولا تزال هناك فتوحات وتوسعات كثيرة، ولكن من المؤكد انها ليس سهلة مطلقًا.

79
مثير للجدل في الشخصية المسيحية العراقية                               
بقلم/ سلوان ساكو
ليس سرًا إننا نتغير مع تغير العصر، وتتبلور أفكاراً جديدة تحمل مفاهيم جديدة تكون في الأغلب الأعمّ على أنقاض القديمة، وإن أتخذت أنماطا ومسارات مُغايرة في منحنيات الحياة التي يعيشها الفرد أياً كان. في هذا المّقال سوف أتطرق للشخصية العراقية بين مزدوجين المسيحية منها، وتراكم الخبرات فيها، السلبية والإيجابية منها، والصراع الدائر داخل الذات انطلاقا من معارف استنباطية.
تبلورت الشخصية المسيحية في العراق واتّخذتَ أشكالاً محدّدة أثر تراكم يعود بأثر رجعي في نفسية الفرد في تأسيس شخصيته، وأثر تحولات رئيسية في أنماط العيش والتنقل والهجرة والنِزوح الإجباري. والاهم من هذا وذاك هو الحرب أو الحروب التي خاضها العراق ابتداءً من إيران وهلم جرا في تحطيم كينونة الإنسان العراقي بصيغة أشمل، ففي لحظة المأزق التاريخي تغير كل شيء، وباتَّ من الاستحالة اصلاح ما أفسده الدهر، وكيفية تأثيراتها السلبية على الفرد المسيحي بمفهوم استقرائي أعمق بكثير من هذا التسطيح الذي نعيشه اليوم، عاجزين عن التفكير السوي المنطقي Logical .طبعا لا تشمل هذه المقالة الجميع، ولكن هناك فئة لا بأس به تتسم بهذا الطابع، أو موسومة بها من الأصل، مع كل التغيرات التي حدثت على الصعيدين الثقافي والحياتي، لتتوسع في دائرة مغلقة مِمَا يجعلنا نتساءل عن طبيعة هذه الشخصيات personalities.  وهذا لا يمنع بطبيعة الحالة من التوقّف عند طرح مجموعة معينة من الأسئلة؟. إذًا لنعود للوراء قليلًا لنستكمل مُجمل الصورة ونضعها في إطارها الصحيح، ولكن هذه المرة دون رتوش أو مساحيق تجميل، لتظهر لنا في النهاية بشكل واضح وجلّي.
على ما يبدو المسألة بدأت مع النزوح القسري لقرى ونواحي الشمال، أيَّ شمال سهل السندي، أو شمال زاخو بتعريف أدق، فخلال سلسلة الحروب التي خاضها الأكراد من أجل تحديد المصير مع الحكومة العراقية، تمَّ تهجير الكثير من القرى والنواحي من مكان سُكناهم إلى محافظات اخرى، موصل، كركوك، والعاصمة بغداد، على مراحل أو دفعات، حسب انتشار رقعة النزاع. بَدْءًا من أواسط الخمسينات وإن كان بشكل طوعي نوعًا ما، واستمر إلى الستينيات وصولاً للذروة مع منتصف السبعينيات، ومع اتفاقية الجزائر المشؤومة الغرض منها كان إخماد الصراع المسلح مع الأكراد، الموقعة بين شاه إيران محمد رضا بهلوي والحكومة العراقية متُمثلة بالنائب وقتذاك صدام حسين في 6 آذار مارس من عام 1975 برعاية الرئيس الجزائري هواري بومدين، أسُدل الستار على أخر قرية مُهجرة تقريبًا، ظلت هناك بعض القصبات متناثرة بين سفوح الجبال والسهول والروابي، لا تهم كثيراً في المعادلة الرئيسية والمغزى الاساسي للاتفاقية  ألا وهي خنق الكُرّد وإفشال مخططاتهم لإنشاء دولتهم. المهم هنا هو إن السواد الأعظم من شعب مسيحي كان يحيا في تلك المناطق قد تم ترحيله قسراً من أرضه وداره إلى مكان آخر مُغاير في اللغة والثقافة والعادات، حتى وإنّ كان داخل حدود الوطن الواحد، فقرية متُاخمة للحدود العراقية التركية ثقافتها ولغتها وعاداتها غير ثقافة ولغة وعادات أهل بغداد أو البصرة أو الموصل مثلاً، كل هذا فرزّ أنماط وشخصيات مختلفة مع محيطها وصعوبة تناغمها والدخول معها في علاقة مُتمِدنة، كان التقوقع حول الذات هو السمة الأغلب مع إحساس بالقهر والظلم، وشعور بالنقص Inferiority feeling في ذلك الوقت، مع عدم توفر فرص كبيرة للتأقلم مع المحيط، ربما بسبب عامل اللغة، الكل تقريبًا تتكلم أما الكردية أو السورثّ الدارجة، بعيدين عن لغة المدينة وهي العربية، فبات هنالك هواة يصعب ردمها بين الثقافة المحلية السائدة وبؤرة ضغط تتمركز في اللاشعور تحت نسق سيكولوجي مؤلف من الموروثات والدوافع القديمة التي منها تغيرات تكون في اشكال التعبير وصوبة التعلم وعدم التكيف مع المحيط العام للمدينة، في نفس الوقت كانت تحديات البقاء ومتطلبات المعيشة من أجل توفير ضروريات الحياة أمر غير سهل مطلقاً، مما أجبر الناس على العمل في مهن وضيعة Menial occupations، وطبعاً العمل ليس عيبًا بأي شكل من الأشكال، لأن أسباب وسُبل العيش تتطلب هكذا أعمال في ذلك الحين. لم تنتهي هذه المحنة بتعاقب العَقَدّ الأول والثاني، بل استمرت إلى الجيل الذي تلاه. بعد ذلك بجيل، والجيل يساوي هنا بين 23 سنة الى 30 سنة، ظهر جيل متعلم غير ذلك القديم، حاصل على الشهادات العليا، تعلم مهن حرة، أتقن فنون الحياة وسبل العيش، تخلص من الخطاب القديم وإن كان بشكل جزئي. ولكن حلت حرب الثماني سنوات مع إيران هنا حدثت انتكاسة برأي أثرت سلباً على الجميع، وأقول ذلك لأن الإخفاقات باتت ملموسة، هنا ينبغي أن نفهم معنى إخفاق الفكرة أو معنى اِنتكاسة بأثر رجعي للوراء أو بالأحرى ما الذي جعل الوضع يسقط نحو هذا الدركّ؟ الجواب أنّ ثمّة خللا أساسيا حصل في تطور الجيل أو توقف عند حدّ مُعين، فبعدما أن اشتدت المعارك حصل هنالك فراغ في بناء سيكولوجية الفرد من نوعاً ما، نوع خاص، اتّخذ أشكالاً وصيغ أخرى، ومع القيم الرفيعة للديانة المسيحية، الحب، السلام، والتسامح، الصفح، الوداعة، ومع تردد وخوف المسيحي ذاته بلورت اللحظة عن حالات تكاد أن تكون عامة، فبات المسيحي ساعي (مراسل) عند الضابط أو القائد الفُلاني، أو سائق خاص عند العائلة أي عائلة هذا الضابط أو القائد. هذا لا يعني في طبيعة الحال أنّ الكل هكذا، ولا ينفي أن الشعب المسيحي أعطى شهداء في هذه المعركة وغيرها. ولكن لم تكن السمة الابرز في هذا السياق، في مكان ثاني وعلى نفس النهج وإن تغيرت الأدوار بعض الشيء، أشتغل عدد لا بئس به من نساء ورجال في القصر والديوان الرئاسيان، عمال تنظيف، طباخين، مربين، خدم، أي من الطبقة الثالثة أو ما دونها، في ظل هذا التخبط الشعوري وأذلال الذات بات هناك منطقة رمادية في الشخصية المسيحية العراقية وإشكالية حقيقية لهاجس وعيها في بناء مجتمعها كذات حرة باعتبارها كينونة واعية بذاتها في تكوين شخصيتها المستقلة عن الغير، الغير المتسلط القوي سالب الأنا من النفس، الضابط، القائد، الرئيس. ولكن هذا لم يتحقق مع الأسف، وهذا ما سيظهر بوضوح لاحقاً في زمن الحصار المفروض على العراق في منظومة سوسيوثقافية أكثر تعقيدًا برزت في تلك الحقبة وظفت لها المؤسسات والآليات والأنظمة الاجتماعية السائدة في قمعّ روح الإنسان التواقة للحرية وأن في حدودها الدنيا. تمثّل هذا الواقع الجديد في بروز اشخاص غير أسوياء يتقمصون أدوار التكبر والإعلاء الوهمي للذات، يكون مُزيف أجوف من الداخل لكونه لا يستندّ على منصات معرفية صحيحة، والنتيجة كانت ومازالت رمادية الألوان. تكرر هذا المشهد التراجيدي في مرحلة لاحقة، أيَّ بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، هذه المرة ليسّ نزوح داخل البلد الواحد وإنما هجرة جماعية خارجية على شكل موجات. لم يدرك المُهاجر الجديد أن قواعد اللعبة قد تغيرت مع تغير الأشكال النمطية القديمة للحياة، بَدْءًا من الحاسوب والأجهزة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وزراعة الرقائق الإلكترونية في جسم البشر التي يُروج لها اليوم بكثرة لجعل الإنسان آلة.
تبيّن مع مرور الوقت أن الرهان كان خاسراً في كثير من الأحيان، لأننا لم نسأل أنفسنا السؤال الجوهري، كيف وصلنا الى هذا الدرك من التقوقع داخل الذات، لعلّ الجواب يظل مجهول لوقت طويل، وطويل جداً. الذي سيطرح نفسه في نهاية المطاف، هل تقول الصورة اليوم الحقيقة وتجد لها تطبيقا مع كل هذه التحولات الإبستيمولوجية الخطيرة في عقلية البشر، أمَّ نظل أسرى أزمنة ولتّ دون رجعة خارجة عن الإطار اصلاً. نعم نحن مع كل ما تقدم لا يمكن أن نعيش في مسار يختلف عن المسار الإنساني وتحولات التاريخ، فإما أن نندرج فيه بشكلٍ فاعل أو يلفظنا خارج السرب، إنّ وعي الإنسان بذاته من الأهمية بمكان يصعب تجاوزها بأي شكل من الاشكال، وهو ما يجعلها ذات أهمية وتأثير وفاعليّة على جميع الأصعدة.
كاستنتاج عام فأن الشخصية، شخصية أي فرد كان هي عبارة عن تفاعل ديناميكي بين المجتمع والذات في مواجهة مفتوحة مع الأنا في صيغتها العاقلة والتي يجب أن تدرك نفسها لتنطلق نحو فضاءات أوسع كَيما تمتص رحيق الحياة لتشعر بذاتها بعيدا عن الانهزامية والخنوع والخضوع والاستسلام قابلة للاسْتِبْدالِ والتَّحَوُّلِ مع ضروريات وصيرورة تطور العصر.

80
المنبر الحر / لاهوت الوقت
« في: 05:32 29/05/2020  »
لاهوت الوقت 
في نصه الفريد يُقدم لنا الكاتب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي إسقاطًا عجيبًا من نوعه على ماهية الوقت Time، من خلال توظيف تجربته الشخصية في الاعتقال ومن بعد ذلك الحكم عليه بالإعدام، ليبتكر شخصية من نوع خاص تتصف بالمريضة في روايته الأبله. حيث يقوم السردّ البنائي في الرواية بالكشف عن بعض الصفات الدفينة داخل النفس البشرية لتبرز معالم حيوات كانت مستترة وراء كواليس الروح. ففي عام 1849 أُلقيَ القبض عل فيودور لانتمائه لرابطة بيتراشيفسكي، وهي مجموعةٌ أدبية من الشبان ذات طابع سريّ تُناقِش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكِم في روسيا وعلى هذا الآساس حكم عليه بالإعدام، يذكر دوستوفيسكي تفاصيل مرحلة الإعدام في نص الرواية بأسطر سريعة، فيقول، في صباح احد الأيام اخرجونا من الزنزانات وكنا عشرين متهمًا بالإعدام ، مقيدين بالسلاسل بالارجل والأيادي، يتقدم الركب كاهنًا متشحًا بالسواد، فاعتبرت ذلك نذيرَ شؤم، تقدمنا من منصة الإعدامات، وكان عليها ثلاثة أعمدة خشبية، فبدأ القاضي تلاوة نصّ الحكم على كل واحد والذي كان حكمًا الإعدام رميًا بالرصاص، كان تسلسلي حسب المرسوم القيصري هو الخامس، فقلت لنفسي، تبقى لي في هذه الحياة خمسة دقائق فقط كيف أستغلها، فهية ثمينة جدًا وقليلة جدًا، فوزعت الدقيقتين الأولى لتوديع الاصدقاء، والدقيقتين التاليتين للتفكير في سؤال معنى الوجود، والدقيقة الآخيرة ينبغي أن اتمعن في سر هذا الوجود وكينونته، بعد ذلك ذهبت المجموعة الأولى إلى موقع الرمي، وانطلقت الرصاصات تدوي في السماء ولكن لم يمت احد، فقد تمَ تصويب فوهات البنادق الى الهواء، وقرأ الجنرال قرار العفو الذي أصدره القيصر بحقنا.
تجربة عميقة في دلالاتها السيكولوجية للنفس عندما تكون إزاء تجربة واحدة لا تتكرر في رمزيتها المجازية. الوقت هو مُشغل العرض السينمائي لحياتنا، محاولات الإنسان لضبط الوقت هو أنعكاس لمتطلباته وإحتياجاته وأناته وأوجاعه، وبالتالي قيد ذاته بأغلال الوقت والزمن، حبس نفسه داخل دوامة اللحظة، أردنا ذلك آم لا نحن أسرى بنى ثقافية بإشكاليات تقنيات العصر، ( عصر السرعة the era of speed). الانتظار عند طبيب الاسنان مزعج، ولكن مشاهدة فلم أكشن لمدة ساعتين تمر كأنها الثواني. تزكية الوقت في ثرثارة لا طائل من ورائها تأخذ ساعات، بينما تصفح كتاب ولو لدقائق معدودات مُملّةً للغاية. أنشتاين قال أن الزمن نسبي وليس مطلق، بمعنى أن رائد الفضاء يكون أصغر في المجرة عنه في الأرض، آما عمانؤيل كانط فقد قال، لا يوجد شيء أسمه الزمن، بل أن عالمنا الذاتي وحياتنا تحاولان ضبط حركة تعاقب الأحداث لمعرفة الماضي والحاضر والمستقبل، بمعنى إبستمولوجي الزمن وهم ونحن داخل هذا الوهم سابحين. لم يكن الوقت مُعد سلفًا في أوكرانيا وقت حدوث كارثة تشيرنوبل، الماء لم يكن باردًا بما فيه الكفاية في المفاعل رقم 4، ساعة حصول الانفجار 23:04، خلال دقائق تغير وجه الكوكب، يعيد التاريخ نفسه في معظم الأحيان ولكن بشكل هزلي، الوقت لم يكن عاديًا عند بول تيبيتس ففي الساعة الثامنة والربع صباحًا أَلْقَى القنبلة على مدينة هيروشيما، التاريخ سوف يظل عالقًا في ذاكرة الأجيال طويلًا.
اليوم الأمراض القاتلة في تكاثر مستمر لا تمهل أصحابها الكثير من الوقت. خمسة عشر يوم هي فترة حضانة فيروس COVID-19 حسب منظمة الصحة العالمية، الوقت محدد بدقة، أما أن يعبر المرء البرزخ ويعود للحياة، وأما أن يفارق هذا الكون للأبد، بين هذا وذاك هوة واسعة، لا يمكن الجزم في أي بُعد سوف نكون، ولكن الأهم هو استحالة الرجوع الى الماضي ما يمكن تأكيده مع حالات الموت.
إحساسنا بالزمن هو وعينا بإنسانيتنا، ووعينا بذاتنا، ووعينا بخلاصة تجربتنا الحياتية سواء كانت طويلة أم قصيرة، من هذا المنطلق نستطيع أن نقول إن للوقت أهمية في صيرورة البشرية.

81
الرحلة الأخيرة إلى باريس
في مشهد لا يفتأ أن يتكرر في السينما المصرية، يرفع الفنان كمال الشناوي سماعة الهاتف ويتصل بسكرتيرته قائلًا، احكزيلي يا منال على أول طائرة طالعة لباريس.
أنتهى كل هذا اليوم واصبح من الماضي الذي لن يعود قريبًا كما كان عليه الحال في السابق حتى قبل شهور خلت. ادلى قطاع النقل الجوي الدولي (إياتا) بدلوه في هذا المضمار حيث صرح المتحدث الرسمي قائلًا، أن عودة الحياة الطبيعية لحركة السفر والنقل والسياحة تحتاج على الأقل الى ثلاث سنوات، أيّ حتى عام 2023. نعم تغير الكثير خلال هذه الشهور الثلاث الأخيرة. وقطاعات واسعة تضررت بسبب الجائحة اللعينة التي ألمت بالأرض بشكلٍ كبير، ولكن يظل حقل الطيران المتضرر الأكبر لما يشكله من أهمية في حركة وسرعة التنقل بين الدول، على جميع الأصعدة والنشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. قبل كورونا من كان يفكر من الرؤساء والملوك والزعماء أن يجلس خلف طاولة فخمة ويجتمع مع نظرائه من القادة افتراضيًا عبر Skype، من كان يتصور أن تهبط كل الطائرات المُحلقة في الجوّ مرة واحدة، والمشكلة الأكبر التي لم تكن بالحسبان هي لا وجود لمواقف تتسع لجميع الطائرات الهابطة، من كان يفكر أن تُنقل صلوات العيد والاحاد عبرَ الفيسبوك.
الأكيد أنّ هناك تغيرات جذرية طرأت على العالم، الأهم من ذلك كلّه أنّها بلورات أفكار وانساق وخطط جديدة، تبدأ من دوري كرة القدم، ولا تنتهي بالسياسات العليا للدول العظمى. لن يقتصر التغيير على العلاقة بين الفرد ومحيطه حتمًا، بل على المجتمع ككل بأطر عامودية وأفقية في سلوكه وتفكيره ووعيه. سيكون السؤال المطروح الآن وفي المستقبل الى ايّ مدى سوف يصل إليه هذا التغير، هل نُشرع قتل الرحيم بشكل طبيعي دون وخز الضمير إيلاماً للمتوفي، هل نُضحي بكبار السن، هل نفقد البوصلة الأخلاقية ونظام السلم الأهلي وميثاق العيش المشترك والعقد الاجتماعي الذي يضبط إيقاع وحركة الناس، هل يأتي يوم نحسد فيه مملكة الحيوان على قانون الغابّ الذي يحكمهم؟.

82
المنبر الحر / سيرة حياة مطران
« في: 02:43 01/05/2020  »
سيرة حياة مطران   
يُعرض في هذا الموسم من شهر رمضان عدة مسلسلات درامية تَجْمَعُ بَيْنَ الملْهَاةِ والْمَأْسَاةِ، تراجيدية وكوميدية، متنوعة في احداثها وأهدافها، تنتقل بين احداث قديمة وأخرى تواكب أحداثًا جديدة، ولكثرتها وعرضها في وقتْ واحد تقريبًا اختلط على المشاهد الكريم الغث مع السمين والجيد بالرديء، حال معظم مسلسلات أشهر رمضان السابقة. المهم في هذا السياق الآن هو مسلسل حارس القدس الذي يُبث من على شاشة قناة الظفرة، يحكي قصة حياة المطران هيلاريون كابوتشي أو المطران الثائر جورج كبوجي، المسلسل مهم من الناحية التاريخية وقيم في أحداثه السردية للوقائع. السيناريو والحوار مأخوذة عن مصادر مختلفة وموثوقة، على رأسها الأب العلامة الياس زحلاوي، إدارة الكاميرا ومواقع التصوير والسيناريست والديكور والنص محبوك وممتاز الى حد بعيد، الممثل السوري رشيد عساف قدم الشخصية بشكل مذهل حقًا.
سيرة حياة المطران المناضل جورج كبوجي 1925-2017 غنية في احداثها، مثيرة للاهتمام والتدقيق، كيف وفق هذا الرجل بين الدين من جهة والسياسة من جهة أخرى بهذا التناغم الفريد، ليس أولها عندما يرتدي بدلته الكهنوتية ويبدأ بالتنقل عبر الحدود في سيارة مرسيدس محملة بالقذائف والبنادق، وعندما يوقفه الجنود يبرز جواز سفره الدبلوماسي الصادر عن دولة الفاتيكان فيسمحون له بالمرور دون تفتيش، وليس أخراها عام 2009 يُشارك في أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة، ويظهر يخطب في النشطاء قائلًا(علينا أن نجاهد وأن نناضل ونسعى، وعلى الرب أن يكلل المساعي بالنجاح، إذن اليد الأولى العمل واليد الثانية يد الرب القادرة على كل شيء). وفي سنة 2010 كرر المحاولة وشارك في السفينة التركية مرمرة المتجهة نحوّ غزة وقال حينها(أنا ذاهب لأنني أب للفلسطينيين وأنا سعيد أن ألقى أبنائي بعد الغياب عنهم دام ثلاثين سنة).
يطل علينا حارس القدس لإعادة صياغة أزمنة سابقة كان المطران كبوجي بطلها في سياقات  شيقة في أحداثها وسرديتها والتي غاب مع الأسف الشديد على الكثيرين متابعتها.
في المستقبل هل سوف نشاهد مسلسل أو فلمًا وثائقيًا عن  المطران الشهيد مار بولص فرج رحو مطران الموصل وتوابعها للكلدان، يوثق سيرة حياته، خاصة في السنوات الاخيرة قبل استشهاده، أيّ بعد الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، ليبقى في مدينته التي احبها من كل قلبه، وصموده في وجه التهديدات التي جابهها بكل شجاعة ورَبَاطَة جَأْش رغم بئس الاوضاع في المحافظة التي في النهاية أغتالته على يد مجموعه متطرفة عام 2008.

83
البقاء في الوطن أفضل من الهجرة
لم يعد يُخفى على أحد إن العالم تغير، وبالأخص الدول المتقدمة والعظمى الذين كان لهم تأثيرًا كبيرًا على منحنيات الحياة كافة. إنّها المرّة الأولى في التاريخ يحدث كل هذا الركود وتتوقف عجلة السوق والتجارة الحرة وحركة والناس بشكل شبه كامل، نعم حدث كَساد ‫كبير في بداية القرن المنصرم أو ما أطلق عليه اسم الانهيار الكبير  Great Depression، حيث حدثت أزمة إقتصادية في عام 1929، مروراً بعقد الثلاثينيات وبداية عقد الأربعينيات، تعتبر من حيث التصنيف العالمي من أكبر  الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين، لم تنحصر ألاّ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اليوم الأمر‬ مختلف كل الاختلاف عن ذاك العصر، فتلك المرحلة كانت بين حربين عالميتين كبيرتين، والمنظومة الاجتماعية اليوم غير الأمس، اسلوب الناس في المعيشة تغير بشكلٍ  كبير، قاعدة البيانات العالمية ونظام الداتا الرقمي غير من وعي وسلوك  البشرية، أدوات المعرفة ومعاييرها ذاتها تغيرت، حيث لم تعد كما هي بالأمس القريب حتى. فأذاً ثمة تغيرات جذرية واضحة حصلت على كل الأصعدة والفعاليات والنشاطات، اليوم دول المَهجر من أوروبا وصولاً الى كندا وأمريكا مروراً باستراليا لم تعدَّ أرض الأمل ولا الحلم المنشود. من كان يتوقع أن تصبح مدينة New York مقبرة جماعية لآلاف الضحايا قضوا نحبهم بالجائحة، من كان يتصور إلى قبل اسابيع خلتّ إن تنعدم الحياة اليومية بجميع أشكالها واطيافها في مدينة النور باريس، من كان بتصور أن تكون إيطاليا وأسبانيا وبريطانيا دول منكوبة اقتصاديًا وطبيًا. اليوم تساوت جميع الدول الفقيرة والغنية منها، العالم الثالث أسوة بالعالم المتقدم، هذا هو واقع اليوم دون مفاضلة أو تهكم. لم تعدّ هناك جدوى في ظل هذا الخراب المالي والطبي الذي يلقي بظلاله الثقيلة على الحكومات والمجتمعات الغربية طلب السفر والهجرة، الخارج كما هو الداخل، إن لم يكن الداخل أفضل، لنترك البروباغندا الغير موضوعية ونبحث مبحثٍ عقلاني في هذا الكرنفال من المعلومات المتضاربة، لا يوجد رهان واحد يستند إليه طالب الهجرة في هذا السعير المرعب من الموت والفوضى، انتفت الحاجة للهجرة وإنما يُصار الانتقال إليها بدون معنى يذكر. من يقطن في المناطق الأمنة في بغداد وفي الإقليم الكردي أربيل ( عينكاوا )، دهوك، زاخو، السليمانية، أو حتى من هُجر من الموصل وتوابعها في زمن تنظيم الدولة الإسلامي داعش ومستقر نسبيًا في عمله ووظيفته ومجتمعه ومتناغم مع محيطه لا فائدة من سفره ألان، المسألة لم تعد مجدية، الركود طال كل شيء تقريبًا، والعودة إلى زمن ما قبل كوفيد- 19 بعيد المنال، البطالة في أعلى مستوياتها، طوابير العاطليين من العمل في دوائر الإعانات الاجتماعية حدث ولا حرج، تجليات الأزمة الآخيرة كثيرة ليس بدايتها سعر برميل النفط هبط في ادنى مستوياته منذ عقود 20 دولار للبرميل، ولولا الإتفاق الذي وقعْ بين السعودية وروسية لنخفض إلى 10 دولارات للبرميل الواحد، النتيجة كارثية على الصعيد الدولي، ماذا تتحمل الدول لتتحمل وقد تلقى الاقتصاد العالمي ضربات موجعة خلال الشهور الثلاثة الماضية، وارتدادات الديون وتوقف السوق والشركات الضخمة سوف يظهر لاحقًا. ليس معروفا متى تنتهي هذه الأزمة ولا انحسار المدّ الكوروني وتخبط الدول الكبرى فيه وتراشق التهم فيما بينهم على اسباب أنتشار الفيروس، وإلى متى يظل الوضع الشاذ الحالي قائمًا.
بصورة مجملة ليتريث قليلًا من يريد المُغادرة، فكل المؤشرات تدل على إنه تغيراً  كبيرًا جدًا حدث وسوف يحدث، وأن العالم مقبل على سياسات جديدة غير مسبوقة لم تتبلور وتأخذ صيغتها النهائية بعد. الأيام المقبلة هي التي سيكون لها كلمة الفصل في أظهار ما يخفيه المستقبل لنا.

84
موسيقى الموت على حلبة الحياة
إذا قبلتُ الموتّ في حياتي واعترفتُ به وواجهته مباشرة، سأحرّر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وحينها فقط سأكون حرًا في أن أصبح نفسي.
مارتن هيدجر
ظلت أسئلة الموت والحياة الأخرى والبعث والوقوف بين يدي الإله محيرة إلى يومنا هذا، ومع كل الأبجديات الأولى والأطروحات الدينية والعقائد الوضعية التي سارت في هذا الفضاء الواسع من هذا العالم، حيث يكتنها الغموض المطلق ليبقى الجواب مجهول، ربما من طبيعة ماهيته أن يظل هكذا دون إجابات مباشرة، سحر السرّ، أو استحالة الكشف، أو عَدَمُ إِمْكَانِ وجوده كموجود فيزيقي، مثلاً ما أن يقول لك احدهم أن الغرفة مقفلة عليك حتى تتصارع للخروج منها، مع انه لم تكون هكذا قبل دقائق، طبيعة الأشياء هكذا. هناك جانبًا من الكينونة في موت الذات، تجربة شخصية للفرد هو وليس شخصًا أخر، ولكنها تظل حقيقة واضحة وهي كونها الوجود واللاوجود معاً في سياق واحد.
يقدّم لنا أبيقور الإغريقي عرضاً ساخراً عن الموت في صيغة جدلية تبادلية، (إن الموت لا يعنيني البتة، فهو إن وجد، لن أكون موجوداً، وإن وجدت أنا لن يكون هو موجوداً).
لم تعلن  حنة أرندت الفيلسوفة والمفكرة الالمانية أن أدلوف أيخمان هو صانع الموت أو هو ملكه في صيغة مباشرة، أو هو من صرح بموت آلاف الاشخاص الذين ادخلوا الأفران النازية الهولوكوست وأحرقوا في معسكر أوشفيتز، بل اعتبرته نوعاً جديداً من مرتكبي المذابح الجماعية، لا تحركه أيّ دوافع خبيثة أو قاتلة، قالت أنه مجرد موظف عند ادولف هتلر أو عضوًا في الحزب النازي، لا يدرك خطورة أفعاله ولا يقبل تحمل مسؤوليته. كان هذا هو السياق الذي طرحت من خلاله مفهومها ( تفاهة الشر )الذي اسيئ فهمه لاحقًا على نطاق واسع.  
أعطى مارتن هيدجر ابعاد وأطياف وألوان عديدة لمسألة الموت كحالة خاصة فردانية، ليقدم لنا في النهاية تحليلاته الأنطولوجية وتصوراً أعمق لتجربة الموت وبعد أخر اشبه ما تكون  سيمفونية موسيقية يعريها من هالتها الأولية ليكون وجودها وجودًا محضاً ينظر إليه كموجود فينومينولوجي فقط يبعث على القلق والحيرة، القلق الوجودي. الموت ليس له علاقة بالعمر، يسخر هيدجر ممن يعتقد بتلازم فكرة الشيخوخة مع فكرة الموت، يقول (فكثيراً ما يموت الطفل قبل الكهل، فليس الموت حفلة اعتزال، إنه سر متموضع في وجودي قد يكشف عن نفسه في أي لحظة). فإذاً الحالة المشار إليها حالة فردانية خاصة بحتة.
لم يكن يقصد جورج برناردشو، انه لن يموت مطلقًا، أو أن لا يموت جسديًا، ولكن كان يقصد موته أيَّ موت الآنا، الأنا الفاعلة، الأنا المفكرة.
الموت تجربة ذاتية محضة، إنه إمكانية بالغة الخصوصية تماماً، فلا أحد سيموت عني، ولا أحد سيقضيه عني، ولا أحد يستطيع أن يبعده عني أن جاء فلا يمكن لأحد ان يفعل اي شيئ أو حتى يمنعه من الحدوث، وأن لم تحن ساعته فأنه بعيد كل البعد عن أمكانية الحدوث، كتلك المُسنة الإيطالية التي تجاوز عمرها 106 سنة وأصابها الفيروس لكنها تعافت وعاشت بعد ذلك سعيدة بِمَا تملكه من عمر متبقي لها على هذه الأرض، في المقلب الآخر من الكون الشاسع المترامي الأطراف وجِدَّ ذلك شاب العشريني المسكين وهو في ريعان الصبى قَضَى نَحْبَهُ بالجائحة. قد تكون تقسيمات الحياة ذاتها هكذا، أو  شَيْئًا آخر غير ذلك لا ندركه.

85
علاقاتنا في ظل الجائحة
ما كنا بحاجة إلاَّ لهذا الحجر المنزلي لتكتمل الصورة الواهية للعلاقات الاجتماعية وينسدل الستار على أخر مشهد للأواصر المجتمعية المحيطة بنا. قبل وباء كورونا كانت العلاقات بالمجمل هامشية أو اقرب اليها، حتى صار العزل المنزلي عذراً أقوى لتصدع وتكلس العلاقات التي تربط الناس ببعضها. ثمّة جفافٍ كبير بين العوائل والناس خاصة في دول المهجر، الأسباب عديدة ليس أولها الجري وراء لقمة العيش، ولا أخرها ديناميكية سرعة الحياة ذاتها، الكل Busy مما يدع الأغلبية العظمى أسرى واقع مرّ بدون ريب. كشفَ انتشار الفيروس هذا البرود الملموس بشكل لا يقبل الدحض، تلوثت شيئا فشيئا علاقات الناس ببعضهم وبالتالي انعكس على المجتمع لتكتمل الصورة كما هي عليه اليوم، الباب الذي ياتيك منه الريح سده واستريح. يقول علماء النفس، إن الشخص الخائف من كارثة أو مرض خطير أو أنتشار وباء ينكمش على نفسه كحل وضرورة اساسية بالنسبة إليه، هنا تدخل الأنا في اللعبة فعندما تشعر أنها مهددة فإن ردة الفعل الاولية هي عدم المبالاة والتجاهل اتجاه الاشخاص كيما تحمي ذاتها من الانهيار، وهذا يعود بدوره إلى تلك الغريزة البدائية عند الانسان عندما كان لا يجد إيجابات محددة للظواهر الطبيعية من حوله، كالفيضانات والرعود والزلازل والبراكين، فكان يصطنع عدم المبالاة ويتظاهر بعدم الاكتراث لكي يتخلص من هذا الضغط النفسي في تفسير هذه الميتافيزيقيا، في وقت لاحق نسج الأسطورة والحكاية ليفسر كل هذه الظواهر أو الحالات الطبيعية في الكون والبيئة المحيطة به، ويشكل بالتالي توازن نفسي من نوع ما يرتاح له.
الراصد للمتغيرات يراهن على وجود هذا الشرخ وهذه التصدعات خاصة الأونة الأخيرة، ما عاد أحد يتحمل أحد، هذا باتَ ملموساً في الشارع في السوق في موقف السيارات، في المدرسة، التململ والضَّجَرُ والضَّيْقُ والسَّأَمُ هم سادة الموقف اليوم. ليس هناك أصعب من إقناع الناس إن شيئاً فيهم تغير وتغير بشكل ملحوظ، هذه المرّة مع الأسف جاء برفقة الجائحة الكونية.
واضحاً اليوم أنّه لن تعود المجريات كما كانت قبل هذا التاريخ، ما يمكن اعتباره تغيرًا مفصليًا في حياة الفرد والمجتمع. أهمّ من كل هذا هو عدم سعي أحد لإصلاح ما فسد ورأب الصدع وإزالة الاتربة العالقة على العلاقات وَإِعادَةُ الأُمُورِ إلى وَجْهِ الصَّوابِ.

86
المنبر الحر / جنون لم يعد يُحتمل
« في: 03:23 07/04/2020  »
جنون لم يعد يُحتمل 
بلغَ العالم ذروته من الخوف والفزع من الفيروس التاجي كورونا، أو الأسم الطبي له COVID-19، من تصورات وأنماط غير مألوفة لوقت كان إِعْتِيَاديّ كل شيء حتى داهم المرض الأرض. تقريبًا انقطع الكون عن الحركة، والرابط الوحيد الذي يجمع الكل بسلة واحدة هو خطوط الإنترنت والاتصالات فقط، كل شيء متوقف وساكن. العالم اليوم مُوحِش لم يعتاد الناس على هكذا نظام من قبل، سفر، تجارة حرة، حركة بين الدول، هذا ما فرزته الحضارة والتمدن في السنوات الأخيرة. اليوم قيود على الحركة وقانون الحدّ من الحريات، والحريات مقدسة في الغرب، هذا كان فحوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس قصر شايو عام 1948. أين هو اليوم؟.
حينما ضرب فيروس نقص المناعة المكتسبة إيدز البشر في أوائل الثمانينيات والذي أنتقل إلى الإنسان من بعض فصائل قرود الشمبانزي في منطقة من أفريقيا، ظهرت حينها مجموعة من القيم والمفاهيم والأخلاقيات الجديدة، في التعامل مع المُصاب، فبات للمريض غرفة ومنشفة وصابونة وطبق ومعلقة خاصة، وتعامل من نوع أخر، حتى اجهزة الدولة فرضت حجر صحي على المصاب، وصل الموضوع ذروته مع بداية التسعينات من القرن المنصرم، بعدها أخذ الخط البياني للمرض بالهبوط إلى أن وصول إلى حد لم يعد احد يتذكره، مع وعي وتفهم الناس للوضعية، أو لنقل لتكيف المجتمع معه، هذا ينطبق على الفيروس الجديد أيضا، لا بد في النهاية أن  يتعود الكل ويتكيف مع الكورونا، شئنا أم أبينا، هذه هي تصنيفات الحياة، غريزة القطيع والدفاعات الطبيعية للكائن الحي لا بد أن تفرز مضاد حيوي Antibiotic في نهاية المرحلة، وألاَّ لنتهت البشرية مع أول ميكروب أو فيروس ضربها قبل آلاف السنين. من طرف آخر تغيرت الكثير من المعطيات الجيوبوليتيكة على الأرض بدون شكّ، واجتاز العالم مراحل حرجة لم تكن في الحسبان اصلاً، السؤال هو كيفية الخروج من عنق زجاجة الكورونا!، تظل الإجابة رهينة الأيام القادمة. قد يكون التاريخ على المحك، هناك نظرية روج لها كيسنجر مؤخراً في مقال له بصحيفة وول ستريت جورنال يقول فيها أن النظام العالمي حتماً سوف يتغير بعد كورونا، واحتمال إنهيار العقد الاجتماعي، وهذه نظرية خطيرة جداً إذا ما صوبنا النظر أليها. نعم هناك خطط وبرامج للأنتقال ما بعد الجائحة، ولكن ما مدى صلاحيتها ونفعها مع امتداد الأزمة، هل يتم إعادة ترتيب المجتمعات بما يناسب كل أمة، هل نُشاهد عودة الدولة المركزية وتوغل السلطة في قمع الحريات، هل البشرية مقبلة على وضعية جديدة من التجارة الحرة وتبادل السلع. حتما أن إي تغير من هذا النوع لن يكون سهلًا. ولكن وسط هذه المخاوف كل شيء وارد.

87
المنبر الحر / أجيال مابعد كورونا
« في: 05:37 30/03/2020  »
أجيال ما بعد كورونا
أطبقت الأرض على سكانها السبعة مليارات، الكل ينتظر بفارغ الصبر نهاية هذه التراجيديا السريالية. ثمة نظام معياري جديد يفرض نفسه، أو بصورة أدق منظومة قيم جديدة ما بعد كورونا، فإلى الماضي القريب كان كل شيء طبيعي، إبتداءً من رياض الأطفال مرورًا بالجامعات  إلى المفاعل النووية، وكل منحى في الوجود. تغير كل هذا فجأة، الانسحاب للداخل وغلق المتاريس على الأنا، الخوف من التجمعات في مضمونه هو الخوف من الآخر الذي ربما يكون حاملاً للمرض، اسلم طريقة هي تجنبه، الحياة عزيزة، هذا يولد بالضرورة عالم جديد ليس كسابقه. الاتجاه نحو الفردانية والنكوص نحو الداخل الذي اصلاً كان يتجه إلى العمق قبل عالم الكورونا، كرس لهذا التواطؤ بشدة الهاتف النقال، الكل منكب على شاشته الصغيرة. لابد أن ينجلي المرض عاجلاً أم آجلاً، ولكن كيف ستكون شكل الحياة بعده، هل تعود كما كانت عليه سابقاً؟، الجواب مجهول إلى حد اللحظة، هذا واقع لا مجال للهرب منه، الفيروس يحصد آلاف الضحايا يوميا، ودخول المتوفين إلى أتون الجحيم في المحرقة  يُنقل بشكل مباشر من إيطاليا عبر الفيس،  هذا هو الواقع المؤلم. ثمة حاجة إلى فهم جديد وقراءة أعمق للأحداث من حولنا !. السؤال المطروح والأهم اليوم هو، إلى متى؟. سؤال وجيه وصريح، بمعنى إلى متى نكون مُقيدين بأغلال كورونا، إلى متى متوقف العالم عن الحركة والتجارة والسياحة، أين مصالح وأعمال الناس، من يُعوض من، من يدفع الأقساط والمُستحقات المطلوبة، البطالة المستشرية، وهذا يخلق بالضرورة العنف المنزلي، هذا وغيره الكثير يُوظف لفترة اكثر حرجاً واشد سوداوية حتى وأن انتهى المرض وزال، ولكن تبقى اثاره محفورة في النفوس طويلا.

88
أدب / الأرض لم تحن قيامتها بعد
« في: 02:53 27/03/2020  »

الأرض لم تحن قيامتها بعد


سلوان ساكو


الارض التي لم تحن قيامتها بعد
ليس بعد…
ليس الأن…
وليس غداً…
لم يحن بعد يوم القيامة
ولا يوم النشور قريب
تهالكت الارض قبل زمان… ولم تنقرض
اصابها ما اصابها من إوجاع
كوليرا… تيفوئيد… حمى اسبانيا
وظلت راسخة لم تسقط
لا تبكي بعد الأن يا إرميا  فالأرض باقية
دانتي عن أيَّ  جحيمًا تُبشر
فالشمس تنثر نورها كلَ فجر
لا تموت ولا تُفنى
هي المهبط الأول لقطرات الدم السرمدي
هي أنثى… هي أمنا… هي عشيقتنا… هي من هي
هي ذلك الحنين المغناطيسي … لشروق جديد
هي الوجع والسعادة… الألم والفرح…
هي ماءً رقراق في ينبوع عذب…
هي بحر هادئ ساعة السَحَر…
هي غابة لم تحترق…
هي الميلاد والموت... الملاذ والهروب…
هي خبزا حار أو سحابة صيف أو قهوة في قطار مسرع نحو المجهول...
لتكن هي من تكن ولكن هي كل شيء… وتبقى كل شيء.

89
امتحان كورونا القاسي
اِجتازَ العالم خلال الخمسين سنة الماضية الكثير من الحواجز في مرثون سريع لتخطي عتبة العلم والمعلوماتية بشكل مهول وغير مسبوق، الذكاء الصناعي، الأجهزة الذكية بأطيافها الواسعة، الإنترنت، نظام ال Online، البرمجيات، التطبيقات، الأتمتة، التجارة الإلكترونية، العملة الافتراضية، هندسة الحاسوب، كل هذا يوازي من حيث الدلالة المعرفية ألف سنة مضت. ولكن تبين في خضم كابوس فيروس كورونا إن الإنسان هشّ ضعيف وقابل للتكسر والتهشم في أي لحظة، مسربل برداء من الخزف والخوف والقلق، يمخر عباب البحر بمجاديف من ورق، حيث تغير العالم روحانياً نحو الأسوأ، الغرب ذاته تغير كثيرا، واتجه بتجاه الإلحاد بمنحة خطير، ليس ذلك الإلحاد الذي ساد فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، الذي كان قائماً على المناقشة والديالكتيك والفلسفة والأفكار الماركسية، إلحاد اليوم بارد عدمي بدون معنى. تحول إنسان اليوم إلى ما يشبه الآلة بدون مشاعر وقيم واخلاق، ومنظومة دينة تربطه بالخالق بحزمة من الشرائع والنواميس. إنسان اليوم ضائع في وسط لجة من التقنيات مانفكت تزداد يوم بعد آخر  ودوامة لولبية من العزلة تشدك نحو الذات المزيفة ونحو الفردانية في سرعة فائقة تتَّجه إلى أسفل. تأمل ماذا يحصل الان أليس الكل متساويٍ؟، الفقير الغني العَالِم الجاهل الضعيف القوي الكل سواسية أمام الفيروس. إنسان اليوم تعيس ومغرور وخائف من فيروس مجهري مجهول مع كل التكنولوجيا المتوفرة التي أرستها المعرفة والعلم. الأوبئة موجودة مع وجود الإنسان نفسه، ومن بداية أول قبس لشعاع نور الشمس، لا بل تكونت الطبيعة ذاتها من البكتريا والطحالب والبروتين والحمض النووي والهيدروجين وأكسجين، وغيرها من المكونات الأولى للحياة.
أن الأوبئة  موجودة منذُ القِدم، خذ مثلاً سفر العدد 14  إِنِّي أَضْرِبُهُمْ بِالْوَبَإِ وَأُبِيدُهُمْ، وَأُصَيِّرُكَ شَعْبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ. وفي سفر التثنية 28 يُلْصِقُ بِكَ الرَّبُّ الْوَبَأَ حَتَّى يُبِيدَكَ عَنِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا. إذا لماذا لا نقول إن هناك رسائل Messages من عند الله تُنذر البشر من هلاك حقيقي بعد أن تركوا كل شيء وراءهم وجروا وراء الماديات وعبدوا الأصنام الجديدة وقدسوا الأوثان العصرية... قَدِّسُوا رَبَّ الْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ.. إشعياء 13:8...وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ، وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. لوقا 21...
هل يأخذ بشرّ اليوم عبرة وحكمة ودالة من كل ما يحصل على هذا الكوكب البائس، ويعود إلى الثوابت والقيم والعبادة الحقة والصلاة الحارة. من يذهب اليوم  إلى الكنائس في الغرب، أليست فارغة من المؤمنيين؟، من يعرف في عموم أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا، اسرار الكنيسة، سر التجسد، سر الأفخارستيا، الأقانيم الثلاثة، الخلاص، المعمودية، مسحة المرضى، أليست اليوم هي في منظور الإنسان الغربي نوع من الفلكلور والطقوس التكميلية فقط والسيد المسيح بائع بيتزا. من يعرف شيء عن الصوم الكبير الذي نحن فيه، من يسأل عن الكاردينال بيل الذي يقبع وراء القضبان الأن في ولاية مالبورن بتهمة هو بريء منها براءةَ الذِّئب من دم ابن يعقوب... لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَاءَ، فَأَعْطَيْتَهُمْ دَمًا لِيَشْرَبُوا. لأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ. رؤيا يوحنا 6:16. أين هو الإيمان الأقل من حبة الخردل حتى... لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ متى 20:17... أليست  المثلية الجنسية هي الصفة الطبيعية في الغرب اليوم والسمة الأبرز... أليست صالات القمار وبيوت الدعارة أهم من دور العبادة. إنسان اليوم فاقد الرجاء والمحبة والخلاص والثقة بالله، أرتفاع  نسبة الانتحار بين صفوف الشباب، انتشار الكآبة النفسية في صفوف المجتمع المتمدن بكثرة، تفشي ظاهرة الإدمان، ازدياد نسبة الطلاق، كل هذا يضعنا أمام أسئلة وجودية جدية جديرة بالتفكير والتأمل.   
يجب اليوم مع تفشي الفيروس أخذ العَبرة والدرس والحكمة وهنا مكمن التحدي مع هذه المحنة التي ألمت بالبشرية جمعاء، وتكون دعوة من  القلب أن تنزاح هذه الغيمة الكورونيا السوداء من على كاهل هذا الإنسان المُتعب المُتهالك وينهض من رماده مجدداً.

90
المنبر الحر / هشاشة الإنسان
« في: 01:37 19/03/2020  »
هشاشة الإنسان
لم يكن يتوقع الأسترالي حتى إلى أسبوع مضى أن يعاين بأم عينه رفرف الأسواق والمحلات فارغة من البضائع والمواد الاستهلاكية، لا بل تعدى الأمر بالصراخ والضرب من أجل زجاجة زيت أو ربطة خبز أو ورق التواليت.
بدأ في ووهان الصينية ولم ينتهي بها، تعدى حدود الجغرافية، وسار بركب الانتشار السريع إلى أن غزة العالم وباتت الدول والحكومات تحت رحمته.
حاولت الحكومة الأسترالية جاهدة الحدّ من الفوضى وتخزين المواد الغير ضرورية... ولكن صرخات رئيس الحكومة الفيدرالية تذهب ادراج الريح كأنها لم تكن، أو نداء حادي عيس في وهاد الصحراء. أعطى منحة أو إعانة وهو يعرف جيدا أنها لا تسد الرمق مع هذا الفيض البشري المستهلك للسلع... ماذا تنفع الإعانة إن لم تتوفر المواد الأولية؟.
حواشي وعلامات استفهام وأسئلة مصيرية تدور رحاها في خلد الجميع اليوم، هل يستمر الوضع على ما هو عليه؟، هل تتوقف الحياة نهائياً في ظل انتشار الوباء؟، حسنًا إلى متى سوف تدوم الحالة الراهنة الشاذة؟. والسؤال الأهم والأخطر والذي ربما يدور في تفكير الكثيرين... هل تنهار الدولة ومؤسستها في ظروف الكساد، وتوقف عجلة التجارة والنقل والسفر والسياحة وهذا العجز المالي والانهيار الكبير في البورصة؟، وهل هذا يفرز نظرية اشد تطرفًا وسوداوية وهي الهجرة بأثر رجعي إلى الوطن الأم،؟ من يعرف في زمن اللاعقلانية والتراجع الحاد للمفاهيم التي قامت عليها.
التأويلات كثيرة ومتعددة، والاحتمالات مفتوحة، ولكن يبقى هناك فسحة أمل في النجاة من طوفان كورونا.

91
المنبر الحر / فوضى الكورونا
« في: 04:08 05/03/2020  »
فوضى الكورونا
لم يُثير فيروس الهلع والخوف بين الناس والمجتمع كما يُثيره فيروس كورونا المُستجد في الآونة الأخيرة في جميع بقاع العالم تقريبا. المُسببات والإشاعات والمآلات كثيرة بكثرة الأقنية الفضائية التي تبثّ ليلًا  نهارًا عن انتشار وتوسع المرض.
الفيروس خطير دون أدنى شكّ، واللقطات المُسربة لحرق مئات الجثث في إيران تُثير الرعب في النفوس، فكما يُقال النفس عزيزة على صاحبها. ولكن خلق جوّ من الفوضى والرعب لجعل المواطن يقتني ويكنس المنظفات والقفازات المطاطية وورق التواليت من الأسواق، وخلوها من المواد الأساسية، كالزيت والرز والخبز، وتدافع الناس والوقوف في طوابير طويلة، فهذا شيئ آخر. فلم يصل الأمر إلى الحد المجاعة ولا الوباء العالمي إلى حدّ اليوم، ومنظمة الصحة العالمية لم تعلن أن الوباء اصبح عالميًا.
لعبة الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك دور كبير في خلق فوضى طبية من نوع معين، وهذا كرس لاحقاً لفوضى ثانية لا تقل خطورة، وهي اقتناء وكنس وتكديس المواد الغير ضرورية مما جعل  الأسواق Markets شبه خالية، ماذا ينفع ورق التواليت في درء المخاطر؟.
الجهل بالمرض وعدم القراءة الصحيحة للوقائع يوازي الجهل في الوقاية منه، فليس كل مصاب بالفيروس يلقى حتفه، وليس صحيح أيضا أن المرض ينتشر بسرعة الضوء، بمعنى إذا وجد عشرين شخص مصاب في ولاية مالبورن الصناعية الكبيرة، فسوف يُصاب جميع السكان خلال ساعات ويموتون، هذا ضرب من الخيال والأفلام الهوليوودية.
الفيروس خطير!... نعم، ولكن بالمقابل العلماء والمختبرات والاختبارات جارية على قدم وساق، ولا بد أن يُكتشف لقاح أو مصل أو دواء لدرع المرض، فهذه ليست المرة الأولى التي تواجه البشرية هكذا نوع من الفيروسات والأوبة، كان هناك الألعن وقد بطش بالبشرية، وفي جميع العصور استطاع الإنسان التغلب عليها... حصدت الكثير من الأنفس... نعم... ولكن هذه معركة... والمعركة كر وفر... ربح وخسارة... انسحاب وتقدم. فيجب علينا عدم تهويل الأمور، وعدم اقتناء الحاجات أكثر مما هو مطلوب منا، وعدم الخوف الغير مبرر إطلاقًا.
سوف تنقضي هذه الحقبة وتمر حُقبْ أخرى، وتظهر أوبئة وفيروسات ثانية تحت مسميات عديدة، لأنها رافقتنا منذُ البداية ومع الأنطلاقة الأولى، والإنسان هو هو...يخاف من ابسط الأشياء وأتفهها...خوف كامن ومُِستتر خلف أقنعة كثيرة ومتعددة.

92
من يُحاول إسقاط البابوية
سعت منذُ البداية قناة SBS الأسترالية في دعايتها إزاء التأثير الإعلامي على المشاهد، والمتوالي دون انقطاع  لمسلسل  The New Pope والمكون من 9 حلقات إلى خلق مفهوم  Concept رديء فيما يخص منصب الكرسي الرسولي في روما الفاتيكان. ليظهر لنا في النهاية شخصية متمثلة بابويًا، مع النساء العاريات على ساحل البحر وفي وسط كنيسة وعلى مذبح الرب، داخل دائرة من المغامرات العاطفية والمؤامرات الداخلية والتي تُحاك من قبل الكرادلة والأساقفة. حاول المسلسل إعطاء صورة إنسانية زائفة ومُغايرة إلى حد بعيد للبابوات والتقليل من سطوة المؤسسة الدينية وتحيد معايير اليقين عند المؤمن  وتعميق الهوة بين الكنيسة من جهة والمسيحي من جهة أخرى. متونّ المسلسل من حيث الفكرة، إن البابا بيوس الثالث عشر يدخل في غيبوبة، وإن على الكنيسة الرسولية الجامعة، والمعرضة للتهديد من فضائح جنسية والمهددة بهجمات إرهابية محتملة، لا تستطيع البقاء دون حبر أعظم، فيقرر الكاردينال فويلو الترشح للانتخابات، لكنه يدرك أنه يخاطر بالخسارة أمام الكاردينال هيرنانديز، وهو يدعم انتخاب توماسو فيجليتي، معتقدًا أنه وديع وسهل التلاعب به. ولكن في الواقع يفتح البابا الجديد الذي يكون أسمه فرانسيس الثاني أبواب الفاتيكان أمام اللاجئين ويصف ثروات الكنيسة للتبرع بالمال للمحتاجين، فيكتشف أن الأمر ليس بهذه السهولة، وهو ما يفجر صراعًا وشيكًا في قلب الفاتيكان. المسلسل من إخراج وتأليف باولو سورينتينو.
دون شكّ أن المسلسل ضخم من حيث الإنتاج والتوزيع والتمثيل واختيار الأمكان بدقة عالية، الولايات المتحدة، أسبانيا، فرنسا، وإيطاليا، والتي تعطي انطباع من أول حلقة أن المُشاهد في قلب دولة الفاتيكان بحق. بطبيعة الحال المسلسل مُثقل بنقاشات لاهوتية فلسفية، وأسئلة ديكارتية أكثر وجودية لفهم أعمق لنظرية المعرفة (الإبستمولوجيا Epistemology)، والتوغل بعيداً خَلف قناعات الإنسان ومعنى الحياة من حوله ومُسبِّباتها ونشأتها ومآلاتها. هنا وفي منعطف فلسفي حاد ومُقلق تُكرس الدراما لمستويات جديدة New levels للحقيقة ودور الدين في توجيه هذه المستويات، من منطلق الرغبة في بعث وعي جديد New awareness للأفكار الكلية التي ساهمت إلى حد بعيد في تكون شخصية المؤمن من عصور خلتّ، ومحاكاة الحضارة التي أنتجت سلسلة غير متناهية من المفاهيم والصيغْ التي تتمحور داخل الدين والطبيعة والميتافيزيقيا.
الموضوع ليس بالجديد على كل حال فقد أُنتج مسلسل يحمل نفس الأفكار عام 2017 تحت عنوان البابا الشاب (The Young Pope)، لذات المخرج.
 كثيرٌ هي الأفكار المُعمقة والضرورية للفهم، والتي تخص العقيدة والإيمان والعلم والفلسفة... موجودة في كُتب قداسة البابا بندكت السادس عشر (جوزيف راتزنغر م1927)، رئيسًا لمجمع العقيدة والإيمان من عام 1981 إلى 2005. وخاصة في كتاب (جدلية العلمنة، العقل والدين)، وهو نقاش بين البابا والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس م1929، متوفر على شكل pdf على الإنترنت، مضمون النقاش هو إيجاد طرق ومسارات عقلانية مشتركة بين الدين من جهة والعلم  من جهة ثانية وسُبل تطوير هذا المسار نحو خلق فضاءات اوسع للفهم والمعرفة على أساس قوي وصحيح والذي أرسى في النهاية لبداية جديدة من نوع فريد من نوعه بين الدين والفلسفة والعلم.
من المؤكد أن يفتح المسلسل مجموعة من التساؤلات بعضها حساس وخطير، من نوع، هل البابوات في وقت مضى يمارسون حياتهم بشكل طبيعي بما ذلك الجنس؟، هل يوجد خفايا وخبايا داخل أروقة الفاتيكان؟، هل البابا معصوم من الخطأ حقاً؟، هل يوجد مؤامرات وتحزب وتكتل بين  الكرادلة على المنصب البابوي، والكثير سوف يُطرح اليوم.
على مرّ العصور تعرضت دولة الفاتيكان لهجمات شرسة، وهذه ليست أولها ولا آخرها، واجتازتها مع كل المصاعب والتحديات لأساساتها المتينة والمبنية على الصخر.
وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. متى 18:16

93
عندما تصبحّ حفلاتنا عبء
في بعض الأحيان نختار أن تكون في مكان مُعين بمحض ارادتنا، وفي أحيان أخرى نكون في أماكن مُعينة مجبرين لدواعي مختلفة، لنقل اجتماعية، عائلية، واجبات أسرية، إسقاط واجب بعينه، وضع أو شكل أو إطار لعلاقة ما، نستكمل من خلالها البرستيج (Prestige) العام للمجتمع. وهذا طبعًا يُشكل انسجام وتناغم (harmony ) مع المحيط الذي من حولنا ويُكمل تناسق الحياة المجتمعية ويخفف من عبء العزلة والوحدة، لأن الإنسان في النهاية حيوان إجتماعي لا يستطيع العيش دون أفراد وناس وبيئة وتفاعل، وإلاّ أصابه الجنون في مقتل، ويصبح كائن وحشي وحيدّ دون ونيّس، يخفف الآخر من وطَأة وثقل وهموم الحياة ومشاقها التي لا حدود لها اليوم.
ولكن القضية المتداولة للطرح والتي هي في محلّ النقدّ، والنقد هنا هو التقييم للوضع العام وللحالة أو الحالات المُعاشة يوميًا وليس استهدافاً لأحد، أو وموقفًا  شخصيًا من شخص ما. لا أبدًا هي فقط إضاءات لا اكثر.
ما لا يُخفى على أحد أن الحفلات والمناسبات  ازدادت في الآونة الأخيرة، حفلات الأعراس، حفلات الخطوبة، حفلات الميلاد، حفلات العِماذ، حفلات التناول الأول، حفلات التخرج، حفلات الوصول إلى دول المهجر، لا بل اصبح هناك حفلات ميلاد للكلاب أيضا. المشكلة ليست في الحفلات المُقامة، ولكن في كثرتها، و التي تأتي دون داعي في مراتٍ عديدة. فنستقبل أحيانًا كارت الدعوة لحفلة معينة دون أن نعرف من هو صاحب الحفل، أو حتى تربطنا به معرفة سطحية بالكاد تكون صداقة، فنظل في حيرة من امرنا، هل نُلبيّ الدعوة أم نرميها في سلة المُهملات وننسى الأمر برمته. وهنا يصدر صوت من داخل وعينا من الأنا، يقول لنا بصوت خافت بالكاد يُسمع، لربما نرى صاحب الحفلة في السوق، أو عند شخصًا ما، أو أن أقابله  في باحة الكنيسة مثلًا، أو حتى في حفلة أخرى، في ذلك الوقت أكون في موقف محرج لا أحسد عليه وفي غياب جواب مقنع لعدم الحضور، فنلبي الدعوة ذلك الحين على مضض مجبرين. صحيح إننا داخل دائرة وسط جالية كبيرة، الواحد يعضد الثاني سواء في السراء أو الضراء، ولكن أيضا الكثرة تثقل على كاهل الشخص ويصبح معه تلبية كل الواجبات صعب على الشخص، مع صعوبة الحياة ذاتها، دفعات المنزل، قرض البنك، القوائم Bills، شركات التأمين Insurance، الهواتف النقالة، كل هذا يُشكل عبء على الشخص ذاته ينوء بحمله في ظل ظروف تزداد مع مرور الأيام صعوبةٌ وتعقيد. وهذا ليس عيبًا اللّهم إذا كان الوضع على نحو آخر وهذا ما لستُ في صدد طرحه اليوم. حتى الكنيسة اليوم قلصت المأْتّم ووضعت شروطًا معينة لأقامة التعازي في الآونة الأخيرة، كل ذلك من أجل تخفيف من الأعباء قليلاً.   
 حسناً ما هو المخرج وطريقة تدوير المسألة، هنالك أمران، الحفلات الكبيرة أيَّ الأعراس، والحفلات الصغيرة، العماذ، التناول الأول، أعياد الميلاد بالسنة الأولى، حفلات التخرج إلى آخره. الأمر الأول لا ضير إذا انفتح المجال قليلاً، فهذا معروف من البدء، وهكذا سارت الأمور من البداية، في القرية، ثم المدينة، بعد ذلك في دول المهجر وهكذا دواليك. ولكن المشكلة في الحفلات الصغيرة  الآنف الذِّكر، يجب أن تكون مقتصرة على اصحاب العائلة، اقرب المقربين للشخص، بدون التوغل ابعد في الدعوة. مع الأخذ بالاعتبار تقليص العدد يؤدي إلى تقليص النفقات، وقس أنت عزيزي القارئ على ذلك. حفلة صغيرة تفي بالغرض.
ما لابد الإعتراف به هو إن الوضع ما عاد يتحمل، وإن الناس تحضر الحفلات وهي مجبرة، أو في موقع الخجل أو قريب منه.
في كل الأحوال يظل الأمر مرهون بالشخص ذاته أو صاحب الدعوة، ومدى علاقته بالناس والمجتمع من حوله، وتظل هذه الأسطر محاولة لتسليط الضوء على قضايا مجتمعية تُثار بالأحاديث الجانبية والجلسات العامة أو الخاصة، ولكن لا يكُتب عنها، لا لشيء سوى لأنّها تسير  الأمور على هذا النحو، والحياة هي هي، ماذا سوف يتغير إذا قال أو كتب فلان مقالة. هناك بكل بساطة تذمر ملموس في ثنايا المجتمع ما يؤكد ذلك الحوارات الدائرة بين الناس. في نهاية المطاف الجميع حر في تصرفاته وحفلاته.

94
المنبر الحر / كورونا الذكيّ
« في: 00:51 06/02/2020  »
كورونا الذكيّ
كثيرةٌ هي الأطروحات والمقالات التي جاءت بخصوص فيروس كورونا الشرق الأوسط، الذي قتل إلى اليوم ما يزيد على 500 شخص في الصين وحدها، وشكل هلع وخوف كبيرين في جميع أنحاء العالم، من اقصاه إلى اقصاه، وقوض اقتصاد الصين إلى درجه كبيرة، وأوقف عجلة الاقتصاد، وحركة التصدير والاستيراد بشكل ملحوظ عالميًا، حتى الشركات الصينية للطيران والسياحة جاثمة على المدارج دون مسافرين لقلتهم.
الحكايات والروايات والقصص في المجالس والمسابح والساونات متعدد، ونظريات المؤامرة منتشرة بين فئات المجتمع كالعاده، منها على سبيل المثال لا الحصر، إن الصين هي من اخترعت الفيروس وارادت بعد ذلك نقله إلى أمريكا ولكن في الدقائق الأخيرة انقلب السحر على الساحر وانتشر المرض عندهم. وفي حكاية أخرى اكثر بوليسية على طراز جيمس بوند، إن المخابرات المركزية الأمريكية CIA هي من زرعت جذور المرض في أسواق مدينة ووهان القذرة وتركته ينموّ ويتغلغل في تلك الحاضنة الخصِبة إلى أن انتشر  وقتل الناس، والغاية من ذلك هو تدمير اقتصاد الصين، والغالبية العظمى من الناس لا تدري أن كل اقتصاد الصين لا يشكل سوى أربعين بالمئة من اقتصاد أمريكا. طبعًا هذا تسطيح وتسخيف للأمور، لأنَّه وببساطة كبيرة ال CIA ليست كليّ القدرة ولا تصنع العجائب والمعجزات بين ليلة وضحاها، نحن نتصورها ذلك لأننا نحن ضعفاء عاجزين.
فهم المسألة من الأساس لا يبدأ من خارج دولة الصين الشعبية، بل من داخلها وبالتحديد من مدينة ووهان ذات ال 11 مليون نسمة، وهي نسبة ليست بالكبيرة بأجمالي عدد سكان الصين المليار والنصف، ولكن المشكلة بدأت بأسواق المدينة القذر الذي يحتوي كل أنواع الزواحف والخفافيش، ومن المعروف مختبريًا أن الخفافيش هي التي تشكل المستودع الحيواني لفيروسات كورونا، كسارس والعديد من الفيروسات الناشئة وخاصة فيروس إيبولا قبل سنوات قليلة، لأن الخفافيش تتمتع بنظام مناعة يسمح لها بإيواء عدد كبير من الفيروسات دون الإصابة بها، وهي اليوم تقترب من المناطق الحضرية بسبب إزالة الغابات في تلك المناطق من الصين بالتحديد.
الفيروس الأخير ليس غير ردةْ فعل الطبيعة على النظام الغذائي في الصين، والذين يأكلون كل ما يدب على الأرض من حيوانات، وكل ما يطير في الجو من طيور. لربما الإنسان الميت يلتهمونها أيضًا من يدري؟، والصور المنقولة من هناك عبر النيت مرعبة حقاً.
أن تصنيف الطبيعة من وراء هذا الفيروس الخبيث ليس بالأمر الهينّ، فهو يمثل في رمزيته الضمنية تفاهة وضعف هذا الإنسان الذي تسيطر عليه بكتيريا مجهرية لا تُرى حتى بالعين المجردة. هذا الإنسان المتكبر العنيد المغرور الذي وضع ذاته بمكانة الآلهة من فجر التاريخ إلى اليوم، اليوم هو ينهار أمام فيروس نكرة.
 هل يأخذ البشر عبرة من الأمراض السابقة كالطاعون السفلس الكوليرا شلل الأطفال الجدري، والتي قتلت في فترات وجيزة ملايين البشر. هل يفهم الإنسان أن للطبيعة وجه آخر يتمثل بالغضب والمرض والإعصار.
لا حصانة لأحد من المرض والفيروسات، ولا أحد مُستثنا من المعاناة والمصائب.
في النهاية سوف ينتهي كورونا عاجلا أم آجلا، ولكن سرعان ما سيظهر مرض آخر وفيروس جديد أكثر فتكًا وأكثر ذكاءا من سابقه.

95
هل باتَ المطارنة والكهنة تسلية لأقلامنا
حينما نصل إلى نمط ومنطقة اللامعيارية نفقد حسّ النقد، ذلك النقد البَناء الذي يكون من أجل التصحيح، تصحيح مسار، تصحيح فكرة، رجل دين ارتكب خطأ ما خلال خدمته الرعوية، فأصبح مَعْثَرَةٌ للأخرين، قضية معينة تشغل الرأي العام في المجتمع الحديث الذي بدأت تتآكل فيه القيم والتقاليد رويدًا رويدًا. ومع النقد الحقيقي نكون قد سلطنا الضوء على الوقائع والمشاكل بشكل منهجي رصين يتوافق مع المنطق والعقلانية. ازدادت في الآونة الأخيرة التطاول على المطارنة والقساوسة، بلّ أكثر من ذلك، حتى وصل الأمر من هم في رتبة البطريرك والكاردينال، بأبشع الكلمات وأقذر الألفاظ، فلم يعد هناك معاير اخلاقية تضبط المقال أو النص، وانفلت العِقال عن العقل، فأصبحت الكلمات الجارحة تخرج من الأقلام على عواهنها بدون رقيب ولا محاسب. المطران السارق، القس ابو البنات، الشماس صاحب الأفلام الخلاعية، وأكثر من هذا لا داعي لذكرها، إلى ما هنالك من اتهامات ليس بمقدور صاحب الادعاء أقامة الدليل عليها. أنه عبث مجرّدُ وتجني على الرموز الدينية، ربما يكون موقف شخصي، أو ثأر يريد احدهم اخذه من رجال الكنيسة. لا يوجد توصيف محدد لهذه الحالات الشاذة غير الإساءة من أجل الإساءة. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ. متى : 18-18
من المؤكد إن المرحلة الحالية لا تشبه بأي شكل من الأشكال المراحل السابقة، حتى قبل عشرين سنة أو أكثر، من تجاوز وسب وقدح وذمّ بحقّ رجال الإكليروس، ومن هم في درجة الأسقفية. نعم النقد مطلوب، والتنويه على الأخطاء شيء مهم وضروري، والمناقشة ضرورية لتجديد الخطاب وتحديد الخلل، والكتابة تظل فعل حر، ولكن أيضا  يجب التحلي ببعض أخلاقيات الكتابة ولو في درجاتها الدنيا. صحح لم يعد هناك رقيب على قلم أحد، ولكن أيضا يوجد رقيب مهم وهو ضمير الكاتب، أين هو اليوم في ظل هذه الفوضى الكلامية ؟.
من المؤسف حقاً أن نصل إلى هكذا تجاوزات بحق رجال يخدمون العقيدة. كان ممكن لأي كاتب أن يتعاطى مع الموضوع باحترام واحترافية اكثر دون اللجوء لخطابات جوفاء لا معنى لها، ينتقد ويقيم بشكل رصين دون شتائم، تصل الأم والأخت والأب، واتهامات بالباطل.
هل باتَ البطاركة  والمطارنة والكُهان  تسلية لأقلام بعض الكُتاب وموضوع سخرية وتشهير وتهكم واستهزاء. مثل هذا السؤال يجب أن ينطرح اليوم وبعمق، في خِضّم هذا الأستخفاف بكل القيم والرموز. هل فقدنا بوصلة الكتابة ووصلنا إلى مرحلة اللامعيارية في كل شيء؟.

96
من أجل مستقبل أستراليا لنفعل ذلك
بقلم/ سلوان ساكو 
تشهد دولة أستراليا أزمة حقيقية بالفعل؛ وصلت إلى درجة لم نعهدها سابقاً وبمثل هذه الحدة التي توشك أن تكون كارثية على السكان والحكومة الفيدرالية التي تُحاول بكل الإمكانيات المُتاحة أن تحد من الأضرار الناجمة من جراء الحرائق والخسائر البشرية التي وصلت في بعض الأماكن لأرقام مرعبة، لم تتوقعها أبدا، حيث دخلت الأزمة شهرها الرابع، مع توقع بالأسوأ. احتباس الأمطار  والجفاف الغير مسبوق الذي ضرب البلاد خلال الموسم الأخير من العام المنصرم كان حَدَثٌ قَاصِمٌ وبليَّة كبيرة، وأن كانت الحرائق واشتعال الغابات عُرف سنوي، لا يمر عام دون حريق، ولكن هذه السنة غير كل ما سبقها من أعوام، حيث التهمت النيران نحو 1.7 مليون هكتار من الأراضي نتيجة حرائق الغابات التي اجتاحت الساحل الشرقي لأستراليا ودمرت خلال هذا الأسبوع فقط ما لا يقل عن 381 منزلا في ولاية نيو ساوث ويلز وحدها ، و 43 منزل في ولاية فيكتوريا. وقد أرتفعت حصيلة الضحايا الى ثمانية عشر قتيلاً وعشرات المفقودين. المسؤولين في الحكومة الفيدرالية يقولون إن العدد سيزداد في غضون أيام. وقد قدّر خبراء نفوق نحو 500 مليون حيوان، مما يثير مخاوف من انقراض أنواع من الحيوانات بأكملها. ونقلت صحيفة التايمز البريطانية، عن خبراء البيئة بجامعة سيدني الأسترالية، تقديرات بأن حوالي 480 مليون من الثدييات والطيور والزواحف قد نفقت بشكل مباشر أو غير مباشر بسبب الحرائق المدمرة التي اندلعت في غابات أستراليا مؤخرا. ويشمل ذلك ما يقرب من 8000 من حيوانات الكوالا النادرة، والتي يُعتقد أنها احترقت حتى الموت على الساحل الشمالي لأستراليا.
حسناً ماذا علينا نحن المواطنين العاديين أن نُقدم في هذا والوقت العصيب الذي يجتاح البلاد، وفي ظل هذه الأزمة الحادة التي تشهدها أستراليا والتي قاربت في بعض المناطق إلى الفوضى ونقص حاد في المواد الغذائية والوقود والكهرباء. طبعاً من يستطيع تقديم يد العون والمساعدة مباشرةٌ عن طريق التطوع volunteering بشكل منظم من خلال منظمة SES فهذا شيء جيد ويحسب له، أو من يتبرع للمتضررين من جراء النيران  عن طريق حِساب رسمي هذا أيضا ممتاز ويدل على روح المسؤولية عند الشخص ومدى شعوره إتجاه البلد. ومن يعمل بشكل رسمي وبدوام كامل Full-time فعليه في هذه السنة المالية 2019- 2020 أن يدفع إلى مكتب الضرائب الأسترالي أكثر من السنوات الماضية للمساهمة ولو بجزء بسيط في عبور هذه الأزمة الخانقة التي تستنفذ موارد الدولة، فمع كل الإمكانيات المتاحة فهناك عجز في الميزانية إذا لم يساهم كل مواطن في اداء واجبه فسوف تتفاقم المشكلة أكثر  ونصل في النهاية إلى طريق مسدود، وهذا ما لا يريده كل مواطن يعيش على هذا الجزء من الأرض، فلكل شخص مسؤولية مهمة كانت، وعليه تحملها لنمو وتطور البلد في كل السياقات والاتجاهات، الاقتصادية، الصحية، التعاليم، البيئة، الطرق، الجسور الحدائق العامة... الخ.
ليستمر كل هذا نحو  مستقبل أفضل وحياة مستقرة. يجب على الجميع أن يساهم ويُشارك في نهضة وتقدم ورفعة  أستراليا، بما تيسر له من إمكانات وطاقات وفرص حتى الضئيلة منها، لسدّ نقص أو حاجة معينة لربما تكون في محلها وتأتي في الوقت المناسب، وجزءا للصالح العام، والحجرة الصغيرة  مهما كانت فهي تُرمم البنيان وترفع ناطحات السحاب عاليًا.

97
ماذا تَبَقَّى من المسيحية في الدول الغربية
بقلم/ سلوان ساكو
نقترب رُوَيداً رُوَيداً  من أعياد الميلاد ورأس السنة. نحن الأن على مشارف العام 2020، تغير الكثير من حولنا، وبات العالم غير ذلك قبل قرن من الزمان ربما أكثر أو أقل لا يهم هذا كثيراً، خلالها تكرست مفاهيم جديدة في وعينا، وواكبت آخرى أثر التطور الهائل الذي اصاب العالم في الصميم، تطور تكنولوجي، تطور معرفي، تطور معلوماتي في النظام التشغيلي للصفر واحد، وتطور ذهني ايضاً للميتافيزيقا، أيّ ماوراء الطبيعة، وتحليل الظواهر  (فينومينولوجيا) دون التوصل لحقيقة مطلقة من خلال الوعي البشري الخالص، دون تدخل خارجي، أي الإله. كل هذا خلق جملة مفاهيم حديثة أو حداثية من مفهوم ما بعد الحداثة الفلسفي، كرست مرة ثانية لوعي بديل جديد لم يكن متعارف عليه سابقا، وعيًا بمستوى المساحة العليا للتفكير والحرية في التعاطي مع مفهوم الدين والتدين المسيحي عند الغربيين، وحركة التطور الأخلاقي في ظل نظام إنساني بحت، كما سوف نرى في المتنّ، وكأن شيئاً تبدل في ظل كل هذه المُعطيات الخطيرة، أو تروس كانت ساكنة ساكتة في عقل هذا الإنسان ثم بدأت في الدوران فجأة. ولعله في حكم النافل منّ القوّل إن هذا من طبيعة الأمور، حيث تتغير الأفكار التي كانت سندّ قبل حقبة من الزمان ويأتي غيرها، تُفند القديمة وتحلّ محلها إلى حين وهكذا دواليك. ولكن هناك دائما ثوابت وعقائد وأعراف في العالم لا يجوز تجاهلها  بأي شكل من الأشكال. ليسَ طرحي اليوم هو الانشقاقات الكنسية والمجامع المشهورة، التي حدثت في بدايات المسيحية، من مجمع قرطاجنة المقدس سنة 257 م وصولا إلى مجمع خلقيدونية سنة 451م. ولكن سؤالي اليوم ماذا حدث للمسيحية في الغرب، واقصد الغرب أمريكا، أوروبا وأخص أستراليا بالذكر، لكوني أُعاين الحالة بمجهر النقد والتقييم عن قرب، وهذا ما دعاني إلى أن استفيض قليلًا بالكتابة.
 كاتدرائية سان بول St Paul في وسط مدينة مالبورن، واحدة من أكبر الكنائس في الولاية، بنُيت مع دخول المستوطن الإنكليزي الجديد للمدينة، تؤول إلى متحف يأمه السواح مع مراسيم وقداديس قليلة، كنيسة أخرى في وسط شارع Chapel St المشهور تتحول إلى بار ليلي. كثيرٌ هي التجليات التي تظهر لنا هنا وهناك، ما هو المرصود فوق سطح البحر والكثير الذي لا نراه تحت جبل الجليد. ولكن الشيء المؤكد هو أن الكثير من القيم المسيحية تغيرت في الغرب، وأصبح هنالك أفكار خطيرة هي التي تسبق عمليات التفكير وتسير في خطةٌ حثيثة حقيقية متماهية مع الأصل، لا بل أصبح الأصل الحقيقي مركون في زاوية في أعلى الرف والثانية تحل محله لكونها تتماشى مع هذا العصر وتحمل بصمات هذا الزمن الذي باتّ الأغلبية العظمى به لا يُفرق بين الرث والسمين والأصلي والمزور، وتبين مع مرور الوقت أن الناس تسعى نحو الفرع تاركة الأصل. الجميع في هذه الأيام مشغول بمفردات عديدة تأخذ الإهتمام الأكبر من تفكيرنا ووقتنا أيضًا، نعم هي ضرورية وتشكل جزء لا بأس به من ثقافتنا وموروثنا الشعبي الذي شكل وعينا ووجداننا وهويتنا التي ننتمي إليها، ولكن كل هذا، برأي المتواضع طبعا، قد أهملنا الأساس والجوهر والسرّ والفداء والحق، وركضنا وراء الموديل حتى نسينا حقاً أننا ننتمي لهذا العيد المبارك، نلهث بسرعة مِنْ أَثَرِ الْجَرْيِ إلى واحة سراب في وسط صحراء. شجرة الميلاد، تزيين واجهات المساكن، هل المصابيح تعمل بالكهرباء أمّ بالطاقة الشمسية، أين نقضي ليلة رأس السنة، أين سوف نذهب بالعيد بعد القداس، الپاچة، اليخني، الديك الرومي، والى ما هنالك من مفردات ما انفكت تزداد سنة بعد أخرى. فإذا هنالك وضع شاذ نُحاول أن نضع أيدينا عليه مستكشفين قدر الإمكان خطورته على أجيال بأكملها في الوقت الحاضر وفي المستقبل.
اليوم المنظومة الأخلاقية Ethical system في الغرب هي الأساس، ويُبنى عليها المجتمع المتمدن Civilized society، المُتحضر، وهذا طبعاً بدون أدنى شك ممتاز لحداً بعيد، فالسرقة والكذب  والأحتيال والرشوة والخداع مرفوضة جملةٌ وتفصيلْ، والصراحة والشفافية في التعامل وقبول الآخر مهما كان ذلك الشخص جنسه أو دينه أو عرقه أو لونه، سمة من سمات   الإنسان الواعي العاقل A conscious human being يرفض هكذا أنواع لا أخلاقية من البشر، كل هذا من أجل إقامة مجتمع تواصلي يقوم على أخلاقيات النقاش والحوار وإقامة الحجّة والبراهين من أجل بلوغ الأتفاق والتفاهم والأجتماع. ولكن ما يزيدُ من خطورة هذه النزعة في إقامتها عقداً تحالفٍ مع الأطروحة الليبيراليَّة، التي ترى أنَّ كلَّ فرد له الحق في التمتُع بالحرية المطلقة في التصرف في ذاته وجسده وحياته بشكلٍ خاص بعيداً عن أية وصاية مهما كانت ويؤسس لنمط ثاني أكثر تعلّقاً بالأرضيات.
لنأخذ الفيلسوف الألماني كانط في مدخل في كتاب الدين في حدود مجرد العقل الصلة الوثيقة بين الأخلاق والدين، معتبراً أنّ الأخلاق ليست بحاجة إلى الدين من أجل قيامها، بل هي مكتفية بذاتها بحكم طبيعة العقل نفسه، وصحيح أنّ القانون الأخلاقي يفترض وجود كائن أسمى، ولكنّ فكرة هذا الكائن صدرت من الأخلاق دون أن تكون هي الأصل في ظهور الأخلاق. إذ يقول (إذا كان ثمة شيء يحق للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السابقين؛ فهو إيمانه العميق بالحرية، بأنه كائن حر، لا يدين بقدرته على التفكير بنفسه، ومن ثمة على إعطاء قيمة خلقية لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أية جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا)؛ ويرى كانط في نفس الكتاب، أنّ العقل البشري في منحاه الكوسمولوجي، يسعى دوماً إلى التمييز بين دين طقوسي مصلحي أناني، قائم على إقامة الصلوات وتصنع الإبتهالات، والاعتناء بالمظهريات في الصوامع والكنائس والمعابد، وبين دين أخلاقي يتجسّد في الأعمال السلوكية الطيبة الحسنة، دين لا ينتظر من الإله أن يريه طريق مرضاته، بل يكون بسلوكياته وسيرته الحسنة أهلاً لأن يعينه الله ويخلصه. ولكن هذا النظام الأخلاقي يحذي حذوه المؤمن والملحد على حد سواء، الديني واللاديني فأصبح هناك مفهوم أخر للمسيحية وهو من لا يكذب أو يسرق أو يحتال فهو يحمل صفات المسيحي والخطورة تكمن هنا بالذات، حيث أصبح الانتماء لهذه الصفات هو الأساس مع العلم أن في عمق الدينة المسيحية ليست كذلك كيف هذا ؟، هنا يجب أن نتبع الأية (فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ)، رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، حيث يواصل (مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ). لأن الغرب ابتدع قيم جديدة مبنية على أُسس إنسانية رفيعة، وهذا لعمري حسن، ولكن بعيد كل البعد عن روح المسيحية الحقة، (لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّة) متّى 15- 24. (تَعَالَوا إِليَّ يَا جَمِيعَ المُتْعَبِينَ والمُثْقَلِينَ بِالأَحْمَال، وأَنَا أُريْحُكُم.إِحْمِلُوا نِيْري عَلَيْكُم، وكُونُوا لي تَلاميذ، لأَنِّي وَدِيعٌ ومُتَواضِعُ القَلْب، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُم.أَجَل، إِنَّ نِيْري لَيِّن، وحِمْلي خَفِيف)، متّى 11, 30-20. فالغرب تقريباً اليوم يُدين بالقيم الإنسانية، المؤمن والملحد واللاديني واللاأدري، ومن هذا المنطلق ومن هنا بالذات خفت شيئا فشيئاً القيم المسيحية وبدأت حقبة جديدة من عمر الديانة، فأصبحت الكاتدرائيات متاحف والكنائس بارات ليلية، والسيد المسيح تسوقه القنوات التلفزيونية الدعائية، تارة بائع بيتزا ومرة ثانية  على شكل موديل يرسمه الشباب، وهذا يدلّ على الأستخفاف بالمشاعر، وقلة الوعي الديني، وعدم الأهتمام وقلة أكتراث، والملح الصالح للأكل قد فسد، أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ. فَإِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ، فَمَاذَا يُعِيدُ إِلَيْهِ مُلُوحَتَهُ؟ إِنَّهُ لاَ يَعُودُ يَصْلُحُ لِشَيْءٍ إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً. والنار الوهاجة خمدت  وأمست رماداً بعد أن كانت ألسنتها ترتفع لتعانق السماء. وهذا لم يتأتى من فراغ حيث له عُمق  إبستمولوجي كرس لقطيعة مع الماضي على الصعيدين الأنطولوجي والميتافيزيقي في جوهر العقل.
 يقول هيجل في فلسفة التاريخ بشكل واضح في (محاضرات في فلسفة التاريخ العالمي) التي ألقاها في جامعة برلين في الاعوام 1822 و1828 و1830. إن هناك عقل في التاريخ (العقل يحكم العالم) وعليه فان تاريخ العالم هو التقدم في العقل.
هيجل لديه فكرة خاصة عن الله الذي يسميه Geist وتعني الروح او الذهن. الفهم الفلسفي للتقدم في تاريخ العالم يمكّننا من معرفة هذا الاله وإدراك طبيعته وهدفه. وقال أن الأديان تُعبر عن مراحل مختلفة من مراحل تطوُّر الفكر البشري، فالدين تطوَّر من العصر التوتمي إلى السحر إلى العبادات الوثنية إلى اليهودية إلى المسيحية، وكل دين يُعبر عن أعلى مستوى وصل إليه العقل البشري حينذاك، ولذلك فإن كل الأديان تعتمد على الأساطير التي تختلف من عصر إلى عصر، وأنكر هيجل وجود الله الخالق، وكذلك الوحي الإلهي، وادعى أنه قادر على صنع إنسان، فقال ( أعطني هواء ومواد كيميائية ووقتًا وأنا أعطيك إنسان).
الغرب قطع مشواراً بعيداً جداً في السير وراء القيم أو الأكسيولوجيا، واهتم أكثر بالماديات الأرضية على حساب الروحانيات التي يقل رصيدها يوم بعد آخر. ومع التراجع الحاد للأخيرة بات هنالك وعي جمعي وأطار عام وطيف واسع من المجتمع يسلك هذا الأتجاه، وينحدر فيه في هبوط مستمر. ينعكس كل هذا بطبيعة الحال على الحياة والعامة والمجتمع، فصار المُشرع القانوني يُطالب الكهنة بالبوح بعترافات المؤمنين، أيَّ الإفشاء بسرّ الأعتراف المقدس، وهو واحد من أهم أسرار الكنيسة المقدسة السبعة. وهذه واقعة خطيرة تضرب أُسس العقيدة، وأصبح التطاول والتجاوز والسبّ والسجن على الرموز الدينة حدث ولا حرج. طبعاً هنا لا ننكر بأي شكل من الأشكال  التحولات البنيوية التي طالت المجتمعات الغربية في أوروبا وأمريكا وأستراليا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما دفع مجموعة كبيرة من الأكاديمين وفلاسفة ومفكرين إلى إرساء دعائم  مجتمع نقدي علماني جديد يرفض كل ماهو قديم ومتوارث وهذا فجر لاحقاً مفهوم ما بعدالحداثة وصاغ علاقة جديدة بين أفراد المجتمع يؤسس من خلاله فلسفة عقلانية سوسيولوجية لا غير، أما الدين فلا يهم كثيراً في هذه الحالة، فقد أصبح من الماضي ومن التراث.  ناهيك عن ثورة الأتصالات التي خطت صفحة جديدة في هذا العصر.
الوقوف عند التحديات الراهنة التي تُواجه الناس صعبة للغاية خاصة في هذه المرحلة. الرهان الوحيد هو بصيصُ من الأمل في العودة إلى أحضان الكنسية الأم، ولو بعد حين.
 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: (لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ). مرقس 2: 17.


المصادر:-
رسالة جامعة في الإيمان والعقل، قداسة البابا يوحنا بولس الثاني.

هيجل فريدريك/ محاضرات فلسفة الدين، الدينة الروحية. ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد.
 
هابرماس يورغن / مستقبل الطبيعة الإنسانيَّة، نحو نسالة ليبيرالية، نقله إلى العربية جورج كتورة، مراجعة أنطوان هاشم، المكتبة الشرقية، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2006.
 هابرماس يورغن/  القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دراسات فلسفيَّة وفكريَّة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى، 1995.

كانط إيمانويل / الدين في حدود مجرّد العقل:
ترجمة فتحي المسكيني.

رحلة إلى قلب الإلحاد، الجزء الأول: الإلحاد.. بذار ورجال - أ. حلمي القمص يعقوب

98
شلع قلع... كلهم حرامية...
بقلم/ سلوان ساكو 
لم يكن الخطأ الإعلامي لغونتر شابوفسكي عضو المكتب السياسي للحزب الإشتراكية الألماني حين صرح بأن قيود التنقل بين الألمانيتين قد رفعت هو من حطم جدار برلين، لا، ولكن إصرار الألمان على تجاوز المرحلة هو من دقَّ المسمار الأخير في نعش الشيوعية والكتلة الإشتراكية آنذاك، هو من محطم الأغلال وكسر القيود ورفع النيرّ عن الشعب بعد تفرقة دامت 28 سنةً . وهذا ايضاً له تاريخ في العقلية الألمانية الفذة، فمع إنتهاء الحرب العالمية الثانية كانت  كل اجزاء العاصمة الألمانية برلين مدمرة وعبارة عن حُطام  وأَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، لم يظل حجر على حجر، مدنياً واقتصادياً وعسكرياً، طال الخراب والدمار جميع البُنى التحتية للبلاد، المصانع الضخمة والمعامل الكبيرة ووسائل الإنتاج العملاقة، فعمَ الظلام مدينة الصناعة العالمية في تلك الحقبة من تاريخ أوروبا الأسود. من جهة ثانية كان على الحلفاء والألمان أنفسهم معاقبة من تسبب بكل هذا الدمار المهول من النازيين وزبانيتهم، فعُقدت أولى جلسات المحكمة في 20 نوفمبر 1945 في مقاطعة نورنبيرغ، لأن جميع قاعات المحاكم في عموم ألمانية كانت مدمرة بالكامل، لمحاكمة المتهمين ومحاسبتهم لمّا اقترفت أيديهم من جرائم بحق البشرية، وليس انتقامًا من شخص بعينه، وزرع الفتنة والبغيضة بين مكونات الشعب كما فعلوا صبيحة عيد الأضحى مع الرئيس العراقي الراحل. تعبٌ مضنيٍ وجريً حثيث لتجاوز الأزمة الكارثية من قبل شعب يعرف كيف يتجاوز المحن بسرعة، وعقلية جبارة تبتكر وتفكر وتصنع وتنتج وتُصدر. صحيح كان هناك مشروع مارشال، ولكن لم يكن لِيُكتب له النجاح لولا إرادة الشعب ورؤيته المستقبلية من اجل رفعة الأمة الألمانية وعودتها للأسرة الدولية كقوة منتجة ولاعب أساسي على الصعيد الأوروبي والعالمي.
أين العراق من كل هذه الترسيمات، هل له القدرة على تجاوز المحن الصعبة التي مرّ  ويمرّ به؟، هل يمتلك تلك الإرادة والعقلية والمقدرة والعزيمة في البناء والإنشاء والتطور والرقي؟، هل يستطيع العبور وتجاوز الماضي بأقل ما يمكن من الخسائر؟،  هل يستطيع رجل السياسة أو حتى الرجل البسط العادي كشف مكامن الضعف والهوة السحيقة التي يقف عليها البلد بعد خمسة عشر عاماً من التغير؟، اشك أنا في هذا!. العراق بئر من الفوضى والفساد ليس له قرار، وزارات تباع وتشترى، مناصب رفيعة في الدولة تُعطى للجهلاء، مُحاصصة طائفية بعيدة كل البعد عن الكفاءة والخبرة، احزاب تتصارع فيما بينها وتفجر السيارات الملغومة وسط الناس،  مرجعية دينية منافقة ترتدي مسوح الدين وتتستر برداء الصالحين وهي تسرق مال الشعب. كيف سينهض البلد بهذه التوليفة الغريبة العجيبة لا أحد يدري. الحراك الشعبي الذي يحصل اليوم ليس غير سَكْرَةُ من سكرات الموت، يقول الأطباء أن المريض يشعر بتحسن مفاجئ قبل الموت، هذا حال البلد اليوم، أظن انه يُعاني من الموت الأخير. صنفت المنظمة الدولية للشفافية العراق في المركز 168 من القائمة 180 التي تضمّ الدول الأكثر فساداً. ناهيك عن ميليشيات وفصائل الحشد الشعبي المتحكمة بمفاصل الدولة، والأحزاب الدينية المقيتة والعشائرية البغيضة، يُقال أن  ديفيد بتريوس قائد القوات الأمريكية في العراق، كان لديه قائمة بتسعيرة لشيوخ العشائر.
لا يمكن إصلاح شيء في العراق بهذه العقلية، أو هكذا تفكير، من الصعب بمكان إصلاح ما افسده الساسة وإيران من قبلهم وإبرام صفقة تنفع أو إعطاء دواء ينجح في علاج هذا المرض المزمن. لا خبز المحاميات في ساحة التحرير ينفع ولا بطانيات التاجر تصلح مع هذا الكم الهائل من خراب النفوس والعقول، أليست هذه هي الفوضى الخلاقة التي بشرت بمفاعيلها مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس في عهد بوش الأبن.
ربما يغضب البعض من هذا النقد اللاذع ولكن مع الأسف الشديد هذه هي الحقائق دون رتوش أو مساحيق تجميل. لا ينفع طب العطار في ما أفسده الدهر.

99
الهزيع الأخير من المُظاهرات
ليس من السهل التَكَهَّنَ إلى ماذا سوف تُفضي به  المظاهرات الأخيرة في العراق، بعد أن دخلت شهرها الثالث، كما ليس وراداً إلى اليوم قرب استقالة حكومة عادل عبد المهدي، أو حتى تغير وزاري كبير يشمل الوزراء الفاسدين وليس كبش فداء، وما أكثرهم اليوم. التعليمات الإيرانية الصارمة، مُتمثلة بالجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني وزيارته المتكررة  للعراق والنجف كرست للهيمنة وأعطت دفعة قوية للحكومة الحالية وعطلت كل الجهود الرامية لبناء دولة ذات سيادة تتحكم بقراراتها ومواردها. هذا يُظهر لنا من زاوية أخرى عدم تأثر المرجعية الشيعية في طهران بالاحتجاجات التي عمتّ عدة محافظات ومدن إيرانية مؤخراً والتي لن تُفضي لشيء يذكر، بعد أن تمْ رفع أسعار الوقود. من يتذكر اليوم احتجاجات عام 2009 والتي سُميت أيضاً بالثورة الخضراء، قادها مير حسين موسوي ومهدي كروبي، ماذا حل بالأثنين، من يتذكرهم اليوم بعد هذه المتغيرات الجيوسياسة الكبيرة التي عصفت بالمنطقة. اعوان وكلاب طهران من بغداد إلى بيروت مرورًا بدمشق لن يدعوا الأمور تمر بسلام ابداً، هذا أمين عام حزب الله حسن نصرالله يُصرح من الضاحية الجنوبية لبيروت (ولاؤنا لمرشد إيران علي خامنئي غير محدود). الرئيس السوري بشار الأسد يعرف جيدًا أنه لم يعد له موطئ قدم في عموم سوريا غير حدود قصر المزة الرئاسي، ومن يتحكم بكل القرارات السيادة للبلاد هي إيران ورسيا بتواطؤ أسرائيلي أمريكي تركي. بغداد ليست أفضل حال من الباقي إن لم تكن الأسوأ، الكل بات يعيّ اليوم مدى توغل الميليشيات الإيرانية وأذرعتها من الفصائل المسلحة والعصابات المنُظمة في العمق وفي لعب الدور الأبرز، وتنصيب من تشاء في أي مكان سيادي. هذا التتويج لم يأتي بالصدفة وليس وليد اللحظة بل كان نتائج عمل كبير لسنوات  إلى إن أهدت إدارة الرئيس باراك أوباما العراق لإيران على طبق من ذهب وليس من فضة في سبيل تخلي الأخيرة عن برنامجها النووي. الأولويات اليوم بالنسبة للرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب ليس العراق ولا المتظاهرين ولا الشعب السوري ولا اللبناني، المهم هو النفط، قالها قبل أيام قليلة، (ما يهم الإدارة الأمريكي في سوريا هو النفط وتواجد القوات الأمريكية من اجل حماية منابع النفط). فلا احد يتصور دعم من أيّ نوع كان تقدمه واشنطون للمحتجين في ساحة التحرير وغيرها، ولو ارادت لفعلت، ولكنه لا تريد لحسابات هي تعرفها.
يظل المُحْتَجّ والمتظاهر العراقي أعزل وسط هذه الخيبات الكبيرة التي تُحاصره من كل حدب وصوب، من الساسة العراقيين المرتزقة، وقادة الأحزاب التابعين لإيران، ورجال الدين المطيعين للمرشد الأعلى. تنظيمات المجتمع المدني التي لم تفعل شيء يذكر على مدار الشهرين الماضيين، كل هذا سبب خيبة أمل كبيرة للناس التي خرجت من أجل الكرامة الجريحة وتفشي البطالة وانتشار الفساد وانعدام أية مقومات بسيطة للعيش في بلد نفطه أكثر من مياهه.
لن يحدث تغير في المنظور القريب، ولن تتحرك أساطيل الولايات المتحدة لمؤازرة المنتفضين في بغداد، وكل ما يقال على النيت والفيس بوك من تدخل أمريكي لِمناصرة الحشود في الساحات هو مجرد أضغاث أحلام. ولنترك ونشطب كلمة عاجل عاجل عاجل الكاذبة من على منصة الفيس بوك التي تهين الشيء الذي تعنيه. عاجل استلام الساعدي زمام السلطة بانقلاب عسكري، عاجل إنزال أميركي في المنطقة الخضراء، عاجل هروب المالكي وبصحبته 64 مليار دولار، عاجل ترامب يمهل حكومة عبد المهدي 48 ساعة لمغادرة السلطة فوراً. كل هذا هراء وكذب لأنه يُسيء للثورة الشعبية أكثر ما ينفعها، ويعطي انطباع مُبطن انها عبارة عن مهزلة.
لا بدّ من الحذر الشديد في التعاطي مع الموضوع العراقي والثورة، لأن العصابات والميليشيات والقتلة متربصين بالثوار، أكثر من 500 قتيل، وألاف الجرحى. والأهمّ من ذلك كلّه هو مكاسب الثورة التي قامة من أجلها الشعب، وهذه الدماء المبذولة من اجلها وإلى أين سوف تؤول الأحداث.
أرجو أن لا تطول المظاهرات أكثر مما ينبغي مع قدوم الشتاء والبرد، الصيف ابو الفقير كما يُقال بالعامة، ولكن البرد قاتل. لا بدّ أن تنجلي الأمور ذات يوم ويظهر الحقْ. 

100
 مِحْنَة العراق الخطيرة
بقلم/ سلوان ساكو
تغير الكثير من عالمنا خلال العقود القليلة الماضية، وسارت الكثير من المياه الآسنة تحت الجسر؛  مجبولة طبعاً بدماء الأبرياء مثخنة بالجراح. مرَ على تحطم جدار برلين 30 عام واندمجت برلين الشرقية بشقيقتها الغربية بعد عزل دام أكثر من 28 عاما على بنائهِ الذي أعتبر تقسيم لمدينة وتقسيم لشعب. لم يدمّ الوقت طويل حتى دخل الرئيس العراقي السابق صدام حسين الكويت، وأعلنها المحافظة التاسعة عشر، إنْشَطَر العالم كما لم ينشطر سابقا على هذه الواقعة المُفجعة، وأصبحت الدول الكبرى في مأزق حقيقي. إنَشق الصف العربي في عمقه القومي والإسلامي وتوسعت الهوة بين العرب بشكل لم يسبق له مثيل، حيث كانت ضربةٌ قاسية لا زالت ارتداداتها حاضرة إلى اليوم. في خضم هذه السجالات السياسية الدولية التي فرزتها حالة الحرب وإعلان إتلاف دولي يضم 33 دولة تقودهم الولايات المتحدة الأمريكية لإخراج العراق من الكويت، أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب من مكتبه في البيت الأبيض من واشنطن عن النظام العالمي الجديد الذي سوف يحكم العالم. في هذا الوقت بالذات كانت الكتلة الشيوعية الأكبر تتفكك وتتساقط كأحجار الدينامو. العالم ذوّ القطبين أمسى قطب واحد؛ اخيراً مات المَارد الأشتراكي ولفظ أنفاسه الأخيرة عام 1992، حين لم تنفع إصلاحات ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر بيرسترويكا وغلاسنوست، واكتشف في نهاية المطاف أن بلدا مثل الاتحاد السوفييتي لا يستطيع لعب دور القوة العظمى على المدى الطويل في غياب اقتصاد قوي كاقتصاد الولايات المتحدة، واستنزاف قوة البلاد في حرب كحرب أفغانستان. أصبح العالم بعد هذا الأنهيار للكتلة الشيوعية بقيادة واحدة وقطب أوحد، ألا وهي أمريكا بدون أي منازع. هنا برزت خطوط أخرى وتيارات فكرية وفلسفية جديدة تتحكم بالقرار السياسي الأمريكي، كالمحافظين الجُدد، مُؤسسةٌ على القوة الأمريكية المُتعاظمة في الشرق الأوسط. أبرز منظريها ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، وكونداليزا رايز، وعراب غزو العراق برنارد لويس، ومخططه الجديد لتقسيم الشرق الأوسط، إلى دويلات صغيرة دون فعالية تُذكر، وخلق ما يسميه النظام العالمي الليبرالي. غباء أم سوء تقدير، أو عدم وعيّ بالمستجدات السياسية الخطيرة التي ألمت بالعالم والمنطقة وقت ذلك جعلت من صدام حسين لا يقرأ الوقائع الجديدة على الساحة الدولية بشكل واضح، أسير أفكاره الماضوية ليس أكثر.
الذي يحدث اليوم في العراق من احتجاجات حاشدة وانتفاضة شعبية أو ثورة لوأد الميليشيات والعصابات المسلحة والفساد والسرقة والبطالة، ليس غير تعبير عن الواقع الأليم الذي يمر به العراق من قرابة خمسة عشر عامً، حيث لم تفلح القوى السياسية والأحزاب الدينية من تشكيل  نوات دولة ذات سيادة تتحكم بقرارتها. فشل المشروع الأمريكي وأفلح المشروع الإيراني إلى حد بعيد في جعل البلد أقليم يتبع ولاية الفقيه في طهران، هذا ما صرح به قاسم سليماني أكثر من مرة.
هل يخرج العراق من عنقّ الزجاجة الإيرانية؟، وهل تترك المرجعية الدينية الشيعية في النجف الأمور هكذا بدون تدخل  وهي المرتبطة بشكل وثيق بطهران. وإلى أيَّ مدى يستطيع الثوار الصمود في ساحة التحرير والشتاء على الأبواب و نوافذ المطعم التركي عارية من الزجاج؟، هل تستقيل حكومة عادل عبد المهدي أمَّ تنتظر الأوامر من علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، تُحدد هوية ومصير وشكل العراق في المرحلة القادمة، وإلاّ بماذا يُبرر وصول الجنرال سُليماني إلى النجف في هذه الأيام.  والأهم من كل هذا لماذا هذا السكوت الأمريكي المتعمد من المشهد العراقي، هل ترك دونالد ترانب العراق لقمة سائغة سهلة لإيران كما فعل سلفه أوباما، أم هنالك مخطط أخر نجهله نحن البسطاء يُطبخ على نار هادئة في المطبخ الأمريكي التركي الإسرائيلي المشترك. من يعرف ماذا يخبئه المستقبل للعراق.

101
مواجهات وفقّ خرائط جديدة
بقلم/ سلوان ساكو 
تواجه منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط تغيرات وتقلبات كبيرة وتحدياتٍ من نوعاً جديد، ربما لم نعهدها سابقاً سوف تُزعز أمن وإستقرار المنطقة بعمق هذه المرة والتي هي أصلاً غير مستقرة، واقعة بين مطرقة الأرهاب وسندان الصراعات المذهبية والطائفية، فالصراع التركي السوري دخلَّ مرحلة جديدة وحرجة بعد أن حشدت أنقرة جيشها على الحدود السورية التركية لغرض فرض منطقة آمنة، أو ما سماه اردوغان ممر السلام  داخل سوريا المفُتتة والمُنهكة بعمق 30 كيلومتراً وعلى امتداد الحدود الطويلة بين الجارتان، حيث وضع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان دراسة مفصلة عن هذه المنطقة تضم عدد المباني والدور والمدارس والمستشفيات ومراكز الشرطة والبنايات الحكومية التي سوف تدير شؤون المنطقة العازلة  بكلفة 150 مليار دولار،  طالب بتغطيتها من الدول الكبرى المانحة. كل هذا طرحه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة،  خلال كلمته السنوية، أكد خلالها على أن المشروع كفيل بحل أزمة اللاجئين السوريين، ووضع حد لمعاناتهم بشكل تام. هذا من جهة، أما من ناحية أخرى فقد شكل انسحاب القوات الأمريكية القليلة العدد والمتاخمة على الحدود السورية التركية  الضوء الأخضر لتركيا في شنّ الهجوم المرتقب، وهي بمثابة موافقة ضمنية من الرئيس ترامب وفق تسوية معينة اطرافها امريكا روسيا إسرائيل تركيا، سوريا فقط ليس لها علاقة بالموضوع، وهذا من السخرية بمكان. فإذاً سوف نشهد تغيرات ديموغرافية وعسكرية وعرقية وطائفية  في المنطقة.
المحور  الخليجي  وبعد الضربة الإيرانية الحوثية المزدوجة على شركة النفط السعودية  العملاقة أرامكو في بقيق وخريص، أصبح هناك حسابات أخرى لم تكن مطروحة على طاولة المفاوضات من قبل. فقد شكل تباطؤ المملكة العربية في التصدي للهجوم الإيراني وتلكؤ واشنطون بردّ حازم قوي وسريع أعطى أنطباع إن امريكا غير مستعدة نهائياً لدخول حرب مفتوحة مع طهران، مهما كانت الظروف، حتى لو تعلق الأمر بشريك استراتيجي وحليف تاريخي كالسعودية. في نفس السياق وبعد سلسلة من الهجمات التي قام به الحوثيين على المملكة  في الفترة الأخيرة على المطارات في جازان وأبها في عسير جنوب غرب السعودية، صار هناك أجماع كامل أن الولايات المتحدة الأمريكية غير مستعدة للحرب، هذا تكرس من خلال إعفاء مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون من منصبه، لا بل البعض ذهب أبعد من ذلك حين قال أن دونالد ترامب أوصل رسالة للحكام في طهران  عن طريق السفارة السويسرية أن امريكا غير معنية بالصراع الدائر في المنطقة تحت سياسة النأي بالنفس، وهذا ما يُفسر لاحقاً لنا دخول الرياض في مفاوضات سرية مع طهران عبر دول محايدة لحل الأزمنة الناشبة بين البلدين. هذا يسلط الضوء  مرة ثانية على حماقات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، أولاً في التعامل مع فضيحة مقتل الصحفي جمال خاشقجي في إسطنبول العام الماضي، والفضائح الأخيرة في ظل الهزائم التي مُنية به الجيش السعودي حيث تم أسر فصيل كامل من ضباط وجنود، والسيطرة على مئات الدبابات والآليات في اشتباك مع قوات الحوثي قرب نجران، مما دعا والده  الملك العجوز  سلمان بن عبد العزيز إلى عزله من جميع مناصبه الرسمية وتجميد نفوذه داخل المملكة، ولكن خبر العزل وصل الأمير الشاب عن طريق دبي ومن الأمير محمد بن راشد، فحصل اشتباك بين قوات ولي العهد محمد بن سلمان، الكولومبية والنيبالبية مع الحرس الملكي السعودي الخاص داخل القصر مما أدَّى الى قتل عدد من الضباط والمراتب بينهم اللواء عبد العزيز الفغم الحارس الشخصي للملك والمسؤول عن حمايته. طبعاً الرواية السعودية عن مشاجرة نشبت بين الفغم وصديقه والتي أدت إلى مقتل اللواء في بيت السبتي عارية عن الصحة تماماً، والأخبار من داخل القصر الملكي أن العاهل السعودي قيد الإقامة الجبرية.
كل هذا يضع المنطقة في خانة التساؤلات الخطيرة عن طبيعة الصراع القائم، وترسم لنا خارطة جديدة سوف تشهدها الساحة العربية والإقليمية خلال الفترة القليلة القادمة.

102
الثورة الشعبية المسروقة
الذي يجريّ الأن في بغداد وعدة محافظات عراقية من مظاهرات شعبية واحتجاجات على الأوضاع المُزرية تكشف لنا مدى الإهمال والفساد المتفشي والمستشري في جميع دوائر الدولة ومنشآتها ومرافقها كافة، وعن قلة الخدمات الصحية والخدمية، وتفشي البطالة إلى مستويات غير مسبوقة من تاريخ العراق الحديث حتى في أحلك أيامه، وفي أقسى ظروف الحِصار التسعيني الدولى، نزلَ المواطن المسكين الى الشارع في هذا القيض الشديد، ومن له غير الشارع بعد أن تخلى عنه الجميع، يُعبر عن احتياجاته المشروعة والبسيطة، والتي يجب على كل دولة ذات سيادة حقة مهما كانت إمكانيتها بسيطة أن تُلبيها لمواطنيها، وهذا واجب يقعْ  على عاتق كل مسؤول أمين، وهل في العراق مسؤول واحد أمين اليوم؟ الذي يتبوأ منصب في الحكومة وموظف في الدولة يسهر على راحة المواطن ويفكر فيه!، لو كان هنالك من هذا النوع حقاً لما كنا في هذا المربع الضيق اليوم. الفرد العراقي تحمل كثيراً وبما فيه الكفاية على مدار عقوداً طويلة، ليس في حقبة ما بعد السقوط والضياع والأحتلال في عام 2003 فقط، ولكن ما كان قبلها من حروب وقهر واستنزاف للبشر والموارد، حركة التمرد الكردية فترة السبعينيات، الحرب العراقية الإيرانية العبثية، حرب الكويت، الحصار الجائر، وجاءت فترة الظلام الدامس الدامي من تاريخ هذا الشعب المقهور على مرّ العصور، فترة الفوضى والخراب والقتل والدمار، والانتفاضات من أجل لقمة العيش والرغيف المُعفر بالدماء الزكية، فترة السرقات باسم الشعب، فترة الفساد والرشوة الرسمية، فترة السقوط الأخلاقي للقيم والعادات والتقاليد والأعراف، فترة ضياع الكرامة والرجولة، فترة فقدان البوصلة للمواطن والوطن، فترة تجمع فيها كل أبناء عزازيل من الأفاقين والمنافقين والسُراق وقطاع الطرق والعصابات المنظمة وميليشيا الأحزاب في ملعب واحد، وهنا اكتملت اللعبة وصار الكل يُساوم على الكعكة الصفراء المسمومة، تارة باسم الدين ومرة أخرى باسم الشعب، وفي أحيان كثيرة تحت شعار البناء والإعمار وتطوير البَنى التحتية، ولم نرَ شيئاً من كل هذا خلال الخمسة عشر عام الماضية، والذي نعرفه فقط أن مليارات من الدولارات سُرقت وتبخرت، كانت تكفي ليعيش هذا الشعب المظلوم عيشة كريمة هنية بعد كل هذا التعب والدمار والخراب والقتل. ألاَّ يستحق أن يرتاح قليلاً بعد كل هذه المعارك؟.
ولكن أيضاً الذي يُعيب المُظاهرات التي تعم البلاد اليوم هو عدم وجود برنامج عمل للمحتجين، عدم وجود موجه ومُتكلم باسم المتظاهرين، قلة الوعي السياسي للأغلبية العظمى منهم، فإذاً هي مجرد أحتجاجات عفوية خرجت بشكل تلقائي سببها جور وظلم المسؤولين الحكوميين. أين هو المجلس الثوري الذي يُطالب بالحقوق،  من يسعى بصدق  في أثر  مفاوضات مع الحكومة الحالية لتحقيق الحق ومحاسبة المسؤول عن كل هذا التقصير المتعمد في أجهاض وتقويض أسُس الدولة اذا كان هناك دولة من الأساس، وكشف الخفاية والسرقات الكبيرة في الأجهزة الأمنية والمدنية.
 اذا ظلت الأمور على ماهي عليه الأن دون تكثيف الجهود وتوحيد الصفوف وتشكيل قيادة باسم المتظاهرين والمطالبين بحقوق المواطن، وتعزيز اللحمة بين جميع أطياف المجتمع العراقي تحت مظلة واحدة، والأهم من كل هذا هو الوعي بخطورة المرحلة الراهنة والتعامل معها بكل جدية ودراية، أقول مع الأسف سوف تضيع من بين إيدينا هذه الثورة، وينسرق الأمل الوحيد الباقي، وتذبل الأوراق مجدداً ولن تينع ابداً، ومن يعرف هل سوف تتكرر في المستقبل،  أمّ هي فرصة سانحة اليوم لن تعود ربما من جديد.

103
عشرة أعوام من العزلة
حينما عادَّ أبي من رحلته في الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأَمرِيكِيَّة صيف عام 1993، أول سؤال تبادر إلى ذهني هو عن كيفية نمطّ الحياة في امريكا، فالصورة المرسومة في مخيلتي الغضةّ في ذلك الوقت المُبكر من وعيّ كانت أنعكاس لصور مأخوذة عن الأفلام الأمريكية في دور العرض (السينما)، الفتيات الشقراوات ذوّ الشعر الأصفر والأكمام القصيرة، اللاتي يتجولن في الشوارع بمشيتهن الرشيقة، السيارات السوداء الطويلة الفارهة، الدولارات المتساقطة من السماء في رُزمّ عديدة، مشاهد لعالم مُغاير عن عالمنا المُعاش، إلى أن صُدمت من الإجابة المُباغتة الغير متوقعة حين ردّ بكل هدوء وحكمة، يا أبني الحياة هناك ليست بالسهولة التي يظنها البعض، فالناس هنالك تعمل ليلاً نهاراً لمواكبة متطلبات المعيشة الصعبة، كثرة القوائم payment ، برود العلاقات الاجتماعية بين الناس بسبب ضيق الوقت، التسابق المحموم على أقتناء أفضل سيارة والتباهي به يوم عطلة الأحد. عالم كل ما فيه يصارع من أجل البقاء والعيش. دارت الأيام والأعوام، وبعد ترحال طويل بين عدة عواصم عربية أرست سفينتي أشرعتها في أستراليا، ودقت أَوْتَادَ الخَيْمَةِ فِي الأرْضِ، في البداية لم أنتبه كثيراً للفروقات الموجودة في ثنايا المجتمع المتفرع والمتشعب من كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، ومع توغلي في الحكاية باتت الصورة تتضح شيئاً فشيئاً إلى أن اكتملت مع ضربة الفرشاة الأخيرة، وأصبح الإسقاط الأولى هو ذاته مع تغير الأمكنة لا أكثر ولا أقل، والأعراض ذاتها مع اختلاف الشخوص. جري محموم في تحصيل القوت، كثرة المتطلبات اليومية وهي في ازدياد مضطرد، وأهم من كل هذا وذلك هو البرود الواضح في العلاقات الأجتماعية، مما يجعل العزلة والتقوقع حول الذات تفرض نفسها على المشهد بقوة. صحيح طبعاً هناك ضيق في الوقت، والألتزام بعمل واحد أو بعملين في اليوم مما يُدعم من هذه العزلة ويُحجم دور الفرد أجتماعياً. ربما كان الوضع طبيعي لو كانت فترة التحولات هذه اكبر ولكن حدث كل هذا في غضون سنوات قليلة لا تتعدى العشرة، ولهذا نحتاج الى أن نقرأ الواقع المحيط من حولنا قراءة واعية ونرى الصورة الكاملة للمشهد وكيف وصلت الأمور لهذا الحد، وكيف أضعنا البوصلة في فهم الآخر وانتهت لغة الحوار. الكل باتَ يركض بسرعة تفوق سرعة الإنترنت بين القارات، الجميع مُنكب ومُنكس الرأس على هاتفه الجوال، في الحافلة في القطار في السيارة في الحديقة، حتى في البيت ضمن الأسرة الواحدة الكل منشغل بجهاز لا يتعدى حجمه كف رجل، كيف سيطر علينا هذا الكائن الملعون لا احد يدري، وكيف تماهينا معه إلى هذا المستوى الذي وصل حدّ الإدمان الجواب ذاته. إذن نحن أمام أشكال أخرى جديدة في عمليات انبعاث هذا التناقض ما بين ما هو حديث وجديد،  وأشكال أخرى يراها الجيل الصاعد طرق قديمة في التعامل، أو طبقة أخرى level ما عادت تنفع في هذا العصر وفي ظل هذا النظام الرقمي الهائل Digital system فتوسعت الهوة بين الأجيال ومازالت تتوسع أكثر مع الوقت، إلى أن يصبح ردمّ هذه الهوة مستحيل بمكان كي تأتي في النهاية مُضَمخَّة بقطيعة الوصال بين الأجيال تماماً وعزلة تستمر لمئة عام أخرى.

104
كلام خطير في عمليات التفكير
بقلم/ سلوان ساكو
الكثير من البديهيات تغيرتّ اليوم، والكثير منا تغير أيضا في النظر للأشياء من حولنا خلال العقّود القليلة الماضية، وعلى غفلةّ منا تغير الزمان فلم يعود كما هو في الماضي القريب. الأسباب كثيرة ومتعددة في آنٍ واحد، ولكن يظل الجوهر هو هو، والماهية ذاتها، وهيَّ أنّ هنالك ثمةّ مُتغيرات طرأت علينا وأفكار باغَتت عقولنا سواء لاحظناها أمْ لم نلاحظها. وهنا باتَ علينا أن نطرح تلك التساؤلات العميقة عن موقع العطبْ في النفس البشرية، واين يكُمن الخلل يا ترى؟، هل هي في آليات التفكير الحديثة، أمَّ في صعوبة فهمنا للمفردات وطريقة طرحها من الأساس، والسؤال بجدّية أكبر عن طبيعة ذلك الصراع الفكري والثقافي مع الهوية الذي نواجهه نحنُ اليوم في بلاد الملجأ، والذي لم يفلح على ما يبدو إلى حدّ الأن في هندسة عملية استخراج الأجوبة الصحيحة من قعر النفس البشرية إلى سطح العالم الخارجي، والتعامل مع مفرداتها الثقافية بشكل سطحي وعدم وعيّ بالمرحلة الراهنة، أسرىّ تحت ظل الأفكار القديمة والبالية.
فعاليات ثقافية متعددة تُقام بشكل دوري، أسبوعية، شهرية، فصلية، موسمية. منها ما يكون ذوّ طابع ديني، كالأخويات الكنسية، مهرجانات، دورات لاهوتية، حفلات لجوقات الكنائس، حلقات لقراءة الكتاب المقدس. وثانية اجتماعية عامة، كحفل توقيع كتاب، أمسيات شعرية، ندوات فكرية. طيفٌ واسع من الفعاليات على جميع الأصعدة والاتجاهات ومن شتى الألوان؛ ولكن الشيء الوحيد الذي يجمعهم هو قلة الحضور، وعزوف الناس عن تلبية تلك الدعوات والنشاطات. أعضاء الأخويات يشتكون من العدد الضَئِيل للحضور، منُظمي الندوات الثقافية الشهرية حالهم ليس بأفضل من الباقي، كُتاب الأدب الرفيع، من الرواية والقصص القصيرة إلى كُتاب الشعر، وبعد جُهداً مضنيً يستمر لربما لسنة أو أكثر، وحينما يطلق الأديب منتجه الثقافي يكون عدد حضور حفل التوقيع مُخيبٌ للآمال. الأسباب لمنْ لا يريد الحضور كثيرة ومتعددة، وكلها مشروعة بالمناسبة، منها على سبيل المثال لا الحصر، مشاغل الحياة اليومية التي لا حدود لها اليوم في الدول الرأسمالية، استراليا، كندا، أمريكا. عدم التفرغ، العمل، المُناسبات الإجبارية، أيّ الحفلات. وحتى وأن صادفت الفعالية الثقافية يوم السبت او الأحد فسوف يكون جواب الشخص هو، هذا اليوم هو إجازتي الأسبوعية سوف اتمتع به مع عائلتي وأولادي. كل هذا الكلام صحيح بدون أدنى شكّ، وللعائلة مكانة مُقدسة عند أرباب الأسر بدون مزايدة من أحد. ولكن أيضاً تنمية الفكر والنفس لها مكانتها، ورفدّ الروح بِمَا يعلي من شأنها والارتقاء بها في الحقل الثقافي والإبداعي، والمشاركة الفعلية في النشاطات والفعاليات المُقامة، سواء بشكل دوريّ أو حتى فصلي، فلكل هذا أثره الجيد في النفس البشرية مِمَا يُثريها ويرفع من مقامها، ويجعلها ترتقي عن الماديات بعض الشيء في فضاءاتٍ أرحب وأوسع، لأنَ البون شاسع والفرق كبير بين الإنسان المثقف والإنسان العادي، وكل هذا لا يتأتَّى ألاّ عن طريق المعرفة والوعي والقراءات الجدية المُعمقة. بعد ذلك يأتي دور البناء الثقافي للفرد الوعي لذاته، وتأثيث مساره الفكري والمعرفي للنهوض بمستقبلها إلى اتجاهات أفضل وطريق أرقى في مَنَاحي الحياة. لكن الأمور ليست بهذه السهولة كما نتصور أو يتصور البعض، فأول ما نحتاج أليه هو قناعات راسخة في التعلم، وقبول فكرة الاستماع للآخر وتثقيف الأنا، الأنا الفلسفية، الأنا الدينية، الأنا الأدبية، الأنا التواقة للمعرفة، من هنا بالذات تأتي خطورة الطرح، ورهان الشخص على أناه في إدراكه لذاته وهويّته. ومرة أخرى والسؤال الأصعب والأهم هُنا، لماذا كل هذا العزوف والتراخي في تحصيل المعارف، وعدم إجهاد العقل والفكر في القراءة والاطلاع. فكما هو معلوم أن نسبة القراءة انخفضت عالمياً بشكل عام وعربياً بشكل خاص، وهذا يعطي مؤشر عن حجم تدهور الواقع الثقافي الذي يواجه العرب اليوم. فمتوسط معدل القراءة في العالم العربي لا يتعدى ربع صفحة للفرد سنوياً، وهذه كارثة حقيقية فعلاً. النتائج خلصت إليها لجنة شؤون النشر التابعة للمجلس الأعلى للثقافة في مصر. الغرب أفضل حال نوعاً ما، فالأوروبيون يقرؤون بمعدل 200 ساعة سنويا، أم العرب بمعدل 6 دقائق سنوياً، حسب مؤسسة الفكر العربي، وهذا يوضح لنا مدى الهواة الثقافية والعلمية التي نحن عليها اليوم. لن اقف عند الأسباب التافهة التي تكمن وراء أزمة القراءة بالغة العربية، كمثل منظومة النيتّ السريعة، والشبكة العنكبوتية للمعلومات سهلة المنال، وتحصيل أي شيء يطرأ على البال عن طريق محرك البحث كوكل، لَئِن ذلك غير مجُدي الأن، ولكن سوف اطرح الإشكاليات من وجهة نظر فلسفية منطقية، تخص بالأكثر الأعصاب والمُخ، وتطور علم الدماغ، عبر الرحلة الأولى للإنسان العاقل، هذا الانسان المعروف بـ(هومو إرجاستر)، الذي عاش قبل 1.6 مليون وستمائة سنة، والذي صنع الأدوات وكان صياداً بارعاً، كما تظهر عظامه، حيثُ كان عدّاء ماهراً، قادراً بفضل سرعته الفائقة على منافسة الرياضيين الأولمبيين المعاصرين. ولكن ال (هومو سابينس)، هو أهمْ من الاول بكثير في هذا البحث، حيثُ مرَّ بمراحل عديدة وتطورات كثيرة أنثروبولوجيا، كان ذلك قبل حوالي 350 ألف سنة مضت وخاصة في أفريقيا، في تلك المناطق الحارة حيث كان الطعام كثير ويفيض عن الحاجة، الأسماك والفواكه والطقس الجيد، والكثير من الغذاء البروتيني الفائض. بكلام أدقّ ما من مسوغ يجعله يعمل ويتعب من أجل تحصيل طعامه. فالأنسان المُنتصب لم يُخصص مساحة كبيرة من دماغه للتحكم باللغة والكلام، أيّ أنّها بيئة جيدة للراحة والكسل والتكاثر، استمرت بضعة آلاف من السنين. كل هذا افرزْ نمط آخر من الوعي، لنقل الوعي البسيط والبدائي. جوهره وهو عدم إجهاد العقل، وعدم إيجاد بدائل للتفكير، والركون إلى الراحة قدر المستطاع، ما دامت الحاجات الأولية من مأكل ومشرب وجنس متوفرة وبكميات تزيد عن الحاجة. كل هذا أعطى ترتيب لمنظومة جديدة لبشر (الهومو سابينس). بعد ذلك بفترات طويلة وحقب مُتعددة جاء إنسان المراحل التالية، تطور وعيه، وتطورت قابلياته ومهاراته بدرجات متفاوتة، وشغل وقت فراغه بمسائل أهم من سابقتها. ولكن ظلت هنالك بقايا ذلك الإنسان القديم موجودة في تلافيفْ عقولنا إلى اليوم، منها مثلاً عدم أعمال الفكر والمنطق وتوظيفهم لتوفير أشكال أخرى من التعليم، الركون إلى الراحة ما استطعنا لذلك، الأخذ بالمسلمات بشكل قطعي خاصة فيما يخص الدين، فليس كل ما جاء في الكتب المقدسة هو صحيح لا يقبل الدحض والنقد، فهناك في ثنايا النص الرمز والتفسير وهناك الاستعارة والكناية وهنالك الأسطورة والمجاز والعِبرة من الآية الدينية. اليوم وحسب رأي رئيس تطور الجهاز العصبي الروسي البروفسور سيرغي سافيلييف، أن دماغ الإنسان مكون على نحو لا يجعله راغباً بالعمل والقيام بجهد ما، لذلك لا يعمل إذا كان لديه فائضا من الغذاء والقليل من المعيشة، فحوالي 25٪؜ من طاقة الجسم تذهب للدماغ وعمليات التفكير، وهذا استهلاكٌ كبير بالنسبة للجسم، لا يقبله دائماً إلا في حالات خاصة جداً، وعلى هذا الأساس يقوم الجسم بخفض الطاقة إلى ما دون 9٪؜ وهذا مُعدل مقبول نسبياً ومتفق عليه، بعبارة أصح تَوَاطَأ من نوعاً ما ما بين المُخ والجسم. هذا يكون طبعاً على حِساب تفعيل أنماط التفكير المعقدة كالأبداع كالرسم والقراءة والكتابة والعزف أو تحصيل شهادة عليا…الخ. بشكل أصح يبرز الميل الشديد للكسل عندما تكون هناك دعوة لحفل توقيع كتاب أو ندوة شعرية أو ثلاثاء ثقافي أو أخوية كنيسة، يبرزّ على السطح فوراً جواب، (ما عندي كيول، ما أكَدر أجيّ والله مشغول هوايا، ما عندي وكَت صدق)، والصحيح علمياً ومن منظور فسيولوجي وظائفي إن شعبة الدماغ المسؤولة عن هذا الجانب المعرفي المهم والخطير، تعمل قدر الإمكان على عدم تلبية هذه النداءات الموجه للعقل، والسبب في ذلك هو الحِفاظ على الطاقة، وعدم التفريط به بسهولة. وهذه تكون بمثابة المخدرات الداخلية تعوق البشر عن الإبداع والتقدم والرقيّ بالنفس. طبعاً هذا لا يعني أنه لا وجود لمبدعين ومخترعين وعباقرة وعلماء ومؤلفين وكُتاب وقراء وفنانين، وألاّ كان الطرح ساذج إلى أبعد حدّ، ويقوض أُسس الحضارة وصيرورة التاريخ. لكن القصد هنا هو صعوبة فتحّ نافذة وخط جديد في التفكير المُسبقّ، لأنَّ البدائي الأصلي جهاز وبقياس واحد، يقول لك لا تعمل أخلد للراحة والسكينة، فكوب من القهوة بالحليب الساخن في يوم شتائي مُمطر يجعلك تغيب عن عملك ذلك اليوم. لربما نفس الشيء كان يحدث قبل مليون سنة في ذلك الإنسان الأول، ولكن في سياقات مختلفة وآليات معرفية أخرى، داخل الكهف الدافئ ومعه أنثاه وله من الأعشاب الشيء الكافي، لماذا إذاً يخرج للصيد! أنه شكل غريزي للسلوك، والغريزة كما هو مُثبت علماً موجودة عند الإنسان والحيوان على حد واحد، كالأكل والجنس والزعامة. وكل وهذا نابع من الجهاز الحُوفِيّ خلف المنطقة الصدغية للمخ، المسؤول عن التصرفات الهرمونية والبيولوجية الغريزية للفرد.
وفق ما جاء أعلاه ليس من اليسر والسهولة بمكان تثبيت خاصيات النجاح والإبداع، فهناك جهد مُضني وسهر ليالي وتعب في شقّ طريق النجاح لبلوغ الهدف المنشود، وقطف ثِمار الفوز في نهاية المشور والذي يستمر في أحياناً كثيرة لفترات طويلة دون تعب أو ملل، يذلل الصعاب دون كلل لغاية واحدة أسمه وهي النجاح رغم كل الإحباط المُحيط من حولنا.

105
أدب / نكوصّ نحوَ البدايات
« في: 08:50 05/09/2019  »
نكوص نحوَ البِدايات
بدايات جميلة وطفولة أشدةُ حلاوةٌ من شهدّ النحلْ...
في ذلك الركن الهادئ من البيت القديم
وذلك المصباح الأصفر الباهت وتلك المدفأة الكازية...
دفء المكان ينبعث من الأجساد القريبة
وتتصاعد أبخرة الشاي الأحمر من الأقداح الزجاجية...
وتعبقّ رائحة البيت بذلك العطر الإنساني الحيّ...
جداراً تسري عليه رطوبة الأمطار
ومزاريب تختنق من الغيث المدرار
وأطفالاً يتعلقون بمسبحة الجدّة...
وشموع تضيء المكان في بكاء صامت
وحديثٍ حميمي في كلام عابر...
هذه ذاكرتي وهذه ذاكرتكم وهذه ذاكرة الأرض
بُعداً زمنيْ...
كينونةّ داخل الذات...
ولأن الجزء يُكون الكلّ ستظل الذاكرة تتوقْ للماضي
هذا كان طعم الحياة في أيام الزمن الجميل...
اليوم ماذا تغير فينا
كل شيئاً اصبح جامداً... وتثخنتْ المشاعر وتبلدت الإحساس
طغت المادة على الروح
وتخثرت الدماء في شرايين الحياة...
وبات البصيرُ اعمى...
 الإنسان اليوم تائه في زحمة الحياة... هذا زمن الإستيهامات وزمن التوهم...
وصور ضبابية من ذلك العالم السوريالي...
 تماهت مع الخوف مشاعرنا ...والترقب والقلق باتَ سيد الموقف...
بابً موارب للولوج نحو الماضي
كل هذا ليس غير غبار تذرفه الريحّ في وجه الذاكرة...

106
الخِطاب الديني الجديدّ
النقد هو عبارة عن تقيم لحالة مُعينة، إشكالية ما، سياسة، اجتماعية، دينية، فلسفية، رياضية، ورصداً لكل المتغيرات إيضاً، تصب في النهاية لصالح الفهم الصحيح للأمور وتسليط الضوء على المشكلة المطروحة للنقاش، وإن اشتدّ النقاش وتناقضت الأطراف حولَ المسألة الفُلانية، فهذا لا يهم كثيراً، المهم هو الوصول إلى نتائج مَرْجُوا من الطرح الأساسي، بدون تجريح ولا تقريع، وإلاّ فقد النقد خصوصيته، وباتَ مُناكفات عقيمة دون جدوى تُذكر، وفقدنا معها الأسلوب الأدنى من الكتابة الحقيقية والثقافة الرفيعة والقلم النبيل الذي يُسخره الكاتب لنفع المجتمع وتحقيق غاية أسمى أَلَا وهي تنوير المجتمع وتخليصه من براثن الجهل، والأرتقاء به في سلم الحياة الحرة. ولكن مع كل هذا تغير الشيء الكثير، وباتَ الوعي غير ذلك الوعي الذي كان عليه قَبْلَ خمسة عشر أو عشرين عام المُنصرمة، وأصبح المحظور مُباح وسقف التجاوزات على المراجع الدينية العليا أعلى بكثير من السابق، والتجريح السمة الغالبة في كتابة المقّال، حتى وإنّ كانت دون مضمون يُذكر. من المؤكد أن الكل تغير اليوم، القارئ والكاتب معاً، الجيل الجديدْ والذي بلغ من الذكاء مراحل بات يعي مواقف الغير ويفرِّق بين الغَثّ والسمين.
 الكتابة اليوم بَاتَتْ أسهل من الماضي بكثير، وأصبح لها أسلوب مُغاير عن السابق من الورق المطبوع، جرائد، مجلات، صُحف. اليوم الأمر مختلف كثيراً في الكتابة عبرَ النيتّ والمواقع الإلكترونية. كل شيء باتَ اسرع وبشكل مُذهل، كتابة المقّال ونشره خلال دقائق معدودة، والوصول أليه أيضاً مهما كان الكاتب بعيداً واسمه مجهولاً، مجرد كبسة زرّ على محرك البحث وهو يتولى الأمر بعد إذّ. القص والنسخ والأقتباس والنقل كل هذا صارَ طبيعياً مع المنظومة الرقمية الجديدة، لا رقيب على القلم إلاَّ الضمير هو من يوجه الكُتاب ويُمهد الطريق لهم في طرح افكارهم على الملأ.
لا ضير إذا تجاوز كاتب من السويد أو من الدانمارك أو من العراق على مرجع ديني كبير بحجم البطريرك الكاردينال الكلداني الحالي، فالشجرة المثمرة يقذفها الناس بالحجارة.
لا شكّ إن الكثير قد تغير وأن ثَمة خطاباً جديداً بين العلماني ورجل والدين، وهذا ما استوعبه سيادة البطريرك مار لويس ساكو، مما أفسح المجال لمشاركة العلمانيين في أعمال السينودس القادم ليتوج مرحلة جديدة تنم عن شعور بالمسؤولية أتجاه المؤمنين الكلدان من أجل إيجاد وضعية ومناخ طبيعي للطائفة في ظل هذه المتغيرات الإشكالية مع الوجود والهوية والمسار ذاته في الرهانات الجيودينية إذا جازَ التعبير في وطن مُتعثر كالعراق يحتدم بالتجاذبات على كل الأصعدة، لرسم خارطة جديدة شرط بقاءها وديمومتها هي الرؤى المستقبلية وقراءات حديثة تحمل نفخات من رياح الحداثة تمهيدا لظهور أجيال أكثر وعياً وأقدرّ على حمل المسؤولية.
 يبقى علينا أن نتفهم كل هذا الحراكّ الديني الجديد ونفهم مغزاه الحقيقي وإلى أين يذهب بِنَا.

107
الكلداني الُمِسيء
بقلم/ سلوان ساكو
لم يكن هناك في يوم من الأيام توافق من نوع ما بين المدعو ريان سالم الكلداني والبطريركية الكلدانية ممثلاٌ طبعاً بشخص سيادة البطريرك الحالي ذاته. فمن البداية كان هناك ثمةْ صدّ من جهة غبطة البطريرك، لِمَا يُمثله ريان مَن تجاوُزًا لكل الخطوط الحمراء، والقفز على المرجعيات الدينية المسيحية، وتنصيب نفسه متُحدثاً رسمياً لِعموم الطائفة الكلدانية في العراق. الأزمة ليست بالحديثة ولا وليده اللحظه، فقد بدأت إرهاصاتُها مع بداية السقوط في عام 2003، وما خلفه الأحتلال من فراغ أمني رهيب، هنا برزت أسماء وعنوانين كثيرة، وميليشيات مسلحة، سنية، شيعية، كردية، تركمانية، وتركيبة عجيبة من رجال العصابات المنظمة، أو (المافيات)، تُسيطر على مُقدرات ومفاصل البلد. فكان لابد من ظهور شخصية تتولى زمام أمور المسيحين، أو بمعنى أصدق كما يقول الكلداني هو ذاته حمايتهم من العصابات المسلحة، وهو نفسه عصابة مسلحة، بعد أنهيار الأجهزة الأمنية زمن النظام السابق، أمن، شرطة، مخابرات، استخبارات، حزب. ولكن هنا أحتاج الكلداني لتفويض رسمي من مرجع مسيحي على مستوى عالياً يخوله التحدث بأسم الجماعة بصفة قانونية وشرعية.
 في 7 تموز يوليو سنة 2003 وفي بيروت انتقل البطريرك روفائيل الأول بيداويد الى الأخدار السماوية بعد صراع مرير مع المرض والالم. تولى بعد ذلك سدة البطريركية في المنصور ببغداد مثلث الرحمة مار عمانؤيل الثالث دلّي في نفس العام في الثالث من ديسمبر كانون الأول. الرجل ومن البداية كان مُجهد بسبب تقدمه بالعمر، وبسبب مشاكل صحية ألمّت به. أستغل ريان الكلداني مرض الأخير واستطاع تحصيل كتاب رسمي مختوم من البطريركية الكلدانية يفوضه رسمياً التحدث بعموم مسيحي العراق من الطائفة الكلدانية في الدوائر الرسمية وغير الرسمية منها، تحت أسم الشيخ ريان سالم الكلداني. للوهلة الأولى لم يكن الموضوع ذوّ أهمية كبيرة في ظل الفوضى والخراب والدمار الذي حلَّ بالبلاد، ومع التصفيات الجسدية والأغتيالات والأبتزاز التي طالت ابناء شعبنا من عموم مسيحي العراق، والهجرة خارج الوطن والنزوح داخله، لم يَعّر أحد كبير أهمية (للشيخ لريان)، ولكن المرض كانَ ينموّ  ويستفحل ويمد الجسور الاخطبوطية مع باقي العصابات والميليشيات العاملة في العراق، تحت إشراف إيراني بحتّ، في عمليات القتل والسرقة والأبتزاز، فلاّ يتصور أحد أن ميليشيا ريان الكلداني خارج هذا الأطار، وإلاَّ من إين له كل هذا التمويل وهذه الترسانة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة!. هُنا حصل تحول دراماتيكي غير من المشهد برمته، فقد استقال البطريرك دليّ في عام 2012 وبالتحديد في كانون الأول، تحت تأثير المرض وعدم قدرته على حمل أعباء الطائفة الكلدانية الممزقة والمتشرذمة في عموم البلاد، والفوضى الداخلية التي اصابتها في الصميم. وما المقابلة التي جرت بين البطريرك دليّ رحمه الله من على منبر قناة الجزيرة في عام 2010 بعد مذبحة كنيسة سيدة النجاة بيومين، غير تعبير عن الصورة الضبابية والهواة الواسعة بينه وبين الواقع، والانفصال الكلي عن مجريات الأحداث والوقائع من حوله.
 في 1 شباط من عام 2013  اِعْتَلَى السدة البطريركية الكلدانية من روما سيادة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو. الأزمات والتحديات والمصاعب واجهت البطريرك الجديد من البداية، وهو بعد على مقعد طائرته متجهاً صوب الوطن. أزمة المهاجرين، النازحين، المؤمنين، التصفيات الجسدية، الكهنة، الأساقفة، هجرة الكفاءات، والإرث الثقيل التي تنوء بحملها الجبال من جميع الأشكال والألوان. هنا ظهرت بوادر الأزمنة  ما بينْ ريان سالم والبطريرك، فقد تمّ إلغاء التوكيل الرسمي وسحب كل الصلاحيات المنوطة لريان بموجب كتاب رسمي جديد يُفند الأول. هذا كان بمثابة إعلان حرب بين الطرفين، ريان وعصابته ودعمه من قِبل رئيس الوزراء وقت ذاك نوري المالكي، وغبطة البطريرك ساكو  وثقله الديني والأجتماعي وما يشكله من آراء ومواقف سياسية ومرجعية كبيرة يُحتذى بها على كل الأصعدة والنواحي. هنا حدث ما لم يكن في الحسبان مرة آخرى، فقد سيطر تنظيم إرهابي على مساحات شاسعة من العراق ودقَّ أبواب بغداد من ناحية الفلوجة في حزيران من عام 2014. فأطُلق النفير العام، والفتوى المشهورة للمرجعية الشيعية العليا في النجف. محافظة الموصل والقرى والبلدات المحيطة بها باتتّ تحت سيوف تنظيم داعش الإرهابي، فأصبح البطريرك الجديد مع هذا الملفّ الشائك والخطير في وضع لا يحسد عليه أبداً، يواجه مصاعب جمةّ ومصيرية تتعلق بشعب بأكمله. هنا وفي خضم هذا الصراع  والاقتتال على أكثر من جبهة ظهرت حركة كتائب بابليون، وهي حركة وقوات يقودها ريان الكلداني نفسه، تأسست في العام الأخير، منضوية تحت لواء الحشد الشعبي ومدعومة بشكل كامل منه من السلاح والمال. مجدداً أصدرت البطريركية الكلدانية بيان تؤكد به أن لا علاقة لها بكتائب بابليون ولا بقائدها ريان الكلداني ولا تمثلها مطلقاً، وأن ممثليها الرسميين هم أعضاء مجلس النواب العراقي فقط. توسعت الهواة بين الأثنين أكثر وصارَ أصلاح ذات البين بين الأطراف مستحيل. ومع بداية المعارك بين تنظيم داعش والقوات العراقية والحشد الشعبي في أكتوبر من عام 2016، اطلق الكلداني تصريحه الناري، حيث قال، (أن المسيحيون سوف يأخذون بالثأر في محافظة نينوى، وسوف تكون معركتنا في محافظة نينوى مصيرية، هم أحفاد يزيد ونحن أحفاد جون ووهب، معركة ستكون مسيحية مع أحفاد يزيد. التاريخ يعيد نفسه). سرعان ما ردّ إعلام البطريركية الكلدانية عبر بيان وتصريح موجز في 15/2/2017 بعنوان: (البطريركية الكلدانية تستنكر تصريحات السيد ريان الكلداني حول الانتقامات من أهالي الموصل). ولكن الكل كان مشغول في حروب تحرير المناطق التي تحت سيطرة داعش والتي انتهت في 10 يوليو من عام 2017، بمشاركة الغطاء الجوي الأمريكي  والجيش العراقي وميليشيات الحشد الشعبي. كان لكتائب ريان بابليون مشاركة ونصيب في المعارك، وأيضا في الأنتهاكات والسرقات التي جرت إبان حروب التحرير. كما سيظهر في التقرير الأمريكي لاحقاً. وما تهمة الشروع بقتل خبيرة التجميل رفيف الياسري، وحُؤُول ابو مهدي المهندس القيادي في الحشد الشعبي دون سريان مجريات التحقيقات مع ريان إلا صورة سوداء في سجل رجل العصابات.
في الأنتخابات البرلماني العراقية الأخيرة عام 2018، فازّت حركة بابليون بمقعد في البرلمان المذكور، بدعم وغطاء شيعي إيراني كامل، بعد أن فقد المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري زخمه بشكل ملحوظ، وضياع بوصلة توجيه الحركة الديمقراطية الآشورية زوعا، وتشتت باقي الأحزاب والحركات السياسية المسيحية، مِمَا أفسح المجال لحركة بابليون في المضي قدماً.
 ظلَ حديث الأتهامات والتخوين هو سيد الموقف، فما كان من ريان الكلداني غير إتهام البطريرك ساكو ببيع املاك عائدة للطائفة، تبين بعد ذلك بطلان الدعوة، وعدم صدقها من الأساس، غير مزاعم كيدية كاذبة وتشويهٍ للرموز الدينية. وجه ريان سالم رسالة مطولة من 6 صفحات، تضمنت حوارا سجاليا غاضبا من 9 نقاط إلى البطريرك الكردينال  مار لويس رفائيل ساكو، تحت عنوان (كتاب مفتوح إلى البطريرك لويس ساكو إلى والد الرعية الكلدانية وراعيه الموقر). نشرت على موقع Ankawa قبل فترة.
مع العقوبات الأمريكية التي طالت ريان سالم وآخرين بتهمة الإرهاب، وإنتهاكات لحقوق الإنسان وتُهم بالفساد، دخلّ الأخير في مرحلة أخرى وتبعات خطيرة، حيث أن هذه الُتهم تتبعها جملة من القرارات، منها تجميد أصول أموال ريان وحركته، عدم دخول الولايات المتحدة الأمريكية، عدم التعامل مع كافة البنوك الغربية. وهكذا أصبحت حركة كتائب بابليون تنظيم إرهابي بين عشية وضحاها، لا تفرق بشيئ عن حزب الله اللبناني، والحرس الثوري الإيراني. اليوم باتَ كل شيء واضح بالنسبة (للشيخ ريان)، من أنتهاكات لحقوق الأنسان،  والاستيلاء على أملاك المسيحين في سهل نينوى دون وجه حقّ، والسطو المسلح على ممتلكات الغير والسرقة.
 سقط الكلداني، وتَعَرَّى من ورقة التين الأخيرة، وبات مكشوفً للعلن. وتبيّن مع مرور الوقت البضاعة الفاسدة التي روج لها، والأستثمار في الأغراض الغير شريفة والغير أخلاقية، ليستكمل ما  بدأه من الأول، ومع هذا نكون في المشهد الأخير والفصل النهائي من المسرحية التراجيدية  لهذا الشخصية الغير سوية والتي أثرت سلباً في المشهد العراقي والمسيحي.

108
أدب / العَرافَةّ
« في: 10:07 16/07/2019  »

العَرَافّة


سلوان ساكو

قولي لي ياعرافتي وتنبئي لي...
قولي لي كما قلتِ لأوديب وكما تنبأتِي لآخيل...
اكتبي لي شيئاً في سفرّ الحياة
وطالعي قدري من أسرار الفَناء
استحضري روح صموئيل كلما دعاكِ شاؤول الملك...
طمَنَيّ كلكامش كما طمأنته سيدوري... وقولي له أن لا يبحث عن العُشّبة... فالذي كان كان....
اقرأي كفَ اسمهان.... وبلغيها عن البيان...
اصغي لنداء الحواس... وقرريّ…
وجَيلي ببصركِ وبصيرتكِ في أركان الزمان…
أيتها العرافة الخالدة هل كل ما يُقال صحيحْ...
أم هو حدسٌ في وقتْ الضّياع
طالعي من الرموز  والطلاسم نجاحاتي ومعاناتي...
وجعلي حجابٌ يحميني من أيامي
قولي لي ياعرافة هل الذي يحدث حدثّ من قبل
أم هي صور في زمنٍ مضى...
ياعرافة هل البوح بالسر  معصية الآلهة
أم هي تزكية وقتل الفراغ..
ياعرافة انتِ من بدأ يقص وانتِ من علمني فك الأسرار
وبتُ لا أنام ألا على لغزٌ جديدْ...
والآن ياعرافة هل نكتفي بما قيل
أم نواصل المسير …
هل نغلق الكُفوفٌ ونسدّ الطريق بمزلاج من فولاذ متين...
أم نَضَل هكذا على الدوام…
لقد شَفِيَت الشَّمسُ وقتُ الأصيل....
وذهبَ كُل الذي قيل ادراج الريح.

 ***

أطلس العالم
 
كُلَّمَا دحرج أطلس الحجر عادَ من جديد إلى نقطة البداية... هل نحن كذلك...
سؤالي....
وكُلَّمَا أنتهتّ بينيلوبي من رتقّ ثوب زوجها يوليسس... يغيبُ من جديدْ في عالم النَسيان... هل نحن كذلك...
وكُلَّمَا رحلَ سندباد إلى عوالم مختلفة بدأ الرحلة من جديد.... هل نحن كذلك...
تقصّ شهرزاد على خَلِيلِها شهريار قصَصَ عديدة... مرجانة.... معروف الإسكافي…جعفر... وكل ما تنتهي من واحدة تبدأ من جديد... هل نحن كذلك...
يقول دانتي... يومان في الجحيم... وأربعة في المطهر... ويوم في الجنة... مكتوب كل هذا في الكوميديا الإلهية... ولكن أيضاً يكتب في سفر آخر ...عن منفاه...وعن حبه الخالد... وعن عذابه المتُجدد... هل كتبنا نحن أسفَار حياتنا…
ياسون يجري  وراء الجزةٌ الذهبية ولكن  الملك أيتس يمنعه... يتعلق قلبه بميديا الرهيبة.... وتتدخل أفروديت... وينجح ياسون ويهربون في سفينة آرغوس..
أصرار ...عزيمة... ثم نجاح...هل حاولنا نحن النهوض من بعد فشل؟...
عرافّ المدينة تيرسياس يقول لأوديب... ما لا يُقال...فتنتحر  يوكاستا... ويفقع عيناه أوديب... لغرورٌ أعمى بصيرته...كم مرة أعمانا الغرور.... في حياتنا!...
هذا أطلس العالم يحمل الكرة الأرضية فوق اكتافه في صعوداً وهبوطٍ أزلي... ونحن كما نحن… كماّ كنا… في كل الأزمنة ... والأوقات.


109
السيد العزيز مايكل سيبي المحترم:-
في كل عصر وأوان هناك  صراع  وتصارع، طبقي، ديني، برجوازي، عمالي، حكومي،  حتى داخل العائلة الواحدة هنالك  صراع، لا  بل بين الشخص وذاته هنالك صراع مُستديم يبرز أحيان ويخبو  أحيان  كثيرة. من كل هذه  البواعث  والأسباب  أدت إلى وجود الأف مؤلفة من الأحداث والمفردات بصيغّ عديدة، دينية، مذهبية، طائفية، سياسية. على سبيل المثال لا الحصر خذَّ محاكم التفتيش وما فعلته في الناس، أليس هذا صراع من أجل البقاء. لا يوجد مكان على وجه الأرض تسمى يوتوبيا. والكنيسة جزأ من كل هذا، ولكن على الأنسان الواعي أن يخفف من هذا الصراع  قدر الإمكان، إلى من  استطاع ذلك  سبيلا.  خاصة في هذا القرنّ، حيث المعلومة متوفرة وبالمجان، والقراءة سهلة ومُيسرة للجميع أين ما حل الفرد، باص، قطار، طائرة تكسي، كل شيء باتّ موجود وسهل المنال لمن يريد أن يعرف. إن الترسيمة اليوم مختلفة عن السابق والوعي الفردي أيضاً مختلف عن السابق.

شكراً لك.

110
الأخ العزيز يوحنا بيداويد المحترم:
أنا  ايضاً  صدقني  القول  مثلك، أتمنى  من كل قلبي أن يرجع  المخطئ  إلى  رشده  وصوابه، ولا  يوجد  شخص  على  هذه  البسيطة  معصوم من الخطأ، وتمرّ هذه المَزنْةَ بسلام على هذه الولاية التي يعيش  الجميع  تحتَ شمسها  وعلى  أرضها.
تحياتي لكَّ.

111
السيد ناصر عجمايا المحترم:-
شكراً على المداخلة.
العناوين والتسميات ليست مهمة في هذا الجو المحتقن والمشحون، سواء كما جاء في أعلى المقال، أو كما تفضلتم، وأظن إن من الخطأ بمكان أن تحتجز المشاكل بتسميات وعناوين. الثيمة الأساسية هو إنه ثمة مشكلة أنا طرحُتها للملأ. المهم هو مضمون تلك الأطروحات كما جاء في نص المقال، وتحريك مياه  البركة الآسنة  حتى  وإن  عارضها  أحد، وهذا لعمري مؤشر جيد. كل هذا عزيزي ناصر يُحيلنا إلى منطقة مهمة، هي كيفية الخروج من هذا المأزق.
تحياتي القلبية لكّ.

112
السيد soraita المحترم
أرجع معكَ قليلاً إلى مقولة أبن خلدون حين قال( يجب إعمال العقل في نقل الخبر)، يا سيدي الكريم العُمر له حدوده، ولا يمكن لأحد أن يأخذ زمنه وزمن غيره، وما نراه اليوم من صراع ولغو فارغ لم يأتي من فراغ. الغيمة الداكنة التي خيمت على مثلث الرحمة عمانوئيل دليّ رحمه الله، حملت هذا المطر الاسود اليوم، ريان الكلداني وغيره، هذا ليس اعتباطياً ولا موقف ( الشيخ ريان الكلداني) بريء، وألا من إين له التفويض الرسمي مختوم بختم البطريركية الكلدانية ببغداد يخوله التحدث باسم عموم المسيحي العراق، ومن هو أصلاً ليكون المتحدث  بأسم الكُل. بعد ذلك أُبطل هذا المرسوم طبعا. إن ادراك مسؤولية الواقع والأحداث تقع على عاتق الجميع. المرض والعجز والداء والدواء هي من طبيعة البشر منذُ بداية الخليقة هذا شيء طبيعي، ولكن ما هو غير طبيعي أن لا نعترف أن ثمة خلل.
يقول أوسكار ويلد ( عاجلاً ام آجلاً، الجميع يدفع ثمن ما يرتكب). تحياتي لك.


113
اِنقِسام البيت الكلداني في ملبورن
بقلم / سلوان ساكو
لنترك العنتريات التي لا تنفع جانباً، ونرصدّ الوضع الشاذّ والمُقلق والغير طبيعي، والذي يُنذر على ما يبدو إلى مزيداً من التشظي والفرقة في ولاية ملبورن، والتي هي اليوم في أمس الحاجة إلى اللُحمة والتخندقّ خلف صف واحد، ومجابهة الهجمات الشرسة التي تُشنها التيارات والمذاهب الأخرى على الكنيسة الكاثوليكية برمتها، وتُزعَزعَ البُنيان العام للوحدة المسيحية الجامعة الرسولية، فإلى اليوم قضية الكردينال جورج بيل ماثلة في الأذهان، وأثارها السلبية على الجمعّ المؤمن. لم يعد من المُجدي بِمكان عدمّ النظر إلى الغيمة السوداء التي تَلَبَّدَ سماء ولاية ملبورن الأسترالية، ولا صالح لأحد في عدم النقد والكتابة في صلب الموضوع، وإلاَّ كنا كما النعام نطمر رؤوسنا  في الرمال، بل يجب أن نجابه ونكتب وننتقد، ومن لا يعترف بذلك أنما يُحاول تجاوز الواقع بكل تعقيداته، أو يكون ضيق الأفق أو قصير النظر،  فهذا ينذر بالشرِّ أو يُلقي ظِلالاً من الشكّ دون أدنى ريبّ، حتى وإنَ هذا لم يعجب البعض، وهذا هو الصحيح والصحي، لنفسح أذِن المجال للنقد العام، والنقدّ البناء، لنكون على دراية بمجريات الأمور، على الأقل، بدلاً من تجاهلها، فقد كشفت الأحداث الأخيرة تصدع كبير في جدار الأبرشية، والأرض الرخوة التي تقف عليها الخورنة.
إذا تركنا قليلاً الجزئيات ونظرنا إلى الكليات يصبح أمامنا مشهدين؛ الأول لشاب يافع في مقتبل العُمر، يصبح كاهناً على يدّ مطران غير مُعترف به، وقس متقاعد، وقس موقوف عن العمل الرعوي. لو كان الأمر طبيعي لرسمه ومن ثم عَيَنَهْ وسمّاه مطران الأبرشية الأصلي، أي مطران أبرشية استراليا
نيوزيلندا للكلدان، لماذا كل هذا اللف والدوران الفارغ من الأساس. صحيح هنالك إرهاص وحديث عن كنيسة الوحدة أو ما شابه ذلك، ولكن التساؤل التأملي هُنَا، وهذا حقَّ الجميع على ما أظن، إينَ سوف يخدم الكاهن الجديد؟، وتحتّ أيَّ خورنة أو أبرشية ينضوي، وعلى أيةّ مرجعية يكون، سريان كلدان أرثدوكس بروتستانت، أَم يكون هنالك بوادر لظهور كنيسة جديدة، من يعرف من ما يخبئه المستقبل. فالنصاب على ما هو عليه اليوم  مكتُمل، مطران+ ثلاثة كهنة، وهذه هي الهيكلية العامة لأية كنيسة في العالم؛ أما الشعب المؤيد للجناح الجديد فموجود في كل الأزمان والأوقات. فحركة الإصلاح الدّيني في أوروبا على يد الراهب الألماني مارتن لوثر بدأت بنشر أطروحاته الـخمس والتسعين الشهيرة على باب كنيسة فيتنبرغ، في ولاية سكسونيا بألمانيا، بتاريخ 31 أكتوبر 1517،  حيث ندَّدَ ببعض ممارسات الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت، كبيع صكوك الغفران، وغيره. كانت أطروحة أو أصلاح أو فكرة تفتقت في رأس الراهب الثوري، لتكن ثورة، أو حركة سلبية، أو إيجابية، سمها ما شئت، لا تهم التسمية كثيراً اليوم، بدأت بشخص واحد وآلِت في النهاية لمذهب كامل مُتكامل، ومجموعة عقائد جديدة، وبين هذا وذلك أُزهقت ألاف الأرواح عبثاً، من خلال سلسلة من عمليات القتل الوحشي الغير مُبرر  والتي استمرت من خلال ثماني حروب متتالية، خلّفت وراءها ما يربو على 2 مليون قتيل،  وكانت أكثرها بشاعةٌ وعُنف ما عُرف بمذبحة سان بارتولوميو في فرنسا زمن الملك شارل التاسع. هذا كان ثمنْ الإصلاح اللوثري!. إذا كان هذا الاحتمال الأخير موغلاً في التشاؤم، إلا أن الرهان الوحيد اليوم في حل الأشكالية هو الاعتماد على الشفافية بطرق منطقية في جوّ من الحوار المفتوح، ومن الأفضل في هذه المرحلة الحرجة التعلم من تجارب ودروس الماضي والاستفادة منها، نعم وصحيح يوجد هناك في كل عصر وزمان عمى ديني، ولكن لنتجاوز ذلك اليوم لمصلحة الجميع، ومصلحة الكنيسة الكاثوليكية، والكلدانية أيضاً. فالذي يحدث للمؤمنين الكلدان في امريكا وارتماءهم في أحضان الكنائس الإنجيلية ليس بالقليل، وهذا موضوع ذوَّ شجون  لنتركه الأن. 
 المشهد الثاني، والذي هو مشهد واحد بالمناسبة ضمن الإطار العام للصورة، كاهن خورنة مريم العذراء حافظة الزروع (المتقاعد) في ملبورن، وبعدَ خدمة ناهزت الخمسين عام أو أكثر، قضاها في خدمة الجالية أينما حل بحب وتفاني، وعلى مدار هذه السنوات الطِوال؛ ومع تقدم العمر به، بلغّ سنْ التقاعد الكنسي، والذي يكون عادة فوق الخامسة والسبيعين من العمر، فأحيل للتقاعد كالعادة وهذا شيء طبيعي جداً،ً لئن من يبلغ هذا العمر يجب أن يخلد للراحة والسكينة مع تقدم العمر بالشخص، وهذا القانون ينطبق على الكُهان والأساقفة، حتى قداسة الحبر الروماني الجليل  البابا السابق بندكتوس السادس عشر  إحُيل نفسه للتقاعد، بعد أن رأى أنه مُتعب، فهو في النهاية إنسان من دم ولحم، وإن كان قانون التقاعد لا يشمله، ويحمل أمتياز العصمة البابوية، قانون سنة 1870، فأنه أفسح المجال لغيره عن طيب خاطر. وقد ارتأت الكنيسة من بداياتها تقريبا أن تفسح المجال للأجيال الجديدة لضخّ مزيداً من الدماء في شرايين الكنيسة. لأن التجدد يعني الحياة، والسكون يعني الموت، وهذا أيضاً جزءاً من قانون الطبيعة الذي نحن مُلزمين به دون أدنى شكْ، والذي يكون ساريّ المفعول على الجميع دون أستثناء، وألاَ من السذاجة أنّ يدعي السبعيني أنه بقوة وطاقة العشريني، أو يقول الثمانيني أنا بجُهد الثلاثيني ورديفاً له. وهنُا تكمن تقسيمات الطبيعة، ليس من اليوم ولكن منذُ الأزل، حتى الكواكب والنجوم والأقمار والأرض التي نعيش عليها لها بداية ولها نهاية مهما طالّ الزمان،واليوم  الشمس في منتصف عمرها من مرحلة تسمى النسق الأساسي من بدايتها إلى نهايتها عمرها حوالي 10 مليار سنة، والباقي هو 5 مليار سنة ثم التلاشي والفراغ، وهذا جزءا من النظام الكوني الذي نحن جزء لا يتجزأ منه، بالعودة للكاهن الذي لم يتقبل قرار التقاعد وسار بخلاف النظام والقانون الكوني أصدر كتاب يُحمَل فيه المسؤولية لأنه لم يصبح مطراناً، أيّ لم يرسمونه أسقفاً، يَحُمَل تبعات هذا الأمر  على وعود من العلمانيين ليس لهم لا ناقة ولا جّمل بكل هذه الموضوع الخاصة بالسينودس الكنسي فقط، بكل بساطة. متناسيا إنّ خدمة الكنيسة الكاثوليكية الجامعة ليست لا بالمطران ولا حتى بالبطريرك، هذه درجات أسقفية، صحيح هي مهمة وضرورية، ولكن هنالك الخدمة الرعوية النابعة من تَلافِيفُ القلب، والنيةّ الحسنة، والكلمة الصادقة، والجملة المُعبرة، والموعظة الحسنة، والروح التواقة لمعونة الناس، وخدمة الفقير،  والقفزّ على الماديات والأرضيات منها والأرتفاع والأرتقاء فوق كل ما يربط الانسان بهذه الأرض الفانية، وإلا ماذا ينفع قول المعلم (مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا)" (يو18: 33-36). وهنا يظهر لنا بشكل جلي تفاهة وفناء هذا العالم. ( يا غبي في  هذِهِ  الليلةِ  تُسْتَرَدُّ  نفسُكَ  مِنكَ . فلِمَن  يكونُ  ما  أَعدَدْتهُ  فهذا  يكونُ  مصيرُ  مَنْ  يكنِزُ  لنفسِهِ  ولا  يغتَني  عِندَ  الله).  لوقا.
في النهاية اليوم الكنيسة الكلدانية ليست بحاجة لمزيد من الأنقسامات والتوترات التي لن تفضي ألاّ لمزيداً من التشكك والأنقسام على البيت الواحد، والعزوف عن حضور  الكنيسة، ورتماء المؤمنين في أحضان كنائس آخرى، فإذا كانَّ ثمة صراع فلاَ بد أن ينعكس على الجمعّ، وهذه هي طبيعة الأشياء مع الأسف. ( الراعي الصالح يعرف خرافه ويدعو كل خروف باسمه ويسير امام خرافه ليقودها الى المراعي الخصبة (مز 23)…الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَدْخُلُ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ مِنْ غَيْرِ بَابِهَا فَيَتَسَلَّقُ إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، هُوَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. أَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ،  وَالْبَوَّابُ يَفْتَحُ لَهُ، وَالْخِرَافُ تُصْغِي إِلَى صَوْتِهِ، فَيُنَادِي خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمِهِ، وَيَقُودُهَا إِلَى خَارِجِ الْحَظِيرَةِ. وَمَتَى أَخْرَجَهَا كُلَّهَا، يَسِيرُ أَمَامَهَا وَهِيَ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. وَهِيَ لَا تَتْبَعُ مَنْ كَانَ غَرِيباً، بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ، لأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ صَوْتَ الْغُرَبَاءِ) يوحنا.
ليس الإشكال في الذي يحصل اليوم، ولكن ما سوف يحدث في المستقبل. الأكيد من يفعل ذلك أنه يتجاوز المرجعية دون أدن ريب. ومن الواضح أنّ ليس من أحد يريد تَأزيم الأمور أكثر ولكن المسألة إلى أيّ صيغة سوف تؤول أليه في النهاية.

114
ضمن الفعاليات الآدبية والثقافية التي ترفد ولاية مالبورن الأسترالية، قامَ الكاتب سلوان ساكو بتوقيع روايته الموسومة ( رقصة الحب الأخيرة)، وذلك يوم الثلاثاء الموافق 25/6/2019، في قاعة الأميراج، وقد أدار الجلسة الأستاذ إلياس منصور والأستاذ ممتاز ساكو، وقد حضر حفل التوقيع نخبة من المثقفين ورجال الفكر في الولاية.

115
الكلداني اللامنتمي
بقلم/ سلوان ساكو
تتعاطى شريحة كبيرة من المسيحيين الكلدان مع مفاهيم وتعاليم الديّن المسيحي بسطحية أكبر، لا بل بات المفهوم الحقيقي للمذهب الكاثوليكي  Catholic doctrine، يقبعْ تحتَ طبقة سميكة من عدم الفهم، وصار عزل المفردة ذاتها هو الأساس في عدم الأقتناع وعدم التناسق في طرح الكلام، فأصبح هنالك هوة واسعة بين المؤمنين وبين تعاليم الكنيسة الكاثوليكية لا يمكن ردمها بسهولة دون التعاطي مع الموضوع بجدية أكبر وفهم أوسع تحتة مظلة الحوار والفهم السليم للقضايا الكبرى، من هنا فقط علينا أن ننطلق نحوَ مدارات أرحب وفضاءات أوسع فيِمَا يخص المتون الأساسية، فالعقل هو الجوهر وما هيته التفكير. ومما لا جدال فيه بأنه تنقصنا اليوم عدّة مفاهيم ذات قدرات تفسيرية للنصوص الدينية وقراءات مُعمقة للمطارحات الفكرية التي تُقدم مراجعات نقدية هادفة، الغاية منها هو الفهم الصحيح. فقد كان القديس توما الإكويني هو أول من دعا للعودة إلى العقلانية الإغريقية والأخذ بنظرية المعرفة الأرسطية ذات النزعة الواقعية بشكل مباشر.   
المسيحية ليستْ دينْ طقوس وواجبات فقط، وهذا مهم بطبيعة الحال، بل هيَ إيضا دين فهمّ ومنطق، لاهوت، وهو علم دراسة الإلهيات دراسة منطقية، وناسوت الطبيعة البشرية للسيد المسيح. وقد يلاحظ المُتبصر العميق للأمور التراجع التدريجي الفكري الحاد القائم على المثيوس ( الأسطورة ) لصالح اللوغوس أيَّ ( العقل) فهو المسؤول عن المعرفة والوعي والتمييز .  الكثير منا اليوم يجهلون الأسس الأولية التي ترتكز عليها العقيدة المسيحية؛ وتعنى ما عقد الإنسانُ عليه قلبه جازماً به من الأفكار والمبادئ والإيمان، فالعقيدة هي حقائق إيمانية ظاهرة أو ضمنية في الوحي الإلهي، (كلمة الله، المكتوبة أو المنقولة). وهي تستند إلى سلطة الله الموحي (الإيمان الإلهي)، والكنيسة تضمن من خلال تعريفها بأنها موجودة في الوحي الإلهي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عقيدة المطهر purgatory، في رتمّ الكنيسة الكاثوليكية هي تُحسب عقيدة، أم في المذهب الأرثوذكسي فتحسب نظرية لاهوتية فقط، أم في المذهب البروتستانتي فأنها بدعة. والمطهر حالة تمرّ فيها أنفسُ الموتى في مرحلة تطهير للحصول على القداسة اللازمة من أجل الدخول إلى مجد السماء‪. ‬إنّها الفرصة الأخيرة التي يمنحها الله للبشر لينضمّوا في شِركةٍ كاملة معه. فالمطهر إذًا هو الأهتداء الأخير بعد الموت، أو بشكل أدق مكان ثالث لا هو السماء ولا هو جهنم تذهب إليه أرواح الموتى الذين فعلوا خيرا وشرا واقترفوا هفوات وخطايا لم يتطهروا منها في حياتهم الدنيا تطهيرا كاملاً. فأذا علينا الفهم فيما يخص عقائدنا وليس فقط الذهاب يوم الأحد الى الكنيسة في قداس الساعة الثانية عشر ظهراً والخروج فرحين، دون وعي، الموضوع أعمق من ذلك بكثير. واليوم بات على كل شخص منتمي للكنيسة الكاثوليكية أن يعيّ معنى العقائد، العصمة البابوية، الحبل بلا دنس، الأستحالة، الثالوث الأقدس، سر التجسد، الخ. فهذا عصر الفهم والعقل والمعلومة السهلة لمن أراد الوصل إليها بدون استثناء، وهذا يتأتى كنتيجة للتحولات الكبيرة في نمط المعيشة فقد أصبحت علاقتنا بالمعرفة علاقة لا قراءة ولا معرفة ينتج عنها طبيعياً مزيداً التشويش الفكري. نقول ذلك لأنه أصبح هنالك وهنّ وتراخي في الفهم العام، وفي أبسط الأمور، لا بل وصلت الأحوال فينا أن البعض لم يعد يفرق بين المطران والبطريرك والكنيسة والكاتدرائية!، وهذا إيضا يتحمل جزءاً منه رجل الدين في نشر التوعية بين صفوف المؤمنين، حتى وأن كانت خلال الخمسة عشر دقيقة، وهي فترة موعظة يوم الأحد، وهذا أضعف الإيمان. الوقوف في وجهّ الجهل هو القوة وهو المِتراس الذي يصدّ الهجمات التي تشنها التيارات الأخرى ضدّ الكَثْلَكَة. اليوم يجب خلق حوارات مفتوحة بغية تسهيل وصول الكلمة، من خلال مقال أو محاضرة أو ندوة، المهم هو تعريف الجموع. وهكذا نكون قد قدمنا شيئاً للجيل الحالي والأجيال القادمة، فالمكتوب والمسجل لا يُمحى ابداً. العليل يذهب إلى الطبيب، والمأزوم يُراجع حكيم، والمريض يبحث عن الدواء، وهذا عين الصواب، لأن تشخيص المرض هو أول العلاج.


المصادر :-
موقع أليثيا الإلكتروني
رسالة بالرجاء مخلصون _ البابا بندكتس السادس عشر
القاموس النقدي للاهوت - جان يافس لاكوست
التأملات في الفلسفة الأولى- رينيه ديكارت - ترجمه عثمان أمين
الخلاصة اللاهوتية القديس توما الأكويني- ترجمة الخوري بولس عواد 

116
أدب / أغَلالُ الأيَام
« في: 12:02 06/06/2019  »

أغَلالُ الأيَام


سلوان ساكو

تتعاقب الأيام واليوم هو  ذات الأمس...
ونحن سائرون في نفس الطريق دون تغير...
نحاول مراراً وتكراراً قتل المللّ وقهر الوجع
ولكن لا نحصدْ غير الفشل... حيوات تذهب وآخرى تأتي ونحنُ نحنْ... غروب ومن بعده شروق وشرق ومن بعده غروب.... محطة في أثر محطة والقطار يُعجل من سيره الأزلي على قضبان الزمن... ناس صاعدة وأخرى نازلة كل يوم دون تغير... رحل النهار وجاء الليل يسدل أستاره بخجل.... أصابع بطاطا مقلية تسقط من يدّ طفل.... امرأة مسنه تتوكأ على عصا... شاب يتحدثّ بالهاتف.... شيخ عجوز يمشي بخطًى وئيدة...فتاة تبحث عن دكتور تجميل.... رجل يغفو على المقعد... لصّ ينتظر فرصة للسرقة... شرطيٌ متأهبٌ للأنقضاضْ... جابيِ تذاكر يُريد الوصول للبيت بعد يوم مُملْ... آلاف المفردات في الحياة تذكرنا أننا أحياء... وأنها تسير دون اكتراث لأحد.
                                                                 ***
في البدء         
فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ ... ومن الكلمة أنبثق كلْ شيء وصارَ كلُ شيء... من حرفٍ سطر الأنسان سفرَ الحياة والحب والألم.... وأيضا... الرغبات والجنس... والمَحَظور والمكشوف... تركت الكلمات أحافيراً عميقة في أخاديد الزمن... وجعلت من حُبرها السري بصمةٌ في دواةٌ البوح ... من الكلمات ما يشفي ومنها ما يجرح ومنها ما يقتل ومنها ما يحُيي...مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ.... يقول المُعلم... الكلمات نَهَراً جارفْ وروافداً عذبةْ وشلالات تصبْ في بحر السنوات... الكلمات تاريخ يسطره الأبطال والرعَاعَ... وروايةٌ يَكتُبها الرواة... إنها البداية والنهاية الحياة والموت الغابة والصحراء سَديمُ الليل وقَبسَ النهار ... الوجود والعدم... أنها سارتر وبوذا... الوصايا العشرة ونشيد الأناشيد.

117
                                 دَعَوة
ضمن الفعاليات والنشاطات الأدبية والثقافية التي ترفد ولاية ملبورن الأسترالية....
يتشرف السيد سلوان ساكو بدعوتكم لحضور حفل توقيع كتابه الجديد
رقصّة الحُب الأخيرةْ (رواية). وذلك في قاعة   Mirage الأميراج  صالة  Sunrise على العنوان التالي Hume Highway Somerton 210. يوم الثلاثاء الموافق 25/6/2019 في تمام الساعة 7 مساءا.
                  حضوركم يسعدنا ويشرفنا
       
                للاستفسار الاتصال على الرقم
                0413377466 سلوان ساكو

118
 خروقات أمنية فاضحة   
بقلم/ سلوان ساكو
لمْ يُخطئ الأرهابي خالد الخياط كثيراً حين قال في إفادته للمحققين الأسترالين، إنّ لنا مؤيدين يعملون في المطارات، وأنصار موظفين على أجهزة تفتيش الحقائب، وعناصر مندسينّ في الأجهزة الأمنية المختلفة. الأخوة خالد وعامر الخياط الموقوف في لبنان الان، حيث كان الأول أيّ خالداً، يحمل قنبلة مخفية على شكل مفرمة لحم إلى متن الطائرة، التي كانت متجهة من سيدني إلى أبوظبي، وعلى متنها 400 شخص من بينهم 120 لبنانياً. ولقد تم كشف المتفجرات في أستراليا، خلال تفتيش حقيبة يد hand bag متضخمة، وتحوي وزنًا زائدًا، مِما لفتتّ الأنتباه، فسارعت السلطات في المطار إلى رفضت مرور الحقيبة، وألغى سفر الراكب، وتبين بعد ذلك أن الحقيبة كانت تحتوي على متفجرات شديدة الخطورة. هذا تم من خلال التنسيق الأمني بين استراليا ولبنان، هذا ما صرح به نهاد المشنوق، وزير الداخلية اللبناني.
في مقلب آخر من هذه الأرض المترعة بالكوارث والنكبات، والمفعمة بالدمار والقتل وسفكّ الدماء، لم تعبأ سريلانكا بتبليغات نيودلهي حول تفجيرات الفصحْ الاخيرة، فلقد حاولت الهند مراراً وتكراراً أن تلفت أنتباه كولومبو إلى أن عمليات أرهابية كبيرة  يُحضر لها من قبل مجموعات إسلامية في الداخل، تعمل بشكل علني على الأراضي السريلانكية، ولكن الاخيرة تعاطت مع هذه التحذيرات بكثير من البيروقراطية وعدم المبالاة، إلى أن وقعت الحوادث في عيد القيامة الأخير، والذي ذهبَ ضحيتها ما يربو على 300 شخص وإصابة ما لا يقل عن 500 اخرين. العقل المدبر لهذه التفجيرات الضخمة هو الأصولي (زهران هاشم) العضو الفعال في جماعة التوحيد والجهاد، أضف على ذَلِك هو إمام مسجد في العاصمة، وله العديد من الخطب العصماء على اليوتيوب والإنترنت، يُحرض المسلمين على قتل المسيحين، والغير مسلمين، وعدم الالتزام بالقوانين السريلانكية وعدم الوقوف تحت علم البلاد مستعيناً بمجموعته الآثمة في تحقيق مآربه.
الكثير من الحالات ما كانت تقع لولا تقصير الأجهزة الأمنية والأستخبارات في الدول المعنية، وهذا خطإ فادح تقوم به، حيث يذهب ضحيته مع الأسف الأبرياء والعُزل. ولمواجهت هكذا نوع من الإرهاب يتطلب قوة وحزم ويدّ من حديد، تضرب كل من تسوَّل له نفسه أن يعبث بأمن الشارع، وتخريب العيش السلمي المشترك للمواطنين على ذات الآرض، وهذا يتطلب خبرة ودراية في الجهدّ الأمني وجمع المعلومات عن الأفراد الذين هم تحت دائرة الرقابة، وتكثيف العمليات الاستباقية للأوكار والمساجد التي صارت  ارض خصبة وبيئة حاضنة لشتى أنواع الإرهاب والإرهابين، قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة ويتبع ذلك عمليات ارهابية تشهدها الكنائس ودور العبادة، خاصة بعد الخطاب الاخير للبغدادي. وهذا ليس له علاقة بالديموقراطية أو حقوق الانسان أو قمع الحريات حتى، بل يأتي في سياق الحفاظ على أمن وسلامة واستقرار المواطنين في العواصم الآمنة.   

119
ما يخصّ الأستراليون
بقلم/ سلوان ساكو 
نقترب يومياً من الأنتخابات التشريعية الفيدرالية البرلمانية للحكومة الأسترالية، في 18 أيار مايو من هذا العام. الحزبين الرئسيين المتنافسين هم كالعادة حزب الأحرار  Liberal  Party، وحزب العمال And the Labor Party. على الأستحواذ على أغلبية المقاعد في كانبيرا وتشكيل الكابينة الوزارية. سوف تكون المنافسة على أشُدها بين الأول، أي الأحرار بقيادة سكوت موريسون Scott John Morrison زعيم الائتلاف الحكومي الأن، وزعيم المعارضة العمالية بل شورتن BILL SHORTEN. سوف يتنافسان على مقاعد البرلمان الأسترالي ال 150، وبالتالي قيادة الحكومة ضمن أطار الدولة الأمة State Nation، مع تشكيلة صغيرة من الأحزاب، الخضر، أمة واحدة...الخ. المهم هو كيفية فهمّ سياسة الأحزاب الكبيرة، العمال والأحرار، والتي سوف تمسك بزمام السلطة بعد التاريخ الأخير. بالصيغْة الحالية ووفق الوقت الحاضر ومع التغيرات الكبيرة التي طرأت على الوعي الفردي العام فقدت الأحزاب اليسارية زخمها في الشارع بشكل عام، خاصة بعد تفكك المنظومة الأشتراكية في الأتحاد السوفيتي السابق عام 1991، وباتَ الحديث عن حقوق البروليتاريا والفلاحين والطبقة العاملة والشيوعية العالمية والأممية الرابعة أو اختها الخامسة التي دعا لها تشافيز  وقتها مجرد أضغاث أحلام لا غير، حتى الجيل الأحمر من الرفاق القدماء ذهب مع الريح دون عودة. والماركسية ذاتها لم تعدّ موجودة غير في الجامعات وأقسام الدراسات السياسية والتفكير الفلسفي والمنطقي فقط، بمعنى أدق أنها لم تعد موجودة في حديث الطبقة الفلاحية والعمال الكادحين، ومن المستحيل أن تجد اليوم عامل شاب يعمل في مصنع أو معمل يتحدث في فترة استراحته، Break time، عن فائض القيمة، واغتراب العامل، والقيمة المتبادلة، وظروف العمل القاسية التي أوجدتها المجتمعات الرأسماليّة، ووسائل الإنتاج، وأشتراكية السوق، كل هذا وغيره لم يعد مطروحاً اليوم، لأنه وببساط كلام عميق ونهج فلسفي دقيق ولا يتأتى إلا عن طريق قراءات كثيرة ومُعمقة، لكتب مثل، رأس المال، أو البيان الشيوعي، أو العمل المأجور ورأس المال، الإيديولجية الألمانية، والكثير من أمهات الكتب والمجلدات الضخمة والتي كانت متداولة في القرن الماضي. الجميع اليوم يفضل السرعة، في الأكل، في الأفكار، في السياقة، في الأتصالات، في المواصلات، في كل شيء بات هنالك سرعة فائقة، حتى التواصل والحديث مع الآخر بات صعباً في ظل الأجهزة الشخصية المحمولة، لم يعد وارد مطلقاً الرجوع إلى أفكار الخمسينيات والستينيات، كل هذا ذهب مع ذلك العصر، كل عصر له روحه، كما يقول هيجل. حزب الأحرار أو الليبراليون الجدد حسب السياق التاريخي، هم أكثر انفتاح وتقدم على الأفكار الحداثية العصرية، مبادئهم الأجتماعية واضحة المعالم، سهلة المنال إن تعاملوا معها بصدق وجدية، وليس كلام فارغ في موسم الأنتخابات فقط، وقرع على طبول المصالح. يقول جان لوك المؤسس الفعلي لليبرالية، بأن لكل أنسان الحق الطبيعي في الحياة والحريّة والتملك. يتبنى الليبراليون مجموعة من الآراء مثل، حرية التعبير، حرية الصحافة، الحرية الدينية، التعامل مع السوق الحر، الحقوق المدنية، المجتمعات الديمقراطية والحكومات العلمانية  بطيفها الواسع. حتى بالنسبة للدين، المسيحية، الاسلام، اليهود، وغيرهم الهندوس البوذا، الليبرالية تقف على مسافة واحدة من الجميع، وهذا يحفظ كرامة الدين والعمل في الحقل السياسي في ذات الوقت، بعيدا عن النفاق والتزلف، التي تمارسه أحزاب العمال والعمل واليسار الطفولي في هذا الوقت، مثل جاسيندا أرديرن.
الأنتخابات على الأبواب ويجب على الناخب الأسترالي التحلي بالحكمة والمعرفة لكي يعرف كيف يدلي بصوته في صندوق الأقتراع، فصوت واحد يؤثر على مجمل الأصوات في النتيجة النهائية، فلا يدعي أحداً حاصل على الجنسية الأسترالية أنه غير معني بهذه الأنتخابات، الكل معني والجميع مسؤول عن مستقبل وتطور هذا البلد، الذي لم يعدّ لن مأوى أخر دونه.
 في النهاية لم يكن يتوقع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أو حزبه في يوم، أنه سوف يخسر بلدية أنقرة وإسطنبول، ولكن الناخب التركي قال كلمته النهائية بعد تردي الأوضاع الاقتصادية وإنهيار الليرة التركية، وبدأ الأنحصار والتراجع لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ملحوظ للجميع.

120
لن تتوقف المذابح في ظل هذه النصوص
بقلم/ سلوان ساكو
في الشهر العاشرّ من عام 1995، أقبلَ رجلٌ يُغطي الشيبّ رأسه بتجاه مقر الحزب( حزب البعث)، وطلب مقابلة أمين السر الفرقة، والذي يكون عادة بدرجة عضو شعبة، بعد هُنَيْهَةً قصيرة خرج  الرجل من الغرفة وذهب، على الفور أستدعى المسؤول كل الرفاق الحاضرين، وطلب منهم مراقبة بيت هذا الرجل المسنّ من الساعة الثانية عشر ليلاً وحتى بزوغ الفجر، استغرب الحاضرين من هذا الأمر، فهذه العائلة معروفة في المنطقة وقديمة، ومسيحية مسالمة تحظى باحترام أهل الحيّ وساكنيه، فجاوبهم هذا المسؤول أن بيت الرجل تعرض للرشق مرتين خلال أسبوع، مرة بالطماطة، والثانية بالحجارة، مما أدى لكسر زجاج بيته وسيارته البرازيلي. بعد مراقبة مخارج ومداخل الحيّ على مدار أربعة  ليالي، تم أخيراً  إلقاء القبض على شخصان ثالثهم قُيضَ له الهرب، بعد جلبهم الى مقر الحزب اعترفا أنهم هم من كان يضرب بيت  داؤد المسيحي، والسبب في ذلك كان نصرة أهل الأسلام والمسلمين في حرب البوسة والهرسك والكروات والصرب. بعد ذاك تبين أنهم مجموعة من خلية كانت تخطط لفعل المزيد.
حين سُئل منفذ مجزرة مسجدي النور ولينوود في كرايست تشيرتش في نيوزيلندا، المتشدد الإرهابي بيرنتون هاريسون تارانت والذي تسبب في مقتل 50 شخصا وإصابة 50 آخرين عن الدافع وراء الجريمتين قال، (أنا أكمل ما بدأه أندريس بيهرينغ بريفيك)، وهذا الأخير هو يميني نرويجي متطرف، إرتكب هجمات النرويج في عام 2011 والذي ذهب ضحيتها 76 قتيل بينهم الكثير من الأطفال. وبرر  بيرينغ برييفيك الذي يلقب نفسه  (قائد فرسان الحق) فعلته حينها  (أنه عمل وقائي ضد خونة هذا الوطن).
لا تجلب الأفكار  الراديكالية الأصولية  المتشددة أو السلفية المتطرفة غير  الأفكار المصبوغة بأوحال نتنة هدامة تكون بمثابة إرهاص أولي لعمل إرهابي لا يلبث أن يؤول في النهاية إلى فعل تدميري يؤدي إلى قتل أُناس أبرياء، لا ناقة لهم ولا جملّ في كل ما يحدث في المطبخ السياسي والديني، والذي يتلاعب به أساطين رجال السياسة والدين. ولكن هذه الأفكار التدميرية لها ما يبررها لمن يُريد توظفها في سياقها الديني المُسياس، وخاصة النص المؤول والذي تجدّ دائماً من يُكرس له قلمه في تأجيج الصراع وزرع بذور الفتنة وتكفير  الأخر وأستثارة النوازع الحيوانية في أنسان كَلِيم بالأساس، فيجد المتطرف والمتشدد فرصة في هذا النصّ وذلك الكتاب من تبريرات في مصادرة حق الآخرين في العيشْ، دير ياسين، مجزرة نيوزيلندا، المذابح الفضيعة في سيرلانكا، كل هذه تجليات لشئ واحد هو تأويل مختلف للنصوص الدينية، خاصة أذا كان النص ذاته يتحمل هذا التأويل، فيخرج من سياقه وتاريخ كتابته، ومضامين طرحه الأساسية، ويُركب في مشهد آخر خارج  السياق التاريخي للحدث ويوظف خطئاً للحاضر، فيصبح هذا النص قنبلة موقوتة لا تحتاج غير سحب الصاعق لتنفجر في أية ساعة مع أقتناع تام أن الذي يفعل هذا العمل أنما يقترب من، الله، الرب، يهوه، فالإرهاب والقتل واحد وأن تعددت الصور. لم يأخذ كتاب مكتوبً بالغة العربية في هذا المجال كما أخذ كتاب ‫الجهاد الفريضة الغائبة، حيث يعد هو الأساس الفكري الأول لتنظيم الجهاد في العالم العربي والأسلامي وبنيانه ولبناته الأولى، ‬وهو باكورة الأفكار الجهادية التكفيرية، ضم في دفتي الكتاب كل أقوال العلماء التي يستدل بها أهل الجهاد ليخرج الكاتب بخلاصة تتناسب ومقاييس الفكر الجهادي‫. الكتاب تأليف الشيخ المهندس محمد عبد السلام فرج، والذي أعدم في 1982 في قضية اغتيال السادات حيث ‬تأثر هو نفسه بكتابات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وابن تيمية.‫ الكتاب يقع في 32 صفحة من الحجم المتوسط، ولكن وقعها كبير على من يجد في نفسه ‬مُسَوِّغٌ‫ للجهاد. جاء في المقدمة ما يلي ( والذي لا شك فيه هو أن طواغيت الارض لن تزول إلابقوة السيف ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم، ص2 ط 81 )، الكتاب متوفر بشكل كبير في المكتبات، أو حتى على النيت PDF وهو غير محضور لا في مصر ولا غيرها. بعدة فترة من صدور  الفريضة الغائبة ردّ الدكتور فرج فودة بكتاب أسماه الحقيقة الغائبة، ‬قامت فكرة الكتاب على ما اعتبره فودة خطايا للحكم شهدتها فترات الخلافة الراشدة والأموية والعباسية، وتقديمها حقائق غائبة سعى الإسلاميون إلى إخفائها عن الناس والأكتفاء بتقديم الوجه المشرق لتلك الفترات، كما خلص إلى أن الإسلام دين لا دولة، والشريعة وسيلة لا غاية،‫ على وقع هذا السجِال وهذه الأفكار المثيرة للجدل والخطيرة  تم أغتياله عام 1992. ‬
‫التعقل والتبصر في القراءات لأيَّ موضوع كان سواءً ديني أو سياسي أو فلسفي أو أجتماعي، يتطلب عقلاً نقدياً جدلياً مركباً، حتى وإن أصطبغ بصبغة ماركسية ديالكتيكية جدلية لا مشكلة، فمع هذا تستقيم الحالة المطروحة للنقاش، أما أن يتم قراءة موضوع ما أو نص ديني من زاوية واحدة فقط ويتم الأخذ بها فهذا عين الخطر بذاته‬، الآيات القرأنية التي تأُخذ بمعزل عن سياقها التاريخي والأجتماعي  وظرف وجودها وتفسر تفسيراً خاصاً بعيداً عن روح ذلك العصر تكون بمثابة بلاءً على الأمة والشعوب‫. من هذا المنطلق يجب تغير طرق التفكير   وتعميق المدارك وطرح أفكاراً جديدة، بحيث تكون هي الدافع في خلق وعياً جديداً وتيارات ليبراليا تحاكي قيمة الأنسان ذاته، بغض النظر عن الدين أو القومية او المذهب أو العرق. إن لم يكون هنالك تغير في مُجمل القراءات السطحية للنص الديني  سوف نشهد الكثير  من المذابح والمجازر  والتفجيرات والقتل باسم الدين، ولن نتمكن من تخطي هذه العتبة الدامية بعد ذلك ابداً، وفي سبيل ذلك تسيل أنهاراً  غزيرة من الدماء البريئه، لأن الوصول إلى ذلك يكون سهل في ظل هذه النصوص التكفيرية الجاهزة للأستخدام في كل زمان ومكان. ‬

121
المنبر الحر / الكاهنّ القاتل
« في: 07:54 12/04/2019  »
الكاهن القاتل
بقلم/ سلوان ساكو
(بعد أن زارني يوحنا بولس الثاني في السجن، فكّرت في الأمر ودرست الإنجيل مطوّلاً، وها أنا الآن أعرف الكتب المقدّسة أفضل من كثيرين آخرين. فإن رحّب بي البابا، سأصبح كاهناً وأحتفل بالقداس إن أرادني أن أفعل).     محمد علي آغا، 17 تموز 2017.
كان العام 1981 وفي الثالث عشر من أيار، تاريخ غير عادي بالنسبة لقداسة الحبر الروماني الأعظم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، مع القدر مرسوم على يدّ القاتل التركي محمد علي آغا، البالغ حينها من العمر 23 عام،  حيث عالج البابا بأربع أطلاقات قاتلة من مسدسه في ساحة القديس بطرس بدولة الفاتيكان. استقرت الرصاصات في الأمعاء الغليظة والأمعاء الدقيقة وقد نقل البابا إلى مشفى الفاتيكان، ثم إلى مستشفى جيميلي في روما بعد أن فقد كمية كبيرة من الدم. كان ذاكّ اليوم، أي يوم عملية الأغتيال، ذاته هو يوم عيد سيّدة فاطيما في البرتغال. علامات إستفهام كثيرة، دارت حول الشخص، من جنده، من دفعه إلى القيام  بعملية أغتيال أرفع شخصية مسيحية كاثوليكية في العالم، لِحسَاب من يعمل، من وظفه، من دعمه، والكثير من الأسئلة المحيرة، بانَّ جزء منها والآخر ظل طي الكتمان والنسيان حيث يحيط بذلك سرية شديدة لم ينجح أحدٌ في تبديده إلى الأن. وهذا ما فتح باباً أمام الخيال لينسج روايات عدة. صحيح إنْ علي صرح فيما بعد قائلاً،( أن الدافع وراء عملية اغتيال البابا هو بإيعاز من المخابرات السوڤييتية، لدور البابا في دعم تنظيم“سوليديرتي”البولندي المناهض للشيوعية). ولكن ظلت إلى اليوم الكثير من الأسئلة بدون أجوبة. تغيرت حياة علي آغا جذرياً حينما زاره البابا الراحل  يوحنا بولس الثاني في السجن بعدما  قبضت عليه السلطات الإيطالية وحكم عليه بالسجن المؤبد، منذ عام 1981. وأعلن في قرار مثير للجدل في حينها  أنه قد سامحه، حيث قال( ما تحدثنا عنه يجب أن يبقى سرًا بيني وبينه، تحدثت معه باعتباره شقيق، وقد عفوت له ولي كامل الثقة في ذلك). عشرين دقيقة فقط كانت كفيلة بتغير كل شيئ للأبد. ظل علي قابع في السجن الإيطالي حتى حلول عام 2000، بعدها أطلق سراحه لِيُحاكم في تركيا  عشر سنوات أخرى لقتله الصحفي التركي عبدي ابكجي رئيس تحرير صحيفة ميليت. وفي عام 2010 اطلق سراحه. طالب حينما كان في السجن بالجنسية البولندية التي هي جنسية البابا، ولكن لم يقبل طلبه. تقول بعض المصادر أنه  اعتنقَ علي آغا الكاثوليكية، بعدما قال أنه رأى اهتمام البابا بوالدته وإخوته وسؤاله عنهم. أهو مجنون أم عاقل الجواب صعبّ، ولكن يبدو أن الرجل تغير خلال فترة الثلاثين سنة الاخيرة، حتى أنه صرح قائلاً،( اريد العودة ليوم واحد فقط الى روما والصلاة على قبر يوحنا بولس الثاني لأعبر له عن امتناني الشديد لصفحه عني). وهذا ما فعله لاحقاً.  أملٌ يتسرب إلى نفسٍ ضاقت بالكرب واليأس لقاتل مأجور تسلسل الندم أليه وبات ضميره  يؤنبه.
سواء كانت هذه التصريحات صحيحة أم خاطئة، فمن المؤكد أن الرجل تغير، أو تغير مفهومه على الأقل نحو أخيه الأنسان، أيّ أنسان كان، وأثرتّ عليه الزيارة البابوية التاريخية والروحية في السجن إلى الأبد.
أهم شيء يمكن أن يفعله المرء أو يدركه في حياته هو أن يصبح الأنسان الفرد مسؤولاً عن نفسه وتقرير مصيره وصناعة اتجاهاته التي يراها مناسبة له وللأخرين، دون مصادرة حقوقهم وحياتهم، تنبع تلك الأفكار من مكانا قصيا في ذاته ونفسه، تتجلى على أشكال عدة، تتراءى له في رؤيا أو رسالة أو خطاب معين من شخص مجهول، أو على أي شكل كان، المهم هو فكَ الشيفرة الموجه. كان قول المعلم عظيم  وحكيم حين قال، ( اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ).
في النهاية، ربُما تكون معظم الأشياء والأكثر أهمية منها أنّ تأتي بعد تجربة مريرة ومؤلمة وصعبة، أيَّ لابد من التجربة والمعاناة لنتعلم منها، وأخذ العبرة من وحيها.

122
حركة المجتمع وأزمة المهاجرين
بقلم/ سلوان ساكو
أحد أكثر الأسئلة ألحاحاً وحرجاً وإثارة في الوقت الراهن والتي تدور رَحَاهَا اليوم وبشكل خاص من داخل حركة المجتمع المتنقل، أيَّ المهاجرين الجُددْ الغير مستقرين من ناحية القيمّ الفكرية والعادات الأجتماعية، حيث أرُيد في هذا المقال أن أفكّ طلاسم كل هذا التشابك بقدر الإمكان  فيما يتعلق إذا كان لكل هذا منطق ثابت تتمحور حوله، أو قيمّ ثابتة لها سيميائية ذاتها مع الفرع الأصل أو البلد الأم القادم منه المهاجر الى البلد الجديد، أو أنها متذبذبة غير مستقرة في مكان.خاصة أن الصدام بين الجيل الجديد والقديم داخل المشهد الواحد شهد عدة انفجارات في المرحلة الأخيرة
 كشف عن الفجوة المردومةرْدُومٌ تَحْتَ التُّرَابِ  بين الاحتياجات الواسعة ك
 في كل حقل من حقول المعرفة هنالك وعي أبستمولوجي معرفي بروح المرحلة، بمعنى أدق حين كنا في العراق كان هنالك ظرف ووضع إجتماعي وحياة تنبع من صميم الواقع تطلبتها روح تلك المرحلة سواء كانت سلبية أو إيجابية لا يهم ذلك، هذه المرحلة لا تنطبق بأيّ شكل من الأشكال مع أي مرحلة بعدها أو قبلها، وهذا كله لا يتأتى ولا يُفهم ألا عن طريق التفكير  وأسلوب طرح الأفكار وجودياً، أيّ فلسفياً. عصرنا هذا هو عصر الاكتشافات بدون منازع، وأهم شيء هو أكتشاف الأنا أي الذات الفعالة الواعية الراغبة في التعلم، إلى جانب ذلك، ما تم إكتشفه من الفرص والخيارات الشيء الكثير، وإن كثيراً مما كان يفرض فرضا صار اليوم موضع خيار، وإن وجود حتميات وضغوط وخيارات كثيرة تلزمنا باللجوء إلى التفكير السليم حتى لا نصل إلى طُرق مسدودة لا تحمد عقباها. من المؤكد أن تغيرات جوهرية طرأت على العائلة العراقية المهجرةّ أو المُهاجرة، وأن هنالك ثمة حقائق مأساوية مع الأسف تميل بطبيعة الحال الى النكوص تواجه شريحة لا بأس بها في المجتمع، أزدياد نسبة الطلاق، العنف الأسري، الخيانة الزوجية، تعاطي المخدرات، أدمان على الكحول والقمار، كل هذا يقودنا بالضرورة إلى فرزّ مستويات أخرى من الوعي والذي يعطي تغيرات بنمط العيش والسلوك والأخلاق للفرد باعتباره  جزءا من الجماعة والواحد يؤثر على الكل، الشاب الذي يتعاطى المخدرات يؤثر على الوالدين بالضرورة، والأب المُدمن على القِمار والكحول لابد أن ينهار أساس بيته في النهاية وأن أخذ وقتً طويل، الزوجة التي سِئمت من زوجها وراحت تبحث عن شاب يصغرها بسنوات تُعوض به ما فاتها من عمر تهدم كل بُنْيَان أسري مَّرْصُوص مُشيد منذُ أعوام، سوف نطلق عليها تسمية مشاكل العصر . في الفترة الأخيرة أزدادت وتيرة تلك المشاكل ومن جميع الزواية، الحياتية، الأسرية، حتى الدينية، خفة أواصر العلاقات الأجتماعية بشكل ملحوظ، وباتَ التذمر يصدر من الكل، ربّ الأسرة، العامل، رجل الدين، صاحب العمل، حتى من لا عمل له ويعيش على مساعدات الحكومة يتذمر، مع العلم حين كان في العراق وكان في ذمةّ العوز  والحاجة لا يصدر منه أي تذمر ويرضى بما هو موجود، الأم الأب الكل يتذمر ويشكي، بسبب  منطقي ووجيه في مرات كثيرة،  وبدون سبب في كثير من الأحيان، مجرد مشاكل بسيطة وعادية تتواجد وتدور مع وفي حركة المجتمع، سرعان ما تتحول لنار مستعرة تأكل الجميع.
في البلد الأم، كانت هنالك قيم وأخلاق وعادات وتقاليد متوازية في خط أفقي وعمودي مع المجتمع المحيط بِنَا، وهذه التشكيلة تستمد شرعيتها من جملة قوانين وتشريعات منصوص عليها، ويعمل الناس وفقها ويستمدون أيضا قوتهم منها، الدين هنا عامل مهم في تشريع القوانين. كل هذا تغير مع التغيرات الجيوسياسية التي طرأت على البلد الأم أو المركز، فانتقلنا من مكان دائم الى محطة وقتية، على أمل الأستقرار في بلد ثالث يكون المحطة النهائية والأخيرة من سفر ترحالنا الطويل، وهنالك نبدأ حياة سعيدة ورغيدة حسب أمانينا والحلم الوردي الذي يداعب مخيلتنا، محاولين تناسي كل ذلك الإرث من القيم والعدات والأخلاق المعلقة على كهولنا كالنيرّ الثقيل، نحاول قدر المُستطاع التخلص من تلك المرحلة، متناسين أن هنالك في تفكيرنا فجوة كبيرة من اللاوعي ومخزون معبأ من الذكريات لا يمكن ردمها بسهولة، وأننا موسومين بروح تلك المرحلة القديمة التي نهلنا من مُعينها في وطننا الأم ولا يمكن تجاوزها بسهولة أبدا لكونها مترسخة في اللاشعور، وهنا نسقط في مطبّ أخر دون أن نعلم، وهو أن لكل جيل من الأجيال له هويته وخصائصه وقيمه وأخلاقه، ونحن حين أنتقلنا من البلد الأصلي العراق،  وأَحَطْنَا الترحال في دولة ثانية قبل المحطة النهائية، ولتكن سوريا أو الأردن أو تركيا مثلاً، قد خلفنا وراءنا سنوات قد تصل الى عشرة  سنين أو اكثر،  تشكلت بها مرحلة تكوين الصبي أو الشابة الذين انتقلوا إليها وهم صِغار بعد، فتبلورت لديهم أفكار وقيمّ جديدة متماهية مع الوضعية الراهنة غير تلك التي كانت لوالديهم في البلد القديم، فيظهر  لدينا هنا الأغتراب أو التباعد بين الآباء والبنين، ولنقول قطيعة إبستمولوجيا، وهذه تكون بمثابة إرهاصات أولية للإشكالية التي ما تلبث أن تزداد مع الأنتقال الى المرحلة الاخيرة والمحطة النهائية، أستراليا، كندا، أمريكا، أوروبا. هنُالك التعرجات ودروبّ الحياة الموغلة في الفردانية وتقديس الذوات من ناحية، والمادية والنظام الرأس مالي وضغوطات الحياة ومتطلبات العائلة التي ما تنفك أن تزداد يوماً بعد أخر من ناحية آخرى لابد وأن تخلق صيغ جديدة من الوعي والإدراك والفهم، هنا وبهذه المحطة الحساسة أستوجب خلق أدوات جديدة أيضا في التعامل ومساحة أوفر للإدراك لردم الهوة بين الأجيال وفهم فكرة تعاقب العصور عبر التاريخ. فعصر الزراعة مثلاً خلق أستقرار نسبي لدى القبيلة البدائية، وهو أنتظار المحصود وقِطاف الثمرات، مما أعطى فرصة للبقاء والمكوث في ذات الأرض، بمعنى الأنتماء للمكان، موسم بعد آخر في تعاقب أزلي مع حركة الطبيعة، صيرورة خالدة،  هذه الطبيعة كانت رحيمة في أحيان وفي أحيان ثانية كانت قاسية على الناس، فيضانات، سيول، أمطار، بردّ قارس، قَيْظٌ شَدِيدٌ، كل هذا أستدعة بدوره لمفهوم الإله الحامي المحتجب أمون، من المخاطر والكوارث والتضحية من أجله، فبرزت فكرة القرابين وطقوس تقديمها، فظهرت فئة من الناس عليها هذا العاتق فبرز صفة الكاهن، جمع كُهان، وهؤلاء توجب عليهم إبتكار لغة خاصة بهم لا يفهمها العوام من الناس فكانت لغة المعابد ورموزها، ومكان خاص للتعبد وتقديم القربان وطقوسه، كل هذا لإرضاء الآلهة، والتي بدورها سوف ترضى عن الأنسان وتحميه من الكوارث والأمراض، ومنطقة الهلال الخصيب كانت مترع خصب لهذه الممارسات والطقوس على طول حقبّ زمنية طويلة. حقبات من دوران الحضارة تغير فيها وعي الفرد ووعيّ الجماعة فكانت الديانات الإبراهيمية الثلاثة وهكذا دواليك. يقول الفيلسوف الألماني هيجل في هذا الصددْ، أما من ناحية ثانية فإن التاريخ الحقيقي للانسان لا يبدأ الا مع ظهور الوعي، إذ أن الفكر الأسطوري للمجتمعات، ينتمي الى ما قبل التاريخ الانساني .لذلك كان انفصال الانسان عن الطبيعة هو نقطة بدء التاريخ ” الدراسة الفلسفية للتاريخ تعني إذن، دراسة التاريخ من خلال الفكر، لأن التاريخ هو تاريخ الانسان و الفكر جوهري بالنسبة اليه، فهو الخاصية التي تميزه عن الحيوان ” ( هيجل،العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، ط 3 2007.ص 41). من هنا نسطيع أن نفهم التفاوت بين الجيل والآخر على مبدأ التعاقب مع الأخذ بروح العصر وتغير المرحلة التاريخية التي تُعاقب هذا العصر. فما كان ينفع في الماضي لا يصلحْ الان، وما يصلح الأن لا ينفع في سياق الماضي، من هذا نقدر أن نقول أن ثمة مشكلة في الفهم العام وعدم إستيعاب الجيل الجديد وفقّ منظوره هو لا من زاوية الآباء والأمهات الذين لم يقدروا أن يواكبوا روح المرحلة التي مرَّ ويمرْ منها الأبناء. ما أهمية هذه الأسئلة بخصوص حركة المجتمع والناس والمهاجرين والغاية من ورائه الأن؟ هي ببساطة تساعدنا في معرفة مكاننا، إنه يعكس مساراً لفهم احوال الناس والتعامل بتعقل مع الجيل الحالي والقادم وفق رؤى منفتحة والتعاطي معهم بتبصر ودراية وحكمة تحمل معها روح المرحلة، لتفادي قدر الإمكان التصادم والتشنج بين الأجيال، والتقليل قدر المسُتطاع من الحرب المستعيرة اوراها بين الآباء والابناء والتخفيف في ذات الوقت من على كاهل الوالدين الذين ما فتئوا يحملون وزرَّ أبنائهم في الدخول والخروج من البيت ليل نهار. كل هذا مطلوب اليوم أن نضعه تحت مجهر حياتنا، فلا أحد مُحصن من المشاكل المُحدقة بنِا، فالشرور لا بد أن تأتي ولكن الويل من تأتي على يده. يجب أن نُعيد صياغة مفاهيمنا من جديد تحت تفكير أنساني والذي هو أول الأبجديات في قاموس التفكير الراقي، وهو تفكير رحبّ رفيع يسعْ الكل، يعلو على جميع صنوف التفكير، إنه يرتقي بصاحبه إلى وعي أعلى، وتطوير الجنس البشري ضمن حركة تناغمية ترتبط بمجتمع متنوع الثقافات والأعراق كأستراليا على سبيل المثال. في غضونها يتبلور إدراك الإنسان المثقف ويتعامل بتأني ودُربةَّ  وحكمة مع المشكلة، ويواجه دروب الحياة الوعرة وهو متسلح بأفكار تنويرية يستثمرها لصالح بيته ومجتمعه، ويصير الأب صديق الأبن، والأم رفيقة أبنتها، ويملأن الفراغات التي قد تولدها  المناكفات والمماحكات والمجاكرات في البيت الواحد، ورويداً رويداً تخف الأزمات والصراعات المنزلية وتتلاشى بسعة الصدر وتفاهم الجميع في نهاية المطاف. 

123
حقاً كانَ المرحوم فارس ساكو  قلم حرْ وجريء، خسره القراء.
الله يرحمه ومكانه الجنة ويلهم أهله وذويه من بعده الصبر والسلوان... أمين. 

124
هل تستحقّ الموصل مطرانها الجديدْ.
فعلَّ حسناً سيادة البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل الأول ساكو، بطريرك الكلدان، حينا عين الأب نجيب موسى الدومنيكاني، مطرانا للموصل وتوابعها، وصولاً لعقرة والزيبار. وهذا شيئاً جيد ومَثْنِيٌّ عليه سلفاً، خاصة بعد الإنهاك الذي شهدته المحافظة في وقت تنظيم الدولة الإسلامي داعش وقبل داعش حتى، فلاَ يَحْسَبَنَّ احد أن وصول داعش إلى الموصل والمكوث بها زهاء ثلاثة أعوام ونيفْ، جاء عن طريق الصدفة ونظرية المؤامرة، وهذا موضوع أعتقد أني عالجته في مقال حينها. سيادة المطران مار ميخائيل نجيب، مطران أبرشية الموصل وعقرة للكلدان، شخصية معروفة في الأوساط الموصلية، ليس فقط على صعيد الديني والكنسي، بل أيضاً كان له حضور قوي وبارز على المشهد الثقافي للمدينة، حيث أتذكر أنه افتتح قاعة كبيرة لحتضان الفعاليات الثقافية، من عروض لرسوم ولوحات فنية، وعقد ندوات تثقيفية، وطبع كتب تعتني بشتى المجالات، في كنيسة الساعة للأباء الدومينيكان اللاتين في الساحل الأيمن من المدينة. وكل هذا جاء لتأكيد على دور المسيحيين وريادتهم في المجال الأنساني والثقافي والعيش المشترك. حصل هذا طبعاً قبل الأحتلال، وأيضاً كان له دوراً بارز في أنقاذ الكنيسة ذاتها من السقوط بفعل المياه الجوفية ( النزيزّ) الذي بدأ يأكلها من تحت، بعد أن تعثر على أجهزة الدولة وشعبها الهندسية أنقاذها من الهلاك. ويضاً كان لسيادته دور فعال في نقل أمهات الكتب الثمينة والنادرة إلى مناطق آمنة قبل أن تقع بيد عناصر داعش، وكان له بصمة وحضور لافت في ترسيخ قيم التعايش والتسامح، وتضميد جراح ضحايا حرب داعش من المهجرين والنازحين، ويَقْتَضِي كل هذا جهوداً مضنية وإيمان حقيقي برسالة السيد المسيح، وقيمْ الحقّ والتضحية، وبذل الذات من أجل الأخرين. ولكن في سياق ثاني ضمن ذات الإطار لمدينة الموصل بالذات، وهذا السؤال لربما  يراود الكثيرين، هل هناك أمل حقيقي في أستعادة المدينة لوضعها الطبيعي كالسابق. فكما يعرف الجميع، لم يعدْ هنالك تواجد مسيحي ألا لِمَاماً،  وهذه حقيقة لا يغفل عنها احد. الحديث عن عودة المكون المسيحي ميئوس منه، فالموصل الأن مُفرغة من أهلها الأصلين، أيَّ ( المواصلة الأقحَاحْ ) المسلمين والمسيحين على حدّاً سواء، فهؤلاء جُلهمّ حملة شهادات وأغنياء، المسلم توجه إلى دول الخليج المجاورة، أو إلى المملكة المتحدة، والمسيحي هاجر أمَّ إلى السويد أو كندا أو أمريكا، الباقين في الداخل على كثرتهم همّ عرب القرى المجاورة للموصل، وهنا تكمن مشكلة المدينة الأزلية، والتي كرسها بشكلها الواسع وأعطاها شرعية ونفوذ كبير صدام حسين وحزب البعث، حيث ومن أعوام  السبعينيات نقل من هو في درجة عضو فرقة وصاعداً من الريف إلى المدينة، فأصبح لهم مقرات حزبية، ومكاتب فخمة، وسلطة واسعة في دولة البعث، ثم كرت السبحة، وتعاظم عددهم في تزايد مستمر إلى أصبحت مشكلة يصعب حلها. هؤلاء وغيرهم كان لهم دور سلبي فيما بعد وعلى المدى الطويل، تجلت في النهاية بظهور تنظيم الدولة الإرهابي وبسط سيطرته على كامل مدينة الموصل في حزيران/يونيو عام 2014 من هذا الخليط القروي الجاهل والبائس. طبعاً هذا لم ينتهي بتحرير المدينة ولن ينتهي حتماً، فالمسلسل طويل، وفصوله عديدة، لربما نحن في المشهد الثاني أو الثالث منه. مع كل هذا الطيف الهلامي والمُتذبذب على مسرح الأحداث نسأل، كيف للمسيحي أن يعيش في وسط هذه الغابة، القانون الوحيد الذي يحكم الجميع هي الفوضى، الدمار  والخراب منتشر في جميع الأطراف، هل بمقدور المطران أو حتى غبطة البطريرك فعل شيئ مع معاول الهدم الكثيرة التي تواجههم باستمرار وكل ساعة، هل يتسنىَّ للأسقف الجديد تصليح وإعادة إعمار ما هدمه الأوغاد، فالبناء يأخذ وقتً طويل بعكس الهدم، وحتى لو تمّ أحياء وإعادة بناء الكنائس والأديرة، فأين الناس التي تؤم هذه الدور. العودة إلى ما كان عليه الوضع في السابق صعب أن لم يكن مستحيل، مع هذا الأنفلات الأمني، وغياب كلي لحضور وتواجد الدولة، وجيوب داعش الموجودة في المدينة بعد، والمؤيدين والمناصرين لهم إلى حدّ الأن. المسألة ليست في إعادة البناء والإعمار، مكمنْ المشكلة  في الجوهر، هو نوعية الوعيّ الذي تتعامل معه، والعقلية ذاتها، ومن أيّ فكرة لمعدن قُدتْ، هذا يجب أن يأخذ بالحسبان. إن لم تتغير عقول أهل المدينة ويتركون ورائهم فكرة الخلافة السخيفة والإسلام السياسي والأحزاب الأسلامية التي تذر بذور الحقد والكراهية والشر، لا ينفع شيئ مع الإصلاحات، وكل الجهود تذهب هَبَاءً مَّنثُورًا دون طائل. يجب بذل جهوداً جبارة من أجل خلق  صورة مغايرة للماضي الرديئ العفنّ، وغرز شتلات لعقلية منفتحة على الآخر، وتوظيفها في سُبل تعزيز التعايش السلمي بين كل المكونات الموجودة، وهنا يكمن دور رجال الدين من جميع الطوائف والديانات والمذاهب، وبعده يأتي دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، بعد ذلك دور المواطن ذاته في نبذّ خطاب الكراهية والعنف والحقد حتى وأن صدرت من مئذنة جامع، إن لم تخلعّ الموصل حلتها القديمة وأسمالها البالية وترتدي آخرى جديدة لا ينفع معها بداية جديدة، هنا سوف تتشكل اللبنات الأولى في بناء مدينة عصرية حديثة تستحق مطرانا جديد. 

125
هل طُعنَ الكاردينال في الظهرْ
بقلم/ سلوان ساكو
أنقسمَّ الشارع الأسترالي بين مؤيد ورافض لتداعيات قضية  الأسقف الكاردينال جورج بيل كمَا لم ينقسم من قبل. وقد كتبتُ في مقال سابق ملابسات الواقعة الكبيرة، والفجوة التي أحدثها زلزال الإدانة بحق الأسقف. ولستُ هنا في محل الدفاع عن بيل، فقد قُضِيَ الْأَمْرُ، وحصل ما حصل، وإلى أن تثبتْ محكمة الأستئناف العكس، وهذا لربما يتطلب مجهوداً مُضاعف من البداية لصياغة قرار ينفي الأول، والصادر بحق المتهم، وهو ممكن ولكن ليس سهلاً، يجب أن يتحلى المرء  بحسن الظن، ويضع الأمور في نصابها كما يجب، فالموضوع ليس سهلاً كما يظن البعض.
تتداول قضية أو لنقل (فضيحة) الكاردينال جورج بيل في الكثير من الأمكان، التلفزيون، الراديو، الفيس بوك، العمل، المحطات الفضائية، والقاسم الوحيد المشترك بينهم هو عدم الأتفاق على رأي واحد، هل هو مُدان أم بريء؟، هل المحكمة أنصفته أم ظلمته؟، هل هو فعلاً مُعتدي على أطفال صِغار، أمّ هي أتهامات باطلة لفُقت له لأنه وقف ضد زواج المثليين Gay، وتشريع جملة قوانين خاصة بهم؟. والسؤال الأهم والأخطر  من كل هذا، هل هيئة المحلفين Jury كانت مع الحق Right أم كانت مع العدل  justice، والفرق كبير بينهم؟، أمّ هي مارست حقها القانوني فقط، وبمسؤولية أتجاه الشعب والمدعين بالحق المدني!. أسئلة كثيرة ومتعددة تدور في هذا الفلك. لو تمعنّ المتابع لهذه الحادثة، لتلمس بسهولة أصابع هيئة المحلفين على الملف، وترجيحهم ميزان العدالة لكفة الخصوم فثبتت الإدانة القاطعة، وهنا مفتاح القضية. تتشكل هيئة المحلفين في الدول التي تعمل بهذا النمطْ من طبقات الشعب لتشارك في البتّ في القضايا الكبيرة، تتكون من 6 أو 8  أو 12 شخص، حسب نوع القضية وخطورتها، ولا يشترط بهم أن يكونوا من خلفيات قضائية أو حتى قانونية، بل العكس هو صحيح، أيَّ أن يكونوا من العوام، عامة الناس. بدأت فكرة إشراك ا لمواطنين فى تحديد جرم أو براءة المتهم منذ العصور الوسطى فى إنجلترا. فى القرى، حيث كانت تجتمع المحاكم الدورية التى يرأسها قاضي متجول، يزور القرية أو البلدة مرتين فى السنة، و يكون جميع المتهمين جاهزين للمحاكمة، و نظرا لأن المجتمع كان محدوداً، و الكل يعرف الكل، فقد كان من المطلوب من أهل القرية أن يحضروا المحاكمة، ثم يقوم القاضى بسؤالهم عن مدى صحة ما يقول المدعى، و ما يقول المتهم دفاعا عن نفسه، و على ضوء ما يسمعه القاضي، يتحدد الحكم في النهاية. ولكن هنا القاضي يتأثر ضمنياً بقرار المحلفين، وإلا ما الداعي لحضورهم من الأساس وجلوسهم في قاعة المحكمة، إذنَ لهم صوت مسموع ومؤثر، وهذا سيف ذو حدين، فهؤلاء في النهاية بشر، وغير مؤهلين في البت في القضايا الكبيرة، وعلاوة على ذلك همُ غير دارسين في الحقوق والقانون، يتأثرون بالإعلام والصحافة وأراء الناس.   
في كل الأحوال إدين جورج  بيل، والجميع ينتظر قرار محكمة الأستئناف بفارغ الصبر. الأسقف يبدو للناظر  متحليا بالبصر ورباطة الجأش، متحكماً في أقواله منضبط الأفعال. في النهاية لا وجود لأي منطق في حصر القضية في زاوية معينة واحدة، بحيث يبدو الحكم مُطلق ألهي منُزل، تشوه سمعة الرجل المسنْ بعد خدمة طويلة.
 تظل الإجابة على حزمة الأسئلة المطروحة للتداول صعبة بمكان، والحيرة والغموض يلفّ القضية برمتها، والسؤال الأصعب هل الكاردينال مذنب حقاً، وكيف كان يُقيم الذبيحة الألهية ويديه ملطخة بهذا العمل، كيف كان يستمع لعترافات واسرار المؤمنين، الأجوبة صعبة حقاً، وأسئله تتناسل من أخرى.
 في ظل المتغيرات التي تستجد من حين لآخر. سوف تتغير قناعات الكثيرين بدون شكّ بعد صدور حكم الأستئناف والبت بشكل قطعي بها.

126
الكاردينال في قفصْ الأتهام
يقبعْ الأن خلف القضبان في سجن إنفرادي في ولاية فيكتوريا الأسترالية ثالث رجل حسبّ الترتيب الكَنسي الفاتيكاني، وأول رجل في هرم الكنيسة الكاثوليكية في أستراليا الكاردينال جورج بلّ 77 عام، بتهمة التحرش الجنسي على قاصرين، في سنوات 1996- 1997. الدعوة بين الجاني والمجني عليه أخذت وقتً طويل في أروقة المحاكم، والقضاء أستنفذ كل السبل للتوصل للحقيقة من شهود نفي إلى شهود عيان إلى تحقيقات مطولة ومتفرعة أنهكت الجميع وعلى رأسهم الرجل المسنْ الذي ذهبَ إلى المحكمة عشرات المرات خلال السنوات الستْ الماضية، والتي صدر الحكم في النهاية سلبي أيَّ مذنب guilty. كانت صدمة للجميع، وواقعة لها الأثر البالغ في النفوس لمَا يتمتع به الأسقف من ثقافة وغزارة في العلم واحترام وشجاعة ونبل في قول الآراء وطرحها، ومدافع شرس ضد الاعتداءات الجنسية داخل الكنيسة. التعاطي مع هذه القضية ليس بالأمر الهين، خاصة اذا ما عرفنا مكانة الرجل الدينة على مدى عقود وسنوات طويلة تناهز الخمسين عام من العمل والتفاني في خدمة كنيسته ودينه وعقيدته والْتِزَاماتِهِ أتجاه الناس في جميع الأبرشيات والخورنات التي خدم به، كل هذا وغيره جاء على لسان أبناء رعيته، وقربه في ذات الوقت من المركز  الإعلى للكنسية الكاثوليكية في روما، وتبوئه منصب وزارة الخزانة، وترشحه لمنصب البابا؛كل هذا يعطي تحذيرات ومؤشرات للتعامل مع هذه الواقعة الخطيرة بصبر ودراية بحيثيات المُعطى ذاته.
المتابع لملف القضية الشائك والمعقد سوف يلاحظ مجموعة من الثغرات في صلب الموضوع، ففي العام الماضي عقدت جلستان لمحاكمة الكاردينال بيل، وفشلت، لأن هيئة المحلفين الأول لم تتوصل إلى دليل إدانة. وترجع وقائع القضية  إلى عام 1996، حيث كان بيل مطرانا في كاتدرائية ملبورن، وارتكب حسب الأدعاء العام انتهاكات بحق طفلين، يبلغان في ذلك الحين 13 عاما، وذلك عقب قداس في الكنيسة، حسبما علمت محكمة "كاونتي كورت"، في ولاية فيكتوريا الأسترالية؟ السؤال المطروح هنا لماذا لم تُثار القضية في ذلك الوقت؟ وظل المفعول به كما يُقال متوارياً عن الأنظار الى هذا الوقت، أمَ الضحية الثاني فقد مات عام 2014، بسبب جرعة زائدة من المخدرات. والسؤال الأكثر ألحاحاً الأن هو كيف توصلت هيئة المحلفين لدليل أدانة قاطع بهذا الشكل بعد مرور كل هذا الوقت؟. ولكن في أتجاه معاكس أخر يجب أن يُقال في هذا المقام، يعرف العالم أجمع مدى نزاهة ودقة القضاء الأسترالي، وهذا ما جاء على لسان المتحدث باسم الكرسي الرسولي الساندرو جيسوتي، حيث قال أن الفاتيكان "يحترم" النظام القضائي الاسترالي في أعقاب "الأنباء المؤلمة" عن إدانة الكاردينال. وهذا ما أكده رئيس الوزراء سكوت موريسون عن شعوره "بالصدمة العميقة" لإدانة بيل، مضيفا أن النظام القضائي أثبت ان لا احد فوق القانون في أستراليا. وإيضاً رئيس الوزراء الأسبق توني آبد أدلا بدلوه حين قال، من يجلس مع الكاردينال بيل يشعر أنه في عالم أخر. سوف تظل هذه القضية مثار جدل  ونقاش طويلين، وسوف تنتج عنها ردودّ افعال كثيرة بين مؤيد ورافض، وسوف يزيحّ عن الدين الكثيرين بدون شكّ، ويتشكك الكثيرون في العقائد الأساسية، ويقل إيمان البعض بدون ريبة وهذا طبيعي. وبغض النظر عن ملابسات الحادث وبدون أدنى شك تظل المسيحية أرفع وأنبل من كل هذه النزاعات الغير أخلاقية، هي مبنية وفقّ أسُس متينة على الحب، الصدق، الأمانة، الإخلاص، العفة، النقاء، صفاء النفوس، صدق النيات، التضحية، الفداء، البعث، بذل الذات من أجل الأخرين. واجهت الكنيسة المسيحية وسوف تواجه الكثير من الصعاب والأزمات الداخلية والخارجية، ولكن اجتازتها بالحكمة والصبر وطول البال والتعقل، وفي النهاية كانت ترسو السفينة دوماً على شاطىء الأمان. (وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ! فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ!).
متى 18: 7

127
وظيفة الحاكم الذكي
بقلم/ سلوان ساكو
يتمْ التأسيس على الأفكار ليتم بعدها العمل على البناء للبُنىَّ التحتية لنُشوء وأرتقاء الدولة المعنية، ويكون هناك نمطْ سليم في سياق من الحكم متُماهيً مع المواطنة، أو المواطن الصالح بمعنى أدق. ليختار ويحدد هذا المواطن نظام الحكم، مع إعطاء الأولوية للحاكم في تنظيم شؤون دولته بما يتماشة مع أساسيات الحكم العادل، وليس اليوتوبيا، حيث ليس هنالك وجود لمدينة فاضلة على هذا الكوكب، لذى استوجب أن هنالك دولة ناجحة، كالمغرب مثلاً، ودويلة فاشلة كالعراق مثلاً.
 كنتُ مؤخرا في دولة المغرب العربي، لحضور المعرض الدولي للكتاب، والمُقام في الدار البيضاء. المعرض وعلى جميع الأصعدة والحق يُقال كان ناجحً، من التنظيم الى إدارة دور النشر، مروراً بجلسات وندوات المنعُقدة على هامش المعرض، وحضور لفيف كبير من أبرز المفكرين  والمبدعين والأدباء العرب. سارت الأمور بسلاسة طيلة إيام المعرض العشرة، كان فيها منفعة للمدعوين والزائرين بشكل عام. المهم ليس هذا هو الموضوع الأساسي المعروض للطرح، وإنما وضعية ونمط و استقرار البلد، إيّ المغرب، وكيفية ظروفه وسبل عيشه. مع كل التحديات والصِعاب التي تعيشها المنطقة. فالمغرب وكما هو معروف بلد غير نفطي إلا بمقدار ضئيل وللأستخدام الداخلي، وهذا ما استدعاني للتوقف لبضع الوقت، من حيث البنىَّ التحتية المتوفرة، وحاجات الشعب الأساسية. فسكة القطارات على سبيل المثال وهذا مهم في رأي، تصل لجميع الولايات والمحفظات من الشمال للجنوب ومن الشرق إلى الغرب، محطات توقف هذه القطارات نظيفة ومريحة ومنظمة إلى حد بعيد، الدولة حاضرة بشكل ملحوظ في الجيش الشرطة الأمن الوطني. المرافق السياحية من مشارب ونوادي وملاهي منتشرة بكثرة وهذا يدل على إنفتاح البلد من جهة ومن جهة أخرى كثرة نسبة السياح والسياحة مما يدر على البلد واردات هائلة. حسنا يبدو أن العاهل المغربي الملك محمد السادس ذكي وسياسي محنك لمقدرته المحافظة على الدولة من الأنهيار والأنفلات الأمني وقت الربيع العربي، والأنتفاضات المليونية كما يقولون، فمثلاً مدينتا سبته مليلية المغربيتان تحت الحكم الإسباني ومن مدة طويلة، لم يشن الملك المغربي الحروب والغزوات لأستعادتهم، بل هو يحول عن طريق الأقنية الدبلوماسية والسياسية فقط، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. وهذه نظرة عميقة للأمور، لأنه يعرف أن المغرب ليس باستطاعتها مواجهة الأسبان، او الأتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي النيتو، بمعنى أدق هو قرار سيادي بأعلى المستويات وإرادة ملكية، ماذا جرّ احتلال الكويت من ويلات وحروب على الشعب العراقي، إليس صدام حسين غبي بما فيه الكفاية ليفعل ذلك؟. وكانت لديه قراءة خاطئة لخريطة توازنات المنطقة الأقليمية والدولية، حيث أقدم على تلك الحماقة والمغامرة مجنونة، فدقْ البسمار الأخير في نعش العراق. خلاصة الطرح، إذاً تتحدد بمنظومة الحاكم ومدى استيعابه لعبة الأمم، بغض النظر عن أفلام الدسائس والمؤمرات الصهيونية الهندية، هي أنظمة تتفق بشكل وبأخر مع النظرة الكلية للحكم، وليس حزب واحد والباقي خسّ كما يُقال. بهذه الطريقة أستطاعت العائلة المغربية الحكم طبعاً مع بعض الشدة المطلوبة للحكم، وهذا ما دفع الناس إلى حب العائلة العلوية لأنها جنبتهم الدخول في صراعات وحروب عبثية كما فعل العراق وبدون طائل، فتمزق على صخرة النزاعات الطائفية والحروب الأهلية. لعل المتتبع للمشهد العربي بشكله العام يعي أكثر من غيره أشكالية المسار الذي يسلكه نظام الحكم ومدى تأثيره على مفردات الحياة بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة، وهي حقيقة يجب التسليم بها في جميع الأحوال.

128
طريقة الفوز بورقة اليانصيب
بقلم/ سلوان ساكو
تتواتر الأخبار والحكايات والقصصّ الجميلة، والممزوجة بالأمنيات والتمنيات الوردية مع توليفة من باقة أحلام ورؤىً لرؤيا تُحاكي تلك المتُتطلبات المدفونة في وعينا العميق، فبتنا نلعب بكل جدية ومهارة لعبة الحظ السعيدة، لعل وعسى أن يوكبنا الحظ في مرة، وتتوقف عقارب المصفوفة الرقمية عندنا، ونكون من المحظوظين في سعينا نحو تكوين وخلقْ قدرنا حيث نبدأ في تحقيق أحلامنا التي حالت مع توغلنا فيها إلى أحلام يقظة لا أكثر، نسبح فيها ومعها في تلك اللجة من المياه الزرقاء الصافية والتي تعكسها  السماء الخلابة، ونخوض غِمار ذلك الحلم السعيد، والذي كلما توسعنا فيها ازداد هو سيطرة علينا وعلى مشاعرنا فنصبح مع الوقت مُكبلين بأغلاله وقيوده لا مقدرة لنا على الفكاك من فكيه.
اليوم بات الحديث عن لعبة الحظ والربح بورقة اليانصيب هي الهاجس المُسيطر على الجميع بدون أستثناء، التاجر، العامل، الموظف، الغني، الفقير، السعيد، الحزين، الكل باتَّ يتطلع بالفوز بتلك الورقة القدرية والتي سوف تُغير حياته وتقلبها رأساً على عقبْ، وتجعله من الْمُصْطَفَيْنَ. ولكن مهلاً !، هل صحيح أن هنالك حظ وأن هنالك ثمة قدر يتحكم بتلك اللعبة الرقمية بحيث تجعل فلان من الناس يصبح مليونيرن بين ليلة وضحاها، بينما الثاني يتحسر ويندب حظه العاثر لأنه لم يفز بالجائزة، والى إية مدةً يجتمع الحظ والقدر في الأنسان الكائن الحي، وإذا كانت الأمور على هذا النحو اللامدروس والعبثي فبالإمكان أن تفوز القردة أو الأسود أو الضِباع بالينصيب، أليست هي في نهاية الأمر مجرد سحب ورقة بسيطة  لا أكثر  ولا أقل. حسناً لو افترضنا عدة افتراضات منها على سبيل المثال أن ملعبً رياضي لكرة القدم يسعّ لي ستين ألف متفرج وارادة كرة القدم السقوط على المتفرجين يا ترى على من سوف تسقط، واحد سوف يجيب بسرعة حتماً سوف تسقط على شخصً ما موجود في المدرجات، هذا جواب مقنع للوهلة الاولى، المثل الثاني، هناك تلّ من الإبر الناعمة تعددها 100: 899: 24 مليون بعدد سكان إستراليا وقال لك احدهم، أن واحدة من الإبر موسومة بعلامة مميزة دقيقة على رأسها، وأن أردت الفوز عليك أن تسحبها من بين الركام بحركة واحدة فقط، السؤال ما هي نسبة الحظ هنا؟. طبعاً أنا هنا لا أرفض الحظ، ولا أمانع في أن يحلم المرء، فهذا شأنه، ولكن هناك أسئلة اطرحها على الملأ والمجتمع وادع من يحلم يحلم، وذلك الذي يفوز بورقة بالينصيب ومبلغ 107 مليون دولار والتي كان لها دوياً كبير في المجتمع الأسترالي، وتشيد مباني وهمية من قصور ومزارع وتسديد قرض البنك على البيت والسفر الى كل بقاع العالم والتبرع للكنائس وتشيد تمثال للسيدة مريم العذراء والعطاء بسخاء لمستشفيات أمراض سلطان الأطفال، وكل هذا يكون في النهاية كزبد البحر لا يلبث أن يتبخر مع أول موج خفيف. والقصة في صميمها هي Game، أليست لعبة، لماذا لم تربح البطاقة  حين وصل المبلغ إلى خمسين مليون دولار؟.
لنعرف الحظ أولاً، فوفقا لقاموس نوح وبستر الكلاسيكي، فإن الحظ هو "قوة لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن السيطرة عليها، تغيير الأحداث إيجاباً أو سلباً لفرد أو مجموعة أو قضية ما"، وترتبط وجهات النظر في هذه المسألة بإختلاف الثقافات فالبعض يعتبرها فرصاً عشوائية غير مرتبطة بسبب أو أداة، بينما البعض يربطها بطاقة خفية مرتبطة بالإنسان والأفكار، وطبعاً هناك من يجد لها تفسيرات متعلقة بالإيمان أو الخرافات. بينما الفلاسفة وأشهرهم "دينيت" الذي اعتبر أن: (الحظ هو مجرد حظّ!، وليس شيئاً أو خاصية أو ميزة يختص بها فرد أو جماعة ما)، فيما وصفه "كارل يونغ" عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليل، حيث يقول، بالتزامن الذي يحدث في الوقت المناسب أو غير المناسب، واختصر توصيفه بجملة صغيرة: "الحظ صدفة ذات معنى"، أما  الكاتب ماكس غونتر فوصف الحظ بأنه "أحداث تؤثر على حياة المرء ويبدو أنها خارجة عن سيطرته"، إذن الحظ ليس سوى تفسير نعطيه للأشياء الجيدة والسيئة التي تحدث بالصدفة، وهي إسناد نستخدمه لإعطاء معنى للأحداث العشوائية والفوضوية. والقدر، يمكن أن نصل إلى معناه من خلال المرور عن المعنى اللغوي، والمعنى الاصطلاحي له، وبيان ذلك يكون على الشكل التالي، المعنى في اللغة: يشير إلى الفصل والحكم، ومبلغ الشيء، ومعنى التقدير هو التروية والتفكر في تسوية الأمر، والمعنى في الاصطلاح يقصد به تقدير الله لجميع الأشياء في حياة الإنسان في القدم قبل وقوعها، وأنها ستقع في أوقات معلومة وبكيفية محددة، ولا ينفكّ هذا المفهوم عن مفهوم القضاء فهما أمران متلازمان. إِذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياةَ ... فلا بُدَّ أن يستجيبَ القَدَرْ. و اصحبْ ذوي القدرِ استعدَّ بهم .. وعدِّ عن كلِّ ساقطٍ سلفهْ.
فأذا هذا ليس له علاقة بالربح والخسارة لأن الله ليس بوكيل تجاري حصري عل هذا أو ذلك، ويربح زيد ويخسر عمر، وأنما هنالك مصفوفة رقمية كونية Digital matrix، أو شيفرة الأنسان الخاصة  Human code، أو مدخل لكل شخص هو الذي يحدد مسار هذا الكائن بين جنبات الحياة، يُفسر في بعض الحالات على أنه الحظ، القسمة، القدر، النصيب، لا تهم كثيرا التسميات والعناوين المهم هو ماهية وجوهر الحالة. فلا بد أن تسقط الكرة على رأس احدهم في الملعب، ولا بد أن يسحب واحداً ما الإبرة الموسومة من الكومة، ولكن من هو ياترى، هنا تلعب المصادفة دور كبير طبعاً بحيث تبدو انها حتمية جرت من تلقائها وأن الأمور طبيعية، يتحدد كل هذا في سياق منظومة كرونولوجية معقدة جداً وخاصية الزمان، ولكن حركتنا وقلقنا وتوجسنا لا تدع فرصة في النظر والتأمل لكل هذا، فنأخذ الأمور على عواهنها دون تعمق وسبر أغوارها.
الخلاصة من كل ما تقدم أنه ليس هناك حظ أو قسمة أو قدر، هي بإيجاز matrix يخص كل واحد من البشر، من يوم ولادته إلى يوم مماته، ويظل السؤال الأصعب والمفتوح على كل أحتمال، كيفية توظيف هذه المصفوف الرقمية لصالح الإنسان، وكيف تُكرس لخدمته، ويجعلها طوع بنانه، لربما لو أستطعنا أن نجد هذه الرموز السرية password لأصبح كل شيء سهل وفي متناول اليدّ، من أوراق اليانصيب ولعبة القِمار في الحانات ومباريات تسابق الخيول، حينها فقط يصعب التكهن بحركة التاريخ، فالكل يريد أن يربح ويصبح من الأغنياء بسهولة ويسر، بدون عناء العمل وجهده الْمُضْنِي، وهكذا تتوقف عقارب الساعة عن الدوران ويكفّ الانسان عن التفكير في مستقبله لأن وجوده الحالي مَصُونٌ. أظن في النهاية أن المكاسب الحقيقية في الحياة هي الصحة والسعادة والقناعة والعائلة الصالحة والأثر الطيب في المجتمع لأن  النقود تظل وسيلة وليست غاية مهما بلغت من شأن.

129
على مهلكّ يا مفتينا لم ينتهي العيد بعدْ
حينما أراد الراحل شبلي العيسمي الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي ( فُقد في لبنان سنة 2011) أن يزور جامع أم الطبول في بغداد مع نهاية الستينيات، رفض إمام الجامع وقت ذاكّ الشيخ عبد العزيز البدري دخول العيسمي للمسجد بحجة انه درزيّ أيَّ كافر، وخلال ساعات وصلت الأخبار ( لصدام حسين)، ومع قضايا آخرى كانت تتعلق بتنظيم الإخوان المسلمين في العراق، وتكفير البعثيين وشق الصف الوطني من قبل البدري أكتمل ملفه في درجّ السيد النائب  فدخل قصر النهاية ولم يخرج بعدها ولم يرَّ النور ابداً.
في خطبة الجمعة الأخيرة وفي جامع أم الطبول أعلن مفتي الديار العراقية، مهدي الصميدعي، عدم جواز الاحتفال بأعياد رأس السنة والكريسماس، معتبراً أن من يحتفل بها كأنه يعترف بـ( عقيدة دينية لدى المسيحيين) نص الخطبة حسب القنوات الرسمية، وقال الصميدعي خلال خطبة الجمعة "لا تشاركوا النصارى الكريسمس، لأن هذا معناه أنكم تعتقدون بعقيدتهم.
 الإمام مهدي الصميدعي شخصية معروفة في عموم العراق، وله مكانة ومنصب رفيع على مستوى الدولة وعلى مستوى المجتمع والأفراد،  فهو ليس إمام جامع في قرية نائية شمال بعقوبة يفتي ويكفر هذا وذلك من الناس دون حسيب ولا رقيب لا أحد يعير له أهمية تذكر سوى أبناء القرية البائسة دون فهم حتى. فالشيخ الصميدعي بالإضافة لكونه مفتي الديار العراقية هو خطيب أكبر جامع في العاصمة، وهذا يؤمه خاصة يوم الجمعة كِبار رجال الحكومة والدولة،  وتكون الخطبة في أغلب الأحيان منقولة على الهواء مباشرةٌ، بمعنى أنها تصل لشريحة كبيرة من الناس وفي وقت سريع جداً، وبكلام غير مُتزن وغير مقبول وغير منطقي، وفي وقت حرج  والجهود مبذولة لتعزيز اللحمة الوطنية التي اهترأت من كثرة النِفاق والكذب على الناس وعلى الذات، يطلق الإمام مفتي ديار العروبة والإسلام  فتواه بتحريم الأعياد والاحتفال برأس السنة، وهذا يعُتبر كُفر وزندقة وعمل من أعمال الشيطان. ومع أن هنالك جهود مضنية يبذلها رجال الدين وحتى العلمانيين المسيحيين الكلدان، السريان، الآشوريين، من التقرب  وبناء علاقات أخوية صادقة حقيقة مع المسلمين الشيعة والسنة على حدّ سواء لترسيخ مبدأ الأخوة والمحبة بين مكونات هذا  الوطن المنكوب وتأصيل فكرة المساواة بين الجميع وأن الدين لله والوطن للجميع، وما فتِئ البطريرك لويس ساكو  يُكرر  وفي كل مناسبة دينة كانت أم وطنية على أننا شركاء حقيقيين مع الأخوة المسلمين في هذا البلد، ولسَنا جالية حديثة القدوم. وعلى بغتة كل هذا ذَهَبَ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ.
أقول أن هذه الْفَتَاوِي وغيرها الكثير  لها الأثر السلبي الحادّ على المجتمع العراقي والذي هو أصلاً متصدع ولا يحتاج لتصدعات أكثر،  فتفجير كنيسة سيدة النجاة ماثلة في الذاكرة  تدمي القلوب الى اليوم،  وتضر  بالنسيج الأجتماعي البالي الباقي والذي أمتلئ شقوق ولم يعد ينفع الرتق معه، يجب أن ينتبه مشايخ السنة والشيعة للخُطب التي يطلقوها من على المنابر  والأثر السيئ لها على عقول الناس، وماذا سوف تكون ردود افعالهم حيالها، وتغير هذه الرنةّ القديمة، صليبي، أتباع الغرب، كفرة، ذميين، التي لم تنفع ولن تنفع في يوم من الأيام، وبثّ روح الأخوة والتعاون والمحبة بين أبناء البلد الواحد، لربما تكون هنالك بارقة أمل في مستقبل جديد. 

130
اليوم العالمي للُغَة العربية
يعتبر الثامن عشر من الشهر الجاري هو اليوم العالمي للغة العربية، لغة الضاد، فقد خصصت الأمم المتحدة ومن عام ١٩٧٣، اليوم المذكور من كل سنة يوماً عالمياً لهذه اللغة التي باتَْ المتحدثين بها قرابة ٤٦٧ مليون متحدث، وهي في المركز الرابع من معاير سلم اللغات العالمية، حيث يجري الحديث بها في 60 دولة من بينها 22 فقط أعضاء في الجامعة العربية. فيما تتوزع بقية الدول على قارتي آسيا وإفريقيا، حيث هناك قبائل وجماعات تتحدث العربية في تشاد ومالي والكاميرون مثلا، وغيرها.
لغتنا العربية تضل لغة جميلة وتحمل منظوراً بيانياً نحو فضاءات أوسع لإستحضار المفردة ورديفتها معاً، معاني ومفردات لا تحملها آي لغة ثانية من ناحية الرتمّ والأستعارة والكناية والموضوع والنصّ والبيان. فمثلاً يوجد ١٤ درجة للحب في العربية منها، الهوى، الشغف، الوجد، الكلف، العشق، النجوى، الشوق، الوصبُ، الاستكانة، الودّ، الخُلةّ، الغرامُ، الهُيام، (إذا ريح الصَّبا هبت أصيلاَ  شَفَت بهبوبها قلْباً عليلا وجاءَتني تخبر أنَّ قومي  بمن أهواه قد جَدّوا الرّحيلا)، عنترة بن شداد. بينما لا تحمل كلمة الحب Love في اللغة الإنكليزية سوى دلالة لفظية واحدة فقط.
وبعيداً عن لغة التعصب التي يستهلكها البعض اليوم ويربط العربية أو المتكلمين بها بالإرهاب من ناحية المضمون المجازي للمفردة في محمولاتها لأسقاط البناء اللغوي للنصوص وإيحائآتها اللفظية،  على إيقاع خطبة ابو بكر البغدادي في جامع الموصل الكبير، وأسامة بن لادن الذي أفتى بها، والقرضاوي الذي ينشر سمومه عن طريقها،  وسيد قطب الذي كتب كُتبه التكفيرية بحروفها،  أبو العلاء المودودي الذي ترجمة مؤلفاته عن طريقها، وغيرهم الكُثر الذين استعملوا العربية لنشر الفوضى واللاأنسانية والفتنة والحقد وتغيب العقل والمنطق. ولكن تبقى الأحرف الأبجدية  العربية الثمانية والعشرين حرفًا محط أنظار الكُتاب والشعراء والقصاصين والمثقفين بشكل عام. هل نحتفل نحن المتكلمين بالعربية بهذا اليوم العالمي، أمْ يذهب سداً حاله حال باقية الأيام دون أكتراث وينساب مع مجريات الحياة العادية؟.
ننهي مع رائعة الشاعر العربي النسطوري  طرفه بن العابد حيث يقول....
إذا القومُ قالوا مَن فَتًى ؟ خِلتُ أنّني عُنِيتُ فلمْ أكسَلْ ولم أتبَلّدِ
ولستُ بحلاّل التلاع مخافة ً ولكن متى يسترفِد القومُ أرفد
فان تبغني في حلقة القوم تلقَني وإن تلتمِسْني في الحوانيت تصطد
وانْ يلتقِ الحيُّ الجميع تلاقيني إلى ذِروة ِ البَيتِ الرّفيع المُصَمَّدِ
وما زال تشرابي الخمور ولذَّتي وبَيعي وإنفاقي طَريفي ومُتلَدي
أنا الرّجُلُ الضَّرْبُ الذي تَعرِفونَهُ خَشاشٌ كرأس الحيّة المتوقّدِ.

131
شَتّانَ بين ميتة صدام وبوش
مع كل الخلافات والمواقف السياسية والأخلاقية  التي أحاطت بالرئيسين صدام حسين وجورج بوش الاب في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، والتأثيرات الكبيرة والهائلة التي مرت بها المنطقة من إنهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الأشتراكية الأكبر  وغزوة صدام حسين لدولة الكويت عام 1990، كل هذا ترك أثرا كبيرا على مجريات الأحداث بعد ذلك وفق نظرية الفراشة، والى هذا اليوم  إرتدداتها مازالت مستمرة وموجودة بقوة، ومن الصعوبة زوالها على المدى المنظور. مع كل هذا يظل هناك فرق وبون شاسع بين موت الزعيمين، صدام حسين وبعد حماقات لا تُغتفر ولا يُسامح عليها التاريخ والعدالة الإلهية، جرتْ ويلات وحروب على البلاد أحرقت الأخضر بسعر اليابس، مع العلم أن بعضٍ من الحكمة والحنكة والدهاء السياسي المطلوب في موازين القوة وبعضّ التنازلات وفهم قوانين اللعبة السياسة الدولية، كان من الممكن أجتياز المأزق وتجنب شرب كأس المرارة حتى الثمالة والخروج بأقل الخسائر حتى بعد أحتلال الكويت، ولكن رعونة ودموية ودونية صدام حسين حالت دون ذلك، مما كرسَّ لاحقاً للفوضى والحصار والحروب الداخلية والويلات على الشعب والوطن المسكين. العقلية الدموية والاستبداد المطلق والأعلاء الوهمي للذات وترسيخ لمبدأ القوة في التعامل مع الآخر حالت دون بناء أسُس راسخة لدولة عصرية حديثة تتماهى مع النظام العالمي وما بعد الحداثي وما فرزته من لغة جديدة، منظومة رقمية، إنترنيت، هاتف جوال، صحون لاقطة ، لم يستوعب صدام حسين كل هذا التغير أراد العراق في بئر أسَنَ من المعرفة. وهذه الدموية والعنف  كانت حتى قبل أستلام زمام السلطة المطلقة ما بعد 1979. يقول القيادي البعثي السابق وليد السامرائي في شهدته للتاريخ في برنامج شهادات خاصة، حين أعدم صدام حسين عبد الخالق السامرائي  سنة 1979، بعد ست سنوات من الأعتقال الانفرادي لم يكن يعرف أيَّ عبد الخالق سبب الأعتقال ولماذا هو محتجز أصلاً، وفي النهاية أعُدم مع العشرات من البعثين الذين وقفوا مع صدام في تسلقه شجرة السلطة، هذا غيث من فيض، ولربما التاريخ سوف يكشف المزيد من الصفحات السوداء من التاريخ الدموي للأستبداد. ذهبَ بوش الأب ورحل صدام حسين من هذا العالم الفاني، ولكن الموقف الأخلاقي للرئيس الأمريكي الأسبق من حرب الخليج وغزوة صدام حسين للكويت تضل دوما محطة مضيئة في حياة الرجل مع كل التفاهات ونظريات المؤامرة السخيفة. يقول جيمس بيكر وزير الخارجي الأمريكي آنذاك وبعد اجتياح القوات العراقية للكويت، أرسل صدام حسين رسالة عن طريق رئيس دولة عربية، مفادها أن العراق علىٰ أستعداد ان يبيع النفط للولايات المتحدة بثمن أقل ومدعوم، شريطة أن تقف أمريكا مع العراق، ولكن جاء ردّ بوش بالرفض التام وطالب العراق الأنسحاب الفوري وبدون شرط أو قيد من الكويت. لربما تيقن بوش والإدارة الامريكية آنذاك  أن صدام حسين هو هتلر العصر الجديد، وأن لم تُحرر الكويت الأن فلن تحرر ابداً، وسوف يجتاح صدام حسين دول الخليج واحدة بعد آخرة ويتغير وجه العالم إلى الأبد.
أسئلة كثيرة تفرض نفسها بقوة، بعضها مرتبط بدوامة السياسية الدولية ولعبة المصالح وبعضها الآخر مرتبط بالموقف الأخلاقي للدول العظمى وموقفها حيال العالم والدول الأصغر. التاريخ في نهاية الأمر هو من سوف يحكم وهو من يقول كلمة الفصل،الموت على خشبة الأتهام وحبلّ القانون ملفوف على عنق المتهمْ، هو الأفضل، أمْ الموت الطبيعي.

132
انتباه لم تفعلها السعودية لوحدها
لم تُثار قضية في الآونة الأخيرة كما أثُيرت قضية أختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لربما من إيام حرب الخليج الثانية واحتلال صدام حسين للكويت عام 1990. فهذا التجيش الإعلامي الغير مسبوق والكمّ الهائل من التحليلات والتقارير والصور، ولم تُسلط في أيّ وقت كما سُلِطت على الصحفي السعودي، وطبعا مُتصدر هذه الميديا الضخمة قناة الجزيرة القطرية. ولكن لنقف قليلاً ونتأمل المشهد من جانب ثاني أكثر عمقاً ويغوص داخل مصطلح بات ما يُعرف بالدولة العميقة، والذي تأسس مع توغل الحكومات ذاتها مع نمط السلطة، بغض النظر عن مُسمياتها. هو عرف متداول في جميع النُظم العربية والعالمية، وما عمليات الخطف والأبتزاز والتصفيات الجسدية غير سمة من سمات هذا النظام أو ذلك لربما للدول الأكثر ديمقراطي وتقدماً. عملية تصفية الرئيس الأمريكي  جون كينيدي في دالاس 22 نوفمبر 1963، أليسَ هذا قتل مع محو أثار الجريمة إلى اليوم، وكل ما توصل له المحققين هو تفاهات لا غير، مع إن جاكلين كينيدي زوجته كتبت رسالة بينت بها من كان وراء عملية الأغتيال، وطلبت في وصيتها أن تُفتح الرسالة بعد مماتها، ولكن في عام 1994 حين ماتت لم يجرئ أحد على فضّ الخِطاب وقراءة محتواه، لأنه يدين أشخاص مهمين في الدولة آنذاك متورطين في العملية. مصر إيام حسني مبارك فعلها مع المعارض الليبي منصور رشيد الكيخيا، وقد شغل الكيخيا منصب وزير الخارجية الليبي من عام (1972-1973)، والمندوب الليبي الدائم لدى الأمم المتحدة، وفي وقت لاحق أصبح أحد رموز المعارضة للزعيم الليبي معمر القذافي وناشط حقوقي، سنة 1993 أختطف الكيخيا من قبل ثلاثة رجال في ليموزين سوداء ذات لوحات دبلوماسية على مسافة بضعة ياردات من فندق السفير بالقاهرة حيث يقيم ولم يظهر إلى اليوم. ليبيا معمر القذافي، ألم يُغيب الإمام موسى الصدر في طرابلس عام 1978 وبات في خبر كان. تركيا التي تُطبل وتُزمر وتهرج الدنيا والصحافة على الصحفي السعودية، أليستَ هي من كان وراء أختفاء المطرانين يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي مطرانيّ حلب في 2013 عن طريق ميليشيا سورية مدعومة منها، وهي من قام بتدبير عملية اعتقال وخطف زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان في نيروبي في كينيا، حيث أعتقل وأرسل إلى تركيا في فبراير عام 1999. وصدام حسين ألمَّ يغدر بأبن خاله ووزير دفاعه وشقيق زوجته وأقرب المقربين منه، عدنان خير الله  طلفاح في 4 مايو عام 1989. ألمَ يغدر الرئيس العراقي السابق بصهريه الأخوين كامل بعد أن أعطاهم أمان العودة من عمان الى بغداد في 23 فبراير من عام 1996. تفجير موكب الرئيس رفيق الحريري في وسط بيروت عام 2005 والمتهمين هم أعضاء في حزب الله اللبناني، والمهزلة هنا انه تمْ تسمية  شارع في وسط العاصمة على أسم الفاعل الرئيسي في الجريمة وهو مصطفى بدر الدين. الحادث المريب لتصادم سيارة أميرة ويلزّ الأميرة ديانا مع عشيقها دودي الفايد ابن سميرة خاشقجي أخت عدنان وجمال خاشقجي، في 31 اغسطس من عام 1997 في نفق باريسي.   
العائلة المالكة في السعودية لم تفعل شيئاً من خارج أعرافها وتقاليدها فقبل تصفية خاشقجي تمت تصفية الأمير سلطان بن تركي، والذي تم اختطافه في الأول من فبراير شباط 2016، وكان برفقة 20 من أفراد حاشيته الذين يحملون جنسيات غربية، وتمْ أختطافهم برفقة الأمير على متن طائرة متجهة إلى القاهرة، إلا أنه تم تحويل مسار الطائرة ليجدوا أنفسهم في الرياض. واختفاء الأمير تركي بن بندر عام 2015، وهو ضابط شرطة سابق كانت إحدى مسؤولياته تأمين العائلة الملكية، وأختفاء الأمير سعود بن سيف النصر من نفس العام الأخير. هذا غيض من فيض في خلفيات الحكم لكواليس دول العالم دون أستثناء، كل ما هنالك في قضية خاشقجي أن ثمة تقاطع وتناحر وحرب باردة بين السعودية ودولة قطر والتي جيشت الاعلام مُمثلة بقناة الجزيرة وآلتها الجبارة التي تواكب الحدث ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة بعيدة كل البعد عن الموقف الأخلاقي والمهني للصحافة، آيَّ تصطاد بالماء العكر، و تتشمت بالمملكة العربية والدول التي تُساندها.
هذه بعضاً من سمات الحكم للدولة الخفية، ربما نجدّ صدى لها في أدبيات وطريقة الحكم لدى السفاح جوزيف استالين مع صديق عمره ليون تروتسكي الذي قتله بفأس عام 1940، أو غيره من الحّكام على مرّ العصور.

133
لم يُقتل خاشقجي إلى حدّ اليوم
بقلم/ سلوان ساكو
لم يُحل لغز أختفاء الثائر اليساري المغربي المهدي بن بركة (تولد 1920 أختفاء 1965)، الى اليوم، مع أن كل الملابسات تُشير إلى تورط البلاط الملكي المغربي والمخابرات الفرنسية وجهاز الموساد الاسرائيلي، لما كان يشكله هذا الثائر من خطر على الرباط، حيث كان له مشروع حداثوي تطويري تقدمي أشتراكي، لا يتماشى مع سياسية الملك الحسن الثاني  في ذلك الوقت، فلم يجد مناص غير تغَيِب المهدي بن بركة والى الأبد وطمس كل معالم الجريمة التي حدثت  أمام مطعم (ليب) في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، باريس، وظلت جثته الى اليوم مجهولة المكان. الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية المغربي آنذاك ومعه أحمد الدليمي مدير المخابرات المغربي وآخرون رحلوا عن هذا العالم بِمَا فيهم العاهل المغربي السابق ذاته، ولكن ظلت قضية  بن بركة مُعلقة وغامضة  الى اليوم مع كل هذه التحقيقات. 
يشُكل اليوم ملف إختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول حالة من الارتباك في كل الأوساط السياسية والثقافية والدولية والإعلامية على حد سواء، من حيث ثقل هذه الشخصية الجدلية والمحورية وقُربها من العائلة الحاكمة في المملكة العربية إلى قبل عامً لا أكثر. حيث كان جمال مقرب من صُناع القرار، ورئيس تحرير جريدة مهمة تصدر في الرياض هي جريدة الوطن، والمستشار الإعلامي لمدير المخابرات السعودي تركي الفيصل، وغيرها من المناصب الإعلامية. المهم أنه قبل اكثر أسبوع دخل من باب القنصلية لغرض استخراج أوراق رسمية ولم يخرج منه، هنا شكل هذا الحدث الخطير والغير مسبوق في المعاهدات الدولية للبعثات الدبلوماسية واتفاقيات جنيف وغيرها من البرتوكولات العالمية الى تحديّ لحقوق الانسان والأعتداء في وضح النهار على رجل اعزل في بلد يتسم بالأمن، نعم الرئيس السابق صدام حسين كان يخرق كل هذا، ويلجأ لقتل معارضيه في الخارج عن طريق استدراجهم للسفارات العراقية وبعد ذلك يتمْ تصفيتهم بأبشع طرق، وكان ذراعه الأيمن في ذلك صبري البنا ( ابو نضال الفلسطيني) الإرهابي المشهور والذي هو بدوره إغتيل على يدّ جهاز المخابرات العراقي سنة 2002، ولكن ذلك زمان غير هذا الذي نحن فيه، مع أجهزة المراقبة والكاميرات والأقمار الصناعية والهواتف النقالة، كل هذا يعطي مؤشر أن عمليات الاغتيالات لم تعد تجدي نفعاً اليوم، مثلاً فشل روسيا في محاولة اغتيل الجاسوس المزدوج  سيرجي سكريبال، 66 عاما، وابنته، في وسط لندن قبل أشهر. هنا حصلت  نقلة نوعية  في نهج الأغتيالات المباشرة اذا صحت التكهنات بأنة السعودية متورطة في عملية الخطف والأغتيال، وهذا ما سوف تكشفه الأيام القليلة القادمة، معادلةٌ غير مسبوقة ورسالة مباشرة الى كل المعارضين في الداخل والخارج السعودي، مفادها إنه لا رحمة ولا هوادة مع كل من تسول له نفسه أن يتعدى الخطوط الحمراء أو حتى السوداء حتى لو كان من العائلة المالكة نفسها أو من بقية الشعب، وما تصفية وتقطيع أوصال الكاتب جمال خاشقجي غير تنبيه للكل.
الأيام القادمة حُبلة بما لا تشتهيه السفينة السعودية ربما، تركية مسرح الجريمة تريد أن تُظهر الحقيقة كما هي للعلن والمجتمع الدولي المتابع للقضية، امريكا أيضا تريد أن تعرف ماذ حصل للصحفي السعودي وفي أقرب وقت، وما دعوة الرئيس ترامب لخطيبة خاشقجي  خديجة جنكيز  للبيت الأبيض في واشنطن آلا لمعرفة المزيد من التفاصيل، ورسالة للعالم مفادها أن الولايات المتحدة ليس لديها يدّ في  مجريات الواقعة ولا تؤيد المملكة بأي شكل من الأشكال. بريطانيا أدلت بدلوها حين قالت أن معلومات استخبارية بريطانية تؤكد تورط السعودية في عملية التصفية والقتل لجمال خاشقجي. الكل يترقب الأن، والدائرة تضيق على المملكة العربية السعودية التي وضعت نفسها في رمال متحركة لا تحمد عقباها، واتسعت فوهة الحريق الذي ربَما لم تحسب له هذا كل هذا الحساب وهذا الخطر المُحدق بها، وإن نار جمال خاشقجي انتشرت في الهشيم السعودي.

134
كيف وضعنا أنفسنا بين فكّ المجلس وكمَاشة الحركة.
ما أقربنا اليوم كَمكّون أصيل وعريق من مكونات الهوية العراقية المدنية( من المدينة)، حيث كان لهم حضور مشهودا له على جميع الساحات الثقافية والسياسية والاقتصادية، من كهفْ أفلاطون الشهير، وهؤلاء الأشخاص الأربعة الذين كُبلوا منذُ نعومة أظافرهم بسلاسل وأغلال على أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، فظلوا ينظرون بتجاه واحد فقط من أمامهم، ومن خلفهم، أيَّ خلف الجدِار، ومن جهة آخرى كانت هناك مجموعة تُحرك عرائس خشبية مختلفة الأشكال؛ أرنب، قطّ، عصفور، مُسلطينَ نور السراج عليها، فتظهر على الجهة الثانية من الحائط المُقابل للمساجين ظِلال وخيالّ، فيعتقد هؤلاء المساكين أن هذا هو عالمهم الحقيقي، عالم الخيال، ولا يوجد عالم موازي آخر له، وبطريقة ما يستطيع واحد من الأربعة  الإفلات من الأغلال والسلاسل، والخروج من الكهف إلى العالم الخارجي، فَيرى إن العالم غير ذلك الذي كانوا به، شمس، طبيعة، مياه، غيوم، بشر،  فيعود ليخبر زملائه بِمَا شاهد وعاين، ولكن الثلاثة الباقية في غَياهّب الكهف اتهمته بالجنون والكفر، فأردوه قتيلا على الفور، لإنه شاهد وشَّهد الحقيقة كاملة، بدون ظلال، وبقوا هم في غيهم يعمهون.
 نحنّ اليوم اقرب ما نكون لهؤلاء المساجين القابعين في غياهب الكهف، لا نُعاين غير تلك الِظلال الزائفة التي تعكسها علينا الأحزاب والحركات السياسية الرخوة بشكلها العام، المجلس الشعبي، الحركة الديموقراطية الآشورية زوعا، أبناء النّهرين، والزعُماء لهذه الفعاليات هُمْ العرائس التي تُحرك عن بعد. ونحن بدورنا إيضاً لا نُشاهد غير الظلال، أو بمعنى أكثر دقةّ، لا مقدرة لدينا على الخروج من النفقّ الذي وضعتنا به هذا الأحزاب والحركات، حيث تَموضَعَنا داخل نظرية الكهف بعمقْ.
 من اليوم، وأن مرَ وقتً طويل نسبيا، يجب أنّ نُعيد بناء الأفكار السابقة وقراءة الحقائق من وجهة نظر ثانية، مع الآخذ بالتاريخ العريق للحضارة المسيحية في بلاد ما بين النهرين، والنهوض بالوعي العام لهذه الشريحة المغبونة، وليس الجالية كما اطلق عليهم رئيس الوزارء السابق نوري المالكي الغير مأسوف عليه، المهمشة والمركونة جانباً كإطار إحطياطي لسيارة مستهلكة، مع دَئب الحكومة العراقية والأحزاب بكل عناوينها لتقليل وعزل وإقصاء هذه الشريحة والمكون الأصيل من المشهد السياسي والأجتماعي والحياتيْ والعلميْ، واليد الآثمة التي تُنفذ هذه الأجندة القذرة هي الميليشيات التابعة لهذه  الأحزاب، التي هي الحكومة نفسها، والتي ما فتئت تقتل وتُهجر وتفتك بهذه الجماعة التي سكنت البلاد من فجر الحضارة، ولكن مع كل هذا فالمسؤولية لا تقع فقط على عاتق هؤلاء، فنحن أيضا تتحمل جزءا من هذه المسؤولية، لأننا تماهينا وتماشينا مع تيارات وقوى سياسية لمَ ولنَ تكن في مستوى هذه المهمة الخطيرة والمسؤولية الجسيمة، حيث دأبت منذُ البداية  على التقليل من قدرة هذا المكون، أليس الأمر مستغرب اليوم حقا، وبعد مرور كل هذه السنوات العِجّاف كيف وضعنا أنفسنا بين المجلس الشعبي والحركة الديمقراطية الآشورية زورعا وحركة أبناء النهرين وغيرهم، فالحركة الديموقراطية الآشورية زوعا ومن تأسيسها ضلت حركة مغمورة لم تؤدي أيّ دور يُذكر، لا حين كانت في جبال كردستان، ولا بعد الأحتلال، أكثر ما وصلوا له هو ثلاثة مقاعد معطوبة في البرلمان العراقي العاجز أصلاً، وهذه الكراسي إيضا سحبت منهم بعد أخفاقهم هم ذاتهم، وليس بسبب الكلداني ريان وقائمته المزعومة بابليون، وَإِن جاء فكردة فعل للوضع الشاذ القائم، فكيف نفسر أذا ميليشيا مسلحة شيعية بلباس مسيحي كلداني!، أخفاقٌ جرَّ أخفاقْ آخر، وهكذا كرت السلسلة، كل شيئ تهاوى كأحجار الدينامو ، فشل أكبر من فشل، وفي كل مرة كان هذا الأخفاق وهذا الفشل له ما يبرره في الحديث المُنمق للسياسيين. المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري لم يكن أحسن حال من نظيره، فهو ومن تاريخ التأسيس عام 2007 لم يخرج من العباءة الكردية، ولو ذهبَ الى المريخ وعادْ هو صنيعة كردية، وسوف يبقى كذلك تحت غطاءٍ كلداني سرياني آشوري، المهم النتائج تصب في مصلحة من على المدى الطويل، حتى الجمعيات والفعاليات السياسية لم يكن لها مشروع وطني واضح تنهض من خلاله بهذا الارث الحضاري والانساني والثقافي. لم يقدروا جميعهم الأنتقال من روح سكولائية (تلقينية)، إلى فكر عقلاني يساهم في بناء تصورات جديدة لهذا الوطن المنكوب، من خلال سعيهم نحوَّ فهم أعمق لصالح وعي جديد ينبني على مشروع وطني كمنطلق نحو العالم، كل هذا ضاع في غمرة الصراع على المناصب الواهية والكراسي البالية. المؤسف حقاً إن كل ذلك الأرث دخل في الثقب الأسود،  وهنا لا نتحدث عن بائع مشروبات كحولية مسكين في شارع السعدون أو موظف بسيط في وزارة الزراعة، لا نحن نتكلم عن فلاسفة وعلماء كانوا في بلاد ميزوبوتاميا، تنهل منهم ومن ثقافتهم جميع شرائح المجتمع، وكانوا قريبين من مجالس، الملك، الحاكم، السلطان، الأمير، الخليفة، ولهم كلمتهم المسموعة في دواوين الدولة، كيف ذهبَّ علماء بغداد وعمداء بيت الحكمة، أمثال يوحنا بن ماسويه وجبريل بن بختيشوع وحنين بن إسحاق وعبد المسيح بن بُقيلة، والشاعر عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ العِبَادِيُّ التَّمِيمِي، والأكاديمي والمربّي البروفسور متّى عقراوي أول رئيس لجامعة بغداد، والوزير والباحث والاقتصادي يوسف رزق الله غنيمة والصحافي والسياسي روفائيل بطي  وكوركيس عواد وميخائيل عواد، وكثير من العلماء العرب المسيحين. من كان وراء عزل وتناسي هذه القامات التي خدمة الوطن بكل اخلاص، هل ضاع كل هذا للأبد على صخرة الانانية والطمع والجشع؟، وذهبَ ذلك الأرث دون عودة!، وتلاشة ظل تلكُمّ الرجال؟ هل تكسرت الأمواج الثقافية والصروح الفكرية وانتهى عمرها ؟، هل إنقضت تلك الأيام مع رياح الحروب وغبار المعارك إلى الأبد، حقا مع شديدْ الأسف على كل ذلك الميراث الضائع.
كل ما اريد قوله هنا، إن السياسات والفِكّر السابقة لم تعد تجدي نفعاً وسط هذا الكم الهائل من الكذب والرياء والنفاق والفساد المُمارس في العراق الغير مسبوق، يجب خلق نواة جديدة من الأفكار لتحويل أو تحريك  مسار المرحلة التي  نسير عليها، والرهان على ذلك قوتنا العلمية والفكرية والفلسفية، وأن أخذت منا مجهوداً كبيراً ومضاعف ولكن يحب أن نبدأ، والبدأ يكون من الافكار والتي حتماً تؤول إلى أفعال في نهاية الأمر. وهنا يستحضرني قول الكاتب جورج أورويل( الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والنهابين والخونة، لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة).

135
المنبر الحر / رد: ما بعد القومية
« في: 09:33 21/08/2018  »
السيد نيسان سمو الهوزي المحترم
أنا اتفق معك أن العالم لم يكن نزيها ولا عادلا بل هو مجموعة مصالح اتفقت مع بعضها، وهذا من ناحية نفَعية utilitarianism لا يضر بل بالعكس ينفع من زاوية أكثر عمقاً، ولكن أنا لا اتفق معك ابداً  في أن الماركسية والمادية التاريخية سوف تنقذ البشرية لأنه ظهرت وسوف تظهر فلسفات جديدة New philosophies وأفكار حديثة تتماهى وتتماشى مع روح هذا أو ذلك العصر؟ لا يهم متى وإين المهم هو التغير الذي سوف يطرأ على الموجود البشر كما يقول هيدجر وعلى وعيهم وبالتالي على سلوكهم.
تقبل تحياتي ورأيك يهمني

136
المنبر الحر / رد: ما بعد القومية
« في: 09:09 21/08/2018  »
الأستاذ متي اسو المحترم
تحية طيبة، وانا شاكر لمرورك الكريم.
دينّ المجتمعات والدول هو التغيير، ونحن أكبر شهود على ذلك في العشر أو الخمسة عشر سنة الاخيرة من عمر هذا التاريخ، نماذج غير مشرقة، العراق بعد 2003، سوريا بعد 2011، ليبيا نفس العام، اليمن، كل شيء تغيير مع منعطفات جيوسياسية كبيرة أثرت في النهاية على العقل الجمعي  Collective mind و السلوك الجمعي ايضا Collective behavior، مِمَّا أعطى شعور للفرد والجماعة في آن واحد أن كل الأفكار السابقة ليست غير فقاعة صابون مع اقل نسمة هواء تنفجر ولا تترك أيَّ أثر يذكر، هذا كان حال البديهيات والأفكار الكبيرة مثل القومية أو البعثية أو الناصرية أو الماركسية، كل هذا سقط في بئر النكسة الآسن لا بل أصبح اليسار العربي برمته في مهب الرِّيح ولا وجود له غيري كتب ساطع الحُصري.
 شئنا أم أبينا هنالك تحول فكري كبير  Great intellectual transformation حاصل في الوعي  الإنساني والتجربة الانسانية بشكل عام  يجب علينا اليوم قبل غد أن ننتبه لَهَا. 

137
المنبر الحر / ما بعد القومية
« في: 07:41 20/08/2018  »
ما بعد القومية 
بقلم/ سلوان ساكو
في الندوة الأخيرة لملتقى سورايا الثقافي، والذي ينعقد كل شهر مرة في ضمن الفعاليات الثقافية في ولاية ملبورن الأسترالية،  هذه المرة تم استضافة الأستاذ صباح ميخائيل برخو، وكانت الندوة تدور حولَ الأنتخابات البرلمانية الأخيرة، ودورّ شعبنا المسيحي، وأحزابنا السياسية بكل فروعها، والقوة الفاعلة في الساحة، وتطرق الأستاذ صباح إلى مآلات وأسباب إخفاقها في عرض شيق وتاريخي مشكوراً عليه وعلى جهوده المبذولة لصالح قضية شعبنا،  والحق يُقال أنه أحاط الموضوع من كل جوانبه، من الناحية التاريخية والاجتماعية والسياسية. وهنا تجدر الإشارة بمعنى النقد التقييم للأفكار الكونية الكبيرة التي شغلت الساحة السياسية لعقود، وليس تقيم الندوة فالأستاذ صباح غنيٌ عن التّعريف والتقييم.
في اثناء المحاضرة شردَ ذهني قليلاً، وكعادتي صرتُ أسأل أسئلة جدلية من وحي الآية  (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، وأفكر إين باتت القومية برمتها، المحلية، العربية، العالمة، بل إين هو اليسار العربي الذي كان يشغل الدنيا والنَّاس في وقتْ ما، وبعض تجلياته، كالاشتراكية، والناصرية، والبعثية، كيف ذبلت كل تلك الأفكار الكبيرة ولم يعد أحد يذكرها الأن مع انها كانت تستحوذ على الساحة السياسية في فترة الخمسينيات والستنينيات الى مطلع السبعينيات، واؤفُلْ نجمهم مع حرب حزيران 1967، وبدأ بزوغ نجم حركات الأسلام السياسي كرد فعل للنكسة المذلة التي  مُنِيَ به العرب، والى اليوم يشربون من مرارة تلك الكأس، وهذا موضح بشكل كبير في كتاب  (معنى النّكبة) للمرحوم  قسطنطين زريق (1909-2000)، لا بل أن الكثير من المناضلين اليساريين تحولوا الى أقصى اليمين المتطرف، والراديكالية الأصولية، وهذا اشتد اكثر بعد إنهيار الكتلة الاشتراكية الكبرى في  الأتحاد السوفيتي أواخر القرن المنصرم، مِمَا شكل هزة قوية لجميع الأفكار والتيارات اليسارية، واعطى أنطباع أن كل الأفكار الماركسية واللينينيه والتروتسكية لم يُعد لها وجود، وطبُعت هذه بمِيسَم النسيان ووضعت على الرفوف. اليوم وفي حديثنا وفي صيغة كلماتنا التعبيرية من يذكر  البروليتاريا أو البورجوازية أو الطبقة الكادحة أو نظرية أغتراب العامل أو فائض القيّمة أو نقد رأس المال، كل هذه كانت أفكار مُتداولة وبشكل يومي وممُنهج وعلى كل المستويات والفئات، الطلاب الأساتذة الجامعات الحانات العمال الفلاحين، الكل يسأل ويريد أن يفهم معنى الماركسية ومعنى الحداثة ومعنى البنيوية ومعنى التفكيكية ومعنى الوجودية ومعنى الوضعية، كان هناك عالم متكامل من الأنثروبولوجيا  يدرس الإنسان الأجتماعي  والإنسان الثقافي وقيْم ومعايير المجتمعات، وتُعقد صالونات وندوات ومحاضرات وجدل ونقاش وتفاعل بين الجماعة الحاضرة، فتفرز من كل هذه النقاشات نظرية فلسفية ديالكتيكية تُوظَّف من أجل الصالح العام مما يؤدي إلى شيوع أفكار  بطريقة موضوعية تُحدّد الأهداف لتحقيقها وما تفرزه من عملية توظيف ضمن هذا الإطار في الواقع اليومي المُعاش للتأثير على سياق حركة التاريخ. إين نحن اليوم من كل هذا؟، في ظل المتغيرات الكبيرة التي طرأت على روح العصر، من منا بات يسمع أو يناقش أو حتى يرن في أذنيه قول كارل ماركس  حين يقول ( أن اسلوبي الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيغلي وحسب، بل هو نقيضه المباشر. فهيغل يحول عملية التفكير، التي يطلق عليها اسم الفكرة حتى إلى ذات مستقلة، انها خالق العالم الحقيقي، ويجعل العالم الحقيقي مجرد شكل خارجي ظواهري ُللفكرةُ. اما بالنسبة لي، فعلى العكس من ذلك، ليس المثال سوى العالم المادي الذي يعكسه الدماغ الانساني ويترجمه إلى أشكال من الفكر)، أنتهى الاقتباس، أو طنين فريدريك إنجلز  ( أن مسألة العلاقة بين التفكير والوجود، العلاقة بين الروح والطبيعة، هي المسألة الكبرى للفلسفة بكاملها، أن الأجوبة التي اعطاها الفلاسفة لهذه المسألة تفصلهم إلى معسكرين عظيمين، اولئك الذين أكدوا على اولوية الروح على الطبيع معسكر المثالية، والآخرون الذين اعتبروا الطبيعة اولية يعودون إلى شتى مدارس المادية)، أنتهى الأقتباس. من يطرح هذه الأفكار العميقة اليوم؟، لا بل من له المقدرة على إستيعابها وبلورتها والخروج منها بنص من الأساس، فاليوم  هنالك أفكار كونية تفرض نفسها بقوة في الصدارة، كنظام الصفر واحد، وتيار بعد بعد ما بعد الحداثة الفعّال بقوة الأن في الغرب، ومذهب ما بعد البنيوية، ونظرا للكم الهائل من المعلومات بات الكل يريد المعلومة السهلة المستساغة، الجميع يتجه نحو العم كَوكل، ينقر عليه فيلبي الطلب خلال جزء من الثانية، وبجميع اللغات العربية والأعجمية، مليارات من الإحداثيات مخزنة في هذا النظام الرقمي العجيب كمنصة للمعرفة. هل اليوم تصلح القومية أو الأشتراكية أو الناصرية كتعبير ثقافي عن مكان أو لغة أو شعب أو أرض؟،  أَلَيْسَ العالم اليوم قرية صغيرة؟، لا بل أَلَيْسَ الجنس البشري برمته داخل كرة مغلقة من الديجيتال؟ حتى تسوق الفواكه والخُضار يمرّ من خلاله؟، ألسنا أرقام تتحرك في ظل هذه المنظومة الكونية الهائلة؟، حتى من يريد السفر خارج البلاد  وهو مشمول بدفعات الضمان الأجتماعي ما أن تقلع الطائرة به  حتى يُقطع الراتب!. ضني أن الكثير من البديهيات تغيرت ومعها تغير الوعي بالمفاهيم ذاتها وبات هنالك مصطلحات جديدة وأشكال واساليب لأدوات التفكير أيضا جديدة لا تتماشى مطلقا مع ما كان مطروحا في السابق، فعقارب الساعة لا تعود للوراء ابداً، والماضي هو جزء من الماضي والتغير والتجددْ هو قانون الذي يحكم الطبيعية في مدار إهليليجي.       

138
الطريقْ للفهمّ يبدأ من هَنا
بقلم/ سلوان ساكو
الى حدّ الأن، وإلى اليوم لم ندركْ أهميّة التفاعلات الدولية المحيطة بِنَا وكيمياء السياسة العالمية وأدواتها وسياقاتها المتشعبة، ولم يستوعب الشعب العراقي بالخاصة الدافع الأساسي وراء الغزو الأمريكي للعراق في 2003، وكل المحاولات للسعي الى الفهم ما هي ألا مداورة على الإطار العام للملف من دون الدخول الى الجوهر والعمق الحقيقيين. وهي من واقع الحدث اليومي للنمطْ المعتادين عليه في الطرح (الكلام العادي للاستهلاك اليومي لا اكثر)، وقدرات ذهنية مُعطلة يجب عليها أن تعمل اليوم قبل غدّ، وعدم الوعي بالقضايا الكبرى المصيرية، واساء أكثر ما أساء لذلك كله القراءات المستعجلة والخاطئة، والتأويلات المُلتبسة الممزوجة، نظيف أليها الأحكام المُسبقة التي نطلقها بِدراية وبدون دِراية فبات القياس Measurement عشوائي وبدون ضبط أو دلالة، حتى أَمْسَيْنَا لا ندريْ خَبَايَا الأُمُورِ وما هو مكتوب ما بين السطور، تُطلقْ الأحكام على عواهنها بدون أبجدية المعرفة، وصرنا بعد مرور أكثر من خمسة عشر عام على الاحتلال نتخبط بمياه سياسية ثقيلة وداخل حلقة مفرغة، والذي نفكر به مجرد أضغاث أحلام لا أكثر ولا أقل، والبائن أننا سوف نظل في هذه الدوامة وهذا التخبط الى ما لا نهاية أذَ لم نُعيد صياغة الأفكار ونُعيد قراءة الحرب من البداية لكي نفهم ونعرف أبعاد الموضوع وكَيما لا نِضِيع أكثر في متاهات ودوربْ الكلام الفارغ، ولنعي حقيقة الوضع برمته من الأول لكي نصوغ من جديد حديث منطقي مُفيد يسلط الضوء على الحقائق المجردة دون رتوش لا معنى لها، وهذا بدوره سوف يخلق وعيا من مستوى آخر، مستوى أعلى، ووعيا يتفرد به الفرد العراقي ويملك أعين أبصر من زرقاء اليمامة ويفهم ماذا يُعد له في مطبخ السياسة الأمريكي، ليس من الأن ولكن من سبعينيات القرن المنصرم وبالتحديد من قرار تأميم مجموعة شركات نفط العراق المحدودة (IPC) من قبل الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر 1972، والذي أدى بدوره الى هذه النتائج المأساوية في نهاية المطاف. ولكي نفهم بشكل أدقْ وصحيحّ من البدء يجب أن نستبعد نظرية المؤامرة وتستبدلها بنظرية المصالح بين الدول، أو المصالح المشتركة بتعبير أفضل، العامود الفقري للسياسة العالمية في كل العصور والأوقات، وإنّ هذا لعمري شيء حسنا أن وظف بشكل جيد بحيث يخدم مصلحة البلد والشعب، والخروج من نفق الماسونية والصهيونية والإمبريالية، وهذا الفلم الهندي السخيف الذي عاف عليه الزمان وأصبح في خبر كان. ويجب أيضا أن نستبعد مسألة ثروات العراق التي لا تنضب في الوقت الحاضر على الأقل لكي لا تشوش على الفكرة الأساسية، وأن أمريكا أحتلت العراق بهدف النفط وحده، وأنها ضحت بأكثر من 4421 عسكري، قضى 3492 منهم خلال مشاركتهم في الأعمال القتالية، بينما بلغ عدد الذين أُصيبوا جرَّاء العمليات 32000 شخصا، وقد أنفقت مع نهاية العام 2011 مبلغ 1.8 تريليون دولار على الأقل، وذلك بناء على النفقات الفعلية المعلنة من قبل وزارة الخزانة الأمريكية على تمويل الحرب وهذا ما أيده البروفسور جوزيف ستيغليتز عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، من أجل النفط والكبريت، ووهم الزئبق الأحمر الذي يصرح البعض بكل جرأة أنه موجود في جنوب العراق على شكل بحيرات كبيرة.
الرتمْ في الطرح هو أن الولايات المتحدة الأمريكي ومن حقبة الرئيس رونالد ريغان في الفترة من 1981 إلى 1989، اتخذت من تيار المحافظين الجدد Neoconservatism خطاً نسقياً لها وفِي سياستها الخارجية، وأصبحت تركب هذه الموجة الفكرية الفلسفية الخطيرة ذات البُعد الاستراتيجي بعيد المدى. والواقع أنهم بدأوا باستغلال الدين لترويج مصالحهم كما سنرى لاحقاً. وأول من نظر لهذا الفكر هو ليو شتراوس (1899 - 1973)، وهو فيلسوف أمريكي يهودي من أصل ألماني، يعده البعض الملهم الأول لأيديولوجيا للمحافظين الجدد، وهم أيَّ المحافظين، مجموعة من اليساريين التروتسكيين الماركسيين، ملحدين في الصميم، وبالرغم من أن بوش الأبن لا ينتمي شخصيا لهم ومؤمن، إلا أنه تأثر بهم لاحقاً وفِي سياساتهم أشد تأثير. انقلبوا هؤلاء المجموعة ضد الليبرالية الأمريكية، وضدْ الاتحاد السوفيتي وقت ذاك، وطالبوا من إدارة ريغان باستخدام القوة المفرطة مع الاتحاد السوفيتي من أجل إسقاط النظام الشيوعي، وكان ابطال هذا الطرح أسماء لطالما رنةْ في أذان العراقيين من إيام حرب الكويت 1990، كرونالد رامسفيلد، وديك شيني، وزلماي خليل زاده، وريتشارد بيرل، وليس صدفة أبداً أن تُعاد الأسماء في حرب عام 2003، ولكن بسيناريو جديد هذه المرة ويظل المبدأ والهدف واحد، وهم غير التماميه المسيحية، وتيار المسيحية المُتصهينة الفاعلْ بقوة في أوساط النخبة الامريكية، والذين يعتقدون ويؤمنون أنه يجب دعم إسرائيل بكل قوة من أجل مجيء المسيح مرة ثانية. من أهم من نظر للمحافظين الجدد بعد شتراوس من الجيل الجديد، برنارد لوس وآلن بلوم وفؤاد عجمي، وهذا الأخير صاحب فكرة إسقاط القومية العربية، وهي أردء ما صنعه العرب حسب قوله (أخطر إيديولوجيا بعد زوال الشيوعية ويجب إزالتها وإسقاط طغاة العالم العربي الذين يحكمون باسمها). نشأت هذه المجموعات على إيدي مجموعة من اعضاء حزب الديموقراطي الرافضين للسياسة العامة في واشنطن في السبعينات، ‏ وانشقوا عن الحزب الديموقراطي، والتحقوا بالحزب الجمهوري، ومرة أخرى ليس صدفة أن جميع الحروب العالمية يخوضها الجمهوريون، رحبت بهم حكومة ريغان كما قُلنا، وبدأ شتراوس مما اعتبره نقائص الليبرالية والتي اعتبرها النتيجة المنطقية للأفكار الفلسفية للحداثة وما بعد الحداثة، وهذه اشتملت على ميل داخلي نحو النسبية الذي تؤدي إلى العدمية في المحصلة الأخيرة. انشغلَ ليو شتراوس بالفلسفة السياسية ما قبل الحديثة على وجهّ الخصوص، من اليونان، أفلاطون بالتحديد، مروراً بالفارابي وابن ميمون حتى العصر الحديث، (يقول شتراوس (ما كان يشغل بالَ روسو هو حاجة كلّ فرد إلى مجتمع جمهوري (Republican Society) من أجل أن يصوغ رغباته وطموحاته تجاه أندادهِ في شكل قوانين) ومن هنا جاءت فكرة الفوضى الخلاقة (Creative chaos)، التي جَهَرت به علنيا كونداليزا رايس وزيرة خارجية جورج بوش في الحقبة الثانية، ومستشارة للأمن القومي في فترة الرئيس بوش الأولى بين عامي 2001 - 2005، والتي أرادت الأدارة الامريكية تطبيقها كنموذج خاص ( Special form) في العراق وكحل ديموقراطي نهائي للأزمات( A democratic solution)، ونمط غير عادي للحكم (Extraordinary pattern)، وهذا الاحتيال على المفردات والدوران على اللّغة كان مقصودا، بحيث يجري فهم حقيقة ما يُقال فقط من قبل قلة متخصصة، دون أن يُفهم من الناس العاديين، و بالتالي دون أن يؤثر على قناعتهم و خضوعهم للنظام السائد. فأمريكا ليست فقط حالة متقدمة جدا لليبرالية البرجوازية هي تعمل على خلق     Global system)  ) نظام عالمي جديد، وهذا ما صرح به جورج بوش الأب في عام 1991  عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، و بالتالي تتحمل الولايات المتحدة خطورة عالية على الحفاظ الأمن والسلم العالمي، وهي حسب ليو شتراوس أيضاً يجب أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية اتجاه العالم وتخلق نخب هي التي تحكم، وأن كلّف الكثير من الضحايا، يكون التحكم وأن كان من بعيد بيدّ أمريكا، بحيث شكل سياق فكر شتراوس الفلسفي حجر الزاوية في تَسير دفةْ القرارات، وحول موازين القوّة للكتلة الرأس مالية خاصة بعد أن ظل لاعب واحد في الساحة الدولية. وهنُا أزاد الشتراوسيين والذين رَأوْا أن العالم يجب أن يقوده نخبة النخبة أي طبقة الفلاسفة ومن هذا المنطلق صار هناك مفهوم جديد للحكم أو الدولة يختلف مع مفهوم هيجل للدولة المقدسة، وهذا الامر قديم جديد في نفس الوقت حيث اراده أفلاطون في جمهوريته وبعد ذلك الفارابي ومن بعده أبن ميمون لتعزيز فكرة أعمق من ذلك وهي ان المجتمع مقسم بطبعه الى عدة مستويات، الرعاع، المتعلمين مع أنصاف المثقفين، والفلاسفة الحاكمين، أم كيف طوعوا كل هذا ونفذوا هذه الخطط الكبيرة، الجواب إنهم تحالفوا مع الاصولية المسيحية الامريكية في تحقيق مأربِهم وعلى المدار الطويل والأمد البعيد، لأن الدين حسب قولهم سهل التطويع ويدخل كل منزل وبالتالي يسهل ترويج الأفكار عن طريقه. ولا يتصور القارئ الكريم أن الأصولية المسيحية تعني الكلدان أو السريان والاعتراف عند الكاهن، وقداس يوم الأحد ظهرا، وصوم واشتراكات، و شباب وشابات الجوقة، لا أبدا، هي أصولية ظهرت بالأساس كرد فعل ضد الحداثة، وفِي نفس الوقت هي إعادة صياغة للعلاقة بين الدين والسياسة من المنظور المسيحي، وقد نشأت في الغرب مع بلورة حركة الإصلاح الديني، جمعهم مِلاط ومصالح وقاسم مشترك مع المحافظين الجُدد والجمهوريين، حتى تمظهرت على شكل حروب استباقية تخوضها أمريكا باسم كل هذا النسيج الجامع الذي لا يصل أَلاَ لقلة القلة.
وإلى حدّ اليوم هذا التيار موجود في أدارة دونالد ترامب ويعمل بقوة مع أن الرئيس الأخير، ذوّ الميول والعقلية التجارية والسياسية معاً، وأرثهم موجود ولن يزول بسهولة على الأقل خلال الجيلين أو الثلاثة القادمة، وسوف نشهد تغيرات كثيرة في جيوبوليتيك المنطقة، خاصة الشرق الأوسط، مع الأخذ في نظر الاعتبار لجمّ التنين الصيني من الاستحواذ على التجارة العالمية، كل هذا وغيره يطرح سؤال وجيه وعميق، ما هو مستقبل العالم؟، والى أين حدود النظام العالمي الجديد في هذا المأزق الحضاري؟، وكيف سوف تؤول الأمور مع هذا الكمْ الهائل من المنعطفات الاستراتيجية في الصراعات بين القوى العظمى على هذا الكوكب والتي ما انفكت تزداد يوما بعد آخر وانعكاساتها على الواقع العام؟.

139
الفضائح الجنسية تطالّ كِبار الأساقفة
بقلم/ سلوان ساكو
اذا ما أرت أن تزعزع من مكانة شخصا ما وأحراجه والقضاء على مستقبله، أو حتى رجل الدولة الرفيع والحكومة، ما عليك سوى بالفضائح الجنسية، هي الكفيلة بترجيح كفة الميزان للجهة السلبية حتماً. فمدير السابق للصندوق النقد الدولي والمرشح للرئاسة الفرنسية، دومنيك شتراوس كان، كان له بريقْ نجمّ ذات يوم وأَفَل نجمه، وأنتهت حياته السياسية والاقتصادية بلحظة غير سعيدة من مساء نيويوركي بارد مُثلج، حين أدعت عليه عاملة النظافة في الفندق الذي كان ينزل به في منهاتن بالأعتداء الجنسية الفموي، فأنزلته قاضية تحقيق البلدة من الطائرة التي كانت مزمعة أن تغادر  بِه الى باريس وحكمته وسحقت مستقبله للأبد. حتى الرئيس الروسي فلادمير  بوتين، ما كان سيصل الى سدة الرئاسة الروسية في يوم من الأيام لولة التهمة التي لفقها لنائب المدعي العام الروسي في موسكو، والذي كان يحقق في قضية فساد تاتيانا ياماشيفا ابنة الرئيس الروسي بوريس يلتسين وزوجها والتي طالت حتى يلتسين ذاته، فلم يَرَى مناص الرئيس السكير السابق لروسيا الأتحادية، غير شاب أل كي جي بي العائد حديثاً من إلمانيا الشرقية ليخلصه من هذا القاضي المتحمس، فوجه له الشاب المندفع فتاة حسناء لقاها القاضي في مصعد العمارة عند الظهيرة، ومع حلول المساء كان الفلم الأباحي يُعرض على القناة الروسية الأولى، فطوية بذلك ملف الفساد للأبد وتقرب بوتين من مركز القرار في الجمهورية الوليدة بعد أنهيار الأتحاد السوفيتي.
تتعرض الكنيسة الكاثوليكية في أسترالية إلى حملة شرسة وغير مسبوقة على الإطلاق، ووجهتْ وتوجه إلى الْيَوْمَ تُهمْ عديدة بالإساءة الجنسية للأطفال، طالت شخصيات رفيعة ذات وزن وشأن في هيكلية الكنيسة، فالكردينال جورج بيل رئيس أساقفة مالبورن ووزير مالية الفاتيكان يَمثل أمام المحكمة الأسترالية في الولاية بُتهم وجهت له بأعتداءات جنسية على الأطفال قبل خمسين عام حين كان كاهن في قرى الريف، التهم الموجهة لثالث شخص في الكنيسة الكاثوليكية من النوع الواهي والغير منطقي والغير أخلاقي، كفعل تجني وقضية كيديه، الغاية تشويه سمعته والطعن في سلوكه وشرفه، كإعطاء منشفة لصبي في حوض سباحة، أو التربيت على الكتف أو حضور فلم في السينما مع أبناء الرعية قبل أربعين عام، وغيرها من الُتهم الباطلة التي وصفها محاميه روبرت ريشتر  أمام المحكمة في إحدى جلسات الاستماع، إن هذه الاتهامات "مستحيلة"، واصفا المدعين بأنهم "ليسو جديرين بالثقة". شخص مثله طاعن في السنْ بعد خدمة ناهزت الستين سنة يُجرجر إلى المحاكم ويضرب حوله طوَّق أمني من رجال الشرطة والأمن الخاص كأي إرهابي كبير،  بعد طول خدمة قضاها في خدمة الناس والشعب الأسترالي، عن أيَّ عدالة وقانون نتكلم أريد أن أعرف؟.
لا أخلاقية الحكومة برئاسة مالكولم تورنبول والمعارضة برئاسة بيل شورتن تتوافق مع مصلحة الوضع القائم والأفكار السائدة من تفكيك منظومة الدين والحطّ من قيمْ الكنيسة الكاثوليكية في المجتمع، وأن كان من خلال طُرق غير مباشرة ودهاليز الخطاب السياسي المبطن والذي يحتاج لتفكيك وتفسير لفهمه جيداً، ( سياسية ميكيافيللية) المعلن شيء والغايات شيئاً آخر، فلم يمرّ  وقتً طويل على تشريع قانون زواج المثليين والتي وقفت الكنيسة الكاثوليكية له بالمرصاد، ولكن مرّ  في نهاية الأمر  وصارَ قانون مُشرع تتخذ به المحاكم المدنية والبلديات في سياق المعمول بِه.
 الحملة كانت ومازالت شرسة على رجال الدين الكاثوليك، فهَذَا رئيس أساقفة أستراليا، فيليب ويلسون، قال يوم أمس أنه سيتنحى عن مهامه بعد يوم من توصل المحكمة إلى إدانته بتهمة التستر على قيام قس باستغلال طفل جنسيا قبل عقود من الزمن. نعم يوجد أعتداءات ويوجد تقصير في محاسبة المُعتَدي، وهذا ما صرح به قداسة الحَبر الروماني البابا فرنسيس، بفصل أي قسيس لم يبلغ عن حالات الأعتداء الجنسي على الأطفال والبالغين المعرضين للخطر، وأعلن بنفس الرسالة أنه أسس هيئة محلفين تساعده على اتخاذ القرارات بشأن فصل القساوسة والمتهمين بحالات الأعتداء الجنسي، بل حتى أجتمع مع مجموعة صغيرة من ضحايا الأعتداء الجنسى للأطفال على أيدى قساوسة فى تشيلي قبل فترة، وقال الخبر أنه (أستمع إليهم وصلى وبكى معهم)، وعُقد الأجتماع  فى سفارة الفاتيكان فى سانتياجو وإنه كان شديد الخصوصية. ولكن الصيد في الماء العكر شيئ ثاني، وتَألِيب الرأي العام في الشارع من قبل الحكومة والمعارضة على حدٌ سواء  الذين لا يتفقان على شيء سوى على خراب الهيكل، هنا يكون خيط معاوية الرفيع والذي تُحاول القنوات التلفزيونية المحلية بعرضها لمشهد الكردينال العجوز  والأساقف المتهمّ وهم يدخلون أروقة المحاكم عشرات المرات باليوم الواحد قطعه. يجب علينا أن نفرز الرّث من السمين من الأخبار التي تطلقها الأقنية، فليس كل ما يُقال صحيح وليس كل ما يصدر من كلام موثقً به، فكما يقول المثل الشعبي اللسان بدون عظم.

140
كلمة حَقّ بحقّ مجلة بابلون الصادرة في ولاية ملبورن.
بقلم/ سلوان ساكو
يفعل حسناً محررو مجلة بابلون الفصلية، المستقلة، الثقافية، والصادرة في ولاية ملبورن الأسترالية من جُهود مبذولة مشكورة عليها سلفاً لتحريك مياه الثقافة العربية الراكدة في نطاق الولاية، والرجوع إلى لغتنا العزيزة لغة الضاد، دون تعصب لجهة معينة أو محسوبيا، وتحويلها لمنصة فكريَّة تُعزز من مكانة المعرفة الحقة وتبث المعلومة الصحيحة كَيْما يستفيد منها القارئ العربي بشكل عام. فمعَ إنتشار ثقافة القراءة الألكترونية، والتصفح عبرَ الويب سات، بل حتى ضمن App Store المحمول، وولعْ الناس بالمعلومة السهلة دون جهد مبذول لتصفح المُنْتَج الورقي، صار هناك تحدي من نوع أخر، سواء كان على عاتقّ هيئة تحرير الجريدة أو المجلة أو الناشر على حدّ سواء، وهو إصدار مجلة محترمة ذات طابع ثقافي أدبي أجتماعي سهلة المنال وتوزع مجاناً فيظل على القارئ أن يتصفح من هذا المنتج وينهلْ من مُعين الثقافة والأدب باللغة العربية الممتعة والشيقة.
 التحديات كبيرة على الجاليات العربية وخاصة منها العراقية، والأنصهار  في بوتقة المجتمع الأسترالي الجديد يفرض نفسه بشدة على العوائل المهاجرة والتي تحاول الأحتفاظ بقدر الإمكان بهويتها دون الرجوع للماضي كوعي نوستالجي ( الحنين للماضي كمرض) كإطار للذات المنكسرة وهي تحاول النهوض من كبوتها محاولة صياغة الحاضر مع مفردات الماضي في إعادة الهوية، وأهم هوية محورية للأنسان هي اللغة أيضاً كوعي بالذات كمفتاح لتأثيث هذا المسار، وهنُا يقول الفيلسوف الألماني هيدجر (اللغة بيت الوجود)، فاللغة أعظم إنجاز بشري فعله الإنسان خلال خمسة وستة آلاف سنة مضت، وأعظم شيئ فعله هذا الإنسان ويفعله هو الكتابة والتوحد مع نفسه وهو ويكتب، لا يهم سواء كان بيت شعر أو مقالة أو قصة أو تحليل سياسي أو أقتصادي، المهم هو فعل الكتابة نفسها، والأنعتاق من هذا العالم عبرَ القراءة والتفرد به. يقيم الأنسان علاقة حميمة مع لغته والتي تصبح مع مرور السنين هويته هو، وذاته العليا، وأناه ( ego) التي يدور في محورها لتصبح مع التقادم فعل معرفي ذات جذور بعيدة في اللاوعي (The subconscious) ورافد مهم في حياة الإنسان كحق مشروع له هُو، وتأكيداً لهذا المبدأ تقوم الجالية التي تُريد الحافظ على لغتها أيَّ هويتها بإصدار مجلة ذات بعد ثقافي، أو يقوم شخّص بطباعة مجموعة قصصية أو رواية حتى أو ديوان شعر، أو إقامة مهرجانات (كمهرجان مار أفرام للفنون) أو ملتقى سورَيّا الثقافي، فعاليات تُقام في ولاية ملبورن، تكون الغاية من كل ذلك هو الأحتفاظ بمكانة اللغة الأم، وهذا طبعاً لا يسيء للغة البلد أيَّ الأنكليزية بأي شكل من الأشكال، كلغة رسمية محكية يومية، بالعكس فهذا يزيد من إثراء ثقافة الفرد بتشكيلة أشمل للمعاني والمفردات والمصطلحات. وهنا يكون الرهِان على المنتج ذاته ومدى تفاعل الجالية معه وقرأته، وحتى عمل ورشات وندوات حوله لرفع مستوى الثقافة في الولاية مما ينعكس كل ذلك على الجالية نفسها حتى ضمن الحكومة المحلية ( Local government).
زبدة القول كل من يقوم بعمل ذوّ طابع ثقافي ومعرفي وأدبي يُشكر عليه سواء كانت مجلة أو توقيع كتاب أو  عقد ندوة،  فكل هذا لخدمة الناس، ومرآة تعكس ثقافتنا، وليس التَّمَاهِي مع  قول الشاعر نزار قباني،
ثقافتنا !
فقاقيع من الصابون والوحل
فمازالت بداخلنا
رواسب من " أبي جهل
ومازلنا
نعيش بمنطق المفتاح والقفل
نلف نساءنا بالقطن ندفنهن في الرمل.
وهو أن دلّ على شيء فيدل على مدى الشعور الذي ينتاب القائمين عليها إتجاه الجالية العراقية.

141
 المسؤول العراقي والغجرّ
لم تكنْ تتوقع عائلة المجيد والتي ينحدر منها الرئيس الراحل صدام حسين المجيد أن يأتي يوم وتزول فيها دولتهم القوية حسبهم؛ كالأمويين  والعباسين والقرامطة والفاطميين، والتي تحولت قبل السقوط المدوي إلى مزرعة خاصة لهم ولإسرهم، ولم يكن يتوقع إيضاً علي حسن المجيد أبن عّم الأول  1941 - 2010،  أن تحترق خيمته ويجف نهر الذهب الذي يَصْب في خزائنه من أموال النفط والرشاوي، وأن يحل يوم العِقاب وهو داخل قفص الأتهام وعيناه شاخصة نحو الأدعاء.

يظهر أن الأخير أيَّ علياً كان يحب التصوير ( فيديو ) فكان يقوم بتصوير كل حفلاته الماجنة الخاصة والعامة مع الغجرّ ( الكاوليه) على شرائط كاسيت، وبعد السقوط في 2003 حُمِلت هذه الشرائط وأنُِزلت على موقع اليوتيوب بأعداد وأجزاء كثيرة، ويظهر إيضاً أن الشخص أو الجهة التي أنزلت الأفلام تُريد أن تُصور مدى همجية وقروية هذا الكائن الغير مجيد، فخلال سنوات الثمانينات والحرب العراقية الإيرانية على أشدها والشهداء الشباب بالألف يعودون إلى الوطن ملفوفين بالعلم العراقي وملطخين بدمائه وأمهاتهم ثكَاَلى عليهم، كان هو يرقص ويشرب على جُثثهم مع غجره، فعل أخلاقي مُشين أليس كذلك؟، هذا ماعدا المفقودين والاسرى الذين لا عدّ ولا حصر لهم. هنا يظهر لنا وبشكل جليّ لا يقبل النفي مَدَى رعونة أزلام النظام السابق واستهتارهم بمقدرات دولة لكانت الأن في مصاف دول  متطورة لولا الحماقات. وهنا الحديث ليس عن مسؤول عادي أو موظف في دائرة الماء والمجاري، أو قائمقام قضاء المحاويل، لا هو ثاني رجل بالدولة، واقوة شخص بعد صدام حسين ذاته، مدير الأمن العام، وزير الداخلية، وزير الدفاع  برتبة فريق أول ركن، عضو قيادة قطرية في حزب البعث، مسؤول تنظيمات الشمال. كل هذا في أنسان جاهل وغير مؤهل من الأساس.

الأفعال هي نتيجة حتمية للأفكار والتي تؤول الى تصرفات في النهاية المطاف، وتوظف من أجل بناء وإعمار البلد. رجل الدولة الحقيقي يكون صاحب رؤى وفكر ثاقب ونظرة بعيدة للمستقبل تتبلور من خلالها نظرته لتطوير مؤسسات دولته، تّمر بتعرجات ومنحنيات وسقطات بين الفترة والأخرى لا يهم هذا كثيراً فهذا من طبيعة الأشياء!، المهم هو النهوض بالمنجز ذاته على أعتبار هو غاية الغاية، وحافزه المشروط هو ترك أرثٍ ذاتَ نمطْ عريق للأجيال اللاحقة ترسم حدود دولة ذات سيادة وقوية. في العراق الترسيمات تختلف تماماً، فجل أهتمام رجل الدولة ما بين الساقين والخيم والغجر، حتى صدام حسين لم يقدر أن يتخلص من هذه العقدة وهذا الإرث البغيض، إرتدى أرقى البدلات وتزوج مرة ثانية من بيت بغدادي عريق، ومسحتْ ألمانيا الشرقية الوشم الذي كان منتشراً على جلده، ولكن الوشم الحقيقي ظل محفورا في داخل الجلد بين حنايا النفس، ليس بمقدور احد ان يمحوه لأنه جرحاً غائر في الاعماق، أقول، كيف يستطيع شخص يحمل كل هذه الترسبات أن يبني دولة متطورة اذا هو أصلا منغلق على قضايا تافهة، وسنسأل مرة ثالثة ورابعة وخامسة وألف؟، كيف تكون العقل العربي، وأنحدر وينحدر بوتيرة سريعة للدرك الأسفل من الموجود الحضاري للبشرية وتطورها الهائل!. لن أرجع الى كُتب محمد عابد الجابري بالطبع، ولا إلى الباحث العراقي علي الوردي، ولكن بنية التكوين الأساسية واللبنات الأولى للعقلية العربية والعراقية بالذات بِنُية قبلية قروية صحراوية متخلفة، وهذا التأسيس الأولي على هذا الفعل قادَّ مع مرور الوقت إلى هكذا نماذج في غفلة من الزمان سيطرت على زمام البلد وتحكمت به وبأفراده، فجعلته إحتكار لتلك الأفكار ووظفت الخطاب الفكري القروي الساذج في بناء تلك الدولة، كيف يصح هذا؟، هنا ينجلي وبمكان ما وضع العراق الأن من الفوضى والخراب والتجزء والسرقة والفساد الغير مسبوقْ بأسم الوطنية والوطن، نفس ما كانت تفعله الغجرية بالضبط، ترقص على خارطة الوطن بكوفية المسؤول الحمراء على الخاصرة. لا أحد يستغرب من فشل الأنتخابات الأخيرة والتزوير  وحرق صناديق الاقتراع، وصعود رُعاع إلى مناصب رفيعة في  الحكومات السابقة والأتية، وتبوء الجهلة أرقى المراتب لأن الوضع الطبيعي مع الجهل المستشري في مفاصل الحكومة والدولة هو  هذا، والخطاب السلبي للسياسي العراقي الذي يصمْ الأذان في القنوات الفضائية المباشر منه والغير مباشر والذي يقتدي به الشعب يكمن أثره السلبي فيما يولده هذا الشخص من ضرر على الآخر والحياة والمجتمع والدولة ذاتها كخريطة لحدود جغرافية يعيش به الانسان بأمان وحرية، والأخطر من ذلك هو إن الخطاب المضمر والمبطن هو جزء من بنية العقل الجمعي للسياسي العراقي.
 ويبقى الطرح مفتوح، هل بمقدور الساسة والبرلمانيين والمسؤولين التحرر من كل هذه القيود التي كبلت وتُكبل العقول ليخدموا مجتمعاتهم وأوطانهم بشكل أفضل؟.

142
قانون سحبّ الجنسية في أستراليا
بقلم/ سلوان ساكو
حين أرادت الحكومة البريطانية ترحيل الداعية السلفي  عمر محمود عثمان الملقب (أبو قتادة) الى الاْردن دخلت في صراع مرير مع القضاء الإنكليزي، وظلت القضية في أروقة المحاكم سنوات طويلة دون التوصل إلى نتيجة تذكر، وجوبه قرار الترحيل بالرفض لسنوات عديدة مع أن ملف ابو قتادة كان مملوءً بقضايا إرهاب وأعمال تحرض على العنف، تورطه بنشاطات إرهابية ضد بريطانية نفسها وكان يُقيم الصلاة في وسط الشوارع العمومية ويقطعه على المارة والسيارات، ومع أنه لم يكن يحمل الجنسية البريطانية لديه فقط إقامة مؤقتة، لم تنتهي المسألة ألا بوعد من الحكومة الاردنية أن يحَظىْ بمحاكمة عادلة وبأشراف القضاء البريطاني ذاته على سير الجلسات، وفي نهاية المطاف رحُل الى عمان في عام 2013 مع أنه كان مطلوباً من قبل حكومات، الجزائر، بلجيكا، فرنسا، الولايات المتحدة، إسبانيا، ألمانيا وإيطاليا. .
نسمع شذرات كلام من هُنَا وهناك، وأقاويل بين الحين والآخر مفادها أن على السلطات الأسترالية أن ترحل من يثبت عليه صلته بالارهاب، أو من كان متعاون أو متُخابر مع تنظيمات لها صلات مشبوهة أو مشتبه بهم، وهذا الأمر صار أكثر مطلوبً من الناس بعد الهزائم التي مني به تنظيم الدولة الاسلامية في سوريا والعراق وباتَ المقاتلين يعودون إلى بلدانهم التي إنطلقوا منها بعد أن تشبعت أياديهم الآثمة بدماء الأبرياء وتلوث العقل بمفاهيم القتل والجهاد والأعتداء على حرمة الغير، وصار على الحكومات الأجنبية الغربية أن تحمي نفسها من هؤلاء الذين يسيئون للمجتمع ويعملون على تخريب البلاد التي أحتضنتهم. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، والموضوع وليس تمنيات وطلبات طوباوية وأدعية واشعال شموع، والحديث عنه دون أهلية وبغير منطق، أو كلام عابر في مجلس عزاء لتزكية الوقت وشرب القهوة، أو إسقاط  الموضوع على العوائل الكَرد الفيلية التي أتُهمت بالتبعية لإيران  فطردهم صدام حسين ببساطة بين ليلة وضحاها خارج الحدود كمثل. الموضوع أكبر من ذلك بكثير ومعقد في ذات الوقت. الموضوع ينطوي على حزمة قوانين وتشريعات وقرارات ليست مشُرعة من الأساس، وقضية سحب الجنسية على من تثبت إدانته الارهاب أو صلته به غير مفُعلة، وهذا المتهم أو المشتبه به مطوقا ومحميا بسلسلة من التحصينات القضائية التي تعمل لصالحه، وتخدمه من جهة ثانية في نطاق تعويله على التشريعات ذاتها، ومحاميه يعرف ذلك تماما ويعمل في سياق هذا التتبع لسُبل تبرئة موكله بعد أدراك شروط المواد القضائية، لا وزير الهجرة ولا وزير الداخلية ولا رئيس الوزارء ذاته له السلطان في سحب الجنسية من أيّ مواطن حاصل عليها، لأن القضاء ببساطة منُفصل عن الحكومة، وهذه القضايا لا يبتْ بها غير المجلس الأعلى للقضاء وهذا الأخير غير معنى بكل هذا لأن المُشرع الأصيل لم يعطى مساحة كافية في النظر في هذه القضايا من البدأ، ناهيك عن حقوق الانسان والإعلان العالمي لحقوق الفرد في العيش، وصون الحريات الفردية كمفهوم ديموقراطي. هي بختصار ثقافة أحترام الآخر وتطوير أدوات المُسامحة مع الخصّم وفقْ وضع إنساني بحت، كل هذه وغيرها أمست كوابح تُعُطل من إتخاذ تدابير من شأنها أن تحدّ من الأرهاب الوافد من الشرق الأوسط، على الأقل سوريا العراق لبنان، وبالتالي تراكمت على الخطاب الفكري والثقافي للغرب عهودا من العجز في ضخْ تشريعات جديدة في جسم القضاء المترهل سببت هذا العجز المذموم وقطعت الطريق على الأجهزة التنفيذية، شرطة، مكافحة الأرهاب، جهاز ASIO، الامن القومي، على حفظ الأمن بشكل كافي، وهنا يبرز دور المشُرع الجديد Supreme Justice  أو كاتب الدستور الذي يحمي المجتمع والنَّاس، ويقوم القاضي بتفعيل هذا الدور وتطبيقه وضبط المجتمع من الشرور حيث يكون الأصل فيها أن الانسان مفطور عليها وأن وعينا الاخلاقي له تراكمات ورواسب لها القدرة على قتل صوت الضّمير. ولكن الموضوع ليس بهذه البساطة، هي أعادة أنتاج التجربة بعد أدراك الاخطار المُحتملة، ويجب على المواطن العادي والقاضي والحقوقي أن ينتبه لهذا الخطر الداهم على البلاد، وتشريع مواد تحدّ من هذا السرطان الذي بدأ يستشري في المجتمعات من خلال استئصاله من الجسم السليم، وإلا في نهاية المطاف سوف تفتك الخلايا السلطانية بالجسم وتدمره من الأساس.   

143
وهَنّ الشخصية المسيحية في الدراما المصرية
في عرضّ كوميدي وعلى مدار سنوات طويلة كانت تعُرض مسرحية (الواد سيد الشغال)، بطولة عادل إمام واخرون، ظهر لنا الفنان القديم والتقدير يوسف دَاوُدَ من خلال شخصية (الكَبلاوي باشا) وعلى مدار العرض المسرحي كان محطة للنصب والسخرية، تارة يضع سيدّ الشغال أداة شفط المرافق الصحية على رأسه، وتارة أخرى يلفه بقطعة قماش بيضاء، مما زاد من التهكم والسخرية والضحك إيضاً، قد تكون بريئة الى هذا الحد، ولكن بعد ذلك جاءت مسرحية الزعيم، وايضاً جاءت كلتا الشخصيتان أمام وداود متشابهتان في الأدوار، المنصوب والمنصوب عليه، على وقع كوميدي ولكن لا تخلوْ من إسقاطات لها منظور من زاوية أخرى، قبل كل هذا بسنوات عُرض فلم أشترك الاثنان معاً أي عادل ويوسف في أدوار البطولة، عنوان الفلم هو (حنفي الأبهة)  وتكرر موضوع السخرية ذاته، ولم ينتهى سينارست السخرية عند فلم حسن ومرقص لا أستمر  مع أفلام كثيرة مثل( فلم هندي) بطولة صلاح عبدالله ومنة شلبي، كان أقرب إلى بروباغندا رخيصة ومثيرة للسخرية تظهر من خلال عرض سينمائي، على كل حال، أما التطور الثاني فهو ما تمخضت عنه أفكار المؤلفين وكتاب السيناريو أنفسهم، حيث يقول البعض أن هذه أدور  سينمائية أو مسرحية، وأن الممثل الحقيقي يُؤدي أي دور يوكل له، بغض النظر عن الصفة ويحاول أن يضع على وجهه قناع من الشمع، مرة يظهر لصْ، ومرّة يظهر ضابط، واُخرى في شخصية تاجر مخدرات، وثانية رجل طيب، وآخرى طبيب، وهذه هي الأدوار السينمائية الدرامية يتقلب به الفنان من دور إلى آخر، ويفتعلون الغضب والخير والشر والفرح والحزن، من مقلب إلى مقلب ثاني. ولكن ألاْ يمكن أن يحمل القصد  معنى أخر معنى مُبطن، أبعد من ذلك، وأن السينما والشاشة الفضية وخشبة المسرح ليست سوى إنعكاس لهذا الشيء ومرأته الموجودة في المجتمع المصري أو لنقل العربي بشكل عام، مرآة معكوسة تهتز فيها كلّ صورة، وبعد ذلك تتشظى لكريات بلورية تعكس قاع المجتمع السحيق والذي ليس هو غير  تصورات خاطئة عن الغير، وبناء مونولوجي تركب على وعي مغلوط، وما يظهر على السطح من هذا المونولوج  ليس غير تجلي بسيط لهذه الأفكار والمشاعر والأحاسيس. هو نكوص سينمائي اذا جاز لي التعبير، ذوَّ دلالات كثيرة يحمل علامات استفهام، هذا ليس مقال تحريضي وانا بعيد كل البعد عن ذلك، ولكن لنفهم اكثر فقط ونثير تساؤلات بغرض الإيضاح؟. يعرض الأن مسلسل  ابو عمر المصري في شهر رمضان، بطولة أحمد عزْ واخرون، أحدث كثيرة في ثنايا المسلسل للمخرج أحمد خالد موسى، المهم في الحلقة 6  تُشكل مجموعة من الشباب الحقوقي رابطة مَحامة صغيرة يدافعون عن المظلومين بأجور بسيطة أو بدون أجر، تضم هذه الثلةّ من الشباب  شخص مسيحي أسمه أشرف، يظهر من البداية كشخصية مهيضة الجناح، أو أرده المخرج هكذا، مع أول إنتكاسة لهذه المجموعة يظهر لنا جبن أشرف بشكل جليّ لا لَبْس فيه، ويعلو سقف السيناريو الدائر  بين الشباب، فيتهم واحد من الجماعة صراحةٌ اشرف بالجبن والتخاذل، ويستمر الوضع على هذا المنوال الى أن يعتزل أشرف المجموعة ويترهبن أي يدخل الدير.
 الإسقاطات كثيرة في الدراما المصرية على هذا الجانب بمعنى إظهار الشخصية Character المسيحية في موقع الضعف والوهن والجبن والخيانة، من مجِهر أكثر قربً من المحيط الدائر في فلكه المجتمع، فلم أحاسيس مثلاً انتاج 2010  تألف أشرف حسن وأخراج  هاني فوري  بطولة إدورد، مسلسل حارة  اليهود انتاج 2015  إخراج محمد جمال العدل وتأليف مدحت العدل. في الدراما المصرية على ما يبدو ليس هناك تحول نمطي للسرد أو حتى خلق تحولات ومدارك أكثر سعة ورحابة تعطي مدارات لفهم فلسفة المعُطى الفني وجودته الفنية وجمالياته والذي يتسامى ويجب أن يتسامى فوقع كل هذه السخافات.
حين إغتيل مؤسس جماعة الاخوان المسلمين في مصر حسن البنّا في 12 فبراير عام 1949 لم يتجرء أن يمشي في اجتازته بجانب والده غير السياسي مكرم عبيد فقط المسيحي القبطي.

144
الأستاذ الكريم متى إسو المحترم:
شكراً على المداخلة التي جاءت بصلب الموضوع. النقد والجدل (ديالكتيك) والتصور والأمل والحلم وحتى اليأس همّ ما يميز الأنسان عن باقي المخلوقات، بهم يكتشف أنسانيته ويرتقي إلى مدارات ومدارك عليا، ويبدأ بفرز الغث من السمين والخطأ من الصواب، الخطير هو حين يفقد الأنسان كل هذا ماذا يبقى له بعد ذلك ياترى؟.

145
الأستاذ كوركيس أوراها منصور المحترم
شكراً على مرورك، والتعليق الذي جاء في متن المقال. نعم الوعي السياسي الصحيح يجر في نهاية المطاف إلى الديمقراطية الحقة وليس على مقولة القذافي ديموقراطية (ديمو الكراسي)، ولكن المشكلة هو كيفية خلق هذا الوعي الذي مات في السنوات الثلاثين والعشرين الاخيرة وبات متجذرّ في الوعي الجمعي، وتفشة الجهل السياسي وهنا الأشكال الكبير.

146
الوعي السياسي عند الأقليات
يتأثر الوعيّ السياسي عند الفردْ ويعمل بشكل صحيح  عندما يرتبط مع المحيط والجماعة من حوله بسياق فكري أو تنظيمي يتحدّ مع الوضع القائم ليبلور في النهاية رؤى واضحة المَعالم، وهذا الوضع القائم سواء كان في دولة أو حزب يمسك بمقاليد سلطة هذه الدولة ويوجهها حسب  أيديولوجيا (عقيدة سياسية) معينة حيث يُشكل هذا الفرد وعيه وسلوكه وممارسته السياسية من خلال فهمه لهذا العمل ومدى تقبله له، كفرد فينومينولوجي ( كذات حرة ) تدرس الظواهر كموضوعات مرتبطة بالوعي وكيفية حضورها في خبرته للوصول إلى معرفة موضوعية ويقينية يستثمرها لصالحه أو لصالح هذه الجماعة، حتى وأن كان برغماتي النزعة، رهان صعب ولكن ليس مُستحيل، وكلما توغل النظام الاستبدادي في قمع الحريات ولجمْ نشاطه كلما قل الوعي وتزعزعت اليقينيات، وتبدأ ملكة السؤال والنقاش والجدل والشكْ بالتلاشي تدريجياً إلى أن تضمحل نهائياً، وهنا يكون إصلاحها صعبا بعد ذَلِك، لان الشعور ترسخ على عدم الاكتراث واللامبالاة في سيكولوجية الجماهير والجماعة، حيث نجد فريق ينظر إلى العملية السياسية برمّتها على إنها إناء فارغ من المحتوى لا جدوى تذكر منها، وهذا أوعز  بدوره إلى عدم المشاركة الفعلية، سواء بانتخابات برلمانية أو مجالس محافظات، أو تشكيل حزب سياسي ذات منصة فكرية جادة، أو حتى تأيد أو رفض هذا وذك، على وزنّ أن الأمر لا يهمني فلما وجعْ الرأس من الأساس.
التجربة البعثية في العراق ومن عام 1968 فشلت في خلق مناخ ديمقراطي تعددي،  كانت الدوغمائية مُتأصلة حتى النخاع فخنقت كل الحركات السياسية العاملة في البلد، الشيوعية، الكردية، الشيعية، المسيحية، اليسارية، واليمينيّة، وتفرد بالسلطة من عام 1975 فصعوداً، واستحوذ البعث على جلَ القرارات لوحده، وهذا كان له نتائج كارثية على البلد سوف تظهر لاحقاً. لربما يظن البعض أو يؤمنون أن النظام السابق كان حامي الأقليات وحارس على الأمن، حيث يتداول الكلام في كل مكان أن حرية المسيحين كانت مصانة، وأن المسيحي كان يُمارس شعائره الدينة بحرية مطلقة، وأن الكنائس تظل مشرعة الأبواب ليل نهار دوَّن المساس بها، ربما هناك وجهة نظر صحيحة في ذلك وأن الحديث عنه يُجاري الصواب في بعض الأحيان، ولكن أيضاً هنالك فقدان الهوية لهذا المكون الأصيل، ومشاركته في صنع القرار  وتعزيز  مكانته  في دوائر  الدولة وليس ساعي بريد( مراسل). هَذِه الإشكـــالات ينبغي الإجابة عنها بشكل واضح حتى يتسنى لنا رسم خارطة ذات ابعاد واضحة للمستقبل.
لم يتلون إصبع السبابة بالحبر القاني في الأنتخابات البرلمانية الاخيرة، على الأقل في ولاية مالبورن الأسترالية، للمثال وليس الحصّر، كانت نسبة المشاركة ضئيلة، ليس دون الوسط ولكن دون الربع مقارنة بسنوات ماضية، قُبلت هذه الممارسة بالسخرية غير أن ما يبعث على الدهشة هو البرود الذي واجه العملية برمتها، سؤال يجرّنا إلى سؤال أخر، هل هي فقدان الثقة، أم عجز السياسي عن تكوين خطاب يقنع الناخب، أم أشياء نقف عاجزين عن فهمها؟.
إن السياسة الصحيحة  تعمل على إقامة نوع من التناغم بين كل أفراد المجتمع وتحثه على ممارسة حقه بكل شفافية وصدق، وهنا يخلق هذا المناخ السياسي نوع من المجتمع الصحي يتوالف مع كل أطياف المجتمع دون إقصاء تهميش أحد، هذا ذمّي، هذا كافر، هذا زنديق، وتكون المعارضة تحت قبة البرلمان بالمرصاد لكل الأخطاء والتجاوزات والتلاعب، تُعدل من ذراع السلطة  التنفيذي الحاكمة بهدف ترسيخ مبدأ التداول الصحيح لنظام الحكم بجوّ ديمقراطي. يجب القضاء على التصور القديم وخلق وعي جديد وفهم جديد أيضاً، وعسى أن تكون الأنتخابات الاخيرة ومصاحبها من إخفاقات درسّ يستفيد منه الجميع.

147
بابليون داخل حِصان طروادة
قيل الكثير عن الأنتخابات البرلمانية العراقية في الفترة القليلة الماضية، ولتشكيل معرفة أكثر، وبلورة أفكار اكثر أتساع وعمق مع الحالة الراهنة التي يمر به العراق الان بعد الإرهاصات الاخيرة للأنتخابات، يجب علينا أن نكون واعين وجدين مع كل طرح، ونقارب المنطق على ضوء الواقع والوقائع  مانستطيع لذلك سبيلا. وهذه حقيقة قاسية فعلاً و لكنها حقيقة على أي حال. أولا اجُريت الانتخابات في وضع شاذ خاصة في مناطق الشمال، فمحافظة نينوى ومركزها الموصل ومع كل التدابير الأمنية المُتخذة لم تشهد أقبلاً بما يكفي، والسبب هو الهجرة والتهجير والنزوح وجيوب عناصر تنظيم الدولة الاسلامية التي هددت بالقتل كل من يشارك في الأنتخابات، وهذا أبو الحسن المهاجر المتحدث باسم التنظيم يبث كلمة صوتية (49 دقيقة) يتوعد الحكومة فِيهَا. الوضع ليس أحسن منه في المناطق الكردية، فالاكراد لم يستفيقوا بعد من الضربة الموجعة التي وجِهت لهم من الداخل والخارج بسبب الأستفتاء على دولة الكّرد المزعومة. تراشق تهم الخيانة والعمالة والتفرد بأخذ القرارات والأصطفاف خلف إيران بين الحزبين الكبيرين، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، أعطى بدوره انطباع سيّء للناخب الكردي بشكل عام فلم تشهد صناديق الاقتراع اقبل كثيف. نسبة المشاركة في عموم العراق كانت دون المتوسط، حسب أحصائية المفوضية العليا للأنتخابات، 44 بالمئة، مقارنة بالانتخابات الماضية في سنوات 2010 و 2014 حيث كانت المشاركة أفضل بكثير، وهذا قياس على أن الناخب العراقي فقد الثقة بالسياسي والبرلماني ورجل الحكومة، لا بل يراه حمل أوجه كثيرة، فهو السارق والمرتشي والكذاب والمنافق، فعلى أي أساس يُنتخب المرشح اذا كانت صفحته سوداء من الأساس، وهذا له مبرراته طبعاً. رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر والحاصل على أكبر نسبة مقاعد في البرلمان الجديد ما نفكّ يقطع وعوداً للشعب من زهاء اربع سنوات ونيفَ بتشكيل حكومة تكنوقراط بعيدة عن المحاصصة والطائفية والمذهبية، وهو بالأساس جاء عن طريق المحاصصة الى السلطة يحمل لواء المذهبيّة كشعار لتياره الصدري. والسؤال الأهم الذي يجب أن يطرحه السيد الصدر على نفسه،  إين همّ شريحة التكنوقراط أصلاً؟، آي المهندسين والمعماريين والاقتصاديين والمشتغلين بالعلوم، أليس كلهم خارج البلد وفي دول الخليج تستفيد الشركات والحكومات من خبراتهم واختصاصاتهم!. المكون المسيحي لم يكن أفضل حال، فالمجلس (الحزب) الشعبي الكلداني السرياني الآشوري فقد زخمه، وتأثر بالمتغيرات الجيوسياسية التي عصفت بالمنطقة،  خاصة في قرى سهل نينوى بعد سيطرة داعش في 2014، هروب ونزوح وهجرة المسيحين وضمور وتلاشي أفواج الحراسات أثر سلباً على القاعدة الجماهيرية للمجلس فخسر الرهان. الحركة الديموقراطية الآشورية هي الأخرى فقدت بريقها ومعه فقدت حصتها من بقايا المقعد   المحطم. كتائب بابليون، وهوه تشكيل من الحشد الشعبي الشيعي وجزء منه ومدعوم بشكل مباشر من المرجعية الشيعية، لا دخل للمسيحين به غير التسمية فقط  (الحشد الكلداني)  مهزلة من العيار الثقيل، دخل على الخط المواجه راكباً حصان طروادة واستحوذ على مقعدين من أصلا خمسة هي حصة المسيحين، كوتا، وهي مقاعد شكلية لا اكثر تنفع كواجهة للمحافل الدولية وعنوان باهت اللون، ( عضو  في البرلمان العراقي ممثل  عن المكون المسيحي) ماذا تفعل ثلاث مقاعد أمام 320 مقعد.
الأنتخابات كانت اِمِتهان للحكومات المتعاقبة على حكم هذا البلد المُنهك والمُمزق والمحطم، الذي لم يخدمه أحد الى اليوم بصدق وشرف ووطنية وأخلاص، لا عجب أن يظهر العراق على رأس القوائم للدول السيئة والفاشلة، على وزن أن استلمت منصب رفيع  في الحكومة اسرق وهرب.
لم تعد تنفع الشعارات الرنانة والزائفة، العراق العظيم، بلد الخير والخيرات، الشعب الذي لا ينذل،... الخ من هذه الأكذوبة التي لا تنفع أحد، يجب أن يتغير الوعي العام ويُوظف في سياق عصري حديث، ويَرَ السياسي والبرلماني ورجل الدّولة الوضع على حقيقته ويخرج من عقلية الإحتيال والتزوير والسرقة والتلاعب بأموال الشعب، فهذا الشعب ملّ وله كل الحق في ذلك.     

148
 نوستالجيا الفرد العراقي
العلامات والدلائل والمقاربات كثيرةٌ على نوستالجّيا الفردّ العراقي، وتمّحور هويته حول الذات، أيَّ ذاته هو كفرد في بداية الأمر، والماضي في المقام الثاني كفعل حنينّ أو أعلاء من شأنه، وإين كان مبني على الوهم. وهذه العواطف وجدْ ما يعززها طبعاً في ثنايا العقل الباطن حتى وصل إلى حدود النرجسية. وقبل الخوض في هذه المفاضلة المجردة، نُعرج على مصطلح النوستالجيا كمفهوم، وهو الحنين إلى ماضي مثالي ، أو هي حالة عاطفية نصنعها نحن في إطارٍ معين وفي أوقات وأماكن معينة، الكلمة اصلها يونانى معناها الحرفى  "نوستـ" بمعني الرجوع للبيت و "الجيا" بمعنى ألم أو وجعْ. يقول الخبراء أن النوستالجيا هي آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، لذا فإنها تكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة خاصة عند كبار السن، أي عندما يشعر الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية. هذا ماتنص عليه الكلمة حرفياً ونفسياً.
 تمجيد الماضي والتوق له ورسم صور زاهية عَنْه هي مشاعر تنتّاب الفرد من وقت لآخر، وإن كانت بنِسَب قليلة لا ضير منها. الحنين والذكريات لهم أشكال متعددة ويتخذون من مربّعات لوحة الفُسيفساء الحياتية صور كثيرة؛ الحنين إلى البلد الأم، الحنين إلى المدينة التي تحمل ذكريات ومشاعر المرحلة، الحنين إلى المكان الذي قُطع حبل السرة به، إلى الحي، إلى المدرسة، إلى الأصدقاء، إلى الشارع، إلى الدكان، حتى اللغة لها وقعّ آخر على الأذان تحمل فرح وتحمل حزن في ذات الساعة، الأغاني....الخ. هذه المفردات وغيرها الكثير  هي واقعياً من الماضي، أو في خبر كان أنتهت مع إنتهاء المرحلة المرافقة لها.  المشكلة  الإبيستيمولوجية التي يتجاهلها النَّاس هي في إحياء ذلكّ الماضي بسياقات يدعون أنها عصرية لا تتماشى مع الحاضر الحالي فتتجلى على شكل، ألواح (رقم ) تسجيل السيارات بأسم المدينة الفلانية أو القرية التي أنحدر منها، لتترسخ لدينا الهوية أكثر وتصبح متماهية مع العصر، أو  إبراز  وشمْ على الساعد يدل على أنتماء الشخص كهوية ذات أصول آركيولوجيا، الثور المجنح مثلاً، أو خريطة العراق. كل هذا هو تركيز على شيء كان يندرج تحت خانة الماضي، كان في زمان ومكان محددين وانتهى مع أنتهاء العصر الذي كان به، نسبة العودة لذلك العصر هو صفر ، والمثل الألماني القائل ثلاثة أصفار تساوي صفر في النّهاية، الإنكماش والانكفاء والتشرنق على الذات هو الخَطَر الحقيقي، وهذه موائمة مع الماضي أو إسقاط له كما يفعل البعض، هو عيش الماضي بكل تفاصيله على أساس أنه أفضل بكثير من الحاضر الفعلي، ويجب علينا استحضاره في كل وقت وزمان، ومن هنا تبرز  أهميّة الحاضر  كمفهوم تأسيسي للمستقبل لأنْ المياه لا تجري في النهر مرتين، لا ملك شمشي الآشوري  ولا نبوخذ نصر  ابن نبوبولاسر الكلداني، وهذا الاخير استحدث مؤخرا مع الانتخابات البرلمانية القادمة، ينفعان مع الآلة الرقمية الحديثة والتقدم المهول الذي يسير  وفقه العلم وبرامج الفيزياء الكوانتية للجسيمات تحت الذرِّية وقانون الطاقة والحوسبة الكمية.
لقد قطع الغرب أشواطا بعيدة في تحصيل المعرفة، وهذا بدوره أحدث قطيعة مع الماضي،  ولكن تم أخذ ما يلزم منه لبناء الحاضر، تكللت بعدة ثورات، على الجهل، على الاستبداد، الثورة الصناعية،  ليتشكل وعيْ جديد من مفاهيم العولمة وما بعد الحداثة والليبرالية، وحتى ما بعد المفهوم ذاته كنقطة انطلق فلسفية تُمأسس على بُنى جديدة لهذا العصر  والعصر القادم وهذا يؤثث للمستقبل باختراعات جديدة وافكار جديدة أيضاً.

149
تحية للأخ الصحفي  عماد متى المحترم :-
لا يوجد سهو في الطرح، فالبطريرك شيخو حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الشرقية في نفس العام المذكور وقد سافر الى إيطاليا بمعية المطران يوسف غنيمة  وقد ذاك، وحين عاد الى العراق  عين مدرسا في المعهد الكهنوتي البطريركي  بعد نيله الشهادة العليا، والدكتورة بكر جاءت على ذكر بولس وليس لويس شيخو اليسوعي ( 1859 - 1927).

150
 البطريرك شيخو  والرئيس الراحل
 بقلم /سلوان ساكو
في معرض القاهرة الدولي للكتاب والمُقام على أرض المعارض في مدينة نصر من سنة 2016، كنتُ هُناك متواجد على طول أيام المعرض الخمسة عشر، وشاركتُ بالندوات والفعاليات المقامة على هامش المعرض. في الخيمة الثقافية والتي تدير فعاليتها الدكتورة والروائية والناقدة المصرية سلوى بكر، حيث كانت تشرح عن الشعراء العرب في بداية العصر الاسلامي وفي تلك الفترة وقبلها أيّ قبل الأسلام، وبعد الاسترسال في المحاضرة والخوض في أهم المصادر المتوافرةَ، جاءت على ذكر الاب بولس شيخو 1906- 1989 والذي سوف يكون لاحقاً بطريرك الكلدان الى سنة 1989، حيث أستشهدت به الدكتورة بكر كأهم مصدر يؤرِخّ لتلك الحقبة فهو حاصل على الدكتوراه في العلوم الشرقية من روما سنة 1933. الذي لفت نظري أكثر هو أن البطريرك شيخو يصبح متداول في الوطن العربي والدول الاسلامية، ونحن اصحاب هذا الميراث لا نعلم عنه شيء، وتضيع عنا كتبه ومنتجه الفكري والفلسفي الرصين، وتُفقدّ الكتب من مكتبات الكنائس الكلدانية، والذي يحصل هو أننا نترك كل هذا الأرثّ الفكري ونتمسك بقصة عادية ليس لها معنى ونعتبرها هي الأساس وهي ذات الكرامة والعزة ونركب صور سريالية مِنْهَا والتي يجب أن نتداولها في مجالسنا المفتوحة والمنغلقة فنُعيد الرواية ونكررها مرات ومرات لكي ما  نعوض بها بعضٍ من نقصنا ونريح العقل من البحث والتفكير. تقول القصة المحكية  أن البطريرك بولس شيخو ذهب لتعزية الرئيس الراحل صدام حسين بوفاة والدته صبحة، فدخل هو ومعه أحد كهنة بغداد القصر الجمهوري، فجتازا الباب الاول والباب الثاني ولم يبقى غير الباب الزجاجي الفاصل بين الرئيس وضيوفه، فطلب أحد أفراد الحماية الخاصة من الوفد الداخل بخلع الملابس، لغرض تفتيشهم قبل الدخول، ولكن البطريرك رفض بشدة وقال اذا كُنتُم لا تثقون بِنَا لا داعي لحضورنا من الأساس، وأمَّ بالخروج مع مرافقه الكاهن دون  تقديم العزاء، ولكن صدام حسين كان يراقب الوضع،  وتسائل عن سباب ذهاب البطريرك دون الدخول، فقال له عنصر الحماية أنه يرفض أن يخلع ملابسه لغرض التفتيش، فطلب الرئيس من الحماية أن يدخلهم فوراً دون تفتيش واعتذر بدوره للبطريرك على ما قام به هذا العنصر. طبعاً هذه الواقعة تنمْ عن الاحترام والتقدير  بدون شكّ،  ولكن ليست هي الأساس وليست هي المتن وهنا المعضلة،، فهذه الأمور وماشابهها تقع بين الفترة وآخرى، ولكن ما يجب ان نبحث عنه هو الميراث الحقيقية للرجل، ولا نترك الأمور على عواهِنهِا، وهنا نسقط في مطبّ النسيان أو التناسي، فهذا هو الباقي والدائم  وهو مستند بقاء الجماعة الرئيسي. أعُدم صدام حسين، ورحل البطريرك الى الحياة الابدية، ولكن كتبه لم تذهب، و يجب أن لا تذهب،  ويُعاد طبعها من جديد وتتوافر في المكتبات وعلى النيت، ليطلع عليها الشعب وينهلون من هذا الفكر الحر والصافي لتشكيل معرفة متنوعة وجدية.

151
مآلات توحيد الأعياد
بقلم/ سلوان ساكو
يمرُ هذا العيد إيضاً دون توحيد للأعياد، ولا يوجد ما يبُشر بالأفق للأحتفال بعيد واحد في المستقبل. ولا هنالك أمل على ذلك في المنظورين البعيد والقريب في وحدة من آيَّ نوع كانت، مع كل ما يبذله رجال الدين والعلمانيين على حد سواء من جهود في سبيل تحقيق هذا المُبتغى. ففي كل عام نسمع مَن النَّاس مطالب مفادها لماذا لا يتوحد عيد الميلاد مع باقي الطوائف، ويمر العيد ولا تغَيّر يحصل تحت الشمس، ويحل عيد الفصح والقيامة من بعده ونسمع صرخات من هنُا وهناك، إلى متى نظل منقسمين ؟، كم مرة صلب وقام المسيح من بين الأموات؟ ومن هو الصحيح؟ وعند من تكون الحقيقية؟، وَاذَا صادف أن كانت جمعة الالام غائمة وممُطرة فنقول هذه هي الجمعة الحقة والصحيحة والباقي على خطأ. نداءات وطلبات وصلوات ورجاءات وتضرعات، ولكن مع كل هذا نظل منقسمين على الجسد الواحد، والكل يُزعم أنه يملك الحقيقة المطلقة والغير هو الخطأ، وهنا حجر الزاوية أو بيت القصيد كما يقولون، حيث لا تنازل بين الطوائف والمذاهب. ولكن قبل الحكم على هذا أو ذاك والتحدث بتهكم دون مُبرر، دعونا نقرأ القضية بموضوعية أعمق. طبعاً وكما هو متعارف عليه  هناك تقويمين، يأُخذ بهم، واحد يولياني وآخر غريغوري؛ اليولياني يعود للأمبراطور يوليوس قصير وضعه عام 48 قبل الميلاد على يد الفلكي الاسكندري سيوسجينس وطلب منه أ يضع نظاما ثابتا للتقويم، ويعتمد هذا التقويم على دواران الارض حول الشمس،  والوحدات الزمنية في هذا التقويم هي اليوم الشمسي، الشهر ، السنة الفصلية. والسنة الفصلية تساوي 365.2422 يوماً. ولكي يتم تفادي الكسر في هذه السنة فقد جعلت السنة 365 يوماً لثلاث سنوات متتالية (سنة بسيطة) بحيث تجمع الكسور في السنة الرابعة لتصبح 366 يوماً (سنة كبيسة) أي السنة التي تقبل القسمة على 4 بدون باق. يضاف اليوم الزائد في السنة الكبيسة إلى شهر فبراير ليصبح 29 يوماً. بهذه الطريقة أصبح متوسط طول السنة اليوليانية يساوي 365.25 يوماً وهذا يعني أن السنة اليوليانية تزيد عن السنة الحقيقة بمقدار 0.0078 يوماً = 11 دقيقة و 14 ثانية أي يوم كامل كل 128 سنة. وهذا يعني أيضاً أن التاريخ طبقاً للتقويم اليولياني سيكون متأخراً قليلاً عن التاريخ الحقيقي. وعدد الشهور حسب هذا التقويم 12 شهراً ثابتة في أطوالها ماعدا الشهر الثاني. والتقويم الثاني أي التقويم  الغريغوري يعود إلى البابا غريغوريوس الثالث عشر الذي قام بإجراء تعديلات على التقويم اليولياني حيث لاحظ في سنة 1582 أن الاعتدال الربيعي وقع في يوم 11 مارس أي أن هناك خطأ قدره (10) أيام وقع ما بين سنتين 325 إلى 1582 وهذا الفرق ناتج في أن السنة الشمسية ليست 365 يوما وربع (6 ساعات) بل أنها 365 يوما و (5) ساعات و 48 دقيقة و 46 ثانية فالخطأ يبلغ يوما واحدا في كل 128 سنة.
و لتصحيح هذا الفرق فقد اعتبر يوم الجمعة (5) أكتوبر سنة 1582 ميلادية اليوم الخامس عشر منه ولئلا يتكرر الخطأ وبقاعدة ابسط فقد جعل التصحيح 3 أيام في كل 4 قرون.
وعلى هذا فالسنون الكبيسة هي التي تقبل القسمة على 4 ما عدا السنين القرنية فلا تكون كبيسة ألا إذا انقسمت على 400 فالسنون 1980، 1984، 1988 تعتبر كبيسة في التقويم اليولياني والغريغوري أما السنون 1500، 1700، 1900 فأنها تعتبر كبيسة في التقويم اليولياني لكنها بسيطة في التقويم الغريغوري، الذي استعمل أولاً في روما ثم في فرنسا وأسبانيا والبرتغال أما إنجلترا فاتبعته سنة 1752، واليابان سنة 1872، واليونان و رومانيا سنة 1923، ولا تزال بعض الأمم لم تستعمله حتى الآن، بالرغم من ضآلة الفرق بين السنة اليوليانية والسنة الحقيقية إلا أن عملية تراكم الخطأ مع مرور السنوات كانت واضحة ولا يمكن أن تتماشى مع الواقع. والفعل في 5/10/1582 م أي بعد مرور حوالي 16 قرناً من بدء التاريخ اليولياني لوحظ أنه تأخر عن التاريخ الحقيقي بمقدار 10 أيام، الأمر الذي أدى إلى لزوم ضبطه حيث أضيف هذا الفرق ليصبح التاريخ الجديد مساوياً 15/10/1582م وهو التاريخ المفترض أن يكون. انتهى (بتصرف عن الكنيسة المسيحية الإلكترونية). هذا في ما يخص الفروقات في التواريخ وتاريخ التقاويم بنظرة سريعة عليه، ولكن هناك أمراً أهم من هذا العرض، وهو اختلاف جوهري في العقائد والمذاهب المسيحية، والتي سببت في هذا الاختلاف والجدل وبالتالي إلى تغير  في الطقوس والأعياد والليتورجيا ككل؛ والعقيدة هي الإيمان الجازم الذي ينعقدُ عليه قلبُ المرء، ويتّخذ منه مذهبًا ودينًا له، ومن هنا يُمكن التفريق بين العقائد، فعندما يُقال بأنّ هذه العقيدة صحيحة؛ لوجود الحجّة والبُرهان بصحَّتها؛ بحيث لا يتطرَّق إليه الشكُّ فيه، فهي حُكم الذهن الجازم أو ما ينعَقِدُ عليه الضمير، أو الإيمان الجازم الذي يترتَّب عليه القَصد والقول والعمل بمُقتَضاه. وهناك الأقنوم وكلمة أقنوم Hypostasis باليونانية هى هيبوستاسيس، وهي مكونة من مقطعين: هيبو وهي تعنى تحت، وستاسيس وتعنى قائم أو واقف، وبهذا فإن كلمة هيبوستاسيس تعنى تحت القائم ولاهوتيا معناها ما يقوم عليه الجوهر أو ما يقوم فيه الجوهر أو الطبيعة. والأقنوم هو كائن حقيقي له شخصيته الخاصة به، وله إرادة، ولكنه واحد في الجوهر والطبيعة مع الأقنومين الآخرين بغير انفصال، وهنالك المذهب هو الطريق والسبيل، وفي الاصطلاح هو مذهب العالم سواءً كان في العقيدة أو في الدين أو في أصول اللاهوت أو في الأيدلوجيات  السياسية أو غيرها. وهذا تعريف بسيط نعرج به إلى اهم المصطلحات التي يوجد عليها لغط كبير.
في سنة 451م انعقد المجمع المسكوني (والمسكونية مَجْمَعٌ مَسِيحِيٌّ يَنْزَعُ إِلَى تَوْحِيدِ جَمِيعِ الكَنَائِسِ )، الرابع في خلقدونية والتي تقع شمال شرق البسفور  في الشاطئ المقابل لمدينة اسطنبول في تركيا اليوم، ويُعتبر من أهمّ المجامع، إذ نجم عن هذا المجمع انشقاقٌ أدّى إلى ابتعاد الكنائس الشرقيّة ( القبطيّة والأرمنيّة والسريانيّة) عن الشراكة مع الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة. وقبل خلقدونية كان هناك مجمع مهم وخطير هو مجمع افسس الأول عام 431 وظهور نسطور  بطريرك على القسطنطينية من العام 428، وتحريم المبدأ النسطوري، القائل بأن يسوع المسيح مكون من جوهرين يعبر عنهما بالطبيعتين وهما : جوهر إلهي وهو الكلمة، وجوهر إنساني أو بشري وهو يسوع وعلى هذا فالسيدة العذراء لم تلد الله الكلمة الأزلي وإنما ولدت يسوع الإنساني ولهذا فإننا يجب أن ندعوها أم يسوع "الجسداني" وليس أم الله؛ كل هذا وغيره ألقى بظلاله الثقيلة على المؤمنين البسطاء من الشعب والذي كان بعيدا كل البعد عن هذه الصراعات اللاهوتية المعقدة. وحيث وجدت النسطورية أرضا خصبة بين مشارقة السُريان القاطنين على حدود الإمبراطورية البيزنطية والفارسية، كان ذلك عاملا مساعدا على تحقيق الانشقاق بين أبناء الكنيسة الواحدة وكرس على تمزيق الصف الواحد.
في أعقاب المصالحة اللاهوتية بين كيرلّس الإسكندري ويوحنا الأنطاكي، ورفضها عدد من المطارنة وتقربوا بطريقة أوثق من الكنيسة في إيران، التي كانت قد اعتمدت رسميا النسطورية في سينودس سلوقية المنعقد سنة 486، وفي سنة 489 طرد الإمبراطور زينون النساطرة من الرها فهاجروا إلى فارس، ومنذ ذلك الحين انفصلت الكنيسة النسطورية عن الكنيسة البيزنطية التي كان مقرها الأساسي في القسطنطينية. اتحد السواد الأعظم من النساطرة بالكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، وعرفوا بالكلدان. والكلدان اسم عرقي قديم أطلقته روما على الطائفة المتحدة معها. بينما سمّي النساطرة غير المتحدين بروما بالأرثوذكس أو الآشوريين.
من هنا نرى صعوبة الوحدة لأنها مرتبطة بسياقات تاريخية تعود إلى فجر المسيحية ومن القرون الأولى لها، مع الأخذ بنظر الاعتبار الخط السياسي والمناخ العام في تلك الحقبة من عمر الدينة، وتداخل المصالح التي فرضت اجندتها.
الرهان اليوم هو، هل نقدر أن نعبرّ كل هذا التراكم التاريخي والتشرنق الوهمي، ونكسر الأقفاص الضيقة التي وجدنا أنفسنا محشورين بداخلها، كما نكسر قشر البيضة الملونة في أول إيام عيد القيامة، ونخرج لنعلن أننا شعب مسيحي واحد ومسيح واحد وميلاد واحد وقيامة واحِدَة، وتلك تكون فرحة الشعب التي تطمح بشوق ورغبة جامحة لهذه الوحدة الموعودة.




المصادر :-
الكنيسة المسيحية الإلكترونية
مجلة السريان
موقع الأنبا تكلا هيمانوت الحبشي
تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
كتاب مدخل في علم الآبائيات: الباترولوجي - القمص أثناسيوس فهمي جورج
كتاب معجم المصطلحات الكنسية - الجزء الأول

152
نخبة المجتمع الفاسدة
النخبة المثقفة في كل أنحاء العالم المتقدم  والمتُحضر هي من تُحرّر الشعوب وتُحرر العقول من الأفكار البالية والقديمة، وتكون موجِهَ للمجتمع والنَّاس نحوّ صياغة حياة أفضل، ترتقي بهم إلى مستويات اكثر  تطوراً  ومعرفة. هذا ما يجب أن يكون عليه دور المثقف الواعي بضرورة المرحلة، والذي يجب أن يقوم به ويؤديه أتجاه مجتمعه وأتجاه عصره ويؤمن به أيضاً كعمل وكرسالة مقدسة للجماعة، ومن هنا تنهض الأمم وتسير إلى الأمام في ترتيب حياتها ونمط معيشتها حتى وأن توقف بعد فترة أو مات هذا المفكر أو ذاكَْ المثَقّف. فحين وضع المفكر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو افكاره ومبادئه فأن فلسفته بقت حيّا وساعدت  في تشكيل الأحداث السياسية، والوعي العام والتي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية، حيث أثرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة. وكذلك ينطبق على الفيلسوف الإنكليزي جون لوك  صاحب القول الشهير (إذا سألك سائل:متى بدأت تفكر؟فيجب أن تكون الإجابة:عندما بدأت أحس). هؤلاء وغيرهم الكثيرين تَرَكُوا هذا العالم من وقت طويل ولكن افكارهم وكتبهم ومقولتهم تلهم الكثيرين إلى حدّ اليوم وتعطي ثراءً معرفي وإبيستيمولوجي، (وهذه يعرفها لالاند في معجمه الفلسفي بأنها فلسفة العلوم). هنا بالذات ومن خلال هذا الحس النقدي العالي للمحيط والمجتمع والخط التاريخي للحضارة يمكن أن تتقدم وترتقي الجماعات والشعوب، وتبلور أفكارها من مفردات ذات طابع تحليلي تفكيكي، ليس فقط للنص والمعُطى الأدبي، ولكن أيضاً تفكك به طريقة بناء المفاهيم القديمة كيما تُهدمها لاحقاً وتبني على أنقاضها صيغ ومفاهيم جديدة تتماشى مع الوقت والواقع الموجود من حولها، يسميها القارئ تقدمية ثورية تجديد الخطاب نبذ القديم ليبرالية مُحدثةّْ، لا تهم التسميات كثيراً ما طال الفعل والمبدأ واحد هو نقض الفكر القديم البالي وطرحه في سلة القُمامة؛ نأخذ مثلاً على ذلك ما يدور الان من أرهاصات الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة، فقط لنُشاهد ونقرأ الخطاب الموجود في الاعلام والشارع وتعبئة الجماهير الجاهلة بهذا الخطاب، ديني، مذهبي ، فئوي، مناطقي، عشائري، جهوي، ميلشيوي، صدري، سستاني، عامري، مالكي، جعفري، حنبلي، وجميع هؤلاء لا يحملون هوية حقيقية تُعبّر عن روح الوطن الغارق في الفوضى والخراب والتقسيم والدمار، بعيدين كل البعد عن كل ما هو بنَاءْ تجمعهم فقط الاطماع والسرقة والنهب والنهش من هذا الجسم الهرِمْ. هذا هو ما بات عَلَيه الوطن الان، فأصبح من الصعب بمكان أصلاحه حيث أستشرى الفساد وعم الخراب وقبل هذا وذلك هو تعطيل ملكة العقل الإبداعية وتوقيف كل آلياته إلى آجلاً غير مسمى، وهذا أخطر شيئ يواجهه الانسان والمجتمع ككل، حيث يفقد بوصلة التوجيه ويصبح أعمى، لا البصر، ولكن البصيرة، فينقاد كالقطيع غنم  تارة خلف شخص مُعمم، وتارة اخرى خلف شيخ عشيرة، يسير بركبهم دون معرّفة، ولماذا أصلاً تكون هناك المعرفة مادام رجل الدين وشيخ العشيرة لديهم اليقين المطلق بكل شيئ ويعرفون في كل أمور الدنيا والعالم، يُؤازرهم في هذا البرنامج بضع من المثقفين أو من يدعون الثقافة وأشباههم يحملون أقلام علامة باركر ولكن حبرها أصفر اللون، وهنا يقع الخطأ البليغ حيث يعترف الجاهل بهذا المثقف ويعتبره من ذوي أصحاب القرار الحصين والعلم الكبير فيتبعه دون درايةٌ أو حتى فهمٍ للحالة والموضوع المعروض، وخلال مدة يخلو المكان من العقول والمفكرين ويصبح الكل تفكر بسياق ومفهوم القطيع، وهنا يجب أن لا نستغرب من قيام أنظمة استبدادية وديكتاتوريات شمولية تقمع حرية الفرد وتصادر حياته اذّ أبدى أي معارضة تذكر ، لإنه ومنذو البداية أباح هذا الفرد لهذا النظام واعطاه الحق في مصادرة كل حقوقه المدنية والشرعية والدستورية، فكيف يُطالب به وعلى أي شيئ يستند.     
           

153
شكرًا لمرورك  سيد كنعان، وهذا هو بيت القصيد ؛ أن تسير الأمور على هذا النحو بدون ضبط من الحكومات المتعاقبة على الحكم ؛ وهذا سوف يفرز لا محالة سوق عقارية ليس لديه إي معاير أو محاذير ،  مِمَا يجعل استراليا تتحول إلى دولة  تديرها دول إجنبية هي التي تتحكم بشركات البناء والبنوك ، وهذا سوف تكون نتائجه كارثية في المستقبل القريب.   

154
كيف أنحدرت إستراليا الى هذا الحدّ
بقلم/ سلوان ساكو 
عندما تقف الحكومة عاجزةٌ عن التحكم في تسير أمورها ومواردها فأنها تكون في ذلك الوقت حكومة من ورق لا غير، كَمَا هو حال العراق الان؛ وبعضٍ من الدول العربية. وهنا يجب أن إنبه القارئ الكريم إلى أن مفهوم  الحكومة يختلف عن مفهوم الدولة، وهذا خطأ يقع به الكثيرون، فالحكومة هي تشكيل من حزب مُعين أو مجموعة من الأحزاب،  لها برنامج خاص وايدلوجية وفكر ومنهج، تسير وفّقه، سواء كانت هذه الحكومة يمينة، يسارية، وسطية، اشتراكية، وترشح نفسها على هذا الأساس وعلى هذا المبدأ، وعلى أليات عمل أجندتها وطرحها للبرنامج الانتخابي التي سارت به،  ومن تكون له الغلبة في صناديق الانتخابات يفوز ويشكل الحكومة سواء كانت منفردة بحزب واحد، أو أتلافية من عدة احزاب. أما الدولة من حيث تكوينها فهي المؤسسات والدوائر  والوزارات والمدرارس والمستشفيات ....الخ. وفوقّ هذا كله هي تكوين الوعي الفردي للجماعة بالهوية والحريّة والفكر ، وعن هذا قال الفيلسوف الألماني هيجل في صياغته للدولة المقدسة (بأن الروح تحقق حريتها في الدولة وعبرها، والدولة، هي أحد‪ ‬منجزات العقل، ولا وجود للإرادة الفردية هنا لأن الدولة تعبر عن روح‪ ‬الجماعة والإرادة العامة وما الفرد إلا عضو في الإرادة العامة التي تعمل‪ ‬بذاتها ولذاتها كما الدولة أيضا فهي الإرادة الشاملة وبالتالي فإن العقل‪ ‬معيار تحليل لشكل الدولة). فأذا الدولة هي احد تجليات العقل. 
في ولاية سدني وملبورن في استراليا، وبشكل خاص عن باقي الولايات، قفزت أسعار  العقارات والمنازل و الاراضي في الآونة الاخيرة بشكل غير معقول وغير منطقي، فبات سعر المنزل العادي، والعادي جداً، يتراوح بين 600 ألف و  800 ألف دولار استرالي، وهذا يتعارض بشكل صارخ مع إجر العامل البسيط والذي يكون في الغالب الأعم بين 50 ألف و 60 ألف سنويا، مع الأخذ بنظر الاعتبار الاستقطاعات الضريبية. هذا يضعنا امام سؤالين لا ثلاث لهما، آما أن تكون الحكومة لها يدّ في كل هذا الارتفاع الغير مُبرَر ، وبالتالي تكون لها أجندتها الخاصة وتعمل وفقها؛ وانا لا أرجح  هذه الصيغة. وإما أن الأمور خرجت عن سيطرتها، وفلتَ الزمام من يدها، وباتْ من الصعب بمكان التحكم في قطاع العقارات. وهنا لا بدَ أن يطفوا على السطح سؤال جوهري مهم، من لَه اليد الخفية والآثمة التي تتحكم في هذا القطاع الكبير والمهم والذي يلامس الانسان العادي في الصميم، ويكون الجواب لامحالة مشترك بين البنوك الكبيرة، وأساطين شركات البناء  العملاقة، التي أصبحت هي من يتحكم في كل شيء تقريباً. وهنا ينتفيّ دور الحكومة ويصبح الامر خارج عن ارادتها وسيطرتها، ويبدأ التأزم الفعلي للواقع هُنا؛ حيث من الوارد جدا أن نُشاهد شخص صيني مثلاً لا يملك حتى جنسية البلد الذي هو فيه، يملك 10 أو 15 منزلاً ويُؤجرهم بأسعار تفوق سعر السوق لإشخاص هم من سكان البلد والحاصلين على جنسيتها ، دون مقدرة من الحكومة على فعل شيء يذكر،  وهذا خطأ سوف يكون له تتبعات سلبية على المستقبل أن لم تضع الحكومات المتعاقبة على مداولة السُلطة في اعتبارها الأزمة المتفاقمة، وتُعجل من لجمّ وكسر شوكة البنوك والشركات التي لاهم لها سوى مص دَم المواطن البسيط دون مراعات لأي ظرف كان. ويدليّ الفيلسوف توماس هوبز بدلوه حين صرح أن الانسان ذئب لإخيه الانسان، حيث يتحول المنتوج البشري كما يصفه مارتن هيدغر الى غول مجرد من إنسانيته، يُريد أن يفتك بالآخر ولكن ليس عن طريق السلاح والحرب،  بل بوسائل أكثر حداثوية وتقنية، منها الشركات الكبيرة والبنوك.
المراجعة في البنىّ التحتية للدولة الأسترالية الحديثة، وخاصة في ما يتعلق بقضايا البناء والسكن والعقار  يجب أن تشمل كل شيء بما فيها أجور العامل العادي والموظف ذيِْ الراتب المحدود المواطن البسيط. وإلا لا نقدر أن نُعاتب " فريدريك نيتشه " حين اعتزل الناس والمجتمع وقال : (أكثر خطراً وجدت الحياة بين الآدميين) .

155
 تجَديد موعظة الكاهن الكلداني
أكاد أجزم أن عزوف الكثير من المؤمنين واخص بالذكر الكلدان منهم عن الذهاب الى الكنيسة وأرتماء العوائل  وألتجائهم الى كنائس أخرى كالكنيسة الإنجيلية بفروعها الكثيرة والكنائس المارونية اللبنانية والقبطية المصرية، مع أحترامي لكل المذاهب والطوائف، هو موعظة وكرازة  الكاهن الكلداني المكررةْ والمّملة في قداس يوم الأحد.
 لقد تغيرت الكثير من المفاهيم والأفكار والوعيَّ، سواء على الصعيد الفردي للجماعة، أو على الصعيد التفكير الجمعيْ لهم. فخلال الثلاثين والاربعين  السنة الاخيرة، لم تعد تلك الأفكار والتي كان من خلالها يوعظ الكاهن في القرى والبلدات النائية في شمال الوطن تصلحْ وتنفع مع روح هذا العصر، لقد كان التعليم آنذك محدود، ومتطلبات الوعي بالذات والحياة ذاتها محدودة وبالتالي يكون الفهم هو إيضاً محدود مُتماشياً مع الوضع العام للجوّ السائد. فمثلاً نجد كاهن (وَيَا للغرابة) في يومنا هذا وفي دول كبرى كامريكا وأستراليا وكندا، يُعيد الموعظة ذاتها مئات المرات وبنفس الصيغة وبنفس الكلمات وبنفس الرتابة المملة للحضور ، متناسياً هذا الكاهن أن الأحساس بالوقت والزمان قد تغير ،واصبته الحداثة وما بعدها بمقتل، وليس كما كان عليه في ذلك الوقت، حيث كان الزمان والساعة البيولوجية منضبطة ومرتبطة بالزراعة والحّصاد وتربية المشية، آيّ الوقت مفتوح ومُتناغم مع الطبيعة والمكان لتنسجم ككل مع الواقع الُمعاش، في دائرة شبه مغلقة، اليوم كل هذا تغير، وتغير بسرعة كبيرة جداً، حيث أصبح الانتظار صعب، وإيقاع الحياة أسرع وبوتيرة أكبر من السابق بشكل مذهل، وأصبح معه شدّ أنتباه الفرد نحو شيئاً ما أمر بالغ الصعوبة ليس فقط مع الطرح الديني أو المواعظ، وأنما مع كل شيئ حولنا، من له متسع من الوقت كي يسمع أغنية لإم كلثوم ثلاث ساعات، أو يقرأ رواية الإخوة كرامازوف في مجلدين كبيرين، أو يُشاهد مسلسل مكسيكي مدبلج للعربية من ثلاثة الأف حلقة. كل هذا يبدو غريب الأن مع أنه كان معمول به قبل سنوات قليلة. تحديات المعلوماتية أو منظومة الصفر  واحد أطفتْ بُعد أخر على الحياة برمتها، وأصبح بأمكان أي شخص كان يملك المعلومة بسهولة تفوق الوصف والخيال ، من خلال الهاتف الجوال، الشبكة العنكبوتية، محرك البحث كوكل، وهذا بدوره مع كل الإيجابيات التي به كرّس لمفهوم السهولة في التعامل مع الموضوع أو الحالة المطروحة للسمَاع أو المناقشة، وهذا بدوره قادّ الى صيغة أكثر مُعمقة هو السرعة مع المُعطى ذاته؛ فمثلاً كاهن يتحدث في موعظته عن المَُرائين، ولم يستطيع توصيل فكرته خلال خمسة عشر دقيقة أو عشرون دقيقة وهو الزمن الافتراضي للموعظة ، فيُصاب هذا الشخص بالملل ويفضل البحث والتقصي عن الكلمة بنفسه وبالتالي يفسرها كحسب هواه هو أو من خلال معلومة قد تكون خاطئة في  الشبكة الدولية للنيت أو عن طريق اخر.
اليوم باتَّ من الضروري  على الواعظ الكاهن أن يدرس ويقرأ ويستخلص الجمُل والعبارات التي تنفع في هذا الطقس وهذا الوقت، وهذا لن يحصل دون تعب وقراءات مُعمقة للنصوص الدينية واللاهوتية والتراث والتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع ، لأن كل هذا يُشكل  رأس مال الكاهن الحقيقي، ويبلور مزيداً من الأفكار والاطروحات ، كيما يستفاد المؤمنون من الوعظة والكرازة التي هي جزء أساسي من القداس الإلهي، وأن تصل كلمة الرب بشكل صحيح ومباشر للسَامع ويقتنع به ويعمل به إيضاً، وهنا يكون قد توصل هذا القس الى الطرح الجيد والكلمة النافذة والجوهرية.         

156
المنبر الحر / غرائب الحياة
« في: 02:51 03/03/2018  »
غرائب الحياة
يعجز القلم في هذه اللحظات عن تسطير شيء يذكر، من غرابة الأحداث والوقائع الجارية من حولنا ، أمور يصعب وصفها أو حتى تصنيفها من حيث منطقها أو لامنطقيتها أو حدوثها حتى. 
الحياة تضعنا امام إختبارات وصعِاب بالغة الحدة والتعقيد، الكثير منا لا مقدرة له على تجاوزها فيظل جاثم على تلك البركة ينظر للأسفل يشترّ الماضي والمأساة التي لحقت به، والبعض الضئيل يتجاوز المِحنة ويعبرّ المرحلة الى الضفة الاخرى وهنا يكون رهانه على العيش بسعادة وفرح، وطوق النجاة الذي من خلاله يصل الى ميناء السلامة.
الحياة مراحل ومحطات ومتعرجات تارة تصعد  وتارة اخرى تهبط، نفرح في محطة منها ونعيش السعادة والفرح، وفي محطة ثانية نتألم ونبكي ونيأس حتى يبلغ الحزن  من الكأس فيصل للثمالة، فنكون هنا قد جربنا كل شيء من خلال مرورنا في هذا الطريق، مُرها وحلوها، الشقاء والفرح، الحب والكراهية، وهذا يدعى المتناقضات أو الأضداد في الشيئ أو الموضوع.
 تصوراتنا للحياة لن تأتي في كل الأحوال منطقية أو ضمن سياق واحد تكون على أهوائنا، أو على قياسنا، مجموعة من الشبان يموتون في حوادث متفرقة خلال أسبوع واحد وفي دول متفرقة، رجل مُسن في أقصى الصين يُشفى من مرض السرطان بعد ان كان مستفحل به الى درجة اليأس، أمرآة تسقط مغشية عليه بين قضبان سكة  حديد   القطار  يمر القطار عليها ولكن لا تموت ، رجل يطلب من زوجته شاي وقبل أن تلبي رغبته تجده قد فارق الحياة وبيده جهاز الريموت كنترول، شاب تطلب منه أمه أن لا يسافر على متن الطائرة يأبه ذلك فيصل المطار متأخر تقلع الطائرة دونه وبعد دقائق تسقط الطائرة. صور كثيرة ومتعددة، الرابط بينها هو غرابة الواقعة من حيث حدوثها، ونحن بسذجتنا المعهودة نضعها تحت عنوان القدر، القسمة، النصيب ، انتهت خبزته، ولم نفكر أن للطبيعة منطق أخر غير منطق البشر تسير هي عليه كما هي تراه لا كما نحن نرآه ، فهي غير مبالية بِنَا على الإطلاق لانها أي هذه الطبيعة، لها كينونتها وذاتها وشخصيتها الخاصة وتعمل وفق هذه المتلازمات سواء كنّا نعلم أو لا نعلم بذلك ندري أو لا ندري.
لن  تنتهي في يوم ما الأحداث الغريبة من هذا الكوكب لأنها جزء منه، وجزء من ذلك العالم الخفي والسر  المستور . يبقى على الكائن البشري والذي إنبثق منه إنسان اليوم أن يفهم ويحلل ويُفسّر تلك الظواهر من منظور الطبيعة ذاتها وماهيتها وجوهرها ، ولكن إلى أن يصل هذا الانسان الى ذلك الفهم والوعي بطبيعة الطبيعة يحتاج إلى وقت طويل جداً وعقل يبلغ مداه الاوسع.   

157
يتشرف السيد سلوان ساكو بدعوتكم لحضور حفل توقيع مجموعته القصصية الأولى ( الزنبق الأبيض الدامي) وذلك يوم الاحد المصادف 18/2/2018 وذلك تمام الساعة السابعة مساءا في قاعة كنيسة مار كوركيس ، مالبورن ، أستراليا.
حضوركم شرف لنا.
للمزيد من المعلومات الاتصال بالسيد سلوان ساكو
موبايل / 0413377466

158
دعوة لمقاطعة الأنتخابات القادمة 
بقلم / سلوان ساكو
في جميع دول العالم والمجتمعات المتحضرة تجري عملية الأنتخابات سواء كانت برلمانية أو رئاسية أو مجالس بلدية ومحلية حتى، تكون الغاية منها هو تقديم ورقة وورشة عمل تخدم المواطن والشعب الذي تعنى في إعطاء صوته، والرُقي به أي هذا المواطن إلى مستويات أفضل من النواحي السياسية والاقتصادية والتجارية والمعيشية،  ليشعر ويتلمس ويحس هذا المواطن أن صوته لم يذهب ادراج الريح، وهو منتمي وجدانيا لهذه الأرض التي يعتبرها وطنه.  وهذه هي غاية السياسي المُرشح نفسه لهذا المنصب وشغل هذه الوظيفة الحساسة والخطيرة،  لأن هذا البرلماني هو من يخط الخطوط العريضة للبلاد ويرسم المستقبل الذي سوف تقطف ثماره الأجيال القادمة وتعمل وفق مبادئه المرسومة سلفاً، وعلى هذا المنوال وهذه الطرق  تتقدم الأمم وترتقي الدول مع تعديلات تصب في صالح الوطن مع كل فترة إنتخابات واُخرى تكون متماهية ومُتماشية مع روح العصر،  ومنطلقة من منظومة متكاملة من الأفكار التقدمية التنويرية   الحداثية التي سوف تكون مشاعل إضاءة ومنارات يهتدي إليها الانسان التواق ليعيش كرامته وحريته وإنسانيته الذي لابد أن يصونها هذا البرلماني وهذا الرئيس وهذا المشُرع وهذا المسؤول الجالس وراء المكتب، هل هذا هو  الدور  الذي يقوم به العضو البرلماني العراقي؟ الجواب قطعاً سوف يكون كلا،  فهو آي هذا العضو لم يقدم للعراق من عام 2003 لحد إلان وفي جميع الدورات الانتخابية شيئاً يذكر ومادة تصلح للمدح عليه، بل العكس هو الصحيح كل شيئ مذموم وقبيح فعله هذا العضو في بلد اختلفت فيه كل المعايير  والاعراف والاخلاق ، فبات اللص هو النزيه ، والمجرم هو القاضي ، والمُرتشي هو الموظف الصالح ، وحماة الوطن والعرض هم الإرهابيين فبماذا تفرق ميليشية  الحشد الشعبي عن تنظيم داعش ، فقط في الولاءات والمذهب ، ولكن نفس الإجرام ونفس التفكير الذي هو اقصاء الأخر. وهنا تكمن الاشكالية الكبرى والسؤال الصعب حيث ضاعت بوصلة التوجيه الصحيصة التي توجه النائب نحو المواطنة وبناء البلاد وأخذ بزمام محاسبة موظف الدولة  السارق والمرتشي والفاسد،  واستدعاء ذلك الوزير  وهذا والمسؤول تحت قبة البرلمان لتقصيره في اداء واجباته والمهام التي أنيطت به، فتكون هنالك منظومة من القوانين تردعّ المُسيئ وتُحاسب الكل. هل هذا يحصل في العراق الحديث؟، قطعاً لا، وما الميليشيات والعصابات المسلحة والفساد الأداري والمالي الذي طال رأس السلطة  والاموال المهدورة تحت اسماء مشاريع وشركات وهمية والمليارات من الدولارات التي تدخل الثقب الأسود بدون أثر لها  خير دليل على فشل التجربة الديموقراطية وتعثر المرحلة ، ونسف آية خطة مستقبلية في بناء وطن يقوم على أُسُس عصرية حديثة علمية  ، لأن الفساد والمحسوبية والانتماء الحزبي  والطائفي والمذهبي والعشائري هي الركائز  الاساسية التي يقوم عليه الوطن الان ويسير في ركابها،  هذه الحزمة لا تبني ولا تصنع وطناً ولا حضارةٌ  في يوم من الأيام.
خلاصة القول ، لا الأنتخابات الماضية  نفعت بشيء ،  ولا هذه المزمع إجراءها في إيار مايو المقبل سوف تنفع ولا عشرات الأنتخابات سوف تنفع ما لم تكن هنالك تصورات معرفية وثقافية ورؤى مستقبلية وثورة فكرية تُخلص البلاد من هذا الجهل وهذا العمى وهذا التعصب الذي اطاح بكل صروح الحضارة العريقة حضارة وادي الرافدين، وخلق إنسان جديد واعي للحياة  وللمرحلة والتاريخ،  يحمل خطاب جديد ، ينهض ويتسامى على كل هذه المأسي  وهذا الفساد وهذه الفوضى وهذا التشظي وهذا القتل الغير مُبرر،  يحمل عقد أجتماعي ينصف به الكل دون استثناء ، حين ذاك فقط  نذهب ونقترع ونضع أصواتنا في صناديق الانتخابات ونحن واثقين من مرشحنا  لن يخذلنا ، غير  هذا  تكون كل الجهود وعملية التصويت في مهب الريح،  والانتخابات كأنها لم تكن وأثر بعد عين وغير مجدية بالأساس ،  وعدم الذهاب والمشاركة  هو أفضل طريقة للتعبير عن خيبة الأمل والسخط من بلد لم يعرف أن يكون وطن من سقوط الصنم.

159
هل سقطّ الديكتاتور فعلاً
بقلم/  سلوان ساكو
مرت زهاءَ ثلاثين عامً على سقوط الدكتاتور نيكولاي تشاوتشيسكو،  رئيس جمهورية رومانيا الاشتراكية ، وزوجته إلينا،  في العاصمة  بوخارست بعد ان اشتعلت المظاهرات في تيميشوارا في ديسمبر 1989 ؛ واعدامهم بعد ايّام قليلة في محاكمة شكلية صورية. كان هذا الدرس القاسي البليغ يشاهده العالم بأسره من خلال شاشات التلفاز لديكتاتور سقط بشكل دراماتيكي مثير،  بعدَ ان حكم 25 عام.  كانت سنوات يأس وجوع وحرمان من ابسط متطلبات الحَيَاة،  عانا خلالها الفرد الروماني ويلات وغرور وحماقة  فرد مُصاب بانفصام الشخصية أراد ان يُخلد نفسه من خلال قصر كبير في وسط العاصمة والشعب يعاني الامرين ، إلى أن اتجه هذا الشعب الحر المغلوب على أمره إلى تحقيق العدالة بطريقته هو، وكانت النتائج مرعبة بحق الديكتاتور ستظل عالقة في الاذهان الى ما لا نِهاية.       
ما كان السقوط للصنم  في 2003 ألا كنتيجة حتمية لأحداث غزو دولة الكويت عام  1990.  فهي كانت المبرر  والحافز  والشرعية الدولية لتدخل أكثر من 30 دولة بقيادة الولايات المتحدة الامريكية لتحطيم إرادة شعب بأكمله وتغير مساره التاريخي والانساني والفكري والاخلاقي، وتشتيته وبعثرته  في زواية الارض الأربعة،  فخلال شهر واحد أنزلت وزارة الدفاع الامريكية البنتاغون 750 الف جندي من كل الصنوف وشتى المعدات في الخليج العربي. وحّل انشقاق وتشرذم ونزاعات في صفوف الدول العربية، لم ولن تحدث في التاريخ، ارتدداتها متواصلة الى حد السّاعة والمستقبل كفيل بتمزيقها اكثر من قبل مادامت الشمس تشرق. بعد الخسائر الهائلة والمذلة للجيش والشعب والخزينة، يظهر لنا  الديكتاتور ويقول  اننا انتصرنا وخسئ العدو مع عدة  إطلاقات نارية من سلاحه المبارك، فنفرح ونهتف ونبكي ، وبتنا ما نحن عليه الان وما بات عليه العراق.
 معا كل هذا الاخفاق والفشل الكبير ، تترصد في المجتمع أو في شبكات الإنترنيت من يمتدح الديكتاتور ويآلهه ويترحم على إيامه الماضية في لوعة وحسرة نادرتين، وان عارضه شخص ما  لا يتوانى عن إنزال جام غضبه عليه،  فهو،  أي هذا الشخص قد تطاول على الذات الآلهة ويجب رده. من هنا نفهم  سيكولوجية هذا الفرد الفرد العراقي طبعاً ، ووقوعه تحت نير العبودية، آي عبودية الديكتاتور، وتقوقعه حول تلك الذات مما مسحت ومحت الكثير من الشخصيات فباتت اسيرة الماضي والايام الخوالي، لا مقدرة لها على تمزيق تلك الشرنقة القديمة والخلاص منها والانطلاق الى المستقبل في بناء الانسان وتحريره من سلاسل الأسر الفكرية التي أسسها الديكتاتور خلال ايّام حكمه الطويلة، وانعتاقه من كل ما يكبله من قيود وأصفاد أصبحت تضيق مع الوقت حولَ عنقه الى أن قطعت النفس.
الاوطان لا تبنيها الديكتاتوريات فهي ساقطة لا محالة مهما طال الأمد، ولا الأفكار الماضوية ولا الانعزال ولا الأيدلوجيات ولا حتى الدين بمعنى اخر،  بل بالفكر الحر  والأمل  والحلم.                 
 

160
زيارة الى سجن الحرية
بقلم / سلوان ساكو
قمتُ في الأيام القليلة الماضية بزيارة أحد السجون الأسترالية الكبيرة في ولاية مالبورن، والذي كان عبارة عن سجن كبير جداً، يشغل مساحة كبيرة من الأرض والذي يقع في وسط ال City ، تحول مع مضيّ الوقت الى متحف يأمه الناس والزوار من جميع أنحاء الولايات ، لا بل حتى من دول اجنبية، يقفون مندهشين من  بناء هذا الصرح العملاق الذي يعود أنشائه إلى عام 1840.
السجن مقُسم بطبيعة الحال الى عدة طوابق، وكل طابق عدد كبير من الغرف الكبيرة والصغيرة،  وغرفة الحجز الأنفرادي، وطابق تحت الأرض ،طبعاً مغلق بوجه الزائرين، ولكن يوجد كوة متوسطة الحجم تطل على ذلك الطابق ينظر من خلالها الزائر. في أروقة السجن المترامية أخذني الفكر بعيدا، وصرتُ أفكر  كيف تحول مفهوم العقوبة والجزاء إلى مفهوم أكثر انساني في الغرب ، وظل كما هو عليه في الشرق لا بل اسوء، من تنكيل وضرب وإعدام واعتقال بدون تهمة من الأساس، والعراق اكبر دليل على ذلك ، (وفي مقال سابق قلت أن تنظيم الدولة الاسلامية داعش  لم يكن له أن يَرَى النور لولا الهروب الجماعي والكبير  لعُتاد زعماء الجماعات الاسلامية من سجن معسكر تاجي القريب من بغداد في زمن نوري المالكي).  وكيف تغيرت حزمة القوانين والضوابط من مواد تنص على الإعدام شنقاً إلى مواد أكثر انسجاماً مع روح الانسان وحتى تطلعاته إلى أن يكون صالحاً في نهاية الأمر. فبعدَ ما كانت عقوبة الإعدام في استراليا تنفذ بالمجرم وأمام الملاء ، تم ألغائها وتعديل الكثير من النصوص الجزائية والجنائية بحيث اتاحت للفرد كفرد حتى لو كانَ مذنب أن يقف موقف الدفاع من قضيته أمام المحكمة وهيئة المحلفين والادعاء العام. بمعنى أدق وجد المشرع الغربي  أن روح القانون لا يجب أن تغيب عن روح الانسانية، والتي تمثلت بهذا المُذنب الماثل أمامه في قفص الاتهام، وعلى هذه الأفكار تحولت السجون في الغرب ألى مراكز تأهيل وتدريب وتعليم يخرج منها المحكوم يتقن صنْعة. وهذا الامر لم يحصل بين ليلة وضحاها بل مرَّ  بتعديلات  ومتغيرات كثيرة اعطته الصورة  التي هو عليه الان، وهذه الصور  أستُمدت من نبع مفكرين كبار  وفلاسفة العقد الاجتماعي، الذين أغنو المجتمع بالحق والخير والعدالة، والتي هي في نهاية المطاف تجليات إنسانية يتوق إليه الفرد الحر، الفرد الحقيقي، وليس ذلك المزيَّف.     

161
عهّر البرلمان العراقي 
حينَما تكون هنالك مشاجرات ومناكفات في اروقة البرلمانات العربية أو حتى الأجنبية منها في العالم فهذا شيئاً طبيعي ، وحينما تشبّ المناقشات الحادة وتتحول الى عِراك بالأيادي، فهذا أمرا  عادي جداً ، حتى أن البرلمان الايطالي في العاصمة روما تكون فيها المقاعد مثُبتة بشكل جيد على الارض تجنباً لإحتمال  أن يتقاذفها النواب فيما بينَهم، وأن شاهدنا وقائع جالسات  البرلمان الأردني على اليوتيوب وَمَا يحصل من مشادات ونقاشات بين النواب، فلا يجد النائب بُداً  غير شهر مسدسه في وجه زميله النائب.
البرلمان العراقي هو واحداً  من أفشل البرلمانات في العالم، لِما يحتوي  في أروقته من نواب جهلة عديمي الرؤية تحكمهم التبعية والجهوية والعشائرية والطائفية والمذهبية المقيته، والتمركز حولَ النص الديني بكل حذافيره لستنباط تشريع أو قانون يخص المجتمع المدني، ومع أن الدين (أيّ دين) لا ينفع في استخراج منظومة منه تحكم المجتمع المدني وتشرع احواله الشخصية فلا نفع تذكر من هذا الدين او ذلك خاصةً في تسير أحواله في المجتمعية ، لأن المجمتع المدني الْيَوْمَ تحكمه نُظم  علمانية جاءت عبرَ طريق طويل من الفكر  والفلسفة وصيرورة التاريخ  ليست بالهينة ابداً ، من جان جاك روسو  وجان لوك وتوماس هوبز  وهيجل وغيرهم من بُنات هذا العلم وهذا العقد  بين البشر  والمجتمع،  فبرزت أوروبا والغرب كما نشاهدها الْيَوْمَ بعدما كانت تغطْ في ظلام حالك وليل دامس.
 حين تشكلت أول حكومة ملكية في العراق في 23 اغسطس 1921، وسمية فيصل ملكاً على العراق، تشكلت بعد ذلك حكومة برلمانية ومجلسين تشريعيين. وكان المجلسان يتألفان من مجلس نيابي منتخب ومجلس أعيان معينين. كان أعضاء المجلس النيابي ينتخبون كل أربع سنوات في انتخابات حرة. اجتمع أول برلمان في عام 1925. وكانت تضم كل اطياف المجتمع العراقي من يهود ومسيحين ومسلمين، وانتُِخب ساسون حسقيل أول وزير مالية للعراق في العصر الحديث، واستلم وزارة المالية العراقية ثلاث مرّات، مما يعكس التنوع الحضاري في ذلك الوقت، مع كل ما كان موجود من سلبيات في تلك المناطق،  اذ اخذنا بنظر الاعتبار الأحداث الكبرى التي عصفت بالبلاد ونهاية الحرب الكونية الاولى. فكان بذلك حقًا مجلس مكون من أعيان وحكماء تتخذ القرارات المصيرية التي تخص الشعب بترويً وحكمة، وعدم اقحام الدين في النص التشريعي فكانت القوانين والقرارات والتشريعات مدنية بجدارة.
 العراق اليوم، وبعد السقوط والفشل الذريع للتجربة الديمقراطية الامريكية الغير صالحة للمجتمعات العربية، والتي جاءت ببرلمان متعثر  وأعضاء ذوِّ توجهات قبلية وعشائرية  مناطقية، ووعي محدود ومتخلف، يريدون في الآونة الاخيرة  تشريع زواج القاصرات دون سنّ التاسعة من العُمر. بالله عليكم،  هل يصلح مثل هذا البرلمان أن يكون ممثلاً للشعب الذي أنتخبه، هل يتماشة هذا البرلمان مع روح العصر الذي نحن في ركبه الأن، هل الأعضاء يدركون أنهم بهذا التشريع  يهدمون أخر حصنا من حصون الحداثة التي تركت البلاد غير نادمة عليه أبدا.

162
المنبر الحر / هاجس السكن
« في: 06:24 08/11/2017  »
هاجس السكن
بقلم/ سلوان ساكو
عرفّ الانسان القديم الأستقرار أول الأمر عند الأنهار والمياه الجاري، فكانت بذلك بداية ناجحة،  وتفتق وعيه على السكن والأستقرار في مكان واحد ضمن رقعة جغرافية واحدة مع عصر البذور  والزراعة والحصاد بعد ذلك، ممَِا دفعه للبقاء في الموقع ذاته والتضامن والتكافؤ مع من حوله من بشر ، لأستكمال دورة الحياة والطبيعة، وتعاقب الفصول على المادة المزروعة في جوف الأرض، والتي سوفَ تؤكل ثمارها بعد حين. فأصبح ذلك العصر عصر الأستقرار والبقاء. والذي جاء بعده نظام العائلة  والأسرة  والقبيلة والمجتمعات الكبيرة، ومن ثمَ تطورت بشكل تدريجي إلى منظومة قوانين تضبط إيقاع الحياة وبعدها الى حكومات ودول ، عبر تاريخ طويل من الزمن في خط متعرج، ألى أن وصل في نهاية الامر على ما نحن عليه الان.
الأستقرار آمر ضروري خبره ذلك الأنسان القديم وسخر  جلّ طاقته من أجله. وهذا السكن شيئ يشعر الفرد حياله  أنه في دائرة الأمن والأمان، والذي يفتقده الفرد العراقي، ويُشكل هاجسً من الخوف يتحول في بعض الأحيان الى قلق وجودي لديه مضموراً  في اللاوعي عِندَه. وهذا اذَ كان بنِسَب قليلة فهو صحي، ولا ضيرّ  منه إطلاقا، بل على العكس  يكون في بعض الحالات دافع إلى البلوغ والارتقاء، والقلق صحي كما يقول عنه أطباء النفس بنسب قليلة. ولكن المسألة تصبح شاذة اذا أخذت صفة البديل الرئيسي للحياة والعيش ونمط التفكير ، ويصبح الموضوع محصوراً في شراء المنزل، متناسين أن الحياة تحمل ما بين ثناياها ما هو أفضل من الدار أو قطعة الارض أكثر  بكثير، فنُشاهد في التعازي أو في الحفلات أو النوادي الصحي (الجيم والسوانة) أو في أيَّ تجمع آخر، لا حديث غير  عن أرتفاع أسعار المنازل، وغلاء أسعار الاراضي، ونسبة أرباح البنوك ، كَأَنَّ مُجمل الحياة متوقفة على هذا المسكن وعلى وهذه قطعة الأرض، مع العلم أن الموضوع وبقليل من الجهد سوفَ يكون تحصيل حاصل مادام أن البنك سوفَ يوفر المبلغ الأجمالي مع أضافة أرباحه طبعاً على مدار ثلاثين عام أو يزيد.
الذي أريد ان أقوله في هذه الأسطر ، أن الحياة والعيش ليسَ منزل أو قطعة أرض أو سيارة، صحيح أن هذه من مكملات العيش وأساسية ، ولكن لا ينبغي أن تكون هي الغايات الأسمى وبعدها هو الرماد الأسود. الحياة معرفة، وفهم  ووعي وكلمة وموسيقى  وحب وجنس وكتاب وديوان شعر  وسينما  وفن وطبيعة وليلّ وقمر ورمال وبحر ...الخ ،  كلها تنصهر في بوتقة واحدة لنعيش بشكل صحيح ونستمتع به، وألاّ أصبحنا دخل سجن كبير مكبلين بأغلال سميكة ، غايتنا العُظمى هي المنزل والسيارة ، فنُضيع علينا المشيتان كذلك الغراب الذي أراد تقليد البغبغان فلا استقر على مشيته ولا اجاد مشية الأخير.

163
المنبر الحر / صوت المزمار الحزين
« في: 09:28 31/10/2017  »
صوتّ المزمار الحزينْ
بقلم/ سلوان ساكو
عندما يتحول صوت المزمار الشجي والبدائي إلى نغم حزين وباكي يبعث في النفس الآلم بدل المسرة، ويثير الدمعة بدل الابتسامة، ويُبدل الحواس من الفرح إلى الحزن، يكون شيئاً غير مألوف، مِمَّا يجعل الأحوال تتقلب والموازين تتغير من طور إلى طور آخر ، لا نلبث معها أن نتوقف ناظرين إلى النعش المُسجى أرضاً بقلب مفطور وعينْ دامعة، وطعنة مّدية يغور نصلها إلى عمق الذات المجروحة فيجعل الدماء تسيل ممزوجة بدمعٍ  على فراق فردّ عزيز.
أثارني مشهد معروضٍ على الفيس بوك، لشاب في زهرة العُمر  وريعان الصبىّ لقي مصرعه مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكة بحادث سير على ما يبدو. نقل الشاب للصلاة عليه في الكنيسة، مُسجى في تابوت أبيض، ربما وهي ترميز  للصفاء والطهارة وأيضاً لغرفة العريس البيضاء، في ركنّ من المكان يصدح صوت مزمار مع إيقاع الرّق فيمزق عِنان السماء مِمَّا يجعل الملائكة تبكي مع الحاضرين في هذا الجناز الحزين، نسوةً متشحاتِ بالسواد يبكينَ ويرقصنَ ويلوحنَ بمناديلاً حمراء مدبوغةً بدموع قلوبهنَ المكروبة على فِراق عريس كان يجب أن يكون مع عروسته في هذا اليوم، رجال واقفين بسكون المقابر  وقلبوهم مهشَّمة عاجزين عن فعل أو قول شيئ. 
أعادني هذا المشهد المأساوي الى سنوات خلت ْ كنتُ فيها في دمشق، كانت أيضا جَنازة لشاب ماتَ في حادث سير على طريق حلب دمشق، فما كان من ذويه غير أن يزفوه إلى مثواه الأخير بالطريقة الشامية المعروفة، وسط صُراخ وعويل تنفطر له القلوب وتفيض من آلَمُه المقلتين. وفي النهاية يظل الانسان عاجزاً  عن تفسير  هذه  المشاهد، مهمة حاول أن يجد صيغة جواب لها،  فلاّ يجد غير علامات أستفهام مرسومة بخطوط متعرجة لا تصل بالمرء إلى نتيجة تشفي غليله ما دامت القرائن غيوماً من بخار البحر.   

164
المنبر الحر / الحلم الكردي
« في: 05:52 28/10/2017  »
الحلمّ الكرديْ
بقلم/ سلوان ساكو
كرسَ الزعيم العربي جمال عبد الناصر كل طاقاته وإمكانيته ونفوذه من أجل تحقيق حلمه، ألا وهو أمة عربية واحدة. كانَّ رجلاً حَالمٍ بحق، وتحققت بعضً أو شذرات من تلك الأحلام على أرض الواقع، حين جمع شعبين ذيّ خلفيات مختلفة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، في وحدة واحدة بين مصر وسوريا في شباط عام 1958 والتي انتهت بعد اقل من ثلاث سنوات بانقلاب عسكري في سبتمبر عام 1961 على يد عبد الكريم النحلاوي، فتحطمت بذلك أمال الرئيس وتفتت احلامه على صخرة الواقع الصعب في تلك المرحلة المفصلة من تاريخه. بعد ذلك تحول الحلم الكبير إلى كابوسً مرعب أقلق مضجع الزعيم متجسداً بنكسة حزيران 1967، والتي جعلته لا يفارق فنجان القهوة المرّ  ولا دخان السكائر  الرخيصة، فمات دون أن يرى أينّْ من أحلامه العريضة تتحقق، أو قيام جمهورية عربية موحدة واحدة حدودها من الخليج إلى المحيط، لا بل أنه شاهد وطن عربي ممُزق، وأراضي شاسعة  أحتُلت من قبل دولة حديثة الإنشاء، قَبْلَ حتى أن يرمي عِقاب سكارته. هنا وبالذات ألتفَ الأخطبوط الأسود على عنق الزعيم وطرحه أرضا، وببطء شديد بدأ يستنزف طاقته ويسحب دمه، إلى أن لفضْ أنفاسه الاخيرة في عام 1970 وهو على عتبة الخمسين من العمر بائساً وحزين.
الأخ مسعود البرزاني رئيس أقليم كردستان العراق كان له طموحات تشبه إلى حدّ بعيد طموحات عبد الناصر في تحقيق دولة مستقلة تقوم على أسُس ديموقراطية لشعب ناضل كثيراً من أجل حريته واستقلاله على الأقل ضمن حدود العراق في الوقت الحالي، بعد ذلك دولة قومية كبيرة ضمن حدود سوريا وتركيا وإيران والعراق وهي كردستان الكُبرى، ولكن مشكلة الأمال الكبيرة تواجه عواصف عاتية إلى أن تُحيلها إلى ترابً تذره الريح هباءاً منثور.
السيد البرزاني سيدّ العارفين بصعوبة حصوله على دولة مستقلة على ضوء المتغيرات الجيوسياسية الجديدة خاصة ما بعد انهيار دولة الخلافة في الموصل والرقة ودخول أطراف كثيرة في النزاع الإقليمي الدائر في المنطقة.  ولكن السؤال المهم هو  لماذا أقدم البرزاني على هذه الخطوة الانتحارية اذا جاز التعبير !. الموضوع صعب حقاً ان نحصره في زاوية واحدة لتشعبه وتركيباته المُعقدة وتاريخه الطويل. ولكن أقول أن البرزاني أرادَ أن يحقق شيء قبل أن ينتهي دوره ويقابل ربه، أراد أن يُخلد أسمه في سفر التاريخ كأول رئيس حقيقي للكرّد، فالذي لم يستطيع فعله الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في انشاء أول كيان سياسي كردي  سنة 1922، والتي أفشلتها الحكومة العراقية بمعاونة الإنكليز،  أراد هو أن يُحققه، ويحقق حلم والده المرحوم الملا مصطفى البرزاني حين فشلت  جمهورية مهاباد والتي تأسست في أقصى شمال غرب إيران حول مدينة مهاباد والتي كانت عاصمتها، وكانت دُويلة صغيرة مدعومة سوفييتياً كجمهورية كردية أُنشأت سنة 1946 ولم تدم أكثر من 11 شهراً. على ما يبدو أن الحَلم الكردي لم يفارق الطفل مسعود الذي هو ولِد في جمهورية والده وعمه في نفس عام التأسيس المتعثر والقصير ، ولكنه فجأة استفاقَ فزعاً على صارخ الهاربين وازيز رصاص الجيش الإيراني، فقُتل من قُتِل وهرب من هرب ، وفرّ الأب بمعيّة مجموعة من البيشمركة الى الاتحاد السوفيتي في رحلة صعبة على طريق نيسمي وعّر.  مسعود وأخوته وأمه وعوائل عديدة عادوا الى العراق، وتم نفيهم الى البصرة وبغداد، وليتخيل القارئ الكريم كيف كانت حال عائلة متهمة بالتمرد والعصيان المسلح، وكيف عاملتهم الدولة أنذلك، وما وجهته من صعوبات ومآسي وذلٌ ومهانة في جنوب العراق ووسطه، حتى تعليم الفتى مسعود المتوسط لم ينهيه.   
على ما يبدو  تبددّ الحلم الكرديّ وحالت ألوانه الزاهية، الأحمر والابيض والأخضر، والشمس الصفراء التي تتوسطهم  إلى رايات باهتة تلهو به الريح كما تشاء.
وعند الفجر أفاق الحَالم على قبضات أيادي قوية تمسكه من رقبته تريد أن تقطع  الهواء عليه.

165
الدكتور والخالة مرتا
بقلم/ سلوان ساكو
يتخذ العنف والقتل في بعض الأحيان أشكال مُعينةًٌ وصور  مرعبة، نقف حيالها عاجزين عن الفهم، فاتحين أفواهنا من شدة غرابة المشهد وفضاعته، وفي ذات الوقت صدفته الغير منطقية.
ترقد العجوز الطيبة مرتا في إحدى المستشفيات الكبيرة، ويتمْ اجراء عملية معقدة لها في القلب،  ويُستبدل شريان كان قد أصبه العطب، بشريان آخر إحتياطي موجوداً في رجل الساق للأستعمل عِنْدَ الحاجة. تكللت العملية بنجاح كبير على يدْ جراح شاب قضى جلَ عمره في التعلم والدراسة، ليستفيد  بعد ذلك من هذا العلم وهذا الذكاء الكثير من الناس والمرضى، ويعيشون عمر أطول، ويبتعدون عن شبح الموت الذي كان يُخيم عليهم، ويعيش في حناياهم يريد أن يزهق هذه الروح. تُنقل الخالة العجوز مرتا بعد العملية إلى مشفى آخر، أصغر من الأول للنقاهة وأستكمال العلاج، ليتم بعد ذلك الخروج والعودة لأسرتها وأولادها وأحفادها.
 يأبى الطبيب الشاب المُتمرس إلا أن يُعايد مرضاه، ويُراجع بنفسه حالاتهم ويقف على مدى أستجابت القلب على قبول العضوّ الجديد في المضخة الخالدة. فيذهب إلى المشفى حيث تكون العجوز مرتا مرتاحة، ويطمئن عليها، ويجدّ الحالة مستقرة، والعضلة تدفع مزيداً من الدم والهواء لباقي الجسم فينعشه، يَرْبِت على كتفها بلطف وحنان، ويكتب في أوراقها الخروج بعد ثلاث ايّام، فتبتسم هي له بمودة وعرفان. يخرج الطبيب من الغرفة ليغادر المشفى، وعند الباب يقف ويستشيط غضباً من شخص أحمق معتوه، يُدخّن السكائر بشراها، فيصرخ به الطبيب أن هذا المكان غير مُخصص للتدخين وأن المشفى هو مكان لأمراض القلب وهذا العمل يُسيء للمرضى الذين هم في مرحلة النقاهة، فما كان من هذا المعتوه الجبان إلا أن نظر بازدراء للطبيب الشاب وعالجه بدون مقدمات بضربة قوية من كفّ يده، فيسقط الطبيب مصروعاً ميّت بدون حراك، كأنه قد فارق الحياة من وقت طويل. الحادث يسبب ضجة في الولاية ويقبض على الجاني ويُحاكم، ولكن بيت القصيد ليس في العقاب ولكن في الفعل الشنيع والتهور الغير مُبرر،
فبضربة يدّ طائشة قتل إنسان إنسان آخر ، وقضى على مستقبل طبيب كان النجاح عنوانه، والمفتاح لعلاج الأجسام، هكذا وبكل بساطة من أجل دخان يطير في الهواء أزهقت روح إنسان.             

166
المَثلية ومفهوم الحرية
بقلم / سلوان ساكو
تسعى دولة استراليا في الآونة الاخيرة الى تشريع قانون جديد يجيز للمثليين الارتباط رسمياً ، وبالتالي يكون لزماً على الدوائر المختصة من محاكم وبلديات وكنائس تطبيق هذا القانون والالتزام به.
 المثلي  أو المثليين Homosexuals ،  الذي كثر الحديث عنهم في الاعلام والسوشيال ميديا خاصة في الآونة الاخيرة ؟  وباتَ من الملح  ومن الضروري تسليط الضوء عليهم لرفع النِّقاب وكشف ما يحيطهم من غموض ، وعلى آيّ أساس تعتمد أفكارهم ومن أين بدأت وتبلورت هذه الأفكار، وكيف توصل الغرب الى مفهوم أو وعيّ أو صيغة أو نمط، بحيث  يتزوج أثنين من نفس الجنس ويتقبل المجتمع من حولهم ذلك بكل طيب خاطر ، وكيف وصل الامر في بعض الدول مثل الولايات المتحدة أن تجيز ذلك ، حيث يعتبر باراك اوباما أول رئيس أمريكي يعترف بزواج المثليين في سنة 2012.  والآن السِجّال دائر على أشده في الشارع الأسترالي لتشريع  قانون  يلزم المحاكم المدنية  بعقد القران وفرض الحالة على المجتمع بشكل عام. 
وجدَ الباحث والمنقب في حفريات الأركيولوجيا في بعض المجتمعات القديمة  من حياة الكهوف آي العصر ما قبل الزراعة والاستقرار أن هنالك بعض الرسومات على جدران تلك الكهوف مكونة من شخصان يتعانقان من نفس الجنس،  والباحث في علم باليوأنثروبولوجيا آي علم الانسان القديم سوفة يجد الكثير من الشواهد والطقوس لممارسات جنسية من نفس النوع. وحتى في الملحمة السومرية جلجامش نلاحظ نوع من الحب المثلي ( وليس بالضرورة أن يكون جنسي ) بين البطل جلجامش ملك أوروك وصديقه الوسيم أنكيدو بعد النزال بينهم. وفي بابل القديمة  كان هناك ظاهرة تسمى ( العهر المقدس) في معبد عشار للآلهة إنانا يحيث يمارسون الجنس بطرق خاصة.  وفي حضارة وادي النيل نشاهد الثنائي حنمحوتب ونيانخم مزيني قصر الملك ني أوسر رع سادس ملوك الأسرة الخامسة حوالي عام 2400 ق.م. حيث ساد الاعتقاد بأنهما كانا مثليي الجنس بناء على رسم لما يصورهما يتعانقان أنفًا بأنف في مقبرتهما المشتركة. وفي حضارة اليونان تكلم  الفيلسوف أفلاطون فى كتابه "‪Symposium‬" عن ذلك السلوك بواسطة حوار بين  فلاسفة عن معنى الحب "‪Eros‬" و تضمن ذلك الحب المثلي، وانتقد المثلية بوصفها غير طبيعية.
 وفي العصر العباسي كان معروف عن الخليفة هارون الرشيد أنه يجمع حوله الخصيان والغلمان وكان أبو نواس يمدح الغلمان ويثني على الجمال الخنثوي، وأيضاً أشعار المتصوف المشهور ابن  الرومي ، وفي عصر الصفويين في فارس 1501-1723 كانت هنالك بيوت خاصة لدعارة الذكور مرخصة قانونياً وتدفع ضرائب . فإذن الموضوع قديم جديد  وله جذور تضرب عميقاً  في كل الحضارات والمجتمعات بدون حصر . ولكن الموضوع  يأخذ بعداً أخلاقياً  تأسس على مفاهيم فلسفية كبيرة وأن كانت مستترة  خلف قناع الانسانية، فلا نستطيع   فهم الفكرة من الأساس دون العودة  الى مفهوم المصفوفة الاخلاقية خلال ما مرت به من تقلبات كثيرة ، والفلسفة بدورها لا تُفهم دون الرجوع الى غول الفلسفة كما يُقال  هيجل 1770-1831 الذي أساس مفهوم فلسفته على حرية الفرد، والذي كان هو بدوره  متأثر بجان جاك روسو 1712-1778،  حيث يمجد  هيجل الفرد الحر من منطلق أنه سوفة يصل الى المثال‫،(لأنها الهدف الأساسي للحياة  ومن خلالها يشعر الإنسان بقيمته وبجانبه الروحي لأنه يمارس العادات والتقاليد و الحياة الأخلاقية والقانونية من خلالها ). ‬وبعد ذلك نعود لقراءة فكرة فريدريك نيتشه 1844-1900  الذي أعطى فهم أعمق وأكثر جدلية بخصوص الحرية ومفهم الفرد، بدون أن يحدد ذَلِك بشكل مباشر في كتاب فلسفة الأخلاق الذي ترجمه للعربية الدكتور يسري ابراهيم، الذي نقد دور العقل في الفلسفة التقليدية ، وكتابه الثاني الأخلاق  والتحرر منها في آخر المطاف عبر Superman أو الرجل الخارق المنحل من الاعراف والتقاليد والعادات والاخلاق التي بُنيت عليها الانسانية عبر حقبة طويلة أراد هو أن ينسفها من الأساس، وأرتقائه بهذا الانسان الغير أخلاقي  للكمال المطلق، الذي قال أن الطبيعة الانسانية وغريزة حب السيطرة وإرادة القوة هي مكمن الأحكام التقويمية لا العقل. أن هيجل يتبنّى الى حد كبير وصف كانط للفرد الرشيد والاخلاقي ، لكنه يعتقد ان فهم كانط للفردية هو تعبير عن حقبة تاريخية محددة تتمثل بالعالم الحديث. ولهذا يُعتبر هيجل من اوائل فلاسفة الحداثة وخاصة الفهم الحديث للتاريخ، وفي ضوء صورة الفرد العالمي وظهور الفرد المتمتع بالحق الذاتي والحريّة الشخصية حتى في سلوكه العام وممارساته الخاصة. وقد عرض كانط في كتابه "الدين في حدود مجرد العقل" الصلة الوثيقة بين الأخلاق والدين، معتبراً أنّ الأخلاق ليست بحاجة إلى الدين من أجل قيامها، بل هي مكتفية بذاتها بحكم طبيعة العقل نفسه، وصحيح أنّ القانون الأخلاقي يفترض وجود كائن أسمى، ولكنّ فكرة هذا الكائن صدرت من الأخلاق دون أن تكون هي الأصل في ظهور الأخلاق ذاتها ويقول في دلالة خطيرة وعميقة، (إذا كان ثمة شيء يحق للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السابقين؛ فهو إيمانه العميق بالحرية، بأنه كائن حر، لا يدين بقدرته على التفكير بنفسه، ومن ثمة على إعطاء قيمة خلقية لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أية جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا). بعد ذلك جاءت فلسفة جان بول سارتر 1905-1980، الذي سارت على نفس المنوال في تمجيد حرية الفرد في المجتمع دون اي عوائق وحواجز أخلاقية. من هذا الطرح السريع والإضاءات نستطيع أن نفهم أن الغرب اليوم، أميركا أوروبا استراليا ....الخ تسير على خُطى هؤلاء المؤسسين للفرد وليس للجماعة وتعطي أهمية بالغة للحرية وفق مفهوم الذات.  فأذا المسألة هي ديالكتيكية جدلية من الأصل ليست محددة بمفهوم الأخلاق الارضية التي وضعها الانسان وصار عبد لها. وصل الغربي الى هذه الفكرة عبر سجال طويل مرت بمراحل طويلة والذي تجلت في آخر الامر على هيئة حرية Freedomو ،إلانا ego ، والذات Self ،  تكون صادقة وتعبر بالضرورة على شخصية الفرد وذاته وتكون واعية بصدق دون مراوغة أو أحتيال عليها،  وهذا تطلب عمل شاق جداً ووعي وفكر مضني في أطار الموضوع  لانه ضد التيار وضد القيم السائدة وضد الطبيعة التي سارت في ركابها الحضارة من البداية وبنيت كل المفاهيم والتقاليد عليها تقريبا، وأزرتها ووضعت حجر الأساس لتلك القيم والتقاليد الديانات الشرقية بشكل خاص. وفي النهاية  تظل القضية بين مؤيد ومعارض  وتبقى مسألة المثليين موضوع معقد وشائك. 

167
الكلداني بين مَذْهبَيْنِ 
تشتتَ الكلدان في جميع أصقاع العالم ، خاصة بعد عام 2003 وسلسلة الحروب الطويلة والمستمرة الى اليوم، والتي سوفة تستمر الى أمداً بعيد. سافر وهاجر وهُِجر الكثير منهم، من كان طوعاً ومن كان بالاكَراهَ. في هذا الترحال التراجيدي المرير والشاق والمتعب، ظل الكثير مِّنْهُم ملتزم بطائفته وبعقيدته ومذهبه الكاثوليكي لا يحيد عنهم، ممارساً شعائره الكنسية الكلدانية إين ما وجد وفِي آي مَكَان، وهؤلاء كُثر بطبيعة الحال. ومنهم أيضاً من أخذته الأفكار  بعيداً  فابتعد عن محيطه ونعزل عن القطيع فأبحر مع الأمواج العاتية وذهب بعيداً، فبتعد رويداً رويداً عن منارة الإيمان. ومنهم من سَار وراء مذهب ديني مُغاير يبحر فيه بزورق من ورق،  وهم أيضاً كُثر، وهذا هو موضوعنا هذه المرة.
لو سئلتَ شخصً ما يتردد على الكنسية الإنجيلية في أمريكا أو استراليا أو كندا، ذوُ خلفية كلدانية ماذا تعرف عن هذا المذهب، وماذا تعرف عن عقائدهم  وطقوسهم، لجوابك  فوراً وقال  سهولة إصال كلمة الرب الى المستمع آي الشعب، التراتيل والمزامير الجميلة والمفعمة بالحب والإيمان ،البرامج الترفيهية ، موسيقى ، سينما ،مسرحيات ، سفرات عائلية، بالايضافة طبعاً الى الشاي والقهوة والوجبات الخفيفة. بمعنى أوضح يقول لك، لا يوجد تعقيد في الطرح الديني ، وسهولة شرح النصوص الإنجيلية، عدم التوغل في الماديات وطرح جدلية الاشتراكات والتبرعات والعشور والزكاة والتي أمست مشكلة الكنيسة الكلدانية خاصة في دول المهجر على حساب الكلمة والموعظة الهادفة، لأن ليس كل ما يُقال من على المنِبر هو هادف، والاهم من ذلك هو إشراك الشعب في الصلاة وليست محصورة بين الكاهن والشماس والباقين مستمعين، وهذا يدخل في نطاق الجذب والنفور للنَّاس. ولكن السؤال المحوريّ المطروح  ماهو مذهب الكنيسة الإنجيلية ، والاهم من كل ذلك ما موقفهم من حزمة العقائد الإيمانية ودرجة تمسكهم بِه، فيقف هذا المتحول حائراً بين هذا التخبط لا يُجدي جَوَاباً. وهنا لا بد أن أعطف قليلاً على موضوع  الجٌمل والدلالات اللفظية والعبارات المزدوجة ذات الطبيعة المغُايرة ، التي نظن أنها تعني عبِارة صحيحة لانها أضحت مترسخة  في اللاوعي ومع التكرار أصبحت شيء طبيعي، وَلَكِن في الحقيقة تعطي مدلول أخر تماماً، فمثلاً حين نصف فُلان أنه نبيه وذكي وعبقري نقول عليه انه شاطر، ويغيب عنا المعنى الأصلي للكلمة التي تعني لصْ أو ماكر، ومجموعة شَطار تعني مجموعة لصوص. أو سارت العادة أن نكتب في بطاقة التهنئة عبارة بالرفاه والبنين ، التي يذهب بِنَا الظن أنها جاءت من الرفاهية وعلوَّ الشأن وهذا غير صحيح قطعاً  فالصحيح هو بالرفاء والبنين وأصل كلمة رِّفاء دعاء للمتزوِّج بالالتئام والاتفاق وجمع الشَّمل وإنجاب البنين ،والرفاء هو التفاهم بين الزوجين وان يكون لهما افكار متقاربة، وقس على ذلك الكثير من المصطلحات التي لم نضبط دلالاتها المعرفية فأصبحنا نتخبط في لغوَّ من الأخطاء الكثيرة والتي أصبحت مع مرور الوقت من المُسلمات والبديهيات.   
أولاً الكنيسة الإنجيلية التي نحن بصددها، هي على المذهب البروتستانتي، والمذهب هو مجموعة الآراء والأفكار التي يراها أو يعتقدها إنسان ما، حول عدد من القضايا منها الدينة والعلمية والسلوكية والفلسفية، أرتبط بعضها ببعض أرتباطاً يجعلها وحدة منسقة، والاسم   هو البروتستانت، وليس البروتوستانت أو (البروتوستانتية) كما يخطئ البعض ويقول. والكلمة أصلها الإنجليزي هو: Protestant من كلمة Protest أي يعترض، فيصبح المعنى هو المعترضون أو المحتجون،يُطلق عليهم أيضًا الطائفة الإنجيلية، أو الإنجيليون (الإنجيليين). قام بهذه الحركة الإصلاحية الكبيرة من مارتن لوثر (1483-1546)، الذي كان راهبا أوغسطينيا، ومُدرِّساً للاهوت وحاصل على شهادتي دكتوراه في أصول الدين والكتاب المقدس، على أثر خلافات عديدة مع البابا ليون العاشر وأمنة سر الفاتيكان ، فأعلن عن مجموعة إصلاحات نشرها في عام 1517،والمؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من "العقاب الزمني للخطيئة، وصكوك الغفران. لا يتوانى المؤرخون عن الإشارة إلى جون كالفن (1509-1564) وهولدريخ زوينغلي (1484-1531)،  الذين أضافا الكثير على الحركة اللوثرية.  يتوزعون البروتستانت بالمجمل على ثمان عائلات ،وهي الأدفنست أو السبتيون، لوثرية، الإنجيلية،  والأنجليكانيّة، والمعمدانيّة، الكالفينية ، الميثودية، والمورمون. هذا هو الإطار العام لحركة الإصلاح الدينية ،ولكن يتسائل الكثير من الناس ما هو الفرق اللاهوتي والعقائدي بين المذهب الكاثوليكي والبروتستانتي ، وما سبب رفض الأخير للكثير من المعتقدات.
 يعتقد  البروتستانت مثل الكاثوليك بانبثاق الروح القدس من  الآب والابن وهذه العقيدة هي عقيدة التثليث ، من أقانيم الله الواحد، مع أقنوم الله الآب وأقنوم الله الابن ، وهذا شيئ أساسي وجذري وجوهري في العقيدة ومهم جداً. والاقنوم مشتق من السريانية قنوما وهي إحدى طبائع الله، تحمل عدة معاني ، طبيعة ، ذات، كيان، ماهية.
لا يعترف البروتستانت بأسرار الكنيسة السبعة وإن وجد عندهم شيء من ذلك، لا يسمونه سرًا. مثال ذلك، يوجد زواج  عندهم، ولكنه مجرد رابطة أو عقد بين اثنين، وليس سرًا كنسيًا. توجد عندهم معمودية ولكنها ليست سراً كنسياً، ويسمونها فريضة، ولا يؤمنون بكل فاعلية المعمودية، ولا علاقة المعمودية بالولادة الجديدة، وبالتبرير وغفران الخطايا، وهكذا تتحول المعمودية في البروتستانتية إلى اسم بلا مفعول، وكأنها أصبحت مجرد علامة أو مجرد طقس، بينما هم لا يؤمنون بالطقوس. ومع كل ذلك ليس كل  البروتستانت إيمان واحد في المعمودية، فمنهم من يوافق على معمودية الأطفال، ومنهم من يوافق أن المعمودية يجب أن تتم  بالتغطيس، مع أختلافات أخرى مُتشعبة في بعض الأحيان.
لا يقبلون الكهنوت، فهم إما ينادون بكاهن واحد في السماء وعلى الأرض، هو يسوع المسيح، دون أي كهنوت للبشر، وإما أن يقولوا إننا جميعًا كهنة، ولا فارق في ذلك بين إنسان وآخر، ومن يدعى (قسًا) من الطوائف البروتستانتية، لا يقصد به أنه كاهن، إنما هذا لقب يعنى عندهم أنه خادم أو راع، أو معلم، وليس كاهنًا يمارس الأسرار.
البروتستانتية ضد الطقوس، وبالتالي لا يعترفون بأية ليتورجيات كنسية ( صلوات طقسية).                                 
لا يؤمنون بالاعتراف ، ونقصد عدم إيمانهم بالاعتراف على الآباء الكهنة من جهة، لأنهم لا يؤمنون أصلًا بكهنوت البشر، ومن جهة أخرى، لأنهم يرون أن الاعتراف على الله مباشرة دون وساطة بشرية، ويتبع هذا طبعًا، أنهم لا يؤمنون بالتحليل الذي يقرأه الكاهن على رأس المعترف، ولا يؤمنون بسلطان الحل والربط جملة.
في البروتستانتية لا توجد قداسات، ولا ذبيحة إلهية، ولا يؤمنون باستحالة الخبز والخمر، إلى الجسد والدم الأقدسين، وهكذا لا يوجد تناول من هذه الأسرار المقدسة، وكل ما يفعلونه لتنفيذ وصية الرب (أنجيل لوقا 22:19) هو احتفال في بعض المواسم، فيه كسر الخبز، لمجرد الذكرى، ويدعون ذلك فريضة وليس سرًا كنسيًا.وهكذا فأنه لا يوجد مذبح في الكنائس البروتستانتية، لأنه لا توجد ذبيحة...يستثنى من ذلك الأنجليكان (الأسقفيين)، فعندهم مذابح وقداسات، ويؤمنون باستحالة الخبز والخمر إلى الجسد والدَّم.
لاوجد لنظام الرهبنة، إلا عند الأرثوذكس و الكاثوليك، أما الرهبنة فلا وجود لها في البروتستانتية، وكل رتب الخدام متزوجون. لا يؤمنون بشفاعة الملائكة، ولا العذراء، ولا القديسين، ولا شفاعة الموتى في الأحياء، لا وساطة إطلاقًا بين الله والناس. وهذا يقود إلى نقطة أخرى وهى، لا إكرام للملائكة ولا للقديسين، فلا يحتفلون بأعياد القديسين، وهذه  تقود بدورها إلى محل أخرى أبعد وهى عدم الإيمان والاعتقاد بوجود صور وأيقونات في الكنيسة، ولا بإيقاد شمعة أمام صورة أحد القديسين، ولا بنذر ينذر على اسمه، فهذا نوع من طلب شفاعة، وهم لا يؤمنون بالشفاعة.
لا تبنى كنيسة على اسم ملاك، أو شهيد، أو قديس، ولا تتسمى باسمه، إنما قد تتسمى الكنيسة، باسم المدينة نفسها التي فيها الكنيسة ،  مثلاً كنيسة أرض الملجأ أو الكنيسة الإنجيلية  الوطنية ... الخ.
لا يؤمنون بدوام بتولية العذراء ، بل يعتقدون أنها تزوجت بيوسف النجار، وأنجبت منه بنين، عرفوا باسم "أخوة يسوع" (إنجيل متى 13: 55، 56). ولا يكرمون العذراء، وكثيرًا ما يلقبونها باسم "أم يسوع"، ولا يوافقون على عبارة "الممتلئة نعمة" (لوقا 28:1)، بل يترجمونها "المنعم عليها"، وينكرون صعود جسد العذراء إلى السماء، الأمر الذي يعتقد به الكاثوليك ، ولا يحتفلون بأي عيد من أعياد السيدة العذراء.
 ينكرون الأبوة الروحية ،فلا يدعون أحدًا أبًا، ولا قسًا، ولا أسقفًا، معتمدين على فهم خاطئ لقول السيد المسيح للآباء الرسل: "لا تدعوا لكم أبًا على الأرض" (متى 9:23).
عقيدة الاختيار ، وفيها يؤمنون بعقيدة وَهِي، اختيار الله البعض للخلاص، منذ الأزل، وعلى مبدأ النعمة المطلقة، وعلى مبدأ سلطان الله المطلق. وكما يقولون: "أن الله بمجرد مسرته قد اختار منذ الأزل بعضًا للحياة الأبدية... فرز الله لبعض من الناس، وتعينهم بالقضاء الإلهي للحياة الأبدية.
كثير من المذاهب البروتستانتية، تؤمن باستمرار موهبة الألسنة، ويعتبرونها دليلًا على الملء بالروح، أو دليلًا على قبول الإنسان للروح القدس، والبعض يقبل وجودها، وانتشارها، ولزومها، ولكن ليس للكل. تتميز تعاليمهم بالمطلق بالتشديد على المعنى الحرفي لنصوص الكتاب المقدس، الذي يعتبرونه المصدر الوحيد للإيمان المسيحي.
 أخيراً كانت هذه بعض الإيضاحات  السريعة، سلطنا الضوء فيه على أهم ما يحيط بالمذهب البروتستانتي، مُتجاوزاً بذلك اللغوَّ الفارغ متحكما بالعلم والمراجع، لكي تصل الفكرة بشكل واضح ومُبسط. 






المصادر :-
الكتاب المقدس
 اللاهوت المقارن، قداسة البابا شنوده الثالث  (1923-2012) / كتاب.   
الألفاظ والاساليب : مجمع اللغة العربية/ القاهرة.
الموسوعة الميسرة، والموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة. 

168
ريان وزوبعة في فنجان 
أثرتُ حقاً أن لا أكتب آلا بمرور بعض الوقت وذلك لأطفاء نوع من المنطق للحالة المطروحة ، والتي طال السجال حولها، واستبيان مواقع الخلل والضعف فيه من زواية عدة. كنتُ في مقال سابق شرحتُ وبالتفصيل أسباب تعثر وتخبط وفشل  تشكيل نوع من قوة خاصة بالمسيحيين ، أو نوع من الميليشيات المسلحة اذا تصح التعبير، وأوعزت ذلك الفشل الى قلة الخبرة، ضعف الولاء والإيمان بالقضية، تشتت القيادة الصادقة الحكيمة اذا وجدت أصلاً، تبعية القادة المسيحيين الى قادة أحزاب أخرى لها كلمة الفصل في أتخاذ القرارات، تحدهم مصالح شخصية وضيق في الأفق ، توغل حزب البعث قديماً في قمع كل التيارات المناهضة له وإجهاض آي مشروع أو نشاط سياسي داخل الوطن ، مما أدى الى تهشيم الأفكار والطموحات على صخرة الواقع الصلبة. والكثير من الأسباب والتي ألات في أخر المطاف الى هكذا نهاية سريالية.
فصيل أو فوج بابليون المسلح، الذي يقوده المدعو ريان سالم الكلداني، هو أحد تشكيلات الحشد الشعبي الشيعي، الذي تأسس بعد سيطرة تنظيم داعش على جزء كبير من شمال وغرب العراق عام 2014 بعد فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقتها المرجعية الدينية من مدينة النجف، بعد أن أخذت الموافقات من ملالي طهران وقمْ طبعاً، وبأشراف مباشر من  قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني. صحيح إن الفوج كان موجود قبل الحشد الشعبي ولكن دون فعالية تذكر. أن الفوج الرياني هو شيعي بالأصل ، ومذهبي النزعة بامتياز،  ولا صلّة ألبتة  له بالمسيحيين  غير الاسم  فقط، والذي شارك في دعمه مادياً وتسليحه  وأضهاره على العلن  هو رئيس الوزراء العراقي السابق جواد نوري المالكي اللص الكبير من أموال السرقة والاختلاس والسطو على البنوك في وضح النهار. حينما صرح المدعو ريان أنه سوفة يأخذ بثأر مسيحي الموصل من أحفاد يزيد ،فهو يأُجج الطائفية،  ويخلق مناخ مشحون بنزعة دينية وحرب أهلية تُنذر بسوء، لا حاجة بالمسيحين الباقين في الداخل  لها الان  خاصة في هذه الظروف الصعبة والمفصلية من التاريخ . هذا من طرَف، من طرف أخر أن الديانة المسيحية تحمل في طياتها قيم  إنسانية عالية ، لا تتماه مع العنف السائد مهما حاول البعض إدخال العنف عليها. وهذا يَصْب في صلب العقيدة والتعليم  المسيحي الحقيقي، حيث لا وجود لمبدأ الأنتقام والقتل والثأر  (لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، (إنجيل لوقا 6: 28) بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ). هذه ليست كلمات أنشائية تُقال في موعظة قداس يوم الأحد، ولكن هي المتوّن الأصلية التي جاء وبشر  به السيد المسيح على هذه الأرض، والتي تشكلت على أساسه  الدينة المسيحي على مدار 2000 عام ويزيد. فالموضوع ليس ريان الكلداني ولا سلمان التكليفي ولا غيرهم الذين يبتغون الصعود على جماجم الناس، وسرقة المال العام ، ذويْ الأيادي القذرة الملطخة بدماء الأبرياء ، حالهم حال داعش والحشد فهم وجهان لعملة واحدة صكها الارهاب. يأتمرون بقادة الأحزاب الشيعية الكبيرة ، وهم رهنْ إشارتهم ، يصرحون بما يريدون وفِي آي وقت كان ما  تقرره هذه الأحزاب أو المرجعيات. ليفهم ريان وسلمان أن الوقت حرج والشعب  المسيحي في الوطن يمرّ بمنعطف حرج ، وهو الان في عنقْ الزجاجة يحاول الخروج بكل الوسائل المتاحة ، بعد أن بدأت تحرر مدنهم وقراهم، وبدأت تدب الحياة فيها ولو بوتيرة بطيئة، وأعادة رسم خارطة طريق جديدة بعد كل الدمار والخراب والمأسي والويلات التي لحقت بهم، خاصة خلال الأعوام الثلاث الاخيرة.  فلا يدعي أحد الوصية أو المسئولية عليهم، أو يدافع عنهم من منظوره الضيق الغبي ، يتحدثون ويصرحون بما لم ينزل الله بها من سلطان. الناس لها نصيب  من الهَم  والحزن والالم ما يكفي قارات بأكملها فلا يزيد عليهم أحداً. 

169
ماذا تبقىّ من علمانية البعث
نعرف أن الولاءات والالتزامات والمبادئ الحزبية تتغير مع تغير الزمان والمكان والظروف المُحيط بكل هذا. فمثلاً نشاهد شخص شيوعي ماركسي  في بدايته ثم ينقلب الى يميني متُطرف ، وآخر كان يساري يحمل لواء الثورة، ويُنظر لها في كل توجهاته وافكاره ثم فجأة ينقلب الى محافظ  ملتزم. وهذا متداول ومعروف في عالم السياسة ويعتمد أيضاً على المناخ  والجوّ السياسي الذي يُحيط بهذا البلد أو ذلك. ولكن الغريب حقاً أن حزب ذوُ منظومة علمانية كبيرة وتوجهات يسارية  تحمل في طياتها فكر لأبرز المنظرين للعلمانية من شعراء وكتاب ومفكرين في حقبة الستينيات والسبعينيات ومتلاها ، تنحرف أنحراف كبير ، وتنجرف بشكل سريع الى هاوية التطرّف. وذلك ما حدث لحزب البعث العربي الاشتراكي، حيث تمْ تفريغ محتواه وأيدلوجيته وفكره من العنوان الرئيسي وهو الاشتراكية الى عنوان آخر بعيد كل البعد عن مساره العام. وهذا ما لم يحدث لأحزاب كبيرة  واجهت الفشل والإخفاق في مسيرتها، ولكن ظلت ملتزمة بنفس السياق ،كالحزب النازي الألماني والحزب الشيوعي السوفيتي الذين حافظوا على أيدلوجيتهم وتوجهاتهم  مع تحطم عجلاتهم  وأنحسار مدهمْ ، ولكن ظل الفكر كما هو. حين وصل البعث الى سدة الحكم في العراق سنة 1968 كان هناك رهان قوي على انه سوفة ينجح لتوجهاته وتطلعاته الليبراليّة، والتي كانت سائدة في ذلك العصر بشكل كبير، حيث كان المواطن العادي يُشاهد تجلياتها في كل زاوية من الحياة العامة. فدورّ السينما تعرض أفلام ذات مغزى ادبي عميق، والبارات متواجدة بكثرة  والنوادي الليلية تفتح ابوابها الى ساعات الفجر الأولى. والضابط والمحامي والطبيب والأديب والمهندس يستمتع هو وعائلته من خلال نقاباتهم نواديهم التي كانت تعطي الكباب مع البيرة في جو يتسم بالانفتاح . وفِي مناهج التعليم خاصة المرحلة الابتدائية، آي مرحلة التأسيس للطفل ، حيث وضع المفكر القومي الكبير ساطع الحصري كتاب القراءة الخلدونية التي لم يحتوي على آي ذكر ديني ، لا أسم محمد ولا مكة ولا المدينة ولا قريش، بل يذكر التاريخ انه كان رافض بشدة تشييد مدارس دينية على الأقل حين كان مسؤول في وزارة المعارف. وفي الكليات والجامعات كان هناك توجه يساري سائد.
فِي المقابلة الاخيرة مع البعثي الكبير عبد الباقي السعدون سنة 2015 قال ( في سنوات السبيعنيات صدرت تعليمات مباشرة من صدام حسين تنص أن على الرفيق البعثي أن يحتسي الخمر ولا يصلي ،باستثناء عزت ابراهيم الدوري وذلك لأسباب صحية). الغريب في الامر كيف تحول كل هذا الى أقصى درجات التطرّف الديني والقتل والارهاب،  حيث لا يخفى على احد أنخراط عدد كبير من الرفاق بمستوى عضو فرقة فما فوق في صفوف التنظيمات الإرهابية خاصة في المناطق السنية كالموصل والرمادي مع داعش والقاعدة وجبهة النصرة وغيرهم . السؤال الأصلي ليس على صعيد الأفراد فهذا أوضحناه في بداية المقال،  ولكن الأهم على صعيد منظومة الحزب ككل، الذي كان في وقت ما يمسك بزمام بلدين العراق وسوريا. وربما قائل يقول أن رياح  التغيير هبتْ مع انطلاق الحملة الإيمانية سنة 1994 التي دعا أليها صدام حسين ، ولكن هذه تظل مرتبطة بحالة مرحلية مشروطة بظرف خاصّ تطلبت  هكذا رؤية. بعبارة أدقْ نقول ، كيف أن حزب بأكمله يختزل منضوره الثقافي تحت مظلة العلمانية وينزوي ثم يفشل في تطوير أدوات الهيمنة الثقافية كغطاء لإرجاع منظومة الاشتراكية التي نادى به طوال أعوام من مسيرته الطّويلة !. وهكذا فلم يبقَ شيء يتكئ عليه البعث الان بعد أن فشل بشكل كبير في بلورة بديل للرؤى والأفكار اليسارية ، وأصبح  محكوم  بقيادة تُنادي بالسلف الصالح والوهابية  والطرق الصوفية والدروشة. ففقد بالتقادم كل خصائصه التي نشأ عليها، وخطّ مفكرين علمانيين كبار أدبياتها، مستلهمين قواعدهم من الثورة الفرنسية.  في كل الأحوال أنتهى بريق الامس بسلسلة من الإخفاقات كانت كفيلة بمحو كل الماضي وجعله يضمحل ويزول مهما حاول البعض تجميل الصورة.   
 

170
 سيدي المطران دموعكَ غالية
قبل إيام قليلة أرسل أحد أصدقائي فلم قصير عن منزلنا في مدينة الموصل حي البكر في الساحل الأيسر، كان البيت قد تحول الى خراب من الداخل ، ومنهوب من كل محتوياته وأثاثه، وأثار الاطلاقات النارية الكثيرة  على الجدران حولته الى لوحة بشعة  تقطر دماً ، كأنه لم يعد ذلك المنزل الذي كنت أقطنه، وبات غريب وحزين وكئيب، المهم هو هذا الذي حصل معي ومع الكثير من الناس المسيحين وغير المسيحين ، وهذا هو ثمن الحرب الذي يدفعه الشعب المغلوب على أمره في جميع الحالات، فلم أُبالي كثيراً، مع أنه ضلّت هناك حسرة في أعماقي تشُدني الى مكان طفولتي ،وذكرياتي، وغرفة دراستي وحديقتي، ولكن عزيتُ نفسي بقليل من الأمل الباقي أنه يأتي يوم يعود الحقْ الى أصحابه الحقيقيون .لكن ألمني كثيراً وحزَ في نفسي ، وأسال الدموع من أحداقي، بكاء سيادة المطران مار نيقوديموس داؤد شرف ريئس أساقفة الموصل للسريان الأرثودكس، بحرقة وألم كبيرين وهو في وسط كنيسته في حي الشرطة المجموعة الثقافية ، بعد أن حررتها القوات العراقية من براثن تنظيم داعش، والتي تحولت الى حُطام حقيقي بمعنى الكلمة ، حتى الجدران نُزعت عنها البلاط، نُهبت بالكامل ، والأرض أصبحَت ساحة معركة لا كنيسة في وسط محافظة كبيرة . دخل ذلك الأسقف الجليل الى كنيسته والذي قبل سنوات قليلة رسُم به أسقفاً للموصل وتوابعها، دخل وهو يتكئ على عكاز الرعية  كأنه يقول لم تعد قدمايا تحملني من هول المنظر وحجم الدمار، أطرق برأسه الشامخ الى الأسفل يتذكر ذلك الزمان الذي كانت فيه الكنيسة ودار المطرانية مأهولة بالمؤمنين والرعية والنَّاس ، يُعيد شريط الفلم الى الوراء  فيتذكر زيارة الباطريرك الراحل مار إغناطيوس زكا الأول عيواص لمدينته الأم بعد غيب طويل ، يَرنُو الى نشيد الحزن بقلبً فطور كمْ وكم أسقف وكاهن وشماس مرَ من تحت هذا الباب الذي تهدم الان، فتسيل الدموع مدراراً كأنها كانت تنتظر هذه الساعة الأزلية لُتعبر عن ذاتها محصورة بين العين والقلب ، تنوء تحت ثقل المسؤولية الكبيرة و الرعية المُشردة في داخل الوطن وخارجه. في تلك الوقفة التاريخية بين الحديد والنار الحجارة والكلسْ المبُعثر والمطحون باقدام زُمر أرهابية ومجاميع تكفيرية، يتذكر أبناء الرعية أين حلَ بهم المقام بعد هذه السنوات العِجاف،  وكيف يعودون وقد أمست ديارهم خراب، وكنيستهم التي كانت تحتضنهم في السراء والضراء أطلال ، وهم الذين بنوها بعرق جبينهم وعلى حسابهم الخاص والاهم من ذلك مداواة  النفوس المجروحة بعد كل هذا. من يُعيد بناء ذلك الصرح الكبير ، ومن يُعيد ذلك الشعب المسكين  ويحميه ، من يرسم تلك الابتسامة البريئة على وجوه الأطفال وهي تلعب في باحة الكنيسة أيام الآحاد، من يُعايد من في الأعياد والمناسبات ،ومن يُِعزي من في قاعة التعازي، من يستقبل من في دار الضيافة التابع للمطرانية حين كان يستقبلنا بكل حفاوة وكرم سيادة المطران  صليبا شمعون. ماذا تبقى بعد من كل هذه الذكريات والايام الخوالي، أظن أن الأسقف الجليل قد دارت في خاطره كل هذه اللحظات السرمدية الفارقة من عمره وعمر وعمقْ المكان هذه الأسئلة الكبيرة  والتي لا إجابة لها الان.

171
المنبر الحر / محسن وبوش الأبن
« في: 22:08 03/02/2017  »
محسن وبوش الابن
في بحثي على منبر الجزيرة الالكتروني المختص بالشأن الثقافي العربي والعالمي ، قرأت بالصدفْ موضوع عن كاتب وقّاص  عراقي عاش ومات في محافظة الناصرية جنوب العراق. وتبين في بحثي عنه عبرَ ال Google  انه رائد من روّاد القصة القصيرة ، والروية ، والمسرحيات ، وتُرجمة أعماله الى عدة لغات ، ولكن ومع الأسف الشديد  ظل هذا المبدع  منسي الى أن وفته المنية مريض مكسور الجناح. والأكثر غرابة أن محسن الخفاجي أُعتقل وسُجن في سجن بوكا اكثر من ثلاث سنوات وهو بريء، فالصدفة وسوء الحظ الذي يلازم المثقف العراقي جرته الى ذلك المعتقل الرهيب في أقصى البصرة حيث قال( حتى السحابة بكت لإجلي). ويُضيف إذا وصلت إلى بوكا فتذكر أنك في الوادي المقدس؛ هنا تعذبت أرواح، وتوقفت أعمار طوقها الغزاة بسيل رصاص متواصل”، ثم يعدد عذابات السجناء من قتل برشقات رصاص، وحياة مهينة مع الذباب والفئران والعقارب. كان محسن  يتقن اللغة الإنكليزية من والى العربية ومترجم لها وقارئ نهم لأهم المؤلفات العالمية. في تلك السنوات وحين حطت القوات الأمريكية في الناصرية، ذهب القاص عن طيب خاطر وحسن نية لتقديم خدماته كمترجم لهم ، فتهموه بالارهاب ودعم المقاومة، وكانت الخلاصة أعتقال وألم ومرض ،أنهكته ثمَ قتلته ، وتجربة مريرة خرج بعده مكسوراً ومحطماً من الداخل والخارج. كتب عن تلك الفترة مجموعة قصصية بعد أن خرج تحت عنوان ( حمامة القنصل) وهي مفارقة إنسانية بين سجناء يعيشون في ظروف قاسية جداً وبين جنود الاحتلال. يقول الخفاجي ( هذا الزيف، ينبغي أن تعرف الأجيال هذه الجرائم التي لحقت بأبرياء لتتم محاكمة جثثكم في المستقبل) . وفِي مكان اخر يقول (ما أشبهني بخروف مزقته السّكاكين).
هو محسن الخفاجي من مواليد الناصرية عام 1950 بعد تخرجه من دار المعلمين عام 1967 عمل معلما حتى تقاعد في 1996. له العديد من الاعمال :- سماء مفتوحة إلى الأبد – 1974) و (ثياب حداد بلون الورد- 1979) و (طائر في دخان- 1996) و (إيماءات ضائعة – 2001). روائيا، اصدر الروايات التالية: (وشم على حجارة الجبل- 1983) و (العودة إلى شجرة الحناء- 1987) و (يوم حرق العنقاء- 2001).  (النازي الأخير وايفا براون- قصص) و (بيضة الغراب- رواية) و (حب اسود- رواية) و (دموع ذهبية- قصائد) و (لو كانت للأبد نهاية- رواية). حصل على جوائز منها جائزة الإبداع عن الكتاب القصصي إيماءات ضائعة 2001 – وزارة الثقافة والإعلام) و الجائزة الأولى عن القصص (الحافة 1968، اليوم الخامس في وادي الشمس 1983، و ميتة ذهبية في طروادة 1999، يوم حرق العنقاء –رواية- 2001).. كما حصل على ست جوائز تقديرية في القصة بين 1983 و 1989.
انطفأ بريق هذا الكاتب المبدع  هو مصاب بشلل نصفي أقعده طريح الفراش يتكئ على عكاز ، في  سبتمبر من عام 2014 في بيت قديم  كل ما يملكه من حُطام هذا العالم. وتظل رسالته الى الرئيس جورج بوش الابن نثراً مفعماً بالمعاني والشجون والغبن الذي طاله وهو من خلف القضبان الغليظة ينُاشد العالم. وهذا نص الرسالة:-
أيها الرئيس
أنا لست الفوهرور ولا وطبان أو علي كيماوي ولست موسليني أو بن لادن. أنا كاتب قصة ومحتسي شاي جيد وصانع حلم ورغبة وبها قدمت إليكم عساكم تستفادون من رؤى مخيلتي لإسقاط بعض أوهام المجيء إلى العراق.وفجأة وجدت نفسي مرميا في قفص من الأسلاك الشائكة. لا أريد أن اصف أيام الاعتقال الأولى فهي أكثر من محنة غير أنني بعد كل هذه الأزمنة الطويلة والتي اكتوت بها عذابات روحي لأقاد إلى شيخوخة مبكرة أقول أنا برئ سيادة الرئيس. لا امتلك من الذنوب ما أسيء به ألي البنتاغون والصقر النيفادي وليس في نيتي النظر شزراً إلى تمثال الحرية. أريد أن أعود إلى حضن وطني ومثل نوارس بلادي أريد أن أتمتع بحرية الطيران. بقيتم أم غادرتم هذا أمر مابات يعنيني هنا لأنني في قفص وذاكرتي مشدودة إلى تعداد الصباح والمساء. في خارج المعتقل هناك من يعنيهم هذا الأمر وأنا احلم مثلما يحلمون وأتمنى أن لا يصيب أحدهم ما أصابني من عزلة وقهر وكآبة.
سيادة  الرئيس
أنتظر أن تصلك رسالتي. وانتظر لأحد الطيبين والشرفاء الكثر في هذا العالم أن يترجمها ويوصلها إلى مكتبك البيضاوي بعد أم تمر خجلة بممرات البيت الرئاسي وترفع قبعة الاحترام لصورة الرئيس ويلسن صاحب مبادئ حقوق الإنسان الشهيرة وهي موجودة في القاعة الرئاسية الزرقاء وحتماً سيهب معها متضامنا ويدون بيد مرتعشة ورقة توصية من رئيس جد إلى رئيس حفيد وحتما ستتعامل معها بجدية وتقول: أطلقوا هذا الطائر من قفص.

القاص والروائي العراقي محسن الخفاجي سجن بوكا الثالثة ظهرا / المدينة العراقية أم قصر.

172
لمن تقرعْ أجراس الكنائس في الموصل
تتحرر الأحياء والمناطق في الساحل الأيسر من محافظة الموصل تباعاً ، ومعها أيضاً الكنائس ، التي أصبحت اطلال وخراب وأثراً  بعدَ عين. يتجول الأب كوركيس بنيامين المدبر البطريركي للكنيسة الشرقية القديمة ، ويزور كنيسة مريم العذراء في حي الشهداء التي هي في ذات الوقت دار مطرانية موصل ودهوك، يسيرّ القس في مُحيط كنيسته التي حولها تنظيم داعش الإرهابي الى آنقاض ودمار ،  وعاثَ فيها فساداً وفجوراً ، وأستباح المقدسات،  فأمست الحدائق الغناء في الماضي والكنيسة الواسعة ،  الى وكر لصناعة الارهاب ومصنع لتفخيخ السيارات والعبوات الناسفة ، حتى قبر المطران توما درمو لم يسلم من التخريب والدمار، والاستهتار والعبث طال الأحياء والأموات.
تتجول عدسة الفضائية العراقية في كنائس برطلة والحمدانية،  والتي حولتها المعارك بين الجيش وقوات التحالف والحشد الشعبي وبين تنظيم الدولة الاسلامي الى بقاية حَجر مبُعثر ، بعد أن كانت قبل سنتين ونصف مأهولة بالناس ويمارسون طقوسهم ومناسباتهم الدينية بكل حرية ، لمن سوفة تقرع الأجراس مجدداً. دير مار كوركيس في الحي العربي على الساحل الأيسر من المدينة، كان الى زمن قصير مضى، عامرً بالرهبان ،الشباب والكبار ، وملتقى العوائل المسيحي مساء الجمعة والأحد، خاصة بعد أن قامت رئاسة الدير ببناء سُوَر عالي يُحيط المكان من كل الجهات فأصبح مزار ديني ومرفق أجتماعي وترفيهي، كان فسحة للناس لقضاء أوقات جميلة. هل تعود حركة التاريخ الى الوراء مجدداً وتقرع الأجراس.  تتحول كنيسة الطاهرة في حي الشفاء على الساحل الأيمن من المدينة ، الى سجن ومعتقل، وفِي ساحتها تُنفذ الاعدامات والتصفيات الجسدية  بالأبرياء والعُزل، مع انها من اقدم كنائس الموصل ، وقريبة من قلوبهم لِمَا  لها من مكانة خاصة . هل تقرع مرة ثانية نواقيس كنيسة ومدرسة أم المعونة في منطقة الدواسة ،والتي بناها كلدان الموصل سنة 1945 شكراناً للرب والسيدة العذراء لانتهاء الحرب العالمية الثانية وانقشاع تلك الغيمة السوداء عن مدينتهم الحبيبة، والاهم من كل هذا لمن سوفة تقرع النواقيس بعد أن عرفت الخفافيش طريقها وطيور الظلام أوكارها وأشباح الليل مخابئها. من يضحك ومن يبكي ؟ الحكومة والجيش والشرطة الاتحادية  التي لم تصمد امام ثلة من اللصوص والمجرمين المأجورين من دول أخرى فولت هاربة تَجر أذيال الْخِزْي والعار وراءها، ولم تستطيع حماية نفسها ومواطنيها وعددهم يُحصى بالالف، ويقف الآن كبار الضباط والرتب العسكرية في باحات الكنائس ويتحدثون من وراء المكرفونات فرحين بِمَا حققوه من انتصارات.
هل تعود الحياة الى سابق عهدها في تلك المدينة التي لم تلملم يوماً جراحها النازفة ؟، من ذلك الذي يخففّ عنها سدفات الحزن والألم، وهل يظل مشروع العودة  حلم بعيد المنال  وقبساً من سراب ،والسؤال الأخير من يحمي من ، ومن يقتل منْ.     
   

173
المشكلة ليست في السهل بل في العقل
قبل ثلاثة سنوات ونِيفْ ، وحين كان الصراع محُتدم على سدة السلطة في بغداد ، أراد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إستمالة المكون المسيحي في البلاد، وكسب أصواتهم وثقتهم في الخارج والداخل ، فأطلق مبادرة شيطانية قديمة جديدة تُعرف  بسهل نينوى أو محافظة للمسيحيين، تكون على تخوم الموصل والقرى التابعة لها يديروها بحكم ذاتي ، فهلل الناس البسطاء الحالمين ببعث دولة آشور ونمرود من بين أنقاض التاريخ  بهذه المبادرة والتي لم تكن أكثر من مبادرة مزيفة وراءها مصالح حقيرة من مسؤول سافل وفاسد على أعلى هرم السلطة في العراق. وقامت الأحزاب والتنظيمات المسيحية بالتنظير لهذا المشروع ، بل ذهب البعض الى رسم خرائط تُبيَّن حدود المحافظة والى أين تصل وتمتد، وبثوها على المواقع الالكترونية والإنترنيت ، على أساس انه خلال أشهر قليلة سوف يكون لذلك المسيحي المُشرد والمنفي والمهُجر أن يحطّ رحاله اخيراً في أرضه ويستريح بعد عناء طويل تكبده، على بسيطة  تكون له هو، حر التصرف فيها ، وندفع  وراء هذا الوهم الكثير ، وسار وراء السراب أكثر. وفِي يوم من تلك الأيام التعيسة  سافر رئيس مجلس النواب العراقي السابق الثعلب أسامة النجيفي الى أميركا في زيارة رسمية ، والتقى بوفود وممثلين من أبناء شعبنا هناك ، وجاء الحديث عن السهل المزعوم فنبرى احد الأشخاص الطيبين المفتونين بأمل زائف وظل يدافع عن سهل نينوى  وعن محافظة خاصة للمسيحين ، وعلى ما يبدو تحمسَ قليلاً  وأخذته الحمية فما كان من النجُيفي آلا أن قال له باللهجة المصلاوية ( لا تروح زايد ) ، بمعنى انت يا أخ ذهبت الى حدود اللامعقول،  وانطلقت في أفقً بعيدة وحلقت