أوراق عائمة على سطح بحيرة غارقةالديوان الثاني للشاعر المبدع عامر فريتي
صدر الديوان عن : دار رند للطباعة و النشر - دمشق
تصميم الغلاف : عامر منصور فريتي
بقلم: غاده البندكبنفس الوقت الذي اغرقنا به الشاعر المبدع عامر فريتي في رومانسية حالمة بافتتاحية أعماله الشعرية (الرؤيا)، نجده يبدع في الكتابة بلون جديد في ديوانه الثاني، لينقلنا من الرومانسية الى تراجيديا الواقع!
فيتوغل في حبكات الواقع لينسل لنا خيوطا من نسيج عنكبوتي، صنعته الاحداث والمتحكمين بها، ويفرط تلك الخيوط المترابطة ببعضها البعض، كاشفا لنا بجرأة مغمسة بالمرارة، امورا لم نعد نراها، من فرط الغيبوبة وانعدام البصيرة.
أنا لا أزال
فاقد للذاكرة
ما أذكره . . كان لي وطن
ولكن بسـبب هذه الخيانـة قد ضـاعْ . . .
**
و تناثرت مني
كل الحقـائـق
في غبـار المتـاهــات
وضاعت في دهاليز العناكب
صفقاتها البغيضة المقيتة السـريـة . . .
ومن نافذة عامر نرة مدى الخراب في الذي حل بأرضنا في عالم حرم الحب حقه في العيش، وتشبث بالمظاهر الفانية.........وهذه كانت البداية...(ورقة الحرب و الحب.. )
صودر حبك
وصار جزء من تاريخي
أو كأنه كان يوما لي أجمل لقب . . .
عندما كانت الحرب
حولت حبيبتي في ذاكرتي
وصغتها لتمثال من الشمع أو الصلب . . .
اذ يجعلنا نرتطم بحقيقة ما يجري على الارض، من خلال صور بلاغية موجوعة، تصف ما حل بالانسان والانسانية من تشويه، وهذه القدرة التي يتميز بها تجعله فريدا في موهبته، فهو يجمع في ملكة الشعر بين الروح الرومانسية و بين الروح الواقعية التي تجلت في ديوانه الثاني على التوالي (اوراق عائمة على سطح بحيرة غارقة).
الحـرب . .
عبـارة عن فم . .
لا معدة له كي يشبع !
فهل صرنا لهذه النار القش والخشب . . .؟
هي تمعن في . .
قتل كل شيء حي
وهي تحيي بنارها الموت
وتحرق به الفراشـات والأطفال واللعب . . .
في ديوانه الاوراق العائمة، الشاعر عامر فريتي يطرح رؤية جديدة تكمل ما نقص في الرؤيا الاولى، فبينما كانت الاولى رؤيا سردية حالمة بالمثالية، وانتهت باختفاء الحبيبة الغالية، فانه هنا في الديوان الثاني يأخذنا الى عمق الألم الذي ألم بالحبيبة-الوطن و مرآة الذات!
آخـر مرة
رأيت حبيبتي
تعزف على قيثارة
سومر لحن ألم وحزن وأسر
لتشـكل منـه ومنـا تلك السمفونيـة . . .
وبينما يحافظ على نسق الكلمات بطريقته المتدرجة، فانه يسافر بنا، حاملا همومه وهمومنا، الى عالم مشلول مجنون في زمن ميزته العار!
يبدو . .
إنني لست الوحيد
الذي فقد منه الذاكرة
فكيف ومع من أتحدث إذن ؟
والشلل قد حولنا إلى لوحة تجريدية . . .
عالم تخربطت فيه المعاني، تزورت فيه الهوية، تطورت اقنعته تخالطت اوراقه واصبح فهمه مستحيلا لذلك لابد من كشف تلك الاوراق ونثرها كي تطفح وتفضح!
إن آدم وحواء
عندما إقترفا الخطيئة
كانت عندهما الكثير الكثير
من الأوراق لتغطي عورتهما وتخفي سرها . . .
في هذا الزمن
من قبل أن يعرونـا . .
قد جردونـا من كل الأشـياء
وأيضا صادروا جميع الأوراق من أشجارها . . .
تلك الاوراق تخزي الانسانية في مختلف مجالات الحياة، وتفضح تزوير هوية الانسان فوق ما فقده من وطن وحبيبة وآثار، وتلوث هوائه ونهره، وانسلاخه عن جلده، نتيجة لظروف قاهرة اجبرته على ترك بيئته العفوية، التي نشأ فيها ليجد نفسه محمولا بالقوة هو واهله وعشيرته و ارضه بالكامل لمكان آخر لم يكن بالحسبان.
فأنا آخر مواطن
بقي من شعبه الهارب
ولكنني الآن أقبع في المنفى
وحالتي الآن إني ضائـع ومتعب ومهـان . . .
أيعلم وطني ؟
بأننا أغصان شجرتـه
فإن متنا جميعـا سيتعـرى !
لو إن شجرته فقدت الأوراق والأغصان . . .
وهذا ناشيء عن خبرة الشاعر الذي عاش جزءا من شبابه في ظل العراق الحبيب، وعاصر ماقبل الحرب، ثم الحرب بكل بشاعتها، وما تلاها من الرحيل بركب قوافل المهاجرين الى شبه وطن آخر. فهو يطرح في (ورقة لوطني) و(ورقة الضياع) بين طيات الاوراق العائمة، مأساوية وإشكالية اللاوطن، ويصرخ عن الكثيرين، بمنتهى الوجع صرخة الشتات داخل الذات!
أولاً:
توجـد أوطـان
وتوجـد أشباه أوطـان
وهذا كله قد كان بقرار من الشيطان . . .
ثانيا:
يوجـد مواطنون
ويوجـد أشباه مواطنين
وهذا قرار قد شرع بأمر الوالي السلطان . . .
فالمواطنة . .
في زمننا اللعين هذا
قد صارت تُمنح من شخص !
وصار لها عدة درجات وأشكال وألوان . . .
وهناك . .
كارثة كبرى
إذ أن أوطاناً بدأت تختفي
وأشـباه أوطان بدأت تظهر كأي إعلان . . .
هذا زمن . .
فاقد الهوية لقيط
إذ صرنـا نشهد فيه على
تغلب أشباه أوطان على أصالة الأوطان . . .
ومن بين اوراق لا تعد ولاتحصى تسنى للشاعر أن ينتشل من بين الخراب 31 ورقة بعدد ايام الشهر، وهي ورقة آدم وحواء، ورقة الحرب، ورقة الحب والحرب، ورقة لوطني، الخيانة، الانسان، الانسانية، ورقة متعبة، ورقة دجلة والفرات، ورقة الآثار، ورقة حبيبتي والجاهلية، الانتخابات، المنفى، الرئيس، الشطرنج، الماضي،الفلسفة، القصائد، ورقة للدعاية، ورقة من وحي المحبة، الروح والجسد، الضياع، الاقنعة، ورقة الحدس، الحسد، الحزن، الصدق والكذب، الابيض والاسود،وورقة الوجوه المتناثرة... فيندب في اوراقه عالما فقد انسانيته، تخلى عن اصالته، تنازل عن روحه وماتت فيه الحياة!
مات فينا
عصب إنسـانيتنـا
وفقدنا الإحساس بما حولنا
ونضب فينا الشعر ومات الشـعراءْ . . .
ماتت نخوتنا
صرنا أشـبـاه بشـر
وماتت فينا أشياء كثيرة
بل ماتت فينا ياراهبتي كل الأشياء . . .
وكل ورقة تنزف ألما ما، تكشف زاوية من زوايا الخلل الحاصل في عالمنا. ولذلك فانه لم يعد ممكنا ان يأخذنا الشاعر في سرديته المطولة، بل اكتفي بطرح اوراق تائهة كتبتها دموع العين، فتساقطت على أسطح قلوبنا الهائمة واشعلتها مع كل ورقة وكل حرقة!
وتاهت . .
عينا حبيبتي
في أعماق السـماء
و تكونت غيوم من دموع
عينيهــا المتـألقة المتـألـمة البـاكيـة . . .
وكانت . .
تتحسـر حزنـا
والسماء تمطر بغزارة
من عينيها الشاردتين الخائفتين
ليتناثر كلآليء على خدودها الوردية . . .
ويحمل في حرفه وجع الادراك نازفاً قطرات قطرات، بالوريقات المتطايرات في رياح الفوضى والعبثية، في كل ورقة حقيقة ومع كل حقيقة فاجعة!
الكثير تائهون
لأنهم يأخذون أوامرهم
من عقولهم المغيبة عنهم
أين ياترى ستقودهم تلك الخطواتِ . . .؟
لذا يتصورون
بأنهم يسيرون
وهم ساكنون بلا حراك !
وهذه للإحتضار من بعض الصفـاتِ . . .
ويجسد الشاعر تناقضات واقعنا بأسلواب فلسفي، فيضع اصابعه على الشرخ الحاصل في القيم، بالجمع بين النقائض التي تكتنز في عقله المثقل بالوعي. ويجمع في فلسفته (ورقة الابيض والاسود)، بين الحياة والموت وبين الصدق والكذب وبين الراحة والضياع، وبين العقل والجنون، وبين الروح والجسد، وبين السجن والحرية (ورقة الضياع).
الراحة هنا . .
ضياع هناك . .
والوجود هنا . .
يعني الفقدان في عالم اللانهـايـاتِ . . .
***
الموت
حياة للأحياء
والحياة موت للأحياء
والحكيم يفهم المعنى مابين الأبياتِ . .
***
أكثر الحروب
يكون بينها هدنة
إلا الـحرب والصراع الدائر
مابين الروح الجسد بأعماقنا تحتدم . .
***
منعوا أي إنسـان
من أن يجنن نفسه كي
يسخروا من كل من له عقل !
وليؤكدوا بأن من يملكه خرف أهبلْ .
وبطريقة مهذبة، يفجعنا الشاعرمشكورا، بالانحطاط الذي وصل إليها عالمنا المعاصر لدرجة تفوق الوصف، فقد حاول ان يلملم جزءا صغيرا من الكثير، بما يعج في القلب الأسير، من حقائق جمعها لنا بتعب وعناء، متسائلا بروح طفلٍ باكٍ .. ما الذي جرى.....؟!!
ماهذا . .
العالم المجنون
أعدنـا من جديد
إلى زمن الغـزو والسـبي
وهل عدنـا إلى زمن القبـائل الوثنيـة . . .؟!
وقد يبدو للقاريء من الوهلة الاولى ان الشاعر يبرز الامور بشكل متشائم، فهو يعري الواقع ساكبا ناره، ليشجب اللغط الكبير في عيش المعاني السامية كالحب والزواج والصدق والقداسة...، وهذا هو سر اشتداد القهر!
وهو ابن حاتم الطائي، الشعب العراقي، الذي عرف عبر التاريخ بأصالته ورفعته ونخوته، وكباقي ابناء امته قد نشأ شاعرنا في تلك البيئة الغنية بتراثها وحضارتها، وتغلغلت في عظامه التعاليم الدينية والروحية والاخلاقية التي تشربها من فم من أنجبوه للدنيا. فكيف لمن تربى على القيم والمباديء، أن يطبق يديه متفرجا على ما وصلت اليه الانسانية، من تستر بالمباديء لتمرير لا أخلاقياتها، وكيف اتقنت الخطيئة لبس وجه البراءة؟!!
قد يسهـل علينا
أن نكتشف خداع الـمظهر
إن كانت عيـوننـا محبـة ومنصفـة . . .
لكن يصعب علينا
أن نكتشف تمويه الجوهر
لأننا سنحتاج حينها لعرافة مـحترفة . . .
فالزنى صار مشروعا (ورقة الخيانة)، والحب الطاهر ممنوعا، و(الضياع) عنوان الانسان و(الخيانة) ألوان.. ألوان...!!!
فقد أخطأ
هذا اليهوذا وخان
لمرة واحدة في حياته
لكننـا إلى اليـوم ندينـه وبالإجماعْ . . .
هناك من
يخونون: الله . . الوطن
الأب . . الأم . . الزوج . . الزوجة
فالخيانـة صـارت لها أشكال وأنـواعْ . . .
كم يكررون
الخيانة لمرات ومرات . .
ولا تتحرك في بدنهم شعرة
وصارت الخيانة فيهم من بعض الطباع . . .
ونرى في ورقة (انسان) كم هذا الانسان غارق ولهان في الوهم المزيف ينفق العمرركضاً وراء المظاهر مغشوشا بسراب الذات، إنسان تشوهت صورته تاه عن جلده وحضارته سواءا أراد ذلك ام مجبرا، بفعل الحروب والهجرات القسرية المتتالية، ونتيجة لاحتلالات جديدة تستهدف المباديء (ورقة للدعاية)، و تجتاح المرء في عمق داره لتقتلع اساسه ومبادئه بالقوة، تحت التأثير المشع بالاغراء والاغواء!
يا ترى . .
أين نحن من
هذه الكنوز والدرر
وأين نحن في زمننا اللقيط
من هذه المباديء والقيم الراقية السامية . . .؟
لمن أشكي
وبمن أنتـخي . .؟
ولا يوجد من يفهم
معنا للنخوة في هذا الزمن
وهتك الأعراض قد صار لعبة مسليـة . . .!
إن احتلالات العصر الحديث لم تعد بالصورة التقليدية، وصار المرء غشيما عن كشفها في كثير من الاحيان ، فقد أجادت الاختفاء، وتصنعت الصدق واختلطت بالمعاني السامية (ورقة الصدق والكذب)، فتذرعت بالنية الحسنة لتحشو افكارا غريبة في عقولنا، واقتحمت الانسان الساهي وأصابت عقله وجسده، فانتزعت منه كرامته واغرقته دون أن يدري!
فمرض . .
اللا إحسـاس
قد ضرب كل أطرافنا
وضرب أعماق أنفسنا في الأغـوار . . .
إذا ما ضرب
هذا المرض عقولنا
ومواقع الحدس فينا
عندها سندخل مرحلة الإنـدثـار . . .
لقراءة الاوراق العائمة سنحتاج لكمامات اوكسجين، لاننا سنختنق من نقص الاوكسجين في أرضنا!
اذ علينا ان نلجم انفاسنا امام ما ستكشفه لنا الاوراق من تزوير في معاني الحياة، ومن الهباء والهدر الذي وصلنا اليه، في ظل انعدام الصراحة والمواجهة مع الذات. كل شيء صار ضبابيا، فوضويا، خالٍ من الوضوح بين الانسان ونفسه، وبين الانسان واخيه الانسان (ورقة الانسان وورقة الانسانية). اما المباديء فلا مكان لها، ومن اراد يعيشها عليه ان يرحل الى كوكب آخر أو يركب الزحف!
كوكبنا صار . .
مزدحماً ومملاً جدا . .
وأوكسجينه يقل يومياً
لذا تختنق وتذبل في أشجارنـا أزهارها
***
إننا نعيش
في زمن الرؤيـا
وزمن بركان زاحف نـحونا
والمصيبة إننا لا ندري بذلك ولا نعلـمْ . . .!
من أجمل الاوراق (ورقة الاقنعة) و(ورقة الصدق والكذب) تكشف جانبا واقعيا في حياتنا، يجعلنا نبكي الصدق وتعثر الصادقين في حظهم، في زمن غالبه النفاق، ماتت فيه القصائد العذبة (ورقة الى الملكة هند)، ونرى اشكالا من وجوه، واقنعة، فنركض لمرآتنا ونتساءل ما شكل وجهنا.....؟!
ان طرح تلك الاوراق على بحيرة هائجة يرمي الى ايقاظ البشرية النائمة، وهزهزتها في عمق الضمير، فليست اطروحة عامر متشائمة، كما قد يخيل للوهلة الاولى، بالرغم من كل ما فيها من نقمة على الظروف والاسباب التي ادت لشتات اوراقنا على بحيرة غرقت من ثقل التعب والاحتمال .
ايها الـحزن . .
الناس تـخلوا عني
وبقيت أنت وحـدك رفيقي
تسـير معي في رحلـة التصدع والقهـرْ . . .
:
ايها الـحزن . .
ايها الـحزن يا صديقي
ساعدني وأعني على إحتمـالك
فلم أعد أقوى على الإحتمال والصبرْ . .
نعم فالشاعر يطوع بمهارة لغة الحزن (وقة الحزن)، والتحسر في قالب الحبيبة حينا، وقالب الوطن حينا آخرا، لا ليغرقنا يأسا، انما ليلامس قلوبنا وافكارنا، ويحفزنا على الغضب ورفض الخنوع. فيضع ملحا على جرحنا يشعله، وبلغة متقتة الاداء يدلنا على أماكن الخلل. وهذا يؤدي بالمحصلة الى انقلاب القاريء على نفسه كي يكتشف اي ورقة تاهت من يديه لعله بينما يقرأ، يتلذذ ويتألم.. فيتجدد!
ففي (ورقة متعبة) تميزت لغة الشاعر بالتوغل في الألم والجرأة الموحاة في الكشف للكثير من بواطن الانسان، لتفرض نفسها على القاريء فتجعله في مواجهة مع الوجع من أجل القيامة. ولغة (المواجعة) التي يستخدمها شاعرنا العامرهي لغة تنضح صدقا.. تشرشر تعبا.. تقطردمعا.. تبوح عناءا.. وتعج أرقا!
لـم يتبقى . .
لنا شيء غير الـخوف
الذي يخيم في أعماق صدورنا
فقد هزم فينا كل شيء وهو لـم يهـزمْ . . .
لو تخبرنا . .
أقدامنا التائهة
إلى أين نحن ذاهبـون ؟
وإلى متى سنحتمل كل هذا الظـلـمْ . . .
اوراق عامر المتساقطة من عيون وطنه الشريد، رأت ظلم الكون، تحمل بداخلها ألف لغة وألف دمعة ، بها معاني جمة، فهو يتكلم عن كل المحرومين بسبب الظلم، وكل المغيبين عن وعيهم بلا ادراك، انها شاءت ام أبت، هكذا جاءت، لغة معذبة، مكثفة، بالأسئلة والتهكم، تحملها اشارات الاستفهام والتعجب، منسوجة بالوزن والموسيقى المقفاة على درج أنغامه المعهودة، بحيث يتسلل بهدوء الى عمق القاريء ويتركه بين الثورة والحيرة!
توجد دول . .
خبزها مغمس بالدم !
لأنه يؤخذ من أفران الحرب
والغريب إنها صارت لا تحـس بالذنب . . .!
:
إني أتسائل
عن هذه الحرب . .
ألم يفكر أحد يوما
من قبل بأن يزيل منهـاحرف الـ ر ا ء ؟؟؟
***
أنا استغرب
من هـؤلاء الكبـار
ألم يكونوا يوما ما صغارا ؟!
وهل هناك عالم منـه أنقى وأطهـر . . .
**
أيمكن . .؟
أن يعيش الإنسان
بلا وطن وبلا حبيبة
وبلا ذاكرة أو بلا ذكريات
حتى وإن كانت ملامحهـا خيـاليـة . . .
نعم، ان من يقرأ سفر الاوراق العائمة يجد نفسه امام معلم يستخدم لغة الهزء ويعرض للانسان صنوف الهوان، ومهزلة العصر، كي يجعله كالتسونامي ثائرا على داخله اولا.
الآن وقد دخلنا
إلى غرفـة الإنعـاش
ولانعلم متى سنخرج منها . . ؟
وإلى الآن لم نسمع عن آثارنا أي أخبار . . .!
يهدف الشاعر من خلال اسلوب التعرية الشاملة، الى قلب الكثير من الرؤى المغلوطة الفهم، والتي تستر بها التاريخ، ففي (ورقة آدم وحواء) كانا ذريعة لخطايانا نعلق عليهما سبب إثمنا، وفي (ورقة الخيانة) نرى يهوذا الخائن حجة لاخفاء كم وكم من الخيانات نصنعها كل يوم. واما تخلفنا فلم نعد قادرين ان نراه لاننا مازلنا نتصور ان زمن الجاهلية قد ولى واندحر. وهكذا فانه يزلزل مفاهيما توارثها الكثيرون خطأً فلم يروا الخطأ!
ولاتخلو لغة الشاعر من رومانسية خلابة، فتشعر بحبه للحياة بين طيات الغيظ غيرالمكتوم، فهو يحبها ويعاتبها طارحا اوراقه المتزاحمة بكل غضب وحب!
عندما بدأت الحياة تدب في أوصالي
وهممت لأحيا وأحببتها . . كانت الحرب . . .
وحضروا
جنـازة العرس لنـا
إحتضر كل شيء ومات في عيوننا الحب . . .
عندما أحببتها
كان كل شيء قد
أصابه الإعيـاء والإغماء وأهلكـه التعب . . .
فثورة حروفه هي ثورة جميلة كلها حب للانسانية التي تضج بداخله، تهيج فينا حب الارتقاء، وتحفزنا لنشتاق، لحياة الابرياء، لحياة فيها الحب يسود، و حرف الراء في كلمة حرب يزول. لقد اراد الشاعر بلغته الصارخة، ان يضيء لنفسه ولنا، فاشرق في نوافذ اعتمتها الظلمة. وجعل قارئيه يعومون فوق الجنون ويعشقون الغريق بالاعماق لا نتشال ما تبقى...!
أنا موجود . .
على هذه الأرض
لكي أقدر ببقائي عليها
أن أحاول الصعود من جديد إلى السماء . .
المحبة . .
هي التحرر
من قيود كثيرة
في زمن لم يعد فيه مكان للأبـريـاء . . .
(من ورقة من وحي المحبة)
فلعلنا نستعجل الثورة على الداخل، ونعيد صياغة رؤيانا لحياة شعارها المحبة، لونها النقاء، وللأبرياء فيها مكان للبقاء. إن سوداوية حروف عامر مضيئة في سوادها، يشع حلم البياض من بكاءاتها ، تجعلنا نشتهي النصاعة ونسمو فوق مآسينا!
لو كان . .
بإمكاني يوما ما
فسـأشـتري قلوب بيضـاء
وأقوم بمنحها لكل البشر على السواءْ . . .
ويذكرنا اسلوب الشاعر بشعراء التشاؤم كأبو العلاء المعري و دانتي الذين كتبوا في الموت والسوداوية، تاركين لنا أثمن الكنوز من فيض حكمهم النابعة من خبراتهم . ايضا على مثال جبران خليل جبران الذي عرى واقعه وانتقد الكثير من الاخطاء في عالمه نقلها لنا من نافذة منفاه. وأسلوب الشاعر يستنبط الاسئلة من جوف المأساة فيضعها على الطاولة ليرتوي العطاش الى الجواب والخلاص!
أين نسير ياترى ؟
ماضينا كان مسالما . .
حاضرنا يبـدو مرعبا . .
ياترى ما شكل مستقبلنا الأظلـم . . .؟
أروع ما ختم به ديوان الاوراق العائمة كانت (ورقة الوجوه المتناثرة)، التي نزع فيها الظلام عن وجوه المتألمين، في لوحة رسمها بريشة رقيقة لامرأة مظلومة، ترفع صلاتها للرب داعسة على بؤسها بكرامة الايمان!
كان وجهها
يختزل بوضوح كبير
حزن وبؤس وشقاء تلك المدينة
وكم رأيت فيه من الأشكال والألوانْ . . .
وجهها يحتضر
الموت يخاف أن يدنو منه
لأنه كان يتأمل ويتلو صلاة
لايسمعهـا ولايحسهـا إلا رب الأكوانْ . . .
ورغم كل ما احتواه قلم عامرمن تعب لكنه كان قويا، اذ استمد قوته من تراب الوطن وحنينه....... انه قلم يعبق صدقا وشوقا لحياة أفضل، يود من يقرؤه لو ان شيئا بهذه الدنيا يتغير... لو نجلس يوما على ضفاف دجلة والفرات لا باكين، انما حالمين بالاضواء والعذوبة حينما تستفيق العدالة والانسانية!
كيف أنفض
عـني تـراب وطـني
وأنا بنفسي تـراب منـه
ودمي من فصيلتـه إذا ما سـال أو نـزفـا .
فشكرا لقلمك ايها العامر المجبول بطين العراق...قد اثريت قارئيك بفكر عميق وحدس لا يخيب، وابدعت في وخز أماكن فقدان الاحساس، في الكثير من الناس... فطفحت اوراق الزيفِ عارية.. في بحيرة غارقة.. ببترولها!
ورقة دجلة والفراتهل تعرفون
كم بكى دجلة
من الدموع حزنـا وألـمـا
على كل ماجرى وماسيجري للفرات . . .؟
كيف يمكن
أن يكون نهر الجنـة
بلا أشـرعـة ولا مراكـب
ضفافه بلا زهور ولا أشجار ولافراشات . . .؟
كيف يكون
نـهـر الجنـة بلا وجـه
ولايبرق بلمعانه مثل الجواهر
ولاتعيـش في قاعـه آلاف الحوريـات . . .؟
كيف يكون نهر
لايعكس أضواء القناديل
ولاتعانق سواحله أشجار النخيل
ويـحتضن ظل العشـاق في الأمسيات . . .
كيف يمكن
لنهر أن يعيش دون ماء
وأنفـاسـه تتلاطـم وتتلاشى
وصارت أسماكه هياكل متهرئـات . . .
وكانت الفراشات
تتراقص على ضفافه
على أنغام وأوتار قيثارة سومر
لتكتب للتاريخ أرقى السـيمفونيات . . .
هذه الأنهار لو إنهـا
تنطق أو تتحدث يومـا
عن شدة أحزانهـا وكم شجونها
لما اكتفت لو سطرت ملايين الصفحات . . .
لو نطقت هذه الأنهار
لـذاب التراب من تحتهــا
حزناً وشجناً وحسرةً وأنينـاً
لما مر بها من فصول قهـر وظلـم ومأسـاة . . .
لو يشكي دجلة
عن وحشية المغول والتتار
فلن يكفيكم لو جـمعتـم
كل ما في هـذه الدنيـا من تـخيــلات . . .
فالحبر والدم
والكتب والعلـم . .
كلها ذابت تتنهد وتتألم
ولاتزال لليوم تسمع من أمواجها الآهات . . .
إني لأعجب . .
كيف أن هذين النهرين
رغـم كل ماجـرى ويجـري
لايزالا يتنفسان طيلة هـذه السنـوات . . .؟
إن دجلة . .
والفرات يرتجفان . .
خائفان مـما سيحصل . .
وما أدراكم ما خفي من هول الملفـات . . .
دجلة والفرات
صارا أشـباح أنـهـار
ام إنهما صارا نهرين من تراب
لاتزورهما نوارس ولاتحركهما الموجات . . .؟
إن هربـا . .
هما أيضا وهاجرا . .
كيف يمكن لنا أن نعيش ؟
ومياههما تبعد عنا شبح العطش والممات . . .
إنهم لايتحدثون
في نشرات الأخبار
عن دجلـة والفـرات . . !
أخطفا، أعدما أم صارا في عداد الأموات . . .؟