إنها أتعس أم على وجه الأرض هذه الأم المسكينة التي ظلت أكثر من 2500 عام وهي تجوب الشرق علها تحظى برؤية أبناءها الذين فقدتهم . لم تترك سهلاً ولا جبلاً في بلاد النهرين والفرس والهند والصين لم تطأه قدماها النحيلتان مرات ومرات لكنها إلى الآن لم تتعرف على أحد منهم رغم أنها تلتقي بهم دون أن تدري أنهم أبناءها . منهم من سمى نفسه نسطوري وأخر كلداني وأخر سرياني , وهي لم تسمع بكل هذه التسميات ولم تسمي أحداً من أبناءها بهذه الأسماء, رغم أن قلبها كان يخفق في صدرها عندما تلتقي بأحدهم فملامحهم ليست غريبة عنها , لكنهم لا يعترفون بها فتبتعد عنهم خائبة وهذا كان حالها لعدة قرون سابقة أما في الآونة الأخيرة وبينما كانت تشحد قطعة خبز من احد المنازل في قرية من قرى نينوى سمعت صوت إحدى المحطات التلفزيونية وبلغة قريبة من لغتها , وفهمت من الحديث أن مؤتمراً سيعقد في بغداد للكلدو أشوريين , فطار قلبها من الفرح عندما سمعت هذه التسمية لأول مرة وقالت في نفسها لا بد أن هذه الجماعة تكون من بقايا أبنائي.
وفي الحال تركت المنزل دون أن تحصل على طلبها وتوجهت باتجاه بغداد مهرولة بقدميها الحافيتين , ونسيت أن بطنها خاو وظلت من شدة فرحها تهرول ليل نهار حتى وصلت إلى بغداد , وبقيت تدور في شوارع المدينة وتسأل من يرضى أن يكلمها عن مكان وزمان هذا المؤتمر , وبعد عناء كبير ونجاتها من عدة تفجيرات إرهابية التي كانت تحصل هنا وهناك , شاهدت مجموعة من المصورين وهم يصورون ضحايا أحد التفجيرات فسألت أحدهم عن المؤتمر ولحسن حظها فهم لغتها ودلها على المكان , وهرعت إلى ذلك المكان وتسكعت هناك عدة أيام بلياليها إلى أن حان الوقت , وعندما بدأت الوفود بالوصول إلى المكان كانت تتفحصهم بشكل دقيق و تصيخ السمع إلى حديثهم فتأكدت من إنهم من بقايا أولادها , فاطمأن قلبها قليلاً , وبدأت الوفود بالدخول إلى القاعة وقبل أن يغلق الباب انسلّت خلسة من إحدى الزوايا الغير مراقبة إلى داخل القاعة وجلست في مكان غير مضاء متخفية وراء ستار كان يحجب منظر بعض محتويات القاعة القديمة وعندما بدأ المؤتمر, تحدث رئيسه ورحب بالحضور ثم قال: نفتتح مؤتمرنا الأول هذا بتلاوة الصلاة . فقام الحضور وبدأوا الصلاة بصوت مسموع لكنها هذه المسكينة لم تفهم منها شيئاً إنما علمت من خلال رفع أياديهم ونظراتهم إلى السماء أن إلههم رفعوه إلى السماء كي لا يشاهدوه بعكس أيامهم حيث كان إلى جانبهم , وبعد انتهاء الصلاة جلس الحضور وأعطى رئيس المؤتمر الكلمة إلى السيد أشور دافيد , فعندما سمعت باسم أشور تأكدت من أنها وصلت إلى ضالتها المنشودة , فاستعادت أنفاسها لكن قلبها لم يطمئن تماماً لأن اسم دافيد لم تسمع به أبداً , إنما أقنعت نفسها أن اسم أشور لم ولن يسميه أحد غير أبناءها . فبدأت تنظر إلى ثوبها المهترىء والذي كانت تبدوا من خلاله بعض عوراتها . فاستحت من تلك اللحظة وأصبحت تخفيها بيديها النحيلتين.
ولما بدأ المتحدث بالكلام عن عظمة أجداده وبطولاتهم وأمجادهم ( كعادتنا نحن الأشوريون) وفي ختام كلمته أعلن عن نفسه بأنه ممثل ومندوب الأشوريين في الوطن والمهجر . بعدها أعطى الرئيس الكلمة إلى السيد نينوس توما , فزاد اطمئنان قلبها عندما سمعت باسم نينوس فأدارت أذنها اليسار باتجاه المتحدث كي تسمع كلماته بشكل أفضل لأن أذنها اليمنى سمعها قليل بسبب العمر ومن خلال حديثه لم تفهم إلا بعض الكلمات الأصيلة لكنها كانت كافية لتفهم سبب اجتماعهم وحالة الفرقة التي وصلوا إليها , وعندما ختم نينوس كلمته بعض أن استعراض أمجاد وبطولات أجداده شكر الحاضرين وعرف عن نفسه بأنه مندوب الكلدان وقبل أن يصل رئيس المؤتمر إلى المنبر ليعطي الدور لمتحدث آخر . قفزت الأم من مكانها واعتلت المنبر , فاندهش الحاضرون من المنظر الذي شاهدوه, امرأة طاعنة في السن شعرها ابيض لم يدخله مشط منذ قرون وجسم نحيل مكسو بثوب مرقع بكل أنواع أقمشة الشرق , وقبل أن تبدأ الحديث علا الصراخ من المؤتمرين بالقاءها خارجا ً , لكن لم يجرؤ أحد على الحراك من مكانه , فبدأت العجوز الحديث بلغة نقيه مفهومة للجميع موجهة كلامها إلى المتحدثين وقالت:
إن كلامكم فيه الكثير من الصحة , لكن لم يذكر أحد منكم من هي الأم التي أنجبت أجدادكم ( نبوخذنصر وأشور وسركون وحمورابي) أنا هي تلك الأم التي أنجبت هؤلاء العظام وأرضعتهم من هذا الصدر وهي تؤشر بإحدى يديها إلى صدرها فعلمت أن أحد ينابيع الحليب كان خارجاً عن ثوبها بسبب سقوط الرقعة التي كانت تستره فأعادته إلى داخل الثوب تم تابعت الحديث : أنا أمهم أثور وجميعهم كانوا يدعوني ( يما أثور) ويفتخرون بي وبما أنكم أحفاد أبنائي كما تقولون فلماذا لم يذكرني احد منكم , هل تستحون من ذكر اسمي , اسم تلك الأمة التي تركت بصماتها في كل بقعة أرض وطأت فيها أقدامها , ثم من قال لك يا أشور أنك حفيد أشور بانيبال أنت تشبه جدك حمورابي بشعرك الأشعث ورأسك الكبير , أما أنت يا نينوس فلست ابن كلدو أنك تشبه جدك أشور بقامتك الطويلة وأنفك الكبير المعقوف.
ثم من قال: أنكم تمثلان شعبين مختلفين فانتم أحفادي ومن شعب واحد , فكان أجدادكم يتناوبون على الحكم كلما اشتد عود احد من أبنائي كان يستولي على الحكم ويقود شعبه إلى تلك الانتصارات التي تحدثتم عنها , ولكن ها انتم اليوم بسبب هذه الفرقة بينكم لم يستطع احد منكم أن يقود حتى أفراد أسرته , ثم رفعت يديها إلى السماء وطالبت الإله أشور المرفوع إلى السماء أن يرفع اللعنة التي حلت على شعبها ثم سقطت على الأرض جثة هامدة.