عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - Sayyar Jamil

صفحات: [1]
1
الثورات الملوّنة.. أخفقت!

أ.د. سيّار الجميل


قلت في مقال لي هنا بجريدة البيان ( 20 أغسطس 2008 ) ، ابان الحرب الروسية الجورجية :  ( لا يمكن أن تبقى جورجيا تدور في الفلك الأمريكي من دون أن تعمل روسيا على تأمين اوستيا الجنوبية وابخازيا في جيبها ..  وسنرى إلى أي افتراق يقود هذا الصراع الدولي ..  وبالاتفاق مع الأمريكيين . إنني اعتقد أن روسيا ...  غدت تجيد اللعب مع القطب الأمريكي ، كي تستفيد من بناء مواقفها . . وبدأت تستعيد فكرتها القديمة بفرض هيمنتها على القوقاز.. وهذا ما سيخلق متاعب جديدة تلوح في الأفق .. وربما سيشهد العام 2009 ، مأزقا خطيرا ستكون له تداعيات ومضاعفات على كل الشرق الأوسط .. وآخر ما يمكنني أن اذكّر به أن روسيا لم تضع ماضيها وراءها ، وهي تحاول اليوم استعادة مجدها الأحادي قبل أن تركض لاهثة وراء الاتحاد الأوربي أو غيره  ) .
اليوم ، كما تصلنا الأخبار ، بدأت لغة جديدة على الساحة العالمية ، إذ حّذر الرئيس الروسي  ميدفيديف ، ( أن مناورات الأطلسي يمكن أن تتسبب في حدوث " تعقيدات"  ، وأنها تهدد أي تحسن في العلاقات بين روسيا والناتو ). لقد كانت الحرب الروسية على جورجيا ، أغسطس العام الماضي من أجل السيطرة على إقليم اوستيا الجنوبية ، فكان أن توترت العلاقة مع الناتو ، وجمدت الاتصالات عالية المستوى مع روسيا احتجاجا على ذلك ! وقال ميدفيديف : ( إن مناورات عسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي  وشيكة الحدوث في جورجيا قد يلحق الضرر بعملية المصالحة. وبعد تأجيل لها بطلب من روسيا في بروكسل ، فان  حلف شمال الأطلسي ، قد أعلن في وقت سابق هذا الأسبوع أن المناورات في جورجيا ستمضي من 6 مايو ، وتحسين التعاون بين التحالف الغربي والدول الشريكة ) .
تلك " المناورات " التي تم  التخطيط لها منذ ربيع 2008 ، وتضم 1300 فردا من 19 منظمة حلف شمال الأطلسي والبلدان الشريكة ، وبقدر ما طالبت جورجيا الانضمام إلى الحلف ، ولكن ذلك قوبل بردود فعل متفاوتة من بقية الأعضاء .يقول الرئيس الجورجي ساكاشفيلي : ( أميركا التي أعرفها أفسدها وصول أوباما للحكم ولا أستبعد أن تتوصل موسكو وواشنطن إلى اتفاق تآمري لعزلي من الحكم ) . هكذا يتوقّع الرئيس الجورجي نهايته ، وقد أحبطته السياسات الأمريكية ، ويبدو أن طبخة دسمة وساخنة قد أعدت مؤخرا بعد صفقة سرية تترجمها الاضطرابات والتظاهرات المستديمة المطالبة بعزل ساكاشفيلي الذي أزف وقت رحيله ، وبعد أن قدم واجبه المؤقت الذي تعارض ، كما يبدو ، مع مصالح جورجيا الوطنية ، ومن دون أن يدري تنامي قوة الدب الروسي الذي له وحده النفوذ في التحدث باسم المنطقة كلها اليوم .
إن ما توقعت حدوثه قد بدأ ، وان ما اسمي بالثورات الملونة التي هبّت ضمن مخططات أميركية لا يمكنها الاستمرار بدعم أمريكي يأتيها من بعيد ، وان روسيا التاريخية يتعاظم أمرها ، يوما بعد آخر ، وهي تستعيد نشاطها وتكبر هيمنتها .. وأنها تقبل المساومة اليوم من اجل استعادة مجدها الذي افتقدته .. ذلك المجد القيصري الروسي الذي كانت مؤسسة له منذ القرن التاسع عشر  ، قبل أن يكون مجدا سوفييتيا صنعته الشيوعية في القرن العشرين .. إن الثورة الوردية قد انكفأت في جورجيا  ، وستلحق بها البرتقالية في أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات .. وكما قلت أن جمهوريات آسيا الوسطى كانت أكثر حنكة وذكاء من جمهوريات القوقاز .. إن اللهب الذي بدأ في جورجيا اليوم بعد أن تخّلى أصدقاء ساكاشفيلي عنه في الإدارة ، جعلوه وحيدا اليوم في الميدان بعد انضمامهم للمتظاهرين ، ومنهم نينا بورجاندزه رئيسة البرلمان السابقة وايراكل ألانسيا ، ممثله في الأمم المتحدة .. مع تناقض مواقفهما إزاء أميركا ! إن ظروف الأزمة المالية اليوم لا تتيح تسويق شعارات الديمقراطية ، والمجتمعات تطحنها تلك الأزمة ، ولم تزل فقيرة مثل جورجيا وأوكرانيا ومولدافيا .. إن الديمقراطية الحقيقية لا يمكنها أن تستورد ، بل أنها حصيلة تاريخية لتربية أجيال كاملة ، تترجم أهدافها أفعالا .. إن الديمقراطية الحقيقية لا تصنعها ثورات ملونة وردية ، وبرتقالية ، وبنفسجية .. بل تخلقها نضالات شعوب ترّبت على الحريات والعدالة والمساواة .
إن اوكرانيا مرشحة أيضا للتغيير ، وان رئيسها فكتور يوشينكو في حالة من القلق والترقب الشديدين . إن الشعوب تلك ، لم تنتظر إلى النهاية ، فهي تصنع إرادتها اليوم لأنظمة ولدت من اجل الديمقراطية وخابت مساعيها كونها وعدت أمريكيا بما يمكن أن يكون ، ولكنها فشلت كونها ربطت نفسها بمصالح الكبار البعيدة من دون أن ترى مصالحها هي نفسها في المحيط الذي تعيش فيه ! كما أنها لم تستوعب لا دروس التاريخ ولا علاقات الجغرافية .. إن الولايات المتحدة الأمريكية قد فشلت فشلا ذريعا في تصدير مبادئها الحرة إلى العالم ، وراحت عليها المليارات على أنظمة صبغتها بمختلف الألوان الفاقعة ، وكانت غبية جدا ، بارتكابها أخطاء شنيعة إزاء شعوب لم تعتن بها وبواقعها ومصالحها على قدر عنايتها بمصالحها هي نفسها ! وإذا كانت لا تعير أي أهمية لمن تعاون معها سنين طويلة ، فان المتعاونين معها لا يمكنهم الرقص على غير حلبتها ، فهم مرفوضون ، ولن يجدوا أنفسهم الا خارج التاريخ آجلا أم عاجلا . إن العام 2009 سيكشف المزيد من الإخفاقات المريرة في العالم كله .

البيان الاماراتية ، 22 ابريل / نيسان 2009 . وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com


2
المسيحيون العراقيون يرفضون قفص حكم ذاتي ؟

أ.د. سيّار الجميل


نيافة المطران الدكتور لويس ساكو : موقف وطني حقيقي
عرفت نيافة المطران الدكتور لويس ساكو منذ سنوات طوال ، ولم تزل علاقتي به بالرغم من بعد المسافات ، أراسله ويراسلني ، ويكتفي مرات بملاحظات قصيرة ولكنني افهم كل معانيها .. وهو متشبث بالعراق ووطنيته مترسخة ، وهو رجل المهمة الصعبة كونه يؤمن بالمحبة وبالوطن والسلام ، ولكنه يعيش في قلب منطقة حساسة جدا .. انه ضد الكراهية ، وضد كل الأحقاد ، وضد أي انقسام يروّج له الانقساميون من كل الأطراف في العراق .. لقد طال الأذى والعدوان اغلب المسيحيين العراقيين ، وهم اليوم في قلب الأزمة . وان معاناتهم هي جزء حقيقي من معاناة العراقيين ومآسيهم .
لقد قرأت مقالته وتصريحاته الأخيرة التي يترجم فيها مشاعره وأفكاره بالنسبة إلى سهل نينوى ، وكان لابد أن يكتب رؤيته التي تعبر عن ضميره ووجدانه .. وإنني إذ أثمن مواقفه الوطنية ، اذّكر بأنه حاصل على جائزة الدفاع عن المؤمنين للسلام والتي تمنحها منظمة الإيمان والعقل العالمية عام 2008 لجهوده الخيرة في الحوار ، وتجسيره بين جميع المكونات الدينية والقومية في مدينة كركوك. وهو احد الزعماء الروحيين البارزين في الكنيسة الكلدانية ، والذي من أهم واجباته ، التنبيه إلى المخاطر وحماية شعبه منها ، وخصوصا في المناطق المسيحية  الساخنة في العراق . انه ينبّه إلى خطر الدعوة لتأسيس حكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى ، وهي دعوة خطيرة جدا ، كونها شرارة مؤذية للسكان الذين يعتزون بعراقيتهم ، ولا يريدون الانفصال في حكم ذاتي سيكون حتما بين المطرقة والسندان . إن أفكاره مسالمة وواقعية ، وان رؤيته بأن ثمة قضايا ومستلزمات يحتاجها العراقيون جميعا ، وليس النصارى وحدهم .. وهي أهم بكثير من الفيدرالية والحكم الذاتي  .. إن أهم ما يخشاه نيافة المطران لويس ساكو حدوث انقسام بين المسيحيين العراقيين حول مبدأ حكم ذاتي ، إذ يعتبر ذلك ، هو الخروج عن الوطنية .
لقد قرأت بعض المقالات التي يردّ أصحابها فيها على دعوة المطران ساكو وتصريحاته ، ولأغراض سياسية بحتة من دون أي تفكير هادئ بهواجس الرجل وخوفه من المستقبل .. انه هنا يخشى سوء العواقب التي يمكن أن يتعّرض لها كل المسيحيين . إن مطالبة البعض من الشخصيات والجماعات والأحزاب القومية والدينية المسيحية بالحصول على الحكم الذاتي في إطار إقليم كردستان هي بمثابة دق إسفين للصراع الداخلي أولا ، وللانقسام بين المسيحيين ثانيا .. وان المسيحيين العراقيون بحاجة اليوم قبل أي يوم مضى إلى الانسجام والوحدة تحت ظل وطنية عراقية .. وحدة مسيحية عراقية تعزز تماسك كل الملل المسيحية كشعب واحد . إن  كل الملل المسيحية العراقية تعيش في قلوب العراقيين ، إذ يكّن كل الناس محبتهم واحترامهم للمسيحيين العراقيين وأبناء الديانات الأخرى .

المسيحيون العراقيون لا يتمردون على العراق
لا يمكن لأي مسيحي عراقي أصيل أن يتمرد على العراق ، وإلا يكون قد فقد أعز ما يملك من الانتماء في مثل هذه الظروف الحرجة ، وهذه النقطة الفاصلة من التاريخ . هل يعقل أن أجد من يتحدث بغير هذه اللغة ، إلا إن كان قد وقع تحت ضغوط وممارسات رهيبة فرضت عليه إرادتها ، وجعلته ينادي بغير ما هو منطقي يستقيم وسنن الحياة ؟ ولعل ما لاحظته على كتابات أولئك الذين أوعز لهم أن يكتبوا ، وهم يجهلون مكانة متميزة يختص بها المطران الدكتور لويس ساكو الذي يعد واحدا من زعماء الكنيسة الكلدانية في العراق ، وإذا كان يقيم في مدينة كركوك ، فان مركز كل المسيحيين الكلدان في العالم اجمع هو بغداد ، بعد أن كان في الموصل قديما ، وهو من ولادات بلدة زاخو في أقصى شمال العراق ... إن المشكلة ليست في المطران ساكو ، بقدر ما أثارته تصريحاته من ردود فعل متباينة ، إذ كانت موضع استحسان كل المسيحيين في العراق ، ولم يعارضها إلا من يريد الخروج من جلده ، أو من أوعز له بالمخالفة ، أو من راح يصفق لعواطفه من دون أي تفكير بالمصير ! إن مواقف كل رجال الدين المسيحيين في العراق لا تنطلق من أي نزعات سياسية أبدا ، كونهم لم يتدخلوا في أي شأن سياسي ، كما هو شأنهم منذ أزمان طوال ، أما إن أجاب احد المطارنة حول قضية مصيرية ومستقبلية تخص كيان المسيحيين العراقيين ، أو صّرح معارضا أي دعوة لإقامة منطقة حكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى ، فهو يعتبر ذلك وهما لا يمكن تحقيقه ، ومن يريد تحقيقه ، له مصلحة وخطط إستراتيجية لضم هذه المنطقة إلى مشروعه ، وان ذلك يعد فخّا سيقع به كل المسيحيين العراقيين ..
هنا ، ينبغي التفكير من قبل ذوي الشأن الحقيقي ، وان يسألوا أنفسهم ، وهم يدركون جيدا ، أو لابد أن يدركوا جيدا مدى علاقتهم وارتباطهم بطرفين غير متكافئين أبدا .. ارتباط بتاريخ طويل وجغرافية وطن من جانب ، وارتباط بمصالح غير منظورة ومصير مجهول من جانب آخر ! وعلى ذوي الشأن أن ينتبهوا بأن مطارنتهم في الموصل وبغداد وكركوك .. أو أي مكان من سهل نينوى ، هم الأعرف بتقدير المصير كونهم قد اضطلعوا بمعرفة تاريخ تلك الارتباطات والعلاقات منذ قديم الأزمان . إن سهل نينوى قد ارتبط منذ القدم بمدينة الموصل ارتباطا عضويا ليس من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية فقط ، بل من الناحية الروحية .. وما الهجمة الجنونية على كنائس الموصل وبغداد خلال السنوات الست الماضية إلا جزءا من مشروع غبي لا يدرك أصحابه مدى العلاقة الروحية القديمة التي ربطت كل المسيحيين العراقيين بكل من الموصل وبغداد .. أي باختصار بالعراق الواحد الموحد الذي لم يستطع احد أن ينجح في تقسيمه حتى هذه اللحظة .

المسيحيون العراقيون لا يعيشون في قفص !
لقد دفع المسيحيون العراقيون أثمانا كبيرة في الدفاع عن وجودهم القديم على هذه الأرض العريقة ، وعن تاريخ ارتباطهم بالعراق ومساهمات كل أجيالهم منذ عصور مبكرة في التاريخ من اجل العراق وبلاد وادي الرافدين ، وكان منها مؤخرا مصرع المطران فرج رحو طيب الذكر والموجة التي عانى منها المسيحيون في الموصل لإفراغ المدينة منهم .. فكان أن اتضحت حقائق لم يكن لأحد أن يتخيلها أبدا ، ولم تزل حقائق مخفية ، أو تمت التغطية عليها لنفس الأسباب ذاتها . إن من قيم المخالفة في الرأي أن لا يستخدم الطعن في الذات بسبب العجز في مواجهة الموضوع ، وهذا ما وجدته في قيام بعض الكتاب بتوجيه نقدات لاذعة وشخصية للصديق المطران الدكتور لويس ساكو كونه يرتبط بجهات حزبية وسياسية تعارض مشروع الحكم الذاتي للمسيحيين في سهل نينوى ، وانه لا يقف مع تطلعاتهم ( المشروعة ) في العراق !! هؤلاء كما يبدو لا يعرفون هذا الرجل ولا يدركون ما يفكر به ، ولا يحترمون مشاعره الوطنية .. بل ولا يجدونه زعيما دينيا لا يتدخل بالسياسة أبدا ، ولكن لا يقبل بغير حقائق الأشياء ولا يسكت على أي مشروع للهدم . إنني اعرفه منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة وقد قرأت كتاباته منذ بدايات السبعينيات واعرف مدى قوة ارتباطه بأرضه وكنيسته ، فهو رجل دين مفكر ومسالم ويحظى باحترام الجميع على ارض العراق أو في المحافل الدولية ، وانه يريد أن يحافظ على وجود أهله وبني كنيسته مع احترامه لكل الأطراف الأخرى .. انه لم يتلفظ بأي ألفاظ جارحة ، ولم يدع إلى أي مشروع مضاد للآخرين .. وانه تمتع بقدر من وضوح الرؤيا وسط ما يجري في تعتيم شديد ، وانه بالتأكيد يدرك أن كل المسيحيين العراقيين ليسوا ملة واحدة أولا ، وان تاريخهم ينبؤنا كم ازدهروا بأديرتهم ، وبيعهم ، وكنائسهم في كل أرجاء العراق دون أن يكونوا منحصرين أو محشورين في مدينة واحدة أو منطقة واحدة .. ويكفي أن نعرف تاريخهم العريق في بغداد وما قدموه لها منذ أكثر من ألف سنة .. ويكفي أن ندرك ما قدمه كل المسيحيين العراقيين من خدمات ومهن وعلوم ومعارف في كل مجالات الحياة العراقية .. أبعد هذا وذاك ، يريد البعض سلخهم عن العراق وتوطينهم في مكان له أبعاد محددة اسمه منطقة سهل نينوى ، وصفها المطران وردوني بقفص الحكم الذاتي ؟؟

العراق لكل الاطياف
لقد دفع المسيحيون العراقيون ، كما اكرر وأعيد ، ثمنا باهضا جدا بعد العام 2003 ، ونالهم التهجير والقتل والتدمير بشكل لا يتصوره عقل ، ولا يتخيله أحد .. وكانوا أسوة بالآخرين من أبناء العراق دون استثناء .. وكأنهم قد وقعوا هم أيضا تحت طائلة تنفيذ مخطط بشع تابعنا كم كان خطيرا ، وكما دفع الشعب العراقي سيولا من دمائه ، فان التاريخ سيبقى يقول أن المسلمين والمسيحيين في العراق كله قد سال دمهم مشتركا من اجل العراق .. وقد كانوا معا على امتداد السنين الماضية قد شارك احدهم الآخر ألآمه وآماله في الخروج من أنفاق صعبة صنعتها سياسات أحادية غبية ، وباركتها توجهات عنصرية فاشية ، وساندتها أساليب قمعية دكتاتورية . من هنا ، ومن هذا المنطلق العراقي ، يتحتم على كل المطارنة ورجال الدين المسيحيين العراقيين ومعهم كل المخلصين للعراق أن يقفوا ضد أي مشروع انقسامي من شأنه أن يضّر بحياة المسيحيين العراقيين ومستقبلهم .. إذ يكفيهم ما عانوا منه .. وان يكون العراق لهم كلهم ، كما عرفوه منذ القدم ، ولا يمكنهم أن يحشروا في منطقة حكم ذاتي وقد افتقدوا إرادتهم العراقية كأحد أطياف المجتمع العراقي الكبير . وعلى كل العراقيين دولة ومجتمعا احترام كل أطياف العراق العريقة ، وان لا يسكت احد على ظلم ، أو قمع ، أو تهجير ، أو قتل .. إن الوعي بتاريخ كل طيف من أطياف العراق ، وخصوصا الطيف المسيحي ، له أهميته البالغة ، ومع سعينا لطي صفحات الماضي ، ولكن الوعي بما حدث للمسيحيين العراقيين في مناطق سهل نينوى وما اقترف بحقهم من مذابح ، يكفي كي يدرك من يصفق اليوم للتحجيم والانفصال والتشظي من خلال حكم ذاتي ! إننا لا نرضى أبدا أن يصيب أي مسيحي عراقي واحد من المسيحيين ، أي أذى سواء كانوا رموزا دينيين أم مواطنين عاديين إزاء أي موقف يتخذونه ، أو أي رأي يبدونه ، أو أي اجتهاد يعلنونه .. إن العراقيين كلهم لا يقبلون بإيذاء أي طيف عراقي ، أو ملة دينية.. وأطالب مرة أخرى بكشف كل الحقائق التي أخفيت عن أعيننا ، كما وأقدم أسمى الأمنيات للصديق نيافة المطران الدكتور لويس ساكو ، متمنيا زوال هذه الغمامة التي تجتاح العراق ، وان نسعى معا للحفاظ على وجود كل العراقيين ، وعلى أرضهم الواحدة الموحدة ، وان نشارك معا في بناء العراق ، وتطوير مجتمعه ،  وإثراء موروثنا المشترك ، بعيدا عن الشوفينية المقيتة والطغيان الأعمى ، واندماجا مع انتمائنا العراقي ، والكشف عن حقائق جديدة ونشر الوعي التاريخي والحضاري والتوجس من مخاطر المستقبل .

نشرت في الصباح ، 16 ابريل / نيسان 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com


3
التعصّب يستلبُ كلّ الحياة !

أ. د. سيّار الجَميل


سأكتب اليوم مقالتي عمّن سرق مجتمعاتنا ، وزرع العنف في جنباتها .. عمّن قتل الفرحة من خواطرنا .. عّما ابتلي به الجيل الجديد .. انه التعصب والغلو، بعيدا عن التوسط والاعتدال واليسر .. وتعريفه اجتماعيا : الخروج على المفاهيم والأعراف والتقاليد والأخلاق والسلوكيات العامة . وأمنيا : الخروج على القانون والدستور السائد..  إن التعصب لا يقتصر على فكرة معينة ، أو مذهب بعينه ، أو سياسة أو دين .. بل هو يشمل كل مرافق الحياة السياسية والاجتماعية ، وسواء كان ذلك ضد المجتمع نفسه أم الدولة ، فهو اخطر ما يهدد منظومتنا الاجتماعية لا السياسية وحدها ، وكان ولم يزل وليد السياسات المتزمتة ، والتربويات الخاطئة ، والإعلاميات المتشدّدة ، والعواطف الساخنة التي لازمت حياتنا ، وأطبقت على تفكيرنا ، وألغت كل قواعد المنطق والعقل في وجودنا .  ويتلون " التعّصب " من مرحلة لأخرى ، بألوانها ، وقد زاد منذ ثلاثين سنة بشكل علني مفضوح ، ولم يكن صامتا في يوم من الأيام ، ولكن زاد تأثيره اليوم ، بحيث أصبح يحاكمنا ويهيمن على كل مجريات حياتنا .
إن المجتمعات العربية بطبيعتها منفتحة كالصحراء ، ومنطلقة جامحة كالخيول على الأرض ، أو الطيور في السماء .. ولكنها اليوم، أسيرة التعصّب الأعمى والذي يقوده أناس لا تفقه سنن الحياة ، ولا تمتلك من العقل شيئا أبدا ! ونسأل: كم هو الاعتدال جميل ، وكم الوسطية مطلوبة .. وكم المرونة واجبة ؟ كم يحتاج الإنسان أن يمسك العصا من الوسط من دون أية انحيازات ، أو تعنّت ، أو تّصلب في معالجة قضايانا السياسية ، ومشكلاتنا الاجتماعية ، وأساليب تفكيرنا ، وتقاليد حياتنا .. وبمنطق نسبي للأشياء لا مطلق ؟ كم طالب الدين الحنيف باليسر لا العسر في علاقاتنا ومن دون أي أوصياء ، ولا أي أصنام ؟  .. إن التعصّب أو الغلو قد مرّ في تاريخنا ، ولكن عند فئات معينة ، كان تعصبها سياسيا ، أو عقائديا ، أو قوميا ، ولكن أن ينتشر التعصّب والغلو بمثل هذا الطغيان ، ليقتل كل الحياة ، ويصنع هموم مجتمعاتنا ، ويخلق المضادات والنقائض ، فالتعصب يخلق بلا شك تعصبات ضده .. وتصبح ظاهرة متبادلة ، قبيحة فتاكة تقتل مجتمعاتنا بأمراضها السايكلوجية وأساليبها المتوحشة .
وعليه ، لابد من إيجاد حلول لها ، خصوصا ، وان احد ابرز أدوات المتعصبين ، يتمثل بالعنف سبيلا لتحقيق ما يريدونه . بل ويصل مثلا إلى إباحة القتل الجماعي والسرقة والاعتداء من اجل أهداف لا نهايات لها أبدا ، بل ولا يمكن تحقيقها مطلقا  ! إن باستطاعة أي إنسان ذكي ، أن يكشف أي غلو وتعصب منذ اللحظة الأولى ، صحيح أن التعصّب موجود في أي مكان من هذه الدنيا وعبر التاريخ ، ولكن أن يصبح مستشريا في دواخل أي مجتمع ،  ويغدو سمة عامة تقف حيال أي تقدم ، أو حجر عثرة إزاء أية سيرورة تاريخية .. وإذا كان هناك تعصب في إسرائيل ، فهو لها وليس عليها كما هو حال العرب !
لقد ازدادت التعصبات ومظاهر الغلو في مجتمعاتنا التي عاشت حياتها إما مشاركة ، وإما منعزلة .. إما متكلمة وإما صامتة .. إما منغلقة وإما منفتحة ، ولكنها لم تشهد تاريخيا ، أي تعصب وغلو شديدين في الأفكار والعقائد والأيديولوجيات والمذاهب والطوائف كالذي تشهده اليوم . وإذا كانت الحياة أكثر انفتاحا فكرا وسياسة في النصف الأول من القرن العشرين، فإنها غدت أكثر تعصبا وتطرفا وتحزبا وتخوينا وغلوا وتكفيرا في النصف الثاني منه .. ولعلّ اغلب الأفكار التي يتعّصب لها المتعصبون هذه الأيام هي وليدة القرن العشرين .. ففي حين كانت المجتمعات في العالم تتخلص من مركبات النقص والتشدد في النزعات العقائدية والإيديولوجية كالتي سادت وأفسدت  ، وما أكثرها .. إلا أنها تقلصت كثيرا ، ولم تبق إلا بضع جماعات أصولية قليلة في العالم ، مقارنة بظواهر الغلو والتعصب والتشدّد في مجتمعاتنا ، فهي قد زادت وتنذر بمخاطر جسيمة ، وستزيد من تناقضات حياتنا ، وستخلق انقسامات وصراعات فيها .. بل وحروب مع كل العالم.
    مما لا يخفي علي أي متابع لمجتمعاتنا أن التعصب والغلو،  طال كل شيء مع ندرة للاجتهادات الذكية والحلول العملية ، وخصوصا في التعامل مع ثقافات وتقاليد أخرى .. ومن اخطر أنواع التعصب الذي يصل حد الخيانة ، أو التكفير لكل من خالف حتى في ابسط الأشياء ! وهناك في الفكر السياسي والثقافي ومحاولة فرض كل طرف مفهومة علي المجتمع والآخرين بحدة وعنف واتهامات التكفير التي قد تتعدي حدود الفكر إلى العنف الجسدي والسياسي .. تطرف يؤدي أحيانا إلى تكفير المجتمع والحكومات والأفراد .. نجد التطرف والتعصب واضحا في لغة ينعدم منها الحوار ، وتبدد فيها أي حقوق وقوانين . إن خطورة استشراء الظاهرة ، تتجسد باغتيالات ، وحرق محلات ، ومهاجمة أماكن عبادة ، وتدمير مؤسسات سياحية ، وحدوث تصفيات جسدية ، وقتل على الهوية .. ووصلت إلى التفجيرات والتفخيخات وقطع الرؤوس .. وكل الأساليب الوحشية المحرمة . إن مجتمعاتنا كلها بحاجة إلى وعي جديد من خلال تربويات متغايرة .. وإعلاميات مضادة لا مهادنة للتعصب ، أو مروّجة له ..  إلى تنمية تفكير بترسيخ النسبي لا المطلق . لابد من تبديل السياسات والمناهج التربوية في مجتمعاتنا التي هي بحاجة ماسة إلى التغيير الشامل ، بحيث تتربّى الأجيال ، تربية جديدة،  ومستقيمة ، ومسالمة ، وان يزرع وعي جديد باليسر لا العسر ، وان يكون الدين المعاملة والفضائل  .. فمتى سنشهد حصول ذلك .. متى ؟

البيان الإماراتية ، 15 ابريل 2009 ، وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com


4
على ورق الورد



ستون عاما من النكسة الثقافية العربية

أ.د. سيّار الجميل




إخفاقات الثقافة العربية
هل كان المثقفون العرب الأوائل عند بدايات القرن العشرين يتخيلون الحالة التي ستألو إليها الثقافة العربية في بدايات القرن الواحد والعشرين ؟ هل تصّوروا حجم الانحدار الذي آل إليه واقعنا كله ؟ هل كانوا متفائلين جدا بغرس النهضة وشجرة الاستنارة وفضاءات التمدن التي ستصل إليها مجتمعاتنا .. أم غدوا متشائمين جراء ما صادفوه من انتكاسات وهزات .. فكيف لو عاشوا حجم الكوارث والنكبات التي عاشها أبناؤهم وأحفادهم ؟ لماذا كانت بدايات النهضة ، وخصوصا في مصر ، رائعة في تكويناتها ، قوية في إبداعاتها ، متنوعة في أصنافها .. ولماذا باتت اليوم عند بدايات قرن جديد ، مخجلة في كل مرافق أشكالها ومضامينها ؟ أسئلة أثيرها دوما مع نفسي ، وأفكر فيها مليا ، وأراجع التاريخ لأجد ضالتي في معلوماته التي تغني تأملاتي ، وتسعفني في تفسير أفكاري ووجهات نظري التي دوما ما تلتقي كأجوبة لأسئلة صعبة افرضها على نفسي ، أو أتلقاها من طلبتي وأصدقائي ..
دعوني أعالج مسألة التراجع في الثقافة العربية وإخفاقاتها التي تمّثل حاصل محصلة تاريخية .. مقارنة بسنوات نهضة مصر الكبرى التي استمرت قرنا كاملا ، أي بين منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين .. لا يمكن أن نتخيل كم كان في مصر من عمالقة مثقفين وفنانين حقيقيين مقارنة بما هو الحال اليوم علما بأن ثمة تفوق سكاني كبير .. ارجع أسبابه إلى قتل الحريات باسم الإرادة واعتماد الكم على نوعية التكوين واعتماد الثقافة الشعبية على حساب النخب .. والترييف المسيّس على حساب القيم المدنية التي خلقتها النهضة .. وولادة تيارات الانغلاق وتكوين ثقافة مضادة ، جعلوها دينية كي يحرموا ويحللوا ما يريدون ثقافيا وتربويا .. والأخطاء التي ارتكبت في السياسات التربوية والتعليمية في المدارس والجامعات المصرية .. وتخريج الآلاف من المتعلمين للقراءة والكتابة من دون الاعتناء بالمثقفين .. وكثرة الصحافيين والإعلاميين ومثقفي السلطة على حساب المثقفين الأحرار .. وتقييد الحريات .. كلها عوامل ساهمت في التراجع الثقافي بمصر .. واعتقد أن مصر اليوم تعيد اكتشاف نفسها من جديد حتى ضمن التناقضات التي خلفتها العهود السياسية الثورية !

مركزية مصر : الاستقطاب والتراجع
كانت مصر وستبقى في موقع المركزية التي لا يمكنها أن تغلق أبوابها على جانبي المشرق والمغرب ، ولم يكن انفتاحها على العرب لأسباب قومية سياسية إبان المد القومي ، بل وجدناها منفتحة منذ القدم ، بل وكانت مفتوحة بذراعيها على أيام النهضة المصرية ولأكثر من مئة سنة .. وتعلمنا حركات هجرة المثقفين التي قمت بدراستها  وأكملها من بعدي احد طلبتي في الدكتوراه أن أعدادا كبيرة من السوريين واللبنانيين والعراقيين قد استوطنوا مصر لأسباب ثقافية وفنية  واندمجوا بسهولة في شرائح المجتمع المصري .. واجد  أيضا من خلال قراءاتي التاريخية  إن مصرا كانت تفتح أبوابها أمام كل المثقفين والأدباء والعلماء العرب كونها مكان آمن ومحور اتصال! ولم يقتصر الأمر على استقرار عرب من الحجاز وبلاد الشام والعراق واليمن .. بل وجدنا كم كانت أعداد جاليات أوربية من مالطيين ويونانيين وطليان وأتراك وقوقازيين وألبان  .. وغيرهم قد استقروا بمصر ، وساهموا في إثراء نهضتها الثقافية والسياحية والفنية . ولكن .. ما الذي حدث ؟
التفت الزعيم سعد زغلول إلى زوجته السيدة صفّية ، وهو على فراشه متعبا جدا ليقول لها : " غطيني يا صفية .. ما فيش فايدة " ، وراحت قولته مثلا ليتناقلها الناس جيلا اثر جيل ، وهي تعّبر عن تشاؤم ، ولكنه تشاؤم من وضع سياسي صعب لا وضع ثقافي زاخر ، فالثقافة في مصر عهد ذاك كانت سامقة وحيوية وتزخر بالإبداعات والمنتجات المعبرة عن مجتمع بكل حرية وخصب .. ولكننا نسأل : ما حجم التحدي الكبير الذي صادفه الزعيم سعد كي يغسل يديه تماما ؟ وماذا لو رجع اليوم ، فما الذي سيقوله ، وهو يرى الأبناء والأحفاد ، وقد انسلخوا عن مبادئ الحرية والاستقلال الأولى ، ليركضوا وراء مبادئ واهية ، ربما خيالية وربما غير واقعية ، لا يمكنها أن تخدم حياتنا أبدا .. وها نحن نرى اليوم ، كم أساءت النخب العسكرية والسياسية وحتى الثقافية لمجتمعاتها العربية قاطبة ! وها نحن نرى اليوم، كم حوصر الفكر الحر والتفكير المنطلق حصارا من كل الأطراف ! وها نحن نرى اليوم ، كم انغلق الناس على ما لديهم من أفكار ومعتقدات وتقاليد بالية ، من دون أن يفتحوا خرما بسيطا كي يتنفسوا من خلاله هواء جديدا ! لو نهض الكبار من قبورهم .. فما الذي سيجدونه بعد كل السنين التي صرفوها من اجل الحرية والتقدم ؟ لو نهض احمد لطفي السيد ، فسيضرب كفا بكف ليقول أين ذهبت ترجماتي الرائعة لفلسفة الإغريق ؟ ولمن عربتها ؟ لو جاءنا إسماعيل مظهر الذي اصدر العصور والدهور .. فما الذي سيجده بعد أن أفنى عمره في ترجمة أصل الأنواع ونظرية التطور ؟ لو صحا الشيخ محمد عبده .. فهل سيتقبّل هذه الاوضاع التي ستصدمه ، وهو يرى تكلس الفكر وتيبس الاجتهاد ؟ لو دخل طه حسين أي مكتبة بمصر .. فهل سيصفق للثقافة العربية وهي تعيش أسوأ الأزمات .. سيبحث عن أدباء ونقاد حقيقيين ، فلا يجد الا أسماء قليلة لا تستقيم  وهذا الحجم السكاني الكبير على مساحة الثقافة العربية ؟ لو تصفح محمد التابعي بعض الصحف العربية .. لبكى لحال صحافة هذه الأيام .. فهي صحافة منكوبة بالبلادة والعتمة والتخلف بعد أن سبقتها صحافة الأكاذيب والفبركات والدعايات الرخيصة .. لو دخل الموسيقار محمد القصبجي إلى أي استديو لتسجيل الأغاني ، لهرع إلى الخارج وشهق صاعقا لما آل إليه الغناء ورحيل الطرب الاصيل .. وهكذا بالنسبة لأحمد أمين وسلامه موسى والمازني والعقاد وتوفيق الحكيم ولويس عوض ونجيب محفوظ .. وهكذا بالنسبة لنجيب الريحاني وجورج ابيض وسيد درويش وعبد الوهاب  وغيرهم ممن لا يحصى عددهم .

انتكاسة الأجيال
إن إخفاقات الثقافة العربية لم تقتصر على بلد معين أو مكان معين .. إذ أن هزيمة اجتاحتها ، بتفاعل عوامل سياسية بالدرجة الأولى ، ولقد ضربت مصر بالصميم على مدى سنوات الهياج العاطفي السياسي الذي صبغ بالدعايات الكاذبة والأوهام المتخيلة .. لقد تبلورت ثقافة عربية خطابية كلها أوهام مخيالية وأحلام وردية تبددت عام 1967 اثر هزيمة اجتاحت كل مجتمعاتنا التي عاشت على الأوهام ، فانتكس جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية انتكاسة مريرة لتبدأ فصول مأساة جيل آخر ازدادت أوهامه وخيالاته ، فكان أن غدت الثقافة المدنية منحسرة وتائهة ، وأنها تعيش إخفاقا حقيقيا عندما بدأ الاستلاب يعبّر عن نفسه باسم الدين ، والدين من ذلك براء ! وراجت مفاهيم تصدير الثورة منذ العام 1979 ، ومن بعدها مفاهيم الصحوة الدينية .. وكأن مجتمعاتنا كانت في غيبوبة عن دينها ! إن ثلاثين سنة من الأوهام باسم القومية أعقبتها ثلاثين سنة أخرى من الأوهام باسم الدين .. فكيف ستغدو انتكاسة الأجيال اثر إخفاقات الثقافة العربية ؟ وما الذي عانت منه مصر ؟ وما الطريق أمام الجيل الجديد ؟ دعونا نكمل معالجة هذا الموضوع في حلقة قادمة ..

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 11 ابريل 2009 ،
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com




5
على ورق الورد

كيف ضربت السيّاسة العقل العربي ؟

الوطنية ليست على مقاس بدلة الزعيم

أ. د. سيّار الجميل



صنعوا التاريخ الأعمى .. ومضوا !!
التاريخ الأعمى نعم، إنه التاريخ الأعمى للعرب فى القرن العشرين.. طفروا فجأة من عصر السكون والرتابة لتصعقهم النهضة والتقدم، فبقوا يلفون ويدورون حول شعاراتهم «خطابة وأقوالا»، من دون فعل حقيقي.. وعندما أراد العقل أن يتحرر من سباته إثر تفتح عيونه على الاستنارة بالمعاني والأشياء، غلبت السياسة والمؤدلجات على الحكمة والعقل، فتعاظمت التناقضات، وكثرت الثنائيات، وازدادت الصراعات، يوما بعد آخر، وغدا الزمن يسجل تاريخا أعمى.. خصوصا عندما لم يكتمل الوعي بأدوات التغيير وإجراء التحولات على نار هادئة.. لقد اعتقد الجميع اعتقادا راسخا أن حياتنا ستغدو متقدمة بعد أية حركة إصلاحية، أو بعد أية ساعات انقلابية، أو بعد أية تحزبات سياسية أو دينية، أو بعد أية شعارات ثورية، أو أثر خطابات عاطفية!

لقد ظنوا أن الحياة ستغدو متقدمة ومنظمة بسرعة خارقة، بل متطورة على أشد ما يكون التطور، لذا راحت كل جماعة تلعن سابقتها، وكل نظام يبيد نظاما آخر، وكل انقلاب عسكرى يلعن دستورا قائما بذاته.. وصفق المهرجون فى الميادين، ورقص المتبتلون فى الشوارع، ونشر المفذلكون مفبركاتهم فى الصحف، وكثر المخابراتيون على الناس، وكمم العسكريون أفواه الأحرار.. وكانوا ومازالوا يظنون أن الوطنية تقاس على بدلة زعيم، أو مانشيت حزب، أو عنوان دولة ولا تقاس على أساس الكفاءة، أو القانون، أو الدستور، أو عدالة مجتمع.. وكان الكذابون والمفذلكون والمثرثرون يجعلون الناس فى كل واد يهيمون.. فكثر المتطفلون الذين مازالوا يزيدون من تناقضاتهم ويرسخون التاريخ الأعمى الذى ستضحك عليه الأجيال القادمة! إفرازات النصف الثانى من القرن العشرين إننى مؤمن بالتجديد والتقدم والتغيير إيمانا عميقا، وكنت ولم أزل أدعو إلى إحداث تغيير جذرى فى كل بنيوياتنا ومؤسساتنا، بل حتى تفكيرنا ووعينا، إننا فعلا، نخبة تعيش اليوم شقاء الوعى الواعى بنفسه، نظرا لما يدركه كل العقلاء فى هذا الوجود، إن واقعنا الذى انتهينا إليه فى القرن الواحد والعشرين، هو نتاج حقيقى لما أفرزه النصف الثانى من القرن العشرين، وخصوصا تداعيات النكبات ومآسى الحياة بكل آمالها وآلامها.. بكل انتصاراتها وانكساراتها.. بكل متلاقياتها وتناقضاتها! دعونى اليوم، أعالج بعض «الأفكار» التى ربما يتفق، أو يختلف معى الناس فيها، ولكن ينبغى أن أقولها، أو يقولها غيرى قبل رحيلنا عن هذا الزمن.
يبدو أن ما راج من مسميات وشعارات ومانشيتات، تلك التى استخدمها من عرفوا أنفسهم بـ «التقدميين» و«الثوريين» وقد اجتمع تحت مظلتهم عدد من أقطاب الفكر الليبرالى، أو الماركسى معا فى القرن العشرين، إن أخطر ما يتصف به الشعاراتيون والحكاءون والمثرثرون.. أنهم يتبنون جملة من التعابير والمسميات والمانشيتات التى لا تستقيم أبدا وعقلياتهم الصدئة.. وبذلك فهم يؤلفون خطابا واهيا، لا أساس له من الحياة، ولا أساس له من الصحة، لعل أكبر الهموم التى عانت منها مجتمعاتنا، تلك التى دفعها وعيها بما حصل فى العالم كله إلى السؤال الدائم: ما أسباب تأخرنا، وما عار تخلفنا عن ركب المدنية؟ ومن بؤس ما جرى، أن كل فريق عد تجربته هى الناجحة منكلا بالتجربة الأخرى.. ومن بئس ما حدث، التعمية على الأخطاء ورمى أسباب الواقع المر على الاستعمار والرجعية.. ومن بئس ما حدث، أن يبدأ أي مشروع سياسى، أو نهضوى، بالدعاية له أكثر بكثير مما هو عليه فى الواقع! إن حياتنا على امتداد خمسين سنة مضت قد ازدادت تناقضاتها بالشكل الذى باتت مجتمعاتنا منقسمة على نفسها، ليس لأسباب موضوعية وعملية، بل لدعاوى شعاراتية ووهمية.. ولعل أخطر ما أنتجته التجارب الاستعراضية: اللعب على تفكير الناس، وإخفاء وعيهم بالعواطف الساخنة!


تجارب بائسة للوعى المفقود

لقد كانت لنا تجارب جد بائسة فى حياتنا السياسية لأكثر من خمسين سنة مضت، إصلاحية، أم ثورية، أم قومية، أم راديكالية، وانتهاء بالأصولية.. وكان من المهم أن تتلاقح فى حياة ليبرالية تتطور يوما بعد يوم، بدلا من أن تقمع على أيدى انقلابيين عسكريين، أو حزبيين متطرفين وتصادر فيها كل الحياة، وفى أهم البلدان عراقة على امتداد منطقتنا.. هنا، علينا أن نكون منصفين لنسأل أنفسنا، قبل غيرنا، سؤالا مهما: هل كانت انقلاباتنا العسكرية فى عدد من دولنا العربية مثلا، هى حركات تحرر وطنية، أم أنها كانت موجة من المتغيرات التى تقف من ورائها خطة استراتيجية لأمريكا أو السوفييت من أجل سد الفراغ؟ وما يجرى على الانقلابات، ينسحب أيضا على حركات التمرد فى أكثر من مكان، تلك التى حدثت ليس فى منطقتنا فحسب، بل فى مناطق عديدة فى العالم: هل هى بمثابة حركات تحرر وطنية؟ فى حين أن أغلبها كان ولم يزل يسعى لتطبيق أجندة غير وطنية ومشبوهة وخطيرة؟ كيف غدت الانقلابات العسكرية ثورات اجتماعية؟ إننى أسأل: هل كانت الأوضاع فى عدد من أهم البلدان العربية، سيئة للغاية قبيل نجاح تلك الانقلابات العسكرية، حتى تقرن تلك «الانقلابات» بالثورات الكبرى فى العالم.. والعالم كله يعرف كيف كانت فرنسا وروسيا والصين وغيرها؟ عندما أصبح الحكم عسكريا فى أى بلدان الانقلابات، اعترفوا بداية الأمر، أن حركتهم انقلابية، وأن انقلابهم كان ناجحا، ولكن ما تمكنوا من الحكم، وسيطروا ليس على الدولة فحسب، بل على المجتمع، فقد أوهموا الناس بمصطلح «الثورة» الذى لا وجود له اليوم؟ وهم يدركون إدراكا حقيقيا، بأن الثورات لا تصنعها إلا الشعوب، أما قطعات الجيش، فلا يمكنها أن تصنع سياسيا إلا التمردات والخيانات والانقلابات العسكرية! إنهم يدركون أن مفهوم «الثورة» أكبر منهم بكثير فى ذلك الوقت، إذ ليس له اليوم أى قيمة تذكر حتى فى الذاكرة الجمعية، ولكنهم يصرون على أنهم ثوار؟ لماذا؟ إن أول ما يفكرون به هو اتهامهم بالخيانة لدستور البلاد وشرعية الدولة.. وهم يعلمون علم اليقين، أن الدولة الحقيقية، أو الوطنية هى دولة مدنية لا دولة عسكرية! إنهم يدركون أن مصطلح «الثورة» سينقذهم من البقاء أسرى البدلات الخاكية، كى يلبسوا بدلاتهم المدنية! لقد كان هناك فى القرن العشرين قادة وزعماء وكوادر من الثوريين الحقيقيين، ولكن تجدهم قد بقوا على نفس أوضاعهم الأولى من دون أن يتغيروا، أو يتبدلوا.. بل هناك من كانت السلطة قريبة منه، أو بين يديه ورفضها.. مقارنة بضباط الانقلابات العسكرية الذين وجدوا فجأة أنفسهم يتخطون كل الحواجز الشرعية، ويتعدون بصولجاناتهم الخطوط الحمراء ليكونوا فى أعلى سلطة بالبلاد وبيدهم تصبح مقاليد كل الأمور.. أصبحوا يشعرون بأحاديتهم.. وأخذوا بامتهان سلطاتهم، ويزدادون عتوا وطغيانا.. بل خنقوا الأحزاب والأفكار الحرة، وغلقوا المجتمع على أعلامهم وشعاراتهم وتزميراتهم.. بل وأن أعتى خطورتهم قد تمثلت بمخادعة الناس أنهم فى السلطة من دون أى انتخابات، ولا أية استفتاءات خشية الاستعمار وأعوان الاستعمار!

الاستعمار: قميص عثمان من يلبسه الآن؟

الاستعمار، هذه الظاهرة التاريخية التى ناضل ضدها الوطنيون الحقيقيون.. أصبح مصطلحا أو تعبيرا دوغمائيا لدى العسكريين، وبالرغم من خطورته، لكنه لم يكن أصل الحكاية عندهم، بل كان قميص عثمان يلبسه كل من اندفع لتحقيق مطامح فردية للاستحواذ على السلطة، أو لتنفيذ خطة خارجية، أو للوصول إلى الدكتاتورية.. كان غاندى محاربا حقيقيا للاستعمار بأساليبه السلمية لا الثورية، وكان نلسون مانديلا محاربا حقيقيا للاستعمار كونه دفع ثمنا غاليا من سنى حياته وعاف المنصب لمن يريده.. وكان هوشى منه محاربا حقيقيا فى الأدغال ضد الاستعمار حتى تحررت فيتنام.. وكان جيفارا، مناضلا ثوريا حقيقيا فى أى مكان فى هذا العالم ومات وهو لا يملك إلا قميصه! إن جملة من العلل التاريخية التى تختفى وراء ما حدث فى مجتمعاتنا التى كانت تتقدم بصورة طبيعية، وكانت أبعد ما تكون عن الحرب الباردة كونها لا تريد أن تصبح وقودا بين هذا المعسكر أو ذاك.. وكانت ثمة نسبة من الحريات، وثمة هامش من الفكر، وثمة مساحة غير مقيدة للصحافة.. كانت كل المنطقة مقبلة على تحولات واسعة بفعل الفراغ الذى تركه البريطانيون والفرنسيون إثر الحرب العالمية الثانية.. كان لابد لقوى جديدة ظهرت استراتيجياتها تتبلور بعد الحرب، وهى تطمح لسد الفراغ.. ومما يؤلم حقا أن كل شىء اليوم قد افتضح وبان، ولكن هناك من لم يزل يتعلق بشعارات الماضى، أقصد بشعارات طنانة راجت خلال النصف الثانى من القرن العشرين. ؟ العروبة الحضارية والقومية العربية إننى أسأل أيضا: إذا كانت القومية العربية، ظاهرة طارئة سياسيا على حياتنا، فلماذا استحوذت تلك الظاهرة على «العروبة» كظاهرة تاريخية وحضارية عمرها آلاف السنين؟ بل وتكلموا باسم «العروبة»، علما بأن هذه الأخيرة لا تمت بأى صلة إلى القومية العربية؟ وإذا كانت «العروبة» نفسها، بكل أصالتها، وشراكة عناصرها، وقوة منتجاتها.. لم توّحد العرب - مثلاً - منذ مئات السنين، بل حافظت على وجودهم وهويتهم ومدارسهم وأساليبهم وفولكلورياتهم.. فكيف أراد القوميون أن يوحدّوا العرب فى أطر سياسية وسلطوية ليس إلا؟ بل لا نستغرب أبداً، فشل كل التجارب الوحدوية، والمجلسية، والاندماجية للأسباب نفسها التى جعلت من أناس معينين غير مؤهلين لزعامة هذه التجارب الخطيرة التى لا يمكن لها أن تبنى فى يوم وليلة! بل والأخطر من كل هذا وذاك توظيف التاريخ شعاراتيا وإعلاميا بشكل إيجابى من دون معرفة ما شهدته منطقتنا بالذات من انقسامات وصراعات ونزاعات على امتداد القرون الأربعة الأخيرة!

قرارات غير دستورية

لعل أخطر الحالات التى عشناها أيضا صناعة الزعماء للقرارات الخطيرة بأنفسهم من دون إرادة شعب، أو احترام مجتمع، أو شرعية دولة ونظام.. قرارات عبثت بمصائرنا واقتصادياتنا.. قرارات أخّلت بكياناتنا ووجودنا.. قرارات أنهكت مجتمعاتنا وتشكيلاتنا.. قرارات حروب.. قرارات باسم الأمة.. قرارات عسكرية.. قرارات اشتراكية.. إعدامات جماعية.. صفقات تسلحية.. قرارات معاشية.. ميليشيات شعبية.. مواثيق عربية.. تحالفات قوى الشعب العامل.. قرارات حزبية.. قرارات رئاسية.. قرارات وحدوية.. إلخ نسأل من باب التشريعات الدستورية: هل استندت تلك «القرارات» على أى نوع من الإرادة البرلمانية، أو الالتزامات الدستورية؟ الجواب: كلا! فأى حق منح أولئك الزعماء أنفسهم الحق للتصرف كما يشاءون؟ ومن أين استمدوا الحق فى أن يتدخل أحدهم بشأن الآخر؟ أسئلة نجيب عنها فى مقالات أخرى.

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 4 ابريل 2009 ،
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com


6



احتفالية عراقية في كندا
تكريما للأستاذ الدكتور سيّار الجميل
سفير السلام العالمي

تقرير اعداد : حسام الصفار
رئيس تحرير الساحة الكندية

في جو مفعم بالألفة والمحبة .. احتفلت الجالية العراقية بمدينة مسيسوغا  الكندية مساء يوم الجمعة 3 ابريل 2009  بين الثامنة مساء والثانية عشرة ليلا  في حفل عراقي بهيج احتفاء وتكريما بالأستاذ الدكتور سيار الجميل لمناسبة حصوله على لقب ( سفير السلام العالمي ) يوم 15 مارس 2009 . ولقد حضر الاحتفالية أكثر من تسعين من الشخصيات العراقية رجالا ونسوة  ، فضلا عن طاقم من الصحافيين والمصورين ,, وجرى الاحتفال على قاعة مطعم التاج ميدتيدرينيان  في اكلينتون افنيو ، ابيكو .  وقد ألقى الدكتور كامل كمونة عميد الجالية جّراح العيون المعروف كلمته  بالمناسبة ، وقال بأن  الأستاذ سيار الجميل هو مفخرة للعراق والعراقيين .. وان هذا الجميل قد عرفناه من كتبه ومواقفه ومقالاته وحواراته  الصعبة  وأعماله الفكرية .. إنني أرى بأن هذا اللقب قد انتزعه انتزاعا من خلال جهوده الكبيرة .. وأضاف قائلا : إن الدكتور سيار الجميل يستحق أن يفخر به كل العراقيين ، فهو عراقي حقيقي ومفخرة العراق وهو فوق كل الاتجاهات .. وآخر ما ختم به الدكتور كمونه  كلمته قوله : إن ما يؤلم حقا أن العالم كله قد احتفى بابن العراق سيار الجميل مفخرة للعراق ، لكنه لم يتلق أي تهنئة ولا تبريكات من قبل الحكومة العراقية ,أتمنى أن تصل كلمتي إلى الحكومة أو أن يقوم أحدكم بإيصالها .. ثم ألقى الدكتور علاء التميمي امين عاصمة بغداد سابقا كلمة بالمناسبة ، وقال : عرفت الدكتور سيار الجميل من خلال كتاباته قبل سنوات طويلة ، ثم التقيت به في كندا . هذا الرجل الذي استحق هذا اللقب بجدارة .. ويعجبني فيه انه عراقي حر مستقل عن أي حزب سياسي وهو بعيد عن التطرف والطائفية والمحلية ويكفينا أننا نقرأ مقالاته يوميا .. ثم تقدّم الدكتور سيار الجميل من المنصة وألقى كلمة بالمناسبة شكر فيها الجميع الذين حضروا هذه المناسبة التكريمية ، وقال بأن هذا اللقب ليس له وحده ، بل لكل العراقيين ، وأشار إلى الدور الذي سيؤديه في العالم سفيرا للسلام العالمي وقال بما أن خطابه في حفل تسليم اللقب قد نشر بالانكليزية في أدبيات الأمم المتحدة وفقرات منه في الهارولد تربيون وناشنال تورنتو والكوريار انترناشنال ولم ينشر في العربية حتى الآن ، فاسمحوا لي أن اتلوه عليكم بالعربية بعد ترجمته .. فألقى نص خطابه وبعد ن أكمله ، تمنى أن تتحقق على يديه جملة من الأمنيات والأهداف لمساعدة الشعب العراقي وتطوير العراق ..
لقد صاحب التكريم حفل عشاء على أنغام الموسيقى ، وانفض الاحتفال على الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل .
 
ترجمة كلمة الدكتور سيار الجميل التي القاها في حفل التكريم الدولي
لمنحه لقب ( سفير السلام العالمي )
السيدات والسادة
نحن هنا لأننا نؤمن بالسلام والحرية والتمدن . نحن هنا كي نظهر لجيل المستقبل نمطنا المختلف للحياة ، وطريقتنا الفريدة في التفكير. إنني دوما ما تذهب تصورّاتي إلى أن هذا العالم سوف يصبح ساحرا منسجما واقفا مثل جنائن بابل المعلقة ، وقد امتلئ بالسلام والحب والجمال ، وان يغيب عّنا كل من العنف والقتل والاضطهاد. عالم تحكمه العدالة والمحبة والشراكة ، ونحن علينا العمل على الصعيد الدولي من اجل بناء الرحمة لا الكراهية والسلام لا الحرب والعدالة لا الظلم. إن أصدقائي من المثقفين العراقيين الأحرار وأنا معهم ، نود أن نشكركم ، ونزجي التهاني لكم على الخدمة الرائعة في اليو بي اف ( منظمة السلام العالمي ) والأمم المتحدة .. إننا نقدر تقديرا عاليا كل ما تبذلونه من جهود وتفان والتزام في هذا العالم . فالواضح ان من الصعب على فرق العمل مثلكم أن تتمكن من بناء السعادة والوئام والانسجام في جميع أنحاء العالم الفسيح . وعليه ، فإننا أصحاب مهام صعبة من اجل تدشين عصر جديد في مجابهة التحديات .




 
أنا من أرض بلاد وادي الرافدين Mesopotamia ( أو : بلاد ما بين النهرين القديمة) ، أو كما تعرف اليوم ، بالعراق الحديث . هذه البلاد ، كانت تدعى في كثير من الأحيان بـ "مهد الحضارات" The Cradle of Civilizations ، وهي تقع بين النهرين الأزليين العظيمين ؛ دجلة والفرات. دعوني أقول لكم شيئا عن العراق وشعبه الذي يتسم بالحيوية والصبر والاستقلالية والانفتاح .ان العراق يعاني منذ خمسين عاما من أعمال العنف والاضطرابات والصراعات والأزمات والحروب والدكتاتورية. ولم يزل الشعب العراقي مستمر في معاناته من تداعيات الحروب والدكتاتورية حتى اليوم، انه بحاجة الى ان يخرج نهائيا  من آثار الانقسامات الطائفية والنزاعات العرقية وانعدام الأمن ، فضلا عن حاجته الى اهم الخدمات والبنية التحتية المتطورة .
 إن موسوعة الثقافات البشرية الحديثة التي أصدرتها اليونسكو عام 1999 ( وكنت احد محرريها منذ العام 1990 ) جاء فيها : ان كل الشعب العراقي عاش طوال أحقاب التاريخ ، معا في سلام ومحبة ، وواجه التحديات من خلال التعاون والشراكة والتضامن من دون أي عنف ولا أي انقسام . كان جميع العراقيين يعيشون في وئام وانسجام دون اية كراهية أو انعزالية ، سواء كانوا من : المسلمين والمسيحيين واليهود واليزيدية والصبّة المندائيين وكاكائيين ، عربا وأكرادا وتركمان وفيليين وشبكا واثوريين وكلدان وأرمن وسريان آراميين وغيرهم  كانوا يديرون حياتهم بسلوكيات متحضرة وذهن منفتح وأيادي منتجة ، وأساليب حياة مدنية متحضرة . إن قيمهم وتراثهم التربوي وتقاليدهم هي قديمة جدا ، وستستمر في الوجود عبر الأجيال القادمة .
العراق هو الأرض الكلاسيكية القديمة التي ما زالت تعمل جاهدة للتعريف عن نفسها وعن اسمها ورسمها في قلب العالم . ان العراقيين الأوائل هم أول من اكتشف  الزراعة قبل عدة آلاف من السنين  ، وكانوا أصحاب أول تجارب المستوطنات والتجمعات الاجتماعية بولادة أول قرية في التاريخ وأظهرت لنا أنها القرية الأولى التي عرفت أول مجتمع في التاريخ والذي تطور شيئا فشيئا الى المجتمعات البشرية الأولى التي كانت هي الأخرى  في العراق. ومنذ ذلك الحين ، عرفت اول فلسفة انسانية للسلام العالمي . ان العراقيين هم الذين فهموا السلام على أساس هذه الخصائص ، فكانوا ان بنوا أول مدينة وجدت في التاريخ ودعيت  مدينة اور ابان العصر السومري ( وهو اقدم العصور التاريخية في التاريخ البشري ) .
ان هذه البلاد ، كما وصفها هيرودوت هي مركز العالم ، في حين وصفت الآنسة غيرترود بيل العراق عام 1921 انه "الأب الشرعي للإنسانية". اما العالم الاسلامي فدعا بغداد "مدينة السلام" ، وسماها ياقوت بـ " سيدة البلاد " وكان ذلك قبل اكثر من الف سنة مضت ، عندما أصبحت بغداد مركزا للحضارة العربية الإسلامية ، والمعرفة الإنسانية. لقد امتلك العراقيون اول المعرفة لأن الكتابة كانت من مكتشفاتهم وقد تضمنت تسجيلاتهم الفنون والأساطير ، والتي اخصبت أفكارهم حتى اليوم. وكان القانون قد تشّكل على ايديهم لأول مرة ، ممثلا في قانون حمورابي. واشتهر العراقيون ، وعرفوا جيدا كأول شعب في التاريخ يعيشون في البحث عن الخلود من خلال ملحمة جلجامش كأول ملحمة في التاريخ. فإن خلود العراق منذ سبعة الاف عام ، وهو لم يزل على قيد الحياة في ثقافته ، وكتابة النصوص الإبداعية ، في شعره ، في خطوطه ، وفي رسوماته ، وفي اساليب الطبخ ، وأكثر من ذلك بكثير مما نتصور . بلاد كانت أول من يوجد الموسيقى ويخترع القيثارة / الغيتار والفلوت والكمنجة وكلها معروضة في المتحف العراقي. يمكننا أن نرى ما تبقى من الطين في مكتبة آشور بانيبال في عاصمته العظيمة نينوى .. ولقد عرفت كونها اقدم مكتبة في التاريخ البشري .
انني يحدوني الأمل بأن يقف العالم بأسره اليوم الى جانب هذه البلاد العراقية الغنية بثرواتها وبمثقفيها والى جانب شعبها كله ، فهو شعب عريق ، متنوع الثقافات ، ومتعدد السكان. وهو نتاج حقيقي للتاريخ والحضارة الإنسانية وهو يتمتع بخلفية قوية من المقومات والتقاليد الاصيلة . ولدينا أمرأة راقية ، فالمرأة العراقية كانت قد ناصفت الرجل في بناء الاجيال وكل حضارات العراق .. انها انسانة رائعة منتجة ودودة ومخلصة وتعتز ببيتها ومواهبها المختلفة . اتمنى على العالم كله الوقوف الى جانب الشعب العراقي ليستعيد دوره المتمدن ويبني الجنائن المعلقة من جديد .. وتعود بغداد من جديد مدينة للسلام وسيدة للبلاد ومركزا للحضارة والمعرفة البشرية كما كانت قبل الف سنة من اليوم بجامعتيها النظامية والمستنصرية وبمراكزها وبيوتاتها العلمية ومنها بيت الحكمة ومراصدها الفلكية .. ان تعود ثقافاتها ومدارسها وفلاسفتها وعلومها وآدابها وفنونها .. ان يعود الشعراء العظام يغردون في بغداد التي تشع في قلب هذا العالم .. كتب المؤرخ البريطاني ستيفن هيمسلي لونكريك في احدى رسائله قائلا : ان العراق وحده يمتلك اعظم موروث كتابي ( او تراث مكتوب ) في العالم كله ! ان مهمتنا الاساسية ان يدرك كل العراقيين قيمة وطنهم من كل الاوجه المدنية وان تماسكهم هو صانع مستقبلهم .. وان احترامهم بعضهم للاخر مهمة من مهمات السلام  .  ان العراق كله بحاجة الى التماسك والوحدة والبناء بديلا عن التهتك والارهاب والانقسام .. ان العراق بحاجة الى الوئام والانسجام والسلام بديلا عن الحروب والتشّظي والقتل والاجرام .
 



شكرا جزيلا لكم ايها الأصدقاء الأعزاء ، ويشرفني أن احمل هذا اللقب العالمي ، سفير السلام العالمي ، باسم كل العراقيين  وإنني سعيد جدا لقبوله ويعتريني شعور عميق من الفخر والتواضع معا . واسمحوا لي ان أقول بأن هذا القبول سيمنحني  المسؤولية والواجب من اجل خدمة الإنسانية كلها وأود أن أؤكد لكم وأعدكم أنني سوف أعمل ما يقرب من وجهات النظر المتباينة نحو الأفضل دوما في كل الامم ، وان احمل غصن الزيتون في كل المناطق الساخنة في العالم للحفاظ على الانسان والبيئة والتربية والصحة والثقافة والاجيال القادمة .. وان احترم تقاليد المنظمة ليس بإبقائها على قيد الحياة فقط ، بل لتطويرها كي تنتقل من جيل إلى جيل ، وهذا ما يخدم مهمة منظمتنا ، والاتحاد العالمي للسلام تحت راية الأمم المتحدة .
وأكرر تقديري وشكري لكم جميعا.
وليبارك الله أعمالكم وأعمالنا جميعا
 
نقلا عن موقع الساحة ، تورنتو ، كندا  في 5 ابريل 2009
http://www.assaha.ca/activity14.html
 
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com



7
مراجعتي التاريخية بريئة الذمة !

أ.د. سّيار الجميل

كل من تابع بشغف ، أو كان على مضض ، مشاهدة مسلسل الباشا : نوري السعيد ، والذي عرض في العام المنصرم على قناة الشرقية ، عرف أنني كنت صاحب المراجعة التاريخية للنص ، وكنت قد وعدت أن أبرئ ذمة مراجعتي التاريخية ليس من " النص " الرائع الذي كتبه الأخ الفنان فلاح شاكر ، بل من كل المسلسل ، فقد كنت أتخّيل انه سيعرض بغير الصورة التي عرض عليها ، وكنت أتوّهم أن يقترب كثيرا من حقيقة تاريخ نوري السعيد .. ولكنني أصبت بخيبة أمل كبيرة ، وكتبت معترضا  على ما شاهدته بدءا بالحلقات الأولى وانتهاء بآخر مشهد من الحلقة الأخيرة .. ليس لأنني أتنّصل من مسؤولية أوكلت اليّ بكل محبة وتقدير ، ولكنني شعرت أن كل ما سجلته من تصحيحات وملاحظات ، وبقيت أطالب بكل تقويم وتصويبات .. لم يؤخذ بها ، ويا للأسف الشديد .. إنني لم اكتب مثل هذه المقالة التوضيحية لموقفي بعد عرض المسلسل مباشرة ، ولكنني آثرت أن اقرأ واستمع إلى كل النقدات والآراء والأفكار والملاحظات التي نشرها مثقفون وكّتاب وفنانون وصحافيون عراقيون .. كي أقول كلمتي في نهاية المطاف . إنني إذ اكتب هذا " المقال " ليس بسبب رفضي للمشروع ، أبدا ، إذ أنني باركت هذا المشروع الرائع جدا ، وأثنيت عليه ، وتمنيت أن يكون فاتحة لمشروعات فنية كبرى في ترجمة تاريخنا العراقي المعاصر وأبطاله الكبار .. ولكن ما دام الأمر قد عولج بتفاصيل موسعّة ، وان اسمي قد ذكر عدة مرات وفي اغلب المقالات ، فلا يمكنني السكوت أبدا على ما أبداه بعض الكتّاب والمتابعين العراقيين ، وخصوصا أولئك الذين انتقدوا مراجعتي التاريخية للنص . وسأختار عينة واحدة فقط  ..
يقول الأخ الأستاذ ناطق خلوصي في مقال له : " حين قرأنا في مقدمة العنوان الافتتاحية لمسلسل " الباشا " أن الباحث والمؤرخ سيار الجميل اضطلع بمهمة المراجعة التاريخية للمسلسل ، ساورنا شعور بالاطمئنان إلي أن المسلسل سيكون أمينا ً وصادقا ً في استقراء السيرة الشخصية لنوري السعيد استقراءا ً دقيقا ً وموضوعيا ً واستقراء التاريخ السياسي والاجتماعي للعراق الحديث في المرحلة التي ظهر فيها من خلال استقراء هذه السيرة . غير إننا أصبنا بخيبة أمل ونحن نتابع المسلسل لاسيما في حلقاته الأخيرة ، بفعل المنزلق التحريفي الذي انزلق فيه . فنحن من جيل شهد جوانب من مرحلة الأحداث ، وبين الأجيال التي سبقتنا ممن هم علي قيد الحياة مَن شهد جوانب أكثر ، ولابد من أنهم شعروا بغصة ألم وهم يشاهدون المسلسل لاسيما أولئك الذين كانوا قد اكتووا بشواظ نيران مظالم تلك المرحلة " ( انتهى الاقتباس ).
 ومثل هذه الملاحظة ، ذكرها آخرون . وهنا لابد أن أبرئ مراجعتي التاريخية من كل المنزلقات التي عانى منها مسلسل الباشا نوري السعيد ، ومنها ما كان يخص المعلومات التاريخية ، ومنها ما بدا على الشخصيات بدءا بالبطل الباشا وانتقالا إلى غيره من الشخصيات .. ومنها ما كان يخص الموضوع السياسي ، وحجم الخلافات العراقية بين من هو مؤيد لذلك التاريخ الذي يقف على رأسه نوري السعيد ، وبين من هو معارض ، بل وساخط ضده ، حتى بعد مرور خمسين سنة على نهايته الدرامية الفريدة .. فضلا عن كل الذي يخص الموضوع فنيا ، إذ لم ينجح الفن العراقي في أن يسيطر على هكذا موضوع تاريخي له صعوبته وتعقيداته ليقدمه إلى الناس ببراعة متناهية ! وعلى الرغم من إعجابي الشديد بكاتب المسلسل الذي يتمتع بحس روائي مرهف .. لكنني من خلال تعاملي مع الرجل والنص الذي كتبه ، فلقد وجدته وهو يكتب نصا عن نوري السعيد ، وهو في مكان بعيد من بلاد الشام ، ومن دون أن يعيش تجربته ، أو يدرك من عايش تلك التجربة ، فضلا عن بعده الجغرافي عن تراث العراق السياسي ..
عندما بدأت اقرأ النص لأول مرة ، عشت بركانا شديدا ، وحاولت ارفض مراجعة العمل ، ولكن رسائل من الأخ المؤلف جعلتني اطمئن لهذا الفنان المثقف الذي منحني الثقة بأن النص سيكون على غير ما كان عليه .. لقد قرأت العمل كلمة بعد أخرى ، ومشهدا بعد آخر وسجلت عليه ملاحظات كثيرة جدا باللون الأحمر لم أزل احتفظ بها .. كما اعترضت على بنية الروي بأن الشعب العراقي لا يمكن أن يمّثل بشخصية أحادية تافهة تفرد لها مشاهد لا تمت للحقيقة بصلة .. إن كل من تابع مشاهدة مسلسل الباشا ، وسواء كان معه أو ضده ، لابد أن يدرك أن المراجعة التاريخية لم يؤخذ بها ، ولا بملاحظاتها ، ليس بسوء قصد أو نية ، بل ليعلم الجميع ، بأن هذا العمل قد كتب وأنتج واخرج بشكل سريع جدا ، وقد رافقته مشكلات جمة صعبة منذ البدء بالتفكير به وانتهاء بعرضه على شاشات التلفزيون .


ولا يفوتني هنا إلا أن اقتطع بعض نصوص رسالة أرسلتها إلى الصديق الأستاذ سعد البزاز الذي وقف على رأس هذا المشروع ، ومما قلته له برسالة مؤرخة في 10 سبتمبر/ أيلول 2008 :
عزيزي ، اكتب إليك لأعلمك بأنني تابعت بعض حلقات مسلسل ( الباشا ) على البث المباشر للشرقية على الانترنيت ، كون الفضائية لم تصلني تلفزيونيا ( هنا في كندا ) .. وكما تعلم أنني كنت الخبير التاريخي للمسلسل .. وقد تألمت جدا لأن أمورا وتصويبات وأفكار ومطالبات كثيرة سجلتها على النص ، ولكن لم يؤخذ بها وكلها مسجّلة عندي .. لقد باركت خطوتك الرائعة لمشروع هذا المسلسل ، ولكن عرض بعض حلقاته حتى الآن قد خّيب ظني مع الأسف . وكان الأخ المؤلف فلاح شاكر وهو صاحب إبداعات متميزة قد وعدني بأخذ كل تصويباتي واقتراحاتي .. ولكن لا ادري هل كانت الأخطاء من المخرج في الخروج عن النص المصحح ، أم التعابير ، أو المعلومات .. واعتقد أن اسمي قد ظهر في المقدمات كخبير تاريخي . وعليه ، فان أي نقد ، أو طعن ، أو هجوم .. سيفرض عليّ الرد وتوضيح هذا الالتباس .. وإذا كان المخرج ، أو المؤلف ، أو الممّثل لم يأخذوا بما اكّدت عليه ، وحرصت على الأخذ به ، فما معنى قراءتي للنصوص ؟ وما معنى الإتعاب التي بذلتها " .
واستطردت قائلا : " أريد أن أعلمكم بأنني غير مسؤول أبدا عن الحلقات التي ظهرت حتى الآن . لقد أوضحت كيف تكون شخصية نوري السعيد وطريقته .. أوضحت كيف يتكلم العراقيون مع الملك فيصل .. أوضحت أن رتبة جعفر العسكري هي اكبر من رتبة نوري  وقت ذاك ..  أوضحت مؤكدا بالقلم الأحمر أن المس غروتود بيل تكبر الملك فيصل كثيرا ولم ينادها بابنتي أبدا  .. أوضحت أن الطابع العام كان حضريا وليس متريفا في بغداد والمدن الكبيرة .. أوضحت الحاجة إلى أن تكون الأزياء مثلما كانت وقت ذاك ، طالبت بأن تكون هناك مناظر خارجية ، وان لا يبقى التصوير حبيس الغرف .. أوضحت أن لابد أن تكون الموسيقى الشعبية هي بغدادية وليست ريفية .. وان اللهجة المستخدمة عند فيصل هي حجازية ، ورستم حيدر لبنانية ،  ولهجة جعفر ونوري بغدادية صرفة .. وان نوري لابد أن يكون خفيف ظل ومرح وليس ثقيل دم .. وغيرها عشرات الأمور . لقد أصبت بإحباط كبير يا أبا الطيب .. وندمت جدا على أن يكون اسمي موجودا على هكذا مسلسل مع اعتزازي بالأخ المؤلف ، فقد كان رائعا معي أثناء تبادل النصوص ، مع اعتزازي بكل العاملين فيه .. ولكن تألمت كيف أنفقت الآلاف المؤلفة من المال ليكون بهذه الصيغة حتى الآن ! ولقد توقعت ذلك لأن الحلقات الأخيرة لم تصلني ويبدو أن الاستعجال كان قد سبب كل هذا الإخفاق .. واعذرني أن أقول ذلك ، وأنا أقارن هذا " المسلسل " بمسلسل  فاروق أو غيره من مسلسلات التاريخ العربي الحديث والمعاصر.. " ( انتهى نص الرسالة ) .
لقد أرجأت نشر موقفي من المسلسل حتى الآن كي أطلع على كل ردود الفعل التي كتبها مثقفون وفنانون عراقيون .. ولم أجد حتى الآن أية نقدات من زملاء مؤرخين عراقيين اعتقد أنهم لم يقبلوا أبدا بالمسلسل ، وما رافقه من هنات فنية لا يمكن قبولها . ولابد لي أن أوضّح للعالم كله ، ما دمت لم اقرأ أي رد حقيقي يوضّح بعض الحقائق ، إذ كان المؤلف يخبرني بأن التنفيذ قد بدأ قبل أن ينهي كتابته المسلسل ، فتوقعت حدوث أخطاء جسيمة .. ولقد علمت بتفاصيل واسعة من خلال اتصال تلفوني أجراه معي الأخ مدير قناة الشرقية ، موضحا لي جملة من المشكلات التي لا يمكن تّحملها إثناء تنفيذ العمل ، خصوصا وقد جرى على ارض غير عراقية .. ناهيكم عن سرعة التنفيذ من اجل عرضه في شهر رمضان المبارك السابق ، إضافة إلى ما كان يعانيه بطل المسلسل الفنان الراحل عبد الخالق المختار من أزمة صحية يوميا ، والتي أفضت إلى رحيله المؤسف بعد أشهر ..
إنني اقّدر جدا كل التبريرات ، ولكن ينبغي أن أوضح بعض الملاحظات التي أتمنى على كل الإخوة القائمين لإكمال مثل هذا " المشروع " يوما ، أو تنفيذ أي مشروع مشابه له :
(1) بالرغم من جعل المرئي التاريخي مشروع ذاكرة جمعية لبناء وعي جديد بالتاريخ ، فينبغي أن نكون حياديين في تناول أهم شخصيات العراق حساسية .
(2) أن جيل اليوم من العراقيين يختلف تماما في تفكيره وتصرفاته ، وتعابيره وخطابه ، وفي مناخه العام وأذواقه عن جيل حضري  يسبقنا بخمسين سنة .. فينبغي تمثيل ذاك الجيل لا غيره .
(3) إن المراجعة التاريخية أساسية لأي مشروع في السيمافور التاريخي الفني .. وان لا يقتصر دورها لقراءة النص فقط ، بل على صاحبها مراقبة الديكور والماكيير والتمثيل وحتى الإخراج.
(4) إن بعض الانتقادات التي قرأتها على المسلسل ، إنما انطلقت من زاوية سياسية محددة ، وبسبب كره دفين لنوري السعيد ، بحيث لم تكن حيادية في تقييمها وإطلاق أحكامها ، وكان يستوجب معالجة ذلك كما اقترحت من خلال بعض المشاهد .
(5) التروي والدقة وعدم التسرع في تنفيذ أي مشروع يعتني بالتاريخ من اجل مقاربة المرئي والسيمافور التاريخي للحاضر .
وأخيرا، فان مثل هذا " المشروع " الفني الكبير ، وهو يأتي في مثل هذه الظروف الصعبة للغاية ، هو رسالة للعالم ، بأن الفن العراقي لم يزل على قيد الحياة .. وان العراقيين ما زالوا يتعلمون كل يوم شيئا جديدا من تاريخهم المثقل بقوة الأحداث وقوة الشخصيات .. كما أن هذا " المشروع " هو رسالة لكل العراقيين اليوم ، مواطنين ومسؤولين عن زعيم عراقي اسمه : نوري باشا السعيد ، كان وسيبقى يثير أسئلة لا نهاية لها  ..

نشرت في الزمان اللندنية ، 6 ابريل 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

8
مشروعنا حضاري أولا وأخيرا:
 دعه يعمل.. دعه يمر!

أ.د. سيّار الجَميل


الانسان العراقي في مقدمة الاشياء !
لا اعتقد أبدا ، أن أي عراقي يعشق العراق ، مهما كان لونه ، أو جنسه ، أو عرقه ، أو دينه ، أو مذهبه .. لا يحلم بالعراق المتقدم ، وقد انطلق ليغدو وطنا للجميع ، فلا يحق لأي عراقي ، أن يحتكر الوطن باسمه .. ولا يحلم بالعراق كي يغدو " جنائن معلقة " ليس في  بابل وحدها ، بل في كل أصقاع العراق .. ولا يحلم بمجتمع عراقي متضامن ، متكافل ، متسامح ، وقد غدا كل عراقي يرتبط بجملة من القيم والمدركات والتقاليد العراقية التي عرفها القدماء في حياتهم ، والتي افتقدت في نصف قرن مضى بكل ما شهده المجتمع العراقي من انسحاقات .. ولا يحلم بإنسان عراقي يعرف كيف يتصّرف وكيف ينتج .. وكيف يستهلك .. وكيف يبني .. إنسان ، لا تهمه مصالحه الشخصية بقدر ما تهمه مصالح كل العراقيين .. ولا يحلم بامرأة عراقية أصيلة ، كتلك التي ربّت أجيالا من العمالقة عبر أزمان ، وقد جابهت كل التحديات .. امرأة تدرك كم هي مسؤوليتها على أي شبر من تراب العراق .. امرأة عراقية تدرك ما يحتاجه العراق لمائة سنة قادمة .. امرأة تتدرب على أصول تربية أجيال جديدة بعد سنوات العذاب .. امرأة تحسن ترويض الرجل العراقي الذي يعد في بعض مناطق العراق ماركة مسجلة في التفكير المضاد ليس للمرأة حسب ، بل حتى لأقرب المقربات إليه .. رجل عراقي تّربى على قيم ذكورية في مجتمع شبه مغلق ، لا يدرك أي معنى لانفتاح المجتمع .. وسرعان ما تذهب به الظنون بعيدا .. إذ لا يفهم أي شراكة في التربية ، أو الدراسة ، أو العمل ، أو التوظف ، أو الإنتاج  .. إلا سلبا ! رجل لا يدرك من مجتمعه إلا السلبيات ، ولا يفقه من مجتمعات الآخرين ، إلا رؤية ضيقة يصفها مباشرة بالانحلال والإباحية ! رجل عراقي قد تجده مزدوج الشخصية بين الذي يعلنه ، ويتقول به ، أو يستعرض العضلات من اجله .. وبين ما يمكن أن يقوم به فعلا .. رجل لا يعرف إلا كيف يفرض إرادته على زوجته ، أو أخواته ، أو بناته ، أو حتى أمه .. وكثيرا ما يحرمهن من حقوقهن لحجج واهية كي يأكل عليهن الأخضر واليابس .. وان التقيت به ، فهو صاحب كلام معسول مزركش بالآيات الكريمة ، وسبحته بطوله ولحيته متهدلة ، أو خفيفة حسب الموظة الجديدة ! أو تجده ، وقد أقام أسوارا حول بيته خوفا على عرضه أو شرفه .. ولكنه لا يتورع في يخوض بأعراض الناس ويجردهم من كل ما يعتزون به !

حضاري قبل ان يكون سياسيا !
مشروعنا حضاري من اجل العراق قبل أن يكون سياسيا ، إذ أن السياسة لم ولن تنفع العراقيين ، فهي ميدان حقيقي للمنازلات ، والنزاعات ، والصراعات والقتل وكل الموبقات بسبب سعي كل سياسي عراقي من اجل منافع ، أو مصالح ، أو أهواء ، أو نزوعات .. السياسيون العراقيون ، قلما تجد من بينهم من هو نقي وملتزم ونظيف وغير مراوغ وتهمه مصالح العراق قبل مصلحته هو نفسه .. السياسي العراقي منذ أن وجد على ارض العراق الجديد ، وهو لا يعرف إلا السعي للجاه والألقاب والأزياء والمرتبات وحفلات العشاء واقتناء القصور والسيارات وعقد الصفقات وكيف يزيد من ثرواته التي لم يكن من أصحابها قبل العام 2003 ! وإذا انتقلت إلى الساسة المعارضين ، وما أكثرهم ، فان همهم الوحيد السلطة ، ثم السلطة ، ثم السلطة .. فالسلطة عند العراقيين هي الهدف ، وهي الغاية ، وهي الوسيلة .. هكذا معا ، وخصوصا عند من عرفها وامتهنها لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن . إن ( السلطة ) عند العراقيين جميعهم ، هي ضرورة وأساسية عندهم ، وتشغل حيزا كبيرا في تفكيرهم .. هي مطلب حقيقي،  وهي رغبة عارمة تسري حتى في دمائهم ، ويبدو أنهم قد ورثوها في جيناتهم ! إنهم يريدون التسلط .. إنهم يريدون احتكار الإرادة .. إنهم يريدون أن ينفخوا أنفسهم ، ويستعرضوها ليس في المجالس ، أو الشوارع  كما كان سابقا ،  وليس كما عرفوها في ساحات العرضات والميادين وسوح الوغى .. بل أصبحت اليوم معروضة على شاشات الفضائيات وفي صور المواقع والصحف والمجلات ..
مشروعنا حضاري .. كونه لا يعرف مثل هذه التقاليد البليدة التي تنخر في جسم العراقيين ، منذ ان عرفوا التنّمر ورفع الكتفين في مشيتهم ، وأطالوا شواربهم ، وامتهنوا المؤسسات ، وضربوا القانون عرض الحائط ، واعتمدوا على الدولة في كل جزئيات حياتهم .. بل وغدت الدولة بالنسبة لهم عدوا لدودا من دون أن يدركوا أسباب العداء لها .. الدولة بالنسبة للمجتمع العراقي لم تكن دولة متحضرة تتعامل مع المجتمع ، كونها خادمة له،  ومعلمة له ، ومرشدة له ، وهادية له سواء السبيل .. كونها ضمّت خليط عجيب غريب لكل من هبّ ودبّ من العراقيين المصنفين سياسيا وحزبيا وسلطويا ومخابراتيا  ، من دون فرز اجتماعي ولا أي تقييم معرفي .. لقد ضّمت إلى مسؤوليها أعداد كبرى من الأغبياء وضعاف النفوس .. هؤلاء جنوا على الدولة .. هؤلاء أساءوا إليها والى المجتمع .. الدولة بدل أن ترعى المجتمع .. اضطهدته وسامته سوء العذابات .. الدولة امتهنت الناس وخيرة أبناء الناس لمصالح النظام الحاكم .. الدولة خلطت بين المفاهيم ، فضاعت على الناس هيبة الدولة مع نزعة الوطن .. مع قوة النظام ، ومع أجهزة الحكومة ،  ومع الشعب ! اليوم ، كل الناس تريد من الدولة أن تقدّم لهم والدولة عاجزة ، كونها لا تستطيع أن تقوم بكل الأعباء لوحدها من دون أن يساعدها كل العراقيين ..

اجندة حضارية من اجل التغيير
مشروعنا حضاري من اجل خلاص العراق والعراقيين من قيم ربما نعتز بها اجتماعيا ، ولكن لا يمكن تسويقها سياسيا .. قيم ربما تكون مساحتها محلية ، أو ضمن إطار الوحدة الاجتماعية الضيقة ، ولكنها غدت تجتاح كل حياتنا العراقية .. فان كانت هناك قيم عشائرية في مكان وتفعل فعلها ، فكيف اضمن أماكن أخرى حيوية تتجذر فيها القيم الأسرية والعائلية ؟ هنا ستتباين القوة والنفوذ ، وستضرب العدالة في الصميم ! إذا كانت هناك ثمة قيما دينية ، أو مذهبية معينة ، فكيف اضمن وجود مثل هذه القيم في مناطق أخرى ؟ الا تجدون معي ، أن احد ابرز أسباب الإخفاقات التي لازمتنا نحن العراقيين إحياء تلك القيم وتوظيفها سياسيا أو إداريا .. وإذا كان العراقيون قد نفروا خفافا وثقالا من المشكلة القومية ، فكيف يتم تسويقها في اماكن عراقية معينة إزاء إفراغها من أماكن أخرى .. ؟؟ والكل يدرك إدراكا حقيقيا ، أن الصراع العرقي في العراق لا يمكن أن يؤسس لمشروع حضاري يقوم على التمييز بين العراقيين .. وهذا ما اعتمد اساسا من قبل العراقيين الجدد ، ويا للأسف الشديد .
مشروعنا الحضاري منفتح على كل العراقيين ، وليس له إلا ( الهوية العراقية) عنوانا ومضمونا .. ولا يميز إلا على أساس الكفاءة والقيم الإنسانية .. مع احترام أي عراقي للعراقي الآخر في دينه ومرجعيته الشخصية ، عرقه لغته ومرجعيته الاجتماعية ، طائفته وطقوسه المذهبية.. وان تكون الدولة فوق الجميع من دون أية انحيازات ، وبلا أية أجندة تقيّدها أبدا . على كل عراقي وعراقية احترام كل العراقيين ومشاعرهم بعيدا عن إثارة أية نزعات وحساسيات تشعل كل الوجود العراقي ..
مشروعنا الحضاري عراقي من اجل بناء العراق الذي نحلم به جميعا .. عراق الإنسان قبل أي شيء آخر .. عراق يهتم بمستقبله قبل أن يتنطع بماضيه .. عراق لا ينكر مفاخره وأمجاده الحضارية للإنسانية جمعاء ، ولكن شريطة أن يختط نهجا حضاريا جديدا في الحياة . عراق يهتم بتربية الأطفال العراقيين قبل أي شيء آخر .. ويغرس فيهم قيم هذا " المشروع " ، لا أية قيم أخرى تتقدمه .. عراق يسود فيه القانون ويبتعد رويدا رويدا عن شريعة الغاب وعن كل ما تنفثه من روح الكراهية والأحقاد والثارات .. عراق تتبدى فيه النزاهة في كل من الدولة والمجتمع ، وتنكشف فيه كل الموبقات والسرقات والاختلاسات والرشاوى .. عراق يساهم الجميع في بنائه وإعادة الخدمات إليه ، ويقوم على أسس قوية من البناء الوطني الذي لا يعرف التفرقة ولا الانحيازات ولا التهميشات ولا الإلغاء ولا التزويرات .. خصوصا ، إذا علمنا ، أن العراق يصّنف في مقدمة البلدان التي تغزوها التزويرات وعمليات الغش !

واخيرا .:. دعه يعمل .. دعه يمر
مشروعنا الحضاري يحاول جاهدا أن ينهي العلاقة بين المجتمع وما يسود الأذهان فيه من الخرافات والبدع ، ومحاولة إعادة بناء مجتمع مدني يفكر في حقائق الأشياء ، وبمنطق العقلاء لا السفهاء .. وبفرص الديمقراطية لا بفرض الأمر الاحادي الواقع .. مجتمع مدني تتحقق فيه أفضل العلاقات في كل الوحدات الاجتماعية .. مجتمع مدني ، يراقب عن كثب كل ما يحصل من خروقات للعراق والعراقيين .. مجتمع مدني ، ينبغي على كل العراقيين العمل من اجله طواعية من دون مقابل من اجل العراق والعراقيين .. وهذا ما يستلزم عمله على كل أعضاء البرلمان العراقي الذين ينبغي العمل ليل نهار لتشريع قوانين من اجل مستقبل العراق . على كل العراقيين أن يكون منظارهم للأشياء حضاريا وليس بسياسي .. عليهم أن يدعموا كل من يقدم خدمات حقيقية للبلاد من دون خلق أية عراقيل ضده .. عليهم أن ينسوا صفحات الماضي الصعب ، ويبقوها حية في ذاكرتهم التاريخية فقط من دون أن تشغلهم عن بناء العراق الحضاري مستقبلا .. وبالتالي تقسمهم وتضعفهم . عليهم أن يدعوا كل من يعمل ويفني نفسه يمر .. بشرط أن يوقفوا كل الذين لا يستحقون مواقعهم عن العمل . فهل ستثمر جهودهم مع تداول الأيام ؟ وهل سيخرج العراق من عنق التاريخ الصعب قريبا ؟ هل سنشهد تحقيق أحلامنا بالعراق الذي نعشق ونهيم .. هذا ما ستجيب عنه السنوات القادمة .

نشرت في الصباح ، 2 ابريل / نيسان 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com

9
الخروج من عار التخلّف !

أ.د. سيّار الجميل

أسئلة حائرة عن ماهية الثقافة العربية
لما كنت قد نشرت مقالتي الأسبوعية " محاكمة الثقافة العربية: لماذا ؟ " الأسبوع الماضي، فلقد  وردتني رسالة من الأخ عبد القادر بنعثمان ( من تونس ) ، وهو يسجل بعض ملاحظاته وأسئلته التي تبدو بسيطة جدا ، ولكن لها خطورتها ، إن كانت معبّرة عن لا وعي جمعي في تفكيرنا الراهن . يقول الرجل في رسالته :
 "  سلامي الحار دكتور  .. لقد دافعتَ بقوة عن الثقافة العربية   ، وهو أمر محمود حين تكون الغاية منه البحث عن صيغ تطوير وجودنا في الحياة والكون  ...  ويكون الغرض منها الدعوة إلى الوجود الفاعل والحضور الإنساني المشرف والرغبة في توديع الحالة الإسلامية الغثائية ( نسبة إلى غثاء السيل) . أما إذا كان بغاية تعظيم هذه الثقافة ، وإعلاء كلمتها وسلطانها ، ودعم هيمنتها على الخصوصيات الوطنية المكونة للثقافة الإسلامية ، فهذا فعلا يجب أن يحاكم ؟ لذلك لنرجو من سيادتكم فقط توضيح ما المقصود بالثقافة العربية ؟ وما منجزاتها ومفاخرها غير النص الشعري وأيام العرب المحمومة وتناحر القبائل وغاراتهم على بعضهم البعض ؟ وما التاريخ الواقعي المعلوم لنشأة هذه الثقافة لا المفترض ؟ وما هو وزنها مقارنة بالثقافات الأخرى التي عاصرتها قبل الإسلام ؟ وهل يمكن أن نتكلم عن ثقافة عربية بعد الرسول الكوني العظيم محمد (ص ) أم نتكلم فقط عن مكون عربي صغير من مكونات الثقافة الإسلامية ؟...مثلا أنا تونسي ، فهل أعتبر تاريخ جدودي في انجاز "الحنايا " قبل الإسلام داخلا في الثقافة العربية ؟ وهل اعتبر بطولات حنبعل و ذكاء عليسة جزء من الثقافة العربية .. ؟ وهل يتنازل المصري عن منجزات حضارته الفرعونية وتاريخه كي يتبنى منجزات ثقافة الصحراء والخيمة والإبل؟ وهل يتنازل الفرنسي المسلم أو الانقليزي والأمريكي عن المنجزات الحضارية العملاقة لقوميته لصالح تبني ثقافة عربية لم تتمكن إلى اليوم من الخروج عقلية داحس والغبراء ؟ هنا أنا أتكلم بدافع الغيرة على وجودنا وليس بدافع التهجم أو التنقيص من قيمة هذه الثقافة وإنما محاولة لإعطائها حجمها الحقيقي كي لا يعمق تعظيمها مزيد المغالطات التاريخية و منع الشعوب والقوميات والثقافات الأخرى من المشاركة معنا في الاستفادة من قيم الإسلام الإنسانية الرائعة التي تنهض على أنه لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى وهو ما يعني إلغاء هذه الثقافة العربية السائدة واستبدالها بالتقوى والقيم الأخلاقية السامية المشتركة بين جميع الديانات السماوية السابقة.
إذن أليس من الأفضل والأحسن اليوم التأسيس لوجود إسلامي جديد من خلال وحدة التنوع والاختلاف لا وحدة القهر القومي وإلغاء الخصوصية الوطنية كي يستمر تفاعل الآخر معنا وخلق الآلية العملية لحوارنا معه واستيعابه وإدماجه في وحدة التنوع والاختلاف في حال مشاركته المحتملة لنا في العقيدة ؟ مع محبتي ودعوتي للنظر في هذه الأسئلة بعين المصلحة المشتركة  ، وتحمّل نقدي وأسئلتي للثقافة العربية من منطلق الدفاع على وجودنا المشترك ومحبتي لقيم الإسلام لا الكره والاستنقاص ( انتهى نص الرسالة ) .

أجوبة للتخلص من عار التخلف
1/ حقا ، سعدت بهذه الأسئلة ، أو غيرها التي سمعتها من بعض الأصدقاء .. وكم كنت أتمنى من صميم القلب ، أن يلّم كل السائلين بالموضوع من خلال قراءاتهم سواء بالعربية ، أو الاستشراقية الممتازة التي صرف بعض أصحابها أعمارهم بالتحقيقات والتدقيقات كي يمدّوا الثقافة الإنسانية بما قد احتوت عليه الثقافة العربية من علوم وآداب وفنون .. أي ما اكتنزت به من المعرفة النادرة .. كنت أود أن يتسّع الوعي بأهمية الثقافة العربية معرفيا ، لا أن يؤخذ المصطلح مؤدلجا ، كما هو رائج ومبتذل من قبل الإعلاميين والساسة الذين أفرغوه من محتواه ، والصقوه بالقومية تارة ، أو بالإيديولوجية تارة أخرى .. أو حتى بالسلطات ، أو الدين عندما غدت الثقافة العربية بكل عناصرها ومكتنزاتها ، مجرد عناوين لمنظمات ومراكز وجمعيات واتحادات تنفق عليها السلطات ، كي تصبح الثقافة العربية في رعاية أنظمة شمولية ، أو أمزجة دوغمائية ، أو أحزاب شوفينية ، أو سلطات ثيوقراطية ، أو قوى طفيلية !
2/ الثقافة العربية ، ببساطة هي كل ما أنتجه العقل العربي منذ آلاف السنين حتى اليوم من إبداعات ، ونصوص ، وعلوم ، وخطط ، ورسوم ، وفنون ، ونظريات ، وتراجم ، وسير ، وأخبار ، وأشعار ، وموسيقى ، وكتابات ، وخطابات ، ومقامات ، ومقول قول ، وأنظمة تعليم ، ومدارس ، ومناهج ، وفولكلوريات ، وأزياء ، وأساليب حياة .. منها المنقطع ومنها المتوارث .. في مخزون اجتماعي يتعامل مع عناصره بمشتركات عدة أهمها ( اللغة ) .. ولم يكن ذلك " المخزون " حكرا على دين معين ، فلقد اشترك في صناعة كل هذا المنتج وتطويره ، يهود ومسيحيون ومسلمون وغيرهم .. بل نجد أن أناسا من قوميات أخرى قد ساهمت في اغناء الثقافة العربية .
3/ وهل تنحصر منجزاتها بالشعر يا ترى كم يتصور البعض ؟ وكأنهم هنا ، يقولون ، أن الثقافة العربية لا يعرف أصحابها الا الشعر ؟ وان المثقف هو من يكتب قصيدة شعر ! وهذه رؤية قاصرة ، فالمتنبي من أركان الثقافة العربية ، ولكن يقابله ابن خلدون مؤسسا لعلم الاجتماع ،  وابن رشد وابن طفيل في الفلسفة ، والفارابي في إحصاء العلوم ، والخوارزمي في الرياضيات ، والكندي في جغرافية الأرض ، وابن بطوطة في الرحلة ، والجاحظ في تطور الحيوان ، والغزالي في التربية ، وسيبويه في النحو ، والجرجاني في النقد ، والطبري في التاريخ .. وغيرهم من العمالقة الذين اغنوا الثقافة البشرية ، ناهيكم عن اكتناز الثقافة العربية بترجمة السريان العراقيين لفلسفات الإغريق .. إن كل محترف ومبدع في علمه وأدبه وفنه هو مساهم في بنية الثقافة العربية مهما كان جنسه ، أو دينه ، أو لونه ، أو عرقه .. وهنا ينبغي أن نفّكر قليلا في جملة هائلة من المثقفين العظام الذين خدموا الثقافة العربية ولم يكونوا لا بعرب ، وبعضهم ما كانوا بمسلمين أيضا .. وقد صرفوا أعمارهم واحرقوا سنوات عمرهم في إثراء الثقافة العربية .. نسأل ابن المقفع ، وهو فارسي عن إبداعاته العربية .. نسأل حنين بن اسحق وهو سرياني عن ترجماته الكبرى إلى العربية ؟ نسأل الهلال الصابي وهو مندائي عن خدماته العربية .. نسأل موسى بن ميمون وهو قاضي وفيلسوف يهودي يمني عن فكره بالعربية.. نسأل ابن سينا ، وهو من أبناء الشرق عن تآليفه في الطب والفلسفة بالعربية .. وغيرهم كثير حتى يومنا هذا .
4/ ليدرك كل من يقف خصما للثقافة العربية إنها ليست ـ كما يصفونها ـ  " أيام العرب المحمومة وتناحر القبائل وغاراتهم على بعضهم البعض " ، إذ لابد من التمييز بين الحضر في المدن ، وبين البدو في الصحراء منذ ألفي سنة .. ينبغي التمييز بين أساليب القبائل ، وأساليب سلالات المدن . إن ثقافات المدن العربية كانت بحورا من الإبداعات التي لم نجد مثلها في لغات أخرى !
أما الواقعي لا المفترض في تاريخ هذه " الثقافة " ، فهذا ما أوضحته حفريات عدد من كبار المؤرخين العرب والمستشرقين .. في أعماق التاريخ ، كي يجدوا آثارا معبّرة وقديمة سواء في مملكة عربايا ، أو المناذرة في العراق ، أو الغساسنة في بلاد الشام ، أو مأرب ومعين وحمير في اليمن .. وإبداعات العرب العمالقة وما كان لديهم من علوم وهندسة بناء وفنون وأساليب ري وقصائد شعر .. فالحطيئة الأكبر قديم جدا في قول الشعر العربي يسبق الإسلام بمئات السنين .. أما وزن الثقافة العربية مقارنة بالثقافات الأخرى ، فهو ثقيل جدا ، ليس لأنها كانت تضاهي الإغريق ، أو الفرس ، أو الرومان .. بل لأن الثقافات الأخرى انقطعت عن عطائها ، وافتقدت حتى لغاتها القديمة .. في حين كانت الثقافة العربية مستمرة منذ قبل الإسلام ، ومرورا به ، وانتهاء بعصر النهضة التي نعيش زمنه الآن . والثقافة العربية ليست مكّون عربي صغير من مكونات الثقافة الإسلامية بعد الرسول الكوني .. فهي التي أسست للإسلام لغة وخطابا ، وهي التي سحبت إليها كل ثقافات الشعوب لتكون الأخيرة في رعايتها .. وهي التي انضم إليها الناس كي يتعاملوا معها في إنتاج معطياتهم .. وغدت الشعوب غير العربية منضوية طوعا في بنية الثقافة العربية .. فتجد حتى أسماءهم عربية وتجد حتى رسائلهم بالعربية ..
5/ أما المناطق والبلاد التي شملتها الثقافة العربية ، بحكم الوجود العربي ، من خلال انتشار الإسلام بوسائل مختلفة ، فلا يمكن اعتبار مواريثها القديمة عربية بأي حال من الأحوال ، فثمة منتجات ثقافية قديمة غير عربية .. هي اليوم مجرد آثار ورموز تجدها في متاحف أو في مناطق أثرية وما أكثرها في بلداننا العربية .. إنني أسأل : بأي ثقافة يتعامل أبناء كل بلد عربي اليوم ؟ لا استطيع القول بان هناك ثقافة وطنية منفصلة عن ثقافة وطنية أخرى في بلد آخر .. إننا نكون نضحك على أنفسنا ، ونعطي الأمثلة الفاضحة للعالم كي يستهزئ بنا إن أنكرنا وجود ثقافة عربية اليوم مهما كان تهرؤها ، ولكن ما دام التونسي يسمع ويطرب لمغن لبناني ، أو عراقي ، أو مصري ، فثمة ثقافة مشتركة ! وما دام هناك مكتبات تبيع الكتب العربية التي تقرأ معا في كل مجتمعاتنا العربية ، فثمة ثقافة مشتركة ! وما دام هناك لغة شعرية بين أبي القاسم الشابي والسياب ودرويش ونزار .. فثمة ثقافة مشتركة !
6/ هذه حقائق دامغة ، وليست ثقافة الإبل والخيمة والصحراء ! إن آلافا من ابرع المثقفين العرب من مبدعين ومحترفين ومختصين ينتشرون في هذا العالم ، ليس لأن ثمة عيوب في تربيتهم ، أو تكوينهم ، أو محصلة ثقافتهم ، بل بسبب القمع والسياسات الجائرة التي تثوي عليه بلداننا .. فالمشكلة ليست تبسيطية ساذجة كون ما نحمله ثقافة خيمة وابل وصحراء ، بل إنها معقدة بغيبوبة الوعي حول ماهية ثقافتنا العربية .. ولا ادري لماذا ينفر أبناؤها منها ، ويريدون أن يجدوا في ما يسمونه بثقافتهم الوطنية جذورا يجدونها في آثارهم القديمة من دون أي دراية بحجم الانقطاعات الزمنية والموضوعية التي تفصلهم عن تلك المنتجات ! إن مجرد إنكار الثقافة العربية هو تشكيل خصومة لا مبرر لها ، لا لشيء الا لكونها (عربية) ، وقد ترسخ في الوعي الباطن لدى البعض وعلى امتداد الخمسين سنة الأخيرة .. أن كل ما هو (عربي) ينبغي أن يقرن بالخيمة والبادية والسيف ، أو يتم الخلط بين داحس والغبراء في السياسة والثقافة معا .. إن من ينظر للثقافة العربية من منظار سياسي لواقع معاصر ، فسيجدها ثقافة قطع رقاب ، وقص أطراف ، ورمي أحذية.. الخ  أما من يتمتع برؤية بعيدة عنها ، فسيجدها ثقافة معرفية وأدبية وفنية عالية المستوى من الناحية الإنسانية .   

وأخيرا : أقوى التحديات
واكرر للمرة الألف، أن الثقافة العربية العريقة هي ليست القومية العربية. إن التعمية تتم عن قصد ، أو بلا قصد عن ابرع ما أفادت الثقافة العربية به الإنسانية بأكملها . لقد وصلت حالة الانفصام لدى البعض، أن يجعل الثقافة العربية ثقافة إرهابية، ويريد تسويقها على العالم كله .
إن من اكبر التحديات التي تعاني منها الثقافة العربية المستنيرة ، غلبة البداوة عليها ، وإغراقها بالمتخلفين والجهلة والطفيليين الذين تكاثروا في العقود الأخيرة من السنين بفعل تدفق الثروات النفطية على بيئات عربية ابتذلت فيها الثقافة ، وضربت فيها الاستنارة الحقيقية ضربات قوية .. وكانت الهجمة الإعلامية على الثقافة والمثقفين الحقيقيين ، فتآكلوا يوما بعد آخر .. ناهيكم عن الحرب التي أعلنتها الأنظمة السياسية العربية المختلفة مع كل القوى الأصولية والمتعصبة ضد اغلب المثقفين المستنيرين الذين تضاءل عددهم ، وانكمش دورهم .. وهاجر العديد منهم إلى ما وراء البحار .. علينا اليوم أن لا ننكر عن قصد ، أو من دون قصد ما قدمته خيرة نخب المثقفين العرب من إبداعات ، وتشكيل ، وموسيقى ، وفن ، وشعر ، ورواية ، وصحافة ، وعمالقة لغة .. الخ من رجال نهضة حقيقية دمرتهم سياسات السلطات والأحزاب الأحادية والقوى المتعصبة والزعماء الرعناء .. وللحديث بقية ..

تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل  بتاريخ 30 آذار / مارس 2009
www.sayyaraljamil.com


10
على ورق الورد


سنوات التكفير..بعد سنوات التخوين
لأسباب سياسية فاضحة !

أ.د. سيّار الجَميل


إن من يؤمن بالديمقراطية الحقيقية والحريات الأساسية كاملة ، ينبغي أن يكون مستنيرا ، يؤمن بالتغيير الدائم من اجل التقدم ، وله الحق أن يعترض على كل ما يعيق الدرب نحو المستقبل ، وما ينافي الوطنية والإنسانية والأخلاق.. ، ومن الاستنارة ، احترام فكر الآخر والدفاع عنه حتى وان اختلفنا معه . إن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه علينا دوما: هل يمكننا أن نتشدق بالديمقراطية ، والشفافية ، واحترام الرأي الآخر .. ولم يزل الصراع يتفاقم ضد المستنيرين ؟ بل ويريدون نفيهم وإقصائهم باتهامهم بشتى التهم ، أو بتجريح سيرهم الذاتية ؟؟ لقد كانت ثمة أساليب متوارثة في مجتمعاتنا ، تراعي حرمة الآخر ولا تقبل بالاهانة وتكبيل الإرادة ، بل كانت التعايشات واضحة ليس بين الناس العاديين حسب ، بل حتى بين المثقفين والسياسيين إبان مراحل التكوين الوطني في النصف الأول من القرن العشرين .. ولكن شهدت ثقافتنا العربية على امتداد خمسين سنة مضت  أسوأ ما يحدث من طغيان ثقافة الاهانة للمستنيرين ، فمن لم يقو عليهم يحاول اهانتهم بشتى الطرق ، أو أن يسيء إليهم بشتى الطرق .. ربما لا يستطيع أي شخص مقابلة الحجة بالحجة ، ولكنه لم يتعود أبدا على قبول الآخر مهما كان أفكاره . لقد نجح الإعلام العربي ، المسموع والمرئي في تهميش المستنيرين الحقيقيين ، ونشر ثقافة الإلغاء والكراهية .
واسأل : كيف ينبش البعض في الماضي لإشعال نار التناحر والتباغض من جديد ؟ وإذا كانت الثقافة العربية لم تزل أحادية الطابع ، وأنها لا تريد تأسيس أي تجسير بين الآباء والأبناء ، أو أي انفتاح حقيقي على الآخرين ..  فماذا نسّمي أولئك الذين انتشروا اليوم في اغلب مجتمعاتنا ، وهم يريدون استئصال حياة من يختلف معهم ؟ بل ووصلت الأحوال في بلدين عربيين كانا يعجان بالمستنيرين : الجزائر ، أو العراق إلى أن يكون الدين مرجعية لقطع الرؤوس ، من دون أن يغدو الدين عندهم أداة أخلاقية عليا ودعوة تعايش وتسامح بين أبناء البلد الواحد ؟
 إن المدهش في الكثير من مجتمعاتنا ، أنها كبلت نفسها باعتقالها الوعي وارتدادها عن كل قيم الانسجام ، وأنها غدت لا تدرك من الدين إلا جعله طريقا للعنف ، وأسلوبا للقتل ، وعدم الاعتراف بالآخرين من المستنيرين ! إن ثقافة التكفير منذ ثلاثين سنة بالضبط ، والمنتشرة في عموم مجتمعاتنا ، قد أعقبت ثقافة التخوين التي عاشت قرابة ثلاثين سنة أيضا في مجتمعاتنا ، وخصوصا إبان مرحلة الانقلابات العسكرية والمد القومي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية .. وان كلا من هاتين الثقافتين تلغي وجودك لأسباب سياسية فاضحة .
  إن المستنيرين فقط هم الذين يدفعون الإثمان الباهضة ، وان المستنير دوما ما يتهم بـ " التغريب " . إن النغمة الشائعة التي آذت واقعنا ، وأضرّت بمصيرنا ، هي التي تتهّم كل من يريد الإصلاح والتغيير نحو الأفضل بتهمة الإعجاب بالغرب والانبهار بتقاليده .. وهي تهمة ساذجة وكافية لسحب البساط من تحت أرجل كل المستنيرين الذين يؤمنون بأن الحياة المدنية هي التي ستنقذ مجتمعاتنا من ورطاتها التي وقعت فيها منذ نصف قرن من الزمن الثوري ، أو الزمن الصحوي ! إن المستنيرين قد جعلوا مجردين من أصالتهم في أعين الناس ، أو أنهم غير ملتصقين بواقعهم ، وأشيع عنهم أن همومهم ليست مع هموم الناس ، وللأسف الشديد ، لم يستطع أي مستنير ، أن يرد على ما يناله من كراهية بفعل هروب عدد كبير من هؤلاء وترك الميادين إلى الأميين والمتكلسين الظلاميين الذين انتشروا بشكل مفجع تحت شعارات وواجهات (المقدس ) دوما ، بل وحملوا هم أنفسهم صفة القداسة .. فغدت لهم سلطات قوية في مجتمعاتنا ، ربما بعضها أصبح قويا بحيث تخشى منهم حتى السلطات السياسية في الدولة! وساد التفكير المغلق ، والرؤية الضيقة للحياة والآخر .. رفقة حزمة هائلة من التقاليد السلبية البالية التي لا يمكنها أن تستقم أبدا مع ركائز الحياة المدنية الحديثة .. وهذا اخطر ما ستواجهه أجيال المستقبل .
 إن أشرس حملة يتعّرض لها التفكير المدني في مجتمعاتنا من قبل السدنة الذين تكاثروا بشكل يثير الشبهات ،  إنهم لا يأتون بأية اجتهادات أو خطط ومشروعات معاصرة ، كونهم لا يؤمنون أصلا بالحياة المدنية ولا بالإصلاح ولا بالتحديث ، ولا بالتغيير ، فالاستنارة عندهم  خطر على المجتمع ، بل استطيع القول أن مجتمعاتنا ـ ويا للأسف الشديد ـ عاشت منذ خمسين سنة علي مقولة خطيرة مشاعة ، تختزل  بـ " جاهلية القرن العشرين " ، في حين كان القرن الماضي حصيلة مثمرة لكل تقدّم الإنسان ، واستكشافاته ، واختراعاته ، وإبداعاته ، ونظمه ، وقوانينه وأساليب حياته المعقدة الجديدة بعيدا عن شرور كل الحروب ومآسيها تلك التي صنعتها السياسات والمصالح التي وقفت بالضد منها كل تطلعات الشعوب وطموحاتها في الحرية والسلام والتعايش .   
إن إقصاء المستنيرين قد زاد كثيرا اليوم من قبل خصومهم الذين ازدادوا بشكل مفجع ، وتجد خصومهم لا يؤمنون حتى بالاعتدال والوسطية ! تجدهم على شاشات التلفزيون ، يحللون ويحرمون ، يهاجمون ويكفّرون باسم الدين ، يخاصمون ويختصمون .. يقاتلون ويقتلون ، يحلمون ويفسرون من دون أن يكونوا متمرسين بعلوم الدين أبدا.. فما الذنب المرتكب إذا وصف هؤلاء بأوصاف عادية وما شأنهم بمجتمعاتنا التي هي بأمس الحاجة إلى الوعي بالواقع وتشكيل الرؤية نحو المستقبل ؟ ما الذي يمكنهم أن يقدمونه إلى الحياة العامة حتى نجعلهم أوصياء عليه ؟ إن انقسامات مجتمعاتنا اليوم هي سياسية بالدرجة الأولى ، وان من لم يجد أية أدوات ووسائل متمدنة تتوافق مع طبيعة هذا العصر ، فهو سيهرب حتما إلى أدوات أخرى تجد سبيلها إلى عقول الناس الذين لا يدركون حتى اليوم منطق الأشياء بفعل تراجع العقل وجمود الوعي .. بل وقد دخلت إلى مجتمعاتنا على امتداد خمسين سنة مضت عناصر جديدة لم تكن موجودة سابقا .
يرتهن التقّدم دوما بالحداثة ، بدءا بحداثة الشكل ومرورا بحداثة المضمون ووصولا إلى الحداثة في العلاقات والتصرفات والتفكير والإنتاج .. علما بأن ذلك " التقدّم " لا ينفي البتة كل رائع وجميل ومخّلد من الأعراف الإنسانية الخيرة في مجتمعاتنا ، وحسن علاقاتنا مع بعضنا البعض ، وقوة أساليب تعايشاتنا وكل ايجابيات موروثاتنا الرائعة .. لقد افتقدت مجتمعاتنا اغلب الموروثات الجميلة ، ونجحت في نفيها مع ازدياد التطرف واستقطاب الانقسامات بسبب نفي الآخر .. تخوينه أو تكفيره على أتفه الأشياء ! لقد انحسرت العديد من العادات والتقاليد المتمدنة اليوم في مجتمعاتنا باختلاط الأمور، واضمحلال الحياة، وانخفاض مستويات المعيشة، وانتشار الفقر والبطالة، وقبح السكن، وسوء سياسات الحكومات ، وبلادة الأنظمة السياسية بعدم الاهتمام بالإنسان والمجتمع .. إنني مؤمن إيمانا حقيقيا بأن مجتمعاتنا من الصعب تغييرها اليوم ، أو إحداث أي ثورة مدنية في تقاليدها الصعبة نحو الأفضل .. فهي تعتقد اعتقادا راسخا ، أن مجرد أخذها بالتغيير ، فسيفقدها التغيير أخلاقياتها ويلحقها بالغرب وهي شديدة الكره للغرب ! وربما كانت الأجيال السابقة تتقبل هذا " المفهوم " كونها مؤمنة بالتغيير وبناء المستقبل .. ولكن الجيل الجديد لم يعد يتقّبل أبدا مثل هذا المفهوم ، كونه يترّبي اليوم علي تقاليد بالية ، وتقترن الحداثة عنده بالتغريب ، ومثل هذا " التفكير " جناية بحد ذاته بحق مصيرنا . دعونا نعالج في حلقات قادمة على ورق الورد ، جملة من الأفكار التي ازعم أنها جديدة ، كي تساعدنا في الخروج من اختناقات هذا الواقع الصعب الذي خلقته إخفاقات سياسية عمرها نصف قرن من الزمن الصعب .

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 29 مارس 2009 ، وتنشر ايضا على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com


11
ثلاث استراتيجيات قوية والرابعة غائبة !

أ.د. سّيار الجميل

حجم المتغيرات في الشرق الاوسط
في سيمنار علمي بمنظمة السلام العالمي ودائرة المستقبل بهيئة الدراسات العليا بجامعة فيكتوريا التي عقدت أعمالها في الماريوت تورنتو قبل أيام .. تجاذبنا أطراف الحديث عن العالم ، ومتغيراته الصعبة ، والسريعة ، والمذهلة ، وأخذنا الحديث عن الشرق الأوسط اليوم ، وما يعيشه من إخفاقات جراء الواقع المتأخر بكل عوامله ، وجراء التدخلات الأجنبية ، وجراء التنازع الإقليمي بين القوى المختلفة .. إذ يعد الشرق الأوسط ، مربعا للازمات ، كونه أحد أهم المجالات الحيوية في العالم .. واغلب شعوب العالم ، قد أدركت بنا لا يقبل مجالا للشك ، حجم تأثيرات الاستقطاب العالمي على منطقتنا كلها ، إذ غدت " السيطرة " التي انتقلت بالولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية من صراع سياسي ( امبريالي ) في النفوذ ، والهيمنة ، والمصالح إلى صراع اقتصادي ( كابيتالي ) في النفوذ ، والسيطرة على المصالح . ولكن الشرق الأوسط برمته ، قلما يفكّر بحجم ما حدث من متغيرات في الخمس والعشرين سنة الأخيرة .. بعد أن كان قد أضاع فرصا ثمينة قبل ثلاثين سنة للانشغال بالحرب الباردة ، أو أن يكون جزءا تابعا أو ذيلا أو بيدقا في اللعبة الكبرى .. صحيح ، أن العالم دخل مرحلة جديدة مع انطلاق ظاهرة العولمة التي لا يقف أمامها أي حاجز ، ولا تهتم لأي مبدأ سياسي ، أو وطني ، أو قومي ، أو أممي ، أو أيديولوجي ، أو عقائدي ديني ، أو حتى مثالي أخلاقي .. إنها ظاهرة العصر التي تسود العالم اليوم بلا منازع !

العرب في الميدان بلا اية استراتيجية اقليمية
إن الشرق الأوسط ، اليوم ، تحكمه معادلة غير مستقيمة ، نظرا لوجود ثلاث استراتيجيات قوية وفاعلة في المنطقة مع انعدام أي إستراتيجية عربية ، والاستراتيجيات الثلاث ، هي : الإيرانية ، والتركية ، والإسرائيلية .. وهي التي نعلمها ، وكما تتضح فكريا وإيديولوجيا وسياسيا وإعلاميا على الملأ كله .. في حين اخفق العرب من خلال منظومتهم القديمة المسماة بـ ( جامعة الدول العربية ) بخلق أي حالة من الاتفاق والتوازن والتعايش لفهم متغيرات العالم اولا ، والادراك المتبادل للاستراتيجيات الإقليمية الثلاث .. هذا إذا اقتنعنا أن العرب غير قادرين على صنع إستراتيجية إقليمية لهم ، وهم مكّون أساسي من مكونات المعادلة الإقليمية للشرق الأوسط برمته . دعونا الآن نتساءل عما يدور في الأروقة السياسية العربية :
إن اغلب تصريحات المسؤولين العرب تصريحات غير مسؤولة ، بل وغير واقعية أيضا ! فهل العرب بحاجة إلى إذابة الجليد في ما بينهم ـ كما يصّرح أحد وزراء الخارجية العرب ـ ؟؟ في حين ان الواقع ، يؤكد ان بينهم صحاري محرقة وعلاقات ساخنة منذ خمسين سنة ؟ هل نجحوا يوما بصنع إستراتيجية متفوقة على المستوى الإقليمي ، يمكنهم أن يشاركوا من خلالها الآخرون ؟ وهنا لا اقصد اتفاقاتهم الآنية لظروف خاصة سرعان ما تبطل ، كما هو حال اتفاقاتهم الدفاعية أو الحربية المشتركة ـ كالتي كانت في حربي 1967 و 1973 ! أو تلك التي عبرّت عنها مشروعاتهم الوحدوية ، أو مجالسهم العربية ، أو قممهم الزعاماتية !  ! وبالرغم من كونهم لا يدركون أين هي معادلة الشرق الأوسط  اليوم ، فهم لا يفقهون أين هي متغيرات المنطقة ، ليس الدولية ، ولكن الإقليمية أيضا . إنهم يتعاملون مع تركيا وإيران ، وكأن كلا من الدولتين دولة عادية من دون أي إدراك بثقل كلتيهما في معادلة الشرق الأوسط . إن ما يسمى بالمصالحات العربية وتبادل الابتسامات والزيارات والكلام المعسول سوف لا يدشّن ـ كما يقولون ـ حقبة جديدة من العلاقات غير المتشنجة بين دولتين عربيتين أو أكثر ! كما يصّرح ذلك بعض المسؤولين العرب .

لا مصالحة من دون إستراتيجية متمكنة
لقد قلت في مقال سابق لي عنوانه : " إستراتيجية مصالحة أم ممانعة واعتدال  " : " علينا أن نسأل سؤالا مباشرا وصريحا : هل هناك إرادة جماعية لتأسيس إستراتيجية عربية بعيدا عن أية انقسامات وأجندات ؟ هل اقتنعنا بأن مصيرنا محكم بشراكة أساسية لصنع تاريخ جديد ؟ هل صعَدَ المعتدلون نحو مطالب الممانعين ؟ وهل نزِل الممانعون إلى ما يؤمن به أصحاب الاعتدال ؟ هل كان مجئ اوباما سببا في مصالحات شكلية ؟ لقد تابعت موضوع المصالحة العربية ، فلم أجده يشغل حيزا من اهتمام الصحافة الغربية! إذ يبدو حتى الآن بأنها مصالحة داخلية غير مقنعة.. وسواء كانت بإرادة داخلية ، أم بمباركة خارجية ، فان أهم ما يمكن الاستفسار عنه : هل أنها تعّبر عن مصالح سياسية محلية خاصة بهذا البلد أو ذاك ، أم أنها تشكّل إرادة إستراتيجية في موافقة كل من التيارين المنقسمين المتباعدين والمتنافرين على صفحة مبادئ وثوابت مشتركة ؟ إن تاريخنا المعاصر حافل بالتنافرات والمقاربات .. بالانقسامات والمصالحات حتى دعيت مرحلة كاملة بـ " الحرب العربية الباردة " في الأدبيات الغربية وخصوصا تلك التي شهدها العرب إبان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي " ( البيان الاماراتية ، 11 مارس 2009     ) هنا علينا أن ندرك بأن ليس من السهولة أبدا إزالة الأدران المكنونة بين الدول العربية ، إذ قرأت بأن دولا مثل مصر والمغرب وربما السعودية ستغيب عن قمة الدوحة نهاية هذا الشهر في حال مشاركة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد الذي كان قد شارك في قمة الدوحة السابقة ، ولا يعرف أن كان سيشارك في هذه القمة أم لا ؟
مأزق جامعة الدول العربية ؟
أما جامعة الدول العربية ، فهي دوما في مأزق كبير لا تعرف كيف تتصرف وسط هذه المعادلة الصعبة ، حتى سمعنا قبل أيام عن تصريح لأمينها العام بالعجز بعد سنوات من التنطع والتغيير !  وهذا ما كنت قد نبّهت إليه قبل سنوات طوال .. ولم تنفع كل محاولاتها إنقاذ نفسها ، فهي اليوم عاجزة عن صنع أي إستراتيجية عربية مشتركة ، تنقذ ما يمكن إنقاذه من تدهور الاوضاع العربية أولا ، وهي غير قادرة عن فهم الأجندة الإيرانية التي علينا أن نعترف بقوتها الشديدة في مختلف شؤون الشرق الأوسط ، وتصل إلى أعماق بلاد المغرب ثانيا ، وهي  ـ أيضا ـ كما توضح اعجز من الإرادة التركية التي توضح كم لها من إمكانات قوية في اللعب بإحداث الشرق الأوسط حتى على مستوى الانهزام أمام خطاب اردوغان ثالثا .. وان إسرائيل هي الوحيدة التي تدرك كم هو وزن كل  من تركيا وإيران في تحديد صورة الشرق الأوسط ، والتي لا يدركها العرب رابعا  .
المشكلة التي لم يستطع احد  فك ألغازها هي أن لإيران إستراتيجية قوية لا يمكن التعامل معها باستهانة ، أو تجاهل ، أو تقليل من شأنها .. وحين نسمع ما أجاب عليه الأخ عمرو موسى عندما قيل له حول حضور إيران لقمة الدوحة ، قال نصا : " لسنا في احتفالية .. ! واعتقد أن لن يكون هناك حضور غير عربي سوى للمنظمات الدولية والإقليمية " ! هذا ليس جوابا واقعيا يدرك ما للشرق الأوسط من متغيرات جديدة ؟ بل ما للمنظومة العربية من متغيرات إقليمية ؟ إن إيران أقوى بتدخلاتها في الشؤون الأوسطية من تركيا ، ولكنني اعتقد أن الدور التركي سيتفاعل يوما بعد آخر للإسراع بالمتغيرات التي لم يدركها العرب حتى الآن ، فكيف سيكون للعرب إستراتيجية يمكنهم أن لا يستخفوا بالمصير ، كما هو واضح اليوم . إن مشاركة إيران وتركيا في المعادلة أصبحت واقعا كائنا من دون أن نتغابى عن ذلك ، أو أن نصف ذلك انه مجرد احتفالية ! إن كلا من تركيا وإيران لا تلعبان أبدا . إن لكليهما أجندة واضحة ومكشوفة وصريحة لدوريهما في عموم الشرق الأوسط . 
واخيرا : مشاكل وادوار اكبر من حجم العرب !
إنني دوما أقول بأن المشكلة ليست تافهة حتى نعالجها بسذاجة .. إننا بحاجة إلى اكبر من تنقية الأجواء العربية ، أو من خلال المساومة على مشاركة هذا ، أو عدم حضور ذاك .. إن المشكلة اكبر مما نتخيلها نحن العرب .. إنها مشكلة انعدام أية إستراتيجية عربية مشتركة .. إنها مشكلة انعدام الاعتراف بالأدوار التي يقوم بها الآخرون .. إنها مشكلة لا تخصنا وحدنا ، واليوم لا تعتبر قضايا الشرق الأوسط هي قضايانا وحدنا فقط .. إنها مشكلة العجز عن التعبير العربي الموحد للحد الأدنى من الاتفاق .. إنها مشكلة الانزواء والهروب ، وليس المشاركة والحوار الند للند .. إنها مشكلة الاعتماد على دول كبرى في مسائل إقليمية يمكن الوصول إلى حلول واقعية لها إقليميا في مخاطبة العالم .. على العرب أن لا يندهشوا من حالة الغزل الأمريكي الإيراني الجديدة التي عبر عنها اوباما بتهنئته إيران بعيد النوروز القومي وباللغة الفارسية وهو يستشهد ببيت شعر للشاعر الفارسي الكبير سعدي الشيرازي حول التجمع الإنساني لبني آدم على الأرض ! إن العرب لا يدركون أن هي حساباتهم ، وهم منشغلون بخلافاتهم أولا ، وقد قضّت مضجعهم التوغلات الإيرانية في شؤونهم ثانيا .. ربما لا تحضر إيران مؤتمر الدوحة ، ولكن علينا أن نعترف أن إيران تخترق المنطقة ، وان لها حضورا كبيرا على كل مساحة ما كان يسمى بـ " العالم العربي " !
نشرت في ايلاف ، 27 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com




12
تركيا:  دخول التاريخ من جديد !
أ.د. سيّار الجميل
تركيا اليوم هي الاستثناء في العالم الإسلامي.. إنها الولادة الشرعية للمبادئ الكمالية الستة، وهي وريثة الإرث العثماني الإمبراطوري.. إنها الحالة الوسيطة في توازن الدين والدنيا، وأنها ماسكة العصا من الوسط بين ماضيها ومعاصرتها .. من لم يقرأ التاريخ العثماني على مهل شديد ، ويفكر في بنيوياته وتشكيلاته ، سينبهر حتما جراء هذا الاستثناء الذي يمتد طويلا في العمق ، فالدولة العثمانية هي صبغة عجيبة من تراث الإسلام الخصب ، ومن تقاليد أوروبا الإمبراطورية ! وعليه ، فإننا لا نجد أي أزمة للهوية في تركيا المعاصرة ، كونها بلاد علمانية بأثواب إسلامية .. وكثيرا ما يندهش كثير من المسلمين من تجربة  أتاتورك ، ويلومونها كونها تجربة علمانية ، ولم يعرفوا أن ذاك الزعيم نفسه قد أبقى على المدارس الدينية العثمانية في عموم تركيا .. في حين أن دولا عربية شرّعت في دساتيرها أن دين الدولة هو الإسلام ، ولكن ممارساتها علمانية مستترة ! إن تركيا ، دولة واضحة أمام مجتمعها ، منذ إعلان جمهوريتها حتى اليوم ، في حين أن دولا عربية تعيش أزمات ثقة وهوية بينها وبين مجتمعها ، أي باختصار تعيش أزمة أخلاقية على امتداد القرن العشرين وحتى اليوم . وانتقل اهتزاز تلك " الثقة " كي يؤسس عليها جملة كبيرة من التحالفات الداخلية ، أو الإقليمية ، أو الدولية ! 
هكذا ، أصبح  لتركيا خصوصياتها ، واختطت نهجا لها في بناء العلاقات ، أو أن تكون وسيطا في محادثات السلام بين العرب وإسرائيل ، إذ شعر اردوغان وريث اربكان أن له القدرة أن يأخذ دور مصر وسيطا مركزيا في المنطقة .. بل ومنحت خطاباته ضد سلوكيات إسرائيل المتوحشة ضد غزة المجال لأن يسبق بدوره جامعة الدول العربية بقضها وقضيضها ممثلة بأمينها العام الذي شعر بضآلته العربية أمام خروج اردوغان بقامته التركية وخصوصيته الإسلامية .. إن من يقرأ ما نشرته عن العثمانيين منذ عشرين سنة ، سيجدني قلت بخصوصية انفتاح " الإسلام العثماني " على الغرب إزاء انغلاق العالم الإسلامي على نفسه ، واجترار الأخير تقاليده السياسية ، وأفكاره التي كانت ولم تزل تدور على نفسها وقد سحقتها رحى التاريخ !
إن لعب تركيا  لدورها في العالم كضامن للسلام والأمن في المنطقة ، ليس محاولة لاستعادة   مكانتها العثمانية القديمة ، بقدر ما هو تعبير عن نجاح قدرتها ، وإخصاب خصوصيتها ، ومعادلة توازنها بين الشرق والغرب ، أو بين التراث والمعاصرة ، أو بين العلمانية والإسلام .. وهي تمتلك اليوم دروسا عميقة ، أتمنى على تجارب دول وأحزاب أن تحذو حذوها ، بعيدا عن الاتهامات الرخيصة ، وتسويق أدوات التكفير الجاهزة .. وهنا لا اقصد العرب وحدهم ، بل الباكستان وإيران كقوتين إسلاميتين ، لهما نهجهما المتباين في تسويق بضاعتهما في الإسلام السياسي  ، ولكن من منطلقات قومية تارة ، وطائفية تارة أخرى !
إن دور تركيا اليوم ليس هامشيا أو تابعا .. صحيح أنها عضوا في حلف الأطلسي، ولكن لها القدرة على صناعة إرادتها بنفسها بسبب مكانتها القوية في المنطقة ، وإستراتيجية جغرافيتها ، فضلا عن امتلاكها جيشا كبيرا .. وبالرغم من هواجسها الشديدة بصدد التطلعات النووية الإيرانية ، لكنها وإيران ترتبطان بعلاقات قوية اقتصاديا وسياسيا .. كما أن لتركيا القدرة على بناء جسور قوية مع مصر والباكستان والسعودية وبعض دول الخليج . أما علاقاتها بكل من العراق وسوريا ، فثمة مشكلات بين هذه الدول المتشاطئة على مياه دجلة والفرات أولا ، وأيضا حول التطلعات الكردية وانطلاق العنف  ثانيا .. ولإيران شراكة إقليمية كرابع دولة تقف ضد تأسيس وطن قومي للأكراد الذين وقعوا  منغلقين بين ثلاث قوى إقليمية كبيرة : تركيا وإيران والعرب !
 يسعى المسؤولون الأتراك اليوم  لحل كل مشكلات الماضي مع الأرمن من اجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويعتقد الأتراك أن انضمامهم للأوربيين سيساعد العالم الإسلامي في الخلاص من بعض مشكلاته وتوتراته . ومن اجل تأسيس للتوازن التركي بين أوروبا وآسيا ، فان ثمة مساعي لتجديد الأسس الكمالية القائمة على " الأمن في الداخل .. الأمن في الخارج " والانتقال من إيديولوجية " التغريب " التي سادت في القرن العشرين إلى تشكيل لـ " التوازن " ، بحيث يعاد النظر اليوم على أيدي المسؤولين الأتراك الجدد إلى توظيف تركيا كي تكون جسرا بين قارتين .. أي استعادة ارث عثماني كان قد جمده أتاتورك وخلفائه إبان القرن العشرين ، وهذا ما ألمحت إليه في كتابي ( العرب والأتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة ، بيروت 1997 ) ، وسيعمل على مقاربة جيو تاريخية حقيقية بين عالمين اثنين ، واعتقد أن تركيا ستنجح في مراميها الجديدة ، ما دامت تنتهج سياسات مرنة باتجاه الطرفين من دون أية تعصبات ، أو انتهاج أية سياسات متطرفة . وعلى المستوى الداخلي ، اثبت الأتراك أن الإسلام المتجدد له القدرة على التعايش مع الديمقراطية والحداثة بلا أية خيانة لا للإرث الديني من طرف ، ولا للمبادئ الكمالية من طرف آخر .. إن تركيا تسعى اليوم لتشكيل خصوصية معاصرة لم يسبقها الآخرون إليها من قبل في الشرق الأوسط . إنها تستثمر كماليتها وعثمانيتها في تأسيس ما يسمى بـ " تحالف المحيط " ليس هروبا من التاريخ ، بل محاولة منها لقيادة الدخول إليه من جديد .. فهل ستنجح في إستراتيجيتها هذه المرة . هذا ما سيعلمه أبناء الجيل القادم بعد رحيلنا ، اثر تسنمّه مقاليد حياة الشرق الأوسط .

البيان الإماراتية ، 25 مارس / آذار 2009 

وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

13
محاكمة الثقافة العربية: لماذا ؟

أ.د. سيّار الجميل

 الاستهلال : ثقافة مستلبة ومثاقفة الآخرين
دعوني أتساءل: هل يحق لنا أن نتجّرد من ثقافة اسمها " الثقافة العربية " ؟ وهل ثمة أي وجود لها ، بعيدا عن ظاهرة القومية العربية ؟ وهل كانت الثقافة العربية ، كمصطلح ومضامين ، قد ولدت مع ولادة الفكرة القومية ، أم أنها قديمة جدا في التاريخ ؟ وإذا كانت عناصرها الفاعلة والمبدعة والمحترفة ، تجمع مجموعة بشرية تتكلم وتقرأ وتتفاعل مع لغة واحدة ، وتشترك بتاريخ وتراث عميقين جدا .. فهل من حقنا أن نجرّد المجتمعات العربية من ثقافة مشتركة لأسباب سياسية وسايكلوجية وسوسيولوجية تفاقمت اليوم بعد فشل الأفكار القومية فشلا ذريعا على مستوى التنظير أو الممارسات ؟ ثم هل يحّق لنا أن كانت هناك ثمة تجاوزات سلطوية في أنظمتنا العربية لما حملته من تعسفات وظلم وأساليب فاشية على الآخرين في مجتمعاتنا ، ممن لا علاقة لهم بالعرب إلا الشراكة على الأرض والمواطنة ، فهل يحق للجميع أن ينال من الثقافة العربية ، والجميع يتعامل معها تعاملا يوميا ، ولا يمكن التخلي عن مفرداتها كاملة كونها غدت مندمجة بالضرورة في كل أجزاء منظوماتنا الاجتماعية سواء أردنا ذلك أم لم نرد ! إن الثقافة العربية إن كان لها مظاهر علنية يعترف بها الجميع ، ولا يمكن الهروب من أمامها ، إلا أن لها أيضا مقومات خفية لا يمكن إنكارها أبدا . إن ما أجده عند البعض من إنكار وجود الثقافة العربية بالرغم من كل ما يصادفها اليوم من التحديات ، له أسبابه ودواعيه ، فإذا كانت هناك ضآلة لثقافات أخرى في مجتمعاتنا ولمنظومات اجتماعية قديمة هي الأخرى مشاركة لنا في المواطنة والحياة والمصير ، فليس معنى ذلك أن الثقافة العربية هي المسؤولة ، أو أنها تتحمل مسؤولية ضآلة ثقافات الآخرين ! إن دراسات انثربولوجية وتاريخية تنبؤنا بما لا يقبل مجالا للشك أن الثقافات الأخرى التي تعيش معنا لم تجد المقومات التي ساعدتها في أن تنتشر وتتأصل كالثقافة العربية نفسها .. وبالرغم من عراقة وقدم لغات أخرى ـ مثلا ـ كالعبرية والسريانية الآرامية والكردية السورانية والبهدينانية والامازيغية والتركمانية والكاكائية والاذرية والشركسية والسواحيلية والارمنية .. الخ ، الا أنها لم تمتلك المقومات التاريخية على امتداد زمن طويل كي تقف مؤسسة لثقافات كبرى كالتي حظيت بها الثقافة العربية .. بل وان هذه الأخيرة فرضت نفسها على الجميع ليس بحد السيف والدم ، بل بالمشاركة والتعايش .. ولقد وجدت من خلال حياتي في الغرب أن جاليات متعددة لا تعترف أبدا الا بوجود ثقافة أساسية للتعامل بين جاليات الشرق الاوسط ، وهي مضطرة أن تتعامل مع مفرداتها حتى لما وراء البحار ! سألتهم : إذا كنتم لا تطيقون الثقافة العربية ، فلماذا تتعاملون معها ، وانتم في أقصى مكان من الأرض ؟ هربوا من السؤال ولم يجيبوا عليه ! والجواب واضح أن الثقافة العربية ، هي ثقافة كبرى في كل العالم ليس العربي ، بل وحتى الإسلامي في الجنوب والجالياتي في الشمال !

محاكمة الثقافة العربية .. لماذا ؟
ثمة أسئلة أخرى علينا أن نسألها ليس من اجل محاكمة الثقافة العربية نفسها ، وكأنها ثقافة مقصّرة بحق الآخرين ، بل من اجل تطوير الرؤية الإنسانية لها ، أو إعادة الروح الإنسانية لها بعد معاناتها الطويلة من حبسها واضطهادها .. كيف غدت سلاحا بأيدي المتعصبين والمتطرفين ضد الآخرين من أبناء أوطاننا ؟ كيف استخدمت بعض أدواتها للقهر والإمعان في تحجيم الآخرين ؟ لماذا استخدمت أبشع خطاباتها في التبشير بالفاشية القومية ؟ لماذا لم تستخدم صفحاتها الناصعة في أن تكون ثقافة إنسانية ، بدل أن تغدو ثقافة متوحشة على أيدي من لا يعرفون منها إلا مثالب التراث ، وبشاعة بعض ما جرى فيه قديما أو حديثا ؟ هل تمتعت الثقافة العربية يوما على امتداد خمسين سنة مضت من ممارسة الحريات من خلالها ؟ وخصوصا الحريات الفكرية والسياسية والاجتماعية ؟ وإذا تمتعت بنيتها وخطابها بالخصب والثراء .. فما الذي دعاها اليوم أن تختزل بتوافه التعبير ، وسذاجة مقول القول .. وبلادة الممارسات ؟ من يفكر اليوم تفكيرا واعيا بالثقافة العربية كي تكون ثقافة إنسانية تتعايش مع نفسها ، قبل أن تتعايش مع الآخرين ؟ صحيح أنها لم تزل قوية ، ولكنها مفتقدة لمن يطوّر الرؤية من داخلها .. ويدعو إلى إثرائها ثراء إنسانيا .. إنها اليوم تعاني من الانغلاق والتفكير غير المستقبل عن ذاتها .. خلطوها قبل خمسين سنة بالمؤدلجات ، وجعلوها غصبا عنها ( ثقافة قومية ) ، فكان أن افتقدت إنسانيتها .. واليوم سحقوها بالتناقضات ، وجعلوها غصبا عنها ( ثقافة دينية ) ، فكان إن افتقدت عذريتها واستقلاليتها .. وأنكرها الآخرون عندما وجدوها لا تعبر عن ذاتهم وكل خصوصياتهم تعبيرا حرا ، كما كانت على امتداد العصور !
ما الذي يجعلها اليوم تلازمها الإخفاقات وضيق الأفق ؟ ما الذي يجعلها لا تجارى الثقافات الأخرى في العالم من خلال الإخصاب اللغوي ؟ ومن خلال اتساع حجم المعلومات ؟ ومن خلال الثروة الفلسفية التي كان ينبغي أن تكون عليها ؟ لماذا بقيت محتكرة على امتداد سنوات طوال كونها مزجا غبيا ، أو متغابيا بين ما أسموه بـ ( التراث والمعاصرة ) ؟ لقد فشلوا في إثراء هذه الموازنة التي لا يمكنها أن تمشي أبدا على رجليها .. فلا هم بنقاد مهرة للتراث العربي وركاماته  بالرغم من كونهم سدنته إعلاميا لا علميا .. ولا هم بمسيطرين على المعاصرة بكل ما حظيت به من اتساعات وتعقيدات . ولا يعتقد المرء أن حجم مبيعات كتب التراث كبير جدا في مجتمعاتنا ، فالتراث الذي يسوقونه هو ما يخص الأئمة والمفسرين وكّتاب أمثال : القرطبي ، وابن تيمية ، وابن سيرين  واضرابهم عموما وليس على المستوى الخاص ، إذ قلما نجد سوقا لأفكار الكندي ، وابن خلدون ، والفارابي ، والجاحظ ، والمعّري .. وغيرهم على المستوى العام لا الخاص .

الخروج من مأزق الاجترار !
إن ثقافتنا مستلبة وجامدة لا تتحرك من أوعيتها التي اشتغل عليها المثقفون النهضويون الأوائل في بدايات القرن العشرين .. إذ يبدو أن الحرب ستبقى مشتعلة ضدهم ، كونهم اشتغلوا مليا على إعادة رونق الثقافة العربية كتابة وخطابا .. حكاية وتعبيرا .. تحقيقا وتجديدا . فهل ثمة حركة متجددة اليوم عند بدايات القرن الواحد والعشرين من اجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في بنية الثقافة العربية بكل آلياتها ومبتكراتها . ثمة مفكرين ومنظرين اليوم في الثقافة العربية ، وهم يجترون أما فكرا قوميا فاشيا ، أو فكرا يساريا جامدا ، أو فكرا دينيا أصوليا ، أو فكرا سياسيا متوحشا .. واغلب ما يكتبونه ينحاز لهذا الطرف أو ذاك من دون أن تجد من يعترف بما هو سائد من تناقضات ، ومحاولة إيجاد أية حلول ومعالجات ، ولكن من باب علمي وإنساني معا . وكما قلت ودعوت قبل سنوات مضت : أن الثقافة هي " التحرر الفكري والإنساني من كل الموبقات والتقاليد البالية .. إنها ليست موطنا للعجز ، والخنوع ، والطقوس ، والبلادة ، والتواتر ، وتكرار التعابير ، واستنساخ الأفكار ، والتمثيل الغبي للحياة الحديثة .. إنها حالة متطورة من الأساليب التي تعرف أين نحن في قلب هذا العالم .. لا يمكنني أبدا أن اتصوّر أن ثمة جماعات تكفيرية ، أو مجتمعات أصولية تستخدم آخر ما وصله العصر من وسائل متقدمة لبث نصوص متوحشة ، بل وتستخدم هذه الوسائل في قتل مجتمعاتنا وقبر أفكارنا .. خصوصا وان وسائل الإعلام الحديثة تسيطر عليها جماعات لا علاقة لها بأي فهم من مفاهيم هذا العصر .. بل أنها تمقت هذا العصر، وتتهمه بشتى التهم ! وعليه ، فهي تعيش حالة تلفيق وازدواج شخصية وشيزوفرينيا تاريخية ومحنة وجودية .. وهي غير متوازنة لا مع نفسها ولا مع ماضيها ولا مع مستقبلها .. إن حاضرنا غارق في بهيميته وهو لا يدرك معاني كل التقدم الذي وصل اليه الإنسان من خلال عقله لا من خلال توحشه ! "

واخيرا : من المكاشفات الى المفاضحات 
إن ثقافتنا العربية ستمر بمخاض صعب جدا تلوح عليها جملة تغيرات هائلة لا يمكن تخيلها .. نحن في بدايات عصر المكاشفات والاندهاشات .. عصر فضحت تكنولوجياته ومعلوماته ثقافتنا ، أو بالأحرى ثقافاتنا في المنطقة مع خصوصياتها ولم تزل تلك الثقافات بكل أساليبها وطقوسها وعاداتها مخفية ومستترة لا يمكن أن يدركها أبناء المنطقة الا في عصر المفضاحات الذي سيتلو زمن المكاشفات .. المشكلة أن هذه التغيرات لا يحس بوطأتها المجتمع كونه لا يبالي بمن كان سببا في هذه الثورة المنظمة والهوجاء في آن واحد والتي دخلت كل الزوايا وكل البيوت وبدأت تخاطب كل العقول .. المشكلة إن عالمنا العربي يعج بالعشرات من المؤسسات والمراكز والمنظمات الثقافية ، ولكنها أمست خاوية من أية إبداعات أو أية نتاجات رائعة مقارنة بدور المقاهي الثقافية وأدوارها الرائعة قبل خمسين سنة ! المشكلة ، ان الثقافة العربية لم تصل مرتبة العالمية وتؤثر في ثقافات عالمية أخرى حتى اليوم !  المشكلة أيضا أن التغيرات تحدث من دون أية عمليات نقدية ، أو بحثية ، أو تفسيرية للموجات الحديثة التي تجتاح ثقافتنا بكل استلاباتها .. ومن الغريب أن التيارات السياسية والدينية لم تزل منقسمة على نفسها تجاه ثقافتنا العربية بين من يبكي على حالها وبين من يريد القضاء عليها .. وبين من يعيش على تناقضاتها .. الثقافة العربية اليوم بلا مبدعين حقيقيين ، وان وجد بعضهم ، فهم نتاج تألقات القرن الماضي .. وان حجم المبدعين المثقفين العرب هو قليل جدا مقارنة بالحجم الديمغرافي السكاني في المنطقة . 


ينشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 23 مارس/ آذار 2009
www.sayyaraljamil.com

للمقال صلة قادمة عن رؤية مستقبلية للثقافة العربية


14
العراق : لا إمبراطورية ولا دوقيات !!

أ.د. سيّار الجميل

أفكار واهية
إن من يستمع إلى خطابهم وتصريحاتهم ، سيجد أن بينهم وبين روح هذا العصر مسافة تبتعد حتى تصل العصور الوسطى ، حيث كانت تتصارع الدوقيات مع بعضها البعض حتى على الأزقة والطرقات ، وكانت دوقيات أوروبا قد عاشت منفصلة واحدتها عن الأخرى لقرون طوال ، فأين هي حدود دوقياتنا العراقية وقلاعها القديمة ؟؟ المشكلة أن ايّا منهم جاهل في التاريخ ، وجاهل حتى في الثقافة العامة ، وقد تشّبع بنزعة الكراهية لما صادفه في حياته .. إنني لا أجد أية دوقيات أبدا في أرشيف تاريخ العراق وتاريخ المنطقة ! لقد كانت كل شعوب المنطقة واقعة في مجال العصف الإمبراطوري لهذا الطرف أو ذاك ! انه لا يكفينا بعض من الذين يريدون أن يؤسسوا لدوقيات عراقية من العراقيين ، بل دخل على الخط بعض الأخوة من الكّتاب العرب الذين يقدمون تنظيراتهم الواهية من اجل دوقيات عراقية ، ويطلقون أحكامهم على مسائل عراقية صميمية لا شأن لهم بها ، ولا علم لهم فيها ، وهم يكرسّون الانقسامات بين العراقيين.. وكنت أتمنى أن تبقى أفكارهم مجرد مقترحات ، أو آراء تحض على الشراكة والانسجام ، بدل أن تكون قاطعة كالنصل ، وكأنهم أصحاب قضية من دون أي مراجع ، أو مستندات تؤيد ما يذهبون إليه . لا مانع من أن يدلي كل برأيه ، ولكن على الجميع أن يتحلوا بالإنصاف بحق كل العراقيين ، أو أن يكتبوا في شؤون أخرى ، هم أكثر التصاقا بها . كنت قد سجلت منذ سنوات طويلة قائلا أن كتّاب العراق قاطبة ، قلما يتدخلون في شؤون غيرهم ، كونهم يعرفون حدودهم مع غيرهم ، في حين أجد شتى الكتّاب العرب يدخلون أنوفهم في الشأن العراقي دائما من دون معرفة ولا أية معلومات .. فالمفاهيم المستخدمة في العراق لا يدرك أبعادها غير العراقيين .
 
لا دولة للقانون بلا عدالة في المجتمع !
ان العراق لم  يتخّلص بعد من التمايز بين أبنائه وقبائله ومناطقه وبيئاته الاجتماعية ، فمن الأجدى اليوم أن نجد اختزالا في الفوارق الجغرافية ، ولكن هذا لم يحصل أبدا ! إن كل وطني عراقي متحضر ، ويحمل فكرا إنسانيا ومدنيا محّبا للجميع ، ويحمل نزعة عالية من الشفافية والتقدمية والحداثة سيصفق جدا لدولة القانون ، ولكنه يريد من طرف آخر ، أن يرى كل العراق وقد تساوى في خدماته ، وطور بنيته التحتية ، واستثماراته ، وتفوق كل اقتصادياته ، وجماليات كل مدنه وبلداته وقصباته من شماله حتى جنوبه ! ان هذا لم نجده أبدا اليوم ، فثمة مدنا عراقية متخمة بآلاف الطفيليين الجدد من أصحاب الملايين الذين لا نعرف من أين أتوا بها،  وسرقوها ، واكتنزوها من السحت الحرام .. وان مدنا أخرى كبيرة ومثقلة بالسكان ، نجدها ، تعاني من الجوع والقهر والانسحاق ؟ فليس ثمة عدالة في المجتمع العراقي أبدا ، ثمّ  لماذا تطبق الأحكام القاسية على مناطق ، ولم تطبق على مناطق أخرى ؟ هل هناك توزيع عادل للثروة العراقية على كل العراقيين ، وحسب كثافتهم البشرية ، وتوزيعهم السكاني ؟ لماذا يخضع الاقتصاد العراقي ومصير النفط العراقي اليوم لعوامل وتحالفات سياسية ؟ هل هناك إرادة قوية في القضاء على الفساد في أي شبر من ارض العراق ؟ وأيضا اكرر التساؤل : من يصنع الإرهاب في العراق ؟ من له مصالح قذرة من العراقيين كي يصنع فوضى العراق ، ويقتل الأبرياء أولا ، ويقتل المخالفين ثانيا ؟ إن من ابرز مطالب أي مشروع حضاري وطني عراقي أن ينفتح العراق على بعضه الآخر ، أو تحل الانغلاقات بديلا ، كما يجري اليوم . إن المجتمع العراقي لو منح الفرصة للانفتاح والحريات بدل كل هذه الانغلاقات ، والاضطهادات ، وزرع الفتن ، والخلافات .. لبدأ مشروعا حضاريا رائعا في ظل الوعي والمعرفة والقانون بعيدا عن التحزبات والسياسات البدائية . إنني مع دولة القانون ، ولكن علّي أن لا أنسى تحقيق العدالة في المجتمع .

نكون او لا نكون ؟  
من أهم الاستنتاجات التي يمكن للمرء التوّصل إليها ، وهي قابلة للأخذ والرد ، تقول بأن التضاد الكبير اليوم ، كما نجده حاصل ، إنما يكمن بين العراق وطنا ( أو : مجموعة أوطان ) من طرف وبين العراقيين شعبا ( أو : كومة شعوب ) من أطراف أخرى .. العراق لم تسحقه قرارات النظم السياسية والعسكرية والحزبية والتسلطية والفاشية والدكتاتورية فقط ، بل سحقته وأجهزت عليه أيضا النعرات الاجتماعية القبلية ، والعشائرية ، والجهوية ، والنزعات الطائفية ، والعرقية والشوفينية ، والانفصالية وخلقت منها ركامات من الكراهية التي لا معنى لها أبدا في مثل هذا العصر ، كما تعلمنا به كل التجارب المتحضرة والإنسانية  .. ناهيكم عن سوء التشظيات الإيديولوجية والسياسية .. لماذا كّل هذه الحرب الباردة اليوم من اجل التقاطع على ارض ( عراقية ) هنا أو هناك ؟ لا يمكن القول ـ مثلا ـ أن إقليم اونتاريو كندي وإقليم كيبك غير كندي ، فكل أقاليم كندا هي كندية ، وهكذا بالنسبة لكل التجارب الفيدرالية في العالم ، فالحكومة الفيدرالية بيدها صنع القرارات السياسية قاطبة ، وحكومات الأقاليم بيدها صنع القرارات الإدارية ، أما حكومات المدن ، فهي خدمية أساسا ولا علاقة لها بالسياسة الا لما تريده الحكومة الفيدرالية . اعتقد أن كل عراقي له الحق أن يستوطن ويعمل في أي ارض من وطنه ، كما هو الحال في أي دولة فيدرالية ، وإلا نكون نضحك على أنفسنا ، إذ نشرذم أنفسنا ونحن نتسمّى بعراقيين ! إن العراقيين جميعا بحاجة إلى الوعي بما هو حاصل في تجارب أخرى في العالم ، قبل أن يتنازعوا وتفشل ريحهم جميعا ، فتأكلهم القراصنة .. ولكنني أسأل: هل كان العراقيون يدركون ما الذي تضمنّه دستور بلادهم الجديد من بنود خطيرة ومتهرئة عندما بصموا عليه في العام 2005 .. وعندما اعترضنا على بعض بنوده ، قامت الدنيا ولم تقعد ! السؤال الآن : هل يتملكنا وعي قائل : إننا كعراقيين ، هل سنكون يوما أو لا نكون ؟

ما المطلوب اليوم ؟
من المهم أن يدرك كل العراقيين ، إن كل العالم يعلم أن مفاتيح العراق كلها بيد أسياده الكبار الجدد. فهل يعقل أن يصبح الشعب العراقي كله جانيا ، وهو مجني عليه ؟ إنني أناشد كل العراقيين أن ينسجموا، ويتفاهموا ، ويتفاعلوا ويتلاقوا مع بعضهم البعض حضاريا لا سياسيا ، ووطنيا لا حزبيا ، ومبدئيا لا مصلحيا .. وعليهم بالتحرك نحو المستقبل بلا أية انقسامات ، ويعيدوا التفكير ثانية في مسيرتهم السياسية على ضوء مشروع وطني ، يتفقّوا على قواسمه المشتركة ، ويتقبلوا كل التعديلات على " نصوص " لا يمكنها أن تتحقق أبدا سواء تضمنتها بنود دستور ، أو لوائح قانون إدارة ، أو ما شابه ذلك .. وعلى كل العراقيين أن يعيدوا التفكير بكل المسيرة التي بدأت على أسس خاطئة .. ويصححوا خطواتهم على نحو وطني وديمقراطي ، فالكل ينبغي منه قبول الأجزاء ، وان الأجزاء عليها باحترام إرادة الكل .. وعلى كل الأطراف العراقية أن تعلن عن أهدافها الحقيقية ما دامت هناك ثمة شراكة وطنية ومصير واحد .. فان كان تحقيقها يمر من خلال أجندة ومناورات سياسية فإنها ستموت ، وان كانت موحّدة في مشروع حضاري مدني ودستوري لكل العراق .. فسيعيد العراق دوره التاريخي مع توالي الأيام ، وسيجد الجميع فرصتهم المتساوية والمتلاقية .. المنسجمة والمتناغمة مع حياة العصر ، أو سيتفّتت العراق لزمن طويل حتى يستعيد روحه من جديد بعد عشرات السنين ، كما جرى على امتداد التاريخ .

الصباح ، 19 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com


15
إستراتيجية مصالحة أم اعتدال وممانعة ؟

أ. د. سيّار الجَميل


علينا أن نسأل سؤالا مباشرا وصريحا : هل هناك إرادة جماعية لتأسيس إستراتيجية عربية بعيدا عن أية انقسامات وأجندات ؟ هل اقتنعنا بأن مصيرنا محكم بشراكة أساسية لصنع تاريخ جديد ؟ هل صعَدَ المعتدلون نحو مطالب الممانعين ؟ وهل نزِل الممانعون إلى ما يؤمن به أصحاب الاعتدال ؟ هل كان مجئ اوباما  سببا في مصالحات شكلية ؟  لقد تابعت موضوع المصالحة العربية ، فلم أجده يشغل حيزا من اهتمام الصحافة الغربية! إذ يبدو حتى الآن بأنها مصالحة  داخلية غير مقنعة.. وسواء كانت بإرادة داخلية ، أم بمباركة خارجية ، فان أهم ما يمكن الاستفسار عنه : هل أنها تعّبر عن مصالح سياسية محلية خاصة بهذا البلد أو ذاك ، أم أنها تشكّل إرادة إستراتيجية في موافقة كل من التيارين المنقسمين المتباعدين والمتنافرين على صفحة مبادئ وثوابت مشتركة ؟ إن تاريخنا المعاصر حافل بالتنافرات والمقاربات .. بالانقسامات والمصالحات حتى دعيت مرحلة كاملة بـ " الحرب العربية الباردة " في الأدبيات الغربية وخصوصا تلك التي شهدها العرب إبان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي .

إن المشكلة الأساسية في وجود تيارين مضادين  في الحياة السياسية العربية يصلان إلى حد التناحر مرة ، وينزلان إلى حد تبويس اللحى مرات أخرى ، تكمن في طبيعة الرؤية إلى أهم معضلات المنطقة بأسرها .. ويبدو أن ثمة أسبابا خارجية وإقليمية هي التي تحرك المواقف الداخلية بين البلدان العربية التي لم تخرج على العالم  بإستراتيجية حقيقية باستطاعتها الوقوف أمام الآخرين الذين لهم وصايا وأجندات خطيرة في شؤوننا الداخلية .. إن كل بلد عربي لا ينطلق إلا من خلال مصالحه ، لا من خلال مصالح جمعية قوامها ما اصطلح عليه بـ " الأمن القومي العربي " منذ أكثر من خمسين سنة . إن المصالحة لا يمكنها أن تكون راسخة إن بقيت قناعات المشاركين مختلفة بشأن الصراع العربي الصهيوني ، ومشكلة سلام الشرق الأوسط  ، ودور إيران في الشأن العربي سواء بإبعادها أم بالتحالف معها .. ثم هواجس الخوف وفقدان الثقة بسياسات الولايات المتحدة التي لا يعرف احد من القادة والزعماء العرب كلهم : ما الذي تريده من المنطقة ؟ لم يعد احد يطمئن لتلك السياسات التي لا يعرف احد إلى أين ستقودنا رفقة متغيرات إسرائيل الجديدة على الساحة ، وما الذي يمكن عمله إزاء مسألة شائكة لا يمكن المصالحة من دون أن تحسم ضمن ثوابت ينبغي الاتفاق عليها ، وهي : هل الخيار ، تسوية سلمية يكرس العرب كل إمكاناتهم من اجل تحقيقها ، أو هو طريق المقاومة المسلحة الذي يتبناه اليوم الشارع السياسي فكرا وشعارات .. وإذا كان الخيار الأول لا يقبل إيران مهما كانت سياساتها ، فكيف سيقبل دخولها في تحالف إقليمي مع العرب ؟ وإذا قبل الممانعون إيران  كونهم يتفقون وسياساتها ، فهل يقبلون تدخلاتها في اغلب الشؤون العربية بدءا بالبحرين وانتهاء بالمغرب التي أعلنت عن قطع علاقاتها الدبلوماسية معها ! ؟  وأيضا : هل يمكن لدول الطوق كلها اليوم فتح جبهة صراع ضد إسرائيل ؟ وهل أن مصر والأردن مستعدتان لإلغاء معاهدتيهما مع إسرائيل من اجل الممانعة ؟
إن الأمور ، أما أن تناقش بثوابتها أم لا تشغلنا صغائرها .. هل مصر مستعدة لخوض حرب مقاومة ضد إسرائيل ؟ كما تطالب الجماهير العربية ؟  ما الذي صنعته المؤتمرات العربية سوى الحلقات المفرغة من جولات مكوكية لهذا الوزير أو ذاك ، وإنتاج المزيد من الشعارات الواهية التي لا يؤمن بها أصحابها !  إن الدعوة إلى تحكيم العقل والضمير .. دعوة رائعة من اجل " تجاوز الخلافات لصالح استعادة التضامن العربي حرصا على مصالح العرب وكرامتهم " .. ولكن ما الآليات ؟ ما سبل التلاقي وما أسباب الخلاف ؟ هل ثمة إستراتيجية معينة معلنة ، أو خفية يتفق عليها الجميع من اجل القضاء على الخلافات لا بتجاوزها فقط ! ومن اجل العمل المشترك نحو غايات عليا، لا من اجل تضامن فارغ المضامين ؟ إننا نسأل : هل المسألة تبادل وفود فقط ونقل رسائل تطمينية ؟ هل مشكلة ( الأمة العربية ) تنحصر في اعمار غزة ؟ أم معالجة الأسباب التي كانت وراء انسحاق غزة ؟  هل التوافق العربي هو مجرد التقاء بين تيار الاعتدال وتيار الممانعة ؟ أم الأمر اكبر واخطر واشمل بكثير مما نتصور ؟  إننا نتمنى أن تسفر جهود المصالحة عن إستراتيجية بإمكانها صنع قرارات موحدة ، لا عن رغبة واهية في ردم هوة الخلاف بين التيارين ؟ ماذا تنفعنا الرغبة تلك والقناعات تمشي في طريق آخر ؟ ماذا تنفعنا الرغبة ، وكل من التيارين قد وضع بيضه في سلال مختلفة للآخرين ، وهم أنفسهم ليس باستطاعتهم حمل تلك السلال ؟ إنني مؤمن جدا بتشكيل إستراتيجية عربية ينتظرها كل الشرفاء بعيدا عن المناخات السائدة والموبوءة بعوامل الفشل .. إنني مؤمن بأن الانتصار على الانقسامات والتمزقات ، لا يمرّ إلا من خلال مشروع شراكة مبدئية مستقبلية ، كنا قد نادينا به منذ زمن بعيد.. ولكن أن يجرى البحث عن رغبات وتطبيع مناخات وتأدية مصالح آنية  .. وان نضحك على أنفسنا بالتغاضي عمّن يتلاعب ليس بقدراتنا بل حتى بأهوائنا ومشاعرنا .. فان أي دعوة مصالحة سوف لا يكتب لها أي نجاح ، إن لم تكن نابعة من صفحة ذكية الأبعاد والعمل ضمن ثوابتها لخمسين سنة قادمة ! فهل للعرب القدرة على العمل والتنفيذ ؟ ومتى ينتصرون بوجودهم من خلال شراكة مصيرية بعيدا عن الشعارات والرغبات والأهواء ؟

البيان الامارتية ، 11 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com


16
المرأة ليست مادة دسمة للاستلاب !

أ.د. سيّار الجميل


مرّ يوم السبت الثامن من مارس الجاري 2009 ، كما يمر أي يوم كل عام .. مرّ كيوم عادي كبقية الأيام من دون أن يقف العالم كله تحية لنصفه الآخر .. أو أن يقف كل الرجال في هذا الوجود ليؤدوا تحية حب وعرفان وتقدير لنصفهم الآخر .. انه يوم المرأة العالمي الذي اهتمت به عدة مؤسسات كبيرة في العالم احتراما وثناء للدور الذي تضطلع به المرأة هذا اليوم . فضلا عن أدوارها العظمي التي قدمتها على مر التاريخ ، خصوصا إذا علمنا أن التاريخ الإنساني كله قد مر من خلال الجسور التي بنتها المرأة نفسها من اجل الحياة ، واستمرار ليس وجودها حسب ، بل من اجل روعة معانيها الخصبة .
كنت مدعوا صباح يوم السبت الماضي 8 مارس 2009 إلى احتفائية دولية كبرى أقامها بهذه المناسبة ، الاتحاد النسائي الفيدرالي  العالمي للسلام ، وعلى القاعة الكبرى لمطعم كنديانا  بمدينة تورنتو بكندا .. كنت المتحدث الثاني ، وقد خصصت كلمتي عن المرأة في الشرق الأوسط  .. إنني مؤمن ، انه مهما كانت هناك من تباينات اجتماعية ودينية وتاريخية وثقافية بين المجتمعات في رؤيتها للمرأة ، وكيفية التعامل معها ، فان المرأة إنسان ، وهي من دم ولحم وأعصاب ، وهي الأم والأخت والحبيبة والزوجة والجدة والجارة والمعلمة والطبيبة والشاعرة والاديبة .. الخ ، إذ وقفت المرأة ، ولم تزل ، إلى جانب الرجل عبر التاريخ الإنساني ، وشاركته كل المحن والرزايا والآلام ، كما انتصرت له في كل ما تحقق من نجاحات وانتصارات .. إن المرأة لا يمكنها أبدا أن تبني حياتها من دون الرجل والعكس صحيح . وإذا كان البعض يرّوج عن اختلاف العادات والتقاليد في المجتمعات حول المرأة ، فان كل الشرائع الإلهية والمدنية قد ضمنت للاثنين حقوقهما وواجباتهما .
دعوني ومن اجل أن لا تتبدد تلك " الفرصة " الرائعة التي جمعتني بتلك النخبة من نسوة ورجال في مناسبة يوم المرأة العالمي أن أسجل مختزلا ما دار من أفكار مهمة جدا ، لابد أن يتأمل فيها الجميع من اجل إيجاد حلول واقعية للمشكلات التي تتعرض لها علاقة الرجل بالمرأة في مجتمعاتنا .. أفكار ستفيد حتما المرأة في هذا العالم ، وخصوصا في عالمنا نحن في الشرق الأوسط  أن تضيع منها ، والمرأة بحاجة للعناية بها والوقوف إلى جانبها .. نظرا لما تعانيه من عقم هذه الحياة التي تحياها في اغلب مجتمعاتنا .. بل ونظرا لما تحتاجه أساسا من حقوقها المهضومة في مجتمعات ذكورية تحجر عليها ، وتقمعها ، وتضطهدها ، وتأكل حقوقها علنا ، بل وحتى تستلب حياتها ! لقد غدت المرأة في كل هذا العالم مادة دسمة للاستلاب ، لأسباب وعوامل مختلطة ، نشأت من خلال التناقضات المعقدة في كل المجتمعات .

حقوق المرأة .. حقوق الإنسان 
لقد أكدت الآنسة نيكول كربلن ( مستشارة منظمة حقوق الإنسان ) عن أن حقوق المرأة لا تنفصل عن حقوق الإنسان ، فما دمنا نؤمن بحقوق الإنسان في الوجود ، فعلينا الأخذ بحقوق المرأة ، وما دامت حقوق الإنسان غير مفعّلة في اغلب المجتمعات البشرية ، فان المرأة ستبقى تعاني من القسوة والوحشة والآلام والإباحة .. إن المرأة لا يمكنها أن تقدّم لهذه الحياة ما عليها من واجبات إنسانية سواء في بيتها ، أم في تربية أطفالها ، أم في كل ما تتطلبه منها الحياة ما لم تشعر أنها قد نالت حقوقها كانسان .. حقوقها كاملة معنوية ومادية .. إن العالم لا يمكنه أن يتحرك نحو الأمام ما لم يوفر للمرأة حقوقها . إن الأمثلة والشهادات التي تصل منظمة حقوق الإنسان العالمية عما يجري من اضطهادات بحق المرأة في مجتمعات على هذه الأرض .. إنما تقشعر منها الأبدان سواء من خلال مافيات الدعارة ، أو أسواق النخاسة ، أو اضطهاد الأطفال ، أو استخدامهن كدروع بشرية ، أو قنابل موقوتة ، أو استلاب أعراضهن غصبا ..  ناهيكم عن قتل النساء بتهم الشرف  ، وضربهن واهانتهن ،  وقلة من دول العالم لها تشريعاتها التي تحمي المرأة حماية حقيقية ، فمثلا في الجارتر الكندي ، للمرأة ضماناتها كاملة ، ولا يمكن للرجل أن يتجاوز حدوده معها ، أو يعتدي على حقوقها ، أو يضطهدها أبدا .. والمرأة الكندية لا يمكن أن تتعرض للتحرش أبدا حتى إن كانت وحيدة تمشي في أي شارع من الشوارع بعد منتصف الليل ! إن العالم كله بحاجة إلى أن يحس بمعاناة المرأة أين ما وجدت على هذه الأرض مقارنة بتجارب أفضل .

المرأة الافريقية والآسيوية
اما الكاتبة الصحفية والمؤلفة المعروفة راحيل رضى ( وهي من أصل باكستاني ) وناشطة جدا في مسائل عديدة ، بعضها يخص المرأة في العالم الإسلامي ، فلقد تحدثت باستفاضة عن غيبوبة الوعي عند المرأة في العالم الإسلامي ، وان المرأة المسلمة مقتنعة عن جهالة بما هي عليه ، وليس بحقوقها الطبيعية كانسان لابد أن يحفظ نفسه وجسده من الدمار .. إن الأرقام التي تّم عرضها ، مذهلة حقا ، تلك التي تتحدث عن اجتياح الايدز لمجتمعات افريقية كاملة بسبب العلاقات الجنسية ، وان آلاف النسوة والأطفال يموتون يوميا بسبب  الايدز ، ذلك أن الوعي منعدم تماما في أفريقيا .. وان المرأة تدفع الأثمان الغالية من حقوقها الإنسانية بسبب جهلها الكامل ، وانعدام قدرتها في الحفاظ على جسدها ! أما في القارة الآسيوية ، فان أوضاع المرأة اليوم تمر بأزمات عصيبة ، بسبب انعدام قدرتها على مواجهة الحياة الصعبة ، وانصياعها لكل استلاب الرجل ، وفضاضته وجهالته وغطرسته .. وانتقدت بشدة انتشار مافيات للمتاجرة بأجساد النساء في دول متعددة من بينها دول آسيوية .. إن العالم مطالب اليوم بتشريع قوانين حماية للمرأة في أي مكان .. وان الدول الإسلامية مطالبة أيضا بتشريعات تمنح المرأة حقها في إبداء الرأي ، وحقها في الاختيار ، وحقها في الانفصال ، وحقها في التربية والتعليم ، وحقها في العمل ، وحقها في ردع من يتجاوز عليها .. ربما كانت المرأة في العالم الإسلامي هي غيرها في أماكن أخرى في العالم ، ولكن منح حقوقها الإنسانية ، وجعل إرادتها بيدها ، سوف لا يخلق منها أنسانا فاسدا كما يتخّيل البعض ذلك ، إذ تبقى ثمة خطوطا حمراء لن ولم تتجاوزها أبدا .

المرأة في مجتمعات الشرق الاوسط
أما المرأة في الشرق الأوسط ( وكان ذلك عنوان مداخلتي ) ، فان معاناتها كبيرة جدا ، وخصوصا في اغلب مجتمعات المنطقة .. ربما ازدادت معاناة المرأة في هذه المجتمعات منذ ثلاثين سنة ، عما كانت عليه سابقا ، إذ كانت المرأة سابقا مقبلة على حياة العصر وعلى الحياة المدنية ، وشهدت كل من عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي  نقلات نوعية في مكانة المرأة وحقوقها ووظائفها وتحررها الذي نادى به بعض المفكرين العرب والأتراك منذ بدايات القرن العشرين .. إن أمثلة ونماذج تاريخية من رائدات للحركة النسوية قد برزن منذ قرابة قرن وأكثر ، مثل : ماري تيريز الأسمر من العراق ، وخالدة أديب من تركيا ، وهدى شعراوي  وعائشة تيمور من مصر ،  وروز اليوسف وسيليا مالك من لبنان ..الخ  إن المرأة في البلاد العربية اليوم ، تعيش اضطرابا اجتماعيا وثقافيا بسبب الانتكاسات التي عانت منها ، وبسبب تراجع مجتمعاتنا عن سيرورتها في التقدم . إن زيادات كبيرة لحالات الطلاق ، فضلا عن معاناة المرأة من الحروب والاضطرابات السياسية  .. فضلا عن انتشار أنواع جديدة من الزواجات لم تكن مألوفة في السابق بسبب عوامل اقتصادية ، أو للالتفاف على الكبت الجنسي  والمحرمات الاجتماعية ! إن الوقائع الجديدة تكشف عن مظاهر جد سلبية ، وعن إمراض اجتماعية وسايكلوجية تجتاح مجتمعاتنا ، وعن حالات قتل وحالات انتحار .. وإذا كانت المرأة ضحية أولى لها ، فان الأطفال هم الضحايا الحقيقيون مما يشكّل جناية تاريخية على مستقبلنا في المنطقة عموما . لقد قلت : إن المرأة في مجتمعاتنا قاطبة ، إن عوملت بالحسنى وتعلمت ، وربيت تربية جيدة ، ممتلكة إرادتها ، وشعرت بدفء وثقة واحترام وحب الرجل وحنانه ، فستكون وفية ومخلصة ، لها إبداعاتها ، فالمرأة عندنا ، ذكية جدا ، وربة بيت ممتازة ، ومربية أجيال .. تعرف كيف تتصرف ، بل ولها القدرة على مجابهة التحديات مهما كانت صعبة ! إضافة إلى أن مجرد تمتّعها بالمعرفة والتكوين والاستقلالية سيجعلها تقدم إبداعاتها بمختلف العلوم والآداب والفنون .  إن أقصى ما تطمح إليه المرأة في مجتمعاتنا إصلاح الأحوال الشخصية لها ، وتحديث القوانين التي تتناول علاقتها بالمجتمع والحياة .. وكسر كل الحواجز التي تقف في الضد منها ، وتحّد من قابلياتها وإبداعاتها .. 

خمسة مبادئ : الاحترام / الثقة / التعاون / الشراكة / العاطفة
إن ما قدمّه ديفيد سكار ، ( وهو فنان دولي شهير ) من بناء صورة مثلى للمرأة في العالم ، فلقد حكى في البداية تجربته الذاتية ، ومن ثمّ قدّم نماذج حقيقية لعلاقة رائعة بين الرجل والمرأة .. ربما اختلفت معه بعض المشاركات ، ولكن الصورة عنده تتشكّل أساسا على خمسة مبادئ أوجزها بقاعدة احترام متبادل بين الرجل والمرأة ، فالأطفال إن تربوا على ذلك ، فسيكونوا ممتازين في تكوين علاقاتهم ، وبعكسه يكونوا مرضى ! ثم شدد على الثقة في تأسيس العلاقات الحميمية بين أفراد الأسرة كاملة . وقال بمبدأ التعاون بين الاثنين الرجل والمرأة حتى في كل الأعمال دقة ، ثم الشراكة ، إذ لا يمكن للرجل أن يستعبد المرأة لمصالحه ، ولا يمكن للمرأة أن تستغل الرجل لأغراضها .. ثم أكد على مبدأ العاطفة الذي يختزل بكلمة صغيرة جدا ، ولكنها من اكبر وأروع ظواهر الحياة الإنسانية ، إنها ( الحب )  ..
 
واخيرا ،  ما الذي يمكننا ان نفعله ؟
هنا ، دعوني أقول ، انه مثلما احتفى العالم بهذه المناسبة ، احتفاء كبيرا ، ليتعلم منها كثيرا .. علينا أن نتعلم أشياء اعتقد إنها أساسية وجوهرية في حياتنا كلها . إن أي مشروع يخدم المرأة في مجتمعاتنا ، ويصونها ويحافظ على حقوقها وواجباتها .. فان ذلك مدعاة لإصلاح مجتمعاتنا قاطبة مما تعيشه اليوم . إن أي انفراج تعيشه المرأة وإبعادها عن الآلام والمعاناة سيقلل من فجوة الأخطاء التي تمارس اليوم في اغلب مجتمعاتنا ، وسيقلل من الأمراض النفسية والكبت الجماعي .. إن منح المرأة الثقة وان تمارس خياراتها في الحياة ، وتوفير فرص العمل أمامها ، سيجعلها سيدة نفسها ، وسيمنحها القدرة على أن تقول ( لا ) لكل من يريد استغلالها واستلاب اعزّ ما تملكه ومن ثم سحقها ! إن الضرورة باتت ماسة لمعالجة قوانين الأحوال الشخصية في مجتمعاتنا بحيث تمنح المرأة من خلالها حقوقها كلها من دون أي استلاب.. ومن دون جعلها ناقصة أو غير عاقلة ! ناهيكم عن تأسيس جمعيات ومنتديات وبرامج إعلامية ترعى قضاياها ، وتدافع عنها أمام ما تتعّرض له من مشكلات وتحديات ليس في الشرق الأوسط حسب ، بل في كل العالم .

نشرت في الأصل على موقع إيلاف ، 11 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com

اللوحة المرفقة للفنانة رؤيا رؤوف

17
التفكير بعيدا عن زنزانة سوداء !

أ.د. سّيار الجميل


(1) تساؤلات
    هل لي أن اكتب خطابا حرا من نوع خاص ، أسجل فيه بعض الأفكار على هامش الزمن المنكود ؟ هل لي أن اهرب من هذا الغثاء الذي يجتاح عالمنا المترّدي إلى حيث النقاء ؟ هل لي أن أحطم قيود زنازين العصور المظلمة ، واخرج إلى عالم حر ؟ هل لي أن أتخّيل أجيالا تتربى على مجموعة من التفاهات ، والاضطرابات المرعبة ، والنفسيّات المعقدّة .. ولا افني المستقبل بيدي ؟ هل سيبقى عالمنا هذا الذي نتباهى بأمجاده دوما  .. في غيبوبة بعد كل النكد والتوحش والجهالة والغثاء ؟ هل لي أن اتصّور أين تصل حدود البلادة والبلاهة والسفاهة ، وهي تتوسّع بشكل مفرط لتتخّذ شكل ثقافة موبوءة تجتر نفسها منذ أزمان ، وتتجسد فيها كل الكراهية ، وكل الأحقاد ، وكل الأوصاف الشنيعة ، وكل الاهانات ؟ هل سيبقى هذا الاندفاع القاتل نحو كل أنواع التخلف والانحطاط في كل من دول ومجتمعات لا تتغير أبدا ؟ متى يبقى عالمنا يسكن القبور المنتشرة في الدرك الأسفل من الأرض ، وليس لهم إلا الأكل والنوم وقضاء الحاجات ؟ متى سيخرج الناس من سلطة الأوهام والأورام والزنازين ويفكروا تفكيرا سويا كأحرار ؟

(2) الأهواء

     متى يبقى عالمنا يتآكل وهو في طور الاختناق ، والكل على حافات الهاوية ؟ متى تتنظف أفكار الملايين من كل العفونات وترسبات الأزمان العتيقة  ؟ متى يتخلصون من أكل الفطائس الكريهة وهي تتكاثر بشكل مذهل وهم يتصارعون لما تراكم عندهم من أهواء  ؟ متى يتخّلص عالمنا من كل الأمراض الدفينة والعقد الكريهة من دون أي شعور بالتضاؤل ؟ متى يزرع الحب عنوانا يدهش من خلاله كل الوجود ، خصوصا في مجتمعات عاشت على الإحسان والتقوى والعشق الإلهي والحب العذري وقيم المدينة وتقاليد الحضارة ؟ متى يتخلّص عالمنا من الجمود ويطلق نفسه مع النسيم يعبر به كل الدنيا نحو الشواطئ الأخرى بعقله لا بأهوائه ؟ إلى متى ستبقى مجتمعاتنا تختلط فيه الأشياء ، وتعبث به التناقضات ، وتتصادم في دواخلها الأهواء وبعد قرنين من الزمن المتحرك ؟ إلى متى ينخر فينا تاريخنا البائس ، ويأكل فيه كل حاضرنا التعيس ويبقى هو المتسلط على أنفسنا وواقعنا ومستقبلنا من دون أن نرى تاريخنا الرائع ؟ متى يتخلص واقعنا المرير من الأعاصير المميتة القاتلة ؟ متى يتوّقف أي مجتمع بليد عن تعصباته وانقساماته وثاراته وثرثراته ومكرراته الساذجة ؟ متى يتبدّل بغيره لنرى عالما طبيعيا خاليا من تناقضات الفكر وازدواجيات الحياة ؟
(3) التناقضات
    لا استطيع أن اتخّيل أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين وعالمنا الجامد لم يتحرك تفكيره أبدا بلا تناقضات ! لم اتخّيل بشرا يعيش معاصرته وهو يعبر عنها بما أكله الزمن ؟ لم استطع إقناع نفسي أن تصبح القلنسوات الملونة هي الآمر الناهي في هذي الحياة .. وغدا التواكليون والمتكلسون ينفثون كل أدرانهم وأمراضهم وفحيح سمومهم في كل أجزاء المجتمع .. وجاء السفهاء منهم وهم يوزعون الأحكام بكل الممنوعات وكل المحرمات ! لقد غدا عالمنا متحجرا متكلسا مثلهم بشكل لا يمكن تخيّله .. لم يعد هناك مكان نستعيد فيه حريتنا ونشمّ هواء نقيا ، فكل الامداء سجون ، وقلاع اسر ، ومراكز نفي .. ها أنا ذا أجد الملايين يحتشدون في زنزانة قاتلة  .. ها أنا ذا لا أرى الضوء يمسّهم .. فهل أصبح جميع من في هذا العالم صم بكم عمي وهم لا يفقهون ؟؟ وهل هو جامد حقا أم انه يتراجع دوما إلى الوراء ؟  ولم يزل يعيش في زنزانات سوداء كساها الدخان العتيق .. فالمداخن لم تتبدل أبدا ، والماء لم يغسل الجدران أبدا من كل سخام الزمن .. فسد كل شيء فيه بفساد الأحياء والأموات !  الأزقة بدت مزدحمة ولا تجري في مجاريها إلا المياه الآسنة أو تنضح من مساماتها الدماء القانية .. ولا تنعق فيها إلا الغربان السود ..

(4) متى تشرق الشمس ؟

     لقد غابت الشمس من زمن بعيد ، وعم الظلام كل الحياة ! سوف لن تشرق الشمس هكذا كالعادة إلا بعد زمن طويل ! لن تشرق الشمس حتى تغيب البشاعة ! وأقسى البشاعات بشاعة التفكير البليد ! وبشاعة قتل الحريات ، وبشاعة قتل النساء ، وبشاعة قتل الأبرياء ، وبشاعة حكام يكذبون ويكذبون .. لن تشرق الشمس إلا بعد الجفاف الرهيب ، وسقوط الأمطار ، وغسل كل الحياة .. لن تشرق الشمس إلا بعد غياب التوحش وزوال الدخان واثر نظافة الأجساد .. لن تشرق الشمس إلا بعد عودة الطيور إلى أعشاشها ! لن تشرق الشمس إلا بعد عودة الاخضرار إلى كل الأغصان اليابسة الجرداء !  لم تخلص حتى المدن النائية من كل الأوبئة ! تلاحقها كل النفايات .. لن تشرق الشمس حتى تتطهر القلوب من كل البلايا والرزايا .. لن تشرق الشمس إذا بقى عالمنا يعيش الفتن الطائفية ودكاكين تبيع الأوجاع وزوايا يتخّمر فيها  العهر وذوي العاهات !
(5) الأوهام
    إن الذين مضوا إلى مزبلة التاريخ تجدهم في القاع دوما وهم مصدر كل القتل والتدمير والشناعات .. إنهم عبيد الموت الأسود الذين لا يعرفون إلا الموت لغة يستخدمونها وينابيع الحياة يستأصلونها ! إنهم كالأفاعي وقد قطعت أذيالها ، وباتت تؤجج بفحيحها كل جزيئات الحياة .. إنهم لا يعرفون إلا الحرق والدمار وقتل الأزهار اليانعة .. هل وجدتم بشرا سويا يقتل امرأة ؟ هل وجدتم بشرا سويا يقطع رقبة ؟ هل وجدتم بشرا سويا يّعذب الآخرين ؟ هل وجدتم بشرا سويا لا يعرف الا الغضب ؟ ولا يفتح الا قاموس الحقد والكراهية ؟ عالمنا لا يعرف لغة العقل .. الناس حيارى يعيشون الأوهام القاتلة .. عالمنا متوحش لا يعرف الرحمة ولا يدرك معنى الحياة ولا يقدّر للإنسان قيمته ولا وجوده !! عالمنا لا يقرأ أي مستقبل .. عالمنا يعالج الواقع المتهرئ بالأوهام والأخيلة .. عالمنا تأكله التناقضات وبؤس الأفكار .. عالمنا لا يعرف إلا الأكل والنوم والتناسل .. عالمنا لا يعرف إلا الأشياء الكريهة والروائح النتنة ولغة الأحذية .. عالمنا لا يعرف إلا الشقاء وهو ينتظر من دون أي ثمن للانتظار ! ما أجمل الحياة وثمة نسائم عذبة من الحريات ، وحد أدنى من العدالة وتكافؤ الفرص ومساواة ومنتجات ..

(6) المزيفون
      أي منظومة هذه التي جعلت الناس أسرى الذبح والأحجار والنار والقار  وقد قفلوا على أنفسهم حتى الموت .. ؟؟ أي بيوت هذه التي لا تعرف شيئا وهي باقية من دهور لا تعرف الصرف الصحي ! أي استحالة هذه تحيل الحياة إلى مجموعة من المتضادات التي تأكل أحداها الأخرى ؟؟ متى يستقيم المنطق ليكشف الإنسان في عالمنا حجم التناقضات ، وهي تتصادم في كل مكان منه ؟ متى يكشف الإنسان في عالمنا زيف كل ما تربى عليه ويقف على الاكذوبات الفاضحة وهي مخفية ؟ متى يشعر الإنسان ولو لمرة واحدة انه يفكّر بطريقة سوية ؟ متى يعلن عالمنا البراءة من كل مهالك التاريخ ؟ ومن يكشف عن صفحات التاريخ السود ؟ متى يعتذر عن أخطاء ارتكبها ؟ متى يتوقف عالمنا عن اللغو والثرثرة البائسة ؟ متى يستلهم عالمنا مباهج الروح كي تتكافئ عنده مع ضرورات حياته ؟ متى يتخّلص عالمنا من احتقار الآخرين ووصفهم بأشنع الصفات ؟ متى يتخلص الانسان من زيفه ؟ يعيشون في الغرب وهم يكرهونه ويمقتونه .. يعيشون من اجل أن يكونوا مزيفين !

(7) الأشباه

   متى يصمت عالمنا عن أفكار سخيفة تثير الاستهزاء وتدينه وجملة من تقاليده وممارساته المشوّهة ؟ لا احد مثلكم يتلف زمنه في أشياء تافهة ! لا احد مثلكم قد تمّيز في السب والشتم والوقاحة والصلافة حيث يسكت النبلاء والعقلاء والرحماء والشعراء والعلماء ! متى تشتغل عقولكم أيها البلهاء ؟ متى تتحرك ضمائركم أيها السفهاء ؟  لم تندمل جراحاتكم ما دمتم تعيشون دوامات هائلة من الفجور والطغيان ! هل هناك من لم يزل يسّمي نفسه بـ " مناضل " كان قد سجل تاريخا معينا في القرن العشرين ؟ لماذا تسكتون على صفحات القتل المجنون ؟ هل أبقيتم شيئا يذكر من المدن العريقة الفاضلة ؟ هل تعتقدون إنكم كنتم بمناضلين حقيقيين ؟ هل عرفتم يوما كيف تخطون شيئا رائعا من نوع ما في التاريخ ؟ وهل حلمتم بمستقبل نظيف تقل فيه المعضلات وتنعدم فيه الشظايا المدمرات .. ؟؟ تذكروا كم مات على أيديكم من المبدعين ، ومن الملهمين ، ومن الشعراء ، ومن الأدباء ، ومن العلماء ، ومن المثقفين ! تذكروا فقط نهايات رجال ونسوة لم يكونوا إلا رموزا حية سيذكرها التاريخ وقد حطمتموها ظلما وعدوانا !

(8) الأشقياء

      يا له من عالم نكد يزرعه الأشقياء ولا يتحرر منه كل الملايين .. عالم يمكن أن يتجرّع أوجاعه كل الزمن ! والأوفياء بالعهد ، وبكل الخيارات ، وسمو الثقافة وأصحابها من الخيرين في عالمنا نحن لا عند غيرنا .. يتلاشون أمام طغيان جماعات لا تعرف إلا الإقصاء ولا تريد إلا الصمت .. إن الجميع بات لا يعرف إلا الصمت ، أو اجترار الطقوس .. أو الهروب .. بات كل عالمنا وقد زرع بالأشواك والأحجار القاتلة .. ولا ينتظر إلا الرسائل المميتة ، أو المهرجانات القاتلة ، أو شظايا الوقاحة ، أو كل الصلافات ، أو إلقاء الجثث على الطرقات .. لم تعد حياتنا تسمعنا حسن الكلام ، ولم تعد آذاننا تصغي لسحر الأشعار ولم نعد تطربنا لغة الطيور ، أو موسيقى المحبين .. لم نعد نسمع الأغنيات الجميلة .. ولم تعد هواجسنا تتقبّل ما يجود به الفكر .. لم يعد الأطفال يعرفون كيف يلعبون .. ولم يعد الشباب كيف يبدعون .. ولم يجد عالمنا إلا التيه وسط تيه الأضداد !! رحل الأوفياء حقا وكثر الأشقياء !

(9) النصف الآخر
      لم يعد لدينا من الأفكار نحاورها ، ولا القصائد نبادلها ، ولا الروائع نقرأها ، ولا الألحان نساجلها .. لم تعد المرأة إلا إنسانا مرتعبا تخشى النظرات وتخشى السلطات والميليشيات ! ولم تعد المرأة تجد نفسها إلا بين القضبان السوداء ! ولم يخرج عالمنا من جلده السميك منذ أيام داحس والغبراء .. منذ أزمان وهو لا يعرف إلا التمييز بين ذكر وأنثى ، وليس من هم وغم إلا المرأة ، وكأنها أتت من عالم آخر ! لم يعترفوا حتى اليوم أنها النصف الآخر ! إنها الأم والأخت والبنت والزوجة .. إنها الحبيبة .. إنها النصف الآخر ، إذ لا يعتبرونها نصفا ولا حتى قلامة ظفر .. وبات الكل لا يدرك من الحياة إلا قطف الزهور حتى وهي يانعة .. كثر المتسلطون عليك سيدتي .. كثر الضباع من حولك .. لا يريدونك إلا قطعة أثاث ليس إلا ! قمعوا حريتك ، وسيطروا على حقوقك باسم مجتمع لا يعترف أبدا بخطايا الذكور .. كثر كل الذين لا يعرفون إلا البتر والرجم والتكفير وإطالة اللحى وقتل الحياة ، فهل سترجع عقارب الساعة إلى الوراء ؟.. إنني لم اعد استوعب مشكلة من ينحر نفسه بنفسه وهو في قبضة التناقضات .. لماذا لا يفكرون ؟ لماذا لا يتدبرون ؟ ألا تتساءلون معي : لماذا تتآكل حصوننا من دواخلها المتعفّنة لأننا نمعن في اضطهاد النصف الآخر ؟
(10) فسحة الأمل بلا نهايات
    لن تنتهي كلماتي بعد !  لن تنتهي أنفاسي بعد ! ومعي ثلة من الناس الذين يتمتعون بنعمة التفكير يشاركونني فرص الأمل.. لي أصدقاء قدماء وجدد في هذا العالم لا اقدر اعتزازهم بأية أثمان وهم يحسّون عظم المأساة التي حطّت علينا .. فمن يخلّص عالمنا من الدمار والانسحاق ؟ من يخلصّه من قبضة الجهلاء والبلهاء والسفهاء ؟ من يمنحه حق الحياة الجميلة ؟ من لا يميز البشر بين الاكثريات والأقليات ؟ من لا يميز بين الأعراق والقرابات ؟ من يفاضل على أساس ثقافي أو حضاري ؟ إنني مؤمن بفسحة عريضة من الأمل .. من يبدأ التفكير من جديد .. ؟ من يعلمنا بأن عالمنا لم تعد تثقله إلا السراديب القديمة ؟ إن مدنا عريقة في عالمنا لا تجد نفسها إلا وهي تعيش قبل قرون وهي محشوة بالبشر الذين تفتك بهم كل الجهالات ! فهل ثمة مشروع حياة جديد يأخذنا منذ هذه اللحظة نحو الخلاص كي نعيش هذا العصر ولا نكن في زنازين عصور أخرى ؟ إنني مؤمن بان الشمس ستشرق في يوم قريب .. ولكن أسألكم: من يقف معي في مثل هذه الأفكار ومن يقف ضدي إزاءها ؟  فإلى ذاك الذي يقف ضدي ادعوه إلى التأمل قليلا وهو يتمثّل نفسه وقد ابتعد تماما عن حياة هذا العصر  ، فهل باستطاعته البقاء ساعة من الزمن خارج هذا العصر ؟

تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل يوم 10 آذار / مارس 2009
www.sayyaraljamil.com





18
نداء إلى السادة المسؤولين العراقيين

أ.د. سيّار الجميل

تسلمت البارحة صرخة رفعها العديد من الأساتذة الأكاديميين العراقيين الذين يعانون اليوم كثيرا سواء الذين رجعوا إلى الداخل ، أم الذين ما زالوا في الخارج ، وقد حاصرتهم الحياة الصعبة ، وأذلهم الزمن مذ خرجوا من وطنهم صاغرين متشردين في هذا العالم . لقد طالبني العديد من الزملاء والأصدقاء أن اكتب مدافعا عن حقوقهم، وموضحا معاناتهم .. واغلبهم ممن تجاوز الخمسين من العمر ، ولهم عوائلهم ومسؤولياتهم وأمراضهم وقد هدّتهم أوضاع العراق .. إنهم يصرخون من اجل أن ينقذهم العراق ، وهم يشعرون بالظلم ، عندما يجدون غيرهم من العراقيين يتمتعون بأكثر من حقوقهم ، وهم الذين تعبوا وقدّموا وبنوا أجيالا يجدون أنفسهم مهمشين ، مبعدين ، وأذلاء محاصرين .. خصوصا عندما يعلمون أن عراقيين يتمتعون برواتب خيالية يقبضونها شهريا ، وقد احتسبت لهم من خلال لجان خاصة .. وقد قبضوا على مبالغ كبيرة احتسبت عن كل الزمن السابق فضلا عن رواتب بآلاف الدولارات جارية طوال حياتهم !! إن هناك الآلاف المؤلفة من الأساتذة العراقيين قد اضطروا إلى الهجرة من العراق بوسائل هرب مختلفة ، والتشتت في هذا العالم ، لأسباب مختلفة  سياسية واقتصادية ، إذ اغلبهم لحقهم العوز جراء راتب شهري يعادل دولارين أو ثلاثة .. إنهم لم يجدوا إلا أن يهربوا وينقطعوا عن مؤسساتهم التي أنذرتهم بالعودة .. ولكنهم لم يعودوا خوفا من تعاسة المصير ، أو عودة إلى حياة معدمة .. لقد تشّرد العدد الكبير من الأساتذة العراقيين حتى اليوم ، ولكنهم يطالبون بحقوقهم الوظيفية .. يطالبون بان تحتسب خدماتهم في أي مكان في العالم لأغراض التقاعد .. يطالبون اليوم بحقوقهم لا أكثر ، فهم هربوا من جحيم الحياة الصعبة وكان هناك من فصلهم من وظائفهم .. نعم ، لقد أضناهم العيش وكبرت أعمارهم ، وثقلت مسؤولياتهم ، وأنهم بحاجة وعوز اليوم .. وهم عراقيون لم يشاركوا بقتل احد ،  واغلبهم كانوا قد أدوا خدمتهم العسكرية بأسوأ الظروف . فلماذا يحرمون من حقوقهم ؟ ولماذا يمنح غيرهم آلافا من الدولارات شهريا ، وهم لا يملكون ما يسدون به رمقهم ؟ إن القانون في دولة القانون ينبغي أن يسري على الجميع ، فليس من الإنصاف والعدل أبدا أن يتسلم غيري آلاف الدولارات شهريا  كونه احتل منصبا لمدة وجيزة في الدولة  بعد سقوط النظام السابق سنة  2003  ، وأنا  لا استحق حقوقي وكنت قد خدمت لعدة سنوات في مرافق الدولة ، وعانيت من الأمرين ؟ وليس من العدل أن تصرف للكثيرين رواتب عقود من السنين كونهم معارضين سياسيين كانوا في الخارج وهم لم يشتغلوا في الدولة وتجري رواتبهم مدى حياتهم بالدولار .. والآخر عمل وداوم واهين ونال قسطه من الإذلال والحرمان ما يكفي ولكنه يعيش الكفاف اليوم ؟  ..  إنني الفت نظر السادة المسؤولين العراقيين ، أن العراقيين كلهم أبناء وطن واحد ، ولا يمكن أن يتم تمييز هذا عن ذاك ، إلا بكفاءته وما قدمه للعراق والعراقيين .. لابد أن تسود المرونة في تطبيق القانون على الجميع ، لا أن يستسهل الأمر هنا ويصّعب  هناك .. المتقاعدون الذين هاجروا تجمع حقوقهم متى طالت غيبتهم ليستردوها ، ولا يمكن أن يسقط حقه بعد غياب 5 سنوات ! إن التعسف لم يزل ساري المفعول في الدولة العراقية إزاء المجتمع العراقي .. لماذا ؟
يقول واحد من الطلبات : "  خلال السنتين الماضيتين  صدرت عن مسؤولين في الدولة   شعارات عن إجراءات لإصدار قوانين جديدة تعمل على أنصاف الموظفين والمتقاعدين وتحقق لهم كرامتهم ، وفعلا  صدر قانون الخدمة الجامعية ألذي أعطيت فيه حقوق ممتازة للموظفين  والمتقاعدين وجاء واضحا فيه أنه يشمل المتقاعدين السابقين , حتى إذا ما انتقل القانون هذا إلى  مرحلة التطبيق ، أصدرت وزارة المالية تعليمات تحدد من يشملهم القانون  بأولئك الذي تقاعدوا بعد سنة 2005م.    مما يعني إلغاءا  لحقوق ألمئات بل الآلاف من الأساتذة العراقيين سواء في الداخل والخارج ، الأمر الذي زادهم إمعانا في المعاناة وذلك بإبقائهم في حالة من العوز الشديد والحاجة والشعور بالأسى. وهنا يتساءل الآلاف من العراقيين : أين أذا حقوق الإنسان من هذا ؟
وأين هي الشعارات المرفوعة من هذا الذي أصدرته وزارة المالية ؟ ومتى  كانت التعليمات أقوى من القانون !؟ ويستصرخ البعض أن هناك مئات من أساتذة الجامعات وغيرهم من موظفي الدولة ممن اضطروا إلى مغادرة العراق لأسباب معروفة ومبررة بحثا عن أماكن يامنون فيها على حياتهم وحياة أسرهم  .وقد كانوا يتطلعون  إلى رعاية الدولة لهم وإنصافهم وذلك بإعادتهم إلى وظائفهم ، أو منحهم الحقوق التقاعدية التي يستحقون .  إن هناك من تقدم بطلب أحالته إلى التقاعد ، وقد صدرت لهم بذلك أوامر جامعية ووزارية  ، وعندما وصلت معاملاتهم إلى دائرة التقاعد ، رفضت هذه الأخيرة تسلم معاملاتهم بدعوى أنهم يعتبرون في عــداد المستقيلين  وموضوعهم أنهم غادروا العراق وللأسباب التي ذكرت أعلاه  للتدريس في جامعات عربية  ولم يقدموا استقالات ، بل خرج كثير منهم بموافقات جامعاتهم الرسمية ، وعندما انتهت أجازاتهم  خارج العراق ، صدرت – كالعادة- من  جامعاتهم  قرارات باعتبارهم مستقيلين من وظائفهم بعد مضي فترة محددة ، كما هو معمول به إداريا في البلاد. أذا ، فهم في ضوء ذلك لم يستقيلوا بل اعتبروا مستقيلين ، فلماذا والحالة هذه تمتنع دائرة التقاعد من تسلم وتمشية معاملاتهم التقاعدية ؟ وتنكر بذلك عليهم حقا قانونيا ودستوريا وإنسانيا في الوقت الذي تصل فيه خدمات بعضهم في الدولة إلى الخمسين عاما ، وقد استوفيت عنها التوقيفات التقاعدية منهم حسب الأصول ! ولدى مراجعة بعـض من تقدم بإحالته إلى التقاعد من المذكورين أعلاه  في الفقرة السابقة إلى دائرة التقاعد  مع موافقة وزارة التعليم العالي ، ألا أن دائرة التقاعد العامة لم تستلم معاملاتهم بدعوى :- أن كلّ من أعتبر مستقيلا خلال الفترة من 1996- 2003 م , لا يستحق راتبا تقاعديا وذلك – حسب قولهم – استنادا إلى تعليمات لديهم بهذا الخصوص!  وهنا لا ندري ما هي تلك التعليمات؟ ومن الذي أصدرها؟ وأين نشرت ومتى بالضبط؟ لقد فتش هؤلاء في كل المصادر ، وفي الوقائــع العراقية ، وكذلك السؤال من المطّلعين  من المحامين ومن ذوي الاختصاص .. والكل قال: لا توجــد هكذا تعليمات ، وهكذا ظل هؤلاء الزملاء تائهين ماذا عساهم يعملون أمام من ينكر عليهم أهمّ وأقدس حقوقهم ورزق عوائلهم بعد هذا الزمن الطويل الصعب من حياتهم ومعاناتهم !
 ويؤكد آلاف الأكاديميين العراقيين قائلين : إن ما ينبغي تأكيده هنا ، أننا خدمنا وطننا وأبناءه بكل تفان وإخلاص ، ولم ندخر جهدا ، إلا وبذلناه ، وبكل تفان ونكران ذات ، وخلال عشرات السنين من الخدمة المخلصة ، وقد تخرّج على أيدينا خيرة أبنائنا وأبناء الأقطار الشقيقة  الذين _ وبكل اعتزاز_ تبوأوا مراكز علمية وإدارية يفتخر بها الوطن ، والآن ونحن نعيش في المهجر وبلاد الغربة نعاني من فقدان فرص العمل ، وأي مصدر للعيش وحق التقاعد ، نقول  أن بلدنا هو الذي من المفروض أن يصون كرامتنا ويهتم بتوفير العيش الكريم لنا. لقد كنا قد رفعنا اسم العراق عاليا من حيث المستوى العلمي والضبط والدقة والكفاءة النادرة .
لقد صدرت في بلدنا خلال العام الماضي دعوات إعلامية كثيرة سواء من مسئولين على صعيـد مجلس الوزراء ، أو وزارة التعليم العالي بأن العراق يفتح ذراعيه واسعا لعودة أبنائه من الأساتذة والعلماء المهجّرين والمهاجرين ، وهو مستعد لأعادتهم إلى وظائفهم ،  ومنحهم امتيازات شتى نصّ عليها بما لا يقبل اللبس والاجتهاد ، ومنها قرار مجلس الوزراء الموقر رقم ( 441 لسنة 2008 ) المؤرخ في    17/12/2008 . هذا وقد أستثنى ذلك القرار الأساتذة من شرط العمر، فماذا لا يفّعل ذلك ؟ إن عدم أعادة الأساتذة والعلماء بدعوى عامل السن هو أمر غير مبرر لأنه يحرم مؤسساتنا التعليمية من تخصصات وخبرات كبيرة ومهمة .
 إنني أهيب بالسادة المسؤولين العراقيين ، أخذ هذا " الموضوع " بالاهتمام من اجل مواصلة السعي من أجل عودة  الحقوق لأصحابها ، حفاظا على كرامة أساتذتنا ورجالات العلم العراقيين الذين يكفيهم بهذلة وإذلالا  ومشقة وصعابا ..
 وأخيرا ،  إن هذه الصرخة رغم أنها تخص شريحة الأساتذة الجامعيين وتطرح قضية جامعـّية ، ألا أنها تساند في الوقت ذاته كلّ دعوة مخلصة لأنصاف الشرائح الأخرى من المجتمع العراقي  ألذي ضحّى كثيرا وتحمّل من أوزار الحروب والفساد الإداري والمالي وانعدام الخدمات  بما لا تطيق حمله حتى الجبال . دعونا نبقى متابعين لهذا الشأن من اجل إحقاق كلمة حق وإنصاف لكل العراقيين وتحقيق مجتمع العدالة في دولة القانون .   

جريدة الصباح ، 5 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com

 


19
المنبر الحر / احتضار مثقف عراقي !
« في: 16:06 02/03/2009  »
احتضار مثقف عراقي !

أ.د. سّيار الجميل

" كعهدك ستبقى تورطنا بالامل يا سيار "
الراحل امير الدراجي

مقدمة : دعونا نتأمل
كنت قد وعدت القراء الأعزاء بوقفة تأملية في بعض مقول قول المثقف العراقي الصديق الراحل أمير الدراجي .. وها أنا ذا اخترت أن أتوقف عند جملة من التعابير التي تطالبنا بالمزيد من التفكير .. إنها حكاية احتضار أي مثقف عراقي حقيقي .. دام ذلك الاحتضار سنوات طوال ولم يلتفت أحد إليه البتة .. لا في حياته ولا بعد رحيله المؤلم ، ليغدو رقما في سلسلة المثقفين العراقيين الراحلين .. ها أنا ذا أقف وقفة تأملية فلسفية وأدعو كل من يريد أن يفكّر معي من قرائنا الأعزاء إزاء تشخيص المعاناة التي جسدها بفكره وخطابه الصديق الراحل أمير .. وكنت احفزه دوما ، وأشعل أمامه النار ، وكان يعتبر ذلك ورطة للأمل المنشود الذي كان قد افتقده الرجل منذ زمن بعيد .. وكان يفكّر في مساحة هي غير المساحة التي أفكر عليها . وكانت قد انتهت عنده كل المساحات . فماذا وجدت في خطابه من مقول قول يعبر تعبيرا حقيقيا عن احتضار مثقف عراقي أنجبه القرن العشرون.. ؟؟ لقد عاش المثقفون العراقيون منذ خمسين سنة مضت ، وما زالوا يعيشون القهر والضيم والذكريات المريرة . إن من رحل منهم ومن ينتظر .. فهو في حالة احتضار متقّطع ، ففي كل لحظة زمنية يعيش مأساة جديدة لا يمكن للمرء أن يتخيلها .. دعوني أتوقف عند مثقف عراقي راحل عانى من احتضار طويل ، وكانت له الشجاعة كي يعّبر تعبيرا رائعا عن ذاك الاحتضار !

سليل الثقافات بملابس خاكية
وجدت أميرا " لا يريد أن يكرر ما اعتاد عليه الآخرون من استخدام نفس العبارات ! " ـ كما يقول ـ ، وعنده الحق كونه من المثقفين المحترفين الذين يؤمنون بالتفكير لا بالتقرير .. ويؤمنون بالتجديد لا بالتقليد .. يؤمنون بالإبداع لا بالأتباع  .. ويعّلق : " إن  الغربة ليست واحدة ، بل غربات لا متناهية " ! أواه كم تعذبت أيها المثقف العراقي في وطنك من عذابات ، فلم تعد تنشد غربة واحدة ، بل عدة غربات ! أواه كم طال احتضارك ، وأنت تتعذّب في وطنك الذي احرقوه أمام عينيك ، وأنت لا تدري ماذا تفعل ! أواه ، كم أهانوك ، وهم كائنات من سقط المتاع .. جهلة ومتخلفون ليس عن ركب الحضارة فحسب ، بل حتى عن ركب الحياة نفسها ! أواه كم جعلوك تكرههم وتبقى ملتصقا بوطنك وأرضك وعطر ترابك القديم في ارض وادي الرافدين !  وانتقل إلى صورة أخرى يقول فيها أمير بأنه " لا يعتبر نفسه مواطنا جديدا ، بل من مخلفات القرن العشرين الرائعة ! " .. فمن الطبيعي أن يخرج للعالم وقد شكّلته مجموعة من العظام وفيها روح عظيمة .. روح مثقف عراقي أسطوري قديم البسوه ، أو أرادوا أن يلبسوه ملابس ( عراقي ) جديد تحت شعارات خاكية ومسميات لا أول ولا آخر لميليشيات تافهة العناصر ليس لهم الا التصفيق والرقص .. وقد ذبح المتخلفون حناجرهم وهم يرددونها في الشوارع البائسة بمسيراتهم وتظاهراتهم وسيطراتهم عند فوهات المدن ومسدساتهم المتدلية وشواربهم الكثة .. وأنت قابع تنتظر فرصة الهروب مع روحك العظيمة وعظامك الرميمة إلى خارج الحدود لتسمي نفسك من مخلفات القرن العشرين الرائعة !

وطن رائع بايدي البرابرة
كنت ـ كما قلت يا أمير  ـ تخجل من : " حنين للوطن كونه يرتبط برسم تراث بربري حروبي .. انه يتجاوز الوطنية إلى الكونية ! فالوطنية بربرية متوحشة والإنسانية أخلاقية كونية ! " نعم ، هكذا أوصلوك إلى مثل هذه الحال والأحوال ، لتقول مثل هذا الكلام المثقل ليس بكره الوطن ، بل بحبه ، وأنت تجده وقد أصبح ألعوبة بيد سفاح أشر ، أو أضحوكة بيد بربري متوحش .. أو شوارع اسفلتية قائضة لسحل الإنسان .. أو ضفافا لبناء القصور الرئاسية .. أو بحيرات واهوارا مجففة ماتت فيها الحياة .. أو سجونا وقلاعا للأسرى والمعتقلين .. أصبح وطنهم هم ، وقد تركوك بعيدا بعد أن قتلوا فيك كل المشاعر والأحاسيس وجعلوك تحتضر سنينا .. ومات الواحد منّا تلو الآخر ولم يرتو أحد منّا من ماء النهرين الأزليين دجلة والفرات .. وطن سجلوه بالطابو باسم تراثهم البربري المتوحش كونه غدا مقاطعة باسمهم واسم من خلفهم .. وهكذا ، أصبح كل مثقف عراقي كالمومياء ، سّبة في العالم كله ، كونه قادم من بلاد التوحش .. ولم يقتصر التوحش على تلك الضباع  في داخل العراق ، بل جعلوا موتى الضمير يتوزعون على العالم أيضا ، إناثا وذكورا ، مستغلين البطاقة الإنسانية التي وصفها أمير بالأخلاقية الكونية .. جاءوا واستقروا في إرجاء العالم، وبالأخص بريطانيا وأمريكا وأرجاء أوروبا ، ليلعنوا العراقيين لعنة أزلية ، ويلاحقوا كل المثقفين العراقيين الأحرار، ويجهضوا عليهم ! وثمة إشكالية مثيرة للتناقضات ، فهؤلاء إذا كانوا أعداء للغرب والاستعمار .. فكيف لهم أن يقيموا فيه ويحملوا جنسياته وانتماءاته ؟؟ إن أميرا يتأوه صائحا بوجه الضباع حتى وان اكتسى الضبع قلائد كاذبة باسم مثقف ، أو مختص ، أو خبير ، أو شاعر .. الخ إذ يكفي أن يستذكر كل العراقيين مآسي مثقفين رائعين وأكاديميين كبارا كانوا ضحايا أبرياء بعد تعذيبهم تعذيبا بطيئا وعلى نار هادئة !

مثقف يقتلعوه من الجنة !
أمير المثقف المحتضر ، لم يكره العراق / الوطن ، بل كره من كان يستخدم هوية العراق له ، وهو بلا هوية إنسانية ! يقول : " إن الخروج من الوطن هو الاقتلاع من الجنة . أنا لا أتوقف عند المفهوم الفاضل للجنة , بل اخترق هذا الجدار السحري للمفردة  واعترف بان الفضيلة الإنسانية ، هي ما بعد الجنة .. " .. إن الجنة التي تركها للحفاة والعراة من تراث العراق الخالد لا يريدها أبدا ، كونهم سجلوها باسمهم .. وكانوا وما زالوا برابرة ومتوحشين يكرهون العراق كرها لا حدود له ! وكأنهم غرباء عنه .. وكأنهم يمتلكون ولاء لطرف آخر من الأطراف .
ونتابع معه قوله " وأنا وريث العصيان الأول وريث نكران الإعماء الوطني والقفر المعرفي .. " انه سليل ثورة البحث عن الخلود ، وهي أول ثورة فكرية في تاريخ البشرية .. ولكنه مع الأسف اليوم غدا وريثا لكل هذا العمى الوطني لمجتمعه الذي يرقص أمام تلك الداهية ، أو ذاك الزعيم ، أو ذلك المشير ، أو تلك الصناجة ، أو هذه الضرورة .. وهو مجتمع أقفر من المعرفة ، ويسوده الجهل ، ويطبق عليه الانغلاق ! لقد وصلت حالة التمرد عند بعض المثقفين العراقيين إلى أوج مداها إبان النصف الثاني من القرن العشرين كي نجد صنفا رائعا من المثقفين المتمردين حتى على ذاتهم .. وخرج من بينهم بعض المتشردين والمتسكعين والمدمنين والعابثين والمجانين والضالين والثوريين والمساجين والمعتقلين .. الخ فلا غبار أن نجد مثقفنا يقول : " أنا غريب حتى عن رحم أمي . لا اشعر بأي طمأنينة حتى في بلدان تضع الحرية والإنسانية بمكانة أهم من الآلهة .. " ! ويتابع في مكان آخر ، قوله : " كنت في العراق  أخاف من نفسي ومن أفكاري  , أخاف على صحبي وأخوتي وأسرتي . لذا قطعت  نفسي , اجتثثت جذوري من تحميل أهلي مسؤولية ما أفكر به " .

من جعله يحتضر ؟ من قتل ركائزه ؟
وأسأل : لماذا تصل الحال عند مثقف عراقي ملتزم إلى هذا المآل ؟ ما الذي جعله يشعر بفقدان الانتماء حتى عن رحم أمه ؟ من الذي افقده الطمأنينة وراحة البال ؟ أو بالأحرى من قتل حريته البسيطة التي يريد من خلالها أن يغني .. أن يرقص .. أن يكتب شعرا .. أن يشرب كأسا ، أن يأكل خبزا ، ويدك اصباعتين .. أن يمضي إلى حيث يريد في ارض وطنه .. أن لا يراقبه احد .. أن لا يحصي أنفاسه أحد .. أن لا يهينه احد .. أن لا يرشق بنظرة مخيفة  .. أن لا يوشي به احد ظلما وعدوانا .. أن لا يخطفه أحد .. أن لا يقطع رقبته أحد .. ؟؟ إن المثقف الحقيقي إنسان حر ، وإنسان لما فوق العادة ، فالحرية والإنسانية التي وجدها في مكان غير العراق جعلها في مصاف الإلهة ! فهو هنا لا ينتمي إلى وطن كالعراق، يسحقه العراقيون سحقا ويدمروه تدميرا ، ولا يقف مع معاناته ومأساته منهم أحد .. وهو يجد نفسه وقد حوصر من قبل أغبياء ، ورعناء ، وأميين مفلسين وجهلة مارقين ـ كما يقول ـ " بهذا الغباء والرعونة لمفهوم متوتر حروبي يستغفلنا من قبل مجموعة من الأميين ثقافياً والمفلسين أخلاقيا والجهلة إنسانيا .. وطننا هو رسالة كونية ثقيلة العيار  .. ولهذا اجزم واكرر دائماً ومن حق الآخر  أن يسألني ويسمعني .. أنا مؤمن بشعاري أكرهك يا شعبي احبك يا وطني !! " . هنا نسأل : هل كره المثقف العراقي شعبه ، أم أنها نفثة الم وآه انسحاق قالها أمير الدراجي ، وهو ببيروت يشهد مأساة الحرب الطاحنة بين العراق وإيران ؟ إنني اعتقد أن أي مثقف عراقي ، وبضمنهم أمير نفسه ، لم يكره شعبه أبدا .. أبدا . إذ لا يمكن أن ينفصل أي عراقي ، مهما كانت غربته عن أهله ، إذ يبقى يحمل هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم باستثناء اولئك السفهاء الذين ماتت ضمائرهم ..
مشكلة المهرجين .. والمنافقين
وربما ثمة تفسير آخر ، وجدته وأنا اقرأ ما كتبه شتراوس وهو يحلل الأصول الانثروبولوجية لسايكلوجية البعض من المثقفين الأحرار ممن لهم أحاسيس جد مرهفة .. فهم يحاولون التخلص من كل تناقضات المجتمع بالانعزال عنه ، بعد التمرد عليه وإعلان البراءة منه .. ولكنهم يبقون ملتصقين بأعماقهم أي بأوطانهم .. ويموتون بعد احتضار طويل الأمد ، بسبب غربتهم عنها ! وهذا ما أجده ليس عند أمير وحده ، بل عند اغلب المثقفين العراقيين الأحرار الملتزمين ، وليس عند أولئك المهرجين ، أو المنافقين الذين ترقصهم الشعارات ، أو أولئك الذين يسميهم أمير بالأغبياء المنافقين ! واسميهم أنا بأنصاف المثقفين ! انه يعرفهم ، كونه خبرهم وعاش معهم أكثر مني .. فهو يقول : " هذا  تراث  وفولكلور  ثقافي  قديم  بني  على  النفاق .."  ويتابع : " اجل  كنت مناضلاً  راهباً  . وهذا  يعرفه  الجميع  عني  لكني  أبول  على  هذا  "  المجد "  بل هذا  العار  المخجل "  . انظروا إليه الآن ، وهو يرفض كل ذاك المجد المزيف الذي بني على النفاق .. سجّل مناضلا راهبا متبتلا في محراب الثورة من اجل تحرير فلسطين وقد أتى من العراق .. ولكنه اكتشف هول الفاجعة ، فلم يعد يريد أن يسميه أحد بمناضل ! لقد آمن بجملة من المبادئ التي لم يزل يصفق لها الأغبياء من المهرجين والمنافقين ، ولكنه بال عليها ، وعلى أمجادها التي قادتنا هي الأخرى إلى الهزائم المخجلة ! لقد كشف لنا الزمن بضاعتهم بعد سنوات من دجلهم .. قال لي صاحبي منذ زمن طويل ، وهو يهمس خوف التقاط ما يقول : انظر إليهم وافعالهم في مهرجاناتهم سيئة الصيت التي كانت تحييها الراقصات المبتذلات اللواتي يجلبوهن من هنا وهناك ؟ 
وأخيرا .. ماذا يريد امير ؟
يقول : " نحن بحاجة لتطهير  ذاتي   وتبتّل   شخصي  , لذا  لابد  أن  تكون خطوتنا الأولى هي الاعتذار كثيراً من أمجادنا  وتواريخنا  كما اعتذرت الأمم عن أخطائها . ولكن هذا  يحتاج  لألف عام قادمة ،  لان العرب من الطفل  حتى الزعيم  كلهم  آلهات وبرر ومعصومين  لا يعرفون  الخطأ  " . دعونا نفكّر طويلا بهذا النص ونتأمل ما يطالبنا به فقيدنا أمير .. تطهير ذاتي أولا وتبتّل شخصي ثانيا .. إذن أخلاقية راهب هي البدء ، فالمعرفة لا تبني على وضاعة وانحراف ! ثم الاعتذار ممّن ؟ من ذاك الذي جعلناه فوق رؤوسنا واعتبرناه أمجادا .. ويقايسنا بالأمم الأخرى التي اعتذرت عن أخطائها ! هنا اختلف معه فالأمم الأخرى كانت لها قطيعتها مع الماضي من دون حاجة كي تعتذر ، والقطيعة أهم وأفضل لنا .. فمن يعتذر لمن ؟ ربما كان مصيبا في ألف عام قادمة .. فالأمر ليس هينا كي يكون لنا وجود رائع بترسبات ومخلفات وبقايا شنيعة مع إبقاء المثقفين يحتضرون وهم غرباء يتمزقون ويموتون في عزلتهم عن أوطانهم .. وقد صدق الراحل أمير الذي مضى فالكل زعماء والكل رهبانا والكل أبرارا، والكل أفذاذا ، والكل ملائكة .. ولم نجد من يعترف بذنبه ، ويتراجع عن خطئه ويتقدّم للناس يقول لها : اطلب منكم أن تسامحوني قبل أن اطلب المغفرة من الله ..
نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 2 فبراير / شباط  2009
www.sayyaraljamil.com
( مع النسخة المنشورة على الموقع : ملحق ببعض رسائل المثقف الراحل أمير الدراجي إلى الدكتور سيار الجميل )


20
استحقاقات العراق


أ.د. سيّار الجَميل



 لقد انشغل اغلب العراقيين بالسلطة ، في حين ابتعد الآخرون هاربين ، او محبطين ، او يائسين بائسين من مشهد العراق ، وهو يمر بأقسى حالاته على امتداد خمس سنوات بعد ان عاشوا زمنا مضنيا قاسيا ومرعبا مّرت عليهم اضطهادات ، وملاحقات ، وحروب ، وعوز ، وأهوال ، وحصار  .. وإذا كان المواطنون قد عانوا على امتداد أكثر من ست سنوات من افتقاد الأمن والخدمات  ، فإنما تشغلهم اليوم مشكلاتهم ومستلزمات حياتهم الصعبة ، فان كل القوى السياسية بمختلف أطيافها وألوانها ، اتجاهاتها ونزوعاتها قد غرقت بما يمكن أن تحصله من نفوذ وقوة وسلطة ! إن العراقيين كلهم ، لم يعد يسألون عن استحقاقات العراق ، تلك التي كان لابد لها أن تكون ، والعراق يحاول أن يخرج كالعنقاء من صراعات دموية ، وانسحاقات كبيرة ، دفع ثمنها كثيرا من أبنائه وأهله ، ونهب المزيد من ثرواته وموجوداته .. إن الوطنيين العراقيين ، كقوى سياسية أو حكومية أو حتى معارضة .. إذ شغلتهم أمور أخرى كالسلطة والسيادة والقوة والأمن ، فليس معنى ذلك أنهم يتغاضون عن استحقاقات العراق .. فالمسألة وطنية وليست سياسية ، وهي ليست ابنة الحاضر بل إنها قضية مستقبلية أساسا .. بمعنى أنها تاريخية لها ارتباط قوي بحقوق من سيأتي من بعدنا كي يسألنا نحن أبناء هذا الحاضر : ماذا فعلتم بشأن استحقاقات العراق ؟ وماذا أكسبتم العراق من حقوقه التي ينبغي أن يستحصلها من كل العالم الذي ساهم في سحق العراق وطنا ، وبشرا ، وبنى تحتية وفوقية ، وموجودات ، ونهب ثروات منذ حرب 1991 وانتقالا الى هجمة 1998 ومرورا بحرب 2003 وانتهاء بتداعياتها المستمرة.. ؟؟ علينا أن نسأل عندما سحقت محطات كهرباء العراق .. هل كانت ملكا مسجلا باسم صدام حسين ، ام كانت باسم الشعب العراقي ؟ ولماذا لم تحطّم قصور صدام حسين ، ولكن حطمت المرافق الحيوية ؟ وقس على ذلك
ان الجهل بتواريخ العلاقات الدولية ، يجعل اغلب العراقيين يتخبطون ، ولا يعرفون من أين تمسك خيوط القضية ! ثمة مجنون أرعن سعى بالتوقيع على أي معاهدة كانت مع الامريكيين من دون قيد او شرط ، كونه مقتنع بان امريكا ستبقى الاب الرحيم للعراق ( كذا ) ، وانه سيكسب مصالح إقليمية ، أو فئوية ، أو جزئية على حساب المصالح الوطنية العليا ، وقسم يتخبط بين القبول والرفض ، فهو مشّبع بقيم ومبادئ معينة ولا يريد أن يفّرط بها  ، وقسم أخير يرفض رفضا قاطعا اي اتفاقية مهما كان نوعها مع الأمريكيين كونهم محتلين للبلاد التي دمروها وسمحوا لكل من هّب ودبّ من وراء الحدود ،  أن يعيث فيها فسادا .. ويعترف الأمريكيون بأنهم جاءوا من اجل المصالح المركزية الأمريكية ووسائلهم في ذلك : الخلاص من أسلحة الدمار الشامل ، والقضاء على الإرهاب ، ونشر الديمقراطية في العالم العربي .والعالم كله لا يعرف حتى الآن الأسباب الحقيقية لغزو العراق عام 2003 ..ويجهل ماذا تتضمن الإستراتيجية الأمريكية لخمسين سنة قادمة .. إنني أقول ـ بتواضع شديد ـ كمؤرخ محترف أدرك أن كل الدول المهزومة توقّع على اتفاقيات بعد أن يصار إلى هدنة ..كما أن العالم كله بات يتعامل مع الأمريكيين من خلال اتفاقيات ، ولكن تلك " الاتفاقيات " لا تمس لا بالسيادة ، ولا باستقلالية القرار ، ولا بالمصادر والثروات ، بل ولا علاقة لها بالمصالح العليا لكل بلد .. ولكن العراق اليوم وسط غابة تعج بالمفترسين في الشرق الأوسط ، بحاجة ماسة إلى أن يتفاهم مع الأمريكيين على مبادئ أساسية . أولها إعلان مبادئ وطنية ، تقبل بها الولايات المتحدة وتنص على وحدة العراق وسيادته واستقلاله وقوته والحفاظ على ثرواته .. كما لا يمكن لأي عراقي له قدر من الوطنية ، أن يقبل أية اتفاقات من دون قيام الولايات المتحدة باعمار ما قامت بسحقه في العراق بدءا بالعام 1991 وانتهاء حتى اليوم . على كل العالم إطفاء ديون العراقيين الذين لم يكن لهم أي مسؤولية في صنع القرارات الجائرة سابقا  .. وان نشترط إيقاف ما يسمى بالتعويضات للدول الأخرى التي استنزفت ثروات العراق ، ولم تزل .. وأن تقف الولايات المتحدة مع العراق في مقاضاة دول نالت من حقوق العراقيين وأموالهم وطائراتهم وثرواتهم والعبث بكيانهم الاجتماعي بقتل أساتذتهم وعلمائهم وطياريهم .. وان نطالب الولايات المتحدة بتعويض العراق لكل ما قامت بسحقه من طائرات وأدوات حرب ودبابات ومجنزرات وسيارات .. إن العراق ينبغي أن يطالب بكل مفقوداته النفطية على امتداد زمن طويل ، وان يطالب بالتعويضات عن شعب برئ حوصر ظلما وعدوانا لسنوات طوال ، والكل يدرك بأنه لم يكن مسؤولا ، أو مشاركا في الحكم عهد ذاك.. على العراقيين أن يكونوا أكثر جرأة وشجاعة بالمطالبة بحقوقهم الوطنية .. فهل هم مستعدون لذلك ؟ هل هناك إرادة وطنية واحدة كي نطالب باستحقاقاتنا تضمن مستقبل كل من دولتنا ومجتمعنا ضمن مشروع وطني جديد .. أم أن العكس هو الحاصل اليوم ؟ كيف تريدني قبول الأمر الواقع وقد جعلوا حالتنا  العراقية تختلف عن حالة اليابان وألمانيا بعيد الحرب العالمية الثانية ؟ إذا ضمنت الولايات المتحدة لي حقوقي الوطنية في مشروع حضاري متقدم أسوة بالأمم المغلوبة المنطلقة بعيد الحرب العالمية الثانية ، فان كل عراقي سينام مرتاحا ، وقد أمّن على ماله وعرضه ومستقبل أولاده . ولكن عندما يجد نفسه مخنوقا وضمن اتفاقات لا تؤمن مستقبل وطنه وأمنه وأعماره ، فسوف يرفض ، وسيفتح أبواب الجحيم حتى ولو بعد حين .. إنني أقدم ندائي لكل العراقيين قادة ومسؤولين ونخبا ومواطنين .. فهل من مجيب ؟ .

الصباح ، 27 فبراير / شباط 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com



21
العرب بعد خمسين سنة !!

أ.د. سيّار الجَميل

العرب كلهم لم يفكروا حتى يومنا هذا بمستقبلهم ، ليس لأنهم منظومة مفككة .. بل لأن مشكلاتهم الداخلية والخارجية اكبر من قدرتهم على أن يفكروا ! وإذا يتأمل المرء في ذلك طويلا ، يجد أن هذا بدوره سببا واهيا ، كونهم منذ أن أسسوا منظمة تجمعهم اسمها جامعة الدول العربية ، فهم لم يفكروا أبدا  بما يمكن أن يحصل لو نضب النفط من أرضهم المجدبة !! كما لم يفكروا بأية بدائل حقيقية يمكنها إنقاذ ما يمكن إنقاذه  ، خصوصا وان ثورة ديمغرافية هائلة يعيشونها منذ سنوات ، وان معدلات النمو السكانية تتفوق على ما يمكن أن يسد الرمق اليوم ، فماذا سيحصل بعد خمسين سنة من اليوم ؟ إن قدراتهم معطلة تماما عن الإنتاج والتنمية وصناعة الثروة ! ان بلدانهم الفقيرة تزداد انسحاقا ، وبلدانهم النفطية تزداد تبديدا لثرواتها .. العرب كلهم يستهلكون أكثر بكثير جدا مما ينتجون. إنهم لم ينجحوا أبدا في بناء بدائل حقيقية لهم لما سيواجهونه بعد خمسين سنة ! من المؤلم حقا ، أن حروبهم كلها إما فاشلة وأما عبثية ، وقد احرقوا عليها المليارات مع ازدياد إسرائيل قوة ووجودا ! إن الأرض العربية مجدبة لم تشهد أي بقعة ثورة زراعية حقيقية ، يمكنها أن تكون سلة غذاء مقارنة بما حصل في كل من تركيا وإسرائيل مثلا .. كذلك ، فشلت  تجارب صناعية عربية عدة كانت قد بدأت منذ خمسين سنة ، قياسا لما جرى في بلدان مماثلة كالصين والبرازيل وماليزيا وكوريا .. إن تجارب صناعية فاشلة  في كل من مصر والعراق والجزائر .. والتي صرفت عليها الملايين لم تعد اليوم إلا حطاما . لم ينجح العرب ببناء  مشروعات إستراتيجية كبرى في الاستثمارات الداخلية لأسباب معلنة أو مجهولة .. لم نجد أي قاعدة استثمار عربية داخلية ناجحة .. أما الاستثمارات الخارجية ، فلا يمكن الاعتماد عليها أبدا في عصر تقلبات العولمة المريرة.. فضلا عن الإخفاقات التي لازمت الصناعة السياحية في بلدان مثل تونس ولبنان والمغرب ومصر لأسباب أمنية وسياسية ، مقارنة بما هو حاصل اليوم في اسبانيا وتركيا وماليزيا مثلا ..  إن الأخطار التي تهدد البلدان العربية اكبر بكثير من الأخطار التي ستهدد البلدان الإقليمية، ذلك أن ثمة بعض الاكتفاء الذاتي في مرافق عدة تعيشها تلك البلدان ، ولكن البلدان العربية اليوم ستتعّرض للدمار حالا ، كونها تفتقد لبنى الإنتاج الحقيقية .. وان أسواقها المالية ستتعرض للانسحاق فجأة، كما تدل على ذلك تأثيرات الأحداث العالمية .. كما ستتعرض البلدان التي تعتمد على البترول في صناعة الطاقة إلى كارثة بشعة ، خصوصا إذا تأملنا انعدام الكهرباء والماء وكل الأساسيات الأخرى .. إننا حتى لو افترضنا بأن ثمة مصادر بديلة للطاقة ستتواجد في العالم ، فإنها ستكون غالية الأثمان جدا مع انعدام وجود أي مصادر أخرى للثروة في المنطقة العربية !
ثمة ضرورة لإعادة ترتيب الأولويات اليوم سواء بالنسبة للدول المنتجة للنفط  ، أو في مجتمعاتنا العربية قاطبة ، نظرا لما تحتاجه من مستلزمات لخمسين سنة .. إن الفكر العربي مطالب أن يجيب على جملة أسئلة خطيرة ، لابد أن ينظر أليها بجدية كبيرة .. إنني انعي وجود عشرات المنظمات العربية والإسلامية ، وعدد لا يحصى من مراكز بحوث إستراتيجية عربية ، ناهيكم عن مؤسسات ومعاهد وجامعات .. كلها لم تطرح أية أسئلة خطيرة على بساط البحث ومحاولة إيجاد أجوبة حقيقية تلزم صنّاع القرار باتخاذ إجراءات عملية بدلا من صرف المليارات على الإعلاميات التافهة ، وعلى المشروعات الفاشلة ، والمهرجانات الفارغة .. إن ما يسمى بمشروعات إستراتيجية في عدد من دولنا هي مجرد دعايات ، فنحن لم نمتلك أية استراتيجيات حتى يومنا هذا ، لا وطنية ، ولا قومية ( باستثناء تجارب محلية نادرة ) ، وان الشغل الشاغل للحكومات هو الأمن الداخلي والإقليمي .. إنني لا اعترض على وجود أساطيل إعلامية ودعائية وبوليسية .. ولكن مجتمعاتنا بحاجة إلى البقاء والى الحياة قبل أن تواجهها التحديات فجأة وهي عاجزة  ومشلولة عن أداء وظائفها العامة .
لقد مضى نصف قرن من الزمن الصعب مع إيرادات نفطية عربية خيالية لم توظف توظيفا عقلانيا من اجل مصالح مجتمعاتنا العليا .. وعلى امتداد الزمن نفسه ، عانت مجتمعاتنا من حلاقة بشرية قسرية ، ونزيف للعقول العربية ، إذ هاجرت الآلاف المؤلفة من العقول وأبناء النخب المختصة والعلماء والمثقفين إلى الغرب بالذات من دون أي إحساس بالخذلان والأسى والذنب .. رحلت أفضل الكفاءات البشرية ، بعد أن انتظرتها مجتمعاتنا كي تخدمها . إن معظم دولنا وحكوماتنا لم يتملكها أي إحساس ببناء المستقبل بناء حقيقيا من اجل مواجهة الأخطار القادمة .. بعض مجتمعاتنا خدعتها الشعارات الماكرة والمزيفة ، بعد ظاهرة الانقلابات العسكرية المتوالية وممارسة التجارب الاشتراكية الفاشلة . فإذا كان وضع الدول والأنظمة السياسية بهذه الصورة، فماذا نتأمّل أن تكون عليه شعوبنا التي تفكر بالأمان والخدمات ووسائل العيش قبل أن تفكر بالمستقبل وبمصير أحفادها القادمين ؟؟
إن العرب بعد خمسين سنة من اليوم ، لا يمكنهم أن يكون لهم وجود حضاري ، إن لم يبدأوا التغيير الجذري لكل أساليبهم منذ اليوم ، وان يعملوا على تنمية تفكيرهم بدءا بالزعماء وصناع القرارات وانتهاء بالمواطنين العاديين .. عليهم أن يضعوا العام 2050 هدفا لهم للوصول إليه ..  عليهم أن يستثمروا كل ما لهم وما عليهم ، وان يتعلموا من تجارب الآخرين كيف تكون مسيرتهم الحضارية  . فهل بلغ ندائي هذا كل العرب ؟ اللهم اشهد .

البيان الإماراتية ، 24 فبراير / شباط 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com



22
المنبر الحر / الكتابة العصّية !
« في: 20:10 23/02/2009  »
الكتابة العصّية !


أ.د. سيّار الجميل
المعاني الأولى :
كنت استمع القول ، أيام الصبا ، لاستحسنه وأفكّر فيه ، وقد سمعت وأنا ابن عشر سنوات عبارة تقول " أن الأسلوب هو الرجل " ! فكرت مع نفسي متأملا ، وسألتها : طيب ، لماذا هذا الوصف ؟ ولماذا الرجل وليس المرأة ؟ عندما كبرت ، وجدت بأن لا احد يعير مثل هذه الفكرة الفرنسية أي أهمية ، ولم أقع على من يقنعني بذلك .. ولكنني اكتشفت أشياء كثيرة في كتاب " المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"  لابن الأثير ، وتصانيفه للكتابة ، وبدأت أميز منذ بداياتي الأولى بين الأساليب الكتابية .. وكلما مضى الزمن ، أتعلّم شيئا جديدا ، ثم بدأت اقرأ بالانكليزية ، فوجدت كم نحن بحاجة إلى تجديد الكتابة العربية والتخلص من اطناباتها وانشائياتها الفضفاضة . إن العربية من أجمل اللغات التي تمتلك جماليات واسعة، وكل كلمة عربية لها تأثير (هرموني) معين ، ولون مختلف ، وطعم مختلف  . هنا ، لا أريد أن اكتب عن أصناف الكتابة وألوانها ، ولكنني وددت أن أقدم رؤية فلسفية عن الكتابة العربية العصية الحديثة ، خصوصا ، وان الكتابة العربية ـ بشكل عام ـ ، تبدو أنها في طريقها إلى الابتذال من خلال وسائل الاتصالات والإعلاميات المعاصرة ، وبأيدي أناس غزوا ميادينها من دون أن يتسلحوا بأدواتها أولا ، وأنهم لا يفقهون فلسفة الكتابة ثانيا ، ولا يمتلكون فن الكتابة ثالثا ، فهم من فاقدي الموهبة والسليقة ، ناهيكم عن ضبابية الرؤية لديهم كونهم يكتبون ولا يقرؤون رابعا . وأخيرا ، فهم ليس باستطاعتهم أبدا الوصول إلى مرتبة الاحتراف  .. ومما أساء إلى الكتابة الحقيقية وأصحابها ، هم المتلقون ( ولا أقول القراء جميعا ) أنفسهم ، فكثيرا ما تسمع أحكاما تطلق من هذا المتلقي ، أو ذاك المتلهف ، أو هذه المتطفلة  وكأن الكتّاب ـ في عرفهم ـ كلهم صنف واحد في سلة واحدة .. وتبقى هناك نخب المهتمين والدارسين والقراء الحقيقيين ، ممن يميزون بين هذا الكاتب أو ذاك .. وبالنتيجة ، سيبقى الأذكياء والمحترفون والكتاب الحقيقيون هم الباقون .
نقد مسؤول :
كثيرا ما تصلني رسائل من مثقفين وكتّاب لأسباب شتى ، وأدرك كم هي حاجة المثقفين والكتّاب إلى أن يفهم احدهم الآخر ، أي بمعنى : أن يفهم احدهم نتاج الآخر وقلمه ، وان يكونوا حضاريين ومتواضعين في معاملاتهم وأخذهم وعطائهم واحترام كل المبدعين حسب مراحلهم  الزمنية ، والقدرة والكفاءة والاحتراف .. أي لابد أن تتأسس جسور بين الأستذة والتلمذة ، كالتي كانت قبل مائة سنة وأكثر من الأجيال .. اليوم تتنافر العلاقات ، وتنعكس مؤثرة على تقييم الإبداعات والأساليب.. ربما لأسباب سايكلوجية أساسا بحيث يرى احدهم نفسه اكبر من الآخرين ، وهو لا يمتلك قدراتهم نفسها ، فضلا عن  أسباب سياسية وفكرية وأيديولوجية أجهضت النقد الأدبي الذي نفتقد اليوم منجزاته وإبداعاته ، وبعد تاريخ رائع من انبثاقه ، وجذوره التي عرفها تراثنا العربي قبل أكثر من ألف سنة !
كتب لي احد الأصدقاء الشعراء بعد أن أثنى على جهدي الفكري ـ كما وصفه ـ .. ولكنه رأى أنني قد ذهبت بعيدا في مبالغة مديح احد المثقفين الراحلين .. ويقول بأنه يفهم جيدا حرصي الجاد على وضع مبدعي العراق ومنتجي الثقافة العراقية في دائرة الضوء والاهتمام والعناية . لكن ذلك لا يبرر مديح تلك الكتابات ، فصاحبها يفكر ، هذا صحيح ، ولكن كتاباته أدنى مستوىً بكثير من تفكيره ( ويقصد به الكاتب الراحل أمير الدراجي ) ، وأضاف قائلا : أنه لو كان يقدّر أفكاره حقاً لتنازل عن طلاسمه ، وسعى إلى إيصال هذه الأفكار إلى أعرض مساحة من القراء ليفهموا ما يريد قوله ، لا أن يحشر نفسه في زاوية ضيقة . ويتابع قوله : أوَلا ترى يا صديقي الجميل أنك ذهبت بعيداً في المبالغة بقولك عن صاحبنا الراحل : انه ( غير مستعد أن ينزل من مستواه إلى الأدنى ، فكيف به يتدانى إلى الحضيض ليكتب كتابة إنشائية بلهاء .. ) ؟ ، ثم تذهب أبعد في مبالغتك حين تقول : ( كان كاتباً ناضجاً في عالم من المبتدئين الذين لا يفقهون قوة الكلمة لا عند الأولين و لا قرب الآخرين ) .... ما هذا التعالي غير المبرر و غير المفهوم ؟ أهكذا يـُفهم التميز عن الآخرين ؟ فالآخرون لديهم وعيهم الذي لا يقبلون الاستهانة به عن طريق هذا ( النمط ) من ( الكتابة ) .. الآخرون يسعون إلى التواصل وتلاقح الأفكار ( عبر مختلف ميادين الإبداع و الإنتاج الثقافي ) وصولاً إلى صياغة وعي متجدد و متقدم في المجتمع بهدف خدمة البشرية في نهاية الأمر . والاّ لماذا تقرأ أنت و تكتب و تبذل كل هذا الجهد الفكري و الثقافي ( مثلاً ) ؟ لماذا لم تلجأ أنت ، أيضاً ، إلى الكتابة ( العصية ) ؟ . الكتابة العصية هذه ليست امتيازاً ولا تشرف كاتبها ، إنها تعزله ، في حين يغرق هو في وهمه ، ويوهم الآخرين ، بأنه كاتب من الطراز الذي لا يـُدانى  ( انتهى ) .
إشكالية الكتابة العصّية :
ربما اتفق تماما مع هذا القول الحسن ، ولكن دعونا نفكّر بأسلوب آخر :علينا أن نفرق بين أنواع الكتابات : عادية ، سطحية ، إنشائية ، فكرية ، رومانسية .. الخ  وسواء كانت رفيعة وراقية ، فهي إما تكون سهلة ممتنعة ، أو غنية دسمة ومختزلة ، أو صعبة وعصية عن الفهم .. وليس مطلوبا مّن أي كاتب محترف أن يتنازل عن الأسلوب الذي اختاره لنفسه ، ويجده هو الأنسب لملكاته وقدراته .. إن مشكلة الكتابة العصية التي يختلف عليها العديد من النقاد هي مشكلة كاتب يبدع فيها ، أو مشكلة متلق لها ، أو قارئ نصوصها ؟ إن تجارب عديدة ، علمتني أن الكتابة عند المحترفين تتنوع بتنوع أساليبهم ، مما يجعل أي ناقد ذكي التمييز بين الكتابات ،  منذ قراءته الأسطر الأولى ، فما أن يقرأ سطرا ، أو فقرة معينة ، حتى يدرك أنها لفلان أو تلك لعلان ! وإذا كان البعض ينفي قبول الكتابات العصية كونه لا يفهمها ، فليس من حقه أبدا أن يجعل صاحبها ، سوى كونه كاتبا موهوما ، يزعم انه لا يريد النزول إلى مستوى المبتدئين أو السطحيين  ، إذ ليس من المعقول البتة أن العصي يكتب كتابته بعيدا عن أي عمق ثقافي .. إن المجتمع الثقافي ليس متجانسا بالضرورة ، انه يحتوي على أنواع عدة من القراء والمتلقين ، ومن المتقدمين والمبتدئين . صحيح أن صاحبي يقول معاتبا بأن المبتدئين في حقيقتهم متلقون ومنتجو ثقافة محترفون غير معنيين ولا يقبلون أن يكونوا ميدان اختبار لكاتب ٍ ( عصي ) على الفهم .. كاتب ٍ هو ، في الحقيقة ، عصيٍ على فهم نفسه . فالآخرون ـ هؤلاء ـ قد يجدون صعوبة في فهم ما يكتبه ، ولكنهم يكتشفون بسهولة ( طبيعة ) هذا الكاتب ( العصي ) الذي سيكون ، في النهاية ، هو الخاسر الوحيد بسبب وهم التعالي عليهم تحت عنوان : عصي .
ندرة الكّتاب العصاة :
إنني لست معهم ولست منهم ، ولكنني أرى بأن قلة جدا هم الكتّاب العصاة ، بل وأنهم من النادرين ، أولئك الذين يلتزمون صنف الكتابة العصيّة  ، وينبغي الاعتراف أنهم من أقوى المثقفين ! نعم ،  قليلون هم الذين يقفون في أبراجهم العاجية ، ويريدون من الناس أن تصعد إليهم متمثلين دوما قول الشاعر أبو تمام الطائي مجيبا سائله : لماذا تقول ما لا يفهم ؟ فأجابه : ولماذا لا تفهم ما يقال !.. قلت مرة للكاتب التونسي الراحل محمود المسعدي عندما التقيت به مرة واحدة بتونس قبل أكثر من عشرين سنة في تونس ، وكنت قد قرأت بعض نصوصه العصّية في " السد " أو في " حدث أبو هريرة قال .. " : ما الذي يجعل بعض نصوصك طلاسما عصية على الفهم ، وعندي أن الأدب الحقيقي ينبغي إدراكه من كل المجتمع ..  أجابني :  هذه هي قدرتي وإمكانيتي ولا استطيع التخلي عن ذلك .. واستطرد قائلا : من أصعب الأشياء عندي أن أخاطب الناس العاديين خطابا عاديا .. إنني تعودت العصيان ! فشكرته فليس لي ما أقول ! ويقرأ  ادونيس بعض قصائده ، وأحاول جاهدا فك الألغاز التي يريدها .. ثم اخرج بنتيجة مفادها ، انه هو نفسه ، لا يدرك ما الذي يريده ، ولكنه أسلوب عصي يجعلك تفكر .. هذه الحالة قديمة في الأدب العربي ، ونجدها عند البعض من المثقفين الأقوياء جدا ، ولكنهم يسكنون أبراجهم ولا يريدون التخلي عنها .. اتهم ملتزمون  ولكنهم غير متفاعلين أبدا .. وعندما اقصد أنهم في الأعالي ، فليس معنى ذلك أن كل المثقفين الآخرين في الحضيض ( كذا ) ، ولكن ثقافتنا غدت مليئة بالمبتدئين والسطحيين الذين لا يريدون أن يطوروا أنفسهم أبدا .. إنني أسأل : كم الساحة مليئة بكّتاب وأشباه مثقفين ، وهم لا يفرقون بين الظاء والضاد ؟ كم منهم لا يدركون معنى الكتابة والإملاء والقراءة والرؤية ؟ كم من المئات الذين يتوزعون في سوق الثقافة وهم أغراب عنها تماما .. ربما يحاسبني البعض أنني اهتم بالمثقفين الملتزمين وحتى من ذوي الكتابات العصّية ، وأنا لست بكاتب عصّي ، ولكن لا يستطيع أحد محاسبتي على ما أجده ويجده غيري من كّتاب درجة هابطة يريدون أن يكونوا في الصفوف الأمامية بكل الوسائل .. كّتاب ليس مهمتهم إلا أن يكتبوا ( أو بالأحرى يضربون على الكي بورد ) وهم لا يعرفون كيف يمسكون القلم ، إنني عنيت مجاميع هذه المخلوقات التي لا تقرأ حتى كتابات عادية ، فكيف لها  أن تستوعب كتابة عصيّة ؟  وليس من مهمتنا أبدا أن نعلم هؤلاء ألف باء القراءة ، فكيف بالكتابة ؟ هذا ليس سرا ، بل حقيقة مفضوحة .. وربما هذه لم تكن مشكلة كتاب عصاة ، بل واحدة من مشكلات ثقافتنا العربية ..
الحصيلة .. الامنيات
إنني أهيب بنخب رائعة من القراء والكتاب العرب اليوم ، وأتمنى أن يتربى جيل جديد على التفاعل بين ثقافته العليا ومجتمعه .. إنني من خلال تجربتي الخاصة ، وجدت إن كتبت كتابا منهجيا للطلاب الجامعيين المبتدئين ، هو أصعب عندي بكثير من كتابة فكرية ، أو فلسفية اخصصها للنخبة .. وان عملية التنازل صعبة جدا على كتّاب محترفين يجدون أنفسهم مع السوريالية ، فهل باستطاعة أحد ازاحة بيكاسو او سلفادور دالي عن تجربتيهما ؟ أتمنى أكون قد أوضحت فلسفتي حول الكتابات العصية  .. متمنيا أن يتبلور جيل جديد في الثلاثين سنة القادمة .. يطّور قدراته ، وينمّي تفكيره ، ويجدد أساليبه من اجل إثراء الثقافة العربية في المستقبل .

تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 23 فبراير / شباط 2009
www.sayyaraljamil.com


23
خارطة تحالفات أم برامج عمل ؟؟


أ.د. سيّار الجميل

بدأت في العراق ، خطوات حثيثة من قبل قوى حزبية وسياسية ببدء تحالفات سياسية جديدة ، استعدادا للمرحلة المتبقية من عام 2009 لخوض الانتخابات العامة . ويبدو واضحا جدا ، أن تجربة التحالفات السابقة التي أخرجت سيناريوهات الانتخابات السابقة يمكنها أن تعود ، ولكن بثياب أخرى غير تلك الثياب المهلهلة التي لبسها بعض المتقدمين في الصفوف الأمامية .. ولقد اختلطت الآن الأوراق ، وستبقى مختلطة ، حتى تبلور التحالفات على نحو يمكّن القوى السياسية من استعادة الثقة بنفسها أولا بعد أن دّلت مؤشرات الانتخابات المحلية لمجالس المحافظات ، أن المجتمع العراقي لم يعد يثق بالأحزاب الدينية المنبثقة على أسس طائفية ، ثقة عمياء كما حدث في الانتخابات السابقة ، وان كل المحافظات ، أعلنت صراحة عن إرادتها في أن تكون الأولوية للجماهير ، بدل أن تكون للقوى التي لا تبحث إلا عن مصالحها وخصوصياتها ، بعيدا عن أي مصالح مدنية عليا للعراق .
ثمة قوى سياسية اليوم في العراق تكثّف تحالفاتها مع خصوم الأمس في الإعداد لتشكيل مجالس المحافظات .. ومن غريب الصدف ، أننا سنجد السيد مقتدى الصدر ، وهو زعيم تيار سياسي كبير ، يكشف أمام المسؤولين الذين شاركوا في الانتخابات كمستقلين ، أن هناك اتفاق أولي على تحالف مع ائتلاف دولة القانون الذي يرأسه السيد نوري المالكي رئيس الوزراء نفسه . ولم تعلن أية نتائج حتى الآن ، ولكن ما يقوم به كل طرف من أطراف المعادلة القديمة ، يؤكد بما لا يقبل مجالا للشك ، أن الجميع يسعون نحو خارطة جديدة من التحالفات السياسية التي لا يعرف إلى حد الآن كم هو حجم قوتها ، سواء في مصداقيتها ، أو في مخادعتها بالتأثير على المجتمع إبان المرحلة القادمة ..
في تطور مفاجئ ، رئيس الوزراء السابق الدكتور أياد علاوي ، زار مرجعية النجف العليا ممثلة بآية الله السيد علي السيستاني في مدينة النجف للمرة الأولى منذ عام 2003 ، وأعلن بأنه قد يتحالف مع رئيس المجلس الأعلى السيد عبد العزيز الحكيم. وان ممّثل العلمانية في العراق ، لا يستبعد أي تحالف مع قائمة شهيد المحراب المحلية مشيرا إلى أن المحادثات مع المجلس الأعلى ، إنما تعقد وفقا لمعايير واضحة ومشتركة ! إننا لسنا ضد أية تحالفات قوى سياسية من اجل إنتاج خارطة مصالح جديدة ، ولكننا نطالب تلك القوى ببرامج عمل يمكنها إقناع العراقيين عمّا يمكن عمله في المرحلة القادمة .. وهل تلك القوى مستعدة للتغيير الجذري والتعديل الدستوري والاعتراف بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبت ؟
ويبدو أن زعماء العراق اكتشفوا الآن فجأة ، وعلى أعقاب مرحلة تاريخية صعبة ، أن بناء العراق لا يتم إلا على أيدي العراقيين أنفسهم ، وان قرار العراق لا يمكنه ، أن يصنع في واشنطن ، أو الرياض ، أو طهران ، بل في بغداد وليس غير بغداد !!  في المقابل ، قال مسؤول كبير في المجلس الأعلى ، مؤكدا بأن لا خطوط حمراء تلزم المجلس أن يتحالف مع أي طرف من الأطراف ، ونفى ما يتردد عن تحالف بين المجلس الأعلى والقائمة العراقية ، ومع ذلك ، فإنه أكد أن العلاقة بين هذين الطرفين ليست جديدة. وفي السياق نفسه ، قال نائب عن جبهة التوافق والحزب الإسلامي أن البرامج الانتخابية للكيانات هي سياسية مشابهة تقريبا مشيرا إلى أن التجارب السابقة للانتخابات في المحافظات ، والصورة النهائية لهذه المرحلة من الانتخابات ستشكل خارطة التحالفات المقبلة ، وهكذا ، فإنه في وقت مبكر للحزب للدخول في تحالفات جديدة ، وستنحسر التسميات القديمة مثل : ائتلاف شيعي ، توافق سني ( مع بقاء التحالف الكردي ).. ، إذ سنشهد ولادة تسميات جديدة لتحالفات تتضمنها قوى ليست جديدة على الساحة ، ولكنها متغيرة الأثواب . وهل ستنبثق قوى سياسية عراقية جديدة على الساحة ؟
إن المجتمع العراقي من الذكاء بمكان ، إذ يدرك أن تغيير الثياب ، لا يشكل لديه ضرورة ، ولا أي أهمية ، بقدر ما يهمّه التغيير الجذري من حكم يتمسّح بالدين أو بالطائفة أو بالقومية إلى حكم يرسّخ الروح الوطنية والمبادئ الدستورية المدنية ، ويتطلع أيضا إلى تغيير المناهج والأساليب والنظم والتفكير .. تغيير في فلسفة الرؤية نحو من أشلاء المكونات إلى مشروعية العراق ، ومن المحاصصة والتشتت إلى وحدة العراقيين .. وعليه ، إذا كانت الأحزاب الدينية في العراق ، شيعية أم سنيّة قد وجدت نفسها مرمية بعيدا من قبل الناخبين العراقيين ، وهي صغيرة ، وليست كما ترى نفسها كبيرة ومنفوخة ، فمن الأجدى أن تفسح المجال للحياة المدنية وسيادة القانون كي يسودا في العراق ، من دون أن تحاول تغيير مسمياتها ، أو بالأحرى جلودها ، أو تبحث لها عن حلفاء علمانيين جدد ..
أما بالنسبة للتقارير التي تصلنا دوما عن اتصالات لا تنقطع ليل نهار لتشكيل تحالفات جديدة ، فإنما تمثّل ردود فعل ساخنة جدا من قبل الجميع ، كّل للحفاظ على مصالحه التي بدأها منذ سنوات .. ولكن مهما أظهرت التحالفات الجديدة ، فهي لا تنفع أبدا إزاء ما سيقرره شعب العراق في نهاية العام 2009 .. إن ما يهم شعب العراق أصلا ، كل من يسعى إلى الحفاظ على أمنه ، وترسيخ القانون ، والتجرد من المصالح الخاصة ، وإيقاف النهب المنظم ، ومحاسبة كل من أساء وهو في طور المسؤولية .. يهمهم مسؤولين حكوميين مخلصين ومتجردّين ، لا زعماء سياسيين متناحرين أو متحالفين .. يهمهم من يقدم المزيد من الخدمات .. ويهمهم كل من يزرع في القلوب العراقية جمعاء المحبة، وروح التعايش ، والألفة بدل تسويق الكراهية والأحقاد وعوامل الانقسام .. ويهمهم كل من يسعى لوحدة العراق لا إلى تقسيمه على أساس عرقي، أو شرذمته على نحو طائفي.. ويهمهم كل من يؤمن باستعادة العراق حريته وكرامته ويسعى ليلا ونهارا إلى إعادة بنائه وأعماره ..
وأخيرا، يهمهم كل من لا يبحث عن سلطة ، أو زعامة ، أو جاه ، أو مركز ، أو مال  .. وكما قال احد العراقيين:  "إذا كان هناك نية لإصلاح السياسات ، وتعديل الدستور ، ووضع النظم والضوابط الجديدة التي ليست عرقية ، أو طائفية ، أو حزبية ، وتشمل جميع القوى السياسية... فسيكون الشعب العراقي مع هذه الفكرة" . ولكن السؤال: هل هناك من يسمع كثيرا ويوّسع رؤيته طويلا ؟ هل سنشهد ثمة برامج عمل حقيقية تعترف بالأخطاء بكل شجاعة ، وتقّدم للشعب العراقي ما يمكن تشريعه وتنفيذه ؟

نشرت في إيلاف  20 شباط / فبراير 2009 ، واعيد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com

ملاحظة مهمة: في حالة إعادة النشر، يرجى ذكر مصدر النشر.. مع التقدير.



24


أين صارت مبادرات الإصلاح؟

أ.د. سيّار الجميل
بالرغم من موجات التصفيق والتهريج التي رافقت إعلان مبادرات الإصلاح عند العرب خلال السنوات الخمس المنصرمة، إلا أنها كانت مجرد شعارات خاوية، لا أساس لها من المصداقية أبدا، وكان الناس يأملون بإحداث التغييرات الحقيقية في كل مجالات حياتنا العربية، سياسيا ودستوريا، واجتماعيا، واقتصاديا، وتربويا..
إن مبادرات الإصلاح التي تعهّد بإجرائها بعض الزعماء العرب، لم يتحقق منها أي شيء، ويا للأسف الشديد! ولم يزل الصمت يلف الإعلام العربي بانتماءاته المتباينة، والذي جعلوه ينشغل بتوافه الأمور، وملاحقة الأحداث التراجيدية التي ما أن تنتهي من مكان حتى تظهر في مكان آخر..ولم تزل الجماهير في مجتمعاتنا العربية تعيش احتقانات ومشكلات لا أول لها ولا آخر.. ولعل ما يؤلم جدا، إن إطلاق المبادرات للإصلاح، لم يكن لوجه الله، ولا استجابة لتحديات داخلية عربية قاسية، بقدر ما أطلقت لإرضاء هذا الطرف الدولي أو ذاك، علماً بأن الأوضاع السياسية والاجتماعية تزداد بؤسا، بل وان مجتمعات معينة تزداد ضراوة التخلف فيها، وهي برفقة الدولة، تقع أسيرة قوى منغلقة تسعى لإغلاق الحياة بأي صورة من الصور!
وعليه أتساءل: هل نجد اليوم أي تنفيذ لمبادئ جديدة في التحديث والإصلاح؟ هل سمح المجال لتغيير الأساليب المتبعة؟ هل ثمة متابعة لما اقرّ من مبادرات؟ وهل ثمة إجراءات عملية تسعى من أجل إيقاف تدهور ما لنا من تمدن، وتحدّ من تناقضات التفكير، وتقضي على العادات السقيمة؟ إن دولنا ومجتمعاتنا معا، بحاجة ماسة إلى ثورة فكرية، وأسس دستورية، وحداثة تربوية، ونهضة ثقافية، ومناهج مدنية.. تغير العقول الحاكمة والمحكومة، وتنبع من قلب حركة المجتمع، ومن مراجعة الذات ونقدها، وإعادة النظر في مفاهيمها وطموحاتها في ضوء التحديات التي تواجهها عند مفتتح القرن الواحد والعشرين.
ولعلنا قد أشرنا بهذا مرارا وتكرارا، وخصوصا إلى ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظومة الثلاثية التي تشكل العقل، وتصنع الوجدان وتصوغ الأفكار، وتبلور مواقف الأجيال الجديدة التي ستتسلم مقاليد الحياة من بعدنا.. ونعني منظومة التعليم والثقافة والإعلام، تلك التي تعاني اليوم من قصور واضح، وتخلف فاضح في ظل هيمنة دول وقوى سلطوية سياسية واجتماعية واحتكارها سياساتها الأحادية التي لا تعيش إلا في مجال التخلف والانغلاق.
لقد نادينا أسوة بغيرنا، بإجراء التغييرات منذ سنوات خلت، وقبل أن تصدر وثيقة الإسكندرية بأربع سنوات! وقلنا بان التغيير لا يرنو إلى تقديم وصفات علاجية مؤقتة عاجلة، سرعان ما تتبخر فاعليتها، بل يعمل على إصلاح منظومة مركبة ومعقّدة، وهو بحاجة إلى زمن طويل وجهد كبير. ولا ينبغي أن يبقى المشروع الإصلاحي ينتظر أو يتلكأ، كما حدث في الماضي بحجة التلاؤم وعدم التعجل حتى يحدث التطور الطبيعي.. فلقد أضاع العرب قرنا كاملا في الانتظار والتسويف، بينما كل العالم يتقّدم بسرعة مذهلة أمام أعيننا ونحن أسرى التناقضات العقيمة وهي ذرائع مصطنعة وحجج مختلفة.
لقد تأجلت خطط التنمية العربية الشاملة بحجة مقاومة الاستعمار، واستبعدنا إجراء التغييرات بحجة تكريس الجهد لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، ورفضنا مطالب شعوبنا بالتطوير والتحديث وإطلاق الحريات.. بحجة أن شعوبنا قاصرة جاهلة إن حصلت على الحريات، انفلتت إلى الفوضى وغرقت في الكوارث وانطمست في الصراعات! لقد تبلورت النتيجة الرهيبة التي تدق اليوم أسافينها في مراكبنا العتيقة. وقد صحونا على بدايات قرن جديد لنكتشف أننا لم نحرر فلسطين، ولم نتحرر من القوى الخارجية التي تمارس هيمنتها علينا بكل ثقلها وبشتى الوسائل، وفي الوقت نفسه لم نحقق تنمية حقيقية تقاوم الفقر والبطالة والتخلف، بل ولم تكن ثرواتنا وسائل إنتاج حقيقية على أرضنا، فاهتزت اقتصادياتنا اهتزازا عنيفا. ولم نطبق ديمقراطية سليمة تقاوم الفساد والاستبداد، فإذا بكل ذلك يستدعي تدخلات، وفرض وصايا، ونهب ثروات وإشعال حروب! إن على المجتمعات الخروج من خنادقها المظلمة التي أبعدتها عن الوعي بالحاضر، والتفكير بالمصير، والاستفادة من تجارب مجتمعات أخرى انطلقت نحو الآفاق الجديدة.
وعليه، يمكننا القول بأن ليس من صالح دولنا ومجتمعاتنا معا، البقاء أسرى الحالات الكسيحة والاستسلام للمقادير، والعجز عن الأداء.. فهناك من يؤكد بأن القطار قد فات العرب، أي قطار الإصلاح، وكم قلنا إن مبادرات الإصلاح لا تنطلق شعاراتها من مؤتمرات قمة، بل تبدأ عملياتها مع الناس على الأرض. إن الإصلاح، لا يمكن أن يحققه إلا متخصصون معرفيون مدنيون، وهي نقطة مهمة جدا، فالإصلاح هويته مدنية وليست دينية، يعمل بأيدي علمائه، وفكر عقلائه من أبناء المجتمع المدني وبوسائل سلمية. وهو محاولة جادة لوضع إجابات صعبة للأسئلة الأصعب.
وبالرغم من أهمية وجدية أسس الإصلاح وركائز التغيير، إلا أن ثمرتها كلها لا يمكن التمتع بها، من دون أن يفّعلها ويصدر قراراتها أصحابها، وخصوصا الزعماء العرب، كونها تبقى مرتهنة بجدية تنفيذها ومدى استجابة الحكومات العربية لما جاء فيها من مضامين على بداية الطريق. فهل يمكن لمثل هذا «المشروع» أن ينطلق بجدية وحرص، أم سيؤثر الجميع إبقاء الحالة على ما هي عليه في ظل مؤسسة عاجزة اسمها جامعة الدول العربية؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة!

البيان الإماراتية،  17 فبراير / شباط 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com


25
جحيم العراق والتجرِبة الأمريكية
( على المشرحة ) الحلقة الثانية

أ. د. سيّار الجَميل

" الحرب بصلة متعفنة "
 انعام كجه جي

1/ الحفيدة الأمريكية: جحيم عراقي واحد
أعود إليكم من جديد لنكمل جولتنا النقدية في عالم تلك الحفيدة الأمريكية التي كتبت روايتها السيدة إنعام كجه جي ، ولقد أجادت تصوير الأحداث الدرامية ونجحت في حركة الشخوص واستخدامها لغة روائية غير مصطنعة .. إذ استوحت من الأحداث والشخوص مادتها الواقعية ، ولا يحس القارئ أن هناك خيالا ، أو إن الرواية خيالية لا أصل لها من الصحة .. ولكن ثمة صورة واحدة لم أتقبلها أبدا ، إذ لا يمكن أن تحدث ، أو أنها نادرة الحدوث .. إن البطلة زينة بهنام المرتبطة أصلا بصديقها الأمريكي لا يعقل أن تعشق احد عناصر جيش المهدي ، مهما كان قريبا منها .. إنها أمريكية تكتب لصديقها الأمريكي وهي في طريقها إلى العراق ، أن لا يكثر من الشرب ويسقى النباتات ، وإذا أحب مرة أخرى ، فعليه أن لا يحب عراقية مرة أخرى .. جحيم واحد يكفي في الحياة !
2/ رواية مصلاوية المناخ والتعابير
البطلة حفيدة أمريكية سليلة عائلة مسيحية مصلاوية .. وان الأجواء التي وضعتنا الرواية فيها عراقية مصلاوية : أمثال ، وقصص ، وعبارات لا يستخدمها إلا أهل الموصل .. كنت أتمنى على السيدة إنعام ، لو أعطت تفسيرات في الهامش للعديد من المصطلحات والتعابير الموصلية التي لا يعرفها القارئ العربي ، بل حتى القارئ العراقي : برداتنا ، الطارمة ، صندويلات ، طاوة ، زيق ، مطعوج ، الجعنكي ، من خناقي ، هجّوا ، جحغ ، حطّة أيدك ، العجايا ، اسحتها ، الجماقة ، خلوقة .. الخ
3/ من دكتاتورية الرعب الى الفوضى الخلاقة
طارت الحفيدة الأمريكية إلى العراق رفقة جنود المارينز ، ودخلت الطائرة في طريقها إلى العراق ، وفي أجواء العراق تتلبس الحفيدة حالة غريبة من الشفافية  ( ص 39 ) .. شفافية وطن ، ولكن صادفتها عاصفة رملية لم تر مثيلا لها من قبل ( ص 40 ) لتشم العراق من رائحة الطوز ! وكأن العراق يمشي نحو التغيير عام 2003 ، هكذا أسموه ، ولكنه " الزلزال " ( ص 43 ) الذي لم يبال به الأميركيون أبدا ! لماذا ؟ هم الذين صنعوا الحدث ، وجعلوا العالم كله ينشدّ نحوه .. لكنهم كانوا يرسمون للفوضى الخلاقة ، فمن سمح للدكتاتورية أن تنمو وتترعرع وتكبر .. سيسمه للإرهاب أن يمتد في كل مفاصل العراق ! وإذا كان العراقيون يتأملون الغد الأفضل ، فان " الغد كلمة غامضة في قواميس الحروب " ( ص 43 ) ! نعم ، هذه حكمة رائعة تختزل مأساة العراق وحروبه ..
4/ من الأمنيات الى الجحيم
عندما تحّول اهتمام العراقيين من التفكير بالغد إلى التفكير بدوامة الجحيم ! ولم تعد الأحلام جميلة ، فلقد غدت " الأحلام لا تترك لنا رفاهية الاختيار " ( ص 44 ) .. والحفيدة التي تحلم بجّدها العراقي الذي رأته ، وهي في ثوب عرس ابيض ، فأشاح عنها ، فتحوّل لون فستانها إلى اسود قاتم " ( ص 44 ) . أما التغيير الذي حدث ، فهو القيامة التي مرت من هنا " ( ص46 ) . إن التغاير لم يكن أمريكيا، بل كان عراقيا ، ولكن ليس على مزاج العراقيين .. كانت القنوات الأمريكية تبث أن في العراق شعب متحمس لتغيير النظام ، يحلم بالحرية ، ويرحب بقدوم الجيش الأمريكي .. نتساءل : لماذا إذا تطفح العيون السود البارزة من شقوق العباءات بكل هذا الصدّ ؟ نظرات لا تعكس الفة ولا فرحا ، كأن الحزن بؤبؤها . كيف ستكون أيامي المقبلة في البلد الذي لم يعد يعني لي أكثر من انه حاوية لعظام الأجداد " ( ص 49 ).

5/ العراق ليس كيس قمامة !!
ونمضي مع متابعة صور تاريخية أليمة مر بها العراقيون ، ودفعوا أثمانها الصعبة باسم شعارات الثورة ، أو القضاء على أعداء الثورة ! وتقفل الصورة من طرف واحد بأجمل عبارة من التساؤل المشروع ، تقول : " هل هناك بلد على وجه الأرض ، غير بلدنا ، يتسّلى أهله بذكريات القهر وهدّ الحيل ؟ " ( ص 53 ) . ويأتي جواب البطلة في قفلة الفصل التالي عندما تقول : " كنت أسجّل ، ليلة بعد ليلة ، وقائع أيامي في ذلك البلد الذي يتشبث بي من خناقي . هنا خضت جهادي الخاص وتركت العنان لنفسي أن تذهب إلى التخوم الخطيرة للوله " ( ص 56 ) . ان البطلة المولهة تعيش وسط عساكر لا يرون في العراق إلا كيس قمامة ( كذا ) ، ولكن بعضهم كان يتولى عملية جرد الأموال والمضبوطات في قصور صدام حسين .. وبقى الجرد طويلا ( ص 69 ) . وهنا يسأل العراقيون : أين ذهبت تلك الأموال وموجودات الذهب وكل المضبوطات ؟ من أخذها ؟ أين هي الآن ؟

6/ الامريكيون يفتقدون شفرة العراق الملغزة
ثمة إحساس آخر ، وأفكار جديدة أخرى تفصح عنه الرواية عن عجوز عراقية طاعنة في السن لم تزل تحتفظ في طيات جلدها كل تركة الأجيال التي تربّت على الصح . إن الجيل الأخير ترّبى على الخطأ .. نفاق ورشوة وخوف وكلام مبطّن ولعبة الختيّلة ( ص 77 ) ... الخير كان كثيرا ، ثم اشتغلت طاحونة الحروب وشفطت النفط حتى آخر قطرة . راح الرجال وجلست النساء يلطمن الصدور " ( ص 77 ) . أنفاس أهل الصح ظلت تسري .. ولما دخل الاميركان وجدوا بلدا ملغزا لا يملكون شفرته . وكان مرافقوهم المحليون أكثر منهم حيرة " ( ص 77 ) . إن خمسين سنة من زمن الانقلابات والتناقضات والصراعات والأحادية والبطش والحروب والدكتاتورية .. كافية ليتحول اغلب الناس من الصح إلى الخطأ ، ويتحول العراق إلى خرابة ، ويشيخ أهله ، وهم في الأربعين من العمر ! وغدت  الرشوة أسلوبا مشروعا حتى وصل الأمر إلى أن تشتري بالرشوة العراق بأكمله ( ص 83) .
7/ العراق : من الصواب الى الخطأ
إن فقرة واحدة تختزل صورتها تاريخ تحولات العراق من الصواب إلى الخطأ ، .. " فالزعيم غازي الداغستاني هو أكثر ضباط الجيش العراقي أناقة . أما ذلك العقيد .. فكان يخلع قميصه في ليالي الخفارات الصيفية الحارة كاشفا عن فانيلة مليئة بالثقوب . ولما نصبوه رئيسا للجمهورية ، في الستينات ، فكر ( فلان ) بأن يبعث له بدستة من الفانيلات الجديدة " ( ص 91) . فتصوروا كيف حصل التحول من عراق أنيق في قيافته إلى عراق مهلهل حتى في ألبسته الداخلية وان المحترمين من أبناء العراق بقوا حتى اليوم وهم منكفئون على الأرض !
إن جدلا فاضحا جرى بين البطلة وجدتها ، وهو حوار واضح فالجدة عراقية والحفيدة أمريكية .. ولكن لا يمكن أن تجد أي حوار أو جدل بين جدة عراقية وحفيدة عراقية ، فالعراقيون لم يعرفوا لغة الحوار أبدا ، ولا يمكنهم أن يتفاهموا على ابسط الأمور ، فالجدة تخشى على كرامتها أن تخدش ، وعليه ، فهي تعترف بأن أهل الشارع يعرفونها ، ولكن لا تريد أن يزعجها زعاطيط هذه الأيام ( ص 117- 118) .

8/ الصدمة الصاعقة : 
أعجبني وصف الرواية الحرب كونها بصلة متعفنة ! ( ص 143 ) مع انتقاله ذكية لحوار أمريكية وشاب عراقي ، فهي تؤمن بالتعددية وهو يؤمن بالأحادية .. الوطن عنده هو الأم ولا يمكنه أن يتخيل أوطانا بديلة عنه .. انه منغمس في تراثه ، ويهوى أن يبقى ثابتا لا يتزعزع ، ويهاجم أولئك الذين يغيّرون جلودهم .. حتى يصل الأمر إلى أن تقول : " تذبحني السخرية السوداء التي تلازم العراقيين ، كأنهم عاشوا ما فيه الكفاية حتى عادوا يرون حياة ما وراء الخراب .. " ( ص 147 ) ! وتشتد الأزمة الحقيقية بين الحفيدة الأمريكية والشاب العراقي بوصول الأمر إلى الذروة من دون أن ينتج الجدل الدائر إلى نتيجة تذكر لتختتم جولتها بقولها : " .. وأكاد افقد ثقتي بنفسي . أكره الموقف السخيف الذي يضعني فيه . ألعن الساعة التي عدت فيها إلى هذا البلد " ( ص 148 ) . إن هذه النتيجة هي التي يحملها أي إنسان من أصل عراقي يعود إلى العراق ، فيصطدم صدمة صاعقة ، تجعله يلعن الساعة التي قرر فيها الرجوع إلى العراق !

9/ الإرهاب : مسرحية شريرة
سأكون فرحا جدا لأنني وجدت جملة من أفكار الرواية ، أنا الذي كنت قد أذعتها ونشرتها ، وان صاحبتها قد تطابقت أفكارها معي إلى حد كبير .. ربما كنّا قد درسنا في مدرسة واحدة . دعونا نتأمل في النص التالي : " لم يكن الوضع في الموصل أفضل منه في الأماكن الأخرى . يستيقظ الأهالي في الصباح فيجدون رؤوسا مقطوعة مرمّية في الساحات العامة . رعب تحفظ ذاكرة المدينة ما يشبهه . والفارق نصف قرن . يتذكر كبار السن ما كان في أواخر الخمسينيات ، ويضربون كفا بكف . مدن تقطع رؤوسها بأيدي أبنائها .. " ( ص 150 ) .
من خلق هذه الحالة ؟ لماذا كان الفلتان ؟ من احتضن الإرهاب ؟ من زرع القرف ؟ من قتل الكرامة ؟ من سحق المجتمع ؟ ، إن " القرف استحال ، بالتدريج ، حقدا . كأن هناك من وزّع أقنعة مسرحية شريرة على كل أهالي المدينة " ( ص 159 )  .

10/ امريكا وراء صناعة كل احداث العراق منذ خمسين سنة !
ولكن ، مهلا ، فثمة أصوات عراقية تنذر بالخطر ، عندما يصل أبو البطلة الى ذروة غضبه ، ، فيصيح : " الويل الويل من شعب العراق " ( ص 165) . أما البطلة ، فان تجربتها العراقية تفشل فشلا ذريعا ، وتقول وهي تستعد للرحيل : " أظن أن تجربتي العراقية بدأت تأخذ طعم الخل  " ( ص 177 ) . أما الشاب العراقي ، فهو يقترح فكرة مبتكرة قائلا : " طرتم كينغ كونغ من المدينة وقبضتم ثمنه العراق كله " ( ص 184 ) ! ويبقى القارئ يبحث عن جواب سؤال ورد قائلا : من كذب على من ؟ تجيبه البطلة قائلة : " ساذجة كنت عندما تصورت الديمقراطية شعر بنات ، سكرا ملونا ملفوفا على عيدان رفيعة .. بعناكم حلما أجمل من أن يتحقق . وجاء من طرفكم تجار أبناء سوق . دكاترة وعلماء ذرة وجنرالات . عرضوا علينا الوهم .. " ( ص 180 ) .
اعتقد أن خطط أمريكا الإستراتيجية لا يمكنها أن تصنع لما نقله بعض العراقيين .. صحيح أن العراق كان كبش فداء 11 سبتمبر .. وإذا كانت 11 سبتمبر لغزا حتى الآن ، فان ما جرى في العراق يعد ـ عندي ـ من اكبر الألغاز التي سيكشفها المستقبل عاجلا أم آجلا !! لقد توثّق عندي ان امريكا كانت وراء صناعة كل أحداث العراق وشخوصه على امتداد خمسين سنة !

11/ النهاية : افتراق عن العراق
تعود الحفيدة الأمريكية إلى أمريكا ، وهي تختتم روايتها ، قائلة : " عدت وحيدة .. لم اجلب معي هدايا ولا تذكارات ، لا احتاج لما يذكرني بها . أقول مثل أبي : شلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد " ! ( ص 195) . هكذا ، عادت الحفيدة الأمريكية إلى وطنها الحقيقي ، أمريكا وتركت العراق لوحده وهو يعاني من كل التحديات والقساوة والآلام ، لكن تجربتها الأمريكية علمتها الكثير ، بحيث لم تكن تدري ماهية العراق ، ولم تكن تعرف ثقل التناقضات التي يحفل بها المجتمع العراقي .. لقد أعطت تلك التجربة المريرة ، درسا بليغا لكل العراقيين في الداخل والخارج إن مأساة العراق يتحمل مسؤوليتها الجميع .. وان ما ارتكب من أخطاء شنيعة ، كان يمكن تجاوزها إن كانت الخطط الأمريكية على غير ما كانت عليه سواء في الأعداد أو التنفيذ !

12/ وقفة نهائية عند صاحبة الرواية :
نعم يا إنعام ، لقد نجحت نجاحا كبيرا في كل من الفكرة والأدوات والأسلوب وإخراج هكذا مضمون يحفل بالتناقضات وجمعت بتميز عالي المستوى بين المتضادات .. كنت بالغة الدقة في تقديم الحياة الأمريكية كما هي سيرورتها في ديترويت ، حيث يكثر أبناء الجالية العراقية من المهاجرين المسيحيين فيها .. ونجحت بشكل ملفت للنظر في تصوير الحياة العراقية ، كما هي على الأرض .. وكنت رائعة في استخدام الخصوصيات الارثية الموصلية وخصوصا في التعابير التي يستخدمها الموصليون القدامى .. كنت شجاعة جدا باستخدام ألفاظ ( مبتذلة بعرف الآخرين ) يتمنّع غيرك من استخدامها علنا ، فكنت واقعية تماما في تقديم الشخوص كما لو كانوا يصنعون حدثا حقيقيا على الأرض .. كنت عراقية في الصميم ، عندما جعلت الحفيدة الأمريكية تنهزم وتبكي وقد افتقدت وطنها الأم .. ولكن بنفس الوقت ، كنت بارعة في تقديم صورة فوتوغرافية متميزة عن وطن متفسخ ، وقد طغت عليه السيئات ، بعد أن تحّول من بلد أنيق جدا ، كان يعد فعلا مضربا للأمثال ، ومهدا للحضارات ليغدو وقد تحّطم إلى ارض خراب موحشة ، لا تجد فيها إلا الموبقات والمثالب ، وهو يغرق في السيئات على امتداد خمسين سنة ، بدءا من سحل الأجساد ووصولا الى قطع الرؤوس !

تنشر على موقع الدكتور سيّار الجميل بتاريخ 17 فبراير / شباط 2009  .
www.sayyaraljamil.com


26
الجنرال الحزين: رحلة أبدية !

أ.د. سّيار الجَميل

( الحلقة الأولى: تأبين مثقف عراقي كوني )


" وطننا هو رسالة كونية ثقيلة العيار"
الصديق الراحل أمير الدراجي


الرحيل من بين اصابع الزمن
كنت اكلمه بالتلفون ، عندما أعلمني بمرضه الصديق الأستاذ نوري علي .. وكان على الطرف الأوربي أمير الدراجي ، يبكي على الخط ، من أعماقه من حزنه أو من فرحته بي .. كانت كلماته تخرج بصعوبة بالغة .. قال لي : فرحت بصوتك .. سررت باهتمامك .. وأنا أعيش معك ، إذ لا تفوتني مقالة واحدة من مقالاتك .. كنت أمنّيه بالصحة وراحة البال وبالشفاء العاجل ، وهو كمّن يريد أن يطير ليخرج من هذا العالم .. أعاد عبارته لي ، وكأنه يستعجل الرحيل " الفرار من بين أصابع الزمن " ، وهي عبارة كررّها ، عندما كان قد استخدمها لأول مرة ، وهو يعّزيني برحيل والدتي قبل سنتين !! أغلقت سماعة التلفون ، وأمير يشغل بالي وتفكيري ، ليس بسبب ما كان يعانيه من مرض عضال ، بل بسبب انسحاقه المرير حتى الأعماق .. هذا " المثقف " الملتزم الذي أهم ما كان يميّزه ، مواقفه الصلبة ، وتغايراته الجذرية ، وأسلوبه الصعب .. انه رجل عراقي حقيقي تعب على نفسه كثيرا ، فهو صاحب ثقافة عليا ، وفكر معمّق ، وتجربة ملتزمة .. انه نموذج للإنسان والمثقف معا .. انه يرحل ، أيضا ، ليلتحق بركب الراحلين صامتا ، من دون أن يلتفت إليه العراق ، أو ينال من عناية حكومة العراق شيئا أبدا .. ووقف كي يفتتح سجل 2009 في رحيل المثقفين العراقيين الحقيقيين !

الكتابة العليا : عصي المعاني
أما كتاباته ، فقلما يضاهيه أحد في صناعة الكلمة .. انه ينحت كلماته وتعابيره من الصخر .. وكثيرا ما يستعصي مقاله عن الفهم ، وكأنه يقول لمن يقرأ مادته : عليك أن تفهم ما يقال ، من دون أن تلزمني النزول إلى مستواك كي اكتب ما يمكنك فهمه ! الآخرون يهربون من ثقافته ، بل يصفون خطابه بالعصي عن الفهم لا الصعب في الصياغة والتعبير .. لم تكن كتاباته سطحية ، بل عميقة .. كان يكتب وهو يفكر ، ولا يفكر من اجل أن يكتب .. عاش ومات حرا في تعابيره التي لا تعرف السجن ، أو المعتقل من قبله . إن كتاباته غير متواطئة أبدا مع كتابات أخرى . وعليه ، فان من يقرأ نصوصه ، لا يمكنه استيعاب ما يقوله أمير بسهولة .. إن من يقرأ كتابات أمير ، سيجد نفسه في مواجهة صعبة جدا معه ، نظرا لصعوبة كتاباته ، فهو غير مستعد أن ينزل من مستواه إلى الأدنى ، فكيف به يتدانى إلى الحضيض ، ليكتب كتابة إنشائية بلهاء ، بل اعتاد أن يكتب كتاباته العصية التي يراها البعض  " مجرد طلاسم " . لقد كانت كتاباته تعبير شائك عن نفسه ، لا تعبير عن أي طرف آخر .. كان كاتبا ناضجا في عالم من المبتدئين الذين لم يفقهوا قوة الكلمة لا عند الأولين ولا قرب الآخرين .

فيلسوف الكلمة الصعبة                                      
أمير الأعماق يرحل رحلته الأبدية بصمت شديد ، وفي قلبه غصات من حسرة وألم ، كونه يهاجر من الشتات في الأرض بعيدا عن العراق .. ربما لم يقلها ، كونه آمن بفلسفة كونية ، ولم يعد الوطن عنده يساوي شيئا ، ولكن العراق عنده يمثل كونية الأشياء ! انه يرحل ودموعه لا تبلل تراب بغداد أو الناصرية التي اكتشف كونيته فيهما .. أمير يلتحق بسلسلة قافلة عراقية رائعة من المثقفين الراحلين الذين عرفهم العراق في القرن العشرين .. أمير الأعماق الذي لا تعجبه المسطحات ، ولا السذاجة ، ولا كّتاب الدرجة الثالثة .. يدرك انه سيمضي حيث مضى من قبله كل العمالقة العراقيين الذين سبقوه  .. أمير يموت ، وفي فكره الأول : دجلة ، ونخلة ، ومسلة ، وأدلة ، فرات عذب وأساطير عراقية تدين كل الآلاف المؤلفة من العراقيين الذين لم يعرفوا إلا لغة القتل والضرب والبطش والولولة وكتابة التقارير السرية .. أو تفخيخ السيارات المدنية ، أو مجرد أقزام تافهين ، وجدوا أنفسهم فجأة زعماء للعراق منذ خمسين سنة .. أمير الممتد في تاريخ العراق بطوله ، كان يخجل مني جدا عندما أصفه بفيلسوف الكلمة الصعبة .. كان مثقفا ملتزما وليس عضويا ، كوننه يعبر عن ذاته وليس عن نخبة أو جماهير .. فهو عالم بحد ذاته ، كونه يلتزم جملة من الأفكار التي لا يحيد عنها ، ولم يكن مثقفا سلطويا ولا جماهيريا .. فهو باق في الأعالي ، ولم ينزل أبدا إلى الناس حيث يتنوع الجهلة والمهرجين والمصفقين والمداهنين والمرائين والمقلدين والأصوليين وأنصاف المثقفين والملالي المعممين والسياسيين اللوتيه المخادعين سواء كانوا من المعارضة أو السلطويين .. فكلهم عنده من الأدعياء الماكرين ، ومن أصحاب المصالح الخاصة الذين يكذبون على أنفسهم وعلى كل العراقيين عندما يحملون اسم العراق ورموزه ! كان أمير بقدر ما يعشق كونيته ، فهو يراها في العراق وأرضه ، وهو يبتعد عن الناس العراقيين ، وقد أصيب في الصميم من قبل من اسماهم بـ " شعب العراق " !

الجنرال الحزين: وقفة عند التكوين
أمير من ولادات مدينة الناصرية العراقية  عام 1948 ، تلك المدينة الطيبة التي أنجبت العديد من الأدباء والفنانين المبدعين .. لقد بقي أمير يحمل عبق تراب الناصرية ، ويستذكر أيامه عند حوافي الفرات .. نشأ شابا متمردا على قيم بليدة  لم  تعد صالحة أبدا للمجتمعات المتمدنة .. ومن مهازل الزمن ، أن قيما أسوأ من تلك التي تمرد عليها المثقفون العراقيون قبل خمسين سنة ، هي سائدة اليوم  بشكل لا يمكن تصديقه أبدا !! وهذا سر انتقال أمير من حالة التمرد إلى حالة الانعزال .. وكل من الحالتين دفعتاه إلى الانسحاق . أن شعوره بان الآخرين قد تخلوا عنه ، هو عين الصواب الذي عاشه من دون أن ينثني أو يضعف  أبدا .. عند منتصف السبعينيات ، وصل بيروت ، وهو يلتزم القضية الفلسطينية ويغدو احد أبناء المقاومة .. وقد خبر على امتداد سنوات طوال تمتد حتى نهايات القرن ، أي خلال ربع قرن من الزمن ، أن الحياة العربية لا يمكنها اجتياز المحنة الحضارية ، إلا بالتمرد على كل الموروثات  .. عام 1999 ، يهاجر نحو أوسلو عاصمة النرويج  التي قضَى فيها قرابة عشر سنوات ، كي يصيبه مرض عضال لم يمهله إلا سنة واحدة غدا فيها مقعدا ، ولازم المستشفى في الشهور الأخيرة من حياته في مدينة للي هامر التي قضى فيها نحبه عن ستين سنة منكمشا على نفسه من دون أن يفقد ذاكرته  .. هو نفسه يأسف على أشياء أخرى لم يحققها ، بل وان حلما كان يعيشه ليل نهار على امتداد ربع قرن .. ولكنه تبدد وسط  أكوام من التناقضات الجديدة  التي تفجّرت  مؤخرا .

التجربة .. الالتزام .. التمرد
لقد تناصف عمره في العيش بين وطنه وبين المهجر .. ثلاثون سنة في العراق وثلاثون سنة في الشتات .. ثلاثون سنة عراقية نال من التكوين القوي تفتح عقله على نصوص كلكامش التي هضمها ، وجعلته يفكر كإنسان في فلسفة الخلود .. عشرون سنة عربية ، وعشر سنوات نرويجية ، وراح منذ بداياته ، يقرأ فلسفات أخرى، فقد قرأ على مهل كل من أعمال نيتشه وديكارت ودستويفسكي ولوركا وبودلير والسياب والبياتي وسعدي يوسف وانسي الحاج  وآخرين من المبدعين ، شعراء ومفكرين  ، لقد برز شابا معتدا بنفسه ، وكانت تصعب مجادلته لصعوبة ما يقول .. وقد أوقع نفسه في مشكلات لا حصر لها مع الآخرين ، نتيجة أفكاره الصعبة وغير الواقعية وكأنما تصدر عن مجنون في عرفهم ...  ويتأمل كغيره من أبناء جيله ، العراق وهو يمضى نحو المجد ، ولكن فجأة ، يكتشف أوهامه ، ويغدو مناضلا في صفوف الفلسطينيين ، وفجأة يكتشف ذاته والآخرين ، فيتمرد كرة أخرى ..  ويصاب إصابة بليغة في يده وساقه في الاجتياح الإسرائيلي على لبنان عام 1982 .. الأمر الذي حدد حركته على الرغم من بعض العمليات التي أجريت له داخل النرويج ... من نقل هذه التجربة النضالية إلى مخّه ؟ انه هو صاحب صنع قراره ، فليس أمير من النوع الذي يستجيب للأوامر .. وبقي يحلم بالعراق مصدرا للكون ، وهو ينتقل من تجربته النضالية ، وأدب الالتزام ، إلى تجربة إنسانية فلسفية صرفة بعد أن عاف الشعارات لأهلها  .. حسم المعركة هو نفسه لصالح وجوده كانسان يفكر على هذه الأرض .. وهو بين هذا وذاك ، يتمتع بقدر هائل من الرهفة والأحاسيس الرقيقة وقلة النوم !

تجربة صداقة فكرية معمقة
كان كاتبا معروفا شهدت أعماله العديد من الصحف العربية ، لكنه خلال السنتين الأخيرتين ، لم يعد يؤمن بجدوى الكتابة .. كنت احفّزه ، أو أشعل قنديلا أمامه ، وبطريقة غير مباشرة أوحي له بكتابة ما يراه من أفكار .. كان يستجيب لي استجابة صديق لصديقه .. ، ويعاود الصمت .. كان غليان العراق كالمرجل يحرق أعصابه ويوقد جمرا في أحشائه ، فلا يستطيع أن يقاوم أبدا .. كان يكتب لي رسائله ، وهو في أقصى درجات الانسحاق النفسي .. وعندما يفكر بصوت عال في أي مقال يكتبه ، يعلو صوته ، فلا يهاب كبيرا ولا صغيرا ، فما يكمن في أعماق قلبه ، يلفظه مهما كانت النتائج .. ربما كان صمته تعبير عن وطن يصرخ .. يصمت كونه لا يستطيع أن يفعل شيئا . إن التصاقه بالحرية ، جعله لا يكتم شيئا ولا خبرا ، فصراحته قد سببّت له مشكلات عدة .. بل وان تعابيره تبدو مخيفة في بعض الأحيان ، فيتصوره البعض " نزقا " وحتى عند بعض أصدقائه .. الذين يجهلون مأساته .. إن أثرته الصمت والعزلة ليس دليل هروب من الواقع ، بل خلاصة من تناقضات مفعمة بالمآسي والمخاطر .



ـ انتظروا الحلقة الثانية من هذا المقال في تحليل بعض افكار امير الدراجي .
ـ نشرت في ايلاف ، 15 فبراير / شباط 2009  ، وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
- ثمة ملحق ببعض الرسائل المتبادلة بيني وبين الصديق الراحل ستنشر في ملحق بالحلقة الثانية من هذا المقال .


27
الموصل عند مفترق التاريخ !

أ. د. سّيار الجميل



الموصل ، واحدة من اعرق مدن الشرق ، وكان لها دورها التاريخي والحضاري عبر آلاف السنين .. وتعد ثاني اكبر مدن العراق ، ولها موقعها الجغرافي الذي تسمّت من خلاله بـ " الموصل " بين الشرق والغرب .. أنجبت فحولا من الأدباء والعلماء ، وسجلت مواقف نضالية خالدة عبر التاريخ ضد الغزاة والمحتلين ، لكنها عاشت ولم تزل ، أتعس الأيام بعد أن أضاع الأمريكيون بوصلتهم فيها ، وسادها الإرهاب ، وتحكمت في مقدراتها قوى خارجة عنها .. وبقيت صامدة بكل ما أوتيت به من قوة وعزيمة وصبر .. افتقدت اعز أبنائها من أساتذة جامعة ، ورجال أعمال ، ورجال دين .. وعانى كل سكانها في المدينة والأطراف أسوأ التحديات .. ولقد حققّت في الانتخابات الأخيرة نتائج باهرة لصالح أبنائها .. وكان أبناؤها ، كما يبدو ، يدا واحدة في صناعة إرادتهم ، بأيديهم ، بعيدا عن أجندة خصومها ، وعبث محتليها .. وأدوات إرهابييها.
وكانت نتائج الانتخابات فيها ، مباركة ، إذ تّم فيها ، التعبير عن إرادة  وطنية باختيار من  يناسب المرحلة القادمة .. لقد انتصروا بعد أن عانوا الأمرين لسنوات مضت ،  وخصوصا بعد خذلانهم في انتخابات 2005 . لقد نجحوا اليوم باستعادة ما افتقدوه ، وكان خيارهم يتمثّل بحاضرهم ومستقبلهم . لقد أنجزوا ما لم يستطع احد أن ينجزه من اجل مدينة عريقة وكل من يتعايش فيها . لقد بدأت اليوم ، صفحة تاريخية جديدة ، نأمل أن تنطلق فيها إرادة أحرار كبّلت لسنوات .. إن أهم ما يستلزم الموصل : تعايش أهلها ، وانسجامهم معا ، كما عاشوا منذ آلاف السنين .. ويشتهر إقليم الموصل بثروته السكانية المنتجة ، وبكل فسيفسائه البشري عربا وأكرادا وتركمانا وسريانا وكلدانا وآثورية ويزيدية وشبكا .. الخ ، وهو يحمل على كاهله ثقل تاريخي زاهر من حياة الشراكة الاجتماعية والحضارية لمختلف الملل والنحل والأطياف المتنوعة ..
وعليه ، فإننا نناشدهم جميعا ، أن يكونوا يدا عراقية واحدة ، وخلق الأمن والنظام ، ومحاسبة من يريد العبث بهم وبمقدراتهم ، وان يكونوا أهلا للبناء والأعمار والاستقرار ، والقضاء على أسباب التناحر والقتل والتدمير . لقد مرّت بهم تجارب قاسية جدا ، وكانوا هم الأعلون ، لم يهنوا ولم يحزنوا برغم كل الأذى ، وكل العاديات التي زرعها الإرهابيون والشوفينيون برعاية مباشرة من المحتلين والطوابير الأخرى . ولقد انتصروا اليوم بعد أن صّوتوا   لعراقيتهم ، فكانوا عند مستوى المسؤولية التاريخية ! إن جملة كبيرة من الرسائل والنداءات قد وصلتنا ، والتي وقعها أصدقاء ومثقفون .. رجال أعمال ورجال دين من كل الأطياف.. من موظفين ونقابيين .. مستقلون اغلبهم لا يريدون إلا إحقاق الحق، والانطلاق بروحية مدنية جديدة.. تمنع كائنا من كان العبث والتسلط والهيمنة وفرض الوصاية،  وخصوصا في مركز الموصل، أو محيطها، وأطرافها، على جانبي نهر دجلة.
أن ثمة أصوات تنادي المسئولين الأكراد لإيقاف هيمنة قوى عسكرية وسياسية تابعة لهم ، عن ممارسة نفوذها وضغوطاتها على الجماهير في مناطق عديدة من الموصل وكل أطرافها ، إذ أن جميعها مناطق تابعة رسميا وإداريا للموصل وليس لإقليم كردستان .. وهنا ، لابد من مناشدة جميع من يتولى المسؤولية في الموصل ، التفاوض على أسس وثائقية وعلمية دون أية مساومات  سياسية ، وذلك من اجل إرجاع الحقوق إلى أهلها ، وإعادة الأحوال إلى طبيعتها في إطار العراق الواحد لا المنقسم .. وان يمارس كل مواطن حقوقه وخياراته كاملة من دون أي ضغوط ولا أي هيمنة .. كما ينبغي على أهل الموصل في المركز والإطراف ، أن يدركوا أين مصالحهم السياسية والإدارية والاقتصادية ، وقبلها أين هي إستراتيجيتهم الحيوية ؟  ، كي يتفقوا على مبادئ وإجراءات تأخذ الجميع إلى شاطئ الأمان بعد أن دّمرهم  أولئك الذين لم يبحثوا إلا عن مصالحهم وخصوصياتهم .. وليدرك الجميع ، أن لابد من التغيير .. تغيير في المواقف والمفاهيم وحتى القناعات .. تغيير في السياسات والأهداف.. تغيير في أساليب التعامل ، وبلورة روحية جديدة للتعامل والشراكة والانسجام  من دون أي تمييز ديني ، أو عرقي ، أو مذهبي ، أو جهوي ، أو طبقي .. الخ  وليدرك البعض أن لا يمكن أبدا بقاء فئة ، أو حزب ، أو قومية معينة مسيطرة على حياة الموصل تحت أي يافطة كانت .. وبعيدا جدا عن سياسات أمريكية، اثبت الواقع فشلها كلها في العراق. 
وعليه ، ومن اجل تجاوز أخطاء وسلبيات الماضي ، والقضاء على الإرهاب ومن يخلق أجواءه  .. وإنهاء أية صراعات قادمة ستكلف باهظا .. ومن اجل تحقيق الفرص الديمقراطية للجميع ، بتحقيق طموحاتهم وحقوقهم وواجباتهم ، البدء بالعمل المشترك بثقة ، وبلا ضغوط ، أو  تجاوزات .. أهيب بكل الأطراف أن يكونوا عند مستوى المسؤولية التاريخية أولا ، والمسؤولية الوطنية ثانيا ، والمصالح العراقية المشتركة ثالثا .. لابد من مطالبة الحكومتين المركزية ببغداد والإقليمية في اربيل ، الالتفات لتوفير الأمن ، والخدمات ، وتوفير العمل ، وتطوير الحياة  ومنح الحرية الكافية لكل طرف من الأطراف في التعبير عن إرادته في كل أرجاء محافظة الموصل  ، وان لا تمارس أية ضغوط على الناس في أي مكان .. كما يستلزم أن تحظى الموصل بمجلس محافظة متوازن ومشهود لأعضائه بالكفاءة والنزاهة والاستقلالية والمكانة الاجتماعية  .. إنني أناشد للبدء بالعمل ، قبل حدوث تجاوزات وأخطاء سيدفع الناس من جديد ثمنها كبيرا ـ لا سمح الله ـ ..

البيان الاماراتية ، الاربعاء 11 فبراير / شباط 2009 .
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com


28
وطنٌ عراقيٌ وحفيدة أمريكية

(على المشرحة)

( الحلقة الأولى )

أ.د. سّيار الجَميل

مدخل فلسفة الرواية : ركام التناقضات العراقية
كنت قد وعدت القراء الكرام ، أنني سأقف ، وقفة نقدية عند رواية " الحفيدة الأمريكية " التي أهدتني نسخة منها مؤلفتها الروائية المبدعة السيدة إنعام كجه جي  التي تقيم بباريس .. وتعد إنعام ، واحدة من ابرز  الكاتبات العراقيات اللواتي عرفناهن منذ زمن طويل .. لقد أحسست من دون أي سؤال ، إن مضمون ما تحتويه الرواية سيتركز في محوره عند عقدة  التشظي بين جدّ عراقي وحفيدة أمريكية .. وخصوصا  عبر أحداث تاريخية مريرة تتصادم فيها المعاني والأشياء .. وخصوصا  بين جيلين متصارعين .. جيل عانى من أهوال الداخل ، وجيل عاني من  تشظيات الخارج .. وكل من هذين الجيلين ، قد توزعت سايكلوجيته بين عالمين اثنين ، أو قل ، بين ثقافتين مضادتين .. ثقافة عراقية  يتميز بها كل العراقيين .. وثقافة غربية غير متلاقية أبدا مع تلك الأولى ..  إن الجيل الجديد  الذي يريد لمّ شعثه اليوم ، قد تفرقت به السبل .. وغدا مغتربا حتى في دواخله أو مهاجره  .. يعيش ازدواجيات متنوعة ، أو قل ثنائيات راسخة ، ويصل إلى  أوج صراعاته ،  عندما يتجاذب نفسه بين عراقيته وانتماءاته الجديدة .. انه يتعامل مع عالمين اثنين ، أو أكثر .. كل عالم يحاول أن يجذبه إليه .. وطن يعيش بكل خصبه وذاكراته  وعمق أحاسيسه .. وأوطان اندمجوا فيها  وفي ثقافاتها  .. ولم يعد هناك أي مجال كي  ينفصلوا عنها أبدا .. ثمة تمزّقات جديدة تفاقمت خروقاتها في السنوات الأخيرة ، بعد أن ضاعت الهوية العراقية لتستبدل بهويات لا أول لها ولا آخر ، منها بكيانات وهمية ، أو مكونات طائفية ، أو تشظيات قومية ، أو تمفصلات دينية .. أذكتها الهجمة الجديدة ، بعد أن نال العراق طويلا من هجمات متتالية على بنية المجتمع العراقي ، فتبلورت ركامات من التناقضات المهولة !

فحوى الرواية : صراع وطن بين جيلين عراقيين
هذه ، باختصار  ، هي فلسفة حملتها حفيدة أمريكية ، تنتسب إلى جد عراقي متصلب بعراقيته  .. إذ كانت له صرامته وعشقه لوطن عراقي ، بكل ما تعارف عليه ذلك " الوطن " من تنوعات .. وبين بيئة غربية أمريكية ، قدر للحفيدة أن تندمج فيها  منذ أن كان عمرها 12 سنة .. إنها واحدة من ملايين الأحفاد العراقيين المنتمين لجيل جديد  مزقته  العهود  الكئيبة .. إنها واحدة من جيل جالياتي عراقي مهجري يتوزع في شتات الأرض .. بلا أي تلاقح ثقافي ، ولا أي صلات وطنية ، ولا أي روابط اجتماعية .. جيل يجد أهله يعيشون حلم العودة ، ويمنون الرجوع إلى الأعشاش الأولى .. وهو لا ينفصم عن موروثه ، واكلاته ، وموسيقاه ، وأغنياته ، ولكنه بنفس الوقت ، يطمح أن يجد فرصته في الحياة الأمريكية ( أو : الغربية ) ليعيش كما  يريد ، أو حتى ليصارع من اجل مصالحه الجديدة !
في خضم هذه " الازدواجية " بين عالمين اثنين ، أو قل ، بين حلم وذكريات وحنين وبين تكوين وثقافة ومصالح جديدة .. يسقط العراق بيد جيوش التحالف التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003  ، ويسقط ذلك النظام الحديدي الذي كان سببا أساسيا في هجرة الآلاف المؤلفة من العراقيين إلى الشتات . كان اغلب العراقيين في المهاجر .. ينتظرون تلك اللحظة التاريخية التي يحلمون بها .. كانت بطلة الرواية زينة ، هي الحفيدة الأمريكية التي تتصادم مع العراق الذي وصلته من ديترويت كي تعمل مترجمة مع جيش الاحتلال منتقلة من تكريت إلى بغداد ، وهي تعيش في قصور فخمة خلفها النظام السابق  .. إنها تجربتها مريرة في مخاض الصراع ، وتصل أوج العقدة عندما تقع بحب شاب من جماعة جيش المهدي ، وهي الأمريكية المسيحية ، ولكنها تكتشف صدفة أنها شقيقته بالرضاعة ! وهكذا، ثمة أوصاف لا يمكن أن تصدّق أبدا .. ربما التفت غيري من النقاد إليها . ولكي لا أحاول البقاء ضمن " مضمون " مفعم بالأحداث والمشاعر .. فإنني اختار الوقوف عند أشياء مثيرة، أجدها تستدعي طرح أسئلة كثيرة .. واعتقد أنها بحاجة إلى أجوبة واسعة، خصوصا ، وأننا الآن سنكون وجها لوجه لا مع الرواية نفسها ، بل مع صاحبتها .. وسنجد، ما الأفكار الجديدة التي تضمنتها الرواية ؟ ما التعابير والمصطلحات والمفاهيم التي أجد العراقيين بأمس الحاجة إلى معرفتها ! إن الحفيدة الأمريكية ، ليست رواية عادية .. إذ أنها تفصح عن مزيد من الأسئلة.

من حكم على العراق بالإعدام ؟
" مساكين أهل العراق، لن يصدقوا أعينهم متى ستنفتح على الحرية ... أليس الأحفاد ، مساكين أيضا ، حين صدقّوا أن الحرية ستهّب على العراق ؟ ..
إن العراقيين انتظروا طويلا .. ولم يدركوا أن التاريخ لا يمكنه أن يتغير من دون جراحات .. وأنها جراحات لا يمكنها أن تلتئم ابدأ إن كان المخاض صعبا للغاية .. إن الأحفاد ، اعتقدوا أنهم سيجدون العراق جنات عدن تجري من تحتها الأنهار .. فصدموا جميعا ، وخصوصا أولئك الذين سارعوا بالعودة وأحبطوا نفسيا ، خصوصا بعد أن وجدوا إن السايكلوجيات العراقية في كل الوحدات الاجتماعية ، قد اختلفت اختلافا جذريا عما كانت عليه الروح العراقية قبل خمسين سنة !
دعونا نتوقف عند النص التالي : " ورغم حماستي للحرب ، اكتشف إنني أتألم ألما من نوع غريب يصعب تعريفه ، هل أنا منافقة ، أميركية بوجهين ؟ أم عراقية في سبات مؤجل مثل الجواسيس النائمين المزروعين في ارض العدو من سنوات ، .. كنت انكمش وأنا أشاهد بغداد تقصف وترتفع فيها أعمدة الدخان بعد الغارات الأمريكية . كأنني أرى نفسي وأنا احرق شعري بولاعة سجائر أمي ، أو أخز جلدي بمقص أظافري ، أو اصفع خدي الأيسر بكفّي اليمني " ( ص 23 ) .
هذا تصوير رائع لثنائية الصراع الذي يعيشه الأحفاد ليس بين ثقافتين اثنتين ، بل بين نزعتي انتماء .. ومهما كانت النتائج ، فالحفيدة هنا ، لا يمكنها أن تمكث في العراق ، وهي التي أحست أنها تساهم في طعن نفسها ، وهو يحترق على أيدي القاصفين الذين لا تعرف من حكم على العراق بالإعدام !
ونستطرد متأملين أقسى حالات التاريخ .. " صارت بغداد مشاعا لأهلها ، والعراق بلا وال " ( ص 24 ) .. نسأل : لماذا ؟ لماذا صناعة تلك الفوضى ؟ ولماذا خلق ذاك النهب ؟ لماذا جعلوا العراق بلا أي كنترول ، أو جهاز سيطرة ؟ إن الإعراس التي عاشها بعض العراقيين قابلتها أحزان ومآتم عند بعض آخر منهم .. أناس فرحون بسقوط الطاغية ونظامه القاسي ، وأناس حزنوا على احتراق ما تبقى من العراق .. انه مشهد مجنون ، كان ولم يزل التاريخ يسجله بأحرف عريضة جدا .

تشظيات العراقيين
الحفيدة الأمريكية تواجه حقيقة وطن اسمه العراق : معّممون أصابتهم الهستيريا .. عراقيون جدد كرهوا العروبة .. عاشقون لأمريكا .. يساريون ضيعتهم بوصلة موسكو .. ممثلون نزقون مغرورون .. منافقون سرعان ما انقلبوا على أعقابهم بعد أن رقصوا طويلا للجلاد .. آخرون يصلحون لتمثيل فلم عنوانه " مال شغل بالسوق .. نسوة محجبات ويلفهن السواد .. رجال بشوارب لينينية .. شباب برؤوس حليقة على طريقة مغني الراب .. ( ص 26 ) .
إن الحفيدة الأمريكية تشعر بالانسحاق الوطني ( ص 29 ) وهي تطلب السماح عند سماعها النشيد الوطني الأمريكي على ارض وطنها الأم العراق ! يتنازعها صراع من نوع نادر بين ولائين اثنين : الولاء للأصالة ولأهلها ، والولاء للأرض الجديدة التي أقسمت أنها ستدافع عنها ! تقول : " عندما وضعت قدمي اليمنى على درج الباص العسكري نحو طائرة مدنية نحو العراق .. في تلك اللحظة ، فقط ، أدركت أنني قد طويت عمري الماضي كله .. وحياتي لن تكون ، بعد الآن ، مثلما فات .. " ( ص 31 ) وتعقب قائلة : " ذاهبون لننام في حضن الموت ، ونتغطى بأكفاننا " ( ص 32 ) . وتعيش الحفيدة الأمريكية مأساة وطن بين ثنائيتين أخرويين  : " الجهاد للحفاظ على الأنوثة ، أنت أما جندي أو جارية ( ص 32 ) ، أو تعبر عن ثنائية أخرى مصورة لها بقولها : " تراني المؤلفة ربيبة الاحتلال ، وترى جدتي من نفائس المقاومة " ( ص 35 ) .. أو يصل التباين إلى ذروة الوضوح في : " أنا مجدلية خاطئة وشابة ترجم بالحجارة ، وجدتي عذراء في الثمانين تحبل بلا دنس " ( ص 35 ) .. ويتفاقم الصراع في : " أن تجعل مني الشخصية الشريرة الملعونة ، ومن جدتي بطلة طيبة وشجاعة " ( ص 35 ) .

العراق ليس عملة ورقية متهرئة !!
إن البطلة لا تجد مجالا إلا إدانة مؤلفتها التي وجدت فيها مادة لرواية وطنية .. إنها تلتصق بجدتها من ملاحقة المؤلفة لها .. إنها تجد في جدتها الحكمة .. وتقول عنها : إنها " وبالتأكيد هي لن ترضى أن تضع وطنيتها في عهدة كاتبة مسختها أزمنة الانقلابات الثورية والأحزاب القومية وجعلت منها بوقا من ورق .. كلا لن ادع جدّتي تمنحها تاريخ جدي .. يا الهي كم نتقاطع ، أنا وذلك التاريخ ، وكم نختلف ! ، لكنه تاريخي من قبل أن أولد ، وأنا سليلته وصاحبة الحق فيه ، مهما بدوت غريبة عنه وناكرة له " . وتصل ذروة في الصراع بين الذات والموضوع ، بين الحاضر والتاريخ كي تقول : " فهل تظن تلك الكاتبة الغشيمة أنني سأتخلى لها عن ارثي ، حتى ولو كان وطنية مهلهلة لم تعد تنفع في شيء ... عملة جرى تسقيطها من زمان ؟ " ( ص 36-37 ) .. هذه قفلة ليست غريبة على من يعيش من الأحفاد في الشتات .. ولكنها في عداد المحرمات في تفكير الملتصقين بالعراق ، والذين يجدونه أعظم ما في الوجود .. إن العراق ليس عملة ورقية ، أو معدنية يمكن تسقيطها ـ في نظرهم ـ .. إنها صاحبة رؤية واقعية ، وهم ما زالوا يسبحون في الخيال !
لعل أقوى تعبير ورد في الرواية هو هذا الذي يتقاطع فيها الزمن ، والأجيال الجديدة مع التاريخ .. قسم ينكره لأنه تربّى على كراهيته ، وقسم يشمئز منه لأنه يضارعه بالحاضر الأمريكي ! ويبقى آخرون لا يعرفون الا تمجيده كونهم حفدته الحقيقيون ! وهذا هو سر تباين المكونات العراقية الكبرى الثلاث التي لعبت الإيديولوجية الأمريكية عليهم ! عندما يقرأ أي عراقي حقيقي هذا النص ، سيخرج بانطباع صارم يقول للعالم كله بأن العراق ليس عملة ورقية متهرئة ، أو انه قطعة معدنية صدئة يمكن إسقاطها ! 

نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

( انتظر الحلقة الثانية من الدراسة )

29
خطوة عراقية نحو التغيير !

أ. د. سيّار الجميل

مر قبل أيام،  حدث تاريخي مهم عند العراقيين ، يتمّثل بالانتخابات المحلية لمجالس المحافظات .. ويبدو من متابعة هذه العملية ، أنها خطوة عراقية جديدة تعدّ  أفضل بكثير من تلك الانتخابات التي جرت عام 2005  بكل مشكلاتها وتزويراتها . انه بالرغم من حدوث مشكلات ، وخروقات ، واغتيالات ، وأحداث دموية في هذه العملية ، إلا أن ما حدث لا يقارن أبدا ، بذاك الذي ساد في العراق قبل أربع سنوات  .  إن هذا الحدث يكشف ، بشكل واضح ، أن العراقيين يسعون نحو خطوة جديدة لإصلاح الاوضاع السياسية المتهرئة ، والتي كانت من ورائها ، مخلفات تركة ثقيلة لتاريخ مضى ، فضلا عن سوء السياسات الأمريكية ، وصراعات القوى الطائفية والشوفينية .. ناهيكم عن تدخلات دول الجوار ، وخصوصا إيران وفرض أجندتها علنا في العراق . إن التجارب المريرة التي مر بها العراق ، قد أعطت العراقيين ، المزيد من الدروس والعبر لفرز طبيعة القوى السياسية المتنوعة ، وتبين للكثير من العراقيين ، أن العراق لا يمكن أن يسير بخطواته التاريخية نحو الأمام ، إلا في ظل وجود مشروع وطني استقلالي مدني حر ، لتوفير الأمن ، والسعي لتقدم العراق ، وتحقيق حرية العراق ، والحفاظ على ثروات العراق ، وأداء الخدمات للمواطنين .. إن العراقيين ، هم أنفسهم الذين يصنعون التغيير إزاء قوى سياسية سواء كانوا في السلطة ، أو قريبين منها تسعى إلى الهيمنة من خلال تدخلاتها وتزويراتها .. فان من سيخسر اليوم في الانتخابات المحلية ، سيخسر في الانتخابات العامة في نهاية هذا العام .
لقد عاش العراقيون في ظل سياسة ازمات ، ومحاصصات ، وانقسامات ، ومشكلات اججّتها قوى وميليشيات معينة مرتبطة بمن يريد تحطيم العراق ، ولقد أدرك الناس حاجتهم للتغيير نحو الأفضل ، وان الحاجة باتت ماسة للمشروع الوطني العراقي المدني المستقل الذي لا خيار آخر أمام العراقيين من دونه .. وان ذلك " التغيير " ، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال إرادة جماهيرية .. إن الصراعات التي يشهدها العراق اليوم ، هي كبيرة جدا ، تتلخص بتعبيرها عن واقع منقسم على ذاته بين اكثريات وأقليات ، وبين قوى دينية وقوى مدنية ، وبين قوميات متناحرة مختلفة .. إن الحياة الصعبة التي عاشها العراقيون على امتداد السنوات الماضية كانت من ورائها سياسات أمريكية فاشلة ، كرّست مبادئ الأحادية والدكتاتورية ، ثم سياسات احتلال انقسامية ، لا تصلح للمجتمع العراقي أبدا ، وكان أن مضى في تطبيقها ، العديد من القوى التي لعبت على ما أطلق عليه بـ " المكونات الكبيرة والصغيرة " ، فضلا عن إطلاق الإرهاب ، واستخدام أسوأ الأساليب ، مع افتقاد الأمن والنظام .. كل هذا وذاك أتى سابقا بقوى متسلطة ، ومجالس محلية غير صالحة لا للإدارة ولا للسياسة ، ولا للسلطة .. فالتهبت الصراعات ، وازدادت الانقسامات ، وتكرّست المحاصصات ، وكثرت التدخلات ، وسرقت الثروات ، وماتت الخدمات .. على امتداد أصعب ثلاث سنوات من الحياة العراقية اليوم بدءا من 2005 ، 2006 ، 2007 ..
إن التغيير ، ضرورة عراقية .. ولعل أهم من يقف إزاء ذلك التغيير من اكفهرار المأساة إلى الخروج بالعراق من شواطئ الأمان ، وما الانتخابات التي جرت الا تجربة على الأرض ، لا سبيل للعراقيين الا ممارستها من اجل درء المخاطر ، فضلا عن كون ذلك هو الاسلوب الحقيقي لانتصار القوى السياسية النظيفة التي تحلم من اجل تحقيق مشروع وطني مدني عراقي يحقق للعراقيين آمالهم وأمانيهم ، ويخّلص العراق من كل الانقسامات ، ونغمة المكونات يحافظ على ثرواتهم التي تبعثرت على امتداد السنين السابقة .. إن العراق ، لا يمكنه أن يعيش أبدا الا مستقلا عن أية تدخلات كيلا يتفجر مجتمعه إلى طوائف وشرذمات .. إن التغيير لا يمكن أن ينجح الا بوصول أناس لهم سمعتهم واستقلاليتهم ووطنيتهم ونظافتهم وسعيهم لخدمة الناس في مجالس المحافظات كي ينتشلوا العراق مما آل إليه في كل المجالات .. وليتم استعداد العراقيين لخوض الانتخابات العامة نهاية عام 2009 .
إن العراق سيبقى ضمن تجاذبات ومشكلات لا حصر لها ، بين قوى دينية وعلمانية ، بين قوى وطنية وشوفينية .. الا انه بحاجة إلى طبقة إداريين ، وتكنوقراط ، ورجال قانون وتشريعات ، وساسة مدنيين ، ومثقفين حقيقيين ، لتأمين فرص التغيير. إن العراق بحاجة إلى المزيد من التشريعات الخاصة بالأحزاب والانتخابات ، والحفاظ على الثروات والمال العام .. إنه بحاجة ماسة إلى أن يكون صاحب مكانة عربية وإقليمية بعيدا عن عبث دول الجوار به .. وينبغي أن يخرج من عنق الزجاجة وتحديد علاقاته بالآخرين ، والبحث عن عمقه الاستراتيجي ، والالتفات إلى نفسه ، ومحاسبة كل المقصرين ، والمتآمرين ، والمخطئين بحقه ، وسّراق ثرواته ، والعابثين باستقلاله ومقدراته .. إن التغيير ضرورة عراقية لا يمكن إيقافها .. وعلى دول الجوار ، احترام علاقاتها مع العراق وشعبه ، وخصوصا إيران ،  ومنع تدخلاتها الفاضحة ، وإيقاف نهب النفط العراقي .. وتحريم تمرير أية أجندات دموية لتدمير العراقيين . إن التغيير لابد أن يطال كل العراقيين لبدء تاريخ جديد ، وبروح جديدة ، وببرامج جديدة ، لا يمكن أن يصنعها إلا المشروع الوطني المدني .. وما نخب العراق السياسية البراغماتية النظيفة ، أو قوى التكنوقراط والمثقفين الحقيقيين بعاجزين عن تحقيق أحلام العراقيين ! 
نشرت في البيان الاماراتية ، 4 شباط / فبراير 2000
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com

30
الأحفاد في الشتات

(2) ازدِواجيّة الانتماء

أ.د. سيّار الجَميل


5/ ازدواجية الانتماء : المعنى العراقي
لقد أدركت من غير أي سؤال ، أن مضمون أية دراسة علمية ، سيتركز على أوضاع جيل عراقي توزعت سايكلوجيته بين عالمين اثنين ، أو قل ، ثقافتين مضادتين : ثقافة عراقية ترّبى أي عراقي عليها في سنوات تكوينه الأولى في العراق ، ولازمته مع أهله في بيته ، ومع معلميه ، وأصدقائه في مدرسته .. وثقافة غربية ( قسرية له ) ، وجدها بعد هجرته ، أو هروبه ، أو نزوحه في فضاءاته الجديدة ، سواء في أوربا ،أم أمريكا ، أم استراليا ، أم نيوزيلندا وأماكن وبيئات أخرى.. وستكون لسايكلوجيته إرهاصات من أنواع أخرى إن عاش في بلدان آسيوية أو إقليمية أو عربية . وغدا هذا " الجيل " المغترب يعيش " ازدواجية “، أو قل، " ثنائية " راسخة في تربيته ووجدانه.. بين تكوينه الأول ونضوجه الثاني .. بين ذكرياته الأولى التي تحمل كل المعاني مهما كانت قساوتها ، وبين ثقافته الجديدة التي تحمل كل التشيؤات مهما كان نضوجها . إننا نجد ازدواجية الانتماء،  في كل مكان ولدى أي نوع من البشر، فتتصادم تقاليده المشّبع بها بغيرها من الثقافات الغريبة عنه ، بل وتبقى تقاليده وطقوسه هي المسيطرة على وجدانه بكل أشكالها ومضامينها التي سحبها معه من  دواخل أي مجتمع أتى منه ، ليتشكّل صراع داخلي عنده ضد المجتمعات التي احتوته ، بين عهد وآخر ، وكلها تترجم نفسها في بيته وبيئته فينعزل الآباء والأجداد عن الأبناء والأحفاد ضمن فضاء ثقافي واحد .. ولكن أن تتنازع الإنسان ثنائية في الانتماء لما هو عراقي شرقي إزاء أمريكي غربي ـ مثلا ـ ، فهذه تجربة سايكلوجية من نوع جديد ، وولادة سوسيولوجية تطفح لأول مرة على سطح التاريخ ، وهي تجديد مفعم بالتحولات المريرة من نوع ما، تعيشها الجاليات في خضم مخاض مأساوي في التاريخ.. إذ يتنافر كل طرف عن الطرف الآخر ، وكما يحدث الصراع ، أي نوع من الصراع في دواخل أي مجتمع في الداخل إزاء الخارج ، كذلك يتنافر كل من الانتماءين في سايكلوجية إنسان واحد سواء يعيش في الشتات ( = الوطن الجديد ) أو جاء يركض لاهثا نحو الوطن الأم ، ( فوجده هو الشتات الجديد ) !

6/ ديالكتيك الزمن : ذروة التناقض
هذه باختصار، هي الفلسفة بعيدة المدى، وعميقة البعد ، لمن يفكر في اغتراب ملايين الناس، عن وطنهم، بكل الطرق التي وفرتها الأحداث المأساوية.. إن الرؤية ، التي يحملها الأحفاد العراقيون الذين غدوا ، مثلا ، من الغربيين في بريطانيا ، أم كندا ، أم أمريكا ، أم استراليا ، أم نيوزيلندا .. الخ يتعاملون بغير لغتهم الأم  ، وهي وحدها ، حكاية نموذج من ملايين الحكايات التي يتبادلها العراقيون فيما بينهم منذ عشرات السنين .. إن الأحفاد العراقيون ، شاءت الصدف أن تجعلهم في حالة تصادم بين ثقافتين ، أو حالة ديالكتيك بين هويتين .. أو حالة تناقض، بين ذاكرة عراقية، وبين ثقافة غربية.. كلها ، ذلك التصادم وذاك الديالكتيك ( = الجدل ) وصولا إلى ذروة التناقض ، هي بالأحرى عملية صراع ثقافي وسايكلوجي أساسا في بنية كل الأبناء والأحفاد الذين يعيشون حياتهم مزدوجي التفكير ، والهوية ، والثقافة إلى حد ما ! باختصار، أقول هنا، بأن ما وجدوه في مجتمعاتهم الجديدة التي تربوا في أحضانها كان اكبر بكثير من عانوا منه ، أو ما سمعوه ويسمعوه كل يوم عن مواطنهم الأولى التي تعيش جملة مآس لا حدود لها .

7/الحلم البعيد لن يتحقق بسهولة !
كان كل العراقيين في المهجر ، يرنون إلى تلك " اللحظة التاريخية " التي تجعلهم يحلمون أن يكون العراق بين يوم وليلة كما كان عليه أيام ألف ليلة وليلة ، أو على اقل تقدير ، كما كان عليه في الخمسينيات من القرن العشرين ، مستقرا ، منتجا ، موحدا ، متطورا . نعم ، وكان الإعلام الأمريكي يّصور للعالم أن عصرا جديدا سينفتح أمام العراقيين حيث ( الديمقراطية ) وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والحياة الدستورية.. وبالفعل، برزت للعالم عدة منظمات ومجموعات عراقية، في الداخل والشتات ، واندفع الكثيرون ، ولكن نحو التيه ، وهناك من يستغرب أن هناك حتى يومنا هذا من لم يزل يصفق للفراغ وهو بانتظار أن يغدو حلمه حقيقة قائمة بذاتها .. بالرغم من كل الهزّات والصعقات وحياة الفوضى التي تعج بالعراق ، وفرص التشنيع التي يمارسها العراقيون في ظل الحياة الجديدة باسم الديمقراطية التي لا يدركون أساليبها وتقاليدها أبدا !

8/ تجسير الهوة بين الداخل والخارج
ربما ينفرد العراقيون فقط عن غيرهم ، أنهم يعيشون التمايز منذ زمن بعيد بين من بقى في وطنه من أبناء الداخل ، وبين ذاك الشارد عن وطنه إلى ارض الشتات . ثمة تمايز تحّول مع مرور الأيام، وبفعل سياسات القمع الداخلية، ومواريث المجتمع السيئة، إلى تأسيس للكره والحقد والبغض والنظرة الحسودة من قبل أبناء الداخل لإخوتهم أبناء الخارج .. كونهم يعيشون حياة مرفهة ووديعة، ولم يعانوا الأمرّين، كالذي يعانيه أبناء الشعب كلهم.. وبالرغم من صواب هذه الرؤية ، إلى حد كبير ، إلا أن ابن الشتات تعّرض ، ولم يزل يتّعرض لمشكلات صعبة جدا لا يدركها أبناء الداخل ، فضلا عن أن أبناء الشتات ، وقفوا وقفات إنسانية ووطنية لا تنسى أيام الحصار الجائر على العراق ، وهي وقفات اجتماعية ، وأخوية ، قوية دللت على أن الروح العراقية لا يمكنها أن تنفصم أبدا لدى جيل الأمس.. اليوم ، تتحمل وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية والتعليمية العراقية ، دورها في العمل على تجسير الفجوة بين العراقيين كلهم مع أبنائهم وأحفادهم في الخارج ، كي يساعد على الاندماج بما يخدم المجتمع العراقي بعيدا عن التمزق والتفسخ .

9/ الاوهام البليدة
لقد كان الأحفاد في الشتات أكثر اندفاعا من آبائهم وأجدادهم في موجات هذا التيار بالخروج من ازدواجية الانتماء إلى أحاديته  .. قبل أشهر مضت ، قابلت في تورنتو الكندية مجموعة عربية من رجال عرب كهول السن ، وهم يعيشون أفكارهم المحتقنة ، إذ يريدون بثها في الغرب ، ولما جابهتهم أن أحفادهم سيغدون كنديين حقيقيين مستقبلا بحكم الزمن ، انتفضوا انتفاضة كبيرة واستعاذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فقلت لهم : إنها حقائق أثبتها الزمن على غيركم ، خصوصا وإنكم تتمتعون بالقوانين الكندية اليوم ، ولكنكم ترفضون الواقع وانتم من الهاربين .. وهذه هي محنة المهاجرين العرب والمسلمين في الغرب خصوصا .. إنهم يتوهمون جعل العالم يمشي حسب مزاجهم وأهوائهم وأفكارهم .. فإذا كنتم قد فشلتم في أوطانكم التي أدرتموها من الأمام إلى الوراء ، فكيف باستطاعتكم تغيير العالم كما تريدون . إن العالم أقوى منكم جميعا، وهو لا يكترث بكم، بل يعّول على أحفادكم في الشتات ! إن مجتمعاتنا في دواخلها ، تتوهم الأخيلة حقائق ، ولكن ليس كمن انتظر طويلا لإصلاح ذات الحال ، والخروج من مأزق الظلم والعنف والحروب والحصارات ، كي يدخل فوهة بشعة، ولكن من نوع آخر ، حيث انسحاق المؤسسات واختفاء الأمن ، وتبلور الانقسامات ، واشتعال الحرب الطائفية ، وانتشار الإرهاب ، وإشاعة التمزقات والتباينات باسم المكونات ، أو الاكثريات والأقليات ..
 
10/ العراقيون .. ضرورة التواصل  
 أود القول إن هذا " المقال " يمّثل حصيلة قراءات علمية لبعض مشروعات التنمية الاجتماعية التي قمت بالإشراف أو الاطلاع عليها أكاديميا في بعض الجامعات الغربية ، وخصوصا دراسة أوضاع الجاليات العربية في الشتات ، ومن خلال أسئلة لاستطلاعات الرأي ، ومنها الجالية العراقية التي تمّثل نماذجها ، فرادة في تنوع أسباب الهجرة والهروب الجماعي ، أو النزوح واللجوء ألقسري نحو الغرب على امتداد خمسين سنة مضت .. وربما تلاقت الأسباب والنتائج مع ما يعانيه العرب جميعهم وغيرهم من شعوب المنطقة في الشتات. إن التركيز هنا، على الجاليات العراقية ، سيمنح الآخرين ، عدة فرص للدراسة والاستفادة، ولكن من نوع آخر، إذ تبيّن لنا من خلال استطلاع الرأي أن جيل الآباء له شديد الحنين لأرض الوطن، وتقل النسبة كثيرا عند جيل الأبناء. وتكاد تكون هذه " الحالة “، نادرة عند جيل الأحفاد الذي لا يدرك هويته إلا في الحاضنة التي ترّبى فيها.. وهذا أقسى ما سيصل إليه النزيف البشري من مجتمعاتنا ( العربية خصوصا ) والمكبلة بالتناقضات.

وأخيرا : نزيف بشري عن وطن محترق !
إن الأحفاد والأبناء، قد ضاع أملهم في الرجوع والعودة إلى وطنهم المحترق حتى إن كان الرجوع زيارة قصيرة.. بل وبدأ العراقيون يتدفقون على بلدين عربيين مجاورين كي يمارسوا الضياع، ويتفاقم الأمر كثيرا عندما يصبح النزوح حالة جماعية.. إن متغيرات الحياة الصعبة في أوطاننا، بكل جروحها وقروحها، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين قد خلقت هذا النزيف البشري الذي لا انسداد له ، وخسرت بلادنا العريقة أهم ثروة سكانية من أبنائها ، وكلهم من ذوي القدرات المبدعة ، والمهن الخلاقة ، والكفاءات الرائعة  .. فمتى تستقر حياة أوطاننا وتتطور الحياة فيها كي ترجع الطيور إلى أعشاشها .. بدل أن نهدي العالم أولادنا وأحفادنا على امتداد قرن آخر من الزمن ؟؟

نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل 1 afh’ L tfvhdv 2009
www.sayyaraljamil.com






31
2009: علامَةُ تشكيل نظام اقتصادي عالمي!!


أ. د. سّيار الجميل


سوف لن تموت الرأسمالية ، كما يتوّقع البعض ، ولكنها ، ستحاول التخلص من الطريق المسدود الذي يواجهها ، بعد أن شاخ نظام اقتصاديات القرن العشرين ، وان الأزمات المالية ، وعبثية الشركات ، والانفلات الذي عاشه الاقتصاد العالمي ، والإخفاقات المريرة التي طالت حياة الأسهم والسندات والدوائر المالية والبنوك .. والمشاكل التي حفلت بأسواق معينة دون أخرى ، والجشع الذي سيطر على دوائر الاستثمار .. فضلا عن انسحاق مجتمعات ودول ، وولادة طفيليين من مليارديرات في العالم على حساب آخرين من منتجين ومبدعين في العالم .. كلها دعت مستجيبة لتحمس أوروبا  من اجل تأسيس نظام لإقامة نظام مالي عالمي جديد, وكان الرئيس الأمريكي السابق جورج  بوش قد وافق على استضافة قمة عالمية حول إصلاحات النظام  المالي والاقتصادي العالمي ، بعد مروره في خضم أزمات لم تحلها إلا  " الدولة " التي عرف مدى الحاجة إليها . هنا ، سيكون للدولة دورها الأساسي ، ولأول مرة بعد ذبول التجربة التي مرّت ، وقد سحقت مجتمعات عريضة نتيجة سياسات مخيفة تلاعبت بشأن أموال الناس التي ذهبت طعمة لسوء سياسات جشعة ، تلك التي توّقع حدوثها بعض من فكّر في ظاهرة عولمة بلا ضوابط ..   وغدت أوروبا ضحية كبيرة للازمة المالية الأمريكية. وبينما لا  البنوك  الأوروبية تكافح ضعف الائتمان الناجم عن التعثر في دفع  قروض الرهن العقاري عالية المخاطر في الولايات المتحدة,  أدركت أوروبا أنها لا تستطيع الانفصال عن الولايات  المتحدة. وعلاقاتها القوية بها .. وقد يمتد ذلك إلى دول أخرى في كل الشرق الأقصى والخليج  ، أي في المجالات الحيوية في العالم .
إن النظام الامبريالي الذي ساد في القرن العشرين ، وتحداه النظام الاشتراكي ، فسقط الأخير وبقي  النظام الامبريالي يترنّح مع طغيان أعمى لتوحش رأس المال ، وغيبوبة الدولة ، وضراوة الشركات عابرة القارات ، فكان أن اخفق اليوم إخفاقا مريرا ، إذ لم يعد يتجانس مع ضرورات العصر .. فكانت الأزمة المالية التي قادت إلى الركود ، ومن ثم الكساد  وسحبت أمريكا العالم كله معها وتعثرت كل الأسواق العالمية عند مطلع العام 2009 ، وهي السنة التي ستكون أصعب سنوات هذه المرحلة التي سينطلق منها نظام كابيتالي جديد نحو القرن الواحد والعشرين .
في العام 1997 ، أي قبل 12 سنة من اليوم ، كتبت عن انعكاسات العولمة الجديدة  ، قائلا : " إن العولمة الجديدة بمحاورها الأساسية ، ستنتج المزيد من الأفكار والأساليب التي تتحكم اليوم وحتى العام 2009 ، بأوضاع العالم الصعبة .. وربما أنبأتني بعض التقديرات المستنبطة .. عن المرحلة الانتقالية المعاصرة حتى عام 2009 ، وما سينعكس على مصائر الكرة الأرضية .. وما سينتج عنها من تداعيات ونتائج وترسبّات صعبة : دولية وإقليمية ومحلية وعلى مختلف المستويات " . وأتابع قائلا : " كل هذا وذاك سينتجان ـ حتما ـ انطلاقة من نوع ما هو مخطّط له ومرسوم إليه في القرن القادم ( اقصد القرن 21 ) ، إذ سيشهد المستقبل المنظور ، جملة من التحولات التاريخية  الكبرى Historical Transmutations بعد عام 2009 ، وعلى امتداد جيل كامل (= 30 سنة ) ، أي حتى العام 2039 ، تلك التحولات الرأسمالية الاقتصادية المروّعة التي ستنتج تفاعلات بالغة الآثار والخطورة في العالم ، وخصوصا في المجالات الحيوية منه .. "  انظر :  كتابي " العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط : مفاهيم عصر قادم " المنشور ببيروت : مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق ، 1997 ،  ( ص 279- 280 ).
إذا كان العالم قد دفع الكثير من مدخراته وثرواته وأتعاب شعوبه نحو الفراغ .. فان أوروبا معرضة لان تدفع ثمنا اكبر مما تدفعه الولايات المتحدة لأنه من الصعب للاتحاد الاوربى الذي يضم 27 دولة أن يستجيب للازمة بنفس سرعة واشنطن.  وحاول كل عضو بالاتحاد  الاوربى من جانبه مكافحة الأزمة. وكانت استجابتهم  المتفرقة مبعث قلق للأسواق المتعثرة.  وأرجع قادة الإتحاد الأوروبي بوضوح الأزمة المالية  إلى فشل رأسمالية السوق الحرة في الولايات المتحدة .. وإذا كانت أمريكا تتحمل مسؤوليتها الكبرى ، فان العالم كله قد اشترك معها في ضروب من الجنون .. ويدفع اليوم أثمان تلك " الهرولة " بالرغم من اعتراف الكل بأن ما حدث لا يمكن اعتباره أزمة الرأسمالية نفسها ، بل أزمة نظام منفلت الرؤية ، ومتوحش الأبعاد ابعد نفسه عن أهم قيم الرأسمالية .. وان الضرورات تقتضي ولادة نظام اقتصادي يكون للدولة فيه شأنها للإشراف ، وللدول مبادئها واتفاقياتها .. ولا تبقى الشركات من دون أي قيود ولا أي ضبط ولا أي ربط ولا أي حماية .. مع التقليل من الجشع ، والاندفاع نحو إصلاح النظم  ، وقواعد اشد صرامة بشأن صناديق التحوط, وقواعد جديدة لشركات التقييم  الإئتمانى, وحدودا لرواتب المسؤولين التنفيذيين.  والحد من الهيمنة الأحادية في الاستقطاب مع تعزيز الإشراف الدولي  على تلك المؤسسات المالية العملاقة. 
وأخيرا نتساءل: هل مفهوم " التغيير " الذي حمل مشروعه الرئيس الأمريكي الجديد ، سيساعد في إجراء التحولات التي توقعت حدوثها منذ أكثر من 12 سنة ؟ أقول : نعم ، ولكن ليست بالسرعة التي يتأملها السياسيون ، ذلك أن العام 2009 ، سيشهد مخاطر جسيمة جراء ما حدث للعالم خلال العقدين المنصرمين ، ولكنني اعتقد أن في هذا العام ، ستجري تغييرات كبيرة ، تأسيسا لنظام اقتصادي ورأسمالي جديد باستطاعته أن يقود العولمة الجديدة نحو آفاق القرن الواحد والعشرين ، وخصوصا خلال الثلاثين سنة القادمة من مستقبل البشرية .
نشرت في البيان الإماراتية يوم 28 يناير 2009 ، واعيد نشرها في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

32
الأحفاد في الشتات
(1) إشكاليّة الهوّية

أ.د. سيّار الجَميل


مقدمة : من حفزّني لمعالجة الموضوع ؟
اعترف إن ما حفزني الإسراع بإكمال هذا " الموضوع " ، قراءتي للرواية الممتازة " الحفيدة الأمريكية " التي صدرت قبل أشهر ، وكانت قد أهدتها لي مؤلفتها الكاتبة المبدعة السيدة إنعام كجه جي ، وستكون لي جولة نقدية وتحليلية قريبا في عالم روايتها الجديدة التي شغفت بموضوعها وأسلوبها ومغامرة صاحبتها في معالجة بعض تناقضات صعبة أفرزتها الحياة العراقية الحديثة ، وخصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين ، فلقد انتهكت تلك " الحياة " انتهاكات لا أول لها ولا آخر .. وكثيرا ما أتأمّل حالات الهروب الجماعي ، والاستئصال السياسي ، والهجرات المتوالية للعراقيين في دياسبورا العالم كله . وكان العراقيون وما زالوا يدفعون أثمانا باهظة من تلك الحلاقة البشرية للمجتمع العراقي الذي كيف كّنا سنتخيله اليوم ، وهو لم يزل ثابت في أرضه ، ينتج على ترابه ، منغرس في بيئته،  وهو سعيد يملؤه الحبور بتقدمه وتحضّره وما قدمه للعراق ومساهمته في البناء من خلال العراق للبشرية قاطبة ؟؟ تخيلوا معي ماذا لو بقيت تلك الملايين على ترابها العراقي منذ خمسين سنة حتى يومنا هذا ؟ أنها ملايين من المهاجرين والمطاردين والنازحين والمهّجرين والمنفيين والشاردين والمغادرين سرّا ، أو الهاربين قسرا بفعل ما مرّ على العراق من فواجع ونكبات لا يمكن تصورها ، وكما سيصعق أبناء المستقبل في التعّرف على الحقائق التي لم تزل مخفية ، ولم يعلم بها أغلب العراقيين الذين لا يعرفون الا ما ظهر على السطح ، فما خفي من مأساتهم ، كان أعظم . دعوني أثير معالجا إشكاليتين اثنتين ، أولاهما تتعلق بالهوية ، وثانيتهما تتعلق بازدواجية الانتماء .. 

 هل من دراسات علمية ؟
إنّا بأمس الحاجة إلى دراسة حياة جالياتنا كلها في جميع شتات الأرض.. بل وينبغي معالجة هذا النزيف البشري الخطير الذي أصاب مجتمعاتنا في عموم أهم بلدان الشرق الأوسط .. وإذا كنّا على دراية شبه تامة بالأسباب والدوافع التي كانت وراء هجرة الآلاف المؤلفة من الآباء والأجداد نحو مناطق مختلفة من العالم ، فنحن بأمس الحاجة اليوم ، إلى إدراك نتائج ومصائر أولئك الناس الذين يعيشون اليوم جملة مشكلات ، وأزمات ، وتباينات في العلاقة بين الماضي والمستقبل ، واختفاء هوية، وازدواجية انتماء، وهوس ثقافة.  وهنا، أتأمل دوما بما ستؤول اليه مصائر تلك " الجاليات " ، وأشير إلى أن جاليات عربية كانت قد نزحت من لبنان واليمن والجزائر منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر نحو أوروبا والأمريكتين .. وقد اضمحلت اليوم، واختفى الأحفاد في خضم مجتمعات غريبة . هكذا، فان مصير الأحفاد الجدد اليوم سيكون نفسه ذلك الذي حاق بمن مضى من الأحفاد، وخصوصا من العراق وفلسطين ولبنان وسوريا ومصر والمغرب والجزائر وتونس .
إنني أرى ، انه بالقدر الذي يمكننا معرفة ما سيؤول إليه مصير الأحفاد ، وخصوصا في هويتهم وثقافتهم ، إذ أنهم سيفقدون انتماءهم لا محالة في الشتات ، فلابد من المطالبة بمعرفة ما يدور في عقلية ، وتمنيات ، وأفكار الأحفاد في بلداننا بالداخل ، إذ أن ثمة موجات عارمة من التمرد الاجتماعي والثقافي والسياسي في مجتمعاتنا بالضدّ منها ، وان هناك ، رغبة كبرى لدى الشباب في الهجرة الخارجية ، وعدم الاكتفاء بالهجرة الداخلية بين بلدان المنطقة! إن ظاهرة التمرد الداخلي لابد من إيجاد حلول ومعالجات لها من قبل الحكومات والقوى الاجتماعية والإعلامية المتآلفة معها، لدرء الأخطار القادمة. إن المشكلة لم تعد سياسية فحسب، ولا اقتصادية أيضا ، بل إن ثمة أسبابا اجتماعية قاهرة ومقيتة كالتفرقة العنصرية ، والاختلافات الدينية ، والتمايزات الطائفية ، وصراعات القوى المحلية والطبقية والطفيلية.. الخ كدوافع حقيقية في الهجرة والانطلاق نحو المجهول.

1/ أشكالية الهوية
ان العراقيين ، ليس كما يتصور البعض ، قد تشكّلت هويتهم العراقية مع تأسيس الدولة عام 1921 ، ولكنها كانت مغروسة فيهم منذ أزمان طوال ، ربما تبلورت الهوية الوطنية عند بدايات القرن العشرين ، ولكن هويتهم الحضارية والمدينية لها رسوخ في التاريخ ، ولا يمكن إنكارها بجرة قلم ، كما يفعل بعض الذين لم يدركوا مغزى ما عبّرت عنه أدبيات العراقيين ومواقفهم وأساليب حياتهم في القرون الأخيرة . اليوم ، الهوية العراقية والهوية الوطنية في أزمة سواء في دواخل البلاد ام في الشتات .. هناك صراعات متنوعة بين الآباء والأبناء والأحفاد حول طبيعة هذه الهوية ( ليس الوطنية ) بل تلك العراقية الحضارية التي ما انفصلت يوما ! وهناك صراع من نوع آخر بين من هو في دواخل العراق أم أولئك العراقيين الذين يتوزعون في شتات العالم .. ان الهوية العراقية : شعور ونزوع او تصوير حمل هوية عراقية عرفت بخصوصياتها من التقاليد والأعراف والأساليب والقيم والمدارك المشتركة والتي تستحوذ على ضمير كل عراقي حقيقي من العراقيين .

2/ التشظيات .. بداية الاختفاء
إن العراقيين قد تشتتوا في بيئات متنوعة من العالم ، وأصبح الأولاد والأحفاد يحملون ما تبقى لديهم من نزوع عراقي خليط من تنوع ثقافي ، كل في البيئة التي نما وعاش فيها ، فضلا عن أن التشتت الثقافي الذي يعيشه العراقيون من جيل الآباء والأجداد ، فلا يمكن جمعه من جديد ابدأ ، فكيف بأبنائهم وأحفادهم ؟ أما الأبناء والأحفاد في داخل العراق ، فهم يعيشون انتماءات مختلفة لتشظيات لا حصر لها .. إن الخروج من أزمان مختنقة جعلتهم يعيشون حتى الآن تشظيات لا حصر لها ، بعيدا جدا عن القيم العراقية التي توارثها العراقيون أبا عن جد . ولكننا نشهد، انتقالا فاضحا لما تعيشه كل جالياتنا التي يجعلها الحنين وازدواجية الانتماء تقود إلى الفراغ، أو يقودها إلى الرفض.. أما يرفض انتمائه الأول، ويصبح جزءا من أجزاء الثقافات الجديدة التي تغزو العالم اليوم، أو أن يبقى مزدوج التفكير بين ثقافتين، ولا يعرف ماذا يريد، ولكنه يصر على هوية دينية أو طائفية أو وطنية.. وقد يعبر عن ذلك تعبيرا هادئا أو ينخرط ليغدو واحدا من المتمردين الذين يقبلون بفعل أي عمل مضاد للغرب . إن جيل اليوم من العراقيين الجدد يعيش اغترابا في زمنين مختلفين ، ومكانين متباينين، زمن راحل وزمن حاضر.. وعراق داخل وعراقات في الخارج .. ربما لا تحتمل الازدواجية ، بل تتفوق على ذلك كثيرا مع جملة هائلة من التناقضات الراسخة في التربويات ومع الأهواء وما يدور في العقل وما يعتمل في الضمير مع انقسام داخلي وخارجي طائفي أولا ، وديني ثانيا ، وقومي ثالثا ، إزاء تكوين تربوي وثقافي وإعلامي وقانوني غربي يختلف اختلافا جوهريا عن كل حياتنا التي نحياها في أوطاننا الأم .

3/الوطنية الحقيقية ام الكاذبة ؟
إننا  نتعامل ، اليوم ، مع عراقيين من شتى الملل والنحل، وكل واحد منها ، عالم بحد ذاته يحاول أن يجذب الآخر إليه، وعالم يريد العزلة، وعالم يطمح للانفصال، وعالم متقّيح بكل ما يحمله من أحقاد وكراهية للآخر .. وعالم آخر يشعر بالانسحاق دوما ويريد أي تعاطف معه.. وذاك عالما يشعر أن الجميع يستأصله ، وهو متشبث بكنائسه وأرضه ووجوده بالرغم من كل ما استنزفه . إن مشكلة الانتماء للعراق، تبدو في بعض الأحيان موضوعا اسميا لهوية يريد أن يمتلكها كل طرف على حساب الطرف الآخر، والكل يشعر أن العراق بكل خصبه، وذاكرته، وتراثه وطيب الحياة فيه هو العالم الذي ينبغي أن يندمج الجميع فيه. السؤال الآن: هل هناك من أسباب تدعو للانفصال عنه ليس من الناحية العملية، بل من الناحية النظرية على الأقل ؟

4/ اقتلاع الجذور القديمة وتطعيم الاغصان الجديدة
إنني كثيرا، ما أشبه حالة الأحفاد كونهم قد اقتلعت جذورهم ، وطعّموا ليكونوا أغصانا جديدة لمجتمعات أخرى .. أمامنا تطغى نماذج مختلفة من تشتت انتماء العراقيين ، وتشظّي الأبناء والأحفاد .. ربما لا يتألم الآباء والأجداد ، وهم لا يفكرون إلا بالخلاص من جحيم العراق ، ولكن سينتابهم القلق الكبير إن فكّروا بما سيؤول إليه مصير أبناءهم وأحفادهم ، وقد زرعوا نبتا مختلفا في مجتمعات أخرى يندمجون فيها على مهل ! ثمة آباء قد فرحوا بما صنعوه ، كون العراق قد أصابهم في الصميم ، ولكنهم غير منفصمين ، ولا بمنفصلين ، عن انتماءاتهم العراقية .. وثمة من يفكّر دوما بالماضي ، ويسترجع ذاكرته بينه وبين زوجه ، أو من أبناء جيله ، فالجيل الجديد لا يكترث أبدا بحكايات الآباء والأجداد ، بل وان علاقته بالعراق هي علاقة روحية يّعوض من خلالها النقص الذي يشعر به أبناء كل جالية في أي بقعة من الأرض . إن الأبناء والأحفاد لكل العراقيين سيبقون أبناء جالية ( أو : جاليات ) لحين من الزمن ، ومن ثم تجدهم ، وقد اندمج أبناؤهم وأحفادهم في المجتمعات التي التجئوا إليها أو هاجروا نحوها ، وانفصلوا تماما عن أرضهم وهويتهم وما تبقى من انتماءاتهم العراقية .. وهو أهم نموذج لبقية الجاليات الأخرى في المنطقة. إن البعض من قصار الرؤية سيتفلسف ويثرثر طويلا كونه يرى نفسه في أبنائه وأحفاده، لكنه لا يدرك حجم المأساة بعد مائة سنة من اليوم مثلا !

نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل  26    يناير / كانون الثاني 2009

www.sayyaraljamil.com

33
أحمر .. بالخَطّ العريض !!
أ.د. سّيار الجَميل
مقدمة : تفاقم التناقضات
نادرة جدا ، هي البرامج التلفزيونية العربية الجادة التي تعالج شؤوننا الاجتماعية والتربوية والثقافية في الفضائيات العربية التي انتشرت على امتداد عشر سنوات مضت انتشارا كبيرا ، ونادرة جدا ، تلك الإمكانات الإعلامية العربية المقتدرة على اختراق واقعنا الاجتماعي الصلب الذي يكاد يكون اخطر بكثير من واقعنا السياسي الذي تعّبر تشظياته ومآسيه عن تناقضات اجتماعية غاية في الغرابة .. وكلما يتقدّم الزمن نحو الأمام ، تزداد مشكلات مجتمعاتنا ، بل ويتفاقم الصراع بين ما هو راسخ من التقاليد والمألوفات ، وبين هذا الذي يتصادم معها من منتجات العصر وضروراته المعاصرة . وبقدر ما فقدت مجتمعاتنا من عادات رائعة كانت تمتلكها وقد اشتهرت بها منذ عصور خلت ، وعّبرت عنها مجموعة هائلة من الأدبيات والمواريث المدينية والحضرية ، إلا أن مجتمعاتنا قاطبة قد اختلطت اليوم بفعل ما ساد من مخاضات ، وما انتشر من هجرات ، وما تصادم من ثقافات .. فانكمشت مجموعة كبيرة من الايجابيات وسيطرت جملة هائلة من المثالب والسلبيات . إنني لا أنزّه مجتمعات الدنيا قاطبة من سوالب ومثالب ، ولكن ثمة من يعالجها هناك أكاديميا وإعلاميا وقانونيا ..
برنامج تلفزيوني حيوي وناجح
بدأت أتابع منذ أسابيع ، برنامجا تلفزيونيا رائعا على فضائية ( ال بي سي ) اللبنانية ، بعنوان ( احمر .. بالخط العريض ) والذي يقدّمه بنجاح منقطع النظير الإعلامي اللبناني الشاب مالك مكتبي الذي تفّوق على أقرانه ، ليس في تقديم المادة ،بل في أسلوب معالجة جملة من الظواهر الخطيرة التي تسود مجتمعاتنا .. انه يكشف بجدارة عن مخفيات لا يجرؤ احد على كشفها .. انه يقدّمها بأدلة وحيثيات وتقارير وبنفس الشخوص الذين يستقدمهم ليقولوا ما عندهم أمام الملايين.. انه يحفر فعلا خطوطه الحمراء بالقلم العريض .. ولقد دعاني كل ما تابعته على امتداد الشهرين السابقين أن اكتب عنه مقالتي هذه محفّزا غيره من الإعلاميين العرب ، ومحطات فضائية أخرى شهيرة أن تلتفت إلى مجتمعاتنا لمعالجة ظواهر لا حصر لها من التخلف والتأخر .. والكشف الفاضح عن ظواهر خطيرة تكمن فيها ، وتعرية الأفكار السائدة كي تأتي على  شخوص وأناس يعلنون على الملأ معتقداتهم البالية ، وجناياتهم على مستقبل أجيالنا القادمة . إن القضايا السياسية والسلطوية والأحداث اليومية هي الشغل الشاغل للإعلام العربي منذ وجد قبل عشرات السنين حتى يومنا هذا ، إذ لم يلتفت أبدا إلى عمق مشكلاتنا الاجتماعية وخطورتها ، وان كانت هناك ثمة التفاتات معينة ، فقد كانت ولم تزل تجري على استحياء ، وبأسلوب إنشائي فضفاض ..
بعض نماذج خطيرة
كتبت لي إحدى طالباتي السابقات تعاتبني بأدب جم ، وهي مستغربة هجومي على بعض " التقاليد " الاجتماعية العربية .  ولماذا اسميها " بالية " وهي من صلب " الدين " ؟ فأجبتها: دوما ما تقرن التقاليد، بالعقائد وبالدين في تفكير الأغلبية للأسف الشديد.. من دون أي شعور بما تركه التاريخ لدينا من بقايا وترسبات سيئة ! إن الحياة المدنية الحرة المستنيرة لا تنكر على الإنسان معتقداته وأديانه، فالقانون المدني يحمي كل إنسان، ويحترم تفكيره، ويمنحه حق ممارسه معتقداته.. ولكنني طالبت دولنا ومجتمعاتنا منذ زمن بعيد ، بفقه جديد ، فالحياة ومتطلباتها المعقّدة ، أصبحت بحاجة إلى أحكام فقهية جديدة ، ومصالح مرسلة معاصرة ، وان مجتمعاتنا بحاجة إلى أن تعالج قوانين جديدة تعالج أوضاع كسيحة ، وظواهر سيئة ، ومنها تلك التي يقوم بعرضها برنامج  ( احمر .. بالخط العريض ). إن ما ينتشر من سحرة وقراء فال وعرافين يضحكون على الناس ويسيئون للمجتمع .. إن ما ينتشر من اضطهاد للأطفال ،وعادات ضربهم ، وقهرهم ، ومسح شخصيتهم .. إن ما يسود في مدارسنا العربية من سوء تربية، وترويع الأطفال بقصص ومعتقدات تخيفهم .. إن ما يسود من اضطهاد للمرأة واعتقالها وضربها ، وقتل النسوة غسلا للعار ، واغلبهن بريئات .. إن ما يتم من تزويج بنات وهن بعمر الطفولة .. إن ما يتم من ختام للبنات وتعذيبهن .. إن ما يجري من اخذ ثارات شخصية ، أو عشائرية ، وقتل الأبرياء في مكان ، وقتل الأجانب في مكان آخر .. في اغلب مجتمعاتنا أيضا ، احترام فوق العادة للغربيين الأوربيين والأمريكيين وتحقير للشرقيين الأفارقة والهنود ..  إن ما يجري من تسكع وتشرد للأطفال في الشوارع العربية.. إن ما يجري من خطف للأطفال ومتاجرة بهم .. فضلا عن استخفاف بالآخرين من الأقليات واضطهاد الناس واحتقارهم سرا أو علنا !  إن ما ينتشر من أمراض سايكلوجية متنوعة .. ليس للأفراد حسب، بل على المستوى الجمعي، ومنها ما تستدعيه بعض الطقوس من أضرار نفسية وعضوية .. الخ  كلها تستدعي زمنا طويلا من جرأة في المعالجات ، وكشف للمستورات .. وترسيخ وعي جديد . إن ظواهر مرضية لا يمكن تخيلها أو تصورها كامنة في مجتمعاتنا كلها بدءا بالزواج بالجنيات ، أو الضرب بالعصي ، أو الدوران حول النفس ، أو التطبير ، أو اللطم على الخدود وشق الجيوب ، أو التمتع بالدم ، أو النوح والبكاء الكاذب ، أو التعاويذ ، أو زيارة الأضرحة ، والتبرك بها وبالخرق ، أو البهلوانيات ، أو الإيمان بالعرافات والأسياد ، أو الإيمان بالكرامات ، أو تخيّل الاكذوبات حقائق .. الخ من الخزعبلات التي عاشت قرونا طويلة في مجتمعاتنا ولم تزل حية ترزق بفعل اضمحلال التربية المدنية وانتشار الخرافات .. وقد اتسعت اليوم كثيرا لأن المبشرين بها أصبحوا يتشدقون بذلك في أجهزة الإعلام المتطورة .
نعم ، كلها وغيرها ظواهر بحاجة إلى الوعي بها ، وإيجاد معالجات علمية لها .. ذلك أن ضرورات هذا العصر تبيح محظورات العصور المنصرمة .. وهذا ما ينبغي إثارته إعلاميا لتشكيل وعي مضاد ، ومطالبة رجال الدولة والفقه والقانون لاصدار تشريعات جديدة تأخذنا لمئة سنة أخرى . نعم ، مع تفّتح عقل الإنسان، وانطلاق تفكيره، وممارسته الحريات، على غير ما ألفه من موروثات سقيمة ، وممنوعات محّرمة ، وتقاليد بالية ، وبقايا ترسبات ضارة.. وفي شؤون دنيوية لا علاقة لها بالمقدّس !
سلطات المجتمع أخطر من سلطات الدولة !  
إن هذا " الزمن " الذي انفتحت كل سبل الحداثة فيه ، يجعلنا نطالب بالاستنارة بعد مرور أكثر من قرن كامل تراكمت فيه كل التناقضات والإخفاقات . ولكن مجرد دفاع جيل جديد عن تقاليد بالية ومتهرئة، معنى ذلك: أن الاستنارة في أزمة حقيقية، وان المستنيرين قد أصبحوا في قفص الاتهام، ظلما وعدوانا ! إن مجتمعاتنا ، تعجّ بكّل المثالب التي تسحب البساط من تحت أرجل كل العقلاء ! إن التصفيق للشعوذة ، وسحق العقل ، وانتشار الأفعال الشاذة هو الجنون بعينه .. إن الانقياد لشعارات وهمية، وطقوس متوحشة هو انعدام للتفكير .. إن تلف الزمن وإضاعته ، والاستهلاك دون الإنتاج هو كل السكونية والاتكالية والتيه ، إن البقاء في حالة تناقض بين الموضوع والذات .. يجعل الإنسان ، يعيش ، دوامة الممنوعات من دون التحرر عن القوالب المستنسخة.. إن  التناسل لدزائن بشرية تتضاعف كل سنة ، تتربى في الشوارع هو الجريمة بعينها .. إن مجرد وجود ( سلطة دينية ، أو طائفية ، أو قبلية عشائرية ، أو حتى طبقية من أعيان وشيوخ أو رعاع وأشقياء ) في مجتمعك تخيفك وترعبك ، بل تقلقك وتؤذيك لمصالح فئوية ، أو خاصة من غير القانون الرسمي هو الكارثة .. ومن المؤلم ، أن اللاوعي قد استوعب ذلك ، وغسلت الأدمغة على مر السنين ، فتجد شعورك بالرضا عن كل ما يفقد الحرية الشخصية والسياسية والفكرية..  واعتاد الناس أن يروا مجتمعاتنا تزاول الأكاذيب ، والمنسوبيات ، والعشائريات والملائيات ، والتلفيقات والاستعراضات وتعميم الشعارات وهز الرؤوس ، وكل التفاهات .. الخ وماذا نقول لعبادة البطل أو السلطان.. ؟؟ إن مصالح أية سلطة سياسية كانت ، أم اجتماعية هي بالإبقاء على تقاليد الماضي بكل غثّها من دون تغيير .. كلها تقاليد بالية وعادات سقيمة لا تستقيم والاستنارة الحقيقية الرافضة لكل التناقضات والانفعالات والحماقة والتسبيح بحمد الظالمين . إن مجرد خروجك ناقدا، أو رافضا وطرحك الرأي المخالف ، فقد جلبت اللعنة عليك  ! إن ما جرى في القرن العشرين من حركات تحرر وتمردات وانتفاضات وانقلابات وثورات .. كلها كانت سياسية ولم تكن اجتماعية ، بل وحتى إن اعترفت بواقع من الأوبئة ، لكنها لم تمنح الفرصة لنفسها من اجل معالجته تربويا واعلاميا على  اقل تقدير .
وأخيرا أقول:
 إنني أهيب ببرنامج ( احمر .. بالخط العريض ) وبقدرة معّده ومقدّمه ، بالرغم إنني لاحظت أن ثمة ظواهر سلبية تعرض على الشاشة ، ولكنها لم تجد أية معالجة علمية واضحة لها . وهنا أسأل : متى نبني مجتمعاتنا على فضائل التمدن ؟ متى نستعيد أخلاقياتنا الأصيلة في السماحة والحلم والقبول ؟ متى نتخلص من تهميش الآخرين ، خصوصا ، إن كانوا من أقليات دينية ومذهبية وعرقية ؟ متى تتوقفون عن اضطهاد كل الكائنات قولا وفعلا.. ؟؟ متى تتخلصون من أنواع الزيجات الجديدة المخربة للمجتمع ، والتي اخترعت مؤخرا ، وقد أحلها فقهاء هذا العصر ، تماشيا مع إرادة الطفيليين الجدد ؟ متى تتقبلون الآخرين ، وأفكارهم ، وتربوياتهم جنبا إلى جنب ما تستخدمونه من كل وسائل العصر الحديثة الالكترونية والتكنولوجية والديجالات الرقمية ؟؟  ومتى تصبح مجتمعاتنا سوية في علاقاتها ، نظيفة في تقاليدها ، منفتحة في أفكارها .. ؟؟ إن ذلك لا يحدث إلا إن غادرت كل ما يشين من طقوسها الموروثة !
نشرت على ايلاف ، 22 يناير 2009 وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل ، 23 يناير 2009
www.sayyaraljamil.com

ملاحظة : يرجى ذكر المصدر ايلاف في حالة اعادة نشر هذا المقال .

34
المنبر الحر / الالتزام المفقود
« في: 12:14 23/01/2009  »
الالتزام المفقود

أ. د. سيّار الجميل


مفجع هو الزمن الذي قضيناه نحن العرب ـ مثلا ـ في القرن العشرين بكل صفحاته وأوراقه  ، وبكل مشكلاته وتناقضاته ، وبكل احتداماته وأزماته ، وبكل انكساراته وهزائمه .. وهذا يدعونا للتساؤل عن أسرار التفكك العربي مقارنة بتماسك الآخرين . لقد كانت الهزائم التاريخية كبيرة في تأثيراتها , وفي حجم مكوثها فينا ، ولكن تثبت الأحداث  لنا أن عوامل الانتصار متوفرة ، ولكنها غير منظورة أو معلنة ! لقد غاب الوعي عن مجتمعاتنا زمنا طويلا مع هجمة التحديات الخارجية التي جعلتهم ينقسمون وهم ينشدون الوحدة ، وجعلتهم يهزمون وهم يتغنون بالنصر .. وجعلتهم في قلب تناقضات العنف بانقلاباتهم العسكرية نتاج مؤامرات أو رهانات الحرب الباردة ، ثم مرحلة الحروب الداخلية والإقليمية والأهلية وصولا إلى إدخالهم قفص الإرهاب العالمي بالرغم منهم .. لقد غدت ثوابتهم وعقائدهم متشظية سياسيا وفكريا للاسف الشديد ..
إن أهم ما يطرح من أسئلة اليوم: متى يشعر الإنسان ويحس المجتمع بمضاعفة دوره، وتجديد فكره، وخلق البدائل العديدة ؟  متى يتوافق ، أو يتلاءم الجميع من اجل أهداف وطنية ضمن مشروعات حضارية ، وأساليب ديمقراطية حقيقية ، وخصوصا بين الأكثرية والأقليات ؟؟  إنني اعتقد أن الأغلبية تشعر بعمق الجروح التي أنتجتها قوى راحلة مع القرن العشرين في مجتمعاتنا  التي نزفت طويلا أمام كل العالم غير مأسوف عليها ، بل لتواجه أعتى جبروت في التاريخ .. صحيح أن لها القدرة على مواجهته ، ولكنها من ابعد ما تكون عن المواجهة ، خصوصا وان كل الصفات السيئة قد ألصقت بها ، وبالأخص اثر 11 سبتمبر 2001 ! وعليه ، فان مصير الشرق الأوسط هو اليوم على كف عفريت ، إذ غدا في رعاية دولية وهو يعيش اليوم في ظل استقطاب أمريكي واضح المعالم .
كم نحتاج من زمن لتصويب الدورة التاريخية حسب نظرية تداول الأجيال ؟ هل باستطاعة إسرائيل أن تمتلك دفة الشرق الأوسط ، إن أحكمت الطوق على كل خصومها ، وقد أشاعوا أنها قوة لا تقهر ؟ هل باستطاعة إسرائيل الإذعان لإرادة السلام التي ركع لها العرب ؟ لقد كنت أرى الناس ملتزمة بأفكار وشعارات لا تحيد عنها سواء كان ذلك عن إيمان راسخ ، أو ديماغوجية مصطنعة .. وباتت اليوم ، وقد تبدلت تبديلا . وهذه ـ كما اعتقد ـ سّنة الحياة المعاصرة التي بتنا نتعايش معها في هذا العصر الجديد.
قبل أكثر من خمسين سنة ، كان  " الالتزام " احد أهم المبادئ التي يتمتع بها المواطن الحقيقي في الانتماء إلى المجتمع ، كما كان يتصّور حتى وان آمن بنظرية تقدمية ماركسية ، أو بأفكار ليبرالية تحررية .. وكم دفع المثقفون الأوائل ، أثمانا باهظة من حياتهم ، فسجن بعضهم ، واغتيل آخرون ، واضطهد البعض ، ونفي آخرون .. بل وصلت حالة البعض إلى حد الانتحار، فانتحر من لم يستطع تحمل ابسط المتغّيرات أو اكبر الهزائم ! وعلى امتداد خمسين سنة وحتى اليوم ، طّوعت مجتمعاتنا لقبول الهزائم والنكسات ، ولم تترب الأجيال على الاستجابة للتحديات ! جعلوا المرء يقبل بالواقع رغما عن أنفه ، بل وسحقوا معنوياته وداسوا على كرامته بحيث لم تجد ذلك المثقف الملتزم ، أو السياسي الصلد .. لن تجد الثوابت راسخة رسوخ الجبال ولم يعد النضال من اجلها حتى الموت الا ما ندر .. إن روح الالتزام مغروس في الصدور، ولكن روح الانهزام يطفو على السطح دوما..  لن تجد المواقف معلنة وصريحة على رؤوس الأشهاد .. لن تجد الشجاعة في مقول القول ، أو الجرأة في الخطاب إلا عند النادر من المثقفين والمثقفات اليوم. أصبحت حياتنا ( العربية ) سياسيا وإعلاميا واجتماعيا بلا ضوابط ، فكل من هب ودب دعا نفسه بمثقف ! لن تجد النزاهة ونظافة اليد وحسن السيرة والأهلية والحفاظ على المال العام.. نعم ، قد تجد بدايات مشجعة  لحياة مجتمع مدني ، ولكنها أسيرة كل ما يطوقها في المجتمع ، أو من يتسلط عليها من الدولة ، فيجعلها كسيحة لا تقوى على الحياة .. وهكذا بالنسبة للأحزاب السياسية ، أو النقابات المهنية التي لا تستطيع تطوير أساليبها والدفاع عن حقوق أبنائها ، أو بالنسبة للمنظمات الإقليمية التي لا تستطيع أن تفعل شيئا بالرغم من إنفاقاتها الباهظة .. الخ

إن خمسين سنة مّرت على مجتمعاتنا ودولنا تسرع في تخريج كوادر كبرى لا تعتني بنوعياتهم بل بحجمهم الذي اختلط فيه الأخضر بسعر اليابس .. ولم يكن الإنسان المناسب في مكانه المناسب .. فضاعت أزماننا عبثا ، وفشلت خططنا ، وبدأنا نعيش فوضى قيمية ، واستهلاكية قاتلة .. وكانت مجتمعاتنا هادئة ومتوازنة ، فجعلوها تعيش حياة صاخبة يأكل القوي فيها الضعيف .. وتنتشر فيها الرشوة  والعلاقات غير النظيفة .. فمتى تتخلص مجتمعاتنا من تأخرّها وانعزالياتها ؟ متى تعي مسؤولياتها التاريخية ؟ متى تعلن عن التزامات جديدة ؟ متى تجري تحولات جذرية في دولنا وتشريعاتها كلها ؟ متى تتحول مجتمعاتنا نحو الأفضل ؟ متى يتخلص المثقف الحقيقي من شقاء الوعي وهو يعيش مأساة مجتمعاته وتراجعها المخيف ؟ متى تتوازن الحياة وتتخلص من تناقضاتها المرعبة ؟ متى تتخلّص مجتمعاتنا من التخلف والفقر والجوع والمرض ؟ متى تعيش حياة كريمة صالحة وعادلة منتجة ؟ متى يتجّذر الحوار الحضاري بين مجتمعاتنا حول مختلف القضايا الشائكة والاختلافات المعقدّة ؟ متى يعتمد الشارع العربي ترجمة حقيقية لما يتطلب إظهار الحق وإزهاق الباطل ؟ إن الباطل كان زهوقا ..

نشرت في جريدة البيان الإماراتية ،  20 يناير 2009

وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل 21 يناير 2009
www.sayyaraljamil.com




35
رسالة إلى الأصدقاء اليساريين العراقيين

أ.د. سّيار الجميل

" الحق يحتاج إلى رجلين .. رجل ينطق به ورجل يفهمه ".

(جبران خليل جبران)
أيها الأصدقاء
اكتب لكم " رسالتي " هذه، ليس ردّا سياسيا على أحد، بل لتوضيح موقف من التاريخ.. رسالة  تتضمن بعض ملاحظات تعالج بعض ما دار من ردود فعل على المقال الذي نشرته قبل أسبوعين بعنوان " سحل بالحبال أو قذف بالأحذية " * ، ولكي لا أتلقى اتهامات باطلة من أناس ليس لهم إلا إصدار الأحكام السريعة ، دون الاعتراف بالحقائق ، والتمجيد بواقع ضنين أنتجته تواريخ صعبة على امتداد نصف قرن من الزمن المرير ، بكل ما دار فيه من صراعات سياسية ، وحمامات دم ، وإعدامات بالجملة ، وتعذيب في السجون ، وموجات من الاغتيالات ، وفوضى مليشيات حزبية ، وانقلابات ، ومؤامرات ، وتهجير ، وملاحقات ، وهروب جماعي .. وتمردات ، وحروب داخلية وخارجية ، وحصار ، وموت ، وانهزامات ، وانسحاق مؤسسات ! أقول:
1/ لا ادري لماذا يغمض بعض الأخوة اليساريين العراقيين أعينهم عن تاريخ مضى ، وهم لا يتذكرون إلا البطولات والأمجاد ! ولا ادري لماذا يهتاج بعض الأخوة عندما تذكر كلمة ( الحبال ) ، وكأنهم أصحابها ، علما بأنني لم اقصدهم بالذات ، وحتى إن قصدت بعضهم ، فهم ليسوا بمعصومين عن الأخطاء . وتنبؤنا جملة اعترافات ومذكرات قياديين عراقيين سابقين بحدوث تجاوزات وأخطاء لدى الجميع . ولكن ليعلم كل اليسار العراقي ، أنني نشرت منذ سنوات طوال ، بأن الشيوعيين العراقيين ، لهم تاريخ عريق ،وكانوا في مقدمة الذين دفعوا ثمنا باهظا من دمائهم ومعاناتهم، وتكفيهم مجازر 1963 وتراجيديا قطار الموت .. إنني لست ضدهم ، أو ضد أحد من العراقيين، إلا إن كان متمردا على العراق، وقاتلا للعراقيين !
2/ أتمنى أن ما يأخذونه ضدي هو مجرد ظنون ، ففي حين لا اصفق لأي حدث ، أو أي زعيم ، أو أي حزب ، فأنني لا انحاز أبدا عن مجريات التاريخ ، علما بأنني لم اتهم أشخاصا بالأسماء ، ولم اذكر حزبا بعينه ، أو مجموعة بذاتها .. ولكن على كل العراقيين أن يدركوا، ولو لمرة واحدة، أنهم ليسوا ملائكة بررة، أو أولياء صالحين.. وان الزمن يتغير ويتبّدل فثمّة مناضلين وثوريين في العالم، كانوا ضد المستعمرين والامبرياليين ، ولكنهم غدوا اليوم ضمن سياقات الأمريكيين ! وان بعض من كان تقدميا وطليعيا وتحرريا ، غدا اليوم طائفيا ، أو انقساميا ، أو شوفينيا !
3/ إن من ينتقد ظواهر عراقية مقيتة وسيئة ، لن يتبرأ من شعبه ! وإن من يتبرأ من شعبه لن ينزف ألما عليه ولا ينسحق أبدا ، إلا من اجل انسجام شعبه كبقية شعوب الدنيا .. إن من يصر على معالجة المسائل الاجتماعية المعقدة ، ويدرك كم عانى هذا ( المجتمع ) لا يمكنه أن يكون إلا من هذا الشعب.. والمجتمع مرّ بظروف شاذة وصعبة قد تنتج التوحش ، وتنتج بشرا يقطع الرؤوس بسهولة ويعرضها تلفزيونيا .. إن من الحكمة، نقد الظواهر الاجتماعية المتوحشة لا التغطية عليها، أو التعمية من دونها.. وان على من يخالف ، مقارعته الحجة بالحجة، وان يحترم مواقف الآخرين ، بعيدا عن التجريح والطعن وتشويه السمعة، وما أسهل ذلك عند بعضهم !
 4/ لست خصما للشيوعيين أو اليساريين العراقيين ، بل أتمنى على من يفكر مثل هذا التفكير ، أن يراجع ما نشرته عن تاريخهم النضالي في " الأزمنة المرعبة " ، وما تعرضوا له من اضطهاد ، وما كتبته عن مأساة قطار الموت ، فضلا عن معالجتي لدور اليسار العراقي الرائع في الثقافة العراقية في كتابي " انتلجيسنيا العراق " ، ولكنني لم ولن اصفق لاستخدام الحبال في سحل وقتل الناس في ظرف تاريخي عراقي معين ، ولا يمكنني التغاضي عن أخطاء لا تغتفر ، بل ولا يمكن السكوت عن خطايا اقترفها آخرون في عهود أخرى ، وما أنتجت من رعب ، أو ما كان في العراق من مجازر اقترفها عراقيون ، ولم يقترفها أناس استوردناهم من مكان آخر !!
5/ وعندما نعالج اليوم معاصرتنا لا يمكن أن ننكر على ما اقترف من أخطاء وجنايات وخصوصا في الصراعات السياسية التي دامت طويلا .. إنني بالوقت الذي اعترف بحركة التحرر الوطني ونضالات اليسار العراقي في تاريخ العراق المعاصر ، ولكنني أدين النص السيئ القائل: ( وطن تشيده الجماجم والدم .. تتهدم الدنيا ولا يتهدّم ) ، وأدين أيضا النص السيئ الآخر الذي دار على الألسن:  ( ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ) ! إنني إن انتقدت ذلك، فليس معناه أنني أدين اليسار العراقي، أو أن أصبح عميلا، أو ضد حركة التحرر الوطني ، أو كارها للشعب العراقي، أو أغدو خصما لليسار !!! أتمنى على بعض الأخوة العراقيين، أن يدركوا أن نقد المثالب السياسية ، وإدانتها اجتماعيا ، هو الذي سيخلص الأجيال منها ومن آثارها السيئة ..
6/ ازعم ، أن قراءتي للعراق واضحة ومسئولة ، ولكنها غير متخندقة .. وأدرك تماما أن التعبير بقذف الحذاء ليس حالة استثناء ، بل نموذج لتعبير جمعي اجتماعي .. ولقد تناصف المجتمع بين تأييده ومعارضته .. ولكنه تعبير لا يساوي شيئا أمام سحل إنسان، أو قطع رقبة إنسان سواء كان عراقيا، أم غير عراقي !! إننا لو جعلنا السحل عقابا لكل عميل عراقي ـ كما يبرر البعض ـ، فكم يا ترى من عراقيين سيسحلون على امتداد مائة سنة مضت ؟  خصوصا وان معنى العمالة هو أحّط وصف يطلق على التعامل السياسي مع أي جهة أجنبية، ضد المبادئ الوطنية ! يا ترى كم من العراقيين قد تعامل مع جهات أجنبية متنوعة، سواء على أيام الحرب الباردة، ومع أطرافها ؟ أم على أيام الصراع العربي الصهيوني ، ومع إسرائيل بالذات ؟ أم مع الدول الإقليمية المعروفة ؟ إن قراءتي للتاريخ ، تتعامل مع حقائق وليس مع دعايات  ، وعلى من يقرأ العراق ، الإحاطة ، بكل زواياه وأحداثه وشخوصه بلا أي تغطية أو تعمية. فهناك تاريخ عراقي مغيّب من المؤامرات الخارجية، والارتباطات الخفية، والاغتيالات السياسية، والهجرات الجماعية، وممارسات المليشيات الحزبية ، وضرب الحكومات المتعاقبة كلها للتمردات الداخلية عسكريا ..الخ
7/ ينبغي على الإنسان، الاعتراف بأخطائه حتى تتعلم منه الأجيال دون مكابرة ، ودون أي عزة بالإثم ! ولعل من فواجع العراقيين أنهم سريعا ما يتهمون من يخالفهم سياسيا ، أو تاريخيا ، أو اجتماعيا  ، بوطنيته ، أو بانتمائه ، أو بكراهيته لشعبه من دون أي إحساس بالمغالاة ، بل ويسيئون سمعته من دون أي إحساس بالذنب ، وكأن العراق قد خلق على مقاساتهم فقط ! إنهم ينكرون حتى على أصدقائهم وقفاتهم إن شعروا أن الأمر يعنيهم . وهم بذلك كأنما يقولون للتاريخ: نعم ، نحن أصحاب الحبال الذين سحلوا البشر في شوارع العراق .. بل ويبررون السحل كون كل المسحولين عملاء للامبريالية العالمية والرجعية ، وهم يدرون دراية تامة أن العراق قد شهد سحلا لأناس أبرياء ، نسوة ورجال، ونهبا وتدميرا وتهجيرا في مدن عراقية معروفة ، هذا إذا كانوا لا يتنازلون عن سحل خصومهم السياسيين من مسؤولي العهد القديم ..
8/ أتمنى على الأخوة العراقيين إعادة قراءة تاريخهم على مهل ، وبدل أن يضيّعوا وقتهم سياسيا بالقيل والقال ، أو مع وضد .. أن يعلموا أولادهم كيف يفكرون ، وكيف ينشطون ، وكيف ينتجون ، وكيف يدينون أمامهم السحل ، والقتل ، وقطع الرؤوس ، ورشق الاهانات ، وإطلاق الشتائم المقذعة  .. وليس من الصواب أن يصفّق البعض لأوضاع مأساوية صنعها الآخرون لهم ، وهم يبررون رشق الآخرين بالأحذية ! إن ما يهمنّا أساسا أن نكون حياديين في معالجاتنا ، وان بناء العراق الحضاري بحاجة إلى تجاوز الماضي ومشكلاته مع معالجة كل رواسبه وبقاياه .. وتربية أجيالنا الجديدة على مفاهيم حضارية جديدة أساسها المعلومات لا الشعارات !
9/ إنني أعالج ظواهر موجودة وحقائق معروفة ومعلنة في تكويننا الاجتماعي والتاريخي ، فليس من الصواب أن تدمج المواقف السياسية بما يمكن أن يقال من معالجات لظواهر معينة.. وسواء كانت سلبية أم ايجابية ، فسيقول التاريخ كلمته فيها . إن الأستاذ الراحل علي الوردي لم يمّجد السيئات ولم يتستر عليها، ولكنه سجل ما رآه صوابا من وجهة نظر علمية ، ومضى إلى سبيله .. فخالفه قسم كبير من السياسيين العراقيين ..  إن أهواء السياسيين لا تعيش إلا معهم أثناء حياتهم ، ولكن أفكار المختصين تبقى حية لا تموت ! وكل من الطرفين ينتمي إلى وطن اسمه العراق لا يمكن أبدا تجريد أي عراقي من انتمائه الوطني، كما لا يمكن إلقاء التهم جزافا ، بلا أي وعي ، ولا أي إدراك ! إنني اعتز بكل العراقيين مهما كانت انتماءاتهم ومهما كانت اتجاهاتهم ، إلا إن كانوا يبررون القتل بأصنافه ، أو يعيشون في لجة من التناقضات المرعبة .
10/ إنني احترم من يخالفني إن اوجد لي البديل العلمي ، لا أن يعيد إنتاج شعارات كان قد تربى عليها ! وليس عيبا أبدا أن يعلن المرء عن خطأ ، وليس عيبا أبدا أن أقدم اعتذاري لمن أخطأت في حقه .. أن العراقيين جميعا مطالبون أن يقدم احدهم اعتذاره للآخر. وأريد القول، بأن ليس هناك أي مجتمع في الدنيا، نقيا في ثقافته، مثاليا في تجاربه ، ولكن المجتمعات تنقد نفسها ، وتتعلم من أخطائها ، وتعالج تجارب فشلها ، وتعتذر عن أخطائها ، ولا تعيش على الأوهام المزيفة والشعارات الجوفاء مدى التاريخ .
وأخيرا ، دعوني اعتز بكم جميعا ، وأنا لست ضد أي حركة سياسية عراقية لها الحق في أن تتقدم بالعراق نحو الأمام .. كما لست ضد أي حزب تقدمي ، أو أي حركة إنسانية وعلى بعض الأصدقاء اليساريين أن يدركوا أنني لست ضدهم ،ولست خصما لهم ولكنني ضد الفاشية والشوفينية ، وضد الاستبداد ، وضد الدكتاتورية ، وضد الإرهاب ، وضد القوى المتخلفة الطائفية والانقسامية ..وأخيرا ، أتمنى أن أكون متفائلا كما اكتب إلى أصدقائي دوما، فانا من الناس الذين يحلمون بالعراق وقد غدا بلدا متمدنا وحضاريا .. ولكن لا يمكننا بلوغ أهدافنا إلا بمعرفة العراق وقراءته الاجتماعية سياسيا وثقافيا .. متمنيا ترسيخ لغة مهذبة جديدة في الحوار السياسي عند العراقيين.. مع أسمى الأمنيات للعمل معا وتربية الأجيال من اجل العراق الحضاري الموّحد.
•   تجد مقالتي " سحل بالحبال أم رشق بالأحذية " على الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20090105-1553
نشرت مقالة اليوم على موقع الدكتور سيار الجميل في 19 يناير 2009
www.sayyaraljamil.com


36
المنبر الحر / فوضى خلاّقة جديدة
« في: 12:39 15/01/2009  »
فوضى خلاّقة جديدة
أ.د. سيّار الجميل

ثمة انعطافة تاريخية كبرى قد حدثت مع ولادة العام 2009، إذ شهدت منطقتنا متغيرات عاتية وخطيرة، متمثلة بانحسار قضية الشرق الأوسط كله في مدينة عربية، اسمها غزة.. وإنها إستراتيجية إسرائيلية جديدة استفادت في بنائها من خلال خذلانها في لبنان.. انه بالوقت الذي نحّس بتغيير واضح في السياسة الإسرائيلية حسب متطلبات المرحلة واشتراطاتها، وانتقال إسرائيل من مجرد مسلسل الردع والاحتواء إلى موقع الهجوم، من خلال جغرافية القمع، بعد أن أزالت كل الكوابح. وهي خطط جديدة في الحرب، بعد أن كانت سابقا تستجدي العطف من كل دول العالم ومجتمعاته، أصبحت لا يهمّها العالم كله، وهي ترفض قرارا بوقف إطلاق النار.. في حين لم نلحظ أي بارقة في التغيير داخل البلدان العربية التي لم تأخذ من الماضي أية عبرة، أو الاستفادة من تجربة الماضي المتمثل بالصراع العربي الصهيوني..
لقد كانت إسرائيل قد استعدت تماما لمثل هذه الحرب، وأنها أطلقت عدة مشاريع منها اختزال الحرب في عموم المنطقة، واختيار غزة لتقوم بسحقها بعد حصار طويل.. إنها ليست ضربة استباقية، لأن الخصم لا يمكنه أن يكون مستعدا للحرب، ولكنه يبدو إلى حد الآن وهو يتحّمل كل المآسي والضربات المكثفة بروح قوية! إن إسرائيل قد منحت لنفسها الحق في استخدام كل القسوة، من دون أن يعنيها كل هذا التنديد في أرجاء العالم.. وقد قال أكثر من مسؤول إسرائيلي: إن كل الخيارات مفتوحة أمام إسرائيل عندما تشعر أن مصالحها مهددة، وأمنها مضطرب!
وعليه، تعتبر حرب غزة سابقة خطيرة لم يحدث لها مثيل، ولا يعني ذلك أنها لم تتدخل فيما مضى عسكريا، كما حدث في لبنان ودول أخرى، لكنها هنا شرعنت توجهها هذا ردا على الصواريخ التي تقول بأنها تتلقاها من غزة وأطرافها! إن المأزق الحقيقي هو ما بعد غّزة.. ما الواقع الجديد الذي سينبثق بإرادة إسرائيلية إذا خرجت إسرائيل منتصرة، أو أنها تريد إكمال اللعبة إلى النهاية، ولكنها أيضا، ستكون صاحبة شروط أقوى في أية مفاوضات تخوضها.. وعليه، فان مجتمعاتنا لا يكفيها التعبير الساخط على ما يدور من جرائم وخطايا تضاف إلى سلسلة طويلة من الانحرافات.. ولكنها بحاجة إلى إعادة تشكيل جذري، ونسف الأنماط القديمة التي تربى عليها ـ ليس بما يتلاءم والدمار، بل بما يشعر إسرائيل أن هناك وحدة رأي وموقف موحد..
صحيح أنها لا تعير أهمية للمؤتمرات العربية، العادية والاستثنائية، ولكن مجرد شعورها أن الخصم، له كلمته وموقفه، فإنها تعيد التوازن من جديد! إن الحرب اليوم، لها قذارتها بسبب فقدان الأخلاق جملة وتفصيلا.. إن مجرد قتل النساء والأطفال بمثل هذه الطرائق البشعة ، يعد فقدانا لكل القيم الأصيلة، إن مجرد التخطيط لمرحلة الفوضى الخلاقة التي ستسم هذه المرحلة الصعبة. صحيح أن الساسة الأمريكان هم أول من ردد هذه «المفهوم»، ولكنه مستلهم من فكرة مايكل لايدن «التدمير البّناء»، بل وشرعت إسرائيل في توظيفه. إن ما يعنيه هذا «المفهوم» أيضا: خلق الفوضى العارمة، وتفكيك للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتسفيه وتسقيط أخلاقي وفكري للقيم المتعارضة، من خلال وسائل عسكرية ودعائية إعلامية..
إن الفلسطينيين هم بأمس الحاجة اليوم إلى التوّحد على أهداف مرحلية للخروج من مأزق الحرب، ومن ثم إلغاء مبدأ الانقسام كي يحّل بدله مبدأ التوحد.. ولقد وجدنا كم هو تعاطف العرب كشعوب ومجتمعات مع القضية الفلسطينية التي لا يمكنها بعد اليوم أن تكون ضائعة بين الفرقاء السياسيين، فهي قضية وطنية لا سياسية.. ثم أنها لا يمكن أن تكون محتكرة من قبل طرف على حساب أطراف أخرى لهم الحق في أن يقولوا ما يشاؤون، ولكن إن فعلوا شيئا، فان انعكاسات ذلك «الفعل» تعم كل المنطقة. أما العرب، فهم أولى بالقضية الفلسطينية من غيرهم، وأنهم بحاجة إلى أن ينظروا إلى القضية رؤية جديدة، تتناسب وكل جغرافية القمع والفوضى الخلاقة التي نشهد مأساتهما اليوم من خلال إسرائيل.. إن العرب مدعوون اليوم إلى أن يعيدوا النظر في كل أوراقهم التي استخدموها أسوأ استخدام..
عليهم أن يتحدوا في إطار موقف موّحد يجمعهم إزاء أنفسهم أولا، وإزاء إسرائيل ثانيا والعالم ثالثا.. إن ما يمارس اليوم من دمار وانسحاق وقتل للأبرياء لابد أن يتوقف بأي صورة من الصور.. وان الأمن والاستقرار من مسؤولية الجميع. وينبغي أيضا، الرجوع إلى مبادئ جامعة الدول العربية، فإما تطبّق بحذافيرها.. وإما تقيل نفسها، فليس من المعقول أن نلتزم بموقف من دون أي توظيف له! ومن معطيات هذه الفوضى الغريبة تدمير المؤسسات وبناها التحتية والقتل والهدم والحصار والتفجير والجوع! إن تجربة غزة، مصغّرة، لما جرى في العراق.. فمتى نجد خريطة طريق جديد في التاريخ ينتشلنا من كل المأساة؟
البيان الاماراتية ، 14 يناير 2009
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com


37
آفاقٌ مغلقةٌ بوجهِ نظامٍ عرَبي جديد !!

أ. د. سّيار الجَميل

إن الدول العربية ، تعيش اليوم ، مرحلة التفكك بعد أن ذبحتها مرحلة الانقسامات .. لقد أثبتت الأحداث التاريخية منذ أن دخل العالم القرن الواحد والعشرين ، أن ما يسمى بمنظومة ( أو : جامعة ) الدول العربية هي ظاهرة خطابية سياحية مهرجانية ليس الا ، وان المبادئ التي جمعت هذه الدول العربية سواء المؤسسة ، أو التابعة ، قد انتهت من دون رجعة .. تلك " المبادئ " التي تضمنها النظام الداخلي لهذه " الجامعة " ، والتي اتفق على أن يكون أهم مبدأ فيها يقول بدفاع  الدول الأعضاء عن أي دولة منها تتعرض لأي خطر خارجي ! ولقد كان هذا " المبدأ " أكذوبة حقيقية منذ أن نشأت هذه " المنظومة " الهشة التي لم تستطع أبدا الاستجابة لتحديات الأعضاء ، ونزق بعضهم ، وهشاشة الآخرين مع أجندة ما يسمى بدول عربية كبيرة تريد فرض شعاراتها وأفكارها سواء ابتعدت أو اقتربت من مبادئ العضوية ..
أحداث غزة اليوم ، لا تختلف عما سبقها من أحداث مريرة في تاريخ المنطقة ، بل هي واحدة في سلسلة الصراع الدائم في المنطقة التي لم تأتلف ولا لمرة واحدة على " إستراتيجية موحدة "  أبدا ، بل أن الصراعات السياسية الداخلية التي كانت منذ خمسين سنة محتدمة أيديولوجيا ، غدت اليوم متهرئة قيميا ، ومنتجة لانقسامات لا حدود لها حتى ضمن البيئة الواحدة ، أو البلد الواحد . ولا ندري هل سيبقى مثل هذا " الوضع " المزري  ، أم أنها باقية تعيش انقسامات التاريخ حتى يومنا هذا ، بل وتساهم في التعمية على الانقسامات والضعف ؟؟ فما دورها إذن إن لم يجتمع كل العرب في أروقتها عند الأزمات ؟ ومن خولها وحدة الموقف إن كان الأعضاء قد انقسموا على أنفسهم ؟
لقد كنت قد طرحت منذ سنوات خلت على صفحات جريدة النهار البيروتية أن تعلن جامعة الدول العربية استقالتها من التاريخ .. كي يبحث العرب عن منظومة جديدة ، تساهم من خلال نظامها الداخلي في تأسيس نظام عربي جديد يتلاءم والتحولات الجديدة ؟ ولقد ثارت ثائرة سدنتها وقت ذاك ، وبدءوا يرددون شعارات الإصلاح ، ولكن من دون أي نتائج عملية ، كونها ضحك على الذقون .. ثم انبثق ما يسمى بـ البرلمان العربي والذي وصفته بأضحوكة جديدة ، وزعلوا مني مرة أخرى .. واليوم، أسألهم بضمائرهم: أين هو الإصلاح ؟ وأين هو البرلمان العربي ؟ ومجتمعاتنا تسحق ، وغزة تدّمر بعد حصار شديد ؟
هل يعقل أن تصبح " الدولة " العربية منفصمة عن مجتمعها بالكامل ؟ أم أنها كانت منذ أن وجدت على طرفي نقيض هي والمجتمع الذي تحكمه ؟ وهل كانت البلاد العربية جديرة بالحفاظ على جغرافياتها التي صنعها الأوائل، ولم يصنها الأواخر بأي شكل من الأشكال ؟ وعلى امتداد قرن كامل فشلت المجتمعات العربية من خلال ما لها من " دول " أن تؤسس تقاليد تاريخية لها ، وكانت الأجيال ضحية أهواء ونزوعات وبقايا ومواريث ومخلفات ماضي الآخرين !! ولماذا بقي العرب حتى اليوم اكبر عجزا من إيران أو تركيا في تشكيل إرادة موحدة إزاء إسرائيل ، واذ ينظر لتركيا وسيطا للسلام ، تبدو إيران مثيرة للمشكلات .. العرب اليوم منقسمون سياسيا ، كالعادة ، ولكنهم اليوم ، قد تشّظوا اجتماعيا ضمن خنادق طائفية ودينية وعرقية ومذهبية وجهوية .. من ناحية أخرى ، صحيح أن الناس خرجت إلى الشوارع تعبر عن رفضها لما تقوم به إسرائيل ضد غزّة ، ولكنه تعاطف من اجل التنديد والاستنكار لا من اجل أهداف معينة .. يتساءل أي مراقب: ما الذي يريده الناس ؟ هل يريدون الحرب أم يريدون السلام ؟ وإذا كان العرب لا يدركون ما الذي تريده إسرائيل حتى الآن ، فان السؤال الآخر : بأية شروط تريد إسرائيل التعايش مع العرب ، وهي تعيش سلسلة حروب تشعلها في كل مرحلة من المراحل ؟ لقد كان   العرب إلى جانب الفلسطينيين في الميدان سابقا ، ثم غدوا وحدهم من دون العرب في المواجهة ، ولكنهم هم أنفسهم ، قد انقسموا ليس سياسيا فحسب ، بل انقسموا استراتيجيا بين كيانين وحكومتين وسلطتين وواقعين .. وان كلا من الاثنين محاصرين ، وكما هو حالهم ، فان العرب أساسا منقسمين بين معسكر التفاوض وبين معسكر الرفض .. وإذا عدنا إلى تاريخ هذا التصنيف ، لوجدنا أن العرب كلهم كانوا من جبهة الرفض ومع اللاءات الثلاث ، ولكن سرعان ما تبلور معسكر القبول بالسلام ، ليتبلور على الطرف الآخر معسكر الرفض الداعي للحرب.
يبدو أن كلا من الجانبين ، أي المعسكرين غير مؤهلين أبدا لانجاز المهام أو الأهداف التي يريدان الوصول إليها .. وكثيرا ما ينقسم المجتمع بانقسام السياسات ، علما بأن ليس هناك أي سياسة أفضل من أخرى ، إلا بقدر تعّلق الأمر بحسابات ذكية في وصول أصحابها لتحقيق ما يريدون بأقصر الطرق وارخص الأثمان .. صحيح أن من لا يريد التفريط بالحقوق يصمد ويناضل حتى أنفاسه الأخيرة ، وهو يعتبر صموده بمثابة انجاز تاريخي إزاء العدو المتغطرس الذي لا يهمه إلا أن يسحق ويقتل ويدمر ويشرد .. ولكن من يرضخ للحلول والمفاوضات يعلن عن جملة مبادئ ، منها : الحكمة ، والجنوح للسلم ، والقبول بالأمر الواقع لقاء ما يمكن الحصول عليه من خلال المفاوضات ! إن الانقسام الفلسطيني هنا ليس كما يردد البعض ، هو انعكاس لانقسام العرب ، بل لأن طرفا ثالثا ، أو رابعا قد دخل اللعبة ، أو هكذا يبدو ، انه داعم لهذا " المشروع " أو داعم لذلك " الموقف " ، أو مزود بالسلاح ، أو دافع للأموال ، ناهيكم عن فقدان إسرائيل مصداقيتها أولا ، وعدم اعترافها بالحقوق الفلسطينية ثانيا . 
السؤال الآن : لماذا اخفق العرب في بناء نظام عربي جديد يؤسس لتاريخ جديد ، أو قل لمستقبل من نوع جديد ، كما طالبنا بذلك في أكثر من مكان منذ نهايات القرن العشرين ؟
صحيح أن أنظمة سياسية عربية عديدة طرحت شعارات " الإصلاح " ، ولكنها كذبت ، كونها أرادت إقناع العالم أنها مع تحولات القرن .. فعادت إلى المربع الأول حيث لا يمكن مقارنتها اليوم، بما كانت عليه في الماضي القريب.. صحيح أن جميع العرب ( باستثناء العراق المهزوم عام 1991 ) قد صفقوا لمؤتمر مدريد ، وشاركوا فيه ، ولكنهم لم يكونوا على استعداد إعلامي بالاعتراف بإسرائيل ، علما بأنهم معترفون بها خفية كل على انفراد .. إنهم عاشوا زمنا طويلا يشتهون إسرائيل، ولكنهم يستحون من الاعتراف بها  .. يتعاملون سرا مع إسرائيل ، ولكنهم يبيعون الوطنية على شعوبهم .. هذا الانفصام العربي خلق لدى إسرائيل استهانة كبيرة بالعرب الذين يتكلمون بأكثر من لغة معها أو ضدها في آن واحد !
إن أي نظام عربي بحاجة إلى جملة شروط حقيقية لتأسيس حياة سياسية جديدة بعيدة عن كل المألوفات التي أصابها الوهن والعفن معا .. إن تأسيس إستراتيجية عربية لا يمكنها أن تولد من منظومة جامعة دول عربية لم تعد لها أي نفع أبدا ، فإذا كانت قد أخفقت في الثلاثين سنة الأولى من حياتها ، فقد كان هناك مشروعات عدة للتغيير والانقلابات والتحولات التي لم يكن الناس تتصور أنها ستفشل جميعا .. في حين أن إخفاقاتها المتتالية في الثلاثين سنة الثانية قد قادت إلى أن تكون ميدانا لتصفية الحسابات العربية ولم تعد تنفع إزاء حروب ومشكلات وغزوات وحصارات واحتلالات .. الخ
اليوم ، نجد إسرائيل تسحق غزة ، ولم تستطع الجامعة أن تظفر باجتماع واحد لوزراء الخارجية العرب ، فكيف لاجتماع قمة عربي كان لابد أن ينعقد لا من اجل توحيد الفلسطينيين وانتشالهم من انقسامهم ، ولكن من اجل الاتفاق على مبادرة عربية موحدة لتخليص غزة من محنتها والابرياء من الانسحاق .. لم نسمع بأي لغة عربية جديدة كالتي تروج أيام الأزمات والحروب ! لم نسمع بأية تهديدات كالتي كنا نسمعها من زعماء سابقين ! إن من يريد تأسيس نظام عربي جديد ، لا يتعاون لوحده مع أي نظام دولي أو إقليمي بمعزل عن الإرادة الموحدة .. إننا أمام حالة تاريخية هشة لا تتمتع بأي ثقل في مواجهة العالم.. وسيبقى العرب يدورون في دوامتهم من دون أي نظام جديد يحدد سيرورتهم التاريخية إزاء العالم في القرن الواحد والعشرين !

نشرت في ايلاف ، 11 يناير 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

ملاحظة : في حالة إعادة النشر ، يرجى ذكر المصدر ايلاف .. مع التقدير .

38
سَحلٌ بالحِبالِ أمْ رَشقٌ بالأحْذِية ؟
أ. د. سّيار الجميل

العراق : الضرورات تبيح المحظورات
سئل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أكثر من مرة: لقد زرت اغلب البلدان العربية، ولم يبق إلا العراق، فمتى تزور العراق، وهو (قلعة العروبة) ؟ كان يختلق أعذارا في كل مرة، ولكنه همس بأذن أحدهم في إحدى المرات، قائلا: " إنني أخشى كثيرا من العراقيين.. إن صورة فجر 14 يوليو ( 1958 ) ماثلة أمامي، ولم تفارقني أبدا " ! ولم يقتصر الأمر على زعيم مثل عبد الناصر الذي لم يزر العراق أبدا ، إذ كان يخشى كثيرا من العراقيين ، بل غدا الأمر بالنسبة لكل عراقي من كل العراقيين ، أن يحسب ألف حساب  ، وهو يتعامل مع أبناء وطنه ليس في مؤسسات الدولة فقط ، بل حتى في نسيج المجتمع ، انه حتى إن اتفق معهم ، فكيف الأمر إذا اختلف وإياهم .. ؟؟ كنت أنعي على الرئيس الأمريكي جورج بوش غباؤه ، وأنا أراه يرشق بالحذاء من قبل واحد من العراقيين في صالة مجلس الوزراء . ويبدو أن بوش تعامل طوال هذه السنين مع العراق بسذاجة بالغة، وهو لم يقرأ حرفا واحدا، لا عن العراق، ولا عن العراقيين ! صحيح، انه قدم إلى بغداد سرا لأكثر من مرة، ولكنه أعلن عن وجوده ببغداد في مؤتمر صحفي وأمام صحفيين، وبينهم بعض العراقيين، ولا ادري كيف لم يدرك ما وصل إليه العراق في ظل الوجود الأمريكي.. وأن معظم العراقيين أدركوا بما لا يقبل مجالا للشك أن العراق قد عبثت به أجندة أمريكية، ليس منذ خمس سنوات، بل منذ أكثر من خمسين سنة ! ومن حسن الصدف ، أن يغادر الرئيس الامريكي جورج بوش الابن العراق وهو بصحة جيدة ، وهو يحمل اكبر اهانة في حياته!
التوحش وليد الانسحاقات
ثمة من يخالفني الرأي ، والحق معه ، إذ يقول بأن التوحش لم ينته يوما من مجتمعاتنا ، بالرغم من كل ما وصل إليه العرب من بدايات نهضة عند خمسينيات القرن العشرين ، فلقد كان هناك وجه آخر للمجتمع ، وليس هو المجتمع المسحوق بحد ذاته ، بل كل نخب المجتمع السياسي بأسرها ، والتي سمّت نفسها بـ " الثورية " متخذة أسلوب " العنف الثوري " أداة لها وشعارا لأهدافها .. هنا أعلن المجتمع يترجم " الحرية " و " الثورية " و " الشعبية " بأشكال بربرية ، وهو يعلن عن عصيانه ورفضه ، مترجما أفعاله بالسحل ، والقتل ، وغوغائية متوحشة لم تنحصر عند أناس مهمشّين أو مسحوقين اجتماعيا فقط ، بل تمثّلت بنخب سياسية متنوعة لم تعرف إلا لغة القتل والاغتيالات والتقصيب  ، وسواء السحل بالحبال ، أم القتل بالطبر .. سواء بإرسال قطار السلام إلى الموصل ، أم إرسال قطار الموت إلى نقرة السلمان ! وكل من كان مسؤولا عن ذلك لم يعلن  أبدا ، اعترافه بالخطأ حتى هذه اللحظة ، فكيف نريده إنسانا سويا ، أو متحضرا ، أو قابلا لمنح الأجيال القادمة ، مهما كانت ميولها واتجاهاتها ، أمثلة حية على نزعته الإنسانية ، أو الديمقراطية ، أو المتمدنة ؟   
 يبدو أن كل ما تربينا عليه من ترديد أفكار، ودموية أشعار ، وبؤس أساليب، ووهم شعارات، وهوس عواطف، وعصف أناشيد، وفوضى خطابات .. الخ نحن أبناء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية لثلاثين سنة وحتى مطلع الثمانينيات السابقة ، قد تغّير تماما اليوم في جيل ترّبى على أساليب وأفكار غاية في التردّي والتعّصب والخوف والأنانية وازدواجية المعايير والتظاهر بالرأي الواحد والتخلف والنرجسية والمكابرة والتراجع وسحق النزعة الوطنية والإنسانية وعلى مدى الثلاثين سنة المنصرمة .. وها نحن نعيش منتجات هذا الركام البشري الذي صنعته المرحلة السابقة بكل اضطراباتها ، وموبقاتها ، وآفاتها ، وآثامها عندما افتقدت السلوكيات الحضارية ، وأوغل العقل في بدائيات متوحشة ، وانزوت كل القيم الاجتماعية والوطنية بعيدا عن كل الايجابيات بفعل استفحال اختلاط المستويات الاجتماعية التي كانت متباعدة فيما مضى ، وبفعل السلبيات الاجتماعية والسلوكية التي تنتجها المعاناة والحروب والفقر والحصارات والممنوعات وكل الانسحاقات ، وبفعل توظيف " الدين " مع مطلع الثمانينيات ، لزرع الكراهية ، والأحقاد ، والنفي ، والإقصاء ، والتكفير ، والإرهاب واعتقال الحياة  .. الخ
ما الفعل الاقوى : السحل بالحبال والضرب بالاحذية ؟؟
لقد قامت الدنيا ولم تقعد حول ضربة الرئيس الأمريكي بالحذاء ، وقد رشق من قبل شاب عراقي في قلب رئاسة الوزراء بالعاصمة بغداد ، وهو من جيل لم يشهد بعينيه ، ولم يسمع بأذنيه ، رموز البلاد تربط بالحبال ، وتسحل ، وتعلّق ، وتقطّع أعضاؤها ، ولكنه من جيل لم يتربى إلا على الأحذية والنعل التي كانت رمزا للاهانة منذ زمن طويل .. ولم يقتصر الأمر على العراق وحده ، فلقد هاجت الحياة العربية بين مؤيد ومعارض لتلك الضربة التي أهين فيها اكبر رمز لأقوى دولة في العالم نهاية عام 2008 .. وبالرغم من قوة الفعل وقوة الردود عليه ، إلا أنني لم اندهش أبدا، ولم أعلن عن أي موقف أبدا.. لأنني كنت أتوّقع حدوث أسوأ من ذلك بكثير ، وربما سيحدث أسوأ مما جرى بكثير ، ودوما أقول لأصدقائي : إن من له القدرة على أن يسحل رؤسائه ورموزه من نسوة ورجال بالحبال في الشوارع الإسفلتية القائضة ، أو أن يهين الأموات على شاشات التلفزيون ، أو يعلّق النساء على أعمدة الكهرباء قبل خمسين سنة من اليوم ،  له القدرة على أن يرمي حذاؤه وأزباله بوجه اكبر رأس في العالم .. إن المشكلة ، لا تتمثّل بفرد واحد من أبناء مجتمع نال من الانسحاقات طويلا ، بل تتمّثل بمجتمع تنازعته الاهواء والتقلبات منذ نصف قرن ، وتتلاعب به الفوضى من قبل قادته ومحتليه الذين مارسوا كل أساليب الصراع ، وجذب الإرهاب ، وسحق الكرامة ، والعراقي الأصيل ، مهما بلغ توحشه ، اقتله ولا تخدش كرامته ، فكيف ان حاولت سحقها ؟   .. إن سحل الإنسان حيا أو ميتا أبشع بكثير من رمي إنسان آخر بالقندرة ..
أتمنى على نخب العراقيين سواء كانوا من الساسة ، أم من المثقفين ، وسواء كانوا مع الحذاء ، أم ضده ، أن يفكروا قليلا بما قلت .. لقد أجازت نخب العراق السياسية، كل الحبال، وكل النضال طوال سنوات مضت.. ولكنها اشمئزت من  استخدام الأحذية اليوم .. إن أبناء نخب عراقية مثقفة لم تتقدّم حتى اليوم بإدانة واضحة لاستخدام الحبال لسحل الرجال ، وتعليق النساء ، أو البصاق بوجه زعيم عسكري عراقي معدوم على شاشة التلفزيون .. كما لم تراجع نفسها وتقدم اعتذارا تاريخيا لما حدث من إباحات سياسية في اهانة الرموز الوطنية العراقية ، مدنية كانت أم عسكرية منذ خمسين سنة ، وأنها لم تعترف حتى يومنا هذا بأخطاء لا تبررّ ، وبخطايا لا تغتفر ، وسيسجلها التاريخ بأحرف سوداء ، ليس لكونها أتت من غوغاء متوحشين ، بل لأن غدت مباركة من مجتمع بأسره ، ومن دولة جعلت المجازر وحمامات الدم أعيادا لها ! والانكى من ذلك ، كم هو حجم العملاء في العراق على امتداد خمسين سنة ، عندما يتضح كم كان هناك من عبث للآخرين مهما كان نوعهم أو جنسهم ، بكل العراق من خلال الطوابير الخامسة والسادسة في العراق !
من الأهم لدى العراقيين ؟
إنني أسأل من له القدرة للإجابة على السؤال القائل : من الأهم لدى العراقيين ؟ زعماء بنوا العراق وعمّروه ، واخلصوا له ، وتفانوا من أجله ، وكونوا أجيالا من المبدعين ، وحملوا اسم العراق إلى كل الدنيا .. أم رئيس أمريكي أصبح في ذاكرة العراقيين رمزا للهشاشة والإرهاب والغباء ؟ زعماء سحلوا بالحبال ، أم زعماء ضربوا بالقنادر ؟ العراقيون من أروع الناس إذا عرف المرء كيف يتعامل معهم ، وعرف شمائلهم بذكاء منقطع النظير .. إنهم كتل ساخنة من العواطف الجياشة .. هم طيبون عندما يستلزم الأمر ، ولكنهم سريعو الغضب والشتيمة والتهكم بشكل لا يصدق . إنهم عندما يخرجون عن أطوارهم، تهيجهم عواطفهم، وتنفلت عقولهم، وتسيطر عليهم انفعالاتهم.. ولكنهم ، متى وجدوا الحديدة حامية ، انقلبوا على أعقابهم ، ليصبحوا مخلوقات من نوع آخر ليهزجوا ويرقصوا أمام جلاديهم .. ومثلما يسحلون الأجساد العارية في الشوارع ، فهم يضربون أكبر رأس في العالم بأحذيتهم ! وهم أيضا ، أول المؤيدين لهذا الفعل ، أو أول المعارضين لذاك ! وليس السحل بالحبال، أو الضرب بالأحذية هو الانفعال فقط، إذ أن التعصب ينال كل كيانهم ، حتى الكتابة في الصحف ، والتظاهر في الشوارع ، وإعلان المواقف ، وإرسال برقيات التأييد .. وكلها في عداد الانفعالات الساخنة.. إن المثقفين والكتّاب العراقيين هم أول المنفعلين بالأحداث المجردة ، إنهم ينفعلون أيضا ، فتجدهم ، أما يكونوا مع المصفقين ، فيجعلوا من صانع الحدث بطلا ، أو يكونون في الضد منه ، فيلعنون ويشتمون ، ويمسخونه مجرما من المجرمين ، إنهم ، جميعا ، يقفون عند زاوية معينة من دون ربط أي حدث بطبيعة صنّاعه .. ومن دون إيجاد أي تفسير لأسباب ما يحصل.. ومن دون أي تأمل في التداعيات التي سيؤول إليه الحدث .
لقد سكت معظم الساسة والمثقفين والكتّاب والمؤرخين العراقيين على جنايات ارتكبت بحماقات وطيش وغوغائية وجنون ونذالة وعمالة وارتزاق واستبداد وقسوة ... على امتداد عهود القرن العشرين من دون أي إدانة واحدة ، أو أي اعتراف بالخطأ ، ولكنهم فجأة اليوم ، تغدو أفكارهم حضارية ومتمدنة ، وتدين بالويل والثبور وعظائم الأمور ضرب الرئيس الأمريكي بالحذاء ! ان المشكلة ليست في عراقي واحد وكأن الجميع ملائكة ، فأي حدث هو تعبير عن طبيعة مجتمع . وعليه ، فأنني لم استغرب ما حدث ، بل أنني كنت أتوّقع حدوث اكبر من ذلك ، وليس هناك من حرج أمام العراقيين في أن يفعلوا ما شاء لهم ، وخصوصا ، عندما يشعر كل واحد منهم انه قادر على صنع أي قرار يريد تنفيذه بنفسه .. فإذا كان كل ما حدث هو خطير وكبير، فأنني أتوّقع حدوث مالا يحمد عقباه مستقبلا، إذ سيحدث الأكبر والأخطر منه ـ لا سمح الله ـ على امتداد العراق في قابل الأيام. وها أنا ذا أنبه إلى ذلك ، والأيام بيننا ..
وأخيرا : ماذا أقول ؟
المشكلة لم تقتصر على انحرافات مجتمع تحّمل الكثير الكثير ، بل بشاعة سياسات ودول ، وتصفيق مجموعات سياسية متقلبة .. المشكلة لا تتوقف عند حدث معين يتمثل برشقة حذاء في لحظة تاريخية معينة ، بل سينظر المرء إلى تاريخ الحدث كلّ من زاويته ، فالمشكلة ، تتمثل بانقسام مجتمع إزاء من رمى الحذاء كونه بطلا عند بعضهم ، ومجرما عند آخرين ! إن من عاش وتربّى على شعارات الهدم والسحل والقتل والتقطيع والجماجم ، ومن عانى واضطهد طويلا يهن عليه رشق اكبر رأس في العالم بقندرته ! ودوما ما تدان المومسات العاهرات على أفعالهن المنكرة ، ولكن المومس لم تصنع الظروف الشاذة ، بل أن الظروف الشاذة هي التي صنعتها ! ولنا أن نسأل من كان وراء صنع الظروف الشاذة في العراق على امتداد خمسين سنة ؟ ومن كان وراء جعل العراق مزرعة للإرهاب على امتداد خمس سنوات ؟ هل من عقلاء يتأملون في تاريخ العراق وأمزجة العراقيين ولا ينزعجون من قراءة سوء الحظوظ في فنجان مقلوب ؟
نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل يوم 5 يناير 2009
www.sayyaraljamil.com




39
2009: مواجهة التحديات الصعبة

أ. د. سيّار الجميل

منذ زمن طويل جدا، وأنا أترقب ما سيصادفه العالم في العام 2009، إذ كتبت قائلا بأن العالم سيبدأ تاريخا جديدا من عند مخاضاته الخطيرة.. وها نحن نوّدع العام 2008 بكل أحداثه الصعبة، واضطراباته المريرة، التي ستولد من رحمها خيبات الأمل لما سيجنيه العالم عام 2009. فهل تكّيف العالم حقا لسوء العواقب، أم أنه باق رهين التفاؤل الكاذب؟ صحيح أن رئيسا أميركيا أسود وجديدا سيطل ببعض الأفكار والرؤى، ولكن هل بمقدوره مواجهة التحديات الصعبة؟ عام 2009، سيزدحم سياسيا بأكبر حجم من الانتخابات العامة في العالم.. في الهند، والاتحاد الأوروبي، واندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وإيران، وأفغانستان، والعراق..
نعم، سينشغل العالم الإسلامي سياسيا ومحليا بتموجاته ومشكلاته، ولكن العالم يمر بتحديات اقتصادية مريرة على مستوى الأسواق والشركات والدولة، ذلك أن عالم الشمال سيجد نفسه يجني تبعات الأزمة المالية لعام 2008، وسيقف وجهاً لوجه أمام تراجع مخيف في معدل النمو العالمي، فبعد أن كان يعيش طفرة، غير عادية، وبنسبة تتراوح بين 4% و 5%، انخفض إلى أقل من 3%. وهنا، سيواجه عالم الشمال حالات الانكماش، بتأثير: الإفلاس، والتقشف، وارتفاع البطالة، وضمور الشركات، وانحسار القوة مع بقاء بعض الدول محافظة على قوتها النسبية. إن من المحتمل صعود تأثيرها في العالم، مثل: البرازيل وروسيا والهند والصين، بفعل قوتها الإنتاجية التي نتوقع أن يكون لها دورها الأكبر في كيفية سيرورة إدارة العالم.
في العام 2009، سيهتم العالم بظاهرة الاحتباس الحراري، وستنطلق من كوبنهاغن عند نهاية العام، صفحات تقرير مخيف، والدعوة إلى خفض انبعاثات الغازات والمحروقات بفعل تغير طارئ على المناخ، ونقص المياه، وتجارة الكربون، والطاقة البديلة. إن البيئة ستمر بإخفاقات لا نحسد عليها عام 2009. إن الكآبة تطل على وجه كل التوقعات، وان هواجس الخوف تعم كل العالم.. ربما لا ينتبه احد إلى انسحاق الفقراء في العالم، إذ سيتضاعف عدد الجائعين الذي بلغ 862 مليونا عام 2008، ولكن الصراع سيكون شديدا بين الأغنياء للاستحواذ على ما تبقى من الفضلات مع رأسمالية جديدة، وطفيلية بشعة، وانفجار سكاني، وغذاء اقل لأكثر من 6 مليارات من البشر.. مع ركود اقتصادي، يعقب هذا الكساد، وانخفاض حجم التجارة العالمية بنسبة 5,2 بالمئة، وهبوط معدل الاستثمار في العالم بنسبة 50 في المئة عام ,2009.
وسوف لن يفلت من تلك التداعيات أي بلد.. بعد أن غابت، فجأة، قبل أشهر مئات المليارات من العملات الصعبة، وان اغلب شركات صناعة السيارات كانت قد أعلنت، وستعلن، عن خسائر بمئات المليارات، وتسريح ملايين الناس عن العمل.. مع إخفاق الدول الغربية في خطط الإنقاذ، صحبة مع الفشل الذريع في الحد من تدهور أسواق البورصة. ومع عجز فاضح في ميزانيات اغلب الدول المنتجة للنفط حتى إن ارتفع سعر النفط عام 2009، فكيف إذا بقي يسجل تدهورا في السعر ؟ وستعاني كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وايطاليا من ركود اقتصادي واضح.
ولكن ؟ سيكون للمتفائلين مكانهم، منذ الآن، عن العام الجديد بحيث يسرحون ويمرحون بلا أية دواع للقلق، إذ ستبدأ طفرة جديدة على الانترنت، ويعلن العلماء عن خريطة الدماغ، كما سيتم الإعلان عن كواكب تشبه الأرض، وان 2009، سيعتبر عاما للفلك بمرور 400 سنة على اكتشاف غاليلو للتلسكوب ! فضلاً عن نشر علاج جديد لمرضى السرطان.. ومن الطريف، أن العام 2009 سيشهد مرور 30 سنة على الثورة الإيرانية، واحتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، ومرور 20 سنة على إزالة جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية المنظومة الشيوعية، كما ستجري احتفالات مرور 50 سنة على الثورة الكوبية، و60 سنة على الحلف الأطلسي، و70 سنة على الحرب العالمية الثانية، و80 سنة على الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام 1929.
ولعل اخطر ما واجهه العالم عام 1979 سيختتم مرحلة التخضرم بين قرنين مع 2009 التي ستشهد ـ كما اعتقد ـ مفاجآت تاريخية كبيرة، ليس بتوقيع صلح سوري مع إسرائيل، وليس برحيل ملكة قديمة عن عرشها ! ولكن بمرور أيام تهز العالم هزّا عنيفا.. كل التوقعات واردة بصدد حرائق تصيب الشرق الأوسط، واندلاع حروب جديدة تعقبها حروب إرهاب. ولكن الأسئلة: هل سينكمش دور إيران ؟ وهل ستتفجر حرب شعواء في باكستان ؟ وهل ستنكفئ أحزاب الإسلام السياسي في مجتمعات الشرق الأوسط خصوصا بعد المزيد من خيبات الأمل؟
صحيح أن التوقعات تكثر جداً في مثل هذه الأيام، إلا أن الأسوأ هو الغالب.. دعونا نتأمل في كيفية إبعاد دولنا ومجتمعاتنا عن ذلك، ونحن نشارك العالم هواجسه من اجل أن تنعم الأرض بفرص بديلة نحو الأفضل، وأن ندعو لإيجاد حلول وسياسات إستراتيجية لإعادة التوازن وتنشيط الزراعة وحماية البيئة وتنمية الإنتاج.. وينبغي أن يكون التغيير شاملا لكل أصقاع الأرض من دون حصره في بلد معين.. إننا بحاجة ماسة اليوم إلى تقارير خبراء عقلاء لا إلى قرارات ساسة بلهاء، وأن ينضج أكثر من برنامج عمل، يدعو للإصلاح والاعمار والسلام، بديلاً عن كل الفرص الضائعة.

البيان الإماراتية،  31 ديسمبر 2008
 
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل 

www.sayyaraljamil.com

40
التوحش الإنساني: رأسمالية جديدة وعدالة مفقودة!


أ.د. سيّار الجميل

لو سألنا أنفسنا: ما السر الذي يكمن وراء اختفاء أخلاقيات ما تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في القرن العشرين؟ والذي كان يعنى ببلورة أخلاق كونية تنطبق على جميع شعوب الأرض، وان مضامينه تؤكد احترام كرامة كل إنسان على وجه الأرض بغض النظر عن جنسه وأرضه، أصله وفصله، أو عرقه ولون وجهه، أو دينه وطائفته الخ.. ولكن بدأنا نتلمس تقسيم العالم إلى شمال وجنوب، مع التوحش في التعامل وبدايات تكوين أخلاقيات كونية كسيحة، لا تستقيم أبدا ومبادئ حقوق الإنسان.. بل غدا استخدام العامل الإنساني غطاء مجردا من الأخلاق، بل ويستخدم مادة مستلبة في القذارة السياسية! ان الإنسان اليوم قد تغّير كثيرا عمّا كان عليه سابقا، وتبدلت أخلاقياته كثيرا في كل مكان من هذا الوجود.. بدأت الثقة تفتقد بين الناس، وازدادت المافيات والجماعات المارقة في مجتمعات اليوم، وهي تتصرف ضد القانون بشكل متفاقم الأخطار..
وازداد التوحّش في التعامل بين القارات.. ربما لم تنته مفاصل الشرق والغرب بعد ان ودعنا عصر الاستعمار الكولينيالي والامبريالي، ولكن التوحش يتبلور اليوم بين شمال وجنوب، وربما تختفي عوامل استراتيجية غير منظورة اليوم.. لم تعد المجتمعات هادئة كما كانت، بل تبدو متحركة ومختلطة وتهددها الفوضى. ولم يعد العمال طبقة بروليتارية في مجتمع صناعي تصارع من اجل نيل فائض القيمة، بل غدت الأيدي العاملة من أثمن ما يكون في السوق العالمية.. لم تعد الطبقة الارستقراطية منحسرة بعدد معين من أصحاب رؤوس الأموال في أي مجتمع، فلقد تنامى عدد هؤلاء ليس في العالم كله، بل في كل مجتمع باستحواذ البعض على مصادر النفوذ والمال والقوة.. ويبدو هؤلاء في عرف الدارسين مجرد طفيليين في المجتمع !
يقول الفيلسوف الأميركي الراحل جون رولس صاحب «نظرية العدالة» الشهيرة، وهو وريث شرعي لكانط وجان جاك روسو، ان العدالة لا تعني جعل كل الناس أغنياء بنفس الدرجة، وإنما تعني ان الفقراء ليس لهم ما يأكلونه. ان الإنسان أينما كان له الحق في هذا الوجود ان يحيا حياة كريمة، وعنده الحد الأدنى من الطعام والشراب والملبس والسكن والدواء والعلاج.. الخ. وبالتالي فان المفهوم الجديد للعدالة يتناقض تماما مع الشيوعية والاشتراكية. المهم هنا، ان الرجل يتناقض أيضا مع العولمة الجديدة التي يسميها حالة جائرة جدا من الرأسمالية المتوحشة التي شاعت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يقتصر الضرر منها على الدول والكيانات السياسية فقط، بل ضربت كل مجتمعات الدنيا من جرائها !
من يتصفح برنامج الأمم المتحدة للتنمية لكل عام، فسيخرج مذهولا نتيجة اتساع الهوة التي تزداد يوما بعد آخر بين الأغنياء والفقراء بدلا من ان تنقص والإحصائيات الرسمية واضحة بهذا الخصوص. فايطاليا مثلا أغنى من جميع الدول العربية بعدة مرات بما فيها الدول البترولية.. لنضرب أمثلة أخرى على مدى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الشمال الممثل الحقيقي لعالم الأغنياء، وبين الجنوب ممثل الفقراء بشكل عام، فسنجد ان هناك 225 مليارديرا في العالم تبلغ ثروتهم الإجمالية ألف مليار دولار.. هذا المبلغ يعادل ما يحصله 2,5 مليارات من سكان البشرية، أي بمعنى أن 225 شخصا، هم أغنى من مليارين ونصف المليار شخص من أبناء البشرية!
إن العالم كله يدرك من هو المسؤول الحقيقي عن تبدل الأخلاقيات على مدى مائة سنة، وعن خراب العالم. وقد بدا الإنسان منتجا مستغلا، او مستهلكا عبثيا، أو شبحا أكلته الحروب والكوارث والمجاعات.. وبالضرورة، فان عالم الجنوب هو المكتظ سكانيا.
وهو الذي يعاني وستزداد معاناته مع توالي الأيام والسنين في ظل أخلاقيات كونية جديدة، لا تعرف الا الحرب الاقتصادية، والاستثمارات الوهمية، ومضاربات العملة، وهيمنة الشركات الكبرى، والتخطيط لخنق اقتصادات معينة، وعمليات غسيل الأموال، واستقطاب ثروات هائلة في البنوك لدول وأفراد.. وفرض أجندة على الغذاء والماء والدواء.. والتلاعب بأسعار المحروقات، وتخفيض سعر الدولار.. الخ من السياسات التي ستأخذ العالم كله رهينة نظام اقتصادي جديد لا يعرف الا الأخلاقية الكونية للمصالح الأحادية لطرف واحد على حساب كل العالم الذي يتقهقر شيئا فشيئا!
وهذا ما يراه المفكر الهندي فاندانيا شيفا لعالم الجنوب، فهو ينتقد النظرية الرأسمالية الجديدة التي تقول بأن التجارة الحرة تؤدي الى ضمان الحرية في المجال السياسي وسواه، اذ يرى العكس هو الصحيح، ذلك ان التجارة الحرة هي التي تحرمنا من الحرية في عالم اليوم، وستكون الخيبة والخسران من نصيب عالم الجنوب. ان عالم الجنوب يتقهقر شيئا فشيئا بملايين البشر التي تعيش بلا اي إنتاج وبلا علاقات إنتاج.. انها أفواه لا تقبل الا الاستهلاك مع ازدياد المجاعات والمشكلات والأمراض. ان منطقة الشرق الأوسط، وهي اقرب منطقة إلى أوروبا جغرافيا كانت ولم تزل تعاني من صدمات تاريخية وحضارية متنوعة، وهي اليوم ضمن مناطق صراع الجنوب إزاء الشمال.. وتبدو مجتمعاتها تعيش هي الأخرى فوضى التناقضات وغياب المستويات وتقلّص النخب وغيبوبة الإنتاج وتفاقم الصراعات.. انها تعيش في عالم متغيرات غير ايجابية على الإطلاق وبفعل سياسات وأجندة وإعلاميات وتربويات.. لا تخلق إلا الانقسامات وتبدد الإرادات وتعدد الولاءات لثقافات متوحشة وظواهر لم يكن لها وجود في حياتنا وأخلاقياتنا سابقا!.

البيان الإماراتية ، 24 ديسمبر 2008

www.sayyaraljamil.com

41
قبل ان يأكلنا ماردُ العصر !

أ.د. سيّار الجَميل

صراع اليوم ليس بين شرق وغرب ، بل ان اللعبة تجري بين سكان عالمنا في الجنوب واستحالة حياتهم من دون مارد الشمال . علينا ان لا نكابر ، ذلك ان عالم الجنوب ليس لديه القدرة على ان يبقى 24 ساعة واقفا على رجليه من دون منتجات عالم الشمال .. هذا الذي يجثم على مصادر الطاقة ، ويكرر ثروات الارض ، ويهيمن على علاقات الانتاج باختراق الشركات ورؤوس الاموال ، مع ثورة المعلومات ، والاتصالات ، وتكنولوجيا الاعلام  في عموم الارض .. هل تنفع معه ما تبقى لدينا من فضلات ايديولوجية ، ومن استعراضات فارغة ، ومن شعارات طنانة ، ومن مأثورات عاطفية  تملؤها التناقضات ؟
 اي " فكر " هذا الذي باستطاعته ان يقاوم هذا المارد الكاسح الذي يبدو انه قابض على انفاس العالم كله  ، وهو يلاحق الجبابرة على ممتلكات الفقراء ! اية ادوار ، واية مواقف ، يمكننا اتخاذها من اجل ان يلتفت الينا  لنعرف كيف نخاطبه ونطالبه ؟ اية حقوق مضاعة على مدى مائة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه ؟ اية اهداف ، واية امنيات ، واية احلام كتلك التي آمنا بها وطالبنا بتحقيقها ، يمكنها ان تكون اليوم بعد ان خربنّا طرقنا ، وشتتنا جهودنا ، وقتلنا مشروعاتنا ، واحرقنا زمننا ، وضيعنا فرصنا ، وعطلنا قدراتنا ، وجمدنا عقولنا ، وذبحنا شبابنا ، وفرّقنا شملنا واصبحنا لا نفهم الا لغة الردح والشتائم والتخوين والكراهية وتراكمات الاحقاد والتكفير والموت ؟
من علم ملايين الناس كل هذه الاقانيم السوداء ؟ من جعلهم ينشدّون دوما الى الوراء من دون استقامة الطريق ؟ من جعلهم يلوكون النصوص ، صباح مساء ، وهم لا يدركون كم هو الزمن ثمين في مقياس الشعوب ؟ من علمهم الكسل ، والتواكل ، والاستسلام للضياع ؟ من جعلهم لا يعرفون الا المثالب والسوالب في الحياة ؟ من قيد افكارهم وسجنها في الغرف المظلمة ؟ من جعل تصوراتهم لا تبتعد اكثر من الاكل والنوم وتلبية حاجات نداء الطبيعة ؟
ان زمننا هذا قد خلق للاذكياء ، والمبدعين ، والخلاقين ، والوعاة ، والحرفيين ، والمكتشفين .. ولا مكان للاغبياء ، والكسالى ، والمقلدين ، والمرددين ، والمتكلسين ، والنائمين ، والهائمين ، والخياليين .. ان مارد العصر لا يهمه الا كيف يحافظ على قوته ، وتكنولوجيته ، وتطور حضارته ، ونظم معلوماته ، ومصالح اقتصاداته .. الخ  ان المارد المعاصر يهمه كيف يستحوذ على الايدي العاملة الرخيصة ، ويهمّه كيف يسّوق بضاعته الكمالية ، واسلحته الفتاكة ، وسلعه الجديدة .. انه بقدر ما يهمه الانتاج وتحسينه يهمه ملايين المستهلكين ، ونحن من اكبر المستهلكين ليس لمنتجاته فقط ، بل لكل الزمن والطاقة والعقل والمال .
مئة سنة مرت ولم تحقق الايديولوجيات اهدافها .. وعليه ، فان النخب العليا في اي مجتمع ، مطالبة بالضغط على الحكومات ، من اجل تغيير المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية .. وكل ما من شأنه ، ان يأخذ بالتحولات من دون اي طفرة وراثية ، ومن دون اي قفزة نوعية ، ومن دون حرق للمراحل .. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح على العصر .. وان تتضّح مقاصدنا ، واهدافنا بعيدا عن اللف والدوران ، وعن اللعب بالتناقضات ، وعن ثنائية التراث والمعاصرة وعن ازدواجية المعايير .. علينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون .. والعمل المنتج . وان نحافظ علي الحدود الدنيا من العلاقات الادبية التي يحترم فيها احدنا الاخر علي الاقل ، وهنا ، يستوجب الانطلاق من واقع مهترئ ينبغي تغييره او تطويره ، وان يتقّبل كل المستحدثات الجارية في العالم بروح عالية .. اننا مدعوون جميعا لوضع اسلوب عمل صريح وشجاع يطالب بالنص مراعاة التشريعات الخاصة بذلك .
  نعم ، ان حياتنا العربية ، الرسمية والاهلية ، بحاجة ماسة الي اصدار تشريعات وضوابط لكل مرفق من المرافق والمؤسسات والاجهزة المستخدمة ، وان تخضع ثورة التحديث الي هيئات نزاهة وان تخضع كل التجاوزات للقضاء ..  لابد من تغيير في نهج الذات ، وتماسك في العلاقات ، والتزام العمل .. وشفافية الحوار ، ينبغي ابداع الكلمة ، والنص ، والريشة ، والصورة والصوت ، والعقل ، والمشاعر ، والجمال ، واثراء الثقافة الحقيقية واشراكها في سيرورة الثقافة العالمية .
وأخيرا ، ينبغي تفعيل اي بادرة او اكثر من اجل ان يكون كل الانسان في مجتمعاتنا كفوءا ومحترفا ومنتجا ، وان يلتزم جملة تقاليد واعراف نهضوية لا حيدة عنها .. وان تمارس اخلاقيات في غاية النضج ، وان تؤسس برامج عمل ، وتشرع قوانين ، والانطلاق بكل ما يمكن ان يسّهل العمل ويرسّخ الشفافية بعيدا عن الفوضي السائدة .. ان الحياة العربية ينبغي ان تكون مؤسسة للمنتجين ، ورحابا للمثقفين ، وتجمعا للمبدعين ، ومنظومة للعاملين ، وميدانا للتربويين ، وساحة للفنانين الحقيقيين . اننا بأمس الحاجة الي ان نعيد التفكير بمسيرتنا ، حتي وان كانت قصيرة والا سنكتب ضربا من العبث والجنون ، ومهما بقينا متنازعين بمثل هذا المستوي فسوف يسجل العالم علينا بأننا غير مؤهلين ابدا للعمل بروح جماعية وحداثوية .. فهل سندخل حقا القرن الواحد والعشرين ؟ وهل سننجح باستخدام آخر منجزات العصر من اجل الارتقاء بواقعنا وافكارنا وخطابنا وكل وجودنا الي زمن جديد ؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات المقبلة .

البيان الاماراتية ، 17 ديسمبر 2008

www.sayyaraljamil.com


42
حوار مجلة آراء
مع الاستاذ الدكتور سيّار الجميل



حول الثقافة والمثقفين

سيّار الجميل يقول :
ـ اسوأ مرحلة سحق فيها المثقف( العراقي ) كانت في الثمانينيات من القرن الماضـــي!..
ـ الاحزاب هي التي تأكل المثقفين الحقيقيين ..
ـ ان المثقف هو من يخدم مجتمعات الانسان لا ان يخدم سياسات انظمة او احزاب..
ـ الثقافة كلما كانت جديدة واصيلة ازدادت قيمة صاحبها المثقف بين الناس..
ـ المثقف : ان يبدع في احترافه للاشياء ، وفي مهاراته ، وفي كتاباته ، وفي افكاره ، وفي اسلوب حياته.
ـ المثقف الحقيقي له ثقافة، وهي مكانة وقدرة وليست صنفاً او سلاحاً !
ـ وكما اكرر دائما بأن لنا في العراق صورة من خطين متباعدين ولكنهما يتوازيان منذ الاف السنين: خط سياسي مغرق بالدماء والاحتضار ، وخط حضاري بالغ الروعة والازدهار .
ـ ان الوعي لدى الناس لا تصنعه الاذاعات ولا الفضائيات ، بقدر ما تصنعه النخب وابداعاتها وافكارها.
ـ النخب المثقفة هي التي يستلزم ان تقف في المجتمع العراقي على رأس المجتمع وفي قيادته نحو الافضل.. في حين يجعلونها في الدرك الاسفل من الدولة كي لا تتنفس ولا تتحرك..
ـ اما اليوم ، فان المثقف العراقي يتشظى وهو يتآكل من دواخله الصعبة ، ويعاني ويكابد كثيرا ، ولكن ينبغي ان يتصدّى للتحديات مهما كبر شأنها .. لقد اصيبت الثقافة العراقية في الصميم نتيجة التناقضات الجديدة التي ولدت بعد العام 2003.


أجرى الحوار / هيئة تحرير مجلة آراء

19 / 11 / 2008
 

تقديم
عالم الثقافة والمثقفين عالم شاسع والحديث عن الثقافة حديث ذو شجون ففي عالمها بنيت حضارات وبمعاولها هدمت قيما ودمرت اوطانا  منها كانت مصادر خير ورخاء بنت النفوس ومنها زرعت الشر لتتحول الى اداة موت وفناء فما حصل في العراق كانت نتيجة ترسيخ ثقافة الحرب والموت والمحصلة كانت صراع قوميات ومذاهب واديان . فحول الثقافة كمفهوم يدل على الفولكلور والشعر والادب الى الثقافة كهوية شعب ضمن فترات تاريخية كانت لنا سياحة مع مفكر كرس حياته لخدمة اكسير يسمى " الثقافة " انه الاستاذ الدكتور سيار الجميل...

س: ما رأيك أن قلنا فكر المثقف أرض خصبة يتقبل أكثر من غيره الأفكار فتنال ثمارها الرضا والاستحسان فيما لو يجيد تسويقها ؟

ج: مثلما فكر المثقف ارض خصبة تتقبل الافكار، فمن الضروري ان يجيد المثقف تسويقها، والا انه لم يعد مثقفاً ! المثقف حزمة ابداع وديمومة عطاء واداة خلق .. لا يمكن ان يكون كذلك من دون امتلاكه الاداة الفعالة للتفاعل.. انه يأخذ وعليه ان يعطي.. كل من يأخذ ولا يعطي، فهو ليس بمثقف حقيقي او بمثقف عضوي.. المثقف وجوده كله من أجل الآخرين، لا من أجل نفسه او ذاته. المثقف لا اعرفه ابدا مهما اغترف وأخذ، ولكنني افرزه من بين المئات او الالآف من خلال ما يمنحه لي وللمجتمع وللعالم كله. الارض الخصبة، لا يمكنها ان تكون كذلك ان لم تتوفر فيها عناصر اساسية، كي تقوم بمهمة الانتاج، فهي ارض معطاء لا يستغني عنها الانسان. وكما يحتاج الناس الى ان تطمعهم الارض الخصبة، فهم يبحثون عن مثقف حقيقي من بينهم كي يمنحهم ما يحتاجونه منه. ان المثقف هو الذي يحمل هموم مجتمعه كي يقدم اليه ما يراه مناسبا من نصوص وافكار واشعار وخطاب واساليب ومناهج وابداعات.. وكلما كانت جديدة واصيلة ازدادت قيمة المثقف بين الناس..
 
س: كيف ترى الثقافة.. سلاح ذو حدين أم ذو حدٍ واحد ؟

ج: انها مسألة نسبية تتحمل صورة هنا في بيئة معينة، وتتحمل صورة من نوع آخر في بيئة اخرى.. وهكذا. انني اعتقد ان الثقافة بمعناها الواسع هي السلاح الذي له حد واحد عندما تعطي للثقافة قيمتها، ويشعر المثقف انه الأهم والمهم في آن واحد، ليس في المجتمع وحده، بل في الدولة ومؤسساتها.. ولكن عندما ينظر للثقافة والمثقف نظرة عادية تختلف العملية هنا رأسا على عقب.. الشئ الاساس الذي يغيب عن الرؤية عند العرب اليوم ، منحهم صفة المثقف لكل من هبّ ودبّ، فالمثقف غير المتعلم وغير المختص وغير السياسي وغير وغير .. انه يحمل مهمة كبيرة، وهو خزين هائل ليس من المعلومات وحدها، بل له القدرة على الابداع.. ان يبدع في احترافه للاشياء وفي مهاراته وفي كتاباته وفي افكاره وفي اسلوب حياته. المثقف الحقيقي له ثقافة، وهي مكانة وقدرة وليست صنفاً او سلاحاً !

س: ماذا تقول إن قلنا أن ثقافة المجتمع تعني الهوية لأنها تحوي على الحالة الفكرية العلمية وطبيعة العلاقات الاجتماعية والأخلاقية  والسياسية والمعتقدات وقابلة للتأثير والتأثر؟

ج: هذه مسألة عالجتها في اكثر من مكان، فالثقافة التي تقصدها في سؤالك هذا هي ليست الثقافة التي تحدثت عنها في السؤالين السابقين. انها ازمة مصطلحات وتعابير في عربيتنا ولغات اخرى. الثقافة عند النخب المثقفة هي غير ثقافة المجتمعات. الاخيرة هي (الكالجر) وما يتميز اي مجتمع بثقافة معينة تخص اسلوب حياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم وفولكلورهم واغانيهم واكلاتهم والبستهم وموسيقاهم.. هذه هي ثقافة اي مجتمع يختلف عن الاخر، ومنها تلتصق هوية كل بيئة ثقافية او بلد معين بطابع ثقافته القابلة للتغير والتغيير.. ولكن ثقافة النخب هي اساليبهم وافكارهم وابداعهم ونصوصهم وخطابهم .. الخ

س: المثقف هو من يقوم بتفعيل الثقافة بمعناها الإنساني، إلى اي حد ترى الأحزاب تـُفعِل الثقافة بمعناها الإنساني ؟

ج: هناك انواع من المثقفين، اقصد النخب المثقفة، على العموم، المثقف انسان او مواطن حر لا يتحزّب سياسيا، ولكن ثمة مثقفين قد تحزبوا وتخندقوا، فاما تجدهم مثقفي سلطة او مثقفي معارضة ! على العموم، انا لا اجد هناك اي ضرورة لتحزب اي مثقف، اي ان مجرد تحزبه اي بمعنى تخندقه مع هذا او ذاك.. واذا تخندق المثقف اصبح اداة سياسية يستخدمه الحزب او السلطة او المؤسسة.. والمعروف ان المثقف هو من يخدم مجتمعات الانسان لا ان يخدم سياسات انظمة او احزاب.. انني اعتقد بأن المثقف متى ما تحّزب انتهى كمثقف واصبح برجل سياسة! وعليه، فان الاحزاب هي التي تأكل المثقفين الحقيقيين، ولا يمكنها ان تفعّل الثقافة لا بمعناها المحلي ولا الانساني.

س: تأريخ العراق الحديث مر بمراحل، في أية مرحلة منها حـُجـِمَ المثقف ؟

ج: ان ذروة ما وصل اليه المثقف العراقي هي التي تقف عند منتصف الخمسينيات من القرن الماضي .. وان اسوأ مرحلة سحق فيها المثقف ولم يحجّم فقط هي في الثمانينيات من القرن العشرين وقد سبقها عقد من السنين الصعبة واعقبتها عشر سنين من السنوات الاصعب . اما اليوم ، فان المثقف العراقي يتشظى وهو يتآكل من دواخله الصعبة ، ويعاني ويكابد كثيرا ، ولكن ينبغي ان يتصدّى للتحديات مهما كبر شأنها .. لقد اصيبت الثقافة العراقية في الصميم نتيجة التناقضات الجديدة التي ولدت بعد العام 2003.

س: التلوين الإثني الذي يمتاز به بلدنا، الى أي حد ساهم بتزيين الثقافة العراقية وبالعكس، وهل لدينا تأريخ يجمع خصوصيات وعموميات الطيف العراقي؟

ج: ساهم بذلك الى حد كبير.. صحيح ان الثقافة العراقية هي عربية كتابة ونشرا وتحريرا وتعبيرا وخطابا ومقول قول.. اذ ان اللغات الاخرى محلية منها من لا يخرج عن نطاق اقليم او محافظة كالكوردية المنقسمة على نفسها الى قسمين : بهديناني وسوراني.. وهناك التركمانية التي لم تجد نفسها الا منحسرة في بيوت واسواق بلدات معينة.. والآرامية القديمة التي لا تجد انفاسها الا في كنائس معينة ايام الآحاد وبعض القرى في سهل نينوى وجبال كوردستان.. وعليه ، فان المثقف العراقي مهما كان انتماؤه فثقافته وابداعه واضح في مدى نجاحه بالعربية. فالعربية في العراق هي الام الجامعة لكل الالوان والاطياف. ان ميزة ثقافة العراق هي في هذه الفسيفساء التي تضم خصوصيات مختلفة.. افكار متنوعة.. اجواء وفضاءات ملونة.. ادوات تعبير متداخلة.. ان الاثنيات العراقية قد نجحت نجاحاً باهراً في تشكيل لوحة عراقية ثقافية رائعة، ولكنها فشلت فشلا ذريعا في مجرد تأسيس لوحة عراقية سياسية متواضعة.. وكما اكرر دائما بأن لنا في العراق صورة من خطين متباعدين ولكنهما يتوازيان منذ الاف السنين: خط سياسي مغرق بالدماء والاحتضار وخط حضاري بالغ الروعة والازدهار .

س: لكل شريحة معاناة، ما هي معاناة النخبة المثقفة العراقية وهل شيخوخة الفكر واحدة منها ؟

ج: النخبة العراقية المثقفة تعامي دوما من الجحود والاهمال.. تعاني من التهميش والقسوة.. هذه النخبة ليست صاحبة تفكير قاصر كثلة من الضباط الانقلابيين، او مجموعة من الحزبيين في وكر من اوكار الهزيمة.. هذه النخبة ليست فريقا من فرق القتل والموت.. هذه النخبة ليست مليشيا دولة او احزاب.. النخب المثقفة هي التي يستلزم ان تقف في المجتمع العراقي على رأس المجتمع وفي قيادته نحو الافضل.. في حين يجعلونها في الدرك الاسفل من الدولة كي لا تتنفس ولا تتحرك.. ان الوعي لدى الناس لا تصنعه الاذاعات ولا الفضائيات ، بقدر ما تصنعه النخب وابداعاتها وافكارها.. ان معاناة النخب العراقية المثقفة كبيرة كونها تختلف عن بقية النخب الاخرى، وثانيا، لأنها تجد نفسها دوما منسحقة من جراء الفاقة والحاجة والهجرة والصمت وكلما ازداد وعيها وتقدم اعضائها بالسن، كلما زادت مكابداتها وفجائعها التي لا يمكن لأحد تخيلها.

س: كتاباتك الكثيرة فيها مساحة كبيرة تتناول ستراتيجيات تفكير العرب والمسلمين، ماهي إشكالية هذا التفكير وآليات التغيير في عراقنا اليوم ؟

ج: نحن العراقيين حالنا حال غيرنا من مجتمعات الشرق الاوسط.. ربما تقدمنا عنهم خطوات في بعض الفترات  وربما تأخرنا عنهم في فترات اخرى .. ولكنني ارى ان الاستراتيجيات واحدة ، ولا تختلف الا في التفاصيل التي هي بامس الحاجة الى تدابير وتكتيكات من اجل تأسيس تاريخي جديد. انني اعتقد ان المساحة الكبيرة التي تجدونها في كتاباتي هي التي كنت وراء صنعها وبنفسي، اذ لم أكن صنيعة لأي احد ، ولم يكن هناك اي دور لأي مؤسسة علمية، او فريق عمل، او حتى سلطة مؤسسة او حكومة او دولة من وراء هذا الانجاز.. وبالتالي لم يصنعني احد، بل كنت وراء صناعة هذا كله .. انه ليس كتابات كثيرة، بل جملة معتبرة وصعبة من الافكار والمشروعات والرؤى والنقدات والاستحداثات ونحت مصطلحات راجت اليوم.. انك تسألني عن اشكالية هذا التفكير، فاقول ان اشكاليات متنوعة ومتعددة نجحت ـ وبتواضع كبير ـ ان اثيرها في الثقافة العربية المعاصرة، وطالبت بالتأمل فيها، ومنها: فلسفة " الاشكالية " ومصطلحها نفسه، و" الازدواجية " في مفهوم الثقافة، و " التناقضات والمركبات الاجتماعية " ، ودراسة " التكوين التاريخي الحديث "، وايضا دراسة " البقايا والجذور " ، و " ثلاثية المجتمع العراقي " ، وفكرة " الدواخل والاطراف " في دراسة تواريخنا.. ونظرية " سلاسل الاجيال"  ( او المجايلة).. وصولا الى ما اثرته بصدد الجغرافية الثقافية للعراق الحديث، ونظرية " الابعاد الاربعة"  ودور نهر دجلة.. الخ
ان ما تسألني عنه بصدد آليات التغيير في عراقنا اليوم، فهذا موضوع آخر لا علاقة له بما تحدثت عنه. ان آليات التغيير في العراق لا يمكنها ان تعمل في ظل احزاب ومجموعات دينية، فهي بحاجة الى مناخات مدنية صرفة.. وهي بحاجة الى فضاء وطني صرف تتنوع فيه الافكار، ويزاول فيه الوعي، وتمارس فيه الحريات في ظل القانون والنظام.. ان آليات التغيير في العراق بحاجة ماسة الى افراغ البلاد من السلاح ومن المرتزقة ومن كل المليشيات والجماعات المسلحة.. انك ان سعيت ، كي تجعل العراق مدني وهادئ، فقد خلقت الظروف المناسبة لبدء حركات اجتماعية وابداعات ثقافية واساليب حضارية.. ان استطعت ان تخلص العراق من اية مشكلات سياسية واثنية وطائفية وقومية.. الخ، فان آليات التغيير ستبدأ تعمل من جديد في ظل ظروف مسالمة وآمنة وطبيعية..

س:  أنت حائز على جائزة أفضل كاتب بالشأن العراقي، هناك من يقول أن الكثير يتكلمون عن العراق والقليل هم من يدركون واقعه، الى أي حد ترى صحة لهذا الرأي ؟

ج: نعم، صدقت، ان القليلين هم الذين يدركون واقع العراق ومأساة العراق.. لقد تراكمت عشرات بل مئات الاسماء للكتابة والتحدث باسم العراق عن العراق، ولكن قلما تجد كّتاب احتراف من العراقيين. ان الكتابة وكتابة المواقف السياسية هي مسموح بها كتعبير عن وجهات نظر، وصياغة رأي عام، ولكن اختلط الحابل بالنابل في معالجة الشأن العراقي، وتظهر علينا كل يوم عشرات المقالات الركيكة، وقسم منها يفت في عضد الوطنية العراقية، وقسم منها ليس له الا السباب والشتائم التي يرددها بعض المسؤولين العراقيين ايضا.. وليكن معلوما، ان ليس من الاهمية بمكان ان تكون قابعا في العراق، ولا تعرف ما الذي يجري في اقرب قرية مؤهولة بالسكان والمشاكل.. في حين، ان من يمتلك الاحتراف له القدرة على التغلغل في الحدث، اذ يطّل على المشهد عموديا من فوق على عكس ما يراه الجالس في قلب العراق وهو بعيد جدا عن كل ما يحدث فيه وفي افقه القريب او البعيد .

هيئة تحرير مجلة آراء
مؤسسة شفق


اعيد نشر الحوار على موقع الدكتور سّيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

26 نوفمبر 2008

43
المثقفون الملتزمون

أ.د. سيّار الجميل

اولا : مدخلات التعريف : الملتزمون هم الحقيقيون
المثقف الحقيقي ، من يكون قد التزم قضية معينة ، او نظرية محددة ، او فكرا حقيقيا ، او تبلور مع نخبة مثقفة لحل مشكلات ومعالجة ازمات .. انه مدافع عن اسس وقضايا تهم الناس وتتطلع الى الاخذ بيد المجتمعات الى الامام من خلال تطلعات واسعة وكبيرة .. انه الذي يوّظف ابداعه لخدمة واقعه اينما كان واينما وجد .. انه المعّبر الحقيقي عن هموم الحياة ، والمرآة العاكسة لكل خصائصها ومواصفاتها في الوجود .. الملتزمون ليسوا فقط اعضاء في احزاب راديكالية ولا كونهم يوظفون منتجاتهم في خدمتها .. انهم مثقفون يلتزمون الحياة ، وليسوا مجرد بيادق لدى الساسة وقادة الاحزاب .. انهم اكبر من هؤلاء واولئك بكثير .. انهم اولئك الذين ينتمون الى تراب وطني ، او فضاء حضاري ، او مدار انساني ، ولا يفرقون بين الالوان ، ولا يميزون بين الناس على اساس هوية ، او دين ، او عرق ، او حزب ، او طائفة ومذهب .. ولكنهم يدركون جيدا ان المجتمعات مجموعة مستويات تعلو وترتقي او تهترئ وتنضوي  .. انهم حقيقيون ، يلتزمون قضايا حقيقية .. يتألمون لمصائر بلدان .. يتحسسون بضياع اجيال .. يفكرون بالمستقبل .

ثانيا : الملتزمون يوازون العضويين
انهم مثقفون عضويون يدركون مخاطر الحياة ولا يتقبلون الاملاءات .. لا يساومون على مبادئهم المثقفة ، ولا على قيمهم الحضارية ، ولا على مواقفهم الانسانية ، ولا على ابداعاتهم الجماعية ، ولا على افكارهم العليا .. انهم لا يتقلبون على الحبال من حين الى حين ، ولا يرقصون كالمهرجين في كل عرس مجنون . نعم ، انهم اكبر مما نتصور ! ربما كانوا من العضويين ـ حسب وصف الفيلسوف الماركسي الايطالي غرامشي ـ ، وربما كانوا من المنتمين لهذا الطرف او ذاك ، ولكنني اجدهم من المؤمنين الذين يدافعون عن افكار معاصرة لا عن رواسب عفا عليه الزمن ، وهم صرخة مدوية يعبرون من خلالها عن انسحاقات الاخرين من ضعفاء واقليات ومسحوقين ومهمشين ، ولا يتقبلون ان يبيعوا انفسهم مهما كانت الظروف ، ولا يتخندقون هنا وغدا هناك .. بل وان العشرات من المثقفين الملتزمين من خسر سنوات عمره في زنزانات ، او هناك من دفع حياته ثمنا لمبادئ حقيقية آمن بها .. وهناك من شاخ وهدّته تبدلات الحياة .. ومن مات وهو لا يملك ما يسد به رمقه . فهل من الانصاف ان نساوي بين هكذا مثقفين مبدعين لهم نظافتهم ولهم مبادئهم ، ولهم مواقفهم ، ولهم صلابتهم ومجابهاتهم للتحديات ازاء مثقفين آخرين لا يعرفون الا الرخوية ، والانصياعات ، والتصفيق ، وترديد الشعارات والتخندقات .. بل وغدوا في جوقة ولاة الامر لا يعرفون الا المديح والتسبيح بحمد هذا وذاك .. واصبحوا من الطفيليين الذين لا يتعاملون الا بالملايين ؟ ان المثقفين الذين التزموا قضايا الناس ومصائر المجتمعات .. وصرفوا اعمارهم وحرقوا سنوات حياتهم هم الذين سيبقى ذكرهم مخلدا على امتداد الناريخ .. وسيلفظ الزمن كل الساقطين والطفيليين ، وكل المارقين والطائفيين ، وكل المهرجين والافاقين .

ثالثا : المثقف اللا منتمي : الالتزام المفقود
قبل اكثر من خمسين سنة ، كان  " الالتزام " احد اهم المبادئ التي يتمتع بها المثقف الحقيقي في الانتماء الى المجتمع من اجل تطويره نحو الافضل لا من اجل الانخراط تحت مظلته وتقّبل هيمنته ، كان يؤمن بقضاياه الحقيقية المدنية ، كما كان يتصّور سواء آمن بنظرية تقدمية ماركسية ، او ليبرالية متحررة ، او قومية وطنية .. وكم دفع المثقفون الاوائل عربا كانوا ام اتراكا ام فرسا ام اكرادا ام اقباطا ام غيرهم من اطياف عديدة .. اثمانا باهضة من حياتهم ، فسجن بعضهم ، واغتيل آخرون ، واضطهد البعض ، ونفي آخرون .. بل وصلت حالة البعض الى حد الانتحار ، فانتحر من لم يستطع تحمل اعظم المتغّيرات في تفسيره وقت ذاك ، والتي غدت اليوم عند الكثير من ابسط ما يمكن تصنيفه وقبوله والتعامل معه تحت مسميّات عدة .. اليوم ، لا تجد ذلك المثقف الملتزم او السياسي الصلد .. لن تجد الثوابت راسخة رسوخ الجبال ولم يعد النضال من اجلها حتى الموت .. لن تجد المواقف معلنة ، وصريحة ، على رؤوس الاشهاد .. لن تجد الشجاعة في مقول القول ، او الجرأة في الخطاب ، الا عند النادر من المثقفين والمثقفات اليوم.

رابعا : المنحرفون منكشفون
لا ينحصر انحراف المثقف في سلوكه الشخصي او حرياته ذاته .. ولكن انحرفاته في مواقفه الفكرية والسياسية بشكل خاص ، ان من واجبه ان يكون منحرفا عن اعراف مجتمعاته السيئة ، وهو يريد اصلاحها من خلال حياة جديدة . لقد اصبحت حياتنا في كل مجتمعاتنا المتنوعة التي يضمها عالمنا ، خصوصا ، بلا ضوابط ، فكل من هبّ ودبّ دعا نفسه بـ (مثقف ) ! وكل من كان ضعيف النفس ، مسلوب الارادة ، مريض العقل ، دعا نفسه بدكتور حامل شهادة دكتوراه وهو لا يحملها أبدا ! وكل من دمرته سايكلوجيته التي تحفل بتعقيدات ترّبت معه غدا يتكلم بطريقته الخاصة اسوأ انواع الكلام باسم " مثقف" ! كان المثقفون ايام زمان يهتمون بغيرهم من المثقفين ، ويناشدونهم ، ويهتمون بهم .. اما اليوم ، فلم يعد هناك اي التزام حقيقي مثقف له روحيته وقوته .. فلقد دمّرت العلاقات بين المثقفين في حياتنا كلها ، وساد الجحود فيما بينهم ، ولن تجدها الا من خلال مصالح شخصية او فئوية او سياسية او طائفية او اقليمية .. وكلها علاقات غير نظيفة تعج بعلامات الاستفهام ! لن تجد النزاهة ، ولا التجرّد ، ولا نظافة اليد ، ولا حسن الموقف ، ولا الاهلية ، ولا المعرفة ، ولا الحفاظ على المال العام .. نعم ، قد تجد بدايات مشجعة  لحياة مجتمع مدني ، ولكنها اسيرة كل ما يطوقها في المجتمع ، او من يتسلط عليها من الدولة ، فيجعلها كسيحة لا تقوى على الحياة .. وهكذا بالنسبة للاحزاب السياسية التي لا تستطيع تطوير اساليبها ، او بالنسبة للمنظمات الاقليمية التي لا تستطيع ان تفعل شيئا بالرغم من انفاقاتها الباهضة .. ، او بالنسبة للقوى الاجتماعية التي تسيطر على الحياة بسلطة الدين ، او المذهب ، او الطقوس ، او الاعراف والتقاليد  الخ

خامسا : البدائل متى تتحقق مشروعاتها ؟
انني اتساءل عن " بدائل " ، اذ ينبغي ان يعد كل بديل مشروعا كاملا تحتاجه مجتمعاتنا ودولنا حاجة ماسة .. وعليه ، كم يا ترى يلزمنا من بدائل حقيقية عن كل ما تركه القرن الماضي من ترسبّات وبقايا ؟ كم تنفعنا هنا حرية الفكر والتعبير ؟ كم هي ملزمة الحريات الشخصية واحترام الرأي الاخر ؟ كم هو مطلوب من قوانين جديدة للحياة السياسية وضوابط واعراف للحياة الاجتماعية ، واساليب متقدمة جدا في الحياة الثقافية ؟ كم مطلوب من تجديد حقيقي في الثقافة العربية وثقافات مجتمعاتنا في الشرق الاوسط باسره ؟ كم هو نافع ان تكون لدينا بدائل أخرى عن مواريث الحقد والكراهية ؟ كم مطالب اي انسان في مجتمعاتنا ان يحمل نفسا طيبا ، وطبعا كريما ، مع تواضعه وتبسّطه امام الاخرين .. ليكن حّرا في تصرفاته الشخصية ، فلا اعتراض على حريته وافكاره ، ولكن مع توفّر مصداقيته وامانته وحسن تعامله مع الاخرين ؟ كم مطلوب من مجتمعاتنا ان تجعل من اديانها كنوز فضائل ، واخلاق ، ومصالح مرسلة ، وتجليات روحية سامية للنفس والمشاعر .. بدل جعلها ايديولوجيات سياسية تتلوث بالانقسامات الطائفية والمذهبية على ارض الواقع ؟ ان البدائل لا تتحقق من فراغ ، ان ثمة شراكة بين مؤسسات الدولة وابناء المجتمع لابد ان تتحقق للمطالبة باعادة الاعتبار للمثقف الحقيقي والملتزم والذي لا يتعطش لسلطة ، ولا يتخندق بحزب ، ولا يناور كسياسي ، ولا يهادن كموظف .. اذ ليس له الا كلمة سواء.

سادسا : تساؤلات تبحث لها عن ولادة جديدة
كم هو مطلوب من دولنا ، وحكامنا ، ومسؤولينا ان يتخلصوا من تبخترهم وكبريائهم ونفختهم الكاذبة واستعراض عضلاتهم ويندمجوا مع الناس ؟ كم هو مطلوب من اي انسان ان لا يعلو برأسه فوق مستوى نبات العشب, وان يكون خّيرا ، ومتواضعا ، ومعطاء ، ومساعدا ، ومبتسما ، وسريع البديهة ، وحاضر النكتة ؟ وهذا لا يحصل الا من خلال تربية جديدة تزرع عنده المحبة لا الكراهية ، وتعلمه الانفتاح لا الانغلاق . كم هو مطلوب من الناس العاملين ان يكونوا اوفياء لمؤسساتهم ولا يهمهم الا جودة الانتاج  وكذا هو طبع المخلصين الحقيقيين للاوطان .. ؟؟ كم نحن بحاجة الى المثقفين المبدعين ، والمجتهدين ، والاكفاء ، والملتزمين .. لا الادعياء ، والاغبياء ، والمثرثرين ، والمتقلبين ، والمستعرضين ؟ كم نحن بحاجة الى رجال اعمال امناء ، ورجال اعلام وصحافة منصفين ، ورجال استثمارات ماهرين ، ورجال قضاء عادلين .. ؟ كم نحن بأمسّ الحاجة الى اكاديميين معرفيين لا ادعياء مقنعّين ؟ كم نحن بحاجة الى اناس حقيقيين : حكاما ديمقراطيين ، ومخططين استراتيجيين ، ووزراء متفانين ، وساسة حاذقين ، واداريين قياديين ، ومحاسبين قانونيين ، ونقابيين مدافعين ، ومشرّعين متميزين ، وعسكريين محترفين ، ومهنيين مخلصين ، ومعلمين تربويين ، واطباء مختصين ، ومهندسين محدثين ، ومعماريين مبدعين  .. ؟ كم نحن بأمس الحاجة الى علماء وادباء وفنانين قديرين ، ومفكرين مصلحين ، وفقهاء كبار مرجعيين محترمين بدلا من ملالي ورجال دين ساذجين ؟ كم نحن بحاجة الى كوادر من المهنيين والحرفيين والعمال الماهرين والفلاحين المنتجين ؟ كم نحن بحاجة ماسة الى مدربين ومخترعين وطيارين وملاحين ولاعبين رياضيين .. ؟ وغيرهم كثير .

سابعا : : ضرورة التحولات
ان مائة سنة مّرت على مجتمعاتنا ، ودولنا المهترئة تسرع في تخريج كوادر عريضة لا تعتني بنوعياتهم بل تهتم بحجوم اعدادهم الكبيرة ، فاختلط فيها الاخضر بسعر اليابس .. ولم يكن الانسان المناسب في مكانه المناسب في اي يوم من الايام .. فضاعت ازماننا عبثا ، وفشلت خططنا جملة وبدأنا نعيش فوضى قيمية ، واستهلاكية قاتلة .. وكانت مجتمعاتنا ولم تزل تعيش حياة صاخبة يأكل القوي فيها الضعيف .. وتنتشر فيها الرشوة والمحسوبيات والعلاقات القبلية او المحلية او الحزبية او الايديولوجية او القرابية غير النظيفة وحتى المساومات اللااخلاقية .. فمتى تتخلص مجتمعاتنا من أمراضها وتخلفها ؟ من تأخرّها وانعزالياتها ؟ متى تعي مسؤولياتها التاريخية ؟ متى تجري تحولات جذرية في دولنا وتشريعاتها كلها ؟ متى تتحول الحياة في الشرق الاوسط نحو الافضل ؟ متى تترسخ المفاهيم الحقيقية لـ " الديمقراطية " واعتبارها ظاهرة حكم الشعب لا حكم الاغلبيات ؟ متى يتخلص المثقف الحقيقي من شقاء الوعي ، ومن ازمة الكبت ، ومن هوس التناقضات ، ومن الشعور بالضعة والحرمان وهو يعيش مأساة مجتمعاته وتراجعها المخيف ؟ متى تتوازن الحياة وتتخلص من تناقضاتها المرعبة ؟ متى تتخلّص مجتمعاتنا من الفقر والجوع والمرض ؟ متى يترسّخ التفكير النسبي في ذهنيات الناس ؟ ومتى يتم التخلص من الذهنيات المركبة ؟ ومن الانتماءات المتعددة ؟ ومن ازدواجية المعايير ؟ متى يتم ّ التخلص من عقدة الخواجا ؟ ومتى يتم التخلص سلطة المرجعيات الوهمية ؟  متى تعيش مجتمعاتنا حياة كريمة صالحة وعادلة منتجة ؟

ثامنا : واخيرا : هل ستعيد الاجيال القادمة ما اقول ؟
نعم ، واخيرا : متى يتجّذر الحوار الحضاري بين مجتمعاتنا حول مختلف القضايا الشائكة والاختلافات المعقدّة ؟ ان اي قارئ من القراء الكرام ، يريد ان يستفسر عن اية مشروعات للتطور والتقدم والبناء ، فعليه مراجعة ما كّنا قد نشرناه سابقا على امتداد سنوات مضت حول المثقفين بنية وفلسفة وخطابا  .. اقول عندما تتوازن الحياة في مجتمعاتنا  ، سيقبض الناس على الزهر ، ويخرجوا به الى العالم بعد ان قبضوا على الجمر طويلا ! فهل ستعالج اوضاعنا على ايدي الجيل القادم ، ام ستنتقل من سيئ الى أسوأ ، وتعيد الاجيال القادمة مثل هذا الكلام بعد خمسين سنة من اليوم تناشد من اجل بدائل اقوى ؟ هل ستغدو افضل حالا من اليوم ليشاركوا العالم ابداعاته ومنتجاته باساليب الالتزام الحضاري ؟ ام تبكي ( امجادها التليدة ) التي صنعها الاباء والاجداد في القرن العشرين ؟

نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل يوم  24 نوفمبر 2008
www.sayyaraljamil.com

44
ركلة جزاء أوربية للنظام العالمي الجديد !
 
د. سّيار الجميل

 
في لقاء عابر جمعني البارحة بالزميل بوب بوكانان بقسم الاعلام ، جامعة رايرسن بتورنتو ، وبدأ حديثنا عن العراق ، ولكن انتقلنا الى متغيرات العالم لما بعد عهد بوش .. ويصّر بوكانان على ان النظام العالمي الجديد اصبح في خبر كان ، وليس لاميركا الا ان تودّعه بعد ان عاث فسادا في العالم . قلت : ولكن الفساد لم يأت فجأة حتى ينتهي فجأة .. وهل سيصبح العالم جنة عدن ؟  قال : ان ساركوزي يردد الان : لا تدعه يعمل ، بل دعه يمر! قلت : هكذا وببساطة بعد خراب  الدنيا وحرائقها ؟ قال : لابد اذن اعادة بناء العالم على اساس نظام مالي ونقدي جديد يبدأ من أسفل إلى أعلى ، باعتماد طريقة بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية. قلت : نعم ، فرنسا  تتذكر اتفاقات بريتون وودز بالفعل عندما وقعت في  يوليو 1944 ، اثر احتلال المانيا باريس. ان الأوروبيين يبحثون اليوم إيجابيا كيف يجتمعون بعد ايام في واشنطن ، حيث يأملون فرض نظام اقتصادي عالمي جديد .. ؟ عقّب بوب : ان الامريكيين سيفتحون حوارا مع الاوربيين ، وصولا لما يجب أن يكون للمؤسسات حياة جديدة! واضاف : مع بناء هيكل مالي جديد للسنوات المقبلة . قلت : وهل ستقبل الولايات المتحدة ما كانت قبلته بريطانيا بعد الحرب الثانية ؟ اجاب : ليس امامها الا الاذعان كي تعيد هيبتها في العالم . صحيح ، انها لم تصل مرحلة الاذلال ، اذ انها قادرة على التأثير عالميا ، ولكن النظام العالمي الجديد يعيش اخفاقا . قلت معقبّا : كونها امتلكت احاديته ، ولم تشرك غيرها فيه . قال :  اوروبا الغربية مع اليابان فقط .. قلت : والصين ومجموعة الآسيان ؟ قال : يستحيل حدوث ذلك . قلت : وما رأيك بالعالم الاسلامي وعالم الجنوب ؟ اجاب : اعذرني ان قلت لك بأنهم لا يعرفون الا الثرثرة ، وليس لهم الا مؤتمرات الحوار التي لا تنتج ولا تنفع شيئا ! قلت له : ولكن مصائر الشعوب ليس لعبة بايدي الكبار . اجاب : هذا منطق التاريخ . قلت : وبيد من سيكون العالم ؟ قال :  ان غوردون براون وساركوزي سيكونا في واشنطن لما يمكن  وصفه باجتماع تاريخي للG20 المتحدة. قلت : انها قريبة من بريتون وودز .. اذ ستملي الولايات المتحدة الشروط التي ستحرك من خلالها الاقتصاد العالمي ، وتحفيزه على العمل . قال : ينبغي ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب ، وكان ليصبح عملة احتياطي في العالم ازاء غيره من العملات في أسعار الصرف الثابتة. هنا ستنطلق الدعوة إلى التغيير من خلال ضرورة إغلاق مؤسسات الائتمان وأسواق المشتقات الائتمانية في العالم .. أمريكا قدمت الجزء الأكبر من التمويل لمؤسسات جديدة ويفترض ان تحصل على نصيب الأسد من السيطرة. قلت : ان العالم اليوم بحاجة ماسة الى نخبة ذكية جدا على غرار الاقتصادي البريطاني الشهير ، جي أم كينز الذي اعتمدت بريطانيا افكاره في النصف الاول من القرن 20 ، بتأسيس نظام عالمي جديد للبنك المركزي ، وتسوية مشكلات العملة في العالم من جديد .. فهل ستقبل اميركا مثل هذا الطرح ام لا ؟  قال : ان نظام بريتون وودز يمكن اعادة جدولته ، وكان قد استخدم على عهد ريتشارد نيكسون ، عندما تعرضت بلاده لنزيف في الذهب عام 1971 . لقد قدم نيكسون خدمات تاريخية لبلاده ، عندما انتقد سياسة اغلاق النافذة ، فكان خفض سعر الدولار فضفاضا والسماح بالتعويم  أمام العملات الأخرى.
 قلت : ولكن الاوربيون اليوم لا يملكون شيئا من هذا القبيل ، اذ ان هيمنة اميركا اكبر على العالم ، وهي لا تقارن باوضاع 1944 . فعقّب قائلا : ان تجارب الاوربيين التاريخية خطيرة ، ولم تجازف بريطانيا او فرنسا باتخاذ قرارات لاستراتيجيات وهمية ! ان براون يريد ان يغدو صندوق النقد الدولي بمثابة بنك مركزي عالمي يديره مجلس احتياطي اتحادي للاقتصاد العالمي. لكن الاميركيين لن يقبلوا بتمويل مثل هذا البنك ، ولا يمكن ان يتنازلوا عن السلطة فيه .. كما لا يريدون التقيد باية التزامات او املاءات !
 قلت : ان براون وساركوزي يعتقدان اذن بولادة حقبة جديدة من التعددية ، فالاستقطاب الامريكي لا يمكن ان يعيش ازاء الانعكاس الثنائي في التاريخ ، وولادة اقطاب يمكنها ان تلعب ادوارا كبرى بعد تجربة بوش السيئة من خلال الاحادية الامريكية . نعم ، ان الاوربيين  ربما يحلمون بالمشاركة في الاستقطاب ، ولكن ليس قوميا كما كان ذلك في القرن 19 ، ولا عالميا كما في القرن 20 ، بل تعدديا كالذي سيجري في القرن 21 .. تعددية تشارك فيها الصين ، والهند والبرازيل . اجاب : ولكن الولايات المتحدة رفضت بروتوكول كيوتو حول الاحترار العالمى بحجة الجمركية الحمائية ، وأي فلسفة خارجة عن ارادتها من شأنه أن يدمر الاقتصاد العالمي. وحتى لو وافق اوباما على تغير المناخ العالمي ، فلن يكون ذلك مع بكين ! ولن يقّدم أي تنازلات امام روسيا التي تستعد  لاستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن لحماية مصالح ينظر إليها كقوة عظمى. قلت : سوف لن تبقى اميركا احادية القطب ، اذ ان العالم سيكتشف ان العالم الجديد متعدد الاقطاب ، وسيعمل مندفعا ضمن سيرورة العولمة الجديدة . ان النظام العالمي الجديد امام ركلة جزاء اوربية .. فهل ستفوز اوروبا للمشاركة في التعددية القطبية ؟ 
 
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 19 نوفمبر 2008 .
 



45
هل تصلح زعيمة كاديما لتشكيل حكومة؟
د. سيّار الجميل

هذه السيدة تسيبي ليفني، ابنة إسرائيل، ابنة الخمسين سنة، وولادة تل أبيب، ابنة والدين عملا في منظمة الأرغون الإرهابية.. ابنة أب سياسي وعضو كنيست.. ابنة حركة بيتار اليمينية المتطرفة.. ابنة المظاهرات الصهيونية ضد خطة كيسنجر بعد حرب 1973 لفك الاشتباك بين إسرائيل وبين كل من سوريا ومصر.. ابنة القوات المسلحة الإسرائيلية برتبة ملازم اول.. ابنة كلية الحقوق.. المحامية المستقلة ابنة الموساد الذكية التي أدارت عمليات في الخارج.. ابنة العقيدة الصهيونية الصلبة، وهي زوجة المحامي نفتالي شبيسر.. تتميز بمثابرتها وانطوائيتها معا..
ولكن لم يجدها الإسرائيليون على المحك بعد في صنع قرارات مهمة! فهل سيكون باستطاعتها الخروج من ظل الآخرين الذين بقيت تحت خيمتهم؟ إن ليفني قادرة على ان تكون زعيمة لإسرائيل، ولكنها لن تصل إلى مستوى وحذاقة غولدا مائير.
إنها ثاني امرأة تتولى وزارة الخارجية الإسرائيلية. انتُخبت ليفني للكنيست لأول مرة في 1999 حيث كانت عضوًا في لجنة الدستور والقانون والقضاء وفي لجنة النهوض بمكانة المرأة. وترأست ليفني كذلك اللجنة الفرعية المكلفة بالتشريع الخاص بمنع غسيل الأموال.
في 2001، عُيّنت وزيرة في الحكومة ال29 حيث تولّت حقيبتي التعاون الإقليمي والزراعة. وفي الحكومة ال30 أسندت إليها حقائب الاستيعاب والبناء والإسكان والعدل والخارجية.
كانت ليفني سابقا عضوًا في حزب الليكود حتى أواخر عام 2005 حيث انضمّت إلى شخصيات سياسية أخرى في تشكيل حزب كاديما.
إنها ليفني التي تصل لزعامة حزب كاديما قبل أيام بعد أن عملت ليل نهار في خدمته وخدمة مؤسسه اريل شارون عام 2005. كان المفترض أن تتولّى ليفني المسؤولية بعد شارون نفسه، ولكنها آثرت الموقع الثاني احتراما لكبر سن منافسها أولمرت، حتى وصلت منتصرة إلى الموقع الأول بعد أن قضت قضايا الفساد على أولمرت وعلى تاريخه برمته.. لم تصل ليفني متأّخرة ومجهولة لا يعرفها أحد.
بل وصلت بعد أن كان العالم كله قد تعّرف عليها، ناضجة تعرف كيفية دفة سفينة إسرائيل.. لقد فازت بزعامة كاديما اثر انتخابات داخلية، فوصلت يوم 17 سبتمبر 2008، ومن ثم جرى تكليفها بتأليف وزارتها المرحلية يوم 22 سبتمبر حتى إتمام هذه المهمة بموجب القانون الإسرائيلي يوم 2 نوفمبر 2008. إن المهم قد تحقق أمام هذه السيدة التي لا تعرف كيف تبتسم.. لقد وصلت إلى أعلى منصب في إسرائيل.
إن إسرائيل أمام سبيلين، أولاهما تشكيل حكومة ائتلاف جديدة وثانيهما تنظيم انتخابات عامة مبكرة.. لقد أعلنت ليفني، أنها غير مستعدة لدفع أي ثمن كان من أجل إنجاز هذه المهمة. وصرحت بأنها ستتخذ قرارًا نهائياً بشأن تشكيل حكومة ائتلاف أو إجراء انتخابات مبكرة. وأدلت بهذا التصريح بعد أن خذلها حزب شاس، في قراره عدم انضمام شاس إلى الائتلاف الحكومي الجديد.
وتستطرد قائلة: إما أن نشكل حكومة جديدة، وإما أن نذهب إلى انتخابات مبكرة.. وتواصل تقول: «رأيت أن من واجبي أن اعمل على تشكيل حكومة لا سيما في هذا الوقت من أجل إعطاء دفع للاستقرار، وأعتقد أن هذا هو الأفضل اليوم للبلاد. أجريت مفاوضات مع كل الشركاء الممكنين من اجل تشكيل حكومة مستقرة». إن المهلة القانونية المعطاة لليفني ستنتهي في الثالث من نوفمبر، وهي من 42 يوما. ولا يزال أولمرت على رأس الحكومة الانتقالية في انتظار تشكيل حكومة جديدة.
وكان حزبا كاديما (29 نائبا) والعمل (19 نائبا) قد وقعا معا في 13 أكتوبر بالأحرف الأولى على اتفاق لتشكيل ائتلاف حكومي لقيادة إسرائيل، في حين لم تزل الخلافات قائمة بين كاديما وشاس المتشدد (12 نائبا)، والتحالف معه يسمح لكاديما بالاعتماد على قاعدة برلمانية صلبة، فضلا عن أن المفاوضات بين كاديما وحزب المتقاعدين (7 نواب) لم تصل إلى أية نتيجة. وعليه، فقد قررت ليفني عدم انتظار انتهاء المهلة التي منحها إياها بيريز لعرض تشكيلتها الحكومية على البرلمان.
ويمكن لبيريز نظريا خلال الأيام الثلاثة التي تلي انتهاء المهلة تكليف نائب آخر لتشكيل الحكومة خلال مهلة 28 يوما. وفي حال حدوث فشل جديد، فثمة اختيار آخر لتشكيل حكومة ضمن مهلة 14 يوما. وإذا فشل كذلك، يفترض إجراء انتخابات عامة خلال مهلة تسعين يوما.
وأعلنت قيادة حزب شاس الديني المتطرف الجمعة رفضها للشروط التي فرضتها ليفني للمشاركة في الحكومة الجديدة مما يهدد تشكيلها.
إن حقيبة ليفني أو حقيبة أي رئيس بديل ستمتلئ بالمشكلات الصعبة على امتداد الأسابيع المقبلة، فما الخطط الإسرائيلية في مواجهة تحديات الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم اليوم؟ وماذا يمكن عمله لتخفيف حدة الاختناقات والأضرار الاقتصادية في إسرائيل؟
إن خطوات ليفني بطيئة جدا وحذرة إذ تخشى نشوب تداعيات واسعة في البنية الاجتماعية لا يمكن معالجتها، ولكن من طرف آخر، فخصومها أقوياء.. وهنا، فإن مخاطر عدة ستلحق بإسرائيل حالة إجراء انتخابات عامة مكلفة للخزينة الإسرائيلية. وليفني مطالبة اليوم باستحقاقات عدة لابد من تحقيقها بشجاعة منقطعة النظير..
وخصوصا، وان جدول الأعمال قد سجل عليه عدة استراتيجيات لا يمكن لإسرائيل أن تتباطأ فيها ومنها ما يخص: إيران ولبنان وسوريا وحماس. إن الإسرائيليين يطالبون ليفني بزعامة حقيقية كالتي تمتعت بها غولدا مائير قبل أربعين سنة. فهل ستنجح ليفني في مهمّتين اثنتين وخطيرتين معا: زعامة كاديما ورئاسة حكومة؟

البيان الاماراتية ، 29 اكتوبر 2008

www.sayyaraljamil.com


46
سارة بلين : هل ينتظرها مستقبل سياسي  ؟

د. سيّار الجميل


لم تكن سارة لويز هيث بلين ، المرأة التي تجاوزت الرابعة والاربعين ، تحلم بأن يتم ترشيحها لمنصب نائبة لرئيس جمهوري مرشّح لانتخابات الرئاسة  بعد ايام ، بالرغم من تطلعاتها السياسية .. وكانت قد شغلت عضوة في مجلس مدينة واسيلا بولاية الاسكا بين 1992- 1996 ، وعمدة له 1996- 2000 ، ومن ثم انتخبت حاكمة لولاية الاسكا كأول امرأة شابة تمارس سلطتها على ولاية ثلجية نفطية شاسعة الامتداد ، خالية من البشر ، ومليئة بالحيوانات البرية والدببة القطبية !
فجأة ، يختارها جون ماكيين نائبا له في انتخابات الرئاسة ، وهي اول امرأة يختارها الجمهوريون يوم 29 اغسطس الماضي لخوض الانتخابات واول مرشح من ولاية شاحبة منسية مثل الاسكا ، ويبدو انهم اختاروها لتوازن الجذب الجماهيري بين طرفين اساسيين في المجتمع الامريكي اولاهما يتمثّل بالمرأة الامريكية ، وثانيهما يتمثّل بالشباب الامريكي .
ولدت سارة بلين ( Sarah Palin)، في 11 / 2/ 1964، وانتقلت أسرتها إلى ألاسكا عندما كانت رضيعة. هنا يبدو ان استقرار والديها في الاسكا جاء مباشرة بعد خمس سنوات من اعتمادها رسميا احدى الولايات المتحدة الامريكية يوم 3 يناير عام 1959 على عهد الاتحاد السوفييتي ، اذ كانت الولايات المتحدة  قد اشترتها من روسيا القيصرية سنة  1867  بسبعة ملايين ومائتي دولار . عاشت سارة طفولتها وحياتها فيها وعشقتها ، ودرست في مدارسها ، فبرعت في كرة السلة والصيد ، وتشكّلت شخصيتها القيادية منذ صغرها ، وبدت امام المجتمع شابة عملية ولم تزل . وانضمت إلى كلية هاواي في المحيط الهادي (الآن تسمى جامعة هاواي) عام 1982 وتخصصت في إدارة الأعمال. وفي عام 1987 ، حصلت على شهاده البكلوريوس في علوم الاتصالات الصحفية من جامعة إيداهو.
فازت سارة بلقب ملكة جمال الاسكا ، ثم حصلت على المركز الثالث ( أي : الوصيفة الثانية ) في مسابقة جمال العالم 1984 ، وحصدت عدة جوائز ، وكانت تشعر الاخرين دوما بتفوقها والاعجاب بذاتها .. في العام 1988 ، عملت مراسلة للاخبار الرياضية لقناتين تلفزيونيتين  ، ثم تفوقت سياسيا ، وعلى مدى سنتين 2003- 2005 ، كانت سارة واحدة من ثلاثة مديرين لشركات الخدمة العامة ، والتصميم ، والتدريب السياسي ، واظهرت نجاحا وتقدما في القيادة وصنع القرار ، بالرغم من كونها متزوجة ولها مسؤوليتها المباشرة على بيتها واولادها ، كأي امرأة الاسكاوية .
 فازت بحكم الاسكا في الانتخابات ، وكانت ناجحة في الدعاية لنفسها ، كونها الابنة الحقيقية لعالم مجهول اسمه الاسكا .. احبها الناس ، وكانت في الثانية والاربعين من العمر بكل شعبيتها التي اعتبرت الاكثر رواجا في الولايات المتحدة ، واظهرت اهتماما في تنمية الموارد ، والتعليم والقوى العاملة ، والصحة ، والسلامة العامة ، والنقل في ولايتها القصية .. كما انها تدعو الى اصلاح الاخلاق السياسية .  وقد عملت بكل طاقتها على تنمية ذلك الاقليم الشاسع المسّمى الاسكا ، وجعله مأوى للحيوانات البرية في القطب الشمالي والتنقيب عن النفط .. ومن الغريب جدا انها ـ كما يبدو ـ منعزلة في بيئتها بتأثير تربيتها ، فلم تغادر الاسكا الا قليلا ، ولم تغادر عالم امريكا الشمالية الا في العام الماضي ، اذ حصلت على جواز سفر عام 2006 لأول مرة ، وفي العام 2007 سافرت لأول مرة في مهمة رسمية خارجية الى الكويت لتصل الحدود مع العراق وتزور بعض القواعد.
هنا نسأل : هل ستكون سارة بلين اليد الحاسمة للجمهوريين ازاء الديمقراطيين ؟ معنى ذلك ان تاريخ امريكا سوف يبقى جامدا يراوح في مكانه دون ان يأخذ له مسارا من نوع آخر على غير ما يتمناه الاخرون ، وبالضرورة سيكون لهذه المرأة الشابة شأن سياسي من خلال التوجهات المحافظة التي تحملها ، فهي ابنة جيل جديد تخضرم بين قرنين ، وله تطلعات غير تلك التي يحملها جون ماكين من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ، ولكن يبدو لي ان سارة بلين تتمتع بشخصية من نوع غير مألوف ، فهي شديدة الانتماء لولاية الاسكا المنفصلة جغرافيا عن الولايات المتحدة ، وقد تطبّعت بطابعها القطبي البعيد .. وهي كما يبدو حتى الان صعبة المراس .
 صحيح انها لم تزل شابة ، ولكنها محافظة متشددة عند الجمهوريين ، وهي تحمل برودة ثلوج الاسكا معها ، ولا تقبل التغيير بسهولة ، انها ليست كبقية الامريكيين ، فهي ترفض الإجهاض رفضا قاطعا ، كما ترفض زواج المثليين، ولكنها اجبرت  للمصادقة عليه . ولقد انتقدها دعاة حماية البيئة ، كونها تسعى للتنقيب عن النفط في الاسكا .. واتهمت بأنها لم تثبت جدارتها بعد في السياسة الخارجية التي توصف بأنها جاهلة فيها ، ومن اخطر مواقفها السياسية السابقة دعوتها لانفصال الاسكا عن الولايات المتحدة .. ومن اغرب تصريحاتها قولها في خطاب القته في احدى الكنائس : ان الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة الامريكية هي حروب مقدسة ، وانها تنبثق بأوامر الهية ! وهنا يبدو كم هي ضحالة القادم من الزمن الامريكي الجديد ، ان كانت نائبة رئيس ستبقى تفكر بمثل هكذا تفكير ـ كما يعّلق احدهم ـ ! ولكنها ترى نفسها أرقى من الاخرين عندما تنتقد اعضاء من مجلس الشيوخ ، كونها أتت من بيئة نظيفة جدا !! اعتقد ، ان امام هذه المرأة فرصة تاريخية واحدة ان فاز الجمهوريون ، فسيكون لها شأن من نوع ما على عهد ماكّين .. او انها ستحتجب بعيدا كي تعيش هناك في الاسكا حيث يختفي العالم كي نرى سارة بلين تجمع زهورا برية وتربي طيور البطريق القطبية !
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 21 اكتوبر 2008 .

 
 


47
الماضي يسحق مجتمعاتنا !

أ. د. سّيار الجَميل
مدخل من الاشكاليات الصعبة
بادئ ذي بدء ، احب ان اوضح بأنني قلت " الماضي " ، ولم أقل " التاريخ " ، فالبون كبير بين الاثنين .. اذ لا يمكن الاستسلام للماضي بلا تاريخ ، ولا يمكن اعتبار كل ماض مضى هو تاريخ ونسجن انفسنا في خضمه ليلعب بنا كما يشاء ! كّنا نبتعد شيئا فشيئا عن الماضي وسطوته عند منتصف القرن العشرين ، ولكن انهار كل شيئ بفعل عوامل واسباب سياسية وايدلوجية واجتماعية ، فزحف الماضي علينا بكل توحشه ، ولما غاب القرن الماضي ودخلنا هذا القرن الجديد ، غدت مجتمعاتنا تحت بطش الماضي وهي تنسحق يوما بعد آخر .. لماذا نحن متخلفون في مجتمعاتنا التعيسة ؟ لماذا يقهر الاقوياء كل الضعفاء في وحداتنا الاجتماعية المتوحشة ؟ لماذا اختفت كل سمات التمدن وروح التقّبل والتعايش ؟ من الذي يشعل حياتنا اليوم سياسيا وايديولوجيا ؟ من الذي يقف وراء انقساماتنا المريرة ؟ ما حجم الماضي في تفكيرنا مقارنة بحجم التفكير بمستقبلنا ؟ ما وزن التخلف وغيبوبة الوعي في كل اصقاع اوطاننا ؟ من يقف حجر عثرة ازاء التقّدم وبناء العلاقات الجديدة في مجتمعاتنا كلها ؟ لماذا نحن منقسمون حتى ازاء الماضي وتقييمه على اسس مريضة طائفية وجهوية وشوفينية ؟ لماذا نجعل من الاخرين مخالب للنهش والتشويه والتزوير من اجل مصالح لها قذارتها اولا واخيرا ؟ لماذا لم يتزحزح هذا العقل المغلق وتنفتح هذه الذهنيات المركبة ؟ من اصعب ما يمكنني تصّوره انني كنت اجد امامي قبل ربع قرن طلبة يتقبلون مني كل التنوير والفكر الجديد .. وهم اليوم وقد اغرقوا عقولهم وغلقوا على اذهانهم وتفكيرهم .. وباتوا في سجون تعيسة ، وهم يشعرون انهم في الطريق الصحيح  ؟ هذه اشكالية اريد ان الفت الانظار اليها ، فما نفع الاستنارة لدى البعض ؟ وماذا كان دور كل استاذ مستنير في الثلاثين سنة الاخيرة من القرن العشرين ؟ ما الذي سحب البساط من تحت ارجل كل اصحاب العقل ، ليذهب المجتمع مذاهب شتى ويدخل ابناء مجتمعاتنا في شرانق الماضي بكل اتعابه ؟ ومتى سيخرج منه هؤلاء ؟ وماذا سنجني من التفسخات التي نعاصرها اليوم تحت مسميات شتى ؟ من يسيطر على مجتمعاتنا اليوم ؟ من يزرع الخلافات المميتة بين اصحاب الاديان السماوية ؟ من يصدر الفتاوى والتصريحات ؟ ما سر الانقسام المريع الذي يعاني منه العالم الاسلامي قاطبة باغلفة مذهبية ولعوامل سياسية فاضحة ؟ من يجني على اجيالنا الجديدة التي تحمل كل يوم يمضي ازدواجية في الولاءات ؟ وتخلفا في الذهنيات ؟ وتصادما في التناقضات ؟ وانغلاقا على النفس ازاء العالم ومتغيرات الحياة ؟ كلها اسئلة بحاجة الى المزيد من الاجوبة ..
اولا : انقسام التاريخ يولد انقسامات الحاضر
ان ثقافة متناقضة ، مثل هذه ، تحمل سمات احقاب طوال من الثنائيات والصراعات .. وتحمل سجلا بائسا من الدمويات والاندثار ازاء سجل اخر من التقدم والازدهار .. لا يمكن تخّيل ما الذي نستكشفه من احداث ووقائع غاية في الشراسة والعهر على امتداد تاريخ العرب والمسلمين السياسي المضمخ بالدماء والمتشرّب بالترسبّات .. بل وان سمات تلك الاحداث والوقائع ـ مهما كان نوعها ـ تبدو في الذهنية العربية اليوم ، بل وحتى في اللاوعي الجمعي مجرد حالات طبيعية في حين انها تعني حالات مرضّية غاية في البشاعة لا يمكن البقاء في اطار رضاها المقنّع بالاكاذيب والتفاهات والخرافات والاوزار والاساطير والمغلّفة باغلفة هذا المقدّس الذي يرعب الناس دوما .. فمن اجل تطهير الروح تعّذب الاجساد طويلا ، كما في عدة مجتمعات في العالم ، ولكن منها من ترك هذا الموروث ، ومنها من زاد من ممارسته تحت حجج واهية لا تستقيم والعقل ابدا .. فمن اجل تطهير المجتمع تدّمر الاقليات الدينية ! ومن اجل تطهير النفس من الاثام ومن الشعور بالذنب تضرب الاجساد بالحديد حتى تنّز دما ، بل ويستخدم اللطم على الجسد رمزا لتطهير الذات .. وحتى يصل الى اقصى مدياته بالبكاء الذي لا سبيل لايقافه عندما تتفجر العاطفة لاعلى مدياتها .. ولعل الجسد هو الوحيد الذي تعّرض في الثقافة السياسية العربية الى التعذيب بشتى صنوف الوسائل المؤلمة سواء لانتزاع اعترافات او لأخذ ثارات او لتصفية علاقات او للتلذذ بالمشاهد والالام المبرحة .. ان ثقافة الجسد عند العرب ثقافة متنوعة بين المستويات الاجتماعية ، ولكن بقي من القضايا المسكوت عنها دهرا طويلا..  ان انقسامات التاريخ لا تقف عند الروح والجسد والمبالغة في تصويرهما وتعذيبهما ، بل حتى ازاء الظواهر الكبرى في بنية تواريخ مشتركة وواحدة .. ان التاريخ الاسلامي نفسه منقسم على نفسه في العالم الاسلامي الى قسمين اساسيين قسم يتبناه طرف وقسم آخر يتبناه طرف آخر .. واقسام اخرى تتبناها عدة اطراف تشكل في مجتمعاتنا انقسامات ملل ونحل لا حصر لها ، لكل مجموعة نافذة معينة على التاريخ . ان مشكلات تاريخية لا تزال تعيش وتأكل يوميا في الذاكرة الجمعية لمجتمعاتنا قاطبة .. مشكلات ماضوية لا دخل لنا بها اليوم لا تنفك الالسن تتداولها ، وظواهر مهما كان نوعها وصحتها واخطائها لم نزل نرددها ليل نهار .. وتناقضات سياسية واجتماعية لم نزل نورثها لابنائنا واحفادنا .. وحالات لا يمكن تصديقها او تكذيبها كونها قيل عن قال نصّورها حقائق او اكاذيب ونحن نبني عليها كل حاضرنا ومستقبلنا .. الخ  هذه مجرد امثلة لظواهر واضحة في تاريخنا القريب والبعيد .. فما ادراك بالاختلافات والتباينات ومن ثم الانقسامات والصراعات على احداث وشخوص ومواقف ورؤى وافعال .. ؟ ومن فجائع مجتمعاتنا ان اجد من كان يعلن نفسه راديكاليا تقدميا وثوريا سواء كان ماركسيا ام قوميا .. خرج من جلده ليعلن عن انتماءاته لهذا النوع من الماضي او ذاك ، لهذه الطائفة او تلك الملة من دون اي وعي بالتاريخ او قراءة له او تأسيس اي قطيعة معه !   
ثانيا : هل من تطهير لثقافتنا العربية ؟
ان ما يهمنا في حقيقة الامر ثقافتنا العربية الى حد كبير ، وكل الثقافات التي تشاركها الحياة وتعايشها الموقف وينتظرها المصير .. واعتقد ان معالجة ثقافتنا العربية هي بحد ذاتها معالجة باسلوب غير مباشر لثقافات اخرى في المنطقة .. علما بأن هناك اليوم حربا خفية غير معلنة على الثقافة العربية التي تتهم دوما من قبل ثقافات اخرى في الشرق الاوسط بالشوفينية والمكابرة والتسلطية والاحادية .. علما بأن الثقافة العربية كانت على مدى الف سنة ماضية المعين الذي نهلت منه كل الثقافات في المنطقة قاطبة : ايرانية وتركمانية وقوقازية وعثمانية وكردية وآرامية وسواحيلية واثيوبية وامازيغية واوردية .. الخ ، ولكن ؟
لقد اصاب العقم ثقافتنا العربية الحديثة التي غدت بعيدة كل البعد عن هذا العصر وكل اتجاهاته ازاء المستقبل .. لم تعد ثقافتنا العربية المعاصرة ثقافة تنويرية تقود غيرها من الثقافات ، وتهدي الاجيال الجديدة بكل ابداعاتها الى مستقبل عظيم .. وبقيت ثقافتنا العربية ولعشرات السنين ولم تزل مزدوجة الولاء بين الماضي باسم " التراث " وبين العصر " الحداثة " ، واستهلك المفكرون العرب انفسهم بهذه الثنائية من دون اي نتائج واقعية ، بل وساهموا في تكريس التناقضات الفاضحة في مجتمعاتنا التي انجرفت نحو الماضي لعبادته كل بطريقته الخاصة وتيبسّت النخب المستنيرة في واقع اجتماعي وسياسي متنوع بين الازدواجية والطفيلية والانشائيات والمكررات والبلادة والاوهام .. بل اكاد اجزم بأن الاوهام تأكل العقول ثقافيا واجتماعيا واعلاميا ..  كما اخفقت ثقافتنا العربية اليوم وعند نهايات القرن العشرين بعد ان سادها التوحش ودخلت كما هي الحياة العربية ابواب الماضوية والانغلاق وسجون القهر والامراض ! فمثلا  لم نتوقف ابدا سواء في مرحلة الاعلام المرئي والفضائي على دعوات صريحة وقوية تطالب بتطهير ثقافتنا العربية الاثمة من ذلك العهر التاريخي الذي تعّرضت له اجساد مثقفين كبار او سياسيين مناضلين لهم ادوارهم .. او صغار الاطفال  بل وغدا مصطلح " التصفية الجسدية " مشاعا في ثقافة الاحزاب الثورية العربية صاحبة مبادئ العنف الثوري من دون أي احساس بالخيبة او بالذنب ومن دون أي وازع اخلاقي يوقف مهزلة التاريخ العفن .
 ان هذا المصطلح ليس عربيا بحد ذاته ، بل استعير من ثقافات ثورية راديكالية دموية قالت بـ " العنف الثوري " وقالت بـ " التصفية الجسدية " ! لقد عاش عقلاء واحرار في عدة بلدان عربية لا يرضون تلك الممارسات الدموية ضد اجساد البشر،  وقد امتلكوا الوعي بما كانت عليه الاحوال ، ولكن الخوف كان يرافق الصوت ليبقيه كتوما حتى الموت .. وبموضوع الجسد ، ومن دون طرحه على أصعدة عدة فى الأدبيات المعاصرة وما نشر من شذرات في هذا الباب فهو قليل جدا مقارنة بما حدث في تاريخنا العربي والاسلامي الطويل .. صحيح ان الجسد لم يكن محورا للتفكير ، ولكنه الوسيلة الاسهل لتبرير كل المصالح الشخصية والفئوية والسياسية ..      بل وان ما يتوفر من مراجع لا تعتني بالجسد ابدا في فلسفاتها جعلت الانسان في منطقتنا ( وبالذات مجتمعاتنا ) بعيدا عن التسامي ، انه بدل ان يجعل الجسد اداة حيوية للحياة والابداع والطهر والجمال .. جعله اداة للعهر والسجن والاعتقال والاعدام والقتل والتقطيع والسحل .. ان موجة قهر الصحافيين والاعلاميين العرب والافتاء بقتلهم .. وانعدام الروادع القانونية وانعدام وجود تجمعات للمجتمع المدني وهدر حقوق الانسان وبضمنه المثقف .. جعل اليوم من ثقافتنا مثار اسئلة كثيرة في ثقافات اخرى ؟ لقد اصابت الاوبئة ثقافتنا العربية وثقافات اخرى مجاورة لنا ، فمتى يمكن التخلص من آثارها ؟ متى يتم تطهيرها ؟ ان ايجاد اجوبة نظرية لا ينفع ابدا ، من دون خلق روادع قانونية وتنظيف حقوق الحياة العربية من كل الامراض .. ان جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية العربية اليوم قد اصابتها التعفنات والمخاطر .. ولم يبق من روح العلم الا الاسم فقط . فماذا ننتظر من اجيال قادمة تتربى اليوم في مدارس وجامعات ومؤسسات ونخب وفئات ( وحتى جاليات مصابة باوبئة خطيرة ؟ ) .

نشرت يوم 20 اكتوبر 2008 ، في موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com






48

مأساة الاقليات في العراق

د. سيّار الجَميل


كل العالم يعرف ان موزاييك الشعب العراقي يجمع مختلف الاطياف الدينية والعرقية والطائفية والمذهبية ، وهي في اغلبها من اقدم الاعراق البشرية في الشرق الاوسط ، اذ توطّنت العراق منذ الاف السنين بحكم  جغرافيته المركزية ، وتاريخه المتنوع ، وهو من اثرى بلدان الشرق الاوسط بالاقليات السكانية التي عاشت جنبا الى جنب الاكثريات في مجتمع متنوع الاطياف لم يعرف الصراعات الاجتماعية ابدا ، اذ كان التعايش والانسجام يسود بين كل الناس ، وعلى درجة عالية من الاحترام والتعاون وهم يواجهون معا كل التحديات الصعبة التي مرت عليهم ، بل وكان من المعيب ان يطلق عليهم  مجموعة " اقليات " ، اذ كانوا مواطنين لهم حقوقهم وواجباتهم . واذا كان للبعض مشكلاته مع الدولة ، فاننا لم نجد اية مشكلات مع المجتمع نفسه ..  ويخبرنا كل من التاريخ والمجتمع معا ، ان الاقليات السكانية العراقية عاشت عبر الدهور متميزة بانشطتها وحيويتها وامانتها وانتاجها واجادتها العمل ومهاراتها وحذاقتها في مهن عديدة ، بل وشارك العديد من ابنائها كعراقيين وطنيين بسيرورة النهضة العربية ومشروعات تقدم العراق في القرن العشرين .
 ان السياسات الخاطئة التي ارتكبت في العراق بعد احتلاله عام 2003 ، باستخدام خطاب " المكونات الاساسية الثلاث ( شيعة وسنة واكراد ) بديلا عن خطاب وطني يجمع الجميع ، فان اهمالا مريعا جرى للاقليات التي لم تنفعها انتماءاتها الدينية والعرقية اساسا ، فوجدت نفسها لأول مرة ضائعة في بحر متلاطم الامواج من احتكار القوة والارض والارادة على ايدي الاكثريات التي استخفّت بالاقليات التي وجدت نفسها منقسمة ازاء القوى المتصارعة .. الى هنا والامر قابل للمعالجة ، ولكن ان يتحّول التهميش الى القتل والنفي والتهجير للاقليات العراقية وبوسائل اجرامية ومن دون معرفة الاسباب ومن دون الكشف عن حيثيات ودوافع ذلك ضمن اجندة سياسية خفية ، فان هذا كله يعد مأساة تاريخية لابد ان يعرف بها العالم كله .
 تخبرنا التقارير الواردة قبل ايام ان الاقليات السكانية العراقية قد زادت معاناتها  من الاضطهادات والقمع والقتل والملاحقات التي لا يمكن تخيلها ابدا ، ولقد ازدادت بشكل مخيف في كل اصقاع العراق ... ان المأساة التي يعاني منها الصابئة المندائيون في جنوب العراق ، او المسيحيون : الكلدان والسريان والآثوريون والارمن في شمال العراق ، وبالذات في الموصل .. فضلا عن معاناة طوائف اليزيديين والشبك في اقليم الموصل يجعلنا نتساءل عن اسباب استئصال هذه الاقليات التي عاشت طوال تاريخها مسالمة مع الاخرين ، ومتعايشة مع الاكثريات كالعرب والاكراد والتركمان .. فمن له مصلحة حقيقية في تهجير الصابئة والمسيحيين النصارى او تهديدهم بالقتل وتنفيذ القتل بهم عمدا مع سبق الاصرار والترصّد ؟
لقد زادت المناشدات اليوم من قبل من تبّقى من هذه الاطياف السكانية ، وخصوصا نصارى الموصل لانقاذهم من الموت ورصد الجناة الذين يقتلون ويلوذون بالهرب ، وتزداد نكبة هؤلاء من دون اي رادع دولي ولا اي اجراء حكومي .. ان قوى مسلحة تفرض هيمنتها على الشارع في مدن معينة من دون اي سيطرة ولا اي نفوذ رسمي ، لتعبث بمثل هذه الاقليات وترتكب الجرائم المروعة باستخفاف ورعونة  .. لقد تعّرضت العديد من الكنائس والاديرة والمعابد القديمة الى هجومات مسلحة وتفجيرات متتالية .. وليس هناك اي وثائق مكشوفة تشير الى اي مسؤول عن تلك المجازر والتفجيرات .. بل وكم طالب المسيحيون بالكشف عن اسرار مصرع المطران المار فرج رحو الذي قتلوه بعد خطفه ( مارس 2008 )   ؟ من دون اي استجابة تذكر من قبل المسؤولين لا العراقيين ولا الامريكيين .. ان التقارير الدولية تشير الى ان نسبة المسيحيين العراقيين كانت 10% لتغدو اليوم 4 %  ، بسبب الهجرة القسرية لهم الى شتات العالم .
وفي العراق ، فان ما يحصل للمسيحيين ، يحصل للصبّة المندائيين الذين تضّرروا جدا من الملاحقات والتفجيرات .ان استمرار هذا الماراثون من مشروعات قتل العراقيين ، لابد ان يتوّقف نهائيا . ان تقريرا وصلني اليوم من الاستاذة ميسون الدملوجي النائبة في البرلمان العراقي تذكر فيه اضطرار أعداد كبيرة من الصابئة المندائيين الى مغادرة العراق بعد أن تعرضت الطائفة الى أعمال قتل واختطاف وتكفير، وقل عددها من 65,000 عام 2003 الى حوالي 3,500 اليوم. ويضيف التقرير قائلا :  لا يريد أحد ممن التقيت به ( في الاردن ) العودة الى العراق، ويعتبرون التعايش في ظل غياب سلطة القانون أصبح مستحيلاً، ولاسيما بعد تراجع مبدأ المواطنة وسيادة دولة الطوائف. ويضيف التقرير ان معاناة هؤلاء خارج العراق لا تطاق ، اذ يلحق بهم الاذى في مجتمعات عربية اذ يعتبرونهم كفارا مارقين ! ناهيكم عن حياتهم المنهكة ، فهم من الفقراء المعدمين الذين لا يملكون ما يسّدون به رمقهم . ان الاقليات العراقية بحاجة ماسة الى الامن والحماية ، فلا يمكن استئصالهم ابدا بحجة كونهم كفارا او مارقين .. وان الاحزاب الدينية العراقية مطالبة كلها باعادة النظر في مثل هذه المسألة ..
ان اغلب الاقليات العراقية قد انقسمت اليوم على نفسها للاسف الشديد ، جراء ضعفها ازاء قوى الاكثريات التي كان تصنيفها سببا في الانقسامات الحاصلة اليوم . ومن هنا ، نناشد الحكومة العراقية وكل المسؤولين باتخاذ الاجراءات الكفيلة بحماية العراقيين كلهم ، وملاحقة الجناة ، والكشف عن اسرار كل الجرائم .. كما ونناشد الضمير الانساني في كل العالم ان يقف وقفة مشرّفة ازاء مجتمع عريق مزقّته التفرقة ، وبعثرته سياسات المحتل بعد تاريخ طويل من المكابدات والحصارات والحروب والدكتاتورية .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 14 اكتوبر 2008




49
المنبر الحر / اضطهاد المثقفين
« في: 23:29 13/10/2008  »
اضطهاد المثقفين

د. سيّار الجميل

المثقفون الحقيقيون يدفعون الاثمان الباهضة
المثقفون الحقيقيون هم نخب من المبدعين المنتجين المحترفين المخصبين .. الذين يقفون في مقدمة ابناء المجتمع ، كما هو الحال عند امم تحترم نفسها ، ولكنهم في مجتمعاتنا ، انما يدفعون الاثمان الباهضة ، ليس لأنهم اصحاب دماء زكية زرقاء ، بل لأنهم يشكلون خطورة على كل الاطراف .. وما دامت تلك الاطراف بقضّها وقضيضها تعيش الفجاجة والرعوية والتخلف ومأساة غياب الوعي وامتلاك السلطة والقوة والمال فهي طفيلية فارغة وتافهة .. وان الخصم اللدود لها امام الجميع هو هذا " المثقف الحقيقي " الرافض لكل اساليبها وزيفها ومناوراتها واساليبها وكل افعالها الرعناء .. انه الذي يمتلك فهم الماضي ، والوعي بالحياة ، والخوف من المستقبل ، وقوة الكلمة، واصالة الرأي ، والدفع بالحجة كي ينسف بها كل الابنية المشّوهة الشاهقة المبنية على الرمال المتحركة ، ويهّدم كل الجدران الكئيبة السامقة التي اقيمت لاغراض دنيئة وخاصة .. انه الذي باستطاعته كشف الساسة المزيفين ، وفضح اكاذيب اللاعبين ، وتجريد القدسية الماكرة من الملالي الافاقين ، وتحرير  الاخرين من كل اوراقهم .. انه يتكلم باسم المسحوقين في المجتمع ، وهو الذي من الواجب ان يرسم للدولة طريقها السوي ويضيئه بالانوار ، بل باستطاعته نسف اي خطاب لا يراه يتسق وقيم الحياة الطبيعية والانسانية .. وهو الذي تنجذب اليه كل الاجيال من القادمين .
المثقف والسلطة
المثقفون لا يسعون الا لكسب رزقهم ، فهم ليسوا بافواه طامعة بالمال ولا بالجاه ولا بالسلطة .. ربما للمثقف كبرياؤه ومكابرته جراء قوة حجته وكونه لا يبارى في اي محفل يجمعه بثلة من الساسة او بجماعة من رجال دين ، او بفئات من المتحزبين او اشباه المتعلمين .. ان الثمن الذي يدفعه المثقف الحقيقي في مجتمعاتنا كبير جدا .. فهو مضطهد من قبل السلطة ، سلطة الدولة وسلطة المجتمع ، كونها لا تريد ان يكون ازاءها احد ممن يفضحها ، ولا يتستر على مساراتها الخفية ولا اجندتها الخطيرة .. وقد تنجح سلطات عدة في دول ومجتمعات كثيرة بتجنيد بعض المثقفين ليكونوا ابواقا لها ، ولكنهم يحسبوا تحت يافطة ( مثقفي سلطة ) !  ان اضطهاد المثقفين ليس في مقاطعتهم ولا في قطع الارزاق عنهم .. بل حتى في سجنهم وقتلهم ..انني اعتقد اننا مقبلين على مرحلة متوحشة من اضطهاد المثقفين في مجتمعاتنا العربية ، خصوصا وانها مجتمعات تعيش فراغا سياسيا وديمقراطيا مع غياب حتى هامش الحريات .. ان من اصعب ما اجده اليوم في مجتمعاتنا المتعبة ان يختلط تقويم المثقف الى جانب السياسي .. ونحن نعلم الفرق الكبير بين الاثنين ، وكما كنت قد كتبت يوما .. ان باستطاعة المثقف ان يكون سياسيا ، ولكن من المستحيل ان يكون السياسي مثقفا . والثقافة ليست كلمة عابرة في حياتنا العربية كما غدت عليه اليوم ، وكما تبدو من سذاجة اصحابها في الخطاب المعاصر ، لكنها ـ عندي ـ اسمى واكبر واثقل واخطر بكثير مما يتصوره المرء !
الذاكرة التاريخية الصعبة
انني اسأل نفسي مرات عدة : لماذا قتل اشهر الكّتاب والمفكرين القدماء ، وها هو  احد ابرز الكتّاب بالعربية : ابن المقفع قتلة شنيعة بوضع جسدا عاريا على مسامير حادة في تنور وبعد ان نزف طويلا اوقدوا التنور ليسجر حيا ! اهذه مكافأة المثقف عالي المستوى في الحياة العربية ابان عصر الازدهار ؟ .. لماذا سجن ابو حنيفة ؟ لماذا محنة ابن حنبل ؟ لماذا هرب الشافعي من بغداد الى مصر ؟ لماذا اضطهدت الائمة ؟ لماذا قتل المتنبي ؟ لماذا ابعد ابن خلدون ؟ لماذا قّضى احدهم حياته فوق مئذنة ؟ لماذا لوحق احدهم من بلد الى آخر ؟  وذاك الملك الصالح الذي اتوا به عاريا ليدهنوا جسده بالسمن والعسل ويتركوه مربوطا على عمود في قلب الصحراء حتى تجتمع عليه الحشرات والذباب لتأكله وهو حي !! ويمكن للقارئ الكريم ان يقرأ عشرات الامثلة على اضطهاد المثقفين الحقيقيين ، وصولا حتى يومنا هذا الذي نتساءل فيه : لماذا انتحر بعض المثقفين اللبنانيين ؟ لماذا اعدم بعض المثقفين في كل من مصر والعراق ولبنان ؟ لماذا مات اغلب كبار شعراء ومثقفي العراق المعاصر في غربتهم ، وتفرقت قبورهم بين القارات ؟ لماذا قتل العديد من الصحافيين في لبنان والعراق والجزائر ؟ لماذا اختفت بعض الاسماء نهائيا من واجهتنا الثقافية العربية ؟ وما نجده من قطع الرؤوس علنا امام العالم كله نساء ورجالا .. وحتى صور اليوم البشعة في العراق والجزائر واليمن ولبنان لا يمكن ان يتقبلها اي عقل ..
نحن والآخر : تبدل الزمن وتطور الوعي
 هنا ، هل يمكننا ان نكتفي بسرد الامثلة والنماذج التاريخية والمعاصرة  من دون التعمق طويلا في فلسفة هذا التوحّش الاجتماعي ، وهذه العدمية لكل مقاييس الحياة وانعدام الاخلاق ؟؟ .. بل وان السكوت سيجعل من هذه الامراض الاجتماعية اوبئة تاريخية ليس لحاضرنا ، بل لكل مستقبل العرب والمسلمين الذين طالما تشدقنا بحضاراتهم .. فلا يمكن ان نشهد التضادات بمثل هكذا تنافر ! بل ليبدو الامر كما لو اننا نعيش ـ حقا ـ حياة الغاب .. وحتى حياة الغاب ، بل أي جنس لا يمكن ان يكون ضد بني جنسه .. ان الجسد ليبدو بلا ثقافة عند العرب ، وان العرب والمسلمين لا يمكن اعتبارهم كلهم يحملون هذا الوباء ، بل ان هناك من الاطياف الجميلة المسالمة التي تتطهر باكرام ليس روحها حسب ، بل حتى جسدها . ان ثمة تخريجا لكل التوحش الانساني وما تفعله بالاجساد والارواح من اضطهادات وقمع ، ذلك ان الامر لا يقتصر على العرب والمسلمين وحدهم .. فتواريخ المجتمعات والامم الاخرى قد شهدت توحشا وافعالا لا يمكن ان يصنعها بشر في الدنيا . ان من قتل وسحق وعّذب واوذي وحرق وقطّعت اوصاله وهو حي .. او دقت عظامه او خرمت اقفيته بالخوازيق او دق عنقه بالمقصلة او بحد السكين .. او رمي به في اقفاص مليئة بالوحوش .. كلها افعال انسانية بحق الانسان ، تمّرس على فعلها الانسان في كل بيئات الارض .. ولكن جرى ذلك في ازمان غير زمننا بالرغم من ان المشكلة لا يمكن حصرها عند عرب ومسلمين فقط! ولكن عقلية الاضطهاد لم تزل تعشش في مجتمعاتنا ..
المشكلة ان العالم كله قد تغيّر واختلف من خلال الوعي بالماضي ازاء حجوم المستقبل ، على عكس ما تعانيه مجتمعاتنا من تخّلف عارم على مستوى فهم الماضي وعبادته وايقاف التفكير بالحاضر وتحريم الرؤية الى المستقبل تماما . ان كل العالم اليوم يعيش توازنا ، او اي شكل من اشكال التوازن بين المثقف وبين الحياة ، بل وان تجسيرا حقيقيا يقوم اليوم بين صنّاع القرار ونخب المثقفين . ان الحياة لا يحكمها السياسي لوحده ، فالدولة مجموعة مؤسسات يقف على رأسها كبار المثقفين المحترفين ، والمجتمع بنفس الوقت لا يمكنه ان يخطو خطواته الى الامام من دون ابداعات المثقفين ومتابعتهم وخصب اعمالهم وتجديد اساليبهم .. وقيمة كلمتهم وحجتهم في كل الميادين .
استنتاجات : الاحرار لا يعيشون في اقفاص
قلما نجد من نخب المثقفين الحقيقيين الذين كانوا قد تحرروا من شرانق الماضي الصعب .. وطوال القرن العشرين ، عاشت مجتمعاتنا في العقود الاخيرة ، وهي في مزايدة علنية بين ثقافة حقيقية وبين عهر سياسات مؤدلجة .. لقد خدع الناس على امتداد عقود طويلة من السنين بـ " مثقفين " روجّوا لأنفسهم مجموعة شعارات زائفة ، اذ كانوا وما زالوا من الديماغوجيين الذين لا يريدون الوقوف على حقائق الاشياء مع نزق كتاباتهم الانشائية ، والاخطر من هذا وذاك تقلباتهم ذات اليمين وذات الشمال ، تجده ماركسيا تقدميا  وفجأة يعلن عن انتماء طائفي يدافع عنه دفاعا مستميتا .. وتجده بعثيا وقوميا يؤمن بمبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية ( كذا ) .. وفجأة تجده مع ذيل جوقة احزاب اسلامية  .. تجده يحكي بالقيم الوطنية والتراب المقدس ، وفجأة تجده  يسّوق لمشروعات غير نظيفة البتة .. او العكس ، ان حياتنا العربية لن تؤخرها الا التناقضات ، وغياب الاحرار ، وغياب المثقفين الحقيقيين .. ان المثقف الحقيقي هو مغترب في ارض بلاده ومغترب في المهجر .. انه الخصم اللدود عند اشباه المثقفين .. انهم لا يريدونه ولا يريدون ان يحيا كي لا يكشف بضاعتهم وتفاهتهم .. انهم يشاركون في اضطهاده والامعان في قمعه .. ولكنه اقوى منهم ، واكبر منهم ، وافضل منهم ، بالرغم من تهميشه وتجاهله وهو يعيش محنه ومكابداته .. ان الجيل الجديد بحاجة الى زمن ليس بالقصير للوعي بمثل هذه الحالات  والمطلوب  ان ينقلب ضدها انقلابا جذريا  . لقد طفحت حياتنا العربية بالطفيلية والطفيليين الذين حملوا للمجتمع كل الموبقات مع ضياع القيم ، وتبدد ثبات المواقف .. بل ولم يعد المثقف الحقيقي بمستعد للاضطهاد هذا اليوم بعد ان سحقت معنوياته واحبطت آماله ، ولم يعد يفكّر بتحقيق احلامه في صالة يكثر فيها الذئاب !

www.sayyaraljamil.com
13 اكتوبر 2008

50
حكاية بريكس واطروحة التفوّق

د. سيّار الجَميل


بريكس ، BRICs  ، انها الكتلة الاقتصادية الرباعية التي تبلورت في العام 2001 لتنطلق سريعة في عالم رأسمالي جديد .. ولعل افضل من صاغ اطروحتها غولدمان ساكس من بنك الاستثمار الذي يؤكد بأن منتصف القرن الواحد والعشرين سيشهد ذروة بريكس كأغنى كتلة اقتصادية في العالم ، وهي تجمع كلا من الصين والهند وروسيا والبرازيل .. ولعل هذا ما يقلق الولايات المتحدة الامريكية كثيرا .. لقد اختلفت بريكس عن كل من منظمة الاسيان التي تجمع بلدان جنوب شرق آسيا ، واليوربيان (= الاتحاد الاوروبي ) الذي ولد من خلال استراتيجية اقتصادية  ( السوق الاوربية المشتركة ) ولكنه تغلبت عليه القوة السياسية .. اما النافتا من امريكا الشمالية والمكسيك فهي تسجل تحّولات لها خصوصيتها الامريكية .وعليه ، فان مجموعة بريكس ما هي الا تشكيل ناد اقتصادي يمر عبر كل العالم ، وقد سجّل تقدما يذكر في اجتماع القمة عام 2008 .. بتحول مثل هذه البلدان الى اوضاع جديدة ، وستكون ـ كما يأمل بعض الدارسين ـ من بين الدول المهيمنة اقتصاديا عند العام 2050 ، خصوصا وانها تشتمل على اكثر من 25 % من ارض العالم .. و40% من سكان العالم . ان الصين هي الاكثر حركة ونشاطا من بين الاربعة المؤلفة لهذا النادي الذي سيكون اكبر كيان اقتصادي في التاريخ ، وان الولايات المتحدة الامريكية تدرك ادراكا عميقا ان هذه التشكيلة ستكون الاكبر والاوسع نموا في الاسواق الجديدة التي خلقتها ظاهرة العولمة الجديدة . ويؤكد غولدمان ساكس نفسه ، ان لهذه الدول الاربعة امكانات اقتصادية هائلة لم تستثمر بعد ، وما يميزها ان تشكيلتها ليست سياسية كالاتحاد الاوربي ، او امريكية تعاونية صرفة كالنافتا ، ولا اقليمية تجارية خاصة كالاسيان .. بل انها انتاجية وتكاملية وانها في طريقها كي تغدو كاليابان والمانيا ..
ان ندوة علمية ترعى شؤون المستقبل في كندا قد خرجت باستنتاجات مذهلة تقول ان الحلم في بريكس يسير بسرعة كبيرة نحو العام 2050 ، ومن اكبر الاحتمالات انها ستغّير نظمها السياسية بتبني الرأسمالية العالمية طريقا لها لا رجعة فيه ابدا .. اذ ستكون الصين والهند اهم بلدين عالميين يورّدان سلعا مصنعّة وخدمات الى كل العالم ، في حين ان البرازيل وروسيا ستهيمنان على توريد المواد الخام ، وسيتشكّل تعاون واضح من اجل الهيمنة على السوق وتغدو جماعة بريكس كتلة قوية لاستبعاد مجموعة الثمانية التي لها سيطرتها اليوم .ان الصين ستكون لها قوتها التصنيعية المنتجة، اما الهند ،فسوف تسجل خطوات في انتاج الخدمات على مستوى العالم .. وتبقى البرازيل مهيمنة على فول الصويا والحديد الخام .. في حين ان روسيا الهائلة ستكون معينا للنفط والغاز الطبيعي ..
ان ثمة آراء خطيرة تسجّل هنا حول نجاح التحولات في هذه الدول الاربع مع تحديات كبرى في دواخلها يعمل ابناؤها على الاستجابة لها .. وقد نجحت بعد نهاية الحرب الباردة ، لتبدأ اصلاحات سياسية واقتصادية والسعي للدخول في الاقتصاد العالمي .. ان جيلا جديدا قد ترّبى على التعليم ، والاستثمار الاجنبي ، والاستهلاك المحلي ، وتنظيم المشروعات المحلية والعملاقة .. وتقول التقديرات بأن الهند لديها القدرة على النمو الأسرع بين البلدان على امتداد زمن قادم يقّدر ما بين 30 – 50 سنة .
ان التقارير التي نشرت حتى اليوم منذ العام 2004 ، تؤكد ارتفاع نسبة المدخولات لهذه الدول في تزايد مع تفوق الثروة السكانية ، وستنمو الطبقة الوسطي في مجتمعاتها حتى العام 2025 مع توازن النمو ، وبالرغم من ان الثروات ستزداد في العالم الاكثر تقدما ، الا ان تشكيلة بيركس لها تفكير من نوع آخر ، اذ تقف عاجزة امام مساواة الانسان في مستويات الدخل مع البلدان المتقدمة  الاقل سكانا .. ولكن هناك خطوات عملاقة في التقدم ، فالهند مثلا هي الاسرع نموا في المناطق الحضرية في العالم ، اذ سينتقل بحدود 700 مليون شخص الى المدن بحلول عام 2025 ، وهذا يتطلب ثورة في منجزات البنية التحتية .
 وهكذا ، فأن بريكس تعمل اليوم على اعادة تركيب المجتمعات من جديد وبشكل اوسع على غرار مجموعة الاسيان .. كما ان الجيل الجديد في بريكس امتلك الوعي لتوسع الرأسمالية في هذه البلدان، وقد بدأت هذه الليبرالية بانفتاحها الخصب ذات الوجه "شبه"  الإنساني تتعاظم في الأنظمة المقفلة سابقا كالصين أو في التجارب شبه الديمقراطية كالبرازيل . ويواجه الديمقراطيون الاجتماعيون "اليساريون" الذين كانوا يهيمنون على عدد من الحركات الاجتماعية، لا سيما في روسيا ، مشاكل مماثلة. واليوم باتوا يستلهمون محاولات "الإصلاح" في أماكن مثل البرازيل .. كما نلاحظ في بعض دول  البريكس المناهضة للولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في مسلسل منظمة التجارة العالمية. وتزداد حدة التناقض بحكم أن النمر الجريح واقع تحت الضغط، ليس فقط من جانب الجنوب، بل وأيضاً من جانب الاتحاد الأوروبي وربما أيضاً من جانب الصين التي أصبحت طبقتها الحاكمة مقتنعة إلى حد بعيد بأنها كانت امام طريقين قبل عشرين سنة ، لو سلكت الاول لاصبحت اليوم تعاني كروسيا .. ولكنها اختارت طريقها الثاني الذي سيوصلها الى الذروة في منتصف هذا القرن !
هنا ، أسأل سؤالا واحدا : اين هي دول ومجتمعات الشرق الاوسط برمته ؟ ثمة تجارب رائعة لمجتمعات تسعى بسرعة من اجل اللحاق بهذا العالم المتنافس ، ولكن ثمة معوقات ! فما الذي يعيق مجتمعاتنا قاطبة من الانطلاق مع الاخرين نحو الذرى ؟ ادع القارئ الكريم يفكرّ قليلا ..

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 24 سبتمبر 2008

51
الجغرافية الثقافية للعراق الحديث

أ. د. سّيار الجَميل

نص تحريري موسّع للمحاضرة الشفوية التي القاها الاستاذ الدكتور سيّار الجميل
 في الجمعية العراقية الكندية بتورنتو / كندا  امسية يوم الاحد 27 تموز / يوليو 2008


المحور الاول
المقدمات : اهمية الموضوع .. المنهج وفلسفة المعاني
ايها الاصدقاء
اسعدتم مساء ، وأشكر لكم حضوركم هذه " المحاضرة " ، كما اشكر الاخ الشاعر كريم شعلان على تقديمه لي وكلامه الجميل عّني الذي لا استحقه .. واشكر الجمعية العراقية الكندية بمدينة تورنتو استضافتها لي ، كما اشكر حضوركم ودعوني اختزل موضوع هذه الامسية في ثلاثة محاور : محور في فلسفة المعنى والتعريف وأهمية الموضوع ، ومحور في المضمون والتطبيق من خلال عرض جملة من المصورات والخرائط والاشكال العراقية  ، ومحور خلاصة الاستنتاجات والرؤية الجديدة من اجل تطوير المجال الحيوي للعراق ثقافيا وانسانيا حضاريا .

الموضوع : الاهمية والاهداف
 انني اذ اقدم هذا " الموضوع " الذي لا يمكنه ان يقدم في محاضرة ، بل انه ، كما يبدو ، عنوان كتاب كبير او مشروع جماعي ، فأنني اتمنى ان اقدم في هذا المساء الجميل : مجموعة أفكار جديدة حول موضوع نحن بأمس الحاجة اليه ، وخصوصا في العراق الذي يتميز بخصوصياته الجغرافية طبيعية كانت ام بشرية ام سياسية .. فكيف اذا كانت ثقافية ، وهو يستقطب من خلال تنوعاته الاجتماعية عدة الوان من الثقافات المتنوعة التي يمتد عمق بعضها الى الاف السنين ، حتى على مستوى اللهجات المستخدمة.. مقارنة بكل الانتهاكات التاريخية التي تعّرض لها العراق عبر مئات السنين ، وتأثيرها على كل بنيوياته الاجتماعية التي عبرّت عنها ثقافيا على كل الرقعة الجغرافية العراقية .
أن الموضوع حديث لا يتجاوز عمره العقد الواحد من الزمن ، بدأ في جامعة كولارادو ، ولم تزل تصدر حوليتها بالعنوان نفسه " الجغرافية الثقافية " ، اذ عالجت في اعدادها الصادرة حتى الان العديد من المفاهيم والاساليب المنهجية في دراسة هذا " الموضوع " ليس في امريكا وحدها ، بل في كل البيئات المزدحمة بالثقافات من هذا العالم . ولهذا فالمحاضرة هذه ، هي محاولة او مدخل ليس فيه تفاصيل واسعة ، ولكنها تعد مدخلا او مفتتحا لدراسة هذا الموضوع عراقيا . نعم ، لما كان العراق موضوعا مهما ، وهو سلسلة واسعة جداً من بيئات متنوعة في جغرافياتها التاريخية ، ولما بدأ العالم يهتم بالثقافة الموجودة في أي مكان من العراق ، فينبغي العناية بحياة جغرافيته الثقافية . ان اسلوب الحياة عند العراقيين يختلف من مكان إلى آخر ، كما ان البحث يراقب الحركة الانسانية والخطاب ( = مقول القول ) ووسائل التعبير وإختلاف الأزياء ، واللغة المستخدمة ، وإختلاف اللهجات ، والأفكار ، والنّخب ، ودور الطبيعة والتضاريس ، لذلك فان العراق هو من احوج بلدان الشرق الاوسط للدراسة والبحث المقارن . ربما نسمع صورة مشوهة عن العراقيين ، ولكن تبقى الآراء  تختلف حول الكثير من الأمور الحياتية : حول الموسيقى والغناء ،ولكل عراقي له ثقافة بيئية مختلفة ، وهذا لا ينسحب على النّخب المثقفة فقط .

فلسفة المعاني .. الاهمية
1.العائلة الجغرافية
ان الجغرافية الثقافية تنتمي الى عائلة العلوم الاجتماعية ، ولكنها علم جديد لم يمض على تطوره الا سنوات قليلة  ، ولعل اشهر مدرسة منهاجية تثري موضوعاته هي الكائنة بجامعة كلورادو والتي تصدر مجلتها الفصلية العلمية المعروفة باسم الجغرافية الثقافية ، فضلا عن اهتمامات بعض خبراء اليونسكو بهذا الموضوع الحيوي ، كما وصدرت في اماكن عدة من هذا العالم عدة عناوين لمضامين واسعة ومهمة جدا . ان الجغرافيات انواع : طبيعية وبشرية واقتصادية وسكانية وادارية .. ولكن الثقافية هي التي تعتني بثقافة الانسان والمجموع معا ، ومدى تأثير كل من المكان وعناصره في تكوين تلك " الثقافة " ومجال حركتها وحيويتها .
2. المضامين
ان الثقافة في حد ذاتها ، موضوع مثير جدا ، وتتذرع  بمفاهيم تعبّر عن حقائق تاريخية وواقعية  متنوعة من الحياة في اطار المجتمع الانساني ، وكسب العيش ، وأنماط المعيشة ، والكلام ، والتسلية ، والضرورات المستهلكه ، والأكل والفولكلور والازياء ، فضلا عن الحكايا ومواريث الرواية والتعبير الشعبي والموسيقى والغناء واماكن التلاقي الاجتماعي وطقوس الاعياد والمناسبات .. الخ . ولعل اهم من هذا كله وذاك ، الخطاب ومقول قول الانسان وتعبيراته عن واقعه واماله وطموحاته وتطلعاته وحبه وكراهيته وفشله ونجاحه ثم التعبير عن انتصاره وهزيمته .. علاقته مع تفسه والاخر ، المرأة والرجل والطفل  .. استقراره وهجرته .. حضريته ام ريفيته ام بداوته . وهنا ، يمكننا ، بطبيعة الحال ، ان ننقب اعمق لفهم 'كيف' و 'لماذا' ؟ باختصار : انه عمليه استقصاء ممتع عن اسلوب حياة اي مجتمع من المجتمعات ، والتعرف على عوامل تكوين الثقافة في جغرافية معينة .
3. الثقافة : قضية اشكالية عربية
الثقافة ، قضية اشكالية في رؤيتنا العربية لها ، وكما فسرتها في اكثر من مكان ، انها  Culture في معرفة ثقافة ( او : ثقافات ) اي مجتمع من المجتمعات . وهي       Education لأي مجموعة اجتماعية تمر بمرحلة التكوين ، حتى تصل مرتبة النخب المنتجة المبدعة Intellectual Elites  وهي التي تؤلف المشهد الثقافي لأي بلد في هذا العالم .. انها المعبرة عن روح العلاقات الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية ودوافعها ، والتي تؤدي بالنتيجة الى انتاج الثقافات ، او اعادة انتاج الثقافات ناهيكم عن حجم ما تقدمه من ابداعات ثقافية سواء على المستوى المحلي ام الوطني ام العالمي . 
4. مفهوم التباينات والموضوعات العراقية
ان مهمة الجغرافية الثقافية ليس التنظير لواقع ثقافي قي بيئة معينة او مجموعة بيئات ، بل يتجاوز كّل من ينظّر ويفكّر فيها محاولة وصف ، او 'مجرد وصف' الناس والاماكن الغريبه ، لتحليل الواقع ، بل التغلغل لاجراء التطبيقات والمقارنات والتساؤل من خلال 'لماذا' و 'كيف' تمنح الثقافة منحى انساني مجرد من كل العنعنات والصراعات الداخلية المتوارثة والمتوالدة . فعلى سبيل المثال ، كيف يمكننا ان ندرس في وقت مبكر اشكال الثقافات التي تنتجها اوضاع المدن التجارية او جوانب الحياة الزراعية الريفية في المجتمع العراقي ؟ ولماذا تباينت الثقافات المحلية تبعا لطبيعة جغرافية اي بيئة حضرية او قبلية ؟ وما تأثير ضفاف الانهار او اعماق الاهوار ، او بيئات الجبال او الاستبس او السهول ؟ ما دور المدن واشكالها القديمة سواء بيئتها داخل الاسوار ام خارج الاسوار ؟ ماذا يكمن وراء الهجرة من الريف والبادية الى اطراف المدن ؟ ما شخصية دجلة الثقافية المتحركة مقارنة بشخصية الفرات الهادئة ؟ ما تأثير السدود والري والجسور على الحركة الثقافية ؟ ما تأثير سكة حديد برلين بغداد البصرة ( بي بي بي ) وسكة حديد بغداد ـ كركوك ومحطاتهما على الطريق الجديد بعد زوال الطريق السلطاني العراقي البري القديم ( شرق دجلة ( بغداد ـ بعقوبة ـ كركوك ـ اربل ـ الموصل ـ آمد  نحو استانبول ) ، والمسلك النهري لدجلة وغياب الاكلاك والقفف النهرية ؟ ما تأثير المصانع الجديدة على غياب الحرف القديمة والاصناف الصناعية القديمة وبداية تشكيل النقابات العمالية ؟ وما دور الحركة العمالية ؟ ما تأثير الادارة والادارة المحلية على تنقلات الموظفين عبر ارجاء العراق  ؟ ما دور المؤسسة العسكرية في التلاقح الاجتماعي ؟ ما دور الكهرباء والاضوية والشوارع واشكال الحياة الحديثة في الهجرة من الريف الى المدينة حيث الاسواق والشوارع والمطاعم والسينماوات والكابريهات ؟ وصولا الى الادوار السياسية والاحزاب والتجمعات والكليات والحركة الطلابية ، وآثارها كلها في متغيرات الانماط والتقاليد في الجغرافية الثقافية العراقية ؟ ما دور الشركات الاجنبية والوطنية ايضا ، وخصوصا شركات النفط في كل من كركوك والبصرة وعين زاله ؟  ان الجغرافية الثقافية ينبغي ان تستخدم  فكرة كارل ماركس المسماة 'نمط انتاج' . وكيف يمكننا ان نفهم ما 'قيمة' الانتاج العراقي ،وتبيان طبيعة علاقات الانتاج العراقية ،  او بالاحرى 'قيمة' يتم انتاجها في مختلف البيئات العراقية المتنوعة بكل تناقضاتها بدءا بالقبيلة والعشيرة التي تحكم كل من الريف والبادية العراقيتين ، ومرورا بالبلدات والقصبات البلدية الصغيرة وانتهاء بالمدن التي تكتظ بالاسر والعوائل التي تؤلف نسيج المجتمع الحضري بكل مستوياته المتباينة المتنافسة لا بطبقاته الاجتماعية المتصارعة  ، مع نمو البورجوازية فيها وتعاظم المستويات لطبقة متوسطة مستحدثة مع تسارع نمو لدولة شبه رأسمالية.
5. منهج العمل
ان المنهج الذي يمكن الارتكاز عليه في دراسة موضوع الجغرافية الثقافية ، يقوم بتحليل الكيفيه التي تمنح مجتمعنا العراقي الذي كان يتصف بتسارع التحولات الاجتماعية فيه ، كي يغدو مجتمعا حديثا اعتمادا على عوامل عدة لا تحددها المستهلكات ولا الشعارات السياسية ، بقدر ما تحددها المنتجات ونمط الانتاج وعلاقات الانتاج .. وصولا الى قوة الحياة الثقافية . اننا امام تعقيدات غاية في الخصوبة العراقية لمجموعة العادات والتقاليد المتغيرة ، والاندفاع للتعبير عن الواقع عراقيا بالاغاني والاشعار والموسيقى والامثال والازجال والقراءات والتجمعات في احتفالات ومنتديات او مقاهي او مدارس وفتوة وكشافة .. الخ علينا ان نفهم كيف نصنّف الناس في علاقاتهم في ما بينهم ، وعلاقاتهم بـ 'الآخرين'. علينا ان ندرك طبيعة المرأة العراقية وقدراتها وساعات عملها وانتاجها في كل بيئة وما تتصف به من سمات انسانية .. علينا ان ندرك ذكاء الطفل العراقي ومزعجاته وفجاجة حركاته نتيجة فرط شيطنته وكثرة اسئلته ودلاعته او وكاحته ..
في هذا البحث لدينا مجموعة المصالح الرئيسية تكمن في الثقافة وفي الديموغرافيا. الثقافة الجغرافيين لأن المهم ، في دراسة التنوع وصلات ، وقضايا معنى ، والاتصال ، وتفسير تأتي في المقام الاول. الديموغرافيا من المهم أن الجغرافيين لان السكان هم الجوهر المادي للمجتمع. وينصب تركيزنا على ما يلي : سوف لا نخوض في اية مساءلة عن السلطة ، ولكن سنعالج المعرفه ومقاربة للهوية العراقية ، مع الابتعاد عن التركيز على التنوع وصلات بالنسبة لأوجه عدم المساواة والمكانيه في دراسة علاقات القوى المشاركة في الشبكات من المعرفه ، فضلا عن تفاصيل فضاءات التخيلات الجغرافي في قلب الهوية الوطنية .. واتمنى على من سيعالج موضوع الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ان يحلل الزخرف المكاني للمرض والوفيات على الرقعة العراقية مع تأثير السياسات والايديولوجيات في مسائل الصحة والسكان والحركة الاجتماعية وتأثير ذلك كله على قوة الثقافة العراقية وتمفصلها ديمغرافيا وجغرافيا .. وايلاء الاهتمام لنظم الاسرة العراقية .. المرأة والطفل   فضلا عن القوى الفاعلة في المجتمع : التجار والفلاحون .. الموظفون والعمال .. المبدعون والاشقياء .. العسكريون والسياسة .. السلطويون والايديولوجيات التي شكلت تأثيرا مباغتا احيانا وطويلا احيانا لكل قسمات المجتمع في جميع انحاء العراق.

6. العراقيون : كيف يفهم بعضهم بعضا ؟
علينا ان ندرك الفجوات الجغرافية التي تفصل كل ثقافة عن ثقافة اخرى ، فمن الصعب ـ مثلا ـ على ابن الاهوار في الجنوب ان يتعرف على ابن البلدات المسيحية او القرى اليزيدية في الشمال او العكس .. ثم نفرض التساؤلات عن الارادة الثقافية العراقية التي عاشت بعيدا عن مثقفي السلطة .. حرة مستقلة تطالب بحقوق الانسان كما كانت تبثه وسائل الاعلام وانتشار مبادئ الاعلان العالمي لاستخدام " الثقافة " بوصفها أداة لم يصلها واقع العراق حتى الان لما بعد الحداثة ، وكان مؤملا ان يندفع المثقفون العراقيون الحقيقيون للوصول الى ذلك لولا الانتكاسات والهزائم السياسية المريرة التي اودت بالعراق والعراقيين كلهم ودخول العراق في غيبوبة تاريخية طويلة كان العراقي المنتج والمبدع والمثقف ولم يزل حتى اليوم مهمشا مقصيا ، وخصما لدودا ، الا من سار في ركاب السلطة او تعّلق باذيالها .. لقد خسر العراق طاقات كبيرة جراء ممارسة  التهجين بسيطرة السلطة على مقاليد الثقافة لتغدو احادية ومؤدلجة .. وبدت تعاني من الصراع والعنف -- ثقافة مغالبة ومنغلقة على التوحش او الخوف او الممالئة والقيود الثقيلة .. لقد غدت التناقضات تأكل حياة العراق في كل جغرافياته وبيئاته .. وبدا المثقف العراقي نتيجة لذاك الوضع ، رخا ، ومهمشا ، او مداهنا ، وخائرا !
7. التشظي والهجرة والانقسامات
ونحن سوف لا ننقب عن نظريات وامثلة عن كيفية تشظي الثقافة العراقية وغلبة الفوضى عليها من خلال ركام التناقضات التي حشدتها في احشائها .. ولقد ساعد في ذلك هجرة العراقيين افواجا الى خارج العراق بفعل العنف السياسي والاجتماعي معا . وأخيرا ، فإننا سوف نتعلم عن منتج مختلف الحركات الاجتماعية ، والتي بدت تسبّح ليل نهار بالثقافة القومية والشعارات المخيالية التي لا علاقة لها بالواقع ابدا ، وتستخدم بشكل متزايد كل الوسائل للتأكيد على الهوية العربية والثقافة القومية مما سبب ردود فعل عنيفة ومكبوتة لدى القوميات والاطياف العراقية المختلفة . ان الجغرافية الثقافية تقوم اساسا على استخلاص الادوات المفاهيميه لكل ما في العراق من ثقافات متنوعة ندعو كل المختصين والعلماء العراقيين الاهتمام بها ، وفهمها ، وتحليلها ، وشرح مضامينها والبحث عن الجوانب الانسانية فيها ، وان لا نعتبرها مجرد وصف لظواهر ثقافية معينة ليس لنا فيها الا التنظير بعيدا عن اية تطبيقات عملية ، وهدفنا تمكين الاجيال القادمة من فهم واقع الحياة العراقية وادراك سايكلوجية العراقيين الخاصة .
قفلة المحور الاول
ان الموضوعات التي ساتطرق الى معالجتها في المحور القادم ـ مثلا ـ ، ستكون مفهومة من خلال منظور جغرافي ، حيث الفضاء والمكان ..واستعين بالخرائط والرسوم التي سنراها معا كي نحللها واحدة بعد الاخرى . انني لا استطيع ان اغطّي كل متطلبات المنهج لاتساع المضامين في الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ( لتحديد موضوعات يستفاد منها الباحثون مستقبلا ) : دراسة البلدات والقصبات والمدن العراقية وتحديد ثقافاتها قاطبة ، واين يكمن بروز المثقفين والتجمعات والنخب  .. ؟  وما تأثير كل من المجتمع الرعوي ، والمجتمع الزراعي ، والمجتمع الحرفي ، ثم الغرف التجارية ، والمسالك ، والطرقات ، والمحطات ، والاسواق ، والجمارك ، والشركات ، والنقابات ، والاصناف ؟ ايضا : ما طبيعة الاغذية ، والملابس ، والازياء ، والموسيقى ، والهندسه المعماريه ، والتقاليد ، والاديان ، واللغات ، واللهجات ، والطقوس ، والعادات ، والتقاليد ، والعلاقات ، والشراكة .. الخ ؟  ما الفرق بين مجتمعات دجلة المحلية عن مجتمعات الفرات المحلية ؟ ما طبيعة العشائر العربية والكردية والتركمانية وغيرها .. ؟ واخيرا ، ما موقع العراق في الجغرافية الثقافية للعالم ، عندما نعلم بأن هناك في العالم حوالى 200 دولة مختلفة واكثر من 6000 من لغات متميزه. واللغة ، كما هو معروف ، هي الاساس في التكوين الثقافي ، ثم اخيرا موقع الثقافات العراقية ازاء ما يقرب من 6000 من ثقافات العالم المختلفة ايضا في افريقيا واسيا واوروبا والامريكتين واوقيانوسيا.

المحور الثاني
المضامين الاساسية

ننتقل الان الى المحور الثاني الذي نعالج فيه بعض المضامين الاساسية ، معتمدين المنهج الذي رسمناه آنفا في بناء صورة واضحة عن المكونات البيئية والجغرافية في الحياة الثقافية العراقية الحديثة التي ألفناها في القرن العشرين ، وسترافقنا هنا مجموعة من الخرائط والرسوم التي ستجدونها معروضة امامكم على الشاشة من خلال الباور بوينت :
1. بقايا ثقافات كلاسيكية
يمكننا استنباط بعض الرؤى والافكار من خلال التأمل طويلا ليس في خارطة العراق الحديث ، وانما في العقلية التي بلورتها جغرافية العراق الحديث ، وما انتجته عبر قرنين من الزمن خصوصا ، ونحن نعلم ، بأن العراق قد اقتطعت منه بعض المناطق والاقاليم اذا ما قارنا بنيته الجغرافية التي خلقتها طبيعته الجغرافية منذ آلاف السنين .. ولكن اذا كانت الحضارات الكلاسيكية العراقية التي عاشت خلال العصور الكلاسيكية قد اندثرت اليوم ، فان بقايا ثقافات عراقية لم تزل آثارها تتوزعها العديد من المناطق العراقية اليوم ، ويتداولها أناس يتوزعون في مجموعات معينة ، وايضا لم تزل تتوارثها منذ ازمان قديمة ، وهي ملتصقة بارضها في اماكن عدة من العراق اليوم . واذا كان هناك أي دفع باتجاه تقسيم العراق الى كيانات سياسية قزمية متعددة ، فان جغرافيته تأبى الا ان تبقى موحّدة بفعل عواملها القوية التي ترتبط واحدتها بالاخرى ، وخصوصا وثاق الرافدين دجلة والفرات .
2. التنوعات تخلق الخصوصيات
ان التنوعات الجغرافية قد انتجت الوانا من الثقافات العديدة في كل جزء من اجزاء العراق الجغرافية لا الادارية او الاقليمية ،بالرغم من اعترافنا ان ثمة ثقافات محلية تمتاز بها كل مدينة او حاضرة عراقية ، وقد استقطبت نوعا من ثقافة محلية لتقسيماتها الادارية التي توارثتها منذ تأسيس الدولة العراقية في القرن العشرين على ايدي البريطانيين . ولقد كانت ثقافات العراق محلية بالوان الطيف في كل من ولايات الموصل وبغداد والبصرة ، ومن ثم انبثاق شهرزور الملحقة تارة بالموصل وتارة ببغداد .. ولكن المحليات اخذت بعدا وطنيا بولادة 14 لواءا على العهد الملكي ، ومن ثم 18 محافظة على العهد الجمهوري . ولنا ان ندرك طبيعة تنوع الثقافات المحلية في كل اقليم من اقاليم العراق الثلاثة الادارية ، ومن ثم تمفصلها الى تجزئة ثقافات اصغر ليست مجهرية ، بل يمكن رصد طبيعة كل واحدة منها حسب البيئة التي عاشت فيها ، ومن يمثلها من الناس الذين قد تكون لهم خصوصياتهم حسب البيئة التي نشأوا فيها .. ويمكننا القول ، ان معرفة مجهرياتها حتى وان كانت في اي قرية قصيّة ، او هور فسيح الاعماق ، او في اعلى الجبال ، او في امتداد البوادي والصحراوات .. الخ  ان ثقافات العراق المحلية والجهوية بكل ما تتلّون به من الوان المدن او البلدات او القصبات او النواحي او القرى او ضفاف الانهار او جزرات الاهوار او عند البحر او مناطق السهوب .. ان التنوعات العراقية في الجغرافية تخلق خصوصيات ثقافية  متعددة ..
3. التباينات الهائلة
هي متباينة على اشد ما يكون التباين ، خصوصا اذا راقبنا علاقات الانسان بالارض ومدى تأثيرها عليه ، وعلى عاداته وتقاليده وفولكلورياته في الاشكال التي نألفها ، او التي كنا قد الفناها .. ولكن ثمة مضامين داخلية تحدد البيئة والجغرافية طبيعة اي انسان ازاء العالم .. ان التنوع الثقافي في العراق يعكس ثقافات قديمة دينية ودنيوية ، حضرية وريفية وبدوية ، عربية وكردية وتركمانية ، زراعية وحرفية مهنية وتجارية .. الخ  ونلمح تنوعات غاية في خصب الفولكلوريات ، وتنوع اللغات واللهجات والعاميات المستعملة في اي شبر من مدينة عراقية هي متحف شعبي . ويكاد يكون شمال العراق صاحب ثقافات متنوعة متعددة ، لكل منها الوان مختلفة عن ثقافات الجنوب العراقي .. لا يمكن التمكّن من تلك " الاختلافات "  بسهولة ابدا ، وتنتشر في جغرافية العراق عدة مدن كبيرة ، لكل واحدة منها ثقافتها الخاصة بها ، وهي كلها مراكز حقيقية لثقافات ربما تكون غير متشابهة على الاطلاق . ولكن ؟
4. الانساق العمودية للعراق : نظرية في الثقافة
1/ التعريف بالانساق
يمكننا القول ان ثقافات شمال العراق ووسط العراق وجنوب العراق لا تستقيم والنظرية التي اراها على نحو مختلف تماما ، تلك التي عالجتها قبل سنوات ، اذ قلت :  بالثقافات الافقية العراقية والتي اختزلتها بعالم شرق دجلة اولا ، وعالم ما بين النهرين دجلة والفرات ثانيا ، وعالم غربي الفرات ثالثا .. انها جميعا تشكّل بنية الثقافة العراقية . ان هذه التقسيمات الجغرافية هي ثقافية ، وليس لها اية علاقة بالتقسيمات الطائفية والعرقية التي يعتمدها بعض العراقيين اليوم اجندة لتقسيم العراق ، وجعله اشلاء سياسية .         
2/ افتقاد التجانس الثقافي
ان بنية الثقافة العراقية تختزن في داخلها تنوعات فاعلة تعمل على الارض وهي متعايشة برغم انعدام تجانساتها .. ان الانساق الثقافية العراقية غير متجانسة ابدا ، ولكنها مترابطة مع بعضها البعض ترابطا عضويا ولا يمكنها ان تنفصم ابدا ، فالنسق – اي نسق – لا يمكنه ان يحيا لوحده من دون ترابطه بالنسق الاخر . دعونا نتوقف قليلا عند الانساق المتباعدة اذ اجد ثمة افتراقات واسعة داخل بنية المجتمع العراقي كانت سببا اساسيا في انتاج تناقضاته التي لا تنضب ابدا ، وهي بحاجة الى سياسات مجّردة من كل ميول او اتجاهات .. من كل ما يتعلّق بتعاطف قبلي او بيئي او جهوي ..
3/ الثلاثية بديلا للثنائية مرة اخرى
لنعترف ان ليس هناك اية انسجامات ثقافية بين ثقافات المدن والريف والبادية ( واذا كان الراحل الكبير علي الوردي قد اعتمد في نظريته العراقية على ثنائية البداوة والحضر متأثرا بابن خلدون قبل اكثر من ستة قرون ، فأنني اعتمدت في الابعاد الثلاثية في نظريتي العراقية : المدينة والريف والبادية .. وقد وافقني الراحل الوردي قبل رحيله على ما فكرت وكتبت ) . من طرف آخر ، ينبغي ان نعترف ان ليس هناك انسجامات بين ثقافة عرب الشمال عن عرب الجنوب وبين ثقافة ابناء الجزيرة الفراتية عن ابناء الفرات الاعلى عن ابناء الفرات الاوسط عن ابناء الجنوب .. بل لنعترف –ان اسرار قوة الثقافة العراقية في الوانها ومصادرها وطبيعة تكويناتها ومنتجاتها لاجزاء جغرافية طولية ثقافة شرق دجلة اللواحقية التعددية وثقافة ما بين النهرين الاساسية والمختلطة وثقافة غرب الفرات البدوية .
4/  انسجام الاساليب
لنعترف بأن ليس هناك انسجامات ثقافية في اسلوب حياة العراقيين بين ثقافة المسيحيين العراقيين الارامية الكلدانية ام السريانية ام اليعقوبية ام الاثورية .. وثمة ثنائية ثقافية للاكراد السورانيين والاكراد البهدينانيين .. وتباين واضح عن ثقافة الكرد الفويليين المتنوعة .. ثمة ازدواجية بين ثقافة التركمان المدينية والقروية ، او تركمان شرق دجلة عن تركمان غرب دجلة .. وهناك ثقافة الصابئة العراقيين النهرية العريقة التي تختلف عن ثقافة اليهود العراقيين القديمة .. هناك ثقافة اليزيديين المغلقة سواء كانت شرق دجلة ام في غربه .. عن ثقافة الشبك المتشابكة بين الثقافات المحلية عن خصوصية ثقافة الارمن الاقلية العراقية .
5/ خصوصيات المدن الكبيرة
لنعترف بالوان الثقافات المحلية والجهوية والهامشية .. ثقافة البغداديين الملونة بشتى الالوان وثقافة البصرة الجنوبية التي تمثّل رأس الخليج ، وثقافة الموصليين بخصوصيتها الجامعة للاطياف ، وثقافة محليات الكركوكيين والنجفيين والكربلائيين واهل الحلة واهل الناصرية واهل الكوت وديالى والدليم .. ثقافة اهل الجبل وثقافة اهل الهور ( = المعدان ) وثقافة العشائر وثقافة القبائل وثقافة القرويين وثقافة البادية وثقافة مدن الفرات الاعلى وثقافة قرى دجلة الاوسط .. الخ وكل هذه الثقافات التي يتمثلها ( اهل الخارج ) في عرف ابناء المدن .. تصبح هجينة وسط خصوصيات المدن الكبرى .. وما يمضي جيل او اكثر حتى تندمج مع ثقافات المدن التي تشوّهت كثيرا في السنوات الخمسين الاخيرة .

5. تفاصيل الانساق العمودية :
أولا: ثقافات شرق دجلة : التعددية اللواحقية
ان ثقافات شرقي دجلة ومحلياتها المتنوعة بكل ما تجمعه من قرى ونواحي واقضية والوية وقصبات وصولا الى محافظات العهد الجمهوري الاخير ، تكاد تكون متنوعة ومتباينة بين مكان وآخر ليس بطبيعتها بين الجبال والوهاد هذه المرة ، بل بين علاقات الانسان بالارض ومدى تأثيرها عليه ، وعلى عاداته وتقاليده وفولكلورياته .. وهذا ما نجده في جبال كردستان العراق التي كانت تسّمى بديار الاكراد واهم مراكزها الثقافية : العمادية وبامرني وماوران والسليمانية واربيل وقد تميزت بحياتها الثقافية وكل توابعها من كردستان العراق ، وبرز فيها العديد من الادباء والعلماء ، كما ونشطت في تلك المراكز العلاقات مع مدارس وتكايا مدن العراق ، واشتهر الاكراد العراقيون بطرقهم الصوفية المتعددة في اغلب مدنهم ، واشهر الطرق هي النقشبندية كما ويشهد تاريخ العلاقات بين الاكراد والعرب والتركمان خصوصا على امتداد التاريخ الحديث صفاء ومودة ومحبة ونشاطا مشتركا وحيوية فائقة لا يمكن ان ينكرها احد .. كما وان حياة الاكراد كانت متصلة اتصالا عضويا ببقية المدن القريبة منهم وسكان تلك المدن ، فضلا عن تقاليد ثقافية يختص بها الاكراد بكل تنوعاتهم الجغرافية واللغوية ..  وفي سهول اربيل ونينوى وحويجة كركوك حيث تنتشر الثقافات السريانية ( = الارامية ) الآثورية والكلدانية والكردية والشبكية واليزيدية والجرجرية .. نزولا الى اراضي كركوك ولواحقها التركمانية ، اذ تأتي ثقافة التركمان العراقيين المتميزة بنكهة خاصة وخصوصيات موروثة منذ اكثر من الف سنة وهي اكثر اتصالا ببغداد بحكم انتقال الناس واستقرارهم فيها قبل ان تكون رئة للاكراد ايضا ، واذا كان وجود الاكراد ببغداد لاسباب اقتصادية وتجارية ، فان وجود التركمان فيها لاسباب تاريخية وثقافية بحتة .. وصولا الى خانقين وبعقوبة حيث اللور الفويلية ومجموعات من البختياريين والهمدانيين .. ومرورا بالكوت وعشائر ربيعة وانتهاء بالصابئة المندائيين والمعدان مع قبائل عربية متوطنة منذ القدم وقد تعايش الجميع ضمن مشتركات لا حدود لها ، او ضمن احترام خصوصيات الاخر.. هذا العالم يجمع كل المزدوجات الدينية والدنيوية .. والحضر والريف ، مع بدو عرب واكراد ، مع حرفيين في مدن تركمانية وتجارات محلية في قاطع ديالى انتقالا الى زراعات الاكراد المتنوعة للرز والتبغ .. خصب في الفولكلوريات والموسيقى والاغاني والمقام وتنوع واسع للهجات واللغات والعاميات المستعملة ليس في العربية وحدها ، بل حتى في التركمانية العراقية والبهدانينية والسورانية والكرمانجية ، فضلا عن الارامية المستخدمة في بلدات وقصبات سهل نينوى وغيرها من اللغات المحلية ، مع وجود يزيدية عين سفني (= الشيخان ) وبحزاني وبعشيقة الذين يتصفون بمنتجاتهم الزراعية والحيوانية وتتجاذبهم ازاء عربية وكردية مع اختلاف واضح عن يزيدية جبل سنجار الاكثر انغلاقا مع تميز واضح في منتجاتهم من الالبان والاثمار الجافة ، وسهل نينوى هو عالم عجيب من البشر المبدعين زراعيا وكل ما ينتج ويصّنع زراعيا ، وكما يسمّى بـ ( الفليحيين ) رجالا ونساء ولهم فولكلورياتهم وتقاليدهم وحركتهم الدائبة من والى مدينة الموصل يوميا ، فهي مرتعهم من العمل اليومي او الليلي ، اما الشبك عند اطراف الموصل الشرقية ، فهم لا يختلفون في حيويتهم ولا في انشطتهم وخصوصا في رعاية الثروة الحيوانية .. ان كلا من سهل نينوى وسهل اربيل يعتبران من اهم سهول العراق ليس بسبب خصبهما فقط ، بل بسبب كثافتهما السكانية المتميزة بانشطتها .. ان امتدادات شرق دجلة متنوع ايضا في مدنه وتقاليدها ويتميز هذا العالم ببراعة فنونه ، ودقة اعماله ، والمرأة تعمل صباح مساء .. ويكاد يكون عالم شرق دجلة صاحب ثقافات قديمة وهي المتمفصلة بين حضارتين اساسيتين في المنطقة : العربية في العراق والفارسية في ايران .. ليس هناك مركزا حقيقيا لشرق دجلة ، فثمة مراكز حيوية عدة .. واستطيع القول بأن الاندماج كان كبيرا في وسط العراق بحكم مركزية بغداد .. واذ تضيق المسافة في قلب وادي الرافدين بين نهري دجلة والفرات .. وكذلك الحال بالنسبة لمركزية الموصل لشمال العراق وقد كان لاستراتيجيتها الاقتصادية والتجارية الدور الكبير والمؤثر على اصقاع شرق دجلة المتنوعة والمختلطة لاقوام عربية ريفية وشبكية ويزيدية وكالدانية وسريانية وكردية بهدينانية وتركمانية .. وما يتفرع من كل هذه الاصول من ثقافات تجد الوانها شاخصة في الموصل التي تعتبر متحفا لثقافات لا حصر لها ابدا .
ثانيا : ثقافات ما بين النهرين
اما ثقافات عالم ما بين النهرين دجلة والفرات ، فهي الوسيطة والاكثر عروبة  وهي الثقافات التي اغترفت من كلا النهرين .. انها الثقافات المحصورة بين مجرى النهرين ، وهي مليئة بالتناقضات على مساحة تكبر وتصغر حسب الحركة الجغرافية والامتداد الجغرافي للنهرين .. مراكز هذا العالم يبدأ بالموصل ويمر عبر بغداد الكرخ وصولا الى ابعد نقطة حيث يلتقي فيها النهران ،وتتلون الطبيعة التي تنبسط بشكل كبير على امتداد بلاد الجزيرة الفراتية حيث ثقافة زراعة القمح .. هناك سنجار جبلا وقصبة ومنحدرا في الشمال الغربي والتي تنبسط الارض فيها وصولا الى حوافي الفرات .. بلاد الجزيرة الفراتية لما بين النهرين هي النصف العراقي الاول ، وقاعدتها الموصل ، وهو اشهر مناطق العالم بزراعة اجود انواع القمح والشعير في العالم .. في حين يمتد النصف العراقي الثاني من وسط حتى جنوبي بغداد والمدعو ( ارض السواد ) . ولا يمكن مقارنة الكرخ بالرصافة ، فاذا كانت الرصافة قد اتسمّت بطابع شرق دجلة ، فان الكرخ قد اتسم بطابع غربي الفرات اكثر من دجلة نفسه .. ان حاصل جمع الكرخ بالرصافة قد شّكل بغداد العظيمة التي كانت مركزا حضاريا لعدة قرون ، وكانت ابرز عاصمة في الشرق الاوسط كله . وهي قوية صلدة في مواجهة التحديات عبر التاريخ ، ولكنها سريعة الاستجابة لكل التحديات ، اذ سرعان ما تمتص احزانها لتبرز وتشع من جديد . ان نقائض ثقافات العراق كله لما هو شرق دجلة ولما هو بين النهرين ولما هو غرب الفرات قد اجتمعت كلها في بغداد حيث تزدحم ثنائيات الاشياء ، وتجدها شاخصة في ثقافات بشرية لا حصر لها . لقد كانت بغداد عند القرن العشرين متحفا ثقافيا لا يمكن تخيله ، فلقد جمعت كل التنوعات الثقافية العراقية ، فهي مركزا يجمع كل الجيش ، وهي مركز يجمع كل الكليات ، وهي مركزا يجمع كل الشركات والاسواق ، وهي مركزا للسلطة وكل الاقاليم ..
نعم ، كانت بغداد مركز جذب للثقافات المتنوعة .. واستقطب كل من الكرخ والرصافة ثقافات المحيط الواسع الذي يدور حول بغداد .. ويقترب عند نقطة بغداد كل من نهري دجلة والفرات ، اذ تعد بغداد مركزا حضاريا حيويا وقلبا سياسيا نابضا بالحياة من قبل شريانيين أزليين للعراق نفسه .. عند نقطة بغداد ، تقترب ثقافة كل من النهرين على درجة كبيرة من المقاربة الجغرافية ، ولكن على درجة كبيرة من التضاد الثقافي ، فثقافة دجلة هي غير ثقافة الفرات ، ودوما ما تصطدم الاولى بالثانية على امتداد التاريخ ، وتخلق الثانية تحديات صارمة للاولى .. ثم تستجيب بغداد لتحديات هذه مع تلك ، لتمر بمراحل زمنية صعبة ، ومن ثّم تبدأ دورة تاريخية جديدة ! وكما هو حال بغداد ، يبدو حال الموصل كذلك اذ ان حركة الموصل وانشطتها المحلية تتجه نحو شرق دجلة دائما ، فالعلاقة عضوية حتى تفوق في القرن العشرين الجانب الايسر على الجانب الايمن بمساحته ، ولكن انشطتها الاقليمية والدولية ، فكانت مع غرب العراق وخصوصا مع بلاد الشام والاناضول .. واذا كانت تكريت لها دور في تاريخ العصور الوسطى ، فلقد مات دورها في العصر الحديث .. اما اغلب المدن الجنوبية لما بين النهرين ، فلقد عاشت ادوارها الكلاسيكية منذ سومر وأكد وبابل , وآشور ,, وصولا الى العصور الوسيطة اكثر قدرة ونشاطا من العصر الحديث ، اذ بدت مجتمعات ما بين النهرين اكثر انسحاقا ، واستطيع تقسيم كل من القسمين الاساسيين : بلاد الجزيرة وبلاد ارض السواد الى اربعة اقسام ، بلاد الجزيرة : القسم الشمالي من توابع الموصل والقسم الجنوبي من توابع بغداد . اما ارض السواد فهي الاخرى تنقسم الى قسمين اثنين يفصلهما خط تمتد عليه القصبات والبلدات التالية بدءا من الكوت الى كوت الحي الى قلعة سكر الى الرفاعي الى الشطرة الى الغراف وصولا الى الناصرية .  وآخر ما يمكنني الوقوف عنده من ثقافات ربما تكون مغلقة وربما كانت مهمشة هي ثقافة اليهود العراقيين الذين كان لهم دورهم ونشاطهم في العاصمة بغداد سواء في السوق ام في الفنون ، وكانت علاقتهم ببقية الناس على افضل ما تكون وخصوصا في السوق كابرع التجار والمهنيين والاطباء .. ويسجل البعض من اليهود العراقيين في ذكرياته صفحات مؤلمة لما كانوا يصادفونه من تهميش وسخرية واعتداءات من قبل بعض المتعصبين .. اما ثقافة الارمن العراقيين ، فهي مندمجة في العمل مع الاخرين ، ولكن لهم حياتهم المقفلة على انفسهم وتقاليدهم ولغتهم في بيوتهم .. ولم يصادف الارمن في العراق الا المودة والمحبة ، فكانوا ان اندمجوا مع العراق وخصوصا في الموصل وبغداد .
ثالثا : مناطق غرب الفرات
اما ثقافة غرب الفرات ، فهي ثقافة متسعات او فضاءات مندفعة لمئات الكيلومترات في اعماق البوادي .. ان الفرات هو الذي يستقبل في العراق كل ما يأتي من الجزيرة العربية ومن بلاد الشام ، فالاندفاعات نحوه كلها عربية ، وهي بدوية في الغالب منذ قبيل فتوحات الاسلام حتى يومنا هذا .. ومن هناك طريق زبيدة للحج الى مكة المكرمة .. ان ثقافة غرب الفرات هي ثقافة نهرية صرفة للمدن التي وقعت على شواطئه بدءا بدير الزور وانتهاء بالاهوار ، مرورا بالبو كمال وعانة وراوه وهيت وحديثة والدليم وصولا الى الفلوجة وابي غريب عند ضواحي بغداد الكرخ .. اي بمعنى ان السكان قلما يستوطنون بعيدا عن النهر على عكس سكان شرق دجلة الذين ينتشرون في كل الارض .. فاذا كانت ثقافات شرق دجلة ليست نهرية بالضرورة ، فان ثقافات غرب الفرات هي نهرية بالضرورة .. ولا حياة لما بعد الفرات .. اننا ان راقبنا حياة العراقيين لما يتدنى من الفلوجة والحبانية وبحيرتها ، لوجدنا ان حياة عراقية تذكر لولا العتبات المقدسة في كربلاء اولا والنجف الاشرف ثانيا وبينهما الكوفة ، وبين بحيرة الرزازة وصولا الى دير الرحبة ، فهي مفازات صحراء خالية من الحياة . ولعل ابرز ما يمتلكه غرب الفرات من ثقافة عراقية تتمثّل بتقاليد الشيعة العراقيين وطقوسهم العريقة .. فضلا عن كون العتبات العراقية المقدسة كانت وستبقى محجا للملايين من المسلمين الشيعة في العالم ، اضافة الى وجود المدارس الدينية والفقهية والحوزة النجفية كمركز حقيقي من مراكز الحضارة الاسلامية .
رابعا : جامعة الثقافات الثلاث
وتكاد تكون ثقافة البصرة هي جامعة للنهرين في نهر عراقي عظيم ثالث هو شط العرب ، ولكن الثقافات اقل تنوعا مما وجدناه في بغداد مثلا ، ولكن تنوعها الثقافي قد اكتسب مواصفات البر والنهر والهور والبحر ، وخلق منها انفتاحا على العالم ، ولكنه انفتاح جزئي لا يبتعد اكثر من المدينة نفسها ولواحقها المتنوعة كالتنومة غير العشار ، والزبير غير الفاو .. ان البصرة نافذة العراق على العالم ، وبالرغم من وقوعها على شط العرب ، الا ان البصرة هي البوابة الحقيقية لكل من تركيا وايران وبلاد الشام والعراق نحو الخليج والعالم كله . ان ثقافة البصرة هي انعكاس حقيقي ايضا لمجتمعها المتنوع والذي تسيطر عليه عروبة الناس من خلال امتداد اصولهم وتعلقهم بثقافتهم وفولكلورياتهم .. لقد كانت البصرة عند مفتتح القرن السادس عشر قد سماها العالم بـ فينيسيا الشرق نتيجة انفتاحها على العالم ومركزها التجاري في العالم ، ولكنها صادفت تحديات تاريخية على امتداد تاريخها الحديث ، ولقد انتعشت في القرن العشرين ، ولكن سرعان ما عانت من جغرافيتها كثيرا وخصوصا في تماسها مع ايران منذ اندلاع الحروب مع ايران حتى اليوم . وتشهد البصرة ولادة عدد كبير من المبدعين والمختصين والنشطاء والتجار ورجال الاعمال على امتداد القرن العشرين ، واغلبهم كان ينضج في البصرة ويبدع ببغداد ، كما هو حال اغلب مثقفي العراق في القرن العشرين .. اذ كانت شخصية بغداد طاغية على كل العراق .
ثمة جيوب ثقافية مغلقة وقديمة تمثّلها " الاهوار " في جنوب العراق ، والتي كانت مثوى انعزالي لسكان قدماء احتموا بالاهوار وعاشوا وسط المياه منذ الاف السنين ، بدءا بهور السعدية وهور السنية وهور الحويزة وهور الحمّار .. وتكاد تكون ثقافة جنوب العراق ، ثقافة جامعة نظرا لما تضمنته كل من مضامين دجلة والفرات في مكوّن واحد اسمه شط العرب ، فخصوصيتها لا دجلوية ولا فراتية ، بل انها خصوصية شط العرب نزولا نحو البحر .. علما بأن حدودها القديمة الادارية مع ولاية بغداد لا تبعد كثيرا في اعماق اتجاهين اثنين لا يشكّلان الا تحدّيا لخصوصيتها ، اولاهما امتداد العمارة عبر الاهوار باتجاه دجلة ، وثانيهما امتداد المنتفك عبر البر والاهوار باتجاه الفرات . وربما أجد اقترابا ثقافيا للبصرة مع دجلة والعمارة اكثر بكثير مما اجد ذلك باتجاه سوق الشيوخ والناصرية . ولا يمكننا ان ننسى ثقافة الصبّة المندائيين الذين يتميزون بكل العالم بقدم دينهم وعراقة وجودهم بالعراق وتواصل ثقافتهم المندائية .. انهم يعشقون العمل والماء والقراءة ..

المحور الثالث

الحصيلة : تحليل النتائج .. وعرض الاستنتاجات . ماذا نستخلص ؟
1. انسان ما وراء وما بين نهرين ..
اننا الان امام عدة مصورات وسلايدات لتوضيح أنواع كثيرة جدا من المعلومات على الصور الفضائية والخرائط والمصورات الارضية . لقد كان تأثير بناء المدن على ضفاف نهري دجلة والفرات ، ودجلة كم تغنى به الشعراء والأدباء وان الإغريق سموا دجلة ( تايكر / تايكرس ) ،  فله خواص النمر في سرعة جريانه وعذوبة مائه ، وهو مدمّر إذا فاض في الربيع إكتسح كل شيء ، معطيا للعراق سمته الحضارية ، لمناطق شرق دجلة تختلف عن مناطق ما بين النهرين ، وكانت مناطق إستقطاب للآشوريين ، وفيها من العادات والتقاليد لا حصر لها ، وأراضي خصبة جدا ، فيها البساتين والقرى ، وإنسانها منتج وحضاري إيجابي ، مقارنة بإنسان غرب الفرات الذي يقل إنتاجه نظرا لقساوة تربته وصحرائه ، هاربا إلى البادية دوما ، فنهر الفرات يدافع دوما ضد هجمات الاعراب وهو هادئ ومسالم ويسحب البداوة إلى العراق ، ونهر دجلة متحرك وسريع ويدعو الناس للإستقرار  والترسخ في الثقافة والأرض والتجارة والاتصال .
   ونرى بغداد الواقعة بين النهرين عندما يقتربا من بعضهما ، فهي عاصمة ثقافية متطورة ، والرصافة إتسعت والكرخ بقت على حالها لأزمان ، وأصبح الإنسان لا يفارق النهر وخصوصا دجلة ، وكانت ملايين النخيل منذ سومر حتى دمرتها الحروب الاخيرة ، كما تحطمت جغرافيات عراقية واماكن استقرار ومعابد .. اننا امام تباين ثقافات ويتضح تنوع الأزياء العربية والكردية واليزيدية والتركمانية والصابئة المندائيين والمناطق المسيحية لها أزياء معينة ، والبدو ، وما تبقى من تلك الآثار إندثر معظمها ، فضلا عن الموسيقى . ان الفولكلور هو صورة انسانية معبرة عن هذا التنوع العراقي الخصب ، وهو تعبير يوحي لنا بتباين متسع من ناحية العادات والتقاليد وبالتالي رسوخ ثقافات عريقة .. والثقافة في معناها العربي القديم مستنبطة من ثقف الشئ ، اي : حذق به ، ولقد وجدت ان كل منطقة عراقية قد حذق الناس فيها باشياء معينة ، وباستطاعتنا تصنيف ذلك بالتفصيل اذا تأملنا كل بيئة معينة من العراق وطبيعة ثقافة الناس فيها ..

2. العراق ومصر :
انني اعرض امامكم جدول بالارقام والنسب المقارنة بين كل من مصر والعراق ، وان الثقافة في الشرق الأوسط ترتكز على ركيزتين اساسيتين هي الثقافة في مصر والثقافة في العراق ، فظلت المنافسة بين الثقافتين عبر التاريخ إلى يومنا هذا في مجالات الفن والادب والمعمار والعلوم الإجتماعية والصحافة وعوامل الإنتاج  ، وكان العراق يقود ، وعندما يضعف تأخذ مصر دوره ، فتبدو هي التي تقود ، ويتوضّح  ذلك من خلال مخطط بياني للمقارنة بين مصر والعراق . ان التنافس التاريخي بين المركزيتين سياسيا وحضاريا قد اضاع جملة هائلة من القدرات .. لكنني اجد ان مصرا كانت دوما ملاذا للعراقيين عندما يهربون من العراق ، ولكن لم يكن العراق في يوم من الايام ملاذا للمصريين ابدا !
نبقى ضمن اطار معرفي كما ترون من تحليل عدة ظواهر اساسية تميز بها العراق ، فافترق عن غيره من البلدان .. فاذا ما قارنا بين العراق وبين مصر في جغرافيتهما الثقافية ، سنجد ان الالوان قليلة في مصر مقارنة بالالوان التي تحصى في العراق مع كونها صاخبة ومفترقة .. وهذا الامر دعاني الى ان اتابع مقارنة بين البلدين منذ العصور الكلاسيكية حتى اليوم .. اين هو التفوق في التنوعات العراقية ؟ اين هي الديمومة في الارث الحضاري ؟ كم من اللغات القديمة المستخدمة هنا مقارنة بهناك ؟ .. الخ

3. دعوة من اجل اعادة مركزية بغداد الثقافية في العالم
ان الجغرافية الثقافية للعراق الحديث تعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك ان مركزية بغداد الحضارية والثقافية معا مؤهلة لأن تكون واحدة من المدن الثقافية في العالم اليوم .. والتي غاب اسمها من التصنيف العالمي للثقافة البشرية .. انني بهذه المناسبة ادعو الى العمل الدولي من اجل جعل بغداد مركزا ثقافيا في التاريخ الى جانب المراكز الثقافية الاخرى في العالم ، وها انا اعرض امامكم خارطة المراكز الثقافية في العالم وعلى العراقيين اليوم ان يثبتوا للعالم في القرن الواحد والعشرين على ان العراق يمكنه ان يكون من خلال مركزية بغداد واحدا من بؤر الثقافة في العالم . فهل باستطاعة العراقيين تحقيق هذه الغاية في ظل واقعهم المهترئ اليوم ؟ ان العالم الذي يهتم بالعراق اليوم استراتيجيا وسياسيا ، وقبل هذا وذاك اقتصاديا كونه من اغنى بلدان العالم بالبترول ..لابد للجيل الجديد ان يعيد التفكير في خصبه الثقافي من جديد ليكون واحدا من مراكز العالم الثقافية .
4. العراق هو الجاذب والطارد 
ان اسلوب الحياة عند العراقيين يختلف من مكان إلى آخر ، كما ان مثل هذا البحث في الجغرافية الثقافية ، يراقب الانسان العراقي وخصوصيته في اثراء الحركة الانسانية ، وقدرته في الابداع البشري والخطاب الادبي ووسائل التعبير وإختلاف الأزياء ، واللغة المستخدمة ، وإختلاف اللهجات ، ودور المرأة العراقية في القرن العشرين ، والأفكار الجديدة ، والنّخب والجماعات والتشكيلات الثقافية ، ودور الطبيعة والتضاريس ، لذلك فان العراق هو من احوج بلدان الشرق الاوسط للدراسة والبحث المقارن في جغرافيته الثقافية الغنية جدا. ربما نسمع صورة مشوهة عن العراقيين ، ولكن تبقى الآراء  تختلف حول الكثير من الأمور في حياة العراقيين : حول الموسيقى والغناء وحول التراث والفولكلور والعادات والتقاليد .. ولكل عراقي له ثقافة بيئية مختلفة ، وهذا لا ينسحب على النّخب المثقفة فقط ، بل على كل ابناء الشعب العراقي .ان العراق إكتسب أهمية قصوى لوقوعه في قلب العالم ، ويقع في قلب المجال الحيوي للشرق الأوسط ، ويقع بين خمسة بحار ( الخليج ـ قزوين ـ الاسود ـ المتوسط ـ الاحمر ) ، فهو بيئة مركزية مستقطب للناس وانواع البشر ، وكان هدفا اساسيا لدول وامبراطوريات ، وقد تعرض للهجمات على مر التاريخ ، فإختلف الناس عليه وخرجوا منه . نعم ، كان العراق يستقطب الناس على امتداد التاريخ ، ولكن وجدت الناس تغادره على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الان بالالاف المؤلفة.  نعم ، أصبح الآن الناس تهاجر منه مرغمة إلى  بقية أقطار العالم ، ووراء ذلك جملة صارخة من  العوامل والاسباب المتنوعة ، اهمها : شراسة السلطة وانعدام الحريات واشتعال الحروب وفرض الحصارات وصولا الى الاحتلال وتداعياته المريرة .. ان الهجرة لم تكن لبشر واعداد من البشر فقط ، بل هجرة لثقافات واختفاء اقليات وانهيار معنويات وتبدد اجيال وخسران كفاءات واخفاق مؤسسات .. الخ
5. النخلة : رمز حضاري لكل العراقيين
    ان طبيعة العراق الجغرافية طبيعة متنوعة ومؤثرة ، ف

52
حوار موسّع وصريح* مع المفكّر العراقي سّيار الجَميل عن العراق : الواقع وطريق المستقبل

اجرى الحوار : القسم السياسي في اضواء العراق

المقدمات
استمراراً لما قامت به إدارة القسم السياسي في أضواء العراق، من استضافة الشخصيات السياسية للحوار معها حول الوضع السياسي في العراق، كان ضيفنا لهذه المرة هو المفكر والباحث والمؤرخ السياسي الشهير الدكتور سيّار الجميل، وكان حوارنا مع ضيفنا العزيز مطولاً وشاملاً، تناول جوانب تاريخية واجتماعية وسياسية من الوضع العراقي، وقد أسهب الدكتور سيّار الجميل في الحديث عن القضية العراقية من كل جوانبها، وتحدث بصراحة شديدة، وقاسية أحياناً، عن مكامن الخلل في الوضع العراقي الراهن، فكل الشكر للأستاذ الدكتور سيار الجميل المفكر والمؤرخ العراقي على هذا الحوار المفيد، وعلى اتاحته هذه الفرصة الثمينة ليتحدث للعراقيين عامة ولشريحة الشباب منهم بشكل أخص عن رؤيته لما يجري في العراق، فنقدم الشكرالجزيل باسم الأخوات والأخوة في أضواء العراق للأستاذ الدكتور الجميل على حديثه الشامل والصريح والمفيد، وعلى ما خصصه لنا من وقت وجهد..

نبذة عن حياة الدكتور سيار الجميل:

سيار الجميل استاذ التاريخ الحديث والفكر المعاصر…أحد أهم المفكرين العرب..تجربته العلمية والفكرية ثرية بثراء أفكاره حيث بلغ إنتاجه العلمي والفكري أكثر من عشرين كتاباً منشوراً وعشرات البحوث العلمية المنشورة في العربية والانكليزية. نشر المئات من المقالات الفكرية والسياسية والنقدية في العديد من الصحف العربية والاجنبية. ترجمت بعض أعماله الى الانكليزية والفرنسية والتركية. اكمل دراساته في الجامعات البريطانية عام 1982 ونال دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث .. حصل على عدة جوائز دولية وتخرد على يدية العديد من حملة الماجستير والدكتوراه .. وهو عضو مزامل في عدد من المؤسسات الاكاديمية والمراكز العلمية والمنتديات الفكرية في العالم .
وهو خبير دولي في الدراسات الاجتماعية والثقافية لعدد من المنظمات وادار بعض ورشات العمل البحثية ووحدات البحوث ، كما شارك في كتابة موضوعات مختزلة للانسكلوبيديا الاسلامية والانسكلوبيديا التركية وموسوعة تاريخ الثقافة البشرية الحديثة ( اليونسكو.)
كما اشترك مع علماء آخرين في دراسات مشتركة ، منهم : سمير امين وبيتر بيرك وخليل انالجيك وغيرهم .
للمزيد عن سيرة ومقالات الدكتور سيار الجميل يرجى الدخول الى موقعه الشخصي
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/index.php


الحوار

1. دور المثقف، وبالأخص المثقف السياسي، في عراق اليوم، هل تجدونه غائباً أم مغيباً؟، وكيف السبيل لاستعادته بالشكل الذي يؤدي فيه دوراً فعالاً في الساحة السياسية العراقية؟

ـ المثقف العراقي موجود وله قيمته وقوته مقارنة بالمثقفين العرب اليوم ، ولكن صوته غائب او مغّيب ، فكيف اذن دوره ؟ المثقف السياسي العراقي اجده قد علمته التجارب المريرة كثيرا ، وعاش في خضم ازمات الصراع ، ولكن لا دور له الان ابدا لا على مستوى الفعل ولا على مستوى القرار ولا على مستوى المجتمع المدني .. واعتقد ان ثمة موانع تقف في وجهه ، بسبب قوة كلمته ، ومدى تأثيره في المجتمع ومدى نزعته في اعادة بناء المؤسسات .. وهذا ما يقف حائلا ازاء القوى السياسية المهيمنة على السلطة باسم ( الديمقراطية ) ، فضلا عن تهميش متعمد من قبل المحتل الذي لا يريد اي عامل ضغط باتجاه صنع عراق جديد .. اما بالنسبة لاستعادته وتفعيل دوره ، فليس من سبيل الا المطالبة بتجسير الهوة الكبرى بينه وبين الواقع السياسي المهيمن تحت مانشيتات معروفة .. المثقف الحقيقي هو المرتبط بارضه ومجتمعه ارتباطا عضويا ، فهو الذي يطالب بالتغيير على عكس اغلب السياسيين الذين لا تربطهم بالعراق الا مصالحهم الخاصة .. المثقف الحقيقي ليس طفيليا باستطاعته جلب اصوات ، او شراء ذمم ، او نشر مليشيا من حوله .. وعليه ، فهو الوحيد الذي يدفع دمه وحياته ثمنا اذا ما اراد التغيير بصوته او قلمه او رأيه وموقفه .. المطلوب تآلف كل المثقفين العراقيين في نخب فاعلة ومواجهة الواقع القائم مواجهة صريحة من دون اي انكسارات او تبعيات او مناورات او اي نفاق ومداهنات .. وليس للمثقفين العراقيين الا ان يستجيبوا للتحديات القاسية ولا ينهزموا من الميدان سواء كانوا في الداخل ام في الشتات . المشكلة ان المثقفين العراقيين في الخارج زادت معاناتهم كثيرا عّما كانت عليه في السابق .. فاذا كان حتى اليوم مهمشا في الداخل ، فكيف تريد الاخر ينظر اليه ؟

2. خمس وثلاثون عاماً مرت على العراق، من حكم الحزب الواحد، ثم حكم الشخص الواحد، صاحبتها فرض آيديولجية وثقافة واحدة على العقل العراقي .. هل يمكن تجاوز ذلك في سنوات قلائل؟ وما هو واجب المثقفين والأكاديميين في هذه المرحلة التي أنطلق فيها العقل العراقي الى فضاءات اوسع حتى وجد نفسه ضائعاً بين الكثير من الاتجاهات والآراء؟

ـ لقد كتبت ونشرت منذ العام 2000 ، بأن العراق بحاجة الى عشر سنوات على الاقل باستطاعة ابنائه ومثقفيه وسياسييه واكاديمييه التخلص من بقايا وآثار العهد السابق .. هذا كان على أمل ان تكون العملية قد سارت في الطريق الصحيح ، ولكن ما جرى ويجري حتى اليوم من تفاقم التناقضات الى الدرجة التي بات فيها الواقع العراقي متحولا من سطوة الاحادية والدكتاتورية الى شرذمة التقسيمات واشاعة الهويات على حساب المشروع الوطني الحضاري .. ناهيكم عن انقسام المجتمع السياسي العراقي الى قسمين اثنين : ديني ودنيوي .. فان انطلاقة العقل العراقي بحاجة الى سنوات اكثر ومدة اطول .. بمعنى الرهان على جيل جديد قادم . المشكلة ، ان الجيل العراقي الجديد يترّبى اليوم على اساليب تربوية واعلامية لا علاقة لها بأي مشروعات حضارية ومدنية .. وانه جيل منقسم على ذاته ايضا ، ويعيش فوضى جماعية من سطوة التناقضات التي خلقتها الاحزاب الدينية والمناخات التقليدية التي لا تستقيم ابدا وروح العصر . انني اعتقد ان مخاضنا العراقي صعب جدا ، اذا لم تحدث اية متغيرات جذرية على مستوى العصر ضد التخلف وتبعية الماضوية ، وانفتاح مجتمعنا على العالم انفتاحا معرفيا وفكريا .. وتخليصه من آفات الاعلاميات والفضائيات العربية والعراقية . ان العقل العراقي الذي عاش مكبلا طوال خمسين سنة ، لابد ان يتحرر ليس من ايديولوجية الحزب الواحد ، بل ان يتحرر ايضا من تناقضات الاحزاب الدينية والاتجاهات الانقسامية الشوفينية والطائفية والعشائرية والقبلية .. دعنا ننتظر المرحلة القادمة ، فربما تحدث متغيرات على الواقع ، وتبدأ الدولة بتشريع قوانين معاصرة .. بالرغم من انني لا اتوقع حدوث ذلك بمنتهى السهولة ، فبنى التخلف صلدة غير قابلة للرضوخ على عكس مجتمعات اخرى هي رخوة ، ولهذا ترضخ للتغيير شاءت ام ابت !

3. يصنف البعض كل الحكومات العراقية التي حكمت العراق منذ نهاية ثورة العشرين بأنها اتبعت منهجاً طائفياً عدا حكومة المرحوم عبد الكريم قاسم التي اختطت لنفسها خطاً وطنياً، فما رأيكم في هذا التصنيف؟، وما هي أسباب وجود هذا المنهج؟

ـ انني في الحقيقة ، اسخر جدا من هذا التصنيف الذي يأتي على افواه البعض ممن لم يمّيز بين الدولة والمجتمع ، ولم يميز ايضا بين الوطن والشعب .. علينا ان لا نخفي الاشياء الراسخة في مجتمعنا ، ونّصب كل اللوم على الحكومات العراقية السابقة .. الطائفية موجودة في العراق منذ خمسة قرون ، والمجتمع منقسم على نفسه قوميا وطائفيا ودينيا ولم يكن يعرف اي معنى للمواطنة .. وعندما تأسست الدولة العراقية ، وكانت علمانية منذ تأسيسها ، فكان لابد ان تتأّثر الدولة بكل امراض المجتمع .. ولكن لو كان تأسيس الدولة طائفيا ، لما نجح مشروع فيصل الاول في تكوين العراق الحديث .. ولما وجدنا هناك نزعة وطنية غرست في وجدان العراقيين ، ولم تكن موجودة في الماضي .. ولما وجدنا نضوج احزاب وطنية اشترك فيها كل العراقيين .. ولما وجدنا اي تطورات ابداعية على ايدي جماعات وتشكيلات ثقافية لم تعرف للطائفة اي عنوان .. ولما عرفنا اي معنى للشراكة في الحياة العراقية السياسية والثقافية والتجارية والتربوية وفي كل الميادين ، وما عهد الزعيم عبد الكريم قاسم الا قفلة لذاك العهد الاول الذي ناضل الجميع فيه من اجل العراق .. انني لا انزه اي عهد من العهود من اخطاء ، والاخطاء ترتكب في اي تجربة ، فالعراقيون ليسوا بمعصومين عن الاخطاء ! ان العلة في المجتمع لا الدولة حتى العام 1963 عندما تغّير جلد الدولة ليتلون بالوان المجتمع . انني لا انّزه اي عهد سياسي في العراق من الاخطاء ، ولكنني لا اقبل ان يصبح الخطأ خطيئة ، ويغرق العراق في بحر من الخطايا . ربما كانت هناك تجاوزات ومثالب قد تحدث هنا او تجري هناك ، ولكن لم تتدّنى الدولة الى اي مستنقع طائفي معلن ، اما في الخفاء ، فالله هو وحده العالم بالسرائر .. لم تحدث هناك اية نزاعات طائفية او حروب داخلية كالتي عاشها لبنان مثلا منذ 300 سنة ! وفي اقسى حرب طويلة عرفها العالم في الثمانينيات بين العراق وايران ، لم يصارع العراقيون بعضهم بعضا لاسباب طائفية ، برغم اتساع الفجوة ، بل الهوة بين الدولة والمجتمع . ان هذا التصنيف هو دعوة صريحة لايجاد مبررات للصراع الطائفي اولا ، ودعوة صريحة ايضا لتقسيم العراق .. اي استغلال اخطاء وخطايا الدولة والمجتمع معا لشرعنة تقسيم الوطن . اذ يدرك الجميع ان العراق وطنا عصي على الانقسام جغرافيا وتاريخيا ، فمن الهين ان يؤسس لتزوير التاريخ من اجل شرعنة الطائفية علنا هذه المرة ، وشرعنة تقسيم العراق .. والطائفية مبدأ يغالي به كل صاحب مذهب على غيره ، وهو فعل لهذا ورد فعل لذاك ، او بالعكس .. وسيبقى العراق يعاني من هذه النعرات لازمان ، ان لم يؤسس لمشروع وطني مدني لا يمكنه اجتثاث الطائفية ابدا ، بل لتحجيم دورها وتفاعلها في كل من الدولة .. اذ لا يمكن الا ابقائها في المجتمع .. اود القول ايضا : مهما اطلنا ورددنا القول بادانة الحكومات العراقية السابقة في القرن العشرين .. فسوف لا نغّير من الامر شيئا ، اذ سنبقى ندور في الحلقة نفسها ، خصوصا وان المحاصصات باتت معلنة اليوم ، وان التخندقات باتت رسمية على مستوى كل الحياة الرسمية والعامة اليوم .

4. هل ترى وجوب اتباع العلمانية حلاً للتعدد الطائفي والإثني في العراق، مع وجود أغلبية مسلمة متمسكة بتقاليدها الاسلامية؟

ـ علينا ان نعلم بأن الطائفية شيئ والاسلام شيئ آخر .. وان الوطنية شيئ والاثنية شيئ آخر .. ان العلمنة لا تجتث كل هذا او ذاك ، بل تّحجم من ادوارها جميعا . العلماني يفصل بين كل هذا الموروث وبين مشروعه الوطني . انه يفصل بين السلطات ، فكيف لا يفصل بين السلطات وبين هذه التقاليد والنزوعات الموروثة . علينا ان نعلم بأن الطائفي ليس شرطا ان يكون متدينا سنيا كان ام شيعيا .. انه طائفي ، اي انه يتملكه الغلو لطائفته او مذهبه .. وعلينا قبل ان نسأل قبل كل شيئ : هل ان هذه الاغلبية المسلمة المتمسكة بتقاليدها ( الدينية ) هي متوحدة على مذهب واحد وطقوس واحده ومرجعية واحدة وتقاليد واحدة .. ؟ الجواب : كلا ، فكيف يمكن ان تجمع الكل في حكم اسلامي واحد للعراق ؟ انني أسأل : متى حكم العراق حكما دينيا على امتداد العصور ؟ ان كل عراقي يعتز بمشاعره الدينية ، ولكن لا يمكن حكم العراق بمشاعر دينية وبتقاليد موروثة .. اذا كان العراقيون لهم مواريثهم المدنية والحضارية وتواريخهم السياسية على امتداد العصور .. فمن الصواب ان يبتعد اصحاب العمائم واجندتهم عن حكم العراق .. كي يستقر العراق . ان العلمنة والحكم المدني والدستور المدني ينبغي ان يوفر الفرص والحقوق متماثلة للجميع من دون اي تمايزات اثنية او دينية او طائفية ، فلماذا الاصرار على ان يكون اصحاب العمائم هم حكام العراق ؟ اما اثنيا ، فاننا لو رجعنا الى الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 حتى 1968 ، واحصينا اعداد القضاة والضباط والمديرين والمهندسين والاساتذة الجامعيين والفنانين من الاكراد العراقيين مثلا ، لوجدنا كم هي نسبتهم عالية في الدولة على امتداد عقود القرن العشرين .

5. انقسم العراقيون بصورة عامة بعد سقوط النظام الى قسمين رئيسيين، قسم منهم مؤيد للنظام الجديد وعملية التغيير، وقسم ضد التغيير ويرى ان النظام السابق على مساوئه أفضل من النظام الحالي.. ترى هل سبب ذلك مجرد مصالح ذاتية أم أسباب أخرى؟

ـ انه انقسام لم تسببّه المصالح الذاتية فقط ، بل اعتقد انه انقسام لم يدم طويلا ، وهو وليد عوامل سايكلوجية اكثر منها ايديولوجية .. انه انقسام لابد ان يكون بسبب وجود المحتل الامريكي على التراب الوطني .. ولم ير العراقيون اي محتل منذ الاربعينيات .. انه انقسام بسبب عدم وجود ثقة قوية بين الحكام الجدد ( قوى المعارضة سابقا ) .. انه انقسام ، علينا ان نعترف به ، سببه التصنيف الجديد للعراقيين على اساس طائفي ( سني وشيعي ) وكردي .. اي على اساس النتائج التي قاد اليها تقسيم العراق على اساس المكونات الاساسية الثلاث ( شيعة ـ سنة ـ اكراد ) واهمال المكونات الاخرى من دون اي مشروع وطني يجمع عليه كل العراقيين في مكون واحد .. انقسام سببه اساءة التصرف بمصير العراق بعد لحظات السقوط وسحق مؤسسات الدولة .. وغير ذاك . ان من السذاجة والبدائية اخذ الامور كون العراقيين مع نظام جديد او قديم من دون التحري عن مصير مجتمع بالكامل .. ماذا لو احتضن هذا المجتمع من دون اي عناصر للتفرقة او الاخذ بالثارات او بث الاعلاميات الجارحة للمشاعر او الاصرار على جعل العراق ينقسم طائفيا وكرديا على اساس فيدرالي ، وكأنه مشروع لتقسيم العراق على اساس بشع لا يمكن احتماله .. ان العراقيين بقوا اشهرا يترقبون شيئا وطنيا ، ولما ضاع الامن والنظام وتبعثر العمل وزاد القتل والخطف وتاهت البلاد ، فقد الامل ، بالضرورة فان اي عراقي بسيط سيقول : " والله كّنا في ظل النظام السابق افضل حالا " . انها نتيجة واضحة من نتائج ما جرى في البلاد سواء صحّت المقارنة ام لم تصح ، فابن الشعب يريد امنا واستقرارا ليعيش ويعمل ويكد ويرتاح في بيته وفي المقهى والشارع وهو لا ينتظر امتيازا او منصبا او جاها او حراسات او مناطق خاصة .

6. هل تعتقد أن السلطة الحالية في العراق الجديد تستطيع أن تتجاوز أخطاء السلطة في عراق ما قبل الاحتلال الأمريكي؟ حينما كانت الدولة تمتهن المجتمع؟ وهل ترى بوادر أمل –وإن كانت ضعيفة- في أن هناك تغييراً حقيقياً سوف يتم في عراق ما بعد 2003؟

ـ الدولة ما بعد 2003 هي غير الدولة ما قبل هذا التاريخ . لا يمكننا ابدا مقارنة وضعية الامس باليوم . بالامس امتهنت الدولة المجتمع ، وغدا كل المجتمع في خدمة الدولة ، بل وخدمة السلطة العليا بالذات ، بل في خدمة الذات العليا على وجه التحديد .. الدولة اليوم مفتقدة وليس في مقدورها السيطرة على العاصمة وحدها .. علينا ان نكون واقعيين . الدولة السابقة كانت بيد صانع قرار واحد يخضع لمشيئته الجميع ويرتعب منه الجميع .. الدولة الحالية هي مرتهنة في العديد من قرارات لابد لها ان تصنعها او تسير على هداها ، ويا ويلها ان خرجت عنها .. هناك اجندة امريكية لا يمكن تجاوزها بفعل الاحتلال .. هناك قادة احزاب لا قادة دولة والرهانات للاحزاب والتحالفات اكبر بكثير من مشروع الدولة .. هناك اليوم سعي من قبل بعض العراقيين المخلصين لخدمة العراق دولة ومجتمعا ، ولكن تمنعهم خطوط حمر لا يمكنهم ابدا ان يتعدوها .. ولكن هناك اليوم سعي محموم للتمتع بالسلطة اكثر من السعي لتقديم الخدمات للمجتمع .. ان من اخذ فرصته في الدولة وفشل ، عليه ان يغادر ليفسح المجال امام غيره ليأخذ فرصته فربما كان اكثر حراكا واخلاصا ونشاطا وجرأة وقوة .. في النظام السابق هناك لص كبير هو الذي يوزع حصص السرقات على اناس معلومين محسوبين عليه .. اليوم هناك عصابات من اللصوص غير معروفين .. الذين لا تنفع معهم لا هيئات نزاهة ولا لجان تحقيق ولا حتى شرطة انتروبول .. اليوم ، مجرمون اقحاح يعتقلون ويفرج عنهم ليمارسوا كل الشناعات بلا اية احكام رادعة .. ان المجتمع العراقي اليوم بحاجة الى ضبط وربط من نواح عديدة .. يمنح كل الحريات لممارسة انشطته ، ولكن يطبق القانون في كل شبر من ارض العراق .. ان ارادت الدولة اليوم ان تكون مهابة ومقتدرة ، عليها ان تحلّ كل المليشيات ومظاهر التسلح في كل شبر من ارض العراق .. عليها ان تبني الجيش العراقي وتسلحه باحدث وأقوى انواع الاسلحة .. عليها ان تنشئ قوات درك لضبط الامن في كل المحافظات سواء كان ذلك في شمال العراق ام في جنوبه .. عليها ان تضرب بيد من حديد على كل القتلة والمجرمين والخاطفين والجواسيس والمقنعين .. عليها ان تحرم اختراق الجيش والدرك والشرطة من قبل الاحزاب والمليشيات السلطوية فالولاءات لها لا للدولة .. هذا كله وذاك لا يمكن تحقيقه الا في ظل تغيير لبنود الدستور ، فتغيير تلك " البنود " ضرورة اساسية . ان الذي اوصلنا الى هذه الحالة من الضعف بعض بنود الدستور التي لبت مطاليب احزاب وقوى معينة على حساب مشروع الدولة الحقيقية . لقد وقفت مع بعض الشخصيات الليبرالية العراقية ضد شرعنة هذا " الدستور " ، وقلت عام 2005 على شاشات التلفزيون بأنه " دستور يحمل تابوت العراق " ، فهاجمني كل من في السلطة .. ان " مشروع الدولة الحقيقية " لا يمكنه ان يكون مركزيا ظالما ، ولكن بالوقت نفسه لا يمكنه ان يكون خراعة خضرة ! عليه ان يكون لا مركزيا ضمن قانون يضمن حقوق الجميع في كل محافظات العراق واقليم كردستان معا .. ويخضع الكل لارادة الدولة الام .

7. تقول في كتاباتك ان الوعي غائب عن معظم شرائح المجتمع العراقي.. فما هو سبب ذلك؟ هل هناك من منهجية معينة من أجل زرع الوعي فيهم؟

ـ لقد غادرنا النظام السابق في العراق وترك فراغا هائلا يصعب ملأه بسهولة ، والعراق بحاجة الى سنوات طوال كي يتمكن من ملأ الفراغ السياسي والفكري والتربوي .. هذا ما قلته ونشرته قبل سقوط النظام السابق . ان الوعي المغيب حالة متبلورة منذ اكثر من ثلاثين سنة ، بل من اربعين سنة 1963 – 2003 .. العراقيون لا يمكن ان تزرع فيهم وعيا جديدا ، فالوعي ليس لباسا جديدا او قناعا بديلا .. الوعي بحاجة الى سنوات طويلة ، يشعر فيها الانسان بقدرته على كشف الصواب من الخطأ ، وعلى تكوين ارادته التي لا ينساق من دونها وراء هذا او ذاك .. الوعي بأن تشعر بتحديات المستقبل اكثر مما تعيش وانت تلوك الماضي صباح مساء .. الوعي انك تستطيع ان تنتخب من تراه صالحا من اخيار الناس واذكاهم للادارة والاعمار وصنع القرار .. وان لم تجده لا تنتخب .. الوعي انك لا تعيش هوس الشعارات وتشعر بانك منفوخا اكبر من حجمك وانت لا بدايل لديك في ان تكون او لا تكون .. الوعي انك تعرف حجمك عندما تخاطب العالم والاقليم ودول الجوار .. الوعي انك تعرف اين يرتبط مصيرك هل باهلك ووطنك ام بغيرهم .. الوعي انك تعيش في عصر وتنادي من اجل دولة تحمي مصالحك وتخدم حياتك لا من اجل ان يتكالب المرء على السلطة والجاه والمال والحرس والانتماءات ضمن محاصصات وتحالفات غير سياسية .
تريدني زرع وعي جديد من خلال منهجية معينة . وهل الوعي له منهجية واحدة كي يزرع كالحنطة والشلب ؟ ان الوعي يبدأ من حيث يبدأ النظام والتربية والتعليم والانفتاح وان يخرج الانسان من سجن تقاليده البالية .. وان يخرج من شرانقه التي حبسوه فيها .. وان يبدل سايكلوجياته بالكامل بحيث يشعر بعراقيته قبل ان يشعر باي انتماء يسبق ذلك .. وان يصنع ارادته بنفسه قبل ان يصنعها الاخرون له .. وان يؤمن بأن الدين ينبغي فصله عن السياسة ولا عمل لرجال الدين في الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية .. عملهم للامر بالمعروف والنهي عن المنكر في اماكن وجودهم فقط ، اي يكون عملهم اخلاقي لا سياسي وان يكون علماء الدين الكبار مصدرا كي يسأل المجتمع وهم يجيبون ولا علاقة لهم لا بسياسة الدولة ولا بمؤسساتها .. الوعي اكبر من ان نتخيل حجمه .. ربما لا نجده في مجتمعات اخرى والامور هناك تسير بصورة حسنة ، فربما كانت الدولة قد اشبعت حاجات الناس كلهم ، فلم يعودوا يسألوا عما يمكن ان يكونوا عليه .

8. تدعو في كتاباتك الى تفكيك المؤسسات العشائرية والقبلية والأحزاب الدينية والأعراف الاجتماعية البالية، فيما نلاحظ أن الدولة اليوم عادت واعتمدت على المؤسسة العشائرية في محاربة التنظيمات الإرهابية والميليشيات، وأثبتت التجربة أن العشائر هي التي استطاعت محاربة القاعدة وتثبيت الأمن. فكيف تجد مثل هذه المفارقة في عودة الدولة الحديثة الى الاستعانة بالعشائر؟

ـ جرى ذلك بحكم ضعف الدولة ومؤسساتها .. لو كان هناك دولة له قدراتها لما احتاجت لا الى عشائر ولا الى قبائل . ومن قال ان دولتنا حديثة في مؤسساتها واجهزتها ودستورها ورجالها .. ؟ انها دولة ضعيفة جدا تحكمها الاحزاب ولا تحكمها المؤسسات .. تتصارع عليها المصالح ولا تتنافس فيها النخب .. تتوزع فيها القرارات ولا تتشكل عنها المفاهيم .. هل هناك عاقل في القرن الواحد والعشرين يعتمد على عشائر لفرض الامن الداخلي ؟ ربما كان ذلك في العراق والعراق محتل من قبل قوات اقوى دولة في العالم .. فالصراع ليس داخليا بقدر ما هو صراع دول في داخل العراق . وهل نصدّق ان العشائر قد حاربت من دون انتظار اثمان ؟ انها تريد الثمن .. ولا تكتفي بمال او سلاح بل طموحها السلطة . فهل هذه معادلة معاصرة برب السماء ؟ . ان المؤسسات العشائرية والقبلية موجودة في العراق منذ ازمان سابقة وقد حاربتها كل الاحزاب التقدمية منذ اكثر من خمسين سنة .. فهل من الصواب ان اقبل بعد خمسين سنة سلطة عشائرية في بلاد يقال عنها انها كانت موطن حضارات وقانون ؟ قد تقول : ان للضرورة احكام ، وما دامت العشائر قادرة على شل الارهاب ، فلم لا يستعان بها ؟ اقول لك : وهل كانت البادرة عراقية ام امريكية ؟ ان الامريكيين هم دفعوا ويدفعون .. ؟ علينا ان لا نكون كالنعامة نخبئ رأسنا في التراب وكل اشلائنا عاهرة .. قبل ان تكون العشائر هنا او هناك لها اعرافها وسمعتها وبعد ذلك ادوارها في خذلان الارهاب .. الم يكن بعض ابناء تلك العشائر مطاردين وسفاحين وقطاع طرق وارهابيين وقتلة على الهوية وخاطفين وممارسة كل الفاينات ـ حسب كل البيانات التي كنّا نسمعها ـ ؟؟ والشيئ نفسه ينطبق على بعض المليشيات التي تحتل اليوم مواقعها في الدولة الجديدة وتاريخها يشهد ان اياديها كلها ملطخة بدماء الشعب العراقي . عندما تقول لي ان هناك مشروعا وطنيا عراقيا في التغيير الجذري ويقضي على كل الموبقات التي لم تزل موجودة منذ خمسين سنة .. ساصفق لك واقول نعم صدقت ورب الكعبة .

9. اتخذت معظم الدول العربية –أنظمة وشعوباً- مواقف عدائية حادة من العراق وشعبه بعد سقوط النظام السابق، بل أخذ الكثير منهم في دعم الحركات الإرهابية داخل العراق، فما هي رؤيتكم وتفسيركم لهذه المواقف؟ ولماذا كل هذه العدائية ضد شعب العراق والتباكي على مجرم دمر العراق والمنطقة؟ هل لأسباب طائفية، أم لخشية من تجربة ديمقراطية وليدة؟ أم معارضة للوجود الأمريكي في المنطقة؟

ـ هناك اسباب عديدة ومعقدة في طبيعة العلاقة العربية العراقية خلال الخمس سنوات الفائتة .. ليس الدول العربية وحدها ،بل هناك دول عديدة بانظمتها وشعوبها ولا استثني من ذلك ايران وبعض دول العالم الاسلامي .. للسلطات حسابات معينة وللشعوب حسابات من نوع اخر قد تتلاقى حينا وقد تفترق حينا آخر ..الشعوب ببساطة منها المخدوعة ومنها التي تجتر الشعارات ومنها التي لا تدرك وتخلط بين الامور نتيجة قلة المعلومات او انعدام الوعي الذي تحدثنا عنه .. ناهيكم عن الشعور بالمصالح ..ولكن علينا ان لا نظلم الشعوب .. لقد سمعت بأن اساءات قد الحقت بعراقيين في دول عربية معينة .. ولكن ثمة دول عربية اخرى تجد الشعب يحب العراقيين .. فالامور نسبية ..اما سياسات الدول فثمة اجندات مختلفة ، هناك هواجس من دور الامريكان في العراق .. هناك هواجس من انتقال العراق من الايديولوجية القومية الى الايديولوجية الدينية .. وفي الحقيقة ، هناك هواجس تقول بأن" الشيعة " تحكم العراق اليوم .. ومن الخطأ ان ينظر العرب هكذا نظرة الى الشيعة العرب من العراقيين ، لأنهم بذلك يعمقون الهّوة والانقسام في المجتمع العراقي نفسه. هناك شعور بهيمنة صدام حسين عليهم حتى وهو في قبره ..هناك هواجس من ان يكون العراق قوي في يوم من الايام .. هناك وهناك . ان الرؤية قد تغيرت ما دام العراق لم يعد يصنف نفسه دولة عربية ، بل انه مجرد دولة شاركت في تأسيس جامعة للدول العربية ! والحياة العربية مجموعة مصالح ومنافع وتاريخ من الابتزازات والتحالفات والصراعات . فليس غريبا ان اجد ذلك في العلاقات العربية العراقية . ان العراقيين عندما ينتصرون لأنفسهم بحيث اجد علاقاتهم الداخلية على افضل ما يكون ، سيسعى اليهم الاخرون من كل الاطراف يبتغون رضاهم .

10. كيف يمكن استعادة الثقة المفقودة بين العراق ومحيطه العربي؟

ـ كما قلت لك قبل قليل في جوابي على السؤال السابق ، واسمح لي ان اضيف قائلا : عندما يتحرر العراق من وجود قوات احتلال وعندما يتفوق في تقدمه سيجد غيره في حاجة اليه .. عندما يتوحّد في مشروع وطني عراقي ولا يعلن عن اية انقسامات ومكونات .. عندما يستعيد العراقي ثقته بنفسه اولا .. عندما يصبح المجتمع العراقي يستعيد الثقة بين ابنائه ويتخلص من انقساماته والرهان عليها .. عند ذاك نطالب باستعادة الثقة بين العراقين والعرب . دعني اتوقف قليلا عند حالات كارثية تجعل بعض الدول والمجتمعات العربية تضيق ذرعا بالعراقيين ومشاكلهم ، ليس لاسباب سياسية ، بل لاسباب اخرى .. ان الثقل العراقي اليوم يتوزع على دول عربية معينة وخصوصا في سوريا والاردن ولبنان والامارات ومصر واليمن .. فضلا عن جاليات عراقية ليس بقليلة في دول عربية اخرى .. ان الاوضاع السيئة التي يعاني منها بعض العراقيين في مثل هذه البلدان لم يكن مسؤولا عنها احد في هذه الدول ! ان الاغلبية تعيش في حرمان وبؤس ، ولكن هناك الالاف من العراقيين ممن يمتلكون الملايين من الدولارات يعيشون في مثل هذه البلدان عيشة خيالية ، ومن يرى اشكالهم القميئة والسوقية لا يتوقع انهم يسحبون الملايين معهم من العراق .. ان افعال هؤلاء المشينة تكفي لكي يحترق من خلالهم الطيب من ابناء الجاليات ! ان ثمة حالات من السرقات والاحتيالات وعمليات النصب التي يقوم بها عراقيون .. لا يمكن ان يتصورها احد .. كلها تسجّل ضد سمعتنا كعراقيين ! ان الفتيات العراقيات اللواتي تجدهن منتشرات في مدن عربية وهن مبتذلات ساقطات قد ساهمن بقسط كبير من الاساءة للمرأة العراقية ! ثمة جرائم وجنايات يقترفها عراقيون رجالا ونساء قد عّمت على مكانة العراقيين في اغلب المجتمعات العربية .. علينا ان لا ننسى كل هذا في تقييمنا للدور العربي الذي ربما ننتقده حيال مواقفه سياسيا ، ولكن علينا ان لا ننسى ما يقترفه البعض من العراقيين في بلدان تختلف مجتمعاتها عن مجتمع العراق .

11. هل ترى أن مشكلة العراق اجتماعية قبل أن تكون سياسية؟ هلاّ ذكرت لنا وجهة نظركم تجاه هذا الأمر بشئ من التفصيل؟

ـ طبيعي مشكلة ( او : مشكلات ) العراق اجتماعية قبل ان تكون سياسية .. هذه حقيقة ينبغي ان يدركها الجميع ، وان كل المشاكل السياسية طوال تاريخ العراق المعاصر هي انعكاس فاضح لما في المجتمع العراقي من معضلات يصعب حلها كثيرا اليوم بعد كل ما تراكم من اخطاء وما مورس من خطايا .. ان الصراعات السياسية والاقتصادية .. القومية والاقلياتية السكانية هي اجتماعية لمجتمع متنوع ليس في ثقافاته ، بل حتى في هواجسه وافكاره وطموحاته . وهناك ثلة من العراقيين ساسة وحكماء ادركوا هذه الحالة ( او : بالاحرى الظاهرة ) ولم يكن باستطاعتهم فعل شيئ ، لأن علاج ذلك لا يتم ابدا باصدار قرارات او بيانات او تصريحات او كتابة مقالات .. ان ظاهرة المجتمع العراقي لا يمكن تشخيصها بهذه السهولة في مثل هذا الجواب على سؤال مهم وخطير للغاية .. انها بحاجة الى فصول وابحاث ومقارنات .. ولكن دعني اختصر المسافة قليلا لاعود بك الى محاضرتي التي القيتها عام 2005 في غاليراي الكوفة بلندن عن تناقضات المجتمع العراقي وستجد حزمة من التحليلات ناهيكم عن مقالات ودراسات اخرى اوضحت فيها خلل في الثقافات التي لا تتلاقى بسرعة .. هناك صراع بين ثلاث بنى اجتماعية عراقية لم تزل قيمها متصادمة حتى اليوم وغير متلاقية تتمثل بالحضر في المدن الكبيرة الذين تبدلوا عما كانوا عليه قبل خمسين سنة ، والريف في المناطق الزراعية الذين انتشروا في المناطق الحضرية . وهناك البدو الذين يحملون قيمهم القبلية حتى اليوم حتى وان استقروا في مناطق واحياء مدن .. في كل نسق من هذه الانساق المشكلة للبنية العراقية صراعات من نوع ما ، قد تكون طبقية او تجارية او حرفية او رعوية او اروائية .. الخ هذه كلها ترجمت في اكثر من واقع سياسي سواء كان ذلك في العهد الملكي ام العهود الجمهورية .. وبدل ان تكون مؤسسات الدولة الرسمية وشبه الرسمية بعيدة عن كل امراض المجتمع ، غدت مؤهلة لكي تحمل كل البلاء .. بدءا بالاحزاب وانتهاء بالاجهزة الرسمية وشبه الرسمية وحتى النقابات والتكتلات .. هناك تواريخ متعفنة من المحسوبيات والمنسوبيات وهناك الوساطات والتجاوزات .. هناك وهناك . ان صراعات البعثيين مع الشيوعيين العراقيين كنت اتمنى ان تبقى في اطار ايديولوجي وسياسي ، ولكن غدت صراعات اجتماعية ودموية وبعد التي واللتيا بين الطرفين تلاقيا في جبهة حملت تشظياتها في دواخلها .. كنت اتمنى ان يبتعد العراق بعد مرور خمسين سنة عن الشلليات العشائرية والانحيازات الطائفية وعن كل الكراهية بين القوميات والاقليات وعن اوضاع لا تعد ولا تحصى .. ولكن هذا لم يحدث ، بل زاد وتفاقم بفعل سوء السياسات التي مورست في العراق . هناك من يهرب من واقعه السياسي والاجتماعي ليقول بأن الاستعمار هو السبب في هجمان بيت العراق من دون ان يسأل نفسه سؤالا واحدا : باستطاعة الاستعمار ان يخلق افرادا وبعض جماعات من اصحاب الخسّة ، ولكن هل باستطاعته ان يخلق طبقات محرومة ومليشيات قاتلة ؟ هل باستطاعته ان يّحول بعض ابناء الشعب من ملائكة الى مجموعة قتلة واشقياء ؟ هل باستطاعته ان يخلق موجة من المتغيرات ولكن ليس باستطاعته ان يخلق موجة من الظواهر ..

12. يزخر العالم بالعديد من الكفاءات العراقية التي يتمناها أي بلد، ولكنها مع الاسف هاجرت العراق وربما للأبد، فما هو السبب وهل من سبيل لمنع تدفق العقول العراقية الى المهجر؟ ولماذا نجعل كل الكفاءات والنخب العراقية تعاني ونراها محاربة حتى تضطر الى الهجرة او الموت؟

ـ منذ خمسين سنة واذكياء العراق يهاجرون .. وقد ازدادت الهجرة كلما كان يتقدم العراق نحو النار .. اليوم العراق في محنة كبيرة ، فلقد انفق على ابنائه امواله لكي يجد الابناء قد تبددوا هم ومن معهم .. هناك جاليات عراقيات في المهجر اليوم لا يمكنها ان ترجع الى العراق ابدا ، بحكم اندماج ابنائها بالمجتمعات الاخرى .. لقد ولد صراع جديد منذ زمن بعيد بين مجتمعين عراقيين ، مجتمع الاصل في الداخل ، ومجتمع المنفى في الخارج .. اعتقد ان الصراع من طرف واحد ، ذلك ان ابن الخارج عواطفه دوما مع الداخل بل ووقف مع محنة الداخل ايام الحصار وايام الحرب ، ولكن ابن الداخل يحمل هواجسا مريبة في الاخر ، كونه لم يشاركه الامه ونضاله وكل المأساة .. تسألني عن سبب هجرة الكفاءات وهي عدة اسباب لا يمكن ان تخفى على العراقيين ، ولكن المأساة ان الهجرة لم تقتصر على ابناء الكفاءات وحدهم ، بل طالت حتى التجار والمزارعين والحرفيين والموظفين العاديين وحتى المتقاعدين من كبار السن .. الخ ان الاسباب التي كانت وراء نفرة العراقيين من البقاء في العراق ليست سياسية بحتة ايضا ، بل غدت اجتماعية ، بعد ان تفاقمت الصراعات الى درجة الهروب الجمعي .. هذه حالات لم تعان منها شعوب اخرى ابدا وبمثل هذه الماراثونات القاتلة . صحيح ان هناك شعوبا قد اضطهدت وهاجرت عن ارضها كالارمن والفلسطينيين مثلا .. او ان تجد ان هناك مشروعات هجرة كي يتجمع شعب في مكان معين كالذي فعلته الحركة الصهيونية باستئصال اليهود من مواطنهم وتجميعهم في ( وطن سليب ) .. ولكن العراقيين مشكلتهم بالعكس ، انهم تبددوا في الشتات . وان كلا من الارمن والفلسطييننين تختلف مآسيهم عن مآسي العراقيين كثيرا .

13. هل يصح أن نطلق على التجربة العراقية الجديدة بأنها تجربة ديمقراطية؟ أو على الأقل بدايات ديمقراطية؟ ام هي مجرد ديمقراطية شكلية خالية من المضمون؟

ـ تجربتنا العراقية الجديدة ليست حتى مجرد ديمقراطية شكلية خالية من المضمون .. انها تجربة صراع قوى سياسية اوليغارشية على السلطة .. انها تجربة فوضوية لاحزاب لم تزل تحمل مواريث الماضي وتريد ان تسلك سلوكا حضاريا ، كمّن تجده بعباءته ويشماغه او بجبته وعمامته ويحاول ان يقنعك انه يعزف سمفونية على مسرح اوربي وجماهيره عراقية !! ان الديمقراطية لا يمكنها ان تطبق من قبل احزاب دينية او شوفينية او ميليشياوية مسلحة .. الديمقراطية لا يمكنها ان تطلب مني انتخاب كتل واحزاب لا اعرف تواريخ شخوصها وسيرهم الذاتية ، لأرى نفسي امام اشخاص بائسين حقا ! الديمقراطية لا تعرف القوى التي تشتغل بالسياسة واجندتها طائفية او انفصالية .. وان تستخدم الورقة الدينية في عملية الانتخابات . الديمقراطية لا يمكنها ان تمارس في مجتمعات خالية من مؤسسات المجتمع المدني ووظائفها .. الديمقراطية ليست مانشيتا او شعارا او صندوقا انتخابيا يأتي بممثلين غير مؤهلين ليمثلوا شعب العراق اصدق تمثيل ! بل ليأتي قادة يقودون البلد بهذا الطريق .. الديمقراطية الحقيقية فلسفة كاملة في الحكم المدني والمؤسسات المدنية ! ماذا تسمّي الحكم الحالي في العراق في ظل وجود ايديولوجية تقوم اساسا على مكونات طائفية وعرقية في تقسيم البلاد الى ثلاثة اقسام ؟ ما دمت قد اعلنت في فلسفتك وايديولوجيتك انك مع هذه المكونات ، فلقد الغيت حرية كل العراقيين السياسية ! ثم كيف تطبق الديمقراطية مع تقاليد تعود الى العصور الوسطى ؟ وهل يمكن تطبيق ديمقراطية مع " دستور " هو مدعاة لانقسام العراق ؟ اننا نضحك على انفسنا ان آمنا بهذا الذي يجري ، ولكن يستوجب ان اقول هنا بأن الشعب العراقي قد منح حريات واسعة من قبل الامريكان لا من قبل العراقيين بحيث انفلتت وانقلبت الى فوضى ويا للاسف الشديد .. ثمة حريات في الصحافة والاعلام العراقيين ولكن سمح ذلك لاجندة غير وطنية ان تفعل فعلها باسم الديمقراطية . هنا ، يستوجب عدة امور لبناء مشروع ديمقراطي عراقي :
1) اعادة النظر في الحياة السياسية العراقية بتجديد كل الانظمة الداخلية للاحزاب العراقية . وان يفصل الدين عن الدولة فهي ضرورة عراقية قبل ان تكون اي شيئ اخر.
2) اعادة النظر في دستور العراق ، بحيث يكون دستورا مدنيا موحدا للعراق ، ويتفق وطبيعة العراق بعد فشل بنود الدستور الحالي ( وعلينا ان نعلم ان دستور الولايات المتحدة الامريكية نفسها دام بناؤه 11 سنة كاملة ) .
3) منح القضاء سلطة مستقلة وان يكون القانون هو الاول والاخير في ضبط خلل المجتمع . وان تطبق احكاما عسكرية عرفية في المناطق الساخنة .
4) تشكيل هيئة محاسبة قانونية لكل من تسّول له نفسه ان يتجاوز صلاحياته في الدولة بأي وسيلة من الوسائل .
5) تلغى كل الميليشيات والاوليغاريات والقوى والاحزاب المسلحة من العراق سواء كانت علنية ام سرية . وان لا يرتبط ايا كان في الدولة بأي واحدة منها .
6) على اقليم كردستان ان يحدد مواقفه من المبادئ العراقية ، وان يكون جزءا من دولة ، لا دولة في دولة .. وان تعالج العلاقة العراقية الكردية بمنتهى الصراحة والشفافية .
7) على العراقيين ان يستعدوا لثورة دستورية وقانونية وتربوية في كل المجالات بحيث تلغى كل المظاهر الطائفية والاجندة المذهبية وكل ما له علاقة بزرع الخلافات والانقسامات .
8) على كل من يحكم العراق ويشارك في حكمه التجرد من ولاءاته القومية والحزبية والطائفية ليمثل العراق لا ليمثل اقليما او طائفة او حزبا ..
هنا أسأل : هل هناك ثمة استعداد لمثل هذا الامر في العراق ؟ ان لم يكن هناك اي بصيص امل ، فسيبقى العراق يراوح في مكانه وستأكله الفوضى وسيدفع الجميع ثمن ذلك .. واقصد بالجميع كل العرب والاكراد وكل ابناء الطيف العراقي .

14. نلاحظ أن هناك تطرف عراقي في الحب والكره.. ونرى ذلك واضحاً في مشاعر العراقيين تجاه قادتهم؟ ما هو تفسيركم لهذه الظاهرة؟

ـ التطرف والغلو معروف عند العراقيين منذ ازمان ، ولكنه ابن زمنه ومرحلته ، فالعراقي سرعان ما يغضب وسرعان ما يهدأ .. سرعان ما يكره وسرعان ما يحب الى حد العشق .. هذه هي طبيعته انه ان شيمّته اخذت عباءته ، وان اغضبته فيمكنك ان تطيّب خاطره باجمل الكلمات .. وقليل من ابنائه من يحمل حقدا او كراهية كالجمال .. المهم ان علينا ان نفصل بصدد المشاعر ازاء القادة والزعماء العراقيين . ان العراق من المجتمعات الصعبة ويحتاج الى زعماء من نوع خاص .. ومن يتزعم العراق عليه ان يتوقع كل التراجيديات والمصائب التي قد تحل به وبالتنكيل به ( والشحشطة ) باهله .. من تاريخ العراق ندرك ان العراقيين يعشقون زعيما او قائدا او استاذا او معلما او مفكرا ان كان هو نفسه لا ينحاز الى خندق معين او يحسب على طائفة او فئة .. انه معشوقهم ان وجدوه قويا ونظيفا ووطنيا ليغدو رمزا حقيقيا غير دائم الوجود .. ان اي زعيم او اي شخصية عراقية لا تمتلك الكاريزما والتفوق والارتفاع عن كل الميول والانتماءات .. ستضيع حتما ان كانت عكس ذلك حتى وان صعد اسمها من بين القوى .. العراقيون لا يريدون زعيما يكذب عليهم ، فهم اصحاب فهم وحسجة لا من البهائم والاغبياء .. العراقيون لا يريدون زعيما يعدهم بالجنة وهو يمشي بهم الى الجحيم .. العراقيون يريدون زعيمهم ملتصق بترابه العراقي .. وهنا لا افصل بين العرب والاكراد ، فالاكراد يدركون جيدا ان لا حياة لهم من دون العراق وهم بقدر ما يستذكرون مآسيهم العراقية ـ كما يقولون ـ ، لكنهم يذكرون ان وزراء واداريين وضباطا وموظفين كرد لا حصر لهم خدموا الدولة العراقية لاكثر من ثمانين سنة ، وكانوا من نعم الناس .. ان المقولة : كيفما تكونوا يوّلى عليكم اتمنى اعادة النظر فيها .. ان العراق ان وجد على رأسه زعماء وقادة واداريين مدنيين وعسكريين يحسنون التعامل مع شعبه فسترى المعادلة مقلوبة .. اما ان بقي الزعماء وقد تخندقوا مع اجندتهم ومصالحهم الفئوية والحزبية والطائفية والشوفينيية .. فسيبقى اي زعيم مكروها كالموت .

15. ما هو دور الاعلام في تأجيج الوضع في الساحة العراقية؟ فالبعض يرى أن مشكلة العراق مشكلة إعلامية.. حيث أن للإعلام –اليوم- الدور الأكبر في توجيه وإدارة السياسات في الدول.
ـ الاعلام خطير هذه الايام وتزداد خطورته يوما بعد آخر .. الاعلام هو الذي يبيّض ويسوّد .. الاعلام هو الذي يصّعد ويّنزل .. الاعلام هو الذي ينزّه وهو الذي يسيئ .. ان الاعلام هو الذي صنع ريادة القومية العربية وكان الاعلام هو الذي دفع باتجاه بطولات صدام حسين الخارقة وهو الذي خلق من المجاهدين العرب في افغانستان رموزا وهو الذي دفع الى سقوط شاهنشاه ايران والاندفاع للثورة الاسلامية .. وهو الذي يؤجج الوضع في الساحة العراقية .. صحيح ان مشكلة العراق اعلامية ، ولكن العراق هو الذي يعطي يوما بعد آخر خرافه بيد الجزارين كي ينحروها على مرأى ومسمع منه .. العراق هو الذي ليس باستطاعته التحرك المضاد كونه مكبّل الارادة .. وان العراقيين هم اول من وقف اعلاميا ليؤججوا الساحة قبل غيرهم .. كنت اتمنى لو قامت هناك ثورة اعلامية عراقية اليوم موحدة باسم المشروع الوطني لترى اين تصبح الاعلاميات المضادة لكل العراق .

16. كيف تنظر الى الحرية التي تمتع بها الإعلام العراقي بعد التاسع من نيسان؟ هل تراها ساهمت في توحيد الصفوف ام تخندقت طائفياً وحزبياً.. وما هو سر عدم وجود إعلام كفوء ووطني ومحايد لحد الآن في العراق رغم كثرة عدد وسائل الإعلام؟

ـ عد الى جوابي للسؤال الثالث عشر .. وسترى ازمة الاعلام العراقي وهي شبيهة بازمة السياسة العراقية .. الاعلام وسيلة للتعبير عن واقع ، فاذا كان الواقع العراقي مهترئا ، فسيكون الاعلام مهترئا ايضا . ولكن ؟ علي ان اعترف بأن ليس كل النخب الاعلامية العراقية متخندقة ضمن اجندة طوابير وسلال ودنان ومجالس وحفلات .. ان الاعلاميين العراقيين مجموعات نخبوية ، وفيهم وطنيون حتى النخاع .. ان ما دفعه الاعلاميون العراقيون من ضحايا وشهداء يكفي ان نقول بأن هناك ثورة اعلامية ستتحقق في العراق ان كان هناك ثمة مشروع وطني ليبرالي مدني يحمل هم الوطن ويجمع كل العراقيين تحت رايته . ان هناك صحفا ومجلات واصوات عراقية ممتازة ونقية وحريصة ونظيفة وانا اعرفهم واحدا واحدا ومتابع لمواقفهم وانشطتهم .. فهل ثمة من يبقيها من اجل معالجة واقع العراق وبناء مستقبل العراق ؟

17. هل تعتقد بضرورة انسحاب سريع للقوات الأمريكية من العراق؟ وما رأيكم بمشروع الاتفاقية الأمريكية العراقية لتنظيم الوجود العسكري الأمريكي في العراق؟

ـ العراقيون اليوم منقسمون حول هذا الموضوع الخطير .. وبصراحة وتواضع جميعهم لا يدركون ابعاده ومخاطره وما الخيارات الصعبة التي يمكن ان نسلكها .. ان هذه المسألة ليست سياسية بل انها وطنية ، وهي ليست ابنة الحاضر بل انها قضية مستقبلية بالدرجة الاساس .. بمعنى انها تاريخية .. ان الجهل بتواريخ العلاقات الدولية في التاريخ الحديث والمعاصر يجعل اغلب العراقيين يتخبطون ، ولا يعرفون من اين تمسك خيوط القضية ! ثمة من يسعى الى هذه المعاهدة من دون قيد او شرط ، كونه مقتنع وراسخ القناعة ان امريكا ستبقى الاب الرحيم للعراق ( كذا ) ، وقسم مجنون بالتوقيع عليها من اجل كسب مصالح اقليمية او فئوية او جزئية على حساب المصالح العراقية العليا ، وقسم يتخبط بين القبول والرفض ، فهو مشّبع بقيم ومبادئ معينة ولا يريد ان يفّرط بها ، وهكذا بالنسبة لآخرين يرفضون اي علاقة مع الامريكيين كونه ترّبى على كراهية الاستعمار ، وقسم أخير يرفض رفضا قاطعا اي اتفاقية مهما كان نوعها مع الامريكيين كونهم محتلين للبلاد وكانوا قد دمروها واحتلوا اراضيها وعاثوا في سكانها فسادا .. ونصّبوا حكومة عميلة لهم ـ كما يقولون ـ ، بل وان الامريكيين يحاولون تقسيم العراق .. كل هذا التفكير لا نجده عند الامريكان . الامريكيون يعترفون بأنهم جاءوا من اجل المصالح المركزية الامريكية ووسائلهم في ذلك : الخلاص من اسلحة الدمار الشامل والقضاء على الارهاب ونشر الديمقراطية الى نهاية الاسطوانة . اننا كعراقيين لسنا اذكى من غيرنا والامريكيون في مقدمتهم اذ لا تعرف حتى الان الاسباب الحقيقية لغزو العراق والاطاحة بنظام صدام حسين .. العالم اليوم كله يجهل ماذا تتضمن الاستراتيجية الامريكية لخمسين سنة قادمة .. انني اقول كمؤرخ محترف ادرك ان كل الدول المهزومة توقّع على اتفاقيات بعد ان يصار الى هدنة .. كما ان العالم كله بات يتعامل مع الامريكيين من خلال اتفاقيات ، ولكن تلك " الاتفاقيات " لا تمس لا بالسيادة ولا باستقلالية القرار ولا بالمصادر والثروات ، بل ولا علاقة لها بالمصالح العليا لكل بلد .. ولكن العراق بوضعه المهلهل اليوم وسط غابة تعج بالمفترسين في الشرق الاوسط بحاجة ماسة الى ان يتفاهم مع الامريكيين على مبادئ اساسية قبل التوقيع على اية معاهدات مشتركة ، وخصوصا اذا كانت ذات منحى استراتيجي وامني . كل العراقيين يدركون ان العراقيين لابد ان يدفعوا ثمنا باهضا ، ولكن عليهم ان يكونوا عند تحمّل المسؤولية في ربط كل ما يقبلونه من الامريكيين يقابله مطالب عراقية .. اولها اعلان مبادئ وطنية تقبل بها الولايات المتحدة وتنص على وحدة العراق وسيادته واستقلاله وقوته والحفاظ على ثرواته .. كما لا يمكن لأي عراقي له قدر من الوطنية ان يقبل اية اتفاقات من دون قيام الولايات المتحدة باعمار ما قامت بسحقه في العراق بدءا بالعام 1991 وانتقالا الى العام 1998 ووصولا الى العام 2003 وانتهاء حتى اليوم . على كل العالم اطفاء ديون العراقيين .. ان نشترط ايقاف ما يسمى بالتعويضات للدول الاخرى .. ان تقف الولايات المتحدة معنا في مقاضاة دول نالت من حقوق العراقيين واموالهم وطائراتهم وثرواتهم .. ان نطالب الولايات المتحدة بتعويض العراق لكل ما قامت بسحقه من طائرات وادوات حرب ودبابات .. ان العراق ينبغي ان يطالب بكل مفقودات

53
ليسَ في العراقِ مناطقَ مسلوخة !

أ.د. سيّار الجَميل
من المضحك اليوم ان تجد البعض من العراقيين يتصارعون على ارض لا يريدون ان تكون عراقية، بل يعتبرونها اراضي مسلوخة، أو انها قد سلخت منهم! متى سلخت وارشيف التاريخ يشهد بتبعيتها وملاّكها وساكنيها منذ القدم!؟ ويعلمنا - ايضا - لمن كانت تبعيتها؟ الى اي دولة؟ والى اية خرائط؟ والى اية مراكز ومدن؟! من اكبر جنايات التاريخ بحق هذه الارض او تلك المدينة او ذاك الشط او هذه القصبات ان تقول بالاكثرية والاقلية ونحن ندرك كم استمر نزوح العراقيين من هنا الى هناك على امتداد عمر الدولة العراقية المعاصرة. ما دمنا نؤمن بالعراق لا بغيره، فكل شبر عراقي هو ملك لكل العراقيين. لماذا تصبح عملية استيطان مدينة ما جريمة من الجرائم، وتغدو عملية نزوح واسعة النطاق الى العاصمة حالة طبيعية؟ لماذا لا نسأل عن اسباب تلك الحركة وذاك النزوح وهذا الاستيطان في كل المجتمع العراقي؟ هروب الاف الموصليين الى بغداد عام 1959؟ نزوح أهل الصرايف الى ما حول بغداد من كل جنوب العراق؟ من اين اتى الكويان والكاولية والقرج وأهل تنّه وغيرهم ليحلوا بالموصل في شمال العراق؟
كان العراقيون ينزحون من مكان الى آخر بارادتهم.. ويسكنون قرب المدن بارادتهم. باعتبار انهم يتحركون على ارض وطن واحدة موحدة بلا مساءلة، ولا ملاحقة. لم يعرف العراقيون ان بلادهم هي مجموعة جزر متفرقة او مقاطعات او دوقيات. ولم يتخيلوا يوما ان يأتي احدهم ليصف بعص قسمات بلادهم بـ "مناطق مسلوخة"! وما كانوا يدرون ان مدنهم كلها او بعضها ليست عراقية! لقد فتح العراقيون ابوابهم لكل النازحين والمهاجرين واللائذين به من دول الجوار، ومن دون اية حساسيات، بل كان الاندماج واسعا وكبيرا على مختلف العهود السياسية.
دعونا نسأل: هل نحن نؤمن بالعراق أولا، ونؤمن بروح العصر ثانيا، حيث لا فوارق بين الاطياف الاجتماعية والثقافية في اي تجربة حضارية (فيديرالية)؟ ام نحن ضد العصر حيث نزرع الفوارق العرقية، ونخلق الصراعات من اجل حدود لا وجود لها أبدا في ارشيف التاريخ لكي نجزئ العراق تحت يافطة الفيديرالية؟ هل من الحق ان نخلق لنا مجموعة من الجغرافيات الداخلية الشبيهة بدوقيات العصور الوسطى بحيث يتصرف امراؤها على هواهم، ويصدقون ادعاءاتهم، فليس في التاريخ "وثائق " يمكن الاعتماد عليها أبدا في مختلف دعاويهم العدائية! هل نحن اسوياء نسعى لخلقها اليوم من العدم، ونبقى نحمل ورقة توت عراقية امام الآخرين؟ ان من اسهل الامور ان تزيّف هذا الواقع الفاسد والمتشظي بكل انقساماته، ولكنك لا تستطيع ابدا تزوير ارشيف التاريخ، خصوصا، ونحن نعلم ما الذي كان قبل خمسين سنة من اليوم وما الذي صار بفعل نزوح السكان العراقيين كالجراد الى امكنة محددة بالذات دون اماكن اخرى، ولنا في بغداد العاصمة اكبر مثال على ما اقول، بحيث جذبت ابناء السهول والشواطئ والجبال والبراري والقفار والاهوار الى اطرافها اولا، ومن ثم الى احشائها ثانيا! ان ما جرى في بغداد، جرى مثله او اتعس منه في كل من الموصل والبصرة وكركوك بشكل خاص.
ان كان لنا عراق حضاري في يوم ما، فقد كان من صنع كل المنتجين والمبدعين والاوفياء الذين التصقوا بحياة العصر وآمنوا بوحدة شعب العراق، واستلهموا كل معاني ارشيف تاريخ العراق، وتحركوا على كل تراب العراق من دون ان يميزوا هذا الشبر منه عن ذاك، الا من اراد الخروج عن ارادة وطن. ولقد اصبح معروفا للجميع بأن عراق التوحش والغاب لم يكن من ورائه الا المستبدون والمتعصبون والغلاة المتحزبون ليصنعوا فجائع التاريخ على ايدي ميليشياتهم الخضراء او الصفراء او الحمراء. أسأل: اذا لم نكن نؤمن اليوم بالعراق وطنا وهوية وترابا، فما موقفنا من كلّ الذين ضحوا بدمائهم وانفسهم ووجودهم من اجله على امتداد خمسين سنة مضت وانقضت؟ اذا كان هناك من لم يؤمن بهذا، فكيف يمكنه التعايش معي على امتداد المستقبل؟
اذا أتى اليوم من يقول إن في العراق مناطق مسلوخة، والقائل أخ احترمه واعتز به كثيرا، فماذا سيجيب الشعب العراقي على هذا التصريح الجارح؟ وهل تنفع تصريحات جارحة كهذه في زمن نحن احوج ما نكون الى العقل والحلم والصبر والمشاركة والمرونة لا الى اثارة التشنج والكراهية واشعال العواطف المتمردة. خصوصا ونحن نعلم بيد من مقاليدنا جميعا؟! واخيرا أسأل: من يسلخ من؟ ومن يريد سلخ العراق؟
اذا كنتم تسمونها مناطق مسلوخة او مقتطعة. فممّن سلخت؟ ونحن ندرك تاريخ العراق العثماني على امتداد اربعة قرون، ونعرف ولايات العراق وتبعية مناطق كل ولاية من السناجق والاقضية والنواحي. نحن ندرك دور اي مدينة عراقية في التاريخ الحديث واعداد سكانها والتحولات الديموغرافية التي اصابتها. نحن ندرك أن دعاوى كهذه لم تكن موجودة في الماضي على ايديكم انفسكم. فما السبب في احيائها اليوم؟ نحن ندرك ان اهم تعداد ديموغرافي للعراق جرى في العام 1957، فلماذا لا يتم الاعتماد عليه لمعرفة الاشياء والحقائق؟ نحن ندرك ان ليس هناك منطقة عراقية واحدة من شماله حتى جنوبه لم تختلط الناس عليها على امتداد عشرات السنين. نحن ندرك ان مناطق معينة في مدن عراقية معينة امتلأت بالنازحين من كل الجهات بعد ان كانت فضاءات برية واسعة، فكيف نأتي اليوم لنطالب بمثل هذه المدن كونها مناطق مسلوخة؟
ان العراق يخوض اليوم صراعا من اجل ان يكون كما كان عليه على امتداد التاريخ، او لا يكون من خلال من لم يؤمن به اصلا! ان العراق الذي استعصى على التقسيم كل هذه السنين، ومنذ العام 1991 مقارنة بغيره من الدول التي انقسمت وتفككت، سيبقى مصيره معلقا حتى يدرك كل العراقيين ان ارادتهم جميعا هي التي تصنع منهم شعبا لا شعوبا، ووطنا لا اوطانا، ولا يمكن ان يستقيم امره الا مع مشروع عراقي وطني موّحد، وهو يعيش في قلب مجال حيوي، ويجاور دول اقليمية لا يستهان بها. ان العراق لا يمكنه ان يعيش مجزأ بأي صيغة يريدونها، فالاجزاء ستكون حتما طعمة للافتراس. وان التاريخ يعلمنا كم هو حجم المفترسين ازاء العراق. ان العراق لا يمكن ان تسيّره بعض الاحزاب التي لا تؤمن اصلا بالعراق والعراقيين. فالشعب في اي مكان سيبقى يرتبط بالارض والجغرافيا لا بالاحزاب وقادتها. والمجتمع سيبقى يحمل موروثه التاريخي والثقافي وسيكون ذلك اقوى بكثير من اية اجندة سياسية هزيلة. ان العراق كان وسيبقى يعاني من الصراعات الداخلية حتى يدرك الشعب العراقي ان لا خيار له الا مشروع عراقي موحد يجمع ارادتهم في اتجاه المستقبل. ولا خلاص له الا بتغيير مجمل المسار السياسي الذي يتخذه اليوم. فهل سيحدث ذلك؟ نعم، ولكن بعد زمن بعيد!
www.sayyaraljamil.com

النهار البيروتية ، 16 ايلول / سبتمبر 2008 .
 

54
لماذا تتآكل حصوننا من دواخلها ؟


د. سيّار الجََميل

من مشكلات التفكير في اغلب مجتمعاتنا اليوم ، التماهي مع الافكار الرائجة الجديدة التي تّقدم السياسة وتناقضاتها على حساب الاوطان ونزعاتها ، وفشل كلّ مشروع للاصلاح والتحديث بحجة دعاوى معينة ، ويبدو انه لم يعد للمفاهيم الوطنية اي اعتبار ، اذ غدت مجرد شعارات تخدير في الخطاب الاعلامي .. في فلسطين ، كان النضال من اجل تحرير وطن سليب ، فاصبح من اجل ولادة قيصرية لدولة ! في لبنان ، كان الصراع من اجل وطن متعايش ، وغدا من اجل سلطة طوائف ! في ايران ، كان النضال للخلاص من قبضة شاهنشاه ، فسقطت بيد وليّ فقيه .. في العراق ، تشدقّت المعارضة بالحريات ، وامسى الوطن مقاطعات ومليشيات وخطوط زرق وحمر .. في السودان ، كان السعي لوحدة وادي النيل ، وبات يتشرذم .. في مصر ، كان الطموح ريادة الامة العربية ، وغدت منكفأة بمشكلاتها الصعبة .. في الجزائر ، كان التاريخ قد اعاد ولادة وطن بعد تاريخ استعماري مقيت طويل ، وغدت اليوم تعيش تناقضات لا حدود لها .. اليمن بالرغم من توحده بين شمال وجنوب ، الا ان سطوة القبيلة لم يزل معرقلا لأي توحيد .. الخ وهكذا سلسلة من اوطان لم تعد تعرف نفسها .
والمشكلة الاساسية اننا نفتقد مع تقدّم الزمن افضل النخب ونستقبل اسوأ الجماعات .. لقد تعايشنا مع كل الهزائم على امتداد نصف قرن مضى .. وانتقلنا من بدايات نهضة وحياة الى حالات صمت وسبات .. وهزلت الدولة العريقة بعد هيبتها على ايدي الطفيليين الجدد وملياراتهم .. نعم غدت  مقترنة بالسلطات لا بالمؤسسات ، وبالطغيان وهشاشة النظم ، لا بسيادة القانون .. وها قد مضى قرابة الثلاثين عاما على هول التراجعات ؟ فما هي رؤيتنا لثلاثين سنة قادمة في عالم يزداد تسارعه التاريخي ، وتتسع عولمته الاقتصادية ، وتمتد مدياته الاعلامية .. ؟؟ لماذا لم نشعر بحاجتنا للتغيير من دواخل حصوننا المهترئة ؟ 
ان أوطاننا لم يصنعها الآخرون فهي قديمة قدم التاريخ  ، وان اي دولة تقوم كمؤسسات  على تراب وطني ، ويعيش عليه شعب ، فان مفهوم " الامة " يصبح تحصيل حاصل . واذا كانت بعض الاوطان يستوطنها منذ القدم بشر من غير العرب ، فلا يمكن ان نلغيهم بجرة قلم او رفع شعار ؟  فهي قوميات عريقة يمكنها التعايش من دون اثارة نوازعها ضد العروبة ، كما حدث في خمسين سنة مضت . ان باستطاعتنا ان نجعل " العروبة " هوية انسانية من دون اي شوفينية ، وباستطاعتنا ان نجعل مجتمعاتنا منفتحة بلا اي انغلاقات . ان ما ينطبق على العرب يستوجب سحبه على القوميات الاخرى ، اي على الاكراد والتركمان والامازيغ والكلدان والسريان والارمن واليزيدية والاقليات الاخرى التي لابد ان تجد فرصها التاريخية في التعايش ومبادلة التسامح واستمرار الشراكة ، فلا مجال ابدا لاشعال اية صراعات داخلية تخسر كل الاطراف كل حياتها ومستقبلها في اوطانها جميعا .. ناهيكم عن الانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية .. ضمن متاهة تزدحم بالمشكلات والتعقيدات ، وتتطلب حلولا سياسية تتشابه الى حد كبير في عموم العالم الاسلامي المعاصر .
كثيرا ما يأتي الذبول التاريخي عندما تتآكل الحصون من دواخلها بفعل ابنائها .. ان دواخل بعض مجتمعاتنا قد اصابها التعفّن منذ قرابة ثلاثين سنة مضت نتيجة القصور ، والهشاشة ، والضعف ، والسذاجة ، واحتقار العقل ، وهجمة الغلو والتطرف ، كما ان الثقافة الحقيقية غدت مغيبّة ومستهجنة ، وتلاعبت العواطف دوما بأهواء مجتمعاتنا ، وطغت عليها مخيالاتها وشعاراتها الواهية ، كما وتحكمت السرعة في قرارات السلطات فيها ، ولم يعترف الانسان باخطائه وهزائمه ابدا .. لم ينفتح على الاخر ، وغدا يعبث بالخصوصيات ، ولا يؤمن بالنفع العام ولا المال العام .. ليس بقارئ ولا بمدقق .. عدو للحداثة ، عاشق للتعصب ، مزاول للتطرف ، لا يحب العمل الجماعي .. يؤمن بالعشائرية والطائفية والجهوية والمحلية .. يردد الشعارات من دون تفكير مسبق بها  .. لا يصحح مفاهيمه القديمة ..  يحمل تناقضاته الى اي مكان يذهب اليه .. لقد انهار عالمنا مع زيادة النكسات والهزائم العسكرية والنفسية والفكرية والاخلاقية .. وشهدنا مأساة حروبنا الباردة والساخنة بين سياسات الدول .. كنت اتمنى لو سار العرب في طريق آخر غير الطريق التي سلكوها منذ خمسين سنة ، لكانوا اليوم بكل قدراتهم ومواهبهم وامكاناتهم يحسب لهم حسابهم ، ولكن عشنا حالات التراخي ، وضياع الازمنة الثمينة في الهوس ، وترديد الشعارات الماكرة .. لم يعد الضبط والربط موجودا في دول عدة ، بل واندلعت حروب لا معنى لها قتلت زهرة شبابنا ، وازهقت ارواحا بريئة ، وبددت ثرواتنا هباء .. لم نجدد انفسنا مع توالي الايام والازمان .. لم تجد مجتمعاتنا فسحة من التغيير من اجل بناء وعي جديد بالزمن والتقدم .. هيمنت على العقول وكبست على الاذهان تلك الاوهام السياسية العمياء . وعّم الاضطهاد والاستبداد ، فلا اية مساحة للرأي الاخر ، بل ولا حتى هامش صغير للحريات .. ساد القمع والكبت في كل مكان .. كل هذه وتلك جعلت مجتمعاتنا تتفكك ، ونخبها تهاجر ، واجيالها تنغلق ، وشارعها يصمت .. فمتى تتغير بوصلتنا نحو المستقبل ؟  انها تتغير بولادة انسان جديد ووعي جديد وعلاقة انتاج جديد وابداع من نوع جديد ..
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 10 سبتمبر 2008

55
الجغرافية الثقافية للعراق الحديث


د. سّيار الجميل

نص تحريري للمحاضرة الشفوية التي القاها الاستاذ الدكتور سيّار الجميل
 في الجمعية العراقية الكندية بتورنتو / كندا  امسية يوم الاحد 27 تموز / يوليو 2008

القسم الاول
ايها الاصدقاء
اسعدتم مساء ، وأشكر لكم حضوركم هذه " المحاضرة " ، كما اشكر الاخ الشاعر كريم شعلان على تقديمه لي وكلامه الجميل عّني الذي لا استحقه .. واشكر الجمعية العراقية الكندية بمدينة تورنتو استضافتها لي ، كما اشكر حضوركم ودعوني اختزل موضوع هذه الامسية في ثلاثة محاور : محور في فلسفة المعنى والتعريف وأهمية الموضوع ، ومحور في المضمون والتطبيق من خلال عرض جملة من المصورات والخرائط والاشكال العراقية  ، ومحور خلاصة الاستنتاجات والرؤية الجديدة من اجل تطوير المجال الحيوي للعراق ثقافيا وانسانيا حضاريا . انني اذ اقدم هذا " الموضوع " الذي لا يمكنه ان يقدم في محاضرة ، بل انه ، كما يبدو ، عنوان كتاب كبير او مشروع جماعي ، فأنني اتمنى ان اقدم في هذا المساء الجميل : مجموعة أفكار جديدة حول موضوع نحن بأمس الحاجة اليه ، وخصوصا في العراق الذي يتميز بخصوصياته الجغرافية طبيعية كانت ام بشرية ام سياسية .. فكيف اذا كانت ثقافية ، وهو يستقطب من خلال تنوعاته الاجتماعية عدة الوان من الثقافات المتنوعة التي يمتد عمق بعضها الى الاف السنين ، حتى على مستوى اللهجات المستخدمة.. مقارنة بكل الانتهاكات التاريخية التي تعّرض لها العراق عبر مئات السنين ، وتأثيرها على كل بنيوياته الاجتماعية التي عبرّت عنها ثقافيا على كل الرقعة الجغرافية العراقية .
أن الموضوع حديث لا يتجاوز عمره العقد الواحد من الزمن ، بدأ في جامعة كولارادو ، ولهذا فالمحاضرة هذه ، هي محاولة او مدخل ليس فيه تفاصيل واسعة ، ولما كان العراق موضوعا مهما ، وهو سلسلة واسعة جداً ، وبدأ العالم يهتم بالثقافة الموجودة في أي مكان من العراق ، فينبغي العناية بجغرافيته الثقافية . ان اسلوب الحياة عند العراقيين يختلف من مكان إلى آخر ، كما ان البحث يراقب الحركة الانسانية والخطاب ( = مقول القول ) ووسائل التعبير وإختلاف الأزياء ، واللغة المستخدمة ، وإختلاف اللهجات ، والأفكار ، والنّخب ، ودور الطبيعة والتضاريس ، لذلك فان العراق هو من احوج بلدان الشرق الاوسط للدراسة والبحث المقارن . ربما نسمع صورة مشوهة عن العراقيين ، ولكن تبقى الآراء  تختلف حول الكثير من الأمور الحياتية : حول الموسيقى والغناء ،ولكل عراقي له ثقافة بيئية مختلفة ، وهذا لا ينسحب على النّخب المثقفة فقط .

فلسفة المعاني .. الاهمية
1.   العائلة الجغرافية
ان الجغرافية الثقافية تنتمي الى عائلة العلوم الاجتماعية ، ولكنها علم جديد لم يمض على تطوره الا سنوات قليلة  ، ولعل اشهر مدرسة منهاجية تثري موضوعاته هي الكائنة بجامعة كلورادو والتي تصدر مجلتها الفصلية العلمية المعروفة باسم الجغرافية الثقافية ، فضلا عن اهتمامات بعض خبراء اليونسكو بهذا الموضوع الحيوي ، كما وصدرت في اماكن عدة من هذا العالم عدة عناوين لمضامين واسعة ومهمة جدا . ان الجغرافيات انواع : طبيعية وبشرية واقتصادية وسكانية وادارية .. ولكن الثقافية هي التي تعتني بثقافة الانسان والمجموع معا ، ومدى تأثير كل من المكان وعناصره في تكوين تلك " الثقافة " ومجال حركتها وحيويتها .
2. المضامين
ان الثقافة في حد ذاتها ، موضوع مثير جدا ، وتتذرع  بمفاهيم تعبّر عن حقائق تاريخية وواقعية  متنوعة من الحياة في اطار المجتمع الانساني ، وكسب العيش ، وأنماط المعيشة ، والكلام ، والتسلية ، والضرورات المستهلكه ، والأكل والفولكلور والازياء ، فضلا عن الحكايا ومواريث الرواية والتعبير الشعبي والموسيقى والغناء واماكن التلاقي الاجتماعي وطقوس الاعياد والمناسبات .. الخ . ولعل اهم من هذا كله وذاك ، الخطاب ومقول قول الانسان وتعبيراته عن واقعه واماله وطموحاته وتطلعاته وحبه وكراهيته وفشله ونجاحه ثم التعبير عن انتصاره وهزيمته .. علاقته مع تفسه والاخر ، المرأة والرجل والطفل  .. استقراره وهجرته .. حضريته ام ريفيته ام بداوته . وهنا ، يمكننا ، بطبيعة الحال ، ان ننقب اعمق لفهم 'كيف' و 'لماذا' ؟ باختصار : انه عمليه استقصاء ممتع عن اسلوب حياة اي مجتمع من المجتمعات ، والتعرف على عوامل تكوين الثقافة في جغرافية معينة .
3. الثقافة : قضية اشكالية عربية
الثقافة ، قضية اشكالية في رؤيتنا العربية لها ، وكما فسرتها في اكثر من مكان ، انها  Culture في معرفة ثقافة ( او : ثقافات ) اي مجتمع من المجتمعات . وهي       Education لأي مجموعة اجتماعية تمر بمرحلة التكوين ، حتى تصل مرتبة النخب المنتجة المبدعة Intellectual Elites  وهي التي تؤلف المشهد الثقافي لأي بلد في هذا العالم .. انها المعبرة عن روح العلاقات الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية ودوافعها ، والتي تؤدي بالنتيجة الى انتاج الثقافات؟
4. مفهوم التباينات والموضوعات العراقية
ان مهمة الجغرافية الثقافية ليس التنظير لواقع ثقافي قي بيئة معينة او مجموعة بيئات ، بل يتجاوز كّل من ينظّر ويفكّر فيها محاولة وصف ، او 'مجرد وصف' الناس والاماكن الغريبه ، لتحليل الواقع ، بل التغلغل لاجراء التطبيقات والمقارنات والتساؤل من خلال 'لماذا' و 'كيف' تمنح الثقافة منحى انساني مجرد من كل العنعنات والصراعات الداخلية المتوارثة والمتوالدة . فعلى سبيل المثال ، كيف يمكننا ان ندرس في وقت مبكر اشكال الثقافات التي تنتجها اوضاع المدن التجارية او جوانب الحياة الزراعية الريفية في المجتمع العراقي ؟ ولماذا تباينت الثقافات المحلية تبعا لطبيعة جغرافية اي بيئة حضرية او قبلية ؟ وما تأثير ضفاف الانهار او اعماق الاهوار ، او بيئات الجبال او الاستبس او السهول ؟ ما دور المدن واشكالها القديمة سواء بيئتها داخل الاسوار ام خارج الاسوار ؟ ماذا يكمن وراء الهجرة من الريف والبادية الى اطراف المدن ؟ ما شخصية دجلة الثقافية المتحركة مقارنة بشخصية الفرات الهادئة ؟ ما تأثير السدود والري والجسور على الحركة الثقافية ؟ ما تأثير سكة حديد برلين بغداد البصرة ( بي بي بي ) وسكة حديد بغداد ـ كركوك ومحطاتهما على الطريق الجديد بعد زوال الطريق السلطاني العراقي البري القديم ( شرق دجلة ( بغداد ـ بعقوبة ـ كركوك ـ اربل ـ الموصل ـ آمد  نحو استانبول ) ، والمسلك النهري لدجلة وغياب الاكلاك والقفف النهرية ؟ ما تأثير المصانع الجديدة على غياب الحرف القديمة والاصناف الصناعية القديمة وبداية تشكيل النقابات العمالية ؟ وما دور الحركة العمالية ؟ ما تأثير الادارة والادارة المحلية على تنقلات الموظفين عبر ارجاء العراق  ؟ ما دور المؤسسة العسكرية في التلاقح الاجتماعي ؟ ما دور الكهرباء والاضوية والشوارع واشكال الحياة الحديثة في الهجرة من الريف الى المدينة حيث الاسواق والشوارع والمطاعم والسينماوات والكابريهات ؟ وصولا الى الادوار السياسية والاحزاب والتجمعات والكليات والحركة الطلابية ، وآثارها كلها في متغيرات الانماط والتقاليد في الجغرافية الثقافية العراقية ؟ ما دور الشركات الاجنبية والوطنية ايضا ، وخصوصا شركات النفط في كل من كركوك والبصرة وعين زاله ؟  ان الجغرافية الثقافية ينبغي ان تستخدم  فكرة كارل ماركس المسماة 'نمط انتاج' . وكيف يمكننا ان نفهم ما 'قيمة' الانتاج العراقي ،وتبيان طبيعة علاقات الانتاج العراقية ،  او بالاحرى 'قيمة' يتم انتاجها في مختلف البيئات العراقية المتنوعة بكل تناقضاتها بدءا بالقبيلة والعشيرة التي تحكم كل من الريف والبادية العراقيتين ، ومرورا بالبلدات والقصبات البلدية الصغيرة وانتهاء بالمدن التي تكتظ بالاسر والعوائل التي تؤلف نسيج المجتمع الحضري بكل مستوياته المتباينة المتنافسة لا بطبقاته الاجتماعية المتصارعة  ، مع نمو البورجوازية فيها وتعاظم المستويات لطبقة متوسطة مستحدثة مع تسارع نمو لدولة شبه رأسمالية.
5. منهج العمل
ان المنهج الذي يمكن الارتكاز عليه في دراسة موضوع الجغرافية الثقافية ، يقوم بتحليل الكيفيه التي تمنح مجتمعنا العراقي الذي كان يتصف بتسارع التحولات الاجتماعية فيه ، كي يغدو مجتمعا حديثا اعتمادا على عوامل عدة لا تحددها المستهلكات ولا الشعارات السياسية ، بقدر ما تحددها المنتجات ونمط الانتاج وعلاقات الانتاج .. وصولا الى قوة الحياة الثقافية . اننا امام تعقيدات غاية في الخصوبة العراقية لمجموعة العادات والتقاليد المتغيرة ، والاندفاع للتعبير عن الواقع عراقيا بالاغاني والاشعار والموسيقى والامثال والازجال والقراءات والتجمعات في احتفالات ومنتديات او مقاهي او مدارس وفتوة وكشافة .. الخ علينا ان نفهم كيف نصنّف الناس في علاقاتهم في ما بينهم ، وعلاقاتهم بـ 'الآخرين'. علينا ان ندرك طبيعة المرأة العراقية وقدراتها وساعات عملها وانتاجها في كل بيئة وما تتصف به من سمات انسانية .. علينا ان ندرك ذكاء الطفل العراقي ومزعجاته وفجاجة حركاته نتيجة فرط شيطنته وكثرة اسئلته ودلاعته او وكاحته ..
6. العراقيون : كيف يفهم بعضهم بعضا ؟
علينا ان ندرك الفجوات الجغرافية التي تفصل كل ثقافة عن ثقافة اخرى ، فمن الصعب ـ مثلا ـ على ابن الاهوار في الجنوب ان يتعرف على ابن البلدات المسيحية او القرى اليزيدية في الشمال او العكس .. ثم نفرض التساؤلات عن الارادة الثقافية العراقية التي عاشت بعيدا عن مثقفي السلطة .. حرة مستقلة تطالب بحقوق الانسان كما كانت تبثه وسائل الاعلام وانتشار مبادئ الاعلان العالمي لاستخدام " الثقافة " بوصفها أداة لم يصلها واقع العراق حتى الان لما بعد الحداثة ، وكان مؤملا ان يندفع المثقفون العراقيون الحقيقيون للوصول الى ذلك لولا الانتكاسات والهزائم السياسية المريرة التي اودت بالعراق والعراقيين كلهم ودخول العراق في غيبوبة تاريخية طويلة كان العراقي المنتج والمبدع والمثقف ولم يزل حتى اليوم مهمشا مقصيا ، وخصما لدودا ، الا من سار في ركاب السلطة او تعّلق باذيالها .. لقد خسر العراق طاقات كبيرة جراء ممارسة  التهجين بسيطرة السلطة على مقاليد الثقافة لتغدو احادية ومؤدلجة .. وبدت تعاني من الصراع والعنف -- ثقافة مغالبة ومنغلقة على التوحش او الخوف او الممالئة والقيود الثقيلة .. لقد غدت التناقضات تأكل حياة العراق في كل جغرافياته وبيئاته .. وبدا المثقف العراقي نتيجة لذاك الوضع ، رخا ، ومهمشا ، او مداهنا ، وخائرا !
7. التشظي والهجرة والانقسامات
ونحن سوف لا ننقب عن نظريات وامثلة عن كيفية تشظي الثقافة العراقية وغلبة الفوضى عليها من خلال ركام التناقضات التي حشدتها في احشائها .. ولقد ساعد في ذلك هجرة العراقيين افواجا الى خارج العراق بفعل العنف السياسي والاجتماعي معا . وأخيرا ، فإننا سوف نتعلم عن منتج مختلف الحركات الاجتماعية ، والتي بدت تسبّح ليل نهار بالثقافة القومية والشعارات المخيالية التي لا علاقة لها بالواقع ابدا ، وتستخدم بشكل متزايد كل الوسائل للتأكيد على الهوية العربية والثقافة القومية مما سبب ردود فعل عنيفة ومكبوتة لدى القوميات والاطياف العراقية المختلفة . ان الجغرافية الثقافية تقوم اساسا على استخلاص الادوات المفاهيميه لكل ما في العراق من ثقافات متنوعة ندعو كل المختصين والعلماء العراقيين الاهتمام بها ، وفهمها ، وتحليلها ، وشرح مضامينها والبحث عن الجوانب الانسانية فيها ، وان لا نعتبرها مجرد وصف لظواهر ثقافية معينة ليس لنا فيها الا التنظير بعيدا عن اية تطبيقات عملية ، وهدفنا تمكين الاجيال القادمة من فهم واقع الحياة العراقية وادراك سايكلوجية العراقيين الخاصة .
قفلة المحور الاول
ان الموضوعات التي ساتطرق الى معالجتها في المحور القادم ـ مثلا ـ ، ستكون مفهومة من خلال منظور جغرافي ، حيث الفضاء والمكان ..واستعين بالخرائط والرسوم التي سنراها معا كي نحللها واحدة بعد الاخرى . انني لا استطيع ان اغطّي كل متطلبات المنهج لاتساع المضامين في الجغرافية الثقافية للعراق الحديث ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ( لتحديد موضوعات يستفاد منها الباحثون مستقبلا ) : دراسة البلدات والقصبات والمدن العراقية وتحديد ثقافاتها قاطبة ، واين يكمن بروز المثقفين والتجمعات والنخب  .. ؟  وما تأثير كل من المجتمع الرعوي ، والمجتمع الزراعي ، والمجتمع الحرفي ، ثم الغرف التجارية ، والمسالك ، والطرقات ، والمحطات ، والاسواق ، والجمارك ، والشركات ، والنقابات ، والاصناف ؟ ايضا : ما طبيعة الاغذية ، والملابس ، والازياء ، والموسيقى ، والهندسه المعماريه ، والتقاليد ، والاديان ، واللغات ، واللهجات ، والطقوس ، والعادات ، والتقاليد ، والعلاقات ، والشراكة .. الخ ؟  ما الفرق بين مجتمعات دجلة المحلية عن مجتمعات الفرات المحلية ؟ ما طبيعة العشائر العربية والكردية والتركمانية وغيرها .. ؟ واخيرا ، ما موقع العراق في الجغرافية الثقافية للعالم ، عندما نعلم بأن هناك في العالم حوالى 200 دولة مختلفة واكثر من 6000 من لغات متميزه. واللغة ، كما هو معروف ، هي الاساس في التكوين الثقافي ، ثم اخيرا موقع الثقافات العراقية ازاء ما يقرب من 6000 من ثقافات العالم المختلفة ايضا في افريقيا واسيا واوروبا والامريكتين واوقيانوسيا.

انتظر القسم الثاني من المحاضرة
www.sayyaraljamil.com


56
جوزيف بايدن : نائبا وربما رئيسا ؟
د. سيّار الجميل

قبل قرابة العام ، نشرت مقالة بعنوان " مشروع بايدن : تمزيق العراق لا تقسيمه ! " ( النهار البيروتية ، 5 اكتوبر 2007 ) انتقدت فيها مشروع السيناتور جوزيف بايدن الذي اقره الكونغرس الامريكي ، بتقسيم العراق الى ثلاث دويلات هزيلة .. وقد لاقى القرار رفضا واستهجانا من قبل الشعب العراقي والمجتمع السياسي العربي .. وكان السيد جلال طالباني رئيس جمهورية العراق ، قد بارك القرار ، ووصف ردود الفعل الرافضة بالعاطفية وغير المتمعنة .. واليوم ، يأتي المرشح اوباما كي ينّصب جوزيف بايدن نائبا له ، معتبرا اياه " خبيرا في السياسة الخارجية " ، وان تفكيره الصارم يخيف الحكام المستبدين . صحيح ان بايدن له " خبرته وضلوعه في الشؤون العالمية" ، ولكنه خبير فاشل ، وان سجله السياسي يشهد له بمشكلات احدثها نتيجة ادخال انفه في شؤون الشرق الاوسط ، وانه سيزيد من الاخطاء الامريكية كثيرا في معالجة تلك " الشؤون " المعقدّة، وكان هو نفسه وراء تسجيل الولايات المتحدة اخطاء عدة ، وخصوصا في ايران والعراق . انني اكتب اليوم مقالتي عنه مطالبا العرب معرفة من يكون بايدن ؟ وماذا لو جاء نائبا للرئيس الامريكي الجديد في حال اختير باراك اوباما ؟ وماذا لو اختارته الاقدار رئيسا  في غياب اوباما ؟
لقد اصبح بايدن سيناتورا في الكونغرس بعد اختياره نائبا عن الحزب الديمقراطي لولاية ديلاوار, فتولى عضوية لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأميركي سنوات طويلة قبل أن يتولى رئاستها في 2007. وقد عرف بأنه صاحب دور قوي ومؤثر في مكافحة الإرهاب والمخدرات ومنع الجريمة. انه ابن ديلاوار التي ترعرع ودرس التاريخ والسياسة والقانون وتخرج في العام 1968 .. عمل محاميا ، ودرّس القانون الدستوري ، ثم دخل المعترك السياسي ، وانتخب نائبا عن الحزب الديمقراطي لأول مرة عام 1972 وهو في الـ29 من عمره. وتقلد جملة من المناصب بالمجلس أبرزها رئاسة لجنة الشؤون الخارجية إضافة إلى عضوية عدة لجان قانونية.
 وخاض جزءا من الانتخابات الرئاسية عام 1988، ثم انسحب على خلفية اتهامه بسرقة خطاب ألقاه في ولاية إيوا عن خطاب لزعيم حزب العمال البريطاني. وأعلن مجددا ترشحه للانتخابات التمهيدية عن الديمقراطيين لمنصب الرئاسة لعام  2008 ، ثم أعلن انسحابه  بعد أن حل بعيدا خلف كل من باراك أوباما وهيلاري كلينتون. ويعتبر بايدن من أبرز دعاة تقسيم العراق إلى ثلاثة دويلات : للسنة في الوسط والشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال. وقد اختاره المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية باراك أوباما في 23 أغسطس/ آب 2008  لمنصب نائب الرئيس. فماذا لو غدا بايدن نائبا للرئيس ، او شاءت المقادير ، وأتى رئيسا لامريكا ؟؟
ان اخطاءه لا تحصى ، فهو يدلي باحكام خطيرة تختصر المسافات الطوال من دون معرفة دقيقة في قضايا الشرق الاوسط التي تعتبر الاخطر في العالم .. احكام سريعة تأتي بلا اية تفاصيل ، ومن دون التأّني قبل اطلاقها ! لقد كان تبّنى سياسة الانفتاح على ايران ، من دون ان يعرف ما الذي عليه وضع ايران .. وعندما انتقد على مواقفه ، هرب من الاجابة من دون ان يتراجع عن مواقفه السريعة وخطابه الملئ بالاخطاء الحرجة ! وظلت مواقفه سيناتورا في مجلس الشيوخ تتسم بالتناقض بين العدائية والتعاطف عن غباء ، بعيدا عن اية العاب ومناورات سياسية ، ناهيكم عن كتاباته التي جعلت منه شخصية متذبذبة ومضطربة .. وبينما كان العراقيون يطالبون ويناضلون  من اجل مشروع وطني .. تقّدم بايدن بافكار تؤجج روح الانقسام الاثني والمذهبي ، ونشر خطة لتقسيم العراق علنا ، وصرّح بأن  "الولايات المتحدة تخطّط لتقسيم العراق". ان بايدن لا يميّز بين مبادئ وطن وبين آليات سياسة .. انه ، ومن خلال تصرفاته ومواقفه قد أضر بمصداقية السياسة الامريكية ان كان العالم يحتفظ لها بأي مصداقية ! ان مواقف هذا السيناتور مفضوحة ، بحيث ليس باستطاعته كتمان ما الذي يدور في الكواليس السرية لصناع قرارات العالم .  انه انتقد " سياسة النصر " الامريكية ، لا لمبدأ انساني حمله ، بل من اجل  غايات سياسية ومناورة من اجل السلطة . وهو يؤمن ايمانا راسخا بفوضى الاقليات في الشرق الاوسط ، لا حقوقهم التي يحققها اصحابها  ..  ولعّل من اعظم جناياته السياسية تقديمه مشروعا في تقسيم العراق ، من دون ان يعرف جزئيات تاريخ العراق ، ومن دون ان يدرك طبيعة جغرافية العراق . ان جهله بقضايا العراق دعاه الى مثل هذا الحل الذي لا يدري ان غدا في قيد التطبيق ، فسيغرق العراق ببحر من الدماء ، وسيفتح الباب في الشرق الاوسط على مصراعيه امام حروب لا اول لها ولا آخر ! ومن السخف ان يشّبه سارق الخطابات العراق بيوغسلافيا سابقا ! او ان يدعو الى تطبيق افكار جنونية عن ايران والخليج .. ولما كان لارائه ردود فعل قوية ضده .. فلقد سحب اقواله واعتذر امام العالم ! انني انّبه في مقالي ، كل ابناء منطقتنا في الشرق الاوسط من سذاجة افكار هذا الرجل  ، ومواقفه المتناقضة ، واحكامه السريعة . وكلها تنبؤنا عن شخصية قيادية مضطربة لا تعرف اولويات الممكن السياسي ، ولم تحترف فن الحكم .. والانكى من ذلك عدم قدرتها في صياغة خطاب وجهلها لكل اوضاعنا .. فهل سيشارك بايدن في مصائر العالم ؟ دعونا ننتظر ..
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 3 سبتمبر ، 2008

57
بَرويز مُشَّرف : هروبٌ غَير مُشِّرفْ !
د. سّيار الجَميل


قبل عام مضى بالضبط ، كتبت في جريدة البيان يوم 8 اغسطس 2007 ، مقالتي الموسومة " برويز مشّرف في خط النار ! " اختتمتها بالقول التالي : " والباكستان اليوم تمّر بأشد ازماتها بعد ان خسرت حروبا  وان وقوفها الى جانب الولايات المتحدة في غزو افغانستان بالحرب على الارهاب قد فجّر الموقف الداخلي .  فاذا كانت المذكرات  قد كتبها من موقع القوة ، فهو اليوم ضعيف يسعى نحو المدنيين لاقتسام السلطة وربما سيخلص من ورطته وهو في خط النار فعلا .. وما لقاؤه الاخير مع السيدة بنازير الا الشروع بصفقة جديدة ، ربما يتخلى  من خلالها عن السلطة ـ كما نصحه البعض ـ ، ام انه سيدفع ثمن اخطائه واخطاء الحكومات العسكرية  باهظا ؟ هذا ما ستشهد به الايام القادمة ، فلننتظر ! " .
نعم ، بعد سنة بالضبط من دخوله خط النار ، لم يستطع برويز مشرف البقاء في السلطة ، فآثر الرحيل بعد ان ادى دوره كما يجب ، ولم يكن تنحيه مفاجئا للمراقبين الذين تابعوا الاحداث الدراماتيكية بالباكستان منذ عام مضى .. ولعل من ابرز اسباب اختيار مشرف الاختفاء من الواجهة بعد ثماني سنوات من حكم عسكري بزعامته ، تفاقم الازمة التي كان قد فجرها افتخار محمد شودري في يوم 9 مارس 2007 الذي حمل على العسكر الاستئثار بالسلطة من خلال احكام قضائية بادانة ما كان يجري من صفقات بين الجيش ورجال الاعمال الباكستانيين ، فقام مشّرف بعزله ، فتفاقمت الازمة بانبثاق معارضة مدنية ديمقراطية ممثلة بـ " حركة المحامين " التي قادت اكبر حملة سياسية ضد مشّرف خلال الاشهر الاخيرة من 2007 ، وساندهم القضاة الجدد الذين كانوا وراء تجديد الحركة السياسية الباكستانية التي كان جنرالات الجيش يريدون خنقها مع كل من كان يجري وراءهم : رجال اعمال وسياسيين فاسدين واسلاميين متشددين . لقد كان المجتمع المدني قد تشّكل في حركة ثورية يزداد غليانها مع توالي الايام ، وغدت لاهور معقلا لها ، بحيث بلغ نشطائها 1200 عضوا ، ويتزعمها القاضي شودري .. هذا الذي تصادم مع ضياء الحق سابقا ( 1977- 1988 ) وكان يدير هذا التيار المعارض من قلب بيته ، مطالبا الجيش ان يعود الى ثكناته واستعادة دولة القانون المدنية .
كان الجيش الباكستاني قد تورط ايضا في يوليو 2007 باقتحام المسجد ، فتفاقمت العمليات الانتحارية ضد الجيش والشرطة من قبل العشرات من المقاتلين القبليين شمال غرب الباكستان ، وذهب ضحيتها مئات القتلى والجرحى ، اذ كان الموقف ، نهاية قاصمة لرابطة الجيش بالاصوليين الاشداء .  وكان هناك تحالف قوي بين النظام الحاكم والقوى الاسلامية التي يتعاطف معها ابناء الشعب . وكانت المعارضة الاسلامية بقيادة مجلس العمل الموحد المعارض تضم ستة احزاب اسلامية .. وكان التحالف بين النظام وهذه القوى وثيقا ، يعود الى ايام ضياء الحق ومنحه لهم حق تكوين امارات اسلامية تابعة لسلطة نظام اسلام آباد .
وكان اغتيال الزعيمة بنازير بوتو .. قد دقّ اسفينا في قارب نجاة مشرف ، اذ زاد الهياج ضده بعد التقائه معها ، فوقع بين ذاك الهياج وبين مع زيادة الضغوط الامريكية عليه .. فافتقد مكانته ، وبدأ بتقديم عدة تنازلات بالتخلي عن النظام العسكري للبلاد ، وتخليه عن البزة العسكرية وعن قيادة الجيش مستجيبا للمعارضة التي تطالبه باستعادة البلاد الحكم المدني . لقد كانت الولايات المتحدة تتابع كل التطورات الدراماتيكية الباكستانية بعين الريبة ، بل وجدت ان برويز مشّرف لم يعد باستطاعته السيطرة على الاوضاع .. مع ارتفاع نجم رئيس الحكومة الباكستانية الجديدة يوسف رضا جيلاني .. وان الامريكيين اكتفوا بالخدمات التي قدمها لهم برويز عند خط النار ، فاعتبروا ما يحدث له كالعادة : مسألة داخلية باكستانية يحسمها البرلمان، وانهم يحترمون الارادة التشريعية الباكستانية .. بعد ان كانوا يعتبرون الباكستان اسوأ بؤرة ارهابية في كل الدنيا قبيل 11 سبتمبر 2001 !!
ويبدو ان برويز مشّرف لم يعد صالحا ، اذ عاد شبح حركة طالبان جحيما يخيم على الباكستان التي تعتبر ملاذا آمنا للارهاب ، مع تدفق اللاجئين الافغان الى اراضيها ! وغدت الحرب ضد الارهاب مستنقعا دمويا فيها ، يهدد مصيرها ، وخصوصا بعد ازدياد النقمة الشعبية على برويز الذي وجد خط النار يلتف عليه ان لم يجد مخرجا ، ويهرب بعيدا عن الواجهة .. لقد كانت الباكستان ولم تزل تلعب لعبة مزدوجة كغيرها من البلدان ، خصوصا ، عندما يستمر دعم المخابرات الباكستانية للاحزاب الدينية ، فهي تعمل بتعزيز التطرف ، وهو الاسلوب نفسه الذي يتبعه بعض حكّام الشرق الاوسط من دون اي هاجس بتفاقم مشكلات لا اول لها ولا آخر .. كلها ستقود حتما الى اغراق المنطقة بالازمات والحروب والكوارث ..  لقد خرج برويز مهزوما مدحورا نتيجة سياسته المزدوجة والفردية والعسكريتارية التي اتبعها .. وهو نفسه الذي ساهم بخلق خط النار يلتف من حوله .. ولم يجد نفسه وحيدا امام خيارين احلاهما مر ، فاما البقاء كي يحترق ، واما الهروب من المواجهة الصعبة .. فمن سيحّل الدور به في المرحلة القادمة ؟ وما مستقبل الباكستان وهي تعج بالفوضى الخلاقة ؟ أيكفي سيناريو الباكستان كي يكون لوحده في الميدان ؟ وهل سيكون برويز عبرة للاخرين من الذين يسلكون سلوكه حتى الان ؟ دعونا ننتظر ..

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 27 اغسطس / آب 2008

58
العراق : مشروع دولة متمدّنة
التجربة التكوينية


د. سيّار الجَميل

الملك فيصل الاول : مؤسسا لدولة ذات مشروع استراتيجي
ولذلك فان وجود الحكم الملكي في العراق ابان المرحلة التأسيسية على عهد فيصل الاول 1921-1933 او ابان المرحلة الانتقالية على عهد غازي 1933-1939 ، أي بمعنى ، ان العراق المعاصر عاش في أول عقدين من حياته، بروح الفطرة الملازمة لأبنائه الذين وجدوا أنفسهم في دولة ملكية يقف على رأسها فيصل الاول وابنه ، واعتقد ان جميع العراقيين سواء اولئك الذين كانوا مع فيصل أم ضده قد شعروا بأن شيئا جديدا قد ظهر للوجود اسمه العراق الحديث بزعامة عربية هاشمية ، وهذا يكفي فقط من أجل النسج للإعلان الأولي عن اهتمامات السلالة الهاشمية الحاكمة والتي تمثلها أسرة صغيرة جدا اكتسبت ثقة العراقيين منذ الايام الاولى علما بأن كسب ثقة العراقيين صعبة جدا في بداية الامر.. ويبدو لي ان تلك " الزعامة " المؤهلة كانت حاجة العراق اليها ضرورة أساسية بالرغم من رؤية العراقيين لها من منظار آخر ، فهي قد وجدت فيها مزجا حقيقيا بين التاريخ والدين والمذاهب والعروبة والحداثة والقيادة والتجربة الفيصلية .. ويبقى الانكليز هم اصحاب الامر والنهي في كل المقترحات والترشيحات والحل والعقد والفصل ، وأتى العراقيون لينادوا بفيصل بن الحسين ملكا على العراق ..  ولحسن الحظ ، فان الذي ساعد على ذلك كله ، حجم التواريخ التي حفرها المثقفون والعسكريون العراقيون في الذاكرة ، وهم الذين قادوا  تحركات  العرب ضد الاتراك ايام الحرب العالمية الاولى تحت قيادة فيصل نفسه  .

الدولة في العراق كانت قبل المجتمع
من المنجزات الأساسية للعراق ، والتي غدت مثار اعتزاز نخبة واسعة من المثقفين العراقيين على صفحات الجرائد والمجلات في الفترة بين 1921-1939 ، قد تمثّلت بما سمي بـ " استقلال العراق " ودخوله كأول دولة في المنطقة عضوا مستقلا في عصبة الامم ، وهذا اجراء مهم جدا على المستوى الدولي . وكان هناك سبب آخر هو أن مواكبة الاحتياجات المستمرة للبلاد التي كانت في طور صعب من التردي والتخلف.. وعليه ، فقد أضيفت منجزات بشكل رائع الى وسائل التعليم ، وبتماسك كاف أخذت الملكية العراقية في هذه السنين بفكرة مشروع التعاطف مع آلام جميع الوطنيين العرب وحياتهم وبتأييد صارخ من قبل المثقفين العراقيين مدنيين كانوا ام عسكريين . وبدأ العمل بنشر هذه الفكرة في المدارس على عهد فيصل الأول (1921-1933)، الذي اتبع كرئيس أعلى للبلاد نهجه الريادي بحكم ما تملكه من كاريزما ، لم يتمتع بمثلها غيره من القرناء ، وفي العراق ، قبل أي بلد عربي آخر ، ولكن بالحاح واضح .. واقصد بنهج الريادة هنا ، العمل على تأسيس كيان مدني حديث لكل من الدولة والمجتمع ، وهذا ما لم نجده عند معاصريه من القادة العرب ، فلقد تفوق كثيرا بقدراته في هذا المجال على اخيه الامير عبد الله الاول في شرقي الاردن ، وايضا على الملك فؤاد الاول في مصر ، وايضا على الملك عبد العزيز آل السعود وغيرهم .. لقد استطاع فيصل ومن حوله العشرات من الساسة والمثقفين المدنيين والعسكريين العراقيين الاوائل من تشكيل كيان عراقي مدني تفوق على غيره من الكيانات العربية اولا سنة 1921 م ، وسبق كل من الجمهورية التركية ( التي تأسست عام 1923-1924 على يد اتاتورك ) والمملكة الايرانية ( التي تأسست عام 1925 على يد الشاه رضا بهلوي ) ) علما بما في العراق من مشاكل داخلية متنوعة ، اذ كانت هناك واجبات صعبة تفرض نفسها بإلحاح أيضاً تتمثل برعاية مختلف عوامل الثبات التي تضغط على المشاعر العامة والأهداف العامة أيضاً في داخل العراق.

فيصل : النسيج الداخلي بين اللحمة والتفكك
قال الملك فيصل الاول في مذكرته الخاصة التي كتبها قبل أن يموت عام 1933 بقليل بانه ما زال هناك الكثير الذي يستوجب عمله يقول ذلك بقلب مليء بالأسف بأن ليس هناك شعب عراقي ، ولكن هناك جمهرة كبيرة جداً من الكائنات البشرية خالية من أي أفكار وطنية، ولكنها مشربة بتقاليد سخيفة غير مرتبطة مع بعضها ، وهذه الجمهرة من الكتل المختلفة ، تصغي لصوت الشر، ميالة إلى الفوضى السياسية، وهي دوماً مستعدة  للنهوض ضد أي حكومة مهما كانت. ويتابع فيصل بأننا نريد من كل هذه الجماهير أن نوجد في العراق ، شعبا ندربه، ونعلمه، ونهذبه... لقد أدرك فيصل الاول طبيعة المجتمع العراقي منذ وقت مبكر . كما عمل بمعرفة ودراية على إستمالة الجميع ، وكانت له رؤيته المتوازنة لكل الممل والطوائف والاديان والاعراق .. لقد كان يهاب شيعة العراق ، ويعتبرهم جزءا منه كونه سليل آل البيت في العراق وكان يستمع لهم الى مطالبهم ومعاناتهم على امتداد تاريخ طويل .. كما اصغى للسنة العراقيين وعرف أوضاعهم وقدراتهم  . فبدأ فيصل ليس بطريقة المصادفة ـ كما يريد البعض أن يقول ـ  بتحسين الوضع الاجتماعي والمعيشي لكل الطوائف ، ويؤكد البعض : ان اي تفرقة طائفية لم تحدث على عهد التأسيس ، ولكنني أرى حدوث بعضها في بعض المرافق ، وهذا لابد له ان يحدث بطبيعة الحال والاحوال ، ولكن اجد ان العراق كان متوازنا ابان فرص تكوينه التاريخية الحديثة ، وليسهل تسلم كل العراقيين وقبولهم للخدمة الحكومية، عبر أشياء أخرى وضع أعضاء شباب من هذه الطائفة او تلك في برنامج تدريبي سريع ومنحهم الفرصة ليصعدوا في مراكز عالية في المسؤولية .
 وأيضاً رأى الأكراد يتلقون نصيبهم الجيد من التعيينات الحكومية، وفي نفس الوقت شعر بأنه يمكن أن لا يكون هناك عمل جاد وصلب نحو حالة جيدة حقيقية بدون قوة الجيش. وبما أن الحكومة بعيدة عن الناس وضعيفة، كانت في عام 1933 في البلد أكثر من 000, 100 بندقية بينما الحكومة تقتني  000, 15 فقط، كانت هناك شكوك لدى فيصل الاول إذا كان سيستطيع التعامل مع نشوب حرب مسلحة في مناطق واسعة منفصلة، فكّر بأنه سيكون من الجنون عمل إصلاحات مهمة ومشاريع تطوير بدون التأمين بأن هناك قوة حماية كافية. ولكل هذه الأسباب أخذ بعين الاعتبار بأن الجيش هو العمود الفقري لإنشاء الأمم. وفقاً لذلك في عام 1933 ، وهو العام الذي حصل في بعض المناطق الداخلية العراقية ما يثير القلق .. وعليه ، قام فيصل برفع القوة العسكرية العراقية المؤسسة إلى  500, 11 رجل من مجموع  500, 7 الذي بقى ثابتاً منذ عام 1925.
مشروع تجديد العراق :
في جهوده لتجديد العراق في المؤسسات الوطنية، باشر الملك فيصل الأول اهتمامه كيفية تقّبل المجتمع لتلك المؤسسات اولا ، وكيفية بناء علاقات الثقة بين العراق وجيرانه من اجل وضع نهايات لكف الاذى الذي يتعّرض له العراق من كل الاطراف ثانيا ، في حين تبقى الوحدة الوطنية هي الشغل الشاغل والهم الوحيد امامه ثالثا .. ان اعتماده على اهم كفاءات البلاد واكثرها عملا وتفانيا واخلاصا للبلاد لا لنفسه وتجسيره للفجوة بينه وبين كل ابناء النخبة العراقية رابعا ، ناهيكم عن مبدأ " خذ وطالب " في التعمل مع الانكليز الذين ربطوا العراق بمعاهدات معهم خامسا .. كانت اهم النقاط الجوهرية في سياسة فيصل في مشروعه تجديد العراق .
ويتابع المؤرخ ان فيصلا قد أبقى عيونه متيقظة ليس فقط على ما هو يستحق ذلك ، ولكن على ما يمكن أن يحقق بالتدريب، وقام بتجنب أي خطوة تثير ذكريات المغامرة  الفردية فلقد كان مؤسسا لدولته الفيصلية من قبل ان يغتالها الفرنسيون في دمشق ، كما وتجنّب تماما ان يثير اي مشاعر عراقية بالضد من سياسته ، على الرغم من تمكنه في اصدار قرارات استراتيجية . ومع كل هذا وذاك ، لم يخلص الرجل من انتقادات حادة وجهها العراقيون له علنا وبلا اي مبرر .  وبالطبع في هذه تماماً مثل الاتجاهات السياسية المناسبة الأخرى كان يتوخى تجنيب العراق الدخول في أية مزالق اقليمية وفي منطقة حساسة مشوبة بالحذر ،  وكان يخشى عاقبة اية انقسامات داخلية فلم يشغل باله تماما إلا بشعبه، وأنه كان قلقا على مصيره من بعده برغم تأسيسه على قاعدة القوة داخليا  ، ويكفي ذلك برهانا ساطعا على من يقول بأن فيصلا في مبادئه وركائزه كان نموذجا مستعارا لدولة خلقها الانكليز !! واذا كان فيصل له بهض الاخطاء والهفوات ، الا انها لا تعد خطايا وجنايات كالتي ارتكبها غيره من زعماء العراق لاحقا ، اذ لم يبق فيصل الاول رمزا تأسيسيا للعراق ، ولم يتبع كل الزعماء الذين اتوا من بعده خطواته اسسا والبناء عليها مقارنة بما حدث في كل من ايران وتركيا والسعودية .
 أن العراق بعده وتحت ولده حكم الشاب قليل الخبرة الملك غازي (1933-1939) سقطت الدولة فريسة للانقلابات العسكرية والقلاقل الداخلية من قبل القبائل، وتأثيرات القوى السياسية العربية ، ولكن على كل حال لم يكن هناك حاجة ضرورية للانحراف عن الطريق الرئيسي للسياسة الملكية التي رسمها المؤسس فيصل ، ما عدا فترة قصيرة (1936-1937) ، اذ غدا العراق قاعدة أساسية لفعاليات جميع العرب من ساسة ومثقفين ، واصبح مسرحا قوميا قويا يعطي اهتمامه للمشكلات العربية أكثر مما يعطيه للتوازنات والمعضلات الداخلية ، علما بأن الجيش العراقي نمت قوته من 800 ضابط و500 ,19 رجل مقاتل في عام 1936  الى 1426 ضابطا و345 ,26 رجل مقاتل في عام 1939، وكان هناك القليل من الطيارين العراقيين في عام 1933 اذ كان يبلغ عددهم  37 طيارا ، وكان من المتوقع أن يزدادوا إلى 127 في نهاية العام التالي.
وأكثر من ذلك فان الخط الحديدي الأمامي من بغداد إلى قصبة بيجي شمالا ، وهو جزء حيوي من الخط المعياري كان من المفترض أن يكون جزءا استراتيجيا من الخط الحديدي بغداد- برلين، ولكنه تُرك غير مكتمل في نهاية الحرب العالمية الأولى، اكمل عموديا باتجاه الشمال الغربي وصولا الى قرية تل كوجك عند الحدود السورية، وهي خطوة استراتيجية في حياة مسالك العراق البرية والتي عملت على تغير اتجاه اقتصاديات المنطقة من الموصل شمالا إلى الخليج العربي جنوبا ، وذلك يعني في الحقيقة ليس فقط الربط بين المدن العراقية ، بل يعني تقدم عملية التطوير باتجاه التغيير الاجتماعي في العراق وتأسيس التجسيرالمنظم في الاقتصاد.

وقفة أخيرة
واخيرا ، هذا غيض من فيض التأسيس ، وهذه مجرد نماذج وامثلة تاريخية لما حفل به تجديد العراق الحديث .. اعتقد بأن الخطوات التكوينية لمشروع بناء العراق الحديث لابد من استيعابها ودراستها اليوم ، فاننا احوج ما نكون اليها والعراق ـ كما يبدو ـ مشرذما وضعيفا وآيلا للانقسامات الداخلية ، وتعبث به الاجندة الخارجية مهما كان نوعها .. العراق اليوم اسوأ بكثير من بدايات القرن العشرين .. ان معاناته اليوم ناتجة ليس عن عوامل خارجية بحتة ، بل انه يكابد من امراض داخلية لا توصف ، واذا كان العراقيون يحلمون بدولة يمكن ان يكون لها وزنها بين الامم ، فانهم اليوم يحلمون بمجتمع آمن ومستقر يمكنهم ان يعيشوا فيه مثل باقي البشر .. اذا كان قد وقف في بدايات تأسيس العراق الحديث رجالات لهم وطنيتهم وكفاءتهم ونزاهتهم واخلاصهم ، فهل يمكننا ان نجد اليوم نظراء لاولئك الرجال ؟ الكل يقول : لا ابدا !

25 آب / اغسطس 2008
للبحث صلة
www.sayyaraljamil.com


59
اغتيال كامل شّياع :
فجيعة مؤلمة لكلّ المثقفين العراقيين


د. سيّار الجميل

صعقني خبر مصرعك الدامي ايها الصديق العزيز كامل شيّاع .. واهتز لاغتيالك الآثم  كل المشهد الثقافي العراقي .. وبكى عليك كل من عرفك عن قرب .. وعرف مزاياك العراقية الاصيلة .. لم تكن مثقفا ملتزما ومنظما حسب ، بل كنت انسانا عراقيا طيبا غاية الطيبة .. يتلمس سجاياك الكريمة كل من عرفك ورآك ، بل وتداول اسمك كل المثقفين العراقيين .. كنت امينا على موقعك الثقافي ببغداد منذ سنوات وانت تعمل ليل نهار في خط النار من اجل العراق .. ان الحزن العارم على رحيلك الذي اراده لك المجرمون .. هو رسالة مؤلمة تخبرنا انك لم تكن مستشارا في وزارة يسمونها وزارة الثقافة ، بل كنت مثقفا اصيلا ، وانسانا قلما يجود الزمن بمثله .. لقد بكيتك بحرقة بالغة لأنني عرفتك ، وكنت سعيدا جدا بمعرفتك .. وجدت فيك وانا اجالسك طعم العراق ، وروح العراق ، وقيم العراق ، وشموخ العراق ..
كنت تصغي رفقة الاخت العزيزة ميسون الدملوجي الى محاضرتي في " بنية الثقافة العراقية " قبل قرابة ثلاث سنوات ولم تفارقك ابتسامة المحب العاشق لثقافة العراق المتجددة .. ومن يعشق ثقافة العراق ، يلتصق بتراب العراق ، وماء العراق ، وهواء العراق .. وكنت معك جنبا الى جنب على مائدة عشاء ، وانت تحدثّنى عن متغيرات ثقافة العراق وما يمكن عمله من اجل مستقبل اجيال العراق الجديدة .. كنت تحدثّني عن المتوحشين الذين يريدون قتل ثقافة العراق ، ومحو حداثة العراق ، وهتك كل ابداعات العراق بطقوسهم البالية ومهرجاناتهم المضحكة .. كنت تشتكي لي من مكابدات تعانيها وانت في وزارة الثقافة وعلى رأسها " وزير " متخلّف لا يعرف معنى " ثقافة " ! كنت تنقل لي مشهد العراق المرّ  ، والالم يعتصرك لما آل اليه وضع العراق .. وعندما قلت لك : اني اخاف عليك من كل هذه الامواج اللعينة التي طغت كالجراد على كل الحياة .. ابتسمت ، وقلت : لقد اخترت العراق ، ولن ارحل منه ابدا ، وسأبقى التصق بترابه حيا او ميتا !  بقيت تراسلني .. بقيت تكتب لي واكتب اليك .. بقيت تسألني وأسألك .. تجيبني واجيبك .. تحدثني واحادثك .. تبلغني سلام الاصدقاء واقرئهم وأياك كل السلام .. كم ناشدتني ان اكتب لك مقالا او خطابا لنشره ، وكم طلبت مني ان ازور العراق .. ؟؟
لقد خسرناك يا اطيب الاصدقاء ، وافتقدك العراق ، ورحت مغادرا قسرا ميدان حياة العراق ، وهو في امّس الحاجة اليك في بحر هذه الايام .. قتلك الجناة القتلة في لحظة دموية بائسة على جسر محمد القاسم ببغداد ، وفّروا الى المجهول ليبكي عليك كل المثقفين العراقيين في يوم مذهل ينبغي ان يمثّل في ذاكرتهم كل انحدار العراق ومآساة هذا الزمن الغادر ..  ان صوت المثقفين العراقيين لابد ان يعلو على كل الاصوات المنكرة والمرتزقة واللقيطة والغادرة والمنافقة والمتردية التي لا تعرف الا الظلام الاسود ولا ترى العراق الا من خلال العواصف الهائجة  .. ان صوت المثقفين العراقيين ليكن حرا وشجاعا بوجه كل الصامتين من السياسيين المتخلفين الذين لم يجدوا مكانا لهم الا في المنطقة الخضراء .. ماذا جنى كامل شيّاع بحق السماء كي يغتاله الغادرون ؟ ماذا فعلتم بقوافل الذين رحلوا من اجل العراق وهم احرار ابرياء .. حتى يقتل كامل شّياع ؟
كم وجدتك مثقفا حقيقيا ، غزير المعلومات ، عميق الرؤية وانت تتوغل في الثقافة الانسانية ؟ كم وجدتك تتبارى معي في عشق الموسيقى العالمية ؟ كم وجدتك تهوى دجلة والفرات .. والنخلة وعنبر شامية المشخاب ؟  كم وجدتك رقيق الحاشية ، عذب اللفتات ، هادئ الطبع ، سريع البديهة .. ساحر الكلمات ؟ كم وجدتك تقدميا تهوى الفكر المعاصر ، وتسمو بالحداثة على مختلف الجبهات ؟ كم وجدتك نزيها نظيفا .. وانت تسير على نهج من سبقك من المناضلين العراقيين واثقي الخطوات ؟ كم وجدتك انسانا حرا تريد العراق حرا ومتطورا وموحدّا .. لا ينال منه الطغاة ، وان يكون شعبه فوق كل الشبهات ؟  كم وجدتك متواضعا ، دائم البسمة ، تحلم بالعراقيين تزدهر اجيالهم بكل المستويات ؟ كم وجدتك اكبر من كل اولئك الجهلة الذين يتربعون على كل الاطباق وفوق كل الركامات ؟ كم وجدتك متغايرا .. تتقبل الافكار والاراء المختلفة وتؤمن بالديمقراطية والسلم والامن وقوى الانتاج بعد كل ما مضى من صراع الطبقات ؟
قتلوك لأنك اكبر منهم ، واطيب منهم ، واسخى منهم ، واشجع منهم .. وانهم لمنتهون حتما الى مزبلة التاريخ .. ان عداءهم للثقافة الحية والنهج القويم .. جعلهم لم يلجأوا للغدر بك حسب ، بل لاقتراف جريمة غادرة بحق كل المثقفين العراقيين .. فقتلك هو قتل لكل المثقفين الحقيقيين ، من حيث يشعرون او لا يشعرون .. ولكن لن نسكت ابدا ، ولن يسكت صوت المثقف العراقي اينما كان في هذا الوجود .. سيبقى صامدا مع كلمته وخطابه وموقفه الخصم اللدود لكّل اللقطاء والطفيليين والارهابيين وانصاف المتعلمين .. ان دمك يا كامل سينير الدرب امام الاجيال العراقية القادمة ، ويعلمهم بأنه قد سفح من رجل مثقف ملتزم قبل ان يسفح من سياسي مناور ..
ان نضالك في اعماق الغابة الموحشة سيبقى صفحة بطولية ناصعة ، ورمزا لعهد يتساقط فيه خيرة العراقيين .. من دون ان يتحرك أي مسؤول من المسؤولين عن البلاد لعمل شيئ حقيقي مضاد ازاء استفحال هذا الجحيم .  ان برقيات التعاطف وابداء الاسى لا تكفي ابدا ، فهي بمثابة اعتراف بالصمت القاتل على تصفية كل المثقفين العراقيين الرائعين . ان التمادي باخفاء الاسرار ، او التغطية عليها ، او التعتيم على المعلومات والتحقيقات والتستر على كل اوراق الجنايات الفاضحة.. يبطن من ورائه خفايا سياسية نطالب بالكشف عنها عاجلا .. ان المثقفين العراقيين لا يمكنهم ان ينتظروا التصفيات تنالهم  الواحد بعد الاخر .. انهم لا يقبلون ابدا ان يعبث بمصيرهم بعد ان تم العبث والجريمة المنظمة بالاكاديميين والصحفيين العراقيين .
انني اناشد كل المثقفين العراقيين ان يقفوا صفا واحدا من اجل ابقاء كلمتهم ، واتساع خطابهم ، وصلابة مواقفهم .. انني اناشدهم بهذه المناسبة المؤلمة ، ومهما كانت اتجاهاتهم السياسية ، وميولهم الفكرية ، ونزعاتهم الايديولوجية ، ان يطالبوا الحكومة العراقية باتخاذ الاجراءات اللازمة ليس لحمايتهم انفسهم ، بل بنزع كّل الاسلحة من ايادي العراقيين ، وحلّ كل عصابات المرتزقة ، وميليشيات الاحزاب ، والجيوش غير الرسمية ، وفرق الموت الارهابية وان يسري العمل بالقانون الصارم ضد كل القتلة والمجرمين والعابثين والارهابيين .. وكل عصابات الدمار والخراب .
وأخيرا ، دعونا نقف زمن حداد لمصرع صديقنا جميعا الشهيد الاستاذ كامل شيّاع ، مستوحين من هذه المناسبة المؤلمة الدرس بأن ما يجري في العراق اليوم هو الخطر الذي سيأخذه الى الدمار ، فهل نحن بمدركين لسوء المصير . سيبقى أسم كامل شيّاع ، محفورا في ذاكرتنا العراقية شعلة متوقدة ورمزا وطنيا .. وسنذكره دوما بطيبته وبساطته .. بثقافته ومنتجاته .. باخلاصه ووفائه وحبه للعراق .
سّيار الجميل
تورنتو ، اونتاريو
24 آب / اغسطس 2008

60
جورجيا : وَرطةٌ جَديدة !!
د. سيّار الجَميل

كثيرون في هذا العالم ، فوجئوا باندلاع الحرب من قبل الروس في جورجيا ساعة انطلاق الشعلة الاولمبية في بكين .. في حين ان بعض المراقبين في هذا العالم كانوا يتوقعون انفجار الصراع المفاجئ ليس من اجل اوسيتيا الجنوبية ، بل كانت هذه " الاخيرة " ومنذ سنوات دمّلا متقيحا قابلا للانفجار ، خصوصا وان جورجيا كانت تتمرد يوما بعد آخر على الدب الروسي ، وتضع بيضها في السلة الامريكية غير مبالية ، ولم تكن ثورة الورد في العاصمة تبليسي الا جزءا من السعي لامتداد النفوذ الامريكي في القوقاز .. تلك " الثورة " التي اطيح من خلالها بشيفارنادزة ، وقدوم شاب جورجي متشبّع تماما بالثقافة الامريكية اسمه ساكاشفيلي ليكون رئيسا لجورجيا ، كي يزداد الضغط الروسي على اقليم اوسيتيا الجنوبية الذي كانت قضيته قد نضجت بعد ان طبخت على نار هادئة ، فهو تابع لجورجيا ، ولكن نفوذ روسيا فيه كبير جدا . وعليه ، ينبغي القول ان الصراع لم يكن بصراع نفوذ محلي على هذا الاقليم ، بقدر ما تثيره قوة المصالح الدولية ، وخصوصا ، في خضم سياسات المد والجذب بين الامريكيين والروس ..
ان مصالح الولايات المتحدة بمشروع ضم جورجيا للناتو ، وجعلها درعا واقية للمجال الحيوي للشرق الاوسط ، قد تصادمت مع مصالح الروس الذين يريدون تدفق النفط عبر سواحل جورجيا .. ان سيناريو القوقاز الجديد لا يبتعد باطّراد عن اشتعال هذا " المنطقة " بكل تعقيداتها الاثنية والاجتماعية ، وهي تدخل حزام مرّبع الازمات الذي يعج بالازمات والمشكلات ـ كما اوضحت ذلك في كتابي العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط : مفاهيم عصر قادم ، 1997 ـ .
لقد سمعنا لمبررات الروس الهائجين الذين وصفوا السياسة الجورجية باقذع التعابير ، خصوصا عندما حملوها مسؤولية الابادة الجماعية ، والتطهير العرقي ، وهي لغة استخدمها الروس ازاء خصومهم في دول اخرى .. وهي نفس اللغة الاعلامية التي استخدمها الامريكيون ضد صربيا عام 1999 .. وكما ولدت استقلالية كوسوفو ، فهل سيكون بامكان الروس اعلان ولادة اوسيتيا الجنوبية ؟ انني اشك في ذلك !
ان أوسيتيا الجنوبية في الأراضي الجورجية، طالما كانت محميةً روسية في منأى عن سلطة حكومة ساكاشفيلي. والواقع أن الكارثة التي تحدث حالياً في القوقاز ، وتبرز للمراقبين : نذر تغير سريع في السياسة الروسية الحالية ، كونها تسعى اليوم من اجل المشاركة في تقاسم كعكة الشرق الاوسط ومجاله الحيوي . انها اليوم قد انقلبت على قرارات اصدرها يلتسين قبل 17 عاما ، والتي تقضي بتحويل الحدود بين الجمهوريات السوفييتية الى حدود دولية ، فانهار الاتحاد السوفييتي ، وهو ما سمح له بكبح جماح القوى الشيوعية والقومية داخل البرلمان الروسي، والتي كانت تطالب دوما باسترجاع المناطق التي فقدتها روسيا.
لقد احكمت روسيا صنع القرار في مثل هذا الوقت بالذات ضاربة  بكل التزاماتها عرض الحائط ، ولكن ما الثمن الذي يمكنها ان تدفعه عندما تحسم امور كل من اوسيتيا الجنوبية وابخازيا لصالحها ؟ ان من يدرس طبيعة العلاقات القوقازية الروسية على امتداد القرنين السابقين فقط ، يخرج بنتيجة مفادها ان قدر كل من القوقاز وترانس قوقازيا ، بقاءها تحت رحمة او بطش الدب الروسي الذي له القدرة على ان يضرب ويقسو .. وعليه ، فليس امام هذه الدول والشعوب القوقازية  كلها الا توثيق علاقاتها مع روسيا ، ومن ثم بالاتحاد الاوربي . عموما ، ان مشكلة بعض هذه الشعوب المغلقة ، تصورها ، ان تحالفاتها مع الولايات المتحدة الامريكية ستنقذها مستقبلا ، وان الامريكيين سيقومون بحماية دولهم واقاليمهم ، من دون اي تفكير او اي احساس بالقلق من ان الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها ، وعندما تتغير او تتبدل او تنتهي تلك " المصالح " ، فمن البساطة ان تحرق اوراقها كلها ، وتنفض ايديها من اي تعهدات او وعود !
لا يمكن ان تبقى جورجيا تدور في الفلك الامريكي من دون ان تعمل روسيا على تأمين اوسيتيا الجنوبية وابخازيا في جيبها ، وربما قد تصبحان بلدين مستقلين مفترضين ( على غرار كوسوفو ) ، وسنرى الى اي افتراق يقود هذا الصراع الدولي على سواحل البحر الاسود في شمال المجال الحيوي للشرق الاوسط ، وبالاتفاق مع الامريكيين .
انني اعتقد ان روسيا ان نجحت في تحقيق خططها الاستراتيجية هذه ، فانها بدأت تستعيد قوتها بعد عشرين سنة من انهيار الاتحاد السوفييتي ، وانها غدت تجيد اللعب مع القطب الامريكي ، كي تستفيد من بناء مواقفها . انني اعتقد ان روسيا بدأت تستعيد فكرتها القديمة بفرض هيمنتها على القوقاز .. ويبدو ان جمهوريات آسيا الوسطى اكثر حفاظا على علاقاتها القديمة مع روسيا مقارنة ببلاد القوقاز . ان القوقاز كله بحاجة الى بناء علاقات وثيقة مع روسيا ، قبل ان تدخل في صراع من اجل بلقنتها وتفكيكها . ان مواقف روسيا وخطابها قد خرجا اليوم على ركائز يلتسن السابقة التي منحت الاستقلالات  .. وهذا ما سيخلق متاعب جديدة تلوح في الافق .. وربما سيشهد العام 2009 ، مأزقا خطيرا ستكون له تداعيات ومضاعفات على كل الشرق الاوسط .. وآخر ما يمكنني ان اذكّر به ان روسيا لم تضع ماضيها وراءها ، وهي تحاول اليوم استعادة مجدها الاحادي قبل ان تركض لاهثة وراء الاتحاد الاوربي او غيره .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 20 اغسطس / آب 2008 .


61
بازار المخفيّات المتبادلة

د. سيّار الجَميل

غدت أحداث العالم تباع وتُشترى نسبة لحركة بازار المخفيات الأميركية المتبادلة.. العالم كله اليوم رهين اللعبة الانتخابية الأميركية ومقتضياتها، قوتها وضعفها، استراتيجياتها وتكتيكاتها.. فنونها ومناوراتها.. إن العالم كله بدأ يتأثر جدا بها، وبدا وكأنه كله، لا أميركا لوحدها، يهمه هذا المرشح الجمهوري جون ماكين، أم ذاك المرشح الديمقراطي باراك أوباما.
 
إن العالم كله لا يعرف في أية سّلة يضع بيضه، كي يفقس بعد الانتخابات الأميركية أو يفسد! بعضهم قد يغامر في رهانه مع هذا قبل فوات الأوان، وبعضهم الآخر ينتظر على قارعة الطريق. الكل يريد تقوية أوراقه، ولكنه «بازار» تتداخل فيه المصالح والخطط الخفية.. هنا ينفع الذكاء والدهاء، وتملك قدرتك في السوق، والتفكير في نوعية الشراكات الدولية التي يريدها هذا، أو يبتعد عنها ذاك. إن اللاعبين الأقوياء في كل العالم يظهرون هذه الأيام، فهم القادرون على فرز الأوراق، كما كان يلعبها تجار بازار الشرق القدماء. إن مصالح العديد من دول العالم لا تتحرك بسرعة، إلا عند اقتراب الانتخابات الأميركية أو في خضمها. فالمعروف، إنها فرصة ذهبية لكل من يلعب من اجل زرع بذور سيجني حصادها مع الإدارة القادمة.. فضلا عن قطفه الثمار من الإدارة الحالية التي يقل وهجها بتوالي الأيام. إن قواعد اللعبة صعبة، وفيها مغامرة ومقامرة، ولكن تستخدم فيها كل الرهانات وكل التسويفات والمساومات.
 
في منطقتنا، يعتبر العرب آخر العارفين بدهاليز هذا البازار الذي يبرع فيه تاريخيا، كل من الإسرائيليين والإيرانيين والأتراك، أكثر من العرب. ولما كانت إيران اليوم، متهمة ومدانة، وتواجه التهديدات الدائمة، فهي تتلاعب اليوم على أوتار المماطلة مرة والمكابرة مرات! كي ينتقل بيضها من سلة الرئيس القديم إلى الرئيس الجديد.. إنها فعلا اليوم، تلعب بلعبة شبيهة بتلك التي لعبتها مع الرئيس الجمهوري ريغان ضد الرئيس الديمقراطي كارتر في أزمة الرهائن الأميركيين الشهيرة، ولكنها تعد اليوم لعبة من الوزن الثقيل. أما العراق، فلا يعرف حكامه اليوم أين هي مصالح بلادهم العليا من اجل أن يناوروا أو يكابروا، أو من اجل أن يغايروا أو يسايروا، ويأخذوا ويطالبوا في مثل هذا البازار.. إنهم منشغلون بمصالحهم الفئوية والحزبية والانقسامية، وخصوصا في كيفية تقسيم الكعكعة وبلعها من قبل هذا وذاك! إن الفرقاء في العراق يتصارعون في ما بينهم على أهداف محلية أو جهوية أو مناطقية أو طائفية وهم لا يدركون أن مفاتيحها كلها بيد واشنطن.
 وان لواشنطن حسابات إقليمية ودولية ما دام العراق بقبضتها! أما اللبنانيون، فهم ما زالوا في خضم ماراثون الصراع الإقليمي لا الدولي، وأجدهم في مأزق لا يحسدون عليه.. وإذا كان الفلسطينيون، قد فشلوا حتى اليوم في المشاركة بإدارة الأزمة بسبب انقساماتهم الفصائلية، فكيف لهم القدرة في النزول إلى مثل هذا البازار؟ في حين أدركت سوريا أن من الضرورة رجوعها اليوم إلى دائرة المفاوضات مع إسرائيل من خلال العرّاب التركي.. والأضواء الدولية مسلطّة على هذا «الموضوع». فهل سيجني السوريون شيئا بمثل هذه العجالة؟ الجواب: لا، ولكن سوريا، استطاعت أن تتلاعب بالمواقف وتتبادل الأدوار، بالرغم من التنسيق السوري الإيراني والمحّرك موسكو، ومساندة شركائها وهذا ما ستعلمنا به الأيام المقبلة.
 
الصين، تعتبر اليوم الندّ رقم واحد لأميركا، ولحسابات اقتصادية، فهي مستفيدة من مجالات حيوية عدة في العالم، والولايات المتحدة لا تريدها فيها، ومنها: إيران والسودان.. روسيا تلعب أيضا بأوراقها في نطاق هذا البازار، والكل يدرك أن الصراع اليوم هو صراع شراكات اقتصادية أميركية وغربية إزاء انحسار الشراكات الاقتصادية مع الصين أو بلدان الشرق البعيد. وعليه، فإن رهانات الصين أو روسيا هي لإطالة أمد الملفات زمنا أطول من اجل استفادة اكبر، وان من يتعمّق في فهم طبيعة العلاقات الدولية اليوم، يدرك بما لا يقبل مجالا للشك، أن أحداثا ساخنة تحدث في أماكن معينة وأزمان مؤقتة هدفها إثارة مشكلات لهذا الخصم أو ذاك. ويتلمس أي راصد للأحداث في العالم أن الإدارة الأميركية ربما تكون مستعجلة في حسم تلك الأحداث، أو لا تبدو، مستاءة من إطالتها، والمماطلة فيها والتسويف عليها أبدا. وربما يعلن عن طبيعة مشكلة معينة أو مشكلات تسميات تشغل بال الجميع، في حين إنها تعني في بازار المخفيات المتبادلة، علاقات معينة، وشراكات لمصالح دولية أو إقليمية، ولكن من نوع آخر غير مكشوفة للعلن. إن من الصعب فهم ما يجري على الأرض، فكيف يمكن إدراك ما يتم من مخفيات تحت الأرض؟ هناك قناعات راسخة تقول بأن مصير إيران سوف يكون شبيها بمصير العراق، ولكنه النفس الأميركي الطويل مع كلّ من المكابرتين، وحذار من الاستهتار بمصير كل المنطقة، وأنت تقامر بأهداف لا يمكن تحقيقها أصلا. إن أهم ما يمكن التنبيه إليه، أن الانتخابات الأميركية، فرصة تاريخية ثمينة لمن يعرف استغلالها، واللعب على التوقعات الناجحة لما يمكن أن يكون، لا لما يمكن ألاّ يكون.

البيان الامارتية ، 13 اغسطس 2008

www.sayyaraljamil.com


62
تكوين العراق المعاصر
وقفة تأملية

د. سيّار الجَميل
مقدمة
        إن الكثير من أحداث العراق التي حصلت لما قبل تاريخ النظام الملكي الهاشمي وتأسيس المؤسسات الحكومية للدولة الجديدة ، يمكن فهمه كونه جزءا في فترة تاريخية محدودة ومعقدة من الصراع الدولي بين القوى الاستعمارية القديمة ، وكانت بريطانيا على رأسها ، والتي غدا لها تاريخ مشترك مع العراق ، كونه واحد من أهم مستعمراتها التي سيطرت عليها ابان الحرب العالمية الاولى . ومن البديهي أن حقيقة حياة المدن العديدة ومجموعات الناس ، ونخبهم ، وفئاتهم ، وشرائحهم ، وطبقاتهم ، ومللهم ، ونحلهم في وادي الرافدين كانت تبادلية التناقضات ، ولنقل ان كنّا أكثر دقة، إن قيام ونشوء مجموعات متنوعة ، ومتناقضة ، من الناس سواء كانوا جماعات وطبقات مدن ، أو عشائر ارياف ، أو قبائل بدوية .. كلها خاوية من الهوية الوطنية القوية- كقاعدة في أولويات الشعوب – انما ملازم لوجود أمة ضعيفة،ومفككة لا يجمعها رابط ، ولا تنظمها شرعة أو دستور ، والعكس صحيح كما يعرف الجميع .

مكابدات التاريخ
 إن تطور المدن بكل مجتمعاتها الحية ، ونخبها المتميزة ، وقواها الاهلية الفاعلة ، متورط بانهيار العشائرية الريفية ، أو القبائل البدوية التي تقف دوما ضد التحضر والتمدن والتحديث في أساليب الحياة . ولذلك فان الحقبة التاريخية بين القرن الثالث عشر والقرن الثامن عشر الميلاديين ( = 5 قرون ) التي شهدت انهيار الخلافة العباسية في العراق ، بدءا بما فعله المغول ، انتقالاً الى الخراب التام الذي عمّ العراق ، وخصوصا ،  في اعماق الخنادق القديمة مرورا بحكم الايلخانيين ، ومن ثمّ بغزو الجلائريين ، وحكم التركمانيين، وهجمة المغول التتار التيموريين، وانسحاقا على أيدي الصفويين الإيرانيين ، ثم حكم الأتراك العثمانيين، اذ شهد العراق على أرضه أقسى الحروب الدموية الطويلة المتقطعة العثمانية ـ الايرانية ، وهي واحدة من أعظم الحقائق التي تكرر تأكيد نفسها دوما بأضعاف المدن العراقية من النواحي الاقتصادية والثقافية خصوصا . ومن المحتم ، ان ذلك يعني حقا : تأخر واضح في التاريخ التراكمي والتطور الاجتماعي للعراقيين الذين احتفظوا على امتداد تلك المراحل التاريخية السكونية بمواريثهم الاجتماعية ، وبتقاليدهم ، وعاداتهم الثقافية وفولكلورياتهم وما تبقى من تراثهم الزاهر .

البدايات الاولى : جذور التحديث
لكن الحياة الجديدة والأفكار الجديدة التي زرعت في العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بفضل وسائل الاتصالات الحديثة، وحلقات الاتصال مع مدن العالم، وبعثات الآثاريين الاركيولوجيين الاوربيين ، وتأثير القناصل ، والشركات التجارية ، والمدارس الجديدة في ابرز مدن العراقيين .. ومن خلال عوامل أخرى تعود إلى رجوع النزعة التاريخية التي تقود لاستعادة المدن وبدايات التحليل لنشوء الأمم. وبذلك الصراع من اجل الاصلاح بدءا بالتنظيمات الخيرية ووصولا الى الانقلابية الاتحادية، كانت هناك محاولات لاعادة تشكيل للدولة العثمانية على اسس اصلاحية في القرن التاسع عشر، وتبلور فعاليات الشباب الأتراك المتشبثين بالقومية ، والذين صعّدوا ثورة 1908 إلى حكم وهيمنة السياسة الجديدة وسريان التفكير الوطني ، وخصوصا في مؤثراته على العراق لدى أبرز مثقفيه ورجالاته وعسكرييه. ومن الممكن القول أنه البداية الحقيقية للتفكير القومي / الوطني عند العرب وخصوصا عند العراقيين ، وارهاصاتهم للحصول على الفوز بكيان  مفتقد وخصوصا شعور النخب المثقفة في المدن بذلك لأول مرة بعد تاريخ طويل من المكابدات  .

الإنكليز في العراق :
ومن جانب آخر ، فقد أثار القلق ، تفكير تلك النخب ورجالاتها الذين كانوا يشعرون بأن تكلفة المحافظة على الوطن لا يمكن ان توازيها قوة الاحتلال . وان الانكليز وجدوا أن من مصلحتهم تأسيس مشاهد التوازن بين رجال القبائل ضد رجال المدن، فهي الضمان القوي لاستمرار قوتهم. ليس فقط في محاولتهم أن يوقفوا  ، او يجهضوا ، جهد العراقيين الأولين لعملية نشوء الأمة، أو حتى أنه يبريء السلطة من زعماء القبيلة، أو حتى المحافظة على أدنى حد من التفاعل بين رجال القبائل ورجال المدن، ولكن أيضاً حاولوا تجميد وجود الشق الاجتماعي بواسطة الاندماج والإدراك لتقاليد القبائل في العراق ، وان نزاعا قانونيا في القبيلة قد ظهر بواسطة الانكليز في 27-7-1918 مع إعلان وجود قوة القانون التي فرضها وجود المستعمر الانكليزي . كما وتأسس قانون ملكية الأرض في الفترة الاولى من العهد الملكي تحت بنود 113-114 في الدستور العراقي ( = القانون الاساسي ) عام 1925 ، ( وهو من اهم القوانين الاساسية التي صدرت في عموم دول المنطقة حتى ذلك الوقت ) وقد استثنى ذلك القانون الريف من حدود القانون المحلي ، كونه اراد ان تكون النقلة طبيعية وغير مفروضة بالقوة ، وخصوصا ، بعد ان ينتشر الوعي وتتماسك المواطنة . وبعد التغيير التاريخي الذي حدث بعد 14 شهر تموز/يوليو 1958 تم إعتبار العراق قانونياً مقسم إلى قسمين واحد للمدن والآخر للقبائل والريف ؛ وفي نفس الوقت، كان التبرع الانكليزي على شكل أفكار أو مهارات في حقول وزارات كالري والزراعة، وفي مجالات أخرى، وذلك لم يأت مصادفة ، بل تبلور مع ازدياد الاهتمامات الأساسية لدى الامبريالية والانتقال من التفكير الكولينيالي السابق ، ولكن مما لا شك فيه أنه ساعد في عملية تقدم العراق نحو نظام قابل للتطبيق. في العشرينات ، كان الوجود الانكليزي ، من الممكن ، أن يكون حاسما في بقاء العراق وحدة كلية لا تتجزأ أبدا ، اذا ما روعيت خصوصياته الاجتماعية والسكانية وترسيح مبادئ يحترمها ويعتز بها الجميع .

آراء هنري دوبس :
كان العراق يمر في عشرينيات القرن العشرين بمخاض صعب جدا ، ففي ذلك العقد التاريخي ( =10 سنوات من 1920-1930) كتب هنري دوبس المفوض السياسي البريطاني في العراق قائلا : " أن حكومة العراق- باعتقادي- في خلال بضعة شهور قادمة إما أن تتلاشى جميعها أو أن تعود لتتماسك بيأس ، حتى يجرد الإقليم بأكمله، وان جميع باقي البلاد ستسقط وتنهار. اذ ان الملكية نظام ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه، وان قوة الجيش ضعيفة ، وان ملكية القبيلة الخاصة تم حشوها بالجيش .. "  ! من الصعب علينا أن نتفق في الرأي مع ما سجله هنري دوبس، ولكن علينا ، أن نعترف ، من جهة أخرى ، بأن الحالة العراقية كانت صعبة جدا بكل جوانبها ، اذ قام الانكليز بأدوارهم الاستراتيجية من أجل مصالحهم أكثر مما هو تلبية للمطاليب الوطنية التي لم يكن يشعر بها الجميع .. ويؤكد أكثر من مؤرخ درس العراق المعاصر في تشكيله لأول مرة ، بأن مصالح الانكليز قد التقت مع مصالح العراقيين من حيث لا يشعر هؤلاء ، فالانكليز وقفوا لجعل ولاية الموصل تحت نفوذهم لا النفوذ الفرنسي ، كما اراد الفرنسيون ذلك اولا ، والانكليز هم الذين وقفوا كي تكون ولاية الموصل عراقية وليست تركية ، كما طالب بها الاتراك .. وعندما تذكر ولاية الموصل كأقليم ، انما يقصد بها كل من الوية : الموصل ( بما فيها قضاء دهوك ) واربيل وكركوك والسليمانية . ان مصير الاقليم كان في كف عفريت ، لولا الجهود التي بذلها الوطنيون العراقيون في هيئة الدفاع عن الموصل .

فيصل الاول : الرجل المناسب
كثيرون ، هم الذين يعترضون على فيصل الاول ، ويعتبون على الانكليز الذين أتوا بفيصل بن الحسين ملكا ، ولكن ثمة ارادة عراقية كانت مجمعة على ان يكون عاهلا للعراق بلا منازع ، ليس لئن ليس في العراق من يصلح لحكمه ، بل لئن العراق نفسه كان بحاجة الى من له مكانة سياسية قوية ، ومعروف دوليا ، وصاحب مخاض تاريخي طويل .. واعتقد ان فيصلا لم يكن الا مؤسسا ناجحا لاصعب بلد في الشرق الاوسط كله ! ولعلّ من أهم المكاسب التي لم يعرها العراقيون اي اهتمام ، تتمثّل بترسيخ النزعة الوطنية منذ وجود الاحتلال البريطاني مرورا بعهد فيصل الاول الذي ساوى بين الجميع في رؤيته ومواقفه ، واستطاع ان ينجح الى حد كبير في تأسيس مشروع وحدة وطنية عراقية لم يعد يعرها أحد اي اهتمام ويا للاسف الشديد .. كان يزور معابد العراقيين كلها .. كانت له شجرة باسقة وقديمة معروفة باسمه في ناحية زاويته قرب دهوك يجلس تحتها ويلتف من حوله اغوات الاكراد بمحبة واحترام .. كان يزور العتبات المقدسة دوما محترما اياها واهلها .. كان يقف متأملا في دجلة على شرفة بيت الشربتشي بالموصل .. كان يزور المعابد اليهودية والكنائس المسيحية ، ولا يفرق بين العراقيين ابدا . كان يلتقي بشيوخ القبائل والعشائر في كل مكان ليتكلم بلهجتهم البدوية ، ويأكل بيده على مائدتهم . كان يحترم الجميع ، ولكنه لم يجعل نفسه جزءا من اي طرف ، اي لم يتخندق مع اي طرف ! ان من يقرأ مذكرات الساسة العراقيين بالذات عنه ، سيجد نفسه امام زعيم له مهارته وحذاقته وكان بالفعل ضرورة عراقية ، ولكنه دفع ثمنا كبيرا من معاناته ومكابداته واتعابه في تكوين دولة غابت منذ قرون .. بل وان الرجل ، دفع حياته كلها من اجل العراق الذي كان بأمس الحاجة اليه في اصعب الظروف .

تجاوز الصعاب
لم يكن العراق بلدا نفطيا وثريا في تلك المرحلة التأسيسية .. لقد كان بلدا معدما خرج من تاريخ صعب كله مجاعات وامراض وطواعين وفقر وجهل وأمية وفراغ  .. كان المجتمع يعتريه الجوع والالام والمصاعب التي لا توصف .. لقد بدأ العراق من الصفر في كل المجالات .. علينا ان نكون منصفين بحق من تعب من اجل العراق وتكوين العراق المعاصر .. بل وكان وراء مشروع وحدته الوطنية التي ليس من السهولة خلقها في مجتمع متنوع النزعات ومتباين المستويات ، ويعيش جملة هائلة من التحديات . والمعروف ان الملك فيصل الاول ومعه العشرات من الوطنيين العراقيين ، انهم كانوا يشتكون من كثرة الازمات السياسية والاقتصادية ، خصوصا ، وان العالم كان يمر بأعتى أزمة اقتصادية مرت عليه في التاريخ ، فضلا عن العناية باحتياجات الجيش العراقي .. وقيام الحكومة بتأجيل الاعلان عن قانون التجنيد الالزامي لأطول فترة ممكنة ، وذلك لأن الاعلان عن تجنيد إلزامي في العراق والذي سيتعارض مع الخدمة التطوعية عند القبائل التي لا ترغب البتة بالخدمة الالزامية ، وقد وجدت الحكومات العراقية عند مطلع الثلاثينيات بأن التجنيد الالزامي سوف يستغل عبء القوة العسكرية ويحقق في نفس الوقت التقليل من العبء المالي والنفقات .

واخيرا : رسالة الى كل العراقيين
لقد كان تكوين العراق المعاصر عملية تاريخية صعبة للغاية ، فليس من الانصاف ابدا ان نأتي بعد عقود طوال من السنين وعند مطلع القرن الواحد والعشرين ، لنفكك العراق علنا ، ونشعل فيه الانقسامات تحت يافطات وشعارات لا تصلح له ، ولا يمكن ان تتحقق ابدا .. مع فرقاء لهم مصالحهم الخاصة التي يعتبرونها فوق المصلحة العراقية العليا .. وتجدهم يتصارعون على ( مناطق مسلوخة ) كما يسمونها ، وكأن ليس العراق واحدا موحدا ؟ انها رسالة اريد ان ادفعها الى كل الذين يريدون شرذمة العراق ويتطلعون الى انقسامه .. الى كل الذين يسعون دوما غير معترفين بالعراق اصلا ، ولا يعتبرون انفسهم بعراقيين .. وهم يعلمون علم اليقين ان احلامهم لم تتحقق ابدا لا من الناحية العراقية ولا الاقليمية ولا الدولية .. انه جنون المتعصبين طائفيين كانوا ام شوفينيين ، وما اكثرهم في مثل هذا الزمن !

يتبع ـ للمقال صلة ـ  
12 آب / اغسطس 2008







63
داخل البيوت بلا قيد ولا شرط

د. سيّار الجَميل


دعوني أسأل ثانية عن الفضائيات العربية التي يزداد عددها مع الأيام، وقد غدت خلال السنوات العشر الأخيرة شبكة قنوات حكومية رسمية وشبه رسمية، أو قنوات لدول وقوى خاصة لها أجندتها وأهدافها.. وفي بث متواصل ليلا ونهارا، وتدخل كل بيت عربي بلا استئذان عبر غابة من المستقبلات، بل إن ثمة بيوتا تستقبل غرفها المتعددة أكثر من محطة وقناة وعلى شاشات واسعة!! أسأل: هل تقوم الفضائيات العربية بادوار حقيقية وذكية في خدمة مجتمعاتنا قاطبة، وكل من يشاركنا حياتنا وأساليب عيشنا من الناس والجاليات في كل الدنيا؟
 
أسأل من باب الحرص على تقدمّنا وتطوّر مصائرنا: إذا كانت فضائية أو اثنتان، أو زد ثلاثة، قد نجحت في بث الأخبار وتغطيتها بحرفية عالية المستوى، ونجحت في ترجمة الرأي والنقد السياسيين بمهارة وامتياز، فهل نجحت فضائياتنا في معالجة المشكلات الاجتماعية، وأزمات الحياة العربية التي تتردى بشكل مفجع يوما بعد يوم؟ وهل انتصرت للثقافة والتفكير الواعي بشكل عام؟ وهل حظي كل الناس بمشاهدة برامج وأساليب علمية متطورة تترجم كل مجالات العصر النافعة في معالجة الحاضر وبناء المستقبل؟!
 
إنها مشكلة انعدام التجديد الحقيقي والبقاء في فلك التقاليد، فما يؤسس يرسخ ويصبح تقليدا مكررا كل أسبوع منذ سنين، بلا أي إبداع حقيقي. إن فضائياتنا العربية اليوم، لا تتناسب فيها مواطن القوة، بل تتناغم كلها مع مواطن الضعف والأشياء العادية.. لا تستوي عندها الموضوعات، بل تكرر وتجتر نفسها.. إنها شاشات عروض دعائية، أكثر منها شاشات برامج معاصرة قوية.. إنها شاشات يستسلم لها الملايين من الناس، وهم يطالبون بالمزيد من مستهلكات الفيديو كليب أو الانغمار بتفاصيل «حياة أو مغامرات فنانين جدد»! إنها شاشات، اعتادت الناس عليها، منذ أن كانت بالأسود والأبيض قبل أربعين سنة، أن تنتظر المسلسلات التمثيلية مساء كل يوم.. ولقد زاد سوق هذه المسلسلات في السنوات الخمس الأخيرة، لتدخل المدبلجة سوق العرض، لتأتي التركية بعد تلك المكسيكية، فتختطف الملايين اختطافا غير عادي! لتغدو اليوم فوبيا المسلسلات وتجارتها في مجتمعاتنا، حالة تستدعي الدراسة والتأمل معا، مقارنة بمجتمعات أخرى لا تتشكّل عقلياتها على هذا الأساس أبدا!
 
أعتقد أن مجتمعاتنا العربية تهرب من واقعها لتغيب في واقع وهمي وتعتبره حقيقة، فما تجده المرأة العربية في «مهند»ـ مثلا ـ على شاشات التلفزيون، قد وجدته في «عبد الحليم» قبل خمسين سنة على شاشات السينما. ليس لتجد متعتها وشغفها هناك، بل لتهرب من واقعها الذي تعتبره مؤلما ومحبطا ومقّيدا لها.
 
الخطورة اليوم، أنك تجد الشاشات موزعة في غرف البيت، بلا أي ممانعة أو أي بدائل. الناس كانت ولم تزل تحلم وتهيم لتقتل زمنها قتلا.. وغدت شاشات التلفزيون الأداة الفعالة، ليس في نقل الأوهام وجعلها حقائق في المخيلة الجماعية العربية، بل في تغييب واقعنا عن حقائقه المرة.. إنها، ويا للأسف الشديد، لا تعالج أية قضايا فكرية، أو علمية حيوية، أو مصيرية، أو خدمية، أو تربوية، أو اجتماعية حقيقية.. إنها ـ أيضا ـ لا تساهم في العمل على بناء المستقبل والاستعداد له، بقدر ما تقحم كل وجودنا المعاصر بالماضي ومشكلات الماضي وبث الكراهية.. أو معالجة أخطر معضلات اليوم بلغة الماضي! إن مجتمعاتنا العربية لم تزل تعيش مشكلات تاريخية من خلال بقايا التاريخ وترسباته الصعبة، فهل نجحت أي تجارب تلفزيونية عربية في جعل الحاضر على الحياد دوما؟
 
هل ساهمت الفضائيات في تجسيد الوعي الجمعي ضد ظواهر خطيرة يدينها الدين والأخلاق، كالإرهاب والشوفينينية والديكتاتورية مثلا، أم أنها غفلت عنها وتجاهلتها، كونها تريد كسب الرأي العام ومجاراة عواطفه من دون الوقوف ضده؟!
 
يبدو واضحا لكل العلماء المراقبين أن أي شاشة تلفزيونية فعالة، ربما تزيد أهميتها عند الناس من دولة أو سلطة حكومية بالكامل.. فإذا كانت السلطات تخضع للمد الشعبي، فما بال القنوات الفضائية التي تريد كسب المتلقين كما يريد أي بائع كسب المستهلكين؟! قل ما تشاء عن قنوات خليعة، وأخرى ماجنة، وأخرى تافهة، وأخرى لاهية، أو لاغية، أو مسلسلاتية، أو وعظية خطابية، أو قومجية، أو اخوانجية.. الخ.
 
ولكن يبدو واضحا أن الاحتراف الإعلامي والمهنية العالية لا تجدهما إلا في الموضوعات السياسية والخبرية أكثر بكثير من موضوعات الحياة العامة، وان الثرثرة أكثر من التجارب، وان الاستماع أكثر من الرؤية، وان الخطاب أكثر تعبيرا من الصورة.. وان الدراما العربية قد تسيء أكثر مما تصلح، وخصوصا في إشاعة حالات زواج عرفي، أو مشاهد اغتصاب، أو تعاطي مخدرات، أو استعراض بطولات.. الخ، من دون أي معالجات حقيقية!
 
إن الفضائيات تشارك في مسؤولية بناء الأجيال وأخلاقيات الحياة، من خلال دخولها كل بيت وغرفة بلا قيد أو شرط، فهل لنا أن ننادي بتجديد برامجها، وتصويب فلسفاتها، وأن تغدو مدرسة حضارية حقيقية، لا أن تكون مساحة استعراضية للمتعة حسب، وأن تنطلق مشاركة فكريا لتطوير الحياة والفن، من اجل وعي جديد بالمستقبل ومخاطره؟!

البيان الاماراتية ، 6 اغسطس / آب 2008
www.sayyaraljamil.com


64
عولمية عربية بلا تشريعات حيوية

د. سيّار الجميل

تشخيص الاشكالية :

الكل يدرك اننا اليوم نعيش انطلاق ثورة اعلامية كبري من خلال ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات .. والتي دخلت كل حياتنا اليومية ، وفي اي مكان ، من عولمتنا الجديدة ، ولا يمكن لأي دولة ، او سلطة ، او حدود ان تصد هذا التدفق الهائل من الاعلاميات في الاخبار ، والمعلومات ، والرأي ، والصورة ، والحركة .. الخ ربما بدأ الناس يعتادون علي هذه الكائنات الجديدة ، وكأنها موجودة منذ القدم من دون التفكير بتأسيس اي ضوابط ، أو قوانين وتشريعات ، أو محددات ، للتلقي والقبول والنشر والبث والذيوع والانتشار ! هل ندرك حجم الاذي الذي سيتعرض له اي كائن يتفاعل اعلاميا مع الاخر ؟ وفي هذا الوقت بالذات ، خصوصا ، عندما يأخذ الخلاف او الاختلاف ، الجدل او الجدال ، مدي شخصي في ثقافتنا العربية والثقافات المحيطية الاخري ، ثم يتفاقم الي قذف سياسي جماعي ، ومن خلال اسلوب فاضح علي الملأ ؟؟ ومن المؤكد ، وبحكم مشاعيته ، سيشترك فيه اناس لا علاقة لهم ابدا لا بثقافة ، ولا بتخصص ، ولا باحتراف ، لا بمنهج ، ولا بأي رؤية اصلا ، ليبدأ فصل مثير للاشمئزاز والقرف وبواسطة مداخلات متخلفة او بدائية او سمجة باسم حرية التعبير والرأي ، وباسم ديمقراطية مزيفة لا تعرفها مجتمعاتنا ابدا ، وهي تطال اي واحد في المجتمع من دون وجه حق ، بل وتصبح العملية مجالا للقذف السياسي والشخصي وباساليب رخيصة لا تمت للقيم الانسانية باية صلة .. ناهيكم عما يجده الجيل الجديد بين يديه اليوم مفضوحا بشكل عادي في اي مكان .. ان الدعوة باتت ماسة لتأسيس ضوابط واصدار تشريعات لضبط ما يدور اليوم في فضاءاتنا كلها ضمن مشهد العصر . انني اراقب منذ خمس سنوات ، تجارب دول ومجتمعات ، وما يصدر فيها من تشريعات ، او ما يرّسخ عنهما من تقاليد سواء بشكل رسمي يأخذ الصفة القانونية ، او بشكل شبه رسمي يأخذ له الصفة النقابية .. فتجد ثورة العصر لا تقود الي فوضي ، بقدر ما تمنحها المناهج والقوانين وكل التقاليد ، فضاءات رحبة من التقدم الدائم علي مر الايام المتداولة .


الرؤية النقدية من خلال تشخيص حالات ونماذج

دعوني اسجل لكم جميعا هذه الملاحظات التي تتضمن نقدات ومقترحات وفتح صفحات جديدة من اجل خدمة العمل الجماعي للثقافة الاعلامية التي اعتبرها مشهدا حيويا للعصر ، ولكنه لا يستقيم ابدا مع التحولات العولمية في الدنيا كلها :

1/ الانفلات الاعلامي:
ان مجرد فتح المجال للصحافة والاعلام ( باسم الحريات والديمقراطية ) ، والقاء التهم وتبادل التراشق في مسائل فكرية ، وتخصصية ، ومعلوماتية نقابية ، ومؤسسية تنظيمية بحتة يعد من جملة الاخطاء او الخطايا التي ترتكب اليوم في منطقتنا ، بلا اي شعور بالذنب ، ولا اي اسلوب في التعايش مع اية مصاعب أو تحديات.. انها ستخلق بالضرورة انقسامات لا حد لها ، ويتوالد فرقاء متفرقين ومشتتّين .. ان الاعلام ، واجهزته ، ومؤسساته لا يمكنه ان يكون ميدان سقطات او انفعالات او القاء مواعظ او معروضات تافهة تغسل الادمغة .. بافلام او اقلام او خطاب من نعرفه ومن لا نعرفه .. ان اية خروقات تمس موضوع معين او أي ذات ينبغي ان يعاقب عليها القانون في اي مجتمع متمدن يلتزم بالاعراف الديمقراطية ويعمل ضمن سقف القانون والاعراف الاخلاقية ..

2/ الاحتقانات السياسية والاجتماعية :
 ان الديمقراطية لا تعني فتح الابواب ، امام التشهير والقذف العلني ، والاساءات الشخصية البالغة والموضوعية الخطيرة .. والتي وجدت لها بيئة خصبة لدي الجميع في السنوات الاخيرة التي تطورت فيها الاعلاميات بفعل ثورة الاتصالات .. ، ولكن بدت ثورة العصر في حياتنا العربية ساحة لافراغ كل الاحتقانات سياسيا واجتماعيا .. ثقافيا وفكريا ، ومن دون اي كوابح ، ومن دون اي اعتبارات نقابية او مؤسسية . ان الحوار وفلسفته هو فنّ عالي المستوي ، وهو جدل حقيقي لا جدال سجالي ، يجر الي مهاترات شخصية وشتائم تصل الي حد كسر العظام ، وتهشيم السمعة .. من دون اي وازع حضاري ، ولا اي مبرر موضوعي ، ولا اي مسوغ حقيقي من قبل اناس لهم مواقفهم السياسية او الشخصية المضادة .. .

3/ اتساع نطاق الخلافات :
لقد كانت الخلافات الثقافية والادبية والفكرية في مجتمعاتنا وحياتنا العربية سابقا تدور بين اثنين ، او بين جماعتين ، او بين مؤسستين ، أو بين حزبين ، او بين جريدتين ، او بين طرفين اثنين .. وربما تنحصر بين الجدران ، او المكاتب ، او القاعات ، او اروقة الجامعات ، او حتي ان نشرت فتبقي في اطار محلي ضيق ، وربما تخرج علي الملأ في صحافة وطنية معروفة ، وقد عشنا وشفنا معارك سياسية وادبية وفكرية بين ادباء وشعراء ومفكرين وساسة تعرف كل اسمائهم وتدرك جل عناوينهم علي صفحات جرائد او مجلات مسجّلة ضمن قانون مطبوعات اي دولة .. وربما لا يتجاوز احدهم الاخر بسبب نصوص القانون اولا وبسبب قيود الصحافة ثانيا ، وبسبب قانون المطبوعات ثالثا ..
 
4/ هجمة التوحش :
اما اليوم ، فلقد دخلنا مناطق محظورة وجدّ خطيرة ، ليس علي مستوي الناضجين والمؤهلين حقا لأي حوار ، بل غدت كل الاجيال منهمكة في بحر من هذا اللامعقول ، في كل مرفق من مرافق الحياة .. شاشات التلفزيون بكل الفضائيات لا حدود لما تبثه .. وتلحق بها اعلاميات مواقع الكترونية تحمل الغث والسمين ، وتختلط فيها الاشياء في خلطة لا يمكن تمييز الصالح من الفاسد فيها ! ان الاخطاء في كل الامور قد زادت بشكل لا يمكن تخيله ، بفعل كل هذا التطور المذهل في الحياة الاعلامية .. ربما كانت ثورة المعلومات والاتصالات اكثر نفعا في الحياة الاقتصادية والمالية والخدمية .. لكنها مع مشهد العصر تغدو انما هي نقمة ، خصوصا وان ارقي آليات الاتصال وتكنولوجيا المعلومات قد وجدت نفسها في مجتمعات متخلفة غارقة في الوحل والطين ، او انها تتحرك ضمن بيئات متوحشة تتشكل فيها جوقات من اناس تتنوع ليس افكارهم وابداعاتهم ، بل تتعدد سيئاتهم وتنعدم اخلاقياتهم .. ومن المؤسف ان تغدو الآليات الجديدة أدوات تشهير ، وماراثون قذف ، ومعرض اخطاء باسم الديمقراطية ، وكأن " الديمقراطية " لا يمارسها الا انصاف المثقفين والجهلاء والرعاع ضد المثقفين العلماء والمختصين بعيدا عن نقد ممارسات القادة والزعماء وما يقترفه عدد كبير من السياسيين والاعلاميين من آثام وجرائم ؟

5/ الاضمحلال الثقافي :
 لا يمكننا ان نتعامل بمثل هذه الاسلوب ونحن ننضوي تحت يافطة ( ثقافة متطورة ) فلا نحن قد احتكرنا الحقيقة لانفسنا ، ولا نحن ، قد اصبحنا اساطين ثقافة ومعرفة عليا يتسابق العالم علينا .. وعلي الاخر من غير المثقفين والعلماء والاكاديميين ان لا يقحم نفسه ، ولا قلمه ، ولا خطابه ، ولا يدخل انفه في ما لا يعنيه من مشكلات ! وفي الحصيلة ، ثمة ما يتركونه من زبد يذهب جفاء من دون اي حوافز وانشطة وابداعات ومنتجات تفوق حدود الذاكرة ، بل الخيال . ان مشهدنا الاعلامي والثقافي يضمحل شيئا فشيئا بفعل كل المثالب التي يزداد حجمها من دون اي علاجات ..

6/ ضرورة التشريعات الواقية :
ان اعلامياتنا العربية في مثل هذه الظروف الصعبة مسؤولية صعبة جدا ، ويتحّتم عليها وعلينا جميعا ان نتقّبل كل الملاحظات والانتقادات ، وان نحافظ علي الحدود الدنيا من العلاقات الادبية التي يحترم فيها احدنا الاخر علي الاقل ، وهنا ، يستوجب الانطلاق من واقع مهترئ ينبغي تغييره او تطويره ، وان يتقّبل كل المستحدثات الجارية في العالم بروح عالية .. اننا مدعوون جميعا لوضع اسلوب عمل صريح وشجاع يطالب بالنص مراعاة التشريعات الخاصة بذلك .

7/ ضوابط الثورة الاعلامية :
وعليه ، فان حياتنا الاعلامية العربية ، الرسمية والاهلية ، بحاجة ماسة الي اصدار تشريعات وضوابط لكل مرفق من المرافق والمؤسسات والاجهزة المستخدمة وصولا الي كل المواقع الالكترونية علي الويب ، وان تخضع كل الثورة الاعلامية الي هيئات نزاهة وان تخضع كل التجاوزات للقضاء .. فمثلا ، من حق القارئ ان يعرف كل شيئ عن كاتبه ، ولكن بنفس الوقت من حق الكاتب ايضا ان يعرف من يمدحه ومن يعلق عليه ومن يذمه ويشتمه ! اننا ازاء ثورة اعلامية ينبغي ان تكشف فيها كل الاوراق وكل الاسماء وكل الاشياء من اجل ان تحدد خطواتنا كوننا نعمل ونعيش كل في مكان من هذا العالم .

8/ تغيير النهج والتقاليد :
لابد من تغيير في النهج ، وتماسك في العلاقات ، ومشاركة في العمل .. وهدوء في الاعصاب وشفافية في الحوار واخلاقية التزام بكل القيم بحيث لا يمكن ان نفسر النقد شتيمة ، ولا الاعتراض سبّة ، ولا النصح جريمة ، ولا الحرية فوضي .. علينا ان نقدّر الامور حق قدرها ونحمل حلم الرجال في كل خطواتنا .. علينا ان نحترم بعضنا بعضا مهما بلغت بنا درجة الاختلاف .. وعلي كل منا ان يعرف قدر نفسه ازاء الاخر ، وكم باستطاعته كمثقف من المثقفين ان يركض في ماراثون ابداع الكلمة والنص والريشة والصورة والصوت والعقل والمشاعر والجمال واثراء الثقافة الحقيقية واشراكها في سيرورة الثقافة العالمية .


الحصيلة : مطلوب مؤسسية واحتراف وتقاليد جديدة

وأخيرا ، ينبغي تفعيل اي بادرة او اكثر من اجل ان يكون كل الاعلام له حريته وفضائه الديمقراطي ، ولكن ضمن تقاليد واعراف لا حيدة عنها .. وان تمارس اخلاقيات في غاية النضج وان تؤسس برامج عمل ، وتشرع قوانين ، والانطلاق بكل ما يمكن ان يسّهل العمل ويرسّخ الشفافية بعيدا عن الفوضي السائدة .. ان الاعلام العربي ينبغي ان يكون مؤسسة للمثقفين ، وتجمعا للمبدعين ، ومنظومة للعاملين ، وميدانا للتربويين ، وساحة للفنانين الحقيقيين . اننا بأمس الحاجة الي ان نعيد التفكير بمسيرتنا ، حتي وان كانت قصيرة والا سنكتب ضربا من العبث والجنون ومهما بقينا متنازعين بمثل هذا المستوي فسوف يسجل العالم علينا بأننا غير مؤهلين ابدا للعمل بروح جماعية وحداثوية .. فهل سندخل حقا القرن الواحد والعشرين ؟ وهل سننجح باستخدام آخر منجزات العصر من اجل الارتقاء بواقعنا وافكارنا وخطابنا وكل وجودنا الي زمن جديد ؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات المقبلة .

3 /8/ 2008
www.sayyaraljamil.com


65
أزمة اخلاقيات كونية جديدة !
د. سّيار الجَميل
المغزى .. والمفهوم
سيدخل العالم قريبا جدا مرحلة تاريخية جديدة من مراحل القرن الواحد والعشرين ، وسيترك وراءه مراحل القرن العشرين باجيالها الثلاثة .. وستختلف المجتمعات في العالم كله ، عمّا كانت عليه سابقا ، بالرغم من ان المتغيرات دوما ما تكون بطيئة ، الا ان الانسان الذي شهد الماضي القريب ، وعاش على الاقل النصف الثاني من القرن الماضي ، سيمكنه تفكيره وتأمله ومقارنته من رؤية مستوى التحولات في عالم الانسان الذي يمثّل كل من الدولة والمجتمع معا في كل ممارساته واخلاقياته ، تصرفاته وعلاقاته ، افكاره وتجاربه وتطبيقاته  . ان الانسان ـ على العموم ـ ، وكما يكتب اغلب الباحثين ، انه يدخل ازمة اخلاقيات كونية جديدة لم يعرفها في السابق ابدا ! انه يدخل عالما معقدا جدا من العلاقات الانتاجية والاستهلاكية معا .. انه يقف على حدود صراع بشري عولمي بين شمال وجنوب .. انه سيعيش ظواهر خطيرة ، وكبيرة ، ويواجه كل قساوتها وتداعياتها .. انه سيغترب كثيرا عن فلسفاته واشعاره ، بل وحتى احاسيسه ومشاعره .. انه سيناضل من اجل الابقاء على لائحة مبادئ حقوق الانسان في ظل متغيرات كاسحة .
من صراع القوتين الى استقطاب القوة الواحدة
ان الحرب الباردة وبضمنها عهد الوفاق بين العالمين السابقين قد انتجتا عند التخضرم بين قرنين نتائج اساسية ومهمة سأقتصر على ذكر اثنتين فقط ، اولاهما ، ان مكانا تافها في العالم كان يمتلك اهميته بسبب ان صراعا بين القوتين الاعظم كان بالامكان حصوله فيه ، وكان ذلك الصراع قد حصل على حساب ثروات الشعوب وتقدّمها . وثانيهما ، ان الغرب كان يسعى لتأمين رفاهية مجتمعاته ، ويطّور آليات منتجاته ، ويسعى لمد نفوذه وقوته وشركاته ورؤوس امواله كي يقهر منظومة المجتمعات الاشتراكية التي لم يعد باستطاعتها تأمين الغذاء ومستلزمات الحياة العادية على الطرق الغربية نتيجة لعوامل داخلية وخارجية ، ذاتية وموضوعية . وهكذا ، فان الصراع كان قد غدا مكشوفا : سياسيا واعلاميا وتسلحيا واقتصاديا .. ليغدو اخلاقيا بين الجانبين وليصيب الانسان في الصميم على وجه الارض  .. فجأة يبدأ الانهيار حسب قاعدة ضربة الشطرنج بسقوط جدار برلين ، ويتكلل بانتصار الغرب. وعندئذ غدت الولايات المتحدة الامريكية ( سوبر باور ) العالم كله مستقطبة كل المجالات الحيوية ، وهنا تغدو الدول الصغرى مجرد كائنات تافهة بالنسبة لها ، ويخفت التعاون الا وفق الخطط التي ترسمها مصالح القطب الواحد . 
ولادة التوحش الانساني
لو سألنا أنفسنا : ما السر الذي يكمن وراء اختفاء اخلاقيات ما تضمنه الاعلان العالمي لحقوق الانسان في القرن العشرين ؟ والذي كان يعنى ببلورة اخلاق كونية تنطبق على جميع شعوب الارض ، وان مضامينه تؤكد على احترام كرامة كل انسان على وجه الارض بغض النظر عن جنسه وارضه ، اصله وفصله، او عرقه ولون وجهه ، او دينه وطائفته الخ .. ولكن بدأنا نتلمس تأسيسا من نوع جديد يقوم على اساس تقسيم العالم شمال جنوب .. وبدأنا نتلمس التوحش في التعامل وبدايات تكوين اخلاقيات كونية من نوع جديد ، لا تستقيم ابدا ومبادئ حقوق الانسان .. بل وبدأنا نرقب استخدام العامل الانساني غطاء مجردا من الاخلاق ، وغدا يستخدم مادة مستلبة في القذارات السياسية !  ان الانسان اليوم قد تغّير كثيرا عمّا كان عليه في السابق ، اذ تبدلت اخلاقياته كثيرا في كل مكان من هذا الوجود .. بدأت الثقة تفتقد كثيرا عما كانت عليه سابقا بين الناس ، وازدادت المافيات والجماعات المارقة في مجتمعات اليوم ، وهي تتصرف ضد القانون بشكل متفاقم الاخطار لما كانت عليه سابقا في القرن العشرين .. وازداد التوحّش في التعامل بين القارات .. ربما لم تنته مفاصل الشرق والغرب بعد ان ودعنا عصر الاستعمار الكولينيالي والامبريالي ، ولكن التوحش يتبلور اليوم بين شمال وجنوب وعلى اسس اقتصادية اكثر منها سياسية ، وربما تختفي عوامل استراتيجية غير منظورة اليوم .. لم تعد المجتمعات هادئة كما كانت من قبل ، بل تبدو متحركة ومختلطة وتهددها الفوضى . ولم يعد العمال طبقة بروليتارية في مجتمع صناعي تصارع من اجل نيل فائض القيمة ، بل غدت الايدي العاملة من اثمن ما يكون في السوق العالمية .. لم تعد الطبقة الاستقراطية منحسرة بعدد معين من اصحاب رؤوس الاموال في اي مجتمع ، فلقد تنامى عدد هؤلاء ليس في العالم كله ، بل في كل مجتمع باستحواذ البعض على مصادر النفوذ والمال والقوة .. ويبدو هؤلاء في عرف المحللين والدارسين مجرد طفيليين في المجتمع !
العدالة تتناقض مع عالمين اثنين
يقول الفيلسوف الامريكي الراحل جون رولس صاحب «نظرية العدالة» الشهيرة، وهو وريث شرعي لكانط وجان جاك روسو. انه مفكّر واقعي لا يطالب بالمستحيل ، وهو لا يدعو الى الغاء الفوارق الطبقية الاجتماعية او بين البشر، وانما يدعو الى تقليصها فقط، فالعدالة في نظره لا تعني ان كل الناس يمكن جعلهم اغنياء بنفس الدرجة، وانما تعني ان الفقراء ليس لهم ما يأكلونه . ان  الانسان اينما كان له الحق في هذا الوجود ان يحيا حياة كريمة ، وعنده الحد الادنى من الطعام والشراب والملبس والسكن والدواء والعلاج ..  الخ، وبالتالي فان المفهوم الجديد للعدالة يتناقض تماما مع النظرية الشيوعية او الحياة الاشتراكية التي لا يتفق ابدا مع قوانينها ومناهجها  ، واعتقد ان اراءه ضدها تحمل اجحافا كبيرا .  المهم هنا ، ان الرجل يتناقض ايضا مع العولمة الجديدة التي يسميها حالة جائرة جدا من الرأسمالية المتوحشة التي شاعت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، ولم يقتصر الضرر منها على الدول والكيانات السياسية فقط ، بل ضربت كل مجتمعات الدنيا من جرائها ، والمصيبة كما يقول ان الليبراليين الجدد لا يتطرقون اليها ، فهم يصفقون باتجاه واحد ! من يتصفح برنامج الامم المتحدة للتنمية لكل عام ، وهو الذي يتحدث عن وضع مختلف دول العالم في كل سنة ، فسيخرج مذهولا نتيجة اتساع الهوة التي تزداد يوما بعد آخر بين الاغنياء والفقراء بدلا من ان تنقص والاحصائيات الرسمية واضحة بهذا الخصوص. فايطاليا مثلا اغنى من جميع الدول العربية بعدة مرات بما فيها الدول البترولية.. لنضرب امثلة اخرى على مدى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الشمال الممثل الحقيقي لعالم الاغنياء ، وبين الجنوب ممثل الفقراء بشكل عام ، فسنجد ان  هناك 225 مليارديرا في العالم تبلغ ثروتهم الاجمالية الف مليار دولار.. هذا المبلغ يعادل ما يحصله 5,2 مليار من سكان البشرية ، اي بمعنى ان 225 شخصا ، هم اغنى من ملياري ونصف شخص من ابناء البشرية !
من المسؤول اليوم عن الازمة ؟
    ان العالم كله يدرك من هو المسئول الحقيقي عن تبدل الاخلاقيات على مدى مائة سنة ، وعن خراب العالم . وقد بدا الانسان منتجا مستغلا ، او مستهلكا عبثيا ، او شبحا اكلته الحروب والكوارث والمجاعات .. وبالضرورة ، فان عالم الجنوب هو المكتظ سكانيا ، وهو الذي يعاني وستزداد معاناته مع توالي الايام والسنين في ظل اخلاقيات كونية جديدة ، لا تعرف الا الحرب الاقتصادية ، والاستثمارات الوهمية ، والمضاربات في العملة ، وهيمنة الشركات الكبرى ، والتخطيط لخنق اقتصاديات معينة ، وعمليات غسيل الاموال ، واستقطاب ثروات هائلة في البنوك لدول وافراد .. وفرض اجندة على الغذاء والماء والدواء .. والتلاعب باسعار المحروقات ، وتخفيض سعر الدولار .. الخ من السياسات التي ستأخذ العالم كله رهينة نظام اقتصادي جديد لا يعرف الا الاخلاقية الكونية للمصالح الاحادية لطرف واحد على حساب كل العالم الذي يتقهقر شيئا فشيئا !
العالم يتقهقر شيئا فشيئا !
وهذا ما يراه المفكر الهندي فاندانيا شيفا في رؤيته المستقبلية لعالم الجنوب ، فهو ينتقد النظرية الرأسمالية الجديدة التي تقول بأن التجارة الحرة تؤدي الى ضمان الحرية في المجال السياسي وسواه. ولكنه يقول بأن العكس هو الصحيح ، ذلك ان التجارة الحرة هي التي تحرمنا من الحرية في عالم اليوم لا يجد امامه الا الصراع بين الشمال والجنوب ، وستكون الخيبة والخسران من نصيب عالم الجنوب . ان عالم الجنوب يتقهقر شيئا فشيئا بملايين البشر التي تعيش بلا اي انتاج وعلاقات انتاج .. انها افواه لا تقبل الا الاستهلاك مع ازدياد المجاعات والمشكلات والامراض . ان دولا بترولية ستضمحل مجتمعاتها ان نضب البترول منها ! ان منطقة الشرق الاوسط ، وهي اقرب منطقة الى اوربا جغرافيا كانت ولم تزل تعاني من صدمات تاريخية وحضارية متنوعة ، وهي اليوم ضمن مناطق صراع الجنوب ازاء الشمال .. وتبدو مجتمعاتها تعيش هي الاخرى فوضى من التناقضات وغياب المستويات وتقلّص النخب وغيبوبة الانتاج وتفاقم الصراعات .. انها تعيش في عالم متغيرات غير ايجابية على الاطلاق وبفعل سياسات واجندة واعلاميات وتربويات .. لا تخلق الا الانقسامات وتبدد الارادات وتعدد الولاءات لثقافات متوحشة وظواهر لم يكن لها وجود في حياتنا واخلاقياتنا سابقا !
واخيرا : هل من افكار جديدة ؟
وعليه ، فان ظواهر غريبة قد حدثت ، او في طريقها للتبلور والحدوث مستقبلا ، ومنها ظواهر : الارهاب ، والمافيات ، والمليشيات ، والحراسات ، والطفيليات ، والقطط السمان .. مع وجود وتفاقم الانقسامات والحروب والطوائف والتشظي الى انتماءات لا حصر لها .. فإذا كان عالم الشمال بزعامة امريكية يريد فعلا القضاء على الارهاب ـ مثلا ـ ، فما عليه الا ان يعيد التوازنات ضمن مبادئ حقوق الانسان واخلاقيات الانسان ، ويقضي على التفاوت الهائل بين البشر ، وان يبتدئ باصلاح خلل النظام العالمي لكي تستفيد مجتمعات العالم قاطبة من ثمار العولمة .. وان يتساوى الجميع في فرص التعليم وفرص العمل والتأمين الصحي والخدمات والسكن .. وان يؤخذ بأيدي جميع المبدعين في كل المجتمعات .. وان لا تخلق الحروب خلقا في مجتمعات على حساب نمو وثروة مجتمعات اخرى .. وان يسمح لكل المجتمعات بالعمل والانتاج قبل ان تستلبها الفوضى الخلاقة ! وان ارادت الدول والحكومات ان تبعد مجتمعاتها عن كل الاخطار ، فليس لها الا ان تجدد في قوانينها ، وتغّير في مناهج تربوياتها ، وتصلح اوضاعها السياسية .. وعلى المجتمعات ان تناضل من اجل كسب حقوقها ، والتمتع بحرياتها ، وتأمين واجباتها ، وان تعتمد على ابنائها في بلورة افكار واساليب جديدة ، ومن ثمّ ترسيخ آليات فكر وعمل تتواءم وتنسجم مع ضرورات المستقبل .
www.sayyaraljamil.com

ايلاف ،  3 آب / اغسطس  2008

ملاحظة : في حالة اعادة نشر المقال في اي موقع ، يرجى ذكر المصدر  ايلاف .. مع الشكر

66
الأحْياء يخْسَرَهُم الأمْوات !
رِسالَةٌ عابِرةٌ الى كُلّ الأصْدِقاءِ العِراقيين

د. سّيار الجَميل
ماذا اقول بعد ازجاء التحية الطيبة ؟
بادئ ذي بدء ، لا اريد ابدا ان أسمي أي شخص باسمه ، فمهما بلغ خلافه معي ، أو علت أزمته ضدي ، فانني احترم الذات والاسماء كلها .. واذا كانت للبعض مشكلته السياسية او الطائفية معي ، فانا ليس لي اي مشكلة مع الاخرين ، الا بقدر ما اختلف مع هذا او ذاك في المعلومات والرؤية والثقافة .. وهذه رسالة عابرة كتبتها موجهة الى كل العراقيين ، لا الى انسان معين بالذات ، وقد عنيت بطبيعة الحال البعض من الغلاة والمتطرفين الذين لا يؤمنون بنسبية الاشياء والامور ابدا .. ومنهم بعض الاصدقاء الذين لم يتغيروا ابدا بالرغم من كل العاديات لعشرات السنين .. وهي حديث عن " خسارة " معينة للبعض ، ممن لم يجد في كل هذا العراق موضوعا حتى اكتشف فجأة انه بخاسر لواحد من العراقيين اسمه سيار الجميل! ومن المضحك حقا ، انه يتحدث باسم المجموع لا باسمه وحده ، من دون ان يدري خطأ ان يتكلم المرء باسم المجموع ، فلقد تعلمنا في مدارسنا  الابتدائية ، ان اي كلام عن الذات لا يؤدى الا باسم صاحبه ، لا باسم الاخرين ، الا ان خّول بذلك تخويلا .. ان  " الموضوع اكبر بكثير من الذات " ـ كما قال جيفارا يوما ـ !

المعنى الضائع
لم تعد الارض الخصبة الا للاحياء في هذا العالم ، وان الاموات كلهم لا يأخذون معهم الا الاكفان ، بعد ان ذهبوا ويذهبون بلا رجعة ابدا .. وحتى ان بقي بعضهم يثرثر بما ترّسخ عنده من شعارات واقوال يستحيل تطبيقها ، فان هذا البعض الى زوال واندثار، اذ لا حياة لهم لا مع هذا العصر ، ولا مع المستقبل ابدا ، ما داموا لا يقبلون الرأي الاخر ، ويرفضون التعامل بكل شفافية مع اية اسئلة يريد اصحابها اجوبة عليها . ما لي اراهم ما زالوا يتعبدون في صوامعهم باسمالهم البالية ، ويلوكون شعاراتهم واوراقهم ، ويهاجمون حتى اصدقائهم ويخلطون بين الاخضر واليابس .. ؟؟ من المضحك جدا انك تجدهم دوما من المتعجلّين ، يلقون التهم السريعة ليس على خصومهم الحقيقيين من البدائيين والمتخلفين والشوفينيين والتراجعيين الفارغين التافهين ، بل يلقونها على من انصفهم في التاريخ والنضال والتفكير والمعرفة والثقافة والمعاصرة .. وانصف مع هذا وذاك كل العراقيين ! كنت أتمنى على واحد او اثنين او زد ثلاثة ، من امثال هؤلاء ان يدركوا معنى الربح والخسارة في سوق غير متوازن أبدا من المعرفة والتفكير والحكمة والمنطق وقوة الحجة لدى من كان صاحب فكر ومنهج وفلسفة وموضوع ازاء البعض من المتطرفين المغالين ، وهم ما زالوا على نفس طبعهم ، وتعصبهم ، وامزجتهم الساخنة التي تدعو الى اعدام الاخر ، او نفيه ، وقد تصل درجة الكراهية الى نحره ، او قتله ، او سحله ! فان من تخسرونه ، لا يمكنكم ان تنفوه من ذاكرة العراقيين ، فلا حاجة الى ان تبيعوا عليه شموع التنوير ، فهو يعرف طريقه المستنير منذ ازمان خلت .. ولقد تلقّت افكاره ، ولم تزل ، الالاف المؤلفة من الطلبة والناس والمتابعين والمهتمين والعاشقين لرؤاه والمنتظرين لما ينتجه ليل نهار .

انهم معا عند خط الاستواء الملتهب !
 وهنا ، يستوي عندنا اولئك الذين جنوا على مجتمعهم بما اسموه بمليشيات " العنف الثوري " ، او هؤلاء الذين ما زالوا يجنون على وجودنا بما اسموه بجماعات " التكفير والارهاب " ، او مرتزقة " الاحزاب الشوفينية "  . ان كلا من هؤلاء قد ضيعنا ، وضيع مستقبلنا على امتداد عقود من الزمن كونهم يعلنون على الملأ احتكارهم للوطن والفكر والمعرفة وكل الايجابيات ، وكأن بقية الناس ليسوا بابناء وطن ، وكأن ليست لديهم اي معرفة ، ولا اية ايجابيات ! والانكى من ذلك انهم يريدون احتكار التاريخ لهم فقط ، من دون ان يسمحوا للاخرين ان يدلوا بدلوهم .. او ان يتحاوروا معهم بكل احترام ومعرفة ! اريد القول ايضا ، بانهم نفر خرجوا عن الطريق السوي لكل العمالقة الحقيقيين الذين ساروا على طريق صعبة للغاية ، وسارت عليه تلك الالاف المؤلفة من المناضلين الاقحاح الذين دفعوا حياتهم ودمائهم ثمنا لمبادئهم التي آمنوا بها من اجل وطن اشترك الجميع في ذبحه ، فمسؤولية ذبحه لا يتحملها مجرم واحد فقط .. وهم بين هذا وذاك ، لم يجنوا الا خواء النتائج ، وبئس النهايات بسبب الغلاة ، فالغلاة يستوون جميعا عند خط الاستواء الملتهب !

اموات منعزلون
السؤال : لماذا تبقى البعض ، وذاك البعض من نفر قليل ، يصر على انعزاليته وعلى نفس اساليبه واخطائه في الغلو والتطرف بعد كل الجنايات التي اقترفها الجميع .. ؟؟ لماذا لم يراجع مسيرته ؟ لماذا لم يعترف بالاخطاء ؟ لماذا لم يتوقف لحظة واحدة ، ليقول كلمة سواء بحق الجميع من اجل كل العراقيين ؟ متى تنزع الكراهية من صدره وكل الصدور العراقية ؟  لماذا لم يخرج ابدا من خندقه وحده ويندمج مع الاخرين لتشكيل الكلّ العراقي ؟ لماذا بقى هو وبعضه امواتا ، فلا هم احياء ولا هم براحلين ، ولكنهم يعدون ايامهم ويمضون الى حيث النهايات بلا اي ذاكرة جمعية ! ؟  لماذا يعتبر هؤلاء انفسهم ملائكة الرحمة ، وجهابذة الزمن ، واطياف السلام ؟ لماذا يجعلون انفسهم من اعظم المثاليين في بناء جمهورية افلاطون الخيالية الرائعة ؟ وهم لا يدركون " انهم يعبدون الطوطمية المعاصرة " ـ كما قال جان بول سارتر يوما ـ !

هل أساء صاحبكم لكم ؟
هل اساء صاحبكم لكم انتم ايها النفر الضليل ؟ الم يخدم العراق في الصميم ؟ ألم يكن سيفا مشهرا ضد كل من نال من العراق والعراقيين ؟ هل تسمح له قيمه العلمية ان يرمي عليكم النار والقار والاحجار ؟ هل وجدتموه يحاربكم كذوات وعراقيين باسمائكم ، ام انه يعالج موضوعات العراق ، ويحمل همّ العراق ومستقبل العراق ؟ والفرق كبير بين الموضوع والذات ! هل وجدتموه شوفينيا بربريا ، ومتوحشا بدائيا حتى تخسروه ؟ وهل كان قد تخندق معكم انتم بالذات في مجموعة واحدة او كوميونة واحدة حتى تخسروه ؟ هل اعلن استقالته منكم بالذات حتى تخسروه ؟ هل قرأتم ما كتبه عن الجميع وانصف كل العراقيين .. وشخصّ جملة هائلة من الاخطاء التي اقترفت بحق المناضلين الحقيقيين ، وبحق الزعماء المظلومين وبحق كل المسحوقين ؟ هل لعب على حبال اللاعبين ، وتلون مع موجات السياسيين ، وتشدق بشعارات المؤدلجين ..؟؟ او هرول مع المهرولين ليشارك النفعيين والمختلسين والاخرين اغراضهم ؟ او ذهب مع هذا ورجع مع ذاك باسم الانسان والحرية والتقدم والديمقراطية والسلام وهو من اشد المؤمنين بها كلها كمبادئ وقيم لا حياة لنا كلنا من دونها ابدا .. ؟؟ واذا لم تقرأوا كل فكره او كتبه ؟ او تتأملوا في كل قوله مليا ؟ فما هذا التطاول ؟ هل من حقكم القاء التهم عليه جزافا ؟ متى تتخلصون من هذا الوباء الذي شمل العديد من اخلص العراقيين وانبلهم ولعقود طوال من السنين ؟
نعم ، الاموات يخسرون الاحياء ، فالاموات اموات ، والاحياء سيبقى ذكرهم على مدى الازمان ! ان من اصعب المهمات ، ادراك ما يريده كل المتطرفين والغلاة الذين لا يجدون الصواب الا عندهم .. ومهما اردت ان تفهمهم فلن تستطيع ابدا ابدا .

خزين الاحقاد .. متى ينتهي ؟
انهم يترجمون جملة هائلة من المشكلات النفسية والاجتماعية على امتداد سنوات حياتهم ، بل وان بعضهم يتوارث الاحتقان والحقد والكراهية ، كما تربّى على ذلك ، من دون ان يشعر باقتراف اي ذنب تجاه الاخرين من العراقيين .. انه هكذا بطبيعته ، ولم يكتف بما حصل عبر كل هذي السنين ، ولم يشف غليله كل ما رأيناه جميعا من رذائل ومخزيات الرعاع والقتلة واولاد الشوارع والجناة الغادرين ، بل باق حتى يومنا هذا يتشّفى بمصائر من يناوئهم ويخاصمهم بلا اي قرائن ، ولا اي حجج ، ولا اي حيثيات تاريخية ، الحي منها والدفين .. ان العراقيين من المتوازنين المخلصين لهم اكثر من دليل واضح على كونهم احياء ما زالوا يعيشون في ذاكرة الناس والعالمين .. بل نجدهم في ذاكرة خصومهم حتى اليوم والى يوم ينتصرون .. اما خصومهم ، فأموات مذ فتكت بهم كل التقلبات والتناقضات التي صنعوها والبسوها لأنفسهم ! لقد خلقوا من انفسهم " أئمة من الملحدين  . . واصنام من النصوص . . " ـ كما يقول الصديق امير الدراجي في واحد من نصوصه الفلسفية الرائعة ـ !

يريدونك .. وانت لا تريد
يريدونك في خندقهم وانت من ابعد الناس عن الاوكار والخنادق والحركات السرية ، يريدونك تصفق لشعاراتهم وانت تتجرد من اي شعار .. يريدونك بوقا لاحاديتهم وانت من أبعد الناس عن الاحاديات والثنائيات والقفز بين هذا وذاك ! يريدونك من ورائهم حتى وان لم تنتم لهم ، وانت تتعالى على الايديولوجيات والتحزبات ! يريدونك تمجدهم وتصفق لمهازلهم واحتفالياتهم بمهرجانات الموت والاعدامات ، وانت تأنف من أي نقاط ضعف وهوس وتوحش ، وقد انتموا الى احزاب لها مكانتها وعراقتها وتاريخها ، وهي اكبر منهم جميعا ! يريدونك ان تنسلخ عن جلدك ومدينتك ، وما انت الا بعاشق لكل الوطن .. لكل هذا العراق الذي ذبحه كل الغزاة ، وكل الغلاة والاوباش والمشعوذين والشوفينيين والدجالين وخونة العهود وحفنة من الجلادين ، او اولئك الكارهين لاسم العراق ، وحدود العراق ، وشعب العراق وكانوا وما زالوا يتمتعون بخيراته وثرواته ! اراد بعضهم ان يشتروا صوتك ، وبعض آخر شراء كلمتك ، وبعض آخر شراء ذمتك .. ولم يفلح الجميع ، ولن يفلحوا ابدا ، فانت لم تخلق لهذا او ذاك ، بل كنت جنديا  مجهولا لكل هذا العراق الذي لم يفتك احد به كما فتك فيه بعض ابنائه المعاقين وقطاع الطرق من الغرباء على قيم التمدن والاستنارة الحقيقية .

ابن بلاد أم ابن مدينة ؟
تخسرونه ، وانه ابن لهذا العراق ، وتنالون منه كونه ابن مدينة تكرهونها ، ولكنه يجد ان مدينته يعتز بها كل العالم باعتبارها مركز التقاء لكل الشرق والغرب ، ومركز حضارات متداولة .. هي ليست موطنا للشوفينيين فقط ـ كما يصفها بعض الكارهين ـ ، بل انها كانت في ما مضى : بيئة خصبة رائعة انطلق منها على امتداد القرنين السابقين : العشرات من النهضويين والاصلاحيين والتقدميين والديمقراطيين والماركسيين والقوميين والاستقلاليين والاشتراكيين .. ناهيكم عن ابرز الحرفيين والاطباء والقضاة والتشكيليين والمحامين والصحافيين والموسيقيين والمعماريين والاقتصاديين العراقيين .. فكيف لا نعتز بها جميعا ؟ كما انها بؤرة لكل الملل والنحل والاطياف العراقية الجميلة .. فاذا كان الاخرون يفتخرون بها ، فهل من الصواب ان أصّب جام غضبي عليها ، وان اخرج من جلدي لاصفق لكل ما لها من كارهين  او امحيها من ذاكرة وطنية متوقدة لدى كل الوطنيين ؟ وماذا تبّقى منها بعد كل هذي السنين العجاف ، اذ غزاها الغرباء كالجراد ، فاغتربت عن ماضيها الجميل .. وذهبت كل معانيها الرائعة مع كل الذاهبين .

مستبدون يريدون احتكار كل العراق
متى تخسر الاموات اولئك الاحياء ؟ متى كان للاموات اصوات ؟ متى اعترف الاموات بكل ما اقترفوه من جنايات بحق الاحياء ؟ متى اعترف الاموات ببربريتهم ؟ انهم ما زالوا من البدائيين الذين لا يعرفون الا انفسهم .. ولا يعترفون بالاخرين من امواتهم ! لا اريد ان أسميهم ، فهم من أبعد الناس عن المرونة والمودة او الشفافية والانسجام .. انهم لا يعرفون الا الاستبداد في الحياة واحتكار النص ، واحتكار الرأي ، واحتكار السياسة ، واحتكار الخطاب ، واحتكار حتى التراث والتسلق على ظهور الاحياء العاملين والتشدق بالوطنية ، وكأن كل العراقيين ليسوا بوطنيين ، بل وينصّبون من انفسهم نصحاء معلمين ، وهم من ابعد الناس عن مناهج التربويين والعلماء الحقيقيين.. انهم لا يعترفون بغيرهم ابدا ، ولم يفسحوا المجال لسماع اي صوت يخالفهم حتى وهم في قبورهم يهلوسون ! انهم يعشقون الموت ولا يريدون الحياة .. انهم يتهمون كل من يخالف رأيهم بالارهاب والاجرام ، وانها حقا موظة جديدة ان يتهم كل من يخالفك الرأي بالارهاب والشوفينية والعنصرية والقومية .. انهم لا يعترفون بأي خطأ من اخطائهم الجسيمة ! انهم  لا يعرفون الا العنف ! ويبدو انهم ما زالوا يرددون شعاراتهم المخجلة حتى في قبورهم !

همسة صديق
ايها الاصدقاء : ان بعضكم هذا باق على طريقته المتعصبة ، ولا يمكنه ان ينسجم الا مع افكاره الراسخة في بواطن لا وعيه ، فتجده يريد ان يقود جوقة من امثاله ولم يفلح ..  وهو يعتقد بأنه على صواب دوما ، وان الاخر على خطأ دوما ! ان ابشع ما يمارسه ذلك البعض تزوير كل الحقائق مهما بلغ سطوعها جليا على العالم . ان هذا البعض لعنة تراجيدية على كل ارضنا وفي خلايا كل مجتمعنا .. انهم مادة للعصيان الابدي الذي كتب على العراقيين ان يشهدوا فصوله بمنتهى الجنون ! انه يتكلم او يكتب وكأنه آلهة توزع المغريات كذبا ، او القصاص بهتانا ! لقد قاد امثال هؤلاء العراق الى التهلكة والضياع على امتداد كل الزمن المنكود. ان من افجع الامور ان تعتقد انك وحدك تمتلك الحقيقة ، وان غيرك على ضلالة . فهل حاول الانسان ان يبقى هامشا يتحرك عليه خصمه ؟ او زاوية لنفسه كي لا يمتلك ايّا منا الحقيقة كلها ؟

صراع مستويات
ماذا تريدون من ذاك الذي له منهجه ، وانتم بلا منهج ؟ ماذا تريدون من صاحب فلسفة معلنة على العالم ، وانتم بلا اي فلسفة ؟ ماذا تريدون من ذاك الذي يؤمن بالموضوعية لا التطرف ، ويعمل بالحياد دون الغلو ، ويكتب بحرية من فوق الارض وهذا يهاجمه في الانفاق ليس له الا التخندق حتى بعد ضياع الوطن ! لماذا لم يزرع امثال هؤلاء : كل الحب والصفح يوما في قلوبهم ؟ ليس لصاحبكم وصديقكم الا الموضوع ، واحترام الذات وهو لم يخاصمكم ابدا ، بل انظروا الى  خصومكم الحقيقيين الذين تقلبتم معهم ذات الشمال وذات اليمين ! ؟ لماذا كل هذا العصيان المؤدلج ؟ من سيجدد مؤدلجاتكم البدائية القديمة ؟ واقول : ان من يريد اقتحام الاخر ، عليه ان يقارعه الحجة بالحجة ، لا ان يلقي عليه التهم جزافا ويهرب مذعورا من الميدان .. يقول الروائي الفرنسي المتمرد جان جيينيه : " مهما كنتُ قليل أدب وواحد من العابثين المجانين ، فليس لي القدرة على مخاطبة العقلاء " !

الفضيلة تكافئ نفسها
انني لا اريد هذا البعض مساحة من خواء واغتراب ! أجده قد اغترب حتى عن اهله والمقربين اليه ! انه لا يعرف الفضيلة ، فالفضيلة تكافئ نفسها ـ حسب تعبير نيتشه ـ ! انه بعض البعض لا يعرف من كلامه ، الا الهدم التاريخي والبربرية المخيفة .. انه خواء من اي ضمير مهما كان عياره خفيفا ! اننا لا نريده ان يكون قديسا طاهرا ، ولا من المعصومين ألابرار ، ولا ولا .. بل نريده ان يعترف ولو لمرة واحدة باخطاء جسيمة ارتكبت .. وليس لوحدهم في الميدان ، بل ينسحب الامر الى اولئك الجلاوزة الذين تحكموا في مصائر كل العراقيين ازمانا ، فاحرقوا الحرث والنسل .. اولئك الذين حملوا شعار الدم والقتل والهدم والجماجم .. اولئك الذين بطشوا بخصومهم بطشا لا يعقل .. وجاء الخصوم ليتحالفوا معهم في اسوأ ماراثون لقتل العراق !

الوعاء بلا غطاء
ماذا احدّث العراقيين .. كل العراقيين ؟ ماذا اقول لأجيال قادمة ؟ ماذا اقول للعراقيين في المستقبل ؟ ان الاجيال ستلفظ الجميع وراء ظهورها ، بل سترميهم في محرقة التاريخ ؟ سوف لن يبقى كل العراقيين على هذه الحال والاحوال .. سوف لن يقبلوا بكل مهترءات الماضي الصعب الذي ضيعه وضيع العراق معهم .. وسوف ينكشف الوعاء عن اناس سيبقون احياء على المدى ، وعن اناس ماتوا وهم احياء بعد ان لفظهم الزمن في اعماق العدم . ان من المضحك حقا ان يجادل بعضنا بعضا سياسيا حول مسألة تاريخية اختلف في تقييمها كل العراقيين ! وان من المؤلم حقا ان نشطب ونحذف بسهولة اي كائن عراقي يؤمن بحياة العراق وبتقدمه وأخذ موقعه الحضاري في هذا العالم .

واخيرا : تحية من الاعماق
 تحية لكل اولئك العراقيين الابرار من حكام ومحكومين .. من رؤساء ومرؤسين .. من متحزبين ومستقلين .. من مدنيين وعسكريين ، من فلاحين وعمال وكسبة وموظفين وكل الذين ضحوا بأنفسهم ودمائهم وازمانهم من اجل العراق والعراقيين .. تحية لكل مناضل عراقي حقيقي ناضل وعانى وكابد حقيقة من اجل العراق وزهوه ورقيه في العالمين .. تحية لكل من افنى نفسه وعمره وعلمه وادبه وثقافته وخدماته وخطابه من اجل حضارة ارض النهرين .. تحية الى كل الاحياء العراقيين من الماضين الراحلين او الشاخصين في الدواخل والشتاتين .. دعونا ننشغل بالمستقبل بدل هذا الصراع الذي نؤججه من حين الى حين ، وليس لنا الا رقصة الطيور المذبوحة على تناقضات الماضي الدفين.. دعونا نفتح للاجيال القادمة طريقا عراقيا جديدا بعيدا عن كل مآسي السابقين واللاحقين . ان الماضي غدا في سجل التاريخ ، وفي قبضة المؤرخين . فهل نحن بقادرين على ان نشق طريقنا نحو المستقبل بحيث نكون او لا نكون ؟ هذا ما ستجيب عليه الاجيال القادمة . دعوني اختتم رسالتي بشيئ من اقوال الشاعر الرائع احمد مطر ابن التنومة الجميلة ، تلك القصبة الغافية عند ملتقى نهايات كل العراقيين ، كي نشاركه بتواضع كبير في ما يقول ، ونترك قليلا اية نفخة كاذبة ، كنا ولم نزل نعيش عليها نحن الكل او البعض من العراقيين :
نَحنُ لِمَـنْ؟
وَنحْـنُ مَـنْ؟
زَمانُنـا يَلْهَثُ خارجَ الزّمَـنْ
لا فَـرقَ بينَ جُثّـةٍ عاريَـةٍ
وجُثّـةٍ مُكْتَسيَهْ.
سَـواسِيَهْ
موتى بِنعْشٍ واسِعٍ .. يُدعى الوَطَـنْ
أسْمى سَمائِهِ كَفَـنْ.
بَكَتْ علينا الباكِيَـهْ
وَنَـامَ فوقَنا العَفَـنْ !

سيّار الجميل
كتبت يوم 14 تموز / يوليو 2008 في تورنتو / كندا
www.sayyaraljamil.com


67
الطائفيّة : مَنْ يُسكِتها في لبْنان والعِراق ؟

د. سيّار الجَميل

كتبت وحاضرت عن هذين البلدين العربيين ، ولم أجد أي تشابه في تاريخهما ، ولكن يبدو انهما اليوم، يعيشان مشكلة واحدة ، وهي داخلية اكثر منها خارجية في نتائجها ، ولكنها خارجية  اخطر منها داخلية في مسبباتها مع التكالب لخلق مبررات الانقسام .. عندما غرق العراق في حرب الثماني سنوات مع ايران اقليميا ، كان لبنان يعيش حربا اهلية طاحنة ليس لها اي معنى ، وكان بالامكان اسكاتها .. وبنفس الوقت ، لم يعرف كل العراقيين حتى اليوم ، ما الذي كان وما الذي حصل بعد حرب شعواء ،  كان بالامكان وأدها منذ اندلاعها !
وبالرغم من ان كلا البلدين خرجا من حربيهما متعبين بكل قروحهما وجروحهما ، الا ان الاثنين قد اصيبا بوحدتهما الوطنية اساسا ، وفتح الباب امام تغلغل قوى خارجية دولية واقليمية وعربية ، وبدأ تفكير البعض في كلا البلدين بالانفصال او اللعب باوراق الاخرين في كلا البلدين مع حماقة صناع القرارات .. وبالرغم من بقاء النظام الدستوري ساري المفعول في لبنان على طول الخط ، فان العراق عرف في ما اسمي بنظام الحزب الواحد الذي انتهى تماما في العام 2003 عقب الغزو الامريكي للعراق .
ان النعرات الطائفية موجودة في اي مجتمع متنوع المشارب ، ومتعدد المذاهب والطوائف .. ولعل العراق ولبنان من اكثر بلدان الشرق الاوسط التي ضعفت كثيرا على مستوى كل من الدولة والمجتمع منذ ثلاثين سنة ، فكان ان حّلت الانقسامات فيهما الى درجة مخيفة ، وبدأت الدعوات الى الفدرلة بشكل سافر ومعلن دستوريا في العراق ، في حين يلحق لبنان صاحبه ، كي يطرح موضوع الفدرلة لبنانيا بعد احتدام الصراع الطائفي ، واعادة اشعاله بطرق شتى .
ان موضوع الانقسام فيدراليا على اساس طائفي في كل من البلدين سيمّهد نحو الانفصال ، وهذا ما يرّوج له بعض الغلاة الذين ليس لديهم اي وازع وطني حقيقي ، فهل وجدنا في تجارب العالم الفيدرالية جمعاء تقسيمات فيدرالية على اساس طائفي ؟ واذا ما اريد تطبيق ذلك على كل من العراق ولبنان ، فكيف ستحدّد حدود كل اقليم ، خصوصا اذا عرفنا ان كلا من السنة والشيعة يتداخلون في توزعهم وعيشهم في كل اصقاع البلدين . السؤال الاخر الذي يستلزم ان يفرض نفسه علينا نحن العراقيين واللبنانيين : هل يقتصر التنوع والتعدد الطائفي والمذهبي على كل من بلدينا مقارنة بكل من ايران وتركيا ؟ فهل تقبل كل منهما اي تجربة فدرلة على اساس طائفي ؟
علينا ان نعي جميعا نحن الذين نسكن هذا الشرق الاوسط ، ان ما حدث من تمزقات طائفية في العراق ، وما يحدث من بدايات صراع طائفي في طرابلس وبعض اجزاء لبنان الشمالي .. سيتفاقم خطره كثيرا على لبنان نفسه وسيغدو على شاكلة العراق ـ لا سمح الله ـ . ولنعلم ، ان كلا من هاتين التجربتين ، ستنعش الانقسامات الطائفية في كل منطقتنا ، وهذا من اخطر التوقعات القادمة! ان اي تصنيف سياسي داخلي حكومي او حزبي او برلماني يؤسس على نظام طائفي ، فسيكون بالضرورة هو البديل الحقيقي لأي مشروع وطني ينفّض من حوله الجميع ، فيتشظّوا الى انتماءات طائفية تركض متصارعة جميعها وراء مصالحها الفئوية ومنافعها المحلية والجهوية .
لقد اصابت الطائفية مقتلا من العراق والعراقيين ، وكّنا نخشى على لبنان ان لا تبدأ فيه اية انقسامات مسلحة .. ولكن ما حدث ايام النهر البارد الذي اعتبره البعض خطا أحمرا ، وما يحدث اليوم في طرابلس ومناطق اخرى لا يبشر بخير ابدا .. ان النيران اذا اندلعت من خلال هذا الوازع ، فسوف لا تقف امامها اية حدود سياسية او مناطق عازلة .. 
ان الغلاة والمتطرفين من كلا الطرفين ينبغي ان يبتعدوا عن ميدان السياسة والاعلام حتى  ان كان ذلك مؤقتا ، من اجل نزع فتيل اي كراهية او احقاد .. وان يتوقف تدّخل الدول الاقليمية في الشأن اللبناني والعراقي .. ان الجفاء قد وصل درجة كبيرة من القطيعة بين السنة والشيعة بالعراق منذ خمس سنوات نتيجة تفجّر الاحقاد الكامنة .. ويخبرنا الاستاذ سليم الحص في مقاله الاخير عن لبنان قائلا : " الحق يقال ان الجفاء متبادل إلى حد ما .. وينتابك شعور بأن مجتمعنا يعيش حرباً أهلية وإنما داخل النفوس وليس في الأزقة والشوارع والحمد لله، والفضل في عدم خروج الحرب الأهلية إلى الشارع يعود إلى إرادة الكثرة من اللبنانيين، الذين صمموا على عدم العودة إلى أجواء الحرب الأهلية التي خيّمت ما بين العام 1975 والعام 1990 هذا مع إدراك الفارق الخطير في أن الحرب الأهلية انتصبت خلالها خطوط تماس فصلت إلى حد معيّن ما بين الفئات. أما اليوم فلا خطوط فاصلة مذهبياً أو طائفياً، فإذا اشتعلت حرب أهلية في الشارع، لا سمح الله، فإن حصادها سيكون كارثياً " ( انتهى النص ) . وهنا أود القول ان ما يحدث اليوم في لبنان من بدايات حرب طائفية من نوع جديد شبيهة بموديل العراق سوف لن تفلح اهدافها ابدا لأي من يذكيها من الفرقاء ، اذ لم تنجح حتى اليوم  في العراق بالرغم من قساوتها  الشديدة واخفاق العراقيين في احضار البديل متمثلا بمشروع وطني .. ان اسوأ ما يضر كل من العراق ولبنان معا الحرب الاعلامية الطائفية ودور دول الاقليم في تنفيذ برامجها وخططها. فهل وعينا الدرس ؟

www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 30 يوليو / تموز 2008


68
شركات عملاقة أقوى من دول كبرى !


د. سيّار الجميل


 من السذاجة القول ، ان الاقتصاد الامريكي اليوم في ازمة ، وستنهار امريكا اقتصاديا من دون ادراك طبيعة الصراع الاقتصادي اليوم ليس على الثروات ، بل على المصادر ، وليس على الاستهلاك بل على الانتاج . ان الهيمنة على مقدرات العالم ومصادر ثرواته هو الهدف الاساسي الذي قفلت عليه الولايات المتحدة ضمن خططها الاستراتيجية بالغة السرية .. ان صراعها اليوم ينصّب اساسا ضد الصين التي تسابق الزمن لتصبح اكبر قوة منتجة في العالم بعد سنوات ..  وان لا قوة انتاجية بلا طاقة ، وان لا حضارة مهيمنة من دون قوة ، وان لا تنازل مطلقا عن ارادة الاستقطاب ، فالحرب ، هنا او هناك ، كلها تجتمع في سلة الحرب الاقتصادية الكبرى التي تشنّها امريكا اليوم .. وما وجودها في افغانستان والعراق الا ضمن سياقات ساخنة في تلك " الحرب "  . ان امريكا لا تريد منافسة غيرها ابدا في الاستحواذ على الثروات مهما كان نوعها ، او على الانتاج الصناعي والزراعي ، او على النشاط التجاري مهما كانت الاسباب .. انها لا تقبل ابدا اي منافس لها في الهيمنة ، ولكنها تقبل بشراكة الاخر في اطار العولمة .. وبالرغم مما صرّح به  وزير الخزانة الأمريكي، جون سنو من " إن تقوية نمو الاقتصاد العالمي يأتي على رأس اهتمامات مجموعة الدول السبع الغنية، مشيرا في نفس الوقت إلى ان بلاده ليست وحدها المسؤولة عن إنعاش الاقتصاد العالمي، وان على دول اخرى إتخاذ خطوات جريئة بهذا الشأن ". الا ان الخطط الامريكية التي افردتها منذ نهايات القرن العشرين ولخمسين سنة قادمة تقول بأن الولايات المتحدة تسعى من اجل مصالحها الحقيقية في البقاء والهيمنة على العالم .
صحيح ان الامريكيين يطالبون بعض دول اوربا وآسيا بضرورة إتخاذ "إجراءات جريئة وإصلاحات هيكلية لتحفيز النمو الداخلي وخلق المزيد من فرص العمل للمساهمة في الانتعاش العالمي." وانهم يعلنون " بشكل جلي أن الولايات المتحدة ليست المحرك الوحيد للنمو العالمي." ان لفظ الدول الكبرى ، يعني كونها أعظم قوى اقتصادية وصناعية في العالم ، ولكن هناك قوى أكبر منها دون مساحة ارض وعدد سكان ، متمثلة بآلاف الشركات والهيئات الموزعة في العالم واعدادها ليست ثابتة بل قابلة للنمو ! ان هناك اكثر من عشرين ألف شركة رئيسية لها اكثر من تسعين ألف هيئة موزعة عالميا وهي في تزايد سنوي بمعدل ٢٠٪ . وكان توسع الشركات اليابانية بمعدل اسرع من معدل نمو الامريكية والانكليزية والألمانية.. انها شركات متعددة الجنسيات متجاوزة الحدود القومية ، وهي عملاقة ، تأثيرها اكبر من دول كبرى في سيطرتها على التجارة الدولية واقتصاديات العالم ، واحتكارها للتكنولوجيا مما يجعل دولنا الصغرى خاضعة لها كلياً. أن مشاركة الدول المختلفة في اجمالي الاستثمار المتراكم في العالم في انخفاض مطرد، فضلاً عن أنه بقدر زيادة التدفق لاستثمارات الشركات على الدول النامية ،تزيد قيمة الفوائد المحولة منها الى الدول المستثمرة ، وقد بلغت ارباح الشركات متعددة الجنسيات في عشر سنوات ماضية من استثمارات في دول نامية حوالي ١٧٦ مليار دولار ! وبسبب ماتدره هذه الدول على الدول الغنية من ارباح هائلة هي الاكثر قبولاً وتعرضاً للاستغلال،وبذلك  تزداد الدول الغنية بواسطة شركاتها في استقرار مشروعاتها وتوسعها في الدول الفقيرة ،والتحويل الصافي للموارد نحوها ، وبعبارة ادق هو هروب مستمر لرؤوس الأموال من الدول النامية..
www.sayyaraljamil.com

مجلة  الاسبوعية ، العدد 33 ، 37 / 7/2008

69
الصحافة العراقية
تاريخ رائع يدخل متاهة الانفلات !

د. سيّار الجَميل

مقدمة
في كل العالم تتطور الحياة الصحافية من الادنى نحو الاعلى .. كونها تستفيد من تجاربها وانتقالاتها وتطور آلياتها واخلاقياتها المهنية ، كونها من منتجات العصر الحديث .. في حين نجد العراق وقد تأخر في صحافته واعلامه .. وبات هذا المرفق الحيوي يعيش فوضى قاتلة اليوم ، ولا يمكن ادراك ابعاد المأساة التي تلم بالصحافة العراقية وكل من ينتمي اليها مهنيا ، وكل من يلتزم باخلاقياتها واعرافها .. دعوني اليوم اعالج هذا " الموضوع " ، مناشدا كل العراقيين العمل على انقاذ ما يمكن انقاذه !

الصحافة العراقية : تاريخ رائع
للعراق تاريخ رائع من تسلسل الصحافة الحديثة ، وشهدت مراكز العراق الاساسية منذ القرن التاسع عشر ولادة اولى الصحف البدائية ، ولكن من يراجع تاريخ الصحافة العراقية على مدى مائة سنة ، سيندهش حقا لما شهدته ساحة الصحافة العراقية من اكبر الصحف وارقى مقالات الرأي ، والنقد ، والمواقف في السياسة والثقافة والحياة العامة .. لقد عرف العراق نخبة ممتازة من كبار الصحافيين العراقيين الذين كانوا حقا ليس من المؤسسين فحسب ، بل كانوا متعددي التيارات ، ومتنوعي المشارب ، ومجددي الافكار .. كانوا حقا بمهنيين يراعون اصول المهنة ، ويدركون كم هو حجم مشكلات البلاد ، وكم هي بحاجة الى معالجات وحلول .. كانوا حقا بمثقفين بارعين ، لهم امكاناتهم في الثقافة العامة ، ولهم ضلوعهم في اللغة التي استخدموها .. ولهم معرفتهم الواسعة بالمجتمع العراقي .. فضلا عن الاخلاقيات التي مارسوها في ما بينهم  بالرغم من حدة التنافس المهني والسياسي لا شيئ آخر ..
لقد كانت الصحافة العراقية في اطوارها الاولى معّبرة تعبيرا واقعيا عن الاوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية العراقية .. بل كانت تترجم رأي كل الشعب في السياسات ، والموقف من الحكومات .. وهي تدرك بالرغم من استقلالية بعضها ، او تحزّب بعضها الاخر .. انها مقروءة من قبل الناس في كل بيت ، او مقهى ، او ملتقى ، او دائرة ، او اي ركن من الاركان .. كانت صحافة العراق في عقودها الاولى قليلة في صفحاتها ، ولكن كبيرة في مضامينها .. كان يتعب فيها اصحابها ، بل وتمارس عليها رقابة من داخلها سواء من قبل اصحاب الامتياز من الناحية القانونية ، او رؤساء التحرير من الناحية الفنية والسياسية .. بل وان كل محرر صحفي لا يمكن ان يكون كذلك الا بعد ان يثبت مدى كفاءته الصحفية واللغوية ومهنيته العالية امام رؤسائه .. كانت الصحافة العراقية ملتزمة دوما بالحرفية ، وتصّنف على هذا الاساس في كل الاوساط حتى تلك التي كانت تنطق على لسان حكومة ، او احزاب .. ولقد كانت الصحافة العراقية هي الحلقة الاساسية بين المجتمع والدولة ، ضمن اي قانون للمطبوعات يشّرع ، فيلتزم به الجميع .. ان اكثر الارتباكات التي حدثت في تاريخ الصحافة العراقية كانت لاسباب سياسية ، خصوصا عندما كان بعض الصحافيين ينتقدون المسؤولين على صفحاتهم ، انتقادات لاذعة لا يمكن تخيل حجم شدتها .. كانت الصحافة العراقية واسطة حقيقية لعقد الصلات بين ادباء العراق وغيرهم من الادباء العرب .. خصوصا اذا علمنا ان اغلب الصحافيين العراقيين القدماء كانوا من كبار الادباء الذين عبروا عن افكارهم واشعارهم ورؤاهم بشجاعة وصلابة على صفحات جرائدهم ومجلاتهم طوال العهد الملكي في العراق .. ان اسماء مثل : داود صليوا ، وعبد الحسين الازري ، وعبد الله فائق ، وسليم حسون ، وبولينا حسون ، وتوفيق السمعاني ، وروفائيل بطي ، وكاظم الدجيلي ومحمد مهدي الجواهري ، وفهمي المدرس ، ومعروف الرصافي ، وقاسم حمودي ، وابراهيم الجلبي ، وعبد الباسط يونس .. وغيرهم كثير اسماء سوف لن تتكرر ابدا !

الصحافة العراقية من ايدي المثقفين الى ايدي السياسيين
لقد حدثت جملة متغيرات في الصحافة العراقية على امتداد العهود الجمهورية ، اذ غدت ميدانا لكبار السياسيين سواء كانوا مؤدلجين لاحزاب معينة او كانوا صحافيين سلطويين يتبعون الحكومة .. لقد استمرت قوة الصحافة العراقية باقوى تجلياتها على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم .. وغلب الطابع اليساري التقدمي الراديكالي على صحف العراق ، وسكت الصحافيون القدامى يوما بعد آخر .. اما في العهد العارفي ، فشهدت الصحف العراقية نفسها حالة معبّرة عن المد القومي العربي ، او ذائعة له وسط اختفاء توهج الصحافيين الليبراليين القدامى الذين وجدوا انفسهم غرباء على الساحة مع بقاء بعض التقاليد الموروثة عند صحافيين هم ابناء لصحافيين سابقين.. بل وجدنا لأول مرة الصحافة السلطوية ، وشهدنا اسماء جديدة اغلبها تعبر عن اتجاهات قومية : عارفية او ناصرية مع بقاء المهنية واحترام العلاقات النقابية والتزام حرفي بقانون المطبوعات .. مع خمول الرأي المخالف والنقد السياسي ..

الصحافة العراقية محتكرة بايدي السلطة
اما في عهد احمد حسن البكر ، فان الصحافة تغدو معبرة عن اتجاهات ثلاثة لا غير ، مذ اغلقت في العام 1969 كل الصحف السياسية والمستقلة ، فكانت هناك الصحف المعبرة عن رأي الحزب الحاكم ، وعن رأي الدولة ( الذي لا يختلف في شيئ عن رأي الحزب فالدولة اضعف من الحزب )  الى جانب ما عبر عنه كل من الشيوعيين والساسة الاكراد في منشوراتهم . ولقد اختفت الصحافة الشيوعية العراقية بعد انحلال الجبهة بين الطرفين . ومنذ بداية السبعينيات ، بدأ العراق يمّول العديد من الصحف والمجلات العربية في الخارج ، وينفق بسخاء على العشرات من الصحافيين العرب .. بحيث كان العراق يستقبل تلك المجلات بشكل خاص ، وهي تعبر بالكلمة والصورة دعائيا للعراق ونظام الحكم فيه .
 ويمكننا القول ، ان الصحافة العراقية بقيت احادية حتى  العام 2003 ، اذ كانت معبرة عن رأي واحد فقط ، لا غير ، ومع ثقل مركزيتها ، الا ان دور الرقيب قد تضاعف اضعافا مضاعفة مع وجود عدد من الصحافيين العراقيين المهنيين الذين عانوا الامرين من مقص الرقيب .. ولقد كان المجتمع العراقي مضطرا للتعامل مع صحيفتين او ثلاث : الاولى للحزب الحاكم ، والثانية للنظام الحاكم ، والثالثة للمتحالف القائم .. وعندما برزت صحيفة رابعة ، كانت الصحافة العراقية كلها قد تيبست مع انبثاق " نقابة " حديدية يقف على رأسها ابن الرئيس الذي غدا ملكا غير متوّج للصحافة العراقية التي كانت تعاني من بؤس شديد ابان التسعينيات .. ولكن في الوقت نفسه ، كان يحرم على العراقيين ادخال اي صحيفة تمّثل اي تيار مستقل او حزب معارض الى داخل العراق .. لقد بقيت الصحافة العراقية تعيش مأزق الاحادية لازمان طوال ، بحيث غدت الصحافة  الزاد اليومي لمقالات محددة لأسماء معينة ، او جماهير ليس لها الا ان تبحث عن كلمات متقاطعة او دائرة ابراج !

الصحافة العراقية : من رهبة المتسلطين الى عبث الطفيليين  
كان المجتمع العراقي متعطشا للصحافة من دون شك ، فمع رحيل النظام السابق ، بدأت العشرات من الصحف الصفراء تطبع يوميا ، بعيدا عن اي قانون للمطبوعات ، وبعيدا عن اية مهنية ومصداقية ، وبعيدا عن اي وازع رسمي او شبه رسمي .. وتنوعت الصحف باصداراتها واسمائها ، فمن صحف اصدرتها احزاب وتيارات ، ومنها منشورات جاءت الى بغداد لتواصل نشرها منها ، ومنها اصدارات عادية بائسة ، تسمي نفسها بصحف وهي ليست بصحف بأي حال من الاحوال ! ان اغلب الصحف العراقية التي صدرت في السنوات الاخيرة اعتمدت في تمويلاتها على عدة مصادر ، بدءا بالتمويلات الامريكية التي يعرفها الجميع وانتهاء بمصادر لا احد يعرفها .
لنكن واضحين قائلين : ان الصحافة العراقية اليوم تعيش اخطر فوضي خلاقة على مستوى التحرير او المهنية والاحتراف ، او على مستوى الالتزام الاخلاقي .. صحيح ان ثمة مقالات رأي رائعة يكتبها وينشرها عراقيون سواء كانوا مهنيين في الاصل ، ام كانوا من المثقفين ، مع وجود منشورات عراقية يومية او اسبوعية رصينة ولها حرفيتها وقوة مضامينها .. ولكن في المحصلة ، فان الصحافة العراقية تعيش حالة تدافع لمصالح نفعية غير متخيلة .. بل وثمة اناسا من طارئين وطفيليين ليست لهم اية اخلاقيات مهنة يمارسون دورا بشعا باسم السلطة غير المتوجة .. بل وان صحفا عديدة تنشر لكتّاب عراقيين معروفين من دون ان تأخذ موافقتهم للنشر على صفحاتها .. انهم لم يكتفوا بسرقة الاخبار من هنا وهناك ، بل اخذوا يستلبون المقالات من هذا الموقع او تلك الصحيفة ! ليست هناك اية روادع ولا قوانين ، ويا للاسف الشديد .. لم يكتف بعض المحررين بمثل هذه الافعال ، بل اخطر ما وجدته على موقع عراقي يصدر في الداخل ، انه ينشر مقالا داعرا .. وقد ذيله باسم احد كبار الكتاب العراقيين المقيمين  في الخارج ظلما وعدوانا ! انه استخدم اسم هذا الكاتب ليضعه عن قصد مذيلا مقالة تافهة لم يكتبها ! انني اسأل واناشد الحكومة او النقابة في العراق ، ما الذي يمكن ان يفعله هذا الكاتب ، وهو يرى بنفسه انتحالا معلنا على الملأ بمقال لم يكتبه ابدا وقد نشر باسمه !  انني اسأل : هل تبيح هكذا " ديمقراطية " ـ كما يسمونها ـ بأن تتم التجاوزات على الاخرين باساليب ليست سياسية او مخابراتية الان ، بل تنطلق من ضحالة قيمية ومن انعدام اخلاق !  بل وان الفوضى قد سمحت لكل الطارئين والقتلة والمجرمين ان يحاربوا المهنيين والكتّاب الكبار والمثقفين الحقيقيين باوسخ الوسائل ! ان من يلقي نظرة عابرة على ما ينشر من تفاهات مع انعدام الضوابط الفكرية واللغوية والقيمية والمهنية والاخلاقية .. سيقول : كيف ستنصلح اوضاع البلاد ، اذا كانت صحافتها بهذا المستوى ؟

المهزلة .. من يصفق لها ؟ ومن يقضي عليها ؟
ان ما لمسناه في انتخابات نقابة الصحافيين ببغداد قبل ايام من فوضى ومشكلات وعراك وسباب وتشهير واتهامات تكسر العظام مع وجود ممثل عن السلطة وقاضي للمراقبة .. تعلمنا ان الصحافة العراقية تعيش اليوم اسوأ ظروفها التاريخية ! ثمة ممارسات مخجلة حدثت في تدافع الصحافيين من اجل كوبونات تناول الغذاء ، وثمة اتهامات متبادلة لا يمكن الا ان يحقّق فيها .. اليوم عرفت لماذا قتل ويقتل الصحافيون العراقيون ؟ اليوم ادركت كم هو حجم المهزلة كبير ! لا يمكننا ابدا ان نصطف مع اي طرف من الاطراف ، ولكن لا يمكن قبول هكذا وضعية تفتقد فيها ابسط معايير الاختلاف ! هل وصلت الامور الى حد التنكيل بالاخر علنا ؟ هل وصل الصراع بين نخبة من العراقيين ، والمفترض ان تكون نخبة رائدة ، الى هذا الحد من الاسفاف من اجل مصالح ذاتية ، ومنافع مادية ، وعلاقات سلطوية .. الخ 
ان الصحافة العراقية مطالبة اليوم بتصويب منهجها من خلال اصدار قانون جديد يحدد الاهداف والاسس والاساليب الواجب اتباعها ، واما الالتزام بها او محاسبة امام القضاء .. ان الصحافة العراقية هي ميدان للتعبير وللرأي والخبر متاح للجميع .. ولكن لا يمكن ان تبقى تعيش هذه الفوضى الخلاقة من دون تحديد من هو المؤهل كي يحمل صفة ( صحافي ) ومن يلزم باقصائه ان لم يكن مؤهلا وملتزما ومحترفا حقا ؟ متى يعاقب كل من يتجاوز ليس على حكومة او برلمان فقط ، بل على ابناء المجتمع وصفوته ؟ لنعلم ان الحكومة العراقية والبرلمان العراقي تنقص كل اعضائهما الخبرة والمعرفة واساليب الحكم والتشريع . ولنعلم ان الضوابط لا يمكن حصرها بالصحافة المكتوبة ، بل تشتمل على الصحافة المرئية ( المنشورة على الانترنيت ) والصحافة المنظورة على القنوات الفضائية .. انني اهيب بكل العراقيين الاعتناء بهذا الجانب الحيوي الذي له تاريخ مشرف في الماضي .. ولكنه غدا اليوم في عصر الظلمات ! 

www.sayyaraljamil.com




70
المشروع العراقي : أجندة بلا أية ميليشيات اوليغارشية
د. سيّار الجَميل
وَلـنْ أعـودَ طيّباً
حـتّى أرى
شـريعـةَ الغابِ بِكُلِّ أهلِها
عائـدةً للغابِ.
 

الشاعر احمد مطر
1/ مقدمة : الوباء المستطير
لا يمكن للعراق ان يبقى رهين الفوضى والتدمير على أيدي ميليشيات مسلحة ، وعصابات اجرامية ، ومرتزقة اوليغارية ، اغلبها تابع لقوى حزبية وسياسية دينية وطائفية وقومية واقلياتية متسلطة قديمة او جديدة ، ولا يمكن التنديد بأية خطط تستأصل هذا الوباء الذي استشرى طويلا ومنذ سقوط النظام السابق الذي حكم العراق قرابة 35 سنة ، ومذ رحل فان فراغا هائلا تركه من ورائه ، بعد معاناة العراقيين من اوبئة الحروب والحصارات وتدنّي الخدمات والممنوعات . ان الثمن الذي دفعه الشعب العراقي كان باهضا جدا لما قبل 2003 او من بعدها ، وكم نادى العديد من العراقيين كل الحكومات المتعاقبة ان تفعل شيئا ازاء تفاقم خطورة تلك الاوليغاريات المسلحة التي تنتشر في كل مكان جماعات وعصابات واشلاء فرق وحراسات .. بل وكان لها القدرة والامكانية على التحرك في اي مكان ، وقد شكلت نفسها ( كميونات ) حاكمة في مناطق مقفلة معينة ، وهي مضادة ليس للقانون والنظام فحسب ، بل انها العدو اللدود للوحدة الوطنية والمجتمع العراقي كله  ..
2/ معنى الميليشيا : وقفة مهمة
اولا : التعريف

إنّها مشتقّة من مصطلح militia اللاتيني، ومعناه الأصلي بحسب معجم Quicherat et Daveluy اللاتيني- الفرنسي (  1932 Paris ,) هو: "خدمة عسكرية، حملة مقاتلة، عملية عسكرية، حرب مرتزقة ". والمصطلح مشتقّ من miles أو  milites، أي "جندي، رجل مسلح، أو رجل محارب لقاء ثمن ". واعتمادا على موسوعات ومعاجم اخرى ، يتضّح أنّ مصطلح ميليشيا (malice) بالفرنسية، أو     ) ( militia باللاتينية هو مصطلح قديم جدا . المليشيا ، تشير أيضا إلى حالات متباينة ولها معان اكثر دقة ، فهي تعني بالتحديد :  "تنظيم مسلّح شبه رسمي أو خاصّ مدفوع الثمن ". وهي قوى عسكرية اوليغارية مرتزقة عبر التاريخ مختلفة عن اي جيش نظامي يتبع مؤسسة عسكرية رسمية وطنية ، وعليه ، فهي لا تقع ضمن القانون العام للبلاد ، وسواء ولدت على ايدي قوى سياسية او اجتماعية ، او انبثقت عن انظمة رسمية حزبية كالتي عرفتها دول المنظومة الاشتراكية الثورية قبل خمسين سنة ، فهي لا تقع في نشاطاتها ضمن القواعد النظامية ، او ضمن مؤسسات الدولة الرسمية . اذ قد تعترف بها الدولة رسميا للاستفادة من انشطتها الميليشيوية شبه الرسمية في المجتمع لصالح النظام والدولة وليس العكس !
ثانيا : الامثلة في التاريخ
لقد كانت الميليشيات قد تشكّلت في كل من فرنسا ايام الاحتلال النازي ضد حكومة فيشي التي قابلتها بميليشات اخرى ، وهناك ايضا الميليشيا البروليتارية الريفية ابان الثورة البلشفية التي تحولت بعدئذ الى جهاز تفتيش داخلي في الاتحاد السوفييتي ، ولم يزل مصطلح "ميليشيا " يستخدم في روسيا واوكرانيا .. وفي الانظمة الثورية تلقى الميليشيات موافقات ضمنية من الحكومات لتعزيز رسوخها كونها تخشى المجتمعات .. وكثيرا ما توجد ميليشيات ، وحركات انصار مضادة لميليشيات اخرى .. وكل من الاثنتين : عصابات مسلحة ومحاربة ومرتزقة وقوى مسلحة مدنية تنتظم خلال دقائق بالبسة عسكرية وتنتحل صفة النضال في اوروبا سابقا ، او الجهاد في العالم الاسلامي اليوم ! ربما كان لبعضها بعض اهداف سياسية ووطنية وتحررية ، ولكن مع ممارسات قمع وارهاب ، وان اغلبها يحمل تاريخا اجراميا في التاريخ الحديث . ان من يتعمق قليلا في دراسة ما فعلته الميليشيات من المرتزقة في المجتمعات من جرائم وما اقترفته من مجازر ، وعمليات اغتصاب ، وترحيل ، ونهب ، واغتيالات ، وحرق ، وتعذيب ، وكل الافعال العنيفة المشينة لوجدنا ان تاريخا اسودا وارهابيا كسيحا يختفي وراء التاريخ الرسمي العام الذي يعرفه الجميع ! وخصوصا ابان الازمات والحروب والثورات المسلحة ! او في ظل حكومات هشة ضعيفة لا تقوى على الحياة .
3/ معنى الاوليغارشية
اما مصطلح " الاوليغارشية "  Oligarchies، فتقترن دوما بالمليشيات السياسية من الناحية التاريخية ، وهي المجموعات التي تخلقها السلطات السياسية كمجموعات مرتزقة هي الاخرى عسكريتارية تدافع عن جموع الاقليات السياسية الفئوية في اي مجتمع ، وتقترن تاريخيا بجذور قوى الارستقراطيات المنظمه التي تنتقي الاقوى والافضل والاذكى لتدافع عن مصالحها ، اذا ما حكمت كاقليات في مجتمعات من الاكثريات المضادة . وكثيرا ما كانت تلك الدول القويه التي تسيطر عليها اسر حاكمة ، او احزاب متسلطة ، او زعامات عسكرية ، تستعين بشباب مرتزقة تشتري ولاءها بالمال والسلاح لدعم الحكم في ظل انتفاء اية حقوق للانسان ، وفي ظل حكومات قمعية ودكتاتورية تنتفي منها الديمقراطية . ان الاوليغارشيات لا تمارس انشطتها بشكل علني ، بل تتخفى بالبسة رسمية او شبه رسمية وبمباركة احزاب حكومية عقائدية سواء كانت في السلطة ام انها معارضة للسلطة  ، كما انها تمارس الرقابة والعنف بأقصى صوره ضد المخالفين مهما كان نوعهم وبوسائل غير اخلاقية . ان الاوليغارية كانت قد وجدت منذ عصر الاغريق ، ولم تزل فعالة حتى يومنا هذا ، ويقترب منها المصطلح plutocracy الذي استخدمه ارسطو بشكل دقيق مرادفا للسيادة من جانب القوى العليا التي تريد احتكار السلطة بأي ثمن ، انها مرادفة لحكم الاقلية مهما كان نوعها فردية دكتاتورية او قوى حزبية او جماعات ثورية .. او زعامات اوتوقراطية او ثيوقراطية او  تعصبات طائفية ، او حراس لاعضاء في حكومة الاقليه وتكون فئة متميزه... لتبقي على امتيازاتها ومصالحها برغم انف الجميع !
4/ ميليشيات العراق : سوابق الماضي الصعب
لقد عرف العراق التنظيمات الاوليغارية المسلحة ( الحزبية ) شبه الرسمية ( لا الرسمية ) منذ خمسين سنة ، وخصوصا بعد سقوط العهد الملكي ، اذ بدا العراق وقد تأثر بالنظم الثورية التحررية والاشتراكية التي قامت على نضال المليشيات الثورية ضد الاستعمار بعيد الحرب العالمية الثانية.. وعليه ، فلقد تشكّلت منذ انبثاق العهد الجمهوري على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، اول تشكيلة اوليغارية باسم " المقاومة الشعبية " التي كان من ورائها الحزب الشيوعي العراقي ، وقد غدت قوة مسلحة في الشوارع يحسب حسابها ، وكانت وراء تشكيل اولى السيطرات ونقاط التفتيش من اجل حماية " الثورة " . وتكونّت من رجال ونساء ومارست العديد من التجاوزات مما دعا الزعيم قاسم الى تحجيم دورها  .. وفي عهد النظام البعثي الاول اثر انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ، تشكّلت اوليغارية حزبية من نوع آخر ، اسميت بـ " الحرس القومي " وبمباركة النظام نفسه وفي الساعات الاولى من تسلمه الحكم ، ويتذكر كل العراقيين من كبار السن تاريخ تلك الميليشيا السيئة ، وما الذي اقترفته بحق العراقيين من افعال وجنايات بشهادة كل النظم السياسية اللاحقة ! وبعد 17- 30 تموز / يوليو 1968 ، اقام النظام البعثي في عهده الثاني ، ميليشيا اوليغارية من نوع آخر أسماها بـ " الجيش الشعبي " ، وقد كبرت وتوسّعت جدا مع استمرار نظام الحكم قرابة 35 سنة ، وغدت مؤسسة كاملة .. والكل يعرف اليوم ما الذي مارسه الجيش الشعبي وخصوصا ابان الازمات والحروب من ممارسات ظالمة ! وكل العراقيين اليوم الذين تجاوزت اعمارهم الخمسين سنة يتذكرون تاريخ اوليغارية الجيش الشعبي ابان السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن 20 ، وكانت قد انبثقت في العراق العديد من الميليشيات المسلحة شبه الرسمية التابعة للنظام الحاكم عراقية وغير عراقية ، معلنة ومخفية ، وما ميليشيا مجاهدي خلق الايرانية الا احداها .
5/ ميليشيات العهد الامريكي الجديد
ليكن معلوما ان البلدان العربية قاطبة ( باستثناء لبنان وفلسطين حتى اليوم ، والاردن لما قبل ايلول 1970) ليس فيها اية مليشيات اوليغارية شبه رسمية او حزبية .. وكانت هناك قوى وميليشيات مسلحة في الجزائر ابان ثورتها ضد احتلال الفرنسيين ، ولكنها غدت تتسمّى بـ تشكيلات الجيش الوطني الجزائري ، وانتفى اي دور لأي ميليشيا فيها . وفي ايران ، انبثقت ميليشيات قوات حرس الثورة الاسلامية بعد انتصار الثورة على حكم الشاه محمد بهلوي عام 1979 ، ولم تزل تلك القوات موجودة الى جانب الجيش النظامي الايراني . لا اعتقد ابدا ان مرحلة جديدة قد بدأت في العراق بعد مرحلة قتال عناصر تنظيم القاعدة التي عبثت بالعراق عبثا مستطيرا لا يمكن تخيله .. وبالرغم من وجود قوى مقاتلة معارضة خفية مدعومة من نظم سياسية حاكمة في المنطقة ، فلقد تشكّلت العشرات من الميليشيات العراقية بعد ان اندحار النظام السابق وسقوط العراق بيد الامريكيين وقوى التحالف في 9 نيسان / ابريل 2003 .. وخصوصا بعد ان تفككت المؤسسة العسكرية العراقية السابقة ، وقدمت ميليشيات من الخارج ، وانبثقت قوى اوليغارية حزبية متنوعة في الداخل ( وقد عالجتها بالتفصيل في دراسة لي نشرت في فصلية " الديمقراطية"  التي تصدرها مؤسسة الاهرام بالقاهرة ، بعنوان " القوى الدينية الاسلامية في العراق " ، ربيع 2008  ) . ان السياسة الامريكية في العراق لم تمنع قيام اية ميليشيات في العراق ، بل وقد اعترفت بمليشيات قديمة كالتي كانت للقوى الحزبية الكردية والمتمثلة بـ " البيشمركة " ، كونها اصبحت قوى مسلحة رسمية في اقليم كردستان ، فضلا عن قوات ميليشية اوليغارية للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية المسماة بقوات بدر .. بل واصبح لكل حزب من الاحزاب المشاركة في السلطة الجديدة مليشيته وحراسه ومرتزقته.. فضلا عن ان الامريكيين سمحوا لقوات اجنبية متدربة في الخارج ان تنتشر في العراق تحت اسماء مختلفة .
6/ فوضى الصراع القائم
يبدو ان اقوى الميليشيات الحزبية العراقية هي التي يمثلها جيش المهدي . ان المسلحين من جيش المهدي الذين تقاتلهم القوات الحكومية في البصرة وبغداد واماكن اخرى قد اصبحوا خطرا يهدد كل المؤسسات ـ بتعريف الحكومة المركزية ـ ، ولا ادري ما سر الصراع المفاجئ بين جيش المهدي والحكومة ، بحيث شبههم السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي بالقاعدة في حين رد جيش المهدي بتشبيه حزب الدعوة الحاكم بحزب البعث السابق ووصف كل منهما بالعمالة ! وحتى هذه اللحظة ، فان الحكومة المركزية ترفض رفضا قاطعا التفاوض مع جيش المهدي الذي يقوده الزعيم الشيعي الشاب السيد مقتدى الصدر ، وعّد التفاوض خرقا دستوريا وقانونيا .. في حين كان قائد قوات التحالف بيتريوس يؤكد دوما بأن التيار الصدري : كتلة سياسية قوية ينبغي التعامل معها لا الصراع ضدها .. ولكن الحكومة تقول بان لا يمكن التهادن مع هذه المليشيات من اجل مستقبل العراق والعملية السياسية ، بل وخطت الحكومة العراقية خطوة جريئة ان صح ما قيل عن منع اي حزب سياسي او كتلة او جهة سياسية  المشاركة بالانتخابات المقبلة وفقا للدستور ، ان بقي اي طرف سياسي يمتلك اية ميليشيات مسلحة !! فهل تّم تحقيق ذلك ؟ كما وان هناك قرارا بجعل المدن المقدسة مناطق منزوعة السلاح ويمكن اضافة الاعظمية اليها وعدم السماح بعد الان ببقاء أية مدينة مغلقة لحساب جهة معينة ، وقد شدد العزم على تحرير جميع المدن من العصابات والخارجين عن القانون . اما تجربة الحكومة المركزية في الموصل ، فيبدو انها فاشلة ، او انها ـ كما يقال ـ كانت مسرحية معدة سلفا ، فالموصل لم تزل فاقدة للامن بوجود الصراع بين الفرقاء حتى هذه اللحظة ، فضلا عن التوترات التي تعيشها اقضية ونواحي محافظة نينوى . فهل بالامكان مسائلة الحكومة عن كل تصريحاتها لمدى تطبيق فاعلية ما قالته من شعارات وتصريحات ام انه كان للاستهلاك السياسي والاعلامي فقط ؟
7/ السأم العراقي من المليشيات
ثمة من يدافع عن واقع المليشيات في العراق ، اما لمصلحة او تلاقي مصالح او لعدم فهم ما يجري ، ولكن ان اتت اي " قرارات " متأخرة عن موعدها كثيرا ، فان العراقيين قد سئموا المليشيات ، وفرق الخطف والموت من المرتزقة الذين يظهرون امام الناس على العلن بفعل الفوضى والاهتراء الامني وضعف الحكومة المركزية والفساد المستشري في كل مكان .. ولكن ثمة اسئلة مهمة تقول : هل باستطاعة الحكومة ان تقضي على ميليشيات الجميع دون هذه المليشيا او تلك ؟  وهل هي صادقة في استئصال كل المليشيات من الساحة العراقية ؟ وان كانت ؟ فهل يقترن ذلك بالخطط الامريكية ؟ واذا كان جيش المهدي يشابه تنظيم القاعدة ، فلماذا انتبه القادة الجدد الى هذا الامر وكانت كل من جماعات القاعدة وفرق الموت تعبث بالعراقيين على مدى اكثر من ثلاث سنوات ؟ بل لماذا سمح لهذا التيار او ذاك الحزب او تلك الجماعة ممن يقود هذه المليشيات الدخول الى العملية السياسية ؟ وهل كانت بقية المليشيات الاخرى التابعة لقوى سياسية اخرى مشاركة في الحكم اقل اجراما من هذه ؟  ان هذه الاسئلة مهمة جدا في معرفة ما الذي يجري اليوم .. وستثبت الايام هل تأتي مثل هذه الصراعات لمصالح وطنية حقيقية ام لمصالح فئوية ومكاسب نفعية لاطراف وقوى متنوعة !
8/ وماذا بعد ماراثون الصراع ؟
ان العراقيين بحاجة ماسة الى الوعي بمخاطر كل جحافل هذه العصابات والتشكيلات الاوليغارية والمرتزقة التي لا تخلو من ارتباطات بجماعات واطراف سياسية وبدول مختلفة ومنها دول مجاورة بالذات .. ان وعي العراقيين هو اهم ما يمكن الاعتماد عليه في زرع الثقة بين المجتمع والمؤسسات .. ان المصيبة تكمن في التشظي الهائل الذي اصاب العراقيين ، واللعب على ما اسموه بـ " المكونات " الاساسية ، وعبث الاكثريات بالمصالح العامة للبلاد ، وانقسام الاقليات على نفسها في حرب استطيع تسميتها بـ " حرب الانتماءات " .. انه لا يمكن ان يبقى الاضطراب سائدا الى الابد مهما كانت المصالح النفعية المكتسبة من ورائه كبيرة ، سواء كانت مصالح شخصية ام حزبية ام محلية ام خارجية .. ان تطبيق القانون وترسيخ هيبة الدولة لا يأتي من فراغ ، اذ ينبغي على كل العراقيين ان يميزّوا بين تطبيق القانون وامن العراقيين وحياتهم ودمائهم واعراضهم واموالهم وبين اساليب مقاومتهم للمحتل .. ذلك ان المقاومة المسلحة او غير المسلحة لا يمكنها اقرار الاضطرابات والعبث ليس بالمؤسسات حسب ، بل بالمجتمع وخدماته . وعليه ، فان اي تنظيف للعراق من الاسلحة سيشكّل علامة فارقة ومتقدمة في تأسيس مشروع وطني في ظروف هادئة يشارك فيها كل العراقيين بتجرد ونكران ذات . ان التعويل ايضا على قوى ما اسمي بـ " الصحوة " لا يمكن ان يقتصر على وعود باثمان او لقاء اثمان سواء كان شراء الذمم بالمال او السلاح او المناصب ، وكأننا نشارك في فلم كابوي لرعاة البقر في صحراء نيفادا .. وكأن العراقيين ، وحاشا ان يكون اغلبهم كذلك ، كالمفترسين المتوحشين يجتمعون بمساعدة حرّاس السفاري على صيد ثمين ، هو العراق ، وكل واحد يريد ان ينهش وينهب ما استطاع ان ينهش وينهب !
9/ ضرورة المسائلة عن شريعة الغاب
ان كل من اصابه الاذى والضيم من ابناء الشعب العراقي يتساءل مهما كانت ملته او انتماؤه او دينه او طائفته .. من المسئول الحقيقي عن كل ما اصاب ويصيب العراق من الفوضى ؟ من هو المسؤول الحقيقي عن كل هذا التفتت والضياع ؟ من هو المسؤول عن كل هذا القتل والخطف والذبح والارهاب ؟ من ينكّل بالعراقيين ؟ من يمنع عنهم الخدمات ؟ من يسرق مواردهم ؟ من يختلس اموالهم ؟ من يتحدث باسمهم ؟ من يخفي المعلومات عنهم ؟ من يمزّق اوضاعهم ؟ من يفجّر اسواقهم وشوارعهم ؟ من يقايض على بركة دمائهم ؟ من يتكتم على المجرمين الحقيقيين ؟ من يساوم على رجالهم ؟ من ينحر اكاديمييهم وصحافييهم وضباطهم وطياريهم وكل اختصاصييهم وفنانينهم ؟ من يخفي اوراق محاكمة قاتل مطران الكلدان حتى اليوم ؟ ولماذا لم يبح بها ؟ ما اسرار هذا وذاك ؟ من يحرس نفسه فقط وليذهب كل العراقيين الى الجحيم ؟ من يعتمد على المرتزقة ؟ من يبقي على المليشيات ؟ من يريد ان يبقى العراق نموذجا للفوضى والتهتك ؟ من يذكي كل التعصّب والغلو والتطرف لابقاء التناحر بين العراقيين ؟ من نّصب بعض الرموز اسيادا على اسمي بالمكونات الاساسية الثلاثة ؟  اين النزهاء ؟ اين المخلصين ؟ اين الاذكياء ؟ اين الشرفاء ؟ اين الاباة ؟ اين النجباء ؟ اين الدهاة ؟ أين العلماء ؟  اين عشاق العراق ؟
10/ وأخيرا : الطريق الى مشروع وطني خال من الاوليغارية
ان العصابات والميليشيات والاوليغاريات في العراق لابد من اجتثاثها مهما كان الثمن وتثبيت اسس الدولة قبل المضي في اية انتخابات ، وممارسة ما اسموها بـ " لعبة الديمقراطية " ، وقد غدت ميدانا راقصا للمساومات والمقايضات والتحالفات غير الوطنية .. وانها لابد ان تلقى دعما في المدن والبلدات والقرى سواء من اهالي المدن او الريف .. ان اخشى ما يخشاه اي عراقي ان تكون تجربة البصرة المريرة نهاية لمشروع انهاء المليشيات ، كونها جاءت سريعة وانتهت بسرعة ! او ان تكون تجربة الموصل بداية لمشروع تبادل مصالح غير وطنية اساسا كونها فاقدة لمعانيها !  ولقد توضّحت الصورة المأساوية عن تفسخ فاضح في المؤسسة العسكرية التي تتفرق فيها الاهواء ، وتتباين فيها الانتماءات بعيدا عن اي عقيدة عسكرية عراقية وطنية موحدّة للجميع ، فلكل الدول الفيدرالية جيش واحد لا سلسلة جيوش ومركز واحد لصنع القرار وليس عدة مراكز قوى تتحكم فيها التحالفات والمصالح ..
ان الحكومة العراقية قد وعدت بتنفيذ خططها في السيطرة على الموصل ، ولكنها لم تستطع النجاح في تنفيذ اي خطوة هناك حتى يومنا هذا .. ولم تزل المدينة تعاني كثيرا من جراء الصراعات الداخلية والعصابات المتنوعة المدعومة من هذا الطرف او ذاك على حساب كل المجتمع واطيافه المتنوعة . ان الطريق طويل جدا ، اذا كان كل طرف عراقي ينهش الاخر ، وغير واثق بالطرف الاخر .. واذا كان ما اسمي بالمكونات الاساسية تتحكم بها احزاب غير متجددة وغير متفقة اصلا على مشروع وطني عراقي تجتمع على مبادئ عراقية اساسية ، وان لها ميليشياتها ولا تدافع الا عن مصالحها الفئوية ، فان العراق سيدفع اثمانا اخرى لا يعلم بها الا الله .. ان تثبيت اسس الدولة لا يمكنه ان يتم من فراغ ، فالدولة بحاجة الى قوة عسكرية نافذة ، وهي بحاجة الى دعم اجتماعي وشعبي منقطع النظير لانبثاق ارادة وطنية حرة وفاعلة ، ولم يزل المجتمع العراقي يعيش تشظيا طائفيا وسياسيا واجتماعيا وعرقيا مريرا .. وكّل من الاثنين ، الدولة والمجتمع ، بحاجة الى سيادة القانون ، فالمؤسسات هشة ويسودها الفساد الاداري والاخلاقي بشكل لا يصدق ! ان اية انتخابات عراقية لا يمكنها ان تكون عادلة ونزيهة وواعدة ونظيفة ان لم يستقم الواقع ، وتتغير الوجوه ، ويتحرر الناس ، وتلتئم الجروح ، ويعاقب كل المقصرين والمذنبين والمختلسين والمفسدين .. ويختفي كل الطائفيين والمتعصبين والطفيليين الطارئين .. وآخر ما يمكنني قوله : ان الميليشيات والاوليغارشيات لابد ان تختفي مهما كان الثمن ، وان كل ما يجري بمعزل عن اي مشروع وطني حضاري سيكون مصيره الفشل الذريع ! ان من ينتظر اصلاح الاوضاع وينتظر ان يحقن بالدعابة والاكاذيب ، او يطالبني بكلمات الامل وقرب بزوغ الفجر بعد العتمة الطويلة .. ان يعمل ليل نهار وباخلاص منقطع النظير من اجل مشروع حضاري جديد للعراق .. ولا يتحقق ذلك الا ان نكون عراقيين اولا واخيرا .
ايلاف ، 21 تموز / يوليو 2008
www.sayyaraljamil.com


ملاحظة : في حالة اعادة النشر ، يرجى الالتزام بذكر المصدر في اعلاه .. مع التقدير .


71
المسيري : الرحيل الاخير

أ. د. سيّار الجميل
"الصهيونية تمتلك مضامين خطيرة "
المسيري
مقدمة :
كنت قد نشرت قبل سنوات فصلة من كتابي " نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية " والتي خصصتها عن الاخ الراحل عبد الوهاب المسيري .. واليوم وقد سمعت انه قد رحل رحلته الابدية ، اذ توفي فجر يوم الخميس 3 يوليو/تموز 2008 بمستشفى فلسطين بعد صراع طويل مع مرض السرطان، وشيعت جنازته ظهرا من مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر بالقاهرة. وهنا اود ان اشارك في تأبين هذا " الرجل " الذي جمعتني به المعرفة وتباينت عنه في التفكير السياسي .. ويسعدني ان استعيد ما نشرته عنه ، وما وجدته فيه من خصال ومواقف .

المسيري : المفكر والسياسي
هذا المفكر الهادىء والواثق من علمه والمتخصص في القضايا اليهودية والصهيونية الذي يكاد يكون العربي الوحيد الذي اطمئن الى كتاباته الدقيقة بشؤون اليهود وديانتهم بعد العلامة العراقي الراحل احمد سوسه الذي اختص بتاريخ اليهود القديم .. ان للمسيري جهوده واعماله المتميزة التي يقف على رأسها موسوعته الشهيرة التي صرف من زمنه طويلا لانجازها ، وهو يشكّل قيمة عربية لا تقدر بثمن .. كما ان الرجل صاحب خطاب تحليلي مصري ، وطابعه اسلامي في اخطر شؤون الامة تبعا لمرجعيته الاولى ، اذ كان قد انخرط في شبابه مع جماعة الاخوان المسلمين .. صحيح انه اختص بالادب الانكليزي ، ولكن كّرس جهوده لدراسة اليهود في العالم ،  وانه يعرف طبيعة الحركة الصهوينية التي له رؤيتها الخاصة لها اذ يراها تضرب جذورها في التوراة والتلمود والتقاليد الدينية والاثنية معا عند اليهود . انني اعرف الاخ المسيري عالما مفكرا واستاذا باحثا ، ولم اعرفه سياسي بين ركام السياسيين المصريين المعارضين .. ولقد عرفت مكانته في تيار " كفايه " السياسي المصري المعارض ، ولكن دوره لم يكن يشغلني ابدا ، بحجم ما تشغلني كتاباته . لقد بقي المسيري طوال حياته منتميا الى الاخوان المسلمين ثم انتمي الي اليسار المصري، وشغل منصب المنسق العام لحركة كفاية، التي تأسست في نهاية 2004 للمطالبة باصلاح ديمقراطي في مصر، ولكن ليس على الطراز الغربي ! وقد تعرض للاعتقال من قبل السلطات المصرية أكثر من مرة . نعم ، ففي يناير 2007 تولى منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وهي الحركة المعارضة لحكم الرئيس محمد حسني مبارك وتسعى لاسقاطه من الحكم بالطرق السلمية ومعارضة تولي ابنه جمال مبارك منصب رئيس الجمهورية من بعده.

المسيري .. من يكون ؟
      ولد الاخ الدكتور عبد الوهاب المسيري في دمنهور بمصر عام 1938 ، ونشأ ودرس فيها ثم حصل ليسانس آداب- أدب إنجليزي- في جامعة الإسكندرية 1959م ، ثم حصل على الماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة كولومبيا Columbia University- بالولايات المتحدة الأمريكية 1964م ثم على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي والأمريكي والمقارن في جامعة رتجرز Rutgers University- الولايات المتحدة الأمريكية 1969م وهو خبير الشؤون الصهيونية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام حتى العام 1975م . وعمل عضوا في الوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم حتى العام 1979م . وهو - ايضا - أستاذ بجامعة عين شمس وجامعة الملك سعود وجامعة الكويت حتى العام 1989م وأستاذ غير متفرغ بجامعة عين شمس 1989م-حتى الآن . والمسيري هو المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي 1992م-حتى الآن . ايضا عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بواشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية 1997م-حتى الآن .

المسيري والصهيونية
لقد نجح المسيري في الكشف عن هياكل داخلية للظاهرة الصهيونية فضلا عن كشفه لابعاد مجهولة من التاريخ اليهودي وخصوصا من الناحيتين الاجتماعية والثقافية . انه يرى اليهودية في نطاق معين من التاريخ ، ويرى الصهيونية في نطاق معين آخر . يرى اليهودية عالما كلاسيكيا شرقيا قديما لم نعد نجده الا في ما تبّقى من تقاليد كنسية وترديد لعبارات تلمودية او توراتية في حين يرى ان الصهيونية : ظاهرة غربية استعمارية استيطانية احلالية ، ونجح المسيري كما يرى العديد من المحللين والنقاد في تفسير سلوكيات صهيونية متنوعة في دراسته للكلاسيكيات اليهودية التقليدية القديمة . وعليه ، فانه يرى بأن الصهيونية ذات جذور غربية ، ولكنها مزركشة بديباجات يهودية مع وجود عبارات غامضة في المضامين لا يمكن حل الغازها بسهولة ! ولكن البعد اليهودي يبدو في معظم الاحيان زخرفي تبريري شكلاني .. استخدم طويلا لاغراض التعبئة التاريخية.

لقاءان مع الرجل
     حتى العام 2001 ، لم التق بهذا الرجل الا مرة واحدة وكان لقاء رائعا عابرا في زمن قصير ولكن كانت له معانيه العميقة عندي وعنده .. كنا نجلس في حفل عشاء رسمي كبير بواحد من فنادق الهيلتون الواقع بمدينة العين في دولة الامارات العربية المتحدة عندما كنت اعمل في جامعتها .. ولم اكن ادري بأن الاخ المسيري موجود في ذلك الحفل ، فكل مجموعة قد اتخذت لها دائرة معينة واصحابها يتحاورون في امر معين .. فجأة ربت على كتفي الدكتور وسام فرج ، وقد وقف على رأسي ليقول لي بأن الدكتور المسيري كان يبحث عنك ويريد رؤيتك . قلت له : اين هو ؟ قال في مكان ما من هذا الحفل . فسررت جدا لوجوده ، وفعلا كان الرجل يريد رؤيتي ومتشوق لي ، فتلاقينا وهو يقول لي : انني اعرف كل شيىء عنك من خلال متابعتي لاعمالك التاريخية والفكرية ، واضاف : ان ما زاد من شوقي لرؤياك ما حدثتني به طالبتي في الدكتوراه التي اقوم بالاشراف على اطروحتها في الدكتوراه .. ! استغربت وقلت : من هي ؟ قال : الا تعرف السيدة فاطمة بلقاسم وهي من الجزائر ؟ اطرقت برأسي مستعيدا ذكراها الطيبة ، واجبت  ونعم الطالبة النجيبة التي درستها قبل سنوات طوال في جامعة السينيا بوهران . قال : انها اليوم طالبة دكتوراه عندي وطالما حكت لي عنك وعن تجربتك ومحاضراتك وفضلك على الاخوة الجزائريين .. فشكرته على هذه الرسالة المعنوية الرائعة التي تحمل معاني انسانية عالية المستوى من لدن استاذ فاضل قام كلانا بتأهيل طالبة علم عربية من جيل جديد .. وشكرت لهذه السيدة الجزائرية العربية اخلاصها ووفائها لاستاذها القديم وتمنيت لها كل التوفيق والنجاح .  لم يطل اللقاء اذ كان كل مّنا على سفر ، فذهب كل منا الى سبيله بعد ان تبادلنا العناوين على امل ان يكون لنا لقاء اخر في يوم من الايام .
اللقاء الثاني
بعد عامين او اكثر تقريبا ، التقيت بالراحل عبد الوهاب المسيري في دولة الامارات مرة أخرى ، وفرح كل منّأ بالاخر ، وكانت لي هذه المرة معه ، جلسة مطولة في بهو فندق ميراج بالاس  بالجميرا ، واخذنا الحديث عن مصر اولا ثم عن متغيرات المنطقة بعد سقوط النظام العراقي السابق .. كان يخشى ان يدلي برأيه بصدد الانقسامات الاجتماعية العربية طائفيا ومذهبيا وتدخلات ايران .. انه يعتقد بأن العدو الحقيقي ( للامة الاسلامية ) اسرائيل ومن وراء اسرائيل .. حدثّنى عن عمله الموسوعي عن اليهود واليهودية والصهيونية ، فباركت جهده ، واختلفت الرؤية بيني وبينه عن اساليب التحديث والعلمنة وتجديد المناهج التربوية . لم اجد منه جوابا شافيا عن تجربة تركيا الحديثة . بدا لي ان الرجل قد تعمّق كثيرا في دراسة الصهيونية ، بحيث غطّت على كل التجارب الاخرى في منطقة الشرق الاوسط . لقد كان لقاء رائعا عندما تحاورنا عن الانقسامات اليهودية في التاريخ ، وسألني عن معلومات عثمانية تخص النازحين من اليهود الاسبانيوليين .. اما بشأن اليهود السيفاردم واليهود الاشكنازم ، فان ذلك الانقسام اليهودي بين الغربيين والشرقيين هو انقسام اوربي فقط ، اي يعود اصل السيفاردم الى اسبانيا من الذين تبعثروا في الشتات الاوربي والعثماني بعد ذلك ، في حين يعود اصل الاشكانزم الى المانيا ، وقد نزحوا هم الاخرين الى اصقاع من اوربا الشرقية .. وكان الشتات بفعل الصراع ضدهم من قبل الكاثوليك ، وقد حماهم الاتراك العثمانيون . ولقد طلب مني الاخ المسيري بعض المعلومات التاريخية عن اليهود المزراحيين ، فارسلتها اليه بعد ذلك بالبريد ، وهي معلومات نادرة تخص  اليهود المزراحيين الذين لا يمتون بأية صلة الى الاوربيين ، والمعلومات مستقاة من مخطوطات كنت قد اشتغلت عليها ابان السبعينيات . والمزراحيون هم اليهود القدماء الذين انتشروا في الشرق الاوسط ، وخصوصا في فلسطين والعراق واليمن ومصر وايران ، وهم يختلفون قليلا عن يهود الفلاشا في كل من اثيوبيا والسودان وبعض الاطراف الافريقية .. لقد تبيّن لي من خلال لقائي بهذا الرجل ان معلوماته واسعة عن الصهيونية العالمية ، ولكنه ليس بمؤرخ ابدا ، وان معلوماته عن الجذور التاريخية  اليهودية الاولى غير دقيقة بفعل كثرة التناقضات والاختلافات التاريخية ، ناهيكم عن ان الرجل ليس بمؤرخ ابدا . وجدته يستمع ويطيل الاصغاء ويسأل اكثر من ان يجيب . لقد اعلمني بمشروعه الموسوعي ، وقال انه استفاد كثيرا من عشرات المؤرخين المتنوعين في جمع معلوماته الشفوية والتحريرية .

ما الذي اراه في المنهج والتفسير ؟
    اقول انني احترم المسيري وتجاربه ومنهجه وتخصصه ، ولكنني قد اخالفه في بعض ما يذهب اليه من تفسيرات ومواقف وآراء بحكم اختلاف الرؤية والمنهج والتفكير .. نعم ، انني احترمه عالما مختصا له جهوده العلمية التي يحتاجها تفكير العرب المعاصر عن اليهودية والصهيونية فكرة وتاريخا وبنية حياة . وربما يسألني سائل : لماذا اذن تختلف مع بعض تفسيراته الفكرية والسياسية ؟ اجيب على ذلك قائلا : ان ذلك ببساطة شديدة نابع بحكم اختلاف التخصص والمدرسة والتفكير السياسي والاتجاه الفكري  فالرجل ليس بمؤرخ ، ولكنه دخل ميدان هذه المعرفة من باب اللغات كمتخصص في الاداب الانكليزية والامريكية .. ثم ان له موقفه من الغرب والتغريب ، وبالتالي انعكس على رأيه في التحديث والحداثة كفلسفة وضرورة .. وقد اوصله تفكيره الى قناعة تقول بأن الصهيونية واحدة من منتجات الفكر الغربي .
تبادل المفاهيم وتباينها
     ربما التقي مع جملة تفسيرات تاريخية نشرها المسيري عن اليهودية والصهيونية من الناحية التاريخية وحفرياته النقدية الدقيقة فيها ، ولكنني اختلف معه في بعض مواقفه وبعض تفسيراته التي تتخذ لها في بعض الاحيان طابعا مؤدلجا وسياسيا يخلط فيه الظواهر بعضها بالبعض الاخر من دون ان يستكشف اي قطيعة معرفية او تاريخية بينها ! فمثلا لا يمكنني موافقة المسيري على ان الصهيونية هي افراز عضوي للحضارة الغربية الحديثة بدليل ان اليهود واليهودية كانت معزولة على مدى قرون في وحداتها ( = الغيتوات : جمع غيتو ) وان اقسى ما تلقاه اليهود الاوربيين كان على ايدي الكاثوليك ! كما ولا اتقبل هكذا وبسهولة مصطلح " الحداثة الداروينية " ، اي : الحداثة التي ترمي الى تحويل العالم الى مادة استعمالية توظف لصالح الاقوى مقابل الحداثة الانسانية .  ثم انني اختلف مع الاخ المسيري في تفسيره مفهوم العلمانية ، ذلك ان مفهومها واحد لا يتجزأ لظاهرة تاريخية في التاريخ الحديث وسيطرت على العالم منذ ازمان ، فهي واحدة وليست اثنتان فالمسيري جعلها جزئية وكليانية . انني اعرف بأن العلمانية واحدة لها تعريف واحد يعرفه كل العالم هو : " فصل الدين عن مؤسسات الدولة وليس عن مشاعر المجتمع وتقاليده وطقوسه " !
وماذا ايضا ؟  هل كل المفاهيم والظواهر  صهيونية ؟
     ربما لا اوافق بسهولة في تفضيله تسمية " تفكيكية " لما بعد الحداثة قوله انها ليست منهجا بل استراتيجية يسميها دريدا – كما يقول – بلغة الغنوصية : " استراتيجية بلوغ المستحيل .. " ، ويستطرد المسيري بقوله : ان الاهتمام بالمستحيل جوهر الفاشية كما فعلت الصهيونية " التفكيكية " بتحويل اليهود الى مستوطنين والفلسطينيين الى لاجئين ! اعتقد ان الاخ المسيري يفسر كل مستحدثات الغرب ضمن المناخ الفكري الذي سيطر على ذهنه وتفكيره عشرات السنين ! وهنا لابد لي ان اقول بأنني اعتبر التفكيكية كأي منهج نقدي عالي المستوى له وسائله وادواته الصعبة وليست نظرية صهيونية . ولم يتوقف المسيري على هذا حسب ، بل ويربط المسيري بين ما بعد الحداثة واليهودية خاصة المفاهيم القبالية ( = اله اليهود : يهوا ) مطلق ويهودي ! وان مفهوم " تناثر المعنى " التفكيكي يشبه شفيرات هكيليم ، وان مفهوم " التمركزحول المنطوق" هو صدى الثنائية الحاخامية المتضاربة واكثر التفكيكيين من اليهود بسبب تجربة النفي والاحلال والغربة ولكنهم كانوا وما زالوا من المنبوذين !! ولم يقتصر على ذلك ، اذ يعتبر اطروحات ما بعد الحداثة الفلسفية الامريكية : نهاية التاريخ والانسان الاخير لفوكو ياما وصراع الحضارات لهانتنتغون دعوات امبريالية وايديولوجية النظام العالمي الاستعماري الجديد . وقد رجحت احداث 11 سبتمبر من كفة هانتيتغتون على فوكو ياما بحرارته المشميانية التي تعلن انتهاء التاريخ والجدل وبدالية الفردوس الارضي والتاريخ الطبيعي . والطبيعي هنا اميركي ورغم تناقضهما فهما يشتركان في الغاء التاريخ والغاء الانسان كما الغي بعد قتل سلفهما نيتشه الاله من قبل . 

وأخيرا : ورحل المسيري رحلة نهائية !     
انني اذ اكتب هذا " المقال " لمناسبة الرحيل الاخير للاخ الاستاذ عبد الوهاب المسيري ، ليس لي الا ان اقف وقفة اجلال واكبار امام مفكر اخلص لمبادئه ، وامام عالم اوفى بمنهجه ، وامام استاذ تخرج على يديه العشرات بل المئات من الشباب . لقد كان الراحل الفقيد يخطو نحو السبعين وقد ابتلي بمرض السرطان الذي صارعه بقوة ، فغلبه في اخريات ايامه ليصبح شبحا ، ثم يتوفاه الله فكان فقيدا لاصدقائه وزملائه وطلبته وكل الذين تابعوا كتاباته واهتماماته .. كما افتقدته كل الجماهير ، رحم الله المسيري رحمة كبيرة واسكنه فسيح جنانه .

ملاحظة : المقال في الاصل فصلة من كتاب الدكتور سيار الجميل : نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية .       

www.sayyaraljamil.com       

72
الصحَافيون العِراقِيون .. لِماذا يُقتَلون ؟

د. سيّار الجَميل

إنها واحدة من أقسى ما عرفه العصر الحديث، وواحدة من أخطر الظواهر التي عرفها العراق منذ خمس سنوات، أي منذ السيطرة الأميركية عليه حتى اليوم.. ظاهرة تتمثّل بقتل الصحافيين والمراسلين والإعلاميين الذين ينقلون الحقائق المكتوبة والمقروءة إلى كل العالم، أو حتى أولئك الذين يعملون محليا من مصورين وحرفيين وسائقين.
إنها في الحقيقة، من أكبر جرائم هذا العصر الذي كلما تقدم الزمن به نحو الأمام، كلما ازدادت أهمية الصحافيين والإعلاميين المحترفين والمبتدئين، خصوصا أولئك الذين ينتشرون على كلّ الأرض الخطيرة ويصلون الخطوط الحمراء عند أبواب النار، ويدخلون قلب الحدث فينقلونه تسجيليا عبر الكاميرات إلى الشاشات التلفزيونية..
لقد وجدنا من خلال تقرير لجنة حماية الصحافيين، أن حصيلة من قتل منهم في العام 2007 ولأسباب مرتبطة مباشرة بعملهم الميداني، قد وصل إلى 64 صحافيا في العالم، بزيادة على حصيلة العام 2006 التي بلغت 56 صحافيا. ولم يزل التحقيق ساري المفعول ل22 حالة أخرى لم يرتبط قتل أصحابها بأسباب عملهم، بل لأسباب أخرى، واغلب تلك الحالات في العراق وللأسف الشديد! إذ بقي العراق وللسنة الخامسة ميدان قتل متعمد وإرهاب علني يمارس في الشوارع..
وعدّ العراق أيضا، البلد الأشد فتكا بالصحافيين في كل أنحاء العالم. لقد بلغ عدد الصحافيين الذين قتلوا على التراب العراقي أكثر من 31 صحافيا، أي أن العدد يقترب من نصف الخسائر لأرواح الصحافيين في العالم عام 2007. إن معظم الضحايا قتلوا غدرا، وقد استهدفهم القتلة بالترصد والقتل العمد، إذ بلغ عدد من قتل عمدا 24 صحافيا، وقتل 7 من الصحافيين وسط نيران متقاطعة أثناء المواجهات المسلحة. إن صحافيا واحدا من ال31 هو غير عراقي، أما بقية الثلاثين فكانوا من العراقيين.. وهذا عدد لا يمكن تخّيل حجم كثرته عالميا، بل انه الكارثة بحد ذاتها.
ومن المفجع أن دماء كل القتلى من الصحافيين ذهبت سدى، ومن دون أي حراك أمني أو إجراء قضائي بحق القتلة المجرمين. لقد نفّذت كل تلك العمليات مجموعات مسلحة مجهولة لم يعرف من تكون، ولا يدري أحد من خطّط لها وموّلها لأسباب شتى خارجية وداخلية. ولكن السؤال الذي يثار دوما: لماذا يستهدف كل هذا العدد من الصحافيين العراقيين بالذات؟
من له مصلحة في قتلهم وإفراغ الساحة الداخلية منهم؟ من له خطة مبيّتة ودقيقة من اجل عدم نشر الحقائق العراقية على العالم؟ وهل تريد بعض الأطراف الإقليمية والداخلية التي يشار إليها بالاتهام، فرض أجندتها وخططها في مناطق عراقية معينة، من وراء التعتيم الإعلامي بالقوة والاضطهاد والقتل؟ وهل يطمع القتلة في فرض التعتيم الإعلامي في الداخل على العراقيين أنفسهم، أم يشملون كل الخارج معا؟
إذا أدركنا أن معظم الصحافيين العراقيين الذين سقطوا، وهم ضحايا أبرياء من المدنيين، يعملون في مؤسسات إعلامية محلية عراقية، وان تسعة منهم فقط يعملون لدى مؤسسات إخبارية دولية.. أدركنا بما لا يقبل مجالا للشك أن هناك أجندة معينة لحرمان العراقيين بالذات من معرفة ما يجري على الأرض، وخصوصا في مناطق معينة من العراق.
إن العمل الصحافي في العراق يبقى من أخطر الأعمال، كما قال جويل سايمون المدير التنفيذي للجنة حماية الصحافيين.. ونجد أن الخطر يزداد تفاقما مع مرور السنين، إذ وصل الأمر إلى قتل نقيب الصحافيين العراقيين قبل أربعة أشهر بعد أن تعّرض للملاحقة منذ أربع سنوات، وهو رجل كبير السن وليس له أعداء وخصوم شخصيون.. إن هذه الموجة القاتلة للصحافيين العراقيين شيبا وشبانا، نسوة ورجالا، تعمل كآلة منظمة ودقيقة بمنتهى الدقة المثيرة للقلق.
. إن أشكال القتل مؤلمة جدا، سواء برش الرصاص أو الاختطاف والتعذيب حتى الموت.. ولم ينج أي صحافي في أي مكان من ارض العراق، فالعنف ضد الصحافيين قد ازداد خطره مذ دخلنا العام 2008. ولم يعد يستهدف الصحافيين والمراسلين بحد ذاتهم، بل يشمل كل العمال الذين يسيرون معهم، والمصورين المرافقين لهم..
هنا أسأل: هل من معالجات ميدانية على الأرض لحماية هؤلاء الناس الذين خاطروا بأنفسهم وأرواحهم، وحملوا دماءهم فوق أكفهم من أجل نقل الحقائق، كما تجري إلى العالم؟
ليصرخ الجميع في وجه القتلة، وليعرف العالم من يقف وراء هذا الماراثون الدامي. علينا أن نناشد المجتمع الدولي برمته من أجل التحقيق في العراق، والإجابة عن التساؤل القائل: لماذا يقتل الصحافيون والأكاديميون؟ ومطلوب من المؤسسات الإعلامية والصحافية العربية أن تتنّبه إلى هذه «الظاهرة» المؤلمة في حياتنا اليوم، وأن تعيرها الأهمية القصوى من أجل حرية الرأي، واحترام العاملين لأجلها. وأخيرا، لا بد أن نقف لإلقاء التحية على كل الصحافيين والإعلاميين الذين ذهبوا ضحايا العنف، في بيئات ساخنة ومتخلفة لم تعد تصلح للحياة أصلا.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                   
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 15 تموز / يوليو 2008

73
14  تموز 1958: ذكرى المنتصف العراقي

كّنا ولم نزل بحاجة الى اوركاجينا عراقي !

د. سيّار الجَميل
مقدمة : منتصف قرن بالضبط
تحّل يوم الاثنين 14 تموز / يوليو 2008 ، ذكرى تاريخية كبرى في حياة العراق المعاصر وعند العراقيين جميعا .. ولا اعتقد ان أحدا من اجيال ثلاثة عاشت في القرن العشرين ، لم يشهد ذلك الحدث الذي هزّ العالم كله عند طلوع الفجر .. هذه الذكرى التي أسميها بـ " ذكرى المنتصف العراقي " كونها تنتصف وسط قرن كامل .. وتنتصف الزمن العراقي المعاصر .. وتنتصف تاريخ عهدين سياسيين اولاهما ملكي وثانيهما جمهوري .. وتنتصف ثقافتين عراقيتين متباينتين .. وتنتصف بنية المجتمع العراقي تناصفا واضحا .. وتنتصف الدولة بين مؤسساتها التشريعية وبين تبدد المؤسسات ، او بين دستورها الدائم وبين دستورها المؤقت ! وكل عام يمر ويعبر 14 تموز / يوليو من امامنا ، اتذكر مشروع اوكاجينا في التغيير ، وأسأل نفسي : لماذا لم يتعّلم العراقيون من تجربة اوركاجينا التاريخية شيئا من المعاني الكبيرة التي بذرها العراقيون الاوائل للعالم كله قبل اكثر من اربعة الاف سنة ؟

تجربة اوركاجينا .. من يستلهمها عبر المنتصف ؟
 باختصار لمن لم يسمع او يعرف  اوركاجينا ، فهو ملك عراقي سومري ، اتخذ لكش عاصمة له ، وحكم نحو المدة 2351-2342 ق م . وهو يعد اول مصلح اجتماعي في التاريخ ، فلقد قام اوركاجينا  الى جانب مشروعاته العمرانية وحفر القنوات والانهر ، وبناء اقتصاد قوي ، قام  باصدار اصلاحات رفع الظلم والبؤس عن الطبقات الضعيفه في المجتمع. وساعد الناس البسطاء ، وحدّ من نفوذ المتسلطين  ، وحمى المرأة ، وأحل الحريات  . وكان حاكما حريصا على الفقراء . لكن لم يدم حكمه سوى عشرة اعوام . حتى ظهرت شخصيه قويه عاتية هو  لو كال زا كيزي - lugalzagesi - نحو 2350 ق . م. مستغلا ضعف - لكش – فهجم عليها  واحتلها و دمرها واحرق معابدها بعد ان نهب كنوزها .وقد اعتبر ذلك اثما كبيرا و ماساويا بحق مدينه لكش . محملين الهه ( اوما ) مسوولية ذلك. 
 
معنى النقطة الفاصلة
 ولا احسب ان النصف الاول منه قد بدأ بالعام 1921 عندما تأسست الدولة العراقية بنظام ملكي هاشمي يقف على رأسه الملك فيصل الاول ، بل ولم يبدأ ذلك " النصف " مع احتلال البريطانيين العراق للفترة 1914- 1918 ، انما اعود به الى العام 1908 ، حيث بدأت منذ هذا العام جذور العراق الحديث ، وعرف العراقيون منذ الانقلاب الدستوري وعهد الاتحاد والترقي ومن خلال نخبتهم المثقفة معاني الدستور والمشروطية والصحافة وتأسيس اول كلية للحقوق ببغداد وبدء روح العصر .. ان خمسين عاما من القرن العشرين 1908 – 1958 ، يعد نصفا مدنيا عراقيا شهد الجذور والبدايات وانطلاق التفكير والجمعيات والاحزاب والمدارس المدنية والفكر المدني .. ثم الاحتلال البريطاني وثورة العشرين ، ثم الانتداب البريطاني وتأسيس الدولة العراقية الحالية ومنجزاتها واخفاقاتها انتهاء بـ 14 تموز 1958 .. في حين شهد النصف الثاني من هذه الحقبة التاريخية 1958- 2008 زمنا عسكريا مع ولادة الجمهورية العراقية بمنجزاتها واخفاقاتها ايضا عبر مراحلها العسكرية الاربعة : القاسمية والعارفية والبعثية والمكوناتية الحالية ! ويعيش العراق اليوم مخاضا تاريخيا صعبا بعد ان تفجرت التناقضات فيه على اليد الامريكية اذ يخضع العراق للاحتلال الامريكي .. وهو يحاول البقاء موحدا من دون التشظي الاجتماعي الهائل الذي اصابه لأول مرة .
ان 14 تموز تناصف العام 1958 نفسه . وانها تستمد اهميتها من عوامل عديدة ربما لم يلتفت اليها أحد حتى اليوم ، اذ لم يزل كل العراقيين ينقسمون حتى اليوم في تقييم هذا " الحدث " ، وسيبقى كل العراقيين ضمن هذا الانقسام لخمسين سنة قادمة على اقل تقدير ، وذلك بسبب غرابة الحدث ، وثقله ، وقوته ، وتراجيدية فصوله ، مقارنة باحداث مشابهة اخرى في الشرق الاوسط .

يوم عراقي قائظ
ان 14 تموز 1958 هو يوم استثنائي في حياة العراق والمنطقة جمعاء ، ليس لكونه مجرد مصطلح للتعبير المختلف عليه عند العراقيين : انقلاب ام ثورة .. بل لكونه ظاهرة تاريخية بحد ذاتها ، نقلت العراق من تاريخ معين عرفه كل العالم الى تاريخ من نوع آخر لم يعرفه بعد حتى ابناؤه .. وان هذا اليوم المشهود لم يقتصر على مجرد اعدام عائلة مالكة في مجزرة رهيبة وتغيير نظام سياسي الى نظام سياسي آخر افتتح فمه بشلال دم ، وسحل الاجداث بالحبال ، بل كان بداية حقيقية لتغيير تاريخي جذري في البنية الاجتماعية العراقية نفسها وكل ما عبّر عنها في النصف الاول من المئوية مقارنة بما عّبر عنها ابان النصف الثاني منها .. ان يوم 14 تموز 1958 هو يوم عراقي حقيقي ، اذ انه حدث تاريخي صنعه العراقيون وعبّروا فيه عن طبيعتهم باقصى درجات العنفوان، ولم يسهم في صنعه على الارض غير العراقيين ..

من مملكة الاعيان الى جمهورية المكونات
 استطيع ان اختزل التغيير بانتقال العراق من زمن النخبة العليا الى زمن الجماهير الشعبية .. من زمن المؤسسات الى زمن اللامؤسسات .. من زمن الاعيان والشيوخ والبيكات والباشوات الى زمن الثكنات والاوكار والشوارع والمليشيات بدءا بالمقاومة الشعبية وانتقالا للحرس القومي ، ووصولا للجيش الشعبي ، وانتهاء بمرتزقة الاحزاب والاوليغاريات ! ومن زمن المشروعات المدنية الى زمن حكم العسكر والانقلابات .. ان من غرائب بعض العراقيين انك تجدهم يلعنون نوري السعيد صباح مساء طوال هذا الزمن المرير ، كونه الرجعي الاستعماري والخائن والعميل صاحب المعاهدات والاحلاف الاستعمارية ، وهم الذين يصفقون اليوم للاتفاقية العراقية ـ الامريكية مع فارق الزمان ، وفارق المكان ، وفارق المفاوضين العراقيين . ان من عمل على بناء الدولة ضمن مشروع الدولة العراقية المدنية الموحدة ، لا نجد من مثله اليوم كي ينجح في اعادة بناء الدولة على اسس مدنية ، واذا كان العراقيون الاوائل قد انتصروا بولادة وطن ، وولادة دولة ، وولادة مجتمع موّحد بالرغم من كل انقساماته الاولى على يد البريطانيين ، فان العراقيين الاواخر قد فشلوا في اعادة بناء الدولة التي تفككت مؤسساتها على ايدي الامريكيين الذين ساهموا في ولادة جمهورية المكونات القومية والطائفية والاقلياتية !

عوامل اساسية
مع احترامي لكل كليشيهات ما رددناه منذ ان كّنا تلاميذ في المدارس من اسباب قيام ثورة تموز ، ولكن مع مرور الزمن ، ومضي عجلة التاريخ ستبدل الناس قناعاتها ليس باهمية الحدث وقيمته التاريخية ، بل بما نسج حوله من اسباب ومبررات لا معنى لها . لقد كان النظام الملكي في العراق يعيش ازمة سياسية داخلية متفاقمة بعيدا عن اية مشروعات من نوع آخر كان ينفذها باستراتيجية قوية وبعيدة المدى ، ولكن الرعيل السياسي القديم بقي منغلقا على نفسه من دون ان يشرك القوى الجديدة الصاعدة ليس في الحكم ، بل حتى في منحها فرصا جديدة في الحياة .. ولقد ادخل النظام الملكي نفسه في نفق لم يستطع الخروج منه ، اذ بدا للعالم انه يمشي على عكس الاتجاه الذي كانت عليه مصر ، وقد نجح الرئيس جمال عبد الناصر بتسديد ضربة قوية للعراق في انتصاره المؤقت بالوحدة العربية مع سوريا .. وبالوقت الذي كان العالم الثالث يسعى ضمن حركات التحرر من الاستعمار ، راح نوري السعيد ليجعل بغداد مركزا قويا لحلف دولي سمي باسمها ، فوصم بالاستعماري ! وبالوقت الذي كان العراق الملكي منفصل السلطات وللقضاء حرمته واستقلاليته ، وقد بدأ بمشروعات جبارة في تحديث البنية التحتية للعراق من خلال مجلس الاعمار في الري والبزل والطرق والسدود والمدارس والصحة والمستشفيات والجسور والخدمات والصناعات وافتتاح الجامعات .. الخ فانه لم يلتفت ابدا الى اوضاع البائسين العراقيين في صرايف حول بغداد ، ولا الى معالجة الريف ، وتطوير اوضاع الفلاح ، والحد من نفوذ شيوخ العشائر ، ناهيكم عن التنكيل بقوى اليسار والشيوعيين العراقيين بالذات الذين وقفوا بالمرصاد ضد كل اجراءات ذلك العهد . ولقد خسر العراق جيرانه العرب بتحالفه القوي مع ايران وتركيا من اجل حسابات اقليمية هو ادرى بها من غيره ، وادراكه للخصوصيات العراقية التي لم يفهمها العراقيون عهد ذاك .. ولم ينفعه الاتحاد الهاشمي الذي بناه مع الاردن ، وبالرغم من هشاشته الا انه بدأ ينظر اليه كونه يشكل مصدر خطر مستقبلا ضد اسرائيل . لقد انهى العهد الملكي نفسه بنفسه ، ولكنه لم يكن يتوقع ان تكون الضربة بتلك القسوة التي لا يستحقها والتوحش الذي صنعته همجية اذاعة بغداد ! كم كّنا يوم 14 تموز 1958 بحاجة الى مشروع سلمي ومتحضر في التغيير كمشروع اوركاجينا ؟ كم كنّا بحاجة الى مثله طوال خمسين سنة منذ العام 1958 حتى اليوم ؟

التساؤلات عن دور حلفاء بغداد
وربما كانت هناك اصابع دولية او اقليمية او عربية محركة لطبيعة الحدث ، اذ ثمة حقيقة واضحة تقول لنا بعد استنطاق بعض الوثائق السياسية الخاصة ، ان ليس هناك حدث كبير في منطقة الشرق الاوسط لم تقف من ورائه قوى دولية وخصوصا عندما بدأ مشروع روزفلت يسعى لافراغ دويلات الشرق الاوسط من النفوذ البريطاني ، وسياسة املاء الفراغ من قبل الامريكان .. وتشير بعض التقديرات الى ان كلا من البريطانيين والامريكيين كانوا يعرفون بكل ما يجري قبل الحدث واثناء ذلك اليوم .. فان صح هذا " التقدير " من خلال استنطاق بعض الوثائق المخفية التي ينتظرها العديد من المؤرخين بفارغ الصبر ، وخصوصا عن دائرة التسجيلات البريطانية ، فسينقل ذلك تفكير العراقيين في رؤيتهم التاريخية وليس السياسية ، والعقلانية وليس العاطفية الى طبيعة الحدث نفسه .. وسواء صح هذا " التقدير " اليوم او غدا ، فان السؤال الذي يسبق كل التقديرات يقول : هل من المعقول ان يدخل الجيش العراقي بغداد للاطاحة بالنظام الملكي وهو واسطة العقد في الشرق الاوسط ، وله اكبر واوثق الروابط بينه وبين الغرب ، وان كلا من السفارتين البريطانية والامريكية يقع في قلب بغداد ، وهل من المعقول ان لا تعرفان اي شيئ عما يحدث ؟ 

التفكير التاريخي بديلا
انني اكتب هذا ليس من باب انتزاع عراقية صورة 14 تموز سياسيا ووطنيا ، اذ بدا الزعيم عبد الكريم قاسم في مقدمة الزعماء الوطنيين العراقيين ، وكان نظيفا ويحب شعبه الى درجة كبرى ، ويكفي انه انتهى نهاية مأساوية عام 1963 هو ايضا .. ولكنه سؤال ينبغي ان يسأله كل عراقي واع ومدرك ومشبّع بالثقافة التاريخية ، وليس اولئك الذين ارتضوا بالغلو والممانعة بعيدا عن الوسطية والاعتدال ، او اولئك الذين تقلبوا ذات اليمين وذات الشمال ، او اولئك الذين لم يعترفوا بأية لغة الا لغة الحبال .. انني لم أسأل هذا " السؤال " المباشر ، الا بعد مرور خمسين سنة على الحدث .. وعليه ، فان ذكرى المنتصف نريدها تاريخية بحتة بعد خمسين سنة اعقبتها بعيدا عن جعلها ذكرى سياسية مجردة من كل الموضوع ! ان ذكرى المنتصف ينبغي ان نبعدها عن اختلاف العراقيين بين محتفلين بها الى كارهين لها ! ان ذكرى المنتصف تدعو كل العراقيين اليوم ومستقبلا ان ينظروا اليها نظرة المتعلم من رمزها سواء كانت صفحتها ايجابية عند البعض ام سلبية عند البعض الاخر .. ان 14 تموز 1958 ليست مجرد عملية جراحية في سياسة العراق ، وليست مجرد عملية اصلاحية كالتي عرفها العراقيون منذ ايام اوركاجينا السومري .. انها بركان هائل في حياة العراق المعاصر .. كانت تداعياتها ونتائجها وآثارها قد اصابت كل البنية العراقية ، ولم تسلم منها حتى السايكلوجيا العراقية نفسها . انني واثق انها علامة تاريخية فارقة ستبقى تثير الجدل لازمان طوال !

بعيدا عن ثنائية التضاد
ان ذكرى المنتصف تثار اليوم من اجل ان تكون معلما وتجربة يمكن الاستفادة من منجزاتها او من تناقضاتها .. من ايجابياتها او سلبياتها .. ان ذكرى المنتصف لا يمكن ان يحتكرها أبدا حزب معين ، او جماعة معينة ، او خندق معين ، او تيار معين .. انها قد اصبحت في عداد تاريخ العراق المعاصر ، وهو تاريخ صنعه العراقيون جميعا بدمائهم ونضالاتهم وحركاتهم وافكارهم وابداعاتهم وقراراتهم .. او بانقلاباتهم وانتفاضاتهم ومسيراتهم واضراباتهم وحروبهم .. او رسموه واصدروه بقرارات ومراسيم وقوانين حكام العراق المعاصرين الذين عرفناهم جميعا في القرن العشرين ، وقارنا بين قدراتهم وكفاءاتهم جميعا .. صنعوه بكل ايجابياتهم وسلبياتهم .. فهل باستطاعة العراقيين اليوم التأمل بذكرى المنتصف 14 تموز والاستفادة منها ، بدل البقاء والتبتّل في مهجعه والتهجد في معبده ليل نهار ! او لعن ذلك الفجر الاسود ـ كما يصفه البعض من خصومه الالداء ـ ؟ هل يمكننا ان ننتقل قليلا من الذات الى الموضوع في معرفة قيمة الحدث ، ليس كما نظر اليها الاباء قبل خمسين سنة ، بل كيف يمكن ان ينظر اليها جيل اليوم بكل حيادية وموضوعية .. استعدادا لكيفية تلقيها واستيعابها عند الاجيال القادمة .

حجم الظاهرة التاريخية
ليكن معلوما لدى كل العراقيين ان 14 تموز 1958 هي علامة فاصلة في تاريخ العراق الذي قسمته الى قسمين اثنين .. وهذا يتطلب من اي مؤرخ ان ينتقل من ترديد الاحداث ، وتكرار ما تلقن على امتداد خمسين سنة من عوامل واسباب .. ليرى حجم هذه " الظاهرة " التي لم تكتف بقصم ظهر الملكية العراقية وابادتها وتسميتها بـ " العهد المباد " ، بل انها لم نزل نعيش تداعياتها حتى يومنا هذا .. وهنا ، فان العراقيين كلهم ، بحاجة ماسة الى قراءة ثانية لهذه " الظاهرة " .. كما جرى بعد مرور خمسين سنة على الثورة الفرنسية في 14 تموز 1889 ، علما بأن الفارق كبير بين الحدثين التاريخيين الفرنسي والعراقي برغم تطابق ذكرى ذلك اليوم .
كيف باستطاعتنا ان نخرج من اثواب الماضي التي يعدها البعض على اتم روعة ويعدها الاخرون خرقا مهلهلة ؟ كيف باستطاعتنا ان ندع الناس تفكر من تلقاء ذاتها ، بدل ابقاء المكررات السياسية تدور في عجلة مكسّرة بعد خمسين سنة من ذاك الحدث المرير ؟ كيف لنا الوصول الى هوامش الحقيقة لا الحقيقة كلها ، الا بالخروج عن اطواق ذلك الماضي الذي غادرنا بكل حلوه ومره ؟ كيف نجعل من هذه الاجيال الجديدة والقادمة تخرج من حلبة الصراع بين العراقيين الذين لا تجدهم الا مجتمعين في معبد الماضي واحدهما يطعن بالبعض .. هم يرتطمون بعضهم بعضا ، هم يدخلون ويخرجون من التاريخ وحرابهم بايديهم .. وقد افتقدوا روح قبول الاخر والرأي المخالف والفكر المخالف مذ افتقدوا مؤسساتهم المدنية !

المنتصف : ساعة امتحان عصيبة !

ان هذا " المنتصف " علامة تاريخية فارقة في طريقنا .. اين قادنا المنتصف بعد ساعات الامتحان العصيبة ؟ هل حقق المنتصف امتصاص الغضب بين ابناء القبيلة ؟ هل خلق ميثاقا جديدا نحو الانطلاق ؟ وهل الانطلاق كان سليما منذ اللحظات الاولى ؟ لعل من اكثر ما يقّض مضاجع العراقيين اليوم ان تجد حصيلة ما كنت تسعى من اجله يقابل بواقع لا تمتلك ارادتك فيه كالبيت الذي ابتلي بعصيان الابناء على والدهم ، بل يستخدمون السوط ضده فيشبعونه جلدا سنة بعد أخرى بلا اي تعّقل وبلا منحه اي فرصة كي يقول كلمته ! انك في جعلك هذا المنتصف مجرد معادلة بين الخير والشر او بين الجمال والبشاعة .. فلقد جعلت نفسك مهزوما ومنبوذا وطريدا على امتداد الزمن من كل الاجيال القادمة التي ستنفصل يوما بعد آخر عن واقعنا في القرن العشرين ، وتتعلق برموز وارقام وحقائق ومعلومات لتحاكمها بعقلانية وحيادية ووسطية .. لا يهمها جدا التعاطف مع اي طرف من طرفي المعادلة . وستسأل وتبحث عن اجابات حقيقية : هل يتغير الشعب العراقي بتغير حكامه ام بتغير موضوعاته ؟ ان مجرد التدقيق في اسماء العراقيين مثلا ممن ولدوا في القرن العشرين ، سنلحظ ظاهرة فريدة متسائلين : لماذا كان هذا الحجم الهائل من اسماء فيصل وعبد الاله ونوري على ايام العهد الملكي ؟ ولماذا كان ذلك الحجم الهائل من اسماء عبد الكريم وقاسم وجمال وعبد الناصر في مرحلة تالية .. وهلم جرا الى حيث اسم صدام ؟ فهل المسألة غارقة بمثل هذا الحجم من التناقضات ؟ هل يتعلق العراقيون بكل قادتهم عاطفيا الى حد النخاع ، فيرفعون سيارة ملكهم على اكتاف ! ويجدون صورة زعيمهم على القمر ! ويبكون بكاء الصعب على نهاية المشير ! ويجعلون من القائد الضرورة نبيا مرسلا ، لا يطيب لهم الا اهدائه الاغاني والاشعار الشعبية والرقص امامه !

  المنتصف بين زمنيين متخاصمين
لا اريد ان يتنازل الخصمان عن مضاربتهما حول عظمة هذا المنتصف او بشاعته ، ولكنني اطلب ان ينفسح المجال امام كل العراقيين ليدركوا كيف كانوا عند ذاك المنتصف ، واين وصل بهم الحال ؟ ليدركوا ان العراق الوطن كان ولم يزل يباع ويشرى في نفس اسواق البورصة السياسية الدولية والاقليمية .. ليدركوا ان العراق لا يبنى بالشعارات واليافطات والاحتفالات .. بل يبنى بالمشروعات والعلاقات ومنجزات التقدم والخدمات .. ليدركوا ان المشروع الوطني العراقي لا يمكن ان يحتكره طرف واحد لا يتحدث الا باسم الجميع وهو لا يملك مشروعا في الاصل ، او انه لم يزل يعلن عن مشروع ميّت .. ليدركوا ان التحولات الاجتماعية نحو الافضل لا تأتي من فراغ ! ليدركوا ان لا تقدم في اي مجتمع من دون دولة حقيقية تخدمه .. دولة مدنية لها مؤسساتها الدستورية الدائمة والفاعلة ! ليدركوا ان بنيان الدولة والنظام السياسي لا يمكنهما ان يقوما ابدا في مجتمع تتشظى فيه الانقسامات ! ليدركوا ان الثقافة الهمجية لا تورّث الا الاسقام والمواجع والالام ! ليدركوا قيمة الحياة بين زمنين متناصفين ، وان المنتصف لم يكن شكلا من اشكال المقامرة ! ليدركوا ان صياغته ساهمت فيها ظروف ذلك الزمن الذي كان مشبعا بالشعارات والحركات التحررية والنضالات وحرب الاذاعات الباردة ومبررات الانقلابات العسكرية ..

هل استوعبنا الدرس ؟

ان ذكرى منتصف تاريخ العراق المعاصر ستبقى قوية ومؤثرة ليس بحجم من يصفق لها او من هو ساخط عليها .. بل لأنها فعلا القاسم غير المشترك في تاريخ شعب ودولة .. وانها فعلا كانت ولم تزل مثيرة للتطرف والغلو في اضفاء العراقيين لما يحبون او يكرهون من هذا العهد او ذاك بلا اي حيادية ونقد او منهج او حوار .. بلا عشق ، وبلا اي جنون ، بلا اية خصومة ، بلا اي شتيمة ، بلا اي شماتة ، بلا اي سخط  ، بلا اي كره واحقاد .. بلا اي تمجيد وتهالك .. ان المستقبل يبنيه ابناء اليوم ، ولم تنفع مع ابناء اليوم شعارات ذلك الزمن الماضي ، ولم تنفع مع ابناء اليوم مبررات ذلك الزمن الواهي .. ان ابناء اليوم ما عادوا سذجا يستعدون للتصفيق ، والرقص في الشوارع ، وتكرار المعوذات السياسية ، وترديد المقولات الايديولوجية .. ما عادت عبارات الماضي ومصطلحاته صالحة للاستهلاك الوطني في اية سوق سياسية اليوم .. لا اقول تراجعوا عن مواقفكم ، ولكنني اقول بأن تعيدوا التفكير في ما انتم تصنعون .. وان تعترفوا بالاخطاء التي حصلت جهارا نهارا .. واقول بأن تتعلموا من تجارب التاريخ ، والتخلص من المطلقات ، ومن عبادة الاشخاص : جلالة سيدنا ، ودولة الباشا ، والزعيم الاوحد ، والرئيس المؤمن ابو الثورات الثلاث ، والرئيس المهيب ، والقائد الضرورة .. الخ  واذا كان زعماء العراق قد قبلوها ، فان التاريخ قد رفضها بعد ان رفض احدهم الاخر تباعا ، وساهم واحدهم في الانقضاض على الاخر سراعا . فهل يبقى العراقيون يتهالكون من دون اي مساحة لاعادة الاعتبار لكل من ساهم فعلا في بناء العراق .. ؟

واخيرا : متى يكون ميثاق اوركاجينا معلما للعراقيين ؟
اننا فعلا بحاجة الى نبذ اي عهر سياسي يؤجج المشاعر ،ويثير العواطف . ان علينا ان نتعلم من صلب ميثاق اوركاجينا كيف يمكننا بناء التحولات لنشارك العالم حضارته وتحولاته المعاصرة .. ولا يمكننا انجاز ذلك من دون اي تفكير علمي متوازن لا يضفي صفة المدينة الفاضلة على اي عهد عراقي مضى ، بل يعيدنا الى رسم المنتج الوطني التاريخي لكل زمن او لكل عهد .. واذا كانت حاجة العراق الى منتصف بين زمنين اثنين ، والى اي نوع من التغيير الاجتماعي والاصلاح السياسي من اجل ان يجد العراق فرصه في الحياة ، فان ما حدث يثير الحزن والالم على بلاد نكبت ليس على ايدي ابنائها وزعمائها واحزابها وضباط جيشها حسب ، بل كانت ضحية في سوق نخاسة دولية واقليمية وعربية ! رحم الله الجميع ، فلكلّ من العراقيين اجتهاده ، ولكل منهم خطئه وصوابه .. ان العراق يدخل اليوم مئوية زمنية من نوع آخر ، فهل استوعبنا درس المنتصف لنخوض غمار المستقبل ؟

www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 13 -14 تموز ( يوليو ) 2008
ملاحظة : في حالة اعادة النشر ، رجى ذكر المصدر .. مع التقدير .















74
14 تمّوز 1958 : اسئلة التاريخ المثيرة

د. سّيار الجَميل
مقدمة
بعد مضي نصف قرن كامل بالضبط على فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958 ، ينبغي ان اسجل بعض التساؤلات التاريخية ، لا السياسية ، ولا الايديولوجية ، سيّما وان العراقيين قد انقسموا على انفسهم في تقييم هذا الحدث التاريخي الكبير الذي لم يزل بحاجة الى ممارسة المنهج التاريخي في دراسته ومعرفة ابعاده ، وفك تناقضاته ، وتتبع آثاره .. فكل ما كتب عنه حتى يومنا هذا بالرغم من ركامه الكبير لا يستوي وحالات الغموض التي تلف جوانب اساسية منه .. دعوني اثير بعض التساؤلات التي ازعم انها مهمة جدا في ترسيخ المعرفة التاريخية وتكوين وعي عراقي جديد بعيدا عن المزيدات والاطناب والتكرار والعواطف والالتباسات واعادة الشعارات .. وبعيدا عن الانطلاق من زوايا محددة منها ما هو مبارك للحدث ومصفق له ومتعاطف معه ، ومنها ما هو مضاد ومعارض تماما لما حدث ومسّفه ليوم 14 تموز 1958 .. ويندر ان أجد حتى الان اي موقف عقلاني متوازن يعيد قراءة الحدث على ضوء العقل والتفكير النسبي لا المطلق ، ويعيد الرؤية من جديد للعراق وتاريخ العراق على ضوء متغيرات العصر .
ان هذا " الحدث " التاريخي الفاصل بين زمنين ، وبين ظاهرتين ، وبين تاريخين ينتظر الاجيال القادمة التي ستكون لها رؤى مختلفة جدا في تقييمها له . ان التساؤلات التي سأطرحها الان ، هي حصيلة تفكير طويل ورؤية ثاقبة ومقارنة لبعض الوثائق التي اكتشفت مؤخرا .. ناهيكم عن كونها حصيلة نقاشات وحوارات في قاعات تدريس وسيمنارات اكاديمية .. ولا يمكننا البقاء من دون اثارتها بعد مضي نصف قرن على اقوى حدث تاريخي ليس في تاريخ العراق المعاصر وحده ، بل في حياة الشرق الاوسط كله ، اذ انه هز العالم اجمع ليس بسبب مفاجأته العالم وقت ذاك ، بل بسبب ما رافقه من وقائع تراجيدية كان لها وقعا كبيرا في مشاعر كل الشعوب مقارنة بغيره من الاحداث .. فضلا عن كونه حدث رافقه تغيير جذري ليس في سياسة الدولة ومؤسساتها وانقلابها من ملكية الى جمهورية ، ومن تشريعية الى ثورية ، بل ما حدث في المجتمع من تغييرات جذرية هائلة .. وهذا ينقلنا الى طبيعة التغيير الذي اصاب الثقافة العراقية في الصميم .. وسواء كان " التغيير " بمجمله نحو الاحسن او نحو الاسوأ ، فان محاولة الاجابة على التساؤلات التاريخية ، ستمنح كل العراقيين الفرصة كي يتبينوا من خلال المقارنة بين زمنين كيف هي طبيعة التغيير ! وستمنحهم الفرصة ايضا كي يجيبوا من خلال المقارنة ايضا بين العراق وغيره من دول المنطقة في القرن العشرين !
دعونا نتوقف قليلا عند هذه التساؤلات ، ونتأمل قليلا او كثيرا .. ونحاول البحث عن اجوبة  تحدد موقفنا التاريخي من 14 تموز العراقية :

1/ ثورة .. انقلاب
يسأل المؤرخ : لماذا كل هذا الاختلاف حول المصطلح ؟ هل هي " ثورة " ام " انقلاب " ؟ والمعنى واحد ، بل ان " الانقلاب " هو الاقوى تاريخيا ، وهو المستخدم في عدة لغات وادبيات شرقية بنفس معنى الثورة كالفارسية والافغانية والاوردية وغيرها ؟ وما الضير اذا وصف يوم 14 تموز بالانقلاب ، فالثورة حالة مستمرة ربما تدوم اياما وشهورا وسنين ، اما الانقلاب ، فهو يبدأ وينتهي في لحظة تاريخية معينة . صحيح ان 14 تموز العراقية قد ترجمت مشاعر ملايين الناس من العراقيين بالوقوف معه او ضده باعتباره من اهم احداث العراق قي القرن العشرين ، ولكنه يقع ضمن سلسلة وسيرورة احداث الانقلابات العسكرية التي مرت بها دول المنطقة والعالم ، وان تنفيذه قد جرى عسكريا على ايدي حركة الضباط الاحرار ، وقد اعقب ذلك ثورة في العلاقات والقيم والتربية والمفاهيم .. استخدمتها كل القوى السياسية الراديكالية والقومية والدينية العراقية المؤثرة .

2/ الوثائق البريطانية .. الامريكية
ويسأل المؤرخ : لماذا لم يكشف حتى اليوم عن مجموعة وثائق بريطانية مهمة في دائرة التسجيلات التابعة لوزارة الخارجية البريطانية (RRO).. بالرغم من مرور اكثر من خمسين سنة على ما حدث لما قبل فجر 14 تموز ؟ ونسأل ايضا : اين هي ـ أيضا ـ مراسلات السفارة الامريكية ببغداد عشية ذلك " الحدث " ؟ ولماذا لم تظهر للعلن حتى يومنا المكاتبات السرية حول اوضاع العراق بين بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية ؟ ان حاجة المؤرخين ( وبالذات العراقيين منهم ) لتلك " الوثائق " ضرورة أساسية لتوضيح الصورة كاملة عن هذا " الحدث " ، وخصوصا الدور الدولي .

3/ اسرار الطبخة مكشوفة
وأسأل : اذا كان كّل من الملك حسين وشاه ايران ورئيس الحكومة التركية عدنان مندريس قد علموا بحدوث " انفجار ثوري قريب في العراق ، او محاولة انقلابية في العراق . فهل من المعقول ان كلا من بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية لم تعرفا ما الذي كان يجري ؟  وما سر الطبخة ؟ وما كان يصاغ بين بغداد والقاهرة ؟ وهل هي لا تدري بتحركات الضباط الاحرار كلهم ؟ وهل هي لا تدري بما ستكون عليه اوضاع بغداد بمرور لوائين عسكريين عبرها فجر الرابع عشر من تموز ؟ وهل كانت مخابرات دول اخرى لا تعرف بحدوث اي حركة انقلابية ؟

4/ انتظار 14 تموز
ويسأل المؤرخ نفسه قبل ان يسأل الاخرين : ما سر تأخير او تأجيل سفر القادة العراقيين الثلاثة الملك فيصل الثاني والامير عبد الاله ونوري السعيد الى استانبول من يوم 8 تموز الى يوم 9 تموز .. ومن ثمّ الى يوم 14 تموز ؟ لماذا كانت مقترحات تأجيل السفر تأتي من واشنطن عبر شاه ايران حتى يمكنه الالتقاء بهم في استانبول ؟

5/ الاتحاد الهاشمي
لماذا يكتب الملك حسين بن طلال ملك الاردن الراحل في مذكراته انه اكتفى بتنبيه رفيق عارف رئيس اركان الجيس العراقي الى وجود مؤامرة لقلب نظام الحكم ؟ وانه متأكد من حدوثها واكتفى بجواب الاخير عليه ، الم يكن باستطاعته ان يطير الى ابن عمّه فيصل الثاني كي يعلمه بما سمع ؟ او ان يتّصل به اتصالا شخصيا وهو نائبه على رأس دولة الاتحاد الهاشمي ؟

6/ ملئ الفراغات
واذا كانت سياسة ملئ الفراغات ضمن سياسة واستراتيجية الحرب الباردة وقت ذاك قد جعلت بريطانيا تنسحب شيئا فشيئا من ميادين الشرق الاوسط لصالح الولايات المتحدة الامريكية عملا بمشروع روزفلت لما بعد الحرب الثانية .. فلماذا جرى التغيير بتلك الصورة الدموية في العراق ، ولم يكن شبيها بالتغيير الذي حدث في مصر عام 1952 وبتلك الصورة البيضاء ؟ وكلّ من الحدثين يرتبط احدهما بالثاني اعتمادا على خطط المشروع المذكور .

7/ بين القومي والاقليمي
ويسأل المؤرخ أيضا : لماذا خفيت عن اعين الناس والاجيال الاسباب الحقيقية لحدوث ذلك التغيير الجذري المفاجئ ؟ وهنا اقصد دور كل من الولايات المتحدة وبريطانيا ، وكانتا من اعضاء حلف بغداد الذي كان قد بدأ ميثاقا اقليميا بين العراق وتركيا عام 1955 ، ثم دخلته ايران والباكستان وبريطانيا .. ليتكلل عام 1957 بدخول الولايات المتحدة الامريكية عضوا فيه ؟ ما دور الولايات المتحدة في تغيير المشهد الاقليمي لصالح الثورة القومية العربية ؟ ما تأثير الدور القومي باسقاط ما سمي بالاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن لصالح الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا بزعامة عبد الناصر ؟ ولماذا قضي على دولة الاتحاد قبل القضاء على دولة الوحدة ؟ وما موقف اسرائيل من المشهد التاريخي كله ؟

8/ اسبقيات في الداخل
ويسأل المؤرخ : هل كانت الاسباب داخلية بحتة بحيث سبقت احداث 14 تموز / يوليو 1958 ، أية هياجات جماهيرية ؟ او انتفاضة شعبية ؟  او انقسامات في الجيش العراقي ؟ او حدثت اية ازمة قوية بين البلاط والسلطة التنفيذية ؟ هل كان العراق يمر بازمة دولية كالتي عاشتها ايران ايام مصدّق ؟ هل كان هناك اية اسباب مباشرة اشعلت الاوضاع كالتي عاشتها ثورات كبرى كالثورة الفرنسية او الثورة البلشفية او الثورة الجزائرية او الثورة الكوبية او الثورة الايرانية .. الخ

9/ ضربة مفاجئة
 ربما كانت هناك اتفاقات بين كتلة المنصورية التي يقودها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وجبهة الاتحاد التي ينضوي فيها عدد من الساسة العراقيين المعارضين الكبار ، ولكن الحركة كانت ضربة مفاجئة لكل المجتمع العراقي الذي استيقظ فجر الرابع عشر من تموز ليسمع بالبيان رقم واحد ونشيد الله اكبر واهزوجة : يا ويل عدو الدار من ثورة الاحرار .. وصراخ العقيد الركن عبد السلام عارف في دار الاذاعة في دعوته الشعب للهياج .. وكل العالم يدرك ما يفعله الهياج في غياب القانون !

10/ أبعدوا الموضوع عن الذات
ويسأل المؤرخ :  اليس من العقل ان نبعد الذات عن هذا الموضوع الخطير ؟ لماذا يقترن دوما بحث هذا " الموضوع " بالذات والشخوص وافتراق الفرقاء على من هو الاعظم ؟ ومن هو الاشرف ؟ ومن هو الاوحد ؟ ومن هو الاشجع ؟ ومن هو البطل ؟ ومن هو الوطني ؟ ومن هو الخائن ؟ ومن هو العميل ؟ ومن هو المسؤول عن التصفيات ؟ .. الخ من دون اي رؤية موضوعية للاحداث وسيرورتها .. ؟؟

11/ لعبة التوازنات
الظروف الدولية والاقليمية وفق مجريات ذلك الوقت دوليا ضمن لعبة التوازنات في قمة الحرب الباردة ، او اقليميا ضمن تطلع العراق لمساحة اوسع وما كان له علاقة بشأن الكويت بالذات ، او عربيا ، ضمن حلبة الصراع والنفوذ القومي بين قوتين جغرافيتين واساسيتين ، تاريخيتين وحضاريتين ، تتمثلان بكل من مصر والعراق  .. ووجود قوة سياسية عربية نافذة ومستقرة وقوية استطاعت ان ترسخ علاقاتها بالولايات المتحدة الامريكية منذ زمن طويل على يد مؤسسها وزعيمها الاول ممثلة بالسعودية .. ما الذي ارادته الولايات المتحدة الامريكية ؟ وما الذي حققته ؟

12/ العراق بين زمنين                                                                                                                                                                                                                                                                                             
 وأخيرا ، يسأل المؤرخ ، وليس آخرا : هل من محاولات مقارنة بين زمنين تفصل بينهما 14 تموز / يوليو 1958 ؟ هل من محاولات لرؤية بعيدة المدى عن العراق في القرن العشرين بثورة او حركة او انقلاب  14 تموز / يوليو 1958  او من دونها ؟ ما الذي يخرج به اي عراقي ، ومن اي جيل ، وهو يفكر تفكير العقل بعيدا عن اي عاطفة حزبية ، او عائلية ، او ذاتية ، او سياسية ، او ايديولوجية كي يرسم صورة العراق في زمنين مختلفين ؟ وانني اعتقد ان الاجيال الجديدة ستنظر مستقبلا لتاريخ العراق في القرن العشرين نظرة مختلفة تماما عن كل النظرات التي الفناها في القرن العشرين ، وخصوصا عندما سيرحل جيل الافتراق ، ويرحل كل الفرقاء .. عند ذاك ، سيقول التاريخ كلمته على ايدي مؤرخين مختصين لا كتّاب عاديين ، واذا كان الفرنسيون قد قالوا كلمتهم في 14 تموز / يوليو 1889 بعد مرور قرابة مائة سنة على احداثها المريرة التي استمرت سنوات طوال ، فان العراقيين سيقولون كلمتهم في 14 تموز / يوليو 1958 بعد مرور مائة سنة عليه ، مع الفارق التاريخي الهائل بين الحدثين الكبيرين في كل من فرنسا والعراق !

www.sayyaraljamil.com

ملاحظة :  تابع قراءة المقال الثاني للدكتور سيار الجميل عن مناسبة 14 تموز / يوليو 1958 بعنوان :
" 14 تموز 1958 : ذكرى المنتصف العراقي  ( كّنا ولم نزل بحاجة الى اوركاجينا عراقي ! ) .

http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,206130.0.html

75
مبادئ وخطوات لا صناديق وشعارات !

د. سيّار الجَمْيل

         لا يمكننا ان نقدّم درسا في " الديمقراطية " لكلّ من يعرفها حق المعرفة ، ويطبقها كامل التطبيق في مجتمعات منتجة عرفت الديمقراطية ومارستها منذ قرنين من الزمن .. ولكننا ، نريد ان نعلمهم ان مجتمعاتنا اليوم ، لا يمكنها ان تختزل التاريخ ، وتغّطي على الواقع لتلعب لعبة الديمقراطية كذبا ونفاقا . ان الديمقراطية لا يمكن تسويقها كأية بضاعة في السوق العالمية ، انها  " منظومة " فكرية كاملة يمارسها الناس ، كما تربوا عليها في مجتمعاتهم بشكل طبيعي في كل مرافق الحياة . وعليه ، فانها ليست مجرد لعبة سياسية ، وممثلي احزاب ، وصناديق انتخابات ، وبصمة اصابع لأناس لا تدرك ابسط المقاييس ، بل ولا تعرف لماذا تفعل ذلك بسبب وعيها المفقود ! كما لا يمكن ان تكون بديلا مباشرا بعد الخروج المباشر من اي حكم دكتاتوري جائر ! ان الديمقراطية ، هي  اسلوب حياة ، وثقافة قيم ، والتزام بقانون ، واحترام مواقف ، ونظام حريات ، وظاهرة تقدم .. ان مجتمعاتنا لا يمكن ان تغدو ديمقراطية فجأة ، فهي بحاجة الى زمن  طويل يتشبّع وعيها بمفاهيم العدالة والمساواة ، وبعد ان تمتلك رؤيتها للحياة المعاصرة ، وتستفيد من تجاربها التاريخية . فالديمقراطية لا تفّسر كونها آلية انتخابية محددة ، بل انها حالة تعامل بين الانسان والحياة ، وبين الحاكم والمواطنين ، وبين الرئيس والمرؤوس وبين اعضاء الاسرة الواحدة في البيت .. الخ انها تبدأ من الانسان في بيته ، والمدرسة ، والحياة العامة لتصل كل المؤسسات . الديمقراطية لا تبدأ من الدولة لتنتهي بالمجتمع بقدر ما تبدأ من المجتمع لتنتهي بالدولة . وعليه ، فقد اخفقت كل تجاربنا العربية المعاصرة بسبب تطبيقات مستعارة ، او تمثيليات مضحكة  ، او احزاب مهلهلة ، أو زعامات جائرة ، او ترديد شعارات مفرغة من مضامينها الحقيقية !
       من الصعب على المؤرخ رصد هذه " الظاهرة " الرائعة وتطبيقاتها الهزلية في تجارب عربية ليدرك بأنها مجرد سيناريوهات بلا أي فهم مقارن ، ولا أي ادراك متبادل بين الخطاب (= مقول القول ) ، وبين الواقع ( = معطيات الحياة ) .. ثمة تجارب عربية اولى لمرحلة الاستنارة والتطلعات المخضرمة بين قرنين 1989- 1919 ، وفيها ترجمت جملة من الافكار والكتب ومرت مجتمعاتنا بتجربتي المشروطية (= الدستورية ) في كل من ايران والدولة العثمانية ، ثم تطورت الممارسة ابان مرحلة ما بين الحربين العالميتين  1919 - 1949 بمثابة اصلاحات سياسية ، وتأسيسات اجتماعية حقيقية ، لكنها لم تتنفس لتأخذ مداها في اغلب البلدان العربية بسبب ولادتها في ظل كيانات جديدة سياسيا  فضلا عن التأثر بتجارب المستعمرين البريطانيين والفرنسيين وقت ذاك ، ناهيكم عن التأثر ببقايا الانظمة القديمة ومواريث المجتمع الصعبة ، اضافة الى مزاحمة الايديولوجيات الجديدة التي زحفت على حياتنا العربية زحفا ، وهي تلغي كل الاعراف والتقاليد فجأة ، بل وكانت تطمح لما اسمته بـ " حرق المراحل " كي تلعب دورها في صناعة تيارات مضادة للمشروعات الديمقراطية .. وجاءت المرحلة الثانية 1949 – 1979 وهي مرحلة الراديكاليات اليسارية والايديولوجيات الثورية  التي تحكمّت في الحياة العربية من خلال الانقلابات العسكرية والمد الثوري  للاحزاب الفاشية او الماركسية .. وكلها استخدمت شعارات الديمقراطية ديماغوجيا واعلاميا شعاراتيا من دون ان تكون العملية تشريعية وخدعت الجماهير بالظاهرة وقد صفقت لها !
     اما اليوم ، فنحن نعيش مرحلة جديدة 1979 – 2009  تختلط فيها مفاهيم الديمقراطية مع غيرها ، فكما وجد ابناء الجيل السابق من الراديكاليين مقاربة بين الماضي والحاضر كي يقولوا بالاشتراكية في الاسلام ، فان هناك اليوم عدة احزاب دينية اوجدت مقاربة من نوع آخر اذ شبّهوا الديمقراطية بالشورى ، علما بأن لا تشابه ابدا بين الاسلوبين ، ولا مقاربة بين المفهومين ، ولا اية تماثل بين الظاهرتين !  ثمة اسباب تقف صلدة للحيلولة ازاء تطور الديمقراطية حقيقة  في حياتنا  العربية  وفي عموم العالم الاسلامي باستثناء تجارب معينة ، بسبب عدم تطوير الآليات والوعي في مجتمعاتنا مقارنة بالذي حدث في التجربة الماليزية مثلا .
       لقد فقدت ملايين الناس في مجتمعاتنا ، الثقة بالديمقراطية ، اذ غدوا يعتبرونها مستوردا غربيا لا يلائمنا ، ووقعت اغلب الاحزاب الدينية في عالمنا الاسلامي نفسها في مشكلات صعبة ، فهي تعمل بالمشروع  الديمقراطي وآلياته كقوى معارضة سياسية وتدخل الانتخابات من خلالها ، ولكن ما ان تصل السلطة حتى تبدأ ثنائية قاتلة ، اذ لا تطبّقها تطبيقا حقيقيا بسبب الحريات والفصل بين السلطات ، والقوانين المدنية ، وحراك هيئات المجتمع المدني وممارسات جماعات الضغط ،  فتحلّ اخفاقات عدة بين الدولة والفصل بين مؤسساتها ، وبين المجتمع ! علما بأن بعض مجتمعاتنا العربية الجديدة لها تقاليد ديمقراطية سلمية توارثتها ابا عن جد ، وبالامكان تطويرها الى ما هو افضل .
ولعلّ مبادئ الديمقراطية تصطدم حتما بالقوى المتصلبة والراديكالية ، فهي بحاجة الى مجتمعات مرنة تتقبل الاشياء النافعة !  ان الديمقراطية لا يمكنها ان تعيش ابدا  الا في فضاءات الحرية ، ولكن ضمن حدود القانون والاعراف الجميلة .. ان مجتمعاتنا بحاجة ماسة الى الوعي اولا والتربية ثانيا ، وان تكون الدولة دوما في خدمة المجتمع لا العكس ..  من اجل تطوير اية مشروعات تلائم نسيج مجتمعاتنا ، وجعلها حرة ومنتجة ومشاركة ومحافظة على مصالحها في قلب هذا العالم  .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 9 تموز / يوليو 2008

76
عُمَر الطالبْ : شخصّية غير عادية !
د. سيّار الجَميل
القسم الثاني
ذكرياتٌ شجيّة لن تموتْ !
مقدمة :
اعود في هذه الحلقة الثانية لأكتب ذكرياتي المرة والحلوة مع الاستاذ الراحل الدكتور عمر الطالب ، وهذه " الحلقة " مأخوذة مما كنت قد سجلته من ذكريات خصبة مع الرجل ، والتي ضممتها فصلة مطولة من كتابي " زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ " ، وقد كنت صريحا للغاية في ما حصل بيني وبين الرجل منذ قرابة اربعة عقود من الزمن . دعوني احكي لكم التفاصيل بأقصى انواع الوفاء ، وبأرق صفحات الشفافية .. فلقد كانت التجربة تلك ، معلما على الطريق عند بداياته المليئة بالتطلعات والآمال .. وها نحن عند النهايات المأساوية التي نحتاج فيها اليوم الى التماسك والسماحة والوفاء ومنتهى التلاقي والاجتماع على ارادة واحدة مع استذكار تاريخ رموزنا كلهم من اجل الدخول الى مستقبل لا نعرف كيف سيتحدد مصيرنا فيه ، ولا مصير اجيالنا القادمة ونحن على ابواب الرحيل .. ممن عاش في القرن العشرين .
في كلية ألاداب بجامعة الموصل 
دخلت كلية الاداب عام 1970 ، وكان ذلك ضد ارادتي ، اذ كنت أنوي دراسة القانون بكلية الحقوق في جامعة بغداد ، واكمل في السوربون بفرنسا ، ولكن ظروفي اثر وفاة والدي ـ رحمه الله ـ في العام 1968 حالت دون ذلك ، اذ كنت اكبر اخوتي.. كانت تلك الدورة الاولى من خريجي الصف السادس الثانوي ، وكانت الاسماء رائعة من خريجي الثانوية الشرقية بالموصل من نخبة طلابية متنوعة وذكية ومتطلعة الى مستقبل وضيئ للبلاد ، وقد انتشرنا في كليات جامعة الموصل التي كانت حديثة عهد التأسيس . دخل علينا الدكتور عمر الطالب قاعة المحاضرة في اول يوم من السنة الدراسية 1970- 1971 ، وكنت رفقة بعض الزملاء نجلس في الصفوف الامامية ، فدهشت لروعة محاضرته وسحرها .. ولكنه فاتنا بعد ايام ، ليأتي استاذ آخر مكانه هو الصديق المرحوم الدكتور محمد قاسم مصطفى ، واحسسنا بالفارق بين الاثنين ، اولهما مختص بالادب وثانيهما مختص باللغة ناهيكم عن فارق الخبرة والتجربة . ولقد بقيت اردد طوال اكثر من اربعين سنة ، بأن عمرا الطالب يعد فنانا ماهرا في محاضراته ، واحلى ما لديه ان باستطاعته ان يجذب كل طلبته وطالباته الى افكاره بقوة تعابيره .. ولا يتوقع اي طالب او طالبة متى يفاجئه الاستاذ عمر بسؤال او تعليق او اثارة أو قدح .. وكثيرا ما تخشاه الطالبات ان يقعن فريسة تهكمه لهن امام الجميع !
 ترددت على مكتبه بالكلية بعد ان عرف من اكون .. وقد ذكر لي انه كان هو يزور والدي قبل وفاته عام 1968 ـ رحمه الله ـ  ليستعير منه بعض الادبيات العراقية المفقودة ، واذكر منها مسرحية " فتح مصر " ، وهي مسرحية نادرة مطبوعة منذ العشرينيات كتبها الاديب الموصلي يحي قاف العبد الواحد الذي يعتبر من اوائل الماركسيين الشيوعيين العراقيين بالموصل ( وقد لحقت به مديرا لمدرسة القحطانية بالموصل عندما كنت احد طلبتها عام 1959 ) ، وقد ذكر الدكتور عمر في كتابه عن تاريخ المسرح العراقي فضل والدي عليه .. كما انه كان صديقا صدوقا لثلاثة من اعمامي ، واذكر انه قال لي ان لكل واحد منهم ثقافة معينة تختلف تماما عن ثقافة الاخر .. فأنت يا سيار تغرف من ثقافات متنوعة !
خمسينات اضاعها ضباب الايام
مضت ثلاثة شهور على ما اذكر وانا في السنة الاولى بقسم التاريخ اداوم على مضض قبل ان يبدأ عشقي لعلم التاريخ وفلسفته  ، وكنت ازور يوما احدى المكتبات ، فاذا بنظري يقع صدفة على اصدار جديد للاستاذ عمر الطالب يحمل عنوانا هو " خمسينات أضاعها ضباب الايام " ، فاقتنيته ، وعدت الى البيت ، لأقرأ مجموعة قصصية قدمها صاحبها بمقدمة يقول فيها انه جمع بعض تلك القصص التي كان يكتبها منذ الخمسينات ، وها هو اليوم ينشرها مجموعة قصصية .. كنت اقرأ واكتب ملاحظاتي على هامش تلك المجموعة ، ولما انتهيت من قراءة الكتاب في غضون ساعات ، عدت لاسجل ملاحظاتي النقدية ، فاذا بي اجد نفسي امام مقال ساخن في النقد الادبي ، وجاءت تلك التصويبات والافكار النقدية صارخة وقاسية جدا في اللغة والادب منّي ازاء استاذ قديم في اللغة العربية ، بل ويحتل رئاسة قسم اللغة وآدابها .. كنت أظن وانا في بدايات الشباب وفي السنة الاولى من الجامعة ، ان يكون الدكتور عمر مرنا يتّقبل النقد الادبي الذي طالما دّرسه في قاعات الدرس ، ومهر هو نفسه في نقد نصوص الاخرين .. 
لقد كانت مقالتي تلك قد اسميتها : " في النقد الادبي : دراسة في خمسينات اضاعها ضباب الايام " وأرسلتها الى مجلة " الجامعة " التي كانت جامعة الموصل قد بدأت تصدرها، وهي مجلة شهرية ثقافية ، وعند مطلع الشهر نشر العدد الثاني من المجلة مقالتي النقدية ، فأحدثت ضجة كبيرة في الوسط الجامعي والثقافي بالموصل وقت ذاك ، وانهالت التساؤلات : كيف ان طالبا في السنة الاولى يتجرأ وينشر مقالة نقدية بحق استاذه في اللغة العربية وآدابها .. ؟؟ اذكر ان اللوم والتقريع قد صّب علّي من والدتي ـ رحمها الله ـ  ومن العم العزيز الاستاذ طالب علي الجميل ، وهو صديق صدوق لعمر الطالب ومن آخرين وانا ادافع عن مبادئ النقد الادبي ، وعن احترام حرية الفكر .. اما زملائي الطلبة ، فمنهم من كان معي ومنهم من كان ضدي .. اما الاساتذة ، فكانوا معي عليه امامي ، ولكنني سمعت انهم كانوا ضدي ومعه امامه !!
وفي صباح اليوم الثاني ، دخلت باب صالة الكلية عبر حدائقها لأرى الدكتور عمر الطالب ـ رحمه الله ـ ينتظرني  ودارت بيني وبينه مجادلة لم استطع ان اسبقه فيها اذ كان هو الاقوى ، تحمّلت فيها قسوته بابتسامة وعدم اكتراث امام تجمع الطلبة والطالبات .. كان عصبيا لأقصى درجة وقد انتفخت اوداجه .. كانت المجلة بيده ، وهو يلوح بها ذات اليمين وذات الشمال ، ويقول : تنتقدني يا سيار على الفينة المنفلوطية ؟ وعلى الخمسينيات بدل الخمسينات التي استخدمتها ؟ وعلى سقسقة العصافير بدل الزقزقة التي استخدمتها ؟ وانها وقعت بيدك صدفة ؟ انا استاذي عبد القادر القط ؟ هل تعرف من يكون القط ؟ اجبته باستخفاف : انه الهّر حسب علمي ، فكان يزداد ثورة وانفعالا ! كان يزمجر وكأن الدنيا قد انقلبت عاليها سافلها ، وكنت احاول تهدئة الرجل بطلبي منه ان يرد عّلي في صفحات المجلة ، فتزداد ثورته  .. دون الاعتذار منه  ولم اجد الا ان اترك ردهة الكلية مع هياجه الى الحديقة ليلحق بي العشرات من الطلبة والطالبات من زملاء واصدقاء لم اعرف بعضهم ابدا . لقد سمعت بعد ذلك انه دخل قاعة الدرس ، وبدأ بتحليل مقالتي على الطلبة والطالبات باسلوبه الساخر والمتهكم ، وكنت سعيدا جدا بما فعله ، انني لم أتّوقع مثل هكذا ردة فعل ، وان يوازي نفسه مع طالب مستجد ! وعليه ، فان النقاط التي كسبتها كبيرة ، اذ شعرت كم كانت قيمتي كبيرة وانا في الصف الاول من الكلية ، وغدوت على كل لسان .. قال لي الدكتور عمر بعد سنوات طوال : لقد كنت اريد كسر ارادتك منذ بدايتك الاولى ، ولكنك كنت اقوى من ذلك بكثير ! قلت له : لو أخذت الامر ببساطة من دون تلك الضجة الكبرى ، لما صنعت منّي خصما لم يكن يوازيك وقت ذاك ، وانا لم اكن الا احد الطلبة الجدد !
انها تجربة ثانية
في البيت كانت والدتي حزينة كوني تجاوزت الحدود الادبية والاعراف الاجتماعية ، وطلبت مني ان اكتب اعتذارا وانشره ليس خوفا على مستقبلي في الكلية ، بل كيف لي هذه الجسارة وانا اواجه المجتمع لأن الاعراف لا تقبل ان يشهر اي طالب في المدرسة او الكلية سيفه على احد اساتذته .. فرفضت رفضا باتا ، بل كنت احاجج المنافقين بأن الرجل قد علّمني النقد الادبي على حقيقته .. وانا اعلم انهم سينقلون كلامي اليه .. لم تكن تلك التجربة النقدية الاولى في مقتبل حياتي ، بل كنت قد خضت من قبلها تجربة نقدية ضد مجموعة قصصية نشرتها فجأة السيدة الموصلية صفية الدبوني ، وهي سيدة مجتمع مخملي ، ولم يكن المجتمع وقت ذاك يعرف بأنها كاتبة مبدعة او مثقفة متميزة ! وقمت بنشر المقال النقدي ضد قصصها التي كتب بعضها باللهجة المصرية ، ونشرت مقالتي في جريدة الهدف الموصلية لصاحبها ومحررها المرحوم عبد الباسط يونس مطلع عام 1968 ، وكانت تلك اول ضجة في حياتي  وانا ابن الخامسة عشرة سنة ، وفيها عرفت وتعلمت اسلوب المواجهة .. كنت في تجربتي النقدية مع الدكتور عمر الطالب مهذبا ازاء شخصه الكريم ، ولكنني حللّت المحتوى ، واعلنت عن بعض الاخطاء في المضمون واللغة والاسلوب .. كنت ولم ازل اظن ان النقد الادبي او اي نقد آخر من تحليل وتفكيك ، او من تصويب واعتناء هو تثمين للنص وخدمة لصاحبه .. هو اعتناء وتكريم لمن ابدع النص او كتبه .. والنقد ، كما قرأته وانا غض غرير عند رتشاردز ، ليس طعنا او شتيمة او قلة ادب ! ولكنه اهتمام وعناية ودعاية  ومضت الايام وانقطعت العلاقة بيني وبين الرجل اثر ذلك الحدث المرير قطيعة كاملة بحيث لم اكلمه ولم يكلمني ابدا .
قصة آداب الرافدين
في السنة الثانية وانا في الصف الثاني من قسم التاريخ بكلية الاداب للعام الدراسي 1971- 1972 ، صدرت عن الكلية مجلتها الاكاديمية الفصلية ( آداب الرافدين ) ، وتضمن العدد بحوث بعض اساتذة الكلية ، ومنهم الدكتور عمر الطالب وقد نشر بحثا عن " محمد امين العمري : حياته وشعره " ، وقد اقتنيت آداب الرافدين من مطبعة الجامعة كونها لا تباع في السوق ، وعدت مسرعا اقرأ موضوعاتها ، وقد هالني ما نشره الدكتور عمر ، ويبدو ـ رحمه الله ـ انه كان قد تّسرع جدا في كتابته ، فضاعت عليه وخلط بين اسماء العديد من الادباء العمريين المواصلة وثلاثتهم او اربعتهم باسم : محمد امين ، فنسب قصيدة هذا في القرن 18 لذاك في القرن 19 ، فضلا عن اشياء اخرى لا يمكن السكوت عليها ابدا ، بل ينبغي تصويبها من خلال المصادر المحلية القديمة التي كانت مرصوفة في مكتبة عائلتنا القديمة .. فشرعت بكتابة مقال نقدي اصوب فيه تلك المغالطات ، وارجعت كل معلومة الى اصلها ، وفضحت تلك الانتحالات بين هذا وذاك .. وقمت بارسالها أول الامر في رسالة مهذبة بالبريد الى الدكتور عمر مطالبا اياه بنشر تصويب او تصحيح لما فعله .. ولكنه ردّ عّلي مشافهة واعلمني من خلال الدكتور محمد قاسم مصطفى بأنه لن يخطئ ابدا ، فقمت بكتابة عنوان " ادعاءات في مهب الريح !! " على المقالة ، وارسلتها بالبريد الى مجلة ( آداب الرافدين ) بالكلية التي انا طالب فيها ، والدكتور عمر عضو في هيئة تحريرها .. ومذ وصلت الرسالة ، عرف بها الدكتور عمر .. وكنت والله اتمنى عليه ان ينشر ملحقا او مقالا يصّوب فيها ما وقع به من اخطاء .. ولكنه لم يفعل وأبى ان يتنازل ..
وقد اعلمني بعد سنوات ـ رحمه الله ـ عندما التقيت به في المغرب انه كان يعيش ازمة صراع بين موضوعه وبين ذاته اذ كان قد سمع ان هجوما عاتيا سيحدث ضده ببغداد .. وقد اعلمته بأنني عندما كتبت ذاك المقال الثاني ضده لم اكن ادري انه كان يتعّرض لهجوم كاسح من قبل زميله بجامعة بغداد المرحوم الدكتور عبد الاله أحمد في مجلة ( الاديب المعاصر ) الفصلية متهما اياه ، اي الدكتور عمر ، بتهم شديدة تخص اطروحة الدكتوراه في تاريخ القصة العراقية ، اذ اتهم الدكتور عمر الطالب باخذ نصوص كاملة من رسالة ماجستير عبد الاله احمد وضمنها اطروحته .. ولكنني علمت بذلك بعد شهر تقريبا ، ولكنه عّد اي تراجع منه أمامي هو تثبيت لما يقوله خصمه ببغداد ، ولكن قناعتي انه حتى من دون تلك الازمة المثارة ضده ببغداد ، لم يكن من السهولة عليه ان ينشر بيانا او مقالا يصحح فيه الاخطاء التي ارتكبت في مقاله عن محمد امين العمري ! بل ويتراجع امام خصمه في الموصل ، وخصمه طالب وهو استاذ .. وهما في كلية واحدة .
الردود بعدم النشر على مقالتي
بعد اسبوعين ، وردني رد بالبريد ايضا من مجلة ( آداب الرافدين ) موقّع من قبل الدكتور يوئيل يوسف عزيز سكرتير التحرير ، يقول فيه ،  لما كانت مجلة ( آداب الرافدين ) مجلة اكاديمية تعنى ببحوث الاساتذة فقط ، فان التعليمات تنصّ على ان لا ينشر فيها الطلبة ابدا ، وعليه نعتذر عن نشر الرد كونك احد طلبتنا في قسم التاريخ بالكلية .. لقد اضحكتني تلك الرسالة كثيرا ، وبدأت اسخر جدا من تلك " المجلة " التي لم انشر فيها قط طوال حياتي الاكاديمية ، حتى عندما غدوت احد اساتذة الكلية بجامعة الموصل لاحقا .. وقت ذاك وجدت ان اللعبة خاسرة مع الكلية بمسألة النشر ، فقمت بارسال المقال الى مجلة ( الجامعة ) ، وهي مجلة ثقافية شهرية وكنت قد نشرت فيها اكثر من مقال ، وبعد قرابة اسبوعين من الزمن ، وردتني رسالة من رئيس تحرير مجلة الجامعة يعتذر فيها عن نشر المقال ، قائلا بأن الاصوب ان ينشر المقال في ( آداب الرافدين ) نفسها كونها صاحبة الشأن .. فقمت بارسال المقال الى الاستاذ عبد الحميد العلوجي رئيس تحرير مجلة ( المورد ) ببغداد ، لنشره على صفحاتها ، فوردني بعد زمن اعتذاره عن نشر المقال اذ قال لي بالحرف : حسب قانون المطبوعات لابدّ ان ينشر اي رد في نفس المجلة او الصحيفة التي نشرت الاصل ، اي بمعنى لابد من نشر الرد في ( آداب الرافدين ) .. ولقد حاول البعض الاصطياد في الماء العكر ، وطلب مني ارسال نسخة من المقال الى الوزارة او رئيس الجامعة ، ولكنني لم افعلها ابدا ، اذ بدأت اراقب الرجل وهو يعيش ازمة حقيقية اكاديمية واجتماعية اثر هجوم الاستاذ عبد الاله احمد عليه ، فتركت موضوع نشر المقال للزمن ، ولكنني قمت بتصوير المقال ، بنسخ عديدة ، وارسلته الى ابرز المثقفين في الموصل من اجل الحقيقة العلمية لتاريخ الموصل الثقافي ، وكان منهم الاساتذة الراحلين : المؤرخ الراحل سعيد الديوه جي والدكتور محمد صديق الجليلي والدكتور محمود الجليلي والاستاذ عبد الباسط يونس وغيرهم . وكان الدكتور عمر وقت ذاك يصادق زميله الاستاذ المصري في الكلية الدكتور محمد احمد بسيوني الذي تعاطف معه ووقف معه في الرد على عبد الاله احمد .. وبالرغم من نشر الدكتور عمر ردّه في ( الاديب المعاصر ) على عبد الاله احمد ، الا ان لجنة تحقيقية علمية قد تشكّلت ضد الدكتور عمر بجامعة الموصل ، واصدرت قراراتها بحقه ، وعاش احباطا كبيرا رحمه الله ، ولكنه بقي ثابتا وقويا .. وقد زاده ذلك امام طلبته قدرة وعطاء . 
اللقاءات الاخيرة
كنت قد غادرت العراق عام 1976 للدراسة العليا في بريطانيا .. ومضت سنوات طوال حتى العام 1982 اذ نلت الدكتوراه ، وبدأت اعمل في دول المغرب العربي .. وفي احدى زياراتي للمغرب استاذا زائرا لجامعة الحسن الثاني بكازابلانكا ، كنت بالمصادفة وجها لوجه امام عمر الطالب ـ رحمه الله ـ .. كان لقاء رائعا في الغربة البعيدة التي جمعتنا بعد ان افترقنا في مدينة واحدة .. كان لقاء حارا ، وعدت لاكتشف هذا الرجل من جديد .. وجدته وقد تواضع كثيرا معي ، ليس لأنه كان متكبرا ، بل لأنني اصبحت زميلا له بعد ان كنت طالبا .. وجدته لا يريد ذكر الماضي بينه وبيني ، ويأبى ان يعترف امامي ، اذ انني واثق تمام الثقة انه قد عاد الى المصادر ودققّ فيها ووجد جملة الانتحالات بين هذا الاسم وذاك .. نسينا الماضي وعدنا نتحدث عن بريخت والمسرح الالماني ، وواقعية القص والروي في العراق .. تحدثنا عن المغرب وطلبته الذين يعشقون القراءة الى حد النخاع .. ووجدته مرتاح البال والاسارير وكأنه وجد فرصة ذهبية وهو يعيش في مجتمع غير مجتمعه .. وبالاخص مجتمع كازبلانكا المنفتح ، اخذته بسيارتي في نزهة على ساحل الاطلسي عبر ضاحية عين الذئاب وسهرنا هناك ، وافترقنا على موعد وعدنا والتقينا .. سافرت الى وهران بالجزائر ومنها الى المعهد الاعلى للتوثيق بتونس وكلية الاداب بمنوبة وعدت الى الرباط هذه المرة ، فالتقيت مع عمر الطالب لقاء عابرا لم يدم طويلا كوني على سفر ..
العودة من جديد : لكل زمان ثقافة ورجال !
دارت الايام دورتها ، فعدت زميلا للدكتور عمر الطالب بجامعة الموصل ، فتوثقت العلاقة بيننا كثيرا ، بل وبدا ينفتح بذاكرته علّي ّ ، وهو يحادثني حديث المثقف عن تاريخ المسرح بالموصل ، وتوصلت معه الى اول من كتب القصة في الموصل من ادباء الموصل ومثقفيها .. وكانت اول قصة نشرت هي بعنوان ( بين الزمهرير والسعير ) قد نشرت بجريدة المصباح التي كان يحررها السيد عبد الحسين الازري .. كان يعشق السينما ، وهو ضليع بالافلام والروايات العالمية .. كنت اتعمد الذهاب الى بعض محاضراته وبعض مناقشاته رسائل الماجستير واطروحات الدكتوراه لاتمتع بجاذبية كلامه .. كان البعض يستغرب عندما يرانا  معا ، وكيف انقلبت تلك الخصومة القديمة الى صداقة رائعة .. كان احد الاصدقاء وهو استاذ معروف ومؤرخ وزميل مهنة معنا ومن اقربائه يوخز من وراء ستار ان لا يحدث بيننا كالذي حدث قبل ازمان وان لا اكتب ضده ابدا.. فاضحك واقول له معلقا : لكل زمان ثقافة ورجال !
كنا نستعيد الذاكرة عن المغرب وايامها ، وكانت القاهرة بالنسبة له قبلة الثقافة العربية ، اذ كان يجعلها بعد الموصل وبغداد .. كان وفيا لاستاذه الدكتور عبد القادر القط ، اذ دوما يذكره بطيب الذكر .. اما ذكرياته ببغداد ، فكان يعشقها ، وخصوصا ، ابان مطلع الخمسينيات اذ كانت قد وصلت الى ذروة عطائها الثقافي وفضاءاتها الحرة .. كان يراها الصدر الرحب له ، اذ وجد فيها ما لم يجده في الموصل بكل انغلاقاتها وسطوة المحافظين فيها .. لذا كانت له صداقات ببغداد اكثر مما كان له في الموصل ..
النهايات بعيدة عني
كتب الاخ الاستاذ فارس سعد الدين السردار قبل ايام مقالا بجريدة الزمان ينعي فيه الدكتور عمر الطالب ، ودعوني اسجل ما اثير مؤخرا قبل رحيل الرجل : " رحل الطالب تاركا وراءه زوبعة من الحوارات وتبادل الاتهامات واللوم والعتب والانفعال علي ما احتواه كتابه الأخير الذي صدر عن مركز دراسات الموصل بعنوان(موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين) الذي أثار حفيظة الكثيرين ممن أغفلهم كأعلام، بينما كان قبل وفاته قد ذكر ان الكتاب لم ينجز كما أراد ولقد تعرضت بعض صفحاته للحذف بسبب الجو السياسي المتلبد الذي رافق صدوره. ومما أثير حول الكتاب ان الجامعة بوصفها مؤسسة أكاديمية كان من الواجب ان لا تترك منجزا كهذا يمر دون ان تخضعه للجنة أكاديمية، تعيد النظر في منهجيته، وتدقق بعض المعلومات التي جاءت متلبكة، وان تقف أمام أصحاب المنجزات الحقيقية، لان بعض الأسماء التي وردت فيه كانت مقتضبة، لم تتجاوز السطر عن العلم، عاش الطالب حياته بالطول والعرض وخدم المدينة دون أدني شك، ولئن كان قد اخطأ فله اجر، وان أصاب فله أجران " ( الزمان اللندنية ، 13 / 6/ 2008 ). هنا علّي القول ،بأن المسؤولية لا يتحملها المؤلف عن كتابه ، وما دام كتابه قد طبع من قبل احدى مؤسسات الجامعة ، فان الجامعة تتحمّل مسؤوليتها ايضا عن اي مادة علمية تنشر من خلالها ، كما هو معروف في كل المؤسسات العلمية . كنت أتمنى ان اجد هذه " الموسوعة " أمامي لأرى ما الذي كتبه الدكتور عمر الطالب عن اعلام الموصل في القرن العشرين .
ساعة الرحيل : ومضى وحيدا
بقي الدكتور عمر يداوم ، ولم يغادر الجامعة ، او يرحل عنها ، او يتقاعد منها .. فهي التي تجعله يتصل بمجتمعه وعالمه وتاريخه .. ويبدو انه لم يجد من يعالجه من ازمته القلبية لا في بيته ولا في المستشفى التي امضى فيها اتعس ايامه الاخيرة .. وقد رحل بعد عناء من جلطة قلبية قضت على حياته فرحل من دون وداع .. واسمحوا لي ان اقول لمناسبة هذا الرحيل المحزن ، بأنني اذ اكتب هذه " الفصلة " من الذكريات ، اقف اجلالا واحتراما امام الصديق والاستاذ والمعلم والناقد الدكتور عمر الطالب ، وستبقى ذكراه سارية على المدى ، وسيبقى جهده وأثره بكل اتساعه في مدينة احبها واحزنته ، وجامعة خدمها وخذلته .. متمنيا من كل ابناء الموصل البررة الاعتناء بمثقفيهم مهما اختلفوا معهم ، فلا حياة لمجتمعنا من دون التسامح والمحبة والتماسك .. وان تتفاخر الاجيال الجديدة برموز الموصل القديمة بالرغم من كل ما يحمله جميع الاطراف من مواقف لا ترحم ..
وأخيرا : ما الذي يعلمنا هذا الدرس اياه ؟
ان هذا " الدرس " يعلمنا جميعا كم هي عظيمة نسبية الاشياء ، وكم نحن بحاجة ماسة الى المرونة وكم نحن بحاجة ماسة الى ان نتعامل بالحسنى مع بعضنا الاخر من دون اية حساسيات مفرطة ، ومن دون اية منطلقات سايكلوجية ومواقف مسبقة .. علينا ان نغير ما بانفسنا وان نسامح بعضنا بعضا .. ان كانت هناك تجارب صعبة وخصومات سياسية او فكرية او ايديولوجية قد حدثت في الماضي ، فما الضير ان نقلب الصفحات ونفتح طريقا جديدا لنا في الحياة .. لقد علمتني الحياة العراقية كثيرا بأن لا يصّح في نهاية المطاف الا الصحيح ، وان الانسان لا يمكن ان يمتلك الحقيقة لوحده فقط .. وان كانت هناك ثمة ملاحظات او اختلافات فيمكن ان تعالج موضوعيا بمنتهى الشفافية بعيدا عن اية شخصنة للامور ، ومن دون النيل من ذات الاخر ، ومن دون فرض الامر بالقوة او المقاطعة او التهميش .. وعلينا ان نفتح صفحة جديدة في دراسة تواريخ رجالاتنا ونسوتنا ، وخصوصا المثقفين والمبدعين والتعامل مع كل من كانت له بصمات حقيقية في تاريخ مدينتنا او بلادنا .. علينا ان نستذكرهم جميعا وقد رحلوا رحلة ابدية بكل ما قدمّوه من عطاء ونتاج .. انني اذ اكتب عن استاذنا وصديقنا وزميلنا الدكتور عمر الطالب ، لا يمكنني الا ان اقف كي اقدم له تحيتي الاخيرة مودعا له وناقلا الامانة التي حملها على امتداد حياته الى الاجيال الجديدة ..  رحم الله عمر الطالب رحمة كبيرة ، فلقد حفزنا رحيله المحزن لمثل هذه  الكتابة وهذه الذكريات وهذا التفكير وهّز كلّ هذه الاجراس التي نحن بأمس الحاجة اليها اكثر من اي وقت مضى .
فصلة من كتاب الدكتور سيّار الجميل ، زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
www.sayyaraljamil.com










77
مشروع مدني : حلم ملايين العراقيين !

د. سّيار الجَميل

مقدمة : الوعي بالتغيير
بادئ ذي بدء ، ينبغي القول ، ان ما سأطرحه اليوم باسمي هو خلاصة جملة نقاشات وحوارات مع العديد من الاصدقاء السياسيين والمفكرين العراقيين الذين يحملون هموما وطنية عراقية صرفة ، وهم من شخصيات مستقلة ، يؤمنون بالتفكير المدني ووحدة العراق .. بل ويحلمون بمشروع وطني حضاري للعراق ، ويؤمنون بتحقيقه مهما طال الزمن أو قصر .. انني اعتقد ان الملايين من العراقيين باتوا اليوم ينتظرون مشروعا وطنيا ينقذهم مما آلت اليه أوضاعهم المهترئة، وبعد ان كانوا ينتظرون من لم ينتظرهم .. ان الكثيرين ، بدأوا يؤمنون بحقيقة الاشياء بعد ان وجدوا بأن ما روّج له من شعارات كاذبة ، من كل الاطراف القديمة والجديدة ، كانت مجرد سراب اودى بالعراق الى التهلكة بعد ان غدا جزءا حيويا في الصراع الدولي ومادة مستلبة في حروب وحصارات ولجان تفتيش .. الخ  وان دورة الارهاب لا يمكنها البقاء على امتداد الزمن ، وشعب  شهد الموت بعينه ، فرضى الان بالحّمى .. وكان ولم يزل هناك من أبنائه ، يراهن ، على الصراع ، وعلى النهب ، ومشروع القتل ، وعلى ايهام الناس باسم حزب ديني او عصبة مافيوية او عودة الدكتاتورية ، او شرذمة اقليمية ، او تحالفات ساذجة ، او لعبات  سياسية ، او تحطيم كل شيئ من اجل القوة والسلطة والنفوذ والمال . ان الوعي بالتغيير لا يمكنه ان يأتي بسرعة البرق ، ان لم يسبقه تفكير مستنير ، وجرأة كبيرة ، وادراك متبادل للتناقضات الجديدة . انني ادرك صعوبة حصول ذلك ، ولكن ليس لدينا من خيار او طريق الا اياه . ان المشروع المدني ، ليس شخصا ، ولا دينا ، ولا طائفة ، ولا عرقا ، ولا عشيرة ، ولا حزبا .. حتى ينقسم ابناء العراق معه او ضده . انه مجرد اسلوب عمل مدني لبناء العراق وتوحيد العراقيين وان يبقى كل من يتبناه فوق كل ميوله ومذهبه وعرقه وطائفته ودينه ومؤدلجاته السياسية .. انه مشروع وطني عراقي يتجه الى كل العراقيين من دون اية محاصصات ولا اية تمايزات الا العمل والكفاءة واداء الواجب مع التمتع بكل الحقوق المدنية التي يضمنها الدستور . انني اعتبر كل ما يخالف هذا " النهج " هو دمار للعراق ، ويكفي العراق دمارا منذ خمسين سنة حتى اليوم .

الاسس والمرتكزات
ان العراقيين اليوم ليسوا بحاجة الى اية تبريرات لأقناع انفسهم بضرورة الحياة المدنية ، واعادة النظر بمجمل العملية السياسية ، واعادة كتابة الدستور ، بروح عراقية منبثقة من مبادئ مشروع وطني ، لا غير ، بل أنهم بأمس الحاجة الى مستلزمات عمل أساسية من اجل جعل الحلم حقيقة واختزال الزمن . ان هذا وذاك لا يمكن تحقيقهما من دون عاملين اساسيين في حركة المجتمع : وعي جماهيري بالمشروع الوطني ومبادئه الاساسية أولا ، ثم قيادة عراقية وطنية بعيدة جدا عن كل التمايزات التي تبلورت في السنوات الاخيرة ثانيا . ان الحلم لا يتحقق ان بقيت الامور على حالها ، تنتقل من سيئ الى أسوأ ، أو بقيت الاخطاء تولّد اخطاء ، وبقي المسؤولون والمعارضون معا يتكلمون باسم  " العراق " ويهذون او يهددون وهم من ابعد الناس عن اي مشروع وطني مدني عراقي !  ان التغيير لا يمكن تبلوره من دون اي حراك اعلامي جاد ، ونقد صارم لكل الاخطاء .. ومن دون اعتراف من كل القوى السياسية المشاركة او غير المشاركة في ما يسمى بـ " العملية السياسية " بحجم الاخطاء الكارثية التي وقعت سواء قبل الوجود الامريكي ام من بعده . ان الحلم ليس من الهين تحقيقه من دون ضرورات عمل وطني لا دخل لأي طرف اجنبي او اقليمي فيه  ، ولا يمت بصلة الى كل الشعارات التي راجت ولم تزل رائجة حتى اليوم .. ان على كل القوى السياسية العراقية ان تعي التغيير بضرورة الانتقال من شعارات الماضي الى تكريس مبادئ للحاضر من اجل بناء المستقبل .

حراك جديد
ثمة حراك سياسي وطني من اجل اجراء تحولات اساسية ، ولكنها ليست مصيرية .. ثمة تجمعات وبيانات وتحالفات لقوى عراقية وطنية سواء كانت ليبرالية ام قومية ام يسارية راديكالية تريد التحالف او التآلف ، ولكنها متحفزة فقط  للانتخابات من اجل السلطة ، في اطار مدار العملية السياسية الجارية ، ومن دون اي تجديد في المواقف والخطاب والحركة والاعلام  لانطلاق مشروع وطني عراقي حقيقي .. ثمة سعي واضح لبعض القوى السياسية العراقية من اجل التغيير ، بعد خيبات الامل ، وبعد فشل القوى السياسية والدينية المؤتلفة والمتوافقة والمتحالفة .. وهي الممثلة لما سمي بـ " المكونات العراقية الاساسية " ليس في حكم العراق حسب ، بل في المشاركة ببناء مشروع وطني مدني حقيقي للعراق وارساء مبادئ اساسية للعراق ، وسيرورتهم في تحديد شكل العلاقة بين العراق وكل من المجتمع الدولي اولا ( وعلى رأسه الولايات المتحدة الامريكية ) والمجتمع الاقليمي ( وعلى رأسه كل من ايران وتركيا والعرب ) .

السيرورة الجديدة
اكتب لكم اليوم هذا " الخطاب " ، وثمة ما يدفعني الى ان يكون الجميع يشاركون في المشروع الوطني .. وسواء عمل من اجله هذا الطرف او ذاك ، فليس هدفنا ابدا السعي من اجل الانتخابات القادمة ، الا وسيلة لجعل العراق بيد قوى وشخصيات نظيفة تؤمن بالمؤسسات المدنية ، ولكن يبقى الطموح بالعمل الدؤوب لانقاذ العراق ضرورة تاريخية ، واستعادة الروح العراقية بكل مبادئها وقيمها وأصالتها بعيدا عن كل ما راج من تسميات وتقسيمات وشعارات واصطفافات وتخندقات ومحاصصات  .. نجح في تكريسها الانقساميون . وعليه ، لابد ان يكون على رأس " المشروع الوطني المدني " الطموح ، كل من عرف بكفاءته وتجربته وسمعته ونظافته وتاريخه .. او اعادة المسير من جديد وفق اي سياق مدني يلتزم هوية عراقية ، وعقائدية عراقية ، وكل المبادئ المدنية التي عرفها العراق منذ الاف السنين .
انها لا يمكن ان تخرج عن ستة مبادئ يتفق عليها من يؤمن بالمشروع الوطني المدني ،  ( وهي ستة مبادئ اسوة بكل المشروعات الوطنية المدنية في تجارب شعوب اخرى في التاريخ الحديث ) . ومن الاشياء الاساسية التي ينبغي التنبيه اليها ، تتمثل باخضاع اي تجربة او عملية سياسية في العراق لمبادئ المشروع الوطني ، لا العكس ، اي لا يحق ان يخضع اي مشروع وطني لما يسمى بالعملية السياسية .. فضلا عن جعل المشروع الوطني فوق الجميع ، اذ لا يمكنه ان يخضع ايضا لارادة أي قوة سياسية او دينية او قومية او اقليمية .. وهنا ، ينبغي ان يعاد النظر في الدستور العراقي وفق مبادئ مدنية المشروع الوطني ، لا تبعا لاهواء ونزوعات اية قوى سياسية معينة ، او حسب رغبات ايديولوجية مرحلية ، او وفق مصالح انقسامية لهذا الطرف او ذاك.
ان اي مشروع وطني مدني متحضر لا يمكن استيعابه من دون الوعي به فكريا واعلاميا .. انه بوابة مفتوحة للجميع في ان يثريه المستنيرون بالمزيد من الافكار والتطلعات .. اذ لا يمكنه ان يتحقق من دون اي فعل سياسي مؤثر ، او حراك اعلامي فعّال ، وان يدخل التفكير المدني من خلاله الى كل بيوت العراقيين وان يخاطبهم من كل من يصلح لقيادة " المشروع " بدل اية قنوات اخرى ، خصوصا وان العراقيين يقبلون اليوم لخوض تجربة جديدة من الانتخابات القادمة التي تعد مرحلة اخرى من مراحل التغيير ، فبدل ان تكون نحو الاسوأ على ايدي اشخاص عرفهم الناس ، لابد ان يسعى كل المدنيين الى جعل العراق يمضي نحو الاحسن . وعليه ، اقترح على الشعب العراقي كله ، وعلى القوى المدنية الوطنية خصوصا ، مقترحاتي أدناه :

مقترحات ركائز جديدة
نظرا لضرورة العراق التاريخية الى " مشروع وطني " حقيقي تلتف حوله الجماهير على تراب الوطن او في الشتات ، فأنني  أقدّم اليكم المقترحات التالية ، وان يجعل كل عراقي حقيقي من نفسه  جنديا مجهولا ليس للسعي وراء منفعة شخصية او مادية او سياسية ، بل للعمل ضمن مبادئ عراقية ، والقيام بدور سياسي واعلامي للتنسيق من اجل استعادة العراق هويته الوطنية ، وارجاع كرامته التاريخية ، والنضال من اجل وحدة ترابه ضد كل الغزاة الدوليين ، والطامعين الاقليميين ، والانقساميين الداخليين .. فضلا عن العمل من اجل حياة سياسية مدنية يكون الاكفأ والاذكى والانظف على رأس قيادتها .. ونحن نواجه المتغيرات القادمة. وعليه ، وانا اطرح مقترحاتي بتجرد وتواضع ، اقول بالسعي والتحرك منذ هذه اللحظة باتجاه كل العراقيين اينما وجدوا ، راجيا التأمل في مقترحاتي التالية :
1.   لائحة مبادئ
العمل على اصدار لائحة المشروع الوطني المدني التي تتضمن ستة مبادئ أساسية  ( كنت ولم ازل انادي بها منذ العام 2003 من اجل انقاذ العراق ووضعه على طريق المستقبل ) . وهي " مبادئ " مدنية لا يمكن النهوض بأي مشروع وطني من دونها ، وهي كتلك التي رسمها كل المؤسسين الاوائل للدول والكيانات الوطنية في العالم ، وبالامكان اقتراح المبادئ التالية للمشروع الوطني العراقي ( وبالامكان التعديل والتغيير ضمن السياقات نفسها ) :
1) العقائدية  العراقية ( مع احترام كل الانتماءات الدينية والاثنية ضمن الهوية العراقية ).
2) الدولة المدنية  ( ضمن دستور مدني يفصل نظام الحكم عن تباينات المجتمع وتناقضاته ).
3) الديمقراطية الاستقلالية ( عن اية ارتباطات ايديولوجية وخارجية غير وطنية ) .
4) التنمية والتحديث ( انطلاق ثورة في الاعمار والتربية والخدمات والاستثمارات والثقافة ) .
5) الامن والسلام ( فرضهما في الداخل والاقليم والخارج بسيادة الدولة بلا اي مليشيات)  .
6) الاتحادية اللامركزية ( لكردستان العراق فقط ) .
( وليسمح لي القارئ الكريم ان اشرح هذه " المبادئ " في مقال آخر خشية الاطالة الان ) .

2.   استراتجية عراقية جديدة
العمل على ان تتبنى كل القوى المدنية العراقية استراتيجية جديدة للعراق بعيدا عن كل الرواسب المؤلمة والخطايا التاريخية .. استراتيجية تحتضن المشروع المدني ( في الداخل  والخارج معا )  ، وتأسيس هيئة رقابة وطنية مستقلة ، وطاقم عمل من اجل اثراء المبادئ والترويج لها اعلاميا لترسيخ الوعي العراقي بها ، وعلى التأهيل قياديا ونخبويا  وجماهيريا  .. وربما كانت لهذا " الطاقم " ارتباطات وفروع في كل انحاء العالم . والقيام باصدار ادبيات المشروع المدني. انه من المفروض ، تبّني استراتيجية المشروع المدني ، ووضع الخطط والافكار ، ورسم الاستراتيجية الجديدة لعراق القرن الواحد والعشرين ، بعيدا عن كل ما تبنّاه العراقيون من افكار وشعارات ومؤدلجات ابان النصف الثاني من القرن العشرين . ان من الضرورة ان تعرض استراتيجية المشروع المدني ، وتناقش كلها اعلاميا : تلفزيونيا وصحفيا . لقد شاركنا بأكثر من نداء منذ عام 2003 ، ومنها ولد ـ مثلا ـ ائتلاف ( مدنيون ) في العراق ، وبنجاح وهو يضم شيوعيين وقوميين وليبراليين وانطلق مؤخرا كواحد من المشروعات المهمة على الساحة اليوم.

3.   وثيقة مؤتمر وطني عام
لا يمكن لأي تجربة تأسيسية ان تمضي بنجاح من دون عقد مؤتمر وطني . ان العمل على عقده لابد ان ينفتح على الجميع والخروج منه بتوصيات تخص مشروعنا الوطني الذي يؤكد على مبدأ " العراقية اولا واخيرا " ، وقبل اي انتماء آخر ، وعلى ضوء المصالح العراقية العليا .. ونشر التوصيات على العالم اولا ، وتّسلم الى الولايات المتحدة الامريكية ثانيا ، والامم المتحدة ثالثا ، وبقية المنظمات الدولية والاسلامية والعربية رابعا . شريطة ان تكون " وثيقة عراقية " لبناء مرحلة تاريخية . وان يجمع هذا " المؤتمر " كل الاطياف الوطنية العراقية ليس لأخذ موافقتها على المبادئ الستة ، بل للاعلان عن هذا " المشروع " من خلال أي مؤتمر وطني . وينبغي ان تحدد الوثيقة اسلوب سيرورة العمل السياسي كل خمس سنوات ، فضلا عن اشراف دولي محكم على الانتخابات العراقية كلها .

4.   الوعي المدني : ضرورة جماهيرية
على الرغم من انتشار العشرات من الصحف ، والقنوات الفضائية العراقية التي تعبّر كل واحدة منها عن طرف من الاطراف ( السياسية ) .. ومع غياب قناة فضائية عراقية تتبنى مشروعنا الوطني ، ينبغي تأسيس محطة ارسال فضائية عراقية قوية ( وهو اهم هدف ميداني لتسويق المشروع المدني ) تكون على درجة كبيرة من النضج السياسي  والاحتراف الاعلامي ، وتخصص برامجها  الاخبارية والسياسية والفكرية والاجتماعية .. لصالح المشروع المدني وتكريس الهوية الوطنية ، والوعي بالاستنارة ، وتقديس المال العام ،  وممارسة الحوار الوطني ، ونقد الاخطاء ، وتعرية التجاوزات ، ومناقشة كل المشروعات الانمائية والمستقبلية والاصلاحية والتأسيسية من قبل عراقيين اكفاء .. وحبذا لو ارتبط كل من طاقم استراتيجية المشروع بكل الاجهزة الاعلامية . انني اريد من انطلاق محطة فضائية باسم المشروع العراقي دخول المشروع الوطني المدني  الى كل بيت عراقي وكل مكان يتواجد فيه عراقيون في هذا العالم الفسيح .


5.   تجديد الخطاب السياسي
الانفتاح على العراقيين من خلال خطاب جديد ، وفلسفة جديدة ، وصياغة جديدة للفكر والحياة مع البقاء على الاسس والثوابت الوطنية التي ترّبى عليها كل العراقيين بمعزل عن كل الانتماءات الاخرى الواجب احترامها في المجتمع شريطة ان لا تدخل في رسم سياسة الدولة مع العمل على الغاء كل مظاهر التسلح والميليشيات واستعراضات القوة مع سيادة القانون .. انني ادرك ان اسلوب المحاصصات والتشظيات والانقسامات لا يمكن معالجته بهذه السهولة ، ولكن اي محاولة للتجديد خلاف ما يجري في الواقع ، سينتشل الاجيال الجديدة من أتون كل الانقسامات ، وهذا نفسه بحاجة الى استراتيجية من نوع جديد ، وهندسة من نوع جديد لتشكيل ارادة شعبية وطنية وبطروحات تعلن عن اخفاق العملية السياسية ، واعلان كل ما يدور بين العراقيين والامريكيين على الشعب العراقي من محاورات ومفاوضات ومجادلات ومكاتبات وسحب البساط من تحت ارجل كل القوى التي لعبت على أوتار الطائفية والانقسامية والتبعية .

المستلزمات الاخرى وفلسفة الرؤية
ان المشروع الوطني بحاجة ماسة الى الاستقلالية السياسية من اجل اي مقاربة وطنية ، فهذه " الاخيرة " لا يمكن ان يحتكرها أحد من العراقيين ، بل انها من حق اي عراقي يؤمن بالعراق المدني الحضاري الموّحد لا بأي عراق من نوع آخر. لقد أثبتت التجربة التاريخية انه بقدر ما يحتاج العراق الى ابنائه جميعا ، فهم كلهم من دون استثناء بحاجة اليه ، فهو أقوى منهم بكثير ، وهو الذي استعصى على التقسيم والتشرذم والاخرين اكثر منهم كلهم بلا استثناء ! ان المشروع الوطني تتقّدم فيه المرجعية العراقية المدنية بكل ممارساتها بعيدا عن كل اية انتماءات انقسامية : دينية طائفية ، أو جهوية عشائرية ، او فئوية شوفينية ، او جماعات ارهابية او اية ارتباطات خارجية .. كالتي اوصلت البلاد الى هذا المآل . ان المشروع الوطني يطالب كل القوى السياسية العراقية الحالية بأن تعيد النظر برؤيتها ازاء العراق ، وبكل انظمة احزابها الداخلية التي كانت قد كتبت انشائياتها عبر عشرات السنين التي مضت .. انه يطالب الجميع بالعمل على ان يكونوا مع العراق المدني لا مع اي عراق آخر .. ان المشروع الوطني ما دام يعلن عن مستلزماته المدنية ، فالمطلوب من كل الاحزاب الدينية والطائفية والقومية والاقلياتية ان تؤمن بأن الديمقراطية لا تستقيم الا من خلال ممارسة مدنية بعيدا عن اية وصايات ، وان المؤسسات لا يمكن تأسيسها او تطويرها الا من خلال الفصل بين السلطات ، وان السيادة لا تترسخ الا بالقانون المدني ، وان الانتخابات لا تتم الا على اسس مناطقية وبترشيحات شخصية غير حزبية ، وان الحياة لا يمكن اصلاحها الا بدستور مدني يحدد حقوق وواجبات الجميع بلا اية تمايزات وبلا اية محاصصات .. وعلى الجميع من القوى وانصار هذا التيار او هذا الحزب او ذاك النظام .. ان يعيدوا التفكير ويعترفوا بالاخطاء .. من اجل بدايات جديدة ، فالعراق لا يستقر الا وهو بمشروع وطني بعيد عن اية تحالفات سياسية .. وعلى كل العراقيين دعم اي تيار سياسي مدني يثبت رقيّه الحضاري وارتباطه بالعراق اولا .

سيحيا العراق كالعنقاء من جديد ؟
واخيرا ، ان كان هذا " الحلم " ، يغاير الواقع ، فما علينا الا مجابهة هذا " الواقع " المزري ، والثورة عليه .. علينا ان نطالب بكلّ ما هو كبير ، كي نحقق ما هو ممكن . علينا ان لا نخنع بهذا الواقع وان لا نستكين له ونزرع حدود المستحيل .. علينا ان نحلم دوما بالتقدم نحو الامام ، وان يبقى هذا " الحلم " الجميل يلازمنا دوما . صحيح ان اغلب الناس قد افتقدت آمالها بعد انسحاق العراق ، ولكن ثمة بصيص لابد من ان يغدو شعلة متوهجة في قابل .. وثمة نبض لم يزل يتحرك هنا او هناك لابد ان يخفق في كل مكان .. وليبقى " الحلم " يلازم كل العراقيين انهم ابناء بلاد تخفت المهجة فيها ولكنها فجأة تحيا وتقوم كالعنقاء منذ الاف السنين .

www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 4 يوليو 2008 .
ملاحظة : يرجى في حالة اعادة النشر ، ذكر المصدر ايلاف . مع التقدير .

78
مَن يُنقِذُهُنّ مِن أيدِي البَرابِرة الجُددْ ؟

د. سيّار الجَميل


" اعتقال امرأة عراقية واحدة يعطي مبررا كبيرا
 لولادة ألف مسلح انتقاما لشرفه وكرامته".     
ـ احدى الدراسات الميدانية ـ

ثمة معلومات وحقائق لا نسمعها الا نادرا ، وكثيرا ما نجهل الصورة الحقيقية التي تختفي ، ولم نقف الا على الوجه اللامع من الاحداث .. ان الاعلام في مجتمعاتنا مقّصر كثيرا في الكشف عن الحقائق التي لا يريد البعض اظهارها سواء في المجتمع ام الدولة كونها لا تخدمه ابدا . ان نصف المجتمع ينسحق يوما بعد يوم منذ ازمان ، ودفعت المرأة العراقية أثمانا صعبة جّراء متغيرات الحياة المتباينة ، وبشكل لا يمكن تخيله . اتمنى على كل العالم ان يلتفت قليلا ويعالج هذا " الموضوع " للتخفيف من معاناتها وشقائها الذي لا يوصف وحجم المأساة التي تزداد يوما بعد آخر مقارنة بغيرها من نسوة العالم . 
لقد عرفت المرأة العراقية في القرن العشرين بطيبتها وقدراتها وشهامتها وكرامتها وتمتعها بقسط من حقوقها وحرياتها ، كما كان لها دورها في صنع الحياة وتربية الرجال فضلا عن بروز نسوة رائعات منتجات ومبدعات في معظم المرافق الخدمية والمهنية والاكاديمية والثقافية والعامة ومساهمتها في اثراء حياة الدولة والمجتمع معا .. ولقد بدأت انتكاسات المرأة العراقية تترى ، منذ اجتياحات الحروب والحصارات والاحكام الدكتاتورية الجائرة وصولا الى هجمة الغزو وحكم الميليشيات والقوى الطائفية المتخلفة .. انها اليوم تناضل وتسحق وتختطف وتذبح او تحرق او تسمّم وتسجن وتهّجر وترّمل وتضطهد او تنتحر .. انها تجابه كل المصائب المرعبة بارادة حديدية لا تقهر في دواخل المجتمع الذي يسيطر عليه البرابرة الجدد ! ازاء دولة ضعيفة ومحتل غاشم . ان حرائر العراق يعانين من البؤس والشقاء والحرمان دون ان يلتفت العالم كله اليهن ابدا .. بل ويسود الخوف ويسيطر الرعب على مشاعرهن ، وهن يواجهن الموت في بيوت بائسة وكئيبة ، او في شوارع الموت الملتهبة .
المرأة العراقية تواجه العنف والسادية والهمجية في مجتمع يمتلئ بالمفترسين والمتعصبين والاشقياء والارهابيين.. ويمتلئ بعصابات القتلة وجماعات المسلحين .. ويمتلئ بالمجرمين والمنحرفين والمكبوتين الآثمين الذين لا يعرف أحد من اين يأتون .. انه مجتمع ، لا يمكن للانسان ان يعّبر فيه عن رأي ، او ان يدافع فيه عن حق ، او يطرح فكر انسان حر ، او ان تمارس الاقليات الدينية خصوصا حقوقها التي تتضمن عاداتها واعرافها .. في مجتمع امتلأ بالمافيات وفرق الموت المسلحة .. في مجتمع يزداد فيه قتل النساء ونحر النساء وانتحار النساء .. الخ
ان الكل مشارك باضطهادها بدءا بالسلطات وانتهاء بالمافيات ووصولا الى قوات الاحتلال .. لقد شارك زعماء احزاب ومسؤولون ووزراء بقهر حتى الصبيات الصغيرات ، او طالبات الجامعات . ويظهر الواقع قصصا اشبه بالخيال عن نسوة لهن قابلية على الصمود والتحمل والتحدّي يثير الاعجاب حقا .. بل وان تقريرا وصلني قبل يومين من قبل القاضية القديرة زكية اسماعيل حقي وهي تتحدث فيه عن لقائها بـ 12 من العراقيات يقرن منذ شهور في معتقل  كروبر  الذي تشرف عليه القوات الامريكية  دون اي تحقيق ، وكلهن قد اعتقلن لوشايات شخصية واسباب تافهة ، ولا تعرف المتزوجات منهن مصير ازواجهن او اطفالهن ويخشى عليهن ومعهن العذراوات من القتل بأيدي اهلهن بعد اطلاق سراحهن ، لأن اعتقال المرأة لا يغتفر في الاعراف العشائرية .. وافجع مأساة شهدتها القاضية لشابة بدوية مقطوعة الساق من الاعلى اعتقلت بعد ان قصفت الخيمة التي تعيش فيها بمعية اهلها ، فبترت اطراف اختها وتشرد اهلها وسحبت هي لتعتقل مع اوصالها ودمائها ! ومع كل هذا ، فهن يصرحن بأن معاملتهن اهون بكثير مما لو كّن في سجن عراقي ! لقد تكيّفت العراقيات منذ ثلاثين سنة على التحديات ، وكن ينتظرن دفن الماضي وبناء المستقبل ، ولكن وجدن انفسهم اليوم محاصرات بقوى الظلام المختلفة التي وجدت فرصتها على العهد الامريكي .
ان تقرير بعثة الامم المتحدة لدعم العراق عام 2007 ، وشهادات لعراقيات كافية لتعلمنا ما حّل بالمعتقلات اللواتي لا يحصى عددهن .. لقد بدأ قتل النساء جماعيا وعلنا في شوارع البصرة ، ثم زحف نحو الشمال حتى الموصل ، فقد ذكرت إحصائية لوزارة حقوق الإنسان إلى تعرض(501) امرأة إلى عمليات اضطهاد,   وتعرضت(1108) امرأة في السليمانية عام 2005 إلى عمليات قتل وحرق وخطف.وأقدمت (533) امرأة عام 2004على الانتحار و(289) امرأة عام 2005 و(533) امرأة عام 2006  . ولقد كثرت جرائم الشرف لأسباب تافهة لا يمكن تخيلها ، يقول احد التقارير بأن مئات النساء تقتل كل عام في العراق، يحرقن او يرجمن ، أو يتم تسميمهن، أو يذبحن، أو يتم تقطيعهن ارباً اربا بالسكاكين ، لأسباب دينية او اجتماعية .. وكثيرا ما تساق النسوة مع اطفالهن او بدونهم الى المعتقلات رهائن للفارين من ازواجهن او اخوانهن او آبائهن .. وكثيرا ما تغدو النساء سلع ابتزاز في الخطف والاعتقال والقتل ..
ان المجتمع العراقي لم يكن بهذا التوحش قبل خمسين سنة ، ولكن مخاض الاوضاع المرعبة التي مرّ بها جعلته يعيش هذه الفوضى الخلاقة التي خلقها الامريكيون بسياساتهم العقيمة .. انني اناشد الضمير العالمي والاسلامي والعربي ان يقف وقفة مشّرفة ازاء المرأة العراقية المضطهدة منذ سنين .. واناشد كل العراقيين الشرفاء ان يجتمعوا على مشروع وطني مدني متحضر ينقذ العراق من اوضاعه المأساوية ، ويخلّصه من همجية هذه القوى البدائية ومن كل البرابرة الجدد !
البيان الاماراتية ، 2 يوليو 2008
www.sayyaraljamil.com


79




عُمَر الطالبْ : شخصّية غير عادية !
د. سيّار الجَميل
القسم الاول :
محاولة مقاربة لفهم أستاذ متغاير !!
مقدمة لابد منها
كما رحلت الطيور في مواسمها الخريفية ، وطارت اللقالق من اعشاش القباب الموصلية ، رحل استاذنا وصديقنا وزميلنا الدكتور عمر الطالب رحلة أبدية لن تعود .. رحل وهو في وحدته كالتي تعّود عليها وأحبها في حياته .. رحل وهو يصارع المرض على فراشه في مدينته الموصل التي احبها حّبا جما في عزّ ايامها السالفة ، وفي وحشتها القاتلة اليوم .. رحل ذلك المثقف المتمّيز المتغاير الذي لم يحبّ شيئا في حياته مثل حبه للكتاب ، وعشقه للادب ، وانغماره بالقصّ ونقده ، وولعه بالمسرح وتاريخه ، وانجذابه للسينما ومفرداتها .. رحل ذلك الانسان الذي كانت له فلسفته الخاصة في الحياة ، ولم يكن يهمه الاخر بقدر ما تهمه شخصيته وافكاره وتقلباته .. رحل الاستاذ المحاضر الذي تربّت عدة اجيال على يديه ، ويعترف الجميع بمقدرته الرائعة في فن الالقاء والمحادثة والمشافهة والتدريس والمجادلة .. كان استاذا محاضرا لا يبارى ينجذب اليه السامع انجذابا ، ولا يمّل ابدا الاستماع اليه والى تصويراته الجميلة وتعليقاته الساخرة وسرعة بديهيته .. رحل من كان يصّور الاشياء على حقيقتها بلا اية رتوش ، ويسترسل في التشبيهات والمقارنات لاكمال الصورة مهما كانت من القوة وثقل الكلمات .. رحل من كانت له تعابيره الخاصة ونقداته الشفوية اللاذعة ..
لقد عرفته مدينة الموصل استاذا حاذقا له مهارته وشهرته سواء في الثانوية المركزية ام في ردهات الجامعة . لقد رحل الاستاذ الدكتور عمر الطالب في المستشفى وحيدا ، كئيبا ، وهو يعاني من الالم والظلمة الا من ضوء شموع بيضاء تحترق .. رحل وهو وحيد من دون زوج ولا ام ولا ولد ولا اي صديق او رفيق درب ! رحل هذا الرجل الاستثناء المغاير بلا وداع للكثيرين الذين عرفوه وأحبوه في القرن العشرين ، فمنهم من مات او قتل ، ومنهم من هاجر وارتحل ، ومنهم من بقي ملازما بيته خوف جحيم الدم والانفجار والقتل .. رحل وهو أحد الذين ساهموا في تأسيس جامعة الموصل .. وقد قرأت قبل قليل في موقع ( عراقيون ) ما كتبه قريبه الصديق الاستاذ بسام أدريس الجلبي في مقال له بعنوان ( جامعة الموصل .. تأكل شيوخها ) مضمنا اياه عتابه الشديد وهو ينتقد الجامعة التي لم تحفل أبدا برحيل الاستاذ عمر الطالب ومن قبله باربعة اسابيع رحيل الاستاذ عبد المنعم رشاد .. وهذه مشكلة البعض من ابناء مدينة الموصل يا عزيزي بسام ، ان بعضهم يأكل بعضهم الاخر حيا او ميتا .. انهم ينطلقون من زوايا شخصية وتافهة في تقييم الناس .. ان رجلا خدم الحياة الادبية والفكرية والاكاديمية علينا ان نكرمّه ونحترمه بغضّ النظر عن موقفه او اسلوبه او اجتهاده .. وبغّض النظر عن طبيعة علاقتنا به ، ومهما كانت شخصيته واسلوبه مخالفة في الحياة ومهما كان يحمل من افكار سياسية او فلسفية متنوعة قد لا تجاري كل الانغلاقات .. ان مدينتنا العزيزة يا ابناء الموصل تمر اليوم بمرحلة صعبة وشديدة وهي على مفترق طرق في التاريخ ، فينبغي على ابنائها ان يتناسوا كل عنعناتهم ومواقفهم وسفسطاتهم وأقاويلهم .. ويبلوا بلاء حسنا في المودة والوفاء والاحسان في ما بينهم جميعا من دون استثناء استعدادا للقادم من الزمن الصعب .
ماذا اقول عن عمر الطالب ؟
رحل الاستاذ عمر الطالب يوم 21 مايس / أيار 2008 ، وهو يعاني من مرض لم يسعفه فيه أحد . ولقد تألمت جدا على رحيله ، بل وقد احزنني الحدث ليس لمعرفتي القوية به منذ قرابة اربعين سنة ، بل لأن لي اقوى تاريخ ادبي وجدالي حيوي مباشر ومواقف نقدية ساخنة معه بالذات .. تلك التي يعلمها من عايشها من الاصدقاء والاساتذة في العام 1970 – 1971 بجامعة الموصل ، وساختصر على اهمها  في القسم الثاني من هذا المقال نظرا لاهميتها ووفاء مني للرجل ، ولكي احكي للناس بهذه المناسبة قصة افتراق محزن بين طالب مثلي في الصف الاول من الكلية ، لم يكن يتجاوز عمره 18 سنة  وبين استاذ مثل عمر الطالب وكان قد تجاوز عمره الاربعين سنة .  كيف افترقنا والخصومة شديدة بيننا وكيف عدنا وغدونا نحمل اسمى صداقة وروعة ذكرى ؟ انها رجعة التقاء رائع بين زميلين يعرف احدهما الاخر ، بل ان ما يسّر حقا تحّول ذلك الافتراق والخصام الى عرى صداقة بين مثقفين اثنين تبادلنا التفكير ، والذكريات ، واحاديث الادب ، وتناقضات المجتمع ، وقيمة الشخوص ، وفلسفة الحياة والمرأة ،وجماليات السينما . كّنا قد تبادلنا القسوة ، فلقد تصافينا بعد طول غياب . ولقد اكبرت فيه تلك الروح الوقادّة التي لازمته في اكثر لقاءاتنا ، خصوصا عندما كان سكناي بالموصل قريبا من سكناه .. وطوال السنوات الاخيرة وانا بعيد عن العراق ، كم كنت في شوق لرؤيته حتى الايام الاخيرة من حياته .
 وأنني اذ اكتب عن الرجل وقد رحل اليوم رحلته النهائية ، لا ادري ابدا ما سر الضجة التي اثيرت ضده في الموصل وضد الذي كتبه في موسوعة اعلام الموصل التي اصدرها قبيل وفاته .. وسواء ذكر فلان او لم يذكر علان ، فتاريخ الثقافة لا يمكن ان يحتكره كتاب واحد او مرجع واحد .. فالمؤلف حرّ في ما يكتب او ينشر .. ان الانطباع الذي كان يحمله عّن الاخرين في مجتمع تتفاقم فيه التناقضات وتكاد تنعدم منه التوازنات وقد كبلته في السنوات الاخيرة كل الانغلاقات لا يمكن ان تحجب الرؤية عن رجل مثقف قدّم الكثير ، وسواء اصاب ام اخطأ .. فان ذلك لا يهمني ابدا ، اذ لابد ان يقف الجميع وقفة واحدة موحّدة ازاء هذا الرجل الراحل وازاء كل رجالنا ومبدعينا وكّتابنا وصحافيينا ومفكرينا في حياتهم او بعد رحيلهم.. وعلينا نحن ابناء هذه " المدينة " العظيمة ان نكون اصفياء وانقياء وصرحاء وكرماء مع بعضنا بعضا .. وان نفخر برجالاتنا ونسوتنا الذين ولدوا وعاشوا او هاجروا ورحلوا على امتداد القرن العشرين بدل النيل منهم وتهميشهم وتناسي افضالهم ليس على المدينة ، بل في تاريخ البلاد كلها !
علينا ان نحتفي برموزنا وشخصياتنا مهما كانت اتجاهاتهم وافكارهم ودياناتهم وفلسفاتهم في الحياة ! علينا ان نعرف كم انجبت هذه " المدينة " من ادباء وعلماء ومبدعين وسياسيين وصحافيين وقضاة ونقاد وفنانين وتشكيليين ورجال دولة واكاديميين وفقهاء وزعماء دينيين .. بغض النظر عن تباين المواقف الفكرية واختلاف المنابت الاجتماعية والانتماءات المحلية وصراع النزعات الايديولوجية والسياسية . لقد التحق عمر الطالب بقوافل الراحلين الذين سبقوه من رموز النهضة في مدينة الموصل .. فهل ستوفي الاجيال الجديدة حقوق من مضى ورحل ؟ ام سيناله التناسي والنسيان كما نال الغير من قبله من تجاهل ونسيان ، اولئك الذين خدموا وبرزوا كّل من موقعه في القرنين السابقين التاسع عشر والعشرين ؟
نبذة عن حياته
ولد عمر محمد الطالب في عائلة موصلية معروفة تدعى بالطوالب الذين سكنوا مع طولاتهم وخيولهم في شمال المدينة القديمة ، وذلك في العام 1930 ( برواية المرحومة السيدة أم فلك ، صفّية الطالب زوجة خاله المرحوم نوح الجلبي ) ، وكان والده يعمل بتجارة الخيول كعادة ابناء عائلته ، وقد افتقد عمر والده منذ طفولته ، وكان وحيد امه ، فكان مدللّها وتخشى عليه كثيرا فغدت بالنسبة له ابا واما وصديقا ، وعاش منذ طفولته في منطقة الطوالب ، ولكنه كان يحيا العزلة منذ طفولته ، وكان يميل الى آل أمه من بيت الجلبي ، وهي اسرة معروفة وقديمة كان احد ابرز رجالاتها الدكتور الطبيب الشهير داود الجلبي ، وهو مؤلف ومؤرخ ومحقق واحد اعضاء مجلس الاعيان وكان صاحب اشهر مكتبة شخصية في المدينة .. لقد عاش عمر الطالب برعاية خاله الراحل نوح الجلبي الذي وقف الى جانب اخته في محنتها .. انهى عمر دراسته بتفوق في مدارس الموصل ، ثم اكمل دراسته في دار المعلمين العالية ببغداد ، وانتسب ايضا الى كلية الحقوق ليدرس فيها بالمراسلة فيؤدي امتحاناته بين هذه وتلك ، كما كان قد حدثّني .. ونال في العام 1953 شهادة الدار في اللغة العربية وآدابها ، ثم الحق بها شهادة في الحقوق ، لكنه لم يمارس القانون ابدا ، اذ كان يعشق التدريس عشقا كبيرا .. بل وبقي اعزبا طوال حياته ، اذ ظّل وحيدا بعد وفاة امه وخاله نوح ، ولكن داره بقيت ملاصقة لدار خاله حتى الان .. والكائنة في شارع جامع الشبخون بمنطقة الدواسة الجنوبية.
بعد حصوله على الباكالوريوس ، عمل في التدريس في الثانوية المركزية بالموصل طوال الخمسينيات وبّز بقية زملائه منذ بداياته باسلوبه في التعليم وفن القائه وروعة تعابيره .. ذهب الى مصر لاكمال دراسته العليا ، فحصل على شهادة الماجستير وشهادة الدكتوراه في كلية الاداب بجامعة عين شمس عام 1967 ، وعاد ليشارك بتأسيس هيئة علوم الانسانيات بجامعة الموصل في العام نفسه ، وهي الهيئة التي تحّولت بعد ذلك الى كلية الاداب التي وقف على رأس عمادتها استاذنا الدكتور عبد المنعم رشاد ـ رحمه الله ـ ، وبقي الاستاذ الطالب رئيسا لقسم اللغة العربية حتى اقصائه من منصبه في العام الدراسي 1970 – 1971 بسبب الضجة التي أثارها ضده الاستاذ الدكتور عبد الاله احمد ـ رحمه الله ـ من جامعة بغداد متهما الدكتور عمر بالتجاوز على اطروحته للماجستير ، وعبثا حاول عمر الطالب الدفاع عن نفسه ، اذ صدر قرار بتخفيض درجته العلمية من استاذ مساعد الى مدرس وتجميد حصوله على الاستاذية ، وكانت تلك صدمة قّضت مضجعه طويلا ، وتحّملها بشجاعة كبيرة .. اذ لم تعّدل درجته العلمية الا في الثمانينيات ، كما سمعت ، لينال الاستاذية بعدئذ . نّصب بعد ذلك رئيسا لقسم اللغة العربية في كلية التربية ، ولكنه انتدب للتدريس في كلية الاداب بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء في المغرب عند تأسيسها  ولاربع سنوات بين 1984- 1988 ، وكنت قد التقيت به لأكثر من مرة في الرباط والدار البيضاء بالمغرب  عندما كنت استاذا محاضرا في كل من جامعة وهران بالجزائر وكلية آداب منوبة بالجامعة التونسية بين 1982- 1986 .. وهناك زال الجفاء الذي كان بيننا ، وغدونا من اعز الاصدقاء .
محاولة للتغلغل في شخصيته
قضي الاستاذ عمر الطالب في التدريس بمدينة الموصل اكثر من نصف قرن بحيث مرّت عليه قوافل متنوعة من التلاميذ والطلبة ، وخبر المجتمع خبرة العارف ، وقد عرفه الجميع بمقدرته العليا في التربية والتعليم ، ولم يقتصر درسه على الادب العربي والنقد الادبي الحديثين ، بل يذكر انه دّرس الاقتصاد عندما كانت الحاجة ماسة الى مدرس له في الثانوية التي كان مدرّسا فيها قبل انتقاله الى الجامعة ، فنجح في ذلك بشهادة كل طلبته القدماء.. وفي الجامعة التي خدمها طويلا ، كان يواظب على الدوام منذ الصباح الباكر حتى لما بعد الظهر ، وترأس قسم اللغة العربية في كلية الاداب لأكثر من مرة. 
كان الراحل الاستاذ عمر يعشق الوحدة والتأمل ، يمشي طويلا لوحده رفقة كتابه ، يقرأ لوحده ، يكتب لوحده ، يأكل لوحده .. يتنزه لوحده ، ويعتني بشعر رأسه وتسريحته الغريبة لوحده ..  يذهب للسينما لوحده ولكن له اصدقاء قلائل يعودونه دوما دون ان يعود احدا ..  كانت الوحدة بالنسبة اليه شيئا رائعا ، ولكن بنفس الوقت لم يكن يحب ان يبقى معزولا من الاخرين .. كان يعشق الاخرين عندما يهتمون به وخصوصا اولئك الادباء الشباب الذين يرى فيهم مستقبلا وضيئا ، اذ كان يتردد عليه العديد من الادباء والشعراء الشباب يجلسون عنده ، ويستمعون اليه ، وليس لأحدهم اللغة والتجربة والاداة لمجادلته ، فقد كان مجادلا لا يبارى  .. قلت له يوما : الا تعتقد ان شخصيتك فيها اي نوع من الغرابة ؟ قال : بل قل كل الغرابة يا سيّار ، وهذا ما يميزني في مثل هذا المجتمع .. انني لست كبقية الناس ! وكثيرا ما حدّثني عنه اعز اصدقائه عمّي الاستاذ طالب علي الجميل خريج الفلسفة بجدارة وكان رفيق صباه وزميل دراسة له ببغداد وشريكا له في التطلع والحداثة والمسرح .. ان عمرا كان يريد ان يرتفع عن زيف المجتمع واكاذيبه وتناقضاته ! كانت له رؤيته الخاصة للحياة والمرأة والانسان والثقافة .. كانت له القدرة لو عاش في مجتمع منفتح وحر ان يعّري الاشياء تماما عن اصدائها ، ويفصح تماما عن تناقضات الحياة بالرغم من حمله لبعضها عن قناعة تامة ، اذا وجد من يرتاح له يذهب بعيدا جدا في توصيفاته الساخرة حتى وان كانت بلغة منفتحة بلا اية حدود ..
 ولم يكن لاستاذنا الراحل اي انتماء سياسي محدد في مدينته او على مستوى بلده وكانت قد راجت على امتداد زمنه ، وخصوصا في مدينته الموصل : الشيوعية والراديكالية واقصى اليسار في الصراع ضد القومية واقصى الناصرية والبعث واقصى اليمين .. لكنه كان يؤمن بالتقدمية والحداثة كما كنت اعرفه ، وقد قرأت في يوم من الايام مقالة مطوّلة له عن الواقعية الاشتراكية في الادب .. ثم قرأت له مقالة من نوع آخر في الفكر القومي واصالته ، ولا ادري ان ذهب مع الذاهبين مؤخرا حول الادب الاسلامي واشكالياته . انني ومن موقع معرفتي بالرجل ، اشك جدا في حقيقة ذهابه هنا او هناك كونه صاحب كتلة واضحة من المشاعر والاحاسيس والانفعالات التي لا تستقيم والقوالب الجامدة ، وهنا حاول البقاء مستقلا ، يحاول التحرر ولم يستطع ، ويصارع التخلف ولم ينتصر .. دعوني اقول بأن عمرا هو الناقد اكثر من المبدع .. وانه المحاضر اكثر من الباحث ، وانه الفنان اكثر من المؤلف ، وانه المحدّث اللبق اكثر من المحقق المدقق  .. وانه الرجل الذي كان يريد الحرية والانطلاق ، ولكنه بقي رهين المحبسين : بيئته وتربيته .. وهذا هو سر وحدته وسر شخصيته التي لم يرأف بها احد طوال حياته ، وحتى بعد مماته .
عمر الطالب مؤلفا وكاتبا
اذا كان الرجل كاتبا  وقاصا مبدعا  اذ كتب القص ، فهو باحث وناقد ايضا لديه العديد من الكتب والبحوث في مجال تاريخ الادب ونقد الرواية والقصة وله باع في الفن والتراث والتراجم .. ولكنني استطيع القول انه يتفوق في مشافهته على كل تحريراته . وقد علمت بأن مجلسا ادبيا يعقده كل يوم سبت في بيته ابان السنوات الاخيرة ، ويجتمع عنده العديد من مثقفي الموصل وادبائها .. ولقد سمعت انه اصدر مؤخرا موسوعة اعلام الموصل ، وهو مشروع كان يعمل عليه لسنوات طوال الصديق الاستاذ بسام الجلبي ، وهو صديقه وقريبه ، ولا ادري ماذا حّل بمشروعه . لقد رحل الدكتور عمر الطالب الذي عرفته الموصل استاذا لأكثر من جيل ، وهو علامة بارزة في تاريخ مدينة الموصل الثقافي ..
مؤلفاته كثيرة وكتاباته لا يحصى عددها مع دراسات وبحوث ومقالات منها ما اثار جدلا ونقدا عنيفا ، ومنها ما لم تترك لها اي اثر .. ناهيكم عن بعض ابداعاته في القصة القصيرة  التي كان يكتبها اوقات شبابه .. وخصوصا تلك التي وقعت بيدي صدفة عند نشرها واسمها ( خمسينات اضاعها ضباب الايام ) ، ولما كتبت نقدا ادبيا عليها ونشرته في العام 1970 وكنت طالبا سنة اولى كلية الاداب ، دار جدل عنيف بيني وبينه ، اي بين طالب واستاذه انتهى بالقطيعة بعد جفوة طويلة ، ولكن علاقتي بالرجل عادت من جديد ( وسيجد القارئ الكريم تفاصيل ذلك في القسم الثاني من هذه الفصلة من ذكرياتي عنه ) ..
من مؤلفاته وكتبه المعروفة (ملامح المسرحية العربية) و (القصة القصيرة الحديثة في العراق) و( قراءة ثانية في البارودي) و (القلق والاغتراب في الشعر الجاهلي) و (الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية) و( اثر البيئة في الحكاية الشعبية العراقية) و( أدب الأطفال في العراق) و( الحرب في القصة العراقية) و( القصة في الخليج العربي) و( نظرات في فنون الأدب )و ( منهج الدراسات الأدبية الحديثة) و (القصة القصيرة في العراق بعد ثورة 14 تموز 1958) و( المسرحية العربية في العراق) و ( كاتبات القصة في العراق) و ( المسرح العربي الإسلامي) و (الرواية العربية في العراق ). وله مجاميع قصصية منها : (خمسينات أضاعها ضباب الأيام) و روايته (صراع على مشارف قلب ) ومن كتبه النقدية للمسرح (ظلال فوق الخشبة) .. وغيرها من الاعمال .
انتظر القسم الثاني من هذا " المقال "

فصلة من كتاب الدكتور سيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ

www.sayyaraljamil.com



80
الاتفاقية العراقية الامريكية : لماذا تثير الفزع ؟


د. سّيار الجميل

اثارتني كثيرا مقالة احد الاصدقاء وهو يدافع عن مشروع الاتفاقية العراقية الامريكية الجديدة ، ولا ادري هل يخاطب كل العراقيين ، ام يخاطب اولئك الانقساميين ؟ ام البعض من العرب والايرانيين ؟ العراقيون اليوم كلهم يخوضون تجربة تاريخية جديدة ليست كتلك التي خاضها الاباء مع الانكليز ، بل اقسى وأمّر مع تبدّل الزمن والاستراتيجيات والرجال . ان العراقيين اليوم يعيشون اقسى فوضى خلاقة في الوجود ، فهم يعانون في بلاد ضعيفة ، متأخرة ، متناحرة ، متمزقة ، مثلومة الارادة ، مسحوقة الانفس ، مهددة ومستلبة .. هنا سينقسم الرأي العام بالضرورة ازاء هذه الاتفاقية .. فهي اتفاقية غير متكافئة بين بلدين اثنين ، وان المشكلة ليست منحصرة بين حكومتين ، بل ان قوة اقليمية لا يستهان بها مثل ايران اعلنت عن اجندتها ازاء  توقيع اي اتفاقية بين العراق والولايات المتحدة ، كونها تدرك انها هدف استراتيجي للامريكيين من خلال العراق ، وهذا ما يثير الفزع ايضا .. علما بأن الامريكيين هم السبب في عبث ايران بالعراق ، وانهم قد خاضوا مفاوضات سرية مع الايرانيين على ارض عراقية دون معرفة ما دار بين الطرفين . الامريكيون لا يعلنون ابدا والعراقيون يعلنون شيئ وينكرون اشياء .. يقولون ما لهم ويخفون ما عليهم .. الامور ضبابية وغير واضحة ابدا . لماذا ؟ هذه السياسة هي التي تولد الانقسامات وتنضج الصراعات ، كما جرى تطبيقه وجعل حياة العراق بين الامل والانسحاق .
لن يقف العرب من انصار بعض الدول والاحزاب ضد هذا " المشروع " فقط حتى يلبسه البعض لباسا غير عراقي ، كي يقال بأنه العلاج الامثل لاستقرار العراق وأمنه ! ان اغلب ابناء الشعب العراقي يقف بالضد من اي " مشروع " سيوّقع عليه في نهاية يوليو / تموز القادم وهم لا يعرفون محتواه ؟ وعليه ، ليس من حق اي بشر التصفيق لأي " مشروع " لم يعلن عن مضامينه ، وليس من حق أحد ان يراهن على قوى سياسية عراقية مرتبط وجودها اساسا بهذا " المشروع " الذي ستتلوه مشاريع خطيرة قادمة بالضرورة !
وعليه أتساءل :  كيف تبرر اي معاهدة كهذه والعراق بمثل هذا الوضع ، حتى وان كانا غير متكافئين بحجة وجود معاهدات واتفاقيات اخرى بين دول في المنطقة وامريكا ؟ او بين المانيا واليابان من طرف وبين امريكا من طرف آخر قبل ازمان بعيدة ؟ كيف لك تبرير اي " معاهدة " وانت ادرى بالفوارق الكبرى بين القرائن ، وحتى ان لم تدركها ، فان العراق لم يلق اي عناية تاريخية ؟ هل تريد القول ان الامريكيين لم يتحملوا اية مسؤولية في الذي عانى منه العراق ؟ انهم هم انفسهم اعترفوا بارتكاب خطايا جسيمة لا يمكن ان تغتفر ! هذه الاخطاء لم يرتكب مثلها في اي بلد آخر .. فكيف تريد من الشعب العراقي ان يثق بمن حّول العراق الى ساحة لتصفية حسابات ؟ كيف تريد ان تسكت كل الوطنيين العراقيين من المفكرين والمختصين والتكنوقراط المستقلين وكانوا على مدى سنوات من المبعدين والمهمشين والمهجرين ؟  هل طبق الامريكيون مشروع مارشال جديد وكانوا من الحريصين على مستقبل العراق والعراقيين حتى وان كان ذلك لقاء اثمان يدفعها العراقيون ؟ علينا ان لا نوهم الناس بأن المصالح مشتركة ونحن ندرك ان المعادلة غير متكافئة بين قوي وضعيف ! علينا ان ندرك من خلال قراءتنا للتاريخ بأن المعاهدات ليست كلها من نوع واحد ومنطق واحد وطبيعة واحدة .. انها متباينة تماما بين دولة واخرى ، وبين زمن وآخر ، وبين عهد وآخر ! ان هذه " المعاهدة " لن تولد في رحم مرحلة سلم واستقرار ، بل ستأتي في زمن حرب وانقسام ، واخشى ان تزيد من كوارث العراق ونكباته .
صحيح ان العراقيين قد تعبوا كثيرا ، وهم يريدون حياة مستقرة وآمنة وكريمة ومتحضرة ، فهل هذا وذاك ستوفّره " معاهدة استراتيجية " مع الامريكيين ؟ هل يثقوا بأي " مشروع " امريكي ينقذهم ولا يسحقهم ، يوحدّهم ولا يشتتّهم ، يغنيهم ولا يفقرهم .. يتركهم اسيادا على ارضهم من دون جعلهم مخلب قط ضد هذا او ذاك ؟ ان افتقاد الثقة بهم يجعلهم في مأزق تاريخي ، وهم لا يريدون ان يكونوا شركاء مع العراقيين ، كما دخلوا قبل نصف قرن شركاء في حلف بغداد ، بل يريدون اكثر مما نتصور ! اذا كان العراق بؤرة للثروات فهذا لا يبرر ابقاء العراق كسيحا لا يقوى على الحياة ، وستنوب امريكا ليس في الدفاع عنه ، بل جعل ارضه وسمائه رهينة على امتداد ازمان ؟ ليس من البساطة ان يأخذ الصراع على العراق مثل هذا المدى لولا ما سيشكّله اساسا في القرن الواحد والعشرين ..
وأخيرا ، هل من الانصاف القول ان يتهّم كل معارض للمشروع انه قد وضع بيضه في السلة الايرانية ؟ وهل غدا كل من لم يعد يثق بالولايات المتحدة وسياساتها في عداد الارهابيين والقتلة والاشرار ؟ ما الذي يجبرك على المر بعد كل هذا الماراثون الذي كان العراق ولم يزل يعاني منه ؟ كيف تعّلق الامال على استقرار العراق وأمنه من خلال معاهدة سيجري التوقيع عليها من دون معرفة مضامينها ؟ هل يدرك المصفقون لمثل هذا " المشروع " بكل الخطط المعّدة في منطقتنا من قبل الرعاة الجدد ؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 25 يونيو / حزيران 2008



81
المَشروعُ الوَطني .. لَعلّ الحُلمَ عراقيٌّ  ؟

د. سيّار الجَميل

لو حلمنا ، وانا لا انفي ، أن هناك وطنا عراقيا ، أي انه كائن برغم محاولات نفيه او الغائه او تزويره او انكاره او جعله خرافة من قبل بعض العراقيين .. لو افترضنا ، وجوده ، وهو موجود برغم كل العاديات والمعادين .. وبرغم كل الطارئين والمشعوذين الذين كانوا وما زالوا يعتبرونه عبئا عليهم .. نعم ، عبئا لا يتحملونه .. فثمة من ساقه الى المقصلة دون ان تهتز شعرة واحدة منه  ، او اولئك الذين سحقوا اي " مشروع وطني" وجعلوه في ظل طاغية ، او هؤلاء الذين استبدلوا اي مشروع وطني بعملية سياسية !!.. انه ليس من الصواب بمكان أبدا ، ان تهرب الى اي " انتماء" بمعزل عن اولوية العراق ، وليس من العقل ان تجد نفسك العراق وتتملكه باسمك وحدك دون الاخرين وانت تكره هذا او ذاك من العراقيين .. وليس من الاخلاق ان تحتكر وحدك العراق ، وكأنه خلق على مقاسك واعرافك سواء كنت عملاقا من العمالقة ام كنت قزما من الاقزام . 
اذا اسقطنا كل هذه العلل من عند العراقيين ، سنجدهم مؤهلين لأي مشروع وطني جديد ، لا يمت بأية صلة لمصادر الجهالة والامراض والانحرافات ومنابع الكراهية والتهتك والنكبات .. مشروع لا علاقة له بالماضي القريب ، ولا صلة له بالشعارات الجديدة التي توهم الناس بما ليس له اي سبيل الى حقائق الاشياء. ان العراقيين ، بمعزل عن اي مشروع وطني حقيقي سوف لن يحققوا شيئا ، ولن يعالجوا مرضا ، ولن يوئدوا فتنة ، ولن يصلحوا خرابا ابدا . ان اي مشروع وطني جديد يلتف كل العراقيين من حوله ، وبمعزل عن كل المفاهيم الرائجة واصحابها .. سيخلق معادلات جديدة على الساحة العراقية ، وسيسقط كل النفايات من الشعارات ، وسيخلق بدائل من نوع آخر يؤسس لها عراقيون جدد يؤمنون باهداف " المشروع " ، ويعملون على تكريس مبادئه .. ويطورون مستلزماته الحضارية المعاصرة .
يبدو ان العراقيين لا يتعلمون من تجارب التاريخ شيئا ، ولا من نكبات الحاضر شيئا ، ولا من المأزق التاريخي الذي يجدون انفسهم فيه كل يوم .. انهم ابعد ما يكونوا عن اي مشروع وطني لا يمت بصلة الى اي طرف من الاطراف الخارجية ، ولا الى اي نزعة غير النزعة العراقية ، ولا الى اي انتماء اولوي غير العراق. ان المشروع الوطني العراقي هو الجامع الاساسي لكل العراقيين مهما بلغت التباينات في ما بينهم : دينية او عرقية او دينية او جهوية او ثقافية او اجتماعية او طبقية .. الخ 
ان من اولويات " المشروع " ابعاد اية اسقاطات تثير الانقسام والفتنة والصراع .. وانه يقبل الجميع دون استثناء ، ولكنه يفصل بعض المستويات عن بعضها الاخر ، اي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون .. ان خراب العراق قد اكتمل على عهد الامريكيين ، ولكن سبق وان عانى من  المخبولين والمتآمرين والشقاة والمأجورين والطغاة والانقلابيين والطائفيين والشوفينيين والظالمين والنرجسيين واللوتية والحرامية والمختلسين والمخابراتيين والعابثين والارهابيين .. وصولا الى المتمردين والدجالين والمصفقين والمنافقين والمداهنين والمرتزقة والمتقلبين وجحفل من الشعراء الشعبيين.. ازاء سحق العلماء والشرفاء والنزهاء من المثقفين ، وتهميش المختصين وكل الرجال الصامتين وكل الناس الطيبين العاملين المستقلين وصولا حتى الى استلاب الاطفال الضائعين ..
كم هو اساسي للعراق ان ينبثق اي مشروع وطني ، يقوده اناس من الاذكياء المتحضرين ، ومن الحكماء والنزهاء الرائعين .. ومجلس تشريعي للبلاد ينتخبهم الناس باسمائهم ومعرفة سيرهم ليكونوا ممثلين حقيقيين للشعب .. ان اي مشروع وطني بحاجة الى اي عراقي متحضر ، ذكي وحكيم وحصيف بعيد الرؤية .. نظيف السيرة والسلوك السياسي ؟ كم نحن بحاجة الى حّل للاحزاب والجماعات السائدة ، واعادة تجديد مضامينها ومبادئها على ضوء مشروع وطني وحضاري في آن واحد ؟ كم نحن بحاجة الى حل كامل للمليشيات والاوليغاريات والزعامات المحلية والطائفية والعشائرية ؟ كم نحن بحاجة الى ان يكون " المشروع العراقي " نقطة انطلاق حقيقية نحو المستقبل ؟ كم نحن بحاجة الى ان يكون " المشروع " بعيدا عن اية اجندة خارجية مهما كانت طبيعتها ، الا اذا كانت تخدم مصالح العراق قبل اي شي آخر ؟ 
حذار ايها العراقيون من الانقسام الذي راهن عليه الانقساميون .. حذار من ان تعمل لمصلحتك الشخصية او العائلية او العشائرية او الجهوية بعيدا عن مصالح كل العراقيين .. حذار من اي اجندة وخطط واتفاقات تعطي للاخرين اكثر من تعطي للعراق والعراقيين .. حذار من اللعب بالنار والقذف بكرة اللهب ، والا ، فإن العراق سوف يسقط ونسقط معه جميعاً ـ لا سمح الله ـ . حذار من تكفير وتجريم الاخرين من العراقيين الا من عاث فسادا ، وولغ في دم العراقيين .. حذار من ان تجعل نفسك على صواب دوما وتجعل الجميع في قفص المتهمين .. حذار من التعّصب الطائفي والعرقي والقبلي والحزبي .. ولا تنطلق الا بسيادة القانون .. حذار من احتكار مشروع العراق لك وحدك ،فهو  لكل العراقيين .. حذار من التعصب القومي او الطائفي في العراق .. حذار من الاقصاء والتهميش لهذا او ذاك من العراقيين .. فانك تقتل بلدك ، وتؤذي العراقيين .. حذار من صنع اية قرارات مصيرية دون اطلاع كل العراقيين ..
 على العراقيين ان يعترفوا باخطائهم سواء كانت في الماضي ام الحاضر ، وعليهم ان لا يستمروا على اخطائهم . ان اي مشروع وطني لا يقّر ابدا احتكار السلطة لطرف دون آخر ، ولا يقّر ابدا اية مناورة او لعبة او تزوير او اختلاس او محسوبية او منسوبية او محاصصة .. ان المشروع العراقي لابد ان ينبثق من الواقع ، ولكن لا يمكنه ان يخلو من ثوابت اساسية للوصول الى حدود دنيا من القيم الوطنية والاخلاقية والمثالية . ان اي مشروع وطني لا يبنى على ارضية خصبة من السيئات ، بل لابد من الفضائل العراقية ، فهي مفتقدة مع شديد الاسف . ان الاستهتار قد حّل في كل المرافق السلطوية والرسمية والحكومية والاعلامية ، وافتقد المجتمع العراقي رصيده الاعظم من تلك الاخلاقيات الرفيعة ، وابتلى اغلب المسؤولين بجملة هائلة من الكبائر، وهو ابتلاء خطير لا يعالجه الجهلاء والاغبياء . ان اي مشروع عراقي حضاري ينبغي ان ينتشل المجتمع قبل ان يستشري المرض في كل المفاصل .. 
ان " المشروع " العراقي مهما كانت منطلقاته الوطنية ، فهو الوحيد القادر على مجابهة اي مشروع آخر في العراق ، مهما كانت طبيعته دولية ام اقليمية . الكل يدرك ان العراق اليوم لا يمكنه ان يجابه التحديات مهما كان نوعها امريكية ام ايرانية من دون مشروع وطني يؤلف بين قلوب الجميع ، ويؤّمن حقوق الجميع ، ويحّدد واجبات الجميع .. والمشروع الوطني مفتقد اليوم ، ولا يمكن البدء بأي مشروع وطني موزون يأخذ بيد المجتمع الى مفاهيم جديدة  تحلّ بديلا مما يجري عليه الحال .. ولندرك ادراكا كاملا ان لا حياة للعراق من دون اي مشروع وطني يجابه التحديات .. وان لا ننتظر أي مشروع وطني قد ينبثق على ايدي الاخرين .. ان مشكلات العراق الصعبة لا يحلّها ابدا ، الا مشروع  وطني ينتظر الجميع ولادته .. هنا أسأل كل العراقيين : هل انني احلم ، ام انني اتمنى " وما كل ما يتمنى المرء يدركه .. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن " .. ربما هذه وربما تلك ، ولكن اجعلوا هذه الدعوة مفتوحة امام كل العراقيين لتأسيس مثل هذا " المشروع " ،  فهل سيجد " الحلم " فرصته من اجل حياة العراق والعراقيين ، فهو البديل الحقيقي من اجل المستقبل ؟ نعم ، انه سيولد ، ولكن متى ؟ ربما بعد سنة او سنتين وربما بعد مئات السنين !!
www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 23 يونيو / حزيران 2008


82
الذكرى العاشرة لرحيل نزار قبّاني.. شاعر الرسم بالكلمات


أ.د. سيّار الجَميل

" في فمي يا عراق ماء كثير كيف يشكو من كان في فيه ماء"
نزار

مقدمة
مرّت قبل ايام الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر نزار قبّاني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في النصف الثاني من القرن العشرين .. ولم تزل اشعاره ورسومه وصوره والوانه تنتشر في كل مكان من ثقافتنا العربية وقد نقلها جيل الى جيل . نعم ، لقد كان نزار قباني قد رحل فجأة وهو يقيم في لندن يوم 30 ابريل 1998 .. واذا كان نزار قد رحل رحلة نهائية ، فان تراثه الادبي سيبقى الى جانب تاريخه الادبي والفكري على طول الزمن . ويسرني بهذه " المناسبة " ان استعير من كتابي ( نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ) الفصلة من ذكرياتي عن نزار قباني وقد كنت قد اسميته : شاعر الرسم بالكلمات الرائعة . لقد كتبت اقول عنه :
اولا : شاعر التناقضات العربية
1/ شاعرية نزار وثقافته
لقد خلق نزار قباني على امتداد حياته المليئة بالتناقضات جملة من الأزمات الفكرية والأدبية .. انه المعبر الحقيقي عن تناقضات خطاب العرب في النصف الثاني من القرن العشرين . انه الشاعر الذي نسف بكل جرأة وشجاعة جملة من البنى التقليدية التي ألفها الناس في تفكيرهم وتقاليدهم الاجتماعية منذ أزمان طويلة .. كان شاعرنا حرا ومتمردا في ما يقوله بشأن أهم ما شغل البال العربي ، والتفكير ، والجوارح ، والمشاعر والأحاسيس .. من جانب وكل المحرمات والمنكرات والحلال والحرام من جانب آخر .. موضوع المرأة الذي وجد نزار فيه ضالته ، واعتبره الاهم في هذا الوجود ! لم يقدم نزار المرأة باعتبارها إنسان مثل أصناف البشر ، بل ليعرضها في فاترينة ويبقى يجّملها بالمساحيق والألوان وينادي الآخرين إليها مع كل أوصافه الرائعة فيها والتلذذ بما يطلقه من تعابير عن جسدها .. مستلهما كل تراثات أسواق النخاسة التي كانت مزدحمة ورائجة البضاعة في ماضينا المتعب !
انني اعترف أن للرجل شاعريته التي لا يختلف حولها اثنان ، وعندما يسمعه الناس تطرب أسماعهم وتهفو قلوبهم ، خصوصا ، وانه امتلك قدرة رائعة في الإلقاء الشعري الذي يأسر القلوب ! إنني لا أريد أن أكون ضد الرجل وقد غاب عنا ، فلقد حكيت له كيف اقيّم له تفكيره ! صحيح انه جادلني في البداية ، ولكنه بدأ يحترم آرائي لأنه عرف إنني من المؤمنين بحرية الإنسان وتنمية قدراته وتفكيره واستقلالية إرادته . وكان نزار ينتشي جدا عندما يسمونه بـ " شاعر المرأة " . والحق يقال ، بأن نزارا في قصائده الوطنية وأنشوداته القومية ومواقفه النقدية الساخرة وفي العديد من مقالاته التي نشرها في سنواته الاخيرة في ركن من جريدة الحياة المعروفة ، كان مثالا للمثقف العاشق ليس للمرأة حسب ، بل لترابه واوطانه لولا جملة التناقضات التي وقع فيها كأي شاعر عربي متمرد في هذا الوجود.

2/ كلمات عن تكوين نزار وحياته
ولد نزار بن توفيق قباني آقبيق في 21 / 3/1923 في عائلة متوسطة الحال ـ حسب قوله ـ ، وفي بيت عادي يقع في حي مئذنة الشحم في القيمرية بدمشق ، ونشأ فيها :ان أبوه يصنع الحلويات ويعتاش منها .. ويقال ان عمه هو الفنان ابو خليل القباني رائد المسرح السوري الحديث ، ولما لم اكن متأكدا من ذلك فلقد سألت نزارا عن صلته به ، فاجابني بأن أبا خليل القباني. هو عمّ والدتي و شقيق جدّ والدي.. تخرج نزار في الجامعة السورية بشهادة في الحقوق العام 1944، ولكنه لم يمارس القانون ولا المحاماة ولا القضاء ، بل خدم في السلك الدبلوماسي السوري للفترة 1945-1966.. وتنقّل ما بين القاهرة ، وأنقرة ، ومدريد ، وبكين .. كتب الشعر منذ مطلع شبابه مذ درس في الكلية العلمية الوطنية بدمشق وفيها التقى استاذه خليل مردم بك الذي أخذ بيده ودفعه وشجعه ونشر ديوانه الاول " قالت لي السمراء " على نفقته الخاصة وهو طالب في الحقوق.. وخرج عن التقاليد والاطواق متمردا عليها ، اذ ثار عليه بعض رجال الدين وطالبوا بقتله عام 1945 اثر نشره قصيدة ( خبز وحشيش وقمر ).. استقر في بيروت بعد ان آثر الشعر وترك الوظيفة التي قيدته لسنوات طوال تقدّر بقرابة عشرين سنة .. اصدر عدة دواوين تصل الى 35 ديوانا كتبها على مدى نصف قرن ، وله عدة كتب نثرية . أسس دار نشر لأعماله في بيروت تحمل اسم منشوراته. غنى المطربون عدد من قصائده ، ومنهم: ام كلثوم ونجاة وعبد الحليم وفايزة وفيروز وكاظم وماجدة وأصالة وغيرهم . حكى لي انه كان يزور العراق دوما ويلتقي فيه بأبرز المثقفين والادباء العراقيين .. وفي بغداد التقى الآنسة بلقيس الراوي وتحابا الى حد العشق ، ولكن اهلها منعوا زواجهما ، فافترقا وتزوج للمرة الاولى زوجته الاولى ، وهي ابنة عمه زهراء آقبيق التي رحلت عنه ، وله منها ولد وبنت ، توفي الولد توفيق وهو شاب في مقتبل العمر عندما كان يدرس الطب بالقاهرة .. وشاءت الصدف ان يلتقي بلقيس ثانية بعد سنوات فتحقق حلمهما وتزوجا وعاشا معا ، وله منها ولد وبنت ، وجاء مصرعها عام 1982 اثر تفجير السفارة العراقية ببيروت وكانت تعمل فيها ، فكان ذلك صدمة عنيفة عنده وآثر التنقل في باريس وجنيف واستقر في لندن التي عاش فيها الاعوام الخمسة عشر الاخيرة من حياته... لقد تلقى نزار عدة صدمات قوية في حياته الخاصة ، منها رحيل والدته وهو طفلها المدلل ، ووفاة اخته وصال بمرض القلب ، وانتحار اخته هدباء التي زوجوها برجل لا تحبه ، ومصرع ولده الشاب توفيق ، ورحيل زوجته الاولى ابنة عمه على اثر مرض .. ومقتل زوجته الثانية بلقيس ..كما وشكلت السنوات الاخيرة من حياته صخبا من المعارك والجدل والقصائد السياسية الساخنة وخصوصا في عقد التسعينات من القرن العشرين. وقد قاوم مشروعات السلام والتطبيع مع اسرائيل وعبر عن ذلك في قصائده الشهيرة: المهرولون ، والمتنبي ، ومتى يعلنون وفاة العرب .. الخ . توفي في لندن يوم 30 /4/ 1998 ودفن في دمشق وترك اشعاره يرددها الناس.
3/ كيف عرفت نزارا ؟
كنا ثلة من المراهقين في أروقة الاعدادية ( متوسطة المثنى ) بمدينة الموصل. شباب عند مطلع حياتهم لا يهجعون ولا يهدأون ابدا لا في الليل ولا في النهار ، ونحن في مرحلة حساسة وحرجة جدا في اواسط عقد الستينيات . كنا نقرأ الكتب في الليل ونطالع المجلات ونكتب الاشعار في اويقات النهار .. لم اكتشف نزار في مكتبة بيتنا الغنية والمكتنزة برغم محبة اسرتنا للشعر والشعراء ، ولكنني اكتشفت نزارا من خلال ديوانه " الرسم بالكلمات " الذي كان مدّرسنا في الجغرافية واسمه الاستاذ طارق فضل قد حمله معه يوما ، وكان يعشق نزار وأشعاره على عكس استاذنا في العربية الاستاذ عبد النافع الحكيم المشهور بسيدارته العراقية وهو يتأبط قاموسه كل الاوقات ، ومن كثرة اعتزازه بالقاموس دعونا بـ " قاموس افندي " !.. تذكرت قصيدة " أيظن " التي يقدمها نزار بنفسه تلفزيونيا ويقرأها قبل ان تشدوها المطربة نجاة الصغيرة على شاشة التلفزيون بالأبيض والأسود ! بدأت اهتم شيئا فشيئا بأشعار نزار.. كنت أخشى من والدي ـ رحمه الله ـ أن يعنفني إذا ما اكتشف أنني اقرأ مثل تلك الأشعار! ولكنه لم يقل شيئا لي عندما اكتشف ذلك ، وكان رجلا مثقفا ومستنيرا وانه رسم ابتسامة خفيفة على محياه ، وقال : لابد أن تقرأ المعاني وتتحسسها قبل أن تنعشك الألفاظ الجميلة . وبالرغم من كونه من رجال القانون الا انه يعشق الشعر وله باع كبير في نقد الشعر على القواعد النقدية العربية القديمة التي أسسها كل من عبد القاهر الجرجاني والآمدي وابن الاثير .. وغيرهم . وفي الثانوية الشرقية وكنت في الخامس والسادس الثانوي ، نجحت رفقة الصديق القاص عبود عبد الله بكر ( استشهد في الحرب العراقية الايرانية عام 1982 ) ان نؤسس صحيفة أدبية اسبوعية جدارية اسميناها بـ " الاصداء " ترأست تحريرها عام 1969 ، وكنت اكتب افتتاحيتها اسبوعيا ، واصدرنا عدة اعداد منها ، ولكن الاوامر صدرت باغلاقها كوننا نشرنا قصيدة سياسية ساخنة ينتقد فيها العرب في هزيمتهم نقدا مبرحا ، وكانت للشاعر نزار قباني ( هوامش على دفتر النكسة ) .
4/ نزار : ثورة التناقض في التغيير
لقد كانت الحياة العربية قبل هزيمة يونيو / حزيران 1967 بسنوات مفعمة بالروح القومية الوقادة وذكر الأمجاد ، وترديد الشعارات ، واذاعة الاغنيات الحماسية ، والهوس السياسي ، وحمأة الأيديولوجيات ، وسماع الخطابات .. وبنفس الوقت ، كان المجتمع العربي يعتز بنخبه المثقفة ومبدعيه وكانت الاستنارة في الفن والادب قد وصلت الى اعلى مداها عند العرب .. وبرز عند منتصف القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الثانية نخبة عربية رائعة من الشعراء والفنانين والادباء المثقفين وقد شغلتهم السياسة والايديولوجيات الثورية والقومية والنضال والاشتراكية .. ، ولم يكن لنزار في ذلك كله أي نصيب يذكر ، كما اذكر ، كانت المرأة شغله الشاغل يتفنن في توصيفاتها ويتخيلها كما يريد له خياله ويصورها كما يجمح به فكره وخياله .. كان نزار يتلذذ بمشاهد خصرها وسيقانها ونهودها وأظافرها وخصلات شعرها .. التي يخلقها ويجسمها تعبيريا برسم كلماته جميعها للناس ، ويجلس يترقب ردود افعالهم على نصوصه واشعاره .. وكان ذكيا جدا في استخدام الألفاظ البسيطة جدا في خطابه الشعري الذي يدخل النفس مباشرة من دون أية تعقيدات ، ونجح في تضمين كلمات عادية يومية يستخدمها الناس صباح مساء ..
واستطيع القول ، ان نزارا يتميز بقاموسه الشعري وتعابيره التي انفرد بها عن الاخرين .. ولكن بقي الرجل محافظا على التفعيلة الشعرية، وقد اغرم بموسيقى بعض الكلمات والتعابير التي كانت تثير الأحاسيس وتسخن العواطف .. لقد وجد في البيئة الاجتماعية العربية المكبوتة الى حد النخاع فرصته التي يستطيع اللعب فيها لعباته العاطفية بكل جرأة وشجاعة وقد ساعدته ظروف تلك المرحلة على استخدام كل التعابير في الجنس والجسد والشهوات ووصف حتى ركامات الحلمات .. ولكنه اضطر الى تغيير جملة كبرى من الفاظه وتعابيره في العشرين سنة الاخيرة من القرن العشرين بسبب تغير الظروف في المجتمع العربي تغييرا كاملا اولا ، وبسبب فقدانه بلقيس في رحيلها الذي قضّ مضجعه !

ثانيا : نزار : شاعر خاصمه السياسيون

1/ هزيمة حزيران / يونيو 1967 : أسبابها وآثارها المدمرة :
لقد كانت هزيمة يونيو / حزيران 1967 قوية وصاعقة هزته من أعماقه ، فبدأ يكتب أشعاره الوطنية القوية التي سخرها لنقد الآخرين والسخرية منهم من دون ان يكتشف مسئوليته هو نفسه في صنع الهزيمة قبل الآخرين ! وهذا ما كنت قد أشرت به عليه لاحقا عندما التقيت به في بيروت للمرة الاولى ، رد علّي وقال : إن العكس هو الصحيح ، لو اكتشفني العرب وآمنوا بتفكيري قبل الهزيمة لما كانوا قد انهزموا أبدا !!! لقد أعطيت للمرأة مكانتها ومنحتها القوة إزاء الضعف الممقوت الذي كانت تعيش فيه .. لقد كانت دمية بأيدي الرجال ! فأجبته : وجعلتها أنت مائعة تفترسها شهواتهم ومن خلال قراءاتهم الشفوية بشكل لا يصدق ! قال : ذلك حق مشروع ! قلت : ولكن لم يفعلها غيرك من الشعراء حتى في ثقافات الأمم الأخرى ! قال: لأن مجتمعات الأمم الأخرى ليس لها نصيب من طغيان الكبت الجنسي! قلت : وهل باعتقادك أن العرب وحدهم مكبوتون جنسيا ؟ قال : اعتقد ذلك وان تاريخهم يحركه كبتهم بدءا بوأد البنات مرورا بأسواق النخاسة وصولا الى الحريم والرقيق الأبيض وانتهاء بزيجات المتعة والمسيار .. الخ قلت : وهل قمت يا شاعرنا بتحريرهن من هذه المستنقعات بأشعارك .. ألا تعتقد انك نفسك جزء لا يتجزأ من بنية ذلك المكبوت وتاريخه وانك نجحت في أن تعبر عن خزين عاطفي مشحون بأفظع الأحاسيس ؟! قال : انا شاعر ولست بمفكر مثلك!أنا شاعر لي الحق في ان أمارس كل التجارب الشفوية !
2/ في لندن .. كان يائسا وقانطا :
كنت في رفقة زميلة قديمة لي وهي باحثة بجامعة اكسفورد درست العربية وعشقت الادب العربي المعاصر وهي المثقفة الاسكتلندية الانسة ساندرا هيزلتاين التي كانت تعد أطروحة في الشعر العربي المعاصر ، وهي اليوم أستاذ زائر في كالكاري احدى جامعات كندا .. كنا نمشي سويا في شارع الاجورـ رود بعد نزهة في الهايد بارك بمدينة لندن ، كان الجو صافيا مع برودة لاسعة وهي تحث الخطى لمقابلة الشاعر نزار قباني الذي كان بانتظارنا بطلب مني ، واشكر ساندرا التي ذكرتني قبل ايام باشياء نسيتها عندما اتصلت بها من مسيساكا في كندا ، وقد كتبت في مقدمة اطروحتها عن مطارحتي افكار نزار في لقاء كان له عصفه الرائع ولكن نزار لم يزعل مني ابدا لعلمه انني لم انطلق من تفكير متحجر ، ولم أكن منغلقا أبدا . ويعجبه دوما ان اسمعه انه شاعر السهل الممتنع في الالفاظ والمعاني معا !
3/ في بيت نزار
التقيناه في شقته المخملية التي تكثر الألوان الأرجوانية فيها ، وصورة زوجته العراقية بلقيس التي كانت قد قضت في حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت .. في واحدة من الزوايا .. وثمة صور أخرى لولده وابنته تتوزعها بقية الزوايا .. كان طيبا معي جدا كعادته ، وكان خجولا من ساندرا .. لا ادري لماذا ؟ ربما بسبب كلماته الإنكليزية المكسرة وعدم إجادته اللغة الانكليزية بطلاقة ! ذكرّني بأشياء كنت قد حدثته عنها بصدد مجتمع دمشق في القرن الثامن عشر على عهد آل العظم مقارنة بمجتمع الموصل عصرذاك على عهد آل الجليلي ، كما وسألني عن مؤسسة الحريم والحرملك في العصر العثماني وعن بعض المصطلحات الخاصة التي استخدمت عن المرأة .. كنت متضايقا بعض الشيء ، فلقد جئنا إليه لنسأله لا ليسألني! وقد ظننت انه يريد الهروب من أمر ما ! لكن ساندرا كانت متسامحة معه الى ابعد الحدود.. كانت تريد فقط أن تسمعه لتكتشف من هو نزار الحقيقي وخصوصا تعمقّها في سايكلوجيته .. كما قالت لي في ما بعد ! وقد سألتها : أتعتقدين بوجود نزارين ؟ قالت : نعم ، بل اكثر من اثنين ! فدهشت جدا ، وكانت فعلا أثناء اللقاء قد سألت نزارا : هل هو اندفاعك من دون تفكير في مديح حاكم وهجاء آخر قد جعلك تقضم أظافرك ندما وتحسرا ؟ وسألته : لماذا تكتب الآن ضد واحد من طغاة هذا العصر ، كما وصفته ، وكنت قد جالسته وشربت القهوة عنده عندما استضافك وقدمت آيات المديح إليه ؟ .. الخ من الأسئلة التي تفكك جملة من تناقضاته في هذا العصر . وتضايق نزار جدا من فتاة اسكتلندية تنتقد اندفاعاته السياسية التي سيرته فيها عاطفته المتوقدة بعيدا عن العقل ، ومن ابرز انتقاداتها له انه وصف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بـ " آخر الانبياء " ! وهذا لا يجوز ابدا ، وانه مدح الامام الخميني وذم الرئيس السادات بوصفه مجرد قروي ، ثم عاد ليذم هذا ويمدح ذاك من دون ان ينبس بكلمة واحدة ازاء اخرين معينين يخاف بطشهم ! وهل صحيح انه بخيل جدا ؟ الخ
4/ معلومة مهمة
لم تكن إجاباته شافية طبعا ، إذ عللها بشاعريته ومكانته العليا في المجتمع العربي المعاصر ، وان الآخرين هم الذين يخطبون وده لا العكس ! وكلما اعجب بواحد من القادة العرب ، عاد وغسل يده منه ، فيبدو للناس مضطربا .. لم يجب على كل الاسئلة وثمة اجوبة مقتضبة ، وبدا مهموما وحزينا على ما تعانيه ( الأمة) من أوضاع سيئة .. وقد كشف لي في ذلك اللقاء معلومة تاريخية مهمة جدا ذاكرا إن اصل عائلته من مدينة الموصل في العراق ، وانهم قد نزحوا الى بلاد الشام منذ عقود طوال من الزمن ( وقد سجلت هذه المعلومة في كتابي : زعماء وافندية الذي كتبته في بداية التسعينيات ونشرته عام 1999) ، ونفى ان يكون اصل عائلته تركيا ، وكان فرحا وجذلا بذلك كوني ابن الموصل الذي ذكرها باطيب الذكر كونها ام الربيعين .. تطرق بعد ذلك الى خصومه من الشعراء العرب معددا هناتهم في كتابة الشعر او في الدور الثقافي ! كما وذكر بعض خصوصياته وانه اضعف من ان يرد طلبات بعض اصدقائه .. وانه كثيرا ما كتب بعض الاشعار بعد ان قام بتصويبها لآخرين اصبحوا شعراء على اكتافه! وكان يعتز بدواوينه جميعها ، فضلا عن كتاب له ردد بعض مقاطعه عدة مرات وكان قد كتبه عن تجربته الشعرية. وفي لندن ، كان يعشق ان يمشي قليلا لوحده في الهايد بارك منذ الصباح الباكر او يجلس يتأمل قليلا ، وقد رافقته يوما تلك النزهة الرائعة .. يقول انها نزهة يفرغ فيها شحناته واحزانه واكداره .. ولا يمكنه ان يكتب مقاله الاسبوعي او ينظم اية ابيات من الشعر من دون ان يتنفس نسيما عليلا .
كلمة اخيرة
وأخيرا ، لابد من كلمة حيادية سواء بينه وبين خصومه ليس من خصوم المهنة من الشعراء والادباء .. بل من فئات عربية حزبية وفردية .. سياسية ودينية وحتى من نقاد اختلفوا جميعا مع نزار وفي مقدمتهم الصديق الناقد جهاد فاضل.. ولكنني أقول بأن نزارا سيبقى ظاهرة ادبية عربية مثيرة للجدل على امتداد زمني طويل ! وسيبقى اسم نزار مدويا كواحد من ابرز شعراء العرب في القرن العشرين برغم تناقضاته السياسية . وآخر ما يمكنني ان أسأل : هل استطاع نزار قباني ان ينسف البنى الاجتماعية التقليدية وأزمة التناقضات السياسية الشعرية ؟ أقول بأن شاعر الرسم بالكلمات قد فشل فشلا ذريعا امام نسفه للتقاليد الاجتماعية التي كانت وستبقى اكبر منه على امتداد زمن ليس بالقصير ابدا. ولكن سيبقى اسم نزار قباني كبيرا ، وسيردد الناس اشعاره .. لقد عاش ورحل وهو ظاهرة أدبية وشعرية في حياتنا الثقافية العربية الحديثة .
ملحق :
في آخر هذا " المطاف " ، يسرّني ان انقل لكم فقرات من قصيدة شاعرنا نزار قباني ( هوامش على دفتر النكسة ) ، وهي القصيدة التي قمت بنشرها عام 1968 - 1969 ، وانا طالب في الثانوية الشرقية وعلى صفحات جريدتنا " الاصداء " الاسبوعية التي كنت احررّها رفقة الصديق المرحوم عبود عبد الله بكر والذي استشهد في الحرب العراقية الايرانية عام 1982 وكان اديبا يكتب القصة القصيرة ببراعة متناهية ، وكان ان صدر قرار بالغاء اصدار الصحيفة وتوقيعنا على تعهد بعدم نشر القصيدة في اي مكان ، وكنا في السابعة عشرة من العمر فقط ! وها هو ذا نص ما نشر في الاصداء :
الى كل الدنيا .. الى كل العرب
تحية من القلب
من دواعي السرور والالم .. من اعماق الاحزان والامل ان أنقل لكم قصيدة الشاعر الكبير نزار قباني .. وهو يشّخص الداء ويصوّر العلل .. هذا " النص " الجرئ الذي ولد في ساعة الاحزان المبكية وهو يشير الى امراض الامة العربية المجيدة .. ويدعوها الى ولادة جديدة والى وصول جيل جديد بعد حلول الكارثة .. استمعوا اليه ، وهو ينعي هذا الحاضر المنكود .. فهل علمّنا الدرس بعد كل المهزلة ؟
سيّار الجميل
المحرر
هوامش على دفتر النكسة
كتبت في أعقاب نكسة حزيران (يونيو) 1967


1
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمه
والكتبَ القديمه
أنعي لكم..
كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمه..
ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمه
أنعي لكم.. أنعي لكم
نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمه
2
مالحةٌ في فمِنا القصائد
مالحةٌ ضفائرُ النساء
والليلُ، والأستارُ، والمقاعد
مالحةٌ أمامنا الأشياء
3
يا وطني الحزين
حوّلتَني بلحظةٍ
من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين
لشاعرٍ يكتبُ بالسكين
4
لأنَّ ما نحسّهُ أكبرُ من أوراقنا
لا بدَّ أن نخجلَ من أشعارنا
5
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
6
السرُّ في مأساتنا
صراخنا أضخمُ من أصواتنا
وسيفُنا أطولُ من قاماتنا
7
خلاصةُ القضيّهْ
توجزُ في عبارهْ
لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ
والروحُ جاهليّهْ...
8
بالنّايِ والمزمار..
لا يحدثُ انتصار
9
كلّفَنا ارتجالُنا
خمسينَ ألفَ خيمةٍ جديدهْ
10
لا تلعنوا السماءْ
إذا تخلّت عنكمُ..
لا تلعنوا الظروفْ
فالله يؤتي النصرَ من يشاءْ
وليس حدّاداً لديكم.. يصنعُ السيوفْ
11
يوجعُني أن أسمعَ الأنباءَ في الصباحْ
يوجعُني.. أن أسمعَ النُّباحْ..
12
ما دخلَ اليهودُ من حدودِنا
وإنما..
تسرّبوا كالنملِ.. من عيوبنا
13
خمسةُ آلافِ سنهْ..
ونحنُ في السردابْ
ذقوننا طويلةٌ
نقودنا مجهولةٌ
عيوننا مرافئُ الذبابْ
يا أصدقائي:
جرّبوا أن تكسروا الأبوابْ
أن تغسلوا أفكاركم، وتغسلوا الأثوابْ
يا أصدقائي:
جرّبوا أن تقرؤوا كتابْ..
أن تكتبوا كتابْ
أن تزرعوا الحروفَ، والرُّمانَ، والأعنابْ
أن تبحروا إلى بلادِ الثلجِ والضبابْ
فالناسُ يجهلونكم.. في خارجِ السردابْ
الناسُ يحسبونكم نوعاً من الذئابْ...
14
جلودُنا ميتةُ الإحساسْ
أرواحُنا تشكو منَ الإفلاسْ
أيامنا تدورُ بين الزارِ، والشطرنجِ، والنعاسْ
هل نحنُ "خيرُ أمةٍ قد أخرجت للناسْ" ؟...
15
كانَ بوسعِ نفطنا الدافقِ بالصحاري
أن يستحيلَ خنجراً..
من لهبٍ ونارِ..
لكنهُ..
واخجلةَ الأشرافِ من قريشٍ
وخجلةَ الأحرارِ من أوسٍ ومن نزارِ
يراقُ تحتَ أرجلِ الجواري...
16
نركضُ في الشوارعِ
نحملُ تحتَ إبطنا الحبالا..
نمارسُ السَحْلَ بلا تبصُّرٍ
نحطّمُ الزجاجَ والأقفالا..
نمدحُ كالضفادعِ
نشتمُ كالضفادعِ
نجعلُ من أقزامنا أبطالا..
نجعلُ من أشرافنا أنذالا..
نرتجلُ البطولةَ ارتجالا..
نقعدُ في الجوامعِ..
تنابلاً.. كُسالى
نشطرُ الأبياتَ، أو نؤلّفُ الأمثالا..
ونشحذُ النصرَ على عدوِّنا..
من عندهِ تعالى...
17
لو أحدٌ يمنحني الأمانْ..
لو كنتُ أستطيعُ أن أقابلَ السلطانْ
قلتُ لهُ: يا سيّدي السلطانْ
كلابكَ المفترساتُ مزّقت ردائي
ومخبروكَ دائماً ورائي..
عيونهم ورائي..
أنوفهم ورائي..
أقدامهم ورائي..
كالقدرِ المحتومِ، كالقضاءِ
يستجوبونَ زوجتي
ويكتبونَ عندهم..
أسماءَ أصدقائي..
يا حضرةَ السلطانْ
لأنني اقتربتُ من أسواركَ الصمَّاءِ
لأنني..
حاولتُ أن أكشفَ عن حزني.. وعن بلائي
ضُربتُ بالحذاءِ..
أرغمني جندُكَ أن آكُلَ من حذائي
يا سيّدي..
يا سيّدي السلطانْ
لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ
لأنَّ نصفَ شعبنا.. ليسَ لهُ لسانْ
ما قيمةُ الشعبِ الذي ليسَ لهُ لسانْ؟
لأنَّ نصفَ شعبنا..
محاصرٌ كالنملِ والجرذانْ..
في داخلِ الجدرانْ..
لو أحدٌ يمنحُني الأمانْ
من عسكرِ السلطانْ..
قُلتُ لهُ: لقد خسرتَ الحربَ مرتينْ..
لأنكَ انفصلتَ عن قضيةِ الإنسانْ..
18
لو أننا لم ندفنِ الوحدةَ في الترابْ
لو لم نمزّقْ جسمَها الطَّريَّ بالحرابْ
لو بقيتْ في داخلِ العيونِ والأهدابْ
لما استباحتْ لحمَنا الكلابْ..
19
نريدُ جيلاً غاضباً..
نريدُ جيلاً يفلحُ الآفاقْ
وينكشُ التاريخَ من جذورهِ..
وينكشُ الفكرَ من الأعماقْ
نريدُ جيلاً قادماً..
مختلفَ الملامحْ..
لا يغفرُ الأخطاءَ.. لا يسامحْ..
لا ينحني..
لا يعرفُ النفاقْ..
نريدُ جيلاً..
رائداً..
عملاقْ..
20
يا أيُّها الأطفالْ..
من المحيطِ للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمالْ
وأنتمُ الجيلُ الذي سيكسرُ الأغلالْ
ويقتلُ الأفيونَ في رؤوسنا..
ويقتلُ الخيالْ..
يا أيُها الأطفالُ أنتمْ –بعدُ- طيّبونْ
وطاهرونَ، كالندى والثلجِ، طاهرونْ
لا تقرؤوا عن جيلنا المهزومِ يا أطفالْ
فنحنُ خائبونْ..
ونحنُ، مثلَ قشرةِ البطيخِ، تافهونْ
ونحنُ منخورونَ.. منخورونَ.. كالنعالْ
لا تقرؤوا أخبارَنا
لا تقتفوا آثارنا
لا تقبلوا أفكارنا
فنحنُ جيلُ القيءِ، والزُّهريِّ، والسعالْ
ونحنُ جيلُ الدجْلِ، والرقصِ على الحبالْ
يا أيها الأطفالْ:
يا مطرَ الربيعِ.. يا سنابلَ الآمالْ
أنتمْ بذورُ الخصبِ في حياتنا العقيمهْ
وأنتمُ الجيلُ الذي سيهزمُ الهزيمهْ...


( فصلة من كتاب الدكتور سّيار الجميل : نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية )
www.sayyaraljamil.com
 

83
باراك حسين اوباما : البدل الامريكي الضائع !

د. سّيار الجَميل
كلما فكّرت في مسألة  باراك حسين أوباما، الذي سيفوز في الانتخابات الامريكية بمنصب الرئاسة ، أجد انه سيدفع البدل الامريكي الضائع مهما كانت فرصته بالفوز كبيرة ، وبالرغم من صراع  الديمقراطيين والجمهوريين ، الا ان فرصة اوباما مهما كبرت ، فان منطق الاحداث اليوم والتاريخ الامريكي لا يسمحان ابدا بأن يكون رئيسا للولايات المتحدة الامريكية ! صحيح انه يستقطب اليوم كل الناس في العالم والدعاية والاعلام ، الا ان الاوراق الامريكية لم تفرد كلها ، وخصوصا ذاك الكامن وراء صنع الاحداث .. فما هو الفرق بين اوباما بدلا ضائعا للرئاسة وبين الفرصة الامريكية المعاصرة التي تديرها المصالح الكبرى التي يستقطبها الجمهوريون وممثلهم المرشح جون مكّين ؟
صحيح ان اوباما قد ولد عام 1961 في هونولولو، بجزيرة هاواي ايام الهوى الديمقراطي بداية عهد جون كيندي ، وصحيح انه من ام امريكية بيضاء ، واب كيني كان يدرس في جامهة هاواي فان اصوله افريقية من كينيا .. صحيح ان اباه انفصل عن امه ولم يتجاوز عمر باراك السنتين وافتقد الاب الذي عاد الى كينيا ، الا ان الولد عاش على حلم البحث عن ابيه ، وكتب كتابا عام 1995 بعنوان Dreams from My Father  وهو يحكي قصة حياته ومنها لقائه بأبيه لقاء حارا بعد سنوات من الافتراق ! وعليه ، فان كانت الفرصة الامريكية ثابتة وراسخة في تقاليدها ، فان اوباما عاش تناقضات لا حصر لها ابدا ، فهو مسلم على دين ابيه بالرغم من انكاره ذلك ، وعاش في كنف زوج امه في جاكراتا وكان مهندس بترول مسلم تزوج بامه واخذها معه الى اندونيسيا وانجب منها ابنة غير شقيقة لباراك اسمها مايا . دخل الولد في صباه مدرسة اسلامية لسنتين ثم انتمى الى مدرسة كاثوليكية او يهودية .
وعندما بلغ أوباما العاشرة من عمره عاد إلى ولاية هاواي ليعيش حياة مرفهة مع جده وجدته لأمه ، وقد عانى أوباما في سنوات المراهقة من مسألة تنوع أصوله العرقية وتحديد هويته الثقافية لدرجة تناوله لفترة وجيزة مخدر الماروانا والكوكايين. ويبدو من التعمق في خفايا مشاعره انه كان يرتبط ارتباطا قويا بذكرى ابيه الكيني وانه يعتز باسمه السواحيلي ، اذ يقال ان باراك من البركة العربية ، انه ما ان سمع عام 1985 بمصرع والده في حادث سير ، حتى سافر الى كينيا لزيارة قبر والده .
وعليه ، اذا كانت عقدة الاب المفقود لاحقته طويلا ، وافتقد امه وهو شاب ، فان عقدة  ملامحه الافريقية تلاحقه حتى اليوم ، فما بال عقدة الديانة التي صدمته  هي الاخرى في مجتمع له اعتباراته ، وان الظاهر فيه لا يعكس الباطن ابدا .. انه يدرك ذلك تماما ، فهو يتنّصل عن اسلامه ، فان نجح في ذلك ، فلا يمكنه ابدا التخّلي عن ملامحه واصوله وبالذات عن اسم ابيه .. وكلها اوراق لها حساباتها في اختيار الرئيس ! وصحيح انه كان ناجحا في دراسته في جامعتي كولومبيا وهارفرد وغدا استاذا للقانون في جامعة الينوي وصولا الى ان يكون سيناتورا في مجلس الشيوخ عام 1996 ، لكنه أصبح واحداً من أصغر أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي سناً وأول سيناتور أسود في تاريخ مجلس الشيوخ الأمريكي.
صحيح انه في إطار حملته الانتخابية، يسعى إلى كسب أصوات اليهود الأمريكيين، واففتح مدونة باللغة العبرية، للتأكيد على تأييده غير محدود لإسرائيل وتطرفه الزائد تجاه اليهود في العالم ، وللتصدي صورة أوباما المعادية لإسرائيل التي أضرت به خلال حملته ، ان المعادلة لا تحسب هكذا عندما يتعلّق الامر بشخص سيحتل الموقع الاول في العالم ويكون رئيسا لاكبر دولة تستقطب ارادتها كل هذا العالم !  لقد كانت الدعاية له لانتخابات الكونغرس عام 2006 كبيرة جدا ، وتوقعّت مجلة التايم ان يكون اوباما رئيسا قادما ، وتحدثت الاذاعات وشبكات الاخبار عن مستقبله السياسي .. وعليه ، فلقد كان الشاب مترددا في الترشيح ، ولكن الدعاية واغلفة اشهر المجلات والمواقع الالكترونية دفعته الى خوض هذه المغامرة التاريخية التي لا يدرك احد حتى اليوم ما خفاياها والى اين ستقود ، وهل من السهولة ان يحكم مثل هذا الرجل امريكا وفي مثل هذه المرحلة بالذات ؟
اذا كان اوباما قد تحدث عن حياته الشخصية في كتابه الاول ، فانه يتحدث عن حياته السياسية في كتابه الثاني " جرأة الامل " The Audacity of Hope" ، ولكنني اراه متذبذب الرأي ازاء اهم قضايا الشرق الاوسط .. ان كان قد اهتم بقضايا امريكا الداخلية اهتماما كبيرا ، فان قضايا العالم قد تتفوق كثيرا في حسابات امريكا على اية قضايا اخرى اليوم .. ربما كان خطيبا مفوّها وسياسيا حاذقا ، ولكنه اضعف من مواجهة المستقبل . ان من الصعوبة التاريخية على القوى المحركة للاحداث وعلى الشركات الكبرى وعلى اصحاب النفوذ ليس من الجمهوريين وحدهم ، بل حتى من الديمقراطيين قبوله رئيسا .. ربما فاز الرجل ، لكنه سيواجه حتما تحديات اكبر منه ليس باستطاعته مقاومتها او الاستجابة لها .. انه سيرضى ان يكون بديلا امريكيا ضائعا وسط عالم لا تقتصر سيرورته على الدعاية والاعلام وصناديق الانتخاب ، بل ثمة تقاليد لا يمكن تجاوزها اولا ، وفي عالم مشحون بالصراعات التي خلقتها امريكا ثانيا ، وفي حياة لم تعد تسّيرها مبادئ الامس ، بل تستحوذ عليها حيتان المستقبل .

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 11 يونيو 2008

84
الدكتور محمّد صدّيق الجليلي.. الفيلسوف .. الفلكي والاديب الموسيقار المجهول.. صندوق موصلي عراقي مقفل من المعرفة الموسوعية الغائبة !

أ.د. سيّار الجَميل


" المقامات العراقية مستودع لكل الانغام الشرقية "
الجليلي

سيرة مختزلة
شخصية غريبة الاطوار لرجل موسوعي المعرفة ينتمي الى الجيل القديم ، جيل ما بين الحربين العظميين ، وسليل باشوات الاسرة الجليلية وبيكاتها الذين حكموا ولاية الموصل في القرن الثامن عشر 1726-1834 ، فضلا عن حكم بعض زعمائهم ولايات اخرى ابان العهد العثماني ، ومن اشهر الاجداد الجليليين الوزير الحاج حسين باشا وولده الوزير الغازي محمد امين باشا والوزير سليمان باشا وصولا الى الوزيرين نعمان باشا ويحيى باشا.. وكانت للقادة الوزراء والعلماء والادباء من الجليليين ادوارهم التاريخية الكبرى ، ليس للعثمانيين حسب ، بل للموصل والعراق بشكل خاص ، اذ كان العراق قد تعّرض لاكبر التحديات الخطيرة ، فضلا عن ازدهار الموصل على عهدهم اقتصاديا وتجاريا وثقافيا وحضاريا .
ولد محمد صديق بك بن امين بك الجليلي في مدينة الموصل عام 1903 ، ودرس في مدارسها ، ثم التحق منذ العشرينيات بدائرة البحث والتنقيب في كلية بيبل القديمة بجامعة كنساس بالولايات المتحدة الامريكية فحصل على الباكالوريوس والماجستير في العلوم والدكتوراه في الفلسفة ثم عاد الى وطنه ولم يعمل ابدا لدى الحكومة العراقية ، بل انصرف الى ادارة شؤون املاك اسرته والى الشؤون الاجتماعية والثقافية وانتخب عضوا في المجلس البلدي بالموصل عام 1931 ، وانتخب عند شيخوخته رئيسا لجمعية التراث العربي في الموصل العام 1973 واستمر في عمله فيها حتى عام 1977 وكان من اعضائها السادة المؤرخ سعيد الديوه جي والمؤرخ احمد الصوفي والشاعر محمد علي العدواني والخطاط يوسف ذنون والمفهرس سالم عبد الرزاق احمد امين مكتبة الاوقاف والتربوي هشام الطالب والمحقق محمد نايف الدليمي وغيرهم من باحثي الموصل في مختلف الاهتمامات.
مشاركاته ومنشوراته
لقد شارك في مؤتمرات علمية كثيرة وكانت تربطه صلات علمية وثيقة مع عدد كبير من مستشرقين وعلماء عرب وغربيين ، ومنهم المستشرق الالماني تركي الاصل فؤاد سزكين الذي زار العراق وحضر رفقة الجليلي حفل افتتاح مكتبة الاوقاف العامة بالموصل التي تضم اندر المخطوطات التي احترزت عليها مدينة الموصل بعد ان جمعت من المكتبات الخاصة . وللاستاذ الجليلي عدة مؤلفات وتحقيق لمخطوطات ونشر عددا من البحوث والدراسات في التاريخ والفلك والتقاويم والموسيقى .. نعم ، لقد انصرف الجليلي الى الدرس والبحث والتأليف فكان واحداً من كبار مثقفي الموصل الحدباء وله من الكتب المنشورة كتاب عثمان الحيائي الجليلي الموسوم (الحجة على من زاد على ابن حجه) عام 1937 ونشر كتاب المؤرخ ياسين افندي الخطيب العمري الذي صدر عام 1940 بعنوان (غرائب الاثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر) من دون تحقيق . وللدكتور الجليلي بحوث عديدة في الموسيقى ، اهمها (المقامات الموسيقية في الموصل) سنة 1941 و(الاصطياف في حمام العليل) سنة 1965. لقد كان مشاركا اساسيا عام 1964 في المؤتمر الموسيقي الذي عقد ببغداد ، والقى بحثه الشهير (التراث الموسيقي في الموصل) ، وهو مستل من بحثه القديم الذي صدر عام 1941 ثم طبع البحث في العام نفسه ( اي في العام 1964) على شكل كراس في مطبعة الجمهورية كما اذكر . حقق ايضا ديوان الشاعر حسن عبد الباقي الموصلي في العام 1965 .. وكنت اعرف منه ان عدة تحقيقات ومؤلفات كان قد عمل عليها ، وهي جاهزة للنشر ، ولن لا أحد يدري اليوم اين هي اعماله المجهولة !

موسوعيته العلمية
كان فيلسوفا له اطلاع واسع جدا بحكم دراساته منذ حصوله شهادة الدكتوراه عن فلاسفة اليونان والعرب فضلا عن معرفته الواسعة بالرياضيات وتبّحره في العلوم الفلكية نظريا وتطبيقيا .. وكان معروفا بخبرته في وضع سمت القبلة .. وقد فعل ذلك لعدد كبير من المساجد والجوامع فضلا عن معرفته لمواقع النجوم وقياساته التطبيقية لحركة الارض ضمن المجموعة الشمسية وتعمقه في التقويمات الزمنية التي له باع كبير في تبديل حساباتها ناهيكم عن معرفته الخاصة بعلم المزاول والجفر والاسطرلابات والساعات الفلكية . ولقد استطاع ان ينجز اعمالا مادية وعدة مزاول شمسية في احتساب الوقت منها واحدة كانت في قلب احدى ساحات مدينة الموصل امام مبنى المحافظة عند ساحة الجمهورية ، ولا ادري ما الذي حّل بها اليوم . وساهم في حل رموز مزاول اخرى اكتشفت في اماكن عدة من العالم الاسلامي مثل القيروان ودمشق وسامراء اذ كان هو الرجل الوحيد الذي له دراية بها في هذا العالم .. اضافة الى علمه الواسع في الموسيقى الشرقية وخصوصا الانغام العربية والسلم الموسيقى وهو يجيد اجادة كاملة المقامات العربية كاملة واشتقاقات المقامات العراقية البغدادية والموصلية والتركية فضلا عن الموشحات الاندلسية والتواشيح الدينية فضلا عن معرفته الواسعة بالتنزيلات الموصلية ويعرف تراجم وحياة كل الفنانين القدماء ..
مجلس ثقافي ومكتبة تجمع النوادر
وكان له مجلس معروف بزواره وتقاليده وادبياته يستقبل فيه الادباء والعلماء ورجالات البلد واعيانها.. ومجلسه في الطابق العلوي من ملحق منفصل في بيوت الجليليين القديمة بمنطقة المياّسة في الموصل القديمة ، ومجلسه عبارة عن قاعة كبيرة تفترشها سجادة ايرانية ثمينة على مساحتها وتحيط اطقم الجلوس الكلاسيكية بها وفي صدر المجلس كرسي خشبي كبير يجلس عليه الدكتور الجليلي وقلما يجلس طويلا ، اذ يتحرك في ارجاء المجلس كثيرا بقامته المديدة ويدخن كثيرا بحيث لا تنقطع السيكارة من بين اصابعه .. وهناك على طرف بعيد مكتب كبير وقديم من الخشب القديم تحتشد فوقه اوراق واقلام ومحابر واطارات صور قديمة وتحف صغيرة وعدة نظارات وعدسات .. وهو يحاور زواره وتحيط بحيطان المجلس خزائن كتب وتحف ولوحات وصور شخصية وخرائط واسطرلابات قديمة .. ونادل القهوة خارج المجلس يصب القهوة بين الفينة والاخرى .
كان الجليلي يحترز على اثمن مكتبة شخصية في الموصل اذ كان هناك ثمة مكتبات شخصية لعوائل معروفة قد تزيد حجما عليها ، ولكن ليس فيها من النوادر بحجم ما تحترز عليه مكتبته ، فلقد جمع فيها كل النوادر والغرائب من الكتب وفرائد المخطوطات ونوادر الصحف والمجلات القديمة التي كانت تصدر عربيا منذ القرن التاسع عشر ، فضلا عن مكتبة موسيقية نادرة بمحتوياتها من تسجيلات واسطوانات قديمة لأعظم الفنانين القدماء الكبار امثال : الشيخ عبده الحامولي وسيد درويش وصالح عبد الحي والملا عثمان الموصلي وسيد احمد الموصلي ( ابن الكفر ) ومنيرة المهدية وام كلثوم وغيرهم .. كانت صلتي بهذا المكان العريق تعود الى طفولتي عندما يأخذني والدي ـ رحمه الله ـ بمعيته اليه وكان واحدا من أعزّ اصدقائه ، وكنت اجلس صامتا ارقب واتابع كل ما في المجلس واتذكر بأن النادل القهوجي كان يأتيني بفنجان فيه قهوة حلوة جدا كلها سكر ليست كقهوة الرجال .. وبقيت علاقتي بذلك المكان بين حين وآخر من شبابي الاول ، وقد تعلمت منه الكثير ، ومن رجالاته الذين كانوا ذاكرة تاريخية متوقدّة ، بل ما يميزّهم اصول المجالس وآداب الحوار وغنى الموضوعات .

امكانات الرجل كما عرفتها
كان محمد صديق الجليلي واحدا من اقدم الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم من العراقيين منذ مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين .. وجمع جملة هائلة من المعارف فهو موسوعي لا يتحدث عن شيىء من دون سابق معرفة به ، وكان ضليعا في الفلسفة وخصوصا في الميتافزيقيا والمنطق وكثيرا ما كان يصحح للاخرين اخطاءهم .. فضلا عن تضلعه في التواريخ المحلية والسير والشخصيات التي عاشت في القرون الثلاثة الماضية .. له قدرة عجيبة في حفظ الانساب والاصول فضلا عن مداركه العليا في التراث العربي الاسلامي والعلوم الطبيعية والفلكية والفلسفية . وكان يحفظ من الشعر والقصائد الاف الابيات وله اطلاع على ما انجزه الشعراء والادباء والمؤلفين والمؤرخين في القرون المتأخرة .
كان من عادته ـ ايضا ـ ان يسجل كل يوم منذ باكورة شبابه اهم الاحداث اليومية في مفكرته ويعّلق عليها . وعليه ، فان حصيلة سنوات طوال من حياته وما حفظ من تسجيلاته وتعليقاته تشكّل سفرا وثائقيا تاريخيا رائعا من اسفار القرن العشرين ، ولكن اين هو الان ذلك السفر من المفّكرات ؟؟ اين ذهبت ؟ من يحترز عليها اليوم ؟ لآ أحد يدري ! وكان مترجمنا يهوى السفر كثيرا ، وقد ساح في بلدان عدة وتعرّف على طبائع الناس ، واستمع الى كبار المطربين . وكان مؤرخا ومحققا في آن واحد ، وبالرغم من قلة نتاجاته العلمية ، فقد انتج بعض الكتابات النادرة في التاريخ المحلي والشعر والموسيقى في مدينة الموصل . ومن امكاناته الاخرى التي وجدتها فيه بنفسي ، انه ببساطة شديدة باستطاعته تحويل تواريخ دقيقة معينة من التقويم الغريغوري الى التقويم الهجري وبالعكس فضلا عن التقويم العثماني مشافهة وبشكل مباشر .. اي بمعنى ان باستطاعته شفويا ان يعطيك وقتا معينا في يوم معين من شهر وسنة معينين يقابل بالضبط وقتا معينا من شهر وسنة معينين في تقويم آخر .. وله قدرة فائقة في قراءة الاسطرلابات القديمة ناهيكم عن اعطائه شفويا ما يقابل اي تاريخ شعري معين من كلمة او شطر معين باحتسابه مباشرة من دون اي رجوع تحريري !!

مصير تراثه ومكتنزاته الغنية
كان للدكتور محمد صديق الجليلي ولدين وثلاث بنات ، وقد اعتنى بهم وبثقافتهم العليا . توفي ولده البكر عدنان قبل والده نظرا لما كان يعانيه من مرض عضال ، اما الثاني انيس فلقد كان متمردا الى اقصى الحدود مما دعاه بعد وفاة والده ان يهدي مكتبة صديق الجليلي بكل موجوداتها وتراثها النادر الى رئاسة الجمهورية العراقية والقصر الجمهوري ( ويقال ان ضغطا سياسيا مورس ضده لتسليم تلك المكتبة بكل موجوداتها واوراقها الثمينة) فرحلت تلك الكنوز الى واحد من الاماكن السرية للدولة الراحلة ، وكانت رحلة نهائية من الموصل الى بغداد من دون رجعة ابدا .. ولا يعرف مصيرها حتى اليوم . لقد تألمت جدا عندما سمعت بذلك وكنت اقيم وقت ذاك ببريطانيا لأنني ادرك بأن ليس هناك ما يشابه النوادر التي كان قد جمعها صديق بيك الجليلي على امتداد حياته ومنها ما كان قد توارثه عن ابائه وأجداده القدماء من الباشوات الجليليين زعماء الموصل منذ القرن الثامن عشر. انني بهذه " المناسبة " ، وبعد مرور قرابة ثلاثين سنة على رحيل الرجل ، أسأل كل الاخوة المسؤولين على مكتبات بغداد الرسمية ان كانوا يعرفون شيئا عن تراث الاستاذ صديق الجليلي وكنوزه الثقافية وهل هي موجودة حقا ، فهي تشكّل حقا ذاكرة ثقافية للعراق لا تقدّر بأية اثمان .

لقاءات علمية وموسيقية
عرفته من خلال مقاربة عائلية وصداقة اسرية قديمة الجذور .. ولقد افادني الرجل كثيرا بتقديمه لي معلومات تاريخية نادرة وانا اعد اطروحتي للدكتوراه ، كما سمح لي بتصوير جملة من المخطوطات المحلية ، ومنحني عدة قصائد نادرة لبعض الشعراء العراقيين امثال : كاظم الازري وعبد الغني الجميل وعبد الله راقم افندي وغيرهم .. وقبل ذلك كنت قد جمعت في مجلد مخطوط كبير العشرات من التنزيلات الموصلية ( وهي قصائد من الموشحات الشعرية الجميلة المختص بها مجتمع الموصل والتي تنشد بتلاحين وانغام مختلفة في المناسبات الدينية ) بعد رحلة مضنية في كل محّلات الموصل القديمة ، وقد اطلع على ذلك المخطوط كاملا وسجّل عليه ملاحظات مهمة جدا بقلمه الاحمر ، كما سجل على كل تنزيلة نوع المقام الذي تغنى به .. ولم يزل هذا العمل المخطوط بمجلد كبير لم ير النور بعد وهو يضم المئات من التنزيلات التي نظمها عدد كبير من شعراء الموصل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين ..
وعندما حل الفنان السوري المعروف الاستاذ المطرب صباح فخري بالموصل العام 1972 لاحياء حفلات فيها بمناسبة مهرجان الربيع ، طلب مني بواسطة الست ماري زوجة الصيدلي الراحل زكر عبد النور ، وهي سيدة حلبية قديرة عاشت بالموصل ان يلتقي الاستاذ الجليلي فأخذته اليه بسيارتي في يوم غزير المطر ، وبرفقة الاستاذ حازم الشيخ علي ، ورحبّ الدكتور الجليلي بضيفه ترحيبا خاصا ، وجرى الحديث عن الطرب العربي والنغم الشرقي وعن روائع العرب في هذا المجال وعن الاصوات والطبقات الموسيقية وعن الموسيقى وبحرها من العلوم وعن الالحان وعن العُرًب الموسيقية والصوتية .. وأذكر ان محاورة رائعة جرت بينهما .. وكان الفنان صباح فخري يسأل صديق بيك الجليلي عن معلومات لا حصر لها بصدد بعض المقامات والنغمات وعن الفنانين المصريين والعرب القدماء وطرق ادائهم وخصوصا الشيخ عبده الحمولي وابو خليل القباني والشيخ ابو العلا محمد والشيخ زكريا احمد والسيد درويش والقصبجي وغيرهم .
في تلك " الجلسة " التاريخية النادرة ، اسمعنا الاستاذ الجليلي رفقة صباح فخري بعض نوادر الطرب العربي من خلال الاسطوانات القديمة وبعض التسجيلات التي لا مثيل لها لكل من الملا عثمان الموصلي والشيخ عبده الحمولي . لقد سمعت من الاستاذ الجليلي العديد من الافكار الجديدة عن الموسيقى الشرقية التي عنده مرجعياتها واصولها ، ومنها جملة الحان غنائية شاعت في مشرقنا العربي وصاحبها كلها هو الموسيقار العظيم الملا عثمان الموصلي ( 1854 ـ 1923 ) الذي يعتبره استاذا للجميع في الشرق كله ، اذ يعّد الملا عثمان المؤسس الحقيقي للموسيقى العربية الحديثة ، وقد قال لي يوما بأن اغلب ما نسمعه من الحان اغنيات رائجة تعود في اصلها الى الملا عثمان الموصلي .. ومن افكار الدكتور الجليلي ومعلوماته ايضا ان المقامات العراقية سواء البغدادية او المصلاوية او الكركوكية هي المستودع الحقيقي والمنجم الهائل لكل الانغام الموسيقية وحركة الاصوات في منطقتنا ، وانها حصيلة مزج رائع بين العربية والتركية والفارسية والسريانية والكردية ! وفي تلك الليلة ، كانت هناك حفلة خاصة للمطرب صباح فخري في نادي المحامين بالموصل ، وقد حضر فيها الاستاذ الجليلي رفقة نخبة من اعيان الموصل ومثقفيها ، وغّنت في تلك المناسبة المطربة السورية الراحلة مها الجابري بعض اغنياتها .. ثم تجّلى صباح فخري بأروع ما اشتهر به من القصائد والاغنيات .. ولقد انتهت تلك " الحفلة " بمشكلة تحدثت عنها في فصلة ذكرياتي عن صباح فخري من هذا " الكتاب " .

بعض من عاداته وتقاليده
صديق الجليلي كان اكله قليلا اثناء النهار ولا يأكل شيئا في الليل ابدا .. كان ينام ست ساعات فقط اذ يأوي الى فراشه عند الثانية عشرة ويصحو في السادسة صباحا .. كان لابسا بدلته وربطة عنقه على امتداد النهار ، وتجده يقضي مصالحه مبكرا في الصباح ليعود الى مجلسه ظهرا .. وكانت قضية أراضي قرقوش التي دامت طويلا في المحاكم قد اخذت سنوات من حياته من اجل ان يثبت حقوق الجليليين فيها .. كان يدخن بشراهة لا يمكنني تخيلها ابدا ولا يستطيع ابدا الاستغناء عن فنجان القهوة لأكثر من نصف ساعة .. كان يتحرك كثيرا ولا تجده يجلس الا قليلا او نادرا ، واشتهر بحركة اصابعه وانامله .. كان يحب ان يجتمع عنده كل المريدين والاصدقاء ، وهو يحب ان يتكلم اكثر مما يستمع .. كان هواه في الثقافة والتراث والتاريخ والشعر والموسيقى والغناء .. كان يقدم معلوماته لكل من يقصده من طلبة العلم والادب والفن ، وفعلا كان يقصده العديد منهم وحتى من بلدان عربية واجنبية .. كان كثير السفر ايام شبابه ويذهب الى اقصى مكان من اجل امر يرغب شخصيا في مشاهدته او سماعه او الاستمتاع به .. وهو قوي الذاكرة وحاد الذهن لم ينس شيئا مر به في حياته من دون ان يذكره في وقت مناسب .. كان يعتز بموطنه ومدينته ومنطقته اعتزازا كبيرا ..

رحيله
لقد سمعت عندما كنت اقيم في بريطانيا عام 1980 وانا اعدّ اطروحتي للدكتوراه بأن الاستاذ الجليلي قد رحل عن الدنيا بسبب مرض اصابه ، فتأسفت جدا على علم عراقي كبير يمضي راحلا الى دار البقاء من دون ان تكّرمه وزارة الثقافة والاعلام ، او تؤبنه صحف العراق ، او يقف على رحيله ابناء المدارس دقيقة واحدة ..
واخيرا اقول أنني سمعت قبل ايام بأن كتابا قد صدر مؤخرا في ترجمة الاستاذ الراحل الدكتور محمد صديق الجليلي ، متمنيا من ابناء العراق الاعتناء بذكر رجالاتهم ونسوتهم ، والاستفادة من تجارب من سبقهم في القرن العشرين .. رحمه الله رحمة واسعة .

فصلة من كتاب الدكتور سّيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
www.sayyaraljamil.com
 

85
مسّلة الجوع : أين سلال الغذاء العربية !!

د. سيّار الجَميل

كانت قد اكتشفت وثيقة فرعونية قديمة بمصر تتضمن خطاب احد ملوكها في مسّلة تؤرخ للجوع البشري لأول مرة قبل خمسة الاف سنة ، قال فيها : "إنني أنوح من أعلى عرشي المرتفع، بسبب البؤس الشامل الذي شاء ألا تأتي مياه النيل طوال سبع سنوات في أيامي. إن الحبوب نادرة، وكل فرد اصبح سارقاً لجاره. ويريد الناس أن يركظوا ولكنهم لا يستطيعون. الأطفال يبكون، والشبان يترنحون كالشيوخ، فقد تحطمت نفوسهم، وأيديهم تظل على صدورهم. ومجلس كبار البلاط مقفر. والخزائن فُتحت، ولكنها لا تحتوي على شيء سوى الهواء. لقد نفذ كل شيء". واستعيد ها هنا هذا " النص " نظرا للهلع الذي يصيبنا نحن في منطقتنا جراء المعاناة من المعيشة اليومية وارتفاع الاسعار للغذاء والدواء والمحروقات والسكن .. وصراع مجتمعاتنا من اجل البقاء ، ولكن الفرص غير متكافئة ابدا في حياة اي مجتمع من مجتمعاتنا ..
انني اليوم لا اريد ان اقدّم بانوراما تشاؤمية لمن لا مشكلة مستعصية عنده ، ويعيش رخاء بسبب امكاناته او ثرواته او سلطته في اي مجتمع ، ولكن ينبغي ان يدرك الجميع بدءا بالمسؤولين الحاكمين وانتهاء بالمواطنين العاديين ان ثمة مجاعة قادمة ينبغي التنبيه لها في ظل اوضاع لا تبشّر بخير ابدا .. وينبغي الرد على كل الخاملين والكسالى والمثرثرين والعاطلين الذين ليس لهم اي شعور بالمسؤولية وخطورة ما تتعّرض له مجتمعاتنا التي فتحنا عيوننا منذ صغرنا على مشاكلها ، وكنّا ولم نزل نصغي لمن يردد دوما ان مصائبنا ثلاث : الفقر والجوع والمرض . هنا نسأل من قبيل استعادة التفكير بالمصير ، للعمل على خلق استراتيجية جديدة من اجل المستقبل .. خصوصا وان الغذاء اصبح جزءا حيويا من الصفقات السياسية بين الدول القوية والنظم السياسية الضعيفة .
يتساءل البعض : لماذا خبا وهج الناس سياسيا  وثقافيا وفكريا ؟ من دون ان يفكّر كيف يعيش الناس في  عواصمهم المزدحمة ومدنهم الكئيبة واريافهم الكسيحة . ان كل مجتمعاتنا لا تفّكر الا  في  ارزاقها وكيف تعيش . لم  تعد الهموم السياسية والاوجاع القومية تشغل البال .. لم تعد الاصلاحات والديمقراطية استراتيجية اولوية في التفكير العربي اليوم .. وبنفس الوقت ، لم يعد الشباب يلتصقون بالواقع وبات الجيل الجديد وكأنه منفصم عن واقعه وهارب الى وهج الماضي ومتاهة المجهول ، فلم نجد عنده اية آمال ولا اية مشروعات كالتي كان تتّغنى بها الاجيال السابقة. لقد نجحت السياسات المعاصرة اليوم سواء من النظم السياسية او على يد الاحزاب والتيارات المسيطرة ان تشغل الجيل الجديد بالاوهام والتصورات والشعارات والاغاني الصاخبة وكل الفراغات ..
ان الجوع سيغدو مسلّة عربية قريبا ، وستندر فرص الاستدامة في الحياة ، وسيهدد وجودنا في المستقبل .. السكان في حالة ازدياد ديموغرافي غير طبيعية ، المياه قليلة وتشح يوما بعد آخر .. اخفاق كل كياناتنا السياسية  في تبني استراتيجيات وقائية بعد ان اخفقت اهم بلداننا العربية الزراعية في بناء ثورات زراعية ! اذ كانت سهول العراق وبنادر مصر وغابات السودان ومروج سوريا تعتبر كلها بلا استثناء سلال غذاء عربية لو طبقت فيها مشروعات اروائية وزراعية متطورة كما جرى في بلدان اوربية وآسيوية اخرى ، ومنها بلدان مجاورة ! ان كلا من تركيا واسرائيل يعدان من  اهم بلدان المنطقة تطويرا للثروات الانتاجية الزراعية والحيوانية والتربية السمكية وعلوم الجينات الزراعية . علينا ان نسأل أنفسنا : ما الذي اعاقنا منذ خمسين سنة في جعل عدة بيئات عربية غنية بعناصر الانتاج والمياه والانسان تموت سلالها الغذائية ، وباتت تعيش على الاستيرادات او على المساعدات ؟ ما الذي جنته النظم السياسية العربية بحق مجتمعاتنا العربية التي لا تعرف ما الذي تأكله وتقتات عليه اليوم ؟ بل وباتت بعض حكوماتنا لا تستطيع تنفيذ اية سياسات داخلية زراعية كونها ربطت نفسها بمصالح امريكية ومواثيق دولية !
ما جناية الملايين من الناس الذين تركوا اراضيهم الزراعية ليقطنوا حول احزمة المدن البائسة ، ويغدو هؤلاء عالة حقيقية على المدن ، بل وقنابل موقوتة ضدها ؟ ما الذي جعل مجتمعاتنا تركض لهاثا وراء الدولة من اجل راتب شهري دون انتاج حقيقي يومي ؟ ما الذي ضّييع فرص الاكتفاء الذاتي في دول عربية كانت تصدر الى العالم كله القمح والشعير والقطن والجلود والصمغ والارز والتبوغ .. ؟ ما الذي فعلته نظم الاصلاح الزراعي التي تشدقّت بها النظم الثورية العربية في اهم بلداننا الزراعية ؟ ما الذي فعلته دول المغرب العربي ازاء شح المياه الجوفية وشح الامطار ؟  لماذا  اعتمدت مجتمعاتنا في غذائها على ما هو مستورد من الخارج ، وخصوصا القمح والشعير والارز  باعتبارها اساس الغذاء  اليومي لعيش الانسان ؟ اين تونس الخضراء واين اليمن السعيد ؟ اين بلاد وادي الرافدين ؟ اين مصر هبة النيل ؟ اين سهوب الجزائر ؟ اين الريف المغربي ؟ اين الجبال ؟ اين السواحل والدواخل ؟
واخيرا : ما الذي يمكننا فعله اليوم ؟
اقول مناشدا كل عالمنا العربي العمل الجاد لبدء استراتيجية جديدة خاصة بالانتاج الزراعي ، والعمل على حلحلة المشكلات الداخلية ، والاسراع باحياء المشروعات الاستراتيجية الانتاجية العربية التي لم تر النور ابدا ، والاستفادة من خبرات وتجارب العالم كله في هذا الجانب ، فالمسألة خطيرة جدا ، وينبغي التوقف عندها وتسهيل فرص العمل .. او دعونا ننتظر اجتياح المجاعة لكل مجتمعاتنا لا سمح الله .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 4 حزيران / يونيو 2008

86
الشرق الاوسط في سلّة امريكية !

د. سيّار الجَميل
لم اكن اصدّق قبل سنين ما كتبه مايلز كوبلاند في " لعبة الامم " ، ولم اكن اّصدق أيضا ان السياسة " لعبة قذرة " ، ولم اكن اصّدق كذلك ان الشرق الاوسط: مزاد يباع فيه كل شيئ ويشترى منه اي شيئ .. كل ذلك وغيره كثير تعلمته من الغاطس في التاريخ ، وادركته من المخفي لما وراء سطور الوثائق ، وخلصت اليه من فهم ما الذي يجنيه الاقوياء وما الذي يخسره الضعفاء ! نشرت قبل ايام مقالا ، وقبل اتفاق اللبنانيين في الدوحة ، قرأت فيه ارتباط كل احداث الشرق الاوسط بعضها بالبعض الاخر، وما يكسبه طرف سيخسره طرف آخر .. والخيوط متعددة ولكنها متشابكة تتجمع في يد واحدة ، هي التي تحرّك كل المقامرة ، وهي التي تجلس في غرفة السيطرة تراقب كل اللعبة، لا يهمها الا ما تجنيه هي في نهاية المطاف، ولا مبادئ ثابتة تحكمها ، فربما كانت متغيراتها تتبدّل كل يوم!
دوما اقول لاصدقائي : اذا ما اختلفتم في تقييم حدث او واقعة معاصرة في الشرق الاوسط ، ونحن من ابنائه ، فابحثوا عن اصحاب المصلحة الحقيقية الذين يترصدون ويظهرون او يغطسون ويختفون ، وفي النهاية يكسبون .. واذا ما عالجتم اوضاع لبنان ـ مثلا ـ ، فلا تنسوا انها مترابطة مع احداث تجري في العراق ، او اخرى في فلسطين او تلك التي في ايران .. ومن يتشبث برأيه وايديولوجيته فهو الخاسر ، لا يفهم سياسة ولا يجيد اللعب فيها ، سواء على مستوى افراد ام احزاب ام دول.. كما اريد القول بأن مصائبنا نحن العرب ، اننا لا نعرف قواعد اللعبة ونخوض في غمار سياسات اقليمية ودولية .. ومن يبقى على مبدأ ( يعيش ويسقط ) او على شعارات الماضي ، واتباع التخوين والعمالة والتكفير.. فهو لا يدرك ان السياسة مصالح ولا علاقة لها لا بالاخوة ولا بالصداقة. وقد علمنا التاريخ ان التحالفات هي شراكة مصالح اولا واخيرا ! واذا ما علمنا ان السياسات هي مجموعة صفقات ومصالح تدار عبر اقنية خفية.. وان اللاعب الحقيقي هو فنان الممكن الصعب، ادركنا قذارة التاريخ السياسي بين الامم ، وخصوصا الكبيرة في تسيير دفة حركة الصغيرة .
انظروا الى الشرق الاوسط والى اللاعبين عليه ، فلا يختلف اثنان سواء كانا زعيمَين ام مواطنَين   ان مقاديره السياسية غدت امريكية ، وانه كان ولم يزل في رعاية امريكية ، وان كل احداثه تتحرك في سلة امريكية، حتى ذاك الذي وصف امريكا بـ " الشيطان الاكبر " فلقد كان جزءا من صفقة " ايران غيت " ! بل ان الذي اشعل حرب 1973 ضد اسرائيل ، وقّع معاهدة امريكية معها في كامب ديفيد عام 1979 ! وان من اراد ان يحّل شرطيا للخليج بعد الشاه جعلته امريكا ينزف ثماني سنوات عجاف في حرب اسموها عن عمد وسبق اصرار بـ " الحرب المنسية " ! وان اضواء خضراء خافتة توزع الادوار في غزو هذا والانسحاب من هناك ! قولوا ما تشاؤون بوصفها " فكرة مؤامرة " والبسوها ما شئتم ، ولكن من السذاجة والغباء ان تتخيل نفسك وحيدا في الميدان ، وميدانك مجال حيوي استراتيجي لا يمكنك السيطرة عليه ازاء من هو اقوى منك !
ربما فرح الفرقاء في لبنان انهم وقعوا اتفاقا ، ولكن علينا ادراك حركة الاحداث، ومن هو الاقوى لبنانيا اليوم ؟ من فرض ارادته ضمن الثلث المعطّل وعدم نزع سلاحه ؟ وبمن يرتبط ؟ وما الدولة الاقليمية الوحيدة التي فاوضها الامريكيون ؟ اين تجدون مصالح امريكا الحقيقية ؟ في العراق ام لبنان ؟ ما سّر بدء المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية وبرعاية تركية هذه المرة ؟ لماذا فشل العّراب الذي يقود الجامعة العربية لأشهر طوال بايجاد أي حل على ارض لبنان .. وفجأة يأتي الحل من بعيد ؟ ما علاقة الاحداث في العراق بكل الصفقة التي تجري في عدة دول شرق اوسطية ؟ ما الذي ساومت عليه ايران ضمن هذه اللعبة ، وهي التي كانت ولم تزل تلعب الكرة لوحدها  بحرية على الساحة ازاء آخرين ظهروا مقيديّن ومصفدين بالاغلال !
لقد بدا لي تماما ان خمسين سنة مضت بكل احداث المنطقة ، وانهار دماء ابنائها ، وحروبها الباردة والوهمية والكارثية ، وانقلاباتها العسكرية ، وجيوب احزابها وجماعاتها وانعقاد مؤتمراتها ،وصفقات العديد من زعمائها ، وقتل بعضهم .. كلها تصبّ في سلة امريكية واحدة ومنذ ايام الحرب الباردة، وانتقالا الى عهد الوفاق ، ووصولا الى ارادة القطب الواحد . وكنت اعتب على الزعماء قراءتهم كتاب " الامير " لميكافيللي ، ولكن اذا كانت تجربة الاخير محكية قبل خمسة قرون ، فكيف بنا اليوم ونحن نعيش في عالم تتفاقم فيه المصالح والشركات بشكل لا يصدّق ؟
هنا اقول ، ان السياسة ليست هي دوما فن الممكن الصعب ، ولكنها في ( دولنا ) فن اجادة اللعب مع الكبار ، والمناورة واداء الادوار سواء كان صاحبها يظهر بنياشينه وصولجاناته العسكرية ، او يبدو بعمامته الدينية ، او ببدلته ، او بعباءته ، او قلنسوته ، او سرواله وزنّاره .. المهم ، هل لك القدرة على ان تحافظ على مصالح بلدك العليا وخدمات شعبك الدنيا ، وانت على قاربك في بحر متلاطم الامواج وتواجه اكبر حوت في الوجود ؟؟
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 28 مايو 2008


87
إشكالية " التاريخ " في الثقافة العراقية


د. سّيار الجميل
لماذا اثارة هذه " الاشكالية " ؟
لما كان العراق ـ كما نعلم ـ هو المهد التاريخي للبشرية ، فالتاريخ العراقي له مكانة كبرى في كل الدنيا منذ القدم .. وسيبقى ذلك الى الابد ، خصوصا في رؤية العالم الى العراق واهله مهما اختلف العراقيون في تقويم انفسهم .. ومهما اهملوا شأن جغرافيتهم ، وقللوا من شأن مركزيتهم في هذا العالم ، لكن للتاريخ طعم خاص لدى العراقيين .. وله مناخات لا حصر لها من انواع متعددة وفضاءات متنوعة .. صحيح انه مضطرب ومنقسم ومزدحم التناقضات في ذاكرتهم ، الا انه يحتل كل تفكيرهم ، فمنهم من يثلمه ، ومنهم من يقصيه ، ومنهم من يعيش بعض تناقضاته ليل نهار وبعض من يتملكه ويحتكره لنفسه ضد غيره .. بل ان رواسب التاريخ وبقاياه هي الاقوى في المجتمع العراقي مقارنة بغيره من المجتمعات !
 وعليه ، فقد غدت المواقف العراقية من التاريخ متباينة على اشد ما يكون التباين ! بل وتكاد حتى الرؤية له من قبل العراقيين مختلفة سواء عند المختصين العراقيين فيه ، او عند المثقفين والساسة ورجال الدين .. سواء كانوا عربا ام غير عرب ، سواء كانوا من ابناء المدن ام من اطرافها ، او عند الطبقات الاجتماعية او لدى الطوائف الدينية او حتى عند هؤلاء الساسة او المتحزبين لهذا الطرف او ذاك .. لقد عرف العراق المعاصر تشظيات لا اول لها ولا آخر .. تشظيات اورثها التاريخ لنا ، او تحزبّات ساهمت في تعطيل ارادتنا الحضارية .. او سياسات طغيان وزعامات دكتاتورية ، او احاديات حزب قائد ، او ميول تحالف جبهة .. الخ كلها  اعتمدت الاحادية وسوقت حتى تواريخنا على اساسها .. الخ
هذه " الاشكالية " التي اثيرها اليوم ، كنت قد عالجت بعض مخاطرها في مكان آخر ولأكثر من مرة منذ عشرين سنة ، فهي مشكلة تفكير ، ومشكلة مجتمع ، ومشكلة تربية ، ومشكلة دولة ، ومشكلة ثقافة اصلا بحيث تتنافر الاراء حول اي مسألة تاريخية تنافرا كبيرا .. وان ما زاد في الطين بلة ، تلك الاخطاء الشائعة المتوارثة والجهل بالتفاصيل التاريخية وجذور الانقسامات الدينية والمذهبية بحيث يحمل كل مذهب او طائفة تاريخه الخاص به وهو يتصادم اصلا مع غيره .. ونجد ايضا دور المؤسسة الرسمية في العراق على نهج معين دون غيره واخيرا سيطرة الايديولوجي والسياسي على المعرفي والعلمي في التاريخ لدى العراقيين المحدثين في القرن العشرين .. ولا يمكنني ان ادّعي بأن مجتمعات عربية واقليمية اخرى لا تعاني من مشكلات تاريخية مستعصية ، ولكنني اجدها اقل بكثير مما يعانيه المجتمع العراقي .. وخصوصا في القرن الذي رحل من دون أي تحولات حقيقية باتجاه سيرورة هذا العصر ، فلقد مضت مائة سنة من دون اي تقدم حقيقي ، ونقف اليوم على حصيلة مريرة من انعكاس كل الادران السياسية والاجتماعية والتربوية والايديولوجية على التفكير السائد اليوم في العراق ازاء التاريخ .. بل وتعد اليوم مشكلة عميقة لا يمكنها ان تحّل بسهولة ابدا ..

العراقيون : هل كانوا بحياديين او موضوعيين في يوم من الايام ؟
 هل تستطيع العلوم الاجتماعية أن تدعي " الموضوعية" عند العراقيين المحدثين أبان  القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين؟ إن جواب هذا "التساؤل" المهم كان ولم يزل موضوعاً لخلافات شديدة بين المجددين والتقليديين ليس في علم التاريخ وحده، بل في علوم الاجتماع والفلسفة والسياسة  إلخ  ونعيد اليوم ـ وفي غمرة التخّلي عن إطار النقاشات الوضعية ـ هذا التساؤل عن مشكلات المعرفة التاريخية العراقية ووظيفتها، فنجدها وفي مختلف التخصصات ومنذ عقد الأربعينات وحتى اليوم قد بذلت عنايتها بالجوانب والتواريخ السياسية على حساب الجوانب ( البنى) والتواريخ الاجتماعية والتطورات الاقتصادية ، وهذا جزء ايضا من ثقافة عربية اشمل واكبر هي المسيطرة على الذهنية السائدة .. اذ غلبت على المؤرخين العرب فعلاً، المعلومات لا المفاهيم ، والأحداث لا الظواهر، والشخوص لا البيئة، والتفاصيل لا المناهج، والسياسة لا المجتمع، والمسردات لا التحليلات .. إلخ .. ان المشكلة التاريخية هي الاخطر اجتماعيا وسياسيا قبل ان تتفاقم تخصصيا ، فالمختصون اصلا من ابناء هذا المجتمع المتنوع الذي تكمن كل مشكلاته في التاريخ اصلا ، وهي تمتد معه نحو الحاضر ، وستبقى ملازمة له نحو المستقبل .. ولكن ؟
كان للمؤرخين العراقيين، افتراضات عدة حول طبيعة الكتابة التاريخية بل وكانت لهم قناعاتهم في بعض المناهج المتبعة في احتراف تلك "الكتابة"، كما حظيت نخب العراق المثقفة في الجيلين السابقين: جيل المد القومي  1949- 1979 ، وجيل المد الديني 1979 – 2009 بنتاج حالات التباين والاختلاف ليس في وجهات النظر، والجدل الفكري بين المدارس الفكرية والفلسفية والسياسية حسب ، بل حتى في توظيف المعلومات كل لصالح ما يؤمن به او يفكر فيه ، وهي ظاهرة غير صحية ابدا في إطار بناء أي مشروع للعقل والتحديث لهذا البلد كالتي شهدنا بعض شعاراتها مرفوعة في كل العهود السياسية التي عايشناها في أوقات عدة، وهنا بيت القصيد .. هل يمكننا خلق الحد الادنى من تلاقي العراقيين فكريا على قواسم مشتركة لأي تاريخ من تواريخهم الثقيلة والمعقدة ؟ هل يمكنهم ان يكونوا حياديين ولو لمرة واحدة في تقييم الاحداث والشخوص والمواقف والنصوص والقادة والوقائع والاحوال .. ؟ هل باستطاعتنا ان نضمن ما يجب تأمينه على مستوى المنهج والمضمون والنتائج من جملة الخيارات التي يجب توفيرها أمام الجيل الجديد ؟ انني واياكم نجد كم كان هناك من تركيز على التفسير القومي للتاريخ في العراق ازاء ما كان من تفسير ماركسي او ديني او عقائدي عند العراقيين .. ولكنها حالة نجدها في اكثر من مجتمع قريب او بعيد .. ولكن ما يلفت النظر عند العراقيين في المجتمع كونهم ينقسمون تاريخيا بشكل حدّي لا يعرف المقاربة ابدا ، ولا يستخدم التراجع ، ولا يمارس المرونة .. وقد جعلهم التاريخ اليوم يتشّظون الى شظايا واشلاء : ملل ونحل وقبائل وطوائف وفروع واحزاب .. كما هو حال لبنان مع فوارق الجغرافية والجيرة ، بل وان المشكلة في العراق اعمق مما نتصور ، اذ جعلهم التاريخ يهربون من حاضرهم ومستقبلهم ليكونوا منتمين الى انقساماته الماضوية من دون ارادتهم وبوعي حضاري مفقود !!

تشخيص خمس مشكلات أساسية :
لا أدعي أبداً أنني قد قرأت كل ما كتب في العراق من كتب وبحوث ورسائل جامعية في التواريخ المتنوعة، ولكنني استطعت الاطلاع على نسبة كبيرة من الكتابات الجامعية والعلمية وغيرها عن العراق على مدى الثلاثين سنة الماضية وانا اعمل في السلك الاكاديمي  . وقد تلمست ثمة إشكاليات أساسية ، ازعم انني قد حللت فحواها بشكل مركز، وحبذا لو أفصحت موضحاً بعض حالاتها الأساسية ومؤكداً على :
1-حاجة الكتابة التاريخية والاجتماعية وخصوصا في تاريخ الثقافة والمجتمع الحديث لـ " النقد" تفكيراً وممارسة من أجل تقويم المنهج مشافهة وتحريراً ، وإفساح المجال لمن له القدرة على " التجديد" في الكتابة والتحليل ، وبناء المصطلحات ، واقتراح التخصصات، أن يمارس دوره منهجياً مع احترام الآراء النقدية لما فيه مصلحة العراق علمياً في المستقبل. ان ما كتب وما يكتب وينشر منذ اكثر من خمسين سنة منه ما هو جدير بالقراءة والتقدير ، ومنه ما هو منحاز او غير حيادي ولا موضوعي ابدا .. ان عزلة العراقيين ـ ايضا ـ قد جعلتهم من البعد بمكان عمّا كتب ونشر عن العراق ، فثمة مواقف ودراسات ومنشورات بغير العربية عن العراق لا يهتم بها العراقيون للاستفادة منها او نقد مضامينها ، او ادراك مفاهيمها .
2- الاستفادة من التخصصات المنهجية جميعاً، تلك التي يعمل بها المؤرخون اليوم في المعاهد المتقدمة، فما يصلح في زمن لا يصلح بالضرورة في زمن آخر. ولكن ما يصلح في مكان فهو يصلح بالضرورة في مكان آخر، وأقصد : كيف يكتب " التاريخ" وكيف تعالج العلوم الاجتماعية والانسانية اليوم من قبلنا ؟ وكيف يكتب "التاريخ" وتعالج تلك العلوم عند غيرنا؟ ان اخطر ما يسود ثقافتنا العراقية هيمنة الايديولوجي على المعرفي وطغيان الرؤية السياسية على الرؤية العلمية ! ان سخونة العواطف وهيمنة الانتماءات وسرعة الاحكام هو السائد في الثقافة العراقية التي نعيشها اليوم ليس في الحاضر حسب ، بل انها تنسحب على الماضي .. والاخطر هو قياس الحاضر ببقايا الماضي .. وأي ماض ؟ انه الماضي العربي الاسلامي الذي يحيا العراقيون في معبده بشكل عضوي مقارنة بماضي الحضارات العراقية الكلاسيكية التي لا يحياها الا بعض المثقفين والمبدعين .. اما التاريخ الحديث والمعاصر ، فكثيرا ما تحدث في تقييمه ودراسته والاستشهاد ببعض احداثه ووقائعه .. جنايات حقيقية ، بل وان العراقيين لا يعرفون من تاريخهم غير الذي تعلموه في مدارسهم بشكل خاطئ .
3- الاهتمام بمضامين التاريخ الاقتصادية والاجتماعية والحضرية – المدينية وبالجوانب الفكرية والثقافية والتنظيمية في بناء التخصصات المعرفية في كتابة التاريخ بالعراق، وكان الأوائل من مؤرخينا ورواد تلك " الكتابة" والمعالجات قد اهتموا بهذه الجوانب الأساسية، ولكن غلبت عليهم فيما بعد أنشطة الكتابة في التواريخ السياسية والعلاقات والدول والإدارة ، وما شابه ذلك. ان التاريخ السياسي هو صاحب الغلبة على التاريخ الحضاري .. ولما كان كّل من التاريخين قد سارا بطريقين مختلفين ووقع الحضاري تحت وطأة السياسي فأماته وقضى عليه منذ اكثر من الف سنة .. فان بقايا السياسي هي الشغل الشاغل للتفكير السائد اليوم .. العراقيون هنا منقسمون بطبيعتهم بين مؤيد ومتفاخر وممّجد ومتعال على العالم بتاريخه المجيد التليد وبين مستاء منه وهارب عنه ويصفه بابشع الصفات القميئة ! وكثيرا ما اسمع من قبل عراقيين ( مثقفين او انصاف مثقفين او ساسة متحزبين ) اننا نحن العراقيين اصحاب الحضارات والتواريخ التي صنعت العالم ولكن على الطرف المقابل ثمة من يقول بأن تاريخنا من ابشع التواريخ بكل ما حفل به من دم وعنف وقتل وطغيان ومقاتل ومظالم .. فهل يمكننا خلق اجيال جديدة تتخلص من هذين الخندقين ؟ والخروج من ازمة هذا التناقض المميت الذي ازداد وتفاقم بشكل كبير جدا ابان ثورة المعلومات المعاصرة .. واذا كانت هذه " الثورة " تأخذ بتقدم المجتمعات ، فانها غدت مثيرة للتناقضات والمشكلات في مجتمعاتنا المتخلفة قاطبة . ولابد من السعي لايجاد البدائل او خلق نقيض النقيض .
كيف ؟
4- التأكيد على وظائف التاريخ الحقيقية في أن يكون المؤرخ واقعي النظرة والرؤية والممارسة ويؤمن بنسبية الاشياء والتفكير عليه ان لا يكون خيالي الفكرة وطوباوي الذهن ومغلق الآفاق ويؤمن بمطلقات الاشياء والشعارات ، وعليه ، ان تكون له قطيعته المعرفية مع كل بقايا التاريخ وترسباته من اجل ان يدرك مشكلاته ويتوازن مع تعقيداته الحديثة .. بل ويتخلص شيئا فشيئا من تأثيراته المعلنة والخفية السياسية والايديولوجية والحزبية والفئوية والطبقية والطائفية ..  فوظائف تواريخنا العراقية تنفعنا في جانب، ووظائف تواريخ غيرنا تنفعنا في جوانب أخرى، وعلى مؤرخينا أن يكونوا أمناء وأصلاء في تمييز ما تقدمه هذه " الوظائف" عن تلك في حاضرنا ومن أجل بناء مستقبلنا. هنا لابد ان يفرز اساسا السؤال القائل : من هو المؤرخ العراقي ؟ هل يكفي ان يكون كاتبا متحزبا كي يجّرب حظّه في كتابة تاريخ ليصبغه بقناعاته كيفما يريد على حساب المعلومات الصائبة ؟ لماذا كل هذا الغباء باستغفال المؤرخين المعرفيين والمختصين ؟ لماذا التشبّث بالاحادية في تزوير الحقائق التاريخية ؟ هل بالامكان معالجة او تقييم حدث كبير او شخصية قوية بمقال صحفي من دون ان يعالج جانب معين فقط ، ويكون حريصا اتم الحرص على ما يطلقه من احكام ؟ هل غدت عملية الكتابة التاريخية سهلة جدا بحيث يجّرب حظه فيها كل من هبّ ودبّ ؟
5- تقديم الأهم على المهم في منهاجية ودراسة التواريخ المختلفة طبقاً لمدى الاستفادة الوطنية أولاً ( أي حاجتنا الحالية والمستقبلية نظرا للظروف الصعبة التي يمر بها العراق ومنذ خمسين سنة وحتى اليوم ) ، فقد أثبتت التجربة والتجربة التاريخية بالفعل أن معرفتنا التاريخية وعلومنا الاجتماعية والانسانية تتفاوت طبقاً لنسبة مخاطر الواقع ومصائر المستقبل سياسة وجغرافية، فحاجتنا إلى معرفة تواريخ الشخوص والنخب المثقفة والفئات الاجتماعية وحالات اقتصاديات المدن والريف والبادية والعادات والتقاليد والرموز .. كلها اهم بكثير بالنسبة للاجيال القادمة من استنساخات تواريخ سياسية وشخصية وبطولية ومؤدلجة عقيمة لا تجدي نفعا البتة . انها جميعا تخلق الحوافز والمهارات من اجل تشكيل رؤية عراقية تتفق على الاسس العامة وعلى مبادئ عراقية .. ودعهم يختلفون في الجزئيات .

استنتاجات : من اجل تاريخ وطني حضاري

وأخيرا اقول بأن هذا " الموضوع " لم تكتمل معالجته عندي بعد ، اذ ان لي رجعة اليه كرة اخرى او كرّات قادمة لتحديد ما اريد الدعوة اليه ، اي الدعوة الى امتلاك ذاكرة عراقية خصبة وحضارية ، تستنذ الى تاريخ وطني عراقي له منهج حضاري وتفسير معرفي وموضوعية ورؤية نقية من كل الشوائب  ، ولكنني آليت على ان اعالجه نظرا لما نحن عليه اليوم وفي غمرة هذا الحشد الاعلامي والالكتروني الذي قلب الطاولة على رؤوس المعرفيين والمختصين والفلاسفة وهو يتبنى باسم المعرفة الالكترونية على شبكة المعلومات الدولية اخطر القضايا التي لا يمكنها ان تعالج بتسرع ، ولا يمكنها ان تكون بايدي اناس لا تهمهم الموضوعية ولا المعرفة بقدر ما يهمهم حزبهم السياسي او فكرهم السياسي او ايمانهم السياسي او الكامن والمخفي في نفوسهم .. ان " التاريخ " من اخطر مشكلات الثقافة العراقية المعاصرة ، وكل التاريخ بدءا بالتواريخ الكلاسيكية التي لا يعترف بها البعض ، وانتقالا الى الانقسام الحاصل في الرؤية والذهن وحتى المعتقد للتاريخ الاسلامي برمته .. ووصولا الى التاريخ الحديث والمعاصر الذي تتباين في تقييمه الاراء والافكار ، وتخلط عنه المعلومات ، وتزور فيه كل الشهادات ويتجنّى فيه البعض على عهود ومواثيق وابطال واحداث وشخصيات .. بل ويتصادم العراقيون في ثقافتهم ( حتى اليومية ) في ابسط القضايا التاريخية التي غدت نقمة عليهم في حاضرهم ، بعد ان جنت عليهم في ماضيهم .. وستبقى خازوقا دق في اقفيتهم نحو المستقبل .
وقبل ان يطالبني البعض ان اكون مرائيا كي اوزع الاحلام الوردية وان اعلن الرضى المقنّع بالفرحة وهّز الرؤوس بالموافقة كذبا ورياء ـ كما اعتاد بعض العراقيين على ذلك من خلال ثقافتهم الحزبية ـ لابد ان يعلن كل عراقي موقفه بصراحة وتجرد وبكل حرية وتمرد ولكن عليه ان لا ينسى الامل .. فمن اجل الامل نحيا لنكتب .. ربما يطول تحقيق الامل عشرات او مئات السنين ، ولكن من اجل الامل نقول كلمتنا عسى تستقيم اعواد الاجيال القادمة لما فيه التقدم الحقيقي وبناء ما يمكنه ان يشع تحت الشمس . 

www.sayyaraljamil.com

الوسط ، 26 مايو 2008

88
بريجيت باردو : لماذا اهانة الاسلام ؟



أ.د. سيّار الجَميل



تقف الممثلة الفرنسية الشهيرة العجوز بريجيت باردو هذه الايام امام المحاكم بتهمة السب والقذف ضد الاسلام والمسلمين ، ومن دون اي شعور بالذنب بل مجرد احساسها بالهذيان .. ويكفي ان تهما كهذه يحاسب عليها القانون ليس لأنها تدخل باب الكراهية والتشهير ، بل تدخل مأزق الطعن العنصري .. وليست هذه هي المشكلة الاولى التي تثيرها الممثلة باردو ، بل انها واحدة من مشكلات تتعمد طرحها لكي تبقى متصدرة على واجهات اعلامية وتكون حديث الناس . ولمن لا يعرف او يسمع بهذه المرأة ، فهي بريجيت باردو (Brigitte Bardot )، المولودة في 1934، بباريس،وكانت قد خطفت الاضواء ابان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بافلامها القوية وما لها من مشاهد فاضحة على الشاشة بالاسود والابيض ، فضلا عن صور مثيرة في المجلات تتناقلها الايدي في العالم ، وكان من أبرز أفلامها "وخلق الله المرأة" عام 1956. وأصبحت نجمة عالمية. ظهرت أيضاً في فيلم "حلت سماء الليل" في عام 1958، بالإضافة إلى "الحقيقة" (1960)، و "الاحتقار" (1963)، و "تحيا ماريا!" (1965) و "شالوكو" عام 1968. وقد عرفت بكونها رمز إغراء. في عام 1974 قررت اعتزال التمثيل منذ انخراطها في نشاطات المطالبة بحقوق الحيوانات، وفي عام 1987 أسست منظمة خيرية متعلقة بالحيوانات.
من يقرأ مذكراتها التي صدرت حديثا سيجدها تعيش كائنا خفيا يعيش الهوس والتناقضات فهي تقر السلبيات والايجابيات معا مرة باسم الانسانية ومرة باسم الحيوانية ومرة باسم العنصرية ويصل عندها حب الذات الى اقصى مداه ، ولكنها لا تكاد ترى في الافق الا واقعها وحياتها والاعجاب بشخصيتها ومملكتها وعشقها لذاتها .. وهي معقدة نفسيا من جّراء النقد الهائل الذي وجه اليها في حياتها الصاخبة والبوهيمية والهزات العاطفية التي عاشتها وانتقالها بين الايادي ، اذ تعيش كبتا حقيقيا فتعيش العزلة ولكنها مغرمة بالاضواء ، وهي تكره الجنس ولكنها تخاف الوحدة من دون حماية رجل وهي تعشق الحيوانات وتكره الانسان .. وعليه ، فهي تحمل شخصية مريضة في داخلها ، وكلما تخضع لأي محاكمة تزداد شراسة وكراهية للاخر .. تهمتها " اثارة الكراهية العنصرية " بشأن اهاناتها التي وجهتها للاسلام والمسلمين . لكنها اثارت ايضا جدلا باستنكارها لتقاليد اسلامية والهجرة من بلدان غالبية سكانها من المسلمين.
لقد طلب الادعاء من محكمة باريس فرض عقوبة الحبس لمدة شهرين مع ايقاف التنفيذ وغرامة 15000 يورو (23760 دولارا) على بريجيت باردو لقولها ان الجالية المسلمة " تدمر بلدنا وتفرض تصرفاتها علينا ؟؟؟؟؟ ، من دون ان تنتقد بقية الجاليات الاخرى .اننا لسنا ضد من ينتقد العادات السيئة ، وربما تثار معالجة القضايا الحساسة بمنتهى الذكاء ولكن ان تصدر عن سبق كراهية وترصّد وبالذات ضد جاليات عربية مسلمة ، فهذا ما يثير النعرات والاضطرابات .. وشكت جماعات مناهضة للعنصرية العام الماضي من تعليقات باردو بشأن ذبح المسلمين للاضاحي في عيد الاضحى في خطاب وجهته الى الرئيس نيكولا ساركوزي ، ونشرته فيما بعد مؤسسة تابعة للممثلة السابقة.
وأسأل : هل اختص المسلمون فقط بذبح الاضاحي والشياه ؟ العالم كله يأكل اللحوم الحيوانية الحمراء . فلماذا لا تعترض بريجيت باردو على كل العالم ؟ وهل كان المسلمون فقط يقتلون الكلاب السائبة ، فالعالم كله يقضي على مصادر المرض . وعندما تشيخ الكلاب في اوروبا وامريكا ، فانها تعدم في اماكن خاصة ! ولا ندري لماذا زعلت بريجيت باردو على الرئيس حسني مبارك كونه لم يعر نداءها اي اهتمام ، لخلوها من الذوق ، ومطالبتها عدم قتل الكلاب السائبة ! ولا ادري هل تدرك هذه المرأة كيف هي سنة الحياة ؟ هل باستطاعتها الدفاع عن حيوانات ضعيفة تذهب لقما سائغة بافواه الحيوانات المتوحشة في الطبيعة ؟
اذا كان الصراع ضد المسلمين الفرنسيين ، فلماذا كل هذا اللف والدوران ؟ اذا كانت بريجيت باردو لا تطيق وجود 5 ملايين عربي مسلم في فرنسا وتصفهم بأردأ الصفات ، فهل نصّدق انها داعية ناشطة لحقوق الانسان ؟ هل قرأت ما امر به الاسلام حول المساواة بين الناس وعدم وجود الفروقات بين بني البشر .. هل عرفت حقوق الحيوانات الاليفة في الاسلام ؟ فاذا كانت بريجيت باردو لها مشكلات سايكلوجية مع الاخرين في فرنسا ، فلماذا التهجّم على الاسلام بالذات ؟ واذا كانت لها مملكة من الحيوانات في بيتها ، فما شأنها بحيوانات الاخرين ؟ واذا كانت مرتاحة جدا من حال البقرة في الهند ، فلماذا لا تطالب هذا العالم من شرقه الى غربه بعدم ذبح الابقار ؟ وتوقف التلذذ باطباق الاستيكات الرائعة ؟
ثمة من خرج قبل ايام من ابناء جلدتنا مدافعا عن بريجيت ، مساهما في ماراثون اهانة الاسلام والمسلمين ، ويكيل التهم جزافا بدون اي رادع ولا اي ضمير ، وليزيد من حجم الكراهية اليوم ضد جالياتنا في الغرب عموما ، وكأن المسلمين كلهم ارهابيين قتلة خبثاء ومخادعين يختفون في ثياب دين ! وعليه ، ينبغي اعادة النظر فيه بقراءة ما تريده بريجيت باردو اصلا من نفسها اولا قبل ما تطالب به غيرها .. وعليها ان تنادي بالحفاظ على حياة الانسان الذي يهان ويعذّب ويقتل كل يوم من قبل محتل غاصب ، او دكتاتور جائر ، او سلاح فتّاك ، ومن قبل اعلام متحّيز يثير الكراهية والاحقاد .. ومن قبل سياسات وقرارت رعناء يصنعها قادة وزعماء ، هم بلا حس ولا ضمير.

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 30 ابريل 2008
 

89
ثقافة الكراهية .. فجيعة التاريخ !

د. سيّار الجميل

كيف اينعت ثقافة الكراهية ؟
علينا ان نعترف بأن ثقافة الكراهية هي المسيطرة على واقعنا السياسي وواقعنا الاجتماعي ليس لدى العرب حسب ، بل في عموم منطقة الشرق الاوسط .. ان ترسبات الماضي وسياسات الماضي واعلاميات الماضي وتربويات الماضي وشعارات الماضي الذي عايشناه ، خصوصا ، في النصف الثاني من القرن العشرين قد انجب كل الموبقات ، ووّلد كل الاحقاد وزرع كل الكراهية بين شطائر المجتمعات وكل القسمات .. لقد كانت المواطنة عندما اينعت على عهود الاستعمار قد تفاعل معها كل مجتمع من المجتمعات .. ولكن بدأ التفسخ بعد ان بدأ احياء النزعات الانقسامية ، وتوحشّت الاحزاب الايديولوجية ، ومورست الاقصاءات المذهبية والطائفية والدينية ، وطبقت الممارسات الشوفينية باسوأ افعالها وجناياتها بحق الاقليات والقوميات المتباينة في مجتمعاتنا .. لقد عشنا على امتداد خمسين سنة اطوارا من السياسات البدائية والشعارات المتوحشة التي جنت على تفكير اجيال القرن العشرين الذين بدأوا اليوم بالهروب الى انتماءات متنوعة بعد تشظي الهوية وتفاقم الغلو والتطرف الى حدود لا يمكن تخيلها ابدا .
  ان مجتمعاتنا اليوم تختلف من واحد الى آخر بما يمتلكة من خزين ثقافي للكراهية والاحقاد بديلا مفجعا لروح الحمية والمحبة والتوادد والتسامح والالفة وكل قيم الارض والسماء على امتداد التاريخ ، وبالوقت الذي نجد مجتمعات اخرى قد تعلمت من تجاربها المؤلمة ، وغدت مجتمعات متحضرة يسودها الاحترام المتبادل والهدوء وقبول الاخر .. غابت مجتمعاتنا في لجج من المثالب والتباعدات .. ونكاد نتلمسها بشكل واضح في اي شارع او سوق او مؤسسة او محطة اذاعة او صحيفة او مقهى .. الخ  بلاد تكره بلاد اخرى تجاورها وبالعكس .. طائفة تكره طائفة اخرى حتى النخاع وبالعكس .. اهل هذا الدين يكرهون اهل دين اخر بشكل لا يصدق والصورة معكوسة ايضا .. اعضاء حزب يمقتون ابناء حزب آخر والعكس تحصيل حاصل .. ابناء قومية معينة يحقدون على ابناء قومية اخرى بشكل لا يصدّق .. الخ من سيطرة ثقافة سوداوية كاملة على مجتمعاتنا لا يمكن الا الاعتراف بها ، انها ثقافة الكراهية !
تساؤلات من يجيب عنها ؟
 ما اعذب المحبة ؟ وما احوجنا الى التوادد والرحمة ؟ وما اطيب الدفع بالتي هي احسن ؟ وما انقى من صفاء الانفس ؟  ما الذي اصاب مجتمعاتنا في كل هذا العالم كي تغدو كارهة للعالم ومكروهة الثقافة وتأكل الاحقاد القلوب ؟؟ ما الذي شتّت الوازع الانساني الذي بشّرت به كل الاديان ؟ لماذا لم نكتف  نكره الاخر ، واصبحنا نكره بعضنا بعضا ؟ ما سر الفرقة التي غدت علامة فارقة لاممنا المنكودة ؟ ما سر التعّلق بتاريخ يعج بكل البشاعات وما سر الهروب من الحاضر الصعب ؟ ما سر كراهية المتعصبين مهما كان نوعهم لكل من يعارض اسلوبهم ؟ كيف اينعت ثقافة الكراهية في القلوب ، وغابت المحاسنة والمودة عنها ؟؟
          ان ما يمكن التأسي عليه في واقعنا المرير اننا كنا اصحاب ثقافة منفتحة وقيم  سمحة من نصرة حق واغاثة ملهوف وغيرها من تقاليد كريمة.. لتغدو مجتعاتنا العريقة اليوم ملوثة بالتعصب والعصابات .. وكلما يمضي الزمن تتفاقم الكراهية ويندثر التلاؤم والانسجام والرأفة والسماحة والجيرة والمحبة والرفقة والتعايش والشراكة والرفادة والسقاية .. الخ من قيم عظيمة لم يمتلكها أو يعرفها الاخرون .. ولا اعتقد ان مجتمعاتنا قد استوردت ثقافة الكراهية عن غيرها.. ولا يظنن ابدا ان خزائن الاحقاد قد وصلتنا من غزو ثقافي او بواسطة شركات العولمة ! انها ثقافة قد اينعت بعد ازمان من الكبت والالام والمعاناة وممارسة الظلم .. وركام من القمع والاضطهاد والتهميش والتشويه والتضليل والاكاذيب والشعارات .. ولقد راج منذ سنتين سؤال لدى الامريكيين  يقول : لماذا يكرهنا العرب والمسلمون كراهية عمياء ؟ يتساءلون من دون ان يعرفوا ما الذي عانته هذه الشعوب ومن دون مراجعة الاسباب الحقيقية لتلك الكراهية  !

الآخر : مجتمعات علمتها تجاربها
      لقد تحركّت كل المجتمعات لتتخلص من بقاياها الاليمة واوضاعها القديمة .. الا مجتمعاتنا التي لم تزل تنتظر الاعتذار دون جدوى ، وهي ايضا لا تعرف روح مصالحة ولا تنمية تفكير ولا اسلوب تمدن ولا ضمانات مجتمع ولا حرية رأي ولا حياة مؤسسات .. لقد كانت السياسة والدولة والانظمة وعبادة الشخصيات وترديد الشعارات والترنم بالخطابات ساري المفعول على مدى مئة سنة من دون ان تفقه مجتمعاتنا اسرار تقدم مجتمعات اخرى كانت كسيحة وغدت متطورة بمواردها ومنتجاتها وعلومها وفنونها .. مجتمعات لم تعرف الكراهية والاحقاد .. مجتمعات تعلمت من تجاربها السياسية والطوباوية والاشتراكية .. مجتمعات تعترف بالاخر ولا تقمعه وتتصالح معه ولا تخافه وتتعامل معه ولا تكّفره .. مجتمعات لم تجد نفسها الا خلايا نحل عاملة متعاونة من اجل تحقيق مصالحها ومصالح مستقبل ابنائها .. مجتمعات لا تعرف غير العقل سبيلا وقد نجحت في تجسير العلاقات بينها وبين الدول التي وجدت لرعايتها والمجتمعات التي عملت في خدمتها .. فالعالم كله اوجد " الدول " كي تغدو في خدمة المجتمعات في حين كانت مجتمعاتنا ولم تزل  في خدمة كيانات سياسية و "دول " !!

مجتمعاتنا .. ماذا تريد ؟
      مائة سنة مّرت ومنذ العام 1908 ومجتمعاتنا في حيرة من امرها لا تعرف ماذا تريد .. في حين تفوقت علينا مجتمعات لم تكن تذكر في العام 1908  !! واتمنى ان تجد هذه " الافكار " من يطوّرها ويزرعها في عقول جيل جديد ، بدل ان تجد من يصفها جلد ذات او مجرد مثاليات .. فلا يمكن لأي واقع ضنين ان تنصلح اموره من دون نقد او اصلاح او مكاشفات .. ان مجتمعاتنا بأمس الحاجة الى تنمية فكر وتفكير والى نقاء سريرة وتصالح مع النفس والى محبة الاخر ونفي ثقافة الكراهية .. ولا اقول بأن مجتمعاتنا لا نفع بها وليس لها القدرة على محاكاة هذا العصر بالتي هي احسن ، فالامر معكوسا ، اذ انها مجتمعات حيوية وفاعلة ونشيطة ومخصبة ومبدعة .. ولكنها اليوم مصابة بجملة امراض عضال .. بل وان عملتها الرديئة اخذت تطرد عملتها الجيدة ، بل وتلاحقها حتى في منافيها كي تقضي عليها .. وانها مجتمعات كانت على امتداد تاريخها منفتحة على العالم كونها مركزية ومطلة على اهم بحار العالم باستثناء جيوب منغلقة .. واصبحنا اليوم مجتمعات منغلقة على اتم صورة من الانغلاق حتى جالياتنا البعيدة لا تعرف كيف تندمج مع غيرها لتتعلم وتخصب نفسها لتبدع وتنقل ..
      ان ثقافة الكراهية المسيطرة لم تتوالد عن اسباب وعوامل سياسية حسب ، بل اعتقد ان جملة اسباب معقّدة قد اينعت هذه " الثقافة " التي لا ترى في العالم كله الا نفسها ، بل والانكى من كل هذا وذاك انها تتصور نفسها الافضل في هذا الوجود .. واعتقد ان سبب كسلها التاريخي هو انغلاقها بفعل ثقافة الكراهية التي غمرت نفسها فيها اولا ، وايمانها الراسخ بأن كل ما هو اجنبي يعمل ضدها ويتآمر عليها وان العالم كله ـ كما تتخيل ـ لا عمل له الا التخطيط لسحقها وامتصاص خيراتها ..
الاعتراف .. التسامح : طريق الخلاص والامل
ان ثقافة الكراهية لابد ان تزول من العقول والانفس وان يعمل كل الكتاب وكل المثقفين وكل الدعاة والواعظين على استئصالها .. وعلينا ان نتشبّث بكل المعاني الحضارية التي عرفتها مجتمعاتنا منذ مئات السنين ، فالكلمة الطيبة صدقة ، والمجادلة بالتي هي احسن ، والابتسامة جواز مرور للمحبة ، واعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا .. وان ليس للانسان الا ما سعى .. نعم ، وان سعيه سوف يرى ..  الخ 
ان مجتمعاتنا اليوم بحاجة ماسة الى من يعيد التفكير من جديد بنفسه اولا وبمؤسسته ثانيا ليقدم اعترافات طبيعية بكل اخطائه التي جناها بحق الاخرين .. وبحاجة ايضا الى من يتسامح ويغسل نفسه من كل الاحقاد والكراهية  ان العالم اليوم بات كل يعتني بمجتمعاته وان الثقافات بدت متعايشة وغير مضادة لبعضها البعض الاخر ، وان الحياة لم تعد تتصارع بل تتنافس ، وان المجتمعات الذكية غدت تسعى للحصول على مكتسبات اكبر ممن هو باق حتى يومنا هذا ، وان السباق بات اليوم للاحسن في المجتمعات وليس للاقوى من الدول . ان من يقتل مجتمعاتنا لم يزل يعيش الاوهام والشعوذات والهيمنة والتوحش وقتل الزمن واقصاء الاخر .. وان سألته عن تجارب الاخرين ، اخذ يشتم ويسب ويزبد معبرا عن كراهية عمياء وعن ثقافتها التي نحن لسنا بحاجة اليها على امتداد زمن طويل حتى تتخّلص منها كل مجتمعاتنا في هذا العالم .

www.sayyaraljamil.com
 
28 ابريل 2008







90
بيان أدبي

أ. د. سّيار الجَميل


لا اعدّ نفسي شاعرا ، ولكني اهوى الشعر واعشق موسيقاه وبحوره ونقد اغراضه وموضوعاته وتواريخه .. وأردده بيني وبين نفسي من حين الى آخر كواحد من ابرز الفنون الادبية التي تمّيز بها العرب منذ القدم  .. وكنت اقرأ قبل ايام قصيدة وردتني من احد الاصدقاء بواسطة الايميل ، وهي للشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد وكانت  بائية من بحر البسيط  يبكي فيها العراق بين امجاده التي ذهبت في خمس سنين ، وقد ختمها بمديح منه للرئيس السوري بشار الاسد .. وأود ان أوضح للعالم اجمع بأن الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد لا اعرفه ولا يعرفني ، ولم التق به ابدا ولا تربطني به اية علاقة ولا اي صداقة ابدا ولا حتى عن طريق المراسلات .. اقول هذا مضمنا اياه هذا البيان الادبي  بعد ان اسيئ الي ّ كثيرا عندما  نشرت قصيدة كانت ردّا على قصيدته البائية التي اثارتني حقا ، فكتبت ردّا عليها بقصيدة من نفس القافية ونفس البحر  .. ونشرت النص بعد ان اطلعته على صديقين أديبين وشاعرين متخصصين عزيزين أثنين ،  في كّل من امريكا  وهولندا  ، فباركا العمل مع ملاحظاتهما القيمة ،  ولما كانت الناس غير مطلعة على قصيدة السيد عبد الرزاق عبد الواحد ، فقد فسّروا قصيدتي اهداء له وليس ردّا عليه . وهذا ليس بصحيح ابدا ، اذ كنت اتمنى على القراء الكرام ، وخصوصا اولئك الذين يتابعون اعمالي ومقالاتي من الادباء والمثقفين العراقيين بمختلف اتجاهاتهم السياسية وافكارهم وتياراتهم ، ان يتأملوا في المعاني التي تضمنتها القصيدة التي نشرتها ، ويقارنوها بالقصيدة التي نشرها السيد عبد الرزاق عبد الواحد قبل اصدار الاحكام السريعة والتعليقات الجائرة .. لقد كان النص الشعري الذي نشرته بمثابة رسالة  فكرية تأملية ، أرد بها على السيد الشاعر عبد الواحد الذي اعترف  امام الجميع بشاعريته الرفيعة وقوة أدبه العربي حقّا ، ولكنني لم اكن يوما معه ابدا في كل مدائحه التي سطّرها عن سيده وعن عهده .. ولم اكن يوما في ما مضى مع تلك النخبة من ادباء السلطة وشعرائها رجالا ونساء من الذين لم يكن لهم الا تمجيد الدكتاتورية وكتابة المدائح والتسابيح  .. مرة أخرى ، اتمنى على كل من أساء لي ، أن يعيد النظر ، والعودة لقراءة ما اردت توصيله من افكار ومعاني وصور واوصاف عن بلاد اصابها التهتك والاوصاب ليس في خمس سنوات فقط ، بل على امتداد خمسين سنة مضين . فهل بلغت رسالتي  الجميع ؟ وهل فهم بياني الان بعد كل هذا " التوضيح " ؟ وبهذه المناسبة ، اتقدم بالشكر الجزيل الى الصديق الاستاذ فؤاد مرزا الذي أثار هذا " الموضوع " في رسالته لي يوم أمس ، وجعلني اسارع بكتابة هذا " البيان " الادبي  كي تطّلع جمهرة المطلعين والمتابعين والقراء المثقفين اجمعين على حقيقة الامر .  أتمنى ان اكون قد اوضحت الامر ورفعت اللبس الذي حصل والشكوك التي تدور ..  مع احترامي للجميع ..
والمقرون باسمى التقدير والحب الكبير .

د. سّيار الجميل
كندا
25 ابريل 2008

خمسٌ مضينَ ومنْ خمسينَ تاريخهم
التي مطلعها
قـُلْ ليْ وَقتلُ العـراقـيِينَ ما نـَضَبا

استـَوْلدَ الرَحْم َ أم استـَنزفَ العَصَبـا؟


وسائلِ الـحُزْنَ مِلْءَ القلب ِفي وَطَني

عَـن الكوارث عما قيلَ أو كُتِبــــا


خَمْسٌ مَضيْنَ ومنْ خمسين صفحتهـم

كادت من اللؤم أن تفنى وتنسحبـــا
والتي اختمها بالقول :
وآثـَروا أن تغنّوا الليّل ما اتسّعــــــت

ضِفافنا لنْ ترَى إلا لَها عَبَبـــــــــا


يكادُ دِجلة مِمـَّا فـيـهِ مِن عَبـــــــقٍ

على البساتين يغري كأسنا حببـــــــا


ما عاد يطعمنا في جوعنا كـــــــربٌ

والأدعياءُ استطابوا دوننا الرطَبــــــا!
هي  رد على القصيدة الأخيرة  للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد التي مطلعها :
قـُلْ لي ، وموتُ العـراقـيـِّينَ ما نـَضَبا
                    أستـَلهـِمُ الحُـزنَ ، أم أستـَلهـِمُ الغـَضَبا؟


والتي يختمها بقوله :
أعـمامُنـا لـَن تـَرى وَجها ًلـَهُم رَطِبا!
إلا دمشق..وباسم ِالنـَّاس ِفي وطني
                                              أقـولُ أَ دَّ ى بـَنـو بَشــار ما وَجـَبـا

91



مار بولص فرج رحو :
علامة تاريخية فارقة على طريق العراق



د. سّيار الجميل
كندا

مقدمة
تمر هذه الايام ذكرى أربعينية رحيل الزعيم الديني طيب الذكر مار بولص فرج رحو مطران الكلدان في الموصل .. الذي ذهب ضحية للعنف الدموي الذي يضرب اطنابه في بلادنا منذ سنين .. ولقد استوقفني هذا الحدث التاريخي الجلل طويلا ، وأخذني متأملا لما يجري اليوم في العراق .. ويستنبط اي دارس او مؤرخ نتيجة غاية في الاهمية ، اذ تنبؤنا طبيعة هذا " الحدث " المحزن ، وما سبقه من احداث مؤسفة بأنه الاخطر على امتداد تاريخ العراق ومنطقة الشرق الاوسط كلها  ! فاذا كان المسيحيون الجرامقة والنساطرة الاوائل قد دفعوا اثمانا غالية من حياتهم لما قبل الاسلام لهذا الطرف او ذاك من الذين تنازعوا الحكم في العراق ووقفوا ضد انتشار المسيحية ، فان المسيحيين عاشوا بعد ذلك في حماية المسلمين وتعايشوا وتجاوروا معهم دهرا طويلا ، ولم نشهد مصرع  مطارنة وقسسا ورهبانا  بهذا الشكل الذي سجل نهاية لحياة مار فرج رحو في الموصل .
لقد عرفت الموصل منذ تاريخ سحيق انها ملتقى شعوب ومركز ثقافات ودائرة اديان وملل ونحل لا اوّل لها ولا آخر .. وبقدر ما كانت مدينة الموصل تزخر بالكنائس والبيع والاديرة المسيحية القديمة ، بقدر ما غدت مدينة عربية اسلامية تعج بالمدارس الاسلامية والمساجد والتكايا والزوايا الصوفية التي قامت جنبا الى جنب البيع والكنائس .. وعرف مجتمع الموصل التلاؤم والانسجام الديني بين اليهود والمسيحيين والمسلمين .. بل وتفوق المجتمع الموصلي على غيره من المجتمعات بتعايشاته التاريخية في كل الاحقاب ، وشارك الجميع في الدفاع المصيري عن كل المخاطر والتحديات التي جابهت مدينتهم واطرافها  في عصور مختلفة .

سؤال التاريخ
ان اختطاف مطران الكلدان في الموصل ومصرعه يعد حدثا غريبا على التاريخ ، بل أنه قضّ مضاجع كل اهل الموصل الاصلاء ليس لأن الرجل كان يتمتع بسجايا متفوقة واخلاقيات عالية فقط ، بل لأن مثل هذا الذي حدث وصار لم يحدث ابدا على امتداد تاريخ العلاقات بين ابناء المدينة الواحدة .. لقد تابعت سيل العواطف العارم للمسلمين في الموصل من مختلف الاجيال ، وما وزّع من اوراق ومنشورات وقصائد حتى بين التلاميذ وطلبة الجامعة ـ والتي نقلها اكثر من موقع ـ ، بل واننا لو دققّنا اكثر لوجدنا ان مجتمعاتنا  العربية والاسلامية قاطبة لم تعرف ما يشبه هذا الحدث المفجع ابدا على امتداد التاريخ .. من هنا تطرح تساؤلات عدة ، بل وتثار جملة كبيرة من علامات الاستفهام : من قتل زعيما دينيا مسيحيا بحجم المطران مار رحو ؟ من له مصلحة حقيقية في اختفاء مثل هذا الرمز الديني في الموصل بالذات ؟ وهل جاء رد الفعل في داخل العراق وخارجه بمستوى هذا الحدث الاستثناء ؟

أين التحقيق ؟ اين شهادة الوفاة ؟ ماذا كتب في شهادة الوفاة ؟
ان زعيما للكلدان المسيحيين في الموصل تختتم حياته بهذه الطريقة المؤلمة قد اثار غضب وحزن اهل الموصل واطرافها الذين تألموا على فقدانه بهذه الطريقة الارهابية .. في حين عّد الحدث واحدا من الاحداث العابرة التي تحدث سلسلتها في العراق ، وقد قّيد العمل ضد مجهول من دون اي تحقيق ولا اي تدقيق .. ويثير احد اصدقاء المطران الراحل ـ وهو طبيب ـ اسئلته التي امطرني بها قائلا بحرقة والم : هل يعقل الا يعرف حتى اليوم كيف كانت نهاية الرجل ؟ لماذا يلّف الغموض طبيعة موته ؟ لماذا لم يعرف الى حد الان سبب الوفاة ؟ هل قتل أم خنق أم سمّم أم مات بسكتة قلبية ؟ هل يعقل اّلا تتخذ الحكومة المحلية في الموصل اية اجراءات لمعرفة ذلك ؟ هل يعقل ان تؤخذ جثة الرجل بكل خفية على ايدي رجلين غير معروفين ليدفن من دون اي شهادة وفاة ؟  لماذا كان التكتم ؟ ولماذا كان التعتيم ؟ ولماذا احاطت السرية بنهايته المأساوية التي لا يعرف احد سرّها حتى اليوم ؟

اين هو رد الفعل ؟
ان زعيما دينيا كبيرا ينتهي هذه النهاية من دون ان يهتز الا القليل من معارفه واهل مدينته ، فهو امر محزن للغاية ! لو حدث مثل هذا الامر في مجتمع آخر ، لوجدت انشغال الاعلام والمؤسسات ورجال الدولة وابناء المجتمع بذلك كثيرا .. لم يكترث عالمنا لا العربي ولا الاسلامي اكتراثا بالامر وخصوصا الدول الجارة للعراق التي لدى مجتمعاتها شرائح واقليات سكانية من ابنائها المسيحيين القدماء ! هل انتبهنا ولو لمرة واحدة لهذا العدد الكبير من القوى السياسية والاحزاب والكتل المنتشرة في كل مكان من العراق والشرق الاوسط .. هل أدّت واجبها ؟ هل اثارها مثل هذا الحدث المؤثر ؟ ما سر ما حدث لمجتمعاتنا قاطبة والتي غابت عنها القيم والاعتبارات الاصيلة ؟ لقد تابعت ـ وكنت على سفر ـ بعض ردود الفعل الرسمية والشعبية ، فلم اجدها بالمستوى المطلوب التي تستقيم وقوة الحدث ! لم اجد اية استنكارات قوية من دول ومجتمعات ! لم اجد اية وقفة اعلامية عربية تليق بمصرع مطران ، اي زعيم ديني كبير بهذه الطريقة غير اللائقة ابدا ! ولقد استمعت الى بعض برقيات الاستنكار التي اتت على استحياء وكأنها تأدية بروتوكولية وليست واجبا وطنيا حقيقيا يتطلبه الموقف والتاريخ ويأمر به الدين وتنادي به الاخلاق ..

وقفة خاصة عند حياة مار بولص فرج

ولد مار بولص فرج رحو بمدينة الموصل في 20 كانون الاول / ديسمبر عام 1942 ، من والده اسطيفان رحو ووالدته مادلين سموعي يعقوب السقا ، وكان الاصغر بين اشقائه الاربعة وشقيقاته الثلاث .. وعاش طفولته في قلب المدينة بين ازقة محلة خزرج  وحارات شارع الفاروق وباب البيض ودرس في مدارسها الابتدائية الاولى ، وخصوصا في مدرسة شمعون الصفا بالموصل  . وفي العام 1954 ـ 1955 ، ترك الحياة المدنية وانخرط في سلك الرهبنة وهو لم يتجاوز الثالثة عشر من العمر ، اذ انتمى بالمرحلة الثانوية في المعهد الكهنوتي التابع لكنيسته ( اكليركية شمعون الصفا الكهنوتية البطريركية ) للمدة 1954- 1960 ، وغادر الى بغداد العاصمة وبقي فيها المدة 1960ـ 1965 ومن ثم انشغل في دراسة الفلسفة واللاهوت ... وبالرغم من سفره عن الموصل ، لكنه بقي يحتفظ بكل صداقاته الاولى مع ابناء منطقته من المسلمين والمسيحيين الكاثوليك والارثودكس المواصلة  طوال حياته ، ومنهم ابناء محلته القديمة الذين تربوا معه ، وبقيت علاقته قوية معهم في حياته بالموصل او اثناء سفراته الى بغداد ، ومنهم اولاد عائلة ملا علو  وبيت آل طاقة  وكان كل من الشاعرين المعروفين يوسف الصائغ وشاذل طاقة من اعز اصدقائه .
تلقّى الرهبنة في بيعة مسكنتا ، وأول ما اشتغل قسا كان في العام 1964 في كنيسة مار اوشعيا بمنطقة الشهوان القريبة من نهر دجلة ، وبقي فيها حتى العام 1973 ، حيث غادر الى روما لدراسة اللاهوت بين عامي 1974- 1976 وعاد وهو يحمل شهادة الماجستير من كلية القديس توما الاكويني للآباء الدومينيكان بعد ان حصل على ليسانس علم اللاهوت الرعوي . وفي 10 كانون الثاني / يناير 1965 ، سمي كاهنا ( قسيسا ) ببغداد ..  انتقل الى كنيسة أم المعونة الكائنة في منطقة الدواسة القديمة اواخر السبعينيات .. كان نشيطا في عمله ، ومخلصا لملتّه وينتقل بين الكنائس القديمة بالموصل واشهرها : الطهرة ومار اوشعيا وام المعونة ومسكنتا .. وساهم بنفسه في تأسيس كنيسة مار بطرس وبولص في منطقة المجموعة الثقافية بالساحل الايسر عامي 1983 – 1984 .. وذلك بسبب التوّسع العمراني الكبير وانتقال اعداد كبيرة من المسيحيين الموصليين للسكن في الساحل الايسر . وفي 16 شباط / فبرايرعام 2001 رُفِّع إلى منصب أسقف في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وتولى مهام رعاية أبرشية الموصل. اذ رّسم مطرانا من قبل البطريرك روفائيل بيداويد ( توفي 2003 )   بطريرك بابل على الكلدان في العالم ، وكان كرسي البطريركية في الموصل حتى منتصف الخمسينيات عندما انتقل الكرسي الى بغداد ، والذي يجلس عليه اليوم سيادة الكاردينال عمانوئيل دلي زعيم عموم الكلدان في العالم .

مواقفه واخلاقياته
بقي المطران فرج يرتبط بمدينته الموصل ارتباطا حقيقيا ، ويعشقها عشقا لا حدود له .. وكانت تجمعه بعد ان اصبح زعيما دينيا كبيرا بكل الملل والطوائف والاعيان علاقة قوية راسخة .. كما يرتبط بحكم منصبه بعلاقات قوية بكل كنائس البلدات والمدن القريبة التابعة للموصل  . كان يهتم بامور رعيته ويتفقد احوال الجميع . اصيب بجلطة قلبية بعد ان اصبح مطرانا وعولج منها ، ولكنه بقي مهموما بشؤون البلاد .
كان جثيثا ممتلئا ، وهو عصبي المزاج لا يقبل الخطأ مهما كان مصدره .. كان عنيدا في مواقفه وحاميا لكنيسته ومدافعا عن كل المسيحيين الكلدان .. كان يختار اصحابه من اصدقائه المسلمين الذين يحبونه ويحترمونه . كان عفيفا رهن حياته لدينه ومجتمعه وكل ابناء اهله  .. لم يكن رجل كهنوت فقط ، بل كان شخصية اجتماعية جذابة . كان قارئا ومثقفا واسع الاطلاع ، فضلا عن متابعته لشؤون العالم .. واخبرني اكثر من مصدر بأن علاقاته قوية راسخة مع من يتعامل معهم بكّل ثقة ، ويخاصم بشدة من يشّذ عن الطريق . مواقفه عراقية وطنية حتى النخاع ، اذ كثيرا ما أدان الامريكان على افعالهم ازاء الناس ، وانتقد الاكراد مرارا على تجاوزاتهم في الموصل .. كما اخبرني احد المقربين اليه بأنه كان على خلاف مع الاستراتيجية التي يتبنّاها السيد سركيس آغاجان !
كان يهدأ من روع الناس في كلامه وخطبه ، وخصوصا بعد ان طالت الانفجارات بعض الكنائس ، وطال القتل بعض الرهبان الابرياء ، اذ كان بعد اي قدّاس يخطب بالعربية ويجالس مستمعيه ، ويزرع المحبة في القلوب وينادي بالتآخي والمودة والصفح عن الاخرين .. وبعد ان هدّدت بعض الجماعات المسلحة كنيسة الطهرة وافراغها من الناس بغرض تفجيرها ، أصّرت أخته الراحلة طيبة الذكر  رمزة رحو  البقاء في احدى غرف الكنيسة العليا لتلتحق ـ كما قالت ـ بسيدتنا العذراء مريمانه .. وبعد التفجير ، وجدوا رمزة بين الانقاض حية ترزق .. وبقيت زمنا حتى توفيت وفاة طبيعية !

خطابه ومواقفه الوطنية
يذكر أن مدينة الموصل تشهد منذ شهر نيسان / ابريل عام 2003 اثر سقوط النظام السابق اغتيالات ومضايقات ضد المسيحيين راح ضحيتها عدد من القساوسة والمدنيين ما اضطر العديد من العائلات المسيحية إلى ترك المدينة إلى محافظتي أربيل ودهوك الشماليتين أو إلى خارج العراق خوفا على حياتها. وتوجد في العراق أربع طوائف مسيحية رئيسة ، وهي : الكلدانية من أتباع كنيسة المشرق المتحولين إلى الكثلكة ، والسريانية الأرذثوكسية ( = اليعاقبة ) ، والسريانية الكاثوليكية ، والآشورية أتباع الكنيسة الشرقية إضافة إلى أعداد قليلة من أتباع كنائس الأرمن والأقباط والبروتستانت.
 ولم يكن مار بولص يقبل ابدا خروج المسيحيين العراقيين من ديارهم وبلادهم وتشتتهم في العالم . كان يرى بأنهم سكان قدماء اصلاء تربطهم قوة الارض والتاريخ . كان يعّبر عن آرائه بكل شجاعة ، وكان يدعو دوما للمحبة والسلم والتآخي والتعاون كونه يجد ان تاريخا متساميا من التعايش الرائع بين المسلمين والمسيحيين قد عاش في العراق ، وبالاخص في الموصل منذ 14 قرنا .. كان بالفعل وفيا للموصل أم الربيعين ، وابنائها . تابعت صورا عديدة له وهو يزور جامع الامام محسن ، ويتابع اعمال البناء والترميم فيه ، وهو متاخم لكنيسة الطهرة .. وفي السنوات الاخيرة وقف ضد  تهجير المسيحيين من بغداد والبصرة والموصل وبعض المدن الاخرى الى دشت حرير في اقليم كردستان ـ كما اخبرني أعز اصدقائه قبل ايام ـ ، وكانت مواقفه قوية بهذا الشأن ولم يتنازل عنها ابدا ..
وشدد في تصريحات صحافية على ان المسيحيين جزء من الشعب العراقي الذي يعاني بكل اطيافه من العمليات الارهابية وعمليات الاختطاف ويقدم يوميا عدداً من ابنائه ضحايا من اجل تحقيق الحرية والعدالة والرفاه. واشار راعي الكنيسة الى ان العبوة او قذيفة الهاون لاتفرق بين مسيحي ومسلم او صابئي فهي تستهدف جميع العراقيين . وقال : "كما قدم اخواننا ابناء الطوائف الاخرى ضحايا جراء العمليات الارهابية قدم المسيحيون ضحايا ايضا". واضاف قائلا : نحن عراقيون يربطنا تاريخ مشترك في هذه الارض ومن الصعب ترك بلادنا التي تربى فيها اجدادنا لظرف استثنائي سيزول بفضل تلاحم جميع الاطياف العراقية.
واوضح : ان المسيحيين يشاركون اخوانهم في بناء العراق فمنهم الاطباء والمهندسون والضباط ومتطوعون في القوات الامنية الى جانب ان اصحاب المعامل والشركات التجارية لازالوا يمارسون اعمالهم ويتشاركون في المحنة وحب الوطن وتوفير مستقبل افضل للجميع. واشار الى ان الكنيسة ورجال الدين المسيحيين لا يمنعون اي مواطن من الهجرة باعتبار ان ذلك يدخل ضمن الحرية الشخصية فكما هاجر كثير من ابناء العراق من الاطياف الاخرى قد يهاجر المسيحيون ايضا وهذا الامر متروك لتقديرات شخصية.

الرحيل : علامة فارقة
كان المطران رحو نفسه قد تعرض لمحاولة خطف أخرى عام 2005 ولكن أطلق الخاطفون سراحه يوم ذاك من دون أن يتعرض للأذى. وسبق له ان قال في مقابلة صحافية في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2007 بأن وضع المسيحيين في العراق يزداد صعوبة خصوصاً في منطقة الموصل .. مشيرا الى أن مسيحيي المنطقة هم عرضة لتهديدات مستمرة . وأكد أن بقاء العراق ضعيفاً ومقسماً لا يخدم إلا أجندة بعض الدول الكبرى. وأوضح رحو إلى أن المعاناة الحالية التي يعيشها كلّ  العراقيين تشملهم جميعاً على اختلاف أطيافهم إلا أنها أكثر قساوة على المسيحيين الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين خيارات محددة . وأضاف بأن ثلث المسيحيين غادروا الموصل بسبب الجماعات الإرهابية التي تتخذ من الدين ذريعة لجمع المال.
يصر صاحبي الطبيب اصرارا عجيبا ـ وهو صديق صدوق للراحل الكبير المطران رحو ـ بأن لا يمكن ابدا ان ينتهي المطران رحو نهايته المفجعة على ايدي ابناء مدينته ابدا .. فلقد كان معهم وكانوا معه منذ طفولته حتى نهايته فهو منهم واليهم . ولكن ثمة اياد خفية كانت وراء تصفيته بالصورة التي تابعنا مشاهدها التراجيدية . ان مصرعه سيبقى يحيطه الغموض ، ولا يمكن التكّهن به ابدا  ما دامت الاوراق مختلطة والاسباب متنوعة والتحقيقات مفتقدة . ويخبرني اكثر من مصدر ـ فضّل عدم ذكر اسمه الان ـ بأن المطران رحو قد اختطف يوم الجمعة في الصوم الخمسيني وأثر قدّاس مناسبة طريق الجلجلة (= درب الصليب ـ بالمصلاوي ـ ) ، وكان ذلك في كنيسة النور الكائنة في حي النور بالساحل الايسر ، ولم يكن أحد يعرف بأنه ذاهب اليها لأداء القدّاس ، ولكن تلك الكنيسة لم تكن تابعة له ، بل كانت تتبع مطرانية عقرة .. فكان او اوقفت سيارته وقتل مرافقيه واختطف المطران .. وشاع اختطافه ، وقد أبلغ احد أقاربه ، انه طلب من عائلته في مكالمة هاتفية رتبها خاطفوه رفض المساومة على حياته معهم ودعاهم الى عدم تلبية طلبهم بدفع فدية تحريره البالغة مليوني دولار .
ولم تنفع كل المناشدات ابدا على مدى ايام ، حتى وصلت اشارة بأنه مدفون في مكان معين من الساحل الايسر مع اشارات بالخطوط البيضاء تدل على مكانه .. فاخرجت جثته وكتم عليها من قبل المسؤولين المحليين ، حتى تسلمها اثنان من الافراد وتم تشييعها على عجل في ناحية كرمليس شرق الموصل . وهنا اطالب الحكومة العراقية باجراء تحقيق كامل وفحوصات دقيقة لمعرفة اسباب الوفاة والكشف عن معلومات جديدة ، وعدم التعتيم  أبدا على ما جرى ..

وقفة تأملية في وصيته التي فتحت في اربعينيته
في وقت لاحق ، كشفت عائلة رئيس اساقفة الموصل المطران بولص فرج رحو عن وصيته التي جاءت معبرة عن حب المسيحيين العراقيين لبلدهم حيث دعاهم الى المحافظة عليه ، وتمتين اواصر المحبة والاخوة مع بقية العراقيين .فقد أعلنت عائلة المطران الراحل رحو (65 عاما) وهي تحتفي بأربعينيته عن فتح وصيته التي تركها لأهله وأصدقائه وأتباعه يدعو فيها العراقيين الى الدفاع عن بلدهم وتمتين اواصر الاخاء والمحبة فيما بينهم كما يؤكد على حبه للعراق . ويقول المطران في وصيته ، وكأنه كان يتوقع هذه النهاية المأساوية لحياته في ظروف العنف والاضطراب التي يعيشها العراق بالرغم من انه كتبها بتاريخ 15 آب /أغسطس عام 2003 عيد السيدة العذراء : " أن الحياة هي الإستسلام الكلي بين يدي الله والموت الطبيعي هو العبور إلى استسلام دائم وأبدي" . وتشير الوصية الى مدى الحب الذي كان يعتمر في قلب المطران للعراق حيث يطلب من "ابنائه العراقيين" والمسيحيين بشكل خاص التمسك بالعراق لأنه بلد الآباء والأجداد ويطالبهم بالحفاظ عليه .

عنوان وطريق المجد لكل من يحب شعبه
ولدى الكشف عن نص الوصية التي نشرها موقع "نينوى" على شبكة الانترنيت قبل ايام والذي يحمل اسم المحافظة العراقية الشمالية وعاصمتها الموصل ، قال الصديق الدكتور غازي رحو احد افراد عائلة المطران الفقيد : "لكي يطلع كل الشرفاء في العراق والأمة من رجال دين ومؤمنين .. ولكي يطلع أبناء العراق بكل أطيافهم ومنابتهم وقومياتهم واثنياتهم وطوائفهم ، كيف سطّر شهيد العراق بكل أطيافه وصيته التي أكدت على حب العراق والعراقيين وتسامى على كلّ الجراح ودعا إلى حب العراق ورعاية شعبه ، ولم يفرق بين دين ودين ، ولا بين طائفة وأخرى ، وإنما دعا للعراق ولشعبه" . وقال ان الوصية هي "عنوان وطريق لكل من يحب شعبه" .
وفي وصيته يقول المطران رحو : "أطلب من الجميع أن يكونوا منفتحين لإخوتنا المسلمين واليزيدية وكل أبناء هذا الوطن الحبيب ، ويعملوا على بناء أواصر المحبة والأخوة بين أبناء بلدنا الحبيب العراق" . ويضيف قائلا : "أذكر الشعب الذي خدمته والأصدقاء الذين أحببتهم وأهلي جميعا .. أذكر رؤساء الكنيسة والآباء الكهنة ومنهم كهنة يسوع الملك الذي أنا واحد منهم والرهبان والراهبات وكل الذين أحبوني والذين لم يحبوني .. أذكر الضعفاء في جماعة المحبة والفرح .. الذين أنحني أمامهم وأمام الكادر الذي يضحي فهؤلاء هم الذين علموني معنى الحب .. أذكر جميع الشباب والشابات الذين هم غد الكنيسة وأطلب منهم جميعا أن يحملوا شعلة الإيمان في بلدنا العزيز " .

كلمة أخيرة تختصر معنى الحب
واخيرا اقول ، بأن العراق والعالم اجمع عموما قد خسر شخصية عراقية مؤثّرة ، وافتقدت الموصل العريقة في مركزها واطرافها زعيما دينيا مسالما .. آمن بالمحبة وعشق الارض وطريق السلام .. زعيما نادى بالتصافي والوئام في خضم لجج الصراع .. زعيما دفع حياته ثمنا من اجل العراق وكل اطياف العراق .. انها كلمة اخيرة تختصر كل معاني الحب على طريق المجد .. ان اسم هذا المطران الراحل سيبقى شعلة وضيئة مضيئة في تاريخ العراق كله وتاريخ مدينته الموصل بشكل خاص ، وستبقى الاجيال القادمة تذكره باطيب الذكر ، وسيبقى حدث مصرعه علامة فارقة في التاريخ .
فصلة مخصصّة لكتاب (زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ  ) لمؤلفه سّيار الجميل
نشرت على موقع الدكتور سيّار الجميل 23 ابريل 2008


www.sayyaraljamil.com

92
ماذا عن بيان بوش وشهادتي بتريوس وكروكر ؟

د. سيّار الجَميل

دارت في اروقة الكونغرس الاميركي نقاشات مثيرة للجدل حول العراق ، وما آلت اليه الاوضاع ليس في العراق وحده ، بل في كل منطقة الشرق الاوسط .. ثم خرج الرئيس جورج بوش ليلقي بيانا في البيت الأبيض  يدافع فيه عن استراتيجيته في الحرب تاركا أمر حسم هذا الصراع المكلف الذي لا يلقى تأييدا لمن سيخلفه في الرئاسة. واعتقد ان الامر ليس هينا ابدا ، ذلك ان التركة بالرغم من ثقلها ، ولكن لا خيار امام الولايات المتحدة الا البقاء في العراق لمرحلة غير معروفة ، ليس من اجل الحفاظ على سمعتها في العالم ، وليس ملاحقة لعناصر تنظيم القاعدة ـ كما قال بوش ـ ، بل بسبب مصالحها الحيوية في المستقبل المنظور والبعيد .
  ان بيان الرئيس بوش الاخير هو بمثابة تأييد مطلق لتوصية الجنرال ديفيد بتريوس قائد القوات الاميركية في العراق ، ولكن ليس باستكمال سحب محدود للقوات القتالية بحلول يوليو / تموز القادم ، وليس مجرد  فرض تجميد لحجم القوات مدته 45 يوما لتقييم الموقف الامني .. بل تكريس للهيمنة لا العسكرية حسب ، بل السياسية والوقوف ازاء ايران التي تعتبرها الادارة الامريكية لها درجة كبيرة من الخطورة ، او هكذا توحي للعالم من اجل البقاء في العراق .
 
ان مجرد تصريح  الرئيس الاميركي مرارا بأن قراره بشأن القوات الاميركية في العراق سيستند الى نصيحة القادة الميدانيين ورفض وضع جدول زمني ملزم لسحب القوات الامريكية والمتحالفة معها  هو دليل قاطع على ان الولايات المتحدة ماضية في تطبيق استراتيجية خفية سواء بوجود المحافظين في السلطة ام وصول الديمقراطيين اليها في قابل الايام . واعتقد انه حتى لو اعلن  بوش في خطابه خفض مدة الخدمة للقوات الاميركية في العراق وأفغانستان من 15 شهرا كما هو مطبق الان الى عام ، فليس معنى هذا حصول تبدّل في الاستراتيجية الامريكية بقدر ما هو مجرد تكتيك يوّظف في المناورات السياسية .
 
لقد ادلى بوش ببيانه الاخير بعد مأدبة افطار في البيت الابيض جمعته بكل من ديفيد بتريوس  قائد القوات الاميركية في العراق وريان كروكر السفير الاميركي في العراق . وكان الاثنان قد قدما  على مدى يومين تقريرا قاتما للكونجرس عن العراق . وقال الديمقراطيون المعارضون ان الاثنين لم يقدما اي استراتيجية للخروج من العراق بعد خمس سنوات على الغزو الاميركي للبلاد عام 2003. قال بتريوس في شهادته : "الذي اختبر منا هذا لفترة طويلة من المؤكد انه يريد لهذه الحرب ان تنتهي مثله مثل اي شخص اخر بل ربما أكثر. ما نريد ان نفعله هو ان نعود الى الوطن بطريقة صحيحة لا تقوض المكاسب التي حاربنا لتحقيقها " . ولقد غدت قضية العراق محورية في الانتخابات الامريكية للرئاسة . وان اي مرشّح من المرشحين لا ينفي وجود قوات امريكية في العراق حتى لما بعد عام 2009 !
ان من تابع وسمع ما قاله كل من الاثنين سيخرج بانطباع ان الولايات المتحدة الامريكية مع كل تغيير تكتيكاتها العسكرية والسياسية والاعلامية ، الا انها لم تزل تحتفظ باستراتيجيتها والتي لم تزل تعتمدها .. وانها لم تقم رسميا بأية مسائلة لكل من وزير الدفاع السابق رامسفيلد والسفير بول بريمر الحاكم الامريكي للعراق عن كل ما اقترف بحق العراق منذ غزوه عام 2003 حتى اليوم ، فهل سيقوم الديمقراطيون بعمل ذلك وبرفقة الاثنين جورج بوش وطاقمه ؟
 لقد تحدث بتريوس العسكري وكروكر المدني بلغة القدرة على تحريك الاحداث الداخلية وكيفية استخدامهما القوة .. ان ما قالاه امام العالم كله يؤكد لنا ان مصالح امريكا قبل العراق حتى ان بلغ أي درجة من الاضمحلال والتهشيم .. وبالرغم من تأكيدهما على ان تقدمّا قد حصل ، فهما يؤكدان على ان هناك حاجة للقيام بالكثير من العمل . المشكلة ان الولايات المتحدة هي التي تسببت بكل ما حدث في العراق ، وهي لا تريد ان تتحّمل نتائج سياساتها الخاطئة . ان التراجع في العنف ـ كما قالا ـ هو مجرد دعاية مضحكة ، فالعراق لم يزل يحترق من شماله حتى جنوبه ولكن باشكال اخرى ، وان مجرد توزيع الاموال الامريكية على البعض لاسكاتهم بعد شراء ذممهم ليس حّلا طبيعيا ابدا .. ان اعادة الاستقرار في العراق بحاجة ماسة الى تصحيح العملية السياسية الجارية والعمل على خلق ارادة عراقية واحدة من خلال مشروع وطني عراقي ينبثق عن مصالحة حقيقية بين العراقيين بتنازل كل طرف عن اجندته ازاء الاخر . فهل توافق الولايات المتحدة على مثل هذا الكلام الذي طرحناه منذ العام 2003 ، ولم يزل ينادي به كل العقلاء العراقيين ؟ ان مجرد تسمية كروكر حكومة المالكي في خطابه اما العالم  بـ " الحكومة الشيعية " هو تعبير خاطئ عن واقع خاطئ ساهمت الولايات المتحدة في صنعه ضمن استراتيجيتها في العراق ، وهو يسيئ لسياستهم قبل ان يسئ للحكومة العراقية.
ان عناصر تنظيم القاعدة لم تزل قوية بالرغم من تضاؤلها ، اذ قال  بتريوس : ان قادة القاعدة ما زالوا "يعتبرون العراق جبهة مركزية في استراتيجيتهم العالمية ويرسلون التمويل والتوجيه والمقاتلين الاجانب الى العراق". وأضاف أن من الواجب الاستمرار في ممارسة ضغوط لا تكل لمنع القاعدة من تجميع صفوفها في العراق.. في حين يؤكد الديمقراطيون ان بوش فشل في القضاء على القاعدة بتقييد نفسه في العراق وان التهديد الاكبر لها في كل من الباكستان وافغانستان !
 ان ما يجري اليوم في العراق لا يعكس الصورة التي نقلها كل من بتريوس وكروكر ، فثمة اكذوبات ولف ودوران على واقع مهترئ جدا .. فمتى يعي ابناء العراق ان طريقهم واحد ، ولا يتحقق الا من خلال مشروع وطني عراقي حقيقي تمثله ارادة سياسية صلبة وقوة داخلية مؤثرة ؟؟

www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 16 ابريل 2008

93
ماذا توقّعتُ للعراقِ قبل السقوط؟       

د. سيّار الجَميل     
Thursday, 03 April 2008 


لمناسبة مرور خمس سنوات عجاف على العراق واهل العراق اثر سقوط النظام السابق والذي كان حلقة زمنية طويلة من السنوات الصعبة بكل ما حدث فيها..ومعاناة العراقيين في سلسلة من الاضطهادات والمؤامرات ومشروعات السحل والقتل والحروب والحصارات والتهجير والاغترابات والالام..فانني استعيد ما كنت قد قلته في بداية سنة 2003من سقوط النظام العراقي السابق في"تقرير"، رّدا على سؤال من قبل الانترناشنال كوريار، ونشر بالانكليزية 21يناير /

كانون الثاني 2003، كما نشر في ملحق خاص بالعربية في جريدة البيان الاماراتية 2 فبراير 2003..:


"ان التغيير في العراق سواء حصل باجتياح ام بغيره يصعب ان يقابله العراقيون بالارتياح الا بعد ان يطمئنوا الى الاهداف الحقيقية، وهم يتطلعون الى الامن والرخاء والحرية..كما استطيع القول انه يصعب الجزم بامكان بلوغ السيناريو الاسوأ اي تفكيك العراق.وأتوقع ان احداً لا يعرف ابدا ماذا سيحصل بعد سقوط النظام العراقي الذي ربما سيقاتل قتالا شرسا ولا يمكن ان يستسلم بسهولة اذا ما توفرت لديه الوسائل والادوات، ولكنه سيتفكك حالما انقطع صوته عن العالم الى الابد".

اهمية العراق: قلب العالم

نعم، كان العالم في خضم التكهنات عمّا سيحدث للعراق، وكنّا نسمع من الميديا الامريكية عبارة"عراق موّحد"وتكريس امريكا للمال والوقت لـ"اعادة بناء العراق"بعد الاطاحة بالنظام السابق..كان الناس يحسّون بالمخاطر..وكانت المعارضة قد كرّست كل طاقاتها من اجل اسقاط النظام الحاكم بالرغم من كل تمزقاتها وخلافاتها ومشاكلها التي لم يستطع احد من حلّها. كان الخوف قد استيد ايضا بالعديد من.. قلت في التقرير المشار اليه ايضا:".. ويعلم الجميع أن العراق هو غير افغانستان او الصومال او لبنان بسبب جيوستراتيجيته المركزية في مربع الازمات اولا وبما يمثله من ثروات نفطية تسعى امريكا لتأمين مصالحها الاستراتيجية لخمسين سنة قادمة ! وعليه، فان مصير العراق وحالاته في المستقبل المنظورستحدد ربما لعقود طويلة شكل المنطقة وسياساتها.الاسئلة الان:هل لدى اميركا خطط واضحة لعراق المستقبل؟ وهل انها ستلتزم باعادة بناء العراق؟ وهل لدى ادارة بوش اجوبة عن ثلاثة اسئلة هي التحديات لكل السيناريوهات:هل سيكون العراق مستقراً؟ وهل سيبقى العراق موحّداً؟ وهل سيغدو العراق ديموقراطياً؟". هذه الاسئلة طرحتها على الملأ، وحاولت الاجابة عليها

العراق بين الفوضى والاستقرار

اما بالنسبة للاستقرار فماذا كانت توقعاتي؟ كتبت قائلا:"المقصود بالاستقرار ليس اكثر من غياب الفوضى والاضطراب. والجواب المرجح هو: لا ذلك ان واقع العراق وطبيعة النظام لا يتركان مجالاً للتفاؤل بل يثيران المخاوف من ان يصاحب الصراع الداخلي دماءغزيرةواختلالات كبيرة في المجتمع سياسية واقتصادية واجتماعية تراكمت نتيجة مآسي حربي الخليج الماضيتين وعقودا زمنية حافلة بالمصادمات والصراعات والثارات والعقوبات القاتلة والعزلة، يضاف اليها سنوات من القهر والاضطهاد والتهميش للقوى السياسية والاجتماعية المتنوعة وهي حالة عمق الاحقاد.ومثل هذا الوضع لا يبشر الا بمستويات متعددة ومتداخلة من الاضطرابات اولها الثأر والانتقام من عناصر واجهزة وقبائل وعشائر ومدن..وفي المقابل مقاومة الطبقة الطفيلية المنتفعة لأي تغيير لئلا تفقد امتيازاتها.وكذلك التنافس بين المجموعات العرقية المختلفة في المجتمع على موارد البلاد وخصوصاً حقول النفط في الشمال والجنوب.ذلك ان صراعا سينشأ ان لم يبدأ بعد بين الاكراد والتركمان وسوف يسارع كل منهما الى وضع اليد على آبار كركوك وعين زاله بالموصل، ناهيكم عن التدخل في الجنوب من قبل تلك القوى التي تتخذ من ايران مقرا لها وخصوصاً من خلال البصرة والعمارة.وكل تخوفاتي ان تنجرف مختلف القوى المتضادة في اشتعال حرب اهلية في غيبوبة للسيادة والنظام، مما يهدد بالتفكك"!!

هل يبقى العراق موحداً؟

اما محاولتي في الاجابة على السؤال: هل يبقى العراق موحداً؟

ان التكهن بمصير العراق ليس سهلاً، فثمة عوامل في دواخله تدفع دوما في اتجاه ابقائه موحداً وأخرى في مخارجه تدفع في اتجاه تفكيكه.فمسألة وحدة العراق لا تتعلق بنظام الحكم الحالي ولا برئيسه ولا بحزبه لأن العراق بحدوده الحالية وخارطته المعهودة موجود قبله.ان نظام الحكم في العراق هو غير انظمة الحكم في بلدان مثل يوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي لكي تثار المخاوف حول وجود العراق من بعد زواله..وعلى الرغم من الواقع الاثنوغرافي المتنوع للعراق، فلم تظهر نزعات انفصالية جدية إلا عند نسبة الخمس من الاكراد في بعض الاحيان. وعموماً كان الاكراد وما زالوا يفضلون اهمية علاقتهم العضويةالعراقية مع المركز.ان من اكبر الفجائع التي سيمنى العراق بها اذا ما طبق عليه اي سيناريو يعتمد الاجندة الطائفية، لأن في ذلك مقتلا له ولمجتمعه بالذات الذي لم يعرف طوال حياته الطويلة الا التعايش والتضامن في درء الاخطار والتحديات.ان مجرد تصنيف الدولة في العراق على اساس طائفي سيفكك المجتمع العراقي تفكيكا، وينحره نحرا مؤلما..ان كلا من الدين والطائفة والمذهب لابد ان تبقى جميعا منزهة عن اللعب بها سياسيا في مستقبل العراق لأنها هي التي ستقسم العراق بل وتطحنه تحت عجلاتها التي لا تبقي ولا تذر !!ان قيام اية مؤسسات عراقية معلمنة في المستقبل المنظور تراعى فيها تكافؤ الفرص للجميع ضمن اطار تشريع دستور مدني دائم، ستضمن مصير العراق من هجمة الاجندة الطائفية، علما بأن ليس هناك اي فرز حقيقي بين الطوائف والملل والاديان في العراق، وليس هناك الا التداخل في ما بينها، فالمجتمع العراقي فسيفساء متداخلة بعضها بالبعض الاخر ولا يمكن عزل كل جزء عن الاخر ابدا". فلا ادري هل كنت على صواب ام خطأ؟

العراق والتحديات الاقليمية

اما بصدد التحديات الاقليمية: موقف تركيا وايران، فلقد فرض سؤال آخر حول تأثيرها على وضع العراق ابان تخلخله، فكتبت قائلا:"لقد خلق الوضع القائم خلخلة في المواقف ذات الانماط الثلاثة:المحلي الداخلي والمحيطي الاقليمي والدولي الخارجي.. وان المحيطي الاقليمي عندي هو الاخطر، وهو الذي يخدم احتمال التفكيك بل الانهيار التام في ظل غياب الداخلي والخارجي. واخشى ان تدخلاً اقليميا سافرا من قبل تركيا او ايران او الاثنين معا سيطال المدن العراقية فتعم فوضى ابان مايسمّى بالمرحلة الانتقالية..وان مجرد مساومة اي طرف اقليمي سيعزز خطر التفكيك، ليس من ضمن عوامل داخلية فحسب بل من قبل قوى خارجية وسيفتح الاضطراب شهيته على طموحات اكبر لأطماع الطرف الاخر. كما ان اكراد العراق يخافون خسارة الحكم الذاتي الذي حققوه وهم يتمتعون به ويجدون الفرصة سانحة لاحياء حلم دولة كردية من الدول المحيطة وهو ما تخشاه تركيا وما قد يدفعها الى التحرك ضد الاكراد ودخول الشمال، اضافة الى ما يعنيه انفصال الاكراد من ضخ زخم في مشكلة الاقليات الى دول اخرى. وقد تجد ايران الفرصة مناسبة لاستخدام نفوذها عند جماعاتها ومؤيديها من اجل تحقيق مصالحها في الجنوب وتنطلق اصوات كانت لا تزال قليلة وخافتة للانفصال، مع ما يعنيه هذا من تهديد لدول الخليج العربي". لا ادري كيف سيكون موقف العرب، ولكن اغلبهم متعاطف مع النظام الحالي للرئيس صدام حسين..ولا اعتقد انهم يميزون بينه وبين شعب العراق، وهذه مشكلة لا يدركها الا العراقيون!

هل صدقت امريكا؟

اما بصدد مصداقية اية سيناريوهات اميركية:النظام السياسي والاداري والعسكري، فلقد كتبت قائلا:"تستطيع اميركا ان تغلف هجمتها على العراق بما تشاء وتلونها بوعود الديموقراطية كما تشاء، لكن القول بنظام ديموقراطي حقيقي في العراق بعد زوال اي نظام توليتاري هو ضرب من التشذيف اقله لسنوات آتية.والسبب لا ينبع مما تردده بعض الدوائر الاميركية من ان العراقيين اعتادوا انظمة استبدادية ولن يعرفوا التعامل مع غيرها، فالعراقيون قادرون بما لديهم من علم وثقافة وطاقات على بناء دولة دستورية معلمنة حديثة، ولكن يكمن السبب في صعوبة المرحلة الانتقالية وأولوية تفادي الفوضى والتفكيك. ثم اي مستقبل ديموقراطي للعراق يعتمد في الدرجة الاولى على صيغة تحفظ العراق وفي الدرجة الثانية على صدق اميركا في التزام اعادة بناء العراق ديموقراطياً".

اليوم، يتبين كم كان الامريكيون مضللين للعراقيين في السياسة التي اتبعوها، وبرغم كل الوعود التي قالوها..ولكن الاخطاء (وربما الخطط) التي اتبعوها كانت قد اساءت جدا للتغيير من اجال بناء عراق موحد حديث التكوين، وخصوصا عندما تحّدث مسؤولون امريكيون عن اقامة "ديموقراطية فيديرالية"تسمح بدرجة من الاستقلال الذاتي للمجموعات الثلاث السنّية والشيعية والكردية تبدأها في الفترة الانتقالية باحتمال اختيار ثلاثة او اكثر من قادة المجموعات هذه لادارة مشتركة للعراق الى حين اجراء انتخابات".لقد كان ذلك طامة كبرى في التعامل مع المجتمع العراقي وتأسيس نظام حكم يقوم على هذا المبدأ الذي اكل الاخضر واليابس.

المصير

لقد تخيلت السيناريو كما يلي قائلا:".. ولحظة يبدأ النظام بالتخلخل وفقدان الاتصال تكون القيادة قد انتهت واختفت ففي خضم الحرب سوف يهرب الجميع من الساحة اذا اختفت القيادة.. وستحل الانتفاضة الشعبية اذا اطمأنت قواها الى خلو الساحة من رموز النظام وستتبلور قوى جديدة من اركان النظام القديم لكي تقوم في حفظ رؤوسها في المرحلة الجديدة ليس من النظام الجديد، بل من ثارات المجتمع والعمل من اجل استعادة السلطة والنفوذ من جديد بخلط كل الاوراق من خلال قيام تحالفات جديدة .ويستبعد قيام ديكتاتورية عسكرية في العراق لأنها فاقدة لمكوناتها وعناصر قوتها ازاء ما كان على امتداد اربعة عقود من الزمن !".

وقد اخطأت في تصوراتي لما بعد السقوط، اذ قلت:"المهم الذي لابد ان ندركه بأن امريكا لم تنفض يديها من المعارضة ولكنها تدرك بأنها غير قادرة على ان تملأ الفراغ السياسي والاداري والعسكري الذي سيحدث في الاجهزة والدوائر والمؤسسات..وعليه، فانني اعتقد وربما كنت على خطأ ان امريكا ستعول على الجيش العراقي في حفظ الامن واستخدامه في اعادة اعمار العراق.. كما انها ستعتمد على نخب مستقلة في الداخل تستطيع تسيير ادارات الدولة في المرحلة الانتقالية فوجودهم يضمن استمرار العمل".

وأخيرا: هل من استنتاجات ضرورية؟

اتمنى لو جرت الرياح بما يشتهي العقلاء.. واتمنى لو استطاعت الولايات المتحدة الامريكية قراءة مصالحها بعد تأمين مصالح الشعب العراقي..وكنت اتمنى ان لو كان في الميدان من يقول لا للاحتلال ولا للطائفية ولا للمحاصصات ولا للمليشيات ولا للاستعجال في اصدار دستور مثير للزوابع..وكنت اتمنى لو ان لا يغدو العراق ساحة لتصفية الحسابات مع الارهاب وغيره..وكنت اتمنى ان لا ينساق من وصل الى المسؤولية وراء الشعارات الموهومة..واتمنى لو لم يسحق الامريكان البنية التحتية للعراق..تمنيت ان يعمل الجميع لاستقرار العراق وامنه من اجل التفكير بمؤسساته وتطوير ضروراته قبل الشروع والاستعجال في الاعلان عما لا يمكن تطبيقه ابدا ! وتمنيت لو اعترف الجميع باخطائهم، ووقفوا وقفة واحدة لتأسيس مشروع وطني عراقي حضاري بمعزل عن الامريكيين وتمنياتهم وسيناريوهاتهم..تمنيت ان تبدأ صفحة جديدة وتطوى صفحة الماضي ويبدأ التعامل مع المحتل الامريكي معاملة الند للند من اجل مصالح العراق العليا.. ولكن كل هذا وذاك من التمنيات لم يحصل، وها نحن نرى اليوم ما الذي حل بالعراق وأهله.. وما سيحل بهم في قابل الايام.

www.sayyaraljamil.com

 

94
                   
     نزيهة سليم  : ذلك التشكيل المتألق

د. سّيار الجميل

لقد رحل آخر العنقود
نعم ، لقد رحلت قبل ايام واحدة من أروع الفنانات التشكيليات العراقيات اللواتي لمعن في القرن العشرين .. نعم ، رحلت تلك المرأة العراقية التي أسدت للثقافة العراقية اجمل الاعمال الفنية .. نعم ، رحلت نزيهة الى دار الابدية لتتخلص من اوجاع الوطن المدمّرة بعد حياة تقدر بواحد وثمانين سنة ، كانت مليئة بالانتاج ، وكانت مثقلة بالابداعات .. نعم ، رحلت تلك المرأة العراقية الحقيقية التي لم تعرف الركود الا في اواخر ايامها .. نعم ، رحلت تلك الشعلة الحيوية رحلة النهاية لتسجل خاتمة محزنة لتاريخ ثقافي خصب من الفن التشكيلي الذي وصل درجة العالمية .. رحلت نزيهة سليلة بيت تنوعت فيه الوان الثقافة تنوعا قلما نجده في بيوتات اخرى .. نعم ، رحلت مع كل احزانها وهي ترى العراق ، وقد اثقل بالاوجاع والجروح والقروح  .. نعم ، رحلت من كانت تبكي بحرقة على ماض تليد ، وقد غابت عن حاضرها قسرا .. نعم ، رحلت وهي وحيدة تعيش اقصى درجات الكآبة في عزلتها التي فرضها عليها الزمن الصعب في قلب بغداد .. نعم ، رحلت انفاسها الى بارئها في البيت الذي عشقته ، فهو بيت جواد سليم ، الذي كان قبلة للاصدقاء من فنانين ومثقفين وشخصيات مجتمع وادباء ومناضلين .. وغدا موحشا  بكل ما فيه ، والغبار قد كسا كل لوحاته واشيائه الثمينة .. نعم ، رحلت وفي مقلتيها  دموع العاشق الموله الذي افتقد حبيبته .. ولم يعد يسمع الا نعيق الجهلة المتخلفين والمارقين والبدائيين .. نعم ، رحلت وتركت بيت جواد وآثار نزيهة بعد ان كانت موعودة منذ سنين بأن يكون بيت جواد متحفا في قلب بغداد .
نعم ، رحلت بكل ذكرياتها الخصبة عن ريادة ابيها الفنان الذي كان قد نبت في ازقة الموصل .. او عن ريادة اخيها الذي كان قد فرشت سمعته الافاق الانسانية ..  نعم ، رحلت تلك الفنانة العراقية القديرة التي عاشت كريمة الجانب ، عزيزة النفس ، ولكنها وجدت نفسها في ضنك وحاجة عند اواخر ايامها كي تبيع اغلى لوحاتها ، فليس هناك اقسى من الفاقة عند من تعزّ عندهم انفسهم  ، اقصد اعزاء قوم .. نعم ، رحلت من كانت تعيش هواجس الخوف والترقب في سنواتها الاخيرة .. اذ علمت من اكثر من مصدر بأنها كانت تعيش رعبا حقيقيا  من قتلة ولصوص ولوتية ومجرمين .. فهي تعيش في متحف حقيقي .. نعم ، رحلت تلك المبدعة العراقية بعد ان لمع اسمها  ابان خمسينيات القرن العشرين ، اي قبل اكثر من نصف قرن ابان  العهد الملكي الذي كان قد التفت اليها ورعاها .. ولكن لم يلتفت لها اي نظام من انظمة الحكم المتعاقبة حتى من بعد رحيلها ـ مع الاسف الشديد ـ ..
نعم ، ماتت وهي تصارع هواجسها بعد ان اغلقت الابواب عليها ببيتها في الوزيرية ، خوفا من اولاد الشوارع  وعصابات القتل .. نعم ، كانت تنتظر ساعة رحيلها المؤلم ، اذ كان مرضها يلازمها منذ وقت طويل .. نعم ، رحلت ويرحل معها تاريخ الفن العراقي الحديث .. اذ لم يتبق من عمالقته الا القليل . انها ترحل وهي تجد موازين العراق الاجتماعية قد انقلبت على امتداد خمسين سنة عاليها سافلها ..

شجرة الفن التشكيلي : نزيهة من تكون ؟
كانت نزيهة غصن شجرة وارفة الظلال ، فالاب محمد سليم بن علي الموصلي  من رواد الرسم في العراق فضلا عن كونه احد ضباط الجيش العثماني ، وكان قد ولد في محلة السوق الصغير بالموصل القديمة ، ونشأ ودرس في مدارسها قبل ان يغادرها ..ذلك الاب الذي تقول الاوراق القديمة عنه بأنه كان فنانا حاذقا في كل الالوان الفنية ويهوى الطبيعة والخيل والشعر وزهور الربيع .. وبقي يحتفظ بصداقاته الاولى ورفاق دربه الاوائل عند مطلق القرن العشرين .
وكانت الراحلة نزيهة محمد سليم ، الى جانب اخوتها سعاد وجواد ونزار هي الوحيدة المدللة بينهم .. ويكبرها جواد بثمان سنوات ، وهي من مواليد 1927 ، وليس من الغرابة ان يكون ابناء محمد سليم جميعهم من امهر الفنانين والادباء والموسيقيين وعشاق الحياة  والكلمة والادب .. واذا كان جواد قد بّز الجميع بتفوقه وشهرته العالمية ، فقد كان سعاد من اروع الفنانين ، وغدا نزار من ابرع المثقفين  العراقيين .. وجواد نفسه كان قد درّس اخته نزيهة تاريخ الفن في معهد الفنون الجميلة ببغداد ، ثم اكملت دراستها للفن في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس ( 1947- 1951) ببعثة حكومية على مدى اربع سنوات، حيث تخصصت في الرسوم الجدارية (= الجداريات) ، وكانت تطلب علوم الرسم التشكيلي على يد الفنان الفرنسي (فرناند ليجيه) الذي كان يبرّها كثيرا وقد اعجب باعمالها ومواظبتها وتفانيها في العمل . كان باستطاعتها البقاء كمعلمة للفن في فرنسا بسبب تفوقها حيث كانت الرابعة على دفعتها في جائزة روما، لكنها اختارت ان تعود للعراق على الرغم من ان الآفاق التي فتحت لها في الخارج . عملت استاذة بمعهد الفنون الجميلة منذ عودتها من باريس و محاضرة في كلية الفنون الجميلة.
واصبحت نزيهة في مقدمة المثقفات والتشكيليات العراقيات المتميزات في عقد الخمسينيات بدعم من الملك فيصل الثاني الذي كانت قد اعجب برسومها اثر تتويجه ـ كما كانت تذكر صديقتها دائما ـ  لقد عاشت نزيهة تجربتها الفنية باسمى تجلياتها في النصف الثاني من القرن العشرين .. وكانت قد اشتهرت منذ مطلع الخمسينيات عراقيا ، وبقيت تعتز بتجربتها العراقية حتى رحيلها ، وكانت قد انضمت الى الجماعات الفنية سواء تلك التي قام بتأسيسها  اخوها جواد  ، اي جماعة بغداد للفن الحديث  عام 1951 ، ام قام بتأسيسها آخرون اذ ساهمت في تأسيس جمعية الفنون التشكيلية، وكانت مساندة لجماعة الرواد الفنية.
ذكريات الاصدقاء
كان قد حدّثني عنها اكثر من صديق وقريب.. وكلهم يشيدون بامكاناتها الفنية التي لا يمكن ان تضاهى ناهيكم عن احساسها المفرط بالطبيعة والحياة العراقية الخصبة ، وانها تمتلك احساسا لا حدود لها ازاء مختلف الجماليات .. وكان رحيل جواد المبكر قد قصم ظهرها ، اذ كانت تعتبره رائدا حقيقيا ليس لوحدها ، بل لجيل عريض من الفنانين العراقيين المحدثين .. كانت متفاءلة دوما بالحياة ودوما ما تقدم الايجابيات في حياتها على السلبيات .. ولا يمكن ان نتصور دفق عواطفها ، وخصوصا ازاء اخوتها الثلاثة ، فهم يشكلون مربعا ذهبيا ساطعا  ـ كما كانت تصفهم احدى صديقات نزيهة وهي تقطن قربها في الوزيرية عند كلية الفنون الجميلة ، وقد حزنت نزيهة على رحيل صديقتها قبل سنوات بعد ان افتقدتها ـ . وكنت قد طلبت من صديقتها الراحلة قبل اكثر من عشر سنوات ، بعض المعلومات عن جواد سليم وزوجته التشكيلية والمثقفة البريطانية لورنا سليم ، وانا اكتب كتابي ( انتلجينسيا  العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين ) ، وقد وافتني بصفحات كتبتها نزيهة عن جواد .. اما لورنا ، فكانت قد ذكرت في ذكرياتها العراقية اجمل الكلمات عن نزيهة وقابلياتها غير المحدودة وصبرها في العمل وارتباطها المتفاني بالعراق التي عبرت عنها في عشرات اللوحات والرسومات  المشبعة بالروح العراقية . ويحكي لي الموسيقار الراحل فريد الله ويردي عن نزيهة كونها دقيقة جدا في تخطيطها ، حالها حال جواد ، ولكن جواد اسرع منها ، لكنها لها القدرة والمهارة في تقدير حجم الانعكاسات الضوئية .

منهج التأصيل واسلوب الحداثة
لقد قضت نزيهة قرابة اربع سنوات في باريس تدرس الفن التشكيلي بتفوق كبير ، وكانت من اولى النسوة العراقية في ( البوزار ) ووقفت عربيا الى جانبها الفنانة اللبنانية القديرة سلوى روضه شقير ( مواليد 1916 ) والتي تخرجت في اروقة البوزار ايضا ..  وعادت نزيهة الى العراق كي تترجم على غرار شقيقها جواد منهجا في التأصيل ، فلقد ابدعت في تصوير الحياة العراقية في لوحات متنوعة عن المرأة العراقية والسوق العراقية والحارات البغدادية والازياء العراقية .. انها رائدة في الواقعية ولكنها سلكت طريق الحداثة من خلال التجريد ، مستفيدة من منهج اخيها جواد ، لكنها لم تصل الى مستواه .  لقد ترجمت معاني عديدة من المجتمع الذي بقيت ملتصقة به حتى آخر لحطات حياتها .. ولم تعط اهتمامها لنفر معين من البشر، بل اجدها ترى كل العراقيين بمنظار واحد طوال مسيرتها ، ولا ندري ما موقفها في السنوات الخمس الاخيرة من حياتها . لقد كانت قد اعتنت بطريقة غير عادية برسوم الاطفال .. وبرعت في رسم البورتريهات .. واكملت زمالة لمدة عام في المانيا الديمقراطية للتخصص برسوم كتب الاطفال ومسرح الاطفال. . ومع كل الاسى ، كانت لوحات الفنانة نزيهة سليم قد سرقت من المتحف العراقي للفنون  عام 2003  عند اجتياح جيوش التحالف الامريكي شوارع بغداد , ولم يبق من تلك الاعمال سوى عدد قليل جدا.

الريادة النسوية
لقد اندمجت بالمجتمع الذي راحت تدخل اعماقة لتلتقط صوره ، فتعيد انتاجها بريشتها  .. كانت تلاحق بعض النسوة لتشتري جلوسهن بالمال من اجل رسمهن .. انها تعتبر والدها معلمها الاول ، وهي تعد جواد استاذها الحقيقي الذي درّسها في كلية الفنون ، فتأثرت بالنزعة الفنية لعائلتها المؤسسة ، وتأثرت بأخيها .. وتجد نفسها واحدة من اللواتي ساهمن بأمانة واخلاص في النهضة الفنية العراقية التي شهدها العراق في القرن العشرين ، وخصوصا مع الانطلاقة الحيوية للمثقفين العراقيين ابان الاربعينيات والخمسينيات ـ كما تقول هي نفسها ـ . وفي تاريخ الفن العراقي ، فانها ثانية اثنتين في الريادة النسوية للفن التشكيلي ، اذ سبقتها مديحة عمر ( 1909 – 2006 ) ، تلك التي رحلت بصمت بعد ان عاشت بصمت من دون ان يذكرها أحد . 

وأخيرا
لقد افتقد العراق واحدة من ابرز نسوته الرائعات اللواتي سيذكرهن التاريخ بأحرف من نور .. نظرا لما قدمنه من معطيات حضارية  وابداعات فنية وليس لنا اليوم الا ان نقارن كيف كان العراق في منتصف القرن العشرين .. وكيف غدا اليوم .. ويا للاسف الشديد ..

www.sayyaraljamil.com

الف ياء ، 10 آذار / مارس 2008

95
أنصاف المثقفين : مدرسة مشاغبين

د. سيّار الجََميل

" اني أتهم .... اني اتهمهم  " .
صرخة اميل زولا

هل ابتعد المثقف عن الواقع ؟
   من اسوأ ما يمكن تخيله ان يغدو المثقف اداة ترويج او صوت تهريج لسلطة ما ، او لواقع ما ، او لتيار سياسي او ديني او طائفي ما .. ان من اسوأ ما يمكن تصوره ان تجد شعراء وادباء ورجال علم ومعرفة واعلام ينساقون كي يكونوا من المصفقين لأي نمط سياسي او زعيم  او سلطة او حزب او طائفة .. صحيح بأن ليس هناك اي مثقف على وجه الارض ان لم يكن له خط فكري معين يؤمن به ويلتزم بخطوطه ، انه امر واضج ، ولكن ان يغدو المثقف رقما معينا ، او مهرجا متقدما ، او اداة طيعة لتنفيذ اي اجندة وسياسة .. فانه امر مريب .. وهذا من الاخطاء التي لا يدركها اغلب المثقفين  في منطقتنا . ان الالتزام بأي توجه فكري او فلسفي لا يعني التشبث بأي ايديولوجية سياسية ، ومعروفة لنا جميعا تلك التوجهات الفكرية التي تحكم واقعنا في حياتنا المعاصرة منذ خمسين سنة سواء من القوميين او الماركسيين او الليبراليين او الاسلاميين  ..
    ان اي اساس فكري لا يمكن معارضته ، ولكن ان يغدو المثقف يتشبث بعجلة حزب او اقانيم طائفة او ذيول زعامة او شعارات ملّة ، فهذا داء خطير . ربما يشارك المثقف في التوقيع على بيان معين لقضية مصيرية ، او يمشي في تظاهرة معارضة لشأن دولي او وطني ، او يعلن عن موقف مناوئ لمسائل مبدئية كالذي فعله جان بول سارتر او جان جينيه او ميشال فوكو او مؤخرا وليم سيلف .. فليس من المعقول ان ينفصل المثقف عن واقعه ابدا وهو يرى هذا الواقع كم اصابه التهرؤ ، وما توالت عليه الفجائع وكم اخترقته التمزقات ولم تزل .
 الصمت خيانة : الموقف شجاعة
     لقد كان المثقف ناشطا حيويا ومدافعا شرسا ضد كل التجاوزات السلطوية سياسية كانت ام اجتماعية .. كان ضد القمع والتعذيب، وكان مع حقوق الانسان وضد تشريد البشر، وكان ضد مقاطعة شعب بجريرة حاكمه، وصحيح انه كان يراوغ مع السلطة ويناور والبعض قد يرتزق من هذا او من ذاك .. بل وكان يسكت على ما يقترفه بعض الزعماء  ، ولكن للاسف لم نسمع اصوات هؤلاء المثقفين، ككتلة مؤثرة، من قبل، وكأنهم لم يتعلموا درس صمتهم في عهد ستالين. ان الوحش يكبر بالضرورة، وبعد ان يلتهم قطيعه لا بد ان يفكر في قطيع الاخرين، وعندها يكون الوقت قد فات.
واذا كان السياسيون لا يدركون ذلك، وهم قلما يدركون لقصر نظر مفهوم تفرضه المهنة، فإن «غفلة» المثقفين ليس مبرّرة على الإطلاق بحكم طبيعة دورهم، وهو دور اخلاقي وتاريخي وانساني بالدرجة الاولى، غير محكوم بمكان او زمان. ولا بأس ان نستشهد مرة اخرى بكلمات مارتن اميس في حديثه عن الادباء الروس الذين اضطهدوا قبل ستين سنة، وفي محاكمته للضمير الثقافي الاوروبي: «كنتم تعرفون، ولكنكم لذتم بالصمت، والصمت تواطؤ وخيانة، ولولا ذلك كان يمكن منع ما حصل». ان المثقفين بشكل عام يعكسون مأساة مجتمعات المنطقة كلها ، ولما كانت مجتمعاتنا قاطبة تعيش تناقضات لا اول لها ولا آخر ، فان ذلك ينعكس على جميع ابنائه ، وهو يظهر جليا عند المثقفين ..

الهشاشة : حصيلة ثنائية التفكير وازدواجية المعايير
     قلت قبل عشر سنوات في كتاب صدر لي بعنوان ( التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ، الاهلية ،  1997 ، ص 102) : " ويزدوج التفكير والذات واللاوعي عند الجميع في خضم هذه " الثنائية " والنماذج لا نهاية لها ، فمن معجب بتراثه ايما اعجاب ولكنه لا ينفك عن متابعة افلام اجنبية ! ومن مؤمن بقضاياه الوطنية والقومية ولكنه لا يدخن الا تبوغ فرجينيا ! ومن شيخ بدوي لا يخرج من داره الا ويرش عباءته بقنينة عطور فرنسية ! ومن مفتخر بتقاليده الاجتماعية وعاداته المتوارثة في بيته وتراه جالسا في سيارته الامريكية الفارهة !! وشاعر او مفكر يتبارى نهارا في تكريس القيم والمبادئ وفي الليل تجده يحتسي الخمور الاسكتلندية ! ورجل دين يشيع مواعظه وخطبه من خلال الكاسيتات ولا يتنقل من بلد اسلامي وآخر الا في الدرجة الاولى على متن طائرات البوينغ !! ومحارب صنديد يعبر خط بارليف نشيده ( الله اكبر ) وهو على دبابة سوفييتية الصنع ! وشاب لا يحترم الزمن وفي معصمه ساعة ( رولكس ) سويسرية الصنع من الذهب الخالص !! وتاجر مضارب بثروته وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب وقد زيّن قصره بالكتب التراثية المذهبة !! وكاتب فاشل لا يجيد كتابة او قراءة جملة مفيدة في لغته الام ، وهو يتحدث بـ " الديالكتيك " او " صراع الطبقات " !! وطبيب درس تشريح اعضاء الانسان وهو لم يزل يؤمن بالخرافات والنصوص المضحكة !! واستاذ يجلس في مكتبه وقد اعتنى بربطة عنقه الاوربية وهو يطقطق بمسبحته وبساكلها !! الخ من من الامثلة والشواهد والنماذج السوسيولوجية التي تعكس تناقضات صارخة ، وتشوهات واختلاطات في التفكير والذات واللاوعي الفاعل في حياتنا المعاصرة التي عرفتها اجيال القرن العشرين .. وهي تزداد يوما بعد آخر ، ولسوف تزداد كثيرا من خلال ترسيخ اجتماعي انقسامي / ثنائي يعززه توغل في القيم الموروثة من جانب وارتباط لا انفصال عنه بالتشيؤات ومتطلبات العصر ومفاهيمه وقيمه الحديثة من جانب آخر .. ثمة تصادمات وانشطارات بين الجانبين تتوالد في كل لحظة تاريخية وقد تكون غائبة عن الوعي برسوخ الذهنية المركبة .. او قد يحس بها المرء او تشعر بها النخبة المفكرة او الهيئة المثقفة في المجتمع من خلال واقع مزيف ، او منظر مشّوه ، او ازدواج شخصية ، او تعامل بوجهين ، او خطاب منشطر ، او لغة هجينة ، او عادات سقيمة ، او تصرفات مبهمة ، او قرارات متناقضة ، او انتماء مركب ، او هوية مبعثرة او اساليب حياة مختلطة ، او ازياء متنافرة ، او ثقافة هزيلة ، او سلوكيات غير متجانسة .. الخ من التوصيفات .
 
الاستسلام للواقع المرير
دعونا نقرب الصورة اكثر بالوقوف قليلا عند احد المشاهد اليومية في مجتمعاتنا وهي صور مألوفة الفها واعتاد عليها الناس ، فلم تعد تثير فيهم اي شعور بالنفرة .. والتي لم يتألم لمرآها الا من يشقى بوعيه ، اذ تبدو عند الاخرين حالة طبيعية ، ونكاد نجده منظرا عربيا في اغلب المدن والعواصم والقسمات العربية : اكواخ وصرائف ومخيمات واطفال حفاة وحمير واوساخ وقاذورات ومياه آسنة .. الخ في شارع تتنافر فيه الازياء الاوربية والبلدية المحلية والوان المبهرجة والابنية الحديثة والسيارات الفارهة .. ويزداد التنافر حدة وجنونية عندما يستخدم متخلف جاهل لا يعرف القراءة والكتابة آخر مبتكرات التكنولوجيا اليابانية !!  ان انصاف المثقفين تجدهم في اغلبهم يستسلمون لواقعهم من دون اي اعتراض على يجدونه من خلل وتراجعات واخطاء ..
الانبهار من دون اي مقياس لنسبية الاشياء
ليس من مهام الناقد الحاذق ان يستخدم التجريحات المطلقة ، ولا يمكنه ان ينطلق من نظرة عدائية او استعلائية كونه وصل حديثا الى اي بلد اوربي او امريكي ، فاندهش بما رأى اندهاشا كبيرا تجعله يفقد كل تركيزه وافكاره ويشعر نفسه ضئيلا وتافها .. ليس من الصواب ابدا ان يكون رد الفعل المعاكس احتقار الاصل ، فالصورة ستبقى مشوهة وغير معترف بها .. ان امثلة عدة على هذا " النوع " من البشر ، اذ سرعان ما يكون تمردهم مساعدا لهم في ان يكونوا بالضد من مجتمعاتهم وبيئاتهم وتواريخهم .. فيحتقرونها احتقارا كبيرا ، وتتملكهم كراهية عمياء ضد ماضيهم وسرعان ما تتحول كل هذه التراكيب المعقدة الى بركان من الغلو والتطرف التي يعبرون عنها بعصبية بالغة .. وشتائم مقذعة ويعبرون عن اعجابهم الشديد بالغرب ، وكأنهم قد اكتشفوا الغرب ومخترعاته لوحدهم .. انهم ابعد ما يكونوا عن الغرب وآلياته وافكاره وتشيؤاته وحياته كونهم لا يجيدون التعامل معه ، ليس من الناحية اللغوية حسب ، بل ليس باستطاعتهم اجراء اي حوار حضاري مع هذا الغرب .. ناهيكم عن كونهم لا يدركون بأن لكل مجتمع سماته ومواصفاته وطبيعته ، بل له ايجابياته وسلبياته . انهم يريدون استعارة هذا التكوين الحضاري بجملته الى عالمهم الذي تحولوا عنه وغادروه كونهم احتقروه وقللوا من شأنه .

اسلوب التجريح .. مرفوض تماما
ان شعورهم الكاذب بانهم من المثقفين والمضطلعين من دون معرفة وزنهم الحقيقي سيجعلهم ، وان النفخ فيهم اعلاميا واستخدامهم ربما سياسيا يجعلهم يتصورون انهم حقا بمثقفين حقيقيين ، بل انهم من انصاف المثقفين ، بل قل انهم من ارباع الانصاف ! ان اسلوبهم في التعبير عن آرائهم خاطئ ، فلا يمكن ان تبث افكارك من خلال تجريح مشاعر الناس .. وخصوصا المعتقدات الدينية او المذهبية او حتى السياسية .. انك لا تستطيع الكسب ، بل لا تستطيع التحرك ضمن هذا العالم ، ان كنت تستخدم اسلوب الصدمة من خلال ممارسة التحقير والكراهية ضد الاخر .. ان المثقف الحقيقي هو فنان في توصيل رسالته الى الناس بكل حذاقة ومهارة .. ان المثقف الحقيقي لا يمكنه ان يستخدم التجريح والاهانة ضد الجماهير وبشكل عام ، وربما يستخدم النقد البناء الذي يقابل الحجة بالحجة ضد شخص معين او جماعة معينة .. ولكن اسلوب المكابرة والمصادرة والتجريح والسباب والشتائم واطلاق الكلام على عواهنه ، فهو اسلوب قد يسبب ردود فعل تنعكس على صاحبها .. ان البعض يريد التسلق بسرعة ليكون اسما معينا بين الاسماء ، باستخدامه مثل هكذا اسلوب فيسقط سقوطا نهائيا .

واخيرا : خطورة انصاف المثقفين
ان هؤلاء الانصاف ، وما اكثرهم في حياتنا ومجتمعاتنا قد ازدادوا كثيرا خلال السنوات الاخيرة بفعل انتشار وسائل الاتصالات الحديثة وخصوصا عبر شبكة المعلومات الدولية ( = الانترنيت ) وقنوات الفضائيات الاعلامية ، فهم سيسيئون كثيرا لمجتمعاتنا المتأخرة اصلا ، وانهم سيزيدون من اعدادهم بفعل تأثر الاجيال يوما بعد آخر بهم ، وهم يفتقدون الى المناهج والاساليب والتفكير الناضج والمنطق والقراءات والمعرفة واللغة ، فهم لم يتمكنوا اصلا من لغتهم الام .. وهم يعتمدون على ما يدخل هذه الشبكة من كتابات ومعلومات غير صحيحة اصلا .. ان حياتنا مطالبة بمعالجة هذا الخطر الذي يتفاقم يوما بعد آخر من خلال وسائل الاتصالات الحديثة التي بات الانسان لا ينفك عنها بعيدا عن مصادر المعرفة الحقيقية .. انني انبّه الى اخطار هؤلاء " الانصاف " الذين سيأكلون الاخضر واليابس من ثقافتنا واساليب المعرفة واصول العلم ومناهج التفكير .. اننا امام خطر مدرسة مشاغبين في حياتنا ، يتمثّل بزحف انصاف المثقفين الذين سيأكلون كلّ المثقفين الحقيقيين يوما بعد آخر كالجراد الذي يجعل الحياة هشيما ..

www.sayyaraljamil.com

الوسط ، 10 مارس / آذار 2008

96
كاسترو : استراحة آخر محارب


د. سيّار الجََميل

قبل ان يكمل نصف قرن في الحكم ، قرر الزعيم الكوبي فيدل كاسترو ان يغادر الحكم طوعا ، وقد تجاوز الثمانين سنة من العمر بقرابة سنتين .. وقد عرف بخطاباته النارية وشعاراته المضادة ومواقفه القوية ، وهو شاهد رؤية لأحداث تاريخ عالمنا المعاصر ، والاهم من كل هذا وذاك ،  انه يعد آخر الزعماء الثوريين الذين برزوا في الخمسينيات من القرن العشرين ، وشكلوا لهم تاريخا نضاليا وثوريا  متنوع الصفحات ، امثال : ماوتسي تونغ وكيم ايل سونغ وشو آن لاي  وجواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيف بروز تيتو ..
ان كاسترو هو البقية الباقية من شيوعيي العصر وبمغادرته الحكم فبراير 2008 ، تنتهي صفحة مثقلة بالاحداث من التاريخ المغاير الذي شكّل في القرن العشرين جدارا صلبا  ازاء السياسات الغربية التي وصفت بالامبريالية العالمية والتي تصدرتها قوة الرأسمالية . كان كاسترو جزءا حيويا في الحرب الباردة التي استمرت طويلا بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي .. بل وبسببه ، كادت تتفجر حرب عالمية ثالثة ، ولعل ما يميّز كاسترو في كوبا انه الاقرب كثيرا الى خصمه اللدود الولايات المتحدة الامريكية ، وقد بقي صامدا بوجه تحدياتها زمنا طويلا ، وثمة اسرار يمتلكها هذا الرجل الذي لا اعرف هل كتب مذكراته عن تلك المرحلة الصعبة من تاريخ العالم ام لا !؟  لقد بقي حتى اليوم يحمل فكره وشعاراته ومفاهيمه ، ربما غدا اكثر ليونة من الماضي في خطابه ، ولكنه بقي صارما شديد الصرامة في واقعه على الارض .
كاسترو المولود عام 1926 زعيم ثوري ـ كما يصنف نفسه ـ ، وهو مثقف ثقافة ماركسية تخرج في جامعة هافانا بشهادة في القانون وعمل محاميا في بدايته . بدأ عمله السياسي ثائرا وليس نائبا في برلمان .. كان رافضا لكل الاحوال الكوبية ، اذ قاد الثورة ضد حكم باتيستا عام 1953 ، وفشل في البداية مع مجموعته باقتحام ثكنات مونكادا العسكرية ، وقبض عليه وسجن ولكن اعفي عنه بعد عامين . اختار النفي بالمكسيك والولايات المتحدة لاكثر من سنة ، ثم عاد عام 1956 وقد جمع حوله العشرات من المتمردين والثوار واختار اسم  ( حركة 26 يوليو ) لتنظيمه الثوري ، وانضم اليه الثائر الشهير تشي جيفارا ، وناضلا معا حتى تكلل عملهما بالاطاحة بالحكم  الدكتاتوري لباتيستا عام 1959 ، ثم افتراقهما .
كانت اجراءات كاسترو الثورية وخصوصا تأميمه بعض الشركات الامريكية في كوبا  بعد ان وجد ذريعة واهية برفض تلك الشركات تحسين شروط تكريرها للنفط ، فقام عام 1960 بتأميمها ، وبدأ يشتري النفط من الاتحاد السوفييتي بثمن بخس .. مما ادى الى قطع العلاقات بين كوبا وامريكا منذ تلك اللحظة التاريخية . متوجها بثقله الى السوفييت . وبالرغم من شعاراته الايديولوجية الكوبية بعدم وجود شيوعية ولا ماركسية .. بل ديمقراطية نموذجية وعدالة اجتماعية ومنظومة اقتصادية .. الا ان كوبا كانت تحسب على المعسكر الشيوعي .
لعل معركة خليج الخنازير من اهم احداث المواجهة ابان الحرب الباردة ، فنتيجة لقوة كوبا بالسوفييت ، قادت الولايات المتحدة في ابريل 1961 محاولة لاسقاط كاسترو ، اذ جنّدت جيشا قوامه من المنفيين الكوبيين لغزو كوبا . وفي خليج الخنازير ، ردت الحملة على اعقابها بعد الفشل الذريع الذي واجهته والهزيمة النكراء التي لحقتها من قبل القوات الكوبية .. وقتل واسر الالاف من المهاجمين .
وحدثت ازمة الصواريخ بعد عام ، اذ رصدت الولايات المتحدة نصب صواريخ سوفييتية في كوبا باتجاه امريكا ، ففزع العالم من اندلاع حرب عالمية نووية ستأكل كل العالم ، وهدد نيكيتا خروتشوف رئيس مجلس السوفييت الاعلى باستخدام الصواريخ ضد امريكا ، ولكن اتفق الطرفان على ان يسحب كل منهما صواريخه : السوفييت من كوبا والامريكان من تركيا ! 
 كان كاسترو هو العدو رقم واحد للولايات المتحدة ، وحاولت دوائر الاستخبارات الامريكية اغتياله عشرات المرات ولم تفلح .. لقد اعتمد كاسترو على الاتحاد السوفييتي اعتمادا اساسيا ، وبالرغم من مشاركته منظمة عدم الانحياز ، وشعاراته عن الحياد الايجابي ، الا انه كان تابعا للسوفييت ومنحازا بشكل سافر ويدعم العديد من  الحركات الثورية الماركسية .. وسنرى ان الدعم السوفييتي سيرفع عنه بعد سياسة الوفاق بين القطبين في حين تشدد الولايات المتحدة حصارها الاقتصادي على كوبا لسنوات طوال حتى شلت الحركة في المجتمع ، وبدأ الكوبيون يهربون الى المجهول اذ وصلت الاوضاع الاقتصادية في كوبا الى حالة متردية عند منتصف التسعينيات .. كانت البلاد اصلا منغلقة وزادت انغلاقا ، وبدأ الناس يهربون افواجا الى الولايات المتحدة وغرق الالاف منهم .. وبقي كاسترو صامدا .. ولم يتبق له الا فنزويلا والبرازيل في محيطه الاقليمي .. وعلى الرغم من كل المأساة ، فان كوبا قد عرفت على عهد كاسترو افضل نظام صحي وافضل نظام تعليمي يقارنه المراقبون بما هو متوفر في الدول المتقدمة .. ومع انعدام الديمقراطية باشكالها التقليدية والمتعددة ، والاخذ بخناق المعارضين والرقابة والاضطهاد المنظّم لكل " اعداء الثورة " .. وبالرغم من الاستقرار السياسي الا ان الحياة المعيشية كانت ولم تزل تعيسة سبّبت نفورا واسع النطاق من قبل الشعب لزعيمه كاسترو الذي يرونه اليوم خارج حياة العصر ، وعليه ان يغادر التاريخ في حين لم يزل اتباعه وكل محبّيه والموالين له زعيما فذا لا يمكن ان ينجب العالم مثله ابدا ! وليس لنا نحن الا ان نقول بأن كاسترو هو آخر الزعماء الثوريين من ابناء القرن العشرين .. ودع التاريخ يقول كلمته فيه .
 
www.sayyaraljamil.com
 
البيان الاماراتية ، 5 آذار/ مارس 2008

97
الى كبير اساقفة الموصل .. في محنته !

د. سيّار الجميل


لقد كان اختطاف  سماحة المطران بولس فرج رحّو  وهو رئيس اساقفة الكلدان الكاثوليك في مدينة الموصل ، حدثا مؤلما هز مشاعر ووجدان كل من ارتبط ارتباطا حقيقيا بالعراق .. وانها صدمة بالغة اصابت كل المخلصين العراقيين بكل تنوعاتهم .. انها محنة هذا الزمن الصعب الذي غابت فيه كل القيم وكل الاخلاق وكل الاعتبارات .  انها محنة هذا المجتمع الذي ابتلي بالاجرام والارهاب وكل انواع البلايا والرزايا  .. انها محنة الابرياء والمسالمين والاصلاء  كي يغدوا ضحايا افعال همجية لا انسانية .. انها محنة مدينة اصيلة اختلطت فيها الاوراق وتداخل فيها الليل بالنهار وساد فيها الظلام الدامس .. انها محنة التاريخ ايضا .. اذ لم يمر اي زمن قبل اليوم اهين كبار القوم ورؤسائهم واعيانهم ورموزهم كما هو حالنا اليوم .. انها محنة كل العراق عندما  يستخدم الكبار لأغراض سياسية او مادية .. انها محنة ان يبقى العراق رهين هذا الارهاب الاعمى  من دون اي علاج .. انها محنة هذه المدينة العريقة التي غابت كل المقاييس فيها .. انها محنة كل العراقيين الذين لم يقف احد ابدا الى جانبهم من اجل فتح جديد .
ان الادانة لا تكفي لمثل هذا الفعل الذي سبقته افعال من دون اي علاج .. ان تبادل الاتهامات لا ينفع في حال كهذه ما دام الفاعل مجهولا وهو يستبيح كل القيم الدينية والاخلاقية والانسانية .. ان هذه المناسبة المحزنة التي اكتب فيها كلماتي تناشدنا جميعا ان نكون يدا واحدا ، وقلبا واحدا ونبضا واحدا ، من اجل استعادة الاعتبار لكل الرموز  الاجتماعية من رؤساء روحانيين واقطاب  معروفين كانوا وما زالوا عنوان محبة وشراكة عيش وورقة سلام ووئام ..
ان الجميع مطالبون للوقوف صفا واحدا اليوم ضد هذا الارهاب المجنون الذي يجتاح مجتمعنا ، ويفني وجودنا ، ويرعب كل الناس مسلمين ومسيحيين .. وسيبقى ارتباط  سماحة المطران رحو بمدينته الموصل ارتباطا قويا لا يتزعزع ابدا ، وهو يعّبر عن جذوره القوية الضاربة في أعماقها منذ الاف السنين .
انني اشيد بأهل الموصل الكرام  الذين عرفوا بثبات قيمهم واصالة مواقفهم ونبل مشاعرهم ان يقفوا صفا واحدا للمطالبة باطلاق سراح كبير اساقفة مدينتهم .. وهم يعرفون حق المعرفة كم هي مكانة رجال الدين المسيحيين  كبيرة عندهم .. ولقد عاش كل من المسلمين والمسيحيين دهرا طويلا  متعايشين متآزرين متعاونين في  مدينة  أم الربيعين .. اننا نطالب بأن لا يتعّرض أحد للابرياء ومنهم رجال الدين او مهاجمة  أي دور للعبادة .. اننا نطالب  ادارة المدينة  ان تؤّدي مهامها  ليل نهار على افضل وجه من اجل خلاص المطران رحو من محنته .. واخيرا ، اناشد كل المسؤولين العراقيين ان يفعلوا شيئا من اجل الموصل  كيلا تتلاحق الكوارث فيها يوما بعد آخر !  عند ذاك لا ينفع الندم . تحية كبيرة لسماحة كبير اساقفة الموصل  وهو في محنته المؤلمة .. وتحية لكل الابرياء مسيحيين ومسلمين وهم يواجهون الخطف والموت ظلما وعدوانا ..

نشر في موقع الدكتور سيّار الجميل بتاريخ 4 مارس / آذار 2008

 www.sayyaraljamil.com

98
ممكنات التقدّم :
من اجل مشروع في الاصلاح والتغيير
الحلقة الثانية
د. سّيار الجميل
  كنت قد حللت قبل سنوات وثيقة الاسكندرية للاصلاح ، والتي تعتبر واحدة من اهم الوثائق التي نادت بالاصلاح والتغيير ، ولكن لا حياة لمن تنادي . ولعل من اهم ما اسجله هنا من دعوات للاصلاح ونداءات للتجديد ، بل للتغيير من اجل بناء مناخ جديد للحياة ، وبناء مؤسسات متطورة هي غير تلك التي الفنا وجودها في القرن العشرين ، وعلينا قبل كل شيئ ادانة للارهاب بكل اشكاله‏، ومواجهة النواتج الخطيرة لانواع التعصب الديني‏ من خلال تجسيد قيم التسامح والتفاعل الخلاق بين الثقافات والحضارات‏ .. وان يتقّبل احدنا الاخر ، وان يدافع احدنا عن فكر الاخر ورأيه .. واعتقد اننا لو بدأنا بممكنات التقدّم خطوة خطوة لاستطعنا ان نقضي على الارهاب تدريجيا ، والذي يتفاقم خطره يوما بعد آخر .
اولا : الاصلاح السياسي :
1/   ان المجتمعات العربية تملك من النضج والخبرة التاريخية في الاسهام الحضاري الانساني‏ مع ضرورة الانفتاح علي العالم والتفاعل مع تجاربه الحديثة  طبقا  لاولويات محددة‏ في الإصلاح السياسي‏ وجميع الخطوات المباشرة‏,‏ وغير المباشرة التي يقع عبء القيام بها علي عاتق كل من الحكومات والمجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص في شق طريق قد يقصر او يطول من اجل بناء نظم ديموقراطية‏.‏ وبالامكان رسم خطوات ملموسة‏, في اطار من الشراكة بين الحكومات والمجتمع المدني وتتمثل  بالاصلاح الدستوري والتشريعي‏ الذي ينشده المجتمع‏ ، وان تتوافق مع المواثيق الدولية لحقوق الانسان .
2/ ويعني ذلك ان تعكس نصوص الدستور المتغيرات والتطورات التي وقعت بالفعل‏,‏ الأمر الذي يفرض ضرورة تصحيح الاوضاع الدستورية في البلاد العربية بتعديل المواد التي تتعارض مع المتطلبات الديمقراطية الحقيقية‏,‏ او وضع دساتير عصرية لتلك الدول التي لم تشهدها هذه المرحلة بعد‏,‏ مع ازالة الفجوة بين نصوص الدساتير واهداف المجتمع في التطور الديمقراطي بما يضمن‏‏‏ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية فصلا واضحا صريحا‏ ،‏ وتجديد اشكال الحكم بما يضمن تداول السلطة بالطرق السلمية دوريا‏,‏ طبقا لظروف كل بلد‏,‏ فالدولة الحديثة دولة مؤسسات ونصوص وليست نيات حسنة‏ .
3/ اقامة انتخابات دورية حرة تصون الممارسة الديمقراطية‏,‏ وتضمن عدم احتكار السلطة‏,‏ وتضع سقفا زمنيا لتولي الحكم‏.‏ ثم إلغاء مبدأ الحبس او الاعتقال بسبب الرأي في كل الاقطار العربية‏,‏ واطلاق سراح سجناء الرأي الذين لم يقدموا الي المحاكمة او تصدر ضدهم احكام قضائية‏.‏ أما ما يخص اصلاح المؤسسات والهياكل السياسية‏ من تنفيذية وتشريعية وقضائية وصحافة واعلام ومؤسسات المجتمع المدني‏ ، فلابد من مراجعة هذه المؤسسات لضمان ادائها الديمقراطي السليم‏ ، شريطة ان تمارس عملها يمعزل عن المؤسسة الدينية او الطائفية ، وبمعزل عن دخول رجال الدين في التجربة الديمقراطية . 
4/ ومن هنا‏ تم التأكيد على ضرورة الغاء القوانين الاستثنائية وقوانين الطوارئ المعمول بها والغاء المحاكم الاستثنائية ايا كانت اشكالها ومسمياتها‏ وتكفي القوانين العادية لمواجهة كل الجرائم  فذلك مطلب اساسي للاصلاح التشريعي الديموقراطي ، ولا ينفصل عن ذلك مراعاة الخروج باطار تشريعي فعال لضمان التعامل مع الارهاب‏,‏ وبلورة ضمانات تكفل عدم الاعتداء علي الحريات العامة والحقوق السياسية‏ ، مع فاعلية لتطبيق القانون تطبيقا حرفيا وبصرامة متناهية . .‏ ولابد من اطلاق حريات تشكيل الاحزاب السياسية ( بعيدا عن اي احزاب دينية ) في اطار الدستور والقانون‏ وعرض برامجها بشكل متكافئ‏ تحت مظلة الحريات المنصوص عليها في المواثيق الدولية‏.‏
5/  ناهيكم عن تصديق جميع الدول على منظومة المواثيق الدولية والعربية‏.‏ فضلا عن تحرير الصحافة ووسائل الإعلام من التأثيرات والهيمنة الحكومية باعتبارها دعامة قوية للشفافية‏.‏ ويكون ذلك بتطوير أساليب الإعلام والتحرير في القوانين المنظمة لإصدار الصحف وإنشاء الإذاعات والقنوات التلفزيونية‏ كي تعتمد علي الاستقلال في الملكية والإدارة‏,‏ والشفافية في التمويل‏,‏ وتحقق قدرة الإعلاميين علي تنظيم مهنتهم وممارستها دون تدخل السلطة‏.‏ ثم إطلاق حرية تشكيل مؤسسات المجتمع المدني‏,‏ وذلك بتعديل القوانين المقيدة لحرية تكوين الجمعيات والنقابات والاتحادات التطوعية‏ لضمان حريتها في التمويل والحركة‏.‏ ولابد من تشجيع قياسات الرأي العام وتحريرها من العوائق‏,‏ والعمل علي تأسيس الهيئات والمراكز البحثية لاستطلاع الرأي العام العربي دوريا ‏.‏

‏‏ ثانيا‏:‏ الإصلاح الاقتصادي
 1/      يشمل جميع التشريعات والسياسات والإجراءات التي تسهم في تحرير الاقتصاد الوطني‏ ‏ والتسيير الكفء له وفقا لآليات السوق‏ ‏ بما يمكنه من الانتعاش والازدهار‏  وبما يسهل تكامله مع الاقتصاديات الإقليمية‏ واندماجه في الاقتصاد العالمي‏.‏ ‏ويهدف ذلك الى‏ معالجة انخفاض معدلات النمو في الدخل القومي وتدهور نصيب الفرد مقارنا بالمؤشرات الدولية‏.‏‏ ومعالجة تراجع نصيب الدول العربية في التجارة الدولية‏ ومعالجة تركز الصادرات في منتجات أولية مع هامشية نصيب المنتجات ذات القيمة المضافة العالية في الصادرات العربية‏.‏ وكيفية معالجة تراجع نصيب المنطقة من تدفقات رءوس الأموال الأجنبية‏ والاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة‏.‏ ودرء الإخفاق في توليد فرص عمل كافية للداخلين الجدد في سوق العمل .‏
2/ ثم الحد من‏ تزايد حدة الفقر في اغلب  البلدان العربية‏ .‏ ان المنهج الذي ركّز على برامج التثبيت والخصخصة والتحرير الاقتصادي لم يهتم اهتماما بمعالجة البطالة وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية‏ في عالم عربي يتضخم ديمغرافيا بشكل مذهل ومادته اغلبها من الشباب التي تتطلب جودة في التعليم والخدمات والبرامج .. ولابد من الاخذ بالمقترحات الآتية‏:‏
3/   ‏ الاعلان خطط واضحة وبرامج زمنية محددة للإصلاح المؤسسي والهيكلي‏ ، فضلا عن التصدي الحاسم للمشكلات المعوقة للاستثمار وإزالتها أمام الاستثمار العربي والأجنبي‏. وهناك‏ تشجيع برامج الخصخصة حتى في القطاع المصرفي‏, وفقا للضوابط القانونية وتقليص الاستثمارات الحكومية‏‏ ما عدا المجالات الاستراتيجية والسلع ذات النفع العام‏ .. ولابد من إلغاء الحقوق الاحتكارية الحكومية لتشجيع القطاع الخاص وجذب المزيد من الاستثمارات‏ من اجل إسهام القطاع الخاص في إيجاد فرص للتشغيل‏.‏
ثالثا : الاصلاحات الخدمية والمالية
‏1/   لابد ايضا من‏ تطوير برامج تمويل المشروعات الصغيرة لعلاج مشكلة البطالة مع إعطاء الفرصة كاملة للإناث في الحصول علي التمويل‏.‏ ووضع معايير للارتقاء بنوعية المنتجات الوطنية وتأسيس مجالس قومية لدعم القدرة التنافسية مع القيام بإجراء تقويم مستمر يتم نشره‏.‏ وإرساء قواعد جيدة للنشاط الاقتصادي مع تأكيد الشفافية والمحاسبة وتنفيذ أحكام القضاء‏.‏
2/ ولابد من‏ تمكين المرأة للاسهام في قوة العمل الوطنية‏ بخبراتها ومؤهلاتها ‏.‏‏ ولابد من مراجعة السياسات الاقتصادية المتبعة من منظور تحقيق التشغيل الكامل لما يقدر بنحو‏5‏ ملايين من الداخلين الجدد لأسواق العمل العربية سنويا‏  ورفع معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي بما لا يقل عن‏6%‏ إلي‏7%‏ سنويا في المتوسط في السنوات العشر المقبلة .
3/ ولابد من معالجة الفقر بأبعاده المتعددة من التهميش الاجتماعي والسياسي وضعف المشاركة وقلة فرص الارتقاء‏.‏  وضرورة اصدار تشريعات تلزم الجهات المصدرة للبيانات والمعلومات الاقتصادية .
4/  ومن الاهمية بمكان تطوير القطاعات المالية العربية بشكل عام‏,‏ وأجهزتها المصرفية بشكل خاص‏,‏ وتشجيع إقامة كيانات مصرفية كبيرة‏,‏ وتحديث أسواق المال العربية والعمل علي ربطها معا‏.‏ مع‏ تطوير الأبنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات والربط بينها عربيا ‏.‏‏
5/ مع تفعيل الاتفاقات العربية بوضع أهداف قابلة للتحقيق مع تحديد بعض القطاعات ذات الأولوية بوصفها صاحبة الفرصة الكبيرة في نجاح التعاون الاقتصادي مثل‏:‏ النقل والمواصلات والكهرباء والطاقة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات‏.‏
6/ ومن الاجدر وضع إطار ملزم لتحرير التجارة في الخدمات بين الدول العربية‏‏ وتنظيم سوق العمل العربية عن طريق صياغة واعتماد اتفاقية متعددة الأطراف لتنظيم انتقال العمالة العربية بهدف تنظيم الانتقال لمدد زمنية محددة‏‏ وتوصيف ظروف العمل في أثناء الإقامة في دول الاستقبال‏ وتحديد مسئولية الدول المرسلة في التحقق من مهارات وقدرات قوة العمل التي ترسلها‏.‏ ويترافق ذلك مع‏ تأسيس آلية فاعلة لتسوية المنازعات الاقتصادية بين المستثمرين‏.‏‏
7/ المطالبة بمعاملة الاستثمار العربي بما يعامل به الاستثمار الوطني في كل البلدان العربية‏.‏ ومطالبة الدول المتقدمة بفتح أسواقها للصادرات العربية‏,‏ وتحديدا الصادرات من السلع الزراعية‏.‏ ولابد من‏ تأسيس إدارة متخصصة وكفوؤة في إطار الجامعة العربية لمتابعة قضايا التجارة الدولية‏ وتمكين الدول العربية من الانخراط الفعال في منظمة التجارة العالمية‏ وتنسيق المواقف العربية‏ والدفاع عن مصالحها‏,‏ وتدريب الكوادر العربية وتأهيلها للتفاوض في قضايا تحرير التجارة والزراعة ونفاذ المنتجات الصناعية إلي الأسواق والتعامل‏.‏
8/ فضلا عن إنشاء مؤسسة يمولها ويديرها القطاع الخاص في العالم العربي لتدريب القيادات العليا في الإدارة لإعداد أجيال جديدة قادرة علي تنفيذ برامج الإصلاح وتطويرها‏.‏ وهناك تشجيع الابتكار والعمل علي جذب الاستثمارات اللازمة للبحث والتطوير وإقامة المشروعات في القطاعات الخدمية والإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية‏ وتوفير الحماية الكافية لحقوق الملكية الفكرية‏.‏
9/ ومن الاهمية بمكان‏ مراعاة الحفاظ علي البيئة في جميع الأنشطة الاقتصادية‏.‏ وأكد المؤتمرون أن مؤسسات المجتمع المدني العربي‏,‏ ومؤسسات القطاع الخاص إذا مكنت من أداء دورها برفع القيود عنها‏,‏ قادرة علي الإسهام في الإصلاح الاقتصادي‏ .
10/ تبني سلسلة من المؤتمرات العامة والندوات المتخصصة‏,‏ لمناقشة هذه الموضوعات بالعمق الذي يتناسب وأهميتها ودقتها‏,‏ ومن أهم هذه الموضوعات ما يلي‏:‏
‏1‏ ـ القطاعات المالية العربية والقيود علي الاستثمار‏.2‏ ـ النظام الجمركي الموحد والتجارة البينية‏.3‏ ـ القدرة التنافسية العربية والمعايير القياسية‏,‏ وإنشاء مجالس قومية للقدرة التنافسية العربية وتوحيد المعايير القياسية‏.4‏ ـ الحضانات التكنولوجية‏.5‏ ـ إدارة الموارد العامة في الوطن العربي‏.6‏ ـ الحكم الجيد للنشاط الاقتصادي‏.7‏ ـ الإعلام الاقتصادي والارتقاء به‏.‏

 رابعا :‏ الإصلاح الاجتماعي العربي
ويقتضي ذلك العمل علي تحقيق الأهداف التالية‏:‏
‏ 1/   لابد من تطوير نمط العلاقات الأسرية العربية بما يخدم بناء الفرد المتميز المستقل القادر علي ممارسة حرياته وخياراته بمسئولية‏,‏ ويتطلب ذلك إعادة النظر في بعض القيم التي لا تزال تؤثر بالسلب في الحياة العربية كقيم الخضوع والطاعة علي سبيل المثل‏,‏ وإحلال قيم الاستقلالية والحوار والتفاعل الإيجابي محلها‏!
2/ ويقوم الإعلام بدور أساسي في بناء الثقافة العامة للفرد ، الأمر الذي يستلزم تأكيد دوره في إعادة بناء القيم المساندة للتطوير والتحديث‏,‏ كقيم المساواة والتسامح والقبول بالآخر وحتي الاختلاف‏,‏ جنبا إلي جنب مع قيم الدقة والإتقان والالتزام وغيرها من القيم الإيجابية التي تساعد المجتمع العربي في التحول إلي مجتمع جديد فعال‏.‏
3/ فضلا عن توجيه المجتمعات العربية نحو اكتساب ونشر وإنتاج المعرفة والمعلوماتية‏,‏ وفي هذا الإطار فلابد من التركيز علي خمسة توجهات‏,‏ تتكامل وتترابط فيما بينها لتحقيق مجتمع المعرفة وهي‏:‏ ‏ تأكيد التنمية الإنسانية وأولوية تطوير التعليم‏ ، وتحقيق التطوير التكنولوجي وتوفير بنيته الأساسية‏.‏ ‏وتطوير استراتيجيات البحث العلمي‏.‏ ودعم العمل الحر‏,‏ والمبادرة الخلاقة في مجالات الابتكار والإبداع‏.‏ توفير المناخ المساند لمجتمع المعرفة‏,‏ سياسيا وثقافيا واقتصاديا‏.‏
4/ وضمانا لتحقيق ذلك‏ ، فأنني أوصى بوضع معايير عربية لمخرجات التعليم في جميع مراحله بما يتوافق والمعايير العالمية‏ ، وإنشاء هيئات للجودة والاعتماد والرقابة علي التعليم في كل دولة عربية‏,‏ مستقلة عن الوزارات المعنية‏.‏ ثم استمرار تحمل الدولة مسئوليتها في تمويل ودعم مؤسسات التعليم مع ضمان الاستقلال الاكاديمي لها‏,‏ سواء كانت مؤسسات حكومية أو خاصة‏,‏ مع فتح الأبواب لمشاركة المجتمع في تمويل التعليم الجامعي في إطار لا يهدف للربح‏.‏
5/ دعم البحث العلمي‏,‏ وزيادة موارده المالية والبشرية‏,‏ وربطه بمؤسسات الانتاج والتطوير‏,‏ وإزالة جميع المعوقات البيروقراطية التي تعرقل حرية البحث وانتاج المعرفة‏.‏
6/ التوجه نحو اللامركزية في إدارة المؤسسات التعليمية‏,‏ مع المرونة اللازمة لتنوع برامجها‏.‏ اضافة الى المواءمة بين مخرجات نظم التعليم واحتياجات سوق العمل المتغيرة والنمو الاقتصادي وبناء القدرة التنافسية‏.‏ ودعوة المجتمع المدني للمشاركة في تمويل التعليم‏ والاسهام في إدارته ورقابته في المجتمعات العربية‏.‏
7/ كفالة حق ممارسة الطلاب لحقوقهم السياسية‏,‏ بما في ذلك المظاهرات السلمية المنظمة‏,‏ وحرية التعبير عن الرأي بجميع أشكاله‏,‏ والأخذ بنظام الانتخاب الديمقراطي في الاتحادات الطلابية‏.‏
8/ ولابد من القضاء علي الأمية في فترة زمنية لا تزيد علي عشر سنوات‏,‏ خصوصا بين الإناث العربيات ‏.‏
9/  الاهتمام باللغة العربية ( واللغات المحلية المتعايشة )  وتطوير مناهجها‏,‏ والاتفاق علي أسس التقويم المقارن بين الدول العربية في السنوات الدراسية الأولي‏.‏
10/ وأيضا : العمل علي تحقيق الاستقرار الاجتماعي في المجتمعات العربية‏,‏ الأمر الذي يتطلب صياغة سياسات فعالة‏,‏ تضمن عدالة توزيع الثروة وعوائد الانتاج في مجالاته المختلفة‏.‏ ان الحاجة تتطلب صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن في المجتمع العربي‏,‏ هذا العقد من شأنه ان يحدد علي وجه قاطع حقوق الدولة والتزاماتها إزاء المواطن‏,‏ كما يحدد بشكل حاسم حقوق المواطن العربي وكيفية الحفاظ عليها‏.‏

‏‏ خامسا ‏:‏ الإصلاح الثقافي‏:‏
       ان المشكلات والتحديات الثقافية القومية والقطرية ينبغي ان تؤخذ مأخذ الجد ‏,‏ وذلك من منظور يؤكد مجموعة من الأولويات الثقافية التي لا يمكن اغفالها‏.‏ وفي مقدمتها‏:‏
1/ العمل علي ترسيخ أسس التفكير العقلاني والعلمي بتشجيع مؤسسات البحث العلمي وتوفير التمويل اللازم لها‏ .
2/ إطلاق حريات المجتمع المدني في تنميتها واحترام الارادة ‏.
3/‏ وفي الوقت نفسه‏,‏ القضاء علي منابع التطرف الديني التي لا تزال رواسبها موجودة في المناهج الدراسية وخطب المساجد ووسائل الإعلام الرسمي وغير الرسمي‏.‏ وتشجيع الاستمرار في تجديد الخطاب الديني سعيا الي تجسيد الطابع الحضاري التنويري للدين بما يقتضيه ذلك من إطلاق الحريات الفكرية‏,‏ وفتح أبواب الاجتهاد علي مصراعيها في قضايا المجتمع للعلماء والباحثين‏.‏
4/ لابد من المضي قدما في تحرير ثقافة المرأة وتطويرها بما يحقق مساواتها العادلة بالرجل في العلم والعمل‏,‏ تأكيدا لفاعلية المشاركة الاجتماعية بمعانيها الكاملة‏.‏ ويتطلب كل ذلك تهيئة المناخ الثقافي لتحقيق التطوير الديمقراطي وتداول السلطة سلميا‏ من خلال العمل علي مواجهة الرواسب والعادات الجامدة والآثار المتراكمة لأوضاع وأساليب سياسية فاسدة من شأنها أن تحول دون فاعلية المشاركة السياسية‏,‏ وشأن هذه المواجهة تغيير النظرة السياسية والاجتماعية الي المرأة‏,‏ وتأكيد اسهامها الثقافي وانجازها العلمي‏,‏ ودورها اللازم في عملية التنمية‏,‏ انطلاقا من أن التنمية الثقافية هي أساس أي تنمية‏,‏ والخطوة الأولي لأي إصلاح جذري لا يمكن نجاحها إلا باشاعة ثقافة الديمقراطية في مناهج التعليم والإعلام‏.‏
5/ لابد من تجديد الخطاب الثقافي وتخليصه من الرواسب المعوقة لتقبل الاختلاف والحوار مع المغايرين‏,‏ وذلك جنبا الي جنب مع تجديد ما يتصل بهذا الخطاب من أنواع خطابات الإعلام والسياسة والطوائف الاجتماعية‏.‏
6/ ومن الاهمية بمكان إصلاح المؤسسات الثقافية العربية وتفعيلها عن طريق دعمها ماديا ومعنويا بما يعينها علي التفكير المستقل‏,‏ وتوسيع دوائر خططها‏,‏ والتنسيق بين هذه المؤسسات وغيرها من المؤسسات والهيئات الأخري المؤثرة في العمل الثقافي‏.‏
7/ العمل علي إلغاء أشكال الرقابة علي النشاط الفكري والثقافي بما يدعم حرية الفكر‏,‏ ويحرك عملية الابداع‏,‏ بعيدا عن وصاية أي جهة أو فئة باسم الدين أو التقاليد أو الخصوصية أو السياسة‏.‏ ودعم العمل الثقافي علي المستوي العربي والاقليمي‏ ، وتجسيد مبدأ الاعتماد المتبادل في اقتصاديات الثقافة‏.
8/ الحفاظ علي اللغة العربية واللغات المحلية المتعايشة  وتحديث آليات تكيفها مع التقنيات الرقمية الجديدة في عصر المعلومات‏.‏
9/ وان من ابرز المتطلبات : تشجيع التفاعل الثقافي مع العالم كله بما يؤكد ثقافة التنوع البشري الخلاق‏,‏ والإسهام الفاعل في المنظمات العالمية بما لا يتناقض وخصوصيتنا الحضارية التي تؤكدها الأبعاد الانسانية لميراثنا الثقافي الأصيل‏.‏ والتأكيد العلم بوصفه مكونا أساسيا من مكونات الثقافة‏,‏ وبوصفه مسارا راسخا للنظرة المستقبلية التي تؤسس في الوعي الثقافي العام ضرورة مجتمع المعرفة الذي هو السبيل الأمثل للتقدم في كل مجال‏.‏ ومن الاهمية توثيق الواقع الثقافي العربي في بيانات وإحصاءات سنوية‏,‏ ترصد آليات الانتاج وأشكال المتابعة‏,‏ وكذلك تنسيق الجهود في تنظيم أنشطة النقابات العربية والمهنية العاملة في ميادين الثقافة‏,‏ ونشر نتائجها‏.‏
10/ تنشيط التبادل الثقافي القومي عن طريق الاجراءات التالية‏:‏
إعفاء الانتاج الثقافي العربي من القيود الرقابية والعوائق الجمركية‏.‏‏ وتنمية مشروعات النشر الإلكتروني المتبادل للصحف والمجلات والكتب للتغلب علي مشكلات التوزيع وعرقلة تدفق المطبوعات العربية‏.‏‏ وتنشيط مؤسسات الترجمة الحكومية والأهلية‏,‏ وتنسيق اختياراتها في مسارين متزامنين‏:‏ أولهما الترجمة من العربية لكل اللغات الحية‏,‏ وثانيهما من اللغات الحية الي اللغة العربية‏.‏‏ وحاجة الاجيال الى تشجيع الإبداع والانجازات الفكرية الخلاقة علي المستويين المحلي والعربي ‏.‏

سادسا‏:‏ آليات المتابعة مع المجتمع المدني‏:‏
      إن إبراز جوانب الإصلاح العربي المطلوبة يقتضي بالضرورة وضع مجموعة مترابطة من آليات التنفيذ‏,‏ تتيح متابعة ما تم التوصل اليه من مقترحات وتوصيات‏.‏ وفي هذا الصدد‏,‏ لابد من التركيز علي دور المجتمع المدني العربي في الإصلاح‏,‏ خصوصا في جميع مجالات التنمية المستدامة‏,‏ بما يتطلب اتخاذ الاجراءات التالية‏:‏
‏1/     تأسيس منتديات الإصلاح في كل بلد عربي ‏,‏ ليكون فضاء مفتوحا للمبادرات والحوارات الفكرية والمشاريع العربية‏,‏ ويتم ذلك من خلال عقد ندوات وحوارات مشتركة‏,‏ عربية وعالمية‏,‏ حول موضوعات التنمية بشكل عام‏,.
2/ وإبراز دور الشباب والمرأة في التنمية بوجه خاص‏,‏ يضاف الي ذلك تنفيذ مشروعات التعاون في مجالات التنمية المختلفة‏.
3/ ويتصل بعمل هذا المنتدي تأسيس مرصد اجتماعي عربي‏,‏ لمتابعة نشاط المجتمع المدني العربي‏,‏ ورصد وتقييم مشاريع الإصلاح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏.‏
4/ ولابد من اختيار   مؤسسات المجتمع المدني في كل قطر عربي عددا من نماذج الجمعيات غير الحكومية الناجحة في مجال التنمية وحقوق الإنسان‏  وذلك لعرض نشاطاتها وبيان مردودها الاجتماعي في مؤتمر عربي عام‏ ‏ يعقد سنويا‏  في أحد الأقطار العربية لإبراز دور المجتمع المدني في التنمية‏.‏
5/ وهل من عقد مؤتمرات عربية وطنية داخل كل بلد لمناقشة الفكر الإصلاحي والتجديد وعرض التجارب الناجحة في هذا المجال علي المستويين‏:‏ العربي والعالمي‏.
6/‏ وهل من عقد ندوات عربية إقليمية تناقش موضوعات محددة في مجالات الاصلاح المختلفة‏.‏ 7/ ومن الضرورة تشكيل لجنة متابعة تجتمع كل ستة أشهر علي الأقل لمراجعة ما تم تنفيذه‏,‏ وذلك لدعم منتدي الحوار بعد تأسيسه‏.‏
واخيرا ،  أن رؤي الإصلاح التي قاموا بصياغتها لا تقع مسئولية تنفيذها علي الحكومات وحدها‏,‏ وإنما علي المجتمع المدني والحكومات معا‏,‏ فالمستقبل الواعد لأمتنا العربية لن يتحقق إلا باستثمار كل الطاقات الخلاقة والاجتهادات الأصيلة والعمل الدءوب الذي يجمع بين الرؤية والتنفيذ‏.‏

وماذا بعد ؟ وماذا يمكنني قوله ؟
1/ المبادىء الاصلاحية :
   بالرغم من ان كل هذه المبادئ  تبدو مستقرة تاريخيا وفكريا وحضاريا في الأدبيات الديمقراطية المتوارثة عالميا ،  إلا انها تعتبر في الواقع من المبادئ الجديدة في ثقافتنا السياسية وهي تطرح اليوم من اجل ايقاف ثقافة مناقضة وممارسات هزيلة وعادات سقيمة سادت حياتنا العربية على مدى قرون طوال .. وهي حياة تسلطية من قبل الدولة والمجتمع قامت على احتكار السلطة والثروة والحكمة وصنع القرار وبالتالي نفي المشاركة واحتكار إرادة الشعب واختياراته وترجيح أهل الثقة على أهل الخبرة وتفضيل المؤيدين والمنافقين على المعارضين والمستقلين بالرأي بالموقف .ومن ثم فان تطبيق هذه المبادئ الديمقراطية الحقيقية في مثل مجتمعاتنا يحتاج إلى ثورة فكرية وتربوية ونهضة ثقافية حقيقية‚ تغير العقول الحاكمة والمحكومة‚ وتنبع من «قلب حركة المجتمع‚ من مراجعة الذات ونقدها‚ وإعادة النظر في مفاهيمها وطموحاتها في ضوء التحديات التي تواجهها عند مفتتح القرن الواحد والعشرين .ولعلنا نشير بهذا إلى ضرورة اجراء اصلاحات جذرية في المنظومة الثلاثية‚ التي تشكل العقل وتصنع الوجدان وتصوغ الأفكار والمواقف‚ ونعني منظومة التعليم والثقافة والاعلام‚ تلك التي تعاني اليوم من قصور واضح وتخلف هائل‚ في ظل هيمنة الدولة واحتكارها وسياساتها المنفردة الاحادية التي لا مثيل لها إلا في الدول المتخلفة كثيرا ، الأمر الذي لا يكابر فيه إلا مكابر يعادي التطور والحرية.
2/ التسارع التاريخي :
      هذا هو المصطلح الذي نادينا من خلاله العرب باحداث التغييرات منذ سنوات خلت وقبل ان تصدر وثيقة الاسكندرية باربع – خمس سنوات ! ان هذا " المشروع " لا يرنو الى تقديم وصفات علاجية مؤقتة سرعان ما تتبخر فاعليتها ، بل انه يدعو الى اصلاح منظومة مركبة ومعقّدة ، وهو بحاجة الى زمن ليس بالقصير والى جهد كبير ، ولا ينبغي ان يبقى المشروع الاصلاحي  ينتظر أو يتلكأ‚ كما حدث في الماضي بحجة التلاؤم وعدم التعجيل حتى يحدث التطور الطبيعي .. فلقد اضاع العرب قرنا كاملا في الانتظار والمصابرة بينما كل العالم يتقّدم بسرعة مذهلة امام اعيننا ونحن اسرى الترسبات القديمة العقيمة وهي ذرائع مختلفة وحجج مختلفة .
3/ مشروعات مؤجلة :
لقد تأجلت خطط التنمية العربية الشاملة بحجة مقاومة الاستعمار ، واستبعدنا تطبيق الديمقراطية بحجة تكريس الجهد لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني‚ ورفضنا مطالب شعوبنا بالتطوير والتحديث وإطلاق الحريات بحجة ان شعوبنا قاصرة جاهلة ان حصلت على الحريات انفلتت إلى الفوضى وغرقت في الكوارث وانطمست في الصراعات! لقد تبلورت النتيجة الرهيبة التي يدق اسافينها في مراكبنا العتيقة وقد  صحونا على بدايات قرن جديد‚ لنكتشف اننا لم نحرر فلسطين‚ ولم نتحرر من الاستعمار الذي عاد بكل ثقله‚ وفي الوقت نفسه لم نحقق تنمية حقيقية تقاوم الفقر والبطالة والتخلف‚ ولم نطبق ديمقراطية سليمة تقاوم الفساد والاستبداد‚ فاذا بكل ذلك يستدعي تدخل الاوصياء الأجانب ليفرضوا علينا الوصاية باسم الاصلاح الديمقراطي ! وعلى المجتمعات ايضا ان تخرج من اطواق مواريثها المتعبة التي ابعدتها عن الوعي والتفكير السياسي وعن التفكير بالمستقبل من خلال مقارنة التردي العربي في كل المجالات بما يحصل في مجتمعات اخرى انطلقت نحو الافاق الجديدة .
4/ لقد فات قطار الاصلاحات !
     وعليه ، يمكننا القول بأن لم يعد من صالح الحكام والمحكومين العرب معا البقاء في هذه الحالات الكسيحة والاستسلام لهذه الورطة التاريخية من خلال العجز عن الاداء .. وهناك من يؤكد بأن القطار قد فات العرب ، اي قطار الاصلاح ولم تعد تفيد كل هذه الضجة التي يفتعلها العرب بانفسهم كونهم سيلحقون بركب العصر بعد ان يلتقوا في مؤتمر للقمة !! ونقول بأن الصالح لهؤلاء وأولئك يكمن في المبادرة ليس باصلاح البيت من الداخل حسب ، بل الشروع بالتغيير الجذري وبأيدي أبنائه وفكر عقلائه من أبناء المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وبوسائل سلمية والعمل بمقترحات ومشروعات.. وفي الحقيقة ، انها محاولة جادة لوضع إجابات صعبة للاسئلة الأصعب . وبالرغم من أهمية وجدية اسس الاصلاح وركائز التغيير،  إلا ان ثمرتها لا يمكن التمتع بها من دون ان يفّعلها اصحابها وخصوصا الزعماء العرب كونها تبقى مرتهنة بجدية تنفيذها ومدى استجابة الحكومات العربية لما جاء فيها من مضامين على بداية الطريق .
5/ تفاؤل وتشاؤم
وهذا أمر رأينا كم انقسم الناس من حوله بين فريقين : فريق متشائم يرى أن لا بصيص أمل في أن تبادر الحكومات العربية إلى التنفيذ، وهي وأن حتى لو استجابت فستكون استجابة  شكلية ومراوغة ولف ودوران من اجل ان تنجو من ضغوطات الخارج والداخل على السواء ! وهناك فريق آخر متفائل يتأمل بالحكومات العربية العمل على تفعيل هذه المبادىء خصوصا وانها قد اصبحت في ظل المناخ الدولي أكثر رشدا ووعيا كما وبدت أكثر استعدادا لتجرع الدواء المر وقبول التحدي الصعب ، ولكنني متشائم جدا من اي تطبيقات حقيقية تلتزمها الانظمة السياسية العربية التي تعيش ترهلا وبؤسا وامراضا كسيحة لا تقوى على ان تتنفس هواء جديدا .. فهل ستتحرك مجتمعاتنا سلما من اجل مستقبل اجيالها ؟؟
وأخيرا ماذا اقول ؟
 ازجي كل التقدير لتلك النخب المستنيرة التي تتطلع الى بناء مستقبل من نوع جديد بعيدا عن كل المفبركات والشعارات والاعلاميات البليدة ومجرد البيانات السياسية التي لا نفع منها ابدا .. فهل يمكن لمثل هذا " المشروع " ان ينطلق عربيا ام ان الاخفاق سيكون نصيبه او بالاحرى سيغمره النسيان والاهمال كالعادة في غمرة امواج الجهالة والخديعة ؟؟ هذا ما ستكشفه الايام في قابل !
www.sayyaraljamil.com
الوسط ، 2 مارس / آذار  2008

99
الأمل البديل بعد رحيل القافلة

سّيار الجميل

في كلمة طلبها مني الاصدقاء الاعزاء في الجمعية العراقية ـ الكندية ان القيها لمناسبة حفل تأبين الاستاذ الراحل فؤاد التكرلي بتورنتو  قبل ايام  .. قلت والالم يعتصر القلب : مع كل عام ونحن نودّع مبدعا عراقيا او اكثر .. وبعد سنوات قلائل سيودع العراق اسرابا ممن تبقى من نخب المثقفين المبدعين اولئك الذين انجبهم العراق في اجيال متنوعة من القرن العشرين .. وهم رعيل كلمة عرف معنى الابداع .. واخصب الحياة العراقية بكل رائع وجميل .. رعيل تنوّع في ثقافته العراقية ، واستلهم كل معاني العراق واثرى الثقافة العربية اثراء لا حدود له ابدا .. من يعوضّنا  عنه من الاجيال الجديدة التي ستعيش في القرن الواحد والعشرين ؟
اين هو البديل الحقيقي لكل هذا الرحيل بكل صوره المؤلمة ؟ من سيحّل محل ذاك الرعيل ؟ كيف يموت هذا المبدع العراقي وذاك الفنان وتلك التشكيلية .. ؟ لماذا ينتهون مثل هذه النهايات التراجيدية ؟  كيف تختتم نهاياتهم  سواء على ترابهم العراقي وفي مناخات العراق الحزينة او هناك في الاصقاع البعيدة الغريبة ؟ لمن كتبوا ؟ لمن ابدعوا ؟ لمن رسموا ؟ لمن تفننوا ؟ لمن نظموا ونشروا .. ؟؟ لمن غنوا  ؟ لمن ؟ لمن ؟ 
هل كان كل مبدع او مثقف عراقي حقيقي يحلم  بنهاياته المؤلمة ، وهو ينتقل من كابوس لآخر عبر مراحل تاريخية متلظية وفي عهود سياسية متشظية .. وقد قفلت حياته بهذا الكابوس المرير الذي مزّق العراق اربا اربا ؟ هل كان أي عراقي يتأمل  بالمصير الذي سيحيق بالعراق ، وهو يرى توابيت الموت تحمل اجساد المثقفين .. والاكاديميين والصحفيين افواجا افواجا .. ذهبوا وهم يودعّون العراق من دون رجعة ؟  هل كان العراقيون تتملكهم هواجس الزمن الصعب ليروا ذاكرتهم التاريخية تحرق .. ومؤسساتهم الثقافية تمحق .. ورموزهم الحضارية تسرق .. ومنحوتاتهم الجميلة تسحق .. ؟؟
من كان يتخّيل يوما  ان بنية العراق الثقافية سيصيبها كل هذا الارق ؟ وستكتنفها كل هذه الفظاعات ؟  من كان يفّكر بكل هذا الوباء الذي يخترق قلب العراق .. ويشعل النار في جنباته ؟  من كان يدرك كل هذه المأساة قبل وقوعها ؟ من كان يفكّر بهذه النهايات البشعة ؟
العراق .. ينخر يوما بعد آخر لأسباب ندركها حق الادراك .. ولكن من دون مواجهات حقيقية بفعل هول الاحوال . ولكن من يقوم بكل هذه الاعمال الخسيسة ؟ من له مصلحة في سحق العراق وتصفية نخبه الفاعلة وتقويض حياته الثقافية واماتة كل المبدعين ؟ من يقتل الاكاديميين ؟ من يطلق الرصاص على كل المهرة الحاذقين ؟ من يريد كم افواه الصحفيين واسكات اصواتهم نهائيا  ؟  انها قوى الظلام .. انها قوى شريرة عاتية  ينبغي ان يدركها كل العراقيين وهي ناصبة لهم الافخاخ منذ مئات السنين .. ولقد جرت العادة ان تسجل الوقائع المريرة ضد مجهول !
السؤال : كيف باستطاعتنا القضاء على هذا الوباء المستطير ؟ والاهم : كيف يمكننا ان نبني اجيال العراقيين الجديدة ؟ من يقينا شرور القادم من الازمان ؟ من يحفظ لنا العراق وحدة تراب وروح تاريخ وحضارة دنيا وابداع ثقافات وعبقرية مكان ؟ من باستطاعته جمع ارادة العراقيين على كلمة العراق ولا شيئ غير العراق ؟ من يخْلص من العراقيين لهذا العراق الى الابد ؟  كيف باستطاعة العراقيين بناء مشروع  ثقافي وطني وحضاري وانساني على غرار ما عاشه منذ الاف السنين ؟ مشروع تنتفي منه كل الانقسامات ؟ وتنفتح فيه كل المغاليق ؟ ويتمسك به كل المخلصين ؟
 كيف يمكننا الحفاظ على ما تبقى من مثقفينا العراقيين القدماء ؟ كيف باستطاعة  كل المثقفين العراقيين الحقيقيين ان يقفوا صفا واحدا ضد كل الاوبئة الطائفية والشوفينية والانقسامية  وضد كل النزعات القاتلة التي تصيب كل يوم منّا مقتلا ؟ كيف يمكننا خلق البديل الحقيقي لكل الراحلين ؟ ان القافلة ستمرّ بكل اوصابها واعطابها .. ولكن لابد من مجابهة التحديات القاسية .. ولابد من معرفة الصواب والابتعاد ما امكن عن الخطأ .. ولابد من ايقاد شعلة في الظلام الدامس كي يهتدي بها كل التائهين .
ان الثقافة العراقية الممتدة لمئة سنة 1908 – 2008 ، وكانت قد زخرت بمئات الاسماء والرموز والعناوين والاعمال مقفلة لا تتحرك اليوم الا لمما .. فلقد كانت سلطوية مصادرة ، وغدت مشّتتة سادرة .. وفي المحصلة هناك خزين لا يقدر بثمن من المعاني والافكار ، ومعايشة مريرة لكل الاحداث . لابد ان يدرك الجيل الجديد المسؤولية ، والمسؤولية المضاعفة ؟ فهل سيكتب يوما ان ثقافة العراق كانت ركنا حقيقيا في بناء المستقبل ؟
 ان العراق الخصب لن يكون عقيما في يوم من الايام .. وسيلد على امتداد الزمن القادم نخبا واجيالا من المبدعين . ولكن ما يرّوع حقّا في مستقبل العراق ، تلك المحاولات اليائسة لتقسيمه .. وهو تحّد من اصعب التحديات التاريخية التي تواجه كل عراقي يوما بعد يوم  . ان انقسامه ـ لا سمح الله ـ  سيشرذم كل العراقيين . فهل من مشروع للثقافة العراقية الحقيقية تعي ان العراق سيحمله تابوته على رأسه ، وسيدخل في نفق من الظلام وتتبلور فيه كل التطاحنات .. ان العراق لابد ان يعيش في وجدان اي مثقف عراقي ، وفي قلب اي مواطن عراقي ، وفي عقل اي سياسي عراقي ..  فمتى يبتعد اهل العراق عن التمايزات والمصالح الخاصة ؟ ومتى يصبح ابن العراق عاشقا لكل العراق ؟ متى ؟
 www.sayyaraljamil.com

الف ياء ، 3 مارس / آذار 2008

100
حوار مع المفكّر والمؤرّخ العراقي
الدكتور سّيار الجميل

               حول العلاقات الكردية- العربية..
ورؤية جديدة لبناء مصالح مشتركة

 

في حوار جريدة الاتحاد المركزية الناطقة باسم  حزب الاتحاد الوطني الكردستاني
الاحد 2/3/2008 العدد/1781 السنة السادسة عشرة
                       
                      حوار : عدالت عبد الله
مدير تحرير صحيفة كوردستاني نوي اليومية - العراق

يُعلن بصراحة بأنه مع حقوق الشعب الكردي ، ولكنه يحذر من الإنفصال لأسباب،كما يقول، جيو سياسية لأن وضع الكرُد سيكون مقفلاً بين ثلاث قوى أقليمية.. و يعتقد أن القضية الكردية ليست قضية قومية موحدة و لهذا السبب فهي لم تكن واضحة المعالم.. ويسأل: هل وجدتم هناك نفيا لوجود شعب من الكرد في الادبيات العربية ؟ باستثناء بعض الكّتاب السياسيين الذين ربما كانوا متعاطفين مع النظام السابق ، فليس هناك، برأيه من عرب اسوياء ينفون وجود الكرد، أما بخصوص دعم العرب للشعب الكردي فيرى أن المشكلة تكمن في ان العرب اليوم في اضعف حالاتهم .. انهم لا يقفون حتى مع انفسهم .. انهم اعجز من مساعدة انفسهم و يُرجع غياب الأهتمام في العالم العربي بالقضية الكردية الى كثرة مشاكل هذا العالم و تداعياتها التي لاتحصى حسب تعبيره.. و يقدم جملة من الأفكار لتوطيد العلاقات العربية- الكردية.. كل ذلك و آراء أخرى ملفتة عن الموضوع نرصدها في أجوبة المفكر و المؤرخ العراقي المعروف الدكتور سّيار الجميل على أسئلتنا .
·   هل هناك تفهم سياسي وعقلاني لقضية الشعب الكردي في العالم العربي؟
ليس هناك تفهم سياسي لقضية الشعب الكردي عربيا ، لأن الاخوة الكرد لم ينفتحوا بما فيه الكفاية على العرب . وحتى اذا كان هناك تفهم من العرب او غيرهم في الشرق الاوسط ، فان ذلك مرتهن بارادات دولية واقليمية ، فالقضية الكردية ليست قضية قومية موحّدة سياسيا لجميع الكرد في العالم ، فهي في العراق شيئ وتركيا شي وايران شيئ آخر .. وهكذا بالنسبة الى سوريا .. القضية لم تأخذ لها اي بعد قومي ، لأن الاخوة الاكراد على امتداد نضالهم التاريخي لم يطالبوا بالاستقلال والانفصال ، وحتى الان فهم بين الاستقلال وبين الفيدرالية وسابقا كانوا بين الحكم المحلي والحكم الذاتي .. ان قضية الاكراد لم تكن واضحة للعالم .. انني اجد هناك ارادة شعبية عارمة بالانفصال وتحقيق الحلم بتأسيس دولة ، ولكن ثمة ارادة سياسية من نوع آخر لا تقبل بالانفصال .. وأود ان اقول بأنني مع حقوق الشعب الكردي وارادته ، ولكنني طالما حذرت من الانفصال لاسباب جيو ستراتيجية ، فأنت ستكون مقفلا بين ثلاث قوى اقليمية .. وعليه فأنني طالما اردد بأن العراق هو الحاضنة . انني اعتقد ان الشباب الكرد لا يرضيهم هذا الكلام ، ولكن اقوله للتاريخ .
وثمة رأي سائد منذ سقوط النظام السابق ان الاكراد يمكنهم ان يحققوا الاستقلال خطوة خطوة ، وان مشروع الفيدرالية هو خطوة مؤكدة نحو الاستقلال الكامل . ان العالم العربي بقادته واحزابه وقواه السياسية وبجماهيره ليس لديه فهم محدّد لما يريده  الاخوة الاكراد .. وعلينا ان لا نعتب على العرب ، اذا كان العراقيون انفسهم لا يعرفون ما الذي يريده الاخوة الكرد ، مقارنة بما كانوا عليه في الاربعينيات من القرن العشرين ، ثم في الخمسينيات مطلع ايام الجمهورية ، ومن ثم الستينيات والاتفاق مع المرحوم عبد الرحمن البزاز ، ثم في السبعينيات والاتفاق مع البعثيين واتفاقية 11 آذار مع  النائب صدام حسين والدخول في الجبهة معه .. ثم الانقسام لما بعد اتفاقية الجزائر وضياع نصف شط العرب من اجل قضية لها حلول سياسية .. وصولا الى المأساة في الثمانينيات ايام الحرب مع ايران .. وانتهاء بتأسيس الاقليم عام 1991 . السؤال : لماذا لم يوضّح الاخوة الكرد غايتهم وهدفهم ؟ الى اين يريدون الوصول بقضيتهم ؟ انني اعتقد ان العالم العربي لا يهم الاكراد بقدر ما يستوجب الاهتمام بالعراقيين ، فهم الذين كانوا معهم في الماضي وهم الذين سيبقون الى جانبهم  في المستقبل والى الابد .. وان العراقيين هم الحاضنة الاساسية للاكراد مقارنة مع بقية دول الاقليم .


·   أليس هذا الشعب هو جزء من العالم الإسلامي؟ ألا يعيش مع أشقائه العرب منذ آلاف السنين ؟ لماذا كلما تتحدث جهة أو طرف ما عن الكرد وقضيته في المنطقة ينظر الكثير من الأنظمة و العديد من الشرائح المجتمعية في العالم العربي الى هذه القضية بنظرة تشكيكية و إتهامية ؟
ـ ان الاكراد جزء لا يتجزأ من العالم الاسلامي .. وانهم يعيشون منذ الاف السنين مع العرب وان جوابي على هذا السؤال تجده ايضا في ما قلته قبل قليل .. اذ لا مشكلة للاكراد في العالم العربي .. سواء على المستوى السياسي او الاجتماعي وقد وجدت ذلك في دول الخليج ام في مصر ام في بلدان المغرب العربي . ان المشكلة مع العراقي ايا كان ! المشكلة في طرح القضية لا في رد الفعل على ما تطرح .. كن واضحا وجليا في طرح مشكلتك على العالم .. ليس على العرب وحدهم ، بل على دول الاقليم اولا ، ثم العالم ثانيا . وكثيرا ما نتداول انا والاخوة الاكراد من اصدقائي الذين يؤكدون ان تعامل الكرد مع العرب اكثر ثقة ومحبة واحتراما من تعامل الكرد مع شعوب اخرى كالاتراك والايرانيين . كن واضحا وجريئا في طرح ما تريده بالضبط ، ومن ثمّ ابحث عن طبيعة رد الفعل .

·   هل من المنطق و الضمير أن ننفي وجود شعب بيننا يتراوح عدد سكانه قرابة 30 مليون نسمة و يشكل قوية بشرية كبيرة؟ لماذا يتصافح العرب مع من هم ليسوا من دينه أو لا يشكلون أية رابطة حضارية معه بينما لايساعد الأكراد في حل مشكلتهم السياسية في المنطقة وجعلهم حلفاء للدول و المجتمعات العربية ؟
ـ هل وجدتم هناك نفيا لوجود شعب من الكرد في الادبيات العربية ؟ باستثناء بعض الكّتاب السياسيين الذين ربما كانوا متعاطفين مع النظام السابق ، فليس هناك من عرب اسوياء ينفون وجود الكرد ! ولكن هل ارادة 30 مليونا من الاكراد مرتهنة باسم حزب واحد ؟ هل انت  تتكلم عن قضية كردية في العراق ام تركيا ام ايران ام سوريا ؟ هل هناك جبهة موحدة تتكلم باسم 30 مليونا من الاكراد ؟ هل كانت هناك مواقف غير ايجابية من الاخوة الكرد ازاء نضالات العرب ومشكلات العرب ؟ هل وجدنا تحالفات علنية بين الفصائل الكردية من اجل قضية قومية واحدة ؟ فاذا كان الكرد منقسمون سياسيا ونضاليا  وتاريخيا ، فكيف تعتب على الاخرين ، ومن العرب ان يقفوا ضد دول اخرى في سياساتها ضد الاكراد ؟


·   لماذا تسعى دول عظمى إستغلال هذه القضية لصالحها عن طريق إغراء الأكراد بوعود سياسية أو دعمهم سياسياً بينما تقف الدول العربية و شرائحها الإجتماعية المثقفة والطامحة الى تقوية العرب من خلال الإنفتاح السياسي الداخلي، مكتوفة الأيدي في التقرب من مطالب هذا الشعب؟
ـ ان العرب اليوم في اضعف حالاتهم .. انهم لا يقفون حتى مع انفسهم .. انهم اعجز من مساعدة انفسهم ، فمشكلاتهم كثيرة ، وتداعياتهم لا تحصى .. انهم لم يحققوا اهدافهم التي اشتغلوا عليها على امتداد القرن العشرين .. فكيف تريدهم ان يقفوا معك وقضيتك ليست مركزية في الشرق الاوسط ؟ وما الوسيلة والاداة ؟ ان العالم كله سكت على جريمة حلبجة لسنوات طوال .. ولم نسمع تصريحا واحدا يدين الضربة لا من امريكا ولا من غيرها  ، وفجأة نسمع بالمشكلة وبعد سنوات ! اين كان العالم قبل ان يوجد العرب ؟ انني اعتقد بشكل راسخ ان ليس هناك اية مشكلة بين العرب والاكراد ان تفهم كل منهما ما هي  نقاط الالتقاء واين نقاط الافتراق وبوضوح شديد  .. اين مصالح هذا من مصالح ذاك .. ثم والاهم من كل هذا وذاك ، اذا سمع العرب ما الذي يريده الاخوة الكرد بالضبط  ؟ هل يريدون الانفصال ام يريدون البقاء تحت المظلة العراقية ؟؟ فلكل فعل من هذه رد فعل . ناهيكم عن تحديد المبادئ ، وعدم جعلها مطاطية في اي سوق للسياسة .


·   لماذا لم يستطع العالم العربي إستثمار الوضع الكردي في العراق لبناء علاقات وطيدة و أستراتجية مع الكرد و قياداته و التأثير على  إتجاهاتهم السياسية و تقديراتهم الإستراتيجية لحاضر و مستقبل منطقة الشرق الأوسط؟
ـ ان العرب ودول العالم العربي هي مجموعة او منظومة من دول عالم الجنوب .. وحتى دول الشمال ، كيف لها او لتلك التعامل ؟ وما طبيعة التعامل ؟ مع من تبنى علاقات وطيدة ؟ انك تتحدث وكأن للاخوة الكرد في الاقليم قنوات دبلوماسية ووزارة خارجية .. فكيف تتعامل دول مع اقليم عراقي فيدرالي بمعزل عن المركز بغداد ؟ لو كانت كردستان دولة معترف بها في الامم المتحدة ، ولم يتعامل معها العرب لسألت هذا السؤال . علينا ان نعرف ونقدّر ما الذي يمكننا عمله وما الذي لا نستطيع عمله .. كيف لدول العالم العربي ان تستثمر الوضع الكردي في العراق استراتيجيا ـ كما تقول ـ مع قيادات الكرد من اجل مستقبل الشرق الاوسط ، وكردستان اقليم عراقي يرتبط بدستور اتحادي ؟ انني اتوق جدا ، بل واتمنى ان تتشكّل علاقات اقتصادية وخدمية وعمرانية بين كردستان وكل الدول العربية ، وخصوصا المتقدمة منها .. ولكن هذا مرتبط بوضع دستوري كما هو حال اي دولة فيدرالية ترتبط اقاليمها بالقانون الاتحادي .


·    هل يمكننا نفي أن الكرد هم الآن طرف أساسي في توجيه بعض من المعادلات و المشاريع السياسية التي تشكل نقاطاً للإصطدام بين القوى المتصارعة في المنطقة؟
ـ  ان كل منطقة الشرق الاوسط بدولها وقواها السياسية لا يمكنني ان اجد فيها اية اطراف اساسية يمكنها توجيه معادلات ومشروعات سياسية باستثناء ايران ، والى حد ما في ما تفعله هنا في العراق وما تحدثه في لبنان .. فالمنطقة كلها تحت الهيمنة الامريكية بشكل مباشر ام غير مباشر . وحتى ايران ، فانها تلعب لعبة القط والفار ..   

·    ولكن ، مع ذلك، هل للكرد و قياداتهم ، في العراق كانوا أو في أي دول أخرى يشكلون فيه أقلية قومية أو مكون أساسي من مكونات المجتمع، مشروعاً بإتجاه اللجوء الى العالم العربي؟ هل هناك مبادرات كردية حقيقية لتعزيز العلاقات التاريخية مع العرب؟
ـ  اذا كان الاخوة الكرد يريدون كسب العرب .. وان كانوا يطمحون بتأسيس مبادرة كردية لتطوير العلاقات التاريخية مع العرب ، ان يدركوا اين الخطأ واين الصواب في تحالفاتهم داخل العراق .. عليهم ان يدركوا ، وانا متأكد انهم يدركون ما مقياس تلك التحالفات ، فالعالم الاسلامي اليوم منقسم الى قسمين ، وتلعب به النزوعات الدينية والاهواء الطائفية .. فمن الاجدى للاخوة الكرد ان يدركوا اين تكمن مصالحهم البعيدة قبل القريبة ، فضلا عن ذلك فان من يكسب شعب العراق سيكسب في النهاية الكثير مستقبلا . ان عملية البناء التاريخي وتأسيس العلاقات واستعادة التأسيس ليس بالامر البسيط ولا بالمنفعة المؤقتة ، بل ان من يؤسس ذلك سيكسب رهاناته في المستقبل .


·   أليس للكرد مصالح سياسية تربطهم بالعالم العربي و تحكم عليهم بالسعي وراء دعم هذا العالم له؟ لِمَ لم تبادر القيادات الكردية في العراق لزيارة العواصم العربية لنقل الحقائق التي تجري على أرض الواقع في الأقليم الكردي العراقي؟ هل عمل الكرد على تبديد مخاوف العرب من أن يصير بشكل مباشر أو غير مباشر( عدواً ) آخر للعالم العربي؟ ألا ينبغي للكرد أن يوضحوا موقفهم من القضايا العربية كجزء من عملية التفاهم العربي – الكردي ؟ لماذا لايشتغل الكرد من جانبه و عن طريق قوى سياسية و مجتمعية عربية على تشكيل لجان مشتركة لدراسة سبل و شروط تمتين العلاقة مع العالم العربي و المصالح التي تستدعيها هذه العلاقة أو تنبني عليها؟

ـ عزيزي انت تسألني اسئلة تمنيت ان توجّه الى الاخوة القياديين الكرد .. فأنا أتساءل مثلك الاسئلة نفسها .. انا اعيش في ما وراء البحار ، ولا ادري بماذا يفكر الاخوة القادة الكرد خصوصا وانهم امام تحديات كبيرة اقليمية وداخلية . ولقد فهمت من مجموعة هذه الاسئلة الاخيرة ان اقدم بعض " الافكار " .. وعليه ، فأنني أرى ، وباختصار :
1. بأن السياسة هي فن الممكن ، ولكن ينبغي ان ندرك جميعا بأن مصيرنا مشترك سواء في تعايشنا ام في مصالحنا ام في شراكتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا . وان لا يغيب عن بالنا ابدا اننا نعيش مرحلة معينة ولا ندرك طبيعة المراحل القادمة .
2. لا يمكن بناء علاقات مشتركة مع العالم العربي من دون ان تكون قد ارسيت علاقات سليمة وبناءة ومتبادلة مع جيرانك العرب في العراق . ان رهانك على العالم العربي لا يأتي من وراء الحدود ، بل من داخل البلاد .
3. مع كل الاعتزاز باللغة الكردية والمأثورات الكردية والثقافة والمجتمع الكرديين في ان يتمتع الكرد بلغتهم وثقافتهم وتراثهم ، وهذا من حقهم تماما .. ولكن من الصائب ان تبقى معتزا باللغة العربية والمأثورات العربية كي يكون ذلك شاهدا على كونك جزءا من العالم الاسلامي وانك تحترم العرب ومواريثهم كما كان يفعل الاكراد عبر القرون .
4. لابد من فتح صفحة اعلامية جديدة في كردستان تزرع الوعي لدى الشعب الكردي ضمن هذا الهدف وخصوصا عند الاجيال الجديدة .. وتعمل على استعادة روح المودة والرحمة والمحبة .. وان يدرك كل كردي في هذا الوجود بأن ما فعله الساسة والقادة والانظمة السابقة لا يمّثل بأي حال من الاحوال روح الجماهير العربية لا في العراق ولا في غير العراق .. والتاريخ شاهد على ما اقول .
5. انني ادرك ان اقليم كردستان يضم اليوم باعتباره اقليما آمنا الالاف من العراقيين جاءوا ليأمنوا على حياتهم ، وهذا موقف مشّرف .. واتمنى ان يعّزز الاقليم بكفاءات عربية كي يشعروا بأنهم في بلدهم وان لا يفّرق في الاختيار والاستشارة والخبرة .
6. بهذه المناسبة ، اريد ان اّذكر بحدوث العديد من التجاوزات بين الكرد والعرب وغيرهما.. فاتمنى على القيادات الكردية ان تعالج ما يحدث بحكمة متناهية وبعدالة وان لا تسمح بأية خروقات ليس بين الكرد والعرب ، بل بين الكرد وكل القوميات والاقليات .. وعلينا ان ندرك بأن اقليم كردستان ليس له من حاضنة جغرافية واجتماعية وثقافية واقتصادية الا العراق .
واخيرا ، اتمنى من صميم القلب ان تستقر الامور ويندحر الارهاب ويشترك الكرد والعرب وكل الاقوام الاخرى في بناء تاريخ حيوي وفعّال ويتعايش الناس وينفتح العراق كله على العالم .. وان يتطور تطورا كبيرا وان ينتهي الصراع ويعرف كل طرف حدوده مع الطرف الاخر من اجل مصالح حصارية عليا ، وان تكون كردستان رئة للشرق الاوسط .. فلقد عشت جزءا من طفولتي فيها ، وانا ادرك جمالياتها وخصبها وطيبة اهلها وروعة جبالها وسحر مناخها .. ويكفي انني اعتز باصدقاء كرد منذ طفولتي حتى اليوم ، وهم يعتزون بي  .. حما الله العراق بعربه وكرده وكل قومياته وتنوعاته ..
اشكركم وتحياتي الى كل الاصدقاء


ملاحظة : نشر هذا الحوار باللغة الكردية في صحيفة كوردستاني نوي على حلقتين
ليومي 24 ، 26 فيراير 2008

101
الاتحاد المتوسطي : مشروع فرنسي فاشل !

د. سيّار الجميل

كما كان قد سبقه مشروع اليورو ـ متوسطي او ما سميّ بـ " المتوسطية " قبل اكثر من عشرين عاما ، وقد فشل ، فان مشروع الاتحاد المتوسطي سيفشل هو الاخر ، وذلك بسبب انعدام التكامل بين المجموعة المتوسطية اولا ، وبسبب التحديات العولمية والامريكية ثانيا .. اذكر انني كنت قد نشرت دراسة بعنوان ( المتوسطية : الشرعية التاريخية العربية ومشروع المتوسطية ) في مجلة دراسات عربية ، يوليو 1988 ، وفي كتابي العولمة الجديدة ، 1997  قلت فيها : " ثمة خلل أساسي يكمن في قلب المتوسطية ، ذلك هو الانقسام التاريخي بين دول الشمال ودول الجنوب ومواريثها جمعاء .. " كما قلت : " سيبقى مشروع المتوسطية مهمشا من قبل امريكا وبعض الدول الاوربية .. " !
لقد دعا نيكولاي ساركوزي مؤخرا الى مشروع الاتحاد المتوسطي ، واقترح انه سيتألف من ستة عشر دولة تمتد عبر جنوب اوروبا والشرق الأوسط وشمال افريقيا المطله جميعها على البحر  المتوسط : البرتغال ، اسبانيا ، فرنسا ، ايطاليا ، اليونان ، قبرص ، مالطة ، تركيا ، لبنان ، اسرائيل ، السلطة الفلسطينية ، مصر ، ليبيا ، تونس والجزائر والمغرب. ويهدف المشروع اساسا : تأسيس اتحاد اقتصادي ، وبحث قضايا البلدان الاكثر اثارة للجدل مثل اخفاق تركيا في الانضمام لعضوية الاتحاد الاوروبي ، والهجره غير الشرعية ومكافحة الارهاب ، وأمن الطاقة ، فصلا عن الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين ، اذ سيوفر الاتحاد منتدى فيه اسرائيل وجيرانها من الدول العربية  للمشاركة معا . نعم ، قال ساركوزي انه يدّق على ابواب بلدان البحر المتوسط لتشكيل مجلس يحّضر لعقد مؤتمر قمة تحت رئاسة يتم تداولها بالتناوب ، وهو يتصور ان مشروعه يعدّ جسرا  بين اوروبا والعالم الاسلامي.
وفي حين اعربت بعض البلدان عن تأييدها الكامل لتفعيل لهذا الاقتراح ، فان تركيا تقاعست ، اذ اعتبرته مجرد آلية لابقائها خارج الاتحاد الأوروبي ، لأنها تعلم بأن ساركوزي نفسه قد جادل في الماضي جاعلا تركيا دوما هي آسيا الصغرى وليس من اوروبا الكبرى .
 لقد اقترح تشكيل مؤسسات ومنظمات مشتركة ، وهي بمثابة كيانات منفصلة ومتميزه. ووفقا للدكتور هادار ، فان الاقتراح هو امتداد لعملية برشلونة عام 1995 برعايه الاتحاد الاوروبي وهي تسعى الى جعل 12 من بلدان حوض البحر المتوسط الى منطقة للتجارة الحرة بحلول عام 2010. هذه مبادره برشلونة المسماة بـ  ( الشراكه الاورومتوسطيه) .. وهو حاليا المحفل الوحيد فيها "اسرائيل والبلدان العربية الجلوس حول طاولة واحدة."
يقول الدكتور هادار ايضا ان ساركوزي يريد الابتعاد عن فرنسا القديمة الممالئة للعرب ، وتأسيس سياسة خارجية تمالئ اسرائيل لان التجارة بين اسرائيل والاتحاد الاوروبي قد زادت ثلاثة اضعاف فى العقد الماضى. وعليه ، فالمشروع معبر حقيقي الى الشرق الاوسط حيث صادرات النفط ، كما انه  سيمتص النقمة على المهاجرين الذين اصبحوا قنبلة موقوتة تهدد الديموغرافيه في الاتحاد الاوروبي بكثرة ولاداتهم ازاء قلتها عند الاوربيين ، وسيزيل الحوافز الى الهجره نحو اوروبا وتوفير فرص عمل لهم في بلدانهم ، وسيبدأ التعجيل في الروابط التجارية والاستثمارية بين اطراف الاتفاق.
 لا جدال أن مثل هذه المبادرة سينظر اليها من قبل الولايات المتحدة  كونها محاولة فرنسية  لاضعاف موقف اميركا في المنطقة اولا والعالم ثانيا ، وهذا ما لا تسمح به  وحلفائها ابدا ! وبقول المؤيدون للمشروع انه سيمتلك " استراتيجية " ينبغي ان ينظر اليها باعتبارها استراتيجية مكمله للاستراتيجية العسكرية الامريكية في خط الوسط ، وكلاهما يتمثل هدفه النهائى "لدفع قضية السلام والاصلاح السياسي والاقتصادي" في المنطقة ـ على حدّ ما قيل حتى هذه اللحظة ـ.
سينعقد اجتماع باريس في يونيو 2008  لوضع أسس سياسية واقتصادية وثقافية للاتحاد المتوسطي واقتراح إشراك اللجنة الأوروبية في الاتحاد المتوسطي ، ولم يحدد الرئيس الفرنسي شكل ذلك الاتحاد الذي يريد إقامته بين ضفتي المتوسط . لكن على الأرجح لن يكون اتحاداً اندماجياً كما هو عليه الحال بين دول الاتحاد الأوروبي التي تعيش ـ باستثناء بريطانيا ـ باقتصاد واحد وبعملة واحدة هي "اليورو" . ولعل حضور الضفة العربية من البحر المتوسط في تفكير ساركوزي وغيره من رؤوساء وملوك أوروبا ، إنما يعود أساسا إلى هاجس الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من دول المغرب نحو أوروبا . وأصبحت تشكّل عبئاً ثقيلاً على الحكومات الأوروبية لأسباب متعددة أهمها العامل الديمغرافي ، حيث أن هذه الحكومات باتت تتخوف من غلبة العناصر المهاجرة على الشعوب الأوروبية . ومن ثم هناك العامل الأمني ، فالمتسللون إلى دول الاتحاد قد يقومون بأعمال تخريب بعيداً عن أعين السلطات الساهرة ، مما قد ينجم عنه خسائر كبيرة في النفوس والممتلكات . وأيضاً ، فإن دولة الرفاه السائدة في أوروبا والتي تحسب حساباً لكل مولود جديد ، قد ازدادت المطالب عليها بسبب كثرة المهاجرين وحاجة هؤلاء إلى الاندماج في المجتمع الأوروبي بكل عاداته وتصرفاته . وتدرك دول الاتحاد أن إيقاف الهجرة غير الشرعية إليها هو مهمة مستحيلة بالنسبة لها ، خاصة أن قوانين هذه الدول فيها نزعة إنسانية .
 لقد أخفقت مبادرة برشلونة للشراكة المتوسطية . لكن ظل الأمل يحدو الأوروبيين في التوّصل إلى صيغة تعاون مع دول المغرب العربي للحدّ من ظاهرة الهجرة فقط لا من أجل ضمّ هذه الدول إلى الاتحاد الأوروبي . ولا شك أن خطاب ساركوزي في طنجة 23 اكتوبر 2007 ، يصبّ في هذا الاتجاه على الرغم من أنه دعا إلى إقامة اتحاد متوسطي . فساركوزي هو نفسه يرفض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بحجة خلفيتها الحضارية الآسيوية . ومن يرفض دخول دولة مسلمة مثل تركيا إلى الاتحاد لن يقبل بإقامة اتحاد مع دول عربية ومسلمة في المغرب العربي !
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 20 فبراير 2008

102
قاضي الرجع البعيد  يرحل  ..
 صاحب خزانة اللامرئيات يبقى

د. سيّار الجميل

أوان الرحيل
غادرنا  واحد من ابرز المثقفين العراقيين المعاصرين الذين كانوا من رموز منتصف القرن العشرين .. رحل عنّا  الروائي المجدد  والاديب العراقي القاص  فؤاد التكرلي  الذي شغلت بعض اعماله الناس .. وكان الرجل قد تمّيز بها  عن غيره  ، فكان مصورا بارعا  لواقع عاشه العراق المعاصر  مستفيدا كبير الاستفادة من موقعه الوظيفي ، اذ كان الرجل قاضيا  وكان بالفعل خزين لامرئيات لا تعد ولا تحصى .. مضى زمن طويل لم يكن يتذكره الناس ،  وكالعادة  عندما  رحل نشرت عنه عشرات المقالات !  انه ابن بغداد التي ولد في محلة قديمة فيها اسمها باب الشيخ عام 1927  ، كان قد نشأ في قلب العاصمة  والتصقت صورها القديمة في مخيلته  ، والفها الفة العاشق لمعشوقته  ، وعنها ترجم  في اعماله اجزاء من نسيجها الاجتماعي !  كان الرجل مسالما  جدا  لم يدخل معامع ودوامة خصومات لا ادبية ولا سياسية  .. كان يتعامل مع اي ظرف من الظروف بكل هدوء  وبطريقة غير مباشرة ، فلم يكن يحب المواجهات  لا العلنية ولا الصاخبة  .. لم يعرف لغة الشتم  ولا اساليب النجريح . لم يكن مثقف سلطة ـ كما وصفوه ـ يوما ، لكنه لن يرفض ان يخدم العراق من اي مكان هو فيه .

زهرة المثقفين العراقيين
كان فؤاد  في الشطر الاول من حياته رجل القانون وقاضي الرجع البعيد  اولا  ، ليغدو  في الشطر الثاني كاتب القصة و خزين الرواية واللامرئيات ثانيا  ..  وجدته يعتز اعتزازا  كبيرا  بعقد الخمسينيات  ويعتبره  ذروة ما وصل اليه العراق المعاصر  ، وكانت الستينيات والسبعينيات قد اتكئت على تلك الخمسينيات في قمة  الابداع .  لقد كان التكرلي قليل الانتاج ، ولكنه  اثبت نفسه في الثقافة العربية انه أحد أبرز الرواد الاساسيين العراقيين لكل من القصة والرواية العراقيتين المحدثتين .. وانه طرق لأول مرة ابوابا لم يطرقها احد غيره .. ان من ابرز اعماله : خزين اللامرئيات  وبعض المسرحيات وخاتم الرمل والرجع البعيد  .. انه منتج بصقة في وجه الحياة : الوجه الاخر  والمسّرات والاوجاع واللا سؤال واللا جواب  .. الخ  لقد عاصر التكرلي عدة نخب من المثقفين العراقيين ، ولكنه لم يجد من الحقيقيين الا الاوائل .. اذ  يجد زمن الخمسينيات هو افضل الازمان !

قاضي الرجع البعيد
لقد قضى التكرلي سنواته الطويلة قاضيا ، فكان قد اكتسب من خلال عمله خبرات واسعة بالمجتمع العراقي وتقلباته وشخوصه .. لقد اكتشف قلق المجتمع وتناقضاته التي ورثها عن سنوات ما بين الحربين العظميين .. لقد عمل بعد الحرب الثانية وشهد متغيرات العراق وولادة الاحزاب والحركات اليسارية .. عاش احاديات التفكير وتخلف المجتمع وتزمته .. كان منتظما ودؤوبا على وظيفته ، بالرغم من عشقه للادب والفن .. لقد شهدت تجاربة ان ينتقل في عموم العراق ليدرك كم هي تعقيدات المجتمع وطبقاته .. ان من يفحص شخوص قصصه ورواياته سيجد بأنه صّور جملة اشكال والوان من الحياة العامة ربما تكون خفية ربما تكون علنية ، ومنها : السرقات والاحتيالات والقتولات والجنوح والجرائم والاغتيالات والاخذ بالثارات والزنى بالمحارم .. الخ

صاحب خزين المرئيات
كان فؤاد  يختلف اختلافا كبيرا عن شخوص قصصه وابطال رواياته  .. كان يكتب عن مجتمع يريده على غير ما عهده عليه ..  كان يريد  ان يكون العراق مسرحا  اجتماعيا على غير ما ألفه منذ صغره من العلاقات القديمة ..  ولكن بنفس الوقت ، كان يرسم  خطوطا واضحة فاضحة لمجتمع بدا جليا انه يدّمر نفسه بنفسه .. كشف لأول مرة عن ممارسات اباحية  كان القسم الاكبر من الناس يمارسونها ، ولكنهم لا يتحدثون عنها ، فهم يحملون شخصية مزدوجة بالتناقضات !  رسم شارعا  عراقيا يمتلئ بالفوضى الشرقية ، ولعله ادق فنان عراقي رسم شارع الرشيد  بكل عبقه  وروائحه ومناخات ازقته  ورواقاته  ومغازاته على الجانبين ..  وعصائره  عند سينماواته ..  انه يستدعي ذاكرته دوما ليخط بقلمه لوحة حقيقية عن واقع يكثر فيه الخراب وطيش شباب  وكآبة  فقراء  وجماعات منحرفة  ..  انه  يشعرك للمقارنة بين كتاباته الاولى عن كتاباته الثانية  بتلك الانتقالة  التاريخية للعراق من زمن المبدعين والوداعة والازدهار الى سنوات الانقفال والحرمان والحصار  ..  انه خزين لذلك الرجع البعيد الذي كلما ابتعد الانسان في العراق عنه  ، فان الاجيال الجديدة لا تعرف شيئا من أسرار تلك الاوراق الرائعة ! ان اجيال العراق قد انتقلت يوما بعد آخر من حالة الفرح والمسّرات الى يؤر الحزن والاوجاع في عالم ينتفي منه السؤال وينتفي منه الجواب ايضا .. فتخيلوا من يكون ؟ وتخيلوا حجم المأساة التي عاشها العراقيون .
المثقف المبدع لا السياسي المؤدلج
لم التق بالرجل ابدا ، وليست لي اية ذكريات معه كي اسجلها في شاهد الرؤية، ولكنني كنت اتابع بعض منتجاته واعماله .. وبالرغم ممّا صادفه من قدح وذم ووصفه البعض بصاحب التقلبات عندما كان في تونس ، فأنني اجده كأي فنان مرهف الاحساس ، لم يقو على الاستمرار ضمن خط فكري واحد بحكم شفافيته ورقة وجدانه .. وقد جمع اطياف القرن العشرين كلها  ، فهو متجدد الفكر والتفكير ، وهو مستقل الارادة السياسية ولكن لم يعلن عن موقف محدد بالذات ، وهو يقترب من اليسار في فورته ، ثم يدافع عن اليمين عندما انتهى اليسار ..  انه لم يكن سياسيا يوما ، ولم يتخندق مع احد ، ولم يعش الاحداث الا بعد انقضائها .. انه لا يدّون الحاضر ، بل يسجل الماضي .. علما بأنه بقي طوال حياته يؤهل نفسه ككاتب وروائي بعيدا عن كونه محام وقاض .. فهو قليل الكلام ، هادئ الصوت لا يرغب بالظهور اعلاميا .. كان انطوائيا على عكس شخوصه التي وصفها بالصخب والعنف والعاطفة الوقادة .

تصوير الواقع
كان ثالث ثلاثة من رواد كتابة القصة العراقية الحديثة ، فهو الثالث الى جانب كل  من عبد الملك نوري ، وذو النون ايوب .. لكنه لم يكن مثلهما  يؤمنا باليسار  ايمانا  مطلقا ، بل كان يتظاهر بيساريته في اجواء ومناخات سياسية ، لكنه كان يترجم ليبراليته الواضحة .. كان دوما يقول بأن خمسينيات القرن العشرين هي افضل ما عاشه العراق والعراقيين .. وانه يصّور مرحلة عقد الستينيات  القلقة المضطربة في العراق بسبب ما شهدته من شروخ سياسية وانهيارات أخلاقية ، وأساليب متوحشة يصعب تحديد مساراتها بسبب فوضاها الطاغية. وفي «الرجع البعيد» ينجح التكرلي في بناء روائي فني متمكن، مع مقاربة حقيقية ملتصقة بالواقع باستخدامه العامية العراقية في بعض الحوارات. لقد وجدته ينجح كثيرا في تحليل شخصياته تحليلا متوازنا ، ولكنه يسبر غور سايكلوجياتهم التي تترجم بوضوح كل الوان المحنة العراقية .. واجده دوما يبتعد عن شخوصه وكأنه من عالم آخر ..

سايكلوجية الذات العراقية
 واستطيع القول انه أحد ابرز من ترجم الذات العراقية التي تطمح منذ عشرات السنين الى التحرر والانطلاق ، ولكنها بحاجة الى من يطلقها من سجونها المظلمة .. انها تتفجر عاطفة وتحتدم تعصبا وتطرفا .. انني اجد بعض صور التكرلي التي رسمها بعد ان قرأ المجتمع العراقي قراءة متأنية .. انه يؤمن ايمانا راسخا بأن العراقيين ان استطاعوا ان يغيّروا  ما جبلوا عليه من اسوأ العادات ، ليخرجوا على العالم من افضل مجتمعات البشرية . انه يقول للعالم ان العراقيين يمكن ان يكونوا شيئاً ما معتبراً وثميناً اكثر من قيمة الحجر الكريم .. وكان الناقد الكبير علي جواد الطاهر قد اعجب بما لدى التكرلي من تقنيات عالية في صناعة القص ةوكم يمتلك من وسائل وادوات في كتابة الرواية .

واخيرا : ذكرى شاهد الرؤية
ان رحيل فؤاد التكرلي هو رحيل نخبة عراقية مثقفة ساهمت في رفد العراق وخدمة ثقافة العراقيين .. وستبقى اعماله مرجعا تاريخيا وادبيا وفنيا في مسيرة الابداع في الثقافة العربية المعاصرة . انني اذ اسجل كلمتي هذه في حق الاستاذ الراحل، ليس لي الا ان اقول بأن قاضي الرجع البعيد قد رحل ، ولكن صاحب خزين اللا مرئيات سيبقى حيا لن يموت . وهنا ، لا يسعني الا ان اسدي خالص التعازي القلبية لذويه واصدقائه ، وكل عشاق اعماله من الادباء والمثقفين ، وستبقى ذكرى فؤاد التكرلي باقية على المدى .

www.sayyaraljamil.com

الف ياء ، 17 فبراير 2008

103
قاضي الرجع البعيد  يرحل  ..
 صاحب خزانة اللامرئيات يبقى

د. سيّار الجميل

أوان الرحيل
غادرنا  واحد من ابرز المثقفين العراقيين المعاصرين الذين كانوا من رموز منتصف القرن العشرين .. رحل عنّا  الروائي المجدد  والاديب العراقي القاص  فؤاد التكرلي  الذي شغلت بعض اعماله الناس .. وكان الرجل قد تمّيز بها  عن غيره  ، فكان مصورا بارعا  لواقع عاشه العراق المعاصر  مستفيدا كبير الاستفادة من موقعه الوظيفي ، اذ كان الرجل قاضيا  وكان بالفعل خزين لامرئيات لا تعد ولا تحصى .. مضى زمن طويل لم يكن يتذكره الناس ،  وكالعادة  عندما  رحل نشرت عنه عشرات المقالات !  انه ابن بغداد التي ولد في محلة قديمة فيها اسمها باب الشيخ عام 1927  ، كان قد نشأ في قلب العاصمة  والتصقت صورها القديمة في مخيلته  ، والفها الفة العاشق لمعشوقته  ، وعنها ترجم  في اعماله اجزاء من نسيجها الاجتماعي !  كان الرجل مسالما  جدا  لم يدخل معامع ودوامة خصومات لا ادبية ولا سياسية  .. كان يتعامل مع اي ظرف من الظروف بكل هدوء  وبطريقة غير مباشرة ، فلم يكن يحب المواجهات  لا العلنية ولا الصاخبة  .. لم يعرف لغة الشتم  ولا اساليب النجريح . لم يكن مثقف سلطة ـ كما وصفوه ـ يوما ، لكنه لن يرفض ان يخدم العراق من اي مكان هو فيه .

زهرة المثقفين العراقيين
كان فؤاد  في الشطر الاول من حياته رجل القانون وقاضي الرجع البعيد  اولا  ، ليغدو  في الشطر الثاني كاتب القصة و خزين الرواية واللامرئيات ثانيا  ..  وجدته يعتز اعتزازا  كبيرا  بعقد الخمسينيات  ويعتبره  ذروة ما وصل اليه العراق المعاصر  ، وكانت الستينيات والسبعينيات قد اتكئت على تلك الخمسينيات في قمة  الابداع .  لقد كان التكرلي قليل الانتاج ، ولكنه  اثبت نفسه في الثقافة العربية انه أحد أبرز الرواد الاساسيين العراقيين لكل من القصة والرواية العراقيتين المحدثتين .. وانه طرق لأول مرة ابوابا لم يطرقها احد غيره .. ان من ابرز اعماله : خزين اللامرئيات  وبعض المسرحيات وخاتم الرمل والرجع البعيد  .. انه منتج بصقة في وجه الحياة : الوجه الاخر  والمسّرات والاوجاع واللا سؤال واللا جواب  .. الخ  لقد عاصر التكرلي عدة نخب من المثقفين العراقيين ، ولكنه لم يجد من الحقيقيين الا الاوائل .. اذ  يجد زمن الخمسينيات هو افضل الازمان !

قاضي الرجع البعيد
لقد قضى التكرلي سنواته الطويلة قاضيا ، فكان قد اكتسب من خلال عمله خبرات واسعة بالمجتمع العراقي وتقلباته وشخوصه .. لقد اكتشف قلق المجتمع وتناقضاته التي ورثها عن سنوات ما بين الحربين العظميين .. لقد عمل بعد الحرب الثانية وشهد متغيرات العراق وولادة الاحزاب والحركات اليسارية .. عاش احاديات التفكير وتخلف المجتمع وتزمته .. كان منتظما ودؤوبا على وظيفته ، بالرغم من عشقه للادب والفن .. لقد شهدت تجاربة ان ينتقل في عموم العراق ليدرك كم هي تعقيدات المجتمع وطبقاته .. ان من يفحص شخوص قصصه ورواياته سيجد بأنه صّور جملة اشكال والوان من الحياة العامة ربما تكون خفية ربما تكون علنية ، ومنها : السرقات والاحتيالات والقتولات والجنوح والجرائم والاغتيالات والاخذ بالثارات والزنى بالمحارم .. الخ

صاحب خزين المرئيات
كان فؤاد  يختلف اختلافا كبيرا عن شخوص قصصه وابطال رواياته  .. كان يكتب عن مجتمع يريده على غير ما عهده عليه ..  كان يريد  ان يكون العراق مسرحا  اجتماعيا على غير ما ألفه منذ صغره من العلاقات القديمة ..  ولكن بنفس الوقت ، كان يرسم  خطوطا واضحة فاضحة لمجتمع بدا جليا انه يدّمر نفسه بنفسه .. كشف لأول مرة عن ممارسات اباحية  كان القسم الاكبر من الناس يمارسونها ، ولكنهم لا يتحدثون عنها ، فهم يحملون شخصية مزدوجة بالتناقضات !  رسم شارعا  عراقيا يمتلئ بالفوضى الشرقية ، ولعله ادق فنان عراقي رسم شارع الرشيد  بكل عبقه  وروائحه ومناخات ازقته  ورواقاته  ومغازاته على الجانبين ..  وعصائره  عند سينماواته ..  انه يستدعي ذاكرته دوما ليخط بقلمه لوحة حقيقية عن واقع يكثر فيه الخراب وطيش شباب  وكآبة  فقراء  وجماعات منحرفة  ..  انه  يشعرك للمقارنة بين كتاباته الاولى عن كتاباته الثانية  بتلك الانتقالة  التاريخية للعراق من زمن المبدعين والوداعة والازدهار الى سنوات الانقفال والحرمان والحصار  ..  انه خزين لذلك الرجع البعيد الذي كلما ابتعد الانسان في العراق عنه  ، فان الاجيال الجديدة لا تعرف شيئا من أسرار تلك الاوراق الرائعة ! ان اجيال العراق قد انتقلت يوما بعد آخر من حالة الفرح والمسّرات الى يؤر الحزن والاوجاع في عالم ينتفي منه السؤال وينتفي منه الجواب ايضا .. فتخيلوا من يكون ؟ وتخيلوا حجم المأساة التي عاشها العراقيون .
المثقف المبدع لا السياسي المؤدلج
لم التق بالرجل ابدا ، وليست لي اية ذكريات معه كي اسجلها في شاهد الرؤية، ولكنني كنت اتابع بعض منتجاته واعماله .. وبالرغم ممّا صادفه من قدح وذم ووصفه البعض بصاحب التقلبات عندما كان في تونس ، فأنني اجده كأي فنان مرهف الاحساس ، لم يقو على الاستمرار ضمن خط فكري واحد بحكم شفافيته ورقة وجدانه .. وقد جمع اطياف القرن العشرين كلها  ، فهو متجدد الفكر والتفكير ، وهو مستقل الارادة السياسية ولكن لم يعلن عن موقف محدد بالذات ، وهو يقترب من اليسار في فورته ، ثم يدافع عن اليمين عندما انتهى اليسار ..  انه لم يكن سياسيا يوما ، ولم يتخندق مع احد ، ولم يعش الاحداث الا بعد انقضائها .. انه لا يدّون الحاضر ، بل يسجل الماضي .. علما بأنه بقي طوال حياته يؤهل نفسه ككاتب وروائي بعيدا عن كونه محام وقاض .. فهو قليل الكلام ، هادئ الصوت لا يرغب بالظهور اعلاميا .. كان انطوائيا على عكس شخوصه التي وصفها بالصخب والعنف والعاطفة الوقادة .

تصوير الواقع
كان ثالث ثلاثة من رواد كتابة القصة العراقية الحديثة ، فهو الثالث الى جانب كل  من عبد الملك نوري ، وذو النون ايوب .. لكنه لم يكن مثلهما  يؤمنا باليسار  ايمانا  مطلقا ، بل كان يتظاهر بيساريته في اجواء ومناخات سياسية ، لكنه كان يترجم ليبراليته الواضحة .. كان دوما يقول بأن خمسينيات القرن العشرين هي افضل ما عاشه العراق والعراقيين .. وانه يصّور مرحلة عقد الستينيات  القلقة المضطربة في العراق بسبب ما شهدته من شروخ سياسية وانهيارات أخلاقية ، وأساليب متوحشة يصعب تحديد مساراتها بسبب فوضاها الطاغية. وفي «الرجع البعيد» ينجح التكرلي في بناء روائي فني متمكن، مع مقاربة حقيقية ملتصقة بالواقع باستخدامه العامية العراقية في بعض الحوارات. لقد وجدته ينجح كثيرا في تحليل شخصياته تحليلا متوازنا ، ولكنه يسبر غور سايكلوجياتهم التي تترجم بوضوح كل الوان المحنة العراقية .. واجده دوما يبتعد عن شخوصه وكأنه من عالم آخر ..

سايكلوجية الذات العراقية
 واستطيع القول انه أحد ابرز من ترجم الذات العراقية التي تطمح منذ عشرات السنين الى التحرر والانطلاق ، ولكنها بحاجة الى من يطلقها من سجونها المظلمة .. انها تتفجر عاطفة وتحتدم تعصبا وتطرفا .. انني اجد بعض صور التكرلي التي رسمها بعد ان قرأ المجتمع العراقي قراءة متأنية .. انه يؤمن ايمانا راسخا بأن العراقيين ان استطاعوا ان يغيّروا  ما جبلوا عليه من اسوأ العادات ، ليخرجوا على العالم من افضل مجتمعات البشرية . انه يقول للعالم ان العراقيين يمكن ان يكونوا شيئاً ما معتبراً وثميناً اكثر من قيمة الحجر الكريم .. وكان الناقد الكبير علي جواد الطاهر قد اعجب بما لدى التكرلي من تقنيات عالية في صناعة القص ةوكم يمتلك من وسائل وادوات في كتابة الرواية .

واخيرا : ذكرى شاهد الرؤية
ان رحيل فؤاد التكرلي هو رحيل نخبة عراقية مثقفة ساهمت في رفد العراق وخدمة ثقافة العراقيين .. وستبقى اعماله مرجعا تاريخيا وادبيا وفنيا في مسيرة الابداع في الثقافة العربية المعاصرة . انني اذ اسجل كلمتي هذه في حق الاستاذ الراحل، ليس لي الا ان اقول بأن قاضي الرجع البعيد قد رحل ، ولكن صاحب خزين اللا مرئيات سيبقى حيا لن يموت . وهنا ، لا يسعني الا ان اسدي خالص التعازي القلبية لذويه واصدقائه ، وكل عشاق اعماله من الادباء والمثقفين ، وستبقى ذكرى فؤاد التكرلي باقية على المدى .

www.sayyaraljamil.com

الف ياء ، 17 فبراير 2008

104
الظاهرة المدنية مستعارة والظاهرة الدينية مصنوعة

د. سيّار الجميل
نعم، لم يبقَ من دور للاتجاهات غير الدينية في الحياة العامة العربية! هذه اجابة مختزلة حقيقية عن بقايا اي دور للاتجاهات المدنية بمختلف تياراتها غير الدينية. ولكن لنعلم ان ما قدمته تلك "الاتجاهات" للفكر السياسي والاجتماعي العربيين يبدو كبيرا، ولكنه منفوخ وخيالي وطوباوي مثلته الاحزاب المدنية ولما تزل بقاياها تعيش على ادبيات ومفاهيم مستعارة او مسروقة نظرا الى خوائها من اي برامج ومضامين سياسية حديثة. ان من اكبر اخطائها انها دخلت صراعات مخيفة في ما بينها، لتجد نفسها في النهاية خارج كل من الواقع والتاريخ.
 لقد كانت الايديولوجيات التي استعيرت من مصادر لا علاقة لها بنا سببا في تشبث المجتمع بعاداته وتقاليده باسم التراث مرة وباسم الاصالة مرات، وفجأة وجد المجتمع نفسه في قبضة القوى الدينية التي كانت تسعى للسلطة بشتى الوسائل. بل كانت الولايات المتحدة الاميركية احد ابرز تلك الوسائل التي جعلت التيارات الدينية تهيمن على مقاليد الحياة في عموم الشرق الاوسط!  وعليه، فان الظاهرة المدنية برمتها مستعارة والظاهرة الدينية كلها مصنوعة، وان الوعي لم يستنبط حتى يومنا هذا بأن دول الشرق الاوسط قاطبة كانت ولمّا تزل فاقدة استقلاليتها وارادتها وان الشرق الاوسط برمته كان وسيبقى في رعاية الغرب.
الصراعات السياسية والفكرية
ان الصراع الفكري والسياسي غير المتوازن بين الاحزاب الليبرالية (اليمين) وقابلتها الاحزاب  الشيوعية (اليسار) فيما تبلورت الاحزاب القومية التي مالت ذات اليمين وذات اليسار، وكلها عملت ضد الليبراليين اليمينيين باسم الثورية والاشتراكية، قد سبب شرخا عميقا في التفكير. علما بأن مجتمعاتنا لم تتقّبل الثورة على التقاليد لا بالترغيب ولا بالتهديد. ودخلت في صراعات لا معنى لها ابدا تحت مانشيت صراع اليمين واليسار. 
لم تكن الاحزاب الاصلاحية والقومية وسطا بل انها نادت ايضا بالثورة القومية والاشتراكية العربية والتحرر العربي وتحرير فلسطين من دون برامج علمية، بل من خلال شعارات ايديولوجية. ولكنها وازنت بين المِشيتين لكسب الناس فقالت بالاصالة والمعاصرة او التراث والتقدم. انها بهذه الازدواجية عاشت زمنا ثم انتهت عمليا مع العام 1979، فكان هناك من جاء على اكتافها ليزيحها عن الطريق ويسيطر على المجتمع. لقد تبلورت الاتجاهات الدينية وتفاقمت مخاطرها بسرعة. لقد استمدت الاتجاهات الدينية ترسبات الاتجاهات غير الدينية وبقاياها، فالوعي القاصر والمشوه كانت قد خلقته التيارات المعاصرة نفسها، وهي التي ساعدت على نمو التيارات المتخلفة. كيف؟
رواسب التفكير الايديولوجي
ان التفكير الايديولوجي الذي سيطر على حياتنا منذ خمسين سنة، لم تزل ترسباته راسخة في عقول وضمائر الكثير من المثقفين والسياسيين والاكاديميين العرب، بل وعند العديد من ابناء منطقتنا رسوخا كامنا، وليس باستطاعتهم ابدا التخّلي عنه او التخلص منه برغم كل التحولات التي طرأت على حياتنا كاملة في السنوات العشر الاخيرة. ان حياتنا السياسية في منطقتنا كلها تعيش اليوم فراغا سياسيا وفكريا هائلا بسبب انسحاب تيارين اساسيين فاشلين من الساحة، اي  بمعنى انسحابهما من تفكيرنا وواقعنا:
أولهما: الفكر القومي العربي الذي سيطر على عواطف الناس لمدة 30 سنة (1949 – 1979)، لكي يحّل بدلاً منه الاسلام السياسي الذي سيكمل مع العام 2009، ثلاثين سنة من حياته وسينفرج الوضع عن تفكير مختلف، لا ادري، ربما  سيقود الى مأساة تاريخية وربما سينتج حالة خلاص. ولكننا نجهل طبيعته وعناصره حتى الآن.
اما ثانيهما: فكان يتمّثل بالشيوعية العالمية التي سادت في منطقتنا على مرحلتين: مرحلة التأسيس (1917- 1947) ومرحلة الحرب الباردة التي تبلورت  لما بعد  الحرب العالمية الثانية وحتى العام 1979 مرورا بعهد الوفاق بين المعسكرين. وقد ختم حياته بانهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع تسعينات القرن العشرين. ولم يكن هناك من بدائل الا السيطرة الكابيتالية  (هيمنة الرساميل)  التي تسارعت تاريخيا عن مرحلة الامبريالزم (الهيمنة السياسية). وفي كل من هذه المراحل يعيش العالم الاسلامي برمته (في عالم الجنوب)  في حالة اخفاق لا في حالة صراع. فلا القومية العربية، ولا الشيوعية العالمية، ولا الاسلام السياسي بقادرة منفردة أو معاً على الوقوف امام هذا المارد الجديد الذي غيّر حياتنا.
علينا ألاّ نكابر، ذلك ان عالم الجنوب ليس لديه القدرة على ان يبقى 24 ساعة واقفا على رجليه لوحده من دون عالم الشمال. والاخير يجثم على مصادر الطاقة وثروات الارض ويهيمن على علاقات الانتاج باختراق الشركات ورؤوس الاموال عموم الارض وكل المنتجات والصناعات والاغذية والادوية والادوات والمنتجات والمواصلات وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. الخ  هل ينفع معه ما تبقى لدينا نحن من فضلات ايديولوجية ومن احزاب دينية ومن استعراضات فارغة ومن شعارات طنانة ومن مؤتمرات قومية؟ هل تنفع معه هذه الاساليب المضحكة التي يزاولها القادة وتمارسها النخب (المثقفة) وتؤمن بها المجتمعات  التي تملأها التناقضات؟
العالم في قبضة المارد
 اي فكر نتشدق به باستطاعته ان يقاوم هذا المارد الكاسح الذي يبدو انه قابض على انفاس العالم كله؟ اية حقوق مضاعة على مدى مئة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه؟ اية اهداف واية امنيات واية احلام كتلك التي آمنا بها يمكن تحقيقها بعد ان ضيعنا طرقنا، وشتتنا جهودنا، وقتلنا مشروعاتنا؟ لماذا تعطلت قدراتنا، وتجمدت عقولنا، واصبحنا لا نفهم الا لغة الشتائم والتخوين والتكفير والكراهية والاحقاد؟ من علّم ملايين الناس  هذه الاقانيم السوداء؟ من علمهم الكسل والتواكل والاستسلام للاقدار؟ ان الاتجاهات "المدنية" كانت قد بلورت ذلك قبل "الدينية".
ان زمننا هذا قد خُلق للاذكياء والمبدعين الخلاقين والمكتشفين... وليس للاغبياء والكسالى والمقلدين والمرددين والمتكلسين والهائمين والخياليين والمتحجرّين. ان زمننا الذي يمضى نحو الامام سيصبح غير زمننا. وان المكان الذي نعيش فيه سيكون غير مكاننا(...). 
دعونا منه كي نلتفت الى تياراتنا واهوائنا واتجاهاتنا. مئة سنة مرت ولم تحقق القومية العربية اهدافها. فهل ننتظر مئة سنة اخرى حتى تتحقق تلك الاهداف؟ عشرات بل مئات الاحزاب الدينية الاسلامية ولدت في غضون اقل من ثلاثين سنة اثر ما سمي بـ"الصحوة الدينية"، فهل ننتظر ثلاثين سنة اخرى من اجل ان يحقق الاسلاميون امنياتهم وتصوراتهم ولن تتحقق؟ انتهت الشيوعية العالمية من فوق الارض بعد ان انتحرت ولم تكمل رسالتها. ولم يزل هناك من يصفق لها ويسبّح بحمدها! انتهى بعض الحكام المتوحشين الذين حكموا بالحديد والنار. ولم يزل هناك من يمجد ذكراهم بالرغم من كل ما اقترفوه بحق اوطانهم ومستقبل اجيالهم!

المهم، ماذا نفعل اليوم ازاء العالم كله؟
سيكون الجواب حتما مجرد فوضى كلامية، وشعارات سياسية، واستعراضات انشائية، ومواعظ دينية، ومأثورات تاريخية، وخطابات عاطفية، واشعار وجدانية، ومؤتمرات فكرية، وندوات سياسية، واعلاميات تلفزيونية. وكلها لا تنفع ابدا. اننا ان جمعنا كل مقترحات ومشروعات ومطالبات وتظاهرات الدنيا كلها، فهي لا تساوي قلامة ظفر من قرار يوقعه حاكم من الحكام. او قانون تشرعه سلطة عليا. وعليه، فان النخب العليا في اي مجتمع مطالبة بالضغط على الحكومات من اجل التغيير والتبديل في المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية. وكل ما من شأنه ان يبّدل الدساتير الى مدنية صرفة ويأخذ بالتحولات التاريخية من دون اي طفرة وراثية لا اساس لها من الصحة، ومن دون اي قفزة نوعية واهية، ومن دون أي حرق للمراحل على مستوى الحزب الحاكم. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح حقيقي على العصر بعد ان فشلت الاحزاب الايديولوجية والدينية. مطلوب ان نكون واضحين في مقاصدنا واهدافنا ومنهجنا بعيدا عن اللعب بالتناقضات وعن ازدواجية المعايير وعلينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون واحترام الماضي لا تقديسه بعد الخروج من صوامعه البائسة.
www.sayyaraljamil.com

النهار البيروتية ، 15 فبراير 2008

105
           
ستشرق الشمس في بلاد الشمس


د. سيّار الجميل
 
الارض الكلاسيكية : الجذور الاولى للعالم 
         العراق هو الارض الكلاسيكية كما وصفتها في دراستي لرحلة جوستن بيركنس ، أو الارض الطيبة كما وصفتها في دراسة اخرى .والعراق في جغرافيته المركزية من العالم كله ، هو انتاج لعبقرية المكان الذي سماه الاغريق ببلاد وادي الرافدين .. انه ميزوبوتيميا العريقة جدا بين النهرين العظيمين الأزليين : دجلة والفرات حيث بدأ الإنسان في وجوده وتفكيره واستقراره وتنظيمه .. فلا غرابة ان تكون هذه النقطة او الفجوة المركزية في جيو تاريخية العالم كله بؤرة للتوتر والصراع  ، نظرا لكونها نقطة للتجمع والالتقاء . وعليه ، فان ميزوبوتيميا العراق كانت على امتداد الاحقاب مركزية جاذبة وطاردة لمختلف العناصر والثقافات والمعاني والاشياء .
        هذا هو الرد الطبيعي على الذين يصفون أهل العراق باوصاف سيئة وباطلة وغير صحيحة ، وحاشا أن يكون اهل العراق الاصلاء كذلك .. وهو رد على الذين يتهمون مناخه القاري بشتى النعوت والصفات ، فاذا كان مناخ العراق قد أثر في الامزجة والعواطف والمواقف ، الا أنه منح أصحابه القوة والجلد وخصب التفكير والانشداد والانفة والكبرياء ـ كما يشير الى ذلك اغلب الذين درسوا العراق من مكان بعيد ـ .. وهو رد حقيقي  ـ ايضا ـ على من يقول بأن اللعنة الازلية لاحقت وسوف تلاحق العراقيين دوما على امتداد التاريخ .. لا أبدا ‍! فهم ليسوا من عجينة واحدة ، وهم ليسوا من بيئة جرداء ، وهم ليسوا من ارض خاملة ، وهم ليسوا بلا ثقافات وتواريخ وحضارات ‍، وهم ليسوا بلا تواصل او بلا علاقات او بلا مسالك او بلا ارتباطات !!
النخلة والشمس : الرمز .. التوصيف والمعنى
        أرض السواد من اعالي بلاد الجزيرة الفراتية وجبال كردستان وحتى أعماق البحر جنوبا داكنة الاخضرار ، ويكفي أن ملايين اشجار النخيل قد عرفت منذ عهود السومريين ، وكانت " النخلة " ولم تزل عنوان العراق ورمزه في الوجود ، وهي الشجرة الوحيدة التي بحاجة ان تمد جذورها في الاعماق ، وتعمّر طويلا بسيقانها العالية ، وجدائلها المدورة وفسائلها الجميلة ، لأن العراق غنّّي بثرواته المائية منذ القدم . وان الماء  يجري في الفراتين والزابين وعشرات الانهر والشطوط والبحيرات والاهوار ..
وعليه ، فقد تنوعت الطبيعة العراقية ورسمت لوحاتها على نحو متنوع وغاية في الجمالية والتصوير الخلاق : جبال وسهول وسهوب وهضاب وشواطىء وصحراوات وواحات .. وكانت الشمس العراقية متميزة هي الاخرى بحيث كانت اله عبادة وتقديس عند العراقيين القدماء ، كما وعد شهر تموز شهرا عراقيا تنجذب اليه احداث الحياة والتاريخ المريرة منذ العصور الغابرة . وكانت الشمس ولم تزل رمزا عراقيا للحياة .
البلاد المركزية للثقافة البشرية : 
        انها الارض الكلاسيكية العريقة التي عرفت نفسها لاول مرة في العالم كونها ( بلاد ) في العالمين .. فهي بلاد عرفت استقرار الانسان لأول مرة في وجوده عند ضفاف الانهار المركزية للعالم . وقد اكتشفت فيها الزراعة ، ونشأت فيها أول تجارب اجتماعية ، اذ عمّرت اول قرية فيها  فتطورت اولى التجمعات الانسانية .. بلاد انبثقت فيها أول مدينة ممثلة بأور ، وأول دولة في التاريخ ممثلة بالسومريين الذين عرفوا العجلة والري .. بلاد اكتشفت فيها الكتابة لأول مرة ، ومنها الكتابات المسمارية القديمة التي سجلوا بها تاريخهم الاول .. بلاد اكتشف فيها القانون لأول مرة ممثلا بقانون حمورابي ومسلّته الشهيرة ، بلاد عرفت الثقافة والابداع في النصوص والخطوط والرسوم والطهي والتنظيم والتسلح وفن العلاقات .. بلاد عرفت فيها الموسيقى لاول مرة في التاريخ ، ذلك ان السومريين اول من اكتشف آلة العود بوترين ، بلاد عرفت المكتبات في الوجود ، فكان فيها مكتبة آشوربانيبال بنينوى العاصمة الثالثة الكبرى للاشوريين ، بلاد اكتشف فيها الجيش وتنظيماته الحربية لأول مرة في التاريخ ، بلاد الجنائن المعلقة احدى عجائب الدنيا السبع في بابل ، بلاد عرفت منذ القدم بالملاحم والمدونات والاساطير ، بلاد فيها أول قصة للطوفان التي ترويها ملحمة كلكامش الاسطورية . وهي بلاد امتدت منها اغلب الاديان ، اذ أنبثق فيها أبو الانبياء ابراهيم ، ثم غدت قاعدة مركزية أساسية لانطلاق الاسلام نحو العالم .
المركزية السياسية والحضارية للعالم الاسلامي
 بلاد غدت مركزية من خلال عاصمتها التي اسميت بـ " سيدة البلاد " للعالم الاسلامي برمته ، وعمّرت فيها اطول واغنى حضارة عربية اسلامية ، واستقطبت كل انواع العلوم والاداب والفنون بلاد برز فيها أعتى شعراء العربية وعمالقتها ، بلاد برز فيها أبرز أئمة المذاهب الاسلامية ، ونبت فيها أعظم علماء الكلام والفلسفة والترجمة والمنطق ، وظهرت فيها أعظم مدارس النحو العربي واللغة العربية ، وبلاد انجبت أعظم العمالقة من العلماء والمترجمين العراقيين السريان والعرب والمسلمين ، بلاد استقطبت كبار المؤرخين والجغرافيين والمفسرين والفقهاء والاطباء والرحالة والكتاب والفلكيين والكيميائيين واللغويين والموسيقيين .. بلاد تكاثر فيها عدد الزهاد والمتصوفة في العديد من طرائقهم واساليبهم ومنتجاتهم .
     انها البلاد المركزية للثقافة البشرية الاولى منذ جذور التاريخ القديم ، وانها البلاد المركزية للثقافة العربية والاسلامية على امتداد العصور الوسطى ، وغدت مركزا لكل الخصب والنماء والشمس والماء ولكل الطاقة في الظاهر والباطن ،  وقد انتجت وازهرت على امتداد القرون جملة من الوان الثقافات نظرا لمن تعايش فيها من اصناف الطوائف والمذاهب والديانات والعناصر والملل والنحل والقوميات ،  ولكنها بلاد حلت بها اقسى التحديات والآفات ، ومرت باعتى الكوارث والنكبات ، وتعرضت لاشرس عوامل القهر والحملات والحروب والحصارات ، وعانى الانسان في العراق أقسى أنواع المعاناة ، وما زال يحمل على كاهله ثقل التاريخ وسطوة الجغرافية ولعب السياسات وآثار الحروب الصعبة .
زهرات الامل ستينع قريبا
 اننا ننادي بأن بلادنا بلاد الشمس تعاني اليوم من اقسى التحديات ، وقد اختفت كل الالوان اللامعة وهاجرت الطيور من كل اعشاشها ، ويطوف الحزن والاسى في كل النفوس .. وحّلت الانقسامات والتشظيات في كل ارجاء بلاد وادي الرافدين .. وانتجت كل السياسات البليدة كل الحروب وتوالدت كل الحروب والصراعات .. من يسعى لانقاذ بلادنا من كل الحصارات والاحتلالات ؟ من يزرع الامل ؟ متى يفوح الورد ؟ متى يرحل الغزاة ؟ متى يستعيد القلب نبضاته الحية ؟ متى تزول كل الادران ؟ متى تتبدد كل الاحزان ؟ ليس لهذه البلاد الا ابنائها الاصلاء وبناتها الكريمات .. ان الشمس ستشرق يوما ، وستسطع المنائر والقباب الذهبية من جديد .. وستدق الكنائس كل اجراسها .. وسيفرح العراق يوما !
 
www.sayyaraljamil.com

106
مكابدات تكنولوجيا الاعلام المعاصر


د. سّيار الجميل

ان حقول الاعلام المختلفة في منطقتنا بالكامل ، وخصوصا تلك التي تقدم موادها بالعربية ، باتت فاقدة لتوازنها ليس بفعل السياسات التي تحركها ، بل ايضا بفعل هذا التطور الهائل في الاتصالات وتكنولوجيا الاعلام .. اذ بات الكل مشترك في صنع الكلمة بوسائط متباينة .. لعل اخطرها الانترنيت ومشاركة هذا الكم الهائل من المجهولين في بث الاخطاء وتزييف المعلومات وحجب الحقائق وتهميش الوقائع .. لقد وصل الابتذال الى حدود دنيا من السقوط ، حتى باتت الحقيقة مغيبة في قعر هذا المحيط الذي تنتفي منه المصادر انتفاء كاملا .
كان الاعلام في السابق مؤثرا جدا لمعرفة مصادره وقوة فاعليته في كل الاوساط  وخصوصا الشارع السياسي والبيت السياسي وفي المدرسة والمصنع وكل المؤسسات .. كان  ينقل تعبير المجتمع وكانت الدولة تخشى قوة الكلمة المكتوبة والمذاعة .. اليوم ابتذل الاعلام بفعل هشاشة الكلمة وفجاجة الخطاب واصبح الكل يكتب ما شاء له ان يكتب .. لم يعد المجتمع له الوقت الكافي ليتابع اي قضية او اي ازمة او اية مشكلة اذ غرق المجتمع نفسه في المشاكل !! اما الدولة ، فلم تعد تخشى اي مقال او اي كاتب او اي اذاعة او اي محطة تلفزيونية لأن هناك ما هو اعلامي رسمي او مرتزق او مشترى اصلا .. ضاعت المواقف بين اصحاب الحقيقة وبين المشوهين المفذلكين والمفبركين .. ان الاعلام العربي بقدر ما يصرف عليه من الاموال ، فهو متراجع وكسيح وهو يهتم بالدولة والسلطة اكثر من اهتمامه بالمجتمع والقضايا الشعبية انه يهتم بالفن الرخيص والفنانين والفنانات اكثر من اهتمامه بالعلماء والمفكرين والادباء .. لقد ساهم الاعلام العربي مع كل الاسف في تأجيج الاحقاد والانقسامات وكان سلعة يباع ويسترى من قبل دول ومؤسسات واشخاص لا علاقة لهم ابدا بالكلمة والموقف والخطاب ..
 ان المنطقة بكاملها ، وخصوصا ذلك المجال الذي تتحرك فيه الاعلاميات الهزيلة في الشرق الاوسط ينبغي لها ، بل كان عليها ان تجد البدائل الحقيقية لما ينتشر فيها من منظمات ومؤسسات واجهزة لا تمت بأي صلة الى اي مشروع اعلامي حضاري يمكنه ان يجد مكانه تحت الشمس ، وينافس الثقافات الاعلامية الاخرى في العالم .
مؤسسات باجندة خاصة
      لقد باتت اغلب المؤسسات والاعلامية في منطقتنا والتي تبث وتنشر بلغات مختلفة  لا تفي ومتطلبات هذا العصر ،  وانني عندما اخاطب الاعلامي ومتلقيه بالعربية مثلا ، فان من اللياقة ان احدد خطابي عن مؤسسات اعلامية  باتت لا تفي اليوم بمستلزمات العصر ابدا .. واذا كان بعضها قديم قد تأسس منذ عقود من السنين ، فان بعضها حديث العهد لم يمض على تشكيلة الا بضع سنوات .. واذا كان بعض تلك المؤسسات قد ارتبط بوجه او بآخر مع هذه الحكومة او تلك السلطة ، فان بعضها الاخر كان قد تأسس على ايدي امراء ورؤساء جمهوريات وحكومات ووزراء سابقين .. انني لست ضد ذلك أبدا ، ولكنني ضد الاجندة السياسية التي يفرضها قادة وزعماء ومسؤولون على مؤسسات اعلامية يؤسسونها او تلك التي ترتبط بهم ارتباطا شخصيا في غير بلدانهم ..
ان من اسمى ما يمكن التطلع اليه ، ان يأتي انبثاق المؤسسات الاعلامية في مثل هذا الوقت بالذات من بدايات القرن الواحد والعشرين كي يلبي حاجة أساسية يتطلبها الواقع المرير الذي تمر فيه أوضاع المنطقة كلها ، ولكن السؤال : هل يمكن ان تبقى مثل هذه " المؤسسات " مستقلة " باهدافها ومبادئها واساليبها وخططها ومشروعاتها .. ؟؟ الجواب ": لا ابدا ، بسبب احتدام الصراعات السياسية والايديولوجية والتي زادتها اليوم تفاقم الصراعات المذهبية والطائفية والاثنية والاجتماعية بشكل عام ! انني أعتقد جازما بأن اي تأسيس لمثل هذه " المنظومات " الاعلامية يعد من الانجازات الحضارية التي لابد ان تغدو مثلا رائعا ومتميزا في ريادته لبقية الحقول المهنية الأخرى ، ومن اجل أن يخطو الفضاء الاعلامي خطواته السديدة على درب جديد يرسمه القرن الجديد ، خلاصا من استمرارية الآليات العقيمة والأساليب الدوغمائية التي تتمثلها الاجهزة الرسمية القديمة المتحجرة التي كانت قد انبثقت في عقود القرن الماضي ، ولأسباب أيديولوجية وعوامل سياسية أو سلطوية كما ألفتها الحياة على امتداد نصف قرن !
 مكابدات الدولة والمجتمع معا
      ..  دعوني اسجل لكم جميعا هذه المكابدات والملاحظات التي تتضمن نقدات ومقترحات وفتح صفحات جديدة من اجل خدمة العمل الجماعي للثقافة الاعلامية التي يعاني منها كل من الدولة والمجتمع ، وخصوصا من الوسائل الجديدة ( الفضائيات المرئية والمواقع الالكترونية ) :
  1/   ان مجرد فتح المجال للصحافة والاعلام ( باسم الحريات والديمقراطية ) والقاء التهم وتبادل التراشق بالاسماء في مسائل متنوعة ربما لا علاقة لها بأي موضوع ، يعد من جملة الاخطاء او الخطايا التي يرتكبها مجهولون من دون اي شعور بالذنب ولا اي اسلوب في التعايش مع اية مصاعب ولا اية استجابة لأي تحديات.. ليس بسبب فتح جروح لا تندمل بسرعة ، بل بسبب نيل شخص معين او مؤسسة بذاتها او مسؤول او اسم من الاسماء .. ان ما تشهده مواقع الكترونية تفتح التعليقات امام كل من هبّ ودب ليعلن عن شتائمه وعن سبابه وعن سقطاته او انفعالاته .. وباقلام منها من نعرفه ومنها من لا نعرفه .. ان هذه الاساءات يعاقب عليها القانون في اي مجتمع متمدن يلتزم بالاعراف الديمقراطية ويعمل ضمن سقف القانون والاعراف الاخلاقية ..
 2/      ان الديمقراطية لا تعني فتح الابواب امام التشهير والقذف العلني والاساءات البالغة .. والتي وجدت لها بيئة خصبة لدى المجتمعات في السنوات الاخيرة .. اننا قد نختلف سياسيا وثقافيا وفكريا مع بعضنا البعض الاخر ، ولكن ليس ثمة ما يفقدنا اي احترام متبادل بين اثنين او اكثر فسريعا ما ينتقل التباين النقابي او المؤسسي الى اختلاف سياسي وفكري ، ومن ثّم الى خلاف سجالي ، وبعدئذ يجر الى مهاترات شخصية وشتائم تصل الى حد كسر العظام وتهشيم السمعة .. وكل هذا وذاك ليس له اي وازع اخلاقي ولا اي مبرر موضوعي ولا اي  مسوغ حقيقي من قبل اناس لهم مواقفهم السياسية او الشخصية المضادة . وهنا الوم كل من يفقد اعصابه فيجعل مؤسستنا الاعلامية مادة دسمة للاستلاب .
 3/    لقد كانت الخلافات الثقافية والادبية والفكرية والسياسية والاعلامية في مجتمعاتنا وحياتنا  سابقا تدور بين اثنين او بين جماعتين او بين مؤسستين أو بين حزبين او بين جريدتين او بين طرفين اثنين .. وربما تنحصر بين الجدران او في المكاتب او في القاعات او اروقة الجامعات او حتى ان نشرت فتبقى في اطار محلي ضيق وربما تخرج على الملأ في صحافة وطنية او اهلية معروفة وقد عشنا وشفنا معارك سياسية وادبية وفكرية بين ادباء وشعراء ومفكرين وساسة تعرف كل اسمائهم  وتدرك جل عناوينهم على صفحات جرائد او مجلات مسجّلة ضمن قانون مطبوعات اي دولة .. وربما  لا يتجاوز احدهم الاخر بسبب نصوص القانون اولا وبسبب قيود الصحافة ثانيا ، وبسبب قانون المطبوعات ثالثا ..
4/    اما اليوم ، فلقد دخلنا مناطق محظورة وجد خطيرة لا يمكن للمرء معرفة من يشتمه ويسّبه ويقلل من قدره ، او ان يدرك ما الخطأ الذي جناه ، ولا يمكنه ايضا ان يرد التهم التي تلصق به ، اذ انها تتنزّل عليك من اناس تجهلهم ، ومن خصوم لا تعرف اسماءهم ، بل من اناس لم يعرفوك ولم تعرفهم ابدا .. كما ليس باستطاعتك الوصول اليهم ورفع الدعاوى ضدهم ، او محاسبتهم او مجادلتهم كي يتم الاعتذار منك او منهم علنا ..  بل ولا يمكن لأي من المعتدى عليه ان يعرف متى تأتيه السباب والشتائم وهو في غفلة او سفرة او حتى ان قضى ورحل عن الحياة .. خصوصا وان ارقى آليات الاتصال وتكنولوجيا المعلومات قد وجدت نفسها في مجتمعات متخلفة غارقة في الوحل والطين ، او انها تتحرك ضمن بيئات متوحشة تتشكل فيها جوقات من اناس تتنوع ليس افكارهم وابداعاتهم ، بل تتعدد سيئاتهم وانعدام اخلاقياتهم .. ومن المؤسف ان تفتح القنوات على مصاريعها من قبل بعض المواقع العربية لتصبح ادوات تشهير وقذف باسم الديمقراطية ، وكأن الديمقراطية لا يمارسها الا انصاف المثقفين والجهلاء والرعاع ضد المثقفين بعيدا عن نقد ممارسات القادة والزعماء وما يقترفه عدد كبير من السياسيين والاعلاميين من آثام وجرائم  ؟

www.sayyaraljamil.com
الف ياء ، 3 فبراير 2008

107
الموصل في اعناقكم جميعا 
مجرد اسئلة موجّهة الى المسؤولين الامريكيين والعراقيين

أ.د. سيّار الجميل
قرأت قبل قليل في جريدة الصباح البغدادية الغراء الصادرة في 30 يناير / كانون الثاني 2008 نبأ حملة عسكرية لتطهير مدينة الموصل من الارهاب ، ولا ادري ما الخطط المتخذة لهذه الحملة التي اخشى ان تكّلف الناس ثمنا غاليا من دمائهم الزكية وتشتّتهم وتهّجرهم الى المجهول . انني اذ اكتب خطابي هذا ، فانني اترجم مئات الرسائل والنداءات التي وصلتني من اهالي الموصل ، مدينة ومحافظة من اجل وضع حد للمأساة القاتلة التي يعيشونها ، وتحسّبا من اي خطط او اخطاء قد ترتكب بحق الابرياء .
لقد كانت الموصل ولم تزل ، تعاني من فقدان الامن والاستقرار لاسباب سياسية داخلية وخارجية .. وكلنا يعلم الوضع المتوتر الذي تعيشه الموصل ولواحقها من الاقضية والنواحي .. وكلنا يدرك حالة التعتيم الاعلامي المسيطرة على الاوضاع هناك منذ أمد طويل .. وكلنا يعلم حالة الرعب التي يعيشها سكان المدينة ولواحقها جميعا منذ العام 2004 ومرورا باصدار الدستور الدائم الذي وّلد المزيد من الاحتقانات التي توقعنا حدوثها وحذرنا منها في حزيران / يونيو 2005 من دون ان يسمعنا أحد .. وكلنا يعلم الخلل الذي حدث في كل فرص الانتخابات السابقة بسبب الارهاب المطبق على المدينة ، فاختل وضع قيادة المدينة والمحافظة بشكل عام ازاء الواقع السكاني .. خصوصا اذا ما علمنا بأن المدينة يقطنها اكثر من مليوني انسان غالبيتهم من العرب ، فهي ثاني مدينة عراقية بعد العاصمة بغداد من الناحية السكانية .. كما اننا نعلم بأن مجتمعها هو موزاييك متنوع من السكان ،  فان كانت بغداد قد ابتليت بالانقسامات الطائفية ، وان البصرة الفيحاء قد ابتليت بالصراعات المحلية حول اهميتها الاستراتيجية من خلال شط العرب وتربص ايران بها ، فان الموصل الحدباء قد ابتليت بالتوترات العنصرية والتباينات العرقية وخصوصا بين العرب والاكراد هذه الايام . واذا كانت اساليب مجالس الصحوة ـ كما اسميت ـ قد نجحت في تهدئة الاوضاع قليلا في وسط العراق وغربه ، فان ذلك لم يأت الا من خلال تعاون ابناء المناطق والمدن .. ونحن نعلم بأن كل الحملات العسكرية الظالمة الامريكية والحكومية قد فشلت في تكريس الامن والاستقرار في مناطق عديدة من البلاد . فهل ستنجح مثل هذه الحملة العسكرية على الموصل ؟
لقد عاشت الموصل سلسلة احداث ارهاب مرعبة منذ اربع سنوات منها ما عرفه العالم ومنها ما لم يعرفه احد، والتي قادت الى هجرة الالاف المؤلفة من ابنائها مسلمين ومسيحيين الى المجهول . وكان الانفجار الهائل الذي حدث قبل ايام في منطقة الزنجيلي بالموصل حدثا مرعبا حقا ، ولم يأخذ حتى الان اي ابعاد اعلامية قوية حتى من قبل العراقيين انفسهم ، بل وان هناك مفارقات واسعة في قول الحقيقة ونقل صدقية ما حدث في اسبابه ونتائجه ، فالروايات مختلفة بين ما هو رسمي وما هو شعبي ، وقد سمعنا بأن السيد وزير الدفاع قد شخّص عدة عوامل واخطاء .. وهنا نسأل: هل من الصواب ان يخفي اي عراقي حقيقة ما حدث لاغراض سياسية ؟ هل من المعقول ان تفجّر عمارة كاملة بطوابقها التي حشيت ببراميل البارود ؟ ومن أتى بهذه المتفجرات ؟ ومن هو المسؤول عن هذا التفجير؟ ان كانت هناك قاعدة من تكفيريين ارهابيين لهم مسؤوليتهم ، فينبغي محاربتهم واجتثاثهم وقطع دابرهم ،ولكن من فجّر المكان على رؤوس الناس ؟ ان من صنع ذلك ينبغي ان يحاسب ويعاقب .اننا لا نقبل ان تكون الموصل حلقة مقايضة ضمن مضاربات ومساومات سياسية بين الكتل والجماعات السياسية ، وان الثمن ابادة وترويعا سيدفعه اهلها غاليا جدا لا قدر الله .
وعليه ، هل كانت العمارة ملاذا للارهابيين ومن اعضاء القاعدة كما صورها الاعلام الرسمي العراقي ؟ ثم ان كانت كذلك: لماذا فجّرت بهذه الطريقة المرعبة ؟ وان كان القرار قد اتخذ لتفجير العمارة .. فما مسؤولية الجيش والمحافظ وبمعيتهما الامريكان عن ذلك ؟ واذا قلنا الجيش ، فمن مَن يتكون هذا الجيش .. ان السكان يتهمون الجيش بهذا التفجير ، ويقولون انه يتألف من قوات البيشمركة رفقة الامريكان . فما صحة ما يقولون مقارنة بما قاله السيد رئيس الوزراء ؟
اسئلة اخرى لابد من طرحها على بساط البحث عن الحقائق : من يفرض التعتيم الاعلامي على الموصل ؟ من يقتل الصحفيين في الموصل ؟ من له مصلحة في اثارة كل هذا الرعب ؟ وكلنا يتذكر حالة الرعب التي اجتاحت الموصل بسبب التخوف من انهيار سد الموصل قبل ثلاثة اشهر بالضبط .. وأسأل : من قتل مدير شرطة الموصل بعد حادث التفجير بيوم واحد ؟ علما بأنه رفض قبل ذلك الاجتماع بالمجلس المحلي كونه لم يجد فيه عربيا واحدا  ـ كما يقول اقرب المقربين اليه ـ ؟ ونسأل : اذا كانت منطقة الزنجيلي من المناطق الفقيرة التي يسكنها فقراء المدينة وهي ساخطة على الوضع سخطا كبيرا ، فهل يعقل ان تفجّر بهذه الطريقة ؟ وهل من العقل ان تزدحم العمارة بمئات البراميل من المتفجّرات ؟ من جلبها ؟ واذا كنتم فعلا تريدون تفجير بناية تدركون كم بها من المتفجرات قدرّها البعض بتأثير قنبلة نووية صغرى ، فلماذا لم تُخرجوا الناس عنوة من البيوت وتبعدوهم عن الكارثة ؟ من يتحمّل هذه المسؤولية باتخاذ القرارات الحمقاء سواء كنتم تقصدونها ام لم تقصدونها ؟
اذا كان السيد المحافظ قد فشل في عدة مهام ادارية في ادارة المحافظة ؟ لماذا لا يحلّ بدله أي اداري آخر ؟ من الذي له مصلحة ببقاء هذا المحافظ على رأس سلطة لم يتمتع بها اصلا ؟ لماذا بقي كل الكادر الاداري من دون اي علاج لاحوال المدينة ؟ وأسأل : من قتل المحافظ السابق وهو في طريقه الى بغداد ؟ وما هي نتائج التحقيقات حول ذلك الحدث وغيره من الاحداث ؟ وأسأل ايضا : اين هي منظمات المجتمع المدني في الموصل ؟ في مثل هذه المحنة لابد ان تكون شاخصة لتساعد الناس في مأساتهم التي لا يمكن وصفها ؟ هل يعقل ان تبقى حتى هذه اللحظة وبعد مرور ايام على الحدث ، تحت ركام الانقاض اجساد الاطفال والنساء والشيوخ وكل من اطبقت الاسقف والحيطان على رؤوسهم ؟ لماذا بقي الجيش يحاصر المكان من دون ان يسمح للناس رفع جثث الموتى وانقاذ الجرحى ؟ لماذا لم تسعف الناس بسرعة ؟ لماذا كل هذا البطء الذي ذهب ضحيته مئات النازفين والجرحى والمحصورين تحت الانقاض ؟ لماذا هناك اختلاف رسمي وشعبي عن اعداد الضحايا ؟ اذا كان المحافظ ونائبه لا يعرفان ما ستقود اليه هذه الكارثة من تداعيات ، فمن الاجدر ان تجد المدينة افضل منهما لادارة المحافظة ..
ان المأساة اكبر من ان توصف كما اُعلمني العديد من الاصدقاء في داخل العراق وخارجه .. ولكن لم نسمع ابدا الا القليل من الاخبار عنها . انني اسأل: اين النداءات الواجب ان ترفع وتستصرخ من خلالها الضمائر الانسانية ؟ اين اولئك الكتبة من العراقيين الذين يكتبون حسب اجندات سياسية معينة ؟ الم يسمعوا ما يحدث في الموصل ؟ اين اولئك الذين ازدوجت معاييرهم بين عراقيين وعراقيين من نوع آخر؟ اين القنوات الفضائية التي يستوجب ان تنقل الصورة كما هي على الارض ؟ من يمنع كل هذا وذاك من التعريف بحجم الكارثة ؟ اين اولئك الذين انتخبهم الناس في الموصل من الحزب الاسلامي والموصل تغرق في كارثة ؟ ماذا يفعلون في العاصمة الاردنية عمّان وهم ممن وثق بهم الناس فانتخبوهم ؟ اذا كانوا يخافون ، فلماذا لم يستقيلوا من مهامهم ؟ لماذا بقي واحد او اثنان فقط يدافعان عن الموصل في محنتها التاريخية اليوم ؟ وأسأل قيادات كل من جبهة التوافق والقائمة العراقية عّما فعلوه في حل مشكلات الموصل السياسية والامنية بعد ان اعطى اهل الموصل اغلب اصواتهم الى القوتين السياسيتين الاثنتين ؟
وأسأل السيد رئيس الوزراء : انك تعرف بأن الموصل تعيش مأساة أمنية منذ العام 2004 وزادتها تعقيدا مأساة سياسية منذ العام 2005 ، فماذا فعلتم لها ؟ هل غدت مشروع صفقة سياسية للاطراف الحاكمة ؟ هل تعتقدون ان الاحتقان الاجتماعي والسياسي لاسباب عرقية كالذي تعيشه المدينة واطرافها هو بسبب وجود القاعدة ؟ فالاخيرة لا علاقة لها بمشكلات قائمة اصلا .. وبالامكان اجتثاث القاعدة بنفس الوسيلة التي اجتثت فيها من غربي العراق .. ولكن ان كنتم تعتقدون ان ارسال الجيش سيخلص الموصل من المأساة، واتمنى ذلك ، ولكنني اخشى الاحتدام العرقي ونتائجه ! لقد جرّبت الحكومة والجيش الامريكي حظهما في مناطق عراقية اخرى ، ولم ينفع مثل هذا العلاج ، فكيف بالموصل ولواحقها ؟ وللعلم ، فان الموصل ترفض الاحتلال وترفض اية قوة غير محلية  تحكمها ..
ان الموصل ولواحقها من اخطر بيئات العراق السياسية بحكم عوامل معقدة وكثيرة ، وهي بحاجة ماسة الى نزع فتيل الصراع العرقي قبل كل شئ وباساليب وطنية .. وعليه ، فلا حل لمشكلة الموصل واطرافها ، الا من خلال ما تسمونه بالصحوة على ايدي ابنائها الحقيقيين . وهنا اسأل : لماذا لم توافق بعض القيادات الكردية على فكرة الصحوة وتطبيقها في الموصل ؟ حاولوا الاجابة على هذا السؤال .. كي نضع كل الامور في نصابها .. قبل ان تتحّول المدينة الى كرة من اللهب ـ لا سمح الله ـ . ان الموصل مدينة ومحافظة لا يمكن ان تستقر الا اذا حّل مجلس المحافظة واعيدت التوازنات من جديد من النواحي السياسية والادارية وعلى اسس واقعية وباشراف دولي ، فضلا عن الاعتماد على الاهالي في تطهير المدينة من الارهاب ، وان يرافقهم جهاز امني وكادر اعلامي ينقل الاحداث الى العالم ، فضلا عن تشكيلات من مجتمع مدني ..
سيبارك اهل الموصل ـ كما اعتقد ـ اية خطوات تساعدهم لفرض الامن والاستقرار في مدينتهم ومحافظتهم وعلى اسس وطنية وتشريعية عادلة ، ولكن حذار من استخدام هذه " الحملة " العسكرية ضد ابناء الموصل وابناء مدن واقضية وقصبات اخرى .. انني اناشد المسؤولين الامريكيين والعراقيين ان يجدوا اية حلول سياسية ويطبقوا أية معالجات ادارية قبل استخدام الجيش في الشوارع والازقة كي لا يموت الابرياء .. على الحكومة العراقية ان تدرك اين مكامن الارهاب وان تعالج بحزم اخطاء اقترفت رسميا بحق الموصل من قبل قوى عديدة لها مصالح سياسية .. متمنيا من الله ان يجنب الموصل واي شبر من ارض العراق اية كوارث ومآس .. فلقد تعبت الناس وهي تتطلع الى مستقبل آمن ومستقر ومتعايش بعيدا عن كل الصراعات والالام . اننا نهدف من هذا النداء الجانب الانساني لارواح الناس وممتلكاتهم ، وان الامن يتحقق اذا اعيدت التوازنات من جديد ، وتنوقف قوات الاحتلال ومن يعاونها عن التفجير والتنكيل بالابرياء .. وانهاء الارهاب بكل اشكاله وجماعاته وميليشياته بكل الوسائل الوطنية والاهلية المتاحة .. متمنيا للعراق كله الامن والاستقرار وان تفتح صفحة جديدة بعد طي كل الصفحات السوداء التي مرت على البلاد .
نشرت على موقع الدكتور سّيار الجميل لأول مرة
www.sayyaraljamil.com

108

ضرورات العراق لاستراتيجية جديدة


د. سيّار الجَميل

دعوني أسأل واجيب : كيف نعيد التفكير ببناء العراق مستقبلا ؟ اذ لا يمكن ابدا ان يبقى هكذا على حاله لخمس سنوات اخرى ..  ولا يمكن لكل القوى السياسية ان تبقي اجندتها من دون اي تغيير ، وبلا  فرز للمبادئ عن المصالح ؟ لا يمكن ان تبقى الاوراق مخلوطة وبمشيئة امريكية صرفة ..  وينبغي للوعي بالمستقبل ان يستفيق من غيبوبته .. فالتغيير مسألة حضارية ولا يمكنها ان تبقى سياسية ، والسياسة العراقية  ترمومتر للمجتمع بيد قوى لا يمكنها ان تبقى مهترئة لخمس سنوات قادمة  .. ان العام 2008 سيحمل اثقالا اخرى وسط دوامة الاعصار الذي شل حياة المجتمع وحركته . فالتغيير لابد ان يجد البدائل الحقيقية لاعادة البناء .. لقد اعتمد على بدائل هشة لم تصلح له ابدا وقد عولجت ضمن اجندة عدم الاستقرار وتبلور الاهواء المتصارعة والارادات الجديدة التي لم يصلح بعضها  للحكم أبدا كما لم يصلح بعضها الاخر للمعارضة ابدا ..

ان الاستقرار السياسي والامن الاجتماعي لا يمكنهما ان يسودا بالحديد والنار والدم ، وكذلك لا يمكن شرائهما بالمال والسلاح من ميليشيات حزبيين او اناس قبليين او مرتزقة طفيليين .. ان اي دولة تحترم نفسها لا يمكنها ان تعيش بلا قانون يحمي حدود وطنها ، ويؤمن على مؤسساتها ويدافع عن مجتمعها .. والقانون لا يسود بلا قوة عسكرية او قوة بوليسية .. ان مجرد وجود مليشيات دينية او غيرها في العراق ، هو مدعاة للصراع والتمزق بين القوى السياسية ، فكيف اذا اصبحت بين القوميات والعشائر ؟ انه احياء للاهواء والعصبيات وما تنتجه من امراض طائفية وعرقية وفئوية وتحزبات دينية ومحليات .

ان هندسة العراق الاجتماعية ان لم  يكن من ورائها عقل عراقي مدبر وارادة وطنية صرفة ، فستبقى  الحالة غير مستقرة وغير آمنة وسيبقى العراق يزدحم بالصراعات وتهديدات الجيران .. ان الانطلاق من الاسلوب الذي رسمه الامريكيون اعتمادا على محاصصة المكونات الطائفية والعرقية هو اسلوب خاطئ في عملية التغيير والبناء .. ونحن نرى منذ قرابة خمس سنوات ، كيف طفحت المكبوتات وانفضحت المخفيات . ان الامور لا يمكنها ان تتصّفى من تلقائها من دون اي حساب للتفكك الداخلي وللتدخل الاقليمي .

ان التعايش السلمي لا يؤسس سريعا ، فالعراقيون بأمس الحاجة اليوم الى نسق تفكير جديد يلتزمه مسؤولون اكفاء يبتعدون تماما عن اي نزعة طائفية ، وعن اي اثارة انقسامية .. اذكياء يدركون وسائل التعامل والخطاب مع المحتل .. ويترجمون عوامل التجانس والالتقاء بديلا عن هوس الاختلافات والتباينات ..  ويتدرجون في معالجة المشكلات خطوة خطوة ، ولا يمكنهم ممالئة الحزب والطائفة والاثنية على حساب الجميع ..  ولا يخلطون الاوراق هروبا ، ونريدهم يبتعدون عن الفساد والاختلاسات وسرقة المال والارض والانسان ..

ان العراقيين بأمس الحاجة الى الايمان بمبدأ الشراكة ، وابعاد كل من يستغل الاحقاد الاجتماعية ادوات للحكم .. وتطال المسؤولية ايضا كل الاعلاميين العراقيين وقدرتهم في ترجمة ضرورات المستقبل باستراتيجية متفق عليها لمعالجة الجراح لا التنكؤ لها .. اعلام له وطنيته وموضوعيته وحياديته وشفافيته في كشف كل الاخطاء وادانة كل الفاسدين وعدم استخدام الماضي للاخذ بالثارات او التنطع بالمفاخرات .. ان الاعلاميات اليوم آلية مدمرة للعراق سواء كان منطلقة من الداخل او من الخارج ..
واخيرا : هل يمكننا ان نجد تغييرا عراقيا حقيقيا نحو الافضل  ؟ هذا ما ستجيب عنه الايام القادمة !

مجلة الاسبوعية ، يناير 2008
www.sayyaraljamil.com

109
متغيرات القوة في الشرق الاوسط
د. سّيار الجميل
لا تتأثر القوى الكبرى بخسائرها ، اذ انها تستوعبها من اجل الابقاء على استراتيجياتها ، ولها النفس الطويل والقدرة على تعويض كل المفقودات باكثر الخطط تكتيكا بطيئا ، ولكنها بالضرورة ستعالج كل الضرورات. وكلما يتقدم الزمن نحو الامام تزداد قدرة القوى الكبرى على ممارسة اقسى الاختراقات الاجتماعية لفرض هيمنتها . ان سقوط القوى الكبرى في التاريخ لم يأت من خلال تجارب احادية لنظام هذا الطرف او ذاك .. هذا الحزب او ذاك .. هذا الزعيم ام ذاك ، بل لأنها فقدت قوتها ، ولم تعد خططها قابلة للحياة ، بل ولم تعد امكاناتها تصل الى صناعة استراتيجيات معينة . لقد كان سقوط الاتحاد السوفييتي ، وهو في حالة سلم مثلا حيا وقريبا على اخفاق قوة كبرى في ادارة متغيراتها الصعبة في العالم ، انه لم يهزم نوويا او نالته الضربة القاضية كما سقطت قوة صغرى كالعراق في ساحة الحرب ، بل لأنه مصارع كبير ، فقد آثر ان ينسحب ويتفكك من دون ان يشعل حربا نووية شاملة .
ان القوى الكبرى ربما تلحق بها هزائم وضربات قاسية ، لكنها قادرة على ان تمتصها من اجل ان تبقى ساعية من اجل مصالحها والمخطط له لسنوات قادمة .. لقد نجحت اميركا باستيعاب هزيمتها في فيتنام ( مع 50 الف قتيل ) من اجل هدف أكبر لها في الصراع ابان الحرب الباردة ، فكان سقوط الاتحاد السوفييتي بالنسبة لها من اكبر الانتصارات .. وكان السباق التكنولوجي والاقتصادي بينها وبين اليابان قد صعد منذ عشرين سنة ، فاستوعبته لصالح السيطرة على اكبر الموارد الطبيعية .. وكيسنجر دوما يردد قولته: ان اميركا تربح حروبها بفضل الموارد  التي لا تنضب ، وليس بفضل الاستراتيجيات المتقدمة . فما دام هناك هدف فلا تهم الانفاقات ولا الخسائر  ، فهناك من يسد العجز ، ولكن في الآجل وليس في العاجل ، فتعمل بالمدى الطويل لا القصير .. ان اميركا لها القدرة بتحمل تكاليف الحرب على الارهاب لتنفق ما يقارب التريليون من الدولارات ، مقابل مئة مليار دولار خسرتها في كارثة 11 سبتمبر ،  ولمّا تزل مندفعة باتجاه القضاء على الارهاب ، وهذا ما لم تمر به اي دولة او قوة كبرى في التاريخ ..
ان اميركا قد خسرت الحرب في العراق على المدى القصير العاجل ، ولكنها تعتقد انها منتصرة لما سيحصل على المدى الطويل الآجل . ان كل ما طبقته في العراق سيئا ورديئا ، وهو بالتأكيد يدلنا دلالات عميقة على ان استراتيجيتها في العراق والمنطقة ليست آنية ، بل انها تكون محبطة وفاشلة ومتعثرة .. ولكن الرهانات تقدر كسبها في نهاية المطاف . وهي بين هذا وذاك تشعر بأن اي شارع سياسي في هذا العالنم معها .. وان ثمة شوارع كانت تعرف الهياج وثمة قوى مضادة كانت تعارض وتنادي .. ولكنها اليوم باتت صامتة صمت ابي الهول ! 
السؤال : هل يمكن بعد اليوم ان يطمئن الوعي السياسي العربي الى مشروعات مثل الشرق الاوسط الجديد او الكبير ؟ هل يطمئن للصيغة المشوهة من الديمقراطية التي تنادي اميركا بها .. ؟؟ لماذا تعترف القوة الكبرى باخطائها ، من دون اي حلول جذرية لها ؟ لماذا كل هذه الخسائر  وهي مصّرة على اكمال الصراع لبلوغ اهدافها ـ كما يقول الرئيس بوش ـ ؟  الم تجد الولايات المتحدة ان ثرواتها تتبدد ؟ الم تشعر بأن القوة لها حدود في حماية الثروة ؟ الا تجد الصين مثلا ساعية ليل نهار من اجل تأمين الثروة كي تغدو نّدا مستقبليا لها ؟ انها لا تخشى من ان يكون الشرق الاوسط اسلاميا او غير ذلك ، بقدر ما يهمها سيرورة مصالحها حاليا ومستقبليا .. ان اي قوة في العالم لا يهمها ان كان العراق مستنقعا آسنا او حديقة غنّاء ما دام تأثيرها موجود وفعّال لسنوات قادمة خصوصا اذا كان مصدرا اساسيا للطاقة يحتاجه كل العالم .. وهل ستكون أي منطقة في العالم آمنة ومستقرة في ظل متغيرات الهيمنة حتى تصبح في يوم من الايام جنة من الجنان ؟
ان خوفنا نحن ابناء هذه المنطقة ينبغي ان يرّكز في اتقاء متغيرات القوة وضربات التفكيك .. ان هواجسنا ينبغي ان تعمل من اجل ممانعة اي تجربة مماثلة كتلك التي يعيشها العراق. ولعل من اسوأ ما تعانيه شعوب المنطقة اجمعها ، حالة الصمت المطبق على كل شارع وزقاق مقارنة بما كان عليه الوضع ايام ثنائية الاستقطاب قبل اربعين سنة . انني  لست مع حالة الصمت واليأس المطبق على مجتمعاتنا ، بل لا نقبل ان نكون كما كنا في الماضي ، نلوك الشعارات ونذبح حناجرنا ونردد هتافاتنا .. ولكن من طرف آخر ، هل يمكننا السكوت على ما يجري من العراق ؟ هل يمكننا التزام الصمت عما يجري في غزة ؟ هل يمكننا ان نبقى عاجزين عما يجري في لبنان ؟ هل لم تعد تهمنا الا التفاهات بحيث لا ندري ما يجري في الجزائر ؟ هل من صالح مجتمعاتنا قاطبة ان تغرق في اليأس والقنوط ، او ان تختار العزلة والصمت ؟ هل من الجائز ان نتقّبل كل ما تفرضه متغيرات القوة الاعظم بلا مساءلة او استفهام ؟ هل نقبل بأية مشروعات دولية او اقليمية من دون اية معارضة ولا اي مدركات بالمخاطر والسلبيات ؟ هل تنحصر المشكلة بمنطق الحلول العسكرية والميليشيات ، ام يمكن حّلها سياسيا ؟ هل نتقّبل عن غباء تحالفات تقيمها القوة الاعظم او تشهد انقسامات في مجتمعات مؤهلة للتفكك والتشظّي ؟ هل نتقّبل اثارة النعرات والحساسيات الطائفية والجهوية والعشائرية والعصبيات ؟ كلها اسئلة ينبغي التفكير فيها ونحن امام زمن قادم مشحون بالمتغيرات الصعبة !
البيان الاماراتية ، 30 يناير 2008
www.sayyaraljamil.com

110
عبد الباسط يونس
 ذكرى صحفي من طراز خاص

أ. د. سّيار الجميل

الذكرى الثامنة : رحيل رجل المهام الصعبة
مرّت في العشرين من شهر يناير / كانون الثاني 2008 الذكرى الثامنة على رحيل الاستاذ عبد الباسط يونس ، الاديب والصحفي ، ابن الموصل الحدباء ، ام الربيعين ، وهو من جيل رواد ما بعد الحرب العالمية الثانية ، اذ كان قد ولد في الموصل عام 1928 ودرس ونشأ فيها ، وأحبها حّبا جمّا ، وكان قد غدا واحدا من ابرز شخصياتها الصحفية والاعلامية .. واسمه الكامل : عبد الباسط يونس رجب حسين البدراني كانت ولادته بالموصل ، وبحكم وظيفة والده كواحد من قدماء ضباط الجيش العراقي ، فقد انتقل الى بغداد وعاش طفولته في الاعظمية .. لكنه عاد الى الموصل ، وعرف عنه منذ شبابه قيادته للمظاهرات في شوارع الموصل .. وكان جريئا وشجاعا في قول ما يريد . وفي العشرين من عمره ، اي في العام 1948 ، واثناء المظاهرات ضد معاهدة بورتسموت اعتلى الصندوق الحديدي الاحمر للبريد في شارع نينوى وعند مدخل شارع النجفي ، وصاح في المتظاهرين بصوته الجهوري: يسقط اكبر رأس في العراق ، فأحيل الى المحكمة واعتقل .
ولم يثنه ذاك عن نضاله الذي عرف به بين رفاقه ، اذ تعّرض لمرات عدة للمداهمة والاعتقال والاحكام العرفية. حدثّنى عن اعتقاله اثر احداث الشواف في الموصل عام 1959 ، ووقوفه امام المهداوي ، وكان صريحا وجريئا ، ولقد بقي في الحبس فترة ليست بالقصيرة من الزمن ! .. علما بأن دورا كان مسندا له في تلك الاحداث الخطيرة .. لقد وجدته بعد سنين وهو يقصّ علينا احسن قصصه يتنّدر على تلك المواقف ، ويقول معلقا : لقد ارْتكبَتْ اخطاء جسيمة بحق العراق ، فلقد ناضلنا وكافحنا طويلا من اجل اهداف مثالية لا يمكن تحقيقها .. كان شجاعا صلبا في الدفاع عن آرائه ولا يخشى في الحق لومة لائم  وكانت له صولاته وجولاته السياسية .. لم ينتم الى اي حزب من الاحزاب ، ولكنه كان يعّبر عن روح وطنية ، وقد تأثّر بحكم واقعه السياسي والاجتماعي والثقافي بالافكار القومية حينا .. لكنه تخّلى مع الايام عن عدة افكار كان يؤمن بها في الماضي . لقد كان في الثلاثين سنة الاولى من حياته مشاركا في الاحداث والمواقف .. ولكنه بدا في الثلاثين سنة الثانية على غير ما كان عليه !

المزايا الرائعة 
ان انشغاله في القضايا الوطنية قد اضاع عليه فرصة اكمال تعليمه .. ولكنه منذ مطلع شبابه كان قارئا نهما يعشق الكتب ، وقد روى لي انه كان يمضي الساعات الطوال وهو يتعب على تكوين ثقافته ، وفعلا كانت ثقافته واسعة لا يبارى احد فيها .. ولقد كانت الصحافة عشيقته ، اذ كان في بداياته يراسل عدة صحف ومجلات في العراق ومصر ، ونشر عدة مقالات .. ولما وجد عوده قد اكتمل وان صوته ينبغي ان يصل الى كل العالم ، نجح في تأسيس مطبعة الهدف الكائنة في شارع نينوى ، وقبالة شارع غازي ، والتي طبع فيها العديد من الكتب المهمة لمؤلفين معروفين .. واصدر عبد الباسط يونس العديد من الصحف الرصينة التي نشر فيها عدد من الادباء والكتّاب العراقيين والعرب .. وكانت له مقالته الاسبوعية السياسية وافتتاحياته الجريئة التي تلهب العواطف وتتناقلها الايدي ، وهي تنال بسياط لا تعرف المهادنة رئيس الحكومة والوزراء ابان العهد الملكي .. نعم ، لقد اصدر في الخمسينيات والستينيات ( حتى انقلاب تموز 1968 ) عدة صحف محلية في الموصل ، كانت اشهرها : وحي القلم والاساس والمثال والعاصفة والراية والهدف .. كان جاهزا ، فما ان تغلق صحيفته حتى يباشر باصدار اخرى .. كان شعلة متوقدة من الحيوية والنشاط  في تاريخ الصحافة المحلية .
وبعد عقدين حافلين من الزمن في العمل الصحفي الجاد والمؤثر .. منع من اصدار اي صحيفة ، فكانت تلك اكثر ما قضّ مضجعه على امتداد اكثر من ثلاثين سنة عاشها وهو ينتظر السماح باصدار الصحف .. ولكن امنيته لم تتحقق ابدا رحمه الله . وهو من المؤسسين لنقابة الصحفيين في العراق في عام 1959،ومن الأعضاء الأوائل فيها وعضو تأسيسي لاتحاد الصحفيين العرب . وكان هو نفسه يمثّل مؤسسة صحفية ، فهو الكاتب والمحرر والمراسل والناشر والمدقق والموزع وجامع الاشتراكات .
عرفت الفقيد منذ زمن بعيد ، وكنت اعرف مكتبه ومطبعته القديمة اذ كان صديقا لوالدي واعمامي وكان يبرّنا اسوة بكل ابناء الموصل الاصلاء ..  اذ لم يكن هناك من اديب ومثقف وسياسي موصلي لم يعرفه الاستاذ عبد الباسط معرفة عميقة منذ مطلع الخمسينيات .. كان مجلسه القديم في مطبعة الهدف غرفة واحدة كبيرة بعض الشيئ يقع مكتبه على طرفها الايسر ، وكل شئ تجده قديم فيها .. ومن ابرز روّاد مجلسه القديم: الدكتور عبد الجبار الجومرد ويوسف حاج الياس المحامي والمؤرخ احمد الصوفي ووالدي القاضي كوكب علي الجميل والشاعر ذو النون الشهاب والشاعر عبد المجيد عبيد اغا والمؤرخ سعيد الديوه جي والاديب غانم الدباغ وغيرهم .
لقد حدثّني عن عدد كبير من اصدقائه الاوفياء ومراسلاته معهم ، وكان في مقدمتهم المطرب العراقي الشهير ناظم الغزالي فبينهما الفة ومودة ، ومن اهم المعلومات التي حكاها لي انه قابل الكاتب القومي المعروف ساطع الحصري ، يقول : فوجدته يتحدث العربية بلكنة تركية ! يقول فاستفهمت ، فاذا بالحصري من ماردين قرب ديار بكر ولم يكن من اليمن ولا من الشام !

ذكرياتي عن الرجل
1/ الصبا والشباب
اذكر ان اول مقال نشرته في حياتي كان في جريدة الهدف عام 1966 ، ولم اتجاوز الرابعة عشرة من العمر ، اذ كان الاستاذ عبد الباسط قد نشره على الصفحة الاولى .. ثم توالى نشر بعض خواطري ومقالاتي الصغيرة في جريدته ، واذكر في العام 1967 ، نشرت دراسة نقدية عن مجموعة قصص كانت قد اصدرتها احدى سيدات الموصل ، وكان نقدا لاذعا .. وفي نهاية العام 1968 ، نشرت مقالا مطولا عنوانه ( شهقات ودموع : مأتم في الغسق ) أرثي فيه والدي لمناسبة مرور ستة اشهر على رحيله .. قال لي الاستاذ عبد الباسط  عندما التقيته بعد سنوات بأن ذلك المقال ابكاه مرة اخرى  .. لم يمر العام 1969 حتى غابت صحيفته الهدف الاسبوعية ، وغابت برفقتها الصحيفة الموصلية الشهيرة الاخرى : فتى العرب التي كانت تسمى بـ فتى العراق في ما سبق والتي كان يصدرها الاستاذ الكبير ابراهيم الجلبي وولديه محمود وسامي .
2/ المنتدى العامر
نعم ، بعد مرور سنوات ، كان الاستاذ عبد الباسط قد انتقل من مكتبه القديم ، ليتخذ من منطقة المياسة بشارع النبي شيت مكتبا له داخل مكتبة كبيرة  تعرض امهات الكتب والمجلدات بشتى حقول الاداب والتاريخ للبيع .. اما مكتبه ، فلقد غدا مجلسا يوميا  لعدد من المثقفين الموصليين ، فكنت دائم التردد عليه رفقة العديد من الشخصيات اذكر منهم : المحامي غربي الحاج احمد والقاضي زهير كاظم عبود والدكتور عماد الدين خليل والاستاذ عبد الجبار محمد جرجيس والاستاذ بسام الجلبي والدكتور ابراهيم خليل احمد والخطّاط يوسف ذنون والاستاذ قصي آل فرج والضابط المتقاعد عبد الجبار الجبوري وغيرهم من شخصيات اكاديمية ورسمية .. كان الناس تقصد مجلس الاستاذ عبد الباسط لما يتمتّع به الرجل من سجايا حميدة وخصال كريمة ، وحسن اللقيا ، وحلو الحديث ، وجميل الذكريات .. كان مجلسه له متعته التي لا تقدر بأي ثمن .. كّنا نتكلم في كل الاحاديث باستثناء السياسة والسياسة العراقية بالذات .. واذكر ان الفقيد الراحل يتقصد ان يشطح مرات ليدق مسمارا هنا واسفينا هناك .  كانت الناس تتقّبل الاستاذ عبد الباسط بكل حلوه وكل جرأته وكل علاقاته فهو وجه اجتماعي بارز وموسوعة من الذكريات الخصبة التي لا تنته ابدا .
3/ صاحب دروس وعبر
لقد عرفت الاستاذ عبد الباسط رجلا اديبا ، متمكنا من عربيته،  سلسلا في كتابته ، مدققا في معلوماته ، موسوعة في ذكرياته ، سهلا وممتنعا في اسلوبه ، عارفا باسرار مدينته ، مؤرخا لعدد من الاحداث والشخصيات .. يعشق النكتة وحاضر البديهة شغوفا بالقراءة وذواقا في اكله .. كانت حكاياته مزيج من حدث وتوصيف رائع يجذب سامعه اليه مع تعليق ذكي او نكتة جريئة .. ولا يحرم مستمعيه من دروس تعلمها في حياته ، وكثيرا ما سمعته يتندم على ايام فاتت لم يكن الشباب يعرفون قيمتها ، بل وكان اندفاعهم الوطني سببا في احداث مشاكل لا معنى لها .. كان يروي لنا قصصا ليس من سجل حياته حسب ، بل من سجل تاريخ العراق الحافل وتجارب اهله واحزابه وقادته وعساكره .. كان يرى ان العراقيين اخطأوا كثيرا في حق انفسهم ، وفي حق رجالاتهم .. كان يثني كثيرا على متصرف الموصل القديم المرحوم سعيد قزاز ، ويعتقد انه كان من افضل الاداريين العراقيين علما بأن له تجربة مريرة معه علمته درسا لن ينساه .. وكان ذلك أيضا مع رؤساء حكومات ، امثال : مصطفى العمري وارشد العمري وغيرهما . كان يعبر عن سخطه لعهد صدام حسين بعقد مقارنات بين ماضيه وحاضره ويقفلها بمثل من الامثال او ببيت من الشعر .. وكان يقول : يريد البعض منّي ان ارفع في الصدارة على الحائط صورة القائد الضرورة ، ولكني لن افعلها  أبدا .. لا والله !
4/ الكتب المحرّمة
كان ـ رحمه الله ـ يمنحني بمنتهى السرّية الكتب التي تصله سرا من الخارج بطريقته الخاصة ، فاتمتع بقراءتها ثم ارجعها اليه ايام العهد السابق ، ومنها كما اذكر : مذكرات الشاعر محمد مهدي الجواهري وكتاب جمهورية الخوف وكتاب اوكار الهزيمة وغيرها من الكتب المحرم تداولها في العراق عهد ذاك .
كان يحدثّني عن تأليفه كتابه ( تاريخ الصحافة الموصلية ) الذي كان يعدّه على مهل ، وقد أعرته بعض المواد الصحفية الموصلية القديمة .. واعادها لي وقد اعتنى بتصليح بعض اوراقها الممزقة ، فشكرته الشكر الجزيل . انني بهذه المناسبة ، اناشد اهله الكرام الاحتفاظ بمخطوطات اعماله ، وخصوصا كتابه هذا الذي تعب عليه سنوات طوال من اجل ان يرى النور يوما ، ففيه حصيلة تاريخية ثرة ووثائقية وتحليلية عن تاريخ صحافة رائعة في مدينة ام الربيعين ابان ستين سنة من القرن العشرين 1908 – 1968 .
موقّف مشّرف
لا يمكنني ان اتحدث عن ذكرياتي مع الراحل عبد الباسط يونس من دون ان اذكر وقفته المشّرفة معي في احدى السنوات التي كنت فيها استاذا في كلية الاداب بجامعة الموصل . اذكر انني تلقيت في الصباح الباكر تلفونا من والدتي ـ رحمها الله ـ تقول لي وهي باكية : عليك ان تتّصرف بسرعة ، فهناك امر بالقاء القبض عليك وترحيلك الى سجن التسفيرات حيث المجرمين والقتلة ولا ندري ما هي التهمة ؟  .. ما ان رميت سماعة التلفون حتى بتلفون من المرحوم عبد الباسط يونس  يقول لي : كن شجاعا كما عهدتك ولا تهّزك مثل هذه الاراجيف التي يريدها بعض السفلة (       ) !! اختفي الان في اي مكان ، وسأذهب الى مدير الامن والمحافظ الذي اصدر الامر وهو اللواء عبد الواحد شنان آل رباط  بتهمة باطلة وتافهة لفقها ضدك احد كّتاب التقارير في الجامعة .. قال لي بالحرف الواحد : سأقدم نفسي بدلك الى المسؤولين حتى اسجن مكانك او يتم الغاء الامر ! بالرغم من نزول الخبر علّي كالصاعقة ، الا انني لم انس ما حييت موقف عبد الباسط يونس الاخلاقي .. اذ كنت ادرك ما معنى ترحيلي الى سجن التسفيرات ، وفعلا كان لصديقنا المشترك الاستاذ احمد الحاج يونس دالة علي ايضا ، فاختفيت قرابة اربعة ايام في احدى البساتين البعيدة .. ولم تنفع جهود كل الوسطاء حتى خلصّني الدكتور حميد الصائغ ـ جزاه الله خيرا ـ وكانت له مكانته الحزبية في الدولة ، فتحدث مع المحافظ وهو في سيارته ـ كما قال لي المرحوم عبد الباسط ـ ، فأمر بالغاء الامر ، فاحتفى بي المرحوم عبد الباسط يونس احتفاء كبيرا .. ان موقفه لا اعتبره شخصيا بقدر ما هو موقف انساني يفعله ازاء كل من يناشده من الابرياء .
واخيرا : انه ظاهرة موصلية نادرة
يقول الاخ الاستاذ مثري العاني في مقال له عن فقيدنا : " اما في حياته العامة فقد كان معطاءاً كريماً ساعياً نحو التزام اصدقائه والعمل على توسيع علاقاته معهم وتوطيدها وكان يسعى بكل جهده وبطيب خاطر وأريحية على توفير الكتب والمجلات والجرائد وتوصيلها اليهم ويجد في ذلك متعة لا يقل منها وقد حظي باحترام الجميع وتقديرهم واعتزازهم بمواقفه المشرفة معهم " .
واعيد القول : نعم ، كان الاستاذ عبد الباسط ، استاذا حقيقيا ، له فكره المتنّور ، ومرونته في التفكير ، يمتلك روحا لا تبارى للمساعدة ، اذ كان يقصده طلبة الدراسات العليا من كل انحاء العراق ليستفيدوا من مكتبته ووثائقه .. كان دينامو المجتمع كما كنت اسميه ، اذ يقصده الناس من كل حدب وصوب من اجل التوسّط لحل مشكلاتهم ، وهو ان وعد اخلص ، ولم يخلف وعده لأحد اذ يتابع اي موضوع يلتزمه .. واذا خابت مساعيه يتألم جدا .  رحم الله عبد الباسط يونس ، ولنا ان نقف جميعا احتراما لذكراه الطيبة ، فلقد كان لوحده ظاهرة موصلية لن تتكرر وستبقى ذكراه خالدة مع توالي الايام والسنين .

www.sayyaraljamil.com

فصلة من كتاب سيّار الجميل ، زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
الف ياء ، 28 يناير 2008

111
مجتمعات الجنوب برعاية دول الشمال !

 أ.د. سّيار الجميل

ان ترسبات الايديولوجيات التي سيطرت على كل حياتنا في القرن العشرين ، لم تزل راسخة حتى اليوم في عقول وضمائر بعض العرب ،  من دون التخّلي عنها او التخلص منها أبدا ، برغم كل التبدلات الجذرية اليوم .. ان فراغا سياسيا وفكريا هائلا تمر به حياتنا المعاصرة بسبب انسحاب تيارين اساسيين  من تفكيرنا وواقعنا معا : اولاهما الفكر القومي الذي سيطر على عواطف الناس الهائمين لمدة 30 سنة 1949 – 1979 ، لكي يحل بدله الاسلام السياسي الذي سيكمل عام 2009 قرابة ثلاثين سنة من حياته لتبدأ مأساة جديدة وربما سينتج حالة خلاص .. ولكننا نجهل طبيعتها وعناصرها . اما ثانيهما ، فكان يتمّثل بالشيوعية العالمية التي سادت في منطقتنا على مرحلتين : مرحلة التأسيس 1919- 1949 ومرحلة الحرب الباردة التي تبلورت  لما بعد  الحرب الثانية وحتى العام 1979 مرورا بعهد الوفاق بين المعسكرين وقد ختم حياته بانهيار المنظومة الاشتراكية نهاية القرن العشرين ..
لم يكن هناك من بدائل الا اختراق العولمة والسيطرة الكابيتالية  (= انتقال الرساميل في العالم )  اثر التحول التاريخي عن مرحلة الامبريالزم ( = الهيمنة السياسية ) .. وفي ظل المتغيرات السريعة ، وجد عالم الجنوب نفسه ضائعا ، خصوصا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية .. فلا القومية العربية ولا الشيوعية العالمية ولا الاسلام السياسي لها القدرة على الوقوف امام هذا المارد الجديد الذي غير حياتنا ، وشرخ تفكيرنا ، وجعلنا جزءا من هوامشه .. وليس باستطاعة عالمنا في الجنوب العيش من دون عالم الشمال . وبلا مكابرة ، ليس لدى عالم الجنوب القدرة على ان يبقى لساعات قلائل واقفا على رجليه .. بسبب عدم امتلاكه مفاتيح الحياة المعاصرة ومصادر الطاقة والهيمنة على علاقات الانتاج من خلال  الشركات ورؤوس الاموال عابرة القارات .. هنا أسأل : هل تنفع مع عالم الشمال ما تبقى لدينا نحن من فضلات ايديولوجية ومن استعراضات فارغة ومن شعارات طنانة ومن اشعار واقوال ومأثورات ؟ هل تنفع معه هذه الاساليب المضحكة التي يزاولها القادة وتمارسها النخب وتؤمن بها المجتمعات في بيئاتنا التي تملؤها التناقضات ؟
 من باستطاعته مقاومة هذا المارد الكاسح الذي يقبض على انفاس العالم  ؟ اية ادوار واية مواقف يمكننا اتخاذها من اجل ان يلتفت الينا ؟ اية حقوق مضاعة على مدى مائة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه ؟  لماذا امتلكت شعوب اخرى الوعي بهذا العصر  في حين تعطلت قدراتنا وتجمدت عقولنا واصبحنا لا نفهم الا لغة الشتائم والتخوين والكراهية وتراكمات الاحقاد ، بل ممارسات التكفير والقتل والتفخيخ ؟
من علم ملايين الناس الاقانيم السوداء ؟ من علمهم الكسل واهمال الزمن والتواكل والاستسلام للمجهول ؟ من قيد افكارهم وسجنها في الغرف المظلمة ؟ من جعل تصوراتهم لا تبتعد اكثر من الاكل والنوم وتلبية حاجات نداء الطبيعة ؟ ان زمننا هذا قد خلق للاذكياء والمبدعين الخلاقين والوعاة والحرفيين والمكتشفين .. ولا مكان فيه للطغاة والاغبياء والكسالى المتكلسين والهائمين الخياليين .. ان زمننا الذي يمضى نحو الامام سيصبح غير زمننا ، وان المكان الذي نعيش فيه سيكون غير مكاننا .. العالم كله يدخل في اطوار غير اطواره التي الفناها في الماضي . ان  عالم الشمال لا يهمه الا كيف يحافظ على قوته وتكنولوجيته وتطور حضارته ونظم معلوماته ومصالح اقتصاداته .. الخ 
انه لا يمكنه البتة ان يتأخر عن سيرورته المتسارعة من اجل ان يفهم معنى عبارة معينة او نص كلاسيكي قديم او شعار سياسي لا يعني له شيئا .. انه يهمه كيف يستحوذ على الايدي العاملة الرخيصة ويهمه كيف يسّوق بضاعته الكمالية واسلحته الفتاكة وسلعه الجديدة .. انه بقدر ما يهمه الانتاج وتحسينه يهمه ملايين المستهلكين ..  مئة سنة مرت ولم تحقق القومية العربية اهدافها .. فهل ننتظر مائة سنة اخرى حتى ننتظر احلام الاسلام السياسي ؟ لقد انتهت الشيوعية العالمية من فوق الارض بعد ان انتحرت على ايدي اصحابها .. ولم يزل هناك من يصفق للبروليتاريا ويسبح  باسم صراع الطبقات ! انتهى بعض الحكام المتوحشين الذين حكموا بالحديد والنار .. ولم يزل هناك من يمجد ذكراه بالرغم من كل ما اقترفه من جرائم وطغيان !
المهم ، ماذا نفعل اليوم ازاء العالم كله ؟
سيكون الجواب حتما مجرد فوضى كلامية وشعارات سياسية واستعراضات انشائية ومواعظ دينية ومأثورات تاريخية وخطابات عاطفية واشعار وجدانية واقاصيص شعبية ومؤتمرات فكرية وندوات سياسية وحزبية واعلاميات تلفزيونية وفضائية .. ان كلها لا تنفع ابدا .. اننا ان جمعنا كل مقترحات ومشروعات ومطالبات وتظاهرات الدنيا كلها ، فهي لا تساوي قلامة ظفر ازاء قرار يوقعه حاكم من الحكام .. او قانون تشرعه سلطة عليا . وعليه ، فان النخب العليا في اي مجتمع مطالبة بالضغط على الحكومات من اجل التغيير والتبديل في المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية .. وكل ما من شأنه ان يأخذ بالتحولات التاريخية من دون اي طفرة لا اساس لها من الصحة ، ومن دون اي قفزة نوعية واهية ، ومن دون حرق للمراحل على مستوى السلطة والشعب ياكل بعضه بعضا .. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح حقيقي على العصر .. مطلوب ان نكون واضحين في مقاصدنا واهدافنا ومنهجنا بعيدا عن اللف والدوران وعن اللعب بالتناقضات وعن ثنائية التراث والمعاصرة وعن ازدواجية المعايير وعلينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون ..

www.sayyaraljamil.com

الصباح البغدادية ، 23 يناير / كانون الثاني 2008

112
الفيدرالية ليست حّلا سحرياً للعراق !   


د. سيّار الجميل

كنت دوما اتساءل: هل باستطاعة الفيدرالية حل ازمات العراق ؟ ان الفيدرالية لها مقوماتها كنظام سياسي حديث ومتّقدم ، وتعود جذوره التاريخية الى العام 1787، وهو يقضي بتوزيع السلطة في اكثر من حكومة اقليمية ، كانت منفصلة ثم تّتحد وترتبط بحكومة فيدرالية في العاصمة ، وتتمتع الاقاليم بشخصياتها الجغرافية والطبيعية والاقتصادية والادارية . لقد نجحت بعض تجاربها في اتحاد حكومات اقاليم منفصلة ، ولكن اخرى ، فشلت وسميت بـ " الفيدراليات الهجينة " كونها طبقت في بلاد لم تتمتع اصلا بوحدة وطنية ، ثم ارادوا لها التقسيم الفيدرالي .
لست ضد المبدأ الفيدرالي ابدا ، ولكن العملية السياسية في العراق اليوم ، غدت  مضنية ومتعثّرة وانخفضت معدلات التأييد لها بسبب مشكلات الدستور العراقي ، واقراره مواد ومبادئ لم يتقبّلها كل العراقيين ابدا، وها قد مضى اكثر من سنتين ونصف على تشريعه من دون اي حراك لتعديله كما اقرّ بذلك مشرعوه . وعليه ، فان مقياس الوطنية سيتفوق على مشروع الفيدرالية مع توالي الزمن .
 لعل من ابرز الشدائد العراقية سيتمثلها ترسيم الحدود بين الاقاليم العراقية ، والتي تعتبر من لبنات بناء المستقبل لأي نظام اتحادي. في حين ان الممارسه التقليدية لاكثر الدول المفدرلة وجود كيانات محددة بحدود ولأقاليمها ميزات وخصائص كأن تكون دوقيات او مشيخات او دويلات قديمة يسهل فدرلتها ، اما في العراق ، فليس التبشير بمبدأ او تضمينه بدستور او المطالبة به كخطاب ، سيخلق اقاليم عراقية مفدرلة ، فالامر ليس سهلا ابدا كما يتخّيل البعض من المسؤولين العراقيين مع احترامي لمبدأهم الجديد الذي لم نسمع به من قبل ، وخصوصا قبل العام 2003 ، الا على لسان احد الملوك العرب الراحلين..
ان الامر غير قابل للتسريع ، ذلك لأن العراق يمتلك نظاما اداريا يسنّه قانون المحافظات ، ومن قبله قانون الالوية ، والاخير بني على المواريث التي تركها قانون الولايات الجديد الذي سنّ عام 1864 . لقد بدت التقسيمات الادارية للولايات العراقية عند مطلع القرن العشرين على الصورة التالية  : 
1/ ولاية الموصل : تضم ثلاثة الوية ، هي : الموصل وكركوك والسليمانية 2/ ولاية بغداد : تضم ثلاثة الوية ، هي : بغداد وكربلاء والديوانية. 3/ ولاية البصرة : تضم اربعة الوية ، هي : البصرة والمنتفك ونجد والعماره .
ان العملية ليست بسيطة جدا في ان بناء اقاليم فيدرالية ( باستثناء اقليم كردستان ) الذي خدمته فرصة تاريخية اثر حرب عاصفة الصحراء 1991 وهيمنة قرارات المجتمع الدولي على العراق وفرض الحماية على كردستان اثر الاضطهاد الذي مورس ضد الاكراد العراقيين ، ولكن فيدرالية كردستان  سوف لا تحقق الحلم الكردي ، كبديل مؤقت للدولة الكردية التي يحلم بها الاكراد . وعليه ، فان فيدرالية كردستان غير مستقرة ايضا ، فالاكراد لا يريدون بالاكتفاء بمحافظاتهم الثلاثة اربيل ودهوك والسليمانية ، بل يطالبون بمناطق اخرى في محافظتي كركوك والموصل .
 انني اعتقد بأن المشكلة مضاعفة ، ذلك ان العملية ليست مجرد تحويل وحدات ادارية قائمة الى كيانات فيدرالية ، خصوصا وان " هذه الآليات الدستورية مبتكرة تم تصميمها على عجل من اجل ان يفتح المجال الاداري للتخلص من تركات الماضي وفتح التاريخ لتشكيلات جديدة " .. من دون ان يعرف بأن الوحدات الادارية لا يمكن ان تتحوّل الى وحدات سياسية في العراق كونها لم تمتلك اية مقومات حقيقية او حدود وسواتر في ما بينها !
ويتساءل احدهم قائلا : واين هي ممالك العراق القديمة او مشيخاته او اماراته التي كانت لها حدودها وتواريخها السياسية ونظمها الاقليمية لكي نعلن عن مجتمعات عراقية مستقلة نظرا لأن الفيدرالية مشروعا جميلا ورائعا ، وأية ممالك متصارعة عاشت فيه متزامنة مع بعضها الاخر ؟ واية مكونات تاريخية وادارية وسياسية لها حدودها وفواصلها واسيجتها ؟ ومن سوء حظ العراق العاثر ان نسيج المجتمع العراقي مقسمّا على اساس طائفي مذهبي وعرقي ، وهذا ما لم يحدث ابدا في اي تجربة فيدرالية !
هل نتّصور ان العملية الفيدرالية سهلة في العراق ، وانها ستكون حلا سحريا للازمات ـ كما يتخيّل البعض ـ ، فالدستور بحاجة الى تعديلات جذرية باقرار من صاغه من ممثلي الاحزاب الحاكمة ! وان الاحزاب دينية او طائفية او عرقية لا  تعبر عن ارادة كل العراقيين ، ومن المؤسف ان يصل الالحاح بالفيدرالية من الاعلى الى الادنى وليس العكس وباسلوب من يجهل الامر كثيرا . ان العراق لم يزل يتعّرض لمخاطر وتحديات قاسية لا يتم علاجها بهذا الاسلوب الذي يكرس  الانقسام الداخلي ويثير المشكلات الاقليمية ، فمن الاستحالة ان يقبل جيران العراق الاقوياء بالعراق الفيدرالي لاسباب معروفة سلفا  ..
انني اعتقد بأنها ستكون فيدرالية هجينة فاشلة كالتي عاشتها نيجيريا ، بسبب انتفاء مقوماتها ( باستثناء كردستان التي تكتنفها المشكلات الاقليمية والداخلية ) ، وان وحدات العراق الاجتماعية متجانسة الى ابعد الحدود ، ولا يمكن التعويل على اية مكونات طائفية او عرقية لتكون اساسا للفدرلة .. ان الفيدرالية لم تنبثق من طموحات الشعب العراقي كله ، بل ولم يحظ مشروعها ابدا بالاجماع والتأييد من خلال انطلاق ارادة شعبية عارمة . ان عدم وجود اقاليم ومجتمعات عراقية مستقلة كانت في ما سبق ممالك منفصلة او مبعثرة او مشتتة سببا في صعوبة فدرلة العراق.. لقد ترافق مشروع الفيدرالية في البداية مع مشروعات اخرى ، ولما ازداد الالحاح عليه كثيرا ، والمطالبة بتطبيقه سريعا بدا يفّسر على كونه سعي مستميت من اجل تقسيم للعراق . فهل سيشهد العراق نظاما فيدراليا هجينا ام متطورا ؟ ام ان المشروع سيفشل فشلا ذريعا ؟ وهل ستكون الفيدرالية حّلا سحريا ام بداية حقيقية لضياع العراق وتشرذمه من خلال صراعات اهله  ؟ هذا ما ستنبؤنا به السنوات الخمس القادمة .

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 23 يناير 2008

113
هل عاد الرئيس بوش بخفيّ حنين ؟؟
                      د. سََيّار الجََمْيل
يمكنني ان اتأمل قليلا ، وافكر مليّا كي اعرف ما فلسفة الرئيس بوش من جولته في المنطقة ؟ ولكن لا يمكنني ان اعلم بفحوى الرسالة التي حملها للزعماء العرب الذين قضّى معهم اجمل الاوقات ؟ وهل كانت زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي ذكية ومنتجة اكثر مقارنة بزيارة الرئيس الامريكي ؟ وهل فعلا كانت زيارة الاثنين ـ مع اختلاف الاهداف والمهام ـ من اغرب الزيارات التي يقوم بها زعماء ومسؤولون غربيون ؟ ساركوزي حمل آراء ومشروعات اقتصادية للمنطقة اكثر منها سياسية كي يسّوق فرنسا في المنطقة .. اما بوش ، فمهمته اخطر كونها تدخل سياقات الاستراتيجية الامريكية في العالم .
يبدو واضحا ان منطقة الشرق الاوسط مرشّحة لتفاعلات خطيرة  خلال العام  2008 ، وستزداد خطورة  والتهابا في العام  2009  ، وربما ستحسم  قضايا  متعددة في العام 2009  لتتفاقم مشكلات من نوع جديد لا يدركها اغلب الزعماء العرب ، فكيف باستطاعة شعوبنا ادراكها ؟ لقد استطاعت الولايات المتحدة ان تجعل النبض الاوربي كله امريكيا اثر التغيرات التي حدثت في اكثر  بلدان اوروبا الغربية  صلابة ازاء المشروعات الامريكية ، وبالذات ما يخص قضايا الشرق الاوسط  التي ستحتاج تعقيداتها الى حلول دولية  اثر الاخفاقات التي كان من ورائها قوى اقليمية معينة   ..

انني اعتقد بأن الرئيس بوش وبالرغم من تحركاته من اسرائيل الى بعض البلدان العربية ، كان في جعبته اكثر من رسالة اراد توصيلها بنفسه  كي تكون ثقيلة جدا ، وان تؤخذ بجدية مباشرة .. وقد اخطأ بعض المحللين العرب عندما فلسفوا الامر بكل سذاجة كون بوش الابن حامل ايديولوجية دينية يسعى للتبشير بها !!  انني انعي على بعض كتابنا ومفكرينا ان يفكروا بهذه الطريقة .. ربما  كان بوش يحمل رسالة او اكثر من نوع ما ، ولكنها بالتأكيد " سياسية " تعّبر عن ضرورات معينة في الاستراتيجية الامريكية .. كي يثبت ليس للشرق الاوسط وحده ، بل للعالم كله وبشكل خاص للاوربيين ، ان الامريكيين لهم اجندتهم المعينة في الشرق الاوسط بشكل خاص سواء كانوا  جمهوريين ام ديمقراطيين .. وسواء جاءت الزيارة قبل الانتخابات او بعدها ؟ وسواء حملها بوش  ام حملها  من سيحّل محله في قابل الايام !
واذا كان البعض من محللينا يعتبر  الرئيس بوش لم يحقق الا الخسارة ، او انه دخل مستنقعا  لا يمكنه الخروج منه منتصرا .. بل ويذهب احد الزملاء من الكتاب الاكاديميين العرب الى ان افتقار بوش للمهنية تجعل من زيارته للشرق الاوسط تنال الغرابة  او الاكثر غرابة !!  انني اعتقد ـ وربما كنت مخطئا ـ ان  الرئيس بوش ، ربما لا يمتلك المؤهلات القيادية التي كان عليها  الرئيس السابق كلينتون  ، بل ربما لا يصلح لادارة محطة بنزين ، لكنه لم يتحرك من تلقاء ذاته ، بل لندرك ما الذي تفعله الدوائر المرتبطة به .. وان المؤسسات الامريكية كلها تعمل من اجل اجندة ربما تكون خاطئة ، ولكن لا تفسر  بهكذا طريقة  ابدا ..
انني اعتقد ان دفعه لمباحثات التسوية الاسرائيلية ـ الفلسطينية لم تكن نمرة واحد في الاجندة الامريكية ، حتى يمكنه ان يهيئ طبخة جديدة  ووجبة سريعة  لصراع دام اكثر من خمسين سنة  ، وعلينا ان لا نندهش كونه ذرف دموعه على ضحايا متحف الهولوكست .. المهم ، ان  ما يشغل بال الامريكان اهم بكثير من حق العودة ومسألة القدس ! أنه بالتأكيد  يحمل رسالة  تحمل النمرة واحد  في ما يمكن عمله امريكيا ازاء ايران سواء في العام 2008 او  في العام الذي يليه .. لقد جاء وتكلّم كلاما معسولا  عن الديمقراطية  التي يريدها للشرق الاوسط ، ولم ينس فضل الشيخ امين الريحاني على العالم في نهاية خطابه  الذي يبدو انه اخذ وقتا طويلا في اعداده من قبل مستشاريه ، وبغض النظر عن مستوى الخطاب وما حفل به مضمونه .. فان ما جاء ليقوله سرا داخل الجدران العربية المغلقة هو غير ما قاله علنا عن الديمقراطية وحقوق الانسان .

صحيح ، ربما  زار اسرائيل ليؤكد ثوابته الاولى التي نعرفها جيدا  ، ولكنه طار كل هذه المسافات كي يقول شيئا يشغل امره اليوم  كل الغرب  .. جاء بنظرية واحدة  تخص واقعا  يعيش على الارض وسيتطور حتما الى مواجهة دولية .. ربما  كانت هناك مجموعة افكار  اساسية  بالنسبة لما سيحدث في المنطقة التي تزداد توترا مع توالي الايام .. وستقع  الخطورة على العراق اولا  باعتباره بلد لم يزل في القبضة الامريكية ، وله تاريخ صعب مع ايران ..  ربما جاء ليقول للخليج كلاما مهما  جدا  ازاء اوراق ايران وسياستها في المنطقة .


واخيرا : نتساءل : هل رجع الرئيس بوش بخفي حنين ؟
هل قضى  بوش اسبوعا كاملا  حتى ياكل ويستمتع  بحياة الشرق الاوسط حتى يرجع بخفي حنين ؟  صحيح انها كانت مفاجئة  لأنها  تمحورت حول اسس معينة  ولاغراض استراتيجية  لها اهميتها عند مطلع السنة 2008 .. وسواء حقق بوش امنياته ام لم يحقق أي واحدة منها ، فهو  قد ادى مهمته السياسية  سواء رضي هذا الطرف بها  ام لم يرض بها الطرف الاخر ! وكانت آخر كلماته وتحذيراته وهو بمصر العربية ، يوجه بهزّ الجرس لكل من ايران وسوريا عدم تدخلهما في شؤون المنطقة . يبدو لي انه عاد راجعا وفي جعبته الكثير لأكثر مما نتصوره ! وستخبرنا الايام بما كان وما سيكون .

www.sayyaraljamil.com

جريدة الحياة اللندنية ، 23 يناير 2008

114
اصدقائي الاعزاء
انقل اليكم موقفي من الفيدرالية العراقية ردا على احد المسؤولين العراقيين في المقال على الرابط التالي .. مع التدثر
 
http://www.elaph.com/ElaphWeb/NewsPapers/2008/1/298211.htm

115
                                 جادة حوار عراقي
مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب

أ.د. سيّار الجميل

الحلقة العاشرة
من اجل فلسفة جدلية في حياتنا المعاصرة 
مقدمة :
في الحلقة الرابعة من حوار الاخ الدكتور حبيب معي يطرح اسباب اندفاعه لهذا " الحوار " الذي اشاركه كل المفاهيم التي يؤمن بها ، وخصوصا عندما ينجح الحوار ، فهو صادر عن جهتين متكافئتين وقد ابتعد كل منا عن اللغة المبتذلة والجدالية العقيمة ، فبين مصطلح " الجدل " وبين مصطلح " الجدال " الفرق الكبير بين ايجابية الاول قد يصل بفلسفته الى حالة ديالكتيك ، وبين سلبية الثاني قد يصل بتفاهته الى حال الحضيض . ..
 ان النقاش لا يصبح حيويا وجاذبا ان لم تتوفر فيه عناصر مشوقة .. حوار يحترم كل من صاحبيه القراءى الكرام .. لقد تعّرض كل منّا الى على امتداد سنوات طوال الى هجمات بلا مبرر كتبها طفيليون وطارئون .. في حين اثبت البعض الاخر في مقالات منشورة نقده بدحض الحجة بالحجة ، او بتقديم الاهم على المهم ، والترفع عن سفاسف الامور .. لقد اعجبني قول الدكتور حبيب : " ولكن حين يكون طرف النقاش الآخر مثل الصديق الأستاذ الدكتور سيّار الجميل, فأن النقاش مع أفكاره له معنى وهدف, كما يكون منعشاً ومحفزاً ومغنياً في آن. ومن هنا يأتي اهتمامي بمناقشة الكثير من الأفكار المهمة الواردة في الحلقات الأربع المشار إليها " .
قيمة جادة حوار عراقي
ربما كنت اكثر قسوة على النفس من الصديق كاظم حبيب وهو يصف لنا طبيعة تعامله مع منتقديه في بداية الحلقة الرابعة .. وربما كنت لا اجادل احدا ابدا من اولئك الذين خاصموني او انتقدوني ليس بسبب اي ترّفع او هروب او تعالي .. ولكن بسبب انعدام وجود أية لغة فكرية او تخصصية مشتركة بيني وبينهم .. ومثلما قال الدكتور حبيب بأن النقاش معي له معنى وهدف ، كما يكون منعشا ومحفزا  ومغنيا في آن .. فانني اضيف اليه بأن جادة حوار عراقي ، واي حوار حوار على نفس الشاكلة .. سيكون له طعم ومذاق خاص وله نفعه في مثل هذا الظرف الصعب الذي يمر به العراق ..
ناهيكم عن ايماني واتمنى ان يشاركني الاخ الدكتور كاظم هذه الرؤية : ان يكون هذا " الصراع " الفكري النظيف من كل الشوائب .. بين مدرستين فكريتين وبين منهجين واضحين وبين ارادتين مستقلتين وبين فلسفتين عميقتين وبين تخصصين علميين .. الخ طريقا يسلكه الاخرون من ابنائنا واخواننا وطلبتنا .. من اصدقائنا وزملائنا وشركائنا مستقبلا .. فالحوار امتد في آفاق رحبة فكرا وثقافة وسياسة وجغرافية وتاريخا وفلسفة ودينا .. دولة ومجتمعا واقتصادا .. وازدحم بآراء وافكار ومعلومات غاية في الاهمية فضلا عن تقييم بعض المراجع والمواقف والاحكام ..

الاعتراف بالخطأ فضيلة
يكتب الدكتور حبيب قائلا : " لقد اعتقد الشيوعيون سنوات طويلة, وكنت منهم, وربما بعضهم الكثير لا زال يعتقد بأنه كان أو لا يزال يمتلك الحقيقة كلها والحق كله, وبالتالي فهو الأفضل والأحسن لأنه يمتلك النظرية الأكثر علمية وهو الأكثر نضالية من الآخرين. وكان هذا الموقف خاطئا وتسبب بعواقب مضرة وفادحة. وحين أتحدث عن الشيوعيين لا أقصد الشيوعيين العراقيين وحدهم, بل أغلب شيوعيي وأغلب يساريي العالم  " . واستطرد الدكتور حبيب ان هذا كله ايضا انما ينطبق على من يحمل فكرا قوميا او اسلاميا .. نعم ، انني مع الدكتور حبيب اقول : ان من يدعي امتلاك الحقيقة المطلفة فهو واهم ، ولا يمكنك ان تستمر في حوارك معه اذا سمحت لك نفسك ان تبادله حتى الحديث او تفتح معه باب مناقشة اي موضوع ..
ان منطقتنا ما كانت لها ان تضيع في الخمسين سنة الماضية لولا اولئك الزعماء والقادة والضباط وقادة الاحزاب وغيرهم من الساسة المؤدلجين الذين تاجروا بمصيرنا من خلال شعارات اعتبروها حقائق ثابتة ويا ويل من كان يعترض عليهم .. يا ويل من كان يقول لأي زعيم بأنك خاطئ ، ويا ويل لمن يقول لقائد حزب انت مقامر .. ويا ويل لمن يقول لأي حزبي ( عقائدي ) ـ كما كانوا يسمونه ـ بأنك تجني على نفسك وعلى مجتمعك وعلى اجيالك القادمة .. لقد بقي زعماء وقادة ومفكرون وكتبه يرددون التهمة البائسة لكل معارضيهم انهم عملاء ورجعية .. او تنتقل على افواه الاسلاميين الى مرتدين وكفرة .. وسواء كانت التهمة الاولى او الثانية فمصيرك القتل او السحل او الاعدام او النحر وقطع الرقاب ! لقد ذهب الالاف من الضحايا بهذه التهمة او تلك من قبل اولئك الذين ادعوا امتلاك الحقيقة المطلقة .. ولم يزل هناك حتى يومنا هذا من لم يزل يعزف هذه الاسطوانة التي قادتنا عشرات السنين الى الوراء .
     
كيف لنا ان نوفر مستلزمات السير نحو الديمقراطية ؟
يقول الدكتور حبيب : " .. المفروض أن نعمل لتوفير مستلزمات نشوء الديمقراطية في بلداننا الشرقية, والتي هي عملية ثقيلة وطويلة ومعقدة ومليئة بالتضحيات, ولكن في مقدور الغرب بحضارته المعاصرة والعالمية, وبمقدور قوانين العولمة الموضوعية في حالة استيعابها والتعامل الواعي معها, أن تساهم كلها وتساعد في تعجيل المسيرة المنشودة صوب الديمقراطية وأن يقوم الغرب بدعمها وتنشيطها بصورة مباشرة أو غير مباشرة, ولكن ليس بالأساليب والطريقة التي يمارسها بوش في الوقت الحاضر .. " ( انتهى النص ).
انني لست يائسا تماما من عملية الديمقراطية في مجتمعاتنا ولست من الذين يزرعون اليأس ويبثون حالة العجز في القوى الطموحة للتقدم .. ولكن ثمة اسس لابد ان نعترف بها في دواخلنا قبل ان نلقي بتبعات فشلنا على غيرنا .. صحيح ان التجربة الامريكية في اشاعة الديمقراطية لا يمكن الاطمئنان لها ابدا ، بسبب الصحوة الامريكية المفاجئة للدكتاتورية وعلى الطغيان في الشرق الاوسط ، وكأن امريكا لم تشارك طوال خمسين منذ بعيد الحرب العالمية الثانية في نشر الدكتاتوريات وحبك المؤامرات ومساعدة الانقلابات العسكرية والسكوت على كل الاهوال والتجاوزات التي مرت بالمنطقة هي والدول الكبرى التي تحالفت معها ، او كانت في حرب باردة او ساخنة معها .. دعوني اقول ما عندي وبعد هذا الجدل عن الديمقراطية ومدى نجاحها في مجتمعاتنا التي نعرفها .. دعونا نتأمل معا في الركائز الثلاث :

الركائز الثلاث :
1/  ان التجارب الديمقراطية لا يمكنها ان تولد مباشرة بعد طغيان عقود من الزمن .. بل ان ولادتها لابد ان تكون طبيعية وليست قيصرية ، وتتبلور اثر فترة انتقالية ، نظرا لما يحتاجه كل مجتمع من المجتمعات التي هي بأمس الحاجة الى الديمقراطية ، وهذا امر معروف لدى القاصي والداني ، اذ لا يمكن ابدا الدخول بأي تجربة ديمقراطية والمجتمع غير مهيأ لها ابدا .. هذه الركيزة الاولى وسواء قبلناها ام رفضناها ، فالارادة الحرة لا يمكن شراءها ولا سحبها ولا خداعها  ، انها تعبير يترجمه الواقع بافضل صورة او اتعس اشكاله .
2/ اما الركيزة الثانية ، فتتمثل بأن تكون عملية التطبيق للتجربة الديمقراطية مدنية صرفة ضمن دستور مدني وفي مجتمع مدني وعلى ايدي احزاب وقوى مدنية .. ان مجرد اللعب باسم (الديمقراطية) من قبل مؤدلجين دينيين او عقائديين سياسيين او قوميين شوفينيين او احاديين مركزيين .. فسوف لا يكتب النجاح لأي ديمقراطية .. وعليه ، مطلوب تأسيس حالة مدنية بعيدا عن اي مناخ ديني او عقائدي او مذهبي او طائفي .. وهذا ليس بعجز في الديمقراطية نفسها كآليات ومفاهيم وخطوات ، بل العجز في حالات المجتمع السياسي الموبوء بالمطلقات .
3/ اما الركيزة الثالثة ، فلا يمكن لنا ان نلعب بمصائر الشعب باسم ( الديمقراطية) لنطلق ليس الحريات العامة ، بل لنطلق كل الغوغاء من تحت الارض وجعل الانفلات بديلا عن الانغلاق ، ولا المحاصصات بديلا عن المشاركات ، ولا الانقسامات بديلا عن الوحدة الوطنية .. ان الديمقراطية ليست صورة مشوهة للحياة البدائية المشاعية التي تريد ان تجعل من نفسها حياة متقدمة دعاية واعلاما وان الواقع شيئ آخر .. لا يمكنك ان تقول بأن صندوق الانتخابات هو الرمز الحقيقي للديمقراطية ، كما يجري تصنيفه في الخطاب السياسي المعاصر ..فهذا زيف وكذب وافتراء من قبل القادة السياسيين والمفذلكين الاعلاميين .. بل ان تطبيق القانون هو اول اشارات الحياة الديمقراطية .
انني لا اهرب من واقع صعب جدا خلقته سنوات الطغيان واوبئة الماضي لكي الوم امريكا وغير امريكا انها سبب فشل التجربة الديمقراطية ، وكأن لم يكن هناك قوى عراقية او غير عراقية تطالب بالديمقراطية فكرا وسياسية وممارسة قبل الهجمة الامريكية السافرة على منطقة الشرق الاوسط .. وكأن ليس هناك فكر ديمقراطي عربي او غير عربي يناشد المجتمعات والدول بالديمقراطية .. وكأن ليس هناك اي نخبة من اساتذة او مفكرين وكتاب ومختصين دعوا الى التغيير والاصلاح والتحديث وتبديل المناهج واصلاح البنى السياسية والمطالبة بتغيير الاحزاب وانظمتها الداخلية قبل منادة امريكا للديمقراطية في الشرق الاوسط .
مشروع ( الديمقراطية) بين التأهيل والتأجيل
يقول الدكتور حبيب : " .. أن النضال الديمقراطي لا يريد تغيير الظواهر, بل يعمل من أجل تحقيق تغيير جذري في فكر الإنسان ووعيه وممارساته, تغيير في التقاليد والعادات والثقافات, تغيير في القاعدة والبناء الفوقي, تغيير في علاقات الإنتاج وما ينشأ عنها ويعود إليها, فما نحمله من فكر وما نمارسه في حياتنا اليومية يتناقض تناقضاً حاداً مع أسس ومبادئ الديمقراطية. وبهذا الصدد شخص الأستاذ الجميل بصواب, كما أرى, عمق المشكلة حين قال بأن الديمقراطي شيء والإسلام شيء آخر, مهما حاول البعض من طيبي النفوس تقريب الإسلام من الديمقراطية, فهما على طرفي نقيض. كتب الزميل بصواب وصدق يقول: "علينا أن نعلن لكل مجتمعاتنا بصراحة متناهية أن الدين لا يمكن توظيفه في الديمقراطية .. ولا يمكن للأحزاب الدينية أن تجّرب حظها في المسألة الديمقراطية ! وعلى الإعلام في الدولة الديمقراطية أن يكون مستقلا عن أي سلطة سياسية أو دينية .. وعلى الإنسان في المجتمع أن يكون حرا في خياراته كلها وأفكاره ومبادئه .. فهل هناك ثمة دولة في العالم الإسلامي قاطبة لديها الشجاعة في أن تقول هذا للمجتمع ؟".
ولكني أختلف معه في ما أشار إليه: "وعليه ، فأن دعوتي دوما إلى مشروع الديمقراطية لابد أن يؤجل إلى حين خلق البيئة المميزة والإنسان الصالح ليحيا في مجتمع ديمقراطي !!" إذ أنه عاد وصحح الموقف وأتفق معه حين كتب يقول: "إنني لا ارفض الديمقراطية أبدا ، ولكن نحن بحاجة إلى زمن للتأهيل على الحريات والفكر الحر وعلى تربية الأجيال الجديدة على مفاهيم جديدة هذا لا يعني تأجيل النضال من أجل إقامة المجتمع المدني والتمتع بالحرية والديمقراطية , بل هو من أجل فهم العلاقة الجدلية بينها أولاً , وسبل خوض الكفاح ثانياً , وافتراض تجليات هذا الفهم في صياغة شعارات المرحلة النضالية ومهماتها الأساسية وخطابها الفكري والسياسي ثالثاً".
هنا علّي ان أوضح موقفي بكلمات وربما قد استفدت في بنائه من تجارب تاريخية درستها وتعمقت فيها على مدى سنوات طوال ، اقول بأن اوضاع اي بيئة اجتماعية واحوال اي بلد تمر به كوارث ومصائب وفواجع وهو يعيش حالة حرب وفقدان امن وانسحاق ارادة .. الخ فلا يمكن بناء اي تجربة ديمقراطية ناجحة فيه مهما كانت الادعاءات ، وهكذا علمتنا تجارب الشعوب .. فالامر مكفول ومؤجل الى حين استقرار البلاد بفترات مؤقتة .. اما التأهيل ، فغير ذلك ، اذ لا يمكن بناء اي تجربة ديمقراطية من دون تأهيل المجتمع وخلق الوعي يالحريات والديمقراطيات واساليب الحياة الجديدة وقبول الاخر والاستفادة من الاخر .. ومحو الانغلاق . ان اي مجتمع من مجتمعاتنا غير مؤهل للديمقراطية ما دام الناس فيه يفتقدون ابسط انواع الحريات .. ان تجربة بعض البلدان ذات النظم الاسلامية بالديمقراطية ، هي فاشلة بالضرورة  لأن الاليات والمفاهيم الديمقراطية تتصادم اصلا مع اي حكم ديني للمجتمع .
كيف نؤهل مجتمعاتنا نحو الديمقراطية ؟
ويختلف معي الدكتور حبيب في قوله : " أختلف مع الزميل الدكتور الجميل حين يقول: "إن التغيير الاقتصادي وتغيير بنية المجتمع الاقتصادية لا ينفعان أبدا في خلق وعي اجتماعي وتنوير ديني .. المسألة ليست من البساطة بمكان .. إن المجتمعات الديمقراطية اليوم كانت قد مرّت بمخاضات عسيرة من التحولات ، وهي ليست بمجتمعات إسلامية؟", لسببين هما أولاً إن تغيير البنية الاقتصادية وتغيير البنية الاجتماعية يمكنهما توفير مستلزمات التغيير أولاً, وأن عملية التغيير الاقتصادي والاجتماعي لا بد لها أن تقترن, وليست مسالة ميكانيكية أو عفوية, بعملية واسعة وشاملة للفكر والثقافة والممارسة اليومية وترتبط بحياة دستورية ثانياً. . ".
هنا أسأل : اذا كان الدكتور حبيب يختلف معي حول مسائل تكوين المجتمعات الديمقراطية لسببين انا مدرك لاهميتهما ، ولكن كم يحتاج تغيير البنية من زمن ؟ سواء كانت اقتصادية ام اجتماعية ؟ ما دامت العملية ليست ميكانيكية وهذا ما قصدته ، فاين وجه الخلاف ؟ وعاد الدكتور حبيب ليقول  : " ولهذا فأنا لا أمتلك تصوراً يرى بسرعة بناء الديمقراطية في العراق, لا أفصل بين العمل الاقتصادي والاجتماعي والعمل الفكري والثقافي وتغيير أسلوب التفكير والممارسة لدى الإنسان والمجتمع, بل أرى فيهما عملية واحدة متعددة الجوانب ومتشابكة ومتداخلة ويؤثر بعضها على البعض الآخر بصورة جدلية  .. " . 
اما بصدد الديمقراطية وتطبيقها في مجتمعات اسلامية فمما يبدو من كلام الدكتور حبيب انه يرفض اي تجربة ديمقراطية في مجتمعات غارقة بالمطلقات والتواكليات ولا يؤمن بالعمل والتغيير وكل من هذين المبدأين قد نص عليهما الاسلام ، اي العمل والتغيير .. ان الامثلة التي اوردها الدكتور حبيب عن تجارب اسلامية في بعض البلدان العربية والاقليمية هي امثلة حية على تناقض كبير جدا بين تفكيرين وبين عقليتين وبين آليتين وبين وسيلتين .. وعليه ، اما ان نطالب بتأجيل اي مشروع ديمقراطي في بيئة تعج بالتناقضات  لأننا نخادع انفسنا ونضحك على انفسنا كما نجني على اجيالنا القادمة .. او نطالب بالتأهيل ، ومعناه عندي : الفصل التام بين ما هو ديني وما هو مدني ، ونعترف ان تجربة العراق مثلا لا يمكنها ان تتقدم في ظل دستور لا هو مدني واضح المعالم ولا هو ديني غارق في الماضي .. انني اعارض اي ازدواجية في التفكير والممارسة .. علينا ان نقف بعيدا عن كل مخلفات الماضي ولكن لكي نتقدم علينا ان لا نقف مهرجين في وسط  التناقضات ولا ان نتخندق مع اي طرف ديني او حزب طائفي يتشدق باسم الديمقراطية .. ناهيكم عن خلاصنا من اي تجربة شوفينية ندرك كم ستكون اداة فاضحة لانقسام العراق .. وهذا ما ينطبق ايضا على اي بلد في منطقة الشرق الاوسط .
    لمن نوجّه النقد ؟ لمن نوجّه اللوم ؟
يقول الدكتور حبيب : " لا أمارس النقد ضد المؤسسات الدينية والخطاب السياسي للقوى الإسلامية السياسية حسب, ولا أمارسه ضد الممارسات السياسية اليومية لقوى والأحزاب الإسلامية السياسية حسب, بل أوجه نقدي أيضاً وأساساً إلى الدين ذاته. ولا أوجه نقدي صوب بعض أبرز بنود الدستور وبعض مضامينه الطائفية أو كونها حمالة أوجه, أو قاصرة ومتخلفة, كما في الموقف من المرأة مثلاً, ولا هو ضد المحاصصة الطائفية في المجلس النيابي والحكومة والمحاصصة الطائفية عمودياً وأفقياً في الدولة والمؤسسات وغيرها حسب, بل يتوجه نقدي إلى القوى السياسية العلمانية التي وافقت على كل ذلك, وإلى مجمل العملية السياسية التي هي نتاج الدكتاتورية السابقة وقوى الاحتلال والصراعات غير الحضارية الجارية في العراق وموازين القوى الراهنة " .
اعتقد انني قد اجبت عن ذلك في حلقة سابقة ، ولكنني اعيد واكرر بأن الدين ليس مؤسسة ولا بحزب ولا بكائن يمكن ان يعطي ويأخذ .. ان الدين يقف الى جانب اديان اخرى في هذا الوجود ، ويمكن الاستفادة من الدين بعد تحييده ، ويمكنه ان يكون من اهم ما يساعد المجتمع في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .. اما من يتخذه وسيلة سياسية واداة احادية للانغلاق فالمسؤولية هنا مضاعفة .. لم يكن الدين مسؤولا عن الطائفية بل المجتمع هو الذي جعل الدين مجالا للانقسام الاجتماعي .. ونقد الدين لذاته لا يمكن ان يزحزح التفكير عما هو عليه ، بل عليك ان تنتقد من يجعل الدين وسيلة للسلطة ووسيلة للقتل ووسيلة لقطع الرقاب ووسيلة لكل الموبقات .. الدين لم يقل بالديمقراطية ، بل قال بالمبايعة والشورى . فلماذا يعتمدون الدين شعارا ويتخذون من الديمقراطية طريقا .. انهم مجموعة معقدة من التناقضات الصعبة . اما القوى العلمانية السياسية فانني اشارك الدكتور حبيب كيف رقصت بعض الاسماء امام الاحزاب الدينية ، بل وغدا بعض العلمانيين مجموعة من الطائفيين المقززين للنفس .
بول بريمر : صنع المأساة ووّلى
يقول الدكتور حبيب : " حين تخلصنا من الدكتاتور الأهوج صدام حسين, وقعنا في شباك دكتاتور صغير جاء إلينا من الغرب المتحضر ليفرض علينا ما يشاء وما يريد وساهم بذلك في إضعاف القوى الديمقراطية والعلمانية وشجع الطائفية وفرض المحاصصة الطائفية, إنه السيد باول بريمر, الذي تعامل مع العراقيات والعراقيين كما يتعامل السيد مع عبده في القرون الخوالي في الولايات المتحدة الأمريكية. والآن يتهم بوش بريمر بذلك ويرد عليه بريمر ليقول أنا نفذت السياسة التي كان البيت الأبيض يريد تنفيذها في العراق! وكلنا يعرف ما وراء الأكمة! وقد كتبت بهذا الشأن عشرات المقالات خلال الأعوام المنصرمة, ولدي الثقة بسبب حسن إطلاع ودأب الزميل الجميل أنه قد أطلع على بعض ما نشرته بهذا الصدد " . 
واجيب : نعم يا زميلي العزيز ، لقد اطلعت بما فيه الكفاية على ما نشرته وناديت من اجله .. اما بالنسبة لبول بريمر ، فهي تجربة امريكية مأساوية بالنسبة للعراق وهو يخرج مليئا بالجراحات والالام ليس من عهد طغيان ، بل من حرب ضروس سبقتها حروب دامية .. ولا ادري لماذا اختارت الولايات المتحدة الامريكية ومن قبل وزير دفاعها السابق رامسفيلد هذا الشخص كونه مختصا بالامن القومي وادارة الازمات وكونه تلميد كيسنجر في القضايا الامنية .. لقد غابت عنهم اوضاع العراق ، بل لأنهم ارادوا ان يكون العراق هكذا بعد سحقه سحقا .. اختاروه خلال اسبوع واحد ليعطي موافقته كما كتب في مذكراته اثر بحثه الامر مع زوجته ، ليبقى بحدود اسبوعين يعد عدته عن العراق .
ان بول بريمر ما عرف شيئا عن العراق ؟ ولا عرف من اللغة العربية حرفا ؟ وماذا عرف عن مشكلات العراق السياسية المزمنة والجديدة ؟ ماذا عرف عن تاريخ العراق الثقيل والصعب  ؟ ماذا قرأ في اسبوعين وهو منشغل في تهيئة طاقم العمل الذي سيمضي معه نحو بلاد الرافدين ؟ الا يوجد في عرض الولايات المتحدة الامريكية وطولها امريكي واحد يدرك اولويات العراق ؟ الم يوجد من يعرف قليلا من العربية ؟ الا توجد اية كفاءات متميزة في ترتيب شؤون العراق ؟ ام انهم ارادوا ان يكون العراق هكذا ؟ وخصوصا في اعتمادهم على عراقيين غير مؤهلين ابدا لقيادة العراق رجالا ونساء .
لقد كانت الستة اشهر الاولى من بعد السقوط مرحلة حرجة وحساسة وخطيرة جدا .. ودوما ما اقارن بين تجربتي امريكا اليوم وبريطانيا في احتلالها العراق مع زمن الحرب العالمية الاولى .. مقارنا كفاءة الطاقم البريطاني وقت ذاك مع هزال الطاقم الامريكي اليوم .. يكفي ان الكولونيل البريطاني لجمن كان يتنكر بشكل بدوي في ازقة المدن ، لينقل صورة حالة العراق قبل ان تغزو بريطانيا العراق بسنوات ! ويكفي ان المس غروترود بيل كانت قد درست العراق وطبيعة العراقيين وعرفت كيف تتعامل معهم ، واندمجت بالمجتمع البغدادي فاسماها البغداديون بـ " الخاتون " وماتت ودفنت في ارض العراق .. المهم ، ان نعيد التفكير نحن العراقيين في كل ما جرى للعراق ليس اليوم فقط ، بل منذ خمسين سنة مضت او مئة سنة وّلت لنعترف بحجم الاخطاء المرتكبة ونرسم خطوطا جديدة من اجل مستقبلنا ومصيرنا الذي تصنعه اليوم ارادة اجنبية .
 من اجل فلسفة جدلية في حياتنا المعاصرة
بعد هذه الجولات من الحوار الممتع انتهي الى ان كل ما نشرناه يسعى مخلصا لتكوين وتطوير ( فلسفة جدل عراقي ) نحن بأمس الحاجة اليها في حياتنا المعاصرة خصوصا وان الاجيال الجديدة في القرن الواحد والعشرين لابد وان تتغير رؤيتها للحياة وان تبدل من مناهجها في التفكير ، وان تطور نظرتها الى كل من العالم والمستقبل .. وان تعترف بان كل شيئ نسبي في الحياة وان الفلسفة معناها : البحث عن حقائق الاشياء .. وان الوصول الى الحقيقة قد يكون صعبا ومرّا .. وان الحقيقة ذاتها ربما موجودة وهي مختفية ، وربما غير معلومة ، وربما منسية ، وربما جعلها الزمن في سبات لمرحلة تاريخية معينة او لظروف صعبة لا يمكن تخيلها .. وربما لا تظهر للعيان بسبب انحجاب الرؤية ، او بسبب صعوبتها هي نفسها بحيث لا يستطيع المرء ترجمتها حتى وان ادركتها وسائل بحثية ومنهجية عدة ..
ان جادة حوار عراقي بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب ما هي الا محاولة اولى على الطريق الصعب والطويل الذي ينبغي ان نمشي فيه جميعا ، سواء كان في العراق ، او في اي بيئة اخرى من بيئات منطقتنا العربية او الشرق اوسطية .. بمعزل عن مقارباتنا ومباعداتنا ، بل اننا لا يمكن الا ان نتفق على مصداقية المعلومات او خطئها .. ولكن لكل منّا رأيه الذي استطاع ان يخرج به على الناس .. والناس اجناس ربما اتفقت مع هذا وربما اتفقت مع ذاك .. وربما اختلفت عن الاثنين معا . ان الحوار في عمقه وقوته وحيثياته وحججه ومدركاته ومراجعه سيفضي حقا الى صيغة متقدمة من ديالكتيك معين ، يتناوله الاخرون بمنطق الجد لا الهزل ، وبقوة البحث بلا ملل .. خصوصا اذا بقي محافظا على توازنه وبقي مصرا على بلوغ النهاية بالرغم من انني لا اؤمن بأن لأي حالة في الحياة نهاياتها ، فالحياة متجددة ولا يمكنها ان تكون جامدة او متصلبة او متخشبة .. انها مرنة على اشد ما تكون المرونة وهذا هو سر تكوينها وتطورها ، فربما استمر الحوار في ابعاد متباينة لدى غيرنا ممن يعاصرنا وممن يأتي من بعدنا بعد ازمان ليزيد او ينقص فيه .. بالقدر الذي افاد الحياة والاجيال والتاريخ وزاد في المنهج والمعرفة وتفتح الاذهان .. وهذا ما نصبو اليه من اجيال قادمة نتوسم فيها ان تبدأ التغيير الحقيقي نحو الافضل مستفيدة من دوامات الماضي الصعب وبعيدة عن استنساخ التجارب ، فالتغيير والتطور لا يتمان من دون ابداع ومن دون تجديد حقيقيين.
ان هذا " الحوار " الذي تقاربنا في بعض اجزائه وتباعدنا في بعضها الاخر .. ربما كنت في بعضه مصيبا وربما كنت في بعضه الاخر على خطأ ، فالانسان لا يمكنه ان يدّ‘عي دائما بأنه صاحب الحقيقة المطلقة او انه صاحب العصمة وينفخ نفسه على الاخرين .. ومثلما هو يرى الاشياء حقيقية على ظهر كّفه ، فغيره يرى حقائق وصور من نوع آخر في باطن كفه وتبقى اليد واحدة . ان العراق ( او اي بلد آخر في الشرق الاوسط والعالم ) , لا يمكنه ان يعيش ابدا حياة احادية وبرؤية احادية ومنهج احادي وحزب احادي ومذهب احادي وفكر احادي .. ولا يمكنه ايضا ان يعيش ثنائيات قاتلة بحيث لا يتقبل هذا ما يريده ذاك .. كما ولا يمكن البقاء في دوامة من التناقضات التي خلقتها ترسبات الماضي وبقايا التاريخ .. ان جادة الحوار هي الطريق الذي يتلاقي فيه الجميع كي يتقبل احدهما الاخر مهما اختلفت بهما اساليب المنهج واختلاف التكوين وعمق الرؤية .. أن كل عراقي ( او ايا كان غيره من ابناء المنطقة ) عليه ان يتقبل غيره ، وينبغي ان يسمع لغيره وللاخر وان يدرك كيف يرد رأيه محتفظا باحترام الرأي الاخر .. ان الانكى مما نجده حتى هذه اللحظة سواء من هذا  أو ذاك البقاء بالاصرار على الموقف وعلى الخطأ .. ان من يبادر ليعترف بكل ما له وما عليه سيكون هو الافضل كونه سيأخذ قليلا ليعطي كثيرا من اجل استمرار الحياة ، ومشاركته في تطورها والوصول بها الى ما يفيدها .
واخيرا : ماذا تعلمنا من جادة الحوار اياها ؟
واخيرا ، اقول ، بأن ما طرحته في الحلقات العشر سيعرض على العالم اليوم وغدا ، وسيحكم الناس جميعهم بدءا بالمنهج ومرورا بالتفكير والمضمون وانتهاء بالنتائج والاستنتاجات كم كنت على خطأ وكم كنت على صواب .. انني اعترف ان الطريق صعب وطويل في بناء وترسيخ حالة او اكثر في مجتمع عراقي ( ومجتمعات قريبة منه ) لا يعرف الى حد اليوم الرأي  والرأي الاخر .. ولا يدرك ابعاد فضيلة الاعتراف بالخطأ .. ولا عيب في مراجعة النفس واعادة التفكير بالاشياء والتاريخ والمواقف .. ان الاختلاف فعلا لا يفسد للود قضية ان جاء باسلوب غير جارح وهو يقدم نفسه للاخر بهدوء من دون اي خروج عن جادة الحواروالمنطق والاخلاق ..
انني في نهاية المطاف ، احي الاخ الاستاذ الدكتور كاظم حبيب تحية كبيرة وانا مدرك ادراكا عميقا بأن لديه الشيئ الكثير ليقوله ، وانا تواق جدا لسماعه وساسعد به حقا . وسابقى احمل كل ود وومحبة واحترام له واعتز بصداقته واثمن فكره بشكل كبير .. وليعذرني والقارئ الكريم ان صدر مني ما يخالف وينتقد ويتباعد ..
تحية مباركة مني الى كل من يشاركنا هذا " الحوار " بكل ابعاده .. وتحية شخصية مني الى الاخ الاستاذ نوري علي محرر موقعي الالكتروني على الويب ، والذي يقوم بنشر اعمال هذا " الحوار " ويتابع نشر ردود الافعال على هذا " الحوار " ويعلمني بها .. اشكر ايضا كل الصحف والمواقع التي تكرّمت باخذ موافقتها منّي على نشر حلقاته على صفحاتها .. وبانتظار المزيد من لدن الدكتور كاظم حبيب وغيره لفتح آفاق جديدة لخدمة الفكر الحديث والاجيال القادمة .
                                        انتهت
نشرت هذه الحلقة العاشرة والاخيرة لأول مرة في موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
18 يناير / كانون الثاني 2008






116
التنمية البشرية : حالات عربية حرجة !

د. سيّار الجميل

اصدر برنامج الامم المتحدة الانمائي تقرير التنمية البشرية الثامن عشر للعام 2007 / 2008  بناء على البيانات والمعلومات التي خزنّها منذ العام 2005 . ولقد شمل تصنيفه 175 ( من اصل 192 ) دولة من دول العضوية في الامم المتحدة فضلا عن هونك كونك والاراضي الفلسطينية .. ولمّا تعذّر عليه التأكد من المعلومات عن 17 دولة اخرى ، فلقد احجم عن شمولها بالتصنيف ، ومن بينها العراق وافغانستان والصومال .. ولقد ركّز التقرير في اهتمامه على متغيرات البيئة والمناخ وانعكاساتهما .
لا يهمنا ابدا استعراض ما تضمنه " التقرير" ، بقدر ما يهمنا ويشغلنا الاجابة على اسئلة مهمة تقول : ما الذي يتعلمه العرب من التأمل في هذا التقرير ؟ وما الذي يمكن عمله من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه ؟ وكيف تتمكن دولنا ان تفعل شيئا من اجل مجتمعاتها ؟ ان اهم ما يمكن عمله من اجل تطوير مؤشرات التنمية المطلوبة : الارتقاء بمستوى التعليم ورفع مستوى الدخل الفردي والعمل على نوزيع الثروة بشكل عادل ، ومعالجة المخاطر القادمة .. ولا يمكن بقاء كل هذه المؤشرات متدنية ، فالعمل على رفع اي مؤشر فوق المستوى العام سيخدم بقية المستويات .. ان الاهتمام ينبغي ان ينّصب اساسا على الاساليب الحقيقية التي يمكن ان تأخذ بيد اي مجتمع ليكون في مصاف الاعلى منه .. ولقد صنّفت الدول العربية ضمن المجموعة النامية الى جانب شرق آسيا والباسيفيك وامريكا اللاتينية والكاريبي وجنوب آسيا وجنوبي اوروبا وافريقيا جنوبي الصحراء .. وثمة تصنيف لدول متدنية التنمية ، ولا توجد دولة عربية ضمن هذا التصنيف حيث حلّت دول إفريقيا الإثنتيْن والعشرين الواقعة جنوب الصحراء ضمن صنف دول متدنّية التنمية البشرية ، وجاءت في المراكز الـ‏12‏ الأخيرة كل من‏:‏ كوت ديفوار‏166‏ ثم بوروندي‏167‏ تليها جمهورية الكونجو الديمقراطية‏,‏ ثم اثيوبيا‏,‏ وتشاد‏,‏ وافريقيا الوسطي‏,‏ وموزمبيق‏,‏ ومالي‏,‏ والنيجر‏,‏ وغينيا بيساو‏,‏ وبوركينا فاسو‏,‏ واخيرا سيراليون في المركز‏177.

ان اي دولة تحقّق قيمة اعلى من 0.8 فهي ذات تنمية بشرية مرتفعة وعدد دول هذا التصنيف 70 دولة في عالم 2007-2008 ، منها  7 دول عربية ، هي ( مع رقم تصنيفها العالمي ) : الكويت 33 ، قطر 35 ، الامارات 39  ، البحرين 41 ، ليبيا 56 ، عمان 58 ، السعودية 61 . لقد ارتقت كل من ليبيا وعمان والسعودية الى سلّم التصنيف الاول بعد ان كان الامر مقتصرا على اربع دول خليجية فقط ، وهي حالة متقدمة بالرغم من تراجع ترتيب معظم البلدان العربية هذا العام  فضلا عن ان المتقدمين دوما هي دول قليلة السكان مع دول متأخرة كثيفة السكان !
اما الدول التي احرزت تقديرا اقل ، اي بين 0.5 الى 0.8 ، فهي متوسطة التنمية وعددها 85 دولة ، ومن ضمنها 13 دولة عربية ، وهي حسب رقم تصنيفها :  الاردن 86 ، لبنان 88 ، تونس 91 ، الجزائر 104 ، الاراضي الفلسطينية 106 ، سوريا 108 ، مصر 112 ، المغرب 126 ، جزر القمر 134 ، موريتانيا   137 ، السودان 147 ، جيبوتي 149 ، اليمن 153 . اما الدول التي لم يصل تقديرها 0.5 ، فهي في حالة منسحقة وبلغ عددها بـ 21 دولة .
لقد حّلت الدول المتقدمة مراكز متقدمة جدا وهي حسب تصنيفها : ايسلندا 1 ، النرويج 2 ، استراليا 3 ، كندا 4 ، ايرلندا 5 ، السويد 6 ، سويسرا 7 ، اليابان 8 ، هولندا 9 ، فرنسا 10 ، فنلندا 11 ، الولايات المتحدة 12 .. الخ  لقد غدت ايسلندا هذا العام افضل دولة يعيش فيها الانسان .
السؤال الذي ينبغي ان يراودنا جميعا : هل كانت انجازات الدول العربية المتقدمة في التنمية البشرية العالية قد حصلت على مكانتها ضمن صعيد الدخل ام صعيد مقاييس التنمية الاخرى ؟ واذا كان العراق لم يحسب له اي حساب لانعدام الارقام عنه ، فلماذا تراجع الدور التنموي لكل من الاردن ومصر وسوريا والجزائر وتونس والمغرب عما كان عليه سابقا ؟ واذا قارنا بين ابرز دول الشرق الاوسط ، سنجد اسرائيل ذات تنمية مرتفعة برقم 23 وهي الدولة الوحيدة في المنطقة سابقة لغيرها . اما تركيا ، فكان ترتيبها 84 ، وترتيب ايران 94  ضمن تصنيف دول متوسطة التنمية !
ان الفقر والامية والجهل من الامراض المستشرية .. وتزداد نسبة الامية لدى العرب مع توالي الزمن ، اذ اعلنت منظمة الاليكسو قبل ايام بأن نسبة الامية قد زادت لدى العرب لتقترب من 100 مليون نسمة ( اي : ثلث الهيئة الاجتماعية العربية ) من دون ان يحرك هذا الرقم الضمائر جميعها  لتغييره والتقليل من استشرائه !
   لقد حذر التقرير المنطقة العربية كونها ستواجه مشكلات وتحديات ضخمة خاصة بالمياه، وأن المناطق الساحلية مثل مصر ، ستواجه مشاكل ضخمة ، وستضطرب درجات الحرارة في بلدان معينة مما سيؤثر عليها تماما  مثل سوريا ولبنان  وسيضطرب مستودع الأمطار بالمغرب .. وان النمو السكاني مع اضطرابات الموارد الطبيعية في منطقتنا والحاجة للمياه سيسبب توترات سياسية في ظل غياب أنظمة مدعومة لإدارة المياه ، والسيطرة على انبعاثات العوادم وإنتاج الهايدرو كاربون  ..
واخيرا ، فهل ثمة وقفة تأمل في كل هذا التراخي والتواكل الحاصل في مجتمعاتنا ودولنا ، وان الزمن يسرع خطوات ليغدو الحاجز بيننا وبين التقدم كبيرا .. هل من استراتيجيات جديدة للتنمية المستدامة ؟ هل من خطط كبرى تواجه التحديات القادمة ؟ هل من تغيير جذري لكل مناهجنا التربوية والتعليمية والسياسية والاعلامية والتنموية ؟ هل من تنسيق بين دول منطقتنا لمواجهة مشكلات قادمة ، او الحد من مشكلات ستواجه اجيالنا القادمة ؟ هذا ما نأمل ان يكون بحول الله .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية 16 يناير 2008

117
تنميّة التفكير واستعادة تشغيل العقل

أ. د. سّيار الجميل

تفاهة مانشيتات القرن العشرين وشعاراته :
      ان قسوة انهيار تلك القوى المحلية والثورية والراديكالية التي منحت نفسها مانشيتات وتسميات عدة مثل : التقدمية والحرية والقفزة النوعية والارادة الشعبية .. الخ  وتبدد تلك التطلعات عند بدايات القرن الواحد والعشرين، أعاد التشاؤم والاحباط إلى قرننا العربي . كيف لا وحروب الخليج الاولى والثانية والثالثة .. كانت سبباً رئيسياً في زعزعة ثقة المجتمعات العربية بنفسها ومع أن هذه الحروب وما سبقها من حروب من نوع آخر كانت قد أسقطت بكارة النظم السياسية القومية والثورية واهانت عذريتها وطهاراتها التي كان قد اعلن عنها مؤسسو الحركات الثورية والايديولوجيات الانقلابية ، الا ان النظم السياسية العربية القديمة التي مثلتها بعض الانظمة لم تستطع ان تتجاوز هي الاخرى حواجزها وحدودها من اجل ان تطور مؤسساتها السياسية وآلياتها في الحكم وعلاقاتها الدستورية بكل من الدولة والمجتمع العربيين برغم أن تأثيرها النفسي كان أعمق بكثير في العالم وخصوصا من النواحي السلمية والامنية مقارنة باجهزة القمع التي مارستها المخابرات في الانظمة الثورية ، فكم تحت ظل هذه الانظمة من آلاف البشر قتلوا واعدموا وغيبوا في السجون والمعتقلات ومورست ضدهم كل الشناعات من التعذيب النفسي والجسدي بعيدا عن اي مبدأ من مبادىء حقوق الانسان ، فكيف بحقوق السماء في القرآن الكريم والكتب المقدسة .
كيف نجعل العالم كله في ايدينا ونتعامل معه ؟
      ان مجتمعاتنا بحاجة الى امتداد واسع من افق معرفي وتفكير حضاري وتخطيط مستقبلي لمعرفة ما يمكن ان يكون لديهم وبناء قاعدة من المعلومات المتكاملة والمتراصة من اجل ان يضعوا اقدامهم على سلم الصعود والمؤدي للبناء والتقدم العلمي والمعرفي فإنه لا غنى له عن الإطلاع على مختلف الادبيات في شتى المجالات والمواضيع والعناوين وأرى أن فهما معمقا للادبيات المعرفية والميدية المعاصرة التي تستحق منا وقفات نقدية واشكالية للإطلاع على محتواها وفحوى معلوماتها والتي قد لا نجد لها مثيلاً إلا في القلة القليلة في ما يترجم الى العربية . وهذا لا يعني إعجابي التام بمثل هذه الادبيات وخاصة أن بعضها يتعارض مع مبادئنا وتربوياتنا وحتى توجهاتنا وافكارنا كشرقيين وعرب ومسلمين ولكنني أرى أنه لا بد من الإطلاع على أفكار الغرب ومبادئه من خلال ادبيات مجتمعاته وكتاباتهم ومنشوراتهم واعلامياتهم .. لنتمكن من ما يجري في التفكير العالمي ، ولنفهم ايضا الى اين يسير العالم ، ناهيكم عن ادراك موقعنا الحقيقي من التاريخ الحديث للبشرية ، مع الاخذ بنظر الاعتبار مسألة الرد على كل الاتهامات والتقولات والاحكام التي يصدرها الغربيون عنّا ومناقشتهم فيها .
     المهم في الأمر أن باستطاعتنا ان نجعل العالم كله بين أيدينا ونحن نتعامل معه من جغرافية مركزية لها استراتيجيتها المهمة برا وبحرا وجوا .. اضافة الى ما يمكننا الاستفادة منه في حمل المعرفة المتطورة عن تطور المجتمعات البشرية وقدرة الفكر الفلسفي المعاصر على اجتياز أفكار هيجل وماركس وتوكنيل .. والخروج بفلسفات متنوعة على امتداد مساحة القرن العشرين ، وهي فلسفات انبثقت عنها اتجاهات فكرية وتيارات سياسية وحركات اجتماعية .. فضلا عن جملة من النزعات الادبية والنقدية في الثقافة العالمية . هنا ، وقد اجتاز العالم عتبة القرن الواحد والعشرين وتخضرم الجيل الحالي من المعاصرين بين قرنين ، سيختلف هذا القرن الجديد بالضرورة عن ذاك الذي سبقه والذي عاشت اجيالنا الحديثة في خضمه .. فلابد اذن من طرح جملة هائلة من التساؤلات الفكرية ، وخصوصا تلك التي تتطلع الى بناء واقع من نوع جديد سوف لن يكون الا باعادة التفكير في كل ما يخص الحياة .. واعتقد ، انه من دون اعادة التفكير في الشأن الحضاري ( بعيدا عن النهضوي الذي عاش معنا في القرن العشرين ) والشأن المستقبلي .. سوف لن يكون اي نجاح يذكر على مستوى ما ستحققه الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين .

الاحباطات النفسية الصعبة في مجتمعاتنا :
       حينما نتحدث عن تشاؤمنا واحباطاتنا ، لابد من القول أن من أسباب ذلك في القرن العشرين هو ما حدث فيه من سوء ادارة ، واستغلال ، واستيطان ، وحروب ، وكوارث ، وثورات ، وانقلابات عسكرية ، وانظمة دكتاتورية ، ونشوء ايديولوجيات سخيفة ، واحياء مآثر عاطفية ، وانهيار مقومات ، وتحجر ثوابت ، وانتفاء اخلاقيات ، وسقوط دول ، وقتل ، ودماء ، وعمليات إبادة جماعية .. الخ  ومع ذلك ، فهناك اكثر من سبب رئيسي يدعونا للتفاؤل، وثمة اسس رئيسية للتفاؤل كانت أملاً للقرن الماضي ، وياتوقف عند اثنين ، هما:
اولا :الاعتقاد بأن العلم الحديث سيقضي على الجهل والمرض والفقر فتتحسن بذلك أحوال البشر في مجتمعاتنا – كما حصل في مجتمعات اخرى - ، وأن التكنولوجيا الحديثة ستتحكم في الطبيعة المعاصرة ، ولكن من خلال انتاجها لا البقاء اسرى استهلاكياتها ، وهي التي ظلت دوماً حقيقة واقعية للإنسان العربي فهو لا يفكر من الذي اوجدها وطورها بشكل مذهل ، وبقي يردد ان مرجعياتها انما تعود للحضارة العربية الاسلامية ، وبرغم انه جعلها أداة في سبيل زيادة سعادته ، الا انه لم يعترف ابدا بفضل اصحابها عليه كونهم من الذين استعمروه ، وهنا يبقى لا يفصل بين المجتمعات والدول ، وبين الثقافات والسياسات .
ثانيهما : أن تجارب الحكومات الديموقراطية الحرة التي عاشت تجاربها الصعبة في ظل اوضاع متخلفة في النصف الاول من القرن العشرين ، لم تجد من يرسخ فيها المؤسسات ، ويعتني كثيرا بالدستور .. ولما زادت الهجمة السياسية الثورية والانقلابية العسكرية عليها محملة اياها كل تبعات فقدان فلسطين والتآمر مع الاستعمار والتحالف مع الرجعية ، فانه سيستمر انتشار الهجمة عليها مع بروز جيل اثر الحرب العالمية الثانية سيمتلىء عاطفيا بالشحنات السياسية والاحاديات الحزبية المناوئة للفكر الحر والغرب بحكم الظروف التي كان عليها العالم كله في ظل احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرق والغرب . وهذا سيقود بالضرورة عندما تغيرت احوال نهايات القرن العشرين الى المزيد من الاحباطات على مستوى التفكير وتهتك الواقع .
واخيرا : ماذا نفعل ؟
    ان اساليب اعادة التفكير في اوضاع مجتمعاتنا ، يعيد ويكرر نفسه مرات ومرات ، وهو المطلوب .. وكثيرا ما نادينا بأن تخصص مادة دراسية بعنوان ( تنمية التفكير ) في المدارس والجامعات التي تنتشر في بلداننا ، تعلم الاجيال الجديدة كيفية التفكير ، وتحّد من طوباوية العقل ، وترشد الى التدقيق وكيفية البرهنة على الاشياء وترجعهم الى العقل دوما في تفسير الظواهر .. وتجنبهم الاطناب وجعل الخيالات حقائق ، بل وتعلمهم اساليب الاختزال والتحرر من كل التعقيدات والرواسب والثقافة المتوحشة وتخرجهم عن التقاليد البائرة وتحرر افكارهم من هيمنة اللا واقع وسطوة العاطفة .. فسننتظر تقدما ملحوظا في كل ميادين الحياة . انني أسأل : هل سيحدث ذلك يوما ؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل . 
 
www.sayyaraljamil.com
الف ياء ، 13 يناير / كانون الثاني 2008   

118
أسرار نجاح زعيم عربي !

د. سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

دعوني اليوم ولمناسبة تاريخية رائعة ، اذيع اسرار نجاح زعيم عربي متميّز ، اذ غدا واحدا من ابرز زعماء هذا العالم الناجحين في الاداء والكاريزما والتكوين .. متمنيا ان يجد بقية الزعماء العرب القدماء والمحدثين في منهج زميلهم وحيويته واستنارته ضوءا اخضر يتبعون سبيله الى حيث اتاحة فرص الاستفادة .. وفرص النجاح عندهم متاحة ان تمتع اي زعيم بسمات القيادة الحقيقية خصوصا اذا كان الرجل يتملكها منذ صغره ونشأته.. لا ان ينتهي الى الزعامة من خلال اساليب غير مشروعة اعتدنا عليها على امتداد خمسين سنة مضت .
 ان سمات القيادة ، كما يطرحها العلامة الالماني ماكس فيبر ، ينبغي ان تكون مؤثرة وجاذبة ، وعندما تصبح كذلك فانها تنتقل الى دور الريادة ، وهنا تكون قد سحبت ولاء الناس ومحبتهم كونها قدّمت لهم ما يحتاجونه .. ولا يمكن لأي زعيم ان يكون رائدا الا بعد انجذاب الجماهير بسحره وامتلاكه الكاريزما الريادية ..  والكاريزما لا تولد من فراغ ، فما الذي يتمتع به صاحبها حتى تتبلور وتؤسس نفسها ؟  سنجده انسانا بسيطا يعيش بين الناس لا يترفع عليهم ولا يتعالى عنهم .. سنجده رجلا مهموما بقضايا بلده ودائم القلق عليها ، يحترم ماضيها ويحرص على مستقبلها حرصه على حاضرها .. سنجده يعشق الناس  ويعتبرهم جميعا اهله وخلانه من دون اي تفرقة وتمييز الا ما يخص الكفاءة والاخلاص .. سنجده يقّدس ترابه وسمائه وبحره ونهره وكل ذرات رمله  .. سنجده يسعد شعبه  ويناضل ليس من اجل اشباعه فقط ، بل من اجل رخائه ورفع مستوى معاشه ..
ان الكاريزما لا تنفع ان لم يحافظ عليها صاحبها من هول التحديات ، وذلك بتطوير نفسه مع الزمن ، وابقاء الناس تحترمه وتسحر به من دون تسويق نفسه بينهم .. وان يحرص على عدم ارتكابه اخطاء كبيرة تفقده رصيده وسحره الريادي .. انها مهمة خطيرة وصعبة في آن واحد ، وقد تكون مدّمرة في احايين عدة . فالريادة لا تخلق صاحبها بالكلام الفضفاض  ولا بالخطابات المعسولة ، ولا بالانفعالات الصاخبة ولا في التظاهرات المليونية ولا في الاغاني الوطنية .. ان  الزعامة الحقيقية تترفع عن الصغائر دوما ، ويسبق صاحبها عمله قوله  ، وان يكون واقعيا في التعبير عما يمكنه انجازه بلا اي وعود للشعب والشعب ينتظر ..
الزعيم الحقيقي يحرص على مصالح بلاده العليا والدنيا معا ، فلا يعّرض بلده وشعبه للمخاطر والتهلكة ان كان لا يعرف كيفية النجاة وسط الاعصار ان حدث .. وان لا يتورط  بمشكلات الاخرين من البعداء والاقربين ، حتى لا يصيبه نارهم ويلحق به شرارهم .. ان الزعامة الحقيقية لا تأتي عبر الاوهام ، بل في ان تستغل كل دقيقة من الزمن الثمين في توليد المشروعات تلو الاخرى ، وان تطور ما كان قد ولد وان تراقب عن بعد او قرب ما يجري لمشروعات للاسراع في الانجاز لتستقطب الدور الحضاري قبل ان يفوت القطار .. الزعامة الحقيقية في ان يحلم صاحبها بما يمكن ان يكون ويحصل لا بما لا يمكن حصوله ، اي باختصار ان يكون الزعيم واقعيا لا طوباويا في رؤيته لكل الامور، وان يكون مختزلا للكلام في ما قل ودل من دون اطناب ولا اسهاب ..
وكم هو رائع ان يعتمد اي زعيم ذكي على الاكفاء المخلصين من ابناء نخبة بلده نساء ورجالا  من دون تفرقة على اساس القبيلة او المدينة او العائلة ، كما عليه ان لا يّجمع من حوله محاسيبه ومناسيبه .. الزعيم الحقيقي يبحث عن النادرين من الرجال والنساء ليضعهم في مكانهم المناسب  ، ويمنحهم الصلاحيات الكاملة التي تجعلهم يسّيرون البلاد واحدهم تلو الاخر ، اي توزيع المسؤوليات من دون حصرها في مكتبه  .. الزعامة الحقيقية ان لا تصنع اي  قرار تكتيكي او استراتيجي من دون استشارة  بعض المختصين والمقارنة بين آرائهم كي تتخذ الرأي الاصوب ، وخصوصا في المشروعات الكبرى .. 
الزعامة الحقيقية تكمن في كيفية حرصك على أمن بلدك وشعبك من كل النواحي .. الزعامة الحقيقية ان يكون صاحبها منفتحا على الجميع ، فليس من الصواب ابدا ان يمّيز مكان على مكان .. ولا اي اتجاه على آخر .. ولا اي فكر على آخر .. اي بمعنى : تلك الزعامة المنفتحة على كل ابناء البلد من دون التزام خط معيّن على غيره .. والاكثر من هذا وذاك ان لا تكون ملتزما بايديولوجيا سياسية غريبة قد تعلو منزلتها اليوم وقد تخونك غدا .. ينبغي ايضا احترام الدين والمبادئ والتاريخ المجيد ، وان الالتزام الاخلاقي بالتقاليد الراقية جزء من المعادلة المطلوبة .
الزعامة الحقيقية ان تنفتح ايضا على العالم ، فمن يفتقد هذا الوازع ، سيعاني ابناء شعبه من العزلة في عالم اليوم كونه يؤمن بالانغلاق ، فما بالك ان كان منغلق التفكير واحادي الرؤية ؟؟  ان الانفتاح على العالم ليس معناه  وضع  كل ما لك وما عندك في سلال الاخرين ، بل السعي لكي تجعل بلدك مشاركا  هذا العالم المعاصر فعالياته وانشطته .. فالدولة في المجتمع الدولي كالانسان في المجتمع الانساني ، لا يمكن ان يكون للانسان اي دور عالمي ان لم يتعب ويناضل ويتفوق لكي يسهم بابداعه ونشاطه وسط هذا العالم .. كذلك الدول ، وهنا  يتبدى ذكاء اي زعيم اذ انه يراقب كم هي المنافسة شديدة في زحمة هذا العالم الذي يتسارع تاريخيا بشكل لا يصدق في مجمل تطوراته واساليب الكسب !  ان الزعامة الحقيقية هي التي تكتسب فرص النجاح والانتصار ليس بصور تجميلية ودعائية وشكلية ، بل بمضامين بنائية مبهرة يجبر صاحبها العالم كله كي يلتفت اليها .. انها لا تصنعها الشعارات بل تصنعها مكارم الاخلاق وسجايا النفس ونفائس الحكمة وحيوية العمل .. عند ذاك سنصفق حتما لمن يأتينا بالثمرات اليانعة .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 9 يناير 2008

119
جادة حوار عراقي

مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب

أ.د. سيّار الجميل

الحلقة الثامنة
 كيف يفكّرون ؟ كيف يتدّبرون ؟

انتقل الان الى الحلقة الثانية التي نشرها الاخ الدكتور كاظم حبيب في مناقشته السابقة لي .. وسوف اعالج في هذا الحوار عدة امور بحاجة الى تأمل وتفكير واعادة تقييم .. وخصوصا تلك التي تتعلق بالبحث عن وسائل وادوات جديدة تفتح الطريق لزراعة وعي جديد في مجتمعاتنا قاطبة ، خصوصا مع تطور المعرفة اليوم ، واستخدام اهم منتجات العصر .
 
مسألة الانغلاق والانفتاح
ساتوقف قليلا عند نص كتبه الدكتور حبيب وهو يقول : " نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين, ولكن ما هو أسلوب أو طريقة التفكير لدى الإنسان العربي في المرحلة الراهنة, ومن أين يأتيه هذا الانغلاق الفكري والسياسي والاجتماعي ورفض العولمة وكأنها قضية خيار وليست عملية موضوعية لا يمكن تجاوزها. لقد تغير المجتمع البدوي وتغير الريف في الكثير من الدول العربية, كما تغيرت العواصم العربية, ولا شك في ذلك. لقد دخل الراديو والتلفزيون والفضائيات ونشرات الأخبار والتقارير والأفلام عبر التقنيات الحديثة , كما أصبح الإنترنيت أداة في العمل اليومي للكثير من الناس المتعلمين, ودخلت السيارة والقطار والطيارة, ودخلت الحارثة والحاصدة والدارسة, ودخلت الكثير من الخدمات من الغرب "الكافر!" حسب تعبير الإسلام عموماً والسياسي خصوصاً, ولكن ماذا تغير في هذا الإنسان في هذه المنطقة, سواء أكان هذا الإنسان عربياً أم من قومية أخرى في هذه الدول؟ وكيف يفكر هذا الإنسان وكيف يتعامل مع الأحداث الجارية في العالم " .
انني اثمن هذه الاراء تماما كونها تصدر من رجل خبر الحياة الغربية والشرقية ، ويمكنني ان اضيف على ما قاله بأن مسألة الانغلاق الفكري والسياسي والاجتماعي لا تخص الانسان العربي وحده .. ان مجتمعاتنا في الشرق الاوسط قاطبة ، بما فيها اولئك الذين يحملون قصاصات ورقية باسم شهادات عليا ينتهون في حالة من الانغلاق حتى وهم في يقرأوون في جامعات غربية ، اذ لا يعرفون من الغرب الا اسمه ، اذ ليس لهم القدرة على المشاركة في الحياة الغربية ، فكيف بالاندماج .. انهم يذهبون ويرجعون وكأنهم مثلما ذهبوا رجعوا من دون اي ثقافة ولا اي اطلاع ولا اي تجربة ولا اي مشاركة ولا اي معرفة للحياة .. لننظر مجتمعات ايران وافغانستان والباكستان والاناضول والاكراد وبلوجستان والافارقة .. ان الانغلاق الفكري شيئ والانفتاح على العولمة شيئ آخر !
ان ثمة مجتمعات داخلية تصاحبها ازدواجية معايير فهي ليست صاحبة تفكير منفتح حسب ، بل انها ليست صاحبة تفكير واضح .. انها تتعامل بازدواجية وبثنائيات بل باكثر من صيغة ازاء اي قضية ، فتجدنا نعيش فوضى فكرية عارمة منذ اكثر من خمسين سنة في اغلب مجتمعاتنا .. يا عزيزي الدكتور كاظم المشكلة ليست فقط في مجتمعات عربية بحيث نقول لقد تغير المجتمع البدوي وتغير الريف في الكثير من الدول العربية ، كما تغيرت العواصم العربية ! المشكلة في كل مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة ، بل اجد ان بعض المجتمعات العربية التي كانت بدوية صرفة قبل اربعين سنة من اليوم ، تجدها اليوم ـ كالتي كانت تجربة عيش واقامة فيها ـ انها يسودها النظام على احسن ما يكون ، بل وتجد البدو السابقين يتصرفون بكل لباقة وهم يلبسون انظف الملابس ويتعطرون ويعرفون كيف ينظموا انفسهم ..

مشكلة التخلف .. اجتماعية قبل ان تكون سياسية !
ان مجتمعات الشرق الاوسط كلها متخلفة على اشد ما يكون التخلف .. فالتخلف لا ينحصر بالعرب وحدهم ! وكأن جيرانهم من الاقوام الاخرى قد اصبحوا متحضرين ومشاركين في الحضارة الانسانية وهم ما زالوا يتعاملون بمنطق العصور الوسطى او بمنطق القبائل البدائية ! وسواء دخلت التكنولوجيا والتلفزيون والانترنيت الى المجتمعات العربية ام لم تدخل فالمشكلة ليست بهذا التوصيف ، ان الصحافة والراديو والسينما قد وجدتا منذ عشرات السنين ولم يدرك المجتمع منها شيئا ، بل انني وجدت كبار المتخصصين وهم يعيشون في الغرب وما زالوا يؤدون تقاليدهم الاجتماعية القديمة على افضل ما يكون ، ولم ينفكوا ابدا من خصالهم التي تربوا عليها في مجتمعاتهم الكسيحة  .. ان المجتمعات لا تتحول عن تقاليدها وعاداتها وافكارها بمجرد وجود تكنولوجيا وابنية وشوارع ما لم تتغير الذهنية المسيطرة على التفكير .. ما لم تتغير اساليب التعليم والتربويات .. ما لم تحدث نقلة نوعية في تنمية التفكير .. ما لم تؤمن المجتمعات بالتمدن الحقيقي وتصبح مالكة لحرياتها في الاعتقاد والتفكير والاختيار .. ما لم تتخلص من ربقة العقائد الاحادية .. ما لم تكن حيادية في تقييم الاشياء ..

مشكلة الوعي : هل الاسلام مسؤولا ؟
وتكتب عزيزي قائلا : " ليس في هذا السؤال أي تمييع للمشكلة أو رفض فكرة غياب الوعي أو تخلفه, بل يفترض فينا الإجابة عن السؤال الرئيسي: لماذا يعيش الناس حالة غياب الوعي وتعطل العقل؟ لا شك في أن الإسلام والمؤسسة الدينية وشيوخ الدين لهم دورهم الأكبر في هذه المشكلة, وصحيح أن الدين والعشائرية والطائفية المقيتة لها دورها المتميز والكبير في ذلك, .. " .
 انني معك اوافقك الرأي والتفكير ، ولكن لا اوافقك الاسباب حول غيبوبة الوعي وتعطل العقل . لقد حصرت الدور الاكبر لهذه المشكلة في الاسلام والمؤسسة الدينية وشيوخ الدين .. ثم قلت ان الدين والعشائرية والطائفية المقيتة لها دورها المتميز والكبير في ذلك .. ولكن دعني اسأل : هل المشكلة في الاسلام ام في الدين ؟ واذا كان الاسلام فهل هو الاسلام السياسي ام الاسلام الحضاري ؟ هل الاسلام لم يقبل بالاجتهاد ؟ ولم يقبل بالمقاصد ؟ ولم يقبل بالاصلاح ؟ ولم يقبل بالفقه سواء كان قديما ام جديدا ؟ هل كانت المؤسسة الدينية حجر عثرة امام ما حصل من تقدم علمي وركام معرفي وانجاز حضاري في القرن الثالث الهجري؟ هل منعت المؤسسة الدينية الفيلسوف ابن رشد ان يكون استاذا للفلسفة في العالم ؟ هل منعت المؤسسة الدينية محمد اقبال من قول الشعر ؟ هل منع الازهر ام كلثوم ان لا تغنّي وتطرب الناس ؟ هل وقفت المؤسسة الدينية ضد تحرر المرأة في العراق ابان الخمسينيات والستينيات ؟ ومن تقصد يا عزيزي بشيوخ الاسلام ؟ ان هناك ثلاثة اصناف من هؤلاء الشيوخ : 1) علماء دين وفقهاء ومجتهدين كبار ليست لهم الا مؤسساتهم وحوزتهم  .. 2) ووعاظ سلاطين معممين كيفما يكون رب الدار فهم يرقصون .. 3) وملالي وسدنة  جوامع وحسينيات لا تأثير لهم الا في دواخل اماكن عباداتهم .. كل هؤلاء ان انتقلوا من وظائفهم الاجتماعية والاخلاقية والفقهية والوعظية ( وحتى ان كانوا اصحاب مصالح دنيوية تجارية ) التي هم افضل من يقوم بها الى ساسة واعلاميين واصحاب قرار ونواب واصحاب مصالح سياسية واعلامية وتشريعية باسم الاسلام السياسي واحزاب دينية فلقد حلت الكارثة ..
ان الدين باستطاعتك تطويعه لكثرة الابواب التي تدخل منها اليه او تخرج منها عليه .. ولكن ان حل الاسلام السياسي فهو يصبح مشاركا لك في هندسة الحياة بل بعثرتها .. انك تستطيع ضبط اهواءه في المجتمع ولكن لا تستطيع مقاومة اجندته في الدولة .. وعليه ، فان مشكلتنا ليس مع الاسلام بحد ذاته ، بل ان اصبح ايديولوجيا سياسية مهيمنة تفرض اجندتها الاحادية على كل الحياة الدنيوية ففي ذلك قتل للحياة المدنية المعاصرة التي لا يمكن ان يستجيب لها رجال الدين مع مؤسساتهم كونها تقضي على مصالحهم وتكسباتهم وتمثيلياتهم والاعيبهم .. ان المجتمع الواعي سيكتشفهم ، ولكن ليس باستطاعته مواجهتهم ، ذلك ان المجتمعات قاطبة معهم ، فهم يتمسكون باسلحة المجتمع ، فكيف ان حلّت السلطة بايديهم .

الغلو والتطرف ليس من الاسلام
ان المشكلة ليست هنا يا صديقي ونحن نعالج غيبوبة الوعي .. المشكلة في كيفية صناعة المجتمع المدني بعيدا عن اي حزب ديني متعصب او تيار ديني متطرف .. المشكلة تكمن في كيفية اقناع من يمّثل هذا الطيف الملتهب بأن كل شيئ نسبي في هذه الحياة وليس هناك هذا الكم الواسع من المطلقات التي لا يمكن تصديقها تحت اي باب من التفكير  .. المشكلة هو كيفية تخليص المجتمع من الاوهام المسيطرة ليست بالضرورة باسم الدين ، بل باسم التاريخ او باسم التراث او باسم العادات والتقاليد .. ان العشائرية والطائفية لا علاقة لهما بالدين ، ولكنهما من الاوبئة الفتاكة التي ليس من السهل ان تفك اعماق من يؤمن بها عنها .. انني قد صادفت بشرا تجده سويا من رجال ونساء ، بل وتجده يحمل تخصصا وثقافة ومنفصل تماما عن الدين وربما يغالي في ذلك كثيرا ، فازجره وانهيه احتراما لا تقديسا ، ولكن تجد مثل هذا البشر طائفي حتى النخاع سواء كان سنّيا ام شيعيا ام درزيا ام نصيريا .. الخ فالطائفية نزعة متشددة مغالية متطرفة في اقصى الضد لا علاقة لها بالدين وبالاسلام ابدا .. انما يعتمد الدين بابا للتمسح به من اجل تلك الطائفية الرعناء .. وما تجده في النزعة الطائفية تجده في النزعة العشائرية فالاسلام بعيد جدا عن القيم القبلية والعشائرية وبشكل واضح منصوص عليه ، ولكنها نزعة قديمة في الانتماء والتفاخر بالاعراق والهياكل والبطون والاطراف والاطراف  .. وما تجده في النزعة العشائرية تجده في النزعة القومية الشوفينية التي تذهب بعيدا في تقديس الذات العرقية والثقافية وهي بعيدة جدا عن الاسلام ايضا الذي لا يعترف بها ابدا .. وهنا اود التنويه بأن النزعة القومية لم تنحصر لدى العرب الذين فشلوا في تحقيق ما نادوا به من خلالها كأيديولوجية ، بل نجدها لدى اغلب شعوب الشرق الاوسط وبمنتهى الاساليب الشوفينية العدائية ، فالعرب ليسوا وحدهم بقوميين فاشيين ، اذ ان هناك من سبقهم في طورانيته التركية وبارسيتيه الايرانية .. وهناك من لحق بهم جميعا من قوميات تريد استعادة ادوار لها في التاريخ ، او تأسيس ادوار قومية على حساب الاخرين .

علاقات انتاج مشوهة وسياسات احزاب مؤدلجة !!
وتستطرد قائلا : " وصحيح أن مجتمعاتنا منغلقة على نفسها بطرق وأساليب وأشكال أخرى تختلف عما كانت عليه في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, ولكن ماذا يكمن وراء كل ذلك, وما هي الأرضية التي تعيد إنتاج ذلك؟ هل التخلف قدرنا وغياب الوعي نصيبنا, أم أن هناك عوامل كامنة وراء ذلك؟ هنا أحاول أن أتحرى عن تلك الأسباب والتي لم يخلو بحثك يا صديقي العزيز من تشخيصها, وأن كنت قد مررت عليها بسرعة, وأقصد بذلك حين أوردت موضوع الإنتاج وعلاقات الإنتاج وما ينشأ عنها ويبنى عليها من فكر وأسلوب تفكير وتعامل من جانب الفرد والمجتمع والنخب الحاكمة أو النخب المثقفة. من أين يأتي الوعي القاصر أو الوعي المشوه لدى الإنسان بالحياة المعاصرة وبالعولمة وبالمنجزات الهائلة التي أوصلت الإنسان إلى مستوى الحضارة الراقية الراهنة؟ " .
هنا ما الذي يمكنني قوله للاخ حبيب ؟
ان قصدي يا صديقي العزيز هو ان مجتمعاتنا ازدادت انغلاقا وتحجرا عما كانت عليه في الماضي .. وان اردت ان ازيدك في تشخيص عواملها كوني قد مررت عليها بسرعة ـ كما تقول ـ والحق يبدو معك فان موضوع الانتاج وعلاقات الانتاج وما ينشأ عليها ويبنى عليها من فكر واسلوب تفكير وتعامل من جانب الفرد والمجتمع والنخب الحاكمة او النخب المثقفة .. فهي ـ عندي ـ لا تكفي ، بل وقد حللت في الحلقات السابقة كيف كان الانتاج في ظل علاقات انتاجية مهترئة مقارنة بما حدث في الخمسين سنة الاخيرة من حياتنا التي انتكست وهزمت شر هزيمة . وهنا ربما تخالفني التفكير عند هذه النقطة التي سابقى اضرب على اوتارها كثيرا لقناعتي ان ما حصل من جنايات سياسية من قبل القوميين والشيوعيين اليساريين والاشتراكيين والحركيين والبعثيين والاسلاميين بحق اجيالنا الجديدة يفوق كثيرا ما اقترفته القوى القديمة في المجتمع من محافظين واصلاحيين ومسلكيين ونهضويين ابان النصف الاول من القرن العشرين بحق اجيالنا الراحلة !
هنا ، لابد من اعادة نظر في ما حصل من جنايات سياسية داخلية بحق التحولات الاولى . هنا ينبغي ان ندرك ان الشرق الاوسط لم يحظ برعاية ابوية من قبل نخب متحضرة فعلا .. هنا لابد من الاعتراف كم ارتكب النهضويون الاوائل والمستنيرون والاصلاحيون والوفديون والدستوريين والاستقلاليون من اخطاء مقارنة بالاخطاء التي زاولها كل من القوميين والناصريين والبعثيين والحركيين والاشتراكيين والشيوعيين وكل قوى اليسار .. من اخطاء كبيرة وجسيمة كي يصل الاسلاميون اليوم الى السلطة في اهم ثلاث بلدان في الشرق الاوسط : ايران وتركيا والعراق .. علينا ان لا ننسى دور العوامل الخارجية في رعاية جملة من التيارات السياسية والقيادات العسكرية وجعلها في سدة الحكم لتأسيس دكتاتوريات فاشية في المنطقة .. علينا ان لا ننسى ما صنعه الانقلابيون من العسكريين السذج وما ولد من دكتاتوريات لم تعرف روح المصالحة ولا المسالمة ولا المسامحة ..

ظاهرة الاستعمار : المصطلح واللا وعي به
علينا ان لا ننسى ادوار التيارات الاجتماعية القديمة كي تصبح تيارات سياسية تصل درجة تعلق الناس بها حد التأليه .. لقد كانت الايديولوجيات التي استعيرت من مصادر لا علاقة لها بنا سببا في تشبث المجتمع بعاداته وتقاليده باسم التراث مرة وباسم الاصالة مرات .. لقد ادان الجميع ظاهرة " الاستعمار " وخصوصا في الاحزاب والقيادات والزعامات والاعلاميات لدى العرب خصوصا ، ولما عدت ابحث عن اصول استخدام هذه " الظاهرة " التي لم تتداولها اجيال ما قبل الحرب العالمية الاولى ، وجدت ان المصطلح اول ما استخدم في نهاية العشرينيات ومن ثم في الثلاثينيات من القرن العشرين ، ووصل ذروته في الستينيات والسبعينيات ، ويرجع في اصله الى استخدامه بشكل كبير بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1927 ، اذ ترجم بداية مصطلح Colonialism ( اي : الاستعمار ) لأول مرة بعد الحرب العالمية الاولى ، ثم شاع مصطلح جديد ترجم بعدئذ وهو مصطلح    Imperialism (أي : الاستعمار الجديد ) .. والفرق الاصطلاحي بين الاثنين ان الكولينيالية تعني الاستعمار القديم ، وان الامبريالية تعني : الاستعمار الجديد . وعليه ، فان الظاهرة برمتها مستعارة بالرغم من رفض الشعوب للقوى الغازية والمحتلة والمنتدبة والمتحالفة .. ان الوعي لم يستنبط حتى يومنا هذا بأن دول الشرق الاوسط قاطبة كانت ولم تزل فاقدة استقلاليتها وارادتها وان ىالشرق الاوسط برمته كان وسيبقى في رعاية الغرب بعد ان تحّول النفوذ من كل من البريطانيين والفرنسيين الى ايدي الامريكيين .
ان الصراع الفكري والسياسي غير المتوازن بين الاحزاب اليسارية الشيوعية وبين الاحزاب الاصلاحية القومية وكلها عملت باسم الثورية والاشتراكية كذبا ونفاقا قد سببت شرخا عميقا في التفكير . لم تتقبل المجتمعات في الشرق الاوسط  الثورة على التقاليد لا بالاعلام ولا بالاضطهاد .. ففقدت القوى اليسارية في مجملها ادوارها شيئا فشيئا لصالح قوى الوسط بعد ان فقد اليمين كل اوراقه ومصالحه في الانقلابات العسكرية .. لم تكن الاحزاب الاصلاحية والقومية وسطا بل انها نادت بالثورة القومية والاشتراكية العربية والتحرر العربي وتحرير فلسطين .. ولكنها وازنت بين المشيتين لكسب الناس فقالت بالاصالة والمعاصرة او التراث والتقدم .. انها بهذه الازدواجية عاشت زمنا ثم انتهت لئن هناك من جاء على اكتافها ليزيحها عن الطريق ويسيطر على المجتمع . نعم لقد ولد الوعي القاصر والمشوه اذ تتساءل : أين يأتي الوعي القاصر أو الوعي المشوه لدى الإنسان بالحياة المعاصرة وبالعولمة وبالمنجزات الهائلة التي أوصلت الإنسان إلى مستوى الحضارة الراقية الراهنة؟  ان مشكلة الوعي القاصر والمشوه قد خلقته التيارات المعاصرة نفسها ، فالتيارات المتخلفة هي حصيلة لما زاولته الاحزاب الجديدة . كيف ؟

رواسب التفكير الايديولوجي
ان رواسب التفكير الايديولوجي الذي سيطر على حياتنا الفكرية والسياسية والثقافية في القرن العشرين ، لم يزل راسخا في عقول وضمائر بعض المثقفين والسياسيين والاكاديميين العراقيين ، بل وعند العديد من ابناء منطقتنا رسوخا كامنا ، وليس باستطاعتهم ابدا التخّلي عنه او التخلص منه برغم كل التبدلات والتحولات التي طرأت على حياتنا كاملة في يومنا هذا .. ان حياتنا السياسية في منطقة الشرق الاوسط تعيش اليوم فراغا سياسيا وفكريا هائلا بسبب انسحاب تيارين اساسيين من الساحة ، اي  بمعنى انسحابه من تفكيرنا وواقعنا :
 اولاهما : الفكر القومي العربي الذي سيطر على عواطف الناس لمدة 30 سنة 1949 – 1979 ، لكي يحل بدله الاسلام السياسي الذي مع العام 2009 سيكمل ثلاثين سنة من حياته وسينفرج الوضع عن تفكير مختلف ربما  سيقود الى مأساة تاريخية وربما سينتج حالة خلاص .. ولكننا نجهل طبيعته وعناصره حتى الان.
اما ثانيهما : فكان يتمّثل بالشيوعية العالمية التي سادت في منطقتنا على مرحلتين : مرحلة التأسيس 1917- 1947 ومرحلة الحرب الباردة التي تبلورت  لما بعد  الحرب العالمية الثانية وحتى العام 1977 مرورا بعهد الوفاق بين المعسكرين وقد ختم حياته بانهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع التسعينيات من القرن العشرين .. ولم يكن هناك من بدائل الا السيطرة الكابيتالية  (= هيمنة رؤوس الاموال )  التي تبلورت متطورة بشكل واسع لرؤوس الاموال اثر التحول التاريخي عن مرحلة الامبريالزم ( = الهيمنة السياسية ) .. وفي كل من هذه المراحل يعيش فراغا كبيرا كالذي يعيشه العالم الاسلامي (= واغلبه في عالم الجنوب ) .. ويعيش عالم ما بعد المنظومة الاشتراكية في حالة اخفاق لا في حالة صراع .. فلا القومية العربية ولا الشيوعية العالمية ولا الاسلام السياسي بقادر احدهما او ثلاثتهما على الوقوف امام هذا المارد الجديد الذي غير حياتنا ، وشرخ تفكيرنا ، وجعلنا جزءا من هوامشه .. وبنفس الوقت فان عالمنا في الجنوب  ليس باستطاعته الحياة من دون عالم الشمال . علينا ان لا نكابر ، ذلك ان عالم الجنوب ليس لديه القدرة على ان يبقى 24 ساعة واقفا على رجليه من دون عالم الشمال .. وعالم الشمال هذا الذي يجثم على مصادر الطاقة وثروات الارض ويهيمن على علاقات الانتاج باختراق الشركات ورؤوس الاموال في عموم الارض وكل المنتجات والصناعات والاغذية والادوية والادوات والمنتجات والمواصلات وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات .. الخ  هل تنفع معه ما تبقى لدينا نحن من فضلات ايديولوجية ومن استعراضات فارغة ومن شعارات طنانة ومن اشعار واقوال ومأثورات وصراخات وكتابات ؟ هل تنفع معه هذه الاساليب المضحكة التي يزاولها القادة وتمارسها النخب ( المثقفة ) وتؤمن بها المجتمعات في بيئاتنا التي تملؤها التناقضات ؟

العالم في قبضة المارد
 اي فكر هذا الذي نتشدق به باستطاعته ان يقاوم هذا المارد الكاسح الذي يبدو انه قابض على انفاس العالم كله ؟ اية ادوار واية مواقف يمكننا اتخاذها من اجل ان يلتفت الينا ؟ اية حقوق مضاعة على مدى مائة سنة يمكنها ان تعود الى قبضتنا ونحن لا ندري كيفية التعامل معه ؟ اية اهداف واية امنيات واية احلام كتلك التي آمنا بها وطلبنا تحقيقها يمكنها ان تكون اليوم بعد ان ضيعنا طرقنا وشتتنا جهودنا وقتلنا مشروعاتنا ؟؟ لماذا شعوب هنا قريبة وشعوب هناك بعيدة امتلكت الوعي بكل ما يجري وهي تعمل من اجل ان يكون لها مكان تحت الشمس .. في حين تعطلت قدراتنا وتجمدت عقولنا واصبحنا لا نفهم الا لغة الشتائم والتخوين والكراهية وتراكمات الاحقاد ؟
من علم ملايين الناس كل هذه الاقانيم السوداء ؟ من جعلهم ينشدّون دوما الى الوراء دون استقامة الطريق ؟ من جعلهم يلوكون النصوص صباح مساء وهم لا يدركون كم هو الزمن ثمين في مقياس الشعوب ؟ من علمهم هذا الكسل وهذا التواكل وهذا الاستسلام للاقدار ؟ من جعلهم لا يعرفون الا المثالب والسوالب في هذه الحياة ؟ من قيد افكارهم وسجنها في الغرف المظلمة ؟ من جعل تصوراتهم لا تبتعد اكثر من الاكل والنوم والتناسل وتلبية حاجات نداء الطبيعة ؟
ان زمننا هذا قد خلق للاذكياء والمبدعين والبشر الخلاقين والوعاة والحرفيين والمكتشفين .. ولا مكان للاغبياء والكسالى والمقلدين والمرددين والمتكلسين والنائمين والهائمين والخياليين .. ان زمننا الذي يمضى نحو الامام سيصبح غير زمننا .. وان المكان الذي نعيش فيه سيكون غير مكاننا .. العالم كله يدخل شيئا فشيئا في اطوار غير اطواره الاولى التي الفناها في القرن العشرين .. انه يدرك ان المارد المعاصر سيسحقه ان لم يهم بالتسارع ليس من اجل الخلاص ، بل من اجل ان يجد له مكانا جديدا في ظل المتغيرات سريعة الجريان .. ان المارد المعاصر لا يهمه الا كيف يحافظ على قوته وتكنولوجيته وتطور حضارته ونظم معلوماته ومصالح اقتصاداته .. الخ 
انه لا يمكنه البتة ان يتأخر عن سيرورته المتسارعة من اجل ان يفهم معنى عبارة معينة او نص كلاسيكي قديم او شعار سياسي لا يعني شيئا اليوم .. ان المارد المعاصر يهمه كيف يستحوذ على الايدي العاملة الرخيصة ويهمه كيف يسّوق بضاعته الكمالية واسلحته الفتاكة وسلعه الجديدة .. انه بقدر ما يهمه الانتاج وتحسينه يهمه ملايين المستهلكين ..
دعونا منه كي نلتفت الى تياراتنا واهوائنا واتجاهاتنا .. مئة سنة مرت ولم تحقق القومية العربية اهدافها .. فهل ننتظر مائة سنة اخرى حتى تتحقق تلك الاهداف ؟ عشرات بل مئات الاحزاب الدينية الاسلامية ولدت في غضون اقل من ثلاثين سنة اثر ما سمي بـ " الصحوة الدينية " ، فهل ننتظر ثلاثين سنة اخرى من اجل ان يحقق الاسلاميون امنياتهم وتصوراتهم ؟ انتهت الشيوعية العالمية من فوق الارض بعد ان انتحرت على ايدي اصحابها ولم تكمل رسالتها .. ولم يزل هناك من يصفق للمارد الجديد وهو يسبح  باسم صراع الطبقات ! انتهى بعض الحكام المتوحشين الذين حكموا بالحديد والنار .. ولم يزل هناك من يمجد ذكراهم بالرغم من كل ما اقترفوه بحق اوطانهم ومستقبل اجيالهم !

المهم ، ماذا نفعل اليوم ازاء العالم كله ؟
سيكون الجواب حتما مجرد فوضى كلامية وشعارات سياسية واستعراضات انشائية ومواعظ دينية ومأثورات تاريخية وخطابات عاطفية واشعار وجدانية واقاصيص شعبية ومؤتمرات فكرية وندوات سياسية وحزبية واعلاميات تلفزيونية وفضائية .. ان كلها لا تنفع ابدا .. اننا ان جمعنا كل مقترحات ومشروعات ومطالبات وتظاهرات الدنيا كلها ، فهي لا تساوي قلامة ظفر ازاء قرار يوقعه حاكم من الحكام .. او قانون تشرعه سلطة عليا . وعليه ، فان النخب العليا في اي مجتمع مطالبة بالضغط على الحكومات من اجل التغيير والتبديل في المناهج السياسية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية .. وكل ما من شأنه ان يأخذ بالتحولات التاريخية من دون اي طفرة وراثية لا اساس لها من الصحة ، ومن دون اي قفزة نوعية واهية ، ومن دون أي حرق للمراحل على مستوى الحزب الحاكم والشعب ياكل بعضه بعضا .. المطلوب تغيير جذري في النهج وانفتاح حقيقي على العصر .. مطلوب ان نكون واضحين في مقاصدنا واهدافنا ومنهجنا بعيدا عن اللف والدوران وعن اللعب بالتناقضات وعن ثنائية التراث والمعاصرة وعن ازدواجية المعايير وعلينا ان نسلك طريق التفكير المدني وفرض القانون واحترام الماضي لا تقديسه والبقاء ليل نهار في صوامعه البائسة ..

الهند .. نموذجا متقدما من عالم الجنوب
يقول الدكتور حبيب : " لو ألقينا نظرة على الهند التي أوردها الزميل الجميل كمثل للديمقراطية والتي لا أختلف معه في هذا التشخيص. ولكن ألا يرى الزميل معي أن الهند تعيش في مجتمعين , رغم التداخل بينهما, مجتمع مديني صناعي علماني متقدم وديمقراطي من جهة, ومجتمع آخر ريفي متخلف حيث المهراجات والراجات وأصحاب الإقطاعيات الواسعة حيث الاستغلال البشع والصراع الديني والمذهبي والقتل والتدمير ووأد البنات أو وضعهن في المعابد لأغراض مختلفة ... الخ. لا يختلف كثيراً في ممارسات التخلف بين أتباع الدين الإسلامي أو الهندوس, رغم ما في الدين الهندوسي من مسالمة وتسامح, ولكن يبقى الدين قاعدة للتخلف والتعصب والعنف " .
هنا اتوقف قليلا  محاورا لقول : عندما اوردت الهند نموذجا لما هو سائد في عالم الجنوب ازاء عالم الشمال كنت ادرك ان الديمقراطية فيها لم تصل الى ما وصلت اليه في سويسرا او كندا .. ولكن الهند تعيش تجربة ديمقراطية طويلة نشأت على اعقاب الاستقلال عن بريطانيا ، وكانت ولم تزل عضوا في الكومنولث البريطاني من دون ان يعترض هندي واحد على ذلك ! وينّصب رئيسا مسلما عليها برغم الصراع الاجتماعي بين الهندوس والمسلمين ! اننا لا نريد من الهند ان تكون مجتمعا اشتراكيا ، فالديمقراطية لا تفرض الاشتراكية ، لأن الاشتراكية وتجاربها ايضا لم تزاول الديمقراطية يا عزيزي الدكتور كاظم ..  اذا كانت هناك في الهند مشكلات سكانية واقطاعات وراجات ومهراجات واستغلال .. الخ مما ذكرت فهل باستطاعتنا القول ان ليس هناك ديمقراطية في بريطانيا اذا لم يزل هناك لوردات واصحاب رؤوس اموال واستغلال رأسمالي ونظام ملكي قديم .. الخ مما اقول ؟؟ انني قد حددت الهند او البرازيل مثلا لما يجري فيهما من تحولات على مستوى الانتاج والكفاءات والاحتراف والعمل وساعات العمل والاستعانة بالخبرات الهندية في البرمجة والاتصالات والتوظيف لأنه شعب يعمل كي يأكل .. ولم يكن يوما يعتمد على ريع نفطه ليتكسب منه ! مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الهند شبه قارة تزدحم بالسكان الى درجة لا يمكن تخيلها .. افليست تجربتها مثلا يحتذى خير من تجارب احادية حاولت بناء الاشتراكيات من دون ديمقراطية فتهاوت بسرعة جميعها .

عودة للمرّبع الاول : هل تنجح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية ؟
يقول الدكتور حبيب : " المجتمعات في الدول العربية متخلفة وغير ناضجة للديمقراطية وغير قادرة على ممارستها, حيث يلعب الإسلام دوره في ذلك. والسؤال كيف يمكن تغيير هذه الحالة ابتداءً من الآن, هل يجري الحديث عن تغيير التربية والتعليم والثقافة, وهي مسائل مهمة, ولكن من يغير كل ذلك؟ ألا ترى إننا بحاجة إلى أرضية للتغيير بحيث تسمح للنخبة المثقفة أن تلعب دورها في عملية التغيير, لا أن يصادر السياسي دورها أو يحجمه أو يحتويه ويبعده عن التأثير المستقل في المجتمع؟ كما علينا أن نرى من يشارك في عملية التربية والتعليم, وهل في مقدور هؤلاء أن يلعبوا دوراً في عملية التغيير وفق المناهج التي تدرس في هذه الدول, وبشكل خاص المناهج الدينية والأمثل كثيرة, رغم أن بعضها أسوأ من غيرها, وحيث نجد منافسة بين الحكومات والمؤسسات الدينية وشيوخ الدين ".   
مع اعتزازي جدا بآراء الدكتور حبيب  الذي اشاركه فيها كل الصواب حول تخلف المجتمعات ( ولكن ليس العربية فقط ، بل كل مجتمعات الشرق الاوسط ) ، فلابد من القول ان ارضية التغيير اساسية ،  وهنا يعترف الاخ الدكتور حبيب بان مجتمعاتنا غير ناضجة للديمقراطية حيث نرجع معا الى المربع الاول الذي انطلقنا منه .. اذ يذكر الجميع ان هذا " الحوار " انطلق من مقال نشرته بعنوان ( هل تنجح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية ؟ ) .. ويشاركني الرجل ما قلته لأول مرة من ان تلك المجتمعات غير قادرة على ممارسة الديمقراطية  . السؤال : هل الاسلام نفسه يلعب دوره في الضد من الديمقراطية فكرا وتطبيقا ؟ ام انها مشكلة رجال دين واحزاب دينية وبنية سياسية تتخذ من الدين وسيلة للانقضاض على الحياة السياسية وتحويلها الى سوق هرج ومرج ؟؟  الاسلام كأي دين لا يمكننا اقتلاعه من النفوس لأنه غير مسؤول اصلا عن هذا الواقع ، ولكن يمكنه ان يكون عاملا اجتماعيا رائعا في التعامل والمقاصد والاخلاقيات ، فكيفما يكون المجتمع يكون الاسلام وليس العكس ، وهذا ما المحه من طبيعة فهم كل مجتمع في العالم الاسلامي للاسلام ، فلكل بيئة منه اشكالها الاسلامية المختلفة عن الاخرى ، فهذا العراق هو غير تونس وهذه تركيا هي غير ايران وهذه المغرب هي غير السعودية وهذه لبنان هي غير اليمن .. الخ
ان ارضية التغيير لا يمكنها ان تبنى ابدا بمعزل عن اصحاب قرار ، والنخبة المثقفة والواعية ليست بصاحبة قرار .. ان القضية ستكون محسومة تماما اذا ما صدر دستور ( = قانون اساسي ) لأي بلد  يحدد الحقوق والواجبات ، ويؤسس لحياة مدنية ويكون مصدرا حقيقيا للتشريعات .. اذا نجح اي مجتمع بعلمنة الحياة وتأسيس فصل حقيقي للسلطات .. عند ذاك تستلهم كل التشريعات وتصدر كل القوانين ويمكن للنخبة ان يكون لها دورها في التغيير . 
خطل التعويل على النخبة ( المثقفة ) و ( الواعية )
اعترف بانني كنت على خطأ عندما دعيت في العام 1997 في كتابي ( العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط ) الى تشكيل برلمان للمثقفين العرب ليأخذ زمام المبادرة من اجل التغيير ، وقد نشرت الكاتبة اللبنانية تغريد بيضون دراسة مفصلة عن الكتاب المذكور ونشرتها في مجلة ( الاجتهاد ) اللبنانية التي يحررها الاخ الدكتور رضوان السيد .. انتقدتني صاحبتها لهذا الرأي وهذه الفكرة التي بدأت اخضعها للدراسة والتفكير مع الذات .. وخرجت بنتائج مهمة مخالفة لما كنت اؤمن به ، وقد كرستها في مقال عنوانه : "  المثقفون العرب : ارتال وراء التخلف " ( النهار البيروتية والحوار المتمدن ، 30 /7/ 2003  وصحف اخرى ) قدمته بالنص التالي : " كنت قبل سنوات خلت أؤمن بأدوار المثقفين العرب في تحديث المجتمع.. وكنت ــ أيضا ــ اتأمل منهم وعلي ايديهم تحقيق كل التطلعات والامال الواسعة حتي وصل الأمر بي ان ادعو في كتابي (العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط: مفاهيم عصر قادم) الي ان تغدو نخب المثقفين العرب هي المحركة الاساسية لمستقبل التكوينات العربية في القرن الواحد والعشرين بدل الساسة! واعترف اليوم انني كنت واهما او بالاحري علي خطأ.. اذ اثبتت الايام لي ان جملة كبيرة من مصائبنا يشارك المثقف العربي غيره في تحملها او انه ضالع في اوزارها ويا للاسف الشديد!! لقد غيرت الايام الاخيرة قناعات كنت التزمها عن العرب بشكل عام ولابد من الجميع ان يعيدوا التفكير بكل تموجات الافعال وردود الافعال بعيدا عن التهويم والمخيالات والشعارات والكلام الفارغ الذي تدبجه ارتال ممن يسمون انفسهم بـ(المثقفين العرب) الذين يبدو لي انهم لا يعرفون ابسط موازنات التفكير ولا يتمتع قطاع كبير منهم بأفق واسع من الاولويات وانهم يتزاحمون من دون قراءات ولا تطوير ولا مقارنات ولا تغيير.. انهم يعشقون ان يرددوا الاقوال ويكرروا المصطلحات ويلوكوا الشعارات ويجتروا الخطابات المألوفة في مؤتمراتهم وصحفهم ومجلاتهم وشاشات فضائياتهم.. الخ وانها كلها قد اصبحت ادوات اعلامية متطورة في نحر مستقبلهم علي ايديهم! " .

 لماذا غيّرت قناعتي بالمثقفين العرب ؟
لقد غّيرت قناعاتي للاسباب التالية :
 1/ لأنني وجدت ان النخبة هذه التي نتشدق بها لم تزل تحمل ترسبات مجتمعاتها ، فعميد كلية يتشدق بعشائريته ، وكاتب ومتخصص يحمل الدكتوراه يتشدق بطائفيته .. وآخر منغمس بشوفينيته مهما كان نوعها وانتمائها .. فضلا عن كونهم يغلّبون عواطفهم السياسية على الحقائق التاريخية والاجتماعية ..
2/ انها تصفق في غالبيتها للانظمة السياسية والتيارات الايديولوجية ، وتغدو ابواقا لاحزاب معينة او نظما سياسية معينة او تغدو على هوامش واعتاب سلطة .. وان قلة تبقى مستقلة ونظيفة ولكنها مهمّشة ..
3/ ان الخمسين سنة الاخيرة قد اختلط فيها الاخضر بسعر اليابس ، ولم نجد حتى بعد الفرز الا اناس يتشدقون بالثقافة وهم لا ثقافة لديهم ابدا ، بل تنقصهم ابسط المعلومات العامة .
4/ لم تنجح اي منظمة او مؤسسة او تجمع او مشروع عمل من قبل المثقفين العرب .. فكثيرة هي التجارب التي فشلت بدءا بتأليف انسكلوبيديا ومرورا بأي اتحاد للادباء مثلا ونزولا الى اي مشروع صغير .
5/ لم نعد نجد المثقف العضوي المهموم بقضايا مجتمعه ، وان وجدناه فهو ضائع بين تناقضات صنعها المثقفون العرب انفسهم احدهم ازاء الاخر فاستشرت الانويات والاعلاميات واسواق النخاسة السياسية وتدخل هذه او تلك من السلطات .. ونحن ندرك من هم رواد المهرجانات الثقافية والاستعراضات الشعرية .. الخ
الاستنتاجات
هنا اسأل : على ايدي من تتعلم الاجيال الجديدة ؟ انها تتعلم على ايدي اناس جعلتهم الاقدار اصحاب شهادات عليا .. بل وهناك رتل خفي تسلل الى مواقع عليا ومناصب سياسية ( في العراق خصوصا ) برز مؤخرا يتجرأ بحمل لقب الدكتوراه وهو لا يحملها ابدا .. بل وهو يتصدر في صنع القرار ولا يتورّع ابدا في الابقاء على كذبته من دون ادلة ومن دون استشهادات .. تقول لي النخبة المثقفة ، فاقول ان هذه النخبة بحاجة الى غربلة وان النخبة بحاجة الى وعي وان النخبة بحاجة الى اخلاق .. والى اصلاح والى اعادة تقييم والى اعادة تأسيس . ان ما حدث في الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين قد اساء كثيرا لاسم المثقف والمثقفين . ان ارتالا كانوا وما زالوا من مثقفي سلطة ومن مروجي اعلام ومن كّتاب لدى قيادات ومن مزوري ثقافات .. وقد دخل الميدان اليوم رجال اعمال وتجار طفيليين ليسموا انفسهم بمثقفين ويستحوذوا باموالهم على الثقافة والمثقفين .. اننا امام مشكلة اخرى ، فالمجتمعات تنتظر من المثقف دوره ، والمثقف الحقيقي تائه وسط هذه التناقضات المريرة .

نشرت في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
يوم 6 يناير 2008

انتظروا الحلقة التاسعة

120
جادة حوار عراقي
مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب
أ.د. سّيار الجميل

الحلقة السابعة
العراق : مشكلات مجتمع واخفاقات دولة !!
مقدمة
اعود اليكم والى الصديق الدكتور كاظم حبيب لاكمل حواري معه ، متمنيا ان اكمله بالسرعة الممكنة ، اذ لم يتبق الا ثلاث او اربع حلقات اخرى ساعالج فيها ما ورد من نقاط اساسية يستوجب التوقف عندها لتوضيح رأيي فيها وسواء اتفقنا ام اختلفنا ، فانني اكن كل المودة والاحترام لمن اخالفه ويخالفني بالرأي ، اذ انني اؤمن ايمانا عميقا بأن واحدا او اثنين او حتى نخبة او مجموعة من النخب لا يمكنه ويمكنها ان يغّير كلامهم التاريخ والواقع .. كما اؤمن ايمانا عميقا بأن الحقيقة لا يمكن ابدا ان يمتلكها واحد فقط حتى ولو كان صاحبها ، فكيف له ان يحتكرها لنفسه من دون ان يفسح المجال للاخرين ان يقولوا كلمتهم فيها ، والفرق كبير بين المعلومة والرأي ، تلك قابلة للخطأ والصواب وهذا قابل للاخذ والرد ..ان الحياة نسبية ولا يمكن ان تكون الامور فيها مطلقة ابدا  ، وسواء اصبت ام اخطأت فذلك لا يغير شيئا من ثقافتي ومكانتي ، بل يزيد من تجاربي ومعلوماتي ..
انني احّي سجايا الاخ الدكتور كاظم حبيب والتزامه الاخلاقي وصدره الرحب في تقّبل ما اكتبه ، وسواء اتفق معي او اختلف فانني اعلن للناس جميعا ان حوارنا هذا بالرغم من تشعباته وخلجانه وتباين مضامينه ومقارباته ومباعداته بيني وبين الرجل ، الا اننا لم نزل نتبادل الرسائل الشخصية ويتفقد احدنا الاخر .. ان اسلوبنا هو نهج جديد من صيغ الحوار النزيه البعيد كل البعد عن المهاترة والتعابير الشائنة التي تزدحم بها مع كل الاسف ساحتنا العراقية وثقافتنا العربية المعاصرتين.. واتمنى من صميم القلب ان يبقى الاختلاف بين اثنين يحتكما للعقل دوما فيجدا ان الاجماع العام هو سيد الموقف .

الرد على الاحكام الرائجة حول الدولة العثمانية
يختتم الدكتور حبيب الحلقة الاولى من حواره بالفقرة التالية : " ففي الدولة العثمانية سيطر في فترات معينة الإقطاع العسكري وإقطاع النخب الحاكمة والميسورين من جهة, والتعصب الديني والمذهبي من جهة أخرى, والتمييز القومي من جهة ثالثة, إضافة إلى العشائرية ودور شيوخ الدين الرجعي, على حياة البلاد العربية في ظل هذه الدولة الثيوقراطية المتخلفة. ورغم مرور ما يقرب من تسعة عقود على انتهاء تلك الفترة المظلمة التي دامت قرابة أربعة عقود, ورغم محاولات التحديث والتجديد, فأن آثارها وبصماتها الفكرية والسياسية لا تزال فاعلة في العقلية العربية وفي السلوك السياسي العربي " .   
انني اتفق مع الدكتور حبيب حول الذي ذكره بصدد الاقطاع العسكري العثماني ، ولكن اسجل في ادناه بعض ملاحظاتي على بعض ما جاء في النص :
1/ صحيح كانت هناك اقطاعات لنخب حاكمة ، ولكن ليست مشروطة الا قبل اصدار قوانين الاصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر .
2/ لقد انتهى الاقطاع العسكري اثر اصدار قانون الاراضي الجديد في العام 1856 ، واخذت التقسيمات صيغا اخرى من العلاقة بين الملاكين والفلاحين ببروز الاراضي الميرية ( او : الاميرية ) ..
3/ لم يكن هناك تعصّب ديني من هذه الناحية ولا من النواحي الاخرى ، اذ تمّتع المسيحيون واليهود بدرجة متميزة وبمكانة لائقة في مجتمعاتهم ، وحوفظ على كنائسهم ، بل وكانت الدولة العثمانية حامية لليهود السيفاردم الذين اضطهدهم الكاثوليك في اوروبا شر اضطهاد .. وفي العراق كانت لبعض المسيحيين املاكهم من دون اي مسائلة ويكفي مثلا ان منطقة زيونة ببغداد كانت من املاك عائلة زيونة المسيحية ، وعائلة عبو اليّسي تمتلك غربي مدينة الموصل.
4/ لم تحجر الدولة العثمانية على رؤساء العشائر الشيعية التملك للارض ، اذ قام بتسجيل جملة هائلة من الاملاك والاراضي العشرات من الملاكين الشيعة الكبار .. ويكفي ان الاف الدونمات الاميرية امتلكها شيوخ العمارة والكوت والمشخاب والديوانية والناصرية  وهم من الشيعة منذ القرن التاسع عشر .. ويكفي ان السيد عبد الهادي الجلبي كان يمتلك اقطاعات واسعة تمتد من الكاظمية الى اللطيفية ، وكان ان قطّعها وباعها وانشأ مدينة الهادي عام 1954 التي اسميت بمدينة الحرية بعدئذ . وكان الرجل قد ورث تلك " الاراضي" عن ابيه عبد الحسين الجلبي رئيس بلدية الكاظمية سابقا .
5/ اما التمييز القومي ، فانا مخالف لهذا ايضا ، اذ ارجو ان يرجع من يعارضني الى دفاتر الطابو العثمانية ويدقق فيها ، لنصفق له ان اكتشف ان تمييزا قوميا قد حصل في تاريخ العراق الاقتصادي ، ان من يستوطن العراق يصبح عراقيا ، فمن حقه ان يتملك فيه .. وان كل الارض والعقار والاموال غير المنقولة كانت لعراقيين عرب واكراد وتركمان .. مسلمين ومسيحيين ويهود وصبة مندائيين.. ان التمييز القومي جرى في اداة الحكم والادارة فقط ، فلم نجد في حكم العراق ولا في تسيير ادارته من ولاة ووزراء اي عرب او كرد او تركمان او غيرهم . لقد كان الحكام اتراكا او جراكسة ياتون من المركز او من ادارة ولايات اخرى مباشرة . لقد جاء التمييز القومي مع سياسة التتريك التي اتبعها الاتحاديون اثر انقلابهم الشهير عام 1908 .
6/ واختلف ايضا بمسألة العشائرية وتأثير رجال الدين الرجعي .. ذلك اننا عندما نحاكم تاريخيا انظمة القرن التاسع عشر ، علينا بادراك ما الذي كان عليه العالم عصر ذاك .. فاذا كانت العشائرية وتأثير رجال الدين لم يزل قويا حتى اليوم في القرن الواحد والعشرين ، فمن غير العدالة ان نعتب على الدولة العثمانية او القاجارية او محمد علي باشا بمصر او الحسينية في تونس او العلوية في المغرب او الزيدية في اليمن وغيرها ان تلغي ذلك من قاموسها !
7/ وصف الدكتور حبيب الدولة العثمانية بالدولة الثيوقراطية المتخلفة ، وهو وصف اقبله منه لأن معظم من قرأ تاريخ هذه الدولة على عجل وصفها بذلك .. والحقيقة ، انها دولة امبراطورية امتلكت نظما سياسية وادارية واقتصادية متنوعة آسيوية واوربية ومتوسطية على امتداد ستة قرون ونصف القرن ، وكانت توازن بين السلطة الزمنية والدينية فهي ليست ثيوقراطية دينية ابدا ، اذ لم تكن دولة خلافة او امامة اسلامية ثيوقراطية  ، بل كانت دولة سلطنة دنيوية اتوقراطية ترسخت بقوانين جددتها على امتداد ستة قرون ، فالسلطة العليا بيد السلطان والصدور العظام وليست بيد شيخ الاسلام ( = مفتي الدولة ) ، وما محاولة السلطان عبد الحميد الثاني لاحياء الخلافة الاسلامية باسم الخلافة العثمانية الا مشروع متأخر لم يلق اي نجاح ولا تطور . 
8/ كنت اول من اشار الى التركة التاريخية العثمانية وتأثير مواريثها في المجتمعات التي كانت في اطارها .. ولقد استمرت تلك المواريث على امتداد القرن العشرين وخصوصا في المجتمعات العربية التي استمر الحكم العثماني فيها اربعة قرون ، واتمنى على القراء والمتابعين الكرام الاطلاع على كتابين نشرتهما قبل سنوات  حللت هذا " الجانب " من مواريث العثمانيين لدى كل شعوب المنطقة ، اولاهما : العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من اجل بحث رؤيوي معاصر ، بيروت 1989 ، وثانيهما : بقايا وجذور : التكوين العربي الحديث ، بيروت ، 1997 . ولعل من اسوأ تلك المواريث جملة من الظواهر الاجتماعية المأساوية التي عاشتها مجتمعاتنا في القرن العشرين ، ولم يكن حّلها سهلا ابدا حتى يمكنني ادانة اي مسؤول من المسؤولين الذين حكموا العراق .. مع حدوث اخطاء واسعة من قبل كل من الدولة والمجتمع معا .

ملاحظات نقدية حول المعرفة العراقية
انني اعتز جدا بـ " المعرفة العراقية " كوني أحد ابنائها الذين تلقوها عن شغف وحب وعشق لا متناه ابدا ، وانني اعترف بأنها كانت من افضل ما قدّمه اي مجتمع في المنطقة من دراسات وابحاث ونتائج ، ولكن ليسمح لي الاخ الدكتور كاظم حبيب وكل الاخوة الزملاء العراقيين ( متمنيا ان يتفقوا معي )  بالقول ان المعرفة العراقية كانت قد انتكست منذ زمن طويل ، وخصوصا ما يتعلق بشؤون العراق الخاصة ومعرفة ظواهره كاملة لأكثر من سبعين سنة .. ان العلوم الاجتماعية العراقية ، خصوصا ، لم تلق رعاية كافية في جزئياتها ، اذ وقفنا على موضوعات كلية من دون فحص دقيق للجزئيات ، وزاد الضرب على العموميات دون الخصائص والشموليات على الدقائق .. لقد حاربت السلطات الحاكمة في العراق منذ اربعين سنة المعرفة العراقية حربا لا هوادة فيها ، انني اعترف بأن اول تأسيس لعلم الاجتماع في الشرق الاوسط كان في العراق ، ولكنه العلم الوحيد الذي حورب بشتى الوسائل وخصوصا في العهد السابق بحيث هرب العلماء ليكتبوا في موضوعات عامة .. وانكمش علم الانثربولوجيا كثيرا .. ولم يقّدم الاهم على المهم ، انني اعترف بأن دراسة الدكتور شاكر مصطفى سليم عن ( الجبايش ) مهمة جدا ، ولكن لم تعالج تقاليد وعادات اهل الصرائف مثلا .. بل واهملت معالجة موضوعات الاقليات الدينية كاملة وبشكل تفصيلي واكاديمي واضح المعالم ! ونال علم التاريخ اهمية فائقة في العراق عند رجالاته السابقين ، ولكن ناله التزوير والتشويه كثيرا وبشكل لا يتصوره اي محايد واسع النظرة ، بل واستخدم وسيلة للهيمنة والتمجيد والتقديس لفئة على حساب فئة اخرى ولسلطة الحاكمين .. صحيح ان موضوعات مهمة جدا قد عولجت في اروقة الجامعات العراقية والاجنبية ، ولكنها بقيت بعيدة عن النشر وباشكال متعمدة .. لقد حوصرت المعرفة العراقية كثيرا على امتداد الخمسين سنة الاخيرة وبشكل لا يصدق .. وطغت النزعات الايديولوجية والشخصية والفئوية والحزبية والسياسية عليها ، بل وحوربت المناهج المختلفة باساليب لا هوادة فيها باسم المبادئ والقيم والتقاليد والنزعات القومية .. ان رجالا من الافذاذ العراقيين ما كانوا ليكتبوا اعمالهم الممتازة لو عاشوا في النصف الثاني من القرن العشرين ، ومنهم ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الدكاترة : متى عقراوي ومجيد خدوري ومصطفى جواد وجواد علي ومحمد مهدي البصير وعلي الوردي وعبد الرحمن الجليلي وشاكر مصطفى سليم وعبد الجليل الطاهر وحسن احمد السلمان ومحمود الجليلي ومهدي المخزومي  وصبيح جميل  وحمدي يونس وعبد الوهاب الوكيل وجعفر خياط ( ماجستير ) وحسن علي الذنون وغيرهم . وكلنا يعرف ما الذي ناله ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كل من الدكاترة : عبد الجبار عبد الله  ويوسف عز الدين وحسين قاسم العزيز وفائز عزيز اسعد  وعباس الدباغ وفريد الله ويردي ومحمد رشيد الفيل وغسان العطية وعبد الواحد لؤلؤة وحكمت جميل وكاظم حبيب وعماد الدين خليل وعوني كرومي وجبار قادر غفور وغيرهم من سلسلة العلماء الاكاديميين العراقيين المعروفين بمختلف اتجاهاتهم ومشاربهم الفكرية والسياسية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار .

التوقف عند ظاهرة اجتماعية
اليوم اود ان اكمل ما بدأت به وساخصص حديثي عن ظاهرة عراقية طالما اختلف الناس حولها ، وكانت ولم تزل سببا لشقاء حزمة عريضة من ابناء المجتمع العراقي .. واريد هنا ان اسأل سؤالا واحدا لكل من ادلى بدلوه حولها اذ انني دوما ما أثير السؤال التالي : هل يتحمل عهد سياسي واحد المسؤولية التاريخية لظاهرة النزوح السكاني في المجتمع العراقي ؟ ولما كان هذا " الموضوع " ، وخصوصا نزوح الجنوبيين الى اطراف بغداد ، قد ارتبط  بـ " الاقطاع " ، وان " الاقطاع " ارتبط بالعهد الملكي . فمن يتحمّل مسؤولية هذه الظاهرة التاريخية من حياة البؤس في العراق ؟ انني اثير الموضوع واربطه بهذا " الحوار " كي نسمع سويا الى رأي الاخ الدكتور حبيب بمن كان وراء هذا البؤس ؟ ولماذا ينقسم الرأي العام الاجتماعي ببغداد خصوصا ازاء تقييم هذه " الظاهرة " ؟ ولماذا عولجت هذه " الظاهرة " علاجا غير واقعي البتة ؟ ولماذا تحمّلت العاصمة بغداد والمدن الكبيرة ترسبّات تلك الظاهرة القديمة التي انتجت واقعا جديدا يقوم على التباين لا على التعايش ، وعلى الانشطار لا على الوئام ؟؟ ولماذا انفرد السياسيون ومن كان في السلطة بصنع القرارات من دون استشارة العلماء في الاجتماع والبيئة والتخطيط الحضري ؟
ان السائل اليوم ، كما كان سابقا ، يحتار وسط رأيين عراقيين ( وبالذات بغداديين ) حول اهل الصرايف .. رأي متعاطف معهم ويبكي على مآسيهم وبؤسهم وشقائهم ويريد ان يكونوا مثل خلق الله العراقيين الآخرين  ورأي يختلف معهم ، بل يخاصمهم وينعتهم بشتى النعوت القاسية ويعتبرهم كائنات من الدرجة الخامسة . ونفس هذا الرأي او ذاك اجده في تقييم النازحين الذي قطنوا حول المدن الكبيرة ، وخصوصا في الموصل وكركوك واربيل والنجف والبصرة مع اختلاف طبيعة السكن وطبيعة المعاملة ، فلا يمكن ان نجد مجتمعا متعبا كما هو حال اهل الصرايف .. هنا ، ربما يسألني سائل : ولماذا كل هذا الاهتمام بهذه الظاهرة ؟ اقول لأننا لا يمكننا ان نحاور ونجادل بعضنا بعضا حول الديمقراطية والاشتراكية والمفاهيم الحديثة من دون معرفة ما قادت اليه ظواهر قديمة بعينها من نتائج مفجعة ؟ ولماذا لم نربط بين الظواهر لاكتشاف المزيد من الحقائق عن العراق ومجتمعه الذي نجده اليوم وقد تشّظى فجأة .. فهل المشكلة تنحصر فقط بحكام العراق الطغاة والوادعين ؟ ام ان المشكلة الاجتماعية في العراق اكبر منهم جميعا ، واكبر حتى من ان تعالج في يومنا هذا . نعم ، لقد كان كل عهد قد ساهم في تفاقم الخلل والعطب من حيث يدري ولا يدري .. انني عندما اعالج هذا  " الموضوع " في حوارنا اليوم ، فانني متأكد ان ادبيات كل الاحزاب العراقية التقدمية والاصلاحية .. الليبرالية والقومية على امتداد القرن العشرين كانت تكتب الكلائش والشعارات والبيانات والخطابات وتثير العواطف والاتجاهات من دون ان نجد دراسة واحدة لها موضوعيتها وعمقها يعتمدها العراقيون في اصدار قراراتهم رسميا او احكامهم اجتماعيا ..
ولا ادري هنا هل يتقارب معي الدكتور كاظم حبيب ام يتباعد ؟

الاسباب والعوامل
يكاد يجمع الناس من علماء وكتّاب ورجال مجتمع على ان غالبية من سكن الصرايف في بغداد كان من الجنوب ، وبالذات من العمارة شرق دجلة ، ولكن تتباين الاسباب والعوامل في نزوحهم الواسع نحو العاصمة . صحيح ان الاضطهاد الذي مارسه الاقطاعيون من شيوخ العمارة قد ساهم في ذلك ، بحيث كان النازحون طرداء من الارض  ، اي مبدعين عن المكان .. ولكن هل يمكننا ان نصّدق ان كل النازحين كانوا من الفلاحين المضطهدين ؟ من الطبيعي ان نزوح  بعضهم لأسباب متنوعة ، فجاء لكي يعيش قرب العاصمة يبحث عن عمل او يبحث عن مال .. وقد قيل لي ان كثافة النزوح جرت في عقد الخمسينيات ، اي قبل ثورة تموز بثلاث سنين وبعد قيام الثورة بثلاث سنين .. اذ ازداد النزوح بعد اصدار قانون الاصلاح الزراعي بسبب فقدان الفلاحين لاعمالهم السابقة وعجزهم على السيطرة على مساحات واسعة منحت لهم .. فضلا عن بوار الارض وتوقف انتاجها تماما . لقد اخفقت الدولة في حل قضايا اساسية تتعلق بالحياة الاجتماعية ، وهي ترى هذا النزوح الكثيف من الجنوب نحو بغداد .. فلا هي أمنّت الخدمات الضرورية لهم ، كما انها اخفقت في ارجاعهم الى ارضهم وديارهم .. ولا هي قرأت مستقبل البلاد الاجتماعي في جعلهم يستوطنون حول بغداد والمدن الرئيسية ، كي يجدوا انفسهم بعد حين وقد اندمجوا ببغداد والمدن الرئيسية .. بل يصل توصيف بعضهم لهؤلاء من اهل الصرائف مثل قنابل موقوتة ستنفجر يوما ! لم يجد هؤلاء اي رعاية تذكر ابان العهد الملكي ، ولكنهم وجدوها في الزعيم عبد الكريم قاسم الذي غدا بالنسبة لهم الاب الحاني عليهم والمتعاطف مع مشكلتهم ، وخصوصا عندما بنى لهم بيوتا اسكنهم فيها من دون ان يدري ان خللا كبيرا سيحدث في الهيئة الاجتماعية للمجتمع البغدادي الذي لم يعد ينفع دفاع البغاددة عنه ..
دعوني الان أوّضح بعض التفصيلات عن مأساة الصرايف وتداعيات آثارها على مجتمع بغداد ، وعلى انظمة الحكم المتعاقبة .
مأساة الصرايف حول العاصمة بغداد
 كانت الصرائف تغطي مساحات واسعة من مدينة بغداد في جانبيها الشرقي  والغربي، الرصافة والكرخ، وتضم في أحشائها المظلمة مئات الألوف من أبناء الشعب العراقي النازحين من موطنهم الأصلي وأغلبهم من أبناء لوائي العمارة والكوت . إن الدراسات الإجتماعية لأحوال العراق تقول: إن ظاهرة هجرة الفلاحين من الريف إلى المدن بدأت بشكل واسع منذ ظهور الوسائل الحديثة والمواصلات والكهرباء والخدمات .. ولكن لماذا نزح الاكثرية من لوائي العمارة والكوت ؟ وايضا الى حد كبير من الناصرية ؟ ثمة جواب واحد متفق عليه يتضمن انفجار تناقضات كبيرة في داخل البنية الاجتماعية في الالوية الثلاثة نتيجة سوء استخدام السلطة وسوء استخدام العلاقات الانتاجية والصراع من اجل قيم جديدة لم تكن موجودة سابقا ..  وكانت صرائف العاصمة قد غطت مساحة كبيرة من الأراضي المنخفضة، ما وراء السدة الشرقية، التي أقامتها الحكومة لحماية بغداد من الفيضانات وكانت بدايتها من المنطقة القريبة من ساحة النهضة حالياً حتى منطقة البتاويين في الباب الشرقي ويفصل بين هذه الصرائف متنزه بارك السعدون، الذي أقامته أمانة العاصمة في العهد الملكي.

عوامل الهجرة المتنوعة :
انني ادرك ان عوامل هجرة الفلاحين من اقصى الجنوب الى اطراف بغداد قد بدأ منذ زمن طويل يعود الى عهد مدحت باشا ابان القرن التاسع عشر ، اذ تخبرنا الروايات التاريخية ان النازحين كانوا يقطنون خارج الاسوار ، اذ لم يكن سكان المدن ليسمحوا ابدا لاولئك النازحين بالدخول الى داخل اسوار المدن لأسباب تتعلق بالامن والنظام ، واول من قطن خارج الاسوار البدو ، وخصوصا حول الكرخ ( خلف مطار المثنى ) وحول الرصافة ( خلف السدة  )  وحول مدينة النجف ( خلف المقابر )  وحول اسوار مدينة الموصل القديمة ( ومنهم جوبة البكارة خلف باب الطوب وجوبة عكيدات قرب المحطة .. ) وغيرها من المدن .. ثم كثر النزوح مع وجود الكهرباء في المدن والخدمات الجديدة التي ظهرت في الاربعينيات وازدادت تماما في الخمسينيات ، بحيث انتشرت الاف الاكواخ / الصرائف من السعف والطين على جانبي غرب بغداد ( = الكرخ ) وشرقها ( = الرصافة ) ناهيكم عن نزوح الاف الاكراد الى الساحلين الايمن والايسر من الموصل ، وكان الساحل الايسر خاليا الا من جامع النبي يونس الذي يسكن حوله البيغمبرلية التركمان .. كما كان النزوح الى اربيل والاستيطان حول منطقة القلعة وكذلك كركوك  ولا استطيع القول ان نزوح الجميع نحو العاصمة والمدن كان قسرا ، بل كان نزوح بعضهم لاسباب البحث عن عمل من نوع آخر .. وقسم أتى ليعيش بهرجة المدن والتسكع او العمل في شوارعها .. وبعضهم أتى للخلاص من حياته الريفية كي يصبح ابن مدينة .. ولقد تفاقم النزوح بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 بشكل كبير جدا .. كتاب التجمعات البشرية في العراق . تأليف الفريق طه الهاشمي 1936.
هذا هو تأريخ أصحاب أكواخ القصب الذين اتوا ليسكنوا اكواخ الطين  (= الصرائف )  وكيف هجروا أو هاجروا من مناطق سكناهم الأصلية في العمارة إلى أطراف بغداد ، واغلبهم من الشروك ( وهذا ليس عيبا ) أي : انهم من شرق دجلة ، وهم ليسوا المعدان في الهور . فالمصطلح مأخوذ من الشروق ، يعني اهل الشرق ، ويذهب بعضهم لانتزاع صفة العراقية منهم كونهم نازحين من الشرق مستقرين في العراق منذ العهد الصفوي ، وانهم لم يمنحوا الجنسية العراقية حتى عهد عبد الكريم قاسم  ! يكتب  الكاتب عارف معروف قائلا : "  وكان اسم " الشروكية او الشراكوة او الشروك"كما عرفوا لدى البغادة ذي دلاالة مكانية، اولا، باعتبار نزوحهم من الجزء الجنوبي الشرقي للبلادلكنه اكتسب لاحقا دلالة اجتماعية معينه واصبح في عرف الطبقة السائدة مفردة تشير الى الدونية والانحطاط والهامشية رغم ان " الشروكية " ضموا في صفوفهم لاحقا ،( بعيد ثورة تموز وخلال الستينات) بعض عوائل الشيوخ ممن انتزع ما بحوزتهم من اراضي وتهاووا سريعا الى درك المعدمين وعملوا في ذات المهن مع بني جلدتهم حيث كان افضل ما يمكن ان يكون عليه احدهم من مرتبة ، كما يغمزهم اندادهم، ولكن حقا وصدقا،هو ان يصبح شرطيا او عريفا في الجيش فكونوا جل القاعدة الاساسية لمراتب الجيش والشرطة وستظهربعض نتائج ذلك واضحة خلال العقود اللاحقة ايضا .. " (انظر : عارف معروف ، المضمون الاجتماعي للطائفية في العراق ، 7 ، الحوار المتمدن ).
وماذا ايضا ؟
 لقد تحولت تلك المناطق الواسعة بعد ان اصبحت الاراضي اميرية وخصوصا ابان نهايات العهد العثماني ومن ثم البريطاني ومن ثم الحكم الملكي  إلى مجموعة من الشيوخ لشراء ولائهم ، كما كان الشيوخ دوما يتحالفون مع رجال الحكم ـ كما عرفنا من الحلقتين السابقتين ـ .. هذا ما عرف من ادبيات العراقيين للأرض وانغمس في حياة الترف واللذة المشروعة وغير المشروعة، لذلك هجر أغلبهم مناطق قبائلهم وأخذوا يسكنون المدن، هذا ما جاء في دراسة الوردي في كتابه طبيعة المجتمع العراقي.. وأضاف: إن السفير الأمريكي في بغداد، ولدمار دولمن ـ قد أشار في كتابه الشهير عن العراق في عهد نوري السعيد إلى إن أسباب هروب الناس بعيداً عن أراضيهم الزراعية في تلك الفترة تعود إلى تسلط وظلم شيوخ العشائر والإقطاع في تلك المناطق . وقد أشار الدكتور علي الوردي إلى هذه القضية بقوله: إن هذه القوانين قد أرست دعائم العلاقة الإجتماعية الضعيفة في الريف، فبعد أن كان شيخ القبيلة يعيش بين أفراد عشيرته ولا يتميز عنهم إلا بحنكته وإخلاصه لهم، أصبح مالكاً للارض والمصالح .. وتحولت الأقوام إلى مجاميع طالها الظلم والإستبداد اللذان إستمرا حتى بعد ولادة الدولة العراقية واستند الرجل في ذلك على ادوات المعرفة التحريرية والشفوية التي يدركها القاصي والداني . ( اشير الى ان اول من اعتنى بموضوع التبيؤ السكاني هو الفريق طه الهاشمي في كتابه : التجمعات البشرية في العراق  1936 ).                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                         

الانتشار الجغرافي للبؤس :
 ففي بغداد ، سكن النازحون في ثلاث مناطق وراء السدّة ( = سدة ناظم باشا ) . وفي محلة الصرافية وتجمعات اخرى صغيرة هي المنتشرة قرب المحطة العالمية نحو الشمال .. فهل هناك اسوأ من تلك الأكواخ ؟ انها "الصرايف"البائسة التي اشتهرت بها بغداد اكثر من اي مدينة عراقية اخرى ، علما بأن بقية المدن الكبرى كانت قد احاط بها ايضا الآف النازحين .. في بغداد امتدت الصرائف بمناظر تثير الاستياء من مبنى محطة قطار الموصل جنوب / غرب بغداد والوصول إلى الشمال على المنطقة  المقابلة لمعسكر الوشاش وامتدادا حتى كرادة مريم ؟، انها منطقة صرايف، وقد امتداد سكة القطار المار بمنطقة الشالجية ومنطقة علي الصالح وصولا الى الطوبجي وحتى الكاظمية شمال / غرب ..
نعم ، انها مدينة كاملة تحيط بكرخ بغداد .. اما " الشاكرية " ، فهي تلك سمّيت نسبة إلى مالكها وزير الدفاع ابان العهد الملكي  شاكر الوادي، كما كانت قد اسميت مدينة الهادي نسبة الى الوزير عبد الهادي الجلبي ( ابو الدكتور احمد الجلبي ) .. اما في الرصافة ، فهناك " صرايف خلف السدة " وفي الاعظمية " صرايف بزايز الصليخ " .. كانت تحتشد المئات بل آلاف الصرائف حول بغداد ! وعلينا ان نتصور حجم الكراهية الاجتماعية المتوالدة بالضرورة بين هؤلاء النازحين البؤساء وبين البغداديين اولا ، وحجم الاحقاد البشعة بين الاغنياء من ذوي القصور والثراء وبين الفقراء المحرومين الذين يعيشون في الصرايف التي يقطنها آلاف مؤلفة من البشر. وقد عللت لي احدى السيدات البغداديات القديمات اللواتي تعاملن مع هؤلاء الناس من خلال موقعها المسؤول في الهلال الاحمر ان مجتمعا غرائبيا عجيبا كان يقطن حول بغداد ، وهم قد اعتادوا تلك الحياة المشينة في نومهم مع حيواناتهم وممارستهم اسوأ الاعمال .. واردفت قائلة بأنهم " شروك " اي انهم قدموا من شرق دجلة عند العمارة ، ولم يكونوا  بالمعدان ، فالمعدان غير الشروك .. يعيشون على هامش بغداد ويعاملون كاناس من الدرجة الثانية او الثالثة .. ولم يظهروا احقادهم على المجتمع البغدادي ، فهم يهربون ويسكتون على الاساءة من دون اي رد ، قلت لها : ربما يكظمون غيضهم ويخفون المهم . اجابت : ربما !.. وكان رجل بغدادي قديم يردد قائلا لولده ( الذي اصبح طبيب عيون في المستقبل ) بأن الفجيعة قادمة الى بغداد عندما يكبر هؤلاء الاطفال البؤساء !

حجم البشاعة الاجتماعية :
اننا قد نجد حجم البشاعة كبيرا لما حدث صبيحة 14 تموز / يوليو 1958 ، من قتل وسحل ربما اشترك في ذلك اغلب دهماء بغداد ، ولكنني اعتقد ان كل ما حدث هو تعبير عن الكراهية والاحقاد المتوقدة في دواخل الذات العراقية على كل ولاة الامر .. خصوصا وان العقيد الركن عبد السلام عارف كان يستصرخ كل العراقيين من اذاعة بغداد ان يخرجوا الى الشوارع كي ينتقموا من العهد البائد قائلا بالحرف الواحد ان جثتي كل من الوصي وسيده تسحلان الان في الشوارع ولم يكونا قد قتلا بعد .. فهل يمكن للعراقيين بالعاصمة بغداد واطرافها ان ينتظروا داخل بيوتهم ؟  ولكن دعونا نتساءل ونحن نتخيل ماذا لو فلت زمام الامر قبل اعلان الزعيم الركن عبد الكريم قاسم منع التجول على الساعة الثانية عشرة ظهرا ؟ ماذا كان سيحدث لو انفلت الامر من ايدي الانقلابيين الثوار او الضباط الاحرار خلال ساعات نهار 14 تموز / يوليو 1958 ؟ انني اتخيل ان اكبر كارثة كانت ستحل ببغداد من قتل وسلب ونهب .. كالذي حدث في الموصل على مدى عدة ايام عشية فشل تمرد العقيد الركن عبد الوهاب الشواف على الزعيم عبد الكريم قاسم في 8 آذار / مارس 1959 ، وما حل من فجائع قتل وسحل وتعليق ونهب وسلب من قبل الذين هبّوا على المدينة من اطرافها ، علما بأن النازحين الى اطراف الموصل لم يكن حالهم كأهل الصرائف حول بغداد ! بل كانت لهم بيوتهم وطرقاتهم وخدماتهم ..

من كان يشعر بالمرارة فعلا ؟
دعونا نكمل الصورة لمأساة تلك الفئة الاجتماعية التي احاطت بغداد من كل ناحية ومن كل صوب .. وعلينا ان لا نتصور حجم البشاعة التي تحيا عليها تلك " الطبقة " الاجتماعية التي تسكن صرائف في الصيف الملتهب ، وهي تطفو على مستنقعات مياة آسنة تعلوها القذارات ، وهي تتشكل في ألوانها وهيئاتها وفق محتويات الاوساخ المتراكمة بين صريفة وأخرى، وعلينا ان نتصور حالها واوحالها في الشتاء عندما يحل موسم الامطار .. اما ان حدث الفيضان فالصورة لا يمكن تخيلها ! ان العديد من رجالات بغداد كبار السن الذين التقيت بهم كانوا لا يعتبرون ما نقوله شيئا ذي بال حتى وان تحدثت معهم حديث حقوق الانسان ، اذ اجمع بعضهم ان من كان يسكن الصرايف قد اعتاد حياته تلك ، وهي سيان عنده ، خصوصا اذا ما قرن عيشه هنا في ضواحي بغداد بالمكان الذي كان يقطن فيه في جنوب العراق .. ولكن احدهم التفت الي قائلا : انهم ما كانوا ليبالون بالمأساة ، ولكن اولادهم كانوا يشعرون بمرارتها ! وهنا ، نتوقف قليلا لنتأمل المشهد ونحن في تلك المرحلة ولا ننظر اليهم من منظار يومنا هذا ..
ونتساءل : لماذا لم تعالج مثل هذه " الظواهر " الصعبة في حياة العراقيين منذ بدء تكوين الدولة العراقية حتى يومنا هذا ؟ لماذا اهتمت كل السلطات في العراق وعلى مر العهود وحتى يومنا هذا بالدولة ومؤسساتها ، ولم تهتم بالمجتمع وتراكيبه ؟ لماذا اهتم كل من الدولة والمجتمع معا بالجيش والاحزاب والنقابات والايديولوجيات .. الخ ولم يظهر امامنا اي اهتمام بالبنى الاجتماعية العراقية والخدمات وحقوق الانسان ؟ لماذا نصفق دوما للكوارث والنكبات ولا نسأل سؤالا واحدا : لماذا خسرنا الالاف المؤلفة من شبابنا في الصراعات الداخلية والحروب الدموية ؟ لماذا اهتمت اغلب السلطات التي حكمت العراق بالعاصمة بغداد فقط من دون بقية المدن والقصبات ؟ انني لا انكر وجود عدة احزمة بائسة من المناطق التي تحيط بعواصم ومدن شهيرة في الشرق الاوسط والعالم ، ولكن لم تكن كالتي كانت عليه العاصمة العراقية وبعض مدن العراق ! انني اتساءل : اذا كان الجميع يدين المسؤولين السابقين ممن تحّكم بالسلطة والنفوذ ، فأين كانت الاحزاب العراقية ؟ واين كانت الصحف العراقية ؟ واين كان المجتمع نفسه ؟
   ان المشكلة سايكلوجية ايضا ، فكل عراقي سواء كان مسؤولا ام مواطنا ، لم يهتم الا بنفسه ومصلحته ومتعته وفرص نجاحه وذاته وقوته وشهرته هو نفسه .. ولا شأن له بالاخرين ! ان كل عراقي ليس له الا ان يمجّد بنفسه وعائلته وعشيرته وقبيلته وطائفته وابناء قومه وجنسه .. ولا شغل له مع الاخرين ! ان كل عراقي عليه بموقعه ومنصبه وسياحته  واكله وشربه وسمعته ونومه وقيامه وقعوده ولا يهتم بالاخرين .. اي بمعنى ان الذات العراقية تسبق المواطنة العراقية .. انها حالة مجتزأة من مواريث تواريخ اجتماعية لا يمكن تغييرها بسرعة ابدا . فالتجانس غير موجود بين العراقيين ، بل يسود التمايز على اساس ثنائيات غدت مترسخة في الضمائر كاعراف ، منها تصنيفات تتم على اساس : اصيل وطفيلي .. غني وفقير ..  بغدادي وشروكي .. عربي وعجمي .. احضري وبدوي .. الخ ولما كانت الفروقات الطائفية والقومية غائبة لزمن طويل بحيث حدثت زيجات وانتسابات بين عرب وكرد وتركمان .. بين سنة وشيعة .. بين جنوب وشمال ، الا ان هذه الاختفاءات الاخيرة اهتزت وربت في السنوات الاخيرة ، وبدت تظهر على السطح بشكل سافر ويا للاسف الشديد ! 
 
ماذا لو حصلت الكارثة ؟
نعم ، كانت الصرائف محرومة من الماء والكهرباء ، واذا كان البعض يحرمها من المجاري ، ذلك ان بغداد نفسها بطولها وعرضها كانت محرومة من المجاري .. كانوا يجلبون الماء من حنفيات في مراكز نشرتها امانة العاصمة او من دور الناس القريبين .. ويقال ان اللمبات والنفطيات القديمة كانت هي المستخدمة ، وهناك رواية تقول ان بعضهم كان يسرق الكهرباء من اعمدتها .. ولم تكن هناك اي اماكن لقضاء الحاجة .. فلنتصور حجم الكارثة التي زادت عن حجمها ابان السنوات الاخيرة من العهد الملكي . كانوا يعيشون مع حيواناتهم وجواميسهم معا .. كانت النسوة يعملن ليل نهار من اجل لقمة العيش .. كان الاطفال يذهبون الى المدارس ببغداد وهم يمرون عبر شوارع البغداديين وبيوتهم وقصورهم .. فلنتصور حجم الالام واختزان الكراهية عندما يقارنوا انفسهم ومعيشتهم وحياتهم بحياة البغاددة ليل نهار .. كانوا فعلا يشعرون بظلم كبير وخصوصا اولئك الذين ولدوا في تلك الصرائف الكريهة من جيل ولد في الخمسينيات .. كانت الفتيات يشعرن بالتفاهة وهن يخدمن في البيوت طاهيات وخبازات ومربيات وخدامات وبياعات كيمر ولبن ..

خطط استراتيجية بديلا عن خطط خدمية
 ولعل من ابرز اخطاء العهد الملكي انه خصص 75% من واردات العراق للمشروعات الاستراتيجية من دون ان يخصص اي نسبة مضافة للمشروعات الخدمية من اجل انقاذ هذه الفئة الاجتماعية التي باتت تحيط بالعاصمة بغداد ! ولقد كشف احد الباحثين العراقيين الذي اعد اطروحته عن مجلس الاعمار في العهد الملكي ( تحت اشراف الصديق الدكتور كمال مظهر احمد )  ان وزارة الاعمار ومجلس الاعمار في العراق كانا قد قررا حماية العاصمة بغداد من التلوث الصحي وقلة الأمن فكانت ثمة افكار وخطط من اجل نقل هذه الفئة الاجتماعية الى دور صحية ذات مستوى مقبول وقد انبثقت لجنة برئاسة حسن احمد السلمان من وزارة الاعمار قدمت عروضا واقتراحات وخرائط ، ولكن سبقتهم ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، فبدأ الزعيم عبد الكريم قاسم بتنفيذها والاسراع بها . وعليه ، فان ما حدث في 14 تموز / يوليو 1958 يعد بالنسبة لاهل الصرايف حالة انقاذ اسرع بتنفيذها الزعيم عبد الكريم قاسم ، واعتقد انه الزعيم العراقي الوحيد الذي كان يشعر بمعاناتهم والآمهم .. فكان بالنسبة لهم ابا لهم وللفقراء جميعا .

مجلس الاعمار في العراق
دعوني قبل ان اكمل هذه " الحلقة " ان اتوقف قليلا عند مجلس الاعمار في العراق من خلال طرح السؤال التالي والقائل: هل كان مجلس الاعمار في العراق سيلتفت الى مسألة الخدمات في العراق ؟
انني متأكد من ذلك تماما بحكم معرفتي للخطط الطموحة التي تضمنها ، وبحكم القيادات العلمية التي كانت تقف على رأسه ، وكان هناك ثمة سباق مع الزمن بينه وبين الاخفاقات السياسية ، بينه وبين المعارضة السياسية ، وبينه وبين خصومه في الداخل والخارج .. بينه وبين اذاعة صوت العرب .. انني اسجّل على نظام الحكم الملكي العديد من الاخطاء التي كان لابد من علاجها وطنيا وسياسيا وخصوصا انغلاقه على نفسه ومحاربته خصومه ( والشيوعيين في مقدمتهم ) اذ كان الزمن يجري لصالحهم ايام الحرب الباردة  ، ولكن بنفس الوقت لا يمكننا ان ننكر ان للمعارضة السياسية كلها كانت لها جملة اخرى من الاخطاء ، انني لا انّزه اي عهد سياسي في العراق من الاخطاء التاريخية ، ولكن تختلف اخطاء كل عهد عن اخطاء العهد الاخر .. ولا يمكننا ان نبقى نمجّد في هذا فقط وندين ذاك فقط .. اننا بالوقت الذي لا يمكننا نكران ما تمّ تأسيسه وما جرى عمله والتخطيط له في العهد القديم فضلا عن تطور ملحوظ في القضاء والمعارف والامن فاننا قد عرفنا اين كانت اخطاؤه ، وان اقصاء عدد من خيرة نخبة العراق ، والغاء العديد من الخطط التنموية على يد الدكتور طلعت الشيباني بعد قيام 14 تموز 1958 يعد خللا لابد من الاعتراف به بعد ان تم التغيير على العهد الجديد ..
دعوني انقل حرفيا ما سجله الدكتور فاضل الجلبي ( الخبير الاقتصادي العراقي  في مجال الطاقة ) ، فقد كتب قائلا : " إن تأسيس مجلس الإعمار في العراق الملكي كان إنجازاً عظيماً من أجل استثمار عوائد النفط في التنمية، بدلاً من الإنفاق الاستهلاكي، كان أعظم تجربة تنموية في العالم الثالث، ولم يكن له مثيل في الأقطار المنتجة للبترول. قام مجلس الإعمار بمشاريع كثيرة غيرت في البنية التحتية للاقتصاد العراقي، والتي لو استمرت لأصبح العراق في عداد الدول الصناعية الحديثة مثل كوريا الجنوبية والبرازيل.
لم تكن المعارضة العراقية آنذاك قادرة على فهم أهمية مجلس الإعمار في تطوير العراق فحسب، بل كانت تهاجمه حتى سمته ظلماً بـ «مجلس الاستعمار»! ولا يعني مثل هذا الهجوم سوى تخريب عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وكان أن أول عمل قام به فؤاد الركابي وزير الإعمار، في حكومة 14 تموز، هو إلغاء مناقصات دولية، منها مشروع إنتاج المواد البتروكيماوية في البصرة، وذلك باستخدام الغاز الطبيعي، والذي كان يحرق هباءً، ولو تم ذلك المشروع لكان العراق من أهم مصدري تلك المواد في العالم. كذلك أن نظام التعليم في العهد الملكي في كل المراحل كان من أرقى الأنظمة، إن لم يكن أرقاها. فكلية الطب العراقية كانت الكلية الوحيدة في الشرق الأوسط المعترف بها في المملكة المتحدة. وخرجت سياسة التعليم، والبعثات إلى الخارج أجيالاً من المهندسين، والأطباء، والمثقفين، والعلماء ما لم يحصل مثله في البلاد الأخرى من المنطقة.
وباستثناء الريف الذي كان محكوماً بنظام العشائر، الذي جعل من شيوخها حكاماً فعليين في مناطقهم، إلا أن القضاء في المدن كان يتمتع باستقلالية، وكفاية، واحترام لأحكام القانون، مما تهدم في الأنظمة التي تلت العهد الملكي. وعلى صعيد آخر، حقق ذلك العهد خطوات هائلة في تطوير الحياة الثقافية، من الأدب والشعر، والفنون والموسيقى والرسم. ظهر جواد سليم، الذي أعطى فن الرسم والنحت في العراق أبعاداً لم تكن موجودة في المنطقة. وظهر الشعر الحديث عبر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وظهر أدب القصة من خلال فؤاد التكرلي وعبدالملك نوري، والثورة التقنية في عزف العود بقيادة محيي الدين حيدر، وظهور أول فرقة سمفونية في المنطقة.
لم يعط الفكر العراقي المعارض للعهد الملكي تلك الإنجازات حقها، بل كان ينظر سلباً الى كل ما كانت تقوم به الحكومة. وكانت تطلق الألقاب والأسماء على أي مشروع من مشاريع مجلس الإعمار، على أنها في خدمة أغراض حلف بغداد، وغير ذلك من السخف الذي يكشف عن العقلية السلبية التخريبية للفكر السياسي العراقي آنذاك.
بداية، يجدر القول انه ليس القصد من الكتابة حول كامل الجادرجي هو التعرض لشخصه، فهو كان من دون منازع زعيماً للمعارضة السياسية في العهد الملكي، وصاحب جريدة «الأهالي»، التي حظيت بإقبال شديد من الطبقات المثقفة آنذاك. كما أنه قدم خدمة كبيرة في التوثيق الفوتوغرافي للعراق، فله مساهمة كبيرة في التاريخ العراقي مستعيناً بقدرته الفائقة في فن التصوير. إنما القصد هو إيضاح الفجوة بين رفعه شعارات الديموقراطية، والدعوة لها من جهة، وبين سلوكه الفعلي في العمل السياسي، والعلاقة مع الطرف الآخر، سواء كان داخل حزبه أو مع السلطة، مما حال دون تطور الفكر الديموقراطي للحزب من أجل ديمومته في الحياة السياسية العراقية. يتكلم الساسة العراقيون في الديموقراطية من دون أن يكونوا ديموقراطيين، فهناك ميل الى التسلط الفردي في داخل التجمع السياسي ".

واخيرا : اقول :
هذا هو نص ما سجله الدكتور فاضل الجلبي .. انني ادرك ادراكا تاما ما سر العداء الذي يكّنه الشيوعيون العراقيون للعهد الملكي القديم ، خصوصا وانهم اضطهدوا فيه وكان قاسيا عليهم ، وكانت تلك واحدة من ابرز اخطائه والتي دفع عنها ثمنا غاليا جدا .. المهم ، اننا اليوم وبعد مرور نصف قرن كامل على تلك النهاية القاسية التي انتهى فيها ذلك العهد ، لابد من نظرة حيادية ورؤية تاريخية فاحصة وعلمية بديلا عن اي مواقف سياسية وحزبية وايديولوجية لا يمكنها ان تصمد ابدا على امتداد التاريخ ..
انني لا اتبنى كل ما جاء به الاستاذ الدكتور الجلبي ، ولكنني جعلت هذا " النص " يختتم هذه الحلقة كون صاحبه اقدم مّني ويعرف ماذا يقول بشأن العراق .. انني اقول بأن المشكلة لم يكن باستطاعة احد من المسؤولين حلها بمثل هذه السرعة التي كانت تتفاقم فيها .. وها قد رحل العهد الملكي ومرت خمسون سنة بالضبط على رحيله ، والعراق ينتقل بمآسيه من سيئ الى أسوأ  .. لقد كانوا في رحى الصراعات الحزبية العقائدية الدموية بين الشيوعية وبين البعثية ابان الستينيات .. ثم اصبحوا في حالة تشرذم حزبي عقائدي ابان السبعينيات .. ثم انتقلوا ليكونوا وقودا وجمرا للحرب العراقية الايرانية التعيسة .. ثم اكتسحتهم رحى الحصارات والطغيان ايام التسعينيات .. وكللت عليهم وغطت ما شهدوه في هذه السنوات العجاف من بدايات القرن الواحد والعشرين .. فهل لنا من طريق جديد يخلصنا من دوامات الماضي الصعب .. ويداوي جروح مجتمعنا العراقي لكي تندمل بدل مسلسل الصراع من اجل ان تفتح صفحة تاريخ جديد . انني اتأمل خيرا اذا ما نجحنا في تغيير تفكير العراقيين وزحزحته عن قوالبه الثخينة . عند ذاك سيصفق اولادنا من اجل المستقبل !

نشرت لأول مرة في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

5 يناير 2008

انتظروا الحلقة الثامنة

121
أ. د. سيّار الجَميل
البنية العشائرية في العراق (1)

مقدمة
اعود اليكم والى الدكتور كاظم حبيب في الحلقة الخامسة من جادة الحوار الذي اخذنا الى مسافات بعيدة من محاولات فهم العراق سواء في طبيعته السياسية او في علاقاته الانتاجية او في بنيته الاجتماعية .. وهنا اشكر لكل القراء الكرام متابعتهم واهتمامهم بهذه الحلقات وردود الفعل التي اثارتها ، مثمنا كل الرسائل التي وردتني من داخل العراق وخارجه حول ما دار الى حد الان من جدل علمي .. كما استنكر اي كتابات تطال اي عراقي من دون وجه حق وهي تسيئ اساءات بالغة بعيدا عن المنهج العلمي وخروجا عن اللياقة في الحوار .. بهذه المناسبة ، لابد لي ان اشكر العديد من الاصدقاء الذين تكرموا باسداء معلومات عن مناطقهم وطبيعة العلاقات التي حكمت الناس قبل خمسين سنة . ولا اخفي عن القراء الكرام انني استفدت جدا من المعلومات التي اضمنها الان مشروع كتابي الجديد عن بنية المجتمع العراقي .


اولا : من المسؤول عن ماضي حياتنا العراقية ؟

نعم ، من المسؤول عن ماضي حياتنا العراقية ؟ هل المسؤول قائد او زعيم واحد ؟ هل المسؤول عنه نظام سياسي واحد ؟ هل يمكننا ان نضع كل البيض الفاسد في سلة واحدة ؟ هل كان كل حكام العراق اذكياء وملائكة وقادة سياسيين محنكين ؟ ام كانوا جميعا اغبياء وشياطين وزعماء فاشلين ؟ هل يمكننا اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين البقاء اسرى وسجناء شعارات واكاذيب ومعلومات منها الصواب ومنها الخطأ ؟ هل يمكننا ان نرحل من عهد سياسي الى آخر ونحن لا نملك الا اسطوانة مشروخة واحدة .. علما بأن العراق كلما تقدم الزمن به تأخر كثيرا عما يجب عليه ان يكون .. بل وازداد شعبه بؤسا وفقرا وحرمانا ..

ان اركيولوجيا تاريخ العراق في القرن العشرين تؤكد حفرياتها المعرفية ان المظاهر العامة والاشاعات الرائجة والشعارات الهامشية واطلاق احكام الجزء على الكل .. لا يمكنها ان تبقى يتداولها الناس عن غفلة او جهل او سياسة من دون الوقوف بحيادية ودقة على واقع مضى فيه الخطأ وفيه الصواب .. اننا لا يمكننا اليوم وبعد مرور خمسين سنة على عهد مضى لم نزل لا نعرف عنه الا المثالب وترديد ما كان يكتبه المعارضون ، ونحن ندرك ماذا يكتب المعارضون من غث وسمين. ان ما يعيد الى الاذهان العراقية صورة الواقع كما كان عليه في القرن العشرين جملة من الحقائق من دون اجتزاء معلومة على حساب اخرى ، ومن دون اجتزاء مكان وصبغ العراق كله بصبغة ذلك المكان .. ومن دون تفسير التناقضات مهما كان نوعها تفسيرا علميا غير منقوص .. ان البنية العشائرية في ريف العراق لها من قوتها الاجتماعية الكبرى ، فهي اقوى بكثير من البنية الحضرية المدينية في المدن .. ولقد وقعت هذه الثانية تحت وطأة الاولى في الخمسين سنة الماضية في كل مناحي حياة العراق .



ثانيا : المشكلة سايكلوجية قبل ان تكون واقعية

نعم ، المشكلة في العراق كله سايكلوجية ، وهي تنظر الى نفسها فقط من دون ان تقرن نفسها بتجارب العالم .. انها مشكلة ظلم النفس على النفس وعلى الاخر .. انها مشكلة انعدام للقناعة .. انها مشكلة قرابة عشائرية وصلات قبلية تتمتع بكل صفات وتقاليد الماضي من تفاخر ونسب وثراء وانصر اخاك ظالما او مظلوما .. لقد كان الفلاح اجيرا يعمل لدى مالك الارض منذ ازمان مضت ، وليست المهنة جديدة على الاثنين ، وكان العمل لقاء حصة من المحاصيل وفق نظام المحاصصة وتختلف نسب توزيع المحاصيل باختلاف الامكنة ، وحسب نوع المحصول . وبوجه عام ـ كما كما معروف ـ يمكن القول ان حصة مجموع الفلاحين في المزرعة هي 40% وياخذ الملاك 40% والباقي 10% حصة الحكومة و10% حصص مضيف الشيخ والحارس والسركال ورجل الدين.. واختلف مع الدكتور طلعت الشيباني ـ رحمه الله ـ في تقديره دخل الفلاح السنوي في ذلك الحين انه كان يتراوح بين عشرين الى ثلاثين دينارا وان هذا الدخل لا يسد حاجات الحياة وتكاليف المعيشة حتى لو كانت حد الكفاف هذا ما قدره الدكتور طلعت الشيباني في بحثه : ( " بعض مشاكل العراق الاقتصادية ومعرفة اتجاهاتها التطورية " بغداد 1953 ص16 ) . ان دخل الفلاح ربما يكون اعلى من ذلك وربما يكون اقل ، حسب الانتاج اولا وحسب طبيعة العمل ثانيا وحسب نوع المحصول ثالثا ، وحسب موقع البيئة الزراعية العراقية رابعا . اما الدكتور عبدالرحمن الجليلي في ( " محاضراته في اقتصاديات العراق " المنشورة في معهد الدراسات العربية ـ القاهرة ص34 )ـ فقد قدر نفس ما قدره الدكتور طلعت الشيباني من دون اي مقارنة بين انتاج المحاصيل الديمية عن المحاصيل السيحية ، ومحصول القمح عن الشعير ومحصول الشلب عن القطن .. الخ .

لقد علق الدكتور هاشم جواد في كتابه ( كيان العراق الاجتماعي ص48) على قانون تسوية حقوق الاراضي رقم 50 لسنة 1932 ـ فقال: ان المبادئ التي رسمها واضع قانون تسوية حقوق الاراضي رقم 50 لسنة 32 تستمد روحيتها من وضع قديم تسوده الفوضى وترتكز اركانه على اسس اقطاعية ولهذا فقد كان تطبيق هذا القانون في بعض المناطق مدعاة لنشوء اقطاعيات كبيرة.. ومن المعلوم ان هناك شخصا واحدا يملك مليون مشارة واخر اربعمائة الف مشارة وثالث مئتي الف مشارة وهناك بعض الملكيات في الجنوب مساحة كل منها ستين الف مشارة وثمانين الف مشارة ـ وعشرة الاف..) . ان التساؤل هنا مشروع حول عدم امتلاك الفلاح للارض ، بل وطالب البعض بأن يتملك كل عراقي ارضا ، وهو طلب مشروع كون العراق ارضهم وترابهم وان عليهم ان يأكلوا من خيرها .. المشكلة ليست كما ارى في النظم السياسية التي حكمت ، بقدر ما هي مشكلة في النظام الاجتماعي .. واعتقد ان كل تلك النظم السياسية المدانة قد عجزت في ايجاد حلول لمشكلة الارض الزراعية في العراق . ان المشكلة سايكلوجية في الاساس وكانت ولم تزل حتى يومنا هذا وستبقى مثار قلق لأي نظام سياسي بسبب ما يحفل به النظام الاجتماعي من تناقضات .

ثالثا : " الاقطاع " في العراق !!

كتاب بطاطو ليس تاريخا مقدّسا !

يتمنى الاخ الدكتور كاظم حبيب عليّ ان اراجع الجزء الاول من كتاب حنا بطاطو وكأنني لم اطلّع عليه وعلى نسخته الاولى بالانكليزية مذ نشر عام 1978 بمجلد واحد وعرفّت به العالم ونشرت عنه اكثر من مقال واعتمدت عليه وقمت بتفكيك بعض معلوماته وانتقدت بعض مصادره وقمت بتصويب بعض ما جاء به الرجل بطاطو وقمت باعلامه شخصيا عن ذلك في اكثر من لقاء جمعني به .. ان مشكلة بعض الاخوة اليساريين انهم يتلقفون كتاب بطاطو وكأنه كتاب منزل من دون فحص كل ما جاء به المؤرخ بطاطو ، وبأي اهداف وظّف كتابه وبأي نتائج خرج منها وكلنا يدرك ان بطاطو كان ماركسيا في شبابه وعاش هوسا او فوضى فكرية في ايام كهولته ، فلقد اخطأ اخطاء جسيمة في اسقاط ما كان يراه من رؤية مسبقة على المجتمع العراقي من دون ان يعرف خفايا المجتمع العراقي وعناصره والعلاقات العضوية التي ميزته عن غيره من المجتمعات . ان من اكبر الاخطاء المنهجية ان يلجأ اكاديميون ومؤرخون عراقيون لكتاب بطاطو ، وهم باستطاعتهم تبيان حقائق العلاقات الانتاجية على الارض ، لأن هناك من يعرف دواخل كل بيئة عراقية ، وان الملكيات للارض الزراعية معروفة .. ناهيكم عن تجنب الاخطاء التي وقع بها بطاطو .. انني ادرك بأن اعجابا عراقيا لا متناهيا بعمل المؤرخ بطاطو لئن من يقرأه من غير المضطلعين بشؤون العراق التاريخية سيأخذ ما نشره بطاطو حقائق ثابتة ، وهذا من اسوأ الاخطاء ، فالرجل قد خلط بعض المعلومات بعضها بالبعض الاخر ، وفي تشكيلاته للنسب والارقام زاد وانقص من عندياته فضلا عن كونه درس العراق برؤية ايديولوجية مسبقة وهذا ما يؤخذ عليه تماما ، واذا كان بطاطو قد انهك تاريخنا الاجتماعي العراقي بفرضياته الجاهزة ، فان المؤرخ البريطاني بيتر اسلاكليت قد انهك تاريخنا السياسي العراقي باحكامه البليدة ! وكلاهما من ابعد الناس عن فهم العراق تاريخا ومجتمعا وثقافات .

اننا لسنا بحاجة الى جدولية بطاطو الا للمقارنة مع المعلومات التي بحوزتنا .. وكنت اتمنى ان يرجع كتابنا الى اطروحات عراقية وغير عراقية ليتأكدوا من الاراء التي يحملونها منذ خمسين سنة عن الاقطاع في العراق . وعليه ، فانني اود ان اعلم الاخ الدكتور حبيب بأنني مؤرخ عراقي لن يرجع الى كتاب بطاطو يستقي منه المعلومات ، بل يرجع اليه لينتقده ويوضح الاخطاء التي ارتكبها بحق تاريخ العراق وهذا ما فعلته ولعل الاخ الدكتور حبيب غير مطّلع على بعض اعمالي الفكرية ، ولكنه غير مطلع على كل اعمالي العلمية !


رابعا : البنية العشائرية في العراق اقوى من اي سلطة سياسية :

على امتداد تاريخ العراق السياسي والحضاري معا ، كان مجتمع العراق مركّبا من ثلاثة مجتمعات : اهل حضر ومدن واهل عشائر وريف ، واهل بادية وقبائل .. وكانت الفواصل بين هذه البنى مختلفة ، وشهد التاريخ صراعات متنوعة في بينها منها مستترة ومنها معلنة .. وكثيرا ما تدخلت السلطات في شؤون العشائر والقبائل .. ولكنها لم تفلح في جعلهم مادة اساسية في التبلور الاجتماعي .. ربما تستميلهم ، ولكنها لم تستطع السيطرة الكاملة على مصادر قوتهم .. وكان لعشائر العراق جملة من سنن عشائرية لم يخترعها لا الانكليز ولا نوري السعيد ، ولم يستطع القضاء عليها لا عبد الكريم قاسم ولا الشيوعيين ولا الامريكان .. انها بمثابة قوانين ملزمة تحكم العلاقة بين الفرد والفرد داخل البنية القبلية او العشيرة نفسها وتحكم العلاقة بين القبيلة وبقية القبائل . وظهر من بين رؤساء هذه القبائل والعشائر اشخاص عرفوا بالحكمة والمقدرة والكرم مارسوا دور القضاء والمحكمين ويأخذون الحق للمظلوم من الظالم . وبمرور الوقت اصبحت احكامهم سنن لا ينبغي تجاوزها ( حمود الساعدي ، دراسات في عشائر العراق ، بغداد ، 1988 ، ص 7 ) . وبعد التشكيل الوطني ، دفعت الحالة الجديدة الناس ، ليس في الريف والبادية فحسب ، بل حتى في المدن الى الالتجاء الى العصبية القبلية والى القيم البدوية من اجل المحافظة على ارواحهم وأموالهم . وبنفس الوقت فقد اتجهت العشائر الصغيرة الى التكتل في اتحادات عشائرية او قبلية لتكون قادرة على الدفاع عن مصالحها ( علي الوردي ، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ج 1، بغداد ، 1969 ، ص 18 ) . وعليه ، فان قانون دعاوى العشائر الذي الغته ثورة 14 تموز 1958 ، شكليا ، الا انها لم تستطع ان تقضي على البنية العشائرية في العراق .. ان سايكلوجية العراق تتضح من خلال صورة العراقي وهو يتفاخر بنسبه وحسبه وقبيلته وعشيرته ومحتد اصله .. ان من يراقب ما صدر من كتب خاصة بكل عشيرة او قبيلة سيندهش تماما مقارنة بما لم يصدر في اي مجتمع عربي او شرق اوسطي آخر بحجم ما كتب ونشر من مواد واسماء .. بل وغدت العشيرة مجال فخر وامجاد بالنسبة لمن ينتسب لها وما قدمته في هذه الثورة او هذه الانتفاضة او هذا الانقلاب او هذا الحزب .. الخ

وهذا نوري السعيد يقول في مجلس البرلمان ـ بعد مناقشة اضراب بغداد في 5 تموز عام 1931 ـ بسبب قانون رسوم البلديات ـ الذي عم مدن العراق ـ اذ اعترف نوري السعيد امام المجلس من انه استخدم (قانون العشائر) ضد الحوادث والطوارئ وخاصة في البصرة والتي ادت بالحكومة البريطانية الى انزال قوات حماية رعاياها ومصالحها هناك. وعند النظر الى موضوعية الاراضي في العراق ـ فيشير الواقع الى ان العراق بلد زراعي يمتاز بسعة ارضه القابلة للزراعة ففيه الانهار التي تحقق له وفرة في مياه الري ويعمل فيه حوالي خمسون بالمئة من مجموع السكان اما ان يعتمدوا على الزراعة مباشرة او بالواسطة ويصلون الى نحو الثمانين بالمئة من السكان مما جعل الزراعة اهم وسيلة من وسائل الانتاج، فحيازة الارض هدفا اساسيا للاغلبية من سكان العراق. ( د. هاشم جواد ، مقدمة في كيان العراق الاجتماعي، جمعية الرابطة الثقافية 1946 ، ص28 ـ 29 ) .



خامسا : شيوخ عشائر ام رجال اقطاع ؟؟

في محاضرتي التي القيتها في غاليري الكوفة بلندن ، سبتمبر 2005 ، اندهش بعض الاخوة الحاضرين عندما قلت بالحرف الواحد بأن ليس هناك اي اقطاع في العراق باستثناء ممارسات قاسية لشيوخ عشائر العمارة واجزاء من الناصرية ( وقد وافقني في ذلك الصديق الدكتور صلاح نيازي الذي نشأ في الناصرية ) .. ولم ازل عند كلامي ذلك لأنني ادرك بأن البيئات الفلاحية العراقية كانت ولم تزل عشائرية وقرابية صرفة ، وان ما كان يمارسه بعض الشيوخ العشائريين من قسوة بحق الفلاحين كان لاسباب ذاتية صرفة وليست لاسباب اجتماعية ، اذ لم نلحظ اي صراع طبقي بين الفلاحين ورؤساء العشائر في اغلب مناطق العراق الزراعية ، بل افصح بعضهم قائلا : كنا نستخدم القسوة ضد الكسالى والغشاشين والكذابين والسراق واللصوص وقطاع الطرق منهم ، وبعضهم كان يقول : كنا ندري ان اطنانا من الشلب تختفي بعد سرقتها ، ولكن ماذا نفعل ، انهم اولاد عمنا !! .. اما بصدد علاقات الأنتاج في العراق ، فاجدها متشابهة الى حد كبير ، بل هي نفسها في اغلب البيئات الزراعية ، ثمة روابط وعادات عشائرية متوارثة تحكمها ابا عن جد ، وهي ملتزمة بارث ثقافي وديني يتحكم بها او يتسلط عليها وربما قادها الى مشكلات قتل وثارات تصل الى حد الجريمة .. ويا ويل من يتجنى على التقاليد العشائرية .. انها والكبت والتسلط والقهر والعوز قادت الجموع الى الانتماء للشيوعية خصوصا اذا وصل التمرد الى الذروة ، وقد ينفى الفرد من العشيرة عندما ينتهك طقوس العشيرة المتنوعة الخاصة بالعلاقة بين الرجل والمرأة ، او بأخذ الثأر .. الخ دعونا نتأمل في المواصفات والنماذج التي يتميز بها الشيوخ ( من الاقطاعيين ) في العراق :

1/ الصورة الاولى : لم يكن الشيخ محمد العريبي في العمارة قاسيا على الفلاحين باستثناء آل خليفة الذين كان الفلاحون يطالبون بالمال دون ان يعملوا ! ولم يكن مشايخ وامراء قبيلة ربيعة في الكوت يتعاملون بقسوة مع ابناء قبيلتهم الواسعة ! ولم يكن كل من الشيخ بلاسم الياسين وعبد الله الياسين يتعاملان في الحي ومناطق الناصرية مع فلاحيهم الا بتلك القسوة التي وصفا بها ! يتردد الحديث عن قساوة الشيخ موحان الخير الله مع فلاحيه في مناطق بالناصرية .. اما الشيخ سالم الخيون زعيم قبيلة اسد في بحيرة الحمّار والجبايش وكرمة علي والعمارة ، فكلنا يعرف سيرته النضالية والسياسية ومطالبته بحكم جمهوري للعراق قبيل تأسيس الملكية العراقية ، فضلا عن دوره في استصلاح الاراضي الزراعية وعنايته بالفلاحين .

2/ الصورة الثانية : وقد حدثّني صديقي الشيخ سامي ابن الشيخ موحان الخير الله عن الاسباب التي كانت تدعو الشيخ اتباع وسائله من اجل العمل والانتاج ودفع الضرائب .. ولم يزل آل الخير الله شيوخا ولهم كلمتهم ، ولم يستطع اي قانون ان يستل العلاقة العشائرية التي تربط الفلاحين بشيوخهم .. بل وجدت ان الاف الفلاحين ترك الارض حتى بعض اصدار الاصلاح الزراعي ليأتي يعيش في صرائف حول المدن الكبيرة ! ومن شيوخ مشائخ شمر كان الشيخ عجيل الياور وابنه الشيخ احمد الذي يعد واحدا من اكبر الملاكين للارض الزراعية ، لم اشهد من قراءة تاريخ قبيلة شمر بفرعيها من الياور والمطلك قد مارست القسوة مع ابناء قبيلتها ابدا .. كنت اجد الشيخ بين افراد قبيلته وثمة اعتزاز متبادل بين الشيوخ والفلاحين وتبدو العلاقة بدوية صرفة .. ولكن ثمة صراعات ومناكفات قبلية وعشائرية بين هذا الطرف او ذاك لاسباب لا علاقة لها بالارض وانتاجها .

3/ الصورة الثالثة : لم اجد القسوة عند شيوخ قبيلة الجبور وامرائها في مناطق عدة من بلاد الشام والعراق قد مورست مع الفلاحين ، وعلى رأسهم شيخ مشايخهم عبد العزيز المسلط وكم كانت العلاقات وشيجة بينه وبين ابناء قبيلته ! لم اجد شيوخ العزة في مناطق ديالى قد اضطهدت فلاحيها وكلنا يعرف سيرة الشيخ حبيب الخيزران وعلاقته بالفلاحين .. لم يمتلك شيوخ عشائر الفرات الاوسط كآل الجريان في الحلة ولا شيوخ شرقي دجلة ولا شيوخ الانبار مناطق هائلة المساحة ، كانوا يعتزّون بمشيخاتهم العشائرية اكثر من كونهم اصحاب ارض .. كانت ممتلكاتهم من الارض ذات مساحات صغيرة ولنا ان نفحص آل جويبر في سوق الشيوخ والعزة في ديالى والعبيد والبو حمدان في الحويجة وآل سليمان في الرمادي والانبار .. انتقالا الى آل فتلة ( بفرعيهما الكبيرين آل فرعون وآل سكر ) ومنهم في المجر ( برواية الصديق الدكتور كامل كمونه ) وآل السعدون وآل العطية .. وكل ممتلكاتهم كانت ذات مساحات صغيرة وكانت المشخاب مركزيتهم لانتاج الشلب ( التمن / الرز ) ويقال ان الشيخ هديب الحاج حمود في الشامية بالديوانية كان يعتني بالفلاحين عناية فائقة ، والرواية معروفة انه كان يجلب الاحذية المطاطية الطويلة (= الجزمات ) لكل الفلاحين من اجل المحافظة عليهم من البلهارزيا ، كونهم يعملون في حقول الشلب المائية وينتجون اجود انواع الرز بالعالم (= عنبر شامية ) .. ربما ليس للمحافظة عليهم ، بل من اجل الا تصيبهم البلهارزيا ويؤثر ذلك على مصالحه !

4/ الصورة الرابعة : ولقد جذبتني معلومة تاريخية تقول بأن اولاد الاقطاع واولاد الفلاحين يدرسون في مدرسة واحدة وصف واحد .. يكتب ذو النون أيوب في كتابه ( للحقيقة والتاريخ ) النص التالي : " وانهى عبد الكريم قاسم دراسته الثانوية دون تلكؤ .. ويظهر ان ظروف العائلة كانت أقسى من ان تساعده على الاستمرار في الدراسة ، فتركها وتوظف معلما في مدرسة ابتدائية ، في الشامية من اقضية لواء الديوانية ، حيث يتعلم الفلاحون وابناء رجال الاقطاع جنبا لجنب . وان النبيه البقظ لتثيره الفوارق بين الطبقتين .. " ( ص 69) . اما نواحي بغداد ، فلقد انتشر بنو تميم وتنبؤنا الاخبار بأن طبيعة العلاقات كانت على احسن ما يكون بين شيوخهم من آل السهيل الشيخ علي واخوانه وبين كل الفلاحين من آل تميم المنتشرين في كل من غربي بغداد وشمالها . اما بين بلد وسامراء ، فكانت اكبر الاراضي بيد الشيخ عبد العزيز ابراهيم الصالح الاسماعيل ، وكان يعامل فلاحيه بالحسنى والمعروف سواء كانوا من آل درّاج او من غيرهم في الطويرانية والمجمّع في ناحية الاسحاقي ، وكان ان صودرت منه الاراضي الزراعية التي كانت منتجة بدرجة كبيرة وقد تركها عام 1959 ليستقر ببغداد ، فيضعف انتاجها وتصبح نهبا للصراعات .

5/ الصورة الخامسة : وننتقل الى سهول الموصل ، فلم نجد اي اقطاع مسيطر على الارض والانسان .. كانت المساحات صغيرة ويمتلكها ملاكون قدماء يقطنون في المدن ويناصفون الفلاح الانتاج فهم اصحاب الارض والبذور والمكننة والتسويق وما على الفلاح الا العمل من حراثة وزراعة وحصاد .. ويعتبر كل من سهل الموصل وسهل اربيل من اغنى اراضي العراق والشرق الاوسط قاطبة بانتاج القمح والشعير .. اما ممتلكات الاكراد من الارض فهي تابعة بمساحات مختلفة للشيوخ والاغاوات التي تسيطر عليها الروح العشائرية أيضا لا الاقطاعية سواء في اربيل ام السليمانية .. ولم يضطهد الفلاح الكردي اضطهادا ذاتيا ، بل ربما وقع تحت طائلة الصراعات القبلية العشائرية والتي كانت مستعرة الى تاريخ قريب .. الخ

ماذا نستنتج ؟

وعليه ، لو سلمّنا بوجود " اقطاع " في العراق ، فهذا ما لمسناه في العمارة وبعض اجزاء من الناصرية فقط ! اما بقية انحاء العراق ، فليس هناك أية علاقات اقطاعية كالتي صبغ بها تاريخ العراق الاقتصادي ظلما وعدوانا .. ان غالبية شيوخ العشائر كانت تمتلك سندات التفويض بالطابو لأراضي العشيرة والتي كانت تدعي بـ " الديرة " ، وتعريفها : انها مساحة من الأرض التي تأوي العشيرة التي اعتادت زراعتها أباً عن جد ، وهي ارض اميرية مملوكة للدولة ، ولكنها مفوضة بالطابو باسماء شيوخ العشائر .. وكان استثمار الأرض يتم طبقاً للأعراف والتقاليد التي تلتزم العشيرة بها ، وكان لكل اسرة في العشيرة لزمتها الخاصة ، بما فيها اسرة الشيخ .. وكانت العشائر في جنوب العراق والادنى من الفرات الاوسط هي التي تضطلع بكري الجداول والنهيرات وبناء السدود وفتح الترع .. وكلها تتم باسلوب التعاون وبتلقائية من قبل الجميع بما فيهم طاقم الشيخ . وكلنا يعرف ان الفلاحين انقلبت على شيوخها في كل من العمارة والناصرية يوم 14 تموز 1958، اذ لم نجد اية ثورات وانتفاضات وانقلابات فلاحية ضد شيوخ الديوانية ولا الكوت ولا الانبار ولا ديالى ولا شهربان ولا الحويجة والعظيم ولا الموصل ولا اربيل والسليمانية ..


29 ديسمبر 2007


تابعوا الحلقة السادسة

122


                       جادة حوار عراقي
مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب

                     أ.د. سّيار الجميل

                       الحلقة السادسة
البنية العشائرية في العراق (2)


سادسا : 14 تموز  1958 : الاخفاق في تحطيم البنية العشائرية
   اذا كان الفلاحون في الجنوب قد تمردوا اثر 14 تموز / يوليو 1958 على شيوخهم ، فان فلاحي الفرات الاوسط وغرب الفرات وشرق دجلة والموصل لم تثر ولم تنقلب ابدا ! وعليه ثانية ، فليس من المعقول ان يصبغ تاريخ العراق الاقتصادي بالاقطاعية ووصفه باشنع الصفات وهو ليس كذلك ابدا .. ان العلاقات الانتاجية للارض الزراعية العراقية كانت اقوى بكثير قبل 14 تموز 1958 مما غدت عليه من بعدها .. الفلاح الذي كان يخاف فيعمل وينتج ، اصبح حرا طليقا لا يعمل ولا ينتج .. الانتاج الزراعي العراقي من قمح وشعير وشلب وتمر وفواكه .. كان فائضه يصدر من خلال نقله عن طريق النهر الى البصرة ليشحن الى خارج العراق ، بات العراق يستورد المواد الغذائية الاساسية لأن الارض لم تعد تزرع وبات الفلاح حرا لا يعمل ..    وانسحق الانتاج الزراعي ابان الثمانينيات ايام الحرب العراقية الايرانية .. حتى بات يستورد اللحوم المجمدة لتأكل الناس .. ولما شهد العراق حصارا اقتصاديا قاسيا في التسعينيات من القرن العشرين ، بدأ يسترجع زراعاته ولكن من اجل الاكتفاء الذاتي ولم تكن كافية ابدا .. ان ضعف الانتاج الزراعي العراقي قاد الى انخفاض الثروة الحيوانية التي كان العراق يزخر بها .. وكان من المقرر ان تحدث ثورة اقتصادية وزراعية في العراق اثر تنفيذ مشاريع الري العملاقة لمجلس الاعمار العراقي الذي استبدل بمجلس التخطيط بعد 14 تموز/ يوليو 1958 ، ولكن  الانقلابات العسكرية والسياسات الحزبية الثورية والحروب التي عاشها العراق على مدى خمسين سنة قد اضرت به ضررا بالغا . يكتب الدكتور عبد الجليل الطاهر قائلا بأن السلطات المنبثقة عن ثورة 14 تموز 1958 نظرت الى العشائر على انها مصدر ضعف في كيان الوطن وتؤدي الى تعريض أمن الوطن وسلامته الى الخطر وتحول دون تحقيق المواطنة الحقيقية لأنها تعمل على تجئة الوطن الى وحدات عشائرية غير منسجمة وتسود بينها شريعة الغاب ، لذلك فقد اقدمت هذه السلطات على الغاء قانون العشائر ، وتشريع قانون الاصلاح الزراعي ومارست ضغوطا واسعة ضد شيوخ العشائر والاقطاعيين ( عبد الجليل الطاهر ، العشائر والسياسة ، بغداد ، 1958 ، ص6 ) .

سابعا : ماذا نقول في اضطهاد الفلاحين ؟
لا يمكن لأي عراقي مهما طال الزمن او قصر ان ينكر ما فعله بعض شيوخ العشائر ببعض الفلاحين من ابناء عشيرتهم خصوصا عندما يغضب الشيخ غضبته ويستهتر بكل قيم العلاقة التي تجمعه بالفلاحين المنتمين اليه قرابة ونسبا .. لا يمكننا ان ننسى ما كان يفعله احد الشيوخ من حفر حفر عميقة يطمر فيها نصف جسم الفلاح !! ومن كان يفعل ذلك معروف لدى الاخرين من دون ذكر اسمه .. ولا يمكننا ان ننسى ما كان يفعله بعض الشيوخ بعبيدهم الذين يمتلكوهم .. وقصة ذلك الشيخ معروفة عندما دخل احد عبيده ، فوجد الشيخ يهتك عرض زوجته ، فقام بقتله وقتلها معا ! لا يمكن ان ننسى ما كان يفعله احد شيخين اخوين بحرق منازل الفلاحين القصبية ، ويسجن في سجنه الخاص ، وينفي بعضهم نفيا لا رجعة فيه .. لا ننسى ما كان يفعله اولئك الطغاة في الارض ، فهم بيدهم الارض والانسان والقوة والثروة .. كله اعترف به وادرك خطورته ، ولكن وأود هنا ـ ان يستكمل القارئ الكريم معي ـ ان الظلم كان منحصرا في لواء العمارة واجزاء من لوائي الناصرية والكوت .. وحتى اولئك الظلمة الذين نعرفهم واحدا واحدا لم يكن آباؤهم واجدادهم كذلك ، بل تحّولوا من آباء يمتلكون العطف والحنان وروح القرابة الى شيوخ قساة وغرباء وطغاة .. اما البقية الباقية من شيوخ العراق وملاكيه فلم يمارسوا اي طور من البشاعة الاجتماعية العراقية . ويتبدى الوضع واضحا اثر الانقلاب الجذري الذي حدث في 14 تموز / يوليو 1958 ، ذلك ان الشيوخ الاقطاعيين الذين آذوا فلاحيهم ، فان الفلاحين انقلبوا عليهم في العمارة وبعض مناطق الناصرية والكوت .. في حين لم يشهد المجتمع العراقي الفلاحي اي انقلاب عشائري من قبل الفلاحين على شيوخهم لا في الفرات الاوسط ، ولا في الفرات الاعلى ولا في ديالى وبساتين الشرق ولا في منطقة الجزيرة والموصل ولا في كردستان او الحويجة ولا في اي مكان آخر تحكمت فيه العلاقات الانتاجية الزراعية .

ثامنا : حول قانوني الاصلاح الزراعي
1/ هل دارت العجلة الى الوراء ؟
انني احترم رأي الاخ الدكتور كاظم حبيب ومن يرى رؤيته في موقفه السياسي من قانوني الاصلاح الزراعي الاول عام 1959 والثاني عام 1970 في العراق ، ولكنني اخالفه الرأي في ان القانونين قد كسرا شوكة الاقطاع وبدأ التحول التدريجي صوب الرأسمالية ، واخالفه الرأي ان سياسات النظم التي سادت في العراق منذ العام 1961 .. قد اعادت العجلة الى الوراء ويستدرك قائلا : " وأعيدت الارض بصيغ مختلفة لشيوخ العشائر والاقطاعيين  . لقد أعيد لهم ما اقتطع منهم قبل ذاك وفق القانون من أرض زراعية وعاد لهم وضعهم الاقتصادي والاجتماعي والسيطرة الفعلية على الفلاحين, وخاصة الفقراء والمعدمين وصغار المزارعين منهم. وفي مثل هذه الأجواء تنمو الطائفية بأبشع أشكالها المقيتة أيضاً. نحن بحاجة إلى كسر حلقة التخلف في المجتمع وفي وعي المجتمع .. " .
2/ متى كان العراق بلدا رأسماليا ؟
  مع خالص اعتزازي بمكانة الدكتور حبيب العلمية والسياسية ، لكنني اتمنى عليه ان يكون دقيقا في ما يصدره من احكام ، ذلك ان العراق لم يعرف " الرأسمالية " ولم يشهد اقتصاده حتى الخمسينيات الا بضع شركات صناعية صغرى وبضعة تجار قدماء ( ومحدثين برزوا بعد الحرب العالمية الثانية ) كانوا اعضاء في غرف تجارة قديمة وثمة ملاكين قدماء للارض والعقارات الصغرى وبضعة شيوخ عشائر لا اعتقد انهم يمتلكون رؤوس اموال كبرى .. فكيف يمكننا القول ان نظام العراق رأسمالي ؟ كانت هناك طبقة عليا في المجتمع من اعيان وشيوخ ونقباء وبيكات وتجار كبار ( = جلبية ) وهي طبقة صغرى ، وكان هناك طبقة وسطى اجتماعية نشأت منذ القرن التاسع عشر يؤلفها موظفون وعلماء وافندية وتجار صغار ورجال من علماء الدين تبلورت عنها فئة بورجوازية صناعية وتجارية في عقود الثلاثينيات والاربعينيات والخمسينيات ثم هناك طبقة فقراء عريضة في المجتمع يؤلفها الزراع والعمال والمهنيين والحرفيين والكادحين والمحرومين والمعدمين .
ان من الخطأ القول ان العراق كان رأسماليا وميزانية الدولة العراقية لا تتعدى حصتها ابان الخمسينيات الخمسين مليون دينار عراقي ؟ ولم تسجّل في تاريخ العراق حتى عام 1963 اية اختلاسات كبرى ولا اي نهب منّظم ، ولا اي استلاب غير مشروع للمال العام .. ربما كانت هناك رشاوى ، ولكن بقي النظام الاقتصادي في العراق يحافظ على خصوصيته على ايدي ابنائه العراقيين .. ربما كان هناك نهب منظم لشركات نفطية ، ولكن هذا لا يدخل في صلب موضوعنا العراقي كتصنيف طبقي او صراع طبقي او رأسمالية دولة ومجتمع .. وعليه ، لا يمكن ان نقوم بنفخ العراق من اجل القول انه كان بلدا رأسماليا ، ونحن ندرك معنى الرأسمالية ومعنى المجتمعات الرأسمالية مذ تبلورت في الثورة الماركانتالية ابان القرن السابع عشر ونشوء البنوك وقوة الصيرفة والنفوذ المالي على العالم بتطور التجارة الدولية في مجتمعات معينة في العالم .
3/ هل كان العراق بحاجة الى اصلاحات ؟
نعم ، كان العراق بحاجة الى جملة هائلة من الاصلاحات ، ومنها الاصلاح الزراعي ، ولكن لا يمكن اصدار القانون وتنفيذه من دون اية ادوات تطوير ولا اية مكننة ولا اي تسويق ولا اي بذور ولا اية مواصلات متطورة .. اعطيت الارض للفلاح المعدم ، فكيف باستطاعته ان يحمي نفسه اولا من رئيس عشيرته الشيخ المتربص به وهو يرى ارضه قد ذهبت الى الفلاح الذي كان يرتبط به ؟ كيف باستطاعته وهو المعدم في الجنوب او الشمال ، في القرى البعيدة والضياع القصية ان يعتمد على نفسه في تهيئة مستلزمات الزراعة ؟ من اين سيحصل على ما يؤهله للانتاج ؟
انني مقتنع بأن الضربة التي تلقاها شيوخ العراق من الملاكين الكبار لم تكن بمستوى اي ضربة تلقاها غيرهم من الملاكين الصغار .. ولكنني مقتنع بأن الضربة القاضية كانت قد اصابت العلاقات الإنتاجية ( شبه الإقطاعية ) في كل المناطق الزراعية العراقية ، وان السلطة الجديدة لم تستوعب ذلك الخطر ، فليس التغيير يكتفي باصدار القوانين من دون معالجة مستلزمات تطبيقاتها على الارض في أعقاب التغيير السياسي عام  1958 والذي لم يصاحبه تغيير جذري بنيوي في تغيير العلاقات الانتاجية .. فبدأت تموت العلاقات الانتاجية القديمة مع انعدام لأي تأسيس بنيوي جديد .
4/ لماذا غدت تظاهرة استعراضية ؟
لقد كان صدور قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 والبدء بتوزيع الأراضي على فقراء وصغار الفلاحين مجرد تظاهرة استعراضية اضرت بواقع العلاقات الانتاجية القديمة بالرغم من كل ما حفلت به من سيئات  ، اذ ظهر الفلاحون من الملاكين الصغار الجدد يفتقرون ايضا الى الرأسمال "النقود وادوات الانتاج".وحسب احصاء 1957 كان لكل 6 عوائل فلاحية حصان واحد اي سدس حصان لكل منها.. وكان مابين 60%- 70% من مجموع العوائل الفلاحية لا يملك حصانا واحدا او بغلا او حتى حافرا!.. كان تملك الفلاح او عدم تملكه لحيوان حراثة قوي يمكن ان يتخذ مقياسا لتصنيفه من مرتبة فقراء الفلاحين او اغنيائهم او متوسطيهم الى جانب المقاييس الاخرى.. لقد استغلت في زراعة ما قبل 1958 (2712) ساحبة و(1056) حاصدة دارسة وآلاف الآلات الزراعية مما اسهم في تفكيك العلاقات الابوية ( عن : سلام كبه ، طريق الشعب ، 30/9/ 2007 )  ، فما نفع ان يتفجر الغضب ضد الشيوخ من الملاكين القدامى في حين لم يأت نظام الاصلاح الزراعي بأي اصلاحات اساسية تغير بنى العلاقات الانتاجية العراقية ولا تميتها ؟ .
5/ انها ليست مسألة نظم سياسية !
 انها ليست مشكلة نظم سياسية يا اخي الدكتور حبيب .. انها مشكلة نظم اجتماعية وادارية واقتصادية  . ولماذا حددت سنة 1961 نهاية للقانون الاول ؟ لقد اخفق القانون الاول للاسباب التي ذكرتها آنفا .. اما القانون الثاني الذي اصدره نظام البعث عام 1970 ، فكان نظاما تعيسا هو الاخر ليس بسبب مصادرته الارض من اصحابها واعطائها لمن يزرعها ـ كما كانوا يذيعون ذلك ليل نهار عبر الاذاعة العراقية ـ ، وكانت الدولة قد اخذت على عاتقها منح القروض الزراعية وتوزيع البذور ولكن اصبحت الجمعيات الفلاحية بمثابة كوميونات حزبية مشيخية لكل الشقاوات والطرداء من حزبيين وسلطويين .. جماعات اخذت تتحكم فيها العوامل الحزبية والعشائرية ابان السبعينيات ، ولما انتقل العراق نحو الثمانينيات لم تكن الحرب العراقية الايرانية سببا وحيدا في انحلال الاقتصاد الزراعي العراقي ، بل استجدت عوامل اخرى اشد بؤسا مما كان عليه الوضع قديما .

تاسعا : نوري السعيد : الارض سيتوارثها الابناء والاحفاد عن الاباء والاجداد
لا اناقشك في مقولة السيد نوري السعيد  ـ رحمه الله ـ  ( الذي ذهب قبل قرابة نصف قرن ، فهو ليس بحاجة لا الى تهكمنا ولا الى تقييمنا فقط ، اذ اجد ان ثمة اعادة تقييم لسياسته وحكمه وتبيان مدى قوة ارتباطه بالعراق او ارتباطه ببريطانيا من قبل كل الاجيال ، كما توضح بأن ليس هناك زعيم حكم العراق ما لم تكن له ارتباطات خفية او علنية بهذا الطرف او ذاك ) ومعتقده في قسمة الملكيات الزراعية من خلال التوريث ، ليس بسبب ايمانه لما حدث في بلاد زراعية اخرى ، ولكن بسبب علاقاته القوية برؤساء العشائر الذين يمتلكون الاف الدونمات ، واعتقد ان كل من يريد حكم العراق بقوة عليه صناعة تلك العلاقات ، فالمشكلة ليست في نوري باشا ، بل انها كانت منذ والي العراق مدحت باشا وصولا حتى يومنا هذا ، عندما عجزت امريكا نفسها من ادارة شؤون امن العراق ، فراحت تشتري قوة العشائر العراقية بالمال والسلاح !
في كتابه " الاقطاع في العراق " الصادر في 1957 يؤكد الاستاذ ابراهيم كبة (ص 17) بقوله : " من الغريب ان يطمئن السيد نوري السعيد الرأي العام العراقي بقرب زوال النظام الاقطاعي العشائري عن طريق الارث وتقسيم الاقطاعيات الكبيرة على الابناء والاحفاد ، وقد تناسى فخامته ان قرونا سحيقة مضت على نظام الارث دون ان تنال من النظام المذكور وان الانظمة والتقاليد العشائرية تحتفظ بالملكيات الكبيرة للابناء الكبار فقط . ويعلم الرأي العام ان السبيل الوحيد للقضاء على هذا النظام الظالم هو تغيير العلاقات الاقطاعية نفسها بتمليك الارض لمنتجها والقضاء على الملكيات الاستغلالية الكبرى في الزراعة وتوزيع اراضي الدولة على الفلاحين واتباع نظام التعاونيات الزراعية... الخ. كل هذا مرتبط بالقضاء على الاستعمار وسحق الرجعية وانتصار الحركة الوطنية بمجموعها وتحقيق الاهداف الوطنية الكبرى ." .. انني اسأل كباحث ومؤرخ : لقد مضى اكثر من خمسين سنة على هذا النص في اعلاه ، فما الذي تحقق على ايدي مختلف الانظمة السياسية التي حكمت العراق ؟ فهل هي مشكلة النظام السياسي ام مشكلة النظام الاجتماعي ؟ وهل هي نفسها مشكلة نوري السعيد سواء قال بالتوريث ام لم يقل ؟

عاشرا : عبد الكريم قاسم : الاقطاعي اخو الفلاح
 باستثناء حكم الزعيم عبد الكريم قاسم الذي لم يدرك اهمية هذا الجانب الذي يعد ركنا اساسيا من اركان حكم العراق  .. وحتى قاسم ادرك صلابة البنية العشائرية ، فما كان منه الا ان اطلق قولته الشهيرة : " الاقطاعي اخو الفلاح " ! انني اعتقد ان عبد الكريم قاسم ـ رحمه الله ـ قد وعى بحجم المشكلة العراقية المستديمة ، وانها اكبر بكثير من ان يعالجها اي قانون عاجل للاصلاح الزراعي والذي اخفق في اغلب الاهداف التي قام من أجلها .  لقد اقيمت آلاف الدعاوي القضائية من قبل الشيوخ الإقطاعيين على الفلاحين ومارست ضغوطاً كبيرة على عبد الكريم  قاسم كان من نتائجه اقتطاع 5 % من حصة الفلاح من الحاصل الزراعي واضافتها إلى حصة الإقطاعيين ، مما حدا بالفلاحين تنظيم مظاهرة سلمية في العاصمة بغداد ، اذ تجمعوا فيها امام وزارة الدفاع مقر اقامة الزعيم عبد الكريم قاسم ، وقدّم وفد منهم مذكرة تتضمن مطاليبهم وهوس احدهم في هذا التجمع قائلا : ( راحت خمسة من الفلاح اسمع يكريم ) والمقصود هنا الـ 5 % وكان جواب قاسم على ذلك في احدى خطبه : ( ان الإقطاعي اخو الفلاح ) عندها انبرى له في حينه الشاعر الشعبي ( جواد ) من اهالي النعمانية والذي يعرف باسم ( جواد مطاعم ) لانه رئيس نقابة المطاعم آنذاك بقصيدة عنوانها ( شلون تكول الاقطاعي اخو الفلاح ) ومما قاله :
 
                    شلون تصير خوه نوخذه اوملاح         ومحمد ربيعة ينفذ الأصلاح
 
المقصود هنا أمير ربيعة حيث يقع قصره وأملاكه في ناحية الأحرار- الكوت . ويستطرد صاحب الحكاية والنص بقوله : والتساؤل هنا عن كيفية تنفيذه لقانون الإصلاح الزراعي استمر الوضع يزداد سوءا فقد ألغيت المقاومة الشعبية واغلقت مقرات الشبيبة الديمقراطية ، وزورت بشكل فاضح انتخابات الجمعيات الفلاحية والنقابات العمالية ، وشنت حملة اعتقالات واسعة شملت الشيوعيين والتقدميين وابعادهم عن مؤسسات ودوائر الدولة المدنية والعسكرية ، وسرح المئات من العمال من اعمالهم . ويبقى النص يحكي لنا الحكاية عما كان يحدث من تفاصيل : ويمكن القول هنا ان ماجاء في المذكرة التي قدمها الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق إلى الزعيم قاسم عبرت اصدق تعبير عما ال اليه الوضع في البلاد خلال تلك الفترة ومما جاء فيها ( .... اننا نقولها لكم بصراحة ياسيادة الزعيم ، ان السوط الذي الهب ظهورنا في العهد البائد ، عاد ليلهب ظهورنا من جديد ... ) وبدلاً من أن يعمل الحزب للدفاع عن مواقعه وقيادة الجماهير للحفاظ على المكتسبات التي تحققت في العام الاول للثورة أعتمد الحزب سياسة التراجع غير المنظم التي فرضها عليه هجوم السلطة ، وما توصل اليه الاجتماع الموسع للجنة المركزية في أواسط تموز 1959 والذي عزا فيه تراجع قاسم الى الاندفاعات الجماهيرية المتطرفة والاخطاء التكتيكية التي أنتهجها الحزب . مما أدى الى سلبها واحدة بعد الاخرى . في حين كان بالامكان قيادة الجماهير في نضالات يومية متواصلة للحفاظ على مكتسباتها أو لاسترجاع المكتسبات التي سلبت منها . كما حصل في معركة فلاحي ثلث الجزة في الحي ، حيث تمكن الفلاحون بفضل توفر قيادة واعية وجريئة من هزيمة الإقطاعي مهدي بلاسم الياسين الذي حاول بالتعاون مع السلطات المحلية فسخ عقود الفلاحين على الأراضي المتعاقدين عليها ( انتهى ) ( راجع : جليل حسون عاصي ، سيرة ذاتية 6 ، الفصل الثاني ، الطريق ) .

واخيرا : ماذا نقول ؟
انني لست مع هذه البنية العشائرية في العراق ، ولست مع بقائها كونها حجر عثرة في سبيل التقدم الحضاري ، ولكن علينا ان نعترف ان " الثورة " و " الاحزاب الثورية " لم تستطع ابدا ان تغّير من الواقع شيئا ، وهي التي تنادي بالتغيير ، فكيف يمكن للاصلاحيين ان يغيروا الواقع ؟ لقد مرت المجتمعات الزراعية القوية بثورات عديدة للفلاحين ، ولم تحدث في العراق اي ثورات اجتماعية بالرغم من كل الظلم الذي عانى منه بعض الفلاحين العراقيين .. ربما كانت هناك حالات تذمر ولم تكن انتفاضة عشائر الفرات الاوسط لاسباب اقتصادية ابان الثلاثينيات بقدر ما كانت لاسباب عدم الانخراط في الجيش اثر صدور قانون الخدمة الالزامية على عهد ياسين الهاشمي ! وحتى في فترات الخمسينيات لم نلحظ قيام اي ثورة او تمرد على سوء الاحوال الاقتصادية من قبل الفلاحين ! لماذا ؟ لأنه ظلم ذوي القربى ؟ لأن الفلاح العراقي محكم بنظام اجتماعي قبلي او عشائري سواء كان ذلك في الريف ام البادية .. ان الاسباب التي جعلت قانوني الاصلاح الزراعي يخفقان في العراق اعمق من وجود نظم سياسية .. وسواء كانت الانظمة السياسية ملكية ام جمهورية ، اقطاعية ام اشتراكية ، دكتاتورية ام دينية .. فان الحكام ورؤساء العشائر في العراق لا يمكنهما ان يبتعدا أحدهم عن الاخر الى حين ثبات مؤسسات دولة لا تعترف بالعشائرية وامراضها ، ولا تستلهم من الاحادية الحزبية هيمنتها ، ولا تتوسل بالمرجعية الدينية وسطوتها .. ان العراق وامثاله من مجتمعات الشرق الاوسط من ابعد ما يمكن عن وجود بروليتاريا ، حتى نتخيلها تحكم مجتمعاتنا . هنا ما المطلوب ؟
قبل ان اتابع انعكاسات السياسات الاجتماعية وتناقضاتها وما انتجته من ترسبات وخطايا كالذي ساعالجه في الحلقة السادسة .. ينبغي علينا ان نعيد التفكير في تاريخنا العراقي وعلينا ان نخرج من الشرانق التي ادخلونا فيها او حبسونا في دواخلها .. ولم يعد باستطاعتنا الخروج لرؤية الحقائق . ان تاريخنا العراقي الحديث من اصعب ما يمكن العمل فيه .. ولا يمكن لأي باحث عراقي او غيره ان يطلق احكامه من عندياته او كما سمع وتربى عليه ، فكل ما مضى من زمن تكاد الحقائق تكون فيه مغيبة ، ولم يعرف حتى الطلبة في المدارس والجامعات الا التشويه وترديد الشعارات وتقليد الخطابات .. ثمة مشكلة اخرى تتمثل بعدم الاعتراف بالحقائق والتخلي عن الاخطاء ، بل التخلي عن التصدي لمن يعريها ! ان الاحزاب والقوى الثورية قد ارتكبت اخطاء وجنايات فاضحة بحق ليس النظم السياسية ( اذ ان هذا من حقها ) ، بل حتى الاجتماعية والادارية  .. الخ واذا كان زعماء العراق قد اقتص منهم الثوار باساليب دموية ووحشية  .. فان الثوار لم يكونوا مثاليون في قيادة المجتمع العراقي على امتداد القرن العشرين . واخر ما يمكنني السؤال عنه : هل لأي قوة في الارض مهما  نّظرت ومهما تحّزبت ومهما كتبت ونشرت وقامت بمؤتمرات وتنظيمات ووزعت منشورات .. مهما علت وطغت وتجبرت حتى يومنا هذا ان تقف لتلغي البنية العشائرية والقبلية في العراق ؟ وكلنا يعرف ممن تتكون هذه " البنية الاجتماعية " في نظامها المتوارث وخصوصا عند العرب والاكراد .. واذا كانت مثل هذه البنية راسخة حتى اليوم ، فكيف بنا بالنزعة الطائفية التي ليس من السهل ابدا محوها من الوجود .

نشرت في موقع الدكتور سيار الجميل
29 ديسمبر 2007
انتظروا الحلقة السابعة


123
اصدقائي الاعزاء
كل عام وانتم بخير
ارفق لكم الحلقة الرابعة من حواري مع الدكتور كاظم حبيب  على الرابط التالي مع التقدير
 
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20071225-1310
 
سيار الجميل

124

جادة حوار عراقي
مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب


أ.د. سّيار الجميل
الحلقة الثالثة
تاريخ العلاقات الإنتاجية في العراق
مقدمة :
اتواصل معكم ايها القراء الاعزاء وكل المتابعين لهذا الحوار وفي مقدمتهم الاخ والصديق الاستاذ الدكتور كاظم حبيب .. وليعذرني الجميع انني ساعالج باختزال شديد تاريخ العلاقات الانتاجية في العراق ، اذ لا يمكننا ابدا ان نتحدث عن اي علاقات في القرن العشرين ما لم ندرك الجذور التاريخية لواقع ابتلي بالترسبات والبقايا الصعبة .. وليصبر عليّ كل القراء فموضوعات العراق صعبة ومعقّدة وعلينا بحفرياتها ، والا نكون في متاهة مغلقة لا ندرك الاولويات والاسس ولا نتعرف مليا على كل ما انتجه التاريخ الاقتصادي الصعب للعراق ، وأثّر بالضد او باللا ضد في مجتمعنا المتنوع حسب تنوع الجغرافية والبيئات العراقية الخصبة .. ان هذه " الحلقة " الثالثة قد خصصتها فعلا للعلاقات الانتاجية في العراق والتوغل في مداراتها الاولى .. وسواء اصبت ام اخطأت ، فالمهمة لابد منها ان كّنا مخلصين فعلا للمعرفة  العراقية بعيدا عن اي ميول او اتجاهات .. وانني ساثمن جدا موقف الاخ الدكتور حبيب ان وافقني هذا القول ، وهو رجل اكاديمي مدرك لمقول القول ، وغاياتنا مشتركة ضمن هدف نبيل يخدم العراق وبناء مستقبله وان نكون حياديين ما استطعنا مبتعدين جدا عن المهاترة واساليبها النزقة .. ومن اسمى فضائل الكتابة الاعتراف بما لنا وما علينا ونحن نفتتح هذا " المنهج " امام كل الاجيال العراقية التي لن ينفعها بعد اليوم الا الحوار باسمى معانيه.
اولا :  العلاقات اقطاعية ام شبه اقطاعية ؟
كتب الصديق الدكتور كاظم حبيب ، قائلا : " إن قراءتي للمجتمع العربي ليست استعارة ماركسية بأي حال, بل هي تنطلق, في ضوء المنهج المادي, من واقع هذه المجتمعات والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة فيها, ومن واقع النظم السياسية الحاكمة فيها. لم أشر في مناقشتي مع السيد الدكتور الجميل إلى المجتمع الإقطاعي في الدول العربية, بل أشرت إلى ما اصطلح عليه بالعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ذات الطبيعة الآسيوية. وهناك فارق كبير بين أوروبا ونظامها الإقطاعي وبين الدول العربية ونظامها شبه الإقطاعي الشرقي أو الآسيوي, ولا يمكن أن يرتكب في هذا الأمر أي خطأ. ولكن أليست هناك نقاط التقاء في إطار تلك العلاقات الاستغلالية؟ هنا تكمن القضية. نعم هناك نقاط التقاء رغم الفارق الكبير بين المسألتين " .
هنا اقول للصديق كاظم حبيب متسائلا : ما الخطأ في الاستعارة الماركسية ؟  فنحن نعترف جميعا بأننا لسنا اصحاب المنهج المادي ، بل يقف كارل ماركس على رأسه ، وليس في ذلك عيبا ام قبحا .. اننا نستعير كل شيئ في حياتنا من الاخرين ، فما الضير سواء استعرنا هذا " المنهج " او ذاك من مناهج الغربيين ، ولعل المنهج المادي في مقدمة تلك " المناهج " وقد ننجح من خلاله في تفسير بعض العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وقد لا ننجح ! انني اعترف بأن الرجل قد وصف الحالة العراقية بـ " شبه اقطاعية " ، ولكن هل هي حالة كهذه التي كانت سائدة في كل انحاء العراق الزراعي ؟ ام انها كانت منحصرة بامكنة معينة ، وبالذات في بيئات لها مشكلاتها القديمة المتوارثة منذ القرن التاسع عشر ؟ وهل تشابه هذه " الحالة " العراقية بقية الحالات التي عرفتها البيئات العربية الزراعية ؟ واذا كانت هناك نقاط التقاء يسن الحالة العراقية والحالات الاوربية ، فما هي بالذات باستثناء الاستغلال الذي يتفق حوله الجميع . 
قلت يا صاحبي " إن مجتمعنا يغوص حتى الآن أكثر فأكثر في عمق الثقافة الدينية الفلاحية الإقطاعية المتخلفة وغير المتنورة التي ستقيد حركة المجتمع وتعرقل وجهة تطوره الديمقراطية " . انني اهيب بك انك بقيت تؤكد في معالجاتك  ، ان الحالة " شبه اقطاعية " ، واذا كنا نحن الاثنين قد اتفقنا على ان الحالة " شبه اقطاعية " ، فهل توافقني الرأي ان معظم الادبيات السياسية والكتابات والبيانات الحزبية والصحافة الثورية وحتى المطبوعات الفكرية والمقالات الاكاديمية التي انتجها العراقيون على مدى سبعين سنة كانت تطبع الحالة بـ " الاقطاعية " عن قناعة راسخة ، ولكنها قناعة سياسية وايديولوجية وليست قناعة علمية ومعرفية .
ثانيا : طبيعة العلاقات الانتاجية في العراق
1/ النصوص
يقول الدكتور كاظم حبيب ويوافقني في ذلك  : " .. وهناك فارق كبير بين أوروبا ونظامها الإقطاعي وبين الدول العربية ونظامها شبه الإقطاعي الشرقي أو الآسيوي, ولا يمكن أن يرتكب في هذا الأمر أي خطأ. ولكن أليست هناك نقاط التقاء في إطار تلك العلاقات الاستغلالية؟ هنا تكمن القضية. نعم هناك نقاط التقاء رغم الفارق الكبير بين المسألتين " .
لقد ركّز الرجل على العراق بقوله : " لنأخذ العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وليس في فترة مدحت باشا التي عرفت الإصلاحات المهمة, كما ولنتابع أيضاً السياسات التي مارستها قوانين أرنست داوسن التي أصدرتها الحكومة العراقية في العام 1932 في قضية الأرض الزراعية في العراق .. " .
لقد ركّز الدكتور حبيب على العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على قضية الارض الزراعية ، ومشكلة الارض الزراعية في العراق ليست وليدة هذه الفترة التاريخية ، انما تعود الى تواريخ قديمة ، فالصراع على الارض والماء في العراق قديم جدا ومزمن مع توالي كل العهود ..
" لنأخذ العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وليس في فترة مدحت باشا التي عرفت الإصلاحات المهمة, كما ولنتابع أيضاً السياسات التي مارستها قوانين أرنست داوسن التي أصدرتها الحكومة العراقية في العام 1932 في قضية الأرض الزراعية في العراق لتعرفنا على مسألتين مهمتين, وهما:
لقد ركز الدكتور حبيب ايضا على مسألتين مهمتين بقوله : "  1. تميزت الفترة الأولى بانتزاع المزيد من الأراضي الزراعية من صغار الفلاحين والمنتجين ومن الأراضي التابعة للديرة في فترة العلاقات الأبوية أو التي رقبتها للدولة, التي بحث فيها الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري بعمق كبير في كتابه القيم حول تاريخ العراق الاقتصادي, أو الأراضي التابعة للدولة , وفق حكم الخليفة عمر بن الخطاب حين قرر, بعد استشارة الصحابة. "أن رقبة الأرض في العراق تعود للدولة", كما بحثتها في كتابي الموسوم "الإصلاح والتعاون الزراعي في العراق " في العام 1976, التي تم تسجيلها باسم السلطان عبد الحميد "الأراضي السنية", ومن ثم وفق قوانين دواسن (اللزمة والتفويض بالطابو) في الفترة الثانية التي تم تسجيلها باسم شيوخ العشائر والميسورين وجمهرة من التجار الأغنياء, حيث واصل الفلاحون الفقراء والمنزوعة أرضهم يعملون في تلك الأراضي الزراعية التي أصبحت عائدة ملكيتها أو حق التصرف بها لأولئك الشيوخ أو هربوا إلى المدن حيث البطالة والعوز والحرمان. أورد هنا إحصائية واحدة لكي يمكن أن نعرف طبيعة العلاقات التي سادت الريف العراقي في فترة العهد الملكي على الأقل وقبل صدور قانون الإصلاح الزراعي الأول رقم 130 لسنة 1958 أو القانون رقم 117 لسنة 1970 أو القانون الخاص بكُردستان العراق رقم 90 لسنة 1975. (راجع: حنا بطاطو. العراق الكتاب الأول. بيروت. مؤسسة الأبحاث العربية. ترجمة عفيف الرزاز. 1990. ص 76) " .
2/ نقد النصوص
 لا يمكننا البتة القول بأن نظام العراق الزراعي قد بقي على حاله منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب حتى عهد الملك فيصل الاول ، واذا ما درسناه  اوضاع العراق الزراعية والمجتمع الفلاحي العراقي ابان القرن العشرين ، فينبغي علينا ان ندرك بالتفاصيل كلها ما الذي حدث في القرن التاسع عشر من تحولات جذرية اتت اكلها من تناقضات في القرن العشرين .. واذا وجدنا ان حالة الفلاحين العراقيين منكودة ومهترئة في القرن العشرين ، فليس معنى ذلك ان المسؤولية لا يتحملها الا حكام العراق في القرن العشرين من دون محاسبة من سبقهم من الحكام ؟
    واذا كانت البنية الاجتماعية العراقية هي التي تحمل بقايا تاريخ اقتصادي مرير خلقته انظمة اقتصادية قديمة ، فليس معنى ذلك ان البريطانيين هم الذين خلقوا  ( الاقطاع ) وأوجدوا ( القبيلة ) وصنعوا ( العشيرة ) .. وانهم كانوا وراء صناعة العراق الاجتماعي في القرن العشرين .. واذا كان البريطانيون وراء اصدار قانون تسوية الاراضي وقانون اللزمة .. فليس معنى ذلك ان القانونين اتيا من فراغ ؟ لقد سبقتهما قوانين صدرت حول الاراضي والطابو والتسوية .. ابان العهد العثماني . واذا كنا ننعي على المجتمع الفلاحي العراقي اوضاعه السيئة في القرن العشرين ، فليس معنى ذلك ان مجتمعات زراعية اخرى في كل دول منطقة الشرق الاوسط كانت متطورة وعادلة وينتفي منها ( الاقطاع ) ! واذا درسنا التاريخ الاقتصادي للعراق بكل دقة وتركيز سنجد ان ثمة فروقا هائلة في الانظمة الاقتصادية التي حكمت طبيعة المجتمع العراقي بين شماله ووسطه وجنوبه .. او لما بعد دجلة شرقا مقارنة بما هو عليه الحال لما بعد الفرات غربا !
 لا يمكن ان نتكلم عن دهاقين العراق القدماء ونقرنهم بـ ( الاقطاعيين ) العراقيين الجدد ! لا يمكننا ابدا ان نختزل مثل هذا " الموضوع " الخطير ببضعة جمل لاكتها السننا ازمنة مضت وتناقلها الناس عبر الصحف والدعايات الاذاعية والكتابات الايديولوجية الانشائية العادية كي نبني عليها احكاما اساسية ونحن نمتلك ناصية البحث العلمي ! ليس من الصواب ابدا ان انقل تجربة المنهج الماركسي في دراسة مجتمعات لم تزل زراعية وان علاقاتها حتى اليوم انما تختلف عن تلك العلاقات الاقطاعية التي سادت في القرون الوسطى الاوربية . وحتى مكانيا لا يمكننا مقارنة العلاقات التي سادت بين الفلاح وشيخ العشيرة في العراق مع تلك التي سادت بين الفلاح والمّلاك الاقطاعي في مصر قبل مائة سنة .
3/ هل من تجديد في التفكير الماركسي العراقي ؟
ومن المؤسف ان معظم القراءات الماركسية لطبيعة العلاقة الاجتماعية في المجتمع العراقي قد اوقعت نفسها في نفس الاخطاء ، وليس في ذلك اي عيب ، تلك التي وردت لسببين اساسيين هما :
 1) احادية المنهج الماركسي
يبدو الامر بوضوح كامل واعتراف واضح بأن هناك احادية في التطبيق للمنهج الماركسي الواحد من دون استخدام اي منهج آخر الى جانبه .. انهم لم يستخدموا ابدا ايا من المناهج الجديدة بدءا بالتوسير في تفكيك العلاقة الانثربولوجية وانتقالا الى ماكس فيبر في تحليل علاقات القرابة والسلطة ووصولا الى منهج دوركهايم  في  توصيف  احادية البيئة الاجتماعية  ولا منهج  كارل مانهايم في تبيان خصوصيات المواريث الاجتماعية .. الخ  ، ومع اسمى اعتزازي بهم ، فان اغلب من درس المجتمع العراقي من الزملاء المفكرين الماركسيين لم يتجاوزوا منهجهم الماركسي في دراساتهم المجتمع العراقي ، باستثناء  حنا  بطاطو الذي بقي على منهجه الماركسي في تحليل العلاقات الاجتماعية ، ولكنه استخدم منهج القرابة لماكس فيبر ولكن فقط في تحليل العلاقات السلطوية السياسية التي حكمت طبيعة العوائل لا العشائر ، اي انه اقتصر على الحكام والبيكات والباشوات والاعيان والضباط  الكبار من دون الشيوخ والاغاوات والملاكين والوكلاء والسراكيل ..
2) استمرار في استخدام الخطأ
 ان من اعتمد الشعارات السياسية  التي راجت بعد الحرب العالمية الثانية ، وخصوصا تلك التي اعتمدها الحزب الشيوعي العراقي من اجل اهداف سياسية نضالية ضد السلطة الحاكمة القائمة عهد ذاك .. بقيت مستمرة على ايدي كل الكتاب والمؤرخين والمفكرين والاقتصاديين الماركسيين العراقيين .. انهم لم يتحولوا ابدا من خنادقهم الايديولوجية القديمة نحو رؤى جديدة في البحث العلمي والحقول المعرفية الواسعة .. وهذا ما جنى على تفكير الاجيال قاطبة .. وباستثناء الدكتور كاظم حبيب وندرة من الاخرين الذين اعترفوا بان العلاقات كانت " شبه اقطاعية " وليست اقطاعية بحتة ، فان الجميع كان ولم يزل يطلق ببساطة مصطلح " الاقطاعي " في العراق  .. انهم ما زالوا يرددون ( المجتمع الاقطاعي في العراق ) من دون ان يميزوا بين طبيعة العلاقات الاقطاعية الحقيقية عن تماسك العلاقات العشائرية الوثيقة .. ولم يفرقوا بين مجتمع اقطاعي ومجتمع عشائري .. ولم يميزوا بين اقطاع اجتماعي واقطاع عسكري .. لم يميزوا بين نظام الالتزام وبين نظام الساليانة وانظمة اخرى منها نظام العشائر .. لم يخصصّوا اين كانت بالضبط العلاقات الاقطاعية بين الشيخ وافراد عشيرته من الفلاحين ، وفي اية بيئات .. فمثل تلك العلاقات موجودة في اماكن محددة فقط من جنوب العراق اذ لم نشهد مثلها لا في مناطق الفرات الاوسط ولا في مناطق غربي العراق ولا في منطقة الموصل والجزيرة ولا حتى في المناطق الكردية .. انهم لم يدركوا الفروقات الاساسية في علاقات الفلاحين بالملاكين العراقيين  في مناطق الزراعة السيحية عن مناطق الزراعة الديمية .. الخ 
4/ نزاهة المقاصد مقارنة باستلابات الماضي العقيم
واود هنا ان اشير على الاخ الدكتور كاظم وكل الاخوة الكتّاب الماركسيين انني عندما اقدم ملاحظات نقدية ، اشهد انها تنطلق من رغبة علمية جامحة ولا يمكنها ان تنطلق ابدا من نزعة قومية فاشية او من تخندق حزبي شوفيني او من  موقف سياسي رجعي او من تزّمت ماضوي سلفي .. كما كنّا نقرأ من كتابات عراقية ضد المؤلفين والمفكرين الماركسيين العراقيين .. وقسم من تلك الحملات ضدهم كانت سببا في قطع ارزاقهم واضطهادهم وتحجيم ادوارهم .. علما بأن ثمة مفكرين ماركسيين عراقيين كانوا مبدعين ورائعين في نتاجاتهم وتحليلاتهم التاريخية والفكرية لمسائل عديدة في التراث والفكر والفن والتاريخ . ولعل من المضحك ان يبيع من هو ضدك عليك في حين انه يأخذ منك ويستلب كل المفاهيم . وهنا عّلي ان اقول بأن ردود الفعل من قبل الكتاب الماركسيين العراقيين على غيرهم من البعثيين والقوميين والناصريين والسلفيين كانت ضعيفة ، بل ومبتسرة اذ اتفهم جدا الاسباب الحقيقية لذلك .
5/ استلاب المفهوم الماركسي
ان هذا الذي اذاعه ونشره الماركسيون والشيوعيون العراقيون ولاكته الالسن ، بل وترسّخ في الوجدان العراقي لم يبق اسير التيار اليساري .. بل استلبه الاخرون من عراقيين وغير عراقيين ، فمن يكونوا ؟
اولا : لقد اخذه الاخرون من تيارات سياسية عراقية أخرى ليسوقوا بضاعته باسمهم .. انهم لم يستعيرونه ويعترفوا بفضل من منحهم اياه ، بل اخذوه عنوة واخذوا يجاهرون به بضاعة سياسية واعلامية وصل بعضهم للسلطة من خلاله . ان تعبير " الاقطاع " اخذه الاصلاحيون والفئة البورجوازية والاشتراكيون والقوميون والبعثيون والناصريون وحتى بعض الاحزاب الدينية في العراق .. لقد اصبح المفهوم بالرغم من خطأ استخدامه بضاعة سياسية للتقرب من الجماهير والكسب السياسي من خلاله ..
ثانيا : ولم يقتصر الامر على العراقيين في تياراتهم واحزابهم فقط ، بل نجد المصطلح نفسه يستلبه الاخرون من كّتاب وصحافيين غربيين ومن مؤرخين ومستشرقين غربيين ماركسيين وغير ماركسيين .. انهم يرددون " المصطلح " وهم يدركون مفهومه تماما ، ولكنهم لم يدركوا طبيعة العلاقات الانتاجية في العراق ، بل ولم يعرفوا طبيعة التنوع في تلك العلاقات بين الفلاحين وشيوخ عشائرهم .. انهم لم يدركوا طبيعة العلاقة العشائرية التي ربطت المجتمع الفلاحي بالعراق !
6/ ما علاقة الدهاقين بالموضوع ؟
هنا اعود الى نص الدكتور كاظم حبيب كي أسأل : ما علاقة مشكلة الارض في العراق قبل الف سنة لما كانت عليه مشكلة الارض في العراق قبل مائة سنة ؟ ما علاقة ما كتبه الاستاذ عبد العزيز الدوري في مؤلفه ( تاريخ العراق الاقتصادي ) الذي نقل منه الدكتور كاظم حبيب نصا من الصفحة 59 يقول ولما فتح العرب السواد، تركوا تنظيم القرية على ما كان عليه. فكان لكل قرية رئيس يدعى (دهقان) يشتغل اهل القرية له. ثم ظهر بالتدريج ملاكون جدد بجنب الدهاقين الذين هبطت منزلتهم الى مجرد جباة وقد كشفت الوثائق عن طبيعة الفروض والواجبات التي تقدم للاقطاعي .( انتهى ) ما علاقة هذا بموضوعنا ؟ هل يريد الدكتور حبيب تشبيه الدهاقين في الماضي بالاقطاعيين في الحاضر ؟ لا ارى اي وجه للمقارنة ولا حتى للتشبيه ، فالفرق كبير بين الاثنين حتى لو اعتبرنا ان هناك اقطاع حقيقي في العراق قبل مائة سنة ؟
ثالثا : العراق ازاء النظام العثماني والتنظيمات العثمانية
1/ زوال الاقطاع العسكري
لا يمكن القول ابدا  يا عزيزي الاخ كاظم حبيب ان كل اراضي العراق كانت من الاراضي السنية التابعة للسلطان العثماني ابان العهد العثماني ، فاراضي العراق كما تم تصنيفها حسب قانون الاراضي الذي اصدرته الدولة العثمانية عام 1858 والذي صدر بغرض الفصل بين ما لاصحاب تملك الاراضي وما للحكومة من الحقوق فيها  وجاء في 132 مادة مستمدة من الشريعة الاسلامية والاعراف القانونية السابقة ومن الشرائع المدنية الاوربية كالقانون الالماني والفرنسي والانكليزي  وهو القانون الذي ارسى قواعد الاقطاع لا على اسس عسكرية كالذي ساد منذ عهد السلطان سليمان القانوني 1520- 1566 باسم الاقطاع العسكري ، بل ان قانون الاراضي اعتبر خطوة اصلاحية متقدمة من قبل العديد من المؤرخين كونه حرّر الارض من قبضة العسكريين ومن النظام القديم الذي جثم على مجتمعاتنا قاطبة لاكثر من ثلاثة قرون ، ولكنه بدل ان ان يقوم باصلاح امر الطابو قام بتمليك الارض الى كبار الملاكين واغلبها من الاراضي الاميرية .
اما انواع الاراضي حسب القانون الجديد ، فهي خمسة انواع : الاراضي المملوكة وهي اراض ملك صرف ، والاراضي الميرية (= الاميرية ) وهي اراضي دولة ، والاراضي الموقوفة ، والاراضي المتروكة ، واراضي الموات.  اما الاراضي المملوكة وهي اهمها ، فهي اربعة انواع ، هي : العرصات داخل القرى والقصبات ، والاراضي المفروزة من الاراضي الاميرية ، واصبحت ملك صرف ، والاراضي العشرية والاراضي  الخراجية ( يجد الاخ الدكتور كاظم حبيب والقراء الكرام تحليلات واسعة ومقارنة في كتابي الموسوم :  تكوين العرب الحديث ، ص 343- 344) .
2/ نظام الالتزام :
ان العلاقات الانتاجية العراقية في القرن العشرين هي وليدة ميراث طويل من الانظمة الاقتصادية للعثمانيين ليس في العراق وحده ، بل في اغلب المجتمعات الزراعية التي وقعت تحت الهيمنة العثمانية .. ولم يكن مصطلح ( اقطاع ) و( اقطاعي ) كاللذين يفسرهما المنهج الماركسي ، او حتى تلك التفاسير الاوربية لما ساد في اوروبا من علاقات انتاج زراعية تشبه العلاقات الانتاجية كالتي وجدناها في مجتمعات كالعراق وسوريا ولبنان ومصر وايران وتركيا .. مثلا  ان الاقطاع الذي عرفته منطقتنا هو الاقطاع العسكري الذي تمنحه الدولة او السلطة العثمانية العليا الى كل الاغوات والبيكات والبكلر بيكات (= الباشوات ) الذين يقدمون خدمات كبرى للدولة .. وتلك الاقطاعات تشتمل على : التيمار والزعامت والخواص .. ضمن نظام الالتزام كواحد من النظم الاقطاعية العسكرية المعقدة في التاريخ ، وكانت له اعرافه واساليبه . فالتيمار ، اقطاع يضم اراض زراعية يمتلكها " التيمارجي " يتراوح مساحته بين 300 – 500 فدان . ام الزعامت ، فهو اقطاع اكبر من التيمار ، اذ تزيد مساحته عن 500 فدان من الاراضي الزراعية . اما الخواص او الخاص فهو اقطاع كبير ، جاءت تسميته من خاصلر بمنحه الى الوزراء .. وهناك عدة اراضي مسجلة خواص باسم السلطان تحت عنوان " خواصي همايون " . لقد استخدم العثمانيون في العراق نظام الالتزام ونظام الساليانة ، وفي كلتا الحالتين لحق ضرر بالغ بالعراقيين ، اذ تسجل المعلومات التاريخية ان نصف واردات العراق كانت تذهب الى مركز السلطنة العثمانية ( راجع دراسات المؤرخ التركي خليل انالجيك حول اقتصاديات الامبراطورية العثمانية ).
3/ العراق ازاء ثمانية انظمة عثمانية
ان ثمانية أساليب انظمة إدارية واقتصادية كانت الدولة العثمانية قد استخدمتها في ألويتها وولاياتها المختلفة عبر تاريخها، وهي: التيمار والأوجاقلق والحكومة وإمارة العشيرة والآربالق والساليانة والالتزام والمالكانة، ويأتي أسلوب التيمار على رأس تلك الأساليب ، اذ جرى تطبيقه على الألوية التي خضعت لعملية مسح الأراضي وإحصاء السكان، من اجل تقدير الضرائب. وان الولايات والاقاليم التي طبق فيها هذا النظام ، فهي: الشام وحلب والرقة والموصل وشهرزور التي كانت تتبع الموصل وتبعت بغداد في احيان اخرى ، وكانت قد تخصصت بموجبه عدة إقطاعات محددة لمسؤولي الحكومة الذين يتصرفون بمواردها. ويعتبر هذا الأسلوب أساساً للاقتصاد الزراعي في الدولة العثمانية، واستمر إلى أواخر القرن التاسع عشر. أما أسلوب الأوجاقلق فوفقه أشركت الدولة الأسر والزعامات المحلية التي وقفت إلى جانبها، وأعلنت ولاءها لها في إدارة أقاليمها، حيث عينتهم أمراء محليين لإدارة ألوية وسناجق ، يتصرفون بها مدى العمر. وشاع استخدام هذا الأسلوب في الولايات العربية منذ بداية انضوائها تحت الحكم العثماني. وحملت بعض الألوية اسم «حكومة»، وأطلق على أمرائها اسم «حكام» لتدار بأسلوب الحكومة الذي يشبه الأوجاقلق، حيث يكون الحكم وراثياً ضمن الأسرة المحلية، لكنه يختلف عنه في عدم تدخل الدولة في موارد اللواء أو في تعيين الحاكم أمير السنجق الذي يتعين عليه المشاركة بمقاتليه في الحملات السلطانية عند الطلب.
4/ النظام العشائري وتكريسه في العراق
ونظراً لتميز معظم البلاد العربية بالطابع العشائري، فإنه لم يكن من السهل إخضاع العشائر من دون إتباع سياسة محلية ولا مركزية معها، وعليه فقد سعت الدولة العثمانية إلى استمالتها وكسبها بطرق واساليب مختلفة. وكانت مضطرة إلى إتباع سياسة وفاق وتهادن معها من أجل استتباب النظام الامني وحماية مصالحها في مناطق العشائر، وعليه ، فقد أقرّت الدولة الكيان العشائري بوصفه كياناً اجتماعياً قائماً بذاته، فنظمت قسماً من العشائر الكبيرة على شكل لواء، وجعلت من رئيس العشيرة أمير السنجق، وحظيت عشائر بني طي وبني ربيعة وأبو ريشة بإمارة السنجق أو اللواء.
5/ الاربالق والساليانة في بغداد والبصرة
وكان يتمّ بموجب أسلوب نظام الآربالق منح لواء أو أكثر من لواء وسنجق إلى بعض رجالات الدولة الكبار ، من ضمنهم الوزراء والولاة برتبة بكلر بك كي يتصرفوا بمواردها الاقتصادية لتغطية نفقاتهم الشخصية، أو لتغطية نفقات بعض الولايات أو الألوية، التي لا تكفيها مواردها. وشاع استخدام هذا النظام  في القرن السابع عشر. في حين أن أسلوب نظام الساليانة ينهض على جمع موارد الولاية باسم خزينة الدولة بشكل مباشر، بعد أن يتم تخصيص مرتبات المسؤولين ونفقات الولاية المختلفة من هذه الموارد، ويرسل المتبقي منها إلى خزينة الدولة . وطبق في ولايات مصر وبغداد والحبشة وتونس والبصرة وسواها   ( راجع دراسة الصديق الدكتور فاضل بيات عن الدولة العثمانية في المجال العربي واعتماده على الوثائق العثمانية ).
6/ الالتزام في الموصل
أما أسلوب نظام  الالتزام، فكان الوالي أو أمير السنجق( = اللواء )  يتعهد بموجبه بدفع مبلغ من النقود سنوياً إلى خزينة الدولة، فيتم إقراره باعتباره واردات ضريبية للولاية أو اللواء، .  ولقد استخدم في معظم اقاليم ولايات بلاد الشام  ومصر والعراق والإحساء. وكانت الولاية أو اللواء تمنح للملتزم مدى العمر، ضمن أسلوب حمل اسم «المالكانة»، لأنها ستكون بمثابة ملك صرف للملتزم.
7/ الانقسامات في ظل السلطنة
لقد عمدت الدولة العثمانية إلى تقسيم الولايات، ذات المراكز الحضرية والتاريخية  المنتشرة في مختلف أرجائها، إلى ولايات متعددة ( في الاصل : ايالات ) ، كي تتمكن من إدارتها وحكمها بسهولة، فقسمت بلاد الشام إلى خمس ولايات، وقسمت العراق إلى ثلاث ( ثم : أربع ) والجزيرة العربية إلى ثلاث ولايات، في حين أنها نظمت مصر في ولاية واحدة، نظراً للوضع الخاص الذي كانت تتمتع به، اذ كانت مركزاً لدولة المماليك المستقلة قبل خضوعها للدولة العثمانية.
رابعا : نشوء الملكيات الجديدة للارض الزراعية العراقية
1/ القوانين الجديدة في عصر التنظيمات
استمر هذا " النظام " حتى عصر التنظيمات العثمانية حيث صدرت عدة قوانين اصلاحية اساسية اثرت تأثيرا مباشرا في المجتمع العراقي .. وليس في جميع اصقاع الارض الزراعية العراقية .. لقد صدر قانون الاراضي عام  1858  ، ثم صدر قانون الطابو عام  1859  واعقبه قانون التسوية ، ثم صدر قانون الولايات عام 1864  انني اعتبر تطبيق تلك " القوانين " قد جر العراق الى مرحلة جديدة من علاقات الانتاج السيئة . ان تسجيل الاراضي في الطابو قد احدث مشكلات لا حصر لها في المجتمع ، من خلال فرض القوي سطوته على الضعيف ، فكان شيوخ العشائر خارج المدن الاساسية هم الذين فازوا  بتسجيل افضل الاراضي باسمائهم  حتى وان امتلكوا سندات قديمة تثبت ذلك .. ورؤساء العشائر العراقية لم يأتوا من فراغ ، بل كانوا اعضاء في بنية اجتماعية كانت الدولة معترفة بها وبنظامها العشائري ، فلا غرابة ان يسجل هؤلاء الارض باسمائهم ..
2/ بقاء مشكلات الارض العراقية واستمرارها
 وكانت الشرائح من اعيان المدن قد سعوا الى تسجيل ما يتملكونه من اراض باسمائهم .. ولما ازدادت المشكلات والتنازع حول طبيعة الملكية اذ ظهرت مشكلة الاراضي ملك صرف والاراضي الاميرية واراضي العرصات  واراضي البوار .. الخ  ان قانون التسوية لم يحسم على مدى عقود طويلة من السنين  مشكلات الارض العراقية التي لم يدرك تعقيداتها اغلب الناس ومنهم الكتاب وحتى المؤرخين العراقيين .. كونهم ينطلقون من افكار مسبقة شاملة لجميع اصناف الاراضي  العراقية  كما يطلقون احكامهم جزافا على جميع الملاكين من دون اي تمييز بين شمال وجنوب .. بين شيوخ عشائر ريف و ملاكين اعيان حضر .. بين بساتين النخيل الى مزارع  الشلب الى حقول الحنطة والشعير الى مزارع الخضراوات والفواكه والحمضيات الى الزراعات المتاحة .

3/  واخيرا : حصيلة المواريث والترسبات التاريخية
لقد ترددت اقوال كثيرة على السنة العراقيين وخطّت العديد من النصوص حول الاقطاع في العراق .. دعونا نقرأ معا احد التحليلات المهمة التي مزجت بين العشائرية والاقطاعية : " وعلى الرغم من التطبيق الجزئي لهذا القانون بسبب التحديات التي واجهت تطبيقه خاصة من النظام العشائري من جهة والادارة العثمانية المتخلفة من جهة اخرى فقد كان هذا القانون بداية نشوء الاقطاع في العراق. اما في العهد الملكي فقد سيطر النظام الاقطاعي حيث امتلك زهاء 2% فقط من مجموع المزارعين مالكي الاراضي زهاء 68% من الاراضي الزراعية وساد نمط من العلاقات الانتاجية اتسم بالاستغلال الاقطاعي للعشيرة حيث تحول الكثير من رؤساء العشائر الى اقطاعيين استغلاليين لدرجة جعلت الفلاحين شبه ارقاء وقد ساهمت الادارة البريطانية بعد احتلال العراق وسياسة الانتداب البريطاني ثم سياسة العهد الملكي الى زيادة مركز الاقطاع سياسيا واقتصاديا على حساب الفلاحين حيث اخذت السلطة البريطانية ومعها المجموعة الحاكمة تمليك الاراضي الاميرية وتسجيلها باسم كبار الملاكين وشيوخ العشائر فضلا عن منح الاراضي الزراعية التابعة للدولة الى ذات الفئات الاجتماعية لتوطيد دورها ومكانتها الاقتصادية وبالتالي السياسية والاجتماعية في المجتمع " .
خامسا : ماذا نستنتج ؟
ثمة استنتاجات يمكننا ان نتأمل فيها ، وتساعدنا في الحقيقة لفهم مضامين الحلقات القادمة ، يمكنني ان اسجلها في ادناه :
1/ ان العلاقات الانتاجية المهترئة في العراق ابان القرن العشرين لم تكن وليدة من فراغ .. بل انها بقايا وترسبات الماضي بكل تناقضاته الصعبة .
2/ لم يطبق في العراق نظام اقتصادي واحد في كل اصقاعه كي ينتج علاقات طبيعية ومتشابهة ، بل كانت هناك عدة انظمة واساليب فاقمت من حجم الازمات التي اصطدم بها المجتمع بعد وجد نفسه محتلا من قبل البريطانيين .
3/ لا يمكننا البتة من التعويل على المنهج المادي لوحده في دراسة طبيعة العلاقات الانتاجية العراقية ، اذ ان ثمة نسيجا من المشكلات الاقتصادية زراعية واروائية وملكية اراضي .. الخ بحاجة ماسة الى استخدام مناهج معرفية اخرى .
4/ صدقت الى حد الان اراء الدكتور كاظم حبيب في توصيف العلاقات الانتاجية في العراق بأنها كانت " شبه اقطاعية " وليست " اقطاعية " .. وبذلك فهو يصحح لأول مرة ما ساد من مفاهيم خاطئة ان العلاقات كانت اقطاعية صرفة .
5/ ان ما تقدم في اعلاه سيؤكد في قابل الايام الاسباب العميقة لفشل تجارب واخفاق مناهج حكم واحزاب وتيارات سياسية في العراق ابان القرن العشرين بسبب ضبابية الرؤية ازاء المجتمع العراقي ومشكلاته المستديمة المستعصية .. وادانة الاستعمار واذناب الاستعمار من دون فهم العوامل الداخلية الخفية والمعلنة .

تنشر هذه الحلقات تباعا في موقع الدكتور سيار الجميل
21 ديسمبر / كانون الاول 2007

انتظروا الحلقة الرابعة رجاء

www.sayyaraljamil.com



125
جادة حوار عراقي
مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب

أ.د. سّيار الجميل

الحلقة الثانية

منهج غير قابل للتجديد
تقول يا صديقي : " أن الماركسية منهج علمي لدراسة وتحليل الواقع القائم والعمل على تغييره, أو النظر في الماضي والحاضر والمستقبل, هذه هي الأبعاد الثلاثة التي يبحث فيها المنهج من زاوية القضايا وتعتمد التجريد والتجسيد المتعاقب والتدقيق. وحين نبحث موضوع "المجتمعات العربية والديمقراطية", فهو بحث في الماضي والحاضر والمستقبل في آن " .   
انني احترم  الماركسية فلسفة لها خصوصياتها والتي تبلورت مفاهيمها على ما سبقها من فلسفات ورؤى وكتابات في الاشتراكيات الطوباوية والتعاونية .. وانها فعلا صيغة متقدمة من ديالكتيك هيغل التي تقول بالنقائض والبحث عن نقيض النقيض .. وكنت ولم ازل استفيد من فلسفة هيغل ومن نظرية كارل ماركس وآراء انكلز الى جانب استخدام نظريات وفلسفات اخرى شاعت في القرن العشرين ، ولكنني اعتقد ان كلا من الهيغلية والماركسية قد تجاوزهما الزمن اثر مرور اكثر من قرن كامل على ولادتيهما التاريخيتين.. وأسألك يا صديقي العزيز حول المنهج الماركسي .. هل باستطاعته اليوم ان يقوم بتحليل الواقع القائم كما تقول ؟ وهل باستطاعته العمل على تغييره كما تقول ؟ واذا كان ينظر الى الماضي ، فهل باستطاعته النظر الى الحاضر والمستقبل كما تقول ؟ اي واقع قائم باستطاعة الماركسية تغييره اليوم ؟ فلقد تقلص تأثير الدولة لصالح الشركات .. ولم تعد الرأسمالية يحتكرها سوق مكان معين ، بل تنتشر في كل مكان في العالم .. لم يعد العمال قوة نافذة يمكن ان تحميهم قوى نقابية .. ولقد سّرح الالاف من العمال نتيجة انتقال التصنيع للسلعة الواحدة الى اي مكان في العالم !
الاقتصادات المشوهة اللا منتمية في الشرق الاوسط !
واذا كنا قد اعترفنا بأن واقع مجتمعاتنا تنخره العلاقات الطفيلية لا الطبيعية ، والاستهلاكية لا الانتاجية .. وهو واقع لا يعرف غير الاستهلاك بعيدا جدا عن الانتاج ووسائل الانتاج .. وانت ادرى بها افضل مني ، فكيف تستطيع بربك ان تطبق عليه المنهج الماركسي ؟  واذا عجز الماركسيون واللينينويون والماويون انفسهم المضي قدما في الحفاظ على منظوماتهم الاشتراكية اطلاقا .. فكيف تريد من ابناء واقع مجتمعات الشرق الاوسط اليوم ان تعالجها الماركسية ؟ اذا كان الشيوعيون العرب والترك والايرانيون ـ مثلا ـ .. لم يجددوا انفسهم حتى الان  لمعالجة واقع ساهموا هم انفسهم في صناعته على مدى قرابة قرن كامل .. فكيف تريد من منهج  قديم معالجة واقع  لم يدركه كارل ماركس بنفسه ولم يعرف شبيها له .. فلا هو بمجتمع رعوي حتى الان !ّ ولا هو بمجتمع اقطاعي حتى الان ! ولا هو بمجتمع رأسمالي صناعي او زراعي ؟ ولا هو بمجتمع اشتراكي تعاوني تغلفه الطوباويات ؟  انه مجتمع استهلاكي طفيلي مختلط ، تآكلت فيه العلاقات الانتاجية وتتلون فيه الاشكال الرعوية والريعية معا .. ولم تزل فيه حتى اشكال العبودية .. وتتشوه فيه القيم بين الدين والدنيا ، وتمتزج فيه الاوهام بالحقائق .. وتتداخل فيه الدولة مع المجتمع .. الخ وهنا ، ينبغي ان تطبق عليه مناهج اخرى . وعليه ، فاننا ان استوعبنا ذلك كله لما استطعنا القول يا صديقي : " لقد ولى عهد التشبث بالمقولات والاستعارة التاريخية الخاطئة والمناطحة بها ـ كما تقول ـ " . ولكن ؟
هل تؤمن الماركسية بالليبرالية ؟
ويبقى الصديق الدكتور كاظم حبيب مصّرا على رأيه الذي لابد من احترامه احتراما للمبادئ التي يحملها ، فالرجل مخلص للمبادئ التي آمن بها .. ولكن دعوني اتوقف قليلا عند النص التالي كي نتأمل فيه قليلا ، ونتفحصه طويلا ، ونتساءل من خلاله عما يمكن ان يعلمنا اياه تفكيكه النقدي ، يقول : " وهنا أؤكد بأن العيب لا يكمن في المنهج ( الماركسي )  , بل في أسلوب أو طريقة فهمه واستخدامه من هذا الشخص أو الحزب أو ذاك أو عدم السعي إلى إغناء المنهج بالتقنيات والمعارف الحديثة. المنهج المادي قابل للتطوير والإغناء والتفاعل مع تطور العلوم والتقنيات الحديثة التي يمكن وضعها في خدمة مستخدم المنهج. وتبني المنهج المادي الديالكتيكي لا يحرم الإنسان حق تبني الليبرالية ما دام النظام السياسي والاقتصادي الذي تستوجبه طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع , كما لا يحرم الباحث حق استخدام المناهج الأخرى في التحليل. لكن المنهج العلمي المادي الجدلي يساعد الإنسان على اكتشاف العيوب الجدية الموجودة في طبيعة النظام الرأسمالي أو في ممارسات الدول الرأسمالية العالمية والعواقب الوخيمة حين لا تفرض الرقابة والتضبيط وسن التشريعات في هذا النظام بحيث تمنع من تفاقم التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية التي يمكن أن تقود , كما قادت في السابق , إلى صراعات ونزاعات دموية وإلى انتفاضات وثورات.
 والمنهج يساعدنا على  التمييز مثلاً بين العولمة كعملية موضوعية لا خلاف عليها ولا بد منها من جهة , وبين السياسات العولمية التي تمارسها الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية أو الموقف غير العقلاني الذي تتخذه الكثير من الدول والقوى السياسية من العولمة كعملية موضوعية مثلاً وعدم تمييزها بين العملية الموضوعية والسياسة المنتهجة. والمنهج هو الذي ساعد على تحديد الاختلالات الفعلية في طبيعة ومسيرة الدول الاشتراكية أيضاً التي تبنت المنهج ولم تمارسه فعلياً , ولكنها رفضت الانصياع للباحثين العلميين في الاتحاد السوفييتي الذين أشاروا إلى مواطن الخلل وخاصة في غياب الحرية والديمقراطية والسياسات الستالينية الدموية والإجرامية التي مارسها على امتداد فتره حكه البلاد, بل قام ستالين بقتل الكثير والكثير جداً من هؤلاء, ومن بينهم العلامة السوفييتي الشهير كوندراتيف, صاحب نظرية الموجات الطويلة, أو ما حصل في بقية الدول الاشتراكية" .
مناقشة في المضمون :
1.   من قال : العيب في المنهج الماركسي ؟ ولكن أسأل عن اسلوب وطريقة فهمه واستخدامه ؟ ثمة اساليب وطرق فهم واستخدامات شتى في اوروبا وآسيا وامريكا اللاتينية .. هل كانت جميعها على خطأ عندما انهارت فجأة .. واذا كانت قد فشلت في اصقاع العالم كله ، فكيف تريدها لا تفشل في مجتمعاتنا المتباينة ذات الاقتصادات المشوهة ؟ واذا كانت قد فشلت بعد تجارب اكثر من نصف قرن مضى في القرن العشرين ، فكيف تريدها ان تنجح في القرن الواحد والعشرين ؟
2.   ثمة نظرية وتطبيقات وقد تجاوزتها نظريات اخرى ، فما هي وسائل السعي لاغناء المنهج بالتقنيات والمعارف الحديثة ؟ اذا كانت المعرفة الحديثة والفلسفات المعاصرة لا تلتقي جميعها مع الثوابت الماركسية ، فكيف يمكنها ان تغنيها ؟ وانا بدوري اسأل عن ماهية التقنيات الحديثة  التي يمكن وضعها في خدمة مستخدم المنهج ؟ ولماذا كل هذا التشبّث باحادية منهج وفلسفة تجاوزهما الزمن ؟ لم يمض وقت طويل على ديالكتيك هيغل حتى تبلورت نظرية كارل ماركس .. فهل من حق نظرية الاخير احتكار التاريخ ؟ وعقود القرن الواحد العشرين كفيلة بأن تكون حبلى باكثر من نظرية لمعالجة ما ستنتجه ظاهرة العولمة بعد ثلاثين سنة من اليوم .
3.   كيف لا يحرم المنهج الماركسي ( بعيدا عن هيغل ) الانسان حق تبني الليبرالية ما دام النظام السياسي والاقتصادي الذي تستوجبه طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع ؟ ان الفلسفة الماركسية تنص على حكم البروليتاريا (= الطبقة العاملة ) للمجتمع واستئصال فائض القيمة وتنص على الملكية العامة للدولة .. الخ فهل يتفق هذا مع ركائز الليبرالية ؟ انه تصادم مبادئ واساسيات وليس مجرد تلاقي افكار عادية .. لقد كان الماركسيون من ألّد اعداء الليبراليين ، والعكس صحيح ، ذلك ان الليبرالية تقترن بالحريات السياسية التي لم يمنحها اي حزب شيوعي حاكم ، ولم تشهد كل التجارب الشيوعية فيى القرن العشرين على الاطلاق اي نوع من الحريات السياسية واية برلمانات تمارس فيها الاحزاب مهما كان نوعها اية حريات سياسية بالمفهوم الليبرالي .. اما ان كانت طبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع تستوجب ذلك ، فهذا التفاف على الليبرالية والاستفادة منها على حساب ابقاء الايديولوجيا .. وهذا ما يفعله الاسلاميون ايضا في هذه المرحلة . انهم يلتفون على الفكر الليبرالي لانتاج خطواتهم من اجل السلطة وضرب عنق الحريات السياسية في الصميم .
4.   انني اوافق على ان يستخدم الباحث المناهج الاخرى في التحليل ، ولكن شريطة استخدامها جميعا ، اي حتى بالنسبة لتلك التي تقف بالضد من الماركسية ، او بالضد من اجزاء منها . اننا لا يمكن ان نسمح بالجزء فقط على حساب الكل كما فعلت الاحزاب القومية والشوفينية والنازية ومنها الاحزاب الثورية العربية باستخدام مبادئ الاشتراكية العلمية لما يصلح ان يجعلها تقدمية لدى الرأي العام . ان الماركسية ـ كما اعتقد وقد اكون مخطئا ـ لا يمكنها ان تجدد نفسها ، ولكن بالامكان ان يتوالد عنها اكثر من نظرية اخرى تعالج مشكلة الدولة المنكمشة على نفسها اليوم بفعل شراسة الشركات الكبرى العملاقة المنتشرة في كل العالم كما وتعالج مشكلة تآكل المجتمعات في ظل التجمعات الاقتصادية هائلة القوة والتأثير كاليوربيان والاسيان والنافتا ..
5.   انني معك يا صديقي ان المنهج الماركسي باستطاعته اكتشاف عيوب النظام الرأسمالي . ولكن اي نظام رأسمالي هناك في مجتمعاتنا ؟ لقد وصلت الكابيتالية اليوم الى ذروتها ، فاين هو الفيتو الماركسي ؟ حيث يمنع من تفاقم التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية التي يمكن أن تقود , كما قادت في السابق , إلى صراعات ونزاعات دموية وإلى انتفاضات وثورات ؟؟؟ وأسألك يا صديقي : من هو الخاسر الاكبر من كل هذه العملية  الكابيتالية الطاغية ؟ الا تعتقد ان عالم الجنوب هو الخاسر الاكبر ازاء تفاقم غنى عالم الشمال ؟ من هو المنسحق ازاء كل هذه العملية التي لم تستطع لا الماركسية ولا غير الماركسية من صدّها .. ان عالم الشمال اليوم يدين اجمعه بالولاء للنظام الكابيتالي الجديد .
6.   وأسألك يا صديقي حول التمييز بين العولمة وبين السياسات العولمية ؟ وكيف باستطاعة المنهج الماركسي ان يميّز بين الاثنين ، علما بأن العولمة ليست مجرد عملية موضوعية .. انها ظاهرة تاريخية معقدة لا علاقة لها بالماركسية ابدا ، وهي نتاج الثورة الاقتصادية والتكنولوجية المعاصرة التي تتداخل فيها الارقام .. بالتكنولوجيا .. بالميديا .. بشركات متعددة الجنسيات .. بالصناعات القارية .. بالاتصالات وثورة المعلومات .. بالميديا الدعائية الهائلة .. وكلها تسيرها السياسات العولمية للولايات المتحدة والاتحاد الاوربي ومنظمة الاسيان ومنظمة نافتا بقوة الكابيتالية الامريكية وفلسفتها  الرقابية ودورها المنافس في حماية شركاتها العملاقة واستحواذها على اي شركة قوية في هذا العالم ، فما دور المنهج الماركسي في هذا او ذاك كله ؟  وما الموقف غير العقلاني الذي تتخذه الكثير من الدول والقوى السياسية من العولمة ؟ نريد ان نعرف هذه الدول وهذه القوى السياسية ان كان لها تأثير في العالم ؟ 
7.   واخيرا ، اريد ان اعرف كيف ساعد المنهج الماركسي على تحديد الاختلالات الفعلية في طبيعة ومسيرة الدول الاشتراكية التي تبنت المنهج ولم تمارسه فعلياً ؟ انني اعرف ان كل من انتقد الانظمة الشيوعية كان من خارج النظرية الماركسية ولا يعقل ان جميع الانظمة الشيوعية كانت ترتكب اخطاء في الممارسات من دون التعويل على " منهج " لا يبيح لها مطلقا التعامل مع المجتمعات الحرة وليست الدول الرأسمالية ؟ ليس من المعقول ابدا ان يتفق الجميع على تلك السياسات المقفلة التي اتبعتها الدول الشيوعية لما بعد الحرب العالمية الثانية ؟ ليس من المعقول ابدا ان يكون ستالين كبش فداء لكل ما مورس على مدى خمسين سنة من الاخطاء ؟ انني اعترف بأن هناك ثمة ايجابيات في التحكم برأس المال ، ولكن لا يمكننا ان نتخّيل كيف وصلت حقوق الانسان في البانيا التي كانت مقفلة تماما عن الحياة على يد انور خوجا وجماعته .. ولا ننسى تجربة المانيا الشرقية وهروب العشرات منها كي يتكهربوا بسور برلين .. ولا يمكننا ان نتخيل حجم المأساة التي عاشتها رومانيا  على يد شاوشيسكو .. الخ انها ليست مشكلة عابرة لكي نقول انها رفضت الانصياع ، فمن كان باستطاعته ان يعرض وجهة نظر مخالفة في ظل انظمة حديدية صعبة ومقفلة ؟ ربما تحققت عدالة او اي نوع من العدالة بسيطرة الدولة على انفاس المجتمع ، ولكن كانت الحياة مغلقة اخّرت تلك " المجتمعات " لأكثر من خمسين سنة . اننا نرى اوضاعها الصعبة اليوم ، وهي تعاني باقتصاداتها المنهكة وبؤس الحياة فيها وهجرة شباباها وشاباتها من اجل لقمة العيش حتى باسوأ الاجور واحط الاعمال !
النظرية والتطبيق مرة اخرى
كان الاعضاء في اية احزاب ثورية ابان القرن العشرين ، كلما فشلوا في امر ما يعزفون اسطوانة الخلل ليس في النظرية ، بل في التطبيق ، وكثيرا ما تتعدد البدائل ليأتي هذا على جسد ذاك .. وكثيرا ما يستخدم ما سمي بـ " العنف الثوري " لتدبير الانقلابات بحجة قداسة النظرية وعفونة التطبيق .. واستمر الحال هكذا ليس لدى الاحزاب الشيوعية حسب ، بل حتى في الاحزاب الاخرى التي عاشت تقتات على الايديولوجيات الثورية واقربها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استعار حتى ما يسمى بـ " الشرعية الثورية " ، وهي شرعية اخترعها الشيوعيون وترددت على السنة غيرهم ، ولا وجود لهكذا شرعية من الناحية القانونية او الدستورية .
 يقول الدكتور كاظم حبيب : " ولم يكن العيب في المنهج حين تم الادعاء باستخدامه في الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الاشتراكية, بل أن ما جرى هناك هو التجاوز الفظ على المنهج المادي والتاريخي لصالح الرغبات والإرادات الذاتية, كما تم التجاوز على القوانين الاقتصادية وقوانين التحول الاجتماعي الموضوعية مما أدى إلى  الانهيار الذي عرفناه في تلك الدول , إضافة إلى أن تلك المجتمعات لم تكن نضوج أصلاً لذلك التحول والتي لم تكن الرأسمالية فيها قد تطورت, بل كانت لا تزال مجتمعات إقطاعية شبه رأسمالية " .
ثمة اسئلة لابد منها : هل العيب لا يكتشف لأكثر من سبعين سنة مرت على تبلور المنظومة الاشتراكية / الشيوعية في العالم ؟ ولقد انعقدت المئات من مؤتمرات الكومنترن وحضرها كبار رجالات الشيوعية العالمية ومن العالم كله ولم يكتشف احدهم ذلك " العيب " في المنهج ! ونحن نعرف ما الذي جرى لمفكرين سوفييت وغير سوفييت عندما انتقدوا التفكير والممارسة والاداء .. فكيف لي ان اقتنع وببساطة شديدة ان العيب اكتشف اليوم ؟ ثم اعيد واكرر ، هل كانت التجربة احادية ، بحيث نقول ان الخطأ واحد .. ان هناك اكثر من اثنتي عشرة تجربة شيوعية في العالم ، لم تكن متفقة في المنهج والاداء سواء عند السوفييت او في الصين او تجارب  يوغوسلافيا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا والبانيا والمانية الشرقية وبولونيا وكوريا وكوبا وفيتنام اضافة الى اليمن الجنوبي .. الخ فهل من الصواب القول ان العيب لا يكتشف في اي واحدة منها ؟ وهل العيب كله في الممارسة والتطبيق لدى كل هذه التجارب المعاصرة ؟ وهل يمكنني ان اقتنع ببساطة انها جميعها قد تجاوزت على المنهج لصالح الرغبات الذاتية ؟ وان هذا ادى الى الانهيار الذي عرفناه في تلك الدول ؟
     انني لا اتقّبل ابدا مثل هذا " التفسير " ،  ولكن لابد ان نعترف بأن الحياة لا يمكن ان تتقّبل منهج واحد لا غير هو الذي يسيّرها وهو الذي يحكمها وهو الذي يطعمها ويسقيها ! وهو الذي يفسر وحده تاريخها وماضيها وهو وحده الذي يمتلك حقيقة مستقبلها باسم الحتمية التاريخية .. وهو الوحيد الذي يجعل الدولة هي المالكة للعلاقات الانتاجية .. وهو الوحيد الذي يجعل من بروليتاريا العالم يحكمون باسم الحزب الواحد .. عندما قرأت الماركسية في كتاب ( رأس المال ) واعجبت بمسألة " فائض القيمة " كاساس استغلال للانسان ، واعجبت بالتحقيب التاريخي وانتقال سيرورة الحياة البشرية من المشاعية الى العبودية الى الاقطاعية الى الرأسمالية الى الشيوعية العالمية .. ولكن عندما قرأت كل تجارب هذه " النظرية " على الارض وما ارتكب بحق الانسان جراء تلك " التطبيقات " لم اقل انها عيوبها وكل ممارساتها ، بل اقول انها كانت تطبّق باشكال عدة النظرية الماركسية ..
اشكال متفاوتة بين تجربة ستالين الى خورتشوف الى بريجنيف الى تجربة ماوتسي تونغ الى تجربة كاسترو الى تجربة انور خوجه الى تجربة كيم ايل سونغ  الى تجربة عبد الفتاح اسماعيل الى تجربة جوزيف بروز تيتو الى تجربة شاوشيسكو الى تجربة والتر اولبريشت وايريش هونيكر في المانيا الشرقية  وغيرهم .  يقول بوخارين وبريوبراجنسكي : ومن الواضح أن نظرية كاوتسكي تشكل اعترافا صريحا بالعجز المطلق، وأنها تضلل البروليتاريا وتحرفها عن طريقها، وتصل إلى حد الخيانة. والأسوأ من ذلك أنه عندما كنا في خضم الثورة، لم يجد كاوتسكي ما يفعله غير شن الحرب ضد البلاشفة. فتجاهل تعاليم ماركس، وأصر على حملته ضد دكتاتورية البروليتاريا، و«الإرهاب»، الخ، متناسيا أنه يساعد بذلك «الإرهاب الأبيض» الذي تمارسه البرجوازية. وها أن آماله الآن لا تختلف عن آمال داعية سلم ليس إلا. وإذا به يحلم بالمحاكم الدولية وما شابهها. وبات أشبه بأي داعية سلم برجوازي.
الرحيل الاخير لبقايا المنظومة الاشتراكية
ان الزمن وكل هذه التجارب التاريخية المريرة لم يعلم ولم تعلم كل المتزمتين التخفيف من التشبّث بما هو غير متحقق اصلا على الارض .. فكيف يبقى التزمت ساري المفعول في التفكير  والكتابات ؟ اي حتى بعد رحيل دكتاتوريات اليسار على حساب ولادة دكتاتوريات اليمين ؟  اننا نشهد كم يصر بعض الماركسيين على ان ظاهرة العولمة هي ببساطة معبرة عن المرحلة الاخيرة من تطور الرأسمالية العالمية وخير من يعبّر عن هذا الاتجاه الناقد الامريكي الماركسي فردريك جيمسون صاحب كتاب " ما بعد الحداثة " .. انه التطرف ما زال يأتي ثماره لدى الماركسيين  اليساريين ، ونجد بالمقابل فكر يميني مضاد يتبناه الليبراليون الجدد ، يقول بأن العولمة تفتح الاسواق ، وتوّسع الانشطة ، وتخصخص الثروات حتى الطبيعية ويصغر حجم الدولة .. فلا هذا  في تطرفه قد حصل على عشر معشار الحقيقية ، ولا ذاك في تعصبه  قد وصل الى ما يمكن ان يخدم به الحياة المعاصرة .  انني اعتقد ان بقايا التجارب الاشتراكية لم تزل من يتمسك بها حتى الان وحتى بين الشباب الذين فتحوا عيونهم عليها قبل رحيلها المفاجئ قبل ان يختتم القرن الماضي حياته .. ان الجيل الذي عاش زهرة الحياة الاشتراكية سيرحل عما قريب نهائيا .. وسترحل ايضا حتى التجارب المقنعة التي لم تزل تعلن شعاراتها القديمة ولكنها اصبحت كلها في رعاية الكابيتالية العولمية الجديدة والصين في مقدمة هؤلاء !                                           
المرتدون عن الماركسية
بعد ان كشف نيكيتا خروتشوف عن جرائم ستالين في الكومنترن العشرين ، استقال عدد كبير من المفكرين الماركسيين من الاحزاب الشيوعية ، وتخلى بعضهم عن الفكر الماركسي نفسه .. ومن اشهرهم ريجيس دوبريه صاحب كتاب شهير اسمه " ثورة في الثورة " .. وكان دوبريه قد عرف مناضلا الى جانب جيفارا ،وقضى ازمانا في سجون امريكا اللاتينية ، ولم يفرج عنه الا بعد ان تدخلت فرنسا بقوة .. وفي السنوات الاخيرة ، تحّول دوبريه تماما عن الماركسية ، وقد كشف عن ذلك في كتاب رائع مضمونه حوار جرى بينه وبين عالم الاجتماع السويسري جان زيغلر وكان عنوان الكتاب : " لكي لا نستسلم " نجد سخريته من الماركسية وسخر من صاحبه زيغلر الذي كان لم يزل متعلق بالماركسية ومبادئها بالرغم من شدة التحولات الجذرية التي اصبت كل العالم اثر سقوط الاتحاد السوفييتي .
 ويقول كاستورياديس في رده على سؤال طرح عليه بخصوص مساره الفكري وكيف كان او كيف حصل :  " لقد كنت مشغوفاً بفرويد منذ صغري. وقد تنبهت منذ البداية إلى ضرورة أخذ البعد النفسي والجنسي للفرد بعين الاعتبار، وليس فقط البعد الاجتماعي والاقتصادي كما يفعل الماركسيون. ولكن تركيزي على البعد الجماعي أو الاجتماعي كان هو الأقوى بسبب تأثير الماركسية عليّ حتى عام 1960. عدئذ انخرطت في تحليل نفسي لذاتي، وأصبحت فيما بعد محلّلاً نفسياً بدوري. بدءاً من تلك اللحظة أصبح مستحيلاً عليّ أن أظل ماركسياً. فقد بدا لي أن فلسفة ماركس تعاني من نقص رهيب وكبير ألا وهو: إهمالها لفردية الإنسان وأعماقه السيكولوجية وتركيزها فقط على الحياة الجماعية حتى لكأن الناس قطيع لا عواطف لهم ولا مشاعر ولا احساس. ثم إن الأخطر من ذلك هو إهمال ماركس لما ادعوه بالتأسيس الخيالي للواقع الاجتماعي-التاريخي. " ! ربما لا اوافق كاستورياديس في احكامه هذه ، ولكنني اعتقد جازما ان افكاره تعّبر عن رأي جمهرة كبيرة من المفكرين الذين توقف ايمانهم بالماركسية منذ الستنينيات في القرن الماضي .. ولم يكونوا جميعا مندفعين للارتماء في الرأسمالية .. ولم يكونوا جميعا يمثلون افكار سولجنستون  المتمردة !
 
بدائل لا نفع فيها
في المجال النظري ظهرت في العقود الأخيرة عدة افكار ونظريات وجملة إبداعات فلسفية كبرى لعل أهمها على الإطلاق "نظرية عن العدل" التي صاغها فيلسوف جامعة هارفارد "جون رولز". هذه النظرية استوعبت باقتدار النقد الماركسي التقليدي للرأسمالية المتطرفة في كونها استبعدت بعد العدل الاجتماعي في تركيزها المحموم على النمو الاقتصادي المتصاعد، وعلى التراكم الرأسمالي اللامحدود. وهكذا قرر "جون رولز" بكل جلاء ووضوح، ولأول مرة في تاريخ الفكر الليبرالي، أن هناك مبدءين للعدل: الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية.
ويشاء جدل التاريخ أن تنتقل هذه النظرية إلى عالم السياسة المعقد الزاخر بالتيارات المتلاطمة والمنافسات المحمومة بين العقائد والأفكار المتضاربة، فتنشأ حركة "الطريق الثالث". وهذه الحركة السياسية - لأنها ليست في الواقع إيديولوجية مكتملة - تهدف إلي الجمع في تركيب واحد بين ديناميكية الرأسمالية، من حيث حفز الدافع الخاص وتنميته وتشجيعه على الإسهام بفعالية في جهود التنمية المستدامة، وتحقيق بعد العدالة الاجتماعية في الوقت نفسه، من خلال شبكة متكاملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

واخيرا : الشيوعيون العراقيون وقوى اليسار في العراق
انها مناسبة ثمينة وانا احاور صاحبي الدكتور كاظم حبيب ان اتكلم قليلا عن اليساريين من الماركسيين والشيوعيين العراقيين .. ذلك ان عمرهم الطويل في العراق يشترط ان يؤهلهم سياسيا للمشاركة بحكم التجارب وبكل اتجاهاتهم ، وانهم اصحاب تاريخ طويل في العراق وهو تاريخ حافل بكل التناقضات ايضا ، اذ تضمن النضال والفكر والمعاناة والاضطهاد والتضحيات والهجرة والمشاركة .. وتضمن الاخطاء والانقسامات والانشقاقات والتحالفات والتحريض والغلو وعدم الاعتراف بالخطأ والتخبط واعمال القتل والسعي الى السلطة بأي ثمن  فضلا عن العلاقات باطراف دولية واحزاب شيوعية في العالم ..

1/ تاريخ حافل 
انه تاريخ يجمع المزيد من التناقضات ، وخصوصا في العراق ، ونحن اليوم شئنا ام ابينا علينا أن نكون حياديين في تقييمه واعترف كما يعترف غيري من الليبراليين العراقيين ان المثقفين اليساريين الشيوعيين العراقيين وعلى امتداد خمسين سنة ، كانوا هم الاكثر ثقافة ومعرفة ونضجا وابداعا  فكريا وثقافيا من غيرهم من المثقفين المؤدلجين ، وهم الاكثر منهجية عمل وتنظيم فكر وشفافية حوار سياسي كونه قابل لأن يأخذ ويعطي على عكس القوميين والبعثيين الذين ان خالفتهم رفضوك .. ولقد برز من قوى اليسار العراقي العديد من الشخصيات اللامعة في تاريخ الفكر والثقافة العراقيين منذ اكثر من خمسين سنة .. وعلينا ان نعترف بأن كتابات مفكريهم ومنشورات كّتابهم واكاديمييهم اكثر دقة وتركيزا من الكتّاب والمثقفين القوميين والبعثيين العراقيين .. وعلى الرغم من محددات مرجعية فكرية واحدة للعمل ، وعلى الرغم من احادية التفكير والمضامين التي يؤمنون بها .

2/ هل من تجديد في التفكير الشيوعي العراقي ؟
ثمة حالة اخرى ينبغي ان اسجلها في هذا المكان بالذات والتي توضّح ان الشيوعيين والماركسيين العراقيين لم يجددوا تفكيرهم السياسي ، ولم نجد هناك اي نظرية او حتى اية كتابات عراقية لشيوعيين او ماركسيين عراقيين تنادي بأي تجديد فكري حقيقي لا تنظيمي سياسي من الداخل .. ولا بأي تغيير في التفكير او مراجعة نقدية للماضي .. ولا حتى بأي تراجع عن اية ممارسات خاطئة ارتكبت في الماضي باسمهم سواء في بغداد او اماكن اخرى من العراق  . لقد عرف الحزب الشيوعي العراقي  الانقسامات ، اذ كان كثير الانشقاقات والصراعات ، بل ودخل في تحالف استراتيجي جبهوي مع البعثيين الحاكمين في ما اسمي بـ " الجبهة الوطنية " ابان السبعينيات ، ولم يكن قد مضى الا قرابة عشر سنوات على مذابح 1963 !  وكان مصير تلك الجبهة البائسة الفشل الذريع ، مما سبب في ملاحقتهم واضطهادهم طوال 25 سنة .

3/ الموقف من ( العروبة )
وثمة موقف آخر ازاء ( العروبة ) عليّ ان اسجل ما قاله لي احد الاصدقاء الشيوعيين من المفكرين اللبنانيين قبل عشرين سنة  عندما التقيته في الجزائر ، قال : ان  الشيوعيين العراقيين وحدهم يختلفون عن كل الحركات الشيوعية العربية ، فهم وحدهم لهم موقفهم المضاد من ( العروبة ) ، اذ لم يجد صاحبي هذا  اي موقف من قبل القوى اليسارية العربية مضاد من العروبة اصلا ! ربما كانت لهم مواقفهم المضادة من الاحزاب القومية والسلطات التي حكمت باسم القومية العربية ، ولكن ليس من العروبة  التي رفضها الشيوعيون العراقيون ـ كما يقول ـ من دون  ان يكون لهم موقف مماثل من قوميات اخرى في العراق . فالى اي مدى تصلح هذه المقارنة ؟

4/  هل من رأي صريح ؟
ولكن الاهم والاخطر عندي هو ما جرى اليوم ، اذ اجد المفارقة اليوم مدهشة ومحيّرة ، عندما قبل الحزب الشيوعي العراقي الشراكة في الحكم والسلطة في عراق ما بعد صدام حسين من دون ان يتخلّى عن افكاره ومبادئه . فلا هو قد اعلن عن تجديد تلك الافكار والمبادئ ، ولا هو برافض لكل ما يدور اليوم في العراق ، بل الاخطر من هذا وذاك انه وافق على العملية السياسية وانخرط فيها  جنبا الى جنب قوى دينية استحوذت على السلطة باسم الجماهير ، وهو يدرك بيد من اصبح العراق اليوم ومنذ العام 2003  ؟ كما وافق على الدستور العراقي وانخرط مشتركا في تصميمه ، وهو دستور اقل ما يمكن وصفه انه يحمل تناقضات صارخة بين الديمقراطية والدين ، وبين الوحدة والانقسام ، وهو دستور لا يستطيع ان يجتمع كل العراقيين عليه كونه ـ كما وصفته ـ يحمل تابوت العراق !! انني اتساءل فقط  تساؤلاتي المشروعة من دون ان انتقد او اتهجم ، بل اطرح تساؤلاتي التي لا اجد لها اي جواب عندي .. اطرحها في مثل هذا " الحوار " الذي يجمعني مع احد اركان اليسار في العراق .

5/  ازدواجية المعايير غير مقبولة !
انني الحظ ان انقساما كبيرا يعيشه اليوم اليسار العراقي ، وهو ليس في مصلحة العراق ابدا ! انن الاحظ ان قوى ناشطة من قوى اليسار العراقي لها  كلمتها وحريتها في ان تقول ما تؤمن به وخصوصا لدى العديد من الشيوعيين العراقيين السابقين واللاحقين .. ولكنني  لم اجد مثل ذلك لدى القيادات اليوم . وعليه ، فانني ارى  ان يمنحنا كل الماركسيين والشيوعيين في العراق اية فرصة يوضّحوا فيها مواقفهم لنا  كعراقيين وللتاريخ والاجيال القادمة في المستقبل ..  بين المبادئ التي يحملونها  وبين قبولهم العملية السياسية في ظل وجود محتل .. ثم هل من توضيح ان كان كل الماركسيين والشيوعيين العراقيين بقابلين هذا الوضع ؟ وهل حجة الديمقراطية العراقية الجديدة ـ وقد عرفنا كيف مورست في العراق ـ كافية لنسف كل تاريخ الحزب الشيوعي في العراق وما بذل من تضحيات ونضالات على امتداد القرن العشرين  ؟؟ وهذا  ما لا يقبله ابدا اي مفكر عراقي مدرك للاولويات ويفكر في المستقبليات ، وهو قبل هذا وذاك من الوطنيين العراقيين الاحرار . 
الكلمة الاخيرة
انني اذ اكتب ذلك ، فليس لي اي موقف مضاد من اي حركة سياسية او فكر سياسي معين في العراق ، ولكن ثمة مصالح وطنية تجمعنا وتوحدنا جميعا من اجل حمايتها والدفاع عنها .. وعليّ ان اقول لكل من ينتقدنا الان لخروجنا عن مناقشة موضوع الديمقراطية في العراق الى ان ما نعالجه اليوم من حفريات دقيقة انما تخدم سيرورة الديمقراطية في العراق مستقبلا .. واعتقد انني وصديقي الدكتور كاظم حبيب مخلصين لمثل هذا " المبدأ " سواء اتفقنا ام اختلفنا في المنهج والتفكير .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           

    ـ تنشر هذه الحلقات تباعا في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
15 ديسمبر 2007

انتظروا الحلقة الثالثة

126

أين البرلمان العربي .. و ما هو دوره اليوم ؟


د . سّيار الجميل

في مخاض عسير يعيشه العرب اليوم ، وفي غمرة التردّي ، يتساءل الناس : اين هو البرلمان العربي ؟ اين هو من قضايانا ومشاكلنا ومقاتلنا وصراعاتنا ؟ اين هو من اوضاعنا السياسية في كل من العراق ولبنان وفلسطين والسودان .. ؟ اين هو من كل ما قيل عنه من مزايا وما سيلعبه من ادوار ؟ اين موقعه في صنع ستراتيجيات عربية من نوع جديد ؟ اين هو من تقديم اي مشروع قومي او المشاركة في اي برنامج دولي للتنمية ؟ اين هو من التأثير الدولي خصوصا ونحن نعلم كم المقارنة صعبة ومستحيلة بين البرلمانين الاوروبي والعربي ؟
كنت قد انتقدت منذ سنتين تأسيس هكذا " برلمان عربي " ، وذلك بتاريخ 28 كانون الثاني / يناير 2005 ، وقلت بأن لا فائدة من هكذا مؤسسات وستزيد من عبء التاريخ واثقاله، فاجابني الاخ مستشار الامين العام للجامعة العربية بمقال يرّد ويوضح ضرورة البرلمان العربي ودوره التاريخي .. وها قد مضى على تأسيس البرلمان العربي زمنا ليس بالقصير ابدا .. فعلينا ان نسأل : ما دور هذه " المؤسسة " التي مقّرها دمشق وهي لا تؤدي اي دور حقيقي في حياتنا العربية ؟ وما الذي قدّمته حتى اليوم؟  لقد اضفنا كيانا جديدا وهو راكد لا يقدم اي حراك ولا  يشارك باي فعل ولا يصنع اي ارادة .. انه وهم كاذب صنعناه من دون اي نتائج مثمرة منذ تأسيسه حتى اليوم .. خصوصا ونحن نشهد انقسامات سياسية مريعة ، بل وصراعات بين فصائل وطنية واقتتال بين الاخوة .. ونحن نرى انتقال الفوضى الغادرة من مكان لآخر .. ونحن نشهد اشتداد قوى الارهاب والتفجير في منطقتنا .. ونحن نشهد انضواء ادوار دول معينة كان لها رصيدها وتأثيرها على الساحة العربية .. ونحن نتأسى على فقدان الارادة السياسية لصالح قوى واحزاب وميليشيات واوليغاريات خارجة عن القانون تمارس دور الدولة داخل الدولة من دون اي رادع  لقد قلت في معرض انتقادي لمشروع البرلمان العربي قبل اكثر من سنتين( النهار البيروتية ، 28 كانون الثاني  2005 ): " فهل يمكننا ان نستفيد من تجارب غيرنا ولو قليلا ؟ الا يكفينا من (مؤسسات ) عربية هشة وضعيفة ومحتضرة ، لن تستطيع ابدا اتخاذ مواقف جماعية ولا قرارات موحدة؟  الا يكفينا ( مؤسسات شكلية ) يصرف عليها الملايين ، وهي لن تقوى على مجابهة متغيرات الحياة المعاصرة ، كما وانها لا تقوى أيضا على مجابهة التحولات العربية الجديدة التي ستمس مصالح الاجيال الثلاثة الجديدة في القرن الواحد والعشرين ؟
 الا تعتقدون بأن مؤسسات عربية جديدة بحاجة الى ظروف ملائمة وتوافقيات حضارية وشراكات اقتصادية والاهم من كل هذا وذاك انها بأمس الحاجة الى عقليات جديدة بمقدورها استيعابها والتعامل معها من اجل ان يكسب العرب ولو جولة واحدة لصالحهم ؟ ان المؤسسات الاتحادية او الكتلوية او البرلمانية في عالم اليوم قد انطلقت من قناعات تامة بما وصل اليه العالم المعاصر اليوم والتوافق مع حركته وتحولات عناصره وآليات تفكيره واستمراريته .. فهل يؤمن العرب كلهم بما هو عليه عالم اليوم وبما وصل اليه عالم اليوم وبما يمكن ان يلزم به العرب انفسهم في التعامل مع الاخر من اجل بناء مصالحهم العليا ومستقبل اجيالهم ؟ انني اعتقد ان العرب ما زالوا يختلفون في ما بينهم على مثل هذه (الاسس والاعتبارات الاساسية والركائز الكبرى) ، فكيف بهم يتقبلون حالات التعايش والاندماج والشراكة والانفتاح والتوافقية ؟؟ انهم ما زالوا يعتبرونها ( تبعية ) وخصوصا في الحالات الاقتصادية ؟
انني أسأل اليوم : ما جدوى تأسيس هكذا برلمان عربي وحياتنا العربية تنحدر من سيئ الى أسوأ  ؟ ما نفع اي مؤسسة عربية لا تجيد التعامل مع الاخر لمعرفة الرؤية الاخرى في قضايانا التي باتت تأكلنا واحدا بعد الاخر ,, وبات العرب لا يفكّرون ابدا بما يجري في العالم ، فما يجري في عالمهم لا يمكن ان يتقبله عاقل ابدا ان مشروع البرلمان العربي قد اثبت فشله الذريع ، وذلك باختفاء تطبيقاته  وغيبوبة تأثيراته كونه لا يصلح والتنافر قائم  والتباعد حاصل .. حتى غدا موضوع العمل العربي المشترك مجرد شعار وهمي لا يمكن العمل به ما دام هناك جامعة عربية لا صلاحيات قوية لها .. ان المخاطر والتحديات التي تواجهنا  لابد من العمل على التصدي لها قبل استفحالها في عموم منطقتنا . وعليه ، ينبغي ان يكون البرلمان العربي مشروعا مؤجلا اليوم ، اذ لا يمكن ان يستمر في ظل اوضاع مزرية يعيشها العرب  وهو لا يفعل شيئا .. انهم في بداية نفق طويل لابد من سحبهم منه قبل فوات الاوان . انني اعيد دعوتي من جديد للعرب كلهم وهم يعيشون ويدركون اي منحدر سياسي باتوا فيه في عدد من البلدان العربية واي فقدان للامن والنظام فيها ؟ انني ادعوهم من خلال برلمانهم العربي ان يفعلوا شيئا ذا بال اتمنى ان ينجح اي " مشروع " استراتيجي حقيقي يمكنه ان يعيش بقوة فلسفته والاجماع على دوره .. وان يسهم في فعل اي شيء من اجل مصالحنا في المنطقة والعالم . ان الضرورة باتت ماسة لكي تتشكل ارادة حقيقية من النخب السياسية والفكرية بالاعتماد على القوى الشعبية التي تمثل الشعب . ان مجتمعاتنا باتت اليوم منقسمة على نفسها .. وانها بحاجة الى انقاذ حقيقي من الهوة السحيقة التي تنتظرها . اتمنى على الاخوة في البرلمان العربي ان يساهموا بشكل حقيقي في الانقاذ او ليغلقوا ابوابهم ويقرروا الغاء مؤسستهم التي لا حول لها ولا قوة .. وهي صفر على الشمال منذ ولادتها القيصرية حتى يومنا هذا.
www.sayyaraljamil.com

الصباح البغدادية ، 15 ديسمبر 2007

127
جادة حوار عراقي
مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب
أ.د. سّيار الجميل

الحلقة الاولى
المدخل : تساؤلات واجابات
شكرت صديقي الاستاذ الدكتور كاظم حبيب على مواصلته  " الحوار " حول موضوع " الديمقراطية " ، ودخولنا سويا مناطق أخرى محظورة او غير محظورة .. مناطق من التفكير  ومطارحتنا الافكار حول معالجة موضوعات اخرى .. وكان ردّي عليه باربع حلقات ، وقيامه بالرد علي  مشكورا في اربع حلقات قد اثارت رغبة عارمة لدى القراء الكرام في مواصلتي  " الحوار " ، فكتبت له شاكرا بعد نشر تلك الحلقات الاربع التي جاءت ردا على حلقاتي الاربع ، ووعدته منذ اكثر من شهر بأن اكتب ما اراه يفتح لنا افاقا جديدة من الحوار والمعالجات ، ولكن بعد ان اتفرغ لذلك تماما بسبب بعض انشغالاتي الاكاديمية في نهاية العام 2007  .. وقد رد الرجل علّي برسالة رائعة شاركته فيها الرأي ان يغدو هذا " الحوار " في المستقبل القريب  مشروع كتاب منشور من اجل ان يستفيد منه اكبر عدد من القراء بالعربية منهجا واسلوبا وموضوعا ..
    وليكن  " مشروعنا " واحدا من مشروعات حوار فكري عراقي بكل مواصفاته المنهجية والفلسفية والاخلاقية .. فضلا عن دوره في اثراء الثقافة العربية المعاصرة في منطقتنا ، وخصوصا الثقافة السياسية التي تكاد تغيب حتى عن اولئك القادة  والساسة والكتّاب الجدد الذين ظهروا في الميدان فجأة وهم لا يعرفون تركيب جملة مفيدة واحدة ، ولم يقرأوا كتابا واحدا ، فكيف بهم يستخدمون الممكن من التفكير ؟ وكيف بهم يدركون احسن القول واصعب الافكار وانصع الحقائق ؟ وكيف بهم ينهضون بالواقع بكل ما اوتوا به من قوة ؟ وكيف بهم يتعلمون كيف ينظموا افكارهم ويردوا على منتقديهم ؟ كيف بهم يقودون الدولة والمجتمع في عصر بات فيه العالم قرية كونية صغيرة ؟ كيف بهم يدركون اولويات العمل في الديمقراطية ؟ كيف يمكنهم ان يرتقوا بحقوق الانسان عاليا ؟ كيف بهم لا يخلطون المبادئ العليا التي لا يمكن تبديلها بسهولة بالتكتيكات العادية في الشؤون السياسية والبلدية والاقتصادية ؟ كيف يمكنهم فهم استراتيجيات العالم ومسارات المجتمع الدولي في القرن الواحد والعشرين ؟ كيف باستطاعتهم ادراك خطورة الشؤون الاقليمية وخصوصا في منطقة كالشرق الاوسط حيث تتشابك المصالح الدولية بالاقليمية ؟ كيف يمكنهم ان يمارسوا التفكير النسبي وعدم اطلاق الاحكام المطلقة .. سواء في تاريخ العراق ام في حاضره ؟ كيف يمكنهم ان يعيدوا فهم مشكلات العراق المركبة والمعقدة التي لا يمكن ابدا ان يكون فرد معين او حكومة معينة او عهد معين .. بمسؤولين عنها ؟ كلها اسئلة بحاجة الى اجوبة ينبغي ان يحررها لنا هؤلاء الذين يتكلمون ليل نهار في الشأن السياسي من دون اي تلكؤ ولا اي تردد !
انه فعلا مشروع حوار معرفي / ديالكتيكي
 ان مشروعا كهذا الذي بدأنا فيه من دون اي اتفاق مسبق بيني وبين الصديق الاستاذ كاظم حبيب اخذ ينطلق في آفاق بعيدة ، وهو يمر الان بمناطق مثيرة وحيوية وحمراء ليست فكرية وفلسفية وحسب ، بل تاريخية وسياسية واجتماعية ايضا .. لابد ان نتوقف عندها قليلا من اجل تأمل او تفكير او اعادة تفكير او بحث ودراسة وتوثيق .. او مناطق لا تثير اي سؤال او علامات استفهام .. فنتجاوزها لكي نؤكد بأن الزمن الذي نعالج مثل هذه القضايا فيه هو غير ذاك الزمن الذي مر علينا بمختلف الوانه واشكاله في القرن العشرين .. زمننا اليوم بحاجة الى من يخلّص هذا الجيل الجديد من آثام جديدة لم تكن موجوده في الازمنة الماضية ، او يتخّلص الجيل الماضي من جملة افكاره واوهامه وشعاراته التي حفظها على ظهر قلب وكان ولم يزل يرددها ليل نهار ؟ .. لقد مضى زمن الحرب الباردة ..ومضت عهود الانقلابات العسكرية  ومضى زمن القومية العربية .. ومضى زمن الشيوعية العالمية .. ومضى زمن المنظومة الاشتراكية .. ومضى زمن الاحزاب الواحدة .. ومضى زمن الدكتاتوريات الطاغية  ..
    زمننا اليوم تحّل فيه جملة من آثام جديدة : انه زمن الارادة الامريكية .. وزمن العولمة التي اكتسحت كل الحياة والذات والانتماء .. وزمن الخلايا الارهابية .. وزمن التسارع الاقتصادي .. وزمن الكتل الجديدة .. وزمن الميليشيات الاسلامية .. وزمن القوى الدينية المتشددة .. وزمن ثورة الميديا والمعلومات الكاذبة والموتورة والمشوهة ..  وزمن الكتابات الرخيصة  وزمن الانتحالات والسرقات والاختلاسات وزمن الطفيليين الجدد .. زمن الاقنعة المتحجرة على الوجوه .. زمن المنافقين والاغبياء .. زمن القتلة والتكفيريين المارقين .. زمن الطائفية العمياء والمتطرفين والمتعصبين بكل امراضهم وهوسهم وتعصبهم وتخلفهم .. الخ كنّا نحلم بأن التقدم حاصل لا محالة بعد كل ما مرّ بنا من سيئات وخطايا وآثام على عدة عهود مضت ..
      ولكن ؟؟
يكتشف المرء اذا تأمل طويلا ان الحياة في الشرق الاوسط قاطبة تسير من سيئ الى اسوأ .. فهل باستطاعة نفر نخبوي يؤمن بالمثل الديمقراطية والفكر المدني والتقدمية والممارسات الليبرالية والعلمنة والفكر الحر ان يوقف كل الشناعات وان يصد كل الجنايات وان يحمي كل المكتسبات ؟ وان يصادر كل الاخطاء ويقومها امام الجميع ؟ هل باستطاعتنا ان نتخيّل منظمة تتكلم باسم الاسلام تذبح تفجيراتها الاف البشر في عالمنا نحن وبايدي اناس ولدوا وتربوا وعاشوا في بيئاتنا لا في بيئات الاخرين ؟ وبعد التي واللتيا ، هل باستطاعتنا تطبيق الديمقراطية والافكار الحرة والحياة المدنية في مجتمعاتنا التي يأكلها التوحش وتلوثها الاوساخ وتمارس فيها اشنع الدعارات ؟؟ هل يحق لنا بعد كل هذا الذي يسود باسم المنظمات الدينية السياسية والدعوية والمذهبية .. ان نبقى في اطار تفكير قبل خمسين سنة ؟ اي بمعنى : هل ستنفعنا ايديولوجيات القرن العشرين ، وهي ايديولوجيات لم تخلق في واقع كالذي عليه نحن اليوم ؟
جولاتي الجديدة في جادة الحوار
ان مناقشتي الان للحلقات الاربع الاخيرة التي نشرها الصديق الدكتور كاظم حبيب ، وربما كانت مقارباتنا كبيرة جدا في الحلقات الثانية والثالثة والرابعة ، ولكن يبدو ان مباعداتنا ستخص الحلقة الاولى بكل ما فيها معلومات وآراء وافكار تخص العراق اولا واخيرا ، دعونا نتجاذب اطراف الحوار بشفافية عالية وسواء اتفقنا او اختلفنا ، فسوف لا يزيد ذلك من وعي الاخرين بالموضوعات المطروحة ، وسواء تقاربنا ام تباعدنا ، فان ذلك سوف لا يقلب الارض عاليها سافلها ، وسوف لا نغّير ما في الاعماق ولا ما في الصدور ولا في اي دواخل اية بنية اجتماعية او سياسية الا بالاصرار على الحوار ، والانتصار للافكار لا للشخوص ، فالزمن يجري ونحن نجري معه دون اي سباق نحو اهداف معينة من كلينا ( الدكتور كاظم حبيب وانا سيار الجميل ) نحو السلطة والقوة والمال كالتي يريدها الساسة او اشباههم من الذين خرجوا للعلن اليوم ولم نكن نسمع بهم قبل العام 2003 .
هذه الافكار التي حرصت ان ابدأ بها جولتي الجديدة في مواصلة هذا " الحوار " المثير مع الاخ الدكتور كاظم حبيب الذي بدا واسع الصدر ، سليم النية ، منهجي الطوية ، سريع الاجابة ، دمث الاخلاق في التعامل مع افكاري وآرائي .. وليدعني من جديد ان اجدد الروح ثانية متمنيا اغناء كل الموضوعات بما لدى كلينا من معلومات وافكار وآراء واستنتاجات ، وليعذرني والقراء الكرام ان طاش قلمي او اخطأ فهمي او ساءت عبارتي .. ولعل اهم ما يعطي الحوار نكهة وما يزيده اهمية ، اختلاف منهجينا ، فللرجل منهجه وفلسفته في الفكر والسياسة ، وازعم ان لي منهجي وفلسفتي في التفكير والحياة والتاريخ وهنا ستتباين الرؤية حتما بين الاثنين ليس فقط في تقييم الماضي ، بل ازاء المستقبل وهذا هو بيت القصيد .  او كما يعيد الاستاذ الدكتور كاظم حبيب مقول قولي  واعيده كرة اخرى : " فالاختلاف في زوايا الرؤية والمنطلقات والمناهج المستخدمة في البحث هي التي تساهم في إضاءة الموضوع من جوانب وزوايا كثيرة , وبالتالي تسمح برؤية أكثر شمولية وأعمق مضموناً وقرباً من الواقع " ( الحلقة الاولى السابقة ) .
نتباعد منهاجا وفلسفة ونتقارب فهما وتفكيرا
دعوني ابدا محاورتي ليس في النقاط التي عقّب عليها الاستاذ كاظم حبيب ، بل ساندفع للتطّرق الى موضوعات اخرى
انني لا انتقدك  يا عزيزي كونك تلتزم الفكر الماركسي ، فهذا حق مشروع لكل مفكر او اي انسان له وعيه وثقافته واتجاهه .. ان يلتزم الفكر الذي يراه الاصلح للحياة ، ولكنني اشرت الى كلامك في النقطة الثامنة نفس التفكير الماركسي الذي لم تزل تلتزمه .. واتمنى ان نعود الى قراءة النقطة الثامنة من جديد لنرى انك تبدأ تلك النقطة بالفقرة التالية : " إن دراسة تاريخ المجتمعات الغربية , وخاصة فترة تحولها من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي , بكل تلوينات وتنويعات ذلك التحول وفي مراحله المختلفة , تكشف لنا عن حقيقة العلاقة الجدلية بين عدد من المسائل الجوهرية في عملية التحول صوب المجتمع المدني الحديث والديمقراطي والتي يمكن أن تتلخص في عدد من النقاط .. " وان جميع النقاط التي سجلتها كانت تخص تحولات تلك المجتمعات الغربية حسب وجهة النظر الماركسية والتي اعتقد انها بعيدة كل البعد في الفكر والممارسة والتطبيق على مجتمعاتنا العربية والاسلامية ، ومنها مجتمعنا العراقي لا في الماضي القريب ولا في المستقبل المنظور ..
فماذا قلتم في تلك النقاط ؟ 
  لقد شرحتم عزيزي عملية التحول وفقا لمجريات التغيير في بنية ودور الطبقات الاجتماعية في تلك المجتمعات  لحساب البرجوازية وعلى حساب الاقطاعيين وكبار ملاكي الاراضي الزراعية !  هنا اختاف معك فاسميتها استعارة ماركسية ، فاذا كنتم تتحدثون عن تلك المجتمعات ، فهل ثمة علاقة بين تلك المجتمعات ومجتمعاتنا ؟ هل يمكننا ان نشّبه ببساطة الاقطاع الاوربي بالاقطاع الذي عرفناه في مجتمعاتنا ؟ هل استطاعت مجتمعاتنا ان تعيش مجريات الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر حتى تتولد فيها البورجوازيات الاجتماعية العليا والمتوسطة ؟ اية بيئات صناعية كانت في مجتمعاتنا حتى تعيش صراع الطبقات فعلا ؟  ان ما درسناه وقرأناه قبل اربعين سنة سواء على مقاعد الدراسة او ما قرأناه في جرائدنا ومجلاتنا وما اطلعنا عليه في المنشورات الحزبية التقدمية كان مجرد استعارة ماركسية .. لا اقول انني لا  احترم الماركسية .. ابدا ، فلقد قرأنا ادبياتها وفلسفتها وتعلمنا منها الكثير .. بل انني تعلمت كيف يتم استغلال الانسان من خلال " فائض القيمة " في كتاب ( رأس المال ) نفسه ، وزدت من قراءاتي مستفيدا جدا من افكار بليخانوف وانطونيو غرامشي بشكل خاص .. واذا كنت قد اعجبت بفلسفة هيغل في البناء الديالكتيكي والذي كان قاعدة لفلسفة ماركس وفردريك انكلز في بناء صراع الطبقات .. فانني لا اجد اية علاقة لكي اربط كل مشكلات مجتمعاتنا بفلسفة كارل ماركس  كالتي استفاد منها غرامشي في ايطاليا ومكسيم رودنسون في فرنسا وغيرهما في اماكن اخرى .. ربما نستفيد منه في معرفة تاريخ اوروبا الغربية ، ولكنني اجده قد تجاوزه الزمن اليوم ونحن نبحث حتى عن علاجات لمجتمعات غربي اوروبا  والعالم .
الاستعارة الماركسية .. مرة أخرى !
وعليه ، فان الاستعارة الماركسية لم تفدنا على امتداد القرن العشرين في وضع حلول ومعالجات لمشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .. وهي لم تعد تفد حتى المجتمعات الغربية التي دخلت اطوارا جديدة من التحولات في ظل هيمنة الكابيتالية الجديدة وامتداد رؤوس الاموال الامريكية في اجزاء العالم ، ودخول الكوننة والصناعات وشركات عابرة القارات .. انني لا اعارض رسوخ الفكر الاشتراكي حتى يومنا هذا  لدى مفكرين واساتذة جامعات ( ومنهم اصدقاء لي في عدة جامعات غربية )  ونخب مفكرة حتى يومنا هذا .. ومنهم من دخلت معهم في نقاشات مهمة جدا في اكثر من جامعة كندية وبريطانية وامريكية .. ولكن هؤلاء ما زالوا يجدون في الفكر الاشتراكي والشيوعية العالمية واجهة حقيقية لنقد هذا الطغيان الرأسمالي الذي يعم العالم اثر سقوط المنظومة الاشتراكية .. ان موضوعنا ليس مع هؤلاء ابدا ، فنحن نبحث عن علاجات حقيقية لمجتمعاتنا التي اجد ان اية استعادة ماركسية واستعارة لها في تطبيق ما نراه في اوربا نراه في مجتمعاتنا ، فانني اخالفه تماما .. ان النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مختلفة تماما عبر التاريخ بين مجتمعاتنا الشرقية ومجتمعات الغرب ، فليس من المعقول ان نورد السياقات الغربية ادلة لما ستكون عليه مجتمعاتنا . اتمنى ان يقتنع صديقي الدكتور حبيب بهذه الاراء التي اجدها اكثر واقعية من البقاء ندور في حلقة مفرغة لا مخرج لها ابدا .
تحولات العالم المتمدن
لقد اختتم الاستاذ حبيب نقاطه تلك بالفقرة التالية : " • وفي عملية التحول هذه نشأت وتبلورت التناقضات والصراعات الطبقية والاجتماعية في ما بين الطبقات والفئات الجديدة في المجتمع الجديد التي أمكن في الماضي ويمكن حلها في الوقت الحاضر بأساليب مختلفة تميز بها القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وفي الربع الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين برزت وتبلورت شروط جديدة تشير إلى إمكانية حلها عبر التحول السلمي والديمقراطي , سواء بالتخلص من العلاقات شبه الإقطاعية , أم بإرساء دعائم الديمقراطية وحقوق الإنسان ... الخ في المجتمعات المدنية الحديثة القائمة على علاقات الإنتاج الرأسمالية , التي هي بالضرورة استغلالية , ولكن يمكن العمل على تخفيف ذلك الاستغلال وضمان تحقيق أشكال مناسبة من العدالة الاجتماعية التي تعتمد على موازين القوى السياسية والطبقية وعلى مستوى تطور المؤسسات الدستورية ودولة القانون الديمقراطية والتعامل الفعلي مع مبادئ الحرية والديمقراطية في هذا المجتمع أو ذاك. وهذه الإمكانية مفتوحة اليوم أمام الدول النامية , ومنها دول منطقة الشرق الأوسط " .
مناقشة النص
دعونا نتأمل قليلا في النص اعلاه ونناقشه على مهل خصوصا وانه يتحدث عن التحولات في العالم المتمدن من دون ان يحدد المكان مع تحديده الزمان ، ولكن هل يمكننا تحديد التناقضات الاجتماعية التي تبلورت حديثا ؟ وما هي طبيعة الصراعات الطبقية اليوم ؟ وما هي الفئات الاجتماعية الجديدة في المجتمع الجديد ؟ اي مجتمع جديد هذا ؟ اننا نتحدث عن مجتمعاتنا ، فاين هذا كله منها ؟ ومؤخرا برزت وتبلورت عدة شروط جديدة تشير الى امكانية حلها عبر التحول السلمي والديمقراطي ! 
  يا صديقي ان هذه  " الشروط " التي فرضتها العولمة الجديدة والقوى الكابيتالية الجديدة لا تتفق والمبادئ الماركسية ابدا ! ان هذه الشروط  هي وليدة انهيار المنظومة الاشتراكية التي حاربتها القوى الامبريالية على امتداد خمسين سنة من الحرب الباردة !  يا صديقي متى عرفت الدول النامية الديمقراطية ؟ ومتى ستعرفها ؟ هل عندما كانت عرضة للمساومات في سوق نخاسة الحرب الباردة بين المعسكرين ؟ ام انها كانت في ظل انظمة الانقلابات العسكرية لهذا الطرف ام ذاك ؟ ام غدت اليوم اداة عطف اكتشفتها الولايات المتحدة الامريكية فجأة ، لنرى تجاربها الديمقراطية كيف هي الان في اماكن معينة دون اخرى ؟  واذا كانت علاقات الانتاج الرأسمالية استغلالية ، فكيف يمكن العمل على تخفيف ذلك الاستغلال؟ وبأية وسائل ؟ وكيف نضمن تحقيق أشكال مناسبة من العدالة الاجتماعية التي تعتمد على موازين القوى السياسية والطبقية ؟؟ لماذا لا توافقني الرؤية التي طرحتها حول انعدام علاقات الانتاج الحقيقية في مجتمعاتنا التي باتت مستهلكة بالدرجة الاساس ؟  اين هي العلاقات شبه الاقطاعية اليوم ؟ اذا كانت بلداننا تصدر الحبوب من قمح وشعير وذرة وشوفان ورز .. الى العالم  ايام هيمنة الاقطاع مستخدمة وسائل الانتاج القديمة قبل خمسين سنة .. فما الذي تنتجه اليوم مجتمعاتنا التي ليس باستطاعتها البقاء على قيد الحياة من دون المستهلكات والحبوب الامريكية ؟ وكل من وادي النيل ووادي بلاد الرافدين شاهدان على ما اقول !
وأخيرا : ادانة الاستغلال واحدة بين الامس واليوم
هل تعتقد يا صديقي العزيز اننا ما زلنا نمتلك علاقات انتاج في مجتمعاتنا الكسيحة ، وخصوصا في ظل تراجع الاقتصادات وتفاقم الريعية الطاغية وانعدام الثقة وسيطرة الطفيلية والعلاقات الطفيلية على مجتمعاتنا !! ؟؟ اي " اقطاع " هذا الذي نتحدث عنه اليوم ، وقد خلقت طبقات جديدة في مجتمعاتنا هي اكثر بشاعة وشراسة وهيمنة من ذاك ( الاقطاع ) البائس الذي يمثله نفر معدود ومحدد ومعروف بالاسم وهو لا يعرف الا الهيمنة على القبيلة والعشيرة ؟؟  وهل يمكننا ان نقرن العلاقات العشائرية بالرغم من كل سيئاتها بالعلاقات الطفيلية او الطائفية او الارهابية التي تميز الواقع الجديد ؟؟ .. ماذا تصنف اليوم طبقة الحكام المهيمنين المستفيدين ؟ وماذا تصنف اليوم طبقة رجال الاعمال من القطط السمان وهم من اصحاب الاف الملايين ولا تدري من اين جمعوا كل اموالهم وبأية وسائل ؟ واذا كان ( الاقطاع ) قد ادين ادانات لا اول لها ولا آخر لسيطرته على الارض والانسان وامتلاكه القوة والنفوذ والمال .. ادانات على امتداد قرابة مئة سنة ، فمن ذا الذي يدين هذه الطبقة الجديدة من الطفيليين المتهتكين الجدد في مجتمعاتنا قاطبة ؟ هذه الطبقة التي تلبس الاقنعة الدينية وهي تستغل مجتمعاتنا ابشع استغلال ؟  ماذا تسّمي بعض رجال الاعلام العرب ممن ينفق الملايين على " اعلام " رخيص وكاذب ومتهتك ؟
   متى نخرج من هذه الدائرة المغلقة التي كلها محددات واسيجة وهي تتحدث عن واقع مضى عليه اكثر من مئة سنة في اوروبا الغربية ، فلا هو موجود اليوم هناك ولا هو  بموجود عندنا ! وأسأل من باب المقارنة : كابيتالية اليوم التي انهت  المنظومة الاشتراكية واصبحت العلاقات الرأسمالية الاستغلالية تسيطر في كل مكان مبيحة الخصخصة .. اليس هذا استغلالا شرسا ؟ ونحن نسكت عنه ، بل ونسكت على من جعل العراق كله حلقة في تلك " السلسلة " بالقوة المسلحة الحاكمة ثمن الغاء الدكتاتورية والطغيان ؟؟ من جعل الناس يأكل بعضهم بعضا باسم الديمقراطية ؟؟ واي ديمقراطية هذه التي تحركها احزاب طائفية او قومية ؟  وهل ثمة قوة تصد هذا القادم المرعب الا ان تكون جزءا من عولمته الاقتصادية ؟  ماذا تقول للشركات الرأسمالية العملاقة التي تخترق كل القارات لاستغلال الايدي العاملة واستغلال الاجراء باقل الاثمان وتحقيق اكبر الارباح ؟
  ماذا نسمّي كل هذا وذاك ؟ ماذا تسمّي يا صديقي العزيز خصخصة النفط العراقي اليوم والتي يقّرها القانون الجديد لاستغلال الثروة النفطية والذي لم يقر حتى الان من قبل الشعب العراقي ، ولكن هناك عدة اطراف عراقية تسعى لاقراره بالغالي والنفيس ؟  ؟ ماذا يتضمنه هذا " القانون " من اباحة لاقطاعات نفطية واستغلال شركات معينة بالذات ؟ علما بأن الشركات ليست عراقية ولم يملكها اقطاعيون عراقيون كتلك الارض المنتجة من قبل العراقيين واتسمت بسمات علاقات انتاجية بائسة ..
    ان التفكير لابد ان يكون موحدا ولا يمكنه ان يكون موزعا على عهود وازمان .. علينا ان ننتقد ما يدور اليوم من استغلال للثروات العراقية اضعاف مضاعفة ادانتنا ما كان يدور في الماضي .. ان كان في العهد الملكي ( رجال اقطاع ) يعّدون على الاصابع في مجتمع لا يزيد سكانه عن سبع ملايين نسمة ، فان هناك اليوم مئات والاف المستغلين الجشعين من رجال ( طبقة طفيلية ) تسرق قوت ثلاثين مليونا من العراقيين ! واذا كان ذاك قد جاء ليمثّل قبيلته او منطقته في البرلمان القديم بكل مواصفاته ، فهو معروف وظاهر للعيان .. اما اليوم ، فانت لا تعرف من يكون هذا او تكون تلك بشتى انتماءاتهم وهم جميعا يشّرّعون باسم الشعب العراقي .. ان علينا ان نعيد التفكير ونتخّلص مما الفنا تكراره ، فنحن ندين الاقطاع للارض على العهد الملكي ولا ندين جعل العراق حقول استغلال فاضحة ؟ لماذا لا نظهر كل الحقائق فنذكر كل ما كان من سلب وايجاب في العلاقات الانتاجية القديمة اذ نبقى نردد المثالب والسلبيات في حين نغفل عن قرارات عراقية وسياسات اقليمية بجعل العراق اليوم مستغلا ابشع استغلال من قبل حيتان يمتلكون القوة والمال والتحالف وصنع القرار .. ؟؟
12  ديسمبر  2007
نشرت  لأول مرة في موقع الدكتور سيار الجميل  وتنشر تباعا فيه
www.sayyaraljamil.com
انتظر الحلقة الثانية




128
المثقفون الغربيون  ومثقفو الشرق الاوسط

د. سيّار الجميل

مقدمة
شاركت قبل ايام استاذا زائرا في مائدة مستديرة اقامتها جامعة فيكتوريا الكائنة في قلب مدينة تورنتو الكندية ، مقدما عدة مداخلات حول موضوعات تخص العراق والشرق الاوسط ، وخصوصا تلك المتعلقة بحرية المثقف سياسيا في الشرق الاوسط ، وهل بمقدوره ان يعلن كل ما يؤمن به ؟ وهل باستطاعته ان يبوح بكل ما يفكر فيه ؟ وهل ثمة ارادة حرة تنبثق اليوم للنخب المثقفة في الشرق الاوسط ؟ ولدى مختلف القوميات المنتشرة في تلك المنطقة الحيوية من العالم ؟ لقد تلمست وانا استمع لجملة من المداخلات والافكار والتعليقات على مدى ست ساعات .. كم هو الفارق كبير بين بنيتي تفكير تقومان اليوم مثقفي العالم الحر وبين مثقفي العالم السجين ؟ كم تلمست هول المسافات بين العالمين ؟ وقلت : ان عوامل ظاهرة واخرى صامتة مستترة تقف وراء تلك المسافات ، ومنها تأثير السلطة ، وايضا ممارسة الاضطهادات ضد كل رأي لا يخالف السلطات السياسية فقط ، بل اي رأي او فكرة او خطاب يخالف السلطات الاجتماعية التي اصبحت هي المهيمنة على مقاليد الحياة في عموم عالمنا الاسلامي ، والشرق الاوسط بالذات في قلب الاحداث . وعندما اقول بمثقفي الشرق الاوسط ، فانني لا اقصر كلامي على المثقفين العرب ، اذ يشاركهم كل من المثقفين الاتراك والايرانيين والاكراد والسريان والارمن والباكستانيين والقوقازيين والقوميات الاخرى ..

الحركة والصمت
       لعل جملة من المثقفين الغربيين لم يختبروا جيدا في هذا العصر قوتهم المعنوية الهائلة، إلا في حرب فيتنام خلال ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، مستندين على الانعكاس الثنائي للقطبين الرأسمالي والاشتراكي في ذاك العالم الذي كان يمر بحرب باردة متأججة .. كما وانه كان يمر بتغيرات اجتماعية وتحولات سياسية ومؤثرات ايديولوجية كبيرة، منها الثورة الطلابية والشبابية، وصعود اليسار في العالم الذي انتمى اليه كثير من هؤلاء المثقفين الحقيقيين ، مثقفين من عيار عالمي ثقيل، كجان بول سارتر على سبيل المثال لا الحصر، الذي لم ينجح فقط في تحريك المثقفين الفرنسيين لصالح وقف الحرب في فيتنام، بل حرض ايضا المثقفين في اميركا نفسها وفي اوروبا، خالقا بذلك تيارا ثقافيا ومؤدلجا عالميا ضاغطا لا يمكن تجاهل تأثيراته البالغة على الاف الناس .. وهذا ما لم يستطع فعله المثقفون العرب ليس لأنهم لم يشتغلوا بالسياسة ، بل لأنهم واقعون ضمن اسيجة تحيطهم ولا يعرفون معنى الحرية ابدا !
    ثمة حالات قليلة في عصرنا الحالي تشكل فيها مثل هذا التيار الثقافي، بل على العكس من ذلك، صمت مثقفون في الغرب في الوقت الذي كان يجب ان يصرخوا، كما حصل في عهد ستالين مثلا. وهذا ما ادانه الروائي البريطاني مارتن اميس في كتابه الاخير (كوبا.. الرجل المرعب) الذي طرح فيه سؤالا مركزيا على المثقفين الغربيين قاطبة : لماذا سكتم عن اضطهاد زملائكم في روسيا اثناء حكم الطاغية ستالين؟ وهو السؤال نفسه الذي يثيره المثقفون العراقيون بوجه اخوتهم العرب الذين سكتوا سكوت ابو الهول وسكنوا وصمتوا على اضطهاد اخوتهم العراقيين في الدواخل والشتات اثناء حكم الطاغية صدام حسين ؟ واذا كان المثقفون الغربيون قد اثارتهم واحزنتهم مجازر ستالين حتى الاعماق مما جعلهم يدينون سياساته وهو الذي تحالف مع الحلفاء ضد هتلر ، فان المثقفين العرب لم يكتفوا بصمتهم وسكوتهم ، بل راحوا يقدسون اسم طاغية العراق ويجعلون منه رمزا للبطولة سواء كان ذلك على ايام عهده ام بعد سقوطه على ايدي قوى التحالف الامريكية البريطانية .. ومن المؤسف ان هؤلاء جميعا يمرون بازمة حادة من تناقضات يحملونها وهم يكذبون على العالم من خلال اقنعتهم التي يلبسونها في كل تهريجاتهم باسم المبادىء والدين والقيم القومية !

التيار الثقافي بين عالمين
     صحيح ان كبار المثقفين الغربيين قد اتخذوا مواقف آنية من مسألة الحرب ، ولكن لم يشكل ذلك ابدا تيارا ثقافيا عالميا في معارضة التغيير السياسي في العراق ولقد ميزوا بين الحرب بكل كوارثها وبين حاجة العراق الى التغيير السياسي الجذري ، ففي بريطانيا مثلا، نشر شاعر البلاط البريطاني اندرو موشن، قصيدة ضد الحرب في الصفحة الاولى من جريدة «الغارديان» ولكنه لم يقف مع الطاغية ولا مع كوارثه ضد شعب العراق والتي ادانها ادانة صريحة ، وكذلك فعل الكاتب المسرحي الشهير هارلولد بنتر. وفي المظاهرة الضخمة التي خرجت في لندن، تقدم كتاب ومثقفون مثل الروائي وليم سيلف الصفوف الاولى من تلك المظاهرة ، ولكنه صّرح مرارا وتكرارا بأن العراق لابد ان ينفتح على العالم ويتخلص شعبه من الاستبداد ويتنسم عبير الحرية . وصحيح ان في اميركا وقف ضد الحملة وضد الحرب كتاب وشعراء ومثقفون واكاديميون من طراز سام هاول، ولورنس فيرلنغيتي، «أبي» الشعر الاميركي المعاصر، وسينمائيون من طراز وودي الن، وسبايك لي، وغيرهم، اضافة للاسماء الثقافية الكبيرة المعروفة بمعارضتها التقليدية لسياسات الادارة الاميركية ، الا ان ساعة الصفر عندما دقت دقاتها الاولى ، وبدأ الهجوم وبدأت ايام الحرب تتوالى اندهش العالم كله من سقوط النظام السياسي العراقي بسرعة خاطفة مخلفا وراءه خسائر كبرى . وكما حدث في فرنسا وبريطانيا وامريكا وكندا ، حدث في المانيا اذ ارتفعت أصوات كبيرة ومؤثرة منها صوت غونتر غراس، الى جانب الفيلسوف يورغين هابيرمس وعشرات اخرين.

وأخيرا : ماذا يعلمنا هذا الخطاب ؟
انه يعلمنا كم هي الفوارق كبيرة بين المثقفين الغربيين الذين يتمتعون بارادتهم الصلبة وحركتهم الواسعة من اجل صنع الابداع وثبات المواقف وقوة الكلمة ازاء بنى متشرذمة من اناس غير مثقفين او انهم انصاف مثقفين . لقد نجح المثقف والمبدع في الغرب ان يؤثر على نخب مثقفة اخرى في العالم ، ليس من خلال الكتابات فقط ، بل من خلال الاتصالات الحديثة . ان المثقف الحقيقي في هذا  العالم ، لابد ان يبلور موقفه ، ويعلن عن رأيه .. ان المثقف الحقيقي هو ضمير مجتمعه نحو التقدم لا التراجع ، ونحو المستقبل لا الماضي . ان المثقف الحقيقي لابد ان يقول لا  لأي طاغية ولأي متجاوز ولأي مخطئ .. ان المثقف الحقيقي لا يمكن ان يكون منتميا لحزب سياسي ولا يمكن ان يكون متخندقا مع طرف ضد آخر .. ربما يكون مؤمنا بفكر معين او بتيار معين .. ولكن شريطة ان لا ينساق وراء اخطاء الاخرين .. على المثقف الحقيقي ان لا يكون بوقا لأي سلطة ، والا وصف ذيلا   او بيدقا .. ان نخب المثقفين الغربيين التي عرفتها تماما  هي التي تخلق " الحالة ، او " الظاهرة " .

www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ، 6 ديسمبر 2007

129
اعلان من الدكتور سيّار الجميل
               الى كافة المثقفين العراقيين في العالم

ايها الاخوة .. ايتها الاخوات
أعلن لكم جميعا  انسحابي من المجلس العراقي للثقافة  في عمّان بالاردن ، نظرا لأسباب عديدة لا داع لذكرها ، وأود أن أشير الى انني حاولت بحكم موقعي مستشارا للمجلس رفقة بعض الاخوة الزملاء حتى الساعات الاخيرة من شهر نوفمبر / تشرين الثاني 2007 تقويم مسيرة المجلس واعادة الحياة اليه اثر استقالات بعض الاخوة السادة من اعضاء الهيئة العامة ، ومن السادة اعضاء  الامانة العامة  واستقالة الاخ الرئيس  واستقالة الاخ الامين العام  .. ولكننا اخفقنا ـ مع الاسف ـ ، ولا ادري بيد من هي شرعية المجلس الان .. سأبقى وفيا لجميع الاصدقاء الاحرار من اجل ان نقدّم معا  افضل ما لدينا للعراق ، راجيا تعميم استقالتي هذه على جميع الاخوة الزملاء والاصدقاء المثقفين العراقيين في كل مكان .. وليعلم الجميع أنني سأبقى مخلصا للثقافة العراقية ووفيا لكلّ المثقفين العراقيين وسأقدم خدماتي للعراق ولثقافته ومثقفيه من مكان آخر  . انني أهيب بهم جميعا العمل والابداع من اجل العراق الذي هو بأمس الحاجة الينا جميعا في مثل هذه المرحلة الصعبة .
                   دمتم ودام العراق  وطنا حرا وبلدا حضاريا  ومثقفا مبدعا  ..

مع اسمى التقدير والاعتزاز الكبير .

سّيار الجميل
كتب في تورنتو / كندا
يوم 1 ديسمبر / كانون الاول 2007

130
  سركون بولص
حامل فانوس في ليل صحراوي حالك

د. سيّار الجميل
   
أنا نبوخذُ نُصَّر -
تُلقي الفصولُ إليَّ
أعشاباً ملوَّثةً، وأُلقي النردَ
في بئر الفصول -
لأجتلي سرّاً
يعذّبني؟
يعذبني طوال الليل. حتى صيحة
الديك الذبيح.
لأجتلي سرّاً.
وأسمعَ ضجّةَ الأكوانِِ
سركون

تقدمة :
لم اكتب عن سركون الا تعزية منتظرا اربعينيته كي اسجل هذه الصفحة التأبينية وفاء مني لذكراه ، وستبقى ذاكرتي تحمل عن سركون صورة انسان يحمل فانوسا في ليل صحراوي دجي حالك الظلمة .. رحل سركون بعد ان ضاق ذرعا بتفاهة الحياة وكان يمتلئ بحزن العراق .. وهو لا يعرف من الحياة الا العراق اولا والعالم ثانيا  .. رحل ذلك الشاعر الآثوري الرائع وليس في باله ووجدانه الا العراق .. رحل هذا العراقي الجميل ولم يودع احدا ، اذ طار وابقانا ننتظر من لم ينتظرنا عند الضفاف .. رحل سركون ولم يزل يحمل بيده فانوسه المشع كلما ازددنا مضيا في عتمة الليل الدجي .. رحل الى الابد صديقنا سركون بولص بعد ان كتب اشعاره ونشر افكاره ولم يبقي لنا الا اثماره اليانعة او تلك الجافة جفاف العراق .. رحل هذا الشاعر بعد حياة مليئة بالمغامرة والصخب والحب والتمرد وعشق العراق .. رحل سركون وهو القائل : " قال الرجل .. قال الرجل : لا ترمِ في مستنقعٍ حجرا . ولا تطرق على بابٍ فلا أحدٌ .. وراءه غيرُ هذا . الميّت الحيّ الموزع بينَ بينٍ في أناهُ، بلا أنا . يأتي الصدى: هل مات. من كانوا. هنا " . نعم ، كان الصدى قد تردد منذ اشهر ان سركون يذوى بسرعة وتتبدل صورته بغير الصورة التي عرفناه عليها .. دهشت وانا اراه يتنّقل في المحافل غير آبه بما هو عليه وضعه ! بقي يعيش حياته بشكل طبيعي وهو يدرك ان نهايته قريبة جدا .. بقي يعشق كلمته وسيكارته وحريته .. وحتى نهايته التي قفلها بكل هدوء .. لقد رحل سركون وفي قلبه غصات لم يبح بها ابدا .
ذكرى صديق عبر المراسلات :
لم التق بالشاعر سركون بولص أبدا ، ولكن حدثت بيننا مراسلات لا حصر لها ، بدأت منذ اكثر من عشر سنوات عندما كنت اعد مادة كتابي " انتلجينسيا العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين " ، واعتمدت على معلومات ارسلها لي بشأن جماعة كركوك الادبية التي اوليتها اهتماما كبيرا .. ثم كنا نراسل احدنا الاخر بالمناسبات ، واهداني في نهاية العام 1996 احد دواوينه الشعرية المنشورة .. وكان يرسل لي بين وقت وآخر احدث قصائده ومقطوعاته . لقد تمتعت بديوانه المرسل وعنوانه : " حامل الفانوس في ليل الذئاب " ، ولم يكن هناك اجمل من اهدائه ديوانه لي اذ كتب على الغلاف : عزيزي سيّار  لم ازل احمل الفانوس ولم اتعب برغم اني حامل هوى .. متى سينجلي الليل هناك ونطفئ معا كل الفوانيس !!؟؟ ثم انقطعت مراسلاتنا مذ هاجر الى اوروبا ، وعادت وفي آخر رسالة مني اليه اسأله عن صمته واسرار صمته .. وارسل اليه دهشتي وانا اجده يذبل يوما بعد يوم .

كيف وجدت سركون من يكون  ؟
كان انسانا صريحا متوهج الفكر قوي الارادة حرا طليقا منذ ايام انطلاقته العراقية .. ولد عام 1944 في بلدة الحبانية الواقعة للغرب من بغداد . ثم انتقل بحكم علاقته بالعائلة نحو كركوك ، وبدأ يكتب الشعر منذ مراهقته وعند شبابه وجد نفسه على غير ميعاد ضمن حلقة ادبية وهو بمعية مثقفين فكان ان تأسست " جماعة كركوك " وهي تضم الادباء : فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمّو وصلاح فائق .. ولقد ذاع صيت هذه " الجماعة " ابان عقد الستينيات .. وكان سركون قد بدأ نشر قصائده في مجلة " شعر " اللبنانية التي كان يحررها الشاعر يوسف الخال ، وكان ان استقبله في بيروت بعد ان غادر سركون العراق متخفيا في الصحراء نحو بيروت التي مكث فيها زمنا رائعا وهي تشهد وقت ذاك اكبر حركة نهضوية واسعة ، ولقد عمل في الترجمة الشعرية ، ولكنه غادر المنطقة نحو امريكا التي وجد فيها ذاته منذ العام 1969 وقد اقام في سان فرنسيسكو زمنا طويلا ونسج علاقات ادبية مع العديد من الادباء الامريكيين ، ومنهم جماعة الـ " بيتنكس " ، ومنهم :  ألن غينسبرغ، وكرواك، وغريغوري كورسو، وبوب كوفمن، ولورنس فيرلينغيتي، وغاري سنايدر وغيرهم ، وبنى صداقات معهم .أسهم برفد المكتبة العربية بترجمات مهمة وأمينة لشعراء كثر. أمضى السنوات الأخيرة متنقلاً بين أوربا وأمريكا ، وخصوصاً في ألمانيا حيث حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي. وقبل ما يقارب السنتين بدأ يشكو من ورم اخذ يصارعه ولكن مرض السرطان كان اقوى منه فهزل جسمه كثيرا ، وراح يعاني جدا من دون ان يبث شكواه للاخرين .. لقد بقي صامتا ورحل صامتا ببرلين فجأة ، صباح يوم الاثنين 22 اكتوبر 2007 .
التركة الادبية :
لقد ترك سركون لنا عدة مؤلفات وكتابات ودواوين وترجمات ، منها :  ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» (1985) ، و «الحياة قرب الأكروبول» (1988) ، و «الأول والتالي» (1992) و «حامل الفانوس في ليل الذئاب» (1996) ، و «إذا كنت نائماً في مركب نوح» (1998) ، و "العقرب في البُستان" ، وترجمة لكتاب إيتيل عدنان "هناك في ضياء وظلمة النفس والآخر"  ، و مختارات شعرية مترجمة إلى الألمانية بعنوان «رقائم لروح الكون» ، ونشر : سيرة ذاتية بالألمانية بعنوان «شهود على الضفاف» ، وله : مختارات قصصية نُشرت بالعربية والألمانية بعنوان «غرفة مهجورة». وقد قرأت انه سيصدر له قريباً:ديوان بالانكليزية بعنوان «شاحذ السكاكين» مع مقدمة للشاعر أدونيس،عن مجلة " بانيبال " وأيضا : " عظمة أخرى لكلب القبيلة"  الذي يصدر قريبا لدى «دار الجمل». .
وقفة عند شعر سركون    
عندما اقرأ شعر سركون بولص احس بأنه يترجم نفسه للعالم .. اجده يقدم نفسه للعالم بكل خجل من دون ان يقول من يكون هذا الانسان .. اشعر انني قريب منه جدا ولكنني لم التق به ابدا .. اشعر انه انسان بسيط لا يأبه للاشياء التي لا تخصه .. اشعر به وارقب تحولاته الكبيرة من دون ان يعتلي الاماكن العالية ليتبجح بنضالاته .. لم يكن انسانا وهميا  او شاعرا متكسبا ، بل اجده واقعيا الى درجة لا توصف .. ربما كان خياله خصبا ، ولكنه يترجمه في وصف المعاني وتقديم الافكار السريعة .. انه يمنحك الفكرة باقل ما يمكن من الكلمات .. بل ويجعلك وانت تقرأ بعض اشعاره تفكر كثيرا في حشد من الصور ذات الدلالات البعيدة .. عندما قرأت له قصيدة لأول مرة منذ 35 سنة وكنت طالبا في الجامعة ، لم اهتم كثيرا بها ، ولكنني اذكر انني وجدته فيها وقد انغلق تماما على ذاته على عكس رفيقه الشاعر جان دمّو الذي كان يبيح كل شيئ يجده امامه .. بعد سنوات طوال ، اكتشف اشياء كبيرة في سركون .. ربما اصابته تحولات الرجل العادي ـ كما وصف ذلك في قصيدة بهذا العنوان ـ !
سركون من خلال شعره
لم يكن سركون يشتكي ، فهو كأي واحد في " القطيع " اثناء النهار ، وعند الليل يغدو نسرا وهو يعبث بفريسته فوق الهضبة .. يبدو لي انه كان يعشق الليل كثيرا ويجد نفسه وحيدا في صحراء يحمل فانوسه ليمضي الى حيث لا يدري .. انه يعشق الحركة ايضا ولا يريد الثبات ، فالحقيقة عنده في الحركة والوهم لديه الثبات ! يشعرك انه يبتعد تماما عن الارث الذي يفيض في كل مكان .. انه يقدم " رسالة " الى الاجيال بأن لا حياة مع الماضي ، بل انها مع المستقبل . الحب عنده له قيمته ، اذ لا يمكن ان تملأه رغبة اي رغبة .. انه يتذوقه كما لم يتذوقه من قبل ! الزمن عنده ـ كما يبدو لي ـ ثمين جدا ، وان مجرد تداوله في تطور دائم ، معناه الحركة وحركة الانسان لملاحقة اي جديد من دون التشبث ببقايا الزمن .. فكيف اذا كانت بعض الازمان التي سبقتنا متعفنة ومتقيحة ومتورمة .. انه يهرب دوما نحو المجهول خلاصا من تلك " البقايا " ! انه دوما يختفي وبصمت وتبحث عنه فلا تجده ، وفجأة يشخص امامك !
بورتريه عراقي للعراق : رؤية بانورامية رائعة
رسم سركون بورتريه تصوري لشخص عراقي يعيش في آخر الزمن ! فانه يراه هنا او هناك .. يراه في ما وراء الحدود وفي ما داخلها .. يجده شاخصا يتأمل في بحر الظلمات .. او زائغا في نهر النكبات .. يجده مسحوقا وقد انكسر انفه بعد ان كان انفه شامخا ! يبدو انه مجرد اشلاء مطحنون البطن وقد خرج من عصر المجازر .. كان يطحن لوحده بجنون لا يصدق عند بابل منذ عشرة الاف عام .. وقد رأى سركون تلك الصورة من غير اطار بعد ان توالت انفجارات التاريخ بسيرورتها اللامتناهية ! وقد استعادت اليوم كل ملامحها القاتلة .. انها مثل امرأة باذخة مبذرة ! ندخل بمعية سركون فضاء التاريخ ، فيرى وكأنه يقرأ صفحات كتاب فيحدثنا عن طابور الغزاة وهو يمر ، وهو ينتظر فلا يرى الا السجن والمقبرة .. فينشد المنفى . تشتعل المعركة لتأكل نيرانها كل العراق .. المنجنيقات تدك اسواره  التي لم يبق منها شيئا .. فتهب كل الطواعين والاوبئة والكوارث .. وبغداد تجدها كأمرأة جنحت مع الريح  ، وهي صامتة لا تحكي شيئا .. عيونها تحكي عن زوبعة قادمة .. انها تبكي بحرقة وقد نثرت شعرها في دواماتها الكبيرة ! بغداد لم تعد مدينة منذ زمن مضى ، فهي مجموعة قرى وارياف بعيدة لا تعرف الا الهياج والفوضى .. لقد اختزلت تلك المدينة العظيمة في زقاق مقفر ! ولا تردد الا اغنية تتحدث عن اشياء جميلة عن الحزن او الهجرة .. او لم تجد بغداد التي انتهت ولم تمت اذ بالامكان ان تجدها في جناحي فراشة ترفرف .. اي انها لم تزل تعرف الحركة في ازقة نخشى عليها منها .. وهي ملطخة العينين عبث بهما التاريخ بمكحلته القديمة  وثدييهها يختزنان الحزن الابدي .. غدت الفاكهة فيها يتيمة كالاحجار في سلة .. السلة قادمة من سوق تيبست فيه كل الاشياء واقفلت فيه كل الدكاكين .. واصفرت في خشبانه الريح الصفراء .. يا حزننا .. يا قهرنا  نحن الذين ولدنا وحلمنا احلامنا الصغيرة ، ثم هجرناه .
www.sayyaraljamil.com
 26 نوفمبر 2007

131
الشعبّية الصامتة !!


د. سيّار الجميل


تابعت بشغف كبير مساهمات الاخوة الكتاب في اجاباتهم لـ "قضايا النهار" على فرضية امتلاك منظمة "القاعدة" شعبية في الاوساط العربية، وكان هذا "الموضوع" قد اثارني منذ 11 ايلول 2001، وبدأت اتابعه، واراقب الفعل وردود الفعل سواء في الاعلام التلفزيوني او في اروقة المدارس والجامعات او في الشوارع العربية. وأرى ان ثمة تعاطفا هائلا مع مشروع "القاعدة" بشعبيته الصامتة من خلال تسويق بضاعته سياسياً ودينياً وشعارياً واعلامياً عبر الخطابات المسجلة المذاعة او المتلفزة.
    لم اصدق ان شبابا من الاطباء العرب يعتقلون بتهمة تخطيط تفجيرات ارهابية وتنفيذها وقتل اناس ابرياء اخيراً!! ولا يمكن ان يصل النزق والابتلاء وانعدام المشاعر والكراهية والاحقاد والامراض النفسية القاتلة التي فاقت حدود اي تجارب اخرى في التاريخ الى حد كهذا. ربما كان هناك ارهابيون في منظمات سرية ومافيات خطيرة في الماضي سواء في ايطاليا ام المانيا ام اليابان ام ايرلندا، وكانت مدانة بجرائم خطيرة، ولكن تلك، كانت عناصرها مختفية تحت الارض ولها مطالبها السياسية او المالية او الايديولوجية، في حين غدت منظمة "القاعدة" اليوم تعّبر عن واقع افرزها، ولم تقتصر على ارهاب مجتمعاتنا، بل انتقلت الى ان ترهب العالم وهي تحمل هوية ورموزا وخطابا اسلامويا تمثله مجتمعات كبرى في العالم!
 
   ربما انقلبت الامور على اعقابها وانفلتت كل الضوابط ليغدو الانسان في هذا الشرق الاوسط لا قيمة له ابدا مذ تردّى التفكير واضمحلت الموازين. وغدت مجتمعاتنا تنتقل من كارثة نحو اخرى وتتوالد اجيال وقد غشتها الادران، فتكلست العقول، وتضخمت الاوهام، وتفاقمت الخيالات. وبات الوباء ينتشر يوما بعد آخر بشكل مذهل. انه وباء التعصب والكراهية والتطرف لكل ما هو جديد ولكل ما هو معاصر ولكل ما هو قادم من العالم الحديث.  لقد غدا "الاسلام" هو البديل، بل اصبح مرجعا للتمردات والتعصب والتطرف والمقاومة. ويتركز اليوم بكل مخاطره في الشرق الاوسط منتقلا الى اماكن قريبة او بعيدة منه. واصبحت العمليات الارهابية تقرن بالاسلاميين المتطرفين الذين يزيد عددهم بكل تجمعاتهم ومراكز قوتهم يوما بعد آخر. والمفجع حقا ان ملايين المسلمين يعيشون على وهم كبير، اذ انهم مخدوعون بكون هذا الارهاب الذي يجتاح العالم جهاداً دينياً ومقاومة حقيقية للاعداء الأميركيين خصوصا والغربيين عموما.. ان بلدان الشرق الاوسط كلها قنابل موقوتة بهذا الوباء الخطير الذي اخذ يعم المنطقة ويزحف نحو مجتمعاتها في المدن والارياف والسواحل والدواخل.

ان دواخلنا العربية اخذت تزدحم بالاشقياء والضالين بمختلف الوانهم واشكالهم وازيائهم التي تعّبر عن تعصباتهم الكريهة. او تجد الوباء ينتشر في غفلة من الآخرين بسكوت وسرية تامة من دون اي شعور اجتماعي بمخاطره. وما دام لبوسه دينيا، فمن الخطر على المجتمع مساءلته في حين عجزت الدولة عن محاصرته والقضاء عليه بجعل نفسه اداة معارضة شديدة ضد سياسات الدولة وضد سلطاتها. ولعل اهم من يساعد التطرف وبنيته وهياكله المنتشرة في كل مكان ( حتى في البلدان الامنة والمستقرة نسبيا ) هو الاعلام. فالاعلام بكل وسائله مرئيا ام الكترونيا اصبح لا يعّبر الا بوجهة نظره المختلفة عن العصر. ولما غاب الاعتدال وسقطت الاقنعة الايديولوجية في مجتمعاتنا، انتقلت الامور لمصلحة الاشقياء والقتلة والانتحاريين والتفجيريين والتفخيخيين والملثمين والمبرقعين المجرمين الذين لا يكشفون عن انفسهم ولا يعلنون عن هويتهم. ان من ابرز مواطن الارهابيين في الشرق الاوسط مجتمعات باكستان وافغانستان وايران والعراق والسعودية ومصر وفلسطين والجزائر واليمن والصومال. وسينضم الى القائمة ايضا كل من لبنان والاردن وسوريا وبعض دول الخليج فضلا عن تونس والمغرب وهلم جرا. ان الانتقال بمشروع الموت الى العالم بكل ابريائه : شيوخه وشبابه ونسائه واطفاله، وعلى ايدي مهاجرين او لاجئين او طلبة دارسين او شباب مبعوثين او مهنيين عاملين، يعد ظاهرة خطيرة جدا على مستوى العالم، وباسم الاسلام ايضا يريدون ان يزرعوا العالم رعبا وقسوة وهتكا لكل الاعراف الانسانية ومن دون اي شعور بالذنب او الاثم او العدوان او أي احساس بقيمة الحياة. ان هذا نتاج شعبية "القاعدة"، وهي شعبية خفية بكل خلاياها الصامتة.

     لقد بدأ المسلمون المتشّددون (وخصوصا من العرب والباكستانيين والايرانيين) يسيئون الى مجتمعات المنطقة وثقافاتها واخلاقياتها. ونسأل: ما الذهنية التي تتحكم بكل المتعصبين الذين لهم شعبيتهم ؟ لقد اصبح الشرق الاوسط كله غريباً عن كل العالم! والعالم كله اصبح مسكوناً بالخوف من اوبئة الشرق الاوسط الذي ارادته الولايات المتحدة الأميركية ان يكون مكان نفايات او حقول الغام بشرية، فلا تجد فيه الا القتل والخطف والفتن والتفجيرات والحروب الاهلية والتشظي الديني والطائفي والعرقي وتنتشر فيه اسلحة وقنص وميليشيات فتاكة، لا تميزها عن السلطة أبداً، اذ غدت دولا داخل دول!! ان الاشقياء والارهابيين يريدون نقل ميليشياتهم نحو العالم المعاصر. والعالم المعاصر ان بقي في غفلة عن كل ما يجري باسم دين او حزب او جماعة او مافيا، فسينفجر من داخله. ستتفجر المؤسسات فجأة، وستؤخذ المجتمعات الآمنة على حين غرة بحيث يندهش الانسان ويصعق ازاء احداث لا تعقل مسبباتها ولا تعالج تداعياتها، بسبب تصفية حسابات دول لدول اخرى، او جعل منطقتنا المهترئة ساحة لتقاسم المصالح.

ان دولا ومنظمات معروفة تقف اليوم راعية لما يحدث، بل انتقل الصراع في عالم اليوم من الحرب الدعائية الباردة الى الحرب الارهابية البشعة. وبات " الارهاب " صفقة غالية الثمن لمن يقايض ازاء مصالحه او اجندته او حتى مخططاته ومؤامراته على حساب مجتمعاتنا التي باتت فاقدة للارادة والقوة وهي ترى في مشروع القتل جهادية ورسالة ومهمة دينية. لقد غدا الارهاب في السنوات الاخيرة، اشرس ظاهرة عرفها الانسان وهو ينتقل من طور تاريخي لآخر منذ العام 1979 حتى اليوم. لقد تبلورت الظاهرة في عقد التسعينات الاخير من القرن العشرين، بعد ان سوّق مصطلح " الصحوة الاسلامية " في الثمانينيات. وانتقلت الاصولية الدينية من مشروع سياسي الى اعجاب اجتماعي بعد هجمة 11 ايلول 2001.

صحيح ان ثمة ادانة رسمية لمشروع القتل الذي لم يزل يمارس بشكل يثير القرف، ولكن ثمة اعجاب جماهيري خفي به في بعض مجتمعاتنا العربية! اعجاب منقطع النظير بمشروع القتل سواء كان من "القاعدة" او من غيرها. كنت ازور احدى المدارس الابتدائية في واحدة من الدول العربية بعد يوم واحد من احداث 11 ايلول 2001، فراعني ما وجدت من حفلات داخل صفوف المدرسة اقامتها المعلمات اللواتي رقصن مع تلميذات بعمر الزهور لمناسبة غزوة مانهاتن!! ان الخطورة تكمن في نقل كل موبقات "مشروع القتل" الى الجيل الجديد. وعلى كل العالم ان يعالج الامور معالجة جذرية وواقعية وذكية، وان تكون ثمة قوانين صارمة ضد هذه الظاهرة التي ينبغي استئصالها. وان تدرك منطقتنا قاطبة ان الابقاء على هذه "الظاهرة" او حتى مجرد التعاطي معها سيودي بمستقبلنا الى الخراب والدمار. فهل يسمع كلامي احد من المسؤولين او المواطنين ؟ انني اشك في ذلك!
www.sayyaraljamil.com


132
الباكستان مشروع فوضى خلاقة جديد !


د. سّيار الجميل


كنت قد نشرت في صحيفة البيان الاماراتية الغراء يوم 8 اغسطس 2007 مقالة عن برويز مشّرف اسميتها ( برويز مشّرف في خط النار ) قلت فيها : "  والباكستان اليوم تمّر بأشد ازماتها بعد ان خسرت حروبا وان وقوفها الى جانب الولايات المتحدة في غزو افغانستان بالحرب على الارهاب قد فجّر الموقف الداخلي . فاذا كانت المذكرات قد كتبها ـ برويز مشّرف ـ من موقع القوة ، فهو اليوم ضعيف يسعى نحو المدنيين لاقتسام السلطة وربما سيخلص من ورطته وهو في خط النار فعلا .. وما لقائه الاخير مع السيدة بنازير الا الشروع بصفقة جديدة " .. وختمت المقال بانتظار ولادة احداث جديدة في الباكستان .. وها نحن نشهد منذ ثلاثة اشهر جملة تغيرات ساخنة تحدث فيها ، وانها تعيش مخاضا تاريخيا صعبا يؤسسه الانقسام السياسي الحاد بين كل الفئات السياسية التي دخلت مرحلة جديدة وخطيرة جدا ، سيكون لها تأثيرها ليس على الباكستان وحدها ، بل على كل منطقة الشرق الاوسط ، ويذهب جوزف بايدن ليقول ان الخطر سيهدد الامن العالمي كله .
أقول : ان اوضاع الباكستان اليوم تشبه الى حد كبير اوضاع ايران قبيل سقوط الشاه عام 1979 ، وانها منقسمة بين سياسة بوليسية قمعية وتنظيمات جماهيرية شرسة .. ان الفوضى التي تأكل الباكستان اليوم ستخلق منها دولة دينية متشددة بفعل عوامل متعددة لم يكن برويز مشّرف وحده سببا في بلورتها ، بل انها تمتد الى تفاعلات قرابة خمسين سنة من نتائج الانفصال عن الهند على اساس ديني ، ومسلسل الانقلابات العسكرية ، والادوار الامريكية الخفية ، ونشوء التيارات الاصولية فيها قبل افغانستان ، وانفصال بنغلادش (= الباكستان الشرقية سابقا ) ، وردود فعل الاحتلال السوفييتي لافغانستان ، وهشاشة الديمقراطية الباكستانية مؤخرا ، والتي لم تصل تقاليدها لما هو الحال في غريمتها الهند مع اخفاقات مستمرة للانتخابات ناهيكم عن التعقيدات الطائفية في الداخل ..
    كلها اليوم تجتمع لكي تحدد مصير الباكستان وهي تعيش بين مطرقة دولة ( بوليسية ) في العلن وسندان تنظيمات ( ارهابية ) في الخفاء ! ولا يمكن ازاء هكذا حالة بقاء الولايات المتحدة صامتة وهي تراقب الوضع المتفجر والمحفوف بمكاره ولادة احداث دموية او ولادة دولة على غرار ايران او طالبان ! ان ما يهم الولايات المتحدة الامريكية حقا هو البرنامج النووي الباكستاني والاسلحة النووية المتطورة وقدرة اي نظام قادم يهدد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة .. انني اعتقد ان هذا وحده فقط يشكّل كابوسا للامريكيين في وصول نظام متطرف الى الحكم .. واعتقد ان الديمقراطية والاستقرار هما آخر ما تفكر فيهما الولايات المتحدة لا لباكستان ولا لغيرها ، فهي ساعية لصناعة الفوضى الخلاقة ليترشح عنها ما يمكن فعله في الداخل وما يمكن جنيه في الخارج .
ان السكوت عن تعطيل برويز مشرّف للدستور وحل الاحزاب وفرض الاحكام العرفية معناه مباركة امريكية لحكم عسكري نتيجته السقوط بعد ان يقّدم خدماته المرجوة .. ولما اصبح برويز قريبا من خط النار ، فان العودة الى النهج الديمقراطي لا يمكن ان تخلصه من مأزق داخلي لا هو ولا نواّز شريف ولا حتى السيدة بنازير بوتو التي لم تدرك هي الاخرى حجم التغيرات التي اصابت الباكستان وحجم التطرف الديني الذي يعمها بوجه خاص منذ غزو افغانستان عام 2002 وغزو العراق عام 2003 !
    ان المشكلة لا تحل بتبديل مشّرف زيه العسكري الى مدني ولا بعودة بنازير التي تحلم بالسلطة على الطريقة القديمة ! ان مليارات الدولارات التي صرفتها امريكا في الباكستان من اجل استئصال تنظيم القاعدة قد ذهبت سدى ، كما يبدو ، ولا يمكننا تخّيل ان الديمقراطية الباكستانية سترجع بين عشية وضحاها كما كانت عليه صورتها في الماضي . ان هذا " الحليف " قد فشل فشلا ذريعا . فهل كانت الولايات المتحدة الامريكية مقتنعة بفشله ام انها ساهمت في صنع هذا " الفشل " لغايات جديدة ربما يكون ثمنها صناعة فوضى خلاقة جديدة في الباكستان بعد الاستغناء عنها ! وعليه ، فماذا ستكون عليه الخطط الامريكية الجديدة في منح المساعدات ام قطعها ام زيادتها ؟ هل ستمضي الفوضى في ظل لعبة ديمقراطية والوقوف الى جانب المعتدلين من اجل ضرب الجنرالات العسكريين والمتطرفين الاصوليين ؟
هنا ، علينا ان ندرك ايضا مدى تأثير متغيرات الباكستان على أوضاع المنطقة كاملة في معادلة صعبة للغاية تمثلها تحديات القاعدة في افغانسان ، والمواجهة مع طهران التي تذكي الصراع اعلاميا وسياسيا ، ومصاعب العراق التي قد تطول .. ناهيكم عن قضية الشرق الاوسط وامن اسرائيل .. الخ  ان الباكستان لا تشكّل بالنسبة الى الولايات المتحدة مجالا حيويا استراتيجيا لا من الناحية البترولية ولا من الجغرافية .. فهي ليست عبئا مستقبليا ، ولكنها بوابة الشرق الاوسط نحو آسيا ، وهي في صراع مزمن مع الهند ولها حدودها مع افغانسان وايران . ان صناعة الفوضى الخلاقة لا يمكنها ان تنجح الا على ايدي المتطرفين الاصوليين الذين تمتلأ الباكستان بهم ! ويبدو ان الولايات المتحدة قد اقتنعت بأن مصالحها لا يمكن تحقيقها الا بزراعة الفوضى الخلاقة .. وان اشعال الفوضى لا يمكن ان ينطفئ بسهولة ، فهو قابل للامتداد نحو اصقاع متعددة من آسيا ..
وأخيرا ، فان ثمة هواجس مخيفة لدى العديد من المراقبين والمحللين في العالم كله عن الباكستان في مخاضها اليوم ، فهي مقبلة على تحولات صعبة جدا سواء من خلال الانتخابات ام من دونها .. وان الدور الامريكي سيلعب في هذا الميدان وهو يدرك ان ما يهدد فعلا هو البرنامج النووي الباكستاني وليس دولة الباكستان دستورية كانت ام عسكرية ام اصولية ؟؟؟ فهل وعينا الدرس تماما ؟ انني اشك في ذلك !
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 21 نوفمبر 2007

133
تحيّة الى مثقّفي الناصريّة الاصلاء

د. سيّار الجميل


وتلمّون جراحا نغرت فرط ماعايشتم الجرح النغيــــــرا
لاتشل منكم أكـف وشحـت من بناة الكلم الحلو صــدورا "
الجواهري

نعم ، تحية لكم من الاعماق يا مثقفي الناصرية الاصلاء
تحية وسلاما لكم  يا من كنتم في المقدمة دوما ..
تحية لكم جميعا ايها المثقفون النجباء والمثقفات النجيبات
تحية لكم  أيها الاحرار على مواقفكم العراقية النبيلة
لقد تسلمت رسالتكم الكريمة بواسطة الاخ الاستاذ علي زغّير ( استاذ المعهد التقني ) والتي عبرّتم فيها عن مدى اهتمامكم بما انشره واكتبه .. ومن قبلها تسلمت اكثر من رسالة ارسلها لفيف من مثقفي الناصرية ومثقفاتها ، وكلها تعّبر عن تقدير عميق ومحبة لا توصف .. وموقف عراقي اصيل لا يمكنني ان انساه ابدا مدى حياتي ..
كنت اتمنى ان اكون بينكم  وانتم تعقدون اللقاءات تناقشون فيها افكاري وآرائي ومقول ما اقول في خطابي الذي تتضمنه  مقالاتي وكتبي ومحاضراتي  .. كنت اتمنى ان احّل بينكم لاراكم واحدا واحدا ، فانتم ابناء مدينة عربية اصيلة انجبت نخبا من المبدعين والفنانين والشعراء والكتاب والادباء والمطربين العراقيين الكبار .. فكنتم خير خلف لخير سلف  وقد عرفنا فيكم كل النخوة والشيم والطيبة والشهامة والشجاعة العراقية .. انني اتقدم اليكم بخالص الشكر واسمى الاعتزاز للالتفاتة الرائعة والمبادرة الكريمة  التي تلقيّتها منكم  قبل يومين ..
تسألون عني ، فأنا بخير وعافية اشكر الله  واشكركم  ايها التدريسيون والمثقفون من اهل الناصرية كما اسميتم انفسكم  .. ولقد ازددت  فرحا  وانا اتلمس منكم مدى هذا الاعجاب بكتاباتي ومحاضراتي المتواضعة ..  وزدت  اغتباطا لأنها  جاءت منكم  بالذات ولم تأت من غيركم  !! اشكركم واشكر كل العراقيين الاصلاء الذين قابلوني بكل رائع وجميل : مسيحيون سريان وكلدان وآشوريين وصّبة مندائيين وفويلية وشيوخ عرب بادية ونخبة كريمة من اليزيديين  واصدقاء كرد  وتركمان وأرمن وكل الاطياف الملونة الزاهية في عراقنا العريق ..
 تريدون ان امد يد التعاون معكم  من اجل اثراء الاوساط الثقافية والعلمية والاجتماعية .. وانا  في خدمتكم  ما استطعت الى ذلك سبيلا ..  انني اشكر كل من ينشر ثقافتي وخطابي .. وكل من  يعالج افكاري ومن يبادل اعمالي بينه وبين الاخرين ـ كما ذكرتم  في رسالتكم الكريمة .. تطالبونني ان افتتح  مقرا لي في مدينتكم الناصرية الشماء ، فهذا دليل ثقة راسخة ومحبة فائقة .. كما انه شرف كبير لي وساسعى بهذا الاتجاه ان ساعدتني ظروفي الصعبة ومكاني القصيّ لما وراء البحار .. واتمنى ان يتحقق ذلك مع توالي الايام .. ان ما تقومون به من فعاليات وقراءات في كتابات الدكتور سيار الجميل محل اعتزاز عندي ، خصوصا  وانتم تعملون في اوساط جيل عراقي جديد من التدريسيين والطلبة الذين يبلغ عددهم اكثر من 7000 طالب وطالبة  ، فضلا عن القطاعات الاخرى التي ذكرتموها .. اتمنى من الله تعالى ان يكونوا  ثمارا يانعة في بناء مستقبل العراق الحضاري الذي ننشده ونصارع من اجله كل القتلة الارهابيين والجهلة الفاسقين والانقساميين الآثمين والطائفيين المعتدين .. الى جانب كل ابنائنا وبناتنا من الجيل العراقي الجديد الذي اتمنى ان ينفتح النور عليه بعد ازمان الظلمة الحالكة .. وان يكون جيلا وطنيا ومستنيرا وذكيا ومتعاونا كما اتأمله واتوسم فيه كل الخير والارتقاء .. بوركتم ايها المثقفون والتربويون والكتّاب والشعراء وبوركت التفاتتكم متمنيا ان القاكم في يوم قريب  ..

وتفضلوا بقبول اسمى آيات المودة والتقدير والحب الكبير .

سّيار الجميل
تورنتو ـ كندا
www.sayyaraljamil.com

134
رهانات فاضحة بلا نهايات واضحة
د. سيار الجميل
 لا يمكن لأي مراقب أو محلل متمكّن أن يحدد طبيعة الاستراتيجية الأميركية التي تزداد خطورة وغموضاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، بل وتسجل المؤرخة كاثرين بيرك في كتابها الجديد (من عالم قديم إلى عالم جديد) بعض النتائج المهمة التي كان يدركها الساسة الانجليز منذ خمسين سنة. ولماذا تتصف السياسة الأميركية دوما بالغموض وعدم الكشف عما تريده وترسم له وتخطط من اجله، اعتقد أنها حالة طبيعية لأي دولة كبرى مثلها وعلى غرار من سبقها من الامبراطوريات، ولكن ثمة إجماعا على أنها بدأت هكذا منذ نهايات القرن 18 وحرب الاستقلال والثورة الأميركية حتى امتدادها نحو العراق والشرق الأوسط في بدايات القرن الواحد والعشرين!.
    دعوني أسجّل ملاحظاتي على تصريحات الجنرال ريكاردو سانشيز القائد السابق للقوات الأميركية في العراق عندما رسم ـ مؤخراً ـ صورة قاتمة لأوضاع العراق، ولكن في الوقت نفسه نقرأ تصريحات مخالفة لما وجهه سانشيز من انتقادات حادة لاستراتيجية الإدارة الأميركية في غزو العراق واحتلاله، اذ وصف المهمة الأميركية في العراق بأنها (كابوس لا نهاية واضحة له). ولا ادري ان كانت له مصداقيته عندما يقول بأن ( السبب هو الأخطاء السياسية التي ارتكبت واستمرت بعد إسقاط النظام السابق في العراق ). كما وصف قادة سياسيين أميركيين (بضعف الكفاءة والفساد). وانهم كانوا سيواجهون محاكمة عسكرية بتهمة (التقصير في أداء الواجب) لو كانوا يعملون في صفوف الجيش. ويخلص بالقول: ان أفضل ما تستطيع القوات الأميركية القيام به في الوقت الراهن هو (ان تتجنب الهزيمة).
ان من السذاجة بمكان الاقتناع بتصريحات كهذه، اذ نعلم ان الأميركيين قد عرفوا أكثر من أي آخرين بالحفاظ على مصالحهم القومية ومنظومتهم الاقتصادية والإدارية مهما كان الثمن، فالنظام الأميركي ماكينة تعمل من تلقاء نفسها، وتعرف ليس ما تريده فقط، بل ما تخطط له لسنوات قادمة، أنها ليست من السذاجة بمكان أبدا. بحيث ترتكب أخطاء جسيمة لا تحاول تصويبها، بل ولا تراجع نفسها في تعديل سياساتها في العراق خصوصا بعد مضي قرابة خمس سنوات لهيمنتها عليه.
 فما هي أخطاؤها في نظر الجنرال المتقاعد سانشيز؟ وهو الذي قاد قوات التحالف لمدة عام ابتداء من 2003، فلقد عّبر عن تشاؤمه حيال الوضع في العراق، بالقول: إن ما يحدث فيه هو نتيجة أخطاء عسكرية ساعدت في ظهور وصعود التمرد المسلح. ومن ابرز تلك الأخطاء حل المؤسسة العسكرية، والفشل في ترسيخ وتقوية العلاقات مع زعماء القبائل، وعدم الإسراع في إقامة حكومة مدنية عقب السقوط، معتبرا الاستراتيجيات الحالية، وبضمنها خطة زيادة القوات بمعدل 30 ألف جندي والتي شرع في تطبيقها في وقت سابق من العام الحالي، أنها (محاولة يائسة) لإصلاح الأخطاء التي وقعت في السنوات السابقة بفعل السياسات المضللة. وانتقد شانشيز بشدة السياسات لعامة للبيت الأبيض، وغياب القيادة القادرة على معارضة تلك السياسات في وزارة الدفاع (البنتاغون).
      لا احد ينكر تلك الأخطاء ، ولكن أهي أخطاء عفوية أم مقصودة؟ لو افترضناها عفوية، فلقد لاحت في الأفق في الساعات الأولى للسقوط مدى أهمية صناعة الفوضى في العراق، ومدى القدرة على التشهير بأحداث معينة والتعتيم على أخرى، ومدى التراخي في ممارسة المسؤولية في الداخل وخصوصا بإبعاد القوى والعناصر العراقية الكفء لإدارة الشأن العراقي. والقدرة الاعلامية والسياسية الفتاكة التي قسمّت المجتمع إلى تكوينات قومية وشراذم طائفية وزرع هذا الاسفين في قعر العراق، والتبشير بعملية سياسية لا تخدم مستقبل العراق بصناعة قوى وميليشيات وجماعات متصارعة. وإبقاء الحدود مع دول الاقليم مفتوحة من دون أي مساءلة، وحماية وزارة النفط العراقية فقط من دون الوزارات الأخرى، الخ ان العالم سيكتشف يوما ان هكذا (أخطاء) هي التي أصرت الولايات المتحدة على ممارستها ولا تزال تمارسها حتى الآن من دون اي تبديل أساسي او بدائل أخرى، ويصف سانشيز الأوضاع الحالية في العراق بمنتهى القتامة، قائلا ان القوات الأميركية وجدت نفسها في حالة مقيدة، وان أميركا لا خيار أمامها سوى الاستمرار في جهودها في العراق. وردا على تصريحاته، فلقد قيل له ان العراق يحرز تقدما. كما جاء على لسان بتريوس والسفير كروكر، علينا ان لا نعتقد بأن الإدارة الأميركية فقدت قدرتها في السيطرة على انفعالاتها، وانها لم تعد قادرةً على ضبط سلوكها السياسي العام؟ وان كل ما يقال عنها لا أساس له من الصحة. فهي مدركة لكل دقائق الأمور وان خططها بعيدة المدى وأنها مقتصدة في البقاء ضمن استراتيجيتها التي رسمتها للعراق (وربما للشرق الأوسط ).
 ويمكنني القول، ان منطقتنا ستشهد جملة مفاجآت وأحداث، وخصوصا في العراق، وستتطور الأحداث ضمن خطط مرسومة ووقائع معلومة اندفاعا نحو الانتخابات الأميركية التي ستكون نقطة فاصلة بين مرحلتين، ان الصراع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا سيحدد مصير العراق لمرحلة قادمة تكثر اليوم عنها كل التكهنات.
نخلص إلى ان الأميركيين غير مستعدين للتنازل عن استراتيجيتهم جمهوريين كانوا ام ديمقراطيين، وازعم، ان ما يحدث في العراق هو بداية لما سيحدث في المنطقة عموما، اذ لا يمكن لأميركا ان تتخلى أبداً عن قوتها وسمعتها ومصدر حيويتها. وان أهم بقعة تعد مصدراً أساسياً للطاقة في القرن الواحد والعشرين، وستبقى الإدارة بهذه أو تلك مصرة على مواصلة نهج اتبعته منذ اللحظة التاريخية الأولى وأدى إلى إثارة عواصف سياسية دولية وإقليمية اعتراضاً على خطوات اعتبرت انقلابية على نهج استراتيجيات وسياسات اتبعت في القرن العشرين وخصوصا أيام «الحرب الباردة». فهل لنا القدرة على استكشاف غموض السياسة الأميركية؟ انني لا أعتقد ذلك!.

البيان الاماراتية ، 14 نوفمبر 2007 .

www.sayyaraljamil.com

135
المسألة الاقليمية وخطورة الحزام الشمالي !

د. سيّار الجميل

بقدر ما تعاني دول الشرق الاوسط من معضلات داخلية ومن رهانات خارجية يدركها اغلب القادة وتقع تحت وطأتها الشعوب .. الا ان المسألة الاقليمية لم يحسب لها  أي حساب  كما يجب خصوصا وهي الاخطر على مصائرنا ، فمشكلاتنا الداخلية يمكن ان يتم التفاهم عليها ، والرهانات الخارجية تبقى طارئة وتعيش في اطار الزمان لا المكان .. اما المسألة الاقليمية فهي التي تتحرك في الزمان والمكان والمجال معا .. واذا كانت المسائل الاقليمية في العالم قد عاشت حروبا طاحنة واستطاعت ان تستقر  لمعرفة كل طرف بحجم الاخر  والوعي بالمصير من خلال المصالح المشتركة ، فان اسوأ ما يعانية الشرق الاوسط  يتمثل بصراعات قديمة متجذرة ، وانعدام ثقة ، ودور اسرائيل ، واختلاف سياسات ، واطماع حكومات ودول .. ناهيكم عن تباين في التوجهات القومية والايديولوجية والسياسية وقد دخلتها اليوم الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية .. وحّلت انقسامات شنيعة تتمثلها احزاب وتكتلات وجماعات منها ما هو معلن ومنها ما هو خفي عن الاعين .
الكل يدرك ان في الشرق الاوسط  ثلاث قوى متنافسة تلعب ادوارها منذ مؤتمر الصلح بفرساي عام 1919 ، هي : تركيا وايران ومجموعة الدول العربية ( وكان ابرزها العراق ) المتاخم للدولتين الاقليميتين بأطول حدود ، وقد اطلق مصطلح " الحزام الشمالي" على هذه الدول الاقليمية التي نجحت على مدى ثلاثين سنة ، اي حتى 1949 في حسم مشكلات تاريخية في ما بينها ، ولكن برزت للوجود اسرائيل في الاقليم بعيد الحرب العالمية الثانية ، فاختلت المعادلة .. وكادت ان تستقر المنطقة استراتيجيا  بعد عقد ميثاق بغداد (1955) واختفت مشكلات الاقليم بالتفاهم على استراتيجية اقليمية معينة ، ولكن انحرف الشرق الاوسط برمته في طريق آخر  اثر الانقلابات العسكرية التي توالت في اهم البلدان العربية ، ونضوج التيارات القومية ليس عند اكبر شعوب المنطقة ، بل بدأت اصغر القوميات تطالب بحقوقها المشروعة في ظل حكومات لم تجد في تفكيرها الا قومياتها فقط .. ، ولما كان العرب في صراع تاريخي مع اسرائيل ، كانت كل من تركيا وايران في تحالف قوي مع اسرائيل منذ نصف قرن .. ومع انقسامات العرب سياسيا واعلاميا ، كانت خيبتهم التاريخية في ازالة الكيان الصهيوني ، فتراكمت مشكلات اضافية لم يستطع احد ان يضع حلول جذرية لها  لا في الستينيات ولا في السبعينيات من القرن العشرين .
ان تغيير المعادلة الاقليمية جاء هذه المرة من ايران في العام 1979 عندما سقط الشاه الذي اراد ان يجعل من نفسه شرطيا للخليج ودولة تمتلك ترسانه اسلحة قوية ، وبدأت الاتجاهات الاقليمية تتبلور على نحو جديد وخطير قاد الى التصادم الاقليمي ضمن اجندة دولية ، وكانت الحرب العراقية الايرانية التي تعد من اقسى الحروب الاقليمية  التي شهدها العالم ابان الثمانينيات .. وقد اندلعت واستعرت ثم وضعت اوزارها من دون ان تسأل دول الاقليم نفسها وخصوصا دول الحزام الشمالي : لماذا الصراع الاقليمي ؟ ولمصلحة من ؟
    وبدل ان يبقى العرب كتلة جيوستراتيجية قوية في الاقليم بدأ  اشنع انقسام من الناحية الاستراتيجية بغزو الكويت عام 1990 ، مما مّهد لأن يصبح الاقليم كله مخترقا دوليا .. وانسحق العراق منذ العام 1991 وغدا  صاحب اكبر سجل من المشاكل ليس الاقليمية فحسب ، بل الدولية ايضا .. وبقيت الولايات المتحدة تطمح ان يكون لها دورها من خلال ما اسمته بـ " الاحتواء المزدوج " لكل من ايران والعراق ، الا انها لم تفلح ، فبدأت بسياسات جديدة عقب احداث 11 سبتمبر 2001 . لقد بقي الرهان قويا ازاء دول الحزام الشمالي في اقليم الشرق الاوسط ، اذ يعلم الجميع ان تفكك اي دولة من دول هذا الحزام ، معناه تهديد للمصالح الدولية بشكل سافر .
 لقد بقي الوعي بالاقليم مغيبا ليس لدى الشعوب في الشرق الاوسط كله ، بل لدى الحكومات وحتى العديد من الزعماء والقادة .. وسقط العراق عام 2003 بيد امريكا وحلفائها من دون ان يدرك كل الشرق الاوسط حجم العراق ودوره الاقليمي في قلب المجال الحيوي للشرق الاوسط .. لقد نجحت ايران في ان تكون اللاعب الاقليمي باختراقاتها المتعددة لاسباب متنوعة كان في مقدمتها ـ كما اعتقد ـ دور العرب المتفكك وقوتها النافذة في اكثر من مكان في الاقليم وسكوت تركيا .. وقد زادت من قوتها السياسية والاعلامية والمخابراتية بعد احتلال العراق عام 2003 . اما تركيا فقد بقيت تلتزم الصمت  وتعد العّدة السياسية والعسكرية معا  كي تحقق حصتها من النفوذ الاقليمي  ، علما بأن تحالفا خفيا يجمع تركيا مع ايران يقول بعدم السماح للاكراد في اي نقطة من الشرق الاوسط ان يؤسسوا لهم كيانا سياسيا منفردا ,, وانهم ينظرون بالريبة والشك لما تحقق للاكراد في العراق . وكما كان العرب آخر من يهتم بالشأن الاقليمي ، فان الاكراد وقوميات أخرى بدا وكأنهم قد استخفّوا بالشأن الاقليمي في ظل الحماية الاجنبية . انه جرس خطر يقرع للتنبيه ، وهو لا يكف عن الرنين على امتداد نصف قرن مضى .
السؤال : ما العمل ؟
ان التمزق السياسي والقومي والطائفي الذي يعاني منه كل من العراق ولبنان وما تعانيه دول عربية اخرى ناهيكم عن حجم الارهاب الذي يجتاحها فضلا عن غيبوية الوعي بهذا الحزام الشمالي .. ان من المهم ان يتم التفاهم على اسس ومبادئ اقليمية مشتركة ، ثم فتح صفحة جديدة من العلاقات المبنية على عدم التدخل الاقليمي ، وان من الاهمية بمكان معرفة ما الذي تريده الولايات المتحدة ؟ وما موقفها الحقيقي من المشكلات الاقليمية المستجدة اليوم ؟ ان ثمة مشكلات قادمة لنا في الطريق لاسباب اقليمية ، فهل وعينا الدرس ؟ انني اشك في ذلك !

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 7 نوفمبر 2007

136
سد الموصل في خطر: سياسة رعب أم كارثة مرعبة ؟



د. سيّار الجميل
اثارت التحذيرات الاميركية والتقارير الصحافية حول انهيار سد الموصل، موجة عارمة من الرعب في مدينة الموصل وما أحاطها وتدانى عنها من المدن والارياف العراقية.. لقد سمع العالم كله بالتحذيرات الاميركية من انهيار سد الموصل، وهو من اكبر سدود الشرق الاوسط يقع شمال مدينة الموصل على مسافة 35 كيلومتراً. كان التحذير الاول في أيار الماضي، ويتجدد النداء اليوم كرة اخرى. وهذه مسألة خطيرة جدا سواء كانت ضمن اجندة سياسية لبث الرعب، ام كارثة حقيقية في طريقها للحدوث - لا سمح الله. واذا كانت الحكومة العراقية قد سارعت الى نفي التقارير الاميركية، فان كلا الجانبين يتحمّل مسؤوليته التاريخية في هذا " الموضوع " الذي لا يقبل المساومة ولا التأويل ابدا، كما لا يقبل المماطلة مهما كانت الظروف، ولا يُقبل ان يكون محل ابتزاز سياسي او جدل بين جانبين هما الاول والاخير، وهما الخصم والحكم في حكم العراق.
 ربما لا يتخيل القراء الكرام ما الذي ينطوي عليه هذا "التحذير" الخطير ! ان انهيار سد الموصل، لا سمح الله، يعني اخطر كارثة ستحل في تاريخ البشرية، وستكون وصمة عار لكل من لم يعمل اليوم على اتقاء الكارثة، اذ ان طوفانا هائلا سوف لا يبقي ولا يذر في العراق كله، وسيقتل ملايين الناس ويكتسح الحياة والممتلكات والارض وما عليها، وسينتهي العراق بكل زراعاته واقتصاداته وخدماته وتتحطم كل قدراته الحضرية على امتداد سنوات طوال، خصوصا اذا ما علمنا حجم خزين مياه بحيرة سد الموصل المقدر باكثر من 11 مليار متر مكعب من المياه.
 ان الامر ليس ورقة سياسية لبث الرعب او ممارسة الابتزاز، والموضوع برمته لا يقبل المساومة ولا الاخذ والرد. بل ان مصير العراق كله متعلق به، واذا كانت الحكومة العراقية تتحمّل مسؤولية سد الموصل، فان الحكومة الاميركية تتحمّل مسؤولية مضاعفة عنه، بل لا بد من مناشدة المجتمع الدولي باسره للقيام بما يمكن عمله من اجل ايقاف الكارثة ان صحّت هذه التقارير - لا سمح الله. ونفي الحكومة العراقية لما ورد من تقارير خطيرة لا يمكن ان يؤخذ على محمل الجد من دون عمل عاجل جدا وقيام حالة طوارئ وفتح موازنة غير محددة والاسراع الجاد لاخذ الاحتياطات الخاصة بالوقاية اللازمة.

 لم يكن سد الموصل وليد عهد صدام حسين، لقد ولدت فكرته لأول مرة عام 1950 ايام العهد الملكي، اذ كان يعد واحدا من المشاريع العملاقة لمجلس الاعمار في العراق واستغرقت دراساته اكثر من ثلاثين سنة من جانب شركات بريطانية وسويسرية وفنلندية وسوفياتية واميركية وايطالية وفرنسية ونمسوية وتشيكوسلوفاكية وغيرها. اذ ليس هناك عهد من العهود السياسية في العراق لم يعقد اتفاقيات مع شركات عالمية عدة للدراسة ومعرفة طبيعة الارض وجيولوجياتها. وقد اختير اكثر من موقع، وكان يطلق عليه اسم مشروع سد اسكي موصل (بسبب وجود قلعة اسكي موصل والتي غمرتها اليوم مياه البحيرة). وتقول المعلومات ان موقع بناء السد كان الى الاعلى من موقعه الحالي عند قرية "ضوء القمر" (60 كيلومتراً شمال الموصل)، ولكن تغّير بعد ذلك الى الموقع الحالي. كما دُرست ايضا مشروعات جدوى سد الموصل، وتقرر ان تعقبه اربعة مشروعات كبرى للري، اثنان غرب دجلة (ري الجزيرة الشمالي وري الجزيرة الجنوبي) ثم اثنان شرق دجلة (ري الجزيرة الشرقي لكل سهول الموصل واربيل). وذُكر ان السد سيؤمن بعد اكماله الزراعة الدائمة الكثيفة لمساحة تقرب من ثلاثة ملايين ونصف مليون دونم من الاراضي القابلة للزراعة على جانبي نهر دجلة كما سيؤمن المياه لاحتياجات الزراعة الصيفية في اواسط العراق وجنوبه. ومن اغراض السد ايضا توليد الطاقة الكهرومائية والسيطرة على مياه نهر دجلة لدرء اخطار الفيضان وبخاصة في مدينة الموصل.

انتهت الدراسات والاتفاقات مع شركتين: المانية وايطالية ( جيمود ) فضلا عن شركة يابانية لبناء اكبر محطة كهرومائية لتوليد الطاقة الكهربائية التي تقدر بالف كيلو واط. وقد بوشر العمل به في 25 /1/ 1981 وانجز تماما في 24/7/1986، ايام الحرب العراقية - الايرانية. انه مشروع عملاق كان مخططا ان تنبثق عنه مشروعات اروائية استراتيجية من خلال بحيرته الكبرى التي تصل حوافيها الى الحدود السورية. كان العراقيون ينتظرون ثورة زراعية وحيوانية وكهربائية وسياحية هائلة. ونوع السد هو ركامي املائي ذو لب وسطي طيني واعلى ارتفاع له 113 مترا. ويبلغ طول قمة السد 3650 مترا (منها 50 متراً للمسيل المائي) وعرض القمة (10 امتار) ومنسوبها 341 متراً فوق سطح البحر. اما المنسوب التشغيلي للسد فهو 33 متراً وبحجم خزن 11.11 مليار م3 وبمساحة 380 كيلومترا مربعا. اما المنسوب الاعلى للفيضان في سد الموصل فهو 338.5 متراً وبحجم خزن 14.5 مليار م3 في حين ان اقصى منسوب للخزن هو 335 متراً فوق سطح البحر.

يبلغ الخزن الاجمالي للسد 13.13 مليار م3 وبمنسوب 335 متراً فوق سطح البحر، ومنسوب الخزن الاعتيادي هو 330 متراً فوق سطح البحر. والمحطة الكهرومائية تعمل بطاقة كلية هي 772 ميغاواط. اما انفاق التصريف Bottom outlet فعددها اثنان واقصى تصريف له هو 1170م3/ثا عند منسوب 300 متر في حين اقصى تصريف له هو 2435 م3/ثا عند منسوب 330 متراً.

 كنت قد تابعت على مهل دراسة تاريخ هذا السد منذ ولادة فكرته حتى اليوم، وكنت اسمع منذ العام 1988، أن ثمة مشكلة تعاني منها اسس السد بسبب التآكل. ان طبيعة الارض كلسية، والاسس لا تتحمل ثقلاً كبيراً من المياه، وبقيت اسسه تحقن دوما بالاسمنت! وعليه، فلقد تقرر وخوفا من اي كارثة بناء سد وقائي آخر في منطقة بادوش ليكون سدّا وقائيا. ولكن الظروف الصعبة التي ألمّت بالبلاد لم تخدم بناء هذا السد الذي كان المهندسون العراقيون سينفذونه وطنيا.
 كان العراقيون ينتظرون ثورة زراعية وحيوانية وكهربائية وسياحية هائلة. ولكن اوضاعهم الصعبة على امتداد ربع قرن جعلتهم يمشون في طريق آخر!

وهنا اطالب الحكومة العراقية باتخاذ الاجراءات الآتية:

1. الاسراع في تنفيذ سد بادوش الوقائي بالتعاقد مع اي شركة عالمية او اكثر ودعوة كل المهندسين السابقين في مشروع بادوش لتنفيذه بالسرعة القصوى. وهنا اناشدهم ان يشكلوا دائرة رصد فني خاصة بكل تفصيلات العمليات.
2. اطالب ان تتشكل فرق حماية عراقية خاصة من ابناء مدينة الموصل نفسها لتتم حماية السد حالا، ذلك ان حمايته اليوم لا نعرف بايدي من تكون، هل حمايته عراقية صرفة ام اميركية ام غيرهما؟
3. دعوة الحكومة العراقية للشركات الدولية التي نفذت مشروع سد الموصل لاطلاعها على اية مشكلات يتعّرض لها السد اليوم، فضلا عن كونها تمتلك كل المعلومات وهي مشاركة في المسؤولية من خلال العقود التي ابرمتها قبل التنفيذ.

4. على الحكومة العراقية ان تكون واضحة وصادقة في كل تصريحاتها وتقاريرها للعالم والمستندة الى تقارير فنية وهندسية، فالموضوع ليس سياسيا او ان يكون محل ابتزاز او مساومة من اي طرف كان محليا ام اقليميا ام خارجيا. ولا يمكن للحكومة ان تبقى ساكتة او ان تأتي تصريحاتها من قبل متحدث غير مختص.

5.  ينبغي على رئيس وزراء العراق ان يتولى المسؤولية بنفسه بحيث ترتبط به ادارة السد وان يتولى بنفسه الاشراف يوميا على اعمالها مع تشكيل هيئة وطنية عليا من كبار المهندسين العراقيين للمراقبة.

6. اتمنى ايضا ان تؤخذ آراء وزير الموارد المائية في العراق بصدد تقليل مياة الخزان والاستمرار بعمليات حقن الاسس وتنفيذ الاجراءات الفنية الاخرى.

 وأخيرا، ان سد الموصل اليوم يعد اهم قضية وطنية لا تحتمل التأجيل، وينبغي ان ينشغل بها كل العراقيين، وان الاستجابة لهذا التحدي سواء صدقت التحذيرات الاميركية ام لم تصدق، وسواء كانت هي قضية السد نفسه، ام استغلالها لمآرب اخرى في المستقبل. فانني ادعو الله ان يحرس كل اهلنا ويحميهم ويبعد عنهم كل الرعب والشرور والاذى.
سّيار الجميل     
مؤرخ عراقي مقيم في تورنتو – كندا
استاذ سابق في جامعة الموصل
جريدة النهار البيروتية ، 6 نوفمبر 2007

137
أنابوليس محطة صراع للشرق الاوسط !

د. سيّار الجميل
     
لاسباب امريكية غامضة ومتعددة ومنها اقتراب الانتخابات اندفعت الولايات المتحدة الان الى اثارة موضوع السلام في الشرق الاوسط، ولما كانت تعشق دوما ان تحل قضايا العالم على اراضيها ، فقد اختارت هذه المرة مدينة أنابوليس التاريخية  الساحرة عاصمة ولاية ميريلاند كي تكون مقرا لمفاوضات سلام الشرق الاوسط في نوفمبر القادم ، لتنضاف اسماء جديدة على القضية المركزية مثل كامب ديفيد وواي ريفر .. ولكن انا بوليس الواقعة 50 كم شرقي واشنطن دي سي  لها تاريخ حافل يعود الى عهد الاستعمار لاكثر من ثلاثة قرون مضت.. وفيها انعقد المؤتمر القاري في مبنى دار الحكومة عام 1784 للتصديق على معاهدة باريس التي أنهت حرب الثورة الأميركية. ولم يزل دار الحكومة يعمل حتى يومنا هذا .. وبالرغم من صغر المدينة الا انها تعتبر من لواحق واشنطن . وتشتهر باكاديميتها البحرية وبموقعها الاستراتيجي البحري 
اذا كانت السيدة الين موير رئيسة بلدية انا بوليس سعيدة جدا بتصريحها للواشنطن بوست بمؤتمر السلام ويشرفها ان تدخل مدينتها التاريخ من جديد كي ينبثق فجر السلام في الشرق الاوسط ، فان يهود اولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي غير سعيد البتة عندما قال وهو يقوم بدور تهدئة احزاب اليمين المتشدد التي تشاركه في ائتلافه الحكومي خوفا من منح تنازلات للفلسطينيين ، وخصوصا ما اصطلح على تسميته بـ " قضايا الحل النهائي " .. قال: " ان أنا بوليس ليست المكان المناسب لاعلان السلام " . وشكك في عقد الاجتماع تهربا من عجزه السياسي الذي رافقه منذ يوليو 2006 ، فهو غير قادر على الموافقة لانبثاق اتفاق سلام نهائي مع الفلسطيينيين ، خصوصا وانه ملزم بتنازلات أساسية يقدمّها ، ومنها ما يتعلق بالحدود والقدس واللاجئين والمياه والمستوطنات .
ان اولمرت اليوم هو نقطة ضعف اسرائيل ، واذا كان اغلب رؤساء الاحزاب والزعماء الاسرائيليين يريدون منه التنحي  كي يسقط  ،  فانه يناور ازاء الضوط الامريكية كي يذهب الى انا بوليس التي يريدها الرئيس الامريكي بوش ليعزز الموقف الامريكي ويترجم فيها ما طرح من وعود سابقة ، ولكنه سيذهب الى انا بوليس كي يكون ايجابيا مع الرئيس بوش والموقف الامريكي ، ثم يكسب التأييد من الدول العربية خصوصا وان المواجهة ضد ايران ساخنة .. ولعل الاهم ان مفاوضات انا بوليس ستمنع او تؤجل انهيار حكومته المترنحة.. ومن يقرأ ويتابع الاحداث على الساحة سيجد ان اولمرت قد استنفر بسياسته كل اسرائيل وكأنه في حالة حرب وليس كمن يذهب لمؤتمر سلام بدليل عمليات المطاردة والاعتقال والقتل والقصف والحصار ومصادرة الارض والحواجز والتقطيع وادماج المستوطنات وانشاء طرق للفصل في الضفة الغربية ..
   ان اسرائيل لم تفتح اي صفحة جديدة يمكنها ان تشعل ضوءا اخضر لاطفاء الحريق الذي استمر طويلا .. انها لا تحسبها لا بالطريقة التي تعتقد بها الولايات المتحدة ، ولا بالطريقة التي يؤمن بها العرب ولا بالطرائق التي يتصارع من اجلها الفلسطينيون  فهي تعتقد ان الولايات المتحدة لم تعد تصنف مشكلتها في الصراع مع الفلسطينيين هي الاولى في الشرق الاوسط ، لقد ازدحم هذا الاخير بمشكلاته ، ولكن الولايات المتحدة لم يعد باستطاعتها تهميش الدور العربي المطالب بحل جذري للفلسطينيين الى ما لا نهاية . وعليه ، فان اسرائيل تدرك ادراكا عميقا ان مؤتمر انا بوليس مجرد استعراض سياسي واعلامي يصفق له العرب وسيخرجون منه كما دخلوه لأول مرة .. بل سيكون خروجهم مدعاة لتقديم شكرهم للولايات المتحدة وستخرج اسرائيل كما خرجت آخر مرة ! فهي ليست اليوم في وضع تقدم فيه اي تنازلات على عكس الوضع الفلسطيني الذي ازداد انقساما وتفسخا ويا للاسف الشديد .
وتبقى المشكلة اسرائيلية دوما ، فهي تصر على تقديم افكار غامضة وتحول دوما والاتفاق على جدول مبادئ يحدد بجدول زمني لحلحلة كل القضايا العالقة ، وعرقلة نشوء الدولة الفلسطينية واعادة القدس الشرقية وحل قضايا اللاجئين والمعتقلين .. كلها مسائل محددة ومباشرة وعليه ، فانها تصر على وثيقة مبادئ عامة ومبهمة مع شطب نزق على القدس واللاجئين .. وهذا ما جعل الرئيس الفلسطيني السيد محمود عباس يعلن موقفه بصراحة بعدم ذهابه للمؤتمر بأي ثمن واصراره على تحديد وثيقة المبادئ وبتواريخ محددة ، مما جعل كوندليزا رايس تطرح بأن المحادثات في المؤتمر ستكون مجدية ومنتجة وهنا طالب الموقف المصري تأجيل عقد المؤتمر شهرا كاملا حتى تحدد وثيقة المبادئ المحددة .
وأخيرا : ما الذي يمكنني قوله ؟
لا أحد يدرك ما بجعبة الولايات المتحدة من مفاجئات اقليمية في الشرق الاوسط ، وما تكون قد خططت له نحو العام 2008 ، ولكن علينا ان نقرأ ما يكمن وراء الخطط والمشروعات الامريكية ، وخصوصا ماذا يكمن وراء انابوليس ؟ ما الذي تريد الولايات المتحدة الحصول عليه طبقا لما تتطلبه بقية مشكلات الشرق الاوسط ، ومن ابرزها مشكلة ايران دوليا واقليميا ومحليا ، ومشكلة تركيا اقليميا ومحليا ، ومشكلة سوريا محليا .. ان انابوليس جزءا من المشكلة وليس كلها .. وهي حلقة وسيطة بين حلقات . وللعلم اقول ، انه في حالة فشل انابوليس ، ستزداد شراسة اسرائيل محليا واقليميا وستندفع باعمال تشغل فيها الرأي العام العربي والاسلامي ، وربما سيتطور الموقف الى مؤتمر قمة عربي .. في حين تتفرغ الولايات المتحدة من خلال العراق لمعالجة ما تكون قد خططت له ضد ايران بشكل خاص من دون سوريا .. واعتقد ان التحرك التركي المتمثّل بالتهديدات ضد الاكراد في العراق جزءا من الصفقة الجديدة .. اذ علينا ان نسأل دوما : اين تكمن مصلحة الولايات المتحدة الامريكية من اي تحرك تقوده او اي حدث خطير تتغاضى عنه في الشرق الاوسط ؟


www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 31 اكتوبر 2007

138
                   
        " الديمقراطية " في مجتمعاتنا ...... !!
جادة نقاش
بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب
د. سيّار الجميل

الحلقة الرابعة


المطلوب : اعادة النظر ام اعادة التفكير ؟
    يقول الدكتور حبيب : " إن تجارب الدول الغربية من جهة وتجارب دول جنوب شرق أسيا وأمريكا اللاتينية من جهة ثانية , إضافة إلى حالات الفشل والإحباط والارتداد التي تحيط بتجارب دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا , ومنها الدول العربية , تفرض على الباحثين والسياسيين والمؤرخين إعادة النظر بمسيرة دول المنطقة منذ بداية القرن العشرين , وبشكل خاص في أعقاب الحرب العالمية الثانية , حتى الوقت الحاضر لاستخلاص الدروس المناسبة منها لصالح عمليات التحول الديمقراطي للمجتمعات. وهذا يعني بأن علينا أن لا نولول بسبب غياب الديمقراطية , أو نلهث وراء موضوعات لا تجلب لمجتمعاتنا غير المزيد من الآلام والأحلام والأوهام , ولا أن نغرق في الادعاء بأن مجتمعاتنا عاجزة عن الدخول في العملية الديمقراطية لأسباب تاريخية ودينية واجتماعية ... الخ , بل يفترض فينا بلورة استراتيجية النضال الوطني لكل بلد من هذه البلدان في المرحلة الراهنة بصورتها الشاملة والعلاقة بين أهداف المرحلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على نحو خاص , والعلاقة العضوية أو الجدلية بين هذه الأهداف وبين التحول صوب المجتمع المدني " .
    انني اعتقد اعتقادا جازما بأن هذا " التنظير " مع احترامي له وهذه " النصائح " مع تقديري لها لا تجدي نفعا .. ان دعوة مثالية كهذه لا معنى لها فما اكثر قراءات المفكرين ودراسات المؤرخين واعادة النظر بالمسيرة .. المهم هي العقلية السائدة التي ازدادت تخلفا .. المهم التفكير السائد الذي ازاد تشظيا .. المهم عودة الوعي لكل الذين حملوا على مدى خمسين سنة ايديولوجياتهم فوق رؤوسهم من دون ان يتنازلوا عنها ولم يتنازلوا حتى يومنا هذا عنها .. هل اعترف احد باخطائه السياسية والفكرية ؟ هل ندد احدهم بتجارب الامس ؟ هل ندم من صفق لهذا العهد او ذاك ؟ هل اعاد اي من القوميين والبعثيين والشيوعيين والاسلاميين التفكير في ما كان عليه ليعلن فشله ويعترف باخطاء الامس ؟ كيف تريد من الجيل الجديد ان يزرع وعيا ديمقراطيا وهو مكبل ليس باغلال السلطات السياسية ، بل باغلال السلطات الاجتماعية ؟ لا يمكن للعملية الديمقراطية ان تنزل من الاعلى على الجماهير والناس لا تدرك ابسط المفاهيم المدنية ؟  كيف يمكنك يا عزيزي ان تسمي ما يجري في العراق اليوم مثلا " عملية ديمقراطية " وثمة اجندة مرجعية دينية وسلطوية حزبية وتيارات قوضوية تسود المجتمع ؟ مجتمعات مثل هذه عاجزة عن الدخول في اي عملية ديمقراطية اذا كان الواقع مهترئا والتخلف طاغيا والفوضى منتشرة !! كيف يمكننا ان نبارك اي عملية ديمقراطية تقوم بها احزاب طائفية او شوفينية لا علاقة لها بموازنات المجتمع المدني ؟ كيف يمكن لنا ان نتشدق بالديمقراطية ونحن نصفق لدستور يملتئ بالتناقضات ويبارك لمرجعية معينة على حساب مبادئ الشعب ؟ ان بلورة استراتيجية النضال الوطني لا يمكنها ان تنمو في مجتمع غير مؤهل للتفكير المدني وغير مؤهل للحريات ، فكيف به يؤهل للديمقراطية ؟
 
لا ديمقراطية في مجتمع غارق في التخلف !
انك لا يمكنك الرهان على تحول سريع لمجتمع غارق في التخلف .. انك لا يمكنك ان تمارس الشعارات وتصفق لها وباسمها تتحكم الاغلبية الدينية او الطائفية في مجتمع لا يعرف المؤسسات المدنية .. ان التغيير الاقتصادي وتغيير بنية المجتمع الاقتصادية لا ينفعان ابدا في خلق وعي اجتماعي وتنوير ديني .. المسألة ليست من البساطة بمكان .. ان المجتمعات الديمقراطية اليوم كانت قد مرّت بمخاضات عسيرة من التحولات ، وهي ليست بمجتمعات اسلامية ؟ ان المجتمعات الاسلامية اليوم يا عزيزي لا تعترف اصلا بالديمقراطية ولا تؤمن بها ، فكيف ستعمل بمبادئها ؟ واذا كانت بعض التجارب تزاوج بين الشورى والديمقراطية ولا تعد الديمقراطية الا مجرد صندوق انتخابي ومجالس شورى ، فهي دول تضحك على نفسها وعلى شعوبها .. فالمجتمع الديمقراطي لا يمكن ان يؤهل الا من خلال مؤسسات مدنية ودستور مدني صرف وتربويات مدنية واعلاميات مدنية لكي لا نضحك على ديننا وعلى مشايخنا وعلى مجتمعاتنا .. علينا ان نعلن لكل مجتمعاتنا بصراحة متناهية ان الدين لا يمكن توظيفه في الديمقراطية .. ولا يمكن للاحزاب الدينية ان تجّرب حظها في المسألة الديمقراطية ! وعلى الاعلام في الدولة الديمقراطية ان يكون مستقلا عن اي سلطة سياسية او دينية .. وعلى الانسان في المجتمع ان يكون حرا في خياراته كلها وافكاره ومبادئه .. فهل هناك ثمة دولة في العالم الاسلامي قاطبة لديها الشجاعة في ان تقول هذا للمجتمع ؟ اذا حدث ذلك وتقبله المجتمع عند ذاك استطيع القول ان مجتمعاتنا مؤهلة للديمقراطية من دون سفسطة او فسلفة وبلا لف ولا دوران ..

كيف نساعد بلادنا العراق في محنته اليوم ؟
1.   ان الصراع الطائفي في العراق اليوم لا يتجّلى في الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي للقوى الطائفية ، بل في الممارسات ، انها ليست مشكلة خطاب فقط ، واعلاميات يمكن تصويبها ، بل انها ممارسات سياسية يومية ، واستطيع القول انها مثبتة في دستور البلاد .. ان مجرد تسمية الاحزاب الدينية في العراق يبدو لك مدى طائفيتها ، فكيف سيكون الحال في ممارسات مجلس النواب والحكومة والوزارات وكل الاعلاميات ؟ وبعد هذا وذاك : ما الحل ؟
2.   نعم اصاب الرجل في تشخيص الدور الكبير غير العقلاني للمرجعيات الدينية والذي تمارسه المؤسسة الدينية لدى السنة والشيعة في زج نفسها بالسياسة .  لقد كان ذلك كافيا لاشعال فتيل الصراع الطائفي ، علما بأن المؤسسة الدينية في ايران هي التي بدأت مؤسسة لدولة دينية يقف على رأسها رجل دين ويعصم نفسه من الاخطاء ، بل ويجعل نفسه وكيلا للامام المختفي بتوليه امر العباد . فأي وعي ديمقراطي هذا في ظل هذا المناخ الديني . واود القول ان العراق وايران وكل العالم الاسلامي لم يصل اي رجل دين للسلطة العليا ابدا .. لقد شهدنا وصول اول رجل دين للسلطة العليا في العام 1979 .
3.   اما بالنسبة للعشائر وقواها الاجتماعية في العراق ، فهو تراجع مهول في التقدم الاجتماعي عندما تكون العشائر تتلاعب بالمصائر السياسية للبلاد ، بل وتغدو قوى سلطوية بديلا عن منظمات المجتمع المدني .. وبالقدر الذي يفتخر به العشائريون بالبنية الاجتماعية القبلية والعشائرية ، لكنني لا استطيع ان اقنع نفسي انها قوى يمكنها ان تكون ديمقراطية في يوم من الايام ! ان القوى العشائرية بني اجتماعية متخلفة بكل المقاييس وهي جميعها تسعى الى السلطة والامتيازات وتختفي عندها المواطنة او تكاد !

4.   والمشكلة الاخرى لا تكمن في الدور المميز لقوى الشعوذة والسحر والتحايل في المجتمع ، بل المشكلة في اجزاء وقطاعات كبيرة من المجتمع لم تزل تؤمن بالشعوذات وزيارة الاضرحة والتمسح بالشبابيك وتفجير العواطف ..
5.   ما معنى قول الدكتور حبيب : "  إن مجتمعنا يغوص حتى الآن أكثر فأكثر في عمق الثقافة الدينية الفلاحية الإقطاعية المتخلفة وغير المتنورة التي ستقيد حركة المجتمع وتعرقل وجهة تطوره الديمقراطية." . اي عمق في الثقافة الدينية ؟ ولماذا مقترنة بالفلاحية الاقطاعية المتخلفة وغير المتنورة ؟ ان الحياة العراقية المعاصرة  تقوم على ثقافات  وتقاليد رخوة  وعلى عادات وتقاليد تثير القرف . واي اقطاعية هذه ؟
6.   انني مع الدكتور حبيب في نقد الاحزاب الكردية العلمانية في تحالفها مع الاحزاب الدينية بعيدا عن الاحزاب والقوى العلمانية ، اذ اوجد ذلك هوة شاسعة بين ما كان عليه الحال وما آل اليه مع الاسف .
7.   وهناك المشكلة الدستورية ، ذلك ان "الأحزاب والقوى السياسية المنبثقة من مجتمع تسود فيه العلاقات الاجتماعية التي اشرنا إليها لا يمكن أن ينتج أحزاباً تختلف كثيراً عن واقعها الاجتماعي " ـ على حد تعبير الاستاذ حبيب ـ . وعليه ، فاد دعوتي دوما الى مشروع الديمقراطية لابد ان يؤجل الى حين خلق البيئة المميزة والانسان الصالح ليحيا في مجتمع ديمقراطي !!
8.    ولهذا يستوجب العمل للتحرر من ذلك لا من المظاهر والتجليات حسب, بل وبالأساس من التقاليد والافكار المتزمتة التي تنتج تلك المظاهر والتجليات وتعيد إنتاجها وتكرسها في المجتمع. انني لا ارفض الديمقراطية ابدا ، ولكن نحن بحاجة الى زمن للتأهيل على الحريات والفكر الحر وعلى تربية الاجيال الجديدة على مفاهيم جديدة هذا لا يعني تأجيل النضال من أجل إقامة المجتمع المدني والتمتع بالحرية والديمقراطية , بل هو من أجل فهم العلاقة الجدلية بينها أولاً , وسبل خوض الكفاح ثانياً , وافتراض تجليات هذا الفهم في صياغة شعارات المرحلة النضالية ومهماتها الأساسية وخطابها الفكري والسياسي ثالثاً.
واخيرا : وصلنا نهاية الشالرع
      واخيرا .. اتمنى ان اكون قد وفقت في هذه الجادة من النقاش ، وقد ساهمت في اثراء هذه المسألة في تفكيرنا وحياتنا  من اجل معالجة حاضرنا وبناء مستقبلنا .. فهل سنكون على الطريق الصحيح في يوم من الايام ويتغير الناس بغير الناس ويعيد الناس تفكيرهم ويفكروا في مصالحهم .. وان لا تخدعهم اية ايديولوجيات وشعارات وصحوات .. وان لا يعيشوا الدكتاتورية وطغيان حزب واحد واستبداد طاغية .. ان الحياة في منطقتنا لابد ان تتغير نحو الافضل من خلال الاسهام المنتج والمبدع في مجتمعاتنا وان يباشر العمل بالحريات ولكن في اطار القوانين ..
اختم هذه القراءة النقدية بواجب الشكر والتقدير للاخ الدكتور كاظم حبيب الذي اتاح لي المجال لهذا الرد الذي اعتبره غاية في النفع والاثارة ، وسواء اختلفنا ام اتفقنا ، فان الموضوع قابل للمزيد المزيد من الافكار والاراء ، وهو اهم موضوع حيوي يشغل بالنا وتفكيرنا من اجل معالجة حاضرنا وبناء مستقبلنا .

www.sayyaraljamil.com

      الصباح الجديد ، العدد 985 في 27 اكتوبر 2007.

139
" الديمقراطية " في مجتمعاتنا ...... !!
جادة نقاش
بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب

د. سيّار الجميل

الحلقة الثالثة


التحولات نحو الاسوأ : من الانتاجية شبه الاقطاعية الى الاستهلاكية الطفيلية
ان مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة ذات طبيعة او بنية ريعية وليست فقط المجتمعات العربية .. وقد ركز بعض المفكرين على هذا الجانب في القرن العشرين ، بسبب ما كان سائدا من علاقات انتاجية شبه اقطاعية في مجتمعات المنطقة ، ولم تتحول صوب اقامة المجتمع الصناعي او الزراعي المصنّع الذي يقود بالضرورة الى تحقيق عملية تحول في البنية الاجتماعية .. ولكنني أسأل : هل هناك اليوم علاقات انتاجية شبه اقطاعية في مجتمعاتنا ؟ ام غدت علاقات استهلاكية طفيلية تسود اغلب مجتمعاتنا ؟ لماذا نبقى اسرى تفكير ومنهج لم يعد يفيد ابدا طبيعة مجتمعاتنا التي غدت غير انتاجية اصلا ؟ هل هناك اقطاع حقيقي اليوم في مجتمعاتنا ام هناك طبقة طفيلية جاهلة تحتكر المال والقوة ؟ الحالة الريعية موجودة لم تزل حتى في الهند ، ولكن هل ننكر على الهند تجربتها الديمقراطية ؟ ان مجرد بقاء التجربة لعشرات السنين فهو دليل نجاحها ؟ هل يمكن ان نقارن تجربة الوعي بالمجتمع المدني والعلمنة في تركيا بما نجده من تجربة اللاوعي في مجتمع ديني واستبداد ولاية الفقية في ايران ؟ وكل من التجربتين يشهران شعارات الديمقراطية في منهاجهما ! علما بأن هناك ريفا متأخرا وعلاقات زراعية متخلفة حتى يومنا هذا في كل من تركيا وايران والهند معا !   

كيف يمكننا القفز فوق تناقضاتنا ؟
اننا لا نستطيع ان نقفز على الزمن لننادي بمجتمع صناعي او زراعي متطور .. علينا ان نكون متواضعين قليلا في فهمنا لاوضاعنا وتحليل تناقضاتنا .. ان مجتمعاتنا لم تمر اصلا بمراحل التطور الاقتصادي العالمي الحديث .. انها انتقلت او لم تزل في حالة انتقال من كونها مجتمعات تقليدية تعتمد السوق الريعي والاستهلاك في كل الميادين بعيدا عن الانتاج كواحد من اهم سمات التقدم او بالاحرى التحول من مرحلة السكون الى مرحلة الحركة .. ( والسكونية مصطلح اطلقته على المراحل التاريخية منذ القرن السادس عشر حتى القرن العشرين للعالم الاسلامي   ، انظر : كتابي : العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من اجل بحث رؤيوي معاصر ، ط1 ، بيروت 1987) . لقد مر القرن العشرون بطوله من دون اي حراك حضاري في كل عالمنا العربي وبضمنه الشرق الاوسط .. والحراك الحضاري هو مقدرتنا في التأثير على العالم بأي منتج او ابداع او اكتشاف او اختراع .. كما خابت كل المساعي في تطوير اي حراك سياسي على امتداد قرن كامل ، بل حرقنا عقودا طوالا من السنين في صراعات لا معنى لها ، وفي طوباويات لا نفع فيها ، وفي خطابات مؤدلجة ادخلت الناس في متاهات لا تعد ولا تحصى ! وعليه ، لا يمكننا ابدا  ان نقارن مجتمعاتنا بمجتمعات اوروربا ، فكل منهما سماته ومظاهرة وطبيعة علاقاته الداخلية وبنيوياته الخاصة .. وعليه ، فليس بالضرورة ان تتأسس ديمقراطية هنا في مجتمعاتنا على نفس الانساق التي مرت في اورابا .

نحن واوربا
لا يمكن مقارنة التجارب الاوربية في ما بين الحربين العظميين بتجارب انظمة حكم الشرق الاوسط .. واذا كان المجتمع المدني قد انتكس في كل من المانيا على يد هتلر وايطاليا على يد موسليني ، وان الاتحاد السوفييتي لم يعرف المؤسسات الديمقراطية طوال حياته ، فلا يعتبر حكم ستالين انتكاسة للمجتمع المدني ، اذ لم نجد اي مؤسسة للمجتمع المدني في الاتحاد السوفييتي مطلقا .. وبقي المجتمع مكبلا وغير مسموح له بالانفتاح ولا بالالتقاء مع تجارب اخرى .. وهذا ما جرى بدرجات متفاوتة بين الانغلاق الكامل وبين الانغلاق المشروط في كل من تجربة البانيا الشديدة وتجربة بولندا .. وهكذا بالنسبة لالمانيا الشرقية وهنغاريا ورومانيا ويوغسلافيا وبلغاريا .. الخ
وليس هناك حالة مثالية واحدة حتى يومنا هذا حتى نقول بأن الانتكاسات قد حصلت في ما بين الحربين فقط ، اذ كانت هناك انتكاسات في كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لما بعد الحرب العالمية الثانية . المهم ، ان تجاربنا الليبرالية في مجتمعاتنا الشرق اوسطية قد سحقتها الانقلابات العسكرية ، فلا يمكن ابدا ان نقلب المعادلة التاريخية لنشيد بحكومات عسكرية وفردية ودكتاتورية مستبدة  وننكر وجود برلمانات واحزاب حيوية في مصر والعراق وسوريا ولبنان وتركيا وتونس والجزائر والمغرب .. فالتاريخ المعاصر للقرن العشرين يعلمنا ان الخمسين سنة الاولى من القرن العشرين كانت افضل بكثير في تجاربها السياسية والليبرالية من الخمسين سنة الثانية التي سحقتها الانقلابات العسكرية وصراعات الاحزاب الثورية ثم الممارسات الشوفينية والاحكام الاستثناية والدكتاتورية فضلا عن التناقضات التي تقض اليوم مجتمعاتنا بفعل الاسلام السياسي .
 
اين هي العلاقات الانتاجية الابوية في مجتمعاتنا ؟
نعم ، اين هي تلك العلاقات الانتاجية الابوية في مجتمعاتنا قاطبة ؟ اين هي العلاقات الانتاجية شبه الاقطاعية ؟ متى نشأت في مجتمعاتنا علاقات رأسمالية صناعية ؟ واين هو نظام القنانة ؟ ان الوعي الاجتماعي لا يولد من خلال هذه الافتراضات ، بل يتبلور في كل مرحلة من خلال ولادة ظروف واسباب .. وربما كان المثقفون والاعلاميون اقل وعيا بالظروف والمتغيرات مما يجعلهم غير قادرين فعلا على استيعاب التحولات .. بل وان التجربة التاريخية توضح لنا بأن ليس هناك ما يسمى بـ " الوعي الديني " كما هي كانت اكذوبة " الوعي القومي " ، واذا كان الاخير يؤمن باحقية الامة العربية في تحقيق الاهداف في الوحدة والحرية والاشتراكية ـ مثلا ـ ، ؟ فماذا يريد الوعي الديني ان يقول ؟ ان الوعي بالدين سيقف حجر عثرة امام الديمقراطية التي لا وجود لها في اي دين من الاديان .. ولكن في الاسلام هناك نظام الشورى بديلا عن الديمقراطية ونظام المبايعة بديلا عن الانتخابات !
ان الوعي الاجتماعي الحديث لا ينشأ ويتبلور الا بوعي علمي وفكر مستنير .. ولا يمكن لذلك الوعي ان يقترن بوعي ديني جديد اكثر تنورا ووعيا بدور الدين ودور الدولة والفاصل بينهما .. ذلك لأننا دوما ما نقرن تحولات مجتمعاتنا بتحولات المجتمعات الاوربية ، وهذا خطأ كبير فالمسيحية في اوربا كانت قابلة للانقسامات لا الفكرية حسب ، بل للعقدية ومن هنا نشأت منذ بدايات القرن 16 فجوة بين الدين والدنيا  من خلال ثورة الاصلاح الديني ، واخذت تتسع على الارض  بدءا بثورة الفلاحين في المانيا ابان القرن 16 الى الثورة الماركنتالية ابان القرن السابع عشر ، ثم الثورة السياسية الدستورية متمثلة بحركة كرومويل وانتقالا الى الفكر الحر وثورة القانون المدني وعهد التنوير والفلسفات في القرن الثامن عشر متوجة بالثورة الفرنسية انتقالا الى الثورة الصناعية والبرق وسكك الحديد في القرن التاسع عشر وصولا الى الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين وانتهاء بثورة المعلومات والكومبيوتر والاتصالات في القرن الواحد والعشرين .. هذه كلها لم يصنعها الوعي الديني ، بل صنعها الانسان .. ومع كل هذا وذاك فان تفكير مجتمعاتنا لا ينفع معه اي وعي ديني جديد ، ذلك ان الاسلام نفسه لا يقبل اي تفسير من الناحية العقدية ، ولكنه قابل لأن يوظفه هذا وذاك لمآربه وان الفكر الاسلامي هو غير العقيدة الاسلامية وان الفقه هو غير اصول الفقه .. فانت يمكنك ان تجد عدة ( اسلامات ) سياسية ومذهبية واجتماعية وفكرية  في التاريخ والجغرافية ، ولكنك لا تستطيع ان تجد اكثر من قرآن كريم واحد يجتمع عليه العالم الاسلامي كله .. انه باستطاعتك ان تجد اسلاما سلفيا واسلاما ايرانيا واسلاما تركيا واسلاما اباضيا واسلاما اصوليا واسلاما زيديا .. وزمن قبل ذلك تجد اسلاما حنفيا وآخر شافعيا وآخر جعفريا وآخر علويا وآخر حنبليا .. الخ ولكن لا يمكنك ان تبعد الاسلام برمته عن الفروض والطاعات والعبادات .. عن الحياة الاجتماعية .. الوعي بالدين لا يحل لك المشكلة ، بل ان الاجتهادات في الدين ستعمل على تفكيك كل تعقيداتها ..
      المثقفون ليس باستطاعتهم ان يأخذوا دور الوعاة بالدين لا الدعاة اليه .. بل ان علماء الدين لابد ان تكون لهم مساهماتهم في ابعاد الدين عن الدولة والسياسات .. ان عليهم ان يعملوا على ابعاد الدين عن السياسة وابعاد رجال الدين عن الحياة السياسية .. عليهم ان يكونوا شجعانا ليعلنوا بأن هناك سياسة مدنية وسياسة شرعية  وهناك قانون مدني وهناك شريعة دينية وان الاثنين لن يلتقيا في العديد من الجوانب .. وأسأل : أي نخبة قيادية ومفكرة ومبدعة من الاعلاميين لدينا حتى يمكنهم ان يغيروا الحياة ؟ ان الاعلام اليوم ينحصر على الشاشة بين ما يمارسه رجال الدين واهل الفن مع ركام من المراسلين والمعلقين السياسيين الذين ليس لهم الا بضاعة كلام .. ولم نشهد اي توظيف حقيقي لرجال الفكر ولا الفلسفة ولا المثقف الحر في ان يقول للعالم ما يؤمن به .. انني دوما ما اشبه عملية التحولات الجذرية لدى اي مجتمع بمغامرة يمكن ان يتبناها هذا او شجاعة يمكن ان يؤديها ذاك .. كالتجارة في السوق لا تنمو الا من خلال اناس مغامرين  الفرق الوحيد ان التاجر محتمل يكون مغامر غبي فينجح ، اما المفكر الحر فيبقى منطويا بذكائه بسبب خوفه فيسكت مع تهميش حقيقي له .

الاستعارة الماركسية
 في كلامك ايها الصديق عند النقطة الثامنة اجدك تستعير نفس التفكير الماركسي ولم تزل تلتزمه .. لربما يكون شرحك عن تحولات اوربا تفسير صحيح ، ولكن نحن بصدد مجتمعاتنا التي لم تعش المرحلة الاقطاعية كما هو حال مجتمعات اوربا كما انها لم تعش الحياة البورجوازية كما في اوربا ايضا .. انها لم تمر بمرحلة تطور صناعي ورأسمالي .. انها مجتمعات تقليدية عاشت مراحل استبداد سياسي واقتصادي شرقي لتنتقل ضمن انتقالات فوضوية الى مجتمعات تملؤها التناقضات ناهيك عن اختلافات جد كبيرة بين رجال الاقطاع في مصر عن شيوخ العشائر في العراق واختلافا كبيرا بين املاك الباشوات والزعماء العسكريين في المشرق عن املاك رجال المخزن في المغرب .. من مجتمعات بدوية مشيخية الى مجتمعات مستقرة .. من مجتمعات مغلقة تعيش على التمايزات بين حضر وريف ، اهل مدن واهل صرايف الى مجتمعات مختلطة غير منسجمة .. من مجتمعات لا تمتلك الوعي بالاخر الى مجتمعات لا تمتلك الوعي بذاتها .. ان استنساخ الالية الماركسية في تطبيق الفكر المادي الذي انبثق من مجتمعات اوربية وسحبه الى مجتمعاتنا قد زاد من ضياع الزمن واختلاط الامور وفشل التجارب الاشتراكية .

www.sayyaraljamil.com

الصباح الجديد ، العدد 983 ، 25 اكتوبر 2007

140
" الديمقراطية " في مجتمعاتنا ...... !!
جادة نقاش
 بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب

د. سيّار الجميل

الحلقة الاولى

مدخل في فهم الموضوع
نشر الاخ الاستاذ الدكتور كاظم حبيب مقالا مطولا بعنوان ( حوار مع أفكار الأستاذ الدكتور سيّار الجميل في مقاله: هل تنجح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية؟ ) في وسائل الاعلام المقروءة ومنها الجيران ومواقع اخرى يوم 26 / 8/ 2007 .. وقد قرأته بشغف كبير خصوصا وانه قد انتقل فيه الى موضوع فكري محللا بهدوء المرتكزات الاساسية له قبل ان يشخّص العلل .. وقد مكنته مراجعته للواقع ، منطلقاته الفكرية التقدمية وعمق ثقافته الماركسية التي يعتبر واحدا من ابرز رجالها في العراق .. ناهيكم عن اكاديميته الرصينة .. ولعل اجمل ما تضمنّه هذا " الحوار " تلك الاسس التي يطمح لارسائها في مجتمعات الشرق الاوسط وشمال افريقيا ، ولكن باستعارة واضحة لتجربة اوروبا .. وكنت قد شكرت الصديق كاظم حبيب ، ووعدته بالرد في جادة نقاش مشترك .. فعذرا ان طال موعده لمشاغل عدة ومسؤوليات كثيرة .
    نعم ، دعوني استدعيكم الى جادة النقاش والنقد والجدل ثانية لا الجدال العقيم والانتقادات المبيتة لكي نشبع الموضوع دراسة وبحثا وتفكيرا ، ولكي أوضّح بعض ما عندي من افكار اسعفتني بها خبرتي التاريخية المتواضعة .. وسيجدني القارئ الكريم ربما كنت اوافق الاخ الدكتور حبيب او اخالفه ، ولكن ما ينفع من اي جدل هو قرائنه ومعلوماته وتحليلاته واخيرا ، حصيلته والاستنتاجات التي نخرج بها .

مجتمعاتنا بين العربية والشرق اوسطية
لما كنت قد حددّت في دراستي ( مجتمعاتنا العربية ) فان ما اعنيه هو هذه " المجتمعات " وليس كل مجتمعات الشرق الاوسط .. ذلك ان رواسب التاريخ ربما تكون واحدة في عموم الشرق الاوسط ، ولكن ثمة تمايزات سياسية بين مجتمعات الشرق الاوسط ، في حين ان ثمة تجانسات اجتماعية تعيشها المجتمعات العربية ، بحكم الثقافة واللغة بشكل خاص . وعليه ، فان ما عنيته باخفاقات الديمقراطية كظاهرة تاريخية جديدة يختص بالمجتمعات العربية لا غيرها .. ولكن هذا  لا يمنعني ابدا ان ابحث هذه " الظاهرة " او اية  ظاهرة اخرى لمجتمعات الشرق الاوسط  كما فعلت في عدة كتب ودراسات نشرتها عن الشرق الاوسط .. ومن اهمها كتابي الموسوم ( العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ، ط1 ، بيروت ، 1979 ) . وعليه ، فان موضوعنا سيعالج مشكلة محددة في مجتمعات معينة .. علينا ان نعترف مهما بلغ حجم الاقليات فيها من الاتساع ، فان الثقافة السائدة فيها هي العربية .   والحق يقال ان الاستاذ حبيب قد فتح امامي ابوابا لكي اطرقها ، كما ونبهني الى اشياء عديدة يمكن تحليلها ومعالجتها .. وسواء اتفقنا ام اختلفنا ، فان الكتابة في هكذا " ظواهر " سوف لا تحسم في يوم وليلة ، بل لا في سنة ولا سنتين .. ولا بين شخصين او ثلاثة  انها بحاجة الى مراحل تاريخية وبدائل زمنية ونخب متنوعة في اجيال متعددة ..

تباينات التفكير عند النخب ومفارقات الجهل لدى الجماهير
صحيح ان ثمة رغبة عارمة لدى النخب المثقفة في المنطقة كلها تطالب بالديمقراطية ، ولكنها ليست من مطالب الجماهير ، كما يبدو لي اليوم ، فالجماهير تطالب بالاسلام ، هي تؤمن ايمانا جذريا بأن الديمقراطية هي غير الاسلام .. وهذا فهم صحيح ولكنه لا يترجم عن وعي حضاري .. ان ثمة تناقضا واسعا بين ما تريده النخب الواعية وبين ما تردده الجماهير اللاواعية .. بل لابد ان نعترف بأن مفهوم المجتمع المدني الديمقراطي لم يتبلور بعد في مجتمعاتنا حتى يومنا هذا .. اذا كانت جل الاحزاب السياسية لا تفرق بين الديني والمدني ، وان جل المثقفين والمفكرين العرب لا يميزون بين الديمقراطية والاسلام ! فكيف يمكننا السكوت على مثل هذه المفارقات التي اجدها ليست سهلة ، بل انها صنعة صعبة جدا بحاجة ماسة الى تنمية التفكير لاتجاه المستقبل لا باتجاه الماضي . أي يتحول التفكير ـ كما كنت اسميته في كتابي ( التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ، ط1 ، بيروت ، 1997 ) .. يتحول التفكير من الماضوية الى الرؤيوية .. وتسخير كل الماضي لدراسة كل الحاضرة .
 ان المشكلة لا يمكن تمييعها باخفاء حقيقة مجتمعاتنا ، كما ان علاج المشكلة لا يكمن بتوفير اي منهج علمي ، او مادي جدلي وتاريخي ، للمساعدة على وضع اليد على العصب الحساس في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي في اي بلد من البلدان .. فما قيمة المنهج العلمي  في مجتمع لا يمتلك الوعي ؟ وما قيمة المنهج المادي او الجدلي في اي مجتمع لم يتحرر تفكيره بعد من القيود الثقيلة التي تحكمه ؟

هل المسألة مسألة مراحل ؟
السؤال المهم : هل ان مجتمعاتنا الشرق اوسطية عموما تعيش في مرحلة ، ولكنها موجودة فعلا في مرحلة تاريخية أخرى ؟
الجواب ليس بالضرورة نعم ، فانها لا تعيش المعاصرة اليوم ، وهي بنفس الوقت لا تعيش اي مرحلة تاريخية سابقة اخرى ، بل انها تتخيل انها تعيش هذا العصر وبنفس الوقت ترنو الى ان تعيش الماضي ، فلا هي من اهل الحاضر ولا هي من اهل الماضي ! ان نسيجا معقدا من التناقضات يحكم ذهنيتها وعقليتها والمشكلة  انها لا تريد ان تحاصر بالاسئلة ، بل تفلت منها من خلال خطوط حمراء لا تريد تجاوزها ابدا ! هنا اقول بأنها لا تعيش البتة لا القرن الثامن عشر او التاسع عشر ولا من قبلهما ابدا .. فمن يتعمّق في تاريخ القرون الاربعة التي سبقت كل من القرنين العشرين والواحد والعشرين .. سيلحظ ان البنى الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والوعي الاجتماعي لا يمت بأي صلة الى واقع مجتمعاتنا اليوم .. فالحياة قد اختلفت تماما في العواصم والمدن الكبيرة والبلدات والقصبات ثم في الارياف  ثم في البراري البعيدة .. ولا اريد ان افصّل كيف كانت حياة تلك المجتمعات المغلقة تجاه نفسها وتجاه الاخر .. بل وما كان يجتاحها من حالات رعب نتيجة موجات الكوارث الطبيعية والسياسية والعسكرية التي تصيبها .. اما مجتمعاتنا اليوم ، فهي منغلقة على نفسها وعلى الاخر باساليب واشكال اخرى ..
     انها صحيح موجودة في القرن الحادي والعشرين بكل ما وصل اليه العالم من تطور اقتصادي واجتماعي وثقافي مدني علماني وديمقراطي شامل للحياة بكل جوانبها ، ولكن مجتمعاتنا مغمضة العيون عن الوعي بكل ما في الحياة المعاصرة من ايجابيات ومنجزات مذهلة .. انها منغلقة الاذهان على ان التمتع بكل منتجات العصر شيئ مباح ، ولكن ثمة خطوط حمراء في تجاوز كل المنتجات المادية الى المنتجات الفكرية والفلسفية .. ثمة وعي قاصر او وعي ميت بالحياة المعاصرة التي ارتبطت بالغرب ، وقد اشيع ان الغرب كافر وان الغرب استعماري وان الغرب عاهر وان الغرب .. مع قناعتي بأن الغرب غرب والشرق شرق وسوف لن يلتقيا ما دام التفكير قد استلسم الى ان العالم المعاصر كله مصنوع في الغرب .. وعليه ، فان المنتج في التفكير السائد في العالم الاسلامي ان الحياة المعاصرة تخالف الشرع والدين .. بالوقت الذي تكرس منتج غربي يقول بأن العالم الاسلامي عدو لدود للحضارة كلها ، وان " الاسلام عامل من عوامل تنمية الارهاب العالمي " ( كذا ) !!

ما الذي تحتاجه مجتمعاتنا ؟
ثمة علاقة خفية لا يمكن التقاطها ابدا تلك الكامنة في تلافيف العقلية المجتمعية في مجتمعاتنا والتي تقبل التشيؤات المعاصرة ولكنها تنكر الافكار المعاصرة !! ثمة امر بمنتهى الخطورة افرزته تناقضات القرن العشرين بكل ما حفل به من غرائب وعجائب ذلك ان دولنا ومجتمعاتنا كرّست المفهوم القائل : ( نأخذ ما ينفعنا ونترك ما لا ينفعنا ) ومعنى ذلك انه يأخذ التكنولوجيا المتقدمة من دون الفلسفات المعاصرة .. واستعار من الفكر السياسي والاقتصادي شعارات براقة كالديمقراطية والاشتراكية والتعاونية والعلمانية والمجتمعات المدنية .. ويحاول ان يكرسها كتوافقات او قطع احتياط (اسبير بارت)  لمفاهيم قديمة وتقليدية مألوفة من دون ان يجعل الظواهر المعاصرة بدائل حقيقية للحياة .
ان مجتمعاتنا لا تحتاج الى الدفعة الضرورية كونها لا تعيش حالة المجتمعين الماضي والمعاصر .. ابدا ، بل انها بحاجة الى مجرد القطيعة .. انها بحاجة الى القطيعة الذهنية بحيث تفكر في حياتها ومستلزماتها الروحية والمادية بمعزل عن كل ترسبات الماضي وادرانه .. وانها بحاجة الى من يزرع فيها القيم الجديدة التي ليس من شروطها ان تكون غربية صرفة .. فلقد فشلت التجارب الشيوعية والاشتراكية في مجتمعاتنا كونها اسست نفسها ليس من خلال القطيعة ، بل خلقت من نفسها العدو رقم واحد في مجتمعات لم تزل تثوى في مرتع تناقضاتها الغريبة .

www.sayyaraljamil.com

الصباح الجديد ، 18 اكتوبر 2007

141
الملك فاروق الاول : ملاحظات تاريخية

د. سّيار الجميل

www.sayyaraljamil.com

   من بين عشرات المسلسلات التلفزيونية التي بّثت في رمضان الفضيل ، اخترت متابعة مسلسل " الملك فاروق " ، لرغبة عارمة في نفسي وولعي بتاريخ مصر .. وكان  فاروق الذي حكمها بين 1936 – 1952 قد جمع كل التناقضات ، فاختلف الناس في تقييمه . ومن المهم جدا ان ينجز مسلسل تلفزيوني روائي عن تاريخ الرجل بعد اكثر من خمس وخمسين عاما على خلعه عن عرشه .. ولقد اجاد كل من ساهم بتشكيل هذا السيمافور التاريخي الغني جدا تأليفا وتمثيلا وحركة وحوارا وموسيقى تصويرية واخراجا .. بل وصلت كل من الحبكة التاريخية والاخراج الفني واداء الممثلين غاية في الروعة وخصوصا دور البطولة الذي جسّده الفنان تّيم حسن فضلا عن روعة اداء بقية الفنانين .. وهذا يدل دلالة واضحة على ان اتعابا كبيرة قد بذلت ، واموالا سخية قد صرفت ، وصبرا مضاعفا تحّمله الفنان حاتم علي مخرج العمل .
     ولقد سررت جدا ان يكون الزميل المؤرخ يونان لبيب رزق هو المستشار العلمي للنص والاداء ، وكلنا يعرف دقة هذا المؤرخ وخصب معلوماته وفحص وثائقه عن عهدي فؤاد وفاروق .. فضلا عن ان مؤلفة النص السيدة لميس جابر قد صرفت زمنا طويلا وبحثا مضنيا ـ كما سمعت ـ في التعّرف على تاريخ عدد كبير من الشخصيات التي جسدتها في روايتها ، والتي بدا اخراجها محفوف بالمخاطر لاسباب عدة . ان مجرد مقارنة فنية بين هذا العمل واعمال فنية  اخرى سيكون " الملك فاروق " هو السباق في هذه الحلبة التي يزدحم من حولها الملايين وهم يراقبون مسلسل احداث تاريخية امتزجت ببين الدراما والميلو دراما فضلا عن نهاية تراجيدية محتمة .. واسمحوا  ان اسجّل بعض ملاحظاتي التاريخية وتصويب بعض ما اراه مهما في هذا المجال :
لقد وجدت فؤاد الاول في المسلسل على غير حقيقته ، فالذي اعرفه انه كان شخصية  قوية ومتحضرة وبالرغم من اخطائه ضد الدستور وموقفه ضد الاحرار ، الا انه كان يهتم بالتعليم والفن والثقافة والعمارة والنظافة .. وكان يتكلم العربية بطلاقة ، وليس كما ظهر في المسلسل يرطن وهو في قصره ..
لا يمكننا القول اليوم بالمطلقات ، فليس هناك من هو غارق بالدعارة والمجون ازاء من هو ملاك من الملائكة .. فالامور كلها نسبية ، واذا اعتقد الناس أن فاروقا كان ملكا فاسدا وانه سبب كل البلاء لمصر وانه أضرّ بقضايا الامة ، فان الزمن سيقول كلمته في النهاية عندما ندرك بأن فاروقا قد تلاعبت به سايكلوجية تربيته الخاطئة ، واهواء حاشيته ، ومشكلات عائلته ، ودسائس  الساسة القدامى ناهيكم عن حساسيته وعاطفته المفرطة .. وبالرغم من كل ما كان عليه من وطنية ومحبة لمصر ، فانه كان حرا طليقا ونزقا مع ذاته ليعّبر عن كبت طفولته المسجونة ، فلم يقدر الامور حق قدرها في علاقاته وتصرفاته ، فأساء الى نفسه وعهده برمته ، فكان ان دفع ثمنا باهضا اذ انتهى حكم اسرته على يده  ..
كنت اتمنى ان يظهر لنا المسلسل عهد فاروق خارج سرايا الحكم ورجال الساسة والانكليز .. لنرى الناس وهو يقود سيارته بينهم مع تبيان طبيعة الحياة المصرية  سواء في صالونات ادبائها ومثقفيها وفنانيها ام في حاراتها القديمة ناهيكم عن معرفة احوال الفلاحين في الريف ومعاناتهم الصعبة .. لقد صرفنا الساعات ونحن كالمحبوسين في سرايا عابدين او قصر القبة من دون ان نتنفس الهواء لا في شوارع القاهرة ولا في ارياف مصر وصعيدها .. وبالرغم من كل الابهة والفخامة التي صورت تلك السرايا وقاعاتها وغرفها وموجوداتها وتحفها ، الا ان الحقيقة اكبر من ذلك بكثير .. وخصوصا قاعات الاستقبال والمسرح الداخلي وغرف النوم الخيالية ..
كنت اتمنى على الفاضلين المؤلفة والمخرج ان يقتضبا قليلا من الجداليات العقيمة والصراعات السياسية لمختلف القوى ، والخروج من رتابتها قليلا كي نرى اوضاع المجتمع وابداعات المثقفين وعظمة الصحفيين والادباء والفنانين خصوصا عندما نعلم بأن كلا من عهدي فؤاد وفاروق هما قمة مصر ببروز اكبر المبدعين في كل مجالات الفنون والعلوم  والاداب والمسرح والصحافة والترجمة والطرب .. فضلا عن دور جامعة فؤاد الاول وما قدمته في الثلاثين سنة الاولى من حياتها .. وبدلا من مماحكات الملكة نازلي ومشكلات عشقها وخلافاتها مع ولدها واضطراباتها السايكلوجية التي استمرت معها حتى وفاتها في الولايات المتحدة عام 1978 ودفنت هناك  .. كان من المهم اختزال المشاهد الدرامية لكي  تتعّرف الاجيال على حقيقة عهد فاروق بين اخفاقاته وانجازاته .. لقد غرقنا بتفاصيل اخرى مع الانكليز ممثلة بارادة لامبسون الطاغية ، واذا كان فاروق يكرهه ويمقت الانكليز على عكس ابيه ، فانه راهن على حصان خاسر ممثلا بالالمان ابان الحرب .. في حين كان اغلب ساسة مصر القدماء يمالئون الانكليز علنا .. وعندما رحل فاروق عن مصر حمل كل الاوزار التاريخية لوحده .
     مصطفى نحاس باشا  اجيد دوره ، ولكن ليس بالسذاجة التي قدّم بها أحيانا .. صحيح انه كان يعشق ذاته ، ولكنه لم يكن يردد الكلمات ابدا . كما انه لم يكن صاحب فكرة جامعة الدول العربية اذ كانت الفكرة لغيره ، وبالرغم من فعاليته في تأسيسها ، لكنه ـ كما اعرف ـ لا دور له في الدفاع ضد جمود اتفاقية الدفاع المشترك .  لقد اعطي المسلسل دورا اكبر للنحاس بفذلكاته  في حين غض الطرف عن اول مؤتمر عربي لستة من ملوك ورؤساء الدول العربية المؤسسة ، كنت اتمنى اراهم جالسين رفقة وفودهم في القاعة يستمعون الى خطاب فاروق  الاول . واخيرا ، فان بعض الادوار لا تتلاءم مع شخصياتها الحقيقية ، امثال : الملكة فريدة وكريم ثابت وغيرهما . ان هذه " الملاحظات " لا تقلل ابدا من المسلسل ، فهو علامة بارزة في الابداع الروائي التاريخي وفخرا للسيمافور المرئي العربي .. 

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 17 اكتوبر 2007

142
     
   تقسيم العراق قضية وطنية أم معضلة سياسية ؟



د .  سّيار الجَميل

من يحترم تاريخه يعشق وطنه، ومن يمتلك الوعي به يخشى عليه من الفواجع والنائبات.. ومن يدرك قيمته سيفخر به وبكل منجزات اهله من الآباء والاجداد.. وسيعمل على ان يصنع منه ضرورة لهذا العالم حاضرا ومستقبلا.. والعراق قد عرفه العالم منذ ازمان طوال مهدا للبشرية ومأوى للحضارات الاولى بكل ما انبثق على ترابه من اعظم المنجزات.. هذا العراق الذي عاش ابناؤه بين الرافدين الازليين دجلة والفرات وعلى جنباتهما اصبح في نظرهم جثة هامدة تنهش فيه الذئاب.. بل ويريد الكونغرس الاميركي تفسيخه الى ثلاثة كيانات، ويدعو بايدن المجتمع الدولي كي يعترف بهذا التقسيم البليد..
     ومن المؤلم حقا ان يصفق لذلك نفر ممن غابت عنهم اية مواطنة عراقية واختلطت عندهم قضيته الوطنية بمعضلته السياسية، من دون اي بدائل او اصلاحات. وهنا اقول: من يريد ان يبقى مع العراق موحدا، فليعلن عن عراقيته اولا وولاءاته الاخرى ثانيا وثالثا.. ومن يريد له وطنا من نوع آخر فليعلن استقالته.. وانني مقتنع بأن من يريد العراق اكبر بكثير ممن يرفضونه.. وان من يسعى لمستقبل زاهر لكل المنطقة عليه ان يبقى مع العراق في محنته لا ان يغادره برفقة السناتور بايدن او غيره. واضحة هي مقاصدهم الشريرة مذ اعتمدوا خطوط العرض قبل سنوات، مقاطع اساسية لهم في تكوين ثلاثة كيانات، والعراق ان كانت ثلثا اراضيه صحراوات قاحلة، فثلثه سيطاله التقسيم !
     هكذا، بدأ "المشروع” باسم مناطق عازلة، ثم روج لشعار الفيدرالية الذي لا يصلح الا لاقليم كردستان في الشمال، وعند شهر آب 2005 استمعنا لأول مرة باقليم الجنوب.. واليوم يخرج علينا الكونغرس بعراق ثلاث حكومات وحكومة مركزية هشة ! وهذا ذكرّني بثرثرة بعض العراقيين انهم لا اعتراف عندهم بحدود ما يسمى العراق.. بل واعتبروه صناعة بريطانية لما بعد الحرب العالمية الاولى، متجاوزين على كل التاريخ الموثوق ومسمياته القديمة والحديثة ومن دون اي شعور بالذنب او القرف.. بل ووصل الامر الى سدنة من مختصين وساسة ومثقفين ومهرجين يكرهون العراق، فقالوا بأن لا وجود للعراق وليس هناك اي تاريخ لولاياته القديمة ودساكره واعماله وامصاره ونسيج مجتمعه ومدنه المترابطة واريافه وسكة حديده وحيوية اسواقه وعبق تراثه واصالة مقامه وفولوكلوره.. الخ ووجدت بعضهم يكره بغداد كراهية عمياء وهو من قلب العراق، فان سألته عنها لعن مؤسسها ابو جعفر المنصور لاحقاد موروثة.
ان كراهية العراق صناعة اميركية بحتة.. فقد روجوا لمصطلح " المكونات العراقية " بدل " شعب العراق "، وبدل التأسيس على تماسك المجتمع العراقي راحوا يصنفونه سّنة وشيعة وكردا.. بل واستهين بكل الاقليات السكانية الاخرى.. وروجوا للتجزئة اعلاميا على السن بعض العراقيين انفسهم من دون اي حياء.. وبدأ العراق يتلقى السهام والطعنات من كل حدب وصوب على ايدي بعض ابنائه الذين أخذوا يميزون بين الاغلبيات والاقليات.. ويشهّرون بين الطوائف والمذاهب والاديان.. ويزرعون العداء بين آل البيت الاطهار وبين اهل السنة والجماعة الاخيار.. وفاضلوا بين المتحزبين وغير المتحزبين، او بين ابناء الاعظمية والكاظمية.. الخ
ما الذي سيجنيه العراق من تجزئته غير الحرب والدمار والويلات والهشاشة والضعة وهو يعتلي اهم موقع جيو ستراتيجي في قلب الشرق الاوسط؟ كيف سينتهي العنف اذا تم انفصال هكذا اقاليم متداخلة فيما بينها سكانيا عبر التاريخ؟ من سيتفرغ كي يحمي العراق ان كان العراق سيشيعه ابناؤه الى الابد؟ من يضمن لكم يا مروجي التقسيم انكم ستبقون احياء ترزقون ترحمون او تتلظون من هذا الطرف من العراق او ذاك في منطقة تعج بالقوى الاقليمية الكبيرة؟ فان كانت ايران هي الوحيدة التي باركت لكم مشروع تقسيم العراق، فهل تقبل ان يطبق مشروع التقسيم عليها؟ ام سيجن جنونها ويتطاير شررها؟ كيف فات عليكم ايها الانقساميون العراقيون ان لا تميزوا حتى الان بين قضية وطن قديم وبين معضلة سياسة مزمنة؟ ما الذي جعلكم لا تميزون بين عدالة مركزية وبين دكتاتورية بشعة؟
     من افهمكم ان تقسيم العراق هو الحل تحت اي شعار او مشروع؟ وهل عشتم مجتمعكم منذ قرنين كاملين في تعايش رائع ام في صراع مرير؟ وأسأل: هل تنفعكم ثلاث حكومات في العراق ام انكم تريدون تأسيس حكومة في كل حي او قصبة او زقاق؟ من اعطاكم الحق في ان تؤلفوا ثلاث حكومات على اسس طائفية وعرقية لاغلبيات كي تسحقوا بقية الاقليات؟ ان كان الاميركيون قد شرعّوا لكم ثلاث حكومات، فان التجزئة غير عادلة ابدا ايها الانقساميون، اذ لابد من حكومة تركمانية وحكومة آشورية وحكومة صابئية واخريات يزيدية وكلدانية وسريانية وشبكية وارمنية وبروتستانتية ناهيكم عن كاثوليكية وارثوذكسية.. بل لابد من حكومة تركمانية شيعية واخرى سنية.. بل لماذا لا تستحدث حكومة لكل قبيلة او عشيرة ونصبح مجتمعا مهلهلا يأكل أحده الاخر، بل يأكل القوي منّا الضعيف او يبتلع الاكبر فينا الاصغر..
    وهكذا، فان من المخجل حقا ان يكتب التاريخ يوما ما يحدث للعراقيين وقد افتقدوا مشيتهم الطبيعية اليوم كي يفسّخوا العراق على اسس واهية طائفية وعرقية.. وكأنه الوحيد بين دول المنطقة كلها لم يعد مجتمعه بقابل على الحياة. انني ادرك ان الغالبية من ابناء العراق البررة يعشقون العراق الى حد العظم، ولكن الاقدار قد جعلت مقاليد الامور بأيدي اناس ليست لهم اية احاسيس ومشاعر وطنية تتعلق بالعراق.. او ان ولاءاتهم الاخرى تتقدم بمراحل كبيرة على مشاعرهم العراقية. ان من يقتل عراقيا تحت اية مسميات جهادية او اهداف سلطوية لا يمكنه ان يكون عراقيا بأي حال من الاحوال.. وان من يريد ان يكون العراق مجرد دفتر صكوك موقع على بياض فانه ليس من العراقيين.. وان من يريد العراق مقطوما او مقطوع الرأس والاطراف فهو ليس من العراقيين.. وان من يريد تنفيذ اجندته الانقسامية باسم واقع صنعه الاميركيون فهو ليس من العراقيين.. وان من يصنف العراقيين على اساس اي ولاءات حزبية او دينية او عرقية او كتلوية او طائفية او مذهبية.. فهو ليس من العراقيين. وان كل من يبارك مشروعات الاميركيين او اي طرف من الاقليميين ويتهم غيره بالعمالة والخيانة فهو ليس من العراقيين. وان كل من يصفق لنحر العراق الى ثلاثة اجزاء او اكثر فهو من غير العراقيين.. وان كل من يسحب آثام دكتاتور سابق ليتهم طائفة او قومية او قبيلة بآثامه فهو من غير العراقيين. وان كل من يجعل من نفسه او بيته او بستانه او كراجه مأوى وحاضنة للارهاب والارهابيين فهو من غير العراقيين.. وان كل من يسعى لاحادية سلطة او فاشية حزب او دكتاتورية فرد او طائفة.. فهو ليس من العراقيين.. ان العراق كان موحدا وسيبقى كذلك لكل العراقيين مهما تغيرت حكوماته وانظمته السياسية. سيبقى هو الوطن الى الابد.
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ، 9 اكتوبر 2007

143
               
  مشروع بايدن: تمزيق العراق لا تقسيمه !


د. سّيار الجميل
لاقى مشروع السناتور بايدن قبولا كبيرا في مجلس الشيوخ الاميركي في حين رفضه معظم العراقيين ودول الاقليم (باستثناء ايران) ومجلس جامعة الدول العربية ومنظمة العالم الاسلامي لكونه مشروعا مفضوحا لتقسيم العراق، وسيلحق ابلغ الضرر بالمنطقة قاطبة. ومن المؤلم ان نجد بعض العراقيين يباركون بايدن في مشروعه ويحاولون ابعاد صفة تقسيم العراق عنه متمسكين باسلاب الفيديرالية التي تضمنها الدستور العراقي الذي لم يتفق عليه العراقيون اصلا.
 ان من صفق للفيديرالية في العام 2005، يرفضها اليوم كونه اكتشف حقيقة واضحة تقول بأن الهدف الاساسي منها هو تقسيم العراق وتجزئته وتفتيت جغرافيته الى ثلاثة كيانات او اكثر! لقد قرأت ان الرئيس العراقي السيد جلال طالباني قد أعرب في حديث لقناة "الحرة" عن أسفه لردود الأفعال الشعبية  ضد قرار الكونغرس لتقسيم العراق - والتي وصفها بالعاطفية وغير المتمعنة في أصل القرار الأميركي. واعتقد ان رفضنا لهذا " المشروع " لم يكن عاطفيا ابدا. وعليه، اعود الى اصل القرار الذي وافق على مشروع بايدن، وأضع بعض ملاحظاتي على النسخة الاصلية من مشروع بايدن والمنشور منذ اسبوعين:
1.   يبدأ بايدن ورقته بالبحث عن مخرج اميركي من العراق في ما سمّاه "استراتيجية النصر" متهما الرئيس بوش ان ليس لديه اي استراتيجية للنصر، اذ ان استراتيجيته تتضمن منع الهزيمة، اي الهزيمة الاميركية، وهو يدرك بان الانسحاب السريع سيخلق ديكتاتورا للفوضى، والحرب الاهلية ستمتد الى حرب اقليمية. فهل هذا البديل سيخدم العراق؟ من هنا ندرك أن "المشروع" يكرّس مصلحة آنية او طويلة الامد على حساب الحاق الاذى بالعراق وبكل المنطقة.

2. ان ثمن خروج الاميركيين اذا قوبل بالفوضى في حالة عدم انقسام العراق، سيقابل بالحرب الاهلية في حالة انقسامه بعد خروجهم، واذا كان كل من بايدن والانقساميين على خطأ وكان العراق والوطنيون على خطأ أيضا، فان اهون الشرين ان تبقي الوضع كما هو عليه وترحل، فالعراق واهله يدركون من خلال تاريخهم المفعم بالتجارب المريرة قدرتهم على الوقوف على ارجلهم، ولكن ليس لدينا اي تاريخ عن الانقساميين كيف سيحتفظون بالاجزاء من دون بايدن! ان تثبت التجارب انهم الاوهى وسيذوبون او يهربون فجأة. واذا كانت ثمة حكومات ثلاث او اكثر في العراق، فهل سيبقى هناك اي وجود او اي شرعية لحكومة مركزية ببغداد يمكنها ان تدير اي مصالح مشتركة؟ فان كانت هي اليوم ليس بمقدورها السيطرة على اقرب منطقة في العاصمة، فكيف تريدها يا بايدن ان تسيطر على امن الحدود وتوزيع عائدات النفط؟

3. ان بايدن يطالب بعقد مؤتمر دولي لتأمين الدعم لترتيب تقاسم السلطة واصدار ميثاق اقليمي بعدم الاعتداء... الخ فهل يدرك السناتور بايدن تاريخ منطقتنا وتاريخ علاقاتنا العراقية بكل من ايران وتركيا والدول العربية؟ انه من السخف ان تشبه العراق بيوغوسلافيا، فلكل منهما طبيعته في التاريخ ولكل منهما بنيته الاجتماعية المختلفة. انه من السخف تطبيق ميثاق دايتون او اي ميثاق شبيه له في العراق! حتى يمكنك سحب قواتك الاميركية في العام 2008 وان تترك قوة اميركية صغيرة على الارض، كما تقول، لقتل الارهابيين وتدريب العراقيين.. كما يقرر بايدن وضع برنامج عمل للمساعدة الاقتصادية لحماية حقوق الاقليات وبتمويل خليجي! ونسأل: هل هذا كلام عقلاء من دون ان يعّرف لنا من هي الاقليات؟ ومن سيضمن عمل ذلك البرنامج؟

 4. اما تفسير بايدن للعنف في العراق وعدم وجود حل عسكري صرف للحرب الطائفية، فلا يمكن ان يسمّي طريقته بالوحيدة لكسر الحلقة المفرغة وتتضمن خلق ظروف ملائمة لقوات الاحتلال بالانسحاب، ويقصد بالظروف تلك منح حوافز لكل من الشيعة والسنة والاكراد لتحقيق كل طرف مصالحه سلما واقتسام السلطة بين ثلاث حكومات وتقسيم العراق ويعتبرها خطة وحيدة لمنع العنف.. وقد وجد ضالته في الدستور. علما بأن هناك انقساماً وطنياً حقيقياً حول الدستور. فكيف ستتم السيطرة على الحياة اليومية وقضاياها المعقدة؟ وهل يعتقد ان الميليشيات ستعود كل الى مناطقها؟ فكيف اذا كان لكل طائفة عشرات المليشيات المتصارعة في ما بينها؟ وهل اتفق العراقيون على خرائط جديدة لاوطان جديدة حتى ترجع تلك الميليشيات الى اوطانها؟ وهل يعرف العراقيون اين هي حدود الاوطان الجديدة المتفسخة؟ ان صربيا والبوسنة وكرواتيا وغيرها اوطان قديمة بممالكها القديمة اتحدت في ما بعد الحرب الثانية في ما سمي يوغوسلافيا. وبعد انهيارها عادت الاوطان الى اشكالها القديمة، فأي اوطان هذه في العراق التي يصّوت عليها الكونغرس الاميركي ونحن لا نعرفها؟!

5. كيف استطاع بايدن ان يقارن العراق بالبوسنة؟ كيف يمكنه ان يضرب البوسنة مثلا قبل عشر سنوات ويقرن مشروعه بمشروع دايتون؟ وكيف صفق له غالبية اعضاء الكونغرس من دون ان يعلموا الفوارق الجوهرية بين الحالتين، بحجة ان البوسنة مزقها التطهير العرقي وان العراق يمزقه التطهير الطائفي والعرقي معا؟ فاذا نجح مشروع اتفاقية دايتون بولادة اتحادات عرقية وسماح الولايات المتحدة لكل من المسلمين والصرب والكروات بجيوش مستقلة، فهل ستنجح التجربة في العراق بولادة كيانات طائفية وعرقية وتتحول الميليشيات الى جيوش منقسمة؟ وأسأل بايدن: اذا كانت دول البلقان القديمة معروفة بحدودها وقد احتفظت بها بعد انهيار الاتحاد اليوغوسلافي مثل صربيا والبوسنة وكرواتيا. فما هي دول العراق القديمة التي ولدت بعد انهيار نظام سياسي ديكتاتوري عام 2003؟ انني اتحدى بايدن وكل اعضاء الكونغرس ان يسموا لي الدول التي تشكل منها العراق الحديث؟ انني اعرف ان العراق كان يتكون من ثلاث ولايات عثمانية ادارية منذ القرن السادس عشر، ولكنني لا اعرف انه يتكون من ثلاث دول كصربيا وكرواتيا والبوسنة وغيرها.

6. اذا كنت تنتقد الرئيس بوش انه لم يزل يأمل في جمع العراقيين تحت مظلة حكومة مركزية قوية تحمي جميع حقوق المواطنين بالتساوي، وتقول ان رؤيته قد عصفت بها نار الكراهية الطائفية، فانني اقول ان بوش مثلك لا يعرف شيئا عن العراق، وانا متأكد من انكما لم تقرأا كتابا واحدا عن العراق، ذلك ان المجتمع العراقي لم تستعر الحمى الطائفية فيه الا على ايامكم، وان العراق لم يشهد اية صراعات اجتماعية عرقية او طائفية وطنية ابدا، وكل معاناة العراقيين من انظمة حكم مارست الاستبداد والقمع والديكتاتورية، وان العراقيين قادرون على ان يعيدوا الحياة الاجتماعية بكل صفائها وتعايشها ان تحققت امانيهم الوطنية وحقوقهم في دستور مدني سوي لا اثر فيه لطائفية او شوفينية او انقسامية، علما بأن انظمة الحكم السابقة قد كانت مرتبطة بكم ولم نسمع منكم اية ادانة لاية ممارسة لها ضد العراقيين. واعلموا ان اي ديكتاتور عراقي لا يمكنه ان يعيش ويحيا من دون حاضنة اميركية!
7. ما هو رهانك يا بايدن على ان الفيديرالية افضل مستقبل لكل العراقيين؟ ربما تكون لاقليم كردستان، ولكن لا مبررات تاريخية او جغرافية لها في كل العراق! ولماذا تشترط وجودها نهاية للعنف؟ من قال لك هذا وانت لا تعرف من العراق وتاريخه اي شيئ؟ ولماذا لم يحصل العكس خصوصا ان مصالح العراقيين مشتركة وعلاقاتهم وانسابهم وارتباطاتهم متلاحمة؟ ولماذا تنطلق لتقنع الدول الكبرى وجيران العراق بالعراق الفيديرالي كونه هو الافضل؟ وكيف سيقبل كل جيران العراق بتقسيم العراق على اساس فيديرالي اذا اشترطت بانه افضل نتيجة ممكنة حتى بالنسبة لهم ايضا؟ واذا كانت ايران قد باركت مشروعك في تقسيم العراق نكاية بالعراق والعراقيين كي يغدو جنوب العراق ضمانة لها، فأنني أسأل: هل تقبل ايران نفسها بان يطبّق التقسيم فيها ايضا؟ فلماذا تقبله للعراق؟

8. معنى ذلك يا بايدن انك تطالب المجتمع الدولي والمجتمع الاقليمي بالاعتراف بتقسيم العراق وهو الاول على الطريق، وانك تعلمهم بصورة غير مباشرة، بأن تركيا وايران ولبنان والسعودية وسوريا ومصر على طريق التقسيم باسلوب فيديرالي. اذا كانت هذه نظرتك الى المستقبل، فانك تفتح الباب امام تاريخ دموي سيجر الويلات على المنطقة باسرها. ولا اعتقد ان عاقلا واحدا في هذا الوجود يقبل ذلك حتى وان صفق اليوم لهذه الملصقات الاميركية! انك تدعو الى مؤتمر على غرار مؤتمر دايتون ينتقل فيه الصراع من الحرب الاهلية الى طاولة المفاوضات لاقناع السنة، كما تقول، باكبر قطعة من الفطيرة! ما هكذا تحسب الامور ايها السناتور، وخصوصا في العراق. فان كنتم ضد اقطاب الصراع العرقي في صربيا، فلماذا خلقتم اقطابا للصراع الطائفي في العراق؟ واذا كنتم قد فتحتم الابواب في العراق على مصاريعها امام فصائل الارهابيين وتنظيم "القاعدة" لتجعلوا العراق ساحة حرب ضد الارهاب، فهل كان الصراع في صربيا والبوسنة وكرواتيا قد استورد من الخارج ايضا؟
  واخيرا، فان هذا هو القسم الاول من مناقشتي لافكار بايدن ومشروعه العقيم لتمزيق العراق، لا لتوحيده، وساعود اليه ثانية لاكمال مناقشتي لبقية ما جاء في مشروعه الذي سيكون علامة اميركية مشينة في التاريخ العالمي، كونه سيعمل على تفكيك العراق بشكل رسمي، وانه يطمح بالاندفاع الى المجتمع الدولي للاعتراف بالكيانات الجديدة، واعتقد ان ذلك لا يتحقق بسهولة ابدا.
      www.sayyaraljamil.com


النهار البيروتية ، 5 اكتوبر 2007

144
المسلسلات  التلفزيونية : موديل طفيلي جديد !!

د. سيّار الجميل
     يمر بنا شهر رمضان الفضيل هذا العام مع حالة جديدة لم نألفها سابقا بغزو ظاهرتها   مجتمعاتنا العربية قاطبة . ولم اجد اي دراسة جادة لها في حياتنا الثقافية حتى الان . ان تاريخ المسلسلات التلفزيونية درامية او ميلو درامية يعود الى مصر منذ اكثر من ثلاثين سنة مضت من وجود محطات التلفزيون في بلداننا عندما كان بالابيض والاسود . والحقيقة ، انها لم تكن تجارة يتنافس من اجلها المنتجون والفنانون وتدخل في خفاياها رؤوس اموال خاصة وشركات متنوعة ..  والامر ليس جديدا حتى على الثقافات الاخرى في العالم ، ولكنها هناك ، لم تشكل ظاهرة بارزة للعيان في اي مجتمع على الارض مقارنة بما غدت عليه في محيطنا العربي وثقافتنا التي غدت تهتم بالمسلسلات التلفزيونية بشكل خاص ، وهذا من اخطر ما  تواجهه الاجيال في المستقبل . 
انني لست ضد اي انتاج فني سينمائي او ابداع تلفزيوني عربي ، بل اعتقد ان الفن السابع يشكل اليوم واحدا من اروع مظاهر العصر ، وخصوصا اذا ما استغل بطريقة ذكية وعلمية حقيقية لبناء المجتمع ومعالجة قضاياه واحياء ذاكرته وتطوير رؤاه وانعاش ذوقه .. كي يكون ظاهرة ثقافية حقيقية لا تجارية طفيلية بائسة ،مهمته سلق الاعمال التافهة لنهب الاموال ، وقتل الزمن ، واعاقة الانتاج ، وزرع الخمول والكسل ، وتشويه القيم .. تنعكس كل هذه السلبيات على  مجتمعاتنا التي هي بالاساس تمر بمخاضات صعبة من التحولات القيمية . انها بأمس الحاجة اليوم الى قيم جديدة تراعي فيها الاستجابة الذكية والمخلصة لكل تحديات العصر وتدرك كيفية معالجة مشاكله ومعضلاته بوسائل اعلامية وثقافية وخصوصا توظيف الدراما والكوميديا بشكل عالي المستوى .. لقد تفوق التلفزيون على اي وسيلة اخرى من وسائل هذا العصر كونه اخترق كل الجدران والمسافات والاسوار والحدود ودخل بالشاشة الصغيرة الى كل بيوتنا وجلس حتى في مخادعنا ، بل واصبح جزءا لا يتجزأ من حياة اي انسان في هذا العالم ، فكيف بمجتمعاتنا العربية التي تلتصق بالشاشة ملايين الناس صباح مساء !؟
قرأت قبل ايام قلائل ونحن نعيش الشهر الفضيل النص التالي الذي آمل ان نتأمل فيه طويلا  كي نناقشه  لنرى اين موقعنا نحن من حياة العصر اولا  واين نحن من حياتنا وثقافتنا ثانيا .. يقول النص :   " تغزو الشاشة الصغيرة مع حلول شهر رمضان هذا العام عشرات المسلسلات التلفزيونية المصرية التي تتميز بحضور قوي للنجوم والمخرجين العرب. فقد تم انتاج ما لا يقل عن 80 مسلسلا بمناسبة رمضان بينها 40 من مصر وما يوازيها من المسلسلات السورية التي ستنافسها بشدة على جذب اكبر عدد من المشاهدين. ويقول احد ابرز كتّاب السيناريوهات لتلك المسلسلات  مستطردا : " ان هذا العدد الكبير من المسلسلات التي تم انتاجها مقارنة بالأعوام الماضية يعود الى "اتجاه راس المال الخاص وراس المال الخليجي والقنوات الفضائية العربية الى انتاج المسلسلات الدرامية والتركيز على ان تكون جيدة مع نجوم متميزين لجذب شركات الاعلان باسعار عالية خلال عرض المسلسلات على الشاشة الصغيرة".
ثمة ملاحظات ينبغي علي ّ تسجيلها من اجل ما يمكن تقويمه او عمله او تصويبه :
1)   ليس العبرة في الكم من المسلسلات التلفزيونية ، ولكن المهم بما يمكن ان تتضمنه من معالجات لقضايا مهمة وحيوية تعيشها مجتمعاتنا كلها .. ويؤسفني القول ان اغلب " المسلسلات " تضّم مواد تافهة ومستهلكة وتشكّل عروض حلقاتها مضيعة للوقت .. ونحن ندرك كم هو الزمن ثمين جدا في حياة المجتمعات قاطبة .
2)   لقد غدت ظاهرة المسلسلات التلفزيونية تجارة طفيلية رابحة ، ممّا أثّر كثيرا على مستويات ما يقدّم من اعمال .. ويقال ان التعاقدات مع فنانين معينين بالاسم تبلغ الملايين ، وان المسألة ليست ذات مصداقية حقيقية في خدمة مجتمعاتنا وتطورها بقدر ما غدت هذه التجارة للاسماء والاعلانات والعروض باسعار غالية جدا .
3)   صحيح ان هذه الظاهرة التلفزيونية قد تبلورت اثر ثقل الظاهرة السينمائية منذ زمن بعيد في مصر ، وخصوصا رفقة الثورة الاعلامية التي عاشتها مصر ابان الستينيات .. ولكنها حملت مضامين تافهة في اغلب الاحيان تضر المتابعين والمشاهدين وحتى يومنا هذا .. لم تزل المضامين قاصرة ولا يمكنها ان تقدم شيئا جديدا الى الحياة .
4)   لعل من اهم ما يمكن رصده من افلام المسلسلات تلك التي تعالج ذاكرتنا التاريخية بكل ما فيها من حالات وشخصيات وموضوعات تاريخية .. واعتقد ان مسلسل الملك فاروق الذي يعرض حاليا قد غطى موضوعه جيدا في التعرّف على سيرة ملك اضاع عرشه مع متابعة مختزلة لحياة مصر السياسية .. ولكن ثمة اعمال كلها استنساخ ومسوخات لا معنى لها ابدا ، وان ضررها على المجتمع  كبير جدا ّ.
5)   ان الادمان الاجتماعي لمشاهدة المسلسلات هو نوع من الهروب نحو الشاشة الصغيرة ، وان " الادمان " خطير جدا ، فهو يعبث بالزمن ويبث الخمول وينحرف بالذاكرة وبالرغم من قوة الانتقادات التي توجه دوما لمسلسلات  معينة ، الا ان المنافسة الشديدة لا تمس عصب المضامين بقدر ما تقف عند نخبة من الفنانين المستحوذين على سوق المسلسلات .
واخيرا  اقول ، ان ثورة الاعلام المرئي لم تخلق من اجل ان يستحوذ عليها تجار المسلسلات التي لا يمكن تصنيف اغلبها على الفن الدرامي مسرحيا كان ام سينمائيا .. فثمة هشاشة في الفن ، وهزال في الحوار ، واخطاء في المعلومات .. وتشتيت للزمن  وافساد للذوق .. مع نقص للنقد الفني  التلفزيوني ، فمن يتنبّه الى هذا الوباء الذي بامكاننا تحويله الى مدرسة حضارية وابداعية حقيقية تسعى لأغناء مشروع التقدم الاجتماعي والبناء الثقافي في حياتنا وتنمية قدراتنا وادوارنا في عالم اليوم ؟ من يشاركني هذه الهموم التي لا تنحصر في شهر فضيل كرمضان ولكنها تجارة طفيلية لا تستقيم وقيمه المباركة !

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 2 اكتوبر 2007

145
امراض المثقفين  المزمنة

ضياع المعايير

 

د. سّيار الجميل

مثقفون طفيليون

    لا اقصد من مقالي هذا كل المثقفين ، فالحياة لم تزل تتسع للخيرين والمبدعين من كتّاب ومفكرين وشعراء وفنانين ومختصين محترفين بارعين لم تزل رؤيتهم صافية ومكابداتهم مستمرة وهمومهم لا حدود لها .. ولم تزل منطلقاتهم نزيهة وحية ومفعمة بالحركة .. ولكنني اخصص مقالي هذا لكل من اضاع الزمن معاييره في الحياة وبات يحمل امراضا وتعقيدات لا حدود لها ، فضلا عن الطفيليين الذين انتجتهم الازمان الخاطئة عندما سارت بنا الحياة في غير طريقها .. دعوني اقول انه لا يمكن حصر امراض المثقفين في مقال واحد ، فهي لا تعد ولا تحصى من ترسبات تاريخ او عادات مجتمع او بقايا اوبئة سياسية متهتكة .. خصوصا اذا ما تقدمت عوامل التشخيص وفضحت المكاشفات والنقدات ما يدعيّه هذا او ذاك من المثقفين .. وغدا مصطلح الثقافة والمثقفين في حالة من الابتذال ابان هذا الزمن الصعب ! نعم ، لقد كثرت امراض المثقفين ، وتورمت عما كانت عليه منذ ازمان الانقلابات والايديولوجيات والهوس العاطفي باتجاه اليمين او اليسار ناهيكم عن عما حفل به كل القرن العشرين من نخب مثقفين سلطويين ومن مطبلين ومزمرين ورقاصين ومتهتكين من خطباء وكتّاب وشعراء وصحفيين ومؤلفين وفنانين وقوالين .. الخ

 

الفجوة الساكتة

   من جانب آخر ، ازدادت اليوم تلك الفجوة الساكتة بين المثقف والاخلاقيات العالية او قل التقاليد الرائعة ، وباتت الامور مهترئة الى درجة لا يمكن ان تبقى مختفية .. رّد عليّ صاحبي ليفصح لي عن حقائق كانت مغيّبة عني وهي تحكي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تاريخ من جعل من نفسه أحد سدنة تاريخ العراق وثقافته التي لا أول لها ولا آخر! ماذا احدثّكم عن لصوص الكلمات ومستلبي الافكار من الذين يسمون انفسهم بالمثقفين ظلما وعدوانا ؟ وماذا احدّثكم عن مزوّري المواقف ومخرجي الادوار الذين يسمون انفسهم بالسياسيين وهم يتطفلون على الثقافة والمثقفين من دون ان يمتلكوا اي احساس بالحذاقة فالمثقف له صنعته بفكره او قلمه او ابداعه ويستوحي الاشياء ليعبر عن روح مجتمعه بعيدا عن اي سلطة او اي جاه او اي اجندة ؟ اما من يلهث وراء اي سلطة او نفوذ في الدولة ،  فانهم – كما وصفهم صديقي الفيلسوف ـ بسراق الاقنعة ومنتحلي كل الادوار الرائجة .

 

الصناجّة الراقصة :

ماذا احدثّكم عن ذاك الصناجة الراقصة الذي يخرج على شاشة التلفزيون بين الحين والاخر ، وهو يعرض بكل وقاحة سرقاته افكاري العراقية على الناس باسمه ! لم اندهش ابدا وانا اتابع تصنيفاته للثقافة العراقية وللجغرافية الثقافية .. تلك وهذي التي عالجتها في محاضراتي المنشورة هنا وهناك .. انه مرض يستشري لدى البعض ممن لا تهمهم الا انفسهم او ذواتهم او مصالحهم .. كذاك الصحفي العجوز الذي كان ولم يزل كذبة كبيرة في حياتنا العربية ! لقد عاش منذ عقود من السنين وهو يوهم الناس بحقائق لا اساس لها من الصحة ابدا ، والناس تصدق ما يقول بلا اي نقد ولا اي تدقيق !

     وهل ينتهي الامر عند هذا الحد ؟ لا ابدا ، انه يمتد الى مثقف آخر او ثلة اخرى من المثقفين الذين لا يعرفون ابدا معنى الحيادية في التفكير ، انهم متعصبون لفكرة ما او تيار ما او زعيم ما او اتجاه ما .. بل ويغالون في امر ما يذهبون اليه من دون اي حيز للمجادلة ، ولا اي هامش للمبادلة ولا اي خط رجعة للفشل .. لقد كان بعضهم متعصبا لماركسيته تعصبا اعمى ، وفجأة وجدناه وقد اصبح قوميا يغالي في شوفينته حتى جعل من الحزب الواحد مثالا يحتذى به .. وفجأة اجده اليوم وهو يركب مركب الطائفية العمياء ليغدو طائفيا مقيتا يريد قتل من ليس على مذهبه .. فماذا يمكن فعله ازاء مثل هؤلاء الذين يتقلبون سايكلوجيا ، وكنا نعذرهم لو غيروا من افكارهم نحو الافضل ، ولكنهم يتراجعون يوما بعد آخر الى الخلف !

 

الاستلاب في الخفاء والعلن

حالة اخرى لم تكن موجودة لدى مثقفينا في ماضينا التليد ، تلك التي تجدهم فيها يشترون منك ثم يبيعون اليك .. انهم يجترون افكارك ويستلبون كتاباتك على عينك يا تاجر .. وهذا لم نجده لدى مثقفين آخرين في هذا العالم .. هل تصدقون ان بعضهم اعتز بهم كتابا واصدقاء نشر كل واحد منهم بعض اعمالي في كتاب له نشر حديثا من دون تكليف اي واحد منهم نفسه ان يستأذن مني ذلك ، وما كنت لارفض طلب ايا منهم وانا اهاتفهم من حين لآخر .. ولكن ايا منهم لم يفعلها ابدا ، ولم يسألني استلابه من مقالاتي لينشرها في كتابه او ذاك في كتابه او الاخر في مجموعته .. فماذا نسّمي مثل هذه الحالة ؟ ومع كل هذا وذاك فلم اتنازل لأسأل ايا منهم عمّا فعله ، عّل احدهم يهاتفني يوما او اراه في مناسبة معينة كي اجد سببا مقنعا لهذا الاسلوب . كل هذا وذاك لا نجده في مجتمعات مثقفة في اي من العالم المتقدم ، فالحقوق محفوظة والامانات مصانة ويا ويل من يتجاوز على حقوق الاخرين . وان كان هذا او ذاك قد حصل في كتب ومنشورات مطبوعة ، فلا تسل عما يحدث من استلابات في الصحف اليومية والمواقع الالكترونية التي لا يمكنها ان تحيا ابدا من دون نشر مقال لهذا او ذاك من دون ان يعرف بذلك .

     واذا كان هذا الصديق المثقف قد ساق مقالاتي ذاكرا اسمي ، فان آخرين لا يفعلون ذلك ، انه من ابشع ما يتصف بعض الكتاب النرجسيين العرب ان يأخذ منك من دون ان يذكرك ! نادرا ما اقف على من يعطي لكل ذي حق حقه .. وهي صفة ليست ابنة هذه الايام ، بل انها تلك التي صنّفها ابن الاثير في كتابه : " المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر  " قائلا بأن هناك من ينسخ عن هذا أو من يسلخ عن ذاك ، او من يمسخ عن الاثنين ! لقد طفح الكيل اليوم بالنسخ والمسخ والسلخ ..

 

فاقد الشيئ لا يعطيه

 لقد زادت امراض المثقفين العرب هذه الايام ، بحيث لا يمكن ان يجد من يحاسب السراق والمنتحلين والسلابين وفقراء المعرفة المساكين .. وربما يسقط واحدهم ، ولكن حين يسقط شرف الكلمات يبقى الكلام محكوما بالحقيقة الضائعة ! ناهيكم عن تلك المزاجية المازوشية والنرجسية القاتلة .. تجد هذا منفوخا وتجد ذاك متعجرفا وتلك تؤله ذاتها .. والاخر مزاجي لا يمكن ان تتعامل معه .. وانت في وسط غابة تعّج بالعلاقات الانانية الموبوءة والاحقاد الدفينة والكراهية التي تبدو على سيماهم واضحة جلية وخصوصا اولئك الذين يتوهمون انفسهم كبارا وهم من الصغار.. انهم يأكلون الحقيقة بقوة اللفظ لا بقوة الدلالة والوقائع والسلوك والاعمال والاخلاقيات العالية ، وهؤلاء عاشوا على قوة اللفظ ولم يعيشوا ماثرة التواضع او ايثار العرفان الفكري في الكلمة، المعرفة بلا عرفان كالهواء في الغربال ... انهم اضعف الناس في المواجهة ، ففاقد الشئ لا يعطيه ، اذ تجدهم يهربون من المواجهة ولكنهم يغالون في الانشاء والكلام الفارغ والتهريج الممّل .. انهم يعدوّن من افضل المشوهين في الهامش السياسي والحوافي الفكرية ، ولعل ما نشهده من سيئات مؤدلجي بعض مثقفي الجيل الراحل اكبر بكثير مما نلحظه لدى ابناء الجيل الجديد ، وخصوصا في اسوء من هوامشه وذيوله وملاحقه ، فكيف نتصور اشباه الصناجة الراقصة يقررون مصير بلاد القيثارة والشمس وفجر التاريخ ؟؟

 

العملة السيئة تطرد العملة الجيدة

      دعوني اكون صريحا لأقول بأن اغلب المثقفين ، هم من اكثر الناس تنّكرا لمعروف ابناء جلدتهم وليعذرني كل المثقفين ان اطلقت هكذا صفة بشكل عام ، ذلك انهم لا يقدرّون حقوق رجالهم ونسائهم خصوصا اذا اختلفوا عنهم في المذهب والتيار والتفكير.. ان بعضهم لا تعرفهم الا من خلال استعراض عضلاتهم !! وان الكثير منهم لا يعترفون باخطائهم وخطاياهم .. ويا ويلك ان اختلفت في الرأي معهم ! انهم من اكثر الناس ايغالا في الجحود وهم ينافقون ويهربون من المواجهة .. ونادرا ما اجد من يقف مخلصا للاخر او وفيا لمن يشاركه اغلى الاشياء !! وان كان هناك من يتمتع بالمصداقية وروعة الابداع والشهرة المبكرة ، فانه سيصادف مشكلات وعوائق .. ففي مجتمعاتنا تقوم العملة السيئة بطرد العملة الجيدة .

 

الازمة اخلاقية بالدرجة الاولى

     لقد تمّرس البعض على ان يكرهوا كل الوجود بمقالاتهم السياسية ، بل غدوا يكرهون بعضهم بعضا بشكل لا يصدّق !! وليس أسوأ من يصم مؤسسات معينة باشنع الصفات لاسباب علاقات شخصية ليس الا ، ويمكن ان نختلف سياسيا وفكريا مع احترام المؤسسات الفاعلة والحيوية ، اما ان نقلب الطاولة باستخدام كل المبتذلات ضدها ، فان الثقافة العربية في ازمة اخلاقية حقيقية . لعلّ من اسوأ الصفات ان تفقد تواضعك وتحارب زملاءك وتسيئ الظنون بهم .. ان من اجمل الصفات ان تكون صريحا وشفافا وجادا ومباشرا وملتزما باصول المجتمع وتحترم كل تنوعاته من دون اي تعصّب ولا اي تطرف ..

وانظر ، انهم يذبحون البشر بالسنتهم واقلامهم قبل ان يستخدموا تصفياتهم لانفاس الاخرين .. لا اعتقد ان هناك من صنف يسيئ لنفسه وتاريخه مثل هذا الذي يفعله المثقفون !! انهم نتاج بيئات مشوهة واساليب تربوية هزيلة .. ويتوّضح هذا التشّوه في الشتات ، بحيث يريد احدهم افتراس الاخر ، بل ويحاربه حتى في رزقه !! وأسأل : هل لأنهم غير متجانسين ؟ هل لأنهم غير متوازنين ؟ ام انهم غير مثقفين حقيقيين ؟ هل لأنهم يمتلكون بقايا كمّ هائل من بشائع التاريخ ؟ هل تجدهم أسوياء في تصرفاتهم ؟ لماذا لم يستمعوا لاصوات العقلاء وضرورات المستقبل ؟ وهل خلا ثقافاتنا في بيئاتنا المتنوعة من عقلاء الى هذا الحد ؟ لا اعتقد ابدا ، فليس هناك اذكى من المثقف الحقيقي عبر التاريخ ، ولكن قوة التشوّهات التي صنعوها لأنفسهم قد جعلتهم بمثل هذا الحال وهذه الاحوال ..

 

واخيرا : المسكوت عنه من المخفيات يتفجر

      لقد كثرت التعصبات هذه الايام حتى لدى المثقفين ، وطال الانفعال كل حياتهم ، بل ولعل اسوأ ما يعانيه عدد كبير من مثقفينا هذا الوباء الجديد الذي استشرى لاحقا .. انه الطائفية اللعينة لاديان ومذاهب بتأثير وصولها الى السلطة بعد ان كان التطرف يحكم حياة الالاف من المثقفين باسم التحزب السياسي والاتجاه نحو اليمين واليسار باطلاق الاتهامات لرجعية هؤلاء وتقدمية اولئك .. ناهيكم عن تعصبات البعض شوفينيا باتجاه هذه القومية او تلك !! الانسان مفتقد في عقولنا .. حقوق الانسان مسكوت عنها في ثقافتنا .. المرأة لم تزل مسحوقة في مجتمعاتنا .. حقوق الطفل غائبة من مقاييس مثقفينا ..  ومن السخف ان اجد نفسي اليوم فجأة وسط حديث بين مثقفين لا هموم لهم اليوم الا التعصب الطائفي ، والنيل من هذه الطائفة على حساب تلك ! بل واشعر بالتقزز ان اجد غيري موضع اتهام او موضع براءة كونه ينتمي الى دين فلاني او طائفة علانية !!

  اذا كان السابقون الاولون قد ارتكبوا جنايات دموية فاضحة أحدهم بحق الاخر ، فما ذنبي انا ادفع ثمن صراع قد حدث في التاريخ على السلطة قبل مئات السنين ؟ ان حلمي قد تبدد في الثقافة العربية والمثقفين ، اذ كنت اعتقد بأن زمننا سينهض على ايديهم بعد شقاء التاريخ .. ولكن انقلبت الدنيا رأسا على عقب وضيعنا حقيقتنا التي لا اعتقد انها ستتحقق ابدا في غضون الثلاثين سنة القادمة وان عاد الناس الى رشدهم وتخلصوا من امراضهم ، يكون الزمن قد فاتهم او ان جغرافيتهم قد تبدلت وبدأوا تاريخا انقساميا سيأخذهم على امتداد القرن الواحد والعشرين ..

 

ما العمل ؟

ليست هناك عصا سحرية تعيد الحياة الى طبيعتها .. ولكن لا يمكن لهذا الاضطراب في المعايير ان يبقى شاخصا في حياتنا الجديدة التي تفاقمت فيها مشكلات لا حدود لها ابدا .. واعتقد ان الطفيليين سوف لا ينتهي فعلهم سريعا ما دامت هناك مناخات سياسية غير نظيفة ولم تزل مجتمعاتنا اسيرة اطواق سلطات متنوعة .. بل وان الحياة الثقافية نفسها اصبحت اسيرة ومكبلة بقيود لم تكن موجودة لدى الاجيال السابقة . ان تحرر المثقفين من اطواق الحياة الثقيلة والانطلاق بتفكير نسبي للحياة .. والاستفادة من تجارب المجتمعات الاخرى ونخبها المثقفة الفاعلة في المجتمع فضلا عن ترسيخ مبدأ القطيعة بين الحياة ومطلقاتها ودعوة المثقفين الى تبني مشروعات جديدة ومن خلال علاقات جديدة واخلاقيات جديدة سيسهم في تحرر الثقافة من ايدي الطفيليين عليها .. ان الاعتناء بالجيل الجديد على اسس علمية حقيقية من دون تلويث العقول بما هو سائد اليوم سيسهم ايضا في التسريع لوأد كل بقايا الماضي الذي عاشته حياتنا على مدى ثلاثين سنة ، وسيطلق الجيل الجديد نفسه بكل ابداعاته كي يؤسس نفسه في هذا العالم بعيدا عن كل امراض ما فات .. ان التحول ليس سهلا ابدا ، ولكن ينبغي الوعي به قبل التأسيس عليه .. ثمة قيود لابد لها ان تكون في ما يخص حقوق المؤلف والمثقف والمبدع والفنان .. ثمة قوانين وتقاليد واعراف لابد لها ان تعيد للمثقفين مكانتهم في الحياة الجديدة .. ان المثقف الحقيقي الذي يحتاجه مستقبلنا هو من يؤمن ايمانا حقيقيا بالتفكير المدني والحياة المدنية والعلاقات المدنية والافكار المدنية والقطائع على اسس مدنية .. ومن خلال مبدأ العلمنة والتحرر من قبضة كل بقايا التاريخ ورواسبه القاتلة ، فضلا عن الاستعانة بالعقل دوما . ثمة علاجات واقية لابد لنا ان نجدها لدى حياة مثقفين حقيقيين في هذا العالم كي نتعلم منها الكثير من دون اي شعور كاذب بالعظمة الفارغة . فهل يمكننا ان نخطو اولى خطواتنا نحو العالم بعد عزلة كئيبة امتدت لقرابة ثلاثين سنة مضت ؟

www.sayyaraljamil.com

 

 

 

الأخبار: في حالة عدم الرغبة في استلام رسائلنا, يرجى التكرم بالكتابة الينا لرفع عنوانكم من قائمة البريد
 

146
حوار

حوار مع المؤرخ والمفكر العراقي الدكتور سّيار الجميل

الجميل  لـ «المجلة»: الاحتلال الأمريكي للعراق كشف الغطاء عن واقـع مؤلم وترك الأمور للتعبير الفوضوي
ويصّرح الجميل بأنه " قادم لدفن بقايا هيكل " ، ويقول لـ " المجلة " عن محمد حسنين هيكل : "  أنني أعلمه بأنني قادم إليه وسافاجئه بتجربة ثانية معه، فليستعد لها وسوف لن يكون سعيدا بها مطلقا

نشر في المجلة : مجلة العرب الدولية  27 سبتمبر 2007
اجرى الحوار في عمّان / الاردن :  مهند مبيضين


يردد المؤرخ العراقي سيار الجميل مقولة قديمة مفادها:" إذا عطس العراق أصيبت المنطقة بالزكام" والجميل الذي يقيم حاليا في كندا استاذا لدراسات الشرق الاوسط ، يرى أن إيران كانت الرابح الأكبر في سلسلة الحروب المستمرة والتي كان العراق طرفا فيها. ويعتقد الجميل أن على المنطقة الانتظار مدة تزيد على الست سنوات لتتعافى من كارثة احتلال العراق عام 2003. كما أن المجتمع العراقي بات يعاني انقسامات اجتماعية أثقلته وزادت في مصيبته.
الجميل مؤرخ، لكنه لا يقرأ مصير العراق وحاضره بنظرة تاريخية مثقلة بالاستدعاء التاريخي، بل هو يشخص المشكلة العراقية ويعاين أسباب الخلل، ويرصد الأخطاء التي أفرزت عقليات وذهنيات آمنت كل مرة بأن الانتصار سيتحقق وفي النهاية لم يتحقق شيء.
يرى الجميل أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي غير قادر على تحقيق أي إنجاز، ويرى أن المقاومة مطالبة بالإعلان عن نفسها وعن تمويلها وعن براءتها من دم العراقيين، أما جامعة الدول العربية فتحركها كان متأخرا في حين أن منظمة المؤتمر الإسلامي ظلت تمارس الحذر، هذا إلى جانب اختراق الدولة بنفوذ إيراني واسع.
المجلة التقت الاستاذ الدكتور سيار الجميل في عمّان على هامش مشاركته في إعلان تأسيس المجلس الأعلى للثقافة العراقية في عمان.

* كيف تقيمون مستقبل العملية السياسية في العراق؟
- المستقبل العراقي هو في بداية النفق المظلم وسيجر إليه كامل المنطقة، مع عدم فقدان الأمل. كنا نحلم أن يكون هناك عراق حضاري يساهم في تغيير الفعل والواقع بأيد وطنية عراقية نزيهة، لكن خاب الرجاء؛ لأن قوى الاحتلال أسهمت في تدمير بنى الدولة بالتعاون مع جماعات متنوعة وكل جماعة لها أجندة خاصة بها، وهذه أساءت لوطنها أولاً ولنفسها ثانياً وللمستقبل ثالثاً.
أرى المستقبل ليس بعين الماضي، لكن بعين الرؤيا لهذا الواقع الذي ازداد حطاماًً ولم ينتقل إلى حد الآن بأي خطة وطنية يمكنها أن تسأل وأن تبحث عن أجوبة، ولم تتقدم خطة تتحدى الراهن او تستجيب للتحديات. هناك تحديات صعبة واجهتنا منذ عشرين سنة نهاية حرب إيران والعراق، ولم نستطع أن نفهمها وأن نستدرك خطاياها وصولاً إلى عام 2003م أي أننا بين انسحاق القومية ووصولاً إلى الفجيعة لم نتقدم خطوة.
من هنا أرى أننا دخلنا في نصف النفق وكان بإمكاننا أن نتحاشى دخول النصف الثاني والتاريخ يفهمنا أن هناك نقاطاً فاصلة لو كان هناك "شوية حكمة" على الأقل. الحالة العراقية لا تسحق بهذا الشكل، إذ سيطر الأجانب على مصير العراقيين، والعراقيون المتنفعون من الاحتلال لأنهم ما كانوا يعلنون بما يبطنون نتيجة خوف أو رعب خطابهم.
* البعض يرى أن مشكلة الحالة العراقية في ظلها الكبير الذي أضفته على المنطقة. كيف تفسر ذلك؟
- حدث وهم في الخطاب العربي في 1990 وفي 2003 وكان مفاد الوهم أننا سننتصر. وهذا الانتصار الوهمي لم يقدر الناس أبعاده ولم يقدر العرب فداحته، كما أنهم لم يقدروا خطأ 1967 وبعده تكرس هذا الخطاب حتى اليوم. وبعد كارثة 2003 بدأ الناس يتساءلون أين الانتصار في العراق، وأين دور العراق على مدى خمسين سنة؟ فقد كنا نعتمد عليه كقوة واليوم هو لا شيء.

* أين مسؤولية النخبة العراقية؟ فالعراق دولة فيها الكثير من الكفاءات والقيادات، حتى لو ذهب صدام حسين ألم يكن المجتمع قادرا على النهوض، وعلى من تقع مسؤولية الفشل؟
- السؤال عن المسؤولية وعلى من تقع, على النظام أم الشعب؟ أعتقد أن القوى المدنية العراقية جزء من الجواب، ففي محاضرة قدمتها في سبتمبر 2005 في لندن وكان عنوانها "بنية المجتمع العراقي: محاولة في تفكيك التناقضات " أوضحت فيها مسؤولية المجتمع في الأزمة، فعلى مدى ثمانين سنة من تكوين الدولة، كان المجتمع يجهل نفسه وكان الآخر يجهل العراق وكانت هناك سياسة الإقفال والإسكات وكان هناك تهميش وإقصاء وكان هناك صامتون وكان هناك مثقفو سلطة وكانت هناك هشاشة في التنظير وندرة في فهم ماهية المجتمع العراقي كونه معقداً جداً، كان هناك فقدان للوطنية ومبادئها خصوصاً آخر خمسين سنة وكان هناك استبداد كي يحل البطل محل الوطن، وكان هناك عدم إدراك متبادل بعين العراقيين والعرب حول طبيعة المجتمع العراقي، وكان هناك عدم إفصاح للتاريخ الحقيقي للعراق وكان هناك انتقال للمجتمع من مأزق إلى آخر، كان هناك تاريخ دولة ولم تكن هناك كتابة لتاريخ مشترك بين الدولة والمجتمع .
* وبذلك جاءت كارثة 2003 لتكشف ظهر العراق، وتكشف ضعف المجتمع؟
- بعد 2003 رفعت الأغطية وانتهى الصمت، وبدأ التعبير بطريقة فوضوية واستغلت المبادئ الجديدة واستغل الفكر السياسي الحديث وكانت فجيعة العراقيين وخربت الذاكرة التاريخية وسحقت المأثورات القديمة. أما مفهوم الوطنية المبهم فقد انتهى في حالة فراغ سياسي وفكري وأخلاقي وهو في أزمة، وأعتقد كما يعتقد الآخرون أنها أزمة ذات منهجية وخطط لها كي تحدث. وأنت تعلم كم سرقت لوحات وآثار ومنجزات لهذا المجتمع الذي فقد هويته وانتماءه الوطني المبهم.
* دعني أقاطعك وأسأل عن البديل الذي بحث عنه العراقيون بعد انتهاء حلم التحرير والدخول في كابوس الاحتلال؟
- بحث العراقيون عن تشظيات في ظل الفراغ الذي تشكل ومن أجل الحماية ومن أجل تعزيز الطائفة ومن أجل التثبيت بجنس أو عرق أو عشيرة أو مدينة أو مشيخة أو مرجعية. ونتيجة لعدم التوازن في ظل سياسة مختلفة وفي ظل فوضى إعلامية تشهر لهذا ضد هذا وذاك ضد ذاك وهؤلاء ضد هؤلاء، انتقل الانقسام السياسي إلى ما يشبه الانقسام الاجتماعي، واستغلت الأحزاب السياسية الجديدة. هذه نتائج مريرة وهي تخلق الصراع داخل المجتمع وتجري بمباركة أميركية والمجتمع ليس مسؤولاً عما يحدث لكنه وجد نفسه محشوراً في الجحيم.
* ما دور القيادة السياسية الحالية في العراق وما مدى قدرتها على الاستمرار؟
- القيادات السياسية الجديدة لم تكن لها خبرة سياسية أو قيادية أو حكمة مشتركة أو اعتراف بخطأ، لا توجد قيادة للأزمات أو صناعة القرار... إلخ، هي قيادة لم يكن لها هذا كله. فضلاً عن هذا أنها لم تكن تملك القدرة للوقوف إزاء الأميركان للمشاركة في صنع القرار لأنها بدأت العملية السياسية على قاعدة غير موجودة.
* كم ينتظر العراق والمنطقة على المشهد العراقي؟
- أعتقد أنه كان علينا الانتظار على الأقل 4-5 سنوات بعد 2003 للمرور بفترة نقاهة قبل الدخول في العملية السياسية لمعالجة الوضع القوي لإعادة المؤسسات وبخاصة الجيش لسابق قوته، إلى ضبط المجتمع وتفريغه من السلاح ..  إلى التعامل مع المحتل وفق أجندة زمنية مجدولة والعمل على تشكيل مجتمع مدني وأخيراً الوصول إلى عقد مؤتمر وطني يعزز قيادة وطنية تبدل صيغ الأحزاب القديمة المعارضة وتغير الشعارات الانقسامية ومن ثم تحاول أن تجد صيغة مع الأمم المتحدة أو آلية محددة لمعرفة ماذا يريد الأميركان. كما نأمل أن يُفصح الأميركان عن المخطط الذي دفعهم للشرق الأوسط.
* ماذا عن إيران؟
- منذ أربع سنوات وإلى الآن لا بل أستطيع القول منذ عام 1991 لا يعرف ماذا يريد الخارج منا، وأتحدى أي عراقي وأي عربي وأي شخص من الإقليم أن يعطيني جواباً يقنعني عن ماذا يريده الخارج منا ربما سنعرف ذلك بعد 50 سنة. لقد ساهمت المخاطر الخارجية في بلورة ما وصل إليه العراق مع عدم نسيان عوامل الداخل عندنا في الموضوع العراقي وإن تجاوزنا أحداث 1991، فعندنا 2003 وهي مفصل تاريخي خطير جداً ليس في حياة العراق بل المنطقة، أعتقد أنها كانت قفلة تاريخية لكل أحداث القرن العشرين والبدء بمرحلة جديدة لكنها مخاض صعب.
فيما يخص الدور الإيراني فالمشكلة هي أن هناك بلورة لأزمات موجودة كونت مربع أزمات الشرق الأوسط وفي قلب هذه الأزمات يمثل العراق بكل مشاكله وبين زوايا- المربع- عملت قوى على التصادم ضد هذا القلب وهي:
أولا: مشكلة إيران مع العراق وهي مشكلة إقليمية.
ثانيا: مشكلة الكويت مع العراق وهي حدودية عربية.
ثالثاً: إسرائيل والعراق إقليمية دولية.
رابعاً: مشكلة العراق مع كل الأطراف وهي أخطر هذه المشكلات.
اما المشكلة مع إيران فهي كبرى المشكلات. لماذا؟ لأنها تمتد إلى تاريخ طويل جداً، وهي تعود إلى خمسة قرون وهي أكثر ثقلا من مشكلات العراق وفيها مشكلات خفية، ومشكلة مياه وأزمة مرجعية دينية وهناك مشكلات اقتصادية ومشكلات تاريخية وبطبيعة الحال هذه المشكلات خلقت تدخلات دولية فانتقل الصراع إزاء العراق من أزمة إقليمية إلى دولية من خلال معبر حدودي وهذا تجسد بالأزمة مع الكويت وحربها بمعنى أن ما بين الإقليمي والحدودي مشكلة عربية وهناك المشكلات إزاء المشاكل التي عاش بها العراق سواء في الثمانينيات إزاء إيران وهذه جرت بتحالفات عربية مع العراق ثم انتقل العراق إلى مشكلته مع الكويت ثم مع أميركا وحتى اليوم.
وهناك خطأ حصل في ظل المشكلة العراقية الكويتية عندما وثق العراق بحسن نية بعدوته التي حاربها ثماني سنوات لكي يؤمن طائراته على أراضيها وعددها 550 طائرة وفي غضون ستة أشهر ضرب العراق دولياً وهزم. وكانت المحصلة تدمير العراق، لكن من الذي ربح المعركة من طرفين؟ الجواب لم يربحها لا العراق ولا العرب. أنا عندي أن الرابح الأول هو إيران و ثانياً أميركا.
* كيف ترى الدور الإيراني اليوم في العراق?
- جاءت 2003 لكي تقدم العراق من دون أي انتصار حربي أو سياسي لإيران والأخيرة عرفت كيف تلعب لأجل ذلك منذ عام 1991 حتى اليوم.
والآن مع الوجود الأميركي في العراق وشرق إيران في أفغانستان, إيران لا تشعر بأي تهديد وإنما تحركاتها مستمرة في كل مكان، ولكن ما هو حجم الدور الذي ساهمت به إيران في العراق؟ أرى أنه كبير وبالمقابل أعتقد أن إيران عرفت كيف تلعب بالسياسة، فإن العرب لم يعرفوا إجادة اللعب، أي لعبة سياسية مع الأميركان، والعكس نتائج عام 2003 أثرت سلباً على لبنان وفلسطين، وعززت الإرهاب وجعلت العراق ساحة للجميع ليلعب بها كل من يرغب بدور مستتر، في هذه الحالة أصبح العراق كالجمل الذي ما إن وقع حتى كثرت الحراب تقطيعا فيه. وإيران مستفيدة وتركيا وسوريا. والمأساة تعمقت مع حل الجيش وانقلاب الأمن وضياع النظام وتمزق الشرطة إلى ولاءات لغير الدولة، لا بل تجد شرطة ربما توجه من قبل إيران في الجنوب أو تجد مكاتب لمؤسسات أمنية إيرانية.
لقد اختلطت الأوراق العراقية وامتزجت القوى الخيرة مع الشريرة وضاع الأمر مع وجود جيش أميركي محتل عبرالعرب عن رفضهم وجوده في قمة الرياض أخيرا.
* ماذا عن المقاومة؟
- هناك من يقاوم الأميركان لكن هناك من يقتل العراقيين، وهناك اليوم جريمة من نوع آخر وهي أن يهاجر ملايين العراقيين للخلاص، وتقارير الأمم المتحدة تقول إن هناك مليوني عراقي في سوريا والأردن،وهناك ما يزيد على 100 ألف في مصر إضافة إلى ملايين سابقة هاجرت منذ 1991 أي أن الحصيلة هي خمسة ملايين نسمة من المهاجرين، لدينا شعب بكامله مشتت مع واقع مليء بالبؤس والسرقة والتفكيك وانهيار المجتمع.
* كيف تنظر للدور التركي؟
- أعتقد أن تركيا وضعت نفسها بعيداً عن الصراع الداخلي العراقي وهي الوحيدة في ذلك الموقف من دول الجوار، ربما لأن أمنها لا يتأثر بالفوضى العراقية كما هو حال جيران مثل الأردن والسعودية، باستثناء تحذيراتها من النشاطات الكردية في كردستان العراق وبخاصة قضية كركوك.

قادم لدفن بقايا هيكل
* من المعروف عن الدكتور سيار الجميل تصديه للنقد التاريخي واثارته للسجالات الفكرية، ومن ذلك كتابكم  " تفكيك هيكل " ، فلماذا كان اختياركم لهيكل وكيف كانت التجربة النقدية له، وما مدى الثقة برواياته؟
- ثمة اسباب دفعتني للسجال ضد كتابات هيكل، ذلك:
اولا: أن الناس وفيهم بعض الباحثين العرب وطلبتنا في الدراسات العليا أخذوا يعتمدون على كتاباته ومعلوماته التي لا أساس لها من الصحة التاريخية، أردت أن أقرع جرسا للقراء العرب اليوم وللاجيال القادمة التي تهمني اكثر بكثير من اهتمامي بهيكل وكتاباته، إذ أخشى ان يؤخذ ما يكتبه حقائق مسلما بها وهذه فجيعة كبيرة!
ثانيا: أن اتهاماته للعديد من الزعماء بعد رحيلهم مباشرة هي تلفيقية وخطيرة من القصص والاكاذيب عنهم ولا أساس لها من الصحة. بعد أن يكون قد مدحهم وهم أحياء ومنهم: أنور السادات والملك حسين والملك سعود وأخوه الملك فيصل آل السعود والملك الحسن الثاني والملك ادريس وشاه ايران وغيرهم!!
ثالثا: كانت إحدى طالباتي في جامعة كيل بالمانيا وهي الدكتورة سمر ماضي، قد نبهتني منذ العام 1987 في ورقتها البحثية التي طلبت منها اعدادها عن اينشتاين والعرب، بأن لا صحة مطلقا للمقابلة التي ادّعى هيكل حدوثها بينه وبين اينشتاين بعد أن تحقّقت عن ذلك بطريقة بحثية مضنية في النمسا. من هنا تزعزعت ثقتي بهيكل وبدأت حفرياتنا عن مقابلات وهمية يدّعيها هيكل ولا اساس لها من الصحة ابدا. واكتشفت ان مشكلته هناك سايكلوجية بحتة، فهو يتوهم الاوهام حقائق ويتخّيل لقاءات غير حقيقية يكتب عن تفاصيلها بقدرة عجيبة، واذا كانت له ثمة زيارات لدول فهو يختلق دعوة الرئيس ميتران له على العشاء أو تزال الحواجز بينه وبين الملك خوان كارلوس في مكتبه. أو مع خروتشوف في حديقته والملك حسين في الفندق الذي يرتاده وغيرهم كثير وهو يصف نفسه ناصحا لهم، بهدف جعل نفسه في مصافهم كي يفوز بضيافة زعيم!
رابعا: انه يدّعي بأن ما يكتبه يعتمد اعتمادا اساسيا على الوثائق، وهذه كذبة خطيرة اخرى، فمن خلال خبرتنا في وثائق التاريخ الحديث والمعاصر ومعاينتنا لما اعتمده من وثائق نقول بأن الرجل كان قد احتفظ لنفسه باوراق خطيرة من خلال اشتراكه مع بعض الوفود - وكان عليه ان يسلّمها الى دار الوثائق المصرية، فليس من حق اي انسان الاحتفاظ بوثائق سياسية- وهو يصورها ليقول بأن عمله وثائقي، علما بأنه لا يشير الى اية ارقام ولا اية احترازات وثائقية، فكتاباته غير موثقّة ابدا بالشكل العلمي، او وجدناه مؤخرا على شاشة التلفزيون في قناة الجزيرة الفضائية ونتيجة نقدنا له وتفكيكنا لاوصال كتاباته يمسك ببعض الوثائق التي حضرها له بعض موظفيه في مكتبه ليقول للناس هاكم عملي الوثائقي. إن من يعمل في مكتبه يستل بعض البحوث الوثائقية ويترجمها له ليقول بأنها معلومات عن وثائق! ولا ادري هل اللعبة منه او ممن يخدعه!
خامسا: أنه تطفّل على ميدان التاريخ الحديث والمعاصر، وهو صحفي لا يعرف آليات المناهج التاريخية ولم يقرأ فلسفة التاريخ. وبالرغم من تصريحاته انه بصحفي لا بمؤرخ، ولكنه اقحم نفسه في ميدان هو بعيد عنه كل البعد، بل واطلق احكاما لا تاريخية على مراحل وعلى زعماء وعلى اوضاع لم يفهمها ابدا، كما وأساء الى مجتمعاتنا، فأساء الى العراقيين والاردنيين والسودانيين والسعوديين والكويتيين والسوريين والفلسطينيين والمغاربة والاتراك والايرانيين. وقبلهم كلهم اساء الى المصريين انفسهم من دون اي شعور بالذنب ، ولم يكن ذلك بلائق أبدا.
كان عليه قبل ان يتكلم في التاريخ الحديث لمصر او للعرب او للشرق الاوسط برمته ان يكون قد اكمل الشهادة الثانوية، فهو بلا اي شهادة ثانوية، وايضا كان عليه ان يدرس التاريخ في واحد من اقسامه، ثم يكمل دراساته العليا كي يتأهل لكتابة التاريخ، والا فهو يعرض نفسه للتفكيك والتشريح .. اضافة الى ذلك، فهو يتجاهل ذكر اي مؤرخ مصري او عربي في كتاباته، ولن يمجّد الا بعض الكتاب من الغربيين، فلدية عقدة خواجة قاتلة، والاكثر من ذلك انه يجعلهم كلهم اصدقاؤه وقد اكل معهم الخبز والملح!!
* هل انت مستمر في نقدك لهيكل خاصة وانه ما زال يطل على الجمهور العربي بين حين وآخر؟
- هنا اود ان اعلمكم بأنني اعمل الان على كتاب ثاني في تفكيك هيكل عنوانه:"بقايا هيكل: محاولة ثانية في نقد اشكاليات محمد حسنين هيكل" وسابحث له عن ناشر صحفي في البداية كي ينسر على حلقات في أي جريدة او مجلة عربية رصينة، ثم ابحث له عن ناشر عربي قوي لادفعه الى ملايين القراء، والكتاب متمم للكتاب الاول ولكنه يتناول بالنقد التوثيقي كل الحلقات التلفزيونية التي اذاعها هيكل على شاشة قناة الجزيرة الفضائية منذ سنتين.
أما التجربة النقدية، فأنه لم يستطع ان يردّ علي ّ، واتحداه ان يرد بطريقة مباشرة لا ان يستخدم اسلوب التورية ليرد ردا تلفزيونيا وهو بشكل متخف لا يعلن للناس من يكون المقصود، وأنا اعرف من يعني! عليه ان يرد بنفسه على اساتذة جامعات وفي مقدمة منتقديه العلامة فؤاد زكريا ، لا أن يكلف فلان أو علان بالهجوم لقاء اثمان! أو يجري اتصالاته ببعض الصحف وان توقف نقد الناس له لقاء اتفاقات مبهمة! أنني أعلمه بأنني قادم إليه وسافاجئه بتجربة ثانية معه، فليستعد لها وسوف لن يكون سعيدا بها مطلقا، ولكن اتمنى عليه ان لا يحارب نقّاده باساليب ماكرة ومؤذية في عيشهم ورزقهم كما فعل طوال حياته مع اناس اخلصوا له وعلموه، فكان وراء ادخال بعضهم السجن، وأناس امتعض منهم فاقصاهم عن الاهرام واخبار اليوم. وأناس فككوا نصه ليجنّد من يلحق الاذى بهم.
* كيف تقيم حركة الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي؟
- كتبت عن دور الجامعة العربية عدة مقالات منذ سنوات طوال وكنت قد طالبتها بمقال في جريدة النهار البيروتية عام 2002 بأن تلعب دوراً لأن العراق يسير نحو الهاوية ونبهتها عام 2001 وعام 2002 وكان هناك رد علي من قبل مستشارها الإعلامي. وهو رد لا معنى له وكأن الأمر لا يعنيه، وجاءت الحرب بعد سنة وكان هناك تحرك للجامعة مشوب بالحذر وعدم الثقة وعدم الجرأة.
وأعتقد أن مؤتمر المصالحة العراقية الذي رعته الجامعة كان مؤهلا للتقدم بالحالة العراقية. أما دور منظمة المؤتمر الإسلامي فهو متواضع والمنظمة تخاف أن تشوك يدها في الوضع المتفجر في العراق.
* بعد أكثر من عام على تسلم مهامه يبدو نوري المالكي من دون أي إنجاز ما رأيكم؟
- وجهت عدة رسائل للمالكي ولكني لا أحمله مسؤولية كل شيء، فالرجل لا يستطيع فعل شيء. وأثبتت التجارب أنه غير قادر على تنفيذ مشروع أو قرار أو قيادة دولة فكيف يقود مجتمعاً، لا أنتقده شخصياً لكن هناك سلسلة فشل معه ومع غيره، بدءاً من مجلس الحكم إلى الحكومة الانتقالية إلى الحكومة المنتخبة، وهناك فشل وراء فشل بمعنى أن الموجودين في السلطة غير قادرين على أن يعودوا بالعراق إلى عهد الأمان، وهذا ليس عيباً في العراقيين، لأنه في مثل هذا الوضع أي قيادات لا يمكنها أن تصنع انتصاراً في مثل هذه الظروف لأنها أصعب من مجابهتها، والأميركان لا يستحقون الدعم فهم لم يقدروا الناس حق قدرهم وأعتقد أن هناك من له القدرة على أن يشارك بمشروع أو خطة لكنهم لا يسلمون كل الأمور للعراقيين، لذا تتوالى السلبيات ونتائج الفشل. حتى الأميركان اعترفوا أنهم أخطأوا ولكن أتساءل هل يمكن أن يبقى المخطئ أربع سنوات دون أن يصحح أخطاءه؟
* كيف تقيمون دور المقاومة؟
- هناك قوى سياسية موجودة تعمل ولكنها تحت الأرض وهذه القوى منقسمة على نفسها ولا تقبل الإعلان عن نفسها أو أن تقول والله فعلاً نحن نقاوم الأميركان، وهي حتى الآن لم تفصح عن نفسها بجبهة أو حزب ثم إن المقاومة لم تتوضح منها براءتها من دم الأبرياء وشهداء العراق الذين يقتلون كل يوم باسم المقاومة، أتمنى على القوى المعارضة المقاتلة أن تعلن عن عدم ارتكابها الجرائم، حتى نعرف من المسؤول دائماً، أنا أقارن بمثلين تاريخيين من تاريخ المقاومة كمؤرخ، هناك مثال فيتنام وكانت المقاومة فيه وطنية ضد مستعمر أميركي يقودها "هوشي منه" تعلن عن عملياتها ومسؤولياتها وعن الذي يساعدها، وهناك مثل آخر في الجزائر، وهنا لدينا مستعمر فرنسي، وهناك إعلان عن جبهة الجزائر من سنة 1951 حتى سنة 1962 وهي معلنة سياستها ومعروفة, لها دعايتها وإعلامها وبعد هذا أو ذاك هناك مجتمع دولي وحركات تحرر بجانبها وتساند كلا الجبهتين، والسؤال من يصطف اليوم مع أي مقاوم في العراق؟ ما الخطأ في هذه الحركات، الخطأ هو أن هناك مقاومة غامضة، وهناك اختلاط بين مليشيات وتدخلات دولية وطائفية ومساعدات دول كبرى ففقدت المقاومة معالمها وظلت الأمور مبهمة وغامضة.
* ماالسيناريو الأقرب الذي يمكن تحقيقه في العراق؟
- السيناريو الأقرب دائماً هو أنني متفائل بتحقيق خطوات أفضل، ولكن لابد أن نكون على بصيرة وأن نسأل وأن تكون لنا رؤيا وأن نتحمل هذه الرؤيا مهما كانت قاسية علينا، أنا قلت في بداية الحوار إننا في بداية النفق بمعنى أننا في بداية معركة مصير ومعركة تاريخ، لا أتأمل أن تنضج الأمور بسرعة وأن تعود إلى الاستقرار بهذه السرعة، يعني ربما علينا الانتظار أكثر من 6-5 سنوات هذه فترة يجب أن نرفعها من قاموسنا. كنت دائماً أقول منذ 8 سنوات إن عام 2009 سيكون مفص لا تاريخيا لكن الآن بعد ما حدث في 2003 - تقدم المفصل التاريخي ست سنوات- ومع عدم إدراك طبيعة الصراع والهجمة الغربية، عندي قناعة وربما أكون مخطئاً أن هناك صراعاً في داخل مجتمعاتنا. صراع بين عقليتين, عقلية يتمتع بها القليل من السياسيين وعقلية يتمتع بها الكثير وهي بعض من أوهام وخرافات، وفي كل حدث نؤمن إيماناً راسخاً بالانتصار إلى أن نصل إلى قمة الهزيمة.
* ما الحل ؟
- أعتقد أن مفاعيل الصراع أكبر من هذا الواقع بكثير. لماذا؟ لأن الانقسام السياسي في العراق قاد إلى انقسام اجتماعي تقوده الأحزاب السياسية اليوم، ثم هناك معضلة الطائفية وقد تضاربت الأكثرية الدينية والطائفية كثيرا، العراق لا تخلصه إلا الشرعة المدنية، والعراقيون يعتقدون أنه لا يمكن إلا أن تحكمهم القوى السياسية المتنورة ولا يخلصهم إلا دستور مدني لا أثر فيه للطائفية أو للدين، وهذا لن يحدث بمثل هذه السرعة، خصوصاً إذا كانت الإرادة الوطنية مصادرة والقوى الاجتماعية ثقيلة الحركة. هناك صراع على مناطق نفوذ, كما تم تحول بعض الوحدات الإدارية إلى كيانات سياسية ونهبت كنوز البلد وثرواتها، إذن الكارثة مازالت تتفاعل وإن لم تجد علاجات واقية وخططا بديلة فإن الكارثة ستستمر، أعتقد أن الداء سيصيب غير العراق ولن يقف مطولا في حدوده، وأخشى منه على العراق وعلى مستقبل المنطقة كلها. ودائماً أقول وأردد قول أحدهم حين ما قال: "إذا عطس العراق أصيبت المنطقة كلها بالزكام".

انتهى

147
انقسام لبنان (من ضمن صراعات المنطقة)... هل هو الثمن؟


د. سيّار الجميل     
يبدو ان الرهان الصعب على انقسام لبنان التاريخي لم يـزل قـائما على قـدم وساق لدى خصومه من خلال برمجة التفجيرات والتخطيط للصراعات الداخلية التي باتت مكثفة ومتسارعة بحيث لا يمكن ملاحقتها.. ويبدو ان لبنان لن يتخلص ابدا من التدخلات الاقليمية والعربية وحجمها الواسع مقارنة بالتدخلات الدولية التي يدركها كل اللبنانيين بطريقة او بأخرى. وان مجرد متابعة المؤرخ الجاد لسلسلة الاحداث الدموية المأساوية التي طالت لبنان منذ مصرع الرئيس رفيق الحريري، سيجد ان الاهداف المرسومة لا تريد رأس هذا او تحجيم ذاك. اسكات صوت هذا ولجم ارادة ذاك، بل انها تريد بما لا يقبل مجالا للشك رأس لبنان نفسه. انها تطمح الى ان يكون لبنان منقسما متشرذما، وكأنه وجها آخر من العراق مع الفارق الكبير بين كل من البلدين.
ان كل من لم يكن له أي بعد نظر في تحليل ما يجري في لبنان من قتل وتدمير، وفهم او استيعاب تداعيات الاحداث المريرة من سلسلة التفجيرات وقتل شخصيات متنوعة الاتجاهات ومتباينة السياسات سيجد ان ليس نظام الحكم نفسه في ازمة فقط كتحصيل حاصل، بل سيكتشف ان الوطن برمته في معضلة حقيقية، خصوصا وان قضايا لبنان التراكمية قد اخذت لها ابعادا خطيرة لم تألفها في السابق ابدا. وان انعكاسات الصراع الاقليمي تتجسد في هذا المحور من مربع الازمات، وبشكل محتدم في لبنان منذ العام 2005، اي بعد كل الذي حدث في العراق من التغيير التاريخي وبشكل دراماتيكي منذ العام 2003 والانتقال من دكتاتورية صدام حسين الى فوضى الاحتلال الى دكتاتورية القوى الدينية.
لقد شهدنا مصرع عدد من الرموز اللبنانية عام 2005 وبطريقة تفجيرات بشعة، لعل اهمها حادث مصرع الشيخ رفيق الحريري. واستمر السيناريو في العام 2006 مع الحرب التي لا معنى لها بين حزب الله واسرائيل والتي كلفت لبنان غاليا والتي صفق لها الجميع من دون عقل ولا تفكير. ولم ينفع الاسف ولا التراجع . ولكن كان لابد من بروز جماعات اسلامية سنية لا يفقه احد طبيعة العلاقة بينها وبين حزب الله الشيعي . وكانت جماعة فتح الاسلام مثلاً قد نشطت على امتداد 2006، لتشعل تمردها ضد لبنان عند النهر البارد الذي عد خطا اخضر! ليدفع لبنان ضريبة وضحايا من نوع آخر في العام 2007. ولما فشلت فتح الاسلام، عاد مسلسل التفجيرات يأكل الرؤوس اللبنانية من ذوي الاتجاهات المختلفة!
ان المسألة ليست سياسية ابدا كما ارى، او انها ذات ابعاد سياسية، بقدر ما تنحو لتنفيذ مخطط خطير ربما يختلف عن ذاك الذي يجري في العراق، ولكنه في النهاية يسعى لتفتيت لبنان وشرذمته وجعله مجموعة كانتونات هزيلة لا تقوى على الحياة ابدا!
ان الصراع في لبنان ومنذ العام 2005 لا يمكن ان نرى شبيها له في صراعات سياسية وطائفية عاشها كل من المجتمع والدولة اللبنانيين على امتداد القرن العشرين. بل وان لبنان اليوم يعيش معضلة تاريخية نادرة الحدوث تختلف تماما عما شهدناه في تاريخه الحديث على امتداد اربعة قرون من حياته الاخيرة ضمن صراعات طائفية معهودة! وان النزاعات اليوم لم تقتصر على طابعها الطائفي المألوف، بقدر ما يسعى الخصوم لجعل لبنان فاقدا لكل عناصره الحضارية وتوظيفه لمصالح اكبر قوة في الشرق الاوسط اليوم تتمثلها ايران.
اما سياسيا، فان خصومه يريدونه تابعا لهم بكل مركزيته العربية وبكل مجاله الحيوي. ثم قطع صلاته التاريخية القديمة والاستراتيجية المعاصرة باوروبا، ليغدو مرآة يعكس التموجات الصاخبة للاحزاب الدينية الاسلامية بكل صنوفها والتي تدير عملياتها وتسلحها وتنفق عليها بشكل جنوني جمهورية ايران الاسلامية.
ان الوعي بهذه « المسألة» غير خاف على اذكياء لبنان من المحللين والمراقبين والدارسين. ولكن ربما يغيب عن العديد من السياسيين والمؤدلجين والعقائديين او حتى من الذين ما زالوا يصفقون للثورة ليس الاسلامية، بل للثورة القومية وهم في جلباب ممزق لم يعد ينظر اليه احد منذ العام 1967. ان الوعي بان الصراع على لبنان الوطن ينبغي ان ينظر الى حركة الاحداث وسيناريوهاتها في كل الاقليم وخصوصا ما يحدث في كل من العراق ولبنان وعلى كل ابناء المنطقة ان يدركوا بأن كلا من البلدين لا يمكنهما ان يكونا ثمنا لما يريده المجتمع الدولي من ايران وحلفائها، وقد جعلها تطلق ايديها وتجثم بنفوذها في كل الاقليم لاسباب لا ندركها حتى الان. ولكن بنفس الوقت لا يمكن للمجتمع الدولي ابدا ان يقبل اي نفوذ يهدد مصالحه الاستراتيجية والحيوية. ان لبنان سيبقى مالكا لارادته الوطنية مهما تقلّمت اظافر هذا الطرف او ذاك في لبنان . ولكن من الخطورة ان يسير لبنان في طريق الانقسام، لأن الانقسام هو الهدف الاساسي الذي يراهن عليه اعداء لبنان في الداخل والخارج.
واخيرا، دعونا ننتظر ما ستتمخض عنه الاحداث القادمة، ذلك ان لبنان حبلى بالاحداث الجسام، وان ثمة متغيرات عاصفة ستحل فيه، واخشى ما نخشاه ان يغدو لبنان اشلاء كالعراق وان يبقى مخترقا، بل وان يصبح مجموعة دول بديلا عن دولة واحدة. وهذا ما ينبغي التنبيه اليه دوما منذ ان قرعنا الاجراس قبل سنين!
الحياة     - 27/09/07//

148
                   
لبنان.. شباك تذاكر لمسلسل مرعب

د. سيّار الجميل
     مرة تلو أخرى، يتعرض لبنان لمشهد مرعب ضمن مسلسل بدأ مع تفجير هائل ذهب ضحيته الرئيس رفيق الحريري وقافلة معه في فبراير 2005، تلك السنة التي تعتبر علامة فارقة في تاريخ كل من العراق ولبنان بهدف سحقهما تماما وضمن خطة باتت مكشوفة للعيان في صراع الأطراف، كان رد الفعل قويا، ولم يكتمل منتصف 2005 حتى كان مصرع الإعلامي سمير قصير في انفجار آخر. مما قاد إلى بدء تحالفات سياسية جديدة، وإذا كان اللبنانيون يختلفون سياسيا ضمن أوراق لعبة تشترك عدة أطراف داخلية فيها، فان قواعدها بمجملها تكمن من وراء الحدود لتنفيذ سيناريوهات مرعبة كما هو حال العراق، إذ لا يمكن إيقاف شبابيك التذاكر العربية والإقليمية والدولية لمشاهدة ذلك المسلسل الدامي!
     ولم يكن الأمر هينا لإيقاف عرض تلك السيناريوهات كونها تهدف إلى تحقيق جملة مطالب تراهن عليها قوى عديدة، لم تنفع أبدا كل التحقيقات التي جرت من اجل معرفة من يكمن وراء هذا المسلسل الذي سيقود إلى البشاعة، وان لبنان سيلحق برفيقه العراق الذي بات على مفترق طرق لتاريخ الصعب. لقد بقي المسلسل الدامي لا يميز أبدا في قتل قومي النزعة أو ليبرالي النهج أو شيوعي المذهب أو كتائبي الولاء، انه القاتل نفسه الذي يريد لبنان كله، ولا يريد أي جزء منه، فهو يدرك أن الأجزاء قد بقيت تصارع نفسها كما كانت في سنوات عجاف من الحرب الأهلية، ثم عادت مرة أخرى تتغنى به، فلقد كان لبنان في الماضي «قطعة سما» وهي ظّل كل اللبنانيين، وبات اليوم ساحة صراع من نوع جديد لم يكن مألوفا في السابق أبدا.
      وراهنوا على قتل جورج حاوي بعد أيام من مصرع سمير قصير، لقد استهدفوا زعيم الحزب الشيوعي اللبناني الأسبق، نعم، مات جورج وهو يرفع ارزة لبنان، ولم تكتمل سنة 2005، حتى تم القضاء على الصوت الهادر جبران تويني محرر النهار وابن صاحبها في ديسمبر من ذاك العام الدامي، هكذا أخذ المسلسل المنتج للعنف يؤسس له تاريخا جديدا في حياة لبنان، ويبقى القاتل مجهولا أو متهما حتى تثبت إدانته من دون جدوى، ليس لأنه الأقوى، بل لأن لبنان هو الأضعف نظرا للانقسامات الجديدة التي يحفل بها اليوم، ويمثله اليوم صراع إرادات وتنافس قوى تستعرض عضلاتها باسم لبنان، ولكنها مرتبطة بأطراف خارجية، وكل طرف له أجندته الخاصة وطريقته الخاصة وساحته الخاصة وأساليبه الخاصة في تصفية حساباته.
      ولما مضينا في العام 2006، شهدنا وراقبنا بمرارة في شهر يوليو اندلاع حرب قاسية بين حزب الله وبين إسرائيل دامت 34 يوما وخلفت نحو 1200 قتيل بلبنان و158 بإسرائيل، وبالرغم من نتائجها المأساوية، إلا أن اللبنانيين اثبتوا للعالم أنهم إرادة واحدة إزاء قضية وطنية مهما راهن على نتائجها الفرقاء بين الداخل والخارج، وهنا يتبين لنا مبدئيا كم هو حجم الفارق بين الصراع من اجل السلطة وبين نصرة الدفاع عن الوطن.
      فما إن عاد لبنان يعمل ليلتئم جرحه حتى رجع الصراع على السلطة من جديد بإخفاق على الاتفاق واستقالة وزراء، ولم يكمل نوفمبر 2006 أنفاسه حتى يسقط وزير الصناعة بيار الجميل صريعا أثناء مرور موكبه في حي سن الفيل المسيحي ببيروت. وبالرغم من موافقة مجلس الأمن الدولي بعد ساعات على خطط لإنشاء محكمة لمحاكمة المشتبه بهم في واقعة اغتيال الحريري والهجمات التي أعقبتها، إلا أن الأمور تسلك في تضاريس صعبة.
     وتبدأ حدة الانقسامات السياسية تأخذ لها طابعا استعراضيا بالاعتصام في الشوارع لإسقاط الحكومة، أو تأخذ صيغة التحالفات نهجا لإقصاء الرئيس، فلا الرئيس يسقط ولا الحكومة تنهار وتفتتح سنة 2007 بخبر إصدار تعهد مؤتمر للدول المانحة في باريس بالمساعدة بأكثر من 6. 7 مليارات دولار في التخفيف من وطأة ديون لبنان الباهظة وإزالة آثار الحرب التدميرية التي لم يكن لها أي معنى!
    ولكن بعد مضي أيام نسمع لأول مرة بخبر جماعة تعمل تحت الأرض وتتهم بالقتل وأعمال التفجير، ولم تنفع أية تحالفات جديدة لحل الأزمة، إذ حدث العكس بترسيخ الانقسامات بين الفرقاء والزمن كفيل بخلق خطوط حمراء ازدحم بها لبنان، وفي شهر مايو 2007 عندما يوزع مشروع قرار للأمم المتحدة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا حول تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة المشتبه بهم في مقتل الحريري في العام 2005، تتمرد جماعة فتح الإسلام ويدخل الجيش اللبناني في صراع طويل الأمد معها بتمركزها في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين ما أدى إلى سقوط 50 قتيلا على الأقل في اعنف اقتتال داخلي منذ الحرب الأهلية التي اندلعت بين عامي 1975 و1990، ويستمر القتال العنيف حتى شهر يونيو، وأدى إلى مقتل 136 شخصا على الأقل من بينهم 60 جنديا منذ بدء القتال.
     ثم يأتي مقتل النائب وليد عيدو وتسعة آخرين في انفجار سيارة ملغومة عند ناد على شاطئ بيروت، أما قبل أيام من سبتمبر الجاري 2007، فسوف لن يكون مصرع النائب انطوان غانم الرجل القوي في حزب الكتائب اللبناني هو نهاية للمسلسل الدامي في لبنان. يتبين للمؤرخ أن لبنان كالعراق يعيشان في حقل ألغام شديدة الانفجار، وسيبقى شباك التذاكر مفتوحا لمشاهد من التحديات الصعبة بدءا من مصرع الحريري عام 2005، انتقالا إلى الحرب مع إسرائيل عام 2006، انتقالا إلى الحرب مع جماعة فتح الإسلام عام 2007 وبرفقة حفلات التفجير كلها أجزاء مسلسل لم ينته، ولا تكتمل نهايته إلا بوحدة اللبنانيين وتعايشهم ضمن أجندة وطنية لبنانية بعيدا عن الصراع.

www.sayyaraljamil.com
البيان الإماراتية ، 26 سبتمبر 2007

149
  تاريخ العراق بين التعّصب والتشويه !!

د. سيّار الجميل

ان قياس احكام التاريخ لا يمكنها ان تتم بمعزل عن اتساع الرؤية وقوة المنهج ومقارنة للاحداث وتثبّت من الوقائع .. ولعل من اسوأ ما تترّبى عليه الاجيال ان تمتلئ عقولها بالتحيزات وتتشّبع بالاهواء .. وتتّربى على هوس معين او فوضى لا اخلاقية .. في حين يتطلب منا الامر عكس ذلك كله وخصوصا في العراق الذي يعيش اليوم صراعا عميقا  بين تمرّد الاهواء وبين الفكر الحر ..  بين الحيادية وبين التعصّبات .. بين الوطنية وبين الانتماءات .. بين مشروع حضاري  وبين فوضى الولاءات . ان الفجيعة تكمن ببعض الكّتاب والمثقفين العراقيين الذين لا يعرفون الا رؤيتهم الضيقة جدا للحياة والامور ، وهي رؤية لا تقتصر على الناس العاديين ، بل تنتقل وبفجاجة لا نظير لها لدى المثقفين والساسة والنخب المتماهية مع هذا ضد ذاك او ذاك ضد هذا  .

    لقد زادت في هذا العصر المتردّي كل موبقات العراقيين تجاه تاريخهم .. لقد كان العهد السابق يفرض على الجميع رؤيته الاحادية للتاريخ من دون اي حيادية ولا اي موضوعية ، واليوم تجد العراقيين وقد انقسموا ازاء تقييم تاريخهم وابطال الماضي الصعب منذ اكثر من الف سنة  .. انهم يرفعون عهدا معينا او زعيما معينا او حركة معينة او حزبا معينا الى اعلى السموات في حين يجعلها عراقيون آخرون في اسفل سافلين ، بل واستمعت قبل ثلاثة اشهر في الاردن الى محاضرة لأحد المثقفين العراقيين جعل كل العراقيين اقواما من المتوحشين الذين لا يعرف تاريخهم الا العنف والدم ، وخلط الاخضر الحضاري بسعر اليابس السياسي وبطريقة فجة لا يمكن قبولها ابدا !!
    في مثل هذه المرحلة من انطلاق الفوضى العارمة لا الحريات الحقيقية تتكتشف " حقائق " لم تكن موجودة سابقا بفعل الانغلاق والكبت وممنوعات الماضي السابق في حين تحولت الاوضاع الفكرية من تكوين مناخات لحريات صحية الى فوضى قيمية وطائفية .. اجدهم  يرون في خليفة عباسّي معين مؤسسا لعاصمة ودولة وزعيما ورائدا لا يمكن ان نجد له مثيلا في الوجود .. ولكنه في نظر عراقيين آخرين مجرما وسفاكا للدماء وخائنا للامانة وظالما ومستأصلا شأفة الاسلام والمسلمين .. جماعة ترى في مجتمع العراق كل العفونة والقتل والعنف وحب الدماء منذ القدم حتى وصل الامر ان يوصف كل العراقيين بـ " بالوعة " بحاجة الى غطاء اسمه نوري السعيد او عبد الكريم قاسم  !! وآخرون يمجدون ويتفاخرون بهذا الشعب العظيم الذي لا يمكن ان نجد من مثله ابدا في كل الدنيا وكل الوجود مهما كثرت فيه الالاف المؤلفة من الخاسئين ( كذا ) ـ كما كان يسميهم صدام حسين ـ .. جماعات حزبية  ترى في تاريخ العراق نضالات احزابها فقط ومعاناة مناضليها من طبقة البروليتاريا العاملة والفلاحين المسحوقين .. او فئات المثقفين او المهنيين من القوميين البورجوازيين من دون الاعتراف بأي خطأ من الاخطاء او جناية من الجنايات .. ويوجهون عسف كتاباتهم فقط ضد خصومهم السياسيين !! وكأن كل فصيل يمتلك تاريخا نقيا صنعته الملائكة ، ومن دون مراجعة حقيقية لما سجله العراقيون عبر تاريخهم من جنايات هوس العسكر والمتحزبين المتعصبين ازاء ابداعات المثقفين من نخب المبدعين !
  ان جيلا ملوثا كاملا في طريقه الى الرحيل بعد انبثاقه في عصر التناقضات الايديولوجية وكان ولم يزل لا يرى في تاريخ العراق الا  نفسه من دون اي رؤية واسعة للتاريخ وعوامل متغيرات الحياة .. ان ثمة متطفلين على التاريخ من هذا النمط الذي لا يريد سماع كلاما كهذا ، بل يصمت ازاء حالة ويثرثر في حالة اخرى .. ان المتطفلين من المؤدلجين لا يختلفون في تعصباتهم عن المتطرفين الدينيين الذين لا يرون في تاريخ العراق الا تاريخهم وحدهم وتاريخ طائفتهم فقط !  انهم لا يعرفون اي نسبية للتاريخ فكيف يعرفون نسبية الحياة .. ؟؟ ومن المفجع ان تكتشف خواءهم الثقافي قبل ان يفضحهم عريهم السياسي ! ان ما يؤلم حقا ان يبقى جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على نفس شعاراته وضمن اهوائه ولم يتعلم من كل ما صادفه من اهوال عبر خمسين سنة ! ان اقسى ما يمكنني تجرّعه ان أجد المناضلين الراديكاليين ( الوطنيين ) القدامى يحملون على عملاء الامس حملات شعواء ولكنهم يسبحون بحمد عملاء اليوم !
      ان تناقضهم مفضوح تماما ، فهم ساخطون على الاستعمار وأذناب الاستعمار في كتاباتهم الطفيلية للتاريخ ، ولكنهم يمجدون الوجود الامريكي في العراق وان سألتهم عن سر هذا " التناقض " لا يجيبون ! فمن زمن طويل ذهب باسمهم شهداء وضحايا من قبل الامبريالية العالمية .. ولا ادري كيف رحبوا اليوم بالوجود الامريكي على ارض العراق ؟ واذا كانوا على امتداد حياتهم من الثوريين والكادحين والراديكاليين والكفاحيين المسلحين ..  فهل من حقهم ان يكونوا فجأة من الليبراليين ؟ واذا غدوا كذلك ، فهل من حقهم شتم خصومهم السابقين ؟ انهم ليسوا من الليبراليين الاحرار ولا من الراديكاليين الثوريين ابدا ، فان كانوا كذلك لعرفوا كيف يتقبلون من يخالفهم سياسيا سابقا او يصّرون على مبادئهم اليوم .. 
    وعليه ، فانني اطالبهم ان يرتزقوا في مجال آخر غير كتابة التاريخ ، فالتاريخ معرفة ومنهجية ووسطية وموضوعية حيادية فلا تعصب في كتابة التاريخ العلمية .. وان يتعلموا من المؤرخين الجادين المحترفين الحياديين كتابة التاريخ وكيف تتم الحفريات فيه وكيف نعيد قراءة العراق بلا كراهية وبلا سذاجة وبلا احقاد وبلا بقايا الاولين والاخرين .

www.sayyaraljamil.com

الف باء  ، 24 سبتمبر 2007

150
العراق رواندا جديدة ؟



د. سيّار الجميل

ان مشروع الشحن الطائفي الذي يجري في العراق بتغذية متعمدة من اطراف محددة ومعروفة انتج  وباءً تاريخياً  لا يمكننا تخيل ابعاده  ابدا ، والمشكلة ان كل الاطراف لم تعترف كل واحدة بنصيبها من اشعال الفتن وارتكاب الاخطاء .. وانها لم تتراجع عن كل ما اقترفته من خطايا قادت الى المأساة . ان التفكير بالابادة الجماعية قائم لدى بعض العراقيين احدهم تجاه الاخر ، بل وسمعناه  من اكثر من زعيم عراقي سابق ! ناهيكم عن بعضهم سمعته يقول : لولا الامريكان لاستطعنا ان نسحقهم جميعا ! اما الطرف الاخر ، فيقول لولا الامريكان لاكتسحنا هذا الاقليم ! ويعلق آخرون انه لولا العمل بالفتاوى لقضينا على هذه الطائفة تماما !
    ان مشروع الابادة الجماعية يبدو انه كامن في عقلية البعض ممن يغرق في تعصياته تجاه طائفته او فصيلته او قوميته او حزبيته .. وهذا كما يبدو اليوم يترسخ شيئا فشيئا  في شرائح معينة من مجتمعاتنا في الشرق الاوسط خصوصا ! ان الابادة الجماعية كما عرفتها اتفاقية جريمة الابادة والمعاقبة لسنة 1948 ، انها تتكون من افعال معينة  " ارتكبت بقصد التدمير الكامل لجماعة قومية او عرقية او جنسية او دينية ، جزئيا او كليا ، باعتبارها كذلك .. وان ثالث ابادة حدثت في القرن العشرين هي التي جرت في رواندا عام 1994 .. اذ قتل ما بين نصف مليون ومليون انسان توتسي وهوتي معتدل بعد انقسام  سياسي واجتماعي مرير !  فهل يمضي العراق الى الكارثة ايضا ان لم يحدث تغيير جذري في الاسس المبدئية والسياسية  المعتمدة في  العراق الجديد ، وان لم يجر اي تأسيس جديد يقوم على اساس الاعتراف بكل الاخطاء ، فسوف نبقى ننتظر ولادة عراق حضاري مثالي وهذا لن يحصل لسنوات قادمة بفعل الاخفاقات المتتالية التي منيت بها كل الجهود .. 
لقد كانت الامم المتحدة ممثلة المجتمع الدولي  برمته تدرك تماما ان جريمة كبرى ستقع في رواندا ، وان تشبث الحكومة الرواندية بالحكم وخططها التي تقضي بالاعتماد على طرف دون آخر ، فقاد ذلك الى مذابح جماعية مروعة للتوتسيين في شمال البلاد بين 1993 و1994 بعد حرب اهلية انقسامية قاسية استمرت لاربع سنوات .. وكان مصرع رئيس رواندا  ذريعة لتنفيذ الابادة .. واشترك الاعلام باطلاق تعليمات الى فرق الموت التي تدعى انتراهاموي (: المقاتلون معا ) وبلغت حدة التصعيد على المذابح ، ودعمت القوات الرواندية المسلحة تلك الفرق ضد المدنيين التوتسيين والتجمعات المنعزلة .. ان ما يحدث في العراق يكاد يشابه الى حد كبير حالات الانقسام في رواندا  وسيناريو التمزق الذي اعدّ من اطراف عدة لصراع اهلي دام اربع سنوات ..
ان الانقسامات التي يعيشها العراقيون اليوم وهم يعانون من الصراعات الاهلية ستودي بهم الى مجازر وتصفيات للاقليات السكانية ، وخصوصا في المناطق والبيئات المختلطة . وان مذابح  الروانديين كانت على مشهد من العالم كله اعلاميا ، بل مع وجود قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة على الارض الرواندية .. وقد وقف كل افرادها جانبا وهم يراقبون الفلم المرعب حقيقة ..     ان الموقف العربي لم يزل صامتا ومحتارا ولا يعرف ما الذي يفعله ازاء الصراع في العراق ، فاللعبة الدولية لم تكتف في ان تقف جانبا ، بل انها تدرك حجم التدخلات الاقليمية في العراق ، كما وتدرك ان الاثمان التي يدفعها العراقيون غالية جدا واننا نخشى ان تنتهي بمجازر وحروب ابادة ما دام الصراع الداخلي قد انتقل الى مراحل متدنية جدا .. وهي وصمة عار وصفحة مخزية من التاريخ .
ان ما حدث ويحدث في العراق من مذابح وتهجير واختطافات وتفجيرات وتفخيخات .. يفوق كثيرا  في صوره المرعبة ما جرى في رواندا .. وكنا وما زلنا نجد المجتمع الدولي يقف عاجزا عن تقديم اي حلول ومعالجات عملية وجذرية .. وتكاد تكون الصورة مشابهة تماما كما اتذكرها كتلك التي جرت في رواندا التي افرشت الجثث المتعفنة ترابها . ان الاستئصال السكاني لهذا الطرف او ذاك من العراقيين لا يمكن ان نرجعه الى " الارهاب " فقط .. صحيح ان منظمة القاعدة كانت ولم تزل لها جرائمها القاتلة بحق العراقيين ، ولكن ثمة تعقيدات لا يمكن حلها بسهولة .
      علينا ان نوفّر اية علاجات لايقاف الكارثة الزاحفة ، وان نخضع العراق كله الى انعاش وعناية مركزة .. وعلى العراقيين ان يجتثوا بأنفسهم كل عوامل الصراع الذي تغذيه اطراف متنوعة وتتوزع جيوبه وميليشياته وحواضنه في داخل العراق سواء تلك المعلنة التي تعمل نهارا.. او تلك التي تعمل تحت الارض ليلا . وكما حدث من تعتيم اعلامي كامل في رواندا ، فثمة تعتيم اعلامي او اعلام مضلل يجري في العراق اليوم  الذي تؤهله الى حيث الابادة والتهجير.
       اننا لا نريد ان يمّر العراق بتجربة رواندا في الابادة .. وعلى المجتمع الدولي ان يساهم في ايقاف هذا النزيف.. ان عمليات التهجير والقتل نتاج فعلي لحرب اهلية لا يمكنها ان تبقى ابدا كي تصل مرحلة الابادة .. وعلى العراقيين ان يعالجوا مسيرتهم كلهم ، ويفكروا بالتنازلات احدهم للاخر ، وان يدرك الحكام الجدد بأن السلطة لا تحتكر ، وعلى المعارضة ان تدرك بأن الوطنية لا تحتكر هي الاخرى . وليدرك العراقيون ان تجربة الاختلاط والزيجات بين التوتسيين وبين الهوتيين تشبه الى حد كبير تجربة زواج السنة والشيعة او العرب والاكراد .. ومع ذلك ، فقد كانت هناك ابادات بشعة واستئصال مرعب . 
     واخيرا اقول : أن إبادة الراونديين كان يمكن منعها لو أن العالم الخارجي امتلك الإرادة لفعل ذلك. كانت الحقائق بيّنة. وكانت أسس التدخل القانوني موجودة، وما كان مفقوداً ليس إلا الشجاعة.  فهل يمكن للعراقيين استيعاب هذا الدرس البليغ ؟
www.sayyaraljamil.com
 
البيان الاماراتية ، الاربعاء 19 سبتمبر 2007.

151
                               
  محمد مبارك .. الوداع الاخير

د. سيّار الجميل


كلمة توصيفية
محمد مبارك واحد من جيل الامس الرائع .. رحل هذا الصديق قبل ايام ليلتحق بقافلة الراحلين من كبار المثقفين العراقيين .. رحل وهو يودّع زمنا ثقافيا وصلت اليه بغداد ايام شبابه الى آفاق رحبة على ايدي تلك النخب من المبدعين في القرن العشرين .. رحل ولسان حاله يقول : انني ابكي على تلك الازمان المثقلة بالكلمة والصور المبدعة والصوت الرخيم وروعة العراقيين .. وكل الحزن والاسى والالم على زمن قادم لا يعرف الا الجهالة والهشاشة واساطير الاولين ..  انتقل الفقيد محمد مبارك من الحلة الفيحاء ليجعل بغداد مدينته التي حرص على ان يعرف كل رجالها ومثقفيها .. فيها درس وتعلم وفيها قرأ وكتب .. ومنها خرج واليها دخل ..
     هذا المثقف العراقي الذي عشق الكلمة وكره السفر .. احب النخلة وناوئ الظلام  كان له انتماؤه الذي يود ان يعلم به كل العالم ولكنه يخفي في اعماقة حزمة هائلة من الاسرار التي لا يود ان يفصح عنها . كتب جملة من المقالات والدراسات التي نشرها في عدد من الصحف والمجلات العراقية ، وكان مبارك قد بدأ حياته الثقافية اثر ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، وكان شابا متوثبا ثائرا يقضي الليالي الطوال في القراءة وبدأ يكتب المقالات وينشر في بعض الصحف البغدادية .. ولكنه عُرف ، حقيقة  ، مذ أطّل منذ منتصف عقد الستينيات من خلال مجلة الاقلام الشهرية التي كانت قد صدرت عن وزارة الثقافة والارشاد ببغداد ، واستمر ينتقل من الثقافة الى الاعلام اذ بقي اسمه طوال نصف قرن واحدا من ابرز النقاد العراقيين للشعر والادب وبعض الفنون الادبية الاخرى ..

البراعة والوعي
   ولو سئلت عنه لقالوا انه برع في الدرس الادبي والنقد الادبي اكثر بكثير من براعته في النتاج الفكري والرؤية الفلسفية .. قرأ له الناس مقالاته وتابعوا دراساته سابقا .. وقد ارسل لي مؤخرا عندما كنت اعيش في دولة الامارات كتابه " مقاربات في العقل والثقافة " وله " الوعي الشعري " وفيهما تحليل رائع يدل دلالة قاطعة على ما تحلى به محمد مبارك من مستوى نقدي وعقلية حديثة لم تصبح على ما هي عليه الا بعد ان جهد صاحبها طويلا وكانت له ثقافته الواسعة ، ومتابعته لتفاصيل الحياة اليومية لهذا وذاك .. وانني عندما اتحدث هنا عن الرجل ، فانني اتحدث عن تجربة حقيقية مع صديق مثقف كان همه الاول حفرياته التي يعتني بها منذ صباه . واعتقد ان تربيته الاولى قد جعلته ينقّب عن الاشياء بكل صغائرها ..

محمد مبارك .. من يكون ؟
      ولد في مدينة الحلة ورحل ببغداد اذ وافاه الأجل ليلة 29 / 30 آب 2007 إثر اصابته بنوبة قلبية مفاجئة.. لقد عشق بغداد ودرس في مدارسها مذ انتقل الى الحاضرة الثقافية بكل ثقلها ابان الخمسينيات ، وكانت فورتها عارمة عهدذاك  .. وعمل على مدى ثلاثين سنة في  مؤسسة الاذاعة والتلفزيون يشرف على البرامج الثقافية التلفزيونية ، وكانت له مشاركاته في مهرجانات الشعر والمسرح .. اذ قضى الأستاذ محمد مبارك سنوات عديدة رئيسا للقسم الثقافي في تلفزيون بغداد ,وشهد التلفزيون الثقافي في عهده أزدهارا ثقافيا وأدبيا ولعل اغلب الناس لا تعرف ان الراحل محمد مبارك هو خال السيد محمد سعيد الصحاف وزير الاعلام الشهير على العهد السابق ، وانني لا اعرف طبيعة العلاقة بين الاثنين  ولكن هذا لا يمنع ابدا ان الرجل كانت له استقلاليته وثقافته الواسعة في مختلف مجالات التراث والاداب والفنون .. وكانت لغته عالية المستوى ..
      لعل اهم ما يعجبني في الراحل محمد مبارك وقفاته البحثية المطولة عند الفيلسوف الكندي والشاعر الجواهري وعالم الاجتماع الوردي والشاعر البياتي وغيرهم .. وكان دوما يبحث عن الصلة الحقيقية بين المثقف ومجتمعه .. وينقّب في النص الادبي تنقيبا معرفيا اكثر منه ظاهراتيا . لقد وجدت في الصديق الراحل محمد مبارك روحا وطنية وقادة ، وتواضعا بالغ التأثير وله مزاجه الشعبي العراقي  بالرغم من قبعته الاوربية .. كان منفتحا على الاخرين كأي عراقي اصيل .. وكان من الصنف الذي يتحمل المشاق .. وكان قومي النزعة ولكنه تقدمي التفكير .. كان يحب العمل ويبقى الساعات الطوال في اي مكتب يختاره  ليقرأ ويكتب  او يجالس من يراه من المثقفين .. كانت خصاله كتلك التي زرعها  الرعيل  الاول من المثقفين العراقيين الكبار الذين اتمنى على الاجيال الجديدة ان تتعلّم منهم مكارم العراقيين بعيدا عن الابتذال والعتمة والانغلاق والجهالة التي يريد زراعتها المعّممون الجدد .

محمد مبارك والزمان
    التقيت بالصديق الراحل ببغداد مرة واحدة في احدى المناسبات .. ومضت السنوات ، وكنت في الاردن ، وكان مشروع جريدة الزمان قد بدأ على يد الصديق سعد البزاز من لندن ، ولكن مكتبها الحقيقي كان في منطقة الشميساني بالعاصمة الاردنية عمّان ، اذ كانت عمّان المحطة العراقية لكل الخارجين من العراق ، وكل الخارجين عن النظام .. ولقد نشطت جريدة الزمان نشاطا سياسيا واعلاميا وثقافيا على مدى السنوات الاخيرة من حكم صدام حسين ، وعدّت الجريدة المعارضة الاكثر اتساعا وانتشارا .. وينبغي ان نقول كلمة حق ان الزمان قد جمعت اغلب الكتّاب العراقيين المناوئين للنظام السابق على  صفحاتها ، وانفتحت على الجميع ومن اجيال عدة واستقطبت اسماء شهيرة .. بل ووصل الامر ان يخشى المرء على نفسه وهو يقرأ الزمان ابان العهد السابق وهو خارج العراق ، فكيف اذا كان يكتب على صفحاتها ..
    وكان محمد مبارك قد حلّ بالعاصمة الاردنية ليعمل مديرا لمكتب الزمان .. دق جرس التلفون يرن علّي في الجامعة ، فاذا بالانسة ندى قدومي سكرتيرة مكتب الزمان في عمّان ، تقول : ان الاستاذ محمد مبارك يريد التكلم معك ، فرحبت به وبمبادرته وبدأت علاقة وشيجة بيننا نحن الاثنين ، اذ كثيرا ما كنا نلتقي لنتحاور في الشأن الفلسفي .. كانت له ثقافة واسعة في كل من الفلسفة الاسلامية والفلسفات الحديثة والقديمة .. كما وعرض عليّ الرجل نقداته لما كتبه عن بعض ادبيات الدكتور محمد عابد الجابري قبل ان ينشرها في مقالات متسلسلة عدة ..  كان يهتم جدا بما كنت انشره في نقد اشكاليات محمد حسنين هيكل في " تفكيك هيكل " ، وكل حلقة تنشر فان محمد مبارك يتصّل بي تلفونيا ليعلن عن متابعته وتشجيعه بعد قراءته للمسلسل .. 
خدمات لا تنسى
     ولا يمكنني ان انسى ما اسداه لي الرجل من خدمات ، اذ كلفتّه وانا بصدد تأليف كتابي " انتلجينسيا العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين " ان يجدول لي اسماء ما يعرفه من مثقفين عراقيين .. فكان ان كتب لي بقلمه جداول لا زلت احتفظ بها حتى اليوم ، بالاسم والمكان والمجال الثقافي وسنوات الولادة والوفاة ان كان يعلمها . لقد اثنيت على جهوده كثيرا ، وكان حريصا جدا في ان يخرج عملي هذا لتاريخ المثقفين العراقيين وتطورهم وانتكاساتهم المريرة . اختلفت معه في جلسة حوار بالعاصمة الاردنية عمّان في العام 1998 حول نظرة كل منّا الى التراث ، وقد عرفت انه قد رسخ افكاره عن ذلك في كتاب له عنوانه " نظرات في التراث " ، ولكنني لم اقف حتى اليوم على كتابه " مواقف في الفكر واللغة " ..

الانسحاق تلو الانسحاق
    ولا يفوتني ان اذكر ان محمد مبارك ـ رحمه الله ـ عاش ومات زاهدا في حياته ، عاش على راتبه الحكومي .. ولما زحفت سنوات الحصار القاسي ابان التسعينيات على كل العراقيين ، عانى الرجل الامرّين كغيره من المثقفين ، ممّا اضطره الى ان يغادر العراق ليعمل في الزمان .. ولكنه كان يزور بغداد بين سنة واخرى .. وكنت على اطلاع كامل على معاناته ومكابداته عندما عاش في الاردن ، اذ جاء ليعمل وحده وعائلته باقية ببغداد .. ولما غادرت الاردن عام 2000 ، بقي الرجل يذكرني دوما ويرسل بتحياته لي .. ولقد سمعت انه تسّلم تحرير مجلة الاقلام بعد سقوط النظام السابق ، وكان يرنو الى بناء حضاري للعراق ، وكان يحلم بعودة كل الطاقات والتخصصات الى ارض العراق ، ولكن الاوضاع كانت تنتقل من سيئ الى أسوأ  مع كل الاسف .. ليلتحق محمد مبارك بقافلة الراحلين ، وكأنهم يترجمون معا رفضهم لكل هذه التداعيات التي اودت بحياة العراق ومستقبله .

بعض افكاره المستنيرة
كان من اهم ما يجري في لقاءاتنا العديدة ان نتحاور في موضوعات فكرية وفلسفية وتاريخية .. علما بأنني وأياه كنا نتحاشى ان نتكلم بالسياسة الا قليلا وعلى هامش ما يستدعيه الموقف ، وقد وجدته في عدد من المرات ينتقد الوضع القائم آنذاك نقدا صارخا .. كان الرجل في الفلسفة اقوى كثيرا من التاريخ .. وكان في الادب والنقد الادبي ابدع منه في الدين وعلم الاجتماع .. تباينت وجهة نظرينا مرة حول قضايا عديدة وابرزها في ظاهرة القومية العربية ! كان يرى الاوبئة الاجتماعية الزاحفة نتيجة اتساع حجم الطفيلية الاجتماعية .. ولكنه كان يؤمن بنظرية المؤامرة وكان يؤكد لي مرارا ان الفلاسفة العرب المسلمين سبقوا فردريك هيغل في طرحهم وحدة الوجود .. كان لا يطيق الكسل ، بل ولا يريد ان يرى الناس تتثائب !! كان يسألني عن ذلك واجيب بأن الانسان ان اصبح عاملا منتجا ، فسوف يغّير وجه الارض رأسا على عقب ..
     كتب محمد مبارك في واحد من مقالاته يقول : " ولك ان تنظر في اوضاع اوساطنا الفكرية والادبية والثقافية بل حتي الجامعات، لتتحقق مما صرنا اليه من انحدار كينوناتنا المادية والروحية. لقد أضحي الفكر بوقا للسياسي ومروجا لبضاعته الرديئة والعلم وسيلة لقتل الناس وتكبيل الطاقات وسمل العيون وتكميم الافواه ومصادرة الشعب علي مقدرات كينونته الآدمية علي الرغم من لا فاعليتها وهشاشة مفردات تركيبها " .
واخيرا : اي دمعة حزن
لقد مضى محمد مبارك ورحل من دون ان يعلم .. كان وداعه الكبير مع اصدقائه ، ولكنه لم يودع العراق الذي ضم جسده ، سنبقى نذكر محمد مبارك ، فقد خسرنا واحدا من اجود المثقفين العراقيين .. نتمنى ان تكون سيرته وآثاره  معلما على طريق الاجيال الجديدة ليتعلموا كيف تكون القناعة راسخة الى الاعماق ..

www.sayyaraljamil.com

الزمان ، الف ياء ، 17 سبتمبر 2007

152
العراق وفشل الرهانات الامريكية الصعبة


د. سيّار الجميل

     من يقرأ تاريخ العراق السياسي سيجده مليئا بالرهانات الصعبة التي عادة ما تنتهي بالحروب الدموية التي يذهب ضحيتها الالاف من ابناء العراق ، فضلا عن اندحار الغزاة. لقد كنت قد نشرت كتابا عن اندحار نادرشاه في العراق وكان احد اعتى غزاة العراق في العصر الحديث، والذي تعددت عملياته ، وكان يدحر في كل مرة في بلاد الرافدين وسط انتصاراته في اعماق آسيا وقوقاسيا ، ويدرك الجميع اندحاره في العراق لمرتين وضاعت رهاناته الصعبة في اشهر غزواته على بغداد عام 1732 م وعلى الموصل عام 1743م .. لقد كان يراهن على انقسام العراق وتشرذمه من اجل اهداف شريرة. وكان العراقيون يراهنون على وجودهم ومصيرهم بمعزل عن تنوعاتهم وتبايناتهم! وثمة قصة رهانات اخرى على العراق وقفت عندها تاريخيا في كتاب منشور آخر عنوانه " الرهانات المستحيلة " .
     واليوم .. كان المفترض بالامريكيين ان لا يراهنوا ابدا على بعثرة العراق باساليب فاشلة، وبالرغم من ترويجهم لأكثرمن اربع سنوات ، معلومات كاذبة وافكار ومشروعات واهية وشعارات وتلفيقات لا اساس لها من الصحة .. نشروها في تقاريرهم وكتبهم ووكالات اعلامهم وقام بتكريسها عدد لا يستهان به من الاخوة العراقيين ، بل وقد اقر بعضها في " دستور" اختلف كل العراقيين على ما تضمنه من فقرات مجحفة وغير لائقة! اصبحنا اليوم وبعد حرب دموية طاحنة وبعد انهيار كامل لكل المؤسسات ، وبعد كل ما حاق بالعراق من خراب .. لا نسمع ابدا بتعابير ومصطلحات اشاعوها وفرضوها بالرغم من انف العراقيين، بل وكلما كنا ننتقد خطواتهم واساليبهم واسسهم البليدة كنا نواجه بالرفض والتجاهل .
     لقد ركبوا رؤوسهم عندما راهنوا وما زالوا على انقسام العراق! وتراقصوا على " الفيدرالية " كمبدأ لم يجد تأييدا من كل العراقيين ! وتشدقوا بالديمقراطية، وكّنا نحسب مشروعهم سيضمن لحكم العراق وجود قوى نظيفة وذكية وتحديثية معاصرة ، ويبدأ العراقيون بترتيب بلادهم ضمن ثوابت مجتمع مدني معاصر ، فاذا بهم يكبلون الحياة السياسية باحزاب وهيئات دينية وطائفية .. انتجت فجيعة للعراق والعراقيين. كنّا نتأمل ان تكون الانتخابات حرة ونزيهة من دون اية اجندة انقسامية وطائفية ولكن حدث العكس! راهنوا وما زالوا على قانون للنفظ  اقل ما يقال عنه انه يكرس التجزئة بكل معانيها، والنهب بكل فضيحته ولم يفلحوا حتى اليوم ، علما بأن العراق غدا ساحة للنهب والاختلاسات ! راهنوا على ايجاد انتماءات بديلة عن العراق ، فلم ينتصروا بها ابدا. راهنوا على جعل العراقيين مجموعة مكونات وصنّفوا تلك " المكونات "الى اساسية ومحتقرة، واندفعوا باتجاه خلق ثلاثة كانتونات متصارعة، فاذا بهم يجدون انفسهم امام 18 كانتونا هي محافظات العراق! واذا كان هناك أي رهان على استقلال كردستان باقتطاعها من العراق، ونحن مع حق تقرير مصير الشعوب ، ولكنه رهان لم يحسب حسابات الجغرافية ولا رواسب التاريخ!
     لقد لعب الجميع العابهم الفاشلة في العراق ، وكانت الولايات المتحدة تحسبه مجرد نظام حكم بشع ومخيف على ارض لا تعيش فيها الا شراذم سكانية مبعثرة مهمشة طارئة هزيلة مفككة!! كانت تخشى النظام السابق وقد حسبت له حسابا عسيرا من دون ان تحسب للمجتمع العراقي اي حساب ولا اي اعتبار،فاذا بها اليوم ترتد وتعترف بمرارة ان النظام كان مجرد نمرا من ورق وان مجتمع العراق ليس من السهولة التعامل معه او اللعب بمصيره ! لقد انقلب اغلب العراقيين على السياسة الامريكية اليوم نتيجة ما حاق بهم وببلادهم من دمار وخراب وبؤس وشقاء ، بل وان الولايات المتحدة كانت وراء مأساة العراق منذ اربعين سنة ، بكل ادوارها في الحروب وجناياتها من خلال عملائها ومنفذي خططها التي لا تعد ولا تحصى !
السؤال : ماذا لو تركت الولايات المتحدة العراق وحده لمصيره ؟
ثمة اوضاع جديدة ستخلقها المرحلة القادمة في حال انسحاب القوات الامريكية من التراب العراقي ، منها ان فراغا كبيرا سيحدث لا محالة في كل من الدواخل العراقية والاقليم برمته، وان ثمة وجوه جديدة ستصعد سلم القيادة وربما بدكتاتور جديد ، وان الوجوه الحالية ستختفي نهائيا عن المسرح السياسي ، بل ولن تجد فرصتها بالبقاء على التراب الوطني .. ستختفي القوى السياسية برمتها رفقة مليشياتها ! وسيبحث العراقيون عن فرصة انقاذ باجمعهم. ومن الجنون ان تتدخل اية قوى اقليمية ، ولكنها ستفعل ذلك ، مما ينتج ردود فعل قوية في الداخل وستتبلور انتمائية واحدة للمجتمع بديلا عن هذا التفسخ الذي خلقته الرهانات الصعبة ! سيكون الخوف من ايران كبيرا ، ولكن حتى ان جرّبت حظها لملئ الفراغ ـ كما تقول ـ ، فانها ستحرق المنطقة كلها .. فلا يمكن لايران ابدا ان تبقى اللاعبة الحقيقية بمصائر الشرق الاوسط ابد الدهر !
اما فرصة الحرب الاهلية ، فثمة رهانات حقيقية على ابقائها والنفخ فيها .. ولكنني اعتقد بأنها رهانات مرتبطة بالقوى الدينية والطائفية الحالية ، فهي متى رحلت او قضي عليها  بارادة عراقية حقيقية ، فان المجتمع سيستعيد عافيته ليس بسرعة البرق ولكن بعد زمن طويل . ولا أدري ، هل سيتعلم العراقيون الدروس التاريخية ام لا ؟  .. واذا كانت تجربة القوميين التاريخية الطويلة قد فشلت واقعيا ، فان تجربة الاسلاميين العراقيين باحزابهم وتياراتهم وهيئاتهم وتشكيلاتهم وميليشياتهم ستموت وتندثر الى الابد . ان سفينة العراق سوف لا ترسي بهدوء الا بعد سنوات طوال .. وان استعادة العراق طبيعته ليس بالامر السهل ، فان الرهانات لم تنته بعد .. حتى وان كان الامريكيون قد فشلوا فشلا ذريعا في تطبيق رهاناتهم الصعبة ، فاللعبة لم تنته بعد وسيدخل العراق حساب رهانات اخرى مستقبلا . وانتم ايها العراقيون دعوا عرض سيناريو الرعب ينتهي .. ولكن لا تدعوا اليأس يأكل القلوب .. فالشمس ستشرق ، ولكن ليس عما قريب !

www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 12 سبتمبر 2007

153
تيار المحافظين الجدد  : الانتظار ام الاحتضار !

د. سياّر الجميل



     سيبقى التاريخ يشهد على ان فاتحة القرن الواحد والعشرين كانت مثل حقيبة رائعة للانسان ، ولكنها مليئة بالالغام والاسلحة الذكية التي فجرها تيار سّمى نفسه بـ " المحافظين الجدد " ، اذ شاءت الصدف ان يعصف بالعالم كله .. فلقد اسيئ للسياسة الخارجية جدا ، ودخل العالم في طور تدمير اقتصادي من خلال انفاق عسكري هائل كذاك الذي مارسه السوفييت بجنون .. كما واستخف بالقانون الدولي وازدرى كل تاريخ الامم المتحدة على مدى خمسين سنة من التطور الذي برعت فيه عدة مؤسسات دولية .. كذلك لم تحارَب " الانظمة المارقة " ـ كما أسماها ـ بقدر ما حوربت الشعوب وعوقبت على افعال لم ترتكبها ابدا .. لقد اماتوا حتى تلك الآمال التي كان يذكيها من سيبني دولة الرفاهية .. لقد حوربت المجتمعات الثالثة حربا لا هوادة فيها .. كان العالم من قبلهم يسعى الى الاخذ بيد الشعوب المنكوبة والمضطهدة والفقيرة .. ولكنهم ادخلوا العالم في مشكلات لا اول لها ولا آخر ومضوا في سياسات تقليدية تعود قيمها الى الماضي الاستعماري الكريه .. لم يعرفوا ادارة الحروب التي اشعلوها ، بل اجّجوا روح العداء بين المجتمعات ، واشعلوا الفتن والانقسامات من دون تقديم اي حلول مستقبلية لها .. 

       كانوا فى البدايات عند الستينيات الماضية مجرد ارقام يطرحون فلسفتهم باتجاه الديمقراطية ومحاربة الشيوعية ويعملون من اجل دولة الرفاهية وحقوق الانسان في العالم .. لكنهم مع بدايات القرن الواحد العشرين تخلوا عن تلك الالتزامات التي جسدها غيرهم ، بل وتحولوا الى اشبه باعداء للثقافة الديمقراطية والافكار الليبرالية الحقيقية ، بل وان بودوريتز قد اطلق عليهم اصحاب " ثقافة معادية "  ليس في امريكا نفسها ، بل في كل العالم الحي ، ان حركات مناوئة للمحافظين الجدد تتشكّل اليوم ، وتمثلها حركات وافكار ومؤلفات تسعى الى تحرير التاريخ من الاساطير والى تحرير السياسة من قبضة الخرافة ، والى ابعاد الدولة عن الدين .. ان ثمة استعادة جديدة للفكر الحر ، بل وانتعشت الاحزاب الاشتراكية من جديد .. وثمة موجة لدى الاكادييميين الامريكيين والكنديين ـ بشكل خاص كما اراها اليوم ـ تطالب برفض الابتذال التاريخي الذي اشاعه المحافظون الجدد .
اما كيف يتم تفسير هيمنة ذلك " التيار " ؟
تبلور التيار فكريا كرد فعل على فورة الاشتراكيين لخمسين سنة بعد الحرب العالمية الثانية ، فظهرت  جماعات تؤكد دور النخبة دون المجتمع ممثلة بافكار ملتون فريدمان ، وفردريك فون هايك ، وروبرت نوزيك .. وقامت جماعات اخرى على اصول رجعية قديمة تصاحبها هستيريا قومية وجهالة دينية وكراهية للنخبة ونعرة شوفينية تستمدها من القرن 19 ، وقد قام رونالد ريغان بدمجها ببعضها ، فتبلور تيار المحافظين الجدد بايديولوجية تقوم على تناقضات دمج المصالح النخبوية في رأسمالية السوق .. ولما كانت السوق قد تطورت بشكل كبير ، فلقد بدأت لعبة المصالح الدولية تشّرع كل الحروب وكل الصراعات في العالم من اجل منافع نخبة معينة في هذا العالم !
     وصلوا الى ادارة شؤون العالم من دون ان يعرفوا تاريخ العالم ، بل ولم يعرفوا كيف يتعاملون مع هذا العالم ، ووسعوا الهوة والشقاق بين الشعوب باثارة النعرات الشوفينية والدينية والطائفية تحت شعارات بائسة واطلقوا المشكلات الصعبة ، واستخدموا الاسباب السياسية من اجل كارتلات مصالحهم البترولية  .. لقد مارسوا ثورة مضادة على كل قيم الحداثة والديمقراطية وكل ما كان الانسان قد وصله عند حافات نهاية القرن العشرين .. ان ثورتهم المضادة ضد الصياغة الطبيعية للعالم قد اضر كثيرا بالولايات المتحدة الامريكية كقوة اساسية لخمسين سنة قادمة ، بل ولم يراعوا كل الثقل التاريخي الذي انجزه الامريكيون لخمسين سنة فاتت كما يقول ادموند بروك في نقداته التي اوضحت العلاقة بين الموتى والاحياء من طرف وبين الاحياء والذين لم يولدوا بعد من طرف آخر !
    انهم في طريقهم للزوال ، اذ لو قدر وبقوا في سلطة العالم فسينقلونه الى الكارثة الحقيقية ، وسيحل المصير نفسه بالولايات المتحدة كذاك الذي حاق بالاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية نتيجة الجمود الشيوعي الذي قاد الى الهلاك .. ان تروتسكية المحافظين الجدد في طريقها الى الاختفاء بعد ان قدمّت تجربة تاريخية سيئة جدا لكل العالم .. وسيتحمل المستقبل ثمار نتائجها المرة  .. لقد استخدموا الحرية والديمقراطية مجرد شعارات واهية ومن خلالها حشروا العالم في علب سردين لا تتوافق مع القيم الانسانية ، بل واستخدموا  " الدين " وسيلة للمآرب السياسية واشعلوا من خلاله العالم وتركوه مجرد مستنقعات متعفنة يحتاج اصلاحها الى عشرات السنين .
       لقد سيطرت " نخبة مستبدة " على كل المقاليد مع اجحاف نظام ضرائبي  ونزعة شوفينية مكشوفة. وخلق عدو جديد بعد افول الشيوعية ، ممثّلا بالاصولية الاسلامية التي يدركون انها لا ترقى ابدا الى خطورة الشيوعية .. ولكن جاءت احداث 11 سبتمبر 2001 ، لتؤكد لهم حقيقة الصراع الذي افترضوه .. ولقد المح الكثير الى ان عهد ريغان هو بداية اشتداد التيار وان انهياره سيكون من خلال المستنقع العراقي ! ولقد ولدت مصطلحات وتعابير من قبلهم ، مثل : " الدولة المارقة " و " محور الشر"  و " الضربة الوقائية " وغيرها .
واخيرا ، فان ثمة جاذبية شعبية وسذاجة اجتماعية تتمتعان بهما استراتيجية المحافظين الجدد ، وسوف لن تموت برحيل إدارة بوش، فالتيار سيبقى في طور الانتظار لا الاحتظار ، وسيتغذى على تناقضات خلقتها عوامل جديدة اهمها الارهاب العالمي والخوف الكامن في أعماق التاريخ الأمريكي من الآخر . وان تغيير واقع صعب لا تنهيه ادارة سياسية او فكرة إيديولوجية ما لم تتوفر بدائل حقيقية وسياسات جديدة تعكس ما هو الأفضل في التعامل مع التقاليد السياسية الأمريكية من طرف وتترجم رؤيتها الجديدة الى العالم .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 5 سبتمبر 2007

154
                                         
تغيير النهج ام تبديل الوجوه ؟؟
د. سّيار الجميل
       نسمع منذ اشهر باحداث تغيير في العراق .. ولكن لا احد يعرف طبيعته ، وما الذي ستقرر عمله الولايات المتحدة .. وخصوصا بعد ان يقدّم ديفيد بيتريوس قائد القوات الامريكية تقريره المحوري بمشاركة ريان كروكر السفير الامريكي ببغداد في منتصف سبتمبر القادم ، ليرى ما سيتضمنه التقرير عن الاوضاع السياسية والامنية الداخلية .. واعتقد ان التغيير المرتقب سوف لن يقتصر على اوضاع الامريكان ، بل سيكون داخليا واقليميا ودوليا .. ان التصدعات التي اصابت العملية السياسية لاسباب طائفية ومحاصصية ، والاخفاقات التي منيت بها الحكومة في معالجة الاوضاع ، وقيام ( العراق الجديد ) على اسس خاطئة منذ البداية .. قد فاقم المشكلات كثيرا ، خصوصا في ظل حكومة فاقدة للارادة ويمثّل اعضاءها تكتلات واحزاب متناحرة ناهيكم عن ان هيمنة المحتل بشكل مطلق ليس على الاداء الحكومي ، بل في صناعة التوجّه العام في الداخل والاقليم معا .. ولا ادري ما نفع زيارات لا نفع فيها ، يقوم بها مسؤولون عراقيون الى دول مجاورة لهم من دون اي معالجة حقيقية للمشكلات الداخلية التي تعصف بمصير العراق كله .
     ان الرهانات الدولية التي تعّبر عنها المواقف الاوربية ممثلة بفرنسا والتي عبّرت عنها زيارة برنار كوشنير الى بغداد ستفتح الباب امام دول اخرى لبدايات من نوع جديد في الخريف المقبل .. ونحن نعلم بأن استراتيجيات المجتمع الدولي ازاء العراق تختلف جملة وتفصيلا عن رهانات دول الاقليم ، خصوصا بعد ان غدا العراق ضعيفا تتناهبه الصراعات والهيمنة والانقسامات الحادة .. فضلا عن اخفاقات العملية السياسية التي خلقتها عوامل غير بريئة . وان معالجة اوضاع العراق لا يمكنها ان تقتصر على تبديل وزراء او تغيير حتى وزارة ، بل تتطلب تغييرا جذريا لمجمل الاسس التي قامت عليها العملية السياسية نفسها ناهيكم عن مساهمة اقليمية ودولية بشكل جديد وغير معتاد كي تتوفر فرصة تاريخية يستطيع العراق بواسطتها ان يثبت قدرته على الحياة من جديد .
ان مأساة العراق لن يدركها بعد المسؤولون العراقيون الذين لا يعبرّون معا عن ارادة واحدة ، وان افتقاد اي مشروع وطني يجمعهم من اجل العراق جعلهم يهتمون في امور هامشية سوف لا تنفع ابدا ، وسواء اعيد فتح سفارات عربية ام لا ، فالمسألة ليست جوهرية ابدا بقدر ما يمكن ان تقدمّه دول الاقليم للعراق في لحظاته التاريخية الحرجة ، وعدم ترك العراق يتخبط في مآسيه وهي تتفرج عليه ، بل وهي تعلم علم اليقين حجم الاختراقات على ساحته من قبل دول مجاورة.              لقد تبلور تغير في التوجهات الفرنسية بمجيئ ساركوزي الى حكم فرنسا .. ويبدو ان مشكلات شرق اوسطية عدة في طريقها الى الحلحلة بحكم هذا العامل .  ان قرار مجلس الامن 1770 الذي تبناه اعضاء المجلس قبل اسبوعين تضمن توسيع دور الامم المتحدة في العراق وتشجيع مسائل المصالحة ومعالجة الدستور وتعزيز الدور الانساني ..
      انني اعتقد ان الامم المتحدة لو نجحت باحياء دورها المنكمش في العراق ، فسيكون له تأثير ايجابي خصوصا وان يلعب كل من الفرنسيين والالمان والروس دورهم بعد معارضتهم للحرب . ولعل من اهم ما يمكن ملاحظته والتوجس منه تلك السياسة الزئبقية لروسيا ازاء العراق وتحولها بالكامل الى ايران لاسباب استراتيجية بحتة يلعب كل من النفط وهيمنة الولايات المتحدة دورا خطيرا في بلورة المصالح .. بل وتشابكاتها الاقليمية والدولية معا . ان اي تقارب اوربي امريكي بارادة مجتمع دولي ازاء العراق سيؤدي مهمته في ضرب اي استراتيجية اقليمية ضد العراق واختراقاته من قبل ايران التي تراهن على انقسام المجتمع الدولي ازاء العراق وخصوصا باللعب باوراق الشرق الاوسط في اكثر من مكان فيه بالمال والسلاح والميليشيات ! بل وان فكرة الميليشيات التي قامت ايران بتصديرها الى دول معينة مثل لبنان والعراق وخلق دويلات اوليغارية داخل الدول قد ساهم بتحطيم هذه الدول وخلقت فيها الانقسامات والصراعات ليس السياسية فحسب ، بل الاجتماعية ايضا .
ان اي تبديل او محاولة اصلاح في العراق لا يأخذ بنظره انهاء كل الميليشيات والتشكيلات المرتبطة بها سوف لن يصنف ابدا تغييرا نوعيا في سلم الاولويات .. وان ابقاء هذه القوى الاوليغارية المرتبطة بدول مجاورة سيعمل بالضرورة على تفتيت العراق ليس الى ثلاثة اقسام ، بل الى 18 كانتونا هزيلا بحكم تقسيم العراق الاداري الى 18 محافظة .. ان التغيير المنشود لابد ان يطال كل القيادات والتكوينات السياسية التي تقف على رأس تلك الميليشيات .. اي بمعنى الحاجة الى القطيعة التامة مع النهج الذي اتبعه العراقيون منذ العام 2003 ، والبدء بمنهج جديد .  يعتقد العراقيون بأن هذا " الحل " فوق امكاناتهم بكثير ، بل ويستحيل تحقيقه من قبلهم ، فهم يمثلون انقسامات العراق  . وعليه ، فان قدرة فهم المجتمع الدولي لجوهر الموضوع في معالجة وضع العراق تقول بأن من مصلحته جميعا اعادة الامن والنظام الى العراق بوسائل جديدة لاقامة توازن استراتيجي من نوع جديد . ان الاعتماد على حكومة هشة وانقسامية وطائفية تمثّل تكتلات واحزاب متصارعة ولا يجمعها منهج وطني واحد ولا اي نسيج اجتماعي موّحد.. فان ذلك لا يخدم المصالح الدولية ولا الاقليمية ولا العراقية ذاتها ابدا .  وعلى البيت الابيض ان يدرك ان ( ديمقراطية ) فاشلة من هذا النوع لا يمكنها ان تكون بديلا عن ( دكتاتورية ) متوحشة من ذاك النوع .. وبأي حق يصارع اهل العراق الارهاب لوحدهم ؟؟ على الرئيس بوش ان يعلم ان ( الديمقراطية ) العراقية لا تبنى من خلال احزاب طائفية ولا دينية ولا عبر توجهات شوفينية وانقسامية .. ان تغيير النهج لابد ان يسبق تبديل الوجوه ! فكم سيطول زمن ايصال هذه الرسالة منذ 2003 حتى الان ؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 29 آب / اغسطس 2007

155
معضلة وطن ام مشكلة انسان ؟؟

د. سيّار الجميل

     لا يدرك اي محلل سياسي  ، ولا اي مفكر أو مختص وضعية العراق التائهة هذا اليوم وسط بحر هائج من الامواج المتلاطمة .. مع توالي ولادة الاحداث المأساوية يوما بعد آخر ، ومع متاهة هذا الصخب التاريخي للزمن ، وهذا الخلط العجيب للاوراق الذي يمهر فيه عادة من كانت له تجربة كسيحة في حكم العراق .. ومع تداخل القوى بعضها بالبعض الاخر واللعب بالعراق من قبل  دول الاقليم والعالم معا .. يعيش العراق اليوم ازمة حكم حقيقية تتداخل معها معضلة وطن مفتقد وضائع ولم يزل يحيا لوحده من دون اهله على امل النجاة .. فضلا عن مشكلة انسان لا يعرف اين هو انتماؤه ، ولا يدرك اين هي حقوقه وواجباته .. اين منه لأي انسان آخر في هذا الوجود ؟ اين منه يعيش آمنا على دمه وماله وعرضه ؟
     ان الاوضاع المأساوية للعراق لا يمكن لها ان تجد تفسيرا واحدا ، بل ثمة تفاسير عدة لكل حالة ، وان كل حالة لها علاقتها بحالة اخرى .. السؤال الان : هل بالامكان الحد من انهيار العراق وايقاف تفتيته ؟ هل بالامكان معالجة ما يمكن معالجته ؟ هل تصدق مقولة البعض ان حدثا دراماتيكيا واحدا يعيد الامور الى نصابها الطبيعي ؟ هل يمكننا ان نتفق على حدود دنيا من الشراكة بكل حيوية وتجرد واحترام متبادل ، خصوصا اذا آمنا فعلا بأن العراق بلد مرّكب وصعب ، ولا يمكن له ان يستقيم ابدا اذا لم نجد الانسان السوي الذي يقبل بالتنازلات من اجل المصلحة العامة ؟ هل يمكننا ان نزيل كل تراكمات الاحقاد التي امتلأت بها الصدور من اجل ان نفتح صفحة جديدة  ليس بين القتلة الارهابيين وبين الاصلاء الطيبين ، بل بين كل من آمن بحق العراقيين في الحياة والانطلاق والتحرر والانفنتاح والتقدم ؟ كيف لنا ان نعالج واقعا مأساويا يتحكم في شارعه صبية وقتلة واعداد لا تحصى ولا تستقصى من مجرمين وسفاحين وقتلة واوباش وخاطفين .. ؟ هل يمكننا ان نقتنع ويقتنع كل العراقيين بأن ليس لهم عدوا واحدا ، بل ثمة عشرات الاعداء من وزن ثقيل يعيشون في دواخلهم او يحيطون بهم او يعملون ضدهم من وراء البحار  ؟
      لقد تفاقمت الازمات سوءا من دون ان نجد اية علاجات وقائية ولا اية ادارات متميزة منذ تجربة مجلس الحكم سيئة الصيت مرورا بالوزارات الانتقالية والمؤقتة والحالية .. ونحن اليوم في ظل اوضاع محتقنة للغاية. وبصراحة ان أية وزارة ستؤلف ضمن الاسماء المطروحة سوف لا تقدّم او تؤخر اذ ستبقي الاوضاع سيئة ما دامت هناك محاصصات يعمل بها الواقع الجديد. لقد دخل العراق ، فعلا  ، نفقا صعبا بترسيخ هذه المحاصصة بين الانسان والانسان على التراب الوطني ..  انني لا اتقّبل ابدا ان يتم تقسيمنا كعراقيين الى مكونات طائفية مقيتة وشوفينية قميئة ويتم التبجح بذلك بكل فظاظة وبلادة وانعدام احساس !! كيف يمكن انتقاد الماضي كونه مارس الطائفية والشوفينية .. ونأتي اليوم لنكّرس ذلك علنا ؟
    ان من الصعب جدا اخراج العراق سالما من هذا النفق.. ذلك ان مشكلة العراقيين هي غير مشكلة اللبنانيين ـ مثلاـ، فكل طيف لبناني يعد لبنان ملكا لجميع اللبنانيين، ولكن كل طيف عراقي يعتقد ان العراق ملك له نفسه وليذهب الطيف الاخر الي الجحيم! ناهيكم بأن كل لبناني يعتز بلبنان اعتزازا وطنيا لا حدود له، في حين ان هناك من العراقيين لا يؤمنون بالعراق وطنا ابدا.. ان كل مبادئ الامم تؤكد على ان "الوطن " هو التراب ، في حين يخرج علينا بين الاونة الاخرى من العراقيين  ليقول بأن الوطن هو الانسان ، او ان الانسان اهم من الوطن !!  ودعونا نتأمل قليلا في ذلك .. ونتساءل : اذا كان الوطن هو الانسان ، فمن هو المواطن اذن ؟ والمعلوم ان المواطن يسكن الوطن ، فاذا سكنه تلبسه فاصبح الوطن كله يعيش في اعماقه .. فكيف يكون الوطن انسانا اذن ؟ ونمضي في تساؤلنا : من اطول عمرا ؟ ومن يعيش زمنا طويلا وتاريخا طويلا هل هو الوطن ام الانسان ؟ ربما لا يعّمر الانسان اكثر من مائة سنة ، ولكن الوطن / التراب  هو الذي يبقى دهورا .. فالانسان ليست لديه اجيال من الاوطان ، ولكن العكس صحيح ، اذ ان الوطن لديه اجيال من البشر .. والوطن لا يحارب من اجل الانسان ، بل العكس صحيح في كل نواميس الوجود ان الانسان يحارب من اجل ترابه .. الوطن ليس اثمن من وجود الانسان ، ولكنه اثمن شيئ في وجوده !
فكرة المواطنة فكرة ليست سهلة اذا ما كان المجتمع موبوءا  بتفاهات الزمن وتقاليد التاريخ ومواريث الماضي ورواسبه .. فكرة المواطنة ليست هي الهياج ولا الصياح والزعيق ولا الشعار البراق ولا عنوان حكم ولا مطية مستبد .. ان المواطنة ، فكرة عالية المستوى يمتزج فيها الشعور النفسي اللا ارادي بالانتماء رفقة دلالات العقل والاحساس برباط قوي .. ولا يمكن للمواطنة ان نجدها بلا وطن .. الوطن نفسه لا يعرف التمييز بين مواطنيه على اساس ديني ولا طائفي ولا عرقي ولا مناطقي ولا فكري او سياسي .. الوطن يعد الجميع في منزلة واحدة ، الا الذين يخدمونه ويخدمون ابنائه على ترابه .. الوطن فكرة شفافة فلا يمكنك ان تجد الوطن قاتلا لابنائك ولا يمكنك ان تجده سالبا لحقوقك .. فمن ذا الذي سلب حقوقك وقتلك وشتت اهلك واولادك ؟ من الذي جعل من شعارات " وطنية " اهدافا خبيثة لوأد اي بارقة امل ، وتدمير اي مشروع حضاري ؟ ومن ذا الذي استهان بكل من الانسان والوطن على هذا التراب ؟ من الذي همّش الاقليات ونال منهم ومن تقاليدهم وسحق معنوياتهم وأذلهم وجعلهم اعداء لك ؟ من الذي ركب الموجات الايديولوجية باسم الافكار التقدمية والتحزبات السياسية والتيارات القومية والشوفينية والاتجاهات الراديكالية .. ووقف ضد كل الواقع وتطوره الطبيعي ؟ من الذي قاد التمردات ضد القيم الوطنية كونه لا يؤمن بالمواطنة العراقية اصلا ؟ من الذي تعامل وتآمر مع الاجنبي تعاملا مفضوحا ضد وطنه وبلاده ؟ من الذي خان الامانة وخان القسم الذي أدّاه وقلب ظهر المجن على اسياده واخوانه وساهم في موجة الانقلابات العسكرية ؟ من الذي اشعل الحروب واوقد الجمر واخترق الحدود ومزّق العهود وداس برجليه على كل العقود ؟ من الذي اضعف البلاد وافقر العباد بعد كانت واحدة من افضل واغنى بلاد الدنيا ؟ من الذي سحق الاجيال ونال من تفكيرهم وارجعهم الى الوراء لمئات من السنين ؟
     الوطن هو العراق الذي لم يؤذ ابنائه .. ولكن ابناؤه هم الذين سحقوه .. انه لا خلاف له مع اي من ابنائه ، ولكن ابناءه هم من سحق بعضهم الاخر .. من الذي اراد جعل العراق دولة دينية وجمهورية اسلامية من دون اي ادراك لمشكلات هذا المجتمع وتنوعاته وتعقيداته ؟ من الذي اوصل العراق الى هذا الجحيم بحمل كل تناقضات التاريخ والواقع معا ؟ من الذي لبس العمامة بيد وصافح المحتل بيد أخرى ؟ الوطن برئ منهم .. العراق برئ منهم .. الوطن ومن يبقى معه صرعى كل من يسعى الى القوة والسلطة والمال على حساب كليهما معا .. الوطن ليس شعارا نرفعه ، بل نزعة مغروسة في الاعماق البعيدة .. فمن يقبله يقبل كل اهله ومن يرفضه يرفض كل الحياة .
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ،  27 آب / اغسطس 2007

156
هل تنجح الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية ؟


د. سيار الجميل

لعّل اهم ما يمكن تسجيله هنا حول مفهوم الديمقراطية، انها من الظواهر التي اوجدها الانسان على الارض، فهي ظاهرة مدنية دنيوية لا علاقة لها ابدا بأي من الاديان ولا يمكن اعتبارها ظاهرة دينية سماوية بأي شكل من الاشكال..  ويجوز ان تستخدمها الاحزاب والقوى السياسية الدينية، فهي تمنح الحق لكل البشر بمختلف معتقداتهم في ممارستها كحق مكتسب للانسان على هذه الارض. وعليه، فلقد تفوقت على تعريفها التقليدي : حكم الشعب نفسه بنفسه، بعد توسّع تجاربها وامتداد تطبيقاتها للعديد من مرافق الحياة العامة.

 مفهوم الديمقراطية وتعريفها

ان مفهوم الديمقراطية ـ باختصار ـ هو اسلوب عمل منظم للانسان في خياراته ومواقفه وحرياته واخلاقياته في تشكيل الارادة الجمعية.. وينبغي على الجميع احترام ( الديمقراطية )  بعد ايلائها الثقة والعمل بها..  انها ـ كما يبدوـ  من تجاربها العربية الفاشلة ليست حكرا على الليبراليين وحدهم، بل بالامكان ان يمارسها الراديكاليون والانقلابيون والقوميون والاصوليون.. علما بأن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن ان يمارسها الا القوى الليبرالية التي تضم حقيقة اولئك الذين يقبلون الاخر وكانت لهم تربوياتهم في الانفتاح وقبول الاخر، وان اي قوى مؤدلجة واحادية ودينية .. لا يمكنها ان تقبل ابدا  ان تقبل التوجهات هذه ، فكيف بها والعمل مع الديمقراطيين ؟ ! ولقد اثبتت الاحداث ان " الديمقراطية "  غدت مطية او اداة للمغانم الفردية والقوى الفئوية والاحزاب الدينية  ! نعم، لقد اصبحت شعارات الديمقراطية نهبا للقوى التي لا تؤمن بمضامينها ابدا ! لقد غدت بضاعة للسلطات من اجل تخدير الشعوب، او استيلاد مصير المجتمعات وحريات الناس ! لقد اصبحت الديمقراطية اداة غير نافعة تتناقلها الايادي من دون علم بها ولا فهـم لها.



اغتيال الطفولة الديمقراطية

لقد انتقلت من هدف له سموه وتجلياته عند المتمدنين الليبراليين الى مصطلح كريه يقترن بالغوغائية والفواجع الكارثية في مجتمعات لم تعد السيطرة عليها كالماضي.. وعندما ندرك فلسفة الديمقراطية في اساليبها وتنوع انشطتها وميادينها سنفهم عند ذاك ان ايجابياتها  اكبر بكثير من سلبياتها.. وان مجرد استخدامها بشكل عشوائي او تعسفي او اكاذيبي سيحولها الى اداة هدم ووسيلة تناحر بين ابناء المجتمع الواحد، وهذا ما اثبتته التجارب كلها في عموم العالمين العربي والاسلامي.  ان المشروعات الديمقراطية قد اجهضت في دولنا ومجتمعاتنا نتيجة عوامل غاية في الوضـــوح، ومنها:

 1/الانقلابات العسكرية الطائشة.
2/ المؤامرات الأجنبية المدمرة.
3/ الايديولوجيات الراديكالية الهائجة.
4/ الدكتاتوريات السلطوية الفاسدة.
5/ الأحزاب والقوى والجماعات والمرجعيات الدينية المتعصبة.


اخفاق ( الديمقراطية) عند العرب والمسلمين

لدينا ثلاث مراحل تاريخية مرّت في حياتنا العربية ( الحديثة ) غّلبت فيها المصالح السياسية والنصوص الايديولوجية والترسبات التاريخية على المشروعات الديمقراطية الحقيقية.. كما ان مجتمعاتنا لم تمر اصلا بأي اصلاحات حقيقية في القرنين التاسع عشر والعشرين تغّير فيها من مفاهيم الناس كي تستعد وتتأهّل لأي مشروع ديمقراطي حقيقي.. فكان الفشل يحيق ولمّا يزل يصيب أي تجربة في الصميم، ويخرج من ينادي بهذا " المشروع " محبطا وقد خابت آماله في أي تقدم سياسي يمكن ان يحّول المنطقة تحولا بنيويا حقيقيا نحو المستقبل.. كما ان من ابرز مشكلات الفكرين السياسيين العربي والاسلامي  ( وخصوصا في دول الشرق الاوسط ) : اختلاط المفاهيم بشكل لا يمكن ان تتّبين الصواب من الخطأ، فكل منهما يمزج بين الموروث والحديث (= التراث والمعاصرة ـ كما اسماها ـ )، كما ويخلط بين التقاليد السياسية لكل من الاسلام  والغرب، أي بمعنى: تضمين الديمقراطية في السياسة الشرعية الدينية وهو امر خطير جدا هنا ينبغي القول انه لا يمكن أبدا تبنّي أي مشروع في الديمقراطية على قاعدة منقسمة اصلا بين اساسين متباينين على اشد ما يكون التباين.. ان ما يثير الاستغراب جدا في العالم الاسلامي قاطبة ازدواجية المضامين في الخلط بين آليات الديمقراطية السياسية الغربية وبين مفاهيم التسلط الشرقي بمسميات مختلفة.. ان العالمين الاسلامي والعربي يخلطان بين الاساليب الغربية وبين المواريث الاسلامية، بل راح كل من العالمين يكذبان على نفسيهما في مزاوجة غير فاعلة ولا صائبة بين الموروث المعطّل وبين الحداثة الكاذبة ! واذا كانت الديمقراطية في مضمونها وفلسفتها، اسلوب حياة وتعامل وتربية وسلوك وتقّبل للاخر وفسح المجال لانواع من الحريات، فبأي اكذوبة يمّرر كل العرب والمسلمين الديمقراطية كونها صندوق انتخابات ؟ وحتى هذا " الصندوق " لا يسلم من التزيـــــيف والتزوير والتلاعب ؟؟

 المطلوب : إيجاد نقيض النقيض

 الديمقراطية يا سادة ليست بوابة لسيطرة جماعة او قيادة او مجلس او تكّتل او طائفة او عصابة او عشيرة او قبيلة.. الخ على مجتمع باكمله.. لتغدو فئة حاكمة لها نزعتها الدكتاتورية ! ان الديمقراطية  فلسفة حياة ومستقبل لشعب ينبغي ان يتربّى تربية مدنية عليها منذ الصغر، ويمارس كل الحريات ضمن حدود القانون، بل ويطّبق القانون وتتكافأ فيه الفرص.. الديمقراطية لا يمكن ان تسّوق في شعب متخّلف تسوده الانقسامات وتزدحم فيه التناقضات.. لأنها ستفتح الباب على مصراعيه امام الاحترابات بين بطش الاغلبيات ضد الاقليات، واستخدام شتى انواع التمييز الديني والطائفي والعرقي والقبلي والاجتماعي. ولكن لا يمكن ان تكون الدكتاتورية هي البديل ابدا.. ان النقيض لا يمكنه ان يبقى سيد الموقف، اذ ان الضرورة التاريخية تفرض علينا  ايجاد نقيض النقيض.. وعندي، ينبغي خلق مرحلة نقاهة أي ايجاد فترة زمنية يخضع فيها المجتمع الى تأهيل حقيقي على الوعي والتربية والسلوك والمعرفة وانفتاح التفكير والمرونة من اجل ان يتأهل كل المجتمع للفرص السياسية الديمقراطية، وهذا لا يتحقق الا من خلال مرحلة انتقالية اولا تحدد خطواتها مواد دستورية ثانيا، وتسودها  ممارسة العلمنة ثالثا  وتتطور خلالها المؤسسات الديمقراطية وحياة المجتمع المدني رابعا.. وكلها تجتمع ضمن مشروع وطني حقيقي حقيـــقي خامسا..

وأخيرا : ما المشكلة ؟   

يمكنني القول، اننا نضحك على انفسنا ان اقتنعنا بأن " الديمقراطية " مطبقة او انها تطبّق في العالمين العربي والاسلامي !! ان الوعي بهذه الظاهرة الاهم في حياة الانسان اليوم في كل ارجاء مجتمعات الدنيا، هي ضرورة تاريخية ومصيرية، اذ لا يمكن العيش ابدا في خضم تناقضات الاخذ من التقاليد والاخذ من الحداثة  في آن واحد.. لا يمكن خداع اجيال كاملة على اوهام الانتصار من خلال ممارسة هذه التناقضات البليدة.. لا يمكن لأي حكومة تسمّي نفسها ديمقراطية تفضل مصادر اخرى على ارادة الشعب.. لا يمكن ابدا اختزال الديمقراطية في صناديق انتخاب والشعب لا يعرف ابدا كيف يعامل بعضه بعضا.. لا يجوز ابدا ان تخادع اية سلطة نفسها بأن تحصر ما تسميه بالممارسات الديمقراطية في الدولة وتبقي المجتمع بعيدا عن الفهم الحقيقي للديمقراطية.. لا يمكن ممارسة الديمقراطية مع الدولة الدينية قط، فالديمقراطية ينبغي ان تمارس في فضاء تسوده الحياة المدنية والقوانين المدنية المنبثقة عن دستور مدني ضمن مؤسسات المجتمع المدني.. ان المشكلة ليست في التطبيقات والممارسات الخاطئة بقدر ما تكمن في التفكير والظاهرة المسيطرة.. اننا لا يمكننا  البتة ان نصفق لأي حزب ديني او طائفي ونستعرض عضلاتنا باسم الديمقراطية.. اننا لا يمكننا ان نخادع انفسنا وندّعي الديمقراطية وثمة مرجعيات دينية لا يمكن تجاوزها..  اننا لا يمكننا البتة ان نتشدق باسم الديمقراطية ونحن نمارس المحاصصات والاجندة الخاصة بالتمييز على اساس ديني او طائفي او عرقي او جهوي.. اننا لا يمكننا ابدا ان نصادر الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية والعامة ونحن نطلق الشعارات الديمقراطية.. اننا لا يمكننا ابدا ان ندّعي العملية الديمقراطية وفي دستور البلاد نصوص لا تتفق وروح الديمقراطية  وعلمنة المؤسسات.. ان الديمقراطية واحدة في كل هذا الوجود، ولا يجوز تجزئتها ولا يجوز بعثرتها ولا يجوز تشويهها.. مهما كانت الظروف ومهما اختلفت المجتمعات.. فهل باستطاعة العالمين العربي والاسلامي ان يمارسا الديمقراطية ويؤمنان بفلسفتها من دون اية اضافات او اي حذوفات ؟ انني اشك في ذلك !

الصباح البغدادية ، 23 آب / اغسطس 2007

157
ستبقى تركيا حاضنة للمبادئ الكمالية !



د. سّيار الجميل

      تعد تركيا  من  اهم بلدان الشرق الاوسط ، وهي تحمل تاريخا مثقلا  بالصراعات والمركزية والسيادة ، وتحتضن مجتمعا متنوعا  ومركبا، وهي بوابة الشرق الى اوروبا ، وقد تأسست جمهوريتها الحديثة على يد اتاتورك ورفيق دربه عصمت اينونو .ولم يزل اتاتورك يعد رمزا لتركيا ولم تزل المبادئ الوطنية الستة التي ارساها ثوابت اساسية ،متمثلة بالوطنية والدولتية  والدستورية  والجمهورية والعلمانية والتغريب. وبالرغم من  المناخ الليبرالي الذي سادها ، الا ان  دكتاتورية  عسكرية كانت قد تشكّلت فيها لحماية النظام الكمالي العلماني والحفاظ على الدولة وأمنها ، وغدت تركيا  عضوا في السانتو  ومن ثم في الاطلسي  خصوصا ايام تفوق  الدب السوفياتي الذي كان يحاددها وقمعها للشيوعيين الاتراك .. وفي خضم  مشاكلها القومية  مع كل من الاكراد والارمن ـ مثلا ـ  تبلور تيار اسلامي  تركي  غير متشدد ابدا ، ولا يشابه  التيارات الاسلامية الاخرى في المنطقة .. وقد وصل السلطة  من خلال الانتخابات على يد زعيمه  اربكان ..
وفي ظل هذا الاخير  ، نشأ  شابان تركيان  متلازمان ، ويؤمنان بتيار اربكان وفكره  فسارا على دربه . كان الاول هو رجب طيب اردوغان  ، وكان الثاني عبد الله غول  ، وقد وصلا السلطة  ، فكان الاول رئيسا للوزراء وكان الثاني وزيرا للخارجية ، وهو الذي يستعد اليوم ليشغل رئاسة الدولة بعد ان غدا مرشحا وحيدا .  ويتخوف العلمانيون الترك على مبادئهم اكثر من  اي شيئ آخر ، خصوصا وان غول هو المرشح الوحيد حتى الان ، وهو احد ابرز قادة حزب العدالة والتنمية المعروف بفلسفته الاسلامية المستنيرة في الحكم  ؟

ولد عبد الله غول في 1950 في قيسارية . درس الاقتصاد بجامعة اسطنبول وتخرج عام 1971 ، وحصل على الدكتوراه عام 1983. شارك في التدريس الجامعي 1980-1983.  وعمل  في البنك الاسلامي للتنمية بجدة  1983- 1991 . انتخب نائبا عن حزب الرفاه. وفي عام 1993 ، عين نائبا لرئيس الحزب الرفاه مسؤولا عن الشؤون الخارجية. اعيد انتخابه عام 1995 . شغل منصب وزير الدولة والمتحدث باسم الحكومة 1996- 1997 . وفي عام 1999 ، وغدا عضوا في الجمعية البرلمانيه لمجلس اوروبا بين 1999- 2001. وفي عام 2001 منح وسام استحقاق لعضوية الشرف من بين المنتسبين للجمعية البرلمانيه لمجلس اوروبا. فى اغسطس 2001 ، اصبح عضوا في المجلس التأسيسي لحزب العدالة والتنمية الذي حّل محل الرفاه . واعيد انتخابه في نوفمبر 2002 بوصفه عضوا في البرلمان  . وفي  مارس 2003 ، عين نائبا لرئيس مجلس الوزراء وزيرا للخارجية ، وعدّ رفيق درب اردوغان من دون ان يفترقان ابدا .
من الاشياء الموجبة التي يتميّز بها الاسلام السياسي التركي المعاصر تباينه الكبير عن ذاك الذي نشهده في مجتمعات اخرى في المنطقة والعالم الاسلامي ، اذ يتمتع بهدوئه وقوة صبره ومرونته وانفتاحه على التفكير السياسي في العالم .. فضلا عن استنارته واستيعابه من يخالفه في خضم العملية السياسية الداخلية ولقد ورث هذا الجيل الجديد تقاليد حزب الرفاه التي ارساها اربكان .. ولعل اهم ما يمكن ملاحظته في القادة الاسلاميين الاتراك الجدد انهم يقّدمون مصالحهم التركية الوطنية على اي فكر او شعار او هدف آخر .. وهم يعرفون حق المعرفة حجم من يتعاملون معه في الداخل وخصوصا هيمنة العسكر على مقاليد الامور فضلا عن حجم القوى العلمانية التركية .. ناهيكم عن تخفيفهم من حدة الصراع السياسي والاجتماعي في المجتمع التركي المعاصر. واعتقد انهم من اذكى السياسيين الاسلاميين ليس في الوصول الى حكم تركيا ، بل في اساليب تعاملهم مع اليمينيين الاتراك المتطرفين ، وهذا ما كنت قد اشرت اليه في كتابي عن العرب والاتراك الذي نشره مركز دراسات الوحدة العربية قبل اكثر من عشر سنوات .
   لقد كسب غول خبرة وتمرسا في السياسة الخارجية في حين خبر رفيقه اردوغان السياسة الداخلية ، واعتقد انهما وجهان لا ينفصلان لمنظومة فكرية واحدة تستلهم اسسها من مصدرين اساسيين اولاهما التراث الاسلامي التركي وثانيهما الفكر التركي المعاصر .. انهما من حماة العلمنة التركية ليس لترويجهما لمكاسب سياسية ، بل لأنهما اساسا يؤمنان بحاجة تركيا اليها.
      كان غول صادقا عندما صّرح بعد الاعلان الرسمى عن ترشيحه لرئاسة الجمهورية ، قائلا  : "سياستي الاولوية هي حمايه العلمانية. واقول ، واذا كان البعض قلقا اقول له ، من فضلك لا تقلق... ان مبدأ العلمانية هو مبدأ دستوري. حمايه العلمانية هو واجب ومسؤولية الرئيس. همي ان ترتفع تركيا الى مستوى الحضارة الحديثة ، وان اتاتورك فوق الجميع . كما سيكون من واجبي مساعدة حكومتنا في هدفها نحو الاتحاد الأوروبي " . وتعهد الرجل  بحماية الدستور العلماني الذي يفصل الدين عن الدولة في حال انتخابه. وتأتي تصريحاته هذه تطمينا للنخبة العلمانية في تركيا والتي تشمل جنرالات في الجيش وانتلجينسيا وقوى متنوعة ساورتها شكوك بشأن ماضي غول الإسلامي وبشأن الحجاب الذي ترتديه زوجته !!
   وكانت هذه النخبة قد وقفت في طريق ترشحه للرئاسة في مايو الماضي مما أدى لانتخابات مبكرة فاز فيها حزب العدالة والتنمية. ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا الحزب ، يشغل 341 مقعدا في البرلمان المؤلف من 550 مقعدا، ومن المتوقع أن يفوز في الجولة الثالثة من الانتخابات المزمع إجراؤها في 28 أغسطس الجاري حيث لا يحتاج إلا لأغلبية بسيطة. انني اعتقد ان عبد الله غول له القدرة على معالجة مشكلات تركيا الداخلية ، ولن يقدم ابدا على اي تغيير في المبادئ التركية التي ارساها اتاتورك قبل اكثر من ثمانين سنة .. كما سيعرف هذا الرجل كيفية تسويق تركيا اوربيا وكيفية تعزيز موقع تركيا في العالم الاسلامي . ولنا ان ننتظر دوره القادم .

البيان الاماراتية 22 آب / اغسطس 2007
www.sayyaraljamil.com

158
مجتمعاتنا وشحوب الفكر المعاصر  !!

د. سيّار الجميل

                                      القسم الاول
الفكر والتفكير في مجتمعاتنا .. من يطلق سراحهما من السجن رقم واحد ؟؟

مقدمة
   كم هي حاجة مجتمعاتنا في الشرق الاوسط قاطبة الى الفكر المعاصر والتفكير الحر .. فالعالم يتقدّم الى الامام بشكل عاجل لا يمكن اللحاق بكل منجزاته وابداعاته .. ان " الفكر" غير " التفكير " ، وان لا ابداع في الاول ان لم يشتغل الثاني بشكل صحيح .. كما يصطلح على ذلك اغلب علماء الاجتماع والفلاسفة من المعاصرين الذين يهتمون اليوم بامرهما كثيرا ، باعتبارهما يقودان حركة اي مجتمع معاصر الى الامام بمعزل عن كل من يريد جذبه نحو الماضي .. وكما نعلم ان الزمن قد تجاور الماضي اليوم بكل متغيراته الجذرية وتبايناته الفكرية وتشيؤاته المادية .. وان الانسان بات لا يستطيع ان ينفصل ابدا عن حياة هذا العصر ومنتجاته وابداعاته وكل مخترعاته وتطوراته في كل مجالات الحياة . إن حجم ما يعالج من موضوعات في هذا الذي يسمونه (فكر ) في مجتمعاتنا لا يتناسب ابدا مع ما يحتاجه الواقع المضني الذي نعيش مآسيه ونعاني من اوصابه .. ونحن ندرك بداياته المحددة وانطلاقاته المعينة ومدي متطلباته الاساسية في التغيير الجذري ، والامر يختلف بالنسبة للنهايات التي سوف لن تنتهي.. الفكر الناضج والحيوي يبقي مدي التاريخ حيا لا ينضب ولا يموت.. وقد آلت مجتمعاتنا الى النكوص ، وغدا الناس في فكرهم وتفكيرهم اليوم اشبه بمقلدين مغيبين عن الوعي الواعي بنفسه ، بل ويخشى كل انسان من الاعلان عن اي فكرة ناضجة وحيوية ومدنية يحتاجها الجيل الجديد .. وغدت اساليب التربية والتعليم بليدة ومتخلفة ، وبدت تصرفات المجتمع والناس فيه الي شحوب كأنهم يتحشرجون في طريقهم الي الموت بعد ان عصفت بهم الاقدار ذات اليمين وذات الشمال من دون ان يعرفوا من اين يبدأ طريقهم!

محنة الوعي والثقافة والانتاج في مجتمعاتنا
    الحياة في كل منطقتنا بما فيها العربية والايرانية والتركية كأكبر ما يحتلها من ثقافات ستمضي من سييء الي أسوأ وستبقي مفتوحة لكي تتلقي المزيد من الضربات الموجعة من دون ان يستفيق اصحابها ابدا من نومهم.. قال لي صاحبي: بل هم احياء لكنهم كالاموات.. قلت: ستبقى هذه المجتمعات تعاني من المحن واضراب الاحن وهم يشيعون انفسهم الي طيات الثري من دون ان يفكروا يوما بأن يكونوا من اصحاب العقل والرشاد والتفكير المعاصر والتمدن ليعترفوا في لحظة واحدة انهم من المذنبين.. ان المجتمعات في منطقتنا تدور حول نفسها ، بل وتحاول ان تعيش مخيالها الذي يجعلها تفكر بمثاليات نفسها وانها الافضل في هذا الكون .. انها واقعة تحت سطوة عاملين خطيرين اثنين : الدولة والاعلام وبكل ما تروجه ثقافة الممنوعات والمحرمات وتقييد العقل وتقييد الحياة من اساليب تعتبرها مجتمعاتنا اليوم هي المشرعة للحقيقة .. والحقيقة مغيبّة وراء طيات الادمغة البليدة .

هول التناقضات وزحمة الثنائيات والمزدوجات
اذا ما قيض لمن يتابع ويتدارس بعد ان يتأمل المسيرة الفكرية لمجتمعات كل المنطقة في القرن العشرين فسيري العجب العجاب من هول التناقضات وزحمة الثنائيات التي يعج بها تفكير الناس ، وكلما يتقدم الزمن نحو الامام سنجد ازدياد شرخ الهوة بيننا وبين العالم .. لقد كنت قد عالجت هذا " الموضوع " في العديد من المقالات قبل عشرين سنة ، بل وثمة تحليللات موسعة يتضمنها كتابي ( التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ) المنشور ببيروت عام 1997 . ان التفكير الوهمي الذي يسود مجتمعاتنا سيبقى سائدا ومكرسا للهزائم والانقسام والتشرذم والتخلف .. انه يسقضي على كل تفكير مخالف له في الحياة ، وهو عقيم لا ينجب المبدعين ولا يعتني بالرائعين ولا يسمح بأي حريات ويحارب الانفتاح ويتسلط على كل ما هو مدني وحضاري .. انه سيلتقط الرؤي ويتلهف لمن سبقه ويسير علي الخطوات نفسها المتعبة من دون ان يرسم له اي منهج جديد في التفكير ولا اي مشروع جديد في الرؤية والحياة.. ربما سيبرز هنا او هناك من له القدرة ان يخرج من الدوامة البلهاء وسيغدو متحررا ليلحق وبشجاعة بالغة بالاحرار وبالثقافة المدنية وبالتفكير المدني وسيكون جزءا من النخبة الرائعة ويترك هذا الخليط العجيب من الملايين الذين يعيشون الاوهام وهم يستمعون الى قادة وزعماء وكتّاب وصفوا انفسهم بمثقفين ومفكرين وهؤلاء هم الذين اساؤوا الي التاريخ والواقع وهم يسمون انفسهم بـ(المفكرين او المثقفين ) الذين لا يدركون اولويات المعاني والاشياء وهم ينفخون انفسهم بالالقاب العلمية او بصفات المختصين او بمناشيتات الاعلاميين المزيفين! وليس لهم الا التنطع على شاشات الفضائيات او استعراض تخلفهم على صفحات الصحف والمجلات .. او القاء مواعظهم وانشائياتهم السمجة في ندواتهم ومؤتمراتهم التي لا تعد ولا تحصى ..
 
التفكير في سجن رقم واحد
      انهم لا يدعون الى اي فكرة ناجحة تنشر علي الناس ولهم القدرة في محاصرة كل الاكفاء والاذكياء والموهوبين والمبدعين.. تجدهم اليوم وقد غدوا مافيات يتلاعبون بمصالح انبل وسائل الفكر والتفكير واجهزة التربية والتعليم ..  لا يريدون ان ترتسم الافكار الجديدة في تشكيلاتها وبنيوياتها.. وهناك من هو مسلط علي النابهين تجدهم عصابات سياسية واعلامية وجامعية وقلوبهم شتي.. تجدهم غرقي بكل الموبقات: يحاصرون فكرة الحقيقة ويحقدون علي نخبتها العليا ويكرهون الاحرار كراهية عمياء ، كون الاحرار لا يفكر وهو في سجن رقم واحد ، اذ انه يفكّر ولكن ربما في معتقلات من نوع آخر .. انهم يستخدمون ببساطة كل فنون الارتداد والتراجع: حظر قضائي وقهر اجتماعي وعهر سياسي.. التهم جاهزة بكل اوصافها التعيسة والجارحة لكل من يقف معترضا علي هذه الحال والاحوال.. وكم من ذهب ضحية تلك الاحقاد والخصومات عندما يخالفك احد برأيه، فيصبح وكأنه صاحب مثالب او كأنه من عتاة المجرمين.. واصعب الامور عندما يسكت المفكر الحر والكاتب الشجاع عن مأساة شعب !

شحوب الفكر  في مجتمعاتنا .. لماذا؟
      نعم انه شاحب ما دام لا يعبر عن الواقع المضني تعبيرا ملتزما وامينا وحياديا وصادقا.. لقد نخرت الايديولوجيات والتحزبات السابقة كل منطلقاته الاساسية واولوياته الحقيقية وقد اختلطت الامور بعضها ببعض آخر، فالمؤسسات العلمية في منطقتنا بائسة تمام البؤس والاعلام في منطقتنا بكل اصنافه ووسائله واجهزته وشبكاته .. قد وصل الي درجة من التفاهة والبشاعة بحيث غدا يشوه ويسمم عن قصد وسبق اصرار كل الصفحات البيض التي سيمتلكها الجيل الجديد باسم التقاليد مرة وباسم الدين مرة اخرى وباسم التاريخ والسياسة والسلطات مرات اخرى .. اصبحنا نجد من يسمّون انفسهم كتابا كبارا ومحللين سياسيين واستراتيجيين لا يعرفون الا اللف والدوران من دون ان يعلموا الاساليب الجديدة والمبتكرات الرائعة ودون ان يكونوا بناقدين شجعانا .. ودون ان يفكروا يوما بكيفية الانفصال والقطيعة عن كل خطايا القرن العشرين .. بل ودخل المعترك اناس لا تفقه معنى الكتابة ولا اصول التفكير ولا اساليب التحديث بل ولا حتى المعاني الاساسية التي كانت تتربى عليها الاجيال السابقة ، وكلها معاني وطنية ومدنية وجمالية وبنائية ونهضوية حضارية .. بل وكان بعضها ينادي بالحريات والتقدمية والاشتراكية ..
للمقال صلة

www.sayyaraljamil.com

159
نداء من اجل حماية ذاكرة العراق !

د. سّيار الجميل

    تعد المكتبة الوطنية العراقية من اهم صروح العراق التي لم تزل تضم كنوزا نادرة .  تأسستْ ببغداد في 16/4/1920 .  باسم مكتبة السلام باشراف  الاب العلامة انستاس ماري الكرملي . واصبح اسمها “المكتبة العامة” عام 1929 . وغدت المكتبة الرسمية للبلاد بأمر الملك فيصل الاول . وكان قد صدر قانون المكتبة الوطنية رقم (51) لسنة 1961 الذي نصّ على جمع وحفظ الكتب والمخطوطات والمطبوعات والدوريات وغيرها. وصدرت قوانين تخصها في عامي (1964) (1970) ، اذ اعتبرت مركزا للابداع  والنتاج الفكري ، وفي عام (1987) سميّت بـ (دار الكتب والوثائق) بعد ضم المركز الوطني للوثائق اليها.
     انها ذاكرة العراق الحقيقية لانها تمثل تأريخ وتراث وحضارة وثقافة العراق ماضيا وحاضراً ومستقبلا لما تحويه من كتب ومصادر ومراجع ومخطوطات ودوريات من جرائد ومجلات نادرة منذ العهد العثماني ، اضافة الى ملايين الكتب العراقية والعربية والاجنبية والاطروحات في مختلف فروع المعرفة. وفي ابريل  2003 تعرضت للتدمير والتخريب والسرقة .. بايدي العابثين والسراق . وفقدت المكتبة مجاميع مهمة من الكتب النادرة والقديمة والمخطوطات والكتب العبرية والصحف القديمة اضافة الى الوثائق المهمة والنادرة التي لا يمكن تعويضها أبدا .
   لقد كانت قبل الحرب الاخيرة، تضم نحو مليون قطعة؛ من بينها كتب عمرها قرون ووثائق نادرة تعد جزءاً من تراث بغداد حاضرة الخلافة العباسية. وخلال الفوضى التي عمّت بغداد مع دخول القوات الاميركية المدينة عام 2003. فقدت المكتبة نسبة كبيرة من كتبها النادرة . كما اختفت نصوص ادبية ودينية للجالية اليهودية الكبيرة التي عاشت في العراق في فترة ما ومدونات للحقبة العثمانية ونظام الحكم الملكي .
    لقد قام بعض الاوفياء للعراق باعادة الحياة  للمكتبة الوطنية من جديد ، وتم تجديد وترميم البناية وتجهيزها بالاجهزة والاثاث.. واعادة ترتيب وتنظيم ما بقي من موجوداتها من كتب وصحف ومجلات ووثائق .. ويؤكد مديرها الاخ سعد اسكندر بقوله : " مهما عبث العابثون وما احرقه المحتلون تبقى المكتبة الوطنية منارة شامخة واشعاعا ساطعا يضيء الطريق للاجيال ورمزاً وطنيا خالدا ونابضا في قلب بغداد " .
     ولكن نقلت وكالة رويترز قبل اشهر عن مديرها نفسه انه اخلى المكتبة بعد ان تعّرضت الى تحليق مقاتلات امريكية عليها  خلال معارك ضارية ضد مسلحين ، وقتل خمسة من العاملين فيها واختطف اكثر من 12 عاملا !! واتهم اسكندر لصوصاً محترفين يعملون لحساب هواة جمع مواد تاريخية بأنهم وراء فقد كتب نادرة؛ من بينها رسالة كتبها قبل ألف عام العلامة الفيلسوف ابن سينا. وتم تجديد مبنى المكتبة . ان اعمال النهب كانت كارثة ليس فقط للمحفوظات الخاصة بتاريخ العراق ولكن ايضا لمستقبل البلاد التي تشهد صراعا طائفيا مقيتا من قبل اناس جهلة تدفعهم جهات مختلفة لا تريد للعراق ابدا اي ذاكرة تاريخية ، ولا للعراقيين اي هوية حضارية ولا للاجيال اي وحدة ثقافية !!
   قبل ايام نقلت صحيفة الغارديان عن أن آلاف الكتب والمخطوطات النادرة التي تضمها المكتبة الوطنية العراقية معرضة الآن للخطر بعد احتلال قوات الأمن العراقية لسطح المكتبة. وتنقل الصحيفة عن مديرها نفسه إن 20 جنديا عراقيا قد أقاموا لهم موقعا على السطح مما يجعل المكتبة هدفا لهجمات المسلحين. وتشير الصحيفة إلى إن المكتبة التي تضم الأرشيف الوطني العراقي قد تتعرض للنهب من قبل الجنود الذين حطموا بعض الأبواب والنوافذ في المكتبة كما قاموا بإزالة البوابة الرئيسية لها .  ويردد مديرها : "إننا مثل أغلبية المواطنين العاديين عالقين بين نيران المسلحين والإرهابيين من طرف والجيش وقوات الأمن العراقية والأمريكية".
لقد فقدت المكتبة 25 المائة من مجوداتها بينما ضاع 66 بالمائة من الأرشيف الوطني العراقي. وتنقل الصحيفة بأن ادراة المكتبة تقاوم الضغوط الطائفية والسياسية ومنعها من التدخل في شؤون عمل المكتبة . حذّر مصدر عراقي من أن آلاف الكتب والمخطوطات النادرة في المكتبة الوطنية العراقية معرضة للخطر بعد قيام قوات الأمن العراقية بإحتلال مبنى المكتبة. وابلغ سعد إسكندر المؤرّخ الكردي الذي يدير المكتبة منذ العام 2003 صحيفة الغارديان الصادرة اليوم الجمعة "أن 20 جندياً عراقياً استولوا على مبنى المكتبة الوطنية بقوة السلاح وهددوا موظفيها وحراسها وحولوا أرشيفها الوطني إلى هدف عسكري سيقوم المتطرفون اليوم أو غداً بمهاجمته". وقال إسكندر إن الجنود العراقيين الذين زعموا أنهم احتلوا مبنى المكتبة الوطنية بذريعة حماية الزوار الشيعة أثناء توجههم إلى مرقد الكاظمية على بعد 15 ميلاً، اقاموا مواقع لهم على سطح المكتبة وفكوا بوابتها الرئيسية وحطموا الأبواب والنوافذ داخل المبنى الرئيسي للمكتبة الوطنية.  واضاف "هذه العملية الطائشة من قبل القوات العراقية والجيش الأمريكي الذي تغاضى عنها ستعرض موظفي المكتبة ومقتنياتها النادرة لخطر حقيقي" دون أن يستبعد إحتمال أن يقوم الجنود بسرقة محتويات المبنى وحتى الإقدام على إحراقه.
     ان من العجب ان تهتم صحيفة الغارديان لمخاطر ذاكرة العراق ، وصحفنا لا تلتفت للامر !؟ اننا مع ادارة المكتبة نحمّل القوات الأمريكية والقوات العراقية مسؤولية أي خسائر وإصابات تلحق بالمكتبة الوطنية العراقية وبما تبّقى من الارشيف العراقي ، ان امين المكتبة ومعاونيه لا يحظون بأي  دعم ولا اي حماية من أي جهة في العراق، بل يناصبونهم العداء لاسباب عدة  سياسية وتاريخية وطائفية واسباب جهالة او عوامل خطيرة اخرى من داخل العراق او خارجه .. انني  انادي كل المسؤولين  العراقيين اليوم بأن يحموا هذا الصرح وغيره من صروح العراق ، فهي اهم بكثير من حماية انفسهم .. ان ذاكرة العراق اهم منهم جميعا ..  واناشد كل المثقفين في العالم ان يرفعوا اصواتهم عاليا لحماية ذاكرة العراق المكتنزة من كل القتلة الجدد ومن كل الاعداء الحاقدين .. فهل لنا من مجيب ؟

www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 15 آب / اغسطس 2007

160
برويز مشّرف في خط النار !!

د. سّيار الجميل

قرأت بشغف مذكرات الجنرال برويز مشرّف بعنوان ( In the Line of Fire : A Memoir  ) ، وبالرغم مما سجله من معلومات ممتعة ، الا ان الاحداث لم تأخذني الى نهاية طبيعية .. برويز ، نشر مذكراته قبل ان يتقاعد او يعزل بعد ، واعتقد انه ارتاب من القتل ، فراح يدفعها للتاريخ . وسيجد من يقرأ " المذكرات "  تبريره للانقلاب الذي قاده ضد نواز شريف الذي وصل السلطة بانتخابات عامة ، وكان ان اعتمد على مشّرف بترقيته وجعل الجيش بيده .. فلماذا خان برويز الامانة وحاك انقلابا عسكريا اطاح بنّواز وبتآمر دولي مكشوف توّضحت اسبابه لاحقا ؟؟ ان تبريرات مشّرف لا تفي بالغرض ، اذ اورد قصة ربما صحيحة ولكنه نسج كل تفاصيلها من الخيال .. فكان ان فقد بعض مصداقيته ! .
    لقد توضّحت الصورة عن برويز مشّرف ، وخصوصا شخصيته وسايكلوجيته وقدراته التي يحكم بها بلادا صعبة قرابة سبع سنوات ، فهو ليس برجل عادي اذن ! وبالرغم ما يحيطه من مخاطر داخلية ومحيطية ، وما يذاع ضده من تهم سافرة ينشرها خصومه المتطرفون ، الا انه قد يلاقي مصيرا مروّعا  بسبب سياسته الممالئة للبيت الابيض .. فضلا عن كونه اليوم  هو العدو رقم 1 لتنظيم القاعدة ، او ان يكون العكس هو الصحيح !
     وسواء اتفقنا ام اختلفنا حوله ، فهو باق في الحكم ربما لسنوات أو لأيام معدودات . انه لم يتحّدر من اسرة ثرية ومعروفة كما هو حال نواز وبينازير .. انه ينتمي لاسرة مهاجرة من قلب الهند الى حيث الباكستان التي اسسها محمد علي جناح منفصلا عن الهند ، مقارنة بنواز واصله من البنجاب ، وببينازير واصلها من السند . ويسجل مشرّف ادوار حياته بشكل غير تفصيلي واحترافه الدور العسكري الذي عشقه ، واليوم يعد نفسه الباني الحقيقي لقوة الباكستان ، ويذكر بأنه حاول الغاء الفوارق الطبقية والتباينات الاثنية بين ابناء جيشه من اجل هوية موحدة للباكستان . وتأثّر الرجل بالغرب كما يبدو ، ولكنه يحترم تقاليده الاسلامية ويؤمن بالقدر .. كان وصوله الباكستان وهو في الرابعة من العمر ، وعاش في تركيا بحكم عمل والده في سفارة الباكستان وبقي فيها سبع سنوات .. عاد وعمره 14 سنة لينخرط في المدرسة الكاثوليكية رفقة اخيه نويد ، وبدل ان يكون استاذا مدنيا ذهب ليصبح ضابطا عسكريا ، وتدرج ليصبح عام 1998 رئيسا لهيئة الاركان باعجاب نواز به ،واذا كان مشّرف يؤمن بأن الحظ خدمه ، فانني اعتقد ان نوازا شعر بخطورته فأقاله عام 1999 ، وكان مشّرف على متن طائرة قادما من سري لانكا  ، وبقيت الطائرة تحلّق ولم يسمح لها بالهبوط كي ينفذ وقودها برواية مشّرف ، ولكنها حّطت في كراجي لتعلن القيادة العسكرية التمرد على نوّاز وتضعه تحت الاقامة الجبرية وتكون الباكستان فجأة بيد مشرّف برغبة الجنرالات كما يقول !!
مشّرف ينفي تآمره على نوّاز ، بل ان اثنين من قادة الضباط اتخذا قرارا بتنفيذ الانقلاب العسكري لصالح مشّرف ولم ينفذا رغبة نوّاز باعتقاله ، ويعزو ذلك لمعرفة مشّرف بهما اذ انهما كانا يلعبان التنس معه ! ولكن ينبغي ان نفّكر بالدور الذي اضطلع به الجنرال الجديد ازاء حكم طالبان في افغانستان وحالات الفوضى التي عمّتها بعد انسحاب جيش السوفييت الاحمر منها ، علما بأن الباكستان كانت مأوى لعناصر طالبان الذين اضطلعت بتجنيدهم وتسليحهم وتدريبهم على يد سلطاتها العسكرية لمواجهة الحكومات الافغانية .. لقد كانت الباكستان الحاضنة الطبيعية لوصول طالبان للحكم ، ومن ثّم تغدو الاخيرة حاضنة لجماعة القاعدة .. لقد تأسست حركة طالبان عام 1994 ، اي بعد مرور 5 سنوات على انسحاب السوفييت .. وكلنا يذكر كيف كانت عناصر طالبان مدللة من قبل سلطات الباكستان ودور استخباراتها العسكرية في تأسيس طالبان !
ان ثمة مغالطات حول طالبان والقاعدة في مذكرات مشّرف ، ناهيكم عن سياقاته غير المقنعة حول نفي مسؤولية تسّرب القنبلة النووية الباكستانية الى ايران وكوريا الشمالية واتهام  مؤسسها عبد القدير خان بتنظيم شبكة سرية وتسريبها مقابل المال ، وسواء اضطلعت الحكومة ام لا ، فان ثمة خللا يتحمل مسؤوليته مشّرف نفسه !  وفي مذكراته ، يكيل مشّرف التهم ضد كل المسؤولين الباكستانيين السابقين ، ويتهمهم بشتى التهم التي لا اساس لها من الصحة التاريخية .. فمثلا كان هناك ثمة مسببات في انفصال باكستان الشرقية لتتأسس دولة جديدة باسم بنغلادش اثر انتفاضة بنغالية قادت الى الحرب التي خسرتها الباكستان عام 1971.. كما ان ذو الفقار علي بوتو هو المناضل الذي خرج من السجن وكان معارضا للجنرال يحي ، كي يقود بوتو خلاص الباكستان التي حكمها مدنيا ، ولكن دفع حياته ثمنا باعدامه من قبل الجنرال ضياء الحق الذي قاد انقلابه ضده .. لم يكن مشّرف  حياديا في " مذكراته " ، بل ولم ينصف المدنيين ازاء انقلابات العسكريين واخطائهم التي لا تغتفر ، وان اطلاقه للتهم ضد بوتو او نواز او بنازير وغيرهم لا يمحي مآسي حكم العسكر .. والباكستان اليوم تمّر بأشد ازماتها بعد ان خسرت حروبا  وان وقوفها الى جانب الولايات المتحدة في غزو افغانستان بالحرب على الارهاب قد فجّر الموقف الداخلي .  فاذا كانت المذكرات  قد كتبها من موقع القوة ، فهو اليوم ضعيف يسعى نحو المدنيين لاقتسام السلطة وربما سيخلص من ورطته وهو في خط النار فعلا .. وما لقائه الاخير مع السيدة بنازير الا الشروع بصفقة جديدة ، ربما يتخلى  من خلالها عن السلطة ـ كما نصحه البعض ـ ، ام انه سيدفع ثمن اخطائه واخطاء الحكومات العسكرية  باهضا ؟ هذا ما ستشهد به الايام القادمة ، فلننتظر !

 www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 8 آب / اغسطس 2007                                                                                                                                                                                                                                                           

161
المُؤرّخُ محترفََ سياسة !رؤيةٌ مِهََنيِّةٌ لواقعِ الكتاباتِ التاريخية


د. سّيار الجميل
تورنتو ـ كندا

-1-
                 
مقدمة " كتابة التاريخ مهنة شاقة
قبل ايام كتبت مقالة عن الفوضى التي تعم ساحتنا الثقافية والتي دخل اليها من هّب ودبّ ليكتب التاريخ حسب مزاجه او حسب رغباته او حسب عاطفته السياسية وميوله الايديولوجية .. او حسب اجندة البطل او الحزب  او السلطة او الطائفة او الجذور العرقية التي ينتمي اليها .. وليس في ذلك اي عيب او جناية .. فالانسان كتلة من الاعصاب والافكار والنزعات والموجهات والعواطف التي تقوده الى ما يؤمن به .. ولكن التاريخ بكل مساحاته وعناصره وافعاله واحداثه والوانه .. ليس ملكا له وحده .. انه مشاع لكل ابنائه والاجيال من بعده .. انه الميدان الذي اشترك فيه الجميع من اجل التعّرف عليه وهو المضمون الذي يقبل كل ما تكشفه الايام .. فليس من حق كائن من كان ان يفرض وجهة نظره او رأيه بمعزل عن كل الاراء .. وبمعزل عن ارادة كل المؤرخين ..
ان عملية كتابة التاريخ احتراف علمي بالدرجة الاساس ، وان من يسمّي نفسه مؤرخا ، عليه ان يمتلك الاداة والوسيلة .. الاسلوب والمنهج .. الرؤية والتفسير .. المصدر والتحليل .. المعلومة والارشيف .. الفلسفة والمعرفة .. كي يكون مؤرخا بحق وحقيق . انها كما وصفت في اغلب المدارس بـ " مهنة شاقة " لا يجيد صنعتها الا من اكتسب الشروط والتمرين والتجربة والمراس كي يكون مؤرخا حقيقيا .. يؤخذ كلامه على محمل الجد .. اما من يريد ان يقتحم هذا " الميدان " بلا اية اسلحة ولا اية تجارب ولا اي منهج ، فلا يمكن التعويل على كتاباته ، بل ولا يمكن للاجيال ان تعتمد اي رأي من آرائه ولا اي فكرة من افكاره . ان مهنة او صنعة التاريخ  صعبة للغاية سواء في كتابة الاحداث السياسية او في تحليل الاوضاع الاجتماعية او في مقارنة البنى الاقتصادية وحتى في تفسير التاريخ الثقافي والحضاري .. ناهيكم عن القيم المثلى التي ينبغي التمتع بها في كتابة او سرد السير الذاتية وتقييم البطل في التاريخ بعيدا عن اي عواطف سياسية او وطنية او حزبية .. الخ  ان ما نشهده اليوم من نشر اكاذيب واختلاقات ومشعوذات وانشائيات ومفبركات وتمجيد زعماء .. ليس من التاريخ بشيئ من الاشياء !

الدور الارتكازي للمؤرخ
    اعجبني جدا ما كتبه المؤرخ الفرنسي «اوليفييه دومولان» وهو احد اهم المؤرخين الفرنسيين الشباب في القرن العشرين من الذين جعلوا لعلم التاريخ مكانة بارزة في اهتمامات الباحثين في ميادين العلوم الاجتماعية والانسانية في الغرب اليوم .  ولابد من ان يطرح سؤالا جوهريا مفاده: «بماذا تخدمنا المعرفة التاريخية اليوم ، وكيف يستفيد اي مؤرخ في توظيفه للاحداث المصيرية التي يعايشها من اجل ان يكتب خطابا من نوع ما ؟» ربما وجدت الجواب بشكل تطبيقي رائع من خلال قراءة اطروحة دومولان «مهنة المؤرخ: مهنة مأزومة»  خصوصا عندما حلل بشكل واف جوانب جد اساسية وارتكازية في توظيف المؤرخ جملة من انطباعاته عن معايشته للاحداث المصيرية الساخنة وماذا يمكنه ان يكتب للجماهير في اصعب ظروفها القاهرة وهي تتعرض للدمار او تحيا تلك اللحظات التاريخية التي يعتبرها البعض ضربا من الحظ في ان يعيش الاحداث في اسبابها ونتائجها القوية . تتمثل مثل هذه الخصوصية في الذي يكتبه المؤرخ في تحليلاته لا السياسي في توقعاته او الصحافي في متابعاته .. وانه يناقش هذا الدور من خلال تداخل مهنة «المؤرخ» مع مهمة «المتابعة» الحيوية خصوصا في هذه الايام التي بلغت درجة الميديا الاعلامية اعلى مدياتها قوة ورهبة واختراقا للتفكير والعواطف .. وسيغدو المؤرخ هنا مجرد قاض يحاكم جزئيات الاحداث مع نفسه ليذيع نتائجه على الناس وخصوصا في مسائل لا علاقة بحقبة زمنية معينة ، بل عن مرحلة صعبة من المعايشة بكل جوارحه مستدعيا ذاكرته الحادة ليقارن بين الاحداث والشخوص والعناصر والمديات والاعتبارات ..
     هكذا  يمكنني ان اذكر في هذا المجال المؤرخ الاميركي «روبرت باكستون» المختص بتاريخ فرنسا المعاصر في ظل حكومة المارشال بيتان وهي الحكومة المعروفة باسم «حكومة فيشي» ومعناها : المدينة الفرنسية التي اتخذها المارشال المذكور مقرا لحكومته والتي تعاونت مع قوات الاحتلال النازي وقد علمنا ان رئيسها قد عوقب بعد التحرير ليواجه الاعدام.. وضمن هذا الاطار من الاحداث المصيرية مثل المؤرخ الاميركي دوره تطبيقيا امام القضاء عندما قارن بين الاحداث وكانت شهادته ذات اثر بالغ في تثبيت منطق الاحداث بمعايشته تظاهرات الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي وممارسة الاخير للقمع .
دراسة الواقع وتحليلاته من وحي التاريخ :
    ان قراءتنا للتاريخ نحن شعوب الشرق الاوسط  ليست بعلمية ولا بمنهجية ولا بفلسفية ابدا .. انها مجموعة مسردات لاحداث او وقائع او سير او بطولات .. لا كشوفات فيها ولا مقارنات لها ولا تأصيل مؤرشف عنها ولا تطبيقات عملية رقمية او جغرافية او طبيعية عليها .. ولقد زاد في الامر سوءا دخول ميدان التاريخ في حياتنا العربية خصوصا مجموعة من الاعلاميين والاخوة الصحفيين والكتبة الجدد الذين لهم منطلقاتهم في التقييم وتعاطفهم وعدم حياديتهم وانعدام موضوعيتهم وتوزيعهم للاحكام بسرعة .. بل وتجد انفعالاتهم وعواطفهم الساخنة في اطلاق التهم ووصلت الى حد الشتائم المقذعة والمعبّرة عن انقسامات مخيفة ليست في العقلية السائدة ، بل في الاتجاهات الفكرية والاساليب الاجتماعية والعلاقات الثقافية ..
    علينا ان نتساءل : كيف نعالج مثل هذه الاوضاع التي تزداد تفاقما وخطورة على مجتمعاتنا ؟ كيف نحمي مجتمعاتنا من توظيف التاريخ انقساميا .. ولا نجعله اداة هدم بيد من يريد ان يؤسس للانقسامات الاجتماعية والسياسية والثقافية ؟ كيف نوقف الهجمات على التاريخ تحت مسميات طائفية ومذهبية وعرقية تصل الى حد الشوفينية ؟ كيف نبعد التاريخ عن ان يكون بيد اية سلطات في الدولة او لدى الاحزاب واستخدامه عامل هدم وليس عامل بناء ؟ ثمة فراغات كبرى ومساحات داكنة في تاريخنا لا يمكن جعل كل من هب ودب يفسرها حسبما يرى او يشاء لافكار يريد الوصول اليها .. بمعزل عن فهم الظروف في الماضي وعوامل البناء والهدم التاريخية التي سببت تلك الفجوات ؟
المسؤولية التاريخية
      اتذكر انني كتبت مقالا قبل اكثر من 35 عاما عندما كنت طالبا في الكلية بعنوان ( الامانة العلمية والمسؤولية التاريخية للبحث التاريخي ) في مجلة الجامعة ، حددت في المقال بعض الهواجس والتخوفات من كثرة ما يكتب من اشياء لا اساس لها من الصحة ، بل ونبهت الى جملة من السرقات والمنتحلات .. بل والى جملة من التزييفات والاختلاقات التي يريد بها البعض تشويه التاريخ .. ولم يكن في ذلك الزمان اية ثورة معرفية او معلوماتية او رقمية او الكترونية .. فكيف بنا الحال هذه الايام ؟ دعوني استرسل قليلا ، فالموضوع ان لم ينتبه اليه ، فسوف لن نزداد الا تخلفا وتراجعا وماضوية وانقسامية وتهميشا من كل العالم المعاصر .
للمقال صلة
www.sayyaraljamil.com
الزمان ، 30 يوليو / تموز 2007

162
هواجس مؤرخ رؤيةٌ مِهََنيِّةٌ لواقعِ الكتاباتِ التاريخية

د. سّيار الجميل
تورنتو ـ كندا
-2-
     للبحث صلة : هواجس مؤرخ !   
       ان اهمية ما يكتبه المؤرخ من تحليلات وما ينبه اليه من النداءات وما يوحي اليه من الايحاءات وما يشهد به من الشهادات وما ينشره من المقالات والكتابات ، وما يكتبه من الهواجس والتخوفات .. كلها تكمن من اجل تحديد المسئولية التاريخية امام كل من الرسميين في الدولة والجماهير في المجتمع ، وتغدو تلك كلها بمثابة شهادة ذات طابع " علمي " و «قانوني» ، وايضا بمثابة مؤشرات حقيقية على «اعادة مكانة واهمية تعريف مهنة المؤرخ» نفسها بحيث انه الوحيد القادر على ان يندفع اكثر فأكثر الى اطلاق الاحكام وابداء التوقعات ومزاولة الاحتمالات باعلى درجاتها وعلى نحو من «المواجهة» بصفة «خبير» الى الدرجة التي يمكن من خلالها ممارسة المفاوضات او مخاطبة المسؤولين او كتابة البيانات او استخدام المعلومات مهما بلغت درجتها من الدقة .
 ونلاحظ بهذا الصدد ومن باب الاطلاع على ما كتبه العديد من المؤرخين الاساسيين كخبراء دوليين او حتى اقليميين بأن تجارب انشطتهم الفاعلة من خلال مراكز بحوث استراتيجية او مؤسسات معرفة موسوعية بان العقدين الاخيرين من القرن العشرين قد شهدا بروزا اكبر لدور المؤرخ وتحديدا الدور السياسي له بالنسبة لمؤسسات الدولة والدور الاجتماعي بالنسبة للمجتمع الذي لا يكتفي بمحاولة «فهم» الوقائع والاحداث الاجتماعية حسب ، بل عليه مهمة من نوع ما تمثله وتمثل مداركه العليا وهو يقدم «احكاما» او جملة " مفاهيم .. هنا تصل درجة المؤرخ الى مكانة عالية من المعرفة واختزان المعلومات والحقائق ، اي يغدو بمثابة «خبير» يمكن اللجوء اليه وقراءة احكامه وموحياته ونداءاته اثناء الاحداث المصيرية ، فهو ليس مجرد شاهد «عابر» سبيل ! وعليه ، لا يمكن ابدا  الاستغناء عن مثل هذا " الدور " اذا ما نجح المجتمع المتمدن فعلا بالاعتماد على مختصين حقيقيين منهاجيين لهم رؤيتهم النقدية في التاريخ المعاصر يمكنهم ان ينجحوا في تأسيس اية قاعدة معرفية او الخروج باستنتاجات حاسمة حول فهم ما يجري وتقييمهم للاحداث وهي حية قبل ان تموت من خلال معايشته الحقيقية لها .
متى يخرج العلماء عن صمتهم ؟
    باختصار ، هناك قضايا عديدة في سيرورة الاحداث الاساسية بحاجة الى اعادة نظر «تاريخية» من قبل المسؤولين ( المنتصرين ) بصفحات «لاتزال مشوشة» من تاريخهم الحديث والمعاصر . وهنا لابد ان نعلم بأن ثمة حاجة ضرورية لابد من توفرها وهي مدى استجابة المؤرخ للمنتصر في فرض اجندته السياسية بشكل حاسم بعد ان فرض الامر العسكري الواقع . وهنا لا يمكن ان تخرج مهنة المؤرخ من الاطار «الاكاديمي المنعزل» البحت كي تصبح بمثابة «رهان عام» وبذلك لابد ان يفتح المجال لفتح ملفات «تاريخية» من موقع يشابه الى حد بعيد موقع التحقيق العدلي لكل الاعمال والكتابات أو موقع الطب العدلي في تشريح الشهادات والتقارير والملفات الخ ، اي دخل المؤرخ بصيغة ما، في جلد الاحداث التي صنعها المنتصر بالقوة .. وهنا ينبغي تحقيق اشتراطات الامانة والموضوعية والحيادية او على الاقل ابداء رأي «الشاهد» النزيه بعيدا عما تتصف او تشتهر به وسائل الاعلام المكتوبة او السمعية او البصرية من تحيزات واختلاقات ومفبركات واشاعات .. وعلى المؤرخين الحقيقيين والنقاد المعرفيين استخدام كل ما لديهم من براهين «علمية» من اجل دحض ليس آراء خصومهم حسب ، بل ايضا ما يذيعه الاعلاميون والسياسيون والدبلوماسيون والمسؤولون القياديون . ان المؤرخ لابد له من كشف اوضاع «الحالة المشوشة» لأولئك البعض الذي لا يدرك «معنى الاحداث» وتموجاتها من ولادتها حتى نهاياتها . ان من ضرورات العصر ومن متطلبات الحياة الحديثة اليوم ان يبادر العلماء لنقد ما يرونه يخالف الحقائق والمنطق .. عليهم ان يخرجوا من صمتهم ليعيدوا التوازن الى المعرفة .. خصوصا في عصر تكنولوجيا المعلومات وقد بات الغث والسمين ينشر على الملأ .. علينا ان نحافظ على حقائقنا من خلال ما يستوجب ان تتعلمه الاجيال الجديدة .. فانها ان ترّبت على غثاء ما ينشره  هذا او ذاك ضاعت كل المعرفة التي استطاع الاباء والاجداد ان يختزنوها ويحترزوا عليها .. علي من يجد الاخطاء تصويبها .. وعلى من يسمع الاكاذيب دحضها .. وعلى من يجد اي جنوح في غير محله كشفه وتعريته ..
المؤرخ : محترف سياسة 
      ان مهنة المؤرخ لم تبق مجرد حالة اداء «تقليدي» ، فقد غدت في السنوات الاخيرة من القرن العشرين حالة جديدة تنطبق اساسا على مقتضيات العصر بكل تفاعلاته ومتغيراته .. وهنا لابد لها وقد اكتسبت بعد خصائص الحياة المعاصرة الجديدة. ان المؤرخ يصبح في مثل هذه الحالة من التعايش مع الاحداث التاريخية الحية وكأنه شرطي مرور يمرر الوقائع على مفترق الطرق الصعبة عند الدوارات ذات الاتجاهات المتنوعة ، اذ انه لم يعد مجرد «كاتب تقليدي » أو «استاذ جامعي خامل وكسول» كما هو مألوف ، وانما يقترب الان اكثر فأكثر من ادوار «صاحب الخبرة الاعلامية » والخبرة التاريخية المطلوبة في «الزمن الحاضر الذي يعاصره » وفي مواجهة «حالات عيانية من تاريخ يصنع امامه »  في واقع من نوع ما.  ان ما يحدث هذه الايام  من جملة تداخلات حقيقية بين مهمة «المؤرخ» ومهمة «الخبير» يمثل نوعا من اقتراب المؤرخ من الناس الذين يأخذون كلامه على محمل الجد مقارنة بما يذيعه السياسي او يكتبه ، فالمؤرخ يبقى في خدمة المجتمع ومؤسساته المدنية ، اما السياسي فهو حلقة ربما يصبح في خدمة اوضاع سياسية معينة وربما اصبح في «خدمة الدولة». بتعبير آخر لم يعد المؤرخ مجرد باحث اكاديمي هزيل بكل ما هو «محترف» وانما غدا في حقيقة الامر «مساهما» في الحياة العامة للمجتمع والاحداث التاريخية التي يعيشها ذلك المجتمع لا يعرف تسلسل امتداداتها الا المؤرخ  . وعليه ، فهو مسؤول عما يقوله من دون ان يلوي عنق الحقيقة مهما كانت الاثمان.
وأخيرا : ما الذي اريد التوصّل اليه ؟
    ان آخر ما أوصي به كل المهتمين والقراء الكرام الذين يتابعون ما اكتبه في مختلف الشؤون مراجعة كتاب اوليفييه دومولان الموسوم في ادناه .. او مراجعة بعض اعمال اخرى لمؤلفين بدأوا يهتمون اهتماما كبيرا بهذا الشأن الخطير ليس علينا نحن الذين تربينا في القرن العشرين ، بل على الاجيال التي ستتربى في القرن الواحد والعشرين ، وخصوصا من خلال تكنولوجيا المعلومات المشاعة التي لا يعرف مدى الصحة فيها من الخطأ .. وخصوصا في ثقافات الشرق الاوسط التي بدأت تعج بالفوضى السياسية والفكرية ، واخذت تنال من حقائقها  السلطات الحزبية والطائفية والدينية والسياسية والايديولوجية بشتى اصناف الاكاذيب والتهم والاشاعات والمفبركات .. فهل نحن بمستعدين لتصويب مسارات ما اقول ؟ هل نحن بقادرين على قول الحقائق او مقارباتها ؟ هل باستطاعتنا ان نؤسس ثقافة اعلامية معرفية ونقدية توقف هذا المد الخطير الذي يجتاح مجتمعاتنا ؟ هل نحن باقوياء بما فيه الكفاية حتى نوقف الهجمة الاعلامية والالكترونية بكل شبكاتها وآلياتها وفضائياتها مما تفعله في معارفنا وتربوياتنا ومعلوماتنا وافكارنا ؟ هل باستطاعتنا تربية اجيال القرن الواحد والعشرين على معلومات صحيحة باساليب علمية وتربوية واخلاقية مدنية بعيدة كل البعد عما يجري اليوم .. او ما سيجري في المستقبل ؟ انني اشك في ذلك شكا كبيرا !
www.sayyaraljamil.com
الزمان ، 6 آب / اغسطس 2007

163
المُؤرّخُ محترفََ سياسة !
رؤيةٌ مِهََنيِّةٌ لواقعِ الكتاباتِ التاريخية

د. سّيار الجميل
تورنتو ـ كندا

-1-
                 
مقدمة " كتابة التاريخ مهنة شاقة
قبل ايام كتبت مقالة عن الفوضى التي تعم ساحتنا الثقافية والتي دخل اليها من هّب ودبّ ليكتب التاريخ حسب مزاجه او حسب رغباته او حسب عاطفته السياسية وميوله الايديولوجية .. او حسب اجندة البطل او الحزب  او السلطة او الطائفة او الجذور العرقية التي ينتمي اليها .. وليس في ذلك اي عيب او جناية .. فالانسان كتلة من الاعصاب والافكار والنزعات والموجهات والعواطف التي تقوده الى ما يؤمن به .. ولكن التاريخ بكل مساحاته وعناصره وافعاله واحداثه والوانه .. ليس ملكا له وحده .. انه مشاع لكل ابنائه والاجيال من بعده .. انه الميدان الذي اشترك فيه الجميع من اجل التعّرف عليه وهو المضمون الذي يقبل كل ما تكشفه الايام .. فليس من حق كائن من كان ان يفرض وجهة نظره او رأيه بمعزل عن كل الاراء .. وبمعزل عن ارادة كل المؤرخين ..
ان عملية كتابة التاريخ احتراف علمي بالدرجة الاساس ، وان من يسمّي نفسه مؤرخا ، عليه ان يمتلك الاداة والوسيلة .. الاسلوب والمنهج .. الرؤية والتفسير .. المصدر والتحليل .. المعلومة والارشيف .. الفلسفة والمعرفة .. كي يكون مؤرخا بحق وحقيق . انها كما وصفت في اغلب المدارس بـ " مهنة شاقة " لا يجيد صنعتها الا من اكتسب الشروط والتمرين والتجربة والمراس كي يكون مؤرخا حقيقيا .. يؤخذ كلامه على محمل الجد .. اما من يريد ان يقتحم هذا " الميدان " بلا اية اسلحة ولا اية تجارب ولا اي منهج ، فلا يمكن التعويل على كتاباته ، بل ولا يمكن للاجيال ان تعتمد اي رأي من آرائه ولا اي فكرة من افكاره . ان مهنة او صنعة التاريخ  صعبة للغاية سواء في كتابة الاحداث السياسية او في تحليل الاوضاع الاجتماعية او في مقارنة البنى الاقتصادية وحتى في تفسير التاريخ الثقافي والحضاري .. ناهيكم عن القيم المثلى التي ينبغي التمتع بها في كتابة او سرد السير الذاتية وتقييم البطل في التاريخ بعيدا عن اي عواطف سياسية او وطنية او حزبية .. الخ  ان ما نشهده اليوم من نشر اكاذيب واختلاقات ومشعوذات وانشائيات ومفبركات وتمجيد زعماء .. ليس من التاريخ بشيئ من الاشياء !

الدور الارتكازي للمؤرخ
    اعجبني جدا ما كتبه المؤرخ الفرنسي «اوليفييه دومولان» وهو احد اهم المؤرخين الفرنسيين الشباب في القرن العشرين من الذين جعلوا لعلم التاريخ مكانة بارزة في اهتمامات الباحثين في ميادين العلوم الاجتماعية والانسانية في الغرب اليوم .  ولابد من ان يطرح سؤالا جوهريا مفاده: «بماذا تخدمنا المعرفة التاريخية اليوم ، وكيف يستفيد اي مؤرخ في توظيفه للاحداث المصيرية التي يعايشها من اجل ان يكتب خطابا من نوع ما ؟» ربما وجدت الجواب بشكل تطبيقي رائع من خلال قراءة اطروحة دومولان «مهنة المؤرخ: مهنة مأزومة»  خصوصا عندما حلل بشكل واف جوانب جد اساسية وارتكازية في توظيف المؤرخ جملة من انطباعاته عن معايشته للاحداث المصيرية الساخنة وماذا يمكنه ان يكتب للجماهير في اصعب ظروفها القاهرة وهي تتعرض للدمار او تحيا تلك اللحظات التاريخية التي يعتبرها البعض ضربا من الحظ في ان يعيش الاحداث في اسبابها ونتائجها القوية . تتمثل مثل هذه الخصوصية في الذي يكتبه المؤرخ في تحليلاته لا السياسي في توقعاته او الصحافي في متابعاته .. وانه يناقش هذا الدور من خلال تداخل مهنة «المؤرخ» مع مهمة «المتابعة» الحيوية خصوصا في هذه الايام التي بلغت درجة الميديا الاعلامية اعلى مدياتها قوة ورهبة واختراقا للتفكير والعواطف .. وسيغدو المؤرخ هنا مجرد قاض يحاكم جزئيات الاحداث مع نفسه ليذيع نتائجه على الناس وخصوصا في مسائل لا علاقة بحقبة زمنية معينة ، بل عن مرحلة صعبة من المعايشة بكل جوارحه مستدعيا ذاكرته الحادة ليقارن بين الاحداث والشخوص والعناصر والمديات والاعتبارات ..
     هكذا  يمكنني ان اذكر في هذا المجال المؤرخ الاميركي «روبرت باكستون» المختص بتاريخ فرنسا المعاصر في ظل حكومة المارشال بيتان وهي الحكومة المعروفة باسم «حكومة فيشي» ومعناها : المدينة الفرنسية التي اتخذها المارشال المذكور مقرا لحكومته والتي تعاونت مع قوات الاحتلال النازي وقد علمنا ان رئيسها قد عوقب بعد التحرير ليواجه الاعدام.. وضمن هذا الاطار من الاحداث المصيرية مثل المؤرخ الاميركي دوره تطبيقيا امام القضاء عندما قارن بين الاحداث وكانت شهادته ذات اثر بالغ في تثبيت منطق الاحداث بمعايشته تظاهرات الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي وممارسة الاخير للقمع .
دراسة الواقع وتحليلاته من وحي التاريخ :
    ان قراءتنا للتاريخ نحن شعوب الشرق الاوسط  ليست بعلمية ولا بمنهجية ولا بفلسفية ابدا .. انها مجموعة مسردات لاحداث او وقائع او سير او بطولات .. لا كشوفات فيها ولا مقارنات لها ولا تأصيل مؤرشف عنها ولا تطبيقات عملية رقمية او جغرافية او طبيعية عليها .. ولقد زاد في الامر سوءا دخول ميدان التاريخ في حياتنا العربية خصوصا مجموعة من الاعلاميين والاخوة الصحفيين والكتبة الجدد الذين لهم منطلقاتهم في التقييم وتعاطفهم وعدم حياديتهم وانعدام موضوعيتهم وتوزيعهم للاحكام بسرعة .. بل وتجد انفعالاتهم وعواطفهم الساخنة في اطلاق التهم ووصلت الى حد الشتائم المقذعة والمعبّرة عن انقسامات مخيفة ليست في العقلية السائدة ، بل في الاتجاهات الفكرية والاساليب الاجتماعية والعلاقات الثقافية ..
    علينا ان نتساءل : كيف نعالج مثل هذه الاوضاع التي تزداد تفاقما وخطورة على مجتمعاتنا ؟ كيف نحمي مجتمعاتنا من توظيف التاريخ انقساميا .. ولا نجعله اداة هدم بيد من يريد ان يؤسس للانقسامات الاجتماعية والسياسية والثقافية ؟ كيف نوقف الهجمات على التاريخ تحت مسميات طائفية ومذهبية وعرقية تصل الى حد الشوفينية ؟ كيف نبعد التاريخ عن ان يكون بيد اية سلطات في الدولة او لدى الاحزاب واستخدامه عامل هدم وليس عامل بناء ؟ ثمة فراغات كبرى ومساحات داكنة في تاريخنا لا يمكن جعل كل من هب ودب يفسرها حسبما يرى او يشاء لافكار يريد الوصول اليها .. بمعزل عن فهم الظروف في الماضي وعوامل البناء والهدم التاريخية التي سببت تلك الفجوات ؟
المسؤولية التاريخية
      اتذكر انني كتبت مقالا قبل اكثر من 35 عاما عندما كنت طالبا في الكلية بعنوان ( الامانة العلمية والمسؤولية التاريخية للبحث التاريخي ) في مجلة الجامعة ، حددت في المقال بعض الهواجس والتخوفات من كثرة ما يكتب من اشياء لا اساس لها من الصحة ، بل ونبهت الى جملة من السرقات والمنتحلات .. بل والى جملة من التزييفات والاختلاقات التي يريد بها البعض تشويه التاريخ .. ولم يكن في ذلك الزمان اية ثورة معرفية او معلوماتية او رقمية او الكترونية .. فكيف بنا الحال هذه الايام ؟ دعوني استرسل قليلا ، فالموضوع ان لم ينتبه اليه ، فسوف لن نزداد الا تخلفا وتراجعا وماضوية وانقسامية وتهميشا من كل العالم المعاصر .
للمقال صلة
www.sayyaraljamil.com
الزمان ، 30 يوليو / تموز 2007

164
من الأمامْ سِرْ .. الى الوََراء دُرْ .. !؟
د. سيّار الجميل
   
     كل يوم يمضي علينا والاخبار المحبطة والوقائع المأساوية تقضّ مضاجعنا .. كل يوم يمضي علينا والاحوال تنتقل من سيئ الى أسوأ .. كل يوم يمضي علينا وحياتنا تزداد اخفاقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. كل يوم يمضي علينا والانقسامات تؤسس نفسها والتشظيات تأخذ مداها .. كل يوم يمضي علينا وشعوبنا تزداد مشاكلها وتتفاقم معضلاتها وتنحسر ارادتها .. كل يوم بمضي علينا والتدخلات الخارجية تزداد شراسة وقوة ونفوذا في مصائرنا .. كل يوم يمضي علينا والنخب المفكرة والمثقفة تنحسر مواقفها وتتلاشى ضغوطاتها وتبح اصواتها .. اننا نعيش اليوم في حالة يمكن توصيفها بـ " الى الوراء در " ، فالانسان لم يعد يحلم بالمستقبل بقدر ما يلوك الماضي .. انه لم يعد يحمل شعاراته التحررية ، فلقد حّلت الورائية محل التقدمية ، ولم نعد نسمع بالافكار الاشتراكية ولا بالمفاهيم الانسانية ولا بالقيم المعاصرة .. لم نعد نسمع لا باليمين ولا باليسار .. لا بالتقدم ولا بالتأخر ، في حين سلكت المجتمعات الاخرى في العالم سلوكا من نوع آخر !
     لم تجد المجتمعات الاخرى بعد اخفاق اليسار واليمين فيها الا العمل بانسجام من اجل التقدم والسير نحو الامام .. في حين لم تحظ مجتمعاتنا بأية فرص تاريخية معاصرة وخصوصا ابان الفراغ الذي حدث اثر انهيار المعسكر الاشتراكي وتعطّل ايديولوجيات اليسار العربي عن مسيرتها التي لازمتها جملة من الاخفاقات .. فكانت الفرصة مهيأة لمن يقول : استرح وتوقف  والى الوراء در !! لقد مّرت اجيالنا في القرن العشرين بمخاضات صعبة جدا وصادفت من التحديات التاريخية التي فشلت في الاستجابة لها ، فضيّعت فرصا لا يمكن تعويضها ابدا .. لقد ولدّت الاحباطات ردود فعل عنيفة ازاء الحداثة والتقدم مما قلب الاوضاع رأسا على عقب .. وسمح المجال للهروب الى اعماق الماضي لايجاد علاجات جاهزة ـ كما يظنون ـ ولكنهم نسوا تحولات الزمن ومتغيرات الحياة .
     لقد انتقل الدور السياسي من ابناء النخب الى الجماهير التي وجدت في الانقسامية مبتغاها في الهروب من اللا وعي الواعي بنفسه الى اللاوعي اللا واعي بنفسه ! لم تعش مجتمعاتنا قاطبة اية مناخات طبقية أو اي صراعات طبقية .. بل كانت هناك تمايزات اجتماعية ربما تصل في مناطق الى حدود الصراع ولكن لا تخرج عن اعراف الماضي في مناطق اخرى .. تمايزات بين اعيان وشيوخ وسادة ونبلاء من طرف وبين عامة الناس من طرف آخر وما بينهما طبقة وسطى واخرى مسحوقة لم تجد  طريقها للتبلور ..  بين ابناء مدن وريف وبادية ..  بين مسلمين ومسيحيين ويهود واديان اخرى تعايشت برغم بعض الخلافات ..
    ان اخطاء ما سمي بـ " القفزة النوعية " عند احزاب قومية ، او ما سمي بـ " حرق المراحل " عند احزاب راديكالية .. او ما كان يسود التفكير العام من ان مجرد تغيير نظام حكم او مجرد انقلاب عسكري او مجرد تبديل زعيم او مجرد انتفاضة مسلحة او مجرد اعلان جبهة او مجرد اصدار قرارات او مجرد تأسيس حكومة دينية .. الخ سينقذ الحال وستتغير الحياة ويسود التقدم وتصبح مجتمعاتنا مثالية وتغدو دولنا محترمة .. لن اجد اية فئة او جماعة او حزب او نخبة آمنت بالتطور التدريجي .. او ادركت حجم التخلف ليس في حياتنا وتشيؤات بلداننا ، بل في الذهنية المركبة المسيطرة والتي ليس باستطاعتها ان تؤسس اية قطائع بينها وبين التقدم من جانب وبينها وبين التاريخ من جانب اخر . 
  لم يدرك من برز من ابناء اليمين او اليسار ان مجتمعاتنا كانت في طريقها لكي تلفظ كل البقايا القديمة التي تقف حجر عثرة في طريقها .. لم تدرك السلطات ولا الاحزاب ولا النخب ولا الكّتاب والساسة .. ان هناك واقعا تاريخيا واجتماعيا لا يمكن ابدا ان نقرنه بما كانت عليه اوربا حتى نرّوج لليمين واليسار اذ وصل الحال بأحدهم ان يكتب كتابا عنوانه " اليمين واليسار في الاسلام " !! اما اليمين ، فكان ان نحر حياتنا باساليبه الخادعة وصنعه للتناقضات ، فوضع الحداثة في عربة من العصور الوسطى ويريد ان يقتحم بها هذا العصر !  وجاءت الانقلابات العسكرية التي لم يزل عدد كبير من الناس يسّمونها ثورات معبرة عن الوجدان الشعبي العربي ..
    ولما كانت اغلب تلك " الانقلابات " قد لبست البسة القومية العربية ، واسميت بـ " الثورات "  ، فكان ان اكتسبت شرعيتها من خلال الارادة الشعبية التي رفعتها وكل ابطالها الى السماء من دون ان يدرك الناس وما زالوا بأن تلك " الانقلابات "  كانت مدبّرة بليل لاداء ادوار معينة ضمن صفحات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ..
    بالرغم من تدفق الشعارات القومية التي اصطبغت بالراديكالية واليسار والاشتراكية .. فان اليسار الحقيقي رفض الفكر القومي الذي اسماه باليمين .. وتفاقم الصراع بين الشيوعيين والقوميين ردحا طويلا من الزمن حتى وقف كل منهما مندهشا امام  شعار : الى الوراء در !  لقد حدث ذلك قبل سقوط الكتلة الاشتراكية .. فجأة  يبرز الاسلام السياسي على الساحة وهو يمتلك السلطة ولكن باسم الثورة الدينية .. فجأة تستخدم شعارات فرقاء الامس ولكن ليس نحو اليمين ولا نحو اليسار .. بل الى الوراء . ولم يعترف لا الفكر اليساري ولا الفكر القومي بالهزيمة امام المارد الجديد الذي جاء باجندة  لم يتعاطف الناس معها ، بل انها تستحوذ على كل خلجاتهم وعواطفهم وافكارهم .. ومخيالاتهم في تجسد احلام يعتبرونها حقائق ثابتة .. واذا  كان هناك من يعارض اليمين واليسار ، لكنه لا يمكنه معارضة الاصول  التي باتت الاحزاب الدينية تتكلم من خلالها . أتمنى من صميم القلب ان نسّمي الاشياء باسمائها من دون تهويل وان نستدير للسير نحو الامام .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ،  1 آب / اوغسطس 2007

165
انعقاد مؤتمر المجلس العراقي للثقافة في كندا

تقرير بقلم اميرة بيت شموئيل

استمرارا لجهود المجلس العراقي للثقافة التي انطلقت من المؤتمر التأسيسي الاول في عمان لفترة 14-17 ايار/مايو 2007 ، عقد الاستاذ الدكتور سيار الجميل، المستشار الاعلى للمجلس ، المؤتمر التأسيسي الاول للمثقفين العراقيين في كندا يوم الاحد 29 تموز/يوليو 2007 في الساعة الخامسة مساء على القاعة العليا في الكوميونتي سنتر بضاحية كوثرا بمدينة مسيسوغا قرب تورونتو. وقد حضر المؤتمر العديد من الشخصيات الثقافية العراقية البارزة في كندا ودارت العديد من النقاشات حول ماهية المجلس واهدافه .. وما يمكن ان يقدمّه للعراق والعراقيين وجعله اي فرع ينبثق منه في كندا اداة بنائة تصب في صالح الارتقاء باعماله الى مستوى الفعالية لخدمة الجالية العراقية المتواجدة في كندا ورعاية نشاطاتها الابداعية ودعم العاملين في مختلف حقول الثقافة والمعرفة، فضلا عن رعاية ابداعات الاجيال والبراعم الجديدة من العراقيين في كندا والعالم وتعزيز اواصرهم العراقية والماماتهم باهمية العراق والثقافة والهوية العراقية وخصوصيات ذلك الى جانب الاستفادة من التجارب الكندية في هذا المضمار وغيرها من المشاريع.
ونظرا لاقتران موعد او يوم انعقاد المؤتمر في كندا بفوز المنتخب العراقي لكرة القدم ( اسود الرافدين) بكأس اسيا ، فقد بدأ المؤتمر بتقديم التهاني والتبريكات باسم المشرفين والحاضرين الى المنتخب الرائع والشعب العراقي بهذ الفوز العظيم، ثم قدمت الكاتبة العراقية السيدة اميرة بيت شموئيل نبذة مختصرة عن حياة واعمال  الدكتور الاستاذ سيار الجميل، ودوره في اثراء الثقافة العراقية والفكر الحديث وخبرته في اداء المنظمات الثقافية في العالم .. وقد قدّم للحاضرين شرحا مفصلا عن المجلس وفكره واعماله واهدافه ومجالات عمله ومسألة تمويله وقد استغرق حديثة اكثر من تسعين دقيقة .. بعد ذلك دعا ضيوفه الى حفل شاي وقهوة ، عاد المجتمعون بعد ان فتح باب الحوار ليستمع الدكتور الجميل ويجيب على الاسئلة والمداخلات المختلفة .. والاقتراحات المتنوعة وقد اتفق الجميع على تأسيس مكتب للمجلس العراقي للثقافة في كندا بعد استحصال الموافقات الرسمية الكندية والشروع بتنفيذ برنامج ثقافي حيوي يضع في تقديراته عدة مشروعات .. وقد اتفق المجتمعون على ان يطلق اسم ( المجلس العراقي الكندي للثقافة ) وبالانكليزية ( Iraqi Canadian Council of Culture  ) ومختصره ( ICCC ) .. وان يبقى مكتبا يعتني بالثقافة على الارض الكندية .. ولما كانت الساحة الكندية هائلة المساحة وتتوزع الجالية العراقية في اكثر من مكان، فان التحضيرات تجري لعقد اجتماعين آخرين ، في وقت لاحق في ( مونتريال والعاصمة اوتوا شرقا وفانكوفر وكالكري غربا ولواحقهما من المدن ) . وسيتم الاعلان عنهما في وقت لاحق .
  بعد ذلك ، عرض الدكتور الجميل على الشاشة العديد من الصور التاريخية النادرة للعاصمة بغداد واخيرا قدّم شكره لكل المجتمعين من المثقفين العراقيين الكنديين واثنى على كل من قدّم جهوده في انجاح المؤتمر وايضا مشاركة الصحافة العراقية في كندا وخصوصا جريدة أكد وجريدة نينوى وموقع الساحة وغيرها  ومشاركة رؤساء تحرير جهات اعلامية عدة .. وقد انتهى الاجتماع على الساعة التاسعة ليلا .
    وتجدون في ادناه اسماء السيدات والسادة الذين حضروا الاجتماع التأسيسي الاول للمثقفين العراقيين في تورنتو / كندا يوم الاحد 29 تموز / يوليو  2007

1. د. سيّار الجميل ( المستشار )
2. د. علاء التميمي
3. اميرة بيت شموئيل
4. فيرجينيا دولي
5. انور حمه سور
6. نادية توما
7. قيس المدرس
8. كاترين ديفيد
9. اكرم سليم
10. د. نبيل ممو
11. د. سيروان اسماعيل حقي
12. طالب مطلك
13. صائب السامرائي
14. عبد الله العاني
15. نوال ناجي يوسف
16. د. اسماعيل نوري الربيعي
17. بهنام البازي
18. حسن فسكو
19. داليا سيّار
20. اوصاف العمر
21. د. حسين عبد الله
22. د. كمال البياتي
22. سها حسين
23. خنساء صالح
24. ياسمين شيخيل حسن
25. هيام نزهت
26. احسان ابو التمن
27. سامي سليم
28. اثور انور
29. نهلة العزاوي
30. د. قاسم حبيب
31. د. غسان سعيد
32. وليد الفارسي
33. معزز امين عزيز ( المحامية )
34. عمار قيس محمود
35. ربا عبد الله
36. ييلماز جاويد
37. كريم شعلان
38. نبيل محمد
39. د. كامل كمونة
40. مصطفى بركات
41. حسام الصفار
42. فاضل القزويني
43. د. سعدي المالح
44. د. ماجد محمد سليم
45. ابراهيم الحريري
46. د. وليد عبوش  عبد المسيح
47. ماجد عزيزة
48. مصطفى العزاوي
49. د. نهاد الشيخلي
50. فاضل خليل
51. اسماعيل اسماعيل
52. خاجيك كيفوركيان
53. فرهاد عزيز
54. د. قاسم الرفاعي
55. د. اسفار الشيت
56. د. محمد المؤذن
57. د. كمال النقيب
58. عمار لطيف
59. قاسم الكفائي
60. د. صلاح احمد عبد المجيد
61. د. ايمان هندي
62. المؤرخ  توما شماني
63. وديع عارف
64. سام شليمون
65. اشور ايشو
66. سامي العزاوي
68. نهلة المطير
69. شاكر ياسر
70. مصطفى القادري
71. منصور سناطي





166

أربعينية رحيل الفنان نجيب يونس
صاحب الريشة الواقعية بين الرؤية والتعبير

د. سّيار الجميل

 مدينة يرحل عنها ابناؤها العمالقة
     قبل اربعين يوما مضت خبا سراج فنان عراقي اصيل في مدينة الموصل التي ودعته بمزيد من الحزن والاسى ، وهي توّدع واحدا من ابنائها البررة الذين قدّموا للعراق اروع الاعمال وأثروا المشروع النهضوي بالابداعات المؤثرة .. لقد ودّعت ام الربيعين الصديق الفنان الرائد نجيب يونس وهي تّودع جيلا من اسمى اجيالها الذين رفدت بهم كل منطلقات التقدم العراقي على مدى مائة سنة من حياتها .. ولقد كان نبأ رحيل الصديق الفنان التشكيلي العراقي الكبير الاستاذ نجيب يونس آل شريف بك قد أبكى الكثيرين ممن عرفوا قيمته التاريخية على امتداد اكثر من نصف قرن مضى .. لقد كنت قد وعدت القراء الكرام في نبأ النعي انني سأزودهم بما اعرفه عن تاريخه الفني الحافل بالانجازات والإبداعات ، وما تزخر به سيرته الفنية الطويلة لستين سنة مضت من حياتنا ..
     لقد رحل الرجل الجمعة 8 حزيران / يونيو 2007 ، وهو يشهد ذبول مدينته التي خبا وهجها واسودت اجواؤها واظلمت نهاراتها .. رحل وهو يشهد انقباض تلك الروح المدينية الرائعة وبؤس الناس واختفاء الربيعين .. ونحن نستذكر كل من سبقه او ينتظر من بقايا اجيال رائعة كان لها آثارها وروائعها .. رحل الصديق نجيب مخلفا من ورائه اروع الاعمال التي ستخّلد ذكراه على المدى ولعل الرجل قد امتاز عن غيره بريشته التي كان يتنّقل بها من الرؤية الى التعبير .. وكان يترجم الطبيعة الساحرة او يحدد مراكز الرؤية ضمن اشكال يعجز غيره عن أدائها .. انني اذ اكتب للعالم عن الصديق العزيز الاستاذ نجيب يونس هذه " الفصلة " من التسجيلات ، لا يسعني الا اقدم خالص العزاء لاسرته الكريمة في مدينة الموصل ، ولكل اصدقائه ومحبيه في هذا العالم .


وقفة عند حياة نجيب يونس
     ولد نجيب في اسرة معروفة وقديمة بالموصل من آل شريف بك التي لها تاريخها المحلي والتي برز فيها بعض الادباء والعلماء  ، ولد في العام (1930)  .. درس في مدارس الموصل ثم سافر الى القاهرة وحصل على الدبلوم العالي عام 1954 ، وعاد الى الموصل وكان من ابرز ابداعاته الاولى ان رسم لوحة كبرى لبمنى محاكم استئناف الموصل بطلب من رئيسها الشهير ابراهيم الواعظ رحمه الله . وغدا عضوا في جمعية الفنانين العراقيين وساهم في معارضها منذ تاسيسها عام 1956.لقد اقام معرضه الشخصي الاول في الموصل عام 1961 والثاني عام 1965. وساهم في المعارض التي اقيمت داخل العراق وخارجه ، ومنها معرض المنصور 1955 ، ومعرض جمعية التشكيليين العراقيين 1956 ــ 1957 ــ 1958 ، ومعرض فناني الموصل الاول عام 1963 ، وفي المعارض الفنية التشكيلية لجامعة الموصل ، وفي مجموعة المعارض المشتركة . وكان اول معرض شخصي له في العام 1958 بالموصل ، ثم معرض شخصي 1963 بالموصل أيضا ، ثم معرض شامل لاعماله الفنية و الذي ضم 250 لوحة في العام 1985 ببغداد المتحف الوطني للفن الحديث . أقام معرض شخصي له في العام 1985 في لندن ، ومعرض شخصي 1998 البحرين ، وثان له في البحرين 2001 ، وآخر في الامارات عام 2002  .. ونظم العديد من التجمعات و الدورات الفنية منذ عام 1954 و تخرج علي يده العديد من الفنانين العراقيين البارزين  .
      ومن أبرز خدماته تأسيسه لمرسم جامعة الموصل 1968 و الذي كان نواة لتأسيس متحف الجامعة حيث يضم العديد من لوحاته و التي يفخر بها الفن العراقي ، كما  اسس قسمي الفنون التشكيلية (الرسم و السيراميك) و الخط و الزخرفة في معهد الفنون الجميلة في الموصل عام 1978 حيث كان رئيسا لهما لحين تقاعده . كان قد حصل علي شهادة تقديرية عام 1956 من معرض المنصور ، وحصل علي تكريم الدولة 1985. ونال شهادة تقديرية باعتباره احد اركان الحركة الفنية العراقية عام 1972 (جمعية التشكيليين العراقيين) ، ومنح وسام رواد الفن العراقي عام 1996 (وزارة الثقافة و الاعلام). وكان عضوا اصيلا في  نقابة الفنانين العراقيين ، وعضوا اصيلا في جمعية التشكيليين العراقيين واحد مؤسسيها .. وكانت حصيلة حياته الفنية المئات من اعظم اللوحات الفنية التي تشهد بها اليوم العديد من الصالات .. لقد اشاد باعماله العديد من الكتاب والنقاد باعتباره احد ابرز الرواد في الحركة التشكيلية العراقية .. ولكن أتمنى على غيرهم ان يعيروا اهمية من نوع آخر لاعمال نجيب يونس الخلاقة .
سماته وشخصيته
    هنا دعوني اسجل ما اعرفه عن الرجل ، اذ كانت له شخصية الاجتماعية والفنية معا .. كان انسانا مثقفا كما عهدته ويهوى العزلة ويعشق عمله عشقا غريبا .. كان يسمع كثيرا ولا يتكلم الا قليلا يحترم غيره ولا يتدخل بشأن لا يخصّه ، كان يقدّس الزمن وتراه يحافظ على كل دقائق زمنه .. كان انيقا جدا وكنت اعرفه بقبعته في الشتاء وبقبعة اخرى في الصيف .. يهوى اوقات الصباح ويعشق البيئة وهي تزهو بخضرة حشائشها او اصفرار اوراق الشجر او احمرار الشفق ..رأيته يوما يتأمل في خرير ماء دجلة عند صخور وهو يحاول ان يترجم الرؤية الى تعبير .. كان يعشق مرسمه ومن يدخل مرسمه سيجد فيه اشياء قديمة وسيجد الوانا فاقعة .. كان يهوى مدينته ويعشقها وسّماها لي يوما أنها مدينة الجمال .. كان يفرح من اعماقه بالطلب على لوحاته التي كانت تباع مباشرة من دون اي توقف ..
 كما كان دائم السؤال عن اي حركة ينشئ منها عنوان لوحته ومضمونها ، فيسأل عن نوعها وتاريخها ، بل يتوغل في فلسفة الاشياء !  كان يهوى الزهور البرية منها والمزروعة .. كان يمتلك شخصية لها خصوصيتها بحيث لا يمكنك معرفة عالمها الداخلي ابدا .. كان هادئ الطبع ومسالم جدا ويتّرف باسلوب متمدن وله عاطفته القوية التي يترجمها وجدانه .. كان يتصوره البعض انه يتعالى عليهم ولكنني لم اجده الا انسان يدرك كم هو قيمته كبيرة في مجتمع منغلق .. كان منعزلا في مرسمه دوما ، ولم يتوان الرجل ان يقدم خدماته لم يطلب منه ذلك من الاصدقاء  .. لا اعرف كيف كانت علاقاته مع بقية الفنانين التشكيليين ، لكنني ادرك تماما ان جميعهم كانوا يعتبرونه رائدا لهم ويجلونه ويحترمونه ، فهو استاذ الجميع .
  دار حديث بينه وبيني بعد ان انفردنا عن بعض الاصدقاء في نهار يوم ربيعي مشمس ، ولا انسى حديثه الممتع عن قصة الالوان وتاريخ الرسم واللوحات العملاقة في كل من ايطاليا وفرنسا .. سألته عن المدارس الفنية في التشكيل العالمي .. لم تعجبه بعض الاعمال التي تشعوذت بها بعض المدارس الحديثة .. وجدته معني بفلسفة الالوان ، بل ويعرف ميول الشعوب وخصوصا ميل اي شعب من الشعوب الى لون او لونين محددين .. مما كان يدهشه بقاء الرسوم القديمة للانسان الكلاسيكي في العراق طوال هذه الالاف من السنين .. وكيفية الرسم على الفخاز .. كان يمتلك معرفة تاريخية قوية .. تعددّت اللقاءات مع الرجل واشهرها لقاء في المتحف الحضاري بالموصل وخروجنا الى حدائقه ونحن في مداولة فنية وتاريخية لا يمكنني نسيانها ابدا .

السمات الفنية
أثرى الفنان الكبير نجيب يونس نتاجه الفني الرائع تاريخ الفن العراقي المعاصر،وزينت لوحاته جدران المعارض المحلية والعالمية .. وكان مّعبرا تعبيرا اصيلا عن فضاءات مدينته الموصل ام الربيعين ، كما وكانت جمالياته العراقية تعّبر عن صدق لما في العراق من خصب في التاريخ والطبيعة . ويعد الرجل من ابرز وأهم رواد الحركة الفنية في العراق ابان القرن العشرين ، وهو من معاصري الفنانين فائق حسن ، وجواد سليم، ونوري الراوي ،وخالد الرحال ، وضرار القدو، وراكان دبدوب ومحمد غني حكمت وغيرهم من الذين اسهموا في تأسيس الحركة التشكيلية في العراق . ويعتبر نجيب يونس الرائد المؤسس للفن التشكيلي الحديث الذي تطور كثيرا في القرن العشرين ، وشارك في تطور الحركة التشكيلية في الموصل كل من الفنانين الكبار : ضرار القدّو ، راكان دبدوب ، هشام سيدان ، حازم الأطرقجي ، عبد الحميد الحيالي وغيرهم .
       كان نجيب يونس فنانا بعيد الرؤية واسع التصور مستلهما من احداث التاريخ وملاحمه اعظم الصور التي يترجمها الى واقع .. فضلا عن هذا كله وذاك ، فقد كان يتنّقل في اجزاء من المجتمع ليحيل الواقع الى رسومات مؤثرة خصوصا ونحن نعلم بأن المجتمع في الموصل متنوع على غاية من التنوع والتعدد وتكثر فيه الصور والتباينات والرؤى والاشكال .. دعوني اتوقف قليلا عن نجيب يونس ذلك الانسان الفنان التشكيلي المثقف الذي ما نفصل يوما عن بيئته .. ونحن نتذكر في اربعينيته ذكرى واحد من الرواد التشكيليين العراقيين في القرن العشرين . وكنت قد نعيته الى العالم بعد سماعي مباشرة برحيله الابدي ، اذ كانت تجمعني واياه صداقة نقية ، وستبقى ذكرى الرجل مغروسة في الاعماق . اهتم نجيب يونس بتصوير اهم العادات والتقاليد الشعبية لمختلف النواحي الاجتماعية سواء في مجتمع المدينة ام في مجتمع اللواحق بها .. ورسم عدة لوحات عن المجتمع الريفي القروي ومنه نماذج من مسيحيين او الطائفة اليزيدية . واهتم كذلك اهتماما كبيرا بازياء النساء والاطفال والشيوخ الاكراد والاعراب واليزيدية فرسم العديد من اللوحات بنفس الاتجاه الانطباعي الذي صور فيه اسواق الموصل ومقاهيها وازقتها ومساجدها ومبانيها واطواقها وبيوتاتها وحاراتها واصناف المهن فيها .. كما رسم زهورها ومياهها وغاباتها واشجارها وحقولها ومراعيها ..  كما واهتم بالانسان ببيئته المصلاوية التي تميزه في نشاطاته ومهنه واصناف حرفه المتنوعة .. ناهيكم عن واقعية الاشياء والصور كما يراه من دون اي رموز .. ان تصويره حركة الانسان يشكلّها بابدع ما يكون وخصوصا الدبكات والرقصات  والجلسات .. الخ  كنت اصف مرسمه بمتحف مدهش منذ ربع قرن ، ولكن وصفه احد الاخوة هذه الايام في كلمته عنه قائلا عن مرسمه بأنه : " تحول في العقدين الاخيرين إلى متحف للفن التشكيلي ، حيث ضم في زواياه وأروقته وجوها لشخصيات موصلية ومآثر شعبية وأزياء اقتربت بألوانها حد التطابق مع ماهي عليه في الواقع ، وبما امتازت به من الحركة، الاثارة، النبض، التوهج، الاندهاش، ثم سحر الألوان. التي برزت بها ريشة هذا الفنان الرائد " .
     
براعة نجيب : الواقعية والتاريخ
       التفت نجيب يونس الى التاريخ ليستلهم منها اشهر الاحداث كي يترجمها الى اعمال فنية رائعة ويتركها يخلدها التاريخ من بعده .. ان من ابرز اعماله الفنية اللوحة الشهيرة عن بناء العاصمة الآشورية القديمة نينوى ومساحتها 4.5 x 3 م ، ويبرز فيها  الملك الاشوري سنحاريب مع ثلة من حرسه في عربته الخاصة ، وهو يشرف اشرافا شخصيا على بناء سور عاصمته نينوى .. وقد أظهر الفنان نجيب في اللوحة الطراز المعماري للبناء وكذلك تتوضح طريقة معالجة النحت البارز واشكال النحوت النصبية. وقد حرص الفنان على اعتماد الازياء التقليدية للملك والحاشية ولعمال البناء كما هي كانت ابان عصرهم ، وطريقة سحب الحجر بواسطة اسرى الحرب والثيران مستعملين الزحافات الكبيرة ، وقد ظهرت في اللوحة كيف يُصعد الحجر الكبير الى اعلى عن طريق بناء هياكل خشبية . عندما كنت التقي بالرجل كان يسألني اسئلة تاريخية متنوعة ويركز في اسئلته على كل من الشكل والمضمون ، وكان اهتمامه بوصف الاشكال يفوق اهتمامه بالمضامين .. كان يسأل عن الالوان .. عن الاحجار .. عن البيئة القديمة .. عن الطقوس القديمة عن الازياء والوانها .. وغيرها من الاسئلة .
     لقد اعتمد الفنان في معالجته لهذا الموضوع ، الواقعية التسجيلية في ضوء الوقائع التاريخية .. ولقد تبارى كل من الفنانين التشكيليين الكبيرين نجيب يونس والراحل ضرار القدو في تقديم اعمال فنية مدهشة عن تاريخ الموصل ، فلقد كانت لوحة نجيب يونس التي تحدثنها عنها تحفة فنية لا تقدر بثمن وتقابلها لوحة كبرى رسمها ضرار القدو عن حصار نادرشاه للموصل عام 1743 م ، وفيها تكنيك يشابه تكنيك نجيب يونس ، ولكن مع اختلاف في الموضوع والاحداث .. وكم كنت اتمنى على الراحل نجيب يونس ان يعتني برسم لوحة معبرة عن التاريخ الحديث .. ولا ادري ان ترك خلال السنوات الاخيرة اعمالا تاريخية ام لا !
اما التكنيكات الفنية فان الفنان نجيب يونس يستعين باستحضار كل مفردات العمل .. وقد وجدته بارعا في تجربته الفنية العريضة الممتدة زمانا طويلا ، وهو حريص في تكوين لوحاته الفنية الرائعة التي تتميز بخصوصيتها ، وهي تعتمد تكنيكا فنيا عالميا يتمثل بما تفرزه انشطة المخيلة وصقلها بالرؤية والمعلومة ، ثم تبدأ بقوة التخطيط والاستخدام السريع لرشاقة اللون وشفافيته وكنت قد شهدت واحدة من تجارب نجيب وهو يّفكر عميقا وهو يعمل .. وقال لي مرة بأنه لا يمكنه ان يمسك الفرشاة بيده ان لم تكن الصورة قد تكوّنت في باله وتفكيره .. ويتجسد عمق المعني في اللوحة . كان يهوى رسم الاشياء الجميلة التي يراها بام عينه ، او التي تزدحم من حوله .. كان واقعيا في كل الحركة .. انني اعتبره ذاكرة تشكيلية لواقع بيئة وتاريخ مدينة .. وتصوير طبيعة .. كان يجيد استخدام الالوان التي يصور من خلالها حياة الناس بشكل جذاب فرادى ام مجتمعين .. ساكنين ام راقصين .. كان فنانا في رسم الشخصيات الفرحة والكئيبة ،  كان بالفعل يهز الاحاسيس  بالزمن، ويستنبط الافكار والرؤى الجديدة بتأملية خارقة ..
 
وأخيرا : انه الرؤيوي المتميز
     وعليه ، فان نجيب يونس باختصار فنان تشكيلي كبير ومبدع رؤيوي متميز ولكن مع كل الاسف لم تعطه لا الدولة ولا المجتمع حقه ، ولم يمنح الدعاية الكافية بحقه كما منحت للاخرين ولم تسلط عليه وعلي ابداعاته انوار كافية ولا اضواء اي سلطة من السلطات ، فبقي بعيدا عن الامجاد ، وهو مؤمن بقوة ريشته وروعة اعماله واصالة فنه حتى وان اهملته اضواء الدعاية من قبل الدولة والمجتمع معا . اتمنى ان يبقى  اسمه خالدا وستبقى ذكرياته مغروسة في الاعماق .. متمنيا ان تكون مدرسته وتجاربه واعماله وافكاره وريشته سبلا رائعة للاجيال القادمة كي تتعلم منها ومن كل ما تضمنته من معاني عالم حضاري متقدم .

فصلة من كتاب الدكتور سّيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
   
www.sayyaraljamil.com

الف ياء في حلقتين  9-16 يوليو / تموز 2007

167
مدني صالح .. وداعا عراقيا
بعد انقضاء شقاء الرحلة الفلسفية !!

د. سّيار الجميل

مدخل : قيمة مدني صالح   
رحل عن عالمنا واحد من امهر المثقفين العراقيين وأحد الزملاء الاكاديميين المعروفين .. انه الناقد واستاذ علم الفلسفة في جامعة بغداد مدني صالح الذي رحل بصمت بعد ان أثرى الحياة الثقافية العراقية الحديثة بافكاره وآرائه ومحاضراته اذ تخرّج على يديه جملة كبيرة من الخريجين العراقيين الذين اشتهر بعضهم كمثقفين وكتّاب ومدرسين .. كما ان الرجل اثرى المكتبة العربية بأروع الاعمال والتي تميزّت باصالتها العلمية وافكارها الجديدة .. كان الرجل له اسلوبه الادبي الذي ميّزه عن الاخرين .. كما وقد عدّ واحدا من القرّاء والمهتمين بالشعر العراقي الحديث ، اذ مهر مهارة حاذقة في نقده للعديد من الاعمال والدواوين ..
    لم اعرف الرجل معرفة عميقة ، ولكنني كنت قد التقيت معه في اروقة جامعة بغداد لأكثر من مرة ، اذ كانت لقاءات عابرة لم اناقشه او ابحث معه اي موضوع فلسفي او ادبي .. وقرأت بعض اعماله ، اذ بدأت مع بعض مقالاته وآرائه ..  فوجدت في الرجل مهارة في التعبير وشجاعة في الخطاب ، وحداثة في التفكير .. وان مقول قوله غير محدد بضوابط اكاديمية ولا برتوش انشائية .. وعليه ، فقد كان مدني له قدر كاف من الحرية في مقالاته وعاشق لافكاره وطليق في آرائه ، لكنه مقّيد في بحوثه ودراساته .. ولقد تطورت " افكاره " لاحقا وخصوصا ما اثارني في مضامين مقامات مدني صالح الاولى والثانية التي نشرتها الدار العربية للموسوعات .. كما قرأت ما نشره عن السياب وعن البياتي وتوغله في نصوصهما الشعرية كما كان معجبا باشعار نزار قباني اعجابا كبيرا ، ويستأنس بالعديد من قصائده .. وقد سمعت من نزار نفسه في لندن ثنائه على التفكير النقدي لمدني صالح في العراق .. وقد وجدت مدني يشجع المواهب العراقية وكان هو نفسه قد اثنى ثناء كبيرا على اشعار الشاعر عدنان الصايغ  بحيث خصص دراسة عنها وجعله في مصاف الكبار .. وانني معه فالاخ عدنان الذي اهداني اعماله قبل اشهر عندما التقيت به في الاردن ، انما هو شاعر حقيقي له نصوصه المثيرة التي لا يستطيع غيره ان يكتب مثلها . 

وقفة عند حياته وثقافته

     لم اعرف من مدني صالح الا اعماله ولم اكن اعرف اية تفصيلات عن سيرته الشخصية ،  غير انه ينتمي الى بلدة هيت في غربي العراق على الفرات الاعلى ، وانه درس في مدارس الرمادي وثانويتها الوحيدة هناك ، وكان كل من السياب والبياتي يعلمان هناك بتأثير ابعادهما عن العاصمة .. فكان ان تتلمذ مدني على ايديهما عندما كانا منفيين فيها من قبل حكومة بغداد .. وما ان تخّرج مدني صالح حتى جال ببغداد واحب شوارعها ودّرس فيها ووجد مقالات له تنشر في بعض الصحف المحلية  وكان ان ابتعث الى بريطانيا لاكمال دراسته في الفلسفة ، اذ كان احد خريجيها الاوائل في العراق .. لم ينل الا الماجستير اذ لم يكمل الدكتوراه ، وقفل راجعا الى العراق وانخرط محاضرا في قسم الفلسفة بجامعة بغداد .. ولقد اشتهر بكتاباته الفلسفية ومجادلاته النقدية منذ الستينيات وكان ان تفّوق بكتاباته فصنع اسمه منذ قرابة خمسين سنة . انني اذ اكتب عن مدني صالح كما اكتب عن غيره في كتابي هذا ( = زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ) ، فلقد تعبت جدا في الحصول على سيرته الاولى ، فهو مقل لا يريد ان يتكلم الا نادرا عن بواكير حياته الاولى .
    ولد مدني صالح عام 1932 في مدينة (هيت) بمحافظة الانبار، وبلدة هيت قديمة تقع على الفرات .. ومنذ نشأته تمرد على مجتمعه بكل ما حفل ذلك المجتمع من عادات وتقاليد .. بل وعبّر عن كآبته الاولى في كثير من الصفحات وخصوصا عندما غدا معلما اذ انخرط في بدايته بسلك التربية والتعليم في بلدته .. كانت له خصوصيته هناك ، فلم يخالط بقية زملائه واقرانه .. كان مهموما بكل انواع القراءات العربية والمعرّبة .. كان يتحلق من حوله البعض من الشباب في المقهى ليستمعوا اليه والى افكاره النيّرة  .. كانوا يستمعون الى سخرياته وكانوا يعرضون عليه قصائدهم واشعارهم ليهتم بها اهتماما كبيرا .. كان يريد منهم ان يتمردوا على واقعهم الصعب ! كان يريد ان يرى جيلا عراقيا جديدا لا علاقة له بكل تلك المواريث البليدة !كان مدني نفسه قد تمّرد تمردا مذهلا على الحياة الكثيبة تلك ، ولم اعرف ما الذي اصابه في السنوات الاخيرة وهو يرى اتساع هوة حجم التخلف الذي عمّ العراق وبدرجة لا يمكن تخيلها ! انني متأكد ان نصيبا كبيرا من الاحباط قد لازمه .. بل وانني واثق ان الاحباط النفسي قد قض مضجعه وقضى عليه قضاء تاما ..

حذاقة مثقف ماهر
     لقد تمّيز مدني منذ بداياته بخصوصيته الادبية في الالقاء . كان يمتلك صوتا جاذبا وكان كلامه منمقا يحرص على ان يكون حسنا وواضحا ، وان تكون مخارج حروفه رائعة .. كما اهتم بحركة يديه ونظراته الزائغة وملازمته الصمت بين الفينة والاخرى .. كان مدني يرسم رفضه وممانعته بجرس شديد الايقاع لكل مهترءات الحياة العراقية التي غدت اعرافا اجتماعية كسيحة ومخجلة انتقلت من مجتمع بدائي الى اروقة المؤسسات الحكومية في الدولة !
     حدّثني عن مدني صالح واخباره ومواصفاته رفيق دربه وصديقه في الجامعة عمي الاستاذ طالب علي الجميل الذي تخرّج معه في الدورة الأولي في قسم الفلسفة بكلية الاداب والعلوم في جامعة بغداد، اذ كان مدني احد الطلبة غير الملتزمين .. كان طالبا يعتز بقراءاته وقد تمّرد على كل المناهج  ولا تمر سانحة من دون ان يتفلسف مع زملائه بشأنها.. كان لا يرضى على ما يقّدم له .. كان هناك جمعية قد نشأت في كلية الاداب والعلوم ومن خلال الدورة الاولى لقسم الفلسفة اسسها كل من طالب علي الجميل ومدني صالح وسليم البصري ( الفنان والممثل الكوميدي المعروف ) ( وثلاثتهم من خريجي الدورة الاولى لقسم الفلسفة ) !
     كان مدني قد رافقه مزاجه المتمرد الى بريطانيا عندما لم يستقم  واستاذه المشرف .. اذ لم يكن يريد ان يخضع لاصول المنهج ويريد الخروج عن ذلك .. وقد تخرج  مدني متمردا علي كل ما هو غير مدني ، وايضا على كل التقاليد البالية ، ومن اصح الاراء التي تقول : انه كان متمردا لكنه يراعي الانتظام ، وهو غير عبثي أبدا .. كما وعرف عنه انه غير مقتنع بالمحددات الجامعية وروتين الاساتذة الذي ضربه عرض الحائط منذ اربعين سنة ..

ثقافة مدني صالح
    كانت ثقافة الرجل تنويرية حقيقية وله نزعته الانسانية  التي حفّزته لبناء تفكيره العلمي من خلال توغّله في دراسة الفلسفة اليونانية اولا والفلسفة الاسلامية ثانيا وبعضا من الفلسفات الحديثة ثالثا .. لقد انتدب مدني صالح ليدّرس الفلسفة الحديثة في كلية الفقه بالنجف ، فكان ان تأثر به عدة طلبة اذكياء من العراق ولبنان وايران ومنهم العلامة محمد حسن الامين الذي يقول عنه :  "  اود ان اذكر مأثرة لاستاذ تعرفت من خلاله الى الفلسفة الحديثة، كان يلقي علينا محاضراته في النجف اثناء الدراسة في كلية الفقه، جعلني انجذب انجذابا قويا للتعرف الى الفلسفة الحديثة وكان بالاضافة الى معرفته الدقيقة والشاملة لها اديبا وناقدا في الآن نفسه، هو الاستاذ مدني صالح الذي صار اسمه في ما بعد مشهورا وكادرا جامعيا معروفا " .
عاش وحيدا بلا اصدقاء ، بل وعرف عنه انه كثير الخصوم من الذين لا يعرفون الا القال والقيل .. كان يعشق العزلة لأنه يراها  ممتعة ومفيدة في عالم لا يعرف التأمل والتفكير بل اعتاد ذلك العالم كل الصخب والعلاقات المزيفة والتناقضات الهائلة .. كان يراقب المشهد بعين ناقدة ورؤية فلسفية واضحة ، وكان يترجم معاناته على الورق ..  لقد وجدته وانا اقرأ ما كتبه عن ابن طفيل وكأنه يتمّثل فلسفته اليوم في عزلة حي بن يقظان الذي لم يكن يسمع الا صخب البحر وزمجرة الاعاصير !

معرفة حقيقية
     لقد عرفت الفقيد عن بعد ، ومنذ زمن بعيد من خلال قراءتي للعديد من مقالاته  في مجلة الاقلام العراقية التي صدرت في الستينيات .. ثم ازدادت معرفتي به مذ قرأت له بعضا من كتبه وبعضها الاخر اطلعت على بعض فصوله .. لقد توغل مدني صالح في مضامين فلسفية متنوعة ، واجاد في عرض مفاهيمها ، لكنه لم يختص بمنهج فلسفي او نظرية فلسفية محددة .. كنت اجده ينعي على العالم خراب الفلسفة مستذكرا فيها الفهم القاصر لمفاهيم الثقافة والمدنية والحضارة .. وما اعتور التفكير المعاصر من الخلط والارباك والتراجع المخيف ، فهو يرى في " الثقافة " هذه الايام : مجرد حيازة اعلامية بينما الحضارة حيازة تننظيمية وسياسة وتشريع واخلاقيات .. واذا كان الناس
      في كتابه عن ابن طفيل : قضايا ومواقف  الذي طبع عام 1998 عن دائرة الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والاعلام / العراق مثلا .. اعادتني قراءته الى جذور التكوين وتشكيل الوعي .. ويقدم الكتاب تفاصيل عن مواقف ابن طفيل الوزير والفقيه والمقرئ والمحدث من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة كما يتناول روايته حي بن يقظان وتأثيراتها وتفاعلها في آداب كثير من الامم والشعوب.
    امتلك مدني صالح اسلوبا رشيقا ساخرا يجذب الاخرين ويريد ان يشركهم في البحث عن الحقيقة  ، والفلسفة في تعريفها المختزل هي البحث عن الحقيقة .. فهل نجح مدني في مواجهاته ؟ وهل انتصر في مهمته الصعبة ورحلته الشائكة الغريبة ؟؟

كيف أرى مدني صالح ؟   
     اعتقد ان بداية منعطفه الفكري كان في كتاب ( الوجود ) الذي اصدره عام 1955 ، متأثرا بفلسفة العصر او موجة تلك المرحلة التي انعكست على فكره .. بعد عام واحد اصدر كتابه ( اشكال والوان ) عام 1956 الذي سخر فيه من كل ما اجتاح الحياة من اللامعقول ,, وهكذا توالت سلسلة كتبه المثيرة في الفلسفة والادب والنقد والاجتماع .. وكلها تترجم تفكيره المتمرد على الواقع وتعكس اللحظة التاريخية التي يعيشها .. وهي ساخطة على كل الاوبئة التي تجثم على صدر المجتمع ، بحيث لا تتركه يتنفس الا قليلا .. ثم كانت رحلاته الممتعة مع السياب ومع البياتي .. وقد اختتمها مع نفسه بـ ( مقامات مدني صالح ) عام 1989 الذي اثار النقمة عليه ووصف بالنرجسية والتعالي خصوصا وانه صنف الناس الى ثلاثة اصناف ، هي : الغريزي المندفع واللامعرفي المتشكك والمتسول المقّلد .. وثلاثتهم رفضهم ووصفهم ببكم عمي لا يبصرون مذ ولدوا .. وهم يثيرون الضحك ..
     بقي مدني صالح يكتب طوال حياته بقلم جرئ قلما امتلكه غيره .. بقي مستقل الارادة ولم ينحن لأية عاصفة او اعصار في العراق .. كتب المسرحية وحلل جوانب فلسفية وكتب نقدا شعريا رائعا .. لقد بقي مدني صالح ثابتا لا يهتز ابدا .. كان اقوى من تحديات الزمن .. وكان ينتصر دوما في استجاباته لها .. كان اقوى من كوارث العراق وفجائعه التي عانى منها اسوة بغيره من الاصدقاء المثقفين العراقيين . صحيح انه كان يكتب في القسم الثقافي بجريدة الجمهورية زمنا طويلا ، لكنه لم يكن يقبل في اعماقه احادية الاشياء ولا الدكتاتورية ولا الظلم ولا كل القيود .. انني مؤمن بأن ثقافة الرجل كانت ترفض الاشياء ، ولكنه لم يكن من الجرأة كي يقول كل ما عنده ..
     لقد مضى مدني صالح ورحل بعد ان كان قد سجل في تاريخ ثقافتنا العراقية المعاصرة اسمه وفكره ونقده وروائع الاعمال .. رحل بصمت اسوة بكل اقرانه المثقفين العراقيين الذين حان وقت رحيلهم .. وستبقى ذكراه بيننا لن ترحل نحو عالم النسيان .

www.sayyaraljamil.com
فصلة من كتاب سيّار الجميل ، زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
نشرت في الصباح الجديد وموقع المجلس 25-30  تموز / يوليو 2007

168
اللقاء الأميركي - الإيراني الثاني: العراقيون آخر من يعلم!





سّيار الجميل   
  الحياة     - 29/07/2007


هل يعقل ان يغدو العراق هزيلاً الى درجة لا يستطيع حكامه الجدد ان يحددوا مصالح بلادهم؟ هل يعقل ان يرسم كل من الأميركيين والإيرانيين مصير العراق؟ أليس من الديبلوماسية واحترام إرادة شعب العراق ان يقول العراقيون كلمتهم الى الطرفين اللذين يجتمعان في عاصمتهم؟ أليس من باب اللياقة التاريخية ان تتّم دعوة العراقيين للمشاركة في تحديد مصير بلادهم؟ بل وان الطرفين يجلسان على ارض عراقية للمرة الأولى في التاريخ؟ كيف يمكن للعراقيين خاصة والعالم عموماً الموافقة على هكذا تجاوزات تاريخية؟ بل وكيف يسمح العراقيون ان يكونوا ضيوفاً في بلدهم والغرباء يتلاعبون بمصيره؟
فليقرأ التاريخ بطوله وعرضه ليفقهوا معاني هذا «التهميش» وهذه الضآلة التي لم يعشها من قبل أياً من حكام العراق، واذا كان جوابهم من اجل إيجاد أي حلول لمشاكل العراق، فان المستقبل سيكون صعباً اذا ما رسمه غير أهله... وانها وصمة عار لمن سيعمل لما يقرره المجتمعون من الاميركيين والايرانيين على تراب العراق! سيجتمع الاميركيون والايرانيون ثانية، ليس من اجل العراق، بل من اجل ان يمرر كل طرف مصالحه على حساب الطرف الآخر... واذا كان العراقيون لا يعرفون ماذا دار في اللقاء الاول... فكيف سيعرفون ما سيدور في لقاءات اخرى؟؟
علّق السفير الاميركي في العراق كروكر على الاجتماع الاول بالتشديد أن تقترن الاقوال بالافعال! وهل اقترنت الاقوال بالافعال في سياسات الطرفين؟؟ ان أي عراقي لا يمكنه ان يطمئن الى نيات إيران عندما تساوم الأميركيين على مصالحها في العراق، وكأن العراق لم يجاورها منذ آلاف السنين؟ وكأنه سوف لن يجاورها الى الأبد! ما نفع ان تعلن صباحاً ومساءً احترامها للسيادة العراقية وان تتشدقّ بدعم الحكومة العراقية وانها ستمنع الاعمال الإرهابية وتوقف التسلل عبر الحدود المشتركة... وهي لا تحترم الإرادة العراقية ولا تتوقف عن التدخل في الشأن العراقي؟ ما نفع شعاراتها كلها وهي تتصّرف على عكس ما تعلن؟ ماذا لو رفعت يدها عن الشأن الداخلي العراقي ويرفع غيرها يده أيضاً؟ ان فعلت ذلك فسوف تمّكن العراقيين من درء مخاطر التدخلات الأخرى في الشأن العراقي وخصوصاً خلايا «القاعدة» التي يدرك العالم من الذي زرعها في قلب العراق، كما ستوفر إمكانية تعامل العراقيين بعضهم مع البعض الآخر.
لقد كان جعل العراق أداة مساومة لمصالح أميركية او مصالح المجتمع الدولي ضد إيران ومشروعاتها أسوأ ما يمكن تصوّره ليمسي العراق كومة حجارة وكتلة من نار من دون التفكير بمصير شعب كامل وهو ينتقل من كارثة الى أخرى! ولقد كان جعل العراق مخزناً هائلاً لبترول العالم كله على مدى مئة سنة وحقنه بالبارود والألغام من كل جانب اسوأ كارثة يمكن ان تجعل العراق ساحة صراع دولي واقليمي لعدد قادم من السنين!
أمسى العراق بلداً هزيلاً ضعيفاً هشاً لا يقوى على الحياة من خلال عملية سياسية تعج بالتناقضات والأخطاء، ويدرك الجميع ان العراقيين يقبلون بأي حلول على ان لا تكون بعيدة عن انظارهم اولاً او ان تكون ثمناً لمصالح الآخرين. ان ايران لاعب اساسي في العراق، وتلعب بالمنطقة العابها بذكاء ومغامرة تصل الى حد الجنون... نجحت في العبث بالعراق، ولكنها ستبقى مهزوزة العلاقات مع الجميع، وخصوصاً مع العراقيين الذين حاربوها لمدة ثماني سنوات عجاف بعد ان أخذت نصف شط العرب ظلماً وعدواناً... العراقيون لا يعرفون الآن مصير مئات الطائرات العسكرية والمدنية التي كان من غباء النظام السابق أن خبأها لدى إيران. ان خلط الاوراق التاريخية بالأوراق السياسية وبمثل هذه الصورة سيحجب عن العراقيين الصورة الكاملة، ولكن التاريخ سيقول كل شي... والجغرافية ستقول كل شيء!

www.sayyaraljamil.com

169
تعاسة المستقبل
  الفكر السياسي .. المجتمع المدني
 بين رجال دولة ورجال دين !!

د. سّيار الجميل

     قلت في واحدة من مقالاتي ان الفكر السياسي المعاصر بدأ يتباعد عن كل المفاهيم القديمة بين الشرق والغرب ، فهو فكر حيوي متجدد لا يعرف في تطبيقاته اي حدود او سدود في عمله على ايدي من يؤهل نفسه سياسيا واستناده الى مفاهيم وآليات متطورة ربما تكون متباينة في الاساليب ولكنها تجتمع في الاسس والقواعد والمفاهيم .. فلا يمكن للاحزاب السياسية الحقيقية ان تعمل ابدا في غير اطارها الوطني المؤمن بالفصل بين الدين والدولة والفصل بين السلطات وجعل الدولة في خدمة المجتمع بدستور مدني يحدد الحقوق والواجبات ، وتكوين حياة مؤسسية مدنية لا يتدخل فيها رجال الدين الذين لهم واجباتهم المحدودة وحدود تفكيرهم وحدود عملهم وتقاليدهم وخطوطهم وممنوعاتهم .. وان تاريخنا في كل منطقة الشرق الاوسط لم يخل من مؤسسات اهلية وبلدية وسياسية في نظم زعاماتية مشيخية واميرية وملكية وسلطنية وشاهانية وخانية .. كانت بعيدة كل البعد عن المرجعيات الدينية التي باتت اليوم تفرض نفسها في الميدان كقوة مسيطرة بديلا عن المؤسسات السياسية واحتكارها وقيادتها وخلق  عالم متشابك من التناقضات .
     السؤال : ما القصد بالفصل بين الانتخاب والمبايعة ؟ ثمة قطيعة بين الشورى والديمقراطية ، ثمة تباعد بين رأي " اولو الامر " وبين " ارادة الشعب " .. بين رأي مرجع معين وبين الرأي العام .. وان بونا كبيرا يكمن بين احزاب دينية تنطلق من الشرع واخرى سياسية تنطلق من القانون العام (= الدستور )  ، والمفارقة ان الاولى تسمى نفسها بـ " سياسية" في حين الثانية لا يمكنها ان تكون دينية بأي شكل من الاشكال .. وفي حياتنا العربية ، غدت المفاهيم متداخلة والمصطلحات مستلبة الى درجة لم يعد تدرك ما لهذا وما لذاك .. تجد البرلمانات العربية يزيّنها النص القرآني المقدّس ( وامرهم شورى بينهم ) ولكن الاليات المستخدمة في قاعات البرلمانات لا تمت للشريعة بصلة ، ذلك ان الشورى هي غير الديمقراطية ، والمبايعة احدى آليات الشورى لما يقرره أهل الحل والعقد ـ كما وصفت في الاحكام السلطانية ـ  ضمن شروط  يتساءل الناس : هل يمكن لها ان تستقيم اليوم مع الاليات الحديثة التي تستخدمها النظم الديمقراطية في العالم وخصوصا في الفكر السياسي الليبرالي بشقيه الاوربي القادم الينا من تضاعيف ما بعد الثورة الفرنسية او الامريكي المستحدث لما بعد الثورة الامريكية في التاريخ الحديث !؟؟
    في عالمنا العربي والاسلامي اختلطت الاوراق بشكل بات التمييز صعبا جدا بتداخل المفاهيم السياسية واختلاطها في الثلاثين سنة الاخيرة وخصوصا بعد الثورة الدينية في ايران عام 1979 ، وباتت التيارات الدينية بمجمل احزابها وتشكيلاتها منقسمة على نفسها بل ومتصارعة في ما بينها ، وكلها تسعى الى السلطة بأي ثمن ، او انها تطمح للبقاء في السلطة بأي وسيلة .. ولما كانت آليات الديمقراطية طيعة جدا ومباشرة ، فلقد استغلت اسوأ استغلال من اجل فرص الحكم بالـتأثير على الجماهير ومن خلال صناديق الانتخابات .. ولم يلتفت احد الى ما يطرحه بعض المفكرين العرب منذ ربع قرن قائلين ان " الانتخابات"  هي غير " المبايعة" ، وان " الديمقراطية"  هي غير "الشورى" ، وان " ولاية الفقيه " هي غير " ارادة الشعب " وان " الامام " او " المرجع " او اي رجل مقدّس لا يمكنه ان يكون ممثلا لـ " السلطة التشريعية " .. ولا علاقة بين الاثنين أبدا ، اذ لكل اداة حاضنتها، ولكل فكر مرجعيته .. وهذا ما ادى الى تشويه الصورة السياسية واختلاط الامور اليوم وهذا ما اضر بالدين وبصورته النقية ومضامينه الجليلة .. ومما زاد الامر خطورة ان كل من يتحدث بمثل هذه " القطيعة " يتهم من قبل المناوئين المخالفين بشتى التهم الجاهزة تصل الى حد المروق والتكفير .. وغدت تتكوّن في حياتنا غابة من التناقضات بعد ان زحفت على غابة من الشعارات التي ازدحمت بها حياتنا العربية لما بعد الحرب الثانية وتعاظم المد القومي الثوري الذي كانت له مؤدلجاته وافكاره اثر زحفه على جيل الليبراليين الاوائل في ما بين الحربين الاولى والثانية !
     نحن ازاء مأزق حقيقي ، والمستغرب له ان الغرب يتعامل مع واقعنا بكل تناقضاته من دون ان يدرك الفرق في الظروف ولا الفروق في المرجعيات ولا التصادم في الحالات وما تنتجه التناقضات المختلفة ، بل وساهمت استراتيجيات امريكية على امتداد ثلاثين سنة بخلق هذه التناقضات .. والانكى من ذلك ان الاحزاب الدينية لا تستطيع ابدا تقديم اي برامج سياسية وحضارية حديثة . سؤال يثير الانتباه حقا : اذا كان العديد من المفكرين والكتّاب الغربيين قد ادرك عمق الهوة بين تناقضاتنا ، فلماذا تبارك السياسات الغربية نتائج حصلت عليها الاحزاب الدينية ، بل ودعمتها في الوصول الى السلطة ، او حتى في وجودها في السلطة وهي تعلم علم اليقين انها استخدمت " الديمقراطية" غطاء جائرا لذلك ، فهي لا تسمح حتى بالشراكة ، بل وتحارب الاحزاب السياسية حربا لا هوادة فيها !
     هناك من يتعّجب قائلا : كيف لليابان وكوريا قد نجحتا في استيراد الديمقراطية ونحن نحّرم استيرادها وان اخذنا بها فشلنا ؟؟ هنا لابد للمرء ان يدرك بأن اختلاف الواقع وتباينه بين بيئات الشرق الاقصى عن بيئات الشرق الاوسط  جعلت المفاهيم الغربية تتطور هناك في اقصى الشرق اسوة بكل من المعرفة والنظم والمعلومات وآليات التفكير .. في حين ان الاخفاقات في الشرق الاوسط قد سببتها موجة التناقضات التي خلقتها ازدواجيات التفكير والاخذ بوسائط ضمن مرجعيات قديمة .. فالاحزاب الدينية في الشرق الاوسط لا تؤمن بالمجتمعات المدنية بل تؤمن بالجماعات الدينية وهي تستغل الانتخابات وسيلة ولكنها لا تؤمن بالحريات .. وهي تتمتع بمنتجات العصر التكنولوجية ولكنها لا تؤمن بالحداثة ولا الفكر المعاصر .. وهي تعتمد حالات سياسية معينة من التراث القديم وتشمئز من اية فلسفات سياسية حديثة .. وهي تروج لشعارات ومطلقات مثالية ولكنها لا تؤمن بالفلسفة النسبية والنظريات العلمية .. وهي لا ترى طريقها الى المستقبل الا من خلال الماضي ، اذ لا تبصر اي رؤية عملية للمستقبل ، ولم نجد اي رؤية مستقبلية ضمن برامج عملية وحلول علمية لمشكلات العصر .. وهي تفاقم من تناقضاتها بانقساماتها الطائفية والمذهبية والسلفية والجماعاتية ولكنها لا تؤمن حقيقة بالاوطان والمشروعات السياسية .. انها في قلب ازمة الواقع بكل معضلاته ومنتجة لغابة شرسة من التناقضات ! فهل سيتغيّر الواقع ؟ نعم ، انها  القطائع وتغيير كل النظم الداخلية للاحزاب وتنمية التفكير السياسي ؟ ان الخلاص لا يحصل الا بخلق نقيض النقيض في كل واقعنا ، وهذا لا يحدث الا بتغيير دستوري وقانوني وتربوي وسياسي وثقافي جذري في المفاهيم والرؤى والانظمة الداخلية والايمان بالحريات ومتغيرات العصر .. وسيأخذ ذلك زمنا طويلا !

www.sayyaraljamil.com

الصباح الجديد ، 8 تموز / يوليو 2007

170
عقدُ اجتماعي قبل وثيقة عهد دولي ؟؟

تساؤلات اوجهها الى المسؤولين العراقيين

د. سيّار الجميل

من يلتزم تجاه الآخر ؟
     قرأت قبل قليل التصريحات التي تفّضل بها الاخ الدكتور برهم صالح نائب رئيس الوزراء العراقي عندما اجمل ما اسماه بانجازات الحكومة باكثر من 400 منجز سياسي وامني واقتصادي حققته خلال الاشهر الثلاثة الماضية في ضوء التزاماتها في مؤتمر العهد الدولي الذي عقد في شرم الشيخ بمصر العربية .. مؤكدا ان العراق اجتاز نحو 75 % من التزاماته في ذلك المؤتمر .. ولا ادري كيف انقضت الاشهر الثلاثة والوثيقة صدرت في 4-5 مايو / ايار الماضي ؟؟ ولا نعرف ما الذي تحقّق من منجزات بهذه الضخامة خلال الاشهر الثلاثة المنصرمة ؟ وكيف غدت 75% من الشروط الاصلاحية التي طالب بها المجتمع الدولي ؟ انني متابع دائم ومراقب جيد لأداء الحكومة العراقية الحالية ، ولكنني لا اعتقد ابدا انها قد اوفت بتعهداتها الدولية والتي فرضها المجتمع الدولي عليها لمساعدة الشعب العراقي وانتشاله من واقعه الصعب .. ابدا .  وقبل ان اعالج هذا " الموضوع " برؤية نقدية ، أتمنى ان لا يتهمني البعض باتهامات ساذجة لا اساس لها من الصحة .. فأنا لست ضد هذا او مع ذاك .. وما خطابي هذا الا صوتا مستقلا لا يعمل الا لمصلحة العراق وخير مستقبل للعراقيين .

المجتمع العراقي قبل المجتمع الدولي
      انني مؤمن بأن الحكومة العراقية كانت ولم تزل من الضعف والهشاشة بمكان بحيث انحنت لمطاليب المجتمع الدولي من دون ان تكون لها القدرة على ان تحّمل المجتمع الدولي مسؤولياته التاريخية في ما حصل للعراق .. انها اضعف من ان تلعب باوراق سياسية وتاريخية واقليمية وتقلب الطاولة بذكاء منقطع النظير من اجل المصلحة العامة قبل المحافظة على ورقة الجلوس على الكراسي .. انها لم تستطع ان تطالب المجتمع الدولي باستحقاقات الحرب التي سحقت العراق وقادت نتائجها المجنونة الى خراب الدولة ودمار المجتمع ؟ انها اضعف من ان تطالب بتعويضات للشعب العراقي من هذا المجتمع الدولي الذي اشترك  جميعه بسحق البنية التحتية والفوقية ومؤسسات العراق الحيوية بلا مبرر ابدا ..
    ان العراقيين ان كانوا قد اختاروا ( حكومة ) تمثلهم ضمن مسار خدعوا بوصفه بـ " ديمقراطي حقيقي " ، هم الذين ينبغي ان يفرضوا شروطهم على حكومتهم لتنفيذ مطالبهم المتنوعة كشعب مسحوق مقهور قبل مجتمع دولي ليس فيه الا الضباع والنمور.. ان المجتمع العراقي اهم بكثير جدا من المجتمع الدولي في ان تكون " الحكومة " في خدمته وتحقيق متطلباته قبل ان ترتجف من الاخرين .. بل وكان عليها ان تسعى لأن تطالب المجتمع الدولي كله بضرورة  تحقيق ما يطالب به المجتمع العراقي من ضرورات الحياة ..  لا ان ترضخ  لمن يساومها على مساعدتها للشعب العراقي !!
     ان كل الحكومات الجديدة التي تستلم الامور والمسؤوليات في عهودها السياسية  تحاول عمل المستحيل لتحقيق شروط ما تفرضه عليها شعوبها اولا واخيرا .. ان التاريخ يعلمنا بأن كل الحكومات الجديدة في عهود تاريخية جديدة لا يمكنها ان ترّسخ مشروعيتها السياسية الا بتأسيس عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع .. لتكون في خدمة مجتمعها من دون ان تنتظر اية اجندة خارجية يفرضها المجتمع الدولي كي تقول نعم لمساعدة الشعب .. اننا عندما نقرأ تواريخنا العراقية سنجد كل حكومة عهد جديد تحاول المستحيل من اجل كسب الارادة الشعبية .. حتى عند الغلاة الذين كانوا يرتبطون ببريطانيا ارتباطا تاريخيا ، بل يعلمنا تاريخ العراق ان هناك من المسؤولين العراقيين الاقوياء من جعل المجتمع الدولي والاقليمي يستمع له ولشروطه من اجل مصلحة العراق من دون ان يخضع هو نفسه لارادة الاخرين !!

العراقيون قبل الاخرين
      ان الشعب العراقي ممثلا بنشطائه المتحررين وقواه السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية المدنية .. لا يريد ان يسمع الى تقرير حكومي يتضمن مجرد انشائيات لا اساس لها من الصحة .. ولا يريد ان يسمع شيئا مباركا ومفذلكا ومفبركا وهو يرى واقعا منسحقا وممزقا على الارض .. لا يريد من الحكومة ان تسّبح  بحمد اصلاحاتها السياسية والاقتصادية والامنية .. وانها حققت الجزء الاكبر من الالتزامات التي تعهدت بها امام الدول المشاركة في شرم الشيخ ..ولا تريد من السيد اشرف قاضي مبعوث الامين العام للامم المتحدة ان يصفق لما يسمعه من المسؤولين الحكوميين العراقيين .. وليسمحوا لي بالقول انهم اضعف من صنع قرارات استراتيجية ومصيرية من اجل الاصلاح والتغيير والبناء والضبط والربط في حين ان الواقع لا يترجم كل هذه الاقوال الى حقائق على الارض !!
     ان الشعب العراقي يطالب حكومته ان تكون صريحة معه ، وان ترضيه وتأمن عليه وتوفي التزاماتها معه مذ ذهب الى صناديق الاقتراع واختارها .. ولا يطالبها ابدا ان تكسب ود السيد اشرف قاضي او غيره !  اننا ندرك ادراكا حقيقيا حجم التحديات الملقاة على كل المسؤولين العراقيين ، ولكن من يتحّمل المسؤولية ، عليه ان يكون جريئا وامينا وصادقا وصريحا ونزيها وصاحب كلمة واحدة وضاحب موقف واحد وصاحب قرار واحد ..  عليه ان يعمل ليل نهار من اجل ان يكون مخلصا حقيقيا للعراق لا لغيره ابدا .. ان منجزا واحدا مهّما يجني منه كل العراقيين افضل ما باستطاعتهم الحصول عليه افضل بكثير من 400 منجزا لا نعرف ما هي بالضبط ؟  ولا يمكنني ان اتخيل حصول 75 %  من الالتزامات ونحن نرى  اهتراء السلطة التشريعية ومشكلاتها في البرلمان مع طبيعة القوانين التي اصدرتها ، وبرئاسة برلمانية كاريكاتيرية .. كما لا يمكنني ان اتصور ان 400 منجزا قد تحقق على يد حكومة او سلطة تنفيذية كارتونية انسحب منها العديد من ( الوزراء ) ..!! وحتى ان التأم جمع هؤلاء الوزراء ، فهل باستطاعتهم تحقيق هكذا منجزات في غضون شهرين ونصف الشهر ؟؟ وأسأل : هل هناك ثمة وزيرا في اي حكومة يتهم بجرائم القتل من دون ان يتم تحقيق سياسي وقضائي حتى الان ؟

تعالوا معي نفحص اشتراطات المجتمع الدولي
     اننا ان جئنا  نفحص اشتراطات وثيقة العهد الدولي .. سنجد ان الحكومة العراقية  لم تطبق اي التزام من التزاماتها ، الا اذا كانت تتخّيل انها  قد انجزت شيئا  ! او انها تتخيل ان مجرد  قراراتها وتصريحاتها وسفرات المسؤولين وتوزيع الاسلحة هنا واجراء لقاءات مع زعامات دينية او اوليغارية .. والموافقة على قانون النفط .. وغير ذلك هي منجزات حقيقية !!  ان مجرد موافقة الحكومة العراقية على تنفيذ التزامات تعجيزية  كان خيبة امل للكثير من المراقبين والمحللين السياسيين سواء العراقيين او غير العراقيين في العالم .. ذلك ان  بعض الالتزامات  عمومية ومرنة ويتطلب تنفيذها سنوات طوال . فما معنى ان تتضمن الوثيقة جعل العراق دولة ديمقراطية فيدرالية موحدة تتمتع بالامن والاستقرار ؟ وما معنى انشاء اقتصاد قوي بناء على قواعد السوق الحرة ؟  وما معنى دمج العراق بفاعلية في المحيطين الاقليمي والدولي ؟ وما معنى عدم اعتراف وثيقة العهد الدولي بوجود ارادة امريكية مهيمنة على العراق ؟
      لقد طالبكم المجتمع الدولي ايها المسؤولون العراقيون باولويات تحقيق التنمية في : المصالحة الوطنية اولا وتحسين الاوضاع الامنية ثانيا والحكم الرشيد ثالثا والاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية رابعا .. الخ فأين انتم من هذا كله .؟  لقد حدد القسم السياسي من الوثيقة مجموعة متطلبات هي : نبذ العنف ضد الدولة والعراقيين  اولا ، واحترام حقوق الانسان ثانيا ، والحريات ثالثا ، واقامة دولة موحدة وفيدرالية وديمقراطية رابعا ، والمصالحة بين الجماعات المختلفة بالعراق خامسا ، وتقاسم عادل ومتساو للموارد سادسا  ، والتعاون مع دول الجوار سابعا .. الخ  فاين انتم من هذا كله ؟ .لقد طالبكم المجتمع الدولي بمعالجة مسألة المليشيات والتركيز على المسائل السياسية والاقتصادية اللازمة  لذلك .. مع السعي لحل سلمي وعادل لما اسمته بقضية كركوك  .. فهل انجزتم ما طالبكم به ؟

بقية تساؤلات أخرى
     طالبكم بمراجعة الدستور وتعديل بنوده طبقا لما اسمته الوثيقة بتوافق عراقي واطار زمني محدد .. وطالبكم المجتمع الدولي بضمان التنسيق والتفاهم مع دول الجوار  وان " يلتزم العراق بعدم السماح باستخدام ارضه او موارده للتأثير على مصالحهم كما لن يسمح بالتدخل في شؤونه الداخلية " ـ كما جاء بالنص ـ  من دون ان تسألوا انفسكم :  كيف الموافقة اذن على عقد كل من الولايات المتحدة وايران اجتماعهما على  ارض عراقية وبمباركتكتم .. فأي التزام هذا ؟  ان دول المحيط العراقي كلها مناوئة لكم .. بل وتهمشكم ولا تستقبلكم ولا تسمح لكم بالتحليق فوق اراضيها .. وانتم ليس لكم الا التصريحات من دون ان تفاوضوا من غل ايديكم ؟  طالبكم المجتمع الدولي ببناء مؤسسات الدولة على اساس الاحترافية والشفافية والمسؤولية .. فهل حققتم ذلك ونحن نرى حجم " الاحترافية " لدى المسؤولين وكفاءة المستشارين وجيش التابعين ؟؟  طالبكم المجتمع الدولي بـ " الاستمرار في برامج بناء قوات أمن بعيدة عن الولاءات السياسية والحزبية " ، ـ كما جاء في نص الوثيقة ـ ، فهل حققتم ذلك ؟
وماذا أيضا ؟
طالبكم المجتمع الدولي بطلبه "  في إطار مبادرة المصالحة تسعى الحكومة إلى ضمان تأييد كافة الأطراف لبرنامج حل ونزع سلاح وإدماج الميليشيات من خلال توفير ظروف اقتصادية وسياسية ملائمة وتوفير فرص عمل لعناصر الميليشيات وباقي الجماعات المسلحة وبرنامج عفو متوافق مع معايير العدالة بدعم دولي وأممي بناء على خبرات سابقة " . فهل تحقق ذلك كله على ايديكم ؟
وماذا بعد ؟
    اذا لم يكن كل هذا وذاك لم يتحقق على ايديكم .. فكيف يجازف بعض الاخوة المسؤولين العراقيين ليقولوا  ان حكومتهم قد انجزت 75% من الالتزامات امام المجتمع الدولي ؟ اما اذا كان المجتمع الدولي سيقبل بمنجزاتكم الـ 400 التي لا نعرفها .. ويحقق ما وعدكم به ، فان كلامي عن وئيقة العهد الدولي في محلها .. وانها مجرد اكذوبة وعملية مخادعة .. وكلها تصّب لتمرير مصالح دولية واقليمية على اجساد العراقيين ودمائهم الزكية وكل تعاساتهم وآلامهم منذ خمسين سنة .. انني لا انتقد المجتمع الدولي بقدر ما انتقدكم انتم .. ولم ولن انتقدكم على تصريحاتكم  وتبريراتكم ، اذ انني ادرك ان كلها للتسويق المحلي والدولي ، بل وانها متضاربة ومتناقضة ولا حساب ولا كتاب عليها ، ولكن اقف منكم مسائلا عن مسؤوليتكم ، وهل لكم دوركم القيادي في حكم العراق ؟؟ وعن مسؤوليتكم جميعا امام الله والشعب والتاريخ  في حكم العراق .. ولم استطرد اكثر لاحلل التزامات المجتمع الدولي ازاء العراق ، فهي ليست كما تتوقعون ايها القراء الكرام ..
وأخيرا وليس آخرا
    ان ثمة مصالح دولية اكبر بكثير من مصالح العراق فيها .. فهل ستتبلور صيغة عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع من اجل المستقبل ؟ ان ذلك كله لا يقوم ولا يتبلور الا من خلال مشروع وطني ومستقبلي مدني غير محاصصي لا جهوي ولا طائفي يديره الاكفاء والاذكياء .. الشيئ الوحيد الذي تمنيت على العراقيين عدم الكف عنه انما يتضّمن المطالبة بتحرير العراق من كل ديونه والتزاماته الدولية والاقليمية السابقة باطفائها جميعا ، والمطالبة بتعويض دولي لكل العراق ولكل العراقيين عمّا اصابهم من الخسائر والانسحاق .. ولندع العراق يهدأ ويستقر ونطالب من قام بسحق مؤسساته ان يعيد بناءها وتجهيزها كلها  قبل ان يطالبنا المجتمع الدولي بربط العراق مع الشركاء الدوليين وبصندوق النقد الدولي وتحقيق مصالح الاخرين . فهل سيأتي على حكم العراق هكذا  " قادة " يناضلون بكل ما اتوا به من قوة من اجل العراق الحقيقي والعراقي الحقيقي  ؟ انني اشك في ذلك وهو في وضعه الحالي .

www.sayyaraljamil.com
ايلاف 21 يوليو 2007

171
الاستراتيجية الامريكية تتحّدى من يفهمها !!

د. سيّار الجميل

       اعتقد اننا نحن العرب ومعنا جملة شعوب ومجتمعات هذا الجنوب من العالم لم ندرك بعد مفهوم القوة في التاريخ ، ولأننا لا نقرأ التاريخ العالمي وموازين الصراع ولم ندرك ما الذي يريده الاقوياء في هذا العالم الذي تتسارع فيه المصالح وتتضخم عنه قوى الصراع مع تزايد السكان  وتقّلص ثروات الطبيعة .. وعليه ، فان كل مفاهيمنا تكاد تكون ماضوية بحكم متغيرات العصر .. ولما كانت منظومة الشرق الاوسط غارقة في مشاكلها وتتشكل من مستنقعات داكنة ومن بؤر توتر ساخنة ، ومن تراجعات مخيفة في التفكير والسياسات.. ومع زيادة مشكلات المجتمع .. فان ثمة اوراقا يتلاعب فيها الكبار من دون ان نفهم اهدافها وغاياتها مطلقا .. انها اسرار دول لا تريد ان تفصح عن ماذا تريد حقا !!
    ان الولايات المتحدة لها (استراتيجية) بامكاننا ان نلمح تطورها التاريخي منذ ان دخلت سلم التاريخ  على عهد ودرو ولسن بمبادئه التي اشاعها مطلع القرن العشرين .. وباستطاعتنا الوقوف على الادوار الامريكية في منطقتنا لنعيد قراءتها من جديد على ضوء لا النتائج وحدها ، بل الاسباب والظروف كلها ! وكيفية تعاملها مع الكبار ازاء الصغار .. ثم التساؤل عن استراتيجية الحرب الدائمة ، اذ لم نقف على استراتيجيات سلم مطلقا .. ثم التوغل في مقارنة مصالحها القديمة لما قبل الحرب العالمية الثانية مقارنة بتطور مصالحها بعد تلك الحرب  وصراعها ايام الحرب الباردة  وتفعيل مشروع روزفلت بالتلاعب عالميا ( وخصوصا في الشرق الاوسط ) من خلال الانقلابات العسكرية وصولا الى القضاء على الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية وتبشيرها بالنظام العالمي الجديد .
    ان الاستراتيجية الامريكية لا تنتج الاحداث بل تساهم في خلق اسبابها ، وهي لا تواجه الابطال ، بل تكون مساهمة في صنعهم ، ولكنها تسقطهم متى تشاء .. وهي لا تشعل الحروب ، بل تخلق الظروف التي تجعل العالم على حافات الحروب .. وكثيرا ما يقف العالم مندهشا على احداث جسام ووقائع عظام لا يؤمن باسبابها المعلنة الا الساذجون الذين لا يدركون ما الذي يقرر في الدوائر المغلقة والغرف الخلفية !
      قبل اشهر ، كنت أتصفح وأتأمل ما كتبه ميشال لند Michael Lind  في كتابه الاخير " الطريقة الامريكية في الاستراتيجية " The American Way of Strategy   وتوقفت في الفصل الثالث عند اسس ومبادئ امريكية  يستوجب ان تتفهمها الشعوب والدول والرؤساء وكلهم  يتعاملون بالضرورة مع الولايات المتحدة ، كي يتعلموا الثوابت الامريكية في الاستراتيجية الدولية التي لا تعرف الا مصالحها اولا واخيرا ، وليس لها من وراء حدودها اية خطوط حمراء في ما يتعلق باستراتيجيتها التي تدوم ثلاثين سنة .. ولما كانت امريكا بحاجة الى اختراق العمق الاسيوي عدت حرب فيتنام ضرورة امريكية في سعير الحرب الباردة عهد ذاك ـ على زعم ميشال لند ـ وغدت حرب العراق في العام 2003 ضرورة امريكية ضمن الحرب على الارهاب !
     وقبل ايام وقع بيدي كتاب جديد كتبه د. ستيفن ميتز Dr. Steven Metz.  بعنوان : " التعلم من العراق : المقاومة في الاستراتيجية الامريكية "
Learning from Iraq: Counterinsurgency in American Strategy   والمنشور في نهاية 2006 . لقد جعلتني القضية العراقية امضي في قراءته  لاتعلم منه جملة من الافكار  التي تخص الاستراتيجية الامريكية  ، وهو يطالبها ان لا تبقى  في اطار ما هو متعارف عليه ، بل المطلوب اساسا اعادة التفكير في مقاومة التمرد والعصيان الذي سيغزو العالم في القرن الواحد والعشرين .
      ان العراق ـ كما يقول ستيفن ميتز ـ ينبغي التعلم منه  ، ولم تنفع معه كل نماذج الاستراتيجية  الامريكية سواء تلك التي كانت في فيتنام ولا تلك التي استخدمت في البلقان ، او تلك التي اندلعت في افغانستان  وغيرها . ولعل اهم ما ورد في الكتاب المذكور مطالبة الولايات المتحدة باعادة النظر بالخلفية والمفاهيم الاستراتيجية ضمن الدروس التي اندهش العالم كله عليها وينبغي تجديدها قبل ان يطويها الزمن .. وثمة بدائل تكرسّها دروس التجربة الامريكية في العراق .. اما ما هي هذه " البدائل " ؟  فلا يمكن ان يعرفها احد ابدا   . 
    وعليه ، هل كانت تجربة العراق التعيسة قد تبلورت اعتباطا ، ام خطط لها في الدوائر المغلقة ؟ بالتأكيد انها نتاج صراع اقليمي في المنطقة دام سنوات طويلة وخصوصا بين العراق وايران !  واذا علمنا ان ذلك الصراع كان قد خطط له طويلا ، فان نتائجه كانت مأساوية . اما الاسلام السياسي الذي انتج الارهاب في الشرق الاوسط ـ كما تقول السياسة الامريكية ـ ، فان الاستراتيجية الامريكية قد احتضنت تلك " الظاهرة " القاتلة منذ زمن طويل ، ولم تزل تبارك مخاطرها  في اجزاء عدة من العالم الاسلامي . ولا يمكن للمرء ان يتخيّل ان ما تجنيه الولايات المتحدة  بتفاقم اخطائها التي قد تتحول الى خطايا لا يمكن اصلاحها  او حتى تداركها .. انما هي اكذوبة لا يمكن ان يمررها او يسوقها الا الامريكيون . وعليه ، ينبغي اعادة النظر من جديد بالحرب الامريكية اليوم ضد الارهاب لمعرفة من صنع الارهاب اصلا في المنطقة ؟ ومن اذكاه ؟ ومن قوى نفوذه ؟ ومن يرّوج اليوم للديمقراطية الزائفة المختزلة بصندوق انتخابي وحزب طائفي بلا اي مشروع وطني ! بلا اي ارادة مستقلة ؟
واخيرا ، مطلوب منا نحن العرب ان ندرك خفايا ما يحدث من دون التمسك بظواهر الامور ، فما خفي كان اعظم دوما .. مطلوب منّا ان ندرك  ان للولايات المتحدة  استراتيجية كبرى تحكم عملياتها ، وهي تستعد اليوم لتجديدها  فالعام 2009 على الابواب بعد ان مضى قرابة ثلاثين سنة على العام 1979 ! فهل يدرك القراء الكرام فحوى ما اقول ؟ انني لا اشك في ذلك !!


www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 18 يوليو 2007

172
الارهاب يهدّد العالم المعاصر !!

د. سيّار الجميل

 
    لم اصدق ولم يصدق غيري ان شبابا من الاطباء العرب قد القي القبض عليهم في بريطانيا وبدأ التحقيق معهم بتهمة تخطيط وتنفيذ تفجيرات ارهابية وقتل اناس ابرياء !! لم اصدق ان تصل الحال الى هذا الحد من النزق والابتلاء وانعدام المشاعر والكراهية والاحقاد والامراض النفسية القاتلة التي فاقت اي تجارب اخرى في التاريخ .. ربما كان هناك ارهابيون في منظمات سرية ومافيات خطيرة في اماكن عدة من العالم ابان القرن العشرين .. وكانت متهمة بل مدانة بجرائم خطيرة .. ولكن تلك ، كانت عناصرها مختفية تحت الارض ولها مطالبها السياسية او المالية او الايديولوجية .. في حين غدا الارهابيون ( الاسلاميون ) اليوم يعبّرون عن واقع .. وان واقعا معينا قد افرزهم وانهم لم يقتصروا على ارهاب مجتمعاتهم ، بل انتقلوا الى ان يرهبوا العالم وهم يحملون هوية ورموزا وخطابا اسلامويا تمثله مجتمعات كبرى في العالم !
    ربما انقلبت الامور على اعقابها وانفلتت كل الضوابط ليغدو الانسان في هذا الشرق الاوسط لا قيمة له ابدا مذ تردّى التفكير واضمحلت الموازين .. وغدت مجتمعاتنا تنتقل من كارثة نحو اخرى وتتوالد اجيال وقد غشتها الادران ، فتكلست العقول ، وتضخمت الاوهام ، وتفاقمت الخيالات .. وبات الوباء ينتشر يوما بعد اخر بشكل مذهل .. انه وباء التعصب والكراهية والتطرف لكل ما هو جديد ولكل ما هو معاصر ولكل ما هو قادم من العالم الحديث .. ولم يزل ( الدين )  يستغل من خلال ( نصوصه ) ابشع استغلال كاداة جازمة من ادوات التطرف وحرب العالم ..  وقد وصلت الوقاحة ان يعيش بعض هؤلاء في الغرب وينعمون بكل وسائله وقوانينه ولكنهم يريدون حرق كل العالم بسبب ما يعشّش في ادمغتهم من اوهام ضالة !
    ان الصراع الثنائي لم ينته يوما من تاريخ البشرية ولما سقطت الحرب الباردة بكل ما رافقها من عمليات ارهابية كانت قد انتشرت هنا او هناك ، غدا الاسلام هو البديل ، بل واصبح مرجعا للتمردات والتعصب والتطرف والمقاومة .. ويتركز اليوم بكل مخاطره في الشرق الاوسط منتقلا الى اماكن قريبة او بعيدة منه واصبحت العمليات الارهابية تقرن بالاسلاميين المتطرفين الذين يزيد عددهم بكل تجمعاتهم ومراكز قوتهم يوما بعد آخر .. والمفجع حقا ان ملايين المسلمين يعيشون على وهم كبير ، اذ انهم مخدوعون كون هذا الارهاب الذي يجتاح العالم هو مقاومة حقيقية للاعداء الامريكيين خصوصا والغربيين عموما .. ان بلدان الشرق الاوسط كلها قنابل موقوتة بهذا الوباء الخطير الذي اخذ يعم المنطقة ويزحف نحو مجتمعاتها في المدن والارياف والسواحل والدواخل ..
    ان دواخلنا العربية اخذت تزدحم بالاشقياء والضالين والمنحرفين والمخابيل بمختلف الوانهم واشكالهم وازيائهم التي تعّبر عن تعصباتهم الكريهة .. او تجد الوباء ينتشر في غفلة من الاخرين بسكوت وسرية تامة من دون اي شعور اجتماعي بمخاطره .. وما دام لبوسه دينيا ، فمن الخطر على المجتمع مساءلته في حين عجزت الدولة على محاصرته والقضاء عليه ، بفعل جعل نفسه اداة معارضة شديدة ضد سياسات الدولة وضد سلطاتها .. ولعل اهم من يساعد التطرف وبنيته وهياكله المنتشرة في كل مكان ( حتى في البلدان الامنة والمستقرة نسبيا ) هو الاعلام .. فالاعلام بكل وسائله مرئيا ام الكترونيا اصبح لا يعّبر الا بوجهة نظره المختلفة عن العصر ويغلفونها باسم الواقع ، وكأن الواقع لا يمكن ان تضبطه القوانين والانظمة المدنية .. فتنفلت الامور لصالح الاشقياء والقتلة والانتحاريين والتفجيريين والتفخييخيين والملثمين والمبرقعين المجرمين الذين لا يكشفون عن انفسهم ولا يعلنون عن هويتهم .. ان من ابرز مواطن الاشقياء والارهابيين في الشرق الاوسط هي مجتمعات الباكستان وافغانستان وايران والعراق والسعودية ومصر وفلسطين والجزائر واليمن والصومال .. وستنضم الى القائمة ايضا كل من لبنان والاردن وسوريا وبعض دول الخليج فضلا عن تونس والمغرب وهلم جرا
      لقد تجاوز الفكر الارهابي مسألة الهجرة او وجود المنفى لاسباب كّنا ندركها لأننا من منتجاتها ، ولكن غدت المهمة اكبر جسارة واكثر خطورة في تصدير نفسها الى العالم وخصوصا عالم الغرب ومن قبل شباب متعلمين ومهنيين ومختصين تربوا في مثل هذا المخاض الاعمى الذي لا  يعرف الا الانغلاق والعزلة والكراهية والاحقاد وروح الانتقام حتى وان كان من الابرياء .. ان الانتقال بمشروع الموت الى العالم بكل ابريائه شيوخه وشبابه ونشائه واطفاله .. وعلى ايدي مهاجرين او لاجئين او طلبة دارسين او شباب مبعوثين او مهنيين عاملين .. يعد ظاهرة غاية في الخطورة والمكر والدهاء والتآمر والخداع وحبك الجريمة على مستوى العالم .. وباسم الاسلام ايضا ، وقد وصل الغباء الى درجة من السماجة بحيث يريدون باعمالهم الشريرة هذه ان يزرعوا العالم رعبا وقسوة وهتكا لكل الاعراف الانسانية ومن دون اي شعور بالذنب او الاثم او العدوان او أي احساس بقيمة الحياة ..
      لقد بدأ المسلمون المتشّددون ( وخصوصا من العرب والباكستانيين والايرانيين ) يسيئون الى مجتمعات المنطقة وثقافاتها واخلاقياتها وكل اعرافها الاصيلة .. ونسأل : ما المكان الذي يريده الاشقياء ؟ ما الحياة التي يريدوها الارهابيون ؟ ما الاهداف التي يرسمها التكفيريون ؟ ما الذهنية التي تتحكم بكل المتعصبين ؟ لقد اصبح الشرق الاوسط كله غريباً عن كل العالم ! والعالم كله اصبح مسكوناً بالخوف من اوبئة الشرق الاوسط التي ارادته الولايات المتحدة الامريكية ان يكون مكان نفايات او مأوى حيوانات متوحشة او مجرد حقول مزابل او حقوق الغام بشرية ، فلا تجد فيه الا القتل والخطف والفتن والتفجيرات والحروب الاهلية والتشظي الديني والطائفي والعرقي وتنتشر فيه اسلحة ومحتل وقنص وميليشيات فتاكة كادوات للخراب، لا تميزها عن السلطة أبداً ، اذ غدت دولا داخل دول !! ان الاشقياء والارهابيين يريدون نقل ميليشياتهم نحو العالم المعاصر .. والعالم المعاصر ان بقي في غفلة من كل ما يجري باسم دين او حزب او جماعة او مافيا .. فسينفجر العالم من داخله .. ستتفجر المؤسسات فجأة ،وستؤخذ المجتمعات الآمنة على حين غرة بحيث يندهش الانسان ويصعق ازاء احداث لا تعقل مسبباتها ولا تعالج تداعياتها .. بسبب تصفية حسابات دول لدول اخرى وبسبب جعل منطقتنا وهي بمثل هذه التهرؤات ساحة لتقاسم المصالح .
    ان دولا ومنظمات معروفة تقف اليوم راعية لما يحدث ، بل وانتقل الصراع في عالم اليوم من الحرب الدعائية الباردة الى الحرب الارهابية البشعة .. وبات الارهاب صفقة غالية الثمن لمن يقايض ازاء مصالحه او اجندته او حتى مخططاته ومؤامراته على حساب مجتمعاتنا التي باتت فاقدة للارادة والقوة .. لقد غدا الارهاب في السنوات الاخيرة وعند مطلع القرن الواحد والعشرين اشرس ظاهرة عرفها الانسان وهو ينتقل من طور تاريخي لآخر ساهم في صناعاتها الآخرون باساليب شتى في تجارب عدة منذ العام 1979 وحتى اليوم .. وبالرغم من الاخطاء التي حفلت بها رؤية هانتيغتون في كتابه " صدام الحضارات " وخلطه بين المفاهيم ، الا انه وجد في " الاسلام"  بديلا عن الشيوعية العالمية في وقوفه في الصراع ازاء الغرب والحضارة الغربية .. ومن دون وعي لما كان كتبه المؤرخ البريطاني الراحل ارنولد توينبي في موسوعته " دراسة في التاريخ " ونظريته في التحدي والاستجابة التي تفصل فصلا حقيقيا بين الحضارات العالمية وبين الدول العالمية في التاريخ .. وان المصالح السياسية للدول لا يمكنها ان تكون بالضرورة اساليب حضارية لمجتمعات وشعوب .. وان ثقافات تلك المجتمعات والشعوب تتلاقح في بينها ولا تتصادم بالضرورة .. ولكنها ان غدت وسيلة سياسية لهذه الدولة او تلك ، فأمست متوحشة ومخيفة في تصادمها والتعبير عن كل موبقاتها !
  انني انصح كل العالم ان يعالج الامور معالجة جذرية وواقعية وذكية .. وان تكون ثمة قوانين صارمة ضد هذه الظاهرة التي ينبغي استئصالها منذ الطفولة .. وان تدرك دول الشرق الاوسط قاطبة ان البقاء على هذه " الظاهرة " او حتى مجرد التعاطي معها سيودي بمستقبلنا الى الخراب والدمار . فهل يسمع كلامي احد من المسؤولين ام المواطنين ؟
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ، 12 تموز / يوليو 2007

173
القوى السياسية العراقية لما بعد التغيير

د. سّيار الجميل
         يعد هذا " الموضوع " من الموضوعات المعقدة جدا ليس في معرفة مجرد اسماء نثبتها على خارطة العراق السياسية ، بل للوضعيات المبهمة التي وجدت عليها القوى السياسية في العراق اليوم ، وفي ظل الفراغ السياسي الهائل الذي تركه النظام الراحل بعد حرب جيوش التحالف بقيادة الولايات المتحدة الامريكية واحتلال العراق في 2003 . لقد كان العراق بيد قوة حزبية سياسية واحدة على امتداد عهد صدام حسين ، هي التي هيمنت على مقاليد العراق قرابة 35 سنة ، ولقد افرغ العراق من كل القوى السياسية السابقة التي عاشت بعد ان ولدت وتبلورت في العراق في ازمان مختلفة من القرن العشرين .. وبالرغم من وجود قوى سياسية عراقية في الخارج واغلبها كان يمّثل مكونات المعارضة السياسية ومنذ زمن بعيد ، الا انها جميعا لم تستطع النجاح ابدا والانتصار بتغيير النظام والوصول الى السلطة .. ولما كانت الدواخل محرومة تماما من اية قوى سياسية ، ولن يكن النظام السابق ليسمح حتى باصدار جريدة مستقلة ، فان من المحّرم على العراقيين تأسيس حزب او جمعية او حتى جماعة ..
  وعليه ، فان العراقيين سرعان ما انتشرت بينهم عدة انواع من الاحزاب وخلقت قوى سياسية متنوعة بالرغم من بدائيتها السياسية .. لقد استعادت الاحزاب القديمة نشاطها ، وانتشرت المراكز الحزبية في عموم العراق .. بل وبدأت تتشكل المؤتمرات والمجالس والندوات وانبثقت جملة هائلة من الاحزاب وانفردت بعض التيارات لتغدو كتلة سياسية تفرض قوتها من رصيد الشارع العراقي .. وعليه ، فان القوى السياسية في العراق تتشكّل من مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية والكتل الطائفية والهيئات الدينية .. وكلها متباينة الأهمية والامتداد والعمق، ان بعض هذه القوى يمتد في تاريخه الزاخر إلى عدة عقود من الزمن ، لكنه اضطر إلى تجميد عمله أو نقل نشاطه إلى المنفى، وبعضها نشأ وترعرع ونما في الخارج، واغلب بل كل تلك " الاحزاب " تلقّت مساعدات مالية ومن اطراف متعددة ومن دول كثيرة  والثالث ظهر في المرحلة التي تلت الغزو مشكلا ظاهرة غير طبيعية ، بل واستثنائية من التعددية السياسية ، والتي لم يعرفها العراق أو المنطقة من قبل وذلك بغض النظر عما فيها من فوائد أو ما يوجه إليها من نقد. ان من الاهمية بمكان رصد هذه " الخارطة " العجيبة ، ولكن من الاهم معرفة طبيعة كل التناقضات التي انتجها التغيير التاريخي الذي حدث في العراق .. وان في غاية الاهمية دراسة تجربة العراق لخدمة اغراضه ومجالاته الحيوية ( راجع : دراستي المطولة عن " خارطة القوى السياسية في العراق : رؤية لما بعد التغيير " التي ستنشر قريبا عن مؤسسة الاهرام ، القاهرة ) .
       استطيع ان اشبه العراقيين بعد رحيل النظام السابق بالمحرومين من كل ما يتعّلق بالعمل السياسي ، فكانت ان تكّونت خلال ايام جملة احزاب عراقية لا حصر لها ، ولكن في ظل فراغ سياسي مهول مع غياب المؤسسات الطبيعية وسحق المؤسسات القديمة ، اذ تحدثت المصادر الاعلامية عن ولادة اكثر من مائتي حزب سياسي .. انه رقم ضخم نكاد لا نجده في اي دولة اخرى ، ولكن يبدو حقيقيا نتيجة رد فعل تاريخي ازاء الحرمان السياسي الذي عانى منه العراقيون زمنا طويلا ، ناهيكم عن ان العراق شهد مشاركة اكثر من مائة حزب بصفة مستقلة وتسعة ائتلافات تتكون من احزاب وقوى سياسية عديدة فازت ثلاثة منها فقط باغلبية المقاعد ، فضلا عن نحو سبعين حزبا وتنظيما سياسيا اعلنوا عن مقاطعة الانتخابات .. اضافة الى احزاب وقوى انسحبت من الانتخابات والعملية السياسية .. اعتقد ان العراق وحده يشهد مثل هذه " الحالة " الاستثناء ، فليس الحرمان السياسي قد اتصف العراق به سابقا ، بل ان اغلب المجتمعات العربية تعاني من حرمان سياسي ويبوسة في التعددية .
              اما العدد الكبير من انبثاق الاحزاب والتيارات والقوى والتكتلات والائتلافات السياسية العراقية ، فهو لا يمّثل كل الشعب العراقي ، فثمة قوى خفية لا تريد ان تظهر على الملأ ، وثمة جماعات متشرذمة لا يجمعها اي هدف الا هدف واحد ممثلا باخراج المحتل الامريكي من العراق ، وهذه القوى تعمل تحت الارض .. ولها قوتها اللوجستية وتمويلاتها الخفية ، والتي يحسب لها الف حساب ليس من الناحية السياسية ، بل من النواحي الامنية . هناك قوى سياسية صغرى مجهرية وهامشية لها مواقفها المحددة  وهي التي اريد تصنيفها كنخب وجماعات تضم مثقفين ومتخصصين ومهنيين وحرفيين وساسة قدامى .. وفي المقابل ، فان هناك قوى قبلية وعشائرية ودينية وطائفية وعرقية وقومية  تتمتع بشبكة من العلاقات الداخلية العامة التي تؤهلها للهيمنة على الحياة . لقد تبلور عن حالة الفراغ السياسي وفي ظل سياسات امريكية خاطئة جملة من الاستقطابات المقيتة التي غّيبت المشروع الوطني العراقي منذ اللحظة التاريخية التي جرى فيها التغيير .. كما واختفت من فوق الساحة عدة قوى سياسية او انها غدت رخوة لا تقوى على الحياة ومقارعة الحيتان الكبيرة التي اعتمدت الولاءات الدينية والطائفية والقومية بديلا عن اي مشروع وطني او اي برنامج سياسي ..
     لقد وجد العراقيون انفسهم بعد سقوط النظام السابق عام 2003 انهم امام مرحلة تاريخية جديدة ولكنها مليئة بالتحديات التي يقف على رأسها الاحتلال وهي تهتز على قاعدة رخوة من التمزقات ، وتنهض ثم تقع في مساحة واسعة من حفريات.. وهنا بالرغم من ان التحالفات والقوى السياسية العراقية قد اعادت ترتيب نفسها واوضاعها لمرحلة جديدة ، ولكنها تمسرحت باسم شعارات غير مؤهلة لتطبيق مضامينها ، فقد تبّنت ـ مثلا ـ شعارات " الديمقراطية " سريعا من دون اي دراسة معمقة لفشل التجربة ، ولا منحت المجتمع السياسي العراقي فرصته السياسية بمرحلة نقاهة يجدد فيها تفكيره ، ويحرر فيها ارادته .. لقد كانت العملية السياسية والدستورية سريعة جدا ، وفي ظل اوضاع سيئة للغاية من الناحية الامنية ، ولم تنفع نداءاتنا المستمرة بتهدئة العجلة .. فتبلورت لأول مرة اصطفافات على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو العشيرة والاصطفاف مع الاحزاب والتيارات مع مناورات استعراض العضلات الدينية والطائفية ، .. وغدت التجربة تنتقل من فشل الى فشل من نوع آخر حتى وصلت الامور الى وضعية سيئة فتحولت الاصفافات الى تخندقات ، وتحول التنافسات السياسية الى صراعات دموية .. وتمحورت حول الاحزاب الكبيرة ميليشيات اوليغارية مسلحة وبدأت الصراعات مكشوفة على العلن في صراع دام على المصالح والسلطة والنفوذ والمال .. كما غدت التخندقات الطائفية تكّرس نفسها مع شرور الاعلام المحلي والاقليمي متأججة الى درجة لم تعد القوى السياسية تتفاهم على حدود دنيا وقواسم مشتركة يتلاقى عليها الجميع ويتفاهم عليها الجميع .. ولقد انتظمت القوى السياسية على هذا الاساس، مع الإشارة الى وجود بعض الاستثناءات التي لم تعتمد الانتماء الديني أو العرقي أو القبلي معيارا ، ولكنها لم تكن مقبولة ولم تستطع ان تجد لها مجالا وسط تلك الصراعات . 
www.sayyaraljamil.com
الصباح الجديد 11 يوليو 2007

174
نداء من اجل مستقبل العراق والعراقيين

المبادئ لا تخضع للتعديلات

د. سّيار الجميل

    كانت الحكومة العراقية الحالية قد رضخت لإرادة كل الذين نادوا من اجل إيقاف تمرير قانون النفط والغاز في نسخته الأولية بعد أن كانت قد وافقت عليها .. ولقد أثارت تلك النسخة السابقة جملة هائلة من الانتقادات التي عبرّت عنها أفكار وآراء ومشاعر وردود فعل لا حصر لها .. وبعد أن أجريت تصليحات وتعديلات على النسخة القديمة لـ " القانون " بعد عدة اجتماعات وفرض تسرعات على تمرير القانون ، وافقت الحكومة العراقية مؤخرا على النسخة ( المعدّلة ) ـ كما يسمونها ـ .. ولكننا لم نجد بأيدينا هذه " النسخة " التي أتمنى على كل العراقيين أن يدققوها ويعطوا رأيهم فيها .
    كنت قد انتقدت قانون النفط والغاز في مسودته الأولى وبنسختيه العربية والانكليزية بدراستين اثنتين ، فكان أن باركهما الجميع باستثناء بعض الإخوة والأصدقاء العراقيين الذين كان رأيهم يندفع نحو الحطام أسرع من بنود القانون ، بل ويريدون تشريعه مهما كانت الأثمان غالية ، ومهما كانت النتائج ثقيلة ومن دون أن يفرقوا دوما بين المبادئ من عدمها ولا بين المصالح الآنية وبين المصير المنتظر .. ولا بين العاجل من النتائج ولا بين الآجل منها ولا بين ما نريده لوطن اسمه العراق ، وما يريده الآخرون من بلد اسمه العراق لا يعرف إلا الاهتراءات ، فهو منقسم على نفسه وهو مبعثر الثروات ..
     لابد أن أقول بأن هذا " النداء " لا يعّبر عن وجهة نظر أي تيار أو حزب يقف ضد القانون ، أو يتبّنى رأي أي تكتل سياسي في العراق يعارض القانون ، إذ أنني لا اتفق مع جميعها أبدا ، لا في سياساتها ولا في طروحاتها  .. انه " نداء " مستقل ينطلق من قناعتي الشخصية التي أدرك ان ملايين العراقيين يتفقون معها .. وانه " نداء " يعّبر عن إرادة وطنية نظيفة لم تلوثها السياسات ولا تتلاعب لها المصالح ولا تلطخها لعبة الادوار.. 
     أقول، انه منذ أسبوعين ونحن نراقب ردود الفعل الساخنة إزاء عملية تمرير قانون النفط والغاز ( المعّدل ) مهما كلّفت الأثمان .. ويبدو أن الإرادة الأمريكية لها سطوتها بضغوطاتها على الحكومة العراقية الحالية او أي حكومة بديلة لها .. من اجل الإسراع على استحصال موافقة البرلمان العراقي الذي يشهد اهتراءا وانقساما ليس لأسباب سياسية وخلافات أيديولوجية ، بل لأسباب مبدئية ووطنية وطائفية بالدرجة الأولى ..
    وإذا كان البرلمان العراقي في مأزق وهو يحاول تبديل رئيسه ، وإذا كانت الحكومة تعيش هي الأخرى مأزقا لا تحسد عليه نتيجة انسحابات وزراء واتهام آخرين واختفاء وزير متهم بجريمة قتل !! ولما كانت البلاد كلها تعيش جملة من الأزمات والمعضلات ، فكيف يراد تمرير قانون النفط والغاز بالرغم من أنف الجميع ؟ كيف تستعجل الحكومة الموافقة على هذا " القانون " الذي يهم كل أبناء العراق وكل أجيال العراق القادمة ؟؟ من خّول الحكومة العراقية الحالية أن تستعجل بهذه الصورة الفوضوية الموافقة على إصدار قانون يخص ثروات كل العراقيين ؟؟ ومن أعطى لمثل هذا البرلمان الحق في أن يتصّرف بمصير هذه الثروات تنفيذا لإرادة الآخرين ؟
     وعليه ، نطالب أولا بنشر النسخة ( المعدلة ) من القانون بشكل رسمي ، حتى يطّلع عليها كل أبناء الشعب العراقي ويدلوا برأيهم فيها .. كما ونطالب بتأجيل البت في هذا " القانون " إلى إشعار آخر ، فالمسألة مبدئية تحتمل التأجيل وليست سياسية عابرة خاضعة للبدائل والتبديل .. ونطالب بطرح القانون بنسختيه العربية والانكليزية على كل العالم ، وتوضيح ( التعديلات ) على النسختين ، ليقرأهما كل العراقيين ويقولوا فيها رأيهم .. نعم ، إن المسألة ليست سياسية حتى يبت فيها من قبل المسؤولين الذين أوصلتهم الأقدار إلى سدة الحكم نتيجة لعملية سياسية معروف كيف حبكت ، ولكنها مسألة تاريخية تترتب عليها تداعيات مستقبلية ، لا أريد أن يندم بعدها العراقيون كل الندم .
كيف ؟
      إن المسألة مبدئية ووطنية ـ أيضا ـ تخص ثروات كل العراقيين ، وهي لا تقع ضمن دائرة العملية السياسية التي تخص أحزاب وجماعات معينة بحد ذاتها .. وإذا كان هناك من يروج لتمرير القانون بكل ما يتضمّنه من مواد يتخّيل أنها صالحة لكل العراق والعراقيين وستأخذ نحو أسباب التقدم والرخاء ، فربما تكون في حقيقة الأمر مجحفة بحق العراق والعراقيين وبعدهم من اجيال القادمين .. وهنا ، على كل عراقي  أن يسمع صوت من يعارض هذا " القانون " قليلا .. إنني واثق تمام الثقة أن " القانون " لو طرح على الرأي العام للتصويت ، فان اغلب العراقيين سيعارضون القانون وان معارضتهم له ستكون مبنية على قناعات واضحة لما يتضمنه القانون من مواد ربما تكون فاضحة بحق العراق والعراقيين لأسباب تتعلق بفدرلة الثروات وخصخصتها وتكريس الاستثمارات الخارجية للشركات الكبرى واحتكار للاحتياطيات الهائلة وعدم وجود أي ذكر للصناعات النفطية الوطنية .. الخ خصوصا وقد صرح قبل ساعات الناطق باسم رئيس الوزراء ان التعديلات كانت شكلية تخص الاملاء والتعابير وليست جوهرية تخص مبادئ القانون !!
      إن المسألة ـ أيضا ـ ليست تباينية بسبب مجرد معارضة سياسية لهذه الحكومة أو تلك ، بل إنها خلافية كونها مبدئية وطنية وتشريعية في الأساس ، أي تخص كل العراقيين ولا تخص أي طرف أو حزب أو ائتلاف أو كتلة أو طائفة أو عرق معين .. إن " القانون " حتى وان صاغته لجنة معينة اختارها النظام السياسي الجديد ، فالمطلوب أن تعرض " المسودة " بكل تعديلاتها على كل الفنيين والخبراء العراقيين ، وما اكثرهم وما اقواهم .. ومن ثم استطلاع موقفهم والاستئناس بآرائهم قبل المباشرة بتشريع القانون وبمثل هذه السرعة التي لها عدة أسباب مكشوفة .
     إن قانون النفط والغاز أمانة في أعناق كل المسؤولين العراقيين اليوم ، واعتقد أن اغلبهم سيجازف بالموافقة على نسخته ( المعدلة ) وضميره غير مرتاح أبدا ما دام هناك بنود ستخدم مصالح شركات ودول طموحاتها قاتلة لتنفيذ مصالحها قبل المصالح العراقية الوطنية .. وإذا كان أي مسؤول عراقي ستنتابه مشاعر غاية في الأسى وتأنيب الضمير ، فليعلن عن موقفه أمام العالم والتاريخ .. أما من  لم يوافق على ( التعديل ) ويريد الذهاب بعيدا في كل ما تضمنته النسخة الأولى بكل أخطائها وخطاياها بالعربية والانكليزية ، فان عليه أن يتأكد بأن مصالحه مرتبطة بالعراق والعراقيين قبل ارتباطها بأمريكا والأمريكيين  .. ولا يظن بأن الفرصة اليوم مؤاتية لتحقيق اكبر المكاسب المجتزئة على حساب كل العراق والعراقيين .. فهمومنا ممتزجة ومصائرنا مشتركة وحياتنا واحدة ..
     وعليه ، نتساءل ومن حقنا ذلك : هل أن مصير العراق وتجزئته سيكون مرتهنا بهذا القانون ؟ وهل سيعمل هذا " القانون " بشكل جازم على تفكيك العراق ويرهن ثرواته واحتياطياته بأيدي الشركات الأجنبية ( والأمريكية خصوصا ) ؟؟ وهل أن أي موافقة من قبل البرلمانيين الذين جاء بهم الشعب ليمثلوه اصدق تمثيل ، إنما هي خيانة وطنية بحق العراق والعراقيين ؟؟ وهل من الخطأ أن العراقيين سيباركون أية خطوة وطنية عراقية صرفة تخص شؤونهم من دون أي تدخلات خارجية أو أي إرادة أمريكية ؟؟ هل أن العراقيين اليوم أمام مفترق طرق صعب فأما أن يكون مع القانون أو أن يكون ضد هذا القانون ؟
     أسئلة يحق لنا أن نطرحها على كل العراقيين مسؤولين ومواطنين في مثل هذا الظرف الصعب الذي يمر به العراق وكل العراقيين .. ونتأمل أن تستقر الأحوال وتهدأ حياة العراق والعراقيين ليؤسسوا تشريعات حضارية ومستقبلية تحتمها الضرورات الوطنية لا الأجندة الخارجية  .. أتمنى أن تراعي كل من الحكومة والبرلمان إرادة العراقيين كلهم من دون استثناء .. فلا يمكن إصدار أي تشريع لمستقبل العراق والعراق يعاني من مخاض سياسي ووطني صعب . وعلى كل العراقيين أن يفكروا بمصير الأجيال القادمة قبل أن يمّّرروا قانونا لا يدركون هل سيكون عونا للعراق والعراقيين أم سيكون لعنة عليهم إلى يوم يبعثون .. وسيزيدهم تفسخا وتطاحنا واحترابا لآجال طويلة مع صراع القادمين .. فهل فكّر العراقيون يوما في مستقبلهم قبل ما كانوا عليه في ماضيهم اللعين ؟؟

www.sayyaraljamil.com


175
متى تتخلّص مجتمعاتنا من تقاليدها البالية ؟؟
د. سّيار الجميل
                                     
    القسم الثاني
أي مشروع حضاري ينتظرنا ؟
 الخروج من الاهتراءات
   
     طالما اقول بأن جملة هائلة من التقاليد المهترئة السيئة هي التي اساءت الى كل تاريخنا وعصفت بحاضرنا ، وحطّمت كل مشروعاتنا ( النهضوية ) وافكارنا ( الاصلاحية ) وحتى استعراض عضلاتنا ( الثورية ) .. ولم نبدأ حتى يومنا هذا أي مشروع حضاري  .. وطالما كان الحكماء والادباء والشعراء والعلماء في مجتمعاتنا من ابرز الذين نادوا بالعمل والانتاج بالحلم والحكمة والعمل الصالح والاخلاق الحميدة والامر بالمعروف والاحسان والرفعة والتحضر والمعاملة الحسنة والاستماع لافضل الاقوال وسعد الالفاظ والمجادلة بالتي هي احسن والعظة من التجارب والخبرة والاعتراف بالخطأ فضيلة والصراحة والامانة والمصداقية في القول وشرف الكلمة والكلمة الطيبة صدقة والدعوة الى المحبة والتعايش بعيدا عن الاحقاد والكراهية ومقابلة الاحسان بالمعروف ونقد الاخطاء والتقويم بقول جميل .. وواجب الشكر للاخرين والوفاء بالعهد والعدالة والحرية والتشاور واتباع الاصول والمسالمة والمناقشة والمصارحة وتعظيم النفس بالتغافل والستر والابتعاد عن التجريح وعدم المشاغبة ولا الاساءة ولا وساخة التعابير او ايذاء الاخرين وقطع ارزاقهم او التسكع او التحرش او الوضاعة او الزعيق او خلف الوعود والايمانات الغليظة او البهاتة او عشق الفوضى او التلّذذ بالاذية او الشتيمة والسباب او التبجح واستعراض العضلات او الاثارة الداعرة والتهميش والتسلط والتشفي والاخذ بالثأر وتضييع الزمن وهوس الخيالات والايمان بالخرافات والخزعبلات .. الخ
  تاريخ طويل يمتلكه المجتمع بكل ما يتضمنه من التجارب والانساق والمضامين والاحداث والامثال والنصوص والاثار .. ويبدو ان الزمن كلما يمضي نحو الامام ، فان ابناء المجتمع الذي وصف باسمى الصفات من العظمة والتحّضر .. يتهالكون شيئا فشيئا نحو الانسحاق نتيجة ما جمّعه التاريخ لديهم اليوم من بقايا السيئات وجذور المشكلات وتعقيداتها التي لا تعد ولا تحصى .. بل وان التلاؤم لا يحصل مع الروح الجماعية اذ تسيطر النزعة الفردية على السايكلوجية الفردية لكل ابناء المنطقة ..  سيطرة عمياء وتنتشر الروح الشريرة بشكل لا يمكن تخيله بحيث تصل الى حد التشّفي بموت المختلف السياسي والفكري والديني والمذهبي .. فكيف اذا وصلت درجة الخصومة بين اثنين .. اذ يصبح القتل مشروعا للتنفيذ ، ولم تزل نزعة الثأر مغروسة في تقاليد وعادات منتشرة لاغلب ابناء المنطقة ، وتمثّل صلبا من اعرافهم .. وسيكتشف ذلك بسهولة كل من يقرأ تاريخنا الاجتماعي والسياسي ويقارنه بتواريخ مجتمعات اخرى أي من دون ان يجعل للاخرين مثلا   .
التقاليد البالية وراء الانحرافات في مجتمعاتنا
1- طبيعة المجتمع الابوي السلطوي: بالرغم من  أن مجتمعاتنا تمر بمراحل انتقالية بطيئة ، فإننا نتلمس جذور المجتمع المبني على هرمية السلطة الابوية الاجتماعية التي ما زالت مسيطرة ليس على العائلة ، بل على كل المجتمع .  أن استخدام العنف والقسوة من قبل الاب والأخ الكبير والشيخ والمدير والشرطي والرئيس .. الخ أمر مباح، ويعتبر في إطار المعايير الاجتماعية السليمة، وحسب نظرية ماكدوكل النفسية الاجتماعية فإن الإنسان يكون عنيفاً عندما يتواجد في مجتمع تسوده القسوة ويعتبر العنف سلوكاً ممكناً، مسموحاً ومتفقاً عليه. ويا ويل كل من يعارضه او ينتقده او حتى يتساءل عن اسبابه ..
بناءً على ذلك تعتبر هذه التقاليد والاعراف مركزية لا يمكن ان يحيد عنها احد ابدا ؛ إذ يأتي كل الافراد المُعنّفون من قبل الأهل والمجتمع والدولة وكل من يحيط بهم إلى اي مجال مفرغ من سلطة التقاليد  ليفرغوا الكبت القائم بسلوكيات عدوانية عنيفة يقابلهم افراد آخرون يشابهونهم في التكوين والاوضاع والسلوكيات المماثلة، وبهذا الاسلوب تتطور حدة العنف ويزداد انتشارها في كل مكان . ان المدارس والجامعات لم تأخذ دورها الطبيعي في القضاء على كل انحرافات المجتمع ، لأنها مجرد مراكز اشعف بكثير من سلطات المجتمع المهيمنة التي تخشاها حتى سلطات الدولة .. وفي المجتمعات العربية تأخذ الجماعات ذوات المواقف المتشابهة في التقاليد البالية حيال العنف والسيطرة والبروز واستعراض القوة للاستحواذ على المكانة والمال والشهرة طبائع غاية في السوء لا تتوقف عند الافراد ، بل تأخذ طابع الشللية والتحالفات من أجل الانتماء، وهو ما يعزز عندها تلك التوجهات والسلوكيات؛ فيذكر مثلا  "إذا كانت البيئة خارج المدرسة عنيفة فإن المدرسة ستكون عنيفة".
تشير هذه النظرية إلى أن الفرد في بيئته الاجتماعية وخارج اطار القانون  يتأثر بثلاثة مركبات، وهي: العائلة، والمجتمع، والإعلام، وبالتالي يكون العنف الاجتماعي وما انساقت اليه من تقاليد بالية .. نتاجا للثقافة المجتمعية البليدة العنيفة التي لا يمكن التفاهم معها ابدا .
2- المجتمع التحصيلي من بقايا التقاليد : في كثير من الأحيان يذهب الغالي بسعر الرخيص ، وتطرد العملة الرديئة العملة الجيدة من السوق .. واعتقد ان هذه النظرية هي التي تجعلنا نفكر في الملايين من الناس الذين تركوا مجتمعاتهم وهاجروا الى مجتمعات اخرى واندمجوا فيها سابقا .. اما اليوم ، فمن كثرة وغلبة التخلف والتعصب والتطرف ، فان الحالة اصبحت معاكسة ، اي ان العملة الرديئة لم يقتصر دورها على الداخل ، بل تخطط لافساد العالم كله فالمهاجرون اليوم لا تجدهم ممن يريدون الخلع عن تقاليدهم البالية ، انما يحملونها هي نفسها الى العالم المتمدن تحت مسميات شتى واهداف غاية في الخطورة .. وربما لم يعط العالم اهميتة بعد لما يسببه هذا الطوفان على العالم ، ولكن ستحل كوارث شتى نتيجة انتقال جملة تقاليد خطيرة الى مناطق محددة من العالم .  وحسب نظرية الدوافع؛ فالإحباط هو الدافع الرئيسي من وراء العنف وتداعياته على المجتمعات اليوم ؛ إذ إنه بواسطة العنف يتمكن الفرد الذي يشعر بالعجز أن يثبت قدراته الخاصة؛ فكثيراً ما نرى أن العنف ناتج عن المنافسة والغيرة. كذلك فإن الفرد الذي يعيش في مجتمع غارق في سيئات لا تعد ولا تحصى ستجده يحمل كل بقاياه وسيخرجها يوما معبرة في اشكال عدة . 
3- التكوين البدائي غير المدني : ويشتمل هذا " التكوين " على عدم وضوح القوانين وقواعد التعامل الانساني .. انه تكوين على وازع الرعب والقصاص الذي لا مبرر له وعلى الاضطهاد وعلى الاوهام وعلى الخيالات التي يعتبرونها حقائق لا برهنة عليها .. وعلى حالات نفسية صعبى سايكلوجيا وعلى حدود غير واضحة لا يعرف الانسان بها حقوقه ولا واجباته، انهم يلقنونه التقاليد والاتباعية والطرقية بلا تفكير وبلا ارادة وبلا تكوين وبلا عقل وبلا تفكير وبلا مقارنات وبلا شخصية .. يربونه على الضعف والانسحاق والكراهية وعبادة الماضي وتقديس الاشياء العادية .. يعلمونه الاذى والتعامل غير الفعال وغير الممتع ويدرسونه ( المحفوظات ) التي لا فكر فيها وهو الذي يعتمد على التلقين والطرق التقليدية.. كل هذا وذاك يخلق العديد من الإحباطات عند الافراد التي تدفعهم إلى القيام بمشاكل سلوكية تظهر بأشكال عنيفة، وأحياناً تخريب للممتلكات الخاصة والعامة، بالإضافة إلى استخدام سري وعلني للعنف، والمهارة في البذاءة والانفعال .
إضافة إلى ما ذُكر فإن الأسلوب الديمقراطي ومناهج التمدن تلاقي معارضة شديدة من المتسلطين في المجتمع وفي مقدمتهم رجال الدين ورؤساء العشائر والاعيان الذين اعتادوا على الضرب والمقاطعة والأسلوب السلطوي بكل إزعاجاتهم، انهم يخلقون أشرارا لا ينفع معهم إلا الضرب والاعتقال والسجون والاساليب الصعبة ..  ونعود إلى اي متمدن فنجده صاحب نفس قصير ، اذ سرعان ما يحمل همومه ومعاناته  ليختصر على نفسه الجهد والتعب بدلاً من أن يصمد ويكون واعيا بأن عملية التغيير هي السيرورة Process التي تتطلب خطة طويلة المدى ، فتجده اما يختار الانزواء او الاختفاء او العجز او الهجرة او الموت.
4- تقاليدنا البالية وراء التفكك الاجتماعي: ان ما يتبلور من حدوث الانحرافات السلوكية الناجمة عن حالات اضطراب الشخصية في مجتمعاتنا بحاجة الى مزيد من الدراسات والابحاث بما فيها الأمراض النفسية التقليدية مثل القلق والاكتئاب والفصام والوساوس والخوف والانحراف ..  في نسبة تصل عاليا عند الذكور، وبنسب اقل عند الإناث، حسب الإحصائيات العالمية في بعض المجتمعات، واذا كانت بوادر الانحراف السلوكي في مرحلة المراهقة عادة أو قبل سن الخامسة عشرة، وتحدث بصفة رئيسية في المناطق المزدحمة والعشوائية، فان الدراسات التطبيقية تؤكد ان تلك البوادر نجدها حتى عند الاطفال .. وتزيد احتمالاتها في الأسرة كبيرة العدد في مجتمعات عربية واسلامية ، وفي المستويات الاجتماعية والتعليمية المنخفضة. ان مجتمعاتنا مبتلاة كثيرا بالازدواجية والشيزوفرينا وحالات اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع أو ما يطلق عليه الشخصية السيكوباتية.
التمييز بين التناقضات الاجتماعية
     لعل مشكلة التمييز بين التناقضات في التفكير والممارسات كانت اول صراع للمتحررين من سطوة سلطات متعددة اجتماعية قبل ان تكون سياسية ، اذ لم تكن المشكلة التي اقلقتهم متى تكون الحالة صادقة او متى تكون الحالة الاخرى مقبولة ، وانما كان جّل الاهتمام يتضّمن وضع حلول لمشكلة التمييز بين الوجه الحقيقي والوجه الزائف . وينبغي ان نعدّ معايير جديدة لاساليب وقائية تحدد ما هو ثابت  وما هو متحّول فنحمي الحياة التي نعرفها ( = الدنيا الاجتماعية المغيبة بكل قيمها التاريخية الاصيلة  )  مما قد يضعفها من الافكار غير الواقعية وما يسود من المفاهيم البليدة  ومن ذاك الذي يتداول من الاقوال الخاطئة ومن النصوص غير الصائبة ، ونرسم مبادىء حضارية مدنية ثابتة تساعد على استقرار الحياة الاجتماعية والتفكير الانساني والوطني معا.
    ان وضع معايير قوية في القابلية للاصلاح  في المجتمع لا يمكن أن تؤدى اداء سيئ للدولة ومن دون أي استشارات محدثة ومن دون الاستعانة بخبرات مدنية .. اذ لا يكفي ما هو جاهز من الموروث وما هو كامن من اساليب مهترئة .. عندما تبدأ حالة التلقي بزرع جملة مبادئ وقيم يحاول الانسان التمّرس عليها بعيدا عن أي اطواق او أي سلطات او أي مرجعيات ..  ولابد ان يشتغل العقل بعيدا عن العاطفة ، وان تقال الحقائق بعيدا عن الخرافات .. وان تنتاب الجميع اسئلة لا حصر لها بشأن كل الاصول المترسخة في الاعماق والمركبة في الاذهان بحيث يمكن استئصالها يوما بعد آخر وتخليص الجيل القادم منها ومن نوازعها العقيمة  .. ان مجتمعات مدنية اليوم استطاعت من خلال عاملين اساسيين تقويم اوضاعها بالتشديد على كل من التربية والقانون .      هناك من يقول ويشدد على ما يسميه بـ ( الوعي الثقافي ) كي تستقيم سلوكيات المجتمع ، وهنا اخالف ذلك بشدة  ، فالوعي الثقافي لا يمكنه ان يترسخ عميقا في المجتمع من دون أي تربية مدنية راسخة ، والتربية بكل انواعها هي التي ترّبي سلوكيات الافراد على مدى ثلاثين سنة ومن خلالها يبني الانسان نفسه ويؤسس علاقاته بالاخرين في المجتمع . اما القانون ، فهو الذي يربط الانسان بالحياة والمجتمع والدولة معا كعقد اجتماعي يعد ضرورة حياة او موت .. انه يجعل الانسان لا يحيد عن الصواب ، فان حاد فالقانون هو الذي يربيه .
     لذلك فان من مستلزمات الاصلاح فرض معايير مدنية ( وخصوصا في التربية والقانون ) وان نطالب اجيالنا الجديدة بان تكون مهمتها يمثّلها السعي لتخطئة التقاليد غير المجدية .. وهكذا تكون افضل التقاليد مهما كانت طبيعتها سياسية ام اجتماعية ام ثقافية هي التي تجتاز اكثر الاختبارات قساوة وسط غابة من التحديات الداخلية . اننا نؤكد فضلا عن ذلك الاعتماد بالدرجة الاساس على طرح الافكار الجريئة او الاليات النقدية الجسورة سواء كانت حدوسا او فروضا و دحض كل الترسباّت والماضويات من خلال مجادلات نقدية يعتمدها العقل او اختبارات تجريبية وسيلتها البراهين والادلة وحقائق الاشياء .
طريقنا نحو المستقبل
     اننا نطمح ان يميّز الانسان تمييزا واضحا بين المعاني والتشيؤات وبين الفرضيات والبراهين . هنا لابد من تحديد الشروط التي ينبغي ان يخضع لها العقل السائد :
1- التخلص من ازمة التناقضات من خلال ايجاد تفقهّات واجتهادات جديدة قائمة على التفكير والعقل .. فما يزاول اليوم في مجتمعاتنا من عادات وتقاليد سيئة وضارة لا يمكن السكوت او التغاضي عنها ، وهي التي تخلق كل تناقضاتنا الاجتماعية والسلوكية .
2- الاستقلال عن التقاليد البالية والضارة والبليدة بايجاد بدائل من التقاليد النافعة في الحياة ، وعلى الدول واجهزتها التشريعية التعاون مع علماء الدين لاصدار قوانين تلغي ما متعارف عليه والاعتراف بالبدائل خصوصا وان الناس تؤمن بما يقوله رجل الدين ولا تؤمن البتة بما يقوله رجل الدولة .
3- الكفاية بما قد انتهى المجتمع اليه من الماضي ومحاولة تطوير الواقع بما يتلاءم ومنطق هذا العصر ، بعيدا عن أي انشدادات لبقايا الماضي التي لا تتفق ليس مع العصر حسب ، بل لا تنسجم مع منطق الأشياء .
4- الانطلاق من الحقائق الضرورية من خلال تشكيل اللحظة الحاسمة في التفكير والانتقال من حالة التقاليد الثابتة الى منطق التشيؤات المتحركة .. وهنا ينبغي العمل على تغيير الذهنية السائدة من ثوابت المطلقات الى نسبية الاشياء . اننا بحاجة الى ثورة ديكارتية حقيقية في تنمية التفكير وتغييره مهما كانت الاثمان.
5- علمنة المؤسسات السياسية وتطوير قوانين الاحوال الشخصية وتحديث الاساليب التربوية وتنمية وسائل التفكير للانتقال من الاوهام الى حقائق الاشياء بزرع مبادئ البرهنة على كل ما يقال .. واخراج المجتمع من اطوار الخرافة وتقاليد الماضي ليدرك معاني الحياة بكل مفرحاتها وقيمها الجديدة وتبديل كل ما هو سيئ وضار ومعيق للتقدم بدءا من الاشكال وانتهاء بالمضامين . أي باختصار : تأسيس حقيقي للحياة المدنية وفضائلها والاستفادة من كل الموروثات الخيرة بروح رياضية وشفافية لا بنزعة تعصبية ليس لها الا الكراهية .
6. زرع روح المحبة والتسامح والمودة والتعايش والاستفادة من كل موروثات دينية واخلاقية اصيلة وخلاصا من كل ما شحن بالكراهية والاحقاد في المجتمع ، وان يتفانى الجميع في المجتمع من اجل الابتعاد عن كل ما يثير نزعة الانقسام او يكرسها بالانتقال الى طور التبشير بالانسجام والاخوة وان ينتهي العمل بشكل قاطع عن التوصيفات المؤذية وعن كل ما يؤجج الثارات ويشعل العواطف ويثير الانفس .
توصيات واستشارات
     ينبغي علّي في نهاية المطاف ان احدد بعض ما يمكن الرجوع له من النظريات الخاصة بتغيير التقاليد او تجديدها في مجتمعات مثل مجتمعاتنا الشرق اوسطية والتي تمر بتحولات خطيرة وبمخاض عسير من التناقضات المتصادمة لا المتجاذبة .. وعليه ، فان افكارا كالتي طرحها كل من هولبورن وروكان وبوويك .. والتأكيد على دراسة التجارب الاوربية في التحولات الاجتماعية للانتفاع منها ، وخصوصا ما يتعّلق بثنائية تناقضات اساسية عاشتها اوروبا الغربية قبل اربعة قرون .. ومجتمعاتنا تمر بها اليوم .. سنقف ازاء : الطهرية والنفعية والتجديدية والمحافظة وغيرهما . سنقف عند هوبز في البحث عن القانون الطبيعي وتحرير الانسان وتأسيس المجتمع المدني . وهناك ديكارت ومن قبله ريشيلو في فتح الابواب لاقامة توازن بين صراع التناقضات .. او التأكيد على دور السلطة في صياغة اساليب المجتمع كالتي قال بها فوبان وبولزغيلبر .. وصولا الى تأسيس القطيعة بين الغائي والواقعي على مراحل متعاقبة حسب معالجات دوركهايم ومانهايم . ولكن ، ثمة فرق كبير بين مجتمعاتنا ومجتمعات اوروبا الغربية ذلك ان التفكير المدني والفكر الانساني قابل للتطبيق في بيئات اوروبا ، ولكن من الصعب جدا تطبيقها في مجتمعاتنا .. وهنا مربط الفرس وعقدة القصة كلها ، وبالامكان معرفة التفاصيل في كتابي ( العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ، ط1 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997 ) . انه من السهولة ان تطبق " القطيعة " وفلسفتها في مجتمع يقبلها .. ولكن من الصعوبة تطبيقها في عالمنا بعد مرور اربعة قرون على تفاعلات المجتمعات الاوروبية . فهل وعينا الدرس الاجتماعي ؟ ومن اجل مستقبل وضاء .. هل ثمة مشروع حضاري ينتظرنا ؟
www.sayyaraljamil.com
ايلاف 5 تموز / يوليو 2007

176
توني بلير عاشق للشرق الأوسط  !!
د. سيّار الجميل

   ستكون سابقة في التاريخ العالمي أن يتقلد رئيس وزراء بريطاني اسمه توني بلير منصبا جديدا عنوانه : (مبعوثا للشرق الأوسط  بعد تنحّيه مباشرة ) ، أي انه سيعمل وسيطا بين الأطراف من خلال اللجنة الرباعية الدولية الخاصة بمتابعة سلام الشرق الأوسط والتي تضم الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، أي انه سينقل كل اهتماماته بعد بريطانيا إلى الشرق الأوسط .. خصوصا وانه قد اكتسب خبرة واسعة في مشاكل الشرق الأوسط طوال حكمه . لقد عقدت اللجنة الرباعية اجتماعا لمناقشة مسألة تعيينه مبعوثا لها ، وبمباركة أمريكية بطبيعة الحال .. وأنهت اجتماعها الذي عقدته في القدس وهو أول اجتماع لها منذ الانقسام العميق الذي شهدته الساحة الفلسطينية بسيطرة حماس على قطاع غزة وقيام حكومة طوارئ في الضفة الغربية بقرار من محمود عباس .
      ولكن يبدو أن التوصل لقرار بشأن بلير قد تأجل بسبب اعتراضات من روسيا التي كانت تدهورت علاقاتها مع بريطانيا خلال الشهور المنصرمة ، ولكن من المنتظر أن توافق روسيا على تعيين بلير .. وهذا شأنها ، إنها دوما تعارض  ، ثم تتخلى عن مواقفها بعد  مزايدتها عليه وهي تدرك مباركة الولايات المتحدة لدور بلير .. أما الموقف العربي ، فلم اسمع عن أية ردود فعل رسمية .. فما دام الصمت مطبقا ، فان الموافقة حاصلة ، وسواء وافق العرب أم لم يوافقوا ، فالأمر محسوم للرجل إلا إذا طرأ أي طارئ .. وينظر البعض من العرب إلى توني بلير كونه متحيزا جدا لإسرائيل والولايات المتحدة ، في حين يجده المعتدلون العرب انه الأفضل ليس بسبب كونه عاشقا للشرق الأوسط ، بل بسبب خبراته السياسية في الشأن الدولي وفي مقدمة ذلك : الصراع في الشرق الأوسط .. وما دام الرجل قد أعرب مخلصا عن رغبته في تولي هذا المنصب ، فهو يطمح أن تحل مشكلة الشرق الأوسط على يديه .. واستبعد ذلك تماما ، فالمشكلة ليست بسيطة ابدا ، إذ أنها معقدة جدا . وقال بلير لدى لقائه بحاكم ولاية كاليفورنيا الأمريكية ارنولد شوارزنيجر  ما نصّه : " إن كل من يهتم بالسلام والاستقرار في العالم يدرك أهمية التوصل إلى حل نهائي ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وسأبذل كل ما بوسعي للتوصل إلى هذا الحل". إن هذا " التصريح " يدل دلالات عميقة على انه سيوفر المناخات السياسية الملائمة بين الفرقاء .. وينتظر أن يتركز دوره على مساعدة الفلسطينيين بالنيابة عن اللجنة الرباعية في بناء مؤسسات فعالة.
 ولكن لماذا غدا توني بلير مكروها عند بعض العرب ؟
    انه ليس صاحب شخصية سياسية مستقلة في إرادتها .. بل كان ولم يزل مشاركا ، بل وتابعا للولايات المتحدة .. واعتقد انه لولا تواريخه ومواقفه لنال تأييد الجميع .. ويبقى بلير زعيما مثيرا للجدل ، وخصوصا بشأن دوره في الحرب على العراق عام 2003 . ربما سيكون حياديا في البداية إن اقرّ تعيينه ، ولكنه بالتأكيد سيتعاطف مع إسرائيل .. وكلنا يذكر بأن بلير تعّرض لانتقادات شديدة اللهجة بسبب رفضه إدانة القصف الإسرائيلي للبنان في العام الماضي ورفضه كذلك الدعوة لوقف مبكر لإطلاق النار. والمهم ، سواء رضي العرب ام لم يرضوا عن مجيئ بلير مبعوثا ! فان الدور الذي سيلعبه بلير ـ كما اعتقد ـ هو لمصالح أمريكا العليا قبل مصالح اسرائيل .
    كتب مراسل بي بي سي في القدس تيم فرانكس بأن المسؤولين الإسرائيليين يظهرون حماسا منقطع النظير لمكانة بلير وخبرته العميقة ، بينما يبدي الفلسطينيون تشككا أكثر في قدرته على إحداث اختلاف وتغير دائم في الوضع الراهن. وقد علقت حركة حماس على هذه الأنباء بالقول: " إن تجربة شعبنا مع بلير سيئة " وان تعيينه "قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع". وهنا بدوري أسأل حركة حماس : من يتحمّل المسؤولية كاملة في تدهور الأوضاع  ؟ كان لابد للأخوة الفلسطينيين أن يجدوا لهم أي مساحة للتفاهم على الحدود الدنيا من دون أي قتال ولا أي انقسام ولا أي صراع وتمزق .. هم أنفسهم مسؤولون عنه ، وعلى أي طرف يشعر بأنه قد اخطأ ، فليعترف بخطئه .. فليس من المعقول ان يأتي من ليس له أي خبرة إدارية وسياسية وقيادية ليحكم ويفشل ثم يعّلق فشله على شماعات الاخرين !
    ثمة أصوات أخرى مثل لورد ليفي المبعوث الخاص السابق لبلير في الشرق الأوسط يؤكد قائلا : إنه ينبغي التركيز على إيجابيات بلير. وأضاف :" أنا أعرف إن القيادة الفلسطينية تكن له احتراما عميقا كما أن له علاقات ممتازة مع الرئيس المصري حسني مبارك والملك عبد الله عاهل الأردن وفي الخليج". صحيح أن هذا من حقائق الأشياء التي نعرفها في توني بلير ، ولكن كم سينجح في إعادة التوازنات في عملية السلام ؟ مع من سيكون ؟ مع من سينسق بشكل اكبر ؟ كيف ستكون سياسته وهو مبعوث لجنة رباعية وليس رئيس وزراء بريطاني ؟ هل انه سيترجم جهوده المضاعفة لايجاد حلول للمشكلات الصعبة ؟ هل سيجرى اتصالات مكوكية مع كل الأطراف ؟ هل سيكون حيويا وفعالا في خدمة المنطقة وحاجاتها ام سيكون العكس ؟
    أتمنى على كل الفرقاء الفلسطينيين أن يجدوا لهم طريقا ثالثا ، فطريقهما متشاطر كل منهما باتجاه . واجد أن حركة حماس اليوم في الموقع الأضعف وهي تناشد من اجل الحوار.. إنني اعتقد أن الشرق الأوسط كله يعرف توني بلير من يكون ، ولكن لا يعرف غيره من يكون ..  ومهما اختلفنا حول مواقفه السابقة في الشرق الأوسط ، إلا انه قد أسس معرفة سياسية وخبرة شرق أوسطية وعلاقات مع زعماء المنطقة . فماذا سيقدم عاشق الشرق الأوسط ؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة إن اختير فعلا مبعوثا للجنة الرباعية .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 4 تموز / يوليو 2007

177
توني بلير عاشق للشرق الأوسط  !!


د. سيّار الجميل

   ستكون سابقة في التاريخ العالمي أن يتقلد رئيس وزراء بريطاني اسمه توني بلير منصبا جديدا عنوانه : (مبعوثا للشرق الأوسط  بعد تنحّيه مباشرة ) ، أي انه سيعمل وسيطا بين الأطراف من خلال اللجنة الرباعية الدولية الخاصة بمتابعة سلام الشرق الأوسط والتي تضم الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، أي انه سينقل كل اهتماماته بعد بريطانيا إلى الشرق الأوسط .. خصوصا وانه قد اكتسب خبرة واسعة في مشاكل الشرق الأوسط طوال حكمه . لقد عقدت اللجنة الرباعية اجتماعا لمناقشة مسألة تعيينه مبعوثا لها ، وبمباركة أمريكية بطبيعة الحال .. وأنهت اجتماعها الذي عقدته في القدس وهو أول اجتماع لها منذ الانقسام العميق الذي شهدته الساحة الفلسطينية بسيطرة حماس على قطاع غزة وقيام حكومة طوارئ في الضفة الغربية بقرار من محمود عباس .
      ولكن يبدو أن التوصل لقرار بشأن بلير قد تأجل بسبب اعتراضات من روسيا التي كانت تدهورت علاقاتها مع بريطانيا خلال الشهور المنصرمة ، ولكن من المنتظر أن توافق روسيا على تعيين بلير .. وهذا شأنها ، إنها دوما تعارض  ، ثم تتخلى عن مواقفها بعد  مزايدتها عليه وهي تدرك مباركة الولايات المتحدة لدور بلير .. أما الموقف العربي ، فلم اسمع عن أية ردود فعل رسمية .. فما دام الصمت مطبقا ، فان الموافقة حاصلة ، وسواء وافق العرب أم لم يوافقوا ، فالأمر محسوم للرجل إلا إذا طرأ أي طارئ .. وينظر البعض من العرب إلى توني بلير كونه متحيزا جدا لإسرائيل والولايات المتحدة ، في حين يجده المعتدلون العرب انه الأفضل ليس بسبب كونه عاشقا للشرق الأوسط ، بل بسبب خبراته السياسية في الشأن الدولي وفي مقدمة ذلك : الصراع في الشرق الأوسط .. وما دام الرجل قد أعرب مخلصا عن رغبته في تولي هذا المنصب ، فهو يطمح أن تحل مشكلة الشرق الأوسط على يديه .. واستبعد ذلك تماما ، فالمشكلة ليست بسيطة ابدا ، إذ أنها معقدة جدا . وقال بلير لدى لقائه بحاكم ولاية كاليفورنيا الأمريكية ارنولد شوارزنيجر  ما نصّه : " إن كل من يهتم بالسلام والاستقرار في العالم يدرك أهمية التوصل إلى حل نهائي ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وسأبذل كل ما بوسعي للتوصل إلى هذا الحل". إن هذا " التصريح " يدل دلالات عميقة على انه سيوفر المناخات السياسية الملائمة بين الفرقاء .. وينتظر أن يتركز دوره على مساعدة الفلسطينيين بالنيابة عن اللجنة الرباعية في بناء مؤسسات فعالة.
 ولكن لماذا غدا توني بلير مكروها عند بعض العرب ؟
    انه ليس صاحب شخصية سياسية مستقلة في إرادتها .. بل كان ولم يزل مشاركا ، بل وتابعا للولايات المتحدة .. واعتقد انه لولا تواريخه ومواقفه لنال تأييد الجميع .. ويبقى بلير زعيما مثيرا للجدل ، وخصوصا بشأن دوره في الحرب على العراق عام 2003 . ربما سيكون حياديا في البداية إن اقرّ تعيينه ، ولكنه بالتأكيد سيتعاطف مع إسرائيل .. وكلنا يذكر بأن بلير تعّرض لانتقادات شديدة اللهجة بسبب رفضه إدانة القصف الإسرائيلي للبنان في العام الماضي ورفضه كذلك الدعوة لوقف مبكر لإطلاق النار. والمهم ، سواء رضي العرب ام لم يرضوا عن مجيئ بلير مبعوثا ! فان الدور الذي سيلعبه بلير ـ كما اعتقد ـ هو لمصالح أمريكا العليا قبل مصالح اسرائيل .
    كتب مراسل بي بي سي في القدس تيم فرانكس بأن المسؤولين الإسرائيليين يظهرون حماسا منقطع النظير لمكانة بلير وخبرته العميقة ، بينما يبدي الفلسطينيون تشككا أكثر في قدرته على إحداث اختلاف وتغير دائم في الوضع الراهن. وقد علقت حركة حماس على هذه الأنباء بالقول: " إن تجربة شعبنا مع بلير سيئة " وان تعيينه "قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع". وهنا بدوري أسأل حركة حماس : من يتحمّل المسؤولية كاملة في تدهور الأوضاع  ؟ كان لابد للأخوة الفلسطينيين أن يجدوا لهم أي مساحة للتفاهم على الحدود الدنيا من دون أي قتال ولا أي انقسام ولا أي صراع وتمزق .. هم أنفسهم مسؤولون عنه ، وعلى أي طرف يشعر بأنه قد اخطأ ، فليعترف بخطئه .. فليس من المعقول ان يأتي من ليس له أي خبرة إدارية وسياسية وقيادية ليحكم ويفشل ثم يعّلق فشله على شماعات الاخرين !
    ثمة أصوات أخرى مثل لورد ليفي المبعوث الخاص السابق لبلير في الشرق الأوسط يؤكد قائلا : إنه ينبغي التركيز على إيجابيات بلير. وأضاف :" أنا أعرف إن القيادة الفلسطينية تكن له احتراما عميقا كما أن له علاقات ممتازة مع الرئيس المصري حسني مبارك والملك عبد الله عاهل الأردن وفي الخليج". صحيح أن هذا من حقائق الأشياء التي نعرفها في توني بلير ، ولكن كم سينجح في إعادة التوازنات في عملية السلام ؟ مع من سيكون ؟ مع من سينسق بشكل اكبر ؟ كيف ستكون سياسته وهو مبعوث لجنة رباعية وليس رئيس وزراء بريطاني ؟ هل انه سيترجم جهوده المضاعفة لايجاد حلول للمشكلات الصعبة ؟ هل سيجرى اتصالات مكوكية مع كل الأطراف ؟ هل سيكون حيويا وفعالا في خدمة المنطقة وحاجاتها ام سيكون العكس ؟
    أتمنى على كل الفرقاء الفلسطينيين أن يجدوا لهم طريقا ثالثا ، فطريقهما متشاطر كل منهما باتجاه . واجد أن حركة حماس اليوم في الموقع الأضعف وهي تناشد من اجل الحوار.. إنني اعتقد أن الشرق الأوسط كله يعرف توني بلير من يكون ، ولكن لا يعرف غيره من يكون ..  ومهما اختلفنا حول مواقفه السابقة في الشرق الأوسط ، إلا انه قد أسس معرفة سياسية وخبرة شرق أوسطية وعلاقات مع زعماء المنطقة . فماذا سيقدم عاشق الشرق الأوسط ؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة إن اختير فعلا مبعوثا للجنة الرباعية .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 4 تموز / يوليو 2007

178
عوني كرومي في ذكرى رحيله...الطائر الازرق .. وسيط ثقافات العالم
د. سّيار الجميل
" العمل المسرحي بالنسبة لي فعل حياة وبقاء وتطور وسؤال دائم عن الكينونة والوجود"
عوني بعد اخراجه مسرحية " الطائر الازرق "

 


قبل عام مضى وبالتحديد يوم 27 مايس / آيار من العام 2006 ، رحل عنا الفنان العراقي الكبير المخرج المسرحي الدكتور عوني كرومي .. فترك فراغا كبيرا لدى كل اصدقائه ومحبيه ومتابعي اعماله .. وهو واحد من نخبة المثقفين العراقيين الرائعين الذين خدموا الثقافة العراقية ، وانتقلوا بها الى درجة عالية من السموق .. بل وغدا هذا الفنان الجاد الذي لم يكن يعرف الليل من النهار الى وسيط ثقافات هذا العالم .. وقد حقق خلال عمره القصير المزيد من الابداعات عالية المستوى .. وكنت آمل ان يهتم به العراقيون اهتماما كبيرا قبل رحيله المفاجئ .. ولكنهم كانوا وما زالوا يعيشون تاريخا صعبا هذه الايام ، وهم يفتقدون كل عام ابرز مبدعيهم وروادهم وفنانيهم وشعرائهم .. ولا يمكن ان تمر ذكرى عوني كرومي من دون ان اقف عندها ، فالرجل يستحق منّا كل الاهتمام ، كما منحنا وهو حي كل محبته وعطائه الجميل .. وسيذكر التاريخ هذا الرجل بكل نقائه وعطائه بالرغم من اكثر من حملة شنّت ضده ..
 
عوني كرومي : وقفة عند حياته

ولد عوني كرومي في مدينة الموصل عام 1945 ، ورحل وهو في غربته الصعبة ببرلين عام 2006 .. انه المسرحي العراقي المحترف والموهوب معا .. انه خريج معهد الفنون الجميلة ، قسم التمثيل وإلاخراج ببغداد عام1965، ثم انخرط للاستزادة في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد ، وتخرج عام1969. سافر الى المانيا لاكمال دراسته ، وحصل على الماجستير في العلوم المسرحية من معهد العلوم المسرحية بجامعة همبولدت – برلين- ألمانيا عام1972 ، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في التخصص نفسه وفي المعهد والجامعة نفسهما ببرلين في ألمانيا عام1976 . وغدا استاذا في تخصصه ، بتدريسه ذلك في عدد من الجامعات العراقية والعربية والألمانية بين الأعوام 1997-1977. ولقد شارك بفعالية ومهارة في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الأعوام 1972 و2002. أخرج أكثر من سبعين عملاً مسرحياً ناجحا ورائعا جذب اليه العالم ، واشتهر بخصوصيات اخراج مسرحيات قوية جدا ، منها: فطور الساعة الثامنة، في منطقة الخطر، كاليكولا، غاليلو غاليليه، كريولان، مأساة تموز، القائل نعم القائل لا، تداخلات الفرح والحزن، فوق رصيف الرفض، الغائب، حكاية لأطفالنا الأعزاء، كشخة ونفخة، الإنسان الطيب، صراخ الصمت الأخرس، ترنيمة الكرسي الهزاز، بير وشناشيل، المحفظة، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، عند الصلب، في المحطة، الشريط الأخير، المساء الأخير، الطائر الأزرق ،أنتيجونا، فاطمة، السيد والعبد. نال العديد من الجوائز العالمية في مهرجانات بغداد، القاهرة، قرطاج، برلين . كما حصل على لقب ( وسيط الثقافات ) من مركز برخت في برلين.
على مدى اربعة عقود من الزمن العراقي الصعب .. انتج عوني حصيلة تاريخه المبدع وكان خلالها يبحث عن اسرار حياتنا العراقية الخصبة التي لا نهاية لها .. ويحاول ان يجد حلولا لمشكلات معقدة وكبيرة اكبر منّا جميعا .. كان في اعماله ناقدا رائعا وقد اسس مذهبه الفني واسلوبه الانساني ومنهجه الفلسفي من خلال اعماله التي اولاها الدارسون والنقاد اهمية كبرى .. كانت اعماله تبشر بالقيم والمثل الانسانية فخلق ما اسماه البعض بـ " مسرح الحياة " . كانت تطلعاته وخصوصياته الفلسفية قد بدأت منذ شبابه المبكر بنزوعه الى التجريب ، واصدر بيانا وكان دون العشرين من العمر يدعو فيه الى التجديد والتعاطي مع المناهج والرؤى الحديثة في الفن المسرحي ، مما اثر عليه بعض اساتذته الذين كانوا يدعون الى التجديد على طريقتهم وفي مقدمتهم الفنان ابراهيم جلال .
 
سماته الخاصة

عوني كرومي من عائلة عمالية حيث كان والدة أحد العاملين في مجال الطباعة. وتعلم عوني من والده ان الحياة مسرح كبير وكل البشر فيه مجرد ممثلين تعلموا بالسليقة احترافهم .. كانت بيئة الموصل في الخمسينيات بيئة ثقافة وادب ومجالس وصحافة وسياسة .. بيئة مدنية محترمة تجمع ابناء المدينة الحقيقيين بكل اساليبهم الحضارية وتقاليدهم واعرافهم الاجتماعية الاصيلة .. ثم انتقل عوني الى بغداد وهو شاب ليتعلم كثيرا من العاصمة وهي تخوض تغييرا واسعا .. لم يعرف عوني الهدوء ابدا ، بل انه لم يعرف غير العمل والحركة من دون أي توقف طوال حياته .. سريع الاندماج اجتماعي الطبع نظيف السريرة .. فكها وحاضر البديهة ينتقل بسرعة البرق من مكان الى مكان .. له تواضعه الشديد اذ وجدته لا يمّيز نفسه ابدا عن كل الملين في مسرحه .. يداوم معهم ويأكل معهم ويأخذ قيلولته على الارض معهم .. لا يترّفع ولا يتمنّع ولا يتنّطع .. في داخله طفل كبير جدا .. له احساساته ومشاعره المرهفة .. يتحّمل المشاق ويتأهب دوما للصعاب .. صريحا مباشرا لا يلف ولا يدور يتعلم دوما .. ربما تفور اعصابه بسرعة ولكنها تهمد بسرعة .. زار وعاش في بلدان عدة منها : المانيا والقاهرة والامارات والكويت وقطر وعمان والاردن وغيرها . وهو فضلا عن كونه مخرجا مسرحيا ، فهو باحث قدير ودارس متعمق ومؤلف ومترجم .. وقد اثرى باعماله الثقافة العربية وخلد للعراق اروع الاعمال .
هروب عوني
وفي العراق ، عانى كثيرا من الظروف الصعبة وهيمنة الثقافة الواحدة .. ورفض أخراج نص لأحد رجالات الدولة بأمر من قيادة ثقافية كانت تترصده .. فكان ان حورب حربا لا هوادة فيها عندما اطفئت انوار القاعة عند عرض احدى مسرحياته ، وكان مسرحه الذي اعطوه اياه مهملا وبعيدا في ضواحي بغداد. كما انه حوصر في الدرس الاكاديمي في جامعة بغداد وقلل من نشاطه الذي لا ينضب ، الامر الذي اضطره إلى مغادرة العراق للعمل مخرجا واستاذا.

لقد عمل عوني في جامعة اليرموك بالاردن بعد هروبه من العراق منذ بداية التسعينيات .. واشهد انني سمعت عندما زاملته استاذا في جامعة اليرموك ان الجميع يشهد له بحسن السمعة والسلوك وان الناس تلهج بذكره ومحاسنه وقد عرف عنه في مهجره مناضلا في اعماله ضد الدكتاتورية وقد لوحق طويلا .. وبالرغم من مسيحيته العراقية القديمة ، الا انه لم يتعامل من منطلقها ابدا مع كل معارفه وطلبته واصدقائه العرب والعراقيين .. وربما لا تعرف دين عوني ابدا ان لم تسأل عنه . صحيح انه من مسيحيي العراق الكرام ، ولكن لا يمكنني ان اجد فيه الا نزعة حب العراق حتى العظم . وفي الاردن عانى ايضا على غرار اقرانه الاكاديميين العراقيين من هجمة كل المتعاطفين مع النظام السابق .. فغادر على غرار اترابه الاخرين الى اماكن بعيدة فاختار المانيا ملجأ له ولعائلته . كان قد انتج واخرج في الأردن أكثر من عشر مسرحيات للطلبة ولفنانين أردنيين وعراقيين أنتجت بنية فنية مؤسسة لاحقا لقاعدة للقسم الفني في الجامعة.
 
عوني وأنا

لم اكن اعرف الرجل سابقا في العراق ولم التق به خارج العراق بالرغم من كونه ابن مدينة الموصل فهو قد درس في المانيا في حين درست في بريطانيا ، ولكنني التقيت به في الاردن صدفة برفقة بعض الاصدقاء كان منهم الفنان الراحل فريد الله ويردي ـ رحمه الله ـ .. ولكن لم يطل اللقاء اذ سرعان ما سمعت بأن عوني قد هجر الاردن الى المانيا حيث استقر هناك بعد ان ترك الشرق الاوسط نهائيا .. ولعل ابرز صديق لنا نحن الاثنين هو الاخ الدكتور عصام داود ( وكان صديقا لنا في اليرموك أيضا ) وكان يحدثني دوما عن عوني ، ويذكر اروع خصاله ، وكان دائم الصلة تلفونيا به ويخصني بذكره ونبل سجاياه . ولما هجرت الاردن نحو كندا ولم تكن سنة 2003 قد حلت بعد ، كنت بحاجة الى عوني ليكون معنا ضمن هيئة تأسيسية لمجموعة الثقافات الدولية في مؤسسة اكنك ، فاعطاني تلفونه الاخ الفنان قاسم مطرود وتحدثت مع عوني شارحا له اهدافنا من اجل ان نفعل شيئا من اجل العراق وثقافة العراق .. وتبادلنا الافكار وكان الرجل مستعدا لعمل اي شيئ نطلبه منه من اجل العراق وكان يحدثني دوما من خلال مراسلاته الالكترونية عن اعماله الفنية ومتاعبه الصحية ومشاعره الانسانية .. ولما حلت 2003 ، كنا نترقب الاوضاع الصعبة ، وجرى التغيير الذي كنا نأمل ان يقود العراق فعلا الى الخلاص من ادران الماضي ، ولكن جثم الاحتلال بكل اوزاره على العراق .. وكان عوني يخبرني عن تفاؤله بالمستقبل .

فجأة وكنت قد آويت الى فراشي ، دق علي جرس التلفون وانا في الامارات في منتصف ليلة 1 مايو 2004 ، فكان عوني كرومي على الخط وهو في غاية الحزن والتأثر قائلا : هل استحق الشتم من اصدقائي يا سيّار ؟ قلت : حاشا ان يشتمك أحد وانت من اطيب الناس ! قال بأن الاخت حياة الحويك عطية ( الكاتبة اللبنانية المقيمة في الاردن ) قد شنت ضده هجوما صاعقا لا يستحقه باستخدامها اسوأ التعابير متهمة اياه بتهم شتى كونه صفق للتغيير الذي حصل في العراق .. وهي الصديقة التي كان من جملة من يؤثرهم عوني .. قلت له : خفف عنك فالاخوة العرب لم يدركوا حتى الان محنتنا نحن العراقيين ، ولم يشعروا بهول المأساة سابقا ام لاحقا . لم يتلفظ عوني بأي كلمة سوء ضد الاخت حياة او ضد كل اصدقائه الاردنيين الذين اتهموه بشتى التهم .. بل قال : سامحهم الله سامحهم الله . ثم اردف قائلا لي : سارسل لك الان المقال الذي شتمتني فيه حياة الحويك ظلما وعدوانا لترى ما فيه من شتائم مقذعة .. هدأت من روعه وبعد قليل ارسل لي المقال وفوجئت به بعد ان طار النوم من عيني ورحت أتأمل واتساءل : هل من المعقول ان يشتم فنان بوزن عوني بكل بدائية ؟.

ما المقال الذي هاجم عوني كرومي ؟

لقد قرأت " المقال " وتألمت كثيرا لما نشرته الاخت حياة بحق الصديق المبدع عوني كرومي .. لأمر لم تتبين مدى نسبيته وخصوصيته .. فليس من السهولة ان اطعن بوطنية أي عراقي ، فكيف اتجاوز كل الحدود لأطعن بوطنية أي عربي ؟ ربما اخالفه في افكاره ومعتقداته ، ولكن ثمة خط احمر في ما يتعلق بوطنية أي انسان ! ومن يكون ذلك " الانسان " انه عوني كرومي الذي صرف كل لحظات عمره من اجل ان يقدم ابداعا يعجز الملايين ان يطالوا قامته .. لقد نشر المقال في جريدة الخليج الاماراتية يوم الجمعة 30 ابريل 2004 ، وتضمن هجوما شخصيا ساخطا مبرحا ضد الدكتور عوني كرومي بسبب رجوعه الى العراق اثر سقوط النظام السابق واختياره مع اثنين آخرين لادارة الهيئة الوطنية للاعلام والاتصال في بغداد . وكنت اتمنى معالجة هادئة بين الاثنين ، ولكن المقال ازدحم بالشتائم التي لا مبرر لها ضد الاخ عوني عندما تبرأت الاخت حياة من صداقتها منه ، اذ كان لها صداقة عميقة معه في الاردن ، تقول : " لكنني ككل الشقيقات الحّرات اتبرأ منك " ! وتبدأ بادانته كونه ليس " الوحيد الذي طأطأ رأسه امام سبابة بول بريمر ، لست الوحيد الذي ساق مسرحية معاداته للنظام الصدامي بحجة الانتصار للحرية ، للحق والخير والجمال ، القيم التي تشّكل عصب الفن ودمه ، ثم انهاها بالالتحاق بالاحتلال الذي يشكل احقر انواع المصادرة ، لكل ما هو حق وخير وجمال . لست الوحيد الذي اثبت انه من الرخويات التي تجعل من حب العراق وحب الثقافة منزلقا لكره الكرامة الشخصية والوطنية ! " .
عوني كرومي ليس من الرخويات

لا ابدا يا اختنا حياة .. ان عوني ـ رحمه الله ـ لم يكن من الرخويات ، فهو فنان حقيقي ارتبط بهموم شعبه وبلده وعاش مأساة العراق وتجّرع من القسوة والالام ما لم يتجرعه الاخرون .. وهو اسم كبير سوف لا تنجب ( الامة العربية ) من مثله لزمن طويل قادم ! وكنت اتمنى ان تتوجه الاخت حياة برسالة عتاب هادئة ولطيفة بكل ما تحمله الشفافية من معنى الى الاخ عوني ، كما كنت اتمنى ان تنشر مقالا تعتذر فيه لما نشرته بحقه بعد رحيله المفجع ، ولكنها ـ ويا للاسف الشديد ـ لم تفعل .. فالرجل عاد الى العراق بحسن نية ونداء شعب من اجل ان يشارك في نهضته وبنائه ، ولكنه وجد من المناسب ان يغادره بعد ان صدمته الاحداث ، فغادره بشجاعة على غرار بقية المثقفين العراقيين الاحرار.. ولكن حتى ان بقي في العراق فهو بلده وحاضنته وترابه وعمل فيه . فما العيب في ذلك ؟ ان الاخ عوني كرومي ـ رحمه الله ـ اكبر من وصفه بالهلامية والجبن والحلم حد الضياع ! وهو الفنان الاصيل المبتلى بالغربة .. لم يختارونه لأنه مسيحي كما كتبت الاخت حياة !وتتساءل قائلة : " اي مسرح ؟ وأي فن ؟ وأي اعلام ستقيمونه لخدمة احتلال يغتصب ارضكم وثرواتكم ؟ اي اعلام وأي فن ستوظفونه لخدمة المشروع الامريكي – الصهيوني .... انطلاقا من العراق " .
 لم يعش عوني كرومي طويلا ، فقد رحل وهو في ارض الغربة التي دفن فيها .. لقد صعقت وانا اسمع برحيل عوني بعد ان لفظ انفاسه بدقائق ، فقمت بالاعلان عن رحيله المؤسف .. وعندما رحل عوني وهو بعيد عن ارضه واهله وشعبه لم اسمع او اقرأ كلمة واحدة بحقه من قبل اصدقائه العرب الذين كانوا من اعز الناس اليه وعلى قلبه !!

مسرح عوني كرومي : مدرسة للذهن والحريات

يقول عوني وهو يصف ممارسته المسرحية :
 "كان ومايزال العمل المسرحي بالنسبة لي فعل حياة وبقاء وتطور وسؤال دائم عن الكينونة والوجود وعملية أبداع الذات إلى جانب كونه رحلة ومغامرة في المستقبل بهدف الوصول الى الحقيقة وايجاد أجوبة لأسلئة العصر الراهن . كما أن العرض المسرحي حوار دائم مع النص والسينوغرافياوالممثل والمشاهد لأجل تحقيق الدهشة والانشداد بدل الارتياب والشك، الإعجاب والاستمتاع محل الاستهانة والضجر والتهكم وصولا الى شكل يحقق المتعة الفنية الراقية عبر الأداء المتميز والعطاء الإبداعي الخلاق للممثل الذي يرفد ثقافة المشاهد بما هو جاد وممتع ونافع، مرتقيا بمشاعره وانفعالاته وأسئلة الحرية المتعددة، ماهو ذاتي ومنها ماهو اجتماعي. يبقى ديدن العرض المسرحي المقدم الى جانب حرية الفن واستقلاليته التي تشكل في زمننا المعاصر سؤالا تصعب الإجابة عليه. " .

انني ارى عوني هنا وهو يقدم لنا فلسفته ويختزل كل حياته في كلمات رائعة .. انه يعتبر المسرح مدرسة حياة من اجل الوجود .. انه يشعر بأن المسرح مدرسة للكينونة .. للذات وللمستقبل .. انه يجد في المسرح بغيته كي يقف على خشيته ومنها ينطلق نحو الحياة كلها .. انه يجده رحلة مغامرة نحو المستقبل .. انه من خلال المسرح يبحث عن الاسرار ليكشف عن الحقائق كلها .. انه يؤمن ايمانا حقيقيا بقيمة المسرح وعظمة مشاهده التي يمكن تربية الاجيال عليها وعلى تجاربها الانسانية .. انه يريده مسرحا متكاملا بالنص والسينوغراف والممثل والمشاهد في بنية متراصة واحدة لخلق جدلية رائعة في الاخذ والعطاء وتحقيق انشداد دائم وخلق دهشة تربي التفكير وتخلق في الذهنية استعدادا دائم لتقبل الاشياء الجديدة والمعاني الخصبة . ان عوني يرى في المسرح عالما مدهشا لا تعيش فيه الريبة ولا تتخلله التشنجات ولا تمارس فيه الاستهانات ولا يغدو مكانا للضجر او يضج بالتهكمات .. انني افهم تماما ما الذي يريده عوني من مسرح يلهو فيه الانسان ، او مسرحا يزاول فيه الممثلون كل التفاهات والتعابير السوقية .. انه يريده مسرحا ممتعا بكل ما تعنيه الكلمة من معان .. نعم مسرح يرتقي بالمشاعر الانسانية ويصل بالانسان الى اعلى درجات الاحساس والالم والفرح والانفعالات الحية .. انه يريده مسرحا يجيب عن أسئلة الحرية المتعددة بشقيها الذاتي والموضوعي .. الفردي والاجتماعي بكل ما يمنحه العالم للمسرح وابنائه من حرية الفن واستقلاليته التي تشكل في زمننا المعاصر سؤالا تصعب الإجابة عليه .
أصدر عنه الناقد الراحل الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر كتاباً بعنوان (عوني كرومي والمسرح الشعبي) وكان قراءة نقدية عميقة ورصينة في أعماله (غاليلو وغاليليه ، كوريولان ، كشخة ونفخة ، الانسان الطيب ، ترنيمة الكرسي الهزاز ، بير وشناشيل ، رقصة الأقنعة)راصداً تجربته في الإخراج المسرحي ، وواصفاً اداءه بـ (الرُقي) في شهادة كبيرة هو أهل لها.

الكلمات الاخيرة

كانت " مسرحية العبد والسيد " من آخر اعماله ، وهي نص سومري قديم حيث وجد فيه ثيمة معاصرة تتحدث عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم مترجما اياها من عصر كلاسيكي قديم الى خصب الحداثة . انه يعشق التعامل مع النص التراثي - الاسطوري القديم . لقد كانت اطروحته عن " رثاء أور" لمؤلف سومري مجهول. وهو لا يتعامل أبدا مع الاعمال السهلة التي تقدم افكارها باسلوب مباشر ، اذ ان ثقافته الفنية قد تأسست على المزاوجة بين معرفة النص وتطبيقه على خشبة مسرح فعال . ويقال انك تجده أثناء التمارين : قارئا وشارحا وناقدا للظواهر والحركات والافكار .. وهو يربط بين كل ذلك والواقع الذي يعاصره .. انه بذلك يخدم المجتمع خدمات حقيقية من خلال ثقافة متمكنة وباحتراف عالي المستوى . وتجده يحرق اعصابه حتى يتم الاشياء على ما يريد هو نفسه .. وليس لما يريده أي واقع بائس ! انه بالقدر الذي ينجح فيه بالتعامل مع النصوص الشعبية والاسطورية له القدرة على توظيف النصوص العالمية .. وكان الرجل يشعر ان مسؤوليته اكبر من ان يملأ فراغ المتفرج ، بل يغدو له معلما بطريقة غير مباشرة . واعتقد ان الاخ الناقد ياسين النصير هو ابرز من حلل تجربة عوني كرومي الفنية مع نقاد عراقيين آخرين لا اريد ان ابخس دورهم ابدا ، ولكنني اعتقد ان اعمال عوني وفكره بحاجة ماسة الى المزيد من الدراسات والبحوث .. وسيبقى اسم عوني كرومي مسجلا في ذاكرة العراق الحضارية .
 

فصلة من كتاب سّيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
 
www.sayyaraljamil.com

الزمان ، 2 تموز / يوليو 2007

179
دياسبورا العراقيين في الشتات الصعب
د. سّيار الجميل

" الشمس أجمل في بلادي من سواها
والظلام ..
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق " .
بدر شاكر السّياب

مقدمة
   لعل من اكثر من يؤلم حقا ان يتجّرد بعض الكتّاب والمهتمين بالشأن العراقي للكتابة التي لا مبرر لها في " موضوع " لا يلّمون بتفاصيله ابدا ، ولا يدركون جذور تعقيداته ثانيا ، ولا يفقهون سر مشكلاته واشكالياته ثالثا .. ليكتبوا عنه ويتفلسفوا فيه من دون دراية كافية ولا اي معرفة وافية .. وهم يخرجون باحكام خاطئة ، ويا للاسف الشديد . ان موضوعا كهذا الذي يعالج مشكلة ملايين العراقيين الموزعين بالالاف المؤلفة في شتات العالم ينبغي الاحاطة بابعاده وادراك مخاطره .. ولكي نفهم اهميته فقط ، فاننا بحاجة ماسة الى دراسات وبحوث ومعالجات دقيقة من اجل تكوين رؤية علمية واضحة عنه خصوصا وان تعقيداته تلك لا تقتصر على جانب واحد ، بل انها تتعلق بسياسات دولة وقرارات سلطة وعلاقات مجتمع وانهيار اقتصاد وتاريخ حروب وتنوع واسع من الاسباب والمسببّات التاريخية التي اوصلت العراقيين الى هذا الوضع الصعب . ولابد ان اوّضح بأن مصطلح الـ " دياسبورا " ـ لمن لا يعرفه ـ هو كلمة يونانية قديمة تعني: الشّتات.السّبي.الانتشار في الارض والمنافي .
العراقيون في الشتات .. اكبر من شعب كامل !
     وينبغي ان نعلم أيضا ، بأن العراقيين اليوم يشكلون اكبر الاعداد من المهاجرين عن وطنهم في العالم مقارنة بعدد سكان البلاد الاصليين ، وذلك نتيجة الظروف الصعبة التي الّمت بهم على عهود مختلفة وخصوصا منذ العام 1991 وحتى الان . وليست هناك اية احصائيات ثابتة يمكننا التعويل عليها في معرفة ملايين العراقيين الذين هجروا العراق في ازمان مختلفة نحو ارض الله من دياسبورا الانتشار .. ولكن بالتأكيد ان المهاجرين العراقيين ، او كما يسمونهم ، بعراقيي الخارج هم في وزنهم الديمغرافي اكثر من شعب كامل كشعوب موجودة في بلدان عربية متوسطة العدد وليست قليلة .. وهم لا ينتمون الى مذهب واحد او طائفة معينة او قومية بالذات او حزب باسمه او دين من الاديان .. انهم ينتمون الى وطن واحد اسمه العراق مع انتماءات لا حصر لها يبشر بها البعض في هذا المكان او يدّعي آخرون في ذاك ، وفي المهاجر والمنافي والشتات لا تنفع اية انتماءات ما دام العالم لا يعترف الا بهوية واحدة هي هوية العراق ، وليس هناك اية هوية اخرى من دون العراق ..
العراقيون في كل بقعة من شتات العالم
      وقد علمت من مصادر دولية في الامم المتحدة ان ليس هناك دولة في العالم اليوم ما لم تجد فيها كثرة من العراقيين او قلة منهم ، وثمة دول ينتشر فيها فرادى من العراقيين وكل واحد منهم يحمل اثقالا كبيرة من المشاكل . هذا " الشعب " المتنوع المهاجر لم يزل يحمل هموم العراق ومعاناة الاهل وعظم الكارثة في القلوب .. صحيح ان الزمن قد فرقّهم وان المكان قد بعثرهم وان قرارات الحكومات قد مزقّتهم وان الملاحقات قد سحقتهم وان الحروب قد افجعتهم وان الفقر والمرض وهول المصير قد جعلهم يكفرون بكل ما لهم وما عليهم .. ولكن لم تزل الهوية العراقية تحدد طقوسهم واعرافهم وتقاليدهم واسلوب لقاءاتهم وافراحهم واتراحهم .. بالرغم من كل الانقسامات التي يعيشونها .. ودوما ما الاحظ ان العراقيين كانوا على امتداد القرن العشرين لهم اسلوبهم العراقي المتمرد سياسيا او اجتماعيا او اداريا في الحياة العراقية داخل العراق ، ولكنهم يتقيدون بالقوانين والتعليمات ويكونون من افضل الناس وهم يتعاملون مع شعوب وادارات في دول اخرى !
مواسم الهجرة الى الشتات
     ان الاسباب التي دعتهم يغادرون وطنهم تشكّل عندهم عمق المأساة ، ولكنهم يحملون في الشتات مشكلاتهم الاولى ، وان ما فرقّهم دوما في الداخل جعلهم لا يتآلفون مع بعضهم البعض في الخارج ابدا ، وهذه مأساة اخرى نجدها في كل مكان ينتشرون فيه خصوصا بعد كل الاحداث التاريخية التي مرت بالعراق الام منذ العام 1991 . انني اذ اؤكد على هذا الجانب ، فأنني لا اعني بكلامي من هرب من وطنه ومعه الملايين من الدولارات او هرب من منصبه كي ينتقل الى منتجع او قصر او شقق مفروشة .. فهؤلاء ليسوا ارقاما في الخارج ولم يكونوا الا ارقاما في الداخل .. بل اعني بالعراقيين الحقيقيين في الخارج والشتات كل الملايين من المهاجرين اللائذين الخائفين المرعوبين المسحوقين المناضلين الوطنيين المهجرّين البائسين والمثقفين والفنانين والتشكيليين والادباء الرائعين والاساتذة الجامعيين والاطباء والمهندسين والمعارضين المبدئيين وكل العراقيين الذين لم يحملوا من ارضهم الا عبق ذكرياتهم الخصبة وقد تركوا بيوتهم وموجوداتهم واهلهم وارضهم وكل تاريخهم .. اقصد اولئك الذين اشتروا بدمهم وعرقهم وكل ما حصلوا عليه من شقاء العمر اللجوء او الهجرة او ورقة الاقامة او العبور من مكان الى آخر بكّدهم وعرقهم .. ولا ننسى ذكرى المئات من العراقيين الذين استلبهم الاخرون او عوملوا بازدراء او تاهوا في الصحاري فماتوا عطشا او اكلتهم الذئاب ، او غرقوا في البحار ، او قضوا في السجون ، او اتوا على قارعة الطريق او سحقوا في الاسر  .. لا ننسى ابرز الشعراء وابرع المثقفين والاساتذة العراقيين الذين ماتوا اغترابا ولم يدفنوا في ارضهم ابدا !
شتات في شتات
     منذ نصف قرن واعداد غفيرة من العراقيين تهاجر نحو المجهول وهي لا تعرف اين سيكون مصيرها .. وكلما تقدم الزمن نحو 2003 والالاف المؤلفة تجد طريقها نحو عالم الاغتراب .. كان السوّاح من العراقيين يعودون من اماكن مختلفة .. هاجر الآثوريون منذ الثلاثينيات في القرن السابق ، وكان المسيحيون يهاجرون منذ نصف قرن بعد ان فرض التهجير على اليهود العراقيين اثر الحرب العالمية الثانية وتأسيس دولة اسرائيل ، وكلنا يعلم كيف هاجر اليهود من عموم العراق .. كان السياسيون من المعارضين يهربون ويغادرون الحدود فرارا .. وكانت الحكومات العراقية المتنوعة من البساطة ان تسقط الجنسية العراقية عن مواطنين عراقيين يخالفونها ويعارضونها ، بحيث تغدو " المواطنة" مجرد سلعة سياسية ! كان المثقفون في الخارج اكثر التصاقا بمجتمعات متمدنة بحيث يعودون الى العراق وعيونهم مشدودة نحو العالم الذي تعلموا فيه ، وبعضهم كان يعود الى العراق وبرفقته زوجته الاجنبية فتتأقلم مع عادات العراقيين وتقاليدهم ، ولكن مع تقادم الزمن لم تعد الاجنبيات تطيق الحياة في العراق في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين ..
سياسات وحروب وكوارث
       ولما هجمت السبعينيات من القرن الماضي تبلورت عوامل اخرى هي سياسية بالذات وبلغت اوج قوتها في العام 1979 عندما غادر معظم الشيوعيين العراقيين العراق هربا وتوزعوا في مختلف شتات اوروبا .. ثم جاء التهجير القسري لالاف من العراقيين الى ايران كونهم من غير اصول عراقية ، فتبلورت مأساة اخرى لعراقيين لم تكن لديهم جنسية عثمانية قديمة ومن ايران تشتت هؤلاء الى اماكن عدة بفعل قساوة ايران معهم .. وفي ايام الحرب العراقية الايرانية آثر الالاف من الطلبة العراقيين البقاء في الخارج دون الرجوع الى الوطن كيلا يكونوا وقودا في الحرب المأساوية التي اكلت زهرة شباب العراق .. وجاءت حرب 1991 ، فهربت الالاف المؤلفة من العراقيين من نار الحرب ونتائجها التعيسة نحو شتات آخر وكان من نتائج فرض الحصار الاقتصادي وانهيار البنية التحتية وانتشار الفقر ان بدأت تهاجر الالاف المؤلفة من العراقيين نحو الخارج وتتحمل عمق المأساة في كل مكان تذهب اليه .. وغدا السفر الى الخارج عملية ملتوية وغير قانونية وبمثابة هروب جماعي بري عبر معبر طريبيل سيئ الصيت ، وبأي وسيلة كانت وصولا الى العام 2003 التي بدل ان تكون سببا في ارجاع الملايين من العراقيين ، لكنها كانت سببا في نزوح الملايين .. ولم ينفع رجوع وعودة بعض العراقيين الى ارض الوطن ، اذ سرعان ما عاد هؤلاء الى شتاتهم من جديد ليبكوا وطنهم الجريح وقد انتقل من حالة سيئة الى اسوأ الحالات  .. ومنذ العام 2003 وحتى اليوم هناك من يهرب وهناك من يغادر وهناك من يهاجر وهناك من يسافر .. ولكنهم جميعا يبكون انفسهم ويبكون ما حل بالعراق من اوصاب وكوارث !
أي شتات حريري ؟؟
    انني مقتنع تمام القناعة ان بعض العراقيين مهما بلغت بهم درجة الراحة في الشتات الذي دعاه احد الاصدقاء بـ " الشتات الحريري " من دون ان يدرك عمق المأساة ، فان لهم معاناتهم التي قد لا يدركها غيرهم .. وان نسبة من العراقيين في الخارج ان كانت قد استقرت منذ عقود طوال من السنين ، فهؤلاء لا يمكن ان يقارنوا بالملايين من المهاجرين العراقيين الذين يعانون من شظف العيش واهانات تلحق بهم من سلطات دول ومخافر حدود وشرطة مطارات وبوليس موانئ وحرس بحر.. ويعانون من جملة ازمات اغتراب حقيقي ويعانون من ازمة مجتمع ومن ازمة عمل ومن ازمة قيم ومن ازمة تجانس ومن ازمة تربية .. لا تتوقعوا ان العراقيين في الشتات هم في رغد من العيش او في توازن مع الذات .. او في سعادة بيتية او في تربية جيل جديد .. فالانقسامات لحقت بهم ايضا ، وخصوصا في السنوات الاربع الاخيرة ، بحيث وصلت الى بيوت العراقيين انفسهم .
القلة والرغبة والمأساة
     واذا كان هناك بعض العراقيين الذين اطلق عليهم بـ " الحواسم " فهم قلة نفعية بنتهامية تافهة لا تتناسب والملايين من العراقيين المناضلين حقا الذين عانوا وما زالوا يعانون الامرين ويعيشون على امل العودة او منهم على حلم الرجوع .. وهم لا يطلبون الا حياة عراقية من اجل الكرامة والستر ولقمة العيش ! واذا ما انتقدهم الناقدون كونهم قد هجروا وطنهم ولم تعد ذاكرتهم تستوعب العراق ، وتصل التهمة الى حد التشكيك بالوطنية ، وهذا اقسى ما يمكن ان يعاني منه اي عراقي شريف ، فلابد من معرفة الاسباب التي دعتهم ان يغادروا او يهربوا او يفروا بجلدهم من اي كابوس كانوا يعانون منه .. كما ينبغي ان نعلم ان هناك من كان ولم يزل يقتطع من لقمة عيشه في الشتات حتى يرسل بما يتوفر له الى اهله وذويه واصدقائه في الدواخل العراقية وكانت تسحقهم ولم تزل مرارات الفقر وهول الغلاء واستشراء المجاعات والامراض واخيرا التفخيخات والتفجيرات والقتل العشوائي .. ان مأساة العراقيين واحدة لا يمكن تجزئتها سواء في الداخل كانت ام في الخارج . فهل يمكننا ان نعيد للعراق مكانته ومشروعه الوطني ليرجع فيحتضن الجميع من جديد ؟ هل من شرفاء عراقيين يعملون على ان يكون العراق حاضنة حقيقية لكل العراقيين ؟ لا يظلمهم أحد ولا يسحقهم أحد ولا يهمشهم أحد ولا يفخخهم او يفجرهم او يقتلهم احد  وينأى بهم عن كل المكاره ؟
واخيرا : من الشتات الى الحلم المنشود
      نعم ، اذا كان بمقدور العراقيين انفسهم ان يراجعوا انفسهم كلهم ولا استثني منهم احدا ، فعليه القول انه يتحمل نصيبه من الثمن المدفوع .. واذا كان كل عراقي مستعد ان يعترف لنفسه كم اساء الى غيره حتى وان كان ملاكا ، فسوف يقّدم خدمة للعراقيين .. وكم مطلوب من كل عراقي ان يعتذر لآخيه العراقي بدل المواجهة وآلية الصراع والقتل والنفي .. وكم مطلوب من العراقيين ان يرى احدهم افضل من الاخر الا بما يقدمه من الاحسان والمعروف ! مطلوب من اي عراقي ان يتوقف عن استعراض عضلاته امام العراقيين ويحسن للاخرين بدل تمجيد نفسه وتأليه ذاته وبدل الانتقاص من الاخرين ! وكم مطلوب منه ان يتنازل الى اخيه العراقي الاخر ويقبله مهما كان نوعه ومهما كان انتماؤه ومهما كانت اصوله ومهما كانت افكاره .. وكم مطلوب من العراقيين ان يقدّموا ابناء وطنهم مهما بلغت درجة الخلاف معهم على غيرهم من غير العراقيين ! وكم هو مطلوب مشروع محبة وتسامح بدل كل هذا الحقد والكراهية المقيتة ! ومن المصيبة ـ كما قال لي احد الاصدقاء العراقيين ـ اننا لم نكن سابقا الا ممثلين منافقين بحيث مثّلنا دور العاشق والمحب والولهان بعضنا ازاء بعض وقد تعرفّنا على حقيقتنا اليوم بحيث كل واحد منّا يختزن حقدا كالجبال ازاء اخيه العراقي ، فأجبته لم نكن في السابق نحس بأي احقاد ابدا الا ان كان من يضمر في الخفاء مشروعا للكراهية والموت وهذا قليل ، فان العراقيين تحّركهم عواطفهم ، ومتى ما وجدوا أمنا ورخاء وتمدنا وسماحة وقانونا ومساعدة واعلاما نزيها ووطنيا بعيدا عن اي محاصصات ومقاسمات وانتماءات تودي بالعراقيين الى اسفل سافلين !
    وكم مطلوب من العراقيين ان يؤدوا الامانات الى اهلها ويعشقوا وطنهم دون ان يرسموا خططا لتقسيمه ودون ان يستعرضوا عضلاتهم باسم هذا الطرف على حساب الاخر ومن دون ان تكره هذه المدينة تلك .. وعندما يشعرون انهم اهل لصنع ارادة عراقية قوية وواحدة باستطاعتها ان تملأ كل فراغ وان تقول لأي محتل ولأي غاصب .. نحن اولى بادارة شؤوننا ولا يحق لك ان تقسمنا على اساس عرقي او طائفي او ديني او جهوي .. وعندما تعتمد الكفاءة والنزاهة اسلوبا اساسيا في العمل والتقييم من دون اي انتماءات حزبية او محاصصات طائفية او مجتزءات عرقية .. واخيرا ، عندما ينفتح ابناء الداخل على ابناء الخارج وبالعكس ليؤسسوا توازنا عراقيا متلاقحا من اجل مصير واحد . فهل ستتحقق احلامي في يوم من الايام ؟ وترجع الملايين الى اعشاشها .. وتعود الملايين من العراقيين الى وطنها .. الى بيوتها .. أتمنى ذلك من صميم القلب .
www.sayyaraljamil.com
ايلاف 11 مايس / آيار 2007

180
مكاشفة مؤتمر خطير يصارع الاضداد !!

د. سّيار الجميل

مدخل : بين المعرفي والسياسي
     احكي لكم اليوم قرائي الاعزاء بعض انطباعاتي عن مؤتمر شاركت فيه مؤخرا ، ولا اريد ان اذكر عن اسمه وعنوانه ، اذ كتب عنه الكثير ، وبرغم كل ما كتب من مقالات وتعليقات لا يخرج بعضها عن اضفاء المديح والتهليل له ، في حين لم يخرج بعضها الاخر عن تعليقات خطيرة وشتائم مقذعة واتهامات لا اساس لها من الصحة .. اعذروني ان اتكلم  بروح نقدية صادقة في " ملاحظات " أزعم انني سجلتها بضمير حي وبروح  اكاديمية حيادية .. وهدفي منها خدمة اي مؤتمر قادم والاستفادة من التجربة ، فضلا عن توضيح ما اراه امام كل المؤتمرين المشاركين وليس تقليلا من شأنهم  او التقليل من شأن المؤتمر ..  واقولها صراحة انني قد تعلمت من تلك المناسبة الكثير سلبا وايجابا ، ففي كل يوم يتعّلم الانسان الكثير من طبائع الاشياء ، ويعاين كيف يفكر الناس وكيف يتصرّف المجتمعون ..
      وبرغم كل الذي جرى في ايام المؤتمر يدخل باب السياسة ، وهو لا يمس المعرفة بأي شيئ من الاشياء .. والفرق كما يعلم الاكاديميون الحقيقيون كبير بين مؤتمر علمي صرف يشارك فيه اساتذة وعلماء وخبراء ومختصون وبين مؤتمر سياسي او اعلامي يشارك فيه اعلاميون وسياسيون ومثقفون .. ولما كنت قد شاركت على امتداد حياتي العلمية في عشرات المؤتمرات وبدول مختلفة ، فانني اقول بأن الروح العلمية والاصول الادبية والمعلومات المؤكدة تفتقد دوما في المؤتمرات السياسية  التي كثيرا ما تنقلب الى ميدان استعراضات او الى سوق هرج ومرج .. بل وتزداد في المؤتمرات السياسية والدعائية الشتائم والسباب والجدالات الرادحة ! في حين تسود المؤتمرات العلمية النقاشات النقدية والحوارات الجادة والمعلومات الموسوعية الدقيقة.. ناهيكم عن كون اي مؤتمر اذا افتقد التنظيم ووقع تحت سطوة قوى معينة او ارتهن ضمن سلطة معينة سيكون مصيره الفشل لا محالة ، لأن المشاركين سيتحركون ضمن اجندة معينة ولا يمارسون حريتهم ابدا .. خصوصا  اذا افتقد  المؤتمر " ورقة عمل " تتضمن جدول اعماله في اطار القضية التي سيعالجها المؤتمرون بشكل جدي ومستفيض ، اما ان دخل المؤتمرون مؤتمرهم وخرجوا من جلساتهم من دون اي جدول للاعمال .. ولا اي ورقة حقيقية متكاملة ، فان كل مشارك سيخرج علينا بمقالة يقرأها على هواه من دون اي فحص وتدقيق او تقويم لمعلوماته ومداخلاته .. وعليه ، فان المؤتمر سيغدو طبخة تجمع كل الالوان الرخوة من دون اي طعم ولا اي ذوق .. وسوف لن يستطيع المؤتمر الخروج ببيان ختامي رصين متفق عليه من قبل الجميع .

التشنجات تأكل كل الاهداف
ان من يسعى لمعالجة ظاهرة خطيرة في واقعه او تاريخه .. عليه ان يلتزم بها ويعالجها معالجات ذكية وغاية في الامانة والانفتاح بعيدا عن التشنج وبعيدا عن القدح والذم وممارسة تدفق سيل من الشتائم والسباب التي سوف لا تخدم القضية التي من اجلها اجتمع الناس من اصقاع الدنيا .. ومن اجلها انفقت اموالا طائلة .. ان " الكلمة الطيبة صدقة " وان السماحة اعلى درجات الاخلاق عند الانسان .. بل وان طريقة التعامل بين المشاركين لابد ان تنم عن اعلى درجات الحلم واحترام حق الانسان في الرأي ووجهة النظر .. ان الالتزام باصول المعاملة يمنحنا الفرصة لأن نتقدم بقضايانا الى كل العالم .. وبعكس ذلك فاننا نفتقد ليس اوراقنا ، بل نخسر كل الذين يؤمنون بقضيتنا او مجموعة قضايانا  الانسانية .
    لا يمكن ان يفاجئ المؤتمرون باناس لا يعرفون غير السب والشتم والصياح والانفعال وممارسة الاهانات بحق دين او شعب او مجتمع او اقلية او اكثرية او حكومة او زعيم دولة .. ربما كنت اختلف اختلافا جذريا مع سياسة هذا او فلسفة ذاك او ايديولوجية قوى معينة او سياسات  سلطة ما .. ولكن البحث عن حلول لمشكلات معقدة وتقاليد متوارثة لا يمكن ان تنفعها ابدا الخطابات الساخنة وسيضرها حتما توزيع الاتهامات  واطلاق الاهانات .. وربما اقبلها من اي انسان مضطهد يشعر بالغبن والظلم طوال حياته او من سيدة متمردة على كل التاريخ وخارجة عن كل الاطواق ، ولكنني لن اقبلها ابدا من رجل مجّرب او من قبل استاذ اكاديمي او من صاحب قضية يحملها على الملأ كله !
    اذا كان موضوع المؤتمر او شعاره قد اعلن عن موضوع معين او ظاهرة لها خصوصيتها .. وان اغلب الاوراق والمداخلات قد صبّت اهتمامها في هذا السبيل ، فكيف يمكن ان تضاف في ساعة الختام قضية اخرى لا علاقة لها بالاولى ابدا ، بل انها قضية عامة تخص نصف المجتمع ؟؟ وهل من الاصول ان تغدو القضية مزاجية ، ليضيع الهدف الاسمى والقضية الحقيقية ، فلم يفلح المؤتمر لا بما هو معلن عنه ولا بما اضيف اليه ! واذا كانت هناك وجهة نظر مخالفة ، فان ذلك ظاهرة صحية .. اذ لا يمكن ابدا ان نتشدق بالديمقراطية ، ولكننا نصادر الرأي ونستبد برأينا ، بل ونفرضه على الاخرين رغما عن انوفهم ! لا يمكننا ان نفتح صفحات جديدة ازاء المستقبل ان كان هناك تأجيج للكراهية والاحقاد بين الناس . ومن جانب آخر ، لا يمكن السكوت ابدا عن ممارسات خاطئة ترتكب بحق المجتمعات من قبل السلطات في كل من الدولة والمجتمع . لقد كان المؤتمر برغم كل مشكلاته ظاهرة حيوية لابد ان يتطور نحو الافضل .. وكم تمنيت وانا اشارك كل جلساته وما وراء الجلسات ان تنتفي من صدور البعض كل الاحقاد وكل الكراهية التي لا تضفي معالجة ولا تفسح الطريق للتعايش السلمي في المستقبل .. كما اتمنى مخلصا من البعض ان يصحح معلوماته ويعيد النظر في الارقام التي ذكرها والاحصائيات التي لا اساس لها من الصحة !

الخطة وجدول الاعمال
    ان تنفيذ اي خطة لانجاح مؤتمر معين يمُثل درجة من الخطورة والحساسية ينبغي ان يكون مسؤولا عنها شخص واحد فالسفينة لا تبحر ابدا ان كثر الربابنة فيها ، وان اي مؤتمر لا يمكن ان يتداخل عمل راعيه ومنظّمه مع واجب رئيسه مع اجندة المشرف عليه مع مهمة المقرر له .. ان المؤتمرات كثيرا ما تفشل في حياتنا بسبب وصاية من هنا او اجندة معينة من هناك .. واتمنى على اي مؤتمر من مؤتمراتنا النجاح في تحقيق الاهداف التي تسعى من اجلها .. اذ انني وجدت كم من المخلصين الذين يطمحون لابداء ارائهم وعرض افكارهم والكشف عن الامهم ومعاناتهم .. وكلها بحاجة الى ان يترجمها المؤتمر الى العالم .
    ان من ابسط ما يعرف عن المؤتمرات السياسية التي لا علاقة لها بالمعرفة والعلم ، بل تلك التي تقع في حزام السياسة والدعاية وحقوق الانسان انها تمارس دورها بما له علاقة بالسياسة والدين والمجتمع .. اذ لا يمكن تجريد اي مشارك من هذه الميادين . اما ان يعلن " المؤتمر " عن عدم مزاولة السياسة والدين ، فاننا بذلك انما نضحك على انفسنا .. فكل ما عرض في المؤتمر كان سياسيا يتضمن هجوما او يحتوي سبابا او يطلق تهما على قوى وتواريخ وجاليات واكثريات ودول وحكومات وزعماء .. ان مؤتمرات كهذه التي تنعقد في ارجاء متعددة من العالم لا ضير ان عالجت سياسات وافكار ومؤدلجات .. ولكن ضمن حدود معينة .. اذ ليس من المعقول ان نسخر احدى الجلسات لشتم دين معين واتهامه باشنع الصفات وقد استأنس الجميع منصتين ومستهزئين.. ولكن يحرم التكلم عن دين آخر كون ذلك يلهب المشاعر ويسيئ لآصحابه  !!
    ان مجتمعاتنا في الشرق الاوسط قد بلغت درجة كبيرة من التردّي بفعل عدم تقديرنا للمواقف ، بحيث ازدحمت فيها التناقضات الى درجة لا يمكن تخيلها ابدا .. ربما كنت انت ملحدا ولا تهتم بالاديان ، ولكن ليس من حقك ابدا ان تعلن بكل فجاجة طعنك وشتمك لأي دين امام الاخرين !! ان الاخرين مهما كان جنسهم او لونهم او فكرهم .. لا يقبلون ان يشتم دينهم لا امامهم ولا من ورائهم .. وسواء كان دينك ضالا او دينهم هاديا فليس من الذوق ابدا ان نتقدم لنقرأ جملة من الشتائم والسباب !! احكي لاصدقائي دوما حكايتي مع احدهم ، اذ كنت اعرف زميلا بريطانيا لي قبل ثلاثين سنة على مقاعد الدراسة ببريطانيا وشاركني العيش في نفس القسم الداخلي .. كان ملحدا صرفا ، ولكنه كان يلبس افضل ما عنده ايام الآحاد ليذهب الى الكنيسة . سألته يوما : اذا كنت يا صديقي ملحدا ، فلماذا تذهب للصلاة في الكنيسة كل اسبوع ؟ أجابني بسرعة ومن دون تفكير : لأنني احترم ديني حتى وان لم اقدّسه !! واستطرد قائلا : انها رغبة شخصية في احترام الرمز حتى وان خالفته واعتز بالتاريخ برغم كل شناعاته !!
     ان اي دين بكل تجلياته وهيبته ووقاره ورموزه .. يدخلونه باب السياسة وقذاراتها ، فسوف يتأثر ويفتقد يوما بعد آخر مكانته السامية .. وربما لا اعتب ابدا على قوى دينية تعمل جاهدة من اجل بلوغ اهدافها سياسيا فالمجتمع قد يبارك خطواتها او يسحب ثقته منها ، وانها ستحاسب سياسيا على ما تقترفه من اخطاء .. ولكن نعتب على استاذ اكاديمي يحتل اسمه مكانة كبيرة نظير مواقفه السياسية ونظير ثلاث سنوات قضاها في السجن واطلق سراحه بارادة امريكية وهو يغازل اليوم قوى دينية علنا ، ويريد مشاركتها ديمقراطيا !! ان الرجل يعرف من مواقفه القوية وثوابته الاخلاقية فلا يمكن للرجل ان يلعب على الحبال ، بل باستطاعته ان يعلن تخليه عن تاريخه السابق واعتناقه الفكر السياسي الديني الذي يغازله ! كنت اعرفه في السابق صاحب قضية يدافع عنها ، وبقيت احترم ارادته حتى بعد سجنه ، ولكنني اليوم اسجل عليه اخطاء ما كان عليه ان يفعلها ، بل ويريد تسويقها في " مؤتمر"  كالذي تحدثت عنه ! وكم كنت احترم ثقافته العلمية ، اذ يبدو ان سنوات السجن ومشكلات الرجل الصحية قد جعلته يبتعد عن القراءة والمتابعة وفهم المتغيرات الجديدة .. فبدا لي انسان من نوع آخر ، وقد ضعفت ثقافته مع الاسف !

وأخيرا أقول :
    انني برغم كل هذه " الملاحظات " التي يبدو بعضها قاسيا ، فأنني لابد ان اسجّل اعتزازي بجميع المشاركين وبكل ما قدموه في اوراقهم الى رواق المؤتمر .. متمنيا ان تدرك مجتمعاتنا في المنطقة كلها كم من المشكلات والمعضلات التي تجتاحها .. وكم نحن ابناء كل تلك المجتمعات بحاجة ماسة الى التحديث والتغيير في الدساتير والقوانين والتربية والتعليم والتعامل على اساس مدني مع الجميع .. كما اننا بحاجة الى اساليب التنظيم واساليب اللياقة واساليب الخطاب واساليب التعامل من اجل ايصال قضايانا الى كل العالم . واعيد واقول بأن على المؤتمر ان يحاول اعادة اللحمة والصلة القوية بين ابناء مجتمعاتنا .. ان مجتمعاتنا ستبقى مشاركة بعضها البعض نفس المصير ، فلا يمكن لأي طرف الغاء الطرف الاخر مهما كلف ذلك من امر .. اتمنى ان تغدو منطقتنا بكل مجتمعاتها منسجمة ومتواصلة ومتفاهمة على اسس مشتركة وان تحميها دساتير دولها بحيث تغدو تلك الدول في خدمة المجتمعات .. الشكر كل الشكر لمن يقّدم رعايته وماله ووقته لعقد مؤتمر او ندوة او مائدة مستديرة تخدم مجتمعاتنا .. اتمنى ان تفّعل نتائج المؤتمر في الاعلان الذي صدر عنه وتفعيل بنوده .. وصولا الى ان لا يشعر احد في تلك المجتمعات بأي ضيم او ظلم . فهل ستتحقق اهدافنا بمثل هكذا طرائق وبمثل هكذا اساليب ؟ انني اشك في ذلك .

www.sayyaraljamil.com

ايلاف 16 ابريل 2007

181
إيران دخلت المصيدة
التي سحقت العراق
 سيار الجميل
[/color]
إن الكثير من المحللين والكتاب العرب والإيرانيين يجدون في خطوات إيران واستعراض عضلاتها كل نجاح وانتصار، وأنها قادرة على أن تلعب لعبتها بمهارة سواء في سياستها الداخلية أو في اختراقاتها الإقليمية أو في مناوراتها الدولية، وخصوصا في مشروعها النووي الذي أدخلت نفسها من خلاله في تدويل مشكلة برنامجها وتحديداً بعد أن قابلها المجتمع الدولي بالعقوبات!
صحيح أن إيران قوة لا يستهان بها في المنطقة، وان العديد من الكتاب والمحللين يتكهربون عند ذكر إيران إعجابا بها أو خوفا منها ولكن ثمة من يرى أن إيران تندفع في طريق وعر بكل رعونة واستهتار وهي لم تدرك بعد حجم ما ستؤول اليه نتائج سياساتها الداخلية والإقليمية والدولية.
لقد دعاها وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي الى "اختيار الحوار" بهدف تفادي "عزلة متنامية". وقال إن: "مجلس الأمن يضع إيران بهذا القرار أمام خيار واضح: التعاون مع المجتمع الدولي أو مواصلة أنشطة تخصيب الأورانيوم والمعالجة تحت طائلة عزلة متنامية". ولكن قابله تصريح مسؤول إيراني على مستوى عالٍ: "إن طهران ستواصل، رغم العقوبات التي صوت عليها مجلس الأمن الدولي بالإجماع، برنامجها النووي ومشروع تركيب ثلاثة آلاف محرك طرد مركزي في مصنع لتخصيب الأورانيوم، وان هذا القرار الجديد لن يشكل عقبة أمام تطور إيران في المجال النووي".
ويذكرني رد الفعل هذا بما حصل للعراق بداية التسعينات عندما دخل المصيدة وما عانى منه على امتداد سنوات طوال والى أين انتهى مصيره! علما بأن العالم كله كان يشهد قبل مصيدة العراق فصول الحرب العراقية الإيرانية المأسوية من دون إيقافها.
ربما تتمسك إيران بذرائعها حول أنشطة تخصيب الأورانيوم للأغراض السلمية، ولكن هذا كله لن يقنع العالم في المدى القريب خصوصا أنها تتبع التقاليد نفسها التي اتبعها العراق الذي سبقها في هذا السيناريو عندما كان يستعرض قوته التصنيعية العسكرية والباليستية على العالم. إن إيران لن تشعر مع من يؤيدها اليوم في برنامجها النووي أنها تلعب بالنار الحارقة في منطقة حساسة جداً يشكل مجالها الحيوي واحدا من أهم استراتيجيات العالم بالنسبة الى احتياطاته النفطية، وهي لم تستفد من تجارب من سبقها في الإقليم، ليس بتهديد المنطقة، بل تهديد إسرائيل التي ارتاحت لقرار مجلس الأمن، بل تطالب بإنزال عقوبات اشد وأقسى على إيران.
إن المشكلة ليست في الرضوخ للإرادة الدولية كي تأخذها العزة بالإثم، بل لأن المنطقة تعيش أزمات سياسية ومشكلات إقليمية واحتلالات "مدولنة". والإقليم نفسه لم يتفق على بناء إستراتيجية كهذه لايران متقدمة وخطيرة مما يشعره بمخاطرها عليه وتداعيات ما ستحدثه أي تجربة أو ضربة على سواحله ومدنه في الخليج خصوصا. إن القرار الرقم 1737 الذي حظي بموافقة الأعضاء في مجلس الأمن الدولي (بمن فيهم دولة قطر) سيكون البادرة الأولى من اجل لي ذراع إيران. وستتلوه مجموعة خطط أخرى حتى إزالة خطورة إيران في المنطقة. واعتقد أن المجتمع الدولي أصبح على اقتناع تام بما لإيران من مخاطر ليس لبرنامجها النووي، بل لتدخلاتها الفاضحة في شؤون الشرق الأوسط بدءا بلبنان ثم العراق وفلسطين وبلدان أخرى من خلال تحالفاتها مع جماعات ومنظمات وقوى سياسية مضادة منتشرة في غالبية دول العالم الإسلامي!
اعتقد انه بالرغم من تلويح روسيا بحق النقض (= الفيتو)، ورغم ما كان لها من تأثير كبير على تغيير نص القرار حيث عملت على عدم تضمينه أي ذكر لمفاعلات المياه الخفيفة التي تبني موسكو منشآتها بكلفة 800 مليون دولار في بوشهر - وبفضل روسيا حالت الفقرة 41 من الفصل السابع دون استخدام القوة لفرض قرارات مجلس الامن - ولكن المجلس فرض تجميد جملة حسابات وقيد سفر 12 عالما في برنامج إيران النووي و11 منظمة إيرانية مرتبطة كذلك. نعم، هذا شيء مقبول من روسيا في هذه الأيام، ولكن توضح التجارب بأنها تتخلى عن غيرها عند انتهاء مصالحها الحيوية!
أتوقع قرارات دولية عدة ضد إيران على امتداد السنتين 2007- 2008 حتى تستكمل برنامجها، ثم يطبق عليها ما يشبه سيناريو العراق، علما بأن العراق كان برنامجه النووي منذ زمن طويل، ومع كل ذلك، واجه حربا ضروسا أطاحت ليس بالنظام السياسي الحاكم، بل أطاحت أيضا النظام الاجتماعي وقلبته رأسا على عقب! السؤال الآن: هل سترضخ إيران لمثل هذه الإرادة الدولية وتتراجع عن قرارها، أم أنها ستواجه التحدي كما واجهه من قبلها العراق ودول أخرى في المنطقة؟
لقد اعتبر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير القرار 1737 "إشارة تصميم قوية من جانب المجتمع الدولي"، ودعا إيران للامتثال لهذا القرار من اجل التمهيد لمعاودة المفاوضات، مؤكدا أن العرض الذي تقدمت به الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) مع الصين وروسيا والولايات المتحدة "إلى إيران في السادس من حزيران لا يزال صالحا". أما مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية والمكلف بالملف الإيراني بيرنز، فقال: "لا نعتقد أن هذا القرار كاف في ذاته، نريد أن يذهب المجتمع الدولي ابعد من ذلك، لن نضع كل خياراتنا في سلة الأمم المتحدة".
وأخيرا أقول، إن إيران قد دخلت مصيدة العراق نفسها، وعليها أن تفكر طويلا بما ستؤول إليه أوضاعها والمنطقة في ظل إصرارها على سياساتها المتصادمة وبرامجها الخطيرة!
مؤرخ عراقي[/b][/font][/size]

182
حوار مع المفكّر العراقي سّيار الجميل

سؤال الجسد العراقي

الفلسفة المغّيبة بين البشاعة والجمال
[/color]

أجرى الحوار
الشاعر احمد عبد الحسين
محرّر القسم الثقافي في الصباح البغدادية 
 



حين أقول "أنا" فأنا لا أشير إلى جسدي. في الحقيقة كلّ اشارة إلى الذات تتضمن نحواً من استبعاد الجسد، كأنما "أنا" وجسدي شيئان متناقضان، أو ان هذا الجسد الذي يحملني "ربما أنا من أحمله" فائض عن حاجة الذات لتتكوّن.
قلّما أُخذَ سؤالُ الجسد على محمل الجد في الثقافة العراقية، لم يُتَفكَّر فيه مديداً، لم نرَ ما حدث للجسد في الفن والأدب العراقيين، كيف عُرضَ وكيف عُبِّرَ عنه في منحوتة أو لوحة أو نص شعريّ؟ هل المنع والقسر اللذان مورسا على الجسد المكتوب رجعُ صدى لضروب المنع والإكراه التي تعرض لها الجسد خارجاً في الشارع والبيت والثكنة؟
ماذا عن الإشهار الفضائيّ الذي كرّس تنميطاً للجسد العراقيّ: جسدٌ هو جثة ممددة حولها أجساد منكسرة تنحني عليه، جسد المرأة المغطى بسواد الفجائع، أو في فترة سابقة جسد الطفل المريض مرفوعاً كعلامة إدانةٍ للحصار؟
غياب الجسد بأسئلته عن مسرح الثقافة العراقية .... ألا يترك المشهد الأخير ناقصاً بانتظاره؟ كيف يمكن أن يقال الجسد العراقيّ الآن؟ أين تجده معبراً عنه؟ ألم يحن الوقت لأن يقول أحدنا "أنا" ويقصد بها ذاته التي هي أولاً وقبل كل شيء جسده الذي يطل به ومن خلاله على العالم ، ولا يمكن للآخرين أن يلتقوه إلا متلبساً به؟
ما الذي يثيره فيك قول نيتشه: في كل حديث عن الروح ربما كنا نتحدث عن الجسد ولا ندري؟
هذه حزمة أسئلة توجهنا بها إلى المفكّر العراقي  الاستاذ الدكتور سيار الجميل :
 
* قلّما أُخذَ سؤالُ الجسد على محمل الجد في الثقافة العراقية، لم يُتَفكَّر فيه مديداً، لم نرَ ما حدث للجسد في الفن والأدب العراقيين، كيف عُرضَ وكيف عُبِّرَ عنه في منحوتة أو لوحة أو نص شعريّ؟ هل المنع والقسر اللذان مورسا على الجسد المكتوب رجعُ صدى لضروب المنع والإكراه التي تعرض لها الجسد خارجاً في الشارع والبيت والثكنة؟
ـ يبدو لي ان ليس هناك أي معنى محدد لمفهوم الجسد في الثقافة العراقية بالرغم من ان قدماء العراقيين كانت لهم طقوسهم ومنحوتاتهم وافكارهم وفلسفاتهم المتنوعة عن الجسد .. فالجسد في العراق القديم كما افهمه كواحد من رعيل المؤرخين العراقيين المعاصرين ، انما يمّثل قمة التناقض الصارخ بين الاهتمام به بل وذروة الحياة ليس عند الانسان حسب ، بل حتى عند الحيوانات التي صرف الانسان دهورا طويلة بالاهتمام بها وبرسوماتها ومنحوتات اجسادها .. رؤوسها وجذوعها واجنحتها وقوائمها .. وبين بشاعات تاريخ الدول الامبراطورية العراقية القديمة وما فعلت بالاجساد وخصوصا في الامبراطوريتين البابلية والاشورية .. بل ووصل الامر الى ان يكون الجسد موضوعا حيويا في تناقضات الحياة لا بعد الموت ، وهنا نقطة الخلاف التي يبتعد فيها العراقيون القدماء عن قدماء المصريين الذين آمنوا بالجسد وخلوده بعد الموت فحنطوه ونصبوا فوقه الاهرامات .. ومن هنا نستجلي الفرق الشاسع بين العقليتين العراقية والمصرية منذ العصور الغابرة في تاريخ الشرق الاوسط . نعم ، الفرق كبير بين عقليتين عقلية تؤمن بالجسد والمادة وعقلية تؤمن بالروح والمعنى ! ولكن الاولى ان جعلت الجسد الميت انموذجا لها في الحياة ، فان الثانية جعلت الجسد الحي انموذجا لها في الحياة !
تسألني : كيف ؟ دعني أوضّح لك وأجيب :
     تبدو الصورة التاريخية واضحة تمام الوضوح بالرغم من كل التناقضات العراقية بين الحياة والموت وبين الابداع والتوحش .. ان اجساد العراقيين القدماء لها قوتها وحيويتها في الحياة ، بل ان الانسان في العراق عاش لاحقاب طوال وهو يبحث عن سر للخلود في الحياة ( = كلكامش في الاصل مثالا خلاّقا ) وخلق التحديات العظمى حتى في اساطيره الخالدة ( = الطوفان في الاصل مثالا خلاقا )  .. بمعنى انه أحب الحياة وعشق رموزها ولعل الجسد يعد اهم رموزها ، وهنا يفترق العراق الحضاري عن العراق السياسي منذ القدم افتراقا حقيقيا.. ان الجسد العراقي هو موضوع غاية في الاهمية لدى العراقيين المتحضّرين ، بل والجسد في اقصى غايات طهره من خلال تعميده بمياه دجلة وغسله ليبدو في اقصى حالة من الحيوية والسمو .. ولكن ثمة تناقض صارخ بين عشق العراقيين للاجساد والاعتناء بها والترميز بها وتطهيرها وهم في اقصى درجات التحّضر الانساني .. وبين مشروعات قتل الاجساد وتشويهها والتمثيل بها ورخص بضاعتها والمتاجرة بها في اسواق النخاسة على امتداد العصور الوسطى ، بل وسحلها وتقطعيها وهم في اقصى حالات التوحش السياسي في العصر الحديث ..
     بل ان ثقافة مزدوجة مثل هذه تحمل سمات احقاب طوال لا يمكن تخّيل ما الذي نستكشفه من احداث ووقائع غاية في الشراسة والعهر على امتداد تاريخ العراق السياسي المضمخ بالدماء والمتشرّب بالترسبّات .. بل وان سمات تلك الاحداث والوقائع التاريخية تبدو في الذهنية العراقية اليوم ، بل وحتى في اللاوعي الجمعي مجرد حالات طبيعية في حين انها تعني حالات مرضّية لا يمكن البقاء في اطار رضاها المقنّع بالاكاذيب والتفاهات والخرافات والاساطير والفواجع والبكائيات .. فمن اجل تطهير الروح تعّذب الاجساد طويلا .. ومن اجل تطهير النفس من الاثام ومن الشعور بالذنب تضرب الاجساد بالحديد حتى تنّز دما ، بل ويستخدم اللطم على الجسد رمزا لتطهير الذات .. وحتى يصل الى اقصى مدياته بالبكاء الذي لا سبيل لايقافه عندما تتفجر العاطفة العراقية لاعلى مدياتها .. ولعل الجسد هو الوحيد الذي تعّرض في الثقافة السياسية العراقية الى التعذيب بشتى صنوف الوسائل المؤلمة سواء لانتزاع اعترافات او لأخذ ثارات او لتصفية علاقات او للتلذذ بالمشاهد والالام المبرحة .. ان ثقافة الجسد عند العراقيين ثقافة متنوعة بين المستويات الاجتماعية ، ولكن بقي هذا " الموضوع " من القضايا المسكوت عنها دهرا طويلا .. خوف تجريح النفس العراقية من دون ان يفّكر العراقيون تفكيرا سويا عما يفعلونه في كل بيئة من بيئاتهم ، وعمّا يجعلهم اصحاب عاطفة سوية ..

* ماذا عن الإشهار الفضائيّ الذي كرّس تنميطاً للجسد العراقيّ: جسدٌ هو جثة ممددة حولها أجساد منكسرة تنحني عليه، جسد المرأة المغطى بسواد الفجائع، أو في فترة سابقة جسد الطفل المريض مرفوعاً كعلامة إدانةٍ للحصار؟
  ـ لم نتوقف ابدا سواء في مرحلة الاعلام المرئي والفضائي او ما قبلها من مراحل على دعوات صريحة وقوية تطالب بتطهير ثقافتنا العراقية الاثمة من ذلك العهر التاريخي الذي تعّرضت له اجساد مثقفين كبار او سياسيين مناضلين لهم ادوارهم .. او صغار الاطفال  بل وغدا مصطلح " التصفية الجسدية " مشاعا في ثقافة الاحزاب الثورية العراقية صاحبة مبادئ العنف الثوري وهي تعلن بكل وقاحة بأنها تقدمية وطليعية وحضارية .. ومن دون أي احساس بالخيبة او بالذنب او الجرم .. ومن دون أي وازع اخلاقي يوقف مهزلة التاريخ العفنة .. لقد عاش عقلاء واحرار في العراق لا يرضون تلك الممارسات الدموية ضد اجساد البشر وقد امتلكوا الوعي بما كانت عليه الاحوال ، ولكن الخوف كان يرافق الصوت ليبقيه كتوما حتى الموت .. وبموضوع الجسد ، ومن دون طرحه على أصعدة عدة فى الأدبيات المعاصرة وما نشر من شذرات في هذا الباب فهو قليل جدا مقارنة بما حدث في تاريخنا العراقي الطويل .. صحيح ان الجسد لم يكن محورا للتفكير ، ولكنه الوسيلة الاسهل لتبرير كل المصالح الشخصية والفئوية والثأرية والسلطوية والسياسية .. وكيف يتّم التشفّي عند العراقيين بنهايات الخصوم والتلذّذ بمشاهد الاجساد وهي ميتة بالقتل او التعذيب او الاغتيال او السحل .. الخ من البشاعات ! ولا اعتقد ابدا ان كل ابناء المجتمع العراقي هم من هذا الصنف ، اذ نجد بيئات اجتماعية ربما عربية وربما غير عربية لا تمتلك مثل هذه الثقافة المخزية التي ينبغي ان يتخّلص منها المجتمع العراقي خلاصا نهائيا باعادة بناء مناهج تربوية ومدرسية وسايكلوجية وسوسيولوجية في تكوين المجتمع .
     ربما يخرج علينا من ساخط او ناقد او متفلسف من اولئك الذين لا يريدون فضح الحقائق اذ لا يرى هؤلاء العميان كل الحقيقة ولا يتأملون في اية تداعيات ولا أية تأثيرات .. ربما كان ذلك في مجتمعات اخرى ولكن ليس بالحجم الذي عرفه العراق ! وهنا ينبغي القول بأن ما يتوفر من مراجع لا تعتني بالجسد ابدا في فلسفاتها جعلت الانسان في العراق بعيدا عن التسامي ، انه بدل ان يجعل الجسد اداة حيوية للحياة والابداع والطهر والجمال .. جعله اداة للعهر والقتل والتقطيع والسحل .. انني اسأل نفسي مرات عدة : لماذا قطعوا رأس الامام الحسين (ع)  بعد حّزه وقتله امام اهله وعياله وطافوا بالرأس من مكان الى مكان ؟ اهذه مكافأة لمصداقيته والاعتزاز بأرومته ؟ لماذا خنق بعض الخلفاء العباسيين خنقا او سملت عيونهم سملا ؟ لماذا كان يتم قطع الرؤوس بسهولة وتعليقها ؟ لماذا كان تشويه الجسد والنيل منه يشبعان رغبة غير مدركة ؟؟ لماذا قتل ابن المقفع قتلة شنيعة بوضعه جسدا عاريا على مسامير حادة في تنور وبعد ان نزف طويلا اوقدوا التنور ليسجر حيا ! اهذه مكافأة المثقف عالي المستوى في الحياة العراقية ؟؟؟ .. وذاك الملك الصالح الذي اتوا به عاريا ليدهنوا جسده بالسمن والعسل ويتركوه مربوطا على عامود في قلب الصحراء حتى تجتمع عليه الحشرات والذباب لتأكله وهو حي !! وذاك الوالي العثماني علي باشا ابان القرن الثامن عشر الذي سام اهل بغداد بعنجهيته وسطوته ، فثاروا عليه وربطوا رجله بحبال  وجروه حيا في ازقة بغداد حتى تهشّم رأسه وجسده وفارق الحياة .. وهذا الامير عبد الاله الذي حكم العراق وكان وصيا على عرش الملك فيصل الثاني للفترة  1939 – 1952 سحبوا جثته البيضاء ليسحلوه في شوارع بغداد عاريا ، ثم يعلقوه على عامود الكهرباء ويقطعوه اربا اربا ، بل ليقطعوا ذكره ويضعوه بفمه .. ليصبح الجسد شكلا مقززا امام الجماهير العراقية المحتشدة التي تصفق وتزغرد !! وما حدث لصاحبه نوري السعيد رئيس الوزراء العن وأقسى وامر عندما افرغ وصفي طاهر وكان مرافقا له سابقا رشاشته في جسده وهو ميت واخذوا جثّته ليراها الزعيم عبد الكريم قاسم ، وبدل ان يدفنوها سلمّوها للعراقيين ، فسحلوها وعاثوا بها وجعلوا السيارات تمر فوق جسده بعد سحله لتدق عظامه دقا !! وامثلة لا تعد ولا تحصى عما صنعه العراقيون باجساد العراقيين وهم احياء .. وما حدث في حركة عبد الوهاب الشواف بالموصل عام 1959 وما حدث من افعال منكرة والاحكام التي اصدرتها الكوميونات الشيوعية في مديرية الشرطة بالمركز العام وفي ردهات الثانوية الشرقية والعبث بالاجساد احياء واموات من سحل البشر في الشوارع في الدملماجة وتعليق المرأة على عامود الكهرباء بعد سحلها ليبعث على الغثيان ! بل وغدت الحبال رمز ثقافة عراقية عندما تتدّلى في اروقة محكمة !! ومن المؤلم ان لا تجد احدا يستنكر تلك الافعال وينتقدها ويتدارسها حتى يومنا هذا وخصوصا ممّن فعلها ومارسها وصفق لها من العراقيين !
ولقد استمرت تلك الثقافة لدى الجانب الاخر ، ففي العام 1963 ، عندما قتلوا عبد الجبار وهبي وهو المثقف الشيوعي المعروف ( ابو الفنانة المعروفة انوار عبد الوهاب ) يضعه الانقلابيون البعثيون عاريا ويربطوه فوق سرير حديدي ويوقدوا تحته الشموع حتى يموت بالحرق البطيئ وجسده ينز نزّا .. بل ويفتخر صالح مهدي عمّاش احد زعماء 8 شباط 1963 وهو يحّدث الرئيس جمال عبد الناصر من ان الانقلابيين قتلوا الاف مؤلفة من  الشيوعيين !  واستمرت هذه الثقافة لتعّبر عن نفسها باخزى الافعال ، اذ نقف على قصة الفريق الركن عبد العزيز العقيلي احد اعضاء هيئة الضباط الاحرار ووزير الدفاع الشهير في عهد عارف .. القي القبض عليه بعد العام 1968 ، فكانوا يضعونه عاريا فوق مدفئة " علاء الدين" وهي تعمل حتى شل نصفه من العذاب ومات ميتة مخيفة ! وشامل السامرائي وزير الوحدة الذي كان في زنزانته عاريا مات بعد ان سلخوا جلده عن لحمه ، وكأنهم يسترجعون سلخ العراقيين القدماء لاجساد العبيد !! وقصة عذاب رشيد مصلح .. وقصة مصرع محمد عايش وكان وزيرا بعثيا واصله من الطبقة العاملة .. قطعوا لسانه بطريقة لا يمكن تخيلها .. وطاهر يحي رئيس الوزراء المعروف جعلوه يرقص امام السجناء والدكتورعبد الرحمن البزاز رجل القانون الشهير ورئيس الوزراء .. بقي ينظف السجن من كل اوساخ السجناء حتى غدت هيئته على غير البشر ! والسيد محمد باقر الصدر اشعلوا لحيته ومثّلوا به .. والدكتور راجي التكريتي الذي ادخل على حلبة مسيجة ومحكمة لتأكله الكلاب الجائعة بوحشية متناهية !
    ازاء كل هذا وذاك لا يمكن ابدا ان يقبل تبرير أي عراقي مؤدلج لتلك الاعمال المخزية التي يستلزم الاعتراف بها والتنكر لها من قبل كل من صفق لها ..  اما الجسد العراقي اليوم فلقد تلاشت قيمته وانسحقت كرامته بشكل عام ومخيف .. وما نجده من قطع الرؤوس علنا امام العالم كله نساء ورجالا .. او تفجير السيارات المفخخة  وحتى صور اليوم البشعة في فقأ عيون شباب سنة او شيعة لأسباب طائفية في مناطق من بغداد وغير بغداد تسيطر عليها مليشيات وعصابات جاهزة للقتل انما هي تعبير عن مخزون هائل من الرغبة بقتل الاجساد وشهوة التمثيل بها !
    هل يمكننا ان نكتفي بسرد الامثلة والنماذج من دون التعمق طويلا في فلسفة هذا التوحّش الاجتماعي ، وهذه العدمية لكل مقاييس الحياة وانعدام الاخلاق ؟؟ .. بل وان السكوت سيجعل من هذه الامراض الاجتماعية اوبئة تاريخية ليس لحاضرنا ، بل لكل مستقبل البلاد التي طالما تشدقنا بحضاراتها وثقافاتها .. فلا يمكن ان نشهد التضادات بمثل هكذا تنافر ! بل ليبدو الامر كما لو اننا نعيش ـ حقا ـ حياة الغاب .. وحتى حياة الغاب ، بل أي جنس لا يمكن ان يكون ضد بني جنسه .. ان الجسد ليبدو بلا ثقافة عند العراقيين ، وان العراقيين لا يمكن اعتبارهم كلهم يحملون هذا الوباء ، بل ان هناك من الاطياف الجميلة المسالمة التي تتطهر باكرام ليس روحها حسب ، بل حتى جسدها .. ولكن يذهب كل الجمال العراقي بسعر اشنع صور البشاعة العراقية ! ان هناك من العراقيين من لم يقو على قتل طير وديع .. ولا يمكنه ان يتخّيل ما حدث في تاريخ العراق ولكن كم هو حجم امثال هؤلاء ؟ انني دوما اقول ومن خلال دراستي المتواضعة لتاريخ العراق وتكويناته الاجتماعية وثقافاته البيئية بأن هذه الارض الكلاسيكية قد استوطنت فيها نماذج بشرية غريبة جدا ، وكل منها يحمل ثقافة ضارة من نوع ما .. وان التوحّش والبلادة والثأر والتخّلف والتفاهة .. نتاج ترسبّات تاريخية لثقافات وافدة وطارئة على العراق ولم تزل تفعل فعلها على مدى الف سنة من تاريخ العراق وهي التي قتلت في العراق كل نزعاته الحضارية ونهشت ولم تزل كل رقيّه الانساني .

* غياب الجسد بأسئلته عن مسرح الثقافة العراقية .... ألا يترك المشهد الأخير ناقصاً بانتظاره؟ كيف يمكن أن يقال الجسد العراقيّ الآن؟ أين تجده معبراً عنه؟ ألم يحن الوقت لأن يقول أحدنا "أنا" ويقصد بها ذاته التي هي أولاً وقبل كل شيء جسده الذي يطل به ومن خلاله على العالم ، ولا يمكن للآخرين أن يلتقوه إلا متلبساً به؟

 ـ ان علاقة الإنسان بجسده في أساسها تتم عبر مفهوم ثقافي اجتماعى يختلف من بيئة  عراقية إلى أخري ومن عصر زمني إلي آخر ، إذ إن الجسد ـ كما اقول دوما في محاضراتي ـ  هو الهيئة التى تحدد هوية الإنسان ، وهو الموقع الصغير الذى يربط الإنسان بالموقع الأكبر ، واذا كان الجسد هو الاصغر ، فان  الكون هو الاكبر ، وبينهما هذه الارض الجميلة التي بات الانسان يدمرها يوما بعد يوم .. كما أن حركة الجسد وقدراته الحيوية وطهارته في الموقع بمثابة تعبير رمزى يختزل حركة الزمان الكونى ـ نسبياً ـ ضمن البعد الخامس في عدد السنوات التى يحياها الجسد ،  ونتيجة لهذا كله ينبغي ان يتضمّن الفكر المعاصر فلسفة الجسد ويعنى بدراسة الجسد.

ارجع الى سؤالك حول الجسد العراقي لأتساءل : هل يدرك العراقيون الذين يبدو انهم توارثوا ترسبات غاية في القسوة وامتهان الجسد ان هذا العصر قد عمّق احاسيس الانسان بجسده ، وان احترامه قد زاد لجسده وقلل من غائية الروح التي لم يعد يهتم بها كما كان يهتم بها في السابق وذلك بحكم ما وصل اليه الانسان من قدرات على خلق التشيؤات وابتعادا عن المعاني ! لقد قمت بحوار احدى الطالبات الجامعيات في احدى الجامعات البريطانية عندما زرت كلية سانت انتوني بجامعة اكسفورد شهر سبتمبر 2005 وهي تقوم بحملة ضد التحّرش الجسدي منطلقة من فلسفة تقول ان المجتمع الغربي قد استرخص الجسد من خلال ما كانت تفعله الممثلة الامريكية الراحلة مارلين مونرو وامثالها من الغربيات عندما كن يعرضن مفاتنهن على العالم ، مما غرس فكرة في عقول كل الشرقيين بأن اجساد النسوة الغربيات رخيصة .. وكانت تنتقد ظاهرة مارلين مونرو في القرن العشرين انتقادا لاذعا ، كونها ظاهرة اعلامية خلقت في العالم ثقافة تسترخص اجساد النسوة ! تستطرد قائلة : وعليه ، لابد ان يدرك العالم ان الجسد هو اثمن ما يملكه الانسان وان مسؤولية الحفاظ عليها من مسؤولية المجتمعات البشرية قاطبة !! .. ويبدو ان الانسان قد منح نفسه فرصا افضل للحياة من خلال احترامه لجسده .. ان من يستهين باجساد الاخرين فهو مهين لجسده هو نفسه .. ومن له القدرة على صناعة البشاعة في قتل الاجساد ، فهو يقبل امتهانها واستخدامها في شتى الاغراض الرخيصة .. فلا ينفع ابدا ان التنطّع بالحجاب والسواد والعباءات وهو يقتل الاخرين بتصفية اجسادهم ، او حتى النيل من اجساد الاخرين .. وعلى الانسان ان يحترم اجساد الاخرين ويعتز بها بقدر ما يحترم جسده ويعتز به !
    لقد كانت كل من الاديان السماوية والدنيوية وكل الفلسفات تحترم الاجساد الى حد التحريم " وفي الأسطورة اليونانية القديمة ، تناصب ( أنتيجونا) مليكها العداء وتقف فى مواجهة سكان المدينة التى تركت جثة  أخيها  في العراء بلا دفن تنهش فيه الطيور الجارحة ،لقد تعاطفت الآلهة مع أنتيجون امتثالاً لقداسة الجسد الإنسانى وحقه فى التكريم ، على الرغم من النظرة إلى الميت كخائن لمدينته ويستحق الموت ، ولم يكن فن التحنيط عند القدماء المصريين سوى صورة من صور احترام الجسد وتحريمه حتى على ديدان الأرض وعوامل التحلل الطبيعية ، ومن ثم كانوا يكتبون على المقابر عبارات تذكر بتحريم العبث بجثث الموتى وتذكر بعقوبة من ينبشون المقابر، وعموماً فإن احترام الجسد وتقديسه هو مقوم ثقافى عرفته جميع الحضارات القديمة " .. وفي اليهودية والمسيحية والاسلام اعتزاز بالجسد يصل الى حد التكريم في الحياة او عند الموت ..
    وفي كل العصور ، اهتم الانسان بجسده  وخصوصا في عصرنا الراهن الذي جّند فيه جملة من العلوم البايولوجية والطبية لخدمة الجسد وصيانته والابقاء على جمالياته واجراء جراحات فيه واستحداث الافضل من خلال الجينات الوراثية .. في حين تتلاشى المجتمعات المتخلفة في قتل الانسان وتشويه جسده وقطع رأسه او فرم اعضائه او جعل الاجساد قطعا سوداء فاحمة .. بعد حرقها . ان الانسان يجرم كثيرا في استخدامه ابشع الاسلحة الفتاكة كادوات قتل وتفجير وتفخيخ وقصف ودك وحرق وكيميائيات ونابالم واسلحة دمار شامل .. تصل الى حد الاسلحة الجرثومية .. وكلها محرمّة في استخدامها ليس ضد الانسان حسب ، بل ضد الحيوانات والطبيعة والنباتات في كل البيئات .
ان تجارة الاعضاء البشرية وما تلقاه من رواج دلالة واضحة على حدوث تناقضات في بناء علاقة الانسان بجسده من الناحية الاخلاقية .. بل وان استنساخ البشر هو اخطر ما وصل اليه الانسان اليوم في التلاعب بخريطة الجينات .. فكيف سيكون عليه الحال في المستقبل امام هذا التغيير الذي يتعلق بالجسد الإنسانى على نحو مباشر مثل الإجهاض وزواج المثليين والأبحاث الخاصة بخلايا المناعة ، إن هذه السياسة التى تضع الجسد فى إطار أخلاقى لا تتورع عن حرق الاف مؤلفة من البشر في هيروشيما وناغازاكي ، وتنتهك حرمة الجسد على نحو فج فى السجون والمعتقلات .
*هل من كلمة أخيرة ؟
على أى حال ، فإن موضوع الجسد الذى ظل لعدة قرون مسكوتاً عنه ، أصبح الآن موضوعاً حيويا يلح على التفكير ان يأخذ منه مداه واهتمامه  ، وهنا ينبغي على المثقفين والمبدعين والادباء والفنانين العراقيين ان يولوا هذا الجانب اهمية بالغة من خلال طرحه ودرسه ومعالجة اشكالياته فى سياق  (سسيوثقافى عراقي بحت ) وبمناهج أكثر جدية وفلسفة اكثر موضوعية بدلاً من تجاهله أو تركه مختفيا او جعله لعبة ودمية بأيدي العابثين والقتلة  وفى أيدى المتلاعبين والمغرضين والمرضى والمعقدّين والمجرمين البشعين .. انها فرصة رائعة يطرحها علينا الصديق المثقف الشاعر الاستاذ احمد عبد الحسين من اجل معالجتها بهدوء وتفكير تام من اجل غاية نبيلة في عراق اليوم .. ولأن صيانة الجسد واحترامه ، وإن كانت تعبر عن أصفى درجات الحرية الفردية إلا أنها لا تتم إلا فى سياق مجتمعى كأى موضوع ثقافى نهتم به ونعالجه وندرسه فى إطار وعى عام بالجسد ، وعلى درجة متوازنة من الوعي والدراية والادراك لدى كل أفراد المجتمع ، وهنا يأتي دور الدولة ومؤسساتها كافة في اعتماد المجتمع عليها كونها ليست راعية حسب ، بل انها تبقى دوما في خدمة المجتمع ، فالفرد لا يمكنه حماية جسده ، وإنما تحميه القوانين والأعراف والضوابط الاجتماعية ، ومن ثم فأمر الجسد يخص الشرائع والقوانين كما يخص صاحبه بالذات ، واذا كانت الشرائع والاعراف تتعارض مع الحرية الفردية الشخصية ، فلابد من العمل على تغييرها ، فالانسان لا يمكنه ان يطور حياته ومجتمعه وانسانيته من دون ان يشعر بحريته ، فالحرية الشخصية هي مقدّسة ، وانها فى جوهرها تضمن حياة الفرد وتحمى جسده ، ذلك الجسد الذى يعبر بدوره عن الحرية الفردية كصورة للذات .
واخيرا اقول ، إن الحاجة باتت ماسة في ان نرّسخ ثقافة من هذا النوع في مجتمعنا العراقي ومن خلال كل من اوتي علما وفهما وخلقا وابداعا ، ذلك ان علاقة الإنسان العراقي المعاصر بجسده والتى يمكن التعبير عنها خلال المظاهر الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية الحديثة لا يمكن فهمها إلا خلال فهم سوسيو تاريخى لوعى الإنسان بجسده ، وان تتماثل الاجساد العراقية مع الطبيعة وتتحد معها وفيها ، ليس فقط فى قيمتها ولكن ـ أيضا ـ فى صفاتها ووظائفها ، ولعل اروع وصف سمعته من احدى معارفي البغداديات قبل سنوات طوال عندما كانت تصف تسريحة شعر المرأة العراقية بالصورة التي ترسمها غصون النخلة المتدلية وهي تجتمع شامخة في الاعالي .. وكأن الطبيعة العراقية تخلق جماليات الانسان وقبحه معا .. فهل سيتمكن ابناء العراق من ازالة أي ترسبات من القبح ، لكي يبدون متناغمين مع كل هذا العالم ويخلقون الانسجام الرائع بين الطبيعة والجسد ، وبين الكون والجسد .. ان ذلك ما آمل حدوثه في يوم من الايام ! ومن اجل ان تقول الاجيال القادمة : ها قد تخلص العراقيون من كل مثالب التاريخ وانتكاساته وعادوا الى طبيعة وادي الرافدين .. واخذوا يرسمون اجسادهم ويحافظون على نفوسهم ويخلقوا منها اشياء جميلة للعالم .

الصباح البغدادية
15 نوفمبر 2006[/b][/font][/size]

183
مانفيستو جديد للعراق : من اجل ستة مبادئ وطنية ! 
[/color]

د. سّيار الجميل
          بعد شهرين فقط من سقوط النظام السابق في العراق على أيدي قوات التحالف وهيمنة الاحتلال  ، قمت بنشر ورقة مبادئ ،  ازعم  بتواضع شديد ، أنها مهمّة جدا ، وأسميتها بـ " مانفيستو العراق : من اجل ستة مبادئ وطنية " ( الزمان اللندنية ، العدد 1532 بتاريخ 16  يونيو 2003 ) ، مهّدت فيها لتأسيس تاريخي جديد على مرتكزات وطنية مدنية وحضارية لا يمكن للعراق أن يحيا أبدا من دونها ..  وكنت أتمنى صادقا أن يمضي العراقيون بتنفيذها ولم يكن الانقسام الاجتماعي والسياسي والثقافي والإعلامي قد حصل بعد .. ولكن  لا المحتل سمع للعراقيين المستقلين ، ولا زعماء الأحزاب  قد استأنسوا لغيرهم  !!   وما كان مصير العراق ليكون هكذا لو طبقّت معايير حيوية انبثقت عن مصداقية وطنية ونظافة سياسية وأجندة شجاعة كانت ولم تزل تعمل من اجل المجتمع لا من اجل أحزاب أو كتل أو طوائف ..
     لقد كنت ولم أزل أطالب العراقيين بالاجتماع على مبادئ وطنية لا حيدة عنها ، وهي مرتكزات للتأسيس ، وهي : الوحدة الوطنية والاستقلالية التحررية والدستورية المدنية والتعددية السياسية  والديمقراطية التوافقية  والثورة التحديثية ،  وان تجدد كل الأحزاب والكتل العراقية أهدافها وأساليبها القديمة التي كانت ولم تزل تسوّقها باسم العراق والعراقيين لتحقيق  أجندة انقسامية أو طائفية أو شوفينية أو كتلوية .. ، وعليها أن تحلّ كل الميليشيات والذيول التي كانت قد تكونت قبل عقود من الزمن أو التي تشكلت بعد سقوط  النظام السابق .. وينبغي للعراق أن يمر بفترة نقاهة قدرها أربع سنوات على اقل تقدير ، من اجل أن يستعيد حياته بعد أن ضربت الفوضى كل أرجائه . 
    كّنا نتأمل أن يتضمن دستور العراق الدائم تلك المبادئ المدنية العراقية الحقيقية التي لا يمكن أن يجد أي عراقي نفسه خارجها  مهما كان طيفه ووزنه وعرقه ودينه ومذهبه ، ولكنني اعتقد أن ملايين العراقيين اليوم يجدون أنفسهم خارج إطار الدستور وفي مقدمتهم أولئك الذين يؤمنون بعراق مدني متطور لا تلعب به أية محاصصات ، ولا تذبحه أية انقسامات اجتماعية ولا يقامر باحتساب العملية السياسية على أساس الأغلبية والأقليات  .. وان تتم أية انتخابات على أساس المناطق والتصويت لمرشحيها الأكفاء بعيدا عن الصيغة التي جعلت العراق منطقة واحدة والتصويت للأحزاب والتكتلات ، فكانت العملية بمثابة كارثة حقيقية !
        هل يمكنكم أن تراقبوا  انهيار العراق اجتماعيا بعد انهياره سياسيا ، بدءا بمجلس الحكم  وما حفل به من رزايا محاصصة طائفية وعرقية مضادة للمشروع الوطني ؟؟  وفي العام 2004 ، مرّ العراق بمشكلات صعبة عدّت مجرد مشكلات ستزول بعد الانتخابات ! وجاءت سنة 2005 لتحمل أجندة جديدة تكّرس الانقسام في لجنة كتابة الدستور التي أخرجت دستورا لا يليق بالعراقيين أبدا، إذ اعتبره أصحاب العملية السياسية منقذا أساسيا للعراق، في حين قابله اعتراض شديد في  يوليو 2005 .. ذلك انه يحمل تناقضا ت صارخة وترسيخ للانقسام  ! وعندما دخل العام 2006 ، بدأ الحديث فاضحا عن  انقسام العراق  .. كل ذلك جرى في ظل افتقاد للأمن والنظام وتفاقم للإرهاب ومشروعات القتل والخطف والتفجير وتفاقم الصراع الطائفي والتهجير القسري وفرق الموت إزاء ضعف الحكومة ..
     السؤال : من الذي سينحر العراق كله ؟ من الذي سينقذ العراق كلّه ؟ ما حجم الثمن التاريخي الذي سيدفعه شعب العراق نتيجة للتغيير ؟ وما حجم ما دفعه الشعب العراقي من دماء وثروات والآم ومعاناة على مدى خمسين سنة من حياته المعاصرة ؟  لقد ساهم الاحتلال والانقسام في تفاقم المخاطر وتعاظم التحديات وكثرة التدخلات  وهول الاختراقات .. وكلها  كانت ولم تزل لم تعالج ، والمشكلة أن الرهان يمّرر سريعا باسم الديمقراطية والدستور .. وان الفشل يلحق الحكومة والاحتلال ، وان الأمن ضائع بين المقاومة والإرهاب .. من دون التفكير بالسؤال : هل يمكن تنفيذ أي عملية سياسية وإقرار أي شرعية دستورية في ظل أوضاع شاذة ؟  لقد وصلت الاحتقانات اليوم إلى درجة لا يمكن تخيّلها من التشظيات  نتيجة التفسخ الحاصل وبدء اندلاع حرب أهلية .. لا تسلم من شراراتها المنطقة كلها ! 
   كنت أتمنى على كل الفرقاء العراقيين  أن يكونوا أكثر دقة في إطلاق التصريحات وعدم نشر المعلومات الخاطئة التي لا حقائق لها ، ويدركوا أنهم بأسلوبهم ذلك إنما يهيجون به مجتمعهم ويضربون هذا بذاك .. إن جملة هائلة من المعلومات الخاطئة قد جرى تداولها مأخوذة من الخارج عبر قنوات لا حصر لها ، يذيعها  أمريكيون يتقصّدون نشرها ليتداولها العراقيون كأنها حقائق مسّلم بها ، فتكون بمثابة وقود للنار المستعرة في القلوب .. هذا إذا استثنينا فقدان الأمن والنظام وارتكاب كل الموبقات التي لم يعالجها احد  علاجا حقيقيا ، إذ أصبحت مناطق عدة في العراق خاوية من أية سيطرة ومن أية خدمات أساسية .
السؤال الآن: هل فات القطار على العراق والعراقيين ؟ نعم ، لقد خسر العراق وأهله كثيرا من أحلامهم وأزمانهم وآمالهم ومواردهم وتطلعاتهم .. ولكن لم يزل هناك متسع من الزمن لمعالجة الأمور، واستدراك الأخطاء متمنيا على الجميع الاعتراف بالتجنّي على العراق بعيدا عن استعراض العضلات وتبادل الاتهامات وتمجيد الأدوار . أتمنى أن يتفقوا على أي صيغة في ما بينهم للخروج من النفق المظلم.. إذ ينبغي عليهم أن يعيدوا حساباتهم  وآليات العمل المشتركة والقطيعة مع كل ما من شأنه إن يودي إلى الانهيار ولابد من البدء بصفحة سياسية ودستورية جديدة ومختلفة  ليستقر العراق ويستعيد حيويته ودوره الحضاري ، ويغدو صمام أمان للمنطقة برمتها . فهل سيتحقق ذلك ؟ نتمنى ذلك بحول الله .
www.sayyaraljamil.com

البيان في 22 نوفمبر 2006[/b][/font][/size]

184
الصّبة المندائيون : برحي العراق العذب
 دعوهم يحيون على الأرض !!
[/color]

د. سيّار الجميل

الى الصديق الدكتور فاضل السعدوني في عشقنا الدائب لمحمداويات
الفنان الصابئي المبدع الراحل رياض احمد ـ رحمه الله ـ

مدخل
    كنت قد وعدت صديقي الاستاذ عربي الخميسي ان اكتب في هذا " الموضوع " المهم من حياة مجتمعنا العراقي الذي يعاني كّله اليوم من ابشع هجمة تاريخية لم تمر عليه عبر تاريخ طويل وستكون لها نتائجها المدمّرة الكاسحة على حياة المنطقة كلها .. واصدرت قبل يومين  هيئة الدفاع عن الاخوة الصبّة المندائيين العراقيين بيانها التي ناشدت فيه العالم الهجمة الشرسة التي يتعّرض لها المندائيون وشارحة اساليب  الظلم والقسوة عليهم في ظل اوضاع سياسية واجتماعية مهترئة .. تفعل العصابات والميليشيات والجماعات الارهابية القاتلة افعالها النكراء وسط احتلال اجنبي وتعتيم اعلامي وجهل سياسي وغياب سلطوي واداري .. 
     اصوات لا حصر لها تناهت الى سمعي تناشدني قول كلمة حق بحق جماعة عراقية عريقة من اهل العراق يمّثلها الصّبة ( = اللفظ العراقي للصابئة المندائيين ) القدماء وهم آخر طيف يتبّقى حتى يومنا هذا من اطياف الغنوصية عبر التاريخ .. هذه " الجماعة " السكانية الجميلة المسالمة النظيفة التي تجذرت في ارض العراق منذ الاف السنين وحافظت على عاداتها الاجتماعية وتقاليدها الثقافية وطقوسها الدينية ..  تعاني اليوم من بشاعات قاتلة لا حدود لها ظلما وعدوانا  اسوة ببقية الجماعات والاقليات الدينية العراقية كالمسيحيين السريان والكلدان والآثوريين ناهيكم عن اليزيديين وغيرهم من الذين يعانون جنبا الى جنب بقية ابناء المجتمع العراقي من هجمة كاسحة ضارية لا تعرف ابعادها ، ولا تحدد مصادرها  ولا تتوّضح  مخاطرها ..

اولا : المندائيون القدماء .. برحي العراق العذب
    لقد كان العقلاء قد نبهّوا الى أخذ العناية والحذر من أي عدوان على هذه الاطياف الاجتماعية التي تعد من اقدم سكان ليس العراق والمنطقة لوحدهما حسب ، بل من قدماء سكان العالم أجمع .. وهي التي تحمل مواريث تاريخ عريق وخصوصا في العراق الحضاري الذي سكنوا فيه منذ القدم وتحملوا كل التحديات والالام والمعاناة فيه .. بل واندمجوا مع كل السكان وعايشوا كل الاطياف في المجتمع وشاركوا في صناعة المزايا والقيم والخصال العراقية .. ان مجرد بقاؤهم على ارض العراق هذه الاحقاب الطوال من السنين من دون انقراض يجعلنا نفكّر مليّا في كيفية تأقلمهم مع كل مرحلة تاريخية ومجابهتهم لتحدياتها واستجابتهم لمخاطرها .. واعتقد ان اصالتهم ولحمتهم مع المجتمع هي التي حمتهم ، اذ ان تعايشهم معه هو الذي جعلهم يقابلون التحديات السياسية ويواجهون الاضداد التاريخية المريرة التي صادفتهم ..
   ان هذا الطيف الصابئي المندائي يتمتع بخصال فريدة وقد حافظ عليها كجزء من ميراث عراقي يمتاز بجمالياته وابداعاته .. اناس لا تعرف ابدا غير العمل المنتج .. ربما لا تعرف الزرع والرعي ولا التعامل مع الارض ومشاكل الري الصعبة ، فتركتها لمن له القدرة في السيطرة عليها ، ولكنها كانت عونا له في تهيئة مستلزماته الاساسية وأدواته الضرورية اليومية .. ان الصبّة من الحرفيين المهرة والصناع الاذكياء .. انهم اصحاب نظام اجتماعي وفكري وثقافي غاية في الدقة والحذاقة .. انهم من عشاق الماء والتطّهر به دوما في كل وقت .. اذ لا تمر ساعات من دون التطهّر به خلاصا من ملوثات الحياة  واوصابها .. انهم يتمتعون بعلاقات مسالمة ونظيفة مع الاخرين .. انهم يتبادلون المحبة ويتوقدون بالعاطفة ويتحلّون بالمودة .. انهم لا يعرفون الكراهية والضغائن ولا يملأون انفسهم  بالاحقاد .. انهم لا يمارسون الاذيّة بحق أي انسان او حيوان او نبات .. انهم لا يقتربوا من المشكلات العامة ولا الخاصة .. انهم عشاق حقيقيون للعراق .. ويكفي انهم طوال الاحقاب التاريخية يعملون بصمت ويأكلون مما ينتجون ويعيشون مما يصنعون او يصوغون وينتجون وقد خدموا الاخرين بعفة ومهارة وذكاء .. وعاشوا بعزة وكرامة نفس واباء سواء في مواطنهم وقصباتهم المحلية ام بعد هجرتهم الى المدن الكبيرة مثل بغداد والبصرة  ..  انهم كما يصفهم ابناء العراق الاخرين ببرحي العراق ورطبه .. ونحن نعرف كم هي عذوبة هذه الفاكهة العراقية السومرية القديمة والتي تنضج حلاوتها على مهل شديد .

ثانيا : الصبة المندائيون : كيف ندرك الرؤية الكاشفة ؟
1/ المندائيون : بين الانغلاق على الذات والانفتاح على الحياة
     لعّل من اهم ما يمكنني تسجيله هنا وانا استخلص بعض ما توغلت به من تحليلات في  الكتاب الموّسع الذي اقوم بتأليفه اليوم عن " بنية المجتمع العراقي "  ، ذلك ان المندائيين الصبّة النجباء في الجنوب لهم مفارقة غاية في الندرة كما هو حال اليزيديين الاعزاء في الشمال .. انهم برغم انغلاقهم على ثقافتهم الخاصة وطقوسهم الدينية وزيجاتهم الداخلية ، فلقد اندمجوا مع الاخرين من العراقيين وانفتحوا على حياتهم وثقافتهم .. في اسمائهم في ادبهم وشعرهم في فولكلورياتهم واغانيهم .. في اكلهم وشربهم في اعيادهم ومناسباتهم .. في ازيائهم والبستهم ..  بل ولقد اخذ الاخرون منهم بعض صفاتهم واخلاقياتهم .. ان الاذكياء والمبدعين منهم قد سجلوا بفخر واعتزازا بكل ما قدموه وانتجوه زادا ثريا للعراق والعراقيين ، فلا يمكن لكائن من كان ان يلغي هذا الطيف الجميل من حياة العراق والعراقيين .. ولا يمكن البتة ان نسكت على أي اضطهاد يتعّرض له الصبّة المندائيون او غيرهم من الاطياف العراقية الجميلة ، او ما تتعرض لهم معابدهم او كهنتهم او ابناءهم او بناتهم تحت أي شعار او واجهة او نص او فتوى ..
2/ الدور التاريخي للخصب المندائي بين الحضارة والفناء
     من جانب آخر ، لا يمكن ابدا نسيان دور الصبّة المندائيين في تطوير حياة ما بين النهرين من الناحيتين الروحية الغنوصية او الفكرية الحضارية وخصوصا ابان العصور العباسية الثلاثة من خلال بروز شخصيات تاريخية وادبية من بينهم ساهمت بقسط مؤثر في الحضارة العربية الاسلامية ، وكان من ابرز عمالقتهم ابراهيم بن اسحق بن هلال الصابي الذي اشتهر بأدبه ومساجلاته وحذاقة كتاباته .. ولكن هذا لا ينفي ان المندائيين عانوا اسوة ببقية العراقيين من موجات العنف والغزوات التي اجتاحت العراق في عصور متباعدة او متقاربة .. ولقد انكمش دورهم في بعض العهود نتيجة انغلاقهم في بيئتهم خشية من التبعثر والفناء ، فاذا كانوا قد نجحوا في الحفاظ على انفسهم عبر التاريخ الطويل وتعايشوا مع كل العراقيين ، فمن المعيب جدا ان نأتي ونحن في القرن الواحد والعشرين لنسكت على عملية ابادتهم وافنائهم وبعثرة وجودهم في العراق ؟؟ ومن انعدام الضمير ان يسكت المرء على اي اضطهاد  يتعّرض له العراقيون تحت اي واجهة او لافتة او دعوى مهما كان مصدرها .
3/ التحدي والاستجابة
    يحدّثنا الاستاذ عزيز سباهي في كتابه عن الصابئة المندائيين ، انهم كانوا يتعرضّون للاضطهاد المحلي من اجل ترك معتقدهم وما لاقوه من اضطهادات  على الارض التي يحيون عليها او المدن التي نزحوا اليها ، كما وتعرضوا للاوبئة والفيضانات ومحن الطبيعة .. ثم تعرّضوا لمحاولات التبشير من قبل البعثات الاوربية وتعرضوا لحملات على اعتناق الاسلام والمسيحية وتناقص عددهم كثيرا من 3400 عائلة كما تخبرنا خارطة تيفنو في العام 1664 الى 560 عائلة  في العام 1854 كما اشار بيترمان ، او قرابة 4 الاف نسمة بتعداد سيوفي الذي زار مناطقهم في العام 1875 ، ولكن عادت لتضاعف من سكانها اثر تحّسن ظروفها المادية والاجتماعية في النصف الاول من القرن العشرين . ولقد برز منهم في القرن العشرين العديد من ارفع المثقفين والشعراء والاكاديميين والفنانين الذين اسهموا في بناء النهضة العراقية المعاصرة .. والكل يعرف اسماءهم ومدى عشقهم للعراق وقوة ابائهم وعزة انفسهم .
4/ المعادلة القيمية لا العددية
 ومن الجدير بالذكر لكل الناس ان هذه الطائفة المندائية برغم قلة عددها وبعد مواطنها عن المدن الكبيرة ، نجحت بامتياز في ان تفرض حيويتها ونشاطها في المجتمع العراقي ابان القرن العشرين نتيجة استجابتها للتحديات وبراعة ابنائها وبناتها ومهارة رجالها ونسائها وبروز عدد من المبدعين العراقيين المندائيين ـ كما ذكرنا ـ . وعليه ، فثمة معادلة لابد ان يدركها كل ابناء العراق ان مبدعا بارعا عراقيا واحدا مهما كان دينه او عرقه او طائفته او ملتّه ومذهبة .. وما يقدّمه للمجتمع يساوي في قيمته اضعاف مضاعفة للالاف المؤلفة من الخاملين والكسالى والمعتوهين والدجالين والتافهين والمنافقين والموتورين والمستهلكين الذين لا يعرفون الا الاكل والنوم والثرثرة وكراهية العالم واذية الاخرين ..
5/ الوعي بالعراق والعراقيين
     ان اهم ما يحتاجه اغلب العراقيين وكل من يحيطهم في وجودهم الجغرافي المكاني والتاريخي الزماني هو الوعي بالعراق والوعي بالعراقيين لكي ندرك تماما قيمة الذات وقيمة الاخرين .. ان العراق بكل مصنفاته وتنوعاته لا يمكنه ان يعيش ابدا ضمن اي هوية غير هويته ولا بأي ثقافة غير ثقافته ، ولقد قلت في اكثر من مناسبة ان المجتمع العراقي بحاجة الى المزيد من الدراسات العلمية والكشوفات المعرفية  ، وبحاجة الى اناس يدركون قيمة عناصره واطيافه ومكوناته ليصبحوا مستعدين للاجابة الدقيقة عن اسئلة يفرضها الزمن والمصير .. وينبغي ان يدرك الجميع ان الالوان الثقافية العراقية هي المعّبرة عن كل منتجات المجتمع  وتواصل الاجيال ، ومدى قدرة كل جيل على الاحتفاظ بموروثاته وطقوسه وعاداته وتقاليده ..

ثالثا : نداءات صارخة من يستجب لها ؟؟
     ان الاوضاع المأساوية التي يعيشها العراق اليوم جعلت الصبة المندائيين يعيشون قلقا وخوفا عارما اسوة بكل الاقليات الاجتماعية العراقية والتي كانت على الدوام من الذين دعموا الوحدة الوطنية والتعايش والحفاظ على مصالح الاقليات داخل النسيج الاجتماعي العراقي الموّحد والمتنوع في آن واحد خصوصا وان كل ابناء العراق في المجموع العام قد ناضلوا وكافحوا وحاربوا في جبهة واحدة وامتزجت دماءهم على تراب واحد .. فانهم يطالبون بالحفاظ على حياتهم وطقوسهم ودينهم وان يسود التسامح والاخلاقيات العالية والتعايش الخلاّق بعيدا عن السلوكيات الهمجية وعن التعّصب الاعمى وعن اقصاء الاخرين .. بعيدا عن أي ممارسات دينية بالضد من الصبّة المندائيين  او ارهابهم او تجاهل صيحاتهم ونداءاتهم .. ان العراقيين مدعوون حكومة ومجتمعا ان يحموا هذه الطائفة الجميلة من أي ارهاب فكري او أي اضطهاد ديني وردع كل من تسّول نفسه بايذاء من يختلف عنه في الدين او الطائفة او الملة .. وكم كانت ولم تزل مطالبنا بأن نبعد الدين بكل ثقله وتجلياته عن السياسة واوضارها .. ان المجتمع العراقي بكل خصوصياته وتنوع نسيجه وتعدد اشكاله لا يمكن ان يكون عرضة للمزايدات الدينية او الطائفية وان لا يتعّرض ابناء الملل والاديان الاخرى الى الابتزاز الديني  والتعّصب الطائفي .. ان العراق لا يمكن ان يعيش ابدا باساليب التشدد والتطرف والتكفير والتحريض الديني .. انه بحاجة الى الانفتاح والتسامح وترسيخ مفاهيم العدل والاحسان والمساواة .. وان تتقدّم المواطنة العراقية على أي هوية كانت . وان يغدو التعاقد الاجتماعي  مبدأ حقيقيا في احترام الاديان الاخرى والانسجام والمحبة بديلا عن التوحش والتطرف والكراهية والاحقاد .. 

رابعا : المخاطر المافيوزية للمجتمع العراقي
      جاء في واحد من البيانات التي تناشد العراقيين وضمائرهم النداء التالي :  " ان الصابئة المندائيين وهم القدماء في المكان  .. كونهم السكان الأصليين، يتعرض العديد من أبنائهم في مدن الجنوب والوسط للقتل، وتختطف بناتهم اللواتي يتعرضن للاغتصاب ، وتتعرض محلاتهم للسرقة والابتزاز المافيوزي، ويطلق عليهم تسمية أهل الذمة، وكأنهم يعيشون في عزلة كوكبية او قارية بعيدا عن وطنهم الذين سكنوه منذ آلاف السنين " . وجاء في البيان الصادر عن هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق الصادر في 15 نوفمبر 2006 حول تنشيط العمل من أجل إنقاذ رقاب الصابئة المندائيين من حبال مؤامرة تصفية وجودهم في العراق وإيران! ويتابع البيان : " إن ما يتعرض له المواطنون والمواطنات من أتباع الدين الصابئي المندائي يفوق التصور ويقع في باب مناهضة الجنس البشري ومعاداة الإنسانية [إذ تُعدّ على وفق القوانين والاتفاقات الدولية، جرائم ضد الإنسانية]. وهي جرائم منظمة مقصودة تمارسها جماعات مسلحة من أصحاب النفوس المريضة المنتشرة حالياً في العراق " .

خامسا : اين الضمير العالمي والاسلامي والعربي ؟ 
     ان مناشدة الضمير العالمي كله وضمير كل من العالمين العربي والاسلامي واجبة وضرورية ، وخصوصا حول ما ورد في البيان اعلاه .. ويمكننا ان  نجمل اساليب الخطة الخطيرة التي تستهدف الصبة المندائيين في العراق وايران وما يتعّرض له هؤلاء البشر من جرائم وحشية في جنوب العراق ووسطه ، ومنها : فرض الدخول في الدين الإسلامي على أتباع هذه الديانة القديمة من أصحاب الكتاب بالإكراه والتهديد والقوة الغاشمة, واستخدام الأساليب والوسائل المقيتة , علماً بأن عدد العوائل التي أجبرت على ممارسة تغيير دينها بلغ حتى الآن  300 عائلة عراقية من الصابئة المندائيين في الجنوب والوسط . ويتّم اغتصاب النساء (إذ عندما تغتصب المرأة المندائية, لا يحق لها العودة إلى دينها المندائي). و ختان أعضاء الذكور بشكل قسري للأطفال والبالغين ، ويتم الزواج القسري بالمندائيات بعد عمليات الخطف المستمرة ، واتباع أساليب القمع والتخويف والتهديد بالاستيلاء على الأملاك المنقولة وغير المنقولة لحمل أرباب العوائل على تغيير عقيدتهم الدينية. وممارسة الخطف لأحد أفراد الأسرة لإجبار العائلات على دفع الفدية متمثلا بتغيير ديانتها إلى الدين الإسلامي. وتهجير المندائيين عن ارضهم واملاكهم بممارسة ابتزاز الأموال المنقولة وغير المنقولة والسيطرة عليها وتغيير ملكيتها عبر الرشوة المالية لأجهزة الدولة المعنية من قبل عصابات وميليشيات . وهناك التهجير القسري لمزيد من عوائل الصابئة المندائية من مناطق سكناها, ومن ثم من العراق بكل السبل المتوافرة. ووفقا للمعلومات المتوافرة فقد تم تهجير أو هروب 2300 عائلة مندائية حتى الآن من العراق, ولم يبق منهم سوى 1000 عائلة مندائية. وهي جريمة بشعة بحق هذه المجموعة الدينية المسالمة.

وأخيرا : من يوقف جحيم العراق ؟
وهنا لابد من مناشدة كل العالم لوقف هذا الجحيم الذي يعّم العراق ، مع مؤازرتنا لبيان الهيئة في الدفاع عن الصبة المندائيين .. والحفاظ عليهم وارجاع حقوقهم والاقتصاص من كل المعتدين والآثمين .. انني اناشد كل العراقيين الشرفاء ان يحموا كل اقليات النجباء ، ولا يعتبروهم الا مثلهم من المواطنين لهم ما لهم من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات .. وعليه ، لابد ان تتمتع كل الاقليات الدينية العراقية ومنهم الصبّة واليزيدية وكل المسيحيين بكل حرياتهم الدينية والاجتماعية والثقافية اسوة بكل الاعراف العراقية التي ابقتهم منذ الاف السنين في ارضهم ومياههم .. وعملا بكل شرائع السماء والارض . ان الضرورة تقتضي ان يقف كل العراقيين سدّا منيعا امام هذا الجحيم الذي يعيشه العراق وان ينتصروا لارادتهم في الحرية والانعتاق بتأسيس تاريخ مدني حضاري نظيف تحدد فيه العلاقة الجدلية بين كل التناقضات التي تأكل العراقيين اليوم اكلا .. وهذا لا يأتي الا من خلال الوعي الجمعي وخلاصا من الجهلاء والمتوحشين والقتلة والمارقين والغوغائيين الذين لا يفقهون معنى الحياة ولا يدركون قيمة الفكر ولا يحترمون الناس ولا يقدرون الاخرين حق قدرهم .. اننا اذ نقف اليوم مع الصّبة المندائيين ، فاننا نقف مع كل اطياف العراق ، وان كتبت سابقا عن الاقليات الدينية العراقية وعن المسيحيين ، فانني اعد القراء الكرام بدراسة عن كل العراقيين الاخرين .. من اجل مستقبل قادم وتاريخ جديد للعراق سيبدأ عاجلا ام آجلا على ايدي العراقيين المتمدنين الاحرار .

www.sayyaraljamil.com

ايلاف 19 نوفمبر 2006[/b][/font][/size]

185
خطوط التصدّع تصيب حياتنا العربية !!
د. سّيار الجميل

    لقد بتنا ننتظر طويلا نصا مبتكرا وروحا جديدة ووعيا معاصرا واصولا رائعة تسديها إلينا الحياة العربية التي نجد أنفسنا مكبلين في خضمها ونحن في بدايات زمن جديد .. ومن المؤلم حقّا انك تجد المجتمعات الحيوية تسعى جميعا ، كلّ بطريقتها ، من اجل إثراء حياتها ، وإخصاب إبداعها ، وتطوير إمكاناتها ، وتقويم أخطائها .. ونحن ومن معنا نقف مذهولين جدا  إزاءها ،  بل وأنها اختزلت الزمن وأدخلت التكنولوجيا والالكترونيات كل الميادين ، وان ثورة المعلومات والإعلاميات لم تعد حكرا على أناس دون آخرين ، وان الثورة العلمية في الجينات والأمراض والأدوية والجراحة فاقت كل التصورات .. المشكلة ، إننا لا نفكّر طويلا في كل هذا التسارع التاريخي الهائل الذي تضبطه المجتمعات المنتجة التي أخذت ترصد جملة من المشكلات الكبرى للطبيعة والإنسان والبيئة والغلاف الجوي للأرض ومجريات الكون ، علما بأن العرب وشعوبا غيرهم تشاركهم محيطهم أذكياء وليسوا بقاصرين أبدا عن اللحاق بحياة العصر ، ولكن ثمّة أسباب تحول دون انطلاقهم وتشكيل مكانتهم العالمية .
    من هنا نتساءل : لماذا أصيبت حياتنا بجملة صاعقة من خطوط التصدّع ؟ لماذا اخفق العرب في مشروعاتهم التي أسموها بالنهضوية والثورية والحضارية ؟ إن علامات حياتنا المتأخرة تتمثل ببطء ولادة الأفكار وتأسيسها في إطارها ، بل وسرعة اختفائها بسبب فوضى التناقضات والاستلابات التي تعم كل أساليبها وممارساتها . إن العرب لم يتوقفوا البتة في استخدامهم آخر مستحدثات تكنولوجيات العصر ، ولكنهم يحاربون كل الايجابيات الصادرة عن العقل والفكر ، بل وان الكسل التاريخي قد فرض نفسه فرضا على الملايين من الناس !
     لقد ولدت ابرز خطوط التصدّع جنبا إلى جنب أساليب البناء ، ولكن تلك الخطوط كانت وستبقى دهرا طويلا أقوى من كل البنيويات ، فالإنسان عندنا متعلقّ بتلابيبها .. وما دام يخلط بين المعاني والأشياء ويقحم القيم السامية في مشكلات العصر الراهنة ، فسيبقى يقترف بحق نفسه ومجتمعاته خطايا لا تعد ولا تحصى ! إن المشكلة هنا ذهنية وسايكلوجية وتربوية قبل أن تكون اجتماعية أو سياسية .. إنها مشكلة ذاتية تتمثّل بسوء تعامل مفجع مع متغيرات متداخلة لا حدود لها مع توالي الأيام ! إن حراك العرب الفكري اليوم لا يستوي وعظمة المواريث القيمية والحضارية التي تمتلكها مجتمعاتنا ، والتي تفتخر دوما بأدوارها الناصعة في تاريخ البشرية ، ولكن التصدعّات القوية أصابت كل ثقافتنا وأفكارنا ومناهجنا ( حتى التقليدية منها ) .. وبات كل المبدعين ندرة وسط موجات خليط اجتماعي بائس ومتوحش لا يعرف كيف يقرأ ، ولا كيف يكتب ولا كيف يفكّر ولا كيف ينتج ، ولا كيف يغتنم الفرص السانحة ، ولا كيف يثمّن الزمن ، ولا كيف يستعذب الكلمة ، ولا كيف يؤصل الأشياء ، ولا كيف يدقق المعاني .. مما يسّبب شقاء الوعي للنهضويين الحقيقيين . لقد عّم التأخر والتخّلف الحياة العربية وطغت المشكلات ، وعمّ فيها أشباه المثقفين ، وامتهن الطفيليون أغلب مرافقها ، فأخذت مكوناتها تضمحل شيئا فشيئا .
     لقد شهدت الحياة العربية ثلاثة أجيال في القرن العشرين ، إذ كان هناك جيل ما بين الحربين العظميين 1919 – 1949 الذي اتسمت نخبه بالبحث عن الحرية والاستقلال الوطني والبناء الفكري ولكنه سحق ولم تقم له قائمة على يد جيل ما بعد الحرب الثانية 1949 – 1979 الذي تبلور عن ثقافة راديكالية إيديولوجية ثورية تعجّ بتيارات قومية وماركسية أخفقت في مهامها وأهدافها ، مّما ولّد جيل لما بعد  1979 الذي سيقفل حياته في العام 2009 والذي يتمّثل بأحزابه وجماعاته وتياراته الدينية المتشدّدة والتي وصل بعضها السلطة اليوم . واعتقد اعتقادا جازما بأن المثقف الحقيقي هو الذي غاب تماما ولم يعد يجيد اللعب بمهارة فائقة وسط تيه من التناقضات الاجتماعية  والانسحاقات السياسية والانغلاقات الفكرية !
     إنني اعتقد بأن خطوط التصدّع ستبقى تكتنف حياتنا لثلاثين سنة قادمة ، وستواجه مجتمعاتنا تحديات خطيرة جدا ، فالصراعات الداخلية ستزداد كثيرا وستتقوقع المحليات على نفسها ، وستتضخم المشكلات اليومية وخصوصا في المجتمعات المكتظة بالسكان .. وستضمحل الثقافة أكثر وسط تهريجات إعلامية وانحرافات تربوية وضحالة علمية  .. وستنزلق بعض مجتمعاتنا في صراعات داخلية وتسوء الخدمات فيها ، كما ستضعف الارادة  بالاستجابة إلى التحديات الصعبة .
    إنني أدعو ليس إلى معالجات سياسية أو انقلابات عسكرية بل إلى الوعي بالمشكلات ، وينبغي تنظيم برامج ومشروعات للحياة والاعتراف بالحقائق والابتعاد عن الأوهام والشعارات ،  وإيجاد حلول واقعية .. إن معرفة خطوط التصدّع بين الداخل والخارج سيمكننا من التفكير نحو الأفضل .. إن توحش السلطة الاجتماعية وفجاجة القوى السياسية ستبقي حياتنا مكبلة بالأغلال عن كل ما يفكّر به الإنسان السويّ.. إن تأسيس مشروعات تربوية وثقافية وإعلامية متمدنة ستعمل على تنمية التفكير وتأسيس الوعي بالعقل لكل انسان قبل غليان العواطف والهيجان في الشوارع . إن الضرورة تقتضي تأسيس مشروعات كبرى من اجل إعادة تسهيل القراءة والالتزام ، وإصلاح المناهج وفهم الآخر ، والإحساس بالمسؤولية ، وتثمين الزمن ، وتعلم لغات حيوية ، وتنظيم العمل ، والوفاء للمؤسسة ، والمنافسة الشريفة ، والدقة المتناهية ، ومكافأة المبدعين ، والاستفادة من الآخر ، والوعي بقيمة الإنتاج ، ونظافة العلاقات العامة ، وبث الإعلامية السامية ، وتربية جيل عالي الثقافة ، والحوار مع العالم ، واستخدام أساليب طيبة ، وإيقاف هجرة الكفاءات ، واحترام الرأي الآخر .. كلها وسائل تخلص العرب ليس من خطوط التصدّع حسب ، بل من كل الأدران التي تجتاحهم منذ زمن طويل . فهل ستسطع شمسنا على العالم ؟ نعم ، ولكن بعد ليل طويل جدا !!   

www.sayyaraljamil.com
البيان ، 7 نوفمبر 2006[/b][/font][/size]

186
متى يبدأ التحديث والتغيير الحضاري  ؟
[/b][/color]

د. سّيار الجميل
      ثمة أسئلة خطيرة طرحتها في مقال لي نشر في صحف عدة يوم 18 نوفمبر 2002  بعنوان : " حقيقة مشروع " تغيير العالم " : متى يفهمها العرب دولا ومجتمعات ؟ " ، واعيد اليوم اثارتها من جديد نظرا لما شهدته وتشهده منطقتنا من الاحتقانات والاحتلالات والمتغيرات العنيفة والانتكاسات المريرة التي تصيب بنيتنا الفكرية وشرائحنا الاجتماعية وفئاتنا السياسية وكل القوى السلطوية في دول المنطقة .. وهل ستبقى الافكار عن " الاصلاح والتغيير " غير مدركة ولا يتم الوعي بها على درجة من اللقانة والنضوج ؟ هل سيبقى الناس يعتقدون بأن التغيير هو مجرد انقلاب عسكري او احتلال اجنبي او رجس من عمل الشيطان فيجتنبوه ؟ انها اسئلة لابد أن يسألها عدد كبير من معشر المثقفين الذين ربما اختلفوا في رؤاهم عن معاشر السياسيين حيال ما يخبئه المستقبل لهذه المنطقة التي لم تؤسس حتى يومنا هذا طريقها نحو المستقبل ، لا على مستوى المبادئ والدساتير ، ولا على مستوى المؤسسات والمجتمعات ، ولا مستوى التفكير وتنمية الذهنيات ! ثمة أسئلة تنتظر أجوبة وافية عليها من دون أي التواءات ولا أي تبريرات ولا إيجاد أي منافذ للهروب ، خصوصا ، وأننا نعيش في عصر تتسابق فيه المصالح الدولية وتتزايد فيه التحديات العولمية وتتنافر فيه البشاعات وتختلط فيه الرؤى ، وتتباين فيه الاتجاهات وتزّيف فيه المعلومات من خلال الإعلاميات الإلكترونية والميدية المتنوعة والأجهزة الخفية المتسّعة والمضادة !

الى متى تبقى " الامة في احلك ظروفها " ؟
    لقد كنت ولم أزل اسمع -على امتداد حياتي - عبارة مهمة وخطيرة تقول بأن " امتنا تمر في أحلك ظروفها " إذ لاكتها الالسن لعدة أجيال مّنا سواء كانت تتضمنها خطب الأجداد قبل قرن من الزمن ، أو في كتابات الآباء قبل نصف قرن منه، أو في أقوال الرصفاء قبل ربع قرن ! وها نحن اجتزنا الزمن وتخضرمنا بين قرنين اثنين ، ولما نزل نسمع ونردد " العبارة " نفسها ! وستبقى الأجيال القادمة ترددها نفسها وتلوكها وكأنها غدت مستهلكة لا قيمة لها أبدا ، هي والمصطلحات التي ترافقها ، مثل : المخاطر والتحديات والأزمات والمشكلات والمعضلات .. الخ إنها وايم الله كلها صحيحة ما دامت المنطقة التي تحتل قلب العالم تعيش حالة غريبة من التناقضات .. وان ابناءها وابناء عالم الجنوب والعالم الاسلامي كله لم يستجيبوا حتى يومنا هذا لتلك التحديات بتأسيسهم تاريخ من نوع جديد ، ولم يعيدوا منهج العقل وتنمية التفكير معا ..  كما وانهم لم يجدوا لهم حتى اليوم علاجات جذرية واقية وحدود دنيا من الحلول العملية التي ربما يعرفها الجميع ويتداولها أولئك الذين يفكرون بالمصير التاريخي الذي ينتظرنا جميعا ! ان عملية الاستجداء الحضاري عن عالم الشمال من جانب وعملية النفخ في قربة مقطوعة سوف لن تنفع عالم الجنوب ابدا ما دام سيبقى رهين التقوقع والتمزق امام قوى التكتلات الجبارة التي باستطاعتها ان تسحقنا كل يوم من كل النواحي . ان أي مشروع استراتيجي دفاعي ينبغي ان يكون ملكا لكل المنطقة لا ان يكون حكرا على دولة واحدة ليس لها الا التهديد وتصدير الكراهية وبث الفرقة .. ان المصالح العليا لكل منطقتنا ينبغي ان تكون في سلة واحدة بعيدا عن المنازعات والمناورات واساليب الثارات والمطامع والاستحواذ على الثروات .
     ان الخديعة لابد ان يلغيها التفكير في منطقتنا ، فليس كل من بنى سلاحا جديدا او اطلق صاروخا عابرا او اسس جيشا عرمرما انه نجح في التغيير والاصلاح والمشروع الحضاري ! ان تجارب منطقتنا في هذا الامر تنبؤنا ان الاعلام يضخم الاشياء ويخدع الناس ، بل وان الاعلام العالمي يلعب بمصائر الدول والشعوب اذ يحسب هؤلاء انهم قادرون على المجابهة  وفجأة يجدون انفسهم يجلسون على حوافي العصور الوسطى وقد سحقوا سحقا ! ان التطوير في التسلح لا يمكن ان يتم بمعزل عن تطوير للحياة وتنمية للمجتمع وصناعة للقوى البشرية الفوقية والتنظيم في المؤسسات والرقي في التربية والديمقراطية في الحياة وتوفير مستلزمات الحياة الحرة الكريمة .. والا نكون قد مررنا بتجارب دول معروفة سقطت منذ اللحظات التاريخية الاولى .. والمشكلة فقدان الثقة بالمشروعات الاقليمية المدمرة التي تسحب الاخرين للمرور بها والاحتراق معها .. انني لا يمكنني ان اتّخيل أبدا أن ينسحق ابناء شعب يوميا والسلطة فيه تبني مشروعات نووية قاتلة وتدخل نفسها في مواجهة مع الاقليم والعالم والنتائج معروفة سلفا !

انتحار الارادات واعادة إنتاج المستهلكات
      ربما يقول البعض بأن الأسئلة معروفة لا حاجة إلى أن نكررها مرات ومرات ! وربما يتنادى الجميع بأن الحلول جاهزة لا حاجة للعرب ولمن يشاركهم المصير في هذه المنطقة .. او مع أولئك الذين يعايشونهم في المنطقة بأن يطرحوا البدائل ! ولكن دعوني أتوقف عند هامش صغير ومتواضع لابد من التفكير فيه خصوصا وان البعض يطمح اليوم أن تتلاقى كل الاتجاهات والتيارات مع بعضها البعض من دون رصد مسبق كي تنبثق إرادة حضارية جديدة  كتلك الإرادة الوطنية والقومية التي شهدت بتاريخها الحافل جملة من الأحداث التاريخية المريرة طوال عقود القرن العشرين بكل انتصاراتها وهزائمها ، بل وكانت منطلقا للعديد من الحركات الفكرية والسياسية الساخنة ، وكانت مواطنها بؤرا راسخة لعدد لا يحصى من التجمعات والمنتديات والأحزاب السياسية والنخب الثقافية سواء الليبرالية أم الراديكالية والتي لم تنجح ويا للأسف إلا في ترسيخ الحكومات العسكرية والأنظمة الشمولية والدكتاتوريات المنغلقة تحت مسميات وشعارات لا أول لها ولا آخر  ..
     لقد كانت ولما تزل تعيد إنتاج نفسها بنفس الحماس والحيوية والقوة ولكن ليس باتجاه الأنشطة السياسية والفكرية الحضارية الذكية ، بل ضمن اتجاهات متخلفة أو أصولية مكفهرة وتيارات ماضوية منغلقة وما ورائية بعيدا عن كل قيم التقدم والحرية في الحياة . كما وأنها لم تبق أبدا  صامدة بوجه التحديات القاسية التي مرت عليها ولم تتجاوزها مطلقا على غرار بقية المجتمعات الأخرى ( وخصوصا مجتمعات المعسكر الاشتراكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشرين ) التي وجدت في مشروع " تغيير العالم " الفرصة الذهبية من اجل تبديل الأنظمة إن لم تكن السياسية نظرا لخطورتها ، فالاقتصادية والاجتماعية والثقافية على اقل تقدير وحفلت مجموعة تغييراتها بكل جدارة وقوة .. ولكن خانتها ارادة الغرب بحيث لم تنقذها من حالات القهر الاقتصادي الداخلي ومن تبلور المافيات ومن غلاء الاسعار ومن الفقر وكل ما يسببه هذا وذاك من الانتكاسات الاجتماعية وهذا ما تمر به اغلب دول خرجت عن مسار العالم الاشتراكي اليوم ! ان منطقتنا ليست بحاجة الى ان تمر بطرق يرسمها لها الاخر لندخل في ازقة معتمة ليس باستطاعتنا الخروج منها ، بل نحن بامس الحاجة الى مفاهيم جديدة تخرج عن مألوف ما يذاع وما يقال وما يكرره هذا وذاك ..

الاهتراء يصيب كل المنطقة : 
   هكذا كان لدى العرب دولا ومجتمعات اكثر من مشروع مستلب من الاخر ، فكان عرضة للتهلكة بسبب قبوله نحر الارادات العملية والإنتاجية والإبداعية ومستعد دوما لاعادة إنتاج المستهلكات وبقايا المورثات العقيمة التي لا نفع فيها اليوم مطلقا  كما يحدث اليوم في مجتمعات عربية واسلامية والتي كان لابد لها من عمليات جراحية تحديثية واصلاحية على غرار البيروسترويكا والغلاسنوست ( = الانفتاح والشفافية واعادة الإصلاح ) ! كان على الحكومات في كل منطقتنا  أن تدرك سرعة التحولات وقوتها في العالم كله . كان عليها أن تفعل شيئا ما بخصوص ممارسة أية أنواع من التغييرات من اجل ما حصل في العالم أجمع وفي كل الاتجاهات ولكن ذلك لم يحدث - مع الأسف - ، بل حصل العكس وساد تكريس للسلطة وتوزيع للادوار واستشراء التطرف وتكريس التجزئة ومحاربة الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان وتخصيب النزعة الما ورائية والإنشائيات الإعلامية والخطابات الفضفاضة الفارغة .. بل ووصلت الاوضاع الكلية في بلدان عربية معينة الى حالات جدّ مرعبة من الشظف والفاقة والتشرد والتهرؤ والتفكك والتردي وهي التي يعاني منها سكان اغلب البلدان العربية .. ومن دون أي محاولة للاصلاح الذي كان ولما يزل ينادي به البعض من المفكرين العرب المتنورين على الساحة منذ اكثر من عشر سنوات !
 
التحديات والصعاب لا نواجهها الا بالانقسامات والتناقضات !!
   لابد أن نلقي بعدة تساؤلات مهمة في سياق الطرح في أعلاه :
هل ستكون هذه الأقوال كسابقاتها من التصريحات العربية ( او غير العربية ) ؟ هل أنها ستكون مجرد اجتماع رأي للصفوة العليا من المفكرين العرب والمسلمين الذين يعلنون ما يريدون قوله من دون أي دراسة ولا تفعيل ولا توظيف ولا متابعة ؟ هل ستكون وجهات نظر تلك الصفوة معبرة عما تريده دول المنطقة أم أنها ستزيد من هوة التناقضات بين ما يطمح إليه المفكرون المستنيرون والحكماء العقلانيون وبين ما يعلنه الشارع السياسي الذي لا يعرف المسكين ماذا يفعل إلا الرجوع والاستكانة بعد هيجانه وقد غدا صوته مبحوحا ومجروحا او مسحوقا ؟ وهل تطمح الصفوة أن تجد حلولا سريعة واعلانية وشعاراتية وتكتيكية أم أنها تسعى لأن تؤسس ثوابت استراتيجية من اجل تاريخ جديد لكل المنطقة ؟
    هل ستوفر دول المنطقة غطاء لنفسها بتأسيس لغة خطاب مشتركة والعمل على ايجاد سياسات غير مضّرة بعضها بالبعض الاخر ؟ هل يمكنها ان تتفق سرا على استراتيجية معينة تتوافق فيها على ان لا تعلن واحدتها الحرب على الاخرى ؟ هل يمكنها ان تؤسس لاستراتيجية اصلاح شاملة بعيدا عن التنافر الايديولوجي والعقائدي والطائفي وحتى السياسي من اجل درء الاخطار عن المنطقة ؟ هل استوعبت بعض دول المنطقة تجارب من سبقها في التسلح والى اين سيقود المنطقة ذلك في خضم احداث عاتية تجتاح منطقتنا التي دمرتها التدخلات الخارجية ؟ هل يعي بعض زعماء المنطقة ان التنافر السياسي بين دول المنطقة والتدخلات الاقليمية لا يجدي نفعا للجميع . ولابد من استعادة العقل ولو لمرة واحدة في تكييف حياة المنطقة لمخاطر المستقبل ؟ هل تخلصت بعض دول المنطقة من عوامل الكراهية والاحقاد والاطماع التي تكمن في احشائها ازاء مجتمعات الاقليم كله ؟ هل تقف المنطقة من محن تصيب مجتمعات المنطقة وشعوبها .. خصوصا اذا ما علمنا بأن التشرذم بدأ يصيب البلد الواحد ، فكيف بالمنطقة اجمع ؟

دور المؤسسات المدنية والاهلية
    وعليه ، هل تقبل حكوماتنا كلها بأي دور للمؤسسات المدنية والأهلية لكي تفعل ما تريد في إطار القانون ؟ اعتقد إن الوقت قد فات اليوم ، إذ غدت التدخلات الخارجية ( والأمريكية خصوصا ) سافرة بحيث لا يمكن لأي حكومة في العالم اليوم إلا ورعاية مصالحها الحيوية إزاء هذا القادم الجديد الذي افتتح القرن الواحد والعشرين بكل قوة واندفاع وشراسة ، ومن المحزن جدا أن هناك من نبّه إلى مثل هذه التحديات قبل حلولها ومنذ سنوات خلت ومن بين صفوتنا العربية والاسلامية المفكرة .. ولكن يا للأسف الشديد لم تلتفت الحكومات العربية ولا مجتمعاتنا إليهم وإيجاد حلول عملية ونوعية للحياة المشتركة ، ففات القطار سريعا على الجميع وعبر ولن يتوقف عند جميع المحطات وبسواقه وبكل من فيه من الركاب .. فأين سيصطدم .. الله وحده يعلم !
      ولكن السؤال : هل سيتعلم العرب من جملة التجارب القاسية التي مرت بهم في القرن العشرين ولم تزل تمر بهم ؟ أبدا ، وكأن الله قد كتب على هذه المنطقة أنها لم تعرف الا التصادم والتفكك الجغرافي والسياسي وان هذه الامة العربية لا تدرك من التاريخ إلا داعس والغبراء ! اليوم يمر عالمنا في مخاض صعب جدا من التغييرات الإستراتيجية الكبرى التي ستؤثر في مفاصله كلها ، خصوصا عندما نعلم بأن سطوة الدولة القوية قد ازدادت وتفاقمت جدا بحكم قوة إمكاناتها وتضخم أرصدتها وتطور كل مرافقها ومؤسساتها وآلياتها ومنتجاتها واقتصادياتها التي شاركها فيه المجتمع جنبا إلى جنب في كل العمليات . فهل ثمة استعدادات حقيقية للاتي من الايام ؟ هل انتصرنا للافكار الجديدة في حسن استخدامها ؟ هل سينجح مشروع الديمقراطية في مجتمعاتنا اذا ما استغل طائفيا ودينيا وعرقيا وثقافيا وطفيليا وسلطويا وعسكريا .. في دولنا التعيسة ؟

تاريخ جديد للعالم سيبدأ العام 2009 !
       كل هذا وذاك يعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك أن تاريخا جديدا قد بدأ وسيبدأ فعلا – في نظري- عام 2009 أي اثر الاقتراب من نهاية العقد الأول من هذا القرن الجديد إذ سنلحظ اختلافا مباشرا عما ألفناه في القرن العشرين من التجارب والأحداث والتفاعلات والآثار .. إنني أجد بأن إرادة الدولة غدت أقوى بكثير من تطلعات المجتمع الذي لم يزل يعتقد بأن صوته له تأثيره وفاعلياته في الحياة السياسية ، وهو على خطأ كبير في التقدير وخصوصا بعد مرور القرن العشرين الذي عاش مختلف البدائل التاريخية بولادة وظهور وقوة  وموت العديد من الأيديولوجيات والعقائد السياسية التي كنستها اليوم عمليات ما اسمي بـ " تغيير العالم " . وحتى ان بقيت بقايا وترسبات تلك الايديولوجيات ، فانها قد اختلفت عن ينابيعها الاولى وتطلعات اصحابها قبل خمسين سنة .. إذ غدا هذا " المشروع " هو المهيمن على هذا العالم لا يسمع فيه إلا صوته ولا يعمل إلا من خلال ما يفرضه على الآخرين من التوجهات والأساليب والمناهج والخطط والعمليات.
      لقد بدا واضحا أن كل ما تعبت عليه ومن شأنه دول ومنظومات وتكوينات سياسية وعسكرية وأجيال ممثلة بأحزاب ومنظمات وكتل وجيوش وجماعات ونقابات  ونخب وهيئات .. فضلا عما تربت عليه الشعوب من قيم ومبادئ وطنية وقومية ودينية واعراف وظيفية ونقابية ومهنية .. ناهيكم عن أعراف وقوانين ومؤسسات ومنظومات وأجهزة .. كلها لا نفع أبدا فيها ، كما أنها لا قيمة لها ولا تتمتع بأي نوع من السيادة والكبرياء وشرف المواطنة وعمل فعل شيء .. لأنها غدت جزءا من تقاليد الماضي التي تعتبرها ظاهرة العولمة اليوم بمثابة موروثات مركبة وتالفة لا دور لها ولا نفع منها اليوم في ظل تغيير العالم المعاصر . وغدت مجموعة القيم والأفكار السياسية والعقائدية لها من الخصوصية التي لا يرى العولميون الجدد إن الشعوب بحاجة إليها .. باستثناء العادات والتقاليد الاجتماعية والفلكلورية فهي جديرة بالانتشار إذا ما رغبت فيها شعوب أخرى . ان شعوب المنطقة مهما كانوا من الغلاة والمتعصبين لمواريثهم ، فهم في النهاية اسرى مستهلكين لما تنتجه هذه العولمة الشرسة التي اصابت العالم كله وهزته من اعماقة منذ عشر سنوات .. وستصيب العالم كله متغيرات جذرية عميقة ان لم ندرك مخاطرها وعند ذاك لا ينفع الندم !

سطوة التاريخ وسقوط المستقبل
     إنني ادع نفسي كل يوم لوحدها قليلا ليس من اجل مناجاة السماء روحيا فقط ، بل من اجل التفكير في الأرض ومصيرها تاريخيا ! أفكر قليلا لأدع قرائي الأعزاء يفكرون مليا خصوصا عندما نسترجع ما كنا قد تربينا عليه نحن في القرن العشرين من القيم والثوابت والمبادئ والأصول .. أفكر اليوم كم أصبحت كلها هشة قابلة للانكسار والتفتت في أية لحظة من زمن جائر وعلى أيدينا انفسنا ! كيف كانت فكرة الوطن والسيادة وعلم البلاد والنشيد الوطني وجيش البلاد وحرمة الشبر من الأرض والمقدسات والشهادة والجيرة والتعايش والضمير ومصطلحات كالمجد والماضي التليد والزحف المقدس وتحرير الوطن من الغاصب الخ .. اذكر معلمنا كيف كان يقول والوردة البيضاء معلقة على صدره : الوطن كالثوب الأبيض الناصع علينا أن نحافظ على نظافته كيلا تصبه أي بقعة حمراء أو لطخة سوداء لا يمكن أن تمحى عنه أبدا  ، فنكون قد سجلنا نقطة مشوهة في تاريخنا أمام كل العالم وستحاسبنا الأجيال على ذلك ! كنا نسأله ويجيبنا ونحن من اليافعين كيف نحافظ على أسوار الوطن وأسراره من العاديات ؟ وكيف  نكون أذكياء ويقظين ومنتبهين ، فلابد أن نختبئ قليلا عندما تهب علينا العواصف الهوجاء .. وعلينا أن نتحاشى شراسة الخناجر والسكاكين كيلا نتضرج بدمائنا ونفتقد هيبتنا في العالمين !
     وعلينا أن نتعامل مع الآخرين بكل مهارة وحذق في الأسواق الفاحمة المزدحمة من اجل النفع العام والصالح العام بعيدا عن دكاكين البارود في ساحات الهرج والمرج ، ثم نخرج من تلك الأماكن والثوب ابيض كالقرطاس ! وإذا وجدنا أنفسنا والأوحال من حولنا ؟ فلابد أن نحذر ونرفع الثوب الناصع إلى الأعلى ونجد طريقا ملتويا قصيرا بعيدا عن كل الأقذار . أما لو تعرض الثوب للتمزق ووهج الحرائق ؟ فلابد من اتقاء النار بأي ثمن كان .. فمن سيقي حرماتنا وأجسادنا وجلودنا .. ؟؟ رحم الله معلمنا كم كان شريفا يقدس الوطن والقيم العليا والصالح العام !

مشروع التجديد والتغيير لا يقترن بأي مشروع امريكي
    وأخيرا ، متى يدرك زعماؤنا بأن مشروع تغيير العالم لا يمكنهم أبدا مناطحته ومقاومته بمثل أوضاعهم المفككة الراهنة ، فلابد من الشروع بمشروعات تغيير وتحولات في تكويناتهم وبنيوياتهم وأفكارهم وأنشطتهم ومؤسساتهم وأجهزتهم .. ولينظروا إلى ما يجري في كل العالم من تغييرات ، وآخرها ما حدث قبل أيام في الصين من تحولات جوهرية ! وعلى كل انسان واع ومدرك لاتون الحاضر ومخاطر المستقبل ان يتوقف عن الردح ليعالج الامر بمنتهى الحكمة والصبر واحترام الرأي الاخر .. لقد شهدنا منذ خمس سنوات واكثر بأن كل من يدلي بفكرة الاصلاح يتهم انه يمالئ امريكا وخططها في المنطقة .. وانني اعرف بعض الاخوة من المفكرين العرب من يحجم الان على طرح موضوع الاصلاح كيلا يتهم انه مشروع امريكا في المنطقة .. ان مصيبتنا لم تزل رهينة بايدي المتخلفين والمتعصبين لافكارهم الجامدة وتقاليدهم القديمة التي تجاوزها الزمن وما زالوا يتعبدون في اروقتها ليل نهار .. والاهم هنا التأكيد على تساؤل يقول : متى سينفصل في الذهن العربي والاسلامي اقتران مشروع الاصلاح والتجديد والتغيير بأي مشروع امريكي او غربي ؟ ان الخروج من سجن هذه الفكرة المقيتة ستحرر الانسان وستطلقه كي يتعامل مع كل العالم ويتعلم من كل تجارب العالم لبناء المستقبل بمعزل عن فكرة الهيمنة وبمعزل عن فكرة أي مشروع امريكي او غير امريكي .

وأخيرا : ما القول .. ما العمل ؟
وهنا ماذا يمكنني قوله في نهاية المطاف ؟
انني استطيع ان اعيد ما قلته في آخر مقال لي عن تغيير العالم نحو الافضل ( البيان ، 1 نوفمبر 2006 ).. قلت : " إن العالم بالرغم من إيمانه بالديمقراطية كأسلوب حياة وتعامل وتربية وأصول وثقافة واسلوب حياة ، فان تجاربها السياسية تكاد تكون فاشلة في أجزاء متنوعة من عالم الجنوب ، ليس لما تحمله من مبادئ ولكن لسوء الخطاب الذي يسوقّها سريعا في مجتمعاتنا أولا ، ولسوء أساليب استلابها وتطبيقاتها بشروط طائفية أو عرقية أو مذهبية أو عشائرية أو طفيلية بدائية  ثانيا.. مما افقد الناس الثقة بها خصوصا وأنهم لم يتربوا على أية مبادئ ديمقراطية كالذي عاشته الشعوب الأخرى منذ قرنين . إن من أولوياتنا أن نقّرب حجم الهوة بين عالمي الشمال والجنوب ، إذ لا يمكن ان يبقى عالم الجنوب يستهلك المصنوعات ويحرق الزمن ويتنكر للواقع ويهمش الأذكياء ويتلذذ بالماضي ويعشق الذات ويمقت القراءة ويكره الموضوع ويهجر الأوطان ويعبد الانوية ويتلبسه اللاوعي وتفزعه النقدات وتفككه الانقسامات وتشرذمه الطوائف وتستبيحه التناقضات .. وبنفس الوقت على عالم الشمال أن يراعي الحقوق ويساعد الآخر ويتفهم المآسي ويسمح بالانسجام ويكف عن التعبئة والاعلام المضاد ويتوقف عن الغطرسة ويتخّلص من المافيات ويكبت الشرور وينفي الكراهية ويثق بالعالم ويتقاسم المصالح ويراعي فقراء العالم ويبعث الشراكة ويتوقف عن الانتقام ويحترم المشاعر .. إن العالم لا يسير في تغييره نحو الأفضل إلا بعد توظيف خطاب العقل والكف عن غوغائية الضياع .. فهل سترضي كلماتي هذا العالم ؟ انه يزداد ضراوة من اجل مستقبل مجهول سيعج بالانهيارات الخطيرة ". وعليه ، فان المنطقة بحاجة ماسة الى الاصلاح لمواجهة المتغيرات العالمية .. فهل سيحدث العرب ومن يعايشهم في هذه المنطقة شيئا من هذا القبيل ؟ إنني اشك في ذلك   !!


www.sayyaraljamil.com

ايلاف 3 نوفمبر 2006[/b]

187
هل يتغّير العالم نحو الأفضل !؟؟
[/b][/color]

د. سّيار الجميل

ربما سيتساءل المؤرخ في المستقبل عن أسرار تغيّر العالم بين القرنين العشرين والواحد والعشرين عندما يكتشف حجم الزمن الضيق الذي دخل العالم إليه .. وكم أصبحت ظواهر التاريخ مجردة من عظمتها الكلية وهي تجلس على تخوم التفكير الجزئي ! وكم ترّدت أفكار الجيل الجديد بتأثير الثورة العولمية والرقمية ومات التأمل والتفكير الحر .. ولم يعد الإنسان يمتلك وقتا لتبادل الأشعار ولا الرومانسيات ولا التحليق في تأملات الحياة والطبيعة والكون ! كم حدثت هناك من تبدلات على مستوى النزعة الفردية وكم أصبحت " الديمقراطية"  مستهلكة في المصطلح والمعنى معا ؟ كم تدمّرت القيم الاجتماعية وأصبحت الشمولية تأكل المجتمعات وتسحق المشاعر وتنحر التأصيل ! كم غدت السرعة والتقليد والهذيان عناوين لكل الأشياء .. كم غدت الثروات والكارتلات مشاعة لدى الطفيليين والبدائيين في عالم متوحّش وبإحجام غير متخّيلة أبدا ؟ كم ازداد العنف كثيرا عما كان عليه ليعّم الارهاب العالم كله ؟ وكم زحفت الرذائل لتتغلغل في اعماق النفوس ودواخل البنى الاجتماعية ؟ كم فسدت العلاقات الإنسانية اثر انحسار الضمير والجشع وتفاقم المصالح وشبكاتها المخيفة ؟ وهذا التضخم السكاني الهائل لم يقابله تطور في العقل والثقافة ؟ مع أزمات الغذاء والماء والطاقة في هذا العالم ؟
    استطيع القول إن غياب الانعكاس الثنائي في التاريخ بعد انهيار توازن العالم قد اخضع الدنيا كلها إلى هياج التناقضات وممارسة أسوأ أساليب الحكم وكوابح في تربية الاجيال .. كلها قادتنا إلى التهلكة ، فاغتيلت المجتمعات في حروب قاتلة وعمليات مدمرة  وتجارب فاشلة وتفجيرات مروعة .. بل وتبلور صراع في الثقافات تترجمه صدامات جديدة تنال من الحياة حتى في قلب أوروبا وأمريكا .. وبقدر ما نعيش من إخفاقات مريرة في هذا العالم ، فان الواقع يترجم نفسه عن سذاجة دول كبيرة في التعامل مع دول صغيرة ، وعن انقسام العالم بين جياع في الجنوب ومترفين في الشمال .. عن غيبوبة الفكر والفلسفة العميقة إلى حد كبير حتى في أوروبا الغربية .. وحتى إن وجد فلاسفة كبار اليوم ، فلا يمكنهم أن يقفوا مع صوت الشعوب المقهورة كما وقف من سبقهم في القرن العشرين .. وعندما افتتح  الرئيس الأمريكي الشهير ولسن مطلع القرن العشرين بجملة مبادئ سلم ، فان الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش قد افتتح عهده في القرن الواحد والعشرين بمبادئ حرب ، وإذا كان الأول قد نجح في كسب ود العالم كله إليه ، فلقد فشل الثاني في كسب ود حتى أبناء بلاده !
    إن استمرار انقسام الدنيا بين عالمين غير متكافئين ، أي بين شمال وجنوب ، سيخلق جملة هائلة من المتاعب ! انني ارى بأن كلا من العالمين قد اصبح في حالة صراع وتصادم بين مصالح ومنافع واطماع .. وهذا أمر لا يستخف به أبدا خصوصا إذا علمنا بأن متطلبات الشعوب تزداد يوما بعد آخر ، وان فرص تنظيم الحياة الاجتماعية باسم بعض المبادئ السياسية إنما تشكّل نوعا من المرجعية المعيارية التي لا تتوافق حتما مع أساليب العولمة ونظمها الصعبة وان تعدد الأنماط لحياة مشتركة قد لا تتوافق عليها شرائح المجتمع الواحد ، فكيف نضمن ممارسات سيادية وميدانية فاعلة في إدارة شؤون الحياة الاجتماعية عبر علاقات سلطة وسلطة موازية .. والأمر لا ينحسر بمجتمعات عالم الجنوب ، بقدر ما تتفاقم مخاطره أيضا في عالم الشمال الذي بدأت فيه جملة مشاكل للجاليات أو مشاكل البطالة أو مشاكل الطبيعة والصحة ..
لقد سيطر كل من الخطابين السياسي والإعلامي على أنفاس الحياة اليوم في العالم كله ، فلم يعد احد يلتفت إلى المثقفين ولا إلى الفلاسفة ولا إلى الأكاديميين ولا حتى النخب الفكرية أو الفئات النقابية .. بل ولم تعد مشكلات العالم ( وخصوصا عالم الجنوب ) تثير هلع واهتمام المفكرين العالميين الكبار أو الصغار كما كان يجري في القرن العشرين واهتمامهم بمشكلات العالم الثالث ـ كما كانوا يسمونه ـ ! إن الحياة تتيبّس يوما بعد آخر بفعل تبلور التكتلات العالمية التي تهمها كيف تكاثر الثروات وكيف تغدو برمائيات بين بر الشمال وماء الجنوب لتستحوذ حتى على ما يستحصله الباعة المتجولون في عرباتهم التي تزدحم بها شوارع المدن التعيسة !
إن العالم بالرغم من إيمانه بالديمقراطية كأسلوب حياة وتعامل وتربية وأصول ، فان تجاربها السياسية تكاد تكون فاشلة في أجزاء متنوعة من عالم الجنوب ، ليس لما تحمله من مبادئ ولكن لسوء الخطاب الذي يسوقّها سريعا في مجتمعاتنا أولا ، ولسوء أساليب استلابها وتطبيقاتها بشروط طائفية أو عرقية أو مذهبية أو عشائرية أو طفيلية بدائية  ثانيا.. مما افقد الناس الثقة بها خصوصا وأنهم لم يتربوا على أية مبادئ ديمقراطية كالذي عاشته الشعوب الأخرى منذ قرنين .
إن من أولوياتنا أن نقّرب حجم الهوة بين عالمي الشمال والجنوب ، إذ لا يمكن ان يبقى عالم الجنوب يستهلك المصنوعات ويحرق الزمن ويتنكر للواقع ويهمش الأذكياء ويتلذذ بالماضي ويعشق الذات ويمقت القراءة ويكره الموضوع ويهجر الأوطان ويعبد الانوية ويتلبسه اللاوعي وتفزعه النقدات وتفككه الانقسامات وتشرذمه الطوائف وتستبيحه التناقضات .. وبنفس الوقت على عالم الشمال أن يراعي الحقوق ويساعد الآخر ويتفهم المآسي ويسمح بالانسجام ويكف عن التعبئة والاعلام المضاد ويتوقف عن الغطرسة ويتخّلص من المافيات ويكبت الشرور وينفي الكراهية ويثق بالعالم ويتقاسم المصالح ويراعي فقراء العالم ويبعث الشراكة ويتوقف عن الانتقام ويحترم المشاعر .. إن العالم لا يسير في تغييره نحو الأفضل إلا بعد توظيف خطاب العقل والكف عن غوغائية الضياع .. فهل سترضي كلماتي هذا العالم ؟ انه يزداد ضراوة من اجل مستقبل مجهول سيعج بالانهيارات الخطيرة.
   
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية  1 نوفمبر 2006

188
فضائيات عدم الاحتراف  !!
د. سّيار الجميل
مؤرخ عراقي

     لا ننكر أبدا أن ما حدث في السنوات العشر الأخيرة في الإعلاميات المرئية ، إذ يعد ثورة حقيقية في المعلومات والرأي والأفكار والأخبار من خلال تطور الميديا الحديثة وشبكة المعلومات الدولية ، وأصبح العالم صغيرا ، بل وأصبحت مجتمعاتنا نفسها منكشفة بعضها على الأخر ، وكل يوم يمضي تتّكشف كل مخفياتها ومسكوتاتها واسرارها التي اختزنتها لازمان طويلة .. حتى تلك التي تكمّمت في إطار المجتمع الواحد ! واعتقد إن فضائياتنا العربية كان ينبغي عليها أن تكون أكثر حرفية وذكاء ومهنية وأداء في معالجة واقعنا الذي لم يعد يحتمي بالمستورات ويكشف أكثر عن كل أسراره الجميلة والبشعة ! لقد غدا الإعلام العربي بكل مجالاته وميادينه أهم وسيلة لكشف كل مخفيات مجتمعاتنا العربية والاسلامية وما كانت قد سكتت عنه السياسات لازمان طوال ..
بدا الناس يتعّرفون لأول مرة على كنه مجتمعاتهم وما تتضمّنه شرائحها وبيئاتها وجهوياتها من عادات وتقاليد وطقوس غير مشتركة .. بل وان الواقع كله بدا منفضحا ومتعريا بكل ما فيه من أدران ومشكلات ورزايا ، خصوصا وان المادة الإعلامية باتت أساسية جدا اليوم لمتابعة مختلف التطورات في كل عمليات التغيير السريع .
     من المؤسف جدا ، أن إعلاميينا العرب سواء القدماء ام المعاصرين ، لم يكونوا بمؤهلين أبدا لمواجهة هذه التحديات الجديدة ، ولم يغدوا حتى الآن بقادرين على توظيف كل منجزات العصر في خدمة مجتمعاتنا وتطوير ذهنياتنا وتكوين مصائرنا ، ولا يمكن أن ننكر أن لبعض فضائياتنا وقعا إعلاميا كبيرا من خلال إعلاميين حقيقيين محترفين للمهنة وأذكياء في متابعة الأحداث التاريخية التي عصفت بالمنطقة منذ سنوات ، ولكن إن نجحت من الناحية السياسية ، فهي تبدو عاجزة في المساهمة بمعالجة الجوانب الاجتماعية والفكرية والأوضاع السكانية والثقافية ..
    لقد ازداد عدد الفضائيات الناطقة بالعربية وسيزداد مع توالي الأيام القادمة وزادت معه كل التداعيات والأخطاء ، وغدا بعضها ناطقا باسم أشخاص وأحزاب وطوائف ومذاهب وبأساليب متدنية جدا بكلّ ما تقدّمه للناس من إسفاف حقيقي وخزعبلات ومهاترات .. لقد غابت الرقابة على الممنوعات من قبل سيطرة الدولة لتصبح الأمور مخصخصة ومنفلتة إلى الدرجة التي لم يعد فيها المشاهدين بقادرين على رتق الفجوات وتضييق المرئيات ..
     إن الإعلام العربي اليوم ليست له أي مصداقية حقيقية ، إذ لا يمكنني اعتباره محايدا أبدا ، فالفضائيات التي غدت أهم ميادينه لا تكتفي بأدوار الإثارة المصطنعة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو والمسلسلات التافهة والأفلام السخيفة أو الاستعراضات البدائية أو المكررات الساذجة ، بل أن بعضها يساهم في نشر الشعوذة في برامج استهلاكية رثة ترتزق منها المحطات عبر الاتصالات والأسئلة والأجوبة ..
لقد أطلعني احد الأصدقاء صدفة على برنامج فضائي في قناة معينة تستضيف فيه معتوها ليوزع على من يكلمه بالتلفون نصائحه السحرية وشعوذاته البدائية التي لها ـ كما يبدو ـ جماهيرية واسعة في مجتمعاتنا ونحن في القرن الواحد والعشرين ..
إن دور الفضائيات يغيب تماما في تربية الأجيال وتصويب الأخطاء ونقد المواقف ونشر الرأي العام ومتابعة الأحداث وتحليل الظواهر ، بل وتغيب أيضا بشكل مقصود مساهمات العلماء والمفكرين والتعرف على الثقافات والعالم .. إننا لم نجد أي إعلام واقعي في صناعة المستقبل !
    أما من الناحية السياسية ، فان للواقع صورتين أولاها يعكسها الإعلام الواقعي كما هي بلا تغيير ، وثانيها تقوم على التشويه بعيدا عن أي موضوعية وحيادية ومصداقية لأنه لا يصور ما هو كائن وموجود فعلا. أن لكل فضائية عربية سياسة معينة ومزاجية خاصة ومرجعية لها لا تتجاوز خطوطها الحمراء واضويتها الخضراء ، وهذا لا يمكن أن يمرّره الوعي العربي اليوم الذي يطمح أن يرى الحقيقة مهما كانت مريرة ، وإذا كانت الفضائيات تعكس ما ترغب به المجتمعات لا الدول ، فإنها تساهم في تأخر الوعي وتعمل على جر تفكيرنا إلى الوراء قسرا وأنها تزرع كل الخطايا في طبيعة الإدراك الجمعي الذي بات يستهوي ما يرضي عواطفه وما يشبع رغباته وما يلائم أمزجته وما يريح أعصابه ..
    إنني أعيد مناديا ومطالبا بالاتفاق على لائحة عربية تطالب الجميع بالاحتراف وبعدم جعل الحرية وسيلة تبرر نشر الفساد الفكري والاجتماعي والأخلاقي وإشاعة الدجل والخرافة والشعوذة وزرع الانقسامات الطائفية والمذهبية وإثارة المواقف وإشعال المشاعر المضادة للحقائق العقلانية والواقعية . لقد كان لبعض الفضائيات شهرتها من أدوار التشهير والإثارة والسخرية من خلال مذيعيها ومراسليها و (خبرائها الاستراتيجيين) الذين ليس لديهم عمل سوى خلق وإثارة المتاعب والاستفزازات واللعب على العواطف والأعصاب ! 
وهناك سوء تصرف فاضح لإعلاميين وضيوف وأناس عاديين بوسائل الاتصال المتنوعة وخصوصا بتدخلاتهم وإطلاق آرائهم الشخصية مع سيل من التهم الجاهزة والشعارات السياسية والتهريجات المتفق عليها بعيدا عن روح الشفافية  والموضوعية حتى طغت السلبيات على الواقع نتيجة إذكاء كل النفوس في الضد ؟
     وعليه ، لابد من إصلاحات جذرية معمقة يقوم بها مختصون أذكياء ! كما أن جيلنا الحالي لا يعرف من فضائيات اليوم إلا الانغلاق ومكررات النصوص وتشويه العقول والسذاجة الفكرية . انه بحاجة إلى ثورة فكرية وإعلامية وأخلاقية في تطوير أساليب الحذاقة والمهنية العالية والعقلية المنفتحة ، وان تلغى كل هذه البرامج السخيفة التي دخلت كل البيوت والغرف .. إن أجيالنا القادمة ستطالبنا حتما بضرورات المستقبل ، ولكن فضائياتنا تأكل الزمن ، وتضعف الحياة ، وتشغل التفكير ، وتميت الأعصاب وتشوه الأذواق .
    ان هذه الثورة الإعلامية إما أن تغدو وسيلة نهضوية حضارية من اجل بناء المستقبل ، أو أنها ستبقي حياتنا كسيحة واستهلاكية وضائعة ، وتلك هي مشكلة معقّدة لا يمكن حلّها أبدا . وعليه ، نطالب بأن يندرج الإعلام المرئي خصوصا في دائرة اهتمام الدول والمجتمعات والمدارس والجامعات وحتى النخب من اجل تقويم أدائه وتطوير برامجه ومنوعاته والاستفادة من مبتكرات ما تقدّمه بقية المجتمعات لأبنائها . فهل ستتحقق أمانينا ؟ إنني اشك في ذلك !

www.sayyaraljamil.com
25 اكتوبر 2006 [/b][/size] [/font]           


189
الفيدرالية العراقية:
سكّة سلامة أم عربة ندامة !
د. سّيار الجميل
" Make Haste slowly"
مثل لاتيني

ومثله قالت العرب : " في التأني السلامة وفي العجلة الندامة "
وقال الشاعر :
قد يدرك المتأني بعض حاجته     وقد يكون مع المستعجل الزلل
رؤية نماذج مقارنة في المفاهيم والتطبيقات الدستورية
مقدمة : إشكاليات الموضوع
    لقد كانت الفرصة غير سانحة في عرض كل المفاهيم والافكار في الندوة التلفزيونية التي جمعتني بالصديق المفكر اللبناني الدكتور رغيد الصلح في برنامج ( تحت المجهر ) الذي تعّده وتقدمه السيدة بريهان قمق من تلفزيون الشارقة ، وكان ذلك مساء يوم الاثنين 16 اكتوبر 2006 . وعليه ، دعوني اسجل هنا بعض افكاري وما لدي من معرفة متواضعة اكتسبتها حول تاريخ هذا الموضوع من خلال محاضراتي في عدد من الجامعات التي دّرست فيها التاريخ الدستوري للعالم الحديث وتاريخ اوروبا الحديث .. وهنا ادع العراقيين كلهم يفكرون في الذي يجري اليوم من تجربة تاريخية باسم الفيدرالية وجعل العراق من خلال سن قانون الاقاليم مجموعة اجزاء ثلاثة او اربعة اجزاء بعد تفكيكه وتصنيفه الى اقاليم .
    وهل يمكن للعراق ان يعيش مفدرلا ؟ ومن يضمن انه فيدرالياته لا تتحول بسرعة الى كونفدراليات مستقلة ما دامت هناك ثمة نصوص دستورية تعّبد هذا الطريق بالورود ؟ وهل يمكن للعراق ان يؤسس فيدراليات على اساس طائفي او كانتونات على اساس اثني ؟ وهل يمكن للمصير الوطني والتاريخي ان تحدده احزاب سياسية معينة ربما لا تحظى بارادة العراقيين جميعا ؟ وهل يمكن للعراقيين ان يحددوا مصيرهم من خلال اسلوب لم يتفقوا على حدوده الدنيا ؟ انني اعتقد بأن العراقيين منقسمون اليوم ازاء النهج السياسي الذي اختير لهم ، او انهم منشغلون في ما هو ادهى وامّر في اصعب مرحلة تمر بهم .. وحتى ان وافقوا على أي مبدأ فيدرالي اتحادي ، فان الممارسات والشعارات توحي لكل العراقيين بأن المشروع ليس نظيفا على الاطلاق .. وانه بالفعل سيؤدي بالبلاد الى مصير مجهول من خلال مباركة فاضحة للتقسيم ، واذا كان البعض يغض الطرف عن ذلك متعمدا او عن جهالة ، فان الواقع الاجتماعي والسياسي يفرض التقسيم فرضا ..
 وهنا اريد القول بهذه المناسبة وان أرد ردّا جازما على كل من يقول بأن من يقف معترضا على الفيدرالية ومعارضا للاجراءات التي حصلت اما ان يكون صداميا واما ان يكون تكفيريا .. وهذا حكم بليد نسمعه من هذا ونقرأه عن ذاك .. انه حكم لا يراعي مصالح العراق ولا يؤمن فعلا برأي العراقيين ، بل ولا يحترم كل المعترضين المنطلقين من رؤية واضحة ومعرفة متمكنة واستقلالية سياسية معلنة .. وينبغي ان يعلم امثال هؤلاء الساسة الذين يتهمون معارضيهم بشتى التهم انهم لم يعرفوا شيئا من الفيدرالية ولا أي شيئ عن تطبيقاتها ولم يقرأوا تجاربها في العالم ، انهم بهذا الاسلوب وهذا النهج يبدون من اضعف القادة والساسة الذين انجبهم العراق في العصر الحديث ، وانهم يمارسون احتكارا ليس للعراق وحده ، بل لمصير العراق ومستقبل العراقيين ايضا . 
هواجس العراقيين لا تحدّها حدود !
    لم يعد هذا " الموضوع " الشغل الشاغل لكل العراقيين ، فالعراقيون منشغلون حقيقة بهواجسهم وامن اولادهم وكسب معاشهم ولم يعد يفكروا بمستقبلهم ومصيرهم بعد ان دارت كل بلايا التاريخ وحلت التعصّبات بديلا عن الروح المنفتحة .. لكن هذا " الموضوع " هو شغل شاغل بعض القادة والاحزاب وبعض نخب من ساسة متعصبين وانصاف مثقفين من الذين تركوا كل ما تحتاجه البلاد واخذوا يركضون وراء تحقيق سراب يستحيل خلقه في بلاد مثل العراق والتي لا يعرفها الا من خبرها وتمّرس في خبايا تاريخها ، وان سر تفوق بعض الزعماء العراقيين في الماضي هو استكشافهم اسرار هذا المجتمع الذي ان عرف ، سهل امر قيادته !  وينقسم الرأي العراقي العام اليوم بشأن الفيدرالية الى ثلاثة اقسام ، قسم يدفع باتجاه هذا المشروع الى الامام بأقصى قوته ، وقسم يقف في الضد منه او متحفظ عليه اذ يعده بابا لانقسام البلاد .. وقسم ثالث لا يعرف ما الفيدرالية اصلا ، ولا يدري من امرها شيئا يذكر ابدا ( ومن هذا القسم الاخير ساسة ونواب ومثقفين وحتى زعماء احزاب وكتل !! )  ..
     واستطيع القول بأن هذه الاتجاهات الثلاثة تعيش وهما وتستخدم موقفها من هذا " المشروع " لاسباب سياسية ومصلحية ولكونها صاحبة اهداف شخصية وفئوية وطائفية معينة .. وهنا ينبغي على كل عراقي ان يسأل نفسه قبل ان يوزع الاحكام ، او ان يتخندق برأيه ويتّصلب به ويطيل لسانه على من يخالفه الرأي : هل ان هذا " المشروع " بداية لتقسيم العراق ؟ واذا كان كذلك ، فهل يدرك كل من يسعى الى تطبيق هذا " المشروع " ذلك ، وانه فعلا يعمل على تقسيم العراق ؟ واذا تحقق تقسيم العراق ، فهل يمكن ان تتحقق احلام من يسعى جاهدا لذلك ؟ وعلى من يناصب هذا المشروع كل العداء ، ينبغي ان يسأل نفسه ايضا : هل ان الفيدرالية لا يمكن تطبيقها اصلا ؟ هل العيب في اسلوب متطور من اساليب انظمة الحكم ؟ وهل ثمة خلل في مبادئ الفيدرالية ومضامينها واشكالها ونماذجها ؟ وهل سعى كل العراقيين الى معرفة كنه هذا الاسلوب او : النظام من انظمة الحكم وخبر تاريخه وعرف تجاربه ودرس قوانين البلاد الفيدرالية ؟ دعونا اليوم نعالج على مهل هذا " المشروع " كي نتوصّل الى مجموعة افكار مشتركة بعيدا عن غوغائية الساسة وضعف مدارك بعض انصاف المثقفين وبدائية افكار المتعصبين .. وايهام الشعب ليل نهار بالانتصارات القادمة والاحلام الوردية السعيدة .. كما جرى ويجري تسويق دستور 2005 الذي لا يليق ابدا بنا نحن العراقيين ، ومع كل احترامي له ، فيمكن للقارئ الكريم قراءة اعتراضاتي على الدستور في عدد من مقالاتي التي نشرتها في العام المنصرم .

الايمان بالمبادئ قبل مواجهة التحديات
    بادئ ذي بدء ، ينبغي القول ان " الدولة " تصنف الى صنفين اثنين ، اولاهما دولة بسيطة او مبسطة ، وهي الدولة العادية المركزية او ذات النظام اللامركزي ، وثانيهما دولة مركّبة ، وهي الدولة التي تتركّب من عدة اقاليم فيدرالية متنوعة ترتبط اداريا بالحكومة الاتحادية . ولابد من القول ان مبدأ الفيدرالية هو من انضج المبادئ في انظمة الحكم المتطورة والتي عمّرت طويلا في بلدان تعب الناس فيها من اجل تطوير انظمة الحكم لديهم ، فنجحت الفيدرالية نجاحا كبيرا وضمن ضوابط دستورية في مراحل من القرنين التاسع عشر والعشرين .. ولكن السؤال : هل يمكن للعراق ان يسلخ او يستنسخ او يستلب أي مشروع متطور في الفيدرالية ومن هنا او هناك ليطبقه حسب اهواء احزاب او تعصبات ملالي او تخندقات ساسة وهم جميعا برغم تبايناتهم الايديولوجية والسياسية والوطنية يتشدقون معا بأنه نظام يلائم العراق وانه سيأخذ بيد العراق وانه يتمتع بخصوصية عراقية ؟؟ ان مجرد الاعلان عن فيدرالية الوسط والجنوب بمعزل عن اية تبريرات حقيقية وبتأويلات غير مقنعة سيجعل كل العراقيين في أي شبر من ترابهم يتساءلون عن سر الكراهية التي تتوهج علنا ويراد ترسيخها من خلال اقاليم في مشروعات دستورية !
     لابد ان يدرك كل العراقيين بأن هذا " المشروع " لا يدخل ضمن أي عملية سياسية ولا يعالج  في ظل أي اوضاع استثنائية ولا يمر عبر اية قنوات فئوية .. انها مسألة وطنية لا تخص مصالحنا نحن اليوم ، وانما تخص مصالح الاجيال قاطبة . وعليه ، فمن الجنون والتعاسة تمرير أي مشروع يخص الوطن بكل اجزائه على ايدي مشّرعّين وساسة لا يعرفون من امر العراق شيئا . وعليه أيضا اقول ، ان من يطمح الى التقسيم ( أي : تقسيم العراق ) فليعلن ذلك صراحة وعلى رؤوس الاشهاد ومن دون أي تردد او حياء لكي نعرف كيف تتبلور ارادة الناس .. كما ونحتاج الى الوضوح في الطرح والشفافية في الرؤية بديلا عن انعدام الثقة واشتعال الظنون ، اذ لا يمكن ان تمر مشروعات مصيرية من خلال بنود ( دستورية ) غير متفق عليها اصلا الا بين مجموعة ساسة معروفين بتوجهاتهم وفي نسخة اخيرة من الدستور اقّرت بشق الانفس ! وما دامت المسألة دستورية  ( أي : قانونية ) ، فلا يمكن ان يتلاعب بأمرها السياسيون بل لابد ان يعالجها رجال فكر وعلم وقانون وتطرح على الشعب ليقول كلمته فيها .. ولابد ان اقول بأنك لن تستطيع فرض ما تريده على العراقيين قسرا حتى وان امتلكت اكثر من نصف مقاعد البرلمان ، لأن المسألة وطنية وليست سياسية عادية يمكن التلاعب بها !! اذ عليك ان تحقق اجماعا كبيرا تمثله ارادة وطنية في ظل ظروف مستقرة وآمنة .

الاجتراحات العراقية : الفيدرالية مشكلة دستورية لا تعالج سياسيا
     انها ليست اشكالية سياسية ، بقدر ما هي مشكلة دستورية اصلا . دعونا نتوقف هنا عند المبادئ الفيدرالية واهميتها اليوم . ان من يطرح لوحده مشروع الوسط والجنوب ( من تسع محافظات ) يعلن على رؤوس الاشهاد انه لا يهتم ابدا بما تبقى من اجزاء في وطن واحد يصعب علي جدا وعلى غيري من العراقيين ان يمّيز بين الشمال والوسط وبين الشرق والغرب وبين الجنوب وكردستان .. علما بأن الوسط والجنوب ليس لهما أي ميراث تاريخي مشترك من الناحية الادارية كي يجتمعا في اقليم فيدرالي . وعليه ، فهو يطمح لتأسيس كيان سياسي منفصل ، وانه سيكرس النظام الطائفي في هذه التجربة المأساوية ، وانه يتلاعب بالصدفة التاريخية التي اوصلته الى السلطة في لحظة زمنية معينة ! وسيقود البلاد كلها الى السعير وبئس المصير! وسينشغل كل العراقيين بتطهير مناطقهم من الناس الذين ليسوا على دينهم او طائفتهم او عرقهم او ملّتهم ! وسيموت العراق وطنا شيئا فشيئا ..
    انني أسأل : كيف يمكن لأي عراقي حقيقي ان يقبل اقليما كبيرا من تسع محافظات واقليما صغيرا من محافظتين وكيف يرضى على نفسه بقاء محافظات من دون اقاليم ؟؟ ثمة امر آخر لابد ان ينتبه اليه كل العراقيين حتى من الذين لا يقبلون كل هذه الاجتراحات او الذين يخالفونني الرأي ومع كل احترامي لأي رأي مخالف من الناحية السياسية والفكرية وليس من الناحية الوطنية .. بأنني كنت سأقبل نتائج اية انتخابات دستورية لو انها مورست مناطقيا وعلى اساس جعل العراق دوائر انتخابية في كل محافظة ادارية من دون اللعب على ارادة العراقيين وجعلها انتخابات على اساس انتخاب ممثلي احزاب وتكتلات ربما لا أؤمن بأي واحد منها ! لقد سمعت قبل ايام حوارا دار بين اثنين حول شرعية الاستفتاء على الدستور فلما رفض الاول اجابه الثاني ولكنها اللعبة الديمقراطية بيننا .. فحار ولم يجبه بأن المسائل الوطنية والمصيرية لا تحسم من خلال لعبة ديمقراطية بين الاحزاب ، بل من خلال استفتاء مناطقي يشرف عليه القضاء ولا يكون لعبة بايدي مفوضيات مهترئة ثبت للقاصي والداني ما الذي مارسته من فساد ( ويتذكر القارئ الكريم ما نشرته من مقالات ضد ممارسات تلك المفوضية العليا وكم طالبت ان يحقق معها للاموال التي بعثرتها عن قصد وسبق اصراره ) .. 
     وهنا لابد من استعادة العمل الدستوري من جديد ، وهنا اطالب ايضا بأن يتم تشكيل أية لجان عمل للمعالجة في أي حالة دستورية من قبل اناس مستقلين ، وان لا تشكّل أي لجنة عمل من قبل اعضاء البرلمان الحالي .. لقد قادت اساليب الانتخابات التي جرت على اساس حزبي او كتلوي ان يحتل مقاعد البرلمان اناس جهلة لا يفقهون من امر العراق شيئا ولا من امر الحياة المدنية شيئا ، فكيف يمكن للعراقيين جعل هؤلاء وامثالهم يرسمون مستقبل العراق المنشود ؟؟ ان المشكلة مركّبة ومعقّدة جدا لكل اطوار العملية ، وان السلطتين التشريعية والتنفيذية في ازمة ، ولا يمكن المضي فيها الا بعد اجراء علاجات جذرية كي تستقيم الاحوال ، واذا بقيت كما هي عليه اليوم ، فسوف تتفاقم مشكلات العراق كثيرا ويصعب عند ذاك حلها بأية وسائل .

مستلزمات التكوينات الفيدرالية
ولابد ان ندرك ان الفيدراليات عندما تنشأ تكون قد تبلورت اقاليم معروفة ومشهورة ولها حدودها وان عناصرها تكاد تكون مكتملة ، فلا يمكن لأي مشروع فيدرالي يبدأ وحدود الاقاليم غير معروفة والا نكون قد خلقنا عداء مستحكما بين الاقاليم ، او نكون قد اوقدنا النار لسعير حرب اهلية وقودها كل العراقيين .. ولم نجد من خلال دراستنا للمبادئ الفيدرالية في كل هذا العالم ان طبخة اية اتحادات فيدرالية قد ولدت في ظرف زمني سريع ومليئ بالاضطرابات ، فكل التجارب الفيدرالية دامت زمنا طويلا حتى تم تشكيلها على اسس وطنية راسخة . وان التجارب الفيدرالية الفاشلة هي التي طبخت في سنتين او ثلاث واصابها الفشل الذريع .. وان كل التجارب الفيدرالية في العالم عرفت عنها خصوصيات الاقاليم اذ ان لكل اقليم تاريخه وخصوصياته المحلية ومحدداته الجغرافية .. وان كل الاقاليم المفدرلة في العالم لم يعتمد الانسان فيها اساسا للتمييز ، بل كان لخصوصيات الارض والاقاليم نفسها الاسباب الحقيقية وراء قيام اتحادات فيدرالية ..
    وعليه ، فان المبادئ الفيدرالية هي اوربية المنشأ نشأت في ظل صراعات اقليمية ومصالح بيئية واقطاعية وسلطوية وسلالية بين ممالك ودوقيات معينة ومسيجّة باسوار حجرية ومعروفة بمقاطعاتها التي تتوسطها القلاع منذ العصور الوسطى ويتوارث الحكم فيها امراء لسلالات حاكمة وخصوصا في قلب اوربا حول الراين خصوصا .. وتعتبر تجربة سويسرا اقدم تجربة اتحادية لاقاليمها التي شكلتها دوقيات قديمة منذ القرن الثالث عشر الميلادي.. وليكن معلوما ان انظمة الدوقيات الاوربية هي ذات حدود جغرافية ، بل تكاد تكون حتى مسيجّة وفي القلب قلعة وهي معروفة بهذه الحدود .. وبالرغم من لعبة الانقسام المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت ، الا ان الدستور لم يأخذ بهذا الانقسام ابدا في أي تجربة فيدرالية في العالم ، واتحّدى من يأتيني بمثل واحد على كينونة فيدرالية دينية او طائفية ..
     وعليه ، لا اجد في كل تجارب العالم الفيدرالية أي فيدرالية طائفية او مذهبية او حتى عرقية اثنية في القرن العشرين وما سبقه .. بل انها حكومات ادارية لاقاليم اعتمدت تواريخها وحدودها القديمة اساسا في دستورية الاتحاد .. انه نظام رائع يشابه الى حد كبير نظام الامصار في العهود الاسلامية الذي يقف على رأسه العمال ( جمع : عامل ) او نظام الايالات العثماني الذي يقف على رأسه الولاة من الباشوات ( = جمع والي ) ولكن هذين النظامين الاداريين ( العربي والتركي ) كانا يرتبطان ارتباطا مركزيا مع العاصمة .. في حين ان النظام الفيدرالي يرتبط ارتباطا لا مركزيا بالحكومة الاتحادية .. اضافة الى ذلك ، فان الحكومة الاتحادية لها حق الاشراف وتسيير الامور بخضوع الاقليم للمركز وليس العكس كما نجده في اكثر من مادة في الدستور العراقي الحالي .

اصناف النظم الفيدرالية
       تعد الفيدرالية اصلا : رابع الاتجاهات الاتحادية في ادارة الاقاليم ، او هي شكل من اشكال الادارة الاتحادية للاقاليم وطبيعة علاقتها بالمركز ( او : الحكومة الاتحادية في المركز ) ، وهي نظام حكم تستخدمه العديد من الدول ، باعتباره حصيلة تجارب من الاتحادات الشخصية للاسر المالكة او حتى الهيئات الرئاسية كما حدث في كولومبيا وبوليفيا والبيرو وبولونيا وليتوانيا واتحاد انكلترا مع هانوفر وهولندا مع لوكسمبورغ ابان القرن التاسع عشر .. وهناك الاتحادات الفعلية وهو نوع يشكله انضمام دولتين في شكل اتحاد تحت رئيس واحد او ملك واحد والهيئة الحاكمة مشتركة في كل الشؤون فضلا عن وجود هيئات حكومية مشتركة ، وهذا ما وجدناه في نماذج الاتحاد السويدي ـ النرويجي والاتحاد النمساوي ـ الهنغاري والاتحاد الدانماركي ـ الايسلندي .. 
    وهناك الاتحادات التعاهداتية او الاتحادات الكونفدرالية بين مجموعة دول تجتمع في رعاية مصالح دولة معينة وبمقتضى معاهدة دولية وتكون الهيئة الحاكمة تعاهدية في رسم السياسية العامة وتتمتع كل دولة بشخصية دولية كاملة ، فلكل منها حق الانفراد بعقد المعاهدات الدولية وحق الانفراد بالتمثيل الدبلوماسي الايجابي والسلبي ، ولها ان تقوم منفردة بحرب  واحتفاظ كل دولة بنظامها السياسي .. ان الامثلة التاريخية لهكذا كونفدراليات تعاهداتية توضحها لنا الولايات المتحدة الامريكية للفترة 1781 – 1787 وقد اخفقت التجربة مما قاد الى مشروع انا بوليس في العام 1786 وصدور الدستور الاتحادي للولايات المتحدة في 17 سبتمبر 1787 والذي يقوم حتى يومنا هذا ، ولكن بعد ان اصبح النظام فيدراليا على اساس اداري للاقاليم .. ومن مثله التعاهد الهلفي السويسري 1815- 1848 عندما اجتمع اثر تداعيات مؤتمر فيينا عام 1815 وسقوط الامبراطوريات الكبرى في القرن التاسع عشر ، مندوبو المقاطعات والدوقيات في اجتماع الدييت لكل من دوقيات زيورخ وبرن ولوسرن ، ولكن انتهى النظام التعاهدي اثر النزاع البروتستانتي ـ الكاثوليكي ، وكانت قد حاولت المقاطعات الكاثوليكية ان تنفصل ، لكنها لم تنجح واعيد التعاهد في وضع دستور جديد في عام 1848 . اما التعاهد الجرماني 1815- 1866 اثر قرارات مؤتمر فيينا المذكور ، فلقد وجدنا تعاهد ما يقرب من 38 دويلة ملكية ودوقية ومن اشهرها : بروسيا وبافاريا وهانوفر وفرانكفورت وهامبورك ولوبك .. وغيرها وكانت ارتباطات بعضها بدول اخرى مع كونها دولا مفككة واتحدّت ولكن مع وقوع حروب اهلية حتى ظهور الاتحاد الالماني في العام 1871 ودور بسمارك من خلال بروسيا .
 نظام الحكم الفيدرالي
   اما نظام حكم الاتحاد الفيدرالي فانه يتكّون من مجموعة  الاتحادات الفيدرالية بين اقاليم مبعثرة او متقاربة تجتمع في ظل حكومة اتحادية .. انه اتحاد يجري تكوينه على اساس انضمام الاقاليم بعضا الى بعض وليس على اساس تقسيم الوحدة الكلية الى اجزاء ( باستثناء ما حدث في تجربة تاريخية واحدة هي البرازيل والتي عادت مؤخرا الى الدولة المبسطة بحكم التطورات العولمية ) . ان هذه العملية التاريخية لا تعد تجربة سياسية بقدر ما تعتبر تطبيقا لمبادئ دستورية يطمح اليها ابناء الشعب ، وان يتضمنها دستور يدعو الى اتحاد دائم تسوده هيئة مركزية تمارس سلطتها بطريق مباشر على حكومات الاقاليم . ان من خلال تدريساتي واشرافي على واحدة من الاطروحات في التاريخ الاوربي ، وجدت بأن دولة فيدرالية مثل بلجيكا قد عادت اليوم الى نظامها المبسّط بالاعتماد على المركزية في كل حياتها نتيجة للتطورات الاقتصادية العولمية التي لا يمكن لأي دولة فيدرالية التعامل معها اذا بقيت القوانين المحلية متباينة بين الاقاليم .. واعتقد ان دولا عدة وعلى رأسها المانيا ستأخذ بالتجربة المركزية اسوة بفرنسا بسبب التطورات العولمية .
     وترتكز الشخصية الدولية في الهيئة المركزية للدولة الفيدرالية : تمثيل دبلوماسي واحد وابرام المعاهدات الدولية التي يقصر على الحكومة المركزية الاتحادية وان قرارات الحكومة المركزية  ملزمة للاعضاء .. وان حق اعلان الحرب مقصور على الحكومة المركزية ويوافق عليها الاعضاء ولا يجوز تخّلف احداها .. واذا وقعت الحرب بين اقاليم الدولة الفيدرالية تعد حربا اهلية ، وان المسؤولية الدولية تقع على عاتق الحكومة المركزية .. وتنشأ الدولة الفيدرالية اما باتفاق دول مستقلة وهو ما يحدث غالبا ( للولايات المتحدة مثلا ) وسويسرا والمانيا عن دولة موحدة بسيطة مع رغبتها في ان تستمر مرتبطة ببعضها البعض في ظل فيدرالية ، فالبرازيل كانت دولة بسيطة تحّولت الى دولة اتحادية سنة 1857 ، وروسيا كانت ايضا دولة بسيطة قبل العام 1917 فتحولت الى فيدرالية بعد الثورة البلشفية ، ثم سرعان ما دمجت دولا اخرى في كونفدرالية ولكن شريطة ان يكون مجلس السوفييت الاعلى هو المسؤول الحقيقي عنها .
    ان الشكل الفيدرالي للدولة يعمل باسلوبين اثنين ، اولاهما يتمثل بانفصال الولايات عن الاتحاد وتحول التجربة الاتحادية الى انفصال دول مستقلة نتيجة حرب اهلية او حركات ثورية ، او تمردات سكانية وهذا ما اخشى ان يحدث في العراق في قابل الايام .. فالحرب الاهلية الامريكية لو انتصرت في ولايات الجنوب على الشمال لتفككت الدولة ، ولكن تحولت الولايات المتحدة الامريكية الى دولة بسيطة واصبحت الولايات المتحدة مجرد وحدات ادارية لا تتمتع بأي استقلالية سياسية ، بعد ان كانت وحدات سياسية ذات سيادة داخلية ..
    وكذلك لابد ان اذكر ان التجربة الفيدرالية في اندونيسيا عام 1949 قد فشلت وتحّولت الى دولة بسيطة في العام 1951 . وعلينا ايضا ان نهتم بالتجربة النايجيرية التي فشلت هي الاخرى نظرا لتصادم التناقضات في دواخل الاقاليم نفسها .. ونظرا لأن كل اقليم لم يحظ بخواص ادارية وجغرافية وحدودية وسكانية مقارنة بما هو الحال في تجارب اوروبا مثلا .. وهذا ما اجده نفسه في العراق ، فالعراق وحدة جغرافية يتمتع فيها اقليم كردستان بخصوصية قومية من الناحية الجغرافية ، ولكن العراق كله له خصوصياته الادارية منذ ازمان طويلة وبما فيها كردستان ، وان سكانه قد انتشروا في كل اجزائه بمختلف اديانهم وقومياتهم واقلياتهم وطوائفهم التي لا يمكن ابدا التعويل عليها في خلق نظام فيدرالي .. والا نكون قد وضعنا السكين في قلب العراق وتركناه ينزف على مهل !

سمات الدولة الفيدرالية
  انها دولة مركّبة جغرافيا باقاليمها الادارية .. وربما كانت بعض اقاليمها تعيش توفيقية بين تيارين متعارضين او اكثر : وحدوي وانفصالي ، ولكن ربما فشلت تجارب فيدرالية نتيجة اخفاقات حاقت بسوء التطبيقات ، ولكن لم تنفصل اية اقاليم عن جسم الدولة الفيدرالية الا اذا بنيت على غير اساس اداري .. او انفصالي فمثلا اقليم كيبك في كندا يتمتع بنسبة عالية جدا من السكان الذين يتكلمون الفرنسية ، ولكن لم ينجح ابدا في ان ينفصل عن محيطه وبقي يعيش في ظل الحكومة الكندية الاتحادية ، فمصلحته العليا تقضي بأن يبقى متحدا مصيريا مع كندا الجغرافية بدل ان يكون اقليما منعزلا يفصله الاطلنطي عن فرنسا  ..  نعم ، ان ثمة اقاليم تعيش اليوم حركات انفصالية تدعوها لذلك ومما يثير الانتباه اليوم ، ان اغلب حركات التمرد والانفصال في دول عدة بسيطة واتحادية قد انعدمت منها دواعي الانفصال مؤخرا سواء اقليم الباسك في اسبانيا او ايرلندا في المملكة المتحدة او اقليم التاميل او غيرها بفعل التغييرات التاريخية والعولمية الكبرى التي يمر بها العالم اليوم ، فليس من مصلحة أي اقليم الانفصال وخصوصا اذا لم يتمتع بعوامل جغرافية واقتصادية واستراتيجية تساعده على الاستجابة للتحديات .. ان انفصاله  سيبقيه لوحده ، او سيعرضه للالتهام من قبل دول وقوى وتكتلات اخرى !
    ان السلطات في الدولة الفيدرالية الاتحادية : تشريعية وتنفيذية وقضائية ( واستجدت اليوم سلطة الرأي العام الذي تعّبر عنه وسائل الاعلام الحديثة ) . تتكون السلطة التشريعية من مجلسين ، اولاهما لممثل ( او ممثلي ) الاقاليم باسم مجلس الولايات وثانيهما لممثلي الشعب باسم مجلس الشعب ( او : البرلمان ) وتعمل السلطة التشريعية على سن القوانين. اما السلطة التنفيذية فيؤلفها رئيس دولة ( = ملكا او رئيسا ) وحكومة اتحادية تتبع اسلوبين : اسلوب الادارة المباشرة اذ تنشئ الحكومة الاتحادية ادارات خاصة بها في مختلف الاقاليم تكون تابعة لها ، أي ان هناك ادارات محلية وادارات اتحادية ( وعمل الاخيرة لجمع الضرائب وتنفيذ مصالح الدولة الاتحادية والمراقبة وتنفيذ القوانين والدفاع عن الارض .. الخ ) . وهناك اسلوب الادارة غير المباشرة ، أي اعتماد الحكومة الاتحادية على ادارات الحكومات المحلية في تنفيذ القوانين ، ولكن شريطة ان تكون الحكومات المحلية ملزمة امام الحكومة الاتحادية بكل ما يتعلق بشؤون الاقليم وممتلكاته ومؤسساته ودوائره وتنفيذ القرارات الاتحادية ) . وهناك بعض الدول الفيدرالية تجمع بين الاسلوبين وهذا ما يسمى باسلوب الادارة المختلطة .. ولكن تبقى الحكومة الاتحادية هي الضابط الاول والاخير لعملية نظام الحكم . اما السلطة القضائية الاتحادية فتؤلفها محكمة اتحادية عليا ينتخب اعضاؤها بمعرفة السلطة التشريعية ، وتختص باستئناف احكام المحاكم المحلية فضلا عن فض النزاعات التي قد تنشب بين الولايات او الاقاليم وفض منازعات قد تنشأ بين الاقاليم والحكومة الاتحادية المركزية ومراقبة دستورية القوانين في أي شبر من البلاد .
مستلزمات الفيدرالية العراقية
ان الوعي بهذا الموضوع من قبل الجماهير بحاجة الى سنوات خصوصا وانه يقع ضمن التغيير التاريخي وليس ضمن أي صفقة سياسية بين الاطراف الذين يعدون انفسهم فرقاء في وطن واحد .. ان من يؤمن بالتغيير التاريخي عليه ان يكون وطنيا لا يفّرق بين الاجزاء ويكون هادئا وصبورا ودقيقا في اجراء التحولات ، فنحن لا نملك عصا سحرية ونحن لا نتعامل مع اجراء ثوري ونحن لا نملك ارضية تاريخية نتحرك عليها بملئ ارادتنا .. ونحن لا نملك حق ممارسة خيارات وطنية مطلقة ، فالعالم كله يعرف كم هو العراق مكّبل اليوم بالقيود .. والمسألة دستورية بحتة ، وان مجرد تضمينها بالمستوى الذي جاءت فيه بالدستور العراقي لعام 2005 لا يرقى الى مستوى الحفاظ على العراق ، بل يبدو المشروع وكأنه هدف للعديد من الفرقاء من اجل تقسيم العراق .. واذا اراد البعض ان يتشدّق باسم الارادة الوطنية ومشروعية الانتخابات والاستفتاء على الدستور وقبول الناس به .. فهل بمقدور كل المشرعين الجدد الذين يمثّلون الشعب ان يمشوا بين ابناء الشعب بامان وبمنتهى الحرية .. هل حققوا مستلزمات اساسية يحتاجها الناس في معيشتهم وحياتهم كي ينشغل كل الناس بالفيدرالية !؟؟ هل حققوا ما وعدوا الناس به من ابسط المستلزمات والضرورات ؟
ان الدول الفيدرالية دول مركبّة ولكنها ليست معقّدة ، والعراق دولة مركبة جغرافيا وتاريخيا ولكن تركيبها اداري ولم يكن تركيبا عرقيا او طائفيا حسب ، فالسكان منتشرون ومندمجون وفيهم تنوع وتعدد كبير ، وعليه ، فالعراق مجتمع معقّد لا يمكن تجزأة تناقضاته في اقاليم اتحادية ولا يمكن اللعب على أي ورقة من اوراقه الدينية او القومية او الطائفية او المذهبية او الجهوية المناطقية او حتى الاجتماعية .. ان استخدام أي ورقة من هذه الاوراق الحساسة في أي جانب سياسي او دستوري سيجعل الوضع ملتهبا في كل اصقاع العراق . وينبغي ان يكون الوازع الوطني اساسا في أي عملية تاريخية في التغيير ، ومن دون هذا الوازع ، فسيفشل أي مشروع حتى وان كان برعاية أية قوة عظمى !
لقد عالج الاخ الاستاذ باقر الفضلي في مقالته الممتازة الموسومة " الفيدرالية : ما هو المبتغى ؟ " عدة جوانب اساسية خصوصا عندما انتقد من ينادي بفيدرالية الوسط والجنوب من دون اعطاء اية تبريرات او مسوغات مقنعة ليس للعالم الذي يجهل تعقيداتنا الاجتماعية ، بل للعراقيين انفسهم الذين اصبحوا مجموعة مكونات بدل ان يكونوا اخوة من المواطنين .. وقد خلص صاحب المقال الى نتائج غاية في الاهمية منطلقا من قوله بأن " المصالح السياسية طالما وقفت ، وفي كثير من الاحيان ، وراء الكثير من التبريرات والتأويلات للعديد من القرارات والقوانين بل وحتى النصوص الدستورية وفي بلد كالعراق، الغارق في بحر من فوضى التشريع والقانون، ليس غريباّ على المرء، أن يجد نفسه وسط عاصفة من التخبط الفكري والقانوني، حيث يصبح تلقائياّ؛ تفسير الأشياء ورد أسبابها، طبقاّ لما تمليه مصلحة الشخص أو الجهة المعنية، أكثر مما توجبه حالة الشيء الموضوعية نفسها " .

وأخيرا : ماذا نقول ؟ وماذا نقّدم من حلول ؟
    وهنا ينبغي علي القول بأن الفيدرالية لا تنجح في العراق الا من خلال تطبيقات تحكمها نزعة وطنية كاقاليم ادارية لكل اقليم شخصيته المحلية بعيدا عن مصالح حزبية او طائفية .. وستنجح لو اتبعت الاساليب المتطورة في ادارة الاقاليم وترتيب شؤونها المحلية .. ان الفيدرالية في العراق تنجح اذا اعتمدت المحافظات بحدودها الادارية المعترف بها اقاليم ادارية ، او ان تجتمع كل محافظتين ( لا اكثر ) في اقليم واحد ، وتغدو لدينا تسعة اقاليم ادارية لا تحكمها أي نوازع انفصالية وان تبقى بغداد مرجعا دستوريا وحضاريا ومحورا للجميع .. ان اقليم كردستان له خصوصيته التي يمكن معالجتها على مهل من دون أي ايذاء لاية مشاعر قومية ولا أي كراهية مناطقية ولا أي افتراق حضاري او سياسي .. فبقدر ما يهمنا العراق ، تهمنا كردستان واعتقد ان اية مشاكل يمكن حّلها من خلال رؤية وطنية موحدة للامور ، ولا يمكن ابدا ان تبقى الاحزاب الدينية او الطائفية او الانقسامية هي التي تسود .. اذ لابد ان تكون الاحزاب جميعها سياسية ووطنية وحضارية كما هو عليه حالها في هذا العالم المتمدن ، فلا يمكن تخّيل بناء دكتاتورية لحزب طائفي ( سني او شيعي ) يبقى العراق بيديه الى الابد ! ولا يمكن ان يبقى الدستور العراقي على حاله بكل ما يتضمنه من اجندة سياسية ودينية ، اذ ينبغي تغييره بشكل جذري ، اذ ان رتق ما فيه من بنود مخّلة بالوحدة الوطنية وبالنظام السياسي لا تدمل الجروح ابدا .. وينبغي ايضا تجميد العملية السياسية وتأجيل اللعبة الديمقراطية ، اذ لا وقت الان لالعاب الدمى او للبلاي استيشن ، ومعالجة امنه واحتياجاته واعمار ما حطمته الحروب والاعمال البشعة .. من خلال حكومة مؤقتة يديرها نشطاء تكنوقراط من المستقلين العراقيين !! ان اخفاقات العراق اليوم في كل اموره وتبلور مشكلات لا حصر لها انما خلقتها عوامل كرستها الاحزاب الجديدة واجندتها الطائفية والانقسامية والمحاصصية في نظام الحكم .. وان هذا النظام يستند في شرعيته الى الوجود الامريكي ، ان مجرد انسحاب الامريكان من العراق ، فسنشهد انهيارا كبيرا للنظام في كل شبر من ارض العراق .
الاستشارات
D.J. Elazar, American Federalism,  New York: Harper and Row, 1984. C.J. Harper and Row, The Federal Constitution of Switzerland, Oxford, Clarendon, 1954; G.F. Sawer, Modern Federalism, London: Watts, 1969; K.C. Wheare, Federal Government, 4th edn., Oxford: OUP, 1993; M. Forsyth, Union of States: the Theory and Practice of Confederation, New York: Holmes and Meier, 1981. K.D. McRae (ed.), Consociationl Democracy: Political Accommodation in Segmented Societies, Toronto: McClelland and Stewart, 1974. Michael Kammen, A Machin That Would Go of Itself: The Constitution in the American Culture, New York, 1996).   
www.sayyaraljamil.com

نشرت في ايلاف 22 اكتوبر 2006[/b][/size][/font]

190
العراقيون يتساقطون مثل أوراق الشجر !!
د. سّيار الجميل
18 اكتوبر 2006

      إن ما نسمعه أو نشاهده عن العراق هو قليل جدا قياسا لما يحدث هناك ، فلقد غدا العراق بلاطا للشهداء ، وترابا مضرجا بالدماء مع إرادة قوية للعراقيين على البقاء . هل يصدق المرء أن يفقد العراق ما تجاوز على 655 ألف قتيل في غضون ثلاث سنوات ونصف السنة ( أي : بواقع قتيل كل 3 دقائق و20 قتيلا كل ساعة ) ؟
هل يعقل أن يتساقط هذا الحجم المهول من البشر منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 ؟ هل يمكن للمرء أن يستوعب سقوط هذا العدد الهائل من المدنيين والأبرياء العراقيين نسوة وشيبا وشبانا وأطفالا ؟
وحسب الدراسة التي قام بها فريق علمي أرسلته جامعة جونز هوبكنز الأمريكية إلى العراق ، فان معدل ما سقط من البشر يفوق في نسبته أي حالة أخرى في التاريخ ! إذا لا يمكن للإنسان أن يتخّيل هذا البحر من الدماء ، خصوصا إذا علمنا أن كل ما يحدث في العراق لا يعلن على الملأ ، وثمة تعتيم كامل على مناطق ومدن معينة ..
والمشكلة أن منظمات دولية قد تشكّك في مصداقية الأرقام ، مثل منظمة هيومان ووتش رايتس الامريكية ، فضلا عن باحثين ونشطاء ومراقبين .. وربما نشكك ايضا ، ولكن حتى لو اقنعنا انفسنا بنصف هذا العدد او ربعه ، فان النسبة تبقى عالية جدا لا يمكن السكوت عنها ابدا .
      وكم نوّد من الحكومة العراقية أن تعلن عن أسماء كل ضحايا العراق وهوياتهم ومناطق قتلهم ، وان تقوم وزارة الصحة العراقية ودوائر منح شهادات الوفيات بإعلان كل المعلومات الشخصية للضحايا مهما كان السبب ..
وينبغي معرفة كل من ذهب ضحية هذا العنف الداخلي وإشهار كل المعلومات عن الذين قاموا بأعمال القتل والاعدام والخطف والتفخيخ والتفجير عن بعد والتعذيب وقطع الرؤوس ! وإذا علمنا بأن مستشفى اليرموك ببغداد يصدر 200 شهادة وفاة يوميا ، أي 6000 شهادة وفاة شهريا ، فكيف نتخّيل إذن حجم المأساة في عموم العراق ، علما بأن هناك أربع مستشفيات تقوم بنفس العمل الذي تقوم به اليرموك وحدها ، فهل يمكننا الاقتناع بأن ضحايا العراق لم يتجاوز عددهم كثيرا ؟
    ان حجم المأساة التي تلم بأهلنا العراقيين قد فاقت كل التصّورات ، وان هذا  النزيف البشري غير المتوقف لابد من إيجاد أية علاجات لإيقافه مهما كانت الأثمان .. ولا يمكن أن يبقى العالم كله صامتا على كل الفصول المأساوية ، ونرفض تسّمية ما يجري حتى الآن بالحرب الأهلية ، لأنها ليست أهلية حقيقية ، وان الأبرياء العزل غير مشتركين في أي ماراثون للحرب ، ولم يتحّول كل العراقيين الى جماعات موت ! قياسا لما تفعله العصابات وما يقترفه المجرمون وما يمارسه شذاذ الآفاق والقتلة والمرتزقة من فرق الموت المجهولة بالمجتمع العراقي .. إنها أعمال تفوق التصورات، فلقد غدا هذا المجتمع الصلب تحت وطأة من لا يرحمه !
    ينبغي على كل العالم أن يعترف بكارثة العراقيين ، إذ لا ينبغي أن نكذب على أنفسنا متناسين شعبا عريقا يغدو ضحية بأيدي من له مصالح دولية أو إقليمية أو داخلية . إن مانشرته مجلة لانست الطبية البريطانية من أرقام مذهلة لابد أن يقف إزاءها كل من يريد إسكات هذا الطوفان في العراق .. إن التزام الصمت المطبق لا يفيد أبدا ، وكأن الذين يتساقطون ليلا ونهارا هم أشبه بذباب !
لقد كتب احد الزملاء أن عدد الضحايا من العراقيين في هذه الحرب المتوحشة بلغ حتى الآن ضعف نظرائهم اليابانيين الذين سقطوا جراء تأثير القنابل النووية في هيروشيما وناغازاكي عند نهاية الحرب الثانية .. ولكن العالم كله تعاطف مع اليابانيين في حين لم يتعاطف أحد حتى اليوم مع العراقيين !  وحتّى إن شكك الرئيس جورج بوش بالأرقام المعلنة ومصداقيتها ، فان الأرقام لم تأت من فراغ ، إذ أنها حصيلة جهد فريق عمل خاطر بحياته في أعماق العراق وقابل آلاف الأسر هناك .
    استطيع القول ، إن العراقيين فقدوا كثيرا من نفوسهم جراء ما لم يكشف عنه يوميا .. إن الأبرياء يتساقطون في العراق مثل أوراق الشجر ، وهم بشر من الأسوياء العقلاء وليسوا قطيعا من البهائم ! إنني أناشد كل صاحب ضمير حي في هذا الوجود أن يصرخ ضد ما يتعّرض له كل العراقيين ، وان يعمل الجميع من اجل أي علاج داخلي أو عربي او إقليمي أو دولي ..
وان تدوي صرخات كل شعوب العالم وان لا يبقى الحال على ما هو عليه مع صمت عربي وإسلامي سياسي وإعلامي مطبق ! إن العراقيين لا يمكنهم البقاء في رهان يستحيل تحقيقه في ظل احتلال بغيض وأحزاب طائفية وحكومة ضعيفة وعصابات قاتلة وجماعات ماكرة وفرق موت خفية .. لا يمكن أن تستمر شطوط الدم وحرب كسيحة لا حسم لها ! لا يمكن الصمت على التهجير القسري والنفير الاجتماعي للهروب وإفراغ مناطق من سكانها الأصليين وهجرة العراقيين إلى دول مجاورة ..
لا يمكن أن تستمر هذه الموجات الهوجاء التي تطال العراق من كل مكان وهو أشبه بسفينة تتفكك ولكنها لم تزل تقاوم هذا الإعصار .. لا يمكن للعراق أن يبقى أرضا يبابا بلا شجر .. لا يمكن أن تتقّطع أوصاله الجغرافية بعد تقتيل سكانه وتهجيرهم .. ينبغي على من يرسم له طريقه اليوم باسم العراق الجديد أن يجد الحلول الناجعة لإيقاف هذا الطوفان ، فلا يمكن أن ترسم خريطة طريق للعراق وهو يخوض في بحر من الدماء ويمشي فوق أجساد العراقيين ظلما وعدوانا !
   لكل من يسمع صوتي يتهادى في الآفاق .. ارجوه أن يردد معي صداه من اجل وطن جميل جدا وعريق جدا اسمه العراق .. ويكفي العراقيين كل هذه التحديات ، فلقد ازدحمت بلادهم بالشهداء وتشربّ ترابهم بأزكى الدماء .

www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

191
صورة ( وطن عربي ) يتبعثر !!

د. سّيار الجميل
 
     لم  تكن مجتمعاتنا في القرن العشرين تعاني من انقسامات وطنية ، ولا من تمزقات اجتماعية .. ولا من أي تفكك داخلي . لقد تبلورت بعد حومة النضالات الوطنية : صراع ضد الصهيونية وانشقاقات سياسية وانقلابات عسكرية ومشكلات حدودية ونزاعات إقليمية وتجارب اتحادية .. وحتى الحرب الأهلية اللبنانية، فهي سياسية أكثر منها اجتماعية !!
لكننا نشهد اليوم بداية بشعة لتفكك الدواخل وانقسام الأوطان وصراعات الهوية وحروب الطوائف واختراقات الأطراف .. وأسأل مثلا: ما الذي ستقود إليه الانقسامات الوطنية بفلسطين وسفح دم فلسطيني بأيد فلسطينية بلا مبرر ؟
وما مصير العراق الذي يعيش ماراثون التفكك وهو يقاوم الانهيار بمنتهى الشراسة ؟ وما أوضاع لبنان بعد سلسلة التفجيرات والعدوان الهمجي الإسرائيلي وانتشار القوات الدولية ؟  وما دور جماعات الإرهاب وهي تتغلغل لتفخيخ المجتمعات المستقرة وقتل الأبرياء ؟
ما الذي يحدث في إقليمي دارفور وجنوب السودان من تمزقات وتدخلات ؟ ما طبيعة التمردات التي استردت دمويتها في الجزائر ؟ ما طبيعة الانشطارات الجديدة على الهوية بالنسبة للأقباط في مصر والأكراد في العراق وسوريا  والامازيغية في بلدان المغرب العربي ؟ وما حجم تململ الأقليات الدينية والمذهبية والطائفية التي بدأت تتفجر في أصقاع مهمة من " الوطن"  العربي وبضمنهما الجزيرة العربية  ؟
ما دور الآخرين وحجم تأثيرهم في كل الانقسامات التي طالت أهم ركيزة من حياتنا الحديثة ؟ ما نغمة ما يسود في  بلداننا من شمال وجنوب ؟
وهل كان هناك من له القدرة على صدّ الرياح الجديدة التي هبّت على عالمنا  منذ  بدايات القرن الجديد برغم الصيحات التي أطلقها بعض المفكرين العرب والذين طالبوا بإجراء الإصلاحات وتحديث للبنى وتنمية للأفكار .. وتخلّص  السلطات من الاساليب الدكتاتورية ومن قمع الاقليات ومن كل الاساليب الفاشية التي اكتوت بنارها مجتمعاتنا التي عرفت التعدد والتنوع على امتداد التاريخ .
لقد كانت الاضطهادات السياسية المادية والمعنوية التي مورست بحق الناس ، اغلبيات ام اقليات هي التي اسهمت في قتل روح المحبة والتعايش والتسامح والحياة الاجتماعية المشتركة .
    لقد اعتادت اسماعنا على مصطلح ( الوطن العربي ) منذ ان كّنا اطفالا ، وهو  " وطن " كبير يضم مجتمعات عربية تتنوع فيها الاثنيات والثقافات وتتعدد المصادر والكيانات ، ولكن اذا كان الترابط الجغرافي التاريخي للعروبة قد انتج هذا ( الوطن العربي ) ، فهو منقسم من حيث الواقع الى اجزاء متعددة ، لم تنجح القومية العربية على تحقيق شعاراتها في توحيد تلك الاجزاء طوال القرن العشرين بفعل اختلاف البنى السياسية والهياكل التاريخية والخصوصيات الجغرافية .. وبفعل الخلط المبهم ( الذي لا نجده الا عند العرب ) بين مبدأين أثنين : الوطنية والقومية في حين ان لهما مدلولا واحدا في الثقافات الاخرى ! 
    نعم ، لقد نشأت المشكلة منذ أزمان متمثلة بازدواجية التفكير العربي بين مفهومين لم يستطع المرء التخلّص منهما ويتمثّلان أساسا بالفكرة الوطنية أولا وبالفكرة القومية ثانيا وصراعهما ..
واليوم تركّبت المشكلة على ثلاث إذ دخلت الفكرة الدينية الميدان ، فنقف اليوم على ثلاث اتجاهات منشطرة : وطنية وقومية ودينية ، ويتمثّل ذلك بأحزاب وتيارات  وأفكار وإعلام .. بل وضعفت الفكرة الوطنية جدا ، فمثلا أصبحنا نطالب بإنشاء الدولة الفلسطينية بديلا عن الوطن السليب ! وأصبحنا نسمّي ما يحدث في العراق بالعملية السياسية بديلا عن المشروع الوطني .. وأصبحنا نردد على الملأ حرب حزب الله بديلا عن الحرب الوطنية .. الخ
      هنا ، لا أريد أن ارسم بانوراما خيالية عن واقع بائس نعاني منه جميعا ، ولا أريد أن انقل صورة سوداوية للمنطقة أكثر تشاؤما وبؤسا مما هي عليه اليوم ..
ولا أريد أن أكون منظّرا لأفكار ومشروعات ، بل أريد أن انشر رؤية لحجم الفجيعة الوطنية .. والمتمثّلة بمخاطر ما يجري عندنا اليوم في ضوء الأحداث المريرة التي لا تحدث من فراغ أبدا ، خصوصا وان التراب الوطني لم يعد غاليا لا في الذاكرة ولا في الواقع ، ولا اعتقد ان هذه " الحالة " تقف من ورائها برامج ومخططات ومؤامرات ، فالوعي العربي ليس مغيبا بقدر ما هو منحرف جدا ، وخصوصا في بلدان غدت أحوالها خطيرة جدا وستنتقل العدوى منها لا محالة إلى كل المنطقة ..
إن العراق ـ مثلاـ  وهو يتوسط قلب الشرق الأوسط ، لم يجر تغييره نحو الأفضل ، ولم يتحقق حلم أهله لأن يتخلصوا من الحروب ومآسيها ، بل أن النزعة الوطنية كلها اليوم في خطر !  ونخشى على كل المنطقة أن تتفكك وتهترئ خصوصا إذا كانت لا تمتلك مقومات القوة والبقاء !
السؤال : هل تتناسب أوضاعنا الحالية في منطقتنا مع حجم الفجيعة التي يعاني منها الجميع ؟ لقد عشنا طوال القرن العشرين ونحن نعاني من الخلافات السياسية وتدخلات سافرة من قبل احدنا على الآخر ولكن مع ثبات الأوطان وتلاحم المجتمعات .
كان الكل يبحث عن حلول داخلية للمشكلات والأزمات المتفاقمة ، بل وان جل الحروب الطاحنة الانقلابية والحدودية والإقليمية والأهلية وحتى الإذاعية الباردة كانت في أسبابها ونتائجها سياسية صرفة .. أما أوضاعنا اليوم ، فهي خطيرة بضرب صميم دواخلنا ، وقد فرضت التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية أجندتها علينا من اجل تحقيق مصالحها على حساب قضايانا وفي أقوى مناطقنا سخونة وإستراتيجية وثراء .
لقد تشكّلت في الأحشاء جملة هائلة من الأحقاد والكراهيات التي برزت طافية اليوم على السطح بشكل مقزز متمثلة بنخب وساسة وإعلاميين وأشباه مثقفين ليس لهم إلا زرع الفتنة وترويج الانقسامات بذرائع متباينة واختلاف الآراء الجديدة وبمسمّيات متنوعة كالهوية الطائفية والجهوية الساخنة ونزعة الأقاليم والتقسيمات  وحروب الميليشيات الحزبية والجماعات الدينية الإرهابية .. الخ
    لقد كانت بلداننا مؤهلة حتى وقت قريب إلى إحداث إصلاحات وتغييرات جذرية تشريعية وسياسية وفكرية واجتماعية وتربوية من اجل درء أي إسقاطات جديدة لعالم اليوم بكل ما يتضمّنه من مخاطر في شبكات المعلومات والإعلاميات الجديدة ، ولكن بدل ان تجري تحولات هادئة وذكية ، دخلنا مرحلة جديدة من الصراعات على حساب استغلال التعدد والتنوع في مجتمعاتنا ..
وبدل أن تتحرر الإرادة الفكرية سيطرت الانغلاقات ، وبدل أن تجري إصلاحات استثنائية وجذرية في مرافق الدولة والمجتمع انغلقت الحياة على تقاليد مكبلة وخنادق مسدودة مما خلقت وستخلق تداعياتها فجائع وكوارث لن يعلمها الا الله ..
وبدل أن تسعى القوى القديمة إلى إجراء إصلاحات واسعة النطاق سيطرت باسم الانتخابات جماعات ضعيفة وقوى واهنة على مقاليد الحياة فلم تبق هناك أي سياسات ولا أي مناورات .. فكيف ستبقى الأوطان تحافظ على بيضة القبان ؟؟ الأمر صعب جدا من خلال رؤية واقعية مفعمة بالأسى ! وسوف لن يفيد إيهام الناس بعكس ذلك ابدا !
 
www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

192
رسالة جوابية
حول مشروع عقد مؤتمر للمثقفين العراقيين في الشتات

د. ّسيار الجميل

هذه رسالة جوابية على رسالة الصديق الفاضل الاستاذ الدكتور عبد الاله الصائغ المرسلة الي ّ من مشيغان والتي اقترح فيها علّي وعلى بعض المثقفين العراقيين في شتات هذا العالم عقد مؤتمر لهم في مكان منه من اجل نصرة العراق والعراقيين في المحنة التاريخية التي نجتازها اليوم .. وأحب ان انشر جوابي للعالم كله برغبة لاطلاعه على رأيي المتواضع  في نص الرسالة الجوابية التالية :
عزيزي الاخ الاستاذ الدكتور عبد الاله الصائغ المحترم
والاخوة الاعزاء على القلب حملة مشعل العراق في العقل والروح والوجدان
تحية عراقية من صميم الفؤاد وبعد ،
وصلني نداء الصديق الرائع والاستاذ البارع الدكتور عبد الاله الصائغ .. وبقدر ما اكبر فيه نداءه الكريم ومشروعه الرائع من اجل العراق .. اكبر فيكم جميعا كل ارائكم الخصبة وروحكم المعطاء ومحبتكم المذهلة للعراق .. وليعذرني الجميع عن تأخر جوابي وعفوا عما تجدونه عندي اليوم من بطء ليس عن غفلة او تجاهل او نسيان .. ولكن متاعب الفكر والحياة وهموم العراق تأكلنا كل يوم نحن العراقيين اكلا .. ولا ادري ايها الاصدقاء كم يزداد قلبي وحشة وتمتلئ نفسي كآبة كلما افكر بالمصير الذي سيلحق بالعراق ، ولا من ادراك متبادل بيننا وبين حقيقة المصير ويا للاسف الشديد .. وكما قلت في رسالة سابقة للاخ الصائغ وارددها وابقى ارددها .. انني اتمنى الموت قبل ان اجد العراق مقسما مجزءا  تعيث به الهوام .. انني واثق من ان تشّظي العراق سيحدث لا محالة ، ولكنه لن يطول ابدا كما يحدث دوما في تاريخه .. اما الثمن فسيكون غاليا جدا من ارواح اهلنا ودماء ابنائنا  واحتراق ارضنا واحمرار سمائنا ..  انني اوافقكم مشروعكم الرائع من اعماق الفؤاد متمنيا ان يجتمع كل المثقفين العراقيين الاصلاء والاحرار في مكان من هذا العالم  من اجل قول كلمة للتاريخ ، اذ انني واثق من اننا والملايين في هذا الشتات الواسع سوف لا نستطيع فعل أي شيئ ابدا ازاء هذا المارد الاصفر المجهول الذي يريد افناء العراق وسحق العراقيين ..
      قبل سنين مضت وفي ليلة صعبة سمعت فيها خبرا عن غرق العشرات من العراقيين في الباسيفيك ، وماتوا ميتة بشعة وقد اكلتهم امواجه ، وذهبت في نوم عصي وحلمت حلما فيه بشاعة وفيه جمال .. كنت احلم ان يجتمع كل المشردين العراقيين في الارض بمكان واحد .. في جزيرة نائية واحدة  خضراء اسمها العراق وتحيطها المحيطات لا براري الذئاب وهي قصية عن الاخرين كيلا يخترقونها .. وفيها لا يجد اهلها الجدد الا ارضا طيبة وسماء رائعة وجمالا خلابا  يشقون فيها نهرين طويلين على طولها ويزرعونها نخلا يتساقط رطبا جنيا ، وفي شمالها جبلا  وفي جنوبها هورا .. صحوت من نومي اثر صاعقة هزتني هزا قويا وصاح صوت رهيب في اعماقي .. هاتفت والدتي ـ رحمها الله ـ وحدثّتها في الصباح الباكر بما رأيت ، ردّت علّي وقالت بعراقيتها الجميلة : العراق لا يجد له شبيها  في كل هذا الوجود يا ولدي ! ليس لكم الا حاضنتكم وسترجعون يوما لنراكم ! ورحل اهلنا ولم نرجع .. وسيرحل العراق قبل ان نرحل رحلتنا الابدية !
     نعم ، العراق لا نجد له مثيلا مهما بلغ جمال الاكوان ، ولكن المصيبة في كل من صنع فيه هذا الخراب ولم يزل لم يكمل شوطه .. لم يزل يصنع هذه الفوضى ولم يزل يحبو نحو الجحيم .. المصيبة في كل من جعل العراق فردوسا مفقودا .. المصيبة في كل من جعل العراق بالوعة تجتمع فيها كل قاذورات العالم !  المصيبة في العراقيين انفسهم ، وهم بحاجة الى ان يسمعوا صوت العقل ولو لمرة واحدة .. مشروعكم مولاي الصائغ لابد ان يكون مشروع  ادانة لكل ما حدث بعد السقوط .. لنترك ما قبل السقوط للتاريخ اذ كفانا نلوك ذكرياتنا المرعبة ، وان نلتفت الى ما حدث على امتداد السنوات الصعبة التي طالما حلمنا فيها .. ولكن قتلوا احلامنا ونحروا امانينا ..  عندما اعترضت في شهر تموز 2005  على ماراثون ما كان يحدث من مهرجانات  قامت قيامة اعز اصدقائي ، قائلين : كيف تعترض على ما يجري ؟ فقلت لهم : اننا سندخل العراق بايدينا الى المحرقة .. اننا سنجر العراق بالقوة الى ان ينحر وهو عصيّ على القتل ..
      لقد ساهم الجميع بالتصفيق لمن يريد نحر العراق .. لقد صفق الجميع لكل الجهلة والمتخلفين والملالي والكارهين والقتلة والمختلسين .. لقد سكت الجميع على من اقصى كل المتنورين والاحرار المناضلين .. نعم لقد اقصوا كل المثقفين .. كل الاحرار .. كل المناضلين .. لقد ساعد الجميع في ان نصل الى ما وصلنا اليه .. نعم ، انا معكم في هكذا مؤتمر نقول كلمتنا فيه بعيدا عن التزلّف وبعيدا عن المداهنة وبعيدا عن النفاق وبعيدا عن كل الموبقات التي عرفناها منذ نصف قرن من الزمن البليد ..
نعم ، لابد من ان يجتمع اكبر عدد من المثقفين العراقيين ليوقعوا على اهم بيان يصدر عن مصير العراق .. نعم ، لابد ان يجتمع الجميع لا من اجل تصفية حسابات سياسية ولا من اجل مباركة نزعة فاشية ولا من اجل اقرار اجندة طائفية ولا من اجل تمايزية جهوية .. بل من اجل بقاء العراق والحفاظ على دم العراقيين .. تحية مني اليكم  مباركا لكم مشروعكم  متمنيا ان نؤلف هيئة عليا لعمل الخطة والاتفاق عليها وعلى التمويل وكتابة  نظام داخلي للمؤتمر تنبثق عنه ورقة بجدول للاعمال وان يرافق ذلك حملة اعلامية كبرى .. فهل نحن بمستعدين للامر  انا مستعد لاعداد ما باستطاعتي اعداده .. دمتم اهلا لحياة العراق ونصرة العراقيين بعيدا عن كل الشعارات القديمة والجديدة التي ستودي بحياة العراق وسحق العراقيين .. وان تنقلوا مشاعري الصادقة الى كل الاخوة والاصدقاء العراقيين في شتات هذا الوجود ..
 
مع فائق المحبة وخالص التقدير .

سّيار الجميل
في 5 اكتوبر / تشرين الاول 2006[/b]www.sayyaraljamil.com[/size][/font]


193
حيوية مجتمعاتنا 
بين انشداد الزمن وكسل التاريخ !
 
د. سّيار الجميل
 
    لم تترهّل الدولة العربية مؤخرا فحسب ، بل تراخت ـ ايضا ـ مجتمعاتنا كثيرا مقارنة بغيرها من المجتمعات ، ونحن نذكر جيدا عوامل كسيحة أضرّت بحياتنا وتفكيرنا وتصرفاتنا وكل سلوكياتنا ، وكم لعبت السياسات العقيمة دورها ناهيكم عن عوامل خارجية بعثرت كل مشروعاتنا وقتلت كل أحلامنا وأنهت كل إبداعاتنا .. قبل خمسين سنة من اليوم بدت مجتمعاتنا جمعاء كتلة من النشاط والحيوية والتفاعل والحركة والاندفاع.. لقد كانت قد خرجت للتو من عباءاتها القديمة السوداء وبدأت تنفض الغبار عن أرديتها وتزيل ما علق بها عبر القرون من أدران .. كم كانت مجتمعاتنا مفرطة في القوة وكم كنا نحن التلاميذ والطلبة مفعمين بالحلم الأكبر والأمنيات الجميلة ؟
كم كنا نجري لنعرف ما وراء هذا الخطاب ؟ كم كنّا ننشد كل صباح أناشيدنا الوطنية ونذبح حناجرنا ونحلم بتحرير فلسطين ؟  كم كنا نقضي أزمانا رائعة في قراءة روايات عالمية يتعب عليها مترجمون عرب لهم تميزهم وحذاقتهم ؟
كم كنا ننصت إلى الأغاني الجميلة التي يصدح بها فنانون  مطربون حقيقيون لا حصر لهم  ؟ كم كنا ننعش أرواحنا وعقولنا بما ينزل في المكتبات من أدب حديث وقصائد شعرية وقصص قصيرة في مجلات او ملاحق اسبوعية .. ؟
كم كنا نعشق مدارسنا ونحترم أساتذتنا ونتقّيد بمناهجنا ونصغي لأولياء أمورنا .. ؟ كم كنا نجادل احدنا الأخر في مسألة فلسفية او قضية سياسية او حالة تاريخية او شخصية كاريزمية او قطعة إبداعية .. ؟ كم كان عشقنا للسينما والمسرح عندما نجد التنافس قد بلغ أوجه في المنتجات الإبداعية ؟
كم كان هناك من زملاء لنا قد تحزّبوا ومالوا إلى هذا الطرف السياسي أو ذاك التيار الأيديولوجي أو هذا الاتجاه التقدمي ؟ كم كانت الحريات الشخصية والاجتماعية لها مساحاتها نتحرك من خلالها على هامش رائع حتى وان كان صغيرا مذ منحه إيانا المجتمع قبل الدولة  على عكس ما يجري اليوم من ممنوعات وتحريمات ؟
كم كانت النوادي حافلة بالأنشطة الثقافية والاجتماعية وقد سادتها الروح النظيفة ؟ كم علمنا معلمونا الأساليب الحضارية وغرسوا فينا عشق التراث وقداسة المعتقد وحب الأوطان وروعة اللغة واحترام الآخر والرفق بالحيوان والعناية بالزهور .. ؟
كم كنا نؤمن بالمشروعات الحضارية ونحلم بمجتمعات منتجة متحضرة يذهب عنها الاستهلاك وتستقل إرادتها وتزرع أراضيها وتثمر أزمانها وتضمن حياة مواطنيها ؟ كم كان الأمن النفسي وراحة البال يسودان لدى فلاح يعمل وعامل يكدح وطالب يتأهّل .. كم كانت الثقة مزروعة في النفوس ؟
كم كانت القناعة كنز لا يفنى ؟ كم كانت المحبة والتعايش والسماحة واغاثة الملهوف وحفظ الود تقاليد واصول ؟ كم كنا نؤمن بما نقرأ من كتابات ليس عن سذاجة بل عن موقف ؟ كم كنا نزاول السمو ونحن نتحدث عن بطولات أجدادنا ومفاخر آبائنا  ؟ كم .. وكم ؟؟  ولكن ؟
ما الذي غّير كل ذاك الحال بضدّه من الأحوال ؟ كأن ضربة صاعقة أصابت مجتمعاتنا دفعة واحدة ؟ كأن تحّولا أحالنا إلى نكوص إزاء الآخرين ؟ كأن الناس تغّيرت بغير الناس ولله في خلقه شؤون ؟ كأن عقارب الساعة رجعت القهقرى إلى الوراء .. فلم نعد ترى اليوم قصيدة شعر عمودية كلاسيكية تهز الوجدان والمشاعر !! ولا أي رواية حقيقية تشغل بال النقاد واهتمامهم ! ولا أي إصدارات فلسفية او نقدية أو فكرية يتجاذبها المهتمون من المثقفين الحقيقيين !
ولم نعد ننتظر الأيام من اجل حفل غنائي لقصيدة تطرب الأفئدة عبر الراديو ! أو مسرحيات غنائية أو درامية على مسارح تاريخية تهتز لها الأعماق ! لم تعد اليوم عواصمنا القديمة بشوارع نظيفة ساحرة الجمال ! لا وجود لحركات عمالية ولا أي نقابات تنشغل بقضايا العمال وحقوق الناس !
وسلكت الأحزاب السياسية بقضها وقضيضها هي الأخرى مسالك تافهة ! ومن سخرية القدر أن تستورد بلداننا الزراعية القديمة أغذيتها من كل اطراف العالم ! ومن نكد مجتمعاتنا استهانتها بالحداثة  والإصلاح !  وأصبح كل من ينادي بهما تشمئز منه النفوس ويتهم بأسوأ التهم الباطلة !
      لقد أصيب العقل في مجتمعاتنا بمقتل منذ قرابة ثلاثين سنة وان مجمل التغيرات والتحولات المفجعة التي حّلت كانت تزّيف الواقع إعلاميا ويترّبى جيل لا يدرك قيمته الإنسانية ولا يحترم الزمن ولا يقّدس العمل ولا يتعّلم المنافسة ولا فن التعامل مع الحياة ..
وغدا جشعا مواربا متواكلا متكاسلا مستسلما ليس باستطاعته مواجهة التحديات المتنوعة ، بل وان الظروف الصعبة المعيشية والسكنية جعلت من الجيل الجديد لكلا الجنسين  يعيش متناقضات لا حصر لها وخصوصا نقيض الاختفاء وراء الحجب الداكنة ، أي إخفاء المأساة وقلب التراجيديا إلى ملهاة لأسباب غاية في التخّلف والبدائية والوضاعة !
وبعدما كنا ننشد تحرير المرأة من كل اطواقها وجعلها انسان حقيقي له حقوقه وواجباته .. غدت المرأة تضطهد اجتماعيا وسايكلوجيا وعائليا وتسلب عنها ارادتها ويداس على حقوقها وحتى على ارثها .. بل وبقيت تعامل كالسلعة في اسواق النخاسة واهتزت علاقتها بالرجل بعد ان عاشت تواريخ مشتركة في مواجهة الحياة .
    اليوم ، تسود ثقافة اجتماعية ديماغوجية مضللة صاغرة مستسلمة هزيلة .. لا تعرف المقاييس النسبية ولا أخلاقيات الحياة .. وهنا لابد ان نصرخ : ما العمل ؟
اقول: ينبغي على الإنسان أن يتمتع بوعي جديد للحياة وينجح في تغيير تفكيره ونهجه وقناعاته وسلوكياته مستفيدا من تجارب الآخرين ، وان تتوفر له مناخات الحرية والعمل والاستقلالية والانطلاق ! انه بحاجة الى أساليب تربوية جديدة .. وان يتعلم من دينه أسمى الفضائل ..
وان يفهم تاريخه ليحترمه لا ليقدسه  وان يقرأ تواريخ الاخرين ليتعلم منها لا ليطعن بها .. وينجح في اقتناص الفرص السانحة من الزمن والبيئة والموارد الطبيعية ..وخصوصا في كيفية التعامل مع  بيئة متنوعة وخصبة وغنية بالموارد والجماليات والمعتقدات والأديان والمواريث والتواريخ والقوميات والحكايات والفولكلوريات واللغات  ..
وثمة أولويات غير مألوفة صعبة للغاية ، وينبغي ايجادها والسعي من اجلها ويتحرك في اطارها ، واعتقد ان سيثبت فيها من كانت أرضيته صلبة ، وثقافته مبدعة ، وأصالته عريقة :
1.   الالتقاء على قواسم مشتركة  لمبادئ جديدة في الإصلاح والتحديث بكل مرافق الحياة .
2.   توظيف وسائل تكنولوجية لخدمة الناس  ، ويغدو الإعلام وتكنولوجيا المعلومات معلما ورائدا في التغيير الحقيقي .
3.    تجسير الفجوات بين الدولة والمجتمع ، وتوفير السبل للارتقاء بالمجتمع والعناية بمبدعيه ونخبه وفئاته العاملة . 
4. الانفتاح بديلا عن الانغلاق ، بتأسيس تنمية للتفكير وغرس الوعي وثقافة الالتزام بكل جوانب الحياة .
فهل ستحقق مجتمعاتنا ذلك ؟ إنني اشك في ذلك !       

www.sayyaraljamil.com
4 اكتوبر 2006[/b][/size][/font]

194
شكر وتقدير من الدكتور سّيار الجميل

    بعد إجرائه عملية القسطرة في القلب وخروجه مشافى معافى برعاية الله من مستشفى زايد بمدينة أبو ظبي .. يتّقدم الدكتور سّيار الجميل بوافر الشكر والتقدير إلى الفريق الطبي المعالج في جناح القلب وفي مقدمتهم الدكاترة : عبد الله بشاره  وجمعة الظاهري و م. بيلا  والى كل الأخوات الممرضات والممرضين وبالذات السيدة ايما تان ..
كما يشكر كل أصدقائه القريبين منه الذين وقفوا معه ويخّص بالذات مرافقه  الأستاذ السيد مجيد الحسني آل السيد عيسى  والأستاذ المهندس أديب احمد سامي .. كما يتقدّم بشكر خاص إلى مجلس العمل العراقي بابو ظبي وعلى رأسه الأستاذ طالب مصطفى خان رئيس المجلس وكل أعضائه الكرام وكل الإخوة المحبّين الزائرين له في المستشفى أو في بيته نظير اهتمامهم .. كما ويشكر كل الأصدقاء الأوفياء البعيدين عنه الذين أرسلوا برسائلهم واجروا مكالماتهم وقاموا باتصالاتهم ويثمّن عواطفهم ونبلهم وتهانيهم رفقة عوائلهم الكريمة  ..
كما ويشكر كل الصحف ووسائل الإعلام التي اهتمت بأخباره .. ويسّره جدا أن يعلم الجميع بأنه تماثل للشفاء التام وان صحّته على أحسن ما يرام بحول الله ، وقد عاد إلى قلمه  وقرائه والى كل محبيه مع أسمى المودة وخالص التقدير .

www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

195
حوار حضارات أم صراع ثقافات ؟
قصة بيندكيت السادس عشر نموذجا !
د. سّيار الجميل

مقدمة
    عندما سمعت وقرأت محاضرة قداسة البابا بيندكيت السادس عشر التي اثارت زوبعة واسعة قبل ايام ، استرجعت ذاكرتي قراءاتي عن عهد السلطان العثماني بايزيد الاول وتاريخ الصراع في المنطقة عند مفصل القرنين الرابع عشر والخامس عشر .. وتذكّرت بأن الصراعات عصرذاك لم تكن بين ديانتين سماويتين اثنتين ، بقدر ما كانت بين مصالح دول وقوى واباطرة .. بل وان تلك الصراعات طالت من خلال الانشقاقات السياسية انقسامات في كل من الديانتين المسيحية والاسلامية ، وأذّكر قداسة البابا أن كنيسة روما الكاثوليكية الغربية لم تنصر الكنيسة الارثودكسية الشرقية في القسطنطينية في محنها التاريخية عندما ناضلت طويلا في حصارات عدة ، ثم سقطت بايدي العثمانيين المسلمين عام 1453 م ، فالانقسام المذهبي بين الكنيستين قديم قدم المسيحية ! وليعلم قداسته ايضا بأن العثمانيين انفسهم لم يسلموا من الصراع المذهبي عندما هاجمتهم جيوش دولة تيمورلنك الاسلامية وشتتهم في معركة أنقرة عام 1402 ، واقتيد بايزيد الاول اسيرا  في قفص الى سمرقند ليموت حزنا وكمدا عندما كان الامبراطور امانوئيل الثاني يحكم بيزنطة ، وهو يمتثل لكنيسته الارثودكسية طوعا بعيدا عن روما الكاثوليكية التي لم تنقذ القسطنطينية من السقوط حتى اللحظات التاريخية الاخيرة ( عاش الامبراطور البيزنطي امانويل الثاني للفترة 27 يونيو 1350 ـ 21 يوليو 1425م ، وحكم امبراطورا للفترة 1391 ـ 1425م ) . 

تأجيج حرب دينية غير نمطية !
    ينبغي علينا ان ننتقل من طور السفسطة البيزنطية الى اساليب الجدل الفلسفية في معالجتنا لما اطلقه البابا بيندكيت السادس عشر في محاضرته التي اعتبرها اكاديمية ولم تكن دينية بأي شكل من الاشكال .. وسوف لا تسمح لي محددات المقال ان اناقشه تاريخيا في الذي اطلقه ، ولكن لابد ان نلتفت الى التصريحات التي قالها كوفي عنان الامين العام للامم المتحدة في خطابه الذي ألقاه لدى افتتاح النقاش السياسي في الجمعية العامة للامم المتحدة قبل ايام ، اذ رأى وجوب التعامل بحساسية مع المعتقدات والرموز المقدّسة محذرا من أن الاخطاء سواء أكانت متعمدة أو عن غير قصد يمكن أن تشعل حربا دينية عالمية. واستطرد قائلا بأن حركة الهجرة الدولية التي جمعت ملايين الاشخاص من ديانات وثقافات مختلفة للعيش معا لم تنجح في توحيدهم. وإن المعتقدات الخاطئة والصور النمطية الكامنة في فكرة صراع الحضارات أصبحت مشتركة على نطاق واسع كما أن عدم الحساسية تجاه معتقدات الآخرين أو رموزهم المقدسة- سواء عن عمد أو بدون قصد - يستغلها أشخاص يبدو أنهم يتوقون لتأجيج حرب دينية جديدة هذه المرة على مستوى عالمي .
ولم يشر عنان بشكل صريح لتصريحات بابا الفاتيكان المثيرة للجدل والمسيئة ليس للاسلام بل لمشاعر المسلمين ، انها التصريحات التي أثارت احتجاجات صارخة في العالمين الاسلامي والعربي، ولم تزل تداعياتها تثير هياجا وغيضا وغضبا . وقال عنان مستطردا أيضا إن مناخ الخوف والشك يزيد حدة باستمرار بسبب العنف الذي يجتاح الشرق الاوسط حيث يحمل رموزا قوية تمس المشاعر تؤثر حتى على أولئك البعيدين عن الصراع التاريخي بين الاسرائيليين والفلسطينيين .

تدافع الثقافات بين تاريخين : انفضاح نزاع الاديان
    كنت أتوقّع تماما قبل دخولنا هذا القرن الجديد ان ثمة انتهاكات ستصيب بنية المعاني والرموز والثقافات والطقوس المتنوعة التي تؤمن بها المجتمعات في العالم ، وخصوصا مع تدافع الثقافات وصراعاتها لفرض وجودها في عصر تزدحم فيه المعلومات وتتلاقى فيه الاوجه وتتنافس فيه التقنيات وتتبارى فيه الميديات ويشهد العالم المزيد من الانقسامات من خلال صراع ثقافات وهويات ..( انظر : كتابي الموسوم : " العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير !!! : العرب والمسلمون في القرن الحادي والعشرين"  والمنشور عام 2000) . كانت كل المحاضرات في الماضي القريب جدا تلقى بين جدران موصدة وكل الاراء تطلق في اروقة جامعات بعيدة وكل الخطابات ليس لها الا مدى من المحليات وكل الكتب المختصة والكتابات لا يقرؤها الا البعض من المختصّين ويتبادل الرأي فيها نخب وجماعات .. اليوم اختلفت الحياة وفي غضون اقل من عقدين زمنيين عما كانت عليه جملة وتفصيلا .. اليوم لم يعد يجيد اللعبة الا اولئك النفر القليل من اللامعين لجيل جديد خرج على العالم وهو يسيطر على تقنية المعلومات بشكل خطير .. الناس بدأت تتلاقى مع بعضها البعض اعلاميا ومعلوماتيا وبسرعة البرق ، وبدأت الثقافات تتصادم بشكل مخيف ، بل وامتد الارهاب نفسه متغلغلا هنا او هناك بواسطة شبكة المعلومات الدولية .. كل هذا يجري ولم تزل الاجيال القديمة التي عاشت في القرن العشرين لم تدرك بعد هول التحولات وما الذي سيحصل في الاتي من القرن الواحد والعشرين !
    لعل العقائد والرموز الدينية تشكّل جزءا حقيقيا من الثقافات الموروثة للشعوب ، فاذا كانت حتى الماضي القريب تقيم بين الجدران في الصوامع والكنائس والمساجد والمعابد .. وفي العتبات المقدسة وفي مدن تقصدها الملايين من الحجيج .. فانها اليوم باتت ومعها كل الثقافات الدينية بكّل ما تحمله من مضامين وطقوس ورموز وايقونات وحركات ونظم وتقاليد معروضة في الليل والنهار .. بل وان هناك من الادباء والروائيين قدم محاولات مارقة لكسر تلك الثقافات في الصميم بدءا بسلمان رشدي في " آيات شيطانية " عن الاسلام وانتهاء بـ "  دافنشي كود " عن المسيحية .. وكما قلت في التحليل النقدي الذي قدمته لرواية دان براون مؤخرا عن شفرة دافنشي بأن المقدس اصبح عرضة للتفكك نتيجة كل ما هو مباح معلوماتيا على العالم كله ..

نقداتي للبابا بيندكيت السادس عشر
    اما ما اثاره بابا الفاتيكان مؤخرا في محاضرته فهو مشكلة نتجت عن اشكالية اثارها ولم اجد أي لزوم لها وفي مثل هذا الوقت بالذات ، واذا تصورّنا جدلا انه لم يدرك تداعيات ما ستحدثه بعض النصوص التي تضمنتها محاضرته عن الاسلام ونبي الاسلام ، فأنه قد خرج عن التقاليد الحديثة التي ارساها من سبقه من باباوات الفاتيكان في القرن العشرين ، وخصوصا البابا بولص السادس والبابا يوحنا بولص الثاني .. ناهيكم عن جهله بالخصال البابوية التي ينبغي عليه ان يتمتع بها في كيفية تناوله مسألة الاديان ، فهو ليس باستاذ جامعي اليوم كي يلقي محاضرته في علم الاديان المقارن ليقول فيها ما يشاء .. وهو ليس بمؤرخ ماهر باستطاعته ان يحلل النصوص التاريخية ويفكك مضامينها  بعد ان يحسن ويقّدر قيمة النص وقوته ومصداقيته .. ويلقي باحكامه عنها .. ان مكانته ( المقدسة ) التي جعلوه فيها لا تسمح له ابدا ان يتناول هكذا موضوع ويثير من خلاله عن قصد او عن غير قصد اشكالية معينة ستكبر وتتضخم فجأة وتتحول الى مشكلة تساهم بشكل حاد في تصادم الثقافات ! واعتقد ان قداسة البابا بيندكيت السادس عشر يدرك تماما كم هو حجم المسيحيين الشرقيين القدماء ارثودكس وكاثوليك من عرب وسريان واقباط وموارنة وكلدان وارمن .. وهم قد تعايشوا مع المسلمين لاكثر من الف واربعمائة سنة وبقيت كنائسهم واديرتهم في المدن ام في الارياف ، ولا اعتقد ان الطرفين قد تصادما او دخلا في صراع او دوامة عنف .. وعليه ، فان التاريخ الاجتماعي والحضاري لمنطقة الشرق الاوسط هو المعّبر الحقيقي عن هوية مسالمة راقية لتعايش الديانات بديلا عن " نص " هزيل يتضمن حوارا دار بين الامبراطور البيرنطي امانوئيل الثاني ومبعوث فارسي !! وحتى ان صدقّنا بذلك الحوار ، فمن الطبيعي ان يكون رد امانوئيل الثاني كذلك وهو يشهد صراع حياة ووجود بين امبراطورية بيزنطية عتيقة جدا وبين سلطنة عثمانية جديدة ! من جانب آخر ، انصح قداسته وهو رجل اكاديمي سابقا ينبغي تقّبل النصيحة العلمية ان يقرأ ويتأمل طويلا في الاساليب السلمية الرائعة التي انتشر فيها الاسلام عبر القارات وخصوصا في اعماق جنوب شرق آسيا لما وراء البحار ، وفي اعماق روسيا لما وراء الاورال ، وفي اعماق افريقيا جنوبي الصحراء الكبرى .. ليدرك بأن السيف لم يكن له أي وجود في الانتشار الحضاري للاسلام عبر العصور .
تشخيص تصادم الثقافات : رؤية نقدية في الانحدار التاريخي
    اعتقد ان ثمة امور كان ينبغي معرفتها سابقا ، وثمة امور اخرى ينبغي معرفتها الان ، وثمة امور لابد من استجلائها لاحقا .. وعليه ، فيمكنني القول بعد انني رصدت الفعل وردود الفعل كي اسجّل ملاحظاتي عن هذا " الموضوع " :
1/ العمودي يتخلخل من خلال التسطيح الافقي
ان العالم الدنيوي آخذ بالانحسار والضآلة والصغر اعلاميا ومعلوماتيا بشكل مخيف وبسرعة لا يمكن تخيلها .. في حين ان عالم الاديان كلها آخذة بالاتساع والتمدد ، وبقدر ما يخلق الاول له مركزيته عموديا ليجمع المجتمعات من حوله ليس بالملايين بل بالمليارات من البشر .. ( مثال : المونديال لكرة القدم ) بقدر ما نجد عالم الاديان يخلق له امتدادا افقيا ومسطحا من دون أي مركزية وهو يساهم في الازمات التي يعيشها المجتمع الدولي وتفترق الشعوب وهي تتبلور على الصراع ( مثال : الارهاب باسم الدين ) .
2/ من سيقود صراع الثقافات في المستقبل المنظور ؟
 بقدر ما كان رجال الدين معّززين مكرمين من خلال مكانتهم واستقلاليتهم وانعدام تدخلهم في الشؤون العامة ابان القرن العشرين ، نجدهم اليوم يقودون الصراع الثقافي والعقائدي بين الشعوب والمجتمعات العالمية في القرن الواحد والعشرين .. ان فقدان رجال الدين مكانتهم العليا سيؤثر على قوة العلاقة بين الناس واديانهم ، اذ يعتبر رجال الدين وهم رجال التابو انفسهم حلقة الوصل بين الناس وآلهتهم .. وعليه ، فان التحّول اليوم في الصراع ليس بين رجال الدين من طرف ورجل الدنيا من طرف آخر ( = مثال : فتوى القتل التي اصدرها الامام الخميني ضد الكاتب سلمان رشدي ) ، بل غدت بين رجل الدين من طرف ورجل الدين الاخر من طرف آخر (= مثال : مطالبة شيخ الازهر باعتذار من بابا روما ) .
3/ العنف في التاريخ .. أين ؟ في الكنيسة ام الاسلام ؟
يبدو واضحا اخفاق رجل الدين اليوم في اقناع العالم بما لديه ، اذ لا يمكن ابدا استخدام نصوص تاريخية دنيوية وتوظيفها في معالجة قضايا دينية معاصرة ! ولا يمكن التطفّل على نص قديم ليس له أي جذر حقيقي باقناع العالم وهو يقول : ان العنف مصدره دين معين كالاسلام مثلا ، ويتغافل ( وهو الرجل المقّدس ) ان تاريخ الكنيسة في اوروبا مضمخ بالدماء الزكية والحروب الدينية المفجعة ناهيكم عن الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ! من هنا ينبغي على الانسان ان لا يجعل التاريخ مرجعية له يستجدي منه حلولا لهذا العصر ، بقدر ما يسعفه العقل بايجاد اساليب حديثة وحلولا ناجحة . وهنا ينبغي ان ينفض الانسان عن تقديس التاريخ بالتحّول الى احترام التاريخ ، وليس هناك من " مقدّس " الا النصوص العقدية او الشرعية .
4/ لا صلاح للانسانية مع وصاية فيتو الفتاوى !
ان الانسان على وجه الارض تزداد مشكلاته وتعقيدات حياته ومتطلبات عيشه يوما بعد آخر ، بل ساعة بعد أخرى .. فهو اولى ان ينشغل بايجاد حلول ومعالجات واصلاحات تجعله انسانا عمليا منتجا يهتم بالفضائل ويحكّم العقل بدل ان يضيع في هوس ما يقوله هذا او ذاك . ان حاجاته للمعاني والرموز الدينية اساسية باعتبارها من جملة ما يؤمن به وانها تحدد طبيعة علاقاته برّبه وآخرته .. ولكن ان يجعلها مجرد شعارات بديلة عن سعيه وانتاجه ومصالحه وفضائله وتربية اولاده والحفاظ على بيته وفرص ابداعاته .. فهذا ما لا تقّره الاديان قاطبة .. والتي امرت بمكارم الاخلاق والتعاون والمحبة والسعي والرزق والانتاج بديلا عن كل الموبقات والترهل والتواكل والاخلاق السيئة والعنف والاستهلاك والايذاء وقطع الارزاق .. الخ
5/ نص غير شرعي سحق مشروعات حوار
يبدو ان العصر كلما يتقدّم نحو الامام وفي ظل المستحدثات الجديدة سيزداد فيه تصادم الثقافات وتقل فيه فرص حوار الحضارات .. فاذا كان بابا روما الجديد يجهل مثلا كيفية توظيف نصوص تاريخية معينة انتجت كل هذا الركام من ردود الفعل القوية ، فهو اذن لا يدرك لغة هذا العصر ، وهو لا يدرك ايضا كيف تحّولت فقرات من خطابه الى لعبة سياسية ساهمت في انقسام العالم ، بل اندفعت في تكريس تصادم ثقافات ، وخصوصا بين قارات العالم كلها . ان عبارات محددة اطلقها من مكانه في جامعة المانية قتلت مشروعات طويلة الاجل اشتغل عليها الناس طويلا هذا باسم حوار الاديان وذاك باسم حوار الحضارات والاخر يكّرس شعار تلاقي الثقافات .. وقد قلت اكثر من مرة بأن كل هذه المشروعات والنفقات والازمان والاجتماعات والاسفار على الطائرات واهية ستتبدد ما دامت هناك افتراقات حادة بين المجتمعات الدينية التي تستخدم آلياتها ضمن مشروعات سياسية !
6/ ما نفع الاعتذار ؟ ما نفع الشتائم ؟
وأسأل عالمنا العربي والاسلامي : ما نفع الاعتذار ؟ ما نفع التظاهر وذبح الحناجر ؟ ما نفع السباب واطلاق الشتائم ؟ ما جدوى كل ذاك الغيظ وهذا الغضب ؟ وسواء اعتذر البابا ام لم يعتذر .. فهل سيّقدم هذا ام يؤخرّ ؟ وهل يعتقد كلّ من العالمين العربي والاسلامي ان التصادم سيتوقف عند هذا الحد ؟ وأسأل ـ مثلا ـ : هل لم يزل كل من العالمين مقاطع للبضائع الدانماركية على خلفية ما جرى من رسوم الكاريكاتير التي اقامت دنيانا ولم تقعدها ؟ هل يقابل الطعن بالرموز الدينية والمعاني الاسلامية بوسائل سياسية او تعبيرية ؟ فاذا الوسائل المادية والانتاجية لم تصمد حتى لمدة سنة واحدة .. فكيف سيكون مصير كل الاحتجاجات وتأليب الشوارع وتأجيج العنف ؟ ان العرب والمسلمين لم يدركوا حتى يومنا هذا تحولات العصر ومخاطر تكنولوجيا الاعلام والمعلومات .. لم يدركوا ان ما كان يستخدم في القرن العشرين لم يعد نافعا البتة في هذا القرن ! ولكن لتكن لنا أساليب أخرى :
7/  وجادلهم بالتي هي أحسن
     ان حياتنا لا يمكن ان يسّيرها اناس لا يعرفون الا صناعة الكلام وانشاء الخطب المنبرية وتهييج المشاعر .. وعّاظ اصبح الاعلام بايديهم وهم لا يدركون كيف يعالجون تصادم الثقافات .. ولا يدركون عمق فلسفة " وجادلهم بالتي هي احسن " ، اناس فرضوا انفسهم على هيئات ولجان لما اسمي بحوار الحضارات وحوار الاديان ، وهم لا يعرفون اساليب المحاججة ولا علوم المنطق ولا تاريخ الاديان ولا يجيدون العمل مع ثقافات اخرى ، بل ولا يبرعون في تقديم خطاب عربي اسلامي متجدد الى العالم كله . ان مشكلتنا الاساسية أصلا مع هؤلاء الذين جعلوا من  انفسهم أوصياء على ثقافاتنا وعلى كتم افواهنا وعلى حرياتنا وافكارنا وابداعاتنا ، فكيف يمكنهم ان يقنعوا العالم بعقلانية العرب والمسلمين ، فشتّان بينهم وبين عمالقة امثال : ابن رشد وابن خلدون وابو حنيفة والفارابي والكندي والمسعودي والرازي وابن الهيثم وابن المقفع وابن باجة وابن النفيس وابن طفيل وابن سينا وابن الاثير والمعّري وابن حزم .. وغيرهم من العمالقة الذين اقنعوا العالم كله بعقلانيتهم ورؤاهم وفلسفاتهم وليس بهوسهم وشتائمهم وبرامجهم التلفزيونية !

واخيرا : ما كل ما يتمنى المرء يدركه !
    اتمنى ان يهجع العالم قليلا من كل اضطراباته القيمية ، وان يتخّلص من هوس التزّمت والتعّصب ومن زرع الاحقاد والكراهية ، فادياننا تنادي بالسماحة والمحبة والمشاركة والتعايش وتحريم القتل .. لا اطالب قداسة بيندكيت السادس عشر بالاعتذار ، بل اطالبه ان يقرأ التاريخ جيدا وينصف الاسلام ونبيه وان يقول كلمة سواء بحق رسالته الحضارية وروحيته التعاونية ودوره الانساني .. وان عليه ان لا يجد الاسلام يتمّثل بمجموعات ارهابية من دون النظر لمجتمعات مسالمة مستقرة ومتحضرة ساهمت في بناء البشرية .. ولابد ان ينادي الجميع بأن يتوقف هذا البلاء الزاحف بتصادم الثقافات والتزّمت بالهويات واثارة النعرات .. وعلى اصحاب كل الديانات والثقافات ان يجدوا في التوازن والحلم والمنطق والتجانس سبيلا لعالم جديد خال من الصراعات . فهل سيحدث ذلك ؟ نعم ، ولكن بعد فوات الاوان !
www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 27 سبتمبر 2006.[/b][/size][/font]

196
الشرق الأوسط وهواجس التفكك الداخلي !!

د. سّيار الجميل

   لعل أولى الإشارات التاريخية لمفهوم " الشرق الأوسط " قد تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية وعلى امتداد أكثر من نصف قرن .. وكان النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد نضجت فيه المسألة الشرقية ومفهوم " الشرق الأدنى " بشرقي أوروبا .. لقد فشلت مشروعات الشرق الأوسط سابقا بفعل قوة الدولة والمجتمع ، ولكنهما اليوم قد ضعفا مما أفصح عما اختزنته طويلا .
ولكي يدرك العالم كله بأن منطقتنا واحدة من ابرز أقاليم الدنيا ، ليست هينة بل  عصية جدا حتى وان كانت كلها في رعاية الغرب سابقا .. ولكن الأمر اليوم يختلف كثيرا ، ولقد فات هذا على صنّاع القرار من الأوربيين والأمريكيين في الماضي ، فهم اليوم يدركون تماما حجم ما تختزنه المنطقة من ترسّبات التاريخ ومن كل منطلقات العقائد ومن ثروات النفط الهائلة .. فضلا عن كونها المعبر الجاذب لكل من الشرق والغرب معا في جغرافية العالم الاقتصادية والحضارية .
وعليه ، فمن البديهي أن تعيش المنطقة دوما تناقضات الماضي  وصدامات الحاضر ومواجهات المستقبل .. إنها كانت ولم تزل تواجه تحديات صارمة وتدخلات خارجية سافرة .. ينتج عنها المزيد من الاضطرابات والكوارث .
     واعتقد إن  كانت التكوينات السياسية قوية فسوف تصمد أمام عواصف وأعاصير تهب على المنطقة من هنا وهناك والعكس يحصل لدى التكوينات الضعيفة .. ودوما نجد أن التدخلات الخارجية وراء إثارة الصراعات الداخلية . إن منطقتنا مقبلة على صراعات متنوعة لها مسببّات عدة في أماكن معينة وستحترق مناطق أخرى لم تكن قابلة للاشتعال في الماضي .
إن جوهر معضلة منطقتنا اليوم أنها تمتلك المجال الحيوي الحقيقي في العالم. ولعّل الذي زاد من حدة التصادم ما روّج عن المسلمين وعالمهم الكبير والذي غدا يترصّده الغرب معتبرين إياه خصما حضاريا متصادما بفعل الافتراضات التي رّوج لها باسم " تصادم الحضارات " .. لقد مّر وقت قصير حتى غدت تلك الافتراضات حقيقة بفعل الأرضية المؤهلة ليس لذلك " التصادم " ، بل للصراعات الخارجية ..
    لقد غدت المنطقة تنتقل من موديل لآخر نتيجة للتحولات الصعبة ، وتحّل فيها كل القسوة والآلام .. لقد مررنا بصفحات لا تعد ولا تحصى من الصراعات والتي يتفاقم حجمها يوما بعد آخر .. إن مرحلة الصراعات العربية كانت نتيجة للحرب الباردة في العالم بين الشرق والغرب ، وغدت اليوم قابلة مباشرة للاشتعال بفعل وسائل الإعلام المعولمة .. فالكتب والمحاضرات التي كان يلقيها أساتذة ومستشرقون وتتضمن أقسى الآراء ضدّنا .. كانت منحصرة في قاعات الدرس أو ردهات الجامعة أو رفوف المكتبات !
اليوم ، أصبح الخطاب مشاعا بسرعة خاطفة مما يعجّل بصنع شحنات مضادة متفجرة غضبا .. فما هي الصورة التي تمنحنا إياها الرؤية المستقبلية للمنطقة في ظل التفاعلات السريعة ؟  أقول بأن المنطقة كانت وستبقى تعيش سلسلة صراعات غاية في العنف :
صراعات الحقوق المستلبة من تراب أوطاننا وهي صراعات حدودية وإقليمية تاريخية موروثة في ظروف مختلفة ، وثمة صراعات قومية ثقافية تفّشت واستعرت في أكثر من مكان بمنطقتنا ، وهي الأكثر سخونة .. وهناك صراعات عرقية شوفينية بعد أن اندفعت الشعوب  اندفاعات مستديمة لمزيد من التطرف القومي ، فطغى على المصالح الإقليمية والوطنية معا ، وتكاد تغيب الأوطان على حساب التماهي مع الأعراق المتصارعة سرا وعلنا  .. وهناك صراعات داخلية متنوعة منتشرة ..
إن منطقة الشرق الأوسط ستمزقها الأهواء والتعصّبات والتشنجات والصراعات على امتداد خمسين سنة بفعل تصادم المذاهب والطوائف والملل لتغدو المصالح بيد الآخر .. وكلنا لن ينسى ما كان يحاك من مؤامرات في عواصم ضد أخرى ! ولقد استغل العالم الخارجي مثل هذه الهشاشة وتلك ليكرس المزيد من التهديدات والتدخلات .
    إن صراعات الشرق الأوسط الإقليمية والتي تزدحم بالمشكلات الإقليمية والحدودية والبحرية والسكانية والمذهبية والاقتصادية أجدها نتاج تاريخ عقيم من العلاقات والرؤى والأحداث .. إنني أرى بأن الانقسام اليوم في بداياته كما يبدو .. وخوفنا من أن يتحّول إلى صراع خطير تتمحور حول ثنائيته دول هنا ودول هناك بفعل تباين استراتيجياتها وسياساتها الخارجية ! فان الحاجة تدعو اليوم لتأسيس مبادئ جديدة وتحالفات قوية وإرجاع الحقوق إلى أهلها ..
    لقد تفّشت الصراعات اليوم في بعض دول منطقتنا على مستوى الأحزاب السياسية والدينية معا ، فغدا لكّل منها ميليشيات ومرتزقة واوليغاريات عسكرية طاغية تخشى منها حكومات ودول ، إذ أن لها نفوذها في المجتمع وهي نتاج الحروب الحدودية والأهلية والإقليمية في بلدان معينة !
ومع تفاقم المخاطر ، نجد أن الصراعات الطائفية هي  من اخطر ما تعيشه بعض مجتمعاتنا بحيث حّلت الانقسامات والتخندقات محل التوحدات الوطنية والسياسية فغدت مجتمعاتنا عرضة للاضمحلال الوطني على حساب التماهي مع الطائفية التي ستهدد مجتمعاتنا بالكامل وتزيد من إشعال الحروب الأهلية .. وخصوصا في مجتمعات مختلطة بالطوائف والملل والنحل.. إن صورة العراق المأساوية خير دليل على ما يكتنف منطقتنا اليوم من صراعات والتي نتمنى أن تذهب والى الأبد !
وأخيرا ، ثمة صراعات مختلطة جراء تفاقم ظاهرة الإرهاب الذي مرّ بمراحل خطيرة جدا وصولا إلى الحد من الحريات الشخصية وفرض الأقلية نفسها وصّيا على كل المجتمع والدولة والأعمال الأدبية وقتل الأفكار .. ومرورا بمشروع اغتيال الإبداع وانتهاء بهمجية قطع للرؤوس وتفخيخ للسيارات في قلب المدن العربية . إن هكذا منطقة تعّج بالتناقضات الساخنة لا تصلح أن تغدو مشروعا لأي طرف إقليمي أو دولي .. إذ لابد أن تمتلك إرادتها وتتخلّص من كل مشكلاتها وتعقيداتها . فهل سيحدث ذلك عمّا قريب ؟ إنني اشك في ذلك !   

البيان الإماراتية ، 27 سبتمبر 2006[/b][/size][/font]

197
العراق والتقاسيم : عشّاق وملالي ومجانين !!
د. سيّار الجميل

تساؤلات: فاقد الشيء لا يعطيه
   هل كنا نحلم حقا نحن العراقيين ابان القرن العشرين ؟ هل كان العراقيون يدركون واقعهم وما الذي يضّمه حالهم ؟ هل كّنا ندرك حوافي الحقيقة في كل هذا الذي طفح بجيفته على السطح ؟ هل لم يزل هناك من العراقيين يخرج على الدنيا مزيفّا ليتحدث مبالغا في كل شيء وهو يعّبر عن اكذوبة كبرى او سلسلة اكذوبات لا تعد ولا تحصى ؟؟ لقد دخل العراقيون حقا طور العهر التاريخي وقد فقدت نسبة كبرى منهم مشاعرها وكل تقاليدها ومبادئها وكل ما عرفناه في العراقيين من دلالات واضحة في الحصانة والشرف وقيم الوطن القديم ؟؟ ما الذي نراه ونسمعه بكل ما يحدث وكل ما يقال في اي بقعة من ارض العراق ؟ هل وصل الافراط بكل مصادر العراق الى هذا الحد من التزييف والتشويش والاعتباط والسذاجة وسوء السلوك والجنون ؟ هل وصل السلوك لدى الانسان الى درجة كسيحة من الغباء والبدائية والدوار في حلقة مفرغة من العقل والحكمة والعيون مقفلة ؟ هل وصل الامر بالعراق ان يمتلئ بالاشرار الذين لا يعرفون دينا ولا عرفا ولا اخلاقا الا لغة التهديد والقتل والخطف وذبح الحياة ؟

كيف تبّدل العراقيون بغير العراقيين ؟
   من له كل الزمن ليسمع الاخر حتى النهاية ؟ ما هذه الخرافة التي تعمّ كل العراق ؟ ما هذه الغفلة التي ابتلي بها حتى الذين يسمّون انفسهم بـ ( مثقفين ) ، وهي تسيء لتاريخ العراق ومستقبله ؟ ما جناية العراق يقع فريسة محتلين وطفيليين وساذجين وسارقين ومختلسين ومارقين كاذبين وجهلاء بلداء ودجالين معممّين  ؟ ما نوع هؤلاء الساسة الجدد ؟ هل انجبهم وطن اسمه العراق ؟ ام انجبتهم طائفة او عشيرة او فصيلة او منطقة او اقليم .. ؟؟ وما هو صنف القادة الذين لا يعرفون اساليب حكم او صناعة سياسة او احتراف قيادة او حذاقة خطاب ؟ كيف اختفت تلك الخيلاء العراقية وتلك الكبرياء العراقية وتلك المكانة الاجتماعية العراقية .. بعد سنوات من ازمنة القهر والتعاسة ؟ كيف اختفت تلك النباهة العراقية بحيث لا يعرف اهل العراق كيف يتعاملون سوية مع هذا المحتل ؟ كيف تبدلت موازين العراقيين بحيث تبخّرت الارادة الصلبة في بحر من التردد ؟ كيف ذاب الشجعان من العراقيين ازاء غوغائية لم يعرفها العراقيون بهذا الشكل برغم كل مسلسلات الغوغاء على هامش الأحداث الدموية ؟

الظاهر ليس دوما دليل الباطن !!
    يقول الامام الشافعي بأن " الظاهر دليل الباطن " ، ولكن هذا ان وجدناه في مجتمعات معينة ، فلا يمكننا ان اجده البتة في مجتمعات أخرى وفي مقدمتها المجتمع العراقي الذي لم تزل تحكمه حتى اليوم ترسبّاته التاريخية الصعبة ولم يزل يتعاطى مع بقاياه من المتناقضات ليل نهار .. وعليه ، لا يمكن ان نتخّيل هذه الكومة من الوزراء العجزة والقادة الكسالى في منطقة خضراء وليس لهم الا الهذيان على شاشات الفضائيات عبر ايحائية عوراء تخفي عكس ما تظهر .. كل هذا القتل .. كل هذا العهر .. كل هذا الانهيار في كل حياة العراق ولم يزل الامر وكأنه طبيعي لا يهتز ضمير ولا يتحرك وجدان ولا يترنح كرسي ولا تبكي عيون .. جملة من اعتراضات صارخة .. ركام من نقدات ومقالات وصياحات ومناداة وشق جيوب ولطم خدود من دون جدوى ، فلا حياة لمن تنادي ولا حياة للساكتين الخانعين وقد نامت اعين الجبناء ..
      وأسأل : هل اصبح الشارع في العراق خاويا هو الاخر من أي صوت سياسي ومن أي تظاهرات بالالاف ؟ ومن أي اعتراض او تذمّر ؟ هل اصبح كل عراقي يعادي ان يعارض من يكفر بحقّه ؟ هل اختفت تلك الندية العراقية المؤثرة التي لا يتحملها أي حاكم من الحكام ؟ هل اصبح قول الحق مضاد للدين بفعل قداسة المعممّين ؟ هل غابت كل مشروعات الاستنارة العراقية بفعل هذه الهمجية الباغية التي اطبقت على حياة العراق ولوت اعناق العراقيين  ؟ من خّول هؤلاء الذين يتكلمون باسم العراق والعراقيين تقديم مشروعات محددة وبازمان محددة وباسماء محددة وبجغرافيات محددة  وبطوائف محددة ؟

العراقيون هم الذين صنعوا تاريخهم المعاصر .. فلماذا تمقتونه ؟؟
     ما هذا التزوير الفاضح لتاريخ العراق وبالذات تاريخ العراق المعاصر ؟ عندما يخرج علينا التافهون ليصبغوا كل تاريخ العراق بالصبغة السوداء ؟ من جعلهم يحملون كل هذه الاحقاد على العراق وتاريخه الوطني ؟ من جعلهم يجردونه من كل احداثه الوطنية اللامعة التي دفع العراقيون دماءهم فيها شطوطا وانهارا ؟ هل يحتكر حاكم معين او زعيم اوحد او ملك برئ او وزير مبدع او رئيس ساذج او دكتاتور طاغية .. كل تاريخنا المعاصر ؟ الم يشارك كل العراقيين في صناعة ذلك التاريخ ولم تحركهم طائفة ولم تحكمهم عشيرة ولم يتماهوا مع جهويتهم ؟ ما هذا الكره المقيت للمركز بغداد التي لا يريدون مركزيتها ولا مركزيتها .. انهم لا يدركون قيمة بغداد في التاريخ الحضاري العالمي ؟ انهم لم يقرأوا ما كتب عن بغداد في اعظم الموسوعات العالمية ؟ انهم لا يعرفون ان المنطقة تموت من دون بغداد ومن دون ميثاق بغداد ومن دون قلب بغداد الذي ينبض بالحياة !
      لقد راعني وانا اسمع وارى هذيان قاض عراقي معروف وهو من الساسة الجدد وعضو برلمان من قائمة الاخ الدكتور اياد علاوي وهو يمسح بعباراته غير المسؤولة على تاريخ العراق الملكي ويصفه باشنع الصفات من دون ان يكون عادلا في توزيع الاحكام ! تساؤلت : كيف كان هذا القاضي قاضيا وهو يلقي بكل احكامه القاسية على عهد سينصفه المستقبل مقاربة بما نجده اليوم .. وأسأل هذا القاضي الفاضل الذي اتهم ذلك العهد بالفساد الاداري من دون ان يفّرق بين الفساد السياسي والفساد الاداري ؟ هل كانت هناك رشوة كما هو حال بلدان اخرى ؟ هل كان هناك نهب للمال العام ؟ هل هناك فقدان للامن والنظام والقانون ؟ هل هناك متصرفين وقائمقامين ومدراء نواح فاسدين ؟ هل هناك استغلال لمصالح شخصية ؟ ولم يكن كل من الزعيم عبد الكريم قاسم والمشير عبد السلام عارف الا من رحم ذلك العهد الذي وقف على رأسه رجال ماتوا من دون سرقة ! وأسأل القاضي العزيز : هل كان هناك من له مكتب في الخليج ويبيع تأشيرات السفر بالاف  الدولارات ؟ ارجو ان يخجل شخوص اليوم من اقوالهم ونشر احكامهم المزيفة . واذا كان هناك دكتاتورية لصدام حسين .. فما شأن مركزية بغداد بذلك ؟ لماذا لم اسمع احدا يشيد بتجربة قانون الادارة المحلية الذي طّبق اروع تطبيق في كل من العهدين الملكي والجمهوري ؟ اتمنى ان يتعلم هؤلاء الساسة الجدد من تجارب رجالات العراق على مدى اربعين سنة 1921 – 1961 .. وعليهم ان ينصفوا تاريخ العراق المعاصر وان يدركوا ان ليس الدولة مسؤولة عن كل الادران العراقية ، فالمجتمع يتحمّل مسؤوليته في صنع اسوأ الادران .. وستكتب الاجيال القادمة يوما بأن كل الامراض الاجتماعية كانت وراء بؤس العراق وكوارث العراقيين !

عشاق التقاسيم : ملالي ومجانين
 من قسّم العراقيين الى شيع واحزاب وجماعات وهيئات وبيوتات وفرق وكتل وطوائف وملل ونحل .. ؟؟ انهم يعشقون التقسيم والانقسام والقسمات والتقاسيم .. العراقيون يذبحون بالمئات كل يوم وهم منشغلون بالاقاليم والفيدراليات والوسط والجنوب وجنوب الجنوب والغرب وشرق الوسط والمحافظات والدستور ومادة 142 ومادة 181 .. الخ بحيث يتقابل هذا الاستعراض مع الخديعة بمقابل الاصرار على البقاء .. حججهم واهية ودفاعاتهم غبية .. يقول احدهم وهو معمّم لا يدرك اولويات العراق : " طوال عمر الدولة العراقية او ما يسمى بالحكم الوطني .. " انه يشطب على تاريخ العراق المعاصر بجملته ويحرق كل اوراقه وصفحاته وكأن لم يكن هناك تاريخ وطني في العراق !؟ وكأن لم يكن هناك شارع وطني في العراق ! ؟ وكأن لم تكن هناك احزاب وطنية في العراق !؟ وكأن لم تكن هناك حركات وطنية في العراق !؟ وكأن لم يكن هناك بعض من زعماء وطنيين في العراق !؟ ولكي لا اتهم تهما جاهزة ، فان معمما من الطرف المقابل لا اجده يدين قتل العراقيين الابرياء ادانة صارخة .
     ان ابرز الاسباب التي اشعلت الفتنة في العراق هذه الاستهانة بالاخر والاستهتار بالكل على حساب الجزء .. هذه هي الاستهانة بالتاريخ .. وهذا هو الاستهتار بالعراق .. انني واثق ان هؤلاء الذين فرضوا انفسهم على حياة العراق بعد سقوط النظام السابق عام 2003 وقبضوا على انفاسه لا يدركون بديهيات العراق العامة ، فكيف بمشكلاته الخاصة وتعقيداته الصعبة ، وانني متأكد اننا ان حاججناهم امام الناس بكل علانية على التلفزيون فسيهربون من الحقائق ، فهم لا يعرفون أي معلومات عادية عن مجتمع العراق ولا عن تاريخ العراق ولا عن اوضاع العراق !! ومن المصائب ان بعضهم يحمل شهادات عليا لا نعرف من اين حازوا عليها .. وفي أي جامعات قد درسوا فمستوياتهم ضحلة لا تدّل على كونهم من حملة شهادات عليا . خرج القاضي الذي حدثّتكم عنه وهو عضو في البرلمان العراقي في برنامج آخر وهو يخاطب ابناء طائفة اخرى غير طائفته قائلا وبلهجة عراقية غاية في الغلو والاستعلاء : من انتم ؟ من انتم ؟ واسأل : من جعل هذا القاضي بهذه الصورة ؟ من علمه القانون ؟ وهو لا يدرك الخصال الاساسية لمن يتولى القضاء . هل يمكننا ان نتخّيل قاضيا من قضاة العراق الجديد يستهين بأي عراقيين بهذا الشكل ؟ واذا كان البعض يستوعب هذه السايكلوجية ، فكيف سيغدو تأثير ذلك على عوام الناس ؟

نسيج العراق .. كيف يمزقونه ؟     
وما كنت اتخّيل يوما ان الحال البشع سيصل الى هذا المستوى الطائفي المقيت الذي يثير القرف ، فكيف لا يثير الصراع داخل منظومات مجتمع تتعصّب مفاصله الى الدرجة التي بات فيها الجار لا يسلم على جاره بتأثير طائفي ؟ وصديق عتيق تربى مع صديقه يتجاهله عمدا وعن سبق اصرار لاختلاف مذهبه عنه !! واخوال تشّد اعصابها وهي تلتقي باعمام مكفهرة الانفس بتأثير طائفي ؟ وبعد ، هل هناك من عاقل يعتقد ان هذا الماراثون الذي تشمئز منه العقلاء هو من صنع حكومات العراق (المعلمنة) في القرن العشرين ؟ ان التعصّبات والاهواء مغروسة عند العراقيين قبل ان يتكّون العراق المعاصر .. فاذا كان المجتمع قد ابتلي بهذا البلاء ، فما ذنب الدولة ؟ وما ذنب ملوك العراق وزعمائه ؟
   انظروا وتأملوا ان شطوط الدم تغرق العراق وهم يستعجلون صنع القرارات الكبيرة التي تفوق احجامهم .. انهم يسرعون في كل العملية السياسية والدستورية والانتخابية والفيدرالية وجعل العراق اقاليم .. انهم يسرعون جدا ولا يدركون  ان تجارب الشعوب استغرقت ازمانا وان البلاد في طور ازمات لا تعد ولا تحصى ونسوا ان فوران الدم العراقي يحتاج الى لمّ الشمل لمعالجة حالات التخلخل قبل كل هذه العملية .. كانوا وما زالوا يعوّلون على كل عملية انتخابية وعلى الدستور في القضاء على الارهاب .. ومشروع القتل يأخذ له مديات بشعة .. اليوم يقولون بالتقسيم وكأن هذا سيحمي المجتمع من الدمار .. انهم لا يدركون النتائج المأساوية التي ستطبق على العراق بعد تقسيمه !

كيف نتعامل مع المحتل ؟
     انهم يثيرون الاستغراب ويثيرون التساؤلات معا ؟ ما الغرض من كل هذا التداخل ؟ أليس العراق بحاجة الى وظائف وعلاجات حقيقية ؟ اليس العراق بحاجة الى ان يفاوض المحتل على اجندة المستقبل ؟ ان الملك فيصل الاول ـ رحمه الله ـ هذا الذي ينعتونه بشتى النعوت السيئة، كان يعامل الانكليز المحتلين في النهار بلغة معينة من اجل مكاسب ، ويتعامل مع الاحرار الوطنيين العراقيين بلغة من نوع آخر من اجل الضغط السياسي مرة ومن اجل الضغط الشعبي مرة اخرى  ! ولم يمت الا بعد ان وقّع معاهدة سنة 1930 التي نال العراق من خلالها استقلاله ودخل عضوا في عصبة الامم ؟ ومهما اتهم ذلك " الاستقلال " في الصحف وبيانات الاحزاب كونه " استقلالا شكليا "  ، فانا اتحدى القادة من العراقيين الجدد ان يحققوا عشر معشار ما حققه فيصل الاول على ارض العراق .. ولم يلد الرجل عراقيا ولن يولد في العراق ، ولكنهم يشوهون حتى مذكرته الشهيرة التي عّبر فيها عن متاعبه من كل العراقيين ، ويكفي انه نجح في لمّ شملهم وتوحيدهم وخلق فرص استنارتهم وكان الرجل من وراء العراق في تأسيس دولته وتطوير مجتمعه وصناعة كل مبدعيه وقادة جيشه وابرز قضاته وعلمائه ومديريه ومتصرفيه ووزرائه .. قد تربوا في مدرسته العراقية الوطنية .
     وهنا أسأل : من يذعن لهذا الكلام من العراقيين ؟ من يوافقني في الذي اقوله ؟ طبعا هناك من لا يعجبه هذا الكلام كونه ينطلق من زاوية محددة .. ولقد اصبح العراق مجموعة من البؤر والزوايا ، وان هذه الاشكالية تنطوي على معظم تاريخ الصراع بين الفرقاء ، ولا ضير ان كانت التباينات وحتى الصراعات سياسية او فكرية ، بل غدت طائفية وانقسامية .. انها اوراق سوداء لمن احتل البدائل الافتراضية ولمن اصبح يتلاعب بوقائع مناقضة لها ، مما شجع ويشجع على التدمير وعلى القتل وعلى الارهاب بابشع صوره .. انه الامر الذي ساد اليوم رغم انوف العراقيين .. انه الوضع الحالي في العراق ، حتى ليبدو التفاضل بين تاريخيين زمنيين او بين عهدين سياسيين يجنح للأسوأ نحو الخلف وليس الافضل نحو الامام .

مشروعات لا تتناسب وحجم الفجيعة
    العراق في مصيدة لا يتحملها .. والكل قد انقض عليه ، ولكن المشكلة ليست في كل الذين اخترقوا العراق ، ولكن المشكلة في اولئك العراقيين الذين كانوا وما زالوا يطعنونه في جسده .. ويريدون تقطيعه اوصالا ! لقد اثبتت مشروعات الساسة الجدد انها ضد مشروعية العراق وكل تبريرهم لا يتناسب وهذه الفجيعة .. انهم يخشون الدكتاتورية وكأن هذه الظاهرة الاستبدادية لم يمارسها بعض شيوخ العشائر وبعض رجال الدين !؟ وانهم يخشون المركزية وكأن المكان متهم في الاستقطاب من دون ان يعلنوا عن اسباب حقيقية .. اسباب واضحة منها طائفية ومنها عرقية ومنها جهوية !! انها اسباب ليست مخفية انها مفضوحة تعلنها مسببات وخلفيات قاحلة يحملها اناس متعصبون لهم جموحهم وجنونهم كأي نوع من الحقد المسموم .. بل واستدعى كل طرف من طرفي الصراع مسميات تاريخية كريهة فهذا الطرف يسمونه بالرفضة الصفويين وذاك الطرف يسمونه بالنواصب التكفيريين  .. وكل من يشن حملة بشاعات وعدوانات كبرى على حريات الناس وحياتهم واساليبهم .. انني ادين تعّصب الطرفين ادانة لا حدود لها وانني اعتقد اعتقادا راسخا ان الملالي ( من كلا الطرفين ) متى ما رفعوا ايديهم عن العراق ، فسيعتدل العراق .
تفسّخ المجتمع لا تنفعه حكومة هزيلة
الحكومة العراقية مؤسسة هزيلة وليس لها القدرة على السيطرة ، وقد استبد الخوف بها نتيجة استبداد العنف في المجتمع العراقي ، وكما قلت في واحدة من الحوارات بأن الحرب في العراق غدت حرب ضد المجتمع اكثر من كونها حرب ضد السلطة .. وهي حرب ضد السلطة اكثر من كونها حرب ضد المحتل .. ان العراقيين قد غدوا متخندقين ضد بعضهم البعض الاخر من دون ارادتهم .. لقد انشطروا بسرعة خاطفة في ظل انقسام ديني وطائفي واجتماعي .. وتحت يافطات سياسية وشعارات ساذجة في ظل ثقافة الانفلات ومن دون مراعاة لأي نظام او اسلوب او قانون .. وتبلورت تيارات كبرى وتفّشت تخندقات واسعة وتفسّخ المجتمع العراقي بسرعة خارقة لم نكن نتخيلها ابدا او حتى نفكّر بشأنها اذا ما استطاعت القوى الجديدة من الحفاظ على النظام والامن وفق سيطرة المؤسسات .. انني اتعجّب من حكومة عراقية لا تسعى الى تسليح جيش العراق الجديد .. وأسأل : لماذا لا تسّلح كل من الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا جيش العراق بالاسلحة الثقيلة والدبابات والمدفعية والطائرات ؟ واريد ان أسأل الاخ نوري المالكي رئيس الوزراء على هامش زيارته لايران : على أي اساس تقام العلاقة بيننا وبين ايران اليوم ؟ هل تحكمنا أي اتفاقية ثنائية ؟ اذ انني اعلم بأن كلا من العراق وايران لم يتوصلا حتى اليوم الى أي اتفاقية ثنائية بينهما مذ حصل الذي حصل بين الطرفين . وعليه أسأل : هل يجري العمل باتفاقية الجزائر الجائرة التي وقعها صدام حسين مع شاه ايران محمد رضا بهلوي عام 1974 ؟ وما مصير حقوقنا التاريخية المشروعة في شط العرب اذا اسقطنا تلك الاتفاقية ؟ وما مصير موجوداتنا وطائراتنا في ايران ؟ كلها امور لابد ان تعالج عراقيا قبل ان تقديم أي مشروعات للتقسيم ؟

الارهاب العالمي وتمزق الدواخل العراقية
     لابد ان نعترف بأن العراق كان يأكل نفسه بنفسه برغم ابتعاد مجتمعه عن الارهاب العالمي وبالرغم من استخدام النظام السابق لمجموعة من ارهابيين عالميين كان آخرهم ابو نضال الذي قتل بطريقة غامضة ! ولكن لابد ان نعترف ان الولايات المتحدة جعلت العراق بؤرة ارهاب .. من هنا توالى تدحرج العراق مع سقوط الضحايا وعمليات الخروج عن الاعراف والقانون وانتشار المجرمين والقتلة والشقاة .. وانتشار عمليات التهديد والخطف وضرب الامن الاجتماعي لا الامن السياسي .. ان الخطط التي اعدّها المعتدون على العراق قد استفادت من نزوعات الاحقاد والكراهية لبث الفرقة وصنع البشاعات .. وتكريس العدوان ونشر العنف .. ان اللعب على العراق جرى من خلال نشر ثقافة بغاة المقدس واحزاب الهدر من دراكلة الافتاء الديني ـ كما اسماهم الصديق امير الدراجي ـ وهم من عشاق الدم والفتك وتفخيخ السيارات والعربانات والحمير وحتى الكلاب .. تلك هي المسألة المحيّرة التي ستبقى تبحث لها عن اجوبة صريحة : من خطط لكل هذه البشاعات ضد العراقيين ؟ من يصنع حتى يومنا هذا كل هذا البلاء ؟ من اخذ يتصّيد الفنانين والنسوة السافرات ؟  من قتل الحلاّقين ؟ من ذبح الاساتذة وهدد الاطباء ؟ من اغتال باعة الخمور ؟ من اقام محاكم التفتيش ضد المستنيرين والمثقفين الحقيقيين ؟ من حرق المكتبات ؟ من سرق المتحف العراقي ؟ من بعثر المكتبات ؟ من احرق المؤسسات ؟
الى متى يطحن المجتمع العراقي ؟
   لا يمكن لأي مؤرخ القول ان الحرب قد انتهت بثلاثة اسابيع ، فلقد انتهى النظام السياسي بكل هشاشته مذ سقط الصنم .. ولكن الحرب الحقيقية ضد مؤسسات الدولة دامت طويلا .. ولم تزل الحرب البشعة ضد المجتمع تجر اذيالها من سيئ الى أسوأ ! لم تشهد المجتمعات ويلات ونكبات كالذي يعيشه مجتمعنا العراقي اليوم .. لم نشهد فصولا من البشاعة في العراق حتى تلك التي عاشتها العصور الوسطى .. ان المسألة لا يمكن حّلها بمشروع هزيل للمصالحة ، ولا بحفر أي خنادق حول بغداد الكبرى .. ولا باصدار قانون لحل الميليشيات ينشر في الجريدة الرسمية .. الخ من القرارات الهزيلة .. فالرهان ساذج كذاك الذي راهن على الانتخابات والاستفتاء على الدستور الدائم .. انها مسألة لا تحّلها هكذا حلول على الورق .. المسألة معقّدة اكثر مما نتصّور ..
      لقد غدا مجتمع العراق مليئا بالكهنة الجدد الذين لا يشربون الا الدماء ! وكأنهم يتمتعون بنبيذ معتق وسط زحمة الاشلاء ! لقد امتلأ العراق فجأة باصحاب العمائم بالابيض والاسود الذين لا يفقهون من امر العراق شيئا .. لقد اصبحوا يقودون المجتمع والدولة معا ! واين ؟ في بلاد كانت تستخف بسذاجة الملالي وتضحك عليهم منذ عصور خلت ! المشكلة ان الجهلاء سيطرت على مقاليد الامور والاستبداد في المجتمع بعد ان كان جهلاء الامس يقبضون على انفاس دولة الاستبداد .. الملالي عقليتهم مسطّحة وبليدة وهم مجاميع من الفاشلين على مقاعد الدراسة ، فيخضعونهم للمكاتب الدينية كي يضحون سدنة مقدسين عند العامة وملالي تافهين عند المثقفين الحقيقيين ..

العراق وامريكا : اغرب كوميديا فاشلة 
    نعم ، مشكلة العراق انه بايدي مجموعة ملالي جهلة لا يميزون النسبي من المطلق ولا الاخيلة من الحقائق ولا ابسط المفاهيم السياسية والفكرية والايديولوجية ! ربما يكون بعضهم حملة شهادات دينية مزيفّة عليا فيحتل موقعا مؤثرا في الدولة ، فلنتخيل كيف لا يضيع العراق ؟ لقد غدا العراق مسرحا تؤدى فوق خشبته اشهر كوميديا فاشلة على امتداد التاريخ فكل الممثلين يتلونون اناء الليل واطراف النهار .. او هو مسرح عرائس فكل من يعرض نفسه معلق من رقبته بخيوط تلك هي الخيوط التي تتحكم في حركته واقواله وهزله بدءا بالساسة الجدد ومرورا بالملالي الجدد ووصولا الى الارهابيين الجدد .. ونسأل هذا الذي يتحكم بحركة الخيوط سؤالا واحدا : ما وراءك يا هذا ؟ لماذا لا تعلن عن نفسك ؟ لماذا تسكت عن كل موبقات العراق ؟ ماذا تريد من هؤلاء العراقيين القاتل والمقتول ؟ هل تعتقد ان العراق سيبقى لوحده بؤرة للارهاب ؟ لماذا اتيت بكل الضعفاء ؟ ما الذي تريده من تشجيع حكومات الملالي ؟ لماذا اّسست لمشروع شريعة الغاب في العراق ؟ لماذا كنت ولم تزل ساكتا كالصنم وانت لا تعلن عن اجندتك الخطيرة ؟ لماذا اسرعت في تفجير العراق واذا اقتنعنا بانهاء المؤسسات ، فلماذا ذبح المجتمع بالسكاكين المثلومة ؟ لماذا قتلت كل الحالمين وابعدت كل المستنيرين وهجّرت كل المثقفين وعوّمت ثقافة الساذجين ومنحت السلطة للبدائيين ؟؟  لماذا نشرت المعلومات الخاطئة والاحصائيات المزورة ؟ لماذا جعلت كل الاعلام في هذا العالم يسمع صوتك لوحدك ؟ لماذا شجعت العصبيات وزرعت الفرقة لماذا وزعت ادوار البلاهة بين الفرقاء ؟ لماذا اطلقت المجرمين ؟ لماذا شاركت السارقين والمختلسين المال العام ؟ لماذا جعلت العراقيين يحتقرون وطنيتهم .. ؟؟ لماذا جعلتهم يحتقرون تاريخهم ؟
ان ازمة سلوكية واخلاقية يعيشها المجتمع تعبر عنها صراعات اقول قبل ان يعبر عنها حمام دم ! لقد اصبح كل عراقي يمتلك شمولية ونرجسية لوحده فلا يعجبه الا رأيه .. ولا يهادن الا رأيه ولا يسمع الا صوته .. انه فاشي يرفض الاخرين حتى اقرب الناس اليه .. ان المرض قد وصل الاحشاء الداخلية للمجتمع .. فهل سيتمكن العراقيون من استئصال كل الاورام ؟ انني واثق بأن العراق سيخرج من كل هذا المخاض بلدا من نوع جديد ولكن اوضاعه الكسيحة ستستمر زمنا ليس بقصير ابدا !

للحديث بقية

www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

198
هل ينزلق العراق نحو حرب أهلية ؟؟
د. سّيار الجميل

       انه بالرغم من الاوضاع المخيفة والمأساوية المحزنة التي يعيشها العراقيون ، ولكن ملامحها بدأت ترسم صورة مرعبة وغاية في التعقيد بعد ان لفّ العراق العنف الشديد مع شلال دماء العراقيين بشكل مخيف .. أليس هذا دليل واضح على ان العراق يعيش حربا اهلية ؟ ويبدو لي ان الصورة واضحة في دواخل العراق ، ولكنها ضبابية شديدة من الخارج .
وتسير الحالة العراقية من سيئ الى أسوأ خصوصا اذا آلت الاوضاع الى نتائج خطيرة تمتد من دون شك الى الدول المجاورة في منطقة الشرق الاوسط كله !
      يرى بعض الكّتاب ان العراق يعيش حربا اهلية على غرار تلك الحرب المأساوية التي عاشها اللبنانيون من دون ادراك الفوارق الجغرافية والتاريخية والاجتماعية بين البلدين ، كما وأنني اجد هناك من يسعى لاشعال الحرب الداخلية في العراق كي يجني من نتائجها الثمار له وحده .
ان العراق لم يعرف الانقسامات الاجتماعية كالتي عرفها لبنان تاريخيا ، ربما كانت هناك افتراقات طائفية وعرقية في العراق اليوم ، وتجد الناس ما زالوا يتزاوجون وينسجون تكويناتهم ، ولكن ما يحدث اليوم من انقسامات سياسية حادة ستتحّول مع الزمن الى صراعات طائفية ربما تتمخض عن مخاطر لا يمكن التكهن بها .. ولكنها سوف لا تقتصر على العراق وحده ، بل لتمتد الى كل المنطقة .
     لم يكن المجتمع العراقي مفككا او ممزقا او متصارعا في يوم من الايام ، واذا كان قد عاش صراعات سياسية وحزبية وايديولوجية في القرن العشرين ، لكننا لم نجده غارقا في انقساماته الطائفية . وبالرغم ما يدّعيه البعض من تفجير حرب اهلية عراقية ، وبالرغم من كل الانحسارات والتخندقات التي كرستها الاحزاب والتكتلات الدينية العراقية وميليشياتها اليوم ، فان المجتمع لم يزل متداخلا في طوائفه وبيئاته وكل ثقافاته .. وعليه ، اقول بأن الحرب الاهلية بحاجة الى تبلور عوامل داخلية تحتدم فيها قوى الصراع في الداخل وهذا ما لم يتوفر حتى الآن بسبب طغيان العوامل الخارجية على كل الداخل العراقي مسببة جملة من الاحتقانات والتشظيات .
نعم ، ان ثقافة الانقسام الاجتماعي قد تبلورت مؤخرا في العراق ، وخصوصا بعد سقوط النظام السابق وبداية عهد التماهي اثر الاحتلال الذي كان ولم يزل يمضي في طريق خاطئ من خلال معلومات خاطئة عن المجتمع العراقي وبيئاته ، ويسوقها باعتبارها حقائق ثابتة .
    هنا ، وبعد مضي ثلاث سنوات على التغيير الجذري في العراق ، يواجه العراقيون حمامات دم طائفية بشعة واهوال موت مجاني ، وتبرز امام كل العالم  حلقات مفقودة لا يعرف اساسا من يقوم فعلا بهكذا افعال شنيعة من اجل اذكاء حرب اهلية .. وعلينا ان نكون اذكياء جدا في التعرف على من له مصلحة حقيقية وراء اشعالها من اجل انقسام العراق ..
علينا ان نبحث عن ثمة علاقة شائكة وشديدة التداخل فيما بين الاوراق  العراقية الاقليمية والدولية اليوم .. فلكل من هذه الاطراف عدة اجندة متصادمة او متلاقية لها اهداف معينة . كما ان هناك لغة شديدة الضراوة يستخدمها العراقيون في ما بينهم بعد ان ابتعدوا عن نزعتهم الوطنية من دون ان يجتمعوا منذ ثلاث سنوات في مؤتمر وطني حقيقي يحددوا من خلاله مصيرهم وأهدافهم الوطنية من خلال الاتفاق على مبادئ لا يمكنهم ان يحيدوا عنها !
    ان التلويح بالحرب الاهلية قد سمعنا به منذ وقت طويل ، ليس من قبل العراقيين ، بل وكأن ثمة اجندة غير عراقية تدفع لحدوث مثل هذه الحرب الاهلية التي لا اعتقد انها ستشتعل ، فما حدث ويحدث من تفاقم لمشكلات سياسية مؤثرة في طبيعة المجتمع العراقي وترسيخ للانقسامات بهدف التوّصل الى انقسام العراق .
واعتقد ان اغلب العراقيين قد انتبهوا الى سيرورة ما يحدث من عمليات صعبة افرغت البلاد من الامن والنظام ، فاصبحت العملية السياسية هشة لا تقوى على الحياة .. وكم كان من الصواب ان يمرّ العراق بمرحلة انتقالية حقيقية من اجل بناء اسس دولة جديدة والخروج من تاريخ مأساوي عانى منه كل العراقيين .
     ان مفاتيح المستقبل كانت ولم تزل بأيدي العراقيين الذين يتوجّب عليهم ان لا ينقلوا الانقسام السياسي الطائفي الى المجتمع ، وان يستوعبوا من  يعبث بمقدراتهم ليس السياسية حسب ، بل الاجتماعية اذ لا يمكن ان يبقى العراق مخترقا من اطراف عدة تعمل على اذكاء الحرب الاهلية التي يصعب اشتعالها ، فالمجتمع العراقي برغم كل انقساماته وتشظياته اليوم ، فهو نسيج من الروابط والمصاهرات والعلاقات والتعايشات في كل بقعة من ارضه .
    ان التلويح بمثل هذه " الحرب الاهلية " يأتي من زعماء وكّتاب ومثقفين عرب واجانب لا يعرفون مثل ذلك " النسيج " الذي يرفض حتى يومنا هذا ان يسحق برغم كل ما يدفعه العراقيون من اثمان .. واذا كان هناك من ينادي بالانقسام الجغرافي من العراقيين من اجل الخروج من هذا المأزق التاريخي ، فهو اما مجّند لهذه الغاية او ان الموجعات الطائفية قد سحقته ، وينبغي ان يعى بأن الحرب الاهلية ستذيبه حتما ان مشى في درب الانقسام ! 
واليوم ، يردّد العديد من المثقفين العراقيين قولا حكيما ـ كما يصفونه ـ  كان قد اطلقه نوري السعيد رئيس الوزراء المخضرم في العهد الملكي بالنص : " العراق بالوعة وانا غطاؤها " .. فهل كان النص مجرد نبوءة عابرة ام انه استنتاج استخلصه رجل عن تجربة وبعد نظر ؟؟
   وأخيرا أقول : ان ما يجري في العراق يعد اقسى انواع العنف الديني والتناحر الطائفي والسياسي والاجتماعي ، وهذا ما يجعلنا نناشد كل العراقيين ان يتلاحموا قبل ان تستمر هذه الاوضاع من سيئ الى أسوأ لسنوات اخرى وتكون قفلتها الحرب الاهلية التي ستأكل الاخضر واليابس في المنطقة كلها لا سمح الله .

www.sayyaraljamil.com
14 سبتمبر 2006[/b][/size][/font]

199
َعلَم العراق :
 هيبة وطنية أم خرقة سياسية ؟؟
د. سّيار الجميل

ان ما يجري في العراق اليوم حول علم البلاد لهو مثير جدا ومؤلم حقا ، اذ نجد خلافات محتدمة حول شرعية علم العراق ، فالعلم رمز هيبة وطنية ، يرفرف خفاقا ليجمع الولاء ، وتقّدم له التحية من أعلى رأس في البلاد الى عامة العباد .. ويحدّثنا التاريخ بأن العلم ليس مجرد خرقة بالية تتغّير من زمن لآخر !  انه رمز وطني لا علاقة له بنظام سياسي ولا بتركيب اجتماعي ..
ومنذ القدم عّرفه فيكسيلويدس بأنه " الدليل النادر " او " القطعة البارزة " .. اوجده العراقيون القدماء ليتحّول الى الاغريق والى شعوب أخرى ، ولينتقل من مجرد ديكور من علامات عسكرية مهيبة الى رمز وطن تستخدمه دول وأنظمة واسر حاكمة ، ثم غدت الألوان والزخارف والإشكال في البيارق لغة سيمائية لها دلالاتها القوية على ما تتميز به أي بلاد تاريخا وجغرافية .. وبقدر ما نشهد بأن العلم شاهد رمز لهيبة من ثوابت لا تتغير في بلاد قديمة ، مثل : بريطانيا وتركيا وبلجيكا واليابان منذ قرون طوال.. ، لكنه غدا عرضة للمتغيرات في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والاتحاد السوفييتي والصين وغيرها.
     لقد كان للعرب والمسلمين في دولهم القديمة راياتهم الشهيرة ، وصولا الى أيام تكويناتنا الوطنية المعاصرة .. وثمة بلاد عربية لها تقاليدها التاريخية الثابتة في إبقاء أعلامها التي تخفق على ترابها الوطني من دون تغيير كالمغرب وتونس والسعودية والإمارات والكويت والأردن ولبنان مثلا.. في حين غيّر العراقيون والسوريون والمصريون والليبيون واليمنيون على وجه التحديد راياتهم عدة مرات ، فلقد قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتبديل العلم المصري الأخضر القديم وكل من شعار الدولة والنشيد الوطني .
وهكذا ، بالنسبة للزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الذي قام بتغيير علم المملكة العراقية القديم بعلم الجمهورية العراقية وشعارها الجديدين ، وذلك بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، اذ  قضى الزعيم قاسم وقتا طويلا يناقش ذلك مع وزرائه ومستشاريه رموز العراق الجديدة ..
وخرج العراق بعلم وشعار ولكنهما جميلين احببناهما في طفولتنا ! ومضى زمن قصير اثر اعدام الزعيم قاسم من قبل الانقلابيين البعثيين في العام 1963 ليجتمع قادة البلدان الثلاثة في ما سمي بالوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق ، فخفّ المشير عبد السلام عارف ليغير رموز العراق كرة اخرى فاستنسخ رموز مصر الناصرية : علما ونشيدا وشعارا ، وكذلك فعلت سوريا ، اذ قامت هي الاخرى فغّيرت رموزها .
اما مصر ، فان الرئيس  انور السادات قام بعد ان تقّلد حكم مصر بتغّيير اسم دولته فأسماها بـ ( جمهورية مصر العربية ) وغير نشيده الوطني من ( والله زمان يا سلاحي ) ، اذ استعاد اللحن الشعبي  الخالد للموسيقار سيد درويش ( بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي  ) وغير َعلَم بلاده بسرعة ، ليبقى عَلَم عبد الناصر يرفرف حتى يومنا هذا فوق العراق بثلاث نجمات وفي سوريا بنجمتين رموزا لوحدة عربية لا وجود لها مع استفحال حرب عربية باردة تناحرت فيها الاذاعات والصحف بين البلدان الثلاثة..
     لقد بقي النشيد الوطني المصري ( والله زمن يا سلاحي.. ) يعزف في العراق من دون تغيير على امتداد عهدي الرئيسين عبد الرحمن عارف واحمد حسن البكر !  ومضت سنوات حتى قام الرئيس صدام حسين باستحداث نشيد وطني جديد قام بتلحينه وليد غلميه ، وخطّ بيده كلمتي ( الله اكبر ) على علم العراق فغيرّه للمرة الرابعة من دون الاعتماد على أي نص قانوني ، وكلنا نذكر في العراق على امتداد أكثر من خمس وثلاثين سنة ، إن علمين اثنين كانا يرفرفان في سماء العراق : علم جمهورية العراق الحالي وعلم حزب البعث العربي الاشتراكي وهو العلم القديم للثورة العربية الكبرى عام 1916 .
وبعد السقوط والاحتلال عام 2003 ، صادق مجلس الحكم على علم للبلاد رفضه العراقيون مباشرة كونهم وجدوا شبها بينه وبين علم إسرائيل ، فرجع العمل بعلم النظام السابق .. ومؤخرا تغيّر شكل كلمتي ( الله اكبر ) من حروف خطها صدام حسين الى الخط الكوفي من دون الرجوع الى أي مادة قانونية  لذلك التغيير !!
وكم طالبنا منذ ثلاث سنوات إقرار مادة دستورية باستعادة هيبة رمز وطني لواحد من العلمين العراقيين القديمين لشرعيتهما التاريخية ، ولكي يحترمنا العالم بعد تاريخ مرير من العبثية الصارخة !
     إنني أسأل : هل هناك امة على وجه الأرض تتلاعب برموزها الوطنية كما تلاعب بذلك العرب في دول مهمة ؟؟
وهل  نجد أمما أخرى قامت بخرق دساتيرها وداست على كل رموزها التي تربت الأجيال في ظلها ؟ ولم أزل أتذكر من عهد طفولتي أيام العهد الملكي أن تقليدا وطنيا كان يجري مساء عند رفع او إنزال العلم في قلب المدينة على إيقاع عزف الموسيقى ، اذ كان الجميع يتوقف عن الحركة تماما في قلب المدينة وفي حالة استعداد شديد  ..
ولكن هيهات بين ما تربينا عليه من تقاليد وطنية وبين ما يجري اليوم اثر خيانات عظمى بحق رموزنا الشرعية ! ان الرمز الوطني لا تتحكم به الأمزجة الشخصية ولا الأهواء السياسية ، ولقد اقترحت أيضا أن تستعاد شرعية كل من علم العراق وشعار العراق القديمين .. والاستعادة هنا غير التبديل إذا ما استعدنا رموزنا الوطنية والدستورية الشرعية القديمة بعد كل ما حّل بها من تبدلات سياسية .. فهل سيتم ذلك في ظل عبث وتمزق وطني يعيشه العراق ؟ أتمنى حدوث ذلك !

www.sayyaraljamil.com
البيان 13 سبتمبر 2006[/b][/size][/font]

200
تداعيات الصدمة التاريخية
بعد خمس سنوات من انقسام العالم !!
د. سّيار الجميل

مقدمة : طبيعة الصدمة التاريخية :     
ازعم ان العالم قد تغير سلوكه السياسي ( وحتى الحضاري ) بعد تلك الصدمة التاريخية الكبرى التي اهتاج لها العالم كله في 11 سبتمبر 2001 .. وبقدر ما كانت اسبابها ومسبباتها واضحة ، فانها تعد من اخطر الاحداث التي اجتاحت العالم في التاريخ الحديث .. وصحيح ان حدث الصدمة دام لمدة ساعات محددة ، لكن نتائجها كانت ولم تزل قوية صاعقة ومؤذية جدا .. لقد نتجت عنها ركامات من النتائج وجملة من فرز التداعيات التي لم تزل تغّير مجرى التاريخ في القرن الواحد والعشرين ، والتي لم يكن يحسب لذلك أي حساب على امتداد القرن العشرين .. واعتقد ان تلك الصدمة القوية الصاعقة قد قسمت العالم الى قسمين اثنين لا ثالث لهما .. واعتقد ايضا بأن العالم كله لم يزل يعيش تداعيات تلك الصدمة ، وانه لم يدرك ما الذي ستنتجه على مستوى الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين . ان الصراع يأخذ له مساحات جديدة كل يوم ، وان العالم الاسلامي سيبقى عرضة لانعكاسات تلك الصدمة ، خصوصا وان افتراق الرؤى وتشظي الافكار لدى ابنائه حيال تقييم تلك الصدمة التاريخية .

تغّير الانسان اثر الانقسام
     انها صدمة تاريخية ونقطة تحول كبرى بعد ان اصبحت مصائر دول وشعوب على المحك .. لقد خسرت دول عدة وقطاعات كبرى وشركات واسعة الانتشار خسارات  لا يمكن تخيلها ، وتبلورت سلوكيات مختلفة حتى على مستوى الدول وتبدلت نوازع حتى على مستوى الافراد .. لقد حّلت القتامة الفكرية وسط تناقضات لا حصر لها مقارنة بما كان عليه وضع الانسان بشكل عام قبل خمس سنوات .. تشّظت النزعات الدينية والطائفية وانتشرت تقاليد مضادة بين هذه وتلك حتى على مستوى الامم التي لم تعرف من قبل هكذا انواع من الانقسامات .. وقد غدت السلوكيات عند الانسان تلوذ بالهروب دوما من الاعتراف بالحقيقة .. لقد نضج العنف والارهاب نضوجا فاضحا نتيجة انعدام اعتراف الجميع به ، بل ولقد تسّبب الخوف منه الى محاباته وتشجيعه .. بل واتخذ في اكثر من مكان وسيلة واضحة لقتل المشروعات وقتل الابرياء من اجل اهداف سياسية او سلطوية او حتى مكاسب تافهة ! في حين انتج الارهاب الذي قامت به اعداد من المتطرفين في هكذا صدمة تاريخية الى ان تزرع الكراهية الجديدة التي تعمّ العالم ضدّنا نحن العرب والمسلمين كما أضرت بالقضايا التي يعاني منها عالميهما .
لماذا قتل الأبرياء ؟ هل هو شرعة دينية وحضارية ؟     
 ان صدمة 11 سبتمبر 2001 هي النموذج التاريخي من نماذج انقسام العالم بين عالمي الشمال والجنوب وهو انقسام حقيقي بين مصالح الدول وبين قتل الابرياء .. وبين كلتا التجربتين تتجبّر القوة وتتسلط على كل الحياة الرائعة لتغّير التاريخ تغييرا بشعا .. لم يكن العالم قبل 11 سبتمبر 2001 بريئا من كل الشوائب ولم يكن خاليا من الالام والاجرام ، ولكن الانسان لم يكن خاويا او ضعيفا او متراخيا او مترددا او هاربا .. كان الصراع العالمي يأخذ  له مدى من نوع آخر اذ كانت الوسائل متباينة تمام التباين عما غدا عليه الصراع اليوم .. كان الصراع يتم عبر المواجهات مع وجود منظمات الارهاب التي تصّفي حساباتها ضد الابرياء ، ولكن صراع اليوم يتم عبر المخفيات ويتبلور من خلال المنظمات الارهابية كي تقف في ثنائية الصراع ضد ارادة الاستقطاب . ومن الهزل ان اسمع وارى بعض العرب والمسلمين يتساءلون عن تعريف الارهاب وان تعريفه محدد بكلمتين اثنتين : قتل الابرياء !
     لقد كانت الصدمة التاريخية صاعقة حتى اليوم وبعد خمس سنوات من حدوثها ، وبالرغم من كل الصلابة والحرب ولكن تبلور التصعيد والتحريض ضد الولايات المتحدة الامريكية التي ازدادت كراهية شعوب عدة لها ، علما بأن ليس هناك من انسان سوي يقبل البتة بقتل اي انسان برئ مهما بلغت درجة الكراهية والاحقاد ضد نظامه السياسي او بلاده بشكل عام ! والمشكلة بقدر ما فشلت الولايات المتحدة والعالم من ورائها بمعالجة الظاهرة معالجات جذرية من نوع جديد ، بقدر ما فشل العالم الاسلامي من جانبه في ان يكون ضد هذه الظاهرة بشكل جاد .. وفشل العالم الاسلامي في ان يقول كلمة واحدة بالضد من قتل الابرياء بكل حرية وشجاعة !! بقدر ما استخدم العالم تلك الصدمة التاريخية شماعة لتبرير مصالح معينة ، فان العالم الإسلامي الذي يتهم اليوم اتهاما خطيرا وجدناه يلوذ بالتردد وباللف والدوران من اجل الخروج من بين فكي كماشة القدر .. فهو مدان ان قال الحقيقة وهو مدان ان بقي كذوبا !!

التحولات التاريخية بين قرنين
    ان الصدمة التاريخية التي حدثت قبل خمس سنوات بالضبط قد حوّلت ثنائية الانقسام من حروب باردة الى حروب ساخنة .. ومن حروب الصالونات الى حروب التلفزيونات .. من حروب المواجهات الى حروب المفاجئات .. ومن حروب الخطابات والسياسات الى حروب المافيات والاقتصادات .. من حروب التجسس والدعايات الى حروب التداعيات والاختراقات .. الخ   لقد اختنقت الحريات والممارسات الديمقراطية وحقوق الانسان وتبلور الخوف وعمّت الويلات وتفاقمت المخاطر والتهديدات .. كان العالم اكثر هدوءا وأمنا ونجاعة وغدا تكتنفه التمويهات والعدسات اللاقطة الخفية والتحقيقات والهواجس والتهديدات .. وبقدر ما خسر العالم كله جراء الصدمة التاريخية ، فان الخاسر الاكبر ـ كما اعتقد ـ هو العالم العربي والاسلامي بشكل خاص انه ينتقل من يوم الى آخر الى الويل والثبور وعظائم الامور ، اذ لم يعد العالم يثق بأي انسان عربي مسلم ، واصبح متهما حتى في مشيته وفي عاداته وتقاليده والبسته وفولكلورياته وحركاته من حيث يدري ولا يدري !

من صدمة نيويورك الى احتراق العراق !
    ان الولايات المتحدة الامريكية التي نالت لأول مرة صدمة تاريخية بمثل هذا الحجم ، لم تعترف كم ساهمت على امتداد خمسين سنة من ادوار في صناعة قوى وجماعات ومنظمات وافراد يستخدمون كل الوسائل بما فيها وسائل دينية لتحقيق اهداف معينة ، وفجأن نضجت تلك " الحقائق " في بيئات تختلف اختلافا حقيقيا عن بيئات العالم الاخرى ، لتغدو الاليات الانية ركائز واسس راسخة في الوجدان والضمائر ومن شبهات و" حقائق " لا وجود لها الى حقائق لها القدرة على ان تنتشر انتشارا مضاعفا وسريعا .. ومن جعل العقائد والاساليب الدينية مجرد وسائل من باب ( الغاية تبرر الوسيلة ) ولكن اللعب بعواطف ومشاعر الناس وجذبهم الى هيمنة ذلك في صنع القرارات وصنع الانتحاريين وصنع الارهاب  وصنع كل من يجعل نفسه جسرا نحو الموت الجماعي باساليب جنونية ! وبقدر ما  نجحت  الولايات المتحدة في اخراج الاتحاد السوفييتي من افغانستان ودعم ( المجاهدين ) بقدر ما فشلت تجربتها في افغانستان مع طالبان والافغان العرب من حلفائها المجاهدين القدماء .. ومن سخرية القدر ان هؤلاء هم انفسهم الذين يقفون وراء صناعة الصدمة التاريخية .. وبقدر ما نجحت الولايات المتحدة الامريكية  بازاحة نظام صدام حسين في العراق بقدر ما فشلت  في جعل العراق ( الجديد ) بلدا آمنا مستقرا مطمئنا يبني نفسه ويستعيد حضارته اذ غدا مركزا تعيسا لجذب العتف والارهاب ، بحيث غدا العراق يحترق يوما بعد آخر ! 
    ان الصدمة التاريخية التي عانى منها اهل نيويورك على مدى ساعات من يوم 11 سبتمبر 2001 قد انتجت صدمات تاريخية يعاني منها شعب العراق على مدى سنوات ، وان مجرد جعل العراق بؤرة لاستقطاب الارهاب انما يخرج عن كل مواثيق الشرف والاخلاق .. ان معالجة الصدمة التاريخية بوسائل سياسية قد أخّل بالتوازن الحضاري الذي طالما تعب من اجله المئات من الكتّاب والفلاسفة المستنيرين في القرنين التاسع عشر والعشرين ..

حقيقة صدام الحضارات وخواء حوار الحضارات 
       ينبغي القول ، انه بالقدر الذي فشل فيه الامريكيون في معالجة الارهاب منذ ان اصدر صموئيل هانتيتغتون كتابه الشهير " صدام الحضارات " حتى اليوم ، فان العرب والمسلمين قد فشلوا هم أيضا فشلا ذريعا في التعامل مع هذه الظاهرة المرعبة خصوصا وانهم موضع اتهام بتخضيب الدماء وتصدير الارهاب .. ولم تنفع كل الخطابات السياسية التي يقدمونها للعالم  شجبا واستنكارا ليوم 11 سبتمبر او الخطابات الاعلامية التي يقدمونها للعالم دعما وتأييدا ليوم 11 سبتمبر ، بل وان مجرد تقديم بديل غير واقعي الى العالم باسم " حوار الحضارات " فهو مجرد اضحوكة ليس لها أي واقع وليس لها أي مستقبل ! اننا لا ننظر من خلال تفكيرنا الى افتراق الرؤى بين المسلمين بقدر ما ينظر الغربيون الى ذلك بعد الصدمة التاريخية ، فكم هو الفرق شاسع بين ايمن الظواهري الرجل الثاني في القاعدة والذي يدعو الامريكيين الى الاسلام !! وبين محمد خاتمي الرئيس الايراني السابق وهو يدعو الى حوار الحضارات ؟؟
    لقد انتجت الصدمة التاريخية تداعيات على مستوى المجتمعات .. فلقد اصطدمت المجتمعات الاسيوية والامريكية معا ممثلة بهجرة معاكسة من الاف الناس الاسيويين اذ عادوا من الولايات المتحدة الى مواطنهم الاصلية .. ولا ينفي العديد من المسلمين المهاجرين الى ان اخطاء قد ارتكبت من قبل جماعات اسلامية في امريكا واوربا الغربية .. انهم قد استهلكوا التكنولوجيا الامريكية المتطورة لضرب المصالح الامريكية والغربية .. لقد كانت القاعدة منظمة صغيرة تافهة ، ولكنها غدت اليوم منظمة متغلغلة في كل انحاء العالم ولا حوار يمكن حدوثه بديلا عن الصراع .. ويترقب الغرب حدوث هجمات عنيفة قادمة ، ولديهم ان لابد من خطوات استباقية ومنها اجراء حوار مع الجاليات وتشديد قوانين ضد الارهاب والتي تقف ضدها جمعيات حقوق الانسان وحرية التعبير والحريات العامة . ان وسائل التفتيش والمداهمات والاجراءات الاستثنائية والفرز والمصورات .. كوسائل مكافحة الارهاب قد سببت جملة هائلة من المشكلات والتنديدات .

الحصاد المر للصدمة التاريخية
    ان الحصاد كان مرا بالنسبة للعالم كله ، ومنذ الصدمة التاريخية كان النضال مستمرا ضد الارهاب كان ولم يزل مستمرا ، واشتركت دول العالم كله في حرب الارهاب .. ولقد تفاقمت تناقضات عدة بعد تلك الصدمة وخصوصا بين أجهزة المخابرات في العالم والتي اصبح الارهاب واحدا من ابرز اهتمامات العالم كله .. وان مضاعفة الجهود لضرب العنف قد خلقت ردود فعل في المناطق الحيوية من العالم الاسلامي .. وان السياسات التي تخدم الاجندة الامريكية بضرب انظمة محددة .. ان المشكلة ليست في الانظمة السياسية بقدر ما تكمن المشكلة في الانظمة الاجتماعية التي تقف في اغلبيتها ضد السياسات الامريكية ، بل وتجد بغيتها في القاعدة وانها تتقّبل كل الاساليب في ضرب ليس الولايات المتحدة ، بل ضد الغرب بشكل عام .
    ان الفوضى التي تجتاح منطقة الشرق الاوسط وان الارهاب الذي يجتاح العالم لا يمكن معالجته بالاساليب الساذجة على ايدي ساسة حمقى .. ان عالم ما بعد الصدمة التاريخية سيستمر يوّلد المزيد من التداعيات المرة والنتائج المريرة .. ان تنامي التيار الاسلامي ووصول عناصره الى السلطة في اكثر من مكان في العالمين العربي والاسلامي ما هو الا من نتائج الصدمة التاريخية التي صنعها تنظيم القاعدة الذي كسب الريادة في ايذاء امريكا والغرب . ان الاحتقانات التي يعيشها العالمين العربي والاسلامي قد خلقت ارهابيين وبدأوا يتحركون على مساحات واسعة في العالم ويتغلغلون بشكل سريع يستخدمون آخر مستحدثات العصر ، بل وبدأ الارهاب ينتقل من مكان الى آخر ، وان ثمة مجتمعات تصدّر الارهابيين الى مجتمعات اخرى .
وأخيرا ، ان العرب والمسلمين لابد ان يحددّوا موقفهم من ظاهرة الارهاب ، ليس حّبا أو كرها بالامريكيين والغربيين ، بل لأنها اشنع ظاهرة تاريخية عرفتها البشرية .. وان يدينوا قتل الابرياء مهما كانت الاسباب والمسببّات ، فلقد دفع العالمين العربي والاسلامي ثمنا باهضا لهذه الظاهرة التي تتلبّس العالمين ، وخوفا على مصيرنا وعلى مستقبل اجيالنا ، لابد من خيارات اخرى في التعامل مع العالم دفعا بالتي هي احسن .. وايقافا لسعير النار وانهيار الاحجار التي ستحرق الاخضر واليابس وانهاء لكل الاخفاقات التي يعيشها هذا العالم .

www.sayyaraljamil.com
ايلاف 11 سبتمبر 2006[/b][/size][/font]

201
الدكتور سّيار الجميل
يقدّم واجب الشكر والتقدير

 
    يتقّدم الدكتور سّيار الجميل ببالغ الشكر والتقدير لكل الاخوة والاخوات من العديد من الشخصيات والمسؤولين والساسة والمثقفين والاصدقاء والمؤسسات والحركات والصحف والمواقع والقنوات .. وكل الذين ارسلوا ببرقيات وفاكسات ورسائل التعزية او المكالمات التلفونية لمناسبة رحيل والدته الفقيدة السيدة الفاضلة خالدة الفيل ارملةالمغفور له القاضي الاستاذ  كوكب علي الجميل الاسبوع الماضي في الموصل .. كما يسّجل لجميع السادة والسيدات من المواسين نبل عواطفهم  وطيب تعابيرهم وسمو مشاعرهم متمنيا للجميع  دوام الصحة والعافية وان لا يريهم الله أي مكروه بعزيز .. كما ويطيب له ان يخّص بالثناء الشخصيات التالية اسماؤهم في ادناه  ( حسب توالي الذي ورده منهم زمنيا ) :
 
الاستاذ نوري علي
الاستاذ عبد المنعم الاعسم وعقيلته
الاستاذ فلاح المشعل
الاستاذ عبد القادر الجنابي
الاستاذ امير الحلو والسيدة عقيلته
الاستاذ عبد الاله النصراوي
الاستاذ ادوارد اوراها
المستشار انور الرشيد
السيدة اميرة شموئيل
الاميرة عروبة بايزيد معاوية بيك الاموي
الدكتور عصمت موجد الشعلان
الاستاذ اياد عباس والسيدة والدته .
الدكتور عبد الله المدني
الدكتور فاضل السعدوني وعائلته
الاستاذ فالح الدراجي
الاستاذة ميسون الدملوجي
الاستاذ السيد حميد الكفائي
الاستاذ عبد الجبار السعودي
الاستاذ مجيد آل السيد عيسى الحسني والسيدتان عقيلته ووالدته .
الشاعرة فاتن نور
المحامي علي قتيبة الديوه جي
الاستاذ طالب مصطفى خان والسادة اعضاء مجلس العمل العراقي
الدكتور فالح حنظل
الاستاذ عبد الخالق كيطان
الاستاذ عادل عوض
الاستاذ احمد الخطيب
الاستاذ حسّان الصباغ وعائلته
الاستاذ قاسم حسن
المهندس حمزة الجواهري
الاستاذ عدنان شيرخان
السيدة افانين كبه
الاستاذ رياحين الجلبي
الاستاذ احمد مهدي الياسري
الاستاذ احمد الخطيب
الاستاذ عادل بلقاسمي وعائلته
الدكتور عصام داوود والسيدة عقيلته
الانسة ندى سمير عرام
الدكتور سمر ماضي
الدكتورة شارلي بريجارد
الدكتورة سابينا دودنباخ
الدكتور دنكان ماكيرن
السيدة بيرهان قمق
الدكتور بطرس خوري
الدكتور منذر الفضل
الاستاذ باسم المرعبي
الاستاذ اركان السماوي
الاستاذ كرم نعمه
الاستاذ احمد رجب
الاستاذ عارف السيد
المهندي علاء مهدي الاسدي
الدكتور محمد عاكف جمال
المهندس اديب عبد الله سامي والسيدة عقيلته
الاستاذ رائد نحله
الاستاذ اوميد باباجان
الاستاذ سعد صلاح خالص
الاستاذ خليل الموسوي
الاستاذ وداد فاخر
الاستاذ انور عبد الرحمن
الدكتور حكمت عتو
الاستاذ اياد الملاح
الاستاذ جواد خلف
الدكتور كاظم المقدادي
الدكتور عبد الخالق حسين
الشيخ نواف المدلول
الدكتورة مها الصكبان
الاستاذ زهير الدجيلي
السيدة خالدة مصطفي ( ام بسيم )
الدكتور محمد جواد رضا
القاضي زهير عبود
الدكتور اكرم الحمداني
الدكتور عامر التميمي
الاستاذ جلال جرمكا
الاستاذ سردار عبد الله
الاستاذ حامد سليمان الحمداني
الاستاذ عدنان الشاطئ
السيدة مها الرحماني
الاستاذ لؤي الصفار
الاستاذ عدي فلاح الهاجري
الاستاذ احمد مهدي الياسري
الاستاذ علاء الزيدي
الاستاذ حميد قاسم
الاستاذ فادي ايوب
الاستاذ قاسم العيكاشي
الاستاذ بدر خان السندي
الاستاذ باسم فرات
الدكتور جواد الديوان
الدكتور اكمل اوغلو
الدكتور محمد صادق المشاط والسيدة عقيلته
الدكتور جواد هاشم
الاستاذ عيسى العزاوي
الاستاذ جورج منصور
الاستاذ فرات المحسن
الاستاذ رياض جميل حمامه
الاستاذ بولس آدم ( نيابة عن عائلة المرحوم ايشو القس آدم )
الاستاذ عامر حنا فتوحي
الاستاذ انور بهنام
الاستاذ حناني ميّا والعائلة
الاستاذ فرات مّيا والعائلة
الاستاذ عصمت الهين والعائلة
الاستاذ بسام الدهين والعائلة
الدكتور بهنام عطا الله
الاستاذ حبيب تومي
الاستاذ حسن الرزو
الاستاذ طارق حربي
الدكتور كوثر الواعظ
الاستاذ عبادي اركان العبادي
الدكتور شاكر النابلسي
الاستاذ عبد الستار البغدادي والسيدة عقيلته
الاستاذ رضوان الشبخون والسيدة عقيلته
الاستاذ جعفر العاني
الاستاذ موفق عبد الرحمن التكريتي
الدكتور جاسم جرجيس واولاده السادة : باسل ونوفل وفراس
الدكتور غسان ربيعه والسيدة عقيلته
الدكتور بارق شّبر
الاستاذ دانا جلال
الاستاذ باسم حنا بطرس
الاستاذ اخضر الابراهيمي
الانسة راهبه الخميسي
الاستاذ قاسم حسن
الدكتور خالد السلطاني
الدكتور المطران لويس ساكو
الاستاذ ماجد عزيزة
الدكتور اياد علاوي
الاستاذ مهدي النفّري
الاستاذ محمد البدري
الدكتور محمد سماكه وعقيلته السيدة بيرجين عقراوي
الاستاذ فاردن كوركيس
الاستاذ نوري البحراني والسيدة عقيلته
الدكتور كامل كمونه
الدكتور قاسم الرفاعي
الدكتور نبيل مّمو وعائلته
الاستاذ ناجي عقراوي
الاستاذ محمد جابر
الاستاذ محمد قوجا
المهندس اثيل عقراوي والسيدة والدته
الدكتور مؤيد الونداوي
الدكتور محمود الموسوي
الاستاذ غراهام دوكلاص
الاستاذ ناجي الوضعي
الاستاذ نزار الدباغ وعائلته
الشاعرة وئام ملا سلمان
الاستاذ ايوب اوغانا
الاستاذ عمر الفاروق الدملوجي
الاستاذ نضال الصمادي
الاستاذ مثنى حميد مجيد السعدي
الاستاذ مقدام محمد علي
الاستاذ محمد خضر العبيدي
المهندس حسان مظفر الرزو والسيدة عقيلته
الاستاذ هادي الحسني
الدكتور محمد البغدادي والسيدة عقيلته
الدكتور ماهر خليل جلو
الدكتور بديع عبد الكريم نصرت وعائلته
السيدة سميرة حبيب طرازي وزوجها
الاستاذ حسن المذكور
الاستاذ انور حمه سور
المحامية معزّز أمين عزيز
الاستاذ سلام السوداني
الاستاذ عيسى العزاوي
الاستاذ حيان نيوف
الاستاذ جورج شمالي
الاستاذ عربي الخميسي
الاستاذ شاكر المنذري
المحامي امين وفيق حسون وعائلته
الشاعرة بلقيس حميد حسن السنيد
المهندس حيدر علوش والسيدة عقيلته
الاستاذ محمد عبد الرحمن الجليلي والسادة اخوته والسيدة عقيلته
الدكتور توماس لنك والسيدة عقيلته
الاستاذ قاسم سرحان
الدكتورة منيرة آميد
الدكتور تيسير الالوسي
الدكتور وليد الحيالي
الاستاذ خليل الموسوي
الاستاذ عوني الداوودي
الاستاذ نبيل الدملوجي
الاستاذ سامان عزيز
الاستاذ امير الدراجي
الاستاذ جرجيس كوليزاده
الاستاذ جمال السامرائي
الاستاذ عربي الخميسي
الاستاذ رياض العطار
الاستاذ خلدون جاويد
الاستاذ نصرت مردان
الاستاذ سعد السعيدي
الاستاذ كاروان أنور
الاستاذ ابراهيم الخياط
الدكتورة كاترين ميخائيل
الانسة نجوى مصطفى
الاستاذ قاسم مطرود
الاستاذ طارق الحارس
الاستاذ حسين خوشناو
السيدة منال كاميران وزوجها
الدكتور وديع بتي حنا
الدكتورة فيري آن وليامز
الاستاذ علاء مهدي الاسدي
الدكتور سعد الحريري
الاستاذ صباح فخري
الاستاذ فوزي ابراهيم
الاستاذ حسب الله يحي
الدكتور حميد مجول النعيمي والسيدة عقيلته
الدكتور محمد جواد رضا
الدكتور مهدي الملا والسيدة عقيلته
الدكتور علياء الامين وعائلتها
الدكتورة نهاد العمري وزوجها الاستاذ فؤاد صفوت
الدكتور رشيد الخيون
الاستاذ محمد نجم قوجه قصاب ووالدته السيدة ياسمين شيخيل
السيدة ماري انطون
الاستاذ عبد الخالق كيطان
الاستاذ حسن جواد
الدكتور احمد طربين وكل زملاء العلوم الاكاديمية
الاستاذ احمد عبد الحسين
الدكتور سمير كمال قاسم
الدكتور غازي فيصل
الدكتورة ليلى الراجحي
الدكتور غسان الربيعي
الدكتور قاسم سعد الله
الدكتور مصعب عبد السلام الحاج طه
المهندس علي حيدر سعد الجميل وعائلته
الانسة زينة عبد الصاحب
الدكتور فاتح عبد السلام
الاستاذ السيد مناف الخرسان
الدكتور رضا الشهرستاني
الاستاذ محمد الجنيدي
الانسة شهناز غاسبيران
المهندس شوقي قزازي
 
كما يشكر الدكتور سّيار الجميل كل من المؤسسات التالية التي قامت بنشر النعي والتعازي :
موقع ايلاف
الاممية اللبنانية
موقع الجيران
جريدة الفرات
جريدة الصباح
جريدة الزمان
مجلة الصوت الاخر
الحزب الديمقراطي الكلداني
المركز الثقافي الكلداني الامريكي
نادي بابل الكلداني
موقع وطن الجميع
مجلس العمل العراقي في ابو ظبي
الاكاديمية العربية المفتوحة في الدانمارك
حركة الوفاق الوطني العراقي
الحركة العربية
المعهد العالمي للبحوث والدراسات الاستراتيجية / كاليفورنيا
اذاعة الناس
صوت العراق
شبكة العراق الاخضر
العربية
اذاعة سوا
سومريون. نت
عينكاوا
بحزاني
جريدة التآخي
موقع كردستان
منتدى أنا حرة
موقع دروب
ناصرية نت
تيار لنا الحق
جماعة المثقفين العراقيين
حركة المجتمع الديمقراطي
موقع ارض السواد
شبكة عراقنا الاخبارية
رابطة بابل للكتاب والفنانين العراقيين في هولندا
مجلة البيان
ميديا العراق الجديد
الاتحاد العام للادباء والكتّاب العراقيين
الكوريار
دار صنعاء
دار الطليعة
وكالة بوكم
 
( ملاحظة : نعتذر ان غفل عن ذكر أي اسم من الاسماء سهوا او نسيانا ) .
كما ونقّدم الشكر لكل الذين حضروا مراسيم مجلس العزاء في مدينة الموصل بالعراق .[/b][/size][/font]
 
 

202
مكاشفات
بلاد الأساطير تنحرها البشاعات !!
أ.د. سّيار الجميل
مفكّر عراقي

عندما كتبت عن سر خلود العراق والعراقيين قبل سنين كنت ادرى تماما بأن اية تحولات تاريخية في العراق لا يمكنها ان تتم بهدوء وسلام ، ولا يمكنها ان تجري بشفافية ووئام ليس بسبب تناقضات طبيعة المجتمع العراقي ، ولكن لأن القيم عندما تفتقد في مجتمع صعب كالعراق لا يمكنها ان تعود اليه بسهولة .. وان الانقلابات العسكرية والمصاعب السياسية والاختلاطات الاجتماعية والتحديات الثقافية والانغلاقات الحضارية والممارسات الدكتاتورية والحصارات الاقتصادية والحروب الدموية التي مرّت على العراقيين منذ نصف قرن تقريبا جعلتهم يختلفون تماما عما كانوا عليه .. وانهم بحاجة الى زمن ليس بالقصير حتى يستعيدوا وعيهم ويبدلوا ممارساتهم ويتخلّوا عن افكارهم ويتجرّدوا عن نزوعاتهم ويعوفوا كل ترسبات ماضيهم وبقاياه الكسيحة .. علما بأن العراق اليوم يمر بنفس المأزق الذي تمرّ به بقية مجتمعات المنطقة اذ انه يمّر بمرحلة الاسلام السياسي ولكن بطرق والوان لا يمكننا ان نجدها في غيره من المجتمعات بسبب النزوعات الطائفية والتقاليد البالية المترسخة في الضمائر العراقية اجتماعيا .. ولمّا طفت على السطح عندما ترجمت سياسيا باحزاب وقوى وتكتلات وجماعات وهيئات وبيوتات .. ، فقد خلقت تباينات مخيفة تفجرت اثرها مباشرة تصادمات دموية انتهت الى بشاعات لا يمكن تخيّلها .
      ان الفوضى التي تضرب اطنابها في اصقاع مهمة جدا من العراق .. لا يمكن تفسيرها انها حالة وطنية ضد الوجود الامريكي بأي شكل من الاشكال .. بل انها حالة تمزّق اجتماعي بسبب الاجندة الدينية والطائفية التي رفعت مباشرة بعد سقوط نظام صدام حسين . ان مصطلح " التكوينات " الطائفية قد انتقلت من تنوع اجتماعي كان يعيش في الخفاء الى صراع سياسي بدأ يطفح على السطح بشراسة منقطعة النظير .  حاشا لله ان نكون ضد الاسلام وقيمه وعقيدته وشريعته الغراء .. ولكن نحن ضد استخدامه اداة من قبل الملالي المعمّمين من هذا الطرف او ذاك للصراع على السلطة او لجعله اداة للتناحر الاجتماعي والانقسام السياسي.. ان تجلياته ينبغي ان تبقى متسامية عن كل اوحال هذا الواقع الذي لا تصلحه الا اساليب سياسية وفكرية مدنية كما هو عليه حال العالم اليوم في كل هذه الدنيا .
     انني اعتقد اننا لم نزل نعيش اوهام الماضي واننا قد فقدنا ذاكرتنا التاريخية ايضا .. واننا قادرون على مواجهة التحديات الشرسة بالاوهام والخرافات وبضاعة الكلام والتبرك بالاضرحة والادعية واستعراض العضلات سواء في البرلمان ام في الجوامع والحسينيات .. خصوصا اذا ما تضمن هذا الخطاب السياسي الذي يعلنه هذا المسؤول ام ذاك من معمّمين ام غير معمّمين ! وخصوصا اذا ما كان بضاعة يروجّها بعض القادة الجدد من السنة والشيعة في البرلمان او على شاشات التلفزيون او في الصحف ومواقع الانترنيت .. ونقنع انفسنا بأن التحديات السياسية والحضارية التي تواجهنا سنتغلب عليها من دون أي اسلحة ومن دون أي فكر ومن دون أي تخطيط !! لم نزل نتوهم اننا سادة هذا العالم وان الدنيا  قد فقدت توازنها وانها ضعيفة واننا اقوياء .. لم نزل نعيش باوهام واخيلة لا تتسق والواقع المرير الذي يثوي مجتمعنا في اردأ انواع التخلف وافكار العصور الوسطى ! ولم ندرك حتى اليوم ما الذي يمكن لنا ان نفعله في اللحظة التاريخية الحاسمة .. وان المجتمعات تنتهز الفرص الثمينة لتجديد تفكيرها واستعادة وعيها وتخصيب حياتها بكل ما هو حديث ونوعي ومتجدد دائما ..
    ان الناس اما ان تنعم بغبائها او ان تشقى بوعيها .. وان التجديدات لا يحس بها الا من يكابدها .. ولا يمكننا تخّيل هؤلاء الذين اخطأ القدر وجعلهم يقودون مجتمعات ويسّيرون دولا انهم قوة جبارة خارقة في هذا الكون .. اذ يعتقدون ان السماء قد اختارتهم لهذه المناصب فيصدقون هذه الكذبة ويصبحون كالاصنام المنصوبة في معابد مظلمة يطلبون من الناس عبادتهم بالتصفيق لهم والتمسح بهم وترديد ما يثرثرون به من السياسات والشعارات وفضفاض الكلام .. ومن مخالفات القدر ان يغدو العراق بايدي احزاب دينية ـ مع كل احترامي لها ـ الا انها لا تضّم ـ يا للاسف الشديد ـ قادة اذكياء ولا اناس تعرف فن الحكم ولا ساسة تعشقها الجماهير من نوع قدير .
    نعم ،  ان الانحدار الحضاري والثقافي قد بدأ في حياتنا العراقية منذ زمن بعيد وقد تساوق مع الانحدار السياسي والفكري .. وبدل ان نجد تطورا وتجديدا في حياتنا منذ اكثر من اربعين سنة وجدنا نكوصا بالغ الخطورة .. وصل اليوم الى درجة تثمين الخزعبلات والتقاليد البالية وانعدمت الحريات الشخصية ، بحيث بات الانسان يخشى أي فعل يخرج من ربقة تلك التقاليد .. وتأتي الخشية من كون تسويق التهديدات كلها تنطلق باسم ( الدين ) .. ان الانحدار الاخلاقي لا يتمّثل فقط بالقتل والخطف والذبح والتعذيب .. بل انها الاساليب السياسية والاجتماعية التي مارسها تسلط الدولة سابقا وتسلط المجتمع اليوم وتسويق كل عفونته على العالم ..
    متى يتخّلص العراقيون من الوهم والاساطير ؟ متى يتخلصون من تأليه الماضي الذين يقتاتون عليه صباح مساء ؟ متى يتخلصون من الاحقاد والكراهية في ما بينهم ؟ انهم لا يجتمعون على كلمة سواء ! لابد ان نعيد التفكير في مسببات هذا الواقع الذي ابتلينا به قبل ان نجلس ونندب ونبكي ونلطم على نتائجه الكارثية من دون ان نقّدم علاجات ميدانية على الارض .. لابد ان نعيد التفكير بأن العراق الجديد لا يحتمل ترسيخ الطائفية السياسية التي خلقت وبسرعة شديدة الطائفية الاجتماعية في العراق فتجّذرت الانقسامات وانتجت البشاعات في بلادنا الجميلة وعند الناس العراقيين الطيبين وغدونا فرجة للعالم ..
    ان بناء العراق بعد حطامه ليس نزهة عابرة لقطاعات بناء واستثمارات وشركات ، بل هو عملية معقّدة لتغيير تفكير البشر ! فالامور لا تقاس بالامنيات والرغبات والنفاق باللعب على مسميات التجديد والتقدم ، بل تقاس بالخطط وصناعة العمليات بدقة متناهية وان تكون لنا القدرة على ان نقّدم للعالم ما ينتظره منّا ، بل وان الضرورة باتت ماسة الى كيفية ان يستمع احدنا الى الاخر من دون قتله او تكفيره ولا تهميشه ولا اقصائه .. بل وحتى الاستهزاء به ، فالعراق لا يستحق كل هذا من اهله العراقيين . فهل باستطاعتنا ان نحيا من جديد وان نقنع انفسنا بما نجمع عليه وبارادة عراقية واحدة  ام لا نستطيع وليكن معلوما بأن رصيدنا في العالم اصبح صفرا على الشمال .. اسمحوا لي ان اقول بان العالم  اصبح يتصورنا وحوشا ضارية وذئابا مسعورة ، بعد ان كان يعتقد اعتقادا راسخا اننا نخبة بشرية حضارية ذكية هي ما تبّقى من سلالات حضارات عريقة علمت البشرية الحياة والحضارة  ..
     لا يمكن ان نتخيّل ان الاخلاق العراقية قد انحدرت الى القيعان الاسنة ! ولا يمكن ان نتخّيل ان قتل العراقيين بعضهم للاخر بات على الاسم والهوية والطائفة ! ولا يمكن ان نتخّيل ان الحقد الطائفي المكبوت  يصنع كل هذه البشاعات ! ولا يمكن ان نتصّور ان هذه المرحلة ستكون مرحلة انهيار بدل ان تكون مرحلة بناء ! انني اعتقد بأن الامور لا يمكن اصلاحها بالامنيات والهوسات والشعارات والثرثرة على الفضائيات ومشروعات مصالحة وحوار ولقاءات نفاق .. ما لم يتم تغيير النهج السياسي بوضعه الحالي كله وان يتخّلى من ليس له قدرة على حكم البلاد الى اناس كفوئين .. وان يبتعد كل العراقيين عن المناطحة الطائفية .. اننا بحاجة اليوم الى ثورة سياسية شاملة تعيد العملية السياسية الى وجهها المدني والحقيقي والديمقراطي من دون أي اجندة طائفية او محاصصات اجتماعية او احزاب دينية .. وثقوا ان العراق سينعم بالاستقرار والهدوء وسيتفق اهله على مبادئهم السياسية الوطنية بمعزل عن واقع الانقسامات الدينية والطائفية . فهل ستتحقق امنياتنا الوطنية ؟ انني اشك في ذلك !![/b][/size][/font]


203
نهاية العراق من دون شهادة وفاة! (1) ، (2)
كتاب يطالب بشهادات ميلاد لثلاثة كانتونات ؟

نهاية العراق من دون شهادة وفاة!
الحلقة (1)
 
 2006/08/16
 د سيّار الجميل

مقدمة لدراسة نقدية

 دعوني اليوم اقدم محاولة لقراءة نقدية في كتاب بيتر غاليبيرث الذي صدر قبل ايام بعد ان سمعنا به ومن قبل مؤلفه عنه قبل شهرين والكتاب بعنوان: نهاية العراق: كيف عجز الامريكيون في خلق حرب بلا نهاية " (= The End of Iraq: How American Incompetence Created A War Without End, New York: Simon & Schuster: Rockfeller, 2006)   لقد صدر الكتاب قبل ايام في كل من نيويورك ولندن وتورنتو وسدني، بعد انتظارنا له منذ شهور، ويسجل مؤلفه جملة من افكاره واخباره وآرائه وذكرياته في العراق، ويلخص في عمله نهاية العراق على ايدي الامريكان بعد ان تتّبع طبيعة تطور المشكلات العراقية منذ مجيئ البعثيين الى السلطة عام 1968 وتكريس هيمنتهم في الحكم منذ العام 1970 وانتهاء باخبار العراق في الشهور الاولى من العام 2006 وهو يترنّح اليوم ليسقط نهائيا اذ ينبغي – كما يتوّقع صاحب الكتاب - ان تصدر شهادة لوفاته بعد ان يذهب الى غير رجعة على ايدي الامريكيين الذين يطالبهم الاعتراف بخطيئتهم! في حين ارى ومن خلال التعمّق في دراسة تجربتهم المريرة في العراق انهم لا يهمهم ابدا الشأن الداخلي للعراق ولا يعيروا أي اهمية لا لما حدث او لما يحدث، وكأنهم كانوا وما زالوا صّناعا خلاّقين لمثل هذا العنف القاتل في العراق.. انهم لم يعلنوا ابدا منذ ان تبلورت الازمة وتدولت قضية العراق لا عن اجندتهم ازاء العراق وما الذي يريدونه اولا، ولا عن جدولة بقائهم او انسحابهم من العراق ثانيا.. فهل يمكننا ان نجد اعترافا منهم ليس بالخطيئة الواحدة، بل بالخطايا الكبرى التي اقترفت بحق العراق ثالثا؟؟..
انني اعتقد ان المصالح الامريكية تتطلب مثل هذا الذي يحصل في العراق وبادارة جيدة ليس لصناعة الازمات بل لاستمرار العنف.. ولا اظن ان الولايات المتحدة اليوم في ورطة بالعراق ـ كما نظن ـ، بل من يقرأ هذا الكتاب سيخرج بنتائج غاية في الذهول في ما يخص كيفية الحفاظ على المصالح الامريكية في الوقت الراهن..
وان مشاكل العراق الداخلية لا تعنى لامريكا أي شيئ، وهي لا تنظر لما يحصل للعراق والعراقيين ولا لمستقبلهم الا ما يخص مصالحها..
ويبدو لي ايضا ان هناك ثمة انقسام كبير في الرأي الامريكي بين من يريد تنفيذ المصالح العليا الامريكية بشكل وبين من يريد تنفيذها بشكل آخر وسواء بقي العراق او احترق، فهذا امر لا يهم ابدا..

الفوضى العراقية: صناعة امريكية

 ان بيتر غاليبيرث يعترف بأن ثمة مسلسل او سيناريو امريكي لجعل العراق وقد وصل الى هذه الدرجة المتدنية من التمزق وهو ينتظر ان تمنحه الولايات المتحدة الامريكية شهادات ولادة لكيانات ثلاثة تنبثق عن اوصاله المتقطّعة! ويشّخص في كتابه معالم تلك التي سمّاها بـ "الجريمة الكاملة" التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في العراق! وان الاستراتيجية التي أقرها وصنعها ونفّذها ساسة وخبراء ورجال مخابرات لم يتعّرف بعضهم على ماهية العراق ولم يتمرسوا على الاداء الخارجي وهم جماعة من الفاسدين الذين أسندت إليهم المهام الخطيرة نظرا لما لهم من ولاء للمحافظين الجدد. وعليه، فبقدر ما نجحت خططهم في جعل العراق بؤرة مخربة تصلح عشا للدبابير لتجمع الارهابيين، فلقد فشلت في الحفاظ على نسيج الوحدة الاجتماعية الهش في العراق! يقول بيتر غالييرث: " لقد رجعت الى واشنطن في شهر مايو 2003، وبقيت قرابة الساعة في البنتاغون بمعية بول ولفيتس Paul Wolfowitz وانا اوجز له ما رأيته وشاهدته في العراق.. وقد غضب مني نظرا لواقعيتي وصراحتي وانتقاداتي لما جرى.. ومنذ تلك اللحظة اقفل بول ولفيتس وطاقمه تلفوناتهم معي وقطعوا أي اتصال بي، وبعد ذلك بخمس شهور غادرت عملي في الحكومة الامريكية.. " (ص 113).

من هو بيتر دبليو غاليبيرث؟

 هو سياسي واداري ودبلوماسي امريكي، وأحد أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأمريكي في عقدي الثمانينات والتسعينات الماضيين مما سمح له أن يطّلع من حيث موقعه على الكثير من التقارير والاوراق والخطط والوثائق السرية، التي كانت تقدم للكونجرس ولا تذاع ابدا على الرأي العام. وكان قد خدم غاليبيرث في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون كسفير لواشنطن في كرواتيا، بعد أن شهد بنفسه انهيار يوغوسلافيا، التي يقول إنها تشبه إلى حد كبير العراق من حيث التباين المذهبي والطائفي ـ وهنا لا اتفق معه ابدا فالعراق هو غير يوغسلافيا من الناحيتين الاستراتيجية الجغرافية والاجتماعية الثقافية وساحاوره في هذا المقال لاحقا في مثل هذه المقارنة الفاشلة ـ. كما أنه كان أحد مهندسي اتفاق وقف إطلاق النار هناك. ومنذ ان ترك غاليبيرث الخدمة زار العراق عشرات المرات ككاتب معروف وصحفي مستقل وكمستشار لشبكة ايه. بي. سي. نيوز الأمريكية، وقام بتغطية حرب تحرير الكويت ثم رافق الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وارتبط بعلاقات قوية مع البعض من الساسة والقادة العراقيين الجدد الذين يظهرهم معه في عدة صور (انظر: كتابه)، ويسجّل العديد من ارائهم وافكارهم واقوالهم ويعّلق عليها وعلى ساسة عراقيين آخرين، ومنهم السادة: احمد الجلبي واياد علاوي وجلال الطالباني ومسعود البارزاني وغيرهم..

كتاب نهاية العراق

المضامين:
 يتألف من احد عشر فصلا وبعض الملاحق المهمة.. واعتقد ان المؤلف قد نجح في ايصال ما تضمنته فصوله في قصة كتابه المثير الذي ربما اتفق مع ما تضمنّه بعض من افكاره ومعلوماته، ولكنني اختلف مع كل ما تضمّنه من نتائج واستنتاجات لا تعكس مصالح العراقيين الحقيقية..

1/ البداية:

 يحكي بيتر غاليبيرث قصة العراق باختصار منذ ان تفاقمت ازمة العراق مع كل من الاقليم والمحيط وهو ينطلق من فصله الاول (= موعد في سامراء) الذي يعتبره نتيجة تاريخية وحصيلة ما عاشه العراق من حروب وويلات على امتداد ربع قرن من الزمن فتأخر كثيرا مقارنة بتحولات العالم المذهلة، وقد تحوّلت مشاكل العراق الاقليمية الى تدخلات دولية سافرة.. يبدأ المؤلف من نهاية مأساة العراق قبل اشهر ليمتد نحو الماضي معالجا المشكلات التي تراكمت عبر الزمن ابان حكم النظام السابق والتي انتجت هذا الطوفان الذي لا يليق ابدا لا بالعراق ولا بالعراقيين.

2/ من السكون.. الى العاصفة


 اذ يرجع في الفصل الثاني (= السكون) الى 22 سبتمبر 1880 عندما اندلعت الحرب الشعواء مع ايران وايامها المأساوية، وفي الفصل الثالث (= لقد حدّق في شعبه) يتضّح لنا التمادي في تلك الحرب القاسية والدور الزئبقي الامريكي وخصوصا في ادارة رونالد ريغان من خلال تسليح ايران وانفضاح الدور في ايران غيت حتى لتصبح تلك الحرب المأساوية حربا منسية لم تقض على أي من النظامين القويين في ايران والعراق.. في الفصل الرابع (= الانتفاضة) تندلع ازمة الكويت ويؤكد المؤلف هنا على الدور الامريكي الخفي، وخصوصا من خلال ما دار بين السفيرة غلاسبي وصدام حسين، ومفاجئة العالم بغزو الكويت وتشبثه بها، ثم اندلاع الحرب ضد العراق وهزيمته وانسحاق الجيش العراقي وانهيار البنية التحتية للعراق واندلاع الانتفاضة التي ساهم في تشجيعها الامريكان ثم خذلوا العراقيين، ليتمّ سحقها من قبل صدام حسين من خلال معلومات سرية..
3/ الغطرسة والجهالة تقود الى الجحيم:

 في الفصل الخامس (= المتغطرس والجهالة) لم يستفد صدام حسين بكل عنجهيته وغطرسته من الدروس والتجارب، وبقي لا يدرك من يكون ولا الى اين سيكون ولا يعرف صناعة قراراته.. هذا الفصل الذي يبدأ بعد احداث سبتمبر 2001 من خلال الدور الذي يلعبه كل من احمد الجلبي والاكراد في 29 يناير 2002 ويتألب الى حين الفصل السادس " الآثار " في الحرب على العراق وسقوط نظام صدام حسين وآثار السقوط، ومن ثم السياسة الخاطئة التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ اللحظة التاريخية لسقوط النظام وبداية اعمال العنف في الفلوجة بعد اعمال السلب والنهب وتدمير المتحف العراقي والمكتبة الوطنية والمؤسسات المركزية باستثناء وزارة النفط وحمايتها.. وهنا ادانة كاملة للسياسة الامريكية التي سمحت باندلاع الفوضى لتجّر من ورائها شبح العنف من دون أي ضوابط ولا روابط.. اذ بقي العراق ولم يزل سائبا معطلا ولم تعرف الاسباب الحقيقية الا لاحقا من خلال التحليلات التي ينتقد اصحابها فيها ما اتبعه الامريكان في العراق.

4/ زمن الفوضى:

ينتقل بعد ذلك الى الفصل السابع " لم تتم الاحاطة بأي شيئ " ويسجل رؤيته لكل من غاي غارنر وبول بريمر وفشلهما من نظر العراقيين في ادارة العراق ونجاحهما (وخصوصا بول بريمر) من نظر الامريكيين المحافظين الجدد في خلق الازمات وادارة اعمال العنف وترتيب ما يمكن تسويقه على عجل من ديمقراطية وحكومة منتخبة ودستور دائم! انه ينتقد غارنر، ولكن يقف وقفة مطولة عند تجربة بول بريمر لينتقدها نقدا لاذعا، ويوّضح عقم اختيار بريمر لادارة شؤون العراق في احرج فترة تاريخية كان يمر بها العراق.. يقول: " بريمر لم يعرف العراق ابدا، ولم يزره قط من قبل.. لم يتكلم العربية ولم يخدم ابدا في في اطار ازمات العراق.. لم تكن لديه اية تجارب في البناء الوطني.. وقد قضى اقل من اسبوعين فقط ليقرأ جدوله الجديد قبل ان يصل العاصمة بغداد في 12 مايو / ايار 2003 " (ص 118). وهنا ينبغي علينا ان نتوقف كي نشارك المؤلف اسئلته، وهي اسئلة معّبرة وحقيقية وكأن المؤلف يريد القول بأن هناك من الامريكيين من له القدرة على ادارة شؤون العراق افضل بكثير من بول بريمر.. بل وانني اتلمس في المؤلف وهو يقارن بطريقة غير مباشرة بينه وبين بريمر من حيث ما ذكره.. وهنا نستنتج منذ اللحظة الاولى لوصول بريمر انه اداري فاشل وكان سببا في تراكم مشكلات لا حصر لها!

5/ كردستان العراق:

 منتقلا الى الفصل الثامن (= كردستان) وهو يحكي لنا عن اقليم كردستان ورؤيته له منطلقا من الدور الامريكي وتأثيره في اذكاء الصراع الداخلي في العراق منذ بيان 11 آذار/ مارس 1970 وزيارة كل من نيكسون وكيسنجر ايران وتزويد الشاه محمد رضا بهلوي بالسلاح في دعم التمرد الكردي ـ كما يسمّيه ـ ورفض العرض العراقي في العام 1974 مما يضطر العراق من خلال صدام حسين الى ان يتفق مع الشاه في 6 آذار / مارس 1975 لسحق الاكراد في مؤامرة دولية تهندسها الولايات المتحدة وتربح ايران نصف شط العرب على حساب قضية قومية عراقية كان بالامكان حّلها داخليا بابسط الوسائل! واخيرا، تستقل الادارة الكردية في التسعينيات بعد هزيمة العراق 1991 لتغدو اليوم على قاب قوسين او ادنى من الاستقلال وتحقيق حلم الاكراد لولا البعبع التركي الذي له حسابات استراتيجية تتلاقى مع ايران اليوم حول هذا الشأن، والتي تبحث عن مصالحها فقط برغم كونها عمقا للاكراد في تهديد العراق ماضيا!

6/ الحرب الاهلية والحل السريع!

 وفي الفصل التاسع (= الحرب الاهلية) يتوغل المؤلف في ظاهرة الحرب الاهلية بين السنة والشيعة في العراق والتي خلقتها الادارة الامريكية باذكاء روح الانقسام السياسي المؤسس على الروح الطائفية التي تجد في المجتمع العراقي كل مادتها فالانقسام الطائفي هو الذي ولّد الانقسام السياسي وموجة العنف الرهيب.. ولم تأل الولايات المتحدة جهدا في بث معلومات كاذبة مكرّسة الانقسام بشكل فاضح بين السنة والشيعة العراقيين. وفي الفصل العاشر (= ثلاث دول: هو الحل!)، يحدّثنا بيتر غاليبيرث انه كان يشرب الشاي في غرفة ملاصقة لغرفة كبيرة يجتمع فيها الشيعة والسنة العرب مع مسعود البارزاني في 22 آب / اغسطس 2005 وسمع الاصوات ترتفع والغضب يعلو بين الطرفين السنة والشيعة في اقرار مواد الدستور!! (ص 191) ويتوقف المؤلف عند لعبة ما يسمى بالانتخابات والديمقراطية العراقية وكيف نجحت امريكا في بلورة الانقسامات الى واقع دستوري عندما كّرست دستور لا يستحقه العراق في 22 آب / اغسطس 2005 مما زاد في اشتعال العراق الذي لم يعد ابناء العراق ينشغلون بما هو خارج عليهم، اذ يأكل بعضهم البعض الاخر في الداخل من دون أي حلول عملية امريكية لهكذا وضع شاذ والقادة الجدد منهم من انزوى وابعد ومنهم من لاذ بالفرار ومنهم من جلس في السلطة ولا حول له ولا قوة.. وتدرك الولايات المتحدة حجم هؤلاء العراقيين الذين ليس لهم أي نفوذ او سلطة او قوة وهي لا تهتم ابدا لمن يسرق او يختلس او ينهب او يصلح او يقتل او يهرب.. المهم انها حقّقت الاهداف التي رسمتها..

7/ شهادات ميلاد!!

 وفي الفصل الاخير (= كيف يتحقق الخروج من العراق) الذي يعتبر خلاصة جولة او نهاية عقدة او قفلة موضوع يسجل المؤلف اراءه في التجربة العراقية المريرة وقد تبلورت قناعته بأن لا حياة للعراق السابق ابدا، وهو ينطلق من المقالة التي كتبها رامسفيلد في الواشنطن بوست يوم 19 آذار / مارس 2006 وان المخرج من العراق، أي من العراق القديم يتم بتقسيم العراق الى ثلاث اوصال يقترح على الادارة الامريكية اخراج ثلاث شهادات ميلاد لكل من الكانتونات الثلاثة!

سيناريو التقسيم: الكارثة المرعبة

يرسم غاليبيرث سيناريو يعتقد انه واقعي لمستقبل العراق وانه المخّلص للعراقيين من انقساماتهم، اذ يرى ان لا مستقبل للعراق الذي انتهى حّقا، الا بولادة ثلاث دويلات: الاولى كردية في شماله وهي موالية للغرب، والثانية شيعية في الجنوب موالية لايران.. والثالثة من العرب السنة في الوسط وتعمها الفوضى وهي موالية للعرب برغم ان رؤيتها ستحدد مستقبلا. انه يقول بأن كتابه يعد كشف حساب للتورط الامريكي في العراق قائلا: " ان خطايا السياسة الامريكية قد جعلت العراق ينجرف وهو ينزف دما بلا توقف ليفتح الباب على مصراعيه امام حرب اهلية لم يشهد العالم لها مثيلا من قبل " ويستطرد قائلا: " اذا كان ثمن وحدة العراق وجود دكتاتورية اخرى، فان هذا سيكون ثمنا باهظا فاحش الغلاء " (ص 19). وهنا، لا ادرى لماذا خرج المؤلف بهذا البديل الاحادي، وكأنه يقول بأن العراقيين امام خيارين: فاما التقسيم واما الدكتاتورية.. وكأن العراقيين لا يدركون خطورة الاثنين على مستقبلهما، فلا التقسيم يصلح للعراقيين، اذ انه سيبقيهم يتناحرون دهرا طويلا حتى يتشرذم وطنهم اقليميا بين تركيا وايران نظرا لصراع هاتين الدولتين تاريخيا على العراق.. ولا الدكتاتورية قادرة بعد اليوم على ان توحّدهم، فلقد انفلتت كل قوتهم باتجاهات مختلفة وبطريقة متشظية لا يعرف لها أي ركود او حدود..

الحرب المفتوحة


 يقول غاليبيرث: "إن الأمريكيين يخوضون الآن في العراق حرباً مفتوحة يمكن أن تستمر مائة عام، وإن سياساتهم التي أعقبت غزوهم واحتلالهم لهذا البلد قد مزقته إرباً اربا، وإنه لم يعد بمقدور الأمريكيين ولا غيرهم إعادة تجميعه، وإن حرباً أهلية مدمرة ستكون عنواناً للسنوات المقبلة، حتى تستقر عملية التقسيم، ويتم الانتهاء من ترسيم حدود هذه الدويلات، وكتابة شهادات ميلاد العراق الجديد ". وانا اقول، الامر ليس بهذه البساطة ان تبقي العراق مائة سنة في حرب مفتوحة مع الامريكان، وكأنه يقول بأن الامريكيين لهم القدرة على البقاء مائة سنة في العراق! وماذا بعد؟ هل باستطاعة المؤلف ان يكون بعيد النظر قليلا، فكيف باستطاعة العراق وقد غدا اربا اربا ان يبقى مائة سنة في حرب مع الامريكيين؟ وهل باستطاعة الامريكان اعادة تجميع العراق بعد ان دمّروا كل شيئ فيه؟ ولقد ثبت للعالم اجمع ان الحرب الاهلية العراقية التي راهن عليها الامريكيون لم تقع بالصورة التي يتخيلونها.. واذا ما حّل التقسيم بالعراق، فانني اعتقد بأنه سيكون رغم انف العراقيين وحتفهم، فالعراقيون اليوم قد انقسموا ازاء مسألة التقسيم، فمن له الوعي بالتاريخ والتحسس بالمستقبل لا يقبل التقسيم ابدا.. ومن ترّبى على كراهية العراق والعراقيين، فهو من المؤيدين للتقسيم.. العراقيون منقسمون اليوم بين من يريد الحفاظ على هويته ووطنيته العراقية وبين من يريد ان يصنع له هوية جديدة ووطنا بديلا.. وربما يكون هؤلاء لا يدركون مخاطر ما يؤمنون به والكارثة التي ستلحق بكل العراق والعراقيين اذا ما حّل التقسيم بالعراق؟

العراق ازاء مستنقعات تفيض بالدماء!

 ان المشكلة يدركها عدد من القادة والزعماء والخبراء والعلماء العراقيين، وهناك من الامريكيين من ينتقد الزعماء الامريكان على سياستهم بابقاء العراق موحّدا، اذ يرون ان من الصواب تقسيم العراق مباشرة منذ العام 2003، ولكن الادارة الامريكية لم تفعل ذلك خوفا من تبعات ذلك مرحليا.. واليوم، اذا ما حّل التقسيم بالعراق، فبدل المستنقع الدموي الواحد ستجد الولايات المتحدة نفسها والعالم كله امام مستنقعات دموية عراقية تفيض بالدماء خصوصا اذا كانت تبني استراتيجيتها في العراق على معلومات خاطئة جملة وتفصيلا.. خصوصا وانها لم تحّصل على اهدافها الا بالطريقة التي تراها قياسا الى مصالحها العليا والتي يجهلها كل العالم. ويقول غاليبيرث في كتابه ما نصّه: " إن الولايات المتحدة التي غزت واحتلت العراق بهدف معلن هو تحويله لبلد ديموقراطي كنموذج يمكن تعميمه في الشرق الأوسط، ولكنها قد دمرته تماماً ودفعته بسياساتها المجرمة نحو تقسيم لا مفر منه، برغم أنه كان مؤهلاً له، إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال موالية للغرب وشيعية في الجنوب موالية لإيران وسنية في الوسط بلا هوية تعمها الفوضى ".
 هذا تبرير غير مقبول يا غاليبيرث.. ربما اتفق معك بالهدف المعلن الذي خدع اغلب العراقيين، فلا يمكن ان نسّمي كل السيناريو الحاصل انه منتج للديمقراطية! واعتقد بأن العالم ليس من السذاجة بمكان ليصدّق الاكذوبة التي فضح بها الامريكيون انفسهم، فالعالم يعرف ما الديمقراطية ويدرك مستلزماتها.. وتدرك الظروف العراقية الصعبة التي لا يمكن من خلالها تطبيق أي ممارسة ديمقراطية شفافة في العراق والناس يقتلون ويذبحون في الشوارع والاسواق والحارات والبيوت.. ولقد التقت طموحات العراقيين الطوباوية الصادقة باكذوبات المحتلين المخادعة ولكن بعد ان مات الحلم لدى العراقيين المستنيرين الاحرار ببناء عراق حر حضاري مسالم وغني مزدهر.. وهنا يطالب غاليبيرث واشنطن بأن تعترف بخطيئتها وتسلم بأن "لا شيء سيعيد توحيد العراق، وتنتهي سريعا من ترسيم الحدود الجديدة وتحديد الذي سيحكم طبيعة العلاقات بين هذه الدويلات".
 هنا اقول للمؤلف، كلا ابدا، ان مشكلات العراق والعراقيين سوف لن تنتهي ابدا ان بقيت الولايات المتحدة الامريكية ودول الاقليم المحيط يتدخلون في الشأن العراقي.. وان الذي سيعيد توحيد العراق عدة عوامل داخلية وخارجية، منها: عدم التدخّل السياسي الخارجي الدولي والاقليمي في الشأن العراقي، والعمل على وأد بؤر الارهاب التي صنعت في العراق، والفصل بين السلطات بادارة مدنية لا علاقة لها بالدين او المذهب او الطائفة، وتطبيق القانون وردع كل من يجني بحق العراق والعراقيين..

مصالحكم الامريكية ليست على حساب مصالحنا العراقية!

 يستطرد المؤلف قائلا: أن "معالم الدولة في العراق قد تلاشت في العراق رويداً رويداً منذ الغزو ليس بسبب الإطاحة بالنظام ولكن بتفتيت جميع مؤسسات الدولة وأن التقسيم هو المخرج الوحيد لأمريكا من العراق". ويقول: "علينا تصحيح استراتيجيتنا الحالية لأن محاولة بناء مؤسسات وطنية أو قومية في بلد دمرنا فيه كل أسس ومقومات الدولة ليس سوى جهد ضائع. ولا يؤدي إلى أي شيء سوى الإبقاء على الولايات المتحدة في حرب بلا نهاية " (ص 160).
صحيح حصول ذلك التلاشي ولكن التقسيم ليس هو المخرج الوحيد لامريكا من العراق، فكما تريد الحفاظ على مصالحك الامريكية، فليس معنى ذلك انه سيكون على حساب مصالحي العراقية، واذا انت لا تدرك معنى ان يكون العراق موحدّا، فان العراق هو غير امريكا..
ان العراق يقع بين دول مفترسة، فهو الموّحد لم يستطع الخلاص من شرورها، فكيف به وقد انقسم الى ثلاث اوصال لن تكون في الغالب الا كانتونات هزيلة تعيش برعاية الولايات المتحدة ووصايتها.. واعتقد ان غالبية العراقيين لم يعد يثقوا بالامريكيين ابدا.. بمن فيهم الاكراد، والمؤلف نفسه يكتب كيف زار بول بريمر كردستان في مايو / ايار 2003، وكان برفقة الاخ مسعود البارزاني وهو يطلعه على بورتريهات تخص الزعيم التاريخي الراحل الملا مصطفى البارزاني، فسأل بريمر متعجبا من دون ان يدرك وهو تلميذ كيسنجر ما رد الاخ مسعود عليه اذ قال لبريمر: الملا مصطفى البارزاني تعّلم الطريق الصعب ليس من خلال المساعدة الامريكية (ص 148)!
وهذا ليس درسا يمكن ان ينساه ابنه.. واعتقد ان الاخ مسعود قد تعمّد ان يطلع بريمر على بورتريهات تاريخية كي يذكره بما حصل من قبل الامريكيين ازاء الحركة الكردية قبل ما يقارب الثلاثين سنة!

الحلقة (2)


الحرب لماذا؟ البناء اين؟ العنف بديلا السلام

 يتهم غاليبيرث إدارة الرئيس جورج بوش بجّر أمريكا للحرب من أجل الحرب لا من اجل البناء، ويعتقد المؤلف ان حكومة الولايات المتحدة كانت لديها رغبة محمومة لتكرار تجربة أفغانستان، وكان الدور على العراق كهدف استراتيجي وصفته هي نفسها: إنه سهل غاية السهولة. هنا، اريد التوقف لأسأل المؤلف وهو امريكي ابن حكومة الولايات المتحدة الامريكية: هل يمكنه ان يفصح لنا عن اهداف الولايات المتحدى الحقيقية من الحرب على العراق؟ ان العراقيين برغم صداقات بعضهم مع الامريكان، ولكنهم لا يمكن اقناعهم ان الولايات المتحدة قد (حرّرت العراق) من صدام حسين ونظامه لوجه الله! هل لنا ان نعرف نحن العراقيين ما اهداف الولايات المتحدة من كل هذه الحرب وتمفصل التوترات وجعل العراق بؤرة ارهابية، وجعل اهله يعيشون دوامة العنف باقسى حالاته؟؟ هل لدى المؤلف ما يقدّمه لنا عن اهداف الولايات المتحدة الامريكية.. ولماذا لا تعّرف العراقيين باوراقها؟ خصوصا وانهم شركاء معها على ترابهم؟ والسؤال الاخر: لماذا لم تستمع الولايات المتحدة لأي من العراقيين منذ اكثر من ثلاث سنوات؟ وبرغم كل المصائب، فهي تمعن بترسيخ ما تريد فعله ولا تقبل الاستماع الى أي عراقي ناضج؟ لماذا قبلت ان تجعل اناسا معينين في السلطة من دون اخرين اكثر كفاءة واصدق رؤى وانظف تاريخا؟؟ لماذا قبلت في التعامل مع احزاب دينية كي تغدو تلك الاحزاب في السلطة؟ لماذا لم تفرض على تلك الاحزاب تبديل اجندتها السابقة من اجل بناء العراق الجديد؟

العراق: مركزا لجذب الارهاب


السؤال الان: هل يقنعنا غاليبيرث بأن الهدف جعل العراق مركزا لجذب الارهاب؟ ويقول المؤلف: لقد صوت النائب الجمهوري والتر جونز لصالح قرار غزو العراق في عام 2003 وكنت أنا من أشد المعارضين لهذا القرار ولكن ما أن بدأت الحرب أغلقت فمي وقلت إن ما ينبغي علينا عمله هو ما ينبغي علينا عمله ولكن يتعين علينا أن نخرج من العراق بأسرع وقت ممكن ويبدو أن أحداً قد سمع كلماتي.وأثناء الجلسة الثانية للمجلس اقترح جونز إصدار قرار يطلب من بوش تحديد جدول زمني للحرب والخروج من العراق، ولكن بوش عارض بمنتهى القوة ذلك الاقتراح وقال إنه سيعطي فرصة للإرهابيين لإعداد أجندتهم". ويستطرد المؤلف قائلا: "إن جونز ونوابا كثيرين ديموقراطيين وجمهوريين يرون وهذه هي الحقيقة أن أمريكا فعلت كل شيء دون جدوى وأن شيئا لم يعد بمقدورها عمله وأنه لا بد من الاعتراف بالفشل وجمع قواتنا والرحيل وترك العراقيين يخوضون معركتهم مع الحد الأدنى من التدخل الأمريكي. ويتفق كثيرون على أن كل ما فعلته إدارة بوش في العراق أو ما ستفعله هو محاولات لا طائل منها سواء لتحقيق ما لا يمكن - عملياً - تحقيقه أو ربما الآن أو في مرحلة مقبلة البقاء فقط لحفظ ماء الوجه".
هنا أسأل: من يصدّق ان امريكا ستخرج من العراق مثلما دخلت اليه؟ وهنا لا يعنيني ابدا ما الذي تريده الولايات المتحدة من العراق كونها تقبل كل المتغيرات اذا أمنّت على مصالحها، ولكن يعنيني ما الذي يريده العراقيون كل العراقيين كونهم غير متقبلين للثوابت، وغير مدركين للمصالح العليا التي ينبغي العمل من اجلها.. لابد ان يدرك كل العراقيين بأن الولايات المتحدة غير آبهة بما يحصل من ايجابيات او سلبيات داخل العراق وسواء نجح العراقيون في اعمار بلدهم وحافظوا على وحدته ام عمّت الكوارث كل العراق.. المطلوب: مصالح الامريكيين (وبس).. وعلى العراقيين ان يدركوا ان كل ما يشغل بالهم وما يكتنفهم من صراعات داخلية هي الارضية الصالحة التي تمتد من خلالها المصالح الخارجية الدولية والاقليمية.. ليس من السهولة على الولايات المتحدة الاعتراف بالفشل، لأنني ارى انها نجحت ولم تفشل في حين فشل العراقيون ولم ينجحوا.. وانها انتصرت في تحقيق ما ارادته من جعل العراق مثل هكذا بؤرة متعفّنة، ولكن العراقيين هزموا في ان يحققّوا احلامهم التي كانوا يحلمون بها في جعل العراق مشروعا حضاريا للعالم كله!

منذ سقوط الصنم

 يبدأ غاليبيرث كتابه " نهاية العراق " بتصويراللحظة التاريخية التي تمّ فيها إسقاط تمثال صدام حسين ويقول: " يحلو للمسؤولين في إدارة الرئيس بوش أن يرددوا دوماً عبارتهم الشهيرة: "لكل مشكلة عندنا حل لها " ولكن الذي فعلوه بالعراق يؤكد أنهم يخلقون المشاكل، ولا يجدون لها الحلول، والعراق الآن بلا صدام، الذي كان نظامه البعثي، ومثله نظام حكم بول بوت في كمبوديا، من أسوأ الأنظمة الدموية ابان النصف الثاني من القرن العشرين، فما الذي فعلته هذه الإدارة الامريكية العبقرية؟".يقول غاليبيرث إنه "منذ أن أسقط المارينز الأمريكيون تمثال صدام حسين بميدان الفردوس ببغداد، سارت الأمور مع أمريكا في العراق من سيئ إلى أسوأ، وانهارت طموحاتها المعلنة لإقامة نموذج ديموقراطي يمكن تعميمه في الشرق الأوسط. وتبدو أمريكا الآن وكأنها ستبقى في حرب مفتوحة بالعراق إلى مالا نهاية وسط تصاعد ضغط الطوائف التي نفذ صبرها بالفعل وباتت الحرب الأهلية هي العنوان الوحيد لعراق ما بعد صدام.وكان يمكن تفادي ما حدث لو كانت إدارة بوش قد وضعت سياسة حكيمة في تفادي الفوضى التي عمت العراق بسبب ترك الأمريكيين الحبل على الغارب منذ أول أيام الاحتلال لنهب وتدمير المؤسسات في بغداد ".
هذا كلام سليم لا يمكن ان يعترض عليه أي عراقي حتى وان كان صديقا للولايات المتحدة ومعجبا بسياستها، ولكن هل باستطاعة الولايات المتحدة اليوم ان تعترف باخطائها قبل ان تجد لها المبررات وقبل ان تجد لها العلاجات البدائية وقبل ان تنفرد برأيها؟؟ هل يمكنها ان تمنح العراقيين فرصة تاريخية كي تجعلهم اصحاب وطن واحد بدل اذكاء روح الانقسام وبث المعلومات الكاذبة؟ هل باستطاعة الولايات المتحدة ان تعيد صياغة العملية السياسية بالطريقة التي يمكن ان يقبلها كل العراقيين؟ هل باستطاعتها ان تفتح بينها وبين العراقيين بابا للمحادثات بشأن ما يمكن عمله المشترك من اجل المستقبل؟ لقد بدأت الاخطاء الجسام منذ ساعة سقوط الصنم في ساحة الفردوس التاريخية.. وفي تلك الساعة وفي ذاك المكان بالذات كان صدام حسين برفقة ولديه عدي وقصي وبمعيتهم احد مرافقي عدي يمرون بسيارتهم وفيها العديد من حقائبهم وقد توقفوا قليلا، وما ان شاهد صدام صنمه يطاح به، التفت نحو ولديه قائلا: لقد سقطنا حقيقة، علينا ان نفترق الان كل مع حقائبه، وانت يا (....) ما عليك الا ان تغرب عنّا، يقول هذا المرافق الذي خدمهم بحمل حقائبهم من مكان لآخر: لقد اخذوا كل الحقائب ومضوا بعد ان تركوني من دون أي حقيبة! (حدّثني بذلك احد الاصدقاء الاطباء العراقيين الثقاة نقلا عن الشخص المرافق الذي كان يصطحبونه معهم والذي لا يمكننا ذكر اسمه حفاظا على حياته).

طبيعة الاخطاء القاتلة

 يستطرد غارليبيرث مسجلا مشاعر بعض مسؤولي الرئيس بوش الذين يجد انهم سعداء بهذا المشهد وكأنه جزء من الانتصار، متهمّا إدارة الرئيس الامريكي بارتكاب أخطاء قاتلة في عراق ما بعد صدام وتبني استراتيجيات تؤكد عدم إدراكها لطبيعة العراق وفهمها لهذه البلاد الصعبة متعددة الطوائف والأعراق كما وانهم كانوا وما زالوا من البعد بمكان عن ادراك العوامل التي تحكم العلاقات بين هذه الطوائف العراقية.. واستطيع ان اضيف بأن الامريكيين لم يدركوا البنية المتداخلة للمجتمع العراقي الذي لم يكن في يوم من الايام منفصلا عن بعضه الاخر ولا بمحارب لبعضه الاخر ولا بمستهجن لبعضه الاخر.. ربما كان هناك اختلاف ثقافي لكنه لم تصل درجة الاختلاف الى نفي الاخر وابادته!
  ويبقى المؤلف يسجّل قائلا بأن هذه الأخطاء الامريكية قد حالت دون نجاح عمليات الإعمار أو إقامة أي حكومة مركزية قوية في المستقبل. وهنا ينبغي ان اعّلق قائلا بأنها ليست اخطاء يمكن للادارة الامريكية الاعتراف بها، بقدر ما هي سياسة معينة تنفّذ لتحقيق اهداف معينة.. فاذا اعتبرها العراقيون اخطاء، فلهم الحق في ضياع احلامهم وانهيار بلادهم وكارثة مستقبلهم، ومن اخطاء العراقيين انفسهم انهم صفقوا للاخطاء وكانوا وما زالوا يراهنون على تقسيم العراق من دون ان يحسبوا أي حساب لمصيرهم؟ بعد ان رقصوا للفيدراليات العراقية طويلا! وكم انتقدني الاصدقاء كوني وقفت ضد فيدراليات العراق (باستثناء اقليم كردستان).
 ويقول غارليبيرت: "إن المأزق الذي وضعت إدارة بوش العراق فيه هو دفعها للأمور في طريق يمكن أن يطالب فيه البعض بإقامة ديكتاتورية لاستعادة الأمن والدولة الموحدة". أي بمعنى: ان الولايات المتحدة لا مانع لديها ان تنّصب حكومة مركزية يقف على رأسها دكتاتور جديد ليس لاستعادة الامن والنظام والدولة الموّحدة، بل من اجل ضمان مصالحها الحيوية في الشرق الاوسط والعالم كله!

الحصيلة المؤلمة


يؤكد غارليبيرت مخاوفه من أن يؤدي المنحنى الخطير الذي تتخذه الأحداث الصعبة إلى هذا المسار من نتائج الحرب... قائلا إنه: " منذ غزو العراق حدث ما يلي:
 اولا: سقطت الآف مؤلفة من العراقيين بين قتلى ومذبوحين وجرحى نتيجة انتشار أعمال العنف الدموي في العراق بعد فشل سياسات الاحتلال الأمنية، كما سقطت أعداد كبيرة من الجنود الأمريكيين ما بين قتلى وجرحى أيضاً بسبب هذه السياسات التي لا توفر أي نوع من الأمن، لا للأمريكيين ولا لشركائهم في التحالف ولا للعراقيين المدنيين.
ثانيا: دفعت سياسات بوش في العراق إلى ظهور جماعات إرهابية شرسة، تمكنت منذ اللحظة الأولى من السيطرة على اصقاع مهمة من العراق وانتزاع زمام المبادرة من سلطة الاحتلال وكذلك الحكومة المؤقتة - فيما بعد - برئاسة د. إياد علاوي ومازالت حتى يومنا هذا.وقد ظهر هذا بوضوح عندما اغتال الإرهابيون رئيس بعثة الأمم المتحدة السيد سيرجي دي ميللو ثم اغتالوا بعد ذلك الزعيم الشيعي البارز آية الله محمد باقر الحكيم، ومئات الشخصيات العراقية ناهيك عن مسلسل قطع رؤوس الأجانب والعراقيين معا. والكل يسأل منذ اكثر من ثلاث سنوات: لماذا لم يفرغ العراق من الاسلحة؟ لماذا بقيت الحدود الدولية مفتوحة على مصراعيها؟ لماذا لم تعلن حالات طوارئ. لماذا لم يمنع التجول؟ لماذا لم يحاكم القتلة والمجرمين؟ لماذا تفرض الادارة الامريكية الفيتو على القرار العراقي؟
ثالثا: سماح الأمريكيين بأعمال النهب والسلب والسرقة لكل ممتلكات الدولة ومؤسساتها وانفلات الامور في عموم العراق (ما عدا حماية وزارة النفط العراقية) في بداية دخولهم العراق كلف العراق مليارات الدولارات، كما أدى سماحهم بتدمير المؤسسات العراقية وسرقة موجودات المال العام إلى خسائر فادحة، ويطالب المؤلف قائلا: سيتعين على الأمريكيين إذا ما استمروا في البلاد إعادة البناء وتعويض الخسائر من جيب دافع الضرائب الأمريكي.
رابعا: أنفق الأمريكيون أكثر من 200 مليار دولار في حربهم على العراق على عكس ما حدث في حرب الخليج الأولى عندما عادت عليهم تلك الحرب ببعض المكاسب المالية نتيجة لمساهمات دول أخرى في تكلفة الحرب. واعتقد ان المؤلف لم يقع على ارقام حقيقية في ما انفقته الولايات المتحدة في حربها على العراق، وما الذي استفادت منه ولم تزل؟
خامسا: ومع تصاعد موجات الاعتراض والتمردات والثورة على الاحتلال الأمريكي في الجنوب الشيعي أو المثلث السني، حاولت واشنطن تشكيل وحدات أجهزة أمنية من العراقيين كدرع واق يتلقى الضربات الموجعة بدلاً من جنودها، إلا أن الأمر لم ولن ينجح ابدا، وما حدث حقيقة هو انضمام أعداد كبيرة من الشرطة العراقية التي جهزتها أمريكا إلى الجماعات المسلحة والميليشيات التي تقاوم الاحتلال أو إلى الجماعات المتوحشة التي تمارس الإرهاب.
سادسا: انفراط عقد التحالف الدولي، اذ لم تستطع إدارة بوش الاحتفاظ بحلفائها في حربها على العراق في السنوات الثلاث المنصرمة، اذ جاءت الانتخابات الإسبانية ـ مثلا ـ وذهب أزنار رئيس الوزراء الحليف وجاء زاباتيرو رئيس الوزراء وهو المعروف بنقمته على الحرب، فقام بسحب قواته. والآن هناك خطط لمعظم حكومات القوات المشاركة في التحالف الدولي للانسحاب من العراق.

ما الذي تعرفه عن تاريخ العراق العثماني؟


 هل صحيح كما يذكر مؤلفنا ان ادارة بوش تائهة؟ انني اعتقد بأنها ليست تائهة اذ لم تزل ثمة اوراق تتلاعب بها اذا ما عرفنا ما الذي اعدت له وما الذي تخطط للوصول اليه! يقول غاليبيرث "إن الصورة الآن تؤكد أن الولايات المتحدة وإدارة بوش على وجه التحديد لا تعرف ما تفعله في العراق، وكذلك لا تعرف ما ستفعله فيما بعد، وتبدو عاجزة لا حيلة لها في مواجهة الأوضاع هناك". انني اخالف غاليبيرث في هذه الرؤية، اذ ان لدى الامريكيين سيناريوهات اخرى يمكن عرضها خصوصا وان العراق قد وصل الى درجة اللاعودة ـ كما يتصّور الامريكيون ومنهم مؤلفنا ـ الذي بقي يسجل قائلا: "هناك حكمة قديمة تقول إن تقسيم العراق لن يزيده إلا جراحاً بل وسيؤدي إلى المزيد من عدم استقراره، الأمر الذي يجب تفاديه مهما كلف الأمر، غير أن مراجعة سريعة لتاريخ العراق تؤكد أن العراق كان في الأصل بلداً مقسماً إلى ثلاث ولايات وظل كذلك حتى العهد العثماني قبل أن توحده بريطانيا وتنصب عليه ملكاً في أواخر الحرب العالمية الأولى فالأمر إذن لصالح العراق وليس لعدم استقراره". ان غاليبيرث لم يدرك مغزى الحكمة القديمة التي تدولها العراقيون منذ الاف السنين.. وانه لم يفهم ابدا تاريخ العراق الحديث الذي لا تفيده ابدا مراجعة سريعة ـ كما يريد ـ، بل ان التعمّق بذلك التاريخ يوصلنا الى ان العراق لم يكن في الاصل بلدا مقسما لا من الناحية الاجتماعية ولا الجغرافية ولا حتى السياسية اذ كان مكوّنا من ثلاث ولايات كبرى تتصّل احداها بالاخرى استراتيجيا وتقف احداها في الذود عن مصالح الاخرى.. فضلا عن القوة الحيوية الاقتصادية والتجارية بروابط عبر مسالك برية ونهرية لم تنقطع ابدا.. بل وان تكوين العراق الاداري قد ولد من خلال نظام الشرق الذي اسّسه السلطان سليمان القانوني 1520- 1566 وبقائه في العراق لمدة تقترب من ستة اشهر! لقد نجحت بريطانيا في تأسيس دولة لا في توحيد بلاد عرفت نفسها موحدة منذ ازمان قديمة.. وعليه، فان نظرية غاليبيرث ومن ينحو نحوه في تقسيم العراق هي كارثة للعراق وليس لصالح العراق وستثبت الايام ما اقول!

السياسة الطائفية ام الوحدة الوطنية؟

  ويسجّل غاليبيرث قائلا: "إن أمريكا قد كسبت الحرب في التاسع من أبريل / نيسان عام 2003، ولكنها قد خسرتها في نفس اليوم. حيث غزت الطائفية وهي تتحدث عن عراق موحد.وقد كان من الممكن تفادى ما وصلت إليه الأمور لولا أن القصة من قبل الغزو كانت غير محبوكة". و يستطرد المؤلف قائلا: " أن إدارة بوش فشلت في جمع جميع أطياف الشعب العراقي على أي شيء واحد وأن أزمة وضع الدستور العراقي الجديد كانت خير دليل على ذلك. وأن الإستراتيجية الأمريكية التي ترتكز على إقامة حكومة مركزية قوية لم تحقق أي نجاح حتى الآن إلا على الورق فقط". وهنا علّي القول بأن امريكا كانت ولم تزل كاسبة الحرب، اذ علينا ان نفرّق بين تلاقي الاسباب للحرب بين الامريكيين والعراقيين، ولكن كلا من الطرفين قد افترقا في الاسلوب والاداة. وبالرغم من تأييد واضح من قبل عراقيين للسياسة الامريكية في العراق، الا ان خذلان امريكا للعراقيين في كل كبيرة وصغيرة، جعلهم لا يعرفون كيف يحكمون ولا يتحاورون ولا يفكرون.. ربما يقول البعض مدافعا: ان العراق لولا الامريكان لتمزق اربا اربا منذ زمن طويل! وهنا لابد ان نرد بالقول: ان الامريكان لو احكموا السيطرة من قبل مؤسسات العراق واغلقوا الحدود واستشاروا رجالات العراق وخبرائه لما حدث ما حدث!

ايها العراقيون: هل تمزّق العراق فعلا؟


ويقول غاليبيرث في مكان آخر: "إن الولايات المتحدة يجب أن تركز الآن ليس على استعادة العراق الموحد الذي دمره سياسيو بوش غير المتمرسين والحمقى ولا على فبركة وحدة مزيفة وكاذبة لهذا البلد ولكن تركز على منع انتشار الحرب الأهلية المدمرة والمميتة. ويتعين عليها قبول الحقيقة الماثلة الآن للأعين، وهي أن العراق تمزق، وأن تعمل مع الشيعة والعرب السنة والأكراد لتعزيز المناطق شبه المستقلة أصلاً. وإذا تم استقلال هذه المناطق فإنه سيكون عليها هي توفير الأمن لسكانها الذين ينتمون لعرق أو طائفة واحدة ". هنا، لا استطيع ان اقف مع غاليبيرث في دعوته الحالمة، فالهدم شيئ والبناء شيئ آخر.. واذا كان الامريكيون من وراء هدم العراق، فان العراق لا يمكن ان يعيده ويبنيه الا العراقيين! ان الاقرار " بأن العراق قد تمّزق.. "، فهذا اعلان عن وفاة لم تحصل بعد يا غاليبيرث.. فكيف تدعو الى اصدار شهادات ميلاد لكيانات غير مؤهلة ان تتنفس في منطقة قلب الشرق الاوسط المغلقة؟ وكيف لها ان تتنفس وكل من ايران وتركيا بالمرصاد في ان تقّطع اوصال العراق؟ اذا كان اقليم كردستان قد عاش اشبه بمنفصل منذ العام 1991، لكنه مع كل ما حدث لم ينفصل عن العراق والظروف كانت ولم تزل مؤاتية في داخل العراق، فكيف يمكنك اعتبار مناطق اخرى بشبه مستقلة او منفصلة وتريد من الولايات المتحدة بفصلها عن العراق الام؟ كيف يمكن لمناطق حيوية ومهمة ومعتمدة على المركز ان تعتمد على نفسها في حماية نفسها بعد الانفصال؟ وهل يمكن ان ينفصل اقليم عن العراق لسبب طائفي ويلقى مباركة من مؤلف وخبير دبلوماسي امريكي؟

العراق ليس يوغسلافيا جديدة!!

ويمضي غاليبيرث قائلاً: " ان أكراد العراق لا يقلون عن الفلسطينيين أو الليتوانيين أو الكروات من حيث استحقاقهم للاستقلال، وإذا كان من الشيعة الذين يشكلون الأغلبية من يريدون إدارة شؤونهم بأنفسهم أو حتى إقامة دولتهم فعلى أي أساس يمكن أن ننكر عليهم هذا الحق؟ العراق يوغسلافيا جديدة... ". اننا نعترف كعراقيين بحقوق الاكراد العراقيين في نيل استحقاقهم وتقرير مصيرهم.. ولكن الحقيقة ان العراق حاضنتهم الجغرافية والاستراتيجية. انني اعتقد اعتقادا جازما ان اقليم كردستان لو كان يقع في مكان اخر من العالم لاستقل منذ ازمان، ولكن قدره قد وضعه بين فكي كماشة تركيا وايران. وعليه، فليس من الذكاء الانفصال عن العمق الاستراتيجي والتاريخي لكي ترجع انسحاقاته كرة اخرى كتلك التي كان يعاني منها عبر مئات السنين (واتمنى على الساسة والكتّاب الامريكيين المنظرين الجدد وعلى اخوتي الاكراد انفسهم قراءة كتاب شرفنامه وكتاب تاج التواريخ ـ مثلا ـ ليدركوا قيمة ما اقول). ان من اسوأ الامور ان يأتي كتّاب وساسة امريكان وغير امريكان ليكتبوا وينظروا في واقع هم بعيدون عنه كل البعد وخصوصا واقع كالعراق فيه من التعقيدات والمشكلات والمخاطر ما لا يمكن تخّيله..
  ان التبشير باقامة دولة شيعية في العراق لا غبار عليه اذا كانت هناك ثمة ارادة وطنية، ولكنني اعتقد ان العراقيين انفسهم حتى وان اعتقدوا بهذا النهج الذي بدأ يطرحه الكتاب الامريكيون، فهم الذين سيخسرون، فالحرب ستستعر ليس سياسيا، بل اجتماعيا وثقافيا، اذ لا يعلم المرء حجم المصاهرات والتمازجات بين الطيفين العراقيين.. وان الانفصال وحق تقرير المصير على اساس طائفي سوف لا يحل المشكلات، بل سيزيدها سعارا! والسؤال الاخطر: ما مصير كانتونات العراق الطائفية في منطقة اقليمية تعج بالطوائف والملل والنحل الاجتماعية؟
ويستطرد غاليبيرث الذي خصص جزءاً كبيراً للمقارنة بين يوغوسلافيا السابقة والعراق قائلا: "لا يمكن اعتبار العراق الآن - كما كان الحال عليه في يوغوسلافيا - دولة موحدة تتفق مكوناتها على مصالح عليا وطنية وإنما مقسمة وكل طائفة فيها لها ولاء خارجي مع دولة ما، ولا تجتمع هذه المكونات السكانية، أو هذه الجماعات الطائفية على شيء، كما أنها ليست مستعدة للتعايش معاً تحت علم واحد". ومرة اخرى، يرى هذا الكاتب والسياسي العراق بمنظار يوغسلافيا السابقة، فالمكونات اليوغسلافية هي غير المكونات العراقية، وموقع يوغسلافيا هو غير موقع العراق، وانبثاق ما سمي بيوغسلافيا هو غير تكوين العراق، وولاءات سكان يوغسلافيا الذين وحدتّهم الارادة الايديولوجية هي غير ولاءات سكان العراق الذين وحدتّهم الارادة الوطنية.. ولنا ان نقارن بين الثقافة العراقية بالوانها المتنوعة وبين الثقافات اليوغسلافية بمضامينها المختلفة.. لقد كان من السهولة والميوعة التاريخية ان تتجزأ يوغسلافيا بسرعة وتتلاءم شعوبها بمحددات وحدود وفي اقليم هدأت اوضاعه في شهور، ولكن من الصعوبة والصلابة التاريخية ان يتجزأ العراق الا بعد بحار من الدم والعبث بالمجتمع في مدنه وحواضره بين عشائره وقبائله لتقوم بينه وبين نفسه حدود دولية وفي اقليم يعج بالتناقضات والمخاوف والتوحش والاطماع!! ناهيكم عن ان يوغسلافيا لم تكن دولة غنية مليئة بالثروات حتى يطمع هذا وذاك باجزائها او بفيدرالياتها؟ واخيرا أسأل كل العراقيين: هل دفع اليوغسلاف من حياتهم ودمائهم ما دفعتم انتم لعشرات السنين من دمائكم في سبيل وطن اسمه العراق؟

ما الذي يقترحه غاليبيرث على الرئيس بوش؟

بعد ان يتساءل المؤلف عن عدم جدوى غزو العراق متهما بوش ومعاونيه انهم لم يحسنوا فهم دروس التاريخ ويتحدث عن الخطط الامريكية لغزو العراق ودور رامسفيلد وتباينات وجهات النظر، وهي بطبيعة الحال لا تعنينا في أي شيئ، يكتب غاليبيرث قائلا: " أن إدارة بوش ذهبت للحرب في العراق وهي مدفوعة برغبة محمومة في احتلاله من دون أن يكون لديها أي خطة أو مشروع مستقبلي لعراق ما بعد الحرب ". وينصح غاليبرث بوش بعد أن اتهمه بإساءة قراءة تاريخ العراق الحديث بسحب القوات الأمريكية والمستشارين الأمريكيين من العراق لأنه لو حاول فرض الوحدة ستندلع حروب طاحنة وستتشكل حكومات مستقلة عن الدولة الأم ويتم القتال للسيطرة على منابع النفط وعوائده. لقد فشلت أمريكا في بناء عراق موحد وديموقراطي.ويوضح غاليبيرث أن التقسيم مأساة يجب الإقرار بها. كما يجب الإقرار بأنه ليس في الإمكان ما يمكن فعله لإيقافه، وما من أمل يرجى كذلك من استمرار الوجود الأمريكي في حرب مفتوحة بلا نهاية في العراق.

وأخيرا: دعوني اقول كلمتي

هنا اتساءل كمواطن عراقي بعيد عن وطنه منذ سنوات طوال وقد قرأ تاريخ العراق بكل تواضع وهدوء وينظر الى اطياف مجتمعه ومكوناته الجميلة كلها بكل حيادية وفخر واعتزاز: هل هذا هو الثمن الذي يمكننا دفعه كعراقيين بعد كل هذا الطوفان؟ وسواء كانت للرئيس بوش خطط لما بعد الحرب ام لم تكن، فهل هناك اثمن من العراق في ان يبقى بديلا عن التفتت.. انني واثق تمام الثقة بأن هناك من العراقيين من بات يؤمن بالانفصال والتجزؤ والانقسام.. بل ويتجرأ البعض في ان يعلن ذلك بكل صراحة وشجاعة.. بل وان بعض المثقفين الطائفيين المتعصبين من كل الطرفين السنة والشيعة بات لا تهمه الارض والتراب بقدر ما تهمه مصلحة طائفته.. واعود لاستفسر: هل كان هذا هو الهدف من اسقاط نظام صدام حسين؟ هل كان هذا هو استحقاق العراقيين من حرب شعواء خسروا فيها مؤسساتهم وكل احلامهم وامانيهم؟ هل هذا هو ثمن انهار الدماء العراقية الزكية التي ازهقت في الحروب والانتفاضات والانقلابات والسجون والمعتقلات والمق

204
[l[bالعراق ليس يوغسلافيا جديدة !!
د. سّيار الجميل

     تزداد يوما بعد آخر منشورات امريكية سياسية استراتيجية متنوعة تتناول حياة العراق ومصيره .. لقد تحّول العراق من هدف اسقاط النظام السابق فيه عام 2003 الى تسويق الديمقراطية في 2004 الى الترويج للفيدرالية في 2005 .. واليوم يجري تشريع موضوع التقسيم للعام 2006 ، كما يعلمنا رصدنا لاغلب ما ينشر عن العراق في الولايات المتحدة والتي نجحت في اربع سنوات من فرض اجندتها دون ان تعلن البتة عن اهدافها الحقيقية في العراق ، ولكن يبدو واضحا انها انتصرت لنفسها في جعله  بؤرة انقسامات متعفنة .. وانها وجدت فيه ملاذا من اجل تغيير المنطقة بعد ترويج بضاعتها ليس بالحروب المأساوية ، بل من خلال صناعة الفوضى الداخلية .. والمشكلة اننا قد انشغلنا بما يحدث في دواخلنا من مآس ومتاعب وصراعات بدل ان نعالج قواعد اللعبة التي اجد اماكنها في الخارج دوما منذ زمن مؤتمر فرساي عام 1919 م وحتى اليوم !
     لقد بقي العالم منشغلا بالعراق ومصاعبه طوال الاعوام الثلاثة الماضية ، وهو يسير من سيئ الى أسوأ في ظل الفوضى والعبثية التي يعرف العالم كله من خلقها وساهم في اذكاء مبرراتها .. ونحن نعلم بأن المصالح الدولية تبنى على انسحاقات الاخرين ، فمهما ازدادت شراسة الحرب في العراق ، كلما نشهد التمزقات الداخلية تعصف به وتهدد مصيره الذي يستشرفه المحللون الامريكيون قبل وقوعه .. واخذوا اليوم يبشرون بشهادات ميلاد ثلاث دويلات كانتونية ( عراقية ) ، ستجعل من العراق مستقبلا ان يصبح لقما سائغة بافواه دولتين في المحيط لهما تاريخ عاصف مع العراق منذ مئات السنين !
    هل يصدّق المرء ان العراق بتاريخه العريق وتكويناته الحضارية وتنوعاته الاجتماعية والثقافية يألو مصيره الى هذا المآل ؟ هل يصدّق العالم ان شعبا ضحى بالغالي والنفيس من دم ابنائه واغلى ثرواته لأجل وطنه وترابه وامته يتمزق بالشكل الذي هو عليه اليوم ؟ هل يمكن لأحدنا ان يصّدق ان مصير العراق يصبح حكرا على كتّاب مارقين ومحللّين جهلة لا يهمهم الا مصالحهم بعيدا عن المنطق ؟ هل نصّدق ان العراقيين الذين كانوا يحلمون بالحرية والديمقراطية والابداع كمشروع حضاري مؤثّر في العالم يغدو مصيرهم كالذي نراه اليوم ؟ هل نصّدق ان شعبا عانى طويلا من تمردات وانتفاضات وانقلابات وازمات وحصارات وحروب  لخمسين سنة مضت .. لم يزل يعاني من حرب عاصفة صحراء لا نهاية لها ؟ هل نصدّق ان امتدادا عضويا لتراب ما بين النهرين دجلة والفرات .. ينادى اليوم بتقسيمه على اساس طائفي مقيت ؟ وهل يصدّق دعاة التقسيم من امريكيين وعراقيين ان التقسيم هو الحل الجذري لمصائب العراق ؟ انهم لا يعلمون بأن الحرب الاهلية ستبدأ من حيث انقسام العراق لا العكس !
 كتب بيتر غاليبيرث في كتابه الجديد ( نهاية العراق ) الذي صدر قبل ايام قائلاً : " العراق يوغسلافيا جديدة ، وينبغي ان يّتم تقسيمه كما تمّ ذلك في يوغسلافيا وان تصبح هناك ثلاث دويلات كردية في الشمال موالية لامريكا وشيعية في الجنوب موالية لايران وسنية عربية في الوسط تعمّها الفوضى ... " .. ان من اسوأ  الامور ان يأتي كتّاب وساسة امريكان وغير امريكان ليكتبوا وينظروا في واقع هم بعيدون عنه كل البعد وخصوصا واقع كالعراق المزدحم بالتعقيدات والمشكلات والمخاطر ما لا يمكن تخّيله ..
     ان التبشير بتأسيس هكذا دويلات سوف لا يقبلها المنطق ولا الجغرافية حتى وان قبلها العراقيون من دون ارادتهم الوطنية . واعتقد ان العراقيين انفسهم حتى وان اعتقدوا بهذا النهج الذي بدأ يطرحه الكتاب الامريكيون ، فهم الذين سيخسرون ، فالحرب ستستعر ليس سياسيا ، بل اجتماعيا وثقافيا ، اذ لا يعلم المرء حجم المصاهرات والتمازجات بين كافة الاطياف العراقية .. وان الانفصال وحق تقرير المصير على اساس طائفي سوف لا يحل المشكلات ، بل سيزيدها سعارا ! والسؤال الاخطر : ما مصير كانتونات العراق الطائفية في منطقة اقليمية كالشرق الاوسط تعج بالطوائف والملل والنحل الاجتماعية ؟
ويستطرد غاليبيرث مقارنا بين يوغوسلافيا السابقة والعراق قائلا : "لا يمكن اعتبار العراق الآن - كما كان الحال عليه في يوغوسلافيا - دولة موحدة تتفق مكوناتها على مصالح عليا وطنية وإنما مقسمة وكل طائفة فيها لها ولاء خارجي مع دولة ما، ولا تجتمع هذه المكونات السكانية، أو هذه الجماعات الطائفية على شيء، كما أنها ليست مستعدة للتعايش معاً تحت علم واحد". ومرة اخرى أجيبه بغشاوة الرؤية في النظر للعراق بمنظار يوغسلافي سابق ، فالمكونات اليوغسلافية هي غير المكونات العراقية ، وموقع يوغسلافيا هو غير موقع العراق ، وانبثاق ما سمي بيوغسلافيا الجديدة هو غير تكوين العراق القديم ، وولاءات سكان يوغسلافيا الذين وحدتّهم الارادة الايديولوجية هي غير ولاءات سكان العراق الذين وحدتّهم الارادة الوطنية .. ولنا ان نقارن بين الثقافة العراقية بالوانها المتنوعة وبين الثقافات اليوغسلافية بمضامينها المختلفة .. لقد كان من الميوعة التاريخية ان تتجزأ يوغسلافيا بسرعة وتتلاءم شعوبها بمحددات وحدود وفي اقليم هدأت اوضاعه في شهور ، ولكن من الصعوبة التاريخية ان يتجزأ العراق الا بعد بحار من الدم والعبث بالمجتمع في مدنه وحواضره بين عشائره وقبائله لتقوم بينه وبين نفسه حدود دولية وفي اقليم يعج بالتناقضات والمخاوف والتوحش والاطماع !! ناهيكم عن ان يوغسلافيا لم تكن دولة غنية مليئة بالثروات حتى يطمع هذا وذاك باجزائها او بفيدرالياتها ؟ واخيرا أسأل كل العراقيين : هل دفع اليوغسلاف من حياتهم ودمائهم ما دفعتم انتم لعشرات السنين من دمائكم  في سبيل وطن اسمه العراق ؟
البيان
16/8/2006[/b][/size][/font]

205
رحيل جرجيس فتح الله المحامي
مثقف موصلي وسياسي عراقي  متنوع الانتماءات

تشظيات الرعب من المقصلة العراقية  !

      د. سّيار الجميل

المقدمة: العراق يفارقه المبدعون
        دعوني احدثكم اليوم عن شخصية عراقية معروفة ، ولكن لها  امكانات من نوع نادر غادرنا قبل ايام بكل هدوء وهو يلتحق بقافلة من المثقفين العراقيين الحقيقيين الراحلين الذين سبقوه نحو اللا عودة .. لقد رحل جرجيس فتح الله عصر يوم الأحد المصادف 23 تموز2006 اثر نوبة قلبية ، وقد جرت في توديعه مراسيم لائقة بكنيسة عين كاوة ووري جثمانه الثرى بمقبرتها . عين كاوة : هذه البلدة الكلدانية الجميلة الواقعة على سفح جبل في الطريق بين المدينتين الجارتين الخالدتين : الموصل واربيل . لقد جمع الراحل في وصفته كل الانتماءات العراقية فهو عراقي مسيحي كلداني كاثوليكي تقدمي يساري شيوعي يؤمن بالحركة الانسانية ومثقف بشكل رصين بالعربية ومنتم بشكل قوي للاكراد وللقضية الكردية ومدافع عن الحركة الآثورية .. الخ
     في نهاية كل شهر من الشهور الثلاثة المنصرمة افتقدنا على التوالي : الشاعر كمال سبتي في نهاية مايس / آيار ، والفنان عوني كروّمي في نهاية حزيران / يونيو  ، وكل من الاديب جليل القيسي والمحامي جرجيس فتح الله في نهاية تموز / يوليو . وستبقى عجلة الموت تلف في دورتها ما تبّقى من مبدعين ومثقفين عراقيين لا يمكن للعراق ان يعوّضهم  أبدا ، او أن يأتي بمثلهم لخمسين او اكثر من السنين .. مبدعون عاشوا زهرة حياتهم في النصف الثاني من القرن العشرين وعانوا كثيرا من قسوة النظم السياسية ومن تناقضات الحياة الاجتماعية العراقية التي وصفتها احدى الصديقات المثقفات العراقيات وهي  تعيش اليوم في قلب بغداد قائلة : من سوء قدرنا اننا عشنا طويلا حياتنا جنبا الى جنب اناس ما كنا ندري اننا نتعامل مع وحوش ضارية لا يمكن ان نجد شبيها لها في هذا الوجود !

جرجيس فتح الله .. من يكون ؟؟
   دعوني اكتب اليوم ذكرى شاهد الرؤية عن الاستاذ جرجيس فتح الله المحامي الذي رحل عّنا قبل ايام رحلة ابدية بعد ان عاش حياته المتنوعة محاميا قديرا وسياسيا مناضلا ومثقفا حقيقيا .. لقد جمع المهنة والسياسة والثقافة في آن واحد ، وهذا ما لم يتمتّع به غيره من السياسيين العراقيين الا النادر من الرجال .. كان لا يهّمه لما وراء الواقع ، اذ كان يؤمن من خلال تفكيره الماركسي بالواقع .  وعليه ، فقد كان ملتصقا بهموم شعبه وتطلعاته التقدمية ومواقفه الوطنية  .. وسواء اتفقنا ام اختلفنا معه سياسيا وايديولوجيا ، فان اسم جرجيس فتح الله سيبقى رمزا لتاريخ من المتاعب والالام والهجرة والاغتراب والعودة مع استبدال هوية ..
      سواء تذكّره العراقيون ام تجاهلوه ، فان اسمه سيبقى ضوءا  كاشفا  فرش ارض الثقافة العربية بالاضواء الساطعة من خلال كتاباته ومقالات صحافته وترجماته وتحقيقاته ومؤلفاته بالعربية .. واعتقد ان ليس هناك حصرا معينا لكتبه ومؤلفاته وترجماته ومقالاته وكل ما تركه من موروث زاخر لا يعد ولا يحصى .. انني أتألم ان أرى مثقفا بحجم جرجيس فتح الله  لا يلتفت اليه ابناء العراق  لا في حياته ولا حتى في مماته .. ليمضي راحلا رحلة ابدية ليرى فيه بعض الناس فقيدا حقيقيا للثقافة العراقية الحديثة ، في حين يعتبره آخرون فقيدا لاقليم كردستان وحده .. ويتنّكر له آخرون .. فمن يعرف هذا الرجل معرفة حقيقية ويقرنه بغيره من المثقفين العاديين او الساذجين سيجد كم فقدت الثقافة العراقية برحيله الكثير .. هو ومن سيرحل معه من المتمّيزين الذين اعتقد جازما ان من الصعب على العراق ان ينجب امثالهم لخمسين سنة قادمة .

ابن الموصل .. ابن ام الربيعين
     جرجيس فتح الله من جيل موصلي متمدن رصين تمّيز في كل من تربيته  وتكوينه في فترة ما بين الحربين العظميين  .. ليبدأ نشاطه الحقيقي بعد الحرب العالمية الثانية وهو ابن حقيقي للموصل المدينة التي تمّيزت منذ القدم بعراقة مدارسها وقوة ثقافتها .. انه ابن سكانها المسيحيين الكلدانيين القدماء ، يقال انه ولد في العام 1922 ( وربما في العام 1920 ) في مدينة الموصل ، درس في بداية امره بمدرسة الكنيسة الكلدانية للكاثوليك  ثم أكمل دراستيه الابتدائية والثانوية فيها .. ونجح في تثقيف نفسه رفقة ابناء جيل رائع يعشق الكلمة والحرية والقراءة .. جيل كان يبحر في المكتبة العامة المركزية قرب ميدان المتصرفية وقرب حديقة الشهداء .. يبحر في كل الاتجاهات الفكرية والسياسية وخصوصا في ثلاثينيات القرن العشرين ، وهو العقد الزمني الذي عجّ العراق بكل التجديدات والتيارات ، وكما قلت في كتابات اخرى ان الثلاثينيات العراقية قد افرزت اتجاهين حملا التضاد لبعضهما الاخر : اتجاه وطني عراقي واتجاه قومي عربي .
     ولما كانت كلية الحقوق العراقية تعد في ذلك الوقت من اهم كليات العراق ، فكان ان انخرط فقيدنا فيها في العام 1939 وقد تخّرج بعد اربع سنوات ليزاول مهنة المحاماة في الموصل فكان زميلا لوالدي ـ رحمه الله ـ وصديقا له اذ كانت ثمة مجموعة من المثقفين الموصليين في الاربعينيات تجمعهم اواصر المهنة والثقافة بعيدا عن أي دين او مذهب او طائفة او سياسة .. ضمّت المجموعة : مجيب سليم حسون وكوكب علي الجميل وسالم جلميران وسالم الديوه جي وجرجيس فتح الله وجرجيس سرسم وعبد الله الشبخون وعبد القادر العبيدي وفيصل الحافظ  ومحمد طاهر النقشبندي والبير قسطو وغيرهم .

الماركسي .. الموصلي

      لابد ان ندرك بأن الموصل شهدت اثر الحرب العالمية الاولى ولادة اولى الافكار التجديدية والنهضوية على ايدي مثقفين ومبدعين وادباء نهضويين تميزوا بافكارهم الحرة واستنارتهم المضيئة .. نذكر منهم : الصحافي داود صليوا  والدكتور داود الجلبي  والدكتور فاروق الدملوجي والمصلح علي الجميل وخير الدين العمري وسليم حسون وتوفيق السمعاني وعبد الله فائق المحامي وثابت عبد النور والمؤرخ صديق الدملوجي والدكتور استراجيان والدكتور جميل دلالي والقس سليمان صائغ وروفائيل بطي وغيرهم  مما اتاح ولادة بيئة ثقافية احتضنت تيارات وتبلورت تجديدات .. وعليه ، بقدر ما وجدت الافكار الماركسية نفسها في مدينة الموصل منذ زمن بعيد  بتأثير ولادة نخبة مثقفة تجديدية بعيد الحرب العالمية الاولى  والتأثر مباشرة بثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 ، فقد كان هناك تيار المحافظين يشتد ويقوى حتى ولد الصراع بين القوميين والشيوعيين ليصل الى حالة الاحتقان التاريخي مما مهّد لكي يصطدم كل من التيارين ببعضهما في حركة الشواف عام 1959 ، فحدث ما حدث .
     لقد بدا  جرجيس فتح الله  مهموما بالعراق منذ ان بدأ  يتبلور وعيه الاول .. وقد شغل تفكيره اليسار السياسي منذ مطلع شبابه وقد صقله بالقراءات التي لا تحصى عن الماركسية وقد تأّثر لأول مرة بافكار من سبقه من المثقفين الموصليين اليساريين الاوائل امثال : يحي قاف وذو النون أيوب وكامل قزانجي المحامي وغيرهم .. لقد انخرط الرجل في العمل السياسي في نفس الوقت الذي كان فيه يكتب ويترجم ، اذ يقال انه لم يضّيع من وقته أي دقيقة من دون ان يستثمرها في امر ما .. انضّم في خمسينيات القرن الماضي الى حزب الشعب اولا الذي كان بقيادة الاستاذ عزيز شريف .. وكان فتح الله معجبا جدا بأفكار هذا السياسي البغدادي الشهير الذي بنى صداقة قوية معه .

انشطته السياسية الموصلية والتحول الى الثورة البارتية
     وفي الموصل ، كان ينشر مقالاته في العديد من الصحف والمجلات التي زخرت بها مدينة الموصل والتي كانت تعج بتيارات سياسية متنوعة وخصوصا التيار الوطني الليبرالي والتيار القومي العروبي والتيار اليساري الماركسي .. وثمة تيار اسلامي يعّبر عنه مجموعة من الاسلاميين .. ترأس جرجيس فتح الله تحرير صحيفة (الروافد ) وكتب افتتاحياتها ، ثم أصدر جريدة (الرائد ) وكتب ادبياتها السياسية . لقد تعّرض للمساءلات العديدة حول مواقفه السياسية وكتاباته الراديكالية ابان العهد الملكي ، ولكن من دون أي أذية .. ويبدو ان الرجل قد اختار الحزب البارتي (= الحزب الديمقراطي الكردستاني ) ليعّبر من خلاله عن افكاره ومواقفه بعيدا عن افتراقات الحزب الشيوعي العراقي .. ويبدو انه وجد حقيقته في التعبير السياسي لدى ثورة الاكراد من اجل حقوقهم القومية مجالا له كي يعارض الانظمة السياسية التي حكمت العراق منذ العام 1958.
      لقد اصدر بعد  ثورة 14 تموز / يوليو 1958  جريدة (الحقيقة – راستي ) باللغتين الكردية والعربية ليشرف هو بنفسه على قسمها العربي ، واشرف على القسم الكردي المثقف الكردي الراحل انورمائي ، ولقد عرفت ( الحقيقة ـ راستي ) بدفاعاتها عن القضية الكردية في العراق ومطالب الاكراد القومية والتعريف بكل كردستان العراق ، وهذا ما عارضته الحكومات السابقة بدءا بحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم  الذي اعتبر الوحدة الوطنية ركيزة مقدسة للجمهورية العراقية التي اسسّها عام  1958 . لقد تعّرض الرجل لمضايقات عدة وتوقيفات عدة واحيل الى المحاكم العرفية ومحاكم أمن الدولة لمرات عدة .
     اعتقل بعد انقلاب 8 شباط / فبراير عام 1963 من قبل البعثيين وحكم عليه بالأعدام ، ولكن لم ينّفذ به الحكم ، وبقي طوال خمس سنوات ينتظر تنفيذ الحكم الذي تأجل ـ كما يقال ـ  بسبب اصرار القيادة الكردية على الأفراج عنه ، اذ افرج عنه في العام  1968 ، ومنذ تلك اللحظة التاريخية كان تفكيره وموقفه واهتمامه ومصيره قد وضعه مع الاكراد الذين وقفوا معه وقفة مشّرفة ، فبدأ العمل في صحيفة التآخي ببغداد ، ويبدو ان سنوات السجن وانتظار المشنقة لم تكن مثبطة لعزيمته ولا مؤثرة في نفسه اذ كان يتواصل مع الثقافة .. ترجم كتابين مهمين هما (مهد البشرية) و(رحلة الى رجال شجعان ) معّززا مكانته عند الاكراد العراقيين الذين وجدوا فيه عراقيا مخلصا لهم يساندهم في حمل مشعل قضيتهم القومية لا مطالبهم السياسية فقط . ونقف على كتاب آخر عنوانه " زيارة للماضي القريب " يوّثق فيه الحركة الكردية ..

ظاهرة مثيرة للتساؤلات   
     ان استقالة جرجيس فتح الله من حزب الشعب وانضمامه الى الحزب الديمقراطي الكردستاني ( = البارتي ) يعد ظاهرة محّرمة في عرف العراقيين وقت ذاك ، فالسياسات العراقية حتى وهي تتعامل مع البارتيين تعتبر ولاءهم للعراق ضعيفا من دون ان تجد في الاخرين مثيلا ! وهكذا ، بقي جرجيس فتح الله وفيا للحركة الكردية ولزعيمها الملا مصطفى البارزاني  على مستويين اثنين : المستوى الثقافي ويتمّثل بما قدّمه  من نتاجات مترجمة او تأليفه للكتب التي تعنى بالقضية الكردية واشرافه على العديد من البرامج الثقافية وتدريسه لمواد في معهد الكوادر .ويتمّثل المستوى السياسي بما قدمه من جهد في مؤسسات الحزب البارتي  ومطبوعاته واشرافه على العديد من البرامج الثقافية وتدريسه لمواد في معهد الكوادر.
     لقد شارك جرجيس فتح الله في المؤتمر الثامن للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي عقد عام 1970 واصبح عضو احتياط في اللجنة المركزية للحزب   . وانهمك الرجل  سنة1974 في اعداد مشروع الحكم الذاتي والفيدرالية لتقديمه الى الحكومة المركزية ، الا ان المشروع لم ير النور بسبب اندلاع الصراع مجددا. وبعد الانتكاسة المريرة في العام 1975 اثر توقيع صدام حسين معاهدة الجزائر مع شاه ايران محمد رضا بهلوي ، غادر فتح الله العراق متوجها  الى ايران ، ومن ثم وصل الى السويد وبقي فيها ردحا من السنين ، تنّقل في بلدان اوربية عدة لحين عودته الى كردستان العراق  في العام 2000 ليواصل نشاطه الثقافي والأدبي فاصدرعدة كتب اتحف بها المكتبة العراقية والعربية.  لقد كنت اسمع عن جرجيس فتح الله من البعض وهم يستغربون تحّوله الى مناضل يعّبر عن الاماني القومية للاكراد .. فلا استغرب ابدا ، اذ ان من ورائها جملة من التأثيرات البيئية والجغرافية فضلا عن ردود الفعل التي عاناها الرجل من قسوة النظم الانقلابية العراقية جعله ينتمي الى من منحه الامان ، بل وخلّصه من حبل المشنقة !

بعض آثاره من مؤلفاته وترجماته :
      واذا كان البعض ينكر على جرجيس فتح الله مواقفه السياسية ، فلا اجد مبررا ابدا نكران جهوده الثقافية الواضحة والمهمة ، اذ كان لنتاجه الثقافي الغزير دوره في رفد الثقافة العربية بكل جديد .. ومن مؤلفات وترجمات جرجيس فتح الله اسجل ما كنت قد اطلعت عليه او قرأته او اقتنيته ، فمؤلفاته لا تعد ولا تحصى من بين ابرز مترجماته كتاب تاريخ الموسيقي العربية حتى القرن الثالث عشر تأليف المستشرق جورج فارمر وكتاب تراث الاسلام ( بمجلدين )  للمستشرق الشهير توماس ارنولد ، وكتاب كرد وترك وعرب  لمؤلفه سي. جي. ادموندز  وكتاب الحياة في شرق كردستان لمؤلفه وليام  أي . ويكرام  وادكار ويكرام وكتاب زيارة للماضي القريب وكتاب مهد البشرية : الحياة في شرق كردستان  وكتاب رجال ووقائع في الميزان ( حوارات اجريت معه ) وكتاب العراق في عهد قاسم ( تاريخ سياسي 1958- 1963) لمؤلفه اوريل دان ، وكتاب كارمن ( اوبرا ) وكتاب رواية يوم اخر لمحكوم بالموت لفيكتور هيجو .. ومن مؤلفاته اذكر : مباحث آشورية : تاريخ ما اهمله التاريخ  وكتاب العراق في عهد قاسم : آراء وخواطر 1958-1988 وكتاب : يقظة الكرد  وكتاب : مغامرة الكويت : الوجه والخلفية ، وكتاب نظرات في القومية العربية مدّا وجزرا حتى العام 1970 تاريخا وتحليلا ، وكتاب أضواء على القضية الآشورية ( مذابح آب 1933 نموذجا ) . ومن تحقيقاته : مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيد الله النهري .. وغيرها كثير مما لا يحصى ولا يعد  ، وكنت قد اطلعت منذ سنوات طوال على كتبه الاولى وعليها اهداءاته الجميلة الى والدي صديقه القديم .

قيمته كمثقف عضوي : الايمان بالانسان بلا تفرقة !!
     لقد ارتبطت ثقافة جرجيس فتح الله بتفكيره السياسي .. ولقد عّبرت كل من ثقافته ومعلوماته الى جانب رأيه وموقفه السياسي عن هموم العراقيين وأمانيهم وآمالهم لابد لي ان اقول بأن هذا المثقف الراحل لم يدرس اللغة الانكليزية في أي معهد متخصص بها ، بل درسها مع نفسه واجاد العمل بها اجادة تامة .. اذكر انني كنت ارجع دوما الى كتاب  تراث الاسلام الذي ترجمه فتح الله بمجلدين اثنين وكانت ترجمته محكمة جدا وهي تتفوق جدا على الترجمة العربية الاخرى للكتاب والتي قام بها مختصون لهم حرفيتهم .. لقد وجدته مؤرخا محقّقا للنص ومدققّا لما يتضّمنه من اجل ابراز الحقيقة .. كان الراحل يدقّق في ما يكتبه وما يقدّمه للناس .. وبالرغم من بعض الهفوات في ترجمة او بحث الا انه كان مثقفا من نوعية جامعة وشمولية ، فهو محترف للقانون وواحد من المحامين المهرة الناجحين ، وهو مثقف عالي الثقافة اذ يستطيع ان يبحر مع سامعيه او المشاركين معه في بحر واسع من المعلومات والاحداث والشخوص .. ولكن لا يمكن ان تقرن كتاباته بما يكتبه المؤرخون من الاكاديميين العراقيين المعروفين الذين تميّز كل واحدا منهم بمنهجه في الكتابة التاريخية .. وهو سياسي من نوع خاص له ثوابته وقناعاته وافكاره التي يتفانى في الدفاع عنها .. انني كما وجدته لا يكترث لا لدينه ولا لتاريخه ولا لارضه ولا للاشياء الصغيرة او الكبيرة .. انه يؤمن بالانسان بلا تفرقة !
 
ذكريات شاهد الرؤية
     لم اكن اعرفه وانا طفل يافع في الخمسينيات عندما يلتقي هذا الرجل بوالدي اذ كانت تربطهما عرى صداقة حميمة . ولكنني اقول انني التقيت بالفقيد جرجيس فتح الله المحامي مرة واحدة في حياتي والتي كانت في لندن في العام 1981 على ما اظن ، وكان ذلك عن طريق الصدفة اذ وقف امامي فجأة وكان بمعطف طويل وراح يتكلم عن ذكرياته الاولى مع اصدقائه وزملائه ورفاقه في الموصل .. وبدا لي انه كان يحمل حّبا عميقا لها اذ أخذ يتغّزل بها وبشوارعها وحدائقها وثانويتها المركزية .. ازقتها  وكنائسها العتيقة .. لم اسجّل ما دار من حديث بيني وبينه ولكن بدا لي ان تاريخه السياسي ويساريته ، او بالاحرى شيوعيته قد سّببت له في العراق جملة من المآسي والتي عانى  منها ومن تبعاتها ، واذكر انه قال لي عندما سألته عن سبب اخفاق الشيوعية في العراق .. لم يعلّل الامر لاسباب خارجية او عربية او دينية ، بل قال : لقد ارتكب الشيوعيون في العراق اخطاء كبيرة انعكست ضدهم منذ العهد الملكي وحتى اليوم ، مستطردا : اقول هذا لا لأنزه البعثيين من الاخطاء ، ولكن الشيوعيين في العراق كان ينبغي ان يكونوا  اكثر نضوجا من غيرهم .. كان يتألم من ذكرى عذاباته التي عانى منها اثر انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ..
  يكتب الصديق عبد المنعم الاعسم ذكرياته مع الراحل فتح الله فيقول : " فحين التقيته، لأول مرة، في معتقل معسكر ابو غريب، بعد اسبوع من انقلاب شباط الاسود 1963 عرفت الى اي مدى امعن خصوم جرجيس فتح الله السياسيين في الاساءة اليه، والتعدي على اسمه، والتجاوزعلى موشور نبالته.. فقد كان مرهفا، بسيطا، مسالما، حساسا، شديد العطف، ساهما، واطئ الصوت، عميق الثقافة والتأمل والمبادرة والاجتهاد والاستشراف " .
    ويتابع الاخ الاعسم ما يتذكره عن فتح الله ليقول : " كانت القاعة رقم 2 من المعسكر قد ضمتني مع جرجيس فتح الله، وشاءت الصدف ان نكون على متكأ واحد، وكان يخصنا، نحن الشبيبة المعتقلين، المذعورين مما نراه، بالاهتمام والرعاية وتطييب الخاطر، فيما كان الضباط الانقلابيون ينظمون للنزلاء، كل ليلة، حفلات التعذيب والاهانات والتنكيل والتشفي، وقد كانت حصة جرجيس فتح الله من تلك الحفلات كبيرة ومضنية وثقيلة، وفي احدى الليالي ابلغوه ان حكما بالاعدام صدر عليه، وسينفذ فيه يوم غد، لينقذف جميع المعتقلين الى دوامة كابوس مرعب طوال تلك الليلة، وفي الصباح اقتادوه الى جهة مجهولة، لنتحول الى كابوس آخر من الانباء والشائعات عن الطريقة التي استشهد بها جرجيس فتح الله، ثم علمنا انه حي في مكان ما، وان ثمة ما يشبه الفرج انقذ حياته " .

الكلمة الاخيرة
    اقول ، سيكتب المؤرخون في المستقبل قائلين : ان العراق في القرن العشرين قد ازدهر بنخب رائعة من المثقفين السياسيين الحقيقيين الذين ضيعتهم الانظمة السياسية اولا ، ولم يعرف مجتمعهم العراقي بطوله وعرضه قدرهم ولم يثمّن ادوارهم ولا افكارهم ولا انشطتهم ثانيا ، واليوم تستلب التواريخ الوطنية وسير انتلجينسيا العراق لتوزع عليها الاحكام الطائفية والانقسامية بشكل مثير للتقزز ثالثا .. سيكتب المؤرخون مستقبلا  وبكل حيادية : ان نخبة من  المثقفين الشيوعيين واليساريين العراقيين كانوا اكثر ثقافة واغزر معلومات واوسع تفكيرا واثبت منهجا من غيرهم ، ولكن دفعوا ثمن اخطاء السياسيين منهم والعسكريين  وكانوا ثمن ثورة لم تستقم واوضاع العراق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .. كان هؤلاء في واد والعراق والعراقيين في واد آخر .. لقد اراد جرجيس فتح الله ان يعيش ، فتنوعت انتماءاته السياسية والايديولوجية بحكم تنوع العراقيين في القرن العشرين ، وسيبقى اسم جرجيس فتح الله المثقف الذي لولا الاحتماء بالاخوة الاكراد لاصبح طعاما للمقصلة  العراقية التي لم ترحم احدا من العراقيين ابدا  منذ عشرات السنين !

( فصلة مستلة من كتاب الدكتور سّيار الجميل : زعماء ومثقفون .. ذاكرة مؤرخ ، نشر على حلقات وسينشر في كتاب بمجلدين لاحقا ) .
www.sayyaraljamil.com[/b]

206
حول تصريحات رئيس مجلس النواب الأخيرة والقديمة!
د. سيّار الجميل

تسلّمت رسالة ايميل من احد الاصدقاء تتضمن تصريحات اطلقها الاخ رئيس مجلس النواب العراقي السيد محمود المشهداني ، ولقد عجبت منها كونها لا تتلاءم ابدا ومنصبه ، فمنصبه لا يبيح لمن يتولاه توزيع الاحكام السياسية او التهجم على الناس بمزاجية مفتعلة كما وينبغي ان لا يوظف اتجاهه السياسي او الديني في الردح والثرثرة ولا اقول التهريج ، بل يستوجب عليه ان يكون فوق كل الميول والنزعات والشبهات ، لا يسب ولا يقدح ولا يتهجم على أي مسؤول او سياسي او نائب او موظف او أي حزب او جهة معينة .. ولا يمكنه ان يستغّل حصانته البرلمانية ابدا في اللعب باوراق سياسية او طائفية ليتكلم بأسم الاسلاميين ضد الليبراليين او باسم ( المقاومين المجاهدين ) ضد ( الخونة والعملاء ) ، وعليه الا يعلن للملأ وفي الصحافة عن اية تدخلات سياسية او حكومية ، فالسلطة التشريعية فوق الجميع .. وان ابتذالها بمثل هذا الشكل يعّرض صاحبها للمحاسبة والاقصاء من قبل لجنة دستورية تنبثق عن البرلمان ، فالبرلمان ليس ابا احد ولا هو بصالة رقص ولا حلبة ملاكمة .. انه المسرح المعبر حقيقة عن ارادة كل شعب العراق بمختلف الوانه واطيافه وتياراته السياسية .. فلا يمكن ان يحتكر رئيس البرلمان او غيره الارادة العراقية للاسلاميين فقط ، انه بهذا يعبر عن دكتاتورية سلطة دينية .. ونحن نعلم من يصنع كل فجائع العراق اليوم !!

ان هذا المنصب بحاجة ماسة الى من يكون مؤهلا له ويعرف قدر نفسه وان يتمتع بشخصية قوية لها مكانتها وسمعتها في المجتمع ، وان لا يكون كاريكاتيرا بل يكون مثقفا عالي الثقافة ! ثم لم نفهم مغزى زيارة الاخ المشهداني لإيران ؟ وما الذي فعله هناك ؟ وبأي مهمّة ذهب الى ايران .. اننا لم نزل نذكر ما قاله في ندوة مجلة البيان قبل تسلمه منصبه اذ قال بالحرف الواحد مطالبا : " يتعهد الجانب الأميركي بمنع دول الجوار، وخاصة إيران من التدخل في شؤون العراق الداخلية؛ لإبعاد العراق عن صراعات الإرهاب الدولي " . واليوم يأتي ليتحدث بلغة اخرى عندما يقول : " ان الجمهورية الاسلامية الايرانية تدعم مشروع التقريب بين التيارين السني والشيعي بهدف الوصول الى وحدة إسلامية تقطع الطريق أمام المخطط "الاسرائيلي" الذي اعتبره "مؤامرة" تهدف إلى إفشال الاسلاميين في العراق " .

وهذا يتناقض يا رئيس مجلس النواب مع كلامك السابق عندما سئلت من قبل مجلة البيان عن مصداقية الانتخابات السابقة اجبت بالحرف الواحد : " مصداقية الانتخابات أمام المجتمع الدولي هي نفسها مصداقية الاحتلال أمامه؛ فالذي سكت على الاحتلال الأميركي للعراق سيسكت على الزفاف الإعلامي لزواج غير شرعي بين المشروع الفارسي، والمشروع الصهيوني في العراق، وستبقى أصوات المقاومة الشريفة هي وحدها القادرة على شق سكون ليل القهر السياسي الذي يسود العالم الآن " . والحقيقة لابد ان تقال انني لما سمعت السيد رئيس مجلس النواب العراقي يقّدم نفسه للعالم اثر اختياره لهذا المنصب ضرب اصحابي كفا بكف اذ لم يتوقع العراقيون ان يمنح المنصب لرجل من (الملالي) اذ قالوا بأن امكاناته لا تصلح لهذا المنصب خصوصا وان العراقيين لم يعرفوه سابقا ولا يعلمون من اين أتى بالدكتوراه ولا يدرون من هو ؟ وما سيرته ؟ وما دوره في العهد السابق ؟ وعندما سمعوه يقول بأنه كان راشيا من دون ان يتكتم على ما فعله .. قالوا : ألم يعثر العراق من بين ابنائه على شخصية قديرة تحتل هذا المنصب التشريعي ؟؟ ثم بدأنا نسمع قصصا عما يحدث من اخطاء وما يمارس من خطابات في جلسات المجلس العتيد .. وليدعني انقل عنه ما كان قد قاله قبل ان يتولى المنصب ويقال ان الرجل كان وقت ذاك ( مّلا ) من الملالي مسؤولا عن لجنة الارشاد والفتوى في حزب او جماعة اسلامية ، وهو عدو لدود لكل الساسة العراقيين المستنيرين والتقدميين والوطنيين ( باستثناء البعثيين ) ودوما ما يجمعهم في سلة واحدة باسم العلمانيين .. وكأنهم رجس من عمل الشيطان في حين انه يتخّيل نفسه تحّف به الملائكة !

دعوني انقل بعض ما قاله .. في جواب على سؤال عن تقييمه الانتخابات السابقة ونتائجها ، اجاب قائلا:" يعرف الجميع أن الانتخابات العراقية أُجريت بطلب من بوش لأغراض أمريكية داخلية. وهذا يفسر إصرار الرئيس الأميركي بالذات على إجرائها؛ والذين سعوا إلى تأجيلها كانوا محقين في طلبهم من أجل أن تكون هذه الانتخابات حرة ونزيهة وشاملة. ولكن الإصرار الأميركي أحبط هذا التوجّه، وكان ما كان، وبرغم ذلك فإن السحر انقلب على الساحر؛ حيث جاءت نتائجها مخيبة لآمال الذين راهنوا عليها، وأظهرت أغلبية السنة عصبية (شوفينية) الأكراد العلمانيين المقيتة، وعززت المخاوف من تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق. وتنقسم نتائجها في نظري إلى قسمين: أولاً: النتائج السلبية: وهي شرعنة الاحتلال. وتهميش السنَّة العرب. وتكريس الطائفية السياسية والدينية. وإظهار التشرذم العرقي والمذهبي بأبشع صورة. والجاهلية السياسية لدى معظم المنتخبين. وزيادة رصيد المشروع الإيراني في العراق. وإعطاء الغطاء الشرعي لذبح المقاومة العراقية البطلة. وضعف الأداء السياسي لدى الحزب السني الوحيد الحزب (الإسلامي). واضطراب الخطاب الشرعي والسياسي للنخب الدينية السنية. ودفع مشروع (إسرائيل الكبرى) خطوة إلى الأمام " .

ويستطرد يقول ما نصّه : " ثانياً: النتائج الإيجابية ، وهي : اصطفاف ستة ملايين ناخب من أصل أربعة عشر مليوناً وراء المقاومة العراقية. وإبراز الدليل الملموس لأكثرية السنة العرب في العراق. وإعطاء الدافع القوي للسنة العرب، وبعض الشيعة العرب؛ للتجمع في خيار المشروع الوطني العراقي، المتمثل في مجلس الحوار الوطني العراقي لخوض الانتخابات القادمة من موقع القوة والمسؤولية. وزيادة اهتمام قيادات المقاومة العراقية المسلحة لبلورة مشروعها السياسي البديل. و فضح التواطؤ السياسي بين الفرس وأمريكا في احتلال العراق. وزيادة مخاوف الدول الخليجية تجاه المشروع الفارسي في العراق؛ مما قد يدفعها للتعاون البناء مع مشروع الحوار الوطني العراقي، ودعمه مادياً وسياسياً وإعلامياً. وزيادة الضغط على أمريكا بسبب تهميش السنَّة العرب. وإبراز إشكالية المثلث السني، الذي هو القاسم المشترك الأعظم بين الأكراد السنة والشيعة العرب؛ وقدرته على إسقاط أو شل أي مشروع إن لم يأخذ دوره كاملاً في العملية الديمقراطية؛ وذلك لأن ورقة المقاومة بيده. وإبراز نهم الأحزاب السياسية للسلطة، وضعف دورها في إنقاذ الشعب العراقي من معاناته " . ان صاحب كل هذا الكلام هو رئيس مجلس النواب العراقي الذي يبدو كم غّير من مواقفه السياسية وثوابته التي كان يعلنها اعلاه للناس .. ولكنه تغّير بعد ان انخرط في السلطة ونسي ما كان قد قاله على الملأ، فاذا كانت تلك هي افكارك القاطعة التي تجد في كل من يحمل السلاح مقاوما وان كل اهل السنة مقاومة وبمعزوفة طائفية .. فما الذي دعاك الى ان تكون عضوا في اهم سلطة وصفتها من قبل بابشع الصفات ؟؟ وهنا ينبغي القول : على الرجل الحقيقي ان يحترم كلمته سواء كان اسلاميا ام علمانيا .. فهل سيدرك كل العراقيين كيف يقيّمون رجالهم ونسوتهم ؟
الصباح
البغدادية
3/8/ 2006

www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]


207
حول تصريحات رئيس مجلس النواب الأخيرة والقديمة!
د. سيّار الجميل

تسلّمت رسالة ايميل من احد الاصدقاء تتضمن تصريحات اطلقها الاخ رئيس مجلس النواب العراقي السيد محمود المشهداني ، ولقد عجبت منها كونها لا تتلاءم ابدا ومنصبه ، فمنصبه لا يبيح لمن يتولاه توزيع الاحكام السياسية او التهجم على الناس بمزاجية مفتعلة كما وينبغي ان لا يوظف اتجاهه السياسي او الديني في الردح والثرثرة ولا اقول التهريج ، بل يستوجب عليه ان يكون فوق كل الميول والنزعات والشبهات ، لا يسب ولا يقدح ولا يتهجم على أي مسؤول او سياسي او نائب او موظف او أي حزب او جهة معينة .. ولا يمكنه ان يستغّل حصانته البرلمانية ابدا في اللعب باوراق سياسية او طائفية ليتكلم بأسم الاسلاميين ضد الليبراليين او باسم ( المقاومين المجاهدين ) ضد ( الخونة والعملاء ) ، وعليه الا يعلن للملأ وفي الصحافة عن اية تدخلات سياسية او حكومية ، فالسلطة التشريعية فوق الجميع .. وان ابتذالها بمثل هذا الشكل يعّرض صاحبها للمحاسبة والاقصاء من قبل لجنة دستورية تنبثق عن البرلمان ، فالبرلمان ليس ابا احد ولا هو بصالة رقص ولا حلبة ملاكمة .. انه المسرح المعبر حقيقة عن ارادة كل شعب العراق بمختلف الوانه واطيافه وتياراته السياسية .. فلا يمكن ان يحتكر رئيس البرلمان او غيره الارادة العراقية للاسلاميين فقط ، انه بهذا يعبر عن دكتاتورية سلطة دينية .. ونحن نعلم من يصنع كل فجائع العراق اليوم !!

ان هذا المنصب بحاجة ماسة الى من يكون مؤهلا له ويعرف قدر نفسه وان يتمتع بشخصية قوية لها مكانتها وسمعتها في المجتمع ، وان لا يكون كاريكاتيرا بل يكون مثقفا عالي الثقافة ! ثم لم نفهم مغزى زيارة الاخ المشهداني لإيران ؟ وما الذي فعله هناك ؟ وبأي مهمّة ذهب الى ايران .. اننا لم نزل نذكر ما قاله في ندوة مجلة البيان قبل تسلمه منصبه اذ قال بالحرف الواحد مطالبا : " يتعهد الجانب الأميركي بمنع دول الجوار، وخاصة إيران من التدخل في شؤون العراق الداخلية؛ لإبعاد العراق عن صراعات الإرهاب الدولي " . واليوم يأتي ليتحدث بلغة اخرى عندما يقول : " ان الجمهورية الاسلامية الايرانية تدعم مشروع التقريب بين التيارين السني والشيعي بهدف الوصول الى وحدة إسلامية تقطع الطريق أمام المخطط "الاسرائيلي" الذي اعتبره "مؤامرة" تهدف إلى إفشال الاسلاميين في العراق " .

وهذا يتناقض يا رئيس مجلس النواب مع كلامك السابق عندما سئلت من قبل مجلة البيان عن مصداقية الانتخابات السابقة اجبت بالحرف الواحد : " مصداقية الانتخابات أمام المجتمع الدولي هي نفسها مصداقية الاحتلال أمامه؛ فالذي سكت على الاحتلال الأميركي للعراق سيسكت على الزفاف الإعلامي لزواج غير شرعي بين المشروع الفارسي، والمشروع الصهيوني في العراق، وستبقى أصوات المقاومة الشريفة هي وحدها القادرة على شق سكون ليل القهر السياسي الذي يسود العالم الآن " . والحقيقة لابد ان تقال انني لما سمعت السيد رئيس مجلس النواب العراقي يقّدم نفسه للعالم اثر اختياره لهذا المنصب ضرب اصحابي كفا بكف اذ لم يتوقع العراقيون ان يمنح المنصب لرجل من (الملالي) اذ قالوا بأن امكاناته لا تصلح لهذا المنصب خصوصا وان العراقيين لم يعرفوه سابقا ولا يعلمون من اين أتى بالدكتوراه ولا يدرون من هو ؟ وما سيرته ؟ وما دوره في العهد السابق ؟ وعندما سمعوه يقول بأنه كان راشيا من دون ان يتكتم على ما فعله .. قالوا : ألم يعثر العراق من بين ابنائه على شخصية قديرة تحتل هذا المنصب التشريعي ؟؟ ثم بدأنا نسمع قصصا عما يحدث من اخطاء وما يمارس من خطابات في جلسات المجلس العتيد .. وليدعني انقل عنه ما كان قد قاله قبل ان يتولى المنصب ويقال ان الرجل كان وقت ذاك ( مّلا ) من الملالي مسؤولا عن لجنة الارشاد والفتوى في حزب او جماعة اسلامية ، وهو عدو لدود لكل الساسة العراقيين المستنيرين والتقدميين والوطنيين ( باستثناء البعثيين ) ودوما ما يجمعهم في سلة واحدة باسم العلمانيين .. وكأنهم رجس من عمل الشيطان في حين انه يتخّيل نفسه تحّف به الملائكة !

دعوني انقل بعض ما قاله .. في جواب على سؤال عن تقييمه الانتخابات السابقة ونتائجها ، اجاب قائلا:" يعرف الجميع أن الانتخابات العراقية أُجريت بطلب من بوش لأغراض أمريكية داخلية. وهذا يفسر إصرار الرئيس الأميركي بالذات على إجرائها؛ والذين سعوا إلى تأجيلها كانوا محقين في طلبهم من أجل أن تكون هذه الانتخابات حرة ونزيهة وشاملة. ولكن الإصرار الأميركي أحبط هذا التوجّه، وكان ما كان، وبرغم ذلك فإن السحر انقلب على الساحر؛ حيث جاءت نتائجها مخيبة لآمال الذين راهنوا عليها، وأظهرت أغلبية السنة عصبية (شوفينية) الأكراد العلمانيين المقيتة، وعززت المخاوف من تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق. وتنقسم نتائجها في نظري إلى قسمين: أولاً: النتائج السلبية: وهي شرعنة الاحتلال. وتهميش السنَّة العرب. وتكريس الطائفية السياسية والدينية. وإظهار التشرذم العرقي والمذهبي بأبشع صورة. والجاهلية السياسية لدى معظم المنتخبين. وزيادة رصيد المشروع الإيراني في العراق. وإعطاء الغطاء الشرعي لذبح المقاومة العراقية البطلة. وضعف الأداء السياسي لدى الحزب السني الوحيد الحزب (الإسلامي). واضطراب الخطاب الشرعي والسياسي للنخب الدينية السنية. ودفع مشروع (إسرائيل الكبرى) خطوة إلى الأمام " .

ويستطرد يقول ما نصّه : " ثانياً: النتائج الإيجابية ، وهي : اصطفاف ستة ملايين ناخب من أصل أربعة عشر مليوناً وراء المقاومة العراقية. وإبراز الدليل الملموس لأكثرية السنة العرب في العراق. وإعطاء الدافع القوي للسنة العرب، وبعض الشيعة العرب؛ للتجمع في خيار المشروع الوطني العراقي، المتمثل في مجلس الحوار الوطني العراقي لخوض الانتخابات القادمة من موقع القوة والمسؤولية. وزيادة اهتمام قيادات المقاومة العراقية المسلحة لبلورة مشروعها السياسي البديل. و فضح التواطؤ السياسي بين الفرس وأمريكا في احتلال العراق. وزيادة مخاوف الدول الخليجية تجاه المشروع الفارسي في العراق؛ مما قد يدفعها للتعاون البناء مع مشروع الحوار الوطني العراقي، ودعمه مادياً وسياسياً وإعلامياً. وزيادة الضغط على أمريكا بسبب تهميش السنَّة العرب. وإبراز إشكالية المثلث السني، الذي هو القاسم المشترك الأعظم بين الأكراد السنة والشيعة العرب؛ وقدرته على إسقاط أو شل أي مشروع إن لم يأخذ دوره كاملاً في العملية الديمقراطية؛ وذلك لأن ورقة المقاومة بيده. وإبراز نهم الأحزاب السياسية للسلطة، وضعف دورها في إنقاذ الشعب العراقي من معاناته " . ان صاحب كل هذا الكلام هو رئيس مجلس النواب العراقي الذي يبدو كم غّير من مواقفه السياسية وثوابته التي كان يعلنها اعلاه للناس .. ولكنه تغّير بعد ان انخرط في السلطة ونسي ما كان قد قاله على الملأ، فاذا كانت تلك هي افكارك القاطعة التي تجد في كل من يحمل السلاح مقاوما وان كل اهل السنة مقاومة وبمعزوفة طائفية .. فما الذي دعاك الى ان تكون عضوا في اهم سلطة وصفتها من قبل بابشع الصفات ؟؟ وهنا ينبغي القول : على الرجل الحقيقي ان يحترم كلمته سواء كان اسلاميا ام علمانيا .. فهل سيدرك كل العراقيين كيف يقيّمون رجالهم ونسوتهم ؟
الصباح
البغدادية
3/8/ 2006

www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]


208
روائيون خياليون يرسمون مصير الشرق الأوسط !!
د. سّيار الجميل

       دعوني اتساءل : هل غدونا هكذا بلا ارادة ولا عقل ولا ثوابت حتى يرسم الاخرون لنا مصيرنا ؟ هل باتت مجتمعاتنا متنافرة ومتمزقة الى الدرجة التي تجعلنا نرقص طربا لخرائط جديدة لمنطقتنا في هذا العالم ؟ هل اصبحنا من الغباء بمكان حتى نعتمد مشروعات غيرنا كي نبني مستقبلنا من خلال تبنّي مصالحهم واستراتيجياتهم ؟ هل فكّرنا قليلا بما ستحدثه اية تغييرات جذرية في بلداننا ؟ الى متى نبقى اسرى واقع متهتك لا نقبل اصلاحه بانفسنا حتى تفرض علينا خرائط جديدة تحّطم وجودنا جميعا وتغرق مستقبلنا بالدماء ؟ هل غدونا بلا تاريخ ولا معرفة ولا حضارة حتى يتلاعب الاخرون بمصائرنا ؟
     كلما  يتقدّم بنا الزمن ، كلما تزداد اهمية منطقتنا بكل دولها ومجتمعاتها وثرواتها .. وكلما تمضي الحياة نحو المستقبل ، كلما يزداد هياج العديد من الكتّاب الغربيين الذين ينطلقون من زاوية نظر سقيمة واحدة ليغرقوا العالم بالهذيان والمعلومات الخاطئة .. بل واصبح الشرق الاوسط كله من حوافي بحر مرمرة  حتى حدود الهند  لعبة بايدي ( خبراء )  لا يعرفون ابدا طبيعة تواريخ عالمنا ولا خصوصيات بلداننا ولا تعقيدات مجتمعاتنا ولا نسيج ثقافاتنا .. بل ووصل الامر ان يكون مستقبلنا عرضة على طاولة الروائيين الخياليين والجنرالات الفاشلين الامريكيين الذين ليس لهم الا تقديم وصفات سريعة وخرائط مجنونة الى الجهات العليا الامريكية من اجل ضمان المصالح الامريكية واستراتيجية السيطرة على المناطق الحيوية في العالم اولا ، وتأمين وسائل الطاقة البترولية ثانيا ، والحفاظ على الامن القومي ثالثا  ..
     بل وان ظاهرة الارهاب المقيتة التي ساهموا هم انفسهم في خلقها وبلورتها .. اليوم يريدون القضاء عليها حتى وان اغرق الشرق الاوسط كله ببحر من الدماء .. ان الحلول التي يأتي بها بعض الامريكيين الذين تمرّسوا على الهذيان وكتابة روايات الخيال العلمي انما هي مثيرة للقرف والاستهزاء .. اذ اعتقد ان مشكلات الشرق الاوسط التي تكاثرت وتعقّدت بفعل التدخلات الخارجية لا يمكن ان تحل من قبل تصّورات اناس لا عمل لهم الا رسم خرائط جديدة او الدفع بمقترحات بليدة او بوضع خطط غير واقعية ..
    انني لا اقول بأن منطقتنا خالية من المشكلات الحدودية الصعبة ، ولكن طبيعة تداخل مجتمعاتها التي توارثناها عبر القرون ومنذ العصور الوسطى لا تلائمها هندسة دول بمقاييس دينية او طائفية ، او رسم حدود مثالية تفصل بين هذه المجتمعات المعّقدة التي لا قبل للاخرين في فهم نسيجها  القومي  وتنوعها الديني وفسيفسائها الطائفي .. لابد ان تأخذ كل الشعوب والمجتمعات حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية كاملة .. ولكن ليس على حساب أي تغيير امريكي لخرائط الشرق الاوسط .. ان الشعوب الاصيلة هي التي تصنع تاريخها وتناضل من اجل وجودها من دون ان تعتمد على خريطة كسيحة يرسمها جنرال امريكي متقاعد فاشل متبنيا عموميات مثالية تتصادم مع كل خصوصيات الواقع ! انها خرائط امريكية ستشعل الشرق الاوسط كله في حروب لا تبقي ولا تذر وستتوالد صراعات حادة ومرعبة تمتد على امتداد القرن الواحد والعشرين .
  ثمة مسائل اساسية لابد ان يدركها الجميع :
اولا : ان الحدود في الشرق الاوسط  لا يمكن اعادة رسمها بسهولة ، فهي ليست مجرد خطوط على الورق يرسمها روائيون يعيشون لما وراء البحار .. انها تاريخ طويل من المطالبات والصراعات والمعاهدات والحروب التي بنيت دعاماتها على ما كان يدعى سابقا بالتخوم القديمة Marchs  وخصوصا بين ايران وتركيا وقوقاسيا وافغانستان واليمن ..
ثانيا : ليس من السهولة بناء دول جديدة حسب المقاييس الدينية والطائفية والعرقية في منطقتنا  .. فمثل هذه التمايزات نجدها في اغلب دول العالم ، فكيف يمكن بناء شرق اوسط جديد على اسس تقسيمات دينية او طائفية في مجتمعات متنوعة ومختلطة اصلا ؟؟
ثالثا : لا تنحصر المشكلة في بناء شرق اوسط جديد على الطريقة الامريكية ، بل ان المعضلة تكمن في دواخلنا الاجتماعية ، فليس هناك أي منطقة خالصة تماما من الاقليات والاثنيات والطوائف الذين ستكون مصائرها في محنة تاريخية وسيكون اصحابها عرضة للاضطهاد والابادة  الجماعية .
رابعا : ان مجرد الترويج لمثل هذه المقترحات الهزيلة والافكار الوهمية سيجعل الناس في مجتمعاتنا على ابواب افتراق حقيقي مع اوطانها .. وسيعيشون قلقا ووهما لا يتحقق ابدا وسيزيد ذلك من تفكك الشرق الاوسط  ، ولا يمكن عند ذاك اعادة تركيبه ابدا  لا كما كان ولا كما يريده خبراء امريكا الجدد .
خامسا : ان الحاجة باتت ماسة الى  اصلاحات جذرية في كل بلدان المنطقة ، والى خطط تحديثية في  تفكيرنا وسياساتنا ورؤيتنا الى المستقبل .. تراعى فيها حقوق المجتمعات واصلاح المؤسسات .. والقطيعة مع كل ما يثير الكراهية والاحقاد اتقاء لتحولات جنونية تغرق المنطقة في بحار من الدماء !
سادسا: لابد ان يترسخ ثمة وعي ـ حتى عند المعجبين بالخرائط الجديدة ـ  أن المهندسين الامريكان الجدد ليس لديهم أي المام ومعرفة بتواريخ  بلداننا  ولا بجغرافياتها وان حدودنا ليست كلها من صنع الاوربيين ، فهي موجودة ومتوارثة منذ ازمان ايران القاجارية وتركيا العثمانية ومصر الخديوية وتونس الحسينية وجزائر الدايات ومغرب العلويين واليمن الامامية ..
سابعا : ان انظمة الحكم الذاتي والفيدراليات ربما تكون العلاج الواقي لشعوب عدة  عانت من القهر والاضطهاد مثل الاكراد والبلوش والاذريين والارمن والتركمانوالعربستانيين واللور والآثوريين وغيرهم .. ولكن انتاج دول طائفية ودينية سيجر الى اشعال صراعات وحروب دينية لن يستفيد منها الا الاعداء  .
انني اتساءل : هل نجحت في ايصال رسالتي ؟ اتمنى ذلك من صميم القلب .

www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

209
محمد مهدي الجواهري
شاعر العرب الاكبر
آخر سلسلة عمالقة الشعر الكلاسيكي العربي
د. سّيار الجميل

نامي فقد غنى اله الحرب                 الحان الســـــــــــلام
نامي جياع الشعب نامي                   النوم من نعم الســــــلام
نامي فنومك فتنــــة                  ايقاظها شر الاثــــــــام
نامي جياع الشعب نامـي                 حرستك آلهــة الطعــــام
الجواهري في ( تنويمة الجياع )
لمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل الجواهري .. اعيد نشر هذه الذكرى

      يعد محمد مهدي الجواهري واحدا من ابرز شعراء العرب في التاريخ ، وقد اطلقت عليه صفات وتسميات عديدة ، ولكن صفة " شاعر العرب الاكبر " غلبت عليه في ارجاء العالم العربي كله اذ غدا مالئ الدنيا وشاغل الناس المثقفين . وقد عاش الجواهري القرن العشرين بطوله ، وكان قد قدم للعراق ابداعاته وادواره السياسية وانتخبه المبدعون العراقيون ان يكون على رأس تكوينهم النقابي .. قضى العقدين الاخيرين من حياته في المنفى وهو يتطلع الى اليوم الذي يزال فيه صرح الظلم والاضطهاد من اجل ان يرجع الى وطنه ليموت فيه .. ولكن حلمه تحقق بعد رحيله .. اذ كان قد مات في دمشق بحسرته ودفن فيها ولم ير العراق . وسواء اختلف النقاد والكتّاب حول الجواهري وشخصيته ومواقفه السياسية .. الا انني اعتبره آخر سلسلة الشعراء الكبار في الشعر العربي الكلاسيكي .. اذ لم يبق ولم يظهر من بعده أي شاعر من وزنه حتى اليوم . 
قصة حياته المكتنزة
     وُلد الشاعر محمد مهدي بن الحسين بن عبد علي بن صاحب الجواهر الشـيخ محمد حسن في النجف الاشرف في 26/7/ 1899م ، والنجف مدينة مقدّسة تقصدها الالاف المؤلفة من الناس لزيارة ضريح الامام علي بن ابي طالب (ع) فيها .. وكانت ولم تزل تعّج بالشعراء والادباء ورجال الدين اذ تستقر بها الحوزة العلمية للشيعة الجعفرية في كل العالم  .  وكان أبوه عبد الحسين عالماً من علماء النجف ، أراد لابنه الذكي أن يكون عالماً، لذلك ألبسه عباءة العلماء وعمامتهم وهو في سن العاشرة  . وكان لهذه الأسرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية . درس في المدرسـة العلوية ثم أخذ علوم اللغة والأدب عن كبار مشايخ الغري، ونبغ في الشعر مبكراً  ودرس القرآن الكريم ثم حفظ دواوين الشعر العربي وخصوصا المتنبي الذي حفظ له كل شعره وهو لم يزل فتى غرير. كان قوي الذاكرة ، سريع الحفظ ، ويروى أنه في إحدى المرات وضعت أمامه ليرة ذهبية وطلب منه أن يبرهن عن مقدرته في الحفظ وتكون الليرة له. فغاب الفتى ثماني ساعات وحفظ قصيدة من (450) بيتاً واسمعها للحاضرين وقبض الليرة الذهبية . وفي سنة 1917، توفي والده وقد غدا محمد مهدي في ريعان الشباب ، فحزن عليه .. وبعد أن انقضت أيام الحزن عاد الشاب إلى دروسه وأضاف إليها درس البيان والمنطق والفلسفة.. وقرأ  كل شعر جديد سواء كان عربياً أم مترجماً عن الغرب من خلال تتبّعه الصحف والمجلات العربية .
      وكان في أول حياته يرتدي العمامة لباس رجال الدين لأنه نشأ نشأةً دينيه محافظة ،   ومدح الملك فيصل الاول بقصائد رائعة وكان لا يزال يرتدي العمامة ، والحقيقة انه لم يبق من شعره الأول شيء يُذكر ، وأول قصيدة له كانت قد نشرت في شهر كانون الثاني / يناير العام 1921 ، وأخذ يوالي النشر بعدها في مختلف الجرائد والمجلات العراقية والعربية  ، فنشر أول مجموعة له باسم " حلبة الأدب " عارض فيها عدداً من الشعراء القدامى والمعاصرين . سافر إلى إيران مرتين : المرة الأولى في العام 1924 ، والثانية في العام 1926 ، وكان قد أُخِذ بطبيعتها الجميلة ، فنظم في ذلك عدة مقطوعات . ترك مدينة النجف العام 1927 بعد ان ضاقت به وضاق بها ليُعَيَّن مدرّساً في المدارس الثانوية ، ولكنه فوجيء بتعيينه معلماً على الملاك الابتدائي في قصبة الكاظمية شمالي بغداد .
     انتقل الجواهري إلى بغداد سـنة 1927 فعيّن معلماً في بعض المدارس الابتدائية وفي هذه الفترة حدثت مشكلته المشهورة مع الأستاذ  ساطع الحصري مدير المعارف العام على أثر نشر قصيدة له يقال انه ذمّ فيها العراق ومدح إيران، فاتهم بالشعوبية وفصل من وظيفته .. اما الجانب الاخر من المسألة ان الحصري ناصبه العداء بالذات لأكثر من مرّة ولأسباب شخصية تتّوضح في رسائل ومساجلات قديمة وقعت عليها .. ولكن وزير المعارف الذي كان يرعى الجواهري ويلتزم جانبه توسـط في تعيينه بوظيفة كاتب في البلاط الملكـي. أصدر الجواهري في العام 1928 ديواناً أسماه " بين الشعور والعاطفة " نشر فيه ما استجد من شعره . استقال من البلاط سنة 1930 ، ليصدر جريدته (الفرات) ، وقد صدر منها عشرون عدداً ، ثم ألغت الحكومة امتيازها فآلمه ذلك كثيراً ، وحاول أن يعيد إصدارها ولكن دون جدوى ، فبقي بدون عمل إلى أن عُيِّنَ معلماً في أواخر سنة 1931 في مدرسة المأمونية ، ثم نقل الى ديوان الوزارة رئيساً لديوان التحرير .
     في العام 1935 أصدر ديوانه الثاني بإسم " ديوان الجواهري " . واتهم بنشر قصيدة سياسية في جريدة " الإصلاح" عرّض فيها بوزارة ياسين الهاشمي فارتأى وزير الداخلية رشـيد عالي الكيلاني إحالة الجواهري إلى المجلس العرفي العسكري إلا أن رئيس الوزراء ياسـين الهاشـمي  لم يوافق على ذلك فاسـتدعى الجواهري ووعده بأنه يرشـحه لإحدى النيابات الشاغرة عن لواء كربلاء وقبل أن يتم ذلك وقع انقلاب بكر صدقي – حكمت سليمان الذي أسقط وزارة  الهاشـمي ، فسارع الجواهري إلى تأييده ومباركة الانقلابيين وأصدر جريدة اسـمها " الانقلاب" في اواخر العام 1936أيد على صفحاتها وزارة حكمت سـليمان ومدح رئيسها وهاجم وزارة الهاشمي ، ولكن وزارة الانقلاب لم ترشـح الجواهري نائباً في الانتخابات التي أجرتها ، كما كان يتوقع ، بل إنها اسـتغلت بعض ما نشره في جريدته فأحالته على المحاكم وصدر الحكم عليه بالسجن بضعة أشـهر.
     وبعد خروج الجواهري من السـجن اختار لجريدته اسـماً جديداً هو " الرأي العام"  ، ولم يتح لها مواصلة الصدور ، فعطلت أكثر من مرة بسبب ما كان يكتب فيها من مقالات ناقدة للسياسات المتعاقبة .  ولما قامت حركة مايس1941 العسكرية بقيادة رشيد عالي والعقداء الاربعة ويونس السبعاوي وبمعيتهم السيد امين الحسيني مفتي فلسطين ، أيّدها الجواهري وبعد فشلها غادر العراق مع من غادر إلى إيران ، ثم عاد إلى العراق في العام نفسه مادحا الامير عبد الاله ومقتربا من نوري باشا السعيد ليستأنف إصدار جريدته (الرأي العام) وقد  نهج فيها الان  نهجاً يسارياً واضحاً وعوتب الجواهري في حينه لاقتصاره في قصائده على مدح الجيش الأحمر وانتصاراته في سيفاستوبول وسـتالينغراد فنظم قصيدته المشهورة "تونس" التي امتدح فيها الجنرال مونتغومري.
      وفي العام 1944 شارك في مهرجان أبي العلاء المعري في دمشق ، وألقى قصيدته الشهيرة التي اهتاجت لها كل المشاعر العربية ، ومطلعها : " قف بالمعرة وامسح خدها التربا " ..  أصدر في عامي 1949 و 1950 الجزء الأول والثاني من ديوانه في طبعة جديدة ضم فيها قصائده التي نظمها في الأربعينيات والتي برز فيها شاعراً كبيراً لا يدانيه أحد . وفي سنة 1946 أصدر الجواهري جريدة باسم " صدى الدستور" وانتخب نائباً عن كربلاء ولكن المجلس لم يدم طويلاً وحلّ في سـنة 1948 وفي تلك السنة سافر إلى لندن ضمن وفد صحافي عراقي وانفصل عن الوفد وبقي في لندن مدة ثم سافر إلى باريس وفيها نظم ملحمته الغزلية "أنيتا" ثم شارك في عام 1950 في المؤتمر الثقافي للجامعة العربية الذي عُقد في الاسكندرية بمصر .
     أقام في مصر مدة وعاد إلى بغداد فحرر في بعض صحفها واعتقل في أبو غريب في سنة 1952 ثم اطلق سراحه ، وأصدر جريدة اسمها "الجديد" في أيار/ مايو 1953 ثم غادر العراق إلى دمشق في سنة 1956 فاتخذها سـكناً وعهد إليه فيها بتحرير جريدة " الجندي" التي تصدرها رئاسة أركان الجيش السـوري. وعاد الجواهري إلى بغداد في تموز  / يوليو سنة 1957 .
وفي السنة التالية وقع الانقلاب العسكري فجر يوم 14 يوليو 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي اعقبته ثورة جماهيرية عارمة ، فتحمس له الجواهري وأيده بشعره ومدح قاسم بعدة قصائد كانت اشهرها : " عبد الكريم وفي العراق خصاصة وقد كنت الكريم الاوحدا " وأعاد إصدار "الرأي العام" وانحاز إلى اليساريين انحيازا كاملا وساير الشـيوعيين وانتخب رئيساً لاتحاد الأدباء ونقيباً للصحافيين في العراق ، وقد اقترب من الزعيم قاسم كثيرا على غرار العديد من المثقفين العراقيين التقدميين الكبار وشارك في عدة مؤتمرات ونشاطات ..
ثم حدثت جفوة بين الاثنين لأسباب عدة .. واجه بعدها مضايقات مختلفة فغادر العراق في العام 1961 إلى لبنان ومن هناك استقر في براغ ضيفاً على اتحاد الأدباء التشيكوسلوفاكيين . أقام في براغ سبع سنوات ، وصدر له فيها في العام 1965 ديوان جديد سمّاه " بريد الغربة " .
عاد إلى العراق في العام 1968 بعد انقلاب قاده البعثيون في 17 يوليو / تموز 1968 وخصصت له حكومة الانقلاب وبتوجيه من رئيس الجمهورية احمد حسن البكر راتباً تقاعدياً قدره 150 ديناراً في الشهر من اجل ان يقدم مدائحه للنظام الجديد .
في العام 1969 صدر له في بغداد ديوان "بريد العودة" . وفي العام 1971 أصدرت له وزارة الإعلام ديوانين ، هما  " أيها الأرق" و " خلجات "  .وفي العام نفسه رأس الوفد العراقي الذي مثّل العراق في مؤتمر الأدباء العرب الثامن المنعقد في دمشق .  وفي العام 1973 رأس الوفد العراقي إلى مؤتمر الأدباء التاسع الذي عقد في تونس .
ومن اشهر قصائده التي تغّنى بها لمناسبة اصدار حكومة البكر بيان آذار 1970 ومنح الاكراد العراقيين الحكم الذاتي قصيدة رائعة مطلعها : اختلف مع نظام الحكم البعثي  في العراق ، فعزم على مغادرته ، واختار دمشق واستقر فيها واطمأن إليها واستراح ونزل فيها ، ولما كان هناك خلاف بين نظامي الحكم بين سوريا والعراق ، فلقد رحب به الرئيس حافظ الأسد و كرمه  بمنحه أعلى وسام في البلاد ،  فمدحه بقصيدة عصماء عنوانها "  دمشق جبهة المجد " .. 
عاش سنوات طويلة في الغربة وكانت براغ مدينته المفضلة ، فقد عشقها تماما .. زار عدة بلدان عربية وغير عربية ومن اشهر من مدح من الزعماء الملك الحسن الثاني في المغرب والملك الحسين بن طلال في الاردن  وتوفي الجواهري في 27 يوليو / تموز 1997 بعد ان عاش 98 سنة بالضبط ، فقد كان قد ولد في 26 يوليو / تموز 1899 ، وبهذا فهو يعد واحدا من شهود العصر في القرن العشرين بطوله .‏  نال عدة أوسمة وجوائز منها جائزة اللوتس، وجائزة سلطان العويس.
اسلوب الجواهري في شعره وحياته
     يتصف أسلوب الجواهري بالحرارة في التعبير والقوة في البيان والانجذاب في الإحساس الملتحم بالصور الهادرة كالتيار في النفس ، ولكنه يبدو من خلال أفكاره متشائماً حزيناً من الحياة تغلف شعره مسحة من الكآبة والإحساس القاتم الحزين مع نفسية معقدة تنظر إلى كل أمر نظر الفيلسوف الناقد الذي لايرضيه شيء ..
انه قمة نتاج عصارة كل من تاريخ عظيم للادب العربي في زمنه العريق على ارض وادي الرافدين .. وايضا تاريخ عجيب لسلسلة احداث سياسية واجتماعية ثقيلة شهدها العراق في كل من القرنين التاسع عشر والعشرين .
انني اقول بأن الجواهري قد جمع كل متناقضات الحياة العربية ليس في طبيعة شعره المذهل ، بل في طبيعة مواقفه السياسية والشخصية المتباينة .. وخصوصا وانه مدح عدد كبير من الحكام العرب وقفوا بأنفسهم على رأس تلك التناقضات ، ومنهم  الملوك والرؤساء والامراء المعروفين في القرن العشرين :  فيصل الاول وغازي الاول وفيصل الثاني وعبد الاله وعبد الكريم قاسم ومحمد الخامس والحسن الثاني واحمد حسن البكر وحافظ الاسد والحسين بن طلال وغيرهم كثير ، ويقال انه ذّم وهجا صدام حسين بقصيدة  شنيعة المعاني ومقذعة الكلمات بقي الناس يتداولوها سرا ، علما بأن علاقة وشيجة كانت قد ربطت بين الاثنين في بدايات حكم البعث ، ناهيكم عن علاقته بالبكر . لقد غادر العراق ولكنه بقي حتى ايامه الاخيرة لا يّصرح بمعارضته النظام السابق بشكل مباشر خوفا من اجهزة النظام .
لقاء واحد ببغداد قبل ثلاثين سنة
     كان هناك ببغداد مثقف واديب موصلي قديم يقطنها منذ عشرات السنين وهو شيخ عجوز يعتني بوقته وصحته والبسته واسلوب حياته وهو العم الاول لوالدي رحمهما الله .. كان يسكن في بيت جميل بشارع الضباط في منطقة راغبة خاتون بالاعظمية في بغداد واسمه الحاج جميل الجميل .. كان يبرّني كثيرا ومن اسعد الاوقات عندما ازور بغداد من وقت لآخر ان اجلس اليه طويلا واستمع الى ذكرياته الخصبة واشعاره وافكاره القديمة وكانت له صداقاته الواسعة مع مثقفي بغداد القدماء ..
أخذني يوما معه الى مقهى الزهاوي الكائن بشارع الرشيد وكان عمري قد تجاوز العشرين بقليل ، ووجدت نفسي في حلقة موسعة من شيوخ كبار السن البغداديين الافندية المثقفين المشهورين .. وبينهم على ما اذكر : كوركيس عواد ومحمد مهدي الجواهري وحافظ جميل ومحمد بهجت الاثري وآخرين لم اعرفهم ..
كانوا يتداولون حديث الشعر والنثر ، والجواهري معجب ايما اعجاب بقصيدته العصماء التي اقامت الدنيا ولم تقعدها  ، تلك التي دبجها عندما صدر بيان آذار / مارس وعقد الصلح بين الاكراد والحكومة البعثية في العراق ، وشارك الجواهري في الاحتفالات الكبرى ، والتي كان مطلعها : طيف تحّدر من وراء حجاب غضر الترائب مثقل الاهداب .
اذكر انه كان يجيب بذكاء وسرعة وبلهجته النجفية التي يتأتىء ببعض كلماتها المفخمة على اسئلة مارقة كان يوجهها اليه الشاعر اللاذع حافظ جميل بتبديل كلمة او تغيير قافية او يماحكه بقوله ان الجواهري شاغل للناس من دون ان يمالىء الدنيا كالمتنبي فالدنيا قد تبدلت .. فيجيبه الجواهري انه يكفيه قد شغل الناس ودّوخ رؤوسهم سياسيا من دون توت ولا رمان ولا عنب !! وفي جوابه تورية لقصيدة حافظ ( يا توت يا رمان يا عنب ) !!
    كانت جلسة رائعة لم اشهد مثلها في حياتي بين رجالات اصحاب عراقة من المثقفين العراقيين القدماء الذين لهم اسلوبهم في الحوار ولهم تقاليدهم في الاداء ولهم سعة في التفكير ولهم سماحة في النقاش وقبول التورية ولهم شفافية في الاختلاف ولهم جمالياتهم في التصوير ولهم فوق هذا وذاك اختياراتهم للنكتة التي لا يتدراكها من لم يكن سريع البديهة ويتلقفها الجميع بسرعة فيتندرون على اشخاص معينين مسؤولين سياسيين او مثقفين جدد مشاركين في السلطة  ربما بلغة صعبة المراس يفهمونها كعراقيين ولكنها لا يدركها غيرهم .
انني اذكر بأن الرجل الجواهري رحمه الله ، كان يختلس النظرة الي ربما مستفهما عن حضور شاب في مقتبل العمر هذا الجمع الحافل وكنت ساكتا اسمع فقط ما يدور على الالسن وما تعتمله المشاعر ..
كان الجواهري يدخن سجائره التي لا يحصى عددها  اذ يشعل الواحدة من عقب الاخرى ويتلذذ بشرب الشاي الداكن .. وفجأة يسأل الجواهري عني فيجيبه عمي الكبير الاستاذ جميل الذي كنت اجلس بقربه وعلى طرف من الكنبة الخشبية العتيقة : هذا حفيد علي الجميل ، فيفرح الجواهري فرحا كبيرا ويغدو جذلا ويسألني عن دراستي وهواياتي ولكن حافظ لم يتركه على سجيته .
وكان جدي الاستاذ علي الجميل ( المصلح والكاتب العراقي المعروف المتوفي في العام 1928 ) قد اسدى للجواهري خدمة عابرة بتدخله الشخصي مع ساطع الحصري ابان العشرينيات بصدد المشكلة التي احدثتها افكار قصيدة  للجواهري عندما كان معلما في المعارف وحاربه الحصري حربا لا معنى لها تحت ذرائع واهية منها اتهامه بالشعوبية ومدح ايران  !
     انفض القوم من جلستهم على مهل وبعد قرابة اربع ساعات ، ففي الساعة الواحدة ظهرا كان كل من المجتمعين ينتظر سيارة لتقله الى بيته اذ حان وقت الغداء .. واذكر ان الجواهري خرج بعد ان حيانا باصابعة الطويلة وكوفيته ذات الالوان المبهرجة وعبر على الجانب الاخر من شارع الرشيد ووقف ينتظر سائقه وترقبته حتى ذهب  بعد ان توقّفت السيارة فجلس الى جانب سائقه وانطلق  نحو بيته .
واخيرا اعتقد ان محمد مهدي الجواهري سيبقى علامة بارزة في تاريخ الادب العربي .. وسيبقى آخر سلاسل شعراء العربية للشعر الكلاسيكي وهو مسك ختام تاريخهم المزدهر ..
ان شعره سيبقى خالدا وستنسى مواقفه المضطربة .. ولقد قرأت مذكراته المهمة خلسة بعد كانت ممنوعة في العراق ايام الحكم السابق واستفدت منها في تقييم الرجل لزعماء ومثقفين عراقيين ظلمهم قدرهم وظلمهم شعبهم ..
ولكنني اقف دوما امام شعر الرجل ونثره وقفة مطولة اذ انه صاحب معاني خصبة لها بداية ولكن ليس لها أي نهاية ..
فصلة من كتاب سّيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ  ( نشر على حلقات وسينشر كاملا حال اكتماله ) .
www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

210
دعـــــــوا لبــــــــنان يعيـــــــــش
د.سيّار الجميل

دوماً يخطئون التوقيت معك. لبنان لا ادري متى ينتهي الآخرون منك ومن التدخّل في حياتك لكي تعرف ماذا يريدون منك في هذا الظرف الحرج. ماذا يريد السيد حسن نصرالله أن يقول للعالم؟ ما صفته عندما يحرج لبنان في مثل هذا الوقت بالذات؟ ماذا يريد الآخرون من لبنان في مثل هذا الصيف، وهم يعلمون بأن لبنان يعتمد على السياحة في مدخولاته؟

لماذا يريدون حرق لبنان بالتصعيد مع اسرائيل في مثل هذا الوقت بالذات؟ لماذا يُفَجّر الوضع في لبنان بالذات ليكون في فوهة البركان ثانية؟ ما هذا المزاج الثوري الذي يرقص على حلبته اولئك الذين لا يقدّرون الامور حق قدرها؟ ما الذي سيجنيه لبنان غير الحرائق والمآسي وضرب اعماقه وهو غير قادر بشكل رسمي على ان يدخل في حرب مع اسرائيل؟

لقد بدأ التصعيد من خلال خطابات السيد حسن نصرالله النارية لتصل ذروتها بأسر جنديين اسرائيليين، ولا ادري ما الذي سيكسبه لبنان من هذه المغامرة التي اعتبرتها اسرائيل "عملاً حربياً". وبدأ اولمرت يهدد الحكومة اللبنانية ويتوعدها ويحمّلها المسؤولية ليحمّل الشعب اللبناني كله اخطاء "حزب الله". علماً بأن الاخير هو بمثابة دولة داخل دولة، ولا يسمع للحكومة ولا يحترم شرعيتها. وهكذا، كما تعودنا دوماً هناك مَن يخطط من وراء الحدود اللبنانية لأعمال ينفذّها "حزب الله"، ثم يأتي لبنان كي يتحمل نتائجها ومسؤولية الاحداث فيدفع اللبنانيون الاثمان الغالية.
هل من المعقول أن يحدث كل هذا في الجنوب والحكومة اللبنانية لم تكن على علم – على حد تصريح وزير الاعلام اللبناني؟ هل من المعقول أن يحدث كل هذا مع اسرائيل والحكومة اللبنانية لا تتحمّل المسؤولية ولا تتبنى ما جرى من احداث على الحدود الدولية ويجري – كما يستطرد الوزير مصرّحاً؟ مَن الذي يتحمّل المسؤولية؟ لماذا تحرق اسرائيل مطارات لبنان من دون أن يقترف المجتمع اللبناني والدولة اللبنانية انتهاكاً دولياً؟ هل تسمح أي دولة في المنطقة أن يخرّب لبنان مصالحها السياسية والاقتصادية والحيوية من وراء الحدود وتسكت على ذلك؟
ما الذي يجعل اللبنانيين يسكتون ويصمتون على ما يقوم به حزب يرتبط بعلاقات استراتيجية مع دولة بعيدة؟ هل خوّل اللبنانيون الأخ حسن نصرالله أن يلعب بمصير لبنان بتفجير مشاكل مع اسرائيل، ثم تضرب اسرائيل كل مصالح لبنان الحيوية وفي مثل هذا الوقت بالذات؟ ما الذي سيكسبه لبنان من خطف جنديين اسرائيليين؟ هل سيغدو لبنان ضحية اخرى من ضحايا هذا العصر الذي بدا وكأن العصابات تحكمه؟
وانني اسأل كل الاخوة اللبنانيين: هل تريدون حرق هذا البلد الجميل لاسباب لن تجعلكم ابطالاً في عصر بات الكل يبحث فيه عن مصالحه ومنافعه؟ هل ترضون أن يغدو بلدكم مخترقاً كالعراق تعبث به ارادة هذا ومخططات ذاك؟ هل تقبلون أن يتحوّل لبنان من جديد بركة دم مشتعلة لسنوات طوال مقبلة؟ هل تريدون من لبنان الذي عرف كيف يهدأ ويسالم بعضه بعضاً ان يحترق؟ ان كانت ايران تريد ان تصارع اسرائيل فلتجد غير لبنان ساحة عمليات بها. ولكن اسألوا عن صدقية هذا او ذاك في مسألة تحرير فلسطين قبل أن تكونوا ضحية الشعارات والاوهام كالتي عاش عليها العراقيون ردحاً طويلاً من الزمن ليجدوا انفسهم وقد تحطّم بلدهم وجلسوا يتصارعون فوق احجاره. وهذه وتلك من الدول المجاورة تغذي نيرانه المشتعلة!
انني اتوجه بالسؤال مباشرة الى الأخ السيد حسن نصرالله: ماذا كنت تتوقّع من اسرائيل؟ هل تدرك بأن اسرائيل تجدد نفسها من عهد لآخر ومن زمن لآخر، وهي تدرك حجم التحديات التي تواجهها اكثر منا نحن العرب؟! هل تعتقد ان العالم سيقف معك في مثل هذه المغامرة التي لا معنى لها غير خراب لبنان؟ هل تصريحاتك الصارخة ستبني لبنان؟ وهل اعمال كهذه ستساهم في تطوير اقتصاد لبنان؟ اذكر في واحدة من زياراتي للبنان كيف قصفت اسرائيل محطات توليد الطاقة الكهربائية وكنت بالسيارة قريباً منها ثم عاشت مدن لبنان في ظلام دامس نتيجة واحدة من هذه الاستفزازات التي لا علم للحكومة اللبنانية بها!!

اتمنى على الشعب اللبناني ان يحكّم العقل في معالجة هذه الظروف الصعبة التي يمر بها، وان تقف كل القوى السياسية والبرلمانية والاجتماعية اللبنانية لتقول كلمتها: كفى تدخلات بشأن لبنان من جانب هذه الدولة او تلك؟ دعوا لبنان يعيش بسلام، فلقد اعطى الكثير الكثير. دعوا لبنان يقرر بنفسه من دون أي وصاية ولا أي تدخلات. دعوا لبنان، فلقد تدخل الآخرون في شؤونه منذ ازمان مضت ولم يجنِ غير الخيبة والمآسي والانقسمات والحروب. واقول لاسرائيل: كفى ايذاء للبنان ولمصالحه الحيوية. وكفى ضرباً لبنيته التحتية. وكفى اختراقاً لاجوائه وسمائه وضرباً لأهله وأرضه وشعبه وهو ليس مسؤولاً أبداً عن هذا المهرجان. دعوا لبنان للكلمة المبدعة والاغنية الصادحة والقصيدة الجميلة والوجوه الباسمة. دعوا لبنان يسترجع عافيته بعد سنوات الحرب الاهلية القاسية. دعوه فهو الرئة الحقيقية التي تتنفس بها كل هذه المنطقة منذ ازمان. فهل ستتحقق امنياتي الطيبة لكل من لبنان والعراق؟ اشك في ذلك ما دامت سياستنا تصنعها العمائم!

تورنتو – كندا[/b][/size][/font]

211
حوار صريح مع المفكر العراقي الدكتور سّيار الجميل
حول الاحداث الجارية والعدوان على لبنان
أجرى الحوار : السيد عمار الحسيني
مندوب وكالة مهر وصحيفة اعتماد ملي وصحيفة اعتماد

السؤال الاول
هل يوجد سبب خاص لتكون عملية اسر الجنديين الصهيونيين بواسطة حزب الله في هذا الظرف الخاص من الزمن ؟
 
-لا اعتقد ان هناك سببا حقيقيا لدى حزب الله في لبنان ان تكون له مثل هكذا عملية  لأسر جنديين اسرائيليين .. فمسألة الاسر عملية ليست طبيعية في مثل هذا الوقت بالذات ، ولكن يبدو لي ان هناك اسبابا اقليمية حقيقية لأطراف ينفّذ حزب الله اجندتها السياسية ولا عيب ان نذكر ذلك فالمنطقة تعيش فوق بركان كما قلنا ذلك قبل شهرين وذلك امر يدركه الجميع .. ولكنني اقول ان هكذا لعبة خطيرة وبمثل هذا التوقيت ستعم آثارها ليس على لبنان وحده ، بل على كل المنطقة .  لقد اختلف الزمن بين الذي كان عليه سابقا باسر جنود او ضباط او رجال اعمال اسرائيليين في الماضي وبين هذا الزمن الذي لا يريد الاسلاميون من الزعماء والقادة والساسة فهمه والوعي به والتوافق معه ، وهذا نفسه الذي كان يتشدق به القوميون سابقا .. فهم يحملون نفس الشعارات التي لا يمكن خلط الاوراق من خلالها .. ويمكنني القول ايضا انه لا يمكن المجازفة بتنفيذ هكذا لعبة عادية تكون السبب في عدوان اسرائيلي  مفجع على لبنان وغير لبنان .. وقد رأينا ما الذي حصل في لبنان اليوم . وبعيدا عن العواطف الوطنية والقومية والدينية .. فخراب لبنان وتدميره لا ثمن له كما جرت العادة في تدمير بلدان اخرى لم تحّصل على شئ !! ان السياسات الاستراتيجية  وصنع القرارات الصعبة لا يمكنها ان تنبثق على ايدي  اناس لا تدرك حجم  الفعل وردود الفعل .. ان اختطاف جنديين اسرائيليين سوف لا يجعلنا ننتصر على العالم .. والحرب ليست لعبة سياسية او عملية جهوية او خطوة طائفية .. الخ  لقد انتج ذلك خراب لبنان وتهشيم اقتصاده وتعطيل الحركة فيه وتحطيم السياحة فيه .. بل استطيع القول ان حزب الله بمثل هذه العملية الغبية قد قّدم مشنقته الى جلاديه .. ولا يمكن للسيد حسن نصر الله بعد اليوم ان يتبارى بالشعارات ، حتى وان توقّف اطلاق النار  . كان عليه ان يجد وسيلة اخرى للخروج من أي مأزق يعيشه !

السؤال الثاني :
لماذا تصعد اسرائيل بدلا من القبول بالامر الواقع والدخول في مفاوضات لاطلاق
اسيريها؟
-اعتقد اننا لم نزل نعيش اوهام الماضي واننا قد فقدنا ذاكرتنا التاريخية ايضا .. واننا قادرون على مواجهة التحديات الشرسة بالاوهام وبضاعة الكلام واستعراض العضلات .. ونقنع انفسنا بأن اسرائيل ستقبل الجلوس في مفاوضات وحتى ان قبلت فمن هو صاحب الورقة الرابحة ؟ .. لم نزل نتوهم ان اسرائيل قد فقدت توازنها وانها ضعيفة واننا اقوياء .. لم نزل نعيش باوهام واخيلة لا تتسق والواقع المرير ! ولم ندرك حتى اليوم ما الذي يمكن لاسرائيل ان تفعله في اللحظة التاريخية الحاسمة .. وانها تنتهز هكذا فرص ثمينة للضرب في العمق ضربات موجعة لا يحس بها الا من يكابدها .. بل ويتوهم الاخ حسن نصر الله انه قوة جبارة خارقة في هذا الكون .. وقد افتقد الاجماع الوطني اللبناني بهذه السياسات والشعارات .. ان هذه العملية قد اعادت الى الاذهان ما يصّرح به الناس من الشعارات والاوهام .. او ما تصرخ به العامة في الشوارع وكأن العالم يسمعنا ! صحيح ان هذه العملية قد كلّفت لبنان الكثير ، ولكنها ـ كما يقول العديد من الاصدقاء اللبنانيين ـ قد خلّصتهم من اسطورة نصر الله التي لا ندري كيف سيواجه اللبنانيين بعد اليوم ! لابد ان نعيد التفكير في مسببات هذا العدوان الاسرائيلي قبل ان نجلس ونندب ونبكي على نتائجه الكارثية .. لابد ان نعيد التفكير بأن الحرب مع اسرائيل ليست نزهة وانها ليست لعبة كر وفر ، او انها اضرب واهرب .. بل في اسرائيل تقاس الامور بالخطط وصناعة العمليات بدقة متناهية وهي قادرة على اقناع العالم خصوصا ونحن العرب لا رصيد لنا اليوم في هذا العالم .. ان العالم يتصورنا وحوشا ضارية  .. وعلى العرب والمسلمين ان يدركوا حجم مخاطر اسرائيل قبل اللعب معها .. فليس قوة حزب الله اقوى من جيوش جمال عبد الناصر ولا اقوى من جيوش صدام حسين !!


السؤال الثالث :
  هل نحن على اعتاب حرب عربية اسرائيلية اخرى؟

-لا اسميها حربا عربية اسرائيلية ، فالعرب سوف لن يشتركوا في هكذا عملية .. قل انها حرب غير متكافئة من قبل حزب الله وبين اسرائيل والمتضّرر الاساسي هو لبنان والمتضرر الاخر هو العرب .. وقد نجحت ايران في ان تشغل العالم عنها ، وان اسرائيل تسميها حربا لكي تفهم العالم بأن العرب يعتدون عليها ويأسرون جنودها !!
ان ما نشهده اليوم هو تعبير فاضح عن انقسام جوهري ازاء التعامل مع اسرائيل التي قامت بعدوان صارخ على لبنان ، ولكن يتحّمل حزب الله المسؤولية عنه ، فالحزب يمّثل احد طرفي المعادلة في التعامل مع اسرائيل وهو بدون شك لا يمثّل كل الارادة اللبنانية ، فلبنان منقسم على نفسه اليوم  .. اللبنانيون الحقيقيون لا يريدون الحرب ولا يريدون خراب بلادهم الجميلة .. ان حزب الله يمّثل كل من ايران وسوريا ازاء الطرف الاخر الذي تتزعمه اليوم كل من السعودية ومصر والاردن .. اما السلطة الفلسطينية فهي منقسمة بين طرفين اثنين ، طرف حماس الذي يؤيد حزب الله وطرف ابو عباس وفتح الذي يؤيد المشروع السلمي .. ان اللاعب الاساسي لما وراء الاستار هو ايران والعرب ينسحقون بين قوتين اقليميتين !

السؤال الرابع :
ما مدى تاثير هذه العملية على الوضع في فلسطين المحتلة بشكل خاص ومنطقة الشرق الاوسط بشكل عام؟
-انني اعتقد ان ما يحدث اليوم ستكون له عواقبه البالغة على منطقة الشرق الاوسط برمّته .. ان الجولة التي ستكسبها اسرائيل دوليا واقليميا ستطلق يدها القوية على كل من يقف في وجهها حتى في أي مفاوضات قادمة .. وحتى ان لم تكسب ، فهي قد حققت عدوانا صارخا مخربا من يتحمّل مسؤوليته ؟ لقد تحجّم اليوم دور حماس بعد هذا الدرس البليغ الذي لن يفق عليه العرب اليوم ، ولكن ضرب المصالح الحيوية اللبنانية وفي مثل هذا الوقت بالذات سيؤخر لبنان كثيرا اذ انها الان تتحمّل عبْ الضربة الصاعقة وعندما ستفيق ستجد ان لا احد يقف الى جانبها ! اما حماس ، فستكون في رحى المعركة الحقيقية بعد اتمام عملية علس حزب الله لتستدير اسرائيل اليها فتعلسها هي الاخرى ! كان المطلوب من كل من الطرفين ان يناورا اكثر ، ويلعبان باوراق سياسية بدل هذا الهوس الذي سينهيهما او على الاقل يحجّم ادوارهما .. انني اعتقد بأن من ساهم في اذكاء الموقف واشعاله لم يدرك ابدا بأنه يقّدم لاسرائيل هدية ممتازة لتنفيذ ما تريده منذ زمن بعيد خصوصا وان المنطقة تعيش على بركان وستخرج اسرائيل منه رابحة مرة اخرى .. وسيخرج منه العرب منه بخفي حنين بعد خراب لبنان وربما غير لبنان .. ان السياسات التي يصنعها اليوم بعض الثائرين من الشباب الجدد ستكلفنا ثمنا غاليا ، كما كلفتنا مغامرات من سبقهم منذ خمسين سنة !

السؤال الخامس
لماذا تتهم اسرائيل سوريا وايران بالوقوف وراء هذه العملية؟
-هذه حقيقة واضحة .. لماذا نخفي رؤوسنا في الرمال ؟ لماذا لم نقل الحقيقة سواء قالتها اسرائيل ام لم تقلها ؟ ولماذا لم نقلها قبل ان تقلها اسرائيل ؟ حزب الله له علاقاته الصريحة مع كل من البلدين سوريا وايران .. وواضح كم هو حجم العلاقة بين الطرفين .. وان كل عمليات حزب الله يباركها كل من النظامين .. واذا كان حزب الله قد أسر جنديين اسرائيليين ، فان ذلك قد تمّ بمباركة سياسية واعلامية من قبل كل من النظامين .. بل ولم يعلن عن أي موقف مضاد من قبل النظامين ازاء ما يفعله الاخ حسن نصر الله  وان تصريحاته تأتي في سياق سياسي معّبر عن ارادة كل من النظامين سواء في القضية الفلسطينية ام المسألة العراقية .. فلماذا ننكر ذلك ؟ انني اعتقد ان ايران لها اجندة سياسية تختلف عن الاجندة السورية ولكنهما تتفقان في الاهداف ، فاذا كانت ايران ستكسب من وراء هذه العملية ، فان سوريا ستفقد الكثير من اوراقها ، والسؤال : هل ستبقى سوريا تلعب بورقتها ازاء اسرائيل في الارض اللبنانية ؟ ام انها ستضطر لفتح جبهتها الحدودية مع اسرائيل ؟ هذا سؤال مهم .. هل ستشتعل الجبهة السورية مع اسرائيل ام ستبقى باردة خامدة ؟ .  اما لبنان فهو الخاسر الاكبر لأنه شعبا وحكومة قد ارتهنت ارادتهما من قبل حزب الله الذي يمّثل دولة داخل دولة ولكن ربما ستكون هذه العملية بمثابة بداية لنهاية حزب الله وعند ذاك سيبدأ العمل باوراق جديدة .
السؤال السادس
ماهو تاثير هذه العملية على الحوار الوطني اللبناني والوحدة الوطنية اللبنانية
بشكل عام؟

-ان تأثيرها كبير جدا وصاعق جدا ومؤثر جدا .. ان الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 كان بريا ، مما خلق ردود فعل غاضبة على المحتل وعلى نتائج عمليته تلك .. اما الضربة الاسرائيلية اليوم فهي تطال البنية الحيوية اللبنانية فردود الفعل الغاضبة على مسببات الحدث وربط ما نتج عنها بالاسباب .. ان الشعب اللبناني اليوم متألم على مصالحه ومنافعه اكثر من تألمه على من اشعل فتيل المعركة التي لا وجوب لها ابدا وجعل العدوان الاسرائيلي بمثل هذه البشاعة  .. هناك كما سمعت بعض الاطراف مهتاجة لفقدان مصالحها السياسية مع هذا الطرف او ذاك .. وهناك من يأمل في ان تكون هذه العملية هي نهاية افراغ حزب الله من سلاحه ومحاسبة السيد نصر الله على " حجم ما اقترفه .. " . انني ارى ان هذه العملية سوف لن تنهي مشكلات لبنان ، اذ ستبقى مشكلات لبنان صعبة على مدى زمني ليس بالقصير ، فالانقسامات داخل لبنان ليست سياسية بحتة ، بل طائفية بحتة ولكن اخشى ان تصبح لبنان في اوضاعها كالعراق خصوصا وان التدخلات في لبنان لا تقل خطورة عن التدخلات في العراق .. كما واشّدد على الدور العربي في الوقوف الى جانب كل من لبنان والعراق علما بأن تعقديات العراق اكثر صعوبة من لبنان .

السؤال السابع
   كيف تقرأ لنا مستقبل المنطقة في ظل هذه الظروف؟
-ان مستقبل المنطقة مرتهن بايدي صناع القرار في الاقليم اولا ، ومرتهن اليوم بيد ما تريده الولايات المتحدة الامريكية ثانيا .. وانني اعتقد ان ما يجري اليوم من قبل اسرائيل سيصّب في صالح ما ترمي اليه الولايات المتحدة الامريكية .. كما ويمكنني القول بأن الانقسام الحاصل اليوم في المواقف الاقليمية هو الذي مهّد الفضاءات الواسعة للولايات المتحدة ان تتدخل تدخلات مباشرة في قضايا المنطقة التي تزداد تدويلا يوما بعد آخر .. ان مستقبل المنطقة محفوف بالاخطار الجسام ومن سوء التفكير السياسي لزعامات وقيادات وقوى واحزاب عربية واسلامية وطائفية واقليمية وجهوية وطفيلية  .. انها ما زالت تستعرض العضلات امام العالم وتتشدق بالشعارات الصارخة .. وانها لا تتعلم من الدروس التاريخية ابدا .. كما انها تمّهد لتفجير الاوضاع ثم تجلس تندب وتولول وتطلب مساعدة المجتمع الدولي .. ان الصراع في المنطقة لا يقوده اصحاب منطق سياسي ممن تمّرسوا على المفاوضات وعلى قيادة الازمات ، بل انهم يأتون الى الزعامة او القيادة من دون أي تجارب ولا أي خبرات ولا أي ذكاء ولا أي مناورات ولا أي خطط وحسابات .. لقد انتقلنا اليوم في صناعة قراراتنا المصيرية من رجال انقلابات عسكرية الى رجال عمائم دينية وكل من الاثنين مع احترامي لهما لا يجيد اللعب بالمقدرات السياسية وليست له أي مقدرة في اقناع العالم بما نريد وبما لا نريد .. مستخدمين الهوس العاطفي الديني او الطائفي او الشوفيني كي تصفق لهم الملايين من دون أي دراية بالنتائج .. وقد تعلمنا ان كل النتائج كارثية على منطقتنا ومحيطنا كوننا لا نحسن فقط صنع قراراتنا ، بل ولا نستطيع البتة ترويج بضاعتنا السياسية وقضايانا الحقيقية امام العالم .  ان المنطقة مقبلة على تغييرات جذرية في السنوات القادمة .. وستفقد مجتمعاتنا ثقتها بالاسلاميين ليس لأنهم اسلاميون ، بل توّضح انهم من اعجز الناس عن صنع القرارات ومن اكثر الناس استهزاء برأي الاخرين .. وانهم لا يعتمدون أي خطة عمل ولا برنامج رأي بل تسّيرهم العواطف وتصفيق الجماهير .. واخيرا ، لابد ان نقول بأن من يقف ليدلي بكلامه صريحا وواقعيا لا ينطلق من أي منطلق طائفي ولا جهوي ولا شوفيني .. اننا ضد هذه الحرب اللعينة وضد هذا العدوان الهمجي .. لأن لبنان لا يستحق ان يقف وحده في الميدان مخربا .. ولأننا لا نريد لبنان ان يبقى بورصة للمناورات ولا مسرحا يتلاعب عليه الاخرون .. لابد ان يتوقف هذا العدوان مهما كانت الاثمان .. ولنسأل بعد ذلك : ما جدوى كل ما حصل ؟ فهل من حساب للمقصّرين والمذنبين ؟؟

16/7/2006[/b][/size][/font]

212
لبنان: حرب نظام أم كسر عظام ؟؟
د. سّيار الجميل
مؤرخ عراقي
www.sayyaraljamil.com

 في كل مرحلة من التاريخ لنا  نحن العرب مهرجان دم وتدمير ..  يأخذنا نحو الخراب والدمار !!  في كل مكان وزمان ندفع نحن بأنفسنا إسرائيل لتنفيذ خططها في التدمير !  بل ان ثمة طابور خامس قد اخترق مجتمعاتنا وبلداننا وهو يؤجج نار الحرب بمسميات عربية كي يستخدم العرب وقودا من اجل أهداف لا يمكن تحقيقها في هكذا ظرف زماني وفي هكذا واقع مكاني .. اسأل : لماذا نبكي اليوم لبنان ؟ ولماذا يصفق آخرون للمأساة ؟ من فوّض الربابنة الجدد في أكثر من بلد عربي أن يدّمروا بلداننا بلهيب عواطفهم وهوس تفكيرهم وقلة حيلتهم وانعدام مرونتهم ؟؟ لماذا ينقسم العرب ثانية بين من يهّلل للمواجهة في مثل هذا الوقت وبين من يتألم لما حلّ بلبنان في اقل من اسبوع ؟ وهل يريد اللبنانيون كلهم ان يعيشوا هذا المهرجان الصعب لوحدهم ؟ هل كان لبنان قد استعدّ لمثل هذا الصراع ؟ هل علم الناس ان رد الفعل سيكون بمثل هذه القساوة ؟ اذن ، ما هدف هذا الصراع بهذا الوقت بالذات ؟ ولماذا لم يدرك كل من يؤيد هذه  " الحرب " حجم نحر لبنان من دون شعارات لم تزل تأخذنا من هزيمة الى أخرى ؟؟
     نعم ، ما الذي سيجنيه العرب من هذا العدوان الغاشم على لبنان في مثل هذه الاونة الحرجة ؟؟ من الذي يسيئ الى حياتنا العربية وسياستنا  التي هي بأمس الحاجة الى التلاؤم لا الى الانقسام ؟ من الذي يتدخّل في شؤوننا بكل وقاحة وباشكال مباشرة من دون ان يرتدع ولا ان يستحي ؟ انظروا ما الذي يجري في العراق ؟ وانظروا ما الذي سيجري في صنوه لبنان ؟ ان الكل يعترف بمخاطر اسرائيل ، وان حربها اليوم ضد لبنان لا معنى لها ـ على حد توصيف  الاخ عبد الرحمن الراشد ـ .. وعلى لبنان أن يعي بأن ما يجري يعد بمثابة انتحار تاريخي لابد ان يتراجع عنه من اوقده .. لا ان يزيد من عناده بعد كل هذا الخراب ، ويجد من يطّبل أو يزّمر له !
     على العرب أن يعيدوا التفكير ، ويكونوا اكثر عقلانية في قياس الامور ويفكروا في النتائج المأساوية والمصير القادم .. انني اعلم بأن العرب رسميا وشعبيا ينقسمون اليوم الى قسمين اثنين اولهما ينساق وراء عواطفه الساخنة التي تذكيها درجة وطنيته وشعاراته والتزامه بـ " المقاومة " في تأييد الاسباب مهما كانت النتائج . وثانيهما يحتكم في وطنيته للحكمة والعقل والمرونة في معارضة التبريرات وقياس ما سيترتب على الاحداث غير المتكافئة من نتائج كارثية .. ان هذا الانقسام واضح جدا لدى الرأي العام ، يعّبر عنه ليس في اجتماعات الدول العربية ، بل في ادبيات واعلاميات ومواقف قوى واحزاب ونخب ..   
     لا اقول ان اسرائيل ستكسب الجولة بمثل هذا العدوان او ذاك  كما تكسب دوما ، ولكنها تريد كسر عظام المنطقة لأوهى الاسباب .. وعليه ، فان التناطح معها لا يجدي نفعا  ابدا ، بل لابد من كسب العرب الجولة السياسية دوليا بوضع الكرة دائما في ملعبها .. ان الصراع اليوم ليس صراع وجود ، فلقد كسبت اسرائيل الجولة مذ اعترف العرب بها في مؤتمر مدريد .. ان العرب بحاجة الى ان يكونوا فنانين في ادارة الازمات وكيفية التعامل معها على اسس  تجارب الصراع العربي الصهيوني السابقة !  ولكن علينا ان نعترف بأن المشكلة لم تعد عربية صرفة ، اذ دخلتها عناصر اقليمية اخذت على عاتقها اذكاء الحرب في كل المنطقة .
        وانني اسأل : هل تريدون حرق لبنان .. هذا البلد الجميل لاسباب سوف لن تجعلكم ابطالا في عصر بات الكل يبحث عن مصالحه ومنافعه ؟ هل ترضون ان يبقى لبنان مخترقا تعبث به ارادة هذا ومخططات ذاك ؟ هل تقبلون ان يتحّول من جديد الى بركة دم مشتعلة لسنوات طوال قادمة ؟ هل تنفع لبنان هوس الخطابات واستعراض العضلات وتوهم الانتصارات ؟ الى متى يبقى العرب ضحية الشعارات والاوهام .. وهناك من يغذي نيرانه المشتعلة ؟! وأسأل : ماذا كنتم تتوقّعون من اسرائيل ؟ هل سيقف العالم معكم في مثل هذه المغامرة التي لا معنى لها غير خراب لبنان ؟ هل التصريحات الصارخة ستبني لبنان ؟  الى متى يدفع الاثمان الغالية والاخرون يتفرجون على مآسيه؟ انني اذكر في واحدة من زياراتي لبنان عام 1996 كيف قصفت اسرائيل محطات توليد الطاقة الكهربائية وكنت بالسيارة قريبا منها .. وعاشت مدن لبنان في ظلام دامس زمنا طويلا نتيجة استفزازات التي لا علم للحكومة اللبنانية بها !!
    انني اتمنى على الجميع ان يحّكم العقل في معالجة هذه الظروف الصعبة ، وان يقف الجميع ليقولوا : كفى لهذا الترويع الهمجي الناتج عن صناعة مخطط  للتوترات .. وكفى التدخّل بشأن لبنان ؟ دعوه يعيش بسلام ، فلقد اعطى الكثير .. دعوه يقرر بنفسه من دون أي وصاية .. واقول لاسرائيل : كفى ايذاء للبنان ولمصالحه الحيوية .. وكفى ضربا لبنيته التحتية وعدوانا على شعبه بالطائرات .. وكفى اختراقا لاجوائه وسمائه وضربا لاهله وارضه وشعبه الذي ليس مسؤولا ابدا عن هذا المهرجان .. دعوا لبنان للكلمة المبدعة والاغنية الصادحة والقصيدة الجميلة والوجوه الباسمة وللمدن الحالمة .. دعوه يسترجع عافيته بعد سنوات تلك الحرب الاهلية القاسية .. دعوه ، فهو الرئة الحقيقية التي تتنفس بها المنطقة منذ ازمان ، فهل ستحقق امنياتي الطيبة ؟ انني اشك في ذلك .

البيان
19 /7/2006[/b][/size][/font]



213
واللي شبكنا يخلصنّا .. !!
أ.د. سّيار الجميل
مؤرخ عراقي

هذا العنوان لم يكن من وحي افكاري ، بل نقله لي الاخ السيد حميد الكفائي في آخر لقاء لي معه نقلا عن تعبير دوما ما يردده الاخ الدكتور حسن البزاز .. واعتقد ان له معاني مستترة عديدة .. فكل يوم يمضي على العراق والعراقيين ومشكلاتهم تتعّقد ومعضلاتهم لا تجد لها حّلا او تسويّة .. بل وان كل الحلول والمشروعات ان وجدت ، فهي لا تنفع ابدا في اخراج العراق واهله اجمعين من هذا النفق المظلم الذي وجدوا انفسهم يلوذون في الوحل والطين  ..
    والكّل يتساءل حقا : هل كان حلمنا هكذا ؟ هل ما رسمناه في تفكيرنا عن بلاد عريقة زاخرة بكل الامكانات تنتهي متمزقة على مثل هذا النحو المؤلم ؟ هل كّنا نتصّور ان العراق كان خزينا لاحقاد واوبئة وامراض لا اول لها ولا آخر ؟ هل كانت أمانينا وآمالنا العريضة .. مجرد احلام او اضغاث احلام ؟ هل وصل الامر بالعراقيين ان يتخلوا هكذا بسرعة عن تاريخهم الوطني الذي دفعوا من اجله زهرة شبابهم .. وذبح الاطفال حناجرهم وهم يرددون اناشيدهم  من اجل ترابه  ؟ هل يمكننا بهذه السرعة ان نعلن رحيل العراق ؟ كما يريد ذلك كل المستهترين .
     هل يمكن ان اجد العراقيين يزايد احدهم على الاخر بوطنيته وهو ينتظر اللحظة التاريخية التي يجد نفسه حرا ينقّض على اخوته العراقيين ؟ هل اصبح العراقي ندا او خصما .. بل عدّوا للعراقي ويذبح احدهما الاخر بدم بارد ؟ هل ماتت وطنية العراقيين كي يعلن كل طرف عن شعارات محاصصات وتيارات وقوى .. والكل  يتمترس في خندق ضد العراقيين الاخرين ؟ هل وصل الغباء بالبعض من العراقيين الذين باتوا يكرهون كل العراق ان يؤمنوا بما يأتيهم به هذا او ذاك ليبشرهم باقتراب اجل العراق .. ورحيله الى السماء اذ سيتقّطع الى اوصال ؟
     هل بات كل العراقيين اضعف من أي يوم مضى في حياتهم حتى تجتمع الدول المجاورة له لتدعو اهله ان يحموا حدودهم ؟ هل وصلت البلادة بالبعض الاخر ليجد فرصته ويقارن من دون علم ولا خبر بين العراق ويوغسلافيا ؟ هل اصبح العراق بكل ثقله وكل معضلاته وتعقيداته بأيدي اناس لا يفقهون كيف يسيطرون على بيوتهم حتى يجدوا انفسهم وجها لوجه مع اصعب صناعة للقرارات ؟ هل انتهت بمثل هذه العجالة الاحزاب الوطنية وذاب روادها وتبددت مبادئها لتحّل بدلها الاحزاب الدينية  التي لا تعرف الا التخبط والتيه وحشو الكلام ؟؟
    وكيف يأتي كل هؤلاء النواب ورجال الحكومة بمثل هذه النسبة العالية من ارادة العراقيين .. وهم ليس باستطاعتهم ان يمشوا طلقاء لخمس دقائق في شوارع بغداد ؟ هل يمكننا ان نتخيل فقدان العراق من رجاله الاكفاء ونسوته اللامعات والعراق اليوم بأمس الحاجة اليهم .. وقد همشوا واقصوا بل وهجرّوا بالتهديد والوعيد .. في حين يعبث بالعراق ، ويعبث بالعراق كل الجهلاء ورهط من المتخلفين وحشر من الطائفيين وعصابات من السارقين والمهربين والارهابيين ؟؟
      كيف يمكننا ان نتخيل العراق بهذا الوضع وهو يسير نحو حتفه والعالم كله ينتظره كيف سيلفظ انفاسه الاخيرة ؟ هل لنا ان نتصّور حكومة لا تعرف ماذا تفعل وهي عاجزة عن اداء اهم وظيفة لها والمتمثّلة بحماية الناس ؟ والناس من العراقيين يقتلون يوميا بالمئات ؟ كيف لاناس تسلّموا السلطة في العراق سواء كانوا من العراقيين او الامريكيين او غيرهم .. وهم لا يفقهون ردود الفعل التي تشعلها تصريحاتهم واعلامياتهم ومواقفهم ؟  كيف يمكن للعراقيين ان ينسجموا بعد اليوم وقد غابت الثقة من بعضهم البعض الاخر ؟
     كيف يمكننا ان نتحّمل هذه الكارثة التي سوف لن تكتفي بالعراق ، بل انها ستمتد الى دول الجوار قاطبة ؟ كيف باستطاعتي ان اتخّيل بقاء العراقيين يدورون في دائرة النار المفرغة من كل الحياة من دون ان يجدوا طريقا معينا نحو المستقبل ؟؟ كيف يمكننا ان نرى العراق يسير نحو الهاوية ونحن ندرك بأن صوتنا واصوات الاخرين قد بحّت منذ ثلاث سنوات كي لا يسير هذه المسيرة الخطرة ؟
     كم دعوناكم الى ترسيخ الثقة بين العراقيين ؟ كم دعوناكم الى تأسيس حكومة طوارئ والمرور بفترة نقاهة تاريخية ؟ كم دعوناكم الى التخّلي عن اجندتكم الحزبية التي لا تجد العراق الا في اسفل مبادئها ؟ كم طلبنا منكم ان تبدأ العملية السياسية والعراق بلد آمن ؟ كم قلنا لكم ان طبخة الدستور سوف لا تعمل الا بتفكيك العراق ؟ كم قلنا لكم ان العراق بحاجة الى مرحلة انتقالية تضبط خلالها حدوده ، وتوّثق علاقاته الاقليمية ويفرغ من كل الاسلحة وتحل كل الميليشيات والقوى الاوليغارية ويقبض على كل عصابات المرتزقة والحرامية واللوتية والقتلة ؟
     كم طلبنا منكم ان يكون الاعلام العراقي وطنيا من دون أي شعارات طائفية او مواقف شوفينية ؟ كم اصرت بعض الاطراف على ان تكون وزارات معينة بايديها ؟ وملايين العراقيين لا يدركون تأثير هذه المساومات على مستقبله ؟ ولماذا الاصرار على وزارات معينة ؟ وملايين العراقيين اليوم باتت وقد افتقدت كل الامل بسلطة تشريعية انتخبوها بأي شكل من الاشكال ! وما هذا الانقسام عند العراقيين بين من يصّر على انسحاب المحتل من ارض العراق وبين من يصّر على بقاء القوات الاجنبية من اجل حماية السلطة !
     واخيرا ، هل لنا ان نسأل : من الذي شبكنا بمثل هذه الشبكة العصّية وتركنا رهان الانتحار ؟ من الذي دفعنا نحو هذه البئر العميقة ، ولم نعرف كيفية الخلاص ؟ الى متى سينحر ابناء العراق انفسهم لاسباب واهية ؟ متى سيدرك اشرار العراق بأن اهدافهم سوف لن تتحقق  ابدا ؟ متى سيختفي الارهاب من العراق ؟ متى سيأتي من شبكنا ليعترف بجريمته ويسعى  كي ينقذ ما يمكن انقاذه ! متى سيسمع القادة الجدد لاصواتنا لا من اجل انفسهم ومصالحهم واحزابهم وطوائفهم وعشائرهم .. بل من اجل العراق ؟  انني لم اعد السكوت امام خدعة الشعب العراقي كي نخّدره بالاوهام والاماني العريضة .. ولا نحذره من فجائع الايام القادمة .. فهل سيخلصنا ذاك الذي شبكنا ؟ انني اشك في ذلك !

www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

214
الأقليات الدينية في العراق.. لماذا تضطهد ؟

بقلم :سيار الجميل    
يعد العراق من أكثر البيئات العربية ازدحاما بالأعراق والأديان والطوائف القديمة والحديثة، فغدا مجتمعه من أكثر مجتمعات المنطقة مشكلات وتعقيدات، وتتلون فسيفساء مجتمعه بين: الصابئة المندائيين إلى جانب المسيحيين من السريان الاراميين والكلدان والآشوريين وهناك التركمان المتنوعون والأكراد البهدينايون والاكراد السورانيون واللور الفويليون وبقايا اسر المماليك الشراكسة القوقازيين
وهناك اليهود والكاكائيون والكركرية واليزيدية والمعدان والشبك والعجم والأرمن، إلى جانب الأكثرية العربية بانقسامهم الطائفي اليوم بين الشيعة الجعفرية والسنة الحنفية والشافعية، الخ. هذا النسيج الاجتماعي المعقّد الذي كان موحّدا ومتآلفا، نجده نفسه اليوم يتفكك ويتمزق اثر انهيار الدولة العراقية ومؤسساتها التي ورثت ارث العثمانيين، بعد ما لاقاه من الاضطهادات السياسية في الماضي !
لقد بتنا نسمع اليوم ما تلاقيه الأقليات الدينية العراقية من اضطهادات قاسية من قبل جماعات العنف التي يزدحم العراق بها اليوم وهي تفترق بتماهيها ولا تعرف مرجعياتها وليس هناك معلومات عن مصادر تمويلها وارتباطاتها.
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة، 62 ).
لابد من القول، بأن بعض هذه الملل والنحل والطوائف والأنواع العراقية العريقة هي قديمة جدا عاشت في وادي الرافدين وعلى جانبيه منذ آلاف السنين، بل ويمنحنا التاريخ جملة من المعلومات الهائلة عن أدوارهم الناصعة في تشكيل الحضارة العربية الإسلامية ومدى ما قدّموه من مشاركات علمية وأدبية ومهنية وحرفية صناعية وثقافية ومعيشية في الألف سنة الأخيرة،
ولمعت من بين الأقليات أسماء من المبدعين والشعراء والعلماء والأطباء والمهندسين والمترجمين والصنّاع الماهرين، وعاشوا في مجتمع متنوع بين الحضر والريف وهم على أتم حالة من الانسجام والود في الدواخل العراقية، وكانوا يتعرضّون لكل التحديات الخارجية أسوة بأغلبية العراقيين،
ولقد فنيت أديرة وكنائس ومعابد نتيجة الغزوات، بل وتحملوا كل ما تحملته الأغلبية، والى خمسين سنة مضت نلحظ أسمى حالات التعايش بين العراقيين وعلى احسن ما تكون، بل ويجد المؤرخ الجاد نفسه امام تاريخ رائع من التعاون وتكافؤ الفرص والعيش المشترك، ومن المؤسف جدا ان مجتمعاتنا العربية لا تعرف بعضها بعضا حتى يومنا هذا. وعليه، فلقد بقي المجتمع العراقي مغّيبا في كل خفاياه عن بقية المجتمعات العربية لأسباب سياسية وايديولوجية محضة..
اليوم، انقلب المجتمع العراقي على عقبيه ويمر بأعتى حالات العنف وتجتاحه جماعات ودوائر وقوى احتلال وأجهزة خارجية وتيارات ارهاب وطوائف وعصبيات وشرذمات وعصابات، وتصلنا المعلومات المؤكدة التي تناشدنا ان نعلن للملأ في هذا العالم ما الذي تعانيه أقليات العراق السكانية من الاضطهاد وعمليات التهجير القسري والقتل اليومي وشراسة التعامل بالعنف وقمع المرأة واضطهاد الأطفال، وكلها تحت شعارات التكفير والتحريم والتجريم باسم الدين ورفض لهذه الأقوام من الأقليات السكانية التي ارتبطت بأرض العراق منذ آلاف السنين.
ان المشكلة لا تنحصر اليوم بوجود محتل أجنبي على التراب العراقي، بل أصبح التراب العراقي مباحا لكّل دخيل يفعل فيه ما يشاء، ان الأقليات السكانية العراقية تدفع اليوم بأغلى ما عندها، ولقد سمعنا ما تفعله جماعات دينية متطرفة بالطالبات الجامعيات وسمعنا ما الذي مورس ضد الكنائس والأديرة المسيحية العريقة في كل من بغداد والموصل، وسمعنا ما الذي تفعله أحزاب وتيارات دينية متنوعة بالنسوة العراقيات من غير المسلمات في دوائر الدولة او حتى في شوارع المدن، وسمعنا بعمليات النزوح القسرية لأقليات في داخل البلاد او فرارهم وهروبهم إلى خارج العراق، وسمعنا مؤخرا بالاضطهاد المنظّم والحملات القسرية بالقتل او التهجير وتهديد الصابئة المندائيين الذين يقطنون العمارة في جنوب العراق الذي عاشوا فيه منذ الاف السنين، ولقد عشت وعرفت هؤلاء وكل الأقليات الدينية منذ سنوات الطفولة انهم من الناس الطيبين المسالمين الذين يعيشون خائفين دوما من المصير، وها هو المصير قد جاءهم ليلاحقهم قتلا وتشنيعا وحلقا لرؤوس نسوة غير محجبات امام العباد..الخ من الأعمال الدنيئة التي لا يقبلها لا عرف ولا دين ولا أخلاق.
إنني أناشد كل إنسان في هذا الوجود وكل عربي في هذه الأمة وكل المنظمات الإنسانية وكل النشطاء السياسيين ان يلتفتوا إلى ما يحصل داخل العراق، وإذا كانت مشاكل الأقليات الدينية معروفة للجميع في كل من مصر ولبنان، فان هناك تعتيماً مبرمجاً على ما يحدث في العراق ! إنني أدعو الحكومة العراقية للقضاء على كل العصابات والجماعات المتعصّبة.
ان مشكلات العراق لا تحّلها أي مصالحة سياسية ان بقيت عصابات العنف والإرهاب تعبث بنسيج المجتمع العراقي، ولا يمكن ان يهدأ المجتمع ان لم يفرغ العراق من الأسلحة والميليشيات الدينية والطائفية، وسوف لن يستقر العراق ان لم تنته كل الاختراقات التي تمزق العراقيين.
ان التعامل مع الاحتلال الأميركي شيء والتعامل مع التمزقات الداخلية شيء آخر، ينبغي الكف عن خلط الأمور! لا يمكن ان يسترجع العراق عافيته ان بقيت أموره مختلطة بحيث يذبح المجتمع ويصبح ممزقا ثمنا لأجندة معينة لهذا الطرف أو ذاك على ترابه ! ولا يمكن ان يموت كل العراقيين من اجل فاتورة الاحتلال، ولا يمكن ان يبقى الصمت يلازم كل العالم إزاء ما يحدث للعراقيين، كل العراقيين. فهل سيسمعني احد في هذا الوجود؟ إنني اشك في ذلك .
    [/b]

215
اصلاحات جذرية يحتاجها العراق !!

د. سّيار الجميل

     لقد غرق العراق بالتعصّبات وهي ظاهرة مفجعة نخشى ان تجرّه الى ويلات وكوارث بسبب تفجّر ذلك المسكوت عنه منذ ازمان ، ولعّل التراشق اللفظي يوقد جمرا وحجرا .. وخصوصا في مجتمع مثل العراق الذي تكثر فيه الانقسامات وتزداد فيه النعرات وتتفجر فيه العواطف والاوجاع ! ولم يزل المجتمع في مجمله غارق بالتخلف والاوهام والشعوذات والمعتقدات السقيمة .. ولا يمكن ان تنفع أي علاجات فكرية او توافقات سياسية ابدا في مثل هذه المرحلة الصعبة .. بل ينفعها السعي العملي لتقريب وجهات النظر وزرع الكلمة الطيبة من اجل انحسار الكراهية واستعادة الثقة والتخلص من كل بقايا التاريخ البالية .
    انني واثق بأن الانقسامات الموجودة اليوم في العراق هي سبب البلاء وهي التي ستبقي المحتل وهي التي ستنخر في جسد العراق حتى تمزّقه اربا اربا  .. واذا كان البعض من الطائفيين والمتعصبين او حتى من بعض المتوجعين والمتألمين - كما اسمع من خلال ظهورهم على الشاشات التلفزيونية -  يقول بأن الحل يكمن بالتقسيم ( أي : بتقسيم العراق ) ، فهو لا يدري بأن ذلك سيقود بالضرورة الى نتيجتين كارثيتين :
اولاهما ان ليس هناك بلاد عراقية ستبقى حتى ان انقسمت وتفتتت اذ ستصبح اوصالا تعبث بها دول الجوار .
وثانيهما ستحارب الاجزاء بعضها بعضا لأن العراقيين في اغلبهم لا يؤمنون بتقسيم العراق ابدا ، أي بمعنى : اشتعال حرب داخلية ستهلك الحرث والنسل .
    وعليه اقول ، بأن لكل طرف عراقي من الاطراف الثلاثة الكبرى التي ساهم الجميع في صنعها ووجدت الولايات المتحدة الامريكية فرصتها لتبلورها وتطرحها هكذا بصورتها المقيتة على العالم .. لكل طرف من الاطراف الثلاثة ليست مشكلة معينة بل مشكلات لا حصر لها فضلا عن اخطاء ترتكب من هذا الطرف او ذاك ليس بحق العراق نفسه ، فالعراق يمتهن ويجّرح ويقتل يوميا بدم بارد من دون أي شعور بالذنب منذ خمسين سنة ، ولقد زاد الايغال بالطائفية والجهوية والانقسامية بشكل فاضح .. انني ارقب ملامح ممثّل هذا الطرف او ذاك على الشاشات والفضائيات كم تمتقع الوجوه ، وكم يصيب هذا ذاك وكأنه يطعنه بخنجر مسموم في الصميم اذا ما تحدث هذا الطرف عن الطرف الاخر .. ناهيكم عما يرتكب من اخطاء وجنايات بحق الاطراف الصغيرة التي يمتلئ العراق بها .
      ان كل طرف من الاطراف الثلاثة قد ساهم في زرع الكراهية والاحقاد في المجتمع العراقي من خلال حروب باردة عبر الاذاعات والتلفزيونات والصحف والمواقع الالكترونية ويقود هذه الحملة منذ الايام الاولى لسقوط النظام السابق حفنة من الدعاة السياسيين ورجال الدين والكتبة الجدد والاعلاميين والمراسلين .. الذين التحقت بهم عوام مليونية من جماهير العراقيين .. جماهير مليونية هنا ومناطقية هناك .. مدينية هنا وغوغائية هناك .. جماهير لا تمتلك الوعي ولا النظام ولا أي تفكير ولا أي احساس وطني .. همّها الوحيد ان تبصم امام حزب او قائد او كتلة او هيئة او جماعة .. الخ
      وكما شهدنا في الايام الاولى لسقوط النظام السابق تلك الجماهير تسرق وتسلب وتنهب بمباركة من ساسة وقادة واعلاميين وجيوش محتلين بحجة انسحاقاتهم فسمح منذ اللحظات التاريخية الاولى تسجيل انواع او ضروب من السلوكيات المنحرفة والرذائل لصناعة الفوضى فكانت ان امتدت من دون ان يوقفها احد لتصبح تقاليد مبررة .. وهذا يذكرني باليوم الذي سقطت فيه الملكية بالعراق عندما دعا عبد السلام عارف – رحمه الله – من الاذاعة الجماهير لاستباحة قصر الرحاب علنا فكان ما كان على امتداد ساعات عصيبة  .. وكادت الامور تفلت لولا حظر التجول الذي اذاعه عبد الكريم قاسم – رحمه الله – وانتهاء الفصل الدامي من ذلك الحدث التاريخي .
      ان صناعة الفوضى في العراق اليوم كان من ورائها ساسة جدد لم يفقهوا معنى الديمقراطية ابدا ، ولم يفقهوا معنى الوطنية ابدا ، ولم يدركوا مخاطر الانفلات ابدا ، ولم يتعلموا من تجارب التاريخ ابدا ، ولم يكن لديهم الا  التعّصب وزرع روح الفتنة في المجتمع الذي لم يكن مستعدا ابدا لمثل هكذا خطاب ولمثل هكذا سياسات ولمثل هكذا ديمقراطية .. لقد كّنا نأمل ان يجري في العراق ما كان قد جرى في تجارب اخرى خصوصا وان البلاد غدت بلا مؤسسات وبلا نظام حكم وبلا امن وبلا اعلام وبلا خدمات .. كان لابد من تأسيس قطيعة مع الماضي ليمارس المجتمع دورا جديدا ضمن ضوابط حقيقية .. كان لابد من ترسيخ مبادئ ضمن انعقاد أي جمعية وطنية او أي مؤتمر وطني .. مبادئ وطنية ومدنية تقف سّدا منيعا امام اية انقسامات او تشرذمات ينادي بها كل طرف على حساب الطرف الاخر .. كان على الجميع ان يدركوا بأن ثمة وطن اسمه العراق يتقدم اية انتماءات اخرى . كان على القادة العراقيين الجدد ان يتفقوا على كلمة واحدة ازاء المحتل من دون ان يلعب هذا المحتل باكثر من كره في ملعب هو العراق ! ان العراق اليوم مخترق من كل الاطراف .. وينبغي ضرب كل الاختراقات الخارجية والاقليمية وتحجيم دور الجميع على حساب قوة السيطرة العراقية .
   ما احوج العراقيين اليوم الى ترسيخ العقل بديلا عن كل المرجعيات ؟؟ ما احوج العراقيين اليوم الى مرسوم يشبه الى حد كبير مرسوم نانت الفرنسي الذي خّلص الفرنسيين من الانقسامات المذهبية في القرن السادس عشر .. ؟؟ ما احوجنا الى من يّلم الشمل على مبادئ وطنية يرضى عنها الجميع ؟ ما احوج حياتنا الى النقاهة والصفاء ؟ ما احوج العراقيين الى ان يغيّروا ما بأنفسهم وتفكيرهم ؟ ما احوج الدولة الوليدة ان يتجّرد كل من يعمل في الجيش وقوات الشرطة والامن .. وكل من يعمل في السلك الدبلوماسي وسلك القضاء ان يتجّرد من أي علاقة سياسية او طائفية او جهوية او حزبية .. بل وما احوج كل الوزراء ورئيس الوزراء ان يتجردوا عن انتماءاتهم الحزبية والسياسية .. ما داموا يعملون في مواقع ادارية وفنية او في مناصب حكومية ضمن السلطة التنفيذية . ما احوج العراقيين اليوم الى حل كل الميليشيات بعد ان زاد نفوذها وقوتها . وكنت اتمنى على جميع القوى والاحزاب السياسية القديمة ان تفصل في تعاملها بين عراق الماضي وعراق المستقبل من خلال حل كل تكويناتها .. وتعيد سيرورتها من جديد ولتتشكّل احزاب وقوى سياسية جديدة متخلصة من كل اجندة الماضي !
    انا ادرك ادراكا عميقا بأن ما اقوله لا يعدو ان يكون مجرد احلام ، ولكن لا بديل امام العراقيين الا ان يرسموا لهم طريقا واحدا في الحياة من خلال مرسوم مدني للمبادئ ينأى بنفسه عن كل مرجعيات التاريخ وكل سدنة الدين وكل بقايا العهود الاثيمة السابقة ! انني واثق تمام الثقة بأن العراقيين لا يحاربون امريكا اليوم بقدر ما يحاربون بعضهم بعضا .. وما كانوا يحاربون بعضهم بعضا لولا النزعات الانقسامية والطائفية التي كانت ولم تزل خازوقا اخترق بنيتهم وفعل وما زال يفعل بهم ما يشاء .. وكم نادينا منذ ثلاث سنوات بالحاجة الى ميثاق وطني يتضمن مبادئ عراقية سياسية وطنية ينبغي ان يقدمونه على كل طقوسهم ويخلق منهم بشرا سويا وهو ميثاق لا يعد دستورا بقدر ما هو وثيقة شرف وطني يقف الى جانب الدستور .. والدستور الذي كم طالبنا ان تتأخر مرحلة بنائه واقراره  بحاجة ماسّة الى التغيير .
     كنت اتمنى ان يبرز كل هذا وذاك من خلال المؤتمر التأسيسي الوطني وتتبلور زعامات جديدة تؤمن بالعراق بمعزل عن دين او مذهب او عرق او طائفة او جهوية .. وثقوا انه الحل التاريخي لكل مشكلات العراق ، ومن دون ذلك ، سيبقى العراق ينحدر غريقا نحو اسفل سافلين ان لم تنقذه ارادة جديدة تنبثق من وراء الاستار .. فمتى يتحقق الحلم ؟ ربما بعد ايام وربما بعد عشرات السنين ! ولكن ، بعد فوات الاوان !!

الصباح البغدادية ، 29 يونيو 2006     
www.sayyaraljamil.com[/b]

216
الفضائيات العربية بحاجة الى تقاليد حرفية !
[/color][/size]


د. سّيار الجميل
    ليس أشقى من  للمرء  ان يستمع الى جملة من اعلام عربي مضلل ومزّور وهامشّي غير متكافئ ابدا ولا منسجم وهو يعرض على الملايين في الفضائيات العربية ، خصوصا اذا كان الاعلاميون وضيوفهم لهم سذاجتهم او سماجتهم او فجاجتهم وهم لا يدركون اولويات الثقافة العامة ، فكيف اذا دخل هؤلاء معترك الفكر والايديولوجيا والسياسة والاعلام بحق وحقيق ؟؟ ان الكلام قيمة ثمينة لا يمكن ان يغدو مرئيا في بيوت الناس هذيانا وخطلا !! لقد غدا كل من هّب ودبّ يشارك اعلاميا من دون اي تخّصص او لياقة او اصول او منهج او اساليب حوار.. وكل يوم يمضي تزداد هذه الفضائيات التي باتت تلعب بالاهواء والافكار وتؤذي المشاعر بعيدا عن الحقائق والرؤية .
      نعم ، لقد غدت ميادين استعراضية لاشباع رغبات جامحة لأناس بدائيين او متحذلقين لا يدركون معاني ما يحكونه ، او يخرج علينا بين الفينة والفينة من يخيف الناس وهو يلعب دورا تحريضيا على اشياء لا وجود لها يختلقها من العدم ويوهم الناس بأنها موجودة ، فمهمته التزوير والتضليل .. وتتفاقم المشكلة التي دوما ما اعبّر عنها بـ " شقاء الوعي " في حياتنا العربية .. فمن له شقاء الوعي يتألم عندما يجد امامه من يشّوه المعلومات ، ويسرق الافكار ، ويغّيب المفاهيم ويزّور الوقائع ويهمّش العقل .. لم يعد الانسان يحتفظ باحترامه وكرامته وسط ميدان تتعّرى فيه كل القيم وتتجرد الحياة من تجلياتها.. محاورون ومحاورات وضيوف ثقال الدم ومستعرضو عضلات ورجال دين من هذه الطائفة او تلك ومتطفلون وطفيليون  لا يعرفون غير اطلاق التهم واثارة الشغب وهم يحرّضون على الاختلاف والانقسام والقتل والغدر أو حتى التكفير والارهاب .. انهم يتوزعون في عدد من الفضائيات العربية التي تبّث في كل مكان ويشتهرون ببرامجهم وحواراتهم التي غدت بليدة وسمجة على المستمعين والمشاهدين الاذكياء على الارض .
      انني اراقب بين حين وآخر بعض برامج تلفزيونية حوارية ، وأسجل جملة من الملاحظات والانتقادات التي اتمنى ان يتنبّه اليها الاخوة من مسؤولي المحطات الفضائية .. انني اعترف ان هناك من الاعلاميين العرب المهرة ومن اصحاب الصنعة والاحتراف ، ولكن دخل علينا في السنوات الاخيرة من ليس له أي باع يذكر في هذا الميدان الحيوي الخطير ، بل وغدا الميدان يعّج بكّل من هّب ودبّ ، ليصبحوا أوصياء على الاعلام العربي المرئي في السنوات الاخيرة ، وهم يفرضون افكارهم وآراءهم السياسية والمؤدلجة والشخصية مع من يقابلوه ، ويفرضون انفسهم فرضا من دون اي حيادية ولا موضوعية ! وأسأل : كيف ستكون عليه اوضاع الجيل الجديد وهو يترّبى على هكذا اعلاميات مستقبلا ؟
     تتملكني الدهشة من اناس توكل اليهم مسؤوليات تنفيذ برامج اعلامية لا يدركون الثقافة العامة ولا التاريخ ولا الجغرافية ولا بناء السؤال ولا الاسلوب الصائب ولا صنعة التشكيل ولا استخدام الصورة والخارطة ؟؟ ثمة اجندة سياسية واقنعة ايديولوجية والبسة طائفية لعدد لا يحصى من الفضائيات العربية ، وكلها لا معنى لها ابدا .. ان الارتزاق بات المحّرك الاساسي لجمهرة من الاعلاميين الذين يقولون ما لا يؤمنون ، وكم منهم بحاجة الى اكثر من دورة صحفية واعلامية يتعلمون فيها فلسفة الاعلام وكيفية الالقاء بلغة سليمة .. وهذا ينسحب على عدد غفير من اعلاميينا ذكورا واناثا ، سواء من المعّدين او المقدّمين او المراسلين !! 
     لا أسألكم ما قوة تحصيلكم العلمي ؟ ولا ندري كيف وجدتم ضالتكم في قنوات فضائية لم تتحرر من اللامبالاة مقارنة بما تتحّلى به اجهزة الاعلام العالمي من صرامة العمل والكفاءة  .. ولا ادري كيف يمكن لمثل هذه الفضائيات العربية ان تستمر وما جنايتها مستقبلا وهي تقوم بادوار تستهزئ من خلالها بعقول الملايين ! ثمة عدد من اروع المهنيين المحترفين في حواراتهم واجتذابهم مشاهديهم بحلو حديثهم وخفة دمهم وسرعة بديهيتهم وطلاقة عبارتهم ! انني هنا أشد على ايدي اللامعين نسوة ورجالا ، فهم يعدّون من امهر الناس في الحوار وجذب الاهتمام وحلو الحديث وعمق الثقافة وسعة الاطلاع وسرعة البديهة .. فهل لنا ان نجعل منهم مدرسة يتعّلم منها غيرهم ؟
     لقد تجاوزت بعض الفضائيات كثيرا على مشاعر الناس بكل ما تعرضه من اعلام يثير المشاكل ويلهب النعرات ويؤذي النفوس في مجتمعاتنا ويفسد قيمنا وافكارنا .. ولم تنفع مع هكذا اعلام موجّه اي احتجاجات ولا اي نقدات ، بل انه بحاجة الى النقد والتعرّية كي يذوب ويتلاشى ويختفي كما حدث قبل خمسين سنة عندما كان الاعلام الاذاعي تؤججه الاحقاد السياسية ، فكان يلهب المشاعر ويؤججها من دون اي حقيقة يعكسها .. وهذا ما حدث لاعلاميين عرب كبار فرّطوا بمسؤولياتهم ، وجعلوا الاعلام اداة للشتائم والسباب وتأليب الرأي العام والخروج على كل الحدود والاعتبارات . 
    وأسأل : لماذا يسكت كل من المجتمع والدولة العربيين بمن فيهما من نخب على مقترفات الاعلام المرئي العربي ؟ لماذا لم يتطور ليغدو عالميا ونحن لم نزل لا نعرف كيف نخاطب انفسنا ، فكيف بنا نخاطب العالم ؟  لماذا لم تخضع الفضائيات العربية لجملة من المواد القانونية دوليا ؟ ولماذا لم تخضع برامجها ايضا لأسس سليمة وان يجمعها ميثاق شرف واحد ينص على جملة من الاعتبارات الاخلاقية والمهنية والاعلامية من اجل تطوير تقاليد اعلامية ملتزمة كي تنقل ما تعبر عنه الارادة الجمعية الى العالم . اننا بحاجة الى ثورة اعلامية حقيقية تنقلنا الى عملية حضارية متطورة لها قواعدها واصولها وقيمها وتقاليدها يبحر فيها المحترفون والاذكياء والمخلصون والمبدعون. فهل بلغت رسالتي اليكم  هذه المرة ؟ أتمنى ذلك ايها الاعلاميون العرب الاعزاء .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية
2006 يوليو 5  [/b]

217
رسالة من قاع الأمة العربية الى الأبراج العاجية!
[/size]

د. سيّار الجميل
حول تصريحات الأخ عمرو موسى
مقدمة
 ارسل لي الاخ الاستاذ حسين جرادي نص المقابلة التي اجراها مع الاخ الاستاذ عمرو موسى الامين العام لجامعة الدول العربية في برنامج " الحرة تقّدم " على قناة الحرة الفضائية وهو يشارك في أعمال المنتدى الاقتصادي الأميركي – العربي في مدينة هيوستن الأميركية.... وعليه قدرّت خطوة الصديق جرادي تقديرا عاليا لأنه يدرك ما الذي يقصده السيد الامين العام في اجوبته على منتقديه.. ولم يكن اهتمامي كبيرا بتصريحات الاخ موسى قبل يومين والتي لم تأت بشئ جديد أبدا والتي لا تستحق الوقوف عندها، بقدر ما آلمني ما تفوّه به من بعض العبارات التي لا تليق به ابدا، اذ وصفنا اليوم بـ (" الاقلية " التي تريد تدمير جامعته)، وهذا مجرد كلام لا اساس له من الصحة، اذ ان الارادة العربية قاطبة تطمح اليوم اكثر من أي وقت مضى الى تحديث آليات جامعة الدول العربية وميثاقها وفلسفة عملها وتوجهاتها المستقبلية من اجل اصلاح النظام العربي كله سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتربويا وثقافيا.. دعوني اناقش هذا " التصريح " على مهل كيلا يؤخذ كلام الاخ عمرو موسى على عواهنه من قبل الناس وهو يكيل التهم ضدّنا.. ثم اعود كي اذكّره والاخوة العرب بما نشرناه منذ سنوات طوال وما كنا نطمح اليه وما الذي حدث من (اصلاحات) بائسة لا نفع فيها ابدا ضمن مشروعه في (الاصلاح) والذي وقفنا ضده تماما كونه لا يلبي طموحات مجتمعاتنا العربية ابدا.
حول موضوع عدم الثقة بدور الجامعة!

 حول موضوع " عدم الثقة بدور الجامعة " – كما سمّاها الاخ جرادي – يكتب في تقريره لي : " ورداً على سؤال إذا ما كان يشعر بأن أطرافاً عراقيين وعرباً لا يثقون بالجامعة العربية، و"لماذا تُصبَغ الجامعة العربية دائماً بأنها فاشلة؟" اجاب عمرو موسى : "طبعاً هناك من لا يثق. المسألة أكبر من العراق. هل النظام العربي الحالي نظام ناجح؟ نظام فاعل أم نريد نظاماً آخر. فهناك، لأسباب كثيرة وربما لأسباب أصابع أجنبية تلعب ومصالح خاصة تلعب، وقلة ذكاء وإطلاع، عدم علم وإحاطة بالموقف الدولي الخطير الذي يتطلب تجمعات إقليمية... لأسباب كثيرة... هناك ناس موضوعياً يقولون هذا النظام يحتاج إلى إعادة نظر، وأنا أفهم هذا، وأقول إن هذا النظام يحتاج إلى إصلاح. إنما صيغة الجامعة العربية مهمة ولا أعتقد أن الأقلية التي تهاجم الجامعة العربية سوف تنجح في تدمير الجامعة. هناك أغلبية كبيرة في العالم العربي على المستوى الشعبي ومستوى المجتمع المدني ومستوى الحكومات والمستوى السياسي تدعم الجامعة العربية وصيغة الجامعة العربية مع إصلاحها وإعادة هيكَلَتها، وهذا ما نقوم به" (انتهى).
نقد هذه التصريحات

 ما كنت أتمنى ان تصدر هذه الاقوال والتوصيفات على لسان الاخ عمرو موسى الذي لا يريد ان يعترف ابدا بالفشل الذريع لجامعة الدول العربية، ودوما ما يعّلق اخطاء الجامعة الفنية على شماعة النظام العربي السياسي، فاذا كان هو ضد هذا النظام العربي حقيقة ـ كما رأينا ـ، فلماذا لا يعلن ولا يشخّص اسباب خراب هذا النظام؟ ثم اليس هذا النظام العربي هو الذي اختاره لمرتين امينا عاما للجامعة العربية التي باتت لا نفع فيها ابدا! هنا، لم اكن اتمنى ابدا على الاخ عمرو موسى ان يسم منتقديه بهذه السمات وهو يدرك جيدا انهم كتاب واساتذة ومفكرون.. هم من ابعد الناس عن كل ما وصفهم به!

 ثم ما ضّرك يا اخي عمرو ان تعترف بالاخطاء او على الاقل ان تشكر كل المنتقدين الذين لا مصلحة شخصية او ذاتية لهم في نقدك او تبيان الخلل الذي تعيش عليه جامعة الدول العربية.. او حتى من وقف ضد مشروعك في الاصلاح وبرلمانك العربي الذي بات وسيبقى صفرا على الشمال؟؟ ما ضّرك لو فصلت بين ما هو فنّي واجرائي في مسيرة جامعة الدول العربية وبين ما هو سياسي وموضوعي في سيرورة النظام العربي المعاصر؟؟.. لقد بات دور جامعة الدول العربية اليوم اشبه بممثّل رمزي عربي لحضور المؤتمرات الدولية والقارية.. اما في الشأن الداخلي العربي فهي اشبه بعجوز ثقيل الدم لم يعد له أي حضور فعّال في الحياة العربية الجديدة التي تريد الانطلاق من موروثات النصف الثاني من القرن العشرين، وتطمح على ايدي الاجيال الجديدة لتجد لها مكانا تحت الشمس في عالم اليوم..
 اطالب السيد الامين العام الاجابة على اسئلتي بنفسه

اعلنها على الملآ.. انني ان اسألك الان اتمنى عليك يا سعادة الامين العام ان تجيبني انت بالذات على اسئلتي فما يعنيني من شأن الامة هو اكثر مما تتصوّر.. انني لا اريد ان تتجاهل اسئلتي كما فعلت قبل سنتين والتي كنت اود ان تجيبني عليها وجها لوجه.. وانني اذ اسألك اليوم ايها الاخ العزيز فلا اود ان تكلّف احد مساعديك او مستشاريك بالاجابة نيابة عنك كما فعلت معي في العام المنصرم.. مع اعتزازي بكل مساعديك ونوابك وطاقمك.. واقول : انك ان قبلت ان تجيب على اسئلة الاخوة الاعلاميين في الفضائيات والصحف العربية، فانني اطالبك بالاجابة على اسئلتي كواحد من الاساتذة المختصين العرب الذين يعرفون ماذا يقولون.. ان استخفافك بنا كما وصفتنا بـ " الاقلية " تجعلنا نرّد عليك ردّا مؤدبا .. فمن يطرق الباب علينا سوف يسمع الجواب منّا.. انني اطالبك شخصيا ان تكون صريحا وتنزل قليلا من برجك العاجي ان اعتقدت حقا بأننا في قاع الامة العربية!!

اسئلتي التي اطرحها على الامين العام :
اولا: لماذا تنتقد النظام العربي وانت جزءا منه؟

 أسألك يا اخ عمرو : كيف تبدو لك المسألة أكبر من العراق؟ وكيف تتساءل : هل النظام العربي الحالي نظام ناجح؟ نظام فاعل أم نريد نظاماً آخر؟ لماذا الخلط بين الشأن السياسي العربي وبين المسائل الفنية التي تحتاجها مؤسسة الجامعة العربية؟ اذا كنت تعترف بأن المسألة اكبر من العراق وان النظام العربي غير ناجح.. فهل غدت جامعة هذا النظام ناجحة؟ انت لم تعترف بأن الجامعة قد اخفقت.. فمن ذا الذي يعّبر عن الاخر؟ هل الجامعة تعّبر عن النظام العربي ام العكس هو الصحيح؟ من ينتقد النظام العربي السياسي، عليه ان ينتقد جامعته العربية ويشارك كل من ينتقدها افكارهم وهمومهم وتطلعاتهم.. لا ان يلعب على التوازنات ولا ان يكيل بمكيالين.. ولا ان يقفز فوق مؤسسته التي تعتبر مجرد منظمة للتنسيق لتشكيلات النظام العربي وان تكون حيادية في معالجة المشكلات العربية! واذا كنت تريد نظاما عربيا آخر فعلا، فهل مشكلتك اذن معنا ام مع اقطاب هذا النظام؟ هل يسمح لك دورك ومنصبك وتعليمات وميثاق الجامعة ان تطالب بنظام عربي آخر وانت جزءا من هذا النظام؟
ثانيا : نظرية المؤامرة

أسألك ايضا لماذا لم تشرح عبارتك القائلة : " فهناك، لأسباب كثيرة وربما لأسباب أصابع أجنبية تلعب ومصالح خاصة تلعب، وقلة ذكاء وإطلاع، عدم علم وإحاطة بالموقف الدولي الخطير الذي يتطلب تجمعات إقليمية... لأسباب كثيرة... " هذا كلام خطير وفيه اتهامات خطيرة تصدر عن امين عام الجامعة.. ولمن؟ هل من تحديد رجاء؟ ما الاصابع الاجنبية التي تلعب؟ ومع من تلعب؟ اما المصالح الخاصة التي تلعب، فهل اكتشفتها اخي عمرو حتى الان؟ الا تعرف بأن حياتنا العربية كلها مصالح خاصة؟ من هو قليل الذكاء في منظومتنا العربية؟ من هو عديم العلم من قادتنا؟ من لم يحط خبرا بالموقف الدولي الخطير؟ لماذا تصّرح الان بالتجمعات الاقليمية؟ ومن تقصد بمثل هذه التجمعات؟ ما الاسباب الكثيرة؟ وّضح افصح عما تريد قوله.. لغة الاشارة هذه لا تنفع ابدا اليوم، فالعرب في كل مكان بحاجة الى المصارحة والشفافية وكشف كل الاوراق.. ام انك تقصدنا نحن الذين وصفتنا بالاقلية من منتقدي وضعية الجامعة العربية؟
ثالثا : الاقلية والاغلبية : تفسير خاطئ

وتقول بأن " هناك ناس موضوعياً يقولون هذا النظام يحتاج إلى إعادة نظر، وأنا أفهم هذا، وأقول إن هذا النظام يحتاج إلى إصلاح. إنما صيغة الجامعة العربية مهمة " ما معنى ما تقول؟ بمعنى من يبقى على تهويماته ويحكي باسم اصلاح النظام العربي فهو موضوعي كونك تكتفي باعادة النظر.. بينما صيغة الجامعة العربية مهمّة ـ كما تقول ـ، أي انها ليست بحاجة الى اصلاح ولا الى اعادة نظر! وتستطرد قائلا : : " ولا أعتقد أن الأقلية التي تهاجم الجامعة العربية سوف تنجح في تدمير الجامعة. هناك أغلبية كبيرة في العالم العربي على المستوى الشعبي ومستوى المجتمع المدني ومستوى الحكومات والمستوى السياسي تدعم الجامعة العربية وصيغة الجامعة العربية مع إصلاحها وإعادة هيكَلَتها، وهذا ما نقوم به".
 من تقصد اخي عمرو بهذه الاقلية التي تهاجم الجامعة العربية؟ لماذا حولّتها الى قضية شخصية؟ ولماذا تعتقد خطأ اننا نهاجم الجامعة من اجل تدميرها؟ هل هذا كلام عقلاء يا صاحبي؟ هل وجدتنا نسعى من خلال انتقادتنا لما للجامعة من خلل ولما تتقدم به على يديك من اصلاحات فاشلة اننا سنّدمر الجامعة؟ كيف تقبل على نفسك ان تهاجمنا بهذا الاسلوب الذي يخلو من أي علمية؟ ومن أي حذاقة؟ ومن أي دبلوماسية؟ ومن أي تثمين للمفكرين العرب المصلحين المستقلين الذين ليست لهم أي ارتباطات سياسية ومصالح خاصة؟ لماذا تعتقد ان الاغلبية معك وانت تمّيز بين الشعبي وبين المجتمع المدني وبين الحكومات وبين السياسي.. ما هذه التصنيفات التي لا اساس لها من الصحة وانت الذي تعترض على النظام العربي وتطالب قبل اسطر بتغييره وايجاد بديل عنه!
رابعا : نحن اول من نادى باصلاح الجامعة؟

وأسأل : هل كّنا ضد اصلاح الجامعة وضد اعادة هيكلتها حتى تصفنا اننا نريد تدمير الجامعة؟ الم نكن اول المطالبين باصلاحها قبل ان يفّكر الاخرون بذلك؟ الم نكتب وننشر مطالبين باصلاح الجامعة منذ 8 ديسمبر 2002 في جريدة النهار البيروتية على عهد امينها العام السابق السيد عصمت عبد المجيد، وخرج علينا سعادة السفير السعودي في لبنان وقت ذاك ليردّ علينا بأن الجامعة العربية مؤسسة رائعة لا شائبة عليها وانها ليست بحاجة الى أي اصلاح؟ ولما ازدادت مطالبتنا باصلاح الجامعة بعد سقوط النظام العراقي واحتلال العراق عام 2003، بدأت الجامعة تفكّر بما لديها من اخفاقات وترهلات.. ولما تقّدمنا باكثر من مشروع لتحديث الجامعة جذريا بما في ذلك ميثاقها الذي لم يعد يلبي حاجات العرب بعد مرور اكثر من ستين سنة على اصداره.. خرج علينا السيد عمرو موسى مطالبا بوثيقة عهد ومرة اخرى كتبنا عن عقم ذلك وطالبنا بمشروع التجديد، فجاءنا بمشروع اعادة هيكلة وخلق ما يسمى بالبرلمان العربي.. والذي ولد بشق الانفس ومن ثقب ابرة.. ولما اعترضنا على مثل هذه الترقيعات التي لا تصلح ابدا للحياة العربية اليوم وما تتطلبه من مستلزمات وتقدمنا باسئلة الى السيد الامين العام.. خرج علينا الاخ طلعت حامد مستشار السيد الامين العام ليرد علينا باسلوب اعتبرته غير لائق ابدا..
خامسا : ما توقعناه قد تحقّق؟

 وانبثق البرلمان العربي الانتقالي الذي لا ادري ما الذي قدّمه منذ تأسيسه حتى الان للمشاكل العربية التي تستشري مضاعفاتها بين يوم وآخر؟ والذي اعتقد انه زاد من اعباء المشكلات والنفقات.. وأسأل : ما الذي سيفعله مثل هذا البرلمان للنظام العربي الحالي؟ أسألكم بالله : ما نفع هذا الذي يسمونه ببرلمان عربي (الذي انبثق يوم 27 ديسمبر 2005) وهو يجتمع بالسنة مرتين والاحداث المصيرية تتسارع في كل مكان من مناطقنا الساخنة؟ الم يتحقق ما نشرته في نقد مشروع البرلمان العربي يوم 28 يناير 2005؟ (انظر : ايلاف 28 /1/ 2005، وانظر رد الجامعة العربية بعنوان " الجامعة العربية تردّ على الدكتور سيّار الجميل " بقلم السيد حامد طلعت مستشار الامين العام (انظر ايلاف، 24 فبراير 2005).
هل باستطاعة الاخ عمرو موسى ان يقّدم اجاباته على اسئلتنا قبل ان ينتقدنا متكلما باسم الاقلية والاغلبية؟ ان من يريد ان يكون دقيقا في تصريحاته وكلامه، لا يمكنه ان يتكّلم باسم الاغلبية بهذه الطريقة. نريد من الاخ عمرو موسى ان يعترف بنا حتى وان كنا اقلية وبحقنا في النقد والحوار والمصارحة لا ان يستخدم اسلوب الاقصاء والتهميش كوننا " اقلية ".. ومن قال بأننا اقلية؟ بل ومن اعطى الحق للاخ عمرو موسى ان يحتكر حق الاصلاح واعادة الهيكلة؟ حتى يصّرح عن نفسه بأن " هذا ما نقوم به "!؟
سادسا : متى تتحقق البدائل الجديدة؟

 الان أسأل بعد التي واللتيا : اليس من حق الدول الاعضاء في مجلس الجامعة ان تتخذ قرارا بالغاء كل مشروع الاخ عمرو موسى (الاصلاحي) المخّيب للامال، وان يقر بتشّكيل لجنة علمية عربية عليا ومستقلة لاصلاح جامعة الدول العربية بمعزل عن الامانة العامة للجامعة التي تريد احتكار كل شيئ، بل وتريد ان تقبض على انفاس من ينتقدها.. بل وتتهمهم بشتى التهم.. انني اتكلم هنا من النواحي الفنية الاجرائية ولا اريد ان اتدخّل بالشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية للجامعة العربية، اذ تتوّضح كم هي الاخفاقات مريرة.. ولا مانع عندي ان افتح هذا الباب على مصراعيه ـ ان اراد الناس ـ لنرى مدى تلك الاخفاقات التي تمر بالجامعة وهي تنتقل من سيئ الى أسوأ..
وأخيرا : ماذا اقول؟

 انني عندما انادي بالخلل والتغيير ‘ فليس لي والله الا ان اجد هذه الامة وقد اصلحت حالها واصبحت كبقية الامم تعمل بجد واخلاص على معرفة اوجاعها لتتّبنى منهجا متجددا لها من اجل بناء مستقبلها.. وليس لي الا ان اجد جامعة الدول العربية وقد اصبحت منظمة دولية عربية حقيقية لها انتصاراتها ونجاحاتها في كل الميادين. والله يعلم بأنني لست ضد الامانة العامة ولا ضد السيد الامين العام ولا ضد جامعة الدول العربية التي كتبت عنها وألّفت في تاريخها واشرفت على رسائل دراسات عليا عنها.. وادرك قيمتها لو اعادت تجديد نفسها وطوّرت ميثاقها.. ولكنني والحق يقال اريد من الاخ الامين العام الاستاذ عمرو موسى ان يراجع نفسه، ويتراجع عن تصريحاته التي لا تخدم احدا.. وان يعترف بنا حتى وان كنّا " أقلية " لا تريد تدمير الجامعة بقدر ما تريد ان تغدو هذه الجامعة مؤسسة فاعلة في خدمة قضايا الامة بكل نزاهة وحيادية وعلمية وان تكّرس جهودها للقضايا الحيوية لحياتنا العربية.. وان لا تحتكر مسألة الاصلاح لنفسها.. فهي ملك الجميع وليس ملك صرف لآمين عام او مبنى عقار لامانة عامة.. وليعذرني الاخ الامين العام على صراحتي متمنيا ان تتحقق الاماني لما فيه مصلحة منظومتنا العربية العليا في قابل والله من وراء القصد.
www.sayyaraljamil.com
ايلاف 3 يوليو2006[/b]

218
من تصدير ثورة إلى استيراد ديمقراطية


د. سّيار الجميل   
   لن تصّرح فرنسا ولا روسيا أو أميركا بتصدير ثوراتهم إلى العالم .. فالمبادئ لا يمكن
تصديرها أبدا ، بل تقوم الشعوب باستلهامها والتعلّم من تجاربها وأساليبها الايجابية
والسلبية ! هذا ما كنت قد كتبته في مقال لي بجريدة الشرق الأوسط اللندنية منذ ربع
قرن .. وخصوصا عندما سمعنا بمصطلح «تصدير الثورة» لأول مرة في العام 1979 اثر انتصار
الثورة الإيرانية على النظام البهلوي .. ولم يفلح من أراد تصدير الثورة ، فلكل ثورة
ظروفها وبيئتها وعواملها السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
 

لقد جئت بهذا المثل عندما نسمع ونشهد اليوم كيف يلوك الناس مصطلح «الديمقراطية» اذ غدا
مجرد لعبة سياسية مستوردة وليس ظاهرة تاريخية أساسية بحاجة إلى جملة من المستلزمات
الحقيقية.
 

نعم ، ان الديمقراطية أسلوب حياة متقدم جدا قبل ان تكون مجرد آلية نظام حكم .. فلقد
نجحت في بريطانيا مع وجود نظام ملكي قديم .. ومفهومها أوروبي النشأة والتطور ولكنه غير
قابل للتصدير أو الاستيراد حتى يباع في الأسواق ! انه مفهوم تاريخي ينبغي أن يستوعبه
الإنسان في كل مكان ، فلا يمكن أن ينحصر بحالة انتخاب أو تبادل سلطة أو دعاية وإعلان..
 

انه لا يعمل في بيئة متأخّرة ولا في ظروف غير قابلة له مهما بلغت درجة إحضاره بديلا
جاهزا ، ومهما بلغت درجة مهارة من يأتي به ! انه مفهوم مرتبط حقيقة بالحريات الفردية
والاجتماعية ، قبل ان يغدو سلعة عادية في إتاحة الحريات السياسية . لقد فشلت تجارب
العرب (الديمقراطية) لأن مجتمعاتنا لم تتمتع حتى اليوم بكيفية ممارسة الحريات
والمسؤولية التاريخية في تحّمل أعباء التغيير بالاعتماد على الذات لا على الآخر .. وهذا
أمر مدهش في مجتمعات عاشت تحولات إصلاحية منذ قرنين من الزمن!
 

كّنا ولم نزل نسمع بالديمقراطية التي اعتبرها حقّا أحد ابرز أساليب المجتمعات المتقدّمة
في التسارع التاريخي ، وينبغي ان يقودها أناس مؤمنون بها إيمانا حقيقيا لا مزيفا ..
أناس لا يعتبرونها مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة..
 

فضلا عن كونها وظيفة لابد ان تساهم بها كل فصائل المجتمع أو طبقاته حتى وان بدأت على
أيدي النخب الواعية التي غدت مجتمعاتنا تقصيها وتهمشها على حساب بروز طبقة طفيلية
تجمعها مصالح آنية خاصة بها ، وطبقة كادحة ومسحوقة لا يعنيها غير لقمة العيش ! من جانب
آخر : تستفحل قوى سياسية جديدة في الواقع العربي لا تؤمن بالديمقراطية إيمانا راسخا، بل
ولا تجد في الأساليب المدنية بغية لها في حكم المجتمع.
 

ان المشكلة ليست زمنية ـ كما يراها الأخ الدكتور محمد الرميحي ـ بل أجدها مشكلة موضوعية
.. وان التربة الخصبة التي نمت فيها شجرة الديمقراطية في أوروبا الغربية زمنيا ، فإن
مشكلتنا معها لا يحّلها الزمن منذ أكثر من قرن مضى ، وعليه ، فلابد لنا ان نعالج
العوائق الموضوعية على مهل ، والاّ فالمراهنة على الزمن لا تجدي نفعا أبدا..
 

ان التجربة العراقية اكبر برهان على طبخ الديمقراطية المستوردة بسرعة واعتقد أنها تجربة
أخفقت ليس بسبب ظروف أمنية حسب ، بل لأسباب موضوعية وخصوصا الفراغ السياسي الذي يعيشه
العراق . لقد كانت نخب العراق تتطلّع إلى تحّول جذري تاريخي ينقذهم مما كانوا عليه على
ان يمرّوا بفترة نقاهة يستعيدوا فيها أدوارهم ويؤسسوا لهم مبادئ وطنية جديدة..
 

لا ان تجعلهم أسارى مأزق تاريخي وطائفي وإرهابي أصبح من الصعب الخروج منه ! ولا ادري
لماذا يتّم التسرع بهذه التجربة التي تصادف اليوم إجهاضا لها.. إنني أدرك ان أي عملية
سياسية ترمي لتطبيق الديمقراطية في عالمنا العربي والإسلامي تحف بها مخاطر لا أول لها
ولا آخر ! ان الديمقراطية على الطريقة المتسرعّة التي قدّمت لنا والتي عدّت نموذجا
للشرق الأوسط تبدو اليوم مخيّبة للآمال والأمنيات..
 

لقد كتبت مقالة قبل سقوط نظام صدام حسين بأيام وعنوانها (هل باستطاعة العراقيين صناعة
تاريخ جديد؟ ) وذلك في جريدة الزمان اللندنية ( العدد 1454 بتاريخ 17 /3/ 2003 ) قلت
فيها:
 

«أقول، إن العراق ليس بلدا سهلا ابدا ، يمكنه ان يغدو بسرعة نموذجا شرق أوسطيا للمركزية
العولمية.. انه من البلدان المعقدة جدا، وكان قد مر بسلسلة تاريخية مريرة من الأحداث
والحروب ولم يزل..
 

ولا ندري كيف سيخرج من معضلته اليوم.. انه يحتاج إلى نقاهة تاريخية بعدها لعدد من
السنين خصوصا وان هناك تركة ثقيلة من المشكلات الصعبة التي تحتاج إلى حلول عبر سنوات..
وان مجتمعه اليوم هو غير مجتمعه في خمسينات القرن العشرين! وان أكثر من أربعة ملايين
عراقي مهاجر ليس من السهولة أبدا ان يرجعوا ليلتئموا بسهولة مع واقع اجتماعي متغير في
أساليبه وحتى في عاداته وتقاليده..
 

صحيح ان للعراقيين اطيافهم وألوانهم وتنوعاتهم ولكن في الوقت نفسه لهم تعددياتهم
ومرجعياتهم واختلافاتهم.. وان الديمقراطية والمؤسسات المدنية ضرورة لهم ولكن تراكمات
الماضي الصعب بحاجة إلى معالجات عملية وسيادة قانونية وخبرات تخصصية وتجارب براغماتية
بعيدة عن العواطف الساخنة وهل يتقبل أي عراقي طبيعة المتغيرات الجديدة المنبثقة من تحت
العباءة الأميركية والاعتراف بإسرائيل؟
 

وكثيرا ما رددت منذ العام 1979 بأن المبادئ والأفكار لا تصّدر أو تستورد بقدر ما
تستلهمها الشعوب والمجتمعات. فهل سيغدو العراق مؤهلا لمثل ذلك؟ وهل سيتقبل العراقيون
الالتزام بوظائف جديدة من اجل تغيير تاريخ المنطقة بالكامل؟ وهل سيغدو العراق نموذجا
يحتذى به في قابل الأيام والسنين؟ إنني اشك في ذلك».
 

مؤرخ عراقي
 

www.sayyaraljamil.com
 
 
البيان الأماراتية 28/6/2006[/b]

219
العراق: لماذا تشّوهون تاريخه وجغرافيته؟
[/size]

د سيّار الجميل  

 البداية: لماذا يشوهون التاريخ والجغرافية؟
 لقد قلت في واحدة من المحاضرات التي كنت قد القيتها في ندوة علمية صرفة العام 1991 عن مشروع اعادة كتابة تاريخ العراق وانتقدت وقت ذاك السياسة العراقية الرسمية التربوية والاعلامية بطريقة غير مباشرة كونها اتبعت التضليل في جعل قراءة التاريخ قراءة احادية وشوفينية وخلق جمهرة من المؤرخين المزيفين للوقائع والاخبار والاحداث بما يتلاءم والايديولوجية المعتمدة عهد ذاك.. واليوم اتذكّر تلك الحالات المفضوحة كلما اسمع او اقرأ او اشاهد محاولات تشويه متعمد لتاريخ العراق يمارسها هذا من العراقيين او ذاك من غيرهم، سواء في اطلاقهم الاحكام الجاهزة او تزييف الحقائق من دون أي تدقيق ولا أي موضوعية ولا أي امانة.. لقد غدا تاريخ العراق اليوم، ساحة يتبارى فيها عدد كبير من ساسة فاشلين واعلاميين بدائيين وانصاف مثقفين.. بل وطال الامر حتى المتخلفين والجهلة من الطائفيين المتعصّبين من كل الاطياف العراقية الداكنة .. انهم لا يعرفون ماذا يفعلون فتشظياتهم طائشة في كل درب وصوب أي اتجاه.. انني اعتبر كل من يسعى لتشويه التاريخ او الجغرافية دليل عجزه على تشويه الواقع او فشله في تزوير الحاضر، فيلجأ الى تاريخ البلاد وجغرافيتها كي يجد فرصته او بغيته لخلق جدار واه يستند عليه!

خارطة العراق ليست بريطانية!
 قبل ايام انتقدت في مقال مختزل (نشر في جريدة الصباح البغدادية يوم 22 يونيو 2006) اولئك الذين يريدون تشويه جغرافية العراق بعدم اعترافهم بخارطة العراق السياسية عندما يصفونها بكل برود انها " خارطة بريطانية "، اذ وصل هذا الامر حتى لدى بعض الاكاديميين العراقيين المعروفين في علم الاجتماع .. ولما كانت مقالتي التي ردّت على هذه الدعوات مختزلة، فسوف ارد ـ لاحقا ـ بطريقة وثائقية على اولئك البعض من العراقيين وغير العراقيين الذين يشوّهون جغرافية تاريخ العراق بغية التّوصل الى اهداف يؤمنون بها، وبالرغم من احترامي لارادتهم السياسية، الا ان خارطة العراق السياسية تقول غير ما يريدون اذ يثبت لنا بأنها خارطة عراقية نجد مراجعها وتوثيقاتها في اطالس الخرائط العثمانية للولايات العراقية الثلاث: بغداد والموصل والبصرة..

تشويه تاريخ العراق
 اليوم اخصص مقالي عن بعض حالات تجري اليوم اعلاميا لتشويه تاريخ العراق، وهي محاولات تطمح للتشويش على تفكير الناس وتضليل الجيل الجديد الذي بات لا يعرف تاريخه وقد ضاعت الحقيقة من عنده، بل وغدا لا يعرف ابطال تاريخه ولا يدرك الصواب من الخطأ، فضلا عن محاولته بناء اتجاه لا يستقيم والمواطنة ومبادئ العراق الاجتماعية.. مستفيدين في الحقيقة من هزال ثقافته نتيجة اغتراب وعيه الوطني واضطراب ذهنيته بين مجموعة من التناقضات، فهو واحد من المتطفلين على التخصص في الشؤون العراقية..
 بل وتعجبت قبل ايام من لقائي بشخصية سياسية قيادية عراقية لا يدرك صاحبها الف باء تاريخ العراق المعاصر، ولم يميز بين زعمائه ولا يعرف سنوات الحكم ولا يدري بديهية سنوات احداث تاريخية مصيرية في حياة المجتمع العراقي المعاصر.. وكان يسألني اسئلة ساذجة لا يمكنني ان اصدق ان امامي احد اعمدة القادة العراقيين الجدد!! بل والاقسى من كل هذا وذاك انه يؤمن ايمانا راسخا بتشوهات تاريخية زرعوها في عقليته وكاد يندهش عندما اواجهه بالتوثيقات والادلة والحجج!! ومضت ايام وراء ايام، وانا افكّر بمصير بلاد عريقة هزلت جدا على ايام العهد السابق، وكنا نحلم ان تسترجع انفاسها على ايدي الاذكياء والبارعين والمبدعين، فاذا بنا امام اناس يفتقدون ابجديات الثقافة العراقية العامة!!

من يقنعكم بالتاريخ الطائفي؟
 جمعتني ندوة تلفزيونية مع واحد آخر من الوجوه السياسية الجديدة التي برزت على المسرح السياسي العراقي اليوم.. وكان قبل سقوط النظام السابق نكرة لا يعرفه احد، لا بل لم نقرأ له سطرا واحدا، بل ويقال ان تاريخه الشخصي يتضّمن عدة علامات استفهام.. وانا لا تعنيني سيرة الشخص بقدر ما يعنيني تفكيره واراؤه اليوم.. جلس ليوزع الأحكام السريعة التي لا تصدر عن عراقي عاقل، بل وانها لا تصدر حتى أي انسان عادي يعيش امتحان العراق منذ خمسين سنة.. وبدا لي ان الرجل لم يقرأ كتابا واحدا في تاريخ العراق لا القديم ولا الوسيط ولا الحديث.. ومما قاله ـ وهو ينهج خطا في الاعلام العراقي ليوزع الاراء الانقسامية ـ وقال بالحرف الواحد: بأن تاريخ العراق كله هو تاريخ طائفة سياسية!! وان العراق لم يعرف الا العهود السوداء منذ الف ومائتي سنة!
 واستطرد قائلا: ان العراق قد حكمه طوال التاريخ مكّون واحد من مكوناته الثلاثة!!.. الخ هذا الكلام يسمعه الملايين من العراقيين وهناك ملايين من العرب يسمعون هذا التشويه التاريخي من دون ان يعقّب عليه احد في صحافة او ان يوقفه احد ليسأله: لماذا تريد تسويق بضاعتك السياسية وتضّخم من حجمك على حساب تاريخ العراق الذي لا تعرف منه شيئا! هذا السياسي العراقي الجديد لا يقتنع بأن هناك من سيحرقه علميا وان كلامه سيغدو على المشرحة.. انه لا يدرك من حياته الا التفكير الطائفي ليصبغ به كل العراق اذ انه عاش منذ صغره على الكراهية لا على المحبة وعاش على الاقصاء بديلا عن التعايش!
 هذا السياسي العراقي الجديد يريد ان يصبغ ما صادفه من اضطهاد على العهد السابق ليصبغ كل تاريخ العراق بالاضطهاد! انه لا يعترف بالفرق بين الصراع السياسي والصراع الديني! هذا السياسي الجديد لا يدرك بأن هناك فترات سياسية عراقية لم تعرف الطائفية بمثل هذا الحجم الذي يتحدث عنه! هذا السياسي لا يعرف من هو جعفر العسكري مؤسس جيش العراق.. ولا يعرف مكانة سعيد قزاز الادارية في تاريخنا الملكي ولا يعرف مشروع الدكتور فاضل الجمالي في الشرق الاوسط.. ولا يدرك من هو احمد مختار بابان.. ولا يعرف ماهية ميثاق بغداد عام 1955! ولم يقرأ أي شيئ عن مجلس الاعمار العراقي! هذا لا يعرف من هو حسين الرحال ولا فؤاد الركابي ولا هاني الهندي.. هذا السياسي لا يدرك اول تشكيلة وزارية للعهد الجمهوري ومن ضمّت؟ ولا يدرك ممّن تألف مجلس السيادة؟ واذا ما ورد اسم نوري السعيد او غيره ممن سبق وحكم العراق انهال عليهم بسياطه الملتهبة من دون ان يكون حياديا ويعطي لكلّ ذي حق حقّه!!
 هذا السياسي الجديد لا يفّرق بين تاريخنا الحضاري وتاريخنا السياسي! هذا لا يعترف بأن العراق كان حاضنة للحضارة العربية والاسلامية كونه لم يقرأ حضارة العراق! هذا السياسي الجديد لا يدرك بأن تاريخ العراق منذ سقوط بغداد عام 656 هـ / 1258 م على يد هولاكو لم يعرف شعبه كيف يحكم نفسه بنفسه، اذ حكمه الغرباء من الاسيويين!! هذا السياسي الجديد لا يمّيز بين نزعة البويهيين وبين امتدادات السلاجقة.. بل ولا يعرف متى حكم التركمان من الاق قوينلو والقره قوينلو العراق.. بل ولا يدرك متى دخل الشاه اسماعيل الصفوي العراق وكيف امتد من جنوب العراق حتى شماله وكم بقي ببغداد!! وماذا فعل بالعراق؟ ولم يعرف كم حكم الشاه عباس العراق في القرن السابع عشر؟ ولم يعرف ماذا فعل العثمانيون بالعراق؟ ولم يعرف من هو نادرشاه؟ وما الذي فعله؟ هذا السياسي الجديد لا يعرف متى حوصرت بغداد لستة اشهر ابان القرن الثامن عشر حصارا قاتلا حتى اكلت الناس الكلاب والقطط!!
 هذا السياسي العراقي الجديد لا يفقه كيف حكم العثمانيون العراق بولاياته الثلاث وانه لم يدرك فلسفة العثمانيين في الحكم للولايات العربية وخصوصا للعراق.. ولا يدرك بأن العثمانيين لم يعينوا عراقيا (او: عربيا) واحدا واليا على أي ولاية عراقية او غير عراقية مهما كان ذلك العراقي ومهما كان انتماؤه سنيا ام شيعيا.. هذا السياسي الجديد لا يعرف كيف اضطهدت قبائل عراقية عربية وكردية وتركمانية ويزيدية وارمنية.. من دون يسأل الولاة القساة ان كان هؤلاء سنة او شيعة ومن دون تمييز بين عرب الجزيرة الفراتية او عرب الفرات الاوسط او عرب حائل والاحساء!! هذا السياسي العراقي الجديد لم يقرأ عن حدود العراق مع ايران شيئا من المعاهدات.. واين كانت حدود العراق قديما واين اصبحت اليوم (وخصوصا بعد ان منح صدام حسين خط التالوك = منتصف شط العرب لايران ليقضي على قضية سياسية لم تستحق معالجتها نصف شط العرب)، هذا التالوك الذي ناضل زعماء العراق الوطنيين السابقين ضد منحه لايران!!
 هذا السياسي العراقي الجديد لا يدرك بأن الكوارث والمجاعات والطواعين التي عاشتها بغداد والموصل وكل مدن العراق لم تميّز بين السنة العرب والشيعة العرب.. ولا بين التركمان العراقيين وبين الاكراد العراقيين على العهود التاريخية السالفة، فأين حكم الطائفة السياسية وانا اتحدى من يقول ان طائفة سياسية معينة قد حكمت العراق!! هذا السياسي العراقي الجديد لم يفقه بأن العراقيين لم يشاركوا الجيش التركي (ان كان من طائفته) في حربه الانكليز على ترابهم العراقي وتركوه يجر اذيال الهزيمة لوحده من الفاو حتى الكوت ومرورا بجبل حمرين ووصولا الى الموصل التي انسحب منها الاتراك بعد هدنة مدروس!!
 هذا السياسي العراقي الجديد لم يسمع ابدا بأن عراقيين سّموا اولادهم باسماء انكليز قبل ان يثوروا ضدهم!! هذا السياسي العراقي الجديد وصل جهله الى الحد الذي لا يعرف بأن ثورة العشرين اشترك فيها كل العراقيين باستثناء بعض من كانت له مصالح آنية! انه لا يعرف شيئا الى جانب الرارنجية والجنوب الى جانب تفاصيل ثورة تلعفر وقت ذاك ولم يقرأ شيئا عن الشيخ ضاري المحمود الذي قتل الكولونيل لجمان وهرب حتى القي القبض عليه بعد سنوات في سنجار ليعدم في الموصل عام 1928 كونه قاتلا مجرما ومن قبل محكمة قضاء عراقية لحكومة يتهمونها بالطائفية!
 هذا السياسي الجديد لا يعرف شيئا عن ثورة الاكراد ضد الانكليز مطالبين بحقوقهم القومية ولكن كانت صبغة ثورة الحفيد دينية صرفة! وبأي حق تتهمون فيصل الاول ومن حكم العراق بمعيته بالطائفية وقد عملوا جاهدين على بناء دولة لم يكن لها وجود على امتداد قرون؟ وصولا الى الزعيم عبد الكريم قاسم الذي لم يكن خلافه مع السيد محسن الحكيم خلافا طائفيا بقدر ما كان خلاف سياسي!!
 وأسأل هذا السياسي الجديد الذي ليس له الا الثرثرة على شاشات الفضائيات: لماذا تقسم العراق الى ثلاثة مكونات؟ واين بقية ابناء الشعب العراقي؟ من اعطاكم الحق ان تتكلموا باسم مكوّن واحد او باسم ثلاث مكونات؟؟
واستطرد متسائلا: لماذا روجّت الاحزاب الدينية في العراق لهذا التقسيم الذي فوجئ به شعب العراق وجعلتم كل مكّون يناصب الاخر العداء.. لقد التقطت الاشارات الاولى للانقسام منذ مؤتمر لندن الذي جمع فصائل من المعارضة العراقية، واعتقد ان هناك من زرع الفتنة بين العراقيين منذ تلك اللحظة التاريخية بترويجه للبيان (....).. فلماذا استمعتم الى من زرع الفتنة وتكلم عن التصنيفات على حساب نسيج مجتمع لم يعرف هذا الوباء الذي اخذتم تعزفونه ليل نهار؟
 اين تصنفون بقية الناس من ابناء الشعب العراقي الذي يعيش اليوم حالات اضطهاد لم يعرفها ابدا على امتداد التاريخ! اقول هذا وانا عراقي لا اشتري الطائفية كلها بشقيها بقلامة ظفر، اذ سابقى احتفظ باصدقائي العراقيين مهما كان دينهم ومهما كانت طائفتهم وهما كان جنسهم او لغتهم، بل والعالم كله يعرف بأنهم من شيعة ومسيحيين وارمن ويزيدية واكراد وتركمان.. قبل ان يكونوا من العرب السنّة.. واتمنى ان اجد لي اصدقاء من صابئة مندائيين او معدان جنوبيين.. وسابقى ادافع عن حقوق الجميع، ولكن لن اقبل تشويه التاريخ!

لماذا يتدخّل الطفيليون على تاريخ العراق؟
 راقبت صدفة برنامجا عن تاريخ العراق من قناة اسمها " المستقلة " لصاحبها الاخ محمد الحامدى الهاشمي، وكان المذيع يستضيف احد الشخصيات السياسية العراقية وهو ضابط عراقي متقاعد.. وفوجئت بحجم التشويه المتعمّد الذي رسمه ذلك " البرنامج " لتاريخ العراق وشخصياته وابطاله وتزييف احداثه.. انني احترم ذلك الضيف بالرغم من اختلافي قليلا مع بعض معلومات ووجهات نظره، الا انني وجدته لم يستطع ان يقاوم تلك الشراسة التي تحذلق بها ذلك المذيع الذي اظنه قد جاء من تونس وهو شاب لا يدرك معنى التاريخ وليس له الا الهذيان..
 ويبدو انه قد لقّن او ان هناك من اعطاه كتابا مشّوها لاحداث تاريخ العراق المعاصر.. فخرجت الحلقة التلفزيونية خلطة عجيبة من الخطايا والاثام بحق العراقيين دولة ومجتمعا في القرن العشرين.. لقد اراد مقّدم البرنامج ان يثبت للعالم بأن شعب العراق مجموعة دموية متوحشة عبر التاريخ! وكان يوزع الاحكام على زعماء العراق في القرن العشرين، ولم يعط أي فرصة للضيف ان يخرج من المأزق الذي وضعه فيه، اذ ضرب ذلك المذيع الاخماس بالاسداس..
 لقد شوّه نص وثيقة مذكرة الملك فيصل الاول التي كتبها قبل وفاته، وكأن فيصل يريد الاساءة للعراقيين.. ربما كانت لفيصل الاول بعض الاخطاء، ولكن لا يمكننا القول انه قد اساء للعراقيين ابدا.. فقد كان يتقّبل كل اساءات العراقيين له وخصوصا من المثقفين والشعراء ولم نجد له له اساءة لأي عراقي بدءا باليهود العراقيين وانتقالا الى الصابئة المندائيين ومرورا بالمسيحيين ووصولا الى العرب والتركمان والاكراد واليزيدية.. ومن يراجع ادبيات العشرينات سيجد كم كانت ثقة العراقيين بفيصل مؤسسا لكيانهم الجديد!
 وكنت ولم ازل اقول بأن العراق لو اصبح بيد أي زعيم عراقي في احرج فترة من تأسيسه لرأينا كم سيصيبه الفشل التاريخي.. وربما كنت مخطئا، ولكن الذي يحملني على هذا الاعتقاد ان كاريزما فيصل الاول ومكانته الدولية وقت ذاك لم ينلها أي زعيم عربي معاصر له! فضلا عن ان ذلك الزعيم الهاشمي قد جمع ولاء كل العراقيين، فالعراقيون كما كانوا يفخرون بفيصل حتى ان اختلف احد منهم عنه.. لقد كانوا اكثر عقلانية مما غدوا عليه اليوم. لقد كانوا ينصتون لغيرهم اكثر مما ينصتون لواحدهم الاخر، وكانوا يؤّلف احدهم الاخر بمعزل عن أي فرقة او تعصّب او تشنّج!
 التفت المذيع التونسي لكي يزيد من تشويه التاريخ، فاختلق حادثا يقول بأن البصرة ارادت الانفصال عن العراق منذ ذلك الوقت، فلا غرابة ان ينادي السيد عبد العزيز الحكيم بالانفصال اليوم!! انه ضرب الماضي بالحاضر ولما كان الضيف ليس بمؤرخ ولم يعرف التفصيلات الدقيقة لما كان في البصرة من انقسامات سياسية ودور السيد طالب النقيب فيها وهو زعيم رشّح لعرش العراق وليس لعرش امارة اسمها البصرة.. فمن الاجحاف تشويه تاريخ السيد طالب النقيب وتشويه تاريخ البصرة الفيحاء الذي كان جزءا من تاريخ العراق على امتداد العصور..
 ربما كانت هناك زعامات محلية او قبلية في العراق هنا او هناك على امتداد التاريخ الحديث، ولكن هذا لا يمنحنا الحق ان نشّوه تاريخ العراقيين!! وهنا أسأل: ما هذا الهذيان العربي في شؤون العراق وتاريخه.. لقد كنت منذ زمن طويل ولم ازل احاجج اصحابه بل واحاربه لأنني اعتقد انه لا يعمل لصالح العراق والعراقيين!! وكم هاجمني عدد من الكتّاب والمفكرين العرب، بل وحوربت ولم ازل احارب من قبل مراكز بحوث ومؤسسات عربية لموقفي هذا الذي لن اتنازل عنه..
 لقد عرفت منذ زمن بعيد ان التدخلات السياسية والاعلامية بالشأن العراقي تأتي من دون سابق تخصص ومعرفة وكفاءة .. واذا كانت تدخلات بعض الكتّاب والمفكرين العرب خاطئة في جملتها.. فكيف ستكون تدخلات مذيع متهور لا يعرف الا الصراخ والزعيق بوجه ضيوفه وبوجه المتداخلين معه!
 التفت هذا المذيع ليتكلم عن الاكراد العراقيين وهو يحاول ان ينسف العلاقة بين العرب والاكراد العراقيين، بل ليشوه تاريخ الاكراد العراقيين في علاقاتهم مع هذا الطرف او ذاك.. وعبثا ذهبت محاولات الضيف في الدفاع عن الاكراد.. ثم انتقل الحديث عن مشكلة الموصل، وكأن هذه المشكلة قد خلقها العراقيون ولم يعرفوا انها مشكلة اختلقت بعد ان تشكّلت المملكة العراقية عام 1921.. وان الغازي مصطفى كمال اتاتورك قد طالب بولاية الموصل بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1924..
 واستمرت المشكلة التاريخية (التي درسها المؤرخ العراقي الراحل الدكتور فاضل حسين في اطروحته القيمة بعنوان " مشكلة الموصل " دراسة وثائقية ممتازة من الناحية الدولية).. ولم تبق المشكلة محلية ولا اقليمية بل انها دوّلت وناضل العراقيون في مدينة الموصل خصوصا نضالا مستميتا من اجل عراقيتها وخصوصا الحزب الوطني العراقي بالموصل ولجنة الدفاع الوطني عن الموصل.. حتى اوعزت عصبة الامم بتشكيل لجنة دولية متخصصة وصلت ولاية الموصل وعاينت ميدانيا على الارض عراقية الموصل ورأي السكان واصدرت قرارها بانهاء المشكلة نهائيا بتلك العراقية، ورضخت تركيا للقرار الدولي..
 ان ما سمعته من البرنامج التلفزيوني هو تشويه متعمّد للحقائق التاريخية.. وحتى ان افترضنا بأن بريطانيا قد وقفت الى جانب الحقوق العراقية نظرا لثراء ولاية الموصل بالبترول، فلقد كان ذلك من مصلحة العراق العليا.. فليتخيل كل من يبحث عن حقوق العراق خارج اطار الحقائق التاريخية ويسأل نفسه: ماذا سيكون مصير ولاية الموصل كلها اليوم لو غدت ولاية من ولايات الجمهورية التركية؟ الا يذكّرنا هذا بلواء الاسكندرون الذي ذهب الى السلة التركية ولم يعد ابدا؟ ماذا سيكون وضع الموصل بسكانها العراقيين العرب والاكراد والتركمان وكل اطيافها الدينية؟
 الم يتعظ العراقيون اليوم من مشكلة الموصل لما يجري على ارض الواقع.. انني اتمنى ان يتمتع كل العراقيين بحقوقهم التاريخية والجغرافية، ولكن في اطار الوحدة الوطنية، ولا اريد ان يفّسر كلامي بعيدا عن امنياتي التي تريد لا يتضرر أي شبر من ارض العراق.
 واقول لهذا الذي جعل من نفسه مؤرخا للعراق وهو مذيع عربي لا يعرف الف باء تاريخ المنطقة: ماذا تعرف عن علاقات الموصل بالاقاليم؟ ماذا تعرف عن علاقة الموصل الازلية ببغداد من خلال شريان نهر دجلة؟ ماذا تعرف عن دور المركز بغداد في رصد احداث العراق من البصرة الى الموصل؟ اهجعوا قليلا ولا تجعلوا تاريخ العراق ومسائل العراق ابوابا تشوهون موضوعاته لكسب مادي او اعلامي رخيص..

واخيرا: المسلسل سيبقى مستمرا!
 ان هذه ليست المرة الاولى التي تقدم عليها قناة (المستقلة) التي تذيع فضائيتها من لندن، بل كانت منذ زمن بعيد قد وقعت اكثر من مرة بهكذا خطايا التي لا يقبلها المتخصصون ابدا، وكنت قد ناشدت صاحب القناة الاخ محمد الحامدي الهاشمي في تصويب اخطاء عن العراق اذيعت من فضائيته، ولكن لا جواب لمن تنادي.. وانني اعتقد بأن القنوات الفضائية العربية سوف لن تتوقف عن المشاركة في تشويه تاريخ العراق وتزوير احداثه والوقوع بجملة اخطاء لا تغتفر.. وهذا هو قدر العراق والعراقيين مع الاعلام العربي السريع بكل فجائعه.. ودعوني اقول بأن معالجة وجهات النظر السياسية والايديولوجية شيئ وتوظيف معلومات التاريخ والجغرافية شيئ آخر.. فالفرق كبير بين الحقائق وبين الاراء.. وان تاريخ العراق ثقيل جدا لا يمكن ان يجازف كل من هب ودب لابداء وجهات نظر فيه بعيدا عن المنهج والمعلومة والوثيقة.. فهل انتم منتهون؟ انني اشك في ذلك.

www.sayyaraljamil.com[/b]

220
العراق ليس خارطة بريطانية !!
[/size]

أ.د. سّيار الجميل
مفكّر عراقي


     في حوار تلفزيوني اجري معي على فضائية ” الحرة عراق " .. نقل لي الاخ الاستاذ احمد الهاشم الذي حاورني برفقة اخوين فاضلين رأيا يردده بعض العراقيين يقول بأن عراقنا ما هو الا " خارطة بريطانية" ، وكنت قد سمعت هذا التشويه من قبل احد الاكاديميين العراقيين المعروفين  .. ولقد علقّت على هذا القول المجافي للحقيقة التاريخية بجواب مختزل لم يكن وقت البرنامج ولا موضوعه يسمحان لي ان استطرد لأوضح لكل العراقيين بأن من يشيع مثل هذه الدعاوى التي لا اصل لها من الحقيقة ، نفر من العراقيين الذين لا يريدون ان يبقى العراق كما هو عليه اليوم ، بل يسعون الى تقسيمه وتفتيته بأي شكل من الاشكال وبأي ثمن من الاثمان ..
    نعم ، لقد اجبت على ذلك بأن العراق خارطة عراقية كما يثبت لنا التاريخ ، وانه لم يكن في يوم من الايام من صناعة البريطانيين او غيرهم .. وقلت بأن الدولة ( أي : المؤسسات العراقية ) اذا كانت قد تأسست في العام 1921 باسم المملكة العراقية ، فان خارطة التراب العراقي معروفة منذ الاف السنين .. ولا يمكن لأي مخلوق كائنا من كان ان ينفيها جغرافيا من التاريخ  مهما بلغت درجة اساءته لها  ولتنوعاتها المتباينة .
    نعم ايها العراقيون ان العراق خارطة عراقية ومن المعيب ان يثبت لكم أي مؤرخ او باحث ذلك لأناس كان ينبغي عليهم ان يعتزوا بخارطتهم العريقة لا كغيرهم من الشعوب التي اوجدت لها خرائط جديدة لها .. نعم ايها العراقيون ان بلادكم التي نعرفها اليوم كانت قد وجدت لها ترابها وحدودها وتضاريسها منذ الاف السنين ، ولابد ان تمّيزوا بين مفاهيم ألوطن (= التراب ) وبين الدولة (= المؤسسات ) وبين الشعب (= المجتمع ) .. فاذا كان الانكليز قد ساهموا في بناء دولة العراق وانبثقت المملكة العراقية على أيديهم ، فليس معنى ذلك ان حدود العراق قد صنعها الانكليز .. فالحدود كانت موجودة سواء من الناحية السياسية او الادارية على امتداد قرون طوال ..
    ولابد ان يدرك حتى المختصين بأن تثبيت الحدود شيء وخلقها شيء آخر .. فاذا كانت المس غروترود بيل قد سهرت الليالي ـ كما كتبت في مذكراتها ـ للتثبت من حدود العراق وسوريا نظرا لخبرتها الطويلة في بادية الشام وتأليفها كتاب عن تلك البادية قبل وصولها للعراق .. فهي لم تخلق حدودا من الوهم ، وان السير برسي كوكس لم يوقّع على حدود العراق السياسية الا بعد التأكد من الخرائط العثمانية التي تثبت حدود العراق الحالية مع كل من ايران وبقية الولايات العثمانية في الاناضول شمالا وفي سوريا شرقا .. وبقيت رسومات وتثبيت الحدود معلقا بين العراق وبين كل من السعودية والكويت حتى نهاية القرن العشرين .
     لقد ورث العراقيون على ايدي البريطانيين بلادهم اثر حكم طويل جدا للدولة العثمانية  دام اربعة قرون .. وكان العراق يتشكّل من ثلاث ولايات كبرى ، هي : الموصل شمالا وبغداد شاسعة الاطراف وسطا والبصرة جنوبا ( مع انبثاق ولاية شهرزور في اقليم شهرزور فقط ابان القرن 19 ) .. وكان لهذه الولايات المهمة الثلاث حدودها مع بعضها الاخر اولا ومع الولايات السورية ثانيا وحدودها مع  ايران ثالثا .. وهناك مناطق منفتحة في البوادي الصحراوية مع كل من الكويت والسعودية .. وتشكّل الحدود مع ايران اصعب واطول الحدود وعقدت من خلالها اربعة عشر معاهدة بدءا بمعاهدة أماسية في القرن 16 وانتهاء بمعاهدة الجزائر عام 1974 .. وكان اقليم كردستان العراق يتبع ولاية الموصل التي طالبت بها تركيا بعد تأسيس الدولة العراقية ، وقد ناضل المواصلة العراقيون من اجل ابقائها عراقية ..فنجحوا وبمساعدة الانكليز في تدويل المشكلة والتي حسمت من قبل لجنة تثبيت الحدود الدولية عن عصبة الامم نظرا لأن الموصل رأس العراق .
 ان العراق التاريخي هو اكبر مما نألفه على الخارطة السياسية اليوم .. وللعراق ملحقات جغرافية من البوادي الشاسعة التي يندر فيها السكان الا من تنقلات البدو الرحل على امتداد ايام السنة . والعراق التاريخي يتألف من اقليمين اساسيين ، هما : ارض السواد والجزيرة الفراتية ولواحقهما ، وهما اللذان يؤلفان بلاد ما بين النهرين القديمة Mesopotamia  التي وردت في الادبيات الكلاسيكية القديمة لكل من الاغريق والرومان ( راجع : كتابات اريان اكزانافون مثلا ، وقارن بطليموس ومعلوماته ) .
          ولابد ان اقول ايضا بأن تقسيمات العراق على امتداد التاريخ كانت ادارية بحتة ولم تكن دينية او طائفية او قومية عرقية بدءا بتشكيل الامصار والكور والدساكر والطسوج ( انظر : ابن خرداذبه ، 5- 14 ) ومرورا بالايالات والولايات والسناجق ( = الالوية ) وانتهاء بالمحافظات والاقضية ( انظر : دونالد بريجارد ، الجغرافية التاريخية ،  43-48) .. وبغداد  ـ حسب اليعقوبي ـ واسطة العقد بين بلاد الجزيرة الفراتية وبين بلاد ارض السواد .. كما كانت مركز جذب واستقطاب لاهل الافاق كي يفضلونها على اوطانهم في هذه الدنيا .
     ان خارطة العراق الحديثة هي وريثة خارطته العثمانية التي رسمها القدماء حسب نظام الشرق الذي أسسّه السلطان سليمان القانوني 1520- 1566م بعد ان غدا العراق عثمانيا ، اذ كانت قد تأسست فيه عدة دول على امتداد تاريخ طويل .. ونجد الخارطة العثمانية له هي الاقرب لما هي عليه اليوم حدود العراق السياسية .. يقول كينير في كتابه " الامبراطورية الفارسية " والمطبوع في سنة 1811 م النص التالي : يمتد العراق من ادنى شط العرب جنوبا حتى مدينة ماردين شمالا ومن زرباطية شرقا الى الخابور غربا " ( ص89 ) .
  واخيرا أقول ، بأن أي محاولة لتزوير حدود العراق سوف لن تنجح ابدا ، كما ان ما يشيعه بعض العراقيين من ان العراق هو وهم لا وجود له ..  واذا كانوا يشيعون بانه صناعة بريطانية ، فان ذلك مجرد كلام لا اساس له من الصحة ، لأن العراق بحدود الحالية نجده رسميا ووثائقيا منذ تأسيس نظام الشرق الاداري في القرن السادس عشر .. كما اود القول لمن لم يؤمن بوجود وطن عريق اسمه العراق : اذا كان العراق محظوظا ببقائه حيا مع خسرانه بعض الاطراف ، فان بلاد الشام قد تقطعت الى اربعة اقسام .. وافتقد احد اقسامها منذ اكثر من خمسين سنة ! وعليه ، ابحثوا عن أي حلول في اطار وحدة العراق شريطة عدم تقسيمه او تفتيته ، فلا يمكن لأي دولة في المنطقة ترضى ان تشيع عن نفسها ما يشيعه البعض من العراقيين عن وطنهم ، فكيف بتلك الدول تقبل ان تقسّم وتتفتت ؟؟ ان أي محاولة لتقسيم وتفتيت العراق سيجعله لقما سائغة في افواه دول متوحشة طامعة به منذ ازمان طوال !

www.sayyaraljamil.com [/b]

221
ذبول العقل العربي: شراسة اليوتوبيا وصراع الاضداد

القسم الاول
[/size]



د. سّيار الجميل

"وضد ّ كلّ أمرئ ما كان يجهله          والجاهلون لأهل العلم أعـــداء"
                                                                 الإمام علي

الصراع والبقاء للاقوى
 سيبقى الأمر سجالا عند العرب بين قلة من المثقفين المنفتحين الأحرار الحقيقيين وبين كثرة من المنغلقين الخياليين الطوباويين، خصوصا عندما بدأت تتأسس بشكل ايديولوجي في تفكير العرب منذ العام 1979: آليات وعناصر ووسائل غريبة من التعصّب الأعمى في قمع ثقافتهم وفنونهم، والتنكيل بتراثهم، والجهالة بتاريخهم.. والمصيبة أن يتم كل ذلك من دون أي اكتراث للزمن، ولا أي احترام للتاريخ، ومن دون أي توازن ووسطية بين الدين والدنيا، وبين الواقع والمثال، وبعيدا عن أي منهج علمي ونقدي لدراسة النصوص وتوظيفها بعد نقدها وتفسيرها تفسيرا علميا. انه ـ مع الأسف ـ تأسيس غبي لا يقتصر على اقتحام ما يكتبه المعاصرون من نصوص أدبية، بل يجد البعض أن يجتث من أعماقنا كل نصوص القدماء والمحدثين وينهرهم بعد اتهامهم كي يسكتهم إلى الأبد في ظنه، ثم يهاجمون كل رموز اليوم مهاجمة رخيصة! ان ظاهرة الارهاب لم تأت من فراغ ابدا، بل كانت قد اوجدتها بيئة مساعدة وظروف حاضنة وادوات مؤهلة وتربية الحدود، بحيث كلما تقدّم الزمن وازدادت التشيؤات المعاصرة تصادمت الحياة عندنا بالمحددات من دون أي قطائع ولا تفقهات جديدة تساعد مجتمعاتنا على تقليصه او تخليصه من التناقضات..
متى تفاقمت التعقيدات؟

 وربما يتساءل القارئ الكريم ـ كما سألني احد اصدقائي ذات مرة ـ: لماذا اخترت سنة 1979 بداية حقيقية للتحولات الماضوية في التفكير والممارسة العربيين على ارض الواقع. اجيب: ان الحياة العربية الحديثة لم تعرف على امتداد ستين سنة وللفترة 1929 – 1979 الا تنظيما دينيا قويا واحدا متمثلا بالاخوان المسلمين (تأسست هذه الجماعة عام 1928) ووجدت الى جانبه تنظيمات دينية ضعيفة برغم غلوها وتشددّها. صحيح انها كانت متشددة ولكنها لم تصل الى موقع القرار والمسؤولية في أي يوم من الايام، ولكن بعد مرور ستين سنة (أي عام 1979) تأسست اول جمهورية اسلامية متشددة طرحت مشروع " تصدير الثورة الدينية "، وكان لتأسيسها وقوتها الايديولوجية صدى كبير في اشعال العواطف وتهييج النقمة وايقاد المشاعر الدينية خصوصا ان هناك على الطرف الاخر مملكة اسلامية متشددة فتشكلّت على الجانبين منذ ذلك اليوم جملة هائلة من القوى والاحزاب والجماعات المتشددة في كل البلدان العربية والاسلامية، واتخذت كل واحدة منها اسلوبا بها للعمل السري والعلني، أي بمعنى: لأول مرة يجد الدين نفسه سلطة قوية وحادة جدا في السياسة والمجتمع معا، وقد دعي ذلك ابان الثمانينيات من القرن العشرين بـ " الصحوة الاسلامية ". لقد راهنت الملايين من العرب على تلك " الصحوة " من دون ان تسأل عن أي فلسفة سياسية لها، او أي برنامج لحكم مدني فيها، او عن أي اسلوب معاصر يحدد العلاقة بين الماضي وروح العصر؟؟ وعندما بدأ العصر في تسارعه التاريخي المذهل في السنوات العشر الاخيرة من القرن العشرين، غدت مجتمعاتنا ترتد على الحداثة والمعاصرة بشكل مخيف، ولم تزل تعيش تناقضا صارخا بين الماضي والحاضر، ولا يمكن التكهن بالمستقبل كيف سيكون؟
انقسام بنية التفكير العربي الراهن

 ينقسم التفكير العربي اليوم الى ثلاث بنى اساسية: الاولى تمثلها اكثرية طوباوية ماضوية (= لا تنفك عن التفكير في مرجعيات الماضي) والثانية، تمثّلها اقلية تحديثية او معاصرة (= لا تنفك عن التفكير في مرجعيات هذا العصر).. اما البنية الثالثة، فهي على الهامش تعيش من اجل مصالحها الانية وهي تصفق للاقوى دوما وينضوي فيها مفكرون ومثقفون واعلاميون ومدنيون وجامعيون ومهنيون.. الخ، ولكنها لا تشكّل نقيض النقيض ابدا كي تنمو وتعيش! علما بأن أي بنية سيكون مصيرها الزوال ولو بعد حين.. ولكن بعد ان ينبثق نقيض النقيض في تفكيرنا وبناء الوعي الجديد.. وعندما يترسخ ديالكتيك فكري عربي واسلامي عالي المستوى في حياتنا واذهاننا.

انني اعتقد بأن الزمن سيطول امام التحولات التاريخية، واذا كانت الاقلية (النخبوية) ستنتصر في نهاية المطاف، فان زمنها سيطول جدا، فالارض غدت مشبعة بالافات والصدامات والبشر ينوء عن العقل بسوء التفكير وهياج الظنون وحدة العواطف .. ولئن غدت الحياة العربية لا تجد مرجعياتها الا في الماضي.. واذا كان التاريخ سيعيد توازنه من جديد عاجلا أم آجلا، فسيدرك العرب في يوم من الأيام كم ضيعوا من الزمن، وكم صرفوا من الأتعاب، وكم تلفوا من القيم.. وكم توهموا الاوهام حقائق.. وكم حاربوا من العقلاء والعلماء والمبدعين.. وكم ساهموا في خلق تناقضات لا حصر لها ضد بناء مستقبلهم.
 
هوية المتشددين المتخلفين

 انهم يريدون أن يؤسسوا هوية جديدة للقمع والتخلف والتراجعية وآلية صاعقة للتنكيل والارهاب بعد أن غدا القمع سيدا مطاعا والتنكيل أمرا مألوفا والإرهاب الفكري تقليدا مباحا لكل المتسلطين من الكهنة الجدد في المجتمع العربي وقواه، ولكن ضد الثقافة الحديثة والفن القديم والحديث معا وكل أشكال ومضامين الحياة المعاصرة! تساعدهم في ذلك قوى سياسية وحكومية عربية وغير عربية وجماعات ممّولة ودور نشر ومؤسسات رسمية ومراكز (بحوث) أهلية وأجهزة إعلام كبيرة وتضمن وجودهم سلطات ووزارات وقوانين.. اذ تعتني بأحكامهم وفتاويهم وتعليماتهم عناية فائقة وكأنهم رسلا منزلين وأولياء صالحين وملائكة مقدّسين!! وهؤلاء فعلا هم الذين جنوا جناية لا توصف على مصائرنا السياسية وليست الثقافية فقط من خلال ما أعطى لهم من الأدوار الوعظية والترديدية والتسويغية والتخويفية والتحريضية والتسلطية والقمعية التي أثرت بالصميم في الجيل الجديد، ونحن نرى اليوم نتائج ما زرعته الأيدي من الدعوات والصحف والخطب والمواعظ على الشاشات ومن خلال الكاسيتات في العقدين الأخيرين من القرن العشرين تارة باسم الصحوة الدينية وتارة باسم تصدير الثورة وتارة باسم الاحياء والسلف.. الخ. ان الضرورة تقضي اليوم ان يقف العقلاء في لحظة تأمل واحدة كي يجبوا على التساؤل القائل: لماذا يؤيد 75 % من العرب ابو مصعب الزرقاوي بعد مصرعه وهو الذي كان قد اعترف بعدة عمليات ارهابية راح ضحيتها ابرياء من مدنيين اطفالا ورجالا ونساء؟؟ هل ان مصرعه من قبل الامريكيين قد اكسبه التأييد ام انه رمز ثقافة اجتماعية مضادة بدأت تمتد في مفاصل الحياة؟؟
انهم ينحرون العقل والحرية!!

 لقد وجدوا في السبل الحديثة والمعاصرة حاجتهم لتوزيع بلاهتهم وافكارهم السوداء المتخلفة.. تجدونهم في كل مكان يطلعون علينا على الشاشات والفضائيات والمواقع الالكترونية او ينشرون انفسهم في الكتب والمقالات والمجلات والمحاضرات والخطب.. بل والانكى من ذلك انهم وجدوا مواقعهم على شبكة المعلومات الدولية (= الانترنيت) لنشر بياناتهم وفتاويهم وخطاباتهم.. بل والاعتى من كل هذا وذاك تسربوا الى مناهج التربية والتعليم، فخلقوا في الجيل الجديد امراضا لا تعد ولا تحصى، وكلها نفسية يطول علاجها.. انهم لا يقتصرون على ملة او مذهب او طائفة او فرقة.. انهم من كل واد يتجمعون علينا لينحروا العقل علنا من دون أي تحّرج او تخوّف، فالسلطة التي يمتلكونها باسم (الدين) والدين بكل سموه منهم براء، غدت طاغية لا يمكن ان تعترض عليها ابدا.. دعوني اسجل بعض الحالات التي تثير الاشمئزاز والقرف:

 ان نماذج لا تعد ولا تحصى لاولئك الذين يقتلون العقل ويضحكون بكلامهم على الناس وسواء كانوا من هذا المذهب او ذاك، فما يذيعه بعض المعممّين من المضحكات لا يمكن قبوله ابدا، ولا يلومني احد ان انتقدت هؤلاء فهم ليسوا برجال مقدّسين ولا بمعصومين.. لقد سمعت احدهم في واحد من المجالس ويصف نفسه بالسيد والدكتور (....) يقول: بأننا نحن من آل البيت والصلاة علينا واجبة وان الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو آدم الاول وآدم هو آدم الثاني ولم يأمر الله بالصلاة والتسليم على أي آل لأي رسول او نبي الا على آل الرسول محمد.. فعليكم بالصلاة والسلام علينا!! فتضّج القاعة بما أمر! وهنا لسنا في باب ضد القيم السامية في المجتمع، بل ضد ما لا يحتمله العقل. وسمعت معمّم آخر على احدى القنوات الفضائية الدينية الجديدة وهو يشرح للناس كيف ان سفينة نوح كانت تمخر على الماء الذي طافت الارض به، وفجأة تترنح السفينة وتتمايل وكادت تنقلب ولما هدأت.. قال: اتدرون ماذا اصاب السفينة؟ اجاب: انها كانت تطفو فوق مدينة النجف وكربلاء المقدستين وبتأثيرهما كادت تنقلب السفينة فوق الماء.. فضج من كان يسمعه بالصلاة والتسليم!

 لقد وصل الصراع المذهبي والطائفي في مجتمعاتنا اليوم الى اقصى مداه عند اصحاب الغلو لدى كل من الطرفين: السنة والشيعة اذ نسمع من حين الى آخر ان كل طرف يكّفر الطرف الاخر.. السنة من السلفيين يطلقون على الشيعة اسم الروافض، والشيعة من الغلاة يطلقون على السنة اسم النواصب!! ان كلا من الطرفين يغالي باتجاه تحقير الاخر، وسوف لن تهدأ العلاقة الساخنة بين الطرفين الا عندما يتم الغاء تقاطع مصالح الطرفين سياسيا وتؤسس مؤسسات مجتمع مدني تنتفي منه الهوية الطائفية ولن يتعايش أي مجتمع منقسم على نفسه طائفيا الا من خلال فصل الدين عن الدولة، واّلا فالصدام الطائفي سيحّل في كل مجتمعاتنا العربية والاسلامية على هذا النحو المرير.
من يوقف هذا البؤس الفكري عند العرب والمسلمين؟

 كتب أحدهم في كتاب رائع الطباعة والورق والتجليد السميك قائلا ما نصّه وهو ينقل عن ابن القيم (هذا الاخير هو تلميذ ابن تيمية): " ان معارضة الوحي بالعقل ميراث الشيخ ابي مرة (= ابليس).. واما رؤوس النفاة والمعطلين: ففرعون.. وجنوده كلهم ونمرود بن كنعان.. وارسطاطاليس وبقراطيس واضرابهما، وطمطم وتنكلوسا، وابن وحشية واضرابهم وابن سينا والفارابي وكل فيلسوف لا يؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه.. "! وانني أسأل: هل من تعليق على هكذا احكام ؟ هل يمكن لأي انسان ان يكفّر الاخر بمثل هذه السهولة وخصوصا اذا كانوا من رموز حضارتنا في التاريخ؟
 اغتنم هذه الفرصة لأتقّدم الى حكومات دول (دينية) يزداد البؤس الفكري فيها الى حد مذهل، بحيث يزج بكل المثقفين الاحرار في السجون بسبب استنارتهم الفكرية والسياسية، وهذا ما يجري في كل اصقاعها. اننا نعلم بأن بعض تلك " الدول " ذات ثقل حقيقي في الحياة الاسلامية المعاصرة، ولا يمكن ان تبقى بعيدا عن أي توجهات اصلاحية سياسية وعن أي انفتاحات فكرية وعن أي تدقيق علمي او عن أي تحديث تربوي وعن أي تنوّر اعلامي.. وانها تحّسب ان ما تنتجه المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية والخاصة في كل منهما صحيح من منشورات وكتب وثقافة بائسة.. وهذا ما يضر العقل ويجني على المجتمع.
 دعونا نتوقّف قليلا عندما كتب أحد (الدكاترة) السعوديين في كتاب له طبع مؤخرا ايضا، فلنقرأ ما كتب وادعكم تتأملون هذا الفكر الخطير الذي اعتقد بأن خمسين سنة من انتاجه كانت كافية لصنع الارهاب بعد ان تراكمت كراهية الاخر يوما بعد آخر وخصوصا كراهية الغرب.. دعنا نقرأ: " من اخطر اسباب الاهواء بين المسلمين قديما وحديثا ترجمة كتب الاديان والفلسفة. وما تحويه من عقائد ومذاهب وفلسفات. وقد مرت الترجمة بمراحل: الاولى في عهد خالد بن يزيد بن معاوية، حيث امر بترجمة كتب الصنعة من اليونانية والقبطية الى العربية في اواخر القرن الاول. والثانية: ظهور عدد من المترجمين في القرن الثاني، منهم: يحيى بن البطريق ترجم المجسطي ايام المنصور، وجورجيوس بن جبرائيل الطبيب، وعبد الله بن المقفع (ترجم بعض كتب ارسطوطاليس) ويوحنا بن ماسويه. والثالثة: في اوائل القرن الثالث وما بعده، وقد اشتهر بالترجمة يوحنا بن البطريق، والحجاج بن مطر، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي، وحنين بن اسحق وابنه اسحاق، وثابت بن قره الصابئ وحبيش بن الحسن، وقد ترجموا كثيرا من كتب الفلسفة. والرابعة: في القرن الرابع وما بعده، ومنهم متى بن يونس، وسنان بن ثابت بن قره، ويحيى بن عدي وابن زرعة.

ويعلق مستطردا هذا (المؤلف المعاصر): وقد ظهر التأثر بالكتب الاجنبية في وقت مبكر من بزوغ الاراء الشاذة في تاريخ الاسلام... وهكذا نجد ان هذا التيار العارم في ترجمة كتب الاديان والفلسفات والنحل قد اسهم بشكل كبير في انتشار الاهواء والفرق والبدع، والمقالات الفاسدة وكان رافدا قويا لأهل الاهواء ومصدرا مهما من مصادرهم.. ولا يزال هذا التيار من اسباب تأثر طوائف هذه الامة بالافكار والعقائد الوافدة من الامم الكافرة الهالكة. ويتمثل ذلك بالغزو الفكري ومظاهره كالعلمنة والحداثة والقوميات والحزبيات والشعارات الفارغة، ونحو ذلك " (انظر: د. ناصر بن عبد الكريم، الاهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الاسلام: مسيرة ركب الشيطان (الحلقة الثانية) (ط2 الرياض: دار الوطن، 1417 هـ) ص 190-194).
كلمة عتاب ونقد لابد منها

يطبع هكذا كتاب في العاصمة الرياض من دون ان يسأل المؤلف عن فحوى كلامه، او ان يراقب الناشر ما الذي نشر وينشر؟ ينشر هكذا كتاب في عاصمة دولة يتوجه اليها المسلمون من مشارق الارض ومغاربها؟ كم من مثل هذا الكتاب يطبع حتى اليوم ومنذ خمسين سنة؟ وهل يعقل ان ينشر هكذا كلام في العام 1417 هـ (= 1996 م) في قلب العالم الاسلامي؟ واذا كان العتب خفيفا على المملكة العربية السعودية نظرا للبنية الفكرية والدينية التي تحكم علاقاتها الثقافية بالعالم الاسلامي قاطبة.. فكيف سيكون العتب ثقيلا على مصر ونحن نجد ركاما هائلا من مثل هذا الغثاء يطبع وينشر على العباد في قلب مصر منذ خمسين سنة او يزيد؟ وكيف سيكون العتب ثقيلا ايضا على طهران وقم وما ينشر في ايران من كتب ومنشورات على الطرف الاخر من العالم الاسلامي؟ لقد شرح الاخ الاستاذ حسن العلوي بعض ما ينتجه الغلاة من الشيعة الجعفرية من كتابات بحق السيدة عائشة والصحابة اذ سمعته وهو يقّدم عرضا نقديا فاضحا على احدى القنوات الفضائية بهذا الصدد! ويرى بأن مثل هذه الثقافة تشعل المجتمع وتولد الكراهية والاحقاد.

 ارجع لأقول: كم من الافكار الخاطئة قد نشرت منذ ان اعلن محمد قطب (رحمه الله) عن " جاهلية القرن العشرين " حتى اليوم؟ دعونا نتوقف عند كتاب نشر على غلافه عنوانه واسم مؤلفه ولقبه. لقد كتب على اعلى الغلاف: (المستشار الدكتور) علي جريشة وعنوان كتابه: الاتجاهات الفكرية المعاصرة والمنشور من قبل دار الوفاء بالمنصورة الطبعة الاولى عام 1986، وقد كتبه في المدينة المنورة، وهو كسلفه يبدأ بالفقرة الاولى معتمدا على كتاب الامام ابن القيم في كتابه: " مدارج السالكين بين اياك نعبد واياك نستعين.. وهو يقول: " اننا نعرض لتيارات فكرية سارت او سارعت في الغرب او الشرق قم قدمت الينا فصارعت في عالمنا الاسلامي عقدية الاسلام وشريعته. ولقد يستبين من ذلك اهمية الموضوع وخطورته.. انه ليس " ترفا فكريا " او كماليات عقلية.. انه قد يرتفع الى مرتبة الحاجة او الضرورة! " (ص 6)

 ومن يتصفّح هذا الكتاب سيجده يكيل السباب والشتائم للاتجاهات الفكرية والسياسية الحديثة كالديمقراطية والدستورية والعلمانية والحداثة السياسية والفلسفات المدنية.. الخ من دون فهم ولا ادراك، بل وتصل درجة الاقصاء لفلاسفة التاريخ وفلاسفة العصر الى درجة لا يمكن تخيلها من الكراهية.. من دون ان يسأل امثال هؤلاء الكتّاب انفسهم: من الذي اوصل الحياة الحديثة الى اعلى مداها من التقّدم لولا فلاسفة العصر؟ وانا استغرب كاتبا ومناديا ومنذ اكثر من عشرين سنة متساءلا: لماذا يستخدم هؤلاء الكتّاب كل منجزات العصر ومخترعاته وهم يؤججون الكراهية ضد هذا العصر؟ ما نوع هذا التدهور الاخلاقي الذي يتصف به امثال هؤلاء وهم كثر في دنيانا العربية وعالمنا الاسلامي والذين تعجّ حياتهم وكل ميادين تفكيرهم بالتناقضات؟؟
نداء الى الحكومات العربية والاسلامية

وهنا اتوجّه الى كافة الحكومات في العالمين العربي والاسلامي ان تنتبه الى ما يحدث في سوق المزايدات الفقهية وما ينشر على الناس من افكار ودعوات تؤجج المسلمين وتشعل فيهم الكراهية والاحقاد.. بل وتوقف عجلة الحياة عن الاستمرار.. انادي باعلى صوتي ان ما يلقى على الملايين اليوم على شاشات الفضائيات من دعوات لتأجيج صراعات وبث فتنة واساءات ومجتزءات ومحرمات.. ما يطرح من اعلام تفقهات وتزوير متشابهات وصنع تلفيقات وتحريف منصوصات.. الخ كلها تقتل الزمن وتولد الاحباط والتناقضات.. ان مجتمعاتنا العربية والاسلامية بحاجة ماسة الى الاجتهادات والى تموضع المصالح المرسلة المتقاربة والموحدة والمتفقة مع ضرورات هذا العصر وحاجات ابنائه.. فهل هناك من يؤيدني في ما اقول؟ وهل هناك من يفكّر في الذي اعنيه بعيدا عن المماحكات وتشويه المقاصد والتهجمات!
ايلاف  15 يونيو 2006





القسم الثاني
[/size]



" ومن نكد الدنيا على الحّر أن يرى     عدوا له ما من صداقته بّد "
المتنبي

   المثقفون بين ايدي المتفقهين
    إن الانقضاض على نصوص أدبية تاريخية موروثة أم إبداعية معاصرة مستحدثة يشكل آلية غير مسبوقة في القمع والإرهاب الفكري على امتداد تاريخنا ، وخصوصا وأنها ترتدي زي المتعبد الناسك الذي يريد أن يصف أحجار الحياة ويلونها على ذوقه ومزاجه ، والحياة متعددة الألوان ومتنوعة الأغراض والمشارب ومتباينة الصنوف والاتجاهات . إن الأمر ليس بهين أبدا ، فأمر الثقافة العربية عند مطلع القرن الحادي والعشرين ، أمر مفجع عندما يتحول ( الممنوع ) من مجرد شعارات فئوية سقيمة إلى قرارات حكومية نافذة ، فهذه السلوكيات التي انتقلت من طور المنغلقين على ذاتهم في أقفاص المجتمع إلى قرارات حكومية في بلاد لها تاريخ ثقافي وأدبي حافل في العصر الحديث ، يبدو الأمر خطيرا ، إذا ما أدخلت ( الدولة)  أنفها في هكذا أمور كي تصادر هذا بحجة تجريمه وتمنح ذاك شهادة لحسن سلوكه ! ولا اريد ان اغالط نفسي عندما ادعو الحكومات العربية ان تقف سّدا منيعا امام ثقافة الكراهية وزرع الاحقاد وتوليد التناقضات وعندما انتقدها هنا لتوقف او تحجب مستحدثات العصر وابداعاته ! وكأنها تريد ان ترضي سلطات او احزاب او جماعات معينة ترفع شعار المحرّمات والممنوعات لاسباب سياسية ومزاجية لا لعوامل عقلية وعلمية ، وتمّرر كل الجنايات على حساب مستقبل المجتمع وصناعة الاجيال القادمة .

وتيرة التخلف .. عجلة مسرعة نحو الوراء
      والمشكلة أنها لم تدرك أبدا أنها بعملها هذا إنما تزيد من وتيرة التخلف وهول التناقضات في المجتمع المحلي والعربي ، بل وستقف مجحفة ليس ضد جيل كامل ، بل ضد سلاسل الأجيال القادمة ! لقد دهشت جدا عندما علمت قبل ساعات بأن مصر قد منعت عرض فلم دافينشي كود ، بل وصادرت الرواية من الاسواق بطلب من بعض اعضاء البرلمان المصري ؟ وكأن هذا العمل سيقلب الدنيا ، وانا واثق تمام الثقة بأن العرب لا يدركوا فحوى هذه الرواية ولا فيلمها حتى اليوم ! وان ذهنيتهم لن تستوعب ما هو عليه الحال في ذهنيات مجتمعات اخرى . لقد كان المثقفون العرب دوما بايدي سلطة المتفقهين منذ ايام طه حسين وحتى اليوم ..
     وان كلا من الفكر والابداع العربيين قد ارتهن رهانا صعبا لا يمكن ان يوصف بحيث كبّلت الثقافة العربية بكل حقولها وميادينها بالاصفاد ، وويل لمن يقف منتقدا هذا النسق الصلد من التفكير ، فالتكفير دوما ما يكون سلاح الضعفاء في مقابلة الحجة بالحجة ! وكل يوم يمرّ والحياة العربية تتصعب جدا نتيجة ما يطرح من تفقهات وفتاوى وحدود حول النصوص الادبية والموسيقى والفنون التشكيلية والمنحوتات والرواية والشعر والافكار الجديدة والمناهج المعاصرة والاتجاهات السياسية .. ولم يكتف بما هو معاصر ، بل رجعوا يتفقهون بابداعات القدماء من شعراء وفلاسفة ومتكلمين وفنانين ومؤلفين ومترجمين .. الخ

رموز الثقافة
     دعوني أسأل : هل يعقل – مثلا - أن يحاكم الشاعر العباسي الشهير بأبي نؤاس على نصوصه الشعرية عند بدايات القرن الحادي والعشرين بتلك الطريقة الفجة التي سمعنا عنها قبل سنتين ؟ نصوص كنا قد درسناها في مدارسنا قبل أربعين سنة بكل حيادية وأمانة واعجاب !! وهل يمكن لبلد له تراثه المتنوع وله اعتزازه بقيمه التاريخية وبرجالاته المبدعين وبآدابه وعلومه وفنونه مثل مصر .. أن يرتد هكذا سريعا ضد تراث العرب الأدبي والفني  ؟ ومن سمح لبعض من رجال التابو ان يؤسسوا حياتنا بطركية مغلقة وأن يحتكروا قنوات تلفزيونية لساعات طوال كي يدخلوا أنوفهم في كل موضوع فيوزعون الأحكام والفتاوى التي تخص موضوعات ثقافية وفكرية وسياسية وفلسفية قديمة وحديثة بحجة " هذا يجوز وهذا لا يجوز " ؟؟
      ربما كان عندهم الحق في ان يعتمدوا على " نصوص" ، ولكن المشكلة ليست في " النص " كون كل نصّ ابن بيئته وزمنه بقدر ما اجدها عند من يتشددّ في " النص " ، " فالنص " ابن بيئته وظروفه وهو لا يستطيع الا التعامل مع الواقع بكل مفرداته .. وهنا تنفضح تناقضاته . انه يعيش في ازمة تناقضات دوما ، وانه طوال حياته يفكر في حزمة دائرة مغلقة لا يريد الخروج عنها ابدا .. وربما لا يشعر بها ، او قد يعي ذلك ويدلس على نفسه والاخرين ، فكيف بهم يمارسون الارهاب والقتل باستخدامهم الانترنيت وآخر ما وصلت اليه الحياة المعاصرة ؟ ثم الا يسألون انفسهم : هل من الحق استخدام منجزات العصر المتقدمة لتحقيق اهداف كارثية تحت ستار فقرات دينية سامية وبوسائل دموية بشعة في قتل الناس الابرياء ونفي الانسانية قاطبة ؟؟

انهم ينحرون التاريخ والثقافة ايضا
      هل غابت كل أوراق الواقع المرير بهول تناقضاته الحادة وعقم أوضاعه المزرية وبلادة أوزاره المفجعة .. وغرابة أطواره القاتمة وسماجة صوره ومضامينه وأشكاله .. حتى ينكّل بالتاريخ والتراث الأدبي تنكيلا مفجعا على أيدي أبنائه الذين نجدهم يتعصبون حتى ضد أنفسهم  ؟ وهل ضاق أفق التفكير عند العرب إلى الحد الذي بدا فيه الشاعر القديم أبو نؤاس يخيفهم بنصوصه الغزلية ؟ وهل وصل العرب إلى الدرجة التي لم يجدوا شيئا لقتله إلا مواريث آبائهم وأجدادهم من المثقفين والأدباء والشعراء والفنانين الكبار .. من دون أن يلتفت هؤلاء قليلا إلى ما لابد له أن يكون عند بدايات القرن الحادي والعشرين ؟ لماذا يثورون ويزبدون ويرعدون ضد ما لايتفق وافكارهم .. ولكنهم سرعان ما يلازمهم السكوت لينشغلوا بقضية اخرى .. وهكذا دواليك !
     وهل عرف العرب بأنهم من أقوى وأشهر شعوب الأرض قاطبة في فن الشعر والأدب والثقافة الشفوية والمكتوبة .. حتى ينحروا أنفسهم بهكذا طريقة مجحفة ؟ هل سمعنا بالإغريق ينحرون فلسفاتهم الكلاسيكية كونها تختلف مع توجهاتهم السياسية زمعنقداتهم الدينية ؟ وهل سمعنا بالإيطاليين يحطمون مسارحهم الرومانية القديمة لأن أسودهم في سالف الأزمان كانت تفترس فيها عبيدهم ؟ وهل سمعنا بشعوب أقاصي آسيا تحرق نصوص بوذا في الحكمة ، لأنها لم تستقم والسلوك المعاصر ؟ هل سمعنا بحكومة الصين الماوية تعدم مبادئ كونفوشيوس ، لأنها لا تتفق والثورة الثقافية لماوتسي تونغ ؟ وهل سمعنا بالفرس يعدمون نصوصهم القديمة في القص الموروث ، كونها لا تتفق مع طرائقهم الدينية اليوم ؟ وحتى بعض الأفارقة في الغابات : هل سمعناهم يتركون ثقافتهم الفلكلورية المتوارثة كونها من الفنون المتخلفة عن الفرانكفونية التي غدوا يؤمنون بها ؟
       فلماذا إذن ينحر العرب أنفسهم بأنفسهم وقد التفوا هذه المرة على الثقافة والأدب والشعر والفن والنقد والتاريخ ، وبمثل هكذا طريقة مفجعة ؟ وهل يحق للأحفاد محاسبة الأجداد بهذه الطريقة الغريبة لتجريم هذا والانتصار لذاك ! لقد قرأت من يهاجم قاسم أمين على أفكاره .. وثمة حملة شعواء كانت ولم تزل على طه حسين ومهاجمة نقداته .. وهناك من يوغل بشناعته ضد الشاعرين العراقيين الكبيرين الزهاوي والرصافي .. ولم يسلم ايضا لا ايليا ابو ماضي ولا ابو القاسم الشابي .. وأخرى جرت ضد نجيب محفوظ وتحريم ما صّوره وشخّصه في بعض رواياته ! وصولا الى ما تعّرض له عدد من الكّتاب والعلماء والباحثين والمفكرين العرب المحدثين .. وهكذا ،  فالمشكلة ليست في أبي نؤاس لوحده في الماضي ، بل تتجاوزه إلى الحاضر وستستمر المعركة الخاوية ضد الآتي ..  ان مشكلة العرب اليوم مأزومة ومتقرحة ضد كل معاني الحياة المدنية والدنيوية والدينية الخلاقة ؟ تاريخ طويل جدا متنوع المضامين ومتعدد الأضداد ومجتمعاتنا عاشت طبيعة الأشياء من دون أن تكبل نفسها داخل اقنية ولا تحشر انفاسها في توابيت عبر التاريخ !

ضياع الادراك وخواء المنطق
       ونسأل : هل يقف ديوان شعر معين أو فلم سينمائي محدد أو أغنية رومانسية حالمة أو رواية قصصية غير مألوفة أو مسلسل تلفزيوني جرئ أو أفكار تحررية غير محنطة .. هل تقف كلها او بعضا منها حجر عثرة في طريق الأخلاق الفاضلة والتربية السامية باعتبارها مسؤولة مسؤولية كاملة عن خدش الحياء والإفضاء إلى الانحراف الخطير ؟ وهل غدت الحياة العربية مثالية ومستقيمة وملائكية من كل الادران والموبقات والسلوكيات الطفيلية والمزيفة والمنافقة بمختلف تناقضاتها المتصادمة .. حتى يضحك على الناس بإدخال الثقافة العربية الحديثة داخل الشرانق والأقفاص والتوابيت بإشهار السيف أو بضرب الاسواط أو برجم الأحجار ؟؟
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها           ان السفينة لا تجري على اليبس
    هل فهم أولئك الأغبياء قيمة هذا البيت الشعري الذي تتضمنه حكمة عالية المستوى يحتاجها القادة والزعماء العرب قبل مواطنيهم .. وأنها لعمري ، حكمة لابد أن يتعلمها العرب من أوسع أبوابها لا من أضيق مخارجها ! ولو لم تكن لها هناك حاجة أكيدة لما قالها صاحب هذا البيت الشعري قبل ألف عام مما تعدون !
    ونسأل أيضا : إذا كان في شعر شاعر غزل خليع ، أو كان في رواية من الروايات توصيف حي لحالة شاذة ، أو كان في مقالة أحدهم فكرة حرة تعبر عن فهم من نوع غير مألوف .. الخ  فهل عدم ذلك عند غيرهم من الشعراء والرواة والقصاصين وحتى عند بعض المتصوفة والفقهاء والمتكلمين القدماء والمحدثين ؟ ألم يسمع العرب من المثقفين والمسؤولين المعاصرين بـ " الأدب المكشوف " و " شعر المجون " في تراث ادب ( الامة العربية ) ؟ ألم يقرءوا آلاف الصفحات المليئة بكل تناقضات الحياة وإسرار الخلفاء والخلعاء والنبلاء والاعيان والمشايخ وجماعات المغنين وأخبار الجواري والحريم والقيان والغلمان وتنابلة السلطان .. ؟؟ وهل عدم التراث العربي كله على امتداد تاريخنا الحضاري وسلاسل أجيالنا من نماذج متعددة وتسميات متنوعة تتوزعها عشرات بل مئات من أمهات الكتب وهي تتضمن غزلا عذريا وغزلا خليعا وهجاء مقذعا وأوصافا نابية ؟ وهل عدمت الحياة العربية وغير العربية إلا من الوعاظ والنساك والزهاد والمتصوفة والمتبتلين والمريدين والمتوسلين والمساكين ؟ وأسأل : لماذا استخدم الشعراء المتصوفة مصطلحات كالخمر والسكر والدنان والحان والعشق والهيام والحب .. وهم يحلقون عاليا في تجلياتهم الروحية في ( الفيض الالهي ) ؟ هل سيأتي يوم من الأيام يعدم فيه الشاعر ابن الفارض مثلا ويسحب ديوانه بحجة قوله : " سكرت بخمر الحب في حان حيّها " .. الخ 

ما الذي ستفعلونه بتراث العرب المتنوع ؟
    نعم ، ما الذي ستفعلونه بتراث الآباء والاجداد لو تسلمتّم مقاليد الامور ؟ ما الذي ستجنونه بحق التاريخ لو منحتم القوة ؟ وهل باستطاعة وزارات الثقافة العربية أن تعدم شعر الخمريات والتشبب والغزل والنسيب والهجاء .. ؟ وهل باستطاعتهم سحب عشرات مراجع الكتب الموسوعية العربية التي تزدحم بجملة هائلة من النصوص الأدبية والشعرية والفلسفية والكلامية والبايوغرافية وهي لا تتفق وشهادات حسن السلوك المزيفة والصور المتناقضة في أيامنا هذه .. ليقرأ الجهال يوما ما نظمه على سبيل المثال لا الحصر الشاعر الحمصي ديك الجن في الذي نشره الثعالبي عنه في موسوعته " يتيمة الدهر " من شعر المجون ؟
      إن أجيالا من الأدباء والمثقفين العرب قد تربت على امتداد تاريخ طويل على أغراض الشعر المتنوعة ، ومنها الأدب الرخيص والهجائيات والنقائض وادب الخلاعة وادب المجون والغلمانيات والخمريات والنسوانيات .. وصولا الى لزوميات المعري الفلسفية ووصفيات المتنبي الإلهية وروميات أبى فراس الحماسية والنرجسية وحماسة ابو تمام البطولية ونقائض الفرزدق وجرير وخمريات ابو نؤاس وغيرها التي لا تعد ولا تحصى .. وقد قرأها الناس في الغدو والآصال اكثر مما يقرأها أبناء اليوم ، فلم تنحرف سلوكياتهم ولم تتبدد أخلاقهم ، بل عاشوا أعمارهم وهم يوازنون بين الأمور والحاجات في حياتهم وانهم قد أدركوا جيدا بأن الضرورات تبيح المحظورات . وان التعلم من هذا البحر الشعري الزاخر يبني الحياة ولا يهدمها ، وان التمتع بهذا الروي يسمو بالذات ولا يعدمها  ، وان التعرف على هذا الفن أو الفكر أو النزوع يثري العقل ولا يخنقه ! وان حصيلة ذلك كلها تربي الملكات وتسمو بالمواهب وتصقل الإمكانات ما دام للإنسان عقل ومخ وضمير وتفكير وبعد نظر ..

 من ذا الذي سيحاكمه التاريخ ؟
     أيمكننا محاكمة كل أولئك العظماء على كل ما قالوه شعرا  أو أدبا في عصورهم الخوالي التي عاشوا فيها ، زاهية كانت أم راكدة ، من دون أن يحاكمهم أحد على سلوكهم ..أو يعدم نصوصهم أحد بحجة سوء أخلاقهم ! وكنت أتمنى لو كان بيننا اليوم رجال أمثال : الزهاوي والرصافي واحمد لطفي السيد ومي زياده وخليل مطران وطه حسين ومارون عبود واحمد أمين وغيرهم من عشرات المثقفين الحكماء الأقوياء ليسمعوا ويروا ما حل بالثقافة الأدبية العربية من بعدهم ، وخصوصا عندما استباح ميادينها الجهلاء لا العقلاء ! وانفلتت الأمور في العشرين سنة الأخيرة من عقالها بحيث لم يعد البعض يحترم تخصصه مستغلا الظروف التي تمر بها الحياة العربية الصعبة ومستغلا الإمكانات التكنولوجية التي سخرت أمامه لكي يفتي كلّ حسب مزاجه ويحلل ويحرم حسب هواه .. متجاهلا تاريخنا بطوله وما اتصف به ذلك التاريخ من تنوعات وانطلاقات وابداعات ..

وأخيرا : سيتغّير الزمن بعد مرور جيل او جيلين !
    ان الزمن سيتغير حتما اذ لا يمكن ان تبقى حياتنا على ما هي عليه اليوم .. وسيتغّير تفكير الناس عندما يترسخ الوعي عندهم شيئا فشيئا ، وعندما يتخّلص تفكيرهم من الاليات المسيطرة ومن اوهام لا اول لها ولا آخر .. عندما ستجد الروح بغيتها في ان تحّكم عقلها في مجريات الحياة .. عندما تجد في الدين فضاء من الموحيات الرحبة السامية التي تمنح الانسان الاخلاق والقيم وصيغ التعامل بالحسنى .. عندما تكتشف ان الذين يتكلمون من هؤلاء المتفقهين ما هم الا كسبة يستجدون بوسائلهم مصالحهم على حساب الحياة المدنية .. عندما تقف وهي حائرة على ما يحل من خراب في حياة الانسان باسم الممنوعات عليه .. عندما تتأمل كيف تحوّلت القيم والاصول الى ايدي محتكرين يتجارون بها وجعلها عوائق امام التقدم ، وعندما وجدوها وسيلة للتسلط ليس الاجتماعي حسب ، بل السياسي والثقافي في ان يكونوا هم ولا غيرهم في الميدان .. فهم بذلك يحاربون كل المبدعين وكل المثقفين والعلماء المتمدنين ويهاجمون المستنيرين ويصفونهم باشنع الصفات .. بل ويشوهوّن القيم المعاصرة والاتجاهات والفلسفات المعاصرة .. ان توزيعهم للاحكام جاهز تماما ، فكل المستيرين من المثقفين الاحرار هم في عرفهم من المتغربين والمتأمركين والعملاء والكفرة والملحدين .. من دون أي شعور بالذنب ومن دون أي احساس باللوم ومن دون أي تقّبل للرأي ومن أي استيعاب للافكار ومن دون أي قبول للنقد ، ومن دون أي حوار ومحاججة ومن دون أي تمثّل بالتعايش ومن دون أي مجادلة بالحق ومن دون أي تودد واحسان ومن دون أي اكراه ولا اقصاء او جفاء ، ومن دون أي الغاء وسباب وشتيمة .. ومن دون أي مصادرة للعقل .. والاقوى من كل هذا وذاك : من دون أي تكفير او تجريم او تفريق او مشروع قتل ! وكلها نّص عليها ديننا الاسلامي الحنيف .
     ان تحولات التفكير العربي الراهن وتغيير الذهنية من المركبّة الى المنفتحة .. ولما هي عليه اليوم من اصعب الامور ، ولكن المحاكمة ستنال من اولئك الغلاة الذين نصّبوا انفسهم طغاة لهذا العصر .. بعد ان يتجاوزهم الزمن خصوصا وانهم سيتعرضون للنقد الكاسح بعد ان تتعّرى افكارهم وتموت قوتهم ويضعف نفوذهم وتضمحل سيطرتهم على عقول الناس بعد مرور جيل او جيلين وبين ثلاثين الى ستين سنة قادمة .. وعند ذاك سيصفق الاحرار بعد انتهاء المهزلة !

ايلاف ، 17 يونيو 2006
www.sayyaraljamil.com[/b]

222
الكهّان الجدد .. ورجال التابو
[/size]

متى تخرجون من الشرانق المتيّبسة  ؟!

د. سّيار الجميل


وانما نحن في جيلٍ سواسيةٍ       شرٍّ على الحرّ  من سقم على البدن
حولي بكّل مكان منهم خِلَقٍ       تخطئ اذا جئت باستفهامها   بمـنِ

                                                              المتنبي
مقدمة: تراجع الزمن
    أتمنى على الناس أن تترك هامشا للنقاد والمفكرين الحقيقيين ان يقولوا كلمتهم من دون وصفهم باشنع الصفات كونهم لا يشاركون في التصفيق البليد بمهرجان الخرافات الذي تكال فيه المدائح والتفاخر بالأمجاد .. وكنّا قد تربينا زمن القومية العربية على أمجاد الماضي العربي التليد ، ولكن لا يمكن قبول التغنّي بأمجاد هذا العصر العربي الذي يزداد تشوهّا وتزييفا في زمن الجماعات والاحزاب والتكتلات والهيئات والميليشيات الاوليغارية  .. ولم يعد هناك أي مكان للتنطع بالعظمة والسمو ، فلقد امسى كل المداحين وغلاة المتشدقين والدجالين من بياعي الكلام ومصدرّي الفتاوى والمواعظ .. ليس لهم أي بضاعة الا المتاجرة والابتزاز في سوق تشويه الحقائق وتزوير المواقف وتهويم الملايين من الناس البسطاء بشعارات ولافتات لا نفع فيها ابدا ، بل ان ضرّها يسئ لمستقبل اجيالنا التي ستبقى في بحر من التناقضات .
      والمشكلة ليست في النص الديني او الدنيوي ذاته  ، بل انها تكمن اساسا في كيفية تفسير ذلك " النص " ، اذ بات كلّ يفّسر على هواه ـ على حد قول الازهر وموقفه ـ ، مما زاد من حدة الخلافات والصدامات بل والتمزقات فانعكس ذلك على المجتمع الذي لم يعد يستطيع ان ينعزل عن حياة العصر وكل منتجاته بأي شكل من الاشكال . دعونا نعالج في هذا " المقال "  ازمة العرب الذين راهنوا على مرجعياتهم مما جعل مجتمعاتهم تنسحب سريعا نحو العصور الوسطى  في عالم يتقّدم سريعا جدا نحو المستقبل . وماذا يمكنني تحديده من افكار نقدية ؟ وماذا يمكنني طرحه من علاجات أساسية ؟
     حاشا لله ان اعيب على العرب مسلمين ومسيحيين معتقداتهم وتقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم الاجتماعية الاصيلة كما هو حال كل المجتمعات في هذا العالم ، فللعرب وبقية شعوب المنطقة عادات طيبة ومحمودة  ولكن ان ينغلقوا في اقفاص موصدة عن هذا العالم ، او ان يتشرنقوا في تيبساتهم ، وهم لا يكتفون بتصادم تناقضاتهم التي عاشوا عليها ، بل اصبحوا يلعقون جراحهم وهم يصمتون عن قتل الابرياء وكل اساليب التفجير والتفخيخ والخطف من دون أي ادانات حقيقية ، فهم بذلك يشاركون الذين يمارسون كل التوحّش والبدائية مهما جاءت تحت اية تسميّات ومبررات ومسوّغات ، وتلك ذروة البشاعة في التاريخ ! واعتقد ان من يناصر هذا او ذاك  فهو اما غبي جاهل او احمق ضال او ارهابي متوحش ! وان الله لا يقبل قتل الانسان من دون وجه حق ابدا .

حصيلة التاريخ
        ان الصدمات التاريخية المريرة التي واجهت كل العرب في اوطانهم ، ومن يشاركهم حياتهم او يجاورهم من الشعوب الاسلامية الاسيوية والافريقية ، غير كافية ابدا للخروج من الشرانق المتيبسّة ولا حتى من الاقفاص المنغلقة التي دخلوها ولم يخرجوا منها ابدا .. شعوب لم تعرف طعم الحريات يوما ، ولا اقصد الحريات السياسية ، بل حتى تلك الحريات الشخصية والاجتماعية التي ينبغي ان يتمتع بها البشر وباتوا اليوم وقد حرموا منها مما سهّل الانحرافات وتضخم حجم التناقضات وتهلهل الهويات وهوس الانتماءات ، ولم تكن سلطات الدولة هي التي تقمع وتضطهد بقدر ما تشارك اليوم سلطة المجتمع في قتل كل الانفاس .. بعد ان تقهقرت الهوية الوطنية بشكل لا يصدّق ابدا !
      منذ قرنين من الزمن والعرب ومن يجاريهم سبلهم وافكارهم واساليبهم ، بل ومن يشّدد على تقاليدهم وعاداتهم .. ينشدون النهضة (= النهوض من النوم والسبات العميق ) ، أي : الخروج عن طور السكونية ( او : المسكونية كما اسميت ) ، ولكنهم بدأوا يستعرضون القوة الفارغة ، اذ بقوا بلا نهضة وبلا حول ولا قوة .. لقد كانت ظاهرة الاستعمار في القرن التاسع عشر بمثابة تحديات لشعوب وامم عديدة استجابت لها ولصدماتها كي تختار لها طريقا للمستقبل ، في حين اختار العرب وشعوب اسلامية اخرى طريقا نحو الماضي نظرا لثقل سيطرة الماضي عليهم سيطرة عمياء ، فخسروا جملة هائلة من مواردهم ومصالحهم التاريخية على امتداد قرن كامل .

دول حقيقية ام كيانات هشّة ؟
     على امتداد القرن العشرين ، وهم يتنطعون بما لديهم من ( دول / مؤسسات ) والتي ما كانت لتكون لولا خطط واتفاقات كل من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين ، وهم بلا " دول " حقيقية ، بل يتنازعون على الحكم والسلطة في كيانات سياسية هشة لم تستطع ان تسجّل انتصارا حضاريا واحدا في التاريخ البشري ، او ان يعيد العرب حقوقهم المستلبة من اعدائهم ، بل دوما ما كان العرب ضد بعضهم البعض الاخر في التسلط بدءا بالكيانات المركّبة وانتقالا بالانظمة المصطنعة ومرورا بالانقلابات العسكرية ووصولا الى الدكتاتوريات الاحادية والفاشية وانتهاء بالمحاصصات الطائفية ! بل وانهم ورثوا صراعاتهم التاريخية في ما بينهم من دون ان يفهموا ابدا لا لغة التعاون والتعاضد ولا لغة المصالح والتحالفات ولا لغة التوّحد والتكتلات من اجل التكامل .. كما لم يعرفوا كيف يتعاملون مع القوميات والاقليات السكانية التي شاركتهم حياتهم وتاريخهم في دواخلهم الاجتماعية لا على مستوى الدولة ولا على مستوى المجتمع .
      لقد مضى اكثر من قرن كامل وهم لا يميزون بين " الوطن " وبين " الدولة " وبين " المجتمع " .. وما زالوا حتى اليوم يخلطون الكل معا ليتحدثون باسم " الامة " ، واذا كانت " امة العرب " مفككة بما لديها من مقوّمات لغوية وثقافية واجتماعية وتاريخية ، فان " امة الاسلام " تمّثل اقصى درجات يوتوبيا المخيال الجمعي ، والذي لا وجود له في الواقع لا السياسي ولا الاجتماعي . فاذا فشل العرب في تجاربهم الوحدوية والاتحادية والاندماجية القومية الثنائية والثلاثية والمجالسية ( باستثناء مجلس التعاون الخليجي الذي بقي حيويا على قيد الحياة حتى اليوم ولاكثر من ربع قرن ) وجامعة الدول العربية ( التي بقيت على قيد الحياة لأكثر من خمسين سنة بلا أي فعل او حيوية ) ، فكيف يمكن ان ينتصر اكثر من مليار مسلم في تحقيق أي وجود سياسي ودستوري وتحالفي او كتلوي اقتصادي له في ظل بعثرة المصالح وانغلاق التفكير ؟؟

تصّلب بنية الغلو والتشددات
     شعوب كانت ولم تزل لم تتعلم من ايجابيات التاريخ وسلبياته معا ، ولكنها كانت ولم تزل تعاني من بقايا التاريخ واشلائه واسلابه وكل سلبياته ، ولكنها لم تحّرك لا من وتيرة تفكيرها ولا في اساليب حياتها !! لم يرثوا ثمار حضارة ولا ابداع تفكير ولا تعايشات مجتمع ولا انتصار نهضة ولا حب علم ومعرفة .. بقدر ما ورثوا كل الخطايا والاحقاد والكراهية وروح العداء والمؤامرات والدعايات المضادة والخطب الرنانة والشعارات البراقة والحروب الباردة والمهاترات الاعلامية .. الخ من الناحية السياسية . اما اجتماعيا ، فتجدهم في اغلب مجتمعاتهم مستهلكين غير منتجين وقد اصابهم الكسل التاريخي والتواكلية المقيتة وضياع الشعور بالزمن .. وجملة من الممارسات الخاطئة التي لا يقبلها القانون المدني ! كما لا يدركون ابسط حقوق الانسان من الناحية العملية مكتفين بترديد الأقوال والنصوص فقط .
    وانهم لا يعرفون من حياتهم شيئا ، ولا يدركون قيمة تربية اولادهم ولا يفهمون اي دور للعقل والمعرفة مما سّبب كوارث كبرى ، كما شهد النصف الثاني من القرن العشرين هجرة الاف الكفاءات وهجرة الاف العقول العربية الى الغرب .. وهناك في الدواخل من اخذته غمرة الاعجاب بالغرب ، فراح يصفق للدخلاء ويصطاد مفاهيم ومفردات الغرب ليستخدمها استخداما بدائيا ، فمنذ قرن كامل يسمع العرب ـ مثلا ـ بالديمقراطية ولكنهم لا يدركون معانيها الحقيقية ، ولا يعرفون تطبيقاتها في مجتمعات متخلفة تأكلها بقايا التاريخ وتتصادم فيها تناقضات التفكير ؟؟ انني لا استطيع ان اتخّيل ابدا ممارسة الديمقراطية ـ  مثلا ـ في ظل توزيع المحاصصات الطائفية المقيتة !
        كما انني لا استطيع التوفيق بين نظام الشورى واهل الحل والعقد والبيعة الاولى والثانية وولاية الفقيه او نظام الائمة .. وبين النظام الديمقراطي الذي يتيح الفرصة كاملة للجميع ليمارس دورا انتخابيا مع اتاحة الحريات بكل اشكالها للمجتمع المدني لتتبلور صفوة سياسية مستقلة وتكنوقراط ممتازة مؤهلة لاداء الحكم لا التخندق مع قوائم طائفية تحملها الى السلطة الدهماء ! ان كل من يريد الديمقراطية عليه ان يتخّلى عن اية توجّهات تتصادم مع اشتراطاتها ، ومن اولى اشتراطاتها ان لا تمارسها وانت ترسم لك وللاخرين اية خطوط حمر ، وتلزم الناس بأي نصوص تتعارض مع الحياة السياسية المدنية . ثمة اوهام مسيطرة على العقل اذ ترّبى الناس كون تاريخنا كله عظمة وكمال وعذوبة وامجاد .. وتغيب عن الجميع ما حدث فيه من انكسارات وفظائع وانقسامات ، ان المجتمعات العربية قاطبة لا تعرف تاريخها معرفة نقدية ودقيقة .. فلا يمكن التعويل على الماضي في رسم المصير الا اذا اعترف الناس بموروثات الواقع والتعّلم من تجارب الماضي من دون سحب الماضي لصناعة المستقبل .

تساؤلات في المفكر فيه :
      كل الشعوب والمجتمعات تحرّرت من اطواقها على امتداد تضاعيف التاريخ الحديث ، وشعوبنا لم تزل تنغمس بكل ما يقتل الزمن وبكل ما يقتل الحياة وبكل ما يبعدها عن نسبية الاشياء .. وعن كل ما يشبع الذهن والتفكير بالانغلاق ! فلقد تشبّعت المجتمعات بالتناقضات التي لا اول لها ولا آخر نتيجة الذهنيات المركّبة بين ما يفرضه الماضي وبين ما يريده العصر ! ولا يمكن لأي مجتمع متحرّر من كل القيود ان يقبل ما تفرضه عليه كل يوم بقائمة من المحرّمات ، بحيث وصل اصدار الفتاوى اليومية الى درجة لا يمكن تصديقها ، ومنها مثلا : تحريم لبس الجينز مهما كان نوعه ، او تنفيذ الواجب الشرعي، بعدم التشبه بعادات  " الكفرة من النصارى  " ( على لسان احد الوزراء )  ، فقرروا هدم كافة المرافق الصحية ذات الطراز الغربي  وبناء مرافق صحية تتلائم مع " تراثنا وتقاليدنا ". وهنا ، لا ادري كيف سيقضي اصحاب الكروش ومن يلبس البنطلونات حاجتهم في " الخلاءات "التراثية ؟ وماذا سيفعلون اذا اتتهم الحاجة وهم على متن الطائرات ؟ ولا ادري لماذا يستخدمون الطائرات وكل وسائل العصر وتقنياته التي صنعها الكفرة ؟  ناهيكم عن تحريم الصور والموسيقى والفنون والغناء وحلق اللحى ... الخ
     فهل يمكن ان يصدّق هذا الذي يجري في مؤسسات دولة تحكمها الاحزاب الدينية ؟ ويكفي ان نتابع الحوارات التلفزيونية لنرى هول البلاء ، انهم  يقضون الساعات الطوال على شاشات الفضائيات التلفزيونية وهم يناقشون ببلاهة قضايا تافهة لا تستحق حتى الوقوف عندها ! ولنا ان نتساءل عن فحوى ادانة قوية صدرت قبل يومين من قبل شيخ الازهر بالقاهرة لاولئك الجهلاء من الشباب المتشددين الذين يصدرون الفتاوى في الجزائر ، وهم من ابعد الناس عن التفقه بالدين !
    ان المجتمعات العربية ستصادف مشاكل ومعضلات لا تعد ولا تحصى في قابل الايّام والسنين ، وهي بحاجة الى العلماء المدنيين لا الى الملالي والخطباء والشباب اليافعين من المعمّمين الذين ليس لهم الا بضاعة الكلام والمواعظ واصدار الفتاوى والمحرمات .. ولا استطيع ان أتصور أبدا هذا الانفجار الديمغرافي الرهيب من البشر في بلدان عربية وإسلامية لكل واحدة منها معاناتها .. وانني أتساءل مع نفسي دوما : ان السكان يزدادون حجما وعددا بحيث تضيق بهم مدنهم الكسيحة واسواقهم الرثة ومدارسهم وجامعاتهم العادية .. انهم  بعد سنين ماذا سيأكلون ؟ وماذا سيعملون ؟ واين يسكنون ؟ ومن أي ماء يشربون ؟ والى متى باقون غير منتجين ، اذ انهم يستهلكون الحياة والزمن وكل المستوردات وكل الاشياء ؟؟
      الكل ينتقد القيادات السياسية وصناع القرار والقادة والحكام .. من دون ان يفكّر بما في المجتمع من خطايا ومن تناقضات ومن مكبوتات ومن اللا وعي المترسخ ومن السلطويات الصعبة التي ترعبك وانت في بيتك او مكتبك او أي مرفق من مرافق حياتك الخاصة ! ان المجتمعات العربية ومجتمعات العالم الاسلامي لم تعان من مشكلات الداخل فقط ، بل تعاني ايضا من هيمنة الخارج وسطوته .. لقد اصيبت مجتمعاتنا باوبئة اعلامية اليوم اذ تجتاح الفضائيات والمواقع الالكترونية تفكير الناس بالضد من قيم الحداثة والعقل والنزعة الحضارية والسماحة الدينية والحريات الحقيقية . ان مجتمعاتنا ودولنا معا قد اصبحت اغلبها مخترقة من قبل اطراف خارجية ، مما جعلها عرضة للتفكك والتمزق .

من معارضة الدولة الى السطوة على المجتمع :
      انني ان انتقدت الحكام العرب والمسلمين المعاصرين ، فان من اخطاء الحكام انهم يماشون المجتمع ويسترضوه بكل ما يحفل به من تناقضات ورخويات من دون الوقوف ليس ضدّه ، بل معه من اجل تحديثه بالاعتماد على مناهج مدنية تربوية واعلامية وقانونية كي يحولون مجرى التاريخ نحو الاصوب بأي طرق ومناهج للاصلاح والتحديث والتغيير .. انني ادرك ان سلطات ومؤدلجات سلطوية كانت وراء مساهمة في كل الذي وصلنا اليه نتيجة تشددّها وجعل المجتمع تحرّكه الاهواء المتشددة والانفعالات المتطرفة والاحزاب الاحادية والشعارات الطوباوية التي لا واقع لها .. بحيث تبلورت بعد تلك الصراعات الايديولوجية : موديلات من نماذج ارهابية  ومتوحشة لا تكتفي بالوقوف ضد السلطات السياسية ، بل اصبحت تقف ضد المجتمع وكل شرائحه واساليبه وطرائق حياته المدنية ! وغدت القيادات السياسية تخشى حتى من مؤسساتها نفسها كونها ملغمة بمن هو ضد الدولة والمجتمع معا . لقد طال التسلّط باسم الدين او الطائفة او المذهب المرأة والطفل والشاب لقمع حقوقهم الطبيعية .. بل وطال التوحّش حتى بعض اصحاب المهن الحرة في المجتمع ، ونخشى ان تمتد تجربة العراق الى باقي بلدان المنطقة .

منهج زرع الرعب في المداجن البشرية
    حدّثني صديق لي في بلد عربي معروف كيف ان ابنته تفقد وعيها من الخوف والرعب الذي يصيبها في الليل نتيجة ما تسمعه من معلمتها في المدرسة من مواعظ في النهار اثناء الحصص عندما تزرع تلك المعلمة القصص الخرافية المخيفة في افئدة الطالبات وكيف ستعلق ( البنت ) من شعرها وتشوى على النار .. وكيف انها ستلقى عارية في واد كله نار حمراء وتبقى فيها .. وغيرها من القصص المدمرة التي تنتشر في مدارس عربية وفي اغلب البلدان العربية .. وهي مدمرة حقا لنفسيات الاطفال المساكين .. فانظروا ماذا سيحّل بهؤلاء الاطفال العرب وغير العرب عندما يكبرون ؟؟ ناهيكم عن حالات الكبت والعنف التي يعيشها الاطفال والشباب في مجتمعاتنا وماذا سيصيبهم من انحرافات في قابل الايام ؟ ولابد ان نلحظ الانقسام المريع بين تناقضات الشباب العرب ومشكلاتهم : شباب متحرر غاية في الانحراف وشباب جامد غاية في الانغلاق ! والمصيبة ان مصادر التربية باتت متعددة ومنفتحة ومحرمة ومتنوعة للاجيال الجديدة ، مما سيجعلهم عرضة للتناقضات التي لا تعد ولا تحصى ، بل والانكى من كل هذا وذاك استخدام آخر ما وصلت اليه تكنولوجيا المعلومات في بث القصص المخيفة وزرع الكراهية من خلال الحكايات والخطابات المرعبة .
      ان مدارسنا وجامعاتنا العربية قد اصبحت اليوم اشبه بمداجن لا يمكن ان تكون بيئات صالحة لتنشئة اجيال جديدة لها تكويناتها المدنية : التربوية والاخلاقية والمعرفية الحقيقية ، وان ما يكمن فيها من مربين اسوياء لا يستقيم عددهم مع حجم المربين الجهلاء والاساتذة الاغبياء .. وسواء الحكومية ام الخاصة فهي لا تصلح الا لجمع الاموال والكسب غير المشروع ، بل واصبحت تلك المؤسسات الحيوية بأيدي المتشددين والمتطرفين الذين يسوقون انفسهم باسم الدين ، فيكسبون الجولة بسبب عدم وقوف أي انسان ضد اساليبهم التي عادة ما تتهّم أي منتقد لهم بالتكفير.. وهكذا ، يفتقد كل العاملين فيها واجباتهم الحقيقية وحقوقهم الطبيعية . ان اسماء لامعة من الاساتذة العرب تمّ اقصاؤهم في السنوات الخمس الماضية من الجامعات العربية بسبب افكارهم المدنية التي لا تستقيم والهجمة الظلامية السائدة .

رجال التابو ..
     انهم عادة ما يخلطون الاخضر بسعر اليابس .. انهم يستخدمون اساسا " الدين "  شمّاعة لهم ولاساليبهم .. انهم لا يتقبلون الاخر مهما كان يحمل من افكار سليمة .. انهم لا يؤمنون بالديمقراطية في تبادل الرأي .. انهم لا يتبادلون الرأي بالرأي والحجة بالحجة .. انهم دوما ما يتهمون معارضيهم بالتكفير او بالعمالة للغرب وبالتغريب .. انهم يعتبرون العلمنة وخلق المجتمع المدني والعمل بدستور مدني وقانون مدني كفر عظيم !  انهم لا يمتلكون منهج عمل وحياة ، بل ولا يمكنهم ان يقدموا أي برنامج سياسي للناس .. انهم لا يعملون بمبدأ " ادفع بالتي هي احسن " انهم لا " يجادلون بالتي هي احسن " ، بل يسترسلون بكل ما هو أسوأ حتى يصلون الى درجة الهذيان !.. انهم يصعقون من أي تفكير مدني للحياة الدنيا .. انهم خليط من بحر تناقضات ، فلا هم يلتزمون " النص " الديني بكل دقائقه ولا هم  يعملون بالاصول المدنية بكل قطائعها .. انهم لا يعرفون الا الشعارات والمطلقات والمواعظ والكليات الفارغة ، ويهربون من الحقائق العلمية والمعلومات الدامغة والجزئيات التفصيلية ..
     ومن خلال التجربة السياسية يبدو انهم في المعارضة يتشدقون بما لهم وما عليهم في الضد من الشعارات ، فاذا ما انتقلوا الى السلطة يبدون عاجزين عن صنع أي قرار سياسي او قانوني .. بل ولم يعالجوا ظواهر خطيرة في حياة العرب المعاصرة ، منها : البطالة المقنعّة وهي اخطر ظاهرة لا نجدها الا عند العرب ، والحرب ضروس على كل المبدعين حربا ضارية لا هوادة فيها .. والزمن المزيف ، أي قتل الزمن حتى في المؤسسات .. وظاهرة الاستهلاك الاقتصادي المثير من دون أي انتاج حقيقي يمكن ان يلتفت اليه العالم ! وأسوأ تربويات تعرفها الدنيا كلها ، اذ  لا يمكن ان نتخيّل حجم الهوة بين تربية نادرة تزرع الوعي في العقول وتربية كاذبة تزرع الرعب في النفوس ! واسوأ علاقات عامة واكثر البلدان التي لا تعتني بالقانون والتشريعات  ! وأخطر المجتمعات التي تصفق للارهاب ولمشروعات القتل والخطف والتفجير في اعدام الابرياء . أي لم تعرف النزعة الانسانية ابدا ، ولم تتعاطف مع مجتمعات اخرى كجزء من نزعة التشرنق على الذات .. ونحن نعلم بأن كل الثقافات الحية تنفتح احداها على الاخرى من دون أي تردد او خوف !

الكهان الجدد
      ثمة أسئلة حادة لابد أن توجّه عربيا إلى أولئك  الذين نصبّوا أنفسهم قضاة غير شرعيين على الحياة العربية ومجتمعاتها  باسم مثاليات الأخلاق المزيفة أو باسم الغلو والتطرف والتشدد الديني ، وأصبحوا ضمن الموجة الغبية التي يركبونها اليوم بمثابة أوصياء على الحياة العامة وعلى الحريات الشخصية وعلى الأدب العربي وعلى الفن العربي وعلى المصورات وعلى مواريثنا التاريخية العليا وعلى اساليب حياتنا كيف نلبس ؟ وكيف ننام ؟ وكيف نحلق شعرنا ولحانا ؟ وكيف نتكلم ؟ وكيف نسمع ونطرب ؟ وكيف نقرأ ؟ وكيف نتصرف ؟ حتى وصل الامر ان ينفذوا الى زمننا وحياتنا الخاصة .. والقائمة لا تنتهي  وثمة أسئلة أخرى أشد قوة وبأسا ،اذ  لابد أن توجّه إلي أولئك الذين تيبسوا داخل شرانق خشبية أو أقفاص حديدية مغلقة في عصر غدا كل شيء فيه منفتح على كلياته وجزئياته .. بكل إيجابياته وسلبياته وبكل صحائفه وسطوره .
     ان العرب بدل ان يفككوا علاقاتهم البنيوية الفكرية القديمة وذهنياتهم المركبة ويؤسسوا لهم فقها جديدا واصلاحا فكريا جذريا يتصل بعلاقاتهم مع مواريثهم المذهبية وتقاليدهم الصوفية واساليبهم وافكارهم وطقوسهم .. وبدل ان يباشروا الاصلاح مباشرة وتأسيس تحولات مدنية جذرية بدءا بالمناهج التربوية وانتقالا الى اصلاح القوانين وانتهاء بتحرير الاعلام العربي نحو العقل والحرية .. ذهبوا في اتجاه آخر كي يجعلوا من انفسهم فوق كل الشعوب وفوق كل مستحدثات العصر الذي وصفوه بالجاهلية كي نجد انفسنا اليوم في غمرة هذا الطوفان الهمجي من المتشددين والمتطرفين المتخلفين ! وهنا يمكنني القول ، ان الحال ان بقي على ما هو عليه ، فان الارهاب سيعّم حياتنا شئنا ام ابينا وستعجز الكيانات السياسية عن صد هذا الاخطبوط الذي سيلف المجتمع ..
      ان تجربة كل من ايران وطالبان ليست بعيدة عن الاذهان عندما تسلط المتشددون على حياة الدولة والمجتمع .. وجاءت تجربة العراق وهو تحت الاحتلال لتكشف عن تأسيس طائفي بسبب تسّلم الاحزاب الدينية مقاليد السلطة ، وقد اقصيت الاحزاب والاطراف العلمانية من قبل صناديق الاقتراع عندما استغلت العواطف الدينية والنزوعات الطائفية عند الناس من اجل تغيير المعادلة السياسية .. مما اتاح ولادة واقع متفجر يزدحم بالتشظيات والقوى والجماعات الارهابية والموت الجماعي وبشاعة تلك القوى في تحقيق اهدافها الدموية . ان الارهاب الذي يمارس باسم " الدين " واضح للعيان وهو يمتد من مكان عربي الى آخر ، بل ووصل الى عقر اهم دول العالم الخارجي متنقلا من عاصمة لاخرى .. انه ترجمة حقيقية للغلو والتشدد الذي يلقى تأييدا واسع النطاق من قبل الناس الذين تربوا على كراهية الغرب نتيجة ما اصابهم في القرن العشرين من ظلم وغبن وتشرد وضياع . وهنا لابد من مطالبات بمعالجة كل الاسباب الداخلية والخارجية بترسيخ الحياة المدنية والقانونية واستئصال عوامل التخلف والانحطاط .
   هذا ما اردت بيانه اليوم في هذا " المقال " ، وسالحق به معالجة موضوعات اخرى في الباب نفسه لاحقا ..
للحديث صلة
www.sayyaraljamil.com
 
ايلاف 7 يونيو 2006[/b]

223
المنبر الحر / بريد عاجل للموتى
« في: 23:18 05/06/2006  »
بريد عاجل للموتى

في ذكرى اربعينية كمال سبتي :

د. سّيار الجميل
مفكّر عراقي


    عندما بدأت اكتب مقالتي هذه في ليلة 29 مايو 2006 عن قدر الشاعر كمال سبتي ورحيله ، هاتفني احد الاصدقاء من المانيا ليعلمني بخبر مؤسف آخر مفاده رحيل الصديق الفنان المخرج المسرحي عوني كرومي ، فبكيته وتألمت عليه هو الاخر وقد مات وهو يتحسر على تراب العراق .. وسافرد له كلمة خاصة به ، فاقول :
    تمر للاسف الشديد في اخر ليلة من مايو/ أيار 2006 ذكرى اربعينية الشاعر العراقي الراحل كمال سبتي الذي رحل كالطير على عجل وهو في قمة شبابه وعطائه .. ولا يمكن ان تمر هذه الذكرى من دون ان نتذكر هذا الشاعر المثقف الذي كانت لي معه بعض مراسلات على الانترنيت ومنذ سنوات مضت ، خصوصا ايام كان يعاني من ازمة خصومة شعرية بينه وبين احد الشعراء والنقاد العراقيين والاخير ايضا من اصدقائي  .. ولكنني لم اتدّخل في الموضوع ، واذكر ان الاخ كمال كان يكتب لي ايام كنت انشر مزامناتي في جريدة الزمان اللندنية قبل سقوط النظام السابق ويمتاز بهدوئه وسعة معرفته اللغوية واحساسه المرهف وخياله الخصب ..
    وكم وجدت في الاخ كمال سبتي يعاني من الام نفسية مفرطة ، فلقد كان مهموما ومثقل التفكير جدا في مكابداته الصعبة .. ولقد فوجئت قبل اربعين يوما برحيله المبكر ، فأسفت عليه اسفا شديدا .. وضربت يدا بيد اذ كنت احلم قبل ثلاث سنوات ان يموت شعراء العراق ومثقفيه الحقيقيين في وطنهم ويدفنوا في ترابهم ، ولكن هذا كله لم يحدث .. اذ ستتوزع قبور العراقيين في كل هذا العالم !! رحت في تفكير بكائي عميق ، ولكنني عدت استذكر ليس حياته وهمومه حسب ، بل حتى بعض قصائده التي تتشح بالالم وتسرع بصاحبها نحو الموت .. تمر اليوم ذكرى اربعينيته  وكنت اتأمّل ان يكون هناك اكثر من حفل تأبيني في العراق وخارجه وخصوصا من قبل وزارة الثقافة العراقية تعبيرا عن وفاء الجميع للكلمة المبدعة والمعبرة عن هموم العراق والعراقيين على مدى السنوات الصعبة المرعبة التي مضت ولم تزل آثارها تنتج الجحيم بعد الجحيم !!
   
دعوني اتوقّف قليلا عند كتابه السابع  " بريدٌ عاجلٌ للموتى " الذي ولد بعد ست مجموعات صدرت في سنوات مختلفة .. كم انا افكر في كلمات كمال سبتي الاخيرة وكأنه يسجل رثاءه على مهل شديد .. بل وكأنه يوثّق ذكرياته الخصبة وهو يعيش وحيدا لا يمارس الا لغة المشاعر المخصبة والتفكير الحاد واستعادة ذكريات العراق .. وهو يسجل شعره بين النثري والموزون بلغة عالية المستوى .
لم يفت كمال سبتي أن يوضح في المقدمة طبيعة كتابه الجديد فيقول:
" هذا كتابٌ لم أتعوَّدهُ في التأليف..فهو توثيقيٌّ يعتمدُ السردَ والشعرَ معاً..
وقد بدأتُ كتابته بعد إنتهائي من كتابة قصيدتي الطويلة: /آخِرُ المدن المقدّسة" .
فهو وثيقة إذن ، بل وانه ـ كما يقول ـ إبنُ مرحلةِ ما بعد الهروبِ من وطن اسمه العراق ، تماماً كما  يضمنه : آخِرُ المدن المقدسة/ التي ـ يقول ـ : " بدأتُ كتابتَها في صيف عام 1989.. وكان ينبغي له أن يرى النور قبلَ هذا الوقت. لكنه - كما هو شأنُ نتاجي في الأدبِ عادةً - قد تأخّرَ إلى الآن فأضيفتْ له كتاباتٌ نثرية وشعرية موزونة بعد طولِ إنقطاعٍ عن الكتابة الموزونة، فدعمَتْ فكرته الأولى كثيراً.. " !
يستطرد الصديق الراحل ويقول وهو يسجل ما فاتنا عن ذاته التي لم تعشق في الحياة غير الشعر ، نسمعه يرددّ بنفسه  :
" أنا شاعرٌ، أقول عن نفسي. وهربتُ من البلادِ لأنني شاعر.وأفتخرُ أمامَ نفسي بأنني ما سعيتُ في شيءٍ إلاّ وكانَ من أجلِ الشعر. والشعرُ هنا تربية وعاداتٌ وسلوكٌ وأفكارٌ وقراءاتٌ وتاريخٌ ونظرٌ وكلامٌ..إلخ. فحملتُهُ بهذا كلّهِ أقيسُ العالمَ به.. وما كان يُقاس. وهذا كلّه خرابٌ لي قبلَ أن يكونَ خراباً للآخرين. فقد أبعدني عن أنْ أكونَ كمنْ يتمتعُ عادةً بسعادةِ الغباء في الحياة، وجعلني أتعذبُ في كلّ مشهدٍ كانَ ممتعاً لغبيّ. وقد كوَّنَ في نفسي موقفاً عاماً نما كلَّ مرةٍ خلالَ هذا العمر، فهو حساسيّة لي أواجهُ العالمَ بها فلا أقوى عليه فأقوى على نفسي فأزيدُها خراباً على خراب. وماسعيتُ لأتحرّرَ منه بلْ كنتُ أخلصُ له كلَّ مرةٍ وأنقادُ له في إخلاصي حتى كأنَّ نفسي لا تَتَحققُ في هذا الوجودِ إلاّ في انقيادي له. وقد أتوقفُ لحظةً لأتأمّلَ مشهدَ ضعفي أمامه، لكنني لا أقوى في مابعدُ إلاّ على المضيِّ إليه، والمضيِّ فيه، والمضيِّ به. وفي ظني إنَّ هروبي من البلادِ لا يُفَسَّرُ إلاّ بهذا. فحملتُ البلادَ بحروبها وموتاها، من مكانٍ إلى آخرَ، ظاناً إنني أحاولُ فهماً لها، ولم أكنْ في حقيقةِ الأمرِ، غيرَ هاربٍ يتعذبُ بها " .
    لا اريد ان اعلق على هكذا مشاعر وكأن صاحبها يدرك انه على موعد مع الرحيل عن الحياة فلا يسجل صفحة وداع ، بل سجل صورة مختزلة عن مكابداته المؤلمة وهو يعّبر من خلالها عن مشاعر كل اولئك الذين يتعذبون في دواخلهم .. انه لا يعشق غير الشعر .. انه لا يعشق الا العراق .. انه يصوّر لنا عالم الشعر الرحب .. انه يتألم من الاغبياء .. انه يصارع ذاته كونه لم يستطع اصلاح الحياة كما يريدها .. انه هنا يعلن للملأ ان المثقف العراقي الحقيقي قد عجز عن اصلاح العراق والعراقيين ، فيزيد نفسه خرابا على خراب بعد ان حمل العراق بكل حروبه واحداثه في اعماقه .. انه يعلن بأنه ضعيف .. انه يعلن بأن المثقف العراقي انسان ضعيف ومحارب في وجوده بأي مكان ولكنه عملاق في معانيه وخصب كل منتجه وتعبيره .. انه الهارب من جحيم العراق وقد حمل كل عذاباته ليمتد بها في كل هذا العالم الموحش .. ولما نام كمال سبتي قبل اربعين يوما وطلعت الشمس راح راحلا مع كل مطوياته المؤلمة ، وكما عاش وحيدا مات وحيدا ولم تؤبنه الى مثواه الاخير الا العصافير ثم عادت الى اعشاشها ، وهطلت الامطار لتنمو فوق قبره اعشاب وزهور .. فهل سيذكره العراق الذي لم يزل قاحلا من الحياة ولا يعرف الا الموت ؟

www.sayyaraljamil.com

224
من ينقذ البصرة : فينيسيا الشرق القديم ؟؟
د. سّيار الجميل
مؤرخ عراقي
www.sayyaraljamil.com
 
 لقد اسموها فينيسيا الشرق تيمنا بفينيسيا ايطاليا قبل خمسة قرون .. تلك هي البصرة التي تأسست على عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب .. وكان للبصرة دورها الحضاري على مر العصور ومنها انطلق السندباد البحري نحو كل العالم ،  وكان لموقعها الجيو ستراتيجي اثر بالغ في مكانتها العالمية ، وبرغم وقوفها على رأس الخليج العربي ، فقد جمعت البر والنهر والبحر والهور معا ، فاسميت بثغر العراق الباسم .. وبقدر حالات ازدهارها عبر التاريخ ، لكنها عانت من اشرس الكوارث والفجائع وصولا الى مأساة الحرب العراقية الايرانية ، وما تلا ذلك من ازمنة مرعبة بسبب وقوعها في منطقة النار الحدودية مع ايران والكويت والسعودية ..
       ان البصرة اشهر من نار على علم ، ويبدو ان لا منقذ لها اليوم بعد خرابها ، او انها تعيد خرابها حسب المثل العربي الشهير.. ولقد خرّبت البصرة الفيحاء اليوم بالفعل ،  كما هو حال شقيقتها الموصل الحدباء في الشمال .. لقد اتصل بي احد اصدقائي القدماء من البصرة ليناشدني الكتابة عنها ، وقال بأنها الان تحترق ، والرعب ينتشر في كل احيائها ، بل ويمتد الى كل اطرافها من العشّار الى التنّومة الى ابي الخصيب الى الزبير الى هور العمّية الى كل المناطق الساحرة الجميلة مع اهلها الطيبين المتنوعين الذين لا يستحقون ابدا كل هذه العذابات  الدموية . والمشكلة ، ان لا احد يسأل عن كل هذا التعتيم الاعلامي الذي يغطّي مدن العراق اليوم ؟؟
      نعم ، ان ما نسمعه يوميا عمّا يحدث في البصرة وكل اطرافها يدمي القلوب  ويفجع النفوس  ، وما يجري في هذه المدينة العربية الاصيلة من احداث مأساوية ، تكاد لا تصدق ، مما يجعلنا نسعى لفعل أي شئ من اجل انقاذها ، بل وننادي باعلى صوتنا : انقذوا البصرة قبل فوات الاوان أيها الغيارى .. لا اقول بأن ما يحدث في عموم العراق افضل حالا ، ولكن اذا كنا نسمع بعض ما يحدث في بغداد العاصمة من مآس وكوارث ، فان التعتيم المقصود على ما يجري من فجائع في كل من الموصل والبصرة بالذات ، أي في اكبر مدينتين عراقيتين بعد العاصمة بغداد انما يثير التساؤلات وعلامات الاستفهام . واذا كان السيد محافظ البصرة قد نادى قبل ايام بما هي عليه المدينة من مآس وهو ادرى من غيره بشؤونها ، فان نار الجحيم قد فتحت عليه كي يسكتوه ويخفوا كل الموبقات التي تعيشها هذه المدينة العريقة .
     لقد تجمعّت في البصرة كل عوامل الصراع المحلي والاقليمي والدولي في ظل حالة الفراغ الذي عاشته منذ ثلاث سنوات ، ولم نجد أي اعلام عربي ودولي قد سلّط عليها لمعرفة كل الاخطار التي توغلت فيها .. ولا نعرف حتى الان او لم نقف ابدا على مجريات الكارثة الصعبة ، اذ لا يمكننا ان نقف على حقيقة الوضع من الحكومة المركزية ببغداد التي لم تستطع ان تخرج حتى اليوم من دوامة المحاصصة السياسية والطائفية والعرقية .. واذا كنّأ لم نستطع ان نتعّرف منها على وضع بغداد الحقيقي في ظل هذا الصراع الذي تختلط فيه جملة من القوى ، فكيف باستطاعتها ان تحيطنا علما بما يجري في كل الموصل والبصرة وكل اجزاء العراق الحيوية .. اما القوى الحزبية والدينية والطائفية ، فليس من مصلحتها كشف الاوراق التي تتلاعب بها لمصالح اجندة لا نعرفها حتى الان ..
     اما موقف كل من البريطانيين والامريكان فلا يمكننا التعّرف على ما يريدون نتيجة دورهم الهلامي ، وان الاحداث تزداد توترا وسخونة واضطرابا نتيجة اسباب داخلية واقليمية خارجية وخصوصا العصف الطائفي والاختراق الايراني وارتباطات الاحزاب الدينية وحالة فوضى الانقسامات الاجتماعية .. ويبدو ان كل محاولات الحكومة المركزية لتهدئة الاوضاع في البصرة قد باءت بالفشل نتيجة ضعف المركز على حساب نفوذ القوى السياسية المدعومة من الخارج .
    تعد البصرة منفذ العراق الحقيقي على العالم ، وهي التي يتم من خلالها تصدير اكبر كمية من نفط العراق ، بل وانها تمتلك اهم حقول نفط العراق واهم احتياطيات نفط العراق . وعليه ، فان عودة الحياة الطبيعية والسيادة المركزية للبصرة ضرورة اساسية بالنسبة لحياة العراق ومستقبله .. ولا يمكن للعراقيين ان ينتظروا غيرهم كي يطفئ لهم هذا الجحيم ، اذا لم يسعوا هم انفسهم لايجاد حلول وطنية بعيدا عن هذا التراخي واللامبالاة ازاء ما يحدث ، وان يضعوا حدا لكل التدخلات الخارجية في البصرة وانحائها .. وايجاد حلول للانقسامات في ادارة المحافظة والاحزاب التي اصبحت تعلن بكل وقاحة عن محاصصات نفطية .
    انني اناشد كل صاحب ضمير حي ان يعمل لانقاذ البصرة وان تحدد القوات البريطانية طبيعة مهمتها وجدولتها ولكن بعد ان تكون القوات المسلحة العراقية قد فرضت هيمنتها على البصرة .. وان لا تترك البصرة تواجه مصيرها لوحدها ، واقولها صراحة ان الامور سوف لن تستقيم الا بعد حل الميليشيات الحزبية التي ترتبط بهذا الطرف او ذاك .. كما اناشد كل القادة العراقيين الجدد ان ينتبهوا الى قضاياهم الوطنية بدل هذا الماراثون السياسي الذي يدورون على حلبته .. فمصير أي شبر من ارض عراقنا الحبيب امانة في اعناقهم ، وان أي قطرة دم زكية تهرق هم مسؤولون عنها .. ناهيكم عن دورهم في ايقاف التدخلات والهجمة الطائفية وعمليات التهجير القسري الذي تقوم به جماعات متشددة ضد سكان البصرة وضواحيها  وانحائها .. فهل هناك من يستجيب لهذا النداء ؟ انني اتمنى ذلك من صميم القلب .

البيان 31 مايو 2006[/b][/size][/font]

225
ما معنى " الثقافة " يا وزير الثقافة ؟؟!!
د. سّيار الجميل
مفكّر عراقي

      وصلتني رسالة من قبل احد الاصدقاء المثقفين العراقيين تتضمن تقريرا يحتوي على تصريحات اطلقها وزير الثقافة العراقي المنتهية ولايته السيد نوري الراوي الذي كنت قد التقيت به مرة واحدة قبل اشهر عندما زار ابو ظبي ولكن لم يخرج حديثه عن عموميات ، اذ اكتشفت ان بينه وبين الثقافة بونا كبيرا .. وكنت اسمع حالة الشد والجذب ببغداد بين وزارته وبين المثقفين العراقيين الذين لم يجدوا في وزير ثقافة العراق مثقفا ، ولا ادري كيف وصل الرجل الى مثل هذا المنصب الذي اعتبره احد ابرز مناصب الحكومة العراقية ، فالرجل في مرجعيته ضابط شرطة .. وبالرغم من توازنه وهدوء طبعه ، الا انه لا يستقيم وشريحة المثقفين العراقيين الذين هم بأمس الحاجة الى رأس مثقل بالخبرات والتجارب وقوة التعامل وصلابة المنطق وسلامة الحجة والشخصية النافذة .. وان يكون مثقفا حقيقيا ليدرك قيمة المثقفين في البلاد . 
       ليعذرني الاخ الوزير المنتهية ولايته ، ان اتوقّف قليلا عند حوار أجرته معه جريدة " البرلمان " في بغداد يوم الاثنين 15آيار / مايو 2006، وعلى الصفحة الثامنة " الثقافية "  ، وليتسع صدره في الذي ساقوله له وخصوصا في ذاك الذي طرحه وان أسأله : هل خانك التعبير وانت تطرح نظرتك الشمولية للمثقف الذي قلت بأنه : " من يجمع كل الامور ، ويتكلم في كل المجالات " .. المثقف يا اخي الوزير هو ذلك الانسان المبدع الذي يقدّم شيئا جديدا يبهر الناس كونه حذق ذلك الشيئ وتخصص به وتفنن فيه .. وكم كنت اود ان تحضر محاضرتي التي القيتها في الثامن من فبراير / شباط 2006  بمجلس العمل العراقي بابي ظبي يوم كنت تزورها حتى تتعرف على البنية الثقافية العراقية التي حللّتها ، وقد حضرها مشكورين اعضاء من وفدك عالي المستوى ممثلا بكل من الاستاذة الانسة ميسون الدملوجي والاستاذ كامل شّياع وهما من اعمدة وزارة الثقافة العراقية . الادعياء كثيرون ايها الوزير ، ولكن من يفرز المثقف الحقيقي عن المزيّف ؟ اعتقد ان اللجان والهيئات وفرق من المختصّين تفعل ذلك ، اذ لا يمكن للوزير ان يوّزع الاحكام على هواه خصوصا اذا كان قد اقحم نفسه في ميدان بعيد عنه كل البعد . لا يمكنك ان توزّع الاحكام وانت لا تملك رصيدا في ثقافة البلاد وعند المثقفين .
    انك تتساءل : هل يجب أن يكون الوزير فناناً أو شاعراً أو مغنياً ليكون وزيراً ناجحاً؟  لا يمكنك ان تسأل هذا السؤال ، فالوزير صاحب منصب سياسي في حكومة . ولكن من البديهي ان من يقبل تسّلم حقيبة وزارية كهذه لابد ان يكون مثقفا  وتشغله القضايا الثقافية .. ومن يتولّى حقيبة الثقافة ينبغي ان يكون واحدا من المثقفين البارزين ، ويتحتّم عليه ان  يعيش هموم ثقافة بلده وانه من خلال مكانته يرعى طبقة المثقفين ويرسخ ثقافة قوية وابداعية في المجتمع ناهيكم عن دوره في ان ينقل ثقافة بلده وفولكلورياتها وقيمها وابداعات اصحابها الى كل الدنيا ! فهل تتوفر هكذا صفات في الاخ الوزير ، علما بأنني اعترف بأن التعامل مع طبقة المثقفين ( او : انصاف المثقفين ) العراقيين من أصعب المهام !
    لقد توقفت قليلا عند تعريفك " المثقف " اذ قلت : "  أنا رؤيتي للشخص المثقف: هو الشخص المربي تربية عراقية عربية إسلامية. والثقافة تعني التربية والأخلاق والمحافظة على الهوية.  فإذا ما خرج تعريف الثقافة عن ذلك أو بمعنى آخر اذا ما خرج الإنسان عن طوره، فقد خرج عن الثقافة " . ما الذي تقصده هنا بهذا التعريف الذي لا يستقيم وقيمة الشخص المثقف ؟؟ اذا كان هذا تعريفك للمثقف ، فانني اعتقد جازما انك لم تقرأ كتابا واحدا في حياتك ، بل ولم تحفظ قصيدة شعر ، بل ولم تمتلك ناصية لغة اجنبية ، بل ولم تعرف تواريخ ثقافة العراق بطوله وعرضه .  ان المثقف سيحمل تحصيل حاصل تربية عراقية ولكنها غير مشروطة ، فمجتمعك العراقي متنوع الثقافات ومتعدد الالوان ومبهرج الاشكال ومتباين القيم .. انها تحصيل حاصل في المثقف قد تكّون تكوينا تربويا .. ولكنه يتجاوز ما تريده بمراحل .. انه منتج ابداع في مجتمع يطمح ان يغّيره نحو الاحسن بتعبير او نص او شكل او علاقة او مهمة او مشروع .. الخ.. وسواء كان الابداع قد انبثق من رحم العراق ومجتمع العراق ، ام تأثّر بثقافات ومنتجات مجتمعات اخرى فهنا تكمن قيمته الحقيقية .
     ولم تكتف بما اوردته ايها الوزير بما اوردته ، بل زدت في الطين بلة عنما قلت : " وهناك من يعتقد أو يريد أن تكون الثقافة مستوردة من الخارج بعيدة عن عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية والدينية، لماذا نترك ثقافتنا ونركض وراء الثقافة الأجنبية " .  وهنا أسألك : هل نجحت يا اخي الوزير ان تقرأ كتابا معينا في معاني الثقافة ؟ وهل اطلّعت على مدارس الفن المعاصر ؟ وهل استمعت يوما الى اعمال الفرقة السيمفونية العراقية ؟ هل تعّرفت على المسرح الحديث ؟ هل عرفت مدى تأثر التشكيليين العمالقة العراقيين قبل خمسين سنة بالمدارس العالمية ؟ هل سمعت بدور المعماريين العراقيين ودورهم في العالم ؟ هل عرفت قيمة المثقفين العراقيين الكبار من المفكرين والكتّاب والعلماء الذين نهلوا من ثقافات عالمية ؟ ما هذا التفكير المتّردي الذي يريد من العراقيين ان يكتم انفاسهم ويوزعهم في شرانق واقفاص بتقاليدهم البالية وعاداتهم التي من العيب ان نتغنّى بها بعد اليوم ! ما الذي قدّمته عاداتك وتقاليدك البالية الى هذا العالم ؟ ما نفعها وما فائدتها ؟ لماذا تستورد كل شيئ في حياتك من هذا العالم ويختل توازنك عندما ننصحك بالاطلاع والاستفادة من ثقافات الاخرين وابداعات الشعوب ؟ 
    لماذا تزج اخي الوزير بنفسك في الميدان لتتحدث عن ماضيك وعائلتك .. واذا لم تكن شاعرا او رساما فليس في ذلك عيب ابدا .. وسواء عاقر المثقف الخمرة وعاشر الغواني ام اطلق لحيته واصبح مريدا للمتصوفة او الاحزاب الدينية ، فلا يمكن تقييم ابداعه على هذا الاساس ، والا لما كنا نقرأ حتى يومنا هذا شعر ابو نؤاس ولا العباس بن الاحنف ولا ابن الفارض ولا تعرفنا على شعراء الصعاليك ولا اصحاب الادب الماجن .. ولما تذكرنا حسين مردان والجواهري وجان دمو والقائمة طويلة  ؟ من قال لك يا وزيرنا بأن " الثقافة أخلاق وقيم، لدينا ثقافة خصبة ثقافة القيم العربية الإسلامية " ـ كما تقول ـ ؟؟ الثقافة هي تكوين وابداع .. هي قيم وفولكلوريات .. هي مأثورات وتقاليد .. هي منتجات وعلاقات .. هي اساليب حياة .. هي عالم غريب تجتمع فيه الوسائل والاساليب لتعبر عن اوضاع مجتمع او بيئة او أي منطقة في البلاد بكل سلبياتها وايجابياتها . انك ان قدّمت خدمة انسانية معينة فهذا يحسب له حسابه ، ولكن ليس من الناحية الثقافية .. اتمنى ان تستمع القول ولا يغيظك هذا الكلام بل تتبع احسنه ، ولننادي دوما  ايها الاعزاء : ضعوا الانسان المناسب في المكان المناسب .
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ، 25 مايو 2006 .
 
د. سّيار الجميل
مفكّر عراقي[/b][/size][/font]

226
استحلفكم بالله : لا تقتلوا العراق ؟
د. سّيار الجميل
 
يا منزلا عبث الزمان بأهله        فأبادهم بتفرّق لا يجمــــع
اين الذين عهدتهم بك مرّة        كأن الزمان بهم يضـرّ وينفع
أيام لا يغشى لذكرك مربع         الا فيه للمكارم   مربــــع
ذهب الذين يعاش في اكنافهم     وبقي الذين حياتهم لا تنفـــع
شارع عربي

مقدمة
   قبل قرابة عشر سنوات نشرت دراسة علمية عن تجربة اتاتورك العلمانية في تركيا في مجلة متخصصّة ، وقد أثارت احدى عباراتي صديق عزيز علّي واستاذ قديم لي وهو متشّدد يختلف عني كونه يؤمن بالاسلام السياسي بينما لست من المتشددين واؤمن بالاسلام الحضاري والانفتاح على العالم .. فكان ان ارسل لي رسالة شديدة اللهجة يكفّرني فيها ، فاجبته بكل هدوء ولكن ببأس شديد قائلا له : أن من يكفّر ( بكسر الفاء) الناس يكفّر ( بفتح الفاء ) ! والتقينا بعد سنوات فاعتذر الرجل مني واعترف بخطئه .. وعاد راجعا للعراق وانني اعتقد جازما انه لم يزل يؤمن بافكاره المتشدّدة التي احترمها ، لكنه لا يمكنه البتة – كما اعتقد – ان يؤمن بافكاري حتى وان غدا العراق بطوله وعرضه بركة من الدماء القانية ! وكلما نصعق بفشل الاسلاميين اتذكر صاحبي ..
     واذا كان الناس يعتقدون بأن كلّ المصائب من الامريكان ، فان الجميع قد تعامل مع الامريكان منذ خمسين سنة ومن ضمنهم اعتى الاسلاميين ، وان الداء ان لم يجد له ارضية صالحة لا يمكنه ان يسري ويتغلغل في أي جسم ولا أي هيئة اجتماعية . لقد صنع العراقيون واقعهم المضني بايديهم ، ووجد الامريكان وغيرهم ارضية صالحة لكي يصيب العراق كل هذا التهتك وكل هذا التفسّخ وكل هذه الانقسامات التي اعتقد – وربما يخالفني الكثير من الناس فيها – ان لا يمكن علاجها كما هو مألوف اليوم ، بما يجري من معالجات شكلية وترقيعية ومظهرية ، في حين تترسّخ يوما بعد آخر دعائم التمزق في المجتمع بعد ان عجز كل العراقيين عن تأسيس كيان سياسي وطني مستقر يأخذ شيئا فشيئا باسترداد انفاسه واعادة بناء نفسه وتشريع دستور مدني له ، خصوصا وان الهدف كان تغيير النظام السياسي ليأخذ تاريخ العراق طريقا آخر ، ولم يكن هدف العراقيين يقضي بتغيير بنية المجتمع ولا تغيير جغرافية العراق. ان هذا المقال يقدّم بعض النقدات والتحليلات لما يكمن في تفكير الكثير من العراقيين الذين اتخذوا " الدين " سبيلا لهم .. فكان ان غدا الدين الاسلامي في العراقي : سنة وشيعة مما فرض بالنتيجة انقساما لا مناص منه !   
مشروع اختيار صعب
      لم يشهد تاريخ العراق بطوله وعرضه ما يمر به واقعه اليوم ومنذ سنين .. وكأن حلمنا بعراق جميل لم يتبدد حتى الان ، بل لأننا كنا على وهم كبير في الذي يجري على ترابه وفي كل صقع من اصقاعه ! وكم انتقلت ولما تزل الى ثقافته من تعابير وافكار ومعلومات لا أساس لها من الصحة أبدا .. وكأن " المشروع " يظهر بوجه كالح وتختبئ في بواطنه جملة أسرار لا يريد البعض فضحها ، وهو يعلم علم اليقين بأن البلاد التي تعيش تحديات كبرى لا يمكنها ان تبقى معرضة للفناء من خلال اجندة الانقسام والمؤلم جدا ان يكون ديننا الحنيف اسلوبا يتنازع من خلاله على مذهب او ارض او مصالح او طائفة .. . ان كل المتغير السياسي في العراق اليوم يبدو كأنه مشروع اختيار صعب لا تنفع معه كل  مقاصد الحكماء ولا العقلاء ولا الخبراء .. ومن امامهم " نخبة " لا تفقه العمل السياسي الحقيقي وافرادها تراهم جميعا وقلوبهم شتى فأحدهم لا يطيق الاخر ، وهي " نخبة " لم يصطفها الشعب اصطفاء بالاسم ، وهي لا تجيد الديمقراطية ، بل ولا تعرف من علوم السياسة وامكاناتها الا كيف تفرغ البلاد من ثرائها الحضاري والثقافي والاخلاقي بعد كل الفراغ الفكري والسياسي والاجتماعي الذي يعيشه العراق منذ خمسين سنة !
تأسيس الافتراق من خلال (الدين) ومذاهبه
     لا احد يختلف ان الدين الحنيف كان عامل توحيد وسماحة ومحبة وتعايش وتضامن .. ضمن الاليات التي خلقها الفاتحون الاوائل او من المؤسسين اللاحقين الاواخر ، ولكن لا يمكن الجمع اليوم ابدا بين مرجعيات الدين بكل الوانه ومذاهبه وطوائفه وبين آليات السياسة الراهنة ومؤدلجات الحاضر وتعقيدات التفكير المعاصر !  وعند ذاك سيصبح سوء استخدام شعار ( الدين )مؤسسا للافتراق وسيخبو دوره الحقيقي في بناء اخلاقيات المجتمع ، بل وتغدو المتداولات المذهبية والطائفية والانقسامية مرجعيات متضاربة للتأويل وتصريف العواطف وعلى اشد ما يكون ذلك من الاضطراب والسخونة والالتهاب ، وفي مجتمع صعب له تناقضاته وتنوعاته وتبايناته كالعراق .. فان المستقبل سيغدو مظلما شئنا ام ابينا ، اذ لا احد يقتنع بأن كل العواطف تموت الا العاطفة الدينية والمذهبية والطائفية ، فكيف وان النزعات العرقية والاثنيات تبحث لها  هي الاخرى عن ملجأ او خندق أو هوية ليبرز كل طرف عضلاته على الطرف الآخر ، فهذا نوع من صناعة الجنون التاريخي وفي خضم ضياع الارادة العراقية المختنقة بايدي محتل غريب او باختراقات قوى افتراس المحيط  .
    ان افتراق العراقيين سياسيا قد غدا امرا واقعا بين سنّة وشيعة اليوم ، اذ يعدّ حصيلة اذكاء للمشاعر الانقسامية التي يؤججها كل طرف على حساب الطرف الاخر ، فالسنة في الاسلام السنّي عندهم لا يستحضرون التاريخ مطلقا في صناعة واقعهم المضني ، فهم يمجدونه بل جعلوا من الدين اسلاما سياسيا متنوعا ومتعددا بين سلفيين وجهاديين ومقاومين واصلاحيين واخوانيين .. الخ يصنفون من قبل الطرف الاخر بـ " القتلة الارهابيين "  وخصوصا في غياب السلطة السياسية الاقوى التي لابد لها ان تحكم المجتمع والذي وصفوه بـ " الجاهلية "  أما الشيعة في الاسلام السياسي عندهم ، فهم على النقيض اذ جعلوا من الدين اسلاما تاريخيا ، يستعيدون كل التاريخ منذ تلك اللحظة الانقسامية الاولى ويرسخّون موقف المظلومية التاريخية ويدعمونها بما في فكرهم من المواقف المضادة بدءا بالصحابة والست عائشة ومرورا بالامويين والعباسيين ووصولا الى العثمانيين والقوميين وصدام حسين ! وهم يصنفون بـ " الروافض الصفويين " من قبل خصومهم السياسيين لا من قبل الذين تعايشوا معهم ازمانا !! وهنا يتشظّى المجتمع بشكل لا يمكن تخّيله وعلى حساب الجميع وبضمنهم كل السكان باكثرياتهم واقلياتهم .. وهذه هي العلة الاولى التي بدأت تتأسس بشكل علني في مجتمع التعايشات العراقية القديمة ليتشظى من خلالها كل العراق في اصعب مرحلة لم يمر بها العراقيون من قبل ابدا برغم كل الصراعات المذهبية على ترابه في ازمان مضت !
تفكك البنية الاجتماعية : العلمانيون ضحية الطرفين
      ان المسألة لا يمكن حصرها بصراع سياسي انبثق من اختلاف اجندة او برامج او شعارات سياسية ، بل انها تمثل حالة صراع اجتماعي لا يمت بصلة لأي انواع الصراعات الاجتماعية : لا الطبقية ولا الثقافية ولا الجغرافية .. بل انه صراع ينبثق من دين مذاهب وصراع تاريخ .. أي انه : صراع عواطف ملتهبة تتخندق بكل شراسة لتتفجر عنها صراعات في السياسة والثقافة والجغرافية وفي الاصل والمركز والفروع والاطراف .. !! ان صراع الطرفين السياسيين : الشيعي / السني العراقيين قد دق اسفينا ليس في البنية الاجتماعية لوحدها ، بل في التفكير السياسي الذي بات يستأسد به كل المتدينين او كل من هّب ودّب بسرعة ليكون في عداد هذا الحزب او ذاك ، فالعملية ليست مسألة ثوابت دينية راسخة ولا مسألة مبادئ وطنية ثابتة ، بل انها مجرد اطلاق لحية وحمل سبحة وترديد عبارات دينية معينة  .. بحيث بات العلمانيون والمستقلون وكل الرافضين من المدنيين والعسكريين بانتماءاتهم العراقية الى عوائل واسر محسوبة على هذا الطرف او ذاك :  زج الدين في العملية السياسية ضحية في صراع الطرفين . كما ان المرأة هي الضحية الاخرى التي ستكون فاقدة لكل شخصيتها وادوارها ان بقيت كما هي عليه اليوم في العراق .
     ان العلمانيين تجتمع عندهم كل الاطياف ولكنهم اليوم منبوذون على اشد ما يكون النبذ من قبل كل الاسلاميين سواء من العراقيين ، او من العرب والايرانيين .. مع اختلاف مكانتهم في المجتمع التركي بسبب نضوج الاحزاب الدينية التركية في ظل العلمنة التركية . وان الاستثناء الاكثر اهمية  ربما يبدو لي في اقليم كردستان العراق ، اذ ان للاخوة الاكراد استراتيجيتهم القومية التي كانت من صنع العلمانيين الاكراد ولكن تكتيكاتهم اليوم هي التوافق مع كل الاطراف الدينية والطائفية من اجل مصلحتهم التاريخية التي لم تتوفر ابدا لهم من قبل ، ولعل الدافع القومي للاخوة الاكراد هو الذي جعلهم يتفقون على " استراتيجية "  لا يختلفون عليها ، ولكن غدت لهم القدرة على استخدام تكتيكات سياسية ذكية ، ليس منذ ثلاث سنوات فقط ، بل منذ زمن طويل بالتعامل مع كل الاطياف السياسية والدينية في مقدمتها سواء كانت شيعية او سنّية ضد حكم صدام حسين .. واتمنى على الاخوة الاكراد وكل الاطياف الاخرى ان يكونوا جميعا عامل ربط ووصل بين السنة والشيعة وايقاف أي صراع طائفي في العراق . كما ولابد من مرسوم عراقي يتفق عليه الجميع في ان يحترم كل عراقي مشاعر الاخر ويعمل في سبيله ويتعايش معه ويتآخى في شراكته ويدافع عنه ضد كل الطارئين .
 الصراع الطائفي سيعمل على تآكل العراق
     ولكن هل ينجح أي تعامل بين العلمانيين والمتدينين ، اذ  لا يمكن للعلمانيين ان يقبلوا التعامل مع تهويمات الاسلاميين ، فاذا كان العلمانيون باستطاعتهم صياغة برنامج مدني وسياسي متحرر ، فان الاسلاميين لا يمكنهم ابدا صياغة أي برنامج مثله ، بل يمكنهم ان يقدموا خطابا او وعظا او انشاء وهذا ما نلمسه من تجاربهم في الحكم ليس في العراق وحده ، بل في بلدان اخرى ! ولقد اثبت التاريخ بأن العراق لا يمكن ان تحكمه احزاب طائفية ولا هيئات مذهبية ولا جماعات دينية البتة اذ انها ستعرضّه للانقسام والتآكل ، وستقتل فيه كل تاريخه الحضاري ، ليس لما تتضمنّه من آفات ويوتوبيات وثوابت وتحريمات وتكفيرات ومحددات .. بل لأن العراق يقع في منطقة جد حساسة من الناحية الجغرافية ، وهو قابل لجذب المشكلات التي دوما ما عرفنا من التاريخ انها تتعقد وتصبح ازماتها معضلات غير قابلة للحل الا بعد طوفان من الدماء ! وسيفنى مثل هذا الواقع اغلب العلمانيين الذين ستضيع اصواتهم في خضم موجات الصراع الطائفي في العراق والذي سيأخذ وقتا طويلا .
وهنا اقول بالاحزاب والهيئات والجماعات ولا اقول بالاسلام نفسه ولا بالمسيحية ذاتها . والامر لا ينحصر بالعراق وحده ، بل هذا هو حال الاوضاع الانقسامية في اغلب التجارب الدينية العربية . اما ايران ، فليس لها احزاب تحكمها ، بل تحكمها جماعة واحدة لا برنامج سياسي لها بقدر ما لديها ايديولوجية ولاية الفقيه التي تهيمن على كل الحياة فيها . ان كل ما نسمعه من شعارات الديمقراطية هي مجرد فذلكات واكاذيب ، اذ لا يمكن ابدا ان تتحقق الديمقراطية ولا حتى الوقوف على حوافيها من قبل احزاب وفئات دينية ، فالديمقراطية صناعة بشرية وكل مبادئها واهدافها حالة مدنية ، بل وحتى آلياتها ووسائلها لا تستقيم واجندة الاحزاب الدينية او الطائفية او المذهبية ، والناس لا تنكر ذلك اذ يقول عقلاؤهم بأن الديمقراطية صناعة غربية .. وهذا صحيح ، وعليه ، فلا انتخابات يمكن ان يستعرض فيها الاسلاميون عضلاتهم فهناك عندهم البيعة الاولى والبيعة الثانية .. وهناك عندهم ايضا اهل الحل والعقد وهناك الشورى .. وكلها آليات تختلف مع روح الديمقراطية التي توفر مناخات تحرمها الشريعة الاسلامية جملة وتفصيلا .. ففي الديمقراطية حريات سياسية تنبثق اصلا عن حريات تفكير وحريات شخصية .. لا يمكن ان نجدها البتة في الاسلام مهما بلغ به المتفقهون ! وعليه ، فان هذا العصر يطالب المسلمين في مشارق الارض ومغاربها باستحداث فقه جديد يأخذ بمصالح العالم الاسلامي من خلال علم المقاصد وتجديد كل المذاهب والاجماع على الرأي ، وبعكسه فستبقى الاحزاب والجماعات الدينية تكذب على الناس والناس يصدقونها من دون أي تفكير !                                                                                                                                                                                                                                         
من أتى بالاسلاميين الى الحكم ؟
    لعل من اكبر الاخطاء التي مارسها الليبراليون والراديكاليون من الشيوعيين ومن القوميين الناصريين والحركيين والبعثيين في القرن العشرين عدم ممارستهم لأي وجه من اوجه الديمقراطية ليس لكل القوى السياسية التي كانت على الساحة ، بل حتى لانفسهم ،  أي انهم لم يفسحوا المجال حتى لبعضهم الاخر في ان يتنفس ويعمل على احترام المقدسات وفصل الدين عن الدولة ، بل خاضوا صراعا في ما بينهم انفسهم على حساب السلطة اولا وعلى حساب مسك العصا من الوسط ثانيا وعلى حساب فسح المجال امام القوى الدينية والطائفية والمذهبية ان تقفز الى الصف الاول ليس على ايدي الاحتلال حسب ، بل على ايدي الانظمة السياسية السابقة .. واذا كانت تلك القوى الحزبية الدينية قد تمتعّت بشعبية كبيرة في العالم الاسلامي ، فالسبب يرجع الى اخفاق النظم السياسية العربية وغير العربية في معالجة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبسبب فاضح من الصراعات السياسية والايديولوجية التي خاضتها لاسباب خارجية او داخلية ، وضيّعت على المجتمعات قاطبة اهم الفرص التاريخية في التكوين السياسي والحضاري معا  .. كما وتلاعبت قوى خارجية متنوعة بانظمة الحكم وسياساتها على امتداد نصف قرن ، وفي ظل الحرب الباردة وبقيت المنطقة عرضة للانقلابات وهوس الشعارات وصراع الايديولوجيات وبلادة التفكير بين ادعاءات الرجعية وشعارات التقدمية ! بل وجعلت فصائل المجتمع تهرب الى الماضي لتجد ضالتها في احزاب دينية تشبعها بالاحلام والرضى النفسي المقنع بالنصوص القاطعة .
تفكك العراق .. من يعالجه ؟
    ولما كان العراق من الصعوبة بمكان معالجة واقعه المضني منذ خمسين سنة ، فانني اعتقد انه الوحيد الذي عانى وسيعاني من حالات التفكك والانقسام في ظل الاحتلال وما بعد الاحتلال خصوصا وان مشروع الدولة قد ذهب منذ عهد بعيد . ولقد ظهرت كل العيوب في غيبوبة قسوة الدولة الحقيقية وسقوط النظام المتسلط . هناك ثمة اسئلة طالما سمعتها من اساتذة غربيين كبار كانوا يقولون ويسألون : هل باستطاعة العراقيين ان يحكموا انفسهم بأنفسهم ؟ كنت اغتاظ من هذا السؤال فجوابه يفضح كل المعاني .. ويسألون ايضا : هل باستطاعة العراقيين التخّلص من عصبياتهم وعنادهم وخشونة طباعهم وكراهيتهم في ما بينهم وتيبّس عقولهم وعدم تنازلهم عما في رؤوسهم ؟ وكنت استاء من هكذا اوصاف تجعلني افقد صوابي .. ولكن بالرغم من صراحتهم وعمومياتهم ، الا ان بعض ما قالوه فيه صحة وخصوصا بعد ان نخر الزمن الصعب الطويل عادات وتقاليد مجتمع ، فاصبح المجتمع منخورا  بعد ان مات الصبا والجمال في اجزاء واسعة منه .. وباتت الرعاع تنتشر في كل مكان !
    نعم ، مع مرور الايام والسنين ، اكتشف في العراقيين أهوالا من التناقضات التي لا يمكن وصفها ابدا ، بل على العراقيين انفسهم الا ينكروا بروز جلادين من بينهم يبطشون بهم ، وان " المسألة الوطنية " مجرد كذبة كبيرة لدى العراقيين الذين باتوا لا يتعاملون الا بحز الرؤوس وتفجير البيوت وقتل الابرياء واحتواء الاشرار وتفخيخ السيارات وتهجير الناس .. الا لمجرد كونهم شيعة او سنة ؟ فهل يمكن لهكذا مجتمع ان يعيش ضمن تحزّبات دينية وطائفية ؟ اليس هناك من يقف معي ليقول : ينبغي على الاحزاب الدينية ان تتوقف وتجمّد كل مشروعاتها السياسية ان كانت لديها مشروعات واقعية وان تتوقف عن القاء الخطب والمواعظ المثالية في السياسة ، ولا اقول بالغاء نفسها ، بل اتمنى عليها ان تتحول من سلطة الدولة لتمارس انشطتها الخيّرة في المجتمع لزرع الخير والامر بالمعروف وتوزيع الموعظة الحسنة وتربية الناس على فعل الخير والاخلاق في جمعيات البر والاحسان .. من اجل ان يستقر العراق وتبدأ حالته المدنية على ايدي الرجال الوطنيين العراقيين العتاة المخلصين الذين لا علاقة لهم بأي تشرذم طائفي او مذهبي او ديني او حزبي او شوفيني ؟؟
     لابد ان ندرك بأن مجتمعاتنا كلها لم تنجح ابدا في تأسيس أي مشروع " دولة " ، فكل دولنا من صناعة غيرنا على امتداد القرن العشرين ( والدولة غير الوطن ) ،  وان ما نعالجه اليوم في الجغرافية السياسية يتضمن التعامل مع مجموعة كيانات وانظمة سياسية لا غير ، فمشروع الدولة الذي بني في اوروبا ابان القرن التاسع عشر ـ مثلا ـ راسخ حتى اليوم ، وسيبقى يستمد قوته وقطيعته من تاريخه والاستفادة من ذلك التاريخ الذي يعد مرجعا ليس الا ، اما العرب وغيرهم من الشعوب الاسلامية فلم تزل كياناتهم تستمد ضعفها وهزالها من ذلك التاريخ من دون أي قطيعة .   واعتقد ان هذا كان كافيا لفشل تجارب سياسية عربية وغير عربية في القرن العشرين ، بل وكان السبب في موت ظواهر كبرى في حياة المنطقة اذ فشلت القومية العربية في تحقيق اهدافها ومن قبل فشلت الليبرالية الوطنية في تأسيس ركائزها .. وستفشل ظاهرة الاسلام السياسي في تحقيق الشعارات التي تطرحها اليوم ، اذ لم يبق الا الحياة المدنية والمشروعات الحضارية طريقا لهم من اجل مستقبلهم والتي لا يمكنها ان تعيش الا على ايدي الصفوة لا على ايدي الرعاع !
وأخيرا : هل ستبقى الحرب سجالا ؟
   ان البقاء في قوقعة الايديولوجيات والايمان بالشعارات التي لا يمكن ان تتحقق في الواقع ستفقد القوى الدينية في العراق وغيره بهرجها الذي يعتقد به كل الناس .. وان الرهان عليها باسم الاوطان سيضيع الاوطان نفسها وهذا ما حدث في تجارب الاحزاب الوطنية القديمة في النصف الاول من القرن العشرين ، وهذا ما حدث ايضا في تجارب الاحزاب القومية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين .. وهذا ما يحدث وسيحدث في تجارب الاحزاب الدينية في النصف الاول من القرن الواحد والعشرين ! فالمشكلة تكمن اساسا في اناس يؤمنون خطأ بأن لهم دولا حقيقية وهم لا يملكونها كونهم لا يمتلكون مؤسسات دولة حقيقية .. والاكثر فظاظة وفضاعة انهم لا يميزون بين الاوطان ( = التراب ) وبين الدول ( = المؤسسات ) وبين الشعب ( = المجتمع ) انهم يخلطونها جميعا لتصبح في قبضتهم باسم ( الامة ) ، بل وباستطاعتهم ان يأخذونها الى الانسحاق في مواجهات يدركون سلفا انها لعبة خاسرة ومعادلة بليدة ! ان الاوطان والدول والمجتمعات لا يمكنها ابدا ان تخلط خلطة عمياء ضمن ايديولوجية كريهة معينة او اجندة حزب بالية ولا ضمن نسيج فكر احادي ولا ان تكون في قبضة دكتاتور او جلاد .. ولا يمكنها ايضا ان يتحكم في مصائرها دين او مذهب او طائفة .. ان العراق لا يمكنه ابدا ان ينهض من انسحاقه اليوم ما لم ينفض عنه كل موبقات التاريخ والواقع معا .. وان يتنزه الدين الحنيف في عليائه بكل سموه وتجلياته ، فهو اكبر بكثير من ان يكون لعبة سياسية بايدي احزاب لا تدرك معنى الزمن ولا فهم الحياة .. بل وليس لديها أي معرفة حقيقية بالعراق ومتطلباته المستقبلية من خلال سيرورته التاريخية .. وتلك معادلة صعبة سوف لن يدركها كل العراقيين الا بعد فوات الاوان .
www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]
 
 
 
 
 
 

227
هل ثمة غرفة عمليات أمنية لدى الحكومة الجديدة ؟
د. سّيار الجميل
مقدمة
    ليدرك كل العراقيين انه من دون " العراق " كبعد مكاني واستراتيجي واقليمي وعربي بطوله وعرضه ، من غير الممكن ابدا ان تحيا المنطقة التي يقع العراق في قلبها .. فالعراق يمّثل بمركزيته الشرق اوسطية وجغرافيته التاريخية العربية عمقا حضاريا واساسيا لنمط التطورات والتفاعلات القادمة كبوابة قارية آسيوية او كجبهة حقيقية للعالم العربي . وان خسرانه مفككا او منقسما مجزءا او مهلهلا او محتلا او منحورا .. سيؤثر تأثيرا بالغا على سيرورة الاحداث في كل العالم كونه احد مصادر الطاقة باحتياطياته الضخمة وقوة موقعه الاقليمي .
   ان الحاجة والضرورة تقضي بترتيب العلاقات العراقية دوليا مع الولايات المتحدة الامريكية اولا وترتيب العلاقات مع الاقليم واقصد بالذات كل من قام باختراق حدوده في ظل غياب مؤسساته واحتلاله وفتح حدوده .. ثم ترتيب العلاقة ليس مع عروبته التي لا يمكن النقاش حولها كتحصيل حاصل ، بل حول طبيعة علاقته بالدول العربية ، ومدى قدرته في ان يكون عضوا فّعالا في المنظومة العربية اولا ، وكيانا خليجيا رائعا في الاسرة الخليجية مستقبلا . وذلك لا يتم كله ما لم يتم ترتيب علاقته بينه وبين نفسه ، فلا يمكن ان تبقى اساليب المحاصصة والافتراقات الطائفية والمذهبية  والدينية تفعل فعلها في مجتمعه وهناك من يغذيها من قوى غير وطنية تساندها ميليشيات اوليغارية تعمل على تفسيخ احاديته وتمزيق مجتمعه تنفيذا لارادات غير وطنية ! واقصد بالميليشيات كل القوى المسلحة الخارجة عن النظام الرسمي العراقي وسواء في عهد النظام السابق ام العهد الحالي واغلبها من المرتزقة .
مطلوب أسس استراتيجية  
     لنتوجه بخطابنا وتساؤلنا الاخر تلو الاخر منادين : اين نحن من توّغل عوامل تمزقنا وجعلنا فريسة لمصالح الاخرين الكبرى ؟ متى نقف مع العراق في محنته القاسية والتاريخية التي لا نعلم حتى الان طبيعة ما ستقود اليه في ظل متغيراته وسلسلة تحولاته الكبرى ؟ هل يمكن للارهاب ان ينتشر ويمتد على كل ارض الرافدين ليقتل الاخضر واليابس ؟ الا يستدعي ما يحدث في العراق الى المناداة بكبار القوم الذين لا احزاب ولا قوى ولا ميليشيات لهم ان يقوموا برأب الصدع الذي يحدث في بنية المجتمع العراقي التي تتنوع فيها القوى الاجتماعية والسكانية بشكل عجيب ؟ الم يستدعي منا كل ما حدث دراسة كل الرؤى المستقبلية التي يمكن ان تفتح لنا الابواب نحو عالم جديد ستعيشه اجيالنا القادمة ونحاول تخليصها من كل ما سيضر بكياننا السياسي وبنيوياتنا الاجتماعية ومواردنا الاقتصادية واساليبنا الثقافية ؟ الا يستدعي الامر التفكير بمصير العراق وما سيقود اليه من آثار ونتائج على كل مستقبلنا ؟
كيف يمكننا فهم المستقبل ؟
     لابد من معالجة  الاهمية الجيوستراتيجية للعراق الذي يحتّل مركزية منطقة الشرق الاوسط .. ولابد من طي صفحات الماضي والتطلع الى المستقبل . ان الحاجة باتت ماسة لمن يضئ اضاءات ساطعة لمستقبل العراق الصعب من خلال رؤية منظور تاريخي يربط بين ما كان عليه العراق والمنطقة في القرن العشرين ، وما سيألو اليه في القرن الواحد والعشرين .. ويفتح البحث ابواب الافكار لعدد كبير من المفكرين والمتخصصين العراقيين المنتشرين في شتات العالم ، والانتباه لمخاطر وتحديات لا قبل لنا بها ابدا ، كي يتغّير التاريخ تغييرا جذريا يتلاءم ومتطلبات العصر. وهنا لابد ان يكثف كل المتخصصين العراقيين دراسة طبيعة التحولات التاريخية في العراق وتطور اوضاع العراق وتكويناته وظروفه في العقدين الاخيرين من القرن العشرين التي رافقتها تحولات تاريخ العالم .. ومعالجة التحديات والمخاطر التي سيتعّرض لها العراق في السنوات الاربع القادمة وحتى العام 2009 .. فهناك توقعات مستقبلية لا تبّشر بخير ، وعلى كل العراقيين الذين يزرعون الامل يوما بعد آخر في نفوسهم ان يجدوا ضالتهم في الاستجابة الحقيقية لما يصادفونه من تحديات وهم الذين الفوا كل الصعاب والمحن والمصائب منذ قرابة خمسين سنة .. انني لا اريد ان أدّق ناقوس خطر ، كالذي طرقته منذ اكثر من عشر سنوات مضت اذ قلت بسيناريو التفكيك واعادة التركيب ، وخصوصا بعد الذي حّل بمصيرنا بيد القطب الواحد وبقي العراق يراوح مكانه وهو ينتقل من حرب الى اخرى ويدفع شعب العراق كله ثمن اجندات اقليمية ودولية لا قبل له بها !
ما العلاج ؟ ما الدواء ؟
     اننا امام مهمة اساسية تبحث عن الاجابة على تساؤل يفترضه من بيده صنع مستقبل العراق : هل هو الدكتاتورية ام الديمقراطية ام التقسيم ام مرحلة طوارئ ؟  وهنا اناشد كل المهتمين والمحللين والاعلاميين العراقيين ان لا ينجرفوا وراء ما يشاع من " المعلومات البليدة " التي يتكالب العديد من الكتاب والساسة الجدد سواء كانوا من العراقيين ام من غير العراقيين بترويجها من دون أي توثيقات ولا أي مستندات ، وكانت ان راجت تلك " المعلومات " ، فغدت كلها وراء ما يحدث من الانقسامات ، وانها كانت ولم تزل  وراء الخراب الحاصل في العراق ، اذ كانت كلها معلومات مسمومة تؤجج المشاعر وتجرح النفوس ، وكلها أثارت الناس وهيجتهم ، وهي معلومات مفبركة لا اساس لها من الصحة ، او انها ما كان لها ان تطرح بطرق استفزازية ومؤذية .
 أمام الوضع الراهن ، ما الذي يمكن عمله ازاء الفوضى وعمليات القتل والتفجير وسكوت العالم امام ما يحدث ؟ بل هل يمكن للعالم ان يدرك الاهداف التي تريد كل الاطراف تحقيقها ؟ فالسؤال المطروح بإلحاح هو:  الى متى يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في وقوفها متفرجة على هذا الماراثون العراقي الصعب ؟ وهل ستستمر باعتمادها هذه السياسات ؟. خاصة وأنها تزيد من كراهية الشعوب لها ولكل أصدقائها.
  انني واثق تمام الثقة ان مفاتيح العراق كلها بيد الولايات المتحدة الامريكية ، ولابد لها ان تعالج كل الاخطاء التي حصلت منذ اللحظة ولماذا استعجلت جدا في ترتيب الاوضاع بالصورة المشوهة من دون معالجة جروح العراق وقروحه وضبط اوضاعه وحدوده واجهزته وكل ارضه ومدنه وحواضره وريفه وبواديه ؟؟  انني اعتقد بأن أي حكومة عراقية ستبقى صورية لا تمارس صلاحياتها الرسمية ليس لأنها واقعة تحت المطرقة الامريكية حسب ، بل لأن اغلب اعضاءها لهم مرجعياتهم الحزبية التي يعتبر بعضها نفسه مقدسا !!
 يمكننا ان نسأل الولايات المتحدة ايضا : لماذا اعتمدت في بناء العراق الجديد على جماعات وقوى سياسية معينة مع ميليشيات مسلحة لها انتماءات دينية او غير دينية متعددة ، وسمحت من طرف آخر ان تسرح وتمرح ميليشيات مقنعة تعمل تحت الارض ؟  وهي تدرك مدى امكاناتهم وضعف او قوة قدراتهم وتعدد هوياتهم وابتعادهم عن أي جماهيرية للشعب العراقي ؟ لماذا اهملت العديد من الشخصيات المستقلة والقوى العراقية المتخصصة والبراغماتية والتكنوقراط في بناء المرحلة الاولى من العراق الجديد ؟
 لماذا لم تحاول الولايات المتحدة اتخاذ الاجراءات الامنية لتأمين فترة نقاهة يستعيد خلالها العراقيون ادوارهم لما بعد الحرب القاسية وتمنحهم الثقة باعادة بناء المؤسسات وتكوين الدولة وحماية مصالحها الى طبيعتها ، وتزرع عند كل العراقيين الامل بالخروج من العراق ضمن آلية زمنية .. ولماذا اعتمدت اسلوب المحاصصات الطائفية والعرقية في بلاد صعبة جدا .. ؟؟ من العلاجات ان تتحول العملية السياسية الى غرفة عمليات أمنية لا تقل حياتها عن اربع سنوات وان تتوقف العلاقات مع كل الاطراف الخارجية ،  وان لا تتحول الوزارات والمؤسسات والاجهزة ملكيات مشاعة لاحزاب وتكتلات وميليشيات تحاصصية ..
واخيرا اقول بأن معالجة الاوضاع الصعبة ليس من السهولة بمكان ، ولكن لابد من قهر الاسباب ثم معالجة النتائج .. وليعتز كل عراقي بالعراق مهما بلغت الاثمان .
( نشرت مختصرة في جريدة الصباح البغدادية ، 18 مايو 2006 ) .
www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

228
هل المنطقة فوق فوهة بركان ؟
بعيدا عن الحرب العراقية الإقليمية الرابعة !!
د. سّيار الجميل
" سور المدينة مصنوع بيد الرجال لا الأحجار "
أفلاطون

مقدمة :
     لا أريد أن ارسم بانوراما خيالية عن واقع بائس نعاني منه جميعا .. ولا أريد أن انقل الى قرائي الأعزاء صورة سوداوية للمنطقة أكثر تشاؤما مما هي عليه اليوم .. ولا اريد ان اكون منظّرا لافكار ومشروعات ، بل أريد ان انشر تحليلا لمعلومات قرأتها هذا الصباح وبعض توقعّات اعتقد انها قريبة الحدوث .. انني اريد ان انبّه الى مخاطر ما يجري في المنطقة اليوم في ضوء الاحداث الخطيرة التي لا تحدث من فراغ ابدا ، ان لم يكن من ورائها برامج ومخططات ، خصوصا وان العراق قد غدا اخطر منطقة في العالم اليوم ، وهو يتوسط قلب الشرق الاوسط ، وان تغييره نحو الافضل اصبح حلما بعيد المنال ، ولكن اخشى عليه ان يغدو ميدان او ساحة حرب اقليمية دموية قاسية بين مختلف الاطراف والقوى . ان تحليلنا لتقارير معينة لها خطورتها ، ليس معنى ذلك ايماننا بما تتضمنه من خطط وافكار ومعلومات ، بقدر ما نكشف من خلالها عن مخاطر نخشى ان يتعرض لها العراق ـ لا سمح الله ـ . واتمنى على كل العراقيين الالتفات اليها سواء من لم يؤيد كتاباتي او ممن يؤيدها  من ساسة وقادة ومثقفين واعلاميين ومهتمين في داخل العراق  وخارجه .

 

هل سيغدو العراق ساحة تصفية عمليات لكل الفرقاء ؟

   ان احتدام المواقف الدولية والاقليمية في المنطقة واختلاط الاوراق بهذا الشكل المريع السريع ستكون له نتائجه الكارثية التي لابد ان ينتبه الجميع اليها ، اذ لا يمكن ان تبقى قضية المفاعلات النووية الايرانية تحكم هذا الظرف العصيب بين ايران والمجتمع الدولي ، وهي اخطر بكثير من قضية اسلحة الدمار الشامل بين العراق والولايات المتحدة الامريكية والتي لم تحظ بتأييد دولي كهذه اليوم . ان وجود الاحتلال في العراق لا يمكن ان يبقى هكذا في ظل ما يحدث من فوضى داخلية في العراق والذي غدا مؤهلا كي يكون ساحة لعمليات كل الفرقاء على الارض وخصوصا بعد هذه الحرب الطائفية المقيتة التي تنتشر في العراق بمعزل عن أي محاولة صادقة لاسكاتها من قبل كبار القوم بعد ان خلقت عوامل تفجيرها .. فهي بداية لرحلة خطيرة في كل بقعة عراقية وخصوصا في العاصمة بغداد التي تجترح كل الصراع الطائفي الداخلي باخطر صفحاته .. ومن دون أي حلول عملية لا من قبل الامريكان ولا من قبل ايران ولا من قبل المنظومة العربية ولا من قبل العراقيين انفسهم ..

     وتتحدث تقارير عن اوضاع البصرة التي تعد ابوابها مشّرعة للاختراقات الاقليمية .. وتتناول تقارير اخرى كل من الموصل وكركوك ومصيرهما بكل مكوناتهما ازاء مستقبلهما خصوصا وان تركيا تلّوح بين حين وآخر بمشكلة ولاية الموصل ( كانت ولاية الموصل تضم سناجق أي الوية : الموصل واربيل وكركوك والسليمانية ) وان  تدخلات تركية سافرة بعد ان تبلور للوجود قبل يومين : تكوين كردستاني سياسي معلن ، براية كردستانية تمّثل رمز اقليم كردستان العراق وبوجود علم العراق الجمهوري ( العلم الذي يمّثل رمز ولادة الجمهورية العراقية على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ) وغياب علم العراق الحالي .. ولكن كان التكوين الحكومي الكردي ببرنامجه نتيجة منطقية لصراع الدواخل الطائفية والمذهبية العراقية ، ولكن نخشى ان لا يكون الشرارة الحمراء التي ستحرك كل من تركيا وايران باتجاهه ..

     وبالرغم من اختلاف الاجندة الدولية بين تركيا وايران الا ان مصالحهما الاقليمية تقتضي تحركّا مشتركا ازاء أي تكوين سياسي في كردستان سيؤجج كل الاكراد في كل من تركيا وايران وسوريا .. وكأن الولايات المتحدة الامريكية تريد مباركة خفية لذلك التكوين حتى تسبب في اشعال حرب اقليمية تجعل العراق وقودها  مع اصرارها على وحدة العراق السياسية .. خصوصا ونحن نعلم ان تركيا تراقب حجم التدخلات الايرانية السافرة في العراق وبمباركة بعض العراقيين .. والكل يعلم بأن هناك ارادة شعبية جامحة للاخوة الاكراد من اجل الانفصال عن العراق ولكن القادة الاكراد اعرف بالنتائج من عموم الناس العاديين ، اذ انهم يريدون الاحتفاظ بعراقيتهم بالرغم من كل جموح شعب كردستان العراق للانفصال .

 

التقارير البريطانية

    تقول تصريحات وتقارير ومنها التي نشرها حميد غريافي في صحيفة السياسة ( ليوم 8 ماي 2006 ) فضلا عن تقارير اخرى لصحيفة جمهوريت التركية ( ليوم 6 ماي 2006 )  والصنداي تايمز ( ليوم 7 ماي 2006 )  : ان مسؤولا دفاعيا  بريطانيا  في لندن قد كشف النقاب عن ان السلاح الذي استخدمته عناصر عراقية من  " جيش المهدي " بقيادة السيد مقتدى الصدر لاسقاط الهليكوبتر البريطانية في البصرة, مدربة تدريباً جيدا في ايران او على ايدي مدربين ايرانيين في العراق, قد يكون واحداً من نوعين من الصواريخ او القذائف الصاروخية هما صاروخ" ستنغر " الاميركي المضاد للطائرات والمحمول على الكتف الذي يقابله في الترسانة السوفياتية صاروخ " سام 7 " والذي زودت به الاستخبارات الاميركية المجاهدين الافغان بكثافة خلال حربهم القديمة ضد السوفيات, ثم اشترت ايران الالاف منه بعد انتهاء الحرب الافغانية, او قاذفة " آر بي جي -7"  المستخدمة عادة في المنظمات والفصائل الجهادية الاسلامية في الشرق الاوسط ضد الآليات والدبابات والمدرعات, والتي بامكانها اسقاط مروحيات هليكوبتر اذا كانت تحلق على ارتفاع منخفض يقل عن 250 متراً.

ونتابع مع المسؤول العسكري البريطاني قوله : ان الهليكوبتر البريطانية التي اسقطت بأحد هذين السلاحين فوق منزلين في مدينة البصرة هي من طرز " لينكس إم ك 7 " التابعة لسلاح البحرية الملكية من الفرقة 847 ومقر قيادتها في قاعدة " يوفيلتون"  بمقاطعة " سامرست" البريطانية كانت تحلق على علو منخفض جداً فوق المدينة في مهمة خاصة يضطلع بها ثلاثة ضباط بريطانيين بالاضافة الى طيارها الذي يبدو انه اقفل جهاز الدفاع فيها الذي يحميها من الصواريخ والقذائف الموجهة اليها لاسباب فنية معروفة لدى وزارة الدفاع البريطانية.

       واكد المسؤول الدفاعي " ان تقارير استخباراتنا العسكرية في جنوب العراق اوردت اكثر من مرة خلال الاشهر الخمسة الاخيرة, معلومات وصوراً ومحاضر استجوابات لبعض المقاتلين الشيعة من جماعة مقتدى الصدر او فصائل شيعية مسلحة صغيرة تابعة مباشرة  لـ " للحرس الثوري" او للاستخبارات الايرانية, تكشف قيام الايرانيين بارسال مئات الاطنان من الاسلحة الى " جيش المهدي " ، وتلك الفصائل عبر الحدود العراقية, بينها كميات كبيرة من صواريخ ارض- جو وارض -ارض والغام ضد الآليات هي الاكثر تطوراً في الترسانة العسكرية الايرانية استعداداً لفتح معركة واسعة مع قواتنا " البريطانية"  في البصرة والمدن والمناطق الجنوبية الاخرى بسبب موقف الحكومة البريطانية المساند للولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي من المسألة النووية الايرانية المتأزمة الآن" . ان ايران تدفع بكل ثقلها لاشعال الموقف ضد البريطانيين ، وقد نشرت قبل يومين وبعد حادثة السقوط منشورات من قبل بعض الاهالي تنذر البريطانيين بالويل والثبور وعظائم الامور . بعد قراءتنا لمثل هذه المعلومات ، الا يحق لنا ان نسأل المسؤولين العراقيين عن دورهم في مجمل هذه التطورات الخطيرة . ثم الا  يحق لنا ان نسأل الولايات المتحدة ان تجّنب العراق أي حرب مهما كانت صفتها بعد اليوم ! ونحن نعرف انها تسعى من اجل استقرار العراق كابرز مستلزماتها الداخلية .

 

دور ايران في تلك التقارير :

      ونقل المسؤول الدفاعي البريطاني عن تلك التقارير تأكيدها : " ان بعض المعتقلين المهمين من كوادر مقتدى الصدر والخلايا التابعة لطهران اعترف خلال التحقيقات معه ان الايرانيين يركزون منذ بداية العام 2006 على تزويد حلفائهم الشيعة في العراق بجسور برية كثيفة من الصواريخ المضادة للطائرات والدبابات ومن صواريخ ارض- ارض قصيرة المدى حتى الان, تماماً كما ركزوا خلال عام 2005 على تزويد (حزب الله) في لبنان بأنواع متطورة من صواريخ ارض- جو اضافة الى صواريخ ارض - ارض متوسطة وبعيدة المدى, وبألغام شديدة التفجير في محاولة منهم لاستهداف طائرات او مروحيات اسرائيلية تخرق باستمرار اجواء لبنان " ( انتهى النص ) .

 هنا نسأل عن مدى صحة هذه " المعلومات " وحجم تأثير هكذا مضامين اذا صدقت التقارير البريطانية عن الدور الذي يمكن ان يلعبه جيش المهدي في شمال العراق وجيش حزب الله في جنوب لبنان ؟؟

 

هل من تطورات دراماتيكية في الايام القادمة ؟

     اعتقد ان صدقت هذه التقارير فان " الاسابيع القليلة المقبلة, وابتداء من هذه اللحظة, قد تشهد تطورات عسكرية دراماتيكية في العراق, وخصوصاً في جنوبه الشيعي بعدما بلغ التدخل الايراني العسكري والاستخباري فيه حدا من الخطورة يمكن وصفه باستعداد لحرب بين جيشين, لا بين قواتنا النظامية والقوات الاميركية من جهة مقابل ميليشيات مسلحة تخوض معنا حرب شوارع على اساس " اضرب واهرب .

  ونستطرد مع التقارير التي تقول  : "  بل اننا قد نواجه قريباً جيشاً شيعياً مكوناً من اكثر من 100 الف مقاتل اقوى من الجيش العراقي الراهن ومزوداً بأحدث انواع الاسلحة لطردنا من مناطقهم الشيعية  " .. وتؤكد التقارير ايضا ان ما سيحدث يعدّ "  تمهيداً لاعلان الاقليمين الشيعيين " الدولة الشيعية"  في الجنوب وبغداد اللذين يعمل الايرانيون كخلايا النحل فيهما من اجل تحقيق هذا الهدف" . !!  ويستطرد التقرير قائلا : " ان البريطانيين قد يجدوا  انفسهم خلال الأشهر المقبلة مضطرين مع حلفائهم في التحالف الدولي الى شن حرب اخرى بكل معنى الكلمة ضد هذا الجيش الشيعي تشبه الحرب التي اسقطت صدام ونظامه, والا فان المخطط الايراني في تقسيم العراق سينجح ويتحقق قيام " الدولة الشيعية الايرانية الجديدة " على حدود الكويت والسعودية, اي في قلب مصالح الغرب النفطية" ( انتهى النص ) .

 

وماذا عن جيش المهدي ؟

    تعلمنا تلك التقارير ايضا بأن "جيش المهدي" يتسلل الى الشمال لكسر جبهة أميركية - كردية ضد إيران .. لقد كشفت المخابرات العسكرية التركية من جانبها ايضا بان مقاتلي " جيش المهدي"  التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر بدأت تتدفق على شمال العراق لكسر جبهة تخطط القوات الاميركية بفتحها ضد ايران بالتعاون مع حلفائها الاكراد فيما سقط  مئات القتلى والجرحى في سلسلة اعتداءات دامية واعدامات ميدانية ذات طابع مذهبي في البلاد  . وبقدر ما تتوغل ايران في اعماق العراق لتحقيق اهدافها ، فان تركيا بدأت تكثّف جهودها باتجاه حدود شمال العراق .. " . وهنا ، لابد من تساؤلات مهمة لأي محلل لمثل هكذا اخبار تمثّل البدايات الحقيقية لأي انفجار كبير !! انني اريد من كل عراقي ان يتجّرد عن عواطفه وانتماءاته ليسأل نفسه : الى اين يسير العراق ان صحّت هذه المعلومات !

     ونقلت صحيفة »جمهوريت«التركية واسعة الانتشار عن مصادر في المخابرات التركية ان تحركات " جيش المهدي"  الميدانية في مناطق شمال العراق وانتشار عناصره المسلحة في مدينة كركوك تثير قلق الجيش الاميركي وحلفائه الاكراد. ( انتهى خبر الصحيفة ) . ان اللعبة باتت مكشوفة امام العالم فالصراع الطائفي في العراق تقف الولايات المتحدة امامه من دون أي حلول عملية له .. وتلاعب الاطراف بمقدرات المنطقة وبمقدرات العراق ، وبضرب طرف ضد الطرف الاخر .. وهي تعلن على الملأ انها لا تريد تقسيم العراق .. فهي في تضاد في اجندتها مع ايران التي من اكبر اهدافها تأسيس كيان تابع لها في العراق الوسيط والجنوبي .. وهي لا تريد ان تؤسس أي كيان سياسي للاكراد في كردستان العراق على حساب توسّعه لصالح كردستان الكبرى في سوريا وتركيا وايران وارمينيا .. اذن فلنا ان نسأل الولايات المتحدة عن مسؤوليتها في حالة  اشعال حرب اقليمية ! ؟

واين هي الادلة ؟

     لقد كان لتوغل القوات الايرانية في  الاراضي العراقية باقليم كردستان وتحّشد القوات التركية على طول الحدود العراقية ـ التركية معان تدّعم حالة التوتر الاقليمي وجعل المنطقة على حافة حرب اقليمية .. وبحسب ما نقلته الصحيفة التركية عن مصادرها فان" جيش المهدي " يخطط لاعاقة تشكيل جبهة اميركيةـ كردية ضد ايران مشيرة الى ان الحشود " الشيعية " المسلحة في كركوك هي جزء من اجراءات احترازية تتخذها طهران استباقا لاي حملة اميركية عسكرية عليها لانهاء برنامجها النووي " ! وهنا نسأل الاخوة في اقليم كردستان : هل ثمة مصداقية لمثل هذه المعلومات ؟ وان صحّت ، فلماذا يتم التعتيم عليها ؟ ان أي جزء من العراق يتعرّض لما لا يحمد عقباه سيؤثر مباشرة على كل اجزاء العراق الاخرى ، واعتقد ان العراقيين غير مستعدين لأن يخسروا أي شبر من ترابهم الوطني لحساب هذا الطرف او ذاك مهما كانت الاثمان .. وبعد كل هذا التاريخ المرير الذي سجلوه بدمهم واجسادهم ومواردهم وكل وجودهم  .  

     من جانب آخر ، ان اكتشاف المئات من الجثث مقطوعة الرؤوس وموثوقي الاطراف لعراقيين اعدموا باطلاق الرصاص على رؤوسهم بعد تعذيبهم والذين يعثر على جثثهم في مناطق متفرقة من العاصمة العراقية ومحيطها ،  هي حملة مسعورة لتحقيق هذا الهدف . . بينما تقف الحكومة الصورية مكتوفة الايدي في الكشف عن مسببي هذه الجرائم ، ولم تعلن الشرطة هويات وانتماءات الضحايا الطائفية .. اذ تتهم اجهزة رسمية ومتعاونة معها بارتكاب هذه الجرائم البشعة .. لقد باتت الاوضاع الامنية مهترئة عراقيا ولم تذع وكالات الاخبار الا ما يفيد بانهم ضحايا اعمال تصفية عرقية ومذهبية ، والتي باتت امرا شبه معتاد في بغداد .
واخيرا : نداء الى كل العراقيين


سواء صدقت تلك " التقارير " ام لا ، فان الاوضاع السياسية والامنية الحالية لا تبّشر بخير ابدا ، وانني اناشد كل العراقيين ان يلتفتوا الى شأنهم الموحد على مبادئ عراقية والحرص على بيتهم العراقي بمعزل عن أي ترتيبات خارجية اقليمية او دولية .. انني اناشد الاخوة الاكراد الاعزاء في اقليم كردستان العراق بعد ان ابارك لهم خطواتهم ، ولكن ليكونوا اذكياء في الالتصاق بالعراق فهو ظهيرهم وحاضنتهم ، وبكل العراقيين فهم سندهم ونصيرهم قبل فوات الاوان .. واناشد كل العراقيين الشيعة من العرب الاقحاح ان يجعلوا من كل العراقيين لهم سندا ومرتجى بعيدا عن أي اوراق تلعبها ايران في العراق ، فلا يمكن ابدا اخفاء كل المظاهر التي تريد ايران تمريرها من خلال العراقيين وعلى جثثهم ضد كل من الامريكان والبريطانيين .. واهيب بالعراقيين السّنة ان يجعلوا من كل ابناء العراق دمهم ولحمهم بعيدا عن كل الجماعات الارهابية التي تتحدث باسمهم ، وان يقفوا صفا واحدا باسم العراق لا باسم أي تنظيم او حزب او طرف معين .. واهيب بكل تكوينات العراق الجميلة صبرها واعتزازها بترابها وحواضرها وكل وجودها ..

     ان مشروع القتل لابد ان يتوقف مهما كانت الاثمان .. وليعرف كل العراقيين كيف يوازنوا بين الخصوم ، وان لا يجعلوا ارضهم وترابهم مستباحا لقوى وجيوش وجماعات ومخابرات .. تقود جميعها الى كوارث حرب اهلية مفجعة او اتون حرب اقليمية فاجرة . لقد اصبح الرهان اليوم بعد ان نضجت الاوضاع المأساوية قابلة للانفجار في حرب اقليمية بعد ان فشل الرهان على تفسيخ العراق من خلال حرب اهلية لا تبقي ولا تذر !!

     اهيب بالعراقيين كل العراقيين ان يعيدوا التفكير بمصيرهم ، ويضعوا كل الاحتمالات نصب اعينهم بعد مرور الماراثون الصعب لثلاث سنوات عجاف .. لا اقول بنسيان الماضي الصعب ، ولكن عليهم ان يتوحدوا من اجل بشاعة قابل الايام .. وليفسروا كلامي بمعنى واحد لا بمعان ملتوية من اجل ايجاد تبريرات ومسوغات لا قيمة لها امام هجمة التحديات .. فالهم العراقي لابد ان يحمله الجميع ولا اعتقد انني على خطأ في الذي انادي به  .. وعلينا ان نؤجل كل الاستحقاقات المحلية والجهوية والمذهبية ، ولنلتفت الى حاضنتنا بغداد كي تتنظف من كل الاشقياء وان نقدّم الاهم على المهم ، وليكن من العراق رجالات لهم قدراتهم ونظافتهم بعيدا عن أي انتماءات وتخندقات اوصلتنا الى ما نحن فيه .

     انني اطلب الى كل الاخوة من المعنيين والمهتمين والكتاب والاعلاميين العراقيين الكف والتوقف عن الكتابة في صغائر الامور وتوافه الاشياء  ، وليلتفتوا الى معالجة الامور الكبيرة بجرأة وشجاعة ومعرفة كيفية مواجهة التحديات .. وليعلم الجميع ان الوحدة الوطنية ليس قولا او دعابة او شعارا ، بقدر ما هي فعل حقيقي تمارس فيه كل التطبيقات العملية ليس لحماية العراق وحده ، بل لحماية كل جزء فيه  .. ان البقاء اسرى الاطر التي قيدتم انفسكم بها في هذه العملية السياسية سوف لن تمنحكم الفرصة الحقيقية لبناء استراتيجية وطنية عراقية موحدة  ان لم يسع كل عراقي للمطالبة بتطوير الحياة السياسية العراقية بدءا بالدستور وتصويب مبادئه ومرورا بتطبيقات سياسية متوازنة ووصولا الى تفكيك كل مؤسسات الاحزاب الحالية بكل اجندتها القديمة والبدء بحياة سياسية جديدة في العراق تعتني بالامن الوطني فيه قبل أي مستلزمات اخرى ..

ولكن السؤال : هل يستجيب القادة العراقيون الى مثل هذه المطالبات ؟ وهل يمكنهم ان يقتنعوا بكل الاطروحات التي كنا ولم نزل نطالبهم بها من اجل ايقاف الخراب ؟ اعتقد انهم صم بكم عمي وهم لا يفقهون أي استجابة ؟ والمصيبة انهم ازاء تحديات لا قدرة لهم على مواجهتها  فهل يمكنهم ان يتوقفوا  في روابطهم مع الاخرين ؟ وهل يمكنهم تجميد احزابهم للبدء بمرحلة طوارئ  تحتاجها كل البلاد حتى انقشاع المخاطر ؟ هل يدري هؤلاء بحجم المخاطر التي تهدد العراق ؟ واعتقد ان اجماعا شعبيا عراقيا اليوم مقتنع اليوم قناعة راسخة بأن من يقودهم اليوم غير مؤهل لمسؤولية قيادة العراق في اخطر مرحلة وصل اليها .. وسواء قبل مني خصومي ما اقول او رفضوا ، فالايام القادمة ستبين حجم الكارثة التي تنتظرنا ـ لا سمح الله ـ ، وعندئذ لا ينفع الندم . ويسرني ان اختتم ندائي ببيتين من شعر معروف الرصافي :

لا تعجبوا  فالأسى في النفس ملتهب       والعزم متقّد والهّم محتــــــدم
استبرد النار    من حّرت  عزائمـه       واستصغر الخطب من في نفسه عظم

 أتمنى من الله ان يحفظ العراق وان يرعى كل العراقيين بعنايته ، وان يخرجه واياهم جميعا بكل اطيافهم والوانهم وتنوعاتهم واعراقهم من هذه المحنة القاسية ، فالعراق لا يستحق كل هذا الاحتراق ، والعراقيون لا يستحقون كل هذه الفجائع والكوارث ..

www.sayyaraljamil.com [/b][/size] [/font]

229
من يحكي لي اليوم عن شارع الرشيد ؟
د. سّيار الجميل
 
عبقرية المكان الخصب

     عندما كتبت مقالتي عن شارع الرشيد في جريدة الزمان الغراء (العدد 1221، الاثنين 27 مايو / ايار  2002) سجّلت بعض افكاري عن خصبه التاريخي ودوره الحيوي في صناعة تاريخ العراق ابان القرن العشرين .. وطالبت بكتابة تاريخه من خلال ذكريات رجالات بغداد ونسوتها الذين كان بالنسبة لهم : شريان بغداد الحقيقي .. واليوم لابد ان نستعيد ذكريات تلك الجادة الشهيرة التي تعيش اليوم – كما سمعت – زمنا كئيبا نتيجة ما تشهده بغداد من اوضاع صعبة جدا .. انني اعتقد ان ليس الانسان يعاني لوحده ، بل ان المكان يعاني ايضا خصوصا اذا كان صاحب تاريخ ثر مثل شارع الرشيد الذي اختزل حياة العراق المعاصر كلها في القرن العشرين . وهو يعد من امهات شوارع الدنيا في قلب العاصمة العريقة بغداد التي سماها ياقوت بـ " سيدة البلاد " ! 
    لقد زخر شارع الرشيد بكل المعاني والاحداث والرجالات والابداعات والحركات والتفاعلات والسياسات والانقلابات والمسيرات والمظاهرات الكبرى والكرنفالات والاستعراضات العسكرية وكل انواع الثقافات المدنية .. شارع مانع جامع لم نجد كمثله ابدا في عواصم الدنيا مهما حاولنا المقارنة ووضع الامثلة والبدائل على الرغم من انه لم يمتلك الابراج العالية ولا العمارات الشاهقة .
انه بالرغم من بساطة ابنيته من ذوات الطبقتين وقدمها منذ تأسيسه عند اواخر العهد العثماني ، فهو شارع جمع الدولة والمجتمع معا على مختلف النقائض والتباينات والاختلافات .. شارع استلهم من الماضي اسم اعظم الخلفاء العرب المسلمين الذين سمى الغرب عهده بالعصر الذهبي !
    شارع هو شريان بغداد الحقيقي الذي استمر نبضه قرابة قرن من الزمن ، والذي تمتد منه جملة هائلة من الشرايين والاوردة ذات اليمين وذات الشمال ! شارع كان مزهوا من شماله حتى جنوبه الى جانب نهر دجلة وهو يتحرك مثل حركته الملتوية ويثور كثورات فيضاناته الهائجة .. لم يكن يهدأ ابدا لا في اعماق الليل ولا في سويعات النهار ..
شارع عرفه العالم من خلال كل اصدقائه ومحبيه وعاشقيه او حتى شخصيات من الشرق والغرب الذين كتبوا عنه وذكروه باطيب الذكر ولهجت السنتهم بامجاده .. اذكر منهم : المس غرترود بيل وارنولد ولسن وجاك بيرك واغاثا كريستي وارنولد توينبي ولونكريك وامين الريحاني وعلي الطنطاوي وعبد العزيز الثعالبي وانيس النصولي وزكي مبارك واحمد حسن الزيات ونزار قباني وسليمان العيسى وغيرهم ، وغنى له : محمد عبد الوهاب وعبد الغني السيد وام كلثوم ومحمد قنديل وفيروز وورده الجزائرية .. وغيرهم.
 
تاريخ متنوع من المشاهد والرؤى والمعاني
      اتساءل اليوم وقد مضت سنوات طوال على فراقي له وانا اسمع عنه كما يسمع غيري من ابناء وطني الحبيب ماذا حل به ؟ وما هي اخباره اليوم ؟ اتساءل : اليس حريا ان يكتب تاريخا حقيقيا لهذا الشارع وازدهاره على امتداد قرن كامل ؟ وبالرغم من كل الكتابات التي نشرت عنه ، اليس من الاجدى ان يعرف العالم كله ان شارعا عظيما في قلب الشرق شهد ما لم تشهده دولا بالكامل !! ؟؟
اليس من المهم ان يدرك ابناء جيل اليوم ان شارعا عظيما حرك تاريخا متنوعا لكل العراق لابد ان يحيا من جديد وان يستعيد عافيته وامجاده كما كان ؟
      لقد قلت في مقالتي عنه في العام 2002 : " اليس من غرائب الزمن ان لا يبقى في الشارع الا اسمه وقد تحول ـ ويا للاسف ـ الى ميادين للطفيليين والمخلوقات التي افناها الانسحاق تحت رهبة الحصارات وسطوة الممنوعات ؟؟ " !
تابعت مستطردا : " اليس من الحزن والاسى ان تموت الذكريات الرائعة في منافي العالم والشتات او حتى في اعماق دواخل احياء العراق عن شارع انجب اروع الساسة القدماء والاحرار والمناضلين الاقوياء  والادباء والشعراء المبدعين وامهر القضاة والمحامين واشهر الكتاب والمؤلفين والصحفيين والفنانين والمهندسين المعماريين ..
شارع ولدت فيه كل التجمعات والاحزاب الوطنية وتوزعت على جنباته مقاهي الادباء والمثقفين والتجار والصناع والحرفيين والشباب من الطلبة والدارسين .. وقامت عنده السينمات الشتوية والصيفية والمكتبات ودور الناشرين .. شارع كان يزمجر فيه كل العراقيين اذا غضبوا وتنبعث اصواتهم هادرة اذا عارضوا .. وتتهادى جموعهم في مظاهراتهم الصارخة اذا تحركوا .. " !
     تابعت اقول : شارع مرت فيه جنازات الزعماء الوطنيين او سحلت على قارعته اجداثهم او منه اطلقت النيران على سياراتهم .. شارع شهد كل الفصول الصعبة من عمر العراق المعاصر وكل الاحداث الرائعة والمأساوية في آن واحد ..
شارع لم يسلم من الصواريخ وقنابل الطائرات عند حروب نهايات القرن ..  شارع تنوعت فيه التماثيل والمنحوتات والرسومات لابرز رموز البلاد،  شارع ينادي اليوم واحدا من ابنائه المؤرخين الاذكياء ان يكتب تاريخه الوضىء المضيىء بكل تعددياته وتنوعاته والوانه واطيافه ومناخاته وتسجيلاته وصوره ووثائقه وذكريات كل الاجيال عنه " .
وعليه ، فمن يحكي لي اليوم عن زمنه الجميل وزحمته وسياراته وباصات اللي لاند الحمراء ذات الطبقتين وهي تمشي بهدوء في زحمته  وضوضائه ؟
 
والذكريات صدى السنين الحاكي

    ذكرياته .. نعم كل ذكرياته التي تلخص تاريخه الخصب منذ ان ولد عند بدايات القرن العشرين على يد والي بغداد الشهير خليل باشا مرورا باسماء حاراته وساحاته الشهيرات التي تطعمت كل واحدة منها بطعم ومذاق خاص بها .. بدءا من الميدان والوثبة وحافظ القاضي والسنك وانتهاء بالتحرير في قلب الرصافة الطيبة التي التحمت بجانب الكرخ العريق عبر جسورها الممتدة اليه على مياه دجلة ابو الخيرات .. ماذا نتذكر ؟
ذكريات ساسة وزعماء عراقيين عشقوا شارع الرشيد وروحه وبناياته ومروا به الى القشلة والسراي والبلاط ودار الحكومة ودواوينها ووزاراتها : ثلاثة ملوك ووصي على العرش كانوا يمرون به كل يوم .. نوري باشا وهو يقتني بنفسه الفواكه من دكان صاحبه كّنو بشارع الرشيد عند كل صباح بعد ملاطفته المحببة .. الزعيم عبد الكريم وهو يأبى الا ان يشم روائحه المنبعثة من مطاعمه الشعبية ويسعد باخذ وجباته فيها ..
وزراء ومسؤولون وقادة يتطلعون من نوافذ مكاتبهم الى ارصفته المزدحمة بالمارة .. شعراء العراق العظام ينهلون من عبقه ويساجل احدهم الاخر بكل قوة ومنعة وخصام الشرفاء مع جماعاته واحبابه وعشاقه : الزهاوي في مقهاه والرصافي في صومعته والجواهري في مكتبه والصافي النجفي على قارعته وحسين مردان في خمارته وحافظ جميل على بوابته وغيرهم..
وهناك من بعدهم في البرازيلية : السياب وشاذل وبلند وسعدي والبياتي وغيرهم ومن بعدهم :  شلش وسعيد وعبدالواحد والعلاق وغيرهم.
 
شارع لكل الاطياف

     المصور ارشاك وفوتوغرافياته التي تسجل عظمة شارع خلق للفن والحياة يتهادى فيه فنانون عظام وقراء للمقام الاصيل : القندرجي والقبانجي ويوسف عمر وحسن خيوكه وغيرهم ويشدو كل من ناظم وسليمه وزهور ولميعة وعفيفه ووحيدة وهيفاء ومائدة وغيرهم باصواتهم العذبة عبر الراديو .. موسيقيون اتوا من كل حدب وصوب ورسامون وتشكيليون عظام لم يعرف الشرق امهر منهم لا يطيب لهم الا المرور بشارع الرشيد ..
اقتصاديون يتفاعلون في ساحة القاضي وفي شارع البنوك ورجال قانون لا يطيب لهم الا العمل في مكاتبهم القريبة من غرفتهم العريقة : غرفة المحامين التي شهدت عبر الاجيال اعتى المجادلات السياسية .
      اما الادباء من الكتاب واللغويين والمؤلفين والصحفيين والمؤرخين ورجال الفكر والجامعة من نخب العراقيين فليس لهم يوميا الا المرور بشارع الرشيد حيث كل الصحف والمجلات والمنشورات والاوراق والتجمعات والمكتبات والمقاهي والمكاتب والمنتديات ..
اما التجار الكبار والصغار ، فتتوزعهم اوساط شارع الرشيد بكل اسواقه وتفرعاته ومغازاته القديمة والجديدة .. ولحركة السوق فيه طعم لذيذ يشترك فيه القاصي والداني وروح العمل والاروع منها كلها : روح الثقة والتعاون والفكاهة والتندر بين الجميع التي تتحسسها من رائعة اللهجة البغدادية الصرفة ..
      اما اذا تعمق المؤرخ الذكي في عمق المعاني ، فسيصل الى ان هذا الشارع الرائع الذي يؤرخ له قد بز كل شوارع الدنيا بروح الالفة والتعددية والتآخي الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية التي لا تجد لها أي لون من الاختلاف او اي طابع من الصراع كما كانت عليه :
عربان اصلاء من كل الالوان.. مسلمون متنوعون من كل القسمات .. مسيحيون متعددون من كل الملل ويهود بسطاء متحذلقون غير خائفين وصابئة من مهرة هادئين .. اكراد وتركمان وفويليون متآخون .. عرب شماليون وجنوبيون ..
شارع عرف ابناء المدن من : مواصلة وسوامرة ونجفيين وكربلائيين وكوفيين وتكارتة وعانيين وراويين ، وحليين وكوتيين وبصراويين ودياليين وغيرهم .. شارع بغدادي عظيم تآلفت فيه كل الاطياف وغدا هو نفسه العراق كله .. فمن يؤرخ له نكون له من الشاكرين .
وكنت اتمنى من صميم القلب ان اكون ببغداد حتى اكتب مجد تاريخ شارع الرشيد وموسوعته في القرن العشرين فاكون من الفائزين ! واذ نلتفت الى الساسة المؤدلجين فسوف تقف على جماعات الماركسيين من مناضلين ، فضلا عن قوميين ناصريين وبعثيين وحركيين .. كلهم لا يتحركون الا من الرشيد !

الشارع الطويل / الاصيل : جدل كل الطبقات

    ان هذا الشارع الذي لم يهدأ يوما باستثاء تلك الايام التي كان يمنع فيها التجول ايام الطوارىء والانقلابات والانذارات ، ذلك الشارع الذي عرف الغنى وعرف الفقر ، عرف المعابد المتعددة في النهار وعرف الملاهي والكابريهات في الليل .. عرف اصحاب الجد والعمل وعرف البهلوانيين وصناع الهزل .. عرف اروع المطاعم الشعبية المزدحمة والاكلات القديمة وشهرة ابن سمينة وعمو الياس  ..
عرف الكافيتريات واصحاب العصائر في النهارات .. وعرف الطيبين من اصحاب اللوكسات ودخاخين المشاوي الليلية .. عرف كل اصحاب المهن والوظائف والمناصب من المدنيين في قلبه الذي تجتمع هناك ابرز الوزارات والمديريات ، وعرف من العسكريين الذين يتهافتون بسدائرهم العراقية عند بوابة وزارة الدفاع ..
      عرف صفوة من الحرفيين المبدعين في شارع النهر الذي ينساب الى جانبه ، وثمة اهل مهن متنوعة منصاغة وساعجية وخياطين وطرازين وحلاقين .. حتى ينتهون عند السوق العتيق الذي يذكرنا بايام العباسيين ..
اما عند نهايات شارع الرشيد ، فكل الحانات والسينمات والمحلات الجديدة والفنادق والمقاهي الحديثة واورزدي باك وحسو اخوان ونايف بهنو واحذية حراق .. الخ وعند البعد يبتدأ شارع جديد يطل على دجلة ويقترن باسم الشاعر ابو نؤاس ، حيث نتطعم بنكهات من نوع آخر عند حوافي دجلة الخير ..
    لقد كان ميدانا حقيقيا لنهضة بلاد وادي الرافدين في القرن العشرين . انه شارع طويل ولكن لا يتعب ابدا من يقطعه من الشمال حتى الجنوب ، وهي امنية زائريه من ابناء المدن الاخرى الذين تمتعهم روحه وفضاءاته واصالته وقد جمع كل الاصناف والطبقات ويشعر اغلب الذين كتبوا عنه بأن نكهاته متعددة يحس بها المرء من حين الى حين اوان الليل واطراف النهار ..
لقد بدا الضعف يصيبه في العقدين الاخيرين من القرن العشرين ، وخصوصا ابان الحرب العراقية – الايرانية بفعل الاف مؤلفة من الطارئين الغرباء عليه وخصوصا في المربعة من الذين لا يعرفون قيمته التاريخية واختفاء عناصره القوية الحقيقية ، مع بقاء ديمومته سارية حتى اليوم ..
      واخيرا أقول : ان شارع الرشيد قيمة حضارية تاريخية في عمر العراق الحديث ، وان على الدولة والمجتمع معا ، العمل على اخصاب عناصره الحقيقية بتوفير مستلزمات ما يتطلبه أي عمل حضاري من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. وسيبقى شارع الرشيد عنوان تاريخ مجيد ورمز مكان عبقري للعراق كله في عهود مضيئة من القرن العشرين .         
 
www.sayyaraljamil.com[/b][/size][/font]

230
هل أخفقت العملية السياسية في العراق ؟
د. سيّار الجَميل

عوى الذئب فأستأنست بالذئب اذ عوى
وصّـوت انسان فكـدت أطيــــر
الاحيمر السعدي من شعراء الصعاليك الامويين

مقدمة :
لقد نفذ صبرنا ايها الاخوة .. لقد نفذ صبر كل العراقيين .. من هو الاهم يا صناع القرار في العراق : انتم ام العراق ؟ انتم ام شعب العراق ؟ لماذا اخفقتم في مسيرتكم المتعّثرة ؟ هل لم يزل هناك من ساذج يبسّط الامور في العراق امام العراقيين ؟ هل هناك من لم يزل يعتقد ان المشكلة عراقية بحتة ، ام ثمة اوراق يلعبها هذا باسم هذا الطرف الخارجي ام ذاك الاقليمي ؟ دعوني أسأل كمواطن عراقي ليس له من هدف الا استقرار العراق ومصلحة العراقيين .. ليس له من همّ الا وانجلاء القوات الاجنبية عن تراب العراق بعد عودة العراق الى حالة الاستقرار وطور البناء وبعد ان يصبح العراق كله حاضنة لكل العراقيين ؟ اذا كان الامريكان يعترفون بارتكاب اخطاء .. الم يحن الوقت ايها السادة للاعتراف بالاخفاق والاستعانة بمن ليست له اية اهداف غير الوطنية العراقية ؟ ولم تقف تساؤلاتي عند هذا الحد .. بل لابد ان يكاشفكم اغلب العراقيين الذين يريدون حلولا واقعية بعد كل هذا الطوفان الذي لا ادري كم تتحملون المسؤولية عنه .. وهنا ، لا اريد – كما يطالبني البعض – بذكر اسماء او تشخيص كتل واحزاب – وهذا ما لا افعله ، اذ لا يمكنني ابدا ان اقف مع احد ضد آخر . انني اضع علامات استفهام كبيرة على كل ما جرى ويجري ! انني لست ضد العملية السياسية في العراق ، ولكنني لست مع سيرورتها الحالية واخطائها ومشكلاتها التي تسهم في المزيد من الاخفاقات .
تساؤلات لا حدود لها
ماذا يمكن تسمية كل هذا الذي يجري في العراق ؟ ماذا يمكن للعراقيين ان يقولوا قبل غيرهم عن أوضاع بلدهم ؟ لماذا يتهّرب البعض من هذا الواقع المضني الذي يعيشه المجتمع ؟ ماذا تبّقى من الشعور الوطني الذي لم يزل يتشّدق به العراقيون ؟ هل المسألة لم تزل منحسرة بفلول وجماعات يسيئون للامن الوطني لتبقى العملية الامنية متهتكة ؟ لماذا لا يعترف الزعماء العراقيون بالتقصير امام الشعب وهم يتصارعون على السلطة كما يتنازع الأطفال على الحلوى أمام هذا العالم ، او كما يتصارع الديكة في ما بينهم على مرأى ومشهد العراقيين ؟ ماذا تبقّى من الخجل الذي كان من المفروض ان يكتسي به من يتجرد لحمل المسؤولية ؟ وأية مسؤولية هذه التي يقتحمها رجال من المجربّين ، غير متشاحنين وغير متعصبين او عصابيين وغير منتمين الى فصائل النظام السابق .. لضبط الحكم في العراق واخراج العراق من ازمته الصعبة ؟
وماذا ايضا ؟ متى تتحقق امنيات العراقيين ؟
لماذا لم يزل كل الذين يتجاذبون الادوار لتوزيع المناصب العليا والدنيا يفكروّن وكأنهم في صفوف المعارضة ؟ ماذا تبّقى لهم من رصيد يمكن ان يحمله ابناء الشعب العراقي قاطبة ازاءهم ؟ الى متى يبقى هؤلاء يتشدقون بالديمقراطية وحقوق الانسان ، وكأنهم صدقّوا انفسهم ان الشعب قد اختارهم هم انفسهم لحكم العراق ؟؟ من دون ان يفكروا يوما بأن انضواء اسماءهم في قوائم وما جرى من تصويت الشعب على قوائم تسمّت كل قائمة باسم طيف او كتلة او مرجعية او قومية .. اذ وجدوا انفسهم فجأة في هذا المكان الذي لا يحلمون به ابدا ؟ لم ادافع عنهم في يوم من الايام ، بل كنا وما زلنا ندافع عن " شعب " كان وما يزال يغرر به تحت " شعارات " براقة فيخرج بالملايين حينا للهتاف باسم زعيم ، او للمبايعة لقائد ضرورة ، او للاستفتاء على دستور لا يدرك مضامينه ، او خروجهم تحت النار لانتخاب قوائم اعتقد واهما انها تنقذه من مصائبه .. شعب وجد نفسه فجأة يكره بعضه بعضا الى درجة القتل واستخدام التهجير والتطهير العرقي والطائفي .. الى متى يبقى اولئك الذين خرجوا علينا وجعلوا انفسهم ساسة ومثقفين ونخبا جديدة بديلا عن مثقفي وساسة السلطة الراحلة ؟
هل من استعادة التفكير ايها العراقيون ؟
ان ما يستخدم من ادوات ارهاب سياسي وفكري وطائفي لدى العراقيين اليوم يجعلنا نعيد التفكير في كل هذه العملية السياسية التي لم تزل يباركها من اغمض عيونه عن الحقائق ولم يعد يسمع او يرى ما حلّ في البلاد من انقسامات مريعة لا يراها الا من يعرف معنى العراق تاريخا ومجتمعا وجغرافية ! صحيح ان الأفواه العراقية كانت منغلقة على امتداد أربعين سنة ، ولكن ان تصبح هذه الافواه معبّرة عن انقسامات حادة في المجتمع فان جناية زعماء اليوم ستتحمل آثارها الاجيال القادمة ! ان استمرار الاوضاع يسير من سيئ الى أسوأ لابد ان يعترف بذلك كل الذين ما زالوا يتشدقون بتطور العملية السياسية في محافلهم وفضائياتهم وصحفهم ولقاءاتهم التلفزيونية .. وعليهم ان يعترفوا بأن المسألة ليست مسألة حمائم سياسية ديمقراطية وديعة أو ذئاب أرهابية دموية متوحشة ، بل ان هناك من يوّفر الظروف لولادة التوحش بكل غلوائه في العراق !
ان الاوضاع لا يمكنها ان تصلح بالسهولة التي يتصورها الناس ، كما وعدوا دوما .. ونحن ندرك كم عّول الناس على كل خطوة يخطوها القادة الجدد الذين يقدمون دوما مصالحهم الشخصية والفئوية والقومية والطائفية والحزبية والكتلوية على مصلحة العراق التاريخية ومصالح العراقيين العليا .. وكانوا وما زالوا يخدعون كل العراقيين بأن وراء كل خطوة سيقضى على الارهاب وعلى كل الجماعات والعنف .. ولكن تأتي الصورة معاكسة ليس لرغباتهم واهوائهم ، بل لامنيات شعب صبور تعب جدا من كل واقعه المضني بعد تاريخه المؤلم .. وانه شعب مسكين لا يعرف طريق الخلاص ..
المشكلة ان الزعماء الجدد وكل اولئك الذين انتخب الشعب قوائمهم لا يعترفون بما في العراق من مشكلات صعبة جدا لا يمكنهم حلها ابدا ، لأنهم غير مؤهّلين للزعامة وغير مؤهلين ابدا لحل ما يوجد في العراق من تعقيدات صعبة جدا .. انني مع احترامي لهم جميعا ، لابد ان اقول لهم بانهم اضعف من ان يدركوا موروثات العراق الصعبة وحقائق العراق المعقّدة واساليب ادارة الازمات وممارسات الانفتاح على الشعب العراقي .. وانهم اضعف من ان يدركوا تجارب زعماء العراق السابقين الواقعيين الذين كانوا يدركون معنى العراق وطبيعة مجتمعه ونسيج علاقاته ..
معالجات التأسيس لم يؤخذ بها
بعد شهرين فقط من سقوط النظام السابق على ايدي قوات التحالف وهيمنة الاحتلال الذي اعترف هو نفسه انه " محتل اجنبي " ، نشرت ورقة ازعم انها مهمة جدا ، واسميتها بـ " منفيستو العراق : من اجل ستة مبادئ وطنية " ( انظر : جريدة الزمان ، العدد 1532 بتاريخ 16 حزيران/ يونيو 2003 ) وكنت انشر طوال السنوات الثلاث التي مضت – كما هو حال غيري من العراقيين - عدة مقالات تمّهد لتأسيس جديد على مرتكزات مدنية وحضارية لا يمكن للعراق ان يحيا من دونها .. وكنت اتمنى صادقا ان يمضي بتنفيذها العراقيون ولم يكن الانقسام الاجتماعي والسياسي والثقافي والاعلامي قد حصل بعد .. ولكن ـ ويا للاسف الشديد ـ لا المحتل سمع للعراقيين المستقلين ولا زعماء الاحزاب ( المعارضة ) سابقا قد سمعت او استأنست لغيرها في فتح خارطة طريق جديدة للعراق !! انني اعتقد ان مصير العراق والعراقيين ما كان ليكون هكذا لو استمع كل من الطرفين للاراء والافكار الحيوية التي كانت قد عرضت من قبل اناس لا مصلحة لهم الا العراق ، ولا هدف لديهم الا خدمة العراقيين من بعد آلاف الاميال .. صحيح انها افكار قليلة ، ولكنها انبثقت عن مصداقية وطنية ونظافة سياسية واجندة شجاعة كانت ولم تزل تعمل من اجل المجتمع لا من اجل احزاب او كتل او طوائف او اجندات ..
لقد كنت ولم أزل أطالب العراقيين بالاجتماع على مبادئ وطنية لا حيدة عنها ، وهي مرتكزات لتأسيس وطني ومدني وحضاري .. وان تتنازل كل الاحزاب والكتل العراقية الحالية عن اهدافها التي تسوّقها باسم العراق والعراقيين لأي اجندة انقسامية او طائفية أو قبلية او شوفينية او كتلوية او هيئوية ، وعليها ان تحل كل الميليشيات والذيول التي كانت قد تكونت في ايام وسنوات المعارضة .. فما دامت مؤسسات الدولة السابقة قد انهارت وانحل الجيش السابق وتفتت الكيان السياسي السابق .. فلابد ان تتبدل كل اجندة من كان يعارضه لتحقيق اهداف جديدة ، فلقد انتفت الاهداف السابقة .. بل لابد من بدائل جديدة وهي بدائل وطنية لتحّل بديلا عن المؤسسة الحاكمة السابقة وليكون الاختلاف في داخل البنية الجديدة لا الاختلاف حول تلك البنية .. انني اعجب من البعض عندما سئل قبل يومين عن تفكيك واحدة من المليشيات ، اجاب بالنص : انني اعتبر ميليشياتنا مقدسّة !!
العراق ملكا للجميع
ان العراق حتى يومنا هذا وبعد مرور ثلاث سنوات لم يتفق خلالها العراقيون على مبادئ وطنية يمكنها ان توصل العراق الى شاطئ الامان ، لقد زاد من المعضلة : اجراء طبخات سريعة في اجواء متشاحنة وفقدان الامن والنظام للوصول الى اهداف محددة .. وكّنا نتأمل ان يتضمن دستور العراق الدائم تلك المبادئ المدنية العراقية الحقيقية التي لا يمكن ان يجد أي عراقي نفسه خارجها مهما كان طيفه ، ولكنني اعتقد ان ملايين العراقيين اليوم يجدون انفسهم خارج اطار ذلك الدستور وفي مقدمتهم اولئك الذين يؤمنون بعراق مدني لا تلعب به اية محاصصات ، ولا تذبحه اية انقسامات اجتماعية ولا يقامر باحتساب العملية السياسية على اساس الاغلبية والاقليات ..
انني اسأل : هل كان العراقيون ليختاروا المبادئ التي اتفق عليها معارضو الحكم السابق في مؤتمر لندن لو نجحوا في قلب نظام الحكم السابق بأنفسهم ؟ وهل كان زعماء العراق اليوم يحلمون ان يحكموا العراق لولا اعتمادهم على الولايات المتحدة الامريكية .. انني اعترف بأن بعضهم له صفحات نضالية ولهم ادوارهم السياسية الشجاعة ، ولكن ثمة اسماء لم نسمع بها ابدا جاءت من خلال شركات خاصة وعيادات والقاء مواعظ وصفقات تجارية .. واتفاقات جرت قبل ايام من احتلال العراق .. هل يمكن للقادة العراقيين اليوم انكار ادوار اولئك العراقيين الذين يعّدون بالالاف المؤلفة وهم من الذين عارضوا النظام السابق او اولئك الذين اختلفوا معه وخرجوا من اطواقه وتعرضوا للملاحقات والاضطهاد ؟؟ ويجدون انفسهم اليوم مهمشّين بل ومضطهدين ايضا .
مسلسل مخطط له أم سيرورة فوضوية ؟
هل يمكنكم ايها العراقيون ان تراقبوا مثلي الاطروحات التي جرى تداولها منذ سقوط النظام السابق حتى اليوم ، فالهدف الذي تحقق باسقاط نظام صدام حسين ، بدأ الانطلاق في ظل الاحتلال بتشكيل حكومة مؤقتة من اجل تأسيس حكومة دائمية ، فتأسس مجلس الحكم بكل ما حفل به من اخطاء ورزايا .. لينفض بعد كان تشكيله على اسس محاصصة مضادة للمشروع الوطني ، وعدّ صدمة من خلال تطبيقاته المزرية في الوزارات الاولى , وفي العام 2004 ، مرّ العراق بمشكلات صعبة اعتبرها القادة العراقيون والامريكان انها مجرد مشكلات ستزول بعد الانتخابات ! وجاءت سنة 2005 لتحمل اجندة جديدة ما كان يعلم بها العراقيون .. والعراقيون ينتقلون من طور الى آخر ضمن انقسامات في الشارع وفي المناطق ، وتكّرس الانقسام في لجنة كتابة الدستور التي اخرجت دستورا اعتبره اصحاب العملية السياسية انه المنقذ الاساسي للعراق ، واذكر انني اعترضت عليه اعتراضا شديدا ومعي نخبة من السياسيين المستقلين في تموز / يوليو 2005 .. اذ انه يحمل تناقضا صارخا بين الديمقراطية والدين !
وجرى في نهاية العام 2005 الاستفتاء عليه لينتهي المخاض منه بالموافقة مع معارضة واسعة لسبب واحد انه يكّرس مشروعا للانقسام لا يقبله العراقيون . وعندما دخل العام 2006 ، بدأ الحديث فاضحا عن الانقسام أي انقسام العراق لدول ثلاثة .. وكأنه الحل السحري الذي سينقذ العراقيين من دون ان يعي اولئك الذين يطالبون بهذا " الحل " ، انه هو الذي سينحر العراق كله ، وان كل ذلك هو الثمن التاريخي ، وكأن العملية مرتّبة ضمن خطة مرسومة لتحقيق هدف معين .. ولا يخفى على اللبيب انه بقدر ما افتقدت العملية الامنية في العراق بقدر ما تقدمت العملية السياسية على حساب الوصول الى ذلك الهدف من دون أي شعور وطني .. والمشكلة ان كل ذلك يمّرر سريعا باسم الديمقراطية والدستور .. من دون ان يسأل المسؤولون انفسهم : هل يمكن تنفيذ أي عملية سياسية في ظل أوضاع شاذة ؟ ومن دون ان يجدوا مثالا تاريخيا واحدا مشابها نجحت فيه العملية السياسية على امتداد تجارب العالم كله . لقد وصل اليوم رأي بعض العراقيين ان لا علاج لا الانقسام المناطقي نتيجة التفسخ الحاصل .. فكيف يمكن حتى لهؤلاء ان ينحروا العراق من اجل الخلاص ؟؟
وأخيرا : هل فات القطار ؟
كنت اتمنى على العراقيين ايضا ان يكونوا اكثر دقة في اطلاق التصريحات ونشر المعلومات الخاطئة التي لا حقائق لها من دون ان يعلموا انهم باسلوبهم ذلك انما يهيجون مجتمعهم ويضربون هذا بذاك .. جملة هائلة من المعلومات جرى تداولها مأخوذة من الخارج عبر قنوات لا حصر لها ، يذيعها اناس يتقصدون نشرها ليتداولها العراقيون كانها حقائق فتكون بمثابة وقود للنار المستعرة في القلوب .. ولعل من ساهم ولم يزل يساهم بمثل هذه العملية الاعلامية الوبائية : فضائيات اختصت باثارة النعرات وتهييج الرأي العام وبث مجموعة اقوال وتصريحات مسمومة .. اذ اصبح كل عراقي يعتقد انه مضطهد من قبل العراقي الاخر .. هذا اذا استثنينا فقدان الامن والنظام وارتكاب كل الموبقات التي لم يعالجها احد ، اذ اصبحت مناطق عدة في العراق خاوية من اية سيطرة . ولا اذكر هنا ما يعانيه كل العراقيين من انتفاء الخدمات التي لم اجد مسؤولا واحدا يعمل من اجلها .
السؤال الان : هل فات القطار على العراق والعراقيين ؟ ربما خسر العراق واهله كثيرا من احلامهم وازمانهم وآمالهم ومواردهم .. ولكن لم يزل هناك متسع من الزمن لمعالجة الامور ، واستدراك الاخطاء متمنيا على الجميع ان يعترفوا بما جنوه على العراق بعيدا عن استعراض العضلات وتمجيد الادوار . وما زلت اطالب الحكومة الحالية بالتحقيق في امور طالبناها بها ، من دون أي اصغاء لأية كلمة ، وكأن من ينتقد الوضع القائم يدخل في عداد الكافرين ! اتمنى على الاخوة الذين يتشاحنون اليوم من اجل المناصب وقد تركوا العراق لمصيره المؤلم ان يتفقوا على أي صيغة للخروج من النفق المظلم .. ولتتشكّل حكومة عراقية تفني نفسها من اجل العراق وخدمة العراقيين والبدء بصفحة جديدة تختلف عن كل الصفحات التي مضت . فهل سيتحقق ذلك ؟ انني اشك في ذلك .
www.sayyaraljamil.com [/b] [/size] [/font]


231
مكاشفات
من اجل حكومة طوارئ وطنية

أ.د. سّيار الجميل

     بادئ ذي بدء ، لابد ان يدرك الجميع بأنني لست ضد أي عملية سياسية لتطوير البناء السياسي في العراق ، ولكنني ناديت طويلا بأن تطور أي عملية سياسية لا يمكنها ان يحصل في ظروف امنية صعبة ، وقد زادت العملية السياسية من انهيار الاوضاع لكي يغدو العراق مذبوحا بأجمعه . لقد حصلت على نسخة من البرنامج السياسي الذي اتفقت عليه الكتل السياسية العراقية ..
ونحن ننتظر ولادة الحكومة العراقية الجديدة التي طال الزمن من اجل تشكيلها ، في حين تشكّلت وزارات وحكومات غيرها  في المنطقة .. ان المشاكل والانقسامات التي تعصف بالعراق اليوم قد أخّر هذه " الولادة " التي لا نريدها ان تكون وزارة عادية في مثل هذا الظرف الصعب جدا من حياة العراق .. بل لابد ان تكون حكومة انقاذ وطني تسعى الى استعادة الامن والاستقرار للبلاد ، وتعالج الاسباب والعلل التي خلقت هذا الوضع الشاذ لها .
واذا كانت الكتل السياسية العراقية قد اتفقت على برنامج سياسي معين ، فلابد ان نتساءل : هل ان العراق بحاجة الى برنامج سياسي ام اولويات وطنية .. دعونا نعالج هذا " البرنامج " بهدوء لنرى مدى فائدته او ضرره . وليعلم كل العراقيين بان الديمقراطية لا يمكنها ان تطبخ على مراجل تغلي في كل جزء من اجزاء العراق !
      لقد اشار البرنامج المتكون من 33 فقرة الى : ضرورة ان يكون تشكيل حكومة الوحدة الوطنية استنادا الى مبدأ المشاركة وتمثيل المكونات العراقية اعتمادا على اساس الاستحقاق الانتخابي ومقتضيات المصلحة الوطنية و العمل وفق الدستور والالتزام به.
يبدو لي ومن خلال رؤية بعيدة ومعمّقة للاحداث ان هناك اتجاهان يسودان في العراق :  اتجاه يمتلكه الشعب وهو يأمل ببرنامج عراقي يؤمن مصالح العراقيين في الامن والاستقرار اولا واخيرا .. واتجاه يتصارع من اجله السياسيون العراقيون وهو يأمل ببرامج سياسية تلبي مصالح فئوية معينة ، وكلها تسعى للمغانم والمناصب وتقسيم الحصص ..
     وعليه ، فمن هذا الباب يمكننا تحديد مستلزمات كل من الاتجاهين .. بل ونطمح ان يلتفت الساسة العراقيون الى ابناء شعبهم الذي نخشى ان تأكله التمزقات الدموية يوما بعد آخر ، وهم في غيهم يعمهون ! انني واثق تمام الثقة بأن أي حكومة عراقية سواء تسّمت بالوطنية ام بغيرها سوف لن تنجح ابدا اذا بقيت تعبر عن ولاءات حزبية وطائفية ومذهبية وجهوية وعرقية لا عن ولاء للعراق نفسه .
ومهما تنّصل الساسة العراقيون من هذه الولاءات بادعاءاتهم انهم مع العراق .. فان العراق يطالبهم بتشكيل حكومة طوارئ وطنية من رجال مستقلين عسكريين ومدنيين .. ولكن ؟
دعونا نسجل ملاحظاتنا على الفقرات الاولى من النص الكامل للبرنامج الذي يفتتح بيانه بالقول :"حكومة الوحدة الوطنية هي الحكومة التي تشكل من مجموع القوائم الفائزة في الانتخابات والتي تعلن التزامها بالمبادئ والأسس التي يتشكّل منها برنامج وسياسة الحكومة .
    انني واثق تمام الثقة بأن " الدستور العراقي " والالتزام به سيقدّم العملية السياسية  في العراق ، ولكن في ظروف هادئة ، ولكنه سوف لا ينقذ الوضع في ظروف امنية سيئة ، بل سيزيدها سوءا نظرا لأن نسبة عالية من الشعب العراقي رفضت هذا " الدستور " ، وان مجرد الاشارة الى أية تعديلات يعني وجود خلل ، ومن الصعب جدا على من ينتظر ويطمح لتغيير الدستور  تصّور ان تلزم التعديلات وفقا للقانون  لاحقة ستجري وفق المادة 142 من الدستور.
وعلى كل الاخوة ان يدركوا بأن المسألة مصيرية ومستقبلية لوجود كل من الدولة والمجتمع . وان أي وزارة ستتشكّل من قبل الكتل السياسية الحالية سيبقى الوضع سيئا ، بل سيسير العراق من سيئ الى أسوأ !
 ان تشكيل حكومة وحدة وطنية في النقطة الثانية ، والأخذ بمبدأ المشاركة وتمثيل المكونات العراقية اعتمادا على أساس الاستحقاق الانتخابي ومقتضيات المصلحة الوطنية.
وهنا لابد من القول ، بأن الاسس الاولى التي اعتمدها المشّرع العراقي والتي تمّثل الحكومة العراقية هي نفسها التي كان يكرّسها مجلس الحكم ..
ان أي مبدأ يسمح بالمحاصصة سيودي بالعراق الى المهالك اذا استمرت الحالة وستشتعل اكثر دوامات العنف .. لقد سمعت قبل قليل بأن المداولات الحاصلة حتى الان تخص المبادئ العامة ولم يتطّرق الفرقاء الى توزيع الحقائب الوزارية ..
فهل يمكن تخّيل ما يجري بين كل هؤلاء الذين يتداولون من دون أي نتائج والعراق يحتدم في كل دواخله .. عندما تتهدد دواخل العراق ، فلا يمكن ان يبقى الساسة يسترسلون الكلام ، بل لابد ان يتنازل الجميع عن اجندتهم السياسية من اجل حالة طوارئ للعمل من اجل انقاذ البلاد ..
  ان النقطة الثالثة تجعلني اتساءل : كيف يتم السير قدما في سياسة الحوار الوطني ؟ وكيف يمكن توسيع دائرة الاشتراك في العملية السياسية والعراقيون يتساقطون يوميا ؟ هل المشكلة في العملية السياسية ايها القادة الجدد ام ان المشكلة في المبادئ اصلا ؟ وهذا ما اشعل الاوضاع ..
كيف تنادون للسير في العملية بما ينسجم مع الدستور والمشكلة اصلا في الاعتراض على الدستور من قبل ملايين العراقيين ؟ ان المشكلة ليست في بناء عراق حر تعددي اتحادي ديمقراطي وبروح المصالحة والمصارحة .. وبالرغم من ايماني بذلك ايمانا شديدا ، فهكذا عراق لا يبنى بالكلام المعسول والتمنيات الجميلة والمقالات الصحفية دفعة واحدة ، بل ان ما يمّر به العراق لا يسمح ابدا بتحقيق ذلك ..
ولمن يقال هذا الكلام ؟ هل تتبادلونه بين انفسكم ايها القادة الاعزاء ؟ انكم بأمسّ الحاجة الى اعادة النظر بالعملية برمّتها .. انكم تذكرون بأنكم راهنتم على كل حدث وخطوة على استقرار الوضع .. والوضع يزداد سوءا !
الا تفكرون بأن كل الخطوات التي مضت بالرغم من كل نجاحاتها ، ولكنها كانت تسير بالاتجاه المعاكس ، أي : في طريق خاطئ .. اذ لا يمكن ابدا المضي في صلب هكذا عملية سياسية نحن نؤمن بها ايمانا حقيقيا ، ولكن في ظل اوضاع امنية كانت تمضي من سيئ الى أسوأ ، وكم نادينا ؟ وكم كتبنا ؟ 
 وأسألكم حول ما ذكرتموه في النقطة الرابعة : هل يأتي نبذ العنف وإدانة الإرهاب بكل أشكاله بالكلام الذي لم يعد يجدي نفعا ؟
انكم ما زلتم تنادون بإيجاد " كل الظروف الملائمة لترسيخ روح المحبة والتسامح بين أبناء الوطن مع احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان " . ولكن من هو المسؤول عن البلاد ؟ من ذا الذي يسعى لايجاد كل ما تريدون ؟ اتخاطبون انفسكم يا سادة ؟ من يرسّخ روح المحبة والتسامح ؟ أليس انتم أول من يبادر ؟ أي محبة وتسامح يجمعكم ؟
انتم صنّاع القرار ، فان كنتم اعجز عن استعادة الامن والاستقرار والنظام كحكومة مدنية ، فينبغي تشكيل حكومة طوارئ لضبط كل العراق ، وسيقف معها كل الشعب من اجل استعادة روحه الوطنية وأمنه واستقلاله وحرياته ..
سأتوقف الان لأن ما ذكرتموه من نقاط شبعنا سماعها منذ ثلاث سنوات  .. وربما يسألني احدكم : ما العمل ؟
وحبذا لو تسألون وما خاب من سأل عن أي مقترح يمكن ان ينفع .. اقول لكم كما قلتها لكم في شهر تموز 2005 على شاشة فضائية الحرة ايام الاستفتاء على الدستور : لا يمكن للعراق ان يجد الراحة والاستقرار ابدا حتى ان انقسم ـ لا سمح الله ـ كما ينادي بعض العراقيين بالانقسام علاجا !
الا من خلال حكومة انقاذ طوارئ وطنية من عراقيين مستقلين ووطنيين عسكريين ومدنيين لا علاقة لهم بالاحزاب والكتل الموجودة ، ويصح اشتراكهم بكل فعّالية ولكن بعد انفصالهم عن اجندة الاحزاب والكتل الحالية ، وان يعيش العراق لمدة ثلاث ـ اربع سنوات مؤجلا الاستمرار في خطواته السياسية الى حين فرض احكام الطوارئ والدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة حول طبيعة وجودها في العراق ..
ولابد لي من القول ان تأجيل العملية السياسية ليس معنى ذلك إلغاءها  ، بل تهيئة الظروف الامنية المستقرة لاستئناف خطواتها ..
     انني اقول بأن أي حكومة دستورية او أي حكومة وطنية من الكتل والاحزاب الحالية سوف لن يحل مشكلات العراق وازماته وصراعات مجتمعه .. ان حكومة طوارئ هي التي ستعالج الاوضاع حسب برنامج غير سياسي ولكنه برنامج امني وقانوني ، وهي التي يمكنها ان تسكت الحرب الطاحنة اليوم في العراق وتؤهل العراق للخطوات الدستورية والسياسية .
واريد ان اطمئن من يخالفني الرأي من الاخوة العراقيين ، بأن علاجا كهذا لا يمكنه ان يخلق دكتاتورية جديدة في العراق ، فالعراق قد مرّ بتحولات سياسية غاية في الخطورة ، وان المجتمع يريد الامن والاستقرار والخدمات قبل كل شيئ ، وان حكومة طوارئ وطنية من الرجال المستقلين عن الاحزاب سيحّل مشكلة الصراع الداخلي نهائيا ويؤهل البلاد للبدء العمل بالدستور واستمرار العملية السياسية ..
انني استميح الشعب العراقي ان يتقّبل مقترحاتي بروح نظيفة مع احترامي الشديد لارادته الوطنية ، ولكن للضرورة احكام وسيحاسبنا التاريخ ان عجزنا عن اي اجراءات انقاذ .. وعلي الشعب العراقي ان يقول كلمته  اذ لا يمكنه ان يبقى صريع التمزقات ، والاخوة القادة من الساسة العراقيين مشغولون بالاستحقاقات السياسية وصراعهم من اجل السلطة .. فمن سيذكر هذا في يوم من الايام ؟
 
أ.د. سّيار الجميل
مؤرخ عراقي[/b][/size][/font]

232
من يوقف مسلسل انفجار العراق ؟
أ. د. سّيار الجميل

      ان ما حدث ويحدث في كل عموم العراق في شماله ووسطه وجنوبه بقتل ونحر العراقيين من خلال تفخيخ السيارات والشاحنات والاشخاص والحيوانات .. وتفجير المؤسسات والاجهزة هو جزء من خطط منظّمة تشترك بها مجموعات متنوعة من الارهابيين الذين وجدوا في العراق بيئة صالحة لعملياتهم ليس ضد الامريكيين وحلفائهم بقدر ما وجدوها لعبة صالحة لتمرير اهدافهم الشريرة ضد العراق والعراقيين .. وهم بهذا وذاك يلقون دعما معنويا واعلاميا قذرا في اجزاء من هذا العالم ومن اولئك الذين يعتبرون هذه العمليات الدموية الارهابية مشروعات لتحقيق اهدافهم  .. وكأنهم استرخصوا دماء العراقيين بهذه الوسائل التي يبررون بها غاياتهم المتعددة ؟؟ مهما كانت تلك الغايات .
    ان ما حدث على امتداد ثلاث سنوات من سقوط النظام السابق من تفجيرات واعمال عنف قاتلة ضد المؤسسات العراقية وضد العراقيين .. او حتى ضد الامم المتحدة والصليب الاحمر وبعض السفارات ومراكز الشرطة ودوائر المحافظات ومقرات ألاحزاب .. الخ وضد ابناء المجتمع في الشوارع والاسواق والجوامع والحسينيات ومجمعات النقل والموصلات .. ناهيكم عن عمليات الخطف والقتل ..   وكلها تعّبر عن مأساة ضد العشرات من المدنيين ومصرع هذا العدد الكبير من  العراقيين  انما هو جريمة لا تقّرها لا الاعراف ولا الشرائع ولا الدين الاسلامي ولا اي عقائد ونظم واخلاق .. ان هذه الجرائم الارهابية التي اتخذت لها من العراق بيئة صالحة لتحقيق مآربها هي التي لابد ان تدان من قبل كل الشرفاء .. ان مصرع العشرات من الناس من دون جرم ولا سبب هو جريمة بحق مستقبل العراق والعراقيين الذين ينتظرون الخلاص من هذه الاحوال ليس من باب توزيع الادانات حسب ، بل من باب توسيع الاجراءات وفرض الامن والنظام في كل العراق وخصوصا في المناطق الحساسّة التي قابلة للتفجير .. واستعدادها لممارسة هذه العمليات !
الارهاب  : لماذا في العراق ؟
    ان هذه الظاهرة التاريخية التي يتفاقم أمرها بشكل متّهور في هذا العالم وعند مفتتح القرن الواحد والعشرين قد جعلت من العراق – كما يبدو – بيئة حقيقية لها اليوم وخصوصا بعد ذاك الذي حدث في التاسع من ابريل 2004 .. وكانت اولوياتها قد حدثت في نهايات عهد الرئيس كلينتون ووصلت الى ذروتها يوم 11 سبتمبر 2001 .. وكان المفروض ان تغدو افغانستان بيئة صالحة للارهاب وتصفية حساب صراع الحضارات هناك عام 2002 ، ولكنها لم تكن مؤهلة لا من الناحية الحضارية ولا من الناحية التاريخية ولا السكانية ولا الاستراتيجية كما حدث في العراق  ، اذ غدت هذه الظاهرة مشروعا مؤجلا حتى تبلور تداعيات الحرب وسقوط النظام السابق عام 2003 .. وغدا العراق الذي لم يستطع الامريكيون احكام قبضتهم عليه وعلى حدوده وكأن النظام والقانون مشروعا مؤجلا .. وسوء ما اتخذوه من قرارات اذ فتحوا الباب امام الانتقال من اسوأ الحالات الى اكثرها سوءا  .. فهل من المعقول ان يسقط نظام حديدي قوي مثل النظام السابق في العراق وقياس وضعه كسقوط حكومة طالبان الهزيلة في افغانستان ؟؟ وهل من العقل ان يغدو العراق من دون سلطة ولا قانون ولا ضبط ولا ربط لشهور من الزمن ؟؟ هل من المعقول التعامل الامريكي مع الوضع تعاملا طبيعيا ؟ هل من المعقول ان تنفتح ابواب العراق امام كل من هب ودب للدخول اليه والخروج منه من دون اي مسائلات ولا أي سمات دخول ؟؟ هل يعقل ان يغدو العراق خلال عشرة شهور من الاحتلال وادارة التحالف بيئة صالحة لتحرك الارهاب واستقطابه وجذبه وتصفيات حسابات العالم مع الامريكان على ارضه ؟
ايها العالم الراكد واللامبالي : من يدفع الثمن الحقيقي اليوم ؟
     لماذا يدفع العراقيون ثمن الصراع العالمي ضد الامريكيين ؟ لماذا يصّفي العالم الاسلامي حساباته ضد الغرب على التراب العراقي ؟ هل هناك من مغفلين واغبياء حتى يومنا هذا ينادون بالحوار بين الحضارات ؟ اليس ما يحدث اليوم في العراق خصوصا هو تعبير حقيقي لصراع الحضارات الذي لا يعترف به المسلمون حتى الان ؟ اليس جريمة ان يجلس كل هذا العالمين العربي والاسلامي يتفّرجا على ما يحدث من دون ان يتحركا وان يفعلا شيئا ضد الارهاب تحت اي ذرائع او ضد اي خصم من الخصوم ؟ لماذا اختارت الولايات المتحدة الامريكية العراق كي يكون بيئة يستقطب الارهاب العالمي ؟ لماذا يسكت العالمين العربي والاسلامي على دعوات ابن لادن وجماعاته وحلفائه في ان يجعل من العراق منطقة جهادية دموية ضد الامريكان .. ومن يقتل ؟ ان الذي يقتل هم اهل العراق وابناء العراق وشيوخ واطفال ونساء ورجال العراق ! لماذا تفّسر عمليات التفجير وتفخيخ السيارات ضد المصالح العراقية الصرفة عمليات مقاومة ضد الامريكان ؟ لماذا يقتل الابرياء من العراقيين مهما كانت ملتهم ومهما كانت اعراقهم واديانهم وطوائفهم  واطيافهم
مطالبات ومناشدات من اجل وقف مسلسل الرعب
      لابد ان يقف الجميع بكل جرأة وشجاعة وضمير حي للعمل من اجل ايقاف مسلسل الارهاب ضد العراقيين جهرا قولا وفعلا .. ان تطور الاوضاع سوءا في العراق سيدخل كل المنطقة في اتون اضطرابات لا اول لها ولا آخر .. ان الضرورة تقضي بمعالجة مسألة الارهاب في العراق بتداعياته الخطيرة التي لم يشهدها اي بلد عربي بمثل هذا الحجم من العنف والاستمرار ! اطالب كل الاقلام العربية والكتاب العرب  ان يقفوا وقفة رجل واحد ضد هذا الطوفان الذي ان لم يتوقف لا سمح الله ، فسوف يسري نحو كل العالم .. اناشد رجالات الدين وعلماء الاسلام ومراجع المسلمين وهيئات الوقف ومنظمات الفكر ان يعلنوا جميعا حربهم ضد الارهابيين ! اطالب الحكومات العربية والاسلامية باعلانات رسمية وشعبية في الوقوف ضد ارهاب الشعب العراقي بدل التفّرج على العراقيين وهم يفخخون ويخطفون ويفجرون ويقتلون ! اطالبهم بادانة تفخيخ السيارات وتفخيخ اجساد الرجال والنساء وتفخيخ حتى الحيوانات .. لابد ان يجدول المحتل زمنه ويعلن عن اجندته في العراق امام كل العالم .
     اطالب كل هذا العالم ان يقف ضد مشروع القتل والارهاب المنظم ضد العراقيين ليكون العالم فعلا اصحاب اخلاق واصحاب مبادىء واصحاب قيم عليا .. لا يمكن ابدا ان يبقى الاعلام العربي يزاوج عن عمد بين المتشابهات ويقوم بخلط الاوراق عن سبق اصرار حول مسألة الارهاب ! لا يمكن ابدا ان نقبل ان يسكت الشرفاء على ما يجري في العراق ! ان العراق مسألته اليوم أمنية بالدرجة الاولى وليس لدى العراقيين اي هم آخر ! وكل من يقول عكس ذلك فهو لا يدرك واقع ما يجري في العراق اليوم . ان العراقيين يعيشون عهد الارهاب المجنون الذي اخذ اليوم له ابعادا جد خطيرة لابد للعالم كله ان يوقفها مهما كان الثمن .. قبل ان تنفلت الامور وتختلط الاوضاع وتشتعل كل الاوراق . واناشد كل العراقيين بمختلف طبقاتهم والوانهم واطيافهم واديانهم وطوائفهم واعراقهم وكل اتجاهاتهم السياسية والفكرية ان يقفوا صفا واحدا  ضد الارهاب وضد مشروع نحرهم وقتل حلمهم باستعادة مشروع العراق الحضاري ، فالمسألة الامنية لابد ان تكون في المقدمة اليوم  الذي بات هاجسا لكل العراقيين . عزاؤنا لكل العراقيين بهذا
المشهد المحزن من تاريخهم المعاصر.[/b][/size][/font]

233
انطلاق موقع الدكتور سّيار الجميل
www.sayyaraljamil.com             
 
كلمة الافتتاح
بقلم صاحبه : الدكتور سّيار الجميل

      لما باتت  شبكة المعلومات الدولية ضرورة أساسية وحاجة ملحة في هذا العالم .. فلقد سعيت بسعي حثيث من قبل العديد من الأصدقاء والزملاء في هذا العالم ان ينبثق هذا  " الموقع " الذي أتمنى ان يعّبر تعبيرا صادقا وحقيقيا عن تفكير جديد في ثقافتنا العربية المعاصرة ، وان يغدو علامة فارقة ومميزة في حياتنا الفكرية الحديثة .. وربما يأتي هذا " الموقع " اليوم وقد تأخر عن موعده كثيرا ، ولكن ظروفي الصعبة لم تسمح لي أبدا ، بل ولم  تساعدني لهذا المنجز الذي يأتي بعد مناشدات عديدة  في هذا العالم .. وها أنا ذا أقول بأنني سعيد جدا بتحقق انطلاق هذا " الموقع " المتواضع والذي أتمنى ان يحقق الأهداف المرجوة التي آليت على نفسي إلا أن أسعى في سبيلها حتى آخر يوم في حياتي ..
    ان الأهداف التي يمكن إن نسعى لتحقيقها تتلخص بتحقيق ما نصبو إليه في التقدم والتغيير الجذري والوصول الى تفكير مدني  وحر جديد نحن بأمس الحاجة إلى ذلك ، وبناء أجيال جديدة تتخلص من كل أدران القرن العشرين . أما الأسلوب والمنهج والرؤية فيمكننا ان نحددها بالنقاط التالية :
أولا: إشاعة تفكير جديد في هذا العالم وصياغة منهج وتكوين رؤية من اجل إثراء الفكر الحديث .
ثانيا : الإعلان بمعالجة موضوعات متنوعة في حياتنا وثقافتنا وسياساتنا بأساليب نقدية وصريحة وتفكيكية جريئة قابلة للحوار في كل هذا العالم .
ثالثا : المشاركة الحقيقية على شبكة المعلومات الدولية غيرنا من المواقع ما هو مهم وضروري لتحقيق ما يخدم منطقتنا وثقافتنا أولا والثقافة الإنسانية ثانيا .
رابعا : طرح معالجات أساسية للشأن العراقي الذي يمر اليوم بأصعب مراحله والمشاركة في طرح بدائل وأفكار ونصوص ونقدات وتوثيقات .. الخ
خامسا : طرح بيانات ومشروعات وخلاصات عمل وحملات ومشاركات .. في قضايا إستراتيجية نحن بأمس الحاجة إليها .
   إنني إذ أعلن بانطلاق هذا " الموقع "  الذي لم يزل في طور الإعداد والتكوين والتطوير  بقسميه العربي والانكليزي ، أتمنى أن يكون في الحقيقة بؤرة إشعاع فكري في ثقافتنا العربية المعاصرة .. تجتمع فيه جملة كبرى من الموضوعات الفكرية والسياسية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والثقافية والفنية.. الخ بؤرة فكرية يمكنها أن تغدو حلقة اتصال بين النخب المتخصصة وبين الفئات المتنوعة في بيئاتنا المتنوعة سواء في منطقتنا أم في كل هذا العالم من اجل العمل في التغيير والتطوير وبوسائل حديثة وبآليات متطورة. إن الموقع كما يتراءى لكم يتشّكل للعديد من الإيقونات التي تتضمن جملة من المعلومات والأفكار والمشروعات والمقالات والمعالجات ..
   إنني إذ أعلن للعالم اجمع انطلاق هذا " الموقع " على شبكة المعلومات الدولية، فأنني اشكر كل الذين ساهموا في بنائه وإخراجه بهذا الشكل .. كما واحي جهود الأخ العزيز الأستاذ نوري علي رئيس تحرير ( الجريدة ) ، إذ كان لسعيه وإتعابه محل تقدير وتثمين منّي .. فضلا عن الشركة التي كانت وراء هندسة الموقع وتنفيذ هذا " المشروع " .. والى كل الأصدقاء الذين انتظروا هذا " الموقع " منذ زمن طويل. متمنيا أن نحقق الأهداف التي رسمناها في خدمة شأننا العراقي المعاصر، وثقافتنا العربية ومشاكلها وهمومها وقضايا منطقتنا الصعبة من اجل الإصلاح والتغيير.. ومشاركة هذا العالم كله شؤونه البشرية وان نسعى ليكون لنا صوتنا دوليا.. وسأكون منصتا لكل الآراء والأفكار والمقترحات والحوارات التي يمكنها أن تثري منهاجنا وكل الأساليب والمشروعات التي نطرحها في دواخل هذا " الموقع " .. مع أسمى المحبة والمودة للجميع .
سّيار الجميل
يوم السبت 18 مارس / آذار 2006[/b][/size][/font]

234
خوفا على مصير العراق !!
أ. د. سّيار الجميل

     لقد غرق العراق بالتعصّبات وهي ظاهرة مفجعة نخشى ان تجرّه الى ويلات وكوارث بسبب تفجّر ذلك المسكوت عنه منذ ازمان ، ولعّل التراشق اللفظي يوقد جمرا وبشرا .. وخصوصا في مجتمع مثل العراق تكثر فيه الانقسامات وتزداد فيه النعرات وتتفجر فيه العواطف والاوجاع ! ولم يزل المجتمع في مجمله غارق بالتخلف والاوهام والمعتقدات السقيمة ..
ولا يمكن ان تنفع أي علاجات فكرية او توافقات سياسية ابدا في مثل هذه المرحلة الصعبة .. بل ينفعها السعي العملي لتقريب وجهات النظر وزرع الكلمة الطيبة من اجل انحسار الكراهية واستعادة الثقة والتخلص من كل بقايا التاريخ البالية .
    انني واثق بأن الانقسامات الموجودة اليوم في العراق هي سبب البلاء اليوم وهي التي ستبقي المحتل وهي التي ستنخر في جسد العراق حتى تمزّقه اربا اربا  .. واذا كان البعض من الطائفيين والمتعصبين او حتى من بعض المتوجعين والمتألمين - كما اسمع من خلال ظهورهم على الشاشات التلفزيونية -  يقول بأن الحل يكمن بالتقسيم ( أي : بتقسيم العراق ) ، فهو لا يدري بأن ذلك سيقود بالضرورة الى نتيجتين كارثيتين :
اولاهما ان ليس هناك بلاد عراقية ستبقى حتى ان انقسمت وتفتتت اذ ستصبح اوصالا تعبث بها دول الجوار .
وثانيهما ستحارب الاجزاء بعضها بعضا لأن العراقيين في اغلبهم لا يؤمنون بتقسيم العراق ابدا ، أي بمعنى : اشتعال حرب داخلية ستهلك الحرث والنسل .
    وعليه اقول ، بأن لكل طرف عراقي من الاطراف الثلاثة الكبرى التي ساهم الجميع في صنعها ووجدت الولايات المتحدة الامريكية فرصتها لتبلورها وتطرحها هكذا بصورتها المقيتة على العالم ..
لكل طرف من الاطراف الثلاثة ليست مشكلة معينة بل مشكلات لا حصر لها فضلا عن اخطاء ترتكب هذا الطرف او ذاك ليس بحق العراق نفسه ، فالعراق يمتهن ويجّرح ويقتل يوميا بدم بارد من دون أي شعور بالذنب منذ خمسين سنة ، ولكن ارتكاب كل طرف جناية بحق الطرف الاخر ، انني ارقب ملامح ممثّل هذا الطرف او ذاك على الشاشات والفضائيات كم تمتقع الوجوه ، وكم يصيب هذا ذاك وكأنه يطعنه بخنجر مسموم في الصميم .
ناهيكم عما يرتكب من اخطاء وجنايات بحق الاطراف الصغيرة التي يمتلئ العراق بها .
      ان كل طرف من الاطراف الثلاثة قد ساهم في زرع الكراهية والاحقاد في المجتمع العراقي من خلال حروب باردة عبر الاذاعات والتلفزيونات والصحف والمواقع الالكترونية ويقود هذه الحملة منذ الايام الاولى لسقوط النظام السابق حفنة من الدعاة السياسيين ورجال الدين والكتبة الجدد والاعلاميين والمراسلين .. الذين التحقت بهم عوام مليونية من جماهير العراقيين .. جماهير مليونية هنا ومناطقية هناك .. مدينية هنا وغوغائية هناك .. جماهير لا تمتلك الوعي ولا النظام ولا أي تفكير ولا أي احساس وطني .. همّها الوحيد ان تبصم امام حزب او قائد او كتلة او هيئة او جماعة .. الخ
      وكما شهدنا في الايام الاولى لسقوط النظام السابق تلك الجماهير تسرق وتسلب وتنهب بمباركة من ساسة وقادة واعلاميين وجيوش محتلين بحجة انسحاقاتهم فسمح منذ اللحظات التاريخية الاولى تسجيل أي انواع او ضروب من السلوكيات المنحرفة والرذائل لصناعة الفوضى فكانت ان امتدت من دون ان يوقفها احد لتصبح تقاليد مبررة ..
وهذا يذكرني باليوم الذي سقطت فيه الملكية بالعراق عندما دعا عبد السلام عارف – رحمه الله – من الاذاعة الجماهير لاستباحة قصر الرحاب علنا فكان ما كان على امتداد ساعات عصيبة  .. وكادت الامور تفلت لولا حظر التجول الذي اذاعه عبد الكريم قاسم – رحمه الله – وانتهاء الفصل الدامي من ذلك الحدث التاريخي .
      ان صناعة الفوضى في العراق اليوم كان من ورائها ساسة جدد لم يفقهوا معنى الديمقراطية ابدا ، ولم يفقهوا معنى الوطنية ابدا ، ولم يدركوا مخاطر الانفلات ابدا ، ولم يتعلموا من تجارب التاريخ ابدا ، ولم يكن لديهم الا  التعّصب وزرع روح الفتنة في المجتمع الذي لم يكن مستعدا ابدا لمثل هكذا خطاب ولمثل هكذا سياسات ولمثل هكذا ديمقراطية ..
لقد كّنا نأمل ان يجري في العراق ما كان قد جرى في تجارب اخرى خصوصا وان البلاد غدت بلا مؤسسات وبلا نظام حكم وبلا امن وبلا اعلام وبلا خدمات .. كان لابد من تأسيس قطيعة مع الماضي ليمارس المجتمع دورا جديدا ضمن ضوابط حقيقية ..
كان لابد من ترسيخ مبادئ ضمن انعقاد أي جمعية وطنية او أي مؤتمر وطني .. مبادئ وطنية ومدنية تقف سّدا منيعا امام اية انقسامات او تشرذمات ينادي بها كل طرف على حساب الطرف الاخر ..
كان على الجميع ان يدركوا بأن ثمة وطن اسمه العراق يتقدم اية انتماءات اخرى . كان على القادة العراقيين الجدد ان يتفقوا على كلمة واحدة ازاء المحتل من دون ان يلعب هذا المحتل باكثر من كره في ملعب هو العراق !
   ما احوج العراقيين اليوم الى ترسيخ العقل بديلا عن كل المرجعيات ؟؟ ما احوج العراقيين اليوم الى مرسوم يشبه الى حد كبير مرسوم نانت الفرنسي الذي خّلص الفرنسيين من الانقسامات المذهبية في القرن السادس عشر .. ؟؟
ما احوجنا الى من يّلم الشمل على مبادئ وطنية يرضى عنها الجميع ؟ ما احوج حياتنا الى النقاهة والصفاء ؟ ما احوج العراقيين الى ان يغيّروا ما بأنفسهم وتفكيرهم ؟
انا ادرك ادراكا عميقا بأن ما اقوله لا يعدو ان يكون مجرد احلام ، ولكن لا بديل امام العراقيين الا ان يرسموا لهم طريقا واحدا في الحياة من خلال مرسوم مدني ينأى بنفسه عن كل مرجعيات التاريخ وكل سدنة الدين وكل بقايا العهود الاثيمة السابقة !
انني واثق تمام الثقة بأن العراقيين لا يحاربون امريكا اليوم بقدر ما يحاربون بعضهم بعضا .. وما كانوا يحاربون بعضهم بعضا لولا الطائفية التي كانت ولم تزل خازوقا اخترق بنيتهم وفعل وما زال يفعل بهم ما يشاء .. مرسوم شبيه بمرسوم نانت ينبغي ان يقدمونه على كل طقوسهم ويخلق منهم بشرا سويا ..
كنت اتمنى ان ينبثق هذا من خلال مؤتمر تأسيسي وطني يبرز من خلاله زعماء جدد للعراق يؤمنون بالعراق بمعزل عن دينهم او مذهبهم او عرقهم او طائفتهم او جهويتهم .. وثقوا انه الحل التاريخي لكل مشكلات العراق .. اذ سيبقى العراق ينحدر غريقا نحو اسفل سافلين ان لم تنقذه ارادة جديدة تنبثق من وراء الاستار .. فمتى يتحقق الحلم ؟ ربما بعد ايام وربما بعد عشرات السنين ![/b][/size][/font]


235
الانغلاقات السياسية متى يتخلّص منها العرب؟
د. سّيار الجميل
مؤرخ عراقي

    العرب ينقسمون إلى قسمين هذه الأيام.. قسم منهم منفتح يدرك كيف يختار انطلاقته أو يستمر في تسلسل تطوره من خلال إثراء مؤسساته وتجديد طاقته فيعرف لمن يختار في ان يكون صانعا للقرار والعمل بروح الفريق المتجانس. ويجعل السياسة في خدمة الأهداف العليا لتحقيق المصالح الآنية والمستقبلية بوسائل معتدلة ونبيلة..
ان هذا النوع قليل عند العرب اليوم ولا اعتراض على أداء هذا الخيار الذي يعمل بكفاءة عالية من اجل ان تجد البلاد مكانها تحت الشمس في عالم لم يعد تنفعه الشعارات ولا تطعم شعبه الدعايات. ولا يقرر مصيره استعراض العضلات..
ان السواد الأعظم من العرب بحاجة إلى التعلّم من تجارب السياسات المنفتحة وانتصارات صناعها في كل الميادين.. ولكن المفارقة ان تغدو إحدى التجارب العربية مثالا رائعا في التقدم لدى كل العرب والعالم مستقطبة الأنظار والعقول والأفئدة.. ولكن العرب لا تعرف السبيل لبلوغ ذلك!!
ان القسم الثاني أو السواد الأعظم في كل هذا المحيط العربي الذي تغرقه المشكلات المتنوعة السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية لم يدرك كيفية الخيارات اللائقة لصناعة مستقبله ولا يعرف كيف يفصل بين الشعارات الواهمة وبين الحقائق على الأرض.. ولم يتعلم كيف يتجنب مواطن الضعف والخلل ولا يفقه كيفية استخدام الكوابح لإيقاف التردي. فكم هو بحاجة للدخول مع كل العالم بقضاياه متحدثا لبقا مدافعا ذكيا ويجادل بالتي هي أحسن كي يستحصل على ما يمكن الحصول عليه بديلا حقيقيا عن هذا الذي بات يفقده يوما بعد آخر وليس له الا الاعتراض.. وأعتقد ان العرب لو مارسوا هذا الخيار في كل تضاعيف القرن العشرين لما آل وضعهم إلى ما هو عليه اليوم!   
ان ما نشهده اليوم من نتائج انتخابية جماهيرية لجماعات أو أحزاب معينة كي يمارسوا السلطة، ينبئ عن حالات شاذة ربما لست معنيا بانتقادها كقيادات اختارتها الشعوب.. ولكن لابد من التنبيه إلى ان ثمة تعقيدات وعقبات ليس في الأوضاع السياسية بل في النسيج الفكري والاجتماعي تزيد الأوضاع تردّيا وانحطاطا والعودة دائما إلى نقطة الصفر.. وربما كانت هذه خطط تطمح لأن تضع القوى الفائزة في مواجهة الواقع، فإما تنصاع له أو تتفكك وتذوب.
ان المشكلة ليست هنا من اجل تغيير المنطقة على المدى البعيد، نقيضا لما ساد سابقا من انقلابات عسكرية لتغيير المنطقة على نحو سريع.. ان المشكلة سترجعنا تارة تلو الأخرى إلى نقطة الصفر من دون كسر لحواجز الانعزال بين أسلوب تحقيق المصالح العليا وبين ترديد الشعارات العليا في عصر التسارع التاريخي.
إننا لسنا ضد اي قوى في تولي السلطة أو المشاركة في الحكم، فثمة تجربة أو اكثر على نجاح بعضها، ولكن الخطر كله في ان تقول إنها تمتلك الحقيقة وحدها وتقوم بإقصاء الآخرين من أضدادها.. وخير دليل على ما نقول تتوضح في الفوارق بين تجربتي تركيا وإيران.. اذ تحكمهما قوى إسلامية، ولكن الفرق بينهما ان التجربة التركية منفتحة على الجميع ولم تزل وفية حتى لعهد اتاتورك ولتجربته العلمانية ولم يزل رمزا لتركيا بوجود صورته في كل أرجاء البلاد.. في حين أوصدت تجربة إيران أبوابها امام كل العالم باحتكارها السلطة دون ان تعترف بكل القوى السياسية والإصلاحية! !
ويبدو ان العرب في تجاربهم السياسية الجديدة قليلو الخبرة ولم يستفيدوا من فارق التجربتين، بل ولم يستفيدوا من التغييرات التي تجري في كل هذا العالم، فليس هناك شعب لم تصبه التحديات والهيمنة ولكنه عرف كيف السبيل لتحقيق الأهداف من خلال سيرورة المصالح بالأخذ والرد!
    ان زمنا طويلا سيمضي من حاضرنا اليوم ليأكل جزءا إضافيا من تاريخنا على حساب صنع مستقبلنا، لأن شعوبنا ومجتمعاتنا لم تتعلم حتى اليوم كيف تميز بين الخطأ والصواب، ولأنها لا تعرف كيف تقيم رجالها أو كيف تختار قادتها الحقيقيين.. وغير مدركة للمناورة في تقديم الأهم على المهم.
وكيف لها ان تتخلص من نزعتها العاطفية.. وكيف لها ان تشكّل قطيعة بين الماضي والحاضر.. وكيف تتعلم المرونة.. وكيف لها تقديم المصالح الاستراتيجية كلها على اية مصالح اخرى.. وكيف لها اقتناص الفرص السانحة لصنع مواقف جديدة. 
وكيف لها ان تأتي بمن هو مؤهل لشغل صنع القرار.. وكيف لها ان تمّيز بين النخب.. وكيف لها ان تؤهل المجتمع لمعالجة الواقع! وكيف لها ان تؤمن بأن الزعامات شيء والمؤسسات شيء آخر..
وأخيرا، أقول بأن العرب سيكونون أمام أبواب موصدة اذا ما بقوا لا يدركون بأن السياسة فن عالي المستوى ومن الممكن ترجمة رغبات المجتمع إلى قرارات باستخدام كل الأدوات والوسائل من اجل تحقيق الأهداف. وان بلوغ الأهداف لم ولن يأتي بالخطابات ولا بالشعارات ولا بالدعايات ولا بالعنتريات..
إنني اعتقد بأن الأبواب ستنفتح أمامهم ان غدوا يؤمنون بتغيير الواقع الصعب بكل الوسائل.. وكذلك ان شعروا بأن العالم لم ينتظر كسلهم وخمولهم ونزاعاتهم في ما بينهم.. ان عليهم ان يجادلوا العالم بالتي هي أحسن، ويستفيدوا ممن انطلق اليوم في سيرورته التاريخية ليكون مثلا يحتذى لهم..
فهل يدركون ما أقول ؟ إنني اشك في ذلك![/b][/size][/font]

236
المنبر الحر / الرسالة وصلت .. !!
« في: 00:54 01/02/2006  »
الرسالة وصلت .. !!

د. سّيار الجميل

     أعلن للملأ اجمع وبالاخصّ قرائي الاعزاء من المتابعين وكل اصدقائي وزملائي في ارض الوطن الحبيب وفي كل شتات العالم .. بأنني توقفت منذ  صباح هذا اليوم  31 كانون الثاني / يناير 2006 عن الكتابة بالشأن العراقي وتحليل مسائل العراق السياسية والتحّدث فيها وبأي وسيلة اعلامية او محافل سياسية .. وسانصرف الى شؤوني الفكرية وبحوثي التخصصية ومحاضراتي الثقافية . وليعذرني القراء الاعزاء عن البوح الان بالاسباب التي دعتني الى هذا الاجراء .. داعيا للعراق بكلّ الخير والتقدّم  ، وان يلهم كل العراقيين الوئام والسداد  . . .  مع تمنياتي للجميع بالنجاح والتوفيق وقل لن يصيبنا الا ما كتب الله  لنا . [/b]

237
العراق: المعنى والاصل والصورة
د. سيّار الجميل

سقتم الى الحق معا وساقوا    سياق من ليس له عراق (شاعر عربي)

مقدمّة: ضرورات المعنى

 لقد ألّح العديد من الاخوة الزملاء من طلبتي القدماء ان انشر محاضرة قديمة لي عن " صورة العراق " كنت قد القيتها عليهم كطلبة للدراسات العليا في وحدة الدراسات الاجتماعية بجامعة كيل في المانيا الغربية سابقا سنة 1987..
ونظرا للضرورة الماسة التي يحتاجها العراقيون اليوم لمعرفة معاني بلادهم وصورتها، فلقد آليت ان اختار ما يهمني من تلك " المحاضرة " القديمة مع كتابة تقديم عنها وخاتمة لها وانشر بعض مقتطفاتها والتي تثير المزيد من الاسئلة كما تبحث عن المزيد من الاجوبة خصوصا ونحن نتكّلم عن اقدم بلاد في تاريخ البشرية كانت ولم تزل حية ترزق من خلال وحدتها الجغرافية لا من خلال تنوع سكانها..
فاسمحوا لي بهذا " العرض" والذي كنت قد استفدت في بنائه من جملة مصادر قديمة بالاغريقية والعربية وخصوصا كتب البلدانيات وعدد لا يحصى من الخرائط. اما المصادر السريانية، فلم اجد فيها اية معلومات جغرافية تفصيلية وجديدة، فاغلبها يتضمن معلومات لاهوتية كنسية. وعندما اتحدث – هنا – عن العراق، فانني لم اتحدث عن الدولة العراقية بحدودها الجغرافية السياسية الحالية، وانما اتحدث عن البلاد العراقية باصقاعها وتخومها الجغرافية وهي في مقاربة الى حد ما مع الحدود السياسية.. متمنيا على كل العراقيين وخصوصا الجيل الجديد وايضا كل الساسة الجدد الذين يخططون لمصير العراق من خلال دستور طبخ بسرعة من دون معرفة بالعراق، ان يتعرفّوا على حقيقة العراق الموّحد سواء في المعنى او الاصل والصورة.

 ولقد دفعني الى نشر هذه " المحاضرة " بالعربية في ايلاف الزاهرة، أن الكثير من العراقيين لا يدركون معاني العراق ولا تاريخ جغرافيته ولا يفقهون قيمته موّحدا.. لقد وصل الامر بالعديد من العراقيين الى القول بأن " العراق صناعة بريطانية " سواء عن جهل او تغابي.. وبدأ كثير من العراقيين يكرهون وطنهم كراهية عمياء ويصفونه باسوأ الصفات، بل وان الامر لم يقتصر على جماهير العراق العامة، بل ان كثيرا من المختصّين الاكاديميين العراقيين يطرحون هذا " الطرح " المعيب.
بل ويزوّرون التاريخ علنا ويتكلمون باسم (الوثائق) – كذا - من دون استخدام اي وثيقة.. انهم بتزويرهم المهين هذا للعراق ولجغرافيته ولتاريخه انما يوهمون الناس انهم يتكلمون عن حقائق اساسية، وليس لما يقولونه او يدعّونه اي سند أو اثبات.. انهم يريدون تقسيم العراق على اساس عرقي او طائفي ولكن – ويا للاسف الشديد - كل ما يقولونه كذب وبهتان لا وجود له لا على ارض الواقع ولا في اعماق التاريخ..
والمشكلة كانت قد بدأت اصلا وتفاقمت على ايدي الذين يتطفلّون على الحياة العلمية من خلال نشر مقالات لكل من هّب ودبّ واصدارات كتب انشائية عاطفية مزوّرة للاحداث والشخوص ومؤججة للمشاعر والنفوس، وكلها اكاذيب وأباطيل لا اساس لها من الصحة.. ـ وسابحث في موضوع نماذج من تزوير العراقيين لتاريخهم في مقال آخر ـ.

معنى العراق وطنا موحّدا

 يبدو ان زمنا طويلا مضى واهل العراق لا يدركون معنى العراق! ولا اقصد بمعنى العراق لغة واصطلاحا، بل أقصده جغرافية وتاريخا. ولا اقصد جمهرة الناس العاديين الذين ليس لهم باع في البحث والتقّصي، ولكن أعني أولئك الذين يتخصصون في شؤون العراق من العراقيين، اذ يتوهمون كثيرا ما الذي يعنيه هذا العراق؟ ومن رسم حدود العراق؟
وهل رسمت في بدايات القرن العشرين من فراغ؟ وهل رسمها الانكليز فعلا " في محادثة عابرة بين السير برسي كوكس والملك فيصل الاول عند تشكيل الدولة " كما جاء ذلك في محاضرة لأحد الاكاديميين العراقيين المعروفين مؤخرا في ندوة مركز الامارات للدراسات الاستراتيجية في ابو ظبي؟ وهل استيقظ العراقيون هكذا فجأة، ليجدوا أنفسهم في بلاد جديدة صنعها الانكليز لهم كما يجري ذلك اليوم على السنة الكثير من العراقيين شفاها وتحريرا؟؟ وهم اما جهلة غفلة او يتغافلون ويتجاهلون ويتناسون لتمرير ما يريدونه على الناس.. والانسان عدو لما يجهل!

 ان من أشدّ ما يؤلم حقا ان العراقيين – بشكل خاص – قد اضاعوا المعاني الحقيقية للوطنية العراقية نتيجة الظروف الصعبة والمرارات والعذابات والتحديات التي مرّت عليهم منذ ازمان، فضلا عن حالة الفوضى الفكرية واللغوية والسياسية والطائفية التي يعيشون فيها.. اذ دوما ما يخلطون بين مصطلحات وشعارات وافكار من دون ادراك معانيها نتيجة جهالة او تخّلف او بفعل اجندة مبيّتة.
ولعّل ابرز ما يعلن من خطايا في السياسة والاعلام، اقتران مصطلح " العراق الموّحد " قديما بـ مصطلح " العراق الاتحادي" حديثا.. وكأن ليس للعراق تلاحم عضوي موّحد لا في التاريخ ولا في الجغرافية ولا في الوجود.. وكأنه ليس بوطن قديم جدا لم تزل هناك بقايا القديم موجودة تعيش على ارضه منذ الاف السنين، بل ان " الدولة " او " الطائفة " او " الاقليم " غدت كلها في العرف العام اهم من " الوطن "، وهذه من اكبر جنايات العراقيين على انفسهم اولا وعلى وطنهم ثانيا.
وعليه، هل يمكننا ان نوّضح في مثل هذا الباب المعاني الحقيقية لمثل بعض المفاهيم الاساسية التي يحتاجها الانسان العراقي يوميا والتي لابد ان تشغل باله وتفكيره ووجوده بدل هذا الذي يفتك به، ومن اجل التخلص من هذه الفوضى الفكرية التي تعّم حياتنا العراقية منذ قرابة خمسين سنة في عالم اليوم؟؟

كلاسيكية العراق: بلاد ما بين النهرين

 يعدّ العراق من بلدان الشرق الاوسط، يقع في جنوب غرب القارة الآسيوية. اجزاؤه الجنوبية تحادد اطراف اقاليم ثلاثة تقع في الجزيرة العربية، هي: حائل ونجد والاحساء، بل وتعتبر هضبة نجد عمقه وهو يمتد نحو الاعلى مع امتدادات دجلة والفرات وحدة جغرافية واحدة ومتماسكة وتفصله عن هضبة الاناضول سلاسل جبال عصّية والتي تنتهي عند نقطة استراتيجية ومفصلية تسّمى بـ " كاليه شين " وهي عقدة تفصل العراق عن كل من تركيا وايران.. (ما كتبه جوستن بيركنس في مقالاته القديمة المنشورة في القرن 19 استنادا الى حدود ولاية الموصل). اما ما يفصل العراق عن ايران، فهي سلاسل جبال طويلة هي زاكروس..
اما نهر الفرات، فهو الذي يفصل بين بلاد العراق عن بلاد الشام، فالجزيرة الفراتية كلها هي القسم الاعلى من العراق. وعليه، فان العراق التاريخي هو اكبر مما نألفه على الخارطة السياسية اليوم.. وللعراق ملحقات جغرافية من البوادي الشاسعة التي يندر فيها السكان الا من تنقلات البدو الرحل على امتداد ايام السنة.

 والعراق التاريخي يتألف من اقليمين اساسيين كبيرين، هما: ارض السواد والجزيرة الفراتية وبينهما بغداد، وهما اللذان يؤلفان بلاد ما بين النهرين القديمة Mesopotamia التي وردت في الادبيات الكلاسيكية القديمة لكل من الاغريق والرومان (كتابات اريان اكزانافون مثلا، وقارن بطليموس ومعلوماته).

 ان النهرين العظيمين دجلة Tigris والفرات Euphrates من اهم انهار الدنيا وماؤهما من اعذب المياه، ودجلة اسرع جريانا من الفرات ومن هنا جاءت تسميته بـ " Tigris " (= اي: النمر) – كما تذكر الادبيات الاغريقية المذكورة انفا) - ولكن الفرات اطول بكثير من دجلة وتصب في النهرين عدة انهار تغذيهما وهي تمتد من كل سلاسل الجبال في كل من تركيا وايران وما بينهما: ارمينيا وكردستان. ان الشريانيين دجلة والفرات هما اساس حياة العراق ووحدته وتماسكه منذ اقدم العصور.
اما اقليم كردستان، فهو اقليم ولد حديثا بعد تأسيس الدولة العراقية المعاصرة، اذ تعتبر كردستان العراق جزءا لا يتجزأ من بلاد كردستان المتفرقة اليوم بين ثلاث دول هي: ايران وتركيا والعراق. وبالرغم من صغر حجم هذا الاقليم العراقي الجديد، مقارنة بكل من اقليمي كردستان في تركيا وايران، الا ان الاكراد عموما قد ظلمهم التاريخ لا الجغرافية، ولقد وقعت جغرافيتهم في رعاية التاريخ..
ولم نشهد اية كيانات سياسية مؤّثرة للاكراد عبر التاريخ، بل تعتبر كياناتهم اجتماعية قبلية كانت ام حضرية ولكن هذا لم يمنع الاكراد ان يشاركوا في تكوين وقيادة دول اسلامية عدة، بل وبرز منهم قادة وزعماء وساسة ووزراء ومدراء وادباء وشعراء عظماء عبر التاريخ.. الخ.

معاني العراق

ان للعراق منفذ بحري قصير على الخليج العربي يسمى بميناء ام قصر. يمر نهري دجلة و الفرات في البلاد من شماله إلى جنوبه، اللذان كانا أساس نشأة حضارات ودول وامبراطويات بلاد ما بين النهرين التي قامت في العراق على مر التاريخ حيث نشأت على ارض العراق الموحّدة وعلى امتداد 7000 سنة (أي: منذ 5000 سنة قبل الميلاد) مجموعة من الحضارات على يد السومريين والبابليين والأكديين والأشوريين وانبعثت من هذه الحضارات بدايات الكتابة والرياضيات و الجيوش والشرائع والقوانين في تاريخ البشرية، ومن قبل ذلك عرف الانسان الاستقرار على شواطئ النهرين واكتشف الزراعة وعرف التجمعات وانشأ اول مدينة في التاريخ.
وثمة من يقول: ما بالنا وذاك الماضي القديم الذي لا علاقة له ابدا مع الحياة المعاصرة اليوم؟ فأجيب: بأن الانسان يتبدل من عصر لآخر وبكل عاداته وتقاليده واديانه وطبائعه ولكن ارضه لم تتبدل والانسان ابن ارضه وجغرافيته وتاريخه وليس ابن طائفته او عرقه او دينه.. ومع كل هذا وذاك، فان ثمة بقايا سكانية وثقافية ولغوية لم تزل حية ترزق في العراق حتى اليوم منذ الاف السنين.

 ولابد من توضيح معنى مصطلحي " عراق عرب " و " عراق عجم "، ذلك ان الاول يعني كل السهل الممتد مع انخفاض دجلة والفرات من منابعهما حتى مصبّهما والمتضّمن بلاد الاشوريين القديمة وبابل (او: بابليون) وكلديا عند الازمان الاولى لانتشار الاسلام. اما الثاني، فيعني شمال بلاد فارس (= بين قزوين واذربيجان) (انظر قاموس السير ريدهاوس المطبوع منذ قرابة 100 سنة، ص 1292). اما مصطلح العراقين، فان كتب البلدانيات تشير الى انهما البصرة والكوفة (انظر: لسان العرب، 10/ 248).

 التسمية

 هناك اراء مختلفة عن اصل كلمة " العراق " حيث يرجح بعض المستشرقين ان مصدرها هي مدينة " أورك " السومرية القديمة والتي تسمى الأن بالوركاء. وقد ذكرت مدينة أورك في ملحمة گلگامش حيث قام گلگامش ببناء سور حول المدينة و معبد للآلهة عشتار. وربما لا يؤمن اغلب العراقيين بهذا التأصيل، اذ يرى البعض الأخر ان العراق مصدرها " العروق " نسبة الى النهرين العريقين: دجلة و الفرات اللذين ولاهميتهما شبها بالعرق او الوريد.
ويرى البعض الأخر ان البلاد سميت بالعراق نسبة الى " عروق اشجار النخيل " التي تتواجد بكثرة في جنوب ووسط العراق ويعود تاريخ النخلة وتربيتها وتحسينها وانتشارها في كل اصقاع وسط وجنوب العراق الى السومريين القدماء. ب
ينما يرى الأخرون ان اصل التسمية هي " عراقة " المنطقة الموغلة بالقدم (راجع مقال العراق، موضوع اللاندسكيب في انسكلوبيديا برتانيكا الجديدة، المجلد 9، ط 15، ص 873-5)، وقارن ما كتبه رالف بيرسون وبريوود وكيركبرايد والمس بيل وتولبر وبوستغيت وساكز وكوبر وغيرهم).

 بغض النظر عن اصل كلمة (العراق)، فان معظم المنطقة التي تسمى بالعراق حاليا كانت تسمى بيث نهرين Beth-Nahrain بلغة آلارامية السريانية (اغلب المصادر السريانية) و ميزوبوتاميا Mesopotamia او ??????????? باليونانية الاغريقية التي كانت تشمل الأرض الواقعة بين نهري دجلة و الفرات بما في ضمنها اراضي تقع الأن في سوريا وتركيا، اي امتدادات ما بين النهرين لما هو اليوم كل ما هو شرق نهر الفرات وغرب نهر دجلة وصولا الى آمد وميافارقين وديار بكر خصوصا وان المؤرخين القدماء يشددون على مواطن ديار ربيعة في جنوبي بلاد الجزيرة وديار بكر في شمالها وايضا تغلب ووائل قبيل الفتوحات العربية الاسلامية بزمن طويل مع وجود الاكراد والسريان والارمن (راجع ما كتبه كريستيان نيبور وبكينكهام وجسني وجون فييه وهاملتون ووالتر هاريس وهرسفيلد وريتج وغيرهم).

 ويعتبر العراق من قبل البعض "مهد الحضارات" علما ان هذه التسمية يطلقها البعض على منشأ حضارات اخرى على ضفاف انهار النيل و السند و هوانغ هي (انظر: طه باقر ورتش ولايارد ومالاوين وغيرهم). ان تسمية العراق الطبيعية والتاريخية هي ميزوبوتيميا التي تعتبر من اقدم بلدان العالم (انظر معجم اكسفورد الكلاسيكي، اكسفورد، 1975، ص 441).

تفسيرات التسمية القديمة

 دعونا نتوقف قليلا لكي نحلل التسمية حسب ما ورد من تفسيرات التسمية القديمة: " قال ابو القاسم الزجاجي: قال ابن الاعرابي: سمي عراقا لأنه سفل عن نجد ودنا من البحر، أخذ من عراق القربة...، قال: وقال غيره العراق في كلامهم الطير، قالوا: وهو جمع عرقة (بفتح العين والراء)، والعرقة: ضرب من الطير. ويقال أيضا: العراق جمع عرق (بكسر العين)، وقال قطرب: انما سمي عراقا لأنه دنا من البحر وفيه سباخ وشجر، يقال: استعرقت ابلهم اذا اتت ذلك الموضع، وقال الخليل: العراق شاطئ البحر، وسمي العراق عراقا لأنه على شاطئ دجلة والفرات مدّا حتى يتصّل بالبحر على طوله، قال: وهو مشّبه بعراق القربة وهو الذي يثني فيخرز، وقال الاصمعي: هو معّرب عن ايران شهر، وفيه بعد عن لفظه وان كانت العرب قد تتغلغل في التعريب بما هو مثل ذلك، ويقال: بل هو مأخوذ من عروق الشجر، والعراق: من منابت الشجر، فكأنه جمع عرق، وقال شمّر: قال ابو عمرو سميت العراق عراقا لقربها من البحر عراقا.. (معجم البلدان.. 4/ 93).

 اذن نحن امام عدة تفسيرات لمعنى العراق، اذ يمكننا ادراج تسميات العراق كالتالي: 1/ الداني من البحر او 2/ ضرب من الطير او 3/ جمع عرق او 4/ فيه سباخ وشجر (السباخ: الارض السبخة اي ذات ملح ونزّ، مختار الصحاح، 282) 5/ موضوع استعراق الابل 6/ شاطئ البحر 7/ شاطئ دجلة والفرات حتى البحر 8/ المنثني المخرز 9/ ايران شهر 10/ عروق الشجر 11 / منابت الشجر 12/ القرب من البحر.

ماذا نعتقد؟

 لو لم يكن اسم العراق قديما لما اختلف حول ذلك الرواة والمفسرين والمؤرخين والبلدانيين.. واذا ما علمنا ان اغلب البلدانيين يشجعون على هذا التفسير الاخير (= القرب من البحر) لوجدنا انه يقترب كثيرا من التفسير الاول (= الداني من البحر) واعتقد ان هذين التفسيرين هما الاصل في التسمية ولا يخرج تفسير شاطئ دجلة والفرات حتى البحر عن هذه العلامات المميزة في حياة هذه البلاد القديمة التي يعود اصل اراضيها الى التكوينات الرسوبية لكل من دجلة والفرات منذ ملايين السنين، انني اعتبر العراق الابن الشرعي لكل ما تّكون من هذين النهرين القديمين منذ ملايين السنين. وعليه، فالعراق هو مساحلة النهر بالبحر. يقول مليح الهذلي:

تربعت الرياض رياض عمق وحيث تضّجع الهطل الجرور

مساحلة العراق البحر حتــى رفعن كأنمّا هّن القصـــور

(المصدر نفسه)

يقول جيمس هنري براستد في كتابه الممتاز " العصور القديمة ": " ولا عجب في خصبه (= العراق) لأنه متكّون من رسوب الاتربة التي تحملها مياه النهرين العظيمين كل سنة وتلقيها عليه.. انه بالفعل قلب الهلال الخصيب " (العصور القديمة، ص 118).

تفسيرات اخرى:

وقال حمزة: الساحل بالفارسية اسمه ايراه الملك ولذلك سمّوا كورة اردشير خّرة من ارض فارس ايراهستان لقربها من البحر فعّربت العرب لفظ ايراه بالحاق القاف فقالوا ايراق. وقال حمزة في الموازنة: وواسطة مملكة الفرس العراق، والعراق تعريب ايراف، بالفاء، ومعناه مغيض الماء وحدور المياه، وذلك ان دجلة والفرات وتامّرا تنصبّ من نواحي أرمينية وبند من بنود الروم الى ارض العراق احداهما عبر دجلة والاخرى عبر الفرات وهما بافيل وطوسفون، فعّرب بافيل على بابل وعلى بابلون ايضا وطوسفون على طيسفون وطيسفونج، وقيل: سميت بذلك لاستواء أرضها حين خلت من جبال تعلو واودية تنخفض والعراق: الاستواء في كلامهم، كما قال الشاعر:

سقتم الى الحق معا وساقوا سياق من ليس له عراق

اي: استواء، وعرض العراق من جهة خط الاستواء احد وثلاثون جزءا وطولها خمسة وسبعون جزءا وثلاثون دقيقة، واكثر بلاده عرضا ومن خط الاستواء عكبران على خط دجلة (معجم البلدان، 4/ 94).

كيف نحلل ذلك؟

 ان العراق مصطلح عربي الاصل اذ لا اعتقد ابدا انه ايراني الاصل، فاذا كان الساحل بالفارسية ايراه، فهو مأخوذ من العربية وليس العكس.. واعتقد ان الفرس هم الذي فرّسوا العراق وليس العكس أي ان العرب لم يعرّبوا ايراه او ايراف.. قال بعضهم: العراق هو السواد، وهو ظاهر الاشتقاق المذكور آنفا لا معنى له غير ذلك وهو الصحيح عندي.
وذهب آخرون فيما ذكر المدائني فقالوا: حدّه حفر ابي موسى من نجد وما سفل (بفتح السين وضم الفاء) عن ذلك يقال له العراق. وقال قوم: العراق الطور والجزيرة والعبر والطور وما بين ساتيدما الى دجلة والفرات (المصدر نفسه).
هنا لابد ان نفقه هذا التكوين الثنائي (= الطور + الجزيرة) وما بينهما العبر (= العبور). فالجزيرة هي كل ما بين النهرين وملحقاتها حتى اقرب نقطة تضيق الارض بين دجلة والفرات (: عند بغداد) ومن ثم يأتي الطور لما بينهما حتى الالتقاء ومن ثم المصّب.

 جاء في لسان العرب: " والعراق: شاطئ الماء، وخّص بعضهم به شاطئ البحر، والجمع كالجمع وهو اسم مذكر، سمي بذلك لأنه على شاطئ دجلة، وقيل: سمي عراقا لقربه من البحر، وقيل: سمي عراقا لأنه استكف أرض العرب. وقيل: سمي به كأن اراد عرقا ثم جمع على عراق، وقيل: سمي به العجم، سمّته: ايران شهر معناه: كثير النخل والشجر، فعّرب فقيل: عراق. قال الازهري: قال ابو الهيثم زعم الاصمعي ان تسميتهم العراق اسم عجمي معّرب.. اذ اعربته العرب فقالت: عيراق، وايران شهر موضع الملوك قال ابو زبيد:

ما نعي بابة العراق من النـــا س بجرد، تغــــدو بمثل الاســود

والجوهري يذّكر بلاد العراق ّويؤنثّها. قال ابن بري: وقد جاء العراق اسما لفناء الدار. وعليه قول الشاعر:

وهل بلحاظ الدار والصحن معلــــم ومن أيها بيـــن العـــراق تلوح؟

لقد قيل: العراق شاطئ النهر او البحر على طوله، وقيل لبلد العراق عراق لأنه على شاطئ دجلة والفرات عداء (= تتابعا) حتى يتّصل بالبحر. وقيل العراق: معّرب واصله: ايراق فعربّته العرب، فقالوا: عراق (لسان العرب، 10، 247-248).

صورة العراق

 قال اليعقوبي: انما ابتدأت بالعراق لأنها وسط الدنيا وذكرت بغداد لأنها وسط العراق والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الارض ومغاربها سعة وكبرا وكثرة مياه وصحة هواء لأنه سكنها من اصناف الناس وأهل الامصار والكور وانتقل اليها من جميع البلدان القاصية والدانية وآثرها جميع أهل الافاق على اوطانهم.. " فضل العراق وجلالتها وسعتها ووسطها للدنيا (اليعقوبي كتاب البلدان، 123)

دعونا نتأمل في " النص " اعلاه عندما كان العراق يمتلك مركزية العالم (= وسط الدنيا).. اما بغداد فهي وسط العراق، اي انها - حسب اليعقوبي - واسطة العقد بين بلاد الجزيرة الفراتية وبين بلاد ارض السواد.. كما كانت مركز جذب واستقطاب لاهل الافاق كي يفضلونها على اوطانهم..
ويكرر النص في مكان آخر ان العراق وسط الدنيا. اما ابن خرداذبة فيقول في المسالك والممالك: " ان قصبة مملكة الاسلام بلد العراق وهذا مع انه موجود هكذا في الوقت فقد كانت الفرس تجريه عليه وتسميه دل ايرانشهر وانما سمت العرب العراق بهذا الاسم تعريبا لما وجدت الفرس سمته وهو ايران " (ابن خرداذبة ص 234).
هنا يعتبر العراق قصبة مملكة الاسلام.. بمعنى ان بغداد مركزية للعراق وان العراق قصبة مملكة الاسلام وان العراق نفسه هو قلب العالم. ولقد توقّف المستشرق الفرنسي المعروف اندريه ميكال عند هذا " الموضوع " وقفة تحليلية ممتازة عندما وصف مركزية العراق قد علمّت العالم معنى الانسانية (انظر اطروحة اندريه ميكال: الجغرافية الانسانية عند العرب (بالفرنسية)، 189).

 اما ابن حوقل في كتاب صورة الارض، فانه يقف من مكان الى آخر ليوضّح صورة البلدان التي وضّحها على خرائطه البدائية العديدة. ولقد وقفنا عند صورة العراق من الاسماء والنصوص... قد صوّر في اعلى الصورة بحر فارس – كذا - وينصّب فيه نهر دجلة قاطعا لوسط الصورة، ويقرأ في القسم الاعلى من الصورة من جانبي النهر صورة العراق، وفي الزاويتين الاعلايين جنوب العراق ومشرق العراق، وكتب من جانبي النهر على شكل خطّين مقوسّين حد العراق وموازيا للخط الايسر حدود خوزستان ثم حدود الجبل ثم حدود اذربيجان، وفي اسفل الصورة في الزاوية مغرب العراق.. " (ابن حوقل، 231).
ربما نختلف قليلا مع صورة ابن حوقل الذي قسم العراق الى قسمين مركزّا على احدهما دون الاخر وكتب من اعلى ذلك ديار لقبائل من ربيعه وهي براري ينتجع مراعيها وتسلك على السمت بالنجوم على غير طريق، وفوق ذلك حد العراق.. (المصدر نفسه، 207). ويستطرد انه على الجانب الايمن من دجلة من المدن بغداد وتكريت وبينهما نهر الاسحاقي، ثم الموصل، بلد، طنزى، آمد.. (المصدر نفسه، 308).
ولقد لفت انتباهي ما سجله الدينوري في الاخبار الطوال – وهو كتاب قديم – اذ كتب يقول عن زاب بن بودكان احد حكام العراق ابان السيطرة الساسانية انه " كرى بالعراق انهارا عظيمة سمّاها الزواّبي اشتق اسمها من اسمه وهي الزابي الاعلى والاوسط والاسفل " (الدينوري، الاخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر وجمال الدين الشّيال، بغداد: مكتبة المثنى، د. ت.، ص 10-11). ان هذه الانهار العراقية كما يبدو كان هذا الحاكم قد كراها..

 اما صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي فيكتب قائلا: " والعراق المشهور هو ما بين حديثة الموصل الى عبّادان طولا وما بين عذيب القادسية الى حلوان عرضا. وسمي بالعراقين الكوفة والبصرة، لأنهما محال جند المسلمين بالعراق. ولكل واحد منهما وال يختص به. وسمي عراقا لأن اسمها بالفارسية ايران فعربتها العرب وقالوا: عراق. وقيل: سمي عراقا لاستواء ارضه وخلوها من جبال تعلو واوديى تنخفض وقيل غير ذلك " (مراصد الاطلاع، 2/ 926).

 ومقارنة بين وادي الرافدين ووادي النيل اذ شهدا كل منهما الحضارات الاولى، فان المؤرخ الفرنسي موريس كروزيه يقول: " لذا لم تجد بلاد ما بين النهرين نفسها ضمن حدود طبيعية تفرض ذاتها على الجميع وذلك تحت عوامل داخلية وخارجية وخلافا للشعوب المصرية، فان سكان بلاد ما بين النهرين لم يدعوا للوحدة ولم تلجم اطماع رؤسائهم التوسعية التي لم تتعثّر بعراقيل طبيعية الا في البعيد البعيد عن بلادهم " (انظر: موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام، المجلد الاول، الكتاب الثاني، باريس 1980، ص 134).

 انني استنتج ان العراقيين عندما يجدوا بلادهم قوية ودولتهم عسكرية فانهم يجازفون باختراق الاخرين.. اما ان كانوا في حالة ضعف وعراقهم ضعيف فان قويهم يأكل ضعيفهم.. ومع كل هذا وذاك، فان المؤرخ البريطاني الشهير ارنولد توينبي يكتب في كتابه البشرية والارض الام: " بالرغم من الحروب والصراعات القديمة بين الممالك العراقية عندما تنتهى واحدتها وتبدأ حياة ثانيتها فان العراقيين كانوا يعاملون بعضهم بعضا بمنتهى الاحترام والكياسة باعتبارهم اصحاب وطن واحد هو موطن المدنية المشتركة " (توينبي، ص 128). ان توينبي هنا يقصد العراقيين القدماء الذين اجتمعوا في ولائهم على الارض الام، وليس على اي هوية اخرى كما وجدنا في تضاعيف العصور التالية.

تقسيمات العراق ادارية فقط على امتداد التاريخ

 لابد ان اقول ايضا بأن تقسيمات العراق على امتداد التاريخ كانت ادارية بحتة ولم تكن دينية او طائفية او قومية عرقية بدءا بتشكيل المدن والقلاع والحصون (انظر: طه باقر، العراق القديم) ومن ثّم: الامصار والكور والدساكر والطسوج (انظر: ابن خرداذبه، 5- 14) ومرورا بالايالات والولايات والسناجق (= الالوية) (انظر: دونالد بريجارد، الجغرافية التاريخية، 43-48)، وانتهاء بالمحافظات والاقضية والنواحي (انظر: الدليل العراقي الرسمي لسنة 1936، حرره الياهو دنكور ومحمود فهمي درويش، بغداد، 1937)..

 ان العراق على امتداد تاريخ الدويلات الاسلامية ومنذ سقوط بغداد عام 1258 م بايدي المغول وحتى سقوط بغداد بيد الامريكان عام 2003 م لم يعرف الانقسام على اساس عرقي او ديني او طائفي او جهوي.. بل عرف التقسيمات الادارية باشكالها المختلفة وخصوصا نظام الولايات او الايالات (= الاقاليم الادارية) باعتبار العراق بلادا موحّدة منذ القدم لقد وجدنا العراق يتشكّل ضمن نظام الشرق الذي كان وراء تأسيسه السلطان سليمان القانوني بتقسيم العراق الى ولاياته الكبرى الثلاث الموصل وبغداد والبصرة، وهي الاقاليم الادارية التي دامت حتى الاحتلال البريطاني، وخلال تلك الحقبة كانت مصالح العراق مشتركة بين الولايات الثلاث التي يربطها كل من دجلة والفرات..
ولقد تعّززت الروح العراقية وترّسخ مفهوم المواطنة عند العراقيين المتمدنين (= الحضر) اي بمعنى: استقرارهم في المكان والفتهم له وتوطنهم فيه واكتسابهم الوانه وخصائص بيئته وكل جمالياته او قبائحه.. في حين ان البدو المتنقلين من مكان الى آخر، لم يكن في عرفهم اي استقرار في مكان معين، ولكنهم ايضا لهم الفتهم للفضاء المكاني الذي يدورون فيه مكتسبين خصائصه وسماته، بحيث لا يمكن فصلهم عن بيئتهم التي عاشوا فيها اجيالا بعد اجيال. ¨
لقد ورثت بريطانيا العراق بشكله الحالي عن الاتراك العثمانيين الذين حكموا العراق اربعة قرون بولاياته الثلاث بحدودها التاريخية. وعليه، فان بريطانيا ورثت حدود الولايات وحدود العراق مع ايران بكل مشكلاتها التي تضمنتها 15 معاهدة عقدت على امتداد خمسة قرون.. مؤملا ان نخرج بما ينفع ذاكرتنا اليوم عن معان اعتبرها ثمينة جدا.. ولا يمكن التهاون معها ابدا مهما كان هناك من توّجهات مبيتّة لتقسيم وطن اسمه العراق وهذا لابد ان يدركه كل العالم في هذا الوجود.

 (راجع ما كتبه لسترنج وبرنارد لويس وستانفورد شو وروبرت منتران ودونالد بريجارد وروبرت اولسن وبرسي كيمب وراجع التفاصيل في مقالتي (العراق) في الموسوعة العالمية لتاريخ الثقافة البشرية، اليونسكو، 1999، 2/ 143).

عبث الفيدراليات

 ان العراق، ليست بلادا تائهة وأقاليم مبعثرة واجزاء متصارعة حتى تشّكل فيه فيدراليات اتحادية! وهنا لابد ان اقول بأن اي تأسيس لأي فيدراليات تنشأ في العراق مهما كانت الاجندة دستورية وتتكلم باسم " الوطنية "، فان ذلك سيقسم العراق الى اجزاء متناثرة لا يمكن ابدا السيطرة عليها، ونحن ندرك بأن العراق له تاريخ ساخن مع جيرانه من كل حدب وصوب.
ولا يمكن ان يقبل جيرانه ابدا سواء كانوا من الاتراك او الايرانيين او السعوديين او السوريين.. تشكيل فيدراليات في اوطانهم، فاوطانهم لا تمتلك تواريخ موحّدة ولا جغرافيات متماسكة مثل العراق.. فلماذا هذا السعي العراقي المجنون لتقسيم العراق ومن قبل العراقيين انفسهم؟

 اذن هذا هو العراق الذي ينكره العراقيون من المعاصرين.. انه وحدة جغرافية تتماسك عضويا، ولا يمكن للعراق ان يحافظ على استراتيجيته باعتباره قلب العالم القديم وقلب العالم اليوم ان انقسم على ذاته ليس ضمن اطر واشكال ادارية كما عاش على ذلك منذ الاف السنين..
اما ان استخدمت الاعراق والطوائف والخصوصيات الجهوية والمحلية في تقسيم العراق اقاليما ام محافظات فيدرالية، فسوف يفقد العراق ليس استراتيجيته حسب، بل حتى مكانته وكيانه وستأكله الدول المجاورة له وخصوصا تركيا وايران باعتبارهما اقوى منه وهو يعاني اليوم من اشنع الامراض، ناهيكم عن ان الفيدرالية ليست بندا عاديا، بل انها مسألة مبدأ ولا اعتقد ان كل العراقيين مجمعين على تطبيقه.

وأخيرا: لابد من كلمة اخيرة

 ان العراق لم يفهمه ابدا زعماؤه على امتداد القرن العشرين ومن لحق بهم في القرن الواحد والعشرين.. اذ لا يمكن ان يكون موحّدا في وحدة اندماجية مع دول عربية اخرى نظرا لما له من خصوصيات تاريخية وجغرافية وضحناها آنفا.. كما لا يمكنه ان يكون مقسمّا الى فيدراليات وحكومات محليّة لأن ذلك سيضعف المركز فيه كثيرا، وان حياة العراق الجغرافية والتاريخية والحضارية تقوم على حياة المركز..
ان العراق لا يمكنه العيش بأي صيغة اتحادية اذ خلق موحدّا منذ بداياته الاولى وهو قوي اقوى من الهشاشات الاخرى.. انني اناشد كل العراقيين ان ينتبهوا الى ما سيفعلونه ليس بانفسهم، بل بوطنهم هذا الذي اعتز به القدماء والمحدثين وشغل بال العالمين في كل ارجاء الدنيا.
فهل يريدونه متشرذما يتقاسمه الاخرون؟؟ اذا ما اراد الاخوة الاكراد ان يطّوروا اي صيغة للحكم الذاتي في كردستان العراق، فهذا حق لهم في منطقتهم وتقتضيها خصوصياتهم ضمن اطار العراق المّوحد، ولكن ان يجري تقسيم العراق على اساس " فيدراليات " تعطي الاقاليم والمحافظات صلاحيات حكومات محلية كل تعمل بما يتوفر لها من صلاحيات، فان هذا تفتيت لوحدة العراق، ولأول مرة في تاريخه..
وليثبت لي العكس كل الذين يخالفونني ولكن من خلال المصادر المعرفية العراقية لا من خلال النزوعات والاهواء، ومن خلال التجارب والاسانيد العراقية لا من خلال الكلام الفضفاض والساذج. اتمنى اكون قد قدّمت منظورا تأصيليا لمعاني العراق الكبيرة نحن بأمس الحاجة لها في مثل هذه المرحلة التاريخية التي نمر بها..[/b][/size][/font]

238
العراق من منظور تأصيلي
أ.د. سيّار الجميل
 
"كيما ترى أهل العراق أنني أوطنت أرضاً لم تكن من وطني"  ابن بري


اختلطت اليوم في ثقافتنا العراقية جملة هائلة من المفاهيم الأساسية التي تحتاجها الأجيال مع توالي الأيام، وتنوع الثقافات، وتعدد المراجع، وتفاقم الاعلاميات.. لقد اختلطت ليس على النشأ الجديد فحسب، بل حتى على المثقفين والمختصين والساسة والكتاب وحملة الشهادات العليا..

وهذا ما لم نجده البتة في ثقافات اخرى حتى العربية، علما بأن العراقيين عرفوا تلك «المفاهيم» واستخدموها على درجة عالية من الحذاقة والتركيز في استعمال المعاني منذ اكثر من قرن كامل..

وانهم لم يطالوا الالفاظ ان لم تكن في مواقعها الحقيقية كونهم وازنوا ايام عزّهم بين الالفاظ والمعاني وان كل ما يقولونه او يكتبونه له دلالاته من المعاني الصائبة، ولا يمكن خلط هذا بذاك.. ربما نجد اسهابا في الالفاظ واطنابا في الكلام ولكن قلما نجد خلطا فيها وانعدام معرفة لاستخدام ما لا يمكن استخدامه هنا او استخدامه هناك.

ان من أشدّ ما يؤلم حقا ان العراقيين - بشكل خاص ـ قد اضاعوا المعاني الحقيقية للوطنية نتيجة الظروف الصعبة التي مرّت عليهم منذ ازمان، فضلا عن حالة الفوضى الفكرية واللغوية التي يعيشون فيها.. اذ دوما ما يخلطون بين مصطلحات وشعارات.

ولعّل ابرز ما يعلن من خطايا في السياسة والاعلام وعلى لسان الكّتاب الجدد الذين ظهروا فجأة بعد سقوط النظام السابق وحتى في المؤسسات الرسمية العراقية اقتران مصطلح العراق الموّحد قديما بـ «مصطلح العراق الاتحادي» حديثا.. وكأن ليس للعراق وجود لا في التاريخ ولا في الجغرافية..

وكأنه ليس بوطن قديم جدا، بل ان «الدولة» غدت في العرف العام اهم من الوطن وهذه من اكبر جنايات ليس العراقيين وحدهم، بل حتى العرب في القرن العشرين.

وعليه، هل يمكننا ان نوّضح في مثل هذا الباب من «مفاهيم اساسية» المعاني الحقيقية لمثل هذه المفاهيم التي يحتاجها الانسان العراقي يوميا والتي لابد ان تشغل باله وتفكيره ووجوده، ومن اجل التخلص من هذه الفوضى الفكرية التي تعّم حياتنا منذ قرابة خمسين سنة في عالم اليوم؟

معنى «الوطن» لغة:
الوطن (بفتح الواو والطاء): المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله .. والجمع أوطان. وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي اليها..

ومواطن مكة : مواقفها. وطن بالمكان وأوطن: اقام. وأوطنه: اتخذه وطنا. يقال: أوطن فلان ارض كذا وكذا أي اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيها.. والموطن: مفعل منه، ويسمّى به المشهد من مشاهد الحرب، وجمعه مواطن . والموطن: المشهد من مشاهد الحرب.

وفي قوله تعالى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة. وأوطنت الارض ووطنتّها توطينا واستوطنتها أي اتخذتها وطنا.. اما المواطن (بفتح الميم والواو) فكل مقام قام به الانسان لأمر فهو موطن له.

وعلى حد تعبير ابن سيدّه: وطّن نفسه على الشيء وله فتوطنت حملها عليه فتحمّلت وذّلت له، وقيل: وطّن نفسه على الشيء وله فتوطّنت حملها عليه ( لسان العرب، المجلد 13، ص 451).

معنى «العراق» اصطلاحا:
لقد اختلف المعنى الاصطلاحي والضمني لـ «العراق» من زمن الى زمن آخر، اذ نجد في ادبيات العراقيين القديمة من يقول ـ مثلا ـ بـ «ميزوبوتيميا» aimatopozeM (بلاد ما بين النهرين)، او كما يسميه اكزانافون بـ بلاد وادي الرافدين دجلة والفرات.. والعراق مصطلح قديم اطلق على مناطق عدة، ولكن استقر على وضعه اليوم.

ولقد وجد نفسه على ايام العرب منذ قبيل عهد الفتوحات الاسلامية حتى امتدادات العثمانيين يتّكّون من قسمين اثنين: اولهما بلاد ارض السواد وثانيهما بلاد الجزيرة الفراتية (وبضمنها كردستان التي يطلق عليها: جبال الاكراد) كما توقفّنا في التواريخ الاغريقية وكتب البلدانيات الاسلامية على مصطلح العراق ضمن تشكيلات متباينة.

لقد وجدنا العراق يتشكّل ضمن نظام الشرق الذي كان وراء تأسيسه السلطان سليمان القانوني بتقسيم العراق الى ولاياته الكبرى الثلاث الموصل وبغداد والبصرة، وهي الاقاليم الادارية التي دامت حتى الاحتلال البريطاني، وخلال تلك الحقبة كانت مصالح العراق مشتركة بين الولايات الثلاث التي يربطها كل من دجلة والفرات..

ولقد تعّززت الروح العراقية وترّسخ مفهوم المواطنة عند العراقيين المتمدنين (الحضر) اي بمعنى: استقرارهم في المكان والفتهم له وتوطنهم فيه واكتسابهم الوانه وخصائص بيئته وكل جمالياته او قبائحه..

في حين ان البدو المتنقلين من مكان الى آخر، لم يكن في عرفهم اي استقرار في مكان معين، ولكنهم ايضا لهم الفتهم للفضاء المكاني الذي يدورون فيه مكتسبين خصائصه وسماته، بحيث لا يمكن فصلهم عن بيئتهم التي عاشوا فيها اجيالا بعد اجيال.

معنى العراق وطنا:
يبدو ان زمنا طويلا مضى والعراقيون لا يدركون معنى العراق! ولا اقصد بمعنى العراق لغة واصطلاحا، بل أقصده جغرافية وتاريخا. ولا اقصد جمهرة الناس العاديين الذين ليس لهم باع في البحث والتقّصي، ولكن أعني أولئك الذين يتخصصون في شؤون العراق من العراقيين، اذ يتوهمون كثيرا ما الذي يعنيه هذا العراق؟ ومن رسم حدود العراق؟

وهل رسمت في بدايات القرن العشرين من فراغ؟ وهل رسمها الانجليز كما جاء ذلك في محاضرة لأحد الاكاديميين العراقيين مؤخرا في ندوة مركز الامارات للدراسات الاستراتيجية في ابوظبي؟

وهل استيقظ العراقيون هكذا فجأة، ليجدوا أنفسهم في بلاد جديدة صنعها الانجليز لهم كما يجري ذلك اليوم على السنة الكثير من العراقيين وهم اما جهلة غفلة او يتغافلون ويتجاهلون لتمرير ما يريدون على الناس.. والانسان عدو لما يجهله!

لقد ورثت بريطانيا العراق بشكله الحالي عن الاتراك العثمانيين الذين حكموا العراق اربعة قرون بولاياته الثلاث بحدودها التاريخية. وعليه، فان بريطانيا ورثت حدود الولايات وحدود العراق مع ايران بكل مشكلاتها التي تضمنتها 15 معاهدة عقدت على امتداد خمسة قرون.. مؤملا ان نخرج بما ينفع ذاكرتنا اليوم من معان اعتبرها ثمينة جدا.

ولا يمكن التهاون معها ابدا مهما كان هناك من توّجهات مبيتّة لتقسيم وطن اسمه العراق وهذا لابد ان يدركه كل العالم في هذا الوجود.

أ. د. سيّار الجَميل- مؤرخ عراقي [/b] [/size] [/font]

239
العراق غير قابل للتقسيم
   
د. سّيار الجميل 
2006 الأربعاء 18 يناير
 
  أعتقد أن ما سأقوله سيشعل صدور الانقساميين، وهم يبحثون عن بغيتهم في زمن وصل فيه العراق إلى أن يكون رجلاً مريضاً وقد هدته الحروب وأتلفته المضنيات، في حين يجد كل الوطنيين العراقيين بأن أكثر ما يحتاجه العراق، لم شعثه.
 
وترتيب أوضاعه وتقديم أولوياته وتجديد بيته. إن العراق، أحوج ما يكون إلى أن يشد بعضه بعضا، وأن يشعر كل سكانه أنه ملكهم جميعهم، أي لكل تكويناتهم وأطيافهم، فالعراق لا يستطيع أن يحتكره طاغية جلاد إلى الأبد.
 
ولا يمكنه أن يكون بأيدي عصابة مارقة مدى الحياة، ولا يستطيع أن تتجاذبه ملل وتتقاذفه نحل مهما طال الزمن. لقد بقي بمجتمعه وتعايشاته بالرغم من كل التعصبات والأهواء السياسية على امتداد التاريخ.
 
إن العراق، كتلة جغرافية مشتركة واحدة منذ القدم بحكم جغرافيته الصعبة والمهمة وبحكم تنوع مجتمعه في بلاد سميت بوادي الرافدين. ولابد أن يدرك كل الانقساميين بأن لا بدائل للعراق في التاريخ، إلا أن يتصلب جغرافيا بدل أي انقسام جغرافي أو اجتماعي.. انه الموحد الذي اعتبره المعبر الحقيقي عن تاريخ عريق يفخر به كل أبناء وادي الرافدين بعيدا عن واقعهم اليوم المليء المآسي والفواجع. 

إن العراق الذي توارثته الأجيال منذ آلاف السنين، بات سكانه حتى من المثقفين ورجال الدين لا يدركون قيمة بلدهم موحدا، وبالضرورة قد مر المجتمع العراقي بتحولات متنوعة، ولكنه لم يتغير استراتيجية وجغرافية.
 
. لم يتغير دجلة والفرات والزابين وكل شرايين العراق التي تغذي قلب العالم منذ القدم، وإذا كان للتاريخ السياسي قساوته وقد فجع العراقيين بحيث جعلهم فرقا وشيعا وجماعات وطوائف وملل ونحل..
 
فإن التاريخ الحضاري للعراق كان يمشي مشية من نوع آخر، فلم يكن يعرف أبدا كيانات منفصلة ولا تجمعات طائفية مغلقة.. كان العراق مصهرا لكل الأجناس والعقول والأديان والثقافات والفولكلوريات.. فكان أن قدم العراقيون جملة حضارات وحملوا مشاعل عدة ثقافات..
 
إن تاريخنا الموحد كعراقيين لا يسمح لنا أبدا ان نصفق للانقساميين منكرين على الأجيال كلها ما ورثته من بقايا وجذور. وهكذا، فإن أقل ما يمكن أن يقدمه العراقيون اليوم لوطنهم هو حفاظهم على وحدته وعلى حدوده وعلى ثرواته وعلى طاقته.
 
وعلى مستقبله ومصيره كما تسلموه باعتباره أمانة غالية ثمينة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، والا يفرطوا بها مهما كانت الأثمان! إن أي مشروع للفيدرالية (او: الاتحادية ) هو الذي يجمع الأقاليم المنقسمة والمجزأة .
 
والمبعثرة لا أن يجزئ الموحد ويقسمه إلى أقاليم ويبعثر وحدتها وتماسكها بحجة الأخذ بذرائع مرحلية استمر عهدها لأربعين سنة إزاء وجود تاريخي عمره آلاف السنين.
 
لقد كان العالم يتصور بأن الانتخابات التشريعية ستخلص العراق من أمراضه وأوجاعه وأسقامه بالسرعة القصوى، لتسهم الجهود في توطيد اللحمة وينقذ مشروعها البلاد من هوة الانقسامات الطائفية العميقة .
 
وتبعده عن مستنقع التشرذمات وعن كل التشظيات.. ولكن يبدو أن الانقساميين يسرعون في تنفيذ خططهم ويصرون على جر البلاد إلى الانقسام بتشكيل أقاليم لها حكومات دمى محلية عديدة في منطقة قلب الشرق الأوسط..
 
إنهم يلعبون بمصير العراق كله بتمرير مشروعهم على العراقيين الذين لا يدركون عواقب ما سيحدث.. مع وجود قوات التحالف الدولي على التراب الوطني. وأنا واثق أن كل غالبية الشعب العراقي لا تقبل بأي تقسيم للعراق.
 
المصيبة أن كل العالم ساكت على الانقساميين وقد وفرت لهم أغطية سياسية وأبواقا إعلامية ويسخرون لها كتلا جماهيرية باستغلال عواطف دينية أو أهواء طائفية أو تعصبات عرقية!
 
ان التخندقات والاصطفافات التي يجد العراقيون أنفسهم اليوم عليها بعد حكم فاشي أحادي طويل، إنما هي ليست سياسية حقيقية حتى لا نتخوف منها، إذ إن كل شيء يتغير سياسيا.
 
ولكنني أتخوف كونها غدت اجتماعية وفكرية وعاطفية ودستورية يتعامل بها الناس على ارض الواقع مع نسيان أنفسهم كونهم يلعبون بالنار في ظل توازنات مرحلية مؤقتة، اذ ستحرقهم النار بعد تغيير تلك التوازنات واذكروا هذه الكلمات مستقبلا! لإنهم لا يفكرون بأي مصالح عليا للعراق بعد أن أعمتهم الأحقاد التاريخية.
 
إن الانقساميين العراقيين لا يريدون العراق كله، ولكنهم يريدونه منقسما على أهوائهم.. إنهم لم يحسوا بأوجاع كل العراقيين.. بل كل يترك ويهرب إلى حيث يعتقد بأن حاضنته ستحميه، وهو لا يدرك بأن لا حاضنة له إلا العراق موحدا في قابل.
 
إن الانقساميين كلهم ولا أستثني منهم أحدا يراهنون على تقرير مصير جماعة أو على ثروات بيئة أو على طائفة إقليم أو على خصوصيات مزيفة ومتخلفة وهم لا يدركون بأن لكل بلاد جملة من الخصوصيات. إنني أسأل العالم كله:
 
هل يقبل أي مجتمع من مجتمعات المنطقة اليوم وخصوصا تركيا وإيران المجاورتين للعراق أن يعبث بهما الانقساميون، ونحن نعرف بأن كلتا الدولتين فيهما من الأعراق والاثنيات والطوائف والأقليات والقوميات والخصوصيات ما يسمح لهما بهكذا مشروعات وتحت مسميات لا حصر لها.
 
هل يمكن لأي تركي أو إيراني قبول أي مشروع للانقسام مثل هذا الذي يعلن عنه الانقساميون العراقيون؟ إن التاريخ يحدثنا بكل صراحة ان ما من بلد ظهرت فيه هكذا انقسامات حتى فجع في مصيره من خلال بعثرته.. وهيهات هيهات أن يرجع إلى وحدته كرة أخرى!
 
ثمة حلول لمعالجة حقوق الناس العراقيين باتباع نظام الإدارة اللامركزية أو نظام الإدارة المحلية (واستعادة الحكم الذاتي لكردستان بصيغة قانونية ومتطورة جديدة). أما خلق كيانات إقليمية في وطن كالعراق، فإن المسألة أخطر مما تتصورون ويستدعي إيقافها مهما كان الثمن. 

إن مصلحة العراق قبل أي مصالح فئوية أو طائفية أو عرقية اثنية.. وان الإصرار على المواقف سيؤدي إلى الخراب، لأن فتات هكذا أقاليم لا يمكنها أن تعيش بأساليب سياسية حضارية في خضم منطقة غارقة بالأحقاد والتعصبات والتخلف وهي قابلة للاختراقات والانفجارات بسهولة بالغة.
 
إن مصلحة العراق ومبادئه لابد أن تتقدم أي عملية سياسية.. إن العراق بحاجة إلى أهله من دون أي محاصصات تولد الكراهية وتقتل الوطنية.. انه بحاجة إلى العراقيين لا إلى الانقساميين.. 

عراقيون لا يقصون أحدا ولا يهددون أحدا ولا يعذبون أحدا ولا يهمشون أحدا ولا يعملون سياسيا وفكريا وحضاريا إلا من اجل وطن عريق اسمه العراق. إنني واثق بأن العراقيين لا يخالفونني في ما أقول ولكن سيخالفني الانقساميون في كل ما أقول!
 
مؤرخ عراقي[/b][/size] [/font]

240
الديمغرافية السكانية : اللحظة الثالثة





د. سّيار الجميل

       لا مراء ان الوزن الديمغرافي للعرب بلغ 300 مليون نسمة ان لم يكن قد زاد على ذلك بفعل حالات انفجار بشرية ، وهي درجة لم يبلغها العرب ابدا من قبل . وعليه ، فثمة صراع اجيال بين من يتخضرم بين قرنين . ولعل اهم ما يشغل البال تنامي ظاهرة الازمات التربوية التي تعاني منها المدارس والجامعات قاطبة وثمة تساؤلات عن ظاهرة الهجرة من بلدان او ظاهرة العمالة الاجنبية في بلدان اخرى ، فضلا عن العلاقات بين القديم والحديث التي ستبقى الشغل الشاغل للمفكرين الاحرار الذين يشعرون بمخاطر التكوينات الفكرية في خضم هذا العصر .
الجيل الجديد يتخضرم بين قرنين
    لقد مرت اجيال القرن العشرين باربعة مراحل حددّتها بـ :  مرحلة الاستنارة حتى الحرب العالمية الاولى ، ومرحلة الليبرالية في ما بين الحربين العظميين ، ثم تبلورت مرحلة المد القومي لما بعد الحرب الثانية .. وصولا الى مرحلة اسميت بـ ( الصحوة  الاسلامية ) التي نمر بمخاضها اليوم منذ العام 1979 وفيها سيتخضرم جيل جديد يسعى في تكوينه اليوم كي يدخل ميادين الحياة مع نهاية هذا العقد الاول للقرن الواحد والعشرين ..انه جيل بدأ في ظل معضلات تمثلّتها زيادة سكانية استثنائية حتى في تاريخ العالم .. وهي المرحلة التي يسميها فيليب فاركوس بـ " اللحظة الثالثة " . وانني اعتقد بأن هذه " اللحظة " هي التي تشكّل المحور الاساسي لبدء حياة تاريخية جديدة ستبدأ مع العام 2009 وتنطلق نحو المستقبل .
   
     دعونا نتأمل قليلا في المعلومات الاكيدة في ادناه :
    كان العرب يشكلوّن نسبة 2.2 % من مجموع سكان العالم وارتفعت هذه النسبة الى 6. 4 % في العام 2000 بوجود 280 مليون عربي ، ومن يشاركهم العيش من القوميات والاعراق  المتآخية . ويعّلق العديد من المختصين الغربيين هنا ، على ان الاهمية ليست عددية حسب ، وانما بمستوى الانتقال المكثّف من منطقة الى اخرى وهما تشكّلان مؤشرّين فعّالين بتأثيرهما المتوارث عن " الخصوصيات التاريخية " ! واذا كان البعدان الاسلامي والعربي لهذه المنطقة من العالم قد حظيا باهتمام الكثير من العلماء والباحثين كما تدل الادبيات العديدة ، فان المنطقة بحد ذاتها لم تكتسب اهميتها بسبب ثرواتها النفطية حسب ، بل بسبب موقعها واستراتيجيتها في قلب العالم اولا. ثمة من يؤكد على ان الديمغرافية البشرية هي البعد الثالث .
     انني اقول بأن الديمغرافية لا تعتني الا بالكم ، ونحن في كل عالمنا العربي والاسلامي اليوم لسنا بحاجة الى اعداد بشرية مليونية كبرى غير منتجة ولا متعلمة تشقى شقاء الحياة والعيش والبطالة والتعاسة ، بل علينا بالنوعية التي لا تكتمل الا بتربية الاذهان وتحسين ظروف الانسان ، أي بمعنى : استعادة التفكير المستنير في حياة العرب والمسلمين بدل اطباق الجهالات والتخلف والتكلّس والاستهلاك في كل المجالات . فكيف باستطاعتنا ان نخلق ثلاثة اجيال تتداول الحياة وتسعد في حياتها المنتجة والمنتظمة ويتعّلم كل جيل من سابقه .. اقصد ما الذي يمكننا فعله في الجيل الجديد الذي سيتسلم مقاليد الحياة بعد العام 2009  ليستمر حتى العام 2099 ؟
مشروع مبادئ مستقبلية
     ثمّة مبادئ وأهداف وغايات تضمنها برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية للعام 1994، ولابد من تجديد التزامنا بالمبدأ الخامس منه . مؤكدين على أهمية الجهود الإقليمية المثمرة التي ساهمت في تحسين الأداء نحو تحقيق مستويات أعلى في التنفيذ  . وهنا لابد من الالتزام ببذل المزيد من الجهود للمضي نحو التحقيق الكامل للأهداف المعتمدة. إننا ندرك أن الإستراتيجيات والأهداف المرجو تحقيقها على المستويين الوطني والإقليمي تتطلب تضافراً في الجهود وتعاوناً وثيقاً بين جميع الجهات المعنية بمجالات السكان والتنمية، سواء في ذلك الحكومات أم القطاع الخاص أم مؤسسات المجتمع المدني أم المنظمات الإقليمية العربية والدولية، وذلك في إطار شراكة حقيقية تتيح التواصل وتبادل الخبرات، وتكامل الأدوار ضمن مشاريع وبرامج تضم جميع الشركاء وتستهدف تحسين نوعية حياة مجتمعاتنا . وأن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية يستلزم تهيئة بيئة سياسية وأمنية مستقرة وداعمة لجهود الحكومات وسياساتها الرامية إلى تحقيق التنمية المستدامة. وهنا لابد من :
اولا : دعوة الحكومات إلى تفعيل السياسات السكانية واستراتيجيات التنمية البشرية  وتطوير مصادر التمويل الذاتية من خلال مبادرات الهيئات المحلية والقطاع الخاص وتوظيفها في تنفيذ السياسات السكانية .
ثانيا : دعوة الحكومات إلى توطيد المجتمع المدني لتهيئة بيئة مؤاتية للشراكة في مجال السكان والتنمية، بكل الشفافية والديمقراطية. والاسراع من قبل دول مجلس التعاون الخليجي على معالجة ظاهرة آثار العمالة الوافدة باساليب غاية في الذكاء بحيث لا يؤثر ذلك على تطوراتها  الاقتصادية والانمائية .
ثالثا : دعوة الحكومات إلى الاستفادة من النافذة الديمغرافية في الجيل الحالي، باعتبارها فرصة فريدة للإسراع في وتيرة التنمية المستدامة ، وتطبيق سياسات للتشغيل تعينها على الاستفادة من القوى العاملة المتزايدة، وتحقيق الأهداف الإنمائية المنشودة ومحاربة ظاهرة بطالة الشباب وفقر المرأة، وتلبية احتياجات المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة.
رابعا : دعوة الحكومات إلى تكثيف الاهتمام بظاهرة هجرة العمل العربية وإدراجها في السياسات الوطنية التنموية، وتوطيد العلاقة مع الكفاءات المهاجرة والسعي إلى جذبها إلى بلدانها الأصلية، وتعزيز دورها في جهود التنمية ونقل المعرفة واتخاذ الإجراءات والتدابير الكفيلة بالحد من هجرة الأدمغة.
خامسا : دعوة المجتمع الدولي إلى مواجهة الأضرار الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة، وآثارها على الأسرة، وبخاصة على النساء والأطفالً. مع تأكيد أهمية وفاء الدول والمؤسسات المانحة بالتزاماتها المالية التي تعهدت بها.
سادسا : تقدير القيمة العالية للشباب، باعتبارهم عنصراً أساسياً لتحسين الحاضر وصنع المستقبل، والتشديد على إيلائهم الأولوية والرعاية، والوفاء باحتياجاتهم وتحسين نوعية حياتهم، وتمكينهم معرفيا وتوفير الخدمات اللازمة لحمايتهم من الامراض المعاصرة .
سابعا : تأكيد أهمية تمكين المرأة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإيصالها إلى مواقع اتخاذ القرار وحمايتها من أشكال التمييز والعنف ، وضمان الحقوق الإنجابية لكل من المرأة والرجل، بوصفها جزءاً من حقوق الإنسان.
ثامنا : تعزيز أنشطة الإعلام والتثقيف والاتصال المتعلقة بقضايا السكان والتنمية وإبراز دور الإعلام كشريك في التوعية العامة بمتطلبات عملية التنمية والتطوير .. ناهيكم عن الوعي والمعرفة والتفتح في الذهنية والتفكير .
فهل ستتحقق جملة من التطلعات الإنمائية التي تطمح إليها بلداننا ، سعياً إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي للاجيال الثلاثة القادمة ؟

البيان الاماراتية

"الجريدة" www.aljareda.com




241
فضائيات عقيمة
اعلاميون مضللّون ومتكلمون بدائيون   !!

أ. د. سّيار الجميل
مؤرخ عراقي
الكلام : قيمة ثمينة
    ليس أشقى على المرء ان يستمع الى جملة من التضليلات والتزويرات والحوارات غير المتكافئة ولا المنسجمة التي تعرض على الملايين من الناس في القنوات الفضائية العربية ، خصوصا اذا كان المتحدثون من اعلاميين وساسة ورجال دين .. لهم سماجتهم وهم لا يدركون الف باء الثقافة العامة ، فكيف اذا دخل هؤلاء الادعياء المضللون معترك الفكر والايديولوجيا والسياسة بحق وحقيق ؟؟ انهم لا يصلحون ابدا ان يكونوا من المتكلمين ، فالكلام قيمة ثمينة لا يمكن ان يغدو في بيوت الناس هذيانا وخطلا فيه كل السماجة او السذاجة او الفجاجة !! هذا ما اجده في العديد من الفضائيات العربية التي يشارك فيها كل من هّب ودبّ من دون اي تخّصص او لياقة او اصول او منهج او اساليب ..
 
شقاء الوعي
     ان الاعلاميات العربية قد غدت ميادين لاشباع رغبات جامحة لأناس بدائيين او متوحشين او دجالين لا يدركون معاني ما يحكونه ، او يخرج علينا بين الفينة والفينة من  وضع العمامة على رأسه كي يخيف الناس وهو يلعب دورا تحريضيا على اشياء لا وجود لها يختلقها من العدم ويوهم الناس بأنها موجودة ، فمهمته التزوير وهكذا تلاقح بالدجل وتمّرس عليه .. وتتفاقم المشكلة التي دوما ما اعبّر عنها بـ " شقاء الوعي " في حياتنا .. فالشّقي بوعيه يضرب كفّا بكف عندما يجد بأن المعلومات تشّوه ، والافكار تهمّش ، والمفاهيم تغّيب والوقائع تزّور .. لم يعد الانسان يحتفظ باحترامه وكرامته وسط ميدان تتعّرى فيه كل القيم وتتجرد الحياة من تجلياتها.. محاورون ومحاورات وضيوف ثقال الدم ومستعرضو عضلات ورجال دين ومتطفلون وطفيليون  لا يعرفون غير اطلاق التهم واثارة الشغب وهم يحرّضون على القتل والغدر أو حتى التكفير والارهاب .. انهم يتوزعون في عدد من الفضائيات العربية ويشتهرون ببرامجهم وحواراتهم التي غدت بليدة وسمجة على المستمعين والمشاهدين الاذكياء في كل مكان من الارض .

الاعلاميون العرب : سذاجة مخيفة
      انني اراقب بين حين وآخر – عندما يسمح الوقت - عدة من هذه البرامج الحوارية على شاشة التلفزيون وأسجل في ذاكرتي جملة من الملاحظات والانتقادات التي اتمنى ان يتنبّه اليها اشهر مقدّمي تلك البرامج ومقدماته والمسؤولين عليهم من ربابنة المحطات الفضائية .. اذ لابد ان ينزل اولئك المحاورون من ابراجهم العاجية التي خلقوها لأنفسهم ، او خلقها لهم من نصّبهم أوصياء على الاعلام العربي المرئي في السنوات الاخيرة ، وهم يفرضون افكارهم وآرائهم السياسية والمؤدلجة مع من يقابلوه ، ويفرضون انفسهم فرضا من دون اي حيادية ولا موضوعية ويجعلون انفسهم بموقع الضيف بتصنع مضحك !
     ما لكم ايها الاعلاميون وانتم تختلقون اسئلة ساذجة من اجل اثارة من تقابلونه ، وانتم باسلوبكم تتجاوزون الحدود عدّة مرّات بحجة تصنعّكم كلما تطلّون علينا وكنتم وما زلتم تلبسون اقنعة مرة راديكالية ومرة دينية ومرة ليبرالية ومرة قومية وكلها لا معنى لها ابدا .. وأنكم تصّرون على تصنّعكم بمعلوماتكم الخاطئة . وكم كنتم تغالون في اصراركم كونكم تنتزعون اجوبة تحسبونها مهّمة وهي واهية لا نفع فيها .. تأخذون حريتكم في تبادلكم الرأي وانتم لا تدركون اصول الحوار  وكنتم بحاجة الى اكثر من دورة صحفية واعلامية يعلمونكم فيها اصول الحوار وكيفية صياغة الاسئلة   " فالسؤال فلسفة كاملة " ـ كما يقولون ـ وبينكم وبينها بون كبير .. لقد وصل بكم الحد الى التمادي في الاخطاء وخصوصا عندما تتكلمون في موضوعات لا خبرة لكم فيها ، وهذا ما ينسحب على عدد غفير من الاعلاميين العرب ذكورا واناثا ، اذ قلما نعثر على اعلامي عربي ناضج ثقافيا وله قوته في اللغة وتواضعه في الحوار وتأثيره في الثقافة !! 

ما اروعكم ايها المحترفون
     لا أسألكم ايها الاعلاميون العرب ما قوة تحصيلكم العلمي ؟ ولا ندري كيف استطعتم ان تجدوا اماكنكم في الاعلام العربي الذي يأبى الا ان يكون ضعيفا مهزوزا بسبب ضعف وهزال كوادره التي تعمل في الصحافة والاعلام المرئي ؟؟ كيف وجدتم ضالتكم في قنوات فضائية لم تتحرر من عدم الاهتمام واللامبالاة مقارنة بما تتحّلى به اجهزة الاعلام العالمي من صرامة العمل والكفاءة  .. ولا ادري كيف يمكن لمثل هذا العدد من الفضائيات بالعربية ان تستمر وهي تقوم بادوار تستهزئ من خلالها بعقول الناس وهم بالملايين ! ثمة بعض الاعلاميين العرب يعدّون من اروع المهنيين المحترفين في حواراتهم واجتذابهم مشاهديهم بحلو حديثهم لا بعرض اشكالهم وازيائهم ووجوههم الكالحة وشواربهم الكثة ، بل لخفة دمهم وسرعة بديهيتهم وطلاقة عبارتهم ! انني هنا أشد على ايدي العديد من الاعلاميين العرب اللامعين نسوة ورجالا ، فهم يعدّون من امهر الناس في الحوار وجذب الاهتمام وحلو الحديث وعمق الثقافة وسعة الاطلاع وسرعة البديهة .. فهل لنا ان نجعل منهم مدرسة يتخرّج فيها الاخرون ؟

الفضائيات المدمّرة للمشاعر
     لقد تجاوزت بعض القنوات كثيرا على مشاعر الناس بكل ما تعرضه من اعلام متعمد يثير المشاكل ويلهب النعرات ويؤذي النفوس .. ولم تنفع مع هكذا اعلام موجّه اي احتجاجات ولا اي نقدات ، بل انه بحاجة الى الزمن كي يذوب ويتلاشى ويختفي كما حدث قبل خمسين سنة عندما كان الاعلام الاذاعي تؤججه الاحقاد السياسية فكان يلهب المشاعر ويؤججها من دون اي حقيقة يعكسها .. وهذا ما حدث لاعلاميين عرب كبار فرّطوا بمسؤولياتهم ، وجعلوا الاعلام اداة للشتائم والسباب وتأليب الرأي العام والخروج على كل الحدود والاعتبارات . 
    وأسأل : لماذا يزّج الاعلاميون بانفسهم في خضم موضوعات سياسية واجتماعية خطيرة لا تخصّهم مباشرة ، اذ يخشى اصحابها الحقيقيون ابداء وجهات نظرهم فيها ، في حين غدا الاعلاميون اوصياء عليها وعلى غيرها وهم يوزعون الاحكام ، ويقدمون تعليقات غير لائقة على ما يقوله ضيوفهم ! ولماذا لا يعرفون حدود الموضوع ولا سقفه ولا عناصره ؟؟ هل تعتقدون بأنكم محاورين كاولئك الاعلاميين العالميين ؟ ابدا ، فبينكم وبينهم مسافات شاسعة خصوصا عندما نعلم بأنهم اعمدة في الاعلام المحترف والثقافة والصحافة العالمية ..

وأخيرا : ماذا نريد ؟
  ان الفضائيات العربية لابد لها ان تقوم على اسس سليمة وان يجمعها ميثاق شرف واحد ينص على جملة من الاعتبارات الاخلاقية والمهنية والاعلامية من اجل تأسيس تقاليد اعلامية عربية ملتزمة كي تنقل ما تعبر عنه الارادة الجمعية لهذا المحيط الكبير الذي يتكلم اهله بالعربية بينهم وبين انفسهم وبينهم وبين العالم . اننا بحاجة الى نقل الثورة الاعلامية العربية من عملية مضحكة تافهة يذهب فيها الثمين بسعر الرخيص الى عملية حضارية متطورة لها قواعدها واصولها وقيمها وتقاليدها يبحر فيها المحترفون والاذكياء والمخلصون والمبدعون. فهل بلغت رسالتي اليكم  هذه المرة .. أتمنى ذلك ايها الاعلاميون العرب الاعزاء .[/b]

242
 
  البرلمان العربي.. وليد مخاض كسيح




  بقلم :د. سّيار الجميل 
 
 
 
  عندما انتقدت هذا «المشروع» قبل عام في مقال بعنوان (البرلمان العربي أضحوكة جديدة: خطاب مفتوح أمام العرب) 28 يناير 2005، وبعده بمقالات أخرى، طالبت عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية الإجابة عن تساؤلات ليست مبهمة صعبة.
 

بل هي في صلب ما يتطلبه التفكير والواقع العربيان، لكنه بدل أن يجيبني بكل شفافية وتواضع، راح مستشاره الأخ طلعت حامد ينشر رداً غير لائق على مقالتي مبتعداً عن تساؤلاتي المشروعة ومضمّنا إنشاء وتسطيحاً للأمور وإشباعاً للعواطف وترضية لمقام الأمين العام.. وسكتت الأمانة العامة من دون ان تعّلق على الرد الذي كتبته..
 

وبدل ان تحترم كل ما يطرحه المفكرون والمحللون العرب سلباً وإيجاباً، وهم يعبّرون عن إرادة مجتمعات عربية تعيش أسوأ أيامها وتمّر بمخاض عسير في تاريخها، تذهب لتطبق مشروعات رسمية من دون ان تقنع الرأي العام العربي بما تفعله، وكأننا نعيش في عصر الظلمات!
 

لقد مرّت هذه «المنظمة» بمراحل عدة لم تعش أسوأ مما تعيشه اليوم بسبب خلطها بين المسائل الفنية وبين الرؤية السياسية، بل وخلطها الأوراق متقصّدة ترويج بضاعات الماضي العقيم ومتبعة أسلوب الشعارات المؤدلجة والعواطف كي تسكت الحاجات الملحّة لمن يسعى نحو الإصلاح الحقيقي.
 

وكم صدر من مقترحات عملية على الساحة العربية منذ سنتين سواء في اجتماعات الإسكندرية أو غيرها.. ولكن الجامعة لم تزل تعيش هوس الماضي.. بل وإنها لم تسع لتلبية ما تحتاجه المصالح العليا، فما يصدر عنها من مواقف يعّبر بالضد إزاء طرف ضد طرف آخر.
 

لقد سمعنا مؤخرا عن انبثاق البرلمان العربي وأسمي بـ «الانتقالي»، وعالمنا العربي يعيش مخاضا صعبا من الأحداث والتغّيرات. ان العقلاء العرب يدركون، بل ويعتقدون ان أي مؤسسة تنبثق عن هذه الجامعة لا تزيد حياتنا إلا تعقيداً وإرباكاً وبعثرة للثروة بدل كل ما قيل من أحلام وشعارات واستعراض عضلات..
 

هذه المؤسسة ما هي إلا مجرد معضلة تضاف إلى مشكلاتنا التي لا تعد ولا تحصى.. ومن يؤيد هكذا مشروع فهو واهم على اشد الوهم لأن هكذا شعارات لم تصلح العرب منذ ستين سنة، فكيف بها تصلحهم اليوم، وهم في عصر متغيرات جديدة صعبة ؟
 

لقد دشن عمرو موسى يوم 27- 12- 2005 أعمال هذا البرلمان الانتقالي معتبراً إياه مؤسسة جديدة أضيفت إلى منظومة العمل العربي المشترك مستطردا بأن: «التطور الديمقراطي في العالم العربي ينطلق». وتتضمن اختصاصات البرلمان:
 

«البحث في سبل تعزيز العلاقات العربية العربية في إطار ميثاق الجامعة العربية وأنظمتها والمواثيق والاتفاقيات العربية السارية، وايلاء الاهتمام للتحديات التي تواجه الوطن العربي وعملية التنمية فيه.
 

وخاصة في المجالات الاقتصادية والبشرية والتكامل الاقتصادي، وكذا إقامة علاقات تعاون مع الاتحادات البرلمانية والبرلمانات الدولية والإقليمية والوطنية، بما يخدم مصالح الأمة العربية والأمن والسلم والاستقرار في المنطقة».
 

وهنا نسأل الأخ عمرو موسى: أليست هذه شعارات سمعناها منذ ستين سنة؟ أي تطور ديمقراطي هذا الذي ينطلق من مؤسسة مشلولة؟ أي تطور ديمقراطي نبّشر به العرب من خلالها؟ أي دور تجميلي محض سيلعبه هذا البرلمان؟ أي تسمية هذه نضحك بها على الناس الذين ينتظرون الإصلاح الحقيقي؟
 

أي برلمان يؤسس بلا سلطة تشريعية؟ أي برلمان هذا الذي يشترك فيه 4 أعضاء من كل دولة؟ من الذي يرشحهم؟ ما دورهم؟ ما تأثيرهم؟ ما فعلهم؟ ما تخصصاتهم؟ ما الذي سيفعلونه؟ لماذا كل هذا الاستهزاء بالإرادة العربية ؟ أي وسيلة هذه ولأي غاية؟
 

أي نخبة نيابية أو فئة نقابية أو حركة شعبية يمثلها هذا الوليد الكسيح؟ أي مقصد سام له وأي توسيع للمشاركة الشعبية في مناقشة المشكلات وبلورة السياسات في هذا العصر؟ ما نفع هكذا برلمان إزاء برامج عمل عربية مشتركة بعينها؟ وإذا ولد كسيحا ها هنا، فكيف به يكون عملاقا في هذا العالم الصعب؟
 

ما هذا الإصرار؟ وما هذه الأوهام التي تأبى الجامعة العربية إلا أن تبقى في بؤرتها؟ أي ذراع تشريعي تضيفه جامعة الدول العربية إلى ذراعها التنفيذي؟ هل لديك يا أخ عمرو دولة ومؤسسات أم لديك منظمة إقليمية؟ أي سلطة تنفيذية تتمتع بها حتى تضيف إليك سلطة تشريعية؟ ولمن تشّرع؟ وبأي دستور؟
 

وبأي قاعدة؟ وبأي قانون؟ وإذا كنت تؤسس برلمانا انتقاليا على أمل تأسيس برلمان دائم.. فبأي صلاحيات يمكن ان يستمدها البرلمان وأنت لست صاحب سلطة، فأنت أمين عام لمنظمة حدد الميثاق صلاحياتك. فإذا انبثق البرلمان عن الجامعة، فمن هو الأكبر البرلمان أم المنظمة؟
 

من قال لك ان آمال وتطلعات الشعوب العربية لا تحتمل التأجيل والإرجاء وكأن العرب كلهم لم ينتظروا إلا البرلمان العربي؟ لقد مضى زمن الهوس والشعارات والتهويل لجيل لم يعد يسمعه أحد! ! إننا في زمن ثورة إعلامية ومعلوماتية واقتصادية وبرامجية.. وهل مجرد مشاركة لنواب برلمانيين معينين سيحسمون قضايا الأمة؟
 

هل سيقوم كل شعب عربي بانتخاب أربعة يمثلونه في قضايا الأمة وهو لم ينجح إلى حد اليوم في من يمثلّه في برلمان بلده؟ وهل يلبي كل ذلك تطلعات شعوبنا نحو مزيد من الديمقراطية؟ أي ديمقراطيات هذه التي يتحدث عنها العرب؟ وسواء كانت دمشق أم غيرها مركزا لهذا البرلمان..
 

فما الذي يفعله الأعضاء الـ 88 عندما يجتمعون في السنة مرتين والأحداث العربية تتضخم بكل أثقالها يوما بعد آخر؟ أتساءل وليفكر معي كل أذكياء الأمة: ما فائدة هكذا مؤسسة كسيحة سيصرف عليها الملايين إزاء برنامج تلفزيوني إعلامي واحد ناجح يستقطب الملايين وهم في بيوتهم عن فضائية تنشدّ إليها الناس؟
 

وأخيرا أقول: أي نظام أساسي هذا الذي اعد للبرلمان الانتقالي؟ أي سبعة اختصاصات هذه التي من أبرزها: «مناقشة الموضوعات المتعلقة بتعزيز العمل العربي المشترك وإصدار آراء وتوصيات بشأنها وايلاء الاهتمام إلى التحديات وعملية التنمية في العالم العربي». كما تتضمن اختصاصاته «مناقشة مشاريع الاتفاقيات الجماعية العربية»؟
 

وإذا كان الأخ عمرو موسى قد وصفه بسلطة تشريعية فما معنى ما نصّ على: «لا يحق له إلا إصدار توصيات وليست له أي صلاحيات تشريعية وهو أمر يتفق مع طبيعة التطور الديمقراطي في الدول الأعضاء التي لا تمتلك جميعها برلمانات تقوم بدور تشريعي»؟؟. إلى متى يحرق العرب زمنهم؟ متى تصبح أقوالهم أفعالاً؟ وهل سيكتب النجاح لهكذا تجربة عبثية؟ دعونا ننتظر ونر.
 
 

243
توقعات المستقبل المنظور: 2005 تلد 2006 ولادة قيصرية!!


د. سيّار الجميل
(نص مترجم لمحاضرة الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في اجتماع الهيئة الدولية منتدى دراسات المستقبل – بوردو)

" إذا بقيت آسيا على أوضاعها المحتدمة وشيخوختها الحضارية وثقافاتها المتخلخلة وأثقالها من المشكلات الصعبة وأحمالها من الأزمات القوية فسوف تصطادها أمريكا من قريب أو بعيد بإجراء ولادات قيصرية للعديد من مناطقها الجيوستراتيجية عند بدايات القرن الآتي اثر تحييد كل من الاتحاد السوفييتي والصين ". (الاستاذ المستشرق الراحل البرت حوراني في حديث مع سّيار الجميل/ بكلية سانت انتوني / جامعة اكسفورد، صيف عام 1985)

الاصدقاء الاعزاء
اسعدتم صباحا وانها فرصة ثمينة ان نلتقي في منتدى دراسات المستقبل كي نتبادل الشأن العام والخاص لمناسبة توديعنا سنة 2005 واستقبالنا سنة 2006.. دعوني اقدم لكم بعض التحليلات وما اراه من توقعات ازعم انها مهمة كونها حصيلة تأمل في المنهج ودرس مقارن للاحداث.. دعوني اقول بأن ولادة 2006 ما هي الا عملية قيصرية لما عشناه من حالات معقّدة جدا من الاحداث التاريخية على العام 2005، واعيد واكرر بأن سيرورة هذه الحزمة من الاحداث ستقفل في العام 2009، اي بعد اربع سنوات من اليوم ونحن نوّدع العام 2005. اشكر الصديق القديم بروفيسور توماس لنك على تقديمه لي وملاحظاته الثمينة في تحليل فلسفتي للزمن وتجربتي المتواضعة في التكوين التاريخي. انها مناسبة مهمّة جدا ان اشارككم اجتماعكم الذي طرحت فيه دراسات ورؤى مستقبلية غاية في الاهمية، وخصوصا تلك التي تناولت تطور دور الاعلام العالمي وتأثيره في سيرورة الحدث والنقلة النوعية في العلوم والتكنولوجيا والمعلومات للعام 2005. فما الذي وجدته؟ انني اجد ولادة قيصرية للعام 2006 عن مخاض صعب مر به العالم في 2005.

مقدمة:
لقد سجل التاريخ العالمي للبشرية أن سنة 2005 هي حلقة قوية من سلسلة أحداث كارثية مهمة جدا في التقدم باتجاه صناعة عصر تاريخي جديد ستبدأ فيه أولى محاولات تأسيس عولمي واضح لنظام عالمي اقتصادي جديد تشترك فيه كل الكتل الاقتصادية الكبرى في العالم ويتوضّح فيه ضمن اقتسام ليس الدول حسب، بل المصالح في القارات ذات المجالات الحيوية في العالم وخصوصا في قارة آسيا التي بدأت الاختراقات الأمريكية فيها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ضمن مسألتين أساسيتين، هما: المسألة الأفغانية والمسألة العراقية. فإذا كانت الولايات المتحدة قد بدأت الحرب ضد ما أسمته بـظاهرة " الإرهاب " العام 2002، فان اندراج المسألة العراقية قد استعدت لها في العام 2002 وقد شغلت قرابة ثلاث سنوات 2003-2005 وربما ستشغل العام 2006 وما يتلوه من العام 2007 وبكل تداعيات الحرب التي ربما لم تكن حاسمة لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المباشرة بترتيب أوضاع الشرق الأوسط وخريطته الجيو بوليتيكية على نحو جديد لا يمكن تصوره. ولكن لا يمكن ان يغرق العرب ومن يحيطهم في التفاؤل، فان ما تخطط له الولايات المتحدة الامريكية شيئ وما تعلنه للعالم شيئ آخر! لقد كانت سنة 2005 مثقلة بالمكاره والضغوطات والمعاناة والتوحش التي رافقت كل الاحداث في اجزاء عالمنا العربي وخصوصا في منطقتنا المشبّعة بالمتغّيرات السياسية سواء في العراق ام سوريا ولبنان ام فلسطين ام مصر والسودان ومناطق حيوية اخرى!

تغيير منظومة الشرق الاوسط
واعتقد أن العملية من التغيير لمنظومة الشرق الاوسط ستستغرق سنوات هذا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وتفيدنا مراجعة دقيقة ومركزة لأحداث السنة 2005 بأن كل التطورات الساخنة والمهمة الطبيعية والسياسية والعسكرية قد حدث اغلبها في قارة آسيا. وان ما شهده العالم كله في سنة 2005 من كوارث طبيعية كبرى قد أضّر بحالة الاقتصاد العالمي ضررا كبيرا.. ان مجموعة الزلازل التي ضربت قارة آسيا في المحيطين: الباسيفيك والهندي قبل ايام من بدء 2005، فضلا عن موجة الزلازل التي ضربت كشمير بين الباكستان والهند قد اضّر جدا بعدد من المجتمعات الاسيوية ناهيكم ما اجتاح الولايات المتحدة من اعاصير طبيعية. فقد قابل هذا كله تحّول تاريخي واسع النطاق في البنية السياسية لمنظومة الارهاب التي يقف العالم منها موقف الضد وما سببّته هذه الظاهرة من عمليات في اماكن حساسة في العالم وخصوصا بعد ان وجدت في العراق بيئة صالحة للتغلغل والتأثير على العالم.. لم تجد أفغانستان نفسها مؤهلة لاستقطاب الارهاب كما حدث في العراق وبالرغم من سيرورة العملية السياسية في كل من افغانستان والعراق وقد تشهد افغانستان انتخابات رئاسية وتشريعية وسط تصاعد هجمات عناصر طالبان كما حدث في العراق، الا ان الثقل التاريخي واضح للمؤرخ الجاد تماما في سيرورة ما يحدث في العراق مقارنة بافغانستان ويعود ذلك كله الى استراتيجية المجال الحيوي التي يتمتع بها العراق حتى نهاية القرن الواحد والعشرين ان بقي العراق بلدا موحّدا اذ بدت عدة مشروعات في العراق عبر سنة 2005 ومن قبل بعض العراقيين الانقساميين الذين لا يريدون ابقاء العراق وحدة جغرافية موحدة.
ان من ابرز ما حدث في العام 2005 بالنسبة للمنطقة يؤكد بأن الاحداث كان لها وزنها المؤّثر في المحيط الاقليمي، فلقد سحبت إسرائيل قواتها من قطاع غزة بعد احتلال دام 38 عاما. اما في السودان، فكان 2005 قد بدأ محتفلا بتوقيع اتفاق سلام بشأن ملف الجنوب السوداني بعد 20 عاما من المواجهات المسلحة الصعبة في الاتفاق يوم 9 يناير/كانون الثاني لينهي أطول صراع في تاريخ القارة السمراء. ولكن لم تمر سوى ثلاثة أسابيع على تسلم قرنق منصبه نائبا أول للرئيس حتى قتل في حادث تحطم طائرة وقع في غرة أغسطس/آب 2005 ليعيش جنوب السودان في حالة حداد. وقد استمرت المواجهات خلال العام في إقليم دارفور بغرب السودان، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية. ويبدو لي ان 2006 سيخرج من رحم 2005 اكثر قوة في تصفية المزيد من حسابات الماضي الموروث في القرن العشرين.

متغّيرات العالم مع صدام الحضارات / الثقافات
اولا: ما المعنى؟
كثيرا ما رفض العرب نظرية " صدام الحضارات "، ولكنهم لم يقنعوا العالم بتأويلاتهم الساذجة. وربما كان صدام الثقافات اقوى بكثير من صدام الحضارات لاختلاف التعايشات الثقافية في مجتمعات غربية عديدة بدأت نتائجها تطفو على السطح عام 2005. ان صدام الحضارات / الثقافات قد اخذ يتقدم شيئا فشيئا باتجاه انقسام العالم، ولم يعد هناك من يتغّنى بمسألة وهمية اسموها بـ " حوار الحضارات " وخصوصا من قبل البعض من المفكرين والكتاب الطوباويين العرب والايرانيين، ذلك لأن العالم في اماكن عدة لم يعد يأمن على نفسه اذ يخشى تفاقم حدة الصراع المختفي بين حضارتين.. ولقد ترجمت الاحداث والاضطرابات الساخنة وموجة حرق السيارات التي شهدتها فرنسا قبل ايام عن تفسيرات واضحة لمثل ذلك " الصراع " الذي لا اعتقد ابدا أنه صراع من اجل المعيشة والمصالح بقدر ما هو صراع بين ثقافات تتباعد شقة الخلاف بينها!! واتمنى الاهتمام بهذه النقطة واشباعها درسا، فالمسألة ستكبر لا محالة مع توالي الايام. ولابد من اتخاذ ما حصل في فرنسا في نهايات العام 2005 مذ شهدت اضطرابات في العديد من الضواحي الباريسية الفقيرة.. فما معنى ذلك؟ واعتقد ان مرحلة جديدة ستبدأ مع العام 2006 تتصادم فيها القوى المهاجرة مع السكان الاصليين بعد مرحلة صراع التقاليد وهذا ما لمسناه في كل من هولندا وفرنسا والمانيا واستراليا وغيرها.

ثانيا: متغيرات الغرب
ان الولايات المتحدة تتعرض لانتقادات بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان شملت أعمال تعذيب ضد معتقلين. رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يفوز بولاية ثالثة، وأنجيلا ميركل تصبح أول امرأة تشغل منصب المستشارية في ألمانيا. الناخبون الفرنسيون والهولنديون يعارضون الدستور الأوروبي الجديد، والاتحاد الأوروبي يفتح محادثات لانضمام تركيا لعضويته. الرئيس الأميركي جورج بوش يبدأ ولايته الثانية، وانتخابات في بوليفيا تؤكد صعود اليساريين إلى دفة الحكم في أميركا اللاتينية. رئيس الوزراء الياباني جونشيرو كويزومي يجازف بإجراء انتخابات مبكرة، لكن حزبه يفوز فيها بأغلبية كبيرة. ولقد كانت وفاة البابا يوحنا بولص الثاني بعد صراع طويل مع المرض، واختيار الكاردينال الألماني جوزيف راتسينغر خلفا له في العام 2005 بداية لعهد بابوي جديد لا اعتقد ان له اي تأثير سياسي فعّال في العالم، بقدر ما سيكون للكاثوليكية من تأثير اجتماعي اذا ما كان للبابا الجديد شخصية كاريزمية مؤّثرة في انجذاب ملايين الناس اليه. اما روسيا، فهي منشغلة بمشكلاتها الداخلية ولعّل اخطر ما يواجهها احداث التمرد واسع النطاق في الشيشان باستمرار المواجهات في الشيشان وباقي مناطق القوقاز الروسي. ولابد من معرفة ان الصين قد اصدرت وثيقة سياسية لطمأنة العالم إلى أن نموها الاقتصادي السريع لا يمثل تهديدا بعد إعلانها أن اقتصادها يزيد بنسبة السدس عما كان يعتقد سابقا. منظمة التجارة العالمية تتوصل في هونغ كونغ إلى اتفاق تاريخي لإحياء محادثات معاهدة التجارة الحرة، ومناهضو العولمة يتظاهرون احتجاجا على ذلك. اليورو يسجل مزيدا من الانخفاض أمام الدولار، وأسعار النفط تتجاوز 70 دولارا لكل برميل. ولم تخل آسيا من مشكلات سياسية في العام 2005، ويمكن الوقوف ازاء ما حدث في آسيا الوسطى اذ بدأت قوات أوزبكية تطلق النار على محتجين وتقتل المئات وفقا لإحصائيات جماعات حقوق الإنسان.

الكوارث والبيئة
بدأت الدول المطلة على المحيط الهندي منذ الايام الاولى للعام 2005 بلملمة جراحها بعد الإعصار تسونامي الذي عصف بها في ديسمبر/ كانون الأول 2004 وخلف نحو 217 ألف قتيل. هزة أرضية تضرب ولاية كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان وتخلف أكثر من 73 ألف قتيل ونحو 3.5 ملايين مشرد. الإعصار كاترينا يضرب مدينة نيو أورليانز الأميركية المطلة على خليج المكسيك ويقتل أكثر من ألف شخص. واجتاحت المجاعة خلال العام 2005 كلا من النيجر وزامبيا وأجزاء من دول غرب أفريقيا. وهدد انتشار وباء الكوليرا حياة الملايين في كل من غينيا بيساو والسنغال وأنغولا. وان الأوضاع الاقتصادية السيئة دفعت إلى موجات هجرة نحو الشمال باتجاه إسبانيا عبر الأراضي المغربية, حيث قضى العديد من المهاجرين قبل الوصول إلى هدفهم المطلوب.
من جهة أخرى شهد عام 2005 تضاعفا لمأساة انتشار مرض الإيدز الذي. ان الأمم المتحدة تحذر من أن نحو 40 مليون شخص في جميع أنحاء العالم مصابون بمرض الإيدز أو الفيروس المسبب له، في حين قدر عدد ضحايا الإيدز في القارة السمراء وحدها بنحو 24 مليونا.. دول العالم لاسيما في آسيا وأوروبا تصعد جهودها لمكافحة مرض إنفلونزا الطيور وسط مخاوف من تحوله إلى وباء يصيب البشر. ومن حوادث المناجم في الصين تواصل حصد المزيد من أرواح العمال المحليين. ثمة سلسلة من حوادث تحطم الطائرات توقع مئات القتلى في نيجيريا وإندونيسيا وإيران واليونان وفنزويلا ودول أخرى. اما بشأن البيئة فلقد كان هناك البدء في تنفيذ معاهدة كيوتو الهادفة إلى التقليل من آثار ارتفاع حرارة الأرض، بعد ثماني سنوات من إقراره، واستمرار معارضة الولايات المتحدة والصين للمصادقة على المعاهدة. العلماء يقدمون أدلة جديدة تثبت أن الاحتباس الحراري ناجم عن النشاطات البشرية.

عملية التغيير في العراق
من طرف آخر، وفرت عمليات التغيير في العراق والتي آذت العراق والعراقيين في الصميم على المنطقة جملة هائلة من المتغيرات سواء على مستوى الهجمات من التفجيرات وقتل بعض المسؤولين والمثقفين والاعلاميين في لبنان باساليب تفجير وعمليات تفخيخ ارهابية تقف وراءها اجهزة كبيرة منظمّة جدا.. او ما يحدث من ضربات ارهابية منظمة ايضا في المملكة العربية السعودية او ما حدث مؤخرا في تفجير بعض الفنادق بالاردن مما استدعى التغيير ليس على المستوى الرسمي، بل على المستوى الشعبي ازاء ظاهرة لم يزل العرب يعتقدون بضرورتها من خلال كراهيتهم ومقتهم للسياسات الامريكية! كما ولا استثني حتى المتغيرات في السياسة الاسرائيلية من جملة تلك التداعيات التي افرزتها احداث ساخنة عاشتها العالم في الاعوام: 2001 و 2002 و 2003 و 2004 و2005.. واعتقد ان سلسلة المتغيرات ستأخذ لها مسارات من نوع جديد على امتداد السنوات: 2006 و 2007 و 2008 و 2009. وهي مرحلة زمنية تستغرق اربع سنوات كاملة، ولكن ان كانت متغيرات مصر قد أتت من الداخل مصر، اذ انها شهدت أول انتخابات رئاسية متعددة والرئيس حسني مبارك يفوز بولاية جديدة.. فلابد ان نتوقّع حدوث متغيرات جديدة في كل من سوريا وايران نظرا لعدم استيعابهما او فهمهما سيرورة المتغيرات التي اعتقد ان الولايات المتحدة تقودها، ولكن هناك مجتمعا دوليا يسير وفق ارادتها.. وهذا هو مكمن الخطر الذي لمن يكتشفه من هو باق حتى اليوم على افكاره القديمة والتي لم يتزحزح عنها ليس من بعض القادة وصناع القرار في منطقتنا، بل حتى من قبل اعداد ضخمة من الساسة والمثقفين والاعلاميين في المنطقة. ولقد كان على ايران ان تطّور متغيراتها الاصلاحية التي اراد ان ينهجها الرئيس السابق محمد خاتمي، ولكنها اختارت الطريق الاخر، وأتت برئيس شاب غير ناضج سياسيا سّببت تصريحاته مشكلات عدة مع العالم كله. وهذا ما سيعكس عدة مخاطر ازاء ايران في العام 2006. واعتقد ان الدول الغربية ستصعد ضغوطاتها على إيران بشأن برنامجها النووي، في وقت تتحدى فيه كوريا الشمالية الولايات المتحدة وتقر بامتلاكها أسلحة نووية. وهنا لابد ان نفّرق في الرؤية الامريكية والعالم كله بين كل من ايران وكوريا. ان ثمة ازمات تتعّرض لها بعض الدول في المنطقة نتيجة سياسات حمقاء يتبعها رؤساء شباب ليس لهم من الحكمة وضبط النفس والحلم مقارنة بما يتمتع به غيرهم من القادة، وهذا ما وجدناه بشكل مفضوح في العام 2005 وسينعكس لا محالة على الوضع العام للعام 2006.

المتغيّرات الافريقية
في أغسطس/آب 2005، صوّت البورونديون المنهكون من طول القتال لصالح زعيم متمردي قبائل الهوتو، ليصير أول رئيس لبوروندي يتم انتخابه بصورة ديمقراطية بعد 13 عاما من الصراع العرقي الذي شهد مواجهات بين قبائل الهوتو ذات الأغلبية وقبائل أقلية التوتسي الحاكمة. فهل حسم الصراع القديم الذي تأجج في نهايات القرن العشرين؟ هذا ما ستوضحه 2006.وفي ساحل العاج تجاهل الرئيس لوران غباغبو كل النصائح التي وجهت إليه وانتهك دستور البلاد من أجل البقاء في السلطة، بعد مهلة كانت محددة لإجراء الانتخابات إثر انتهاء مدة ولايته في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وبعد صدامات مع المعارضة المسلحة والسياسية أصبح لرئيس الوزراء الجديد السلطة في إدارة الحكومة وتنظيم الانتخابات خلال العام 2006. ولا تزال القوات الفرنسية وقوات الاتحاد الأفريقي تواجه صعوبة بالغة في استعادة الهدوء والاستقرار بساحل العاج التي تشهد أيضا جهود وساطة مكثفة تقوم بها جنوب أفريقيا. وفي ليبيريا صوت الناخبون لصالح إيلين جونسون سيرليف أول رئيسة منتخبة في القارة الأفريقية. كما شهدت إثيوبيا وتنزانيا انتخابات برلمانية أعقبتها موجة من العنف وسط اتهامات بتزوير النتائج. وفي زيمبابوي رفض المجتمع الدولي الاعتراف بنتائج الانتخابات البرلمانية التي كرست حكم روبرت موغابي الذي يعد قديما يرجع تاريخه الى ربع قرن مضى، واعتقد ان ثمة مفاجئات درامية ستحدث في العام 2006 ليس في زيمبابوي حسب، بل في مناطق عدة من افريقيا.. ويبدو ان رياح التغيير ستهب عليها كما هّبت عند نهاية 2005 في موريتانيا، اذ استولى على الحكم مجلس عسكري برئاسة اعلي ولد محمد فال الذي وعد بالتخلي عن السلطة وتنظيم انتخابات حرة.

ظاهرة الارهاب: هل ستنحسر؟
شهدت 2005 سلسلة تراجيدية من حرب ارهابية متفاقمة كان من ابرزها دوليا ما حدث في لندن اذ شهدت في يوليو/ تموز 2005 من تفجيرات بالقنابل في ثلاثة محطات للمترو وحافلة نقل تخلف 56 قتيلا ومئات الجرحى. وكانت عمليات ارهابية اخرى قد سبقتها ثم عمليات اخرى قد اعقبتها مما زاد من قناعة العالم كله بمخاطر الارهاب واعطى للولايات المتحدة دفعة جديدة في تأييدها للحرب ضد الارهاب. ان ظاهرة الارهاب سوف لن تنتهي بسهولة ابدا، اذ سيبقى العراق وحده هو الذي يعاني منها بشكل يومي ويعاني منها حتى بعد انبثاق حكومة دستورية، فما دامت قوات التحالف الدولية موجودة على ترابه الوطني، وان حدوده قد فتحت منذ زمن طويل لكل من يريد تصفية حساباته مع امريكا وباعتراف الرئيس الامريكي بأن العراق اليوم بؤرة للارهاب في العالم وكما شبهته بجرة من العسل انكسرت فاجتمع عليها كل ذباب العالم وحشراته.. وما دام ثمة ضعف في مؤسسات العراق العسكرية والمدنية فسيبقى يعاني لمرحلة زمنية قادمة.. ولابد ان اشير بأن ما جرى في العراق عبر 2005 من حصيلة انتخابات تشريعية لمرتين واستفتاء على الدستور، وسيمّر العراقيون في العام 2006 بجولة صعاب من اجل الاتفاق على حكومة دائمة ولكن الانقسامات ستأخذ لها ابعادا اجتماعية اكثر منها سياسية بفعل عوامل داخلية واقليمية ودولية.. كما واعتقد ان الاحزاب والقوى الاسلامية في المنطقة العربية سيبرز دورها من خلال صناديق الانتخابات وبتشجيع من الولايات المتحدة الامريكية لكشف ما الذي ستفعله وهي في موقع القرار.. اذ ان سياسات الولايات المتحدة ترنو اليوم الى كشف المستور للقوى السياسية (وخصوصا الدينية) التي ناضلت من اجل السلطة. وعليه، فان السلطة ستكشف قدرات كل القوى السياسية (الدينية بوجه خاص) التي تتقلدّها في المنطقة. واعتقد ايضا بأن الاوربيين من جانبهم يحاولون كشف ما يريده هؤلاء العرب والمسلمين الذين يعيشون معهم ومدى سطوتهم في المجتمعات الغربية التي يكرهونها اشد الكراهية لأسباب ايديولوجية، ولكنهم لا يريدون الانفصام عنها لأسباب واقعية. اما كل الحلول والمقترحات البليدة التي لم تزل تنسج اوهامها على موروثات القرن العشرين، فسوف لن تفلح ابدا في بلورة علاجات حقيقية لما تعانيه السياسات في المنطقة.. ومن تلك الحلول ما تقدّمه جامعة الدول العربية من شعارات ومشروعات ومنها مشروع البرلمان العربي الذي سيخلق مشكلات ولا يمكنه ان يساهم في اي مبادرات.

منطقتنا تتغير ولكن بشكل بطئ
أما مضامين ما تبلور من أحداث ووقائع مؤثرة، فلقد شغله الشرق الأوسط بكل ثقله استعدادا تاريخيا لما سيحصل - كما أتوقع - من أحداث ثقيلة ومؤثرة في العام 2006 وخصوصا ونحن نراقب ما حدث من تسارع الإدارة الأمريكية لتغيير الاوضاع في كل من سوريا وايران ومن يتبعهما، او على الاقل لاحتواء سياساتهما، واذا كانت قد انهت " الغطرسة السورية " – كما تقول -، فانها تدفع بالمجتمع الدولي لانهاء تأثير ايران السياسي وكبح جماحها – على حد وصف كوندليزا رايس -!! ان ضعفا واضحا قد لحق بسوريا بشكل خاص، واعتقد ان سورية لم تستطع ابدا ان ترجع الى ما كانت عليه لما قبل 2005. ويبقى العراق هو الشغل الشاغل للعالم اليوم، اذ اكتشف العالم كله بأن العراق هو غير افغانستان كما كان العراقيون يقولون دوما، وهذا ما اعترف به وزير الدفاع الامريكي، وبقدر ما كان العراقيون يقولون بأن العراق يتقّدم على افغانستان بمائة سنة، يأتي هذا الوزير ليقول العكس اذ يرى ان افغانستان متقدمة على العراق بمائة سنة!! وهو لا يدري بأن العراق يشكّل قلب العالم من الناحية الاستراتيجية.. كما انه بحاجة ماسة الى قراءة تاريخ العراقيين بامعان، ليعرف ما طبيعة المجتمع العراقي.. لقد ارتفعت خسائر القوات الأميركية في العراق إلى 2000 قتيل في أكتوبر/ تشرين الأول 2005، والرئيس الأميركي جورج بوش يقول إن 30 ألف عراقي قتلوا منذ غزو بلادهم في مارس/ آذار عام 2003. وان العراق يشهد انتخابات تشريعية مطلع عام 2005 واستفتاء على الدستور منتصف أكتوبر/ تشرين الأول وانتخابات تشريعية أخرى لاختيار حكومة وبرلمان غير مؤقتين في منتصف ديسمبر/ كانون الأول / ديسمبر 2005 وسط استمرار الهجمات والتفجيرات. كما شهد العراق بدء محاكمة الرئيس المخلوع صدام حسين. ووفاة نحو ألف شيعي عراقي في حادث تدافع على جسر الأئمة في العاصمة بغداد. ان من ابرز ما حدث في العام 2005 اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في تفجير سيارة مفخخة في بيروت، وأصابع الاتهام توجه إلى سوريا بالوقوف وراء العملية الأمر الذي يدفعها لسحب قواتها من لبنان بعد وجود دام 27 عاما. وتوالي سلسلة تفجيرات طالت رموزا سياسية ونيابية واعلامية لبنانية.. وحدوث تفجيرات في منتجع شرم الشيخ المصري توقع 88 قتيلا، وأخرى في فنادق بالعاصمة الأردنية عمان توقع 57 قتيلا. ناهيكم عما حدث من ارهاب في السعودية بشكل خاص.

ثلاث مسائل تاريخية
ان العالم لم يعد يخشى اندلاع اي حرب نووية عالمية، بل يخشى امتلاك قوى اقليمية لاسلحة نووية يمكنها ان تصل بسهولة الى جماعات ارهابية يستخدموها من دون اي رادع:

1/ المسألة الفلسطينية:
اما المسألة الفلسطينية، فهي تسير على غير ما كانت عليه ايام عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، وان تخلخلا قد حدث لدى قوى الصراع حتى على مستوى اختراق الدبابات الإسرائيلية للأراضي والمدن الفلسطينية، اذ لم تكن كما كانت عليه.. بإعادة احتلالها ابتداء بالضفة الغربية وان تحجيم حركة القيادة الفلسطينية لم يكن كما كان ايام عرفات والضغط على هذا المفصل اثر كل موجة من الهجمات الفلسطينية التي لم تشهدها 2005 مقارنة بما كان قد حدث في 2004..

2/ ملف العراق
واعتقد أن هذا كله سيؤثر في ان تضع جملة من الملفّات الساخنة حملها في العام 2006، ومنها: ملف العراق الذي سيغدو اكثر هدوءا بعد هبوب العاصفة، ولكن مشكلاته سوف لن تحل بسرعة ابدا وخصوصا تلك التي خلقتها طروحات 2005 وتمريرها وخصوصا ما تضمّنه الدستور العراقي من مواد ومضامين لم تلق تأييد كل ابناء الشعب العراقي، وهذه اعتبرها " مشكلة " حقيقية لأن المسألة ليس باصدار بيان سياسي يختلف حوله الناس، بل المسألة اخطر اذ تتعلّق بدستور دولة اي قانون عام للبلاد لابد ان يجتمع ولاء كل الشعب عليه ليكون عقدا حقيقيا بين الدولة والمجتمع.

3/ الخليج العربي:
أما بالنسبة لمنطقة الخليج العربي، فاعتقد انها ستطّور من فاعليتها الاقتصادية مع وجوب احداث بعض التغييرات السياسية التي تتلاءم وحركة التغيير في العالم كله، اذ ستبقى منطقة الخليج بوابة مفتوحة للعالم بمختلف الاتجاهات برا وبحرا من خلال مركزيتها اليوم لحجم هائل من الاستثمارات خصوصا وان السعودية دخلت عضوا في منظمة الغات، ومن المنتظر ان ينضم العراق بشكل رسمي الى الغات بعد استقراره، ولكنه ينتظر من العالم اطفاء ديونه ومساعدته للخروج من المأزق الذي يعيشه منذ زمن طويل، وبعد ان خرج جريحا من سلسلة الحروب الخليجية الاقليمية والدولية، والذي كنت قد وصفته في توقعاتي للعام 2003 في مقال نشرته في العام 2002 بأن " العراق وليد حرب الخليج الأولى وهو نفسه حرب الخليج الثانية التي ستلد حرب الخليج الثالثة! ".

ماذا نستنتج؟
لقد قلت بالحرف الواحد في مقالة لي بتحليل احداث 2002 عند نهايتها ما نصّه: " إن أهم ما سجلته في مفكرتي من وقائع وأحداث تاريخية في العام 2002 ينتمي في اجمعه تقريبا إلى قارة آسيا، وخصوصا آسيا الغربية وسخونة الأوضاع في الشرق الأوسط بعد فشل سياسة " الاحتواء المزدوج " التي أرادت الولايات المتحدة تطبيقها منذ أكثر من عشر سنوات. لقد وصلت صيغتها النهائية إلى درجة من النضوج حتى يعلن كولن باول مبادرته ومشروعه في الذي أسماه بـ " الشراكة الأمريكية - الشرق اوسطية "، والذي لا يمكن البدء بتنفيذه من دون تغيير النظام السياسي الصعب الذي يقبع في قلب مربع الازمات، اقصد: النظام العراقي. ولكن: لماذا؟؟ ".

العام 2005 يقفل نفسه حتى يلد العام 2006!
والحقيقة التي أريد مقاربتها في هذه المداخلة المتواضعة تتمثل بالقول أن هناك ناحية حيوية لابد من التشديد عليها عندنا أبناء هذه المنطقة وخصوصا ونحن عند نهايات العام 2005 وبوابة العام 2006 مؤكدا على أن هناك نقص في فهم جملة ما يحدث من متغيرات، إذ أقول واردد دوما بأن الساسة والمثقفين والمحللين العرب - ويا للأسف - لا يبحثون ولا ينبشون في الأسباب والعلل من اجل معالجة أوضاعهم، بل يتوقفون فقط عند نتائج الأمور ليتفرجوا عليها فيبكون عليها أو يضحكون ويتشفون بها. وعليه، فليست لديهم الرؤية الحقيقية لما يجري ولا يعرفون بأن الأحداث التاريخية لا تولد اعتباطا من فراغ، بل أن هناك جملة متحركات قوية من ورائها.. لقد عاشت المنطقة انقلابات وحروبا وفوضى وحتى يومنا هذا لم يعرف العرب ما هي الأسباب الجوهرية وراء تلك الاحداث!! انهم يعيشون مأساة نتائجها وهم اليوم لا يدركون إدراكا حقيقيا طبيعة المرحلة المصيرية الحرجة التي ستحدد نتائجها أفق المستقبل المنظور لدول المنطقة والمستقبل البعيد للشعوب والمجتمعات فيها.
والمعروف أن كل آلياتهم ودوبلوماسياتهم ومنظماتهم وعلى رأسها جامعة الدول العربية قد شاخت وتعطلت كل فعالياتها عن إحداث ما يمكن عمله خلال هذه المرحلة الصعبة التي لم يكن أحد يتوقع حدوثها إلا البعض القليل من الخبراء والمفكرين والمحللين الاستراتيجيين.. والذين نادوا بأعلى صوتهم أن جملة متغيرات ستحدث وان ثمة مخاطر في طريقها إلينا، ونحن ندرك إدراكا كبيرا بأن لا العرب ولا غيرهم من جيرانهم بقادرين على درء تلك المخاطر وإيقاف عجلة تلك الأحداث، ولكن كان لابد من أن يبدأ العرب وبسرعة من اخذ زمام المبادرة وإجراء تغييرات حقيقية تتصل بواقعهم وكل مستلزمات حياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية وحتى التربوية والتعليمية بدءا بزعاماتهم ودساتير بلدانهم وانتهاء بما يمكن عمله لمجتمعاتهم من اجل إرجاع صباهم إليهم فهم في شيخوخة تاريخية لا تقوى المشي لوحدها من دون عكازات.
وعليه، لابد من الكشف عن تجسيد الفشل ألاساسي في النظام العربي!! لقد غدا هذا " النظام " هو الرجل المريض وهي صورة مشابهة إلى حد كبير لما حدث في بدايات القرن العشرين إبان العهد الفيكتوري وقبل اشتعال الحرب العالمية الأولى والضعة والهوان التي عاشها النظام العثماني الذي بقي يحتضر حتى بدأ النظام الأوربي العالمي وقت ذاك يشرّحه ويفككه بعد حرب إعلامية واسعة النطاق ضده كي يخطط للمنطقة ويقسمها قبل أن يسقط النظام العثماني نفسه!

وأخيرا: دعونا نتفاءل خيرا!!
ان العرب وجيرانهم ليس باستطاعتهم كما يبدو من ملئ الفراغات الهائلة التي أحدثتها متغيرات 11 سبتمبر 2001، فكيف باستطاعتهم إذن من إيقاف الخطط والأحداث؟؟ وإذا علمنا بأنهم لم ينجحوا في تشكيل أية منظومة قوية سياسية واقتصادية وإعلامية تحمي مكتسباتهم التاريخية في الداخل والخارج وتعالج مشكلاتهم.. فكيف يريدهم العالم أن يقوموا أنفسهم بتغيير ما يمكن تغييره بأنفسهم؟! هذا سؤال خطير جدا، فمن يقلب صفحات التاريخ الحديث سيدرك بأن الدول العربية المعاصرة جميعها هي التي رسمها الغرب نفسه، أي بمعنى: أن الغرب كان وراء التشكيل التاريخي المعاصر للعرب بالذات، فهل نجح العرب في كسب تجارب وخبرات سياسية غاية في العمق في القرن العشرين ليتمكنوا من تغيير تاريخهم والبدء بعصر جديد؟؟ إن كل أمة تجدد تاريخها من عصر إلى آخر، فهل تأهل العرب خلال القرن العشرين من اجل التوصل إلى الأهداف النهائية التي أذاعوها عند بدايات القرن العشرين! لقد ذكر الفيلسوف الألماني كانط بان التاريخ ستكون له نهاية، أي هدف نهائي توحي به الإمكانيات الراهنة عند الإنسان. فهل نجح العرب في تحقيق ذلك الهدف؟ طبيعي انهم لم ينجحوا بدليل تعرضهم اليوم للمواجهة التي ربما ستطول وتكلف كثيرا وقد أعطينا نحن أنفسنا المبررات للآخرين كي يغيروا تاريخنا على طريقتهم! انني أسأل: لماذا تتقبّل الولايات المتحدة برحابة صدر صعود اسلاميين وحركات واحزاب اسلامية الى السلطة عبر انتخابات سريعة وهي تدرك حق الادراك الشعبية التي تلقاها تلك الحركات والقوى والاحزاب.. ولنا في تجارب تركيا ومصر والعراق وفلسطين وايران وغيرها، فأما ان الولايات المتحدة تطمح من وراء ذلك احراق اوراق تطّرف السياسات الدينية في المنطقة، أي بمعنى: كيفية صناعة هذه القوى لفشلها التاريخي على ايديها بعد ان تغّنت بالدين حّلا لكل مشكلات الحياة.. او انها تطمح بتغيير هذه القوى والاحزاب والحركات اهواءها وشعاراتها الى برامج سياسية مدنية من خلال مواجهتها للمشكلات المعاصرة.. او انها تطمح من خلال وصول الاسلاميين الى السلطة الحد من استشراء ظاهرة الارهاب دوليا.. وفي كل الحالات، فان مصالح الولايات المتحدة الامريكية لن تضطرب ابدا.. وعليه، فما الذي يمكن ان نشهده في العام 2006؟ سنشهد جزءا من مسلسل بدأ في العام 2001، واعتقد انه سيضع اثقاله كلها في العام 2009 القادم.. دعونا ننتظر متمنيا على العالم اجمع وعلى منطقتنا كلها المزيد من التقدّم والرخاء والاستقرار والخلاص من الجوع والقهر والعري والامراض وان تتمتع كل البشرية بحقوق الانسان وبضمانات العيش الكريم.. وان تكون سنة 2006 مليئة بالمتغيرات الصائبة لما فيه مصالحنا العليا وتحقيق الاستقرار والتقدم لما فيه مصلحة كافة مجتمعاتنا في الشرق الاوسط وعالمنا العربي والتي تنتظر تحقيق ما تطمح اليه منذ قرن من الزمان. دعونا نتفاءل خيرا وشكرا جزيلا.

"إيـلاف"

"أخبار البصرة"
www.basrahnews.net 


244
مكاشفات: العراقيون.. هل يصعدون نحو الهاوية ؟؟


أ.د. سيّار الجميل*
*مؤرخ وباحث عراقي:
كتب لي الصديق الاستاذ امير الدراجي جوابا فلسفيا عميقا عن تبريكاتي وامنياتي له بسنة ميلادية جديدة .. كان جوابا ينبض بالالم والحسرة ويحتقن بالمرارة نتيجة الاوضاع المأساوية التي يعيشها العراقيون في الداخل والخارج ..

ونتيجة فوضى الابعاد المستشرية في كل اتجاه بعد ان كانت مغمورة تحت الارض لعشرات السنين ، وكأنها اورام انفجرت بكل قيحها وصديدها وادرانها لتلطخ كل تلك الخريطة المتعبة التي كانت ولما تزل على اجمل ما تكون في هذا الوجود . دعوني اسجل لكم ما كتبه لي امير قبل ساعات وهو المعروف بفلسفة طلاسمه الفكرية التي لا يدركها الا من أوتي قدرة جادة على حفريات صعبة للبحث عن المعاني ..- وعندي- ان في ذلك متعة لا تضاهى . كتب هذا الكاتب العجيب الذي يؤثر العزلة بين الحين والاخر يقول لي : " قد تزعجني الاماني حيث نضب ائتمان نظامها .. وحيث اجد تركاتها المؤسية مثلما يعجز غريق عن النجاة اوعن كراهية الهاوية فيضطر الى تقبل فكرة الموت باذلال الهاوية ، وتاليا جعلها قدرا منزلا  .. امر مريب ان يتطور نظام الشعور ويتكّيف نحو تقبل الصلح مع الهاوية .. ربما اقبل نتائجها واعترف بواقعها لكنني املك حق كراهيتها لذا لا يمكن التفريط بحق اخير وان تجمعت كل المعطيات على الخسارة لكن الحق ان تخسر كريما وحرا افضل من ان تخسر ضعيفا وذليلا . هكذا بقي للصمت حصة كريمة ووحيدة امام هول الخسارات والهاوية ، كل المنقذين يمارسون الطيران نحو الاسفل وقد سقطت موازين القياس والهندسة، فلاح الاسفل اعلى او العكس ما جعل فوضى الابعاد متحكما بقيمة النجاة  قررت الصمت لئلا افسد فرح المحتفلين بالصعود الى قاع البئر .. اعتذر من هذه الطلسمة والالغاز ، لكني اردت ان اشير اليك ايها الاخ الحبيب الى اني ما زلت قويا على المشاكسة ولن يسقط الوهن او المرض قدرتي على رفض الاقدار كلها .. " !! ( انتهى النص (دعوني أحلل هذا الكلام الصعب الجميل .. دعونا نستكشف معا اسرار ما تنتجه الذاكرة السياسية العراقية التي ناضلت طويلا من اجل ثمار طازجة وتشكيلات معاصرة ، فجاء الاخرون من المحتفلين الجدد ليقطفوها بعد ان سحق الزمن كل اولئك المناضلين من المفكرين والمثقفين العراقيين الحقيقيين الذين قرأوا وتعبوا وابحروا نحو التقدم في الحياة .. وعانوا من المشقّات والالام وهم يصعدون نحو الاعالي .. وهم لم يكتفوا بترديد نصوص ولا بتكرار عبارات ولا بلطم خدود ولا بشق جيوب .. لم يكونوا ساذجين تافهين يهيمون في التآويل والترديد .. كانوا من جنس اولئك العراقيين الحقيقيين قبل الاف السنين الذين بنوا قصور نينوى وشادوا جنائن بابل المعلقة وكتبوا كلكامش ورددوا اشعار المتنبي .. الخ انني اجد في الصديق امير صورة طبق الاصل لكل عراقي محطم الخطوات بعد ان تفانى في الحداثة من اجل عراق جديد .. انه يتآكل بالاحباط وهو يرى جوقات المتخلفين والمتحذلقين والسماسرة والكذابين والدجالين والطائفيين والقوالين والانتهازيين واللوتيه والمرتشين والمختلسين والقتلة الارهابيين .. يملؤون بلاد وادي الرافدين .. فكيف لا تزعجه الامنيات وقد اختّل نظام الحياة في كل ارجاء العراق ؟ ونحن نجد بأن العراق ينطلق مسرعا نحو الهاوية وهو غريق لا تنفع معه كل المحاولات وسادة القوم لا يريدون الا الاجزاء ولا يعرفون الا الفتات!
 نعم ، ان الموت ارحم من ان يسقط الجميع في الهاوية ، فالهاوية مكروهة كما اعرف من كل الاحرار الذين انجبهم تاريخ العراق منذ زمن طويل ! ثم يلتفت صديقي امير متعجبا متسائلا عن كيفية قبول الصلح مع الهاوية ؟؟ ولا ادري ان كان يعلم او لا يعلم بأن العراق الذي عرفناه منذ عشرات السنين قد هاجر هو الاخر هجرته مع الطيور منذ عهود خلت .. ولم تسمع فيه الا الغربان الناعقة واصوات المجنزرات وهول التفجيرات ! لقد صافح الهاوية كي يجعلها مستقرا له عن قناعة او سذاجة او سماجة .. نعم يا صديقي انه جزء من فوضى الابعاد .. انه امر مريب حقا ان يتطور نظام الشعور عند العراقيين ويتكّيف نحو تقبل الصلح مع الهاوية .. لقد اصبت يا صديقي امير كبد الحقيقة وسيدفع العراق وكل العراقيين ثمنا تاريخيا غاليا نتيجة لهذه المنزلقات .. تقول : " ربما اقبل نتائجها واعترف بواقعها لكنني املك حق كراهيتها .. " . واقول وانا احاورك : ربما لا اقبل نتائجها بالرغم من اعترافي بواقعها المضني ، فان قبلنا بالحصيلة ، فمن هذا او ذاك الذي يحمل مشاعل الاستنارة كي يخّلص العراق من ظلام الهاوية السحيقة ؟؟ واذا كنت يا صديقي لا يمكنك التفريط بحق اخير وان تجمّعت كل المعطيات على الخسارة ، فالحق معك ومع كل عراقي مستنير حقيقي في هذا الوجود ان يخسر كريما وحرا افضل من ان يخسر ضعيفا وذليلا !! واعقّب عليك بأن المستنيرين العراقيين ان خسروا جولة تاريخية في هذا الزمن الردئ ، فانهم سيكونون مشاعل خافتة يزداد وهجها مع توالي الايام وتعاقب السنين .. وستذكرها الاجيال المقبلة بعد قرون   وتقول : " هكذا بقي للصمت حصة كريمة ووحيدة امام هول الخسارات والهاوية " .. وهنا دعني اصرخ لأقول : لا والف لا ، فلا يمكننا ان نصمت ابدا ، وخصوصا بعد اليوم .. فالصمت ليس ثمنا امام اهوال خسران العراق وسقوطه في الهاوية !! ربما كان كل المنقذين يمارسون الطيران نحو الاسفل وقد سقطت موازين القياس والهندسة، فلاح الاسفل اعلى او العكس .. لا اريدك ان تصمت يا صديقي فان هناك من ينتظر كلماتك وافكارك وحتى طلاسمك الذكية .. انه ينتظر ان نقول شيئا كي يسترجع توازنه بعد هذا الاختلال العجيب .
انني معك ، ان العراق غدا حقلا من  فوضى الابعاد .. وانني اعتقد بأن ربابنته اضعف من ان يكونوا متحكمين بقوارب النجاة كونهم لم يتمرسوا ابدا في مواجهة قيمة النجاة .. اخرج يا صديقي من دائرة الصمت بكل افكارك ، فالصمت دليل الموافقة وما ظننتك توافق على ماراثون السباق نحو الهاوية .. ان صمتك لا يفسد فرح المحتفلين بالصعود النازل نحو قاع البئر .. ولا تعتذر ابدا عن الغازك وطلاسمك ، فانني قادر على فهمها  واستكشاف عالم جميل في دواخلها ، متمنيا ان تبقى عصّيا على كل المتكلسّين المهزوزين .. وستبقى فعلا قويا على المشاكسة الصلبة .. وسوف لن يدعك المرض واهنا ابدا انني لا يخامرني الشك لحظة واحدة بأن ماراثون العراق سوف لا يفوز فيه عند نهاية المطاف الا الاذكياء ونخب اصحاب العقل المتمدن والذوق الرفيع والمعاني الخصبة وانوار الفكر وثقل التفكير .. لن يخسر الا اولئك الذين يراهنون على الفراغ والتراجع والانقسام والنظرة الى الوراء وتسطيح الامور وخواء الفكر والروح .[/b]

245
العراق الجديد.. بأيدي من سيكون؟؟! 


GMT 15:30:00 2005 السبت 17 ديسمبر
 د. سّيار الجميل
 
 --------------------------------------------------------------------------------
 
"انك لا تجني من الشوك العنب" (مثل عربي قديم)

 

ماذا اقول؟
 صحيح ان اغلب العراقيين يعيشون فرحة عارمة لما انجزوه يوم الخميس 15 ديسمبر 2005، الا انهم امام ابواب لم تزل مغلقة لابد من فتحها، وعليهم التفكير في كيفية اتمام ذلك، وان يعيدوا التفكير في من اختاروه للسلطة على مدى اربع سنوات قادمة، متمنيا ان يتسلمّ البلاد رجال ونسوة لهم جميعا من الكفاءة والسمعة والذكاء والنزاهة والاخلاص ما يكفي لكي يكون العراق فعلا بلدا جديدا بكل ثقله ووزنه وجماله ومستوى حياته ومستقبله. لقد عاش العراق معركة انتخابية صعبة لم يتنافس فيها المتنافسون من المرشحين بمهارة وشفافية.. في حين ابدى الشعب العراقي للمرة الثالثة انه يعرف كيف ينتخب حتى وان كان لم يمتلك الوعي السياسي عالي المستوى..
 وبقدر ما عاشه العراقيون من اجواء عصيبة في مباراة المرشحين وما حصل من فوضى دموية غير لائقة تبارى فيها المرشحون وقد غدا بعضهم كالوحوش الكاسرة من اجل الفوز بالسلطة او من اجل الاساءة اليها، فان الناخبين العراقيين قد رسموا للعالم كله خطا حضاريا على التراب العراقي مقارنة بما حدث لدى الناخبين المصريين! وعلى المرء ان يقارن بين الحدثين التاريخيين بين كل من هذين البلدين الثقيلين في تاريخ المنطقة! واذا صنفنا ما جرى قبيل اللانتخابات العراقية من احداث ودعايات ومضادات وردود افعال ساخنة.. فان ذلك كان درسا اضافيا للساسة العراقيين في ان يكونوا اكثر وطنية لما هو عليه وضعهم اليوم.. فما شهدناه من تضاربات واختناقات وصراعات انما ليس بديمقراطية مسالمة وليس بجدلية سياسية حقيقية بين برامج سياسية عراقية متنافسة تعرض على الناس بكل شفافية وصراحة ومدنية، بل انما كانت اشبه ما تكون بمعركة حياة او موت من اجل السلطة والجاه والملايين لا من اجل خدمة العراق والعراقيين!

العراق بين ناخبين ومنتخبين
 اذا قلنا بأن الحملة الانتخابية لا تعد (امينة) نظرا لما اتبع من وسائل وادوات، فان الناخبين العراقيين قد علموا المنتخبين درسا في كيفية الاداء الديمقراطي يوم 15 كانون الاول / ديسمبر 2005 .. وان اكثر من عشرة ملايين ناخب زحف نحو صناديق الاقتراع ليصنعوا لهذا الحدث مشروعيته التاريخية.. وليعلنوا للعالم بأنها انتخابات حقيقية يريدها شعب العراق، ويمكنها ان تكون وسيلة صادقة لما يريده المستقبل.. اذا كانت الحملة بين المرشحين قد بدت أشبه بحفلة صراع لديكة متصارعين ورافقتها كومة اشلاء مضمخة بدماء المواطنين الابرياء، اذ بدت البلاد بلا ارادة ينادي بها الشعب العراقي منذ زمن طويل من اجل الخلاص من كل المعاناة والمآسي والظلمة والعطش والمزابل والمياه الاسنة والتلوث والاحجار والاطلال ومن اجل استعادة الحقوق بعد ضياعها ومن اجل اعادة البنية التحتية ومن اجل توفير العمل.. وكم تمنّى الحكماء من العراقيين ان يجد من ابنائهم الكفوئين ترّشح للانتخابات من دون اي استجداء من قبلهم لاصوات الناخبين.. واذا كان العراقيون من الناخبين الزاحفين نحو صناديق الانتخاب وهم يمثّلون كل الوان الطيف الاجتماعي والسياسي العراقي، فهل ثمة خروقات او تجاوزات قد حدثت هنا او هناك في يوم الانتخابات الذي سجل العراقيون فيه اول انتخابات حقيقية ساهم فيها اكثر من عشرة ملايين ناخب، فهل نجحت المفوضية الدائمة من ضبط الاوضاع وحل المشكلات؟؟

ماراثون مضحك في كرنفال عظيم
 لقد خبر الشعب اغلب المرشحين ولكنه لم يزل يجهل من يكون هذا وذاك من المرشحين، وكم كنا نتمنى ان يصّوت العراقيين على اسماء ذوات لا على اسماء قوائم؟ وكم تمنينا ان تكون وسائل الدعاية اجتماعات بالناس وتفسير لمشروعات ومناهج وبرامج لا ان نجد مرشحين يقيمون الولائم وآخر يوزع الموز على العراقيين وآخرين جعلوا الجوامع والمساجد مراكز لفرق حزبية – كما سمعت -!! جحافل من اسماء شكّلت لها قوى سياسية وهي لا تعرف ما (السياسة) وهي لا تبغي الا السلطة والنيابة والوزارة برغم انف العراقيين.. انها تدرك معنى السلطة على العراق والتسّيد على العراقيين.. لم اجد مرشحا واحدا منهم قط في معركته الانتخابية وقد خرج على العالم ليعلن اعتصامه على اثر اختطاف عالمة المانية وثلة من خبراء غربيين ليس لاولئك الخبراء المساكين الا تقديم المساعدات للجرحى والمطعونين! ولم اجد برنامجا سياسيا واحدا قد كتب بمعزل عن الاخر.. كلها منقولة احدها عن الاخر..
 ماراثون مضحك في كارنفال عظيم يتحرك فيه ناخبون من عمالقة مناضلين ازاء اقزام من بعض مرشحين وقد اختلط بينهم النزهاء الاذكياء مع الملوثين المهرجين.. كان الهرج والمرج يلف كل مكان من بلاد ما بين النهرين قبل يوم الانتخابات، ولكن الالاف المؤلفة من الناخبين زحفت لتقول كلمتها ولا ندري حجم ما حدث من تجاوزات واخطاء لابد منها خلال ساعات عشر لاكثر من عشرة ملايين ناخب ..
 اتمنى ان يكافئ العراقيون على جهدهم ونضالهم وزحفهم من قبل الفائزين الذين اختارهم الشعب ولكنني اخشى ان يخيب ظننا ويأتي اناس لا يعرفون كيف يسوسون العراق وهو في خضم مأساته اليوم.. ويا ريت يقرأ كل العراقيين التاريخ الشخصي لكل منتخب جديد من المنتخبين وان نعرف مدى كفاءته وتخصصه وشهاداته وندرك ثقافته ليمّيز العراقيون الغث من السمين!!؟؟ ومع كل هذا وذاك فان العراقيين رشحوا من ارادوه من الناس لا لما طرح عليهم من برامج او قوائم، بل ان اغلب العراقيين انتخبوا من يريدونه من الاشخاص! فهل سيكون النواب الجدد والوزراء الجدد والقادة الجدد بمستوى المسؤولية في العملية السياسية للبدء بمشروعات العملية الاقتصادية.

ما الذي نريده من المنتخبين العراقيين الجدد؟
 كنت اتساءل: ما الذي جعل العديد من المرشحين يستجدون الناخبين العراقيين باشكال مقززة؟ ما تلك الوعود التي سمعها العراقيون كل ليلة وكل يوم؟؟ وأسأل اليوم: متى سيحققها النواب الجدد ان صدقوا في كتابة برامجهم الوهمية؟ الا يخشون ان يكونوا من الكاذبين ولا يزرعون الا الشوك؟ وهل سيعمل النواب الجدد على محو الاحقاد العراقية التي ترجمتها الدماء القانية والتي جرت سواقيا نحو نهر دجلة عبر الشوارع والساحات والبساتين.. هل سينتهي زمن الابتزازات ولم ينته؟؟ هل ستموت الدعايات الكاذبة التي تعلن عن مبادئ متخلفة بائسة؟ هل سيعمل الرجال الحقيقيون بكل كفاءة ليصنعوا دولة حقيقية في العراق وليس بمقدورهم الا اعلاء شأن العراق ومجتمع العراقيين؟؟ هل ستبدأ الميزانية تثري نفسها بنفسها بعد خوائها؟ هل ستتوقف بعثرة ثروات العراق على الدعايات والاعلانات والفضائيات والسفرات والصور والجداريات والولائم والدعوات والهدايا وعقد الصفقات؟ هل ستنجح الحكومة الجديدة باشباع حاجات العراقيين ومتطلباتهم في الحياة.. والعراقيون جوعى وغرثى في بيوتهم تؤلفهم جماهير مليونية من فقراء وعاطلين ومساكين.. عجائز وثكالى وارامل واطفال وعراة وصبية ومرضى وايتام ومعاقين يعّدون بالملايين..؟؟
 هل لنا ان نعرف بعد ان تمّت عملية الانتخابات بنجاح كبير يتمناه كل العقلاء والمخلصين: من كان يمّول تلك الكتل من احزاب وقوى وجماعات ولا ندري من كان يموّلها ابدا! لقد صرفت الملايين من الدولارات على الدعايات الانتخابية العراقية وهذا ما لم نجده في اي حملة انتخابية عربية.. لقد استخدم العراقيون كل وسائل الاعلام وانفقوا مبالغ خيالية من اجل ذلك.. لقد سمعت البارحة وكنت ضيفا على الميديا سيتي في مدينة دبي على امتداد ساعات الانتخابات العراقية بأن عرض اي اعلان دعائي على شاشة فضائية واحدة يكلّف 4000 دولارا لثلاثين ثانية من الزمن.. فتخيلوا معي حجم الانفاق الجنوني الهائل الذي صرف من قبل المرشحين العراقيين لاقناع الناخبين العراقيين بهم، وربما حلّت هناك ثمة مبالغ خيالية لنشر دعايات لاناس معينين من قبل دولة معينة ولأناس آخرين من دولة ثانية ضمن لعبة توازنات مخفية لا يعرف تفاصيلها العراقيون!! وهكذا، فلقد غدا العراق كما وصفته قبل ايام مثل رقعة شطرنج يتبارى اكثر من فريق او طرف من اجل اللعب عليه بالمستور والمكشوف.. ان من اكبر مهام المرحلة اللاحقة العمل على تأليف وزارة وحكومة تعتمدها البلاد للسير بخطوات مشروعة نحو تحقيق الاماني المشتركة لكل العراقيين.

الامنيات الاولى للعراقيين
 قادة ووزراء ورجال حكم وحكومة سابقين ولاحقين لا يعرفون هل سيتولون المناصب التي نالوها ام انهم سيغادرونها!؟ الشعب العراقي لا يريد في العراق بعد اليوم وقد دخل مرحلة تاريخية جديدة: مجموعة سجون كالباستيل وعواء قلاع بائسة ومساحات اراض قاحلة ولم يقبل بعد اليوم اي اقنعة لم تزل تتستر على الوجوه اذ لابد من مكاشفة الناس ومصارحة الشعب بكل صغيرة وكبيرة والاعتراف بالخطأ اذ لم يقتل الحكام والقادة الا زيفهم واكاذيبهم.. شعب صادف الالام وكل الجراحات على عهد مظلم سابق وهو الشعب نفسه الذي خرج الى الحياة الجديدة ليرى جملة من الموبقات والمحاصصات والاختلاسات والمزيفات ومشروعات القتل وكل الارهاب..
 شعب تمزّقه قوى التوحّش والارهاب وقطعان التكفيريين المتخلفين وتشيع في اوساطه ثقافة الموت الزؤام على ايدي جهلة لا يفقهون فلسفة الحياة ولا يعرفون اي فكر مدني ناضج.. التفجيرات تطال كل مكان من هذا الشارع الى آخر، فهل ستتوقف مشروعات القتل والذبح وتحت شعارات كاذبة؟؟.. الشوارع كئيبة والقلوب غير مؤتلفة.. ونسأل: لماذا تبلورت كل الكراهية عند الطوائف والاطياف واخذت الاحقاد تأكل تلك القلوب والصدور؟؟.. فهل اجد بين العراقيين من يخفف من حدّته وغلوائه ويقلل من تعصباته ودمويته وتوحشاته؟ هل باستطاعة العراق ان ينهض من جديد من خلال بناة اوفياء مخلصين مع عدم تغييب او اي تهميش متعمّد لكل المبدعين والمتخصصّين والمثقفين؟؟ وهل من اساليب مدنية واعلاميات وتربويات مستنيرة يحتاجها العراقيون قبل اي خطابات فجة وانشاءات كلام لا معنى له وهذيان رجال منافقين ودجالين هذا يسحب الطول وذاك يسحب العرض!!

اصناف المنتخبين
 لقد كانوا فرحين بدعاياتهم الانتخابية فمنهم من لم يعرف يرّكب جملة مفيدة، ومنهم لا يدرك اولويات جغرافية العراق ولا حتى تواريخه العامة! ثمة اناس رائعين وثمة قادة ومرشحين انا واثق بأنهم لم يقرأوا كتابا واحدا عن العراق! والمصيبة ان بعضهم لا يعرفون استخدام حروف الجر لغويا، فهل باستطاعتهم ان يجّروا العراق من خرابه؟؟ اذ اخشى ان يجرجرونه من خراب الى اسفل سافلين!!؟؟ هل هناك اناس يعشقون العراق ولا انتماء لهم غير العراق؟ لقد سمعنا ان هناك من يحب (المدن الجهادية) وهناك من كره مواطنته العراقية واستبدلها بمواطنة كردستانية بعد ان كره العرب ومقت كل ما يمّت الى اللغة العربية بصلة من دون التفكير بتعايش الاجيال في المستقبل وكأن العرب كلهم مجرمون يسفكون الدماء؟ ان اخطر ما سمعته ان هناك عراقيين ذهبوا لصناديق الانتخاب ليس ايمانا بالعملية السياسية ولكن لدفع الاذى.. فهل يمكن لمثل هؤلاء البشر ان يشاركوا في تسّلم العراق وحكمه على طرائقهم البدائية؟ انني اخشى على العراق ليس من اناس مثقفين ومتمكنين ومختصين ويعرفون ماذا يفعلون ولكن اخشى عليه من اناس جهلاء واميين لا يعرفون الا المكر والدجل وقد تسلقوا في غفلة من الزمن جدران السياسة كي يكونوا قادة للعراق.. فلنتصور ماذا سيفعل به امثال هؤلاء البدائيين؟؟
 هناك من يمتد ولاءه لما وراء الحدود سواء الى هذا الطرف العربي وذاك الى الطرف الايراني او ذاك التركي او هذا الامريكي او ذاك الافغاني .. هذا يمّجد باقليمه وذاك يهللّ لعشيرته وهذا يتعّبد في مدينته وذاك يتمسّح بالقبور.. هذا يستجدي المحتل وذاك يتطفّل باسم العروبة وذاك يخترق بمخابرات دولة مجاورة.. تلك تنوح باكية وهذي تولول في كل حين! مدن كاملة مزقت فيها ملصقات دعايات واعلانات لكتل واحزاب لكي يعلن عن احزاب معينة! وأسأل: ما هذه اللغة الركيكة والفجّة التي اسمعها من هذا الزعيم السياسي الى ذاك المرشّح الجديد؟ مرشّحون عراقيون سيكونون بعد ايام قادة للعراق وسيكون العراق بيدهم؟ فهل من حقّهم بعد اليوم ان يلعبوا بالعراق ويجعلونه كرة يتقاذفونها بارجلهم لمصلحة هذا الطرف او ذاك.. كما فعل من قبلهم زعماء طغاة وجلادون، او كما يلعب الاخرون بعواطف العراقيين..

وأخيرا: هل سيفعلها النواب الحقيقيون؟
 وأنني أسأل: هل سمعنا باسماء بعض اولئك الاشخاص المرشحين قبل سقوط النظام السابق ولم نقرأ لهم اي مقال او نتذكر لهم اي موقف حتى وان لم يكن في السياسة؟ اين ذهب اولئك المناضلون والمناضلات من العراقيين والعراقيات.. الذين كانوا قد وضعوا دماءهم فوق اكفهم على عهد الجلاد؟ وأسأل: هل هناك من منتخبين عراقيين نزهاء انقياء واذكياء وظرفاء يقبلون ان يخدموا العراق كاعضاء في مجلس للنواب بلا مقابل؟؟ اي بمعنى بلا رواتب خصوصا ان كانوا متمكنين انفقوا الملايين على الدعايات والفضائيات والرواتب والحمايات؟ هل نجد ثمة من منتخبين يتبرعون برواتبهم ومكافأتهم الى الفقراء والمحتاجين العراقيين ام ان هذا يعدّ من ضرب الخيال؟ وكم نتمنى ان ينزل النواب الجدد الى الشوارع والمقاهي والحارات والساحات ليلتقوا بالجماهير ويعرفوا همومهم ومستلزماتهم؟ كم تمنيت على هذا التبذير للمال العراقي العام والخاص ان يخصص لبناء المساكن والمصانع والمزارع وتشغيل العباد من اجل ازدهار البلاد وبسرعة خارقة؟ كم اعرف من عراقيين مخلصين وانقياء لم يتلوثوا ابدا وهم يعيشون الكفاف سواء في الدواخل المنهوبة ام في شتات المهاجر؟؟ لو اشبعتم العراقيين ايها المنتخبون وابعدتم مطامعكم وتخليتم عن انتماءاتكم واساليبكم وارتباطاتكم وهوياتكم غير العراقية.. ولم يبق الا العراق في ضمائركم وخدمته امانة في اعناقكم.. فسوف تسجلون نقطة لامعة في تاريخ العراق وسوف يعشقكم كل العراقيين. فهل انتم فاعلون؟ انني اتمنى ان يحصل ذلك!
 [/b]

246
مكاشفات: الموصل .. الانتخابات والمستقبل

أ.د. سّيار الجميل
3/12/2005
مكاشفات

الموصل : الانتخابات والمستقبل
دعوها تحافظ على خصوصياتها الحضارية !!

 يدرك الجميع ما للموصل من شأن كبير على امتداد التاريخ وانها مفصل جغرافي استراتيجي قوي منذ الاف السنين ، وهي رأس للعراق – على حد تعبير لونكريك - لا يمكنه ان يعيش من دونها ، وهي مكتسبة خصوصياتها الحضارية منذ القدم وكانت معقلا من معاقل الشرق ناهيكم عما صادفته من تحديات ونكبات وغزوات وحصارات ومجاعات وطواعين .. كانت دوما - حسب ما يقوله المؤرخون عنها - تستجيب لها لتتجاوزها وتعود للحياة بفضل خصب اراضيها وحيوية سكانها وتنوع مجتمعها وثراء اقتصاداتها واصالة ثقافتها ومكوناتها الحضارية ..
وقد سميت بأم الربيعين دليل نضارتها وجمالياتها ، وهي ذات خصوصيات يعتز بها كل القاطنين بها  ، علما بأن اقليمها يعد – حسب كل الدراسات الحديثة – من اهم اقاليم الشرق بثرائه السكاني اذ يتبع الموصل ( 2229 ) قرية خصبة وهذا ما لم نجده في اي اقليم آخر من اقاليم المنطقة .
لقد شهدت الموصل ولم تزل تعايشاً أخوياً رائعا قل نظيره بين نسيج سائر أطيافها السكانية من عرب وأكراد وتركمان ومسيحيين : سريان وكلدان وآثوريين وارمن . سنة وشيعة ويزيدية وشبك ويهود ....الخ  مع ما يزينها من وجود عشرات الجوامع والأديرة والكنائس والمزارات والمعابد للمسلمين وللمسيحيين واليزيدية وكل الأقليات ، ولم تعرف الموصل البتة ما يدعى بالمشكلة الطائفية إلا عندما يعبث بها الغرباء والمتخلفون .


وقفة تاريخية

ان لواء الموصل ( أو: محافظة نينوى ) يعد جزءا حيويا من بلاد ما بين النهرين ، كما وتعد مدينة الموصل حلقة مفصلية في منطقة الهلال الخصيب ، ويكفي ان لها تواريخها الحضارية التي ينبغي على كل العراقيين الافتخار بها ، فلقد كانت مهداً للأشوريين ومحجا للبابليين ومركزا للآراميين وسكنها الجرامقة القدماء واقترنت العاصمة نينوى على الطرف الايسر من دجلة بامبراطورية الآشوريين في حين اقترنت بعد سقوطها عام 612 ق. م. على ايدي الكلدانيين والميديين فاتجهت الهجرات صوب تل قليعات بالموصل على الطرف الايمن من دجلة وصارت تعرف هذه البلاد العريقة  بأسم " عربايا " ( أي : بلاد العرب ) .
ثم سيطر الفرس الأخمينيون على المنطقة بعد القضاء على الأمبراطورية الكلدانية عام ( 537 ق. م) وغدت مجالا حيويا للعالم القديم نظرا لأهميتها الاستراتيجية أمام الأغريق ، والموصل أسم اطلقه عليها سكانها العرب الذين أستوطنها العديد من قبائلهم ، فهو مشتق من الوصل كونها حلقة اتصال حيوية اذ ان فيها ملتقي عدة مسالك تربط الشرق بالغرب .
    ومما يؤيد لنا قدم العرب في الموصل وبلاد الجزيرة ماذكره صاحب التاريخ السعرتي عند كلامه عن الحصن الغربي (= الموصل ) قال : كانت تسكنه منذ القدم قبائل عربية ، مثل : تغلب وكان فيهم العدويون والحمدانيون والعقيليون فضلا عن قضاعة و ثقيف و بنو شيبان ومعظمها كانت تدين بالنصرانية . وبعد الفتح الاسلامي عاشت في وفاق وتآخي مع كل الاعراق السكانية ، ولم تعرف أي نزاع عنصري مقيت ابدا ، وفي العصور الأسلامية الوسيطة والحديثة استوطنتها بقايا السلاجقة والتركمان والشبك من دون اي استئصال عرقي او اقصاء ديني او صراع طائفي .
وعندما طالبت تركيا الكمالية بلوائها ابان العشرينيات من القرن العشرين، دافع الموصليون دفاعا مستميتا عن عراقية الموصل وعروبتها وخصوصا الدور الذي لعبه كل من الحزبين الموصليين القديمين : الحزب الوطني العراقي وحزب الاستقلال . ان اي ترتيب لعلاقات واقعنا اليوم لا يجرّده عن تاريخه وجغرافيته وادواره الحضارية ، والاّ  فان اية اجندة مبيّتة ضد اي طرف ازاء الطرف الاخر ستخلق معضلات غاية في الخطورة .

مستلزمات أساسية

هذه " المدينة " الحضارية تجد نفسها اليوم مع العراق ولا تريد ان تجد نفسها مع غيره .. انها تناضل من اجل البقاء على خصوصياتها وتمايزاتها ، ويتخوف سكانها من حدوث اي تمزقات او تشظيات نتيجة جملة من تناقضات جديدة .
لقد حدثني العديد من الاصدقاء الموصليين وهم من متنوعي المشارب والاعراق والاديان والتيارات بأن وضع الموصل له اليوم من الحساسية المفرطة بحيث لابد من ايلاء اوضاعها اهتماما خاصا ، وان تأخذ دورها على ايدي ابنائها الحقيقيين في وقوفهم بأنفسهم على صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة .. اذ لا يمكن ان يحدث في الموصل ما كان قد حدث فيها ايام الانتخابات الاولى ، او ما كان قد حدث فيها يوم التصويت على الدستور .
لقد كان دور المفوضية المشرفة على الانتخابات بالموصل معدوما .. وكان قد اشير بشكل موثّق الى تسجيل اكثر من 20 مخالفة في عموم المحافظة تكفي احداها لالغاء الاستفتاء !! وبالرغم من الاعتراضات المحلية ، فالمفوضية لم تلتفت اليها أبدا !!
     وعليه ، اطالب الاخوة الاعزاء من المسؤولين على البلاد وعلى المفوضية منذ الان بمراعاة سيرورة العملية الانتخابية في الموصل تلافيا لما حدث من اختراقات وتجاوزات واختفاء لصناديق الاقتراع .. كما يطالب اهالي الموصل والمحافظة سواء في غربي دجلة ام في شرقه ان يشرف ممثلون رسميّون عن هيئات دولية او اقليمية على العملية الانتخابية في الموصل بالذات من اجل حماية وضمان حقوق السكان جميعا واحترام الارادة الجماعية لابناء الموصل .. وان تسود المصارحة والشفافية اثناء العملية الانتخابية بعيدا عن تدخل اي طرف من الاطراف لتنفيذ اي اجندة لصالحه على حساب الحقوق التاريخية والجغرافية والسكانية . 

وأخيرا : هل من آليات تنفيذية وتقاليد ديمقراطية ؟

 انني اذ عنيت بهذا " المقال " ترجمة هواجس ابناء الموصل ومطاليبهم المشروعة ، لا يسعني الا  ان اقول بأن العراقيين كلهم بحاجة الى جملة من الاليات التنفيذية وهم يمارسون عمليات سياسية ودستورية لم يعرفوها سابقا .. وان التقّدم فيها على اسس من الشفافية والعدالة والضبط والربط سيتيح لكل العراقيين ان يؤسسوا لهم تقاليد ديمقراطية هم احوج اليها قبل غيرهم ..
وان يكون العراق هو معيار القوة الحقيقية لكل ابنائه ، وان يراعى العراقيون خصوصيات كل طرف وكل مدينة باحترام كل الاطراف بعضها للبعض الاخر وان تسود المحبة والوفاء والتحضر وان يعرف كل طرف قدر نفسه ازاء الطرف الاخر .. ان التنوع في خصوصيات العراقيين لا يمكن رؤيته الا من خلال ما قدّمه كل طرف من الاطراف للعراق عبر التاريخ .
   
مؤرخ عراقي[/b] [/size] [/font]

247
لغة الخطاب عند العراقيين 
من فجاجة التعابير الى تشويه الحقائق !!
د. سّيار الجميل

     ان الذي دفعني لكتابة هذا " المقال " ما اجده اليوم من استخدامات لغة خطاب عراقي  يشّوه الحقائق مرة ويستخدم بعض ارث تعابير العهد السابق مرة اخرى ، اذ اجد مثل هذا وذاك لدى بعض الساسة والمثقفين العراقيين سواء في مداخلاتهم او تصريحاتهم او حتى في مقالاتهم وكتاباتهم .. بل وأجد التماثل في بعض الممارسات التي لا اقف على من ينتقدها اليوم خصوصا وانها صادرة عن جمهرة كبيرة من الساسة والمثقفين العراقيين بعد كل الذي حدث للعراق ..  ويبدو الامر غير مدرك من قبلهم ابدا ، باعتبار ان كل ما يقولونه او يكتبونه يعد من الامور الطبيعية ، أو لأنهم لم ينقطعوا بعد عن ميراث جم من لغة خطاب عقيم ومتوحش كانوا يسمعونه ليل نهار .
    ولعل أهمّ ما اثارني جدا استخدام بعض الزعماء العراقيين الجدد لمصطلحات كانت طقوسا بالنسبة للعهد السابق .. على سبيل المثال لا الحصر ، فان مسؤولين عراقيين كبارا ما زالوا يستخدمون حتى اليوم مصطلح " القطر " بدل ان يقولوا " العراق " من دون ان يعرفوا بأن لغة الماضي لابد ان تنتهي ، ومن دون ان يدركوا ان مصطلح " القطر " أعده أنا شخصيا مصطلحا كريها جدا ليس لأنه يذكرنا دوما بـ " امانة سر القطر "  وبـ " القيادة القطرية " ، بل لأنه لا يستقيم لغويا مع المعنى لأي بلد ! ومن دون ان يسألوا انفسهم  بأن اسم ( العراق ) اكبر بكثير من تسميته بـ " قطر " !! وجمعه  " اقطار " وكان المؤسس الاول للبعث قد روّجه مقابل مصطلح " الاقليم " الذي استخدمه الرئيس جمال عبد الناصر في الوحدة المصرية السورية عام 1958 ! ولا يقتصر الامر على مصطلح واحد او تعبير معيّن ، اذ لم تزل لغة خطاب العهد السابق سائدة من دون ان يفكر اغلب العراقيين  باللغة التي يستخدمونها والمصطلحات التي اعتادت اسماعهم عليها ، بل وغرست كلها في اذهانهم على مدى عقود من الزمن .

لغة البعثيين
    لقد كان للبعث في العراق وغير العراق ، لغة سياسية واعلامية شعاراتية معينة منذ خمسين سنة أو يزيد حالهم حال بقية قوى الحزبيين والتقدميين والقوميين والطليعيين اليساريين الذين استخدموا جملة كبيرة من المصطلحات والتعابير والمفاهيم والتي كانوا قد استعاروها ببلاهة عن ايديولوجيات وثقافات سياسية اجنبية وكرسوّها " ثوابت "  لا غبار عليها ابدا ولا رجوع عنها ، بل ان من يعترض ضدّها فانه يلقى سوءا واذى ومنتهى القسوة . لقد كان لتلك " اللغة " التي استخدمت خطابا سياسيا وسلطويا واعلاميا لم يقتصر على الاجهزة والمؤسسات العامة ، بل ووصل بكل طغيانه الى المؤسسات التربوية والجامعية ! تلك " اللغة " الشعاراتية والانشائية من الفجاجة والبلاهة قد كرّست ثقافة متناقضة على اشد ما يكون التناقض بين الواقع والخيال بعد ان بلغ تأثيرها البالغ في تكوين جيل كامل في العراق ( وغير العراق ) على مدى خمس وثلاثين سنة اتصفت بالعنجهية والاقرار التام وفرضها بالقوة وبكل شراسة  ، علما بأنها تتصّف بالاختناق وضيق الافق وتكرار التعابير والالفاظ وبعض المصطلحات المستعارة من اكثر من فكر او ايديولوجية معاصرة في القرن العشرين .
      انني اذ اتحدث اليكم اليوم في هذه " الندوة " المتميزة مشافهة عن نموذج كسيح من خطاب تكريس المفاهيم بالقوة ، واعتبارها مفاهيم وتعابير مقدّسة لا يمكن ابدا تجاوزها ، فكيف يمكن تخطيئها او حتى نقدها وابداء وجهة نظر فيها ! فمثلا لم يكن ابدا تجاوز مصطلح " الوطن العربي " والقول بـ " الاوطان العربية " ، ولا يمكن تجاوز مصطلح " الشعب العربي " واستخدام " الشعوب العربية " .. انهم لم يسمحوا ابدا بمن يدلي برأيه بدلا عن الاغراق في الخيال لشعار لا واقع له اليوم ابدا.. انهم يتهمونه بشتى التهم الجاهزة وربما يذهب الى الجحيم .. وعندما كنت استخدم  مصطلح " العالم العربي " بديلا كونه الاصوب اعترضوا عليّ  اشد الاعتراض !
      لقد استخدم مؤسس البعث ميشيل عفلق والكتاب البعثيون امثال : صلاح البيطار وشبلي العيسمي ومنيف الرزاز والياس فرح وناصيف عوّاد وغيرهم منذ بداياتهم الاولى لغة خاصة بهم ، ولكن أضيفت اليها على امتداد خمسين سنة من وجودهم  جملة هائلة من التعابير الخاصة بهم وبثقافتهم الحزبية التي عمموّها على المجتمع العراقي وفرضوها قسرا والتي سجلت تأثيرها المباشر على تكوين الاجيال من خلال الكتب المدرسية والوسائل الاعلامية وترديد الخطابات السياسية وهيمنة الادبيات الحزبية حتى في خارج نطاق مؤتمراتهم وخلاياهم . كان البعثيون يتناقلون تلك " الادبيات " في ما بينهم من اجل تثقيف انفسهم بها ، بل ويؤكدون عليها في كل وسائل الاعلام الداخلية والخارجية بحيث تشبع جيل كامل بذلك تشبّعا حتى الاعماق .. وهذا ما نجده حتى اليوم وحتى بعد سقوط النظام ، اذ لم تزل بعض " التعبيرات " سارية المفعول حتى يومنا هذا .

التقسيم الزمني
 ويمكنني تقسيم العهد الطويل لحكم البعث العراق الى ثلاث مراحل زمنية ، تميّزت كل مرحلة منه بطابع معّين وبهيمنة تعابير ومصطلحات خاصة بها ، انني اكاد امّيز بين تلك المراحل التي عاشها كل مثقف عراقي كان يرصد تلك البنية السياسية الصعبة التي تعّج بالتناقضات العجيبة ، والمراحل هي :
1/ مرحلة عهد احمد حسن البكر (= نهاية الستينيات والسبعينيات ).
2/ المرحلة الاولى من عهد صدام حسين (= الثمانينيات ).
3/ المرحلة الثانية من عهد صدام حسين ( = التسعينيات وبدايات العشرية الاولى من القرن الواحد والعشرين ).
      استطيع القول بأن اللغة البعثية التي استخدمت في عقد السبعينيات هي التي اوردتها أدبيات البعث في مراحله الاولى والتي رسمها وكتبها مؤسس البعث العربي ميشيل عفلق في منشوراته وعدد من البعثيين الاوائل الذين رافقوه التأسيس ، وبالرغم من استعارتهم جملة كبيرة من التعابير والمصطلحات الماركسية كالبورجوازية والاشتراكية وصراع الطبقات وكلمات استخدمها النازيون في الاشتراكية الوطنية وتمجيد العنصر والدم والعرق .. وفضلا عما استخدمه الفاشيون الطليان عن تعظيم الذات والامة والتاريخ وبعث الامجاد ..  ، الا ان اساليب اولئك البعثيون القدامى قد اختلفت في ما بينهم كثيرا نظرا للمدرسة التربوية واللغوية التي ينتمي كل واحد منهم اليها ، اذ نلحظ مفارقات واضحة بين اساليب كل من : زكي الارسوزي وميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز وشبلي العيسمي والياس فرح .. الخ
      ان هذا لا يهمنا ابدا بقدر ما يهمنا التأكيد على ان لغة البعث قد بدأت وعاشت بنفس النكهة والمانشيتات والتعابير والمناخ العام الذي غلفّها ، اي بتدبيجها الشعارات السياسية والتعابير الحزبية ، بعيدا عن المجتمع ولكن اضيف اليها الكثير من التعابير التي بدأ صدام حسين نفسه يستخدمها في مداخلاته ومقولاته واحاديثه منذ ان طلّ على العالم لأول مرة بشكل علني اعلاميا امام الرأي العام في ملعب الكشافة ببغداد عام 1969 ومرورا باحاديثه المخيفة والقاسية التي كان يتقّصد القاءها في اجتماعات مهنية ورسمية كانت تذاع تلفزيونيا على العلن وبضمنها مواقف مرعبة . وكانت لغة غريبة على الاسماع العراقية فيها تداخلات وتعبيرات ومصطلحات لا يمكن ان يفهم منها شيئا ، وكان صاحبها يتقصّد استخدامه اياها في تلك الاجتماعات لما عرف بضعف الانتاجية بهدف انتقالا الى هيمنته على ادبيات الحزب ، فمن المعروف ان صدام حسين كان وراء كتابة التقارير القطرية للحزب ووصولا الى خطاباته المقروءة او احاديثه الفجة ابان الثمانينيات والحرب مع ايران او التبدّل في اللغة بترويج التعابير الروحية والاستعارات الدينية التي استخدمها ابان التسعينيات ، اي خلال المرحلة الثانية من عهده وانتهاء بآخر خطاب له الى العالم قبل سقوطه المهين في العام 2003 .

طبيعة لغة الخطاب
     ان ما اشاع لغة البعث كثيرا وغرسها في الذاكرة ومكنها حتى في اللاوعي الجمعي العراقي كثرة ترديدها صباح مساء في كل اجهزة الاعلام والابواق التي انتشرت بتمويلات عراقية واسعة المدى ، فلقد كانت تلك " اللغة " هي وسيلة اساسية لبث الثقافة الحزبية ليس في العراق وحده ، بل في كل العالم ، وصحيح ان خطورتها قد تجسدّت على امتداد اربعة عقود من تاريخنا نحن في العراق ، الا انني أجد بأن الذاكرة العراقية لم تزل حتى يومنا تحمل هذا ذلك " الارث " العقيم من تناقضات لغة البعث التي تجمع بين الايهام والخيال والتعظيم من طرف وبين الفجاجة والغلو والبلادة والفظاظة من طرف آخر !
    واكرر ، ان ما دعاني اساسا الى كتابة هذا " الموضوع " وتحليله من اجل تبيان اخطاره يكمن في رؤيتي لما اسمعه وأقرأه دوما حتى الان وبعد مضي اكثر من سنتين ونصف السنة على سقوط البعث من تعابير ومصطلحات بعثية ترد بشكل ربما عفوي في اغلب الاحيان على السنة الناس في داخل العراق وخارجه ، فمثلا لم يتخّلص العراقيون حتى اليوم من مصطلح " القطر " و " القطرية " وهو مصطلح " بعثي " استخدم بديلا عن " الوطن " أو " البلاد " او بديلا عن اسم " العراق" ، ومن دون ان يتذوقوا كم هو جميل ذكر العراق ! ان تعبيرات البعثيين لم تزل سارية المفعول حتى اليوم ويستخدمها الناس وحتى المثقفين العراقيين من دون اي دراية بمصدرها ! وهكذا ايضا بالنسبة الى تعبيرات أخرى تشبّع بها الوعي الباطن اذ اجد ان العراقيين يعيدون انتاجها بشكل او بآخر من دون اي معرفة بما يقولون .. وعليه وجب التنويه !

دور صدام حسين
     لقد كان صدام حسين نفسه اكبر منتج حقيقي لتعابير غريبة وفريدة وعجيبة ربما نجد لها اصولا في محلياته البيئية الجلفية ، وقد استخدمها لسنوات طوال بعد ان كان يختلق له لغة غريبة المعاني بخلطه لمزيج من الكلمات والتعابير التي لا تنتج اي معنى حقيقي وخصوصا عندما كان يكّنى بـ " السيد النائب " ابان السبعينيات .. وما زلت احتفظ  عندي بمقولات وتعابير كنت اسجلها منذ السبعينيات عليه ولا أجد لها اي مرادفات معنوية توصلني الى حقيقة ما يريد الوصول اليه .. في حين انه كان يمارس " لغة البعث " التي ترّبى عليها هو ورفاقه منذ الستينيات وخصوصا تلك التي كتبها ميشيل عفلق في بعض اصداراته التي روجّها البعثيون ، مثل : " ذكرى الرسول العربي"  او " معركة المصير الواحد"  او كراس " البعث العربي " .. وكلها مجموعات لمقالات صحفية انشائية هشة لا ترقى الى فلسفة سياسية راقية ولا الى اي فكر ايديولوجي عالي المستوى .. وربما اختلف معي هنا المعجبون حتى اليوم بكتابات مؤسس البعث العربي ميشيل عفلق ورفاقه الاوائل الذين ان جمعنا فكرهم البعثي كله لوجدناه مزيجا متناقضا ومستعارا من افكار ومقولات لاحزاب فاشية كانت رائجة في اوربا ابان النصف الاول من القرن العشرين ، وقد اعادوا انتاجها بخلطة من المفاخرات ودغدغة العواطف القومية من اجل بعث الامجاد القديمة ، ولكنهم لم ينجحوا ابدا بتحقيق هدف واحد من اهدافهم على امتداد خمسين سنة . وهنا لا يمكن قبول اي تبرير بحجة ان صدام حسين قد  صادر البعث وادبياته .. ذلك ان ميشيل عفلق قال قولته الشهيرة بأن صدام هو هدية البعث للامة العربية !
    انهم بقدر ما نجحوا في استعارة الالفاظ والتعابير والمصطلحات ، فلقد نجحوا في سرقة فكر مستعار له اسلوب بسيط جدا يستسيغه الناس العاديون ، وسيغدو متوحشا وضاريا مذ وصل الى السلطة ومارس الاقصاء لكل ما يخالفه من اساليب وافكار وتعابير اذ يقسر اي كاتب مستقل ويضطهد اي مثقف حر على ان يستخدم تعابيرهم والفاظهم وحتى افكارهم فمثلا اصبحت ( بلاد العرب اوطاني ) قسرا ( وطن عربي واحد ) لا مقومات دستورية له  ، واصبحت ( الشعوب العربية ) بكل ما تحمله من تنوعات وخصوصيات وتباينات ( شعب عربي ) واحد برغم انف الجميع .. ومنع استخدام تعابير ، مثل : العالم العربي !! ويا ويل من يخرج على " لغة البعث"  من دون سابق انذار .. اذ يغدو " البعث " ذلك الوحش الكاسر الذي يريد ان يمنعك من ان تكون معبّرا حرّا في لغتك انت عن فكرك ووجدانك . ولقد كانت تلك قمة المأساة التي اعترت الظاهرة العراقية فكرا وثقافة وسياسة واعلاما لاربعة عقود  من الزمن الصعب ! وربما نجد لها شبيها في مكان عربي مجاور آخر تختلف قساوته اكثر او اقل بالنسبة لتجربة العراقيين .

بقايا اللغة والخطاب
    اذا كانت حلقات الوصل مفتقدة حتى الان ، فلئن الزمن كان جامدا في العراق ، ولم يمر العراقيون بالمزيد من التجارب التي تصقل لتنتج مبدعة بفعل الانغلاقات التي مارسها البعثيون على الثقافة العراقية وحرم العراقيون زمنا طويلا جدا من التفكير المستقل والقراءات المتنوعة والابداعات الحرة .. وانني اعتقد بأن الثقافة العراقية ستبقى في مخاض عسير من اعادة انتاج التفكير واستعادة اللغة الحقيقية في التفكير وانتاج الخطاب وابداع مقول القول بعيدا عن التغيير بسرعة سحرية .. ربما لا يشعر العراقيون اليوم بالملل كما كانوا يعيشونه سابقا لأنهم اليوم يتطلعون الى المزيد من التحسس بالواقع بعيدا عما كانوا يسمعونه من الطوباويات والاخيلة والاوهام والشعارات التي تتردد ليلا ونهارا .. ولكن هذا لا يجعلنا ننفي عنهم اليوم آثار خمس وثلاثين سنة اذ لم يزل خيالهم يذهب شططا عندما يعتبرون كل ذلك حقائق وثوابت ، وهم يزاولون تعبيرات البعث الراحل ، ولكنهم بالتأكيد سيتراجعون عن هذه " اللغة " وممارساتها الاقصائية وعن الافكار القديمة لأن حياتهم تتغّير الان وانهم يمروّن بمخاض صعب وعسير جدا .
      صحيح انه مخاض يسعى الى ان يكون ديمقراطيا ، الا ان المناخ العام قد انقلب من لغة توتاليرية شوفينية الى لغة دينية مجتزأة ، وغدا الكثير من المثقفين والساسة العراقيين الليبراليين والماركسيين والمستقلين وحتى القوميين الاحرار مصابون بالاحباط المرير . وعليه لابد من مكاشفة العراقيين بمصادر اللغة التي ما زالوا يفكرون بها من اجل ان يجففوا منابعها ، ويستخلصوا لهم لغة رائعة ونظيفة وشفافة وجديدة لا تمت بصلة الى المألوف الذي عاشوا عليه ردحا طويلا من السنين .

امثلة ونماذج
    هناك سجل كبير من التعابير اللغوية التي مارسها البعثيون ، اذ لابد ان نكشف عن بعضها لنفّكر معا في حقيقة استخداماتها بين واقع لم يكن له اي اعتبار وبين خيال لا يمكن تحقيقه ابدا .. فلم تزل الذاكرة العراقية مشحونة بتعابير استخدمها البعثيون منذ خمسين سنة ، وساقتصر على ذكر بعض تعبيرات كل عقد زمني من العقود الثلاثة الماضية :
اولا في السبعينيات ، مثل :  " المعركة القومية " و " معركة البعث"  و " معركة الامة "  و " الرسالة الخالدة "  و " رسالة الامة "  و " جئنا لنبقى "  و " طريق البعث "  و " الثالوث المقدس : وحدة وحرية واشتراكية " ، و " الوكر الحزبي"  و " خلايا الحزب" و " الحكام العملاء"  و " النضال القومي"  و " الثورة القومية"  و " الرجعية العربية " و " الوجود القومي " و " الدولة القطرية" و " الاهداف المصيرية "  و " الفئات القومية الكادحة " و " الكرامة القومية " و " الهوية القومية "  و " طمس هوية الامة "  و " طلائع الامة " و " خونة الامة " و " الجيب العميل" و " تآمر الخونة والجواسيس "  و " الشرعية الثورية " و " الثورة المباركة " و " معركة التأميم " و " شد الاحزمة "  و "عقيدة البعث "  و " نداء الامة"  و " الروح الرفاقية "  و " الكادر المتقدم " و الموقع الاول في الحزب والثورة " و " بعث الامجاد " و " المجد والخلود " و " الجيش الشعبي " .. وايضا : "عروس الثورات " و " صوت الجماهير"  و " البرجوازية العفنة "  و "حساباتنا المبدئية " و "خندق واحد لا خندقان " و " الصمود والتصدي " و " تراث الحزب "  و" الكسب الحزبي"  و " الحزب القائد  " و " الاب القائد " و " القائد المؤسس " و " هلهولة للبعث الصامد " و " شباب البعث العقائدي " و "التنمية الانفجارية " و  " نظرية العمل البعثية "و " التصفية الجسدية " و " المهام الثورية " و " الرفاق المتآمرين " و " لا صلح مع النظام السوري الى الابد " ، " المؤامرة القذرة للرفاق " ..  الخ  من تعابير استخدمها النظام السابق ، واغلبها مستعار من ثقافات شوفينية وخصوصا عن الفاشية الايطالية او عن الاشتراكية الوطنية لدى النازيين وبعضها عن ادبيات الماركسية اللينينية . كلها اشبعت بها اصدارات العراق ابان السبعينيات وخصوصا في عهد احمد حسن البكر ..
ثانيا : وفي الثمانينيات ، ولدت مصطلحات وتعبيرات من نوع آخر تعكس ثقافة الاضداد ابان تسلط صدام حسين واشتعال الحرب بين العراق وايران ، فنتذكر : " الموقع الاول في الحزب والدولة " ، و " الحزب الواحد " و" القائد الضرورة " و "عزم الابطال " ، و " بحيل الله " ،  و" الفرس المجوس " و " قادسية صدام المجيدة " و " ليخسأ الخاسئون "  و " النشامى "  و " العراق العظيم "  و " اذا قال صدام قال العراق " و " توجيهات السيد الرئيس القائد "  و " مكرمة السيد الرئيس "  و " التحرير القومي"  ( بدل : الفتوحات الاسلامية )  و " النوايا الخبيثة "  و " الجناح الشرقي للامة العربية " و " البوابة الشرقية " و " الملحمة البطولية الخالدة "  و " الحارس الامين للحدود الشرقية " و " النخوة العربية " و " الاهداف التوسعية " و " مدينة المدن "  و " يوم الايام "  و " الماجدات العراقيات  " و " الزلم العراقيين ".. و " القائد المنصور " و " بطل الامة "  ، و  " احفاد خالد وقتيبة وطارق والقعقاع .. " و " النظام السوري العميل " .. الخ
ثالثا : وفي التسعينيات وحتى السقوط ، استخدمت التعابير التي لا حد لها بين الوهم والدجل والاستخفاف : " يوم النداء العظيم  " و " ام المعارك " و " القائد المجاهد الفارس الشجاع " و " ويا محلى النصر بعون الله " و " صفحة الخيانة والغدر " و " العدوان الامريكي الاطلسي "  و " العدوان الثلاثيني " و " الزمر الضالة "  و " السياسات العدوانية " و " الحواسم "  و " تآمر العملاء في الداخل " و " الكيل بمكيالين " ( : اصبحت مثلا في الثقافة العربية  ) و " عبد الله المؤمن " و " الرئيس المجاهد " و " القائد الفذ "  و " قيم الاصالة والشرف "  و " الايادي الاثمة " و " المؤامرة الدنيئة الغادرة " وصولا الى " غدر الغادرون " .. الخ
التنابز بالالقاب :
    لقد روّج اعلام النظام السابق العديد من الاوصاف والالفاظ النابية بحق العديد من الملوك والرؤساء العرب والاجانب ، فسموا جمال عبد الناصر ( الدكتاتور ) – وكانوا يسمونه ايضا ( ابو خشم )  والملك حسين بـ " سليل الخيانة " و على عبد الكريم قاسم بـ " المجنون والخدّاع " وسمّوه بـ " الزعيم الهمشري " ( عقب انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ) ،  وسمّوا محمد رضا بهلوي بـ " الشاة " ،  واطلقوا على حسني مبارك بـ " حسني الخفيف " او " حسني البقرة " ، وحافظ الاسد بـ " حافظ كسد " وسمّى صدام حسين الامير جابر بـ " قارون الكويت " و الامام الخميني بـ " الدجال " و انور السادات بـ " ابو رغال "  ومعمر القذافي بـ " مجنون ليبيا " ،  وهلم جرا  بحق زعماء مثل مارغريت تاتشر وجورج بوش وجعفر نميري وفيصل ال السعود وسليمان فرنجية وغيرهم .

لغة العراقيين اليوم
اولا : الانشائية وتشويه الحقائق
    انني اعتقد اعتقادا جازما بأن العراقيين اليوم قد انطلقوا من سجن المفاهيم التي وضعوا في داخلها زمنا طويلا .. ولكنهم لم يتخلصوا من خطيئتين اثنين في طبيعة خطابهم اولاهما اللغة الانشائية التي يستخدمونها حتى اليوم ، يعني مهارتهم في انشاء ( وصّف ) كلمات لا اول لها ولا اخر .. ربما لم يتفوقوا على غيرهم ممن اشتهر بصناعة مجرد كلام فضفاض .. ولكن اعتادوا على ان يقولوا اي شيئ او يكتبوا اي شئ من دون التفكير بما يحتويه كلامهم على معلومات اكيدة او مفاهيم محددّة . وثانيهما ما زال قسم كبير منهم وبضمنهم عشرات بل مئات من اساتذة الجامعات والكتاب والساسة والمثقفين وحتى قادة احزاب ووزراء .. لم يتخلصّوا من لغة العهد السابق ومصطلحاته وتعابيره .. ربما لا اقصد افراغ الثقافة العربية من كل ارث الماضي ، ولكن اقصد تلك التعابير المستعارة التي لا حقيقة لها . ان اي سياسي او زعيم او مثقف اذا فكّر قليلا قبل ان يطلق كلامه او قلمه مسائلا نفسه : هل لما استخدمه من تعابير ومصطلحات لها وجود حقيقي على ارض الواقع ؟ ويتواضع قليلا لكي يسمع من يرشده وينصحه .. فليس عيبا ابدا ان يستمع الانسان للنصيحة .. ولكن يبقى اي عربي في هذا الوجود تأخذه العزة بالاثم دوما وخصوصا العراقيين الذين من سماتهم ان احدهم لا يمكن له ان يتفق مع ثانيهم ابدا !! بل ويعتبر مجرد الالتفاتة النقدية طعنة نجلاء في صميمه ، ويبقى سادرا في غيّه ففي قاموسه جعبة مليئة بالشتائم والسباب الجاهزة .
     لقد كنت استمع قبل ايام قلائل الى احد المثقفين العراقيين الاسلاميين الجدد وهو ينفي عن العراق دوره التاريخي في تأسيس جامعة الدول العربية ويؤكد ذلك مرارا وتكرارا وينقد من يقول ذلك من المؤرخين . وانا واثق بأن الرجل ينطلق من ايديولوجية معينة ومن نزعة محددة ليس ضد العراق ، بل ضد " الجامعة " وكأنها مؤسسة شريرة بافكارها ومضامينها دون ان يفصل بين مبادئها وبين تطبيقات سياساتها !! ان هذا وغيره من المثقفين الاسلاميين المتطرفين لا يمكن له ( ولهم ) وهو لم يقرأ التاريخ ان ينفي ببساطة وبكل اريحية دور العراق الاساسي في ترويج الفكرة والدعوة اليها والصراع زمنا طويلا من اجلها ودور رجل العراق في العهد الملكي نوري السعيد صاحب مشروع الكتاب الازرق في ذلك وانتهاء بتوقيع بروتوكول الاسكندرية بتاريخ 7 / 10 / 1943 .  ان المشكلة اليوم تقوم اساسا في كل من يدلي بالرأي عن موضوع من دون ان يقرأ شيئا عنه ، وانه  لم يقرأ تاريخ المؤسسة وتاريخ ادوار العراق . واجد ان الامم المحترمة تحترم تواريخها ورجالاتها ولا يمكن ان تشوهها لاغراض سياسية او ايديولوجية .
     والمشكلة الاخرى ، ان الجيل الجديد اليوم يصدّق كل ما يسمعه من هذا وما يقرأه عن ذاك من دون ان يتحقق من الخبر حتى وان كان ذلك الخبر مشاعا ومعروفا للجميع . ناهيكم عما نسمعه ونقرأه من ترويج للاباطيل وتشويه للحقائق واتباع نفس اساليب العهد السابق في استئصال الحقائق وافتراس كل اصحابها ومهاجمة كل من يختلف معهم هجوما كاسحا وبذيئا .. مستخدمين اقسى انواع الكلمات والتشنيع بالاوصاف واهانة من يخالف بالرأي .. واختلاق جملة هائلة من السباب والشتائم .

ثانيا : تشويه الحقائق
   لقد تحّولت لغة الخطاب الرسمي العراقي اليوم ، وتبعتها لغة الاعلام الترويجي للعراقيين الذين يلوكون اليوم شعارات ومصطلحات وتعبيرات جديدة لم تكن مألوفة سابقا .. ولنا ان نتوقف عند مصطلحات : " الفيدرالية " و "المنطقة الخضراء"  و "سقوط الصنم"  و" المقابر الجماعية"  و " الارهاب "  و " المقاومة "  و " العملية السياسية " و " العملية الدستورية "  و " الانتخابات " .. وغيرها وكلها تعبيرات واقعية وصحيحة ولكن لدي اعتراض علمي صارخ لا يمكن التنازل العلمي عنه على تسميات جديدة ، مثل : الايزيدية والكلدو اشور .. خصوصا وان كل من هذين المصطلحين قد استخدما بعد سقوط النظام السابق من دون اي دراية ولا اي تفكير ولا اي سند علمي من قبل البعض فراج بين الناس .. والمشكلة وصلت لكي تغدو ضمن نصوص رسمية وقانونية . لقد نص دستور العراق الدائم على كل من هذين المصطلحين .
اولا : اليزيدية وليس الازيدية : لقد عرف اليزيدية بتسميتهم هذه منذ ازمان طويلة في التاريخ ، واذا يريد البعض تغيير هذه " التسمية " الشرعية فلا يمكن له ان يغّير اسماء ابناء هذه الطائفة ( الاموية ) التي حفلت بالاسماء الاموية كيزيد ومعاوية مثلا ! وسواء اختلف المؤرخون في انتماء اليزيدية الى العرب ام الاكراد ، فان الهوية لها خصوصيتها التاريخية وان الظاهرة اليزيدية لها خصوصيتها الدينية ولا يمكن التلاعب بشأن تسميتها لاغراض طائفية او عرقية او اي اغراض اخرى !  لقد طرحت هذا " الموضوع " مؤخرا على العديد من العلماء والمستشرقين طوال السنتين الماضيتين ، اذ استغرب كلهم مثل هذا " التشويه " المتعّمد لتسمية تاريخية عمرها قرون من الزمن ، ولكم ان تسألوا كل من المستشرقين  بوزورث واندريه ميكال وجوني هارت وروبرت اولسن ودينا خوري وغيرهم . ناهيكم عن مراجعة كل كتب العلماء والمؤرخين العراقيين عن ( اليزيدية ) امثال : صديق الدملوجي وعباس العزاوي وسليمان صائغ واحمد تيمور ويعقوب سركيس وعبد الرزاق الحسني وسعيد الديوه جي وتوفيق وهبي وسامي سعيد الاحمد وهاشم البناء وغيرهم .. او المستشرقين الاخرين امثال : ادموندز وجاك بيرك والبرت حوراني ولويس ماسينيون ولا يمكن ان نكّرس تسمية جديدة لا اساس لها من الصحة في " دستور العراق " وهو تشويه متعمّد وننسى ان هناك مراجع عالمية كالانسكلوبيديات ودوائر المعارف لا تقرّ أبدا بهذه التسمية الجديدة .
ثانيا : السريان والكلدان والاثوريون بدل ( الكلدو آشور ) التي اعتبرها تسمية مشوّهة اخرى تضمنها " الدستور الجديد " ويستخدمها من دون اي شعور بالذنب اغلب القادة والساسة والمثقفين العراقيين .. وهي تعني جمع كل من الكلدان والاثوريين في كيان اجتماعي واحد او منفصل من دون ان يدرك هؤلاء بأن العنوان الذي استخدمه العلامة المطران أدي شير في كتابه ( كلدو وآثور ) لم يعن به الجمع بين الاثنين – كما يجري اليوم - ، بل ان الكلدان طائفة مسيحية عراقية عريقة في تاريخها ولها بنيتها الاجتماعية والدينية في حين ان الاثوريين ( او : الاشوريين ) هم قومية دينية مسيحية عريقة هي الاخرى في تاريخها ، ولها خصوصيتها وكنيستها الشرقية المختلفة عن الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية .. ( وللملاحظة : ان الفرق بين استخدام الشين او الثاء ) لتسمية الاثوريين هو فرق لفظي لحرف السين في اللغة الارامية بين شرق دجلة وغربها ) .
      واذا كانت الكنيسة الكلدانية لها مشاركتها السياسية ، فان الكنيسة الاثورية لم تشارك في السياسة ابدا . تاريخيا ، يمكننا القول بأن الاصل واحد وهو السريانية ، ولكن الافتراقات اللاهوتية والكنسية قد جعلت لكل ملّة طبيعتها وطقوسها وتفكيرها وخصائصها الاجتماعية والتاريخية . وهنا اقول بأن الاثوريين لا يقبلون ابدا – كما علمت من ابرز من يمثّلهم - ان يكونوا ضمن تسمية واحدة مع الكلدان معتبرين انفسهم " قومية " مختلفة وان الجامع بينهم وبين الكلدان هو الدين .. ولكن مرجعية كل من الطرفين الدينية لا تتلاقى مع واحدتها الاخرى .وعليه ، فلابد من الفصل بين الاثنين في التسمية .

واخيرا : ماذا اقول ؟
      كنت آمل ان اتوسّع في نقد جملة اخرى من التعابير والمصطلحات المستخدمة اليوم في العراق ، ولكن لا مجال اكثر في مقال كهذا استغرق عدة صفحات . ان معالجة هذا " الموضوع " لا تكفيه مقالة واحدة ، بل يستوجب الاهتمام به بالكثير من الدراسات النقدية والمقارنة والاجتماعية والسايكلوجية ، اذ ان اي مشروع للتغيير في العراق ، لا يمكن ان يجد فرص النجاح ان لم يغّير العراقيون تفكيرهم اللغوي ورصيدهم من التعابير واستخدامهم للمصطلحات التي الفوها على مدى نصف قرن مضى.. وانني واثق بأن لا يصح في نهاية الامر الا الصحيح اذا ما تجّرد المختصون لنقد ما يدلي به الجهلاء .. وان ما يستخدمه العراقيون اليوم من خطاب مشّوه ، سيتغّير مع مرور الزمن عندما يقتربون يوما بعد يوم من الواقعية ويتعلمون من الاخطاء التي يقترفونها بقصد او من دون قصد ..
     واتمنى على الساسة والمثقفين العراقيين الابتعاد عن الانشائية وصناعة الكلام الفضفاض وراجيا منهم تصويب ما ينشرونه من تعبيرات ومصطلحات ومفاهيم لا اساس لها من الصحة .. كما عليهم ان يتخلصوا من الحالة الثأرية لمعلومات تاريخية اكيدة يخالفونها  فيحاولون نفيها او اقصائها او مجانبة الصواب فيها .. فيشوهّون بذلك تاريخ العراق . انني بهذه " المداخلة " اتقدم الى المشّرع العراقي اليوم لكي يصحّح ما ورد في الدستور الجديد من اخطاء وتشوهات ، فمن المعيب ان يتضمن دستور العراق يقّره العراقيون مصطلحات خاطئة . واقول : بأن هذا لا ينفع ابدا ما دام العالم كله قد اعترف بتلك المعلومات والتسميات . فهل سينتبه العراقيون الى ما اقول ؟ اتمنى ذلك من صميم القلب .[/b][/size][/font]

248
رسالة صريحة في نقد خطاب السيد فاروق الشرع 
كيف نخاطب المجتمع الدولي؟

د. سيّار الجميل
2005 الأربعاء 2 نوفمبر

  لقد كانت لنا فرصة ذهبية ان نستمع ونشاهد كيف كان رد الاخ فاروق الشرع وزير خارجية سوريا في اجتماع مجلس الامن بعد ان صدر قرار المجلس والمرقم 1636.. اذ اننا لم نقف على هكذا مواجهة بين مسؤولينا العرب وبين المسؤولين في دول كبرى الا ما ندر في التاريخ.
وطالما تحدث مواجهات مضحكة هزيلة ولكن في جلسات مغلقة وسريّة.. وهذا ما يريده دوما اغلب المسؤولين العرب كيلا تنفضح بضاعتهم وقلة حيلتهم وجهالتهم وضعف حجتّهم في المواضيع المصيرية التي تهم شعوبهم وبلدانهم.
لقد صعقت وانا ارى السيد فاروق الشرع وهو يتكلم بتثاقل وابتعاد عن الموضوع وبلغة عربية مفككة وذلك في اخطر ازمة تمر بها بلاده.. وكأنه يقول بأنه مذنب تعالوا خذوني.. وكأن القضية الجنائية والسياسية معا التي تتهم بها بلاده تشبه بقية القضايا التي عاشتها بلدان اخرى كما اراد ان يلعب بذلك ولكن لم يكن لاعبا ماهرا..

موقف ضعيف جدا
 انني لست في موقع كي ادين هذا البلد او ذاك، اذ لا نريد ابدا ان يتضرر اي بلد عربي وما مقالتنا هذي الا من الحرص على شعبنا السوري والحفاظ على مستقبله.. انني انتقد السيد وزير الخارجية السوري على موقفه الضعيف والمتداعي وهو يتلقى كلاما خشنا جدا من السيد وزير خارجية بريطانيا جاك سترو.. وكأن الشرع لم يكن وزيرا للخارجية على مدى سنوات طوال يكون قد تعّلم من تجارب غيره في اوقات الازمات! ولا ادري هل كانت لدى الشرع معلومات كافية كي يتكلم من خلالها؟
واذا كان على ثقة بالغة بأن لا ضلع لسوريا في موضوع جريمة قتل الراحل السيد رفيق الحريري، فلماذا هذا التبلد والخور ومعالجة الامر بالحسنى، وردّ التهم بمثل هكذا اسلوب؟ ولا اعرف ان كان كل وزراء خارجياتنا العرب هم بمستوى فاروق الشرع في الدفاع المتهالك وهو يبحث له عن مقارنات لحوادث بعيدة كل البعد عن هذه الجريمة! لماذا جعل كلامه مدعاة لتدخّل وزير خارجية بريطانيا كي يلقي عليه كلاما ثقيلا بالعربية افتقد فيها هيبته اي بمعنى افتقاد هيبة سوريا!
 
الشرع وطارق: بين الامس واليوم
 لقد وجدت شبها كبيرا بين كل من فاروق الشرع اليوم وبين طارق عزيز بالامس القريب عندما فشل الاثنان وهم يمثلان ايديولوجية معينة وسلطة متشابهة ونظاما واحدا منقسما على نفسه.. في الدفاع المهين عن بلدين كان ينظر اليهما العالم بعين الريبة والاتهام.. فالالتفاف والمداورة والمناورة والتغّني بجمال سوريا لا تنفع كلها هنا..
وان عدم اطلاق الكلام المسؤول على عواهنه وبانكليزية حاذقة وباسلوب دبلوماسي غير مفتقد للثقة بدل التخوف من سلطة الرئيس ومزاج الرئيس واوراق الرئيس.. كلها تجعل قضايانا المصيرية تافهة في نظر العالم والمجتمع الدولي كله. ان اللغة الخائرة التي استخدمها السيد فاروق الشرع تدّلل انه يحاول رتق فتق يصعب رتقه على الجميع، وان ضياعه وهو يهيم بين اعضاء وفد احبوا سوريا وانهم سيعودون اليها سواحّا وبين عناصر قضية ستودي سوريا الى الجحيم مسألة لابد ان ينظر اليها كونها ازمة او ان البلاد كلها في ازمة لم تستطع مع الاسف الخروج منها.
  لقد تذكرت وانا اراقب تلك " المشاهد " المأساوية صورة طارق عزيز وهو يرمي برسالة الرئيس بوش الاب عندما سلّمها اياه وزير الخارجية الامريكية السيد جيمس بيكر، فكان ان تلقى جوابا قاسيا في ان يرجع العراق الى العصور الوسطى.. ورجع عزيز وكأنه حقق نصرا عظيما في حين انه ساهم بغبائه من حيث لا يشعر الى تدمير بلاده امام العالم بلغته العمياء وتصرفاته الرعناء..
لقد تذكرت في الوقت نفسه، ايضا، العديد من صناع الدبلوماسية العربية الكبار في القرن العشرين وكانوا اذكياء جدا وخصوصا في اعلاء مكانتنا في المجتمع الدولي عندما تعاملوا مع العالم الذي كان يمر باخطر احوال الحرب الباردة.. ولكنهم نجحوا نجاحا باهرا في كسب العالم الى قضايانا وانهم لم يدافعوا عن امر لا يدركون ابعاده ولا يعرفون حجم التورطات فيه..

متى تتعلمون من الرجالات السابقين؟
  نعم، تذكرت فيصل بن الحسين في مؤتمر فرساي بباريس في العام 1919 وكيف استقطب اهتمام المؤتمرين.. وتذكرت سعد زغلول ومصطفى النحاس ونوري السعيد.. لقد تذكرت الدبلوماسي اللبناني القدير شارل مالك بكل امكاناته الرائعة وفلسفته الخاصة في تطوير الرؤية السياسية للعالم الينا نحن العرب.. تذكرت السياسي العراقي البارع الدكتور فاضل الجمالي الذي كسب المجتمع الدولي الى صف قضايانا العربية.. تذكرت وزير خارجية العراق ايام الزعيم عبد الكريم قاسم الدكتور هاشم جواد الذي كانت له قوة بيانه وسرعة بديهيته في الامم المتحدة..
تذكرت رجل السياسة الخارجية الدكتور بطرس بطرس غالي بكل هدوئه وقوة حجّته ومعلوماته القانونية التي اوصلته الى الامانة العامة للامم المتحدة.. كذلك تذكرت السياسي المصري الحاذق مصطفى خليل ناهيكم عن الامير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الذي يدرك لما يقول ويعتبر امتداد لمدرسة والده الملك فيصل آل السعود عندما بقي وزيرا للخارجية زمنا طويلا..
وأخيرا تذكرت الاخ الدكتور الاخضر الابراهيمي الذي له امكانات وانفتاحات تعلمها من اساليب وزراء الخارجية الحاذقين في هذا العالم المتحضّر. متى تتعلمون يا وزراء خارجياتنا العرب مهنتكم الحساسة التي هي بأمس الحاجة الى الحذاقة وقوة الخطاب وحسن التقدير وبراعة اللغة واستقطاب الاراء واساليب الانجذاب اليكم.. وحسن التّصرف..

وأخيرا: متى تتخلصون من طريقتكم في اخفاء المكشوف؟
 كم كنت اتمنى على فاروق الشرع ان لا يجازف بتاريخه ويبدو ضعيفا مهزوزا وهو وزيرا لخارجية سوريا.. خصوصا ونحن ندرك وضعية سوريا ازاء هذه القضية ولم تمض الا اياما على مصرع زميله وزير الداخلية السوري.. فكان عليه، أما ان يعتذر عن الكلام وعن المشاركة اصلا اذ لابد ان يحتسب للامر احتسابا كبيرا، واما ان يتجّرد بلغة انكليزية قوية جدا وبنبرة واثقة وبحجج لابد ان يمتلكها كي يكون دفاعه لا ثغرات فيه وهو يرد على مجلس الامم..
كان عليه ان يتخّلص من الطريقة العربية التي دوما ما اشبهها بالنعامة التي تخفي رأسها في الرمل وكل اشلائها مفضوحة للعالم.. كان عليه ان يتخّلص من الاسلوب الذي لم يستوعبه العالم.. مع كل الاسف لقد اخفق السيد فاروق الشرع امام العالم..
ومما زاد في الطين بلة، انه طلب ان يكشف الاوراق في جلسة سرية، وكأنه يحترز على اوراق خفية بصدد الموضوع والعالم كله يترقب القرار الذي ادان سوريا. فهل كان لما تكّلم به الاخ الشرع بمستوى الحدث.. لقد أضّر بقضيته ضررا كبيرا، كما كان طارق عزيز من قبله قد اضر بالقضية العراقية ضررا بالغا . وهذا دليل واضح على ان ثمة انظمة سياسية عربية لابد ان تجدد نفسها وتعترف باخطائها وخطاياها.. ويكفيها ما تتبعه من سياسات لا تضر ببلدانها، بل انها مجلبة للكوارث الى كل المنطقة.[/b][/size][/font]
 

249
دعوة عامة للمشاركة في هذا النشاط المدني والوطني الديمقراطي العراقي

ووضع اسم الراغبة والراغب ضمن قائمة الأسماء
أسماء هيئة الدفاع عن أتباع الديانات القديمة والمسيحيين في العراق

د. سيار الجميل أستاذ جامعي, كاتب وباحث الإمارت العربية المتحدة
د. غالب العاني طبيب وناشط في المجتمع المدني ألمانيا
د. صادق البلادي طبيب ألمانيا
انتصار جاسم طالبة ألمانيا
أنسام الجراح فنانة تشكيلية بريطانيا
بلقيس حسن شاعرة وكاتبة هولندا
بيان صالح  اعلامية وناشطة نسائية   الدنمارك
د. محمد الربيعي أستاذ جامعي, باحث بريطانيا
د. محمد الموسوي أستاذ جامعي/ كاتب بريطانيا
د. عدنان الظاهر باحث وكاتب ألمانيا
د. حسن حلبوص طبيب ألمانيا
عفيفة لعيبي فنانة تشكيلية هولندا
عقيل الناصري كاتب وباحث/ أستاذ جامعي السويد
د. على إسماعيل جودت ناشط في مجال المجتمع المدني ألمانيا
بهزاد علي أدم حقوقي وناشط في حقوق الإنسان ألمانيا
د. تيسير الآلوسي كاتب وباحث/أستاذ جامعي هولندا
جاسم المطير كاتب وسياسي هولندا
د. كاظم حبيب كاتب وباحث ألمانيا
د. إبراهيم إسماعيل طاهر باحث وكاتب السويد
د. إبراهيم الداقوقي باحث وكاتب النمسا
أحمد البرزنچی ناشط سياسي ألمانيا
د. جبار قادر باحث وكاتب هولندا
د. أحمد برواري سياسي وباحث ألمانيا
أحمد محمد أحمد مهندس ألمانيا
فهد ناصر  كاتب وسياسي   الدنمارك
د. آرخوان رؤوف باحثة وسياسية ألمانيا
أصيل صبري طالب ألمانيا
أكرم خضير طالب ألمانيا
أكرم كورون معاون طبي ألمانيا
جاسم مراد فنان/مطرب ألمانيا
جنگيز خان حسو مترجم ألمانيا
زهير كاظم عبود كاتب وباحث السويد
حسان الجلبي طالب ألمانيا
حسين هاتف مهندس ألمانيا
حكمت السليم باحث ألمانيا
د. خضر حسن طبيب ألمانيا
د. خليل جندي أستاذ جامعي وكاتب ألمانيا
رانية سرمد طالبة ألمانيا
رزگار عقراوي اعلامي وسياسي الدانمرك
رضا كريم مسرحي وشاعر ألمانيا
سالم جاسم كاتب ألمانيا
د. ممتاز كريدي أديب وكاتب ألمانيا
منذر حلمي فنان مسرحي ألمانيا
منى سعيد شاعرة وصحفية الإمارات العربية المتحدة
منير العبيدي فنان تشكيلي المانيا
ناصر السماوي مدرس رياضيات ألمانيا
سامر الجلبي طالب ألمانيا
سرمد جواد كاظم طالب جامعي ألمانيا
سعاد الجزائري صحفية بريطانيا
سهيل العزاوي مهندس اقتصادي ألمانيا
صبيح الحمداني مهندس وناشط في حقوق الإنسان ألمانيا
طالب الطالباني شاعر ألمانيا
عبد الرزاق الصافي حقوقي, كاتب وصحفي بريطانيا
عبد الله علي طالب ألمانيا
عمار توفي فنان مسرحي ألمانيا
فاضل باقر الربيعي متقاعد ألمانيا
فالح حسن الدراجي كاتب وباحث أمريكا
فراس السماوي طالب جامعي ألمانيا
فرج يوسف ميكانيكي ألمانيا
فهمي بالاي فنان تشكيلي ألمانيا
ماجد فيادي مهندس زراعي ألمانيا
مثنى صلاح الدين محمود اقتصادي نشط في حقوق الإنسان ألمانيا
مجيد مسلم القيسي كاتب وصحفي ألمانيا
محسن عسمان فنان مسرحي ألمانيا
مصطفى قره داغي صحفي ألمانيا
ناصر خزعل مصور سينمائي ألمانيا
نجيب سليمان طباع أوفسيت ألمانيا
نصير السلامي موظف ألمانيا
نوري محسن طالب ألمانيا
هاژه طيب مهندسة زراعية ألمانيا

الموقعون
bgubrail@yahoo.dk 
2005 / 10 / 29 [/b][/size][/font]

250
صدام حسين في قفص محكمة الجنايات!! 
 الاسود لا تدخل الاقفاص بارادتها!!
د. سيّار الجميل
2005 الخميس 20 أكتوبر

 لا يمكن للمرء ان يتخيّل زعيما طاغية محترف بكل دكتاتوريته وهو معترف بكل طغيانه باسم المفاخر والمناقب والامجاد التي صنعها لنفسه ان يجلس ذليلا وهو يحاكم جنائيا في قفص حديدي تراقبه الملايين! لا يمكن للمرء ان يتوهم الحقيقة خيالا! ولا يمكن ابدا ان يختصر الانسان تاريخا طويلا مضمخا بكل الشقاء والالام والعبث والطغيان ومثقلا بكل الاحداث المأساوية الدموية..
وقد قاده القدر العجيب الى حيث يكون في قفص الاتهام امام كل العالم! لا يمكن للمرء الا ان يقول: هل بدأ تاريخ جديد بعد ان غدا رمز الطغاة قد احرق كل الاوراق وهو يجلس مع بعض اصحابه ومساعديه في قفص بمنتهى الاذلال! فاذا كنت تنكر يا صدام حسين طريقة القاء القبض عليك في حفرة كالتي اخرجوك منها، فهل تنكر اليوم بأنك مكبل بالاغلال وقد ادخلوك الى قفص الاتهام في محكمة للجنايات على مرأى ومسمع في كل هذا العالم؟؟
واذا كان خصومك العراقيين يشمتون بك، فما موقف من يؤيدك ويناصرك من هذه النهاية التي ربما ختمت بها تاريخك، ولكنك سجلت حتى هذه اللحظة هزيمة تاريخية لكل سلاسل الماضي العقيم. وما كنت اتمنى على السيدة رغد صدام حسين ان تصف أباها بـ " الاسد "، فالاسود لا تقبل على نفسها ان تدخل الاقفاص بارادتها، الا في حالة معينة واحدة لا يمكن قبولها ابدا مهما كان الثمن!

من شّب على شيئ شاب عليه!
 لما اندلعت حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت في العام 1991، قلت في نفسي: ان الهزيمة ستلحق بالجيش العراقي حتما، وسيضع صدام نهايته بيديه لأنه خسر الحرب وسبّب خسارة مهينة للجيش العراقي ونكب العراق بكل مؤسساته واجهزته كدولة، واهان فيها المجتمع وكل المنطقة، فلقد راهن الرجل على المستحيل.. ولما بقي في السلطة لأسباب سيكشفها التاريخ لاحقا، عدّ مجرد وجوده انتصارا اخذ يحكيه علنا من دون اي احساس بالذنب او التقصير او اي تصويب للخطأ.. بل وكان يحتفل في غمار الايام الصعبة بيوم الايام ويوم الانتصار الكبير وصولا الى ام المعارك..
 لقد توّضحت للعالم كله ان سايكلوجية صدام حسين مازوشية لا تعترف بالتقصير ولا بالخطأ ولا تحس بقيمة الانسان ابدا. والمشكلة، انها لا تحس بقيمة نفسها كونها تشعر بالعظمة دوما ، ولا تعرف اي صفة من صفات التواضع والحلم.. ويبدو ان عائلته كلها تمارس هذا التفكير البليد اذ تعتبر ابنته ان اباها وهو في القفص: رجلا شجاعا واسدا هصورا وانهم يتباهون به..
بل انها سايكلوجية مستعدة لاقصاء كل العالم من اجل وجودها وانها لا تحس بالمهانة ابدا وباستطاعتها جعل الابيض اسودا والاسود ابيضا! انهم يعتبرونها ظروفا صعبة وشدائد!! انها سايكلوجية قادرة على التخفّي والهروب عندما تشتد اي ازمة انها لا تحس وتشعر كما هو الانسان الطبيعي..
 انها سايكلوجية تعتبر الهزيمة انتصارا وان الذليل بطلا!!
 انها سايكلوجية لا تستطيع تحمّل اي مسؤولية برغم شعورها الذاتي بالعظمة والجبروت مهما بلغت عند الاخرين من تفاهة!
 انها سايكلوجية تخدع نفسها اذ انها قادرة على ان تقنع نفسها بأن التفاهة عظمة ولا يمكن ان تشعرك ابدا بالتواضع! ولا بالاعتراف بالذنب ابدا! او حتى الشعور باللامبالاة بما يجري اذ انها تعتبر حتى المحاكمة في قضية جنائية وليست سياسية بطولة عظيمة!
انها سايكلوجية لا تجد في الميدان الا نفسها.. وان العالم ملك يديها.. وان التاريخ لا يصنعه الا من يمتلكها!!

ماذا كنت اتمنى على صدام حسين!
 وكم كنت اتمنى على الرئيس السابق صدام حسين وهو يقود معركة بغداد، وكانت بغداد على قاب قوسين او ادنى من السقوط.. وهو يرى الدبابات الامريكية تجتاز شوارع بغداد وهي تعبر الجسور على نهر دجلة.. ان ينزل بنفسه حتى وان لم يبق جنديا واحدا الى الشوارع ببزته القتالية لا بنياشينه الملونة ليقاتل تلك الدبابات بغدارته فيقاتل قتال الابطال حتى يقتل.. كما كان يفعل الاجداد القدماء في معاركهم اذ يقاتل المقاتل حتى يقتل.. ولكن صدام حسين لم يفعلها أبدا..
وصدقوني لو فعلها وقاتل حتى قتل، لسجّل موقفا تاريخيا سيذكر له ولكان قد حقق مصداقية لنفسه لا لشعبه، اذ كثيرا ما كان يخبرنا هو نفسه في خطبه واحاديثه عن بطولات العرب في التاريخ! لقد هرب ليس من منصبه وليس من مسؤوليته ، بل هرب بحياته فقط! وحذا حذوه كل طاقم دولته فماذا يعيب على الجنود هروبهم من ساحة المعركة؟ ولماذا وشم جباه الهاربين من الخدمة العسكرية وجدع انوفهم وقص السنتهم؟؟
سألني اصدقاء لي من الاخوة العرب الذين كانوا يعتقدون ببطولة صدام حسين قبل ان يسقط نظامه بأيام: وهل تعتقد بأن صداما سيقاتل قتال الابطال؟ اجبتهم وكنت متأكد مما كنت اقول: بأن الرجل سيختار طريق الهروب اذ لا يمكنه ان يحارب بنفسه ابدا ليضع نهاية حقيقية لعهده ونفسه قبل ان يفتقد كرامته.. انه من النوع الذي لو وجد العراق كله يحترق، فان الامر لا يعنيه ابدا! ومضت الايام، وهرب الزعيم القائد ليسجل من بعد ذلك فصلا دراميا من نوع جديد في التاريخ، ولكنه متنقل من حفرة حقيرة الى سجن انفرادي وصولا الى قفص حديدي !!
 تصورّوا ايها الاخوة تاريخنا المليئ بالرجال الحقيقيين الذين يقاتلون لا من اجل النصر والانتصار، فالاوان يكون قد فات، ولكن من اجل كرامة معيّنة تريد ان تبقى وتعيش في الرمق الاخير! ومن اجل ان يبقى الانسان كما عرف وهو في صدر عليائه لا كما سينتهي وهو ذليل بايدي خصومه! وهذه المعادلة قد غابت عن صدام حسين وعن اصحابه ومساعديه وهم كثر منذ بداياتهم الاولى.. فالانسان تتحكم في سايكلوجيته مجموعة معقدة من الرموز والمعاني التي لا يمكن ابدا استيعابها من قبل انسان فاقد لكل تلك المعاني والاشياء.

الامتحان ليس صعبا وعسيرا على الابطال الحقيقيين
 وانا اراقب صدام حسين وهو محتجز في قفص امام كل العالم، وافكّر بكل تاريخ عهده الطويل المليئ بكل الاحداث المأساوية وخصوصا في التهم الجنائية وبكل الاحكام التي ستقولها المحكمة الجنائية، فهي نهاية تاريخية مذّلة لا تليق ابدا بذاك الحاكم الطاغية المتغطرس الذي لم يكن أحد يتصّور يوما بأنه سيغدو في قفص حديدي ابيض يحاكم محاكمة جنائية وليست سياسية امام العالم؟ اية سايكلوجية هذه التي ترضى بكل هذه الاهانة؟
ان من يراقب نهايات الزعماء في هذا العالم عبر التاريخ، سيرى بأن من يحترم تاريخه لابد ان يدافع عن ذلك " التاريخ " حتى ولو كان ذلك بدمه من دون ان يدافع عن وطنه ازاء خصومه واعدائه.. فان دافع في اللحظة الاخيرة، فسوف لن يأتي بالنصر ابدا، ولكنه يدافع فيها عن شرفه وابائه وتاريخه واسمه كونه يعتبر نفسه رمزا حقيقيا في هذا العالم! وعليه ان يثبت للاخرين بدءا من شعبه وصولا الى اقصى العالم وانتهاء الى كل حافات المستقبل: انه اما سيقاتل قتالا شرسا حتى يقتل او يسحب مسدسه وينتحر.. لا ان يقف وقفة مذلّة ابدا ليس بايدي خصومه حسب، بل كي لا يقبل ان يكون ذليلا امام كل العالم.

ماذا فعل غيره من الزعماء في اللحظات الاخيرة؟
1. اودلف هتلر:
 كنت احرص في الصيف المنصرم على مراقبة الفيلم الذي انتج في العام 2004 عن نهاية الفوهرر ادولف هتلر مستشار الرايخ الالماني وبكل دقائقها وتفاصيلها. والفيلم توثيقي كله اذ ان تاريخه قد كتب من خلال الوثائق والشخوص الاحياء الذين بقوا مع الزعيم النازي الالماني هتلر حتى اللحظات الاخيرة، وخصوصا سكرتيرته التي اثبتت صحة كل المعلومات.. لقد كانت لحظات مدهشة عندما اخذ حصار جيوش التحالف تطّوق برلين التي كانت تقصف بشدّة وبلا رحمة..
كان هتلر مع هيئة اركان حربه في مركز العمليات تحت الارض وكل اتباعه.. قرر هتلر ان يعقد قرانه على ايفا براون في الساعات الاخيرة واوكل مهمة حرق جثته بعد موته مع ايفا براون كيلا يمس جسده احد من خصومه! ودّع من تبّقى من اركان حربه بعد ان قتل حتى كلبه ودخل مع زوجته ايفا الى مخدعه وانتحرا معا.. وعندما بدأت انتحارات بعض مرافقيه، دخلوا عليه وحملوه مع زوجته واخرجوا جثتيهما الى الخارج وكبّوا عليهما البنزين واشعلوا النار في جسديهما ولم يبق منهما شيئا! ولم يكن هتلر الا زعيما منتخبا من قبل الالمان، فهو يمتلك شرعية الزعامة في التاريخ ولم يأت ويدخل القصر الجمهوري جالسا في قعر دبابة!!


2. سلفادور اليندي:
 اما قصة زعيم منتخب آخر هو زعيم تشيللي سلفادور اليندي فهي قصة لا تقل في نهايتها المأساوية شيئا عن نهايات زعماء آخرين يحترمون انفسهم وتاريخهم واسمهم.. كان في لحظاته الاخيرة وهو يسمع بالانقلاب الفاشي الذي اطاح به بقيادة بينوشيه قد قرر ان يأخذ بندقية صيد من جدار قصره ولم يكن اليندي المثقف الشيوعي البارع الذي وصل الى سدة الحكم من خلال انتخابات عامة لها شرعيتها رجلا عسكريا.. ففي يوم 11 سبتمبر 1973 وعلى أبواب القصر الجمهوري في تشيلي سقط سلفادور اليندي قتيلاً ( او: منتحرا ) وهو يقاوم الانقلاب الذي دبرته ضده المخابرات المركزية الاميركية، وكان اليندي الرئيس المنتخب ديمقراطياً من شعب تشيلي قبلها بسنوات ثلاثة. لقد كان اليندي مثقفا، اخذ بندقيته وخرج الى شرفة القصر وهو يقاتل الانقلابيين الذين اقتحموا القصر عليه، فقاتل قتالا ضاريا حتى سقط قتيلا او منتحرا من دون ان يهرب او يسّلم نفسه او يلوذ بنفسه كما فعل صدام حسين الذي لاذ بنفسه، وهّرب عائلته.. وترك ليس ارضه وشعبه تحت النيران، بل ترك كل رموز الزعامة الحقيقية من ورائه كي يقف اليوم في قفص محكمة جنايات.

لماذا الهروب؟ لماذا الشرود؟
 لقد ترك صدام حسين كل تاريخه الذي كان يتبجح به، بل وكم كان صدام حسين يلوك البطولات على الناس! ونسأل: لماذا اختار صدام حسين طريق الهروب؟ اذا كان على رأس الجيوش القوية وهو لم يفعل شيئا، فكيف سيفعل اشياء وهو طريد هارب!؟؟ وبقي طريدا هاربا لشهور عدة حتى القي القبض عليه في حالة مزرية.. والمشكلة ان كل طاقمه قد شرد وولّى هاربا، كلّ يلوذ بنفسه من دون ان يخجل احدهم لينهي نفسه بعد حدوث كل النتائج المأساوية.
ان مشكلة صدام حسين وكل اعضاء مدرسته، انهم كانوا وما زالوا يعدّون انفسهم منتصرين حتى اليوم.. بل وانهم لم يعترفوا ابدا بأن كل ما حدث قد شاركوا في صنعه ان لم يكونوا، في حقيقة الامر، وراء كل ما حدث! ان الهروب والشرود لم يجد نفعا ابدا.. اذ ان النهاية قد ختمت بالدخول الى القفص امام كل هذا العالم.
وفي القفص لم يتسن لصدام حسين ان يقدّم خطبة سياسية عصماء كي يجذب اليه الناس، فالمحكمة جنائية اذ انه متهم شخصيا بالقتل. وبعد ان رأيت الفيلم الذي سجّل على القرص الذي عرض مرارا وتكرارا في قناة العربية، أسأل: هل كنت يا صدام حسين بحاجة الى ان يقف بنفسه امام صبية اتهموا باطلاق النار عليه واغتياله كي يسألهم ويأمر فجأة من دون ان تحاكمهم اي محكمة: طرّوهم كل واحد على انفراد!! والعراقيون يعرفون معنى: طرّوهم!
 
وأخيرا: لقد خسرت المعركة منذ زمن طويل!
 واخيرا اقول: بانك قد خسرت المعركة يا صدام حسين منذ زمن طويل، وسواء اعتقدت بالانتصار وبانك صانع الامجاد وبأنك أسد هصور.. فالمعركة فاشلة منذ بدايتها ولابد ان تعترف بانك قد كبلت العراق بتاريخ مثخن بالجراح.. وان الاعتراف سيّد الادلة، وسواء اعترفت بالمحكمة ام لم تعترف، فأنت واقف في اروقتها وقد اعترفت بأن لك محام فيها يدافع عنك..
وانها لنهاية درامية لزعيم عراقي تختلف جدا عن نهايات زعماء العراق الاخرين الذين لكل واحد منهم قصة نهاية تراجيدية من لون معين: فيصل الاول يموت في برن ويبكيه الناس، غازي يذهب صريعا ويبكيه الناس، فيصل الثاني يقتل غدرا، عبدالاله يسحل، نوري السعيد ينتحر ثم يسحل، عبد الكريم قاسم يعدم بسرعة، عبد السلام عارف يحترق في طائرة، عبد الرحمن عارف يسلّم العراق كما تسّلم الحلوى للاطفال وهو حي يرزق، احمد حسن البكر يموت ميتة غامضة.. وصدام حسين يدخلوه القفص ويحاكم جنائيا ومهما كانت النهاية، فلقد انتهى ..
لقد اخترت بنفسك يا صدام حسين ان تدخل القفص منذ ان خسرت المعركة.. معركة الزعامة ومعركة الذات ومعركة الجهاد الحقيقي مع النفس!! لقد كان عليك ان تختفي من هذا الوجود اكراما لنفسك وتاريخك ووطنك..
وكان على كل محبيك ومناصريك والمعجبين بك ان يقولوا كلمة حقيقية في هذه اللحظة التاريخية المريبة التي انتزعها القدر لتكون في محكمة جنائية للجنايات والجرائم لا في محكمة سياسية للقضايا يمكنك ان تقول فيها ما تشاء.. وسواء كانت المحكمة على حق ام باطل، فان نهايتك لم تكن كالنهايات التي يصنعها الابطال لانفسهم.. فهل سيتعّظ من يحكم العراق في قابل الايام؟[/b][/size][/font]     
 

251
كيف نبني فكراً سياسياً جديداً ؟

  بقلم :د. سّيار الجميل 
 
  هل فكرنا يوما كيف نستعيد تفكيرنا ونبني فكرنا السياسي نحن العرب؟ هل فكرنا يوما وقد دخلنا تاريخا جديدا كيف نخضع تجاربنا الفاشلة للنقد والمكاشفة والمساءلة؟ هل باستطاعتنا ان نقرأ كيف صنعت الامم المعاصرة فكرها السياسي؟ هل استطاع الاف من مثقفينا ان يتخلصوا من قوقعة الماضي واغلاله ومؤدلجاته الطوباوية في القرن العشرين؟
 
هل سننجح فعلا في بناء اجيال لها القدرة على التعامل براغماتيا في ما بينها، والتعامل بحكمة مع العالم من دون شعارات عاطفية؟ هل استطاع العرب ان يدركوا أن الوعي السياسي يأتي قبل الايمان العاطفي بالاشياء والشخوص والأفكار؟
 
متى يتحرر الخطاب السياسي العربي من اغطيته السميكة ليغدو معّبرا عن اصدق المفاهيم وينحو نحو واقعية الاشياء بعيدا عن يوتوبيا التعابير المزيفة والانشائيات الفضفاضة؟
 
متى يحترم الفكر السياسي العربي الرأي الاخر بعيدا عن كل التهميش والاقصاء والقطيعة بل ويتوقف عن كل التهجم والسباب والشتائم، بل ووصلت درجة الاختلاف السياسي فكرا وممارسة إلى قتل وتصفيات وجرائم وانتحارات..
 
وهذا ليس بشيء غريب علينا، اذ نجد له امتداداته في تاريخنا السياسي العربي، بل وذهب العديد من المفكرين السياسيين العرب الاحرار منذ مئات السنين ضحايا تفكيرهم السياسي واختلاف آرائهم مع الآخرين، فهل بالإمكان ان يتعامل العرب على اسس جديدة في بناء فكر سياسي عربي جديد؟
 
هل باستطاعتهم ان يتخلصوا من كل بقايا ومواريث الايديولوجيات الساخنة التي ماتت في كل العالم وما زالوا هم يقتاتون عليها ويقتلون زمنهم وفكرهم بل وحتى حياتهم من اجلها؟
 
إبداع حضاري وعقم سياسي
 
طالما اردد دوما بأن للعرب خطّين في التاريخ: خط حضاري رائع بكل منجزاته العظمى وخط سياسي بشع بكل مآسيه وقساوته، وكثيرا ما يقع الاول تحت بطش الثاني فيقهره وينفيه او يقتله وينهيه..
 
وهذا يحتاج إلى تأمل تاريخي طويل كي نستفيد من تجاربنا التاريخية في كيفية تغيير الذهنية السياسية السائدة التي لابد وان تتمتع بالحكمة بدل الجنون، وتمارس الحلم بدل السفاهة، وتعيش الواقع بدل الخيال وتبني المستقبل بديلا عن اغلال الماضي.
 
ان اي خطوة لبناء فكر سياسي عربي ناضج بحاجة إلى مساحة غير محدّدة من الحريات، وان خطوات اخرى هي بأمس الحاجة إلى الشجاعة والمصداقية، ولعل أهم ما ينقص العرب منذ ازمان انهم يحجمون عن الاعتراف بالخطأ علما بأن «الاعتراف بالخطأ فضيلة» .
 
كما قال آباؤنا الأوائل. ان مشروع التغيير من اجل بناء منهج فكر سياسي جديد بحاجة ماسة إلى سلسلة هائلة من الاعترافات بحجم الاخطاء السياسية التي ارتكبت في حياتنا السياسية العربية بعيدا عن التسفيه او التشويه او خنق الحقائق.. وان «الاعتراف سيد الادلة» كما يقول رجال القضاء.
 
لا يمكننا البقاء دهرا طويلا ونحن نجتر الماضي بحيث نمّجد ونفخر ونمتدح ونتأسّى ونندب ونزيّف ونشتم وننتحل الاعذار ونرّبي اولادنا على تزييف الحقائق وخلق امجاد وهمية من اجل مسوّغات واهية، وعلينا أيضاً ان نفكّر طويلا بموجات «المفاهيم» التي تجتاح ثقافتنا السياسية العربية بين جيل وآخر.
 
وبكل ما تحمله من تعابير ومصطلحات وآراء تعيش بين ظهرانينا زمنا ثم تذهب ادراج الرياح غير مأسوف عليها، ويتجاوزها الآخرون، والعرب لم يتجاوزوها قط . لقد تغّير العالم كله واصبح يتعامل بفكر سياسي واقتصادي براغماتي من نوع جديد ولم يزل العرب يلوكون شعاراتهم !
 
انها في الحقيقة «مشكلة مفاهيم» فالأمر ليس مقصورا على الفاظ كالاشتراكية والامبريالية وصراع الطبقات ويعيش ويسقط.. وغيرها بل يمتد إلى توليد أفكار لا وجود لها على ارض الواقع، خصوصا بعد ان دخلت الفتاوى الدينية في قلب المنظومة السياسية .
 
مستلزمات التغيير
 
إن الحاجة تقتضي ايضا أن نعيد التفكير في كيفية بناء ذهنية سياسية لها شخصيتها وخصوصياتها بعيدا عن استيراد مفاهيم من زمان او مكان معينين لا يمكن تطبيقها واقعياً أبداً، ولقد بدا لنا جميعا ما الذي لاكته الالسن .
 
ونشرته المطابع واذاعته الاذاعات من شعارات وسياسات أخذتنا إلى حيث الجحيم، بعد ان اعتمد قادتنا وصناع قراراتنا على فكر سياسي عربي هش يكتبه وينشره ويذيعه سياسيون وكتبة غير واقعيين ابدا .
 
ان الفكر السياسي العربي لابد ان يبنى على معرفة ما وصل اليه عالم اليوم بعيدا عن التزمّت وان نفصل بين الفكر السياسي وبين الممارسة السياسية ، كما ونجد العاطفة السياسية تغلب على التفكير السياسي واذا ما انتقل هذا الأمر إلى الممارسة السياسية فسيجلب كوارث لا محالة، لأن أصحابنا سيتخيلوا الأوهام حقائق ويقيسون عليها قياسات سياسية وهمية فتزدحم حياتنا بالمآسي كما حدث..!
 
إن حمى هستيريا تصيب العرب عندما تستقطبهم بعض الاحداث المصيرية الكبرى فيتوهمون الاكاذيب حقائق وان النصر قريب وفجأة تحل الهزيمة فيحل بهم الحزن والاسى بعد ايام من الذهول من دون ان يعيدوا حساباتهم ولو لمرة واحدة كونهم يعتقدون ان صنّاع الكوارث ابطال حقيقيون !
 
وبرغم كل الجنايات والاهوال فلم يزل العرب يدافعون عن اخطاء وخطايا وجنايات من دون ان يخضعوا ما مضى للنقد والمكاشفة والمحاسبة التاريخية لكل من اساء في سياساته وقراراته وخروقاته المفجعة لهذه الامة المسكينة التي ابتليت بمثقفين وساسة عاطفيين لم يميزوا بين الاشياء والالوان والوقائع والتوجهات.
 
ولم يفرقّوا بين الحلم والممكن والطموح ولم ينزلوا إلى ارض الواقع من سماء الخيال.. ان ما يسود اليوم في البيئة العربية من اراء هشة ممتزجة بالعاطفة والاسطورة والاوهام والانشاء وترديد النصوص..
 
الخ لا يعد فكرا سياسيا بأي حال من الاحوال . فهل سينجح الجيل الجديد والقادم بمحاولات جريئة من اجل بناء خطوات تأسيسية لفكر سياسي عربي جديد؟ هذا ما يمكن التأمل فيه والعمل من اجله.. وعند ذاك سيقول الأحفاد: صفقوا يا إخوان، فلقد انتهت المهزلة!
 

مؤرخ عراقي[/b] [/size][/font]
 

252
التضليل الاعلامي وتزييف التاريخ
 
د. سيّار الجميل
 2005 الأربعاء 5 أكتوبر
---------------------------
 دعوني اتساءل : هل سيختفي التضليل الاعلامي وينتهي تزييف الحقائق في القرن الواحد والعشرين عند العرب ؟ هل سيكون الاعلاميون العرب اكثر صدقا مع انفسهم قبل ان يكونوا صادقين مع غيرهم ؟ هل ستختفي النزوعات الايديولوجية والعصبية والتطرف من الحياة العربية ؟ لقد عاش العرب على امتداد خمسين سنة ومنذ الحرب العالمية الثانية عدة حالات من التضليل والتشويه والتزييف وقلب الحقائق والشتم والقدح والاستهزاء بالعقل العربي وخصوصا ابان الازمات عندما يجد الكذبة والدجالون فرصتهم ليقوموا بهذه المهمة على احسن ما يرام ..
لقد قام سدنة التضليل الاعلامي العربي بادوار غاية في الخطورة عندما اوهمت الناس بالانتصارات والاوهام وتحويل الهزائم الى مجرد نكسات عادية وانعدام الشعور بالمسئولية ، فمني تاريخنا بكوارث  كانت تهز الضمير العالمي في حين يحتفل العرب بما حققوه من انتصارات كبرى !
 
  كنت قبل ايام في حوار مع الاخ الدكتور عبد الرحمن الراشد حول موضوع التضليل الاعلامي العربي الذي أساء جدا لثقافتنا العربية الحديثة لآكثر من خمسين سنة مضت . وكانت الظواهر الإعلامية بل الدعائية ، ولم تزل ، تستخدم التضليل كثيرا في تعاملها مع القارئ والمستمع والمشاهد الذي ظل يثق بها حتى اللحظة الأخيرة ايام الازمات والمحن ، بل وانها كانت ولم تزل تؤثر على انحرافات الرأي العام ، اذ نجحت بجعل الناس تعتقد أن كل الاكاذيب حقائق .. ويبقى المضللون من الرواد وكأنهم سدنة لتلك المفبركات من دون ان يعترفوا بخطاياهم وآثامهم بحق الثقافة السياسية العربية !
ولكن يبدو ان زمننا الجديد يشهد تغييرا جديدا ووسائل معلوماتية واسعة وتكشفت للناس جملة هائلة من الحقائق ، وبانت الهوة العميقة بين الأقوال والأفعال وبين الادعاء والواقع .  وبدت مسائل التضليل وصناعة المعلومات واختلاق الاوهام  قد أنتجت في ثقافتنا العربية انماطا من اساليب الاساءة والتشويه والخداع .. فضلا عما كان يدور على الالسن القيادية والنخبوية وحتى الجماهيرية من شتائم مقذعة وسباب رخيص بحق هذه الدولة وذاك الحزب او تلك العاصمة او ذلك الزعيم .. الخ

 لقد تبدلت السياسات الاعلامية العربية اليوم وبالرغم من وجود التضليل الاعلامي وضخ المهترءات وخلق الاوهام ، الا ان الثقافة الاعلامية العربية لم تعد حكرا على السلطات ( الثورية ) العربية وان الرأي العام وحركة الشارع السياسي العربي  لم يعد تصنعهما اجهزة سلطوية او مخابراتية مثلما كان الامر على عهود الجمهوريات الثورية او الانقلابات العسكرية  او الاحادية الحزبية .. الأمر الذي يتيح لرموز التضليل قدراً كبيراً من التأثير على الرأي العام والقيادات السياسة في آن معاً.
ومورست ثقافة الشتم والسب والقدح بين العرب سياسيا واعلاميا بطريقة مهينة ومن دون اي احساس بالذنب ، خصوصا عندما يرد ذلك على السنة زعماء كبار وليس فقط في الإذاعات والصحف والمجلات .
السؤال الان : ما الذي أحدثته بعض تلك الرموز الإعلامية في تاريخ السياسة العربية؟ وما تأثيراتهم السيئة على تطور المجتمع العربي في ظل هيمنتهم على مواقع الإعلام في بلدانهم ، او حتى نشرهم لكتب خادعة مليئة بالاكاذيب والافتراءات ؟
وهنا لابد من الدعوة جهارا نهارا الى ان يصحو العرب من هجودهم وتخدير اولئك الذين لعبوا بعواطفهم وعقولهم واججو مشاعرهم وأثاروا حماستهم .. وفي كل مرة يوصلوهم الى ذروة الانتصارات ، وفجأة يصحو المرء فيجد الكارثة تتلو الكارثة من دون التفكير بمحاسبة المضللين والكاذبين والمارقين وصناع الاوهام .. وهنا لابد من وقفة لمناشدة اللاعبين الأساسيين  في صناعة التضليل وتزييف التاريخ أن يقولوا كلمة سواء  للتاريخ ويعتذروا عما فعلوه .
     صحيح ان التضليل موروث راسخ في الثقافة السياسية العربية ، الا انه وصل اوج قوته في النصف الثاني من القرن العشرين ، اذ استوردت الشعارات الفارغة عن العالم الاشتراكي وذبح الناس حناجرهم باوهام لم تتحقق .. وتأثرت السياسات والاعلاميات العربية بمجريات الحرب الباردة وصراع الاذاعات والكتابات .. ونقلت تجارب غريبة لكي يطبقها العرب في بعض البلدان سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا ففشلت فشلا ذريعا .. ودّمرت مجتمعات عربية ثقيلة نتيجة لسياساتها السيئة وتربية ابنائها على المضللات والاكاذيب والشعارات والطوباويات الفارغة والتصفيق ويعيش ويسقط وعلى الهرج والمرج ..
لقد عاش جيلنا نحن عملية مخادعة إعلامية لتشويه الحقائق وإبرازها بغير الصورة التي هي عليها، فهي سياسة إعلامية مخطط لها ويراد لها أن تخدع الجماهير بتشويه الحقائق وإضفاء صفة العظمة واستعارة مفاهيم ومصطلحات قد لا تكون أساسية أو حقيقية وإشغال الجماهير بها، وليس  خداعها حسب ، وإنما خداع القيادات السياسية وصنّاع القرار بمعلومات  مشوهّة . فكان ان ترتّب على ذلك نتائج وخيمة اضرت بكل المصالح العليا للعرب كلهم .

  لقد كان استغلال هذا الجانب وتضخيمه قد خلق اباطرة دعاية واعلام ، وخصوصاً إبان الأزمات والحروب من خلال احترافهم فن الدجل والكذب الإعلامي . وهناك من يصر على ( نزاهة ) هذه المخادعة و( وروعة ) هذا التضليل حتى يومنا هذا، دون أن يعترف بأن دمارا قد اصاب حياتنا نتيجة مؤثرات تلك التضليلات التي تسرق الجماهير.
واخيرا : كيف يمكن معالجة التضليلات الاعلامية ؟  اقول : لابد من  دور معلوماتي واجرائي بحت والالتزام بالجانب القانوني، وأملي في الإعلاميين العرب أن لا  يتخذوا بعد اليوم اصناما ورموزاً ، وأن يلتزموا قانونياً ، واقول ايضا : بأننا سوف لن نخرج بإعلام ملتزم ومتطور بهذه السرعة  اذ أننا نحمل بقايا ورواسب خمسين سنة من الإعلام المضلل، ولكن أعتقد أن عشرين سنة قادمة إن استطعنا أن ننهض بإعلامنا وبتوجيهنا الجيل الجديد ، فسيكون أفضل بكثير من الأجيال التي سبقته ، فملايين العرب ما زالوا لحد الآن يلوكون الهزائم انتصارات او يتفانون في البحث عن مسوغات لها من دون اي احساس بالخذلان .. فهل ستختلف الاجيال القادمة عن اجيال سابقة ؟ انني اعتقد بذلك ، ولكن بعد زمن طويل !

مؤرخ عراقي [/b] [/size]  [/font]

253
عندما يكون للمدن مركزية جذب
د. سّيار الجميل 
21.09.2005 
 
 تتمتع بعض مدن العالم بالجمع بين مركزها السياسي وحيويتها الاقتصادية لتغدو اماكن جذب ساحرة للناس ومركزا تعشقه الحياة وهو ما يطلق عليه الكوزموبوليتانية وكان منها: جمهوريات المدن الايطالية ومدن غربي أوروبا وأميركا ومدن التنين الآسيوي مؤخرا، في سنوات بعيدة مضت، ثمة أماكن عربية كان لها حيويتها وإشعاعها وتأثيرها سياسيا وثقافيا قد تحقق في القاهرة أو بيروت أو بغداد، ولكن تبقى الكوزموبوليتانية نوعا آخر من عبقرية المكان وسحره.
 
وهذا ما لم تنله أي مدينة عربية باستثناء دبي في النصف الثاني من القرن العشرين ومن قبلها بيروت في النصف الأول منه، وخصوصا امتلاك اكبر قدر من الجاذبية والسحر والاناقة الجغرافية! فمن دواخل التجربة تخرج التصورات والمفاهيم التي تدلُّ حيويتها على الجديد في هذا العالم العربي الذي لم يطّور من حياة مدنه ولم يسع إلى ان يغدو مالكا لاكبر مراكز الجذب علما بأنه يمتلك اهم موقع جغرافي يتوسط الدنيا.
 
لقد انتعشت عبر تاريخ حضاري طويل عدة كوزموبوليتانيات عربية جاذبة في نظر العالم كله: مدنا كانت قد وظفت عبقرية امكنتها وابتكرت نضوجاً حضارياً، مثل: البصرة والإسكندرية وتونس وقرطبة ووهران وكازابلانكا والموصل وحلب، وغيرها إذ لعبت أدواراً أساسية في تغيير الذائقة الحضارية والاقتصادية العربية، وكان العالم كله يتعطّش لها بفارغ الصبر نظير قوتها الاقتصادية وتأثيرها في التجارة وصنع الحياة والثروات والبهجة والتقدم.
إن العرب ـ ويا للأسف الشديد ـ لم يولوا عنايتهم بمدنهم وجغرافياتهم كما لم يولوا أي عناية بتطور إنتاجهم ونمو قوتهم الحضارية، لقد انشغلوا بالهيجانات السياسية وبالانقلابات العسكرية والثورات الدموية والاحزاب والايديولوجيات واستيراد المفاهيم الفضفاضة التي لم يدركوا معانيها،
 
وعاشوا طوباويات لم تتحقق، ونالت منهم الحروب التي فشلوا في ادائها فاكتسحتهم الاوبئة السياسية والموروثات العقيمة وتخلفوا عن ركب العالم وحلّت المتاعب في مدنهم التي غدت عقيمة وبائرة وقبيحة ومكتظة، ولم يعد من السهل مقارنتها بنظيراتها في العالم، بل ولم يعد لها بريقُ الوهلة التاريخية الأولى.
 
وكم كان رائعاً على تلك المراكز الحضرية التي بقيت حية في الذاكرة العربية أن تغدو صورة من صور الحرية بكل قواها الحية. لقد كان للقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق والقدس والجزائر وتونس، أدوارها الرائعة في النصف الأول من القرن العشرين، ولكنها انتكست جميعها انتكاسات مريرة،
 
في حين نضجت على مهل كل من الكويت ودبي وابوظبي والشارقة والعين وجدة والرياض ومسقط والمنامة والدوحة وغيرها من مدن الخليج العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، لتغدو مدينة دبي اقوى مدينة كوزموبوليتانية عربية عند مطلع القرن الواحد والعشرين نظراً لما حققته من انجازات اقتصادية ومكاسب حضرية فضلاً عن كل من أبوظبي والكويت والشارقة،
 
وكلها كوزموبوليتانيات تسودها اليوم الدهشة والرغبة في المغامرة فكراً وحياة وقوة اقتصادية وحركة استقطاب تجاري مؤثر، وستبقى هذه العواصم اماكن جذب حقيقي ليس للبشر فحسب، بل لرؤوس الأموال والشركات متعددة الجنسيات وقوى الإنتاج. 

يمكنني القول إن المكان العبقري بتطوره وكوزموبوليتانيته بات جزءاً من الحياة الحقيقية، ولم يعد للمدن التعيسة المختنقة أي وجود، ولا دور في وقائع الحاضر. وهنا لابد ان ادعو كل البلدان العربية ان تأخذ بتجربة دولة الإمارات العربية المتحدة التي برزت بفضل التخطيط والحكمة في توظيف عبقرية المكان ليغدو جاذبا مراكز المحيط.
 
لقد نجحت كوزموبوليتانية دبي نجاحا باهرا كقوة جذب حقيقية لكل الموارد الحضارية والقوى الاقتصادية. لقد تفوقت ايضا كل من ابو ظبي والعين والشارقة تفوقا نوعيا وصنعت من امكنتها جذبا حقيقيا للعالم وخلال فترة زمنية قياسية لا يمكن ان تقارن ابدا مع اعمار دول المدن الاخرى في التاريخ، فهل استوعب العرب في كل مكان دروس الابداع في كوزموبوليتانيات المدن الجاذبة؟ 

إنني اسأل الآن دولاً عربية كبيرة وثرية مثل العراق ومصر والجزائر وسوريا وليبيا: ما الذي جعل مدنها اليوم بائسة وهي لم تحافظ حتى على ما خلفه المستعمرون فيها منذ خمسين سنة؟ علما بأنها دولا متمكنة ولها قوتها البشرية ولها مواقعها العبقرية؟ ما الذي يخّلص مدن العرب اليوم قاطبة من فجائعها القادمة سواء من سوء هوائها أو من اكتظاظ سكانها أو من بشاعة مناظرها أو من بؤس شوارعها أو من كون بناياتها الكسيحة القديمة علب سردين محشوة بالناس البائسين؟
 
ما الذي تتطلبه حاجات هذا القرن وضروراته من العرب؟ إنني أنادي بثورة مدينية عربية حقيقية من اجل اعادة الحياة لمدننا قاطبة والتي شهدت ادوارا عملاقة في التاريخ. إن العطب ليس في المكان بذاته، بل يكمن الخلل في الانسان والمجتمع والدولة، فهل سيبدأ العرب نهضة كوزموبوليتانية من اجل خلق مدن ساحرة جميلة رشيقة يعشقها العالم كله؟
 
إن الكوزموبوليتانية مستقبل وحياة يخلص مجتمعاتنا من كآبتها وسكونيتها وخمولها ومن بقاياها المعاقة ومواريثها العقيمة!! إنها ستمتلك فرادة تاريخية لأنها في قلب العالم؟ وأنَّ أي اكتشاف، مهما كان، لم يعد اليوم دهشةً ولا تغوّراً، لماذا بتنا وكأننا نعيش بلا مستقبل، وأسرى بهرجة الماضي، والحاضر كسيح وهو أشبه بمنظور نُطلُّ منه على غد جوّال.
 
أنعيش، نحن العرب، على عكس المجتمعات الطبيعية، الأوروبية مثلا، التي حققت ماضيها على نحو تعيش معه حاضراً، بوصلته مستقبل الحنين، ليس نكوصاً؟ كيف كانت مدننا العربية تتحرك في الماضي؟ ولماذا هذه الصيرورة إلى مستقبل مختوم بالشمع الأحمر، وليست صيرورة نحو الانفتاح إلى حقل معلوم من التجارب والعبر التي يزودنا بها العالم؟ فهل استوعبنا التجربة؟ هذا ما اردت اثارته اليوم عسى أن تنفع الذكرى.
 [/size] [/font]

254
الفضائيات العربية : ما الذي تقدّمه لحياتنا ؟؟

د. سّيار الجميل
( مؤرخ عراقي )

      لا ننكر ان لبعض الفضائيات العربية وقع اعلامي كبير في متابعة الاحداث التاريخية التي عصفت بالمنطقة منذ سنوات ، ولكن ثمة ملاحظات نقدية عليها أود ان تتسّع الصدور لسماعها .. خصوصا وأن المادة الاعلامية باتت اساسية جدا اليوم في التعامل بين طرفين مهمين جدا : المعرض نفسه والمتلقي له .
ان الاعلام المعاصر لا يكتفي بادوار الاثارة والضجيج وفبركة الموضوعات واللهو او الاستعراضات او المكررات الساذجة ، بل يعد دوره اساسيا في تربية الاجيال وتصويب الاخطاء ، ومراقبة الاداء ، ونشر الرأي العام ، ومتابعة الاحداث والتعرف على الثقافات والعالم .. كما ويعد الاعلام المرئي اعظم محلل للمعلومات ووسيلة ايضاح للموسوعات .. ان مقارنة جادة بين فضائياتنا بغيرها في العالم المتمدن سيوقفنا على جملة هائلة من التباينات .
      ان التعبير الاعلامي عن سياسات واجندة معينة لا يعد حاجة او ضرورة بقدر ما يعد امرا اساسيا لابد من الاعتراف به ، اما ان تبيح الفضائيات العربية ما يروق لسياسات معينة وتمنع عن قصد ما لايروق لامزجتها ومرجعياتها ، فهذا لا يمكن قبوله اليوم .. خصوصا ونحن نعرف كم من برامج عربية هي صور مشوّهة لبرامج عالمية لم يحسن الاعلاميون العرب تنفيذ ادائها او اخراجها ! ولا يمكن ان تكون بعض فضائياتنا التي فرضت نفسها على الساحة لاسباب ايديولوجية او عاطفية او حتى مذهبية وطائفية باثارتها المواقف واستدرارها المشاعر وتأليبها الرأي العام جاذبة لجماهير تعشق هكذا عروض على حساب الحقائق العقلانية والواقعية ! ثمة تفسير لكل ما يحدث فيها والتي تقترب صورتها وطبيعتها من الصحافة العربية المعاصرة التي قلما تقف على صحف عربية قديرة لها سمعتها ونزاهتها ورصانة الاراء التي تعرضها .
    لقد اكتسبت بعض الفضائيات شهرتها ليس من متابعة الاحداث السياسية والحربية والعامة بقدر ما كان لها من ادوار التشهير والاثارة والسخرية من خلال مذيعيها ومراسليها ( وخبرائها الاستراتيجيين) الذين تبرزهم في برامج معينة من التعليقات الصارخة المستفزة للاعصاب والعواطف . ان ضغوطات عدة تمارس من اجل اخفاء معلومات وان رشاوى تدفع من اجل تزييف او فبركة صور ومعلومات اخرى .
ان ما يعد من اتفاقات وما يجري من اختيارات وراء الكواليس وتحضيرات واتصالات تنبؤنا عن تشويه مقصود للحقائق التي يتصورها الناس حقيقة وثمة حروب خفية وعلنية بين الفضائيات العربية من اجل كسب هذا الرأي وبث هذه الاخبار والاشرطة .. بعيدا عن كل شفافية ومصداقية !
ان الاعلام العربي قد ابتلي بجماعات يسميها البعض من الناس ( مافيات ) تجمعها اصول واحدة وايديولوجيات واحدة وافكار واحدة .. وهي تجتمع على اجندة اعلامية بليدة واحدة .
    أود القول ايضا بأن ثمة برامج سياسية ودينية في قنوات فضائية يقدمها مذيعون معروفون اعتقد أن بعضهم كان يستخف لأكثر من مرة بعقلية المشاهد والمتلقي عندما يسأل اسئلة فجة او يحاول ان لا يسمع ذلك المشاهد او يرى معلومات شفاهية او مصورة حقيقية . وبالرغم من هول الاخطاء اللغوية والجغرافية والطبوغرافية وحتى النقص في الثقافة العامة لدى العديد منهم ومن ( الخبراء الاستراتيجيين العرب) .
وبالرغم من ان بعضهم صاحب تحليلات جديرة بالتقدير . ولكن ثمة فضائيات معينة تستضيف بعض من تسميهم بمحللين وخبراء ، وهم لا علاقة لهم بالموضوع  ابدا ، بل لأن بعض تلك الاسماء الهرمة تمتلك شهرة من مناصبها السابقة التي تبوأتها قبل عقود سالفة من الزمن ..
   ان من الضرورات القصوى ، ان يكون مقدم البرنامج او المذيع متسلحا بثقافة رصينة عن عناصر الموضوع في طروحاته واسئلته واجوبته على الاقل ، اذ تبين ان نقصا حادا في المعلومات عند البعض من اولئك الاعلاميين وبعضهم شخصيات اكاديمية ودينية معروفة وخصوصا عندما يتهافت الناس الى سماعهم وهم يضللونهم باسئلتهم الباهتة وتعليقاتهم الفجة ومعلوماتهم الخاطئة ، وكأنهم يريدون ابراز عضلاتهم بالدفع بآرائهم الشخصية اعلاميا ، في حين ان المطلوب تقديم معلومات ثابتة وحقيقية ، فالفرق كبير بين الرأي ووجهة النظر من طرف وبين المعلومة الثابتة والاكيدة من طرف آخر ..
ناهيكم عن سوء تصرف بعضهم في عدد من الفضائيات العربية بتدخلاتهم واطلاق ارائهم الشخصية مع التهم والشعارات السياسية في حين يستلزم من اي مقدم او مذيع ان يكون امينا وصادقا وفي منتهى الامانة والحيادية اذ ليس من شأنه الا البحث عن المعلومة الصحيحة والحقيقية بعيدا عن توجهاته الشخصية او غيرها . 
السؤال الان : هل ثمة علاجات حقيقية للمثالب والسلبيات التي تطغى على فضائياتنا العربية ؟
لابد من التجديد في دماء الاعلاميات العربية الفضائية ، فهناك وجوه هرمة لابد من تغييرها بوجوه اخرى ، فالتغيير لابد ان يحصل في كل مرافق الفضائيات .. فضلا عن تغيير انماط الاعلام الفضائي العربي من حالاته البائسة التي ملها الناس الى انماط جديدة من الموضوعات ، فليس حياة العرب كلها سياسة واراء سياسية ( وخبراء ستراتيجيين مزيفين ) فمجتمعاتنا العربية بحاجة الى اصلاحات جذرية وموضوعات وتحليلات معمقة يقوم بها مختصون اذكياء !
كما ان الجيل الجديد لا يعرف من فضائيات اليوم الا الانغلاق والسذاجة او الفجاجة واللهو والرقص والاستعراضات الصارخة ..
انه بحاجة الى برامج ثقافية وعلمية وادبية وموسوعية تطور من عقليته وتشحذ فيه طاقاته بدل هذا النزق من برامج سخيفة تأكل الزمن وتضعف الحياة وتشغل التفكير وتميت الاعصاب وتشّوه الاذواق ..
ان الفضائيات ملزمة بأن تطور من البرامج الاقتصادية والجغرافية والمناخية والسياحية ومعرفة ثقافات الشعوب والاطلاع على آخر مبتكرات العلم الحديث .. فهل سبنقى واهنين تغرقنا بلادة فضائياتنا العربية ، ام سنسعى الى التغيير الجاد ؟؟ هذا ما نأمل حدوثه بحول الله .

2005سبتمبر 7  [/size]

255
مشروع الفيدراليات العربية
هل سيكون العراق منطلقا للتفكيك الجيو تاريخي ؟

د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي


وقفة تاريخية :
      لقد كان التشكيل التاريخي لبلداننا ودولنا العربية عند بدايات القرن العشرين مهلهلا وضعيفا اثر تفكك الامبراطورية العثمانية وزوالها اثر اضمحلال جغرافياتها ، فبرزت للوجود دول عربية متنوعة كنت قد عالجت اصنافها بالتفصيل في كتابي : " بقايا وجذور : التكوين العربي الحديث " المنشور في العام 1997 ، اذ بدت لي عدة اصناف من الدول : دول منقسمة على ذاتها ودول مركبة من الاقاليم ودول اسطورية قديمة ودول لا تاريخ لها .. الخ فالعراق والسعودية وليبيا والامارات – مثلا - دول مركبّة ، وان اليمن وعمان والمغرب وتونس دول تاريخية قديمة .. أما مصر ولبنان وسوريا وموريتانيا .. فهي دول مجزأة . وعاشت هذه الدول تحمل جملة هائلة من التناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية من دون ان يلتفت اليها ابناؤها ليعترفوا اولا بحجم معضلاتها خوفا كيلا يتهموا في وطنيتهم ، فضيّعوا فرصا ثمينة لايجاد حلول عملية بعد الاعتراف بها .. بل ان الذي ساد انما تمّثل بتّوهم الخيال حقيقة ، واغفال تلك التناقضات التي أخذت تتفجر يوما بعد آخر سواء على زمن المد الوطني لما بين الحربين العظميين 1919 – 1949 ، او في زمن القومية العربية للفترة 1949 – 1979 ، او في زمن " الصحوة الدينية " – كما عبّر عنه – والتي نعيشها اليوم 1979 -2009 .. وبتأثير تخدير الايديولوجيات وعظم التحديات وبلاهة القادة وصناع القرارات وخصوصا في بلداننا العربية ، تبرز فجأة عدة مشروعات لتواجه العقل العربي والذات العربية وسط انشغالات التفكير في مسائل الاصلاحات الداخلية والمتغيرات السياسية الحقيقية.
متغيرات العراق وآثارها
     لعل من اهم ما نتج عن متغيرات العراق في المنطقة جميعا والتي نبهنا اليها مرارا وتكرارا منذ سقوط نظام صدام حسين حتى اليوم : تحولات هائلة ليس في التناقضات السائدة ، بل في طبيعة تلك " التناقضات " والتي تعيد انتاج التاريخ والتأسيس من جديد اليوم ولكن من داخل المنظومة الاجتماعية وليس من خارجها كما جرى في القرن العشرين .. لم يعد التعايش الاجتماعي بكل روعته التاريخية ممكنا بين القوميات والاقليات والملل والطوائف في المجتمع العربي .. ولم يعد هناك اي منطق للتفاهم بين الاغلبيات والاقليات كون هذا المفهوم اصبح باليا ، بل وتلعب اجندات متنوعة في اذكاء روح الانفصال والتخندقات .. لقد اساءت النظم السياسية العربية لمجتمعاتنا عموما قبل ان نجعل من اي مشروعات فيدرالية او كونفيدرالية امريكية او غير امريكية قميص عثمان او شماعة نعلق فوقها كل سوالبنا ومثالبنا واخطائنا وخطايانا .. ان هناك اسباب حقيقية في اذكاء اية مشروعات لتفكيك الهيئة الاجتماعية الداخلية استطاع اصحاب المشروعات ان يخترقوها ويستخدموها لصالح تطبيق ما يرونه مناسبا في القرن الواحد والعشرين ..
     لقد وجد العراق نفسه يزحف نحو التفكك مذ لم يدرك الجلاد صدام حسين وسياساته الشوفينية في اقصاء ابناء شعبه وكل ابناء شعبه ، فما ان سقط حتى سقط معه ذلك الرمز الوطني الذي استمر يعيش قرابة ثمانين سنة معززا مكرما لدى العراقيين ، وبدا العراق متشرذما اذ اخذ سكانه يهرعون الى التماهي مع طوائفهم او ثقافاتهم او محلياتهم او شراكاتهم وساعدت في ذلك اجندة خفية بدأ يستخدمها الساسة العراقيون الجدد في ابقاء المسكوت عنه حيا واستخدامه في اللحظة المناسبة . ان المشكلة ليست في المبادئ الفيدرالية ( = اتحاد اقاليم ) او المبادئ الكونفيدرالية (= اتحاد دول ) ، ولكن ما سيعقب من نتائج مصيرية ستحدد تفكيك الوحدة الكلية الى اجزاء يساعد على انفصالها ما يكمن وراء ذلك من احقاد وكراهيات وثارات ودوافع اجتماعية وثقافية ودينية وطائفية وقبلية وعشائرية .
      ان العلاجات الفيدرالية تستدعى في حالة تكون فيها الاقاليم مفككة من اجل تركيبها فيدراليا ، اما ان تقطّع البلاد الى اجزاء باسم " الفيدرالية " فهذه تجربة فريدة في التاريخ .. واذا ما اعترفنا بحاجة الاكراد في العراق الى فيدرالية اقليمية ضمن هيئة عراقية واحدة ، فما هي اسباب تقسيم العراق الى " فيدراليات " وليس في المجتمع العراقي اية انقسامات اجتماعية او ثقافية مريعة . فهل سمعنا بفيدراليات طائفية دينية في اي بلد في العالم . ان ايران وتركيا فيهما من الانقسامات الاجتماعية والثقافية والعرقية والطائفية الواسعة ولكن لم نسمع عن اي شعارات فيدرالية فيهما . فما اسباب دواعي استدعائها عراقيا او عربيا ؟؟ ان مجتمعات الشرق الاوسط معقدة كلها على اشد ما يكون التعقيد ، فهل يقبل الايرانيون والاتراك – مثلا – المناداة بتأسيس فيدراليات اقليمية في بلدانهم ؟
مجتمعاتنا معقّدة في دواخلها
 اذا كان المجتمع العراقي معقدا على اشد انواع التعقيد ، فان مجتمعات مجاورة اخرى له وخصوصا عربية منها انما هي معقدة المركبات وهي قابلة لكي تتعامل مع نفسها على نفس منوال العراق تحت مسميات ربما تصلح في منطقتنا وربما لا تصلح لها ابدا . واذا كانت المرجعيات الدينية والعرقية والطائفية نجدها في مجتمعات حضارية لا تأتي الا في المرتبة الاخيرة ولم تستخدم سياسيا او اجتماعيا بفعل تطور الاذهان والتعامل مع القوانين المدنية .. فكيف يمكننا ان نضمن ان هكذا نظم حضارية لها مبادئ في التطبيقات المدنية والحضارية يمكن تطبيقها في منطقتنا ولا يساء استخدامها والذهنية في مجتمعاتنا مشبّعة بالترسبات التاريخية والبقايا من مواريث الاعراق والاديان والطوائف والقبليات ؟ اي كيف نحمي مجتمعاتنا من غلو المتعصبين دينيا والمتطرفين عرقيا وتفكيك عرى مجتمعاتنا ؟؟ انني اعتقد انها ستدخل مرحلة صعبة جدا من التناحرات ليس فقط على المعاني والافكار والمعتقدات .. بل على المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . ان ذلك سيهدد نسيجنا الاجتماعي بالصميم وستخلق كيانات سياسية تنشغل في حروب قبلية وطائفية وجهوية وعرقية .. بعد ان يتفكك كل شيئ وتموت ليس الدول التي عاشت في القرن العشرين ، بل الاوطان القديمة التي حفلت بالتعايشات ومبادئ الشراكة الرائعة عبر التاريخ .
هل تصلح مشروعات العالم لمجتمعاتنا ؟
   ان مشروعات الفيدرالية العربية ربما تصلح لمجتمعاتنا في حالة كون هذه المجتمعات قد وصلت الى درجة من الرقي في بناء العلاقات الداخلية وفهم كيفية التطبيق على ضوء الدساتير المدنية ومنح الحريات وتحرير الفكر والتفكير وتقديم الاهم على المهم .. اما كون مجتمعاتنا في حالة غلو وانقسام وتناقضات وكراهية واحقاد .. ان تجربة العراق خير مثال للعالم اجمع الذي بالوقت الذي يمزقه الارهاب الداخلي والخارجي ، فان العراقيين يسعون بانفسهم الى حتفهم من خلال انقساماتهم الاجتماعية وتكتلاتهم الدينية وائتلافاتهم الطائفية وانفصالاتهم العرقية والفئوية .. وفجأة تجد الاحقاد القديمة تطفو على السطح وقد اصبح التشرذم الوطني مثلا يعتد به ، وكل ذلك يأتي باسم الديمقراطية والفيدرالية .. علما بأن كلا من هاتين القيمتين الحضاريتين تعدان في ذروة ما وصله الفكر السياسي يالحديث . اذا كانت مجتمعاتنا حتى يومنا هذا سواء باحزابها المترهلة ام بفئوياتها القومية ام بجماعاتها الدينية وحتى على السنة واقلام رجال الدين والسياسة فيها يتشبثون بالافكار القديمة والشعارات البليدة وبقايا تواريخ ماضوية .. فكيف بهم يطبقون الديمقراطية والفيدرالية من دون ان يأكل احدهم الاخر ؟
هل سيطبق مشروع الفيدراليات في منطقة الشرق الاوسط ؟
    اعتقد ان مصير العراق رهين ظرفه الحالي وان مصير العراق قد حدد منذ زمن بعيد عندما هزم هزيمة نكراء في عاصفة الصحراء عام 1991 وأخذ يعاني من سكرات الموت من دون ان يعينه حاكمه على البقاء بتبديل سياساته العقيمة التي اودت به الى مهالك الردى . ولما سقط النظام على ايدي الامريكان وحلفائهم لم يحظ حتى اليوم بقادة جدد يؤمنون بالعراق وطنا وارضا وشعبا ، ومن دون ان يدركوا الاثمان الباهضة التي سيدفعها ابناء العراق اثر تقسيمه بأي صيغة من الصيغ . السؤال : هل يمكن ان تسري تجربة العراق الصعبة في بلدان عربية أخرى ؟ الجواب : نعم ، في ظل الاوضاع السياسية المهترئة التي تعاني منها الدول العربية ومجتمعاتها وحالات النفور السياسية التي تعّبر تعبيرا حقيقيا عن انقسامات داخلية مريعة وربما لا يستطيع ادراكها والتحسس بها عامة الناس ، ولكنني ارى تحت الرماد وميض جمر يكاد يكون لها ضرام .. فان لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جمر وهام .
   ان العراق في تجربته التاريخية الصعبة التي يجتازها اليوم من المتغيرات وسواء نجح فيها ام فشل ، فسوف يكون نموذجا حقيقيا في تطبيقاته على بلدان اخرى ربما لم تعان ابدا مثل الذي يعانيه العراق ، وخصوصا لبنان وسوريا والسودان والجزائر .. وربما مصر والسعودية في قابل الايام . ان اي مشروع خطير ان بدأ في مكان ما من منطقتنا ، فستتأثر به اماكن وبيئات أخرى . لقد كان تأثير متغّيرات مصر كبيرا على كل المنطقة عند مطلع القرن التاسع عشر وخصوصا بعد حملة بونابرت . وكان تأثير متغيرات ما بعد الحرب العالمية الاولى ومؤتمر فرساي 1919 كبيرا على منطقتنا عند بدايات القرن العشرين .. وها نحن سنشهد تأثير متغيرات العراق كبيرا على كل المنطقة في بدايات القرن الواحد والعشرين وبعد سقوط نظام صدام حسين وموت الافكار السياسية والوحدوية المركزية التي حملها حزبه والاحزاب القومية التي لم تقدّم شيئا ذي بال على امتداد القرن العشرين .. وستنشأ اجيال جديدة في المنطقة في ظل تحديات من نوع آخر . فهل ثمة وعي تاريخي بالمصير الذي سيلحق بكل المنطقة ؟[/size]

256
دستور يحمل تابوت العراق؟


 د. سيّار الجميل
 

كلام صريح


ساكون صريحا كالعادة في كلامي مع كل الاخوة العراقيين وسوف لا تأخذني في الحق لومة لائم وانا اعالج هذا " الموضوع " مرة بعد أخرى، وسانطلق من تفكير حر مستقل ومنّزه عن كل الميول والاتجاهات بالرغم من اعتزازي الشديد بكل الاطياف والمقدسات والعتبات والقوميات والاديان والالوان العراقية، ولكن العراق مسألة وطنية قبل الجميع . وعلى من يخالفني في ذلك فليفعل من دون مواربة ولا مزايدة ولا مخاتلة.. وليعلن للملأ بأن العراق بالنسبة اليه مسألة ثانوية! كنت أزمع ان اضّمن كلاما خصب المعاني قاله المتنبي قبل مئات السنين، ولكنني عدلت عن ذلك، فربما لم يشاركني الرجل محنة العراق اليوم بالرغم من كونه عاش محنة العراق ولكن من نوع آخر وليس وحده، بل عاشها ثمة عشرات بل مئات والاف المثقفين العراقيين ممن شقوا في العراق من اهل العراق.. وانني متأكد تماما بأن اجيالا قادمة ستشقى هي الاخرى ما دامت هناك خفايا تحّرك النفوس ومسكوتات تطغى على عقول العراقيين وافئدتهم بعيدا عن ارض لا يعشقونها بقدر ما يعشقون أشياء اخرى تكبلهم من اعناقهم وتجعلهم اسرى ورهائن لها، بل وحتى وتصنع منهم بيادق في خضم زمنها الكسيح..
 استميحك العذر يا سيدي يا ابا الطيب المتنبي ان يستمد مقالي اليوم من عجز احد ابياتك الشعرية الرائعة هذا المقال، ان مسودة دستور ثانية قد انجزت من اجل عراق المستقبل وهي لا تفي أبدا بما نريده للعراق والعراقيين.. وسوف لا يدع هذا الزمن اي قرود تقهقه ولا اي عجائز تلطم الخدود وتشق الجيوب لما ستقود اليه سياسات بعض الاخوة العراقيين الذين لا يرون الا انفسهم اوصياء على العراق والعراقيين.. وان تكلموا فهم يتكلمون وكأنهم قد اجتازوا انتخابات حرة لم يشارك فيها نصف الشعب العراقي لاسباب قبلناها ام اعترضنا عليها، فالعراقيون كلهم يمتلكون وطنهم ولا مزايدة لهذا الطرف على حساب الاخر..

الوطنية لا تحتكر
 مقولة فيها بعد نظر تنّص على "ان الوطنية لا تحتكر"، والتي قالها أحد المثقفين العراقيين المعروفين في عشرينيات القرن العشرين، وما احسنها من " مقولة " كان على العراقيين ان يتعلموها منذ عشرات السنين. نعم، ان كل شعوب الدنيا تعتز بمبادئها الوطنية ولقد كان العراقيون على امتداد التاريخ يدافعون عن بلاد وادي الرافدين التي تستحق ان يكون لها مبادئ يعتز بها ابناؤها مهما اختلفوا على امور اخرى. ان ما يؤلم حقا ان يكون لبلدان جديدة وتافهة جملة مبادئ راسخة في حين يمتهن البعض من العراقيين مبادئ العراق العريق وغدا هذا البعض يستنكف منها لأنه يحمل تقاليدا وطقوسا يعتز بها اكثر من اعتزازه بالعراق. ان المبادئ الوطنية ليست اثواب عرس تتعبون عليها من اجل ليلة زفاف واحدة ثم تطوى ولا ترى النور.. واحلام العراقيين التي عاشت حية مخصبة تنبض بالحياة وضمخت بالدماء عبر القرن العشرين لا يمكن ان يخطفها الجهلاء والمتسلطين والمعممين بمسميات جديدة.. فليس من يخطف الانسان وحده مجرما آثما، بل من يخطف المعاني ويسلخها ليخرجها ممسوخة حسب مزاجه.. ومجرم ذاك الذي يخطف وطنا لا يعترف بان للاخرين أي حق فيه. فهل يمكن ان ينجحوا في اي لعبة يريدونها للعراق؟ هل ستنجح مساعيهم من اجل تقسيم العراق حتى يسهل على الاخرين ابتلاعها؟ لن يمروا من تحت اسوار العراق كي يقدموا العراق منحورا الى الاخرين من المفترسين الجياع الرابضين من وراء الاسوار قبل الاف السنين.
 ان المسألة ايها الاخوة ليست مسألة محاصصات وتوافقات.. الخ لقد اسموّها كما يريدون: سنّية وشيعية وكردية وتركمانية ومندائية وفويلية ويزيدية وآثورية وكلدانية وسريانية.. الخ ولأول مرة أحس بأنني افتقدت وطنا كالكنز منذ ان جرى التخندق الطائفي كي يجبرونني ان اكون في حفرة قديمة وسوف لن ينجحوا في ذلك ابدا فالجمال لا تدخل من خرم الابر ، ولا يمكنني هنا ان استقيم مع هذه الحفر والنقر والخنادق التي يسمونها بديلا عن العراق. ان مجرد الاعلان عن حفرة معينة جعل الاخرين يهرعون لتأسيس حفر اخرى لهم، وهذا لا ينطبق علي لوحدي، فمعي ملايين العراقيين الذين لا يقبلون ان يتخندقوا لمواجهة بعضهم الاخر في حفر آسنة! انها مسألة وطنية تخص الجميع، فلا يمكن لأي عراقي حقيقي حر ان يقبل بأي مشروع حتى وان اتفق معه ان يؤيده مستعجلا قبوله.. تذكروا ان من يشتري دارا له يتأنى كثيرا ايها العراقيون، فكيف بكم تقبلون مشروعات تخص الوطن يعلن عنها قبل شهر واحد او شهرين!؟؟ والى كل اولئك الاخوة العراقيين الذين أخذوا يكرهون اسم العراق بسبب معضلاته الجسام عليهم ان يقولوا كلمتهم، فالحق مشروع لكل العراقيين ان يدافعوا عن مصير اولادهم قبل ان يختطف العراق، بل وقبل ان يفترس العراق على ايدي العراقيين انفسهم!
مسألة لا يمكن ان يحتكرها أحد!
 أتابع كلما سنح لي المجال ردود افعال مختلف الاطياف من الاخوة الساسة والمثقفين العراقيين حول المسألة الدستورية التي تشغل اليوم بال كل من يحمل هم العراق ويفكّر في مستقبله. وعندما انتقدت مسودة الدستور العراقي الاولى التي خرجت بالية مهلهلة متعبة، ايدني البعض وانتقدني البعض الاخر.. والحق مشروع في كل من يؤيدني او يخالفني، ولكنني اقول: ان المسألة ليست سياسية او دينية حتى تغدو هكذا مسألة وجهة نظر او لي ديني ولكم دينكم، وانها ليست قضية عقائدية او ايديولوجية يختلف المرء حولها او يتفق عليها.. ولا ينفع هنا اي ( توافق compromise) لأن المسألة قانونية وواقعية وتاريخية ومستقبلية ومصيرية للعراق والعراقيين قبل ان تكون لشريحة معينة او لطبقة ما او لطائفة مسماة. ان من يعتقد بأن الدستور الدائم هو الذي سيحّل مشاكل العراق، فهو واهم شديد الوهم، ولكن السعي اللاهث بشدة وبسرعة بالغتين من اجل تكريس دستور دائم للعراق بالصورة التي هو عليها الان، فهو بالتأكيد يحمل اجندة معينة يريد فرضها بالقوة على الشعب العراقي.
 ان للشعب العراقي حق مشروع في ان يكون له شرعة ودستور ودولة ونظام سياسي جديد وعقد اجتماعي متطور ، ولكن هذا " الحق " لا يمكنه ان يتحقق ان لم تجتمع ارادة الشعب على مثل هذه المسألة الوطنية والتاريخية الصعبة التي لا يمكن ان تكون محتكرة من قبل فئة حاكمة او مرجعية دينية او حزب او حزبين سياسيين او حتى فئة منتخبة من قبل نصف الشعب العراقي! ان اصدار اي دستور بمثل هذا الوضع من الانقسام حول المبادئ وليس حول الممارسات هو من الخطورة بمكان ان يكون. ان الذين يتعجّلون الامور لاصدار " دستور" يحمل تابوت العراق اما يكونوا قد فقدوا الثقة بالشعب العراقي او انهم افتقدوا ثقة الشعب بهم، فيريدون فرض ما يريدونه بسرعة خلال مرحلة زمنية معينة كما قالوا بذلك، اي انهم يريدون انتهاز الفرصة السانحة كونهم يعتقدون انهم ليسوا براسخين في الحكم ولا مؤهلين لقيادة العراق والعراقيين باسلوب مدني ديمقراطي متحضر.. واما يكونوا اناس تستغل الظرف الاستثنائي الذي يعيشه العراق لاملاء ارادتهم على كل العراقيين ومن بعد يكون دستورهم مرجعا لكل العراقيين غصبا على الجميع وان اعترض احد في المستقبل، قالوا: هذا نابع من الدستور باعتباره مرجعا سيغدو مقدسا، كما هو الحال اليوم عندما ينتقدهم أحد يجيبونه: اتينا بمشيئة الشعب في انتخابات يعتبرونها شبه مقدسة. وبالرغم من مباركتنا لتلك التجربة الانتخابية التي ايديناها من اعماقنا – كيلا ينتقدنا المراوغون اليوم -، الا انها لم تكن تمّثل كل الشعب العراقي مهما كانت الاسباب ناهيكم عن الاسلوب الذي جرى فيه استخدام الدين والمرجعية شعارا جذابا مما جعل ملايين الناس تنتخب مرجعية ائتلافيين ولا تنتخب زعماء سياسيين! ان كثيرا من الذين انتخبوا وصوتوا لحكومة مؤقتة قد ندموا على فعلتهم.. وسيحدث الشيئ نفسه عندما سيندم كل الذين يقرون دستورا انقساميا.. ولات ساعة مندم!

الدستور: شرعة مبادئ ومنهاج عمل
 لقد قلنا مرارا وتكرارا ان الدستور هو شرعة مبادئ وطنية ومنهاج عمل وطني، فربما يختلف اي شعب او اية قوى سياسية على منهاج وممارسات أي نظام حاكم او أي وزارة او أي حكومة.. ولكن لا يمكن لأي شعب من شعوب هذه الدنيا ان يختلف على المبادئ الوطنية الا في حالة واحدة كالتي يعيشها العراقيون في حالة العراق – ويا للاسف الشديد -، فهذا ليس دليل صحة، بل دليل خطر شنيع. ان الاختلاف بين العراقيين على المبادئ يعد من اخطر ما يصادفه العراقيون اليوم كونهم لم يعيشوا اي مرحلة نقاهة انتقالية حقيقية بعد سقوط الجلاد يسوس العراق خلالها رجال خبراء في تشكيل العراق واعادة بنائه وانجذاب الناس اليه وممارسة القانون بفعالية.. ان الذي مر ويمر بالشعب العراقي يعد من اخطر ما يمكن ان يواجهه اي شعب من شعوب الدنيا. ان انقساما مريعا قد حدث في تفكير العراقيين عندما غدا العراق وطنا وارضا وشعبا في المؤخرة عند عراقيين يريدون ان يمتلكوا العراق باسماء من نوع آخر لا يعرفها العراق! ولم يكن هذا الامر قد حدث مؤخرا حتى ندين امريكا او غير امريكا بالرغم من استغلال الامريكان هذا الانقسام المريع استغلالا محكما. لقد حدث هذا الانفصام على امتداد عقود من الزمن ولكن كان مسكوتا عنه خصوصا عندما يدمج حاكم جلاد اسمه بمصير العراق، بل ولا يتورع ان يعلن للملأ: ان قال صدام قال العراق! اي اصبح هو بمثابة الوطن كله، فيغدو الوطن مكروها وكريها وتبدأ الناس تبحث لها عن منابت وهويات ومرجعيات اخرى غير المرجعية الوطنية.
 ان المرجعية الوطنية عندما تتوقد في النفوس والقلوب والضمائر والعقول لا يمكن ان تتقدم عليها اي مرجعية اخرى، ولا يمكن ان تستدعى اي مرجعية مع وجود الوطن / الام. ان من ابرز سمات انهيار المواطنة ضياع المبادئ الوطنية التي يمكن ان يجتمع عليها ابناء الشعب الواحد. فهل يمكننا ان نجد اليوم في ظل هذا الوضع غير الاحتقانات الاجتماعية والطائفية والاقليمية والعرقية التي تعبّر عنها انقسامات سياسية مريرة، ولكنها تلبس شتى الالبسة بالوان مبهرجة لا يعرف عنها اي استقرار ولا اي ثبات؟؟! وعليه اقول لكل الاخوة العراقيين بأن اي دستور في هذه المرحلة الصعبة سوف لن يكون حلاّلا للمشاكل والمعصيات والامراض والارهاب والبقايا المتفسخة والمتوطنة وخراب العراق الذي استمر عقودا.. ارجعوا ايها العراقيون وفكّروا في كيفية انقاذ الناس من مشكلاتهم.. ليغدو الساسة والقادة الجدد اصحاب نخوة في ان ينزلوا الى ارض الواقع ويكونوا شجعانا في النزول الى الشارع ويعملوا على تقليص الازمات وحل المشكلات ومعالجة الخدمات ومساعدة الناس.. ليكونوا امناء على اموال البلاد ويحافظوا على الثروات.. ومن ثم على العراقيين جميعا ان يكونوا في وضع يساعدهم على ان يختاروا مستقبلهم ولكن بعد علاج حاضرهم وتضميد جراحهم وتأمين امنهم واستقرارهم. لا يمكن ابدا تكبيل العراقيين بدستور يحمل تناقضاته منذ لحظات ولادته، فكيف ستسير البلاد عليه مستقبلا وهو يحمل تابوت العراق بيديه!!؟؟

من المحاصصات الى المقاسمات
 المسألة ليست فقط مسألة اختلاف اجتماعي او تباين عرقي او انعدام تجانس بين اطياف الشعب العراقي كما هو الحال لدى شعوب اخرى، ولكن المسألة قد تعقّدت واتسّعت لتأخذ لها ابعادا اخرى.. اذ فجأة انتقل الشعب العراقي من شعب مكّبل بالاصفاد يعامل معاملة واحدة باضطهاد منظم للجميع الى شعب منفلت لا يعرف الا المحاصصات الطائفية والفئوية والجهوية والعرقية باسم الديمقراطية.. وكأن كل عراقي انتقل من كونه رهين الاحادية الى رهان المحاصصات ليغدو اليوم رهين المقاسمات رغما عن أنفه، فأي مبادئ عراقية نسأل عنها في خضم هذا الصراع الدموي؟ انني اعتقد بأن ما يدور اليوم على ارض العراق هو مجموعة عنيفة جدا من ردود الفعل لما حدث من اسقاطات سياسية ودينية وطائفية وليس اسقاط طاغية وحده، فسقوط طاغية وّلد قوى عنيفة تعمل بالضد من كل متغيّر وثمة جماعات استقطبها قياديون قدماء وبدأوا برنامجا ارهابيا يدركه الجميع. ولكن الامر اكثر تعقيدا مما يمكن وصفه.. ذلك ان ردود الفعل غدت عنيفة لكل فعل يعتبر بالضد منه على ساحة العراق.. فليس هينا ابدا على العراقيين كلهم ان يسمع كل منهم الاخر ما يدور في باله باسم الديمقراطية والرأي والرأي الاخر.. ان مجرد سماع اي عراقي ما لدى العراقي الاخر من افكار تضربه في الصميم من مشاعره الدينية والوطنية والطائفية والقومية يعدها سكاكين حادة تذبحه من الوريد الى الوريد.. وسيجعله هذا ندا وعدوا لذاك بدل ان يجتمع العراقيون على مبادئ وطنية في البداية. ربما سيأتي يوم من الايام يمنح فيه الاكراد حق تقرير المصير نتيجة تاريخية لقضية معقدة ناضلوا من اجلها زمنا طويلا ولكن ستبقى لها تداعياتها ومخاطرها الاقليمية.. ولكن الخروج بفكرة جعل العراق مجموعة " فيدراليات " لا مبررات لوجودها حقا، وربما يخطئ بعض العراقيين عندما يعتبرونها علاجا للخلاص من ازمة الاحتقان التي سببتها سياسات المحاصصات ولم تنفع سياسة التوافقات التي جرب العراقيون الجدد فعالياتها، فوجدوا امامهم صراعات اكبر حجمها من صيغة التعاقد! وعليه، فان العراق سيغدو مؤهلا للانقسام منذ اللحظة الاولى لولادة فيدرالياته، وعند ذاك لا تجد العراقيين الا ويضيفوا مناحات وبكائيات جديدة الى تواريخهم من البؤس والتعاسة والشقاء.

العلاجات منذ اللحظة الاولى
 ان العراقيين في مثل هذا الوضع لا تخلصهم الا القوى الوطنية المدنية والتكنوقراط بتجريد نظام الحكم من القوى العقائدية المؤدلجة باسم دين او طائفة او اي عقيدة تحمل تناقضاتها الى الواقع. لقد دعيت في العديد من مقالاتي المتواضعة منذ الساعات الاولى لسقوط الطاغية ان تتشكل قوى مدنية وقانونية لافراغ العراق من جيوب العقائدية السياسية المركزية التي حكمته عقودا طوال.. ولكن ذهبت صيحاتنا ادراج الرياح، ثم نادينا بتأسيس حكومة تكنوقراط تأخذ على عاتقها بناء العراق وابعاد العراقيين عن شبح الانقسامات العقائدية.. ولم يأخذ احد بهذا الرأي أيضا وكان كل يوم يمضي تتفاقم الاحتقانات ويزداد البلاء وتتوالد الفجائع ويتأجج الارهاب.. ان من اسوأ ما ابتلي العراق به يتمثلّ بتكريس عقائديات جديدة عديدة بديلا لعقائدية بعثية واحدة، واذا كانت العقيدة البعثية قد أكلت نفسها بنفسها بانفصام العراقيين عنها خوفا منها ورعبا من ممارساتها، فان العقائديات الجديدة وميليشياتها ومناصريها أخذت تنمو بشكل خفي لا يمكن ان يقود الا الى هذا الانقسام المريع في البنية الفكرية والمبدئية للعراقيين جميعا. والمشكلة انهم يستعيرون، بل دعني اقول يستنسخون ويمسخون المفاهيم بغير معناها الحقيقي، ويحرفّون جملة هائلة من المصطلحات ليسوقوها برؤوس العراقيين فاذا قلنا تكنوقراط ( أي: قادة متخصصين مجردين من العقائد السياسية ) خرج علينا احد قادتهم ليقول بأن فلانا وعلانا تكنوقراط ونحن ندرك بأنهما من اعوانه ومن اعضاء حزبه!
 ودخل العراقيون مأزقا آخر عندما خرجوا من الانتخابات العامة يوم الثلاثين من يناير / كانون الثاني 2005 وهم يدينون بعضهم بعضا ليس لأن الانتخابات لم تكن عادلة، بل لأن الانتخابات لم تكن سياسية بقدر ما كانت دينية بين من قبلها وبين من رفضها. وبقي العراقيون يتلظون على احر من الجمر لانبثاق وزارة عراقية وطنية تخدمهم مهما كانت طبيعتها، وبقي العراقيون الاحرار من المستقلين وبقية التقدميين والمناضلين المتمدنين يتمنون وزارة عراقية وطنية تخلو من اي محاصصات عرقية وطائفية ومذهبية وجهوية باستثناء التباينات السياسية التي اجدها حقا مشروعا في العمل السياسي.. ولكن بعد ايام طوال وايام حاسمة من الصراعات ولدت وزارة الاخ الدكتور ابراهيم الجعفري فباركناها وكتب كل الاخوة ينصحونها بما يمكن فعله، ولكنها كما يبدو انها قد اخفقت كما اخفقت من قبلها وزارة الاخ الدكتور اياد علاوي.. وبدأت المسألة الدستورية تأخذ لها ابعادا صعبة نتيجة طبيعية لما كان هناك من مسببات اذكتها السياسات غير الحيادية التي اتبعت في العراق تحت مسميات مختلفة.

حدود المنطق وسداد العقل
 لم يعد هناك اي حدود او سدود امام العراقيين وهم يعيشون هذه المرحلة التي تتضخم فيها التناقضات والانقسامات بشكل بشع وغير مقبول، فكيف يمكنني وانا العراقي ان ادافع عن العراق والعراقيين امام كل الخصوم والغزاة والمفترسين على الحدود والعراقيون في الداخل يأكل بعضهم بعضا؟ كيف يمكنني ان ابقى ساكتا وانا اقرأ لهذا وهو يستخدم كل ما لديه من خزين احقاد وكراهية تجاه العراقي الاخر؟ كيف يمكنني ان ابقى منعزلا عن هذا الذي اجده قد ناضل عقودا طوال من السنين باسم مبادئ سياسية من اجل العراق وهو يجد نفسه مهملا اليوم من قبل اناس كانوا يقفون مع الجلاد في الداخل والخارج وقد استحوذوا على السلطة الجديدة في ظل المحاصصات المقيتة؟ كيف يمكنني قبول ان يعفى عن قياديين سياسيين ومثقفي سلطة واعلاميين اقوياء وسلطويين سابقين ووزاء كونهم من طائفة معينة ولا يعفى عن زملائهم الاخرين لأنهم من طائفة اخرى؟ كيف اقبل من قادة جدد ان يتقبلوا الاملاءات الامريكية ليل نهار ولا يقبلوا مجرد سماع او قراءة ما يريده المثقفون العراقيون الاحرار؟ كيف اقبل ان تتفشى هذه الحرب الطائفية الكلامية القاسية بين العراقيين على مواقع الانترنيت وقنوات الفضائيات وكلها مغطاة باغطية دينية وطائفية وعرقية وانقسامية مريعة.. وكلها تمضي – ويا للاسف - باسم الديمقراطية؟ سمعت احدهم يقول على قناة فضائية معينة بأن في العراق: الشيعة 60 % وان السنة العرب 20 % وان الاكراد 20 %! طيب واين بقية فئات الشعب العراقي؟ ومن سمح لأي من هؤلاء ان يتكلم احصائيا من دون اي وثائق احصاء سكاني؟ ماذا تفعل مثل هذه السقطات في النفوس والمشاعر؟ الا يشعر كل عراقي بأنه قد اهين في وطنيته اصلا؟ ان مشكلتنا نحن العراقيين منذ القدم سايكلوجية اذ دائما ما تسبقنا عواطفنا وامزجتنا في صنع قراراتنا وبث تصريحاتنا وكتابة آرائنا .. وحتى البوح باسرارنا انتهاء باستخدام ابشع الالفاظ في السباب والشتائم التي تعّبر عن مواقف آنية.. سرعان ما تنقلب الى محبة ومودة وكـأن لم يحدث اي شيئ على الاطلاق.. او تبقى شعلة من الاحقاد والكراهية متوقدة في القلوب حتى الاخذ بالثأر او التشفي بالمصائب. فمتى نحّكم عقولنا في كل تصرفاتنا وافكارنا واقوالنا وحتى تعليقاتنا العابرة؟؟
 اليس للديمقراطية جملة منطقية من حدود وسدود؟ اين حدود المنطق اذن؟ انني اسمع كلاما منذ سقوط الجلاد حتى اليوم وكلها تضرب على اوتار انقسامية تزيد من الاحتقانات وتذكي النار سعيرا في الافئدة وكلها باسم الديمقراطية؟ ما عواقب ذلك؟ الم يفكر العقلاء من العراقيين في ما تجنيه كل الاختلاقات التي يصّرح بها البعض ضد العراقيين؟ الم يفكر القادة والاداريون والاعلاميون والكتبة الجدد بان اطلاق الكلام على عواهنه ليس من سمات الديمقراطية؟ ان لغة الاقصاء لم تبق على حالها بل وصل الحال بالعراقيين ان يستخدم البتر والنحر.. هذا ينحر رؤوسا يانعة ويشّوه اجسادا حية على قارعة الطريق وكأنه يصفّي حسابات ثأرية وسادية مقيتة والاخر ينحر ارضا وشعبا وكأنه يصّفي اليوم حساباته لكل احقاد الزمن ومكبوتاته! عندما كان صدام يحكم العراق كان الجميع يسبح بحمده ولم يكن هناك من الكّتاب الاحرار الذين يكتبون مقالاتهم باسمائهم الصريحة الا ثلة معروفة للقاصي والداني، اما اليوم، فان القرائح قد تفجّرت كلها لا لتلعن صدام حسب، بل لتلعن كل العراق، بل وتتبجح باسم العراق وهي تريد ان ترسل العراقيين الى حتوفهم..

مشروع الفيدراليات يفاجئ العراقيين
 انني أسأل اليوم كل الذين يدركون ويتدبرون ما اقول: اين تلك الاصوات الشجاعة التي غنّت وصدحت والتي نشرت والتي قالت والتي حكت والتي كتبت والتي تظاهرت من اجل عراق حر مستقل ومتمدن ومتحرر من قبضة الجلاد؟؟ لماذا سكتت اليوم على حساب اندفاع كل الطامعين والمغالين والمتعصبين والمتطرفين والارهابيين والانقساميين والانعزاليين والحاقدين والآثمين.. الخ ؟؟ من يراقب ما ينشره العراقيون على الملأ من كتابات وتصريحات سيجد العجب العجاب من استخدام كل الالفاظ المتاحة والافكار المباحة مهما كانت شناعتها باسم الديمقراطية وكلها تنصب ضد المبادئ الوطنية! انني اتحّدى كل التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ان تأتي بعشر معشار ما يستخدمه العراقيون ضد بعضهم البعض الاخر.. ربما نجد تناحرات حزبية وسياسية في تجارب اخرى ولكن ليس نحرا لمبادئ وطن رائع كما يفعل العراقيون. ان التحّول الاعلامي في العراق من حالة مركزية توتيتاليارية مرعبة الى حالة فوضوية غير مبالية قد انتج ركاما هائلا من الاحقاد ومزيجا فريدا من الكراهية.
 ان مشروع الاضطهاد الذي كان تقسيمه بالامس قد اختار التوزيع بشكل عادل يقابله اليوم مشروع في الانتقام غير عادل ابدا، بل وتحّول مشروع الكبت السياسي الذي يختزنه العراقيون عشرات السنين الى مشروع لاظهار الكبت التاريخي الذي يعلنه اصحابه لمئات السنين.. من رحم هذا التناقض المريع يلد مشروع "الفيدراليات" المفاجئ من دون سابق انذار، وكأنه يستعد لتقسيم البلاد ويحفز كل المشاعر المضادة للتوحد والتقدم من اجل التفتيت، او كأنه يبني بيوتا من رمل من دون اي احصاءات سكانية تثبت عدالة التوزيع كما يجري في العالم المتمدن. ويركض الاغبياء وراء هذا "الاعلان المثير" للفيدراليات من دون اي تفكير ولا اي تدبير بما سيؤول اليه مصيرهم قبل مصير العراق كله. ان سألتهم يجيبونك بأنهم يدركون مصلحة العراق، ولكنهم ينظرون الى مصالحهم لا الى مصلحة العراق العليا. وهل من مصلحة العراقيين ان يقطعوا ارحامهم واوصالهم، فالارض العراقية لم تكن يوما ملكا لطائفة او عرق او قومية او ملة او طبقة او عشيرة.. ولم تكن ابدا رهينة حزب اثيم او ملك رحيم او طاغية جلاد او امام معصوم.. وان كان حاكما قد طغى او حزب قد بغى، فما شأن اقاليم معينة؟ وما شأن طائفة معينة؟ وما شأن مدن معينة؟
 لقد اشتركت كل اطياف الشعب العراقي في صناعة صدام وتجميله والتصفيق له والتغنّي به والرقص في حضرته، فمتى كانت هناك طائفة من انقياء اتقياء؟؟ ومتى كانت هناك طائفة من كفرة فجرة؟؟ انكم بسعيكم جعل العراق "فيدراليات" تقرّون تقسيم العراق، وبعملكم هذا انما تمنحون صدام حسين وانصاره وكل مؤيديه قصاصة حسن سلوك على سياساته التي اتبعها ضد مناوئيه وكنتم منهم، فهل تبررون نضالكم من اجل هدف كسيح سيقضي على العراق مهما تقولتم من اقاويل؟ ان مجرد الاستعجال في تقرير مصير العراق على ايديكم أمر مرفوض لأن ما تسعون اليه لا يمت الى المصلحة الوطنية بصلة ابدا. كنت اتمنى على القادة الجدد ان يتريثوا طويلا من اجل الحفاظ على وحدة العراق، وان لا ينساقوا وراء اجندة لا ادري ان كانوا يناضلون من اجلها ام من اجل اسقاط طاغية وولادة عراق جديد حر متمدن مستنير ..

وأخيرا أقول كلمتي للعراقيين والتاريخ معا!
 ان الامر في العراق اليوم يقتضي ارساء مبادئ وطنية لا يساوم عليها الانقساميون والانعزاليون.. ان اي دستور يولد من رحم متعسر الولادة سيغدو كسيحا، وان الامر يقتضي من كل طيف او عرق او قومية او طائفة او مذهب في العراق.. ان تعترف اولا بالانتماء الحقيقي للعراق ومن لا يريد الانتماء يعلن للملأ ذلك بكل شجاعة واباء وساحترم كل من يعلن حق تقرير مصيره من العراقيين. ان مساعيكم ستؤذي العراق والعراقيين حتما.. واعتقد بأن الشعب العراقي سيقرر في نهاية المطاف قراره، وسيقول كلمته في كل مكان.. وان مرر اي مشروع باسمه عليه، فسوف يناضل من اجل وجوده وابنائه كلهم على ارض واحدة كما يشهد التاريخ بذلك، ولكن بعد ان يكون قد دفع ثمنا باهضا من حياته ودمائه وكل ثرواته.. فهل تريدونه دستورا يحمل تابوت العراق ام تريدونه عراقا يبنى تجربة حضارية بين الامم؟؟ اجيبوني حتى ان اختلفتم معي في الذي طرحته من مفاهيم، فنحن في النهاية ابناء وطن واحد اسمه العراق!
 

257
كنا ننتظر دستوراً !





سيّار الجميل

 

اثارت مسودة الدستور الدائم للعراق الجديد والتي اعلنتها لجنة كتابة الدستور العراقي ردود فعل عنيفة لدى مختلف الاوساط السياسية والثقافية النخبوية وحتى الشعبية والحزبية العراقية، بسبب ما تنطوي عليه من أهداف ومبادئ ومضامين مشوهة لا يمكنها ان تكون قانونا أساسيا للعراق والعراقيين. واعتقد ان نخبا وجماعات واحزابا وجماهير عراقية قد خدعت خدعة كبرى على امتداد قرابة سنتين ونصف السنة من زوال النظام السابق على امل ان يبدأ فجر جديد للعراق تتحقق فيه المساواة والعدالة والتحرر وبدايات الديموقراطية خصوصا ان العراق قابل لأن يبدأ عهدا تاريخيا جديدا ويكون مشروعا مدنيا حضاريا على ايدي كل ابنائه وإن انكفأت سلطته المركزية، ومهما كبرت حجوم تناقضاته المريرة. ولكن المؤسف له حقا، ان العراق سار في طريق صعب ضمن المراحل السياسية الفاشلة التي مر بها وهو يعالج اوضاعه المزرية ويلعق جراحاته ودمائه.

لقد كان العراقيون يأملون بأن يبدأ عهد جديد يتساوى فيه الناس بكل اطيافهم والوانهم واعراقهم واديانهم واساليبهم. وذلك من خلال دستور علماني مدني صرف يوحدهم على اهداف وطنية ومبادئ حضارية، ولا يفرق بينهم أبدا، ومضامين تكفل بناء مشروع حضاري للعراق والعراقيين من كل النواحي خصوصا ان المواطنة والوعي الوطني من اهم ما يمكن التركيز عليه دستوريا. لكن يبدو ان سياسات معينة قد سار عليها القادة الجدد بمباركة الاميركيين الذين يبدو انهم يصرّون على أن يجعلوا العراق حقلا لتجاربهم الصعبة بالقضاء على الارهاب الدولي في منطقة الشرق الاوسط!!

ان العراق بحاجة فعلا الى الديموقراطية، ولكن لا ان تكون اسلوبا يستخدمه الاسلاميون من الدعويين او المجلسيين او الاخوانيين او غيرهم لتحقيق شعاراتهم غير القابلة للتطبيق. وهناك اولويات لا يمكن التغاضي عنها باسم الديموقراطية، خصوصا ان العراقيين يعانون منذ زمن طويل من انتفاء الامن والنظام ونقص في الخدمات والكهرباء والماء وكل متطلبات الحياة الكريمة.

إن العراق الذي يطمح ابناؤه أن يكون فعلا بلدا نموذجيا لقوة امكاناته المتنوعة، لابد له من الاستقرار السياسي وان يجد في صفوفه من له القدرة على ان يقود دفته الى شاطئ الامان في خضم هذا العصف المأكول الذي يأخذ به من دون ان ينال طعم الاستقرار في اي يوم من الايام. ان العراقيين الجدد الذين تولّوا قيادة العراق ، كان عليهم جميعا ان يعلنوا عن اجندتهم الحقيقية قبل ان يتسّلموا حكم العراق وكان عليهم ان يعملوا بمبدأ الشفافية والصراحة لا ان يعلنوا مسمّيات عدة ويستعيروا جملة شعارات يوهمون بها الناس ردحا من الزمن كي يعلنوا اليوم عن اجندة اجدها ويجدها غيري لا تمت للهوية الوطنية العراقية بأي صلة! إن على من يحكم العراق والعراقيين ان يكون فوق كل الانتماءات وكل الاتجاهات والنزعات وضد كل التماهيات الا التماهي مع العراق والعراقيين.

ان ما اعلن في مسودة الدستور التي طرحت على العراقيين يشكل مخاطر جمة لا قِبَل للعراقيين بتحملها. وفي مثل هذا الظرف الصعب الذي تزداد فيه الاحتقانات والاضطرابات وتطغى عليه الاحقاد والكراهية بفعل الانقسامات التي اثارتها ممارسات المحاصصة الطائفية تحول العراق من سجن كبير عاش العراقيون في اقبيته على عهد صدام حسين الى كانتونات حزبية وطائفية تسعى جميعا باسم مسودة دستور دائم ان تمزّق العراق اشلاء من خلال مسمّيات شتى! ان العراقيين الذين نحرتهم التناقضات الاجتماعية العنيفة وزادت من تنافرهم جملة الانقسامات السياسية وخصوصا بعد سقوط الطاغية صدام حسين لا يمكنهم ان يبقوا ساكتين على مواد دستور غريبة جدا لا تمت لهم بأي صلة، بل لم يشعروا انهم امام دستور حضاري ووطني يحمل مشروعا لحياة جديدة للعراق والعراقيين.

العراق لم يكن في اي يوم من الايام جمهورية اتحادية اسلامية، اذ لم يكن منقسما في السابق حتى يعلن عن تركيب اتحادي لنفسه. ولم يكن في يوم من الايام دولة دينية يحكمها رجال دين (= ملالي) حتى يعلن عن ذلك في مسودة دستور تطغى فيها النعرات الدينية والنزعات الطائفية. ان العراق لا يمكنه ان يعيش تحت قهر اي اقلية او سطوة اي اكثرية. والعراق لن يعرف الاستقرار ان اقر اي دستور أن الدين هو المصدر الاساسي للتشريع! ولا ادري كيف يعلن "مبدأ" ان يكون العراق دولة اسلامية ومسودة الدستور تتضمن مواد دستورية مأخوذة عن دساتير غربية ومنها نصوص سويسرية ونيوزلندية وكندية وغيرها؟! لا ادري كيف يريد البعض تأسيس دولة اسلامية في العراق والعراق له قوانينه الوضعية منذ العهد العثماني وهو لا يعرف في تسيير شؤون الدولة المعاصرة اليوم الا القوانين الوضعية الغربية! ان من يريد دولة اسلامية، عليه الا يستخدم اي نص من نصوص الدساتير الغربية، بل عليه ان يرجع ليطبق الشريعة والاحكام الشرعية في كل شؤون الحياة السياسية والاقتصادية.

انني اتحدى اي نظام اسلامي (باستثناء "طالبان" في افغانستان) ان يجرّد نفسه من دساتير هذا العصر وقوانينه الوضعية كي يعيش وله برنامجه السياسي ودستوره الشرعي! لا يمكن أي قوة سياسية جديدة في العراق ان تخدع كل القوى السياسية والنخب المثقفة بدستور مشوه يدعو لجمهورية اسلامية وهو يسرق بنود دساتير غربية علمانية معاصرة! كيف لكم الادعاء ان يكون الشعب مصدر السلطات وانتم تعلنون عن جمهورية اسلامية؟ كيف لكم ان تعلنوا بأن الدستور يصون الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي وتضعون بين قوسين (باكثريته الشيعية وسنته) ويحترم جميع حقوق الديانات الاخرى؟! لماذا تنكرتم للهوية الوطنية العراقية؟ لماذا تؤكدون على الطائفية في العراق؟ لماذا اضفتم قومية اخرى (الفرس) الى قوميات العراق ووضعتموها بين قوسين اثنين ايضا؟ لماذا خلطتم الاديان بالقوميات وخرجتم على العالم وقد مزقتم العراق اربا اربا من خلال قوميات لا وجود لها اصلا؟ فاذا كان الاثوريون قومية لها معالمها وتميزها وهم اصلاء في العراق، فهل غدا الصابئة المندائيون قومية وهم عراقيون اصلاء ولكن لهم دينهم ولكم دينكم؟

لماذا جعلتم "الدولة العراقية جزءاً من العالمين العربي والاسلامي" من دون ان تحترموا ارادة شعب لا يمكن ان يتنكر لعروبته ولغته وتاريخه؟ فلماذا الدولة من دون الشعب؟ يبدو انكم لم تميّزوا بين "الدولة" و"القومية" و"العروبة". كيف يمكنكم جعل الدولة العراقية وحدة واحدة ارضا وشعبا وسيادة وانتم لا تفرقون بين "الدولة" و"الوطن"؟ كيف تقررون ان يكون للمرجعية الدينية استقلاليتها وكأنكم تريدون فصلها عن العراق كما هي الحال في ايران؟ وكأن الدستور الدائم يمنحها حقا تمارسه في معزل عن العراق ازاء العراقيين؟ اين هي حقوق المرأة العراقية في مسودتكم؟ لماذا جعلتم الدولة كفيلة للحقوق الاساسية للمرأة من دون المجتمع الذي كان ولا يزال يقسو عليها؟ واين هو الشعب؟ اين هي البيئة والعناية بها؟ اين هي مستلزمات الحقوق المدنية إن ربطتم ذلك باسم دولة اسلامية؟ كيف يمكنكم ان تقرروا عن الآخرين وتصادروا رأي اجيال المستقبل بمثل هذه القيود الثقيلة؟

هذا قليل من كثير مما لابد ان يقال عن مسودة دستور دائم للعراق. فهل سنرى دستورا من نوع جديد يأتي من خلال اللجنة الحالية؟ اشك في ذلك! ولكنني اعتقد أن دستورا متطورا ومدنيا ومؤهلا لقيادة العراق ومستقبله لن يولد على ايدي اناس لم يدركوا بعد حاجة العراق الاساسية لمشروع مدني ووطني لا يفرق ولا يميز ولا يقّسم ولا يحاصص. وفي الحقيقة لا يخرب!


 

258
عنفوان العراق وشحوب العراقيين 



 سيّار الجميل
 
 


العقلاء والاذكياء ازاء توحش السفهاء وتحجّر الاغبياء

" كأني أنظر الى قريتكم هذه قد طبقّها الماء.. وأيم الله لتغرقن بلدتكم.. "
الامام علي (كرم الله وجهه)

 

مدخل
 دعوني استخدم بعض القسوة لمرة ومرات من اجل منفعة وطنية ليس الاّ وأيم الله.. فليس خراب بيتنا من صنع الاخرين حسب، ان لم نفصح بشجاعة وحكمة عن اوزارنا التي جنيناها بحق انفسنا نحن العراقيين.. ولا اقول بأن غيرنا أفضل منا في سلوكياتهم واساليبهم وممارساتهم، ولكن لا يعنيني من امرهم شيئا بقدر ما يعنيني امر العراق وشحوب أهله الطيبين في ارجائه الفسيحة والذين لابد ان يبصروا النور يوما عند نهاية النفق الذي وضعهم الزمن الصعب فيه.. علينا ان نتوغل في اعماق انفسنا نحن العراقيين وان نعرف بعض مواطن الخلل وزوايا الضعف التي باتت جميعا عوامل اساسية في خلق هذا الذي يريد محق العراق وتصفية العراقيين. وبالرغم من التفاؤل الذي نعيش عليه والامل المنشود بولادة العراق الجديد، فان ذلك لا يمكن ان تظهره الى الدنيا كل بلايا الحاضر، وان اي مشروع حضاري للعراق لابد ان يجد الارض المخصبة له لينتعش وينمو ويتطور.. انني اطالب في هذه " الرؤية النقدية " باصلاح ذات البين وبناء علاقات قيمية واخلاقية جديدة بين العراقيين قبل ان نستعرض انفسنا على الاخرين باننا نعيد بناء الدولة.. فلا معنى لبناء أي مؤسسات في الدولة ان كان المجتمع على اشد حالات التنافر، بل وفي اسوأ الاحتقانات.
 وعلى كل العراقيين أن ينتبهوا الى أمرين خطيرين اولاهما: ان اي طرف من العراق مهما منح من حق في تقرير مصيره - وربما ابصم معه على ذلك -، فسوف لا يرى وجوده وحياته الا مع كل العراق. وثانيهما: ان اي الغاء او اقصاء بين العراقيين انفسهم سوف لا يعود أثر ذلك الا على الاثنين معا! فان كان العدو رقم واحد للشعب العراقي معروف من قبل الجميع، فلماذا يريد العراقيون في مثل هذا الظرف الصعب ان يخلقوا من بينهم اعداء كثر؟؟ ومن هنا وددت ان اعالج بعض الموضوعات التي اعتبرها خطيرة، خوفا مني مع كل من يشاركني هواجس المستقبل وقتامة المصير على مستقبل العراق لا اكثر ولا اقل. وان الحاجة باتت ماسة وان الضرورة امست ملحة على كل العراقيين ان يبحثوا لهم عن بدائل حقيقية ووسائل قيمية من اجل ايقاف الكارثة التي قد لا يبصرها البعض لانشغالاته في ما هو نفعي وشخصي وآني وهو في نشوة الانتصار!

 

فنانون في ادارة الكارثة
 ليس هناك أقسى على المرء من أن يشهد فصولا جدالية عقيمة لا جدلية نافعة بين ساسة ومثقفين يعّدون أنفسهم من نسل حضارات بائدة، أو يجدون ذاتهم أكبر بكثير من حجومهم بين الامم. ولعل أكبر الادلة على تلك المعاناة هو ذلك التدّني اللااخلاقي الذي وصلت اليه بعض الانفس التي لا متنفس لها الا ان يأكل بعضهم بعضا مهما وصلت حال البلاد الى ادنى مستوياتها ركاكة وفوضى وبوهيمية غير متخّيلة أبدا. ان انفراط عقد حزمة القيم والمعاني الانسانية السامية.. بهذا الشكل لدى اناس تراهم جميعا وقلوبهم شتى، فهم عقلاء وسفهاء ولكن استبد بهم الجنون كونهم ليسوا بمتجانسين ابدا، ولا يعرفون معنى الانسجام ولا يفقهون كيفية السبيل لاغتنام الفرص التاريخية، ولا يعلمون أي قيمة لمشاركة حقيقية ولا يتفقّون ابدا على اي تجسيد للاهداف التي كانوا ينتظرون تحقيقها ولا يعملون ابدا على تقديم للاهم على المهم كما ولا يدركون أي منزلة هم فيها بعد ان افتقدوا عندهم روح التعاون والتآلف والتعايش والالفة والمحبة، وباتوا يركلون انفسهم بأنفسهم ليل نهار من خلال انقسام فاضح والاحقاد تشتعل في صدورهم، والكراهية تعمي عيونهم، وتلك هي لعمري قمة المأساة العراقية التي استمرت قرابة خمسين سنة ووصلت الى ذروتها اليوم. ان كل من يخالفني هذا " الطرح " اما ان ينزع الغشاوة الثخينة التي هو عليها او يقتلع الاقنعة التي مهر في ارتدائها زمنا طويلا.. واما ان يخرج من قوقعته الفكرية والجغرافية ليرى اوضاع بلاده كاملة من فوق، لا ان ينظر اليها من زاوية افقية محددة، فلا يرى من خلالها الا نفسه وعشيرته او طائفته وملتّه في دائرته الضيقة! ولم أكن أتخّيل أبدا ان العصابية ستطول حتى الذين يسّمون أنفسهم بالمثقفين التقدميين الذين كانوا يروّجون عن انفسهم انهم ماركسيون حتى العظم!
 لقد علمتني تجربتي المتواضعة في قراءة تاريخ العراق بأن الناس يختلفون فيه من عصر لآخر ومن جغرافية عراقية لأخرى وانا أتأمل ذلك " التاريخ " في خطوطه ومسالكه والوانه، بل وافكر في كل دقائقه وخباياه، فثمة ملتقيات في الذي اسميته في فلسفة التكوين التاريخي بالابوة والبنوة في سلالات الاجيال.. اذ لا يمكن ان يولد التاريخ من فراغ بكل ظواهره واحداثه وبكل نصاعته او بشاعته! وان الكارثة لا يمكن ادارتها من قبل شخص واحد او مجموعة واحدة، بل وانها تتبلور نتيجة تشّظي عوامل مختلفة تلازمت بعد تلاقحها على ان تودي بحياة أي مجتمع مهما كان صلبا وقويا الى حيث الهاوية.. وعليه، لابد من تداركها مهما كلّف الامر من جهد وأتعاب سنين.

 

ايها العراقيون: لا تغرنكم الاقاويل والمفبركات

 ولا يغرنكم قول البعض ان عصر الديمقراطية قد انفتح وان ما نشهده اليوم هو الديمقراطية بحد ذاتها، ذلك لأن الصراع من أجلها ازاء من يريد الاجهاز على بداياتها سيستمر طويلا وربما يتجاوز العام 2009 الذي كنت قد حددته كبداية حقيقية للعراق الجديد ومنذ سنوات خلت، وان لا ديمقراطية في مجتمع تسود فيه النزعات الماضوية والتمذهبات الدينية والعلاقات الرديئة والاهواء الانقسامية والدعايات الماكرة.. بل استطيع وصف " الحالة " بأنها الفوضى القيمية في ادارة الازمة والسياسة الداخلية والعملية السياسية والانتكاسات المريرة في حياة المجتمع بأقسى ممارساتها واعتى فوضويتها عندما تصل هوة الانفصال وقوة الشراسة والتوحش وقعر الغباء والبلادة الى احطّ درجاتها، اذ يغدو الصراع السياسي اقوى معّبر بكل فضاعته عن حجم الاحتقان الاجتماعي.. ليس لدى الافراد او لدى بضعة جماعات، بل الى اعماق الفئات الاجتماعية التي لا تدرك قوة انتاج المعاني ولا تفقه نفع التحولات ومسيرة الحياة، ولم تعد تأبه للنزعة الوطنية التي مهما حاول العقلاء تربيتها في النفوس وترويضها في الصدور، فالتمرد عليها كان وسيبقى اقوى بكثير من هلاميتها واكذوبتها بدليل تعدد الولاءات وزحمة الميول والاتجاهات.. والكل يتكلّم باسم الشعب العراقي، والشعب مذبوح بالامه واحزانه ومصائب يومياته ونقص احتياجاته وخدماته كبشر سوي مثل باقي البشر. فالناس تطالب بكل ما يلزمها منذ ان حّلت فواجع صدام حسين عليهم مرورا برحيله ووصولا الى اكثر من سنتين على ذاك الرحيل ولم يتحقق شيئ حتى يومنا هذا.

 

من رعب الدولة الى الخوف من المجتمع
 وليس لقسمات واسعة من المجتمع الذي لم تعرف الوداعة والهدوء يوما والاجتماع على اهداف وطنية حقيقية الا الانتماءات والولاءات الاخرى التي تتكالب من بينها قوى معروفة ومعينة طمعا في جاه ومنصب ومال ومكافئات ومنح، وسعيا لمنافع شخصية ومكاسب معنوية او سياسية او مادية.. وخصوصا بين السياسيين والمثقفين الذين لا يمكنهم ان يتقّبل احدهم الاخر لاسباب معقدة سايكلوجية وسوسيولوجية بالاساس قبل ان تكون سياسية وفكرية – كما يدّعي المتفلسفون – هل تأمل العراقيون كيف يرفضون بعضهم بعضا لأتفه الاسباب؟.. وان كل الاختلافات السياسية ان بحثنا في اسبابها وجدناها تمتد الى جذور طائفية او قبلية او محلية مناطقية أو شخصية نفعية بنتهامية فالسياسة يتلبسونها زورا وبهتانا ومعها يلوكون حفنة من الكلمات والشعارات باسم المبادئ والقيم سواء كتلك التي كان يمارسها الجلاد ام من سبقه في جلد العراقيين.. ويبدو النفاق السياسي عملة رائجة عند الساسة العراقيين وهم كمن ينزع جلدته الايديولوجية القومية التقدمية ويحلق شاربه الاسود الكث ليغدو فجأة معمما يتكلم باسم " الدين " وهو لا يستطيع تركيب جملة مفيدة باللغة العربية!! اما الجانب الاخر من الصورة الموحشة والحزينة، فهو المعبّر عنه نتيجة التحولات الفجائية المفجعة في اوضاع المجتمع الذي انتقل على مراحل: من خوف الدولة انتقالا الى الخوف من السلطة والحزب الواحد ومرورا بالارتعاش من النظام وانتهاء بالخوف من المجتمع نفسه.. اننا نحصد حقا ما فعلته الحكومات العراقية السابقة التي كان لسياساتها البلدية والمحلية والجهوية والعشائرية والسكانية وآخرها " الحملة الايمانية " بتأثير الارتجاج التاريخي الذي حدث في العام 1979 لخطايا لا تغتفر وعّم جميع المنطقة مما خلط الامور وجعل عاليها سافلها نتيجة ما اسمي وقت ذاك بـ " الصحوة الدينية " والتي راهن عليها اغلب المفكرين العرب، فما كان منها الا ان انتجت: تعصبات دينية وجماعات تكفيرية ومراسيم بدائية او عوامل عاطفية او قرارات بريئة خلطت الاخضر بسعر اليابس وخصوصا في العراق ومنذ زمن ليس بالقصير لم يستطع المجتمع الابقاء على علاقاته القديمة التي حاربها الليبراليون والتقدميون والقوميون والاشتراكيون بدفع المجتمع ليتداخل بعضه بالبعض الاخر مما انتج قيما غريبة واساليب فجّة.. نعم انها مواريث صعبة جدا ستمتد بقاياها الى خمسين سنة من اليوم – كما ارى –!

 

البلادة والتوحّش
 لقد عرف العراق ابان النصف الثاني من القرن العشرين عصابات واولاد شوارع ورعاع ومخبولين واصحاب سوابق وذوي عاهات واشقياء من الذين لم تكن لهم القدرة على العمل الا في الاوكار القميئة تحت الارض.. فظهر منهم ساسة وبعض حكام ساهموا عن قصد وسبق اصرار بانتاج كل البلايا والرزايا في الحط من شأن طبقات المجتمع كلها وهدر الكرامات واعدام الشخصيات وتعذيب البشر واذابة اجسادهم.. لقد كانوا مهرة في صناعة مناهج التوحش والتمّرس على اساليب الذبح وقطع الرؤوس وألاذان وجدع الانوف والالسنة ووشم الجباه.. ودفن البشر احياء ومنهم الشيوخ والنساء والاطفال.. ناهيكم عما تبلور من قيم موبوءة بالفاحشة والتمردات والمشاغبات والوشايات والتجسس وكتابة التقارير الحزبية والايذاء المشروع والتهجير القسري والاستئصال العرقي والابادة الجماعية وهتك الاعراض كل ذلك جرى في العراق في سنوات مرعبة عاشها العراقيون وخصوصا ابان اشرس حرب عرفها التاريخ لثمان سنوات عجاف.. بقيت آثارها السايكلوجية (والباثجينية) مطوية كالدمامل لم تتفجر الى السطح، فوجدت اليوم متنفسا لها للتعبير عن اشد الحالات فظاظة وفضاعة وقسوة بعد انفجارها وتدفق قيحها في كل اتجاه..
 وعليه، فان العراق بحاجة الى فترة نقاهة تاريخية لمدة عشر سنوات على الاقل وتعد فترة انتقالية ينتقل خلالها من اوضاعه السابقة الى اوضاعه اللاحقة.. لقد كانت كل السياسات التي اتبعت في العراق منذ سقوط النظام السابق في العام 2003 وحتى اليوم خاطئة – مع الاسف - ومزدوجة ومبهمة ومخترقة وفاشلة وقابلة لاستيعاب الاملاءات من دون استخدام حتى مبدأ (خذ وطالب) او اعلان ما يشبه (الاحكام العرفية).. وان الكل يتحث عن ضعف في قدرة القادة الجدد في الحسم واتخاذ قرارات جريئة.. بل وان اساليب ادارية وسياسية تتّبع من دون ان يرضى عليها الشعب العراقي.. ولا يمكن ان يعّلل كل ما يحدث كونه ثمنا للحرية السياسية أو التحرر الفكري، فالسياسة والفكر شيىء والادارة وضبط الاوضاع الامنية شيئ آخر وخصوصا في العراق بوضعيته العادية، فكيف الامر اذا كانت احواله مزرية بالشكل الذي نعيشه، وأقول للعالم جميعا بان أساليب ضبط الدواخل العراقية من اصعب المهام التي تواجه حكام العراق على امتداد التاريخ. وكثيرا ما اقول بأن تعيس الحظ ذاك الذي يحكم العراق.
 ان مجرد المناداة بالديمقراطية شيئ عظيم ليس في العراق وحده، بل في بلدان الشرق الاوسط كلها.. ولكن للديمقراطية مستلزماتها وظروفها وعالمها ومناخها الذي غدا لا يمكن استعارته فجأة لنرضي انفسنا او لنرضي الاخرين وكأن العراق خال من العقلاء والفضلاء والاذكياء والحكماء الذين عاشوا طوال حياتهم نزهاء زاهدين حتى في لقمة عيشهم وما كانوا من الطامعين ابدا أو المرتشين او المختلسين او طلاب الولاية، اما ان تسيطر على دفة القيادة وتترك شأن السفينة تائهة في بحر عميق وقد تدري او لا تدري انك فتحت فتحة في قاع سفينتك المبحرة التائهة في البحر وهي مثقلة بحمل ثقيل! فأي ضرورات هذه التي يتشدقون بها وهم يحثون الخطى نحو تفسيخ البلاد تحت مسميات شتى، بل ووصل الامر الى ان تتهم كتل سكانية كاملة بشتى التهم البشعة نتيجة ما فعله نظام جائر، ولماذا غدا " التمذهب الديني " سمة تطلق علانية في تشخيص الناس سياسيا واجتماعيا، والمصيبة ان يأتي على لسان عضو جمعية وطنية مرات ومرات على شاشات الفضائيات. ان هذا كله قد خلق اعداء اضافيين عندما اجدهم يسمعون وهم يتألمون كيف تطلق الاوصاف السيئة على مناطق ومدن واقاليم كاملة من قبل كل الاطراف العراقية. ان قوى بشرية ونخبا مثقفة وفئات سكانية لم تزل اسيرة لما يقوله هذا او لما يردده ذاك في غمرة تدفق اعلامي واسع النطاق! ان المشكلة الحقيقية انما تكمن اصلا في التمترس وراء سياسات دينية اعلامية لا سياسات مدنية قانونية، وان التفرقة غدت تحصيل حاصل عند كل اطراف المجتمع، وهذا لم يحصل في تاريخ العراق ابدا.

 

التجارب القاسية
 لقد علمتنا التجارب المرة ان المخاض صعب جدا في التعامل مع نخب متصارعة واحزاب متناقضة ومواقف متناحرة وبين اقوام غير متجانسة ابدا وبين اناس يبطنون عكس ما يظهرون - بل وكما يقول الصديق امير الدراجي وهو يفلسف سايكلوجية العراقيين السياسية -: ان هناك من لم يزل يحافظ على تقاليد الاختباء والكتمان المفضوح وكتم الاسرار وربما اضيف على وصفه البارع: كأن العراقيين من الخشب المسنّدة في متحف حزب قديم اكل الدهر عليه وشرب.. فكل العالم قد تغّير بعد ان مارس نظرية غورباتشوف في البيروستريكا (اعادة البناء) والغلاسنوست (الصراحة والشفافية) ونحن لم نتغّير ابدا!! وقد بدأ العرب يتغيرون وينادون بالتغيير بعد ان فتح العراقيون الطريق واسعا امام الجميع، ولكن العراقيين يبدو انهم ساروا في طريق الضياع، انه يمكن ان يعيدوا بناء انفسهم وثقافتهم وسياستهم واستراتيجيتهم وبلادهم من دون اي شفافية، والشفافية ليست مصطلحا فارغا كما يجري استخدامه عند كل من هبّ ودبّ من دون اي ضوابط ولا اي ممارسات، فكيف تمارس الشفافية ونزعة الالغاء والاقصاء موجودة عند الجميع؟؟ هل سمعنا ان شعبا يلغي نفسه بنفسه من خلال اقصاء هذا لذاك وقد وصل الامر حتى لالغاء وجوده! بل وان الذي يحدث ان يقوم الساخطون - حتى على انفسهم - بالتطاول على من له خبرات علمية ونضالات سياسية وتواريخ ثقافية.. والمنطلقات أغلبها سايكلوجية وسوسيولوجية، فهي كانت ذاتية مرضية وربما طائفية مهووسة وربما عن قناعات غبية!!
 وهكذا، فليس كما يدعّي المتفائلون الذين يريدون خلط الاوراق والبقاء في تهويم النفس والذاكرة واذكاء خصب العاطفة المتوقدة – كما هي كانت اجابة من يسأل عن وضع العراق قبل سقوط النظام وايام الحروب والحصار -: " اننا بخير وصحة وعافية " او " انها شوية مشاكل سنقضي عليها "! لا ابدا ايها الاحبة، فالشرخ يتسع على الراتق يوما بعد يوم، وان الحال يمشي من سيئ الى أسوأ في شرايين المجتمع العراقي نتيجة حدة الانقسامات وتفاقم الاحتقانات، ربما تنهض مؤسسات الدولة من كبوتها ومن انسحاقها بعد عمر طويل وهي تتنفس من جديد في ظل تطور واضح المعالم وانتعاش في الاوصال الاقتصادية ونمو في المؤسسات والخدمات كما تخبرنا اياه اخر التقارير حول انتعاش الاقتصاد العراقي وحتى العملية السياسية مع افتقاد الحالة الامنية وانسحاق الخدمات البلدية والعامة وتدهور حالة التعليم في المدارس والجامعات.. ولكن مشكلتنا الاساسية في مجتمعنا بالعراق ليس في ظل قرارات كارثية مفجعة كالتي اوصلت العراقيين الى هذا المآل عبر السنوات الصعبة المنصرمة ايام حكم الطاغية الجلاد، بل في ظل ممارسات اجتماعية كارثية يتلبسّها سياسيون ومثقفون ومعممون ومشايخ دين ورجال عشائر وحزبيون منتفخون ومغتربون لا يعرفون ماذا يريدون، او انهم لا يتفقون اصلا في ما بينهم على اجندة وطنية يمكن ان نسميها بعراقية مدنية حقيقية! ان المشكلة لا تنتهي بتبويس اللحى او بعفا الله عما سلف، او بادخال انفار الى لجنة صياغة الدستور.. انها معضلات جسيمة سوف لا يتم القضاء عليها بسهولة ان لم تتوقف الاقصاءات والاساءات واذكاء المشاعر الانقسامية وتطّهر الاجهزة الرسمية من الفساد، وان لم يغدو حكم القانون نافذا على ايدي اناس اقوياء.. وان لم تعتمد على ابنائك العراقيين كلهم في الاتفاق على المبادئ بعيدا عن الاستعانة بالخارج سواء كان ذلك الخارج عربيا او اقليميا او دوليا.

 

الحلم بعراق مخصب ومتحضر وجميل
 لقد عشنا وعاش العراقيون على مدى اعمارنا بعقودها الخمسة المليئة بالمآسي والاحزان والكآبات والتخلف والاضطهاد والتمييز والمحسوبيات والمنسوبيات والوساطات والرعب والتشرد.. يحلمون في الماضي الصعب بوطن مدني حضاري جميل ومخصب وغني وقوي ومولد ليس للتشيؤات الراقية والجنائن المعلقة حسب، بل للمعاني الرفيعة والمخلوقات الجميلة.. لقد كنا نحلم حتى اليوم بالتلاؤم والتعايش والتواد والتراحم والتلاحم واسقاط الذرائع واكتناز القيم واهتبال الفرص والانطلاق نحو اهداف موحّدة لوطن كان ولما يزل ذبيح الانقسامات المذهبية والطائفية والسياسية والعرقية والمناطقية والعشائرية.. والمصيبة ان الكل ينفي عنه صفة التموقع والتمذهب والتشظي والاقصاء.. ولكن الممارسات والتصريحات تدلل على غير ما يعلن!! ولكن مع كل الاسف، بدل الانطلاق الحضاري والتفكير المدني والبرامج الواقعية رحنا نغرق انفسنا بعضنا بعضا وقد جعلنا الماضوية التي يرفعها السفهاء والاغبياء والمشعوذون والدجالون والانتهازيون والكذابون والمفبركون وموزعو الاتهامات عنوانا للامل المنشود وبات هذا لا يطيق ذكر ذاك.. بعثيون معروفون بكل قسوتهم ورهبتهم انخرطوا فجأة في تنظيمات دينية، ومؤسسات كان النظام السابق يرعاها رعاية خاصة، اصبحت عناصرها تصفق للتيار الجديد، وشعارات واعلانات جديدة لم نكن نسمعها في الامس وتعاف النفس ان تتداولها اصبحت اليوم على كل لسان، وكأن العراقيين كانوا يكذبون على انفسهم طوال القرن العشرين وهم يكتبون وينشرون ويخطبون او يصفقون او يهزجون او يبالغون او يعملون او يرقصون او يغنون اغنيات الرئيس القائد او يدبكون في حضرته او يكتبون التقارير حتى على ازواجهم.. الخ من السفاهات ولكنهم اليوم تخلوا عن كل الماضي الصعب، وغدا العراق مجموعة من الفرقاء المتنافرين المتنابذين بفعل محاصصات هذا او توافقات ذاك.
 وكل المشكلات تحّل او ان تجد لها حلولا مع مرور الزمن في العراق، الا مشكلة الكراهية والاحقاد وفرض الاستحقاقات غير الوطنية التي لم تجد لها حلا منذ مئات السنين. اعرف اناسا عملوا مع الجلاد ردحا، ثم تمردوا عليه في عز بأسه ونالتهم الملاحقات واذى الاجهزة الخاصة بعد ذلك وخصوصا في خارج العراق، وكان ان تجمع حولهم الناس من اجل فعل شئ من اجل انقاذ العراق.. ولكنهم باتوا اليوم وقد نبذهم الوضع الجديد لا لأي سبب الا لكونهم كانوا يوما في خانة الجلاد.. ولكنهم تمردوا عليه في وقت كان الجميع يسبّح بحمده!.. ولكن هناك من يأبى ان يسامحهم.. اذ انهم اصلا كانوا قد احرقوا اوراقهم السياسية منذ ذلك العهد ولم ينفع تمردهم ولا حتى مشاركتهم الانتفاضة في العام 1991!!

 

الظاهر ليس دليل الباطن
 ان هناك نزعة مقيتة وكارثية لا يمكن استئصالها بسهولة فهي راسخة في الاعماق، وندرة من العراقيين تعترف بها، بل وان اصحابها كثر وان لم تجدهم امامك او بصحبتك او حتى من ورائك.. نزعة ان يبطن المرء عكس ما يظهر، ويستخدم هذه الالية في العمل الجمعي والحزبي والتنظيمي وحتى الاعلامي. ولقد أودت هذه النزعة بجملة من المآسي للعراق عندما وجدت نفسها في الاحزاب العتيقة التي أدّعت التقدمية والمدنية والعلمانية والديمقراطية.. ولكنها بغت على العراق دولة ومجتمعا، لأنها قيّدت شروط نجاح المنتمين لها باستخدام آلية حفظ الاسرار والاشتغال تحت الارض او في الاوكار الحزبية. لقد بقيت هذه النزعة راسخة في المجتمع السياسي العراقي حتى اليوم، ولا ادري هل ان الجيل الجديد بات يمارسها بكل حرفية ونجاح كمن سبقه في هذا النهج ام ان جيلا جديدا سيظهر لا يمت بأي صلة الى نزق الماضي! انك تراه يظهر لك نفسه في احلى ما يكون الظهور عندما يتلاعب مناورا باسم الديمقراطية والشفافية والتعددية والاعتراف بالاخر.. ولكنه في ذاته يبطن غير ذلك، فكيف يمكن للسياسة العراقية ان تعرف الشفافية والمصارحة اذا كنت تتعامل مع خصوم ألداء وهم يظهرون عكس ما يبطنون! فاذا كان قول الامام الشافعي (الظاهر دليل الباطن) يصلح في كل هذا الوجود، الا انه لا يصلح في ارض العراق ولا عند اهل العراق – كما قال أحد ابرز مثقفينا العراقيين القدماء -.

 

الجليد يذوب والجدران صلبة يابسة
 ربما قال أحدكم بأن الزمن كفيل باذابة الجليد والصقيع، وان يتعلم ابناء العراق كيف يتعاملون بعضهم مع البعض الاخر، ولكن الامر ليس بهذه السهولة، فما يقوم بين اجناس العراق لا (اطياف) العراق جدارات صلبة لا يمكن اعتبارها طبقات جليد.. بل انها من الحديد الصلب فأي اسوار وجدران تذيبها حرارة الشمس، بل ويهدمها اصحابها أنفسهم بأنفسهم! لقد تربينا في بيئة طبقية معروفة لا تعرف الكراهية بين الاديان او المذاهب الا لمما فالحب واسع بين مثل هذه المكونات بالرغم من كل الاختلافات، ولكنها كانت تعرف الكراهية بين الطبقات وتعرف الاحقاد بين اهل الداخل واهل الخارج.. نتيجة الاسفاف الذي يحصل ونتيجة الاحقاد الدفينة بين من هم فوق وبين من هم تحت، اي بين الاغنياء والفقراء او بين ابناء الحضر وبين المتريفين او البدو او بين الشيوخ وبين الفلاحين.. ولم نلحظ ونحن ابناء الشمال الا المحبة في ايام الجامعة لابناء اقصى الجنوب او طلبة الفرات الاوسط، وكانت التفرقة (سياسية) على اساس الولاء للنظام خصوصا وان اغلبهم كانوا من اصلب الشيوعيين! وفي ايام الجيش الكارثية الصعبة في السبعينيات، لم اشهد اي نعرات (حتى وان كانت موجودة) اللهم الا بين جنود مسيحيين ويزيديين من طرف وبين مراتب وضباط صف عرب متوحشين يسخرون منهم ويتضاحكون على اسمائهم.. ولأول مرة اكتشف البشاعة الطائفية وانا في خارج العراق عندما التفت نحوي صديق بغدادي كان يرسم لي لوحة وأنا جالس لا اتحرك ونزل منحدرا بكلامه ضد بعض العراقيين، فسألته: لماذا؟ قال: لأنهم كيت وكيت، وبدأ ينحر تاريخهم ويسفه تقاليدهم.. فاهتززت لما سمعته منه وما كان مني الا ان اسفّه كلامه واشعره بأن تفكيره خاطئ كوننا ابناء وطن واحد شئنا ام ابينا!! فعقّب ساخطا: ومن قال لك انهم يحبوننا انهم لا يطيقون وجودنا.. انهم يسحقون اقداح من يشرب الشاي منّا في مقاهيهم، ولا يستخدمونها ثانية! اجبته: ولكنهم اناس بمنتهى الطيبة والوداعة والسماحة. قال: انتم لا تعرفونهم وبدأ يقّسم على مزاجه.. وفجأة يشاركه الاخر نفس النغمة التي ذهلت بعدها، وعرفت ما لم اكن اعرفه او اترّبى عليه!

 

افتقاد القواسم المشتركة
منذ تلك اللحظة البائسة، بدأت اشعر بأن القواسم المشتركة تكاد تكون مفتقدة بين العراقيين على عكس ما نجده لدى شعوب اخرى.. وقلما يلتقي ابن هذا المكان مع ابن ذاك الاخر باعتباره ابن حقيقي للعراق يبثه نجواه ويشاركه همومه ويسّره اسراره، بل ان العراقيين لا يعطون اسرارهم لأحد، ولكنهم مهرة حين يتدفقون في التّلوك واغتياب الاخرين.. اذ يبدو ان كل جنس يريد احتكار (العظمة) لنفسه، وبالتالي يريد العراق لنفسه وغيره لا يستحق ان يحيا عليه.. ولقد نجح صدام حسين في ان يكون (مثلا) نموذجيا حقيقيا لهذا التصّرف الاخرق عندما قرن نفسه بالعراق وانه هو العراق واذا قال صدام قال العراق واذا عطس صدام مات العراق واذا تأفف صدام اظلم العراق.. بل ووصل الامر ان يغدو صداما احد مصادر الالهام الالهي في انقسام العراق وتفكك العراقيين باستثناء من يواليه، فمن يواليه ويناصره ويهتف له ويرقص في حضرته كان عراقيا ومن سكت حتى، او عارضه او حتى انتقد بعض قراراته وسياساته الهوجاء، نزعت صفة المواطنة عنه وذهب الى بئس المصير..
 وهكذا، غدا المجتمع العراقي وقد تنافرت اعضاؤه وتشظيت بنيته بحيث لم يحتفظ حتى القليل بعلاقاتهم ومصاهراتهم وصداقاتهم التي لا تخل من مرارات واحقاد وكراهية هي الاخرى.. والا هل هناك من يفّسر لي تصنيف صدام حسين للمحافظات العراقية فهذه محافظات بيضاء وتلك محافظات قذرة؟؟ وما ذنب الناس في هذه المحافظات العراقية حتى توصف بالقذرة؟ وما ذنب العراقيين الذين يسكنون في المحافظات البيضاء ويمتهنهم محافظون وقياديون أتى بهم من محافظات قذرة؟ لقد كانت هذه هي الكارثة بعينها، ولكن هناك من يسكت عنها حتى يومنا هذا ولا يفصل بين مصدرها وبين وجودها، اي بين صاحبها وبين واقعها! نعم انه باق على النهج الذي اتبعه صدام نفسه حتى يومنا هذا. كان على البعثيين من العراقيين ان يقولوا: لا لصدام.. ومطلوب منهم ان ارادوا العراق ان يعلنوا براءتهم من كل ذاك التوحش وكل تلك السياسات.. ربما اجد العذر لأي عربي في ان يدافع عن سيد الطغاة وتوحشاته كونهم جعلوه رمزا لكل التاريخ الكاذب الذي تمتلئ اعماقه بالدماء القانية.. ولكنني لا اعذر اي عراقي ابدا ان لم يعلن براءته من التوحش وسفاهة الجلادين في عهد الطغاة المجانين! ان اعلانا كهذا سوف لن يجعل صاحبه من انصار النظام الجديد، بل لحاجة ينتظرها العراقيون منذ وقت طويل.

 

الافتراق: سبيل للعودة
 كنت استغرب واشمئز عند كل من يستخدم التسميات الطائفية في تحديد الهوية العراقية، وبتنا اليوم ضمن افرازات اخشى القول انني ما زلت اعتبرها تافهة.. فأنا اعتز بما هو اثمن ولكن الواقع المرير في العراق قد فرض على الجميع في زمن تعيس كهذا في القرن الواحد والعشرين ان يؤسسوا لهذا " النهج " الانقسامي ، وبقدر ما الوم من يصّنف نفسه " طائفيا " ويدخل العملية السياسية والمؤسسية على هذا التقدير البليد وعلى هذا " التصنيف " المثير للقرف، فانني الوم كل من يسعى الى التخندق وراء متاريس التمذهب وتحويل الدين الى " سياسة" وكم مشوا في طريق لم يدركوا الاشواك فيه مذ اسسوا لهم مؤسسات فهذا خلق لهم " بيتا " فرد عليه الاخر بـ " هيئة "، وكأن احدهم يقول للاخر: هذا حدنا وياكم!.. ربما كان من تقاليد الشيعة القديمة عموما اعتبار المرجعية المتجدّدة التي تعاصر كل جيل من اجيالهم فيعتبرونها سندا لهم في الحياة، فهذا أمر يميز اهل الشيعة في كل العالم على عكس اهل السنة والجماعة الذين لا مرجعية معاصرة لهم ابدا، ولا حتى مرجعية تاريخية موحدة لهم فمنهم: الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية ازاء توّحد الشيعة الامامية الجعفرية الاثني عشرية، ولم يحصل ان انقسم الشيعة على انفسهم الا مؤخرا عندما تم تصنيف مرجعية الاصل العربية في النجف الاشرف ومرجعية الفرع في قم الايرانية.. ولكن الانخراط في الاحزاب السياسية الليبرالية والراديكالية، الوطنية والقومية والاممية في القرن العشرين لم تكن مقتصرة على طائفة دون اخرى.. ان الفجيعة ان تسيطر الاحزاب والهيئات الدينية من هذه الطائفة او تلك لتلغي ليس الادوار المعاصرة، بل لتلغي التاريخ بمجمله وتزيّفه وكأن ليس هناك اي شهود اثبات او اي وثائق دامغة.. لقد ذهلت وانا اسمع حتى التقدميين العراقيين عندما اخذ يعزف المعزوفة نفسها ويردد الاقاويل نفسها التي يشيعها الانقساميون ويطلق الاحكام الجاهزة على هذه الملة وهذه المدينة وهذه المنطقة.. من دون اي شعور بالذنب.. فاذا كانت تكريت – مثلا – قد انتمى اليها صدام حسين، فهل كل التكارتة اصبحوا باناس لا وجود عراقي لهم؟ واذا كانت مدينة (الثورة) قد تّسمت بمدينة الصدر، فهل كل ابناء المدينة اصبحوا في عداد المتمردين؟ واذا كانت الموصل فيها مشكلات قومية واجتماعية، فهل معنى ذلك ان نلغي الملايين من هذا الاقليم او ذاك؟ ان الحسبة الوطنية ليست هكذا، وان الحسبة العشائرية ليست هكذا.. وان الحسبة الاجتماعية والسياسية ايضا ليست هكذا.. انها حسبة سايكلوجية كانت وانها انما تغذيها نوازع شريرة لا تمّت للقيم العراقية الاصيلة بصلة.

 

تساؤلات هل نجيب عليها؟
 انني أسأل من باب اعادة بناء الروح العراقية المتوثبّة والمتجددة دوما: هل لنا ان نستعيد اقوال الامام علي (كرم الله وجهه) عندما وصف العراق والعراقيين؟ هل لنا ان نمتلك قدرا من الجرأة والصراحة لنتكلم ان سمحت بذلك قوة ثقافتنا عن مثالبنا واخطائنا نحن العراقيين قبل ان نسبح بحمد بعضنا بعضنا؟ هل يمكن القضاء على الدناءة ليغدو كل صاحب منصب مترفّعا عن المال ويكتفي براتب بسيط؟ فهل جاء لخدمة العراق والعراقيين ام جاء يلهث وراء المال؟ هل يمكن القضاء على الشقاق في العهد والوفاء للمبادىء؟ هل يمكن استئصال حالات طاغية من النفاق، بحيث يغدو الناس بطبيعة واحدة لا يحملون اكثر من دين؟ هل يمكنكم ان تجعلوا مياهكم عذبة بعد ان بقيت دهورا طوال مالحة زعاقا اجاجا؟؟ هل يمكنكم التخلص من احتكار كل من يقيم بين ظهرانيكم وتطلقوا ارتهاناكم له؟ هل يمكن لكل الاطراف ان تفتح صفحة جديدة لها نقاوتها في التاريخ؟ هل وصل بنا الامر ان لا نستمع لبعضنا البعض سرا وعلانية.. بمكاشفات بريئة ولكننا نسمع لهذه الدولة او تلك القوى؟ هل كان الارهاب سيجد منفذا له على ارض العراق – كما ارادوا له ان يكون – لولا وجود الارضية الصالحة كي يعشش عليها، وينمو ويكبر فيها؟ هل عرف العراق الحروب الاهلية حتى يدفع العراقيون به الى اتونها وكل طرف ينفي كذبا وبهتانا عن نفسه ذلك الدفع؟
 لقد عاش لبنان على امتداد قرون طوال جملة من الحروب الاهلية بحكم محاصصاته الطائفية والقبلية، ولكن العراق لم يعش ذلك ابدا ولم اقف على اي حرب أهلية، ربما كانت هناك نزاعات عشائرية او خصومات محلية.. اما الحرب الاهلية، فلم يعرفها العراقيون ابدا، فلماذا تذكون النار اليوم تحت الرماد؟ مطلوب من كل الاجناس العراقية احترام بعضها البعض، ومطلوب من كل من يتّهم ان يعلن براءته للاخر، ومطلوب من كل المتصلبين والمتطرفين والمتعصبين ان يمارسوا المرونة ولو لمرة واحدة! ومطلوب من كل المثقفين العراقيين ان يتوقفوا عن نحر العراقيين بكتاباتهم الفجة التي تشيع الكراهية والاحقاد تحت عناوين التحليلات السياسية (وكل يحتكر العراق لنفسه)! عليهم ان يلتفتوا الى المشاركة في اصلاح المجتمع وتربية الاجيال والقطيعة التامة مع الماضي الصعب! على العراقيين ان يتبادلوا اجمل عباراتهم في ما بينهم التي الفوها منذ عهد قديم وهم وحدهم الذين تميّزوا بها عن غيرهم في هذا الوجود.. ان كلمات (عيني) و (اغاتي) و (جبدي) و (رويحتي) و (حبي) و (يا بعد روحي) و (اروحلك فدوة) و (حبيبي)... الخ لابد ان تكون حقيقية نابعة من القلب بدل ان تموت في ساحة شنيعة من الكراهية والاحقاد وبلايا الانقسام! علينا ان نحافظ على كل الاجناس والاطياف العراقية القديمة بكل ما تحفل به من عادات وتقاليد وقيم ومعان بعيدا عن كل السفاهات والشناعات والاقصاءات واطلاق الاحكام الجاهزة والسريعة.. علينا ان لا نتنكر للعروبة ومواريثها الحضارية، فالعروبة التاريخية شيئ والايديولوجية القومية شيئ آخر.. على العراقيين ان يستعيدوا مشروعهم الحضاري في هذا الوجود اذ كان لهم دور اساسي في الحضارة العربية.. وعلى العراقيين ان يكونوا امناء في نقل الحقائق التاريخية لا ان يعمدوا الى تشويهها! على العراقيين ان يضعوا مفاتيح قوية على افواههم، فالكلام الجارح والمطلقات على عواهنها والاحكام المسبقة والافتراءات البلهاء التي لا حقيقة لها.. هي التي ستقود العراقيين الى ان ينهوا أنفسهم بأنفسهم! انني اعتقد بأن اصلاح المجتمع برمته لابد ان يكون في اجندة كل العراقيين الوعاة والوطنيين والبناة الحقيقيين لا الجهلاء المتوحشين، وان يكون متوازيا مع اعادة بناء الدولة.. فلا يمكن ان يبدأ العراق الجديد مشروعه التاريخي والحضاري من دون اي منهاج لاصلاح المجتمع من كل الادران التي علقت به.. فهل سيحدث ذلك؟ من دون تشاؤم، ان ذلك سيستغرق وقتا طويلا ان بقي العراق حيا لا يموت على ايدي ابنائه – لا سمح الله –، أو يغدو قرية تغرقها المياه – على حد ما قاله الامام علي كرم الله وجهه - وعند ذاك سيصفق كل خصوم العراق وسوف يرقصون.. فهل يعي اخوتي من العراقيين ما اقول؟

 

259
سعداء أنتم حقاً بمصارع العراقيين !
 تعقيباً على نقدات جهاد الزين 
[/b]




سيّار الجميل

لقد كانت مقالة الاخ جهاد الزين "مذعورون في بيروت سعداء "في" بغداد" المنشورة في"قضايا النهار" يوم السبت 25 حزيران 2005 مثيرة للتفكير والمشاعر معا. فالرجل قد أثار مسألة اخلاقية لابد من ايلائها اهمية ليس من اجل ما يحدث اليوم من مصارع للعراقيين، بل انما هو يدق اجراسا على ابواب العرب دولا ونخبا ومجتمعات غدت لا تعرف اين هي اليوم في خضم من الضعف الكسيح والذي ساهم في تفاقم اهترائه جملة من جماعات ونخب اولئك الذين يدعون انفسهم بالمثقفين والمفكرين الذين لم يكتفوا بفقد صدقيتهم فحسب، بل انهم باتوا يعيشون اليوم بلا صدقية وبلا اخلاق وهم يسعدون بمرأى ما يشاهدونه على شاشات الفضائيات من قتل وارهاب للعراقيين بالجملة من دون ان يرفّ لهم طرف او حاجب وبعد مرور اكثر من سنتين وحتى يومنا هذا! انني واثق بأنهم يدركون حجم الخطر الذي بدأ يزحف ذات الشمال وذات اليمين، ولكنهم صمّ بكم عمي عن اخطر ظاهرة مميتة تجتاح العراق وستنتقل الى كل بلدانهم العربية – لا سمح الله!!

يقول الاخ جهاد الزين: "من يرصد ادبيات معظم الاوساط الثقافية العربية حيال ما يجري في العراق منذ الاحتلال الاميركي – البريطاني له يكاد يظن انه لا وجود للمدنيين في هذا البلد الذي يبلغ تعداد سكانه ما يتجاوز الـ25 مليون نسمة... الا في حالة واحدة هي عندما يكون هناك نشاط عسكري ما لقوات الاحتلال في احدى القرى او المدن. اما الصمت حيال عمليات التفجير العشوائي ضد المدنيين العراقيين، وجزئيا ضد الشرطة العراقية، فهو صمت شبه مطبق. لقد تمادت هذه العمليات ضد المدنيين الى حد اصبحت عبارة عن مذبحة بل مذابح يومية ترتكبها "المقاومة" العراقية ولم يصدر موقف جدي من اي مثقف او مجموعة ثقافية او حزبية او ناشطة في اي عاصمة عربية تقريبا ضد هذه الممارسات الوحشية ضد المدنيين العراقيين سوى باستثناءات قليلة فيما تنصرف معظم الاصوات الى التفرغ لادانة... الاحتلال. كل شيء هو الاحتلال، ولم يثر الوضع العراقي بتعقيداته الكثيرة والنوعية اي نقاش فعلي في المنتديات الثقافية – السياسية العربية حتى بالحد الادنى على غرار النقاش المتعلق بالمدنيين الاسرائيليين رغم كل المناشدات التي اطلقها مثقفون وناشطون عراقيون لكي يعيد زملاؤهم العرب امكانية ردم الهوة النفسية – السياسية التي ارتسمت بين المزاج العام للشعب العراقي ومعظم نخبه وبين الوضع العربي بسبب اصبح معروفا هو وقوف الاتجاه العام للنخب العربية مع... صدام حسين او على الاقل الصمت عن ممارسات نظام حكم صدام حسين... عبثا وبعد اكثر من سنتين يجري انتظار... حصول هذا السجال الضروري الذي يتمثل في السؤال: اين هو الخط الفاصل بين مقاومة الاحتلال الاميركي وبين اذية المدنيين، بل حتى العراقيين عموما خلال المقاومة او باسمها؟".

نعم، صدقت يا صديقي جهاد في كل الذي قلته بحقنا نحن العراقيين. لقد ذكّرني مقالك بكتاب درسناه منذ أمد بعيد عنوانه "مقاتل الطالبيين" فكم وجدت من اشباه نظائر العرب بين الامس واليوم ازاء العراق والعراقيين! نعم صدقت في كل تساؤلاتك التي لا يستطيع أحد من الاخوة العرب ان يجد لي اي مبررات واهية يحمي بها نفسه ويغطي بها على هذا الانحدار الذي اقل ما يقال عنه انه بعيد جدا عن معاني الانسانية والضمير والوفاء والنصرة. صيحاتنا التي اطلقناها منذ سنتين لم تنفع العرب ابدا. أولئك الذين لم يجدوا في العراق الا صدام حسين والاحتلال الاميركي وليكن من بعدهما الطوفان. منذ سقوط الطاغية الجلاد والامة العربية المجيدة تأكل نفسها بنفسها على ذكراه الكريهة من دون ان يلتفت اليها احد، ومن دون ان يفكّر العرب بهول ما يحدث في العراق. علما بأنهم كانوا يصفقون للبطل القومي الذي سيواجه اميركا ويدحرها! ولا ادري اين هي تلك المشاعر القومية الاخوية التي ذبحنا حناجرنا من اجلها من الخليج الثائر حتى المحيط الهادر ومنذ خمسين سنة ؟ ولا ادري اين هو الضمير العربي الذي يعبر عنه عشرات بل مئات من الكتاب والمفكرين وهم يصفون انفسهم بالعرب والمسلمين ؟

انهم يرون ويسمعون مقتل العشرات من العراقيين يوميا في اوسخ حرب ارهابية ضدهم وباساليب بشعة من قطع للرؤوس الى تفخيخ للسيارات الى تفجير للعبوات الناسفة الى رمي الصواريخ عشوائيا. الى تناثر اللحم البشري لنسوة ورجال واطفال في الشوارع والمساكن والمحلات العامة ودور العبادة. لقد سكتوا على كل جرائم الطاغية في الامس سكوتا يثير الم كل العراقيين الشرفاء واليوم يسكتون سكوتا مخزيا يثير كل التساؤلات. اين اقلامكم وضمائركم ايها المتفلسفون والمحاضرون والمهاترون والمفكرون والمحللون الاستراتيجيون في مؤتمراتكم القومية وتجمعاتكم الدينية وصحفكم اليومية بالعربية ؟ اين مشاعركم العروبية المرهفة وانتم ترون وتسمعون على شاشات الفضائيات، مأساة شعب اصيل قدّم للامة العربية المجيدة الغالي والرخيص على امتداد قرن كامل ؟ اين السنتكم الطويلة وانتم لا تعرفون الا السباب والشتائم والكلام الرخيص ؟ الناس تنقاد مع آرائكم والجماهير العربية باتت لا يعنيها من امر العراق شيئا الا الاحتلال وكأن الابرياء الذين يقتلون كل يوم من دون ذنب هم من الحشرات او الهوام! سعدء انتم بمقتل العراقيين سواء كانوا مدنيين ام عسكريين ؟ سواء كانوا من الاطفال والنسوة والرجال ؟ سعداء انتم في الذي يجري في العراق ؟ لم تنفع الكلمات معكم ابدا ابدا، فلقد التقيت بمثقفين عرب مشهورين وهم يشمتون كيف تمزق دوميللو وباقر الحكيم وغيرهما اربا اربا!!

سعداء انتم بهذه المذابح الهمجية وانتم تتفرجون على مأساة اللحم البشري العراقي وهو يتشظى في الشوارع. ولا تعلمون بأن الارهاب زاحف عليكم عاجلا ام آجلا! ولا تدركون كم انتم اصحاب افق ضيق منذ عرفتم التصفيق والتهريج وترديد الشعارات والرقص في الشوارع لكل الطغاة والجبابرة! ولا تفهمون كم انتم ضعفاء حتى في اخلاقياتكم وتعاملاتكم. ولم ينفعكم كبريائكم فانتم طبول جوفاء. وسيحاصركم الارهاب حتى وان كنتم في بروج مشيّدة! متى فكرتم بحقوق الانسان؟ متى كنتم مع الحق يوما ؟ متى صدقتم حتى مع انفسكم ؟ لقد كنا نعيش خيالا سقيما ووهما بليدا في القرن العشرين. فكل شيئ كان يصبغه الزيف حتى النخاع! لقد أرتضيتم ان تكونوا ايها المثقفون العرب - الا من سلم منكم - من تعساء هذا التاريخ الذي ملأتموه عفونة وجيفا وقيحا وانتم تصفقون للجلادين عهدا وتسعدون بالارهابيين عهدا آخر! كم شوهتم سجل تاريخكم بمواقفكم الباردة الخاوية التي تثير الاشمئزاز! لقد كنتم وما زلتم تسكتون عن الحق ايها الشياطين الخرس. حقا انكم تذعرون في بيروت من موجة اغتيال بعض شخصيات وقادة ومثقفين، وحقا انكم تدينون قتل المدنيين الابرياء في اسرائيل – وحسنا فعلتم - ولكنكم سعداء بما يحدث في بغداد وكل بقعة من أرض العراق.

انني اعجب حقا كم صدّرتم من قصائد واناشيد واغنيات عن بغداد بلد الرشيد وابطال بغداد وثوار بغداد ايام الهوس القومي. وبقيتم تذبحون حناجركم وتقيمون الدنيا ولا تقعدوها. اما اليوم، فلقد نسيتموها ونسيتم شوارعها وخمائلها وقصورها وموائدها ولياليها. ولم يعد يهمكم من أمر شعب العراق شيئا وهو يقتل ويفجر ويذبح على ايدي اعتى الارهابيين الذين تسكتون عما يفعلونه سكوتا غير مبرر. وتصمتون على كل الجرائم، بل وتتلذذ قنواتكم الفضائية على السنة مذيعيكم ومذيعاتكم بكل المذابح ضد العراقيين. انكم تساهمون في اوسخ جريمة يرتكبها وحوش هذا العصر وانتم من ورائهم لا تقولون حتى كلمة سواء بحق السماء. انه ليس النضج الثقافي التحديثي العربي الذي يقف عند حدود المسألة القومية ويبقى بعيدا عن اسوار العراق – كما وصفته صديقي جهاد -، بل انه التعاسة والجحود والغدر والشماتة عندما يصل الامر الى ان يطبق الصمت اطباقا على عقول المثقفين والكتبة الدجالين وهم ينعمون بمشاعرهم الميتة. لقد سمعنا تهريجا وكلاما كثيرا عن الاحتلال من دون ان نسمع من يدين الارهاب، فكما تدين هذا مطلوب منك ان تدين ذاك، مطلوب منك ان توجد نقيض النقيض لا ان تلعب ضد هذا وتسكت ضد ذاك! مطلوب منك ان تدين كل من يقف وراء هذا الارهاب المنّظم، لا ان تقف مع اعوان الجلاد. الدنيا كلها ترصد كل شيئ يتحرك بالضد، والعرب ينتظرون قتل بعضهم بعضا. ولقد نجح العرب نجاحا باهرا في لعبة التفخيخ القاتلة. مفكرون ومشايخ اسلاميون يباركون مشروع القتل علانية على شاشات التلفزيون من دون اي حياء ولا اي اخلاق ولا اي دين!

وأخيرا اردد ما سجله الاخ جهاد عندما قال: "ان الصمت عن المذابح ضد المدنيين العراقيين هو تعبير بدوره عن تخلف الدور الطليعي السابق الذي اعتدنا عليه للنخب المصرية في الثقافة السياسية العربية منذ اواخر القرن التاسع عشر. ولربما هي المرة الاولى في تاريخ مصر الحديث التي لا نشهد فيها مبادرات من مثقفين وناشطين مصريين من اي نوع كانت حيال نزاع خطير يدور في احد اهم البلدان في العالم العربي وهو العراق منذ سقوط نظام صدام حسين. فحتى تاريخ هذا السقوط كانت النخب المصرية – واعني تحديدا غير الرسمية – تتجه باعداد كبيرة وديناميكية لما سمي يومها "التضامن مع العراق ضد الحصار الاميركي". حسنا... اين الاختلافات الحيوية بين المثقفين المصريين حول الوضع العراقي مثلما حصل سابقا ولا زال يحصل حيال اسرائيل...".

دعوني اتوقف ها هنا، اذ ان لي وقفة أخرى حول هذا "الموضوع"... عسى اجد بارقة او شاردة باستثناء اصوات شريفة تنطق عن ضمائر حية وهي لا تعرف ان تنتقل على كل الموائد... فالمشكلة اكبر من اي مقال يكتب!

 

مؤرخ عراقي

صفحات: [1]