عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - شمعون كوسا

صفحات: [1]
1
باتت الدنيا ساحة مكرّسة للأشرار
شمعون كوسا

كانت قد راودتني هذه الفكرة منذ زمن طويل ، بعد هذا  احتسبتها قد غادرت جدول المواضيع التي تشغلني وامّحت ، غير انها عادت في هذه الازمنة الاخيرة واحتلت المقام الاول في القائمة واعلنت عن هويتها بأحرف كبيرة.
في كل يوم نرى ، ونسمع،  ونقرأ عن تصرفات ، وتطورات ، ووقائع تؤكد بانه لم يعد مكان في هذه الدنيا للمستقيمين ، والصادقين ، والنزهاء ، والابرياء ، والشرفاء ، والمؤمنين بقوة الحقيقة والعدل . لقد اضحت الدنيا مرتعا لكل من سخّروا ضمائرهم وعقولهم لخدمة أهوائهم ومصالحهم  التي تلجأ ، وبسهولة ، لوسائل شريرة تحقق مآربهم الملتوية ، وسيّان لدى هؤلاء ،  إن كانت سُبلهم ووسائلهم  هذه تضرّ بالغير ، حتى اذا كان هذا الغير صديقا ،  او قريبا ، وحتى أخا او أختا او أمّا او أبا، ولدى جميعنا امثلة على ذلك.
يقوم هؤلاء بارتكاب أبشع الموبقات واشنع الجنايات بدم بارد ، لانهم مُتّكئون على جدار صلب،  و المكلفون بتنفيذ أوامرهم،  يقومون بمهمتهم باطمئنان كبير لان هناك قوة ستحميهم.  وآخرون ، يقومون باقتراف جرمهم معتمدين  على محامين ذائعي الصيت ، معروفين ببراعتهم ، وقوة اقناعهم ،  وخبرتهم  في الالتواء على القانون  . هؤلاء يُنقِذون المجرم الحقيقي ليضعوا محله البريء والفقير المُعدم الذي لا حول له ولا قوة. وقبل هذا وذاك ، انه امرؤُ تَنهيه مَبادؤه عن اللجوء الى هذه الاساليب ، لأنه مؤمن برسوخ تام  بان الحقيقة هي التي سوف تنتصر ، ولكنه يكتشف متأخرا بان هذا الكلام كان صحيحا في أزمنة سابقة ، عندما كان الناس جميعهم يحملون مبادئ ويتحلون بأخلاق حميدة ، ولا يحيدون عن الحقيقة مهما كلفهم الامر .
إمرأة تتعرض لحادث سيارة يقوم بتنفيذه سائق قد باع ذمته لشخصية قوية شريرة ذات سطوة لا تقاوم . لا تموت ضحية الحادث هذا ، غير انها تبقى طريحة الفراش في غيبوبة تستغرق أشهر طويلة. أول خطوة يقوم بها مدبّر الشر هذا ، يوصي أيديَ اثيمةً أخرى بتصفية السائق ، وبعدها يضع أعينَ تتابع حالة الضحية النائمة وتراقب تطورها ، وبالإضافة الى ذلك يُجرى صاحبنا اتصالات بأطبائها ، وبفضل ماله واساليبه الخاصة ، يقنعهم بالعمل لإطالة أمَد غيبوبتها ، واحتياطا لفرضية تحسنها ، يطلب بان يعثروا لها على  لها ادوية تخلق فجوات في ذاكرتها كي لا تتذكر السائق الذي ارتكب الجريمة لحسابه .
بالرغم من كافة المحاولات التي قام بها هذا الشرير الموسر ، استعادت المريضة حالتها واكتشفت الاحابيل وتذكرت تماما المكان التي تعرضت فيها  للحادث ، واتضحت صورة السائق في مخيلتها، سائق تعرفه تماما  وتعرف لحساب من كان يعمل . ذهبت للقضاء  موقنة بانها ذاهبة الى العدالة التي ستأخذ حقها وتعاقب المجرم . تفاجأت ضحيتنا بتلقّي اتصال من الطبيب المعالج  يدعوها للحذر ممّا تقوم به ، قائلا لها ومؤكدا بان  ما تراه حقيقةً في ذهنها حاليا ، قد لا يمثل الواقع ،  لان ذاكرتها تعرضت لخلل جرّاء الادوية الثقيلة التي تناولتها ، وكان تحذير هذا الطبيب إيعازا مدفوع الثمن  من مدبّر العملية  الذي بدوره ارسل هذه التقارير الى المحكمة . ولكي لا اطيل عليكم القصة ، نفذ صاحبنا الشرير من العقاب ، ولم يترك الضحية  بحالها إلى ان افضى بها الى مرحلة  اعتُبِرت فيها فاقدةً لعقلها ، وانتهت  في مصحّ الامراض العقلية .
هؤلاء لديهم من الامكانيات والوسائل الشريرة ما يوقف العقل ، فاذا حدث وأن اقتيد امثال هؤلاء صدفةً الى السجن،  فانهم لا يطيلون المقام هناك ويخرجون في نفس اليوم ، بعد احتساء فنجان قهوة مع رئيس الشرطة او المحقق.   لان لهم من القوة والمال  ما يمكّنهم من شراء القائمين على تنفيذ العدل ، ولهم ايادي  لدى كافة اصحاب القرار.
حادثة بسيطة جدا ، وكأنها حلقة صغيرة من المسلسلات  التي نراها ، والتي فعلا لا تعبّر الا عن الحقيقة المرة التي نعيشها كل يوم . هذا مَثل بسيط  للحالة التي وصلنا اليها في زمننا الحالي ، حيث النفاق والكذب والغش والتزوير اضحت من فضائل هذا الزمن . فالإنسان العادي اذا اراد ان يعيش دون مشاكل ويحمي نفسه ، يجب ان يتحلى بهذه الفضائل  على الاقل ، ويتعلم اساليبها وكيفية استخدامها ، لأنه ليس كل كذب ، مثلا ، قابلا للتصديق .
المتملق والمنافق ناجحان في حياتهما  ،والبريء الفقير المسكين الذي يخجل من هذه التصرفات ، لا يقبل حتى الدفاع عن نفسه ، لأنه يفتقر لهذه الاساليب وحتى اذا اقتناها ، تمنعه تربيته عن استخدامها.
في سابق الازمان ، كان للناس عقائد ، ومبادئ ، وقيم ، يؤمنون بها  ولا يفكرون باتباع طرق ملتوية . كان القدامى يتحلون بأخلاق تدعوهم للعيش بوئام ومحبة وصدق. عندما خفّت هذه المعتقدات ، وتلاشت قليلا فقليلا ، ولم يبقَ للإنسان أية خشية من عقاب غير منظور،  رأى  نفسه قادرا على شراء الناس ، وازالة أية عقبة تعترض تحقيق اهدافه مهما كانت ، لأنه على يقين بانه لم يعد أمامه رادع او خوف. وبهذه الصورة خلت الساحة من الشرفاء والنزهاء لإفساح المجال للمتملقين  والكذابين  والاقوياء الاشرار.
لقد عمّ الشرّ ، ووصل التحايل الى شبكات التواصل الاجتماعي . كم جريمة وعمليات تحايل ، وتشويه سمعة ، وتهديد وابتراز ، تُرتكب عبر الانترنيت ؟
كان الوشاة والحساد والنمامون موجودون منذ البدء ، ولكنهم الان قد استولوا على زمام الحكم . هناك مثلا من  يحسدون الناس على خير أصابهم ،  ويحاولون منع هذا الخير ارضاءً لحسدهم . نفر آخرون يتقربون من اشخاص ابرياء ، يفاتحونهم  بثياب الحملان وهم ذئاب خاطفة .  يستدرجون مخاطبيهم  بالكلام ، وهدفهم هو نقل ما سمعوه الى جهات شريرة ستكافئهم بمال قذر.
 وهل لي ان اذكر من يرتكبون الظلم والاعتداء  والقتل انطلاقا من عقيدتهم .  أليست داعش مثلا حيّا حديثا على ذلك؟ الا يريدون إخضاع العالم كله لأفكارهم ومعتقداتهم ، فإمّا يرضى الناس بذلك او يموتون.
حتى الابرار والقديسين والشهداء ، قُتلوا في سنّ مبكرة لان لم يحيدوا عن الحقيقة ورفضوا الشر ، وكانوا الضحية لأمثال داعش  وجميع هؤلاء أخلوا الساحة للأشرار الذين فرضوا نفسهم  عبر الإرهاب والقوة كي   ويستمتعوا معمّرين  بهذه الحياة ، هم دون غيرهم . أوليس أيضا ، الذين يشعلون الحروب نموذجا آخر على هذا الشر؟ يأتون بأسلحتهم الفتاكة ويفرضون نفسهم على الناس العزّل الذين لا خيار لهم غير الهرب  وترك الساحة.
أوَ لا تشهد دنيانا الان ساحةً احتلّها الاشرار ؟!!
 


 

2
المنبر الحر / ماذا علمتني الحياة
« في: 15:08 03/12/2023  »
ماذا علمتني الحياة
شمعون كوسا

من الضرورة ان يجلس المرء بين الحين والاخر ليختلي مع نفسه ، ويستعرض شريط ّحياته في كافة مراحلها ، أو على الاقل جزء مهم منها ، الايجابية منها والسلبية ، ايام حزن  وساعات فرح . فرص نجاح ،  تجارب فاشلة ،  حالات يأس شديد ، وأيضا اوقات نهوض مفاجئ بتأثير ومضة داخلية ،  ومراحل اخرى يمكن أن نُدخِلَها تحت خيمة الظروف الصعبة . يكون الاختلاء بمثابة فحص ضمير عميق ، يرمي الخروج ببعض القناعات والعبر ، لان كلّ حدث او تجربة ، بالرغم من تماثلها احيانا ، تكون لها ردود فعل مغايرة ،  وعندما تتضح الصورة لدى بطل الفلم ، يسطـّر خلاصة مشاهداته ، بغية الانتفاع منها في ما تبقّى من مسيرة حياته .
لقد بلغتُ مرحلة متقدمة من العمر ، مرحلةً حملتْ  في ثناياها السميكة ما يكفي لسرد ما اقتنعت به وما لم اقتنع .لقد مررت بالكثير من الظروف والحالات  النفسية  ، وجلّها كان صعبا ، إذا لم تكن ترهقني  جسديا ، كانت تنهكني نفسيا ، بحيث في الوقت الذي كان الجسم يقوم بواجباته الحياتية اليومية بصورة عفوية طبيعية ، كان البال يبقى دائم الانشغال ، في طحن أفكار سوداء ، فيضرب الاخماس بالأسداس في حلقة تدور عبثا ، لأنها لا تهتدي الى مخرج.
ففي شريط حياتي الذي استعرضتُ فيه تقلبات حياتي ، توصلت الى ما يلي :
 أبدأ بسرد حكمة شمولية أومن بها وهي : باطل الاباطيل وكل شيء باطل . انها حقيقة غير قابلة للتفاوض . انها حقيقة نلمسها يوميا ، فالثروة الباهظة تبخرت وزالت مع صاحبها. اختفت  الامجاد ، زال الجمال ، كما انتهت السعادة . ومصير الزوال هذا يطال الفقر أيضا ، وحتى الاحزان والالام  تدخل عالم النسيان   وهذا أيضا مصير الشقاء والندم . مخلص الكلام،  ان حياة الانسان بكل ما تحويه زائلة ، وهكذا كان الامر منذ الازل.
من جهة اخرى ، أنا اعتبر هذا عزاءً لكل من لم يحالفه الحظ  ، لأنه يتساوى مع من حالفه الحظ .  وهذه الحكمة هي درس لمن لم تغدر بهم الاقدار وعاشوا في بحبوحة ، هو ألاّ يُعوّلوا كثيرا على ما هم عليه ، بكل بساطة  لأنه زائل . كان الزوالُ مصيرَ الملوك والسلاطين وممتلكاتهم . فالمال موضوع لاستخدامه طبعا  دون التعلق به ، لان ما يملكه الانسان ليس مُلكَه لأنه زائل .
بعد هذه المقدمة المُملة والتي تبدو متشائمة بعض الشىء ، أقول: في مراحل حياتي، رأيت بان أعقدَ المصاعب التي مررت بها ،وجدتْ لنفسها حلاّ ومخرجا . لقد عشتُ شخصيا اوقاتا عصيبة وحالات اعتبرتها يائسة ، ولكن مع مرور الزمن كانت العقدة قد انحلت وزالت وعادت الامور الى مسارها الطبيعي . يُقال بانه من المهم ، ألاّ نسبق وتيرة الموسيقى ، وألاّ نعبر الجسر قبل ان تصله .
وجدتُ بانّ احدى الوسائل الناجعة  للتخلص من فكرة مزعجة ، هو الانتقال الى فكرة اخرى مغايرة ، حتى اذا كانت الفكرة الثانية  بدورها مزعجة ، فإنها تساهم في إراحة الفكر ولو لحين . 
انا مع المبدأ القائل : الحياة هي حركة دائمة، أو كما يقال في الحركة بركة . واعني هنا بان الحياة لا يجب ان تتوقف عند عقبة او مشكلة او فشل معين . يجب النهوض والاستمرار ، والتطلع الى امام ، لان الحياة مستمرة ولا تتوقف. فاذا توقفتُ أنا ، سأكون أنا المتخلّف، لان الحياة سائرة في دربها وتقدمها . إرادة الاستمرار يمكن ان نستمدها  من خلال رفع انظارنا الى الأعالي نحو  هدف بعيد جميل ، يبعث فينا الامل ويساعدنا  على  المواصلة .   
رأيتُ بان الخوف يتغلغل في أغلب دقائق حياتنا ، ولهذا نقول دوما : اخاف من الشيء الفلاني ، اخشى ألاّ يتحقق الهدف ، اخشى مِن ألاّ يفهموني ، اخشى من كلام الناس ، أخشى ألاّ انجح ، اخشى استهزاءَهم  بي ، واخشى ، واخشى . غدا هذا الفعل وكأنه عبارة لا بدّ منها لتكوين كافة جُمَلنا.  هناك حالات يتفاقم الخوف ويشلّ فكرنا بحيث نرى نفسنا أمام حائط عالٍ . في هذه الحالات علينا  اللجوء  فكريا ، الى مبدأ القبول بأسوء الاحتمالات في ما نخشاه ، وهذا من شأنه ان يُزيل قلقنا ، ويُعيدنا الى صوابنا .
علمتني الحياة بانه من الصعب جدا العثور على صديق حقيقي . لان  الصديق الصدوق يجب ان يكون أولا شخصا  فاضلا ، أعني ان قد زرعت فيه الطبيعة الحبّ الحقيقي ، والاخلاص ، والتفاني ، ونكران الذات ، والتجرد . فالصديق شخص يراعي صديقه، ويحترمه. لا يكذب عليه، ولا يحسده ولا يتشفّى به. والصفة الثانية للصديق هو أنه يجب ان يكون رقيقَ المشاعر ، مرهفَ الاحساس ، وراقيا في أخلاقه. ولأجله يُقال بان الصديق الحقيقي معدن تصهره المِحَن .
مع تقدّم الايام علمتني الحياة بأنّ أسوء قرار هو الذي يُتّخذ في ساعة الغضب لأنه لا يمكنه أن يأتي صائبا أبداً ، بل كارثيا أحيانا . وفي موضوع آخر، تيقّنت بان الصبر من شأنه معالجة أعقد الامور . لَم يقلِ القدماءُ هباءً بأنّ الصبرَ مفتاحُ الفرج. هذه كلمات لم نُعر لها اهتماما في حينها ، ولكنها أثبتت فعلا بانها الحقيقة بالذات.
الثقافة والعلوم واللغات تُدخل الانسان الى عالم جديد، وتوسع آفاق تفكيره. لقد وجدت هذا في الفرنسية ، من خلال لغتها ، وحضارتها وكُتّابها ومفكريها.
إذا جابه الانسان  مشكلة أتعبته كثيرا ، تنطبع  في ذهنه صورة قاتمة مشوهة ، تقفز امامه في كل مناسبة مماثلة . يجب القول هنا بأنّ المشاكل وإن تشابهت ، فهي مختلفة ، لذا يجب محو الصورة الاولى المشوهة ، ونسيانها تماما لان لكل حالة ظروفها الجديدة.
وفي النهاية، لا أقوى المغادرة دون ذكر موضوع يهمني كثيراً، وهو سماع الموسيقى.  الالحان  والاصوات الجميلة تطربني ،  لحدّ إني تمنيت كثيرا ومن اعماقي ، بعينين مغمضتين ، بان تكون الازلية الموعودة ،عالما تسوده الألحان الرائعة  والأصوات الفائقة في جمالها وعذوبتها ، ترقى وتتجدد وتتواصل ، لأنها أزلية مبدئيا. فالموسيقى فعلا ترفع النفس وتبعدها عن الهموم.
هناك الكثير ممّا يجب أن يُقال ، ولكن في خلوتي لهذا اليوم ،أكتفي بهذا الحصاد . لستُ هنا  بصدد اعطاء دروس لغيري ،لأني أنا بحاجة للدروس .  ومن جهة أخرى أقول، إن ما كتبته لا يأتي بجديد، لأنه قد قيل قبلي ، بغزارة وبصيغ بديعة ، هنا سطرت بكلام فقير عاديّ جدا ما عشته أنا ،أعني ما تأثرت به وأقنعني .
 

3
من ذكريات مار يوحنا الحبيب -8

شمعون كوسا

بعد رشف سريع لفنجان قهوة، هرع الراوي لمتابعة حديثه ، الذي كانت قد انقطعت خيوطه .  بعد الدخول في اجواء آخر فقرة  من قصته ، استأنف  الراوي قائلا  :

في صباح احد الايام، سنة 1966 ، أنا وزميلي يوحنا عبد الاحد شير (الشهيد لاحقا) الذي كان يصغرني بسنتين ، تفاجأنا  بالقس اسطيفان زكريا ، وهو يطلب منّا ان نتهيّأ للتوجه معه الى دائرة أمن الموصل لمقابلة وصفها ببسيطة. إعترانا  الخوف لأول وهلة، ولكننا لبّينا الطلب  لأنه  لم يكن لنا خيار آخر ، ومن جهة اخرى قلنا باننا  برفقة مدير المعهد المحلي ، وتحت حماية السمنير فلا خوف علينا . بعد انتظار طويل في المديرية، استُدعينا على انفراد. كان من استجوبني أنا ، شخصا مؤدبا ، ولكنه لم يحذف  أي سؤال من اللائحة الطويلة التي كانت قد تدلت الى اسفل قدميه . شملت اسئلتُه  معلوماتٍ عنّي شخصيا ، وعن اهلي ، الوالدين والإخوة والأخوات . عن الاقرباء المقربين من أعمام وعمات واخوال وخالات واولادهم، وطالت ايضا عددا من الاصدقاء .

بعد هذا ، خاض في الموضوع الرئيسي الذي استُدعينا من اجله ، أي السفرة التي قمنا بها الى منطقتي ناوبردان والحاج عمران  سنة 1966. كان السفر الى الشمال مفتوحا آنذاك بالرغم من بقاء الحركة الكردية قائمة بكافة احزابها وفصائلها التي كانت رابضة في مواقعها، في خليفان وناو بردان وحاج عمران. أدليتُ بكل ما لديّ من معلومات عن كلّ من كنّا قد التقينا بهم ، لاننا التقينا بالكثير من المعارف ، ومن بينهم في النهاية ، القس بولس بيدارو ، وهو في زيّ البيشمركه ، هذا الكاهن الذي ، ساخطا على تصرف الكنيسة معه ، ومجاراةً  لطبعه الثائر وطبيعته الثورية ، كان قد التحق بالحركة الكردية ، وهناك كان قد احتل مركزا مرموقا في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، يتناسب ومكانته وقابلياته الفكرية .

كان رافقنا في هذه السفرة القس فرنسيس وبعض الكهنة الاخرين المتواجدين في الصيف .اعتقد بان اخي يوحنا عبد الاحد خضع لنفس الاستجواب الطويل. بعد هذا الامتحان عدنا مطمئنَّين الى قواعدنا . وانتهت فقرة دائرة الامن.

لقد امضيتُ مع زميلي ، بطرس موشى وحنا بيوس شيخو  وهما زميلا صفي ، امضيت معهما شهرين في دهوك .كان ذلك في صيف 1967 حيث كلفَنا المدير ، ابونا يوسف اومى ، بمهمة مرافقة الميتم ، الذ ي كانت تديره الراهبات الكاترينيات ، لقضاء عطلتهم الصيفية هناك . كنا نسكن المدرسة المجاورة للكنيسة ، وكنا على تواصل مع القس فرنسيس أليشوران ، خوري الرعية الذي كان يساعدنا ويلبي بعض طلباتنا الملحّة. كانت فترة مفيدة اتاحت لنا الخروج مع اطفال الميتم في سفرات ونزهات ، حيث نشاركهم العابهم وفعالياتهم ، وكانت الراهبات يُؤمِنّ لنا الخدمات المنزلية اليومية .

تعرفتُ هناك على القس اوغسطين ، من اهالي دهوك . الذي كنت قد سمعت عنه. باعتقادي كان قد أمضى مدة في لبنان في فترة علاج طويلة. أُعجِبتُ ببساتين دهوك وفاكهتها التي كانت تتميز بالغزارة والجودة. لقد قمنا بسفرات الى القرى المجاورة . كنا ننام فوق السطوح ، ونصحو كل يوم على صوت بائع الصمون الذي ينادي بصوت عال باللغة الكردية : (يلاّ سمّون ، حفتي بدرهمكي) أي ،  هوذا الصمون ، السبعة بدرهم .

في مرحلة الفلسفة ، اعني بعد امضاء ست سنوات من حياتي في المعهد ، كنتُ ارافق ميخائيل باكوس من قره قوش الذي كان يسبقني باربع سنوات ، في زيارات الى عوائل مسيحية في الموصل الجديدة ، ومدينة المنصور التي كانت تعرف بوادي حجر . جرت العادة في السمنير على ان تتّجه بعد ظهر أيام الآحاد ، فرق مؤلفة من تلميذين في مرحلتي اللاهوت والفلسفة ، لزيارة هذه العوائل .

كانت هذه اول تجربة لي للالتقاء بالعوائل والتحدث اليهم ، والاصغاء الى مشاكلهم . كان لكل فريق منطقته وعوائله ، في الموصل الجديدة او  معمل النسيج . كان من بين من نزورهم ، عوائل غنية واخرى متواضعة من نفس مدينة الموصل او نازحين من تلكيف ،  وقره قوش ، وبرطلة وغيرها من القرى المجاورة . أغلب عوائلنا كانت من الطبقة العاملة . عندما كنا ندخل الى بيوتهم الصغيرة  تتصاعد الى خياشيمنا رائحة مدفأة علاء الدين . بيوت تتكون من غرفة او غرفتين لإيواء عائلة كبيرة . كنا نصادف الرجل نائما ، والزوجةَ منشغلةً بالأطفال ، غير انهم  كانوا يرحبون بنا ، كيف لا وهم مؤمنون بسطاء يفرحون بقدوم طلاب السمنير الى بيوتهم. كنا نصادف احيانا وجوها عابسة يستقبلونا على مضض وجلّ همّهم ان لا نُطيل الزيارة ، ولاجله  كان وداعهم خاليا  من عبرات مجاملة ، خشية أن نصدّقهم ونعود اليهم  بصورة متواترة !!!

اتذكر باننا عانينا الكثير في شرح موضوع تبرئة اليهود لهؤلاء الناس . تبرئة اليهود وثيقة  كان قد اصدرها المجمع الفاتيكاني الثاني في منتصف الستينات ، ويقول فيها بان لا علاقة لليهود الحاليين بما فعله اجدادهم في حينه في موضوع صلب المسيح . كان الناس لا يفهمون هذا وكأنهم يرون الكنيسةَ تُنكر صلب المسيح من قبل اليهود . كانت المعارضة شديدة لهذا الموضوع حتى من قبل المسلمين ، الذين اصلا لا يعترفون بصلب المسيح ، ولكن الموضوع يخص اليهود !!

كان ميخائيل باكوس يسبقني في المعهد بأربع سنوات . كان تلميذا تقيا وذا صوت رخيم. انتهي فيما بعدُ  مطرانا في لبنان وكان يحمل اسم ميخائيل جميل ، وهو الان في ذمة الخلود . من بين زملاء صفه ، أذكر : حنا زيا مرخو من مانكيش وقد اصبح مطرانا لأربيل وتوفي في عمان . بولص جنتو وهو ايضا من مانكيش ويخدم منذ سنوات في سويسرا . دافيد ديراني الذي اصبح كاهنا تحت اسم القس لويس الديراني . باسيل قوزي من برطلة وصموئيل يوسف من الشرفية ، وهذين الاخيرين كانا قد تركا المعهد .

الوجبة التي كانت تسبقهم بسنتين ، اعني من كانوا اقدم مني بست سنوات ، أذكر منهم : جرجيس القس موسى وكان قد اصبح مطرانا للموصل، يعقوب دنحا من شقلاوا والذي سيم اسقفا على اربيل وتوفي ، حنا عوديش الذي اصبح مطرانا باسم حنا زورا الى كندا وتوفي ، جاك اسحق الذي انتهى مطرانا لاربيل ، خلفا ليعقوب دنحا ومن ثم استقال وتوفي  ، بيوس عفاص وهو كاهن يخدم لحدّ الان في كنيسة مار توما في الموصل ، ونعمان وريدة من الموصل وقد وافته المنية ، واسحق لاسو الذي كان قد اصبح مديرا لدير مار بهنام وتوفي ، وآخرهم يوسف سليمان من كويسنجق الذي خدم ككاهن في السليمانية وتوفي فيما بعد في باريس . كان يوسف سليمان رجلا اريحيا ومتساهلا في الامور ، ويرى الحياة من زاوية واسعة جدا. كان قريبا الى الناس من خلال مرحه ومسايرته لعامة الناس دون قيود.

لا يجب ان انسى  من سبقوني بسنتين وهم : بول ايليا ربان وهو الان في السويد ، بهنام موسى سوني من قره قوش ، داود بفرو من مانكيش وهو الان في كندا . هؤلاء اصبحوا كهنة. وبعض آخرون تركوا المعهد.

باعتقادي اصبح حديثي الان مجرد سرد لجدول قد يبدو مملاّ . أتوقف هنا، قبل ان ينظر القارئ الى ساعته عدة مرات امتعاضا وتبرما ، وكأنه يصغي الى موعظة طويلة تردّد عبارات مسبقة الصنع ، يسمعها على الاقل مرة كل اسبوع  !!!

4
المنبر الحر / رثاء المطران ربان
« في: 17:32 28/08/2023  »
رثاء المطران ربان
شمعون كوسا

لقد رحلتَ يا مطران ربان ، تاركا للزمن حفنة كبيرة من سنوات من عمرك ، واأسفاه لاختفائك ضحية  مرض طرحك وأودى بك مبكرا. أخاطبك  يا رّبان وانت تلميذ في معهد مار يوحنا الحبيب ، الشاب الانيق النشط  ، المتّقد حيوية  ، الذي لا تفارق الابتسامة شفتيه . شاب شجاع جميل . كنتُ اسبقك أنا بأربع سنوات ، ولكني احببتك وكأنك زميل صفي ، وكنتُ اراسلك في عطلة الصيف ، وكما قلتَ  لي يوما ، بانك كنتَ تحتفظ  بكل رسالة بعثنها لك في معهد مار يوحنا الحبيب .
وبعد رسامتك يا قس ربان ،  مَن لا يعرفك في كوماني ،  فلاحاً يعيش بعرق جبينه في حرث الارض وزرعها وبذرها تربتها ،  وحصد محاصيلها ، وايضا متابعة الاشجار وتقليمها في بستانك المجاور . كما اهتممت بتربية النحل واطعمت الاخرين من العسل الذي كنت تنتجه . مَن لم يزرك في قرية كومانى ليرى بنفسه كَرَمك وضيافتك ، والاطلاع على الحياة المتواضعة التي  كنت تعيشها ؟
 عند ادائك لخدمة العلم ، كنت محبوبا من كافة الجنود والضباط  ، الى درجة ان الضباط انفسهم  كانوا ينقلونك بطائرة الهيلكوبتر من وحدتك العكسرية الى الكنيسة لتقيم قداس الاحد .
وبعد رسامتك الاسقفية كان نجمك ساطعا بغيرتك الرسولية في المنطقة  وخارجها ،  وحتى خارج العراق ، ولقد تعرفت على جهات خارجية ساهمت في مشاريعك لاسيما  انشاء مدرستك الفرنسية الشهيرة في دهوك .
وكيف ينساك اهل شقلاوا وعينكاوا والمنطقة كلها ، عندما توليت كرسي المطرانية في اربيل لعدد من السنوات . كنت الراعي الحكيم الصالح ولا سيما وان مسؤولي المنطقة كانوا يعرفونك ويكنّون لك كل الاحترام والحبّ وهذا كان يسهّل مهمتك .
وحتى في فرنسا هنا ، في مدينة نانت ، لا تنسى الجالية زيارتك التاريخية والقداس الذي اقمته هنا ، حيث كان الحاضرون متلهفين لرؤيتك وسماع كلامك .
كيف ننسى بلاغتك في الوعظ وفي الحديث العادي  ، كلام  يتدفّق بغيرة  وروحية قوية كانت تأكل دواخلك . كنت حريصا على ان يصل كلامك الى كل الناس ، ولاجله كنت تستخدم الكثير من اللغات التي تتقنها. كان يروق لك ان تقول لمن اختلفوا فيما بينهم ، أو تخاصموا ، أوتفارقوا ، كنت تقول لهم : هل انتم مسيحيون ؟ ألستم كاذبين عندما تقولون كل يوم في الصلاة الربانية : اغفر لنا خطايانا كما نحن ايضا نغفر لمن اخطأ الينا ، اين غفرانكم ومسامحتكم ، هل انتم صادقون فعلا  في صلاتكم ؟
كان حبّ الناس لك لا يقتصر على المسيحيين ، ولكن حتى المسلمين في منطقتك كانوا يكنّون لك نفس الحب ، ولقد رأيت بعيني عندما رافقتك مرة ، ما كنت تؤديه من خدمات لعوائل مسلمة  كانت على طريقك من كوماني الى اربيل . ولقد قلتَ لي مرّة بأن اهل منطقتك المسلمين ، لفرط اعجابهم بك وحبهم لك ، كانوا يطلبون منك مشاركتهم في احزانهم وتعازيهم ، وفي فاتحاتهم يطلبون منك ان تصلي او تقول شيئا . كان كلامك لديهم ثمينا. 
هناك الكثير يا سيدنا ربان قوله عن شخصيتك ، عن حياتك ، عن روحيتك ومنجزاتك . ولعل لكافة أصدقائك الاخرين ايضا صحائف كاملة لسردها عن مآثرك . من المؤسف جدا  ان تكون نهايتك بهذا الالم وهذه الصعوبة ،  ولكن هذه هي الحياة ، فعلى كل كائن بشري أن  يردّ روحه  يوما ، وكان اليوم دورك .
 اني على يقين يا سيدنا ربان العزيز ، أن روحك ترفرف في ملكوت الله ، بمعية من خدموا المسيح بكفاءة ونشاط  ، في عالم النعيم الابدي ، بعيدا عن عالمنا ، عالم  المادة والخصام والنفاق والتنافس .
 صلّ لاجلنا في عليائك يا ايها العزيز ،مطران ربّان .

5
حديث عن بعض مظاهر الشرّ
شمعون كوسا
عاودتُ اللقاء بصديق قديم كان قد التقاني منذ حفنة من السنوات ، وكان قد دار بيننا حديث صاخب عن الحياة ومواضيع الدين وانعكاساتها على مجريات الاحداث آنذاك،  وكان قد احرجني ببعض طروحاته وافكاره الغريبة التي كنتُ احاول الردّ عليها بما كنتُ قد استقيته ، في فترة ما ، من دروس وكتب أشغلتني لمدّة إحدى عشرة سنة .
بعد شوط لا بأس به من سَير أفضى بنا الى فسحة تطلّ على شبه وادٍ جميل مُخضوضِر الجانبين ، إنتَقَينا  مقعدنا على صخرتين متجاورتين تتوسّدان  شجرتَي صنوبر . كنّا ساهمَين بأنظارنا التي  بدأ مداها يبتعد قليلا ، لِما كانت تُقع عليه من جمال الطبيعة. في هذه الاثناء كان الصمت يقود حديثنا ، غير ان اللسان لم يتريث كثيرا للإفصاح عمّا كنا نفكر به ، فبدأنا بكلام تخللته  خواطر وافكار واقتراحات والكثير من التساؤلات .
صديقي ، الذي كان يحمل اسم جان فيليب ، استهلّ الحديث  بالقول :
كما تعرف ، إنّي كثيرُ التفكير والتحليل والاستنتاج في كل ما اقرأه وألاحظه ، ولقد خطر ببالي ان ابدأ كلامي اليوم بالاستفهام عن مصير مفهوم الشر ّ.
 استغربتُ لطرحه هذا وخشيت من المنحى الذ سيتخذه  صاحبنا في طريق محفوف بالمخاطر ، لذا  قلتُ له : ما هذا الاستفهام الغريب ، وأيّة ذبابة وخزتك او لدغتك  كي تختار هذا الموضوع ؟
أجابني قائلا : ألم تلاحظ  لحدّ الان ، كيف يتصرف الكثير من الناس الذين لا همّ لهم غير الهرولة وراء مصالحهم المادية  الى حدّ  عدم التراجع أمام أيّ رادع أو قوّة . إنهم يسمحون لنفسهم استخدام كافة الاساليب دون استثناء،   لتحقيق مآربهم ؟ فالكذب والنفاق والنميمة والتزوير والإضرار بمصلحة الغير،  اصبحت لديهم أمرا عاديا ، لان المطلب النهائي هو الحصول على المكسب المادي الفلاني ، الفوز بالمناقصة الفلانية ، او الحيازة على المنصب الفلاني . بعضهم يقرر التخلص من منافسه،  بإبعاده، أو حتى تصفيته. أهواء شريرة  تأخذ مسارها في العلن  دون خوف او تبكيت ضمير . ومن بين هؤلاء ، نفرُ لا يرحمون حتى ذويهم ،  فالأخ يوقع بأخيه او اخته او امه دون وازع ضمير ، طمعاً بالميراث ، او من اجل حفنة تراب ، بيتاً كان او أي مُلك آخر.
 صاحب المصلحة بات لا يخشى شيئا ، فالله المعروف بقدرته على كل شئ ، والذي ينهى عن الشرّ ، لا يتدخل .  لذا لم تبقَ هناك قوة تردعه ، ولم يعد مكان في نفس الجاني لأي خوف من العقاب،  لان صاحبنا مرّ بتجارب كثيرة وافلح فيها  ، وكان أيضا شاهد عيان على الكثير من تجارب الغير  .
قلتُ لصاحبي : إن ما تقوله صحيح جدا ، ولكنه إذا لم يكن هؤلاء آبِهين بالعقاب في هذه الحياة ، ألا يخشون  من محاسبة اليوم الاخير ؟
نظر اليّ  صديقي شزرا وقال لي بازدراء : هل انت بكامل عقلك فيما تقوله ؟ هل انت شخصيا مقتنع حقا بهذا ، ومن بات أصلاً مؤمنا بعقاب اليوم الاخير ؟
قلتُ له : إنه الايمان يا صاحبي ، والايمان لا يتطلب قناعة .
تلقيتُ من جان فيليب هذه المرّة  نظرةً أشدّ ازدراء ،  وقال : هل يؤمن الناس بحقّ وحقيقة بالعقاب والثواب ، وخاصة بالنعيم الموعود بعد الموت ؟ اذا كان ما تقوله صحيحا ، لماذا لا يستقبل الناس الموتَ بلهفة وفرح ؟  لماذا لا  يشتاقون الى الموت كي ينتقلوا بأسرع وقت الى دار السعادة  الابدية ، حيث يقطن أعزّاؤهم ؟ ولماذا يبقى الناس الى آخر رمقهم  ، وبالرغم من امراضهم ، يتوقون لإطالة عمرهم وبقائهم على الارض ؟
لم يُتِح لي جان فيليب المجال حتى في ردّ قصير، لأنه استأنف حديثه قائلا : إن ما هو متّبع الان ، لا يعدو كونه تقليدا أو عادة  ممزوجة ببعض الشكّ والكثير من الخوف . فإن من يردّد عبارة ،  رحمه الله ،  للمتوفَّين مثلا  ،  لا يفكر في ما يقول . انها مجرد عبارة يؤدي فيها قائلُها واجبَه ، مع التمني  العارم  في سرّ نفسه ان يُبعده الله عن الموت. كلام يُقال لرفع العتب دون اية قناعة . لقد قمت بكل هذا الحديث الطويل كي استخلص ما يلي : إذا كان هذا الخوف معدوما ، لماذا لا يُطلق الانسان العنان لنزعاته الانانية ، خدمةً لمصالحه ؟
قلتُ له : لقد ذهبتَ بعيدا في تحليلاتك ونفيتَ كل شئ ، وماذا عن ضمير الانسان ؟ اجابني : نعم هناك ضمير ، ولكنه في ايامنا هذه  قد توسّعتت مقاساته لدى الكثيرين ، واكتسب مواصفات مطاطية  تُساير صاحبها لأبعد الحدود  والمساحات التي يرتئيها . لقد إمّحت المقاسات الضيقة السابقة، ومن شدة الضغط على حافات الضمير بدأ يتسع لاستقبال الخير والشر على حدّ سواء .
قلتُ له وماذا عن القانون وحقوق الانسان ؟ قال إنها قوانين بشرية وُضعت فعلا  لتقود الانسان وتصون حقوقه ، ولكن ماذا لو كان من بيده القانون  متواطئا ، لأنه موعود بحصة مهمة من الغنائم ، ألا يكون هذا ايضا قد وسّع مساحة ضميره ؟ وماذا عن المحامين الذين لهم اساليب للإلتفاف على القانون فهم يَعِدون المجرم الحقيقي بالبراءة  ويتوصلون الى قرار الحكم المطلوب ، وسيان عندهم اذا حمل الذنب شخص بريء .
قلتُ له : بالرغم من كل هذا، هناك اناس مؤمنون ، يُخلصون  لرسالتهم الانسانية .
قال : هذا صحيح ، ولكن اغلبية الناس قد تغيرت مفاهيمهم ، ولم يعودوا يسمعون  المواعظ ، ولا يخشون من العقاب الديني ، لان المعتقدات   الان القديمة قُدّمت لهم بصورة خاطئة والغيبيات لم تعد تخيفهم ، لقد مرّوا بالكثير من التجارب وشاهدوا تجارب غيرهم . فالمجرم  يستمر في الحياة دون خوف ، ولا يتأثر  بايّ دُعاء عليه كي ينال عقابه ، او ابتهال لإيقاف شرّه . واضاف أيضاً : ما رأيك بمن يُشعلون الحروب ، ويبيدون حياة الالاف من الناس رجالا ونساء واطفال ؟ هؤلاء يرتكبون ابشع الجرائم ويعيشون هانئين دون الخوف من أي عقاب  ، بل منهم من يعمّرون طويلا ، واذا لاقوا حتفهم ،  تكون صُدَفُ الحياة قد اصابتهم ، كما تصيب أي كائن بشري صالحا كان ام شرّيرا. لربما تقول لي هنا بان الله يحترم حرية الانسان ولا يتدخل ، وانا اجيبك بكل بساطة : هل حرية رجل شرير أثمن من  الالوف ومئات الالوف الذين يموتون بسبب حرية هذا الشرير ؟!!
ما هو تعليقك على كل هذا  ؟ قلتُ له هناك اشياء لا ندركها نحن البشر ، لذا نقول بان نوايا الله غير قابلة لإدراكنا البشري .
قال لي : ان جوابك هو جواب المغلوبين على امرهم ، وهو مطابق لما يقوله رجل الدين الذي عندما يُحشر في زاوية ، يستنجد بمثل هذا الجواب.
قلت له ، ألا تعرف اين تلقيت تعليمي ، وفي اي محيط تربيتُ ؟ واضفت : إنك ذهبت بعيدا هذه المرّة في تحليلاتك ، غير اني اقول : انت حرّ في رأيك وانا احترمه ،  لان الكثير من الفلاسفة والمفكرين لم يَفرُقوا عنك كثيرا في طريقة تفكيرهم وتحليلاتهم.
عند هذا تركني جان فيليب دون التفاتة او كلمة وداع .

6
 
من ذكريات معهد مار يوحنا - 7
شمعون كوسا

كي أقلل من فترات غيابي وتقطّعات سلسلة ذكرياتي ، أعود من جديد لألحم السلسلة ،  واقول :
كنتُ اعاني كثيرا ، مثل سائر التلاميذ آنذاك،  من البرد القارس ، وأتذكر باني قد بكيتُ من جراء ذلك . اتذكر في احدى السنوات ،  انخفضت درجة الحرارة ليلا في الموصل الى تسعة تحت الصفر . كانت النار بضاعة ممنوعة في معهد مار يوحنا الحبيب ، ولم يكن لنا هناك اية وسيلة للتدفئة . كلّ ما يقينا من البرد كان يقتصر على المعطف ، وهذا ايضا كان علينا خلعه في اوقات الفرصة لنتمكن من الحركة والركض لعلنا ننسى البرد .والأنكى من ذلك ، كان ملبسنا في الشتاء يقتصر على قميص خاكي اللون وبنطلون قصير أسود (شورت) لان البنطلون الطويل والقمصلة الكحليَّين ، كانا مخصصين لأيام الآحاد والاعياد .
لقد ذقنا الأمرّين من هذه الحالة ، ولذا كنتَ تلاحظ اصابع التلاميذ على مستوى اليدين والرجلين ، وكأنها قد تمّ شواؤها على النار تماما ، وكنا نسمي هذه الظاهرة بالقرافيس ، ولا اعرف اذا كانت الكلمة عربية لاني لم اجدها في القاموس بهذا المعنى . كانت القرافيس تُتعبنا كثيرا لا سيما في الليل حيث كانت تبدأ الاصابع بالحك ّ الشديد حال حصولها على بعض الدفء تحت اللحاف .فكنا نضطر لحكّها دون ارادتنا الى درجة إدمائها . والطامة الكبرى كانت تتمثل هنا في عدم وجود أي علاج او مخفف لهذه العذاب . كنا نُضطرّ لإخراج القدمين من تحت اللحاف كي تبقى باردة في عزّ فصل الشتاء ، فكنا نعالج مرارة  بمرارة . هذا ما كان يفعله البرد بنا . باعتقادي ان البرد القارس والاصرار على عدم معالجته بواسطة النار ، العنصر البسيط الذي توفره الطبيعة والذي لا يتناقض مع الشرائع السماوية ، قد أضرّ بصحة الكثيرين من الطلبة . لا افهم الحكمة من هذه القساوة خاصة واننا لم نكن لا منخرطين في سلك رهبنة ، كي نطبق اركان ممارسات كالتقشف وتحمل البرد القارس ، ولم نكن مِمّن حُكم عليهم بالأشغال الشاقة ، أو عُوقبوا بالتكفير عن ذنب عظيم اقترفوه .
في هذا الصدد ، اذكر احد الطلاب الغيارى، الذي  توصل للوشاية بأحد زملائه لانه كان قد استجاب  لنداء إحدى اشعة الشمس الصباحية ، كان المسكين قد صعد للطابق الثاني  لتهيئة الصفوف قبل الشروع بالدروس ، قبل التوجه للإستدفاء ، كان قد التفت يمنة ويسرى وتأكّد  من خلوّ الانظار المشبوهة ، ولكن هيهات !!
في منتصف فصل الربيع،  وعندما تشتدّ حرارة الجو في الداخل ، كنا ننتقل للنوم فوق السطوح . كان نوم الصيف لطيفا جدا لأنه كان ينقلنا الى الهواء الطلق ويتيح لنا رؤية النجوم ، على الاقل هذا لم يكن ممنوعا . كانت تعجبني الساعات الاولى من النهار وقبل بزوغ الشمس ، حيث كان يبدأ الحمام بهديله ، ولحدّ الان عندما اسمع الهديل اتذكر صباحات الصيف في المعهد . كان لكل تلميذ سريرُه ، وهو نفس سريره الداخلي ، كان يُطوى الفراش في الصباح لتجنب اشعة الشمس الحارة ، اما عند حلول المساء كان  يُكلف أحد التلاميذ  لفتح كافة الاسرة للتخلص من حرارتها قبل ساعة النوم .
في نزهات بداية الصيف الاسبوعية ، كان توجّهُنا صوبَ ضفاف دجلة للتقرب من ماء النهر وايضا للسباحة لمن كان يرغب بذلك . كنتُ قد تعلمت شيئا من السباحة وامارسها مع التلاميذ تحت اشراف أحد الآباء. عند  بلوغي مرحلة متقدمة في السباحة  ، كان يرافقني  تلميذ اسمه عمانوئيل بولس بيدارو ، كان مسؤولا عني في السباحة نظرا لمهارته. اتجهت نحو العمق وسط النهر ، وبعدما حاولت مسّ القاع بقدمي ، لم أفلح في ذلك فاعتراني الخوف ، غاصَ جسمي بأكمله في الماء وابتلعت منه كمية لا بأس بها، أحسَّ عمانوئيل بمعاناتي فهرع لنجدتي . منذ ذلك اليوم اتجنب العمق . اعرف مبادئ السباحة ولكن الخوف ينتابني حال توجهي الى العمق ، هذه طبائع ولا سبيل لتغييرها .
يجب ألّا انسى دخول ناهدة اختي الى  دير راهبات الكلدان في منطقة المسبح ببغداد .امضت هناك سنتين ولكنها لم تقاوم . كنت اشعر بمعاناتها واقيس ذلك مع تجربتي في معهد مار يوحنا الحبيب . انتهتْ بترك الدير وفرحتُ لها كثيرا لاني لا اتحمل عذاب احد من عائلتي او أي شخص يقضي حياته بالرغم عنه في محيط لا يحبه فيجترّ تناقضاته باطنيا.
كما يجب ان اذكر بان لأخي يوحنا ايضا تجربة مختصرة في هذا المجال ، حيث ارسله ابي الى معهد كهنوتي كان قد افتُتِح في كركوك ولكن المعهد لم يدم طويلا . لم يمكث فيه يوحنا سوى ايام قلائل وعاد قائلا بان هؤلاء كلهم مجانين واتذكر بان عمي يوسف كان قد ضحك طويلا لهذا الكلام . لم يستمر هذا المعهد كثيرا .
كان لي بعض الاصحاب والمقرّبين من بين تلاميذ السمنير ، أود التنويه بان حديثي هذا هو قبل سنة 1968.  كان ايليا كوريال من أعزّ اصدقائي  وهو القوشي يعيش في بغداد  ، كان ايليا زميل صف المرحوم يوحنا عبد الاحد الذي كان بدوره من اعز اصدقائي  وكان كلاهما يصغراني بسنتين . كان يليهما حنا شيخو وهو ابن بيوس ، وهو أخ البطريرك بولس شيخو . كان زميل صفي وأُسِرّ اليه بمكنوناتي كلها .كان يشاطرني جلّ افكاري ونواياي حتى في ترك المعهد .وكان ايضا بين الذين يصغروني باربع سنوات او اكثر ، نوئيل يوسف عرب من قره قوش الذي كان تعجبني خفة دمه وقهقهته ، وكنت قد التقطت طبيعته هذه من اول يوم دخوله المعهد .
من الصغار الذين كانوا يشعرون بالارتياح للقرب منّي ، اذكر نوئيل فرمان وهو من سناط وكنت اعتبره أخا صغيرا . ومن اصدقائي الاعزاء ايضا ، ربان حزقيال الشاب الرشيق والرياضي النشط ، كان ربان ممّن أراسِلهم بالصيف . كانت علاقتي الاكليريكية قوية مع يونان هرمز الذي ترك المعهد والتحق بالحركة الكردية . ولا يجب ان انسى خوشابا  مرقس من قرية شرمن ، وبولص صبيح ساعور ، ويوحنا عيسى من خرجاوه . كما كانت علاقتي جيدة مع كوركيس جبرائيل من ألانش وطبعا مع زميلي المقرّب بطرس موسى .  ومن بين الذين هم اكبر مني سنا ، كنت ارتاح الى حنا زيا مرخو ، لاني كنت ارى فيه الاخ الكبير الذي كان بدوره  يبادلني هذا الشعور.
وبما ان الحديث سيطول سوف اكتفي بهذا السرد  على امل صياغة ذكريات مسلية اخرى .




7
رثاء القس فرنسيس شير


سمعت بمرضك ورقودك في المستشفى ، وتمنيت لك الشفاء ، غير اني لم اكن اتوقع سماع خبر رحلتك الابدية.
آه يا ابونا القس فرنسي ، والف آه على اختفائك من بيننا ، غيابك سيترك فراغا لا يمكن لاحد ملأه لانك كنت فريداً من نوعك.
قد يستغرب الكثيرون ويقولون لماذا يكتب هذا الانسان بالذات عن القس فرنسيس. جوابي هو بانه ، وحسب قناعتي أنا ، لا احد يعرف القس فرنسيس في بداياته مثلما عرفته انا ، والذين  كانوا يعرفونه  اكثر مني او يكادون ،  قد رحلوا. لقد عايشتُ القس فرنسيس منذ بداية رسامته ، اذ بالرغم من كوني طفلا ، حظرتُ مع الاهل رسامته في الموصل . كنتُ قريبا منه جدا وكنت ألحظ فيه ما لا يجلب انتباه غيري.
كان القس فرنسيس شابا بهيّ الطلعة كلّه حماس وغيرة في  إداء مهامه الكهنوتية وفي أخلاقه الدمثة ووداعته . كان يحبّ الناس ولا سيما الشباب وهؤلاء قاطبة كانوا يبادلونه نفس الشعور،  بل كان يسحرهم بكلامه وابتسامته . كان يعلمهم العابا جديدة ويشاركهم فيها ، وينظم لهم سفرات في المنطقة حيث الجبال والتلال والوديان واماكن قريبة خلابة اخرى.
لقد عرفتك يا قس فرنسي شخصا مثقفا جدا ، وهذه الظاهرة أركّز عليها واكرّرها ، لانها كانت تميزّك فعلا عن زملائك . لم يكن يظهر كتاب جديد في مجال الدين أو التاريخ أو غيره ، إلا وكنت قد قرأته ، وجلّ مطالعاتك كانت باللغة الفرنسية . كان لك قابلية سرد هائلة ، وكنت تقوم بذلك باسلوب شيق جدا يسحر سامعيك. أقولها دون تردد باني لم اصادف رجل دين ، أيا كانت درجته ، بمثل ثقافة واطلاع القس فرنسيس .
كان للقس فرنسيس شخصية قوية تمكّنه من مقابلة  المسؤولين والآغوات ، ورؤساء الاحزاب . لقد امضى اياما عصيبة في شقلاوا إذ كان عليه الحفاظ على علاقة متساوية  بين الاضداد ، ايام الحركة الكردية . كان يأتيه في الليل قوم ،  وفي النهار قوم مناوئ ،  وكان كاهننا  يُساير الطرفين بصدق وموضوعية ودبلوماسية ذكية  .
اعرفك يا قس فرنسيس اكثر من غيري ، لاني ارتديت زيّ الاكليريكي في سنة 1957 ، وكنتَ قد احتضنتني أنتَ  من ذلك التاريخ كطفل صغير ، فكنتُ امضي جلّ اوقاتي معك  ، وبحكم قرابتكَ مع جديّ ،  كنتَ تمضي معنا الكثير من اوقاتك في مهندسخانة .
اتذكرك وانت تقابل الاجانب من انجليز وفرنسيين ، وكنت تحادثهم دون اية صعوبة . كان الاجانب معجبين بثقافتك ، وحتى فيما بعد عندما كنت تأتي الى فرنسا ، وكنت تلتقي بأصدقاء فرنسيين ،  كنتَ تترك لديهم اثرا عميقا في سعة آفاق أفكارك،  والكثيرون منهم كانوا يُبدون إعجابا بما كنت ترويه وبالطريقة التي تقوم بها ،  وبالعمق الذي كنت تصل اليه في مواضيعك . كانت الفلسفة بالنسبة لك مجالا تتناولها بسلاسة فائقة، وكنتَ تعزّز كلامك دوما بسرد الكاتب الفلاني وما قاله بدقة تامة .
كان يقول عنك احد الاباء في معهد مار يوحنا الحبيب عندما كنتَ تلميذا ، بانك كنت خارق الذكاء ، وكنت تستخدم ما تتعلمه في الفرنسية في انشاءاتك في نفس اليوم. كنت تحب الفكاهة وهذه ايضا دليل آخر على الذكاء .
الأهم من كل ما سبق ،  كنتَ يا قس فرنسيس زاهدا في الحياة ، وكنت ترضى بالحد الادنى الكافي للحياة ، لان سياستك الدينية كانت خدمة الرعايا مجانا ، مؤمنا بمقولة المسيح الذي قال : مجانا اخذتم مجانا اعطوا . حتى اني كنت احضر مشادات معك من بين ذويك يلومونك في هذا الموضوع ويقولون لك : جميع الكهنة يتقاضون اجورا للخدمات التي يقدمونها ، انت لماذا تمتنع عن هذا ؟ فكان جوابك ابتسامة مع القول : اني اخدم المسيح وانا حرّ.
فعلا لم تكن تحب المال الا بالقدر الكافي الذي تحتاجه وكنت في كثير من الاحيان توزع الفائض على من يحتاجون ، كنت دائم الاستعداد للعطاء. 
خلال سني خدمتك ، اذا كان في اربيل او بغداد ، كنتَ محطّ  انظار رعاياك وحبهم الشديد لك. من جهة اخرى كنت متجردا ولا تحب المناصب،  وانا اعرف بانك رفضت اقتراحا لتبوء  منصب مطران البصرة في حينه ، واقول هذا لانك كنت قد استشرتني بذلك وانا في بغداد . كنتَ تحب الحياة البسيطة والتفرغ للمطالعة لانك كنت فعلا تستلذ يما تقرأه ويحلو لك اشراك الاخرين بما تتطلع عليه. .
كنتُ أحب صوتك الهادئ الرخيم ، وكان فعلا صوتا تتميز به ، ولحد هذه الايام عند سماعك كنتَ تعيدني الى البدايات الجميلة .
اقولها بصراحة ، لم اصادف مثلك ايها القس فرنسيس ، لانها قابليات وتربية واخلاق ودراسة .
لا يسعني احتواء ما يقارب تسعين سنة من حياتك ، لان كل يوم ، وكل لقاء ، وكل حديث ، وكل احتفال ، كان لك طابعك الخاص .
نم قرير العين يا ابونا فرنسيس ، ستبقى حيا في اذهاننا وفي اذهان كل من عرفوك والى الموت ، رحمك الله ايها الراحل العزيز.
.

8
لحسن الحظ ،لا تدين الطبيعة أحداً
ولا تفرّق بين هذا وذاك 
شمعون كوسا
بعيدا عن هموم الساعة واحاديثها ، سياسة ، أحزاب ، حكومات ،  قوميات وحتى عقائد وطوائف ، مواضيع شغلت الكثيرين وادخلتهم في نقاش حاد يؤدي الى الكثير من الغضب  والافتراق وحتى التربص بانتظار فرصة الثأر. وبعيدا ايضا عن المفارقات الخاصة بالأديان التي ، بالرغم من ولائها لخالق واحد يُفترض ان يكون نفسَ الإله،  فان رُعاتَها وحتى بعضَ رعاياها تعتبر الاختلاف والخلاف  ، والنقاش والفرقة، والخصام وحتى العداء تعتبرها  ممارسات تفرضها  تقاليدها وشرائعها . واشخاص عاديون آخرون يتخذون مواقف ، وينظرون  شزرا  الى بعضهم البعض ،  بسبب اختلاف افكارهم ، وآخرون  يكرهون فلانا لعدم انسجام طباعهم معه ، وآخرون يتجنبون فلانا  ولا يطيقون رؤيته لأنه ثقيل الدم ، دون ان يكون لهم أية فكرة عن وزن دمّه !! وآخرون يحتفظون  بحكم مسبق عن اشخاص  لم يلتقوا  بهم أصلا ، وإلى آخره من  سلسلة التجافي والافتراق والتخاصم ، وفي اغلب الاحيان لأسباب عرضية واهية .
نحكم على بعضنا البعض،  فنلتقي ،  ونبتعد عن بعضنا البعض ،  وننفر أحيانا  من أشخاص لمجرد رؤيتهم  ، وننفعل ونصدر احكامنا ، حضوريا أم غيابيا واحيانا ،  لمجرد اشاعة.
 إن الانسان أرقى مخلوق أوجدته الطبيعة .  ومما لا شك فيه أن البشر كلهم متشابهون ، مهما تغيّر لونهم او اختلف أصلهم ، لانهم يحملون نفس العقل ، ولهم نفس الحواس ، وتكوينهم متشابه ويخضع كل منهم الى  نفس العوامل ،  ويتفاعلون جميعهم وينفعلون بصورة مماثلة إزاء الفرح،  والالم،  والحزن،  والخوف،  والغضب ، والقلق،  والحيرة.
احتجتُ الى كل هذه المقدمة الطويلة كي  انتقل الى شرح بديهيات عن مخلوقات اخرى للطبيعة ، تختلف عن الانسان ، بردود افعالها وبتعاملها مع الانسان . هذه المخلوقات لا تفرّق بين هذا وذاك ، جميلا  كان او قبيحا ، صالحا او شريرا ، ثقيل الدم أو خفيفه ، ثريّا او فقيرا . هل الزهرة مثلا ، تبخل بجمالها ، بألوانها وعطرها الزكي ، على الناظرين اليها ، معجبين كانوا ام لا ، ذوي مزاج كانوا أم لا ، جذابين كانوا أم مقرفين ؟ هل تسمح  الزهرة لنفسها بالقول ، حتى في سرّ نفسها ،  بان هذا يستحقني وذاك لا . الزهرة لا تغادر موقعها ، ولا تختفي ، ولا تتبرقع أو تتحجّب ، ولا تتصنّع  لان قاصدها شخص لا يحبه الناس او هو مجرم مطلوب للعدالة .
كلّ شخص يأخذ منها ما تروم اليه نفسه ، فهناك من يكتفي بنظرة بسيطة ، وآخر ينحني لاستنشاق عطرها ، وآخر يقف مشدوها امام  الوانها الزاهية ، وآخر يُمعن النظر، ويلج عالم الخيال ، كي عِبر انظاره وصَبرِ الزهرة عليه ،  ينسجَ  قصيدة او يرسمَ لها لوحة جميلة ، او يؤلفَ منها قصة ، وآخر لشدة ولعه بها ولمعرفته التامة بعدم تبرّمها منه ، يعود ثانية وثالثة لأنه يكون قد وجد الراحة التي تنشدها نفسه والتي  تجعله في منأى عمّن يلومونه او يستهزؤون به ، أو يسألونه أو يطالبونه ويلاحقونه . 
واذا انتقلنا الى ابناء الطبيعة الاخرين من غير البشر ، نقول :  هل الشمس ، هذا المصباح الذي يَبعث الحياة في الطبيعة والبشرية جمعاء ، بضوئه وحرارته منذ مليارات السنوات ، هل تحكم الشمس على منطقة معينة فتغيبَ عنها وتحرمها من ضوئها وحرارتها ؟ هل تحكم الشمس على  شعب او تهجر بلدا ، لان قاطنيه متخلّفون او لا يجيدون فنون الكلام والكياسة؟  هل تغضب من فلان او تعاقبه ، او تميّز بين  مجموعة واخرى او قارة واخرى أو تضمر لها الشر لايّ سبب كان ؟
وهل النهر يغيّر مساره لان هذه المنطقة قد اخطأت بحقة وخصّته بكلام بذئ ؟ او هل ينقطع عن الجريان لان الساكنين على ضفافه  من الدين الفلاني أو الطائفة الفلانية ؟  إنه يجري غير آبه اذا كان المنتفع منه طويلا او قصيرا ، صالحا ام شريرا .
وهل الحديث عن الطيور والعصافير يحتاج الى وصف من هذا النوع ؟ متى غادر طير غصنه أو خفّف من شدوه ، لان المُصغي إليه فلان وهو لا يستحق سماع صوته الجميل  أو لأنه سيّئ السمعة ؟  العصفور يطير، ويحطّ ، ويشدو باللحن الذي حبته به الطبيعة ، فيُطرب كافة المارين دون تمييز عنصري .
والحديث نفسه يتكرر عن الغيوم ، فان انحباسها عن بلدة او وهطولها في منطقة أخرى ،  ظاهرة  تخضع لعناصر الطبيعية الاخرى كالحرارة والرياح ، فاذا لم تستقر في مكان  وهجرت غيره ، فليس هذا لأنها تعاقب او تكافئ ، فهي تهطل وتوزع خيرها وأمطارها على الجميع دون تمييز. واذا تناولتُ الخلائق كلها سيطول بي الامر ، ناهيك عن تبرّم القارئ ، فما ذنبه في الصبر عليّ في سماع حديث مملّ كهذا.
خلاصة القول ان الطبيعة ، دائمة الخير والعطاء ، بخلاف الانسان . هذا الكائن السامي بعقله ، الذي حباه الله دون كافة الخلائق بمعرفة الخير والشر ، والتمييز بين ما هو صالح وما هو طالح ، وما هو حقيقي وما ليس كذلك، هذا الانسان الذي له امكانية الرؤية والتحليل والاستخلاص واتخاذ القرار ، هذا الانسان الذي يعرف جيدا بانه يجب  ان يكظم غيضه ،  وأن يجنح للحب ،  لسوء الحظّ ،  هذا الكائن السامي ، يفضّل احيانا الانحدار والتخلي عن سموّه ، فيركض وبإرادته ، وراء مصلحته وأنانيته ، فيحكم على فلان ، ويسيئ الى آخر ، ويشيح بوجه عن فلان ، يبتسم بوجه فلان ، ويعبس بوجه غيره ، والأنكى من كل ذلك فانه يحقد ويحتفظ بحقده  ويلذّ له تطويره لحد  الانتهاء بارتكاب الشرّ . أين صاحبنا من الزهرة ومن الشمس والطيور والغيوم وغيرها ؟   
لقد تحدثتُ وأطلت الكلام في موضوع غريب وبديهي جدا، وفعلتُ ذلك بصورة ساذجة. كانت مجرد فكرة راودتني ، ولا اعرف لماذا  تسلسلتُ بها بحيث كنت كالشخص الذي تتقطع سلسلة افكاره ، فينتقل متخبّطا من فكرة الى اخرى دون أي ارتباط . على اية حال ، إن كان حديثي لا يرقى الى المستوى المطلوب  ، فانا اقول بان العبرة أحيانا في تكرار ما هو بديهي وساذج ، لان البديهي لا يجلب الانتباه كثيرا ،  ولكن إعادته ، حتى اذا كانت بصورة ساذجة ،  تدعو بعض القراء للتوقف والاستفهام .    كخلاصة،  أودّ الاختتام بهذا القول : هل يحتاج الانسان الى المبالغة في سموّه وتفكيره كي يجنح دوما للخير ، او التخلي احيانا عن عقله كي يُحرم ن إمكانية الابداع في شره ؟!!




9
6 – من ذكريات معهد مار يوحنا
شمعون كوسا

بعد ان ابتعد الراوي لردح من الزمن ، يعود اليوم لمواصلة  ذكرياته ، فيقول :
في سنواتي الاولى في المعهد كنت معتادا على كتابة الرسائل الى القس فرنسيس شير وأحيانا إلى ابي واخي يعقوب . اعرف بانهم كانوا يستمتعون بقراءتها   لأني كنت قد اقتنيت  بعض اسلوب القس فرنسيس الذي كان صاحب  قلم ساخر ،  خفيف الدم ، يهتم بأبسط الامور ليرويها  بوصف شيّق  وجذّاب ،وكان هذا شأنه  حتى في الكلام العادي ، بحيث يشدّ سامعه في كل موضوع يتطرق اليه . كانت رسائله عن شخصيات حارتنا في شقلاوا ، وعن بقرة فلان،  وتصرفات العجوز الفلانية .
يجب عليّ ان اوضح سبب ذكري المتكرر للقس فرنسيس . كان القس فرنسيس بمثابة  معلم لي في كل شيء  ، وكوني اكليريكيا ، كنت اعاشره وابقى ملازما اياه في عطلاتي الصيفية . القس فرنسيس كان شابا بهيّ الطلعة ، يطفح نشاطا وحيوية في اداء رسالته وفي الحياة اليومية  لا سيما مع الشباب . القس فرنسيس شير اعتبرُهُ أنا شخصيا من أثقف الكهنة ، لأنه شخص  واسع الاطلاع في كل المجالات ، إذ كان  يتابع كل كتاب تاريخي او ديني يصدر باية لغة يعرفها  وبالأخص  بالفرنسية لأنه ، لكثرة مطالعاته ، كان مُلمّاً  بشعيرات هذه اللغة. عندما كان يسرد ما قرأه ، كان دقيقا جدا في نقل الكلام وذكر التواريخ ، وباعتقادي بالرغم من تقدم سنّه ، لا زال محافظا على الكثير من هذه الصفات .
كان يتوجب علينا استحصال رخصة المدير في أية رسالة ننوي كتابتها لأهلنا أو أي شخص آخر ، وكان يتمّ هذا عبر طلب يُقدَّم للمدير ، فيأتي الضوء الاخضر عبر كلمة نعم يضعها على نفس الورقة .  وفي نفس السياق ، لم يَكنْ يَرِدنا أيّ بريد دون مرور الظرف على المدير . يهمّ الظرف بنقر باب المدير نقرة خفيفية،  وبعد القاء التحية  ، ينتظر عند الباب اشارة المدير،  واذا طال انتظاره ونفذ صبره ، تبدأ قدمه اليمنى بحركة سريعة ، عند ذلك يكتفي المدير بابتسامة.
  كان المدير يراسلنا في الصيف ، ويزوّدنا ايضا بنشرة فرنسية يحرّرها هو، لنقل  اخبار المعهد والاكليريكيين. كانت النشرة تحمل اسم (شى نوو) وترجمتها (عندنا او في بيتنا). كان المدير يطلب منا الكتابة له ، ويوصينا  بتجنب جمل غامضة او صيغ مبهمة ، او التطرق الى اخبارا تدعو للشك . كان يقول تجنبوا ترك فراغ او وضع علامات استفهام او تعجب في بعض الجمل ، كالقول مثلا : أما عن الوضع في شقلاوا والشمال .....  . هذا الحرص الزائد كانت تفرضه ظروف ذلك الزمان حيث كانت الرقابة، صارمة على المراسلات ، وكل رسالة كانت تحمل ملاحظة : فتحها الرقيب ، او اذا كان الغلاف يحوي حلويات تكون الملاحظة  : اكله الرقيب !!!!
كان صوتي جميلا ، وهذا كان سببا آخر يقرّب الناس إليّ من مختلف الشرائح ، لا سيما عند قيامي مع زملائي  بإحياء  قداديس او مراسيم دينية في الكنائس الكبيرة خارج المعهد . كنت في بداياتي مترددا في إطلاق صوتي ولكني قليلا فقليلا اكتسبت ثقة في نفسي ، وبدأت اطلق العنان لحنجرتي بصورة كاملة ، وعندما انطلق انا ، لا يمكنني الا ان أُطرب وانطرب. لستُ انا القائل ولكني كنت اسمع هذا من الاخرين . كانت تحضرني الالحان الشجية والمقامات التي كنت قد سمعتها وتعلمتها في صباي .
في خدمة القداس كنت انزلق بسهولة الى لون ناظم الغزالي وصوته الصادح، وحضيري ابو عزيز وعتاباته  ، وداخل حس ولونه الريقي الحزين ، وزهور حسين ومواويلها الفارسية ، ونهاوند  واغانيها الجميلة ، وكلها هي من الحان الزمن الجميل ، وفي ذلك الزمان  لم اكن بعدُ مطلعا  على اللون الراقي الاخر ، في اصوات عبد الوهاب وفيروز واسمهان وفريد الاطرش وغيرهم.
على ذكر المقام  وأنواعه ، لأننا  كنا نختار مقاما معينا  في خدمة القداس للايام العادية،  في هذا الصدد يجب ان اذكر بان اول من علمنا هذا المقامات  في المعهد كان جاك اسحق . وكان جاك اسحق من الوجبة التي ضمّت يعقوب دنحا وجرجيس القس موسى وحنا زورا واربعة زملاء آخرين. جاك اسحق خَلَفَ اسطيفان ربان في تعليم الطقس الكلداني .  في بداياتي  كان هو المسؤول عن تعليم الطقس الكلداني ، أطلعَنا على المقام وكيفية الدخول اليه . والدخول الى المقام هو القيام ببعض الدندنة ، ومن ثم الانطلاق في موال أوغناء  فردي حرّ . مثلا (مقام السيكا) ، ندخل اليه من مقطوعة للقدود الحلبية وهي : والعين اذا رأتك صاحت طربا . اغنية  الاطلال هي أيضا من السيكا .  (مقام الرست)  ندخل اليه مباشرة من ترتيلة السعانين  : أزعق عيتا باوشعنى ، وايضا  اغنية : يا دارة دوري دوري لفيروز ، او اروح لمين لام كلثوم . (مقام الصبا) يمكن الانزلاق اليه من ترتيلة  لو كان للأفلاك نطق او فم ، والان اضيف اليه : سمراء من قوم عيسى . (مقام الحجازي) يؤخذ من احدى قراءات الباعوثا  وهي : صاءَر  تيويل  ، وأيضا من اغنية فوق النخل . (مقام النوى او النهاوند) ، يأتينا  من ترتيلة القيامة : في هذا اليوم السعيد او يا مريم البكر . (ومقام البيات)  يؤخذ من يا جارة الوادي  والحياة حلوة لفريد الاطرش . (العريبوني) من مدراش الباعوثا:  إين مار نشوى.  وهناك مقامات مشتقة اخرى يطول ذكرها .
بالاضافة الى القداديس الكبيرة للاعياد الرسمية والاحاد ، كنّا مُكلّفين باحياء الفروض والصلوات لصوم الباعوثا لمدة ثلاثة ايام  . إنها  ايام حافلة بالقراءات الجميلة  والمداريش  والحان اخرى وكلها  تريح الانفس وترفعها. كانت تُختَم الباعوثة  بقداس يقيمه المطران عمانوئيل  ددّي ، الرجل الطيب الحنون ، الرجل المهيب وصاحب الصوت المخملي المتميز بهدوئه. كنت احبه كثيرا وهو يبادلني نفس الشعور ، والحديث هنا في سنواتي الاخيرة ، لان السنوات الاولى ، كانت الباعوثا تُقام من قْبل  المعهدين البطريركي ومعهد مار يوحنا جنبا الى جنب ، في تناوب صلوات الباعوثا ، وكان الطالب يوحنا جولاغ ضمن الاصوات الجميلة التي تؤدي الكثير من هذه الالحان الشجية .
في سنتيّ الاخيريتين ، توليتُ مسؤولية الطقس الكلداني حيث كنت مكلفا بتعليم   صلوات الطقس الكلداني والحوذرا لقسم الصغار كما كان تنظيم القداديس الكبيرة من ضمن اختصاصي .  كنت قد استلمتُ المهمّة من بول ربان الذي كان يتقدمني بسنتين ، ومن بعدي تولى الامر يوحنا عبد الاحد شير الذي كان يتمتع ايضا بصوت رخيم .
من الذكريات التي لا انساها ايضا هي  يوم تعرفي على الخوري افرام بدى . امضى افرام بدى بعض ايام في المعهد  قادما من مصر . صوته الشجي بدرجة لا تُصوّر ،  هزّ أعماقي لأني لم اسمع ما يضاهيه  ولحدّ اليوم. حال سماعي لصوته ، بكيت  وكانت ظروف شقلاوا وظروف العائلة أيضا تساعد على ذلك .
اذكر هنا في نفس السياق موقفا يكتنفه الكثير من الغموض، ولعلي قد ذكرته في مناسبة سابقة . انتهزنا فرصة تواجد الخوري افرام بدى في المعهد ، فقررنا تسجيل قداس احتفالي نحتفظ  به كذكرى عزيزة ونموذج ثمين لصوت جميل . قام بخدمة القداس آنذاك جاك اسحق ، والذي قرأ الرسالة كان داود بفرو ، اما ان فقرأت القريانة .
كان قداسا ملائكيا بكل معنى الكلمة. وكان المدير الاب جوزيف اومى هو الذي تولّى التسجيل . كنا فرحين لتخليد هذا الصوت الجميل عبر قداس ناجح ، غير اننا  فوجئنا بعد القداس بقرار المدير محو التسجيل ، زاعما اننا بالغنا في الاهتمام والاعجاب. لم نقوَ على فتح فمنا ، بالرغم من حزننا وامتعاضنا .
كان للاب المدير مثل هذه العوائد . ففي احدى السنوات حصل المعهد على اسطوانة لتراتيل فيروز الدينية وهذا كان شيئا جديدا في الساحة ، لأننا لم نكن نعرف فيروز بهذه التراتيل الدينية  الراقية . جَمَعَنا المدير في غرفة خاصة لنسمع فيروز بصوتها المخملي. اقولها تماما ، انخطفتُ لسماع هذا الصوت وهذه التراتيل . فعندما عرف المدير بإعجابي الشديد بصوت فيروز ، مَنَعَني من سماع تراتيلها . 
اتوقف هنا لانه لا زال هناك الكثير في الجعبة .

10
كلمة عابرة جدا عن الوحدة المسيحية
شمعون كوسا

 منذ اسبوعين ونحن نسمع ،  نرى ، ونقرأ يوميا عن صلوات تُرفع من اجل الوحدة المسيحية. كلّ صلاة ترافقها  صور لمجاميع من طوائف وكنائس اتفقت على تقديم ابتهالات حارّة واطلاق تراتيل منوعة من اجل تحقيق الوحدة المسيحية. وتقارير اخرى تُعدّد اسماء الرؤساء الروحانيين الذين اقبلوا على هذه الصلاة ، وكل رئيس يبدو بحلته المزركشة المميزة ، ويبدو الكل منشرحين بعد الصلاة ، لان واجبهم انتهى. 
قبل ستّ  او سبع سنوات كنت قد كتبت مقالا بعنوان (صرخة غضب في وجه كنيسة متشرذمة)  حول وحدة الكنائس . أراني لحدّ هذا اليوم في  نفس سورة الغضب لان الصلاة من اجل الوحدة المسيحية  اضحت  فعلا مناسبة فولكلورية  او ذكرى سنوية لا بد من احيائها بصلواتها وابتهالاتها وتضرعاتها وتراتيلها ،  والانتهاء من المراسيم بصورة جماعية وابتسامة عريضة لان الواجب قد اكمل.  وقد تعقب الصلاة أحيانا وجبة غداء او عشاء كعلامة رضى مما تمّ.
  ينسى  المجتمعون بأن ايّ شئ لم يتمّ ، ويتناسون بان موضوع تجمّعهم الرئيسي  الاصلي والحقيقي وهدفهم  كان السعي بجدّ  للتخلص من حالة الشرذمة هذه التي ادت الى التباعد وحتى المعاداة بين الاخوة . تناسوا بانهم لم يكونوا  قد اجتمعوا للصلاة فحسب ، ولكن وبصورة رئيسية  للتحدث عن التقارب وازالة الفرقة وبأسرع وقت .
انا اطلق على هذا الاسبوع اسم اسبوع الانانية  لكي لا اقول النفاق. لان كل مسؤول قادم لتمتمة ما يجب عليه تمتمته من صلاة ، وهو محتفظ في سر نفسه وبقناعة كاملة بان الوحدة فكرة بعيدة وشبه مستحيلة ،  وعلى اية حال ، بعضهم يقول ، اذا كان لا بدّ من مبادرة او حراك ،  فعلى الاخرين القيام بذلك واللحاق بيّ ، لاني الوحيد الذي امتلك ناصية الحقيقية !!!
أنا أرى المسيح يتوجّه بالكلام لجميع هؤلاء بالقول :
يا اخوتي ماذا جرى لكم ؟ لماذا اتيتم تبتهلون  كي يوحدكم الله ويجمعكم ؟ الم تفكروا يوما بانكم ترددون نفس هذه الصلاة  هذه منذ ما يقارب  سبعة عشر قرنا ، ولم تتوصلوا لحدّ اليوم الى أية استجابة او نتيجة ؟ هل فكرتم لماذا ؟ هل انتم خائفون من التفكير بان مسؤولية تحقيق الوحدة تقع على عاتقكم  انتم فقط، وبانكم ، لتحقيق الهدف هذا،  لا تحتاجون لأكثر من العودة الى المنبع ، كي تروا الامر البسيط الذي يعوزكم؟
ماذا كانت رسالتي لكم ؟ اوصيتكم بان تحبّوا بعضكم بعضا ،وهذا ليس بيتا شعريا او كلمة فقدت معناها ،  اوصيتكم بالتجرّد والتواضع والبساطة ، وقلت لكم من كان فيكم سيدا فليصبح خادما . ألم اغسل  اقدامكم  ومن ثمّ قبلتها ؟ الم ادعوكم للتسامح والغفران ، الم اقل لكم لا تدينوا لئلاّ تُدانوا ؟ لماذ تخاصمتم ؟ طلبتُ منكم الاكتفاء بالمحبة ، لاني انا لم افعل اكثر من ذلك عندما لبست ثيابكم وتعذبت وذهبت حدّ الموت صلبا  حبّا بكم . أمّا انتم ، فانتهيتم  بالاختلاف  لانكم ذهبتم  بعيدا في التنظير والتحليل في مواضيع لم اتطرق اليها .
كان يكفيكم التوقف عند تعليمي ، والاقتداء بما يقوم به رعاياكم البسطاء  من خلال ايمانهم وحبّهم الحقيقي .  كان عليكم التطلع الى صورتي الحقيقية التي لم تتغير لان كلامي لم يتغير . اذا كنتم صادقين، آمنوا فقط بالحب  الذي اتيت من اجله وانسوا كل شئ ، سترون بعد ذلك قد تحققت وحدتكم ، وإلا اذهبوا عنّي .
انا لا احتاج الى تبحركم العلمي الزائد ، لا احتاج الى شهاداتكم العالية ولا الى ألقابكم العلمية . انا احتاج الى تواضعكم ، الى تجردكم وتفانيكم وايمانكم والنظر الى كل كائن بعين المحبة لا سيما اخوتكم ؟ هل يا ترى  وجدتم في شخصي  موضوعا دسما لتحقيق مصالحكم الخاصة التي ادّت الى تجاهل بعضكم ومن ثمّ الافتراق ؟ هل اتيتم فعلا لأجلي او لأجل انفسكم ومصالحكم وامتيازاتكم التي ارى بانها  تضخمت واحتلت مساحات واسعة جدا ؟ الحبّ الذي دعوت اليه كان مناسبة لكم لتبقوا موّحدين بينكم ، ومن خلالكم ينعم العالم كله بالسلام والمحبة ، ولكن !!!
 بعد هذا الكلام ترك السامعون الساحة بصمت عميق لقناعتهم  بان جوابهم  كان سيدينهم مهما كان فحواه.
لا اوجه هذه السطور للمعنيين او الذين يهمهم الامر ، لانهم يعتقدون فعلا ان الامر لا يهمهم ،  ومن أنا اصلا كي اجلب انتباه المتبحرين بالعلم وبخفايا الدين ،  والذين باعتقادي كان لا يعوزهم  سوى  قليل من التواضع والكثير من المحبة ّ!!
طبعا انا لا اقصد هنا شخصا ابدا ، ولكنها كانت صرخة غضب اخرى انتابتني  لم أقوَ على كبتها  ، ولربما تكون الاخيرة.

11
من ذكريات مار يوحنا الحبيب - 5
شمعون كوسا

ويتابع صاحب الذكريات ويقول :
من ضمن من درّسونا أيضا في قسم الصغار ، فاتني ان أذكر القس إلياس صقّال الذي درسنا الرياضيات لفترة قصيرة ، وخلفه بعد ذلك معلم مدني يُدعى إلياس سمحيري من بعشيقة . رجل ضعيف البنية، عابس الوجه، ولكنه شديد التقوى ، بحيث انه كلما كان يعود من تناول القربان ، كنت تشاهده وعيونه قد اغرورقت بالدموع . كان عصبيّ المزاج في التعليم وله عبارات ساخرة يُطلقها بعفوية على أغلب الطلاب لا سيما الذين لم يُصيبوا في اجوبتهم ، فعلى سبيل المثال قال لاحد الطلاب : (شوف شلون دَيبلع  ريقو ، عبالك شيره مال عسل ) ما معناه بالفصحى : انظروا إليه كيف يبتلع ريقه وكأنه يلتهم عسلاً !!!. هذا الطالب كاهن متقاعد الان،  وسيعرف نفسه اذا قرأ هذه السطور .
في الساعة الثانية عشرة والنصف كان موعد غدائنا. كنا نتوجه  مصطفّين بصمت عميق الى غرفة الطعام. كل طالب يتوجه الى  مقعده المعهود . كنا نتناول الطعام بصمت ، وآذاننا صاغية  لاحد التلاميذ المكلفين بقراءة كتاب تاريخي ، او عن حياة قديس ، او موضوع روحي آخر.  يتمّ التناوب على قراءة الكتاب خلال وجبات الطعام ظهراً ومساء. أثناء القراءة إذا أخطأ القارئ ، نحوياً او لفظياً ، يتمّ تنبيهه  برنة جرس ، كي يتصحّح الخطأ . كان القس البير ابونا يتولى الامر اذا كان الكتاب عربيا ، والاب جوزيف اومى اذا كانت القراءة  فرنسية .
في السنوات الاولى من المعهد ، كان صوم الاربعين مرهقا ، لانه  كان يقضي بالانقطاع التامّ من اللحم طيلة فترة الصوم. فكان يُعوّض عنه بالتمر المقلي مع البيض لأيام الآحاد . اما ايام الجمعة ، فكانت الاطعمة عبارة عن مزيج من القرع الاحمر مع التمر المسلوق ومنتجات اخرى عبثاً تسعى الى فتح شهيتنا . وبما اني لا زلت في  غرفة الطعام ، احب المرور على  فقرة الفاكهة بعد الاكل . كانوا يأتونا احيانا ، لاختتام الاكل ،  بنصف رأس خسّ لكل طالب .  تصور الصوت الذي كان يحدثه أكل الخس من قبل ستين او سبعين شخصا في آن واحد و في جوّ صامت . كان الموقف ، ومن دون تشبيه ، لا يختلف كثيرا عن صوت يصدره بعض انواع اخوتنا الدواب عند التهامهم للعلف  مثلا  !!!!! 
وهنا اخرج من غرفة الطعام منتقلا الى فصل آخر . في بداية كل سنة وعند العودة من العطلة الصيفية ، كانت هناك رياضة روحية تستغرق ثلاثة ايام لقسم الصغار ، وسبعة ايام للكبار،  لابسي السوتانة السوداء . كانت تبدأ هذه الايام بالقداس الصباحي وتعقبه المحاضرات الروحية ، وأوقات تأمل ، وقراءات الانجيل أو الكتب الروحية  الاخرى . كانت تتّسم هذه الرياضة بالصمت المطبق الكامل الذي يُفرض على قسم الكبار . كنا نخرج من الايام السبعة  وكأننا  نفيق من سبات عميق استغرق فترة طويلة جدا. عند نهاية الرياضة الروحية كنّا نرى انفسنا وكأنّنا في عالم آخر ، والبعض منّا كان يشكّ في مقدرته على استعادة النطق بعد هذا الصمت !!! كانت الرياضة فترة صعبة جدا. ولكنها كانت تعتبر فترة فحص ذاتي ، ورجوع الى النفس بغية تنقيتها من أدران ما علِقَ بها في الحياة الدنيوية اثناء  العطلة الصيفية ، 
في كل يوم اربعاء من رأس الشهر ، كانت لنا ساعة تأمل في الموت ، وهذا كان يجري في فترة بعد الظهر بعد الغداء مباشرة . كان وقتا صعبا جدا لكون الدورة الدموية منشغلة في عملية الهضم . كان الاب جوزيف مدير المعهد هو الذي يقرأ موضوع التأمل الذي يبدأ بهذه الجملة  : تأمل الان نفسك ماثلا امام الله بعد الموت ، وبأنه عليك الاجابة عن كل ما فعلته في حياتك . كان على المتأمُل ، اذن ، المضي في التفكير على هذا المنوال لمدة ساعة . شخصيا لم اكن استسيغ هذا النشاط  . كنت اقول : أين نحن والموت لا سيما الصغار منُا ، وبأي شئ يلوم نفسه الشاب الصغير كي يتوجه بهذا العمر الى ديّان صارم كي يقرر مصيره ، إمّا باتجاه  النار او في الملكوت . كان موقفا كئيبا جدا . 
كان لنا نزهات اسبوعية وايضا شهرية . في سفراتنا الشهرية كنا نتوجه كثيرا الى دير مار بهنام ، وفي بعض الاحيان الى دير مار كوركيس او دير ما اوراها . وفي عودتنا كنا نعرّج على احد اديرة الراهبات القريبة من موضع سفرتنا، واقصد هنا الراهبات الكاترينات اللواتي يُعتبرن الفرع النسوي للرهبنة الدومينيكية . كنا نحتسي عندهنّ الشاي مع بعض الكليجة او الجبن او ما شابه . في ذلك الحين كان الخوري أفرام عبدال مديرا لدير مار بهنام ،  وخلفه فيما بعد القس بطرس شيتو ، ومن بعده القس فرنسيس جحولا ، والثلاثة هم الان في عِداد مَن مثلوا أمام الديّان .
كنا نستحمّ يوم السبت من كل اسبوع . المدة التي يستغرقها الطالب محددة  بربع ساعة . والتوقيت هذا لم يكن يحتاج الى جرس او مراقب ، لأنّ ساعة الاباء الدومينيكان الشهيرة هي التي كانت تتولى الامر برنتّها كل ربع ساعة ، وكانت رنّتها  مسموعة من الحارات القريبة  من الدير وحتى البعيدة . وبالنسبة لنا ، كنا قريبين جدا من دير الاباء الدومينيكان . كان يستلم كل طالب ملابسه النظيفة في كيس يحمل رقمه ، ويودع المتسخة منها في نفس الكيس .
أسعد أيام المعهد كانت يومي عيد مار يوحنا الحبيب ، شفيع المعهد ، ومار يوسف ، شفيع مدير المعهد . كان يهيئ المعهد لهاتين المناسبتين ، ولا سيما لعيد مار يوسف ، الكثير من الفعاليات ، عبر المنشورات والكلمات والقصائد والتمثيليات والاغاني . لقد ساهمت انا شخصيا مع الاخرين في تلحين بعض هذه الاهازيج والاغاني ، ولقد أديت بعضها  بحنجرتي المتواضعة .
كانت المناسبتان تتسمان بالأطعمة الشهية التي كانت تملأ الموائد عند وجبة الغداء. كان يحقّ لنا شرب قدح صغير من الخمر المعتق ، وفي بعض السنوات بلغ التساهل حدّ عرض سيجارة لمن يرغب في التدخين ، وانا كنت من ضمن هؤلاء . كنت ادخن السيجارة بنهم واستنشق دخانها بنفس عميق ، غير ان هذه العادة الحميدة اختفت بعد سنوات ، جراء تصرفات بعض التلاميذ الذين كانوا يُلزمون اهاليَهم على توفير التبغ لهم خلال العطلة  الصيفية ، زاعمين بان المعهد كان يُرغمهم على التدخين . ممّا حدا بالمدير الى اتخاذ قرار  يمنع السيجارة.
على ذكر السيجاير ، كنتُ ادخن قليلا في فترة العطلة الصيفية ، وفي احدى السنوات ، وبالرغم من منعها في المعهد ، اصطحبت  معي علبة سيجاير بغداد . في احدى الليالي الطويلة ، تذكرت السيجارة واشتهيتها ، فتوجهت  في الليل الى حيث يتوجه الملك لوحده  ودخنت سيجارتين . كان فكري منشغلا  ولم أتحمل تقريع الضمير ، ولم أرتح الا عند التوجه منذ الصباح الباكر الى غرفة المدير للإقرار بما فعلته ،   وبعدها رميت ما كان متبقيا من العلبة ، لكي لا ادخل في التجربة واعود الى تقريع ضمير ثان .
اتوقف هنا في سرد هذه الطفائف المأخوذة من هنا وهناك، ولي غيرها للراغب في التلذذ بهذه الامور البسيطة .


12
 
من ذكرياتي – معهد مار يوحنا 4
شمعون كوسا

ويتابع الراوي ، القابع في معهد مار يوحنا ، ذكرياته فيقول :
أما عن مدير السمنير ، الاب جوزيف اومي الدومنيكي  ، اشهد صادقا بانه كان كالوالد للجميع . كان يفضل بعض التلاميذ ، ولكنه كان لا يستثني احدا من رعايته . كنتُ شخصيا ارتاح اليه كثيرا ، لذا اخترته  مرشداً روحيّاً  طيلة سنواتي في المعهد. كان الاب جوزيف رجلا ذا هيبة ، ويتمتع بشخصية قوية ونادرة . كان شخصا جميل الملامح والبسمة لا تفارق شفتيه. كنتُ الجأ اليه في الكثير من مشاكلي  الروحية والنفسية والاجتماعية  ، وكنت اترك غرفته دوما وقد عادت الامور نسبيا الى حالتها الطبيعية .
امّا عن الاب ريشار (معاون المدير) فانه كان شخصيا قاسيا جدا ، على نفسه وعلى الاخرين .كان يحبّ البرد كثيرا ، بحيث كنت بمجرد  النظر اليه  ، أشعر بقشعريرة  . كان الكثيرون مُعجبين بصلابة طبعه وقوته، ولكني انا ، مع احترامي الشديد له ولهم ، لا استطيع نسيان حادثة وقعت لي معه وتركت فيّ  وقعا كبيرا جدا يصعب عليّ محوها ، بالرغم من انطواء العديد من السنوات وتراكمها على الحدث . قصدته مرة في مهمة استعصت عليّ. ذهبتُ اليه لانه كان المسؤول مبدئيا عن اسعاف الاكليريكي الحائر في إداء أية مسؤولية او عمل يخص سير الحياة المعهد. حال دخولي غرفة النجارة ، التي كان يتواجد بها اغلب الاوقات . حال دخولي اليها وقبل ان أتفوه بكلمة ، إحمرّ وجه الاب ريشار ، وكأنه كان في خضمّ حرب داخلية . واجهني بصرخة  ارعبتني تماما وجعلتني اولّي هاربا خشية وقوع كارثة. بقيت مكسور النفس وفي حيرة محت امكانية أيّ  اختيار يقود الى مخرج. لأول مرة كنت القى مثل هذه المعاملة ، لا سيما وأنّها آتية من شخص يُفترض فيه ان يكون لي مثلا ومرشدا ومساعدا ، يتحمّل  اخطائي اذا وجدت ، وتقويمها مثلا .
لم أجد غير اللجوء الى  مرشدي الاب جوزيف اومي . لا اتذكر بالضبط ما قاله لي ، وكأنه كان على دراية بحالاتٍ نفسية مماثلة للاب ريشار. لم يجد المدير علاجا آخر لاضطرابي الشديد غير نصحي ودعوتي ، الى زيارة الكنيسة  والسجود امام القربان . لم يهتدِ  هيجاني الى هدوء امام القربان . إن ما حدث البسني دهشة تفوق طاقتي . بدأتُ  بمناجاة القديسين المعروفين ، وتحولت الى غير المشهورين منهم،  ولكن حتى من بين الطوباويين  لم أجد أحداً  يهبّ  لنجدتي . كان كلّ قديس أناجيه  يُحيل  الموضوع لغيره ، إلى ان انتهت المناجاة والشكوى فوق مكتب قديس مجهول ، وتمّ حفظ المعاملة فيما بعد على احد الرفوف ضمن الدعاوى ضد مجهول.
في محاولة للتهرب ، ولو فكريا من الحيطان العالية للمعهد ، طلبتُ من اهلي تزويدي بصورة لجبل سورك القريب  من منطقتنا . كنت انظر الى هذه الصورة وبشئ من الخيال ارى  نفسي في شقلاوا . كانت الصورة تدعوني الى صمت وتأمل عميقين ، لاني  في موسم الصيف ، وفي موضع معين قريب من البيت ، كنت ابصر قمة جبل سورك وهي تلاصق السماء الزرقاء . كنت وكأني ارى السماء  وباب الملكوت مفتوحا بجماله وبهائه.
في المعهد ، كنت قد بنيتُ حياتي الروحية على فكرة بان الله هو الجمال الكامل ، كانت هذه الحقيقة تساعدني على قدر المستطاع ان أرى كل شئ جميلا نيّرا ، او أنسى مشاكلي وهمومي عبر تركيز انظاري على جمال الله . هذا الجمال كان يعني النور المشعّ في فضاء شاسع، يبسط فيه المسيح ذراعيه بطلعة بهية وابتسامة، وحلم ، وهدوء ، وكلها زرع الطمأنينة الكاملة في النفس.
النظرة المسيحية اللاهوتية الى الملكوت والله مشابهة لهذه الفكرة ،اعني ان الحياة الابدية هي النظر الى الكمال والجمال الكامل الذي يملا النفس بكل ما تشتاق اليه ، بحيث لا يبقى نقص او فراغ ، فلا تعو د النفس ترغب شيئا آخر لانها مغمورة تماما ، وفي ذروة سعادتها ، وتبقى هذه الحالة متجددة باستمرار والى الابد .
من بين المراقبين الذي تعاقبوا على قسم الصغار ، اذكر نعمان وريدة  الذي اصبح كاهنا وتوفي فيما بعد ، حنا عوديش من بطنايا ، اصبح مطرانا على كندا وتوفي ، حنا زيا مرخو من مانكيش  الذي سيم مطرانا لأربيل وتوفي في الاردن بعد فترة غيبوبة . وكان تربطني علاقة قوية بالتلميذ حنا زيا مرخو . واذكر ايضا من بين المراقبين ، فرنسيس منصور الذي بعد تركه المعهد ،  التحق بالحركة الكردية تحت اسم قيصر حجي ولاقى حتفه هناك .
كانت حيطان المعهد عالية ، ولهذا في بعض الاحيان ، كان مجرد الصعود الى سطح السمنير في مهمة او عمل اخر ، يساعدنا في الهرب مؤقتا من المحيط الداخلي الضيق . كان النظر الى سطوح البيوت المجاورة والتطلع الى مسافة ابعد ، يجعلنا ننسى قليلا  ، فتنفرج نفسنا وينشرح صدرنا .
من بين مدرّسينا يجب ان اذكر القس جبرائيل جرخي  من الموصل الذي علّمنا العربية نحواً وصرفاً ولسنوات عديدة . في بعض السنوات كان ينوب عنه القس البير أبونا . وفي مرحلة السنة السادسة ، كان الخوري حنا رحماني الذي يتولى دروس الادب العربي . اللغة الفرنسية بدأناها مع القس اسطيفان زكريا والقس البير ، وانتهينا بدراسة الادب الفرنسي لسنتين مع الاب ريشار. الاب جوزيف اومي كان يتولى تدريس الدين لقسم الصغار .اللغة اللاتينية تلقيناها على يد الاب ريشار ، الهندسة والجبر كانتا من اختصاص الاب امودري ، كان معلما بسيطا وطيب القلب ولكنه من حين لاخر  يتعرض لنوبات عصبية تغير ملامحه. مادة الدفاع عن الدين أي (الابولوجيتيك) ، كان يعلمها الاب فانصان ليكونت ، مادة الفلسفة تولى تعليمها  لمدة سنتين الاب جان فيليب لاشيز . أما اللاهوت العقائدي  كان من مسؤولية الاب فيرياث ، واللاهوت الادبي كان الاب مينو . الانجليزية لمدة سنة واحدة كان يلقى دروسها الاب جان فيّيه الذي اصبح مستشرقا ، وكتب العديد من الكتب التاريخية عن المسيحية في الموصل وغيرها . جميع هؤلاء المعلمين كانوا فرنسيين من الرهبنة الدومينيكية ، العائدة للقديس عبدالاحد . وتلقينا أيضا بعض دروس العبرية من قبل الاب فيلو سالو الأستوني الجنسية  ، وفي فترة لاحقة كانت لنا دورة في الدين الاسلامي على يد الاب جومييه المختص في الدين الاسلامي ، وكان مقيما في القاهرة .
بعد هذا السرد اليابس ، هل بقى لكم نفس لمتابعة الحديث ؟ سنرى.

13
من ذكرياتي – معهد مار يوحنا 3
شمعون كوسا

كان السمنير يضمّ تلاميذ من مختلف المستويات المعيشية والتربوية . كان هناك أهل الجبل القادمين من العقرة ، وعمادية ، وزاخو ، وشقلاوا ، وهناك من كان من الموصل والقوش وبطنايا، وباقوفا ، وتلكيف ومناطق اخرى ، أما الاغلبية كانوا من أهل قره قوش الاقرب الى الموصل.
من بين الشتائم التي كانت شائعة بين التلاميذ آنذاك : (إيمني بانفك ) والايمني هي الشحاطة ، او (سقيع او سخيف) ومنها  باللغة الفرنسية (كورنيشون) والتي تعني ترعوز  او( شنابان) او (باندي) اعني قاطع طريق او رجل عصابات . كانت هذه الكلمات الوحيدة المسموح لنا بها كي نشفيَ غليلنا . فالإنسان مهما كان ، يحتاج الى بعض الكلمات كمتنفّس يتيح له الاعلان عن غضبه وامتعاضه . هذه الكلمات او النعوت  شبه البريئة ، كانت من ضمن خطايانا التي كنا نعترف بها . بالإضافة الى الطياشة اثناء الصلاة او الشراهة في الاكل . كان علينا الاعتراف كل اسبوع  ولحسن الحظ كانت هذه الكلمات تساعدنا على ملء فقرة ذكر الذنوب !!!.
في هذا السياق اقول عن نفسي ، بانه كان ينتابني وسواس ، يجعلني احيانا الجأ للاعتراف  لأتفه سبب او هاجس ، خشية ان اكون قد ارتكبت خطيئة ضد العفة مثلا ، بسبب رؤية صورة لقبلة وقعت عليها عيني ، او مناظر باغتتني بها الطبيعة على حين غرّة ، او افكار مرّت في خاطري دون ارادتي.  بغية قطع دابر الوسواس، ولصعوبة ايجاد جواب قاطع عن درجة التلذذ بالفكرة الفلانية او المنظر الفلاني ولعدم التأكد بان المعرفة والارادة قد توفرتا لخلق خطيئة كاملة ، كنت أقوم باعتراف اضافي لكي احسّ بالراحة . اعتقد بان هذا التصرف لم يكن محصورا بشخصي انا فقط ، لان الوسواس يكون نتيجة تربية وتعليم مغلقين  وهذا كان الجو السائد .
انا اقول ان المسيح ذاته ، والذي كنا نسعي للتمثل به عبر دراستنا ومن ثم كهنوتنا ، كان أرحم في هذا المجال. أفليس المسيحُ  الذي ارتضى ان تسكب مريم المجدلية عطراً ثمينا على قدميه ، مريم المجدلية المعروفة بسمعتها . وقَبِل ايضا ان تمسحها بشعرها الجميل المسترسل ، والشعر هو أحد رموز الانوثة بدلالة ان مار بولس يدعو النساء لإخفائه . أو ليس المسيح الذي أنقذ الزانية من رجم محقّق على يد الفريسيين المرائين عندما قال لهم : من منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر وقال للزانية ، انا لا ادينك اذهبي ولا تُخطئي . أوليس المسيح الذي كلم السامرية وطلب منها ان تسقيَه ماء ، متحدّيا بذلك آراء اليهود بهذا الخصوص ؟
حاشا ان يكون المسيح قد حرضنا على الخطيئة ، ولكننا يجب ان نقرّ بان افكاره كانت اوسع من ان يضعنا في دائرة ضيقة بهذا الشكل . كان المسيح يتصرف بصورة طبيعية وبعفوية.  فالمرأة كائن جميل خلقه الله لان الله نفسه هو الجمال ، لذا يجب ان ننظر الى هذا الجمال ، ومن خلاله نمجد خالقه ونشكره ، وهكذا تكون افكارنا في الاتجاه الصحيح ، لعله في حينه  كانت الظروف لا تسمح بمثل هذا التحليل ، ولو انه هو التحليل الموضوعي الصحيح .
 كان القوي يفرض نفسه والضعيف يلجأ  للصلاة ، او على الاقل هذه كانت نصيحة مرشده الروحي،  فيتّجه  المغلوب على امره  الى التعبد والسجود امام القربان ، شاكيا أمره وباحثا عن عزاء في المسيح وبعض قدّيسيه الذين يرتاح لسيرتهم او يعرف بانهم مختصون بحل معضلته . لا شك ان الانسان  يجد راحة  في خلوته داخل الكنيسة ، غير ان الراحة هذه لا تدوم ،  لأن ساجد الامس  ما ان يفتح عينيه صباح اليوم الثاني ، يجد نفسه من جديد امام نفس المشاكل ونفس الواقع المرير ، على الاقل هذه كانت تجربتي البائسة الخاصة.
وعلى ذكر القديسين  اود سرد معلومة قد يستأنس بها البعض،  وهي ان اغلب القديسين هم ذوو اختصاص ، فمثلا : القديس انطونيوس هو شفيع المفقودات ، فالذي فقد شيئا يناجيه للعثور على ما فقده . القديس كريستوف هو شفيع السواق والسواح لأنه اشتهر بحياته بنقل الناس من ضفة النهر الى الضفة الاخرى .القديس يوسف هو شفيع العمال لأنه كان نجارا .القديس متى هو شفيع موظفي الجمارك . القديس لويس مختص بآمور الحلاقة والحلاقين . القديسة سيسيليا هي شفيعة الموسيقيين والمطربين . القديسة ماريا كورتي شفيعة العذارى لأنها ماتت دفاعا عن طهارتها .القديس إيف شفيع المحامين والقضاة .لأنه كان محاميا وقاضيا في منطقة بريتانيه في فرنسا وكرس حيته للدفاع عن الفقراء  ، القديسة مرتا شفيعة الطباخين وهي اخت مريم والتي كانت قد طلبت من المسيح ان يطلب من اختها كي تساعدها في تهيئة الطعام . القديس نيكولا هو شفيع باعة الخمور ، لعله كان يمتلك كروما كثيرة ،  والقديس هوبير هو شفيع الصيادين ، وهلم جرّا لان القائمة طويلة .
لا اريد ان انهي كلامي هذا اليوم دون ذكر حادثة وقعت لابي ، وانا اذكرها لأني كنت آنذاك اكليريكيا في العطلة الصيفية ، وأيضا لمغزاها الاجتماعي . 
 الحدث يرقى حسب اعتقادي الى سنة 1966 او 1967 . كنا لا زلنا قاطنين في البيت الطيني القديم ، تعرّض والدي الى محاولة اغتيال من قبل شخص كنّا نتمنى ان يكون مجهولا .أتى الجاني في ساعة متأخرة من الليل مهدّدا مبتزّا ، فنادى ابي من الخارج عند الشباك ، مطالبا بمبلغ معين من المال . اوعزت والدتي بيدها الى أبي كي يترك سريره بصمت ويتحول الى موقع آمن داخل البيت . أجابته امي وقالت  : ليس لدينا هذا المبلغ ، ومن أين يمكننا تدبيره في هذا الليل ؟ استمر المجرم بتكرار نفس التهديد والطلب ،  واطلق النار باتجاه سرير والدي ، لأنه كان على دراية تامة بموقع السرير . إخترقتِ الرصاصة الشباك واستقرت في الحائط  بجانب السرير. لم يُصب احد باذى لاننا  كنا منبطحين . ولّى الجاني معتقداً بانه اصاب الهدف وبان مهمّته تكللت بنجاح . كان صوت هذا المجرم معروفا  لدينا ، وتصوّروا بانه كان شخصا يُفترض ان يحرس المنطقة ، لانه كان يتقاضى اجرا شهريا من قبل دائرة المصايف لقاء ذلك.
غداة اليوم الثاني ، وحال علمه بالخبر ، هبّ مدير المصايف ، الشيخ حسين ، مسرعاً الى شقلاوا قادما من صلاح الدين ، والتقى كلّا من جدى وابي واخي الذي كان قد تعيّن حديثا  في المصايف . لشدة تأثره وحنقه ، قرّر المدير وعلى الفور  فصلَ هذا القاتل الذي لم يكن غير حارس المصايف . فوقع جدي على يدَي الشيخ حسين ، لا لكي يشكره على قراره ، ولكن ليرجوَه وبحرارة عدم الاسراع في قطع خبز هذا المجرم اللطيف الذي لم يرتكب غير جريمة بسيطة وهي محاولة اغتيال ابنه !!!  هذه كانت استعدادات جدّي المُستقاة جزئيا من تعليم المسيح والجزء الكبير منها من كتاب الخوف ، الخوف من المجهول ، الخوف ممّا هو اكبر ، لان الذئاب الخاطفة بوسعها العودة  للانتقام والانقضاض بشراسة على نفس الفريسة او واحدة اخرى غير بعيدة عنها.
خرجتُ قليلا عن جو المعهد ولكني سأعود في حديث قادم .

14
من ذكرياتي - معهد مار يوحنا الحبيب (2)
شمعون كوسا
اواصل هنا ما كنت قد بدأته عن مشواري الطويل في معهد مار يوحنا الحبيب . اليكم اذن اعترافاتي :
وبما انه كان عليّ القيام بنصف ساعة تأملٍ صباحَ كلّ يوم ، كنت اُنتهز فترة ذهابي وإيابي للكنيسة في ممارسة هذا النشاط الذهني ، وكانت الطبيعة بأكملها تؤازرني في توفير افكار واحاسيس تُشغل عقلي وعيوني وآذاني . ولكي أكون دقيقا امام الله والتاريخ ، يجب ان اقول باني كنت استقطع من الوقت المخصص للتأمل ، الدقائقَ التي أمضيها مُرغما  في إبعاد الكلاب الشرسة لخجه كوجى ، وإلهائها  بشتّى الطرق.
في السنة الثانية ، دخل السمنير من شقلاوا ، كلّ من يوحنا عبدالاحد ، الذي سيم كاهنا سنة 1970 وخدم بنجاح في شقلاوا وانتهى مقتولا بأيدٍ آثمة غادرة . ودخل معه أيضا حكمت بابير الذي استبدل اسمه بقسطنطين .
في السنين التي تلتها ، دخل المعهد من شقلاوا كلّ من خوران بولص وحبيب مربين وبعدهما دخل صليوا عزيز ونوري توما .
كانت تبدأ كآبتي اعتبارا من الاسبوع الاخير من العطلة الصيفية ، حيث كان يبدأ العدّ التنازلي لمغادرة شقلاوا باتّجاه الموصل . كان موسم الخريف يساعد على هذا الشعور ، فالثمار تهاجر تباعا اشجارها ، والعنب يترك الكروم ، والاوراق ، بعدما ينقطع عنها النسغ ، تصفرّ وتتساقط  يائسة باكية . كنت اقول في نفسي لقد حلّ زمن التهيّؤ للرحيل ومغادرة الهواء الرحب للدخول في علبة السردين . كان الوداع دوما احتفاليا مأساويا ومليئا بالدموع ، وكان كافة افراد العائلة يحضرون هذه اللحظات .
يوم  السفر، كان يضع جدي في جيبي مبلغ دينار ونصف والقس فرنسيس ايضا ، الذي كان يبيت عندنا عشية الرحيل ، كان يشارك بمثل هذا المبلغ ، وأخي يعقوب ايضا ، يمنحني مبلغا بسيطا . على اية حال ، لم أكن اصرف في المعهد اكثر من خمسة دنانير في السنة ، وجُلّ المبلغ كان يذهب لشراء بعض التقويّات والهدايا لتوزيعها في الصيف ، وايضا للمعايدات التي ارسلها للأهل والاصدقاء في مناسبتَي عيد الميلاد والقيامة.
كان نظام الدراسة في السمنير ينقسم الى ست سنوات للصغار وست اخرى للكبار. السنوات الستّ الاولى ، كان يُخصّص منها سنتان للمبتدئين الصغار،   وسنتان للمتوسطين ، وسنتان للكبار . كان الزيّ لهذه المرحلة زيّا مدنيا موحّدا.  في السنة الاولى كان التركيز على تعلم اللغة الفرنسية بشتّى السبل ، لأنه بعد مضيّ ثلاثة اشهر من دخول الطالب الى المعهد ، يُمنع عليه التحدث بغير الفرنسية وتحت طائلة عقاب . بجانب  الفرنسية كان يتابع الطالب دروسا للعربية والارامية واللاتينية والرياضيات والدين والعلوم الانسانية. وفي كل سنة يرتفع مستوى التعليم والتعمق في هذه المواد .
بعد اكمال مرحلة  الصغا ر ، كان  ينتقل الطالب الى مرحلة الكبار في ست سنوات عامرة اخرى . يرتدي السوتانة السوداء ، ويبدأ  بسنتين في دروس الفلسفة التي كانت تشمل تاريخ الفلسفة ، ومواد الميتافيزيقية والمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع ، لان الفلسفة دراسة لا بد منها لفهم اللاهوت . وكانت هناك دروس للكتاب المقدس  خلال سنوات اللاهوت الاربع . والدروس تُلقى باللغة الفرنسية من قبل آباء دومينيكان قادمين من فرنسا .
 مع ابتداء مرحلة الفلسفة ، يُكلف الطالب كل سنة،  بتحضير موعظة لإلقائها في صالة الطعام ، ظهرا بحضور الاكليريكيين صغاراً وكبارا . للعلم فقط ، كانت تتمّ وجبات طعامنا بصمت مطبق ، حيث كان الجميع ينصتون الى كتاب يقرأه احد الطلاب عن سيرة قديس او كتاب تاريخي او غيره  . فيما يخصني، أول موعظة كُلفتُ بها ، كانت عن زكّا العشار ، هيأ لي الموضوع باكمله القس فرنسيس ، وحفظته أنا على ظهر قلبي . كانت تستغرق الموعظة بين ربع ساعة الى عشرين دقيقة .
بلغتُ مرحلة الكبار ، اعني مرحلة ارتداء السوتانة ، وبدأت الجرأة تدبّ قليلا داخل نفسي ، ففكرت بترك المعهد . انتهزت فرصة زيارة القس فرنسيس الى المعهد وفاتحته بالموضوع . كانت دهشته قوية ، فاتاني بحديث طويل ومعمق  جعلني انبذ الفكرة .
كان ردّ القس فرنسيس مشروعا ونابعا من رغبته الشديدة في ان اصبح كاهنا واخدم بمعيته جماعة شقلاوا . كان يرتاح لي وهذا كان شعور متبادل بيننا ولحدّ اليوم . إني ارى فيه  كاهنا ذا شخصية قوية وروحية عميقة . انه طيب المعشر ، متجرد عن المادة ، محب للحياة وافراحها البريئة ، والصفة المهمة الاخرى  التي تشدّني اليه بصورة خاصة هي ثقافته الغزيرة . كان يطالع كثيرا في جميع الكتب والمجلات، خاصة الفرنسية ولديه قابلية حفظ مواضيعها وتواريخها بشكل دقيق. عندما يتناول القس فرنسيس الحديث في محفل ما ، كان الصمت يخيّم على الجميع لجني المنفعة ممّا يقول ، والالتذاذ بأسلوبه المرح والذكي .
بدأتُ بتطبيق برنامج جديد في حياتي الروحية ، تتمثل بكبح جمح الرفض الذي يملأ  نفسي ، وتعبئة الفراغ بالتأمل العميق والتفرغ الى السجود امام القربان وتلاوة الوردية وقراءة النصوص الروحية للقديسين الاوائل . ولكني كنت كالذي يُشعل نارا من هشيم تلتهب فترة ويعلو نارها وتشتد حرارتها ولكنها لا تقاوم طويلا فتخبو وتخمد. وبخمود النار يعود اليأس من جديد وبصورة اشدّ، واستمرت الحالة على هذا المنوال ، في اشعال نار لا يطول لهيبها كي يغدو هشيما  ، كنت اصل احيانا الى القمة كي اعود مرميا على حضيض بارد ، حيث الشعور بالضياع .
في الفترات التي كنت مشبّعا بالروحانيات ، كنت ابثّ حولي حالتي الروحية واتحدث مع الزملاء الاصغر مني سنّاً ، وكانوا يعجبون باندفاعي ويتحمسون لحماسي ويقتنعون بكلامي ويطلبون المزيد ، لذا كان لي الكثير من الاصدقاء الصغار .
انه من المؤسف جدا الاقرار باني لم اشعر يوما ، في قرارة نفسي ، باني سأنتهي كاهنا ،  ولم أقتنع البتّة بهذه الفكرة . بعد كل سنة كانت تقربني من الاجل المحتوم ، كنت احاول إرجاء التفكير في الموضوع لكي لا ابصر نهاية لا احبّها . كنت اعتقد بان الكهنوت التزام قاس لا مفرّ منه لمدى الحياة . أنا مِمّن يطبّقون ما هم مقتنعون به ، وينادون به عاليا ويعلنون بصراحة ما لم يفز بقناعتهم. كانت لي شكوك كثيرة  في ما كنت ادرسه ، كلام نظري جدا ، تناقضات واسئلة لا تجد لها جوابا . كانت لي أيضا ملاحظات واعتراضات على تصرفات اغلب  الكهنة ،  ولم اكن اقبل على نفسي ان اوضع في نفس السلة مع الكثير من الكهنة الذين اقرأ في باطنهم بانهم يهزؤون بمشاعر الناس ويضحكون على عقولهم . وهؤلاء هم كثيرون. كنت مقتنعا بانه سوف لن يكون بمقدوري معارضة هؤلاء  ، واذا اخترت السير ضد تيّارهم ، سوف يسحقوني لا محالة ،  لانهم يرون فيّ شخصاً  يضرّ بمصالحهم . لعلني كنت مبالغا في مثاليتي ولكني كنت هكذا .
بالنسبة لي ، لا توجد هناك حلول وَسَط  في اتّباع المسيح ، وان كلام المسيح واضح في هذا الشأن وفي اكثر من صفحة وفصل في دعوة تلاميذه للفقر،  والتجرد التّام ،  وترك كل شيء ، والتضحية ، ونكران الذات ، والتواضع لحدّ اعتبار انفسهم خداما وليس اسيادا. أين اخوتنا الان من هذا الكلام الصريح ؟!!
كنت استطيع تقبّل الكهنوت ، ولَكان الناس يستقبلوني بحرارة كبيرة ويحتفلون بيّ ، لرخامة صوتي وتفوقي الدراسي ، ولكني كنت بتصرفي هذا اصبح مناقضا لقناعاتي ومنافقا وغير صادق مع نفسي . وهذا ما لا اقوى على تحمله لان  الصوت الداخلي كان اقوى منّي . مما لا شك فيه ان لبعض الاشخاص قابلية الازدواجية  في التصرف ، واسكات ضميرهم وتوسيع آفاقه لفترة ما ، او لاجل غير مسمّى ، او لربما لمدى الحياة ، وهؤلاء هم احرار .  قد يكون افتقاري لهذه القابلية نقصا فيّ ، ولكني لم اشعر يوما ولحدّ اليوم بهذا النقص .  وللحديث سيكون بقية.

15
من ذكرياتي - معهد مار يوحنا
شمعون كوسا

كنت حائرا جدا بشأن هذا الموضوع  ، وحيرتي كانت تشتدّ عند التساؤل فيما  اذا كان نشر الموضوع سيفيد القارئ بشيء أم لا ، لا سيما وان  الصراحة هي التي تتحكم بكل ما سأتحدث به ، صراحة قد يلومني البعض عليها ، وقد يستغرب آخرون ، او يحزنون ويتحسرون قائلين للخسارة. لا استهدف هنا تبرير تركي المعهد فيما بعد ، لأني اتخذت القرار بنفسي ولم اندم عليه يوما. هدفي هو مصارحة نفسي وسرد ما يعتلج داخل صدري، بصدق ، منذ ستة عقود . الان وقد أنهيتُ حيرتي بهذا السطور ، أبدأ قصتي وأقول :
دخلتُ معهد مار يوحنا الحبيب (السمنير) ، وبدخولي لهذا المعهد في نهاية صيف 1957 ن بدأتْ حقبة مهمة في حياتي واستقطعتْ منها فترة الشباب باكملها. أدخَلني والدي المعهدَ لكي يعوّض ما فاته من  مهمة لم ينجزها في حينه ، لأسباب صحية ، فكانت رغبته الشديدة ، أو بالأحرى ارادته في ان اصبح كاهنا عوضا عنه.
دخلتُ السمنير في عهد روفائيل بيداويد الذي كان آنذاك المدبّر البطريركي لابرشية كركوك بعد وفاة المطران افرام كوكي لان  شقلاوا كانت تابعة لابرشية كركوك . على طلب من ابي ، رشّحني بيداويد للدخول الى السمنير ،  ويومها كان يرافقه كل من القس روفائيل بنيامين والقس فرنسيس شير اللذين مع ابي ، اصبحا اعزّ اصدقاء روفائيل بيداويد  في عهد اسقفيته وحتى بطريركيته. اتذكر القس روفائيل مُوشوِشاً باذن روفائيل بيداويد باني اتمتع بصوت رخيم .
في دخولي السمنير كان لي بعض المحفزات السطحية ، كنت ارى تلاميذ السمنير في فصل الصيف يرتدون بدلة خاصة ، يتكلمون الفرنسية ، يقومون بسفرات في مختلف المصايف ، لهم الكثير من الامتيازات ، ويحضون باحترام مسيحيي شقلاوا ، ولربما احد دوافعي الباطنية الاخرى كان التخلص من اجواء مدارس شقلاوا وسيطرة بعض الفئات المزعجة فيها.
كان التلاميذ (الاكليريكيون) الشقلاويون آنذاك ، حسب قِدَمِهم ، كلاّ من : إسحق ايليا الذي اصبح كاهنا تحت اسم اسطيفان ربان ، يعقوب دنحا الذي اصبح كاهنا ومن ثم مطرانا بنفس اسمه، وبول ايليا الذي يعرف الان باسم القس بول ربان. أنا اتحدث هنا عن السنة التي دخلتُ فيها المعهد ، لان السنين التي تلتها شهدت تلاميذ آخرين وابرزهم كان يوحنا عبد الاحد شير الذي اغتالته يد الاشرار.
دخلت السمنير ولم تمضِ على دخولي غير ايام معدودة ، حين بدأتُ اشعر بندم شديد الى حدّ اني كنت اتمنى في سرّ نفسي لو يصدر قرار بإغلاق السمنير كي اعود الى اهلي . الاغراءات التي اتيت لأجلها لم تملأ نفسي ، لاني وجدت نفسي من فضاء شقلاوا المفتوح الواسع ، وطبيعتها الخلابة وجبالها العالية المزركشة ، واشجارها الباسقة وهوائها العليل ، وجدتُ نفسي بين اربعة جدران عالية تكاد تكون سجنا . وجدت نفسي فجأة بين مجموعة من الناس فُرضوا عليّ بكل ما فيهم من خصوصيات ، وانه كان عليّ إمضاء تسعة اشهر بمعيتهم ليل نهار، لان المعهد كان مدرسة فرنسية داخلية ، وعلى التلميذ قضاء مدة السنة الدراسية بأكملها دون العودة لأهله.
حال دخولي المعهد ، خُصّص لي الرقم 8 الذي لازمني طيلة مكوثي في المعهد ، بحيث كانت جميع حوائجي تحمل هذا الرقم . كما خُصصت لي رنّة جرس خاصة  كان يستخدمها المدير لمناداة التلاميذ في مكتبه ، وهي الاشارة البرقية : تا – تت – تت . أعني رنة طويلة ورنتين قصيريتين متاتليتين . كان لكل تلميذ رنته الخاصة ترافقه طيلة حياته في المعهد . كان المدير يستخدم هذه الطريقة لمناداتنا ، لاغراض مختلفة كتعليمات أو ارشادات روحية أوغيرها . وهذه المنادات  الرنّانة كانت تتم في اوقات الصمت ، ليسمعها التلاميذ أينما كانوا.
وهكذا بدأ صراع قوي في داخلي وعشعش لسنوات كثيرة ، وبما اني كنت من النوع الكتوم الخجول ، لم أقوَ على الافصاح عنه خشية الفضيحة ، وايضا احتراما لرغبة ابي وايضا جدّي منصور الذي كان شخصا مهما ويولي اهمية كبير لتقبلي الكهنوت . وبغضّ النظر عن هذا او ذاك ، كنتُ واعيا تماما للتحدّي والعبء الثقيل الذي وقع على كاهلي  والرسالة التي تمّ تكليفي بها ، وإن كنت غير مقتنع بكل هذا .
كنتُ اعيش في محيط غريب عليّ ، محيط لا يربطني به سوى إرادة ابي ، لأني لم احبّ لا دراسته وإن كنت متفوقا فيها ، ولا حياته القاسية التي يمكنك نعنها دون تردد بالظالمة ، لأنها  كانت ، بكل معنى الكلمة ، اقسى من حياة جندي من صنف المغاوير ، هل لك ان تتصور مثلا بانه لم نعرف النار ولم يكن لنا أي نوع من التدفئة في فصل الشتاء اللادغ.
بما اني كنت خريج الصف السادس الابتدائي ، وهذا كان نادرا بين من كانوا يدخلون السمنير آنذاك ، تمُ إلحاقي مباشرة بالصف الثاني . من بين ابرز زملاء صفي المعروفين كان : بطرس موشى من قره قوش الذي اصيح  مطرانا للموصل . حنا بيوس شيخو من القوش الذي سيم كاهنا  وتوفي في امريكا ، فيليب زيا القس من كومانى الذي اكمل سنوات المعهد وترك ، اندراوس اوراهام من سرسنك الذي ترك وتابع دراسته في فرنسا ، لوقا بولص من خرجاوه الذي سيم كاهنا وبعد سفره الى روما تفرغ للتجارة ، ايشو يوسف من سناط ، هذا بدوره اصبح كاهنا تحت اسم افرام غير انه فيما بعد عمل في دار نشر بفرنسا. بهنام توما الذي اصبح كاهنا باسم سليم ،وسبعة عشر آخرون كلهم تركوا.   
كنت قد تلقيت بعض الدروس الفرنسية من والدي في شقلاوا وهذا ما ساعدني على الحصول على المرتبة الخامسة في الامتحانات النهائية لسنتي الاولى ، بين زملاء كانوا قد سبقوني بسنة .
اثناء تواجدي في شقلاوا في الصيف ، كان يتوجب عليّ حضور القداس يوميا في الساعة الخامسة والنصف صباحا،  وأيضا صلاة الرمش في الساعة الرابعة عصرا  ، وهذا لم يكن بالامر الهيّن بالنسبة لي انا الساكن في حارة مهندسخانة ، اعني على بُعد خمس وعشرين  دقيقة من الكنيسة . كنت انهض صباحا في الساعة الرابعة والنصف للتوجه صعودا الى منطقة البساتين مشيا على الاقدام . في طريقي الى الكنيسة ، كان خوفي من كلاب خجه كوجى ،  حيث كانت هذه الكلاب الشرسة  تتهيأ صباحا لمرافقة قطيع الغنم المتجه الى المراعي المجاورة . كنتُ احاول تجنب تلك اللحظات بشتى الوسائل ، ولكن الكلاب كانت تبدو لي وكأنها  على بيّنة من مواعيد القداديس ، فكانت تتربص بي ، وعند دنوي من المنطقة ، كانت تلاحقني . كنت مضطرا لقذفها بالحجارة لإبعادها قليلا ، وبعض الاحيان كنت احمل قطع خبز ارميها بعيدا لإبعادها ولو قليلا . وهذه كانت معاناتي يوميا ،  كنت احمل حجارة وقطع خبز اتّقاء لشرّ كلاب خجه كوجى / /
اتوقف هنا ، وسيكون للحديث بقية طويلة اذا رغبتم..
 

16
ايليا ابو ماضي شاعر تأثرت به
شمعون كوسا

رُبّ قارئ يستفهم مستغربا ويقول : ما هذا الشاعر وما هذا الاسم ؟  ألا يذكّرنا هذا الاسم ُ ، نحن المطلعينَ على بعض فصول الكتاب المقدس ، بالنبي ايليا ؟ ألا يحمل الشعراء العرب اسماء عربية أو ألقاب اصيلة اشتهروا بها ؟ هذا صحيح ، ولكن هذا لا يمنع ان يكون ايليا ابو ماضي شاعرا عربيا اصيلا ، و تعلقي الشخصي الشديد به ، لا يعني البتّة انتقاصي من الشعراء الكبار الاخرين ، المعروفين ببحورهم الستة عشر ، كالطويل والمديد والبسيط والكامل وغيرها ،  وأوزانها وتقطيعاتها  وتفعيلاتها ، وأيضا الشعراء الاحرار الذين أبوا  البقاء اسرى في قيود الشعر المألوفة . انهم برمّتهم يتناولون شتى المواضيع في قصائدهم ،  وكل ينظم قصيدته بأسلوبه  المميّز الجميل . ولكني شخصيا ، اضع ايليا ابو ماضي في مقدمة شعرائي المفضلين.
ايليا ابو ماضي شاعر يخاطب الروح، أنا شخصيا ارى  في شعره ما تصبو اليه جوارحي من تغزلٍ وتغنٍّ بالطبيعة وجمالها ، وايضا في تحليله لأمور الحياة وما تحيط بها من ظواهر. انه شاعر يتناول الانسان في كافة مراحله ،  كما انه يسترسل في نقد الكثير من المعتقدات والعادات والتقاليد.  هل إن تعلقي الشديد به متأتٍّ من كون  رأسي قد سقط في اجمل بقعة في شمال العراق ؟  بقعة تضاهي بطبيعتها أجمل بقاع لبنان ؟ لبنان ، مسقط  رأس الشاعر ، لبنان ، المشهود له بجمال جباله ، ووهاده ، ووديانه،  وخضاره وأثماره ونسيمه العليل؟
ايليا ابو ماضي ليس مُشاهدا يكتفي بوصف ما تقع عليه عيناه ، إنه أديب ومفكر وفيلسوف ، انه شاعر يشاهد ، ويمعن النظر فيما يراه ويقلبه ويثنيه من افة  زواياه ، ومن ثمّ  يرسمه لوحة جميلة ، عبر ديباجاته ومفرداته التي تصل الى أي قارئ عادي بسلاسة ، أليس هو الذي يقول بخصوص الفن والرسم : والنور يبني في السفوح وفي الذرى دورا مزخرفة وحينا يهدم ، فكأنه الفنان يعرض عابثا آياته قدام من يتعلم ؟ 
وهكذا ، تراه يمدح حينا ويهجو احيانا أخرى، وينتقد مفاهيم مغلوطة  لم يقوَ حتى التاريخ على استئصالها لحد الان ، وهو في ذلك يتجه  مباشرة الى هدفه. وسيّان لديه  اذا كان الهدف رجلَ دين  أو دولة ، او رئيس عشيرة او شخصية ثريةّ يُحسب لها الف حساب ، وشأنه في ذلك شأن أغلب المتنورين من بين الكتاب والمفكرين والفلاسفة الغربيين. لان ايليا ابو ماضي  مع العملاقين ، جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعدد ضئيل آخر ، التحقوا بهذا الركب واتخذوا منحاهم .
لقد تابعتُ ايليا ابو ماضي منذ بداية الستينات . لا اعرف كيف واين وقع  ديوانه الشعري ، الجداول،  بين يديّ . بدأت بقراءته في حينه واغرِمت بسلاسته . اسلوبُه الطبيعي العميق شدّني كثيرا فاسترسلت في قراءة معظم قصائده .  كنت في ذلك الزمان تلميذا في معهد ما يوحنا الحبيب . في نهاية عطلتي الصيفية في شقلاوا ، اصطحبتُ هذا الكتاب معي. وكان المألوف بان تُعرض الكتبُ على مدير المعهد ، الدومينيكي الفرنسي ، كي يأذن به وقراءته . استعان المدير باحد مساعديه المحليين  في فحص محتوى الكتاب ، فأتى القرار بحجب الكتاب عني.
في البدء لم افهم القرار ،  ولكني فيما بعد عرفت بانه كان قد تمّ التركيز على قصيدة الطلاسم التي اعتبرها أنا  ، قطعة فلسفية جميلة جدا،  لانها تتطرق الى الحياة  والانسان . انها رائعة مكونة من اربع وعشرين صفحة يستوضح الشاعر ويضع علامات استفهام في كل ما يتطرق اليه ، ولكن الجواب يأتيه دوما مخيبا للآمال بكلمتَي : لست ادري .
وباعتقادي قد قام احد العملاقين عبدالوهاب او عبد الحليم بتلحين  مقدمة الطلاسم المستهلة بِـ : جئت لا اعلم من اين ولكني اتيت ... .   ايليا ابو ماضي   يُفصح عن افكاره في امور مختلفة مهمة ، ففي المقابر يقول : انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان ، وتلاشى في بقايا العبد ربّ الصولجان ، والتقي العاشق والقالي فما يفترقان ، افهذا منتهى العدل ؟ لست ادري . ويقول ايضا : ان يكُ الموت هجوعا يملا النفس سلاما ، واعتاقا لا اعتقالا وابتداء لا ختاما ، فلماذا اعشق النوم واهوى الحِماما ، ولماذا تجزع الارواح منه ؟ لست ادري .
يخاطب البحار والقصور الفخمة والاكواخ الفقيرة . وعن الفكر وصراعه يقول : اني اشهد في نفسي صراعا وعراكا ، وارى نفس شيطانا واحيانا ملاكا ، هل انا شخصان يأبى هذا مع هذا اشتراكا ؟ ام تراني واهما فيما اراه ، لست ادري .
وفي فقرة  اخرى يتّجه نحو الدير مستفهما ومستوضحا فيقول : قد دخلتُ الدير عند الفجر كالفجر الطروب ، وتركت الدير عند الليل كالليل الغضوب . كان في نفسي كرب ، صار في نفسي كروب ، أمِن الدير أم الليل اكتئابي ؟ لست أدرى .   ويتابع ايضا : قد دخلت الدير استنطق الناسكينا ، فاذا القومُ من الحيرة مثلي باهتونا ، غلب اليأس عليهم ، فهم مستسلمونا . واذا بالباب مكتوب عليه ، لست ادري .   
اتوقف هنا فيما يخص الدير ، لان الشاعر  يذهب بعيدا في افكاره ولا سبيل لذكرها . بقناعتي كانت الطلاسم سببا لحجب هذا الكتاب عني وحجزه في حينه .
لقد غنّيت بعض قصائد هذا الشاعر ،  وسجلتها ، واردّدها بين حين وآخر،  كقصيدة : كم تشتكي التي تقول : كم تشتكي  وتقول انك مُعدم والا رض ملكك والسماء والانجم ، ولك الحقول وزهرها وأريجها ، ونسيمها والبلبل المترنّم . وفي بيوت أخرى من نفس القصيدة  يقول : إن كنت مُكتئبا لعزّ قد مضى ، هيهات يُرجِعه اليك تندّم ، إن كنت تُشفق من حلول مصيبة ، هيهات يمنع ان تحلّ تجهّم ، وان كنت قد جاوزت الشباب قلا تقل شاخ الزمان ، فانه لا يهرم. كما غنيت ايضا قصيدة كُن بلسما اذا صار دهرك أرقما وحلاوة إن صار دهرك علقما ، وغيرها .
لحدّ الان احتفط  في مكتبتي بديوان ايليا ابو ماضي الكامل المتضمّن ثمانمائة وتسع وعشرين  قصيدة ، ومن حين لاخر اعود الى بعض صفحاته. وفي احدى مراحل حياتي كنتُ اهدي هذا الديوان لكل شخص اعزّه لجمال ما يحتويه .
احببتُ ان اذكر هذا الشاعر باختصار شديد ، لان التطرق اليه بالتفصيل يحتاج في كل قصيدة الى مقال طويل .


17
لو كان قد تفرغ هؤلاء الطغاة ولو قليلا الى الموسيقى
شمعون كوسا

كنت عائدا من التسوّق مشيا على الاقدام ، وبما اني اجول دوما بأنظاري  في كل الاتجاهات ،  باحثا عن فكرة جميلة ، عن همسة ، عن لحظة صمت أمام منظر جميل ، أو أيّ شيء يوفر لي بعض لحظات سعادة ، او يعيدني ذهنيا الى حيث كنت قد ذقت يوما سعادة عارمة ولو للحظات. كنت انتقل بين  السماء والغيوم والاشجار والطيور والمياه وانا منسجم  بموسيقى اخترتها انا بألحانها ومطربيها ، ولكني  خشية وقوعي ضحية انظاري مرة اخرى والدخول في غيبوبة او رحلة  خيالية سيحاسبني الكثيرون عليها ، اطرقتُ برأسي ، وخفضت انظاري وامسكت بحائط كنت احاذيه  كي اتشبث بجسم صلب ، واركز اقدامي على الارض . كانت الموسيقى قد شنفت اذاني وتغلغلت في الاعماق، وبدأتُ اسمع الحانا جميلة اخرى لم اكن قد بوّبتها في جهاز تسجيلي .
وفي اللحظة ذاتها ، أحسستُ بيد خفيّة تمسك بي بقوة وكأنها تقول لي : كفاك بحثا عن المجهول والدخول في عالم المتاهات التي أزعجتَ الناس بوصفها ، تعالَ هنا وأكمل ما تصبو اليه نفسك ، تعال ومتّع نفسك بما تسمعه من أصالة وجمال. فتحتُ عينيّ قليلا هنا ، واذا بي في موقع يعجّ بجمهور متنوع بسحناته وسيمائه. شئ واحد كان يوحّد الحضور ، وهو  الصمت ،  والخشوع  ، والهدوء التام  ، والابتسامة التي كانت تعكس سعادة حقيقية.
 الموسيقى التي شرعتُ بسماعها هنا ، كانت تنتقل بين اللون العربي القديم الاصيل والمقامات التركية وموشحاتها الجماعية  التي تسمو بسامعها ، وايضا المقامات الفارسية التي تعلو وتعلو كي تعوم ،  وتحوم ، وتعلّق سامعها بين السماء والارض ، ومن ثمّ تتدحرج بهدوء ، كي تنتقل  بين الجبال وقممها ، والمضائق وشلالاتها  ، بحيث يهوى سامعها المعاودة  والتحليق لفرط سعادته. وبما إني كنت بين الجبال والوديان ،  لم يحرمني جوّ الانطراب هذا من بعض الالوان الكردية القديمة. كلها كانت تعيدني أنا شخصيا الى أسعد ازمنة أمضيتها في منطقتنا ، وحتى اعادتني ولو للحظات ، الى جلسات سهر احييتها مع اصدقاء حيث كنت انتهي في اغلب الاوقات باغنية  يا نجوم صيرن كلايد لفاضل عواد ، اغنية كنت اجيد غناءها وانطرب. وعندما تحدثت عن اسعد ازمنة في منطقتنا ، برأيكم هل يحلّ لي ان أفكر بمنطقة غير شقلاوا ؟ أوليست شقلاوا اجمل بقعة في نظرنا  ، او على الاقل نظري الشخصي أنا ؟!!. كنت مندهشا لما كنت اسمعه ، وأتساءل ،  هل كل شخص هنا يسمع نفس ما اسمعه أنا ، ام أن كل سامع يتلقّى ما تهواه نفسه من جمال الاصوات والالحان ؟  وهل حدث معنا  هنا ما كان قد حدث للجمهور الذي كان يسمع الرسل عند حلول الروح ، حيث كانت الجنسيات المختلفة تسمع نفس الخطاب باللغة التي تنطق بها  ؟!!
كنتُ منطربا حقّاً لحدّ الانخطاف بما كنت اسمعه من ألحان في غاية الجمال ، كنتُ أرى نفسي  سائحا يجول في فضاء منطقتنا  بالذات . أو لم أكن  أنا ابن المنطقة قبل ان اكون سائحا ؟ ألم أكن أبصر يوميا  من فوق سطوحنا جبال تركيا المغطاة بالثلوج ، ومن جهة اخرى  وباستدارة خفيفة نحو المشرق ،  وبعد قطع مسافة معينة محدودة ،ألم أكن بجوار بلاد فارس؟
كانت الالحان تتوالى بتسلسل منطقي ، فكانت تساير الاغنية المقامَ الذي سبقها ، وبالإضافة الى ذلك ، كانت الاصوات بمجملها تخرج بنغمات اعذب من التي قبلها .  كنتُ في جوّ جعلني ان ارى كل شئ جميلا ، كنت ارى كل شيء سهلا ، كنت اشعر بحب وسلام داخليين. كان هذا الشعور الهادئ الخاص  قد رفع كافة القيود من داخلي ، وازال عنّي الحزن والكرب والخوف ، لأنها كلها  كانت قد اختفت ليحلّ محلّها  الحب والسلام والفرح والهدوء والطمأنينة .
 خرج الجميع ووجوههم تتهلل  . كنت انا ايضا مثلهم متغيرا تماما ، كنت متشوقا  لألقاء التحية على  كل من اراه ، ومستعدا لتقبيل اول من اصادفه  حتى لو كان عدوّي ، كان الحب الذي اوجدتْه الموسيقى داخلي  يدفعني من كل الجهات  كي اهبّ لمساعدة الاخرين وتلبية حاجاتهم . كنت كالذهب الذي تخلص من كافة شوائبه ، لأني لم اكن احسّ الا بالفرح الحبّ والخير.
عندما استعدت وعيي ، رأيتُ نفسي في نفس المكان الذي كنت قد توقفت فيه في محاولة لاجتناب الارتحال خياليا . نظرتُ الى نفسي معاتبا اياها ، ولكني قبل الاسترسال في المعاتبة ، فكرت وقلت :
 إذا كانت الموسيقى والالحان الراقية قد سَمَت بنفسي ، ورفعتها ، وازالت عنها الانانية والحقد ، لماذا لا يفكر المسؤولون عن الشعوب بهذا الاسلوب كي تمتلئ نفسهم حبّا وفرحا وسلاما ويجنّبوا رعاياهم الويلات ، فيهبّوا لتلبية حاجاتهم وتوفير كافة اسباب السعادة ؟ لماذا لا يقوم مستشاروهم او المقربون منهم بنصحهم بهذا الاتجاه، فيجعلوهم يخففون من  غطرستهم  وأنانيتهم  وغضبهم  ورغبتهم في الانتقام ، لان الاستماع الى ما يلذّ للنفس من موسيقى راقية  ، يمحو من داخلهم ، ودون ادنى شكّ ، كلّ ميل الى الشر؟  لماذا لا يرشدونهم الى هذا الطريق ؟
قناعتي كاملة  بانهم لو فرّغوا أهواءهم وجنحوا  ولو قليلا ، ولكن بصدق، لسماع الموسيقى الجميلة والالحان الاصيلة والاصوات العذبة ، ستتغير نظرتهم الى الدنيا والى الناس وتختفي استعداداتهم العدوانية ، وهكذا يجنّبون رعاياهم والعالم اجمع ويلات الخصام والاقتتال والحروب ،  كما نشهده الان. الموسيقى هي كالمحبة تطهر ذهن الانسان ، وتغسل قلبه وتملأه فرحا ، وتغير مشاعره تجاه  الاخرين . الموسيقى تستبدل الشرّ بالخير ، والغضب بالحلم ، والكراهية بالحب ، والحسد بدعاء الخير،  والكذب بالصدق ، والكبرياء بالتواضع ، والانتقام بالتسامح ، وكل الرذائل بالفضائل . انها كالصلاة او التأمل العميق الذي يزيد النفس هدوءً وعيا وطمأنينة .
 بقي لي ان اعترف باني قد تطرقتُ كثيرا الى هذا النوع من الحديث ، ولا اريد الاكثار منه خشية ملل البعض ،  ولكني مع هذا اؤكد بان كلمة الحق يجب ان تقال وتكرّر ، ولو  لمئات المرات.  ألسنا نسمع نفس الامثال يوميا ، ونفس المبادئ في احاديثنا ، ونفس النصائح كل صباح ومساء ، ونفس الدروس في كل مناسبة ولعدة مرات في اليوم ؟ ألسنا نسمع بخشوع كل يوم وفي كل مناسبة، كلمات سامية تفوّه بها معلم عظيم ، قبل الفي سنة !!! فيا ايها المسؤولون اخلدوا لسماع ما يطرب أنفسكم ، كي تجنبوا رعاياكم الويلات .

18
الطير الاشقر الباكي
شمعون كوسا

شدّني الشوق من جديد للخروج في نزهة على ضفاف نهر اللّوار . كنتُ قد اعتدت في سنوات سابقة على التنزه على  ضفاف الأيردر ، وهو فرع من هذا النهر ، ولكني  رغبةً في التغيير قصدت هذا النهر الجبّار ، لا سيما وانّ فصل الربيع على الابواب . ربيع ينتظره البشر كلهم وفي كل سنة ، لانه موعد لانبعاث جديد للطبيعة. فهو الذي يوعز لكل الاحياء النائمة  والمتعرية وشبه المتجمدة كي تفيق من سباتها الشتوي . فتبدأ الحياة من جديد ، ويشرع كل نبات وكل شجر وكل ورد  بالبحث عن الزيّ المخصص له . كما يعيد الربيع الحياة للطيور ويزوّدها  بلائحة ألحانه الربيعية الخاصة ، نغمات تملأ النفوس انشراحاً . انه موعد يضع الخليقة بأكملها  في مهرجان .  أما الهواء ، فانه بعدما كان عاتيا عاصفا في الشتاء ، بحركة اصبع  من الربيع  يجنح للهدوء ويهبّ كنسيم عليل منعش .
مشيتُ ونهرَ اللوار (النهرَ هنا منصوب لانه مفعول معه ). بدأت السير بين الاشجار التي  تحدّ الساحل ، وبعد فترة قصيرة جلست على مقعد يشرف  على النهر . لا يمكن للعين هنا  إلا متابعة حركة  هذا الكم ّ الكبير من الماء ، حركة لم  تتوقف منذ آلاف السنين لانها نابعة من بعيد وهي في تجدد وتغيّر  دائميَين .  للعلم فقط اقول ، بان اللّوار اطولُ نهر في فرنسا ، له روافد عديدة ، ويصبّ في المحيط الاطلسي.
بعد ان أحسستُ  بنوع من الدوار جرّاء التركيز على  حركة  هذه المياه التي لا تخلد للراحة في انسيابها ، تحوّلتُ بأنظاري  نحو الغابة الساحلية  بحثاً عن شدو أو وزقزقة جئت لاستأنس بها . لم ألمح غير عصفور واحد  جميل الشكل،  جاثم على شجرة غير بعيدة ، وكأنه  ينتظر منّي ايماءة  كي يدنو أكثر. فتحت له ذراعيّ ، واذا به يطير نحوي ويحطّ  على اقرب غصن منّي . 
بما أني معتاد على مخاطبة الطيور ، بادرتُ ضيفي بالقول : ما بال الطيور هذه السنة ، قد هجرت الغناء ونحن لا زلنا في مستهل هذا الموسم الجميل ؟ لقد قصدتُ هذا المكان بحثا عن بعض الشدو الربيعي. هل لك أن تُسمعني بعض الالحان كي لا اعود أدراجي خاليَ الوفاض ؟
بدأ الطير الجميل بهدوء بما يشبه الموّال ، نغمة حزينة تحولت تدريجيا الى لحن حزن شديد ومن ثمّ الى ملحمة مؤلمة تُدمي القلوب. اندمجتُ مع موّال ضيفي الشادي ، ودون ارادتي بدأتْ بعضُ عبراتي بالانهمار  ومع اللحن الذي ازداد حزنا ، ازدادت الدموع  الى أن أجهشت بالبكاء . كان يروي العصفور مأساتَه المؤلمة . كان الصوت شجيا حزينا أعادني شخصيا الى  ازمنة صعبة ، كان كل يوم فيها يحمل شرّا جديدا ، أزمنة كانت تتراكم الجروح والبعض منها لا يقبل الاندمال.
بعد أن أنهي الطير موّاله بهدوء ، نظرتُ إليه واذا بعيونه الزرقاء مغرورقة بالدموع . كانت هذه المرة الاولى التي ارى فيها طيرا يبكي . حافظت على بعض لحظات صمت احتراماً له، وبعدها قلت  : ما بالك يا صاحبي ، لماذا هذا الشدو الحزين ، وكأنّي بك تسرد حدثا مؤلما جدّا ألمّ بك ؟ حدّق بي  العصفور ورمقني بنظرة حادّة ،  وردّ  بغضب وقال :
كيف تسألني هذا السؤال ، هل انت غريب عمّا يجري لأهلي وبني جلدتي ؟ ألم تعرف مَن أنا، ألم تلحظ لون ريشي غير العادي كي تتيقّن  باني قادم من اوكرانيا ؟  عند هذا ، امعنت النظر في ريشه وتأكدت  فعلا بانه يختلف في جماله عن الطيور المحلية . تابع العصفور الغاضب وقال : لقد هاجر ابي الى هنا قبل سنوات وانا ، وإن كنت من مواليد بلدكم ، بقيت على ارتباط وثيق مع بلدي واتألم لما يكابده شعبي في هذه الايام .
اردتُ ان ابديَ له اسفي ، ولكنه لم يترك لي المجال ، فبدأ يُمطرني بالتأنيب  وقال : كيف تسألني هذا السؤال، ألم ترَ كيف يودّع الزوج زوجته ويقّبل طفله الصغير بدموع ساخنة ويَعدهم بالعودة القريبة ، وهو يعرف تماما بانه ذاهب الى قدر محتوم ؟ كيف تسألني هذا السؤال ،  ألم ترّ الطفل التائه في الطريق والذي اضاع امه واباه لان قُتلوا ، فبقي وحيدا يشكو أمره لدميته ؟ كيف تسألني هذا السؤال ، ألم ترَ العجوز الذي يبكي من شدة البرد والجوع ؟ كيف تسألني هذا السؤال ، أولم ترّ الناس الذين ينظرون الى بيوتهم تحترق وهم عاجزون عن فعل شئ؟ أولم تسمع بالاطفال الذين ماتوا بعد قصف حضانتهم ؟ أولم ترّ المواكب التي كانت تُقاد كالخرفان الى مصير مجهول ، لربما الى ابادة جماعية ؟ ألم ترّ الام التي تحمل طفلا بيدها اليمنى ، وباليد اليسرى توأمه ،   وتحمل آخر في احشائها .  كانت هذه  الأم حائرة بين  رفع الذي يسقط ، والذي يبكي ويأبى السير ،  وفوق كل هذا وذاك كانت في خشية كبيرة من ولادة وشيكة ؟ أولم ترَ كيف تمّ قصف مستشفى الاطفال ؟ أولم ترّ الخراب الذي احدثه السلاح في اغلب مدن بلادي ؟ فالذي لم يمت منهم بالقصف ، اصابته قذيفة صاروخ أو اطلاقة طائشة .  كل هذا والكثير غيره ، وتقول لي ما لكَ حزينا ؟
أردتُ الاعتذار  من جديد، ولكن الطير الجريح  لم يفسح لي المجال كي يقول : هل من العدل ان يُقدِم جار ظالم ، قويّ بعتاده ، على مهاجمة جاره الاعزل بهدف القضاء عليه وابادته دون أي سبب؟ كنّا نأمل بالحصول على عون  تمدّه لنا أيادي جيراننا الذين قد وعودونا الكثير ، ولكنهم خشية جبروت هذا العدو وتهديداته  التزموا الصمت .
لم احاول التدخل في الكلام ، لا سيما وان الطير كان قد تحوّل في حديثه الى تحليل منطقي ،  إذ سمعته  يقول  : ألم يكن مفترضاً ان يقود التطور الى تقدم الانسان في العلم والعقل والتصرف ؟ أنا أرى بان التقدم هنا لم يفعل غير إعادة الانسان الى بدائيته. أقولها بحسرة ، هل كان يحتاج الانسان الى هذا التمييز والتميّز بين  الخلائق والحصول على هذا العقل ، كي يتصرف بهذه العدائية التي هي غريبة حتى على اشرس الحيوانات ؟ شخص واحد ، مرّ بتجارب كثيرة ،  وسّعت مبدئيا دائرة عقله ورؤيته ، ولكن غروره وانانيته افقداه العقل  ومبادئه الانسانية. شخص واحد صاحب قرار ، لا يرى في عشرات الملايين الذين امامه غير حشرات . 
ما بالكم ايها البشر  تنهون حياتكم القصيرة بايدكم قبل اوانها ، وتضعون لها حدّاً  بهذه الطريقة  الوحشية  البشعة؟
حاولتُ النظر الى صاحبي الطير كي اتأكد من انه  يسمح لي بمداخلة ، واذا بي أراه يرتعش كثيرا ، بسطت يديّ وتناولته ، وحضنته كي أدفأه ، ولكن رعشته لم تتوقف بل اشتدت إلى أحنى رقبته واغمض عينيه . عندها  حضنته بحرارة وايقنت فعلا بانه كان قد فارق الحياة  وهكذا صبح ضحية اخرى ماتت همّا لما يحدث في اوكرانيا .
كان بودي ان أواسيه واعتذر اليه واقول ايضا  : لا تيأس يا صديقي لأنه لا بدّ للحق أن ينجلي  وينتصر ولو بعد حين .
حملتُ الطير وذهبت به الى الحديقة ودفنته هناك. كنتُ قد قصدت النهر بحثا عن ربيع جميل يشدو بطيوره ،  واذا بي اعود حاملا جنازة طير جميل أبكاني بشدوه وقصته ، طير مات كمداً لما كان قد اختزنه في باطنه من شرّ البشر.


19
أمنيات جديدة تتكرر كسابقاتها
شمعون كوسا

لقد تمنيتُ كثيرا في حياتي ، وكنت احتفظ بها دوما في سرّ نفسي .  فكرت يوما بإطلاقها علنا من أعالي الجبال ، وعندما لم تلقَ طلباتي استجابة ، انحدرتُ عند سفوح الجبال لقراءة غيرها  بصوت عال، وعندما لم احقق هنا ايضا تقدما ملحوظا، قلت لماذا  لا أجرب اليوم حظي لأطلاق أمنياتي فوق الاشجار . أعجبتني الفكرة كوني مُطلاّ على حديقة صغيرة تضمّ بين ساكنيها مجموعة من اشجار باسقة  طال عمرها ، فطفقتْ تمتدّ في هاماتها صعودا ، وتزداد جذورها تأصّلاً وتعزيزاً لعمقها. قمت واخترت شجرة في وسط الحديقة ، شجرةً  توفر لي بعض مداسات لا بدّ منها للتسلق  . بعد محاولتين ، افلحتُ في خطوتي الاولى وتابعت التسلق مستندا على عقود الشجرة  وبعض اغصانها المتكسرة ، الى ان بلغت منتصف الشجرة ، وهناك حطـّيتُ رحالي .
كان الفرع الذي اخترتُه، غصنا قويّا. جلست عليه قليلا كي التقط انفاسي وافكر في ما سوف اتمناه لهذه السنة وكيف سأصوغ طلباتي.  وبينما كنت رافعا رأسي ، منشغل الفكر، أبصرت بعض العصافير تتجه نحوي وتستقر على اغصان صغيرة بقربي.  خلتها في البدء ، قادمةً للاحتجاج على احتلالي حيزا مخصصاً  لها ، من اغصان قد تحطّ عليها  أو أعشاش  تأوي اليها ، غير انها عندما استقرت بهدوء ، ايقنت بأنها قادمة للترحيب بيّ . الوفد الصغير ازداد عددا إلى ان رأيت نفسي  محاطا من كل الجهات  ، بطيور مختلفة الاحجام والالوان.   
احسستُ بحرج أمام هذا الحشد الكبير من الطيور ،  ولكي  اخفّف من  وطأة حرجي وازيل الغموض الذي يكتنف حضوري بينها ، قلت لها باني تسلقت الشجرة  لاطلق تمنياتي للعام  الجديد.  وبعد ان قمت بشرح بسيط  ، هبّ طير صغير ليقول: انها فكرة جميلة ، وانا بنفسي سأحمل احدى رسائلك ، وتبعه عصفور آخر متبرعا بحمل الرسالة الثانية ، واذا بالطيور ، الواحد تلو الاخر ، يعرضون  خدماتهم في القيام  بدور ساعي البريد .
قلت لهؤلاء المتبرعين من اخوتي الطيور : انا ممتنّ جدا لترحيبكم واستعداداتكم، لاني كنت فعلا حائرا في كيفية اطلاق الامنيات وايصالها الى عناوينها ، لاني فعلا كان يساورني  شك كبير في مصير تمنياتي السابقة التي اطلقتها عبر الاثير.  على الاقل سأكون الان مطمئنا لبلوغ الرسائل الى الجهات المعنونة لها. ولكني من جهة أخرى، لا زلت حائرا في اختيار أمنياتي .
انتفض احد الطيور المتقدمين في السن نسبيا ، وقال: انا اعرف انك  من العراق ، بلد لم يذق طعم الراحة منذ سنوات عديدة . يا صاحِ ، أتنقصك المادة لصياغة احدى أهمّ امنياتك؟ أعقبه طير آخر وقال: هل ان ما يعانيه العالم الان أمر هيّن ؟ هل موضوع الوباء الذي بدأ ويرفض كل اتفاق للمغادرة أمر يسير ؟ الم يسبق لك وان كتبت  عن نفس الموضوع؟  لماذا لا تطلق امنيتك بحرارة مكررا  دون انقطاع  كلمة يا ليت ،  لعلك ستحصل على نتيجة.  وهبّ  طير آخر كان قد رفع اصبعه منذ البداية ليقول : هل تجد طبيعيا وضع العالم وسط تلوث يتفاقم في كل دقيقة وفي كافة الميادين ؟  اليس هذا موضوعا في غاية الاهمية؟ أما الطير الرابع تقدم بهدوء عميق ليقول : ألا يجدر بك ان تعيد الى الاذهان وفي كل مناسبة متمنّياً  بحرارة ان يعود الناس الى الاخلاق الحميدة ، والى مبادئ نسوها وابتعدوا عنها كثيرا . ألا تمثل هذه القيم  الاساسَ المتين لديمومة مجتمع يودّ العيش والتعايش بسلام ووئام؟
قلت لجمع الطيور ، إن ما ذكرتموه هو كافٍ ووافٍ ، وبما انكم اصحاب الافكار الاساسية ،  لماذا لا تكمّلون فضلكم عليّ وتجّنبوني مشقة صياغتها ؟  قام الطير الاول فقال : انا اعرف بلدكم وتاريخه ، بلد عريق متحضر . لذا ، ابدأ مباشرة بتأنيب مسؤوليه  لاقول : باعتقادي انكم على بيّنة تامة بانكم  على رأس بلد عريق ، سكنته اقوام اشتهرت بحضاراتها ، بحيث كان  يُدعى   بلدكم هذا مهد الحضارات . ألا تخجلون لممارساتكم التي أطفأت شعلة هذا البلد ، بعدما كانت تهتدي بها الامم ؟  بلد لم يكن يعرف الا الحرية ، أتيتم لتكبتوا على انفاسه وتكبلوه بقيودكم  ، بلد لم يعرف غير البحبوحة ، فاتيتم انتم لتصيّروه  فقيرا مستجديا عبر جشعكم  وفسادكم. فاذا كان العراقيون قد انتخبوكم ، اليس لكي  تقوموا بخدمتهم وليس لانتهاز الفرصة  لتحقيق مصالحكم ؟ اتيتم فجردتم الشعب من كل شئ بحيث افقدتموه كرمه وانفتاحه على الاخرين.  يا ليتكم تعودوا عن غيّكم وتعيدوا للعراق هيبتَه ومكانتَه .واقول أيضا :  الى  متى يبقى هذا البد مضطربا لا يقبل الاستكانة ؟ هذا البلد الذي كان قد انفتح على العالم بسعة افكاره واشعاعه ، لماذا تقهقر واصبح لا يؤمن برسالته ، فاتجه بالمتاجرة  بالدين والطائفية والمذهبية .  كان يجب ان يكون العراق بلد الجميع. يا ليت ان يستجاب هذا الطلب الملحّ جدّا الذي لولاه سيفقد البلد هويته.
اما الطير الذي اختار المجال الصحي ، جاء مبتهلا : يا ليتنا جميعا ، نتخلص من وباء ، بدأ غامضا واستمر غامضا لحدّ الان ؟ لقد  دخلنا دوّامة لن تتوقف. امنيتنا الحارة هو ايجاد مخرج من النفق الذي بتنا نجهل طوله، فلا نكاد ننتهي من سلالة الى ان يتم الاعلان عن سلالة اخرى اكثر ضراوة . الى متى يبقى الناس  محرومين من ابسط متعهم ، الى متى يبقى الناس مكمّمين ملثمين خائفين من بعضهم البعض ، بحيث اصبحوا مشروعا لممارسات صحية متناقضة ، ومختبرا للقاحات لا تحصى الى  تحوّلت اجسامنا ، بفضل الابر المتكررة ، الى شبه  مناخل . يا ليتنا وليتكم تنجون من هذه المحنة.
اما الطير المكلف بمعالجة البيئة فانه قال : لا يأبه الناس كثيرا لهذا الموضوع ، ولكن حياة البشر اصبحت رهن السيطرة على هذا المجال .اقول هذا لان التلوث بات  ومنذ سنوات ، يهدد الحياة بكافة ميادينها ، من بشر و طير وحيوانات ونباتات ، اوهواء وماء وطعام . انه الانسان ، ومع سبق الاصرار ، يصنع بيده هذه السموم واسباب الموت البطيء . لم يعد هناك شئ على حاله الاول . يا ليت يعي الناس ، لاسيما المسؤولون ادارة هذه الافة المتفاقمة،  ويتيقنوا بانهم متجهون نحو نهاية البشرية . لقد شوّهوا خليقة أوجدها الله طاهرة خالية من اي دنس ، لم تكن الطبيعة تحتاج الى اجتهاداتهم لتحسينها ، يا ليتهم يتخلون عن الجشع والمطامع اللذين  يقودانهما ، فيتركون الطبيعة وشأنها .
اما الطير الحائز على دبلوم الآداب ، فانه اعرب عن امنيته  بصوت خافت ، وبرصانة وجدّية ، وقال : اين انتم من مبادئ تربّيتم عليها ؟ لماذا نسيتم الاخلاق والفضائل ؟ لماذا لم يبقّ وجود للحبّ والتسامح ؟ لماذا ابتعد الناس عن التضحية وخدمة المحتاجين ؟ لماذا انقاد الانسان تماما لأنانيته التي جعلته يدوس حتى على ضميره ؟ يا ليتكم تفكرون مليّا بهذا الموضوع فتعودوا الى احترام الكبير واسعاف الضعيف . لِتتكرّر هذه الامنية كي تغدو الابتسامة معبرة عن صدقها في الطيبة والتسامح والخدمة والتضحية . ألم تكن الاخلاق دوما اساسا  لقيام المجتمعات؟
كان كل طير يصوغ امنيته ، وينطلق بها الى الأعالي . عند خلوّ الشجرة من الطيور ، تركت مكاني ونزلت منشغل الفكر بالدرس الذي القته عليّ  الطيور . هل سيفلح الطيور بما لم افلح به انا ؟ كنت متفائلا  بمبادرة الطيور ، بالرغم من دندنتي  لأغنية فريد الاطرش ، يا ليتني طيرا لأطير حواليك، والتي تنتهي بمقطع يقول : كلمة يا ليت عمرها لا تعمّر بيتا  ، بقيت متفائلا !!!

20
رثاء القس البير ابونا
شمعون كوسا

مهما قلت ومهما كتبت عنك لأمدح اعمالك واحصي منجزاتك ، لا أفي بحقك لانك كنت حقّا بحرا لا يحدّ ، عبر علمك وتعلميك ، عبر الدروس التي القيتها علينا ، عبر تآليفك وعبر تراجمك ، وخاصة وهذا الاهم عبر استقامتك في رسالتك الكهنوتية .
لقد امضيتُ شخصيا  بصحبتك احدى عشرة سنة مع كافة زملائي في معهد مار يوحنا الحبيب. نحن طلابك مدينون لك بكل ما نقتنيه الان من اساس متين في اللغة العربية واللغة الارامية . كنت ترافقنا  وتكمل تدريسك في العربية حتى اثناء وجبات الطعام حيث كنت تصحح لقارئ الكتاب ، ادنى الهفوات ، لكي تكون اللغة خالية من اية شائبة أو خطأ في الصرف أوالنحو .
قمتَ بتدريس اللغة الارامية وأمّنت هذا التعليم لكافة الاكليريكيين ، وفيما يخصني أنا ، عرفتك مدرسا لمدة ثماني سنوات ، وكانت السنة الثامنة مكرسة لتدريس تاريخ الادب السرياني الذي كنت قد وضعته آنذاك ، قبل طباعته فيما بعد.
كنتَ الكاهن الذي استمر وفيّا لرسالته بالرغم من بعض العقبات ، بقيت وفيّا لخطك وحافظت على روحيتك . وانا اعرف بانه سنحت لك فرص الارتقاء الى درجات اعلى ، ولكنك ابيت الا الاستمرار في نهج كنت تجد سعادتك فيه ، في نهج عطاء لا يمكن لغيرك ان يقوم به . وهذا العطاء  استمر الى آخر دقيقة قبل وقوعك طريح الفراش ، صريع مرض قضى عليك .
يا ابونا البير لقد تركت وراءك فراغا بل هوة سحيقة لا يمكن ردمها لانه لم تعد هناك امكانية تضاهي ما كنت تمتلكه.

يعزّ عليّ ان اناديك مرحوما ، لاني مثل الكثيرين كنت اعتبرك شخصا ازليا ، يجب ان يبقى حيا . وها انك قد غادرت الى عالم الازلية في ملكوت الله.
ستبقى في اعماقنا لسنوات طويلة اخرى ، لان ما اكتبه عنك الان يرقي الى اكثر من خمسين سنة خلت.
صلّ لاجلنا في عليائك ايها العزيز القس البير ابونا .

21
رأي في ما يدور حول الطقس الكلداني
شمعون كوسا

  كان بودّي تكريس الحديث  لزيارة  اقوم بها الى بلدتي ،  للوقوف كالأصمّ المتأمّل   للحظات  طويلة ، لاني انا الذي اقيس مدتها ، حديث عن شقلاوا الحبيبة التي كنت قد اقنعتُ يوماً ، أحد الملائكة ، بانها فعلا قطعة من الجنة.
ولكني آثرت تأجيل هذه الزيارة لإفراغ فكري من أمر يشغله في الاونة الاخيرة ، أمر ترددتُ كثيرا في الكتابة عنه ، لاني كلما كنت اعقد النية على الكتابة  كان هناك من يثبط  من عزيمتي ، كون الموضوع حساسا  وينتقد سهولةً اعتيد عليها . ولكني شخص لا اقوى على تغيير طبيعتي ، لاني اذا راودتني فكرة ، وبرزت كل صباح أمامي منتظرة قدرها ، يجب ان اقضي لها بالعدل في حل واقعي مقنع.
كان  لا بدّ لي  الافصاح عما يدور في خلدي في  موضوع الطقس الكلداني وما آلَ اليه من تطورات ، لأني كنت اراه كحائط يعيق البداهة والمنطق . لستُ منقادا هنا ، لا بتقواي ولا بغيرتي،  ولكني بحكم  مروري في هذا العالم وتآلفي معه لفترة لا بأس بها من الزمن ، رأيت ان أدلو بدلوي ، وابرز بعض النقاط  التي تمثل وجهة نظري التي اجدها منطقية .

نتكلم علن الطقس الكلداني ونفتخر به ، بصلواته التي وضعها الاباء الاولون وبعض منهم نالوا درجة القداسة . نفتخر بلغته الكلدانية التي  هي سليلة الارامية التي تكلم بها السيد المسيح ، لنا الحان قديمة جميلة ترتاح نفسنا لسماعها ، لانها ترفعنا عاليا عند ترنيمها . هذا الطقس الجميل بلغته ، بدأ يضمحل شيئا فشيئا  ، لافساح  المجال الى اللغة العربية .
سؤالي البسيط  والمختصر جدا هو : اذا جنحنا الى اللغة العربية في اقامة طقسنا الكلداني ، ماذا يبقي من كلدانيتنا  ، كطقس ولغة ؟ ولماذا لا نسمي طقسنا بالطقس العربي ، وليس الطقس الكلداني ؟   
اول ما اقوله عن الطقس الكلداني ، انه طقس قديم اكتسب شبه قُدسية  أسوة بأيّ كتاب قيّم قديم ، لان واضعيه كانوا مسكونين بروح التقوى والقداسة الحقيقية . لقد وضعوا صلواتهم بلغة جميلة متناسقة وحافظو على المعنى الروحي العميق ،  بحيث تتناغم الالحان مع الكلمات . انا باعتقادي الشخصي ، يجب الاحتفاظ بالطقس كما هو ، على الاقل في اقامة القداس ، الذي يحضره المؤمنون كلّ يوم أحد . الاحتفاظ به باللغة الاصلية الكلدانية وليس غيرها.
انا اتساءل ، لماذا مُورس هذه الطقس لعشرات من الاجيال كما هو وباللغة الكلدانية دون مشكلة ؟ ما الذي دعانا لإقامته الان بلغة اخرى ، مع إصرارنا ، بتسميته بالكلداني ؟
اذا كان الدافع من استخدام اللغة العربية او اية لغة اخرى ، هو عدم فهم الناس للغة الكلدانية ، اقول ، وماذا يمنع رجل الدين او ما الذي يضيره ، اذا اقتطع بعض الوقت لشرح الصلاة  قبل تلاوتها  ، أو قام بتنظيم ندوة او ندوتين لشرح صلوات القداس . سيقتصر الجهد على اجتماع او اجتماعين، وسيكون ذلك في البداية فقط ، لان افراد الرعية سيعتادون على الصلاة بالكلدانية ، ويحفظونها .
من جهة اخرى ، اضحى الطقس الوسيلة الوحيدة الباقية للحفاظ على هذه اللغة. لماذا لا نحافظ عليها ؟ اذا كان هناك اسباب اخرى ، يجب معالجتها ، اعني مثلا صعوبة اللغة الآرامية وإتقانها بالصورة المطلوبة من قبل رجال الدين ، وباعتقادي هذا وارد ، الا يتوجب بذل المستحيل لحلّ هذه النقطة ، لا سيما وان هناك الكثير من كتب القواعد اللغوية  لمعالجة ذلك.
انّنا في الخارج أينما كنّا ، يطلب منّا مسيحيو الغرب تلاوة الصلاة الربانية باللغة  الآرامية (الكلدانية) ، ونراهم اثناء تلاوتنا ، خاشعين شبه منخطفين ، بعيون مغلقة وبسمة روحية خفيفة تداعب وجوههم . وبعد القداس يهرعون نحونا ليشكرونا بحرارة على إتاحة الفرصة لهم لسماع الصلاة بلغة المسيح . لماذا اذن ، نفرّط نحن بهذه اللغة التي يقدسها غيرنا ، لا سيما وإنها لغتنا ؟ نكتفي بجملة او صلاة واحدة بالكلدانية ، كرفع عتب  ، ونستمر باللغة السهلة الاخرى !!! 
ان الحديث يطول جدا ، ولكني اختم الموضوع قائلا واكرر : اذا تلونا صلواتنا بلغة اخرى غير الكلدانية ، لماذا نستمر في تسمية طقسنا بالكلداني ؟ ألا يأتي  يوم يطرح فيه احفادنا نفس هذا السؤال على ابائهم ؟ بماذا عساهم يجيبون غير هزّ الكتفين وبسط اليدين ، كالعاجز تماما عن الاجابة .  احببت ان اجلب الانتباه ليس إلاّ ، والرأي يمثلني أنا .
نسيت ان اذكر بان كلامي هذا ينطبق على السريان ايضا ، لانها نفس اللغة الارامية.

22
يوم اصبح حفيدي ، اوليفييه ، بقّالاً
شمعون كوسا

كان الاحتفال بعيد ميلاد اوليفييه ، حفيدي الذي أتمّ الرابعة من عمره. من ضمن الهدايا التي تلقاها ، منظومة صغيرة لأمين الصندوق ، شبيهة بما هو موجود في الاسواق الكبيرة ، أعني لوحة للفواكه والخضراوات مع صورها واسعارها، آلة حاسبة وميزان ، وجهاز يُسلّط على المادة لقراءة سعرها واضافتها الى المجموع ، وايضا بطاقات اعتماد خاصة ، وعملة باليورو ، بعضها ورقي والاخر معدني .
بعد تركيب المنظومة ، كان يجب إشغال الولد باستخدامها ، لانه ترك كل هداياه جانبا وتفرغ للبيع ومحاسبة الزبائن . كان علينا إذن حمل اول سلعة تقع تحت  يدينا  للتوجه بلهف نحو اوليفييه الجالس وراء جهازه . كان علينا القاء التحية بصوت عال ، والتوقف عند نقطة معينة  ونحن مُكمّمون طبعا .  كان يبدأ  بوزن ما يتوجب وزنه ، ثمّ يستخدم الكاشف اليدوي الاحمر ، للانتهاء باحتساب كافة المواد . وبعد التأكد من عدم حاجتنا الى شيء آخر ، يعلن المبلغ المطلوب . يشير الينا بالتوجه الى اليمين للقيام بدفع  المبلغ عبر بطاقة الاعتماد او الاوراق النقدية  ، التي كان هو  قد زوّدنا بها أصلا !!!
كان التعامل معه سهلا ، لانّ كل ما كان يطالب به لا يتجاوز العشر يورووات . عند الدفع ببطاقة الاعتماد ، كان يدير رأسه حسب الاصول ، خشية اتهامه بالتلصص او التربص او التجسس !! 
بدأنا اللعبة مع اوليفييه ، وكان علينا الاستمرار لاشغال الطفل وإسعاده على الاقل لفترة معقولة ، لا سيما وانه كان في يومه الاول من عقد عمله. فاصبحنا  ننقل له  تباعاً  كلّ ما كان داخل المنزل ، من المعلبات  الغذائية،  والسكر ، والشاي ، والملح ومعجون الطماطم ، وبعض الفواكه،  واكياس الطحين ، وحتى الاقلام والكتب والدفاتر ، أما الاشياء الثقيلة أخرى كنا نكتفي بالإشارة  اليها ، فكان يكبس على ازرار  متظاهراً بتحديد سعرها . عندما لم يبقَ شئ في البيت ، كي نشتريه من البائع الصغير اوليفييه ، قمنا بنزع الساعات وخلع النظارات ، وأخرجنا ما كانت تحويه الدواليب من ملابس داخلية . كان دائم الاستعداد وكأنه في لحظاته الاولى ، فيطلب المزيد . لم يكن بوسعنا الا شراء نفس السلع  مرة ثانية وباسعار اخرى طبعا. المهمّ عنده ، كان الدفع  عبر بطاقة الائتمان مع بعض النقد ،  بعد هذا ، يودعنا بحرارة ويقول الى اللقاء القريب.
هذا هو اوليفييه الصغير . ابتدأت بعيد ميلاده ، كي اصف بعض حركاته وفعالياته الاخرى. اوليفييه طفل دائم الحركة . يحبّ سماع الموسيقى الراقصة من خلال الصور المتحركة او غيرها من افلام الصغار  التي تتخللها مقاطع رقص . مقاطع شاهدها مئات المرات ، فحفظها  واصبح يقلد حركاتها بدقّة . يتمايل احيانا ، ويركض احيانا اخرى . يقوم بدورات حول المائدة التي تتوسط  غرفة الاستقبال ، ثمّ يقف ، ويتمدّد  على الارض أو يتدحرج ، ناهيك عمّا يقوم به  من حركات ارتجالية احيانا ، بيديه ورجليه وهزّ مؤخرته .
في احدي  المرات التي كان عندنا في البيت ، لأننا نستقبله بين الحين والحين مع اخيه الاكبر ايام العطل المدرسية ، كان يقوم بمشاهدة وسماع احدى هذه المقاطع . بدأ بتمثيل  ما يعجبه من المشاهد ، وبعد دقيقة ناداني بإلحاح  للوقوف الى جنبه ومساعدته ، واذا به يبتعد قليلا ويأتيني بركلة قوية . أراد اعادة الركلة غير اني هربت. كان يحتاج الى شخص يركله بقوة ، لان بطل فيلمه كان يؤدي هذه الحركة .
انه عاشق الرقص ، بحيث انه في احدى المرات وهو جالس معنا على مائدة الطعام ، وهو ينظر الى احد هذه الافلام على التلفاز ، لأنه لا يأكل دون مشاهدة شاشة ، صغيرة كانت ام كبيرة. بعد بضع دقائق  ترك اوليفييه المائدة وتوجه الى وسط الغرفة واذا به يهزّ نفسه من كل الجوانب  ، فرقص وقام بدورعازف الغيتار وكانه ألفيس بريستلي ، بعدها عاد لمكانه ليستأنف الاكل .
انه طفل لم يحصل بعد على كافة المفردات والجمل للتعبير عن نفسه تماما ، ولكنه طفل حاذق ، وله حركات ، وتعابير وجه تنمّ عن  خفة دم لا تصدق .
طفل لطيف واجتماعي يعجبه القاء التحية على كل من يراه . واذا لم يردّ عليه الشخص بالتحية ، يتوجه اليه من جديد للحصول على الرّد. واذا صادف وان رافق جدته في الاسواق ،  فانه يجب ان يشارك في وضع المشترات على الحزام المتحرك ، كما يجب ان يقوم هو بعملية الدفع اذا كانت نقداً ،  ام حتى بالبطاقة ،  يكفي ان يحاول وضع البطاقة في جهاز الدفع.
انه يريد ان يكون الاول والسبّاق في كل شئ . وبما انه لا يقبل الا في الفوز ،  فاذا لم يحصل على ما يريد ، يمثل دور الباكي بمرارة كبيرة، فترى وجهه بعينين مغلقتين بإحكام تام ،ولكن دموعه الساخنة تجد لها منفذا ، فتخرج كدرر صغيرة جدا او ذرات مطر هادئ ، دموع تتوقف حال تلبية طلبه.
انه يحب نفسه كثيرا , وهذه ليست انانية ، بل اراها ظاهرة طبيعية جدا  ولعلها تكون ضرورية . لان الطفل اذا لم يبدأ بحب نفسه لا يكتشف حب الغير . إذا لم يتذوق الطفل سعادة حبه لنفسه، كيف يتمنى لغيره شيئا لا يعرفه . وكيف السبيل لتطبيق وصية : احبّ لغيرك ما تحبّه لنفسك ، الا يفترض بان يكون المرء قد احبّ نفسه اولا ؟
مغامرات اوليفييه كثيرة ، تناولتُه هنا بقالا ، لعلّني سأعود اليه فيما بعد نجارا ام حدادا. تكلمت عن حفيدي الصغير لابرز من خلاله حلاوة الطفل والشعور الذي يخلقه في قلب الاباء والاجداد . نحبهم لدرجة التمني احيانا بان يبقوا بنفس العمر ، محافظين على شقاوتهم وبكائهم وتصنعهم وحركاتهم  لفترة طويلة.

23
المنبر الحر / رجل الغمام
« في: 21:48 01/07/2021  »
رجل الغمام
شمعون كوسا

قبل اسبوع  استُدعِيتُ من قبل احد مراكز طالبي اللجوء للقيام بالترجمة في مقابلة لاحد المواطنين العرب ، اشخاص يقعون ضحايا  ويلاتٍ خلقها حكامهم حفاظا على مصالحهم ، وتمسّكاً بأنانيتهم  ومغالاة في تعنتهم . ركبتُ سيارتي  وكان عليّ اجتياز جسر . عند بلوغي منتصف الجسر ، ابطأ السير قليلا ثم توقف. كنت اصغي وكعادتي الى بعض الاصوات الشجية المختارة . رفعت انظاري قليلا ، فوقعت على غيوم بيضاء كانت تتحرك بهدوء. كانت كُتَلاً متفرقة متفاوتة الاحجام ، تتدانى احيانا ، وتتناءى أحيانا أخرى. 
شغلتني هذه الحركة ، وشدّني منظر الاشكال التي كانت تتغير، وتطاوع الناظر في تحولها  من حيوانات ، الى ابنية ، او بشر، او نباتات ، أو غيرها.  استقرّ نظري علي كتلتين تتقاربان نحو بعضهما بحيث لم يعد يفصلهما سوى فجوة صغيرة. توقفتُ عند الفجوة ، وقلت سوف لن اتزحزح الى ان تلتقي الكتلتين. لم يطل بي الترقب ، لان الغمامتين التحمتا بسرعة ، والغريب في الامر هو اني حال التحامهما ، وجدت نفسي في الطرف الآخر ، اتخبط  وسط غيوم كثيفة . كنت خارج الجاذبية بحيث امسيت اطوف كمن قد رحل الى الفضاء. نسيت السيارة ، ونسيت المهمة الموكلة اليّ. 
كنت اتجه بسرعة البرق الى كل الاتجاهات بحثا عن الثغرة  التي افضت بي الى هذه العالم ، فلم يكن هناك الا الغمام الملتحم المتماسك. تأكدتُ هنا باني ضائع في عالم آخر. صرخت مناديا: هل هناك من يسمعني ؟ اريد ان اعرف اين انا.  ساعدوني لقد اضعت طريقي . اطلقت النداء بأعلى صوتي بغية خنق الرجفة التي كانت تهزّ حنجرتي . اعدت النداء مرتين وثلاث ، وقبل ان استسلم تماماً  للأمر الواقع ، سمعتُ صوتا من بعيد  يقول لي : انتظر حيث انت ولا تتحرك . أرغب بمعرفة هويتك، من اي كوكب اتيت ، ومن اجاز لك الدخول هنا ؟
بالرغم من بعض تفاؤلي ،  احسست بان الرجفة قد انتقلت  الى اوصالي .  لم اجد حيّزا اجلس فيه  كي اريح اوصالي واهدّئ من روعي. أخرجت اوراقي ، وهويتي ، والأهم كان باعتقادي ، الشهادة  التي تثبت تلقّي  جرعتي الثانية للقاح الكورونا ، ورقة معززة  بكافة الاختام الرسمية . قلت للصوت الخفي ، انا فلان وهذه هويتي ، وهذه اثباتات تشهد بخلوّي من الامراض والفايروسات .
دنا الصوت الملتحف غماماً . قدّمت له اوراقي ، فلم يلتفت اليها ، وقال : نحن لا نحتاج الى اثباتات او شهادات لأننا لا نتأثر بهواجسكم ومخاوفكم واجسامكم المجهرية. أفترضُ بانك قادم من الارض ، أليس كذلك ؟ قلت له : بلى ،  كنت على الجسر قريبا منكم جدا انظر الى الغيوم . كيف انتقلتُ اليكم هنا لا اعلم . قال لي : انك الان بعيد جدا عن الارض  . قلتُ له : هل بإمكانك اسعافي في ترتيب عودتي السريعة ، لأني مرتبط بموعد ؟
قال لي : من حسن حظك وحظنا ايضا انك انشغلتَ بالغيوم ، فانّ تحديقك   بالسحب البيضاء واطالتك فيه هو الذي اوصلك الى عالمنا . وهذا معناه لدينا ، بانك معتاد على رفع انظارك الى العلى والترفّع عن ترهات الدنيا ، لان الذي لا يفكر الا بنفسه وامواله ومصالحه تبقى انظاره متجهة الى الاسفل ، اعني الى التراب .
قال لي :  سألبّي طلبك ، ولكني سأكلمك قليلا واكلفك بمهمّة.  قل لي : ما بال أهل الارض مقبلين على جمع المال وتكديسه دون الاكتراث لمن يتضورون جوعا. اليس كل ما على الارض مُلكا للجميع ، كيف يرتاح الاثرياء عندكم (افرادا ومجاميع ) وهم يشهدون مآسي الجوع والفقر ؟ ما هذا الجشع ، اليس بمقدور قوارينكم (جمع قارون) تلبية حاجات هؤلاء المساكين وهم يعرفون جيدا بانهم  ، حتى بعد مساعدتهم ، سيبقى لهم فائض يكفي لهم ، ولأولادهم ، واحفادهم ؟ الا يعرف هؤلاء بانهم قد اغتنوا ، بصورة غير مباشرة ، جراء استغلال  ثروات كانت تعود لهؤلاء المساكين في زمن ما ؟  قل لي : هل يعتقد هؤلاء بانهم سينقلون اموالهم الى مصارف في العالم الاخر ، ام سوف يلتهمون ورقها قبل الموت ؟ رغبتي هي ان تنقل الكلام هذا الى الارض بالطريقة التي تراها ملائمة؟
قلت له ، انا لا اعرف اسمك لكي اناديك ، ولا اسم ابنك كي اناديك بـ (ابو فلان) ، ولكنك الان تثير معي مواضيع لم يقوَ على حلها منذ البدء ، لا الانبياء ولا الرسل . ان ما تقوله بديهي ، ويسمعه المعنيون ويؤيدوه ، ولكن الكلام من كثرة ترداده اصبح لديهم وكأن قائله  يغرز ابرة في ساق من خشب . اجابني : انا اعلم بانكم تسمعون مثل هذا الكلام يوميا ، وحتى المكلفين بنقله باتوا يقولونه دون قناعة وامل ، ولكن الحقيقة يجب ان تقال ، وتعاد ، وتكرر . المبادئ يجب التذكير بها ، وكذلك القيم والاخلاق . لعله  هناك ، في ساعة معينة، وفي الدقيقة او اللحظة الفلانية ،  تكون أذن صاغية تعي للأمر ، وتستجيب للطلب فتصبح قدوة لكثيرين .  وهكذا يكون كلامك قد نفع. 
قلت له : انا على يقين بانه سوف لن يسمعني احد ، لأني افتقر الى اسلوب شيق جديد أخرِجُ به الفكرة الصعبة المهمة هذه ، ولأجله سوف ألجأ الى احد اخوتنا الشعراء الذين برزوا اخيرا ، كي يستلم مني العجينة  فيخبزها شعرا . وانا اعرف مِن بينهم ، مَن قلوبهم دائمة الاضطرام ، وطابور افكارهم طويل . سأطلق الفكرة لعلني افلح من خلاله تنفيذ ما تريد !!!
قال لي : اريدك ان تأتي من جديد وبنفس الطريقة لمتابعة أمور عاجلة اخرى ، وبعد هذا مدّ يده الغمامية فاتحا نفس الفجوة ، فهبطتُ ورأيت نفسي داخل سيارتي وقد احاط بي اصحاب السيارات الذين خلفي وهو يلعنون ويصرخون ويشتمون . فتحتُ عيني  كالذي يفيق من سبات عميق ، واعتذرت بشدة من الجميع متأسفا لهذا التأخير الذي ايقنت ، من خلال ساعتي ، بانه لم يستغرق اكثر من دقيقة ونصف . 
هذا ما طلبه مني رجل الغمام الغامض . أكان الرجل نبيا ، أم قديسا او مجرد وهم ؟ لا اعرف ، ولكنه والحقّ يقال ، اثار موضوعا مهما  يعاني منه المجتمع منذ الازل ويتجاهله اصحاب الحلول ، بسبب أنانيتهم.
وددتُ نشر رسالة رجل الغمام ، قبل التوجه الى موعدي، فمن له أذان صاغية فليُصغٍ ، اما انا ، فقد حَرّمتُ النظر الى الغيوم ، خشية التحديق طويلا ومن ثمّ العبور الى عالم سوف اتورط بطلبات اكبر من حجمي، طلبات ستعرّضني للمحاسبة لا محالة.

24
عالم لا زال يسحرني ، عالم اللحن والغناء
شمعون كوسا

يوم امس حدا بي شوق عارم لسماع أغنيتين قديمتين ، انا الذي لا يهنأ إلا للقديم الاصيل . كانت الاولى  للمطربة نازك في اغنيتها  (ما تقولشي كنّا وكان ، يا ريت دَكُلّو ماكان) ، كنت قد سمعت الاغنية  في شبابي واعجبتني كثيرا وكأنّ صدى بعض انغامَها ، في حينه ، كان قد افلح في ايجاد بقعة سحيقة مُهملة داخل نفسي . عُدتُ لها مستذكرا الصوت واللحن وحتى الكلمات ، لانها كانت تذكرني بكثير من مراحل حياتي .  أما الثانية ، فأنها كانت لاسمهان . اغنية  اسمعها للمرة الاولي . هي قصيدة غنتها على الطريقة الكلثومية ، كيف لا اذا كان ملحنها محمد القصبجي  وكلماتها لشاعر الامراء احمد شوقي .  الاغنية تبدأ بكلمات (هل تيّم البانُ فؤادَ الحمام ، فناح فاستبكى جفونَ الغمام)  . وصوت اسمهان عندي هو اجمل رنين  لا اكتفي بسماعه فحسب ، ولكني اراه كمياه صافيه رقرارقة تنساب بسهولة  فلا يمكنها  الا ان تبهر الناظر اليها وتطرب سامعها فيقف صامتا الى ان يتيقن بانه امتلأ فرحا وهناء . 
وضعني لحنُ نازك في عالم خاص جدا ، زمن يرقى الى الخمسينات ، وكأني بسماعه في ذلك اليوم ،  كنت مدعُوّاً للدخول في عالم الفضاء الجميل،  فضاء لا تحدّه حدود ، ولكنه يوقفك احيانا لدى خطوط  وهمية واضعا اصبعه على شفتيه في دعوة للصمت واجترار نغمة او جملة ارتبطتا بمكان وزمان وظرف جميل . في كل نغمة كنتُ ازداد جذلا ، اساير الكلام تماما واطاوعه لاني كنت ارى نفسي في الكثير منه ،  فكنت ابسط يداي مستنشقا الهواء الصافي ليزداد صدري انشراحا. بالرغم من كلام كان يؤنبني احيانا ، فالحزن والندم العميقان حرصا  على ألاّ يتعكّر صفوُ السعادة الهادئة التي كانت تملأني الى أبعد شعيرات شراييني.
كنت أجول ، وأصول ، وأحوم ، وأعوم ، بعيدا جدا في عالم كله جمال ، انتقل بين محطات الماضي ،  واحط ّلدى كل ذكرى جميلة ولو لهنيهات ، ثم اتجه صعودا وكأنّ ماتبقّى من اللحن والكلام  يستعجلني ويحملني على كتفه  ملمّحا بان برنامجه لم ينتهِ بعد. بقيتُ هكذا ، لا اعرف  اذا كانت لحظات أم دقائق أم ساعات ، وانا في حالة ارتعاش ، حالة تعتري من كان مُنخطفاً بعيدا جدا عن ترهات الدنيا، فكانت الروح  تهبّ لمؤازرة النفس واذا بها ، هي ايضا ، قد اصيبت بعدوى رعشة تفضي الى ذروة الهناء.
نسيتُ نفسي تماما ، ونسيت العالم وهمومه ، فكنتُ هادئا مطمئن البال تنهمر مني دموع فرح ، تمتزج بها دموع اخرى لا ادري ان كان الشجن او الندم  محركها ، ولكنها تعاضدت كلها لإدامة هذا الهدوء وهذا السلام.
إنها حالة جعلتني ان ارى كل شيء سهلا وبسيطا ، وجدتُ نفسي  مملوءً حباً نحو كل مخلوق حتى اذا كان من بين فريق الاعادي . كنت استعرض المعوّقات فاراها قد استوت وانحلت عُقدها . كنت اقول ، ما بال الجبال والاكام قد ذابت بحيث ما كان يبدو مستحيلا في الامس غدا ممكنا جدا اليوم . شبّهتُ الحالة وكأني مواطن احدى السماوات ، وإن كنتُ لم ابارح الارض يوما  كي اتكلم عن طبقات السماوات !! ، فقلت في نفسي اذا كانت سعادتي هنا ترقي الى هذا الحدّ  ، فما عساها  تكون اذا توفرت الحالة في الطبقات العليا ، في عالم يُقال عنه بانه يوفر سعادة كاملة وغير متناهية .
بما أنه سبق لي وأن اتيت بمثل هذا الوصف عدة مرات ، اكتفي بهذه القدر واقول : فعلا كانت هذه احاسيس سعادة لم أقوَ على إخفائها .  لعلّ البعض سيستخف بالوصف وعدم واقعيته ،  واخرون سيرمقونني  بنظرات شقفة قائلين  يا للمسكين  ، واخرون يعتبروني ناقص عقل لأني انتقل الى عالم خيالٍ لا يخاطب الكثير من الناس،  ولا يحرك اية خلجة في اعماقهم . ولكني مهما كان ، كنت سعيدا واحببت ان اشارك هذا  الاحساس بعض من يفهمونني  .
 

25
هل سيُلغي الربيعُ مهرجانَه ؟
شمعون كوسا
سيقول البعض ، ها قد أطلّ علينا الاخ من جديد ، ومن المؤكد إنّه سيصرعنا بمواضيعه المتشابهة. أين عساه يذهب بنا اليوم بعنوانه هذا ؟ هل يُخفي لنا مفاجأة  خبّأها تحت ثنايا عنوان الربيع ؟ هل سيتطرق الى الربيع الذي اشغل الساحة السياسة ردحا من الزمن ؟  هنا ، لم يشأ  الاخ إطالة لحظات الترقب هذه ، فقال : أنا عطار لا انادي الا بما اعتدت على حمله في جعبتي ، فيا ويلي لو ابتعدت عن منبع هو مصدر إيحائي وسعادتي ، هل لي ملاذ آخر غير الطبيعة ،انا الذي لا ارى الصدق إلاّ هناك؟
انا أقرأ عن السياسة يوميا ، واسمع تقاريرها ، واشاهد وقائعها ، ولكن ما  استخلصه بصورة عامة ، هو ان  جُلَّ ما اقرأه واسمعه واحللّه  يقودني الى قناعة  بان السياسة ، في العديد من جوانبها ، لا تفرق عن الدبلوماسية . فالدبلوماسية ، بصورة عامة ، فنّ يُتقنُ تغليف الحقيقة ، بهدف أن يبدو الكذبُ حقيقةً ، والحقيقةَ كذباً ، واحيانا ، من باب التمويه ، تخفّف الوطء ، كي لا يبدوَ الحدث لا هذا ولا ذاك . واقول هذا لأني واكبت الدبلوماسية عن كثب ، لأكثر من ثلاثة عقود .
 عودةَ لموضوعنا  اقول ، إن الطبيعة أمّ واسعة الصدر ، تفتح ذراعيها لكل منكوب ضاقت به الحيل ، او حائر انتهى الى طريق مسدود . انها تنظر بحنوّ الى كل من اثقل الزمنُ كاهليه  فضاق صدره ، فالطبيعة متنفس لكل هؤلاء. الطبيعة تضمّ الى صدرها الواسع كل الخلائق والكائنات البشرية ،  بيضاء كانت أم سوداء ، طويلة ام قصيرة، جميلة او قبيحة ، فقيرة ام غنية وحتى بريئة كانت ام مذنبة ، فهي كما يُقال عن الله ، تشرق نورها على الابرار والاشرار دون تمييز لان المخلوقات كلها اولادها.
خرجتُ كعادتي وهدفي هذه المرّة هو التحقّق من عدم تأثّر الطبيعة بالقيود المفروضة علينا حاليا. وَدَدتُ ان أتيقن من نوايا الربيع في اقامة مهرجانه السنوي . هل ستورق الاشجار كعادتها ، وتتفتّق الورود بكافة الوانها وروائحها ؟ هل سيكون للعصافير مساهمة في إحياء الربيع ؟ وهل سيفكر هؤلاء بوضع الحان جديدة للمهرجان ، ام أن الحداد قد خيّم عليها جميعا ، وبسط الوباءُ ذراعيه وذرّ شروره باتجاه الفضاء اللامحدود ، ملوّثاً الهواء والمياه والشجر والطير والحيوان ؟  وباء داهمنا قبل سنة دون سابق انذار ، وكلّما لمحنا من بعيد بصيصاً لنهاية اقامته بيننا، يُقال لنا تريّثوا ، لان الفايروس الكبير ،  قد خلّف ابناء واحفاد ، وهم قادمون الينا من مختلف اصقاع المعمورة مهددين، فنحن مكرهون على استقبالهم ، أوليس إكرامُ الضيف واجباً !!!.
 حال وصولي الى الطريق  الذي اسلكه عادة بمحاذاة نهر صغير ،  طار باتجاهي طير من الطرف الاخر من الشاطئ ،  طير مسنّ  كان قد فقد بعض ريش راسه ، ودبّ الشيب فيما تبقى منه على جسمه . كان طيراً  كبيراً قد التقاني قبل سنوات  ، لذا بادرني بالقول : أين انت يا صاحبنا ؟ لقد اطلت علينا الغياب ، لقد تقدمتَ انت ايضا  بالسن مثلي ، ولكنني سعيد لأجلك ، لأني اراك قد ازددت خبرة وحكمة، والحكمة كما قيل لنا تزيد من سعادة حاملها.  قلت له : يا صاحبي  هذا صحيح ، ولكن بماذا تنفعني الحكمة اذا لم أفلح في ايجاد فرصة استعيد فيها دروس حياتي بصمت بعيدا عن ترهات الدنيا ؟ لقد غدتِ الحياة صعبة جدا ومحمّلة بقلق وترقب متواصلين . بِغضّ النظر عن همومنا المتجددة ،  نصادف مشاكل تافهة تزيدنا توترا ، اسرد لك ابسط مثال هامشي قد يدعوك للضحك لانه يزيدني توترا. الحاسوب الذي غدا حاكمنا  في هذه الايام ، لا يتورع عن نَهرنا عدة مرات في النهار . في كل عملية نلجأ اليه ،  يطالبنا بكلمة سرّ. نكتب الكلمة بالضبط كما يجب، فيأتي ردّه الفوري: خطأ. نعيد الكرّة وبحرص شديد ، فيكون الردّ اشدّ وبخط أحمر. غدونا نبتهل  بألاّ تتوسع في المستقبل صلاحيات ،هذا الجهاز، التأديبية  !!!
رافقني صديقي الجليل واعني به الطير، وهو يشير الى الاشجار التي كانت تأخذ مقاسات الازياء التي سترتديها عن قريب ، وطلب مني ان ارفع انظاري لأرى ثلة كاملة من مختلف الطيور وقال : هؤلاء قادمون لمراجعة  مراسيم المهرجان . لمّا بلغنا المكان المنشود ، قال لي : سننصب اوتاداً مرتفعة للطيور التي تحلق عاليا ، والبقية ستنتقل بين الاشجار، وكما ترى فان المياه جارية بهدوء ، والنسيم سيكون عليلا  والشمس ستظهر ساطعة وسط سماء صافية يوم المهرجان ، لان الطبيعة باسرها في عيد.
توزّعَ اعضاء الجوقة ، لمراجعة سمفونيتها الخاصة ، فبدأ بلبل مخضرم  بموال جميل عقبته الجوقة بالحان موزعة اشترك فيها الاخوة المنشدين بزقزقتهم وانشادهم وتغريدهم متحركين من شجرة الى شجرة ومن غصن الى غصن حسب السيناريو الموضوع لهم.   أمضيتُ وقتا جميلا ، اغمضت عينيّ ونسيت نفسي بعيدا عن الدنيا. كان لحنا يزرع الطمأنينة ويدعو للتفاؤل.  ذكّرني اللحن  بأغنية قديمة لفيروز اسمعها  كل يوم ، لحن يحمل عنوان : (لِمَ لا احيا ؟) . لِروعة اللحن  ومغزى الكلمات الواقعية جدا  والتي تدعو للأمل ، أودّ إدراجها بعض كلماتها  هنا، فهي تقول  : لِمَ  لا احيا وفي قلبي وفي عيني الحياة ؟ سوف احيا ، سوف احيانا . والمقطع الاخير الاجمل يقول : ليس سرّا يا صديقي ان ايامي قليلة ، ليس سرّا إنما الايام بسمات طويلة . إن اردت السرّ فاسأل عنه اشجار الخميلة ، عمرها يوم ، عمرها يوم. وتحيا اليومَ حتى منتهاه، سوف احيا ،سوف احيا.
بعد ان ذكرت لصديقي الطير هذه الاغنية ومعانيها الجميلة ، شكرته بحرارة    وودّعته بحرارة اشدّ ، وانا مسرور لاستمرار الطبيعة في مسارها.

26
تمنيات قديمة أعيد صياغتَها للسنة الجديدة
شمعون كوسا
كنت قد اعتدت على التعبير ، كل عام ، عن تمنياتي للعام الجديد ، فكنت اختار قمة الجبل للقيام بعمليتي هذه أ واحيانا اقوم بها عند سفح الجبل . لقد ابتعدت عن هذا الدأب ، وفقدت الحماس الذي كان يلهبني لاني اصبت بخيبة أمل كبيرة جراء عدم تحقيق أي شئ مما كنت اتمناه ولو بنسبة ضئيلة ، حتى إنه جاءت بعض التوقعات عكس طلبي الرسمي .
بيد انّ الانسان لا يمكنه الاستمرار في الحياة اذا فقد الامل ، والامل هو طبابة لمستقبلٍ لا نراه ، لمجهول نضع له خططنا ، أملين أن يرأف بنا القدر او يُخطئ في حساباته ، فننتفع من خطئه  ونحقق مرامنا !!! ألم يقل الشاعر : ما اضيق العيش لولا فسحة الامل ؟
لملمتُ افكاري وكلمت نفسي :  يا تّرى ، ما الذي يدغدغ افكاري كثيرا ويدعوني بالحاح للتوقف والتامل والتساؤل  في امور الحياة ؟ لأن الامنيات يجب ان تنبع من الاعماق بلغة طبيعية حية ، وليس مجرد جمل فارغة وكلمات عديمة التأثير . لقد ملّ الناس من سماع ، حتى اروع الامثال واصدق الحكم ،  اذا خرجت من الفم دون قناعة ، اذا لم ترسم  عفويا على المحيّا علاماتِ فرح  او حزن او انكسارا.
امنياتي تبتدئ  باحد الحروف المشبهة بالفعل ، وهو كلمة (يا ليت) :
من البديهي ان ابدأ بأمر عاجل جدا اشغلنا جميعا لأقول : يا ليتنا نتخلص وبسرعة من وباء الكورونا وعواقبه ، همّ بدأ كحرب طاحنة ادّت الى هرب الناس واختبائهم داخل بيوتهم . لم يمهلنا الوباء كثيرا لينهض من رماده فيولد اعصارا صاعقا تصحبه موجة أخرى . آخر ما بلغنا هو ان هذا الكائن المجهري  خلّف سلالات جديدة ، لا نعرف هل هي وريثة ابيها بكل شئ أم لا !!
كان الموضوع غير واضح منذ بداياته  فازداد غموضا وتناقضا ، والكلام الان عن موجة  ثالثة ، جعلتنا نهاب ونقول ، ولماذا لا تكون موجة رابعة أو خامسة ؟ لا زلت في امنيتي الاولى ، ودعوني اذن اقول: يا ليتنا نجد نهاية  النفق ، لاننا انجزنا وبحرص تام السخرة التي فرضت علينا ، من حجر صحي والامتناع عن  التجوال ، واحترام الجفاء في العلاقات ، بحيث اصبحنا نخاف من اولادنا ونتجنب احفادنا . لقد تمّ اغلاق الاسواق وكافة المرافق والمنافع الاخرى ، وبعض منها ادى الى قطع الارزاق . امنيتي هذه او كلمة يا ليت ، احوّلها الى رغبة شديدة وتضرع وابتهال حارّين واقول ،  يا ليت يتوقف هذا الاعصار فتبدأ الحياة الطبيعية ويحيا الانسان من جديد.
ليت المسؤولين عن ادارة شؤون الناس ، يعتبرون نفسهم قد تولوا الحكم  فعلا لخدمة الناس بكل ما تعنيه الكلمة . يا ليتهم يفكرون  بان وصولهم لهذا المقام هو مسؤولية  شبه مقدسة تفرض عليهم ان يفكروا بالغير اكثر من نفسهم ويضحّوا لاجلهم بغية توفير العيش والسعادة لهم.  اودّ التركيز على امنيتي هذه ،  وأوّل من اعنيهم بها هم مسؤولو بلدنا . انا اقول بان مسؤولية ادارة شؤون الناس هي مهمة من نوع خاص واضيف ايضا ،  بان من يقبلون بها او حازوا عليها ، يجب ان يكونوا خريجي مدرسة خاصة بالأخلاق ، مدرسة تعلم الخدمة والتضحية وكيفية إسعاد الرعايا. مدرسة تعلم المسؤول ان ينسى نفسه ، ويفكر بملء بطون الناس قبل ملء جيوبه. لقد كابد بلدنا  كثيرا ، وبعد كل خطوة ايجابية كان يخطوها الى الامام ، يعود  ثلات خطوات الى الخلف . لقد عُدنا أدراجنا الى الحدّ الذي نخجل من ذكر اسم بلدنا . بلدنا الذي  ابتدأت فيه الحضارات ، أضحى اليوم مرتعا للجهل والتخلف واالعنف والشراسة. فيا ليت تتحقق امنيتي هذه ولو جزئيا.
يا ليت يعود الناس الى جزء يسير من مبادئ الاجداد وقِيَمِهم . لستُ متحدثا هنا عن العادات والتقاليد ، ولكني اعني  القِيم والاخلاق والآداب التي تترجم نفسها في الاحترام والوفاء والشهامة ومساعدة الغير، لان جيلنا قد ابتعد كثيرا عن هذه المبادئ التي هي الاساس لقيام مجتمع متماسك ، يكون قدوة المجتمعات التي تحيط به .
ياليت يعي الناس كافة ، وفي مقدمتهم المؤمنين ومن كافة الاديان بان الله محبة ، وبان الدين يُختصر بكلمة المحبة وليس غيرها ، محبة الله ومحبة القريب أو الغير . ألا يكفي هذا الكلام الذي تعلمه كافة الاديان ، ليجمع المسيحي والمسلم والبوذي والهندوسي والكنفوشي  وحتى اللاديني ، يجتمعون كلهم بعضهم ببعض، وقبل ذلك اذكر الكاثوليكي والارثودوكسي  والبروتستانتي ، والشيعي والسنى ، والمندائي واليزيدي . كل شخص مهما كان واينما وُجد ، يحمل نفس العقل ونفس العيون ونفس الاذان ونفس الفم  ونفس الرأس ونفس الاطراف ونفس القلب والاجزاء الباطنية ، وكل فرد من هؤلاء  له نفس الحواس والمشاعر ، وله نفس ردود الافعال . ما الذي يدعو البشر اذن للانقلاب على بعضهم البعض واعتبار انفسهم اعداء لبعضهم البعض ؟ لماذا يتجاهلون  جوهرة المحبة هذه التي تقدمها لهم اديانهم ؟ وحتى إذا تجاهلنا الاديان ، لماذا  لا يستثمرون بذرة الخير المزروعة طبيعيا  داخل انفسهم ؟ اقول أيضا يا ليت ، واكررها مئات المرات ، لانها الحلّ الاكيد في استتباب السلام والعيش السعيد في العالم . لقد غامرتُ بكلامي هذا  وتقدمت بامنية صعبة وشبه مستحيلة ،  بحيث كدت اضيف حالا ، كلمة (ولكن هيهات)، غير اني  سوف لن اضيفها ، من يدري ؟؟!!!!
ويا ليتنا نفهم بان اغلب مشاكلنا تجد حلها في نسيان انانيتنا ،  في نسيان نفسنا مؤقتا من أجل الغير ، فنهبّ لمساعدتهم ، ونقتطع بعضا من وقتنا لإسعاف المحتاج ، والمريض ، والمعوق ، واليائس والحائر ، والحزين . القائم بهذه المهمة يجب ان يتحلى ببعض من نكران الذات وعدم الحكم على تصرف الغير . يجب عليه الصبر على الخطأ وحتى القبول  به احيانا بهدف تصحيحه بهدوء. هذا التصرف من شأنه جلب انتباه الطرف المقابل الذي لربما سيقول لنفسه يوما ما ، لماذا انا ايضا لا اتصرف مثله ، الا يمكن ان يصطلح المجتمع باكمله هكذا ؟
كم هو جميل ان يعيش الانسان بهذا الاستعداد ، جمال التصرف هذا يضفي جمالا على سحر الطبيعة التي تدعونا بكل دقيقة للاقتداء بجمالها والتمتع به .
الانسان كائن عظيم جدا ولكنه ضعيف جدا . كل واحد منا تركبه الاهواء  فيتصرف دون تفكير أو توءدة . كلنا معرضون لذلك وهذا احد خواصّ ضعف الانسان وهشاشته. الانسان يكبو مرات عديدة ، ولكن المهم هو ان ينهض  كل مرة  ويستمر في المسير بكل صدق وعزيمة. هذا الاستعداد يغيّر الانسان وينمّي بذرة الخير المزروعة فيه ، بذرة اذا نمت على هذا المنوال في نفس كل انسان ، سنكون منذ الان قد بدأنا السعادة الابدية ، أو كما يقال تحقيق ملكوت الله على الارض.
انها مجرد تمنيات ، مجرد كلام قد يكون مستحيلا  أوصعب المنال ، ولكن الانسان يحيا بالامل ، ولكن لماذا لا ندرج هذا الكلام وهذه الامنيات في فقرة ، انه لا مستحيل في الحياة .

27
عصفوران يشكوان همّهما
شمعون كوسا

فكرة بسيطة استقيتها  من صورة نشرها قبل فترة ، أحد الاصدقاء الاعزاء في السويد لعصفورين جاثمين على غصن شجرة يتجاذبان اطراف الحديث بهدوء ونعومة.
كان هذان العصفوران صديقَين عزيزين تعارفا قبل سنة ونيّف،  بمناسبة انعقاد تجمع موسمي للطيور. كانتْ قد التقتْ افكارُهما ، وتطابقت آراؤهما وأذواقهما في الكثير من الشؤون ،  فارتبطا بعلاقة متينة ، وأصبحت امنيتهما اللقاء من جديد في زمن تتعاون الظروف لتحقق رغبتهما العارمة. شاءت الصدف أن يتقابل العصفوران ، فالتقيا على غصن شجرة قديمة في حديقة عامة.  طفق الصديقان بتبادل السلام والمشاعر وأيضا الاستفسار بحرارة عن  الامور والاطمئنان على سلامة سيرها. كانا يتجاذبان اطراف الحديث دون الضغط في الكلام ، لان الكلمات  كانت تنساب  بهدوء تام وسهولة .
كان العصفوران في نصف الساعة الاولى من لقائهما عندما سمعا زقزقة قوية غريبة تشبه صراخ عصفور أو بكاءَه ، فطارا الى حيث الزقزقة الباكية ، ووجدا باندهاش كبير منظر زميل لهما وهو واقع في فخ نصبَهُ له احد أفراد بني البشر.  كان الفخّ حديديا وتسبب في جرج ساق العصفور الذي قيل بانه كان قد بدأ لتوّه حياتَه العملية بزهوِ وتفاؤل في غدٍ مشرق نحو حياة هادئة هنيئة.  لم يكن العصفورُ قد تأبّط شرّاً ، لأنه لا يعرف أصلا ما هو الشر ، ولا منخرطا او متورطا في حرب ، ولكن بالرغم من هذا ، وقع فريسة شرّ الانسان ، فغدا اسيرا مصاباً في  ساقه. ذنبُ العصفور الوحيد  كان انطلاقَه في محاولة اولى  للطيران ، والخروج الى العالم ، كما يفعل  أي شاب يافع من بني البشر ، وهو متفائل بالحياة ومليء بالآمال .
  عند قدوم الصياد الشرير لاستلام اسيره المصاب ، غادر العصفوران مسرح الجريمة وعادا الى غصنهما . أمضيا دقائق طويلة في صمت وتأثّر عميقين لما شاهداه من اعتداء وقع على احد افراد بني جلدتهما. بعد أن هدأت نفسهما قليلا  ، بدأ احد الصديقين بالتأوّه والتشكي مما تعانيه الطيور من فعل الانسان وشروره.
كان يقول بصوت تخنقه الرجفة والعبرات: لقد أوجَدَنا الله مخلوقاتٍ صغيرة جميلة تزيّن الطبيعة وتزيد من رونقها.  إننا نطير ، ونشدو ، ونعشعش على الاشجار لعدم ازعاج الانسان على الارض . إننا موضع اعجاب الكثير من الخيّرين الذين يقدّرون الجمال ، ويعتبروننا فصيلاً  يكمّل الخليقة في تعدّد مكوّناتها، من حيوانات واسماك واشجار وزهور وانهار وعناصر الطبيعة الاخرى من بحار ورياح وشمس وسماء ونجوم وجبال وسهول وآكام  وغيرها. كلها أجزاء مهمة لا بدّ منها لقيام الطبيعة، بحيث أن غياب أيّ نوع من هذه المكونات يخلّ بنظامها. كل هذه الاصناف حريصة على عدم الاخلال بتوازن نظام الخليقة الجميل ،  باستثناء الانسان.
بعد ذلك ، تناول  العصفور الاخر الكلام قائلا : ، الامر الغريب هو ان هذا الانسان الذي نعاني الكثير من تصرفاته العنيفة ، هو مخلوق قد حباه الله بعقل مُبدع من شأنه ان يجترح المعجزات ، وقد زرع فيه بذرة الخير ، التي تجعله يميل فطريا الى محبة الاخرين والعمل على اسعادهم وتسهيل امورهم،  وبالإضافة  الى كل هذا  ذلك ،  وتقديراً لمقامه الرفيع ، منحه الله حرية الاختيار كي لا يكون مسيّرا مثلنا . غير ان كل هذا التقدير ، من عقل وحرية اختيار ووعي ووجدان ، يستمر الانسان في اغلب الاحيان بالهدم والتخريب ، لان هو فعل الشرّ أمر سهل وغير مُكلف، اما الجنوح الى الخير يتطلب جهدا ولربما تضحية.
قال صديقه ، ما اجمل الطبيعة ، وما اروع نقاوتها لو لم يأتِ هذا الانسان العاقل مبدئياً ، ليعكّر صفوها ويلوّثها  . انه بتصرفه السيّء هذا يؤثر على مسيرة حياتنا ،  فقد اضرّ بالنبات والحيوان والماء والهواء والتربة وحتى إنه اضر بنفسه . التلوث الذي تخلّفه طائراته ، والغازات التي تقذفها مركباته ومكائنه ومعامله ومشاريعه العملاقة التي تمحو من الوجود ، مساحات شاسعة وغابات واسعة خضراء  ، وبالاضافة الى هذا ، انه يحاول وباصرار ، التلاعب بمكونات الطبيعة وتغيير جيناتها ،  وكأن يريد الحلول محلّ خالقها . 
عوضا عن سعي العقل للحفاظ  على الطبيعة ونظامها ومكوناتها، اصبح الانسان ،  لأنه متكبر واناني ويحب السيطرة ، غيرّ آبهٍ اذا تشوهت الطبيعة أو تدمرت . لا يهمه  اذا اختفت الطيور او تعذبت ، لان هذا هو آخر همومه ، ولا يهمه  اذا ابيدت الحيوانات الاخرى ، او حتى الالاف بل الملايين الناس البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة في حروب يتسبب بإشعالها  في ساعة غضب إرضاءً  لنزواته . اقول احيانا ، هل فعلا كان يحتاج هذا الشرير المفترس لهذا العقل وهذه المرتبة السامية ؟ !!!
عاد العصفور الآخر ليضيف قائلا : لقد سمعتُ بانه هؤلاء ، بالإضافة الى العقل وبذرة الخير التي زرعها الله فيهم ، لديهم اديان تدعوهم لعمل الخير وتَعِدهم ، حرّاء ذلك ،  بحياة ابدية تجازي اعمالهم الخيّرة ، نعمة نحن محرومون منه ،  ولكن أنانيتهم ورغابتهم الآنية تُنسيانهم وعودَ السعادة الابدية هذه . لقد سمعتُ  بانهم الكثيرين منهم يغدرون ببعضهم البعض ، فالاخ ينظر بعين الحسد الى اخيه ،يكذب عليه ويغدر به ويتحايل عليه ويفرح لمصائبه ، وكثيرا ما تُفضي بعض المنافع المادية التافهة الى احقاد تنتهي بجرائم قتل ، حتى اذا كان المغدور من اقرب المقربين .
قال صاحبه ، الحديثُ يطول عن الجرائم التي ارتكبها الانسان ، ولكني قد إطّلعتُ قليلا  على التاريخ وقرأت عن الحروب على مرّ التاريخ ، والتي اودت بالمليارات من كائنات بشرية او غير بشرية ، ذهبت ضحية انانية بعض اشخاص وأطماعهم  وعنجهيتهم ، اشخاص  لم يستشيروا عقلهم ولم يسمعوا لوجدانهم وبذرة الخير فيهم ،  فتحولوا الى مجرد مخلوقات مفترسة شريرة. اقول من جديد هل كان يحتاج الانسان الى كل هذا العقل كي يتصرف كمتوحش؟
ما كان اجملنا لو حافظ الانسان على النظام الذي خلقة الله ولم يعبث به ، كانت ستبقى الحياة على نظامها وجمالها السحري ، وكان يعمّ السلام وينتشر الحب بين البشر والخلائق الاخرى ، فنَسلمَ نحن ايضا من الفخاخ  والاخطار الاخرى التي ابتكرها لنا الانسان.
في نهاية لقاء العصفورين ، اقول : هذا الكلام الذي تفوهتْ به العصافير ،  لو كنتُ قد كتبته أنا ، او ردّده أيّ مرشد روحي ، لكان غير ذي أثر لأنه حديث يُعاد يوميا منذ الاف السنين . كلام بسيط ومنطقي قالته العصافير ، اعني  مخلوقات لا اهمية لها ،  ولكن مهما استخففنا بمن قالها ، تبقى هذه هي  الحقيقة  الوحيدة منذ ابد الدهر ، إن شئنا هذا أم ابينا.

28
المنبر الحر / ولماذا لا أغني ؟!!
« في: 21:18 05/10/2020  »
ولماذا لا أغني ؟!!
شمعون كوسا

  كان لي صديق عزيز عاشرته منذ صباي إلى ان باتَ فيما بعد زميلَ دراسة . خلال الكثير من نزهاتنا كنت أسمَعه يقول لي  : انت شخص محضوض جدا ، لان الله حباك بمواهب من شأنها أن تُبعد عنك الضجر والتبرم . وكان يقول ، إن من مثلك لا يمكن  أن يستسلم للهموم لأنك قادر على  تبديد غيومك السوداء ويكفيك ان  تطلق العنان لحنجرتك لغناء كل ما  هو شجيّ من الالحان . وكان ينتهي بالقول : انا أحسدك فعلا على هذا.
لم يعُد هذا الصديق في عداد الاحياء ، ولكني  كلّما اتصوره ، اتذكر كلامه هذا الذي ايقنت ، فيما بعد ، بانه يحمل الكثير من الحقيقة.
راودتني هذه الفكرة وانا استعرض ما كانت تقلبه افكاري من صفحات ،  عن تواريخ وأشخاص وأحداث وأحاديث ، كنتُ جالسا على صخرة تطلّ على فسحة جميلة رسمت الطبيعة عليها مجمل آياتها ، وانا استعيد هذه الذكريات. عندما بلغ شريط افكاري  فقرة الطرب والالحان والغناء والاصوات ، توقفتُ وكأنّ نهاري تمّ تخصيصه لهذا الموضوع الذي يريحني كثيرا. أمعنت في  التفكير والاستذكار ، فاتجهت افكاري الى من أضعهم دوما في مرتبة عليا  في مجال الصوت والغناء. وعندما اتحدث عن الغناء اعني به الطرب الاصيل القديم . هناك أغانِ قديمة اطربتني وتطربني لحد الان ، اسمعها دوما فتطيب نفسي  ، واغنيها احيانا كي انشرح وانسى ، كما قال صديقي.
في مقدمة الاصوات التي تغذّيني ، وتنعشني ، وأسمو من خلالها عاليا،  هي أغاني فيروز الازلية . ألحان جميلة ، نظمت لكلمات خفيفة الدم ،  ويؤديها صوت  لا يمكن إلا ان يكون صوت فيروز . إنها بالاضافة الى المشاعر الخاصة جدا التي تثيرها  داخلي ، فانها مرتبطة بأمكنة وظروف خاصة ، سيّان ان  تكون هذه الظروف سعيدة أم حزينة ، لانها تزرع سعادة وهدوء وطمأنينة داخل نفسي . بدأتُ اعيش مع اغنية يا جارة الوادي التي احببتها منذ بداية الستينات، واغنية زورني كل سنة ، واغنية اخرى قلما يسمعها عامة الناس وهي اغنية :  لِمَ لا احيا وفي قلبي وفي عيني الحياة ؟  واغاني خفيفة اخرى كانت تتوالى تباعا ، ألحان تبدأ بهدوء بصوت فيروزي لا يحتاج الى جهد ، صوت ينبسط ويرتفع وينخفض بسلاسة ، وفي نهاياته يختفي بهدوء وكانه حبات لؤلؤ تناثرت بصمت. وهل احتاج الى ذكر الالاف من هذه الاغاني ؟ استهللت جلستي بهذه الاغاني وانطربت.
 والصوتُ القويّ الاخر الذي تلاها هو  صوت عبد الوهاب  ، صوت سيعيش طويلا بموسيقاه الراقية لانه بمنتهى القوة  والصفاء . صوت يتسلق السلم الموسيقي  بسلاسة غريبة ، فيفضي بسامعيه الى فضاءات جديدة تحّرك اعماق النفس المتعطشة لسماع ما هو جميل . انه صوت يشنف آذاني مهما تراكمت سنيّ عمري.
وصوت آخر يرنّ في اذاني دوما كالأجراس والنواقيس، صوت أطرب الاجيال ولا زال بنفس تأثيره الاولي ، وهو صوت اسمهان.  لروعة صوتها الخاص ، لا استثني أية من اغانيها من اعجابي. ما اجمل اغنية يا بدع الورد ، أوليالي الانس ، أو ليت للبراق عينا ، وغيرها .
وبعد ذلك تسلقت الجبال مع وديع الصافي  في اغانيه ولونه الخاص  الرشيق، وكم تمنيت معه وقلت  :على الله تعود على الله.
ومن ثمّ تحولت الى بعض الأغاني التركية . كنت قد اعجبت في حينه بصوت زكي موران الهادئ ، وبعض اغاني ابراهيم تطلاس واصوات اخرى انصت اليها باعجاب من خلال  الموشحات  .
وهل لي ان انسى الاغاني الفارسية ، لاسيما التي ترفع سامعها الى اعلى القمم ، وتنزله تدريجا كمياه تنسال رقراقة ، اسوة بمياه بيخال مثلا. لا زلت اسمع بشغف بعض  اغاني  المطربة مهستي.
ومهما بحثت عن الاغاني الجميلة والاصوات الشجية ، لا استطيع الابتعاد عن اللون العراقي ، وبالنسبة لي ، ابتدأت  التعرف على الغناء العراقي  عبر المطربين الريفيين الذين كانوا اول من سمعتهم في الراديو لاول مرة . لقد اعجبتُ كثيرا  بزهورة حسين ومقام الدشت الذي تُبدع فيه تماما ، وايضا صوت داخل حسن الباكي . ومن بعد هؤلاء ، اذكر  فاضل عواد الذي يطربني باغلب اغانيه ، لا سيما اغنية يا نجوم صيرن قلائد. وبإجلال أمرّ امام مطربنا الشامخ ناظم الغزالي .
سأكون كافرا في مفهوم الغناء ، اذا مررت دون ذكر عملاق غنائنا الكردي ، طاهر توفيق ، الذي يعيش لحد الان وبقوة ، في صوت كافة شباب المنطقة الذين ،يبدعون في تقليده ويطربون.
مستعرضاً هذا الكمّ من عمالقة الغناء ، وأنا ادندنً بين الفينة والاخرى، قمت تلقائيا باطلاق صوتي وفتحت مغاليق حنجرتي . فكنت كلّما تذكرت اغنية لهؤلاء العمالقة ، اكمل الاغنية بمقام حرّ يتناسب معها ، فـتحوّل من الرست ، الى السيكا المحبَّبَين إليّ جدا ، وانتقل بين الحجازي ، والنهاوند ، والبيات ، والصبا والمقامات المتفرعة منها . وفي تحليقي الحرّ هذا عاليا في  الفضاءات ، كنت احطّّ ، كي أحلّ لا إراديا ، ضيفا على تراتيل طقسية ، فارتّل بحضور  افرام بدى ، ويوحنا جولاغ ، واندراوس صنا ، وقلّة اخرى من الاصوات الرخيمة  .
كانت ذكرى صديقي وحديثه لي بهذا الخصوص لا يتوقفان.  سمعتُ صامتا وغنيت ، وكانت الالحان تتوالى لانها تتجاذب . كان طربا مترابطا لم أقو على إنهائه ، لان كل ما كان يحيط بيّ  يدعو الى استمراري فيه ، من نهر يهدهد مياه غزيرة كُلّف باحتضانها ، وسماء زرقاء صافية  لا تكفّ الرياح عن مغازلتها ، عبر غيوم بيضاء تتفنن في رسم اشكالها كي تمحوها في الحال. واذا اتيت على ذكر الطيور  والاشجار ، سيقول البعض عنّي : ومتى لم يذكر اخونا مكونات  الطبيعة هذه ؟ نعم  انا هكذا ، لا اقوى على تغيير نفسي ، ولا اجد سعادتي العارمة إلا وسط  الطبيعة التي لا اشبع منها وفي كل مرة اطلب المزيد . 
كنت في هذه الساعات بعيدا عن انشغالات الحياة  ومنغصاتها . كنت منهمكا تماما بالغناء وكأني ابحث عن سرّ وجودي ، تيمّناَ بقول جبران ، الذي كان يطلب الناي ليغني من خلال فيروز ، لان الغناء سرُّ الوجود.

29
إسمعْ كثيرا وتكلّم قليلا
شمعون كوسا
كان صوت يناديني من بعيد  ويقول لي بانتظام : قمْ للكتابة لقد حان وقتك . بقيتُ اسمع هذا النداء لعدة ايام ولكني كنت اتجاهله ، الى أن قررت يوم امس التوجه الى حديقة نموذجية غنّاء نسميها هنا (حديقة الاغراس) ، جلستُ على مصطبة كي ، قبل الكتابة ، افرِغُ رأسي المليء بأفكار مضطربة وصور مشوهة.  إبتدعتُ مِمحاة تكنس كل ما كان قد تراكم في رأسي ، فكانت تتوالى أمامي صفحات مليئة بالاسطر السوداء، وكلما اعتقدت باني اوشكت على الانتهاء ، كانت تبرز امامي صفحات جديدة . عندما تيقنت بان المنزل قد فرغ تماما ، فتحت نوافذ رأسي وكلفت انظاري بإدخال كل ما تراه جميلا في حديقة رأسي ، من اشجار كبيرة طاعنة في السنّ ، لان بعضها كانت قد ناهز المائتي عام ،  وشجيرات ونباتات مختلفة ، وزهور موسمية وعصافير تحلق ، وتحط ّ، وتنتقل من غصن الى غصن .
وسّعتُ مساحة انظاري لتغطي البحيرات ونوافيرها والبطّ العائم فيها ، والتماثيل الرائعة المنتشرة هنا وهناك. كنتُ أرى نفسي كسائق في محطة التعبئة يقوم بتعبئة خزان نشف وقوده ، خزان خلا من اقاويل وافكار وأنباء كنت اسمعها كل يوم ، مواضيع لكثرة تردادها  باتت مملة مضجرة وكئيبة .
لعلّ البعض حزر هذا الموضوع المملّ . هذا الموضوع المملّ لم يكن غير موضوع الكورونا الذي اكتنفته الكثير من التناقضات ، الوباء الذي قيل عنه في البداية ، بانه غير مضرّ بنسبة 98 بالمائة ، وبانه لا يقتل الشباب ولا الاطفال . قيل عنه ايضا بانه سوف يخفّ في موسم الحرّ.  وعن  كمّام الوقاية ، قيل عنه أنه ليس ضروريا ، لانه لم يكن متوفرا آنذاك ، وعندما فاض عن الحاجة ، اصبح اجباريا ، تحت طائلة عقاب . كنّا قد اعتقدنا باننا بعد الحجر الصحي ، انتهينا منه نهائيا ، واذا بنا نسمع عنه ثانية ، بحيث اصبحنا نسمع عنه في كل اوقات النهار في الراديو والتلفزيون وكافة وسائل الاعلام ، والكلام يدور دوما عن نسبة الاصابات ، والتحذيرات ، والتعليمات الجديدة ، والخوف من تطوراته وقفزاته الحديدة ،  والتصريحات ابتعدت عّما قيل في البداية . لا يوجد حديث غير الكورونا وكأنّ الانسان قد تعافى تماما ولم يعد يعاني من اي مرض آخر. انه لغز لا افهمه شخصيا ، لقد كثرت تناقضاته وملابساته.
كل هذه المقدمة المملة ذكرتها  لأقول : إن تجاهُلي لنداء الكتابة كان بسبب فكرة كانت تراودني ، لاني كنت أقول : سأتناول القلم ، ولكني احتاج الى موضوع او فكرة انسج حولها ، ماذا سيكون موضوعي ؟ لقد كتبتُ كثيرا وكنت في كلّ ما اكتب ، لا اقوم الا باعادة مواضيع كتِبَ عنها الاخرون آلاف المرات .  لذا قررت  العودة الى ايام كنت في الصف الثالث الابتدائي،  حيث كان لنا درس في اللغة الكلدانية ، وكتابنا آنذاك كان يتضمن درسا عن الامثال . المثل الذي كان يعجبني وما زلت احتفظ به هو باللفظ الكلداني  : (شمع سكّي وملل قلّيل) . اعني اسمع كثيرا وتكلم قليلا . فقررت ، اسوة بهذا المثل ، أن التزم الصمت او اقتصد بالكلام .
بهذا الخصوص ، تقدم نحوي قبل ايام ، شخص اعرفه ، وفاتحني بحادث كان قد وقع  له مع اصدقاءَ اعرفهم . بعد أن افرغ كل ما جعبته ، سألني رأيي . كان الموضوع حساسا ، واعرف بأن أي كلمة تخرج من فمي ستستخدم سلبا ، فكان ردّ فعلي أن ابتسمت له ابتسامة خفيفة ، رفعت كتفيّ ، وفتحت ذراعي وقلبت شفتي السفلى.  تركني الاخ ممتعضا لأني لم انبس ببنت شفة . بعد ايام بلغني بانه كان قد استشار بعض الاصدقاء ، ومعتمدا على كلامهم ، انتهي بمصيبة كبرى .
الشخص الذي يلتزم الصمت في المحافل ، يُنظر اليه  كشخص حكيم ، جدير  بالاحترام ،  ويقول عنه الناس بانه رجل ذا وزن ،  لا سيما وان هذا الحكيم  اذا اضطر للكلام ، فانه سيكتفي بكلام قليل ذي  دلالة كبيرة . وفي المقابل ، هناك ثرثارون ، يُطلقون العنان لألسنتهم فيخرج كلامهم فارغا ، لانه يفتقر الى حد ادنى من التفكير والتروّي. هؤلاء تزداد اخطاؤهم بسبب كثرة لغوهم . انهم لا يحضون باحترام الناس ، ويفقدون مصداقيتهم .
لقد قيل الكثير عن الكلام الفضي والسكوت الذهبي ، وهناك قصص طويلة عمّن حنثوا بعهدهم لانهم ، لكثرة كلاهم ، نسوا وعودهم ، وهناك أيضا من بصمتهم ، او بكلمة واحدة  انقذوا الكثير من الحالات الصعبة .  وبما إني قررت الاقتصاد في الكلام ، سأكتفي بهذا ، وأنقل بعض امثال انتقيتها ، لانها  بليغة المعاني :
- الكلمات التي تُفلت من شفاهنا، تكون ثقيلة بنتائجها.
- الجاهل يبدو اقل جهلا اذا فهم بان السكوت هو افضل ما يناسبه.
- اذا رأيت نفسك امام جاهل ، افضل ما تفعله هو السكوت .
- الصمت والصبر هما انجع دواء للغضب.
- الفم الساكت يجذب السامعين.
- التزام الصمت نادراً ما ، يكون مصدر ندم .
- الصمت هو سلسلة كلمات غير مسموعة من الناس .
- اننا من خلال الصمت ، نسمع أكبر الحقائق.
- الصمت يكون احيانا حوارَ الباحثين عن التفاهم.
- استخدام الصمت اصعب من استخدام الكلمة .
- الشخص الذي لا يقوى على الصمت،  لا يجيد الكلام .
- اننا نندم غالبا لأننا تكلمنا ، ولكننا لا نندم ابدا لأننا التزمنا الصمت.
- اذا أردت أن تُسكِتَ الناسَ ابدأ انت بالسكوت .
كل مثل مذكور هنا هو موضوع كامل قائم بذاته . أمّا فيما يخصّني ، فاني قفزت في البداية من الديك الى الحمار ، كما يقال في الفرنسية . واذا كان لا بدّ من لي من كلمة انهي بها الموضوع اقول : مهما قلنا وفعلنا ،  فالثرثار يزيد ثرثرة ، والحكيم الصامت والسامع  ، يزداد حكمة .

30
يجب على كل امرئ أن يتبنّى
فلسفته في الحياة
شمعون كوسا

منذ أكثر من عشرين سنة ، كنت اعمل في السفارة السويسرية في عمان  . كانت السفارةُ آنذاك هيئةً دبلوماسية صغيرة لا يتجاوز عدد العاملين فيها  الاربعة موظفين سويسريين ، يتمثلون بالسفير والمستشار والقنصل والسكرتيرة ، وانا كنت الموظف المحلي ، متعدّد المهام . الحديث هنا عن احدى سكرتيرات السفير،  اللواتي كنّ يتعاقبن كل ثلاث او اربع سنوات ، على غرار العمل الدبلوماسي المتّبع في كافة البلدان .
كانت سكرتيرتنا هذه ، امرأة قلقة ، مهزوزة الشخصية ، تثور اعصابها لأتفه الاسباب ، بحيث كانت تعكس حالتها وعدم استقرارها ، على كافة العاملين في السفارة . المستشار الذي كان يدعى آنذاك السيد بلترامتي ، والمستشار هو الشخص الثاني في السفارة ، كان يتابع تطورات هذه السكرتيرة  ويحاول التخفيف عن حالاتها العصبية . بحكم علاقتي معه كنت مطلعا على هذا الموضوع.
 جلس المستشار عدة مرات مع السكرتيرة ، وكأنه يؤدي دورَ المرشدِ الروحي او الدبلوماسي . من ضمن ما كان يقول لها هو هذا الكلام : يا سيدتي ، يجب ألاّ تبقِي على حالتك هذه، لانك أمسيت الآن في مهبّ الريح ، تتمايلين مع كل هبّة صغيرة وتنطرحين ارضا اذا اشتدّ العصف. الناس كلهم دون استثناء ، معرّضون لتقلبات الدهر وخاضعون لمشاكل الحياة اليومية. انهم يمرّون باحداث غير متوقعة ، أو حالات عاطفية تختلف بوقعها وتأثيرها ، فاذا لم يَكُنِ الشخص راكزا لمواجهة هذه التقلبات والاحداث ، فانه سينهار لا محالة. وكان يختم كلامه كل مرة بالقول :  يجب ان تفكري جدّيا في تبنّي فلسفة خاصة في حياتك ، لكي تعودي اليها وترتكزي عليها في مثل هذه الحالات . يجب ان تتمسكي بمبدأ قويّ تسيرين عليه بإرادة صلبة  ، خطٍّ واضح  يساعدك على  إيجاد مخرج لكل مأزق . أعاد عليها هذا الكلام عدة مرات ، وكان يضرب لها الامثال ويسرد لها حالات كثيرة عن نفسه وعن الاخرين . وفعلا كان المستشار قد افلح في مهمته، لان السكرتيرة  تغيرت قبل مغادرتها الاردن.
بعد هذه المقدمة ارغب أنا الان بالتفلسف قليلا ، فاقول :  لقد كثُرتْ همومُنا ، وتعقّدت حياتنا ، وتنوعت المفاجئات التي تفرض نفسها علينا ، فإذا لم يكن لنا صخرة نتكئ عليها ، سنجد نفسنا مثل تلك السكرتيرة ، تارة تقتادنا ريح الشمال عنوة ، وطورا نرى نفسنا في أذيال رياح الجنوب ، واحيانا اخرى تجرفنا عواصف قوية فترمينا في عالم التيه.
إيجاد الصخرة القوية يتمّ باكتشاف كيفية الخروج من الازمة التي نمرّ بها ، اعني الخروج من المحيط المغلق او الدائرة المفرغة التي ندور فيها .
 انا شخصيا ، مثل الكثير من الناس ، مررت في هذه الحالات ولا زلت أمرّ بها، انها مخاوف او مجرد وساوس ، انها سماع  كلام جارح ، أو التعرض لانتقاد لاذع أو افتراء ، أو الاضطرار لحلّ مشاكل حقيقة غير سارة ، والوقوع في بعض الأزمات وغيرها ، وما اكثرها. لقد أمضيتُ أياما وليالي تطول ساعاتها ، اتقلب في الفراش ، وانا في خضمّ حلّ مشكلة كانت قد عشعشت في رأسي ، فأصبحت نقطة سوداء لا تبارح مكانها ، وتعاود كل مرة لتعيدني الى نفس الشعور بالألم ، لأني  لم افلح في طردها من رأسي ، او بالأحرى ، لم اتعلم كيف اطردها ، او على الاقل اتناساها .
الفلسفة التي احاول تطبيقها في هذا الخصوص هي : اذا لم افلح في حل مشكلة ما ، ارغِمُ نفسي على القفز والخروج من الدائرة التي ادور داخلها ، للذهاب بخيالي باتجاه نقطة مضيئة في السماء ، نقطة ابتكرتُها واعتبرها غيمة السعادة والهدوء . فأبقى هناك بخيالي هناك ولو لبضعة ثوانٍ. بعض المشاكل لا يُعوزها اكثر من طرفة عين لكي ننساها ، وبعد ذلك نراها قد خفّت لاننا ابتعدنا عنها ولو للحظات. المشكلة تتفاقم عادة عند التركيز عليها ، تركيز يؤدي الى كثرة  السيناريوهات ، وهكذا يتحول الخوف البسيط الى صورة وهمية هائلة ، تتناولها الاعصاب المرهقة لتعيدها دوما بأشكال مختلفة . التخلص من هذه الصور ، يتم بالتهرّب واللجوء الى الخيال . يجب ان يقتنع المرء بان الصور المخيفة التي تملأ رأسه  ليست حقيقية. لذا يتوجب اغلاق هذا الباب بإرادة قوية . فعلا احيانا يبقى العقل في صراع ، فيناقش ويستنبط حوارات وسيناريوهات قد تملا عدة صفحات اذا تمّ كتابتها.
يجب الاقتناع من المبدأ الواقعي الثابت بانه ، لم تبقَ هناك مشكلة في الحياة  لم تجد لها حلا في النهاية . هذه هي تجربتي في الحياة ،  لقد مررتُ فعلا بأزمنة خوف وقلق وحتى الاكتئاب . والحل كان برفع الانظار الى السماء وتصميم الصعود للاستقرار في الزاوية البسيطة السعيدة . وفي هذا السياق انا احب  الانقياد لمقطع صلاة تدعو المؤمنين الى رفع انظارهم ،او قلوبهم الى العلى . نعم رفع الانظار الى العلى يبعدنا عمّا يشغلنا. 
هناك مشاكل موضوعية ،  وفعلا  لا نجد لها حلا ، هذه المشاكل التي تضعنا امام حائط عال أو طريق مسدود ، يجب ان نتخذ القرار بتأجيلها تماما، وفي اغلب الاحيان ، نرى بان هذه المشاكل قد انتهت بحلّ هادئ شقّ طريقه تلقائيا.
المشاكل كثيرة ، ولكن يجب تحجيمها . انا شخصيا اؤمن وبرسوخ  بان كل شيء زائل في الحياة ، الجمال والجاه والمال ، الافراح والاتراح والالام وحتى المشكلة التي نتعرض اليها هي زائلة ، وهذه القناعة  تساعدني شخصيا  على قبول الكثير مما الاقيه ، هذا يساعد على عدم تعقيد الامور ، لانه في نهاية المطاف ، كل شئ زائل وينتهي ، ولا يحتاج كل هذا الاهتمام.
الابتعاد عن مصادر الهموم يكون بحبّ الحياة . يجب الخروج والارتماء في احضان الطبيعة التي ، لحسن الحظ ، باقية على جمالها ووفية بعطائها.  والابتعاد يكون ايضا بالسعي وراء الرزق بتفاؤل ، دون التعلق بالمال . لستُ ضدّ جمع المال، ولكن عدم التعلق به يجنبنا الكثير من الهموم. والأهم من كل ذلك ، هو الانفتاح على  الناس ومحبتهم بصدق . وما اصدق البيت الشعري القائل : أحببْ ، سترى الكوخَ قصراً نيّرا، وأبغض ،سترى القصرَ كوخاً مُظلما .
انها توجيهات لا يكتسبها الانسان بمجرد الكلام عنها او الاقتناع بصحتها ، ولكنها تأتي عبر ترسيخ هذه القناعة والاعتياد عليها . جلسات تفكير مطولة وفترات تأمل وصمت ضرورية للتوصل الى فلسفة الحياة هذه.
يجب ان نعتاد على عدم عبور الجسر قبل الوصول اليه ، ولا استباق الموسيقى بل السير وفق ايقاعها ، انها كلمات تعني الكثير. هذا الموضوع بحر عميق يجب عليّ  انهاءه بكلام المسيح الذي يملأ النفس طمأنينة  : يكفي كلَّ يوم شرُّه ، او كما تقول الترجمة الجديدة : في كل يوم من المتاعب ما يكفيه.
 

31
المنبر الحر / أجمل هدية
« في: 22:49 08/05/2020  »
أجمل هدية
شمعون كوسا

لقد سبق لي وان اقتبست عددا من مواضيعي من رسائل يبعثها لي بعض الاصدقاء ، وما اكتبه اليوم سطوره العريضة مقتبسة من رسالة حوّلها لي نفس الصديق . انها قصة بسيطة جدا ، شبه ساذجة ، ولكنها بمشهد صغير فيها  تجعل الانسان متأثراً مشدوها ، جملة صغيرة فيها ترغم السامع على نسيان الكثير من العقد والمشاكل.
تبدأ القصة بمعاقبة أم لابنتها البالغة خمس سنوات فقط ، بسبب هدرها  بعض ورق التغليف ، ورق نفيس كانت تحتفظ به الام وتستخدمه بتقتير ، كونه ورقا ذهبيّ اللون.
كانت تعاني المرأة من شظف العيش ، لم تكن تجني من عملها إلا الضئيل الذي في اغلب الاحيان ، لا يوصلها الى نهاية الشهر. امتعضت الوالدة وانفجرت غضبا بوجه ابنتها التي سمحت لنفسها باستخدام هذا الورق بالذات لتغليف علبة الهدايا ، علبة وضعتها تحت شجرة عيد الميلاد .
بالرغم من غضب والدتها وكل التأنيب الذي تلقته منها ، قامت الصبية الصغيرة ، في صبيحة عيد الميلاد ، بتقديم الهدية المغلفة بالورق الذهبي لوالدتها.  كانت البنت قد اولت اهمية خاصة لتغيف هديتها.
دنت الابنة من والدتها حاملة علبة الهدية ، ومقبّلة اياها ، قالت لها : ليكن عيد الميلاد مباركا عليك ، هذه هديتي  لك يا ماما. إندهشت الام لِمبادرة ابنتها الصغيرة التي لم تكن تتوقعها، واحسّت بحرج كبير لانفعالها والتوبيخ الذي صدر منها عشية ذاك اليوم . قامت الأمّ بفتح العلبة ، ولكنها انذهلت وبقيت صامتة  ، لانها لم تجد أيّة هدية داخل العلبة ، فالعلبة  كانت فارغة خاوية.
التفتت الام الى ابنتها وقد عاد غضبها من جديد ، وتوجهت اليها  بنبرة حادة قائلة : ألا تعرفين يا صبية ، بان الهدية عندما يتمّ تقديمها في أية مناسبة ، يجب ان تحوي علبتها شيء مهما كان ؟  هل تنتقمين ، أم تسخرين منّي بهذه العلبة الفارغة ، المغلفة بالورق الذهبي؟
اجهشتِ الابنة بالبكاء وهرعت نحو والدتها واجابتها قائلة : يا امي العزيزة ، العلبة ليست فارغة أبداً ، لأني  قبل تغليفها ، قد جلست لمدة طويلة وملأتها من القبلات الحارة ، وكل مرة أجدها قد امتلأت أعود من جديد واضيف اليها قبلات جديدة  . وكنت ازيد من القبلات التي كانت تشتدّ حبا وحرارة ، إلى ان ايقنت بانه لم يبقَ فراغ فيها  ، وكنت اخشى من عدم امكانيتي إغلاقها. لم ينقطع بكاء الصبية  وهي تكرر : يا امي العزيزة ، علبتي ليست فارغة ، ولكنها مليئة باثمن ما املكه ، قبلات حبّي لك .
عند سماع هذا الكلام صُعقت الام ، ولشدة تأثرها بكلام ابنتها ، ركعت امامها وحضنتها بحرارة ، وبدموع ساخنة ، كانت تقول لها : اطلب عفوكِ يا فلذة اكبادي لإساءتي فهمك .  كانت الام لا تشبع من تقبيلها وتقول لها كل مرّة : سامحيني  يا ابنتي لما تفوّهت به من كلام نابِ وعبارات غضب تجاهك . وبقيت الام  حاضنة إبنتها لمدة طويلة وهي تبكي وتقبلها وتعيد عليها ندمها.
تقول القصة ، بانه بعد فترة قصيرة من الزمن ،  شاء القدر ان تفارق  الصبية الحياة.  كانت الام ، ومنذ ذلك التاريخ ، قد احتفظت بتلك العلبة الذهبية  بجانب سريرها  ولم تبارح مكانها الى ان توفيت ، وكأنها تحتكم على كنز ثمين جدا.
كلما كانت الام تواجه وضعا صعبا ، او تجد نفسها امام مشكلة ، او خاب ظنها وفقدت شجاعتها ، كانت تلتجئ الى العلبة فتفتحها ، وتتناول منها قبلة ، لأنها كانت تتذكر ، بل تعيش ذاك الحب الجمّ الذي كانت قد وضعته ابنتها في القبلات المخزونة ، فكانت تهدأ نفسها ، وتسلـّم امرها لله وهي محتضنة ابنتها ، فتجد حلاّ لمشكلتها او على الاقل تحصل على الطمأنينة.
أنتهت هنا القصة البسيطة التي لا تحتاج الى تعليق . قبلات ابنة صغيرة مليئة حبا وحنانا ، تحولت الى مصدر يجد حلا لكل ما عانته امها في حياتها اليومية وما اكثر هذه المعاناة .
إذا احببنا ان نعكس واقع هذه القصة  في حياتنا اليومية ، نجد بان كل واحد منا قد استلم في حياته هدية مغلفة بورق مذهب . هدية مليئة بالقبلات والحب المتجرد، قد تكون هذه الهدية آتية من الاقرباء أو حتى الاصدقاء . لأنه ليس هناك ثروة اثمن من الحب ..



32
بالرغم من إقامتي الجبرية
غامرت بالسفر
شمعون كوسا

كُلَّ صباح كان يستهل الربيع يومَه أمامي ، بحلة جديدة  تنافس في رونقها وزهوها اليوم الذي سبقها . قلتُ بردّة فعل تِلقائية : أفقدَ هذا الموسمُ حياءَه ؟ أم انعدم إحساسُه ازاء كل ما نعانيه في ايامنا ؟ هل فاته باننا مقيّدون داخل منازلنا ؟ هل هو تحدٍّ ، أم مجرد  مضايقة ، ام اثارة ، أم ماذا ؟ انقطعتْ سلسلة تذمري واستيائي ،  عندما ادركتُ الحقيقة التي تقول :  إن الطبيعة ، ولحسن  الحظ ، لا تتأثر بما نعانيه او نشعر به ، انها لا تغير أيّة درجة في دورتها ، ولا تتأخر ولو للحظة واحدة في ما رُسِم لها منذ البدء  ، إذ بعد انقضاء فصل الشتاء ، تستأنف الاشجار العارية ، وبالدقيقة المخصصة لها ، نموّها ، فينبت وَبَرُ خفيف على اغصانها ،  كالشعر الناعم الذي ينبت بخجل على وجه شاب حديث الاكتمال ، وهذا الوبر  يتطور  بسرعة الى أن يخشوشن ، فيملأ المساحات التي كان قد تركها الشتاء فارغة ، بملايين من الاوراق الغضّة الخضراء الجديدة .
ومن جهة اخرى ، قلتُ : أيُّ ظالم عديم الذوق ، يرضى بِأَلاّ نهبّ لاستقبال الربيع  ، فنُمتعَّ أنظارنا بجماله ، ننتعش بنسيمه،  ونشنّف آذاننا  بما هيّأتهُ طيوره من أنغام عذبة  .  وقلتُ ايضا :  هل سأبقى أنا معتقلا دون حراك ، انا الذي ، إذا صحّ ما يُشاعُ حاليا ، سأكون ضمن المجموعة المتقدمة بالسنّ التي ستُمنع من الخروج من البيت حتى بعد صدور العفو العام عن كافة المحتجزين داخل بيوتهم . سلسلة افكاري قادتني الى مخرج جعلني أقول : اشكر الله بأني اهتدي دوما الى طريقة خاصة ، الى خيالٍ يُخرجني من مآزقي .
دعوتُ انظاري الى توسيع مساحة رؤيتها والتطلع بعيدا جدا ، وقليلا فقليلا اغمضتُ عينيّ ، فرأيت نفسي قد حلّقت عاليا ، بعيداً عن الفايروس اللعين وأحكامه العرفية التي باتت تُشغل جلّ اوقات الناس ، فالكوكب قد تقوقع ، اتقاءَ شرِّ هذا الارهاب الجديد. أرهابٍ شبّهته احدى الاخوات هنا بـ ( أم ّ قرون) ، بعبع كانت تذكره جدّتها عند تخويف الصغار. بقيتُ انظر من عليائي الى الدنيا التي بعد اغتسالها ارتدت ثوبها الاخضر.  قبل ان اذهب بعيدا ، اردت ان ألتذّ بما كنتُ قد مُنِعتُ عن رؤيته منذ شهر. خرجتُ اليوم دون تصريح ، لان الطرق والمنعطفات التي سأطرقها لا تطالها نقاط التفتيش ولا الرقابة .
 مررتُ بالكثير من البلدان والمدن،  ولم يهدأ لي بالُ إلاّ عند بلوغي  حدودا أحترِقُ شوقا لدخولها  ، بلداً  طالما تشبّثتُ بهوائه ومائه ، لانه في زمن ما ، كان يمثل ارض اجدادي !! مررت على بغداد الجريحة التي عشت بعض ايامها الجميلة ،  مدينة كانت زاهية بإمكانياتها ومشاريعها ومنتزهاتها الجميلة .
مررتُ بالموصل التي امضيت فيها احدى عشرة سنة ، في زمن كان الجسر الحديدي وحيدا لمدينته ، ومنطقة الساعة ودير الدومنيكان ،  ومعهد ما يوحنا الحبيب . مررت على الاديرة والقرى المجاورة من تلكيف ، وتللسقف ، وباقوفا،  وبطنايا ، ودير مار اوراها والقوش . مررت على قره قوش التي احبّها ، غير اني  لم اتمكن من لقاء صديقي وزميلي المطران بطرس موشى لانشغاله بامور كثيرة  ،عرّجت على دهوك وزاخو بغية رؤية زميلي الصغير،  المطران ربان  ، وعند اطلاعي على جدول اعماله المثقل بالمواعيد ، لم أشأ ازعاجه. وكيف لي ان انسى كركوك التي عملتُ  فيها لمدة اربع سنوات ، وكانت اول فترة  شبابي .
هدفي الرئيسي كان  مسقط رأسي  شقلاوا . وقبل الوصول إليها كان يجب ان اجتازَ مصيف صلاح الدين ،التي كان يؤمّها الاجنبي والمحلي بغية الاستجمام والسياحة ، بقعة جميلة تمّ تسجيلها الآن  باسم عشيرة حوّلتها الى بيوت سكنية  ، بحيث لم تعد الان سوى  محطة عبور،  يُفضّل ألاّ يلتفت سالكوها يُمنة او يسرة.
دخلتُ شقلاوا القديمة التي اعرفها أنا ، والتي لا تستطيع ايةُ قوة إزالةَ صورها من ذهني ، انها شقلاوا ، قبل ان تطالها يد الاسمنت والاسفلت في كل زواياها. شقلاوا الطبيعية الخضراء ، التي كانت تقدّس الطبيعة ، لان الله وضعها في اجمل بقعة . شقلاوا التي كانت تؤاثر السكن في بيوت الطين شتاءً ، ومآوي خفيفة أخرى ، مصنوعة من اغصان الاشجار صيفاً . شقلاوا التي كان قد قال عنها احد الخبراء الفرنسيين بانها اشبه بمقاطعة (هوت سافوا ، بفرنسا) منطقة منتشرة  على سفوح جبال الالب ، وبمجرد استدارة ، لا يرى اهلوها غير القمم العالية المكللة بالثلوج.
كنتُ في عالمي القديم . لذا توجهتُ مباشرة الى شجرة بلوط  كنت اجثو تحتها، على صخرة  انظر منها الى زاوية تلتحم  فيها قمة الجبل مع السماء الزرقاء . بقيت هناك واستَعَدتُ كل ما كان يعتلج في صدري آنذاك ، كنت أرى نفسي قاب قوسين من الابدية . كانت تمرّ داخل جسمي امواج او تيارات سعادة عارمة،  تنتشر حتى آخر شعيرات  من جسمي  . كنتُ التفت بين الحين والاخر الى القمة التي كانت تعلوها الكنيسة القديمة فرأيتُ مام توما باتري واقفا امام بابها  بصحبة القس حنا شير (قاشا حنا).
لم أنسَ أن احيّي  ، من المكان الذي اجثو فيه ، دير ربان بويا ، والقديسين المحيطين به في الجبل . كنتُ اقول ، لعل هذه البقعة ، كما اراها أنا ،  كانت الجنة الموعودة  ؟!! بقيتُ مدة طويلة على هذا المنوال، من شدة السعادة كنت اخاف ألاّ يصيبني شئ أو ارتفع من شدة انخطافي ، لم اكن اصدق بوجود سعادة تغمر جسم الانسان وتريحه بهذا الشكل. كان نظري معلقا بهذه النقطة كأني في حضرة مبدع الأكوان ، الذي نشر بعض آيات جماله على هذه القرية. كنت في صمت عميق ،  لان الصمتَ هو ابلغُ تعبير وأصدَقَهُ .
كان يجب ان انتهز الفرصة واستمر في رحلتي لان مثل هذه المناسبة لا تتكرر يوميا ، فهي تتطلب الكثير من الاستعدادات النفسية والجسدية وحتى الروحية.
مررتُ على شلال علي بك ومضيقه الذي لا اعرف لماذا ينقلي الى أجواء الالحان الفارسية . انتقلتُ الى راوندوز وشلال بيخال ، وكان هذا قبل أن يتشوه منظره بالجسر الحديث. وكان طريقي يقودني الى ناو بردان ، فتذكرت الخوري بولس بيدارو ، الذي كنت قد رأيته مرتديا زيّ البيشمركة لانه كان قد التحق بالحركة الكردية ، كان هذا ضمن سفرة دينية . ومن هناك كان توجُهي الى حاج عمران التي في احدى السفرات ، كنا قد اضطررنا لإشعال النار كي نتدفأ ونحن في شهر تموز .
عندما رأيت بان مقامي طال في المنطقة، عُدت بسرعة البرق ، ووجدت نفسي داخل البيت . كانت رحلة مرهقة ولكنها نقلتني الى جنّة لا اكف عن التفكير فيها . فتحت عيني ونظرت حولي ، فلم ألقَ من يرحب بي وبسلامة العودة ، ولاجل هذا  قررت نشر وقائع الرحلة. 


33
حديث مع فايروس الكورونا
شمعون كوسا
 
استيقظتُ البارحة في يوم مشمس .  صباحي كان اختتاما لِليل طالت ساعاته قبل ان ينجلي ، حيث كان مسرحا لكوابيس تتناوب فيها افكاري وهواجسي ومخاوفي وتحليلاتي ويأسي ، داخل نفق مظلم يحتضن كل ما نتعرض له هذه الايام . 
 جلستُ على حافة السرير وكأني قادم من رحلة مرهقة استغرقت وقتا طويلا ، واجلت بانظاري هنا وهناك متطلعا دون تركيز الى اشجار الحديقة واسيجتها . بعد تفكير بسيط قلتُ في نفسي : أليس من المؤسف ان تكون هذه الحديقة بكل ما فيها ، محتلةً من قبل عدو خطير غير منظور ؟ أليس مرعبا ان تكون حارتي ،  ومدينتي ، وبلدي ، والعالم باجمعه ، محتلا تماما من قوة فتاكة لا يراها احد . انه عدوّ لا يحتاج الى المناورة ، لانه يحيط بضحيته من كل الاتجاهات دون ان تشعر أوتنتبه لذلك . 
وانا منهمك  بهذا الواقع المخيف ،  احسستُ  وكأن شيئا يتحرك قرب الشباك . حدسي أرشدني الى أن القافز قرب الشباك هو فايروس الكورونا ،  بحركة تلقائية تراجعت استعداداً للهرب ، غير اني سمعت صوتا غريبا قادما من خلف الشباك يدعوني للتريث ويقول : إطمئنّ ولا تخف ، انا فايروس كورونا ولكني لست مكلفا بإيذائك ِ، لا اريد ان اهجر المنطقة دون فتح حديث معك ، انت الذي يلذّ لك السماع ، والردّ ،  والمناقشة .
لم انطق بحرف واحد ، ولم ابارح مكاني ، فابتدأ الفيروس وقال:
اعرفُ بانك قد اغلقتَ الابواب على نفسك  وكأنك تنفذ حكما صدر بحقك في اقامة جبرية ، خشية لقاء احد من جماعتنا او مواجهته !! انت فرد من المليارات التي تخشانا . البشرية برمّتها تصاب بالرجفة من عنصر يعتبر من اصغر الجزيئات في الطبيعة .  هل بحثتَ عن معرفة  حجم الفايروس ؟ قلت له : كلا.   قال : العالم بقاراته ومحيطاته وجزره ودوله العامرة بالمليارات من السكان ، يخشي فايروسا قطره اربعمائة نانو فقط ، والنانو هو جزء من الملميتر الواحد ، بعد تقسيمه على مليون .
اين جبروتكم ؟ اين صناعاتكم ؟ اين مفاعلاتكم ؟ اين صواريخكم ؟ اين طوربيداتكم ؟ اين غواصاتكم ؟ اين فرقاطاتكم ؟ اين مقاتلاتكم الجوية ؟ اين اسلحتكم للدمار الشامل ؟ اين جيوشكم الجبارة وعتادها الحديث؟ أين راداراتكم ؟ أين مراصدكم الجوية؟ أين مختبراتكم العلمية المتقدمة ؟ أين اساطيلكم ؟ هذه الامكانيات كلها مجتمعة عاجزة عن إيقاف الوباء.
قلتُ له : بما انك عالم بكل هذا ، ألا تشرح لي لماذا آلَ بنا الامر الى هذه الحال ؟
تخيلته يبتسم ويقول لي : إن الوباء هذا ، انتم الذين اوجدتموه وجلبتموه على انفسكم . قلت له كيف ؟ قال : لقد ابتعدتم كثيرا عن الطبيعة التي وهبكم الله اياها . لقد لعبتم  بمكوناتها وحوّرتموها ، معتبرين انفسكم العقل الذي لا يتوقف ولا يحول دون تقدمه  اي عائق ، في التطور والابتكار والتحوير ، وكأنكم اردتم الحلول محل الخالق.
من جهة اخرى ، ان أنانيتكم هي التي عصبت ابصاركم ، وافضت بكم الى ما انتم فيه . في الزراعة لم تحترموا الارض وبحثتم عن مضاعفة محاصيلكم بأي اسلوب كان  لان هدفكم كان الفائدة والمال . في الصناعة ، ذات الهدف حدا بكم الى عدم الاكتراث للهواء الذي تستنشقونه ، لان المطلوب هو المزيد من الانتاج والاسراع فيه ، فاصبحت طائراتكم تلوث البيئة ، وعرباتكم المتنوعة لها حصتها المثلى في بث ثاني اوكسيد الكاربون ، ووقودكم بالرغم من مساعيكم لتنقيتها لم تقم الا بزيادة الطين بلة  ، واسلحتكم ، والدمار الذي تسببت به ، والويلات التي تسببها لحد الان ،  ناهيك عما لعبت ، كل هذه مجتمعةً ، من دور في التغير المناخي وزيادة الحرارة التي أدّت الى ذوبان البحار المتجمدة في كلا القطبين.
رغبتكم في تغيير جينات الطبيعة ، في الحيوان والنبات وحتى الانسان ، تتولّونها دون التفكير في العواقب. الهدف عندكم هو الحصول على النتائج ، كيف لا وان الانسان اصبح سيد الكون وكيف لا يسمح لنفسه العبث في كل شعيرات الخليقة . كِدتُ انسى  ان اكلمك عن نفاياتكم العادية التي حائرون انتم  اين تدفنوها لانها تلوث مياهكم . والطامة الكبرى في نفايات صناعاتكم النووية والاشعاعات التي لا تبارحها. لقد لوّثتم كل شئ ، البيئة بارضها ، ومائها ، وهوائها ، وطعامها. وتقولون من أين أتانا هذا الوباء ؟
قلت له : الا تعتقد بان هذا الوباء هو عقاب للبشرية ؟ قال لي : إذا كان هذا عقابا ، ليس الله هو فارضَه عليكم ، لأنكم انتم وحدكم وبحريتكم الكاملة  سبّبتموه ، ووفّرتم له البيئة المناسبة تماما لذلك .  والان وبالرغم من رأسكم الكبير ، المليئ بمشاريع وارقام ، لا تتوصلون الى معرفة  تركيبته ، وما الذي من شأنه ان يوقفه ويعالجه ، لان الوباء مزيج معقد من عبثكم وعجرفتكم .
قلت له وما الحل ّ ؟ أجابني بشئ من الحكمة وقال : يجب ان تبدأوا من الصفر . انكم خليقة جميلة وسط طبيعة خلابة . حافظوا على تقدمكم الايجابي ، ولكن قبل ان تتصرفوا من جديد ، وتصنعوا وتعالجوا ، عودوا لأخلاقكم الحميدة . عودوا لمبادئ وقيم نسيتموها ، لان الانانية والمصلحة والمال قد اعمت ابصاركم . فالذي يتحلي بضمير حي وحقيقي ، ويقيم وزنا لهذه القيم ، سوف ينبذ كل تصرف سئ لا يخدم البشرية وهذه النقطة الجوهرية المهمة. 
العودة يجب ان تكون صادقة وليس قرارا يتخذ في العشية ويُنسى في اليوم التالي كما قد تعودتم . 
تعمّقوا مليّا بهذه الافكار، لانكم تجهلون ما سوف يريكم الدهر من ويلات اخرى قد تعجزون  أمامها.
جعلني هذا الفايروس الحكيم ، ادخل في تأمل عميق جدا لما سرده لي من حقائق مصيرية ، حقائق بسيطة منعتنا انانيتنا من رؤيتها. 

34
تحايلت على فايروس الكورونا
شمعون كوسا

غدونا نسمع ونرى الغرائب في هذه الازمان . كان اسم كورونا يُطلق على احدى  سيارات تويوتا ، والان اضح الفايروس  يحمل هذا الاسم ، كأن الاوبئة لم يكفِها انتحال اسماء الطيور والحيوانات ، كانفلونزا الطيور وانفلونزا الخنازير وغيرها . من يدري  ، لربما  في نفس هذا  السياق ، سنسمع يوما  بفايروسات ارقى مرتبة ، تحمل اسم المارسيدس  أو الروس رايس ، طالما التطور والتلوث يسيران جنبا الى جنب.
اضطررتُ للخروج في خضمّ أزمة الكورونا ، متحدّياً التعليمات التي كانت تدعو الناس للإعتكاف داخل البيوت ، والتوصيات التي كانت تقضي بتجنب الجمهرة ، والابتعاد عمّن يعطسون فيطلقون العنان لكمّْ هائل من رذاذ الريق وفضلات الطعام الاخرى التي ترشها افواههم . بهذا الخصوص وبين قوسين ، أعادتني الذكريات الى ايام  معهد ما يوحنا الحبيب ، حيث كان احد التلاميذ إذا تكلم ،  كان كلّ حرف يتفوه به ، تصاحبه كمية من جزيئات الريق ،  والمصيبة كانت تقع إذا ضحك هذا الرشاش . كنتُ اقول مازحا لزملائي آنذاك : عند الاضطرار للتكلم مع هذه الشخص ، يجب التزوّد بواقية مطرية (شمسية) واحدة على الاقل . والمصيبة كانت تبلغ اوجها  عندما كان ينفخ اخونا فمَه تهيؤاً للانفجار من شدة الضحك ، فانه كان قادرا على إرواء مساحة لا بأس بها من الحديقة  !!!
عودةً الى موضوعنا ، تركتُ البيت وبدأت السير في شوارع شبه مقفرة ، كنت ارى نفسي وكأني في يوم انكسفت فيها الشمس ، او في حالة طوارئ . قلتُ ، سأختار اقصر المسافات للوصول الى موعد مهم كنت قد ارتبطت به. بضع خطوات ، كانت كافية لوضعي أمام حاجز منيع للفايروسات . لم يكن خوفي من شئ سوى عدوى الاصابة بفايروس الكورونا.  وضعتُ احدى كماماتي  واخترقت الحاجز مسرعا . حاولتْ بعض العناصر ملاحقتي ولكنها فشلت لاني  كنت قد نجحت في اجتياز المنطقة المحرّمة.
لم اكن قد إلتقطت انفاسي  كاملا ، عندما اوشكت الوقوع في كمين آخر . قلتُ ، سأختار طريق البساتين محاولة منّي للالتفاف على منطقة الخطر  ، فاتجهت الى اقرب بستان مسيّج . قفزت فوق السياج  ولكني وجدت نفسي في وجه فايروسين كانا يتربصان بيّ ،   فالتصقا برأسي على الفور. بحركة قوية من يديّ استطعت إبعادهما . غذّيتُ السير نحو مخرج آخر لم تكن هذه الدوريات قد بسطت سيطرتها عليه.  بالرغم من وضعي المتأزم ، لم تكن تبارحني ذكريات الماضي .  ذكّرني الموقف بايام  العراقيين المؤلمة . اعادتني  هذه الموانع والنقاط الخطرة ، الى ايام حملات الجيش الشعبي وكمائنه في الشوارع . كلّما كنا نسمع بحملة وشيكة ، كنّا نستكشف الطريق قبل الخروج من البيت . ولقد اضطررت عدة مرات  للعودة من نصف الطريق ،  لاني لمحتُ مجموعة مسلحين منهمكين  في ايقاف السيارات والمارّة ، لاكمال العدد المطلوب ، غير آبهين بحالة الشخص ، اذا كان سليما او معاقا .
ولكي لا ابتعد عن موضوعي ، سلكتُ طريقا ضيّقا . معتقدا بان الفايروسات سوف لن تهتدي اليه  . بدأت اغني كي اقنع نفسي بان الوضع طبيعي . لم يطل موّالي كثيرا عندما أحسست بمخلوق قد التصق بيّ . بدأت اركض وانفض جسمي واحرك يداي بكل الاتجاهات  ، تأكدتُ من وضع الكمام ووليت هاربا.
بدأتِ السماءُ تمطر ، فقلت لعلّ المطر سيخفف من نشاطها ، ولكن المطر لم يغير شيئا . كانت بعض الفايروسات قد اختارت الاشجار مسكنا  . هبطتْ عليّ بعض منها بصورة مفاجئة ، خِلتُها  وكأنها تسألني عن سبب خروجي ونقطة اتجاهي ، فقلت لها :  انا رجل مريض وسوف لن تجنوا  فائدة من إيذائي ، لاني قد نلتُ نصيبي من الامراض المزمنة ، فبدأت الفايروسات تضحك وصارت تحوم حولي ، هربت من جديد ونجوت .
بالرغم من اهمية موعدي ، تندمت كثيلرا  لخروجي في هذا اليوم ، لاني ، في وسط هذا العدوان الكثيف ، سوف لن افلح في انقاذ جلدي . قررتُ العودة ، معتبرا بكل ثقة باني سوف لن اتعرض للملاحقة او المحاسبة من نقاط سبق وان عبرتها .
ارتأيت سلوك طريق مقفر . قطعت مسافة لا بأس بها دون الاصطدام باي كائن من هذه الكائنات الخيّرة ، غير ان حالة اطمئناني لم تدم كثيرا ، لاني ابصرت  سربا كاملا من الفايروسات يتّجه نحوي. تأكدت من جديد من وضع كمامتي ،  وسرت دون اكتراث وكأن الموضوع لا يخصني . ولكني تفاجأت بخليّة  كاملة تتجه نحو انفي وبعض منها اتخذ اذاني وشعري هدفا. 
كانت قد ضاقت بي الحيل ، وفي حيرتي قلت في سرّ نفسي : لو كان هؤلاء  بشرا ، لكنت قد رشوتهم ، ولكني  لم اجد مفرا اخرا غير الهرب  من جديد ، والقيام بحركات سريعة بيديّ ورجلي وكل جسمي وكأني في حالة رقص هستيرية. قلت سأختار وضعية الانبطاح  ، علّها عند رؤيتي ، سترأف  بحالي او تعتبرني  قد فارقت الحياة . تمددت على الارض فعلا ، فهبّت اعداد كثيرة لتفحص الوضع . حبستُ انفاسي قليلا ، لاعباً دور الجثة الهامدة ، ولحسن الحظ ، قبل ان اختنق ، شعرتُ  بان الاخوة كانوا قد غادروا المنطقة .
إذا كانت وضعية الانبطاح انقذتني هنا ، هل سيكون  بوسعي الوصول الى البيت متدحرجا ؟!!  إستأنفتُ سيري ، وصادفت شخصين  يركضان نحوي ويحذراني من الاستمرار ، لان مجموعات كبيرة من هذه الفايروسات ومن اصناف خاصة ، كانت تتأهب لهجوم شامل . ارشدني هذان الشخصان الى طريق وَعِر لم تكن الفايروسات قد اهتدت اليه .  سلكت هذا الطريق  وانا حريص على عدم احداث ايّ حركة تجلب الانتباه ، فاستطعت أخيرا ، وبعد سير بطئ الدخول الى البيت .
شكرتُ الله على اجتياز الخطر . عند المساء ، احسستُ بحرارة وضيق نفس ، فقلت حتما انها الكورونا اللعينة ، فاتصلت بطبيب اتاني الى البيت ، وبعد الفحص قال لي ، ليست الكورونا ولكنها الانفلونزا !!! 
لقد قمت بالمستحيل كي لا اصاب بالكورونا ، فرأيت نفسي طريح الفراش جرّاء انفلونزا لم تكن بالحسبان .   أودّ الاختتام بالقول : إن الإعلام يبالغ  كثيرا في هذا الموضوع بالذات ، بحيث اصابة شخص واحد أمست  تطغي على الاخبار كلها . يتم نسيان الاف الاموات الذين يذهبون ضحية حرب او أمراض اخرى ،  الملايين الذين يخطفهم السرطان سنويا ، مئات الالاف من الذين يموتون جراء مختلف الانفلونزات الموسمية، أليست هذه حالات مهمة ؟ الا تحمل اجسامنا نِسَباً مختلفة من كافة الامراض،  قد تظهر او لا تظهر في فترة من حياتنا ؟ لقد تعطلت الحياة كاملا ، في بعض المدن بسبب هذا الفايروس ،  علما بانه لم يذهب لحدّ الان غير ثلاثة الاف شخص في العالم كله بما فيه الصين . اين آلاف الاطفال الذين يموتون جوعا ؟ اين الاهتمام والحرص بعشرات الالوف ممّن شردهم هذه الايام  سلطان تركيا ، في هذا البرد القارس كالكلاب ، ليواجهوا حدودا مغلقة .
من جهة اخرى ، اقول : لقد تقدّمنا  في العلم وتطورنا ، ولكن الاخطار والامراض تطورت وتنوعت معنا . في ايامنا يحذّرون الناس من التصافح ، قد يأتي يوم سيصبح مجرد النظر خطرا على صحة الانسان . كان الله بعون الاجيال المقبلة . لا اريد القول : اين الايام التي كانت الطبيعة تسيّرنا ، ولا نأبه لا للفايروس ولا لغيره ، كنا نُمضي اياما سعيدة ، لاننا كنا نأخذ الحياة ببساطة ودون تعقيد رغم صعوبتها.
 .


35
روى لي صديقي إحدى قصص الزواج
شمعون كوسا

في أحد الايام التي يجدد اللهُ يوميا خلقَها  ، كنتُ وأحدَ اصدقائي نتجاذب أطراف الحديث عن غابر الازمان . فكان الحديث شبه قطعة نسيج ، كنت أجذبها حينا وهو ينتظر دوره كي يجذبها  واحيانا يفعل ذلك دون ان يأتي دوره .  لم يصل بنا المقام الى الاختلاف والمجابهة من كثرة الجذب  ، ولكن بعض الاصرار المبالغ به كان قد أضرّ قليلا ببعض أطرافه. ونحن بين  الكرّ والفرّ هذا  ، بلغنا صفحة الزواج ، فانتصب صديقي واقفا على رجليه بصورة مفاجئة ، وقال لي : هنا سأحتفظ بطرف الحديث ، لأني أتناول حديثا طريفا وطويلا ، موضوعا شيقأ ، يتناول  قصه حقيقية رواها لي  صديق عزيز عن زواجه ، في مستهل السبعينات .
نقلا عن صديقه إذن ، قال  :
بعد خمسة عشر يوما من دبكات محلية ، يتَجمعُ فيها الجيرانَ  كلّ مساء قبل يوم الزواج  ، حلّ اليوم المنشود والمشهود ،  كان ذلك في احد ايام الصيف . جرت  مراسيمُ مباركةِ الاكليل في الكنيسة ، بحضور أهل القرية . في ذلك الزمان، الحديث عن صالة احتفالات كان موضوعا يدعو للسخرية، لسبب بسيط وهو انه لم تكن هذه الصالات موجودة أصلا . كسائر أغلبية أهل المنطقة ، كانت عائلة عريسنا  تحتكم على  بستان مترامي الاطراف ،  وكان البستان أفضل مكان للاحتفال والرقص واستقبال الناس وتناول الطعام . 
يقول صديقي وهو لسان حال صاحبه : بعد الانتهاء من الدبكات ، تم دعوة الحاضرين للجلوس لاحتساء المشروبات  وتناول الطعام . افترش المدعوون الارض على بساطات وقطع نسيجية اخرى.  كانت الارض غير مستوية ، وفي بعض اماكنها تشكل شبه منحدر خفيف ، الشئ الذي كان يدعو بعض الجماعات المتقابلة ، أن يقبلوا بوضعية جلوس  غير مريحة  . يقول صاحبي نقلا عن صديقه : تم  تقديم المشروبات ، المقتصرة آنذاك على العرق المحلي غير المرخص (القجغ) . أما المقبلات المرافقة له فكانت الخيار والطماطم مع بعض الخرطمان المسلوق . االكحول كان انتاجا محليا  تجود به اعناب الكروم ، والمقبلات أيضا كانت نتاج الخضراوات التي كانت تزرعها كل عائلة.
كان يُفسح المجال للمدعوين لاحتساء الكمية التي يرغبون فيها من العرق ، فكان يبلغ المقام ببعضهم الى المرح والغناء ، فتطيب نفسهم ويطربون من حولهم ، والبعض الاخر يعود بهم الشرب الى ذكريات حزينة ، وبعض آخرون يساهم المشروب في فتح مشاهد خلافاتهم او صفحات احقادهم ،  وقليلين منهم ، ينتهون برأس يدور حول العالم دون توقف.
كان العشاء الذي يلي شرب العرق ، مكونا من الارز ومرق الشجر أو الباميا. في اليوم الاول يتعشى المدعوون ، ومن بعدها يودعون اهل العريس على أمل اللقاء بهم في اليوم الثاني. فكان الشخص المرِح يستمر بمرحه ويغني في الطريق ، والمتكدر يجترّ ما فتحه له المشروب من هموم ، وبصورة عامة ، كل المغادرين كانوا  يتحدثون بصوت عال لحين الدخول الى بيوتهم . يقول صاحبي :  في اليوم الثاني ، كانت الحفلة على اشدها . دبكات شعبية تتنوع وتتكرر على صوت الزمار (الزرنا)   وإيقاع الطبل ، والساحة هنا كانت مفتوحة لمن يتسابق بهزّ كتفيه ، ويتفنن بزيادة حركاته شبه البهلوانية . اما الهتافات (الشاباشات) ، فانها كانت على قدم وساق ، بحيث كان عازف الزمار مع سكرتيره قارع الطبل ، يختار مقامه ويستقر دون حراك عند آخر من نادى بالشاباش ، ومدّ يده لجيبه للاغداق  بالاوراق النقدية .
ذكر لي صديقي مشهدا مؤنسا حدث لصاحبه فقال : بعد وجبة الغداء في اليوم الثاني ، وتنفيذا لأحدى العادات القديمة ،  تمّ ربط العريس على جذع شجرة التين التي كانت تتوسط  البستان . رُبط العريس ربطا مُحكما  ، فطفق الحاضرون  بتوجيه أنظارهم الى  خاله الذي يُفترض أن يأتيَ لإنقاذه وفكّ رباطه ، وهذا يتمّ لقاء فديه يحددها من تولى العملية. والفدية عادة كانت تدور حول مبلغ لا يستهان به. تقاعس الخالُ قليلا ، ممّا دفع  طالب الفدية الى التهديد .  كان قد امسك بقضيب كبير وهو يتوعد بضرب العريس إذا لم يتم استيفاء المبلغ . أراد هذا  أن يتظاهر بضرب العريس ،  من خلال حركة تمثيلية قوية يُفترض ان تُوجَّه الى الشجرة ، ولكن الضربة  اصابت مباشرة  ساق العريس اليمنى ،  فبدأ يولول ويتأوه . باعتقادي كان طالب الفدية حديث العهد بهذه العادات ، واراد تجربة حظه فقط ولكنه لم يفلح .  تجمّع الناس  وفكوا رباط العريس الذي كان قد انحنى وامسك  برجله ليخفف الالم  . تمّت العملية  دون فديه ،  تقدّم  الضارب المستجد معتذرا والدمعة في عينيه ، ولكن الساق اصابها ما اصابها  . 
بعد وجبة الغداء ، التي كانت  تُعتبر مبدئيا ختاما للحفلة ، انبري احد المختصين ببرامج الاعراس ، وتناول لحنا يدعو فيه المدعوين  الى تقديم هديتهم أو صباحيتهم . في ذلك الزمان ، المعدل الذي كان يُدفع هو ربع دينار ، وكان البعض  يبذل جهدا الى رفع المستوى الى  نصف دينار .  كان احد اقرباء العريس يُمسك بكيس نايلون ، فيأتي المدعوون الواقفين بطابور لدفع ما عليهم ، لان الصباحية كانت تُعتبر دَينا على اهل العريس  يوفونه في عرس كلّ من كان قد دفع لهم .
يقول صديقي :  كان هناك اشخاص دفعوا المبلغ قطعا حديدية صغيرة . ويضيف صديقي ، نقلا عن صاحب القصة :كان هناك احد المقربين  ، قال للعريس : سوف ادفع  الصباحية بورقة نقدية بقيمة  خمسة دنانير، أمام الناس  ، ولكنك تتعهد بإعادتها لي حال انتهاء الحفلة !!!  وفعلا هذا ما حصل .
كانت الحفلة قد انتهت لعامّة الناس ولكنها استمرت عصراً  للمقربين والجيران . يقول صديقي بان صاحبه اضطر لمجالسة الناس  الى ساعة متأخرة من الليل ، بالرغم من ألمه الشديد .  انصرف الجميع ، ودخل العروسان غرفتهما ، في بيت العائلة المشيّد في نفس البستان ، لان فكرة الفنادق لم تكن تخطر  على بال احد . لم يكن للعريس غرفة نوم ، وكان سريره مجرد فراش مطروح مباشرة على الارض .  وبما ان سقوف البيوت ، في حينه ، كانت اغلبها من جذوع اشجار ، تعلوها قطع حصير ، ويكللها الطين المعجون مع التبن ، كان قد تحول سقف الغرفة في ذلك الحين ، الى ساحة مفتوحة يتبارى فيها الفئران في سباق لا يتوقف الى الصباح . أما باب الغرفة، يقول صديقي، فانه كان موصدا بواسطة سلك خفيف.
انهى صديقي قصة صاحبه قائلا ، نسيت ان انقل لك بان  فستان العرس كان قد تم تأجيره بخمسة دنانير !! هنا أرخى صديقي طرف الحديث ، وخلد للصمت  . وبعد ان تنفس الصعداء لعدة مرات ، قلتُ له  : لقد وصفتَ حفلة الزواج وصفا دقيقا جدا ، هل كان الزواجُ هذا فعلا زواجَ صديقك أم انت كنت العريس ؟ ابتسم صديقي ، ووضع اصبعه على فمه وكأنه يقول لي : لا تقل لاحد .
اود ان اقول أنا ، الحديثُ هنا ليس انتقادا ، ولكنه سرد موضوعي . ليس هذا تأييدا لما سبق لان الناس كانوا بسطاء  والامكانيات كانت محدودة  ، ولا انتقاصا مما يجري حاليا ، لان الامكانيات مفتوحة ومتوفرة جدا ، لكل زمن ظروفه. 


36
كيف أتّجه بخيالي إلى شقلاوا دون المرور ببغداد
شمعون كوسا

شعور عارم ينتابني بين الفينة والفينة، للتوجه بافكاري الى بلدتنا بغية الاختلاء ولو لساعة واحدة أو حتى  لبضع دقائق مع ذكريات خزنتها هناك ، تجعلني ان اعيش  لحظات سعادة خاصة لا اجدها في مكان آخر ، ذكريات وضعتها تحت حجرة ، بجانب شجرة باسقة لازالت محافظة على رشاقتها ،  عند زهرة برّية تموت وتحيا دون ان تبارح مكانها، في نقطة من قمة جبل سفين ، الطود الشامخ الذي يلامس السماء ،  أو على امتداد آفاقها غير المتناهية، أوعندما كانت تضيق بي السبل ، استودعها ثنايا الريح ، التي تعود عدة مرات في النهار مزمجرة كانت ام هادئة ، لتُفرغ  ما في سربالها .
دخلتُ عالم خيالي الخاص ،  وهممتُ بالتحرك نحو بلدتي التي لي في كل زاوية منها بقعةً تهمني ، ولكني ما إن أقلعت ، تذكرتُ أمرا مهما جعلني استدرك نفسي واقول :  في هذه الاوضاع السيئة ، ماذا سيقول الناس عني ، وهم يرونني متجها للارتياح والبحث عن السعادة ؟  ألا يقولون بان أخانا قد غدا ناقص عقل  ؟ لعله لم يسمع بما يجري في ساحات بغداد والمدن الاخرى ؟ ألم يطرق سمعه ما يرويه العالم من اخبار ؟ ألا يبصر الحريق الذي نشب والذي يوشك على احراق البلد باكمله ؟ ألا يرى الاشلاء تتساقط كالذباب ؟ ألا يشعر بما يعانيه الناس حاليا ؟ وقد يقولون أيضا وبحقّ : نحن في وادٍ سحيق  ، وصاحبنا يحلق عاليا في الفضاء بحثا عن اللهو.
  هذه الافكار غيرت مساري .  فعلاً ، كيف لي ان ادخل البلد ، دون المرور على بغداد المتألمة ؟ لا يمكنني ان افعل ذلك لسبب بسيط جدا وهو إني عرفت المدينة ، وعشت ايامها ، واستمتعت بجمالها ومناسباتها ، وامضيت اوقاتا سعيدة في ساحاتها  الجميلة  وحدائقها الواسعة  واماكن سياحتها. بغداد تعني لي الكثير لاني امضيت فيها عشرين سنة ،  انها مدينة ، وإن كانت قد شهدتِ الكثير من التقلبات ، غير ان ايامها الهادئة ، بل بعض ساعاتها كانت كافية لتنسينا سنوات قاسية وصعبة. ما عساهم يقولون عني ؟ ألا يقولون : صاحبنا بصدد الكلام عن سعادة خيالية وذكريات قديمة ، ونحن نواجه الموت الحقيقي ، نقاوم ظلما طال أمده فافقدنا صبرنا وافضى بنا الى الهيجان  ؟
طرتُ بخيالي الى سماء بغداد ، وحلقت في الاجواء دون خوف ، لأن الثورة لم تكن في الاجواء . بقيتُ أتمعن في حشود الناس ، أجلت انظاري في  ساحاتها المكتظة بجماهير غفيرة من الصغار والكبار ، شبابا وشيّابا ، رجالا ونساء واطفال ، كلهم  يرفعون اياديهم ويهتفون بحماس ولا يكفّون عن الصراخ . لقد ملّتِ الناس من رؤية فساد يستشري ويتفاقم يوما بعد يوم. انهم  يعانون من الجوع بالرغم من الثروات الهائلة التي يمتلكها البلد.   ملّ الشباب من البطالة ، فلم يعد امامهم خيار آخر غير الثورة على حكام ابتعدوا كثيرا عن الشعب وعن ابسط احتياجاته ، مسؤولين أماتوا ضمائرهم ، كمرحلة اولى ، قبل اكتساء ثياب اللصوص وتهيئة مخازن وسراديب لتكديس اموالهم ، لان  جيوبهم لم تعد تتسع لذلك.
من حرقة قلوبهم، صار الناس يمزّقون ثيابهم ويصرخون، ويعلنون على الملأ الفضائح التي يعيشها العراق.  بلد نفطي غني جدا ، لا يمتلك جيشا نظاميا عرمرم كالسابق ، كي نقول بانه يحتاج الى اسلحة ، ولا يتابع مشاريع تنموية كبرى ضمن خطة انفجارية تقتضي استثمارات كبيرة ، والدليل على ذلك بان البنية التحية لم تستعد ليومنا عافيتها ،  فأين إذن تذهب المليارات ؟  ولماذا يُحرم الشعب من حصته البسيطة ، لان النزر القليل من هذه الثروات كفيل بتوفير رخاء العيش له .
وانا مرفرف في تحليقي ،  ابصرت جثثا ملقاة على الارض ، وشباب واقفين صامدين بالرغم من الدّم الذي يغطي اجسامهم . قلت في نفسي كم هي كبيرة معاناة هؤلاء المساكين، كي يهبّوا من تلقاء نفسهم لمقاومة الظلم ؟ وبعد تفكير بسيط ، قلت ايضا : ما حيلة هؤلاء العزّل إزاء ظالم يواجههم بالنار ؟ هذا الظالم على استعداد لإحراق الاخضر واليابس حفاظاً على مصالحه  وأمواله . كيف لا يستخدم كافة اسلحته  لإسكات اصواتَ تنادي  بمغادرته ومحو المتفوّهين بها ؟ هل سيسمع مطالبَهم ويستجيب لها  وهو يعرف بان اندحاره امامهم يعني نهايته ،  يعني خسارة كل ما قد اقتناه ، وبعد ذلك مواجهة مصير اسود قاس سوف لن يرحم الظالمين الفاسدين ؟
هبطتُ الى الارض بجانب احد الشباب وبدأت معه هذا الحديث : في زمننا الظالم هذا  حيث القويّ يأكل الضعيف ، وحجة الاقوى هي الفضلى دوما ، انك تعرف بانكم محاطون بأعداء لا يتمنون لكم النصر ، ألا  تخشون من ان تذهب جهودكم هباءً وتضحياتكم سدى ، وهكذا تعرضون حياتكم لخطر مؤكد ، لاسيما وان خصمكم لا يردعه اي رادع من مواجهتكم جميعا وابادتكم بالسلاح ؟ قال لي : يا صاحبي ،النار تكاد تأكلنا من الداخل  وهي لا تخمد إلا بهذه الوقفة . ثقتنا بنفسنا في اعلى درجاتها وايماننا راسخ بمفهوم التضحية . نحن لا نهاب الموت لاننا نموت عدة مرات في النهار . قد لا نحقق شيئا لنفسنا لاننا سنموت بسلاح الظالمين ، ولكننا سنحقق مستقبلا ، ولا بد للحق ان ينتصر يوماً ، اننا فاعلون كل هذا لاجل اولادنا .
عند سماعي هذا ، وقفت له إجلالا وانحنيت عدة مرات ، لاني تذكرت اعظم قول تفوّه به  السيد المسيح عندما قال : ما من حب اعظم من هذا ، أن يبذل الانسان ذاته من اجل الاخرين .
ارتفعتُ قليلا محاولا متابعة مساري ،  غير اني  سمعت صوتا من بعيد يقول :  ضع نهاية لرحلتك وعُد من حيث اتيت ، لان المرتع الذي تشتاق اليه ، قد اكتسى ثوب الحداد ، باحجاره ، واشجاره ، وزهوره ، وطيوره ، وجباله ، وآفاقه الواسعة،  والفرح يصمت امام الحزن . فاقفلت راجعا ، وانا اجتر كلمات  الشاب المجروح واتأملها . من جهة اخرى شكرت الله ، لانه لم يكشف أحد سرّ سفري !!!

 

37
ما أصعب أن ينتهي أهل المريض بالتبرّم والقرف من مريضهم

شمعون كوسا

كان حميد (وهو اسم مستعار)  رجلا قويا وشخصا وسيما ، لا يغادر البيت الا وقد تأكد من أناقة لباسه . كان رجلا يحظى باحترام الجميع، ويسعى كل من كانوا يحيطون به لسماع كل كلمة ينطق بها،  لأنه كان جذابا ، هادئا ، حكيما وقوي الشخصية . كان يزن كلامه ولا يطلق اي جزء منه دون تفكير. هذا ما كان يدعو  الكثيرين للذهاب اليه طلبا في استشارته ، فيقوم  بالشرح لهذا ،  وبالنصح  لذاك ، ولا يتراجع عن  لعب دور الوسيط  في فضّ الخلافات مهما كان نوعها. كان انسانا مُنصفا  لا يميل لطرف ضد طرف آخر . بحيث كان يَحسدُ الناسُ زوجتَه واولادَه لعيشهم مع رجل بهذه  القيمة ، وكانوا يغبطونهم على ذلك .
بعد أ ن تجاوز مرحلة اللون الرمادي ، اكتسح البياضُ شعرَ حميد ،غير انه  لم يأبه لهذا التغيير الذي يشير الى تقدمه في السنّ  ، فاحتفظ بخطاه الثابتة وولم يفقد شيئا من وعيه . كان يبتسم حميد لكّل من يلقاه ، يداعب الطفل كما يمازح الشاب ،  وينحني للحسناوات ، كما يحيّ الكبار بابتسامة تدعو للاطمئنان والثقة . كان الرجل قد بلغ الخامسة والثمانين من عمره وامضى جلّ حياته مستقيا سعادته من سعادة افراد عائلته وافراد مجتمعه أيضا .   
بالرغم من امكانياته المادية ، بقي حميد رجلا قنوعا ومتجردا ، اذ لم يكن يجد راحته إلا برؤية البسمة مرسومة على وجه كل محتاج ، كان يقوم بإسعاف المعوزين ويشعر براحة داخلية تامة عندما يرى نفسه محاطا بمعارفه وجيرانه. 
في السنة السادسة والثمانين من عمره ، تعرّض حميد لنكسة صحية بسيطة اسوة بسائر خلق الله ، ولازم الفراش لمدة اسبوع وتعافى . استأنف حياته ،  وعمل على الظهور كالسابق  تماما ، خشية ان يقرأ الناس على محياه او خطواته أي علامة ضعف. 
بعد شهرين ، بدأ حميد ينسى بعض المواعيد الطفيفة ، وفي بعض المجالس كان يبدو شارد الذهن ، فيطلب من محدثيه إعادة كلامهم . تطورت حالته هذه شيئا فشيئا ، واصبح ينسى حميد الكثيرَ من الامور ، كأسماء الناس والمواقع والوجوه ، وباتت ذاكرته تخونه في فتح صفحات حديثة جدا ، حتى التي وقعت قبل ساعات .
 
ذهب حميد الى الطبيب ، وبعد فحصه وصف له بعض الادوية وقام بطمأَنتِه ،  غير انه تنحى بزوجته ليوشوش في اذنها بعض مخاوفه وتوقعاته ، طالبا منها متابعة زوجها ومراقبته .
تفاقم النسيان لدى حميد ، واضحى يُعيد في كلامه الكثيرَ مما كان قد قاله ولعدة مرات قبل ذلك. كان يخرج بهندامه المعتاد المتناسق ، غير ان ابتساماته كانت قد خفّت واحاديثه لم تعد كسابقاتها، الى ان توصلت فيه الحال الى الضياع وعدم التمكن من معرفة منزله .
في الموعد الثاني كشف الطبيب عن الحقيقة ، وقال لزوجته بان حميد مصاب بداء الزهايمر ، وهذا المرض يتطلب متابعة حثيثة ، لأنه داء خطير  يقلـّب امور البيت ظهرا على عقب.   شخصية حميد ستتغير تماما ، وقد يصاب بالاكتئاب ويتحول الى شبه طفل يحتاج الى عناية في كل دقيقة .
تطوّر المرض ، فاصبح حميد لا يتعرّف على أحد  ، ولا يتذكر حدثا ، وينظر   متفرجا دون أن يبانَ  ايُّ ردِّ فعل على وجهه. لم يكن  يخرج الا بمرافقة احد افراد العائلة ، اذا توقف لا يستأنف السير الا  بأمر من مرافقه .
بالإضافة لعودته الى حالة الطفولة ، بدأ حميد يدخل حالات غضب ، فيمدّ  يده ويضرب . حينذاك ابتدأت المرحلة الاخطر والاصعب لاهله وهي فقدان سيطرته على وظائفه الطبيعية ، بحيث كانت تُضطر زوجته لتنظيفه بمعية احد ابنائها .
كانوا يمنعون حميد من الخروج ، ولكنه في احدى المرات استطاع ان يُفلت عن المراقبة ، فخرج وهام على وجهه. كان يوما ممطرا ، فسار وسار ، الى ان وقع في حفرة. بقي لفترة طويلة غائصا في الوحل ، الى ان مرّ احد اهل المدينة ، فرآه واخرجه من الحفرة ولم يكن ذلك دون عناء . نظر اليه بتأثر شديد وأدمعت عيناه وقال : اين انت الان يا سيد حميد ، ماذا حلّ بك ، يا ايها الرجل الحكيم ، الطيب ؟ اين انت يا ايها الرجل الجميل والجذاب ، لماذا ، لماذا ؟.
عاش حميد سنتين وهو في حالة لم يتوقف تدهوُرُها، بل يتسارع. فَقَدَ حميدُ صورتَه الجميلة وهزل جسمه كثيرا. ازداد عنفا ، وازدادت الحاجة الى إطعامه بالقوة وتنظيفه عدة مرات في النهار ، اضطر ذووه  لحجزه في البيت وكأنه سجين  مكبل اليدين أو  مجرم خطير  . كانت زوجته ، عندما تقوم بخدمته ،  تبكي وترفع يديها الى العلي ، وكان ابنها ينتحب معها ، وكأنهما كانا يتمنيان في سرّ نفسهما أن ينتهي هذا العذاب ، لانهما  ملّا  فعلا وتبرّما ، ووصلا حدّ القرف لان الامر قد طال كثيرا جدا. كان دعاؤهما الصامت، يعود بصدى أخرس ، تاركا اياهما محاطَين بعلامات استغراب  واستفهام  لم تجد لها أيّ ردّ. كما كان تفكيرهما يشاهد بصمت مشهدا متناقضا آخر يزيد جرحهم فيقولون ، : يدعو الناس عادة ، طالبن إطالة اعمار اعزائهم ، ونحن نتمنى التعجيل في نهايتهم !!
أتوقف هنا عن السرد لان ما قلته يعتبر حالة بسيطة من ملايين الحالات اليومية المتنوعة بامراضها واعمار ضحاياها ، حالات تصل فيها الامور الى اشمئزاز الاهل من اقرب مريض لهم . يتعذب المريض ويُعذِّب من حوله . ينتهي المريض في صورة مشوهة، مختلفة تماما عن وجهه الحقيقي الجميل .
لذا ، فان ما اتمناه لنفسي  هو : إذا تَقرّر موعد نهايتي ، اريده أن يكون ليلا لا يعقبه نهار ، او سقوطاً  مفاجئا بجثة هامدة غادرتها الانفاس . لاننا  كثيرا ما نردد هذا القول :   من الصعب جدا ان نقع طريحي الفراش في مرض طويل يُعذبنا ، ويشوهنا ، ويعذب أحبابنا ، والأنكى من ذلك يجعلهم يصابون بالملل منّا..

38
المسيرة الاستعراضية للمثليين
شمعون كوسا

   المثليون ترجمة لكلمة  الهوموسيكسِويل  اللاتينية ، وهي  مصطلح جديد أطلِقَ على ظاهرة ، كانت موجودة منذ اقدم العصور،  ولكنها شاعت كثيرا في هذه الازمنة الاخيرة ، وهي تتمثل بان  يترافق شخصان من نفس الجنس ويتزاوجا ، اعني  رجل مع رجل ، وامرأة مع امرأة ...
كنتُ قد شاهدت في سنوات سابقة استعراضات بسيطة مماثلة ، ولكن ما لاحظته هذه المرة هو تزايد عدد المنتمين او المؤيدين لهم بصورة مهولة . هذه المسيرة الاخيرة ، التي اقيمت قبل حوالي اسبوعين ، كانت تضمّ حشودا  راجلة وسط عربات تتقدم آلافً من  الرجال والنساء ، يرددون بحماس شعاراتهم الخاصة ويحملون اعلاما مزيّنة بالوان الاحمر والبرتقالي والاصفر والاخضر والازرق والبنفسجي .
كان مهرجانا يظهر  فيه بعضُ الرجال بزيٍّ نسائي كامل، واغلب هؤلاء ، رجالا ونساء ، لا يحتفظون على اجسامهم إلا  بالحد الأدنى من الكساء . بعض الناشطين منهم  كانوا مكلفين بتوزيع مناشير ترويجية أو بطاقات تدعو الناس لزيارة نواديهم أو الانخراط في عضويتها.
لقد ارتفع عدد المشتركين في هذه التظاهرة ، وكأنّ الأمر اصبح طبيعيا جدا . من جهة اخرى ، قد برز هذه الايام مفهوم جديد مفاده أنّ الاجناس متساوية ومتجانسة. لم يعد هناك فرق بين رجل وامرأة ، ولا يجب ان يلتزم الانسان بما نحتت له الطبيعة من اعضاء في جسمه عند الولادة .
 الاهمية الكبيرة المعطاة لهذا الامر ، نقرأه من خلال الحكومات التي  تروّج لهذه الظاهرة بصورة خاصة ، بل تشجع الاقتران الرسمي ، اعني  ان يتزوج الرجل رجلا وان تتزوج الامرأة امرأة . وتذهب بعض الدول الى نقل  مراسيم هذا الزواج المدني في وسائل الاعلام وتعتبر هذا موضوعَ فخرٍ لها. وتماشيا مع نفس النهج أو السياسة ، نلاحظ في العديد من البرامج التلفزيونية او في اغلبها ، تصميما جليا بإبراز هذا الظاهرة ، بحيث يحرص منظّمو البرامج دوما  بتخصيص دور للمثليين ، أزواجا كانوا او أفرادا. 
 السؤال الذي يخطر ببالي أنا على الاقل،  هو ، ماذا حدا بالناس هنا الى الوصول الى هذا الحماس في هذا المجال ؟ هل هو الملل من رتابة الحياة ، أم البطر ، ام الحرية الزائدة أوالرغبة في التغيير في كل شئ ، حتى اذا كان ذلك مخالفة لقوانين الطبيعة او الخالق ؟ على اية حال ، موضوع الخالق  لا يسبب هنا  مشكلة كبيرة ، لان الاغلبية الساحقة ، في بعض الدول الاوربية ، تعتبر الدين مرحلة تجاوزها الانسان.
عند وصولي الى البيت جلست في الحديقة كي استرسل بتساؤلي واحلل أكثر، فقلت في سر نفسي : إن مجرّد تحوّل هذه الظاهرة الى امر اعتيادي يومي ، والسماع عنها وتشجيعها  في المدارس والبرامج ، ومحاسبة المتحدثين عنها بسوء او الاستهزاء بها ، ألا يدعو هذا ، الاطفالَ الصغار  للتفكير بان هذا الامر شئ طبيعي ،  بل هو تصرف عصري يتّصف  بالتقدمية ويجب الاعتياد عليه والامتثال به لئلا يُنعتوا  بالمتخلفين  او قادمين  من عهد متهرّئِ بائد ؟!!. أليس التفكير في شيء ، وسماعه كثيرا ، ورؤيته والترويج له رسميا ، ألا  يجعل البعض ينتهون بالإيمان به والميل اليه وقبوله لنفسهم ؟
وعُدتُ الى التاريخ ، وتصفحت في ذهني ما قرأته في الكتب ، حتى الدينية منها ، فرأيت بان هذه الظاهرة كانت موجودة منذ الازل ، ولكنها كانت تعتبر خطأ او نقصا  او على الاقل تصرفا غير طبيعي ، وإن كانت بعض الحالات تجد مبررا طبيعيا لها. كان يُترك هؤلاء وشأنهم ، ولكن الآن وصل الامر الى وجوب إبراز الظاهرة وتشجيعها ،  تكريسها واضفاء صفة رسمية عليها  .
وبما ان عقلي قد اعتاد على الذهاب بعيدا و في جميع الاتجاهات ، (وهنا لم يذهب بعيدا لانه  اكتفى بالسير خلف المنطق الذي جعله يقول) : اذا جنحتِ البشرية الى هذه الممارسة ، وهذه الفرضية  قد تكون محتملة على المدى البعيد ، من اين سنحصل على الاطفال ؟ وكيف تستمر الذرية وكيف نحافظ  على الحياة؟
وفي مسعى مني لايجاد نقطة خروج من هذا المأزق ، تركت عقلي جانبا ، واستعرضت التكنولوجيا وتقدم الانسان في كل المجالات  وعبثه بالطبيعة في اصغر شعيراتها ، فتوصلت الى التفكير والقول  : لعلّ الانسان ، في سياق تقدمه السريع ،  سيفكر باختراع (روبوطات) ، افرادا آليين يقومون بمهمة الرجل والمرأة من اجل إدامة الحياة . لِمَ لا ، هل ترك الانسان  مجالا لم يتطرق اليه ويتلاعب أو يعبث به  على هواه ؟!!
بما ان الحديث يطول ، أود ان اقول في الختام : ان ما قلته هو مجرد خواطر تعبر عن رأيي الشخصي . انا لا أدين احدا ، لان لكل شخص ظروفه . كلامي عام جدا وقد لا يعجب البعض ، لذا ارجو المعذرة . 

39
زيارة إلى شقلاوا ، باعتقادي ستكون الاخيرة
شمعون كوسا
أود ان ابدأ المقال بالتنبيه  :  (قد يطول حديثي ، لذا ادعو من يخونه الصبر أن يباشر المقال من نهايته) .  فلنبدأ اذن :
شوق عارم ألهبني لرؤية شقلاوا ، اشتدّ الحنين وطفح ، تصاعد كدخان كثيف حملته الرياح بكافة الاتجاهات ، الى ان التقطته قوة خفيّة ، توجهت نحوي وامسكتني ولم تتركني .
وضعتني هذه القوة على مسارٍ طويل  ابتدأ بسكة حديد  ، وبعدها تابع لمرتين متتاليتين على سكة جوية. بعد عناء كان يخفّفه دوما شوقنا  العارم، وصلتُ  وزوجتي الى ديارنا الجميلة. بعد كل تبرّم او انزعاج في الطريق ، جرّاء انتظار ، أو تأخر ، أو تفتيش ،   كانت هذه القوة تمنعني من الالتفات الى الوراء ، فتُمسك برأسي وتديره وتدعوني الى النظر قدما . وصلنا هناك في موسم يُفترض أن يكون ربيعا، غير انه، لسوء حظنا، كان قد انقلب شتاء وسط دهشة الجميع. 
في سفرتي هذه كنتُ على موعد مع اثنين من اخوتي ، احدهم قادم من الولايات المتحدة الامريكية ، والثاني من استراليا ، وكان قد وصل في نفس الفترة ، وفد عائلي آخر من السويد يرأسه ابن خالتنا مع اولاد اخي واختي . وعندما اتكلم عن الاخوة والاخوات فاني اشمل البنين والاحفاد. كان قد التأم شملنا ، مع أخَين آخرَين كانا لا زالا مقيمَين هناك ، مع اختين ، وزوجة أخ رحل منذ سنوات .
كان مقامنا في بلدة عينكاوا  لأن الاهل ،  أسوةً باغلبية سكان شقلاوا ، كانوا قد اختاروا عينكاوا ، منذ سنوات طويلة ، موضع اقامة دائمي لهم . أمّا ، لماذا تركوا بلدتهم الجميلة ؟ الجواب السريع الذي يأتي ليثنيك عن الإطالة يقول : دعِ الموضوع جانبا ، لان الحديث ذو شجون.
بعد غياب طال عشر سنوات ، وجدتُ عينكاوا وكأنها عشّ نمل. عدد هائل جدا من السيارات يفوق طاقة الشبكة الداخلية من الطرق. كان السير ، في اغلب الامكنة غير خاضع لأي قانون ، فكنتَ مثلاً تدخل فرعا مأهولاً  بأكوام من الحصى والرمل والحديد ، هناك سيارا ت متوقفة على الاقل من جانب واحد ، تُقابلك  سيارتان تحاولان الخروج من الفرع. كيف كان يخرج السواق من هذه الفوضى او الدوامة. لقد سمعت بان البعض قد اطلقوا على احدى الساحات  إسما يشبه عبارة (على بركة الله). لاحظتُ بان العمران لا زال على قدم وساق ، واحيانا دون تخطيط  مسبق ،  فبعض البناء يتم على هوى صاحب البناية  وعلى هوى مقدرته في المخالفة.  فمثلا دار اخي ،  لم تعد ترى الشمس كما يجب ،  بسبب عمارة سترتفع  دون توقف حتى طابقها الخامس عشر . كنت اضطر للابتعاد كثيرا  أو الانبطاح ، كي اتوصل الى رؤية قمة العمارة. لاحظت بان  البلدة قد توفّر فيها كلّ شيء ، من اسواق تضاهي اسواق دول الغرب وشركات من جميع الاختصاصات . واما اعن الفنادق والمطاعم فيمكنك التحدث عنها دون كلل ، لانك سوف لن تتوقف الا عند انبلاج الفجر. انها في الليل شبيهة ، في بهرجتها وانوارها والوانها،  بمدينة عصرية كبيرة.
لقد ارتفع مستوى المعيشة لدى اغلبية الناس وانقلبت كافة الموازين ، فالشخص الذي لم تكن تكترث له قبل سنوات، اضحى صاحب فندق او عمارة ، او على الاقل يحتكم على دارين وبعض قطع اراضي. كنتُ استغرب لدى ذكر بعض الاشخاص ، كنتُ  أعرفهم متواضعي المستوى الى حدّ الانعدام احيانا ، اصبحوا الان ملاّكين من الوزن الثقيل  . يقال ان  بعض هؤلاء القافزين الجدد ، كانوا يمتهنون مهنة تقديم الشاي .
حتى رجال الدين لم يشذّوا عن القاعدة ، فبعضهم صار يتبارى في استزادة ممتلكاته ، ولكنه يجب ااقرار بانه هناك بينهم قلة زهيدة جدا تحصي على قسم من اصابع اليد الواحدة ، لا زالوا محافظين على بعض  مبادئهم في التجرد . باعتقادي الشخصي أنا ، الجيل الجديد من رجال الدين ، يندفعون للانخراط في هذه السلك لسهولته وللامتيازات المادية التي يوفرها ، لا سيما إذا لاحظنا  تعليمهم  السطحي تماما . يفترض مثلا ن يكون هؤلاء   تابعين للطقس الكلداني، ولكن بعضا منهم يقرأ الكلدانية بأحرف عربية ، ناهيك عن جهلهم المطبق للمعنى !!! اين هذا من زمن كان تدريس الآرامية يستغرق ثماني سنوات ؟
الاحاديث هنا تدور حول الدولار وعدد دفاتره ، وأيضاً حول عدد الاراضي وعمليات بيعها وشرائها ،  وحول مساحة البيوت وعمليات هدمها لإعادة بنائها من جديد بمساحات تتيح تأجيرها او بيعها.  بورصة البناء وتجارة الشراء والبيع ، هي ، وبصورة عامة ،   لولب اغلب الاحاديث . والشخص الغريب عن هذه الاجواء ، يقف حائراً امام ماديّة الناس الذين ، بالرغم من عدم اهمالهم  اي واجب ديني ، تبقى رؤوسهم دائمة الانشغال بهذه الافكار. كنتُ واقفا اسمع الحديث فنظرت الى الاسفل فابصرتُ نملة اعتقدتْ بأني سائلها عن مقتنياتها ، فبادرتني مسرعة قائلة بانها لم تحصل لحد الان على سكن.
لقد جلسنا كثيرا نعاقر الخمر التي ، بالاضافة الى المكسرات العادية ، لم تكن ترضى الا برؤية نفسها وسط مقبلات  واطعمة بقولية موسمية ،  كالكَبلوكة ، والكاردى ، واللكَنى ، والميميصى ، والشوَلتا ، والقطوُطونته . عبثا يحاول القارئ ترجمة بعضها الى العربية ، لانه سوف لن يجد مرادفا لجميعها !! كان الحديث يجد ثغرة أحيانا ، فيُفلت ولو لوهلة ، لإلقاء نكتة ، أوسرد نادرة ، أوقص حكاية كالتي حصلت   لحمار مام فرنسي، حكاية حزينة كانت تنتهي بدمعة ساخنة تتساقط من عين الحمار وتنزل ببطء على وجهه ، فيعقبها دويّ ضحك من السامعين . فكان يصحّ ما قاله الاقدمون  : شرّ البلية ما يضحك ؟، كما كنا ننتهز الفرصة لاعادة بعض ذكريات الصبا والطفولة ، كما كان يعاد مشهد المرأة التي اقفلت عليها  بالسيارة  وايضا موضوع رانية الغامض!!
بحكم قضاء  الكثير من وقتي في الكنيسة اثناء اسبوع الالام  ، سمعتُ اصواتا كنسية   بعيدة جدا عمّا يسمى  بالرخامة ، وبعض منها كان يذهب الى حد الازعاج . بهذا الخصوص ، كان يحلو لي  تشبيه احد هذه الاصوات ،  بـ (مجموعة صفائح فارغة يسحبها طفل بقوة ، على حجر مكسر او حصىً مفروش دون ترتيب) !!!
امضينا ليلة لا تّنسى في شقلاوا  في تذكار عيد الربان بويا ، شفيع شقلاوا . من الصباح الباكر قمتُ لاقف بإعجاب امام جبلنا الشاهق وأتامل قمته التي طالما تخيلتها وتذكرتها .اصغيت الى بلابلنا الوطنية ، واستنشقت بزفير عميق هواء شقلاوا العليل . رفعت انظاري كي تمتد بعيدا باتجاه الجبال البعيدة المغطاة بالثلوج . البلدة لم تشهد تطورا خاصا ، ولكنها قد تغيرت في بعض مناطقها وفي غياب اهلها عنها ،قام بعض الاثرياء بتشييد منازل حديثة على اماكن مرتفعة.     
في طريق  عودتنا من هيران ، اتخذنا الطريق السالك خلف جبل سفين . كان الربيع قد فرش سجادته الخضراء في كل بقعة،  والعمران كان قد عمّ حتى خلف الجبل.  لقد مررت وسط قرى كنت اعرفها سابقا فقط بالاسم ..
وفي ذكرى عيد (مربينا قديشا) ، توجهنا بسيارة جماعية نحو كويسنجق  ومنعطفات جبل هيبة سلطان للانتهاء في منطقة جناروك . حطّينا في حديقة وفّرت لنا اروع منظر من الامام ومن الخلف . من الامام كنّا قبالة جبال بعيدة مكللة بالثلج ، ومن الخلف ايضا كنا متكئين عند سفح جبل صغير.  بفضل الشمس ، والمنظر الجميل ،  وبمؤازرة بعض الكؤؤس ، طابت انفسنا،  فانطلقنا في الغناء ، بالرغم من حنجرة  ارهقتها السنون ، وقلّص البرد من مساحاتها .
الحديث يطول كثيرا ، لان كل لحظاتنا كانت نزهات ، لقاءات مع بعضنا البعض ، ومع اصدقاء تركناهم منذ زمن بعيد ، وكانت أيضا جلسات أبقت على جوّ الفرح الذي لم يبارحنا  طيلة اقامتنا. لقد سررتُ بتنفيذ مشروع كان يراودني منذ زمن بعيد ، مشروع كنا قد الغيناه قبل خمس سنوات بسبب قدوم دولة تنادي بالحب والسلام ،عبر القتل والذبح والتهديد !!
كِدتُ انهي المقال دون التحدث عن لقائي المهم مع استاذي الكبير البير ابونا ، الذي ناهزت مؤلفاته وتراجمه المائة وخمسين كتابا، أو دون ذكر الاوقات التي امضيتها بجانب القس فرنسيس ، شخية اعرفها حق المعرفة واثمّن ما تحملها من ثقافة عالية ومؤهلات كثيرة اخرى .  كنت على وشك ان انسى السهرة  الممتعة التي امضيناها  بصحبة عازف كمان يَعتبر نفسه هاويا ، ولكنه  قد دنا كثيرا من الاحتراف ، لقد أطربنا هوشيار بما طاب من اغاني ام كلثوم وغيرها من مقطوعات حملتنا الى اجواء بعيدة عن واقع دنيانا .
وهل يعقل ان اغادر دون توجيه شكر خاص لكل من ساهم في انجاح سفرتنا من اخوة ، واخوات وأزواجهم وزوجاتهم واولادهم.
 
 


40
المنبر الحر / أيتها الريح
« في: 03:53 17/03/2019  »
أيتها الريح
شمعون كوسا

منذ اعوام اعتدت على النوم المخلخل  ، وقد انقلبت خلخلتي ذات يوم  سهادا ، جرّاء ريح لم تتوقف زمجرتها  طوال الليل . كانت تعصف بشدة ، تقترب بأزيز قاسٍ وتبتعد قليلا ثم تعود بقساوة أشدّ ، وفي كل مرة كنت ارفع ذراعيّ ألى العلا كيلا تهتدي الى منفذ يُدخلها البيت . عند الصباح ، كانت قد فقدتِ الريحُ بعض بأسها، ولكنها لم تكن قد افرغت جام غضبها كاملا ، فإنها كانت لم تزل رافعة اصبع التهديد.  جلستُ على حافة السرير أرقب الحالة واتابع حركة الاشجار، وإن كانت الريح قد عصفت ببعض الهزيلة منها. ركّزت انظاري الى شجرة قريبة من الشباك ،  فرأيت الريح قد تولت أمر احد اغصانها الصغيرة وكأنها تعامل عدوّا. تُرغمه على الاستدارة يمينا ، ولا تمهله ولو لحظة ، فتعود مؤنّبة إياه قائلة : ألم اقل لك لا تلتف يُمنة فتصفعه من جديد ، وبعدها  تعود لتغيير اتجاهه ، وهكذا  يتلقّى الغصن مع اوراقه الصفعة تلو الاخرى من كل الجهات ، ودون هوادة وكأنها كانت مكلفة بتأديبه ، أو بالأحرى تعذيبه.
بقيتُ اتابع عملية العنف هذه لاكثر من ربع ساعة ، إلى ان تهاوى الغصن الصغير مستسلما لقوة الريح ، لم يقوَ الغصن على مقاومة الريح التي ، تحت التعذيب، وكأنها كانت تصرّ على انتزاع اعترافاته ، فآثر الانفصال عن الشجرة والسقوط  أرضاً . استمرت الريح بعصفها وافراغ ما في جعبتها إلى ان خفت وطأتها . كانت الحديقة اضحت ساحة معركة سقط فيها الكثير من القتلى. رأيت الريح  تعود بهدوء وكأنها لابسة ثوب الندامة . بدأت تعتذر من الغصن الصريع ، وتهدهد اوراقه بحلم ووداعة. كانت بعض اوراقه الصغيرة تهتز ببطيء ، كالمنازع الذي يحتفظ  ببعض رمقه قبل لفظ أنفاسه الاخيرة. غدتِ الريحُ العاصفة المزمجرة نسيما هادئا منعشا ، غير انها ، بالرغم من ندمها وهدوئها،  لم تفلح في احياء الغصن الذي اختار الموت هربا من الصفعات التي تلقاها  . 
مشهد الريح هذا ، أعادني الى ذكريات طفيفة من طفولتي في شقلاوا ، وما اكثر هذه الذكريات وما اصدقها ، وعندما اقول ذكرياتي هناك فاني ارقى الى ازمنة غابرة، وموقع هذه الذكرى الصغيرة ، كان مبنى فندق خانزاد القديم . كنتُ قد اعتدت على الجلوس احيانا في اوقات الظهيرة ، في غرفة والدي السياحية . إلى يومنا هذا اتذكر صوت الرياح التي كانت تهب على اشجار الصنوبر ذي الاوراق الإبَرية ،  كانت الريح تمر بين الابر فتأتي بازيز غريب ، يهب ويعصف ويخف ، ويشتدّ ويصمت ويتكرر، بنمط موسيقي خاص . لا اقول بانه كان  عذبا ولكنه تأصل في زاوية من ذاكرتي لحد الان. 
لا يمكن ان يمر موسم الشتاء وشهر شباط بالذات ،  بغيومه السوداء وامطاره ورياحه وثلوجه ، دون ان ارفع ألحاظي  ومن نفس المكان ، الى جبل سفين الاشم.  كان الجبل ، ساعة اغتساله ، ينادي الضباب والغيوم أو يكتفي بإيماءة كي تأتي فتسدل الستار على قمته. وفعلا لم يكن يمضي وقت طويل عندما كان يطلّ الجبل من جديد بمنظر جديد موشحا بوشاح ناصع البياض.
 لعل البعض يقولون : ما بال صاحبنا هذا ، يرى سعادته في الضباب والغيوم السوداء والامطار والرياح ، فجوابي على هذا السؤال الذي لم يطرحه احد غيري هو : ان الشمس جميلة جدا ، واشعتها تتيح لأعيننا رؤية العالم الخارجي ، اعني الطبيعة وجمالها ، ولكن الغيوم السوداء والاجواء السريّة والغامضة ، تجعلنا ندخل داخل نفسنا ، لنرى ونكتشف نفسنا وعالمنا الداخلي الواسع الصامت ، الذي في بعض جوانبه لا يقل جمالا عن عالم الاضواء.
وهل بإمكان موضوع الريح ان يمرّ مرور الكرام ، دون أن يجعلني استعيد اجمل قصيدة ، او قطعة نثرية كتبها جبران خليل جبران ، الكاتب والمفكر والفيلسوف والشاعر الذي رسم بخياله الواسع وعالمه الجميل ، اروع لوحة للريح . لقد تغنيتُ عدة مرات مستعينا بكلمات وصفه الرائع. انها قطعة فنية ادبية رائعة ، ويحلو لي ان اسطر بعض مقاطعها .  يقول جبران عن الريح إذن :
 
تمرّين آناً مترنّحة فرحة ، وآونة متأوّهة نادبة. 
فنسمعك ، ولا نشاهدك ، ونشعر بك ، ولا نراك .
تتصاعدين مع الروابي ، وتنخفضين مع الاودية
وتنبسطين مع السهول والمروج. ففي تصاعدك عزم ،
 و في انخفاضك رقّة ، وفي انبساطك رشاقة .
في الخريف تنوحين في الاودية ، فتبكي لنواحك الاشجارُ ،
وفي الشتاء تثورين بشدة، فتثورُ معك الطبيعة بأسرها،
من الجنوب تأتين حارة كالمحبة ومن الشمال باردة كالموت
ومن المشرق لطيفة كملامس الارواح ، ومن المغرب شديدة كالبغضاء ،
أمتقلبة انت كهذا الدهر ، ام انت رسول الجهات تبلّغين الينا ما تأتمنك عليه ؟
ومقطع أخير يعجبني كثيرا ، يقول :
إلى أين تتسارعين بأرواحنا وتنهداتنا وانفاسنا ؟
الى اين تحملين رسومَ ابتساماتنا؟
هل تذهبين بها الى ما وراء الشفق البعيد ، ما وراء هذه الحياة ؟
ام تجرّينها فريسة الى المغاور البعيدة والكهوف المخيفة ،
وهناك تقذفينها يمينا وشمالا، حتى تضمحلّ وتختفي.

القصيدة طويلة، ولكني اكتفي بهذه الاسطر وكلماتها المثقلة بالمعاني. انا شخصيا انظر الى هذه الكلمات بشئ من القدسية ، لأني ، وهذا رأيي الخاص، لم أرَ كاتبا او شاعرا وصف الريح بهذه الصورة الجذابة جدا . فالوصف يتمّ عادة بالخيال الخصب والتشبيه، وكلاهما رائعان هنا . لقد  ارتأيتُ الكتابة عن الريح لجبران ، لإطلاع من لا يعرفها  ، وإمتاع من سبق وان عرفها ، لانه حتى  الذي قرأها واعجب بها ، يحلو له زيارة متحف الشعر والجمال من جديد.  ألا يأتي الناس من اقاصي الارض الى متحف اللوفر مثلا ، للوقوف مطوّلا  أمام لوحة موناليزا وإبداء اعجابهم بها ؟!!

41
تسلسل منطقي أفضى بأفكاري
 الى حياتنا الابدية
شمعون كوسا

عند كل مقال اجد الحيرة تكتنفني من كافة الجهات ، ولكن هذه المرة ، قررت ان اعالج حالتي هذه بحركة تتمثل بغربلة الحروف ورميها على منديل امامي ، علّني اهتدي بصدفة غريبة الى كلمة او جملة تطلق الشرارة الاولى التي تلهب قريحتي . أعدتُ لعبتي السحرية هذه عدة مرات، ولكن دون جدوى. في الآونة نفسها ، كنت اصغي الى  موسيقى هادئة ترسم الخطَّ  للحنٍ شجي يقوده صوت جميل. وكعادتي ، وبالرغم عني ، اخرجني هذا الصوت من العالم المنظور وبِتُّ ارتفع ، لأحوم تارة ، واطوف طورا . اتوقف في لحظة انتشاء ،  واسبح من جديد ذات اليمين وذات الشمال في هذه الاجواء ، متمسكا بالوتر الذي انتزعني وادخلني في حالة انخطاف ، حالة سعادة تملا النفس احساسا خاصا ، يتعذّر وصفه. 
بعدما انتهت لحظاتُ غيبوبتي السعيدة هذه ، سألت نفسي ، ما كنتُ قد قلته عدة مرات قبل ذلك : هل يُعقل ان ينتهي هذا الاحساس الجميل بعد الموت ؟  وبما اني ادفع  دوما بأفكاري الى آخر حدودها ، تساءلتُ وبصورة جذرية : وهل يؤمن الناس حقا بالعالم الاخر؟ أم إن المفهوم يرتبط بتقليد اعتاد عليه الناس ، بترديد  عبارات مسبقة الصنع ، دون تفكير وكأنّ هدف قائلها هو التملص والابتعاد بسرعة عن هذا الجوّ الكئيب ،  فيقوم بتأدية  واجبه بسرعة ، وكأنه يسدّد الدين المترتب عليه عبر عبارة التعزية ، رحمه الله في جنته وصبركم على بلواكم.
اذا كان الناس فعلا يؤمنون بحياة الآخرة ، اعني بالسعادة التي لاحدّ لها التي  ستغمرهم هناك ، ما بالهم لا يفرحون عند دنوّ اجلهم ؟ اليس الموتُ المَعبرَ الذي ينقلهم الى دار السعادة ؟  لماذا لا يَبدون متلهفين للّحاق بمن كانوا يحبونهم ، أقارب ، عشّاقا ، اصدقاء أوأعزاء ؟ هل فعلا هناك قناعة وايمان حقيقي بهذا؟
واذا انتقلتُ الى الجانب المظلم من الموضوع ، هل يفكر من عاش تحت التهديد بإمكانية لقاء من كان ينوي له الشر؟ وهل يتهيّب آخرون من لقاء من كانوا يبغضوهم ولا ينسجمون معهم  ولا يرتاحون الى معاشرتهم ؟ هل يخشى الشخص المدين لقاءّ دائنه ؟ هل يخشى السارق والكذاب والنمام والقاتل من لقاء ضحاياهم ؟ باعتقادي هذه تساؤلات لا تخطر ببال احد ، لاننا نعتبر الموت خاتمة تُلاشي الراحل وتمحوه من الوجود  فتحلّ المشاكل كافة ، ولاجله ، في كثير من الاحيان نتمنى الموت لهؤلاء لكي يختفوا الى الابد . ولكن يبقى السؤال ، وإذا حدث وأن رأينا نفسنا هناك وجها لوجه معهم ؟!!
وبعد ان قلبت صفحات كثيرة ، بلغت زاويةً اخرى من الابدية ، فقلت : اذا اعتبرنا بان الناس منذ بدء  الخليقة سيقفون امام الديان ، ألا يجب ان تتوفر لهم المساحة الكافية هناك ؟ هل بامكاننا تصوّر مليارات المليارت المليارات ، ومليارات أخرى ، ممن عاشوا وتوفوا ؟
وقفزت الى فقرة اخرى وقلت : هل الطفل الذي مات طفلا سيبقى طفلا هناك ؟ والذي فقد احد اعضائه ، هل سيَمثل  هناك مقطّعا او معوقا ؟ وهل الاعمى او الاعور يستعيدان ما فقداه ؟ وهل كبار السن والعجائز يحتفظون بعكازاتهم . والسرد يطول . وهل هناك موضع حقيقي يأوي هؤلاء تحت قبة مترامية الاطراف أم فضاء مفتوح لا حدّ له ، لانه قيل لنا بان المثول ،على الاقل في اليوم الاخر ، يكون بالنفس والجسد .
ومن جهة اخرى ، ما هي الابدية ؟   باعتقادي ، هذا تساؤل  بعيد كثيرا عن تفكير عن الناس ، وقد يكون هذا آخر همومهم واهتماماتهم . بقناعتي ، ان الناس في قرارة نفسهم لا يريدون التعمق في هذا الموضوع لانه يُخيفهم من جهة ، ومن جهة اخرى ، إنهم يجهلون تماما حقيقة ما يجري في العالم الاخر، وبصراحة أشدّ إنهم لا يؤمنون به كثيرا به ، لانه موضوع بعيد ويكتنفه الكثير من الغموض. 
كل ديانة لها نظريتها في موضوع الابدية. فالله الذي اختار ابراهيم ، والذي يُفترض بانه يكون نفس إلهنا  ، لم يعده ، (لا هو ، ولا اولادَه )، بحياة ابدية ولكن كان يكتفي دوما بتأكيد وعوده بزيادة نسله على الارض ، وتأمين انتصاره على أعدائه ، وايصاله الى ارض الميعاد. ديانة اخرى وعدت اتباعها في الاخرة بسعادة جسدية مادية محضة ، اما نحن ، كما فهمناها بخطوطها العريضة ، هي سعادة روحية ، نظـّرَ حولها اللاهوتيون الكبار ، ولكنها تبقى خاضعة لمخيلة كل شخص ولما يتمناه من السعادة الداخلية.
اما انا ، اذا كان لا بدّ لي من الافصاح عن فكرتي وامنيتي ، اقول : امنيتي هي ان اراها امتدادا للدقائق التي اكون اشعر فيها وأنا في قمة السعادة . ارتياح داخلي ، وطمأنينة ، وتَرَفّع عن متاع الارض وهمومها . من جهة اخرى هل ستكون السعادة متساوية او متشابهة للجميع ؟ باعتقادي لا . انها نسبية ،وتعتمد على قابلية كل شخص  وسعة تفكيره ومدى احساسه . فالناس لا يشعرون بنفس السعادة ولا تندلع سعادتهم لنفس الاسباب.   نوع السعادة وكميتها تختلف من شخص لأخر ، فالشخص المرهف الذي وسّع مساحة افكاره  يكون وعاؤه عميقا  وسعادته اشدّ.  وآخرون ، لان وعاءَهم صغير، فانه يمتلأ بسرعة ، وامثال هؤلاء نجدهم عادة بين من لا يذهبون عميقا في تفكيرهم ، وهم اناس سطحيون ، يفتقرون الى احساس مرهف ، فهم يضحكون لأتفه الاسباب ، وكلامهم تنقصه الكثير من الروابط ، وانا شخصيا عرفت الكثير منهم !! هؤلاء، لحسن حظهم،  سعادتهم محدودة وهذا يكفيهم . 
تساؤلات لا حدّ لها، واذا استرسلنا بكتابتها نحتاج الى مجلدات  يصعب الحصول على موافقات لطبعها ، ناهيك عن عدم توفر الوقت لذلك . أنا لا اريد ان انهيَ الموضوع بقول الشاعر الذي قال :
يا صديقي ، لا تعلّـلني بتمزيق السّتور ، بعدما أقضي فعقلي لا يُبالي بالقشور . إن أكن في حالةِ الادراك لا ادري مصيري ، كيف ادري بعدما أفقدُ رشدي ؟
ولا اريد أن انهيَه ايضا بقول جدتي التي ، عندما كنا نسألها عن الملكوت ، كانت تقول : كيف لي ان اخبّركم بذلك ، هل رأينا شخصا قادما من هناك ،  يحمل على قفاه علامة فارقة ؟ كانت تقول هذا بالرغم من مسبحة الوردية التي لم  تفارق يديها يوما.
العتب هنا على الشاعر وعلى جدتي ، ولكني أنا ، بالرغم من علا مات استفهامي وتعجبي وبعض شكوكي ، وتمشيا مع المنطق الذي احمله اقول ، وهذا رأيي الشخصي فقط : اتمنى من كل جوارحي ان انتقل من السعادة العارمة والطمأنينة التي تجتاح  نفسي لدي سماعي لحنا جميلا وصوتا رائعا ، إلى ابدية ستضاعف هذا الشعور لا محالة. 
 


   

42
كنت على موعد للترجمة في مركزٍ لِلّاجئين
شمعون كوسا

قبل ايام اضطررت لتوجيه الرسالة الهاتفية التالية لمركز ترجمة ، أعتذر فيها عن عدم تمكني من تلبية حاجتهم :
إني اتصل بكم هذا الصباح ، كي ابلغكم عدم تمكني من تلبية طلبكم في  موعد كنت قد قطعته لكم  بالترجمة ، وذلك لسبب  بسيط جدا ، هو الظهور المفاجئ لثلة كائناتٍ غير منظورة  من فصائل الفيروسات والبكتريا والكائنات المجهرية الضارة الاخرى.   بعض العناصر من هذه القوى الخفيّة استهلّت نشاطاتها بيّ وجعلتني أول هدف يجب تصفيته وبسرعة ، فأمسكت بيّ من اكتافي ،  واقتادتني في مهمة عاجلة نحو  منحدر ينتهي بهاوية سحيقة . دفعتني الشرذمة غير المنظورة الى الهاوية وعادت أدراجها لاستئناف اعمالها الخيرية. لحُسن الحظ كانت هناك شجيرة صغيرة اختارت مسكنها هناك، التقطتني وحالت دون وقوعي ثم قالت : تشبّث بقوة لكي لا تُمسيَ ضيفا على هاوية لم ترحم أيّاً من نزلائها. واضافت ايضا : لا اعرف مدى صمودي في حملك ،  ولكني سأحاول تقريبك الى الشفير ، ولكن حذارِ، هذه المخلوقات التي غزتنا على حين غرّة ، باتت تتجول في كل مكان . إنها جاءت للبطش بالكثيرين من أمثالك ، وإن هبوطك كان سيحقق هدفها ، أعني تفكيكا كاملا لجسمك ، لا سيما وان الكثير من لوالبه قد فقدت تماسكها وغدت منثلمة ، وحتى روابطه أضاعت الكثير من مطاطيتها .
ختمتُ رسالتي لهذا المركز قائلا : انا لا أريد الوصول اليكم على رأس موكب من كائنات لا ترونها ،  وبهذا أكون سببا في الإضرار بصحتكم . فاعذروني .
بعد ان افلحتِ الشجيرة برفعي قليلا وإدنائي من السطح ،إستقمتُ  منهوك القوى ،  واحسست في الوقت ذاته باني لا زلت ، قيد اعتقال بعض هذه الكائنات اللطيفة . فاتجهتُ الى  بيتي محاولا نفض ما تعلق بيّ منها ، وكيف لي ان اعرف بانها استجابت لحركة النفض وغادرت محترمة ذاتها.  وفعلا خشيتي كانت في محلها وصحّ حدسي لان نفرا من هؤلاء الاخوة كانوا قد نفذوا الى الداخل وبدأوا عملياتهم السرية بسرعة .
في تنظيم نشاطهم هذا ، كانوا قد قرروا ان ابدأ بسعال يشتدّ  باطـّراد ،  ويُؤدي بيّ الى  ضيق تنفسٍ ، تعقبه حرارة  .  آخر ما كنتُ أفكر فيه ، هو الذهاب من جديد الى الطبيب ، ولكنه لم يعد لي خيار آخر ، لان السعال طال أمده فاشتد وأطال سهادي ،  وصار الصدر ساحة معركة ، شحت فيها اغلبية الاحتياجات لإداء دور طبيعي .
طرقت باب الطبيب الذي قد كان التقاني عشرات المرات قبل ذلك  ، وكنت اصبحت له حقل اختبارات ، لأنه  سبق وان استخدمني في تطبيق جلّ ما كانوا قد لقّنوه في الطب . وفعلا ، بعد وصف مقتضب ، وقبل البدء بفحصي السريري ، بدا ساهما  يفكر في الفتوى التي عساه اصدارها بحقي هذه المرة . فوصف لي حبوبا فعّالة معروفة، يوصى بها لكل داء لا يجد له الطبيب دواء خاصا . وأنا أتناول شبيه هذا العلاج مستعينا ببخاخة استنشق هذه المادة على شكل غاز .
والطبيب لا يحب النقاش عادة لأنه إذا حدث وأن تجرّأ المريض  بمناقشته أو محاججته ، سيردّ قائلا وبأنَفَة : هل انا الطبيب ام انت ؟ وانا اجيب هنا باننا من كثرة مراجعاتنا ، غدونا نعرف امراضنا وعلاجاتها  افضل  منهم أحيانا ، ولكن بعض الادوية لا يمكن الحصول عليها دون توقيعهم .
عُدت الى البيت حاملا كيسا جديدا من ادوية وصفها  لي علاجا لمدة اسبوع .افرغتُ الجعبة بجانب الكمية التي أستخدمُها  يوميا  وهي ، أربعة عشر علاجا ،  بين صلب وسائل وغازي . بدأت افكر بوضع جدول لتناول هذه الحبوب والتنسيق بينها ، لأني محكوم بها في الصباح والظهيرة  والمساء.  الجدول الذي وضعته لم يأتِ دون عناء ، ولكنه لم يسهّل اموري . فبعد الايماء لبعض الادوية التقدم قليلا ، رأيتها تنتفض وبعضها تراجع خوفا ، وكأنها تلحظ تباشير مأزق كبير وشيك.
 في البداية ، لم أعِ للأمر جيدا ، غير اني  عندما تناولت الحبة الاولى وابتلعتها ، ثبتت الحبة الثانية في مكانها ولم تتحرك رافضة  الامتثال ،  وكأنها تريد القول : ألا تعلم بان صنفنا ، اعني  الحبوب الخضراء ، لا نساكن هذه الحبوب الجديدة ، ان خلافاتنا قديمة جدا . لم أعر اهمية لاعتراضها ، فتناولتها عنوة ، ولكنها بقيت معلقة بالحلق ، الى أن استعنت بقطعة خبز اقتادتها من اذنيها الى الاسفل .
قلتُ في نفسي ، انا لا زلت في الحبة الثانية ، إلامَ  سيؤول امري مع الباقي وهو كثير ؟ لاحظت فعلا باني كلّما صوّبت نظري  الى حبة اخرى ، أراها وقد اختفت.  لا أعرف ما الذي دهى علاجاتي هذه. اين اختفت ؟ بعد قليل لم اجد إلا علاجا واحدا تقدم نحوي قائلا : كان الله بعونك ، هذه الحبوب تقوم  بعلاجك وانت مُرغم على تناولها ، ولكن هل تعرف بانك بتوزيعك اليوم ، اوجدت مناخا لا يُرضي كافة ادويتك، وتأكّدْ باني رأيتُ البعض منها يلبّي الامر مُنتحباً ، ويبقي ساعات يتعذب ويتلوى في معدتك ، وهذا أمر لا يعرف به غيري.
خوف بعض ادويتك النوعية القديمة ناجم من الغزو الذي تعرضت له، ومن العدو الجديد الذي احتل مناطق مهمة داخلك ، وهي غير معتادة على خوض حرب ستكلفها الكثير ، وانها لم تتدرب عليها أصلا  . لذلك انا ادعوك لتنسيق وظائف هذه العلاجات ، حبوبا وسوائل ، بعد دراستها بهدوء. إنها راضية على التعامل معك لان ما تتوخاه هو شفاؤك وضمان راحتك .   فكّر إذن ، واقرأ تعليماتها المكتوبة التي  تفصّل بوضوح كيفية استخدامها ،ة وانتبه لتأثيراتها الجانبية وانفعالاتها مع العلاجات اخرى . إن هذه الادوية النوعية مخصصة  كل واحدة لتصليح عطب معين ، غير ان الطامة الكبرى تكمن في أن الطبيب نفسه لا يأبه ، في الكثير من الاحيان ، لامر هذه التفاعلات .
فبدأت بوضع جدول آخر يتناسب مع متطلبات كل دواء، مُراعيا النوعية والمدة وكيفية الاستخدام. ولكني عند نهاية  كل خطة جديدة ، كنت اعثر على حبوب صغيرة نسيتها ، فصرت  كالذي يركّب اثاثا ، وعند الانتهاء يجد بين يديه قطع  صغيرة لا يعرف اين يضعها !!
بِفضل هذا الاجراء ، رأيت بعد اسبوع ، وكأني خارج من سفينة شبيهة بسفينة نوح ، لانه خفّ صدري واتسع ، وانتهى السعال  وانتهت المعاناة ، ورأيت نعشا مفتوحا ، قد تكدس فوقه جيش كامل  من الفايروسات والبكتيريا التي خرجت وهي جثث هامدة بعد ان خسرت معركتها.
الان ، لا اعرف مدى انتفاع القارئ بهذا الوصفُ المُبالغ به في مشكلة ألمّت بيّ ؟ لا اعرف ، ولكني كعادتي رغبت في الكتابة وقلت :علّـني بكتابتي لمقال  غريب الاطوار، سأجلب انتباه بعض من ستُلقيهم الايام في طريق  اولاد عم ، أو زملاء هذه العصابات المجهرية الظريفة !!!



   

43
أحبِبْ فيغدو الكوخُ كوناً نيّرا
وأبغِضْ فيُمسي الكونُ سجناً مُظلما
شمعون كوسا

كلما رأيت نفسي سعيدا بعد سماع لحن جميل جدا ، وما اكثر الالحان والاصوات الجميلة ، واقترنتْ سعادتي هذه  برؤية جمال الطبيعة المتجسد بعناصرها ، من سماء ، وغيوم ، ورياح ، ومياه ، وطيور، كلما احسست بمثل هذا الفرح الغامر الذي لا يكتمل وصفه ابدا ، أبقى لفترة خارج الكون ، منتشيا مخطوفا ، واذا لم اكن سائرا ، اغلق عينيّ لأطيل حياة هذا الاحساس ، فانتقل الى اجواء بعيدة في الزمان والمكان ،  اجواء من الماضي ، لان الماضي ، فيما يخصنّي ، هو الذي وضع حجر الاساس لهذه الاحاسيس الاصيلة الجميلة التي لا تمّحي.
اقول أحيانا ، هل يا ترى يحسّ جميع الناس بما احسّ به ؟ واقول أيضا : لعلهم ينطربون لأغنية او لصوت ، او يسعدون لرؤية منظر جميل ، ولكن هل تغمرهم مثل هذه السعادة القصيرة التي تسري في عروقي فتنسيني كل شيء ؟ لا اعرف . إني ارى بعض القرّاء هنا ، يقولون في سرّ نفسهم متبرّمين : لقد بدأ صاحبنا بنفس ديباجته المعتادة ، هلمّوا نرى ، متى وأين،  سيحط  بنا بعد تحليقه المملّ في الفضاء !!
الهدف من كل هذه المقدمة ، هو اني عندما اجد نفسي في هذه الحالة ، أنسى الدنيا وما تفرشه لنا في كل زاوية ،  من هموم واسباب قلق ، وخوف ، ومشاكل لا تعدّ ولا تحصى لأنها  تتناوب في تجدّد دائم -  عندما اكون في هذه الحالة ، ارى نفسي وكأني تحررت من كل شيء ، لذا ابقى معلقا في الناحية الزرقاء جدا من القبة الفلكية . واقول بانه لو كان الاخرون ايضا يمرّون بنفس هذه الحالة ، ويا ليتهم يمرّون ، لَكانوا سينسون كل ما يشغل بالهم وينخر قلوبهم ، وماذا ينخر قلب الانسان اكثر من الاحقاد الدفينة.
لقد اخترت كلمة الاحقاد ، لان هموم الانسان والكثير من اسباب قلقهم توترهم وحتى تطوراتهم النفسية والصحية ، مقترنة بهذه الكلمة وخاضعة لها.
كم مرة بقيتُ افكر ، واطيل التفكير ، فاقلـّب الامور ، واعود اليها من جديد واجترّ افكارا سوداء ، واطحن مواقف غضب وكراهية، جرّاء كلمة او موقف معاد او تصرف حقود. وكم مرة ، في سورة غضبي ، قررت ان ابادل الحقد بالحقد فاذهب الى حدّ القطيعة ، لأني فعلا كنت على حق .  فأبقى في هيجان داخل نفسي واسير دون ارادتي في سورة غضبي هذه ، الى أن اجد  نفسي في النهاية امام حائط عال يعيدني من جديد الى لحظاتي  الاولى ، فيبدأ الفيلم من جديد بسيناريوهات ، وداخل دوّامة لا يتوقف دورانها .
غير اني ، عندما قررت الترفع قليلا  لأنسى الدنيا وترهاتها ، بفضل شرارة اشعلها صوت جمل ، او قراءة كلمات حكيمة،  أو تمشيط ممرات الطبيعة الخلابة بأنظاري وصولا الى ابعد افق ، لا ينتهي الا في نقطة التصاق الارض بالسماء . قلتُ وانا في هذه الحالة : لماذا  لا امحو كل هذا ، واحول هيجاني الى سلام ، وانتقل من الكراهية الى الحب ، لا سيما وان الامر بيدي ولا يتطلب مني اكثر من ارادة لا تتطلب سوى قوة معنوية . بمجرد التفكير في هذا القرار، احسست  فعلا  بهدوء العاصفة داخل نفسي ، لأني وضعت حدا للحرب . احسست بحالة غريبة من السعادة المفاجئة ،   لأني عزمت على ألاّ اعود الى الاسباب والظروف السابقة التي ستفضي بيّ لامحالة الى صالة افلام الحرب الاولى .
وببساطة شديدة ،  بتحوّلي هذا ، اكون قد قررت محو كل شيء ، غير آبهٍ  باستعدادات الطرف الاخر . انا ساحب لأني قررت ذلك ، والطرف الاخر لا يستطيع منعي من ذلك.  و انا شخصيا ، قد اعتدت قليلا على طرد الافكار، بحيث  لا احتاج الى قابلية كبيرة للنسيان ،  سأنطلق بسرعة الى الحيّز الصافي من سماء ذهني ، لان المحراب الذي بنيته هناك لا يفتح بابه الا للحب والغفران والتسامح.
مثل هذا الاستعداد قد يعرّض الشخص المحبّ والمسامح الى نقد لاذع او حتى الى  استهزاء من قبل الكثيرين بما فيهم اصدقائه وذويه ، فيقولون مثلا :  لماذا جنح الى نسيان الاهانة والصفح عن الذلّ ، الم يكن الحق بجانبه ؟ لهؤلاء اقول : ان هذا المُسامح قد فكر مليّاً وحلل وبعدها قرر ان يسلك طريق الحب والغفران ، وانه بمجرد بدء خطواته الاولى ، أحسّ بان  حملا ثقلا جدا قد ازيح من على  كتفيه .
أن ما يفضي بيّ الى هذا الاستعداد ، هو الخبرة التي اقتنيتها في حياتي عبر تجاربي وتجارب غيري ، وعبر قراءاتي وتأملاتي . لقد اقتنعت ، وكل يوم ازدادُ قناعة بالحكمة القائلة : باطل الاباطيل وكل شيء باطل . ولقد تعلمتها منذ البداية باللغة اللاتينة ، واذا اردتموها بهذه اللغة ، فهي : 
vanitas vanitatis et omnia vanitas
  ما دام كل شئ الى زوال ، فان الحقد ايضا الى زوال ، لا سيما وان عاقبته ندم متأخر . لماذا لا اختار اذن ما يريحني وينير بقية ايام حياتي بعيدا عن القيل والقال. هناك احقاد وكراهيات تدوم سنوات ، او لا تنتهي الا في القبر ، في الوقت الذي لا تحتاج الى اكثر من ارادة معنوية ينيرها ويقودها العقل والقلب ، وهذه الارادة  كفيلة بإزالة ثقل كان سيبقى الى الموت . وقد ينظر إليّ شزرا قوم  اذا قلت لهم : إن شئنا  أم أبَينا ، فاننا كلنا زائلون ، بمالنا واملاكنا وجمالنا وصيتنا ومناصبنا وكلّ ما يعزّ علينا . هذه هي الحكمة التي اؤمن بها .
الشخص المحبّ ، لانه قد افرغ قلبه من كافة الادران والشوائب ، فانه لا يأبه لمن يصرّ على ازعاجه او استمر في حقده ،  فيتابع سيره بابتسامة في طريق لا تغيب عنها الشمس .
لقد احببت تسطير هذا الاحساس الجميل الذي افكر فيه كثيرا ، لأن كل ما اكتبه عادة ، نابع من امر يشغل بالي ، او شعور لا بدّ لي الافصاح عنه . قد يفيد كلامي هذا ، لأنه افادني انا . وإن رأى البعض بانه لا يعدو كونه مجرد لغطٍ  قد سمعوه كثيرا ، فأقول لهم : لا بأس من ذلك ، لان هذا الكلام المضجر  إن لم يُفد ، فانه سوف لن يضرّ .
ولكي اربط اسطري هذه بعنوانها ، اختتم قائلا : لقد صدق حقا الشاعر  الذي لا يفارقني ديوانه ، ايليا ابو ماضي ، عندما قال في هذا المجال ، في قصيدته (كن بلسما إذا صار دهرك علقما ) ، يقول : أحبب فيغدو الكوخ كوناً نيّرا ، وأبغِض فيُمسي الكونُ سجنا مظلما . ما اجمل هذا البيت من القصيدة وما اصدق معانيه.


   

44
وجدت نفسي في اليونان
شمعون كوسا

ليست الصدف التي قادتني الى هذا البلد ،  ولا الحاجة الى موطئ قدم مؤقت ، يتيح لي القفر عِبره ، الى برّ الامان الذي كنت احلم به ، كما كان حال اغلبية من اُرغِموا على سلوك هذا الطريق بانتظار نفق طويل قد يفضي بهم بعد عدة محاولا ت ، الى بلدان اوربا المتقدمة  !!  ما حفّزني  للهبوط على ارض هذا البلد ، كانت الرغبة العارمة في اقتفاء آثار  الفلاسفة ، والعودة بالخيال الى الاساطير الاغريقية بآلهتها وأبطالها . لأني اول ما كنت قد استهللت به دراستي الفلسفية في حينه، كان تاريخ الفلسفة اليونانية وروادها الذين باتوا أساسا ومصدرا لا يمكن الاستغناء عنه  ولحدّ الان . مَن الذي لم يسمع بسقراط وارسطو وافلاطون ، وايضا بِأبيقور وفيتاغورس  وهيراكليت وغيرهم ؟  حتى علومنا اللاهوتية ، في تحاليلها وقرائِنها واساليب تدريسها ، تلجأ للمنطق والميتافيزيقية التي نادى بها هؤلاء. 
اما عن اساطيرهم وآلهتهم ، أناثا كانوا أم ذكورا ، فالقصص والاحاديث ممتعة بغرابتها. ليس هناك روائي ، حديثأ كان ام قديما ، لا يتطرق  او يشير الى هذه الروايات ، إن كان على سبيل المقارنة والتشبيه ،  او حتى مجرد التندر . وعن آلهتهم ، هل يمكن ان نتجاهل ابولو ، وافروديت ، واثينا ، وايروس ، وهيليوس،  وهيرميس وغيرهم . شخصيات إلهية اغريقية تداخلت مع آلهة  روما ونافستها ، مثل فينوس ، ومارس ، وساتورن ، وكوبيدون ، وبلوتون ، وميركور ، واوروانوس وغيرها ،  اسماء بقيت حيّة وترسّخت منذ تبنّى الفضاء سجلّ عماذٍ  ، قيّد فيه كواكبه باسماء هذه الآلهة!!
ومن جهة اخرى ، أليست اللغةُ اليونانية ، كاللاتينية ، التي اسهمت في تكوين  المئات من مفردات اللغات الاجنبية العالمية المتداولة ، لا سميا  العلمية منها ،  بحيث تأتي صياغتها كمقاطع ، تتصل إما في بداية الكلمة او نهايتها .
 أثينا تاريخيا ، وبموجب الاساطير الاغريقية ، هي بنت زيوس ، ويقال انها وليدة عقله .  وهي تعتبر حامية عاصمة اليونان وشفيعتها. ويقابل اثينا ، في الحضارة الرومانية ، أي في امبراطورية روما القديمة ، الإلهة مينيرفا.
كان يهمني ان ازور المواقع القديمة المرتبطة بهذه الاسماء . وكان الموقع الاثري الاهم الذي لا بد من زيارته هو أكروبوليس ، مقرّ الإلهة (أثينا) ، حيث  تمثالها . أكروبوليس من الاثار المهمة ، ولا يمكن الدخول اليه الا ببطاقة . انا لم اتمكن من الدخول  ، بسبب الحرارة ، وبسبب الطابور الطويل لاستحصال التذكرة  في ذلك اليوم، وباعتقادي، في ذلك اليوم ،  كان يقدّر الطابور الممتدّ تحت الشمس بكيلومترين . أحد الاصدقاء الذين رافقونا ، أفلح في الدخول ، ولكنه عند خروجه السريع ، قال لنا باندهاش شديد ، بانه عندما حاول لمس احد الاعمدة ، وقبل ان تصل اصبعه الى العامود ، توجّه نحوه  بسرعة البرق شخص من بعيد ، وهو يحذّر بصوت عال : إياك ان  تلمس (دونط  طتج ، باللغة الانجليزية وليس اليونانية !!). لشدة هول التنبيه ، رفع صاحبنا يديه عاليا ، وخوفا من أن يتفاقم وضعه بسبب سيره على أرض الموقع ، فيتلقّى تنبيهاً آخر قد يتحول الى تهمة، قرر ترك المكان للحال . لان التُهَمُ في ايامنا هذه يمكن تقديمها بألف صيغة أو ثوب ،   وسيتم تصديقها بسهولة ، اما الخروج  منها  ، يكون طويلا وصعباً جداً.  لعله كان الحرص ولكنه مبالغ به .
وضمن جولاتنا ، مررنا عدة مرات امام بوابة زيوس ، الذي يعتبر إله الآلهة ،  وهذا يقابله عند الروم  جوبيتير ، الإله الجبار.
هناك باصات سياحية خاصة لزيارة هذه الاماكن تتوقف في كل موضع مهم ، ويمكن استخدامها لمدة يومين . كنا نعود الى نفس الامكنة عدة مرات دون انزعاج . كنت اقف احيانا ، وكعادتي ابحث عن فضاء  للدخول في جوّ أستعيد  به  بعض ما تعلمته عن فلاسفتها ومدارسهم . كنت اقف صامتا بوقار امام هؤلاء الذين  زوّدوا البشرية ، قبل ألفين وخمسمائة سنة، نهجا يساعدها في التفكير والتحليل .
ومن جهة اخرى ، الحضارة اليونانية الواسعة ، اسهمت في انتشار لغتها ، بحيث تبنّتها اغلب بلدان المنطقة كلغة رسمية. حتى فلاسفتنا ومترجمونا السريان ، كانوا قد اتقنوها من أجل نقل الفلسفة اليونانية وحضارتها الى السريانية او العربية.
مررنا عدة مرات امام الساحة التي تعتبر رمزا للاحتلال العثماني الذي كان استغرق في حينه اربعمائة سنة ، ولازال صرح جامعهم القديم شاهدا على ذلك. انه مبنى مغلق ، ولكنه يفضح بخجل ذاك الاحتلال. وهذه الساحة الفسيحة ، التي تحمل اسم موناستيراكي،  يؤمّها السواح من كل مكان ، وهي عامرة بأسواق جميلة تعرض مختلف الهدايا القديمة والجديدة ، بما فيها تماثيل عظمائها . 
الشئ الغريب الذي لاحظته في أثينا ،هو افتقارها الى الطيور أو العصافير. أنا لم اسمع غير صوت (الزيز) ، وهي حشرة معروفة عندنا باسم  الـ(جيرجيروكا). ولكثرة تواجدها ،  اطلقتُ عليها، اسم (العصفور الوطني)  لليونان ، لأني لم اتشرف بسماع أي تغريد او زقزقة او شدو . عند زيارتنا للحديقة العامة ، اصبنا بإحباط  لعدم سماعنا غير صوت الزيز ، وداخل الحديقة كان الصوت صادرا من مئات الأزياز الملتصقة بالأشجار الكثيفة.   هذا الصوت موجود أصلاً ، برنة خفية  جدا داخل اذن الانسان ، ولكن  بلوغ الحالة حدّ سماعه عبر مكبرات الصوت  وبكثافة ، فهذا أمر لا يطاق . 
نعم إنه بلد حضارة قديمة جدا ، ولكن هل يعي مواطنوه الحاليون لهذا الامر؟ باعتقادي ، لا. انهم يعيشون نمط حياة تفتقر الى الكثير من الاصول واللياقة والشعور . عرباتهم ودراجاتهم النارية لا تتوقف ليل نهار. لا يتقيدون بالسرعة. انهم يقفون عند الاشارة الحمراء ، ولكنهم  حال اختفاء الاشارة ، يتفنّنون في عدم افساح المجال لعبور المارة حتى عند خطوط العبور ، ولقد تعرضنا عدة مرات للخطر . لقد اشبهتُ تصرفهم في هذا المجال  بالمتدين السطحي الذي ، حال تأديته للصلاة ، يسمح لنفسه بكافة التجاوزات !!
العاصمة تفتقر الى النظافة لاسيما في احيائها القديمة . من أعلى الفندق الذي استضافنا ، كنت ارى نفسي وكأني في اربيل ،قبل تعاقدها مع مشاريع تنميته الحالية.
اما عن الطعام ، فان اطعمتهم لذيذة بلحومها وأجبانها وخمورها وزيتونها .
بالرغم من حرارة الجو في فترة الظهيرة  . فان فترتي الصباح والمساء ، تبقيان الاوقات المثلى للتجول في ساحاتها ومواقعها  واسواقها   
عدت والسعادة تغمرني ، لأني زرت ارض العظماء القديمة . والان كلما اسمع بآلهتها وفلاسفتها وقصصها واساطيرها ، سأنتقل بالخيال الى بعض المواقع التي شاهدتها بامّ عيني.
 

 
 

45
لقد تجاوزت موعدي في الكتابة
شمعون كوسا

لقد تجاوزتُ موعدي في الكتابة والسبب هو أنّني لا اهتدي في هذه الفترة الى موضوع يحركني . قد يقول قائل : بالرغم من هذه العالم المضطرب وتقلباته  وهذه الحياة المَلأى بالتطورات والاحداث  والمناسبات ،بين سعيدة  وتعيسة  ، أو بائسة  ومحيّرة ، يقول صاحبنا بان مواد الكتابة تنقصه !!
مشكلتي انا ناجمة عن عدم تفاعلي مع هذه الاحداث العابرة بالرغم من ضخامتها. لا السياسة ، ولا الانتخابات ، ولا الاقتصاد ، ولا حتى اللعبة التي هي حديث العالم في هذه الايام ، حيث المشاهدون يترقبون وبأيادٍ مرفوعة الى السماء ، يلهثون ويصفقون أو يلعنون   كرة قد تدخل  الهدف أو تتعثر ، حدث قد يحققه أحيانا طفل صغير صدفةً او سهواً !! من جهة اخرى، لقد واكبتُ  الاجواء الدبلوماسية في عملي لأكثر من ثلاثين سنة ، وجلّ ما استخلصته ، هو أن ظاهرَ هذا المحيط  هو غيرُ باطنِه . فالمجاملة والكلام المعسول ، هما الوسيلة الفضلى لسرد كلام مبهم يعتمد على قدر كبير من الكذب والنفاق.
انا انطلق من داخلي  ، وشغفي واندفاعي  نابعان من الاعماق ، وهدفهما الوحيد هو اللقاء بالطبيعة وجمالها.  بعد هذه الجملة الاخيرة ، سمعتُ الطبيعة تعاتبني قائلة : إلى متى يا هذا ، ألا يكفيك ما فعلته لك الطبيعة ، هل بخلنا   عليك بشئ ؟  فرشنا لك الارض عشبا دائم الاخضرار، وملأنا الحقول ازهارا تتبارى عند مقدمك في الوانها وطيب روائحها، وغرسنا البساتين اشجارا باسقة رشيقة ، واخرى مكلفة بالحمل لانجاب اثمار متنوعة تنتظرها الافواه بلعاب يسيل لانه يطلب المزيد. كم جعلنا الانهار تجرى لك دون توقف ، بالرغم من شحة مياهها ؟  كم كلفنا البلابل بالشدو بآخر ما ابتدعته من الالحان والاغاني ، وكم مرة كلفنا بعض الطيور الاخرى للقائك والتحدث معك ، ولأجل التفاهم معك ، زوّدناها بمعاجم وقواميس بلغات مختلفة ؟  ومن اجل افكارك ، كم استوقفنا غيوما بيضاء ، كانت قد استقلت مركبة الرياح السريعة ولكنها توقفت لأجلك ؟ وغيوم اخرى سوداء تقول عنها بانك تعثر في ثناياها على اسرار لا يراها ولا يعرف سرّها غيرك  ؟ وكم احتفظنا بخزين من النسيم العليل كي تتثنّى معه على هواك؟ وكم انتظرنا الغروب حاملين الوانا جميلة  كي تنشرها بين الغيوم ، ومن ثمّ تقف حظرتك أمام اللوحة البديعة . وكم عملنا من اجل ان يخيّم الصمت ، ولو لحين ، كي تتفرغ حضرتك  للتأمل والانطلاق  بتفكيرك نحو آفاق بعيدة  لا تتوقف ، وكأنك في رحلة الى اللانهاية ، وكم جاريناك في ألحان ترفعك الى الأعالي ؟ ما الذي تطلبه اكثر من هذا ، يا هذا ؟
انا لا ألوم الطبيعة ، لا شمسَها الازلية بنورها ، ولا هواءَها  ولا مياهَها ولا اشجارَها ولا سماءَها الزرقاء ولا أيّة خليقة فيها ، لأنني انا ايضا جزء منها والتذّ بما أرى ، واسمع ، وألمس ، واستنشق فيها . نعم هي الطبيعة التي تجعلني أن احيا  وانتقل بفكري الى بقعة اختارها في القبة الزرقاء ، هربا من عالم الكذب، والنفاق، والخداع ، والانانية ، والحسد والغيرة والحقد ، رذائل  ترافق بعض الناس الى عتبة قبورهم ، وبصورة خاصة الحقد الدفين. 
نعم هي الطبيعة الجميلة  ، بكافة عناصرها ، وجبالها العالية ووديانها  ووهادها وسهولها ومروجها التي تملأ نفسي سلاما وسعادة .
قبل ان ابدأ هذا الحديث ، الذي ليس إلا علامة لفشلي في انتقاء موضوع مفيد أكتب عنه ، كنت قد فكرت بالعودة الى الكتابة عن رجال الدين ولكني عدلت عن الفكرة . ان هذا الموضوع يُزعج الكثيرين ولكنّ تفاعلي الشخصي الدائم معه ، متأتٍّ من منطق يلازمني كظلي في كل أمر ، ولا يفارقني ولو  للحظة . أنا  اراهم بعيدين عن الكتاب الذي رسم خارطة طريقهم ، وهذه الخريطة بالرغم من قدمها ، لم تفقد  خطـّاً واحداً من رسومها.  أهملتُ الفكرة فعلا وقلت : حتى اذا كتبتُ ، وقمت بانتقادهم بأسلوب هادف وبنّاء ، ما مدى تأثيري عليهم ؟ لقد اصبحوا كالطفل الذي تشدّ اذنه وتمطر عليه النصائح ، فيسكت ويطأطئ رأسه ، ولكنه بعد دقائق يأتي بأسوأَ ممّا نهيتَه عنه . 
ولكي لا استرسل في فقرة ستفضي بي الى خطوط  حمراء تحرقني لا محالة، لا سيما واني قررت عدم الكتابة اليوم ، سأخلد الى سماع القليل من الموسيقى القديمة،  آرامية كانت او عربية ، فارسية او تركية ، وهذه الاخيرة ، بحكم قربها من ديارنا وجبالنا ، تطربني هذه الايام ،  في الأصداء التي  تبثها في الفضاء ، وتجعلني أجد نفسي حالماً ، حائما ، عائما ، ومعلـّقا أحيانا عند نقطة في الفضاء أو فوق احدى القمم ، في سعادة عارمة لا توصف ، وكأني في دنيا صغيرة من النعيم الذي احلم به .
يجب ان اعترف من جديد ، بان ما قلته هنا ليس مقالا ، إنه مجرد كلام عديمَ الفائدة ،  إنه لغو مؤقت ، الى ان استقر على صخرة صلبة تتيح لي قول كلام مفيد قد ينتظره بعض القراء . 

46
شاركتُ البلبلَ في ترتيلِ مزمورٍ حزين
شمعون كوسا

في نزهتي اليومية ، التي لا بدّ لي القيام بها كراهب مُلزم بأداء صلاته وصيامه، لاسيما في الذكرى السنوية لعيد ميلاد الطبيعة وموسمها البهيّ ، قادني شدوُ بلبلٍ لقطع مسافة طويلة قبل الجلوس تحت شجرة وارفة الضلال تطلُ على نهر الايردر، وهو فرع من نهر اللوّار الفرنسي.  كان هذا البلبل، الطيرَ الخفر الوحيد الذي يغني دون انقطاع. اندهشت لمواكبته لي ، إلى اللحظة التي افترشتُ الارض في بقعة مُعشوشبة تحت تلك الشجرة. أمهلني البلبل بالجلوس بالصمت لوهلة، ومن ثَمّ بدأ بمقطع صغير من شدوه وتوقف ، واستأنف من جديد وتوقف . عرفتُ بانه يخاطبني .  نظرتُ اليه ودخلت عالمه بسهولة ، فتيقّنت من انه يدعوني الى مشاركته في ترتيله . بدأتُ ادندن معه بعد كل مقطع ، بعض أنغام الـ (يا ليل) .أحسست هنا وكأنه عثر على ضالته ، ووجد الطرف الذي سيعينه ويشاركه في تلاوة فرضه الصباحي.  وبالضبط  كما يحدث في المزامير ، كان يطيل الجملة أحيانا ، ثم يأتي بفقرة اقصر،  وانا كنت اجاريه في كافة المقاطع ، إلى أن تحولتْ فيها دندنتي الى غناء وانطراب ، فاصبحنا في سجال لم ينقطع إلا بعد نصف ساعةٍ ، كاملةِ الثواني .
بعد توقفنا ، سألتُ البلبل  عن رقم هذا المزمور فحرك منقاره اربع مرات، استنتجت منها بانها ليست كمزاميرنا لان الرقم يتعدى الالف !!! انتقل البلبل الى غصن قريب مني ، وكأنه يريد أن يكلمني مباشرة . وبما اني كنت قد ولجت  عالمَه ، سمعته يقول لي : لقد رافقتَ بجدارة المزمور الذي شدوتُه أنا ، وكانت ردودك جميلة جدا ، ولكن لماذا هذا الصوت الحزين؟
قلت له : يا اخي البلبل ، ابتداءً اقول،  لقد اطربتَني بمزمورك وازلتَ قليلا من كربي ، غير أنك بسؤالك هذا ، تفتح بابا لن اقوى على اغلاقه ببساطة، لان قصتي طويلة . قال لي : يدعوني الفضول الى سماعها ، قل اذن واسترسل ولا تبالِ.  قلت له : انا لست من هذا البلد ، انا قادم من بقعة جميلة في بلد آخر ، بقعة رائعة الجمال بجبالها ،  ووديانها،  ووهادها ، وتلولها وآكامها  ومياهها العذبة ، وأيضا بنسيمها العليل. منذ سنوات طويلة ، اقتادتني ظروف أوجدها الاشرار ، لترك هذا المرتع الجميل الذي لم تفارق  ذكرياته الجميلة خيالي يوما.
لقد بلغني بان ضيعتي التي احلم بها والتي كنت أصبو العودةَ إليها، قد تغيرت معالمها وأمّحت ملامحها . فالجبل فقد هيبته ، والوديان تغيرت ، والمياه نضبت ،  والجو فقد صفاءه ، والاشجار ذُبحت كالشياه ، وهَجَرَتها الطيور ، بضمنها بعض أجدادك البلابل الذين كانوا يطربوننا كلّ صباح . لقد ازيلت الطبيعة الجميلة لتحلّ محلها المباني بأحجارها  وحديدها وخرسانتها الصلبة، وبلغني أيضا بان اغلب القاطنين فيها سلكوا نفس طريقي ، هرباً من نفس هذه الايدي الشريرة. واحيانا عندما اتذكر واقارن بما قيل لي ، أبكي على الاطلال ، لان الاطلال ليست مبان متهدمة فحسب ، ولكن روحا انكسرت ، جوهراً إمّحى  وجمالية تشوهت ، وأيضا اخلاقا تغيرت.
وأمّا عن الدولة الكبيرة ، فانه بعد سنوات من حروب طاحنه سببتها الانانية والغرور، فان مفهوم القيادة الحقيقة ومبادئها دخل طيّ النسيان ، ليترك المجال لمسؤولين لا همّ لهم سوى استغلال فترة ولايتهم ، لنشر الفساد والتفرغ للنهب والظلم والاستغلال ، مؤمنين بالمبدأ القائل بان فرصتهم سوف لن تتكرر. وإذا قمتُ الان بالتطرق لموضوع الطائفية والاستغلال الديني ، الذي اصابنا نحن في الصميم لأننا نؤمن بان البشر كلهم اخوة ، فانك ستندم على الساعة التي دعوتني فيها للكلام، لان الحديث سوف يبدأ ولا ينتهي !!
بعد ان تركتُ بلدي وصار وراء ظهري ، دخلتُ هذا البلد ضنّا مني باني بلغت بَرّ الامان ، في بلد حرّ ومتحضر من شأنه أن يُنسيَني غربتي ، غير إني لم ارَ من الانفتاح والحرية سوى الفوضى ، فالطالب يُضرب ويتظاهر ويمنع زملاءه من الدخول الى الجامعة ، وهمّه الوحيد هو عدم الدراسة ، والعامل لا يرضى برزقه ، وهذا صحيح على صعيد أغلب مجالات العمل ، فيُضربون جميعهم كل فترة ، ويكسّرون ويُلحقون اضرارا جسيمة بكافة المرافق، وبعضهم يقطع  الشوارع ، والبعض الاخر يسطو على مراكز الوقود لمنع توزيعها. شعب يرفض الاصلاح والتغيير حتى اذا كان لصالحه . انهم لا يرون ابعد من انوفهم ، وكأنّ التغيير او الاصلاح كلمتان تسببان لهم حساسية قوية تلبس كامل بنيتهم .
وبغضّ النظر عن هذا ، بات الكثير من مواطني  هذا البلد  يجنحون الى التطرف ، فاذا رأوا شخصا غريبا مثلي ، لا يحيّونه ولا يردّون تحيته ، ينظرون اليه شزرا وباحتقار،  وكأني بهم يقولون : انت دخيل هنا . ولا يهمّهم  إن كنتُ أنا أحبّ بلدهم بصدق ولربما اكثر منهم ،  لان حضارتهم تسري في عروقي كوني نهلت منها منذ صباي .  فانا يا اخي البلبل ، أمسيت غريبا تماما هنا وهناك ، لقد فقدتُ الامل في العودة الى بلدتي الصغيرة ، وإلى بلادي التي انقسمت على نفسها ، في ديمقراطية زائفة ، قائمة على الطائفية والدين .  ومن جهة اخرى، احسّ هنا بإحراج وانزعاج شديدين  من النظرات المتطرفة المريبة .
كم كنتُ اتمنى لو كنت طائرا مثلك ، أحلق وأتحرك  وأحطّ أينما يحلو لي ، معتبرا الاشجار والسماء والاجواء وطنا لي !!  عند هذا ، نزل البلبل ، ورأيتُه يبذل جهد كبيرا في محاولة رفعي الى حيث كان على الشجرة . فتأثرت تماما ومن اعماقي، ولم اقوَ على حبس دمعة خرجت من عيني . وازداد تأثري عندما رأيت صديقي البلبل يهمّ مسرعا لامتصاص الدمعة قبل سقوطها، وبقي ملتصقا بيّ. بقيتُ معه على هذه الحالة لبعض الوقت ، وكنت احسه يرتعش وقلبه يخفق. فنظرت اليه وامسكت به وقبلته واشرت اليه باني سأعود . طار البلبل  دون شدو، وانصرفت أنا وحيدا مع ذكرياتي وبعض مقاطع من المزمور .

47
العصفورة مضللة الراعي
شمعون كوسا

في ظهيرة احد هذه الايام الاخيرة ، لمحتُ عصفورة صغيرة جميلة استرعت انتباهي بصورة خاصة لأن رؤياها اعادني الى سنِيّ صباي . كنا نسمي هذه العصفورة بـ (خادعة الراعي). انها عصفورة صغيرة الحجم ، رشيقة ، تتحرك بسرعة ولمسافات قصيرة ، ثم تتوقف وتستأنف عَدْوَها من جديد. كان يطلِق عليها الناس في ذلك الزمان باللغة الكردية اسم  (شوان طرّين) الذي يعني مضللة الراعي لأنها كانت تتحايل على  الراعي وتبعده عن قطيعه . لم أشأ إضاعة فرصة تواجد هذا الضيف العزيز دون التمتع بلقائه.  فتحركتُ مع أول حركة للعصفورة، كانت تطير قليلا، وتقفز، ومن ثمّ تتوقف. عند توّجهي نحوها ، كانت تلجأ الى المراوغة والتمويه  ، تتوقف وكأنها قررت عدم التحرك ، وحال دنوّي منها تستأنف نفس حركاتها ،  كانت تبدو وكأنها  دليلي في موقع سياحي ، حريصة جدا على عدم الابتعاد عني ، او موظف تشريفات يتقدمني بخطى بطيئة ليقودني الى موعد مهم .
لقد اعجبتُ بها كثيرا وتابعتها بحماس وانشراح ، كانت تقودني بخطى قصيرة ،  تسير قُدُماً ، وتنعطف من  اتجاه الى أتجاه ، وتدخل فرعاً لتخرج من آخر. بقيتُ سائرا  وراءَها على هذا المنوال لمدة ساعة كاملة. لم أملّ ولم أحسّ بتعب لأني كنت منشغلا بها  ومولعا بملاحقتها ، الى ان أفضت بيّ الى بقعة منقطعة تماما  ، خالية من أية علامة أو مؤشر يدلّني  على الموضع الذي انا فيه . كان هذا دَورُ العصفورة الخادعة المضللة، سير يطول كثيرا، ومنعطفات تزداد وتتنوع. 
في خضمّ حماسي هذا ، رفعتُ رأسي قليلا فوجدتُني وسط  بقعة  لم تتقاطع اي زاوية منها مع معلوماتي الجغرافية . لم اترك القلق يسيطر عليُ ، قررت ايقاف سيري لاتخاذ قسط من الراحة ، فاخترت شجرة قريبة من هناك مُتّكاً استند اليه ، وكان المتّكأ شجرةَ صفصافٍ باكٍ . حال جلوسي  تخيلت الشجرة وقد ازداد نحيبها ، لم اعرف هل كانت الشجرة ، هي ايضاً بدورها ، ضحية هذه العصفورة في احد ايام حياتها ، أم انها  خُلقت باكية ولا سبيل لجبر خاطرها  وتقويم اغصانها المتدلية  حزناً !!. 
قلت في نفسي ، بما اني قد اضعت طريقي ، في هذا المكان الهادئ جدا ، لماذا لا أخلد الى القليل من التفكير لا سميا  وانّي كنت توّاقا لذلك منذ اشهر . فبدأت استعرض الحياة ، وعندما أقول الحياة ، اعني بها الانسان لأنه  لا وجود للحياة دون الانسان . والحياة هي عقل واحساس وتصرف ، وهي تعامل الانسان مع المصاعب ، وسلوكه  مع الغير ، وردود افعاله ازاء كل طارئ. إنه موضوع بسيط في عنوانه ، غير انه كان الشغل الشاغل منذ الازل ، لله أولا ، ومن بعده  للأنبياء والرسل ، ومن بعدهم للفلاسفة والمفكرين والكتّاب والمصلحين وغيرهم. كان الهدف دوما محاولة الفرز بين  نزعتي الخير والشر ،  وانماء نزعة الخير الفطرية الموجودة  داخل الانسان وتغليبها على قابلية الجنوح السهل نحو الشر ، كي يغدوَ الخيرُ معيارا يعود اليه الانسان في كل ما يقوم به .
استعرضتُ الايام  المظلمة التي مررنا به ، ولا زلنا لحدّ الان نحلم  بشمس  قوية تُنسينا ذاك الليل الطويل وتزيل آثاره .  وفكرت أيضا بشؤون الساعة والحروب والتجاوزات التي ما برحت  أمم اخرى ترزح تحت نيرها . أليست كل هذه من صنع الانسان ؟ أليست نتيجة تعنّت مجموعةٍ من الاشخاص او لربما شخص واحد فقط أحياناً ؟  أليست انانية الانسان هي التي تقود الى عذاب وموت الالاف من الاطفال والنساء والشيوخ والشباب ؟
وعندما ارى جليّاً ، بأنه مجرد تغيير بسيط  في التفكير والارادة ، كافيان لقلب المعادلة . وعندما ارى متسقناً بان القليل من نكران الذات والابتعاد عن  الانانية ، والتسلح باستعداد معنوي حازم ، من شأنه  وضعَ حدّ للويلات  وإراحة المعذبين ، وزرع المحبة والسلام داخل نفس الشخص ذاته ،  والناس المجاورين له ، وكافة مواطني بلده ،  وفي العالم اجمع . انا أرى بأنه استعداد نفسي محض ،  سهل جدا بحدّ ذاته ، لأنه لا يكلف لا مالا ،  ولا عتادا ، ولا قوّات ، باستثناء قدر من الارادة . كم كانت تغدو الحياة جميلة  والعالم هادئا وهانئا ،  لو كان كل انسان يتخذ هذا القرار المعنوي. لو كان كل شخص يحبّ ويسامح ويعفو، لكنّا نبدأ نهارنا  كلّ يوم بجار يبتسم ، ونلتقي الناس  والسعادة سيماء كل وجه بينهم .  أليس حقاً هذا الشيء البسيط ، وبكل بساطة أقولها ، هو سرّ نهاية المشاكل بين الناس وحلّ جذري لكافة  الخلافات والخصومات والحروب بين الدول ؟
وانا في خضمّ تفكيري هذا، عُدتُ الى رشدي قليلا وقلت ، اشكر الله بانه لم يسمعني احد ، وأحمده لأني كنتُ في خلوة مع نفسي ولم ارفع صوتي ولم اكتب الكلام ، وإلا لكنت اصبحتُ هدفا لسهام الكثيرين  الذين كانوا سيقذفونني بحجارة ويقولون وبازدراء :  ألا يكفينا ما نسمعه من ارشاد ونصح وتوجيهات ووصايا ، كي يأتي هذا المتفلسف الجديد  ويعظَ علينا بما سمعناه لملايين المرات ؟ ألا يعي هذا الاخ باننا  لو اقتنعنا بكلامه ، سنخسر كل شيء وسوف تتضرر  مصالحنا ؟ وهل تفكيره البسيط هذا سيعوضنا بشيء ، نحن الذين لم نعتد على التعويض !! ؟ 
لم أنتبه للوقت الذي امضيتُه في تأملي ، ولكني ولحسن الحظ ، كنت يقظا عند عودة نفس عصفورتي ومرورها امامي . تنفست الصعداء لقدومها، وحملت نفسي للحال وتبعتها. كانت العصفورة معتقدةً بانها ستضللني من جديد ، ولكني احسست بالاطمئنان عندما رأيتها تسلك طريق العودة . تبعتها بنفس شغفي الاول ، كانت تقفز وتطير قليلا وتتوقف وتغير مسارها ، الى ان ابصرت من بعيد الشارع الذي يقود الى دارنا ، فودعتها بالرغم من دعوتها الملحّة لي بملاحقتها وإشباع رغبتها في مزيد من الخداع والمراوغة .
هكذا اذن انخدعت من قبل العصفورة المضللة ، وخدعتُ أنا نفسي بالخوض في خواطر كافرة، لو كانت انقلبت  كلاماً وظهرت للعيان ، لكانت قد كلفتني حياتي . 

48
المنبر الحر / عجوز متذمر وعقوق
« في: 03:33 21/01/2018  »
عجوز متذمر وعقوق
شمعون كوسا

عدتُ الى اوقات القحط فكريا ،  واضحيتُ كالأرض القاحلة التي قاطعتها الامطار فأمست لا ترى الخضار وحتى اتفه الاعشاب إلاّ في الاحلام. كيف لي التفكير في كتابة مقال وان ينابيع الفكر قد نضبت ، وغدت مجرّد سواقي جافة  حفرتها افكار كانت تتدفق كسيول عارمة. حاجتي الملحّة لهواء ينعشني قليلا ، أخرجتني من البيت فيمّمتُ شطر سوق عام كبير يعرض أغلب الحوائج . معلّلا نفسي في أمل التعثر بفكرة أو الوقوع على  ظاهرة تطلق الشرارة التي من شأنها ايقاظ  افكار نائمة او إضاءة  زوايا مظلمة في رأسي ،  تجولت في السوق وذهبت الى أبعد حيّزٍ فيه الى ان بلغت  الكشك المخصص للكتب والثقافة . رحب بي صاحب الكشك الذي كان يعرفني وقال:  كما ترى لقد فرغت الرفوف. لقد تأخرتَ كثيرا، كانت بحوزتنا مواضيع مهمة ولكنها اختفت بسرعة البرق. وبما اني لا اريدك عائداً صفر اليدين ، اود ان اعرض عليك  رسالة  باللغة الفرنسية تلقيتها قبل فترة من صديق . إنها تسرد قصة في غاية البساطة، غير انها مؤثرة بالعِبَر التي تحويها . كنت قد اخفيتها لك ، وانا على يقين بانك بأسلوبك الخاص ستحول كلماتها الى جسد جميل .
تناولتُ القصة وقرأتها مرتين فأعجبتني ، شكرت صاحبي بحرارة وغادرت السوق .
بدأت على الفوز بنقل هذه القصة التي تقول:
في أحد دور العجزة بمدينة متواضعة ، تُوفّي رجل عجوز، شخص عادي جدا ، لم يأبه له المسؤولون لانهم يعرفون بانه لم يترك وراءه شيئا يُذكر.
كان على الممرضات التفتيش في جيوبه لإفراغ حاجياته البسيطة . اثناء التفتيش ، عثرت إحداهن على ورقة بسيطة ، قرأتها خشية إهمال طلب او وصية يكون قد كتبها المتوفّى . كان العجوز قد خطّ على الورقة ابياتا شعرية تأثرت الممرضة عند قراءتها ، فذهبت بها بسرعة الى القائمين على الدار الذين ، بعد قراءتها واعجابهم الشديد بها ، اجتمعوا بكافة العاملين لاطلاعهم عليها. 
كانت قصيدة شاعرنا المتوفّى تحمل عنوان:( العجوز المتذمر والعقوق)، يقول فيها:

 ماذا ترين أيتها الممرضات، ماذا يخطر ببالكنّ عندما تنظرن إليّ ؟
عجوز مزعج، عجوز هائج، عجوز متمرّد ومتردد، عجوز تائه في نظراته الغامضة ؟
عجوز يسيل لعابه عندما يأكل ، عجوز لا يردّ على أيّ سؤال يوجّه اليه ؟
اليس هذا العجوز الذي عندما تقلن  له : يجب ان تبذل جهدا اكبر ، لا يأبه للكلام ، ولا يحرك ساكنا ، وكأنه غير معنيّ بما يسمع ؟
أليس هو نفس العجوز الذي غالبا ، يُضيع إحدى فردات جواربه  أو حذائه ؟
أليس نفسه  الذي نتيجة عناده واحتجاجه ، يرغمكنّ على القيام بإطعامه وتحميمه ؟
أليس هذا ما تفكّرن به ؟ هل هذا هو فعلا ما ترينه فيّ ؟
 
ألآن اطلب منكم جميعا ان تفتحوا عيونكم ، وتُمعنوا النظر فيّ  ، إنكم جميعكم متوهمون ولا ترونني على حقيقتي ، لذا سأقول لكم من أنا :
أنا الخاضع لكل ما تُملونهُ عليّ ، صبيّ عمره عشر سنوات ، ابن لوالدين أنجبا لي إخوة واخوات .
أنا شاب بلغ السادسة عشرة من عمره ، شاب يعجّ  نشاطا وحيوية ، ولا يفكر بشيء سوى اللقاء بالحبيبة التي سترافقه في رحلة العمر.
أنا الان متزوج من حسناء احبها ويخفق لها قلبي في كل دقيقة .
أصبحت الان  ربّ أسرة  تعيش في رخاء واستقرار، وانجبت  اطفالا امنحهم كل حبي واهتمامي .
أنا الان في الثلاثين من عمري ، أرى اولادي ينشؤون أمامي ويترعرعون وما يسعدني فيهم انهم متلاحمون كالتحام أصابع اليد .
انا في الاربعين من عمري ، غدت بناتي صبايا ناضجات وتركن البيت كما كان قد فعل اخوتهم قبل ذلك ،  ولم يبقّ لي انيس الان سوى زوجتي .
الان وانا  في الخمسين ، وجدت نفسي محاطا من جديد بأطفال صغار ، يلعبون من حولي  .
لم أعد انتظر الأسوأ ، لأن الأسوأ قد وقع وداهمني كالصاعقة  ، لقد رحلت زوجتي ، فارقت الحياة وتركتني لوحدي.
رفعتُ رأسي قليلا باحثا عن طريق المستقبل ، وعندما لم ألقَ إلاّ ظلاماً ، اصبت برعشة وخوف شديدين ، لقد أمسيت لوحدي . اولادي منشغلون بأطفالهم ، والوقت يمرّ دون توقف وبسرعة مهولة.
بلغتُ أرذل العمر ، ورأيت حتى الطبيعة قد واكبتني في شيخوختها ، فبدأت  تصبّ جام غضبها عليّ .
إن الشيخوخة نكته ثقيلة وسمجة، تساهم في زيادة غبائنا. الجسم يتهاوى ، وتضعف نظارة الانسان وقوته الى حدّ الانعدام . انّي الان احمل داخل جسمي حجرة ثقيلة مكان القلب الذي كان ينبض  بين اضلعي قبل سنوات.
غير انه وبالرغم من كل هذا ، أحسّ داخل هذا الهيكل الهرم ، بشاب يحتمي في احدى الثنايا ويرقب .
يرفّ قلبي المتعب وينشرح لدى عودته لهذه الذكريات الجميلة.
وفي ذكرياتي لا انسى الاوقات الحزينة ، وهذا هو الذي يجعلني أن استعيد حياتي ، فاحب واعيش من جديد .
استعيد ذكريات   تلك السنين ، انها قليلة في عددها ولقد انقضت بسرعة . بالرغم من كل هذا ، انا راضٍ تماما بهذا الواقع وإن كان مؤلما ، لأننا يجب ان نعي لحقيقة  لا يمكن تجاهلها  وهي اننا زائلون ، ولا شيء يدوم الى الابد.
افتحوا اذن عيونكم ، افتحوا عيونكم ، وانظروا جيدا ، انا لست عجوزا مزعجا ، اقتربوا اكثر ، لكي تكتشفوا هذا العجوز بعيون اخرى. وختاما اقول : انا لا اقوى على منع الشيخوخة ، ولكني استطيع منعها من أن تحوّلني الى شخص عجوز.
 

 

49
عزاؤنا هو في شمس لا تهرم
شمعون كوسا

نحن المتقدمين بالسنّ، لامفرّ لنا من التفكير في مرحلة العدّ التنازلي من عمرنا . وحتى إذا نسينا ذلك أو تناسيناه، خوفا من فكرة الموت، فأمراض الشيخوخة وانتقاص طاقاتنا ترغماننا على ذلك. تشتدّ بنا حالات القنوط هذه وتتعاظم بصورة خاصة في الليل ، حيث تبتهج الكوابيس  بعثورها على الفريسة المُثلى  لممارسة بعض نشاطاتها الرياضية ، فبعد أن تبني في داخلنا حالة قنوط ، تنقلنا من الحيرة الى اليأس ومن الخوف الى الذعر والهلع ، فننهض صباحا ، منهكين وكأننا عائدون من نهار أمضيناه بأكمله في الاشغال الشاقة . نتأوّه بصمت قائلين  ، هِيـه  هِيـه ، هذه حالة من تقدم في السنّ ودنا من حتفه . وحتى اذا لم تكن قد اختارتنا الامراض بعدُ  دارَ استراحةٍ لها ، نجد نفسنا  في دنيا يكتنفها الظلام من كافة جوانبها .
بعد ان نقوم بفتح نافذتنا بحركة تلقائية ، تقع ابصارُنا على الشمس وجمالها ونورها المشرق ، وهنا كل شيء يتغير ، لأننا نحسّ حالا بان كوابيسنا قد تبدّدت ، فانقشع الضباب وحلّ محله النور الذي يملا النفس بهجة وسلاما .
وانا هنا اقوم بدوري في الوصف لأقول : أرى الشمس ، بكرمها الازلي المعهود ، تدخل دار الشيخ المتشائم  المستيقظ  حديثا . تأخذ بيده كالطفل ، وتُخرجه من غرفته المظلمة وتجول به في الطرقات القريبة  وتختار له مراتع خضراء . تدعوه الى توسيع حدقات عينيه ليرى أزهارا ملونة قد غطّت  مساحات شاسعة ، وبعد ان يكون قد ملأ عينيه من هذه الالوان الزاهية ، تطلب منه التوقف قليلا للتمتع بتحليق الطيور المتنقلة من شجرة الى شجرة ، كما تطلب منه الاصغاء لما طاب من تغريدها  وزقزقتها وإنشادها ، وبعد ان تقطع معه بعضُ خطىً اخرى في اتجاه آخر ،  تقول له : هل ترى الاشعة اللؤلؤية التي  تنعكس على هذه المياه الجارية وكأنها تحمل عقدا أزليّ اللمعان ؟ ودون ان تنتظر جوابه  تكون قد افضت به الى بقعة اخرى ، فتعانقه برفق وتقول له : ارفع عينيك قليلا وانظر بعيدا ، فيقول لها الشيخ : أنا لا ارى الكثير،  فتقوده الى زاوية اخرى، وتقول له: سوف ارسل اشعة إضافية طويلة المدى  لكي تبصر الافق الجميل . وبعدها تقول له : لا استطيع الطلب منك رفع انظارك كثيرا لتتمتع بلون السماء الازرق ، لأني اعرف بانك تشكو من ارتفاع في ضغط الدم !! وهكذا من مكان جميل الى مكان أجمل ، ومن زاوية خلابة لأخرى ، ينسى شيخنا  نفسه ، لان الشمس حملته الى كافة البقاع التي قامت بإضاءتها ، فكحّل صاحبنا عينيه ، وشنّف آذانه ، وتأمّل بما يهدّئ روعه ويزيل قلقه . كانت الشمس  كالأمّ التي ارادت وضع حدّ لبكاء طفلها ، فأخرجته من البيت فدفّأته بحرارتها، وألهته بعيدا عن اسباب بكائه ، فنسي نفسه وبدأ نهاره بتفاؤل .
وتخيلتُ نفس الشمس التي تدعو المريض والمقعد وحتى الضرير الى التفاؤل ، بضوئها وحرارتها وما توفره من جمال غير متناه يصفه الانسان كل يوم ويتمتع به .
 الشمس مصباح جبّار يضئ أبعد زاوية في العالم ، الشمس تخيّم على كل شيء لإزالة غموضه ، الشمس تطرد الظلام ، والشمس كانت منذ البدء مصدر الحياة للإنسان ، فبدون الشمس تنعدم الحياة . ولحسن الحظ ، شمسنا هذه مستمرة في عطائها بنفس الزخم ، غير متأثرة بتقلب ظرف معين ، او الاصابة بمرض ، أو الدخول في  سورة غضب أو الخضوع  لنزوة ، او التقهقر أمام قوة جبارة ، فهي تستمر بالشروق على الصالحين والاشرار من البشر وعلى سائر الكائنات المخلوقة الاخرى .
أبصرَتِ الشمسُ النورَ قبل اربع مليارات سنة ونصف المليار ، ويقال بانه لم يعد لها من الحياة غير ست مليارات ونصف !!  فلنتفاءل إذن ونطمئن ، وفي نفس الوقت لا نستغربنّ اذا رحلنا قبلها !! لعلّ البشرية كلها ستزول ، او تتغير ، او يحل محلها عالم آخر أو كائنات اخرى قبل أن تقضي نحبها  ، بعد انقضاء ما تبقّى لها من مليارات السنوات .
في كثير من الاحيان ، عندما اطيلُ التفكير في غابر الازمان ، أتفهم الاقوام التي  كانت تتخذ الشمس إلهاً لتعبده . ألسنا نحنُ ، لحدّ الان نبقى مشدوهين امام هذه العظمة. إتّخذ القدماءُ الشمسَ إلهاً  إلى ان اهتدى العقل الى الإله غير المنظور ، فجاءت الديانات السماوية كل واحدة بإلهها . فبدأت بوحي موجّه لأسباط  معينة ، كان إلهها قائد جنود يذهب من حرب الى حرب . إله لا يعِد الناس بالحياة الابدية ، ولكن بأراضي خصبة ، وبمضاعفة  ذريتهم على الارض.
الديانة الثانية ، اختصرت وحيها او رسالتها بكلمة الحب ، فالله تنازل الى وضع الانسان  ، ليعطي المثل ، في المحبة والسلام والتسامح والتضحية والعفو ثمّ العفو.  وعد البشرية جمعاء بسعادة أبدية روحية ، يفوز بها كل من عامل الاخرين مثل نفسه . 
والديانة الثالثة ، اخذت الكثير من وصايا الديانة الاولى في الحلال والحرام . الله سيد عظيم لا يقبل التهاون، وعد البشر بسعادة أبدية توفّر للمؤمن المتعة المادية مضاعفة.    وديانات صغيرة مماثلة اخرى .
هل هو نفس الإله الواحد  ؟!! هذا موضوع آخر ، سيبعدني كثيراً عن الشمس ،  لا سيّما وانها  اوشكت على الغروب !!.
تقول بعض الاساطير بان الشمس كإلهٍ ، وُلدت في الخامس والعشرين من كانون الاول ، وكان هذا عيدها لدى أغلبية  الاقوام القديمة. ونظرا لأهمية هذا المناسبة ، حتى المسيحية لم تشأ بتغيير هذه التاريخ  ، فاحتفظت به للاحتفال بميلاد المسيح التي تعتبره نوراً  لجميع الامم .
عودة الى فكرتي الاولى التي ابتعدت عنها من جديد ،  اقول : نحنُ نولد ونتقدم في  مراحل النموّ ، من الطفولة الى الشباب والكهولة فالشيخوخة والى ارذل العمر الى ان ننتهي ، غير أنّ الشمس دائمة ، على الاقل لعدة مليارات من السنوات . والحقيقة الاخرى ، وهذا من حسن حظنا ، بان الشمس ستبقى مشرقة وبانها ستمدنا بالدفيء والنور ، وتخلق لنا المواسم ، وترافق الحياة بكافة مكوناتها ، وحتى حرارتها المحرقة احيانا تساهم في انضاج فواكه نلتذّ بها .
الشمس تزيل كآبتنا، الشمس تساعدنا كل يوم في بدء نهار جديد، الشمس تعيد لنا شبابنا،  ولو لحين. الشمس تدخل بيوتنا لتقينا من الامراض . انها كنز لا ينضب ، وكلما غابت  تعدنا بانها ستعود بعد ساعات ، وحتى اذا حجبتها الغيوم التي تأتمر بأوامرها ، فأننا مطمئنون من ظهورها ، لأنه ليس هناك قوة تمنعها من ذلك . نحن نهرم وننتهي، والشمس تبقى ولا تهرم، وهذا عزاء للبشرية جمعاء .
ما اصدق قول الشاعر بهذا الخصوص في قصيدة (كم تشتكي ) حيث يصف فيها عناصر الطبيعة من شمس وسماء وماء وحقول ، وهي كلها لسعادة الانسان ، وينتهي بالقول :
إن كنت قد جاوزت الشباب، فلا تقل شاخ الزمان، فانه لا يهرم.



50
هكذا ينظر جبران الى العبودية
شمعون كوسا

أنقلُ هنا صفحة من صفحات جبران خليل جبران ، المفكر العربي الكبير، الشاعر والكاتب الذي يتناول الطبيعة والانسان  مخترقا المظاهر والقشور باتجاه الجوهر والباطن بحثاً عن الجوهر والروح . انقل نظرة فيلسوف يفكر في كل شيء ، ويُفصح عن عصارة تحليله ، بتلقائية وجرأة ، وبخيال واسع واسلوب شيّق . كنت قد تناولتّ ، قبل خمس وثلاثين سنة ، احدى روائعه النثرية عن الريح ، ولشدة شغفي بها ومعانيها ، انطلقت في دندنتها في حينه ، فتحولت دندنتي الى غناء لم يلبث أن علا  ، وغدا يتموج مع حركة الريح ووصفها الجميل . وجدتُ الكلام رائعا ، فأنشدته بصوت يحمل ابعد نقطة في جوارحي. سجلت الكلام المغنّى  واودعته ذاكرة الحاسوب ، ولا زلت اعود اليه  لحد ّالان .يستهلّ الريح حركته بهذه الكلمات : (تمرّين آناً مترنحة فرحة ، وآونة متأوّهة نادبة .... ).
وقبل ايام ، بينما  كنتُ اتصفح مجموعة مؤلفاته ، توقفت بصورة خاصة عند  فصل العبودية . اعجبني التحليل ، ورغبت في عرضه هنا ، فهو يقول :
 
وأغربُ ما لقيت من انواع العبوديات واشكالها :
العبودية العمياء: وهي التي تربط حاضر الناس بماضي آبائهم، وتُنيخُ نفوسَهم أمام تقاليد جدودهم، وتجعلهم أجساداً جديدة لأرواح عتيقة، وقبوراً متكلسة لعظام بالية.
العبودية الخرساء: وهي التي تعلق أيام الرجل بأذيال الزوجة التي يمقتها، وتلصق جسد المرأة بمضجع الزوج الذي تكرهه، وتجعلهما من الحياة بمنزلة النعل من القدم.
العبودية الصمّاء: وهي التي تُكرِهُ الافراد على اتّباع مشارب محيطهم ، والتلوّن بألوانه والارتداء بأزيائه ، فيصبحون من الاصوات كرجع الصدى ، ومن الاجسام كالخيالات .
العبودية العرجاء: وهي التي تضع رقاب الاشداء تحت سيطرة المحتالين ، وتسلم عزم الاقوياء الى أهواء الطامعين بالمجد والشهرة ، فيُمسون مثل آلات تحركها الاصابع ثم توقفها ، ثمّ تكسرها .
العبودية الشمطاء : وهي التي تهبط بأرواح الاطفال من الفضاء الواسع إلى منزل الشقاء ، حيث تقيم الحاجة بجانب الغباوة ، ويقطن الذلّ في جوار القنوط ، فيشبّون تعساء ويعيشون مجرمين ويموتون مرذولين .
العبودية الرقطاء: وهي التي تبتاع الاشياء بغير أثمانها ، وتسمّي الامور بغير مسمياتها ، فتدعو الاحتيال ذكاء والثرثرة معرفة ، والضعف لينا ، والجبن إباء.
العبودية العوجاء: وهي التي تحرك بالخوف ألسنة الضعفاء، فيتكلمون بما لا يشعرون، ويتظاهرون بما لا يُضمِرون، ويصبحون بين أيدي المسكنة مثل ثوب تطويه وتنشره.
العبودية الحدباء: وهي التي تقود قوماً بشرائع قوم آخرين.
العبودية الجرباء: وهي التي تُتوِّج أبناء الملوك ملوكاً.
العبودية السوداء: وهي التي تلصق العار بالأبرياء  من أولاد المجرمين . 
ولما تعبتُ من ملاحقة الاجيال ، ومللت النظر الى مواكب الشعوب والامم ، جلست وحيدا في وادي الاشباح حيث تختبئ خيالات الازمنة الغابرة وتربض ارواح الازمنة الاتية ، هناك رأيت شبحا هزيلا يسير منفردا محدقا الى وجه الشمس ، فسألته : من انت وما اسمك ؟
قال: اسمي الحرية.
قلت : واين ابناؤك ؟ قال : واحد مات مصلوبا ، وواحد مات مجنونا ، وواحد لم يولد بعد . ثمّ توارى عن عيني وراء الضباب .

51
أمضيت ثلاثة عشر يوما ونصف في استراليا
شمعون كوسا

كنت قد تعهدت بعدم العودة الى هذا البلد ، بعد زيارة كنت قد قمت بها قبل ست أو سبع سنوات . إنّ وُعورة الطريق المؤدي اليه ! وطوله الذي يبدأ ولا ينتهي (اثنتان وعشرون ساعة بالطائرة) ، كانا قد جعلاني أن أقول لأخي حينذاك باني سوف لن أعود إلاّ مشياً على الاقدام ، لان ركوب الطائرة لهذه الفترة الطويلة كان يرهبني . غير اني  لم ارعوِ ، لأني قمتُ بالزيارة قبل ثلاثة اسابيع بصحبة  زوجتي وابني ، وذلك للوقوف إلى جانب أخي الذي كان مزمعا على الاحتفال  بزفاف آخر بناته . أخي  هذا كانت قد حملته الرياح الى سيدني وسط  حالة تشتت أو في خضمّ عمليه ذرّ عشوائية ، كانت قد افلتت البذرة التي احتمى في جوفها ، وقامت في التحليق عاليا جدا ، وهكذا افلحت في بلوغ برّ الامان الاسترالي الذي لم تبرز سواحله الا بعد مسافات شاسعة جدا من البحار والمحيطات .
كان العناء كبيرا هذه المرة ، بل وقعُه كان أشدّ من ذي قبل ، لان الزمن كان قد اقتطع  ست او سبع سنوات من حيويتي وقابليتي . كانت فعلا مسيرة مضنية.  اربع عشرة ساعة متواصلة من باريس الى سنغافورة في طائرات لم تعر اهتماما خاصة بعامل الراحة ، وبعد توقف لثلاث ساعات ، أخذت طائرة ضخمة اخرى على عاتقها مواصلة المشوار لسبع ساعات ونصف ، ولا اريد ان أذكر  ساعة الطيران الاولي عند انتقالنا من مدينتا الى باريس .
بالرغم ممّا ذكرتُه وسأذكره ، اقول باني قد احببت استراليا كثيرا لأنه بلد نهض بسرعة وواكب التقدم ، وإن سيدني التي حللنا ضيوفا عليها ، هي اكبر مدنه والحقّ يقال إنها مدينة عصرية خلاّبة.
كان الجوّ متقلبا جدا . عند استفهامنا عن حالةَ  الطقس هناك ،  قيل لنا بان القارة متجهة نحو فصل الربيع ، من المنطقي اذن ان يكون الجو معتدلاً ، لذا انتفت الحاجة الى ثياب سميكة ، ولكن عند وصولنا بألبستنا الخفيفة نوعا ما ، قابلتْنا فعلا سماء صافية جميلة جدا وشمس مغرية ، شمس تدعوك للاحتماء بها ولكن ليس لأكثر من دقيقتين لأنها محرقة ، وعند توجهنا للظلّ طالبين مؤازرته ، كان يبتسم لنا ويشير الى معطف معلق هناك ويقول انا آسف ، لا تعتمدوا علي كثيرا ، لأني في هذه الايام أعمل كمرادف للبرد.
أنا معتاد على السير على الاقدام يوميا ، وهناك بالقرب من بيت أخي ، كنت احاذي ساقية قريبة ، واثناء مسيرتي كنت انظر الى كل ما تقع عليه ابصاري،  وان ما جلب انتباهي بصورة خاصة هي طيور استراليا . كنت مندهشا لشكلها ولونها ولا سيما للأصوات التي كان يصدرها بعض منها . بعض الطيور التي رأيتُها كانت بعيدة عن رشاقة البلبل وجمال صوته او حتى عن لياقة عامة العصافير المؤمنة المغردة الاخرى!! كان صوت بعضها يشبه بكاء أطفال  حديثي الولادة ، كنت اسمع الطير المنتحب هذا ولا اراه ، وفي احد الايام عندما قيل لي بان هذا هو الطفل الباكي ، رأيت مخلوقا اسود يشبه الغراب . وكانت هناك طيور بيضاء خلتها تنوح كالحمام مثلا ، ولكن صوتها كان خشنا جدا ، والبعض الاخر كان يُصدر اصواتا مزنجرة ، وكأنك تسمع صوت حديدتين تصطدمان ببعضهما البعض ، كنت اخال نفسي احيانا داخل ورشة لقطع الحديد او محل لتصليح السيارات في الشيخ عمر بالعراق مثلا . وطيور اخرى غريبة في شكل مناقيرها . هل هي طيور عريقة بعراقة سكانها القدماء الاصليين ، المتخلفين بشكلهم وهندامهم والذين يرفضون الاندماج مع الحياة العصرية المدنية مفضلين نمط عيشهم البدائية على ما تعدُهم بهِ الحكومة !! ؟
ولاختتام فصل الطيور الذي طال قليلا ، يجب ان اعترف بان هناك طيور اخرى قد واكبت التطور واستجابت لرغبة الذوق الرفيع ، في الوانها وحجمها وتغريدها. 
الظاهرة الغريبة الاخرى التي لا يمكن تجاهلها هي كثرة ما يسمي بـ (الكْلاب)  وهنا لا اقصد فصيلة الحيوانات الاليفة التي تنبح ، ولكن نوادي تحمل هذا الاسم بالإنجليزية . وهذه  (الكلابات) وهي مجرد كازينوهات صغيرة للعب القمار   تضاهي بغزارتها اشارات المرور،  حيث بين كل ناديين نادٍ آخر . يحوي الكلَب الواحد، عفواً النادي الواحد، خمسمائة جهاز لعب تقريبا. لقد اعتاد الناس على ارتياد هذه الكلاب ، فيجلس كل واحد خلف ماكنه يختارها ، يقوده حدسه نحوها لأنه يتوسم فيها خيرا ، فيُمضي ساعات طويلة في حركة واحدة لا غيرها ، حركة تتمثل  بالكبس على زرّ لمئات او آلاف المرات ، (تخيّلوا الكمية الضرورية من الثقافة الواسعة التي تتطلبها  هذه الحركة !!) يبتهل اللاعب الى الاولياء والقديسين كي ترأف به وتُحنِّن قلبَ الجهار ليُمطر عليه بعض الدولارات . فيستجيب الجهاز احيانا ، وفي مبادرة اغراء يجود على اللاعب بسخاء ، غير انه في حالة ندم سريعة ، يعود فيستردّ كل ما كان قد اعطاه . هناك من يراهنون على مبالغ ضخمة، وهناك من يرتضون القليل ، والاغراء يلاصق الطرفين. ولقد سمعت مؤخرا بان لاعبة كانت تلعب بثلاث سنتات فقط، حالفها الحظ وأمطر عليها على حين غرّة سيلاً من الدولارات. عند احصائها المبلغ منذهلةً، وجدت بانها تحتكم على ثروة تربو على خمسمائة دولار استرالي .
قيل لي بان الكثيرين أدمنوا ، ومنهم من افلسوا ، وبعضهم باعوا بيوتهم ، وعدد لا بأس به طلّق ،  ومنهم من ذهب حدّ الانتحار ، ويقال بان عددا ضئيلا منهم  بقى  متّزناً.  هذا ما قاله لي بعض الناس . والذين يرتادون أماكن اللهو هذه هم اشخاص بالغون من مختلف الاعمار ، نساء ورجالا .
ما رايته هناك أيضا هو. باعتقادي هذا مجرد تقليد أو عملية دخول منافسة  في من يكون الاكبر والاجمل والاكثر اختلافا عن غيره. على اية حال ، كل هذا يتم بواسطة قروض . قد اكون مخطئا او متخلـّفا ، ولكني من الذين يرتضون بالحد الأدنى الكافي في الحياة ، وهذا رأيي الشخصي تماما ، غير انه  يجدر القول بان لكل شخص نظرته في الحياة .
بالإضافة الى السباق في تشييد المباني الفخمة ، هناك فخفخة أخرى تتعلق بحفلات الزفاف . وإن كان هذا الموضوع قديما ، وعامّا وشائعا في كل مكان . إن ما يحدث في هذا الشأن وفي كثير من الاحيان هو التقليد ومحاولة الظهور بصورة افضل من الجار. رأيت في استراليا بأن على المدعوّ للزفاف ان يستخدم  بدلتين مختلفتين ، الاولى  للاحتفال الكنسي ، والثانية  للسهرة الليلية . واذا تطرقت سهواً لشأن المرأة في هذه الحفلات ، زينتها وتبرجها بمختلف طبقات الاصباغ والمساحيق ، وأيضا الساعات الطوال التي تحتاجها لذلك ،  فأكون قد ورّطت نفسي ودخلت  نفقاً مظلماً  لن اخرج منه سالماً !!. وعلمت أيضا بان الحفلة تكلف بين سبعين الى مائة الف دولار استرالي ، وقيل لي ايضا بان هذا مبلغ بسيط  بالنسبة لكثيرين آخرين. يجب الاقرار من جهة أخرى بان الجزء الكبير من هذا المبلغ يجد له طريق عودة من خلال الصباحية .
يجب ان اشيد بمناطق سيدني  الجميلة ، فالجبل الازرق واخواته الثلاث منطقة  جميلة جدا ، تهبّ رياحها عالية عاتية .  لقد وجدت ، انا شخصيا ، صعوبة حقيقية في مقاومة عصفها الشديد وأنا في حالة جلوس . كما أن شواطئ المدينة  ايضا مشهورة ، وهذا الجمال يشمل ايضا بعض غاباتها البعيدة . اما سكانها،  وجلّهم قادمون من مختلف ارجاء المعمورة ، فانهم ظرفاء جدا ويرحبون بالضيوف لانهم كانوا ضيوفاً.
لقينا ترحيبا حارا من كافة العوائل التي نعرفها هناك ،  وايضا من اصدقائنا ومعارفنا القدماء الذين دعونا الى بيوتهم ، كما رأينا بسرور اناسا كنا قد قرأنا شفافيتهم عبر سطور مكتوبة ، ولم يخب أملنا عندما قابلنا وجههم الصبوح ، كما تعرّفنا على وجوه جديدة ، وبفخر أشيد بشبابهم  الظرفاء جدا ، كما عايشنا اطفالا ، اقل ما يمكن ان يقال عنهم  ، انهم يدخلون القلب دون استئذان .
الحديث يطول عن الزيارة ، واختتاما اقول : لقد غمرَنا اخي وزوجته بكرمهما ، وأحرجانا بحبهما واهتمامهما الزائدين . لم يَدعانا دقيقة واحدة فارغين أو حائرين في ما سنفعله ، فكنا نخرج ونتنزه ونأكل في البيت او المطاعم ، وعندما لم يكن لدينا شيء آخر ، كانت تنتهي حيرتنا عنما نسمع صوتا يقول : فلنتوجّه  نحو الـ (كلاب)  !!!   

52
الحياة قصيرة جدا ما بالنا لا نعي لهذا الأمر
شمعون كوسا

اننا نحس بأهمية هذا الموضوع كلما غادَرَنا قريب  او صديق عزيز لا سيما اذا كانت مغادرته مبكرة او مباغتة . نفقد من نحبّهم بلمح البصر والى الابد ، يرحلون دون التمكن من الوداع ، حاملين الكثير من الذكريات الجميلة والخطط والمشاريع  التي كانوا يبنون عليها آمالهم غير انها لم تجد طريقها الى الانجاز. يردّد مثل هذا الكلام أيضاً من وصل في مسيرة حياته الى قمة الجبل ووجد نفسه امام منحدر لا بدّ من سلوكه  لأنه السبيل الوحيد الى النزول، وهكذا يكون قد بدأ عدّه التنازلي ، مرحلة تسرق الكثير من قوته ، وتخفض مقاومته وتقلص امكانياته ، فيغدو في مهبّ الرياح ،التي تضعه في حالة ترقب دائمة.
اننا في عصر غدت الامراض المستعصية سيدة الموقف ، لأنها  تسلمت  زمام الحكم في منطقة تدعى جسم الانسان ، تنزل في الساحة على هواها لتفتك بالبشر بصورة عشوائية ، بحيث ان الانسان لم يعد يطمئن لشيء ، ولم يعد يضمن المعدل المخصص له من سنوات عمره . يفرضُ المرض نفسه دون مقدمات ، وكأنه قد تتلمذ على يد أنظمة عوّدَتنا منذ نعومة اضفارنا على الخوف والخضوع والخنوع  والتوجس. يشير الداء بأصبعه من بعيد الى  ذبيحته ،  غير آبهٍ بأيّ اعتبار او استحقاق بهذا الخصوص ، ضارباً عرض الحائط الاسباب ، أو السوابق او حتى المنطق ، وهذه الضحية سيئة الحظ لا يبقى لها إلاّ التوجه بشكواها الى الله قائلة :   لماذا انا ؟ أليس جارنا شخصا مُدمنا على الكحول ، وتعاقد مع التبغ منذ نعومة اضفاره فيتفنن بأشكال الدخان المتنوعة التي يخرجها من فمه؟  وتتابع ايضا قائلة : لماذا انا ؟ أنا لم  أحد يوما عن الطريق القويم  ، والفلان الذي اعرفه لم يَدَع وصية لم يخالفها ؟ من خلال  أمراض هذا الزمان ، ينتهي  الانسان  وكأنه متهم خطير صدر بحقه حكم الاعدام ، ولا يتم تنفيذ هذا الحكم  إلا بعد قضاء فترة اشغاله الشاقة ، او بالأحرى آلامه الشاقة التي تفوق كل تصوّر.

ولأجل كل هذا ولأجل كل ما لم  اتمكن من ذكره ، اقول :  ان الحياة قصيرة جدا ولا يجب تفويت أوقاتها السعيدة . اننا نجهل ساعة هذا الحكم الصارم الذي يقرر حرماننا من الحياة ، لذا يجب ان نسخّر كافة حواسنا للاستمتاع بها  ، نفتح اعيننا لرؤية جمالها ، ونستنشق عبق رائحتها ، وندعو آذاننا لتنتعش  بسماع ما هو عذب من لحن جميل وصوت شجي ، ألحان واصوات تنتقي كلامها ضمن  مفردات بسيطة  وعميقة المعاني . ونطلق أيضا العنان لفكرنا للتحليق في الأعالي نحو السماء الزرقاء  والغيوم البيضاء المتحركة ، أو حتى السوداء الداكنة منها ، المليئة بالأسرار ، فهي تأخذ بيد من يلجأ اليها  لتخفيه داخل ثناياها المتشعبة والمظلمة.
يجب ان نخرج كثيرا لنرتمي في احضان الطبيعة ، انها احضان لا تحدّها حدود وهي مُلك لكل مخلوق على الارض. يجب ان نبحث عن سعادتنا مع الغير ، في السماع الى الناس  ، في مرافقتهم واسعافهم ، وبالمقابل قبول مساعدتهم والاصغاء الى نصائحهم وحكمهم . يجب ان نتمتع بصحبة الطيور ، نمعن النظر في الوانها الزاهية ، ونتابع  حركة اجنحتها  وتحليقها ، والانصات الى ما تنوّعه لنا من صفير وزقزقة وتغريد. يجب ان يدعونا كل شيء في الطبيعة الى الاستمتاع وتمجيد من أوجدها لنا ، فالماء والاشجار ، والنور بشمسه وقمره ونجومه الليلية ، هي هبة لا تقدّر بثمن  . النظر الى الافاق البعيدة حيث تلتحم الارض بالسماء  او حيث تنتهي الاشجار الباسقة جدا أو قمم الجبال العالية في نقطة من  الفضاء الجميل . هذا النعيم سينتهي بانتهائنا، لان وجوده مرهون بوجودنا نحن، وببقائنا أحياء.
ان الانسان سعيد بعقله ،  فالخيال الذي حباه الله به  ، يمكّنه من العثور على السعادة حتى في اوقات الجفاف ، عندما تتأخر مؤقتا  اسباب هذه السعادة   في اوقات الجفاف هذه ، يجب ان يتعوّد الا نسان على رؤية عقله وتسخير خياله ،  فيرتفع بعيون عقله الى العلى ويَدخل عالما يُبعده عما قد لا يعجبه . هذا أمر مهم ويجب ان تتوفر الارادة والعزم في ترك المنظور للذهاب الى الطيف غير المنظور الذي قد كوّنه عقلنا ، مستقر يهدّئ من روعنا ويعيدنا الى حياتنا الطبيعية . كما يجب ان نعرف بانه لا شيء يبقى على حاله ، وكما يقال إنما بعد العسر يسرا .

كما يجب ان يكون للإنسان حبّ الاطلاع عبر المطالعة . لا شيء يغني الانسان ويسعده مثل قراءة كتب مختارة توسع دائرة معلوماته  او تعيد الى اذهانه ما  كان قد نساه فيدخل في فترة صمت وتحليل يجلبان له ارتياحا داخليا .
أنا اقارن السعادة الابدية بالسعادة الروحية التي تملا نفسنا سلاماً وطمأنينة ونحن في هذه الحياة . انها صورة للسعادة الابدية . إننا لم نتلقَّ إلا القليل عن حقيقة السعادة الابدية ، ولكننا استنادا الى القليل الذي تلقيناه نقول : بان الازلية شبيهة  بأوقات طمأنينتنا الحقيقية وراحة بالنا  وتفاؤلنا وفرحنا هنا. هناك تكون هذه الحالة مضاعفة وكاملة . سعادة الانسان تبدأ من الارض  ضمن ما وصفتُه من مفاهيم السعادة الروحية ، وأنا بعيد هنا كثيرا عن الماديات والغرائز، وإلا لكنتُ قد حدّدت موقع السماء والحياة الابدية ، في كينيا  او احدى الغابات البرية في افريقيا مثلا !!
الحياة قصيرة جدا، لأنها حتى إن طالت لا يشبع منها الانسان . دعونا اذن نسعد بما توفره لنا   كل يوم في شمسها المشرقة ، ومواسمها التي  تتوالى ولكل موسم جماله . كم من مرة قد بقيت لدقائق طويلة جدا احلق عاليا في سعادة لا توصف وانا اتطلع الى افق بعيد بعيد وانا اصغي الى لحن جميل يؤديه صوت جميل جدا ، وكل مرة اقول : أليست هذه السعادة الابدية ؟؟ لنفرح مع نفسنا ومع الناس ونحبهم ، لان كفيل بزيادة سعادتنا.
لعلني سبق وأن تطرقت بصورة عابرة الى بعض فقرات هذا الموضوع ، ولكني لا اعرف لماذا  أحب العودة اليه . انا لست واعظا ، ولا لاعبا في ساحة رجال الدين ، وإن كنت قد مررت بمراحل دراستهم كاملة ، بكل تواضع اقول باني في تفكير متواصل مع نفسي ،  وبعد ان اقرأ واطلع واقارن بما اعرفه ، تخطر ببالي بعض الافكار وهذه واحدة منها ، انها افكار تعبر عن رأيي الشخصي .

53
التقدم في السنّ يزيد المرء ذكاء ودهاء
شمعون كوسا

لقد قيل بانه لا جديد تحت الشمس . فعلا ، كل ما قيل  ، ويقال الان ، وسوف يُقال قد تكرر لمئات ألوف المرات قبل الان. منذ أن وعى الانسان لنفسه ، ابتدأ بمعرفة الامور ، وبملا حظة الظواهر ، وتوصل الى نتائج . وعلى مرّ العصور قام الاذكياء بصياغة الامثال ونضمها في ابيات شعرية  ، ووضَعَ القدامى الاسس والانظمة ، ولم يكفّ  اجدادنا وجداتنا عن سرد القصص القديمة عن المبادئ والاخلاق  الحميدة . ونحن الان كل ما نقوم به هو العودة الى إحدى تلك القصص ، خدمةً للذين هم في عشية بلوغهم  وهم بأمسّ الحاجة الى دروس مستقاة  من صلب الحياة  ولا يمكن الاستغناء عنها. والقصة القصيرة التي  أنا بصددها تلقيتها من احد الاصدقاء الفرنسيين . لعل البعض قد سمعها ولكنها تستحق الاعادة بأسلوب جديد مشوّق ، لأنها بالرغم من بساطتها فإنها تنطوي على الكثير من العبر ، وعلى شاكلة الكثير من الامثال والقصص فالأبطال هنا أيضا حيوانات متواضعة.
يُروى عن كلب كان قد تقدّم به السنّ ، نهض صباح أحد الايام بعد ليلة أمضاها في حلم طويل وهو بصحبة مجموعة من الفراشات . أراد الكلب ان يتواصل مع حلمه ، فقرر الخروج لمطاردة الفراشات داخل غابة قريبة من شقته. كانت الغابة كثيفة جدا ولم يكن قد تجرّأ دخولها قبل ذلك  خشيةَ الضياع ، كونها غابة مترامية الاطراف ، واسعة ومتشعبة بصورة غير منتظمة . غير أنه منساقا برغبة عارمة في البقاء حالماً ، ارتدى ثوب الجرأة  وقال : الى متى الخشية ، إن الحياة قصيرة ويجب عليّ  عليّ استغلالها. 
تقول القصة بان فراشات الغابة أحسّت بمقدم الكلب وبنواياه، فاتفقت على اللهو معه قليلا وإدخاله في مقالب. بدأت ترفرف بالقرب منه ، وانتقلت بغنج من شجرة الى شجرة ، ومن زهرة الى اخرى ، حطّت حينا على غصن شجرة وهبطت الى حدّ التماسّ مع الاعشاب ، كان تأخذ منحى اليسار وتعود الى اليمين ، وهكذا كانت من خلال حفلتها الراقصة هذه ، تلهو في حركات دنوّها وابتعادها. كان يلاحقها الكلب اينما اتجهت ، وكأنه لا زال  في ذات الحلم الذي اسعده ليلاً . استمر اللهو لعدة ساعات ، ولم يشعر الكلب  بالوقت الى أن وجد نفسه وقد ابتعد كثيرا من نقطة انطلاقه بحيث أضاع تماما طريق العودة.
في خضمّ حيرته هذه ، لاحظ الكلب من بعيد حيوانا مفترسا ، يتأهب للتوجه نحوه والهجوم عليه ، عرفه للحال بانه فهد حديث العهد . بدأ الفهد المليء حيوية يغذّ السير ويجري دون دويّ لئلا يلحظَه الكلب فيلوذَ بالفرار.
كان الكلب قد ابصر الفهد ولكنه أدار له ظهره . تقول القصة بان الكلب كان في مأزق شديد ولا يعرف كيف يتصرف ، لانه إذا قرّر الفرار فان الفهد الفتي اسرع منه في العدو  فسيلحق به ، لذا رأى بان الاجدر به إعمال عقله . إلتفتَ قليلا الى اليمين فرأى عظاما كانت بقايا وجبة دسمة لاحد الكواسر. خلال لحظات قليلة استعرض الكلب  سنوات عمره وتصور الكثير من المآزق الحرجة التي واجهته ، وأعاد الى اذهانه احاديث سمعها من ابائه واجداده ، فأنتبه  لفكرة أضاءت داخل رأسه وقال : أفضل ما استطيع القيام به هو تمويه الفهد . فجلس وكأنه لا يرى الحيوان المفترس الفتي ،  وبدأ يتناول العظام الواحدة تلو الاخرى ويمضغها بشهية غير مسبوقة ، وبقي على هذه الحالة الى ان دنا الفهد منه كثيرا وتهيّأ للهجوم عليه . في تلك اللحظة ، فتح الكلب فمه وصرخ بصوت عال قائلا : يا لله ، ما اشهى هذه الوجبة ! هل يا ترى سيُسعفني الحظ بالحصول على فهد آخر افترسه والتذّ بلحمه وعظامه ؟!!
عند سماع كلام الكلب ، إنسحب الفهد الفتيّ ببطء لكي لا يحسّ به الكلب ، وبدأ يزحف في الغابة دون ضجيج الى ان ابتعد عن المكان فاطلق ساقيه للريح شاكراً الله على نجاته والنفاذ بجلده من انياب كلب كان سيلتهمه لا محالة . في هذه الاثناء ، كان هناك قرد معلق على غصن شجرة غير بعيدة ، أحس بالحيلة التي لجأ اليها الكلب ، فنزل من الشجرة بسرعة البرق وقال في سرّ نفسه : لماذا  لا استغل الموقف لصالحي فأكشف للفهد حقيقة الكلب ، فاحصل منه على تعهد لحمايتي في الغابة !!؟
شعر الكلب بحركة القرد المفاجئة ، وادرك بانه هناك مؤامرة تحاك ضده ولم يأمن الوضع.
عند سماعه وشوشة القرد، غضب الفهدُ للمكيدة والسخرية التي تعرّض لهما وقال للقرد : اقفز على ظهري وسترى ماذا سأفعل بهذا الكلب الهرم المخادع . سوف لن ينجوَ مني هذه المرة. أحسّ الكلب من جديد بالفهد متجها نحوه بسرعة هائلة وهو يحمل على ظهره القرد الواشي. كان الكلب في ذكائه ودهائه قد تهيّأ للموقف الجديد ، ولم يتحرك ، بل بقي ثابتا في مكانه غير آبهٍ بالقادم الجديد ولا بما  يحمله على ظهره ، تجاهلهما الكلب  ولم يُعر لهما اهتماما وكأنه يسمع طنين ذبابة.
في لحظة وصولهما ، رفع الكلب من جديد صوته عالياً بتبرّم  وامتعاض شديدين  قائلا : اين ذهب هذا القرد اللعين ؟ اين هو، لقد تأخر كثيرا ؟  كنتُ قد ارسلته للبحث عن فهد فتِيّ آخر ألتهمه والتذ بلحمه وعظامه ، اين هو لا زلتُ جائعا ؟
 عند سماعه صوت الكلب ، قال الفهد في سرّ نفسه ان هذا الكلب فعلا قد اختص بالبطش بالفهود أمثالي ، وان القرد هذا حيوان مراوغ ،  ولم يأتِ بي هنا الا خدمة للكلب ، فرماه من على ظهره بقوة وولّى هاربا .
هنا تنتهي القصة وقد لا تحتاج لتفسير. ولكني لن اغادر الصفحة  قبل ان أقول : هذه قصة بسيطة موجهة لنا نحن البشر ، إنها تحوي  درسا بليغا القاه الكلب . يقول لنا استاذنا الكلب بانه لا يجب ان يستهين الشباب بقوة من تقدموا في السنّ . صحيح  ، انهم ضعفاء البنية وغير قادرين على المقاومة ، غير انهم قادرون على المقاومة  والخروج من المآزق لان قوتهم في عقلهم وفي خبرتهم التي أكسبهم دهاء . انهم يقابلون بعقلهم ودهائهم العضلات الشابة المفتولة التي تفتقر الى هذه الافاق الواسعة .
   

54
المنبر الحر / قصة عشق قصيرة
« في: 00:14 06/06/2017  »
قصة عشق قصيرة
شمعون كوسا

من المؤكد بان هناك الكثيرين ممّن سيتساءلون : ما لصاحبنا الذي ارتفع رصيد عمره الى  عدة عقود من السنوات ، ما له وهذه القصة !! هل هو ندمُ أم حنين الى الماضي ؟ ألم يتجاوز هذه المرحلة ؟ بما إني أنا الذي افترضت  هذا التساؤل  ، أقول :
إن ما دعاني الى كتابة هذه القضة  هو سماعي بصورة منتظمة لأغنية قديمة لفيروز .  اغنية اندمج معها كثيرا ، اندمج مع الصوت الجميل الصافي ، الصوت الهادئ الذي يتّخذ الفضاء بأكمله مساحة لتنقلاته ، لحن يبدأ خافتا وبهدوء ، ويرتفع قليلا فقليلا وكأنه يتهيّأ للإقلاع ، وعلى حين غرّة تراه وتسمعه وقد حلّق عاليا. وخشية إضاعة طريق العودة ، يتجه الى الطرف الاخر متدلّياً وكأنه معلّق بخيط رفيع يزيد من رخامة الصوت وتأثيره . يستمر الغناء ،   والتحليق ، والصعود والمراوحة ومن ثَمّ  الهبوط ، الى أن ينتهي على شكل حبّات  بلورية ملوّنة تتناثر وتتضاءل بنفس الهدوء ، الى آخر حبة تنقلب غبارا وتهطل كالمطر على الارض . عملية تتمّ بانسجام رائع مع كلمات بسيطة تم استعارتها من الطبيعة احتفاء بالحب والعشق.
انها اغنية قديمة ،  وقليلة التداول لان سماعها والاستمتاع بها يتطلب صمتا وهدوءً ، وهذا استعداد قد يسخر منه أولاد جيلنا الحالي . إذا كان هناك من اقتنع قليلا بوصفي هذا ، بوسعه توفير جوّ هادئ لسماع  الاغنية التي  تبدأ بهذه الكلمات  : (قالوا ابعدي ، تنسيه وتنسي هواه ، وتستريحي من عذابو ....) ، والان سأقوم بالنسج قليلا على بعض حافات الاغنية :
يُروى عن فتاة جميلة أحبت شابا في مقتبل العمر لا يقل عنها جمالا. يقال انهما وقعا في الغرام من النظرة الاولي التي وقعت كصاعقة خلقت جاذبية لم يُفلحا في الافلات منها . جرت الامور بسرعة ، اقترنا واصبحا يمضيان اوقاتهما وكأنهما في جنة . 
مع مرور الايام ، بدأ العشق يشتدّ الى ان تحوّل الى غيرة قاتلة . الغيرة من كل نظرة او كلمة او التفاته او ابتسامة ناجمة عن الشاب .  في المساء عند حلول ساعة العتاب ، كان الزوج يبدد شكوك حبيبته ويوضح لها الامور، مؤكدا بانه لا يمكن ان يحب غيرها ، ولكن عشقها الشديد لم يكن يقبل إلا بحبيب مخصص لها كاملا ، بكامل شخصيته وكافة حواسه ،كانت ترى في انفتاحه على الغير انتقاصا من حصتها فيه.
مرّت الايام والغيرة لم تتوقف . بدأت الفتاة  تُمضي  اياما وليالي في التفكير والقلق والبكاء ، الى ان اضطُرّت للبوح بمكنونات قلبها  لجاراتها وصديقاتها . كان هؤلاء يُبدّدن شكوكها، يُكذّبن الظنون ويسدين لها النصح بالتريث. لم يجدِ النصح نفعا ، لان العشق كان قد تحول الى غيرة قاتلة   أدّت الى هزال جسم الفتاة، وشحوب وجهها، وفقدان شهيتها.   
في احد الايام وبعد أن اعادت الحديث ذاته عن عذابها ، رأت صديقاتُها   بانه لم يعد هناك حلّ إلا في ابتعادها عن زوجها ، وتغيير الاجواء التي تعيش فيها والا ستذبل تماما. فقلن لها:   ابعدي عنه، لكي تنسيه وتنسي هواه، وتستريحي من عذابه وشقائه. فالبُعد يجعل الجريح ينسى جروحه، ويستعيد هدوءه وهناه.
 لا اعرف كيف اقتنعت الفتاة ، فهيّأت نفسها للرحيل واتجهت الى  مكان بعيد جميل مِلؤه الامان . وقررت  بان تخرج من قلبها الحنان،  وتعود الى سابق عهدها تغني، لأنها كانت تحب الغناء، فتنسى العشق والسهر والتفكير بحبيبها.
بعد وصولها ، وفي منهاج قاسٍ لمحو الذكريات ، بدأت تلملم ما كان قد تبقى من دموع ، وحاولت إزالة كل اثرمن حبها وولعها الشديد،  وأمضت اسبوعا وهي تضغط على نفسها في انجاز هذه العملية . كانت تقنع نفسها بان هذا هو الحلّ الوحيد ، وكل ما كانت تتذكر حبيبها ، تبدأ بالغناء أو تخرج لتغيير مساحة انظارها ، فينشغل فكرها بالأشجار والزهور والطيور والوديان . عند بروز دموع جديدة، تقوم بمسحها على الفور، وعند زيادة حنينها،  تعيد الغناء بصوت أعلى لخنق صوت الحنين. ولكن بالرغم من بعدها وجهودها بقيت لياليها بيضاءَ ، لأنها كانت موقِنةً  بان القلب لم ينسَ ولو للحظة . ولم يكن شوقها خفّ ولم تهدأ العاصفة ولم تندمل الجروح .    كانت تحسّ دوما بشيء ينقصها.
في احد الايام وبعد معاناة ليلية طويلة ، نهضت مع شروق الشمس . بدأ البلبل يغرد قرب شباكها  ، واذا بها مع تغريد البلبل تسمع  صوتا آخر قادماّ من أعماق بعيدة ، نداء سمعه قلبها وتعرّف عليه. بدأ قلبها يخفق بشدة، وكأن ناراً اندلعت داخلها. شعرت باندفاع شديد لم تقوَ على مقاومته، فخرجت مسرعة للحال، وغدت تعدو كهارب تلاحقه كلاب مسعورة، وطوال الطريق لم تكفّ عن الصراخ بأعلى صوتها قائلة:
ها اني راجعة اليك ، وقادمة إليك بسرعة البرق . اعادت الكلام مرة تلو أخرى وبصوت عال جدا خشية مغادرته وكفّه عن النداء ، كانت تطلب منه التريث  وتغني من جديد قائلة : ها اني راجعة إليك . كان قلبها لا يكفّ عن طرح الاسئلة ، والردّ يأتيها عبر دموع تنهمر. دموع لم تنشف يوما، دموع ارتضت بالاحتباس الى أن أُفرِج عنها فانسكبت مدرارا.
 وصلتِ العاشقة الى مصدر النداء ، ووقفت عند الباب ، وركعت هناك خاشعة وكأنها على عتبة مزار مقدس وبدأت  تصلي . بدأت تغني بأعلى صوتها وتستغفر حبيبها مرة ومرتين وثلاث عن غيبتها الطويلة، وبيدين ضمّتهما تارة وبسطتهما طورا ، تتضرع ، وتتوسّل ، طالبةً رضاه .
خرج الحبيب والنار تكاد تحرقه شوقا. كان هو بدوره يبكي ندماً واستغفارا،  فتعانقا طويلا. يُقال بان الدموع التي انهمرت ، سالت كثيرا الى أن كوّنت ساقية صغيرة !! وبعد هذا التجربة القاسية ،  قيل بانهما عاشا عيشة سعيدة !! وهنا يجب ان اختم بالقول : لولا شغفي بجمال الاغنية ، صوتاً ولحناً وكلماتٍ عفوية ، وهذا رأيي الشخصي ،  لَما سردتُ هذه القصة العادية والبسيطة جدا والتي لا تجلب انتباها خاصا !!!.

55
المنبر الحر / يوميات مريض
« في: 23:24 26/04/2017  »
يوميات مريض
شمعون كوسا

في البداية ، شعر ايليا بقليل من التعب فلم يأبه للأمر، وبعد ايام انتابته حالة سعال خفيفة ، لم يعرها هي ايضاً اهتماما خاصا ، وبعد اسبوع  لاحظ  بأن الحصة المخصصة لصدره من الهواء قد انخفضت كثيرا ، كان يستنشق الهواء مطوّلاً ويعيد الكرّة ، غير انه لا يحصل الا على أنفاس معدودة ، فضاق صدره . راجع الاطباء ، قال له هؤلاء بان حالته عابرة ، واعتبروا البردَ المتهمَ الرئيسي في هذا التحول  ، فزوّدوه بعلاج بسيط يزيد من رصيد انفاسه.
لم يخطر ببال ايليا أبدا ، كما لم ينتبهِ الاطباء للأضراب الطويل الذي كانت قد انخرطت فيه حالته الجديدة  . علاجهم الخفيف لم يُجدِ نفعا ، لان الحالة  تطورت بل تفاقمت لان افرازات السعال اتخذت الواناً غير ألوانها المألوفة. في مراجعة ثانية، ركّز الطبيب على صدر المريض وطلب بان تُلتقط له بعض الصور. بعد اطلاعه على الصور بدأت الشكوك تساوره ، فدَعا الى إجراء المزيد من فحوصات الدم وغيرها . إلى أن  توصل الى نتيجة مفادها ان ايليا مصاب في رئتيه بالداء اللعين الذي بات يطارد نصف البشرية، ونصحه بالإسراع في المعالجة ، عملية قد تكون متوفرة في البلد ولكنها تفتقر الى مصداقية.
مَرض اضحى كالموضة ، أو كرداء شاع ارتداؤه ، الى درجة  انه عندما يقال عن فلان بانه مريض جدا ، لا يمكن أن يكون المقصود إلا ذلك المرض .
ألحّ ايليا على الطبيب بمصارحته في أمر مرضه ، ووعده بِتقبّل الحقيقة مهما كانت ثقيلة ، غير إنه ، وبالرغم من تعهده ، وقع استنتاج الطبيب كالصاعقة  عليه . من اجل وضع حدّ لحيرته وقلقه القاتلين ، بدأ ايليا يستشير الضالعين في أمر هذا المرض والعارفين بما يتوجب عليه القيام به . اقتنع بانه لا خيار له سوى شدّ الرحال ، والسفر الى بلد مجاور ، في استشفاء محقق ، حيث قيل له  بان ابرع الاطباء يقطنون بلدا اسمه لبنان.
اصطحب ايليا زوجته واثنين من ابنائه معه ، ويمّم شطر هذا البلد ، وحال وصوله توجه الى عيادة طبيب كان قد وصفه له احد الاصدقاء . خرج ايليا من عيادة الطبيب مبتهجا  ومتفائلا جدا لان الطبيب كان قد طمأنه ورأى بان حالته بسيطة وقال له بانه لا يحتاج إلا لعدد محدود من الجلسات وبعض جرعات من الكيماوي واوصاه بالتوجه الى زميله الاختصاصي في هذا المجال . لم يُضِع ايليا الوقت ، فتوجه في اليوم التالي الى ذاك الطبيب ، وهذا بدوره استقبله بابتسامة عريضة وودّعه بابتسامة اعرض بعد ان قال له : انا خادمك ، وسوف تحصل على ما تريد ، موضوعك بسيط وان شاء الله سنقوم بعلاجك ، ولكنك تحتاج الى عدد اكبر من الجلسات  والجرعات . كان مريضنا يوافق على كل كلام يقوله له الاطباء ، بخضوع وخشوع تامّين.
كان قد حلّ ايليا ضيفا على بلد جميل ، ولكن من وضعهم الدهر على دربه لم  يروا فيه غير  امكانياته المادية ، ولأجل ذلك  استنبطوا  انجع السبل واقصرها في افراغ جيوبه . كان قد اعتاد هؤلاء على استغلال الغرباء الذين يقصدونهم ،  وكان سيّان لديهم اذا كان قاصدوهم مرضى ام لا . بعد جهود مضنية حالف الحظُّ مريضَنا  في العثور على شقة ، والجهود نجحت لأنه ارتضى بما لا يرتضيه غيره في دفع ايجار شبه خيالي .
 ابتدأ العلاج وابتدأت  طلبات الاطباء تزداد يوما بعد يوم ، وتتضاعف الفحوصات وتعاد ، بحجة  انها غير واضحة او غير كافية ، وكان يتم الدفع حتّى لِما لم يكن واضحا . كان العاملون والمساعدون في هذه المراكز    ينتهجون نفس النهج. رأوا في القادم من العراق شخصا تتساقط منه الاموال كالمطر ، ولا يصدقون اذا قيل لهم بان المنطقة قد تعرضت مؤخرا لتغيّرات من ابسطها ان قاطنيها لا يتقاضون اجورهم ، وبان العقارات لا تُباع كالسابق وان الايجارات قد تعرضت لكساد .
كان الطمع يسير جنبا الى جنب مع التحايل . أصاب مريضَنا الضجرُ من كمية الفحوصات وصور الاشعة المطلوبة ، ومن زيادة عدد الجلسات والفحوصات في كل مرّة . تتفاقم حالته أحيانا ، وعند مراجعة الطبيب ،  يقرّ بالخطأ المرتكب ، فيقوم بتخفيف العلاج او تصحيح توزيعه ، والخطأ أيضا كان يُدفع ثمنه بالضبط كما يدفع للصحيح. وفي احدى المرات ، قدّموا لإيليا  قائمة بأجور المراجعات والفحوصات ، قائمة خيالية اثارت استغرابه . تفحصّها  مرة ومرتين وبمساعدة ابنه وجد بان الكثير مما هو مذكور خيالي تماما وليس له وجود ، فحوصات لم تتم نهائيا ، واخرى قد تم تسديدها ، واخرى تكررت دون وجه حق . امتعض ايليا من الحالة ، وحيال غضب ابنه الشديد ، ارتبك الموظف واصفرّ وجهه وقال له وهو يتلعثم :  هناك فعلا اخطاء في القائمة.  كانت المبالغ المشكوك بها ، تدور حول ألفي دولار !! الاخطاء كان مجرد محاولة لعلّ المريض يبتلعها.
في احد الايام وتلبيةً لجلسات كانت لا تتوقف ولا تجدي نفعا ، فوجئ مريضنا بالمسؤول يقول له  بان أسعار الليزر قد تضاعفت . قبلَ مريضُنا بالأمر خاضعا في البداية ، ولكن عند تكرار الامر، ساوره الشك وقال : هل يمكن ان تتضاعف مثل هذه الاسعار وبهذا الشكل ، دون سابق انذار بين ليلة وضحاها . فقرّر وقف علاج تخلله الكثير من الاستغلال والكذب.
لم يلقَ ايليا العلاج الذي  كان يرجوه ، وشعر بانه لم يدخل هذا البلد إلا  لدفع اجور اطباء محتالين قد عوّدوا حتى مساعدين على أحابيلهم . هدفهم كان إطالة اقامة المريض من اجل امتصاص آخر دولار منه . رفض ايليا الحالة وغادر هذا البلد الجميل بعد ان دفع مبلغ خمس وعشرين الف دولارا دون الحصول على العلاج الصحيح .
 بخصوص هذا التحايل ، اتذكر جملة لا انساها ابدا ذكرها لي  الملحق التجاري الفرنسي الذي كان قد عاش في لبنان ، والعتب على الراوي، كان ذلك سنة 1973 قال لي : اذا حدث لك وان صادفت مواطنا من هذا البلد واضطررت لمصافحته ، عند نهاية مصافحتك له ، قُم  بإحصاء عدد اصابعك !!!
غادر ايليا مُرغما دون الوصول الى نتيجة ، فالأخوة كانوا  قد ساهموا بتدمير ما كان يجب ان يكون أساسا للعلاج . بعد لبنان نصحه بعضهم بالتوجه الى الاردن. في الاردن بدأ العلاج من الصفر وهناك ايضا ، كثرت مطاليب الاطباء وطال أمد العلاج ، كان الطمع سائدا ولكن بصورة اخف .
باعتقادي الشخصي ، كذب هؤلاء الاطباء  بالذات ، ولعبوا دور التاجر الذي عثر على فرصة  لا يمكن تفويتها ، فالمريض لا حول له ولا قوة وينقاد لكل قول يتفوه به الطبيب لاسيما في حالات هذا المرض المستعصي .
صحة مريضنا اضحت الان في مهب الريح ، وفي كل نكسة جديدة  توصف له علاجات كالعلقم ، تُفقده شهيته وتتسبب في فقدان وزنه ، ويتجرع  آلاما لا يعرف تأثيرها الا هو ،انها علاجات آنية ومتأخرة لا يمكنها اقتلاع داءٍ قد تأصل. ولكني أومن بهمته وشجاعته وايمانه ، واعتمادا على هذا الاستعداد ،  اتطلع معه الى ايام قادمة اكثر جمالا ، تسطع فيها شمس تطيل سعادته . 

56
أغلاط شائعة في الكتابة باللغة العربية
شمعون كوسا

منذ سنوات أقرأ المقالات واسمع الكثير من الخطابات باللغة العربية، والاحظ بان قواعد اللغة لا تُراعي في بعض جوانبها الاساسية . هناك كُتّاب لهم اسلوب جميل ولكنه يفتقر الى الدقّة في قواعد الصرف والنحو وهذا شيء مؤسف . بصورة عامة ، يبذل الكُتّاب جهدا خاصا في مراعاة اللغة وقواعدها ، ولكن الطبيعة المعقدة لفقراتها وحالاتها المنوّعة العادية والشاذة ، تتسبب في الوقوع في أخطاء ، وبما أنّ الخطأ يبقى خطأً  ، يجب الاشارة اليه .
انا لا أدّعي المعرفة الكاملة ، ولا أعتبر نفسي متبحرا في هذا المضمار ، ولكني بحكم دراستي في زمن طوى صفحاتِه  ، افلحتُ في سبر غور هذه اللغة ودخلت أحيانا في شبكة من الازقة الضيقة الطويلة وبقيت فيها حبيسا ، وعند خروجي وجدتني احمل في يدي اليمنى الكثير من الفتحات والضمات والكسرات التي لم تجد لها اسماء او افعال مناسبة ،  وفي يدي اليسرى عددا من الهمزات التي عندما لم اعثر لها على كرسي على الالف او الواو او الياء ، اضطررت الى تعليقها في الهواء . معتمدا إذن على مغامراتي القديمة جدا ،  وما ازلته من غبار تراكم  عليها، اسمح لنفسي بالتطرق الى بعض حالات لغوية تسترعي الانتباه :

- هناك قاعدة مهمة جدا تقول ، بانه لا يجوز جمع الفعل اذا وقع قبل الفاعل .
 يمكن تأنيث الفعل (اذا كان فاعله مؤنثا)  ولكنه لا يُجمع إطلاقا . لا يمكن أن يُقال مثلا : قالوا الرجال ، ولا قلن النساء . الصحيح : هو قال الرجال وقالت النساء . ولكنه من الطبيعي أن يجمع  الفعل اذا وقع بعد الفاعل الجمع ، مذكّراً كان  ام مؤنثا . مثل : الحاكمون حكموا ، والموظفات قمن بواجبهنّ .
- كل كلمة أتت في بداية الجملة ولم يسبقها شئ تكون مرفوعة. لا يقال مثلا: المسيحيين تعرضوا للاضطهاد، بل المسيحيون تعرضوا للاضطهاد، وقس عليه.  والرفع بصورة عامة  علامته (الضمة) ، و (الواو النون) للجمع المذكر .
- النصب هو من نصيب المفعول به بصورة عامة، ويكون بالفتحة للمفرد، مثلا: قرأ الطالبُ الكتابَ، و(الياء والنون) للجمع المذكر السالم، مثلا: شاهد الحاكمُ المتّهمِين. والكسرة للجمع المؤنث السالم: حاسب المديرُ الموظفاتِ.
- والجرّ وعلامته الكسرة بصورة عامة يُستخدم في اسم أتى بعد حروف الجرّ : مثلا ذهب الى المدرسةِ ، تكلم عن جارِه ، ضربه بـِ - السلاحِ ،تصرف كـَ ـ والدِه ، وضعه على المائدةِ.  والجرّ يكون (بالياء والنون) للجمع المذكر السالم، مثلا التقيت بِاللاعبِينَ . والجرّ يأتي في حالة المضاف اليه ، مثلا : كتابُ الولدِ ، عيون الحاسدِين.
- والمثنى يرفع (بالالف والنون) مثل : الولدانِ خرجا ، أو جاء الولدانِ ، وينصب ويجرّ (بالياء والنون) : رأيتُ الولدَين والتقيت بالولدَين . ملاحظة بسيطة : النون في الجمع المذكر السالم مفتوحة ، وللمثنى مكسورة.
- من الاغلاط الشائعة الاخرى المهمة ، هي كتابة اسم الموصول (الذي) . فالجَمع فيه يكون (الذِين) أعني بلامٍ واحدة ،  والمثني (اللذان واللذَين)  أعني بلامين .
- هذه معلومات عامة قد لا يخطئ فيها الكثيرون ، ولكن الخطأ الشائع جدا هو في جزم الفعل المضارع  المعتلّ ، في فائه ، وعينه ، ولامه ،  . فالجزم بصورة عامة علامته السكون ، ولكن في الفعل المعتل يكون بحذف حرف العلة  أذا وقع في  الوسط او في النهاية ، واليكم الامثال :
في فعل وعى/ يعي ( حرف العلة في النهاية ) ، الجزم يكون  : لم أعِ ، ولم تعِ ، ولم يعِ ، ولم نعِ بالكسرة ، تحذف الياء ولا يجب ان يقال :  لم يعي او لم نعي ، والخ . أما للمثني والجمع في هذه الحالة يكون بحذف النون.  وامثال أخرى : دعا/يدعو  فجزمه يكون : لم يدعُ .  سما/يسمو:  لم يسمُ .  نجا / ينجو لم ينجُ. رعى/ يرعى لم يرعَ ، والخ . أما في حالة الامر،  في بعض الافعال يحذف حتى حرف العلة حتى اذا كان في البداية  فيقال : (عِ) لفعل وعى ، و يقال (قِ) لفعل وقى ، و(شِ) لفعل وشى وهكذا .
في فعل قال / يقول (حرف العلة في المنتصف) ، يكون الجزم : لم أقل ، ولم يقل ، ولم تقل ، ولم نقل ، وهذا صحيح لكل فعل اجوف مثل نال ، صال ، حام ، فاق ، نام ، جال ،  والخ .
وادوات الجزم بصورة عامة هي : (لم) ، واللاء الناهية . واللا الناهية تستخدم في حالة الامر النفي . مثل : لا تقل ، لاتنم ، لا تحمِ ، والخ .
في بعض حالات الجزم ، ينقلب السكون الى كسرة وذلك لالتقاء الساكنَين.  فعل مجزوم بالسكون يليه اسم معرّف بِألـ ، مثل : لم يصمتِ الـ متهم ، لم يقلِ الـحقيقة ، وإن ما يستوجب الخروج من ا5قاعدة هنا هو ، ثِقل اللفظ .
وفي احكام نصب الفعل ، لا حاجة للقول بان ادوات النصب تدخل على الفعل المضارع ، وأهم هذه الادوات هي : أن ، لن ، كي أو لكي ، لام التعليل ، إذن . مثلا : لن يفهمَ ، لكي يعرفوا الحقيقة ، يجب أن يأتيَ ، جاء لِيلتقيَ بهم ،والخ .
هذه هي بعض الملاحظات الاساسية التي ارتأيت ابرازها ، لان الحديث يطول كثيرا اذا تكلمنا عن  كتابة الهمزة وتعقيداتها ، او عن تمييز الاعداد ، والكلمات الممنوعة من الصرف ، والمبتدأ والخبر،  والافعال الناقصة ، والاحرف المشبهة بالفعل ، واوزان المبالغة ، وافعل التفضيل  ، والبدل ، والمستثنى  بإلاّ ، وعشرات المواضيع الاخرى .
انا اعرف بان المقال جاف بموضوعه ، وليس هناك ما يجذب القارئ ولكنها كانت رغبة قديمة في نفسي ولعلها  تفيد بعض المعنيين . اعتذر ان لم اكن قد أعطيت الموضوع كامل حقّه وكما يجب ، لأني انا ايضا وقعت في كثير من الاحيان ، ضحية حبائل هذه اللغة الجميلة ، والغنيّة ، ولكن الصعبة.


57
حلم أعادني إلى أيام الصِبا
شمعون كوسا

بغية قطع خيط افكاري التي فقدت تسلسلها لأنها كانت تقفز من سياج الديك الى حظيرة الحمار كما يقال ، خرجتُ هائما على وجهي  من جديد أسير على غير هدى . كانت قدماي قد استلمت زمام الامور فوضعتني على سكة لا يمكن الحياد عنها ،  سكة تحاذي المياه وتنتهي في اوسع مرتع فتحت فيه الطبيعة أحضانها عارضة  كامل سحرها وجمالها. بعد وقت قصير من مسيرتي على هذه السكّة، وجدتُ نفسي قبالة حائط شكلته مجموعة من الطيور، حشد كبير لم يكن بوسعي تجاوزه. توقفتُ قليلا لاستقصاء أمر هذه التظاهرة ، واذا بالطيور تتسابق في التقدم نحوي وكل واحد منهم يردّد  دون انقطاع كلمة أنا أنا . قلت  في نفسي ما بالُ هؤلاء الاخوة ؟ هل يرون فيّ صاحب مشروع   قصدهم لانتقاء عدد من الايدي العاملة لتنفيذ مشروعه مثلا ، كما يفعل بعض اصحاب المشاريع في الاسواق عند احتياجهم للعمال؟  جلب انتباهي بصورة خاصة طيرُ قد ارتدى بدلته ذات الالوان الهادئة، وقال لي : اليوم انا الذي سأقودك الى موقع جميل شاعري، في بقعة  لم تطأها قدماك قبل الان ، موضع تهطل عليه أمطار محمّلة بكثير من الالهام والاحلام .
تفرقّ الحشد وانتهت طلباته، مشيتُ والطيرَ قائدي الى ان بلغنا المنطقة المقصودة ، فتوجهت الى صخرة عريضة وجلست عليها .  بقي رئيسُ  تشريفاتي ذو الالوان الهادئة واقفا أمامي ينتظر.  رفعت انظاري واجلتها  بكل الاتجاهات ، وبعد فترة من الصمت ، قلت له : أين الالهام واين الاحلام التي وعدتني بها، هل تعرف باني خرجت لأستجدي افكارا تساعدني في كتابة مقال؟
قال لي : سوف اقول لك شيئا ، وأرجو ألاّ تغضب . ألا يكفيك ما كتبتَه لحدّ الان ؟ ماذا جنيت من كتاباتك ؟ لقد تناولتَ رجال الدين مرات عديدة في نقد بنّاء ، وكنت تحسب نفسك في كل مرة بانك فجّرت قنبلة ، ألمستَ تغييرا او فرقا فيمن كنت تقصدهم ؟ لقد كتبتَ عن الظواهر السلبية والعادات السيئة ، لقد كتبت عن الكذب والحسد والغيرة والتكبر  وتناولت موضوع الصداقة الحقيقية والقناعة والوفاء ، لقد بكيت لحالة البؤس ووصفتَ هول الكوارث التي اضحى أهلونا ضحية لها ، هل اصطلح شئ او تغيّر ؟ ومن جهة اخرى ، ماذا تحسب نفسك ؟ إعلم بانك لست سوى  ذرّة صغيرة في نقطة ماء في المحيط مقارنة بِمن سبقوك من ملايين المشاهير والحكماء والفلاسفة والكتّاب والمفكرين وقبلهم الانبياء . توالوا تباعا منذ آلاف السنين وكانت وصية واحدة ، بل كلمة واحدة كانوا قد أجمعوا عليها ، وهي المحبة ، وهذه الكلمة الوحيدة كانت كافية لإصلاح المجتمع وايقاف الخصومات بينهم ووضع حدّ للحروب واحلال الامن والسلام في العالم أجمع ،  هل ترى بأن البشرية اهتمت لهذه الكلمة وطاوعتها ولو قليلا ؟ وهل هي الان في حال افضل ؟ توقفَ الطيرُ هنا منتظرا جوابي ، فلم يكن بوسعي إلا ان أؤيده تماما واقول : ان ما تقوله هو عين الصواب.
قال لي : اذن لا تُجهد نفسك ، انظر وتمتع وتأمل بما خلقة الله. ابتعد عن صخب العيش ومنغّصات الحياة وتعقيداتها واحلم وعد الى لحظاتك السعيدة. قال هذا وابتعد قليلا . تأثرت بكلام الطير الحكيم هكذا ، وبينما كنت اتطلع الى السماء الزرقاء تابعت سحابة بيضاء كانت تقودها الرياح وكأنها ممسكة بها من رقبتها  لتذهب بها الى مكان مجهول .  تابعتُ حركة السحابة المقبوض عليها ، ولم افارق خط سيرها المتباعد  الى ان غـلبني نوع من النعاس.  اغمضت عينيّ وفي طرفة عين وجدت نفسي داخل شقلاوا القديمة ، وفي الزمن القديم الذي لم أكن  قد جاوزت فيه  العاشرة من عمري. عدتُ الى بلدتي شقلاوا ، التي كانت اجمل بقعة في العراق . وجدت نفسي بالتحديد في منطقة مهندسخانه التي تتّكئُ على جبل سورك المعروف بتربته الحمراء . عدتُ الى منطقة كنت أتمثّلها دوما ككرسي صلاة أو معبد مفتوح باتجاه جبل سفين . خلت نفسي  جاثيا ، أناجي هذا الجبل الاشمّ الذي بارتفاعه الشاهق وجبروته ، كان يضاهي آلهة اليونان القديمة التي تناولتها أساطيرهم في الكثير من مغامراتها  الخيالية!!!
رأيتُ بان الغيمة البيضاء التي ادخلتني في هذا الحلم قد استقرت  على قمة الجبل . فتذكرت حالا الساعات التي كان يكفهرّ فيها الجو وتتجمع الغيوم الكثيفة في هذا القمة وبعملية شبه سحرية تنقشع كقلنسوة بيضاء تزين رأس الجبل . وتذكرت ايضا ايام يشتدّ فيها البرد ليلا ، بعد ان يكون الجبل قد لبس ثوبه الطويل ، يقوم  بتفصيل  ما فاض عنه من نسيجه الابيض ، على مقاسات تضاريس المنطقة من تلال وآكام ومنخفضات وأحجار وأشجار.   
تذكرتُ صوتَ الرياح القوية التي ، كانت اثناء هبوبها بقوة في هذه المنطقة ومرورها بين اوراق الصنوبر الإبرية ، كانت تُحدث أزيزا وصوتا غريبا خاصا في كل كَرّ وفرّ . والجبل الازلي هذا قادني الى كنيستنا القديمة المشيدة في اعلى نقطة من سفحه . وكيف لي تصوّر الكنيسة بمعزل عن مام توما باتري وهو مُمسك بمفتاحها الخشبي . ومنظر مام توما باتري وضعني في أزقّة الدور الطينية التي كنا نسلكها صعودا للّحاق بمراسيم الاعياد التي كانت تقام في اوقات مبكرة جدا وهذا كان أحد اسباب سرورنا  . إن حلمي هذا يتناول زمناً كانت منازلنا بسيطة جدا وشوارعنا أزقة ، ولم يكن قد شوّهها العمران غير المدروس ، زمن كانت شقلاوا عامرة باشجارها المثمرة في الوادي وغاباتها الكثيفة في الجبل .
كان سكانها الاصليون يعيشون بسلام لانهم كانوا قد تشبّعوا من المحبة ، ولم يكن قد أمّها الأغراب الحاليين ، الذين لا يرون في هذه البقعة الجميلة غير مساحة ارض تتيح لهم تشييد بنايات ذات واجهات فخمة. تخيلت الشمس والمطر وحتى الغيوم تشكو منهم وتقول : لماذا لم يبقَ لساكني هذه البقعة نفس الشعور السابق ،  إننا لم نعد  نرى على وجوههم نفس السعادة  والترحيب بالرغم من أننا نحلّ عليهم  بنفس أشعتنا النيّرة  السابقة ونأتي بنفس امطارنا الغزيرة وثلوجنا ونحترم مواسمنا ؟
قبل ان اجيب على هذا التساؤل ، أحسستُ بشئ يلمسني ، ففتحت عينيّ على الطير الساحر الذي كان يحاول إيقاظي بواسطة جناحه . قلت له : كان فعلا حلما سعيدا جدا وانا شاكرك عليه ، ولكني سأتذكر دوما بانك قد الهيتني وانت كنت سبب غيابي عن الكتابة لهذه المرّة .  عند هذه الجملة الاخيرة  اختفى طائري بسرعة البرق .
 لم اعلم فعلا اذا كان هذا الطائر عصفورة حقيقية ، أم مرشدا روحيا ، أم جِنيّا ، أم مجرد منوّم مغناطيسي !!!   
.

58
جولة في عالم الابدية
شمعون كوسا

كلما أسمع نبأ وفاة أحد الاعزاء من الاقارب أو الاصدقاء ، أمنح نفسي ، كسائر البشر ،  فترة حداد ، وبعدها أدخل مخيّم صمت عميق يقودني الى تفكير ينتهي بنفس السؤال الذي اطرحه دوما : لماذا يموتُ الانسان ؟ لماذا يندثر كائن يحوي الدنيا بأكملها داخل عقله ، لماذا ينتهي بهذه السهولة ؟ ينطفأ نور عينيه ويتوقف تفكيره وابداعه ، فيغدو جثة هامدة. كان هذا العزيز الخيّر ، يتمتع برؤية الشمس واشعتها المسلّطة على جمال الطبيعة،  وينطرب لما هو شجيّ من الاصوات والالحان ، ويمتلأ حبورا عندما يفكر  ويحلل ويخطط  ويبني ، ويساهم في تطوير الحياة . يختفي هذا الكائن الجميل فجأة وتتوقف دقات قلبه بسبب مرض ، او حادث ، او أي سبب آخر.
واقول : قد نتفهّم هذا بالنسبة للحيوان ونقبل به ، ولكن ألا يستحق الانسان ، هذا الكائن العظيم ، حظّاً أوفر ؟  وهنا استدرك نفسي لأقول : وما فائدة بقاء الانسان في الحياة اذا لم يتمكن من الحفاظ على شبابه ؟ وأقول أيضا : يا ترى هل كانت ستتّسع الارض لإيواء مليارات المليارات من النفوس وإبقائهم على قيد الحياة منذ ملايين السنوات على منبسطة  لا تسع حاليا لأكثر من تسعة او عشرة مليارات .
بالرغم من عظمته وقيمته اللامتناهية ، يبقى الانسان مُعرَّضاً للفناء ولأتفه الاسباب .  لم يسلم احد من هذا الزوال ، لا الكبير ولا الصغير  ، ولا الفقير ولا الغني ، ولا الملوك ولا السلاطين ولا الحكام المتنفذين . اضمحلَ المطربون الاوائل ومعهم أصواتهم الجميلة والحانهم النادرة ، غادرنا من كانوا يملكون الدنيا ولم تسعفهم ثرواتهم الطائلة. اختفى من كانوا يتباهون بجمالهم وبشبابهم. كان هذا مصير آبائنا واجدادنا ومن قبلهم اجداد اجدادنا .   وهذا يقودنا الى استنتاج منطقي مفاده  بان الانسان يبقى دوما توّاقا للخلود ، انه يصبو الى عالم آخر يتكامل فيه ،  ويحقق فيه سعادة روحية لم تقوَ  الارض على توفيرها له.
قد يقول البعض ، وما هذا التشاؤم وهذه الكآبة ، وهل هناك من يفكر بهذا الموضوع ويكتب عنه ، اليس هذا نذير شؤم ؟ انا شخصيا افكر كثيرا في الموت  وأقبل فكرة ان توافيَني المنيّة في اية لحظة ، وهذا لا يعني البتّة باني لا احب الحياة ، بل اني مغرم بها وبجمالها واصواتها والحانها وبودّي ان تستمر هذه الشمس وهذا الصحو الجميل الى الابد ، ولي مع مواسم الطبيعة مواعيد لا يشعر بقمة سعادتها الخاصة غيري أنا ، ومناي ان تتوالي هذه اللحظات بالذات في الحياة الابدية ، ولكن الحقيقة التي لا مناص منها ولا جدال فيها هي ان كل هذا زائل ونحن  معه زائلون ، مسافرون ، وقد تكون هذه من أصدق الحقائق .
أمام هذا الواقع وهذه الحقيقة ، انا  شخصيا أجدُ في الموت حلا عادلا كونه لا يستثني أحداً ، ولا يحابي لا القويّ ولا الثري ولا المتسلط . ليس هناك من هو افضل من غيره ، والذي لم تنصفه هذه الحياة ، لا ينظر الى جاره المحظوظ  والميسور  بعين الحسد ، لانه على يقين من هذه الحقيقة  وهو أن الدنيا كلها آيلة للزوال ، فعُسر المظلوم  زائل بالضبط  كما يزول يُسر جاره . 
وبما اني لا استطيع لجم خيالي  ، فانه قادني وبطرفة عين امام باب الخلود . كنت في احدى كتاباتي السابقة قد قصدت الابدية في جولة والتقيتُ هناك بجدي ، ودار بيننا حديث شيّق . هذه المرة كنت أحمل مجموعة كبيرة من الاسئلة عن يوم القيامة ، يوم يمثل فيه جميع الناس ، بنفسهم وجسدهم ،  لتلقّي الاحكام الصادرة بحقهم .   
كان لقائي مع نفس الملاك الذي كان قد سمح لي في الدخول عندما عرف بأني حفيد ذاك الجدّ الطيب الذي أحبّ الناس وأحبّ الحياة. بعدما ذكرتُ للملاك هدف زيارتي ، قال لي : دوّن اسئلتك واسردها تباعا كي ننظر فيها .
بدأت بالقول : ان البشرية قد ابتدأت منذ ملايين السنين ، والابدية مبدئيا هي للجميع ، من أيّ تاريخ يُعتبر الانسان خاضعا لهذه المحاسبة ؟
هل الشخص الذي وُلِد معاقا أو أصيب باعاقة في حياته ،  سيمثل بنفس عوقه ام يكون قد استقام في ذلك اليوم ؟
هل الطاعن في السن يحضر بنفس العمر الذي توفي فيه ، ام انه يتخذ عمرا آخر ، والتساؤل نفسه  صحيح بالنسبة للذي فارق الحياة وهو شاب ، والذي توفي وهو طفل ؟
هل الرجل الاسود يحتفظ ببشرته السوداء أم سيتخذ وجها نورانيا ، لاننا سمعنا بان اللون الابيض هو الطاغي بين الملائكة ؟
هل سيصطفّ كافة القديسين بمختلف اسمائهم وجنسياتهم  مع عامة الناس؟
هل يتمّ فصل الحكام الطغاة عن رعاياهم ؟
اذا كان الحكم يصدر بحق الانسان مباشرة بعد موته ، هل سيخرج المحكومون   في جهنم ، ليحضروا الحكم المتخذ بحقهم في يوم القيامة ؟
الا يِخشى ، في هذا اللقاء ، من ان ينقضّ  الاعداء على بعضهم البعض ؟
والذين انعدمت حياتهم وفقدوا كافة اعضائهم او تعرضوا للحرق كاملا ، هل سيعثرون على ما فقدوه ؟
هل سيلتقي العشاق من بين من جار عليهم الزمن او ظلمهم اهلهم ؟
هل يحتفظ  ذوو الاصوات الجميلة بأصواتهم هناك ، على الاقل للاشتراك في تراتيل الملائكة الشجية مثلا ؟!!
وأين تكون القيامة ؟ وهل تكون ارضنا هذه دار حكم  للاحياء والاموات وهل تسع لذلك ؟
قال لي الملاك : هل انتهيت ؟ قلت له نعم . قال لي بابتسامة خفيفة :  ما لك وهذه الامور ، انك لا تحتاج لمعرفة كل هذا لان يوم القيامة ليس وشيكاً ، وتأكّد بأنك ستحلّ ضيفاً علينا قبل ذلك بكثير . وقال لي أيضا :  انا ادعوك للعودة من حيث اتيت لتتمتع بكل لحظة من حياتك كانسان صالح .  عند هذا تركت الخيال ، فتحت عينيّ ، ووجدت نفسي أمام مقال قد اكتمل !!



59
تطوع الكلاب في خدمة المعوقين
شمعون كوسا

قبل أكثر من شهر حدثني صديق عن ظاهرة اثارت انتباهه بصورة خاصة وقال : وجدت نفسي بجانب فتاة جميلة واقفة مثلي داخل الترامواي لشدة الزحام ، وكان قد جثا عند قدمي الفتاة  كلب جميل من صنف (اللابرادور) يحمل على ظهره قطعة زرقاء  تفيد بان الكلب يتابع دورة تدريبية في مجال اصطحاب الشخص المعاق وتسهيل حياته اليومية. قال صديقي : بما اني لم أصادف مثل هذا الصنف الخاص من الكلاب  ، دعاني فضولي للاستفهام  ومعرفة المزيد . اعتذرت للفتاة لجرأتي ،  ورجوتها ان تشرح لي قليلا عن هذا الموضوع المثير. فقالت لي بانها مختصة في تدريب كلاب تمّ اختيارهم للانخراط في دورة تدريبية تتكلل  بشهادة تؤهلهم لمرافقة الاشخاص الذين يتحركون على عربة  ، ومساعدتهم في حياتهم اليومية . اثناء حديث الفتاة ، كان المتدرّب ساكنا لا يتحرك ، وعند بلوغها  محطة النزول ،  طلبتُ منها إن مانت  تتحملني في مرافقتها قليلا لمعاينة الكلب ميدانيّاً.
سرتُ مع المعلمة قليلا ، وبعد ثلاث دقائق فقط رأيتُ الكلب يعدو مُسرعاً نحو شخص كانت قد سقط  من عربته على الارض . كان هذا النشاط ضمن منهاج التدريب ومن التطبيقات المهمة التي يحوز الكلب من خلالها على نقاط تقديرية مهمّة. بدأ الكلب يتشمّم المعوق وبتحسسه من كل الجهات ، فيهزّ ذنبه ويلتفت يمنة ويسرى ، وبما انه غيرُ قادرٍ على حمله ، جرى في جميع الاتجاهات مستنفراً بعض المارّة ، وعندما لم يلحظ اكتراثاً ، عاود الكرّة بإلحاح مستنجدا بشخصين واقفين بالقرب من هناك ،  فأنتبه  احدهم لإلحاحه ورافقه لحمل الشخص المعوق الساقط على الارض  واعادته الى مقعده في العربة . عند وصولي الى  موقع الحدث ، رأيتُ الكلب يهزّ ذنبه ويلتفت  الى مدرّبته وكأنه يطلب تقييمها لما قام به ، واذا كان قد نال رضاها فعلا ، فقبّلته المدربة وربتت على ظهره . توجهت بدوري الى المعوق وسألته عن حالته ، فطمْأنني ولكنه قال  : تصوّر يا أخي باني ومنذ ربع ساعة انادي  العديد من الشباب الذين مرّوا امامي ولكنهم كانوا في عالم غير عالمي ، وهذا الحيوان الشريف هو الذي التقط ندائي من بعيد وهرع  لنجدتي . واضاف ايضا بتأثر عميق : هل بدأ انساننا الحالي يفقد  انسانيته تاركا هذا الشعور النبيل الى  الحيوان الذي يقوم به دون مقابل ؟!!
بعد هذا قالت لي السيدة : أراك مولعا حقا بهذا الموضوع ، لماذا لا ترافقنا الى بيت أحد المُعاقين المُدرجين ضمن برنامج تدريبنا لهذا اليوم ، فترى المستوى الذي بلغه طالبنا في تأدية خدماته المتنوعة.
ذكرتْ لي المدرّبة بين قوسين ،  بان الكلب دخل دورة التدريب هذه بعد ان امضى سنتين عند عائلة منذ الشهر الثاني من عمره ، وهذا من ضمن شروط قبوله  في الدورة التدريبية .
كان الشخص المعاق على علم بمقدم الكلب ومدربته ولذا لم يكن قد اقفل الباب. سبَقَنا الكلبُ وأمسك بقبضة الباب وفتحها.  وبعد أن رجع ببُطء الى الخلف ليفسح لنا مجال الدخول ،  توجه الى الشخص المعاق وهبّ نحوه يلحسه بلسانه ويضع رجليه على ركبتيه . طلب منه الاخ المُعاق ان يجلب له جهاز فتح التلفاز (الريموت) من غرفة مجاورة ، فهرع الكلب وأتى به حاملا اياه  بين اسنانه دون ترك أيّ أثر عليه.
قالت لي الفتاة بان الكلب يَلقى تدريبا على القيام بما يقارب خمسين خدمة  يصعب على الشخص المعاق القيام بها ،  كالتقاط  حاجات على الارض ، او في مكان مرتفع او حتى في الخزانة ، وقد تكون الحاجة جواز السفر او عوينات أو ما شابه ، يأتي بها تلميذنا الشاطر دون الاضرار بها.
وبما ان الزيارة كانت تتزامن مع يوم الامتحان المخصص لاختبار معلومات  الكلب العملية ، وعلى أثرها  سيتم تعيينه في خدمة هذا الشخص المعاق بالذات ، تمّ تكليفه بالبحث عن بطاقة الاعتماد . تلقى الكلب السؤال بارتياح شديد ، وتحرك  بسرعة لإخراج البطاقة من محفظة موضوعة في احدى زوايا الصالة هناك . عند استفساري عن كيفية التوصل الى هذه المعرفة قالت لي الفتاة : هناك حركات وكلمات متفق عليها يتعلمها الكلب تدريجيا ، كما ان صاحب الكلب ايضا ينخرط في دورة في هذا المجال للاطلاع على الاساليب او الكلمات او الحركات الخاصة في هذا الموضوع .
خرجنا كلنا من البيت مع الشخص المعاق الذي كان يتحرك وهو على عربة ، حيث أن الكلب مخصص حصراً لمن يستخدمون العربة ، فقام الكلاب بأغلاق الخزانات المفتوحة ، وأوصد الباب بعد خروجنا . توجهنا الى دائرة البريد القريبة من البيت ، حيث كان على المعاق ارسال بطاقة بريدية الى احد اصدقائه . كان يتصرف الكلب وكأنه رئيس تشريفات ، يتقدمنا ويفتح الباب ثم ينحني راجعا الى الوراء . بإشارة بسيطة من صاحبه ،  ذهب الى منصة ووقف على رجليه وجلب له ظرفا ، وعندما كتب صاحبنا العنوان ، بواسطة يده اليمنى التي كانت  سالمة . ذهب الكلب الى الموظف المسؤول الذي عرف الطلب  ، فناوله الطابع واضعا اياه على لسانه ، عند الانتهاء من العملية ،  استلم الكلب الرسالة وبعد عن انتصب واقفاً  على رجليه ، أودعها صندوق البريد.
بعد ذلك كان التوجه نحو مخزن لشراء احتياجات المنزل ، فكانت اشارة صغيرة تكفي لكي يقوم الكلب بجلب الحاجة ، واحيانا يلتقطها من رفوف عالية . عند حدوث أخطاء بسيطة، تُعالج المدربة ذلك بمجرد نظرة ، أو كلمة أو حركة صغيرة ، فيقوم الطالب بتصحيح  الخطأ .
قالت لي المدربة ، التي عرفتُ فيما بعد بان اسمها  ايزابيل ، قالت بان الكلب هو المرافق والصديق الوفي لهذا الشخص المعاق . اننا نلاحظ بان حياة هؤلاء المعاقين تتغير جذريا بعد حصولهم على هذه الكلاب المدربة ، وكأنهم قد عثروا على شريك حياتهم او صديق عزيز جدا . والعلاقة تذهب ابعد من  الخدمات لتتحول الى  علاقة عاطفية ، وهذا العلاقة الوثيقة  يمكن ملاحظتها لدى الطرفين .
ان هذا النوع من الكلاب يساهم في إدماج الشخص المعاق في المجتمع لانه يمكّنه من القيام بما لا يقوى عليه في الكثير من المجالات . ألا يعوّضه أيضا في حياته معه عن شبه حنان ضروري ، لم يحصل عليه من كائن آخر بمثل هذا الصدق والحماس؟
عند انتهاء صديقي من سرده للقصة قال : ألا ترى بان الكلب هنا يلتقط  ما اضاعه بعض الناس من شعورهم  الانساني . حيوان يقوم بخدمة انسان معاق بصورة غريزية مكتسبة.  يسعفه، يرافقه ، ويساعده  في الكثير من حاجاته اليومية ، ويقوم بذلك بكل سرور وارتياح ،  وكل هذا دون أيّ مقابل . إنّ الطبيعة متكاملة ، وما تقاعس الانسان العاقل عن القيام به ، يأتي الحيوان غير الناطق ليكتسب بعض هذا العقل من أجل سدّ الفراغ ومعالجة هذا التقصير . تحياتي لهذا الكلب الذي ، علمنا  فيما بعد ، بانه كان من الاوائل على دورته !!.

60
صرعات المظهر والملبس وما استجدّ فيها
شمعون كوسا

لعلني ابدو غريبا في تناولي موضوعاً بعيدا جدا عمّا تمرّ به منطقتنا هذه الايام ، غير اني لم اكن يوما من محللي الاحداث ، لا سيما وانه لم يعد هناك منطق للتحليل ولا قاعدة او اساس يمكن الاستناد اليها او البناء علها . أنهم يُعلّـلوننا بالآمال فنرقبها ، واذا بنا  لا نحصد إلا الخيبة ، لان القادم الذي بشّروا به يكون  اشدّ ظلاما . خشية الاسترسال في مقدمة قد تتحول الى مقال ، اعود الى خطٍّ  قادني في الكثير من كتاباتي  ، ألا وهو رصد المظاهر والظواهر ، لانتقاء ما يستوجب الانتقاد بعد أن أكسوَه بنسيج شفاف من السخرية. هناك ظاهرة تشغلني منذ زمن طويل وباتت تسترعي انتباهي اكثر فاكثر  لتطورها السريع  بالرغم من غرابتها . 
منذ سنوات عديدة نرى البنطال ، لا سيما النوع الذي يدعى بـ (الجينس) ، قد تعرّض الى صرعة جديدة غريبة.  في يوم من ايام الله ، أبصرنا بعض ثقوب في البنطال ،  فقلنا : لابد ان لابسه قد تعرض لحادث أدّى الى تمزّقه . بعد ذلك بشهرين  ونصف ، رأينا أشخاصا آخرين وقد اتّسخت بناطيلهم وتغيّر لونها ، فقلنا : لا بدّ انّ هؤلاء قادمون من مطحنة او من مصبغة جعلتهم يتعرضون لغبار القمح او لاحتكاك أخر جعل بناطيلهم تبدو بهذا المظهر غير اللائق . غير أنّ الظاهرة لم تتوقف عند حدّ ، كما تضاعف  مناصروها ، الى ان تحولت الى اسلوب او تقليعة عصرية رسمية في هذا النوع من الملبس .
لقد شاهدتُ تقارير عن مصانع نسيج  تستخدم مواد كيماوية خاصة لتغيير اللون الازرق لكي يبدوا مستعملا .  تتناول المكائن قطعة النسيج وتسحبها من كافة جوانبها وتحكّها بشدة  بمؤازرة  مواد كيماوية مريبة ، ولقد سمعتُ مؤخرا بان الكثير من هذه المواد مضرّ بالصحة .  قطعة النسيج تخضع لهذه القساوة في المصنع  والهدف ليس سوى جعل المولود الجديد  يبان بعمر تسع سنوات على الاقل منذ ولادته !!!  اما عن الثقوب والمناطق الممزقة في  البناطيل ، فحدّث  ولا حرج ، لان  العبرة اصبحت في التسابق  والتفنّن في الخَرق والتمزيق بصورة عشوائية. لقد ذكّرتني هذه الظاهرة باللغة اللاتينية ، حيث قيل لنا في حينه بان زيادة التعقيد في صياغة الجملة اللاتينية يُضفي عليها جمالا لغويا وادبيا !!  رأيتُ احدهم وقد خرج جيبُه الداخلي من مكانه. ورأيت آخرين وقد تركوا قطعا ممزقة كبيرة تتدلى متحركة ذات اليمين وذات الشمال متعلقة ببعض الخيوط . وبما ان المباراة مفتوحة امام من يزيد في اساليب التمزيق ، فان قسما من البنات ينتهزن الفرصة لإحداث ثقوب تكشف عن أبعد حيّز مسموح به.
اذا تركنا مؤقتا هذه الظاهرة ، نتحول الى الظاهرة الاخرى التي لا تقلّ غرابة عن سابقتها ، وهي  الوشم او التوشّم ، أو ما يدعى بـ (التاتو) . كنا نرى بعض هذا التوشم على شاكلة نقاط  يتم رسمها على بعض الاذرع او الوجوه ، لا سيما عند النساء العرب ، او على شكل صليب صغير منقوش على الذراع لدى زوار القدس ، أو ارقام غير قابلة للمحو توضع  كوشم على يد الاسرى من اليهود وغيرهم إبان الحرب العالمية الثانية ، هذا ما يقوله لنا تاريخنا الحديث .
كانت بداية هذه الظاهرة ايضا  هادئة ، غير انها لم تتأخر في استمالة الناس وغزت عالم  الشباب . قد يختار المرء نقش زهرة جميلة او عبارة قصيرة او رمز يحتفظ به  كذكرى عزيزة ،  ولكن ما نشاهده الان هو ملحمة كاملة يتم التعبير عنها برسوم وعلامات غريبة تطبع كلوحة على جسم الشاب . انها صور وكتابات ، أو رسوم حيوانات ووجوه ابطال ، او لقطات تم اقتباسها من بعض الافلام . والغريب في الامر،  انها لا تكتفي بمنطقة معينة في الجسم ولكنها تغطّي مساحة كبيرة من الجسم الى حدّ تشويهه . 
اننا نرى بَشَرةً  ناصعة البياض وجسما جميلا ، وقد غطّته كتابات وصور ورسوم سوداء ، وكأن صاحبه  توّاق لما يسوّده ويوسّخه. أنا استغرب كثيرا لمنظر بنات قد شوّهن سيقانهن بهذه الاوشام السوداء التي غطت الاطراف ، او الصدر او حتى الظهر ، واماكن اخرى لا سبيل لذكرها . كنّا في السابق نرى هذا السواد   كشائبة أو أدران  يجب غسلها والتخلص منها.
واذا تركنا هذه الظاهرة الاخرى مؤقتا ، ننتقل الى ثقوب من نوع آخر تستقبل حلقات أو أقراط أو وسائل اخرى يُفترض انها للزينة. كانت مظاهر التبرّج  العادية مقبولة ومطلوبة عند المرأة ، ولكن الظاهرة قد قفزت الان داخل سياج الشباب . ولم يعد هناك فرق بين الرجل والمرأة في هذا المجال. فالقَرط الذي كان يزين أرنبة اذن المرأة لا يفي بالغرض ويجب ان تُكلل  حافات صيوان الاذن باقراط وحلقات اخرى عديدة سواء عند الرجال أم النساء. لقد اضحى الجسم يحمل ثقوبا عديدة في الوجه  والانف والاذن والشفاه واللسان والبطن ومناطق اخرى . هناك بعض التفاصيل تدعو للاشمئزاز . ترى البعض وقد وضعوا حلقة تربط فتحَتَى انفهم ، فيبدون  وكأن انفهم قد سال وابقى نقطة من المخاط  معلقة تحته !! وهناك من تراه وقد ثبّتَ خرزة صغيرة بيضاء في إحدى طرفي انفه بحيث تبدو وكأنها حبة مليئة بالقيح . أو مسامير صغيرة اخرى في اسفل الشفتين وكأن الشخص قد تعرض لحمّى ساخنة  في الليل فظهرت عليه  حبوب عند طرفي شفتيه . انا استغرب كيف يتحمل المرأ ان يتحمل خرزة مزروعة في لسانه ؟ إنّ ما كان قبيحا وغير مستحب سابقا اضحى الان  جميلا  .
ويتحمل اصحاب هذه الثقوب والاوشام مسؤولية إبراز ما خُطّ على ذراعهم ، او على البطن او السرّة. أما الذين سطّروا ملاحم او لقطات أفلام على جسمهم ، فانهم  وبالرغم من البرد يفتحون ألبوم  صدورهم وظهورهم  ، واذا سألهم احد عما اذا كان البرد لا يؤثر عليهم  ،  يقولون بانهم شباب وبان  الرياضة مفيدة للجسم !!!

بعد سرد بعض هذه التعليقات ،  اقول : أين ستُفضي  بنا هذه الصرعات الجديدة . لقد انقلبتِ المفاهيم وتغيرت المعاني ، فالأسود اضحى أبيضَ ، والقبيح صار جميلا ، وغير الطبيعي بات طبيعيا،  والعجيب والغريب أمسى في ايامنا لا يدعو للغرابة او الاستهجان ، بل صار هو العادي والمنصوح به ، بحيث من سوّلت له نفسه بمجانبته  يضع نفسه في صفّ  المتخلفين  وذوي العقول المتحجرة .
ولكي اذهب بعيدا برؤيتي مستعيناً بابتسامة خفيفة  ، اقول : سوف يأتي يوم ، لن نرى في الحفلات سوى ثيابا ممزقة ، والمكافأة سينالها من برع في التخريق والتمزيق والتثقيب،  لان الظاهرة  ستتجاوز البنطال المتهرّئ والممزّق الى الكنزات والمعاطف والستر والقمصان.  وبنفس الابتسامة الخفيفة ، ارى بعض اصحاب الحفلات وقد وضعوا مقصّا بيد المسؤول عن باب قاعة الاحتفال ، لكي يقوم بقص وتمزيق ثياب أتت جميلة نظيفة كاملة !! 
وبما اننا في صدد التنبؤ ، أقول ايضا : سوف يأتي يوم   لن نرى الفرق بين المتشرد والانسان العادي ، وقد تنعكس الامور : الانسان العادي يغدو ممزق الثياب وشبيها بالشحاذ ، والمتشرد لا يُعترف به مُشرّدا إلا اذا ارتدى ثيابا نظيفة ولائقة جدا !!


61
الغناء سِرُّ الوجود
شمعون كوسا

 هناك في حياتنا أوقات لا تدعو الى التفاؤل ، وهذا ليس غريبا في أيامنا هذه. نلجأ الى المذياع مثلا في الصباح ، فتستقبلنا محطة لا تبثّ سوى أخبار المرشحين للرئاسة في فرنسا . المرشحون هم أنفسهم ، أزلام الامس وأول الامس، رؤساء سابقين او وزراء او نواب لا يبارحون الساحة . كلّ مرشح يقوم بعرض برنامجه . ويقطع من جديد نفس الوعود التي لم ينفذها من قبل ، تتعزّز الوعود بتعهدات جديدة ينطقون بها تحت الشرف. عند سماع الناس لكلمة الشرف والايمان التي ترافقها ، يبدأون بابتسامة خفيفة ،  تتحوّل حالا  الى ضحك ومن بعدها الى قهقهة مدوّية ، لانهم أصلا لا يصدقون حرفا مما يقال لهم ، وكلمة الشرف ، لا تزيدهم الا قناعة بان الكلام كذب في كذب!!
في محطة اخرى ، نسمع  عن مأساة  مهاجرين ركبوا البحر ، غير آبهين بهوله وقساوته ، لان هدفهم الوحيد هو الابتعاد عن اوطانهم وظلم حُكّامهم. وصفُ مؤلم لأعداد كبيرة غامرت على قوارب لا تسع لنصف من ركبوها. يتمّ إنقاذ  البعض منهم فيصلون الى برّ الامان ، ولكن قسماً كبيراً منهم  ، وجلّهم  من النساء والاطفال ، يكونون على موعد مع فم البحر الفاغر ، الذي ابتلع بواخر باكملها ولم يشبع .
ننتقل الى الصحف ، فنقرأ في  الشأن العراقي عن تصريحات قادته الذين يَعدون الناس خيرا ويبشرون أهل الموصل  بفرج قريب . يتكلمون بقوة وكأنّ زمام أمورهم  باتت بيدهم ، متناسين بان ابسط الناس يعلمون بانهم لا ينفذّون غير ما أملاه عليهم مُخرج هذه المسرحية السمجة  التي كما يبدو، آن أوان إنهائها . مسرحية ستنتهي بثمن باهض ،  لتترك المجال لمسرحية اخرى ليست اقل شراسة . ستكون مرحلة مخصصة لتوزيع الغنائم على ذئاب تقاطروا من داخل البلد وخارجه .  وبعد ذلك يأتي الذين وُعِدوا بالبشرى ، أصحاب الحق والمال ، كي يجدوا  الدار خاوية خالية .
وفي صفحة اقتصادية ، نستخلص  ممّا نقرأه ، بانه بالرغم من الثروات الطائلة التي تمتلكها أغلبية  الدول ، يستمر الناس في العيش تحت معدلات الفقر وبأن  معدلات بطالتهم  في ازدياد مطّرد. في الكثير من الدول النامية التي تتظاهر بالديمقراطية ، نرى المسؤولين قد اقاموا أنفسهم قيّمين على الثروات ، يقومون بالسطو على كل الخيرات ويلقون بالفضلات  الى رعاياهم مثل الكلاب . هؤلاء  يعتبرون نفسهم وكلاء االله على الارض ، ويستغلّون  بساطة الناس ، إيمانهم  وقناعتهم ، ويقولون لهم بخشوع تام ان الله كفيل  بإعالتهم ، أو كما يقال بالعامية (الله يعطيكم) . ومثل هؤلاء الطغاة  حريصون كل الحرص على إبقاء رعاياهم السذّج بهذا الاستعداد وهذا الاعتقاد الاعمى . 
وفي صفحة اخرى عن أخبار جماعتنا ، نرى بان الاهتمام متزايد بالتكتلات والرابطات ، وكأنّ هذه التشكيلات هي التي ستجد لنا حلّا نهائيا لما نشكو منه  في حياتنا . بالرغم من ضآلة عددنا ،  نبحث عن عناوين جديدة تزيد من تشتّتنا وتشرذمنا. وسؤالي هنا ، وهومن قبيل الفضول ليس إلاّ،  ولعلي أكون مخطئاً كوني  لست على بيّنة تامة من هذه الامور ـ أتساءل بكل براءة وأقول : هل إنّ اعضاء الرابطة  يُتقنون اللغة الكلدانية الفصحى التي يرغبون في حمل اسمها ومسؤوليتها ؟ هل يعرفون مثلا حروفها وحركاتها وقواعدها ؟ هل يعرفون بان الموصوف  هو (المشتمهانة) والصفة (شوماها) ؟ والاسم المذكر والمؤنث هما (دخرانايا ونقبثانايا) ؟ وهل هم على بينة ممّا شذّ في تأنيث الاسماء والصفات ؟ هل قرأوا عن الافعال في صيغتيها المعلومة والمجهولة ؟ وهل يعرفون كيف يجزم الحرف الاخير من الاسم المضاف ؟  وهل قد إطّـلعوا على باب التقشية والتركيخ (الحروف الجافة واللينة) وهل يعرفون ما هي  الحروف المعنية بهذه القاعدة ؟ وكل الفصول الاخرى من القواعد التي لا بد من تعلمها لمعرفة اللغة الارامية . هل ان الهدف هو المحافظة على اللغة الكلدانية ، أم هو لإثبات تواصلنا مع شرايين المنجّمين الاوائل من الكلدان  دون انقطاع في سريان نفس الدم ؟!!

تركتُ الاذاعاتِ والصحفَ ومواضيعَها ،  وتناولت الناي الخشبي الذي كنت احتفظ به منذ صباي وتوجهت الى رابية قريبة .  تناولت الناي وعزفت بعض الحان جميلة  اعتدت عليها . وهل يمكن ان ينعزل العزف عن الغناء ؟ اخذتني رغبة عارمة  في الغناء ، فاطلقت العنان لصوتي  وكأني في الايام الاولى من شبابي . كنت بحاجة الى هذا الصوت العالي . فغنيت لنفسي  وللطبيعة  وللحياة ،  تناولت تلقائيا حزمة من ابدع تراتيل الطقس الكلداني ، تراتيل كانت قد ألهبتني في حينها . وقادتني هذه التراتيل الى مقامات حرّة استخدمت فيها ما حفظته من اشعار ومقاطع نثرية   لجبران خليل جبران ، وميخائيل نعيمة ، وايليا أبو ماضي ، كتّاب وشعراء ومفكرين أُجِلّهم كثيرا  ولا اشبع من قراءتهم لما يحملونه من فكر جميل واحساس صادق  ومشاعر نبيلة تجاه الحياة والناس .
كنت منطربا فعلا ، فانتقل من لحن الى لحن . وأنظاري تخاطب السماء وفضائها الواسع اللامحدود ، لم يكن يسمعني غير الطيور وبعض الآكام التي كانت تجول بالصوت طويلا قبل إعادة اصدائه.
مكثتُ على هذه الحال  الى ان استقرت نفسي واحسست بالهدوء والاطمئنان .  تناولت الناي من جديد في لحن وداعي أخير ، وعندها قلت في نفسي :  فعلا ان ما يقوله جبران بفم فيروز في رائعة (اعطني الناي وغنّ)  هو عين الحقيقة ، لان الغناء هو عالم الاصالة والنزاهة والصدق ، إنه مجال خالٍ من الانانية والحقد والحسد والكراهية والكذب ، ولاجله يبقى أنينه خالداً  حتى بعد أن يفنى الوجود .  وأصدق دليل على ذلك ، هو اننا لا زلنا ننطرب  لأصوات جميلة والحان أصيلة قيلت قبل عشرات  او حتى مئات السنوات . أليس كذلك ؟
.

62
من الرسائل الفارسية  لمونتيسكيو
شمعون كوسا

يُدرِج الاديبُ الفرنسي مونتيسكيو ، في كتابه الذي ألـّفه سنة 1792 بعنوان الرسائل الفارسية ، رسالةً لاحد أمراء بلاد فارس واسمه اوزبيك ، وجّهها لصديقه ميرزا في اصفهان . كان هذا الامير قد ابتعد عن البلاد بحثا عن المزيد من التفكير والمعرفة  والانفتاح على حضارات اخرى ومنها الاوربية . اخترتُ هذه الرسالة للدروس البليغة التي تضمنتها، فهي تقول:

إنك تعلم يا ميرزا بان بعض وزراء الشاه سليمان الثاني (1666-1694) كانوا قد رسموا خطة لإرغام جميع الارمن في بلاد الفارس على ترك البلاد ما لَم يهتدوا الى الديانة الاسلامية . كان يعتقد هؤلاء بان إمبراطوريتنا تبقى مدنّسة طالما تواجد هؤلاء الكفرة فيها. من المؤكد أنّ عظمة الامبراطورية كانت ستزول لو كان هذا التديّن الأعمى قد وجد في حينه من يسمعه ويستجيب له . لانعرف كيف فشل هذا المخطط  ذو النتائج السيئة . الصدفة وحدها كانت قد قامت بدور العقل والسياسة ، وانقذت الامبراطورية من خطر كانت شدّة  عواقبه أفدح من الفشل في معركة ، أو خسارة مدينتين .
إبعاد الارمن كان سيؤدّي الى القضاء ، وبيوم واحد ، على جميع التجّار وحرفيي المملكة . انا على يقين بان الشاه عباس الكبير (1587 – 1629) كان يفضّل قطع يديه من أن يوقّع على مثل هذا الامر . لأنه كان واثقاً  بانه بإبعاده  رعاياه هؤلاء ، ذوي المهارة العالية ، نحو بلاد المغول او بلاد الهند ، كان سيبدو وكأنه عازم على التخلّي عن نصف مملكته .
الاضطهادات التي مورست في حينه ، من قبل جماعتنا المسلمين المهووسين ، ضدّ الزرادشتيين ، أرغمت هؤلاء على التحوّل بأعداد هائلة الى بلاد الهند ، وبهذا خسرت بلاد فارس هؤلاء المواطنين المنصبّين على أعمال الفلاحة ، والذين كانوا وحدهم قادرين على معالجة  أراضينا القاحلة واستصلاحها .
لم يكن قد بقي في جعبة تقوانا المُبالَغ بها ، سوى ضربة واحدة فقط  للقضاء على قطاع الصناعة ، وهذه كانت ستضمن لهم  حتمية سقوط الامبراطورية ومعها  الديانة التي كانوا عازمين على المساهمة في ازدهارها .
صديقي العزيز ميرزا ، إذا فكرنا دون تحيّز ، ألا نتوصل الى قناعة بانه  من الافضل ان تتواجد عدة ديانات في نفس الدولة ؟ نلاحظ بان الذين يعيشون في ظلّ ديانات مُجازة يفيدون بلدهم اكثر ممّن يعيشون في ظلّ ديانة واحدة مهيمنة، لأنه اذا لم تمنحهم المجالس والصالونات شيئا لانهم بعيدون عنها ، ولم يكن امامهم غير التميّز بثرواتهم ودرجات رفاهيتهم ، فانهم كانوا سيندفعون بكل جوارحهم الى تحقيق هذه النتائج من خلال عملهم ، ويقومون بممارسة أصعب المهام في المجتمع لتحقيق ذلك.
من جهة اخرى ، بما ان جميع الديانات تنادي بمبادئ مفيدة للمجتمع ، من الحَسَن أن تُمارس بصدق وحرارة. وفي هذه الحالة ، ما الذي يساهم في شحذ هذه الغيرة اكثر من تعدّدها ؟
لقد لاحظنا بان إدخال دين جديد في الدولة هو أنجع وسيلة لإصلاح تجاوزات الدين القديم. لربما نعتقد بانه ليس من مصلحة الملك قبول عدة مذاهب في دولته ، غير انه اذا اجتمعت كافة ديانات الدنيا في دولته ، فانه لن يكون أي ضرر من ذلك ، لأنه لا يوجد هناك أيّ معتقد يدعو الى غير الخضوع للرؤساء وإطاعتهم .
أنا اعترف بان التأريخ عامر بحروب الديانات ، ولكن يجب الانتباه  بانه ليس تعدّد الديانات الذي أدّى الى اندلاع هذه الحروب ، ولكن عدم التسامح هو الذي ألهب الديانة التي تعتبر نفسها المهيمنة .
انها روح الدعوة او التبشير التي  اقتبسها اليهود من المصريين ، والتي تسربت بواسطتهم  كمرض شعبي خطير الى المسلمين والمسيحيين ، هي التي تتحول الى دوار، إذا تركناه يتطور ، فانه لا يمكن ان يؤدي إلاّ الى كسوف تامّ  للعقل البشري .
إن من يطلب مني تغيير ديني ، فانه لا يقوم بذلك إلاّ  لأنه لا يقبل تغيير دينه  اذا تم ارغامه على ذلك ، ولأجل هذا فانه يستغرب من عدم قيامي  بعمل شيء  لا يقوم به هو نفسه ، لربما من اجل السيطرة على العالم .   (انتهى) .
لقد اخترتُ هذه الرسالة من بين مائة وواحد وستين رسالة ، يُعتقَد بان المؤلف صاغها كرواية ، تنتقل مواضيعها بين الفلسفة والسياسة والادب والدين .  ترجمتُ الرسالة لارتباطها بما نشاهده حاليا من انحرافات داخل مجتمعنا المهووس.



63
المنبر الحر / زيارتي الى لورد
« في: 01:22 10/08/2016  »
زيارتي الى لورد
شمعون كوسا

كانت زيارتي الاخيرة هذه ، هي السابعة في سلسلة زياراتي الى لورد . لم تكن تقواي التي دفعتني لهذه الزيارات ، باستثناء الزيارة الاولى التي تمت بإشراف مؤسسة الاغاثة الكاثوليكية ، زيارة مؤطّرة تخللتها صلوات وقراءات وقداديس واجتماعات . قمتُ بزيارتي الاخيرة  بغية الالتقاء بأشخاص مقرّبين ، كانوا قد قدِموا الى مدينة العذراء في نطاق سفرة جماعية مبرمجة . أما عن زياراتي الخمس الاخرى ،  فكانت تباعاً  لمرافقة أحد اخوتي ، والقيام  كدليل لصديق  ، ولقاء أقرباء آخرين ،  واصطحاب  فلانَين آخَرَين .
ما لاحظتُه هذه المرّة، هو أني لم اعد الشخص الوحيد الذي فقَدَ بضع سنتمترات من طبقة تقواه، لان القسم الكبير مِمّن يزورون لورد حالياً يُولون للصلاة مكانة ثانوية . فالزائر العصري لا يدخل أيّة كنيسة في لورد إلا وجهاز (الآيفون أو السمارتفون) للتصوير بيده . فالهدف الاول هو التصوير ، والزائرون ، بما فيهم المتقدمون بالسن ، يهمّم ان يصوروا اللوحات والتماثيل والصخور والمذابح والسقوف، ويهمّهم ايضا ان يكونوا هُم في مقدمة الصورة التي يلتقطونها .  والتكنولوجيا العصرية بهذا الخصوص ، قد مكّنتهم من ذلك  دون  الحاجة الى خدمات شخص آخر،  فـَ (السيلفي) العادي كفيل بذلك ، واذا كان الهدف الحصول على صورة  أشمل فذلك يكون بالاستعانة  بذراع أطول يسند  الجهاز ويوسع دائرته ، والعبرة هنا في من يحصل على الذراع الاطول !! 
 التصوير المتواصل هذا مخصص بصورة رئيسية لتغذية صفحة (الفيسبوك) . بهدف أن تكون تلك اللقطات  مِن جهة ، دليلا على زيارة صاحب السيلفي وتواجده في المزار ، ومن جهة اخرى تكون مناسبة لا يمكن اضاعتها في تلقّي كلمات منتقاة مثقلة بالمعاني والحِكم ، كالتي تقول مثلا ( منور ، منورين ، حلوين ، تهانينا ، الله ربكم ، ليش لا ) . جهاز التصوير يُلاحق اللقطات الى آخر أيقونة او عامود أو شمعة داخل الكنيسة أو المغارة او أيّ موقع آخر. وباعتقادي ان هؤلاء المصورين ، لو اهتدوا الى وسيلة خاصة ،  لما  امتنعوا  من إرسال هذه اللقطات الى العذراء او القديسين المعنيين   كذكرى يحتفظون بها  في ألبوماتهم السماوية الجديدة !!!   
عادةً ، يرافق المجموعةَ كاهن ، من اجل القيام  على الاقل بإحياء قداس باللغة التي يفهمونها ،  وهذا شيء جيّد .  بهذا الصدد أتذكر حديثا  كان قد نقله لي احد منظمّي  زيارات لورد قبل بضع سنوات ، وأرى المناسبة سانحة الان للتطرق اليها . فقد قال لي :  كان قد تمّ حجز الكنيسة ، وقيل  للحاضرين الاجانب  بان القداس الذي سيحضرونه سيقام باللغة الآرامية ،أي لغة المسيح ووالدته. بعد مضيِّ عشر دقائق ، قدمَ ساعٍ من قبل الكاهن ليقول بانه لا يتمتع بمزاج لإقامة القداس . قال لي منظم تلك السفرة  بامتعاض واستنكار شديدين :  كما يبدو، كان قد نهض الاخ على رجله اليسرى. كانت هذه المناسبة الوحيدة أمامه ليُفيد الناس ويمارس أسمى مهمة أتى لأجلها ، ولكنه لم يفعلها  بالرغم من تأكدي بانه لم يكن يعاني من شيء ، وحسب معلوماتي لم يكن قد كُلّفه أحد عشية ذاك اليوم بمهمة بناء حائط  أو فلاحة ارض !!  أكتفي بسرد هذا القدر من حديثه لأنه كان أطول بكثير ، ولكني أود الاضافة بأن الكلام ، وإن كان نقداً ، فهو موضوعي وبنّاء ، وباعتقادي الشخصي هذا  أمر لا بدّ منه من حين لآخر، على الاقل لتصحيح المسار،  والإبقاء على نسبة كافية لمادّة يجب ان تحافظ على ملوحتها !!
قبل ان انتقل الى الفقرة التالية من المقال ، اودّ ان أبدي ملاحظة صغيرة أخرى لأقول: إن مغارة لورد كانت في بداياتها مفهوما روحيا ، غير ان المغارة وما يحيط بها خضع لتطور غير طبيعي أكساها  ثوبا ماديا وتجاريا ، وهذا التنويه كافٍ .
تركتُ لورد في اليوم الثالث بصحبة اخي وزوجته . وبعد انتقالنا الى القطار الثالث ، كنّا على موعد مع الشمس ضمن موكب يرافقها الى الحدود . كانت فعلا قد مالت الشمس وابتدأت عملية هبوطها . كان خطان متوازيان طويلان من الغيوم قد اصطفا  استعدادا لتوديعها . كان الخط الاعلى عريضا بعض الشيء ، وينتهي بغيوم متموّجة اتخذت شكل  كُريات ملتحمة ، والخط السفلي الرفيع كان يشبه حبلا طويلا  ، يحتضن فضلات غيوم سقطت عليه من الخطّ الاعلى وتدلّت منه وكأنها صوف خضع لعملية التمشيط  بعد غسيل شاقّ . (هكذا كان يعامل أجدادنا الاصوافَ قبل مرحلة غزلها). 
كانت قد اتخذتِ الشمسُ شكل قرص ناري وبدأت اشعتُها الوردية والحمراء تعانق ثنايا الغيوم قبل غروبها ، بحيث  بدأ الخط الاعلى في نهاياته  وقد اصبحت كرياته شبه جمرات حقيقية . كان المنظر غريبا جدا ، أطلتُ النظرَ اليه ونسيتُ نفسي وإذا بيّ داخل أجواء الزمن الصعب ، أجواء الذين  انتُزعت منهم اراضيهم وبيوتُهم ، وحُرموا من كل شيء وتوقفت آمالهم . تخيلتُ بعضَهم يخشون  حتى سماع لحن  شجي كان  يملأُهُم في حينه فرحا وسعادة ، فيوقفون مشاعرهم ويقولون : وما الفائدة ؟ اين سعادتنا ؟  وبعضهم يخافون إطالة النظر الى ما هو منسّق وجميل قائلين لماذا ننظر اليه ونتحسّر، ويقولون أيضا : أمست  الرفاهية مفهوما من زمن مضى . يخشون الاسترسال حتى في متعة خيالية لان اول ما ستقع عيونهم عليه بعد ذلك هو البؤس والشقاء والغد المجهول ، فالسعادة بالنسبة لهم أضحت شخصا عزيزاً كان قد فارق الحياة . 
واستمررتُ في نفس السياق وكعادتي بتُّ اطرح أسئلةً ليست بالأولى ولا الاخيرة ، فأقول : لماذا الإعتداء ، والإقصاء ، والإبعاد ، والاستعباد ، والتهديد ، والقتل،  والذبح ، والاغتصاب ؟ لماذا يُحرم الناس من حياتهم وحريتهم وحقهم في قضاء حياتهم القصيرة كيفما يشاؤون ، وهُم خُلقوا أسيادَ أنفسهم ؟  كثُرت اسئلتي ، ولكنّ حظي لم يكن اوفر من ايليا ابو ماضي في قصيدة الطلاسم ، حيث كلّ من كنتُ اتوجه اليه  يُجيبني بِـ ( لست  ادري) .
بقيت هكذا الى انطفأ الكُورُ ، وأمستِ الجمرات فحما ، فانطفأ النور، وانطفأ الخيال ، وعدتُ الى الليل وانتهت زيارتي الى لورد .

 

64
المنبر الحر / التناول الاول
« في: 00:04 13/07/2016  »
التناول الاول
شمعون كوسا

قبل أكثر من عام ، دار حديث بيني وبين امرأة فاضلة كانت قد انضمّت ابنتها إلى المتناولين للمرة الاولى . المتناوِلة كانت صبية وُلدت خارج العراق وتبلغ الثانية عشرة من عمرها . كانت الصبية  قد تعلمت بعض المفردات والعبارات الكلدانية ولكنها على بعد أميال من اللغة العربية . شرعت الام تسرد لي بهدوء تسلسل أحداث تهيئة الطلاب للتناول الاول ، وأثارت هذا الحديث  لانزعاجها الشديد  من المشرفين على المشروع ومنفّذيه .
قالت بأن من تولوا التعليم كانوا جلّهم رجالا.  في غالبية الصلوات والتراتيل الخاصة بالتناول، تمّ فرض العربية كلغة لمخاطبة الله. كان عالَم اللغة العربية غريبا تماما عن هذه الطفلة إذ كان عليها ان تحفظ وتتلفظ  بكلمات وجمل لا تقوى على لفضها ولا تفقه معناها  . تقول السيدة ، كانت المجموعة المشرفة تقود المتناولين والمتناولات بأسلوب يخلو تماما من الابتسامة وبعيد عن التفهم والرقة والوداعة التي لا بد منها لتوجيه الاطفال بهذا العمر وتعليمهم  .
 بالرغم من كل ما كانت تبذله الطالبة من جهود ، كانت تخرج صلواتها مشوهة ومقطّعة وغير مفهومة  . مثلا في قانون الايمان الذي تمّ تلقينه حصراً باللغة العربية ، كانت تلفظ الكلمات كالتالي  : نومِنبي لاهٍ نوا ، هيدٍ زا  ، بيتيلكول  ،وخا ، ليقي السامَوال ،آريز ،وبيره بين وا، حيدن ياسوء مسيه ، ابني لاه واهيد ......  وصُوليبا وكام فيل يوميس ، اليس كامفيل كوتوب ... ... في عادي بلا توس بانتي ..وبي كانيسا واهد ، جامي آ راسوليا ... وهكذا دواليك الى نهاية قانون الايمان . وكان على الطفلة ليس فقط قراءة هذه اللغة الصينية، ولكن حفظها !!
كلمات مبتورة من نصفها او ربعها ، وغريبة الى درجة أنّ الجمل لا تتعرف على نفسها ، فالمضافُ يستغرق وقتا طويلا ليعثر على المضاف اليه ، لان   اللفظ  المشوّه قد مزّق ثيابه ، ناهيك عن ترمّل المبتدأ لان خبره استشهد ، او الفعل اللازم الذي فُرض عليه مفعول به ، إحتار في كيفية نصبه !! فاذا كان ولا بد من اختيار لغة شرقية ،  ألم يكن  من الافضل ان تكون اللغةُ الكلدانية هذه اللغةَ ؟ السنا من الطقس الكلداني أم اضحى طقسنا الكلداني يُدعى طقسا عربيا ؟ وهل الله لا يفهم اللغة الاجنبية ؟
كانت والدة المتناولة قد احتجّت على الصعوبة التي تلاقيها طفلتها في حفظ قانون الايمان ، خصوصا  وانها لم تكن يوما على  صلة بالعربية  ، فكان  الجواب الفوري أتاها كالتالي : وإذا كانت ابنتكِ يوما امام أغنيةٍ لمطرب بأية لغة كانت ، ألم تكن   تحفظها بسهولة ؟ المرأة الفاضلة لم تردّ احتراماً لمقام رجل الدين ، ولكني انا سأجيب عنها : يا شماس ، يا ابونا ، يا سيدنا  : هل يُقارن قانون الايمان الذي يختصر العقيدة المسيحية بأكملها ، والذي يجب ان يتأصل في أعماق الطفلة ، هل يقارن  مع اغنية أحبتها الطفلة للحنها الجميل ولعذوبة الصوت الذي تسمعه ؟ انها تنطرب للّحن وللإيقاع ، ولا يهمها اذا كانت قادرة على حفظهما ام لا ، ومن جهة اخرى إنها غير مكلفة بتردديها في محفل رسمي. 
 بكل بساطة نقول ، الم يكن من المنطقي ان تُتلى هذه الصلاة باللغة الاجنبية التي يعرفها الاطفال ويتحدثون بها ويفهمونها ، ام إن الموضوع هو مجرد الانصياع لرغبة شماس او كاهن ؟ ألا نقول بان الصلاة هي مناجاة الله بحرارة تنبع من اعماق القلب ، ألا يفترض ان يكون  المصلّي واعيا لما يناجي به ؟
وأضافت المرأة معرِبةً عن  امتعاضها الشديد من اسلوب القائمين مباشرة على التدريب والتعليم . لقد تمّ اختيار هؤلاء لمجرّد تطوّعهم لهذا العمل أولأنه يعجبهم ذلك ، ولكن هل كانوا مهيئين له ؟  في غابر الازمان كانت الراهبات ، المكرسات لله ، يَقُمن بهذه المهمة وينقلن روحيتهنّ وقناعتهن للأطفال بأسلوب رقيق ، وبتواضع ومحبة وصبر،  فيتابعن كل طفل او طفلة بصورة منفصلة ،  لأنهن كنّ على بيّنة من قدسية الموضوع . أمّا هؤلاء الشباب ، يبدو بانهم كانوا مكلفين بمهمة ليس إلاّ ، وكل واحد منهم عبّر عن نفسه بأسلوب يتيح له الامر والنهي والتوبيخ .
كان احد المسؤولين قد أفهم المرأة الفاضلة هذه بانه  لا حاجة للصور او المصور ، ولكنها فوجئت باتصال مباشر أتاها من المصوّر الذي نفى تماما كل ما قيل لها وافهمها بصورة قطعية  بان الصور اجبارية  ،  وقال لها أيضا بان عدم التصوير يَحرِم الطفلة من الشهادة التي يجب أن تحمل صورتها . كانت قد سكتت المرأة وقالت في نفسها ، هل المتناوِل لا يُعتبر متناولاً  حقّاً ،  إلا اذا تمّ إثبات ذلك بشهادة رسمية مختومة تحمل صورته الشمسية وبمقاسات معينة ؟ خشية رؤية ابنتها مشطوبةً من سجل المتناولين وتواريخه ، انصاعت للأمر صاغرة .
اين نحن من قدسية هذه العملية وروحانيتها . لقد اضحى التناول الاول ، مناسبة ينتظرها الناس لحجز القاعة والمصوّر ، وابتياع الملابس الجديدة . حتى في القداس ، على الكاهن احيانا انتظار المصور ، قبل المبادرة بوضع البرشانة داخل فم المتناول ، وهل كان سيرضى ذوو المتناول ان تفوتَهم هذه اللقطة ؟!!  هل فعلا لنا ايمان بما نقوم به ، ام ان كل شيء اضحى مجرد حركات تندرج ضمن مراسيم واجراءات ظاهرية لا سبيل لتجاوزها ؟ 
ولا اريد ان اتطرق لموضوع الاحتفال الكبير بمناسبة التناول الذي صار يُباري حفلات الاعراس والزواج بفخامته وماديّته ، حفلات دنيوية بأطعمتها ومشروباتها ورقصاتها وصباحياتها ، لقد سبق لي وان نوهت عن هذه المواضيع ، فتعرضت في حينه للتقريع والنهر والتوبيخ والانتقاد . برأيي انا كانسان متخلـّف أقول :  بعد اقامة احتفال بسيط للتعبير عن الفرح بهذه المناسبة الروحية  ، يجب ان ينتهي الامر  بتقدّم المهنئين من المتناول الجديد ،  بخشوع واحترام لتقبيله والتبرّك به لأنه تقدّس بتناوله المسيح ؟ انها مجرد امنية ولكني اراها بعيدة جدا عن واقعنا المتجذّر .
آخر فقرة يجب ان اضيفها قبل ان انساها ، لان السيدة الجليلة اكدّتها لي وهي تعرب عن أسفها الشديد : قالت  بان ابنتها ، التي كانت من روّاد الكنيسة سابقا ، لم تعد الان ترغب في دخول الكنيسة لأنها تخشى العودة في ذهنها الى أوقات أزعجتها وآلمتها .   لعلها طفلة حساسة جدا، ولكن هذا الذي جرى.

65
فرنسا تعيش حالة فوضى 

شمعون كوسا

منذ شهرين وانا  اعيش كما يعيش غيري حالة غضب جرّاء ما يحدث في فرنسا . بلد عريق بتأريخه وحضارته وثقافته وتطوره في كافة الميادين، بلد حباه الله بطبيعة تضاهي جمال الجنة ، يعيش هذه الايام حالة انفلات تدعو للاستغراب . حالة الانفلات هذه متأتية من الحرية التي يؤمن بها  كأحد الاركان الاساسية لعلمانيته . غير ان هذه الحرية قد خرجت من طورها وتجاوزت حدودها ، بحيث اصبح البعض يفهمونها كحقّ في الهجوم والتخريب ، والكسر ، والنهب ، وإعاقة امور الناس وازعاجهم ،  وتشوية المحلات ، والضرب ، وحتى محاولة القتل .
 على اثر الاحداث التي تعرضت لها فرنسا مؤخرا من أعمال قتل وتفجيرات قام بها نفر ينفذون خطط  واوامر مجموعة همجية تتلقى تعليماتها من إله غريب الاطوار والاخلاق ، إله ينزعج من كلّ  ما هو جميل ومتفتح ومتطور ، ويصاب بمغص حاد عند إثارة حقوق الانسان أمامه لا سيما حقوق المرأة ، على أثر هذه الاحداث ولا سيما الاخيرة منها ، اتخذت الحكومة إجراءات داخلية رادعة ، وقامت باعلان حالة الطوارئ . وبموجب هذا القرار ، اوصت الناس بتجنب التجمعات والتواجد في المكانات المزدحمة ، والاقلال من الحفلات حتى في المدارس ، وهكذا  دخل عناصر الشرطة وقوات الامن حالة الانذار القصوى وبقوا متواجدين بصورة دائمة في الشوارع ومحطات النقل والمطارات وقرب المدارس والاسواق والمستشفيات وغيرها.
في هذه الاثناء ، قامت الحكومة  بسَنّ قانون جديد للعمل يحلّ محلّ القانون القديم ، وأتت المبادرة بصورة خاصة لحل مشكلة البطالة ، ولو جزئيا ، مشكلة يعاني منها البلد منذ سنوات . أرخت الحبل قليلا  لأرباب العمل ، تشجيعاً  وتحفيزاً  لزيادة استثماراتهم ، وبالتالي توفير فرص عمل يحتاجها البلد ، لان الكثير من الشركات سبق وان غادرت البلد نحو اراضي اكثر مرونة وخصوبة.
 الشعب الفرنسي ، وعلى قدر متابعتي لتطوراته ، لا يحبّ الاصلاح بصورة عامة . حال الاعلان عن اصلاح ، ينتفض المنتفضون  ويعلنون معارضتهم . وبمجرد وجود فقرة واحدة لا تناسبهم ، فانهم لا يكتفون بطلب  تعديل هذه الفقرة  ، ولكنهم يطالبون  بإلغاء القانون من اصله . هذا صحيح في كافة الميادين ، لا سيما في مجال التربية والتعليم .
 بعد اعلان القانون ، قامت النقابات بدعوة الجماهير الى التظاهر .  في محاولةْ لمنع التظاهرات ، دعت الحكومة الى مباحثات لدراسة مطاليب المعارضين. إلتأمت اجتماعات مطولة وتم حذف الكثير من بنود القانون ، غير أن  المحتجّين بَدَوا وكأنهم متعطشين للاضراب والتظاهر ، فاصبح شعارهم رفض التفاوض لانهم ببساطة لا يقبلون بغير الغاء القانون . ولكي لا اطيل الحديث ، اقول بانه قامت اثنا عشرة مظاهرة ضد هذا القانون،  وتخللتها إضرابات ومظاهرات اخرى ، لجماعات اخرى يشكون من كل شئ .
المشكلة الكبيرة ، في المظاهرات الاخيرة هو بروز مجاميع خاصة من الشباب ،  يتقدمون المسيرة وهم ملثّمون . اتضح بان مهمة هؤلاء تقتصر على إشاعة البلبلة والقيام بالاعتداء والتكسير، والتشويه، والهجوم على الشرطة. لم تقم مظاهرة واحدة دون أن تتكسر فيها واجهات المخازن الزجاجية أو تتحطم  ابواب البنوك  والمنشآت الاقتصادية الاخرى . كلما تمّ الاعلان عن مظاهرة ، يقوم اصحاب المحلات والمطاعم المطلّة على الشارع بأغلاق متاجرهم خوفا من هؤلاء ، لانّ من لم تصبه هذه الايادي المباركة ، يُمضي نهاره في انتظار زبائن لا يأتون خشية تعرّضهم للخطر.
في احدى المظاهرات ،  بعدما رأيتُ الخراب بأمّ عيني ، قلتُ لاحد الفرنسيين المتواجدين هناك : أيختلف هؤلاء عن الارهابيين؟  قال لي كلاّ. الارهابيون يفجرون أنفسهم بغية القتل والجرح ، وأفراد مجموعتنا الودعاء ، يرمون قناني الزجاج المحرقة ويسكبون موادّها على الاشخاص والمحلات ، ويهجمون بقضبان خشبية وحديدية ، ويرشون الاصباغ ويحطمون السيارات على امتداد مسيرة المظاهرة. يقومون بهذه الاعمال خاصة عند رؤيتهم قوات الشرطة ، وعند تحرك هؤلاء لمعالجة المشكلة او ملاحقتهم ، تتأزم الامور وتتفاقم . سمعتُ بان هؤلاء من اليسار المتطرف ، كما يقول آخرون ، وبصورة خاصة النقابات ،  بان الحكومة هي التي تسمح بتواجد المخربين هؤلاء ، بهدف اضعاف المظاهرات ، او تحميلها المسؤولية . ولكي يطفح الكيل ، تكونت في كل مدينة  مجموعات تلقائية تعقد جلسات احتجاج ليلية . وفي الاونة الاخيرة  ، أقامت الحكومة نفسها مناطق ترفيه في اماكن عامة تؤمّها المئات من الناس ، والهدف هو اثبات الشجاعة والتظاهر بعدم الخوف في هذه الايام العصيبة .
السؤال المنطقي والمحيّر هنا هو : اذا كانت الحكومة قد اعلنت حالة الطوارئ ، لماذا تسمح بالمظاهرات؟ المظاهرات مناسبة لتحشّد ، ليس العشرات ولا المئات ولا الالوف ، ولكن عشرات الالوف او مئاتها . ألا تخشى أن يتسلل الارهابيون ، او حتى ارهابي واحد فقط ، قد تمنطق ليس بزنار العفة ولكن بزنار المفرقعات ، فيعيد فرنسا الى ساعات سوداء  ؟ !!  تقول الحكومة بان المظاهرات هي تفرضه الحرية ، ولكن الاغلبية وانا معهم نقول بان هذا يتعارض تماما مع قرار حالة الطوارئ .
ترفض الحكومة التنازل عن قانونها بالرغم من انه قد افرغ من مضمونه ، والسبب هو فشلها وتراجعها في أمور اخرى مهمة، وتخشى ألاّ تصبح الان هدفا لسخرية الناس واستهزائهم .  والنقابات بدورها ، وبصورة خاصة نقابة تحمل اسم  –  سى ، جى،  تى  - تأبى التنازل عن قرارها ، لكي لا تظهر  في حالة ضعف ، لاسيما وانها اعضاءها في انتقاص كبير، وهي الان لا تمثل أكثر من اثنين بالمائة من القوى العاملة ، فالطرفان يقومان بلعبة لوي الذراع .
قامت هذه النقابة بقطع الطرق ، وسيطرت على  مصانع لتصفية  الوقود ومراكز توزيعها واوقفت الانتاج والتوزيع . خلتني ، وانا في فرنسا ،  اعيش اياما عرفناها في العراق في طوابير طويلة ، يقف المواطن ساعتين لكي يعود بخفي حنين لان التوزيع توقف او نفذت الكمية . قامت النقابات والمتحالفون معها أيضا بالسطو على مراكز توزيع الكهرباء، فكانوا يقطعون الكهرباء من مناطق مختارة .
ولم تقتصر المظاهرات على هؤلاء ، فسواق سيارات الاجرة يبرزون على الساحة من حين لاخر ، والطيارون في اضرابهم المستمر لحد الان  يطالبون بزيادة رواتبهم ، علما بان كل واحد منهم يتقاضى تسعة عشر الف يورو شهريا . وماذا اقول عن المتقاعدين والمزارعين والعاملين في قطاع النقل وموظفي الصحة ، والمعلمين ، وعمال السكك الحديدية وهؤلاء  يتظاهرون كل شهر .  اما عن الطلاب فحدّث ولا حرج ، فالنقابيون منهم معتادون على الاحتجاج على كل اصلاح في مجال التربية ، ويتعاطفون  برحابة صدر مع كافة ساعات غضب النقابات . يتركون المدارس ويمنعون  زملاءهم غير الراغبين في الاضراب ، من دخول المدرسة لمتابعة دروسهم .   انا لا ابالغ عندما اقول بانه لا يمرّ يوم او يومان دون ان تقوم مظاهرة في هذا البلد . وعندما نقول مظاهرة يعني اغلاق الطرق وتوقف وسائل النقل .
التقارير تقول بان الكثيرين من السوّاح الذين اعتادوا على قضاء اوقاتهم في فرنسا ألغوا حجوزات فنادقهم وغيروا توجهاتهم الى بلدان مجاورة . وهذه هي حالة المستثمرين الاجانب الذين يحتاجون الى استقرار الوضع .  حاليا وبالرغم من اقامة بطولة كرة القدم الاوربية ، لم تتنازل النقابات عن فتراتها الترفيهية هذه .
هل اصبح الشعب انانياً لهذا الحدّ ، بحيث انه لم يعد  يرى الا مصلحته ويرفض النظر الى ما يدور حوله ، فيخفف من تصرفاته ويؤجلها ولو مؤقتا ؟ ان ما يجري هنا يدعوني الى العودة احيانا الى ما عشناه في حياتنا ،  فانتهي بالقول :  ألا يحتاج الناس هنا الى فترة قصيرة تحت انظار زعيم صغير من الذين كانوا قد عوّدونا على إيماءة صغيرة للعودة الى خطّ  لم نكن قد حدنا عنه أصلاً  ؟ !!
 

66
خرجتُ والغمامةَ السوداء
شمعون كوسا

كنت في يوم بانت السماءُ وكأنّها قد أوكلت خفارتَها  الى غيوم سوداء ، والغيوم السوداء تنقلني وكالمعتاد  الى عالم غامض محمّل بالأسرار. اصبحتِ الغيومُ الخافرة هذه حافزي  للخروج  الى ساحة عامة ، تؤمّها شرائحُ مختلفة من الناس ، بعضهم يفكر بصمت ، وبعضهم لا ينقطع عن الحديث  ، وبعض آخر  يعزف او يغني ويرقص ، وكلهم حريصون على ألاّ يقلقوا راحة بعضهم البعض . حاولتُ  المرور على اغلب هذه الاجنحة ، لأعاينَ ، وأسبر غور الافكار ، واصغي لبعض ما يقال ، وأخمّن بعض ما لا يُقال .
اخترتُ حيّز المفكرين بصمت، وحال جلوسي استقرّت أنظاري على حركة  نسيم يتجوّل بهدوء . كنت أرقب إلهاما يهوّن عليّ دخول الافكار وقراءتها.  وبانتظار ذلك ، انشغلت  بالنسمات الهادئة ، التي اعادتني تدريجيا الى فترة صباي ، أيام كنت اغنّي وأصغي بشغف وشوق الى كل ما هو عذب ويريح النفس . كانت الاشجار تطاوع ابسط حركات النسيم الذي كان يمرّ بسكون ، فيتوقف ، ويتابع مساره ، ويعود . بعض نقلاته كانت تخلق داخل نفسي  سعادة غريبة ، كنت اترقب عودة النسيم الى نفس النقطة لأستعيد نفس الاحساس السعيد  ولكن دون جدوى،  لان النسيم كالماء هو في حركة تغيير دائم .
 رأيت من بين المفكرين شخصا كان في حالة انشراح وكأنه يستعيد مثلي ذكرياته فيبتسم بهدوء ويحرك رأسه. ورأيت آخر يرفع انظاره الى السماء وكأني به يقول لها ، انني هنا  في قمة السعادة في أحضان هذه الطبيعة الخلابة وجلّ مناي ان استمرّ فيها الى الابد. وشخص آخر يقرأ كتابا ، فيترك الكتاب ويغمض عينه ويعود ليقرأ قليلا ويوجّه انظاره الى الغيوم السوداء وكأنه قد عقد العزم على  اختراق غموضها وخفاياها . 
ورأيت شخصا آخر وكأنه في مناجاة مع خالقه. كان كليمُ الله هذا مصحوباً بطفل لم ينهِ العقد الاول من عمره ولكنه يشكو من عوق في معظم انحاء جسمه . كان الاب يشكو حالة ابنه، فخِلته يقول :  ما ذنب هذا الطفل ؟  لماذا اوجده الله على هذه الحالة ؟ أليس اللهُ خالقَه ؟ اليس ابني مخلوقا مثل الجميع على صورة الله ؟ أين صورة الله فيه ؟ تصورت نفسي وكأني جالس بجانبه ، فأجبتُه قائلا : ان ما اصاب ابنك ليس خطأَه ولا خطأ والديه ، ولكن هي ارادة الله . هنا أتأنى جوابه فوريا وبنبرة حادة فقال : وما مصلحة الله وحكمته في إعاقة هذا الطفل الذي لا يطيق نفسه ولا يحتمل آلاما تفوق طاقته ؟ متابعاً  ردّي ، وكأني لا زلت معه قلت : ان الله قد خلق الطبيعة وتركها تسير وفق قوانين يسود فيها نظام العلة والمعلول أو السبب والنتيجة ، وهناك اسباب غير منظورة لا نفقهها تؤدي الى مثل هذه النتائج .  سمعت المشتكي يردّ قائلا : ألم يمكن بمقدور الله منع هذه الاسباب ؟ وبعد فترة صمت تابع حديثه قائلاً :  ولماذا لا يتدخل الله لإيقاف مثل هذه الاسباب؟ الم يتدخل في تغيير نظام الطبيعة أو ايقافه لدى اجتراح العجائب ؟ ألا يستحق ابني مثل هذا التدخل في نظام الطبيعة ؟ عندما رأيت بان الموضوع سيتّخذ منحىً لا أقوى الاسترسال فيه ، قلت لشاكي ربّه  : إن نوايا الله وسبله  غير قابلة للإدراك . ولا اعرف اذا كان قد سمعني أم لا !!!
تركت ذاك المكان  وتحوّلتُ الى حيث الصخب ، وبعد إمضاء بعض الوقت هناك،  هممت بالعودة  ، وقبل ان اتحرك ، سمعت  جدالا حادّا بين شخصين قد تأهبا للعودة ، ينتقدان رجلا دينيا . اردت الاسراع لعدم رغبتي الخوض في مثل هذا الحديث ، ولكن الاصوات كانت تتعالى أكثر فأكثر، فكان يقول احدهم : هل يليق بكاهن ، وهو في عطلته بعيداً عن كنيسته،  ان يتصل بأحد الاشخاص ويطلب منه بإلحاح ألاّ يدَعَ الكاهن ،الذي ينوب عنه في اقامة القداس ، بالسيطرة على المبلغ الذي يجمع في الصينية ؟ وتابع نفس الشخص ايضا وقال : هل يحق لنفس الكاهن ، الذي غاب  في  مهمة شخصية أخرى ، ان يطالب اجرة سرّ عماد  تمّ في غيابه على يد كاهن زميل له ؟  وكان ذيل  الحديث عن رجل ديني آخر ، يمنع احد رعاياه من دخول الكنيسة لأنه لا يرتاح له  ولا يطيقه ؟

ألم يكن أولى بهذا الرجل الروحاني جدا ان يبتهج لإقامة قداس في كنيسته  والاحتفال بمراسيم عماد فيها وهو غائب ؟  ولكن حب المال كان قد احتل المرتبة الاولى في أولويات هذا الرجل الزاهد عن الدنيا ، فحوّل بيت الله الى صالة تجارية!!!
قلت في نفسي ان كل ما سمعته دون ارادتي ليس إلاّ غيضاً من فيض ، وينتهي دوما الى طريق مغلق . هؤلاء الذين كان يُفترض ان يكونوا ناراً متّقدة تُدفئ المؤمنين وتنوّر طريقهم ، اصبح الكثيرون منهم يكتفون بمجرد  شمعة ، وبعضهم قد بهتت  شمعتهم ، وبعضهم تذبذب نورها ، والقسم الاكبر منهم  قد انطفأت منذ زمن طويل ولكنهم احتفظوا بلسان طويل  وحركات معدومة من الروح .  للأسف الشديد هذا ليس لا شعراً ولا خيالا ولا افتراء، ولكنه واقع وحقيقة.
دخلتُ الساحة بمعيّة غيوم سوداء ، فانشرحتْ نفسي لدقائق مع حركة النسيم الهادئة ، وعدت بصحبة نفس الغيوم السوداء بعد أن كشفت ما  تخفيه في ثناياها من كرب وشكاوى وانتقادات .

67
لماذا يُحجب القربان عمّن تزوجوا بعد طلاق
شمعون كوسا

موضوع غريب أبعدني عن خط كتاباتي وجعلني اقفز فوق سياجٍ يحدّ أرضاً دينية كنسية كاثوليكية. لقد أحسست بفورةٍ كان يجب عليّ إخمادها ، فورة تتعلق  بموضوع حجب القربان عن مؤمنين تزوجوا بعد طلاق أو انفصال.  موضوع لم نسمع به في منطقتنا لأنه يقع ضمن الحالات النادرة او شبه المعدومة .
كانت معرفتي بالمشكلة غامضة  أو بالأحرى لم أكترث لها في حينه ، غير اني عندما التقيتُ اصدقاء لهم معارف يعانون من هذه الحالة ، بدأت أقلـّب الأمر من كافة جوانبه فرأيت نفسي امام تناقض  لا يمكن قبوله لا من الناحية المنطقية ولا الدينية : كيف يُمنع المؤمن ، الجائع لخبز الحياة ، من تناول القربان ، بغضّ النظر عن الخطأ الذي يكون قد ارتكبه ؟
إنه موضوع متشعّب وطويل ، وإذا استجبت لسيل الافكار التي تتلاطم داخل رأسي سأنتهي بحديث يبدأ ولا ينتهي ، لذا ابدأ بسؤال رئيسي ومباشر ، تليه سلسلة أخرى من التساؤلات ،  وأقول : إذا ما أتى المسيح  من جديد ، هل سيتجنّب هؤلاء المطلقين كونهم يتربعون  في حمأة الخطيئة ، أم يبدأ بالتوجه إليهم ؟ ألم يعاشرِ المسيح الخطأة والعشارين ؟ ألم يشمل الزانية بعفوه فأنقذها من حجارة  رجال الدين اليهود من الكتبة والفرّيسيّين الذين كانوا قد قصدوا المسيح بغية  الحصول على تأييد لرجمها ؟ ألم يُجِبهم بعد صمت عميق : من منكم كان بلا خطيئة فليرمِها بحجر ؟ الم يقف المسيح يتحدث مع السامرية ويطلب منها أن تسقيَه ماءً بالرغم من سامريّتها وزواجها من خمسة رجال فقط ؟ هل أتي المسيح للأصحّاء ام لاحتضان المرضى ولإراحة المتعبين والثقيلي الاحمال  ؟ اليس القربان بمفهومنا الكاثوليكي جسد المسيح الحيّ ؟ هل حَرَم المسيح تلميذه يهوذا في العشاء الاخير من تناول الخبز ، بالرغم من معرفته بنواياه الشريرة ؟  لماذا إذن يُمنع المؤمنون التائبون من تناول المسيح الذي يتقدمون اليه بانكسار وبشوق عارم ؟
انا لا اشجع الطلاق ولا الزواج بعد الطلاق ، ولكن هذا هو واقعنا ، لقد ازدادت هذه الحالات في ايامنا هذه ، ومن بين هؤلاء من لهم اسبابهم الوجيهة . شخص في مقتبل العمر تركته زوجته ، فرأى نفسه مجبرا على الارتباط  بزوجة أخرى من أجل أطفاله . شاب مؤمن اصيبت زوجته بمرض عضال طويل الامد ، فاضطر للاقتران مجددا. زوجان اضحت الحياة بينهما جحيما لا يطاق لأسباب تُعزى مثلا الى حالات الادمان على الكحول والمخدرات أو غيرها ، زيجات تعرضت للعنف المتكرر ولم تجد حلا ، إلا بالانفصال او الطلاق ، حالات عديدة لم تنفع فيها النية الحسنة التي ابداها أحد الطرفين.
لقد حدث أحيانا وان ذهب أحدهم ، تجاوبا مع متطلبات القانون وبغية ايجاد حلّ لمعضلته ، الى قتل زوجةٍ هجرته  والتقرب الى موائد الاسرار دون عائق .  إنه عمل لا تؤيده الكنيسة طبعا ، ولكنه من الناحية الشرعية ، يزيل العقبات أمام  الزواج والتقرب الى الاسرار المقدسة  .
لنعتبر الشخص الذي تزوج بعد الطلاق رجلا خاطئا ، هل يعجز سرّ الاعتراف المقرون بتوبة نصوح عن محو الخطايا ، ام ان هذه الخطيئة ، غير مشمولة بهذه الاحكام ؟ وماذا إذن عن رجل قاتلٍ تناول القربان بعد الاعتراف دون أيّ رادع ، أو شخص ارتكب الزنى وتقرب الى المذبح بنفس السهولة ، او شخص عاشر ثلاث عشيقات ، ولم يلقَ قيودا قانونية امامه ، وهذا صحيح للسارق والكذاب والشاهد بالزور والقائمة تطول. وهنا سأذهب بعيدا الى حدّ اثارة الشكوك واقول : ما هو الحكم على كاهن ارتكب موبقاتٍ لا سبيل لذكرها ، مخفية كانت أم معلنة ، ولم يفقد قدراته في إقامة القداس بالرغم من خطاياه ، بينما الشخص الذي تزوج بعد طلاق وتقدم تائبا ومتشوقا الى القربان ، يجد نفسه أمام باب موصدة تحمل عبارة : إنّ هذه المأدبة  لم تُعدّ  لأمثالك ؟!!!
اني على يقين بان البابا الحالي واعٍ لهذا الموضوع ، ويسعي لإيجاد حلّ لهؤلاء المساكين  ، ولكنه محاط بمساعدين قد اعتادوا على نمط معين من الحياة ، إنهم يمسكون بعجلة الكنيسة الثقيلة ولا يقبلون بتحريكها  قيد انملة . إن ما هو مطلوب هو في غاية البساطة ، ولا يحتاج الى جهد او تغيير أصلا ، وهو العودة الى الاصول ، الى كتاب ازلي يسطّر في كل صفحاته حبّ المسيح وحنانه وعفوه وغفرانه . فإذا كان الخوف من فتح باب جديد للمستغلين ، باعتقادي ليس هناك اية خشية من ذلك  لان الموضوع يخصّ أشخاصا احتفظوا بإيمانهم وغيرتهم وشوقهم للتقرب الى الاسرار ،  وهؤلاء قلّة مقارنةً بالأغلبية التي ابتعدت عن الكنيسة وأسرارها .
لقد عثرتُ على حديث بنّاء للمطران جان شارل توما ، مطران فرساي السابق الذي تناول هذا الموضوع قبل سنوات وقال :
من المؤسف ان نفضّل الجواب السهل الذي يعطيه رجل الكنيسة على تفكير يجب أن يقودَه ضميرُنا .  هذا هو حال الانسان الذي يعتقد بان الجواب الصارم  والقاسي ، هو اكثر ملاءمة لفكر الله . اذا أردنا ان نطبّق هذه القاعدة على مواقف المسيح ، علينا حينذاك الاعتراف بان الرحمة التي بشّر بها  جاءت تشويهاً  لفكرة ابيه .   
ويتابع المطران قائلا : الكنيسة الأرثوذكسية تقترح فترة توبة ، لأنها تعتقد بان الانسان ضعيف وخاطئ وليس من الممكن ان تتخلى الكنيسة عنه . انها تقترح الاتفاق على فترة تفكير  من أجل التعمق بالخطأ المرتكب ، ومن ثمّ تدعو الزوجين الى نوع من الاهتداء قبل مباركة الزواج . هذا ما اقترحتُه على الازواج  الذين قادتهم ظروفهم الى الطلاق . لماذا لا تأخذ الكنيسة الكاثوليكية بهذا الاقتراح ؟ انه قرار الضمير وليس التجاوب مع قانون الكنيسة. مَن يعرف ،  لعلنا سنرى ذلك قريباً !!.
في النهاية ، أودّ أن اقول كرجل حرّ يستند الى مراحل اللاهوت التي اجتازها ومُنطلقاً من غيرته ، وهذا رأيي الشخصي ، بانه على الكنيسة ان تنفض الكثير من غبار قد تراكم على بعض زواياها . ربّانها الحالي رجل الله وهو يحتاج الى دماء شابة مشبّعة بالروح وبتعاليم معلمهم قبل السعي وراء الشهادات والتخصصات والالقاب والدرجات الفخرية .

68
دروس مستقاة من قصص ألف ليلة وليلة
شمعون كوسا

الحياة كلها دروس . كان ذلك صحيحا منذ البدء وسيستمر هكذا الى الابد ، أحداث وتجارب وظواهر وقصص وحكايات تتكرر بصور واشكال مختلفة ،  والكثير منها يحمل لنا عِبَراً نحتاجها في حياتنا اليومية . منذ سنوات عديدة كنتُ قد قرأت بعض حكايات ألف ليلة وليلة ونسيت الكثير منها ، غير اني قبل ايام وقعتُ على طبعة منها باللغة الفرنسية ،  فاتخذتها مطالعة مفضلة تسعفني في اجتذاب  النعاس ليلا . في غمرة ما قرأته ، مررت على قصة اعجبتني كثيرا لِما تحمله من معانٍ . اختصرتُ القصة ووضعتها في فم راوٍ قصّها عربيّاً على النحو التالي :
كنتُ قد ورثتُ من والديّ  ثمانين ناقةً  ، كنت أُعيرها الى تجّار القوافل لقاء مبالغ كانت تساهم في إبقائي على الحياة ، غير اني  كنت اطمح دوماً في المزيد. في أحد الايام ، وبينما أنا أسرّح الابلَ بعد انتهاء رحلتها ، إلتقيتُ رجلا مُسنّا  ذا لحية بيضاء . بادرتُه بالسلام ودعوته للجلوس لاتخاذ قسط من الراحة. بعد التعرف مليّاً على بعضنا البعض ، أحسستُ في سياق الحديث بان الرجل قد يُفيدني ، فأفصحت له عن رغبتي العارمة  في الحصول على مصدر اضافي للعيش . لم أتوقع ان يستجيب زائري لرغبتي ، ولكنه اجابني وعلى الفور : ان طلبك آتٍ في أوانه ، لأني قد عثرتُ ، على خزنة تحوي كنزا مليئاً  بالذهب والمجوهرات والاحجار الكريمة ولكن الوصول الى إليها ليس بالأمر الهيّن . طلبتُ من الشيخ الجليل ان يقودني الى ذلك المكان ، ووعدته لقاء ذلك إهداءَه ناقة محمّلة بالذهب. وافق الرجل المسنّ على طلبي وقال : لا أمانعُ من اقتيادك الى هذا المكان ، ولكن ، ألا ترى بأن العدالة تقضي  ان نتناصف الغنائم ؟ يجب  عليك إذن التنازل عن نصف النوق بما ستحمله ، وتحتفظ أنت بالنصف الاخر ،  لأنه وبالرغم من تخليك عن نصف النوق ، ستكون  صاحب ثروة طائلة لم تخطر ببالك حتى في الاحلام .
تضايقتُ من طلب العجوز ورأيتُ أنّ الاذعان له أمر في غاية الصعوبة ،  إذ كنت اقول : كيف يمكنني  التخلي عن اربعين ناقة ؟ غير اني عند تقليب الموضوع من كافة جوانبه  تأكدت من صواب الكلام ،  ووجدت نفسي رابحاً في نهاية المطاف ، وعلى اية حال لم يكن لي خيار آخر . إتّجهنا بنوقنا الثمانين نحو وادٍ بعيد يقع بين جبلين شاهقين ، كان علينا اتخاذ ممرّ ضيق جدا لم يُتِح للنوق المرور إلاّ الواحدة تلو الاخرى . كان علينا تسلق جبل عال، وسلوك طريق وعر جدا. بعد مسيرة أجهدتنا كثيرا ، بلغنا الهدف  ودخلنا مغارة بعيدة عن أنظار النسور . قام صاحبي الشيخ بجمع الحطب واشعل النار ،  وبعد ان أضاف اليه بعض حبات البخور وردّد عبارات لم اقوَ على ربطها بلغة معروفة ، رأيتُ صخرة كبيرة تتحرك  وتنفتح على كنز كبير جدا من الذهب وانواع المجوهرات والاحجار الكريمة . إنقضضت حالا على الذهب وبدأت بملء الاكياس ، وقام الشيخ بدوره بنفس العملية وحمّلنا النوق بالذهب والاحجار الكريمة.
قبل ترك المكان وإعادة الصخرة الى مكانها ، تقدم الشيخ قليلا نحو آخر الخزنة، وتناول علبة خشبية صغيرة وضعها في جيبه . دعاني فضولي لسؤاله بشأن العلبة ، فقال لي : انها تحوي مادة دهنية أحتاجها أحياناً . تركنا الخزنة والجبل العالي وقطعنا مسافة طويلة ونحن نسير جنبا الى جنب ، وعندما  بلغنا مفترق الطرق ، توقفتُ وقبّلته بحرارة وعبّرت له عن امتناني  لصنيع  لن أنساه  ابداً وودّعته . 
لم أكنْ إلاّ في الخطوات الاولى من طريقي الجديد ، عندما شعرتُ بندم وحزن عميقين  لتنازلي عن الابل ، وأحسستُ بشيطان الجشع يخيّم على أفكاري، فعدتُ ادراجي وناديت العجوز قائلا : يا صاحبي لقد فكرت بأمرك كثيرا . انك رجل مسنّ وزاهد في الحياة ، وقد لا تقوى على الاهتمام بهذا العدد الكبير من الابل ، لماذا لا تتخلى لي عن عشرة منها ؟ استجاب الشيخ حالا لطلبي دون اعتراض . عندما رأيته بهذا السخاء ، ازداد  طمعي ، فبادرته من جديد قائلا : لا زلتُ في نفس قلقي بشأن الصعوبة التي ستلاقيها في تلبية احتياجات هذه النوق ، لماذا لا تتخلى لي عن عشرة اخرى ؟  فقَبِل الرجل المسنّ اقتراحي  واستجاب لطلبي الجديد ، وعندما رأيته في استعداده الطيّب هذا ، كان الشيطان المكلف بالترويج للطمع والجشع والشراهة والنهم  قد أتمّ دقّ أوتاده ، ووسّع خيمته في كافة مساحات جسمي ، وجعلني أتجرّأ من جديد وأقول  : انا اعرف بانك رجل تقي تٌمضي جلّ اوقاتك في الانزواء والصلاة ، قد تحوّلك هذه الاموال عن التفرّغ لعبادتك  ، لا سيّما وانك تعيش لوحدك ولا تحتاج الى كل هذا المال ، لماذا لا تعيد باقي النوق إليّ  ؟ بعد تردّد قصير ، وافق الشيخ على طلبي وقال : تمتّع بهذه الاموال، ولكن لا تنسَ بان الله قادر على حرمانك منها بنفس السهولة التي حصلت عليها ، إذا لم تحسن استخدامها .
عند هذا الكلام ، اصبحتُ كالمهووس وكأن الشيطان الذي كان قد وسوسني في البداية تحوّل لمعول لا يكفّ عن دقّاته داخل رأسي ، وجعلني أشكّ في أمر العلبة التي اخفاها الشيخ في جيبه ، وقلت في سرّ نفسي لا بدّ انها تحمل سرّا كبيرا. هنا كنتُ قد فقدت ماء وجهي كاملا وبلغت حدّ الوقاحة،  ودون مقدّمات طلبتُ منه أن يهبني العُلبة. نظر اليّ الشيخ  وأخرج العلبة وقال : ان العلبة  التي تطلبها بإلحاح ، تحوي مادة إذا مسحت بها جفنة عينِكَ اليسرى ، سترى امامك كنوز كثيرة ، ولكن حذارِ ثمّ حذارِ ، لأنك اذا أخطأت ووضعتها على عينك اليمنى ، فانك ستصاب بالعمى .
طلبتُ منه حالا ان يضع القليل منها  على عيني اليسرى ، وعندما فعل ذلك ، رأيت نفسي فعلا أمام كنز هائل من الذهب . فقلت في نفسي لا شك ان العين اليمنى ستمكنني من الحصول على محتويات هذا الكنز ،  فطلبت منه وضع المادة الدهنية على عيني اليمنى . رفض الشيخ قائلا : لن افعل ذلك لأني ، وكما حذّرتك ،  ستُصاب كلتا عينيك بالعمى . لم اصدّق اقواله وقلت في نفسي :  انه من غير المعقول ان تكون نفس المادة ذات مفعولين مغايرين من عين لأخرى ، لابدّ انه لا يرغب في حصولي  على ثروة اخرى .عندما ألححت عليه ، أقسم الشيخ من جديد بانه يقول الحقّ وبان المادة ستقودني الى  العمى لا محالة ، ولكني لم أشأ تصديقه  بل ركعت على قدميّ أتوسّل اليه . 
قبل ان يضع المادة على عيني اليمنى قال لي : إنك بإلحاحك هذا متجّه الى نهايتك المحتومة ، واعلمْ بانك ستفقد كل ما حصلت عليه من كنوز ، وستندم على ذلك طوال حياتك . أمام عدم اهتمامي وتشكيكي بقوله ، قام الشيخ وهو يهزّ رأسه ، بوضع ما تحوي العلبة على عيني اليمنى ، فدخلتُ حالا عالما مظلما لم اتمكن من الخروج منه بالرغم من صراخي وعويلي ونحيبي وندامتي.
قال لي الشيخ : قد انتزع الله منك خيرات لم تكن تستحقها ، لان قلبك كان قد اصيب بعمى قبل عينيك ، قال هذا واخذ النوق الثمانين بما حملت من كنوز  وانصرف.
أما أنا ، سأكون مُشوِّها للقصة اذا اضفت أيّ شرح او تعليق، لان الدروس التي البليغة التي تحملها ، تسيل من كل فقراتها كمطر الربيع الذي يهطل بزخات ، وتبقى بعض قطراته تبطئ التساقط  لمزيد من التفكير والتحليل والتأمل.



69
قصة غراب جاء يشكو همَّه
شمعون كوسا

خرجت في نزهتي اليومية  .  لم أحاذِ النهر هذه المرّة لأني كنت قاصداً صرح قلعة شاهقة شيّدها بُناتُها منذ قرنين وسط غابة جميلة . ولكي لا اطيل على من يتربص بيّ ليقول :ها قد أتى صاحبنا من جديد ليبدأ وصفاً لا ينتهي عن الربيع   والزهور والاشجار والمياه والكلام الفارغ !!  اتخذت مقعدي فوق صخرة كبيرة وبدأت أنظر الى الغابة وما حولها. كنت اراجع ذاتي واستعرض ما سمعته وما قلته وما رأيته وما فعلته ، واعيد التفكير فيها وأتوقف احيانا للحظات تأمل ، عملية تريحني حقّاً . كنت منزويا مع نفسي محاطا بالطبيعة في جوّ ليس فيه مكان لغير النقاء والصدق والجمال. 
كنت في الدقائق العشر الاولى من خلوتي عندما ابصرت غرابا  قادما من بعيد . استقرّ قليلا على شجرة قريبة وتركها وتحول من شجرة الى شجرة .  وأنا منشغل بمتابعة طيرانه رأيته وإذا به قد حطّ ّ بالقرب منّي. لم استغرب كثيرا من هذه الزيارة لأنه سبق لي وأن التقيت الغراب قبل سنوات، ودار بيننا حديث طويل. رأيت الغراب  يحدّق بيّ  وكأنه يدعوني لاستجوابه ، فقلت له : ما الذي اتى بك هذه المرة ، أتحمل لي رسالة ام انك تشكو من همّ شخصي ؟ حاول الغراب ان يرسم ابتسامة مجاملة ولو خفيفة على وجهه ، ولكنه لم يفلح ، فقال : لقد اتيتك فعلا أشكو حالي في قصة عشت احداثها  هذه الايام . لقد اتيتك لأسرد لك قصتي طامعاً بمشورتك . إن رأيك يهمّني،  لاسيما بعد أن تابع زملائي الطيور قصتي بشوق واهتمام. قلت له : لقد شوّقتني أنا أيضا لسماع قصتك ، يا غراباً  ذاع صيت بني عشيرته  بتجمعهم فوق الاشجار للتشاور.
بدأ الغراب قائلا : كنت أُمضي ايامي في غابة غير بعيدة من هنا  في حياة هادئة هانئة . غير أن الصدفة قادتني يوماً للقاء إوزّ كبير ابيض اللون ، بل ناصع البياض ، لم يسبق لي وان صادفت لوناً بهذا الصفاء . أثار الاوز اهتمامي وبدأتُ افكر فيه وانظر الى نفسي ، واستعيد بياضه من جديد ، تكدّرت نفسي وانزعجت وحتى بصقت على نفسي قائلا : وهل انا استحق العيش بهذا السواد القاتم الذي يلبسني من قمة رأسي الى اخمص قدميّ ؟   قلت في نفسي : لا شك ان الاوز هو أسعدُ طير في العالم  . وهنا ، مدفوعا بشئ من الحسد وقليل من الفضولية ،  قمت بزيارة الاوزّ ، وعبّرت له عمّا تساورني من ظنون وشكوك. هنّأته على جمال ريشة مؤكدا له بأنه من دون شك اسعد طير في الغابة .فقال لي الاوز : أشكرك على مشاعرك ، كان  كلامك صحيح ، انا فعلا كنت اعتبر نفسي اسعد طير في العالم الى اليوم الذي ابصرت فيه ببغاء بلونين جميلين جدا أثارا اعجابي ، فقلت أنا ايضا آنذاك : لا شك بان هذا الطير اسعد طير في الخليقة ، وهو على أية حال اسعد مني لانه يرتدي لونين .
عند سماع ما قاله الاوز عن الببغاء ، حملت نفسي وقصدت الببغاء وعلى العنوان الذي زوّدني به الاوز . استقبلني الببغاء بعبارات ترحيب ردّدها اكثر من مرة ، كيف لا وهو الببغاء  ، واستفسر عن موضوع زيارتي ، فسردت له قصتي من بدايتها . صمتَ الطير قليلا ثم قال : لا تحزن يا صديقي الغراب ، ان تفكيرك في محله ، لاني فعلا كنت احسب نفسي اسعد طير خلقه الله ، ولكن سعادتي لم تدم كثيرا منذ اليوم الذي التقيت  طاووساً .  أنا لا املك سوى لونين  ، غير أن الطاووس ، يستقطب العديد من الالوان . عندما وقعت انظاري لأول مرّة على هذا الطير ،  بقيت مبهوتا وتوصلت الى قناعة ثابتة بان  الطاووس هو اسعد الطيور في العالم ، على اية حال هو اسعد منّي .
بعد سماع ما أدلى به الببغاء ،  ودّعتُه بعبارات حارة ، ويمّمت شطر الطاووس لأرى المخلوق الذي احتكر كافة الالوان الجميلة. قادني العنوان الى حديقة كبيرة مسيّجة بصورة مُحكمة . رأيت الحيوان من بعيد وقد احاطت به الجماهير فقلت ، فعلا لم يخطئ الببغاء في حكمه . دخلتُ الحديقة طائراً ، ودنوت من الطير الجميل  ، انحنيت امامه معبرا له عن تقديري واعجابي . رحب بيّ الطاووس وقال لي : بماذا استطيع خدمتك ؟  شرحت له سبب زيارتي وسردت له موضوعي من البداية وختمت حديثي بالقول : لقد تقاطر الناس من كافة الجهات  لزيارتك والتمتع بألوانك الرائعة ، يا لحظك السعيد . هل تعرف بانه ، خلافا لما يحدث معك ، حال وقوع نظر الناس عليّ ، يتناولون حجارة ليبعدوني عنهم . ايها الطير الجميل ، لا شك انك اسعد مخلوق على هذا الكوكب .
هزّ الطاووس رأسه وقال : انا ايضا كنت اعتقد باني  اسعد طير على وجه البسيطة بفضل مظهري وألواني ، ولكن ألواني هي التي قادتني الى هذا السجن . انا سجين هذه الحديقة ولا استطيع مغادرتها . لقد فكرت كثيرا في هذا الامر ، وقلبت الموضوع مراراً بيني وبين نفسي  وقارنت بين الطيور واوضاعها ، وتستغرب من النتيجة التي توصلت اليها ، لاني تيقنت  بإنك انت ، ايها الغراب ، اسعد طير على الارض لانك تكاد تكون الوحيد الذي ليس حبيس هذا الاقفاص . كم تمنيت ان اكون غرابا لاغادر هذا السجن وانعم بالحرية التي هي اثمن شئ لدينا ، وهي الوحيدة التي توفر لنا السعادة .
قال الغراب : تأثرتُ كثيرا بكلام الطاووس الذي كان يحدّثني  والدموع تنهمر من عينيه. قمت وعانقته ثم قبلته بحرارة ، وتركته بنفس هادئة ومطمئنة.
بعد انتهائه من سرد قصته، نظر إليّ الغراب وقال : ما رأيك أنت بقصتي هذه ، وهل ما قاله الطاووس صحيح أم انه مجرد استخفاف بعقلي ؟  قلت له : لقد تابعتُ قصتك بشغف ، وفعلا ما قاله لك الطاووس هو الحكمة بالذات . الحرية لا تقدّر بثمن : والعبرة العامة هي بانه  لكل مخلوق كنز في داخله وله اوصاف ومؤهلات تميزه عن الاخرين ، وانت تتمتع بامتياز ثمين لم يحصل عليه الكثيرون من زملائك .
قال لي الغراب ، هل لي أن أتجرّأ واستفسر فيما اذا كان  هذا ينطبق على معشر البشر ؟ قلت له ان قصتك أعظم درس للانسان قبل ان تكون للحيوان . على الانسان ان يبحث عن سعادته في ما يملكه هو عوضا عن البحث في ما يملكه الاخرون وقد لا يوفر لهم السعادة أصلاً .  سوف يكون هناك دوما أناس يختلفون عنا بشتى الامور .  فاذا انبرينا لمراقبة الاخرين ناسين ما حبانا الله به من سعادة ، سننجرّ وراء ما يمليه علينا  الحسد والغيرة .  وهكذا ننشغل في مراقبة الناس الى ان نموت همّا ، والحكمة كانت تقضي بان نترك الاخرين لنكتشف السعادة الحقيقية داخل أنفسنا .
وإن ما هو أهمّ من كل شئ هو أن  الانسان يتصف بشئ لا يقدّر بثمن و لم ينعم الله به على الطيور وهو العقل . عقل الانسان يحتوي الطبيعة بكل ما فيها من منظور وغير منظور، فالعقل يرى ، ويفكر ، ويخطط  ، ويتخيل ،  ويبني ، ويهدم ، ويرسم من جديد ويبدع ، ويغيّر ، ويحذف ويضيف ، العقل كفيل بتوفير ما ينقص الانسان ويمكّنه من صنع مجد يفتخر به. والانسان العاقل لن يكون سجينا أبداً حتى اذا كان مكبلا بقيود ، لان عقله قادر على فك قيوده .
عندما رأى الغراب انني تحمّست لقصته الى حدّ استخلاص  دروس قيّمة للانسان نفسه ، قال لي : انا اغادر الان مطمئنا وراضيا على لوني الاسود لاني وجدت سعادتي بشئ ثمين جدا وهو الحرية .

70
اصابنا الملل من الكتب فانصرفنا الى قراءة القهوة
شمعون كوسا

كنت قبل فترة في حديث مع احدى قريباتي عن بعض مواضيعي ،  فأعادتْ الى اذهاني  جلسة لقراءة الفنجان كنت أبديت فيها اهتمامي بالفكرة كموضوع محتمل لمقالات قادمة. في هذا المجلس ، كان كل محتسٍ لقهوتِه  قد قلب الفنجان ووَضَعَه على حافة الصحن تاركاً الثفل المستقر في قاعه يجفّ ويرسم خرائط تهدي القارئة في رحلة غوصها في غياهب المجهول بين الجبال والمغاور والطرق والفضاءات المفتوحة وغيرها . كان المرشحون لهذه القراءة معلّقين بشفاه القارئة المأذونة منصتين بانتباه شديد الى ما ستميط عنه اللثام  من ماض مليء بالذكريات الشخصية جدا ، أو التنبؤ بمستقبل تكتنفه المخاوف والهواجس والظلال ، عملية تتمّ برمّتها على هوى القارئة وطباعها  ومزاجها في ذلك اليوم.
انا الذي استخفّ كثيرا بهذه الممارسة ، كنت أسمح لنفسي التدخل بين حين وآخر ، واستبق القارئة في بعض قراءاتها ، فأقول مثلا  :  لا تنسَي فقرة العصفور الذي لم يترك فنجانا إلاّ وطار فيه ، فكانت تؤكد كلامي  وتقرّب الفنجان للأقربين اليها مستشهدة بهم ، وتقرأ صفحة كاملة  عن الموضوع . بعد أن ضمنتُ حقوق الطير في الجلسة ، اغتنمتُ برهة صمت لها وقلت : إنني ابصر من مكاني طريقا مفتوحا ، هل لكِ ان تتأكدي من قولي ؟ نظرتْ إليّ مبتسمة وقالت : هل انت داخل الفنجان لترى بهذا الوضوح ؟ إن ما تقوله صحيح ،هناك طريق مسيّج من الطرفين ينتهي بفضاء مفتوح ، وتوجهت لصاحب القهوة قائلة : استبشر يا سيد  إن الفرج قريب .
وبعد ان تحدثتْ عن شجرةٍ كبيرة ، وعن شمس ساطعة ، ورزق قادم ، وغمامة سوداء ستنقشع ، اوقفتُها من جديد وقلت : ألم تنسَي أمر الرسالة ،لأني لم احضر جلسة فنجان لم تعثر القارئة  فيها على رسالة ؟ شعرتُ هنا وكأني احرجت القارئة التي اعتبرتْ كثرة ملاحظاتي  تدخلا في اختصاصها  . قامت تبحث عن الرسالة مرغمة ، أدارت الفنجان مرتين ومستعينة بخيالها ، قالت : فعلا اني ارى خطوطا تشبه ورقة لابد انها رسالة سيستلمها صاحبنا عن قريب .   قلت لها ما نوع الرسالة، هل تحمل خبرا سارا أم بالعكس ؟ فردّت عليّ قائلة : هل انا الذي سوف أستلم الرسالة ام صاحبُها ؟ بوسعك التواصل معه لمعرفة فحواها .  جوابُها هذا ذكّرني بنكتة شيّقة لم أقوَ على منع نفسي من سردها هنا. وهي عن رجل معتوه كان يمسك بيده قلما وكأنه يكتب رسالة ، فسأله طبيب المصحّ قائلا :  ماذا تفعل ؟ قال المريض اكتب رسالة . قال الطبيب: ولمن ستوجهها ؟ قال انني اوجهها لنفسي . قال الطبيب:  وماذا تكتب في الرسالة ؟ فابتسم المخبول بدهشة وقال : هل بوسعك معرفة مضمون الرسالة قبل ان تستلمها بالبريد ؟ !!
في اسفل الصفحة الثالثة من كتاب الفنجان ، وصلتْ قارئتنا الى بند الطائرة والسفر ، ومدّت الفنجان امام انظار جارتها مشيرة الى موضع الطائرة . عندما خلتها في ختام قراءتها ، قلت لها بشيء من السخرية : وأين عين الحسود ؟ تناولت صاحبتنا الفنجان بامتعاض ،  وبعد ان أعادت حساباتها ورؤاها وتفسيراتها،  واستنجدت من جديد بخيالها ، قالت : فعلا هناك عين بعيدة في الجانب الايمن الجنوبي من الفنجان ، وفقأتها بأصبعها . وخوفا مِن ألاّ اذكِرّها بأمور اخرى ، استمرت بتقليب الصفحات في قراءة مواضيع لا تضرّ ولا تنفع عن مرض يمكن تجنبه ، واخبار سارة عن نجاح وخطوبة وزواج ، أمور عامة لا بدّ لها ان تتحقق في حياة أي انسان .
إن قراءة الفنجان تندرج ضمن ممارسات اخرى كفتح الفال وقراءة الوجه او الكف ، او الابراج أو رمي زهر النرد أو البحث عن فك رموز قديمة بواسطة الحروف والارقام ، أو قراءة علامات معينة في السماء تدعو للتفاؤل أو التطيّر والتشاؤم ، وايضا العودة الى تنبؤات شخصيات تاريخية مثل نوستراداموس وغيره ، في محاولة لتقريب هذه العلامات والتنبؤات من وقائع معينة او ظروف خاصة نمرّ بها. كان الانسان دوماً يحتاج الى كشف المجهول ومعرفة المصير، أو التعجيل في معرفة مستقبل قريب متمنيا سير الامور كما اشتهتْها سفنه ، حتى اذا كان قائلها وكاشف غطائها مازحاً او حتى كاذبا.
فكّرتُ في الموضوع مليّاً وقلت بان امر الفنجان شائع ، وكل قارئة لها فقرات عامة تفسرها على هواها وعلى هوى ما تقرأه في وجه زبونها ، لماذا لا اخوض أنا ايضا هذه التجربة واقوم بقراءة فنجان لنفسي ؟ لاسيّما وأن الخيال سيوصي عليّ عند كافة مكاتبه وفروعه. قمت بغلي القهوة وبعد ان سكبتها في فنجان كبير احتسيت ثلثيها . قمت بمراسيم تجفيفها ، بغية الحصول على أكبر عدد من خرائط تحوي مباني وطرق مواصلات ومدن وبشر وحيوانات. امهلتُ الفنجانة المدة الشرعية المنصوص عليها ، وعندما امسكت بها امتلا قلبي فرحا لان ورشة الرسم كانت عامرة  بصفحات توفر قراءة ممتعة ، فتناولت الصفحات تباعا وكانت حصيلة رؤيتي كما يلي :
رأيت شجرة كبيرة جدا امتدّت بعض جذورها الى ما وراء الجبال ، وطال جذعها  فدخل عدّة منعطفات ، منحدراً هنا ومرتفعاً هناك الى انتهي بفروع وأغصان كثيفة الاوراق توزّعت على مساحة مائة وثمانين درجة . كانت نهاية الاغصان في مناطق واسعة مقفرة ، بالرغم من مساكنها الكثيرة . كانت الشجرة قد نفضت بعض اوراقها هنا وهناك.  جلستُ لامعن النظر في الشجرة ومسارها ،  ودعوت نفسي لوقت قصير من التأمل ، كنت انظر الى الرسم واغمض عينيّ ، واقلب الموضوع مرتين وثلاث ، وبعدها قرأت الفنجان لنفسي بصوت مسموع قائلا  : هناك طرق طويلة  خلت من سالكيها ، وبعد ان قطعوا شوطا كبيرا  انتهوا الى  مساحات مشيدة وهي المدن والقرى . كان بعض الناس قد وصلوا والبعض الاخر  جالس على قارعة الطريق ، وقسم آخر يركض لأنه أشرف على إصابة الهدف المنشود  . كانت وجوه السائرين مبتهجة . هل هناك تفسير آخر لما اراه سوى أنّ الجماهير متجهة الى القرى التي نزحت منها ، وها اني أشبِه بينهم  أشخاصا اتوقع معرفتهم . رأيت الجماهير وكأنها  دخلت قره قوش ، واخرى على وشك الدخول الى برطلة  وكرمليس ، وفي الجهة الاخرى ابصرت اناسا رفعوا علما في بعشيقة وبحزاني وسنجار ، وبعد تقليب الصفحة، رأيت الناس يهللون في تلكيف ، وباطنايا ، وباقوفا ، وتلّلسقف ، ورأيت جماهير غفيرة اخرى قد خرجت لاستقبال   القادمين والترحيب بهم ،  فقلت لا بد ان هؤلاء هم اهالي القوش الابطال .
 بحثت عن مدينة الموصل فرأيتها هادئة ومأهولة ، غير اني  لم ألحظ اناسا يدخلونها ، فقلت لا بدّ لي من الاستفسار  او السفر الى المدينة لأتأكد بنفسي من وضع مدينة مهمة لم أبصر فيها حركة العائدين ، ولكني استدركت نفسي وقلت : اذا لم تكن الموصل قد خلت تماما من حملة الرماح والسيوف ، وأيضا من ربّهم  الدمويّ الذي يلتذّ بتعذيب خليقته وذبحها !! ، كيف تطمئنّ نفسُ ساكني هذه القرى ويعودون اليها دون خوف ؟
لم أرَ في الفنجان عينَ الحسود ولا فضاءات مظلمة أو ابواب مغلقة ، كانت الشمس ساطعة والاشجار قد اخضرّت والعصافير  ومعها الفراشات تتحوّل من غصن الى غصن لمواكبة العائدين ، فانتهيتُ بقناعة بأن الفرج قريب . هذه كانت قراءتي الخاصة للفنجان . ولماذا لا تصحّ القراءة ، لاسيما وانّي كرّستها لهذه النية التي تشغل بالنا جميعا ،  وتعبر عن آمال مئات الالوف من المنكوبين الذين رأيتُ كل واحد منهم في خيالي  يشاركني برشفة من فنجاني ذي الحجم الكبير؟ 



71
تقلبات أخَلّت بنظام الطبيعة
شمعون كوسا

عندما بلغ شهر كانون الاول منتصفه ، تهيّأ الناس هنا في فرنسا ، كما اعتادوا دوماً ، لاستقبال البرد بكافة مكوناته من امطار ورياح  وثلوج  وصقيع وانجماد . فالرجل الاوروبي لا يمكنه تخيُّلَ اعياد الميلاد ورأس السنة  دون ثلوج ، فالثلوج بالإضافة الى المنظر الخلاب الذي توفره ، فأنها تكوّن مدارج للمتزلجين، وتساهم في إسعاد المتقدمين في العمر ، مِمّن يلذّ لهم الجلوس مطوّلا بقرب الموقد بحثاً عن الدفء ورغبة في مرافقة الحطب في احتراقه.
بقيتْ درجات الحرارة فوق معدلاتها بكثير، حيث كانت كالمتسلق الشقي الذي صعد كثيرا فانقطعت به سبل العودة للنزول . توالت الايام واصبحنا في اليوم العشرين من الشهر ، والجوّ بدا وكأنه في الهزيع الاول من نومه  . شرع الناس يتكهنون والكثيرون تصفحوا اوراق الماضي حيث كان  القدامى يذكرون امثالا عن احتمال  إمضاء عيد الميلاد في البلكون  !! وفعلا حلّ الميلاد وعقبه يوم رأس السنة والطقس لم يتحرك قيد انملة . وقال بعض المعمّرين بانهم لم يشهدوا هذا منذ ثمانين او مائة سنة.
شروق الشمس المتكرر عبر أشعة ساطعة،  خلق الملل في نفوس الناس ، واربك نموّ الاشجار والازهار والطيور وحتى الحيوانات . لقد اعتاد الناس على البرد القارس في الشتاء الذي يقوم بوقاية الطبيعة من الكثير من الآفات لا سيما الحشرات الضارة . انا الذي اتنزه كثيرا بين الاشجار وعلى ضفاف النهر ، سمعتُ قبل ايام بعض نغمات قصيرة لبلبل شداها بسرعة وطار ، توقفتُ باحثاً عن مصدر الصوت ، غير اني لم أبصر أي طائر على مسرح الغناء . فهمتُ حينذاك بان صاحب النغمة المبكّر ، كان يرغب في جسّ نبض المارّة او ردّ فعل زملائه ، وعندما لم يلقّ صدى ولّى هارباً.
كنت الاحظ  البراعم قد انتفخت والبعض منها اوشك على التفتّق ، حتى إني رأيت غصنا لشجرة مثمرة  قد انتهى بوردتين . اما عن الورود فأنها  استجابت بصورة كاملة لأوامر الشمس واشعتها بكل حرية ودون حرج .
كانت البلابل قلقة وتلتفت الى كافة الجهات حائرة وتقول : هل سنبدأ الان  موسمنا ونغماتنا الجديدة أم ننتظر ، لان الجوّ بدفئه الذي طالت ايامه يدعونا الان الى التغريد ؟ ومن اين سيأتينا  الامر ، أليست هي الطبيعة التي تسيّرنا ؟ بعد الكثير من التردّد ، تمنطق احد البلابل بالجرأة وحرّك جناحية  أسوة بقائد اوركسترا ، وبدأت الاصوات الربيعية تخرج وتشنف الاذان ، كان المارّة ينظرون الى بعضهم البعض ، سعداء بما يسمعونه غير انهم كانوا يتساءلون مبتسمين ، وهم ينظرون تارة الى ساعاتهم وطوراً الى السماء ويلتفتون الى ما حولهم قائلين ، ماذا دهى الموسم ، لازلنا في مستهل الشتاء ،  هل بدأ الربيع ؟!!
عندما سمعتِ الاشجارُ شدوَ البلابل ، أوعزت لأوراقها ولورودها بالسير قدما في نموّها وتفتحها ، وهكذا فعلت بقية الزهور وحتى الحيوانات قدّمت مواعيد ولاداتها والفراشات بدأت بجولاتها ، استمرت الطبيعة في احتفالها هكذا لمدة اسبوع الى أن  داهمها البرد على حين غرّة ، اذ سقط الثلج بغزارة ليكسوَ الجبال والمدن والقرى وكافة المزروعات بحلته البيضاء .
حلّ البرد مصحوبا بكافة أفراد عائلته ، غير انه انذهل لِما رآه من  بلابل تغرّد ، واشجار اخرجت اوراقها الفتية وأخرى زهّرت ، وورود تفتحت دون ايّ حرج . وقف البرد ينظر ، ينظر الى رعاياه متسائلا : لماذا جرى كل هذا ، ألسنا في بداية الشتاء أم انا المخطئ ؟ ما الذي جرى ، ومن أصدر أمر ابتداء فصل الربيع ؟ ورفع عينيه نحو البلابل ، فوجدها واجمة ترتعد خوفا من الغضب القادم ، والتفت الى الازهار ، فرآها وقد انحنت في محاوِلةً إخفاء الوانها الزاهية ، وتحوّل نحو الاشجار التي كانت منتصبة دون حراك بالرغم من هبوب الرياح، وخاطب بعض الحشرات والحيوانات ، فراها جميعا تشير الى البلابل .
وهنا صدر صوت يقول:  كل هذا حصل بسبب البلابل التي بدأت تنشد أنغامها فاعتبرنا نفسنا في فصل الربيع. اقترب البردُ من بلبل قريب مستفهما الموقف ، فأشار هذا الى الغراب قائلا : سمعته ينعق  بحرية  فانخدعت به . قاطعه البرد زاجراً وقال : ومنذ متى كنا نهتدي بنعيق الغراب ، ألم نعتبر نعيقه دوماً نذير شؤم ؟ وفي محاولة ثانية للدفاع عن نفسه، قال البلبل : لقد بحثت كثيرا عن تقويم هذه السنة ولكني لم احصل عليه ، فاعتمدتُ اشعة الشمس التي لم تنقطع عنّا يوما، وقرأت في الظاهرة هذه علامة لبدء الموسم !!  أما العناصر الاخرى  فأنها كانت تُلقى اللوم على بعضها البعض ، وحتى الشمس لم تدع اللائمة تمرّ عندما قالت : انا مكلفة بالشروق والغروب ولا احد يستطيع حجب اشعتي الا الغيوم التي ، كما يظهر ، لم تؤدّي دورها .
قال البرد ، ها قد اتيتُ بمعدّات كاملة وموكب مهيب من  الرياح والامطار والثلوج والصقيع وغيره ، إنها عملية لا أقوى على إلغائها إرضاءً لكم ولتصرفاتكم . انا لا ارغب في معاقبتكم ولكنكم انتم الذين حكمتم على انفسكم ، ولأجله فان البراعم التي تفتقت ستموت ، والزهور ستذبل ، وكل ما بدأ في غير موسمه سيزول ، كان يجب عليكم الانتظار والبقاء في السبات الى ان آتي اليكم .
قبل اختتام المقال ، اود ان اذكر موقفا شبيها بموقف البلبل الذي أدخل زملاءه بالتجربة . ففي احد ايام الصيف ، كنت عائدا من مدينة الزرقاء باتجاه عمان ،  وحال وصول الباص الى منطقة العبدلي ، نزل منها راكب يتصبّب عرقاً واسرع نحو بائع المرطبات وطلب منه علبة لأحدى المرطبات وفتحها وبدأ يشرب ، وكان الزمن زمن الصوم الثلاثيني !! استغرب البائع وسأله : هل رُفع الآذان ، اجابه الراكب وهو يغادر بسرعة : نعم . لم يكذّب البائعُ الخبرَ وهمّ برفع قنينة ماء الى فمه !!
هذا كان قرار البرد الذي لم يبقَ له خيار آخر. أما أنا ، فقد قد قمتُ برسم تقلبات الجوّ كما عشتها تقريبا . أعتبرُ مقالي هذا بمثابة لوحة لفنان مبتدئ،  يرى المشاهد فيها ما يناسبه ، قد يستخلص فيها البعض درسا في الصبر وآخر امثولة في الحفاظ على النظام  وآخر يرى فيها الحاجة الى الثقة ، وآخر  درسا في الوفاء والاخلاص وآخر قد لا يرى في كل هذا غير مقال تافه ، وهذا ايضا يكون من كامل حقّه !!
 

72
لماذا لم أرَ الخريف كما كنت أراه سابقاً
شمعون كوسا

قبل ايام عند نهوضي صباحاً جلست كعادتي استطلع الاجواء واستعرض جدول اعمال الطبيعة وخريطة الطريق التي رسمتها لي  لذلك اليوم . كان نهارا خريفيا في أواخر ايامه ، القبّة الزرقاء  مشوبة ببعض الغيوم المتسارعة هربا من رياح قوية عاتية لا ترضى إلا بإخضاع كلّ ما يصادفها  وتطويعه . كنت اتابع من نافذتي حركة الرياح التي  لم تتوقف، كانت بين كرّ وفرّ وبنفس الزخم  ، وكأنها تقود حملة شاملة لتعرية الاشجار وحرمانها من كافة اوراقها التي   كانت قد تبلّغت بالحملة ، لأنها كانت تودع أغصانها وتتهيأ للنزول قبل ان ترغم على ذلك مكبّلة اليدين ، مؤمنة بان هذا قدرها .
في هذه الحملة التي لم تهدأ ، كانت انظاري معلقة بشجرة قريبة . كنت ارى اوراقها تتساقط الواحدة تلو الاخرى ، باستثناء ثلاث منها ،كانت تميل عند كل هبّة ريح مطأطأة الرأس إجلالا للزائر الجبار أو إتقاء لشرّه . بقيت الاوراق صامدة في مكانها للحصول على مهلة ولو بسيطة من الحياة ، لان السقوط كان يعني لها الموت ، هي التي كانت في التحام مصيري مع غصن قام بتغذيتها وادامة حياتها . بالرغم من جهودها المستميتة للصمود  ، لم تتركها الرياح ، وعادت اليها عشرات المرات إلى أن أفلحت في انتزاعها من مكانها . التجأتِ الاوراق المتمردة الثلاث الى شجرة اخرى واصبحت تنتقل من غصن الى غصن . كانت تطرق باب كل شجرة الى ان استقرت على اغصان شجرة بعيدة. وقبل أن تهنأ بلحظة من السكينة ، وجدت نفسها في قبضة الريح ، التي طارت بها عاليا لتسقطها بعنف .
 كنت مندمجا كليا بمشهد الاوراق التي تركت موقعها ، بكميات هائلة ، دون مقاومة ، وتابعت  بترقب واهتمام مسار الاوراق التي حاولت الصمود دون جدوى.   تركتُ الاشجار وعُدت قليلا لنفسي ، فوجدت بان الظاهرة الطبيعية هذه قد حملتني حالا ، ودون ارادتي ، الى ما نعانيه هذه الايام ، من جراء ريح بشرية عاتية هبّت على حين غرّة ، وبطشت بمدن وقرى منطقتنا  . انها ريح لم تأتمر بأوامر الطبيعة ولكنها  وليدة شرّ يقوده عقل بشري .
 رياح بشرية جديدة مرعبة افلحت بهزيمة كافة الناس الآمنين الذين سقطوا ، مثل الاوراق ، الواحد تلو الاخر ؟
على شاكلة الاوراق الصامدة ، تخيلت البعض من هؤلاء الناس الامنين قرروا الصمود قليلا   بوجه هذه الرياح السوداء ليقولوا غاضبين :
لماذا ترغموننا على ترك أرضنا وأرض اجدادنا ، ألا تعلمون بانها جزء منّا ؟   
    لما ذا ترغموننا على إنكار أعرافنا وعاداتنا وتراثنا وحتى معتقداتنا ؟
             لماذا انتزعتم الجمال والنور والتفاؤل من حياتنا ؟
 لماذا تخيّرونا عنوة بين أن نكون مثلما ترغبون أو لا نكون ؟
 لماذا تقضون على أحلامنا ومشاريعنا وآمالنا ؟
 أولستم الان تقتلون نفسنا البشرية بإبعادنا عنوة عمّا كان يمثل حياتنا وسبب وجودنا ؟
 انكم عازمون إعادتنا الى الخلف ، الى عصور مظلمة بعد ان اطمأنّت نفسنا ببلوغنا عصر الحرية للعيش بسعادة وأمان .
 أولستم بذبحكم كائنات بشرية عاقلة ، تقضون على الحياة برمتّها ، تقتلون العقل الذي يطوّر العالم ويحتويه ويسيطر عليه ، لأنه باختفائه يختفي العالم كله ؟
 لقد خلق اللُه الانسانَ حرّا  بحيث انه لا يتدخل في أعماله مهما كانت ولا يُخضعه لحساب في هذه الحياة ، فما بالكم  تقيمون الدينونة في هذه الحياة وتدينون الناس وتعاقبونهم على هواكم قبل يوم القيامة  ، هل انكم مكلفون بالقيام بدور الله على الارض  ، هل اتيتم لتُنهوا دورَ الله ؟!!!
يجب أن تعرفوا جيدا : في هذه المرحلة من الحياة ،  يحتاج  الانسان الى أخلاق وليس الى شريعة ، لان الاخلاق الحميدة هي وليدة قوانين تؤمّن للإنسان حقوقه في هذا  العالم المتحضر ، انها ذات القوانين التي حافظت على حقوق الانسان واتاحت لكل دولة متحضرة الوصول الى درجة من الرفاهية والعيش بأمن وسلام وحرية .
وعندما رأت الاصوات الصارخة هذه ، بأن العاصفة السوداء سوف لن تهدأ ، سقطت كأوراق الخريف ، سكتت وغادرت ارضها باكية على حياة انتزعت منها.
 اما أنا ، فإذا استمررتُ على هذا المنوال سوف لن تهدأ عاصفتي ، لذا اقول : انه غضب لم أقوَ على إخماده . كما اود ان اقول بانه منذ هبوب هذه الرياح الشريرة،  لا استمتع بمنظر الخريف الجميل كما كنت استلذّ به سابقاً ..

73
قصة مواطن يتقدم بشكوى ضد الدولة
شمعون كوسا

كان الشرطيان جالسَين لاستقبال المراجعين في المديرية، أحدهما منشغل بحلّ الكلمات المتقاطعة،  والثاني يلهو بهاتفه النقّال. وبينما كانا غاطسين بلهوهما ، دخل عليهما شخص  في الستين من عمره ، رجل قصير القامة  تبدو على محيّاه علامات توتر شديد ، وعيناه محاطتان  بهالة سوداء تجعله يبدو كالناجي من ليلة ليلاء لم ينجلِ صبحها تلقائياً . تقدّم صاحبنا نحو الشرطي الاول ، واخرج من جعبته ملفا منتفخا وقعت بعض اوراقه بحثا عن هواء يعيد اليها   انفاسها. رفع الشرطي عينيه قليلا ، ودون ان يسأله عن طلبه ، أشّر عليه الاتجاه نحو الممرّ المؤدّي الى صالة الانتظار  رقم 15 . لم يتحرك  صاحب الملفّ من مكانه وقال بصوت عالٍ : لقد قصدتكم هنا لموضوع هام وعاجل ، ألا تريد سماعي قبل دعوتي للانتظار؟ اجابه الشرطي منزعجا : الا تستطيع العودة بعد قليل ، لأني لم أنهِ بعدُ ما بدأته من كلمات متقاطعة !! 
عند سماع هذا الكلام، دفعت الفضولية الشرطيَ الثاني ، صاحب الهاتف النقال ، فنظر الى المراجع داعيا إياه للكلام . فابتدأ صاحبنا دون مقدمات قائلا  : (أنا قادم هنا لتقديم شكوى ضد الدولة) .  لدى سماع هذا التصريح ، نظر الشرطيان الى بعضهما بدهشة  وانفجرا ضحكا . قال لهما المراجع غاضباً : أود ان اعلمكما باني مواطن ولست ممثلا هزليا ، وأبرز بطاقته الشخصية واضاف : انا مهندس في مجال البتروكيماويات واعمل استاذا في الجامعة .
قال له الشرطي : يا ايها الاستاذ العالِم ، لماذا تبحث عن متاعب ؟ كيف تتجرّأ بالتفكير أصلا بهذا الكلام ، الا تعلم بانه من غير الممكن مقاضاة الدولة ؟
كان الحوار المقتضب هذا مسموعا من غرفة قريبة، فخرج صوت من الداخل ينادي قائلا: ماذا يجري ؟ لدى سماع صوت الضابط المفتش ، همّ الشرطيان بإخفاء ادوات لهوهما وأجابا : سيدي المفتش ، هذا المراجع يرغب في تقديم شكوىً ضد الدولة .  خرج المفتش من غرفته وصافح الزائر وقال له : هناك مركز شرطة في مدينتكم ، لماذا قدِمتَ الى العاصمة ؟ أجابه الاستاذ الجامعي : لقد مللتُ المراجعاتِ ، والانتقالَ من دائرة الى اخرى ، ومن قسم الى آخر وسماع مسؤول يحوّلني الى آخر . لقد تعبت من الصعود والنزول دون جدوى ، وسئمت الانتظار لساعات طوال في غرف اعتاد عليها الناس بالرغم من روائحها الغريبة . لقد انتظرت ساعات وانصاف ايام ، وفي اكثر الاحيان ، كان يأتيني الساعي كي يقول : ان المدير مشغول ، او قد خرج في مهمة . كنت أعلم علم اليقين بأنه يكذب ولكني كنت اعرف أيضا بان الاحتجاج لن يجدي نفعاً .
قصتي يرويها لكم بصورة مفصّلة هذا الملف الذي ، هو بدوره ، ملّ من ازدياد حجمه .  كلّ هذا جعلني ان أختار الاتجاه مباشرة الى الله عوضا عن اللجوء الى قديسيه !! تركت كافة المراكز والمديريات واتيت الى مركز العاصمة . 
بيد مرتعشة اخرج صاحبنا بعض الاوراق المهمة وتابع قوله : لقد وقعتُ ضحية  ضحية نظام فاسد .  ففي سنة 1977 ، حصلتُ على قطعة ارض من البلدية ،  مساحتها 150 مترا مربعا  ، وهذا المستند يثبت كلامي ، فهو يحمل كافة التواقيع اللازمة  . قمت بتسديد قيمة القطعة كاملا مع الرسوم المترتبة على تسجيلها ، وهذه هي الايصالات.
بعد مرور سنة ، ذهبتُ لتفقّد احوال القطعة ، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت بأنها مبنية من قبل شخص آخر . قلتُ للساكن الغريب إن هذه القطعة لي وابرزت له الامر الذي بموجبه تم تمليكي إياها ، هو بدوره اخرج لي سند ملكية الارض مع اجازة البناء وكل التراخيص الاخرى ، وكانت فعلا كلها اصولية وقانونية . منذ تلك الحظة ابتدأتْ معاناتي . راجعتُ البلدية التي كانت قد خصصت لي تلك الارض ، قال لي احد المسؤولين  بان ما حدث مجرّد سهو ، غير انه ليس بوسع البلدية طرد المالك الجديد ، ولأجله سيتمّ تخصيص قطعة جديدة لي ، قالها لي بابتسامة عريضة بلغت حدّ اذنيه ، وكأنّه يهنّئني بموضوع بسيط  شبه محلول .
كان ذلك قبل ثلاث سنوات ،  كنت انتقل يوميا من البلدية الى الوزارة ، ومن الوزارة الى البلدية ، لقد وعدوني بالقطعة وتناسوا الوعد . التجأت الى المحاكم ، غير ان القضاة كانت عيونهم مركزة على جيوبي أكثر منها على  حقي الموعود السليب. لا الرسائل التي ارسلتها بالبريد المسجل ، ولا صلواتي في بيوت الله ، لم تصل الى الجهات الموجّهة اليها . اصبح المحافظ لا يطيق رؤيتي ويصرّح بالحرف الواحد أن رؤيتي تزعجه ، وعندما كنت اراجع مراكز الشرطة ، كان مسؤولو الاستقبال يتطيرون مني شرّا ، ويستعيذون بالله وكأنهم في حضرة شيطان رجيم .
كتبت الى الوزير اكثر من عشرين مرة ، كان قد قرأ  الرسالة الاولي التي لم ترق له،  وبعدها كان قد أعطي تعليماته كي تُحال رسائلي المتتالية مباشرة الى الجهة المعنية التي لم تكن غير سلة المهملات .  وانا في حالتي النفسية هذه ، وقعتُ فريسة امراض مزمنة . وبالفعل وجدت بعض الامراض الفرصةَ مناسِبةً لفتح مكاتب او فروع لها   في شراييني لترفع ضغطي ، واخرى استقرت بالجوار من قلبي كي تشوّش على  نبضاته ،  واخرى استقرت في معدتي لتزيد من عسر هضم كنت اشكو منه . شرعتُ بتناول المهدئات وأدمنت عليها ،  هجرتني زوجتي منذ اكثر من سنة . وها اني اعلن اليوم بان  زيارتي هذه ستكون الاخيرة  ، فاذا لم ينصفني المسؤولون والحكّام  ومعهم الدهر ، لا اعرف ماذا سأفعل.
عند سماع الحديث هذا ، أوعز المفتش الى أحد الشرطيين تدوين  الافادة كما اتت بكل تفاصيلها  ، وحسب  الاصول ، ووعد المهندس البتروكيماوي خيرا ، وانصرف .
يقال بان صاحبنا انتظر طويلا. كانت آخر مراسلاته لمركز شرطة المدينة ثلاث سنوات قبل موته . حصلت الموافقة لمنحه قطعته بعد اربع سنوات .     
بهدف إتمام القصة ، التجأتُ الى بعض الخيال وتوصلت الى ما يلي  :  تمّ تكليف احد عناصر الشرطة  بتبليغ الخبر الى المتوفى وهو في القبر . بعد ان انتهى  الشرطي من تلاوة النبأ السار على نزيل القبر ، قفز الى الوراء هلعاً  لانه  لم يكن يتوقع ان يتكلم   القبر ويقول : ارجوكم دعوني وشأني ،  لقد عثرت على قطعة الارض التي تأويني ،  هي تسعني  وانا مرتاح منها  . أنا أخشى ، اذا قمت لاستلام القطعة ، ألاّ أُفاجَأ بشخص جديد قد سبقني وأن بناها وسكنها  !!! 
لقد استلهمتُ فكرة هذه القصة من رواية اسمها : ماذا تنتظر القرود ، لكاتب فرنسي جزائري. استلهمت الفكرة وفصّلت الزيّ والالوان على مزاجي وطريقتي الخاصة . وجدت المشهد نموذجا حيّا للفساد المتنوع الذي استشرى في بلداننا واصبح ممارسة عادية . بلادنا التي ، في بعض الاحيان ، إرضاءً للأعلام وتمويهاً للحقيقة ،  تقوم بحملات صُورية لمكافحة الفساد ، حملات يختفي ذكرها حال بلوغها مراتبَ وأشخاصاً  لا سبيل لإزعاجهم أوالمساس بهم !!!
 


74
حديث صريح مع شخص له شكوك ايمانية

شمعون كوسا

لي صديق اسمه جان فيليب ، تعرفتُ عليه قبل سنوات . جان فيليب  رجل طيب المعشر ، مثقف  وذو أخلاق عالية ، غير انه ضعيف الايمان جدا ، الى حدّ الانعدام . قبل ايام بينما كنا نتجول في نزهة خارج الحارة ، قادتنا اقدامنا بعد أربعة كيلو مترات ونصف من السير الى موقع يطل على منظر جميل . توقفنا تلقائيا وجلسنا على صخرتين متجاورتين لا سيمّا واننا كنّا بحاجة الى قسط من الراحة .  بعد دقيقتين من صمت عميق ، إلتفتَ إليّ جان فيليب وقال : منذ عامٍ وانا اتوق لفتح حديث خاص معك ، لأني ألِفتك شخصا منفتحا يتسع صدره لسماع بعض الآراء الجريئة دون غضب او تحريم او تكفير. أرى المناسبة مؤاتية الآن لأتناول بصراحة بعض  جوانب إيمانية  تتعلق بأوضاع الساعة .  هل لك ان تصغي إليّ  حتى اذا أتيتك بما لا يوافق قناعاتِك ؟ 
اقلقني كلامه في البداية ، ولكني لم أتأخر عن القول : انت صديق قديم ، ولطالما تحدثنا ،  وفكرنا وحللنا واستعرضنا الامور وعبرنا كلّ منّا عن رأيه الشخصي ، وكانت نقاشاتنا تتّسم بالصراحة التامة . وفي هذا المجال بالذات ، أودّ ان اضيف الى معلوماتك بأنني انتمي الى مؤسسة روحية تؤمن بحرية الفكر ، وتبيح للشخص تبنيّ ما يراه صائبا واتّباعه اذا اشبع قناعاته . أفصِحْ إذن بما يخالج صدرك ، فكلّي آذان صاغية ، وسوف احاول الاجابة على قدر ما سمعته وتعلمته . أنا  لست ممن يكفّرون ويغضبون ويهددون ويحرّمون عند بلوغهم الخطوط الحمراء . انا مقتنع بان للعقل البشري فضاء لا متناهٍ ، يحلق فيه على هواه  وفي كل الاتجاهات   .
قال جان فيليب : إسمعني إذن : انا افكر كثيرا  بهؤلاء الذين اقتُلِعوا قبل سنة ونيّف من أراضيهم ، واضطرّوا لترك  بيوتهم واموالهم وأراضيهم ومحاصيلها ، ألم يكونوا جميعا اشخاصا مؤمنين بالله ؟ 
 قلت له : وكيف لا ؟!!
قال : ألم يُمضِ هؤلاء ، وقبلهم آباؤهم  واجدادهم القريبون والبعيدون  حياتَهم كل يوم في العبادة والصلاة وتطبيق الوصايا والقوانين الدينية ؟
قلت : بلى.
قال : من جهة اخرى ، ألا يُقال بان الله هو الخالق ، والاب الرحيم ، والقادر على كل شئ ، ولا شئ يتمّ دون ارادته ؟
قلت له : هذا كله صحيح ، اين تريد ان توصلني ؟
قال لي :  هذا الكائن الاعظم الذي لا يريد الا الخير والقادر على كل شيء ، لماذا سمح ببلوغهم هذه الحالة المأساوية ؟ الم يكونوا له اوفياء ، ويبتهلون إليه ليل نهار ؟
قلت له : انه سؤال صعب ويتطلب ردّا مطوّلاً ومعمّقاً ،  غير اني سأحاول ايجاز جوابي ، وعلى الشكل التالي : فيما يخص الله ، لقد أوجد الحياة  وجبل الانسان وحباه بعقل يرى الخير والشر ويميّز بينهما ، واطلق له حرية  الاختيار بينهما . المهاجرون المنكوبون ، وقعوا ضحية اناس يحملون نفس هذا العقل ، اناس اختاروا الشرّ منهجاً في حياتهم . هؤلاء ،  كما هو حال جميع الناس ، خاضعون للمبدأ العام للحرية ، لان الله لا يتدخل في حرية كل فرد او جماعة ، وإلا كنا سنقول مثلا :  لماذا وقعتِ الحربان العالميتان في النصف الاول من القرن الماضي ؟ أو حروب الديانات في القرون الوسطى ؟ أو لماذا سُمح للحاكم الفلاني والفلاني ، في فترات متفاوتة من الزمن ، التسبب بقتل الالاف او الملايين ؟ ولماذا لم يتمّ منع الاوبئة التي اودت بحياة الاف الابرياء ؟  و.. و..و.. ؟ إن ما حدث أخيرا رهيب ويقشعرّ له البدن ، ولكنه من جهة اخرى ،  اذا قورن بما حدث  لغيرهم  وفي نفس الوقت ، نجدهم  محظوظين نسبيا لانهم على الاقل بقوا على قيد الحياة . هناك من لم  ترحَمْهم يد الشرّ في الظروف ذاتها ،  فتمّ ذبحهم كالشياه ؟ باعتقادي  يجب تخفيف الامر قليلا  بالنظر من هذه الزاوية ، لان أغلى شيء لدى الانسان هي حياته .
قال جان فيليب : رجال الدين لا يكفّون عن الطلب من هؤلاء الصلاة ، بغية تسهيل عودتهم  . الم يكونوا يصلون كلّ يوم ،  قبل وقوع المأساة ؟ أوَلم تكن  صلواتهم موجهة لنفس الله ؟ قلت له : نعم هذا صحيح .
قال : وهل صلاتهم للعودة ستقود الى نتيجة  ، ألا يخاطبون نفس الخالق ؟ وهل صلواتهم قبل وقوع الكارثة لم تكن كافية لتمنع عنهم المصيبة ؟ ام انهم يجب ان يقوموا بالمزيد من الالحاح والتوسل ؟
قلت له : ليس بوسعنا معرفة ما يريده الله لان طرقه وافكاره غير قابلة للإدراك . غير انّ  ما نحن واثقون منه هو ان الله لا يمكنه ان يضمر الشرّ للإنسان  ، واذا سمح احيانا ببعض الاحداث ، التي  قد تكون سلبية  ظاهريا ، فانه  ينوي اختبار صبر الانسان .
أما عن الصلاة وفائدتها اقول : ان الصلاة دخول في مناجاة الله ، عملية يعبّر فيها  الانسان  عن احتياجاته ورغباته . والصلاة هي ايضا استسلام كامل لإرادة الله والكثيرون يجدون فيها سلاما داخلياً . والصلاة كأي طلب، استجابتها ليست تلقائية وتتطلب صبراً وطول أناة .
قال جان فيليب : افهم من كلامك بان المصلّي يبقى معلقا وكأنه في نفق لا يبصر نهايته ؟
قلت له : تعاليمنا ، وبفم المسيح  نفسه تردّد القول :صلّوا ولا تملّوا . ولأجله لا مكان للملل في الصلاة ولا يجب ان ينقطع حبلها . ما نحن متأكدون منه هو أن الشرّ كالكذب حبله قصير ، وبأن الحق لابدّ له ان يبان في النهاية وينتصر. ولهذا  يقال بان الصلاة تتطلب مثابرة وصبرا، والذي يصبر الى المنتهى فهو يخلص .
قال جان فيليب : اني ارى في ردودك اجوبة مسبقة الصنع ، يتفوه بها بعض رجال الدين دون قناعة ، يقولونها بالضبط مثلك ويعجّلون بقولها لان افكارهم تجول في مكان آخر . واضاف  ايضا :  ردودك شبيهة ايضا بلغة الخشب التي يتبناها السياسيون في هذا الزمان ، عبارات طنانة لا تعني شيئا لأنها نظرية وبعيدة عن الواقع .  أكون  مجامِلاً لك اذا قلت بانها اقنعتني . 
قلت له : انا لا الومك ، ولكن الردّ لا يمكن ان يأتي بصورة أخرى . كلامي لا يقبل به إلاّ من كان ثابت الايمان ،ولسوء الحظّ أن نار ايمانك قد فقدت جذوتها وانطفأت .  ألا يقال بان المتحّصن بالإيمان قادر على زعزعة الجبال ؟   بالرغم من كل شيء ، سأبقى صديقك الذي يحترمك ويحبك . واذا عليّ أن ابوح لك بشئ اقول ، انا أيضا  تعتريني أحياناً حيرة لا ترفع قيودها عنّي ، ما لَم أرفع انظاري الى العلى ، فأنسى .
ترددت كثيرا قبل نقل هذا الحديث، ولكني قلت لعلّه سيفيد ، ولو قليلا ، بعضَ من تراودهم شكوك جان فيليب . من الجدير القول باني  لست رجل دين ، ولكني انتقيت ردودي المتواضعة من بعض ما تعلمته ، وبصورة خاصة من الكنز الكبير الذي تركه لنا والدي ،  لأنه كان رجلا ثابت الايمان .
 



75
فرنسا مخطئة في استقبال المهاجرين دون حذر او تمييز
شمعون كوسا

كنت قد قررت ، كعادتي ، على الاستعانة بالطبيعة وسمائها وغيومها وطيورها وجبالها  لإيجاد موضوع جديد ،  غير اني عدلت عن ذلك بعد لقاء كنت اصغي اليه من احدى محطات الراديو الفرنسية . كان اللقاء مع وزيرة فرنسية سابقة قامت بزيارة لاحد مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان . من جملة ما سمعته هو كلام موجّه لها من سيدة سورية  كانت تقول  : كل ما نطلبه منكم ونحتاج اليه هو إيجاد حل لمشكلة الحرب ، وفي غياب ذلك ، نرجوكم  أن  تساعدونا للعيش بكرامة حيث نحن في مخيماتنا . ليست لنا أية رغبة في اللجوء الى بلدكم . واضافت السيدة  قائلة :   انتم باستقبالكم لهذه الموجات البشرية ، الا تخشون ان يتسلل بعض عناصر ناعسة نائمة ، تلبس ثوب الحملان ، ثمّ تفيق بعد فترة  لتخلع ثوب التمويه فتنقلب ذئابا ارهابية  ؟!!
هذا اللقاء حفّزني على التعبير عن ملاحظات جمّة كانت تشغل بالي منذ فترة طويلة .  انا اتجنب  الخوض في ميدان السياسة ، ولكن ما يجري حاليا اضحى  حديث الساعة   ويشغل المجتمع برمّته ، لا ضير اذن في ان أُدلِي انا ايضا بدلوي  .
بدأتْ موجات الهجرة الاخيرة ببواخر قادمة من الشواطئ الليبية  متجهة الى الحدود الايطالية، كان معظم هؤلاء افريقيين وقد غرق الكثيرون منهم  ، عقبت هذه الموجات  حشود اخرى قادمة من تركيا واليونان ومعظمهم لاجئون سوريون ،وقد افلح صحفي في اختيار لقطة هزت ضمير العالم ، بالرغم من وجود لقطات لم تصور لعوائل غرقت بأكملها.    المانيا افاقت على حين غرّة وتبنت سياسة انفتاح  بهذا الخصوص،  فهي الان البلد الانساني الذي فتح ذراعيه ، غير ان الحقيقة هي أن هذا البلد يحتاج  الى زيادة  نفوسه ، كما هو بحاجة الى ايدٍ عاملة لتشغيل مصانعه الهائلة ، عملية تساهم في ضخّ دماء جديدة شابة في شعب يتقدم بالسن.
فرنسا قبلت حصة اضافية فرضت عليها من قبل اوربا  ، لأنها بلد سبق وان استقبل  الملايين من اللاجئين العرب والاجانب ،  ونحن لا نكشف سرّا اذا قلنا بانها عانت وتعاني الكثير من تصرفاتهم . فرنسا تعرضت لحوادث ارهاب مروعة اصابت  حريتها وطابعها العلماني بالصميم . ان ما يؤسف له حقّا هو عدم رغبة القسم الكبير من هؤلاء الاندماج في المجتمع ، حتى  الجيل الثالث من اولادهم ، لم يقوَ على الاندماج ، او بالأحرى تم توجيههه على عدم الاندماج.
فرنسا قررت خوض الحرب في ضربات جوية في العراق وفي الآونة الاخيرة وسّعت نطاق تدخلها  في سوريا مستهدفة مواقع داعش . وهي تبرّر قرارها هذا دفاعاً عن نفسها لانها وقعت ضحية ارهابهم داخل البلد  ولعدة مرات . 
انا اسوق كل هذا لأقول بانه لابدّ من توخّي الحذر. فرنسا هي بلد حقوق الانسان ، بلد عريق متحضّر ومنفتح ومتسامح ، ولأجله يجب ان يفكر بوقاية شعبه  وحضارته التي بناها بجهوده ولعشرات القرون ، وقاية البلد  من خطر لم يكن يكن بالحسبان . لقد اتخذ الارهاب زيّاً جديدا وانتشر كالسرطان ،  الذي لا يعلن عن نفسه الا في اللحظة الاخيرة . 
فرنسا لن تغيّر سياستها في الانفتاح وستقبل كل طالب لجوء  وهذا جيد . انا برأيي ، ونظرا لما استجدّت من ظروف  ، يجب ان يتم منح صفة اللاجئ عبر مراسيم علنية رسمية ، حيث يتعهد فيها اللاجئ بصوت عالٍ  ويوقع بانه سيحافظ على نظام البلد الديمقراطي العلماني . عليه ان يوقع بقبوله الكامل  للائحة حقوق الانسان ، كما يجب ان يتضمّن هذا التعهد فقرة صريحة تقول بان التجاوز المثبّت لهذه المبادئ ، يعرّض صاحبه للطرد بقرار لا يقبل النقض .
مشكلة فرنسا إنها ولحدّ الان ، واوربا معها ، مراعاةً لعقلية البعض ، لم تقرّ بان هذا البلد له جذور مسيحية  ومنذ القدم ، بدليل ان  كل شبر منه هو شاهد حيّ على ذلك بكنائسه واديرته ، وتسميات شوارعه وساحاته ومدنه وقراه التي تبدأ كلها باسم (سان/قديس) . ومن جهة اخرى تخشى الحكومة تحليل الامور بموضوعية وتسمية الامور بمسمياتها  ،  فالذي اقتحم سوق عيد الميلاد بشاحنته واودى بحياة الابرياء وهو يهتف باسم الله ، قيل عنه بانه خارج من مستشفى الامراض العقلية او يعاني من مشاكل عائلية . والذي قطع رأس مديره وعلقه غلى وتد والذي ارتكب مجازر برشاشته ، ووقائع اخرى كثيرة لم يتمّ التعقيب عليها ولم تجد لها حسماً  جذريا ، بحجة رؤية المحاكم الخاصة التي تتذرع بقلة الادلة وغيرها . هؤلاء كلهم كانوا يعلنون بانهم مكلفون بمهمّة من قبل إله داعش .
قبل ايام سمعت من شخص واكب لاجئاً قبل سنوات في مخيم اللاجئين . كان هذا اللاجئ لا يكف عن القول بانه متشوق لامتصاص دم فرنسا . انا اقول لماذا قدم هذا اللاجئ اللطيف الى هذا البلد الذي احتضنه ووفّر له الراحة ؟ وشخص آخر قبل سنوات ، عند دخوله الى فرنسا قال لمجموعته : لا تنسوا نحن الان في بلد الكفار . واقول هنا لماذا لم يتجه هذا المؤمن الى بلدان غير كافرة . وآخر كان يردد بانه لا فضل لفرنسا في ايوائه لان الامم المتحدة هي التي تتكفل بكافة اعبائه هنا ، وهذا غير صحيح .    وهذا غيض من فيض لأني على يقين بان هناك ، ليس العشرات أوالمئات ، بل الألوف من هذه المواقف.
انا اقول لهؤلاء جميعا : اذا قدمتم لهذا البلد الجميل ، المتحضر ، والمتسامح والعلماني بهدف أن تتطرفوا في دينكم وتتأصّلوا وتكفّروا الغير ، فالأفضل لكم ان تبقوا هناك حيث المراتع خصبة لهذا الاتجاه . لا مانع من ممارسة شعائركم هنا ، فرنسا دولة قانون تحترم دينكم ، ولكنكم لا تفرضوا شعائركم على الجمهورية  . يجب ان تحترموا من استضافكم وتسيروا بقوانينه وألا تفرضوا انفسكم عليه . لماذا لا تنتهزوا الفرصة وتتمتعوا بحرية هذا البلد وجمال طبيعته التي نقول عنها ، في الكثير من الاحيان ، باننا فعلا في جنة ؟

76
زيارة الى العالم الاخر

شمعون كوسا

اذا كان عليّ تحديد هويتي أقول : أنا إنسان قبل كل شيء ،  واعتبرُ كافة البشر اخوتي ، بغضّ النظر عن لونهم ولغتهم او دينهم أو طائفتهم او قوميتهم .  في نهاية المطاف ، لنا خالق واحد ، جَبَلَنا بنفس الطريقة دون زيادة او نقصان . انا أومن بكل ما هو روحي وايجابي في كل الاديان ، لا سيّما ما يدعو فيها الى الغفران والعفو والتسامح والمحبة ، لان الاديان برأيي ، حاجة بشرية ، أتت لمساعدة البشر على التعايش فيما بينهم بتآلف وسلام .
 معتمداً على هذه الاساسيات ، وعلى ما تعلمته في دراستي  والتربية التي تلقيتها ، قمت بارتداء معطف المنطق وحرية التفكير اللذين  لا يفارقاني أبداً ، وفتحتُ نوافذ خيالي  كي انطلق دون قيود ،  في جولة الى العالم الاخر .
ابتدأتِ الجولة على النحو التالي :
انطلقتُ في الفضاء مبكرا في صباح أحد هذه الايام الاخيرة ، كنت اعرف هدفي غير اني اجهل السبيل لبلوغه . بدأت  احلّق في الجوّ متّجها  ذات اليمين وذات الشمال ، إلى ان ابصرت نسرا يدنو مني بحركة بطيئة  . عندما اصبح باستقامتي ، طلبت منه باللغة العربية اذا كان بوسعه إرشادي في مهمتي الخاصة هذه ، ضحك النسر من مشروعي هذا ، لا اعرف كيف، وقال : ان دربك طويل جدا ، وعليك الجنوح قليلا الى اليمين  ومن ثمّ الانطلاق بخط مستقيم . 
بعد يومين من التحليق المستمر بين مطبّات كانت تتجاذبني فتغيّر مساري ، ابصرت من بعيد شعاع بوابة كبيرة . اتجهت نحو الشعاع دون تردد، وبعد أن استجمعت قواي، طرقت الباب مرتين. لم انتظر كثيرا عندما رأيت نفسي امام  شخص مهيب ، يرتدي ثوبا ناصع البياض ، قال لي  باسلوب امتزج فيه الاستغراب بالتأنيب : ما الذي اتى بك الى هنا ؟ الا تعرف بانك امام باب الملكوت؟ الا تعرف بان المكان مخصص لأرواح الموتى ؟ وانت قادم هنا بجسدك الحيّ وكامل ملابسك وحتى عويناتك ،  ماذا تريد ؟
قلت له : يا سيدي انا على بيّنة من كل ما صرحتَ به . غير اني ومنذ سنوات اضحيت فريسة رغبة جامحة لزيارة عالمكم ، فكرة  استحوذت على افكاري ولم تستكنْ يوماً  . وها انا اليوم  ، بعد أن تمنطقت بشجاعة  لم اشعر بها قبل ذلك ، قررت القيام  بهذه المغامرة . كل ما اريده هو قضاء بعض الوقت  هنا بين ظهرانيكم .
قال لي وهل تعرف أحداً هنا ؟ اذا كان جوابكم نعم ، عليك  ذكر اسم شخص واحد فقط .  قلت في نفسي وكيف لي ان اضمن بان من سأذكره له قد حصل على الاقامة هنا ؟!!  ولكني بعد برهة تفكير قلت: لا بدّ ان شخصا مثل مام شابونا ، الرجل الطيب الذي كان يحظى بمحبة جميع الناس دون استثناء ، لابدّ انه هنا ، وإلا ما فائدة الملكوت ان لم يخصّص  لأنقياء القلوب مثله ؟
 قال لي :  وما هي اوصاف مام شابونا ؟ قلت له كان رجلا طيبا جدا ، يحب الجميع ويبتسم للصغير والكبير  . كان معروفا عندنا بولعه في معاقرة بنت الحان . كان يحتسي الخمرة باعتدال مع الشباب والمسنين ويردد دوما :  هدفنا هو قضاء وقت جميل بصحبة بعضنا البعض في جوّ من السعادة والحب والاحترام المتبادل ، بعيداً عن النميمة والافتراء .
ابتسم حامل المفاتيح وقال : انت محظوظ لأنك ذكرت شخصا محبوبا حتى في   الملكوت.   ولكن يجب عليك  ان تعلم بانك هنا في أرض الخلود ، والسعادة هنا ليست في المأكل والمشرب . لك ساعة واحدة فقط ، وبعدها عليك العودة  من حيث اتيت . 
فوّض المسؤولُ أمري الى احد الملائكة الذي طار بي الى حيث مام شابونا . دخلت دار الخلود  في ربوع مترامية الاطراف ، مروج واسعة فيها ما يحلو للعين ويملأ النفس سعادة . استغربَ مام شابونا لمثولي المباغت امامه ولكنه قبل ان يفتح فمه ، ضمني الى صدره الروحي بقوة . كان يرتدي ثوبا طويلا ابيض ، كان قد احتفظ بملامحه التي كانت قد اكتسبت جمالا خاصا.    قلت له مازحاً : مام شابا ، هل يسمحون  لك هنا باحتساء كأس خفيف من حين لآخر ؟ ابتسم بوجهي وقال : يا ابني ان  الخمرة تعطيك وقتا قصيرا من السعادة ، غير اننا هنا نتمتع بسعادة كاملة لا توصف، ولا يمكنك تصورها إلا اذا بلغتها.
قلت له : كلّمني قليلا عن الملكوت لانك احد المواطنين هنا . قال لي : إن بعض ما كنتَ قد تعلمتَه انتَ بهذا الخصوص في الارض ، هو صحيح ، ان الرجل الصالح الذي يدخل هنا يكون قد بلغ الكمال ، وبلوغ الكمال الذي هو الله ، يعني الفوز بالسعادة والطمأنينة الكاملة التي تغمر الروح بصورة دائمة  . يجب ألاّ تنسى باننا  هنا أرواح ، بالرغم من رؤيتك لنا  بوجوه أرضية .
قادني مام شابونا الى ذويّ ، الوالدين ، واخي الذي أختطفه المنون خطأ ، ونقلني تباعاً الى قرابات الدرجة الثانية والثالثة  ، بعدها اصطحبني الى  كافة اهل قريتي ، ومعارفي من المدن الاخرى . 
قلت له ، لماذا لم تقع عيني ، بين هذه الالوف ، على عدد كافٍ  من رجال الدين  ؟ ابتسم وقال ، انا ايضا لا ارى منهم إلا القليل  ، لعلهم سيأتون بعد فترة ، ولكني سمعت ،  والعتب على الراوي ، بان هؤلاء يخضعون لأحكام اخرى اكثر قساوة ، لا سيما الذين لم يحافظوا على العهد ، هؤلاء يبتهلون الى الله بشفاههم ، أمّا قلوبهم وافكارهم فهي بعيدة جدا ، وحسابهم صارم ايضا لانهم تعهدوا ان يكونوا خُدّاما لرعاياهم ، وها هم قد نصبوا أنفسهم أسيادَ لا يتنازلون عن أيّ امتياز دنيوي . استغربت من هذا الكلام الصادق الذي اؤيده بالكامل ، وشكرت الله على أنه لم يصدر مني أنا شخصياً !!!   
قلت له ، اريد ان تقودني الى جدّتي التي كانت تشكّك بوجود عالم آخر  ، فقادني اليها بسرعة البرق . كان اللقاء حارا دون دموع ، لان الارواح السماوية لا تبكي ، قلت لها : يا جدتي التقيّة ، عندما كنتُ أسألكِ في حينها عن الحياة الاخرى ، كنت تقولين  : لحدّ الان لم يقم احد من العالم الاخر بزيارتنا لكي يُطلعنا على ما يجري بالضبط هناك . ماذا تقولين الان ؟ ابتسمت ولم تجبني .   . قلتُ لها : إن الاغلبية الساحقة من الناس ، يرون هذا الامر كخيال بعيد . إنهم يطلبون الرحمة للموتى دون قناعة كبيرة ، لانهم يعتبرون الموت بعيدا عنهم ، وعند حلوله ضيفا على الاخرين ، يتمتمون كلمات رتيبة لا يفقهون معانيها .
 وأضفتُ هنا : أيمكن لاحدكم مرافقتي الى الارض ؟ ابتسم مام شابونا  وقال : كان يجب ان يكتفي الناس بما علمتهم الكتب ، أين ايمانهم ؟ ان الايمان يوفّر لهم استحقاق حياة الخلود . قلتُ له : ان الايمان شبه معدوم ، لماذا لا تقومون بهذه الخدمة للبشرية ؟ رَبَتَ  مام شابونا  على ظهري وقال : لقد رأيت بأمّ عينيك كل شئ ، فقم انت بهذه المهمة . اجبتُه : انتَ تعرف بانهم لا يصدقوني . ابتسم مام شابونا من جديد وودّعني بحرارة !!
نظرتُ الى ساعتي واذا بالملاك ينتظر خروجي . سألته عن امكانية مرافقتي في جولة سريعة أخيرة كي أرى فيها المشاهير والشخصيات التاريخية   التي قرأتُ عنها في الكتب والقصص . أثناء الجولة الخاطفة تعرفت على بعض الوجوه ، وانتهت جولتنا عند الباب. قبل النزول سألتُ القيّم على باب الملكوت اذا كان بوسعه  الوشوشة في اذني عن يوم قدومي الى حيث مام شابونا  : ابتسم بدوره وقال : لا تستبق الامور ، عش حياتك بهدوء وسلام وسعادة ، هذا اليوم مصير الجميع ، الا تقولون انتم كل شئ بوقته حلو ؟  قبل نزولي طلب مني ألاّ أبوح  بزيارتي الخاصة هذه لاحد .
 لم تستغرق عودتي غير ساعتين لاني كنت قد اهتديت الى طريق سريع . كانت زيارةً قصيرة جدا لم تتح لي المجال لإشباع فضولي . قد يخطر ببالي القيام بزيارة آخرى ، حينذاك ستكون  مهمتي يسيرة كوني  أنهيتُ زيارتي الحالية في الموعد المطلوب ، ولم اتقدم بأيّ طلب للّجوء !!!

77
أحاطت بي الفايروسات من كل مكان
شمعون كوسا

حكايتي اليوم تجري احداثها في بلد يحتفظ بعداوة قديمة جدا مع الشمس ، بلد فتح حدوده للرياح وتبنّى سياسة تحشيد جيش عرمرم من الغيوم للحيلولة دون ظهور الشمس ، وهذه الاخيرة  إذا قّدِّر لها وان اخترقت الحواجز لبضع دقائق  فانها تعتبر نفسها سعيدة، ومن شدّة غيضها ، تضع في مقدمة خطوطها أشعةً شبه حارقة . ففي كلتا الحالتين ، الساكن هناك او القادم ضيفا ، بقليل من المبالغة ، ينتهي إمّا مقشعرّاً من البرد أو محترقاً من شدة الحرارة !!!!
لقد نويتُ هذه المرة تجنب التعليق على ظواهر لم تكن تفوتني سابقا دون تحليلها والتعليق مطوّلا عليها. في هذه المرّة مثلاً لا اريد التحدث عن ظاهرة  مراقبة الناس لبعضهم البعض  ولا اريد ان اذكرهم بالحكمة القائلة من راقب الناس مات همّاً، ولا اريد التطرق لدخولهم في منافسة مزمنة بين بعضهم البعض في كل الميادين ، فالكل تقريبا يريد ان يكون الافضل مهما بلغ الثمن او على الاقل افضل من جاره. 
كما لا اريد التطرق لمجالس كثرت فيها اشباه قاطرات تعمل على الفحم الحجري او مدافئ تعمل على الخشب ، اجهزة مخصصة لإنتاج الدخان ، يديرها عمال مهرة في سحب ونفث  اكبر كمية من الهواء الابيض . لقد عمّت هذه الظاهرة بحيث اضحى حتى القاصرون يتطوعون في تنفيذ العملية والتفنّن في هذا الشهيق والزفير . كما لا اريد ان اذكر باني احتفظ بقصاصة جريدة ، منذ اكثر من عشرين سنة ، تقول بان تأثير النرجيلة السلبي يفوق تأثير السيجارة بعشرين مرة ،  والعهدة طبعاً على الجريدة !!
 ومن جهة اخرى ، ليس لي اية نية في ابداء اية ملاحظة عن محافل يكثر فيها الكلام ، بل ثرثرة تنطلق من كل الجهات لتثبيت الشيء ونفيه  في آنٍ واحد ، ليس للمتكلم هدف آخر سوى  جلب الانتباه بترويض لسانه ، والفائز يكون من افلح في اخراج اكبر عدد من الكلمات  !!
لقد تعهدتُ بألاّ اتحدث عن هذه الظواهر ، خشية ألاّ أُنعَتَ من قبل البعض  ، بشخص لا يرضى ابدا عن أي تصرف مهما كان ، أو أن اُعتبَرَ رجلا يحلو له اعطاء الدروس بمناسبة او غير مناسبة.  قد يكون هذا صحيحاً ،  فعلا في هذا الزمن ، انا لا امتلك حق انتقاد اية ظاهرة عصرية جديدة لأني بذلك امسّ  تصرفات وعادات قد انتشرت بين الاجيال الجديدة وتجذّرت . ولأجله في هذه المرّة اخترت الصمت شيمة ، صمت أصون به نفسي من الخطأ وأحافظ على وزن بات يخفّ شيئا فشيئاً ، على الاقل سأبدو ولو لحين انسانا رصينا عاقلا !!!!!
لا زلت لحدّ الان اخارج عنوان المقال . ففي اليوم الاول من زيارتي تجمّعَ عدد كبير من الاقارب والاصدقاء احتفاءً بقدومي . كانت جلسة رائعة ، اضطررتُ فيها للغناء  نزولا عند رغبة بعض الجالسين الاعزاء  . اثناء تصفيق السامعين كنت الاحظ   ابتسامات غريبة من خمس كائنات بيولوجية  لم يلاحظها احد غيري . قلت في نفسي ان هذه الكائنات تحتاج الى خلايا  تستضيفها وانا لم اقم باستضافتها .  لقد ابصرتها منذ  وصولي الى المطار . هل كانت ضمن مَن كان عليهم استقبالي ؟  كانت ابتساماتها وحركاتها وحالة هيجانها  تكاد تقول لي : اضحك وغنّ واشرب ، سترى ما قد هيأناه لك !!  عند مغادرة الحاضرين  قامت الفايروسات مع المغادرين  فخرجت وهي محتفظة بنفس الابتسامة التي ابرزتها عند دخولها . عند مغادرتها  لم أبصر الفايروس الخامس، قلت لعلني لم ألمحه لانه بحجم غير منظور ، فلم أُعِر اهمية للموضوع . ولماذا احسب حسابا لكائنات اصغر من الميكروب !!.
امضيتُ اليوم التالي بصورة طبيعية ولكن في صبيحة اليوم الثالث أحسست بدغدغة في حنجرتي ، وهنا ايضا لم اهتم للموضوع . خلال نزهة صغيرة في المساء ، تحت اشعة الغروب الباهتة وهواء بارد لا يعرف الاعتدال ، شعرت ببعض الخمول . كانت الحرارة قد زادت عن مستواها وشقت طريقها باتجاه ابعد نقطة في جسمي . لدي استعراضي لوقائع الايام الثلاثة التي مضت ، تيقنت بان الفايروس الخامس لم يكن قد خرج ، ولكنه بقي ملتصقا بيّ في مهمة سرّية كان عليه تنفيذها داخل جسمي . وقعتُ طريح الفراش بين خمول وغثيان وحرارة زادت عن حدّها  ، في اليوم الرابع اشتد السعال كما كان قد خطط له الفايروس. كانت القصبات قد اغلفت منافذها أبواباً وشبابيكا ، فأصبحتُ اتنفس بصعوبة ، ولم تفلح أي من علاجاتي في فتح الطريق .
انقضّ عليّ الفايروس في بلد لا يحبّ المراجعات الطبية  ، بلغني بان طالب العلاج لا يحصل في اغلب الحالات على اكثر من خافضات الحرارة التقليدية ،  فـ (الباراسيتامول)  يكون وصفة لمن انكسرت ساقه او وقع فريسة أمراض مختلفة اخرى . لقد تعرضتّ قبل الان لمثل هذه الحالة التي حبكتها لي الفايروسات ،  وانا أعرف بانه لا شئ ينهي الازمة غير المضاد الحيوي (الآنتيبايوتيك) ،  غير انه قيل لي بان المضاد الحيوي (الآنتيبايوتيك) لا يوصف  الا عند اشراف المريض على الموت . بعد خمسة ايام من العذاب ، اهتديت الى صديق عزيز استطاع تزويدي بالمضاد الحيوي . ثمانية ايام من تناول الحبوب جعلتني أحسّ بنوع من الاستقرار. لقد فشل الفايروس  في مهمته ولم يقوى على مقاومة المضاد الحيوي فلفظ انفاسه.
عندما سمعت الفايروسات الاربع بان زميلها قد قضى نحبه ، قدمت  لانتشال جثته . لدى مغادرتها وهي حاملة نعش الاخ الفايروس ، رأيت احد الحاملين يرمقني بنظرات غاضبة وكأني به يقول : تمهل ، لا بد انك قادم هنا مرة اخرى ، فالمكلفون بتنفيذ المهمة في المرّة القادمة سيكونون لجنة مكوّنة من اربعة او خمسة عناصر ، قطاع طرق سيكونون لك بالمرصاد للحيلولة دون اكتشاف طريقة تنفذ فيها بجلدك. ضحكتُ في سر نفسي لأني كنت قد قررت على ألاّ اعود الى هذا البلد الجميل لانه فعلا لم يعد يناسبني أو انا لم اعد اناسبه ، لأني سبق وأن وقعت فريسة تآمر نفس الفايروسات قبل عامين  .
برأيي أنا : كان يجب ان تضاف الفايروسات على قائمة المنظمات الارهابية ، فهي لا تقل تأثيرا عن التنظيمات الحالية ، هذه الاخيرة تذبح الانسان بالسيف ، أما الفايروس يقوم بعمله التخريبي من الداخل ، والفرق المهم الاخر بين هذين التنظيمين الارهابيين هو ان الاول  ينفذ عملياته هاتفاً باسم الله ، اما الفايروس فانه لا يُدخل الله في عملياته ،  ويقوم بتنفيذ  خططه بكتمان تام .

 مررت بهدوء على بعض الظواهر مستخدما طريقة التوكيد بالنفي ، ولم أشأ التعليق مطولاً على ما شاع في زمننا الجديد . وجدت الهدف البديل في الفايروس الذي امطرته بملاحظاتي وتعليقاتي وهجماتي. قمت بهذا قبل ان يجيئ اليوم الذي سيُطلب منّا ان نحترس من كل كلمة نقولها حتى  بحقّ الفايروس ، من يدري ؟!!!

78
عجوز فرنسي يبوح ببعض معاناته
شمعون كوسا

جلست صباحا اتصفح كتابا جديدا لكاتب فرنسي ، كانت الساعة قد قاربت العاشرة عندما فاجأتني حمامة حطّت عند عتبة  الباب ، حاملة  قطعة ورق مربوطة على احدى رجليها . دخلتِ الحمامة ببُطء ، توجهت نحوي ومدّت رجلها كي افكّ قيدها . من هديلها الذي تواصل لعشر ثوانٍ وبعض حركات رأسها ، فهمت بانها تحمل رسالة من صديق لي في مدينة مجاورة . تناولت الورقة التي كان يقول فيها صديقي : لقد أحسستُ بدنوّ ايامك لتلد موضوعا ، فاردت أن ابدد حيرتك الاعتيادية . بوسعك نشر هذا الحديث ، انه لعجوز فرنسي التقيته  قبل ايام ، لقد افرغ جعبته على مسامعي ، وأزاح طبقات هموم كانت تثقل صدره منذ سنوات بعيدة ، لقد تأثرت لكلامه واحببت  أن اطلعك عليه . فلنسمع اذن ما يقوله العجوز الفرنسي :
لقد بلغتُ الحادية والثمانين من عمري، وأحسّ الان بتعب شديد . أنا فعلا متعب جدا .  لقد ترعرعت وتابعت دراستي بجد ونشاط .  كان ابي عاملا بسيطا ،  ولقد حققت مستقبلي دون مساعدته. عند بلوغي السادسة عشرة من عمري سنة 1948 ، انخرطت في دورة تدريبية ، كنت اعمل فيها  52 ساعة في الاسبوع ، بعيدا جدا عن نظام الـ 35 ساعة  الحالي .
عملت في مجال الاشغال العامة ، حيث كان دوامي 14 ساعة يوميا ،  كنا نتنقل من موقع لآخر بين الجبال . كانت اسابيع عملنا طويلة غير أننا لم نتشكّى يوما .
لم أرثْ شيئا من والديّ،  كما إن ما حققته في حياتي المهنية هو انجازي انا   ولم يمنحه لي احد . الان وقد دنوت من غروب حياتي ، احسّ بتعب كبير . اذا سألتموني ، لماذا انا متعب بهذا الشكل ، اقول : أنا متعب لأني اسمعهم يقولون بانه عليّ ان اقاسم غيري ما كسبته أنا بعرق جبيني . عليّ أن اشارك مكسبي اناسا ليسوا بنزاهتي ، والحكومات، من أي اتجاه أتت،  تأخذ منّا   لتعطيه لأناس لا يعملون بسبب كسلهم.
انا لست ممّن يرفضون مساعدة الغير ، لا سيما بالنسبة لمن  تعرضوا الى ظروف خارج نطاق ارادتهم ، فافقدتهم عملهم او أوقعتهم فريسة مرض مفاجئ ، وهؤلاء ليسوا الاغلبية .  ان ما يجعلني احس بتعب شديد هو رؤية فرنسا في وضع سيء ، جراء سياسات اليسار وذيوله ،  وايضا اليمين وأثريائه .
أزدادُ تعباً عندما اسمع نفس هؤلاء  يصرحون  بان فرنسا مفتوحة للجميع ، في الوقت الذي يقيمون هم في الخارج هربا من الضرائب ، ومن بين هؤلاء    رجالات معروفة من مختلف الاوساط ، الفنّية والصناعية او حتى الرياضية ، وهؤلاء الاخيرين  يجنون الملايين بواسطة كرة يركلونها كما يفعل الاطفال  ، وليس باي جهد عقلي ، لان اغلبيتهم فاشلون في الدراسة  !!
 اذا استمرّت حالتنا على هذا المنوال ،  فأننا بعد عشرين او ثلاثين سنة سوف نتضاءل حجما ونصبح  بمستوى بلد نامٍ ، وحرية صحافتنا ستقارن بما يجري  في الصين ، وسيكثر العنف  كما هو الحال في المكسيك ، ويعمّ جوّ من عدم التسامح على شاكلة ما يجري في غالبية بلدان الشرق الاوسط .
لقد مللتُ من تصرفات نقاباتنا الاستغلالية، انها اصلا لا تمثل جمهورا كبيرا ، غير انها لا تتردد في تعطيل الدولة بمظاهراتها واضراباتها التي لا تنتهي من اجل تحقيق مآربها . انها خالية تماما من روح المصلحة العامة والحرص على صورة فرنسا التي تعاني اليوم من الكثير من المشاكل .
انا تعبان لمواقف تسامحنا المبالغ به  تجاه الحضارات الاخرى .اننا نعتبر أمرا طبيعيا ان تقوم العربية السعودية بتمويل الجوامع عندنا ، جوامع  لا نسمع من خطبائها الا التحريض على الحقد والكراهية تجاه الغرب ، وهذه الدولة السخية بواسطة  نفط  لم يكلفها شيئا ، إذا تجرّأنا وفاتحناها بإمكانية بناء كنيسة واحدة فقط على اراضيها ، فأنها ستعوذ بالله وتنظر الينا شزرا وتقول : لا شك انكم تمزحون ، أَوَفقدتم عقلكم ؟ ألا تعرفون إن هذا يعتبر كفراً ؟  !!!
انهم هنا يردّدون  ليل نهار على اسماعنا بانه يتوجب علينا خفض نسبة ثاني اوكسيد الكربون لأنه يضر بكوكبنا  ، في الوقت الذي تفتتح الصين اسبوعيا اثنتين او ثلاث محطات حرارية .
لقد تعبت من السماع بان التقاليد التي اعتدنا عليها في قبول اللاجئين، تحتّم علينا احتضان بؤس العالم كله. يجب ان ندفع لهم ،  حتى اذا كانوا قد دخلوا البلد بصورة غير شرعية ، اشخاص  لم يعملوا هنا ولم يدفعوا قرشا او اشتراكا لدينا . تعبتُ أكثر عندما شاهدت بان سياسيينا من كافة الاتجاهات يرون هذا عاديا و لا يبذلون ايّ جهد عند وصولهم للحكم . ان السياسيين لا يمكنهم ان يقدموا حلاّ ، لانهم هم المشكلة الحقيقية في هذا البلد .
ومن جهة اخرى ، لقد اتعبتني  ضريبة العقار التي تتضاعف سنويا . عملنا لسنوات،  ومارسنا ضغوطاً على انفسنا  من أجل  تشييد مساكن تنقذنا من الايجارات ، والآن بعد ان بنينا  دوراً خاصة بنا ، يجب علينا ان ندفع ايجاراً للدولة .
انا سعيد لبلوغي هذا العمر  ، لاني سوف لن اشاهد المستقبل المظلم  الذي هيأناه بيدينا لأولادنا  بكل جبن وخنوع  . انا ارثي حال اجيالنا القادمة .
عندما انهيت قراءة الرسالة ، شكرت الحمامة وقلت لها : بلّغي صديقي بان كل ما هو مكتوب هنا واقعي وصحيح ، وعجوزنا الفرنسي يفصح بصوت عال ما تفكر به الاغلبية في هذا البلد..

79
في هذا الزمن الصعب 
لم تعد لنا سوى ذكريات الماضي
شمعون كوسا

لقد تقدمنا كثيراً وتطورنا أكثر ، وهذا وفّر لنا كافة اسباب الراحة وهيّأ لنا السبل لبلوغ الرفاهية ، كثرتِ الاموال وتنوعّت المكاسب، ولكن هل وجد الانسان سعادته وراحته الداخلية تناسبا مع هذا التقدم والتطور ؟ الجواب هو نفي قاطع. لقد بلغنا القمة ، غير اننا الان على شفير هاوية  سحيقة . غدونا غير آمنين  على حاضرنا ونخشى المستقبل ، نحن مواطنون في زمن مخيف . لقد امسينا أقزاماً يقودنا عمالقة اقوياء وطويلي القامة ، لا يبصرون الا الطوابق العليا التي توازي انظارهم لأنها تأوي خططهم واهدافهم ، فمن بقوا في الطوابق السفلى هم بمثابة حشرات يجب ابادتهم او مجرد كنسهم  . وأمام هذا التحول وتغيّر المفاهيم ، اصبح القتل المكثف اليومي اللامعقول عملية عادية فقدت حتى صفتها  الاجرامية .  اينما التفت المرء ، يرى نفسه أمام حائط عالٍ أو وسط صحراء قاحلة  . إنه لا يسمع ولا يرى ولا يقرأ الا عن الحروب والاقتتال والمعارك واعمال الذبح والغدر والخيانة وانعدام الآداب ، فيضطر الى اغماض عينيه واللجوء داخل نفسه ، باسطا ذراعيه ومبتهلا الى ذاكرته لتسعفه في فتح صفحة قديمة تنقله الى زمانٍ ينسيه حاضرَه وتناقضاتِه. 
والصفحة التي من شأنها تغيير اجوائه  تحمل لحناَ ، أو صوتاَ عذباً ، أو قصيدة ، أو صورة  قديمة ، أو شخصا عزيزا ، أو زهرة خاصة ، أو لونا معينا ، أو مشهدا لاحد مواسم الطبيعة  ، أو مناسبة عيد ،  لان كل هذه  مرتبطة ، بزمان  ومكان ، يحتفظ  فيهما الانسان بأحاسيس جميلة وذكريات صافية سعيدة لا تمحى .
على سبيل المثال أقول ، وهنا اتكلم عن نفسي لأني اهتديت الى بعض صفحات الذاكرة : أصوات لا يسمعها الناس كثيرا في ايامنا ، لمطربين كحضيري ابو عزيز ، أو زهورة حسين ، أو داخل حسن ، هؤلاء هم أوّل من سمعتهم وامتعوني كثيرا  وتركوا أثرا في نفسي  منذ صباي ، لان الطرب في العراق انطلق من الريف . كنت انصتُ اليهم بسعادة لا توصف . اتذكر في أحد الايام  ، لشدة تعلقي بصوت زهورة حسين ، طلبت من والدتي تأجيل صلاة الوردية ، كي لا تفوتني اغنية لها تستهلها بمقام دشت  !! 
اغاني ام كلثوم ، كلها دون استثناء تذكرني بليالي شقلاوا الجميلة ، حيث كانت قد دأبت كازينوهات البلدة ، في زمن الخير ، تبثّ اغانيها في ليالي الصيف على اسماع السهارى والندامى . كنت اسمعها من بعيد  ، لأنها كانت تنطلق من سفح جبل سفين وتصل الى ابعد أذن سامعة ، حيث  كان  القمر يبقى ساهرا لا يبارح مكانه ، إعجاباً بصوت ام كلثوم ، وحرصا على إبقاء الجو شاعريا الى حين مغادرة آخر شخص .
أغاني اسمهان كلها كانت تطربني ولحدّ الان ، لان لصوتها رنّة تنفذ ذبذباته الى اعماق النفس. اغنيتها ، ليت للبراق عينا ، تعيدني الى غروب الشمس في مصيف صلاح الدين ، لا اعرف لماذا ارتبطت الاغنية بهذا الزمان وهذا المكان ، ولكني كلما سمعتها في هذه الاغنية اغمض عيني لأعيش جوّ الماضي .
الأغاني الفارسية القديمة ، تنقلني دون ارادتي الى ما وراء شقلاوا ، طريق حرير وكلي علي بك وبيخال وخاصة المرتفعات التي تحيط بها ، وصولا الى منطقة حاج عمران التي زرناها مرة في شهر تموز ، واضطررنا لإشعال النار لكي نتدفّأ .
وماذا اقول عن الاصوات الاخرى لعبدالوهاب ، المطرب الراقي ، وفريد الاطرش العاطفي المؤثر ، وليلى مراد . وعن صوت آخر رافقنا كثيرا  ، صوت فيروز الديني والدنيوي الذي لا يمكن الا ان يدعوك للخشوع والتأمل أو النظر الى ابعد الحدود ،  آفاق بعيدة تلتقي بها الارض بالسماء . هؤلاء وغيرهم ،  في بعض اغانيهم ، يرفعون السامع ، المتذوّق للموسيقى ، الى فضاء صافٍ ويتركونه معلقا متابعا صدى لا يضمحلّ الا عند فتح العينين. وصفحات اخرى لم افتحها للأغاني التركية والكردية والكلدانية .
 صور موسم الشتاء تذكرني وانا جالس في مكتب أبي ، بالرياح التي كانت  تهبّ بقوة  على الصنوبر الشوكي ، فتطلق معه صوت أزيز خاص .أشجار قديمة كانت قد اختارت اقامتها خلف فندق خانزاد القديم . أما صورة هذا الفندق ، الذي تمّ تشييده في العهد الملكي ، لأنه كان مقر استراحة للملك في جولاته ، كان موقعه يوفر أجمل منظر لجبل سفين الشاهق ، خاصة بعد تكلله بالثلوج. كانت تكتنف الجبلَ  غيومُ كثيفة ، وبعد انقشاعها يكون السفين الشامخ  إما قد اكتفى  بقلنسوة بيضاء ، أو ارتدى ثوبه الابيض الطويل الذي يغطي كامل جسمه ، وكأنّه مقبل على اداء مراسيم سحرية خاصة .
وبعض صفحات الماضي أوصلتني الى الاعياد الكبيرة التي كان لها طعم خاص قلّما نجده الان . أرى سعادة الطفولة الحقيقية عندما اتذكر ونحن صبيان ننهض في الفجر لقطع مسافة نصف ساعة بغية اللحاق بمراسيم العيد الدينية ،  وبعدها نرتدي الملابس الجديدة البسيطة جدا . ونكون في قمّة السعادة عند حصولنا على عيدية لم تكن  تتعدّى العشرة فلوس ، ونقضي النهار على الاسطح في لعب الدعابل أوغيرها .
لقد تحوّلتُ اليوم بحديثي هذا الى تاجر مفلس بدأ يفتش عن دفاتره القديمة !!   قمت باستعراض صفحات الماضي لأبتعد عن صخب الحاضر، وتوقفتُ عند الكثير منها لأتذوّق طعم ما احسست به في صباي وشبابي ، ذكرياتُ الطفولة هي ذكريات الانطباع الاول ولأنها صادقة فأنها  لا تمّحي . سمعت ونظرت وتجولت وتوقفت واطلت التأمل وامضيت دقائق في جو جميل طاهر اتذكره بحذافيره ، ذكريات تعيد المرء الى وجوه وقلوب ملؤها حبّ وحنان . كان هؤلاء البسطاء الاصلاء يعيشون ، بحيث لا تغرب الشمس على غضبهم ، وينفضون الاتربة في يومها كي لا تتراكم وتعيق علاقاتهم .
 
 

80
في عيد الطبيعة قال لي أحد الطيور أنتم منافقون

شمعون كوسا
 
 بينما كنت نائما هذا الصباح ، سمعت احدى محطات الراديو ، تذيع بان اليوم هو عيد الطبيعة ، استغربتُ للنبأ لانه لم يسبق لي وان سمعت  بمثل هذا العيد . كان هذا في اليوم الثاني والعشرين من شهر حزيران . نهضت مستبشراً ، لاسّيماً حين ابصرت الشمس وقد نفذت بأشعتها الى كل بقعة  دون عائق ،   كانت السماء صافية زرقاء ، والجو لطيف،  والنسيم يمرّ بهدوء مداعبا وجه كل من هبّ للقائه .  كان هذا العيد سببا اضافيا يدعوني الى الخروج من جديد.
يمّمتُ شطر النهر وكنت أمشي الهوينى لكي اخصّ كلَّ ما تقع عليه انظاري بتمنيات العيد ، فكنت أتمتم للأعشاب كل عام وانتم بخير ، وللأشجار والازهار أيامكم سعيدة ، وللنباتات والطيور كل سنة وانتم سالمون ، وللشمس والغيوم  البيضاء  عيدكم مبارك . توقفت عدة مرات عند النهر لأطيل النظر الى مياهه التي كانت تنساب  بنعومة ، أرحّبُ بالمجرىً العالي هنا واودّع المجرى السفلي هناك ،  لان ماء النهر جارٍ وهو دائم التجدّد ، فما نراه يجري أمامنا  ذاهب دون عودة  .
رأيت بعض إشارات مرسومة على الارض تدعو السائر للتوجّه نحو موقع الاحتفال . تابعت المسير بهدوء ملتفتا ذات اليمين وذات اليسار لكي لا يفوتني شئ ممّا تبرّجت به الطبيعة  ، ولا أحرُمَ سمعي  من الحان ونغمات وتراتيل كانت تتناوب العصافير بشتى انواعها على أدائها .
أفضى بي السير البطيء الى الموقع الجميل المخصص لاستقبال المهنئين ، فوجدت نفسي عند عتبة مجلس يضمّ عددا من الطيور وبعض الحيوانات الاليفة.
استقبلني طائر غريب الشكل ، لم اصادف شبيها له قبل ذلك ، وكأنّه كان قد استُقدِم خصيصا  لهذه المناسبة ! بحركة من جناحه الايمن  قادني الى صخرة مخصصة للجلوس  ، كان يتقدمني مقلّداً سير مدير تشريفات مخضرم . جلست مبتسما لكل حيوان وشجرة وطير ونبات وقلت لهم بصوت جهوري : كل عام وانتم بخير ، واذا بنفس الطير الذي استقبلني يردّ عليّ بالعربية : وانتم بخير أيضاً . لم استغرب كثيرا للأمر لأني في مناسبة سابقة  كنت قد اجريت حوارا مع وفد من الطيور وكان أحد الطيور يتولّى الترجمة، وأغلب الظنّ كان الغراب ، لانه يُقال بان الغراب هو من احذق الطيور. 
استفسرت عن احوالهم قائلا : أرجو أن تكونوا كلّكم بخير.
اجاب العصفور المسؤول وقال :  نحن بخير وسعادة ونشكرك على اهتمامك . اننا بخير لأننا نسير وفق ما  رسمته  لنا الطبيعة ولا نحيد قيد انملة عن مسارنا . ننقاد للمواسم وننصاع  لأوامر الامطار  والرياح ، وفي وجودنا نحن مدينون للشمس واشعتها  . كل طير يشدو ، وكل حيوان يسير ، وكل نبات ينمو وفق قوانين الطبيعة   دون الحاجة الى تحريض أو إرشاد أو تأنيب . هذه حي حالتنا ، والان اسألك بدوري : ما هي احوالكم انتم ؟
قلت له : لا اعرف ماذا اقول لكم ، ان احوالنا هي بين بين . لقد حبانا الله بعقل وكان يفترض ان نعيش بسعادة دائمة ولكننا نستخدمه في اغلب الاحيان لتعقيد حياتنا ، لتعكير صفو عيشنا وعيش الاخرين . لنا قوانين ، والأهم من ذلك لنا ضمير يهدينا الى ما تضعه القوانين ويسمو عليها ، ولكننا نفضّل تجاهل كل هذا لنهبط بمستوانا ، ونعمل فقط  بما يخدم مصلحتنا دون تروٍّ أو تفكير .
قال لي : اننا نسمع بمشاكلكم لاسيما في هذه الايام . لنا طائر زميل قد تعمّق بدراسة علومكم وتبحّر حتى في شعيرات اديانكم جميعا . اننا نستغرب لما يرويه لنا عنكم زميلنا . إنّ ما بحوزتكم كان يجب ان يهديَكم الى طريق الحق والعيش بسلام . الا تدعوكم شرائعكم كلها الى فعل الخير ؟ لماذا تقرّون بشئ وتفعلون عكسه، ألا ترى انكم متناقضون قبل ان تكونوا منافقين؟!! 
اجبته : ان كلامك ثقيل جدا ، انه مباغت ومباشر ، غير انه  والحق يقال ، ينطوي على الكثير من الواقع . لقد بحث الكثيرون من الكتّاب والحكماء والفلاسفة والاكاديميون ومنذ القدم موضوع تصرفات الناس واخلاقهم ،انا ايضا بدوري اتناول بقلم خجول بعض جوانب هذا الواقع ، غير اني لا ألقى إلا الاستخفاف . بتُّ أخشى الخوض في هذا المضمار ،  والتطرق لما يدور حوله ، لان كلمة الحق أضحت مفردة دخيلة ومستهجنة !!
قال لي الطائر: نحن حريصون على سلامتك،  ولأجله ندعوك لالتزام الصمت ، ودعنا نتبنّى نحن إبراز الحقيقة التي رواها لنا زميلنا العلاّمة . إن  الخلاصة التي توصّلنا اليها بعد مقارنة ما قاله لنا وما تقومون به انتم في حياتكم الواقعية تجعلنا نقول : لقد سخّرتم حتى الدين والله لأطماعكم ، ألا ترى بانكم منافقون ؟ 
واضاف أيضاً ، أودّ أن أطرح عليك سؤالا في غاية الاهمية : هل تؤمنون بان خالقكم واحد ، وبأن شرائعكم تدعوكم جميعا لفعل الخير ومحبة الغير ؟
قلت له : باعتقادي ان المبدأ مشترك ، لا جدال فيه ولا خلاف عليه .
قال لي :  لماذا إذن هذه التسميات والمذاهب والطوائف والاقسام والانشقاقات والانقسامات والعناوين المتجددة التي تدعو كلها الى مزيد من الفرقة والتباعد والانشقاق؟ تتحرك شفاهكم  لتصرح بصوت عالٍ : نحن متفقون ، ولكنكم ،عندما تأزف ساعة الحقّ حول هذا المبدأ المشترك ، تنزوون كلّ في ناحيته بحساسية غريبة واستعداد للغضب والتجافي والحقد والخصام والعداء وحتى القتال ، بالأيدي والسلاح الابيض والسلاح الناري وقد يصل بكم الامر يوما ال إشراك النووي في اختلافاتكم . لم يعد لأحدٍ الاستعداد للتخلي عن عاداته ورغباته الخاصة ، وبهذا تبدون وكأنّ لكل فصيل إلهَه الخاص جدا ، يختلف عمّا للأخرين ،  أليس كذلك ،  ألا ترى فعلا بانكم منافقون ؟ 
التزمت الصمت وخفضت عيوني كالشخص الذي  ضُبط  بجرمٍ ليس بمقدوره التنصل منه ، وقلت في سرّي ، ما الذي أتى بي الى هنا !!
وختم الطائر الفقيه ملاحظاته قائلا : انا اعتذر لكلامي القاسي ، ولكننا لا نعرف المجاملة فالحقيقة بنظر الطبيعة يجب ان يُعلن عنها  . ودعني  اردد مرّة أخرى بان تصرفاتكم لا تدع لنا أي مجال آخر الا القول بأن أنانيتكم هي التي تمنعكم من الاقرار بالحقيقة المشتركة بينكم ، وكيف تريدنا أن نصفكم،  والحالة هذه،  بغير الكذابين والمنافقين ، وارجو ألاّ تغضب من الحقيقة .
لم أشأ ان يستمر هذا التجريح الساخن والصادق ، وقمت مكررا تمنياتي الحارة بهذا العيد، وقبل ان اغادر طلبت من الطير اللاهوتي ان يوقع على اقواله خشية ان تُنسب إليّ ، ويُنقل الحديث النابي هذا عن فمي ، وإن كنت مؤيدا لجزء كبير منه . تركتُ المجلس وكلام الطير الفيلسوف يدوّي في آذاني : انكم فعلا منافقون .

 

81
سلطان يخشى النمل ولا يتورع عن قطع الرقاب
شمعون كوسا

قبل ايام كنت اشاهد حلقة من مسلسل حريم السلطان ، فجلب انتباهي بصورة خاصة  موقف للسلطان وهو يتجول في حدائق القصر . توقف السلطان عند شجرةٍ كان قد اجتاحها النمل وكأنه قد اقسم ،بواسطة جيشه العرمرم ،على إزهاق روحها . تأثر السلطان كثيرا لحالة الشجرة الكبيرة وكاد يُصدر أمرا بإيقاف تقدّمِ النمل ومن ثمّ إبادته ، لولا الشك الذي  ساوره بصورة مفاجئة  وجعله يتردد في اتخاذ قراره : هل له الحق فعلا في قتل النمل ؟!!   استدعى كاتبه وأملى عليه كتابا موجها الى أبو السعود افندي ، مستشاره في شؤون الشريعة  . أتاه الردّ من المصدر الديني  مؤكدا بأنه للسلطان الحق في كل شئ  لأنه سلطان العالم ، بما فيه القضاء على النمل ، ولكنه يجب ان يعلم بان هذا النمل سيحاسبه يوم القيامة . عند هذا تراجع السلطان سليمان عن فكرته تاركا الشجرة فريسة لأطماع النمل.

دعتني اللقطة هذه الى ابتسامة خفيفة لا تخلو من الكثير من علامات الاستفهام لا سيما عندما نعلم بأنّ المسلسل  يسرد وقائع حقيقية من تاريخ الدولة العثمانية. توقفتُ انا ايضا اسوة بالسلطان ، وبعد تفكير بسيط  ، دخلت عالم الخيال مفترضا بأنَّ ما أفتي به ابو السعود افندي هو صحيح ، وتصورت نفسي هناك في يوم القيامة . اتخذتُ موضعي بين مليارات  الصفوف انتظر جلسة الدينونة وأحكامها ، لانه المعلومات التي استقيتها منذ القدم تفيد بان يوم القيامة هو يوم حساب لكل البشر منذ الخلقة .  كنتُ ملاصقا لكرسي صغير اعتقدت بانه قد خُصّص لمن أحسّ بالتعب جرّاء وقوفه الطويل ، فهمَمتُ بالجلوس عليه ، وإذا بأحد القائمين على حُسن سير يوم الدينونة ،  يمنعني من الجلوس قائلا بان الكرسي  مخصص للنمل ، وللحال ابصرت جمعا كبيرا من النمل يتوجه الى الكرسي الصغير . اعتقدت بان الامر يخصّني أنا شخصيا ، فقلت  ما عساه أن يكون مصيري اذا أدلى النمل بإفادته السلبية عنّي ، انا الذي لم اتردّد ولو للحظة عندما كنت  أسحق النمل وأحرقه أو أشبِعه بالمبيدات ، ولو اني بعد رؤية الحلقة  امتنع الان عن ملاحقته .
قلت ايضا : أيعقل ان يكون الامر صحيحا ، واذا كان الامر كذلك ، ماذا عن حقوق البقّ الذي نسحقه عند استقراره على وجهنا أو أية منطقة في جسمنا ، وهل سَلِم عن هذا التصرف العفوي حتى القديسون أنفسهم ؟ وماذا عن البعوض والصراصير والذباب ، ناهيك عن الحشرات الضارة ؟ واذا تابعنا نفس المبدأ نقول : لماذا نقبل بذبح الحيوانات الاخرى ونأكلها ؟ ومن سينقذنا من دعاوى الخروف والثور والسمك والدجاج والطيور الاخرى التي لم اجد لها مقاعد خاصة بها !!
قبل ان يتقدم النمل بإفادته ، وقبل دخول الحشرات الاخرى مع الحيوانات المذبوحة الى القاعة ، طويتُ الصفحة . تركت عالم الخيال والفرضيات وعُدت الى واقع حياتي اليومية ، وقلت ما هذا السلطان الذي قبل أيام ، وعلى مشهد من جمع كبير من ابناء شعبه ، إستلّ سيفه وقطع رقبة قائد جنده لانه كان قد  صدّ احد ابنائه الامراء دفاعا عن نفسه ، وفي حلقة لاحقة ، امر بخنق ابنه االبكر ولم يترك له حتى مجال الدفاع عن نفسه وإثبات براءته.
سلطان يقتل ويبطش ويقطع الرؤوس بدم بارد وضمير في غاية الارتياح ، ويهتزّ بدنه خشية محاسبة النمل !!
لقد اخترتُ هذا الموضوع وهذه المشاهد لانها مستقاة من التاريخ وتمثل  ظاهرة ليست غريبة عنّا وبعض تصرفاتنا نحن ، عندما نبلع الفيل ونعصر النملة أو البقّة كما يقال . نهمل الجوهر للاهتمام بما هو عرضي وظاهر. نهمل ما من شأنه ان يضرّ ونسعى وراء ما لا ينفع .
يُعير البعض أهمية قصوى لقصر ثوبهم وطول لحيتهم ، في الوقت الذي يكونون قد  امتهنوا  مهنة الاعتداء في قتل وذبح  البشر ، دون تقريع ضمير ، كما يحدث في ايامنا . 
ويركّز البعض الاخر اهتمامهم على تفاصيل يرونها خطيئة او مخالفة كبيرة ، كتناولهم اللحم في يوم مخصص للصوم مثلا ، او تناولهم الطعام ربع ساعة قبل انتهاء موعد الصيام ، وهؤلاء البعض يكونون قد اشاحوا بوجههم لدى مرورهم في نفس اليوم ، امام  شخص طريح الارض ينتظر يد العون من المارّة  . همّهم الوحيد والأهمّ  كان الوصول الى كرسي الاعتراف قبل ان يغادر الكاهن !! لقد خاف هؤلاء من يوم القيامة ، ولا يعرفون بأنهم سيُحاسَبون لعدم اسعافهم الجريح الذي ناداهم ولم يأبهوا به ، وليس لتأخرهم في الاعتراف .
 ورجلُ دينٍ لم يرضَ حتى سماع عدد من رعاياه ، بحجة انه ذاهب لتوديع سيدنا المطران الذي كان حزم حقائبه لقضاء عطلته في الخارج ، وكان هؤلاء الرعايا قد قصدوه في محاولة المصالحة بين أخوين متخاصمين منذ زمن طويل كانا  قد تواجدا في المدينة ذلك اليوم ، وتمّ تهيئة اجواء التقائهما.  والشخص الاخر الذي امتنع عن مساعدة اخيه المحتاج بالرغم من امتلاكه المال ، ويتباهي بوضع ورقة نقدية في صندوق الكنيسة مثلا .
ولا اريد ان اطيل عن حالات قد سمعنا المئات منها ، عن المنافقين والدجالين والأتقياء المتزمتين ، لاني اوشكت الابتداء بموعظة لا أراها إلاّ من اختصاص اشخاص امتهنوا الوعظ  بقناعة روحية داخلية تامّة تقنع حتى الحجر !!   
أما كلمتي الاخيرة فهي : الأهم في الحياة هو الانسان وخدمة الانسان ومحبته قبل اية وصية او واجب آخر ، والدينونة ستنطلق من هذا المبدأ .



82
تاج لا يراه إلا المرضى
شمعون كوسا

توجهت الى احدى دور الشفاء الكبيرة لأعود صديقا تعرض لوكعة صحية لم يتوفر علاجها إلا على أسرّة المستشفى . كان هذا المشفى مبنى كبيرا ، يتيه فيه الزائر اذا لم يكن قد جال في اروقته قبل ذلك اكثر من مرة ، او لم يكن قد استعان بدليل ضليع بأزقته وردهاته واقسامه المختلفة . بعد سير حثيث لمدة ربع ساعة، بلغت الغرفة التي كان ينام فيها صديقي المريض . اتضح لي عند دخولي بان مريضا آخر كان يشارك صديقي المقام في نفس الغرفة ، مريض  كان قد تماثل تقريبا للشفاء .  كان هذا المريض قد كسب ودّ صديقي ، لأني رأيته جالسا بجواره وهو يشرح بحماس موضوعا كان قد قارب نهايته بعد نصف ساعة من تجاذب اطرافه . كان صديقي قد تعرض لحاجة مفاجئة لاستئصال دودته الزائدة ، دودة لم يفلح  الانسان في معرفة جدواها  فأطلق عليها اسم  الزائدة . وبصدد زيادتها ،  قرأت بانه في بعض الدول يبادر الناس   الى استئصال هذه الزيادة منذ الدقائق الاولى الطفل !!
سألت صديقي عن حالته الصحية بعد العملية واذا كانت الامور في مسارها الصحيح . أثناء حديثي ، كنت ارى المريض الاخر يقلّل المسافة التي تفصله عنّي . كنت التفت إليه  بين الفينة والفينة لانه جلب انتباهي جدا في إطالته النظر إلى قمة رأسي . لم أعر اهمية كبرى لنظراته في البداية ولكني عندما رأيته قد عقد العزم على عدم خفض عينيه ، قمت بمسح شعري قليلا لأتأكد من خلوّه من شوائب تكون قد علقت به ، وعندما عادت اليد خاوية ،  قلت له : ما بالك تنظر الى رأسي ،  وكأنك تبحث عن شئ غريب ، هل يذكرك شعري بشخص معيّن أم ماذا ، ما الامر؟
ابتسم شريك صديقي في الغرفة ، وطلب مني بمنتهى التهذيب ان ارافقه قليلا  خارج   الغرفة . استجبت لطلبه بصورة عفوية ، واذا بالمريض المتعافى  يقودني من ردهة الى ردهة ويشرح لي حالة كل مريض نصادفه ، ومن جملة ما قاله لي ، كان :
اعتذر لفضولي ولكني ارغب ان اشرح لك بعض الحالات هنا  وأطرح بعض اسئلة عليك :  هل قد تعرضتْ يوما احدى كليتيك لعطب ، كما يحدث الان مع  هذا المريض الذي تراه هنا ، انه  هنا منذ اسابيع في علاج مؤلم جدا ،  بعض اوقاته الصعبة غير قابلة للوصف ، ولكن عند حلول ساعة العذاب ،  فانه  يزأر كالاسد، بالرغم من المسكنات التي يتناولها.
وتابع قائلا ، هل ترى هذا الشخص في الجانب الايسر  ،  انه شخص سقط  امام داره دون أن يعرف لماذا ، فتهشمت عظامه بصورة لا تصدّق ، تراه الان وهو كالمومياء في قالب من الجبس ، هل تتخيل ما يعانيه ؟  وقال : أترى ذاك الشاب الجميل الذي بُترت ساقاه على اثر حادث سيارة لم يكن هو الطرفَ المسبّب.
وفي ردهة اخرى قال لي : ادعوك للتركيز على هذا الشخص الذي لا يكفّ عن هزّ رأسه ، يقال بانه على هذا المنوال منذ ثلاث سنوات. في ردهة اخرى قال لي :   هل تصدّق  ان يقع الانسان مريضا جرّاء آلام حادة في ظفر ابهامه الذي لا يستجيب لأيّ علاج ؟  وفي  ردهة اخرى قال : هل تسمع صوت سعال هذا المريض ، انه يتنفس بصعوبة كبيرة  ، انه يتجنب الانظار لكي لا يضطر للكلام لان هذا الجهد يعرّضه لازمة يصعب عليه الخروج منها. انه يتنفس احيانا بصعوبة تجعلني اراه كالحصان الذي يسحب بصعوبة حملا ثقيلا يفوق طاقته .
وفي ردهة اخرى قال ، هل ترى هؤلاء المرضى الراقدين هنا ، لقد انهكهم الالم. فاجأهم المرض دون استئذان ، احتل اجسامهم واستقر بصورة عشوائية في الرئتين والرأس والامعاء والاطراف والفم ، وقد تمّ ابلاغ البعض منهم بالحكم الذي اصدره المحتلّ الظالم بحقهم ،  فهم الان كالسجناء الذين ينتظرون حكم الاعدام ، دون ان يكونوا قد اجرموا بحقّ أحد .
وهل ترى ذاك الرجل الجبار الراقد دون حراك ، انه  يعاني من اكتئاب حادّ ، احتار الأطباء تماما في كيفية اعادته الى حالته الطبيعية ، وهل ترى تلك المرأة التي لم يفهم الاطباء لحدّ الان داءها الحقيقي ،  وتلك الشابة المشلولة ، وهل ترى الرجل الملتحي الذي هو طريح الفراش منذ اسابيع لمعالجة حبة صغيرة في ظهره افقدته طعم الحياة لانها تكبر يوما بعد يوم . لقد شاهدت عذابه لبضع دقائق ، دقائق لا انصحك بمشاهدتها . وهل اكلمك عمّن قصد هذا المستشفى لمرض في صيوان اذنه ، وآخر في اذنه الوسطى  والآخر لعلّة في خياشيم أنفه وآخر لحساسية في لسانه وآخر في عيونه وآخر لمتابعة علاج غدده التي لا تحصى . هناك المئات من الحالات والامراض التي لا تتخيلها ، تصيب جلد الانسان وكعبه وحنكه ورقبته وعظامه ومفاصله وحتى الحيز الواقع بيثن اصابعه مثلا ، امراض تجهل حتى اسماءها ،  ناهيك عما يعانيه الكثيرون وقد اقعدهم المرض وهم في بيوتهم .
بعد جولة استغرقت زهاء الساعة ، قال لي : هل حزرت الان سبب تركيزي على قمة رأسك واطالتي النظر اليها ؟   كنت افعل ذلك لاني كنت ارى عليه تاجا كبيرا لامعا جلب انظاري وجذبني منذ دخولك الغرفة  . انت لا ترى هذا التاج الثمين ولكني أجزم بان كل مريض مررتَ امامه كان يرى رأسك مكلّلا به ،  ويرى في شخصك مَلِكا أو سلطانا ، لانك وبكل بساطة سليم البنية . لانك لا تشكو من رأسك ولا تشتكي من ألم في يدك ولا قدميك ولا معدتك او امعائك اوكليتيك او اصابع يديك ، ولا ولا ... .
 هل هناك نعمة تفوق حالة الانسان الذي لا يشكو من الم في يديه أورجليه أورأسه وفمه ، أويشكو من آلام في ظهره وعينيه ، أواكتشف انسدادا في الكثير من اوردته وشرايينه ،  وهل احتاج الى الخوض في قائمة لا تتوقف الا عند الكيلومتر الثاني ؟ هل تعرف بان جسم الانسان وفي اصغر مساحاته وابسط اعضائه ومكوناته  معرّض لالف مرض ومرض ، ولألف الم والم . كان من الممكن جدا ان تكون انت مرشحا لهذه الالام ، ولكنك بعيد عنها وهذا يجعل تاجك لامعا على رأسك دون ان تراه . تاجك لا يراه الا من يتألم ويقول في نفسه هنيئا لهذا السلطان   .
هل جلستَ يوما تفكر بهذا الامر ، وبعد ان تعي السعادة التي توفرها لك سلامة صحتك ، ترفع انظارك الى السماء لتشكر الف مرة ، لتثمّن وتقدّر وتمتنّ وتنحني الف مرة لان ضفرك سليم وعيونك لا عيب فيها ، وجهاز سمعك وبصرك وهضمك وحواسك تعمل بصورة جيدة ؟ ان اصغر جزء متألم في الجسم يدفع البعض احيانا الى الاستغاثة بالموت .  هل فكرت يا صاحب التاج  ان تلتذّ ، بروح متواضعة ، بالنعيم الذي انت فيه ، هل فكرت في ادامة تاجك لامعا ؟ يجب ان تعلم بانه لا فضل لك بحمل هذا التاج لان الاقدار قامت بتنظيف مسارك وازالت منه العقبات ولو لحين .
بعد هذا الحديث الذي لم اكن اتوقعه ابدا ، ودّعتُ صديقي الذي تخلص من زائدته والصديق الاخر الذي حمّلني بمئات الزوائد ، وغادرت المستشفى  بمشاعر الندم والاسف . لقد خجلت تقريبا من شعور تخيلت ذاتي  سائراً الخيلاء بين هؤلاء المعذبين ، فكرت بان هؤلاء ايضا كانوا اصحاب تيجان . قررت منذ ذلك الحين ان اعود كثيرا لزيارة المعذبين والمحرومين ، لا لكي افتخر بصحتي ولكن لكي أنزع التاج او اشاركهم في حمله.  لكي أزرع بذرة الامل في نفسهم والاصغاء اليهم بصمت  ، أريد أن أستأجر القليل من عبراتهم بغية التخفيف   من ضغط خزين دموعهم الذي لا ينضب ،آملاً بالمساهمة في بناء معبرٍ  يسهّل عبورهم الى مساحة يخيم عليه الهدوء والطمأنينة . ان الجلوس بجانب المريض ومحاولة التخفيف عنه من خلال دمعة ، او مجرد كلمة او الاحتفاظ بالصمت ، تصرفات تزرع الامل داخل نفسه في اوقات اسعد وايام أجمل لحمل تاجه من جديد .  على ذكر موضوع الامل في الحياة ، يحلو لي ان اردّد هذا البيت من الشعر : اعلّل النفس بالآمال ارقبها ، ما اصعب العيش لولا فسحة الامل .
هل بعد ما رويته هنا ، سيرفع كل شخص معافىً يديه ليتحسس التاج الذي يعلو رأسه ؟ انه تاج ثمين جدا اعتدنا على حمله وعدم رؤيته ولكن المحروم منه يراه . انها فعلا كلمة حق نطق بها من عبّر من قال :  الصحة تاج على رؤوس الاصحاء لا يراه احد سوى المرضى . .

83
 
في حديثٍ له عن التسامح ،
يتلو فولتير هذه الصلاة
شمعون كوسا


مقتنعا من براءة جان كلاس المتهم زورا بقتل ولده ، وضع  فولتير  قلمه تحت خدمة العدالة من اجل ردّ اعتباره . في كتاب له بهذا الصدد ، يورد فولتير فصلا عن التسامح ويضمّنه هذه الصلاة :


انني لا اوجّه كلامي الى البشر ولكن إليك يا الله ، انك سيد البشر اينما كانوا وفي كل الازمنة .
اذا كان متاحاً لمخلوقات ضعيفة هائمة على وجهها في أرضنا الواسعة ، والتي لا يراها في الكون احد سواك ، اذا كان لها أن تتجرّأ  في طلب شئ ،  منك يا واهب كل شئ  ، يا مَن قوانينُك أزلية وغير قابلة للتغيير ، نبتهل اليك ان تنظر بعين الرحمة الى أخطائنا التي هي جزء من طبيعتنا البشرية ، كي لا تتسبب هذه الاخطاء في مضاعفة كوارثنا. 
إنك لم تزرع فينا قلبا لكي نبغض بعضنا البعض، ولم تمنحنا أياديَ لنستخدمها في ذبح بعضنا البعض . هب لنا  أن نتعاون في حمل اعباء هذه الحياة الفانية الشاقة . لا تسمح بان تتحول اختلافاتنا الطفيفة في ملابس تغطي اجسامنا الهزيلة ، وفي لغاتُنا المتعدّدة الناقصة ، وعاداتنا المتنوعة الغريبة ، وقوانيننا غير الكاملة ، وكافة آرائنا التي تفتقر الى العقل ، وكافة ظروفنا التي هي غير متكافئة في نظرنا غير انها متساوية في نظرك ، لا تسمح بان تتحول هذه الاختلافات الطفيفة الى اسباب حقدٍ واضطهاد بيننا .
اجعل ألاّ ينظر الذين يشعلون الشموع  في وضح النهار إكراماً لك ،  باحتقار الى من اكتفوا في اكرامهم لك بالشمس التي تضيئ الدنيا ، ولا المتّشحين بثوب ابيض تعبيراً عن حبهم لك ، ان يكرهوا من يقومون بنفس الشعائر تحت معطف من صوف اسود .  أصغِ الى مَن ناجاك بلغة بالية ضعيفة ، كما تفعله مع من صاغَ في مناجاته كلمات متطورة حديثة . واجعل الذين  ارتدوا بدلة حمراء او بنفسجية ، واحتكموا على مساحة صغيرة من تراب هذه الدنيا ، أو امتلكوا بعض قطع معدنية رنّانة ، اجعلهم ان ينعموا  دون غرور بما يعتبرونه عظمة وثروة ، من اجل ان ينظر اليهم الناس  دون حسد ، لانك انت العالِم بانه ليس هناك في هذه الاباطيل ما يدعو للحسد او يبرر التعجرف .

عسى ان يتذكر الناس كلهم بانهم اخوة . إجعلهم ينظرون برعب الى الاستبداد الذي يمارس بحقّ النفوس ، واجعلهم يمقتون اللصوصية والقوة التي تستخدم في سرقة  العمل وثمار صناعته الآمنة .
اذا لم يكن في متناول يدنا تجنب مصائب الحرب ، فاننا نستطيع إبعاد الكراهية من قلوبنا وتجنب الوقوع في بعضنا البعض في أوقات السلام  .  ولتكن لحظة وجودنا في الحياة هذه ، مناسبة لشكرك علي منحنا اياها ، ولنقم بذلك  مستخدمين الف لغة مختلفة ، من اقاصي الارض الى اقاصيها .
 


معلومات مقتضبة
ولد فولتير في باريس سنة 1694 
تزعّم حركة الفلسفة المادية ، وقاوم رجال السلطة الكنسية والدينية معاً ، ونقدهم بقلمه الرشيق اللاذع . كتب في الشعر والتاريخ والمسرح والمراسلة والفلسفة . من بعض مؤلفاته :  ( القاموس الفلسفي) ، (كنديد) ، (زاديك) ، (محمد) ، (زائير) وغيرها .


84
المنبر الحر / ربيعنا يبكي
« في: 20:47 05/03/2015  »
ربيعنا يبكي

شمعون كوسا

ينتظر الانسان بلهفة قدوم فصل الربيع لكي ينطلق معه في ولادة جديدة مع طبيعةٍ في بداية دورتها بصحبة  شمس مشرقة تبثّ اشعتها  دون عائق وسط سماء زرقاء ، وأشجار صفّت اوراقَها الصغيرة الخضراء حديثة الولادة على امتداد اغصانها ، وزهور تفتّقت بمختلف ما تهواه العين من الوان تفوح منها ازكى الروائح العطرة ، ومياه لغزارتها ضاعفت منابعها ، وعصافير تنطلق من الصباح في زقزقة متواصلة ، ناهيك عن العنادل التي  تكون قد تأبطت آلاتِها الموسيقيةَ وكأنها مقبلة على خوض  سباق للاصوات والالحان الشجية ، فالكناري يغرد من جهة ، فيردّ عليه الشحرور ، والعندليب يطلق نغمة طويلة ثم يدخل في موّال مع الحسّون .
خرجتُ كعادتي في جولة بين احضان الطبيعة لأمتّع بصري واشنف آذاني بما تقدمه الطبيعة في مهرجانها الربيعي الذي ينسيني ، ولو لحين ، بعض ما اقرأه واسمعه واشاهده من ويلات شعبنا وهمومه . لاحظتُ هذه السنة أمرا غريبا جدا ، لاني كلما دنوت من شجرة أرى اوراقها تتوقف عن الحركة. تابعتُ المسير نحو بعض البلابل ، فرايت هذه الاخيرة ايضا قطعت تغريدها ، قمت بتوجيه انظاري صوب الحدائق فلاحظت بان اغلب الزهور تنكمش ، وبعض منها بدا لي وكأنه سوف لن يتفتّق . 

توقفتُ في مكاني  لافكر قليلا فيما يجري، فرأيت عددا كبيرا من العصافير قد حطـّت على الارض من حولي ، وبعض الزهور تحركت وحتى الاشجار قد انحنت قليلا باتجاهي ، وسمعت صوتا يصدح من بعيد : لقد انتظرنا سنة ونيّف نترقب الامور ونغذّي الآمال برؤية نهاية قريبة لأوضاعكم او على الاقل مشاهدة بعض التحسن فيها ، غير ان ما يجري لكم ، اصبح أمرا لا يطاق . انه وضع مُنافِ لقوانين الطبيعة ، وتصرف لا اخلاقي بجميع المعايير ويناقض المنطق وكافة المفاهيم والاعراف البشرية وحتى الحيوانية والنباتية . كيف يمكن للشحرور ان يواصل شدوه وأهاليكم اقتُلِعوا من ارض تأصلت جذورهم فيها منذ آلاف السنين ؟ هل يستطيع الشجر ان ينقاد للنسيم ويزهو باوراقه الخضراء ، والمشردون قسرا وظـلماً من بينكم لا زالوا يهيمون على وجههم حائرين ، لا يعثرون على طريق يسلكونه لمجرد الحفاظ على حياتهم ؟ بعد هذا إلتفتُّ الى زهرة صغيرة  تناولت كلاما شبه سياسي وقالت :  إن ما يزيدنا ألماً ويثير غضب الطبيعة باسرها في هذا الربيع ، هو مشاهدة دولة تسمي نفسها  دولة عظمي  ، تصرّح علناً بانه من الصعب جدا معالجة  ما يجري من ظلم وارهاب عندكم ، وقد يستغرق الحلّ عدة سنوات !! واضافت الزهرة بنفس صراحتها قائلة :  ولماذا  لم يصعب هذا على نفس الدولة العظمى عند احتلالها بلدكم باكمله خلال ساعات فقط ؟ !!
وسمعتُ بلبلا قد استهلّ لحنا حزينا يقول فيه : وهل تتصورون بان الشمس لم تكشف لنا  المأساة التي ألمّت بقوم كانوا يعيشون بأمان ، اناس مسالمون حُشروا عند سفح الجبل وعلى مرتفعاته ليسهل الانقضاض عليهم . تعرّض شبابهم واطفالهم وشيوخهم ونساؤهم الى مذابح لا يمكن نعتها الا بالبشعة  والشنيعة. قسم كبير من بناتهم اقتيد الى العبودية والاسر بعد أن مورست بحقهن الاعتداءات والاهانات وكافة اصناف العنف والتحقير . احداث لا يمكن للتاريخ ، مهما كان قاسيا ان ينساها . وانبرت شجرة عالية من الجانب الايسر تقول :  ألم يخجل هؤلاء الوحوش وتجرأوا أخيرا على تدمير الآثار وحرق المخطوطات القديمة ، اوراق واحجار كانت شهودا قاومت آلاف السنين من اجل الحفاظ على تراث وتأريخ يفتخر به العالم باسره ؟ ألم يفكروا بانه لا يمكن ان يكون مستقبل لشعب محا ماضيَه بيديه ؟ !!
اغرورقت عيناي لسماع كل هذه الحقائق التي تجمّد عروق سامعيها اينما وُجدوا، وقلت لنفسي : حتى الاشجار والزهور والطيور والنباتات على بيّنة تامة من  وضعنا وتتعاطف بحرارة معنا ، صحيح ان الربيع هذا اليوم يرتدي حلته الجميلة  ولكنه داخل في العرض هذه السنة بنفس منقبضة وعين دامعة .
عندما شاهدتُ الربيع وقد اعلن  الحداد ، تنحّيت قليلا للعثور على  متكأ استند اليه لإمضاء وقت قصير في مجلس احزان الطبيعة  . في دقائق خلوتي وسط هذا المهرجان الحزين ،بدأتُ اجترّ بصمت نفسَ الافكار التي كنت احملها عند خروجي والتي لم تبارح رأسي يوما ، وكنت اقول : لدينا دولة تديرها حكومة بمؤسسات كبيرة ، وبعدد هائل من الوزراء والمدراء ، ونواب يسنّون القوانين ، تُرتكب فيها المذابح ، وتسقط مدن برمتها دون مقاومة ويُطرد سكانها الآمنين من القرى والارياف دون أن يحرك هؤلاء  ساكنا . لقد ترك المسؤولون الامر لكل مواطن يعالج مأزقه بنفسه ، فاضطرت كل طائفة الى تأسيس جيشها الصغير ، والقبائل انبرت بابنائها لتحرير اراضيها والدفاع عن حدودها من عدو شرير فرض نفسه ، لا يحمل هدفا سوى حجب المرأة عن الانظار وتحويل الرجل من كائن عاقل الى مخلوق متوحش يتلقى اوامره دون ارادة ، ويمتشق سيفا إمّا لنحر نفسه أو نحر الاخرين .
وقلت ايضا :  أتكون هذه مجرد مؤامرة اشتركت فيها اطراف عديدة  ؟  لكثرة تفكيري وتحليلي لكل ما حدث ويحدث ، تترسخ لدي القناعة يوما بعد يوم بانه لم يعد لنا ، نحن الاقليات ، مستقبل في هذا البلد  .  بتنا في انظارهم حشرات ضارّة يجب ابادتها ، نحن الذين كنّا خميرة الارض وواجهة البلد الجميلة امام العالم المتحضّر ، نحن الذين بنينا البلد منذ البدء ، اضحينا غرباء في بلدنا  .  لقد تحولنا الى بيادق صغيرة في لعبة تحركها قوى الشرّ على هواها دون ان تقيم  وزنا لأيّ اعتبار . لا نعرف ما هو موعد نهاية هذه المسرحية السمجة !!
  قبل ان اترك مجلس الربيع تمتمت بدوري الكلمات التالية وكأني اصلّي : من حسن الحظ بان الطبيعة تبقى كما هي تأتي دون تضييع مواسمها لتسعد الناس ، بالرغم من ظلم الانسان وتقلباته وممارساته الوحشية . ستبقى الطبيعة النقية والنبيلة هي متنفس للانسان ، يرى فيها الخير فينسى الشرّ، يبصر فيها الجمال فينسى البشاعة ، يقابل فيها الصدق لينسى الكذب ، يسنشق هواءها فينشرح صدره ، ويطيل النظر الى سمائها الصافية وآفاقها الجميلة فيمتلأ سعادة وينسى الظلم .
 عند ذلك انحنيتُ اجلالاً للزهور والاشجار والعصافير ، وغادرت الموقع بنفسِ راضية ، عدتُ بذات الكرب الذي كنت احمله غير انه كان اقلّ وطأة وهيجانا  .
   

85
أمنيات لم تتحقق ، أطلقتها من جديد من أعالي الجبال

شمعون كوسا

قبل ان تطوي السنة صفحاتها الاخيرة بخمسة ايام ، جلست افكر بما كنا قد دأبنا على القيام به سابقا عند تبادل التهاني مع الاهل والاحباب ، حيث كنا نطوف الاسواق بحثا عن معايدات جميلة ، فننتقي لكل شخص عزيز على قلبنا بطاقة تناسبه ، ونسطّر له بخط يدنا كلمات تنبع من القلب . أما الآن فان عملية تبادل التهاني فقدت نكهتها وروحها ، حيث اصبح المرسل لا يحتاج الى أي جهد ، لانه يقوم باختيار سطر واحد  أوبطاقة واحدة ، وبنقرة اصبع بسيطة يرسلها ، وهو قابع في مكانه ، الى من يعرفهم ومن لا يعرفهم ، وفي لحظتها  يكون قد استلم الحديثَ الالكتروني هذا خمسون او مائة شخص .
لدى بلوغي السطر الاخير من هذه الذكريات ، لمحت عصفورا صغيرا عاديا يتنقل بين اغصان شجرة كبيرة امام بيتنا . أطال العصفور في تحوله ورقصه .   الى ان طار نحوي واستقر عند أسفل النافذة . عندما رأيته لا يتحرك ،  ركزت عليه انظاري ودخلت عالمي الخيالي علّني أجد تفسيرا لهذه الزيارة غير المألوفة .  سمعت صوتا  يكلمني ويقول : كنت قد اعتدتَ على ارسات تمنياتك في كل سنة ، وها قد مرت عدة سنوات دون أن تطلق اية امنيات . قال العصفور : أنا على بيّنة تامة  من سلسلة الامنيات التي كنت قد اطلقتها في حينه فوق الجبال ، لقد قصدتك اليوم مستفسرا عن رغبتك في اعادة نفس تمنياتك السابقة لانها كانت ادعية شاملة ، كي اقوم بنقلها الى الاعلى . قلت له ، لقد نسيتُ ما كنت قد كتبته ، هل لك ان تعيد  عليّ فحوى تلك التمنيات ، فبدأ يقرأ :

-   تمنيت لو عرف الناس بان الله يخصّ البشر جميعا بحبّه ، وسيّان عنده لونهم أو طائفتهم او دينهم   .
-   تمنيت لو عرف الناس بانهم حقا إخوة لانهم قد عُجنوا دون تمييزعلى صورة الله.
-   تمنيت لو عرف الناس بان الله ليس معوّقا ولا يحتاج الى حماية أحد ، لانه هو القادر على كل شئ .
-   تمنيت لو عرف الناس بان الله ليس رئيس عصابة  يستأجر خدمات اناس حاقدين ، أومهووسين ، او خارجين عن القانون من اجل انهاء حياة مخلوقات أوجدَها هو ، وهو الوحيد الوصيّ عليها.
-   تمنيت لو عرف الناس بان الاديان أتت لاجل البشر ، لتنظيم علاقاتهم للعيش في محبة ووئام وليس للاقتتال بينهم باسم الله .

-   تمنيت لو قام الناس بتنقية قلوبهم من حقد يتحول عند بعضهم الى سُمّ زعاف 
-   تمنيت لو أزال الناس من نفوسهم الحسد والغيرة ،
-   تمنيت لو نبذ الناس غرورهم وكبرياءَهم ، وما أكثر هؤلاء
-   تمنيت لو اخلص الناس لبعضهم البعض
-   تمنيت لو كفّ الناس عن الفرح  لمصائب غيرهم
-   تمنيت لو قطع الناس دابر انجرافهم السهل نحو الافتراء والنميمة
-   تمنيت لو بحثتِ العدالة عن الحق والحقيقة ، تاركة الطرق الملتوية للالتفاف عليها
-   تمنيت لو رأى الناس رذائل بعض الاغنياء وقدّروا فضائل الفقراء
-   تمنيت لو قررالبخلاء الانفتاح قليلا على الناس وعلى الحياة
-   تمنيت لو ابتعد اهل المنطقة عن الطمع والركض وراء الاملاك والاراضي والعمارات والبيوت من اجل تأجيرها بمبالغ فاحشة تفوق طاقة المغلوبين على امرهم .
-   تمنيت لو فكر الناس يوميا بان الحياة فانية وان كل شئ آئل الى الزوال ، جمالاً كان أم مالاً ام غيره ، وبأنّ  هذا القدر لا يستثنى أحدا من مراحم منجله !!
-   وتمنيت ، وتمنيت ولم أدَع مجالا او شريحة لم اتناولها، وكل  تمنياتي كانت تصبّ في حلم أرى فيه عالماً يعمّه السلام وتعيش فيه الناس بحب ووئام .
توقفَ العصفور هنا وقال لي : هناك فقرة عن رجال الدين ، او بالاحرى امنية قد كنتَ عبّرت عنها ببعض الصراحة ، هل ارتكها كما هي ؟   قلت له ارجوك أهمِل موضوعهم لاني قد تناولتهم كثيرا ، وتمنيتُ لهم كثيرا وبصدق تامّ ،  واخشى اذا اعدت الكرّة هنا ، أن أغدوَ هدفا لسهام بعضهم .سأقول لك شيئا غريبا بهذا الخصوص  : عوضا عن أن نكون نحن محتاجين الى دعائهم وصلواتهم ، هم الان بحاجة لادعيتنا كي يصطلحوا ، ولكني شخصيا  قد قطعتُ الامل من الكثيرين منهم . ولكن بالرغم من هذا،  ارجو ان تشاركني الدعاء من اجل أن  يصبح أخوتنا هؤلاء  قدوة حقيقية لافراد  رعيتهم ، بعيدا عن المال والماديات والانانية وترّهات الدنيا ، وان يعودوا بصدق كل يوم الى اعماق قلوبهم وضمائرهم لتمحيص درجة تجردهم وقربهم من الرسالة التي اوكلت اليهم .
قال لي : لقد انتهيتُ من قراءة رسالتك ، ولكنك ألا ترى بانك نسيت امرا مهما جدا غدا الان موضوع الساعة ؟ قلت له ، انك محق فعلا ، لقد انهمكنا في مشاغلنا الخاصة الى حدّ اننا لم نعد نعير اهمية لما يدور حولنا . ، نعم  ان المحنة التي نشهدها الان كبيرة ،  وامنيتي بِشأن هؤلاء المعذبين كان يجب ان تأتي على رأس التمنيات  . نعم ، اتمنى بكل جوارح قلبي أن يعود المهجرون الى قراهم ومنازلهم وأن يستعيدوا اراضيّهم واموالهم وحلالهم . لقد وقعوا ضحية ظلم كبير وتعرضوا لاضطهاد لم يشهده التاريخ قبل الان . امنيتي  ان تخف ألامهم ومعاناتهم الحالية وأن يجدوا حلّاً جذريا لمشكلة عودتهم الى اجوائهم.

لا اعرف كيف اضاف العصفور هذه الفقرة الى الرسالة ، ودون ان يطلب مني ختما او توقيعا ، انطلق طائرا بخط مستقيم وتابعته الى ان سلم البريد ، بعد دقيقتين ، الى نسر كان ينتظره في محطة اخرى، فبدأ هذا الاخير يحلق ويخترق الاجواء الى  ان اختفي عن انظاري .
وكل عام وانتم بخير. 

86
صعوبة الاقرار بالخطأ
شمعون كوسا

كان قد اختلف صديقان في أمر جعلهما يبتعدان كثيرا عن بعضهما البعض . المقرّبون من هذين الشخصين حرصوا على ادامة شعلة الامل في رؤيتهما يوما عائدَين الى الودّ كما كانا  . حتى الشمس ، متشجعة بوقائع القائد ايشوع بن نون الذي كان قد امرها في في أحد اسفار العهد القديم بتأجيل غروبها من اجل انهاء معركته ، اعربت عن رغبتها في المساهمة في هذه المساعي والتمنيات ،  فكانت في بعض الايام تُرجئ غروبها لكي تتيح للمتخاصمَين ازالة غضبهما ونسيانه قبل الغروب ، استمرت على هذا المنوال لعدة ايام اعتقد فيها الناس بان النهار بدأ يطول قبل موسمه ،  ولكنها عادت أخيرا الى مواقيتها ، فاصبح الغروب يتمّ لسنوات عديدة دون زوال هذا الغضب .
  دارت الايام  ولم تتوقف الا في أمسية تواجد فيها هذان الشخصان في محفل يضمّ الاهل والاقارب من الفريقين . انتهز المقرّبون من الصديقين الغاضبَين مناسبة هذا الاحتفال لتقريبهما الى بعضهما . ففي منتصف الجلسة نهضت الجاهير وبدأت بالتصفيق والعيون شاخصة الى الخصمين ، وبعد حثّ وتحريض وتشجيع  وهتاف ونداء ، قام الصديقان وتعانقا وسط تصفيق الجميع . فرح الجميع بالمصالحة هذه واستأنفت الحفلة برامجها . بعد خمس وثلاثين دقيقة ، حيث كان قد باشر الصديقان بحديث عادي ، تطور قليلا فقليلا وافضى بهما الى موضوع خلافهما وتأريخه واسبابه . جاء العتاب هادئا عند بدايته، وما لبث أن احتدّ تدريجيا الى ان تعالت الاصوات وشرع كل واحد منهما يتّهم الاخر ويدّعي بصواب موقفه ، ولم يطل الجدال كثيرا حين قام الصديقان في اشتباك بالايدي وتبادل الضربات  والشتائم . توصل الحاضرون الى فكّ اشتباك الصديقين المتعاديين ،  وعاد الجميع الى مقاعدهم عدا الخصمين غير التائبين اللذين تركا القاعة.

هذه قصة حقيقية عن شخصين بقيا على خصام لفترة طويلة ، ولكن عودتَهما لم تكن موفّقة ، لان أيّاً منهما  لم يقرّ بتقصيره واكتفيا بمعانقة اسعدت الحاضرين . صَعُب عليهما الاقرار بالخطأ . كيف يرضيان التنازل لبعضهما ، والحديث الذي دار بينهما في النهاية لم يردّد غير عبارات  تقول  : انت الذي كنت على خطأ ، وكل هذا حدث بسوء تصرفك ، والثاني يأتي بنفس الردّ وبمفردات مختلفة فيقول : ولما لا تكون انت المخطئ ، الم تكن انت الذي قلت كذا وكذا ، لم يكن لك أي حقّ بالتصرف كما فعلت . لقد تمّ تسوية خلاف متجذّر في قاعة الاحتفالات بمعانقة صفّق لها الجميع ، من دون تهيئة الاجواء والاستعداد بصورة جدّية للمصالحة ، بحيث يقر كل طرف بخطإه . لم تأتِ المعانقة بصدق لانها جاءت لارضاء الناس ، كانت صُورية وظاهرية دون ان يكون لها أي رابط مع الاستعداد النفسي الحقيقي .
الاختلاف والخطأ ظاهرتان طبيعيتان ، والغضب والابتعاد والتنافر والانفصال والانقطاع ، في هذه الحالات ولمثل هذه الاسباب ، هي من ضمن حياة المجتمع وتحدث بين اقرب الناس ، غير انه مهما طال امدها لا مفرّ من العودة لاستمرار الحياة ، قد يتمّ ذلك من خلال النسيان او عند فقدان الخلاف لحدّته وطأته الاولى ، او عبر تدخل طرف ثالث ، ولكنه في كل الحالات يجب توفير جوّ داخلي لذلك . 
باعتقادي الشخصي ، اذا توصل المرء الى قناعة داخلية للاقرار بذنبه ، يغدو الامر في غاية البساطة ولا يحتاج الى سنوات دراسة أو بذل جهد خارجي أو صرف مبالغ طائلة. كل ما يحتاجه المرء في اقرار هفوته هو تَوَفّر قسطٍ من التواضع وقدر من إنكار الذات . اقول هذا لانه في مجتمعنا ، لاسيما المجتمع الشرقي ، يُعتبر الاعتذار ضعفا ، والانكسار لا يليق بالرجل الذي هو رمز الانفة والقوة والبطش .  والاعتراف بالذنب يتطلب إنكار الذات ، لان الانسان بطبيعته ميّال الى التباهي بانه محق في كل شئ ، وميّال لوضع اللوم على الغير ، ولاجل هذا نسمع كثيرا: ألم اقل لكم هكذا ؟ ماذا قلت لكم ، هل رأيتم انا كنت على حقّ في الموضوع ، انكم لا تسمعون كلامي واني لم اخطئ ابدا. وحتى اذا وجدنا انفسنا مخطئين نفتش لانفسنا عن اعذارا واسباب تكون قد صدرت من الغير. المَثل الشعبي الشائع جدا ، والذي هو على فم ابسط الناس ، لم ينطق بغير الحق ، فنسمع الناس كثيرا يختمون كلامهم به قائلين : وهل هناك من يقرّ بان لبَنَه حامض ؟!! انه مثل شعبي يعبّر عن حقيقة نعيشها جميعا وفي كل يوم ، لانه حتى من كان لَبَنُه حامضا بحموضة الليمون لا يقرّ بحموضته !!
الإقرار بذنب ارتُكِب تجاه الغير صعب لانه تراجع الى الخلف. انه صعب لانه على الانسان الاختفاء من اجل ابراز الطرف الاخر ، وهذا يعني الاعتراف باهمية الطرف الاخر وتفضيله على النفس . انه من الصعب على المرء انكار ذاته ونبذ نرجسيته امام الاخرين ، لاسيما اذا أتى هذا القرار بعد سنوات طويلة من الخلاف والابتعاد .
هناك من خلقهم الله خيّرين بطبيعتهم ، هؤلاء لايمكنهم الاستمرار في غيّهم  ،  ولمجرد حاجتهم الى الهدوء والسلام الداخليين ، يجنحون الى هذا الاقرار بسهولة بالرغم من الانكسار الذي يتطلبه اعترافهم . هؤلاء أناس متصالحون مع انفسهم ويسيرون بثقة عالية في حياتهم. انهم يرغبون في العيش بتوافق مع طبيعتهم الخيّرة  ولاينتظرون حتى تجاوبا من الطرف الاخر . انه استعداد لا يمكن تصوره لدى المصابين بداء الهذيان والعضمة  ، لان هؤلاء  لا سبيل لحملهم على الاقرار بالذنب حتى اذا ضُبطوا في الجرم المشهود ، هؤلاء حمقى وجبناء ولا يتورّعون عن  تبرير اخطائهم  .
الاعتذار يحتاج الى شجاعة ولاجله يجب على الانسان ان يتجنب الزلّة لكي لا يحتاج الى هذه الشجاعة .
حديثنا كلام عادي جدا عن الاقرار بالذنب والتقصير تجاه الاخرين ولم يغص في الاعماق والتفاصيل الاخرى ، ولم نتطرق فيه الى الجرائم والذنوب التي يتم الاقرار فيها أمام المحاكم او الاعتراف روحيا بها امام الله ، وهذه الاخيرة سهلة  لانها لا تكلف إلا من احسّ بتبكيت الضمير.
ختاما نقول :اذا اردنا ان نحس بالرقي والسموّ ونكون اصحاب مثل سامية وفاضلين ، يجب علينا الاقرار بأخطائنا . الم يقل المثل : الاعتراف بالذنب فضيلة ، وان من اعترف بذنبه لا ذنب له  ؟



87
هل سيتوصل الانسان يوما الى إصلاح نفسه
شمعون كوسا

كلما داهمتني بعض هموم الحياة ووجدت نفسي داخل دوامة تدور بي  لساعات طوال دون توفير اي بصيص أمل ،  ارفع عينيّ الى العلا في محاولة للتخلص ممّا يربطني على الارض أو على الاقل نسيانه ولو لحين . لم تفلح محاولاتي اليوم في إخراجي من سجن ذاتي ، لان البقعة الزرقاء التي كنت ابحث عنها في السماء كانت موصدة تماما بسواتر متماسكة من غيوم كالحة السواد . ظللت مترقبا رياحا كانت قد ابتدأت بالحراك ، ولكنه توجّب عليّ التريّث كثيرا قبل ان ابصر مساحة صغيرة من السماء ، التقطتها حال انقشاعها ، وقبل ان تلتحم من جديد انطلقتُ اليها بسرعة البرق ، فوجدتني منخرطا في مدرج سري أفضى بي الى مرتع جميل هدّأ من روعي ، لاني احسست حالا بهدوء كبير وكأني قد تحررت من كافة قيودي .
 جلست عند عتبة الباب ، واذا بمسؤول قدِم ليستفهمني عن ظروف  هروبي واسبابها وبادرني بالقول : ما الذي افضى بك الى هذا الموضع المجهول وما سبب قدومك ؟ قلت له رُحماك يا سيدي ، لقد جئتك مستنجدا ، لقد هجرت مضجعا لم يوفر لي نوما هنيئا، أنا هارب من افكار لا اجد لها جوابا ، انا اجابه حالات لا اجد لها حلّا . جئت وقد اصابني الملل من  تناقضاتٍ اعتاد الناس على قبولها والتعايش معها في حياتهم اليومية ، لم اعد افهم  تصرفات الناس ، لم اعد اقوى على التوفيق بين ما يجب ان يكون ،  وبين ما هو كائن في واقع الحياة .
قلت له : انا اقرأ كثيرا وهذا يدعوني الى التفكير والتحليل  والغوص في شعيرات الامور ، وعندما اترك افكاري واخرج للناس ،  لا اجد تناسقا بين ما يعرفونه ويؤمنون به  ويتعهدون به ولا يقومون به . ارى ان الناس ، ومنذ القدم ، لم يتحركوا قيد انملة في تحسين تصرفاتهم . المائل للشر بقي على ميوله وحتى الذي كان جانحا للخير اراه قد فشل في الكثير من مقاصده الحميدة . ما هذه البشرية التي لم تتوصل يوما الى تطويراخلاقها بالتناسب مع تقدمها الفكري والتقني .
منذ آلاف السنين ، استقبلتِ البشرية أنبياء ومرسلين ، ودوّنت تعاليمَهم للاجيال القادمة وكلها تدعو كلها للخير . فقامت مختلف اماكن العبادة ، وصارت تتبارى كلها في شرح طريق الخير وتوضيح سبل الابتعاد عن الشر . مرّت اعوام وعقود وأجيال وقرون والانسان لا زال في نقطة انطلاقه الاولى ، بل اني اراه قد تقهقر في الكثير من الجوانب.
كلّ ما توصي به الشرائع وتتطلبه حتى قوانين الطبيعة ، قد تمّ نقضها ، فعوضا عن الحب أُعطِيَت الافضلية للكراهية ، أُستُبدل التواضع  بالاستعلاء والعنجهية ، الوفاء امّحى امام الخيانة ، الصدق لم يقاوم شراسة الكذب ، الرغبة في العطف ومساعدة الغير تراجعت امام الانانية وحب الذات التي عشعشت في نفوس الناس ، لقد عثرتِ الرذائل على مرتعها الخصب في قلوب الناس بحيث غدت الغيرة والحسد والوشاية عملات رائجة في سوق الاخلاق . لا ينكر بان هناك رموزاً نادرة جدا تواصلت في اهدافها النبيلة ، لانها حافظت على الهدف الذي رسمته .
لقد تعرّفتُ على اناس افاضل  في ازمنة غابرة وكنت معجبا باندفاعهم ، وبدهشة شديدة التقيتهم مؤخرا وقد اضناهم الملل وانقادوا لما هو أسهل ، فتركوا جزءً كبيرا من اهدافهم النبيلة وفقدوا روحهم الطيبة . الى متى يبقى الانسان حَمَلاً وديعا عند سماع النصائح ،  وشبه ذئب خاطف عند انتهاء النصح أو عند تواجده على محكّ مصالحه الشخصية  ؟ اننا منافقون فعلا ، لقد تسللت الانانية داخل انفسنا . كل مجتمع   يدّعي باحقيته في الامور وهذا هو الحال مع كل طائفة او مذهب ، حتى الله الذي يفترض ان يكون للجميع وخالق الكون ، اضحى هذا الله خاضعا لمزاج اتباعه  ، فكل مجموعة تريده حسب  حاجتها ، وأنا اراها أحيانا وكأنها هي التي خلقت إلهها الخاص على صورتها ومثالها ، وليس الله الذي خلق البشرية جمعاء على صورته ومثاله !!!
أطلتُ الحديث متوهما باني سالقى اذنا صاغية واتلقّى ارشادا او نصيحة ،  غير اني وعيتُ متأخرا أنّ جليسي الصامت كان ينتظر بفارغ الصبر رؤية اكتافي غير آبه  بعرضها ، لانه عندما نهضت نطق بجملة واحدة قائلا : عليك ان تستخلص العبر بنفسك وفي المحيط الذي انطلقت منه . حملت نفسى واتجهت نحو الفجوة الصغيرة التي قدمت منها وانحدرت مطأطئَ الرأس . عدت الى غرفتي واستعدت كل ما كانت تجترّه افكاري منذ زمن بعيد ، فتوصلت شخصيا الى النتيجة التالية :
اعتقدُ بان الانسان يبقى كما هو ولا سبيل لتغييره مهما كان . الانسان المائل للشر ، قد يسعى الى الخير ، لان في ذاته بذرة الخيرمزروعة فيه ، ولكن نزعته ترافقه  لانه ورثها من اجداده ، اما الذين يميلون الى فعل الخير بسهولة فان الطبيعة قد حبتهم بهذه النعمة وقد ورثوها ايضا من اجدادهم . هؤلاء لهم حظ اوفر في جنوحهم الى الخير .  الانسان بقي كما هو ، بل تقهقر ، إنه يصغي جيدا الى  ما اوحِي في الكتب والنبوءات  ولكنه يتعمّد النسيان لانها لا تتماشى مع انانيته.
 هناك نخبة نادرة عقدت العزم على اصلاح نفسها ووضعت الهدف النبيل نصب أعينها وعاهدت على عدم الحياد عنه مهما كلف الامر ، هذه النخبة تشكل رمزا  يحتاج اليه الناس للاقتداء به . بصورة عامة ، محاولاتنا نحن في اصلاح ذواتنا آنية وقصيرة الامد ، اما من نعتبرهم رمزا ، وهم يُعَدّون على الاصابع ، محاولاتهم تحولت الى حياة يومية ، وهؤلاء هم الذين قيل عنهم :  انهم صبروا الى المنتهى .

88
الخارجون عن القانون الكنسي
شمعون كوسا

لقد قرأت بانتباه شديد الامر الصادر من بطريركية الكلدان ، وإذا تناولتُ الموضوع من نهايته اقول : انا اؤيد تماما ما ذهب اليه غبطة البطريرك لويس ساكو . لقد سمعتُ   البعض يقولون  بان الامر صدر في فترة حرجة ، وتزامن مع الايام الصعبة التي نعيشها ،  وقرأت ايضا آراء من حاول ايجاد ظروف مخفّفة لمن حادوا عن رسالتهم وهربوا . أما انا فاقول العكس : لاننا في هذه الاوضاع الشاذة والظروف الرديئة واللحظات الصعبة بالذات ، نحتاج الى رعاة مؤمنين قد امتلأوا روحا وليس الى اشخاص قد افرغوا دواخلهم من روح المسيح وانطلقوا لاشباع أهوائهم وهربوا وراء أنانيتهم ومصالحهم  الشخصية .
كيف يمكنني ان أجد عذراً لراهبٍ هجر ديره . كيف لي ان ابحث عن مبرر لشخص ، بعد العديد من سنوات الدراسة والاختلاء والتحليل والتفكير والتأمل والدخول في رياضات روحية ، وبعد ان يكون  قد قرر اعلان  نذوره الابدية في الفقر والعفة والطاعة ، كيف يمكن قبول عدم انصياعه لاوامر رؤسائه بالعودة الى الدير ؟
كيف لي أن اؤيد كاهنا يطلب اللجوء في الخارج ؟ وما الذي يدعو رجل الدين لطلب اللجوء ؟ إذا كان مضطهداً فان الشعب كله مضطهد . ألم يكن الأولى به ان يبقى بجانب أفراد رعيته لمؤازرتهم وتقوية ايمانهم ؟ انا لا اعقل ابدا ذهاب رجل الدين الى حدّ طلب اللجوء ، ألم يرتسم  لكي يخدم الرعية ؟ الا يعتبر تغيير مسيرته في الحياة  قراراً مغايراً لجوهر رسالته ؟  ألا يجدر بمن يرى نفسه مضطهدا من رجال  الدين ، ان يصمد ويصبح قدوة لافراد رعيته ، حتى اذا ادّى ذلك لتعريض حياته للخطر او حتى الموت شهيدا ؟ اليس ذلك شرفا له ؟  اليس المطران فرج رحو أفضل مثل في هذا المجال ؟
 ومن جهة اخرى ، نحن نعرف كيف تتم عملية اللجوء ومراحلها ومقابلاتها ، واية قابيلة خاصة يحتاج اليها المرء في الالتواء والتلفيق وحتى الكذب . كيف يستطيع رجل دين ، بعد حصوله على اللجوء ان يعتبر نفسه مسؤولا روحياً ، وهو الذي  تهرّب من مسؤولياته ولجأ الى تحوير الحقيقة ؟  لا اريد التطرق هنا الى موضوع من عصوا أوامر اساقفتهم في العودة  وبدأوا بالصرف على اقاربهم وافراد عائلاتهم واستقدامهم تباعا ، مستغلين التسهيلات الممنوحة لهم كرجال دين .
اما عن الذين يخفّفون من هذه الظاهرة ويقولون : على الاقل هناك الاسقف الفلاني في البلد الفلاني يحتضن هؤلاء المساكين . ولماذا الاحتضان ؟ هل نحن امام اناس مشردين ، أم اطفال قاصرين ،  أم يتامى أم معوقين ؟ هل هم ملاحقون من قبل السلطات او اسرى حرب لكي يتم احتضانهم وحمايتهم ؟ هل هم بحاجة الى مورد أو سكن ولهم في رعيتهم وابرشيتهم مأوى ومعيشة ،  ولهم ايضا أديرتهم تأويهم وتحتضنهم ؟  إذا كانت الجهة الحاضنة لهؤلاء المتجاوزين صافية النية ، لماذا لم تُسدِ لهم النصح اولا أوتتصل برؤسائهم ومسؤوليهم ، بطريركا كان ، أم اسقفا ، أم رئيس دير،  لشرح اوضاعهم ومناقشتها ؟
ان إنذار البطريرك نابع من حرصه على اعادة الامور الى نصابها الحقيقية . كنيستنا بحاجة الىى رجال دين مؤمنين برسالتهم ، رجال دين مسؤولين يقفون مع شعبهم في مأساتهم ويكونون قدوة له . إن الحزم لا بدّ منه في هذه الامور حتى اذا ادّى ذلك الى قطع الفروع اليابسة لان الحاجة الى الجوهر وليس الى الجسم الفارغ الطنان الذ يضرّ اكثر مما ينفع . إذا تصرف رجل الدين كبقية الناس ، ما الفائدة اذن من تقبله للكهنوت ؟ الم تكفه سنوات دراسته الطويلة لتقدير المهمات التي ستوضع على كاهله ؟  الم يقرأ كل يوم ويسمع بانه يجب عليه ان ينكر ذاته كليا للتفرغ لخدمة افراد رعيته ، كيف يمكن له ان يكون اوّل الهاربين ؟
مع الاسف الشديد لقد اضحى العديد من رجال الدين مجرد موظفين اقتنعوا بان مهمتهم تقتصر على  تمتمة بعض الصلوات والقيام ببعض الحركات في مراسيم معينة لانهم يرون انفسهم اسيادأ لا يجب المساس بهم لان هذا يقلل من شأنهم . انا اشبّه هؤلاء بممثلين حفظوا أدوارهم واكتفوا بادائهم السحري امام الجماهير . هل يفيد كلامي هنا بشئ اذا قلت بان الكاهن او الاسقف او البطريرك وغيرهم من رجال الدين يجب ان يتركوا عروشهم ويعتبروا أنفسهم خداما وليس اسيادا .  كم من المرات قد اعيد هذا الكلام الواضح في الانجيل ، ولقد اعاده مؤخرا وبقوّةٍ البابا فرنسيس عندما قال : يجب ان تخدموا رعاياكم وانتم راكعون . انا اقول بان رجل الدين يجب ان يعتبر كل مؤمن سيدا وبالمقابل يعتبر نفسه خادما وبقناعة تامة . حينئذٍ اذا وجد المؤمن صِدق رجل الدين في تواضعه هذا ، يبدأ بالانحناء امامه ويحضنه ويقبله بحرارة ، لانه يكون قد عثر على راع صالح . هل هناك حاليا من بين رجال الدين من يقبل بهذا ؟ انهم يرددون  هذا الكلام امام المؤمنين ،  ولكنك اذا طلبت منهم التطبيق فانهم يسخرون منك .
كما لا اريد التطرق الى تجاوزاتِ اخرى لاخوتنا ،  في الداخل أو الخارج ، ولكن مجمل القول يكمن في ، ان الكثيرين قد انصرفوا الى امور الدنيا واهملوا صلب واجبهم الروحي ، والبعض منهم في الخارج لا يجد في توزيع الاسرار غير وسيلة اخرى لجمع المال ،باسعاره وشروطه الخاصة  .
الحقيقة واضحة وكل شئ جلي وتعاليم المسيح لا تتغير ، فالذي تعهد امام الله بحملها وتكريس نفسه لها ، لا يمكنه الا التصرف كما يجب وكما هو معروف من الجميع . ولكني ختاما اقول : للاسف الشديد نلاحظ بعض التصرفات تتكرر دون اي حرج او اهتمام  ، وهذا يولد لديّ ، أنا شخصيا ، قناعة بان بعضهم قد اخطأوا دعوتهم وعند بعض آخر اذهب الى حدّ التشكيك بايمانهم بالله !!!


89
كيف لي ان أهنأ وبنو قومي يتعذبون
شمعون كوسا

كان نهوضي اليوم على انغام فيروز ، اغنية قديمة جدا انطربت لها بصورة خاصة ، أعجبتني كلماتها الخفيفة ولحنها الهادئ . فتحت الشباك لكي اشارك أنظاري بما تشنفت به آذاني ،  فاخذني الغناء بعيدا في سماء الخريف النقية ، كنت اطير بعيدا مع كل نغمة لا تتوقف الا عند استنفاذ آخر ذبذباتها ، بقيت معلقا هكذا في لحظات سعادة أراحت نفسي كاملا .
لم اشعر بالوقت الذي امضيته في حالة النعيم هذا وانا شارد الذهن  ، إلى ان أحسست بيد توقضني وتقول : ما بالك وكأنك لست في هذا العالم ، هل نسيت ما يحدث حولك هذه الايام ، هل اصبحت غريبا عن الكارثة ؟ فتحت عينيّ كالمسفيق من نوم عميق او القادم من عالم آخر ، وعندما هبطت بافكاري على الارض ، أخفيتُ وجهي خجلا كرجل ارتكب خطيئة أوضُبط بالجرم المشهود . لكي اقطع دابرَ هذا الشعور ، خرجت من البيت بعيدا عن عالم الالحان والسماء الزرقاء ، برغبة عارمة في الإطلال على تطورات حال المنكوبين من شعبنا .
لم اقطع مسافة خمسة امتار عندما وقعتُ على خيمة منصوبة بالقرب من الدار ، إلتفتُّ حولي  فوجدت خيما اخرى منتشرة في كل الاتجاهات وكأنها ارض أنبتت الكثير من الفطر .  كان كل شبر على الارض قد تطوع في إسعاف اللاجئين . اعتقدتُ واهما بان الخيم تكون قد ساهمت بالتخفيف عن كاهل الشوارع والارصفة والحدائق ، ولكني عندما تقدمت أكثر رأيت الجمع الغفير نفسه وباعداده السابقة ، فالكنائس والمدارس والاماكن الاخرى كانت مكتضة بشاغليها .
توقفتُ عند خيمة مفتوحة فرأيت  طفلا يبكي ويصرخ باعلى صوته ، استفسرت عنه   وعلمت من والدته بانه لم يحصل على حليبه منذ يومين . تحولت الى خيمة اخرى ، فابصرت رجلا عجوزا يجرّ انفاسه بصعوبة بالغة وعندما رآني ، هرع اليّ طالبا مني أن اوفر له علاجه . وعند دنوي من احدى الحدائق رأيت امرأة عجور تبكي ، نظرتُ اليها وقبل ان اوجه اليها سؤالي ، هزت برأسها وقالت : ألاتعرف لماذا ابكي ، هل انت غريب عما يجري هنا ؟ هل هناك مأساة اعظم مما نعيشه هذه الايام ؟ هل تجد نهاية للنفق الذي دخلنا فيه أو مخرجا حتى وإن كان بحجم خرم الابرة ؟ ودخلتُ احدى المدارس لاصادف رجلا في الاربعين اصيب بانهيار عصبي شلّ لسانه ، فهمت من زوجته بانه تعرض لصدمة كبيرة جرّاء اختفاء اولاده. وفي الشارع الآخر ابصرت شلة شباب واجمين وقد خيّم عليهم الصمت العميق ،  وجّهت لهم التحية ولكني لم ألقَ جوابا .
تجولت من موقع الى موقع لمدة ساعة كاملة ثم عدت الى البيت ، وبدأت احاسب نفسي وقلت : ان كل واحد من هؤلاء يمتلك عقلا مثلي وله شعور عميق ويحمل آمال وأماني ، غير ان القدر الظالم حطّم كل آمالهم وافقدهم حتى رغبة الاحساس بالسعادة .
لقد افقدهم الاشرار ، أعداء البشرية ،عقولهم وأنسوهم انسانيتهم . وضعوهم في حالة مستديمة من همّ يتجدد في كل لحظة ، فهم لا ينتهون من هاجس ، حتى يتناوب عليهم الخوف ثم القلق ثم الرعب .  كل دقيقة لهم هي بمثابة جلجلة جديدة . انهم يفتقرون الى أبسط اسباب العيش بعد ان كانوا يملكون كل شئ ، أليسوا هُم الذين آوَوا قبل سنة او سنتين نازحين لجأوا اليهم ؟ كانوا في قراهم منذ اقدم العصور وارغموا الان على المغادرة .   كل يوم يجب عليهم التفكير في توفير ثلاث وجبات من الطعام . يبحثون عن ملبس يقيهم شر البرد ، لانهم تركوا منازلهم بما كانوا يرتدونه فقط . والبعض منهم عليهم توفير ايجار قد لايملكونه ، فيجدون نفسهم امام اشخاص عديمي الاحساس.
أليست هذه اعظم كارثة يتعرض لها شعبنا منذ تأريخ وجوده ؟ لقد قامت حروب فاحرقت الاخضر واليابس ، وحدثت مجاعات واندلعت نيران وقامت اعاصير وحصدت الكثير ، ولكن الآن يدخل السيف دون مناسبة الى البيوت دون ان يكون ضمن حرب او محمّلا على إعصار او مكلفا بصاعقة أوعناصر طبيعية اخرى .
وضعتُ نفسي موضع كل شخص قادته الظروف الظالمة الى التشرد في هذا المكان ، وقلت : لا بد ان كل رب اسرة منشغل بهاجس مرير وبسؤال ملحّ لا يجد له جوابا جذريا :   كيف سيواجه المستقبل الواقف على الابواب ، فالشتاء ينتظر ولا يقبل اي تأخير ،  والوالد العجوز يحتاج الى الكثير من الدفء ، والوالدة التي تعاني من مرض مزمن لا يجب ان ينقطع عنها العلاج ، والطفل ، والزوجة ، والولد ،والبنت ، والحالات المماثلة الاخرى تربو على عشرات الالوف .
كثرت الاجتماعات وتوالت الزيارات الرسمية وتضاعفت التصريحات والوعود ، هل سيفي المانحون بوعودهم ، وهل سيأخذ كل ذي حقّ حقه ام سيسيطر العنصرالبشري وانانيته على المكلفين بهذه الخدمة لكي ينتهوا بمقابلة المحتاح والاكتفاء بالقول له : (الله يعطيك).
سمعت الكثير هذه الايام ممّا هوصحيح او مبالغ به أو خاطئ عن القائمين على الخدمة والتوزيع وبينهم رجال الدين . سمعت بان بعضهم يمتعض من ردود فعل بعض النازحين ويقوم بتأنيبهم . لست بصدد اسداء النصيحة لاحد لاسيما لرجال الدين ، ولكني اقول بانّ كل شخص مكلف بخدمة في هذا النطاق ، يجب عليه ان يضع المسيح أمامه ويراه في وجه كل وافد محتاج ، ويتذكر كلامه عندما قال  : اذا اطعمتم او كسوتم او أسقيتم أو آويتم أو زرتم احد هؤلاء الصغار  فانكم تكونون قد فعلتم ذلك لي .
 يجب ان ينتهز رجل الدين بالذات هذه المناسبة بفرح ويقوم بالخدمة بصدر رحب ووجه مبتسم . من المخجل ان يُحاسب هؤلاء المساكين ، بل ان من يحاسبهم يرتكب خطيئة لان قلوبهم محروقة ومن الطبيعي ان تصدر عن بعضهم حركات غريبة . هذا امر عادي جدا ، وكل من رغب في فهمه عليه ان يضع  نفسه في محلهم  . ان هؤلاء المحتاجين حاليا هم (اعزاء قوم قد ذلّوا) . ولاجله اقول ، حتى الاهانة التي قد تصدر احيانا من بعضهم ، يجب ان تُقابل بابتسامة . القائم على هذه الخدمة يزداد اعتبارا بقبولها ، أما رجل الدين فهو يكسب فيها أجرا مضاعفا ، لان الكثير من القديسن كانوا يبحثون عن هذه المناسبات ليزدادوا قداسة ، ورجل الدين يجب ان يبحث عن القداسة .
اما عن ضعاف النفوس الذين اتخذوا الجشع شعارا في حياتهم ويرون في مصيبة اخوتنا فرصة للانتفاع والاستفادة أقول : كان يجب ان يندى جبينكم خجلا، لان الفائض الذي تقبضونه من هؤلاء هو مال حرام سوف لن يجلب لكم سوى الويل ، وقد ينقلب احد هذه الايام نارا في ايديكم . 
انا لم اذكر الا غيضا من فيض لان المأساة هنا لها في كل دقيقة قصة ، لذا اقول لنفسي : كيف لي والحالة هذه ان اسعد واهلي يبكون ؟!!

90
المنبر الحر / لقد خذلونا وذلونا
« في: 22:13 19/08/2014  »
لقد خذلونا وذلونا

شمعون كوسا

اين انت ايها المسيح ،
كنتَ قد قلتَ لنا : سوف يضطهدونكم من اجل اسمي ، واعتقدنا آنذاك بان هذا سيحدث في بدء المسيحية ، ولكن الان وبعد مضي الفي سنة ، وبعد ان انتشر اسمك في كافة ارجاء المعمورة ، وتقدمت البشرية علميا وصناعيا وتطور العالم وتحضرت الامم ، وبعد ان تنورت العقول وانفتحت على ثقافات بعضها البعض  ، لم نكن نتصور ابدا بان قوى الشر ستعلن في ايامنا هذه عن مناقصة  تطلب فيها خدمات عناصر يحملون المواصفات التالية : مفترسون ، كواسر ، جوارح وعناصر عديمي الرحمة لا يؤمنون الا بما قد أُملي عليهم من تعليمات ، غير آبهين الا بمرادفات التهديد والترهيب والقتل والذبح والاعتداء بكافة انواعه ، والاهداف غير المعلنة للمناقصة هي العودة الى زمن العبودية والى ظلامية لم يشهد مثلها التاريخ .
حال تهيئة هؤلاء المرتزقة وتسليحهم ، انقضوا علينا بسرعة البرق ومثل الحيوانات ، وكأننا نحن بالذات كنّا هدفهم منذ البداية . أمهلونا أياما قليلة جدا كي ننصاع لاوامرهم التي كانت تقضي : إما التنكر للمسيح وتعاليمه ، أو دفع ضريبة او ايجار شهري ، للتخلص من الموت ، فهم يؤجرون لنا الحياة  لنعيش بصفة مخلوقات غريبة ، أو ترك البيوت والاموال والاوراق والمقتنيات ، وبخلاف ذلك سيكون السيف الحدّ الفاصل .
قالوا بانهم  يحملون رسالة من الله وهم مكلفون بتنفيذها . بدأوا حالا بفرز الناس حسب معتقداتهم ووضعوا حرف النون على منازلنا ، معتبيرين أن النصراني  هو المجرم المطلوب منذ البدء  ، والبشرية لم تكن قد وعت لهذا الموضوع كل هذه المدة ولم تنتبه له إلا في ايامنا .
لقد تركنا بيوتنا وأموالنا ومحصولاتنا ومصالحنا لكي نحافظ على اسمك ، هربنا لكي لا نضطرّ لنكران ما زرعه فينا اباؤنا واجدادنا منذ الفي سنة . تركنا قُرانا التي لم نهجرها يوما ، وفضّلنا التشرد عن إنكار ديننا .
نتساءل ونقول : كيف سكتت القوى العظمى ودول المنطقة على كل ما نكابده هذه الايام .كيف اطبق رجال دينهم افواههم ، رجال دين كانوا يصدرون فتاوى لاتفه الامور ، اليس سكوتهم الحالي فتوى واضحة بل جرما مشهودا ؟ هل نحن ضمن خطة خيوطها بعيدة جدا . ولماذا يطلبون رؤوسنا ويريدون طردنا من بلدنا ، وإبعادنا عن الارض التي كانت أصلاً لاجدادنا ؟ هل يلاحقوننا لاننا ندعو للخير ، لاننا نحب السلام ، لاننا ندعو للعفو والمغفرة ، لاننا نعتبر جميع الناس اخوة حتى من خالفنا الرأي ، أم لاننا اصحاب رسالة اذا اتّبعها العالم سوف يتجنب الحرب ويحصل على السلام الدائم ، رسالة تدعو للمحبة بين الناس والابتعاد عن الاحقاد والضغائن ونبذ الانتقام ؟
لم نكن نعتقد يوما باننا سنُستأصل من قرانا . هل يمكن ان يقبل القره قوشي ان يترك مدينته التي ولد فيها ، مدينة عاش فيها اجداده منذ القدم . قره قوش التي لم يعرف الناس فيها  غير القداديس والصلوات الصباحية والمسائية ، قره قوش التي كانت مصنعا لرجال الدين والتي لبّت احتياجات كافة الكنائس ؟ وهذا صحيح تماما فيما يخص الكرمليسي والبرطلاوي والبعشيقلي والتلكيفي والبطناوي والتللسقفي والباقوفي والالقوشي ، هل كان يخطر ببال احد من هؤلاء التخلي عن جذوره التي ترقى الى بداية المسيحية . ما هذا الظلم ؟ هربنا بمجموعات مؤلفة من عشرات الوف الاشخاص ، وكان الاعلام الرسمي لا يتحدث الا عن اقليات ولم يأتِ| على ذكر المسيحيين . لقد أصبحنا اقلية ، مجموعة صغيرة غير ذات اهمية . وأنا لا استهين هنا باقليات اخرى شملتها رحمة المجرمين هؤلاء مثلنا.
هل نحن ضحية استراتيجية جديدة  لاتقيم شأنا لكل تراثنا وتأريخنا وقيمنا ومبادئنا ، لان الاهداف المنشودة حاليا هي فوق هذه الاعتبارات التي نشأنا عليها واكتسبنا فيها هويتنا ، وستبقى بالنسبة لنا اساسية لانها سبب وجودنا ؟
لماذا أمّنوا لنا الحماية في البداية ، وعند هروبنا الاول طمأنونا بالرجوع وعززوا الحماية مؤكدين لنا باننا اصبحنا ضمن حدود كردستان ، ممّا دعا البعض من اليوم الاول بالجلوس لتعلم اللغة الكردية ؟!!  وبعد هذا وعلى حين غرة  ودون سابق انذار تمّ ابلاغ المسؤول الروحي بان الحماية لم تعد ممكنة ، اتقذوا ارواحكم . هل تغيرت الخطة ، وانتهى مفعول تعهداتنا قصيرة الامد ؟
كنّا اسياد نفسنا في مدننا وقرانا ، ومن حياة العزّ التي اعتدنا عليها ، تحولنا الى شبه شحاذين . احيانا لا نجد غير الرصيف مأوى . لقد امتلأت الكنائس والمدارس والقاعات ولم يعد هناك بيوت . هناك مائة الف شخض تكدسوا على مدن كانت تأوي اصلا فوق طاقاتها . نحن شباب واطفال ونساء وشيوخ ومقعدين ومرضى يحتاجون كلهم الى الطعام والشراب والملبس والعلاج والحاجات الطبيعية . هل سيمدّ الصيف من اشهره لهذه السنة ويتخلى الشتاء عن موسمه ؟ اين سنذهب ؟ وهل  ستبقى المنطقة هادئة ولا تستيقظ فيها بعض العقول الاسنة في تحركات مماثلة ؟!!  ومن جهة اخرى حتى لو استعيدت قرانا ، هل سيكون بمقدورنا العودة بعد ان تركناها مرتين ، ومن سيضمن لنا الأمان في وجه قوة انطلقت بشراسة ،  قوة وحشية تعمدت الدول الكبرى بعدم التحدث عنها ، وعدم توجيه اي لوم لها ، لانها الان في صدد تنفيذ استراتيجيات ومحاور اخرى لا تتأثر ابدا بما يعبث به هؤلاء ضد اقليات صغيرة مثلنا ، اقليات لم يعد لها قيمتها السابقة لانها لاتخدم المخططات .
سأتوقف هنا لكي لا اتدخل في السياسة !!  انه موضوع الساعة   وانا لم افعل غير تكرار ما يتحدث فيه الناس كل يوم . لم افعل غير التشكي والحيرة . لا املك اقتراحا او حلا ،  لان الفضيحة التي نتعرض لها امست كبيرة وسنسجلها نحن في تاريخنا باحرف كبيرة جدا . أملي ان يهتدي اصحاب القرار الى بعض الحلول انطلاقا من شكواي وشكاوى غيري .


91
مجرد تساؤل حول ما يجري باسم الله

شمعون كوسا

كنت قد هيأت مقالا من نوع آخر ولكني ارتأتيت تأجيله في هذه الاوقات العصيبة . لقد تحركت غيوم قاتمة السواد وهبّت رياح مسمومة لم يتعرف عليها الزمن قبل الان ، بروق ورعود جعلت القائمين على الانواء الجوية يفقدون قابليتهم في التنبؤ ، لان التقلبات أطاحت بقواعدهم فاضاعوا ارقامهم ومعاييرهم .
قبل ايام كنت اقرأ رسالة بلغتني حول ما يجري الان . ذهبتُ مباشرة الى مرفقاتها فرأيت شريطا يعرض مجموعة لا بأس بها من الشباب ولقد صفّهم احد المسلحين جنبا الى جنب وربط اياديهم من الخلف . كان يستجوبهم بصورة عشوائية وهم يجيبونه باحترام وخوف ويوافقونه على كل ما يقوله ويطلبه منهم ، وبعد ان انتهى منهم ، بدأ يرمي  كل واحد منهم برصاصة على رأسه ، واعاد الكرّة مرتين خوفا من ألاّ يكون قد نجا احدهم من ناره ، ولدى كل اطلاقة كان يردد بصوت عالٍ عبارة  : الله اكبر . كنت اتوقع بان القاتل الوديع ، بعد أن انتزع منهم الحديث او الاعتراف الذي يرضيه ، سيعطف بحالهم ، فيرحم شبابهم ويفرج عنهم ، ولكنه بدا لي كالصياد الذي لم يصدق وقوعه على قطيع كبير فشرع يصوب فوهته الى الطرائد ويمطرها بناره الى ان تسيل دماؤها . طرائدنا هنا سالت دماؤها مع مناداة باسم لله وتمجيدا له . كان الاخ المهلل يمجد الله عن طريق قتل شباب لا يعرفون ذنبهم . عند كل رصاصة وووقوع كل جثة الى الامام ، كان يردد القاتل اسم الله مرات ومرات ، وكأنه يقوم بانبل عمل ، سيذكره الله ، ويسجله له التاريخ في الدنيا وفي الاخرة .
لقد فكرت كثيرا بهذا الموضوع ، واستعدتُ كل ما تعلمته منذ صغري وما اطّلعت عليه فيما بعد . استعدت كل ما اعرفه عن الاديان وعن البشر وعن الحقيقة الثابتة التي تقول بأن الاديان أتت لخدمة البشر ، ولاجل أن يتعايشوا بمحبة فيما بينهم . لقد استعدتُ ما تعلمته عن أن الله خلق الانسان على صورته ومثاله ، وعندما خلقه أُعجب به وأحبه .
قلت في نفسي ماذا دهى الله كي يَسعدَ لإهراق دم كائن أوجده هو على صورته ومثاله ؟  الم يخطر ببال القتلة هؤلاء ، بان المغدور نفسه قبل ان يموت ، او ذويه قد يجابهونه  اذا استطاعوا ، ليقولوا : من اعطاك الحق يا هذا بإنهاء حياة لم تخلقها انت ؟ هل انت الذي اوجدتنا لكي تتحكم بمصيرنا ؟ سيقولون ايضا : هل الله بهذه الدرجة من الظلم كي يفرح لذبح انسان برئ . وسيقولون : لمذا خلقنا الله كي يأمر بقتلنا بهذه الصورة المبكرة البشعة ، ولماذا خلقنا اذن ؟ كان الافضل له الا يوجدنا . هل ان حياتنا كان مكتوب لها ان تنتهي حالا على يد شخص يقول بانه يقدم خدمة لله . الا يناقض الله نفسه اذا رضي حقا وفرح بما فعله هولاء القتلة ؟ اليس هو الذي صنع هذا المقتول ؟ من جهة اخرى هل ان الله بهذا الضعف ، او هل انه معاق ام عاجز لكي يحتاج الى الانسان ليحميه من مخلوق اوجده هو لمجده ، لان االله يتمجد بوجود الانسان وليس بقتله .
لقد تركتم جانبا أجمل وصية لِله وهي محبة القريب ، لقد اهملتم مفهوم العفو والتسامح اللذين  أوصي بهما الله ، لقد نسيتم بانه طلب بان يعيش الناس كاخوة ، بغضّ النظر عن اختلافاتهم لانهم جميعا مخلوقاته واولاده . الخطيئة هي ان يعتدي الانسان على أخيه الانسان ، فما بالك اذا وصل هذا الاعتداء الى القتل . ان  محبة الغير تأتي حتى قبل الصلاة .  من جهة اخرى ، أولم يقل الله في وصاياه العشرة لاتقتل ؟  لقد تناسى القتلة كافة الفضائل والاعمال الصالحة التي زرعها الله فطريا في قلب كل انسان ، وصاروا يبحثون عن اعمال صالحة اخرى ، وفي مقدمتها القربان الذي يتمثل بقتل الانسان . هؤلاء يعتقدون ان كل من لا يفكر مثلهم ليس خليقة الله ويجب ان يزول من الوجود ، بإسم الله وارضاءً له !!     
منذ ايام وانا افكر في هذا الموضوع ، وكنت مترددا جدا في الكتابة عنه ، ولكني  أمرّ أحيانا بحالات لا استطيع فيها كتم ما يجول بخاطري . كان الموضوع يشغلني ليلا واستطيع القول باني كنت اعثر على افكار وعبارات اجمل بكثير مما كتبته هنا . في كل مرة كنت اصل الى النتيجة المنطقية والتساؤل التالي الذي فكرت كثيرا ان اضعه عنوانا للمقال ولكني لم افعل ، وهو : هل ان للاديان السماوية جميعا نفس الاله ؟!!! 
 

92
المنبر الحر / وحلّ شتاءُ العمر
« في: 18:42 02/07/2014  »
وحلّ شتاءُ العمر
شمعون كوسا

من بين الرسائل الالكترونية التي تجوب العالم والتي تقع لديّ بعض منها ، وجدت احداها بنظارة  الخبر الحار ،  قرأتها مرتين فاعجبت بها واحتفضت بها لكي تسعفني اوقات يملّ الخيال وتخف خصوبته في التواصل في مشاريعه . الرسالة تصف بشكل جميل وواقعي شتاء العمر ، نقلتها من الفرنسية ببعض التصرف ، فهي تقول :

هل تعرف بان للزمن طريقته الخاصة للمضيّ بسرعة لا تتيح لك الفرصة لتشعر بجريان سنواته ..
يبدو باني  كنت اصغر سنا يوم امس . لقد تعاقدت مع شريك سيرافقني طوال الحياة ،  وخضت المغامرة في حياة جديدة . اليوم  أتساءل : اين ذهبت هذه السنوات بايامها واسابيعها وشهورها ؟ انا اعرف باني عشتها باكملها وفقاً لآمالي واحلامي ، كما كنت اراها  حينذاك . ولكن شتاء عمري دخل البيت دون استئذان ، وعندما رآني مندهشا ، أشّر باصبعه الى ساعته مبتسما وكأني به يقول إن الموعد كان محسوبا. كيف وصلتُ الى النهاية بهذه السرعة ؟ اين ذهبت كل سنواتي واين فرّ  شبابي واختبأ ؟ اتذكر جيدا اشخاصا مسنين أراهم كل يوم ، وكانوا كلهم اكبر منّي ، كان شتائي بعيدا جدا آنذاك ، ولم يخطر ببالي موعد شتائي ، لاني لم أكن اتصوره اصلاً !
 لقد اقتحم الموسم الاخير بيتي  ، فجلس بقربي ، بل لازمني الى حدّ الالتصاق . عندما رأيته ثابتا لا يتزحزح ، فهمتُ بانه سوف لن يغادر قبل مغادرتي . اصدقائي هم متقاعدون ، وقد وضع الدهر يده على رؤوسهم ليلبسهم قبعات رمادية تميل الى البياض . ومِن بينهم من حدّد لهم الدهر البطؤ علاجا . بعضهم حافظوا على لياقتهم وبعضهم لا  .. ولكني ارى تغييرا كبيرا . كنت قد اعتدت على الجلوس في بعض الحدائق لاستعرض من يتقدموني سنا ، ولكني لم افكر يوما باني ساغدو مثلهم .
اليوم اشعر بان مجرد الاستحمام اصبح بالنسبة لي عملية صعبة . والخلود الى القيلولة لم يعد ترفاً بل ضرورة ، لاني اذا لم اقم بها طوعا فانها تفرض نفسها حال جلوسي على المقعد . لقد دخلت اليوم موسما جديدا من حياتي دون ان اكون مهيئا لِمتاعِبه وآلامه ، لقد خارت قواي وفقدتُ رشاقة حركاتي ، لم تعد لي القدرة على القيام بالامور كما كنت ارغب . لكن ما هو مؤكد الان  هو ان شتاء العمر قد حل ّ ،  أنا اجهل مدة اقامته لاني لا اعرف إن كان هو ضيفي أم انا في ضيافته !!
نعم انا نادم لبعض الامور التي كان يجب عليّ عدم القيام بها ، وآسف على اخرى كان يجب عليّ المحاولة لانجازها . فاذا لم تكن ، يا صاحِ ،  قد استهللت موسم شتائك ، إعلم بان الوقت يمرّ بسرعة لا تشعر بها . هبّ اذن بسرعة ولا تؤجل أمرا ، لان الحياة قصيرة ، وها انا في محطتي الاخيرة اعترف لك بذلك .
قم حالا ونفذّ ما تقوى عليه اليوم ،  لانك غير ضامنٍ نهاية شتائك ، هل هي بعيدة أم تقتصر على يوم غد . لسوء الحظ ، ليس لديك أيّ تعهد مختوم يوضح بانك ستعيش كافة مواسم حياتك . ولاجله اقول لك : عش حياتك اليوم ، ونفّذ كلما تحلم به من أجل من تحبهم لكي يتذكروا ..  . اذا كانت الحياة بالنسبة لك هدية فان طريقة عيشها ستكون هدية للذين سيخلفونك ، فاجعلها رائعة ، عشها جيدا . تمتع اليوم ، قم بشئ مسلّ وكن سعيدا .
تذكّر بان الثروة الحقيقة في الحياة هي الصحة وليس الذهب او الفضة . لذا عش حياتك بعمق في كل يوم نهضت فيه ورأيت نور الشمس وانت في كامل قواك .  يجب ان تعرف بانك كل يوم تغدو أكبر عمرا ، فاحيَا اذن يومك الذي انت فيه إن طال ام قصر . الخروج مفيد ولكن العودة الى البيت أفضل .
لقد بلغت مرحلة  تنسى فيها أسماء الناس ، هذا ليس مهما لان هنالك الكثيرين ممّن نسوا بانهم يعرفونك . تشعر بانك لم تعد صالحا للقيام بشئ .. الاشياء التي تحب القيام بها لم تعد تعجبك ، انك تجد راحتك بالاستلقاء على كرسي امام التلفار أكثر من النوم في سريرك .
تميل الان الى طرح الاسئلة بجمل تبدأ بالادوات : ماذا ، متى ، مَن ، أين ، كيف ولماذا .  أصبحت تشتكى من دور النشر التي تستخدم في مطبوعاتها حروفا صغيرة  . انك ترى  المدن والقرى متباعدة وحتى زوايا الشوارع تراها كذلك ،  وترى بان الارصفة غدت عالية  . النقاط التي كانت في زمنها نمشا على وجهك ، قد استقرت الان واتخذت لونا اسمر . وفي خزانة ملابسك التي تحوي ثلاث مقاسات ، اصبح اثنان منها غير صالحة لك .
إن القديم صفة تحمل معنى جميل كالقول مثلا : فلم قديم ، اغنية قديمة ، ولفكن الاجمل تبقى لفظة صديق قديم.
انها افكار شيخ جليل يصف شتاء عمره ، قد لا يأبه لها من هم في اوائل مواسمهم ولكني اعتقد بان من شارفوا على موسم الشتاء سينتبهون له . 

93
صفحة من الاساطير الاغريقية

شمعون كوسا

لقد قرأت مؤخرا كتابا بعنوان (مغامرات تيليماك) ، من تأليف الكاتب الفرنسي فينلون . رواية تستقي افكارها من كتاب (اوديسّه) اليوناني الذي تدور احداثه الاسطورية في القرن الثامن قبل الميلاد ،  يقوم تيليماك في البحث عن ابيه (اوليس) الذي اختفى بعد انتصاره في معركة طرواده . خاض تيليماك مغامرات عديدة وركب اخطارا في البحار وهام على وجهه تائها بين الجزر والبلدان ، التقى العديد من الشعوب وتعرّف على ملوكها وتقرّب من آلهتها . جَمعَتهُ الصدف في احدى رحلاته مع صديق روى له ، بين امور اخرى ، قصة بلد يحمل اسم (بيتيك) ، حيث يصف له أخلاق سكان هذا البلد .   نمط عيش طبيعي ومنطقي ، قد يبدو غريبا في بعض جوانبه ، غير انه بنّاء . لقد وجدت فيه شخصيا الكثير من الحكمة . هل سيرى القارئ فيه ما رأيته أنا ؟!    لِنرى هنا :

ان بيتيك بلد يبدو وكأنه محافظ تماما على رخاء عيش يليق بالعصر الذهبي . مناخه معتدل في الشتاء لا يتحمّل الرياح العاتية ، والهواء في الصيف لا يمرّ إلا عند منتصف النهار لتلطيف الجوّ هنا وهناك . تدور ايام السنة وكأن الطبيعة في عرس ، حيث يتعانق فيه الربيع والخريف في تناوب دور سهل ومتواصل . أراضيه دائمة الخصب ، سهولا كانت أم وديانا . ورود الياسمين وأشجار الرمان واشجار اخرى دائمة الخضار تزين اطراف شوارعه . قطعان ماشيته تغطي الجبال  ، لان البلد يعتمد على الصوف الذي توفره الاغنام ، صوف ناعم بات محطّ الانظار .
في بيتيك عدة مناجم للذهب والفضة ، غير ان السكان ، البسطاء بطبيعتهم والسعداء في بلدهم ، لا يقيمون أي وزن لهذه المعادن ولا يحسبونها ضمن ثرواتهم . انه شعب لا  يهتم إلا بِما يسدّ حاجته في حياته اليومية . يقول الراوي : عندما حاولنا بدء التجارة مع شعب بيتيك ، وجدنا الذهب والفضة مستخدمان كالحديد ، لصُنع المحاريث أوالعُدَد واللوازم المنزلية الاخرى .  وكونُهم لم يحتاجوا في حياتهم الى التبادل التجاري ، فانهم لا يعرفون ما هي العملة وما فائدتها . إنه شعب انصرف الى الزراعة ، أما المهن أو الحِرف اليدوية ، فانهم  يمارسونها على قدر حاجتهم اليها.
لم يعتد أهلُ البلد على تشييد المنازل . يقولون بأن هذا يجعلهم متعلقين بالارض وخاضعين لها . نظريتهم بهذا الخصوص تقول بانه يكفي للانسان ان يقيَ نفسه من تقلبات الجو ، ويقولون بأن كل ماهو متّبع عند الشعوب الاخرى بهذا الشأن يندرج في سياق البطلان ويدعو للخمول . عندما يكلمونهم عن شعوب تمتلك صناعات البناء ولها عمارات فخمة وآثاث ذهبية ومصوغات واقمشة مطرزة واحجار كريمة وعطور زكية واطعمة فاخرة وآلات موسيقية رنانة وغيرها ، يقولون : ان هذه الشعوب تعيسة لانها انصرفت لافساد نفسها . باعتقادهم ان هذا الفائض عن الحاجة يدعو للكسل ، فضلا عن أنه يسبّب الدوار لمالكه ويعذبه ، ومن جهة اخرى يزرع الغيرة داخل نفس من هو محروم منها وقد يلجأ هذا الاخير للعنف لاقتنائه . هل يمكن ان يكون جيدا ما هوفائض عن الحاجة ؟ إنه لا يصلح إلا لافساد الانسان ؟ ويقولون ايضا : هل ان سكان هذه البلدان هم اسلم منّا بنيةً أو اقواها ؟ هل يعيشون بحرية وسعادة ؟ طبعا لا ،  لانهم لا بدّ أن يحسدوا بعضهم البعض  وقلوبهم تنخرها غيرة سوداء . إنهم يتحولون الى مرتع خصب للجشع والخوف والبخل . افراحهم تفتقر الى البراءة والبساطة ، لانهم عبيد لاحتباجات مزيفة خاطئة تتعلق بها سعادتهم . هكذا يتكلم عقلاؤهم الذي اكتسبوا حكمتهم من الطبيعة .
انهم يُمضون حياتهم معا دون تقسيم الاراضي . كل عائلة يحكمها رئيسها الذي يعتبر ملكا حقيقيا . يحقّ لرئيس العائلة معاقبة اولاده واحفاده في حالة ارتكابهم خطأً ، ولكنه لا يفعل هذا قبل استشارة بقية افراد العائلة . ولكن هذه حالة نادرة جدا ، لان الارض تستمد سعادتها وهدوءها من براءة الناس ، واخلاقهم الرفيعة ، ونواياهم الحسنة ، وطاعتهم الوديعة ،  وبصورة عامة ابتعادهم عن الرذيلة .
انهم لا يحتاجون حكّاما عليهم لان ضمائرهم هي التي تحكمهم .أموالهم مشتركة ، غزارة محاصيلهم قد غرزت فيهم القناعة والاعتدال . ليست لهم مصالح شخصية تجعلهم يختلفون مع الاخرين ،  فهم اناس يحبون بعضهم البعض بحب اخوي . كلهم متساوون والمتميّز بينهم يكون من ازدادت حكمته . الغش والعنف والتزوير والتذمر والحروب ، غير مدرجة في مفاهيمهم ، لانهم سكان بلد باركته الالهة . تربة بيتيك لم تتخضّب يوما بدمٍ بشري .
عندما يسمعون عن معارك او غزوات أوانقلابات في بلدان اخرى ، يعبّرون عن دهشتهم قائلين : ماذا حلّ بهؤلاء الناس ، هل ان حياتهم طويلة جدا ، أو ملّوا منها كي يلجأوا الى اختصارها بموت سريع ؟ هل قد خُلقوا كي يمزقوا بعضهم البعض ؟
إنهم لا يفهمون الاعجاب او المديح الذي يُكال للحكام الغزاة الذين يقومون باستعباد  الناس في امبراطوريات كبيرة . يقولون ما هذا الجنون الذي لا يجد سعادته إلا في اخضاع اناس آخرين له ، كيف يتلذذ الانسان وينعم بالحكم على أناس بالرغم عنهم ؟ ان الحكيم هو الذي يقبل بقيادة شعب رجاه ان يكون له أبا وراعيا . فالحكم على الشعوب ضد ارادتها هو البحث عن شرف زائف مقابل تعاسة من استعبدهم .
ألا يتحقق المجد الا باللجوء الى الظلم والعنف والتعالي والطغيان والاعتداء على الجار؟ لا يجدر التفكير بالحرب الا للدفاع عن الحرية . ان الغزاة ، محبّي الحروب يشبهون الانهار التي تفيض ، انها تبدو جبارة عظيمة غير انها تجتاح المزارع الخصبة وتتلفها عوضا عن أن ترويها.
في هذه المدينة لكل رجل امرأة واحدة . نساؤهم جميلات ، بسيطات ومتواضعات . المرأة تجذب الرجل بفضليتها قبل جمالها .  قناعة الشعب واعتدال تصرفاته تضمن له حياة طويلة خالية من الامراض . يعيش الناس في هذه المدينة طويلا لانهم يحبون الحياة . لقد ابعدتهم الاقدار عن الحروب ، وهذا يضمن لهم احترام جيرانهم ، بحيث أنّ عدداً كبيراً من هؤلاء يطلبون وساطتهم في نزاعاتهم الحدودية . انهم يسخرون من هؤلاء قائلين : ما بالكم قد تكالبتم على الطمع في مزيد من الاراضي ، هل تخافون من تناقص المساحات ، إن الارض واسعة وتسدّ حاجة الانسان في كل زمان ومكان .
الحديث يطول ويطول غير اني ، خوفا من اُنعَت بالغشيم الساذج ساتوقف هنا . انه حديث غريب لعصرنا ، ولكني لا ارى فيه أية غرابة بل ارى بان روح الحديث دواء للكثير من أمراضنا ، نحن الذين تطورنا كثيراً وتمدّننا ، دخلنا عصر الحضارة ورأينا بريق المادة فتركنا الجوهر ، تنكّرنا للمبادئ وحلّلنا المُحرَّم وانصرفنا وراء مصالحنا الشخصية البحتة !! 


 


94
الغريبة التي اصطحبها أبي معه الى البيت
شمعون كوسا

لقد اعتاد الناس هنا على تخصيص يوم للجيران ، يلتقي فيه ساكنو نفس الحارة كل سنة في صالة قريبة للتعارف ، حيث يتوجّه كل واحد مصطحبا معه وجبة طعام خفيف . يلتقي القدامى بين أنفسهم وينتظرون التعرّف على الجُدد الذين  اختاروا الحارة مسكنا منذ اقل من سنة . بعد تناول الغداء ، وبعد ان يكون الجميع قد تآلفوا بينهم ، يتمّ إعلان الساحة مفتوحة لكل من رغب في الكلام ، في إلقاء خطاب قصير، أو سرد فكاهة او رواية قصة ، أو استعادة ذكريات او أيّ موضوع آخر . من بين من انبروا على المسرح ، جلب احدهم انتباهي في حديث  قال فيه :
قبل خمسين عاماً خلت ، تعرّفَ والدي على غريبة كانت قد قدمت الى بلدتنا لاول مرة . التقاها والدي ، ومنذ اللحضة الاولى شُغف بها ، فتقرب اليها ودعاها لزيارة بيتنا . قبِلت الغريبةُ الدعوة وبعد أن باتت ليللتين معنا ، اعجبها المقام فاستقرت عندنا ، ومنذ تلك اللحظة لم تبارح الغريبة بيتنا واصبحت وكأنها جزء لا يتجزأ من العائلة .  لم يخطر ببالي ، لا في مرحلة طفولتي ، ولا في فترة شبابي ، ان استفسر عن هوية هذه الغريبة ومصدر قدومها ، لان كل شئ كان يبدو لي طبيعيا وشبه بديهي .
 كان والداي يعملان في سلك التعليم ، ومن بين ما كانا يلقّنانِنا إياه بصورة خاصة ، هو الحرص على الطاعة والتمييز بين الخير والشرّ.
الغريبة الساكنة داخل بيتنا ، كانت مولعة بقصّ الحكايات . كانت  ساحرة بكلامها وفاتنة بمظهرها ، وابتسامتها الجميلة كانت ممزوجة احيانا بشئ من المراوغة  . كانت تتركنا معلّقين لساعات طويلة  مبهورين بقصصها التي لا تنتهي ، بعضها كان طبيعيا شيّقا وبعضها الاخرغامضا يدعو للحيرة والتفكير . كانت تتطرق الى كل شئ ولا تصعب عليها الردود مهما كان نوعها  . كان لها باع طويل في السياسة وكأنها معجم مفتوح يتطرق بسلاسة الى التاريخ والجغرافية وكافة العلوم الاخرى  . كانت تروي الماضي بايامه وشهوره وسنواته وتتحدث باسهاب عن الحاضر وتحاول التنبؤ عمّا خطّته الاقدار للمستقبل . ولكي تزيدنا تعلّقاً بها ، كانت تجد اوقاتا للترفيه في احاديث فكاهية او أحجيات او قصص مسلية أخرى ، هل تتصورون مثلا ، بانها هي التي جعلت والداي يحضران ولاول مرة لعبة كرة القدم ؟ !!
كانت اوقات مَرَحها تملأ النفوس سعادة ، فينطلق الجميع في ابتسامة وضحك وقهقهة وتعليق ، ومن جانب آخر كان لها ساعات لا تقوى فيها على كظم غضبها واخفاء مزاجيتها ، فكانت تعمد الى خلق جوٍّ يسوده التوتر والخوف ويقود احيانا الى  البكاء والعويل .
من خواصّها التي لم يطرأ عليها أيّ تغيير هي رغبتها الشديدة في الكلام ، كانت كالثرثار الذي ، اذا لم يُفرِغ جعبته من الكلام يختنق ، لانه على يقين بان الحروف والكلمات والجمل وحتى الفواصل والنقاط سوف تهاجمه وتلتف حول عنقه .
بينما كنا نحن الاطفال ننهل من ثرثرتها المسلية ، كانت والدتي تلجأ الى المطبخ لانها كانت قد ملّت من كلام يبدأ ولا سبيل لانهائه ، حديث يقفز باستمرار من موضوع الى آخر دون توقف .
لقد تساءلتُ في بعض الفترات ، إذا كانت والدتي بابتعادها عنها ، لم تكن تتمنى في قرارة نفسها رؤية هذه الغريبة وقد غادرت بيتنا وتركت الجميع بسلام وهدوء ؟
كان لوالدي ووالدتي قناعاتُهما الاخلاقية ، وبالرغم من معرفة الغريبة بهذه الحقيقة ، لم تكن تأبه للموضوع . ونحن ايضا من جهتنا ، لم نكن قد اعتدنا يوما على التفوّه بالشتائم او حتى سماعها  ، غير ان الغريبة معتبرةً نفسها ضيفا يحضى بحرية تامة ، كانت تسمح لنفسها بما كنّا ننهاه لانفسنا ، وكان سيّان عندها اذا صدمت بذلك والدي أوخدشت حياء والدتي .
كان والدي قد حذّرنا ايضا من احتساء الخمرة وتدخين السيجائر، اما الغريبة فانها في اغلب احاديثها كانت تشجعنا على غير ذلك . كانت تروّج للخمور وتقول عن بعض التبوغ بانها مصنوعة من اجود التبوغ الفرجينية . والانكى من كل هذا ، إنها كانت تتناول موضوع الجنس بحرية تامة ودون اي قيد او حياء . خلاصة القول ، كان بعض كلامها مثيرا والبعض الاخر يدخل بسهولة دائرة المجون والفسق والفجور .
لقد اكتشفتُ فيما بعد بان الكثير من تصرفاتي أيام المراهقة ، كانت قد استمدت طابعها واكتسبت عفويتها ممّا سمِعَته من هذه الغريبة  . اتذكر جيدا بعض انتقادتنا  لمبالغتها في الكثير من الامور ، غير انها كانت تقابلنا بابتسامة خفيفة لا تخلو من السخرية . بعد ان ترسختْ في بيتنا ، إقتنعنا بانها لم تكن تأبه البتّة بالقيم التي كان يحملها والداي ، وكأنها تحولت الى محتلّ سطا على البيت بالقوة ، واصبح سيد الموقف .
لقد مرّ  خمسون عاما على مغادرتي للمنزل ، غير اني عندما أزور بيت الاهل من حين لاخر مع زوجتي ، أجدها قابعة في احدى زوايا المنزل مرحّبة بنا ، وكأنها في ايامها الاولى .
الان وقد انتهيت من وصفها ،  ارى بأنّ فضولكم قد عيل صبره وهو يغلي لمعرفة من تكون هذه المخلوقة العجيبة او هذه الغريبة التي اصطحبها ابي معه الى البيت ولم تفارقه .
ان الغريبة وبكل بساطة كانت تدعى ( التلفزيون ) .
كنتم تتوقعون ان اذكر لكم اسم احدى مغنياتِ او راقصاتِ ايام زمان الجميلات ، رغب والدي في حمايتها من المجتمع بالرغم من بعض عاداتها غير الحميدة . قد تدخل الغريبة  ضمن هذا الوصف ولكن دورها يختلف تماما ، لانها قد استحوذت على عقولنا.
وللعلم فقط اودّ القول بان هذه الغريبة اصبحت أمّا وجدّة لاولاد واحفاد يحملون اسم الحاسوب والنقال ، وهذه السلالة الاخيرة الذكية جدا ، والتي لا تتوقف عن التطور والتنوع ، سلبت عقول مستخدميها . إنها اختصرت اوقاتهم وسهلت امورهم ووفرت عليهم المعلومات ، وهي فعلا كالفانوس السحري الذي لا يفارق صاحبها مردّداً دوما : شبيك لبيك انا عبد بين يديك ، مهما كان غرضك .
وهنا ترك صاحبنا المسرح ، وانتهت حفلة تعارف الجيران بحديث انتهى لدى البعض بخيبة أمل ، ولدى البعض الاخر بابتسامة تقول : فعلا إن هذا صحيح .

95
كم تشتكي وتقول إنك مُعدَمُ
شمعون كوسا

كلما خرجتُ في بداية الربيع لامضي وقتا بين الاشجار المكلّلة بالورود ،
كلما اطلت النظر في الربيع الى الاشجار التي اعتمدت للمرة الثالثة في نفس اليوم وتأملت القطرات المتمردة التي تلعب دور المصابيح متعلقة باطراف اوراقها ،
كلما نظرت الى الغيوم البيضاء المتراجعة عند حافات القبة الزرقاء ،
كلما دخلت حقلا مخصصا للزهور بمختلف اصنافها والوانها ، 
كلما أفقتُ مبكرا في الصباح قبل بزوغ الشمس ، وسمعت خرير المياه المنسابة نحو مساحات مزروعة بالبقول والخضار ،
كلما توقفت في نفس الصباح الباكر لسماع شدو البلابل التي أخالها جوقات مكلفة بترتيل المزامير ، إذ لا يكاد ينتهي بلبل من لحنه ، يقابله آخر على نفس النغمة او يضيف اليها لمسته الخاصة ،
وكلما قابلني النسيم وجها لوجه ، وانعش وجنتيّ وشرح صدري وجدّد انفاسي ، 
كلما رفعت انظاري الى العلى نحو قبّة اعشق تشدّني بزرقتها الصافية ، ودخلت بعيدا في ثنايا فضائها اللامتناهي ،
وكلما نهضت صباحا وانفتحت عيناي على الشمس التي توزع خيراتها ، نوراً وطاقةً ، على الانسان والحيوان والنبات والجماد ، تبدد ظلام الليل وتبعد المخاوف والهواجس والكوابيس ،
كلما شاهدت كل هذا وسمعته  ، اشعر بارتياح عميق ، وفي غمرة هذه السعادة الهادئة ، أتساءل قائلا : أيحتكم الانسان على كلّ هذا ، وهل يمكن للانسان أن يشتكي وهو مالِكُ كل هذه الطبيعة وجمالها ؟ 
ودون ارادتي ، اتذكر قصيدةً لاحد شعراء لبنان الذين ترعرعوا في احضان الطبيعة  وشغفوا بسحرها وجمالها  فوصفوها شعراً ونثراً ، قصيدةً اتمتم تلقائيا بعض بياتها الاولى التي تقول :

كم تشتكي وتقول إنك مُعدَم           والارض مُلكك والسماء والأنجم
ولك الحقولُ وزهرُها وأريجُها        ونسيمُها والبلبلُ المُترنّم
والماء حولك فضة رقراقة       والشمس فوقك عسجد يتضرّم
والى أخيره من ابيات لا تشبع من التغزل  بالطبيعة الساحرة التي صنعها الله .

في احد ايام الربيع ، حيث كنت بصحبة احد المعارف ، وهو نموذج لقاطني منطقةٍ تحولت معالمُها وتغيرت مبادؤها على حين غرّة ، تناولتُ هذه الابيات ، وكعادتي تغنيت بها بحماس وانطراب حقيقي . ابتسم صاحبي وقال : أراك مندمجا مع كلماتك وألحانك ، لاشك ان ما قلته جميل ، ولكن الا تدرك بانك غاطس في عالم الخيال والسذاجة ، هل انت فعلا مقتنع بما تقوله هذه الابيات ؟
 قلت له انا لست مقتنعا فحسب ، بل اجد نفسي في قمة السعادة . قال لي : ان ما أتى به شاعرُك ليس واقعيا ، كيف للانسان ان يغدو سعيدا بمجرد النظر الى السماء ، وسماع البلابل واستنشاق النسيم ورؤية الازهار واشعة الشمس؟ كيف يمكنه ان يشعر بسعادة وهو لا يملك شيئا ملموسا مقيّداً باسمه من بيوت واراضي واموال ؟  هل نظرتَ مليّا الى نفسك ؟  وهل السماء والشمس والنجوم والزهور توفر لك الرفاهية في الحياة ؟
قلت له إنّ ما تمنحني إياه الطبيعة ثروة لا تقدّر بثمن وهي مقتنىً لايقوى احد على انتزاعه منّي . أنا اكتفي بكوخ يأويني ولقمة عيش تسندني لان البقية توفره لي الطبيعة الجميلة في كل لحظة وكل مكان . ممتلكاتي ليست محصورة بقيد أو سند اوحدود او ارقام  ، وبالرغم من ذلك تبقى مُلكا لي مهما قست الظروف وتغيرت الاعراف وتضاربت القوانين ، أما انت ، فان ما تملكه بموجب قيود وسندات وخرائط وارقام ، كله معرّض للخسارة والتغيّر والحرق والنهب والافلاس ، وقد تنقلب امورك لاتفه الاسباب ، فتزول معها سعادتك . إن ما أمتلِكهُ أنا ، والذي يغمرني بسعادة حقيقية ، هو لي وسيبقى ، وبوسعي التمتع بهذه الثروة بمجرد رفع انظاري وفتح شبابيك افكاري .
قلت له ايضا : انا أعجبُ كثيرا لأنسان يغضّ الطرف عن جمال الطبيعة الذي هو موضوع تمنيات واحلام الضرير . أمنية الرجل الضرير هي الحصول على فتحة ، بسعة خرم الابرة ، ليتمتع  برؤية ما خلق الله .
من جهة اخرى ، أودّ ان اذهب ابعد من ذلك لأقول : ان الفرح الذي يغمرني  كلّما فكرت بان العالم  ، بسمائه وشمسه ونجومه وغيومه وامطاره واشجاره وزهوره وطيوره ورياحه وكل جماله ، هو مُلك لي ، يدعوني هذا الشعور للتصور وكأني قد بدأت أبديتي على الارض ، لان الانسان يقيس سعادته بما تشاهده انظاره وتشعر به نفسه . جمال الطبيعة يحمل بصمات خالقه ، وجمال الطبيعة من جمال الله . فاذا كنا نبصر جمال الله في الطبيعة ، نكون قد بدأنا برؤية الله نسبياً ، وباعتقادي الشخصي ، هذه السعادة ، رغم ضآلتها ، هي مقدمة للنعيم الابدي الذي يُنشده الانسان .
بعد انتهائي من التحليل والتفكير ، إلتفتُّ الى صاحبي كي اقرأ انطباعاته ، واذا به قد غادر المكان  نظريتي بخصوص الطبيعة لم ترُقْ له لانه لم يجد فيها أي مكسب مادّي . كان الاخ يقيس سعادته بمقاسات جيوبه ونصف قطر انتفاخها . كان صاحبي يرتبط بمجموعة اندهشت هي نفسها مما أمطرت عليها الاقدار دون تعب ، مجموعة اضحى اعضاؤها أناسا تافهين من كثرة اهتمامهم بالمادة ومضاعفتها .
عندما رأيتُ نفسي وحيدا ، وجّهت انظاري الى آفاق بعيدة وشرعت اتغنى بالتلال والآكام والجبال والرياح والسنابل ، لانها هي وغيرها وجدتُها مدرجة على قائمة ما توزعه الطبيعة مجانا .

 

96
المنبر الحر / تحقيق حلم طفل مريض
« في: 18:20 09/04/2014  »
تحقيق حلم طفل مريض
شمعون كوسا

في مساء احد الايام ، عند مشارف أعياد الميلاد ورأس السنة ، طرق بابَنا أحدُ رجال الاطفاء حاملا معه التقويم الجديد الذي تصدره دائرته كل سنة لإبراز مختلف نشاطاتها في المدينة . كان الشابُ ، ذو البدلة الانيقة ، معروفاً لدينا فدعوناه لارتشاف فنجان قهوة . بعد ان تحدثنا قليلا عن امور الساعة ، اعربنا لزائرنا الكريم عن اعجابنا الصادق بما يقوم به رجال الاطفاء الذين ، بالاضافة الى اطفاء الحرائق ، يقومون باسعاف المرضى والمنكوبين ويلبّون نداء كل من يحتاج اليهم في حادث او موقف صعب . لم أشأ ان ينتهيَ لقاؤنا دون ان أذكر له ايضا بان هندام رجل الاطفاء ، يجذب الشباب وبصورة خاصة الاطفال ، ناهيك عن شجاعته التي هي موضع اعجاب الجميع. هنا التفت إليّ رجل الاطفاء وقال : كلامك عن الاطفال وإعجابهم أعاد الى أذهاني قصة حقيقية مؤثرة أودّ ان ارويَها لكم ، فهي تقول :
كان لامرأةٍ شابة ترمّلت حديثا ، ولد صغير يدعى بيلي . كان الطفل ، ذو السنوات الستّ ، مصابا بمرض اللوكيميا ، وكان الاطباء قد كشفوا لوالدته منطوق الحكم الجائر الصادر بحقه ، لقد كانوا قد أسرّوا اليها بأن العدّ التنازلي كان قد ابتدأ ، لانهم استنفذوا كافة وسائلهم لانقاذه . كانت الام تُمضي ايامها بقرب طفلها الوحيد ، وعند كل التفاتة اليه كان قلبها يتأجج نارا ونفسها تزداد انكسارا . كان جلّ مناها ان ترى ابنها ينمو أمامها ويحقق احلامه ، ولكنها بعد أن سمعت الاطباء ،   تحوّلت امنيتها الى حسرات وآهات . غير أن رغبتها العارمة في إسعاد ابنها بالرغم من الاقدار، دعتها الى مفاتحته في أمر .  دنت الام من سرير بيلي وامسكت بيده وقالت له  بصوت يفيض حنانا :  يا ابني هل حلمت يوما في حياتك وفكرت بماذا تتمناه لنفسك في المستقبل ؟  اجابها الطفل مبتسما وقال دون تردّد : لقد حلمت دوما ان اصبح رجل اطفاء .
بادلته امه الابتسامة وقالت : لِنرَ ما الذي بوسعنا القيام به لك في هذا الخصوص . في وقتٍ متأخر من نفس اليوم ، إتجهت الام الى دائرة الاطفاء والتقت احد المسؤولين وشرحت له رغبة طفلها الأخيرة ، متوسلة اليه إيجاد امكانية لتنظيم جولة في المدينة يرى بيلي نفسه راكباً سيارة الاطفاء ويشعرَ بانه رجل اطفاء ولو لوقت قصير . تأثر المسؤول بكلامها وقال : سنقوم بما هو أفضل من ذلك . أطلبُ منك أن تهيئي ابنك لاننا سنأتي بعد ثلاثة ايام ونأخذه ليُمضي معنا النهار باكمله كرجل اطفاء فخري . سيكون بيلي معنا ويخرج في كل مهمة تُوكل الينا في ذلك النهار . ولكي ازيد الطفل سعادةً ، أرجو تزويدي بمقاسات ثيابه ، كي اوصي خياطنا بتفصيل بزّة رسمية على مقاسه ، كما سيتم تجهيزه بالمعطف الاخضر والخوذة والاحذية الخاصة برجل الاطفاء ، وكل هذا سينفذّ بسرعة البرق .
في اليوم المتفق عليه ، إتّجه مسؤول الاطفاء الى المستشفى حيث يرقد بيلي . قام بإكسائه بدلة الاطفاء الجميلة ، وأخرجه من سرير المستشفى الى سيارة الاطفاء . جلس بيلي خلف سيارة الاطفاء غير مصدق نفسه ، كان وجهه الشاحب يشع حيوية وسعادة . تلقّى فوج الاطفاء في ذلك اليوم ثلاث نداءات مختلفة ،  وفي المرّات الثلاث ، كان رجل الاطفاء الجديد في السيارة  بجانب الممرضة ، ينصت بانشراح لصافرات الانذار المدوّية .  يُقال بان التلفزيون المحلّي نقل نشاطات فريق الاطفاء لذلك اليوم .
عملية اشتراك بيلي مع فريق الاطفاء أرجأت قليلا من سرعة العدّ التنازلي ، غير ان المرض اللعين كان قد أغلق منافذ النجاة . ففي اليوم الذي بدأت علامات الحياة بالانتقاص ، رأت الممرضة التي كانت ترافق بيلي بانه لا يجب ان يفارق الطفل الحياة معزولا ، فقامت بدعوة افراد عائلته ، وحين تذكرت بان بيلي كان قد اصبح رجل اطفاء فخري ، اتصلت بقسم الاطفاء وطلبت حضور ممثل منهم بزيّ رسمي لكي يمسك بيد بيلي وهو ينازع . ردّ عليها المسؤول قائلا : سنقوم هذه المرّة ايضا بما هو افضل ، لاننا سنقوم بتنفيذ عملية خلال ربع ساعة ، وكل ما نطلبه منك هو مساعدتنا في ابلاغ المسؤولين عن نوايانا لاننا سندخل المستشفى بعملية وهمية ، وكاننا في تنفيذ عملية حقيقية . إننا قادمون لزيارة احد اعضاء فريقنا ، وسندخل غرفته من النافذة .
وفعلا تمّ ذلك كما خُطّط له ، بعد ربع ساعة قدمت سيارة الاطفاء مع صافرات انذارها وتوقفت امام المستشفى , رُفع سلّم الاطفاء الى مستوى غرفة المريض في الطابق الثالث . تسلق ستةَ عشرَ رجل اطفاء السلم ودخلوا غرفة المريض من النافذة . بعد استئذان والدته ، ضمّوا بيلي المريض الى صدورهم كي يعربوا له عن حبهم . بجهد كبير رفع بيلي عينيه نحو رئيس الفريق وقال : يا سيدي ، هل انا فعلا رجل اطفاء الان ؟ وجّه اليه الرئيس تحية الاطفاء الرسمية وقال له : انك رجل اطفاء حقيقي وها انك ترى اعضاء الفريق باكمله قادمين لاداء واجبهم نحو زميلهم بيلي .
مع هذه الكلمات ، ارتسمت على وجه الطفل ، ولاول مرّة ، ابتسامة خاصة  ، كانت ابتسامة عريضة تلقائية تعبر عن  القمة التي بلغها في سعادته . فارق بيلي الحياة بجسم نحيل ولكن بثغر مبتسم لانه كان قد حقق حلمه في ان يصبح رجل اطفاء . لفظ انفاسه الاخيرة وهو ممسك بيد رئيس فريق الاطفاء ، وطار محمولا الى الاعالي على اجنحة رجال اطفاء اكتسوا بدلات بيضاء . 
بعد سرد قصته ،  همّ زائرنا بالمغادرة ، رفع يده بصمت وخرج .  أما نحن لشدة تأثرنا ، لم نقوّ على مرافقته الى الباب الخارجي ، لاننا كنا نعالج عبرات ساخنة لم تكن قد انهت تناثرها. 
 ان المرض عند البالغين محنة  ولكنه عند الطفل ظلم . طوبى اذن لمن أدخل الفرح الى نفس طفل ، والف طوبى لم افلح في فتح نوافذ طفل آخر حكم عليه المرض ووضعه في زنزانة مغلقة .


97
المنبر الحر / نصـائحُ أبـي
« في: 15:17 15/03/2014  »
نصـائحُ أبـي
شمعون كوسا

علمتُ بأنّ محاولات الشمس قد باءت بالفشل في تمديد إقامتها بيننا ، لانها تلقّت أخيراً إشارات استغاثة صادرةً من بلدان يتناوب عليها الصقيع والثلج أغلب ايام السنة . بلاد الشمال هذه ، اذا انقشع ضبابها قليلا وأطلّت الشمس لدقائق ، فانها تبدو كطالب اللجوء الذي يكون بصحبة مهربّه ويخاف ان يرفع رأسه ، فالشمس اذا ظهرت قليلا  تكون باهتة ومصحوبة بهواء بارد . حملتُ أكياسي وخرجتُ كعادتي لاكدّس فيها ما استطعت من اشعة الشمس التي غدت مادّةً مقنّنة لهذه السنة ،  إنها ذكرتني بايام الاردن حيث كان الماء لا يزور البيوت إلاّ مرة في الاسبوع .  بينما كنت ممتدّاً على الارض ، إتجهت عيناي نحو غيمة صغيرة تحولت الى صورة شخص يشبه ابي . كانت الصورة مشوهة غير انها توضحت شيئا فشيئا . فَرَكتُ عيوني لاتأكد من اني لست حالما ، واغلقتها لبعض ثوانٍ علّ الخيالَ الماثل امامي يبارح مكانه ، ولكني وقعتُ من جديد على نفس الصورة .
كان أبي صامتا ، فبادرته بالتحية وقلت له : أهلا بك يا أبي ، لقد اشتقت اليك كثيرا ، ما هو سرّ ظهورك ؟
قال لي : كنت اتابع جولاتك وقررت لقاءك اليوم للاطمئنان عليك ، وللتأكيد أيضا على بعض الحقائق والنصائح .
قلت له : تحدّث يا ابي لاني بحاجة الى كل ما ستقوله.
قال لي : سوف ابدأ من النهاية واقول : يا ابني اذا اردت ان تبلغ السعادة الحقيقية والعيش في هدوء وراحة بال ، إبحث عن الحكمة .
الحكمة يا ابني هي الحالة المثالية التي يبلغها الانسان من خلال معرفة النفس ومعرفة الاخرين أيضا، انها المعرفة المقرونة بالفضيلة التي توفقّك مع نفسك ومع الاخرين .
قلت له : وكيف لي ان ابلغ هذه الدرجة من الكمال ، دون المرور على فروع الفلسفة وتعابيرها المعقدة ؟
قال لي : إن الحكمة يا ابني هي مجرد حزمة دروس تستخلصها أنت من تجاربك ومطالعاتك وايضا من تجارب الاخرين .لقد بلغتَ عمراً يتيح لك إدراك الكثير من اسرار الحياة ، وقد  مررتَ بتجارب كثيرة ، بعضُها نالَ رضاك ، وندمت على بعض آخر ،  وكنت تتمنى الافضل في حالات اخرى . 
مهما كنت حاذقا وصاحب تجربة ، انك تحتاج الى الاطلاع على تجارب الغير . لذا عليك معاشرة من كان اكبر منك سنّا لانك ستجد في اغلب الاحيان  شخصا عاقلا يفيدك بامثاله وحكمه . أقوال الاوّلين  وامثالهم هي حكم توصلوا اليها من تجاربهم  وتجارب مَن سبقوهم .
في تصرفاتك اليومية يجب ان تعتاد على الهدوء والجنوح قدر المستطاع الى الصمت  ، لان الندم لايفيد بعد كلام أدّى الى انجراح او انكسار .
حياتك ، مثلما كانت حياتي وحياة الاخرين ، محفوفة بالمخاطر والمواقف الصعبة ، ولقد احتجنا في كثير من اوقاتنا الى القليل من الصبر والهدوء والصمت ، ولكن ردود افعالنا كانت صادرة وسط غضب شديد ، فكان يقع الندم متأخرا. والحكمة تقضي ايضا ألّا تتوقف عند مظاهر الامور وقشورها  بل تنفذَ الى الكُنه والجوهر ، حاولْ ان ترى كل شئ شفافا لتنفذ منه ولا تتفاعل مع ظاهره المُثير .
اننا نقلق كثيرا بسبب جهلنا لِما يخفيه الغد ، فالخوف ينام معنا ويصحو ، اننا نسعى الى عبور الجسر قبل بلوغه ، فنعيش فترة قلق في خيال ووهم ، وفي اغلب الاحيان  لا وجود أصلاً للجسر الذي نخشاه  .
هناك حقيقة ثابتة تقول ، بان ليس هناك مشكلة دون حل ، وتجاربنا وتجارب اجدادنا دلّت على حقيقةٍ مفادها بانه بالرغم من كل شئ  كانت الامورتنتهي دوما بحلّ لم نكن نتوقعه. فالحمكة هنا تدعوك الى التفاؤل والصبر والتروّي .
يا ابي إن ما تقوله ليس غريبا عليّ ،  ولكنه من الصعب جدا إخراجه الى حيزّ الواقع .
قال لي : انا اتوجه اليك شخصيا ، ويجب ان تسمعني ولا تقس نفسك بالاخرين . اذا نويت حقا على هدف فانك ستبلغه ، وهذا صحيح في مسعاك نحو الحكمة . إنصرف يوميا الى وقت تخصصه للتأمل ، والتأمل لا يقتصر على الممارسات الدينية ، انه وقت خلوة مع النفس تتيح لك المجال إعادةَ ما سمعته أو رأيته أو قرأته ، تقوم بتحليله والتأكد منه والتشبّع منه ، فتستخلص منه ما يفيدك ، وتخرج بقرارت تساعدك على التقدم في طريق الحكمة .
لقد فتحتُ معك موضوعا يحتاج الى سيل عارم من الكلام . لقد حان وقت انصرافي ولكني قبل ذلك ، أودّ القيام  بتلاوة صلاة جميلة كنت معتادا عليها ، انها صلاة جبران ، هذا المفكر الذي لم يتفوّه بغير الحِكَم .  ادعوك لتلاوتها كل يوم مع التفكير مليّاً بكلّ كلمة فيها ، لانها فعلا الحكمة الكاملة في الحياة ، فهي تقول :
- يا ربّ ساعدني على قول كلمة الحق في وجه الاقوياء ، وأن لا اقول كلمة الباطل     لاكسب تصفيق الضعفاء. 
- يا رب اذا اعطيتني مالاً فلا تأخذ سعادتي ، واذا أعطيتني قوة فلا تأخذ عقلي ، واذا أعطيتني نجاحا فلا تأخذ تواضعي ، واذا أعطيتني تواضعا فلا تأخذ اعتزازي بكرامتي .
- يا رب علمني ان احب الناس كما احب نفسي ، وعلمني ان احاسب نفسي كما احاسب الناس ، وعلمني ان التسامح هو اكبر مراتب القوة وان حبّ الانتقام هو اول مظاهر الضعف .
- يا رب لا تدعني اصاب بالغرور إذا نجحت ، ولا باليأس اذا فشلت ، بل ذكّرني أن الفشل هو التجربة التي تسبق النجاح .
- يا رب إذا أسأت الى الناس فاعطني شجاعة الاعتذار ، واذا أساء إليّ الناس فاعطني شجاعة العفو ، واذا نسيتك فأرجو ان لا تنساني .
وقبل ان يختفي ابي عن انظاري ، قال :
إذا ما توصلتَ يا ابني الى حفر أساساتٍ لكل كلمةٍ من هذه المناجاة ، وبنيتَ منازل لها داخل نفسك ، تكون قد بلغت الحكمة وستعيش سعيداً .
 






98
رسالة تلقيتها من معشر النحل
شمعون كوسا

وأخيرا اتّخذتِ السماء قرارها في إصدار مذكرة إلقاء قبض ، تقضي بايقاف الامطار وحبسها لانها خرجت عن القانون . أثلج الخبرُ صدورَ الناس بعد فترة انقباض طال أمدها . كانت الامطار تدقّ الطبول متنقلة بين المدن والقرى وما تلبث تبارحها إلى أن تعود اليها ضيفا ثقيلا . لم تترك منطقة الا بعد إغاضة أنهارها وإخراجها عن طورها ، حيث كانت الانهر الهادئة عادة ، تهجر أسِرّتها حانقة ، وفي موجة ثورانها في كل الاتجاهات ، تغرق المساكن والمزارع والمرافق الاخرى . كان الناس يرفعون أياديَهم متضرعين كل يوم قائلين : إتقي الله ايتها الامطار ، لقد اصابنا الضجر ، لقد تشبّعت اراضينا وتعفّنت ، وتضررت محاصيلنا ومواشينا ، وتدنّت حالة مبانبنا ومساكننا وانهارت القديمة منها، شوارعنا تمزقت وحتى جسورنا لم تصمد ،  لقد مللنا هذا الطوفان الذي لا نرى له نهاية .

كانت الشمس في هذه الاثناء تترقب الوضع وتنتظر اللحظة التي سيكون بمقدورها إسعاف من طالهم ظلم الامطار . فقد كانت اختزنت نورها وحرارتها ، وارسلت اشعتها بكثافة من زوايا متقاربة جدا بغية تغطية أبعد نقطة منكوبة .
أسوةً بكل من تركوا بيوتهم لاستقبال الضوء والحرارة ، خرجتُ أنا ايضا لأستلم الحصّة التي خصّصتها لي الشمس من اشعتها . اخترتُ موقعاً نمت فيه بعض الزهور التي افلحت في مقاومة طغيان الامطار، وجلستُ على صخرة صغيرة ملقاة هناك . بدأت أستنشق الهواء الممزوج بضوء الشمس ، ورفعت رأسي نحو السماء  التي كانت قد تخلصت من الغيوم  وارتدت حلّتها الزرقاء ، وتحولتُ بانظاري نحو الاشجار والطيور وخفضتها لأتأمل الزهور التي كانت قد تفتحت كعروس في أول عهدها .
وانا في لحظات سعادتي هذه ، رأيت نحلة تقترب منّي وتعود بسرعة الى وُرودها. تابعتُ النحلة الى ان استقرت على وردتها ، غير اني تفاجأت برؤيتها تعود ثانية وبنفس الطريقة . كانت تقترب مني كثيرا وتعود أدراجها . اعادتِ النحلة حركتها ثلاث مرات وفي المرة الرابعة استقرت بجانبي على الصخرة ولم تتحرك . أمعنتُ النظر فيها وحاولت تحليل حركتها ، فاغمضت عينيّ وانتظرت ، واذا بيّ اسمع صوتا رفيعا يخرج وسط طنين خفيف ويقول :
لماذا قصدتَ هذا المكان ؟
لم أشأ الردّ للوهلة الاولى معتبرا الكلام وهما او خيالا ، غير اني جرّبت الردّ بصوت غير مسموع وقلت : لقد أتيتُ كي اتمتع بجمال الطبيعة وبكلّ ما خلقه الله فيها .
ردّت عليّ النحلة بغضب وقالت : انك تكذب .
قلت لها : ولماذا هذا التجريح ؟
قالت : ان البشر ، وانت واحد منهم ، لا تحبون الطبيعة ولا تحترمونها بل تحتقرونها.
قلت لها : افصحي قليلا .
قالت : انتم في مجتمعاتكم تصدرون بيانات وتتخذون قرارت وتسنّون قوانين تشجب وتحرّم ممارسات تسمونها (إبادة جماعية) . هل تعرفون بانكم الان تبيدون مملكة النحل ، ولكننا لا نعرف كيفية  إصدار البيانات مثلكم .
قلت لها : لم افقه الموضوع تماما ، تابعي الحديث رجاء .
قالت : لقد بدأتم في هذه الاونة الاخيرة برشّ مواد تكافح الحشرات أو تقوم بوقاية المزروعات ، غير ان الكثير منها هي سموم قاتلة . نحن ، معشر النحل ، مضطرون لامتصاص رحيق الزهور ، سواءً كان ذلك في الحدائق او على الاشجار او النباتات الاخرى . هذا مصدرنا الاساسي في انتاج العسل . هل تعرف بان مستعمرات كبيرة من مملكتنا أُبيدت عن بكرة ابيها ، وخلايا كبيرة من ذوينا اختارت طريق الهجرة . انها أنانيتكم ورغبتكم في  تغيير الطبيعة وتحقيق نتائج سريعة التي تدعوكم لشمل النحل بمذابحكم الجماعية . انكم تقضون على مخلوقات زوّدت البشرية منذ القدم بطعام طبيعي صحي ، أولستم بصنيعكم هذا تختارون لانفسكم صفة ناكري الجميل ؟ .
قلت لها ، انا لم افكر بالامر ، ولكن ما تقولينه خطير جدا .
قالت : نحن لسنا صراصير ولا عقارب ، الا تذكرون في كتبكم المقدسة بان بعض أوليائكم ، في قديم الزمان ، كانوا يقتاتون على الجراد وعسل البرّ ؟ ومن جهة اخرى،  أليس العسلُ هو الذي يدخل في تكوين الكثير من علاجاتكم الصحية واغذيتكم .         أنا شخصيا غامرت في هذا اليوم بالخروج الى هنا ، وتأكّد بأني لا اعرف هل ساعود سليمة الى بيتنا أم مصابة ، لاني اشعر الآن بدوار غريب !!
قلتُ لها : انا احمل في جيبي حبوب وجع الرأس ولكني لا أرى كيف يمكنك تناولها !!!
اضافت النحلة : وهل فكرتم بانكم في حالة عدم اكتراثكم هذه تضرون بانفسكم أيضا ، لان مبيداتكم هذه تتسرب قليلا فقليلا الى المياه الجوفية وتلوثها ، فتنموا أعشابكم ملوثة ، وحيواناتكم التي تسرح في هذه المراعي تتلوث لحومها ، والسلسلة متشعّبة وطويلة ،  وبعد كل هذا تستغربون وتقولون : يا ترى من الذي أتى بهذه الامراض المستعصية ؟!!   ألا ترى في هذا إجراما ؟
طأطأتُ رأسي ، وبدأتْ حالاً تتوالى أمامي ، كشريط سينمائي طويل ، حالاتُ جرائم دوافعُها الانانية والحسد والكذب ونزعات الشر الاخرى. قلت لها : إنكِ محقة تماما فيما تقولين ، أنانيتنا وضعت غشاوة على اعيننا واغلقت ضمائرنا ، ولم نعد نرى أيّ سوء  أو إحراج في  ما هو خاطئ ، وبتنا نرى التقصير والاعتداء وحتى الجريمة أمورا عادية . البارحة فقط دبّر شخص مكيدة لصديقه لانه كان يعترض بعض مصالحه . وقبل ثلاثة أيام اسـتأجر شخص اياديَ شريرة لتصفية شخص كان قد كشف حقيقته. وماذا عساني اذكر وماذا اقول ، لقد مللت انا ايضا من القول والتكرار .
قالت النحلة : لم اكن اتوقع ملاقاة شخص واع يتفهّمنا ويتأثّر لحالتنا .
قلت لها : ان الانسان قد جُبِل بالاصل وبداخله نزعة للخير ، ولكنه تمكن في هذه الازمنة الاخيرة من انتزاع هذه النزعة عنوة واستبدالها بميول وممارسات مسخّرة حصرا لمصالحه الشخصية  . ومشكلة مملكة النحل ، هي احدى نتائج هذه النزعة الجديدة للانسان . 
قالت النحلة : انا اشكرك ، لانك طمأنتني قليلا . انا مغادرة الان ، ولكن قبل ان انطلق احمّلك هذه الرسالة لاقول : رفقا بنا ايها البشر ، اخفضوا عيونكم قليلا كي تروا  النحلة وتحافظوا عليها بتغيير انماط وقايتكم . نحن معشرَ النحل ، نُعتبر مصنعا متكاملا لا يحتاج الى تدخلكم . نحن في خدمتكم ، وكل ما نطلبه منكم  هو الامتناع عن قتل مديريتنا وعمّالنا !!!

kossa_simon@hotmail.com



99
كم هو هشّ هذا الانسان العظيم

شمعون كوسا

سأتناول أمراً عادياً جدا قد يثير استغراب الكثيرين . انها حالة تدعوني للتوقف والتفكير بالرغم من بداهتها . لقد اعتدت على التعبير عمّا يجول في خاطري ويشغل أفكاري ، هذا ما جال في خاطري ولا بدّ لي ان اكتب عنه : 
كلما تلقيت نبأ وفاة احد الاشخاص ، إذا كان من المقربين او المعارف او غيرهم ، أقطع خيط افكاري لدقائق وارفع رأسي  شاخصا بانظاري الى نقطة غامضة بعيدة ، ودون ان أهزّ رأسي اقول صامتا : لماذا ، لماذا وكيف ؟ لماذا بهذه السهولة وهذه البساطة ؟ لماذا في هذا الوقت المبكر من الحياة ولماذا هوَ بالذات . اقول هذا ايضا عن مشاهير لعبوا دورا مهما في حياتهم وخلّدوا آثاراً . إن ظاهرة الاختفاء بسرعة وبسهولة تضعني في حيرة تبقى ساهرة في خيالي لانها لا تلقى جوابا.
الحياة بكافة دقائقها مليئة بمثل هذه الحالات ، وهذا امر طبيعي لان قدر الانسان هو الموت . تتنوع الحالات بتنوع الظروف واختلاف الاجواء ، وبما ان الكلام يطيب دوما اذا رافقته قصص وحوادث واقعية ، ساقوم بتأمين هذه المرافقة عبر بعض حالات بسيطة عشتها أوسمعتها :

كان هناك طبيب في مقتبل العمر يمارس مهنته بهدوء وسعادة . بدأ صيته يذيع بين الناس وهذا اكسبه شعبية كبيرة . كان انسانا لطيفا ، طيب المعشر . ذكاؤه أولد فيه طموحا ودعاه لتوسيع مساحة نشاطاته ،  فوضع العديد من الخطط والمشاريع ومن ضمنها كان بناء مستشفى خاص يديره بامكانياته مستعيناً ببعض الاطباء من اصدقائه .
 خرج الطبيب ذات يوم بمعية احد اصدقائه الى مسبح المدينة ، حيث كان قد اعتاد على قضاء ساعة او ساعتين في السباحة . كانت هذه الرياضة توفر له الاسترخاء الذي كان يحتاج اليه في غمرة انشغاله. دخل الطبيب حوض السباحة مرة ومرتين واستلقى بعد ذلك  تحت المظلة على الاريكة المخصصة له بجانب صديقه . استمر صديقه بالسباحة لانه كان قد دخل في مباريات كرّ وفرّ مع بعض السباحين المتواجدين معه في الحوض . في احدى كرّاته ، جلب انتباهه هاتف الطبيب الذي كان يرنّ  مطوّلا ولا يردّ عليه أحد . فكّر الصديق بان الطبيب نائم فتركه واستأنف الفرّ . بعد فترة قصيرة رنّ الهاتف من جديد وتوقف ، ولم يطل كثيرا ليعاود الرنّة ثالثة ورابعة ، فقام الصديق بمناداة الطبيب من وسط الحوض ، فلم يلقَ ردّة فعل . خرج من حوض السباحة وبدأ  يؤنب صديقه الطبيب بصوت عال قائلا : الا يكفيك نوما ، الا تسمع الهاتف ، لماذا لا تجيب ؟ ، معتبرا الطبيب غائصا في نوم عميق ، امسك به وهزّه وقلبه على ظهره ، ففوجئ برؤية جسم بارد ووجه مصفرّ، امسك بيده ليفحصها ، وعندما افلتها وسقطت متدلية ايقن بان صاحبه كان قد فارق الحياة . بقي حائرا من امره لان الطبيب فارق الحياة دون سابق إنذار . كيف اختفى هذا الطبيب الشاب ، ولماذا تبخر بهذه السرعة وهذه السهولة وهو ممتدّ على الاريكة ، وتبخرت معه كافة طموحاته ومشاريعه ؟
وفي حادثة اخرى سمعتُها يوم وقوعها ، كان الامر يتعلق باصدقاء توجهوا في نزهة قرب نهر يقع في احدى بقاع الشمال . بعد ان انهى الاصدقاء جلستهم التي بدأوها أكلا وشربا وأنهوها لهوا وطربا ورقصا وغناء ، أحسّ احدهم برغبة شديدة لتلطيف جسمه بماء النهر . دخل الشاب النهر بارتعاش تحول الى انتعاش واستمر في سيره الى ان بلغ منتصف النهر واذا به يرى نفسه منجرفا في دوامة ، لم يعرللتيار اهتماما في البداية معتبرا ان النهر يمازحه ، واذا بالتيار يكتسب  قوة لا يمكن مقاومتها،  فبدأ بالصراخ مستنجدا ، هرع احد اصدقائه الى نجدته دون ان يعرف ما ينتظره ، واذا بالصديقين تلتهمهما الدوّامة ، وكأنهما اللقمة التي كان يتربص بها وحش مفترس . شابان في مقتبل العمر ، يتنفسان السعادة في حياة بدأت لتوّها ، كانا يبتسمان لكل شئ لانها لم يكونان يبصران غير الفرح ،  اختفيا بسرعة البرق ، واختفت معهما آمالهما وامّحى مستقبلهما. اظلمت الدنيا واختفت لان الشابين الممتلئان حياتا زالا عن الوجود . لدى سماعي الخبر المؤلم في يومه ،  تساءلت بيني وبين نفسي ، واتجهت بالسؤال الى الجرف قائلا : لماذا يا نهرُ ، لقد كنتَ جميلا بجريانك ، لقد انجذب هؤلاء الشباب لخرير مياهك وصفائِها ، لماذا غدرت بأناس اغريتهم فدنَوا منك ؟  توقّف النهر ، ورمقني بنظرة ازدراء من طرف عينه اليسرى وكأني به يقول :  إن استفهامك غريب جدا ، انا لا اعرفك كما لا اعرف أيّ من هذين الشابين . أنا لم أصنع نفسي ، أنا مجرد سرير لمياه تسرع وتبطئ أو تتموج في جريانها ، طريقي تفرضه المنبسطات والمنحدرات وأيضا التجاويف التي تتميز بمغامراتها الخاصة ، كل هذا  طبيعي بالنسبة لي ، ويؤسفني ان تجدوا انتم الهلاك فيه ، كانت الدوامة هذه ستبتلع كل ما يصادفها من شجر وحيوان واجسام اخرى .

بعد هذا أنتقلت بتفكيري الى العظماء الذين تركونا ،  رؤساء خدموا الناس بتفانٍ ونزاهة ، كتّاب أبدعوا باشعارهم ورواياتهم ، فلاسفة اهتدت الاجيال بنظرياتهم وتحليلاتهم ، أو اصواتا جميلة أصيلة ، لم تفقد رنتها وبقيت تطرب السامع ليومنا وكأنها في أولى انطلاقاتها . توقفتُ هناايضا وقلت بنفس التأوّه الصامت : لماذا اختفى هؤلاء الخالدون ، انهم كانوا عظماء وكانوا يفيدون العالم بافكارهم وكتاباتهم ومشاريعهم واختراعاتهم واصواتهم الجميلة، اختفوا عن الانظار بسرعة وبسهولة ، اصبح مصيرهم مصيرالجهلة والاغبياء والمجرمين الذين يتبرم منهم المجتمع او يرغب في التخلص منهم .
 انتقل الفكر بين العقود التي عشتها واستعرضتُ حالات لا تحصى وقلت : يا لهشاشة هذا الانسان العظيم . كائن يستوعب العالم كله ويحتضنه بعقله ، كائن يفكر ويبدع ويصنع العالم ويطوره ، كائن عبقري يضع خططا مستقبلية ، يختفي هذا العبقري العظيم  على حين غرّة لمجرد شهقة ، يختفي مختنقا بقطرة ماء ، يختفي لعسر تنفسه ،  واذا لم يمت يدخل في غيبوته او يشلّ الى الابد . هذا الكائن العظيم القوي بعضلاته وبأسه ، هذا القوي الذي بامكانه قهر اشرس الاعداء ، يختفي لانه بالغ بطعامه مثلا ، او وقع ضحية اصطدام ، او اصبح هدفا لضربة طائشة او سقوط شجرة ، وملايين اخرى من الاسباب التافهة التي تودي بحياة هذا العملاق العظيم .
ختامي سوف لن يكون مختلفا عن تكراري المملّ ، لاني ساقول ايضا :  الانسان عظيم جدا غير انه سريع العطب . ففي الوقت الذي يمكنه الافتخار بعظمة عقله الخلاق ، يجب ان يتصف هذا العملاق بالتواضع العميق لانه في النهاية هو لاشئ بكل ما تعنيه الكلمة ، لا يجب ان تدعوه عظمته للعنجهية والتعالي والانانية ، لان احقر الاسباب واتفهها يمكن ان تمحوه عن الوجود الى الابد وبسرعة البرق . هذا كل ما جال بخاطري . ألم اقل بان ما ساقوله شئ عادي وبديهي جدا ؟!!
اريد ان اتوقف عند هذا السياج ، لاني اذا تجاوزت هذه الحدود سأقع في ارض النُصح والإرشاد ، عقار يحتكم على سند ملكيته إخوتُنا رجال الدين !!!

100
حفلة مثالية رائعة في ليلة رأس السنة

شمعون كوسا

في احدى مدن فرنسا حيث يتواجد جمع صغير من مسيحيي العراق ، أمضت العوائل سنواتها الاولى في علاقات يسودها الوئام التام ، غير ان هذه العلاقات ، تعرضت لتقلبات أفضت بها الى البرود والتباعد والنفور . بدأ الانقسام لاسباب واهية جدا ، قد تكون مثلا كلمة عادية تفوه بها احدهم دون قصد ، أو حديث سقط في سورة غضب وخرج من المهلة المقررة للندم  ، فتطورت الحالة واصبحت تشبه حيّزاً تساقطت عليه الثلوج وتراكمت يوما بعد يوم  . كل كلمة كانت تلقى تفسيرا خاصا ، وكل حركة تكتسي ثوبا غير ثوبها ، وكل بسمة بريئة تتحول الى استهزاء واحتقار وتتحول الى اهانة في قاموس العلاقات الباردة . تنتقل هذه التأويلات إما بصورة مباشرة ، أو عبر شخص ثان او شخص ثالث له مصدره الخاص ، وكل له روايته واضافاته الخاصة ، وبهذه الصورة ، ولمثل هذه الاسباب البعيدة كل البعد عن سياقاتها،  اصبح الناس يتباعدون عن بعضهم البعض ، وصار كل فريق ثابتا في موقفه رافضا اية ملاحظة توجه اليه أو إلى لَبَنِه ، حتى اذا كان حامضاً !!
إزاء هذه التجافي ، بادرَ  أفرادُ من الجانبين بمحاولة لتقريب القلوب وإعادة الحرارة للاواصر التي كانت تربط هذا القطيع الصغير . فوضعوا على المائدة اقتراحات ، واجريت اتصالات لتنفيذ مشروع يدعو الى مراجعة النفس باتجاه المحبة والتآلف . تمَّ الاتفاق على أن يُقام حفل رأس السنة في صالة تحتضن  جميع العوائل  مع اصدقائهم ، مبادرة كان لا بدّ منها لاعادة  العلاقات الى سابق عهدها . لم يكن الوِفاق سهلا ، وسط جوّ الريبة والتوجس والشروط التي كان يضعها البعض ، غير انه في النهاية قَبِل الجميع  بتاريخ الحادي والثلاثين من السنة كيوم للتلاقي في سهرة رأس السنة .
بالرغم من التفاؤل الذي وفّرته هذه المبادرة ، لم يغب عن البال جانب التدابير الاحتياطية  ، لاننا نعلم  بان الحفلات ، اينما كانت ، تصبح أحيانا مناسبات لانزلاق يتجاوز احيانا بعض الحدود ، تجاوزات لا تحتاج الى اكثر من  كلمة او حركة تجد لها تفسيرها الخاص في ذات القواميس الجديدة .
كانت السهرة تدنو من الدقائق الاخيرة الفاصلة بين السنتين ، أُطفِئت الانوار لتشييع السنة المنصرمة وإيداعها سجلات الماضي ، واضيئت الانوار من جديد لاستقبال السنة الجديدة بتفاؤل وامل . صفّق الجميع للسنة الجديدة وتوجّهَ كل واحد لاول شخص بقربه كي يصافحه ويقبّله ويهنئه متمنيا له الصحة وعارضا عليه سلة تمنياته الكثيرة والمنوعة لينتقي منها ما يناسب ظروفه ورغباته . كم كانت الفرحة عظيمة لرؤية الحاضرين يتعانقون بشوق غير مسبوق ، فيأتي الشخص الذي كان غاضبا ويعانق خصمه بحرارة ،  وبعضهم كانوا يصطدمون في توجههم السريع نحو بعضهم ، ويعود الناس للمعانقات ثانية وثالثة وتنهمر الدموع ويرتفع صوت الهلاهل ، فكان احدهم يقول للثاني : اين كنت يا رجل لقد اشتقتُ اليك كثيرا . ويجيبه الثاني : فعلا كنّا قد فقدنا عقلنا كي نعيش متخاصمين ، لاسيما واننا كنا نقطن نفس المدينة وفي مساكن غير بعيدة . وكان يقول آخرون ايضا : كانت سعادتنا في متناول يدنا ، والأهمّ من كل هذا  كان يجب علينا التفكير باولادنا فنكون قدوة لهم . وآخرون كانوا يقولون : كنا نكذب على أنفسنا ونهزأ حتى بالعقائد والقيم عندما كنا نحضر المراسيم الدينية ونتقرب للتناول بقلوب مليئة بالاحقاد ، كان يصعب علينا كسر كبريائنا ، علماً بان خطوة واحدة كانت كافية لازالة الجمود .
في هذا الجوّ المفعم بالحب والتفاهم والفرح ، سقطت تلقائيا خطط الطوارئ  واقتنع الجميع بان الجهود قد اتت بثمارها . كان القائمون على الحفل اشبه  بطاقم الفنيين الذين اطلقوا صاروخا وبعد ان استقر في الاجواء امتلأوا سعادة لنجاح عمليتهم . 
كان الجوّ مؤاتيا لينطلق كل واحد في تقديم فعالياته  في الغناء ، او سرد فكاهة ، او تقديم دور هزلي ، كانت الرقصات تتالى وتتخللها الدبكات بجميع انواعها . كان قد تم تحديد ساعة لانهاء السهرة ، غير ان الجوّ الجديد ، بخلاف ما كان يردده الشاعر العربي في حينه عن الليل عندما يقول : ألا ايها الليل الطويل الا انجلِ وما الاصباح منك بامثل ، كان يتغنى الناس باغنية عراقية قديمة كانت تقول : طولي يا ليلة طولي يا ليلة . مهما قلتُ ومهما اطلتُ في الحديث سوف لن أفي هذه المناسبةَ بما تستحقه من وصف. أجواءُ الليلة التاريخية هذه كانت عالقة في ذهني ولم أشأ ان تمرّ دون ان اكتب عنها.
بعد اختتام الموضوع وايداعه البريد المسجّل  ، سمعتُ صوتا يناديني من بعيد ويقول لي :  لماذا ارسلتَ المقال ، لماذا تسرعت في ارساله ؟ هل تعرف ما الذي فعلت وهل انت واعٍ لما كتبت ؟ هل يا تُرى كنت نائما أم حالما ، ام ثملا أو غائصا في الخيال كعادتك ، الا ترى بانك بان مقالك باكمله هو مغاير تماما لواقع السهرة وحقيقتها ؟
دعاني النداء هذا الى برهة من الصمت كي استعيد الاحداث ، فاكتشفتُ بعد فوات الاوان بان كل ما تفوّه به قلمي كان انطلاقا من شوقي العارم ورغبتي الشديدة في رؤية الناس يُمضون ليلة محبة وتآلف ، كتبت وانا احلق سعيدا في خيال بعيد عن الواقع . كنت احلم بهذا اللقاء ، فتخيلت المجتمع المثالي ، وبقيت اردّد هذه النغمة فاقتنعت بها وتلذذت بالحانها واجوائها السعيدة .
يقال بانه في تلك الليلة ، كان قد مرّ الحبّ على باب كافة العوائل وبقي ينتظر من يفتح له . هناك من فتح له بابه وقلبه ، وهناك من جعله ينتظر ، ومن ثمّ فتح له الباب واكتفى بتعليقه على صدره كمجرد شعار . الحبّ الحقيقي اذا دخل القلب يجعل حامله ينكر ذاته ، الحب لا يَصدّ أحدا ، الحب يغفر ويستغفر ، الحب يتنازل ويتواضع ويسامح ،  الحبّ ينسى الكرامة وعزة النفس والكبرياء لان قضيته اكبر من كل هذا ، الحب يجد سعادته بسعادة غيره . اقول هذا وكأني اصلي ، اقول هذا بايمان وقناعة يصلان حد العظم ، فهل يا تُرى أجد أحداً يأبه لهذا الكلام ؟
تبلّغتُ للتوّ بنبأ يقول بان الحبّ قد مدّد اوقات مروره وانتظاره أمام الابواب . امنيتي ان اكون اول المنتبهين لذلك ، عساي ان أجني واياكم  ثماره الشهية المجانية التي توفر لنا ولغيرنا السعادة والسلام الداخلي الذي نفتقر اليه كثيرا .

101
عالم الاحلام وقصصه الغريبة
شمعون كوسا

عالم الاحلام عالم غريب ، حواسُّ الانسان ترقد عند النوم فتمسي شبه ميّته ، فتتقدم نحوها الاحلام بهدوء وتبثّ فيها الحياة من جديد . عند النوم ، توصِدُ الأبصارُ أبوابَها وتغلق الآذان مسامعها ، فتأتي الاحلام غير آبهة بشئ ، تبدأ دوامها فاتحة أبواب مسرحها وكأنّ الشخص النائم  هو ممثلها المكلف باداء دور اضافي في الليل . يا تُرى ما هذه القدرة التي تمكّن الانسان من أن يرى ويسمع ، وينطق ويتحرك وقد ماتت كافة حواسه ؟
انا من بين الناس أحلم كثيرا ، والساعات الثمان التي اقضيها في النوم مشغولة باكملها بالادوار التي توكلها إليّ الاحلام ، غير اني غير قادر على خزن أكثر من أربعة او خمسة احلام أرويها في الصباح قبل ان يزول مفعولها . هناك من يقولون بأنهم لا يحلمون في الليل ، هؤلاء يحلمون ولكنهم لا يتذكرون احلامهم ، ومَثَلهم هو مَثل من يحضر عرضا سينمائيا وهو نائم في الصالة . الاحلام هي كالافلام السينمائية التي تعرض في صالات غير منظورة . فالعالم  يشهد ليليا عشرات المليارات من هذه العروض التي يحضرها كل انسان ، احلام نراها طويلة ، غير ان بعضها لا يستغرق اكثر من دقيقة او دقيقتين. 
لقد اعتدتُ على استهلال أكثرية مواضيعي ببعض الروايات والقصص ، فالقصص هنا هي نماذج مختصرة لبعض احلام  حضرت عروضها في منامي ، واذا  جمعتها كلها ، فانها تعادل عروض ليلتين فقط .  لقد انتقيتها منوّعة ، فجاءت كالتالي  :
رأيت نفسي مرّة وسط قوم قد افترشوا الارض وجلسوا بشكل دائري حول كؤوس يحتسون الخمرة . كان القوم قد طابت نفوسهم فبدأوا يغنّون ، جذبني الحشد المنطرب ،  فجلست معهم دون الحاجة الى مناداة او دعوة ، لم أجد نفسي غريبا بينهم ، واصبحتُ تلقائياً أحد ندمائهم ،  فبدأت اشاركهم المأكل والمشرب والغناء . كان السّجال محتدما في الغناء وكلّ نديم ينتظر دوره لاضافة مسحته على اللحن والموّال . عندما بلغني الدور ، انطلقتُ بقوّة وشرعت بالارتقاء قليلا فقليلا إلى ان بلغت الطبقات العالية . لم أقطع الغناء الا عندما قامت زوجتي بفتح الباب للجيران وعادت تقول  لي : ما بالك تحلق بهذا الصوت العالي ، لقد نزل الجيران مستغربين وطلبوا مني خفض صوت المذياع لانهم لا زالوا نائمين . كان صوتي قد تجاوز حدوده وخرج من نطاق الحلم دون علمي ، فاستيقضتُ من حلم كان اشبه بالافلام ثلاثية الابعاد أو رباعيتها .
وفي حلم آخر ، رأيت نفسي وقد جمعتني الاقدار مع جدي شابونا ، والد أمّي . فرحتُ كثيرا للقائه لانه كان جدّي وايضا لانه كان شخصا طيب القلب وخفيف الظل ويحب الناس لا سيما من كان بينهم منشرح الصدر . كان يجنح لمعاشرة الناس ومشاركتهم افراحهم ، ولا ينزعج ابدا اذا تزينت افراحهم ببعض كؤوس نصف مملوءة من النبيذ !!  كان قد توفي منذ عشرين سنة . عندما رآني عانقني بقوة وقال : أهلا بك يا حفيدي العزيز ، لا تقل لي بانك قصدتني هنا بيد فارغة ؟ كيف لم تفكر بجلب قنينة خمر معك لجدّك الذي أحب الكرمة وعصائرها المختمرة ؟ قلتُ له ، يا جدّي العزيز ، ألم تغادرنا الى العالم الثاني ؟ ألا زلت تشرب هنا ؟ أيسمحون لك بذلك ؟  قال لي ، هذا ليس من شأنك ، اذهب وأحضر ما طلبتُه منك. تركته وانطلقت هائما على وجهي ، لاني  لم اكن اعلم اين كنت وكيف وصلت مقرّ جدي . كنت اقول في طريقي ، لماذا ارغمني على العودة الى البيت انا الذي كنت قد قطعت هذه المسافة . وكنت استغرب ايضا قائلا : أيُعقل بان جدي لم ينس الشرب حتى في هذه الجنّة ؟  لحسن الحظ ، اسعفني  مُخرج الحلم  بايصالي الى البيت بسرعة . اتجهتُ حالا الى الموضع الذي كنت قد خزنت فيه قناني الشرب غير اني لم اجد شيئا . أمضيت الليل بالتفتيش في ابعد الزاويا ، وحاولت ان ابتاع الخمرة من المخازن غير المغلقة ، غير اني لم احصل حتى على ربع قنينة . انتهى حلمي في الصباح  دون تحقيق امنية جدي . أفقت في الصباح ،  وبالرغم من تيقني باني كنت في حلم ، سألتُ زوجتي قائلا : اين وضعتي قنانيَ الشرب ، هل قمت بتغيير موضعها ؟ قالت لي انا لم احرك ساكنا ، وما لي ومشروباتك ؟ فاضطررت لسرد قصة الحلم ووصف لقائي  مع جدي الذي لا زال ينتظر قنينة الخمر !!
في حلم آخر سردَتْه لي والدتي .  كنا نائمين فوق السطوح في الصيف ، وسطوحنا كانت قديما دون حواجز عند حافاتها . قمت ذات ليلة وانا نائم وبدأت السير عند ابعد حافات السطح وبقيت على هذه الحال لمدة خمس دقائق . قالت لي والدتي بانها كانت قد وضعت يدها على قلبها وحبست انفاسها ، كانت ترغب في مناداتي كي أعود الى الفراش غير انها كانت تخشى ألّا افزّ من النوم واهبط من فوق السطح .  بقيتِ الام تبتهل الى الله كي يمسك بيدي ويلهمني بضرورة العودة الى منامي ، وفعلا عدت الى المنام دون اية مشكلة . طبعا في الصباح عندما روت لي الحادثة لم اتذكر منها شيئا .
وفي نفس السياق ، هناك صديق اعرفه ، تقول عنه زوجته بانه كان ينهض عدة مرات في الاسبوع وهو نائم ليقوم بحركات غريبة تستغرق أربع دقائق . يتوجه الى الحائط ويبدأ بعملية قطف الخضراوات . في اليوم الاول ، معتبرةً إياه واعيا ومستيقضا ، سألته زوجته عمّا يقوم به ، أجابها وهو نائم بانه يقوم بقطف الفاصوليا !! بعد انتهاء القطف كان يعود الى فراشه .
حلمت مرّة أخرى وانا في شمال العراق . بعد ان امضيت بعض الوقت مع الاهل ، قمت لاغادر المنطقة ، ذهبت ابحث عن معطفي فلم اجده ، وبعد ثوان رأيت نفسي  حافيا ونصف عار . وأنا في حيرتي هذه ، رأيت باني في مكان آخر وأن الجميع قد اختفوا . بدأت انتقل من مدينة الى مدينة ومن بلد الى بلد . في لقطة من مساري هذا الذي لم يستقر على وتيرة واحدة ، كنت أقود سيارة . توقفت لشراء حاجة بسيطة ، وعند عودتي لم اعثر على السيارة لان الموقع كان قد تغير . لا أعلم كم استغرق الحلم ، هل كانت ثوانٍ أم دقائق ؟! ولكني كنت كالذي امضى شهورا طويلة في هذه الحالة غير المستقرة التي لم اكتشف طبيعتها الخيالية بسعادة فائقة ، الا عند الصباح .

وفي الكثير من مثل هذه الاحلام  ، كنت ارى نفسي مثلاً ، على مرتفع شاهق على وشك السقوط ، أو أكون بين يدي قطاع طرق اختطفوني ويهمّون في قتلي ، او اجد نفسي أحيانا متورطا في جريمة وقد القي القبض علي  . كان صراخي العالي ، من شدة الخوف ، هو الذي يضع حدّا للعذاب فاستعيد وعيِ لدقائق ، واذا دُعيت للعب دور من هذا النوع في ما تبقّى من الليل ، لا انتهي من معاناتي ، أم أتوصل الى حلّ لمضايقاتي ومطارداتي إلا  ساعة النهوض في الصباح .
الاحلام منوّعة ، نلتقي فيها بموتانا وكأنهم قد عادوا ولم يموتوا اصلا ، هناك احلام تجعل اصدقاءنا ينقلبون اعداء وبالعكس ، وفي الكثير من الحالات هناك امنيات أو رغبات عارمة شبه مستحيلة تتحقق فتسعدنا طيلة الليل ، وبانتهاء الحلم يزول الفرح. 
لقد قيل الكثير عن الاحلام ، لقد اعتبرها البعضُ نبوءاتٍ وآخرون أعاجيبَ  أو أحداث خارقة تحمل معاني وتفسيرات ، هكذا كان الاعتقاد في السابق والكتب ملأى بهذه الروايات ، غير اني اقول بان الحلم ليس سوى انعكاس لما نعيشه ، وما نفكر به ، وما نتمناه في يومنا الحاضر او في ايامنا التي مضت . ان ما تره اعيننا ، وتتأثر به ، او تفكر فيه ، يعود وقد أعيدت صياغتُه في الليل بشكل غير منتظم ، يأتي احيانا كما نتمناه واحيانا كما نخشاه .
قد تتحقّق بعض الاحلام ، مثل حلم القائد الذي وجد نفسه في النوم منتصرا في معركة كان عليه القيام بها في الصباح الباكر ، فاحرز النصر فعلا ، او الشخص الذي حلم بانه زوجته ستلد ولدا وفعلا انجبت له الوريث. انها محض مصادفة ، لانه ليس لقائد الحرب سوى احتمالين ، ان ينتصر او يندحر ، والولادة ايضا تنتهي باحتمالين فقط ، طفل او طفلة . إنه الحظ هو الذي حالف الحالِمَين ، والدليل على ذلك انه اذا صادف وان لم يتحقق حلمهما ، كان الموضوع سيبقى طي النسيان ولا يأتي احد على ذكره .
بالرغم من كل هذا ، يبقى أمرُ بعض الاحلام غريبا جدا ، لاننا نكون شهودا في الحلم على أحداث قد طواها الزمن وأمر بمحوها ، كأنْ نلتقي مثلا اشخاصا لم تقع عليهم انظارنا الا مرة واحدة قبل عشرات السنين ولمدة دقائق معدودة ، أو نجتمع مع اشخاص مهمين لا نمتّ اليهم بأية صلة ، أو حالات أخرى اكثر غرابة . فهل إن اللاّوعي هو الذي يستغل نومنا ليلعب على هواه ، كالولد العقوق الذي ينتظر خلود والديه للنوم ليلعب ويعبث دون انتظام فيفتح السجلات القديمة المختومة بالشمع ويّتجه الى صفحاتها المهملة القديمة ؟  موضوع شيق وعميق وفيه الملايين من القصص .






 


102
قصة العجوز وجرّتيها

شمعون كوسا

عبثاً حاولت البحث عن فضاء يقودني الى فكرة او موضوع يحرّك ساكن اعماقي فانطلقَ للكتابة بقناعة واندفاع ، حالة يشتاق اليها القلم للتحرّك مهللا لانه يبصر نهاية مساره الجميلة .
وجدتُ نفسي مرة اخرى كالارض القاحلة التي جافاها المطر وأطال في هجره ، فأمست قشرتُها ممزقةً من كافة جوانبها . ومثل هذا الجفاف  يسلب المرءَ صفاء ذهنه  فيجعله يجيل أنظاره في كافة الاتجاهات ويمدّ يديه نحوها بصورة عشوائية .  ولعبة العبث العشوائية هذه ، اسقطت يدي على مذياع قديم ، لا اعرف ما الذي كان قد دعاني للاحتفاظ به . أدرت المفتاح وفتحتُ الجهاز ، وبدأتُ أهيم فوق موجاته ، منتقلا بين اصوات صفير متقطّع ، الى ان انتهى بي المطاف عند محطة واضحة البث . قبل أن يذهب بي الملل حدَّ الرغبة في اطفاء الجهاز ، أصغيتُ قليلا الى صوت امرأة عجوز كانت تروي قصة ، لم تقل اذا كانت قد خاضت احداثها شخصيا ام كان كل ما ترويه من نسج خيالها . لدى سماعي العجوز ، أحسستُ بان افكاري عادت بسرعة البرق من الشتات وكأنها تترقب بثّ بيان هامّ على الهواء . كانت العجوز قد بدأت حديثها للتوّ ، ممّا اتاح لي فرصة متابعتها الى النهاية . روايتها البسيطة اثارت اهتمامي ، فقررت تحويرها الى مقال يعالج ترددي وارتباكي . فالقصىة إذن ليست من بنات افكاري ، غير اني بادرتُ لتبنّي احدى بناتها كي ترتبط بافكاري في علاقة بنوّة شرعية . فبِنتُ الفكر هذه تقول :

كان هناك امرأة عجوز تُمضي ايامها في قرية نائية بصحبة بقرة ودجاجتين . كانت تقوم كل يوم بتهيئة الطعام لرفيقتيها اللتين كانتا بدورهما يردّان جميلها بالحليب الذي تحتاجه والبيض الذي يؤمن قسما من وجباتها . كل صباح كانت  تتناول جرّتَيها الفخاريّتين وتتجه نحو عين ماء صافية تقع على مسافة كيلومتر ونصف من منزلها . كانت أحدي هاتين الجرّتين مفطورة بعض الشئ والثانية صحيحة لا تشكو من أي عيب .
لدى عودتها ، كانت تجد الجرّة المفطورة بنصف محتواها من الماء ، والظاهرة هذه كانت تتكرر كل يوم منذ عدة سنوات ، غير ان العجوز لم تنزعج ولم تأبه للموضوع . تقول القصة بان الجرّة الصحيحة كان فخورة بانجازها ولا تخفي ذلك على زميلتها ، فتتوجه اليها بنظرة استعلاء وبكثير من الازدراء  تقوم بلومها على الكميات القليلة التي كانت تحملها للبيت ، الامر الذي كان يملأ نفس الجرّة المثلومة مرارة ويزيدها خجلا ، لا سيما وانها لم تكن تعثر على جواب تردّ به أو تبرّر موقفها .
مرّت الاعوام  ، والجرّة المشقوقة بقيت تكبت ما في صدرها وتجترّعقدتها هذه ، دون التجرّأ على الافصاح عنها ، إلى أن قررت ذات يوم مصارحة وليّة نعمتها ، فقالت للعجوز :  لقد آن الاوان كي اصارحك بما يُثقِل صدري . انا اشعر فعلا بخجل كبير للخسارة التي اسببها لك في جرّة تملئينها أنت من الماء و أنا لا أعود بها الى البيت إلا بنصف طاقتها ، فالماء التي تأتمنيني عليها  تسيل وتضيع منّي هدراً على قارعة الطريق .
نظرت اليها العجوز مبتسمة ولم تتفوّه بكلمة . كررت الجرّة أسفها من جديد وهي تبكي قائلة : إن ما يزيدني همّاً هو انك لم تجدي حتى كلمة واحدة لتواسيني بها ، لا اعرف كيف اعوّض الخسارة . هنا امسكت بها العجوز وقالت لها : هل لاحظتِ يوما الورود الجميلة التي تزين الجانب الايسر من الطريق الذي أسلكه وإياكِ يوميا باتجاه العين . هل لاحظت بان الجانبَ الايمن خالٍ من أية نبتة ؟   لاتعتقدي باني لم ألحظ حالتكِ ، لقد رأيت كمية الماء الضائعة من اول يوم باشرتِ فيه العمل . لم افكر يوما في إنهاء خدماتكِ لاني اهتديت الى استثمار العيب الذي فيك ، فقمت بزرع الطريق ببذور من مختلف انواع الورود ، وقررت بان تكوني انتِ التي تقومين بسقايتها ، وكان يتمّ ذلك فعلا دون علمك.
طيلة السنتين السابقتين ، كنت اقوم بقطف باقات من هذه الزهور لأزيّن بها المائدة . فاذا كنتِ جرّة صحيحة لا تسيل منها قطرة ماء ، لما تمكنت من سقاية هذه الورود الجميلة التي تزين الطريق لنا وللمارّة ، فتساهمين بهذا في زيادة جمال الطبيعة وفي توفير باقاتنا الجميلة داخل المنزل . يجب ان تمتلئي فخرا لانك لم تُضِيعي قطرةً واحدة من الماء الذي كنت تحملينها ، لانك عِبر نصف كميتك الضائعة كنت تقومين بخدمة جليلة خارج البيت . يجب عليك إذن ان تردّدي هذا الامرعلى مسامع زميلتك لكي تضع حدا لاستعلائها وتكفّ عن احتقارك .
انتهت القصة البسيطة هنا ، فهل احتاج الى اضافة لمسة شخصية عليها ؟ باعتقادي يجب ان اترك القصة ببساطتها لئلا أمسس جمالها بكلمات نابعة من خيال لم يكن مستعدا للكتابة . فالمغزى واضح : ليس كل عيب او عوق في الحياة عديم الفائدة ، فاذا اندمج المعوّق او الناقص مع المجتمع الذي فيه ، فانه سيجد اشخاصا مثل هذه العجوز ليجدوا له ، بحنكتهم ، دوراً مميزاً قد لا يقوى غيره على القيام به  . لا نلومنّ قطّ من نجدهم اقلّ منّا ، لانهم قد يساهمون احيانا اكثر منا في خدمة المجتمع .  هذا ما اسمح لنفسي بقوله ، تفسيرا لحكمة العجوز التي لم تكن بحاجة الى تفسير !!
 

103
السرقات تعيش عصرها الذهبي

شمعون كوسا

بعد عودتي الى البيت من الجلسة التي جمعتني مع صديقي القادم من اوربا ، تذكرت امرا مهما كنت قد ادرجته في السطر الاخير أسفل جدول اعمالنا ، فاتصلت به هاتفيا عند المساء قبل ان ينام ، وكانت اول كلماتٍ ردّ بها  : ماذا تريد مني ، الا يكفيك كل ما امتصصته من أخبار ؟  أجبته : بقي لي شئ بسيط جدا ، هل لك ان تحدثني باقتضاب عما نسمعه هذه الايام عن حالات السرقة في فرنسا ؟
ضحك صديقي وقال : وهل تعتبر هذا الموضوع بسيطا ؟ انك فعلا تنتقي مجالات كنّا نعتبرها عابرة في حينها ولكنها الان اتّخذتْ منحىً آخر واصبحت شبه مزمنة . إنك تحرجني بطلبك هذا ، لاني فعلا لا أعرف من اين سأبدأ واذا بدأت أين سأتوقف . يا صديقي لقد اضحت السرقة مهنة رائجة في فرنسا ، وقد تستغرب اذا ذكرتُ لك ما تقوله التقارير عن هذا الموضوع ، لان البلد يشهد حاليا سرقةً كلّ (دقيقة ونصف) ، وآخر الاحصاءات لسنة 2012 تشير الى اكثر من 368000 حالة سرقة بالنسبة للبيوت ، واكثر من 62000 بالنسبة للمخازن والمحلات .
إن السرقات تتمّ في ايامنا بكثير من الفنّ والبراعة . تُقاد العمليات في وضح النهار ، ويقال بان السارق لا يستغرق اكثر من عشرين دقيقة في عمله الخيري هذا !!
إنك تتوقع مني الان ان اختار لك نماذج من هذه الحالات ، هذا ما سأقوم به طبعا ولكن تأكد بان ما ستسمعه ليس سوى حفنة واحدة مما تحويه بحيرة كاملة . إسمعني اذن :
قال لي صاحب مطعم أعرفه  بانه ، لدى عودته الى البيت في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر ، رأى باب البيت مفتوحا . دخل البيت مذعورا ، فتقدم نحو الغرف واكتشف بان البيت برمته قد انقلب ظهرا على عقب ، الثياب مبعثرة والاجهزة ازيحت من مكانها والاثاث قد اختلفت اتجاهاته . لم يعد في البيت شئ على حاله . أسرعَ الى الطابق العلوي ليطمئن على ثروته الصغيرة المعطرة بعرق جبينه ،  ولكن جمد في مكانه لدى رؤيته موقع الخزانة الحديدية الصغيرة فارغا ، وهو في حالة انجماده هذه سمع زوجته تصرخ من غرفة النوم قائلة : لقد سرقوا الذهب ولم يتركوا شيئا  .  كان السارق رجلا اصيلا ، فانه بالرغم من تفحّصه البيت وعبثه بكل شئ وفي كافة زواياه ، لم يمسّ لا جهاز الحاسوب  ولا التلفاز ولا الهاتف النقال ولا اي جهاز ثمين آخر ، مهمته لهذه المرّة كانت تقتصر على عملية جمع الذهب والمال وتحويلهما الى موقع مجهول آمنٍ !!  تمّ ابلاغ الشرطة التي ما ان قدمت بدأت تتفحص الابواب والشبابيك ، ولكنها وجدت نفسها في حيرة امام كيفية  دخول السارق الى البيت دون تكسير او خدش ، وحتى انه لم يترك أية بصمة أو أثر آخر ، كالزائر الخفيف الحريص على عدم ازعاج اهل البيت . افلح الزائر الخفيف هذا  في رفع الستار الحديدي الخارجي وبعد ان فتح الباب دخل الدار كالساحر ،  ولدى خروجه ترك الباب مفتوحا .
سُرّاق عصرنا متخصصون بالذهب والمال . والوسائل العصرية الحديثة مؤايتة لهم في تنفيذ  مثل هذه المهامّ .  في حالتنا هذه مثلا ، يقف سكرتير رئيس اللصوص أمام المطعم ويراقب حركات صاحب الدار  ويتابع سكناته ، وبالهاتف النقال الذي لا يفارق يده يوجه مدير الحملة الخيرية ويطمئنه قائلا :  استمر ، كل شئ تحت السيطرة .
  تم افراغ بيتين آخرين من المال والذهب ، لشخصين نعرفهم ، بنفس هذه الطريقة والخفة . 
يُعزى ازدياد هذه الحالات الى دخول اعداد كبيرة من رعايا الدول الشرقية الى فرنسا ، لا سيما الغجر القادمين من رومانيا وبلغاريا . يقال بان قسما كبيرا من هؤلاء مرتبطون  بشبكة واسعة تلقّت تدريبا خاصا لهذه الاغراض .
 عندما نتحدث في الصباح مثلا عن سرقة وقعت في المكان الفلاني ، يبدأ الحاضرون حالا بالتحدث عن حالة او حالتين او ثلاث عن نفسهم او اقاربهم ، جيرانهم او اصدقائهم ، بحيث اصبح الامر لا يثير استغرابا لدى الناس . 
ونسمع الكثير من هذه الحوادث مع العجائز اللواتي يمكن الاحتيال عليهن بسهولة .
أما عمّا يجري في المخازن والمحلات في هذا المجال ، فان نشرات الاخبار في هذه الايام تكرّس زاوية خاصة لها . لقد تحدثوا هذه الايام عن صائغ تعرض عدة مرات للسرقة ، وفي آخر مرة ، بعد ان تلقى ضربات شديدة ، وبعد سرقة كافة ما كان يحويه محله من مجوهرات ثمينة جدا ،  ركب دراجته النارية واطلق النار على السارق الهارب من بعيد فأرداه قتيلا . تمّ القبض على الصائغ ويقال بانه سيحال الى المحاكم . تعرّض هذا المسكين للضرب وكاد ان يموت ،  وبالاضافة الى ذلك فَقَدَ كل ما كان قد جمعه منذ سنوات، والآن سيعاقب لانه دافع عن ماله وحياته ، وطارد سارقا قالت عنه الشرطة بأنه  صاحب سوابق ، فقد مرّ أمام القضاء  خمس عشرة مرة على الاقل قبل هذا الحادث .
ان تكرار هذه الحوادث جعلت شركات التأمين ترفض طلبات بعض الزبائن . هذا حدث مع احد باعة السيكاير ، لان بيع السيكاير تجارة تخصصية هنا . بعد تعرض البائع لثلات سرقات ،  رفضته شركة التأمين ، فاضطر الى التوجّه نحو مهنة لا تغري اللصوص .
وهل اكلمك عن حالات انتزاع الحقائب في الشارع او سرقة حافظات النقود ، لقد كثرت هذه الحالات امام متحف اللوفر الذي يؤمّه السواح في باريس ، بحيث ان الشرطة هي التي تقوم الان بادخال الزوار الى المتحف .
البارحة كلمني احد الاصدقاء عن أحد عمّاله .  في نهاية دوامه ، عرّج العامل على السوق لشراء حاجة . قبل ان يدخل الى السوق دنا منه شخص يبكي ويقول : ارجوك ساعدني انا في حاجة مُلحّة لاجراء مكالمة هاتفية مع اهلي لامر في بالغ الاهمية ، لقد تعرضت لسرقة وتمّ اختطاف هاتفي الشخصي . رفض العامل اعطاءَه الجهاز ، غير أن صاحبنا بدأ يتوسّل وبكاؤه تحول الى نحيب ،  فأشفق عليه العامل وناوله الهاتف . تظاهر صاحبنا الباكي بمهاتفة اقربائه ، غير أنه عند تناوله الهاتف بدأ ينزوي ويبتعد ، وعندما رأى نفسه على بعد مسافة لا بأس بها ، اقلع كالطائرة باقصى سرعته ، ولم يستطع صاحب الهاتف من اللحاق به . كان الهاتف جهازا ثمينا من آخر صيحات هذه الصناعة .
لقد قيل إن شرَّ البلية ما يضحك ، فاسمع هذه الاخرى . دخل صاحب شركة الى مكتبه وبعد قليل رفع رأسه نحو لوحة المفاتيح ، فوجد مفتاح احدى الحفارات ناقصا .  لم يفكر بالامر كثيرا ولم يهتمّ لانه كان يحتفظ بنسخة ثانية . بعد يومين ، اكتشف بان الحفارة نفسها كانت قد اختفت . ابلغ الشرطة وهذه الاخيرة لم تنتظر كثيرا للعثور على الماكنة ، لان السارق نفسه كان وضعها امام المركز ، بعد ان قام بتحطيم  زجاج سوق مركزي مهم وسرق ما لذّ له وطاب !!
وفي حادثة اخرى في بقالية نعرف صاحبتها . دخل البقالية احد الشباب من الدول الشرقية ، وبعد تفقد بعض السلع الغذائية ، طلب من صاحبة المحل بلطف شديد اذا كان بوسعه القيام بغسل يديه ، كان المغسل في الجهة الخلفية من المحل . وقع نظرُ الشاب على حقيبة نسائية هناك ، فتناولها واخفاها في ثنايا المعطف الذي كان يحمله ،  وترك البقالية شاكرا صاحبة المحل بابتسامة عريضة . لم تنتبه المرأة لسرقة حقيبتها إلا عند انتهاء الدوام . اول ردّ فعل لها كان وضع اصابعها على رأسها لائمة حالها وطالبة من الرماد أن يغطّيَ رأسها !!  . حقيبتها كانت تضمّ في جيوبها الداخلية نقودا واوراق وهوياتٍ وبطاقات اعتماد . كان الشاب اللطيف هذا مواطنا شريفا من احد الدول الشرقية!!
وسأكتفي بسر حادثة اخرى بدأت احتيالاً وانتهت سرقةً . كان احد الاشخاص واقفا عند الصراف الآلي يسحب مبلغا من المال . ادخل بطاقته وكبس على ارقامه السرّية الاربعة ولكن الجهاز لم يتجاوب وامتصّ البطاقة . أعاد صاحبنا الكرّة ولكن دون جدوى . كان بالقرب منه بنت جميلة تنتظر دورها ، عندما رأت مشكلة اخينا  دنت منه وقالت : لا تخف ، ان مثل هذه الحوادث عادية جدا ، سأقوم بمساعدتك في اخراج البطاقة . طلبت منه الكبس على زرّ احمر ومن ثمّ إدخال رقمه السرّي ، فقام بالعملية على مرأىً منها ولم يحصل على اية نتيجة .   بعد خمس دقائق من التأسف ابتعدت البنت قليلا ،  وعندما رأت صاحب البطاقة قد ترك الموضع يائساً ، عادت الى الجهاز واخرجت القرص الصغير الذي كان يعيق السحب واخرجت معه البطاقة . في اليوم التالي لم يجد صاحبنا بطاقته داخل المصرف  وعلم بان البنت وشركاءها كانوا قد افرغوا البطاقة من محتواها وقاموا بتحميلها الاف اليويوهات على رصيد اصبح مكشوفا . كانت هذه البنت الانيقة عضوا في شبكة احتيال لها طرقها واساليبها .
إن موضوع السرقات هو كالقصة التي لا تنتهي ، او الكتاب الكبير الذي تقلب صفحاته وتجد نفسك دوما وكانك في البداية.  انه خط طويل جدا لا تقوى حتى زرقاء اليمامة على رؤية نهايته . وانا أقول إذا بادر احد المؤمنين بسرد هذه الحوادث دون توقف ،  فانه يحتاج الى عدة آذان لسماع ما يقوله لان الاذن الواحدة ستمتلأ وتتعب بسرعة !!
عند هذا ، توقف صاحبي وقال : هل ستطلق سراحي الان ، ام تحسب نفسك في  حكايات الف ليلة وليلة ؟!!
ختاما نقول : الوضع المتفاقم في فرنسا ناجم ايضا من السهولة  التي يتعامل فيها الحكام حاليا مع مرتكبي مثل هذه الجرائم . انهم لا يلاحقون القاصرين ، وذاهبون الان للتخفيف عن الاحكام التي تقل عن خمس سنوات . ان السرقات كانت موجودة منذ البدء ، وقد يبرر الشرع بعض السرقات الصغيرة اذا كان مرتكبها شخصا جائعا لا يملك ما يسد رمقه ، ولكن سرقات هذا الزمن فريدة في موضوعها واهميتها وأساليب تنفيذها  .

104
ظروف هنا وظروف هناك وازمنة في الذاكرة

شمعون كوسا

كان عليّ لقاء شخص عزيز لم احضَ برؤياه منذ سنوات ، فاتّفقتُ معه على  زمان ومكان  هذا الموعد ، فالزمان كان صباحا ،  اما المكان ، فانه كان موقعا بديعا اخشى الدخول في وصفة لئلا اتعرض لاحتجاج يتقمص جسد توبيخ فيقول  : لقد بدأ السيد كعادته يهدهدنا في قارب لا يتوقف عن الذهاب والاياب كالمكوك ، الى ان يغلبَنا النعاس ، أليس من الافضل له ان يبدأ حديثه من الاخير ؟  
هذا هو اذن موضوعي :
بعد السلام والسؤال واعتدال الاوقات ( ديباجة كنا نبدأ فيها رسائلنا في زمن كنّا لا زلنا نتواصل بالرسائل) ، وجّهت لصديقي السؤال التالي :
لقد بلغني بانك امضيت سنوات عديدة في اوربا وبالتحديد في فرنسا ، فضولي يدعوني للاستفسار عن احوال ذاك البلد في هذه الايام ، هل لك ان تحدثني قليلا عن ظروف الناس ومعيشتهم .
رفع صديقي رأسه وابتسم قليلا وقال : ان اوربا بقعة جميلة حباها الله بمناخ يضاهي بعض مناخ الجنة ، ووَضعَ فيها  من الخيرات ما كان يُفترض ان تجعل الناس يعيشون في هناء ورغد ، غير ان البلد يمرّ الان بظروف اقتصادية لا يُحسد عليها . ظروف قادت ساسَتهُ الى فرض سياسة التقشف المتمثلة بزيادة الضرائب بكافة انواعها ، ومضاعفة الرسوم ، وتعزيز الاستقطاعات ، واستنباط طرق جديدة لامتصاص ما يجنيه الناس . حصة الدولة تمثّل تقريبا نصف ما يكسبه اغلب العاملين وذوي الدخل . ان الدولة ترقب بصورة خاصة اصحاب الشركات ومستخدميها ولا تترك لهم فرصة لاقتناء بعض المال دون محاسبتهم .  وانا اتخيل بعض هؤلاء ، ممّن تلاحقهم الدولة حاليا ، يقولون لها : لماذا تقومون بسلبنا ، لقد كسبنا هذا المال بعرق جبينا ، لم نعثر عليه في الشارع ولم نسرقه ؟ واذا بالردّ يأتيهم بالعبارات التالية :
إذا لم نعتمد عليكم ، من اين سنأتي بآلاف اليوروهات التي علينا صرفها للوزراء ومستشاريهم ومعاونيهم الذين يزداد عددهم عاماً بعد عام ؟ وكيف ندفع لملائين الموظفين ، ولا سيما الكوادر منهم الذين ، لولا تواقيعهم ، تتوقف كافة المعاملات !! . وكيف نقوم بتلبية حاجات المواطنين المعتمدين على المساعدات الاجتماعية ؟ وكيف نوفّر مخصصات العاطلين الذين يرفضون العودة الى العمل ، لان العودة الى عملهم يحرمهم من الكثير من الامتيازات ؟ يجدر بالقول هنا بأن الحكومة تتحاشى التحرش بهؤلاء ، وحرمانهم من امتيازاتهم او اخضاعهم للضريبة، خشية فقد اصواتهم لدى الانتخابات !!
 لقد اثقلتِ الحكومة فعلاً كاهل ارباب العمل وارهقت العاملين فيها بضرائبها القديمة والجديدة ، وجعلت اصحاب رؤوس الاموال يتبرّمون منها . بسياستها هذه ، تسعى الحكومة الى تخفيض نسبة دَينها الباهض ، وخفض عجزها المتزايد ، في وقتٍ لا يرضى نموّها الاقتصادي مُبارحةَ نقطة اختارها عند خط الصفر ،  واذا حاول التحرك قليلا فانه يميل الى الهبوط . هذا هو باختصار وضع هذا البلد .
لقد عمد الكثير من اصحاب الشركات الى تسريح موظفيهم  والتخلص من اعباء مستحقاتهم ، والبعض منهم اعلنوا الافلاس ، والبعض الاخر ترك البلد وهاجر أو نقل مصالحه الى بلاد لا تطالبه بمثل هذه الضرائب . الغالبية العظمى من الناس تعيش حالات صعبة من التوتر والقلق والخشية من غدٍ غير مضمون .
كانت دهشتي كبيرة لما سمعته ، فاحتفظت باسفي الشديد داخل نفسي ،  وانتقلت الى السؤال الثاني  :
سمعتُ بانك كنت قبل شهر ونصف في زيارة الى شمال العراق ، هل لك ان تحدثني هنا أيضاً عن ظروف الناس واخلاقياتهم  ، لاننا نسمع كثيرا عمّا قد يكون صحيحا او مُبالغاً به احياناً .
هنا ، تزوّد صديقي بنفس عميق ،  وقال لي دون أية ابتسامة : لا اعرف من اين ابدأ كلاما قد يطول كثيرا ، في يوم يجب عليّ الاختصار . ساكتفي بسرد حالتين بسيطتين من دون تعليق ، لانهما ستعطيانك فكرة كاملة عن الناس وحالتهم وتصرفاتهم .
  فكرتُ في مفاجأة صديق عزيز لم تجمعني به الظروف منذ زمن طويل . اتجهت اليه دون موعد ،  وعندما رأيت الباب مفتوحا دخلت على رؤوس اصابعي كلصّ محترف  . عندما بلغتُ الصالة التي كان جالسا فيها ، توقفتُ في مكاني  لاعالج خفقان قلبي الذي كانت تشتد دقاته  من شدة الشوق ، وكانت عيوني قد بدأت بترطيب مآقيها تسهيلاً لسريان دموع فرح كان قد بدأ الرتل الاول منها بالحركة . وقفتُ انتظر صديقا يهبّ نحوي ويهجم عليّ شوقا ويحتضنني بحرارة وصوت عالٍ ، ولكنه كم كانت دهشتي كبيرة وخيبة املي أكبر عندما لم اسمع من صديقي العزيز غير كلمتين خرجتا من فم ممتعض يعلوه جبين مقطب : (هل هذا وقتك الآن ، ومن دعاك لتأتي عندي )؟ حفنة الدموع المكلفة بالانهمار فرحا ، انقلبت حزنا وسرت ساخنة وبغزارة .
انسحبت بصمت وانحنيت كما كان ينحني الخدم عند تركهم دواوين السلاطين ، وتركت بيت صديقي بقلب مكلوم لان الشخص كان قد تغيّر . فهمت بعد ذلك بان صديقي كان منهمكا ، مع احد التجار ، في صياغة بنود صفقة مهمة .
ومرة اخرى خلال اقامتي هناك ، وفي غمرة حديثي  مع احد المعارف ، سألتُه عن اخيه وقلت : وما هي آخر اخبار اخيك وكيف صحته ؟ قال لي بشئ من الحرج ، هل تصدق باني لم اسمع عنه منذ شهرين . قلت له أيعقل هذا الكلام ، وانك تعيش في هذا المحيط الضيق على بعد مائتي متر من بيت اخيك ؟ قال لي : (انا دائم الانشغال ولم يَعُد لي متّسع من الوقت كالسابق)  .  هل بوسعك التصوّر باني أنا الذي  قمت باعلامه بان اخاه كان قد تعرض لنوبة قلبية قبل شهر ؟! . لم اشأ التعليق كثيرا وقلت له كان الله في عونكم جميعا.
لقد استخلصت من هاتين الحالتين ومن مجمل ما كنت ألاحظه يوميا ، بان الناس منغمسون لحدّ أنوفهم في ادارة اموالهم ومقتنياتهم .  هل تحتاج هاتين الحالتين الى تعليق ؟!!

بعد هذا إلتفتُّ الى صديقي وقلت : رحِمَ الله تلك الايام التي كنّا نعيش فيها ليومنا . هل تتذكر عندما كنا نتفق ، نحن شلّةَ الاصدقاء ، على شراء قنينة عرق محلي لا مركزي (ابو كلبجة) ، لنُغرِق فيه همومنا ، وننصرف للحديث عن الحياة ، ونتغنى بجمالها ،ونسترسل في سرد الفكاهات ، وننطلق في زجل في الشعر والغناء ،  وكل واحد يستمد لحنه من نسمة ، أو شجرة ، او طير يحلّق في الجو ، أو جبل بعيد أو اي شئ آخر في الطبيعة الخلابة. كنّا نكتفي بتوفير قيمة ذاك الشراب ولم نكن نأبه لما يخفيه لنا الغد ، لاننا كنا نعتمد على بعضنا البعض ونؤمن واثقين بان للغد مدبّراً . كنا نشرب ونأكل ونغني ونتبادل الاحاديث الجميلة ، ونستعرض مشاكل اصدقائنا وجيراننا ، ونهبّ لزيارتهم والاسهام في مساعدتهم . وبعد هذا نعود الى البيت ، فنضع رؤوسنا على الوسائد ، ونخلد للنوم دون الخوف من كوابيس او احلام مزعجة ، لانه لم يكن لنا سفن تغرق ولا عمارات تنهار او عقارات نتاجر بها .
 كان الانسان سعيدا في تلك الايام  ، لانه كان يرضى بما هو مقسوم له في الحياة ، ولم يبنِ يوما  سعادته على تكديس فاحش للاموال . كان الانسان آنذاك يكتفي بالقليل لانه لم يكن يحتاج الى اكثر من حبّ يملأ قلبه ، لان سعادته كانت روحية . اما انسان هذا الزمان فلأن سعادته مادية محضة ، فهو لن يشبع ابدا ولن يحصل على راحة البال ويبقى راكضا وراء هباء . ولا شئ يملأ فراغه ، لانه سيبحث دوما عن المزيد .
أرى ان حديثي سيطول ، وخشيتي في الخاتمة ايضا تتأتّى من ألاّ يكون وقع مثل هذا الحديث كوقع إبرة تُزرق في ساق من خشب !! ، ولاجله ساتوقف هنا مع حنيني الى ظروف جميلة ستبقى في الذاكرة .




105
المنبر الحر / يا جارة الوادي
« في: 14:24 18/08/2013  »
يا جارة الوادي
شمعون كوسا

قادتنا الحافلة نحو وادٍ سحيق يحتضن بحيرةً جذابة ، موضعاً يؤمّه الناس لجمال بيئته. كان ذلك في صبيحة احد ايام الصيف التي تعهت الأرصاد بابقاء الجوّ نقيا بسماء صافية . كنت مع جمع من الاصدقاء والمعارف . كان الوادي يوفر في ذلك النهار كل ما تمناه الشاعر في حينه من ماء وخضراء ووجوه حسنة .. . رأيت صخرة بارزة  غير بعيدة ، فاتجهت نحوها وجلست . وكالعادة التي تدعوني للهرب نحو الاعالي ،  لم احتج هذه المرّة لارفع رأسي لان السماء الزرقاء كانت قد انعكست وحطّت في البحيرة الصافية بكامل بهائها .  بعد ان فرغت من  تمشيط منطقة الوادي ، قلت في نفسي : هل يمكنني ان اجاور الوادي دون ان اتذكر جارة الوادي التي ناداها العملاقان عبدالوهاب وفيروز في اروع لحن واجمل كلمات وباصوات لم تبارح القمّة يوما.
لم تغِب هذه الاغنية يوما عن بالي ولم ابتعد عنها ، أغنية احببتُها منذ صباي ، واطربتي في شبابي وذهبت بي حدّ الهوس بحيث غنيتها في اماكن محظورة عليّ ، وفي عقودي المتقدمة الحالية ، لا زالت تخلق داخل نفسي ذات الاحساس بالسعادة . رنّت الاغية من جديد في آذاني ، فتمتمت بعض كلماتها ودندنت بيتها الاول ، ولكني لم اتمالك نفسي فالصوت انطلق عاليا وبصورة تلقائية . وبما ان هذه الرائعة لا يمكنها  ان تدع سامعيها صامتين ، بدأ الجميع بمرافقتي في بعض ابياتها تاركين لي معالجة  منعطفاتها الصعبة . كان الكلّ يغني بحماس وباندماج ، وعند آخر كلمتها ، انطلق الجميع في تصفيق حار . 
بعد برهة صمت ناداني احد الاخوة قائلا : لماذا هبطتَ بنا يا اخي بعدما كنّا نرفرف معك عاليا بعيدا عن الدنيا ؟ لماذا نزلت سريعا وعُدتَ بنا الى الارض وسط مشاغلنا وهمومنا وهواجسنا ؟ هذا الكلام عن هموم الحياة اثار فضولي في تنفيذ فكرة كانت تراودني منذ فترة ، وهي  اجراء مقابلات سريعة مع بعض الناس لاجعلهم يصارحوني بما يخطر ببالهم وبما حمّلهم الدهر من معاناة وغبن ومضايقات ومتناقضات أو صدمات .
فاتحتُ بالفكرة أقربَ شخص إليّ ، فرأيته يوافق بحماس وكأنه كان يترقب فرصة لأطلاق مكبوتاته . تكلم عن موضوع قديم يدعو لحيرةٍ وأسفٍ شديدين ،  فبدأ قائلا : يا سيدي لقد احتلت الانانية والمصلحة الخاصة المكانَ الاول لدى الكثير من الناس بما فيهم الاهل والمقرّبين . ارجوك اصغ إليّ : تسهيلا لاجراءاتٍ تتعلق بتوزيع التركة ، اضطررت لتنظيم كفالة عامة باسم احد اخوتي . كنت اقطن بعيدا ، فقمت بالتوقيع بثقة واطمئنان على كافة الاوراق اللازمة . لم تمرّ سوى ايام معدودة عندما سمعت بان الاخ الوكيل ، وبتحريض من بعض افراد العائلة ، أقدم على تسجيل دار والدي باسمه الشخصي . انها صدمة اعيشها منذ سنوات . الدارُ مستثمرة منذ ذلك التاريخ وقد اكتسبت الان قيمة خيالية  ، اليس هذا غبنا او بالاحرى ظلماً ؟
شجّعَ هذا الحديث شخصا غير بعيد ،  وقال : كنت قد اقرضت مبلغ مال مهم لاحد الاصدقاء ، والعلاقة الوثيقة التي كانت تربطنا منعتني من مطالبته بوصل امانة.  مضت الشهور والسنوات. فاحتجت فعلا الى المال . فاتحتُ صديقي بالموضوع بكل لطف ، غير انه انكر عليّ الدَّين باكمله وقال : انك لا تملك ايّ دليل على ما تقول ، انا لست مدينا لك ، وافعل ما يحلو لك .
وفي نفس السياق ، قال لي شخص آخر : انا لم اعد أومن بالصداقة بعد النهاية التي عشتها . هل تتخيّل بان صداقة وثيقة طويلة تبدأ بالفتور ، ثمّ تتعرض للبرد ، فتنجمد وتتحول الى عداوة ؟ لقد اكتشفتُ بعد فوات الاوان بانها كانت علاقة مبنية على المصلحة ، وفي حالات كهذه ، للطرف الاناني استعداد للتخلي عن كافة التزاماته  لانه قد رأى مصلحته في مكان آخر .
وقام شخص آخر  وقال : تألمت كثيرا لرؤية بعضاً من اصحابي لا يشاركوني الفرحة بتفوق اولادي في الدراسة . تألمت عندما تيقنت بانهم يمتلأون حزنا  لدى سماعهم بنجاحهم السريع . تحوّل ألمي الى صدمة عندما علمت بعد ذلك بانهم ينسّقون اوقاتهم في ابتهالات حارة يوجهونها الى قوّة الشرّ التي يعبدونها كي تكتب لهم الفشل . لا افهم   كيف يبلغ اناس ناضجون هذا الحدّ من الحقد والغيرة الدنيئة .
وانتقلت الى شخص آخر،  قال : لقد قمتُ بمساعدة أناس مقرّبين لي ، حيث كنت اغدق عليهم المال دون حساب  وكان ذلك فعلا من دواعي سروري لاني كنت متمكنا من ذلك . دارت الايام وتغيرت الظروف فاصبح من كنت اساعدهم ميسوري الحال يحتكمون على اموال طائلة . كم كان بودّي أن يسألوا عن احوالي أويعرضوا علي فقط مساعدة كنت حتما سارفضها بإباء ، حتى لو كنت بحاجة اليها .
وقال شخص آخر : اصبت مؤخرا بعجز كلوي كاد يودي بحياتي ، لاني كنت اخضع لعملية غسيل  ، ثلاث مرات في الاسبوع  . قادتني حالتي الى اوقات كانت تعصف داخلي رياح سوداء تقود يأسي الى خطوط حمراء . . طيلة هذه الفترة لم يتصل بي احد من الاقارب ، ولم يقل لي احدهم ، ولو مجاملة أو كذباً بانه مستعد لانقاذ حياتي باحدى كليتيه . هؤلاء ، حالما سماعهم بحصولي على كلية وبعدما تركت المستشفى ، هبّوا لزيارتي وامضوا عندي اياما طويلة ضيوفا ثقلاء . 
وانتقلت الى شخص بجانبه ، فقال : أنا أتألم لمعاشرة اناس قصيري الذاكرة ، اناس قمت لهم بخدمة مهمة لم اكن اتوقع ان ينسوها طيلة حياتهم ، غير انهم نسوها وانكروا الجميل ، بحيث انهم عندما يلتقوني يُلقون عليّ التحية كما يفعلون مع رجل غريب .
والشخص الذي يليه ، تناول امرا كان قد اثار استياءه  فقال : إن كاهن رعيتنا يُولي اهمية بالغة لزياراته . ففي اليوم الذي قرر زيارتنا ، بلّغنا مباشرة بالمشويات التي يفضلها في وجبة غدائه ، وعَلِمنا من بعض الاصدقاء بانه يتوقع دوما ان يُكرّم في نهاية زيارته بمبلغ مناسب من المال  . لكي أحفظ ماء وجهي امام الناس ، اضطررت لاستدانة مبلغ من المال كي اكون اهلا لاستقبال رجل الدين . امتزج اسفي مع ندمي عندما رأيت هذا الرجل الفاضل يغادر البيت دون كلمة شكر . قيل لي بعد ذلك بان هذا الزائر يعتبر قدومه الى البيت فضلا كبيرا !!
شخص آخر اراد التواصل بنفس موضوع رجال الدين ، فمنعته لان هذا الباب اذا انفتح من الصعب اغلاقه ، اوقفته لانه كان يريد الاسترسال فى موضوع رجل دين آخر يقوم ايضا بفرض نفسه على الناس ويمول سفراته وتنقلاته من جيوبهم بحجج اقامة القداديس او القاء المحاظرات .
عندما توقفتُ ، قام احد الحاضرين وقال : ولماذا تزعج نفسك ، الا يكفيك كل ما كتبت من مواضيع، وماذا جنيت انت ، وماذا جنى غيرك من ذلك ؟ كلّ ما أدلى به زملاؤنا هنا لا يمثل اكثر من رأس ابرة بين اطنان من الجشع والانانية. الجشع وحده كاف ليبيح ما لايباح ، أما اذا اقترن بالانانية فانه سيقضي على الأخُوّة والصداقة والثقة والمحبة ، وبكلمة واحدة يحوّل جميع الرذائل الى فضائل . الا تخشى ان يرى فيك الناس الاب الذي،  من كثرة تأنيب اولاده وضربهم ، يصبح هدفاً لسخريتم ، فيبتسمون له  ، وبعد هذا يقولون : كفّ عن الكلام الان ، سوف نسمعك فيما بعد !!
رجعت الى نفسي وقلت : ايمكنني ان ان اترك الخط الذي انتهجته ؟ انا لا اجيد تسويق بضاعة اخرى ، لاني اؤمن بأنّ كلمة الحق يجب ان تقال دوما وان الخط الاعوج يجب ان يشار اليه حتى اذا كان راسمُه ممّن يعتبرون انفسهم ذوي عصمة أوحصانة.
بعد ان اقنعتُ نفسي بهذه الخلاصة ، عدت من جديد الى جارةٍ كنت لقيتها عند الوادي ، وعدتُ الى احلامي بذكراها ، ومررت معها على الرياض  بفم مطبق قد تعطل كلامه ، ولم اتركها الا بعد ان رجوت الزمان أن يجمع شمله من جميع الجهات ، للاحتفال بيوم رضاها ، وكان هذا يوم رضاها.



106
المنبر الحر / ميخائيل منصور كوسا
« في: 00:46 11/08/2013  »
ميخائيل منصور كوسا



شمعون كوسا

انتظرت الى ان يرحل الشماس ميخائيل عن هذه الدنيا لكي اكتب عنه ، لاني كنت اطير شوقا لتوثيق بعض فقرات حياته العامرة التي ابتدأت سنة 1914 وانتهت سنة 2010.
لقد عايش ميخائيل كوسا الحربين العالميتين ، وفي بدايات الحرب العالمية الاولى اضطر للهجرة بمعية والديه وبقية العائلة الى عينكاوة حيث اقاموا هناك لغاية سنة 1919.
يعتبر الشماس ميخائيل من بين نوادرالمثقفين  في المنطقة ، وطبعا الوحيد في بلدة شقلاوة.

تتلمذ كلدانياً على يد الشماس توما صليوا ، ومن بعد الدراسة  الابتدائية رشّحه المطران اسطيفان جبري ، مطران كركوك ، للدخول في معهد مار يوحنا الحبيب. تابع مراحل الدراسة هناك الى النهائية غير انه اضطر لترك المعهد لاسباب صحية قوية . كان شديد الرغبة في تقبل الكهنوت غير ان الظروف اجتمعت لتمنعه من ذلك . بصفته شخصا يمتلك اللغات العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية والارامية والكردية ، كان يقصده كبار القوم من مسيحيين ومسلمين من المنطقة وخارجها للاطلاع على الكثير من مما يعرفه عن مختلف المواضيع ، او استشارته في أمر معين أو محاولة الحصول على بعض دروس في الفرنسية مثلا .
كان ميخائيل منصورشخصا قنوعا وزاهدا في مال الدنيا . كان يعمل في ادارة المصايف براتب 15 دينارا حينما  قصده مسؤولون بريطانيون يقترحون عليه الانتقال الى بغداد للعمل في المعهد البريطاني براتب 100 دينارا ، ولكنه رفض العرض وشجّعه على ذلك والده الذي قال آنذاك : يا ابني انك تعيش بيننا وكلنا سعداء ولك راتب يكفيك ، فلماذا الهجرة ؟  كان كلام عُمدة العائلة (مام منصور) بمستوى وقيمة الفتاوى التي تنفذ دون نقاش.
بتصرفه هذا وعدم ابتعاده عن منطقة الجبال والوديان والبساتين والمياه والجو النقي ، استطاع الشماس ميخائيل ضرب الرقم القياس في عدد سنوات عيشه . جمال الطبيعة وهواؤها الصافي ابعداه عن الامراض ، ويقال بانه لم يكن يتناول حتى حبوب وجع الرأس . كان محبّا للرياضة وله نظام حياة معين لا يحيد عنه بالرغم من تقلبات الجو. كان يغتسل مثلا بالماء البارد حتى في فصل الشتاء ، والذي يعرف شقلاوة ، يصاب بالقشعريرة لمجرد سماعه هذا الكلام .
كان ملازما للكنيسة ولا تفوته مناسبة دينية أو طقس معين  . من جهة اخرى ، وبحكم قضائه فترة طويلة في معهد مار يوحنا الحبيب كان قد أوكل اليه الاب يوسف اوميه ، مدير معهد مار يوحنا الحبيب ، مهمة مرافقة  الاكليريكيين الشقلاويين في فترة الصيف والاهتمام بشؤونهم  .
كان يرتاح للقاء الاجانب ولا سيما الفرنسيين . بصفته مديرا لفندق خانراد ، تعاون مع فريق الامريكان الذين كانوا قد اختاروا فندق خانزاد مقرا لنشاطاتهم في نطاق مشروع النقطة الرابعة . كان المشروع يهدف الى تنيمة الزراعة وتحسين نسل الابقار في المنطقة .
امضى حياته بالعمل في المصايف والسياحة ، ولقد ارغمته بعض الظروف الخاصة ، الى الانتقال الى بغداد ومن ثم الى صلاح الدين في نفس دائرة المصايف . وعلى سبيل المثال نذكر تعرضه لمحاولة اغتيال من قبل حارس دائرة المصايف. 
كان شديد الولع بالمطالعة في كافة المجالات ، كان قد اشترك بمجلات فرنسية لكي يكون على تواصل مع اللغة وكان مواضبا على ذلك الى آخر يوم في حياته . كان يحب التاريخ ويحب الدخول في نقاشات مع المختصين ، وقد قام بجمع المعلومات واستشارة الكثير من المصادر لكي يخرج بعد سنوات بتأليف اول كتاب عن تاريخ شقلاوة.
كان يحب السفر كثيرا ولم يفوّت فرصة لم يستغلها ، فبالاضافة الى السفرات الدخلية الترفيهية ، قام بجولة الى عدد كبير من الاقطار الاوربية .  كان على وشك ترك الجولة الاوربية وهي في بدايتها بسبب فقده لجواز سفره ، ولكن صفاء نيته واستقامته ابتا الا انقاذه  واخراجه من يأسه وحيرته ، وفعلا قيبل اليوم المخصص لعودته  ، تلقى مكالمة تبشره بالعثور على جوازه .

من هواياته الخاصة جمع الصور وووضعها في البومات جميلة ، وجمع الطوابع التي كان حريصا على تكملة المجاميع الناقصة منها ، كما كان له هواية مهمة اخرى وهي جمع الفراشات . كان قد تعلم الهواية من القنصل الانجليزي الذي اقام فترة في شقلاوة للقيام بدراسة عن انواع الفراشات . تعلم منه الشماس طريقة صيدها وكيفية الاحتفاظ بها . بعد عودته الى بريطانيا ، قام  القنصل بتاليف كتاب عن الفراشات واطلق اسم كوسا على احدى الفراشات لانها كانت من اكتشاف الشماس ميخائيل ، وكان اسمها العلمي بالضبط (كوسيس كوسيس كوساي). كانت مجموعة الفراشات المتكونه من مائتين وخمسين فراشة محفوظة لسنوات طوال في علب كارتونية ذات غطاء زجاجي ، كانت المجموعة مدعاة فخره ، ولكن الانتقال من بيت الى بيت والتحول من هنا وهناك ساهم في  اهمال هذه النماذج الملونة الرائعة ، كان عدم الاكتراث هذا مرتبطا بالظروف البلد السياسية لان الشماس تعرص للتوقيف مرتين وفي احدى المرات كان على وشك الموت ، فتمّ انقاذه بواسطة المال. كان زمنا يتم توقيف الشخص او الحكم عليه لمجرد اشتباه او وشاية ، ومبدئيا كل عراقي كان مشتبها به أو ضحية وشاية لانه بالرغم عنك كنت محسوبا على جهة وان لم تكن من تلك الجهة تكون مع الاخرى والاختيار بين اثنين فقط .
كان الشماس ميخائيل قاسيا في تربية اولاده  واولاد اخوته واخواته ، حيث كان يهابه الجميع ، الكلام هنا في الخمسينات . بقي على اتصال وثيق برجال الدين من مطارنة وكهنة ولاسيما مع مدير معهد مار يوحنا الحبيب الذ كان يناديه ابني ويخصه بعلاقة وثيقة .
كان يسعد لمساعدة الناس . يقال بانه في احدى السنوات ، تعذر ايجاد قبر لطفلة توفيت ولم يكن لها عشيرة ، لم يجد والد الطفلة احدا من اهل المنطقة ليقبل بمواراة طفلته داخل او بجانب قبره ، فهب الشماس لمساعدة والد الطفلة وفتح لها قبر العائلة ، كان هذا انطلاقا من سعة عقله وقناعته بان الانسان بعد الموت يتحول الى تراب.
غادر الحياة على اثر وكعة المّت به لليلة واحدة ، استعاد صحته ولكنه فقد النطق. كان ذلك في سنته الخامسة والتسعين حيث كنا نعتقد بانه لا يموت ،  ولكن الانسان هو كالثمرة على الشجر ، لابد ان ينضج الثمر يوما ، ومهما استمر معلقا في غصنه فان هبّة خفيفة من الهواء كفيلة باسقاطه .

الكلام عن الشماس ميخائيل لا ينتهي ببعض صفحات ، لانه كان شخصية اجتماعية كثيرة الاطلاع ، شخصية  لها العديد من المآثر ، شخصية يعرفها الجميع ولها مواقف مع جميعهم .  لقد بكاه الكثيرون بالرغم من تقدمه بالسن ولكن الناس احبوه لما كان يحمله من علم واخلاق.


107
الهذيان ظاهرة في ازدياد
شمعون كوسا

كان لي فراغ احببت ان اشغله ، وكما يُقال اردت ان اقتل الوقت ، فانطلقت في رحلة صيدِ قصيرة ، نشاط كنت امارسه ، ذلك اليوم ، لاول مرة في حياتي . تناولت بندقية الصيد التي استعرتها من احد الاصدقاء وتوجهت الى اقرب غابة . بعد الدخول في الغابة والسير لمدة ربع ساعة ، ابصرت غزالة رشيقة تسير ببطئ وهدوء . تهيأت لاطلاق النار عليها ولكني لم افعل لاني رأيتها تتقدم نحوي بخطى ثابتة . توقفتُ منذهلا وخفظت فوهة السلاح  عندما دنت مني  واثقة مطمئنة ، وكأنها هي التي ستصطادني .
توقّفتْ طريدتي تنظر اليّ ،  ومن خلال صمتها تخيلتها للحظة تعاتبني قائلة : ما لك وهذه المهنة ، هل قررت ان ان تتحول الى قاتل ؟ هل جئت هنا لقتل الوقت ام لقتلي انا ؟ كيف يطاوعك قلبك ان تمحوَني وتضع حدّا لحياة اعيشها بسعادة ، أصحيح ان منظري يزعجك ؟ الا تكفيك اللحوم التي توفرها لك الابقار والخرفان وبقية المواشي ؟ ألستم انتم الذين في أدبيّاتكم تتغنّون بالغزلان وتغازلونها ؟ ما بال انانيتكم بلغت حدّا لا ترحم حتى  الجمال ؟ إذهبْ الى الناس ، وترصّد ظواهر الحياة التي يحلو لك القيام بتحليلها ، ممتدحاً  أو ذامّاً.
أدخلني الكلامُ الصامت هذا في حالة ارتباك شديد أفقدني حُججي في الاعتذار ، فعدت على أعقابيّ صياداً شبه مُهان . صرفتُ النظر عن التوجه نحو حديقة قريبة  كنت قد نويت الدخول اليها لمطاردة الفراشات ، تقنية كان قد أطلعني عليها والدي .  قلت لنفسي باني سالقى حتما نفس اللوم من فراشة جميلة قد تواجهني بما يلي : لماذا تهمّ في أسري ، ألا تراني أجملَ وأنا اتحرك ، منتقلةً بين الازهار والورود والشجيرات ؟ الا ترى انه بوسعك القدوم كل يوم لتكحّل عينيك بمنظرٍ، سيوفر السعادة لك ولغيرك ؟
غادرتُ الغابة نحو المدينة ، وبعد نصف ساعة سيرٍ على الاقدام وجدت نفسي وسط حشد من الناس ، فبحثت عن موضع استند اليه.  رايت مقعدا قريبا تشغله امرأة في متوسط العمر، فجلست بجانبها . لم تحسّ المرأة بمقدمي لانها كانت غارقة في الكلام . لم أعرْ لها اهتماما كبيرا في اول الامر  معتقدا بانها تخاطب شخصا غير بعيد عنها. كان الكلام عتابا  واستفهاما واستغرابا وغضبا يعقبه صمت قصير . عندما لم أرَ أحداً يشاركها الحديث ، دفعني فضولي لمعرفة ما كانت تقول ، غير اني بمجرد التفاتي اليها ،  جعلتُها تقطع خيط افكارها وتعود من طريق هذيانها الطويل ، وقالت لي بكثير من الخجل : لا تؤاخذني يا سيد ، إن وضعي صعب ، لقد افضت بي ظروفي الى هذه الحالة التي تراها .  تمكنَ منّي الهذيان منذ حوالي سنتين ولم يعد بمقدوري السيطرة على نفسي. انا اكلم نفسي ويعتقد من يراني بأني مختلة العقل . طمأنتُها قائلا باني اتفهم وضعها  وتركت المكان .
بعد خطوات في بقعة اخرى من نفس المكان العام ، رأيت نفسي سائرا خلف شخص يضحك ويتحدث دون توقف . من ضمن ما كان يقوله : وأخيرا نلتُ من هذا الثعلب الحيال ، كم كان بودّي ان يرى اصدقائي هذا المشهد . كان يفرك يديه زهوا  بالنصر الذي حققه ،  ويعيد سرد الاحداث بنفس الفخر والاعتزاز.
وعلى بعد خمسين مترا من هناك ، رأيت شخصا آخر يتمتم كلمات غير مفهومة ، خلته يصلي ، ولكني  عندما سلمت عليه ، تلقيت سلاما ترافقه بسمة خفيفة وقال لي : لا تستغرب يا اخي ، لقد اصابتني هذه الحال منذ فترة قصيرة ، انها تمتمات ارددها عندما اكون لوحدي ، بحيث ان صلواتي ايضا تنقلب احيانا الى مثل هذا الهذيان ،  ولكن تأكد باني لست مجنونا.
وفي اماكن اخرى ، صادفت اشخاصا في مثل هذه الحالات، فمنهم من كان في قمة السعادة،  ومنهم من كان يبكي ، ومنهم من كان يحصي مستخدما يديه ، وآخرون يكتفون بكلام متقطع .
وآخر شخص سمعته يكلم نفسه كان يقول : ارجو ان تعلمني عن موضوع يوم امس ، وتوقف للحظة ثم اضاف : كلا ، انا لا اتحدث عن صاحبنا ولكن عن الرجل الغريب الذي التقيناه يوم امس . تقدمتُ لأرى وضع الاخ الجديد ، فرأيته يهاتف صديقه دون جهاز منظور او اسلاك بارزة . قلت في نفسي : ألم تكن تكفينا حالات الهذيان والتمتمات والتعب العقلي والانفصام ، لكي يأتينا بدوره الهاتف النقال الخفي فيجعلنا نعتبر مستعمليه اناسا غير طبيعيين ، مصابين بالهلوسة او الهذيان ، لاسيما اذا ابصرناهم من بعيد .
لقد ازدادت الهموم ، وانّ اجترارها بصورة متواصلة  يجعل بعضَ اصحابها يصوغون سيناريوهات داخل رأسهم ،  فينتهون باخراج  نقاشات ومعارك ، تخرج الى العلن لدى بعضهم ، لا سيما بين من كانوا ذوي اعصاب ضعيفة . يخرج الكلام دون وعيهم فيسمعه المحيطون بهم .  قرأت عن امرأة كانت تضع سينايوهات حديثها وهي تقود السيارة  او تعمل في المطبخ او تقوم بالخياطة . تقول بانها كانت تلقى راحتها في هذيانها . غير انها في النهاية اصبحت تخشى سخرية الناس ، بعدما صارت في حياتها العادية تعيد كل جملة ثلاث مرات ، وهذيانُها هذا كان يثير غضبها .
الثرثرة التي لا تضع لنفسها حدّاً ، قد تنقلب احيانا الى هذيان ، لان الثرثار ، إن لم يعثر على شخص يكلمه ، يتوجه الى نفسه ليتكلم وكأنه يخاطب شخصا آخر . معاذ الله ان اكون قاصدا بهذا الكلام النساء ، لان قسما منهن يُتَّهَمن احيانا ، لربما زورا ، اذا تواجدن مجتمعاتٍ داخل مواقع معينة ، كالحمامات مثلا !!
إن من أصابه الهذيان واصبح يردّد الكلام ويعيده ، يصعب عليه التخلص من عادته،  ما لَم يعثر على صديق يرافقه لفترة طويلة بهدف اشغاله  واغلاق المجال امام تفكيره المتواصل . وبهذه الطريقة ،  يقول البعض ، بانهم يتمكنون من قتل مخاطِبهم الوهمي في ذهننهم .
واذا عرّجتُ قليلا ، بصورة غير مباشرة ، على رجال الدين ، اقول : ان بعض رجال الدين في مواعظهم يكادون يلامسون حدود ما يشبه الهذيان عندما يردّد قسم منهم  جُمَلا وعباراتٍ بمقاطع غير مفهومة تشبه كثيرا الخطاب السياسي الذي لا همّ له غير ترديد عبارات رنانة بمقاطع معينة . كلام يشبه في بعض جوانبه التكرار الفارغ الممل ، كلام يحتاج فيه السامعون الى روابط تساعد المبتدأ في ايجاد خبره  والصفة موصوفها والاحرف والادوات الاستقرار في اماكنها المناسبة . انا ابصر من هنا ، ومن مسافات بعيدة جدا وجه بعض هؤلاء الواعظين هنا وهناك وفي اماكن اخرى . هؤلاء باعتقادي لا يحتاجون لِغير قناعة داخلية تجنّبهم كلاماً فارغاً طنانا يتكرر دون معنى . يكتسب كلامُهم حياةً ويستعيد معناه ، اذا ارتوى هؤلاء الاخوة  واقتاتوا من طعام الحياة ومائها التي ستملأهم غيرةً توصل كلامهم الى القلب . انها مجرد ملاحظة الصقتها بالموضوع بهدف بنّاء.
في طريق عودتي الى البيت ، فتحت الجهاز لانصت الى قداس أقامه في حينه المرحومان افرام بدى ويوحنا جولاغ . صوتان جميلان جدا يطربان نفسي ، وباعتقادي يطربان حتى الملائكة . كنت احسّ وكأني في السماء السابعة .
هل هناك حقا سماء سابعة ، أم انا ايضا بدوري بدأت بالهذيان لاني قفزت كما يقال ،  من الديك الى الحمار . ابتدأت في الصيد ، ومن بعده ذهبت الى كشف اوضاع المكلمين نفسهم ، وعرّجت على بيت رجال الدين ، وسمعت القداس الملائكي ، واخيرا وجدت نفسي في سماء سابعة . ألستُ انا ايضا أهذي تماشيا مع موضوع المقال ؟


108
المنبر الحر / إلتقيت شخصا نرجسيا
« في: 17:08 26/06/2013  »
إلتقيت شخصا نرجسيا

شمعون كوسا

في احد الايام دعاني صديق لحضور حفلة غنائية يقيمها احد معارفه الذين امتهنوا الطرب حديثا . قبلتُ الدعوة بعد ان استفاض صديقي بالحديث عن المطرب ، وعن شخصيته وامكانياته الفنية . في قاعة الاحتفال ، كنت الاقرب الى المسرح على مقعد في الصف الاول . عند افتتاح السهرة ، تقدم الفنان المنتظر نحو المسرح بخطى واثقة وحيّا جمهوره بنصف انحناءة . كان المطرب شابا انيقا وحسن الوجه ، وهذه المقومات لوحدها كافية في ايامنا لترفع المطرب عالياً  !!  بدأ اغنيته الاولى ، فانطلق الجمهور في تصفيق حادّ وطويل ، ولدى كل توقف بسيط ، بما فيه ثواني عملية الشهيق ، كان يتجدد التصفيق وبنفس الحرارة . انا بدوري كنت اصفق  ولكن ليس بحماس الحاضرين الذين كانوا قد اعتادوا على هذه الحركات ، او لربما تلقائيتهم كانت تدفعهم لذلك . عند نهاية الحفلة التي استغرقت زهاء الساعتين ، وقف الجمهور منتشيا يعبّر بشتى الطرق عن اعجابه وامتنانه وسعادته ، فكان الصفير يأتي ممزوجا بالتصفيق والصراخ وحتى البكاء .
خرجنا من القاعة وامسك صديقي بيدي لكي أنال شرف التعرف على المطرب الذي كان في الكواليس . لدى مصافحتي اياه ، واجهني بوجه جامد يخفي الكثير من الغضب. اتاني بكلام مباشر وقال : كنتُ الاحظك منذ البداية ، ورأيت بانني لم اثر اعجابك كثيرا في هذه الحفلة . لَم ألحظكَ تشارك الناس تصفيقهم الحار ،  ولم ألمحْ على وجهك الفرح الذي كان يغمر الاخرين . لقد استغربت من تصرفك كثيرا . ألم تأتِ هنا لكي تراني ، هل نظرت إليّ مليّاً ؟ هل وجدت فيّ نقصا ، هل اكتشفت في وجهي عيبا ؟ هل إلتقيتَ في حياتك  شخصا ارشق قامة واجمل وجها واعذب صوتا منّي ؟ لم يصادفني يوما شخص  بهذه البرودة وعدم الاهتمام  . كان عليك الانقياد الى حماس الحاضرين والوثوق باعجابهم ، ان هؤلاء جميعهم يَحلِـمون بكلمة واحدة أخصّهم بها ، أو بسمة اطلقها في وجه احدهم . انهم يتمنون مصافحتي او إمكانية مجاملتي والحصول على توقيعي الذي يمثل لبعضهم سند امتلاك للسعادة .
بعد هذه المجاملة العنيفة ، انحنيتُ عميقا طالبا الغفران لخطيئة ، توقّعت ألاّ تمحوها انصح توبة واصدقها ، وتخيّلت نفسي ، في تلك اللحظة ، محكوما مسبّقاً بالعقاب الذي سأناله يوم القيامة !! انصرفتُ مكسور الفؤاد حقا ،غير اني في اعماقي احسست بشفقة على المطرب الغاضب . شرحتُ لصديقي ما لم اجرأ  توضيحَه للمطرب المتواضع ، وقلت له : أنا اتبنى مبدأً في الحياة يقضي بألّا افرط في الاعجاب باي شخص في الدنيا مهما كان .  انا لا أستميت في سبيل رؤية رئيس الجمهورية ، ولا اتحرّق شوقا للقاء وزير او مصافحة مطرب او مصاحبة ممثل . يجب الاقرار بان هناك مواهب وصفات حميدة وطبائع قوية  ومراتب عليا تسعد الناس وتبهرهم وتفيدهم ،  ولكنها لا يجب ان تقود اصحابها الى التكبّر والاستعلاء والغرور .
انا لست افضل من غيري ، ولكني لا ارى أحداً افضل مني  . أنا احترم المراتب وأُعجَبُ بالمواهب ، ولكني لا اذهب الى حدّ الشغف الجنوني او العبادة . واضفتُ ايضا : إن صاحبَك هذا شخص مغرور وعاشق لنفسه بشكل غير طبيعي  بحيث انه لا يحتمل غير المديح والتصفيق وكلمات الاعجاب . لقد ذكّرني بقصة تُروى عن اساطير الاغريق وآلهتهم . انها حكاية نارسيس الذي كان عاشق وجهه ومغرما بشخصه . لقد ذكّرني صاحبك بها وسأرويها لك ، ولكن حذارِ ان تنقلها له ،  لاني اكون حينذاك اصادق على قرار هلاكي .
تقول الاسطورة :  انجبت إحدى آلهات اليونان ، واسمها ليروبي ، طفلا اطلقت عليه اسم نارسيس .  كان المولود ذكراً ذا وجه جميل جدا يشعّ نورا .  رأه أحد العرافين ، ويدعى تريزياس ، وتنبّأ لوالدته قائلا : ان الطفل البهيّ هذا سيعيش طويلا شرط ألاّ يرى نفسه  ولا تقع انضاره على محياه الجميل . ترعرع نارسيس وازداد جماله ، وعندما شبّ الغلام بدأ الناس بخطب ودّه ، غير انه كان يعيد كافة محبّيه خائبين . ومن بين ضحاياه كانت الاِلهة المدعوة (ايكو) اي الصدى ، ويقال بان هذه ، بعد أن تجاهلها نارسيس ، اطلقت عليه ادعيتها ولعناتها .
كان نارسيس عديم العاطفة ولا يحسّ بمشاعر الاخرين  . حدث ذات مرة ، وهو في احدى جولاته ، أن أحسّ بعطش شديد . بعد ان قطع مسافة صغيرة ، وجد نفسه أمام عين ماء صافية جدا . انحنى نارسيس لشرب الماء ، وتوقف شبه مصعوق بما يرى ، لقد ابصر صورة شاب في غاية الجمال . ابصر نارسيس نفسه وغمرته سعادة لم يشعر بها قبل ذاك ، وتحول حبّ نفسه بلحظة الى غرام وعشق . كان هذا احساسا يشعر به لاول مرة ، حب عميق وعشق لا يقاوم . كان هذا الحبّ العارم موجها لصورته التي رآها في الماء  . المشهد الذي وفرته عين الماء لم يكن يبارح خياله . كان هيامه قد شغله تماما وحوّل ليله نهارا ونهاره ليلا . بدأ يبحث عن عشقه ، عن صورة مطابقة له في وجوه الناس وفي المياه . بقي طويلا يطوف البلاد ، بقي على هذه الحال كثيرا وعندما رأى بان ناره غير قابلة للانطفاء ، اصيب باليأس وقرر الانتحار . وتقول الرواية ، عندما غرز الرمح في صدره ، سقطت كمية من دمه على الارض ، فانبتت زهرة بيضاء جميلة ، حملت اسم النرجس ،  تيمّنا باسم نارسيس .
وللاسطورة هذه روايات اخرى تختلف قليلا ، واحداهن تفيد بان نارسيس كان يبحث عن نفسه في عيون الماء ، وفي احدى محاولاته ، يقال بانه انحنى كثيرا على عين ماء ليمسك بصورته ، فسقط في الماء ومات غرقا لان العين كانت عميقة ، وفي نفس الموضع الذي غرق فيه ، نبتت زهرة النرجس . وهذه الرواية تقول ايضا بان عاشقته الاِلهة (ايكو) عندما سمعت الخبر ، كانت تنوح عليه باكية ومرددة : واأسفاه ... واأسفاه .. واأسفاه ، بصدى يتكرر ويتكرر دون توقف.
لقد توفي نارسيس لانه لم يتوصل الى إشباع رغبته في العثور على صورته وجماله . لم يجد في الخلق صورة تشبهه او تستحقه . لقد مات ضحية الاعجاب الشديد بنفسه .
 باعتقادي أنا ، كان الشاب المطرب يحمل الكثير من صفات نارسيس ، ولهذا احببت ان اطلق عليه صفة النرجسي ، وأومل بان عدم اهتمامي به بما فيه الكفاية سوف لن يحدو به الى الانتحار !!
 الدنيا مليئة باشخاص يتمتعون بطلعة بهية ، بشابات رشيقات جميلات ، باناس شديدي البأس واصحاب بطولات ، بمطربين حباهم الله بارخم الاصوات وما الى ذلك من صفات تثير اعجاب الجميع ، ولكن الجمال والرشاقة والقوة والمواهب والصفات الحميدة الاخرى لا يجب ان يحصرها حاملها بشخصه فقط وكأنه هو الاجمل والارشق والاقوى والافضل ، هو وليس غيره ، صفات بمجملها موروثة اصلا ، تلد مع الانسان ولا فضل له فيها .
فالنرجسي ، يعتقد بانه الوحيد المحقّ  في كل شئ وبان الاخرين اغبياء او جهلة او قد يكونون حتى اولاد كـ ( ) . انه لا يحس بمشاعر الغير ، واذا اضطرّ لذلك فانه يتظاهر بذلك . ومن جهة اخرى ، وبعد ان يكون قد رأى بان الكثيرين من رفاقه يملّون منه بسرعة ، فانه يبحث دوما عن اصدقاء جدد  . ويقال بهذا الخصوص بان نيرون كان مثالا حيّا للشخص النرجسي وانه بالاضافة الى ذلك ، كان شخصا منحرفا .
النرجسسي يهتمّ بمظهره واناقته ،  واصعب امر لديه هو ان يتجاهله الاخرون ويمنعوا عنه المديح . كلامه يبدأ عادة بـِعبارات  : الا يعجبك وجهي ، الا تعجبك بدلتي ، كيف ترى مظهري ؟ ويقول ايضا : اريد هذا وارغب في ذاك ، واشتهي ، واشتاق . وفي السياق نفسه ، فانه لا يرتاح لمديح يكال لغيره  ويحاول بشتى الطرق تغيير الحديث ، واذا لم يفلح في ذلك ، فانه يبدأ بذمّ الشخص واهانته ولربما شتمه . وقسم آخر من النرجسيين تقودهم انانيتهم الى عدم الاكتفاء باحتكار السعادة لنفسهم ، ولكنهم يرغبون في التأكد بان جارهم يعيش بتعاسة .
النرجسي لا يستسمح احدا ولا يعتذر ، وشعاره هو  : يجب عليكم رؤية ما أراه انا . إن الأنا متأصلة فيه لانه مصاب بجنون العظمة. يعتبر نفسه محور الكون ، وبصورة عامة ،  من الصعب جدا تغيير تصرفات من ولد نرجسيا .
هناك الكثير مما يقال حول هذه الشخصية المعقدة ، لاسيما وان الكثيرمن الصفات المجاورة للانانية والغرور تتداخل فيها . بعد هذا الوصف ، قد نجد الكثرين ممن نعرفهم يندرجون بنسب متفاوتة في هذه القائمة ، لان المغرور والاناني والمتكبر كلهم ضيوف شرف على فندق النرجسية .

kossa_simon@hotmail.com

109
نبأ وفاة الشعور الانساني
شمعون كوسا

قبل الخروج في نزهتي اليومية ، قمت باستشارة بريدي الالكتروني مستعرضا بصورة مائلة وسريعة عشرات الرسائل التي تنهال على صندوقي ، فوقعت انظاري حالا على رسالة في وسط الصفحة تحمل عنوان (نبأ عاجل وهامّ) . اعتقدت للوهلة الاولى بان هذه ايضا نموذج آخر للرسائل المعبّأة بعوامل هدامة لا هدف لها سوى القضاء على خزين معطيات الناس المعلوماتية . غير اني ، عندما تأكدت بان مرسلها احد اصدقائي المقربين ، فتحتها بسرعة وقرأت فيها وبالخط الاحمر ما يلي :
(ننقل لكم وبأسف شديد نبأ وفاة الشعور الطبيعي للانسان ، يرجى ابلاغ كافة الاصدقاء بهذه الفاجعة البشرية) . رأيت النبأ غريبا جدا ، فقمت بالرد على صديقي وقلت له : وهل تعرف يا صديقي خطورة هذا النبأ ، وهل انت في كامل وعيك ؟ الا ترى ان هذا الموت يعني محو قابلية الانسان في تمييز ما هو بديهي في الحياة اليومية ، هل انك تعلن هنا عن موت الاحساس المولود معنا والذي يمنعنا من ارتكاب الاخطاء ، أتعني حقا انعدام الغريزة التي تنور صاحبها في الزوايا التي لا تصلها اليها الاضواء الاخرى ؟
أتاني جوابه سريعا وقال : يا صديقي ان الشعور الفطري للانسان كان يعاني كثيرا في هذه الازمنة الاخيرة ، كان يهزل جسمه يوما بعد يوم ، وفي كل زيارة كنت ألقاه أخفَّ وزنا مما سبق الى ان تمكّن منه المرض تماما . كنت أعوده من وقت لاخر ، ولكني عندما زرته بعد غياب شهرين ، رأيته قد فارق الحياة . كان يبدو دوما بكامل هندامه وكأنه لا يشكو من أي شئ ، ولكنه كان يتعرض لنوبات تشتدّ وتتواتر يوما بعد يوم . انا اعرف بانك سوف لن تصدق الامر ،  لذا سأقوم بسرد قصته عليك ،  ومن ثمّ اورد البيانات التي مكّنتني من الحصول على شهادة وفاته .
إنك تعرف بان هذا الصديق تواجد بيننا منذ اقدم الازمان ، ولا احد يعرف عمره بالتحديد لان السجل الذي يحمل تاريخ ولادته كان قد تهرّأ وتفتت اوراقه واندمجت بذرات الهواء المتطايرة . غير اننا بقينا نتذكره للدروس البليغة التي لم يكن يتوقف عن اعطائها ايانا في الحياة ، فمن بين آلاف الشعارات التي كنا نسمعها منه يوميا كانت مثلا :
ان العالم هو مُلك من ينهضون باكرا من النوم ، أو
لا يجب ان ننتظر كل شئ من الاخرين ، أو
لا يبارك الله الانسان الا اذا قام وتحرك ، أو ايضا
ما يحدث لنا ليس بالضرورة بسبب الاخرين ،
 ومفاهيم بديهية اخرى ، لانه لم يكن يتحرك الا وفق قواعد بسيطة جدا ، فكان يرشد الانسان في تبنّي الشعور المناسب لكل حالة ، فكان يقول مثلا :
لا يجب ان ننفق اكثر مما نملك
اللهو بالنار يحرق الايادي
ان الابوين هما المدرسة الاولى للطفل

 ولكن وآسفاه ، لقد بدأ يختل الشعور الطبيعي هذا ، عندما بدأ وليُّ أمر احد الطلاب بمهاجمة معلم المدرسة لانه هذا الاخير كان قد أنّب ابنه على تصرفه الشائن في الصف واخرجه من الحصة . اشتكى الولد لابيه ، فاسرع الاب الى المدرسة وهاجم الاستاذ مردّدا مع كل ضربة : كيف تتجرأ بتأنيب ولدي ومعاقبته ؟   عندما شقّ الخبرُ طريقه نحو الادارة ، حمل في طريقه المتعرج ترسباتٍ جعلته  يبان وكأنّ المعلمَ هو الذي اعتدى على طالب مجتهد ومؤدب ، فتمت معاقبة المعلم وأبعِد عن تلك المدرسة .
فقدَ الشعور رغبته في الحياة أيضا عندما بلغه بان الاوغاد والمجرمين في الحياة يتلقون معاملة افضل من ضحاياهم . وتلقّى ضربة معنوية وجسدية عندما رأى بان العدالة تلاحق من يدافعون عن نفسهم في حالات السرقة ، لانه كان قد تقرر اعتبارصاحب الدار معتديا اذا مسّ السارقَ بأي شكل من الاشكال ، وافسح القرارُ المجالَ للسارق بمقاضاة صاحب البيت . وبلغ إحباطه درجته القصوى عندما سمع بهذا الخصوص لصّا كسب دعواه ضد صاحب دار كان قد وضع بعض الزجاج على حيطانه منعا للسرقات ، فانجرحت يد السارق ،  وطولب صاحب الدار بتعويضات كبيرة .
كان قد ضعف قلبه كثيرا ، وفي معاناته هذه كان له جار يسكن فوق شقته ولا يتوقف عن ازعاجه بالضجيج الذي كان يحدثه هو واولاده . لقد ترجّى الشعورُ مستأجرَ الشقة العليا بحمل اولاده على الهدوء قليلا وتحويل مباريات ركضهم السريع الى فترة النهار لان ضجيجهم كان يؤثر على قلبه المريض ، غير ان الاطفال كانوا يطيلون فترة استعراضهم . اصيب الشعور بالنكسة عندما اتى والدهم بعد هذا الرجاء يبرر صنيع اولاده قائلا : ان صاحب العمارة خوّلهم بذلك .
كان الشعور مستقرا في وجدان كل إنسان ولم يكن بمقدوره تجنب الصدمات أو تجاهلها. وما عجّل في موته ايضا نبأ سمعه عن امرأة تركت قنينة دوائها في متناول طفلها الصغير، عندما رأى الطفلُ الزجاجة مفتوحة شربها كاملة فمات على الفور ، لان الموصوف للمريضة كان الحرص الشديد على عدم تناول اكثر من قطرة واحدة كل يوم. كان هذا يكفي لكي يعذّب الشعور ، غير انه علم بعد ذاك بان والدة الطفل تقدمت بشكوى ضد الطبيب الذي كان قد وصف لها الدواء ، وافلحت في الحصول على تعويضات مهمة ،  وتمّ فصل الطبيب من مهنته .
ويقال ايضا بانه شاهد موكب عزاء يمرّ في الشارع ، وقابله في نفس الوقت موكب عرس يطبل ويزمر ويهلل ويرقص . اعتبر الشعور بانه من البديهي ان يتوقف موكب العرس صامتا ولو لحين ، احتراماً  للمرحوم ولذويه ، غير أن من كانوا يقودون الهرج والمرج لم يخففوا من صخبهم وغنائهم ، والمأتم هو الذي توقف . كان الشعور يشاهد هذا بدمعة ساخنة نابت عن مئات الجروج التي بقيت مخفية .

وقبل ان يموت بقليل ، نُقل اليه موضوع آخر عن صديقين يتباريان في اطلاق الاسهم النارية . مرّ احد الاشخاص بالقرب منهما واسترعى انتباههما لخطورة لعبهما لا سيما وانهما ليسا بعيدين عن ارض مزروعة قد نضج محصولها . فأجاباه بان  هذه مجرد أسهم نارية ولا يمكنها ان تشكل خطرا . استمر لعبهما الى ساعة متأخرة من الليل  لان المبارزة كانت قوية في تحقيق أعلى النتائج من حيث المسافة التي تقطعها الاسهم . غداة اليوم انتشر خبر عن حريقٍ شبّ في تلك الارض المزروعة وأباد المحصول كاملا .
وألاف الاحداث الاخرى التي كانت تجعله يفكر ويهز رأسه ويقول باسف ومرارة : ما اعظم الشعور عند الانسان . وكانت الاحداث كلها نتيجة صفتين ذميمتين هما التعجرف والغباء .
يا صديقي ، لقد مات الشعور ، وكما تعلم كان قد سبقه الى الحياة الابدية كافة افراد عائلته  ،  من والديه وزوجته وابنائه وبناته الذين كانوا يحملون اسماء الحقيقة ، والثقة ، والكتمان ، والمسؤولية ، والعقل .  وباختفاء الشعور وعائلته ، خلا الجو الى من يقولون وبكل بساطة مثلا :
كلّ ما يهمني هي حقوقي ، وليذهب الاخرون للجحيم
ان الذنب ليس ذنبي وهو حتما ذنب الاخرين 
أنا فعلا ضحية المجتمع .
طبعا لم يكن هناك جمع كبير في تشييع جنازته ، لانه كان قد قلّ عدد من يعرفونه حقا ، ولهذا لم ينتبهوا لاختفائه لانهم كانوا قد فقدوه منذ زمن بعيد ، ولم يشعروا بغيابه لانهم لم يكونوا يحتاجونه أصلا بالرغم من اهميته القصوى . الم تلاحظ انت شخصيا غيابه الطويل عن الساحة ، الم تلاحظ الفراغ في تصرفات الناس ، الم تسأل نفسك اين ذهب الشعور ؟
لقد كان هو الحسّ والعقل والنور ، كان يولد مع ولادة كل انسان ،  وكان فعلا يملأ الفراغ الذي يتركه العلم . كان حاسة سادسة تضاف الى الحواس الخمس ، حاسة ترشد حالا الى ما هو صواب ، في امور لايجب ان يتردد فيها الانسان لانها بديهية .
فاذا كنتَ لا زلت تتذكره وتريد إحياء ذكراه ، بلّغ اصدقاءك واسرد لهم القصة، واذا كان اصدقاؤك قد سجلوا اسماءهم في قائمة من لا يرغبون السماع باسمه ، فاخلد  حينذاك للصمت ،  وفكر ، لانك ستتصور حتما ، برهبة وأسف عميق ، ما ستؤول اليه حالة البشرية في غياب الشعور ، بشرية بدون احساس .
ملاحظة : فكرة هذا المقال استوحيتها جزئيا من رسالة تلقيتها باللغة الفرنسية .
kossa_simon@hotmail.com



110
قطرة مطرٍ أدخلتني في رؤيا
شمعون كوسا
لم اخرجْ من البيت ولم أحاذِ النهر ، ولكني عبر نافذتي الواسعة ومن داخل مخدعي كنت اتابع هطول المطر في موسم ربيعنا الحالي . أنا ، كلما شهدتُ تساقط المطر في الربيع ، اعود الى السنوات الاولى من صباي فاتذكر ما كانت تفعله زخاتُ المطر بالاشجار وباوراقها حديثة الولادة . اتذكر المنظر باحساس خاص جدا ، واشعر بسعادة لا توصف لان المشهد يضعني ، ولو للحظات ، في اجواء اكتشافاتي الاولى لمظاهر الحياة ، وللاكتشافات الاولى للصبي وقع خاص في نفسه لانها تبقى محفورة لا تقوى السنوات على محوها .
هذا كان شأني دوما مع فصل الربيع . كنت احبّ التطلع الى الاشجار وهي تنفض نفسها بعد هطول الامطار واتابع هذه العملية منتظرا آخر القطرات التي تفيق متأخرة من سباتها العميق ، ومعتقدة بانها تأخرت كثيرا عن الركب ، تمسك بورقتها بقوة وتبقى معلقة ، فتكبر وتنتفخ الى أن تسقط .
من نافذتي الواسعة رافقتُ تساقط المطر وكيف تناثرت قطراته واحدة تلو الاخرى الى ان عثرت في النهاية على القطرة النائمة على حافة احدى الاوراق ، فاطلت النظر اليها وكأني في جلسة تأمل ، وعوضا عن أكون أنا المؤثر على النقطة الشفافة الصافية ، احسست بتأثيرها عليّ ، فغلبني نعاس مغناطيسي ورأيت نفسي فعلا قد انتقلت من خلال القطرة هذه الى عالم آخر .
وجدت نفسي وسط عالم قد افترش الورد في كل جوانبه . كانت السماء زرقاء صافية غير ان كل ما على الارض قد ارتدى اللون الوردي بما فيه الحيوانات التي كانت تتحرك بهدوء وكأنها قد عقدت هدنة او توصلت الى اتفاقية سلام نهائية فيما بينها . رأيت الاسد والنمر والحمار والغزال والثعلب والخروف والذئب والكلب وغيرها من الحيونات . خِلتُ نفسي لبرهة وكأني بحضرة الجمهور الذي كان قد حاول نوح إنقاذه في سفينته اثناء الطوفان الذي كاد يودي بالبشرية . إلتفتُّ حولي بحثا عن حيوان ينطق مثلي ، ولكنه اتّضح لي بأن الحيّز كان مخصصا للكائنات غير الناطقة . كانت تسير الحيوانات المفترسة جنبا الى جنب مع من كان يفترض ان تكون فريساتها ، كانت تسير دون مزاحمة او مطاردة أو خوف . كان الاسد يرافق الغزال والنمر يتأبط ذراع الارنب والثعلب يجامل الدجاجة بعيدا عن الايام التي احتال عليها وقام بالتهام اعداد كبيرة منها . وكان الذئب والحمل يناديان بعضهما بالاخ والاستاذ بالرغم من الذكريات المؤلمة التي يحملها هذا الاخير ، يوم كان الذئب ، وهو في الجهة العليا من الساقية ، يبحث عن حجة للبطش بالحمل متهما اياه في احدى المرات بتعكير الماء عليه بالرغم من تواجد الحمل في أسفل المجرى . والحديث يطول مع الفهد والثور والدب والحيوانات الصغيرة الاخرى .
كم تمنيت في هذه اللحظة لو كنا ، نحن الحيوانات الناطقة ، نتّصف بهذه الاخلاق لفترة معينة . ان نوقّع اتفاقيات نلتزم فيها بكل جدّ بالوداعة والحب والعفو والتسامح .
ابتعدت عن الحيوانات الخاضعة لمعاهدة السلام ، واتجهت نحو الجناح الخاص بالطيور . توقفت هنا لاستمتع بحفلة كانت تقيمها البلابل ، حفلة موسيقية اشبه بسمفونية . كانت قد انبرت نخبة من البلابل في الانشاد بشكل رائع . كان يطلق رئيس البلابل نغمة ابتدائية جميلة فيعقبه معاونه القريب بلحن مماثل ولكن بطبقة اخرى ، ويقابلهما بعد ذلك بلبل صغير فيصدر صفيرا من ابدع ما يكون ، فيتدخل بهدوء بلبل بعيد في نبرة عالية مستهلا لحنا آخر . كانت الاصوات تتوالى بتغريد يختلف في نغماته وقسماته ومقاطعه غير ان اللحن كان يسري بتناسق كبير بفضل بلبل مستتر يقوم بتوصيل النغمات ، كان يقوم مقام همزة الوصل مسهّلا بذلك العبور من تغريد الى تغريد ومن لحن الى لحن بصورة طبيعية ودون نشاز .
كانت الطيور الاخرى قد أطبقت مناقيرها إجلالا لشخصية البلبل واعجابا بصوته الشجي ، مع يقيني بان بعضا من هذه الطيور مثل بعض البشر ، تشعر برغبة شديدة للتدخل في الغناء ، حتى اذا كانت اصواتها من انكر الاصوات !!
قبيل انتهاء حفلة الطيور غادرت باتجاه قادني الى بوابة انفتحت على عالم آخر اشبه بعالمنا الارضي . رأيت نفسي عند مدخل مدينة كبيرة تعجّ بالعمارات والشوارع والعربات والناس . لم اكن قد انهيت من تمشيط اطراف المدينة عندما توقفتِ الحركة ورأيت الناس يهرعون نحو البوابة هربا من كارثة محققة او تنفيذا لاوامر صارمة ، لان العمارات بدأت تتهدّم والحارات تحترق والانهر تفيض والشوارع تتفطر . بدأت اسأل بعض الهاربين عمّا يجري ولكني وجدت الجميع في حالة هلع كبير.
في غمرة دهشتي الكبيرة ، دنا مني احد الهاربين وقال : أراك لستَ من عالمنا ولست مشمولا بالكارثة التي حلّت بنا ، أنا كنت من اكبر الاثرياء هنا ولقد اضطررت الان لترك كل شئ ولا اعرف ماذا سيكون مصيري ، هل لي ان اطلب منك إقراضي مبلغ عشرين درهما . وقبل ان امدّ يدي الى جيبي لاخراج الدراهم ، عقبه شخص آخر وقال لي : يا سيدي لقد انتهى كل شئ بالنسبة لنا لاننا خارجون دون عودة . قلت لنفسي لماذا تذهب أملاكي سدى ، فهذه سندات املاكي ، انت مخول بالتصرف بها كما تشاء . والثالث تيمّنا بمن سبقوه إتجه نحوي وقال : يا سيدي لقد زرعتُ مساحات كبيرة من الاراضي بمختلف المحاصيل ، إذا حالفك الحظ ووجدتها سالمة ، ِذهب واجنِ محصولها وتصرف به . وآخر الهاربين قال لي : يا صاحبي اطلب منك ان تنتظرني قليلا ، لقد وضعت مبالغ كبيرة من المال في اكياس غير بعيدة من هنا ، مبالغ تربو على المائة وثلاثة وخمسين الف دولار ، أنفق منها على هواك ووزّع الباقي .
لم يحالفني الحظ بالحصول على المبلغ ، لاني شعرت في تلك اللحظة وكأن النور قد انقطع وزال كل شئ من امامي . التفتّ حوالي فرايت بانني لازلت جالسا على الكرسي غير ان قطرة المطر كانت قد سقطت على الارض .
انتهت الرؤيا بسقوط قطرة المطر ، وعُدتُ من هناك خالي الوفاض ، لاني لم اجد أي سند بين يديّ ولم احصل حتى على المبالغ الموعودة. نظرت الى الوقت فوجدت بان رؤياي لم تستغرق اكثر من ثلاثين ثانية . ثلاثون ثانية اتاحت لي زيارة عالم جميل وهادئ تتعايش فيه الحيوانات بسلام ووئام ، وأيضا مشاهدة مدينة تنهار وكأنها صورة لنهاية العالم .
اذا كان لي ان استخلص درسا من رؤياي هذه اقول : اذا كان الحيوان الذي خلق مفترسا قد توصل الى العيش ، على الاقل في العالم الذي زرته ، بوئام مع من كان لا ينظر اليها إلا كمكونات لطعامه اليومي ، لماذا لا يقتدي به الانسان في هذا المجال ، هو الذي خلق غير مفترس ، بل زرعت فيه بذرة الخير مع قابلية التمييز والاختيار . كم من أخ غدر باخيه وحاول التحايل عليه وحرمانه من حصصه في الميراث ، وكم شخصا أضرّ باحد اقربائه من اجل قطعة ارض او مصلحة مادية اخرى ؟
هل ازيد الناس علما اذا ذكرت هنا كلمتين تترددان يوميا منذ أكثر من الفي سنة وهي أن الدنيا زائلة . ألم يقطع لي الهاربون عهودا ووعدوني باموال واراضي ومحاصيل ، كان كله حلما كما هي الحياة . بالرغم من وجودها الحقيقي ، حياتنا ليست سوى نقطة مطر معلقة لثواني بورقة الشجر .

kossa_simon@hotmail.com

111
حديث هادئ بين أسقف وأحَدِ كهنته

شمعون كوسا

سبق لي وأن تناولت موضوع رجال الدين في بعض مقالاتي ، كنت افعل ذلك دوما مدفوعاً بحبّي للمسيح وبغيرتي على تعاليمه السامية وحرصي على ان أجد سيماء هذا المعلم العظيم في وجوه من يمثلونه . ولقد سمحت لنفسي بكتابة هذه المقالات أيضا بحكم إمضائي احدى عشرة سنة بين ظهراني هؤلاء أوبرفقة الكثيرين من القدامى الذين ارتقى بعضهم مراتب متقدمة في سلم المسؤولية . لم اتقبل الكهنوت لظروف شخصية خاصة ، ولكني احتفظت بالروحية الصادقة التي كنت قد اكتسبتها هناك . واليومَ في نطاق نفس الحرص ، وضعتُ حواراً تخيلته بين أسقف وأحد كهنته . كنت قد تصورت الحوار الوهمي  هذا في البداية بين بطريرك وأحد اساقفته ، ولكني تراجعت واكتفيت باتخاذ المقعد المتواضع البعيد خشية ألاّ اطرد من الوليمة التي دُعيت اليها . كما خطر ببالي أن اطلق اسم لوقا على المطران واسم مرقس على الكاهن ، ولكني هنا ايضا استبعدت الفكرة تجنبا لأيّ التباس ، لان حديثي عام ولا يتناول أي مسؤول ديني معيّن . فالحديث الذي جرى بين سيدنا المطران وابونا القس رأيته كالتالي :
- أبونا القس : طاب نهاركم سيّدنا ، لقد بلّغني الساعور برغبتكم في رؤيتي ، فتركت كل شئ وأتيت .
- سيدنا المطران : ولماذا استعجلت في المجئ ، هل حملتَ القربان بعد القداس الى مرضاك الذين يترقبون زيارتك ؟
- أبونا القس : كلاّ ، ظننت بانك على عجل من امرك ، فاتيت حالا بعد اقامة القداس .
- سيدنا المطران : اريد ان تعلم يا ابني ، بان للمؤمنين الاولويةَ في كل شئ . نحن رعاة قطيع يتألف من أناس مؤمنين ، والذهاب بجسد المسيح للمعذبين من بينهم ، هؤلاء الذين يتوقون لتناوله بشوق عارم واثقين بانهم ، إن لم يشفوا من مرضهم ، فان القربان سيخفف من آلامهم ويكون مصدر سلواهم ، هو عمل مقدس جدا .
- أبونا القس : حال رجوعي ساقوم بهذا الواجب المقدس .
- سيدنا المطران : لقد فكرتُ بلقائك ولقاء زملائك من بعدك ، كل كاهن على انفراد ، رغبةً مني في سماعكم تكلموني عن حياتكم وما يدور في خلدكم من مشاريع ومشاكل وغيرها . فاليوم سابدأ معك ، وأوجّه اليك السؤال التالي : هل لديك مشاكل في حياتك الكهنوتية ؟
- أبونا القس : كلاّ سيدنا ليس لدي أية مشكلة ، وكيف يكون لنا مشاكل بوجودكم ، انكم تتحيّنون أبسط الفرص لتشملونا برعايتكم  وتغمرونا باهتمامكم .
- سيدنا المطران : لا تجاملني يا ابني وتكلم . لقد دعوتك وانا اعرف بانك تعاني من بعض الامور ، افتح قلبك وتكلم بصدق وصراحة ، وعليك ان تعلم بأني هنا بمثابة ابيك ، ومسؤوليتي تدعوني لسماعك في كل ما تقوله لاحاول ايجاد الحلول الممكنة لها.
- أبونا القس : لا اعرف ماذا اقول ، انا اشعر بالخجل  لكشف موضوع يشغل فكري كثيرا ، وبما انك طلبت ان اتحدث بصدق ، اقول  : باني ارى بعض زملائي يمتلكون اراضي وبيوت ، وكلما انظر اليهم اتحسر لاني لا املك أي شئ ، الا ترى بعض الخلل هنا ؟
- سيدنا المطران (بعد برهة صمت) : كم كنت اتمنى أن نبلغ يوما جميعا درجةً من الوعي تجعلنا نفكر راسخين بان رسالتنا روحية محضة وباننا قد كرسنا ذواتنا لملكوت الله وبأن مملكتنا ليست من هذا العالم . ابني انك تحتاج الى مكان تسكن فيه ، ألا تكفيك الغرفة الواسعة التي تسكنها وايضا الخدمات التي تؤمّن كافة احتياجاتك اليومية ، ماذا ينقصك في حياتك الكهنوتية ؟
- أبونا القس : اعذرني سيدنا ، ولكن عندما ارى البعض يتمتع بثروات ويتقاضى بدلات ايجار ، اشعر بنوع من الغيرة دون ارادتي ، واقول بكل صراحة هل انا افرق عنهم ؟
- سيدنا المطران : لقد اتيتُ بك هنا لكي اضعك وزملاءَك في المسار الصحيح . يجب ألاّ يغيب ابدا عن بالك بانك قد كرّست نفسك للمسيح وقطعت عهدا شخصيا مع المسيح بذلك . لقد اخترت بكامل وعيك طريقا محطاتُه تحمل اسماء الفقر والتجرد والتفاني والتسامح ونكران الذات ، هل هذا صحيح ؟
- أبونا القس : نعم هذا صحيح ، ولكن ..
- سيدنا المطران : لاتقل لي ولكن ، كُفّ عن مراقبة غيرك ، كل شخص مسؤول عن تصرفاته خاطئة كانت أم صحيحة ، ولكل شخص ظروفه التي لا نستطيع الحكم عليها أو ادانتها . انا سالتقي كل واحد منكم وساحاول وضع النقاط على بعض الحروف . تعلّم في حياتك ألّا تنظر كثيرا الى ما يفعله الاخرون ، لان هذا سيشغلك عن اداء مهامك المقدسة . إذا كنت في الطريق الصحيح ، لماذا تفتش عمّا يلهيك عنه . وحتى اني اضيف واقول :  اذا سمعت أوقرأت بانه كان للمسيح يوما عقارات ويتقاضى عنها ايجارات شهرية ، إتصل بي فورا !!
- أبونا القس : لا اعرف هل سأمتلك الجرأة لطرح موضوع آخر قد تجده انت تافهاً ، ولكنك قد دعوتني للتحدث عن كلّ ما يخالج صدري . ساقول : سيدنا ، أرى نفسي مغبونا في موضوع السفر . ارى زملائي هنا وهناك ، يسافرون كثيرا ، وانا لم احضَ بالسفر لحدّ الان إلا مرتين .
- سيدنا المطران : إبني ، أبونا ، يا عزيزي ، ارى بان الامور المادية قد اثرت فيك كثيرا . ارى من واجبي ان اسألك السؤال الصريح التالي : عندما اقتبلت الكهنوت هل كان هدفك الحصول على مكاسب مادية بما فيها السفر أم التفرغ  لخدمة الناس ؟
- أبونا القس : خدمة الناس طبعا .
- سيدنا المطران : إننا نمرّ بظروف قاسية جعلت الكثيرين من رعايانا يربطون الليل بالنهار للحصول على ما يسدّ رمقهم أو أحيانا يكتفون بوجبتي طعام في النهار لتأمين بدلات ايجارهم الباهظة . هل تقبل ، انت الذي اتيت لتخدم هؤلاء ، ان تتركهم يئِنّون تحت اثقالهم هذه وتذهب ؟ اليس من واجب الراعي ان يهتم باصغر خرافه ولا يتركه الا اذا اطمأنّ عليه  ؟ أنا لا انكر عليك الحق في البحث عن الراحة التي تحتاجها لتأدية واجباتك بصورة صحيحة ، ولكن لا يجب ان يستحوذ هذاعلى افكارك ، فالخلود الى الراحة او السفر يأتيان في وقتهما .   أدعوك الان لترك هذه الامور الدنيوية جانباً ، لاني أرغب في سماعك ايضا على الصعيد الروحي ، هل استطيع ان اساعدك في بعض حالاتك الروحية الصعبة ؟
- أبونا القس : سيدنا ، بما اني بدأت بالصراحة ، اود ان اقول لك بهذا الشأن : أنا أمرّ احيانا بجفاف روحي وبحالات شك توصلني الى درجة الاحباط ، انها ساعات صعبة جدا.
- سيدنا المطران : هذه هي المشاكل الحقيقية التي كان بودي سماعها منذ البداية . اسمعني يا بنيّ إن هذه الحالات التي تذكرها لا تقتصر عليك وقد يمرّ بها كل رجل دين ، لان رجل الدين كائن بشري ولا يسيطر على كافة ساعاته. معالجة هذه الحالات تقتضي الكثير من اوقات الرجوع الى النفس والتأمل . يجب ان نقتنع بالصميم باننا اخترنا طريقا صعبة ، وبعين الوقت يجب ان نتذكر بفرح باننا اخترنا ايضا النصيب الاوفر ، أي نصيب تمثيل المسيح ابن الله ، هل هناك اسمى من هذا الشرف ؟ إن ادامة هذا الشعور وهذه الحقيقة تدعونا للرجوع دوما الى المعين الذي نهلنا منه الحياة لاول مرة   .
- أبونا القس : انا احاول ولكني بكل صراحة اجد نفسي  احيانا كالهشيم الذي يلتهب عاليا ولكنه يخمد بسرعة .
- سيدنا المطران : من المهم جدا ان يرجع الكاهن يوميا الى داخله في خلوة تأمل وفحص ضمير ، كما يجب عليه ألاّ يهمل قراءة الكتب المقدسة وغيرها من الكتب فالمطالعة والاطلاع اساسيان للكاهن . من المهم جدا ان تتمّ صلاته وتأمله  بحضرة المسيح ، امام القربان ، لتخصيص حالات صمت يفتح فيها الكاهن نفسه كاملا ويستسلم كليّا امام من قال انا النور والحق والحياة والذي سيغمره بالسعادة الروحية التي يحتاجها لانجاز مهامه الكهنوتية بقوة واندفاع . ولكي لا يعود الى حالة اليبوسة هذه ،  يجب ان يعيد الكاهن العمليىة الروحية كل يوم ، كمن يشعر بعطش شديد ولا بدّ له ان يرتوي يوميا ليعيد نشاطه ويستمر في الحياة . هذه القوة المتجددة هي الكفيلة بابعاده عن الروتين الذي يحوله الى آلة تعمل او مجرد موظف ينفذ الواجبات دون روح او حرارة . وبغية تنشيط افكاره وانعاشها ، يجب عليه ايضا الخروج بين أحضان الطبيعة ، اوقات تكون الشمس قد انتهت من ايفاد اشعتها بكل الاتجاهات وتكون السماء في اقصى درجات ازرقاقها ، واوراق الشجر قد بدأت تتمايل مع النسيم والزهور قد افترشت الارض وكأنها تنتظر زائرا رفيع الشان . هذه كلها تساهم في انعاش النفس وفتح اسارير الوجه ، وما اجمل ان ينقل الكاهن فرحه وسعادته الحقيقية الى المؤمنين .
- ابونا القس : سيدنا نصائحك ثمينة جدا ، وهي تشجعني للبوح بآخر مشاكلي لهذه المرة وهي : انا اشعر بان الناس يتربصون بنا كثيرا ، ويرشقونا بسهامهم لاتفه الزلات.
- سيدنا المطران : إنك قد اخترت الشفافية ، ولاجله فان اتفه الشوائب ستظهر عليك ، وبما انك المثل والقدوة ، سيقارن الناس بين الكاهن وبين مثله الاعلى ، اعني المسيح .
- ابونا القس : اننا عرضة احيانا لاشاعات لا اساس له نهائيا .
- سيدنا المطران : نصيحتي بصورة عامة هي ان يحرص الكاهن على ألاّ يكون حجر عثرة ، ويتجنب الاسباب أو الظروف التي قد تقود الى ذلك . لا بدّ من الاعتراف هنا بان الكاهن شخص أعزب لانه قد تفرغ لخدمة المؤمنين  ، لذا عليه ان يكون دقيقا في معاشراته وزياراته . يجب ان يعرف حدوده ويزن الامور ، لان بعض الحركات حتى البريئة منها قد يفسرها الناس بشكل آخر . ولكن هذا لا يعني بان يتأثر الكاهن للكلام التافه والاشاعات المغرضة . على الكاهن مشاركة الناس افراحهم واحزانهم ولكنه يجب ان يعرف حدوده . فالمبدأ هو ان يتوصل الكاهن الى جذب الناس ورفعهم الى العلى وليس العكس . 
- سيدنا المطران : اننا في لقاء اليوم سوف لن يكون في مقدورنا تغطية كافة الامور ، لذا ادعوك الى العودة . اذهب ابونا وتهيّأ لقداس يوم الغد ،  وحاول ان ترفع الناس بصوتك الجميل الذي هو موهبة من الله ، فالصوت الجميل يرفع القلوب نحو الله ويملأ الانفس فرحا ، لانه يقرّبهم الى مشارف الملكوت حيث تمتزج تراتيل الارض بـألحان الملائكة.
الان وقد انتهى اللقاء ، اقول : حضرت هذا الحوار الشيق والارشاد الروحي . لم اتدخل فيه ، وسانقله كما ورد دون حذف او اضافة . لقد وجدته لقاء بنّاء جدا ويمكن القول ايضا : اذا كان هذا الكلام لم ينفع فانه  سوف لن يضرّ ، واذا أهمله المعنيون سيشق حتما طريقه نحو بعض القلوب البسيطة .

kossa_simon@hotmail.com

112
ماذا قيل عن البُغض وعن اخته الكراهية

شمعون كوسا

كلما دقّ الناقوس الذي يُنبؤني بالتهيّؤ لمقال جديد ، اضطربُ قليلا لان نداءه يضعني من جديد امام مسؤولية التفكير في موضوع جديد . تلبيةً للنداء جلستُ على مكتبي ، وإذا بالقلم الذي استخدمه عادة في كتابة مسوداتي ، يتحرك نحوي ببطء ليعلن خضوعه لاناملي واستعداده الكامل للكتابة . نظرتُ اليه مطوّلا ولم أشأ الامساك به . انتظر القلم بعض الوقت وعندما رأى باني لم أُقِم له وزنا ، بدأ يتحرك في كل الاتجاهات كالطفل الصغير الذي يصرّ على جلب الانتباه  ، وفي حركته العشوائية التي كانت تترجم استيائه ،رسم منحنيات وخطوط وزوايا غير منتظمة . بقليل من الجهد أو شئ من قابلية التشبيه كان بوسع المرءِ استخراج بعض الحروف منها . كلّ ما أستطعت ان استخلصه من الخربشة هذه ،كانت ثلاثة حروف تشبه الباء والغين والضاد ، تخيّلت نفسي في جلسة مناجاة الارواح ، لاقنع نفسي بان القلم يدعوني الى الكتابة عن موضوع الـ (ب غ ض) . تصفحت اوراقي السابقة ورأيت بان كلمة البغض ومرادفاتها كالحقد والكراهية قد وردت فيها كثيرا ، ليس كموضوع رئيسي ولكن ككلمة ضرورية في جملة أو جملة في فقرة ، كان استخدامها لا بدّ منه لاستيعاب بعض النتائج أومعرفة بعض الاسباب . قلتُ ولِمَ لا ، هل ان اعادة الشئ المفيد يضرّ بشئ ، أليست الحياة ، كما اقول دائما ، تكراراً واعادة لنفس النصائح والمبادئ التي يسمعها الانسان ولكنه يحتاج اليها يوميا ؟
وفي غمرة تفكيري هذه ، تذكرت واقعة كنت قد قرأتها بهذا الخصوص في جريدة فرنسية كانت تقول :
في قطار يؤمّن التنقّل لركاب ضواحي باريس ، توقف القطار في محطة معينة . كان هناك امرأة تهمّ بالخروج مع ابنتها الصغيرة النائمة داخل العربة ، ولكنها كانت تجد صعوبة في ذلك . أوعز احد الركاب البعيدين الى شاب واقف عند الباب ، كي يتفضّل بمدّ يد العون لها ويمكّنها من النزول من القطار ، وإذا بالشاب المذكور يلتفت غاضبا الى الراكب صاحب الايعاز ويقول له بصوت عال جدا : ولماذا لا تقوم انت ، انا لن اساعد هؤلاء الناس لاني امقتهم من اعماق قلبي . مَن يا تُرى طلب من هؤلاء القدوم الينا  وركوب قطاراتنا ؟ هذا ليس موطنهم انهم أتوا الينا ليحرمونا من حقوقنا ، لقد افسدوا علينا الحياة ، انا اكرههم بشدة ، عليهم العودة من حيث أتوا   .
أمام هذا الجواب الغاضب ، قام الراكب صاحب المبادرة وهبّ لمساعدة المرأة فانزل عربتها . كان يتوقع الرجلُ الطيب كلمةَ شكر او ابتسامة صغيرة من قبل المرأة ، ولكنه تفاجأ لدى سماعه إياها تقول له : لا بدّ انك تختلف عن غيرك ، ولكن لا تعتقد باننا سنرحمك يوم ستأتي ساعة الانتقام حيث سنصب جام بغضنا وغضبنا عليكم جميعا دون استثناء ، لاننا نكرهكم كثيرا .
هذا مثل عن بُغضٍ  بلغ حدّ التطرف العنصري ولكنه ذو مغزى كبير . إن هذين الشخصين وإن ألقيا شباك بغضهما بعيدا وفي الاعماق لانهما يمثلان اجناسا وطبقات من المجتمع ، غير انهما نموذج صارخ للبغض العادي الذي يعشعش في نفوس الافراد ، بُغض لا يحتاج الى وقت طويل ليكتسب درجة الحقد والكراهية .
اذا اردنا ان نعرّف البغض نقول بانه وليد عداوة قديمة أدّت الى القرف والاشمئزاز . البغض ينكر حق العيش للاخر ، وهو حالة غضب لوجود الاخر والرغبة في اختفائه كلياً . فهو شعور يمحو الاخر ويقتله بالنيّة . إن الكراهية لا تفتش عن معرفة الحقيقة ، واذا حدث وان ادركتها فانها تحبسها على طريقتها في فكرة غير قابلة للتغيير .
عادةً يكون للشخض المُبغِض وجه عابس وغاضب ، وقد يكون بغضه مخفيا تحت ابتسامة جميلة مراوغة ، وفي كثير من الاحيان يكون دفينا معشعشا في القلب يفرز سمومه باستمرار ويولد افكاره السوداء دون ان يطفو الى فوق . يُفترض ان يحاول المرء التخلص من هذه الشعور الذميم الفتاك الذي ينكر جذريا وجود الغير، غير ان هناك من يحرصون على إدامة بغضهم وكراهيتهم للتمكن من  تنفيذ جدول الاحقاد التي يحملونها والايقاع بالاشخاص الذين يرغبون الانتقام منهم ، فالبغض عند هؤلاء يجب ان يبقى بجذوته المتّقدة ، لانه سبب وجودهم ومصدر سعادتهم !!.

احب ان أذكر هنا مجموعة اقوال مأثورة ، تركها كتّاب ومفكرون وشخصيات عالمية، كأيميل زولا ، وباسكال ، وستاندال ، وهيجو ، وروسو ، والفونس دوديه ، وغاندي،  وبوذا وغيرهم :

- جهنم ليست غير الكراهية التي تلمع في عينيك ، وايضا الحقدَ الذي يملأ قلبك الخاوي.
- بصورة عامة ، تأتي نهاية العلاقة عبر كلمات حبّ تتخللها صرخاتُ الكراهية .
- البُغض سمّ يقتل صاحبه ببطئ .
- البغض يدفع الناس على ألاّ يكونوا غير ظلّ أنفسهم .
- اننا نكره جيدا ما كنّا قد احببناه جيدا.
- الاحتقار نابع من الرأس والبُغض من القلب ، وكلاهما يقضيان على بعضهما .
- البغض الأعمى ليس أصمَّ .
- البغض هو غضب الضعفاء .
- البغض والكراهية مثل الحُبّ يتغذيان من اصغر الاشياء ، لذا فان كل شئ يناسبهما.
- الكراهيات المشتركة هي امهات صداقات غير ممكنة.
- المجاملة تحفّز الصداقة ، أما الحقيقة فانها تولّد البغض .
- البغض هو الحبّ الساقط .
- ليس هناك اسوء من كره النفس لانه يمنعك من حب الاخرين .
- أو ليس التعصب بغضا يبرّره الحب ؟!
- عندما ينتزع المنتصر أسلحته ، على المهزوم أن ينتزع بُغضَه .
- سنوات حبّ تمّ محوها بدقيقة بُغض .
- ان الصحافة منجنيق كبير يعمل بواسطة أحقاد صغيرة .
- الكراهية هي الاكثر تبصّراً بعد العنصرية .
- حب ّ الخبيث أخطر من بغضه .
وانا اختتم بالقول ، إننا اذا دخلنا حقلا مزروعا ببذور البغض والكراهية ، لان هذه المهنة بدأت تغري الكثيرين ، علينا برشّ حقل البغض هذا بالحُبّ الذي يملأ قلوبنا لان هذا الرشاش هو الوحيد الذي من شأنه  أن يقتل بذرات البُغض المضرّة .

kossa_simon@hotmail.com


 

113
لماذا أحببت البابا الجديد

شمعون كوسا

كان الدخان هو الناطق الرسمي الوحيد باسم الكرادلة المجتمعين خلف ابواب موصدة لانتخاب الحبر الاعظم ، خلفا لباباً لم يتوفاه الله ، ولكنه استقال او أحال نفسه على التقاعد بمبادرة لم تشهد الكنيسة مثيلها منذ ما يقارب سبعمائة سنة .
عندما خرج الدّخان بلونه الاسود ، لاحظ الوجومَ الذي رسمه على وجوه الناس . فظهرمرتين اخريين بنفس حلّته القاتمة السواد ، غير انه خوفا من انقلاب الناس عليه وقذفه بحجارة ، اختفى واقسم على ألاّ يخرج إلا بلونه الابيض ، وكان هذا في اليوم الثاني من خلوة الكرادلة ، حيث تم اختيار الراعي الجديد للكنيسة .
لقد عشتُ السنوات الاخيرة للبابا بيوس الثاني عشر ، وبعد موته توالى الباباوات : يوحنا الثالث والعشرين ، وبولس السادس ، ويوحنا بولس الاول ، ويوحنا بولس الثاني ، وبندكتوس السادس عشر . كنت اسمع اخبارالباباوات مثل سائر الخلق ، ولكني لا اعرف ما الذي دفعني هذه المرة لمتابعة انتخاب البابا كاملا ، حيث اصررت على ان اسمع البابا  الجديد واراه في وسائل الاعلام حتى في الايام التي تلت انتخابه . لقد أعجِبتُ شخصيا بمقدمه ، واقول باني احبه للاسباب البسيطة التالية : 

- لانه لم يكن مُدرجا على قائمة المرشحين للباباوية أو من كان يعتقدهم الناس  ذوي حظ اوفر ، كالايطالي أوالكندي أوالفليبيني أوالافريقي والبرازيلي وغيرهم من الكرادلة ، وبالرغم من كل هذا ، عليه وقع الاختيار .
- لاني سمعت بانه كان قد حصل على اكثر من اربعين صوتا في الاقتراع السابق قبل ثماني سنوات ، ولكنه كان قد انسحب لصالح البابا بندكتوس ولم يشأ إعاقة انتخابه .
- لانه عند انتخابه ظهر على الشرفة مرتديا ثوبه الابيض (سوتانة) دون الهرارة الرسمية التي التي لم يرتدِها الاّ لمنح بركته الرسولية .
- لانه انحنى عميقا ومطوّلاً امام الجماهير ، طالبا بركتهم وصلواتهم   قبل ان يباركهم هو ، وكأنه بهذا يقول بانه يستقي شرعيته من المؤمنين ويستمد منهم قوته كراعٍ للكنيسة .
- لانه اعتبر نفسه اسقف روما ، اسقفا بسيطا كسائر الاساقفة ، وحتى انه رسم البسمة على وجوه الناس عندما قال : لااعرف لماذا ذهب زملائي  الكرادلة الى اقاصي الدنيا لاختيار اسقف لروما ؟
- لانه لم يختر اسماء رنانه متبوعة بتسلسل رقمي ، أو اسماء مشهورة  : كبيوس او يوحنا او غريغوريوس او يوربان او ليون او كليمان ، ولكنه اختار اسم فرنسيس ، تيمّنا بالقديس فرنسيس ، صديق الفقراء ورفيق الطبيعة .وهو اول فرنسيس في تاريخ الباباوات .
- لم يقم بالقاء خطاب بصوت عال ، ولكنه اكتفى بكلمات قليلة وبسيطة عن الفقر والاخوة والمحبة .
كما أحبه كثيرا ايضا :
- لانه في الأحد الذي تلى انتخابه ، اقام قداسا في خورنة صغيرة داخل الفاتيكان لمجموعة بسيطة من الناس ، وعند انتهاء القداس وقف امام الباب كخوري رعية ليلتقي الحاضرين . إلتقى بالحاضرين  فردا فردا وكان يصافحهم  ويقبّلهم  ويعانقهم . كان يكلم كل واحد منهم بابتسامة لم تهجر شفاهه .
- لانه وبالرغم من ممانعة حرّاسه ، توجه نحو الجماهير الحاشدة خارج الكنيسة  ليكلم الناس ويصافح الكثيرين منهم .
- لانه اختار عيد القديس يوسف ، يوما للاحتفال بتنصيبه ، القديس يوسف هو الرجل البسيط الكتوم  وهو شفيع العمال .
- لانه ، قبل البدء بمراسيم التنصيب ، إستقلّ الباباموبيل (السيارة) المكشوفة وتجول بين الجماهير دون خوف ، علما بأن البابا يوحنا بولس الثاني كان في مثل هذه السيارة عندما تعرض للاعتداء .
- لانه ترك سيارته ونزل لتقبيل معوّق لا يقوى على الحراك ، بالاضافة الى تقبيله كل طفل يصادفه .
- لانه طالب بان يكون خاتمه البابوي من الفضة عوضا عن الذهب ، وحذاءه اسود اللون عوضا عن الاحمر التقليدي ، كما عمل على تبسيط مراسيم التنصيب.
واحبّه أيضا :
- لانه بقي واقفا يستقبل الوفود المائة والثلاثين التي حضرت حفل تنصيبه . كان يكلّم  هؤلاء الرؤساء والمندوبين ، ولا يكلّ من سماعهم أو يحاول صرفهم بسرعة . أنا أهنّئ ابتسامته التي كانت تزداد دوما انفتاحا وطراوة بالرغم من وقوفه لمدة ساعات طوال .
- لانه ذهب الى الفندق شخصيا وسيرا على الاقدام ليدفع فاتورة إقامته هناك .
- لاني سمعت احدى الارجنتينيات تقول بانه كان قدم الى السجن في بوينس آيرس لغسل اقدام احد السجناء .
- لانه كان قد ترك دار المطرانية في بوينس آيرس واستأجر شقة متواضعة لكي يعيش بتواضع وسط الفقراء .
- وهل لي ان اذكر بانه قبل ان يدخل الرهبنة اليسوعية ،  كان قد تخرج مهندسا كيماويا،  وتابع دروسة اللاهوتية عند اليسوعيين لمدة عشر سنوات واصبح في فترة ما رئيسا عاما لليسوعيين .
انا اتفاءل خيرا بهذا البابا ، ليس لغزارة علمه ومعرفته للغات، ولكن لقابلياته الطبيعية ومحبته للناس . لايمانه الشديد وبساطته وحبه للفقر والتجرد . انا ارى فيه شخصا طيبا جدا ووجها من طبعه الترحيب بابسط الناس . لقد قال عنه رئيس اساقفة باريس مؤخرا  بانه سيكون لهذا البابا شأن في الكنيسة وسنرى المفاجآت . كما قالت عنه احدى الراهبات الايطاليات قبل ايام : انا اتوسم فيه  (قديس فرنسيس) آخر يمشي على الارض بحب وطيبة وفقر وتواضع .
أما أنا ، لا أرى فيه رأس كنيسة سيتخذ اجراءات سريعة وجذرية ، ولكن مسؤولا هادئا لا يرضى الا اذا عادت الكنيسة الى اصولها ، فتتخلص من اثقالها ومظاهرها . إنه على بيّنة تامة بالفساد والفضائح ، وبكافة التقارير حول هذه المواضيع  وسيُقدم حتماً على الاصلاح بحكمة وبحلم .
هذا كل ما رغبت قوله ، وانا واثق بان هناك اسباباً كثيرة اخرى يعرفها الاخرون أكثر منّي .
 لنقل اذن حفظه الله ، وحفظ ايضا بطريركنا الجديد الذي ارى فيه شابا يمتلك  من الحكمة والبساطة والشجاعة ما سيساعده على إعادة المركبة التي تولى قيادتها الى مسارها الصحيح .

kossa_simon@hotmail.com


114
عصافير جاءت تسأل عن الانسان

شمعون كوسا

وجدتُ نفسي قرب جذع شجرة كبيرة تمّ قطعها حديثا ، كان ذلك بعد مسيرة نصف ساعة كنت احاول فيها التخلص من كرب عشعش في رأسي طوال الليلة . كان الهمُّ قد استأجر رأسي بكافة اجنحته ليتمكن من تنفيذ مهمته بحرية كاملة . لم أرضَ الجلوس على جذع الشجرة إلا بعد تأكّدي من أنّ هذا الجلاد قد اخلى الموقع تماما. فاغمضت عينيّ ، وحلقت بعيدا في الاجواء كالطير الذي كان يرقب باب القفص . كنت ابتعد بسرعة واجوب الفضاء في كافة الاتجاهات . اشتقت الى الغناء ، فصرت ابحث عن ابعد الاوتار لآتي بنغمات أطربتني كثيرا في ازمنة ما وانستني كل شئ . تغزّلت بالطبيعة وصرت اتغنى بالانسان دائم الشكوى ، هو الذي سجّل الله باسمه  السماءَ بانجمها والارضَ بمروجها وازهارها ، انسان ينعم بنور الشمس واشعتها التي لا تتوقف عن ايجاد ثغرات بين الغيوم لرسم لوحات يقف اكبرالفنانين امامها مسحورا مشدوها .
في لحظاتي السعيدة هذه كان يرافقني عصفوران لم يشآ مفارقتي الى النهاية.  فتحتُ عيني  عند الهبوط فابصرت العصفورين واقفان بالقرب مني . أمعنتُ النظر فيهما مرّة تلو الاخرى ، فلاحظت وجهين يحملان سيماء طيور سبق لي وان التقيتها في حوار غريب . قلت في نفسي : يقيناً إنّ هذين أبناءُ لعصافير قصدتني في مهمة حوارقبل الان ، فالمنقار هو نفسه ، ولون العين مطابق تماما ، فضلا عن الريش الذي خفّ لونه قليلا ، لربّما بسبب اقتران الاب بأم غريبة !!
أحسستُ بان الطيور ترغب في مخاطبتي ، فبقيتُ انظر اليها ، إلى ان دخلت مجالا جعلني اسمع احدهما يقول :
 لقد لاحظتُ من نظراتك بانك تعرّفتَ علينا . نعم ، نحن ابناء الطيور التي التقيتها . لقد حدّثني ابي عنك وعن المواضيع المختلفة التي تطرقت إليها ، وخاصة كلماتك عن الانسان الذي تنكّر للطبيعة وأخذ يعبث بها ،  الانسان الذي ابتعد عن مبادئه الروحية السامية التي كانت ترفعه وتميّزه عن بقية الكائنات ، وآثر الهبوط نحو المادة والتكالب على تكديس الاموال معتبرا أنّ كافة السبل مؤاتية من اجل ذلك . فسؤالي هو : هل يا تُرى قد تطور الانسان قليلا وعاد الى هدوئه وتصرفه الاخلاقي  الطبيعي ؟
استغربتُ لاهتمام هذه الطيور بامور الانسان  وقلت في نفسي ، أيعقل ان تكون الطيور تتناقل هذه المعلومات بينها وتنقلها ايضا لابنائها ؟ فتوجهت للطيرين وقلت : كنت قد قصدتُ اليوم شاطئ النهر بحثا عن لحظات خلوة ، ولكن هذا لا يهمّ ، يسرني ان اسمعكما واخاطبكما لانكما نموذج لمخلوقاتٍ تحترم الطبيعة وتسير وفق قوانينها ، وتابعتُ :
لقد تطور الانسان فعلا في مجال  العلم  والاكتشافات والصناعات ، ولكنه بقي ذاك الكائنَ ذا التصرف الشائن . إنه لا يؤمن إلا بما يدرّ عليه مكسبا ، ولا ينظر للاخرين ، مهما كانوا ، إلا من خلال هذه النافذة .  لقد بدأ الانسان يقفز قفزات كبيرة في حقول التقنية ، غير ان هذا لم يزده إلاّ غروراً . بات الانسان يرى نفسه خالق الكون ، ويعتقد بان كل شئ هو الان من صنع يده . لم يعد لديه مجال محرّم ، والقيودُ التي فرضتها الاخلاق والطبيعة قد أزالها من تلقاء ذاته ، لانها تعيقه في طريق أهوائه واهدافه ،  فهو يقول : لقد تغيرت الدنيا ، وكل شئ يجب ان يتغير فيها ،  بما فيها  التقاليد وحتى والاخلاق .
لقد شرع الانسان بتشويه الطبيعة ، وبحجة التطوّر، أخذ يعبث بها ويجري عليها تجاربه بحيث  لم يُبقِ شيئا على سجيته ، اعني كما كان قد خلقه الله ، فالنبات ضحية والحيوان ضحية والانسان نفسه ضحية لكثير من اختباراته،  ففي الكثير من علاجاته ، يتضح بان ما هو صالح اليوم يغدو مضرا بعد حين .
واذا تحولتُ الى موضوع ممارساته الأخلاقية ، فاني سأروي لكما ما هو شبه فضيحة . هل يمكنكما التصور بان بعض البلدان ، التي تعتبر نفسها متقدمة ومتطورة جدا ، قد بدأت بسنّ قوانين تجيز زواج المثليّين او المماثلين جنسياً ، أي أن يتزوج الرجل رجلا ، والمرأة امراة .
بهتَ العصفوران من كلامي ، ووضع أحدهما جناحَه على منقاره خجلا ، وبدأ يكلم زميله بانزعاج ، وقال : إن هذا أمر يدعو للقرف ، ناهيك عن انه تصرّف ضد الطبيعة .
قلتُ له: كانت مثل هذه الممارسات اللاطبيعية المحدودة  موجودةً منذ اقدم العصور، غير انه لم يكن يأتي احد على ذكرها  .  لقد بلغ البطر بالانسان حدَا قاده الى مثل هذه الممارسات . لقد ملّ مما هو طبيعي ورأى بانه لا بأس من مناقضة الطبيعة ،  هل تصدقاني اذا قلت لكما بان هذا الزواج يتمّ الان امام السلطات الرسمية ويتم تدوينه في السجلات .
قال احد العصفورين ، إن عقلنا الصغير لا يدرك هذا ، ولكننا نتساءل ومن اين سيأتي هؤلاء بالاطفال ؟
قلت له : إن اكثريتهم يطالبون بتبني الاطفال .
قال العصفور الثاني : واذا كانوا مشتاقين للاطفال لماذا التبني ، ولماذا لا يتزوج الرجلُ امرأةً والمرأةُ رجلًا ؟ ومن جهة اخرى ، اذا افترضنا بان الجميع تطوروا بهذا الاتجاه المثليّ اللاطبيعي ، بما أنّ تطورًهم السريع يقبل ذلك أولربما يشجعه ، فإذا قرّر الجميع إتخاذ هذا المنحى ، ماذا سيكون مصير الطبيعة ، هل ستبقي هناك بشرية ؟

قلتُ له إن كلامك هو المنطق بالذات ،  وأضفتُ : ما دمنا في صدد عدم منطقية الانسان وتناقضاته ، سأحدثك عن موضوع آخر .  لقد دأب الانسان على زرع نبتة التبغ فحوّلها تدريجيا الى سيجائر للتدخين . بعد فترة من الزمن ، اكتشف الانسان بان التبغَ مادةُ مضرة ، فقرر تنبيه مدخنيه  بالكتابة على العلب التي يبيعها : (التدخين مضرّ بالصحة) ، غير انه لم يَقُم بمنع هذه المادة المضرّة لان صناعتها تدرّ الكثير على بعض القوى المتنفذة .
بعد تفاقم أضرار السيجارة ، قررت الحكومات تشديد تنبيهها  فاصبحت الصيغة  : (التدخين يسبب السرطان) . لا يخفى على أحد بان السرطان مرض عضال ، ولكنّه لم يجرؤ أحد على إثارة حتى امكانية التقليل من الانتاج ، لان  هذا كان سيخفض ارباح المصنّعين الطائلة ، ويقلل من ايرادات الضرائب . عندما تفاقمت الامور ورأوا بان اغلب الامراض متأتية من التدخين، من باب المجاملة لضميرهم المنازع ، وضع المسؤولون على العلب ، عبارة اقوى تُقرأ كالتالي : (التدخين يقتل) . لم يكترث الناس لهذا التغييرلان الجميع باتوا مقتنعين ببقاء هذه الصناعة . إنهم يبيعون سُمّا بصورة رسمية ، لانهم يقولون بصراحة بان التدخين يقتل ، ولكن لا احد يفكر بمنعه لان المستفيدين منه هم اناس اشدّاء. بل ان بعضهم يروّج لبضاعته ولطريقة تصنيعها ، وكل شركة تقول : اشتروا سمّي لأنه الافضل !!
هذا مثل آخر عن ممارسات بني البشر . هل لي ان اتابع الحديث عن كائنات لم تُبقِ قيدا على أيّ شئ ، وقامت بلوي قوانين الطبيعة وتحويرها بما يخدم لذّتها ومنفعتها وانانيتها . نظر إليّ العصفوران بأسف ، والتفتا لبعضهما وقالا : قد نقعُ في الخطيئة إذا تابعنا الاصغاء لبقية الحديث ، وطارا.





115
صرخة غضب في وجه كنيسة متشرذمة

شمعون كوسا

لم يخطر ببالي يوما أن اتناول موضوعا بهذا التعقيد وهذا العمر الطويل لَو لَم اسمع ابنة اخي الصغيرة قبل ايام تعبّرعن امتعاضها الشديد لظواهر شاهدتها لدى بعض الكنائس ، ظواهر اختلاف في قوانينها ، وتناقضٍ في متطلباتها ، وتباين في خطاباتها .
لم آخذ ملاحظاتِ الصبية بنظر الاعتبار لِكثرة ما نراه يوميا ونسمعه بهذا الخصوص ولكن عدم اكتراثي هذا لم يفلح في محوِ ملاحظاتها عن ذهني ، وبدأتُ فعلا استعيد كلامها واتخيل شدة انزعاجها ، فقلت في نفسي : اذا كانت هذه الظواهر قد أثارت غضب شابة صغيرة ، لماذا لا نعترف نحن بالحقيقة ونتكلم ، لاسيما اذا كانت هذه الحقيقة  تستقي شرعيتها من صُلب المنطق والبداهة ، لان المعادلة هنا سهلة جدا : إذا كانت الكنائس كلها ، دون استثناء ، تدّعي بانها تتبع المسيح وتنشر تعاليمه ، لماذا إذن هذا التعدّد وهذا الاختلاف وهذا التناقض وهذه المجافاة فيما بينها ؟
بعد أن ركّبتُ في ذهني آلية هذا الموضوع وتاريخه ، ونصبت داخل نفسي ميكانيكيته المنطقية على غرار الساعات التي كنّا ننصبها ايام زمان ، توصّلتُ الى ما يلي :
منذ قرون نعيش الفرقة بين الكنائس إلى حدّ اننا اعتدنا عليها بالتمام ، وأصبحنا نرى الامر طبيعيا جدا، فالكاثوليكي بمختلف ليتورجياته في الشرق والغرب ثابت على ما هو عليه ، والارثودكسي بمختلف كنائسه هنا وهناك راكز لا يتزحزح  ، وكنيسة المشرق بشقيها سائرة في طريقها ، والبروتستانت يصرّون على انهم المصلحون ، ناهيك عن الكنائس الجديدة التي أخذت تنمو في كل الاتجاهات .
قلتُ في نفسي ، دعني أسأل هؤلاء جميعا بعض الاسئلة واستمع لردودهم ، فقلت :
- هل تؤمنون بان المسيح هو ابن الله ؟ رأيتهم ينحنون عميقا ويقولون ، وهل هذا كلام وكيف لا نؤمن !!؟
- هل تؤمنون بالاناجيل الاربعة ؟ بدأوا يضحكون قائلين : هذا كان شأننا منذ البدء ولا اختلاف عليه .
- هل تؤمنون بان المسيح أتى لخلاص البشرية ؟ سمعتهم يجيبون كلهم ، وهل نحن اطفال لكي توجّهَ الينا اشئلة بديهية مثل هذه ؟
- هل تؤمنون بان أهمّ وصية في المسيحية هي المحبة ؟ همَّ البعض  بمغادرة المكان معتبيرين أن السؤال ساذج لحدّ التفاهة ، ولكني اسرعت اليهم وقلت : اذا كنتم لا تختلفون على الجوهر ، واذا كانت وصية المحبة التي تؤمنون بها تدعوكم  للتآلف والتسامح والتفاهم والعفو ، لماذا تتجنّبون بعضكم البعض ، لماذا كل طائفة منكم تكرز باسم المسيح بصورة فردية مختلفة ؟
 إذا حاولتُ شرح الموضوع للذين لا يعرفون لماذا انقسمت الكنائس وماذا جعلها تختلف ، فان الكثيرين منهم سيقولون وبكل بساطة : ما لنا وهذه التعقيدات ، إن المهمّ لدينا هو المسيح وتعاليمه ، اما كيفية تكوين شخصيته فلسفيا أو لاهوتيا ، فهي حقيقة موجودة فيه وهو يعرفها ، وهو أصلا لم يطلب منّا تعقيدها والاختلاف عليها . بالنسبة لنا  نعرف بانه علم كثيرا وفي الاخير اوصى بمحبة الله ومحبة القريب وقال : ان هذا اعظم شئ عندي .
يجب ان نكون صادقين مع انفسنا ونعترف بان انانيتنا قد طغت على الحقيقة . اننا نفرض مصالحنا على المسيح نفسه. لقد ترسّخت الكراسي في مكانها ولا سبيل لزحزحتها أوالتخلي عن الامتيازات التي توفرها. إن تكبّرنا هو الذي يدعونا للقول  باننا لوحدنا نمتلك الحقيقة المطلقة وعلى الاخرين جميعهم التوجّه نحونا .
أنا أرى ، اذا جاء المسيح يوماً وطلب ممّن يمثلونه التجمّع في قاعة كبيرة ، سيتصرف معهم تماما كما تصرف مع تجّار الهيكل . سيقوم بامساك أول هراوة تقع تحت يده ، وينهر بشدة كل واحد ويقول لهم : كيف تقولون بانكم تمثلوني وتكرهون بعضكم البعض ؟ فيسرع احدهم ليقول ، سيدي انا كاثوليكي ولديّ الحقيقة ، ويعقبه الاخر ويقول أنا ارثودكسي ذو عقيدة مستقيمة ، والثالث انا من كنيسة المشرق ولم أحِد عن الخط الذي رسمته أنت ، والاخر يقول ، انا من دعوتُ الى إصلاح الكنيسة والاخر يقول : انا افقه اللاهوت والطبيعة البشرية ، فيقوم المسيح بضرب هذا وصفع ذاك وركل الثالث ووطرح الرابع أرضا ، وسيبعد الاخر من امامه ويقول لهم جميعا : أنا لم أكن احتاج الى اكثر من ان تنظروا الى بعضكم البعض كأخوة . لقد ابتعدتم عني كثيرا وإني أكاد لا اعرفكم . وسيقول ايضا : انا لا ارى نفسي من خلالكم ، لقد جزّأتموني وقطعتموني اربا اربا ، لقد قام  كل واحد منكم بتفصيل مسيح بموجب مواصفاته وقياساته الخاصة . هل تريدون ان افهم  منكم بانكم انتم  تمثلون الحقيقة وانا مجرد خيال ؟ لقد تركتم الجوهر الذي يجمعكم واصررتم على الاختلاف على التفاصيل والمظاهر ، وهكذا يضمن كل واحد مملكته كي يتباهى بها .
اذا اخذنا بنظر الاعتبار واقع الكنيسة الحالي  نقول بان أمر الوحدة المسيحية مستحيل أو يحتاج الى هزّة ارضية شاملة ، أما اذا تناولنا الموضوع ببساطة ودون تاريخه المعقد نقول : اذا قام كلُّ صاحبِ قرار بفحص ضميره وتناول الموضوع بقلب نقي ،   فالامر سوف لن يحتاج الى أكثر من خطوة واحدة ويد ممدودة ، واذا كان لا بدّ ان يصاحب اليد الممدودة بعض الكلام ، فانه سيكون : ايها الاخوة ، يا من نتّبع جميعا معلّما واحدا ، هلمّوا نكنس ما تعشش في افكارنا ونرفع قلوبنا الى السماء ، دعونا نخرج من مبانينا ونتجه الى ذلك النور الساطع الذي ينير دربا واحدا. لنتجرّد من انانيتنا ونتجه الى هناك لننهل من نفس المنبع الذي جمعنا يوما ، ولنعد من هناك متعانقين لنتعايش في حبّ وتفاهم . إن الامر فعلا هو في مثل هذه البساطة ويجب ان يكون في هذه البساطة ، لان الكنيسة تمثل المسيح الذي اسسها واحدة من اجل مرافقة جميع المؤمنين ، دون تمييز ، الى مملكته الازلية . وتعاليم المسيح هي نفسها لم تتغيّر ولا تقبل التأويل .
إنه لمن المؤسف ان تكون الطوائف كلها قد تحولت الى مؤسسات دنيوية. والأمرُّ من ذلك هو أنّ الكلّ قانعون بما هم عليه ، وكأنّ الفرقة والتشرذم هي الحالة الحقيقية.
في كلّ عام ، عندما يحلّ اسبوع الصىلاة من اجل الوحدة ، يتهيأ المسؤولون من مختلف الكنائس ويقيمون صلوات من اجل الوحدة ، يؤدّون قراءات وتراتيل مشتركة وبعد ذلك يخرجون فرحين وكأنما المطلوب منهم كان الاحتفال فقط بصورة جميلة وشيّقة ، ويقومون حالا بالاتفاق على موعد جديد للسنة القادمة . انهم يكتفون بتلاوة بعض الصلوات من اجل الوحدة ، ولا تخطر ببالهم أبدا فكرة الجلوس واللقاء من اجل التقرب الذي يمثل السبب الرئيسي لاقامة هذا الاسبوع .
ألاحظ احيانا في وسائل الاعلام وأقرأ عن بعض الرهبنات المسؤولة عن حماية بعض العتبات المقدسة في اورشليم او بيت لحم ، كيف يختلف الرهبان فيما بينهم ويتلاسنون ويواجهون بعضهم البعض بالايدي لدى اقامة بعض المراسيم المشتركة ، أو قيامهم باعمال تنظيف ، حيث يدّعي كل واحد  بعائدية المساحة أو الزاوية الفلانية الى طائفته . لقد تمّ نسيان الروحانيات وقدسية الكنيسة الواحدة من اجل ابراز مصالح الطائفة .
اختتم بالقول : إنها مجرّد سورة غضب انتابتني . أنا على يقين بان كلامي ، الذي أملته عليّ غيرة كادت تأكلني ، سوف لن يلقى أية اذنٍ صاغية ، بل سوف يثير حنق الكثير من رجال الدين ، وإني ارى الآن بعضهم يقولون : ومن هو هذا الشخص النكرة والتافه لكي يتدخل في أمور تخصّنا نحن القيّمين على امور الدين والكنيسية ؟ عند ذاك سيكون ردّي كالاتي :  إن النكرة او التافه هو واحد من بين الملايين الذين يعانون من انقساماتكم ، واذا كان قد تجاسر في قول هذه الحقيقة ، فقد استمدّ شجاعته من رَبّ الكرمة الذي دعاكم جميعا من اجل العمل في كرمه بقلب واحد ويد واحدة .

kossa_simon@hotmail.com



116
المنبر الحر / من قصص اللجوء
« في: 18:21 05/02/2013  »
من قصص اللجوء

شمعون كوسا

ان الآراء السديدة والافكار الجميلة بصياغاتها المتناسقة تأتيني عادة عند النوم ، فاقوم احيانا لتدوين بعضها ولكن في اغلب الاوقات أتقاعس عن النهوض معتمدا على ذاكرتي ، فامسك بالفكرة او الجملة بقوّة في ذهني ، لكي اعيدها بسهولة ، ولكني عند الصباح أرى صفحة الليل قد محاها النهار كليا . أعود واغلق عينيّ واضعا نفسي في ظلام الليل واجوائه ، فألمح بعض اطراف تلك الفكرة او أحرف تلك الجملة ، ولكني بمجرد الاشارة اليها ، أراها تولّي هاربة وتختفي وكأنها بحظرة شرطي يحمل لها مذكرة توقيف .

لقد تطرقت قبل الان وبصورة عابرة لبعض ما يُروى عن اللجوء ، ولكن الموضوع واسع بسعة المعمورة وسعة مئات الالوف من الناس الذين لبسوا ثوبه ، موضوع نعود اليه لا إراديا كل يوم .
لا يخفى على أحد بان لِلّجوء متطلبات اساسية لا بدّ من توفيرها وهذه المتطلبات الاساسية تفرضها ظروف البلد الذي ، في حالة العراق ، ذهبت الى ابعد مما هو مطلوب . وهناك ايضا متطلبات ثانوية اخرى ظرورية كتلطيف بعض الاجواء وتأزيم غيرها وتدوير بعض الزوايا وزيادة حِدّة البعض الآخر منها ، وايضا تحوير بعض المعلومات والاكتفاء ببعض أجوبة عشوائية قصيرة من شأنها تسهيل الكثير من الامور ، لانه لولا هذه اللمسات الخفيفة الثقيلة ، لكان الشعب العراقي باكمله قد استحق اللجوء ونال هذه الصفة بسهولة لان الموجودين هناك مرّوا بنفس الظروف الصعبة ويعيشون مضايقات قد تكون اقسى ، ولكن ظروفهم المادية وبعض الاسباب العائلية واعتبارات كثيرة اخرى منعتهم من مغادرة البلد أو حتى التفكير فيه .
وطالبُ اللجوء عادة ، يستشير من سبقه في هذا الشأن ، لتجنّب بعض الاخطاء وايضا لتصويب الامور وتقديمها بشكل يقبله ذوو القرار . يتمّ التركيز مثلا على المسار البري او الجوي الفلاني الذي سلكه اللاجئ لان بعض مسارات معيّنة تدعو للريبة . كما يتم اختيار التنظيم أو الحزب المعارض الفلاني للاسهاب في امتداحه ، وهذا يتطلب معرفة نظامه الداخلي واسماء مسؤوليه مثلا . ومِن بين هؤلاء ، أناس يختارون نقطة انطلاقهم من مدينة معينة دون ذكر أي شئ عن مسقط رأسهم ، وإذا صادف وان قال لهم احد : أولستَ أنت من هذه المدينة ؟ يبسط امامك ، على منضدة طويلة ، كافة الأيمان رابطا كل يمين بكتابه المقدس ، وهو واضع يده على صدره وبنبرة الواثق من نفسه يحلف ويقول : ان هذه المدينة التي ذكرتَها ، لم أعش فيها يوما  ولم تطأْها قدماي !!
يتمّ تقديم الملفُّ الى الجهات المختصة ، وبعد عدة أشهر من المقابلات والتحقيق والتدقيق ، يحصل طالب اللجوء على النتيجة . فاذا كان الجواب ضوءً أخضرَ ، يرفع اللاجئ يده عن قلبه ويوشوش للاذين الايسر أن يخفّف من دقاته ، ويبدأ بعملية استنشاق طويلة لانه لم يبقَ هناك سبب للخوف ، فالزوايا الحادة والاجوبة المختصرة مرتّ بسلام والقرار سيظهر بعد ايام في الجريدة الرسمية . يقوم صاحبنا حينذاك باخراج رُبعيّة عَرَقِه من جيبه الداخلي ، وبرشفة واحدة يوصل السائل الى نصفه . وعندما يكتسب اللجوء درجته القطعية ، تزول الخشية من إلغائه ، ما لم يكن ، صاحبُ الربعية ، قد فقد عقله وأقدَمَ على ارتكاب جريمة .
كلامي هذا كان عاما جدا ، ولقد دخلتُ بعض المسالك الوعرة لاصل الى منعطف يتيح لي سرد حادثة عشت حيثياتها في سفارة خارج العراق . في أحد الايام ، قدِمَتْ الى السفارة امرأة بصحبة مع ابنتيها وعبّأت طلبا للتأشيرة مدّعية بان زوجها لاجئ في بلد اوروبي . تقدمت المرأة بجوازها الاردني لانها كانت فلسطينية ، وبعد ان استعلمت عن المدة المتوقعة لاستلام الجواب ، غادرت السفارة .
بعد ثلاثة اشهر عادت المرأة الى السفارة وطلبت نماذج تقديم جديدة ،  وعند طلب اوراقها ، اخرجت من جيبها اوراقا عرقية . كانت تحمل هويات ووثائق عراقية اخرى حديثة الاصدار. استغربتِ الموظفة المسؤولة عن التأشيرات ، وعندما سألتها عمّا  جرى لها لكي تغير هويتها ، لانها سبق وان تقدمت للسفارة كفلسطينية وبجواز اردني ؟ غضبت المرأة وانكرت بانها فلسطينية ، وقالت بان كلّ ما تقدم كان خطأً ، وهي عراقية تماما وهذه اوراقها . إتصلت الموظفة بالمتشسار الذي أدخل طالبة التأشيرة حالا في مقابلة خاصة وطلب مني القيام بالترجمة . بدأ المستشار يطرح عليها بعض الاسئلة ، فاجابت في حدود المعلومات التي كان قد أطلعها عليها زوجُها ، ولكن عندما تعددت الاسئلة وتطلبت اجوبة مفصلة وواضحة ، لم تعُدِ المرأة تعي لما تقول ، فأتت أغلبُ أجوبتِها متناقضةً ، فكانت تكتفي بالقول :  العنوان الفلاني هو قرب مدينة المنصور أوبجوار معسكر الرشيد ، الى ان رأت نفسها في ورطة واصابتها حالة هستريا وقالت : لماذا تمنعون عني التأشيرة ، زوجي عراقي وليس لديكم حقّ في رفض طلبي او التحقيق معي ، واني قدمت الى هنا بعد ان حصل زوجي على الاقامة.
كتب المستشار تقريره الى وزارة الخارجية . بعد هذا بفترة قصيرة ، زار السفارةَ زوجُ المرأة المخولة بتغيير جنسياتها ، وقال بانه قادم ليصطحب زوجته الى حيث يقيم . بعد تقديم اوراقه الثبوتيه ، تم ابلاغ المستشار بالموضوع ، وهذا رآها فرصة مناسبة لاخضاع الزوج ايضا للمقابلة . دعاني للدخول معه لـتامين الترجمة ، خاصة واني عراقي وسأكتشف الكثير من الامور . لبّيتُ طلب المستشار مرغماً لمعرفتي التامة بحساسية الموضوع ، ولكنه لم يكن لي أيّ خيار في عدم القبول لاني كنت  المترجم الوحيد .
بدأ الزوج المقيم يتكلم بلهجة شبه عراقية ، كان قد اعتاد على اللهجة بحكم عمله لمدة طويلة في الكويت . إدّعي بان أباه كان عسكريا مهما يحتل مسؤولية في الجيش العراقي وبانه تمّ أعدامه مع الشخصية الفلانية ، وعندما قلت له بان فلان لازال على قيد الحياة ، إعتذر وذكر اسما آخر غير معروف .
بدأ المستشار يُمطره بالاسئلة ، فاستفسر عن مدرستة الابتدائية والمتوسطة وسأله عن موقع محطة الاذاعة والتلفزيون ، وعنوان الوزارة الفلانية وموقع المستشفى الفلاني والبريد المركزي والحيّ الذي يضمّ بعض الدوائر الاخرى ، كان صاحبنا قد وسّع دائرة معلوماته ولكنه اضطر كزوجته تكرار نفس الاجوبة المتناقضة وفي النهاية التزم الصمت رافضا الاجابة على اي سؤال  ، متوعّدا بتقديم شكوى لدى عودته .
بعد أن ناقش معي بعض الامور، كتب المستشار تقريره الذي كان يؤكد في صفحاته الاربع  ويكرر بان الزوج هذا ، على الاقل ، ليس عراقيا كما يدّعي . توقّع المستشار بان تقوم الوزارة بالغاء لجوئه او إعادة دراسة موضوعه ، غير ان الجواب وَرَدَ للسفارة بسرعة البرق وكان مفاده : لقد تمّ مقابلة اللاجئ هذا ثلاث مرات قبل الان وحصل على صفة لاجئ ولا سبيل للتراجع ، إمنحوا زوجته التأشيرة .

هذه احدى قصص اللجوء الغريبة . انها حالات نادرة ولكن هناك اشخاص استغلوا ظروف العراق واستطاعوا ان يخدعوا نزاهة المحققين .
لم يكن لي موضوع آخر افكر به فاكتفيت بسرد هذه القصة .

 

117
المنبر الحر / عكازة العم أبو فرج
« في: 13:25 16/01/2013  »
عكازة العم أبو فرج

شمعون كوسا

في أحد ايام الصيف ، كنت في زيارة قصيرة الى منطقتنا . أفقت من النوم مبكرا على غير عادتي ، اغمضت عينيّ محاولا اللحاق بالنوم واستعادة حصتي منه لذلك اليوم ، غير ان النوم كان قد ابتعد كثيرا لانه لم يكن قد وضعني في حسابه في توزيعات تلك الليلة . جلست في الفراش مفكرا بما عساي ان افعله ، وإذا بالناقوس الصباحي يقرع نقرات خفيفة ، تنفذ بهدوء داخل البيوت دون ان تزعج النائمين  .  قلت إنّ خير ما يمكنني القيام به الان هو التوجه الى بيت الله وحضور فروض صباحية اعتاد الناس على اقامتها  منذ الخيوط  الاولى من الفجر .
خرجت من البيت ، ومشيت وسط الشارع لاني كنت السائر الوحيد فيه ، خلفَ رجل عجوز يشقّ طريقه متكّئأً على عكازته . كان العجوز يمشي بسرعة على بعد عشرين مترا منّي ،  وفي كل خطوة يدقّ عكازته دقّا قويّا يجلب انتباه اثقل الاسماع . مشيت وانا اصغي لرتابة الدقّات ، فتمثلت نفسي سائرا خلف امرأة تنتعل القبقاب الخشبي أو تلبس حذاء يعلو كعبا عاليا ورفيعا. وبما ان كل ظاهرة تدعوني الى التخيل والتحليل ، تخيلتُ بان كل دقّة من العكازة كانت تعبيراً عن شئ يخالج صدر العجوز . تخيلته  في دقاته يروي بعض ما مضى من عمره من احداث تركت في نفسه أثرها . كانت العكازة تترجم كل ما يفكر به ، ففي اوقاته السعيدة ، كانت العكازة تنزل بقوة وبارتكاز على الشارع ، والاقل قوة منها كانت تقصّ بحزن وبصوت خافت مراحل مضطربة حمّلته الكثير من الحزن والعذاب .
في بداية السير كانت دقات العكازة مدوّية قوية ، فقلت : لا بد ان صاحبنا يستعرض ايام كان شابا ، رشيق القامة ، قويا ومفتول العضلات ، يتمتع بمظهر جذاب جعله محطّ انظار شريحة كبيرة من الناس . اشتدّت الدقات ، فقلت لابد  أنّ الذكريات الجميلة تتدفق وتتلاطم في فكره لغزارتها  . من بين ما كان يستعيده ، مواقفه الشجاعة في اسعاف الكثير من الضعفاء ، كانت هذه مدعاة فخره، كم كان يذكر بفرح الاوقاتِ التي كان يقف فيها وسط الجموع ويغني ، وكانت سعادته تبلغ ذروتها عند اختتام نهاراته بامسيات تجمعه باصدقائه ، حيث كان الفرح والبهجة العنوان الوحيد لهذه السهرات . كان يتذكر الامسيات التي كانت بنت الحان تتولى دعوة أحبّته الى الجلوس حول كأس تبعدهم عن هموم النهار . كان يحلو له التصاعد مع مقامات تطلقها الحناجر تلقائيا ، كما كان ينبسط لقصص اصقائه واحاديثهم الشيقة التي لم تخرج يوما عن حدودها المشروعة . كان يعجبه ان يردّد في هذه السهرات هذا القول :  وما الضير في احتساء كأس او كأسين مع الاصدقاء لقضاء بعض الوقت في احاديث مسلية ، بعيدا عن اللغو والنفاق أوالنميمة ؟ ورغبةً منه في إطالة لحظات سعادته هذه ، كان يوقف شريط افكاره على مشهد يحبه كثيرا ، فيرفع رأسه ويتنفس عميقا ويغلق عينيه ، ثم يعود ويكبس الزرّ لتكملة الشريط .

بعد هذه االمرحلة التي لم يكن يرغب في مفارقتها ، رأيتُ العكازة تخفّف من زخم دقاتها ، قلت في نفسي لا بد ان صديقي دخل مجالا غائما لم يستطع تجاوزه ، لقد دخل النفق المظلم ، وشرعتِ العكازة ، بدقاتها البطيئة ، تترجم حزنا عميقا . ابصرت العجوز لوهلة وكأنه آيل للسقوط ، فاسرعت اليه من موقعي البعيد ، ولكنه نهض قبل ان أصل اليه .  تعرضّ للكبوة عند وصوله الى الصفحة الخاصه بولده . شاب رشيق توقّف عمرُه لدى الثانية والعشرين .   تذكّر يومَ رافقه الى مركز النقليات ليودّعه وهو متّجه الى جبهة القتال . بعد خمسة أيام فقط من توديعه ، تلقّى العجوز نبأ وقوع ولده في حقل ألغام . كان النبأ نعيا وفي نفس الوقت إبلاغا باستحالة احضار جنازة ولده لان العدوّ كان قد احتل الموقع دون انتظار . كان يسير العجوز ببطئ ويَهِب نفسه المجال الكافي لاطفاء ما يشعر به من احتراق داخلي . كان قد قرّر ذات يوم ان يمنع ابنه من التوجه الى الجبهة ، ولكن الخوف من رؤيته بأذن مقطوعة او معلقا على خشبة المشنقة ، في حالةّ القبض عليه ، كان قد منعه من ذلك . كان يعلّل النفس بالقول بان الحرب مهما طالت ستنتهي ، وان الاحتمالات كبيرة في ان يعود الولد الى بيته سالماً. بالرغم من شدّة الالم الذي كان يسبب له المشهد ، كان يُلِحّ على التوقف عند أدقّ تفاصيل الحادث المريع والاسترسال في البكاء الى ان تهدأ نفسه.
وبما ان الحزن يناجي حزنا ، تذكّر أبو فرج يومَ فارقت زوجتُه الحياة . كانت مرحلة غيرت سير حياته تماما .  قاده هذا التاريخ الفاصل الى  الغاء كافة مشاريعه المستقبلية لانه لم يعد يرى جدوى من ذلك . شكّلت وفاة زوجته حدّا فاصلا في حياته ، لانه بعدما كان يعيش معتمدا على رفيقة وانيسة لم تخيّب امله يوما ، صديقة كانت تشاركه الافراح والهموم ويستمد القوة منها عند احتياجه ، شريكة وقورة لا تبخل عليه بنصائحها لانها كانت امرأة تلجأ الى العقل قبل إطلاق عواطفها . لقد وجد نفسه بعد موتها في مهبّ الريح . لم يعد الان سيد نفسه وكأنه عاد قاصرا ، تحت وصاية الغير . اعتبر نفسه وكأنه فَقَدَ ، ليس نصفَه ، ولكن ثلاثة ارباع نفسه . لقد اصبحت شؤونه بيد كنّةٍ كانت تنتظر هذا اليوم بشوق لكي تُملي عليه اوامرها . كانت تكرهه كثيرا ، وفعلا بدأت تُعامِله معاملة كلب غير مشمول باي قانون رعاية !! لقد اضحى العم ابو فرج شحّاذاً ينتظر خلوّ مائدة الطعام على  أمل العثور على فُتات لم يجد لها بعض الشباعى مكانا في بطونهم . في هذا الجزء من شريط عمره كانت العكازة تمشي ببطئ الى ان توقف ايقاعها المدوّي .
كان الشريط لا يتوقف ويمر بلحظات جميلة تعقبها ساعات انقباض والعكازة كانت المترجم الفوري منتقلة بين القوة والخفة والصمت . كنتُ افرح لدقات العكازة الرّاكزة لانها كان لحظات سعادته ، وكنت ادعو الله ألاّ تخفّ الدقات لاني كنت احسّ  بما يمرّ به من  حالة التعيسة .
بعد دقات قوية قليلة ، عادت العكازة الى دقاتها الخفيفة عندما وصل به الشريط الى معاناته اليومية مع جارة ابتلى بها. لم يعرف ابداً هل كانت كنّته التي تشجعها على تصرفها ، أم انها كانت معجونة خطأً في اليوم المخصص لفصيلة المفترسين ؟ كانت تقوم يوميا بايجاد سبب لمقارعته . كانت امرأة قد فقدت حياءها تماما ، في كل اسبوع كانت تقوم ببناء سياجها الشوكي للتقدم قليلا داخل مُلك العجوز. وكلما كان يحتج العم ابو فرج ، يرى نفسه في مواجهة امرأة شريرة تقوم باهانته أمام الناس وتقذفه باقذر الكلمات . كان يلوذ بالصمت ويحاول معالجة الامر بالصبر لان التورط مع امرأة ناشفة الوجه هو السقوط في هوّة موحلة عميقة ، كان يبتعد عنها على قدر المستطاع  حرصا على مكانته وكرامته .
 دخل ابو فرج الكنيسة بعكازة فقدت دويّها ، وكأنها لم تطئ الارض يوما ولم ترتكز . كان العمّ العجوز يقصد بيت الله بحثا عن الهدوء وسلام النفس . لم يكن يتلو الصلواتِ التقليدته ولا يتناول المسبحة لاحصاء ابتهالاته . حال دخوله الكنيسة كان يجلس ويغلق عينيه .كان يبدأ بصلاة عقلية يناجى فيها ربه بصمت من الاعماق البعيدة. يبقى مغمض العينين هكذا وكأنه يستخلص ما ترجمته العكازة الى ان يبلغ درجة الهدوء التام . كان في تأمله يسبر اعماق نفسه معرّجا على أبعد دهليز فيها ، الى أن يستسلم لربه بصورة كاملة .
كنتُ قد تابعته من البداية الى النهاية ، وعند خروجه توجهت اليه وسلمت عليه وطلبت منه اسمه فقال انا معروف باسم ابي فرج . كلّمته عن عكازته التي لفتت انتباهي وجعلتني اسير خلفه ، ومن خلال دقات عكازته ، اتخيل حقبات حياته واواكب خيط افكاره.  ترك الرجل العجوز عكازته في محاولة لاحتضاني ، فامسكت به كي لا يسقط ، فقبلني بحرارة وقال : انا سعيد للتعرف على شخص يهمّه أمري . اشكرك لاهتمامك بيّ لاني منذ زمن بعيد لم اصادف انسانا يسمعني ، وانت نجحتَ في معرفتي وسماع  كل  ما روته العكازة . بعد ما قصصت  له بعض ما سمعته من عكازته ، حضنني بقوة وقبلني  . عند هذا ودعته وغادرت .
انصرفتُ قبله ولكني كنت اسمع دقات عكازته ، فقلت في نفسي هل سيعيد ابو فرج الشريط من نهايته ، ولكن الدقات استمرّت بزخمها ، فاطمأننت لامره وقلت : لا بدّ ان العجوز قد نال عزاءه في صلاته العقلية . كان فعلا قد عثر على السلام الداخلي المنشود الذي يساعده على تحمّل اعباء يومه وشروره .


118
أسئلة طرحتها على الريح
شمعون كوسا

لقد سبق لي وأن حاورتُ الطيورَ وخاطبت الحيواناتِ وغازلت الاشجارَ والزهور واستلهمت افكاري من الغيوم والانهر ، وتابعت نموّ السنابل وناجيت الشمس ، قلت لنفسي لماذا لا اتوجه الى الريح في هذا اليوم العاصف ، إن الريح مستودع كبير للاسرار فهي تدخل البيوت وتتسلق المرتفعاتِ وتجوب الاعماقَ وتذهب الى اقاصي الارض . جلست في الحديقة خارج البيت وبعد أن هيأت اسئلتي توجهت للريح قائلا :
لا اعرف هل أُناديكِ ريحاً أم رياحا ، انتِ  التى نشعر بك ولا نراك ، انت التي تتصاعدين ، فتنخفظين وتنبسطين ، تزمجرين تارة وتهدئين طورا ، ايتها الريح التي نُحسُّ بوجودك في كل مكان ، ايتها الريح التي ائتمنتك الحياة على الكثير ممّا لم يُكشف بعدُ ، أودّ أن أطرح عليك السؤال التالي :
يتحدث الناس في هذه الايام عن نهاية العالم ، حديث شاع كثيرا وبدأ يزرع بلبلة هنا وهناك ، كيف ترى الرياح ما يدور بين الناس ، هل لِلرياح علم بذلك ،  وهل هذا صحيح ؟
اجابت الريح : على مدى المليارات السابقة من عمري ، لم اسمع يوما بان العالم قد انتهى .  سؤالك يدهشني كثيرا ، لانه صادر من كائن بشري خُلِق ناطقا عاقلا . إن مثل هذه الاشاعات تمّ تداولها لآلاف المرات قبل الان ، وقعت كوارث هنا وهناك ، غير انّ العالم بقي قائما ولم ينقرض . ولكني من جهة أخرى اقول : إذا فكرتم مليّا بهذا الامر ، ستجدون بأن نهايةَ العالم الحقيقية تحدث فعلا وتتكرر  يوميّاً في كل دقيقة وفي كل لحظة .
قلتُ ، ما هذا الكلام وكيف ذلك ؟ قالت الريح : ان نهاية العالم تحدث لدى موت كل انسان ومغادرته هذه الدنيا . فالانسان الذي يغيب عن الدنيا ، يصبح العالم بالنسبة له شيئا غير موجود ، وهذه هي نهاية العالم لانه سوف لن يتمكن من رؤية العالم وستكون النهاية بالنسبة له . أنت الذي تسألني الان ، إنك تحتضن العالم باكمله ، في  عينيك وعقلك وتحليلاتك ، وخيالك وتفكيرك ، فاذا انطفأت عيناك وشُلّ عقلك ومات خيالك وتوقفت انفاسك ، إذا رحلت عن العالم ، بعد عمر طويل ، ألا يكون غيابُك هذا نهايةً للعالم ؟ هل سيوجد بعد ذلك عالم بالنسبة لك ؟ العالم موجود بالنسبة لك لانك حيّ . قلتُ لها : صدقتِ حقا في ما قلت ، إذا اختفيتُ انا ، سيموت كل شئ معي ، وبالنسبة لي ستكون فعلا نهاية العالم . قالت : هل اقتنعتَ الآن بالموضوع ؟ قلت نعم . قالت فاذن اغلق فمك واسكت  !!!  

بالرغم من جوابها الذي اختتمته بعنف ، تجرّأتُ وعدت لها قائلا  : في يوم عاصف كهذا ، أتمنى احيانا لو قُدِّر لي أن استعير قساوتك وقوة غضبك ، ولو لفترة محدودة ، لكي أمحوَ بعض ما لا يتحمل البقاء ، وتقويم بعض ما اراه معوجّاً ، وتصفية بعض الامور المعلقة الاخرى . إبتسمت لي الريح وقالت :  من المؤسف أن تكون  قد اخترتَ أسوأ جانب من صفاتي . أنا أعصف وأتلف وأحطّم  وقد أذهب لحدّ القتل  لان الطبيعة قد برمجت قوتي ومواقع عملي ،  غير اني غير مقتنعة بالكثير مما افعله في حالات غضبي . ، أودُّ ان تصغي لرواية ساقصها عليك بهذا الخصوص ، إنها تحمل معاني بليغة ، فالرواية تقول :
في يوم من الايام إلتقتِ الريحُ مع الشمس وقالت لها ، منذ زمن بعيد لم نلتقِ لإمضاء بعض الوقت معا ، ما رأيكِ لو انصرفنا الى بعض اللّهو ولعِبنا لُعبة الرّهان ؟ قالت الشمس : ولِمَ لا ، ولكن ما هو موضوع الرهان ؟ اجابتها الريح : رهاننا سيدور حول موضوع بسيط جدا لانه يستهدف العجوز المستلقي على اريكة الحديقة هناك . علينا ان نستخدم قوتنا لحمله على نزع معطفه باقصر فترة . قبلتِ الشمسُ الرهانَ ، وأشارت للريح بالبدء في اللعبة .
تحركت الريح وهبّت باعتدال على العجوز ولكنه لم يأبه لها كثيراً. عاودت محاولتها بعصف جديد تضاعفت فيه قوتها ، واستعانت بالاتربة والرمال وحتى اوراق الشجر ولكن العجوز بقي منكمشا على نفسه وملازما لمعطفه . غضبت الرياح وعلا ضجيجها وازداد صفيرها وتوصلت بشراستها الى فكّ أزرار المعطف ، وإخراج احدى يديه منه ، غير انه بقي ملتصقا بالمعطف ، وكأنه متمسك بالخشبة التي تضمن له النجاة وسط بحر هائج . عصفت الريح مرة ومرتين وثلاث وتوقفت عند المحاولة الخامسة ، عند ذلك اعترفت الريح للشمس بفشلها ، لانها بالرغم من إنتهائها بازاحة العجوز من اريكته واسقاطه على الارض ، لم تقوَ على نزع معطفه ، فانسحبت من الساحة ، ودعت الشمس لابراز مهاراتها في النزال .
ابتسمت الشمس ونهضت من مكانها دون ارتباك  وارتفعت بهدوء وبدأت تبثّ حرارتها . كانت ترتفع الشمس وتنتشر اشعتها في كل مكان الى ان ملأت الجو دفئا . شعر العجوز المستلقي على الارض بحرارة شديدة جعلته يستغني عن المعطف ، فنزعه بهدوء وألقاه جانبا .
الآن وقد انتهت الرواية ، هل لي ان أبيّن لك بان المشاكل لا تجد مخرجا الا بالحلم والوداعة ، فالقوة تؤدي في اغلب الاحيان الى نتائج عكسية . ألستم انتم الذين  تردّدون في امثالكم بان الكلام المعسول كفيل باخراج الحيّة عن جحرها ؟  انا أكون احيانا أشبهَ  بشخص مخبول . ادخل سورة الغضب من غير مناسبة ، فاسحق كل شئ هنا واصبّ جام غضبي هناك ، حتى البحار لا اتورّع عن تحريك ساكن اعماقها ، واذا هاجت حنقا ، افتح فاها وألقِّمها سفنا كاملة بما تحوي من احمال وارواح . غير اني في مواسم اخرى ارتدي ثيابا اخرى ، ارتدي الوانا مريحة عند قدومي من المشرق في ايام الربيع ، حيث ألامس كل شئ برقة ورشاقة ، وانعش كل ما اعانقه .
قلت للريح ، قبل ان تستأنفي حركتك اريد ان اطرح عليكِ سؤالا سبق وأن ألقاه عليك بعض الكتاب والشعراء ولكنهم عاشوا حياتهم يترقبون الجواب ، صاغ البعض منهم السؤال بالشكل التالي :

ا
أيتها الريح ، إلى اين تذهبين ... بارواحنا ؟
الى اين تذهبين ... بأرواحنا ... وأنفاسنا ... وتنهّداتنا ؟
والى أين تحملين ...رسوم ابتساماتنا ؟
هل تذهبين بها الى  ... ما وراء الشفق ... الازرق البعيد ؟
أم تجرّينها فريسةً ... الى المغاور البعيدة ... والكهوف المخيفة ،
وهناك تقذفينها ... يمينا وشمالا ... حتى تضمحلّ ... وتختفي؟

نظرتْ إليّ الريح بابتسامة خفيفة ولملمت اجنحتها المترامية في كل الجهات ، وعند ارتفاعها نفضت أجنحتها بقوة فتناثرت منها كلمات وحروف . لم اشكّ بان يكون المنثور جوابا فجمعته وحصلت على السطر التالي : يا صاحِ ، يجب ان تترك الحياة محتفظة ببعض اسرارها ، فالكثير من اللوحات سحرها في ظِلالها .


119
اعترافات في المقبرة

شمعون كوسا


كثيرا ما في خروجي باتجاه المدينة ، أختارُ مسلكا يخترق مقبرة مجاورة ، تختصر لي المسافة وتوفّر الوقت . إنها مقبرة جميلة بتصميمها ومنظرها الطبيعي . لقد تفحصت القبور وقرأت تواريخها القديمة التي يرقى بعض منها إلى ما قبل مائتين او ثلاثمائة سنة . لم ادخل المقبرة يوما دون أن أردِّد تلقائيا بيت شعر يقول : ( أنظر كيف تساوى الكلّ في هذا المكان ، وتلاشى في بقايا العبد ربّ الصولجان ) . رسّخت لديّ المقبرة بعض القناعات وأضافت عليها أخرى ، كما افسحت لي الجو احيانا في الانطلاق بتخيلات وتشبيهات ، ومن ضمن ما فكرت به ، قلت مثلا : قد تكون المقبرة مساحة الارض الوحيدة التي تخصص قطعا سكنية لكل مولود دون استثناء . القوائم التي تنظمها للتوزيع لا تلتزم بتأريخ او تسلسل او فئة ، فالطفل يأتي في القائمة مع الكهل والشاب ، مع العجوز والطبيب ، مع المنظف والمدير أو الفراش . انها شقق صغيرة مريحة جدا لا يحتاج فيها الساكن الى اكثر من متر او مترين ، كما انها ممتلكات لا تحتمل المضاربة  حيث لا سبيل لاستئجارها او بيعها او اعادة بنائها ، إنها فعلا تحلّ عقدة من لم يحالفهم الحظ في الحصول على قطعة ارض سكنية في حياتهم !!!!
كنت أقول مرارا ، لا بدّ ان يكون لكلّ شخص مدفون هنا قصة او سرّ أو إعتراف معين لم يمهله الزمن على الافصاح عنه أو البوح به . في احد الايام اعترتني رغبة لا تقاوم في التعرّف على هذه القبور وساكنيها ، فتوقفت لدى بعض القبور ، لأتأمل فاتخيل ما خبّأه ساكنوها من ندم أو حسرة أو تمنٍّ أو مجرد رغبة في الكلام . كرّست نصف نهار لهذه الزيارة الخاصة ، وكانت حصيلتي كالتالي :
وقفتُ امام قبر عَمَّرَ صاحبُه طويلاً . إلتزمت الصمت لدقيقتين محاولا تخيّل صورة  الراحل الذي سمعته يقول : لقد عشتُ طويلا وبلغت من العمر آخر مرحلة مسموح بها ، غير اني ارى نفسي وكأني لم اعش يوما واحدا. كم كنت اتمنى الاستمرار على قيد الحياة لاني لم اشبع منها . استغربتُ لكلامه وصراحته ، وعندما رأيته يقفل السياج وينهي المقابلة، انتقلت الى جاره .
سمعتُ جاره يقول : كنت أحتَكِمُ على الكثير من المال ، وعندما احسست بدنوّ أجلي ، سحبتُ مقتنياتي السائلة من المصارف وطلبت ان تُدفَن باكملها معي لاني لم أكن أتحمّل فكرة مفارقتها أوالتخلي عنها للغير، لا سيما وانها كانت ثمرة اتعابي وسبب فرحي وسعادتي في الحياة . لا اعرف من اين أتتني الرغبة الملحّة في الاعتقاد بامكانية نقلها الى العلى . دفنت الاموال في القبر معي غير انها اختفت بعد اسبوع ، ولقد احسست بذلك عندما تعرض جسمي لهواء بارد قادم من الخارج . أصغيت لنزيل هذا القبر بانتباه شديد ، وانتقلت الى قبر آخر.
القبر الجديد قال : كنتُ صاحب اموال طائلة وحصلت على عضوية نادي اصحاب الملايين. كان لي حساب سِرّي لا يعرفه غيري . عندما استُدعيتُ للمغادرة ، اصطحبت معي الرقم قائلا : لعل هناك في الاخرة طريقة لسحب هذه الاموال العزيزة عليّ ، من يعلم !! غير أن خيبتي كانت كبيرة عندما قيل لي : إن عُملتك لا قيمة لها وقد تمّ إلغاؤها ، كان يجب عليك استبدالها ، قبل فوات الاوان ، بشيكات تحمل ، عوض مبالغ  المال ، مفردات العفو والتسامح والصبر والتواضع والوفاء والتضحية والمحبة وغيرها . لم أجنِ شيئا من مال كدّسته طوال حياتي وكنت حريصا عليه ، ندمي شديد وحسرتي أشّد على عدم تمتعي به وأيضا على حرمان اهلي واقاربي منه .
انتقلت الى قبر آخر أسمعَني الراقد فيه ما يلي : وافتني المنيّة وانا في صدد تنفيذ مشروع ضخم كان يشغل جلّ اوقاتي . كان المشروع على وشك الانجاز ، ومهلة شهرين فقط كانت تفصلني عن يوم افتتاحه . لماذا لم يمهلني القدر قليلا لرؤيته لاني كنت اعتزّ به كثيرا ؟
اقتربت الى قبر آخر ، شرع نزيله بوصف مدى سعادته وقال :  كنت فقيرا جدا أو بالاحرى معدوما ، وكان لي في كل يوم معاناة في البحث عن قوت يسدّ رمقي ، كانت حياتي مجرد ذلّ وشقاء . قدوم الموت وضع حدّا لشقائي ، وانا سعيد هنا في شقة صغيرة مسجلة باسمي .
انتقلت الى قبر آخر ، ولم انتظر كثيرا لأسمع ساكنه يقول : لقد تمّ اقتيادي قسرا الى هذا القبر ، توسلت كثيرا ، وناديت وصرخت للحصول على مهلة ساعة واحدة  تمكّنني من لقاء شخص كان سيردّ لي مبلغا كبيرا جدا. كنت اعرف حقّ المعرفة بان المبالغ سوف لن تفيدني بشئ ، ولكني كنت مولعا بزيادة اموالي وبرؤية اصفار تضاف يوميا على  ارصدتي، وها انا الان وسط اصفار مفصولة عن ارقامها .
في صفّ آخر من القبور ، وقفتُ امام راحل يقول : كنت كثير التعلق في الحياة. لم اتخذ عبرة مما اصابني ذات مرة حيث كنت على وشك الموت . نسيت الموضوع وتصرفت وكأني قد اجتزت الخطر وأن الموت سوف يبتعد عني لفترة طويلة ويتفرّغ لغيري . هل أحسّ أحد بطريقة تفكيري هذه وابلغ عني ، لكي يقدم وكيل السفر ويستعجلني بحزم حقائبي ؟
وعند قبر آخر سمعت امرأة تقرّ بان الموت أراحها من آلام شديدة تكبدتها لسنوات طوال . قالت بانها ابتهلتْ كثيرا كي يُدرَجَ اسمُها ضمن الرحلات الاضطرارية ، غير ان القطار اهملها طويلا قبل إيجاد مقعد لها .
وفي القبر المجاور سمعت رجلا يقول : كنت سعيدا مع زوجة جميلة جدا. كانت هي غاية وجودي في الحياة لانها كانت تغمرني بسعادة لا توصف . كنت افكر في كل شي واتوقع كل شئ عدا الموت الذي أودى بحياتي بسرعة وحرمني العيش مع زوجتي .
وعند قبر آخر سمعت شابا يقول ، هل كان يُعقل ان افكر بالموت وانا في الرابعة والعشرين لاسيما وإني لم اكن اعاني من ضعف او مرض او اي سبب آخر . لم اتعرض لقتل أو حادث أو غيره ، ولكني سقطت مكاني وفارقت الحياة. كنت أحمل آمالا كبيرة ، ولكنها ذهبت كلها ادراج الرياح .
وقبر آخر نطق وقال : رجوتُ المسؤولين هنا كي يوقعوا لي اجازة قصيرة للاشتراك في احتفال ديني اكفّر فيه عن بعض ذنوبي ، غير ان الجواب أتى زاجرا وحاسما . قيل لي بان العودة ولو لساعة واحدة مستحيلة ، لقد انتهى وقتك في الحياة وكان عليك التهيّؤ للرحيل قبل ان تأتي الساعة .
وساكن آخر قال : كان بودّي التصالح مع اخوتي وانهاء خلاف قديم  فرّق  بيننا لفترة طويلة ، لقد أرجأتُ المصالحة سنة بعد سنة الى ان أدخلني الموت ، على حين غرّة ، هذا النفق المظلم .
والقبر الآخر لم يتكلم عن نفسه ولكنه قال : بجواري يرقد شاب جميل جدا من عائلة عريقة ، شاب لم يعرف في حياته غير اللون الوردي. كان شخصا حسن الخُلق والأخلاق ، كان يحبه الكبير والصغير ، فحسده الحسّاد ، ولم يكن حسّاده غير اصدقائه الذين طعنوه في ظهره  .
انتقلتُ بعد هذا الى قبر رجل دين عادي توقفَتْ حياتُه لدى سنّ الثمانين . فقال : كان يجب ان احتاط للموت اكثر من عامة الناس ، ولكني كلما كنت افكر فيه اقوم بابعاد شبحه عني . وإذا كان لا بد لي من الاعتراف  فاني اقول : لقد إستغللت ثقة بعض الناس وبساطتهم أحيانا وهذا يضعني تحت مساءلة كبرى ، ومرارة أشدّ تدعوني للقول باني وقعت في حبائل المادة .
 أما القبر الذي يحاذيه  ، أطال في حديثه اكثر من غيره ، فتطلعت الى الرخام الذي يعلو قبره لاتأكد من هويته فرأيت باني أمام ضريح مطران يأسف لطموحاته الكبيرة التي لم تتحقق . قال : كنت متمكنا من العلم ، واتمتع بشعبية واسعة ، كنت اطير فرحا لمجرد التفكير بالمشاريع التي كنت مقبلا على انجازها ، كنت محط ّانظار القاصي والدّاني  فأتى الموت وقال لي : لا تفرح كثيرا يا سيدنا لان كل شئ زائل .
مررت على الكثير من القبور ، منها قبر راهبة تتأسف لاحتفاظها بحقد عمّر معها طيلة حياتها في الدير ومات معها دون أن تبوح  به ،  وعروسة  حرمها الموت من حبيبها في الاسبوع الاول من الزواج ، وجندي تعرض لانفجار قبل وصوله الى البيت بعد انتهاء المعركة ، وطبيب خان مهنته ، وشخص آخر يبكي بمرارة لانه توفي قبل   الاعتراف بجريمة ادخلت بريئا الى السجن ، والكثير الكثير من القبور الاخرى التي تنوعت أحاديثها  بتنوع اصحابها .
غادرتُ المقبرة عند آخر ضريح اكتفى بما يلي : انا سوف لن ادلي بأيّ تصريح لاني اعرف بانك ستنشر غسيلا لا احتاج الى نشره .
لقد تعلمتُ الكثير من المقبرة . استعدت كل ما سمعته مرتين أو ثلاث وفكرت مليا بهشاشة الانسان وبهذا الخيط الرفيع الذي يفصل حياة الانسان عن الموت . كنت اقول : هل يعقل ان ينتهي الانسان بلحظة واحدة ، هذا الانسان القوي، العاقل ، الجميل ، المبدع ، الثري ؟ كيف ينقل الموتُ الجميعَ ودون استثناء ، واحيانا بطرفة عين ، الى مشروع الشقق الصغيرة هذه ،التي يكتفي فيها الجميع بمساحة متر أو مترين ؟
انا لا ادعو هنا الى التركيز على الموت او الخوف منه ، بل بالعكس ادعو الناس الى حبّ الحياة والعمل ، وحتى الى جمع المال ولكن دون التعلق به كثيرا ، لانه فعلا لاشئ يفيد الانسان عند الموت ، لا الجاه ولا المال ولا البنون ولا أي شئ آخر. يجب التمتع في الحياة والعيش بحرية تتوقف لدى ابتداء حرية الغير . واذا كان عليّ اختتام الموضوع بكلمتين اقول : كنْ مليونيرا متجرّدا ، لانك اذا عشت متجردا ستعيش بسلام وسعادة وستترك الحياة نحو شقتك الصغيرة ، بعد عمر طويل ، غير نادم على شئ لانك لم تعوّل على اي شئ ، هذا ما اجمع عليه نزلاء القبور .

120
عودة الى شاطئ النهر

شمعون كوسا

أحسستُ بشوق عارم الى ينابيع المياه ، فمشيت والنهرَ في مسار تقليدي قادني الى مصطبتي القديمة التي استقبلتني هذه المرّة بكثير من الحزن بسبب تعرضها لكسرفي أحد ضلوعها . لم يكن بمقدوري المرور ، على غرار الكرام ، أمام موضع غدا بالنسبة لي شبه مزار . إتخذت الضلع غير المكسور من المصطبة مقعدا وجلست . دخلتُ تلقائيا جوّا خاصا صوّر لي صديقي العجوز  وكأنه لا زال جليسي . وفعلا ، دون ان اضطرّ لاغماض عينيّ ،  بدأت اسمعه وهو يتحدث ويصمت ، ويختار اعذب الالحان ويغني بصوته الجميل . لا اريد وصف ما احسست به من فرح ونشوة ، لاني مهما قلت سألقى صوتا رافضا من الداخل يقول لي ، لا زلت بعيد جدا.
في هذه الاثناء مرّ امامي جمع من الشباب لم اكترث لهم إلا عندما التفت احدهم يقول لرفاقه : أنظروا هذا هو جاري الذي كنت اكلّمكم عنه ، هذا هو الشخص الذي يكتب من حين لآخر ويزعج الناس باحاديث عن القيم والاخلاق . إن رأسَه دائمَ الاقامة في الغيوم وهو لا يفكر الا بمجتمع مثالي ، انه شخص يفتقر الى الواقعية . رمقني الشباب بنظرة ازدراء قصيرة وتابعوا سيرهم متمتمين كلمات ذات صلة وثيقة ببنات عمّ الشتائم !!
كانت المواكب تمرّ أمامي وكأنها في مسيرة . مرّت مجموعة نساء متقدمات في السن . كانت كلهنّ منهمكات بجدال محتدم ، أصواتهن كانت قد خرجت عن المستويات المسموح بها ، وحركات أيديهن اتخذت منحى عشوائيا ، في التوكيد والنفي ، والرفض والتوعّد ، في آنٍ واحد . إثنتان ممّن تأخرن عن الركب ، توقفتا عند بلوغهما مستوى مصطبتي . بدأت إحداهن تتفحصني من قمة رأسي والى أخمص قدميّ ، وكأني قاصدُها في تفصيل بدلة شتوية او الحصول على وظيفة تتطلب لياقة بدنية عالية ، وقالت لصاحبتها موشوشة : أعتقد بان هذا الاخ هو الشخص الذي لمحتُ صورتَه في أحد المواقع ، إنه ينشر عناوين طنانة لمواضيع جوفاء . كنت اتصوره إنسانا ذا هيبة ويتمتع بشخصية قوية ، غير أن ما أراه هو عكس ذلك . كانت الاخت الفاحصة حريصة على إرسال نسخة من خطابها الى مسامعي .
لم أعِ دواعيَ المرأة الفاحصة في التشكيك بشخصيتي ، ولكني قلت أخيرا : لربما يكون الشباب ومعهم النسوة مصيبين جدا في ما قالوا، فأشحتُ بوجهي ، وتركت المارّة رافعا انظاري الى سرب من الطيور كانت قد اختارت مجال رؤيتي ميدانا لمناوراتها . كنت استعرض السرب كلّما اقترب منّي واتفحص المجموعة طيرا طيرا ، علّني اتعرف على هوية أحد الطيور التي كانت قد زارتني هنا ذات مرة برئاسة الغراب وعضوية كل من الهدهد والبلبل والحمام وبعض طيور مرافقة اخرى . عندما لم اعثر على ضالتي بينها ، تبينت بانه كان قد تقرر في تلك الفترة إعادة انتشار الاسراب .
تركتُ الاجواء وانتقلتُ الى النهر بحثا عن بعض أمواج كانت ترافقتني ، أمواج توقفت لاجلي ، انتظرتني واستأنفت السير معي ، ولكني ضحكت عندما تذكرت المبدأ الفلسفي الذي يتخذ النهر مثلاً عند تناوله شرح مفهوم التغيير، فالنهر دائم السريان وهو في تغيير مستمر وكل نقطة تسيل وكل موج يجري فيه ، لا يعود من جديد .
بقيتُ قليلا مُطرَقَ الرأس ، وقبل أن أهمّ بترك المصطبة ، دنا منّي شخص يتأبّط حقيبة صغيرة وقال لي ، هل لي ان أجلس هنا ؟ قلت له قد لا تتّسع المصطبة لشخصين ، على أية حال أنا تاركُها . قال لي : لا تغادر لاني أحببت ان أثرثرَ معك قليلا . جلستُ مُكرَهاً ، وبدأ الزائر الجديد يرشقني باسئلة كثيرة  وكأنه مكلف باختباري ، وعندما لم يتلقَّ مني أيّة إجابة ، قال : إنّي ألمحُ داخل نفسك حزنا شديداً ، هل لي أن اطلب منك ان ترفع رأسك كي اتأمل وجهك أكثر؟ نظرتُ اليه مندهشاً وقلت له : من انت وماذا تريد ، هل أنت عرّاف أم ماذا ؟ اجابني ، انا لا اقرأ الطالع  ولا اتنبّأ بالمستقبل ، كل ما سوف أراه في وجهك هو ماضيك . وها أنا الان فعلا أمام مسار حياتك كاملة ، من صِباك ولحد الان.
إني ارى فيك الكثير من التقلّبات . أرى طرقا وعرة ، أرى تلالا ، أرى جبالا صعبة وقمما يكتنفها الضباب الكثيف ، أرى حفرا قديمة متروكة وحفرا أخرى قد تمّ ردمها ، كما ارى قبورا قد أُعيد ترميمها عدة مرات وارى فوهات بركان لم يقوَ الزمن على معالجتها .  لا أجد فيك إصابة مهمة او كسرا ، ولكن ما اراه هي نفس معذّبة . لقد عانيتَ من كَبَت طال أمده. هناك جروح تخلصتَ منها واخرى لم تندمل . أرى فيك شروخا قد اتسعت مع الوقت  ، هيجانك الداخلي لا يفلح دوما عن التعبير عن ذاته كاملا .
كنت اسمعه بانتباه شديد ، وعندما انتهى قلت له : لقد اصبت في قراءتك ، ولكن ماذا جنيتُ من قراءة ماض أعرفه أنا ، هل لديك وسائل لايقاف هذه التقلبات ، وتهدئة هذا الهيجان ،  واغلاق هذه البراكين ، وتضييق هذه الشروخ ؟
قال لي : إن ماضيك انت راسِمُهُ ، والمستقبل ايضا خاضع لريشتك . يجب أن تبتعد في تصاميمك الجديدة عن الزوايا الحادة ، إبحث في معمارك عن تدوير زوايا البناء . لا تترك الامور تتراكم فتتعقّد ، وعالج كل جديد في يومه كي لا تخلق قبورا وتكوّم تلالا ومن ثمّ جبالا او وديانَ . إستقِ دروسا من ماضيك لان اهمية التاريخ هي في العِبَر التي يوفرها للانسان إيجابا كان أم سلبا . إنك شخص مرهف الاحساس ، تُحلّل الامور وتفكر كثيرا ، وتتوجس وتخشى . أنك تقيس كلّ ما يصادفك بموازين حساسة ودقيقة جدا . حاول ان تخرج من دوائر تفكيرك الضيقة من خلال رفع انظارك الى العلا ، خارج اسوار مشاكلك .
لا تحكم على الناس بمعاييرك وقوانينك ، لانهم لا يرون بنفس منظارك ولا يشعرون بنفس شعورك. كما يجب ان تعلم جيدا بان الكثيرين لا يُولون اهمية كبيرة حتى لما تكتبه أحيانا من نصائح وارشادات. فهؤلاء يقرأونك ، ومن ثمّ يبتسمون ويكتفون بالقول ، نعم هذا ظريف !!
انا ادعوك للصمت بعض الوقت ، هبْ لنفسك هدنة ، ولا تهرع لمعالجة كل ظاهرة تلحظها ولا تسرع في معالجة كل اعوجاج تراه . إنك تبحث عن الحالات الكاملة والمطلقة وبالحقيقة ليس هناك شئ مطلق أو كامل في هذه الحياة . لا تنسَ بان السواد الاعظم من الناس يُؤاثرون السطح او السطحية في الامورعلى الدخول في الاعماق المُتعِبة والمُلزمة . واذا كان يهمّك هذا الامر كثيرا ، تيقّنْ واطمئِنّ بأن السائر في طريق الاعوجاج ، وإن رأى الباب مفتوحا وسار في الدرب ، فانه سيجد نفسه يوما أمام طريق مسدود يضطرّ فيه العودة من حيث أتى .
عند هذا الكلام ودّعت قارئ الخرائط هذا ، وَعُدتُ الى البيت بخريطة الطريق التي وضعها لي . إنها إرشادات لا تُلزم غيري ، ستساعدني على رسم مستقبل ، يتحول يوميا الى ماض سوف ينتظر مطالعة زائرنا بعد فترة !!

 kossa_simon@hotmail.com

121
هل إن الله موجود فقط في دور العبادة

شمعون كوسا

تناولت فهرس كتاباتي لرؤية ما نقُص فيها وما زاد من مواضيع ، فوجدتُ باني قد  أكثرت من التحدث عَمَّن أعمى المالُ أبصارَهم وبصائرَهم ، فاضحى الصديق من جرّاء ذلك يتنكر لصداقته والاخ يبتعد عن اخيه ، واصبح الناس لا يرون في بعضهم غير مشاريع تخدم مصالحهم الخاصة ، كما لاحظتُ باني لم أُركّز كثيرا على النهاية التي نتجه اليها جميعا ، موت يقودنا من آذاننا ، لاننا ضيوف على الدنيا ولا بدّ للضيف ان يغادر المنزل . وفي تسلسل المواضيع ، لفتت انتباهي فقرةُ لم تكن تحمل غير علامتي استفهام وتعجب . فتذكرت حالاً الموضوع الذي كان يراودني كثيرا ، والذي كنت اخشى الخوص فيه خشية التعرض لسهام بعض المتزمتين .  كان فعلاً موضوعا تجرأتْ فيه افكاري القفز من فوق الاسلاك الحمراء . توقفت هنا ، وبعد مراجعة قصيرة توصلت لقناعة تقول : هل نحن في عصر يسمح لنفسه تقييد حرية فكر يستنير بقواعد المنطق ؟  فجمعت افكاري المخزونة التي صاغت نفسها بالحديث التالي :

كلّما كنتُ أقوم بزيارة منطقتنا ، ألاحظ كنائسَ جديدةً تم تشييدها باسم طائفة جديدة . لم تبقَ فئة صغيرة أو طائفة مهما كان حجم جمهورها لم تطالب ببناء بيت لِله خاصٍ بها. قلتُ ، أيعقلُ أن تحتاج بقعة صغيرة بحجم منطقتنا إلى هذا الكمّ الكبير من دور العبادة ؟  من البديهي اننا لا نستطيع معالجة تشرذمنا وتوحيد معتقداتنا او اختلافاتنا الجزئية التي التحمت بنا وتسري في عروقنا منذ مئات السنين حتى دون ان نفهمها احيانا ، ولكن من جهة اخرى عدت لاستفهم نفسي قائلا : ألا نؤكد دوما بان إلهنا واحد ؟ هل يُصاب بيت الله الفلاني مثلا باذىً إذا قام اتباع طائفة معينة بإقامة صلاتها فيه بالتناوب ؟ أهي فعلا الحاجة الملحّة ، ام هذه مجرد رغبة في إثبات للوجود والتباهي والمنافسة في نوع البناء والقول مثلا بان الفلانيين ليسوا افضل منّا.  . أستغفر الله واقول ، هل تحوّل الله الى كائن تفصّله كلُّ فئة على مرامها وتطلق عليه صفات خاصة بها ، أو ربما تقول بانه لا يفهم إلا لغتها ولا يرتاح إلا لتراتيلها وصلواتها التي تركز على كلمات معينة  ؟ إن الله لا يطالب بتشييد بيوت خاصة وفخمة له ، لان البيت الحقيقي الذي يرتاح اليه هو قلب الانسان المملوء حبّا وحرارة . لذا فانّي اقول إذا كانت بيوت الله ضرورية لاقامة بعض الشعائر ، فانها ليست المكان الوحيد للصلاة .
يعتقد الكثيرون إن قدسية الله محصورة في بيوته او كنائسه ، وان القول بان الله حاضر خارج هذه الحيطان بالنسبة لهم هو ضرب من الخيال او مجرد مقطع قصيدة لشاعر يتحدث على هواه ، لان الشاعر أصلا يصرف ما لا ينصرف !!  أنا لا أنكر ، واكرّر من جديد ، بأن دور العبادة قد شيّدت فعلا لاقامة بعض المراسيم الخاصة ، غير اني اشعر بتواصل أكبر لوجود الله خارج هذه الحيطان ، وقناعتي هذه دعتني الى قول ما يلي :
تواصلاً مع خيط افكاري ، تمثلتُ نفسي حاضرا في بيت الله أصلّي . بعد ربع ساعة من تواجدي سمعتُ صوتا يناديني من بعيد : اخرج بهدوء وستجدني في الاماكن التي سأَهديك إليها . قال لي : سِر في الشارع الرئيسي حتى نهايته ، وعند بلوغ عتبة الدار رقم 5 اطرق الباب فتراني في وجه شخص مشرف على الموت ، إنه رجل يعاني من مرض عضال وباتت ايامه معدودة ، قبّله واجلس بجانبه لعلّك تخفف من آلامه. بعد هذا إنتقلْ باتجاه الجنوب الى أن تصل السجن الكبير ، ادخل هناك وستجدني في وجه شابين محكومين بالاعدام ظلما ،  خذ بيدهما ، وحاول ان تبعث فيهما الامل وتزرع فيهما الرجاء في عالم سيحقق لهما العدل .  وبالقرب من هناك ، في الجهة اليمنى ، ستجد بيتا طينيا متواضعا ، ادخل هناك وستجدني في وجه أفراد عائلة فقيرة لم تذق طعم الاكل منذ خمسة ايام ، حبذا لو قمت باطعامهم . وعند خروجك إتّجه نحو التلة الصغيرة ستجدني في  وجه رجل مقعد قد ترنحت عربته وسقط منها قبل اربع ساعات ولم يسعفه أحد . وبعد هذا إتّجه الى وسط المدينة للدخول في شارع الجداول ، اقرع الباب الاخضر الكبير،  لتجدني في وجه شخص ركبته هموم الحياة ، شخص حائر في كيفية ايصال طرفي الخيط للتمكن من العيش ، فاسمعه وبدّد مخاوفه وشجّعه على مواجهة الحياة ،  وفي نفس الشارع ، في البيت قبل الاخير ستجدني في وجه صبيّة مقبلة على الانتحار بسبب إشاعات أُلصِقت بها ، قمْ بتوسيع دائرة أفكارها لان امامها الحياة باكملها . ولا تنس البيت القريب من هناك ، بيت تسكنه بنات أرغمَهُنّ الزمنُ على ترك الطريق الصواب ، فكلمهن بمحبة وحنان وحذارِ أن ترميهن بحجر. وهكذا إبقَ ولاتبارح المنطقة ، وانتقل من شارع الى آخر ، واطرق الابواب لانك ستجدني في وجه كل محتاج ، وفي شخص كل مظلوم ، وكل طفل عارٍ أو عطشان . ستجدني حتى في وجه قطة جريحة أوعصفور مكسور الجناح ، ولا تستغرب لاني خلقت كل شئ على صورتي ومثالي .
قلتُ لله وماذا عن صلاتي ، هل سيبقى لي وقت لتلاوتها ؟ اجابني إنك باعمالك هذه تكون قد تلوت اعظم صلاة لانك بحثت عنّي ورأيتني في وجه كلّ من  زرتهم وقمت باسعافهم ، لقد منحتهم جميعا حبك وحنانك ، وهذا اعظم شئ تقوم به ، لان محبة الغير هي اسمى اهداف الانسان ، وانا لا اطلب منه اكثر من ذلك.
بخصوص أحد الاشخاص المغرضين الذين يصرّون على الاعتقاد بان الله حبيس  المعابد حصراً ، أريد ان أروي ما يلي :
دخل أحد المرائين بيت الله بخشوع وهو قد ارتدى ثوب الحملان . من الخطوة الاولى وهو لا زال عند عتبة الباب ، بدأ بالركوع واستقام ، وعاود الحركة عدة مرات الى ان وصل الصفوف الاولى بعد سبع ركعات . بقي اثناء الصلاة يرفع يديه ويتمتم صلوات لا يفقه معناها ، لان المهمّ عنده كان تحريك الشفاه . لدى جمع النقود ، اخرج من جيبه ورقة نقدية وبدأ يهزها ليجعلها تصدر صوتا ومن ثمّ القاها في السلة . كان لا ينقطع عن قرع صدره أثناء الصلاة ويفعل ذلك بقوة ولا ينقطع الى ان يشرع بسعال قويّ مسموع من الجميع . عند انتهاء الصلاة ، يتوقف عند الباب ويتعمّد الانتظار بغية التحدث الى الكاهن والتبرع امامه  بورقة نقدية أخرى ، يودعها صندوق المعونات دون الحاجة الى هزّها.
وما أن يجد صاحبنا نفسَه خارج بيت الله ، حتى يقوم بخلع ثوب الحملان ليرتدي بدلة الذئاب الخاطفة السفرية . يقول في سرّ نفسه أنا الان خارج بيت الله ، لقد قمتُ بواجباتي في الصلاة والتبرع . فيقوم بنفخ صدره ، ويبسط ذراعيه مزهوّا ، ويفرك يديه ، ويُخرج من جيبه  ورقة طويلة يكون قد أدرج فيها جدول أعماله لذلك اليوم . الفقرة الاولى فيها كانت تدعوه للتوجه الى المحكمة للادلاء بشهادة زور لقاء مبلغ مهم من المال . الفقرة الثانية كانت تركّز على ضرورة اقناع فلان بتحوير كلامه لغاية في نفسه ، والفقرة التي تليها كانت تذكّره بزيارة صديقه الذي يملك صالة يتقاطر عليها النمامون والمنافقون. ومن بعض المهام الاخرى ، موضوع تهديد شخص يقوم بعرقلة بعض اعماله غير الكاثوليكية ، وفقرة اخرى تقول له : لا تنسَ الرشوة الموعودة لفلان ، وفقرة اخرى تدعوه لزيارة لفلان من اجل إغاضة جاره ، واخرى تعيد الى اذهانه أمر الاشاعات التي يجب عليه بثّها.
مع كل ما ذكرته ، لم يكن صاحبنا الا عند الفقرات الاولى من ورقة طويلة جدا. قلتُ في نفسي ، لقد آن الاوان كي اغادر الخطوط الحمراء واعود داخل السياج المسموح ، لاني اذا استمررت هكذا ساعرّض نفسي لاطلاقة طائشة من صاحبنا الذي لازال في بدلة الذئاب الخاطفة التي يرتديها خارج بيت الله ، وقد اكون انا ضمن الفقرات الاخيرة ، اسفل القائمة !!

122
المنبر الحر / سوق الحكايات
« في: 22:54 06/10/2012  »
سوق الحكايات

شمعون كوسا

خرجت الى سوق القصص والحكايات وارتديت ثياب المتسوّلين بحثا عن فكرة لم يحالفني الحظ في العثور عليها بين جدراني .  إخترت الزاوية البعيدة من السوق أترقب مرور المحسنين من موزّعي الافكار والاحاديث . كنتُ ، كلّ ما مرّ احدهم ، أمدّ اليه يدي مستجديا ، فكانوا كلهم ينظرون إليّ مُحملقين ويقولون : ألست انت الذي افرغت سرابيلنا ، ألم تشبع لحدّ الان ؟ وذهبت الجرأة باحدهم الى القول : إذهب الله يعطيك . نظرت اليه باستغراب وحملت نفسي وغادرت السوق .
كان هذا بعد ساعتين من التوسّل والتسوّل . تركت سوقا لم يمكّنني من الحصول  حتى على الشرارة الصغيرة التي تقودني احيانا الى النور . قبل ان اصل الى البيت ، جلست على صخرة كانت قد انفصلت عن جدار صخري كبير يحدّ الشارع . اغمضت عينيّ ومسحت كل ما كان يملأ مائدة رأسي ، فاذا بي اخترق الغمام المتلبد نحو السماء الصافية الزرقاء . أحسست وكأنّ الخيال لم يكن ينتظر إلاّ اغلاق الابواب الخارجية لينطلق في الفضاء. بدأتُ بالتحليق كالطير وأحوم هنا وهناك ، وتحوّل التحليق بعد ذلك الى صعود سريع نحو ارتفاعات وضعتني خارج الجاذبية الارضية ، إلى أن وجدت نفسي وسط مرج فسيح تقطنه كائنات خاصة بيضاء تتحرك بكافة الاتجاهات .
قلت في نفسي ، أيُعقل ان اكون قد بلغتُ دون علمي إحدى الكواكب ، او طابقا سفليا صغيرا ممّا يذكرونه عن السماوات ؟ !!  وقفتُ أتأمل قليلا حركة الناس وتوقفت مندهشا عندما وقع نظري على شخص أبيض يشبه الكائنات البشرية . تقدمت نحوه وألقيت عليه التحية بلغة عربية . رفع عينيه نحوي بنفس الاندهاش ، ودون ان ينطق بكلمة واحدة ،هبّ نحوي وعانقني بشدة وحرارة ، ونظر إليّ قال : وأخيرا حضيت بلقاء انسان سويّ قادم من الكرة الارضية .
عايَنتُه من جديد وقلت له : ماذا اتى بك الى هنا وأيّ كوكب هذا ؟
دعاني الى الجلوس على اريكة شبيهة بكتلة ثلجية كبيرة ، وقال : أنا هنا منذ ثمانين عاماً . انا من سكنة إحدى حارات الرصافة في بغداد .
قلت له وكيف وصلتَ هنا ؟ اجابني : في أحد ايام الصيف وعند المساء ، بينما كنت ألعب مع شلّة من اصدقائي ، ابصرت شخصين غريبَي الاطوار شكلاً وهنداما ، يتقدمان نحوي . لاذ أصدقائي بالفرار هلعاً ، أما انا فلم اتمكن من مجاراتهم في العدو ، فامسك بيّ الرجلان  واقتاداني الى هذا العالم أو الكوكب الذي لم اعرف اسمه لحدّ الان ، كما اجهل أيضا الهدف من اختطافي .
لم يشأ صاحبي ان يطيل في وصف حالته او التحدث عمّن يعيشون معه ، فامطرني بوابل من الاسئلة ، وقال :
ما هي احوالكم هناك ، وما هي اخبار المملكة ، وهل استلم الملك فيصل الثاني مقاليد الحكم ؟
لم اكن اتوقع هذا السؤال الغريب عن حقبة عفا عليها الزمن ، عن عهد أطلقنا عليه اسم العهد البائد . سكتتُّ قليلا وبدأت اقلب صفحات كان قد علاها غبار كثيف ، وبعد حسرة طويلة قلت له : أرى بانك منقطع تماما عن الارض . لا اعرف ماذا يجب ان اقول لك ولا من أين ابدأ ، لان ما سأقوله طويل طويل واخشى ان يغلبك النعاس قبل ان انهيَه ، فهو يحاكي ما كانت تقصه لنا جداتنا من قصص خيالية عند النوم ، غير ان  ما سأرويه لك هو واقع وحقيقة .
قلت له : يا صاحبي ، لقد انتهت الملكية وأُبيدت العائلة المالكة . لقد قامت ثورة  حوّلتِ الحكم الملكيّ الى نظام جمهوري . جرت الاحداث هذه في شهر تموز من سنة 1958. واذا سألتني عن الملك ، فانا اتذكر بلاغات المذياع التي كانت تلحّ على الناس وتكرر وتدعوهم للحفاظ على حياة الملك الشاب ، غير ان النار كانت قد تأججت ، ومساحات حريقها امتدت كثيرا فلم تميّز بين يابس يمكن إحراقه وأخضر لا يجب المسّ به .
لاحظتُ هنا اربع عبرات تركت مقلتي صديقي منحدرة بهدوء وخجل على وجنتيه . أعطيتُه مهلة صمتٍ يحتاجها قبل ان استأنف سرد الاحداث ، ولكنه بادرني قائلا : وماذا عن الحكم الجديد ، هل انتم راضون عنه ؟ فاجبته بحسرة اخرى تختلف تماما عن سابقتها وقلت :
إنك تسألني عن الحكم الجديد ، وهل بقي حكم جديد ؟ لم تقاوم الجمهورية الفتيّة امام انظمة اخرى تعاقبت بسرعة . كان قد استبشر الناس بالجمهورية التي اقامها شخص يتصف باخلاق حميدة ويتميز بالرحمة . كان يردد دوما ويقول بان الرحمة فوق العدالة ، وفعلا اصدر عفوه عن عدد كبير من المحكومين . 
لم يدم هذا الحاكم كثيرا لان الاطماع بدأت تعتمل داخل الصدور ، لاسيما صدور رفاقه ، فانقلبوا وقلبوا الحكم عليه . بعد ان حكمَ الثوارُ الجُدُد البلدَ بالسيف والنار ، انفتحت الابواب على مصراعيها لثورات تتالت ، فاضحى البلد مسرحا لثورة بعد ثورة وانقلاب بعد انقلاب . كان كل ثائر جديد يأتي ،  يفرض نفسه بقوة السلاح ويدّعي بانه يمثل الشعب ، ويبدأ بابادة من سبقوه بالحكم ، فتحولت الثورات الى حمامات جرت الدماء فيها في سواقي عميقة لم تجف لسنوات طويلة .
لم يعرف الناس الراحة يوما ، لقد دخلنا حروبا وخضنا معارك كثيرة بعدد ايام السنة ، وكل معركة كانت تحمل إسما خاصا . ركَبَنا الغرورُ ، فتشابكنا مع جاراتنا وتحدّينا جيوشاً تفوقُنا عُدّة وعدداً . أفنينا خيرةً شبابنا وسخّرنا خيرات البلد في شراء سلاح نحارب به العالم ، الى ان قادنا الدهر الى اليوم الذي خضعنا رغم انوفنا صاغرين ، ودمّرنا بايدينا  كلّ ما كنا قد اشتريناه من سلاح .
قال لي كائن الفضاء ، إن ما ترويه كثيرُ عليَّ ، وهناك الكثير ممّا لم استوعبه ، هل لك ان تتناول حديثك فقرة فقرة ؟ قلت له : إن ما تطلبه يحتاج الى شهرين كاملين من حديث متواصل لا يتوقف حتى في الليل . باختصار شديد اقول لك ، لم يذق بلدنا منذ ذلك التاريخ طعم الهدوء وراحة البال ، تحوّل عالمنا الى غابة لا تجد فيها غير القلق والخوف والعنف والارهاب .
قال لي : أوَلم تؤثر هذه الاحداث على الناس وتصرفاتهم ؟ قلت له :  كيف لا ، هذا الشعب الذي  كان يتصف بالشجاعة والكرم ونكران الذات ونجدة الاخرين ، فقَدَ إيمانه بهذه الصفات لكثرة ما تمّ تحميله من اثقال لم تخف وطأتها يوما  ، لقد اصيب الناس بالملل من كثرة التضحيات التي قدموها من اجل قضايا ولاهداف لم يكونوا يؤمنون بها لانه لم يجدوا لها أصلا أي معنى . لقد تعِب الشعب وأصبح جلّ اهتمامه البحث عن حيّز يسند اليه رأسه .  وخشية التعرض لسنوات استعباد اخرى ، اختار الكثيرون منهم الابتعاد إالي بلاد آمنة ، لان البلد الذي كان يفترض قد اكتسب بعض النضوج اصبح ، والى إشعار مجهول ، ساحةً للتهديد والاختطاف والاضطهاد والتفجيرات .
أراد صديقي أن يطرح اسئلة اخرى ، فقلت له أن حديثنا طويل وذو شجون ولا ينتهي بيوم واحد . قد أراك يوما ولكن عليّ الان العودة من حيث اتيت . بدأتُ بهبوطٍ لم يستمر كثيرا . فتحت عيني ورأيت نفسي جالسا على نفس الصخرة ، نظرت حواليّ كي أتأكد من الحقيقة فرأيت بان الاوراق التي كنت أمسكها قد سجلت كل ما دار من حديث في الاعالي.
فكرت مليّا قبل ان أعيد  قراءة اللقاء ولعدة مرات ، فكان قراري ان أحذف جملاً  واضيف عباراتٍ وأنقّح فقراتٍ باكملها خشية التعرض لهراوة الرقابة .   يجب ان اعترف بان محتوى اللقاء ليس بمستوى مقال شيّق ، غير ان شحّة الافكار في سوق الحكايات ارغمتني على توقيع الحديث وتذييله بعبارة : لا مانع من طبعه .
 

123
صفحات من دفاتري القديمة

شمعون كوسا


تركت معهد مار يوحنا الحبيب في مستهل عام 1968 ، ودخلت عالما كنت قد ابتعدت عنه منذ اثنتي عشرة سنة او بصورة أصحّ منذ احدى عشرة سنة لاني كنت قد باشرت من الصف الثاني . كان خروجي صدمة لاهلي وخيبة امل لابناء منطقتي الذين ادرجوا اسمي تلقائيا في سجل المقاطعة ، فاضطررت للابتعاد عن الانظار ، لا سيما وان شمس غضب بعضهم عليّ بقت غاربة لمدة طويلة .  اتخذت قراراً لم يكن يحتمل التأخير لانه سبق له وأن اُرجئ قبل ذلك . اما اذا سألتموني عن الاسباب ، فان شرحها سيحتاج الى سِفرٍ بأكمله ، سفرٍ قد اكتبه يوما تحت اسم (سفر الخروج) !!  ، ولكن ليس هذا مربط فرسي .
لم تطل اقامتي حتى في المنطقة الآمنه ،  لاني بعد ستة اشهر قررت التوجه الى بغداد بصحبة اخي الاصغر بحثاً عن عمل يغنينا الحاجة الى الاهل ، لانه ليس هناك اصعب من الحاجة عند الشاب الذي لا يسمح له كبرياؤه التعبير عنها الا بسكوت عميق !!
في ذلك الزمان لم تكن بغداد قد استهلت عصرها الزاخر، فالشركات الاجنبية كانت تُعدّ على اصابع يد واحدة ، وحتى الاعمال الاعتيادية كان على المرشح لها إيجاد العين التي من اجلها الف عين قد تُكرم !!

بعد اسبوع عثرتُ على عمل في محل لبيع الاربطة ، وداومت فيه ثلاث ساعات فقط ، لاني تلقيت بلاغا عاجلا عند الظهر يدعوني للتوجه الى مدينة كركوك بغية المباشرة في العمل لدى شركة فرنسية . تم تعييني في شركة استشارية تتولى دراسة مشروع ريّ كركوك ، وكان مديرها المدعو مسيو مونسانجون قد نفذ قبل ذلك عدة مشاريع صغيرة مماثلة في جنوب العراق . عندما قابلت المدير واجهني بالكلمات التالية : لا تفكر باني اخترتك بتوصية أو بتوجيه من احد ، ولا تعوّل في عملك على اشخاص تعرفهم أو تعتمد عليهم ، لانه لا يشفع لك هنا غير حبك للعمل واخلاصك فيه .
 كان عملي يتمثل بمرافقة خبير فرنسي لقياس كميات الامطار، إذ بعد كل يوم ماطرٍ كنا نتوجه لقياس الكميات الهاطلة من خلال اجهزة منصوبة على مصارف خاصة مبنية بين التضاريس والوديان المشمولة بالمشروع .
فاتني ان اذكر بانه كان عليّ الدوام في مدرسة ليلية خشية اقتيادي الى الخدمة العسكرية. بعد ثلاثة ايام من عملي وبينما كنت في الصف ، قدِم الى المدرسة أحد موظفي الشركة وطلب مني ترك الدرس على الفور لان المدير يطلبني . في الطريق افهمني الموظف بان السيد مونسانجون شخص سريع الغضب ويعبر عن حالات غضبه بصوت يبدأ عاليا ويستمر في نبرته الى ان يتحول صراخا .
وفعلاً حال دخولي غرفته قابلني بجبين مقطب ووجه منفوخ من شدة الغضب ، وقال لي : ماذا تعتقد يا افندي، هل يجب ان اركض وراءك لتوقيع اوراق تعيينك ، وهل اكون انا المسؤول اذا تعرضتَ لمكروه أو لاصابة عمل ؟ عندما بلغ  صراخه سقفا لا مجال لتجاوزه اعتقدت بانه سيهجم عليّ . حاولتُ ان اعتذر واقول له باني كنت اجهل الموضوع ، ولكنه لم يتِح لي المجال.
خرجتُ منذهلا وبدأت أتحسّس وجههي كالشخص الذي تلقى صفعة قوية ، وقلت في نفسي :  لقد نجوت من انقضاضه علي ولكني سوف لن انجو من امر الفصل . انتظرت عند الباب اترقب خروجه لاعتذر له واعلن عن اسفي الشديد . انتظرت ساعة كاملة امام الباب ، وعندما رآني لدى خروجه قال لي : ماذا تفعل هنا ، اجبته باني كنت اريد الاعتذار على ما بدر مني ، ولكنه ابتسم وقال : لقد انتهى كل شئ ولا تفكر بالموضوع .
تعرّف السيد مونسانجون على قابلياتي يوم إلقاء القبض على غالبية موظفي الشركة المسيحيين ، على اثر خطاب ألقاه الرئيس احمد حسن البكر ، في نهاية عام 1968 وتطرق للمؤامرات والعملاء والطابور الخامس وأمور مشابهة اخرى . كانت كركوك شبه دولة داخل دولة ، فالحزب كان حكومة ، والمخابرات كانت سلطة مستقلة والامن له تصرفه وحتى النقابات لها نفوذها . بعد هذا الخطاب ، رأت كركوك نفسها في حاجة ملحّة للقيام بحركة تليق بالمقام وتساير رغبة الرئيس ، والحلّ لم يكن بعيدا عنها ، هناك شركة اجنبية وهل هناك اسهل من الاشتباه بالاجنبي وبمن يعمل مع الاجنبي ؟ قامت قوات الامن فعلا بالقبض على عدد كبير من الموظفين المحليين . أنا شخصيا لم تشملني رحمة الاشتباه لاني كنت حديث العهد في الشركة.
 تمّ اخلاء سبيل هؤلاء المتهمين الكبار بعد اسبوع او عشرة ايام ، وكانت اقامتهم في دار الاعتقال مشغولة بالتحقيقات والتعذيب والتهديد . كان حلمُ المسؤولين إدانتَهم بتهمة بشعة ، والسؤال الملحّ في تحقيقاتهم كان يدور حول مدير الشركة ، هل هو جاسوس ام لا .  شدة التعذيب وهول التهديدات دعت احد الموقوفين الى وضع حدّ لعذابه بالاعتراف  بان المدير جاسوس . كان يعرف المحققون علم اليقين بانه جواب كاذب ، ولكنه اراحهم كثيرا لانه اتاح لهم كتابة تقرير للرؤساء بانه أخيرا تمّ الاعتراف !!  خرج الموظفون واستعادوا عملهم واستمر مسيو مونسانجون في عمله ، وكأن العملية باكملها لم تكن الا تمثيلا أو اذا تركناها للخيال فانه يشبهها بزخة مطراخطأت الغيوم في إنزالها !!     
في تلك الايام بالذات ، طلب مني السيد مونسانجون تحرير بعض الكتب الرسمية  الموجهة الى المحافظ والمسؤولين عن وضع الشركة وحالة الموقوفين غدرا. وفي فترة لاحقة كلّفني ببعض مراسلات اخرى باللغة الفرنسية. بعدما تأكد المدير من كفاءتي ولمس تحمّسي للعمل واخلاصي فيه ، وضعني الى يمينه ، في صفّ القطيع الصغير الذي نال ثقته الكاملة.
في سنة 1972، أنجز السيد مونسانجون  خرائط مشروع ري كركوك -العظيم ، بهمّة مهندسيه الفرنسيين والعراقيين ، وارتبط بعقد جديد للاشراف على تنفيذ المشروع . كان السيد مونسانجون شخصا يحبّ العراق وقد ذاع صيته بين المسؤولين لدى أعلى المستويات ، كانوا يستشيرونه جميعا ويعتمدون على تقاريره القيمة عن الزراعة والري والمشاريع الخاصة بها .
بعد قضاء اكثر من عشرين سنة في العراق ، تمّ إبعاد السيد مونسانجون بتأثير من بعض المتنفذين في مجال الريّ . كان قد رفض مجاراتَهم في بعض امور أو عادات تتناقض مع مفاهيمه وقيمه . كان مونسانجون يدعو المسؤولين لزيارة فرنسا ويستقبلهم ويأخذ على عاتقه نفقات سفرهم ، غير انه كان يرفض رفضا قاطعا تكريم أيّ مسؤول مهما كان منصبه عبراساليب ملتوية ، عن طريق الرشاوى والعمولات وغيرها .
بالنسبة لي ، أربع سنوات عمل مع هذا الشخص كانت كافية لوضع اساس متين لعلاقة  شبه روحية  . كان يناديني إبنه ، لانه كان محروما من الاولاد .
دعاني عدة مرات لزيارته في قرية سان نيكولا بجبال الالب. في اول زيارتي ، امضيتُ شهرا كاملا عنده في (شاليه)  يقيم فيه مع زوجته . كنا نخرج يوميا في جولات بين القرى والمرتفعات والوديان ولقد عرفني على مصانع لانتاج اجبان مشهورة ولم ينسَ معامل الخمور. في احد الايام ، حرصا مني على موعد كان ارتبط فيه مع احد المسؤولين ، تجرّأت بايقاضه من قيلولته وهو مستلق على كرسيه ، انتفض السيد مونسانجون من قيلولته ونهرني بعنف وبصوت عال . اعادني بصراخه هذا الى ست عشرة سنة خلت . لاحظتْ زوجته تأثري فتقدمت نحوي وقالت لي : لا تهتمّ ، هذا طبعه ، وانا يوميا اتعرض لهذا الصراخ ، غير انه طيب القلب .
لم يَدَعْ سنة تعبر دون ان يرسل لي بطاقة العيد ،  وفي كل مرة كان يدعوني الى زيارتهم ويقول نحن بانتظارك . قمت بزيارته ثلاث مرات وفي كل مرة كان يتكفل بنفقات سفري كاملة بما فيها اجور الطائرة .
في سنة 1994 ، كان قد ألحّ كعادته في المعايدة واضاف : اننا نتقدم بالسنّ ، ارجو ان تفكر  في زيارتنا قبل ان نموت . قمت بحجز تذكرة الطائرة وابرقت اليه تاريخ وساعة وصولي الى جنيف ، لان الحدود السويسرية كانت الاقرب اليه . بعد ثلاثة ايام ، اتصل بيّ ليقول : أجّلْ سفرك قليلا لان زوجتي قد أُدخِلت الى المستشفى ، وكانت زوجته تعاني فعلا من مشاكل صحية كبيرة . ذهبتُ وألغيت الحجز منتظرا بلاغه الجديد . كم كانت دهشتي قوية عندما تلقيت رسالة من زوجته بعد شهر ونصف تقول لي : يحزّ في نفسي أن اعلمك باني زوجي السيد مونسانجون قد فارق الحياة !!!
اليست هذه احدى سخريات القدر، كان يخشي مسيو مونسانجون على حياة زوجته ، ولكنها تعافت لكي تنقل لي نبأ وفاته .
وهنا ربطتُ الفرس ،  عند جبال الالب ، لان صفحة اوراقي القديمة عن هذا الرجل الذي كان يجمع بين العربدة والطيبة قد انتهت ، غير انه لا يمكنني اختتام الحديث دون الاعتذار عن حدث قادني مساره نحو منعطفات سياسية صغيرة ، انا الذي كنت اقول دوما أمقتُ السياسة والتطرق اليها . ولكن هل كان لي ان افعل غير ذلك ؟ نسمع احيانا بانه يقال عن بعض الطرق بانها محفوفة بالاخطار ، اما انا اقول إن حياة العراقي باكملها كانت محفوفة بالسياسة . كانت السياسة في البرّ والجو . كان العراقي يستنشق السياسة ويراها ويسمعها ويقرأها وحتى يأكلها عن طريق الطوابير اليومية التي كانت تؤمّن له نوعا من الطعام او احدى مكوناته  !! وهل اتكلم عن الحروب ومآسيها والخوف والقلق والتوجس والقيود الموضوعة في كل مكان وعلى كل شئ حتى على الافصاح عن الحقيقة داخل  البيوت ؟!!  الم يكن كل هذا جزأً بسيطا من السياسة ؟
 واتوقف عند هذه النقطة كي لا اغوص في اعماق الجزء الكبير المتبقى ، وابقى مغلولا هناك !!


124
المنبر الحر / في ذات يوم مشمس
« في: 18:29 27/08/2012  »
في ذات يوم مشمس

شمعون كوسا

في بلد لم يفلح يوما في إقناع الشمس على الظهور دون انقطاع ولو لعشرة ايام متتالية  ، اشرقت الشمس ذات يوم على غير موعد ، فتهيأ الناس للخروج في نزهات بين الحدائق والاشجار وعلى شواطئ البحيرات .
جمعتني ظهيرة ذاك اليوم في جلسة على الفضاء مع لفيف من المعارف والاصدقاء والاقارب وبعض الاغراب .
في مثل هذه النزهات ، حيث للكأس الدور الاساسي في جمع شمل الناس ، تسمح الخمور لنفسها الانتقال بين الموائد لتسقي بسخاء كل من يبحث عن القليل من الفرح ، تيمّنا بمزمور داود النبي القائل : القليل من الخمر يفرح  قلب الانسان ، او استجابة لقول احد الاجداد واسمه مام شابونا ، والعهدة عليه ، حيث كان يقول ،  : من لا يشرب لا يبصر وجه الله !!!

في هذه الجلسات تنفك عقدة اللسان ، وبعد احتساء الكأس الاول من الخمر ، يتحول الموقف الى مسرح او منبر حر يتيح للجميع الادلاء بآرائهم . كان الجميع يحاولون تجاذب أطراف الحديث في آن واحد ، فكان كل واحد يجذب الحديث من طرفه غير آبه إذا كان ذلك سيؤدي الى تمزق الحديث أم لا . دار أول حديث بانتظام دائري كامل ،  وبعد ذلك تحول الى ما يشبه النابض لانه كان يقفز من الاول الى الثالث ومن الخامس الى السابع ، وفي الاخير إختار نصف القطر مسلكا لايجاد مساحة شاسعة تغطي الجلسة الدائرية كاملة ، دون الحاجة الى نسبة ثابتة !!

في حديث كانت تقوده النساء ، دار الكلام عن الملابس النسائية ، فقالت إحداهن :
- هل رأيتم تقليعة هذه السنة في تنانير تتبارى في قصرها ؟
- نعم رأينا ولكن هذا النوع من الملبس لا يليق بنا.
- ولماذا لا يليق بنا ، هل إن من يرتدونه هم افضل أو اشرف منا ؟
- لسنا اقل مرتبة او شرفا من الناس ،  غير ان هؤلاء بلغوا هذه المرحلة تدريجيا وارتداؤهم لهذا النوع من الملبس هو منطقي وطبيعي جدا ، اما نحن فاننا قدمنا من بيئة لا تقبل بهذه القفزة المفاجئة .
- إنكِ متخلّفة في افكاركِ ولا اعرف لماذا استلمتِ الحديث . لقد تغيرت الدنيا ونحن الان في عالم حرّ ، يجب علينا نبذ العادات القديمة والتوجه الى كل ما هو عصري وجديد.
احتدم النقاش حول التنانير ، وتحول الى فساتين العرس والسهرة وانصاف البناطيل  وانتهي بلباس البحر . قبل ان يتحول النقاش الى موضوع السياسة ، تدخل الرجال لانهم كانوا قد تأخروافي بث برنامجهم الخاص ، فبدأ أحدهم قائلا :
- ألم تلاحظوا بان التأشيرات تُمنح بسهولة للقادمين من منطقتنا ؟ فالامر الذي كان شبه مستحيل في الماضي اضحى اليوم ممكنا وسهل المنال .
- لا اعتقد بان من حصلوا على التأشيرة ، يتّبعون طرقا قانونية ، لاني سمعت عن شخص كان قد استجاب لكافة الشروط المطلوبة وزوّد السفارة بكافة الاوراق ولم يحصل على نتيجة ايجابية ، وعن شخص آخر ، لا اودّ ذكر اسمه ، صدرت له التأشيرة دون ان يبذل جهدا يذكر .
- انا باعتقتدي ، أمواله الطائلة والتوصيات الناجمة ممن هم مغرمون بامواله ، هي التي لعبت الدور الرئيسي في تبسيط أموره .
- نعم هذا صحيح ، بعض الناس لا يبخلون بالمال في هذا المجال ، ان هؤلاء يحتاجون الى فرَصٍ إضافية لإنفاق اموالهم ، لان ما لديهم من سيولة وعقارات  لا يتأثر  بالوجبات اليومية من الكباب والسمك واللحم المشوي والبرياني أوالسيارات، فكل ورقة مسحوبة من دفاترهم ومجلداتهم يحل محلها يوميا اوراق جديدة .
- على ذكر المأكولات ، سمعت بان هناك الكثيرين ، مِمّن يحاولون تخفيف اوزانهم ، قد اقسموا للخروف والعجل بان يكون فطورهم رأس الحيوان وعشاءهم أرجله .
- لا اعرف هل ان ما يقوله بعضهم مزاح أم انهم فعلا مؤمنون بذلك ،  لاني سمعتهم يقولون : الكوارع مفيدة لتخفيف الوزن ، بالضبط كمن يقول وبقناعة ، بان القهوة مفيدة للقلب أو والعسل يعالج مرض السكري !!
أردت التدخل وقلت : ارجوكم لا تفتحوا بابا سوف لن يجد طريقه للاغلاق . إن كل ساكن في منطقتنا هو معنيّ بمثل هذا الكلام الذي يقود احيانا الى التجريح . إن ما يقال،  بعضه صحيح ولكن القسم الكبير منه ينطوي على مبالغات ، وبعض الحديث عن فلان وفلان يندرج ضمن الاشاعات او الاشتباه .
لم يلقَ كلامي وقعا ايجابيا لدى الحاضرين ، فرايت بعضهم يقلّب شفاهه ، وتجرأ احدهم بتأنيبي مباشرة قائلا : اخي نحن نعرف رأيك في مثل هذه المواضيع ، انت لست على بيّنة من خفايا الامور ، واذا كشفنا لك بعضا منها سوف تصاب بصدمة قوية لانه لم يبق على رأسك ما يكفي من شعيرات لتنتصب ، فالافضل لك ان تحتمي بسكوتك .
اغلقت فمي وانسحبت قليلا . وفي حضوري السلبي سمعتهم وقد انصرفوا الى تحليل اوضاع الساعة . كان الحديث قد تعرض الى تمزّق من بعض اطرافه عندما باشروا بالفقرة الخاصة بالطرائف والنكات . كان دويّ قهقهاتهم يبلغ اسماع الكثيرين مّمن يجاورونهم والذين كانوا في غنى عن سماع مثل هذا النوع من الاحاديث . كانت تدور النكات ، وبموجب روح العصر وبرعاية ما تتناقله الحواسيب وتحت اشرافها ، كانت تدور حول الجنس ومشتقاته . كان يبدأ الراوي بتناول بطله او بطلته ويبدأ بنرع ثيابهما قطعة قطعة الى أن يصل الى ورقة التوث ، فيبدأ الضحك الممزوج بالصفير والتصفيق . بعد هذا بات حديثهم ينتقل من المديح الى الهجاء ومن الانتقاد الى التأييد ومن السياسة الى الرياضة ، أعني من الديك الى الحمار كما يقول الفرنسيون ، ولكنه في كافة فصوله لم يرتفع قيد أنملة عن سطح الارض ، كلام لم يتعمّق  ولم يحاول بان يسمو ولو قليلا .
كان النهار قد اوشك على النهاية . كنت اتطلع الى الشمس وهي في دقائقها الاخيرة قبل الغروب ، تخيلتها وهي تتوجه إليّ بالكلام قائلة : لماذا لا يلتفت أصحابك الى منظر غروب لا يتكرر يوميا ، أن السماء صافية وقد رجوت الغيوم منذ الصباح ألاّ تعكر صفو الجو . سوف أغيب بعد قليل ، وإذا رغب أصحابك سوف أرجئ المغيب الى بعض دقائق اضافية لاتيح لهم التمتع  بمنظر الغروب البديع ، فقلت لها عبثا تفعلين لان  جماعتي منصبّون على لعبهم ولهوهم وحديثهم واكلهم ، والكثيرون منهم قد فقدوا كل احساس بجمال الطبيعة .

وفي سلسة خيالاتي ، تصورت احد اصدقائي البلابل يقول لي : انا اغرّد منذ ساعة ونصف  ولم ألحظ أذنا صاغية واحدة ممّن تجالسهم ، هل قد ملّ الناس من سماع اللحن الاصيل الذي كان يحرك جوارح الناس ، فاجبته : كنتُ اسمعك منذ البداية ولكنه وللاسف الشديد اضحى الكثيرون يرون في البلبل عصفورا عاديا ، وانهم يقولون بانه ليس لديهم الوقت الكافي لاضاعته في رؤية الاشجار وسماع العصافير .
وتخيلتُ شاعرا مشهورا يتوجه اليهم وفي يده ورقة يعتز بها لانها تضمّ اشعارا بديعة في نظمها ومعناها. كان يتوقع الشاعر ترحيبا حارا ولكنه لم يجد احدا يبادر لاستقباله ، واستمر الجميع بحديثهم وباصواتهم العالية والمتنافرة ، وبلغت الوقاحة باحدهم كي يقول له : اخي لقد قدمتَ الينا في وقت غير مناسب ، سوف نسمعك في يوم آخر . نظر إليّ الشاعر وهو منكسر الفؤاد وقال : هل فقدت الناس أرواحها ، الا تحتاج الارواح الى السمو والانتعاش الداخلي ؟ قلت له ان ارواحهم قد تخشبت ، وبالاضافة الى ذلك ، فان مخاطبة الروح تقودهم الى بواطنهم وهذا سيقودهم الى مزيد من الاحساس ويقضة الضمير ، والضمير يقود الى التبكيت وهذا آخر ما يبحثون عنه ، لا سيما وأن اسباب التبكيت في ازدياد مطّرد .
واضفتُ قائلا : ان العالم الجديد لم يعد يؤمن الا بالطين والاسمنت والحديد والمال والمكاسب الخاصة والاكل والملبس ، وبمفهومهم كل ما زاد عن ذلك فهو من الشيثطان !!  لم يغادر الشاعر قبل ان يلقى عليّ قصيدته التي سحرتني بما فيها من معان واوزان ، قصيدة حملتني عاليا وجعلتني في نشوة روحية حركت في نفسي اوتار مقام السيكا الذي اختار لي ثلاثة ابيات تغنيّتُ بها . صمتَ كل من كانوا يحيطون بي ، غير اني لم اكن أرى غير الشمس التي كانت في آخر خيوطها والبلبل الذي اطربني ، وايضا الشاعر الذي اسمعني قصيدة تطفي نار كل متعطش الى سحر الطبيعة وجمالها .
قبل ان ينصرف الشاعر قال لي : أليس لهؤلاء ساسة ام مرشدين يوجهونهم ، أجبته وما هذا السؤال الغريب ، ألستَ تعرف مثلي بان الطامة الكبرى في ساسستهم لانهم غارقون لانوفهم في الفساد ، وأما عن مرشديهم ، لا اودّ التحدث عنهم لاني قد تناولتهم في السابق واني على يقين بانهم لا يحتفظون لي في نفوسهم بأيّة مودة ، ولكني ساكتفي باعادة ما قد ذكرتُه لكَ قبل الان  وهو ، ان اغلبية مرشديهم يقومون بواجباتهم ، غير ان القلب غائب عمّا تقوله شفاههم . إذا قام هؤلاء بارشادهم بروح صادقة وقناعة تامة سيناقضون انفسهم لانهم يسبحون في نفس البُرَكِ ويتّئِكون على نفس الارائك. لقد ملّ الكثيرون منهم من التمسك بالغيبيات فتشبّثوا بما هو ملموس من مأكل ومشرب ومكسب ، فمنهم من يتربص الحصول على ارض جديدة ، ومنهم من يهتم ببيع احدى عقاراته ، ومنهم من يتقاضي ايجاراته وهو فاغر فاه ،  ومنهم من يكتفي بالسفر أوالاكل والشرب ، والحديث يطول ،

غير اني بحاجة الى ختام ، والا سيقودني خيالي الى خطوط قانية الاحمرار. فليكن إذن ختامي بالتأكيد التالي : ان ما رويته أعلاه لايتعلق بمكان معين ولا يوم معين ولا جماعته معينة ، فعبثا يحاول البعض ربط الامور . انه نسيج خيال بسيط جدا ، عثر على خيوطه الاساسية في سوق إسمه واقع الحياة .





125
التخاطر والاستشعار عن بعد

شمعون كوسا

يمرّ المرء أحيانا بفترات يجد فيها صعوبة كبيرة في بحثه عن نظرة شاعرية او إلتفاتة رقيقة من الطبيعة . فاذا استنجد بالشمس مثلا في مثل هذه الحالات لا يجد فيها غير كتلة حارقة ، واذا انتظر خروج القمر فانه لا يبصر غير قرص كبير يطل على الارض بنظرات بلهاء،  واذا التفت الى ما حوله يرى نفسه محاطا بطيور قد ملت الزقزقة  واشجار دون حراك تنتظر دون جدوى نسيما يحرك اوراقها ويحييها . خلاصة القول انها حالة يفشل فيها الخيال في ازالة القشور والنفوذ الى بواطن الامور.
 أنا على يقين بان بعض من تعوّدوا على قراءتي سيقولون : ولماذا يبدأ صاحبنا مشواره من قعر الوادي متوجها الينا بهذه الاساليب والطرق المتعرجة والملتوية ، وما حاجته لهذه المسافة البعيدة ، في الوقت الذي كان بمقدوره توفيرالوقت على نفسه وعلينا ايضا بالاعتراف مباشرة بانه لم يعثر على موضوع جديد ؟
فعلا كنت في هذه الحالة ، فوجدت نفسي امام احتمالين : إمّا تناول احد مقالاتي السابقة واخراجها بثوب جديد ، او القيام بجمع فقرات من هنا وهناك ، واقتباس أسطر وعبارات من بعض مقالاتي السابقة ، بالضبط كما يفعل محترفو الطرب في ايامنا هذه . فان  شحّة نغمات اصيلة جديدة تحرك اعماق النفوس ، تقودهم الى اعادة النظر بالدفاتر القديمة لاخراج اغنية  كانت تطرب له الناس فعلا  ، وبعضهم يعمد صراحة الى سرقة نغمة من هنا ونبرة من هناك ومقطعا من هنا ولحنا من هناك للحصول على لحن هجين ، يكون فيه جمال الموسيقى واللحن وحتى جدّية الكلمات من اواخر همومهم،  فيخرجون بلحن غريب يضع ايقاعا يتناسب وصخبَ الحفلات ، وبعض هؤلاء لايتورعون عن سرقة نغمات جميلة ، من اللون التركي وحتى الهندي .

وبينما كنت افاوض نفسي في الاختيار بين هذين الامرين ، أعني تناول القديم او الحصول على الجديد عن طريق سرقة فقرات من هذا المقال وذاك ، سمعت رنينا طويلا صادرا من اذني . كان الصوت اشبه بالصفير الطويل الذي يعلن نهاية الانذار . نداء الاذن هذا قطع خيط افكاري ، فحملت نفسي وعدت الى البيت .
عندما دخلت البيت حدّثت زوجتي عن رنين الاذن غير المألوف وسألتها اذا كانت قد سمعت شيئا لاني تذكرت أقاويل الاولين عن مغزى مثل هذه الاصوات ؟ فنظرت اليّ بحزن وقالت : نعم لقد انبأوني بانطفاء شمعة والدك .  آلمني النبأ ولكن ليس كالنبأ الذي يعلن وفاة شخص شاب . شمعة والدي كان متقدة منذ سبع وتسعين سنة وكانت في ايامها الاخيرة في انتظار نفخة طفل رضيع لتنطفئ وتسلم الراية .

بالرغم من عدم ايماني بمثل هذه الامور ، أتساءل جديا عمّا جعل نداء الاذن يتزامن مع نبأ الوفاة . هل هناك انباء يتولى الاثير ابلاغها  لأشخاص معينين في حالات معينة ؟ لقد سمعت الكثيرين يتحدثون عن مثل هذه الحالات حيث تكون العين التي ترفّ والاذن التي ترن اجهزة مكلفة بايصال الانباء. باعتقادي هناك ظواهر من هذا النوع لا نجد لها تفسيرا .
لا شك في ان كل شئ خاضع لنظرية العلة والمعلول ، ولكنه هناك عمليات لا نفقها اذا اكتفينا بالاعتماد على هذه النظرية . أتذكر قول احد الاباء الدومنيكان ، وهو المؤرخ الكبير،الاب حنا فييّه ،   الذي روى لنا مرة بانه في استعراضه لبعض مهمات كان عليه القيام بها في احد الايام في الستينات ، قرأ ورقته اعماله بصوت خافت ومن ضمن ما قاله كان : (سازورك اليوم يا متي) . وكان متي من احد اصدقائه . قال الاب حنا فييه بان صديقه متي كان قد سمع الكلام الخافت ، وعرف بنية الاب فييه لزيارته !!!!
كل هذا يدعوني للقول بانه هناك حالات تخرج عن المألوف . قد تكون هناك طاقات غريبة لدى فلان لا تتوفر لدى عامة الناس . قد يكون لدى بعض الاشخاص عقلا يصدر موجات او ذبذبات يمكن لشخص عزيز استقبالها ، شخص له قابلية استلام مثل هذا النوع من الرسائل !!

الحياة مليئة بالصدف ، وهذا لا جدال فيه ، ولكن ما هي هذه الصدف الغريبة التي يحس فيها الانسان بحدوث شئ داخلي ، يرى فيه بعض اصدقائه مجرد احتمال او ربما توهما ولكن الشخص المعني يستمر في قناعته ويلحّ على احساسه هذا ، فيكون في النهاية هو المحق ؟
ألا يقال بان القلوب سواقي ؟ وهل قال الناس جزافا : إن  قلبهم دليلهم ؟ كم والدة شعرت بما آل اليه مصير ابنها في الجبهة ، وبالرغم من كافة المظاهر المناقضة لما احسّت به  ، تتحدى كافة الادلة والقرائن والاحداث لان قلبها نطق وقال لها غير ذلك، وفي الاخير يعود اليها المحللون هؤلاء للاعتراف بفشلهم .

أن التخاطر موجود في حياة الانسان ، وفي بعض حالاته يتعدى حدود فهمنا ويندرج ضمن الامور الخارقة . فاذا كان العلم قد توصل الى ايجاد طرق اتصال عبر الاثير ودون اسلاك ، لماذا لا يستطيع الانسان ، الذي ليس مجرد جسد ، التخاطر والتخاطب والاستشعار ،  ألا يشعر التوأم مثلا بنصفه الاخر مهما كان بعيدا ؟

انها مجرد افكار ، وانا على يقين باننا كلنا لدينا حالات غريبة مماثلة عن هذا الموضوع . قصص تخصنا وتخص اصدقاءنا ،  واخرى نسمعها من الناس .
وبما اني في صدد التحدث عن تزامن الاحداث وغرابتها ، بودّي سرد قصة اخرى ، لا اعرف اذا كانت تندرج تماما ضمن موضوع التخاطر او الاستشعار ، ولكن تزامن احداثها يدعو للدهشة .  ففي صباح احد ايام الله في الثمانينات وفي مدينة بغداد ، كنت في طريقي الى العمل ، وقبل وصولي الى الدائرة رأيت شخصا يسير امامي أثار اهتمامي كثيرا لانه يشبه تماما ، شخصا كنت قد تعرفت عليه في مدينة كركوك . قلت في نفسي ما الذي اتي بـ (السيد كولو) الى بغداد بعد هذه المدة الطويلة . غذّيت السير لكي الحق به واسلم عليه قبل الدخول الى الدائرة ، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت  باني توهّمت في توقعي ، لاني وقعت على شخص آخر . الغريب في الموضوع هو انه في نفس النهار وعند الساعة الثانية عشرة ، دخل الى السفارة الشخص الحقيقي الذي توهمته . دخل مسيو كولو الى الدائرة .
لقد رويت هذا الحادث الغريب لمئات المرات ولا زلت لحد الان مندهشا لهذا التزامن . ماذا دعا هذا الرجل للقدوم الى بغداد بعد هذه الفترة الطويلة وفي نفس اليوم الذي توهمت بشخص يشبهه تماما ؟

ان موضوع التخاطر والاستشعار موضوع واسع ومتشعب وقد ينجرف الى عالم الاحلام والتنبؤ بالمستقبل وحتى الهلوسات وغيرها ولكنه باعتقادي هناك حالات موضوعية بريئة تنسب الى شعور الانسان الداخلي او الى انسجام بعض الارواح وتفاهمها فيما ببينها في بعض الحالات .
لست اختصاصيا غير اني تناولت الموضوع لمجرد صفير احسست به في اذني . لقد تطرقت اليه ولم أشأ الاسترسال فيه ، ولا اعرف هل يمكنني ادراجه في عداد المقالات ، ام اعتبره مجرد سرد لنداء الاذن ؟


126
الرجل الخيّر الذي تعرفت عليه

شمعون كوسا

قبل ما يزيد عن عشرين عاما ، كان هناك رجل يعمل مديرا لمدرسة ابتدائية في بقعة من بقاع الشمال . كانت السنة الدراسية في اشهرها الاولى عندما اضطر معلم التربية الاسلامية لترك تلك المدرسة لظروف خاصة . أمام قلق الطلاب الذين كانوا مقبلين على خوض الامتحان الوزاري في تلك السنة ، وإزاء حيرة ذويهم وزياراتهم المتكررة   ونظراتهم التي كانت تدعو الى الشفقة ، انتفضت طيبة المدير وفاضت في كافة جوانحه ولم تدع له مجال التردد والتفكير ،  فقرر حالا تولي الامر، وشرع ، المدير المسيحي ، بإلقاء دروس التربية الاسلامية على طلاب البكلوريا . يُقال بان الطلاب في تلك السنة خرجوا بنتيجة لم يسبق لاحد من معلمي التربية الاسلامية وان احرزها قبل ذلك .

حديثي سيتناول هذا الشخص بلحمه ودمه وعويناته ، ومن اجل قصتي ، ساطلق عليه اسم (صاحبنا).
تعرفتُ على صاحبنا قبل اكثر من عشر سنوات ، والحقّ يقال إنه لم يُثِر اهتمامي كثيرا في البداية ولكني بعد ان عاشرته وسمعت الكثير عن استعداده الدائم لتقديم خدماته لِمَن حوله من الاصدقاء والمعارف وحتى الأغراب ، تيقنت باني امام شخص يمكن نعته ابتداءً بالرجل الخيّر .

 لقد لجأ اليه البعض لتصليح سياراتهم ، والبعض الاخر لـتاسيساتهم الكهربائية ، والبعض لاعمال معمارية داخل منازلهم  ، والبعض الاخر لاعطاب في شبكة انابيبهم وغيرها من الخدمات ، وكان ردّ صاحبنا يأتي دوما كالتالي : انتظرني سارافقك حالا ، او ساوافيك حال انتهائي من حاجة فلان . والكل يقصده بحاجته دون انتظام ، حتى اذا كان ذلك في ساعات متأخرة من النهار .
استعداده الدائمي بابتسامة لا تفارق شفاهه ، قادني الى التقرب اليه اكثر ، غير اني لم احتج كثيرا لسبر غوره كي اكتشف داخل نفسه مجموعة خصائل ، صفات قلّما نجدها لدى مستأجري هذه الحياة من الجيل الحالي ، حيث قد انصرف كل واحد وراء مصلحته الشخصية ، وتكالب الكثيرون على المادة  معتقدين ان كل وسيلة صالحة لبلوغ الهدف ، فالكذب والنفاق اكتسبا اللون الاخضر ، والغدر والاعتداء غدا عملة رائجة ، والانانية والحقد والحسد والانتفام وغيرها من الرذائل اللطيفة أدرجت نفسَها ضمن عُدَدِ العمل المنصوح بها .

دأبَ صاحبنا على معايشة كل من البساطة والتواضع ، وجَمَعَ بين المحبة والحلم  ونكران الكثير من ذاته في خدمة الغير . فبالاضافة الى الخدمات التي ذكرتُها والتي  كان يقدمها مجانا للقريب والبعيد ، فانه كان مولعا باسعاف المرضى . لقد رأيته شخصيا يهرع لتسجيل اسمه على قائمة المتطوعين لدفع عربات المرضى في مزار يتقاطر عليه المرضى من كافة انحاء العالم ، كان قد اختار خدمة شاقة في دفع عجلات تتسلق جبلا لمتابعة خمسَ عشرةَ مرحلةً من طريق الآلام .

إن صاحبنا أهلُ للقيام بمهمات صعبة ولكنه لا يأنف من القيام بالاعمال الصغيرة والمتواضعة ، فتراه سبّاقا في حمل الحقائب أو ترتيب المقاعد أو تنظيف قاعة بعد انتهاء الحفلة ، وأينما وجد حاجة عرض نفسه وخدماته ، حتى الحائرين من بين اللاجئين الجدد يستنجدون به لكتابة قصتهم ويستشيرونه في كثير من الامور .
في المجتمع الذي يتواجد فيه ، يحرص على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الجميع ، ويصغي للجميع دون استثناء مهما كانت اقوالهم ، غير انه لا يتأثر بها ، وفي بعض الاحيان ، عند خلوّ الجو ، يغربل قسما كبيرا ممّا سمعه . ومن صفاته الاخرى الذكاء وطيبة العشرة مع بعض الميل لهزل خفيف .

لا يجب ان انسى ذكر ما حباه الله من موهبة في كتابة الخط العربي ، فانه ينافس الطابعة في الكتابة . اريد ان اشير هنا الى قصة كان قد رواها لي مرة في زمن كان يعمل في قلم احدى الوحدات العسكرية ، صادف وان احتاج احد الضباط الى استمارة خاصة كانت قد نفذت من الوحدة ويصعب الحصول عليها . وعد صاحبُنا الضابطَ ببذل اقصى جهوده للحصول على استمارة . ذهب الى البيت واخرج استمارة قديمة مستعملة كان يحتفظ بها ، نقل فقرات الاستمارة بخط يده ، وفي اليوم التالي سلمها الى الضابط الذي شكره كثيرا  ولم يشك للحظة واحدة بانها نِتاج يد صاحبنا !!

وفي فصل آخر ، ذكر لي احد اصدقائه بانه كان قد باع دارا في الشمال قبل خروجه من العراق لقاء مبلغ زهيد  ولم يتمكن من نقل ملكيتها . بعد بضع سنوات ، وفي زيارة له للمنطقة توجه الى بيته فرآه مشغولا من قبل شخص آخر . بعد أخذ وردّ  افتهم بان الساكن الحالي قد اشترى الدار من شخص آخر كان قد احتلها عنوة في زمن كانت المنطقة تؤمن بتطبيق شريعة الغاب .  بعد إلقاء التحية وتقديم صاحبنا نفسَه كمالك الدار الاصلي ، ترجّاه المشتري وتوسل اليه من اجل ان يسجل الدار باسمه لقاء عشرات الالوف من الدولارات ،  رفض صاحبنا عرضه رفضا قاطعا لانه كان قد باعها لشخص يعرفه غير انه مجهول الاقامة . لقد كان قد باعها له في حينه بالف وخمسمائه دولار فقط ، ولم يكن يوما من شيمه نكث العهد والاخلال بالوعود ، مهما كان الاغراء.
ولكي لا اطيل المقال ، انتهي بحادثة طريفة رواها لي بنفسه في احدى لقاءاتنا. قال لي بانه كان يستخدم دراجة بخارية للذهاب الى مدرسته . في نطاق حرصه الشديد على الدوام ، أفاق يوما ووجد بان ساعته تشير الى السادسة والنصف صباحا. فقام كالمجنون ونادى جاراً له كان يذهب معه على الدراجة للعمل في نفس المنطقة . نهض الصديق من نومه وقال : ماذا جرى ، لماذا ناديتني وانا لا زلت في الساعات الاولى من نومي ، اجابه صاحبنا : إرتدِ ثيابك بسرعة لاننا قد تأخرنا ، فالساعة تشير الى السادسة والنصف . إنقاد رفيقه للنداء وكذّب نفسة دون قناعة . عند وصولهما بعد ساعة من الزمن ، لم يلمحا اي خط من خطوط الفجر بالرغم من صفاء الجو . أمعن صاحبنا النظر في ساعته فوجد بانه كان قد لبس ساعته معكوسة ، فالساعة كانت فعلا الثانية والنصف ليلا وليس السادسة والنصف  كما رآها صاحبنا .

انتهيتُ من قصتي . إنه حديث مختلف عن سياق كتاباتي ، خصصته لشخص طيّب تجنبت ذكر اسمه لكي لا اخدش تواضعه ، أردتُ ان اكرمه بهذا المقال لاني اعتبره نموذجا بسيطا لنفسي أولا ، وأملي أن يجني ، من شاء من بين القراء ، فائدةً من بعض جوانب سيرته . فكلماتي الاخيرة لهذا الرجل تتمثل بدعاء رغبت ان يكون بالكلمات التالية : أدامه الله سعيدا  كي يعيش بهناء .


127
المنبر الحر / الفراشة البيضاء
« في: 20:53 01/07/2012  »
الفراشة البيضاء

شمعون كوسا

نقرأ في عالم الفكاهات عن شخص كان يسأم كلّ  شئ ، فاذا جلس ساكنا تبرّم ، واذا تناول عملا اصابه الضجر ، واذا ابتدأ بقراءة كتاب انزعج ، واذا حاول الكتابة تضايق وحتى اذا بدأ لعبة انقبضت نفسه ، فقرر ان يضع حدّا لحالته هذه فقال لماذا لا أقصّ على نفسي طرفة اتسلى بها ، فبدأ يقول : في احد الايام كان هناك رجل .. وتوقف عن الكلام متأففاً وقال : لقد سمعتُها !!!!
خشية أن أبلغ هذه الدرجة المتقدمة من حالة عدم الاستقرار التي تحوم حواليّ كلما دنوت من فترة الاعداد لمقال جديد ، خرجت لأعود شخصا عزيزا كانت قد ربطتني به علاقة متينة يمكن تسميتها بالصداقة ، علاقة جمعتنا في المشاعر والمبادئ ، لان صديقي كان شخصا فاضلا ورقيق الشعور . في طريقي الى منزله ، أقفلت أبواب عالمي الداخلي لكي أتفرغ بأنظاري الى تصوير العالم الخارجي ، فكنت اتطلع الى كل ما تقع عليه عيناي  ، إلى أن قادني التصوير الى فراشة ناصعة البياض كانت ترفرف امامي ببطئ وغنج ، بدت لي وكأنها مكلفة بتنفيذ عرض بسيط من رقص هادئ . كانت الفراشة تتقدمني لمسافة صغيرة وتتوقف . ثم تعود لتحريك اجنحتها امامي وتحطّ من جديد ، وعندما تقينت في احدى المرات بانها انهت مهمتها ، ظهرتْ من جديد في عرض لم ينقطع ، واستمرت معي على هذا المنوال الى ان بلغتُ نهاية مشواري وطرقت باب صديقي .
أثناء متابعتي لحركاتها بشغف كبير تذكرت بعض أقاويل الاوّلين الذين كانوا يتوسمون خيرا او يتشاءمون لرؤية الحيوان الفلاني أو للظاهرة الفلانية ، ومن ضمن ما كانوا يقولونه إنهم كانوا يتفاءلون خيرا برؤية الفراشة البيضاء .  وفراشتي أنا كانت تبدو وكأنها تحمل على اجنحتها ثلجا حديث الولادة . بعد ان دخلت منزل صديقي سردت له قصة الفراشة وتناوبَها على مرافقتي أوحراستي  لمدة نصف ساعة كاملة ، وطلبت منه اذا كان هذا يعني له شيئا او يجد له تفسيرا خاصا . أطرق صديقي برأسه ولم يجب لانه يكن يؤمن بالاقاويل والخرافات ، وأنه في وضعه الحالي ومنذ ان بلّغه الطبيب قبل شهر بانه مصاب بداء غدّار ، لم يعد يؤمن بشئ . كان المرض قد نخر جسمه واحرق مراحل متقدمة منه ، وكأنه في سباق يقضي بألاّ يُبقيَ من عمر فريسته اكثر من شهرين .
لم يعد صديقي يبتسم كالسابق . كنت احاول شحذ همتّه وأدعوه الى عدم اليأس بذكر حالات كان للهمّة والشجاعة الدور الرئيسي في التغلب على المرض ، واحاول أيضا إلهاءَه بقصص تدعو للتفاؤل ، وأقوم بتحويل انتباهه عن حالته عبر روايات مختلفة بعيدة عن عالم الامراض والالام ، فكان يبذل جهدا في مجاملتي برسم خطوط سريعة على وجهه ، يمحوها قبل أن أقرأ ابتسامتها ،  وكنت أخاله يردد في قرارة نفسه المثل القائل : يصعب على يدٍ داخل الماء أن تحس بما تعانيه يدُ في النار .

بعد عودتي للبيت علمت بان ابني اجتاز امتحانا صعبا في الجامعة ، فقلت هل للفراشة دور في هذا النبأ ، فلم يتلقّ التساؤل تجاوبا ، وفي المساء بلغني بان اخي قد حصل على وظيفة كان يسعى وراءها منذ زمن بعيد ، فتوجهت الى الفراشة لأرى هل هذه كانت رسالتها ، فرأيتها تطير بعيدا غير آبهة بالموضوع .

خلدت للنوم ومشهد الفراشة المرفرفة البيضاء لا يفارق خيالي . في الصباح عند الظهيرة ، بينما كنت أهمّ بترك المكتب باتجاه مائدة الطعام ، رنّ الجرس طويلا وعقبته رنّة ثانية وثالثة . اندهشت فعلا لأن الجرس لم يخضع ابدا لمثل هذا الالحاح ، فناديت من مكاني وبأعلى صوتي ، كما يفعل الممثلون في الافلام المصرية : ماذا جرى لكم ؟ كفاكم إلحاحا ، ها انا قادم . فتحتُ الباب والغضب لم يكن قد محا كافة خطوطه من وجهي ، وإذا بيّ أرى صديقي يُداهِمُ البيت ويلقي بنفسه عليّ ، ويحضنني بقوة ، ويقبّلني  بوجه تتفجر اساريره فرحا . لم اجد الوقت لأسأله عن الموضوع ، ولكن دهشتي الشديدة صوّرت لي افتراضات عديدة وأقلّها أن تكون قد تطوّرت حالة صديقي النفسية وأدّت به الى الهستيريا والهذيان ، او أن يكون المرض  قد تلقّى ارشادات بالاسراع ، مِمّا افقد المريض بعض طبقات عقله ؟
لم ينتظر صديقي ان أسأله عمّا يجري وقال لي : إفرح معي يا صديقي العزيز وتهلّل لان فراشتك البيضاء التي رافقك البارحة لحدّ الباب قد جاءت باعظم بشارة . قلت له ماذا جرى ، هل اجترحت الفراشة اعجوبة برّأتك من مرضك ؟ جلس صديقي وبدأ يقصّ لي ما جرى له صبيحة هذا اليوم .
كان قد استدعاه الطبيب بصورة عاجلة لامر هامّ ، فتوجّه بسرعة البرق الى عيادته ، وعند وصوله هناك دعاه الطبيب للجلوس وبدأ يطيل النظر اليه . كان الطبيب غارقا في تقليب ملفّ يتصفحه ويغلقه ، ويعيد فتحه ويقلبه . بعد خمس دقائق من جلوسه سأله الطبيب عن اسمه الكامل مع ذكر اسم جده ، وطلب منه أيضا كتابة تاريخ ميلاده بوضوح وبالضبط . عند الحصول على هذه المعلومات ، لم يتفوه الطبيب بكلمة واحدة وأمضى فترة صمت أخرى . كسر الطبيب طوق الصمت عندما قام متجها نحو صديقي وقبّله عدة مرات معتذرا منه كثيرا ومعلنا اسفه الشديد للخطا الذي طرأ في تشخيص حالته . فالمقصود بالتشخيص كان شخصا آخر يحمل نفس تاريخ الميلاد ونفس الاسم باستثناء اسم الجدّ . قال له  : من حقك ان تلومنا  وتلاحق المسؤولين واهمالهم في تدقيق الفحوصات . غير ان صديقي كانت فرحته قد غمرته غير تاركة له المجال لاي رغبة في الانتقام او المحاسبة .

كان يروي لي صديقي حديث الطبيب ، ويصف لي اللقاء بادق تفاصيله بما فيه صمته الذي يحمل الكثير من الندم ، كان يقوم بهذا الوصف وهو يبكي من كثرة سعادته ،  وبعدها قال لي :  إفرح معي ياصديقي لقد تكلمت فراشتك البيضاء ، لقد عدتُ الى الحياة بعد أن كان المرض قدهيّأ اوراقي كاملة وكاد يقودني كي أحني هامتي امام المقصلة واتركَ حياةً لم أكن الا في عقدها الثالث . لقد وُلِدت من جديد ، وتم الافراج عني بقرار سلبيّ لولاه كنت امضي حياتي وراء القضبان .

هل كان للفراشة دور في هذه الخاتمة السعيدة ؟ هل عرفتِ الفراشة باني كنت قاصداً صديقا عزيزاً جدا ، أو أدّت دورا كان يجب ان افسّره كما فعله الاجداد ؟

يا لعظمة الانسان ويا لضعفه ، كذبة تقتله وتكذيب يُحييه . بالرغم من سعة عقله وقوة إبداعه يقع ضحية اكاذيب واوهام ، وفي سعيه وراء حقيقة يعجز عن بلوغها ،  وإزاء الحواجز التي تحول دون تحقيق الآمال ، يُقنع نفسه باللجوء الى ظواهر الطبيعة ، أو رموز ، أو علامات خاصة ، فيصادف فراشة يجد فيها بشارة قد تتحقق ،  أو يصغي بانتباه شديد الى كلام جميل تنقله له قارئة الفنجان حتى اذا كان جُلّه كذبا .


128
هجروا شقلاوه وجبالها الى ارض اخرى

شمعون كوسا

لدى استيقاضي صباح الاحد الماضي سمعت عندليبا يغرد بصوت ساحر أعادني الى خمسة او ستة عقود الى الوراء ، فتذكرت عنادل شقلاوه التي كانت تختار مسرح غنائها على اشجار باسقة لتؤدي مقطوعات بلبلية اصيلة ، أيام كنّا نقف مشدوهين أمام كل شئ جميل وكل لحن عذب ، أيام كنا نكتشف الطبيعة يوميا باعجاب شديد . وفي نفس السياق الذي لم أشأ قطع خيط سريانه ، قادتني البلابل الى ربيع البساتين حينما كانت تغتسل الاشجار بعد كل زخة مطر ، وتبقى بعض نقاطه متشبثة باهداب الغصون والاوراق . واصبح تفكيري شريطا متواصلا ،  فمررت بصورة سريعة على مواسم شقلاوه الاربعة وتوقفت لدى كل موسم لاشبِعَ عيونَ خيالي من خصوصيات كل واحد منها ، فازدادت داخل نفسي قناعة لم تكن يوما موضع شكّ ، وهي أن الطبيعة قد اختارت شقلاوه بالذات نموذجا للترويج عن جمالها.
واستمرّ العندليب في تغريده وقادني الى جبالنا العالية التي كلما تطلعت اليها رأيت نفسي مُردّدا أو مصغيا الي بعض انغام فارسية قديمة تتلاءم  وطبيعة المنطقة ، انغاما ترفعني عاليا ، تجعلني اتسلق الهواء بسلم يتدرج صعودا ونزولا ، واحيانا يعلقني في الهواء منتظرا دون جدوى اصداء لا تعود  لان الجبال الصغيرة والتلال والآكام والتضاريض الاخرى وحتى الاشجار تكون قد امسكت بها لتفرغ موجاتِها داخل أسماعها.  وفي غمرة تفكيري هذا عدت الى الارض ، وتساءلت :

لماذا هجر أهل شقلاوه جنتهم ؟
لماذا هجر الناس بقعة يقصدها الناس من اقاصي الارض لجمالها الساحر؟
لماذ هجر الناس جبل سفين الذي حفر فيه العديد من نسّاك القرون الاولى والقديسين أديرتهم وقلاياتهم ؟
لماذا هجر الناس الدّواليَ وأعنابها والكرومَ وخمورها ؟
لماذا هجر الناس الوادي الاخضر وينابيعة وجداوله ؟
لماذ هجر الناس ظلال الاشجار في فصل الصيف ؟
لماذا هجر الناس آفاقاً جميلة لا تحدها المديات ؟
لماذا هجر الناس المناخ المعتدل والجوّ الجميل ؟
لماذا هجر الناس منظر الضباب على قمة الجبل ؟
لماذا هجر الناس رواقا مفتوحا يعرض لوحات بيضاء بتوقيع فنان بارع اسمه الثلج؟
لماذا هجر الناس أزيز الرياح في الشتاء ؟
لماذا هجر الناس الثمار ومذاقها الخاص ؟
لماذا هجر الناس ....

مهما أطلت في استفهامي وتساؤلاتي ، سوف لن ألقى جوابا ، لذا أجد نفسي مضطرا للقول بان اهل شقلاوه قد قايضوا جمال طبيعتهم بأرض قاحلة. لقد تركوا ارض اجدادهم الخصبة صوب بقعة لا تقدّم لهم سوى الاتربة والاحجار.
ماذا جرى لهؤلاء الناس ، هل فقدوا فعلا عشق الجمال الذي وضعه الله في نفس كل انسان من أجل بريق زائف رأوه في الاطيان وقطع الاراضي التي تدرّ عليهم بعض الاموال ؟  
لقد تركوا ما صنعه الله واتجهوا نحو ما صنعه البشر . لقد تركوا ما كان عنوان راحتهم نحو ما يزيد من همومهم . هل تغيّر الانسان الى حدّ فقد إحساسه بسحر الطبيعة ، هل اضحى الانسان ناقص شعور الى حد التخلي عن لوحة حيّة من أروع ما ابدعته ريشة فنان ، والهجرة الى الاراضي القاحلة والمقفرة .
لقد كنتم أشرافَ المنطقة وأسيادها ، كان لكم هيبتكم ومكانتكم الرفيعة ، فذهبتم واستجديتم في بقعة كانت تنظر اليكم باعجاب وتحسدكم على ما كنتم عليه وعلى ما وهبكم الله من طبيعة خلابة ، طبيعة لا يراها غيركم إلا في الاحلام .
كنتم جميعكم اصحاب أملاك وبساتين ، والبعض منكم استهان بها وباعها دون تفكير لعناصر لا تقدرها حق قدرها ، والبعض في صدد التفكير في بيع مساحات شاسعة منها بثمن بخس . لقد تركتم جنتكم  وذهبتم الى بلد هو اشبه الان بموقع لمشروع لا يجيد غير تكديس الرمل والاسمنت ،  موقع يمكن تشبيهه بمنطقة صناعية ، او بورشة تصليح تقصدها الدراجة والسيارة ة والشاحنة والحفارة والرافعة الشوكية ، فترى الدواليب مرمية هنا والمحركات ملقاة هناك . حارة متواضعة تحولت الى مدينة مصطنعة تستحم بالاتربة والرمال . لا تجد فيها زقاقا إلا وتملأه مواد البناء، واذا صادفت زقاقا خاليا في طريق الذهاب فانك ستلقاه عامرا بالرمل والحديد عند العودة.

كنتم ملوكا في مكانكم وذهبتم الى حيث يُشار إليكم بالبَنان في كل مجلس على أنكم أغراب ، وينعتكم الناس بالطارئين ويتهمونكم بانكم قد حرمتم أهل البلد من حقوقه. وهل كانت تنقصكم الاراضي لكى تذهبوا الى منطقة تعتبركم غزاة . لقد زالت الاسباب التي دعتكم في حينها الى  الخروج .  نعم ، مرّت شقلاوه بحوادث اضطرت بعض العوائل للابتعاد ، غير ان الخوف الذي كان قد استحوذ على عقول الناس آنذاك ، جعل الكثيرين منهم ينظرون الى بعضهم البعض ويشدّون الرحال ، وباعتقادي كان من بين هؤلاء من لحقوا بالركب دون قناعة تامة . والحقّ يقال كان يحتاج الناس الى القليل من الشجاعة للمقاومة والبقاء ، كما فعلت البقية الصامدة التي قاومت ولم تتزعزع . وباعتقادي هذه كانت مشكلة شقلاوه  منذ البدء ، لقد اعتاد الناس على العيش بالخوف ، وغلبتهم هذه الصفة فاقتنعوا بها واصبحوا عرضة للابتزاز والاستغلال .

إذا كان يتذرع المهاجرون بلقمة عيشٍ لم توفرها مدينتهم ، لماذا لا يبادر من امتلأت جيوبهم  الان ، وهم كثيرون ، باقامة مشاريع في بلدهم ، وبهذا يستثمرون اموالهم جانين منها مزيدا من الارباح لنفسهم ، ومساهمين في الوقت ذاته في ايجاد فرص عمل لاهاليهم هناك . لقد سمعنا بان امكانيات البعض منهم تسمح باقامة عدة مشاريع وليس مشروعا واحدا، لا سيما وان المنطقة تهنأ بسلام وقد زالت عنها اسباب الخوف .
من المؤسف ان يكون قد أهمل المسؤولون الاداريون والرؤساء الدينيون هذا الموضوع. باعتقادي كان على هؤلاء التفكير بخطورة هذا الوضع على المدى المتوسط والبعيد وايجاد طرق لتحفيز الناس على العودة ، ومنح تسهيلات لمن يرغب في اعمار المنطقة وخلق فرص عمل لها .
وكم يحلو لي دوما الرجوع الى الايام الخوالي ، أيام الصيف في زمن الخير القديم حيث كان المصطافون لكثافة اعدادهم يفترشون الارض في كل مكان وحتى على الارصفة ، ينهضون الصباح بفرح وابتسامة ويشكرون الله على نومهم المريح في مناخ لطيف وطبيعة خلابة.
كثير من المعجبين بشقلاوه  من البلدان العربية كان يحلو لهم مقارنتها بلبنان . وهناك فنّان معروف يحلو لي ان انقل اقواله بهذا الخصوص ، فنّان لا يمتّ بصلةِ قرابة الى شقلاوه ولكنه كان امضى فيها بعض الوقت ، فنّان ألّف معزوفة موسيقية عن شقلاوه وقدّمها  في بلد خليجي ، وقال بالحرف الواحد قبل بدء الحفلة بانه اطلق على معزوفته إسم شقلاوه لانه يرى بان (شقلاوه قطعة من الجنة) . واتذكر ايضا اقوال مدير شركة فرنسي نفّذ العديد من مشاريع الري في العراق ، كان شخصا مغرما بشقلاوه ويقول عنها بانها تشبه مقاطعة (هوت سافوا Haute Savoie) في فرنسا ، وهي مقاطقة تقع على سفح جبال الالب .

انا اعرف بان دعوتي ودعائي سوف لن يغيران شيئا في واقع أناس قد غلبهم حب المال وركبهم الجشع . لقد اعتاد هؤلاء على الغبار والتلوث والصخب والشمس المحرقة . لقد انساهم المال بقعة تهنأ بصفاء الجو والهدوء والخضار وراحة البال. لقد آن الاوان أن يفكر العقلاء منهم بالعودة الى جنة لم يحرمهم الله منها لحد الان بالرغم من عصيانهم ، لاني أبصرُ من بعيد أغرابا يتربصون بها وقد بدأوا من الان بوضع موطئ قدم لهم فيها.
 
اني ارى بعض القراء قد عيل صبرهم وهم لا ينتظرون إلاّ السطر الاخير من المقال لمفاجأتي بالسؤال التالي : أنت الذي تقوم بالانتقاد واللوم واعطاء الدروس ، لماذا تركت مدينتك ؟  جوابي هو بان ذلك تم بظروف خاصة ، لقد وصلت بسهولة الى بلد جميل ، غير ان حنيني  الى شقلاوه لم يتوقف يوما . شقلاوه قد كتبتُ عنها ، شقلاوه قد تغنّيت بها وتناولت وصف العديد رجالاتها ، وكلي امل بالعثور على كوخ صغير هناك يتيح لي العودة لانهاء ما تبقى لي من المسار الذي رسمته لي الحياة  .  ففي شقلاوه ابصرت النور واحببتها  وهي ستكون شاهدة على حجب هذا النور عندما تدق ساعة إسدال الستار .

129
كل قلب يرى السماء على هواه

شمعون كوسا

في مقال سابق بعنوان (هل هناك حياة بعد الموت) كنت قد ذكرت فقرة عن جدتي التي، بالرغم من تقواها، كانت تجيب سائلها عن الحياة الاخرى قائلة : وهل قدم شخص من وراء الآكام البعيدة ، يحمل علامة فارقة ، كي يُعلمنا عمّا يجري هناك في الاعالي ؟!!

السماء هي مقر الابدية ، والابدية هي سعادة يتخيلها كل انسان على هوى ما يشتهيه قلبُه وترتاح له نفسه . لقد تناول الموضوعَ العديدُ من الكتّاب والشعراء ، وعبّر كل واحد منهم عن الموضوع على هواه ، فقلت في نفسي لماذا لا أجرب  انا ايضا خوض الموضوع والتجول داخل غمامات خيالي في محاولة لوصف تمنيات بعض الفصائل من الناس وما يتوقعونه من سمائهم ، فاسفرت جولتي عمّا يلي :

سماء الرسام فضاء فسيح  ، مفتوح على أروع المناظر واللقطات التي تدعو الفنان تلقائيا إلى العمل والابداع . سماؤه تنقله من بقعة الى بقعة وتختار له  الزوايا التي تملأ نفسه إلهاما . سماؤه ورشة تتيح له انتاج لوحات جميلة جدا لا يستطيع الا ان يقف امامها  غير مصدق ما خرجت به ريشته ، كما فعل الله ، دون تشبيه ، ايام الخليقة حيث كان بعد كل يوم من الخلق ، ينظر الى ما صنعه فيُعجب بما فعلته يداه .

أما الراعي فان سماءه هي مرج مترامي الاطراف يأخذه بعيدا عن الاراضي القاحلة والصحارى والجفاف التي كانت مفرداته اليومية على الارض . سماؤه سهل لا تحدّه حدود ، مساحة خصبة ودائمة الخضار تتوسطها عيون ماء تروي عطش ماشيته ، انه في سمائه يستمد ارتياحه وسعادته من راحة مواشيه .

سماء الشاعر عالم جميل يوفر له الاجواء لنظم أروع القصائد . العائق الوحيد الذي يقلق الشاعر في سمائه يتمثل في  حاجته الى شيطان الشعر الذي له دور أساسي في تدفق افكاره وانتقاء مفرداته وإيجاد قوافيه ، وبما أنه لا يُعقل دخول الشيطان الى السماء ، فان الشاعر في غمرة احلامه يحاول اقناع نفسه بالحل التالي ويقول : ساتعهد للمسؤول الثقافي هناك بان رفيقي سوف لن يحتفظ من كيانه وشخصيته غير اسمه ، وانه مستعد للتخلي حتى عن اسمه إذا لم تحتجّ المعاجم العربية على ذلك لانها لا تتساهل بأمر تغيير الكنايات !!

واذا سألنا المظلوم كيف يرى آخرته ، فانه ينهض وقد ازدادت عيونه بريقا ليقول : وهل لي ان اتمنى غير تحقيق العدل . انا لا اطلب من السماء حضوة أو امتيازا ، حتى انا لا اطلب رحمة لان كل ما احتاجه هو العدل . حلمي هو ان يتم سحب الطعنة المغروسة في ظهري ظلما . اني اري سمائي في عالم يكون للديّان فيها إطلالة مباشرة على الظالم والمجرم وليس الاستنتاج من خلف الستار وتحليل الامور ومتابعة تطورها بالاستناد على أدلة وقرائن كاذبة يستنبطها من تمّ تكليفهم بتزوير الحقيقة. سمائي هي عالم يسوده العدل .

وهل نحتاج أن نسأل المريض عمّا ينتظره من سمائه ؟ بالرغم من بديهية الجواب ، سألت احدهم فقال لي : اني أرى أغلبَ الناس ينعمون بصحة جيدة ويجهلون هذه النعمة. أنا أسأل هل صحيح بانه كُتب النعيمُ لبعض الناس والعذابُ للبعض الاخر ؟ لم يبقَ عضو سالم في جسمي ، وقد عاث الالم فساداً في كل شبر من جسمي وكأني ارض شائعة . لقد اصبحتُ مكوكا ينقل كل يوم سلام طبيب لطبيب آخر.   كان يعتقد مريضنا باني مكلف بتحديد آخرته فقال لي : سجّلْ يا أخي بان طلبي يقتصر هناك على حياة خالية من المرض ومخلفاته وعواقبه .

واذا سألنا الفقير كيف يتخيل سماءه ، فانه سيقول : لقد سئمت حياة الشقاء والعوز هنا. لقد  مررت باوقات الحاجة وعشت أياما كنت أطوي مع اولادي على الطوى ، لقد اضطررت لمدّ يدي لبعض الموسرين ولا حظت نظراتهم التي تدعو للشفقة لان بعضهم كان بخيلا  جدا. انا لا ارغب في مال ولا انوي تكديسه . اريد فقط سماء اتمكن من السير فيها الخيلاء جنبا الى جنب مع من كانوا يستخفون بي ويتجنبون حتى ظلـّي .

وسماء من خانه الحب في تحقيق أمانيه في حياة الدنيا ، هي حلم يتكرر ليليا فيرى فيه رجلا بشوشا يمسك بيده ويسير به في شارع مفروش وردا ، وعند الوصول الى اول منعطف يتركه منطلقا كالقذيفة الى هدفه تقوده جاذبية قوية لا يمكن مقاومتها . يتوقع مجروحُ الفؤاد هذا من السماء أن تحقق له ما انتظره طويلا وأن تُطفئَ نار عواطفه التي لم تخمد يوما ، وأن تزيل عن طريقه عقباتٍ وضعها الاهل او الاصدقاء او أطراف اخرى . لقد حرمته الحياة من حلم يتحقق للناس بسهولة ولكن حظه التعيس اوصله الى طريق مسدود في هذه الدنيا ، لذا فان جلّ ما يطلبه من السماء هو تحقيق امنيته في ابدية الحب والكمال والجمال .

أما سماء مَن لا تتركه الهموم وكأنه حافلة تعمل على مدار الساعة دون ان تفرغ لحظة، لانه إذا غادره همّ ، أتاه غمّ ، واذا أخلى الشك مقعده يحلّ محله القلق حاملا على كتفه الخوف ، وعندما يحس بانه قد ارتاح لدقيقتين فقط يتفاجأ بافكار سوداء ومشاكل اخرى قد احتلت اربعة مقاعد في رأسه .  ان حلم هذا الانسان المهموم هو التخلص من حالات قلقه الدائم . انه يحلم في سماء تؤمّن له السلام والطمأنينة وراحة البال ، انه يبحث عن الساعة التي يستطيع فيها القول بثقة كبيرة : ما احلى هذه الحياة الهادئة والهنيئة.

وما السماء عند المطرب غير مسرح كبير يدعوه الى الغناء فينطلق في الحان ساحرة بعيدة كلّ البعدعن ايقاعات الارض المملـّة التي فقدت أصلا كافة مقومات الغناء الاصيل . حلمه يتمثل بسماء توفر له جمهورا ذا شعور رقيق ، ينطرب لسماع ما هو جميل ويُعجب بما هو شجي . سعادة المطرب في السماء هو انطرابه أولا لانه اذا انطرب فعلا فانه سيطرب سامعيه .

أما الرجل الطيب الذي  لاتفارق الابتسامة شفاهه ، فان حلمه هو الوصول الى عالم تسود فيه المحبة ، حيث لا وجود لتجهم او عبوس . إنه يبحث عن سماء ينظر فيها الناس الى بعضهم البعض بحنوّ ويهبّ كل واحد  لمساعدة  غيره . لقد عاني الرجل الطيب من معاشرة اناس لا يبادلونه نفس شعوره المرهف الرقيق، لقد تألم من رؤية ابتسامته تقابل بالغضب واللامبالاة .

وهل للبخيل في الحياة الاخرى غير حلم تافه بالعيش بخيلا كما كان في الارض دون ان يزعجه احد ويطلب مه مالا . سعادته تكمن في تأكده من عدم الحاجة الى الصرف على طعامه وملبسه وهذا ما سيساعده بتكديس المال اذا سمحت له شرائع السماء بذلك .

اما عن الام التي ثكلت باولاد تركوها في سن مبكرة ، فان نار قلبها لا ينطفئ الا بلقاء فلذات اكبادها في السماء. امنيتها هي البلوغ اليهم فقط لانها سوف لن تخشى هناك الحروب والحوادث أم اي شئ آخر يتسبب بفقدهم من جديد .

وهل لرجال الدين سماء خاصة ؟ بالتأكيد لا ، لانهم بشر وكل واحد يتخيل سعادته وفق طبيعته ، فالراعي الصالح الاصيل بينهم يجد فعلا سعادته بلقاء رعاياه سعداء هناك لانه كرس نفسه لاجلهم في الارض ، فرح لفرحم وبكي لمآسيهم ، وهنا سيعد لسعادتهم . اما الراعي الاناني المستبد الذي اختار طريقه أصلا لاغراض اخرى ، فان سعادته لا تكتمل الا  برؤية رعاياه هناك خانعين وخاضعين لاوامره دون سؤال أو نقاش أو اعتراض أو حتى استفسار.
تعددت تصورات السماء بتعدد فصائل الناس واختلاف طِباعهم ، ولا اريد هنا التكلم عن سماء شريحة كنت قد نسيتها ، شريحة من اهل الشمال ، ممّن رضي عنهم الزمان وابتسمت لهم الحياة ، أو ضحك بوجهم القدر وقهقه لهم الحظ ، فان هؤلاء قد اعتادوا على نمط من العيش يتمنون استمراره هناك . فسماؤهم يتخيلونها مملكة متخصصة بتوزيع الاراضي وتسهيل معاملات البيع والشراء، مملكة توفر مواد البناء لتشييد القصور والعمارات وحتى الابراج . باعتفادي سوف يخيب ظن هؤلاء ، لان عماراتهم ستبقى خالية لعدم وجود مستأجرين يسددون لهم بدلات ايجار بالعملة الخضراء.

أما انا ، فاني اتخيل السماء لحظات سعادة ذقتُها لفترات قصيرة جدا من خلال لحن جميل او مجر د مقطع أو نغمة ، أو لدى إبصاري لونا خاصا ذكرني بطفولتي ، او لدى هبوب نسمة خفيفة جدا في موسم معين او في غيوم متحركة او اهتزاز اوراق في قمة الاشجار او زرقة سماء في صباحات الخريف أو أفق بعيد أو غيره . انها امور طفيفة جدا قد لا تعني شيئا لغيري ولكنها طرفات عين هزت كياني وأنستني نفسي وكأني في عالم آخر. امنيتي ان ينتبه مسؤول قسم الخياطة في السماء لسعادتي هذه فيقوم بجمع قطع النسيج هذه وايصالها ببعضها البعض كي تستمر في دوران  يمكنني من إحياء هنيهات رفعتني عاليا واخرجتني من قيودي ، هكذا أرى السعادة .

ختاما يجب القول بان الانسان يتخيل السماء بما يمليه عليه قلبه، غير ان ما أملته هذه القلوب وألوف قلوب اخرى غيرها ، ليس الا قطرة في بحر مقارنةً  بالسعادة الحقيقية التي ستوفرها السماء في عالم الكمال المطلق وفي حظرة الله.



130
يوميات من الربع الاخير في القرن الماضي

شمعون كوسا


لقد أمضيتُ حياتي المهنية في الترجمة . بدأت ذلك في شركة فرنسية بكركوك وانتقلت بعد ذلك الى بغداد للعمل في الملحقية التجارية لدى السفارة الفرنسية وانتهيت في الاردن لأعمل أيضا كمترجم في السفارة السويسرية في عمان .
لا اعرف ما الذي ذكّرني ببعض فقرات بسيطة من حياتي المهنية ، وما الذي أعاد الى اذهاني جملا بسيطة فيها ؟ انني اسردها هنا لاشتمال بعض منها على دلالات  . دعوني إذن أقوم بوضعِ االحديث في سياقاته.
تسلمتُ عملي كمترجم وانا خريج معهد كهنوتي تعلمتُ فيه لغة فرنسية سليمة ، غير انها كانت لغة عامة ، واذا تخصصتُ في بعض حالاتها فانها اقتصرت على مجال الفلسفة واللاهوت والكتاب المقدس .
بعد مدة قصيرة من تعييني في بغداد ، تمّ تبليغي في احد الايام بانه يجب عليّ ان أحلّ محلّ زميلي الأقدم للقيام بترجمة وقائع اجتماعات اللجنة المشتركة الفرنسية العراقية التي عقبت اتفاقية التعاون التجاري والاقتصادي والفني المبرمة بين فرنسا والعراق سنة 1974.
كان هذا اول ظهور لي كمترجم شبه فوري وفي محفل رسمي يناقش علاقات رسمية بين بلدين ، حيث لكلّ كلمة قيمتها ومعناها . كنت وجها لوجه مع مفردات اقتصادية وتجارية ومالية لم يسبق لي التعامل معها ، كالتسهيلات الائتمانية ، وخطابات الضمان،  والاعتمادات ، والكفالات المصرفية ، والقروض القصيرة والمتوسطة والطويلة الاجل ، والتحويل الخارجي ، والميزان التجاري ، والعجز والفائض ، والنمو الاقتصادي ، وخطط التنمية وغيرها .
لا أنوي هنا سرد مجريات المحادثات لان ما أصبو اليه هو الوصول الى كلمات قيلت فابرزت حالة العراق الاقتصادية في بداية السبعينات. كان يرأس الجانب العراقي شخص اسمه عدنان حسين الحمداني . انا شخصيا لم اكن اعرفه ، غير انه قيل لي بانه رئيس اللجنة العليا لمتابعة شؤون النفط والمشاريع الكبرى أو شئ مماثل . من الجدير بالذكر انه في تلك الفترة ، وبعد عملية تأميم النفط ، كان العراق في صدد تنفيذ خطة أطلق عليها اسم الخطة الانفجارية ، تسمية فرضتها الاموال الطائلة التي وفرها تأميم النفط ، فقام العراق بتنفيذ مشاريع مدنية عملاقة في  مجالات الحديد والصلب والالمنيوم ومعامل الاسمنت والمطارات والجسور والمجمعات السكنية وشبكات الطرق وغيرها .
عودةً لموضوعنا اقول ، كان يرغب الجانب الفرنسي بالترويج لطائرات الايرباص ، ولاجل ترغيب الجانب العراقي في تعزيز اسطوله الجوي بشراء هذه الطائرات ، كان يعرض عليه تسهيلات ائتمانية بمبالغ خيالية تصل الى عدة مئات ملايين من الفرنكات . قمتُ بترجمة رغبة الجانب الفرنسي الذي كان يرأسه وزير التجارة الخارجية . اكتفى رئيس الجانب العراقي بالرد بابتسامة خفيفة. أعاد الوزير الفرنسي عرضه مرتين وثلاث وفي كل مرة كان يرفع سقف التسهيلات ، فلم يكن امام المسؤول العراقي الا الردّ بابتسامة اعرض وعلى النحو التالي :
( قل لهم ، يا عمّي ، نحن لا نحتاج الى تسهيلات او قروض ، لدينا ما يزيد عن حاجتنا  وكافة مستورداتنا نسددها كاملا ودون تأجيل ).

الحدث الثاني يندرج ضمن ظروف العراق في نهاية الثمانينات ، حيث كانت الحرب قد انهكته بخساراته البشرية ووضعت اقتصاده بالحضيض ، فاصبح بحاجة ماسة الى القروض لتأمين ابسط احتياجاته من السلع الاستهلاكية العادية . كانت الدول تتجاوب مع حاجته هذه  معتمدة على الذهب الاسود المخزون تحت اقدامه .
اضطرّ العراق لعقد اتفاقيات قروض للدفع الاجل مع أغلب الدول ومن ضمنها فرنسا . كان من الطبيعي ان تتراكم الديون ، وفي هذا المجال كان يقضي المبدأ بتأجيل الرأسمال الاصلي مع عدم القبول بالتأخر عن تسديد الفوائد . كانت هذه العمليات تحتاج الى اجتماعات دورية تنعقد تباعا في أحد البلدين . قدِم الى العراق وفد فرنسي يترأسه السيد فيليب ريمون ، رئيس مؤسسة كوفاس لضمان الصادرات الفرنسية . أما الجانب العراقي المكلف بالتفاوض فكان يرأسه السيد عبد الرزاق الهاشمي الذي ، بعد ان تولى عدة مناصب وآخرها وزير التعليم العالي، تعين سفيرا للعراق في فرنسا . جرت المباحثات في مبني المجلس الوطني المجاور لحدائق الزوراء.
لم يكن هناك اختلاف على الجدولة أوإعادلة الجدولة ولا على فترات السماح التي كانت تمنح قبل البدء بتسديد القسط الاول ، ولكن الجدال المحتدم كان يدور حول سعر الفائدة ، حيث كان للعراق سقف لا يستطيع تجاوزه ، وبالمقابل كان مطلوبا من الجانب الفرنسي رفع هذا السقف.  بصورة عامة كانت مثل هذه الحالات تجد نهايتها السعيدة بعد اتصال كل من الطرفين بقيادة بلده ، فيُصار الى تقسيم التفاحة الى نصفين ، وكانت هذه الطريقة متبعة في حل اغلب الخلافات ، حتى التي كانت تنجم في المراحل النهائية من المشاريع الكبيرة . ولكن ليس هذا بيت القصيد.
كان الجدال محتدما بين الهاشمي والسيد ريمون الى حدّ انهما اصبحا يتكلمان في آن واحد ، وهذا لم يكن ليسهّل ابدا مهمة المترجم ، ولقد تلقيتُ فعلا لوم السفير العراقي لعدم قيامي بالترجمة بصورة كاملة ، فكان سكوتي وقيامي بفتح ذراعيّ جوابا شافيا له ، لاني لم اجد مجالا للدفاع عن نفسي .
بلغ النقاش أوَجَهُ وتوقف عندما التفت السيد ريمون فجأة الى زملائه وقال بغضب شديد باللغة الفرنسية ( إيل إيه كون  il est con ). هنا قام السفير ، وقبل ان يترك القاعة ويطرق الباب قال وعيونه تقدح نارا : يا سيد ريمون ، كان يجب ان تحترم نفسك ، فاذا كنت تعتقد باني لا استطيع اهانتك فانت على وهم ، ولكني سوف لن افعل ذلك  لانك ضيفنا. إنكمش اعضاء الوفد الفرنسي وكأنهم تلقوا سطل ماء بارد على رأسهم .  لم يكن يشك أحدهم بإلمام مفاوضهم العراقي باللغة الفرنسية .
بعد صمت دام طويلا ، شرع الوفد الفرنسي بشرح العبارة التي افلتت من فم السيد ريمون قائلاً بان العبارة فعلا غير لائقة لان المعنى الاولي لاحدى كلماتها معيب ، ولكنها في هذه الجملة وبحكم استخدامها قد فقدت معناها الاصلي ، وهي تقال في اوقات الغضب للتعبير عن التبرم والاستياء. تقدّم المستشار التجاري ، السيد خالد المخزومي ، مستوضحا منّي المعنى الصحيح للكلمة ، فأكدتُ له بان العبارة تستخدم الان مع شخص عنيد أو محدود ليس الا . بعد ساعة من الاخذ والرد والشرح واعادة الشرح ، عاد الطرفان لاستئناف التفاوض . و لا حاجة لسرد البقية ، فكما يقال في قصص الصغار .. وعاشوا عيشة سعيدة !!!!

الحلقة الاخيرة من حديثي تتناول حدثا بسيطا لحدّ التفاهة ، حيث تعرضتُ شخصيا الى تأنيب وزير الصناعة . والحديث هو عن طاهر توفيق العاني الذي تبوّأ لفترة قصيرة منصب وزير الصناعة، وكان لحدّ ذلك التاريخ ، على ما اعتقد ، رئيسا او عضوا في المجلس الزراعي الاعلى .
كان على السفير الفرنسي السيد بيير روكالف القيام بزيارة مجاملة للوزير الجديد. حال جلوسنا نظر إليّ الوزير مبتسما وقال : أهلا وسهلا . واجبته انا بكلمة شكرا ، معتبرا بانه لم يبدأ بعدُ حديثه الرسمي وبانه فكر بتوجيه التحية للمترجم العراقي . ولكن كم كانت دهشتي كبيرة عندما سمعته يلتفت إليّ من جديد ويقول غاضبا : ترجِم الكلام لان التحية ليست موجهة لك بل للسفير. فقمت بترجمة التحية وبقية اللقاء. ولا اعرف هل يرغب أحد ان اصف الحالة التي وضعني فيها السيد الوزير الذي كان مثلا في الابتسامة واللطف والتواضع .
بهذا اكون قد انهيت حلقتي الاخيرة . ألم اقل لكم بانها اقرب الى التفاهة ؟

واذا سألتموني الان هل انتهت احداث حياتك المهنية بهذه الحلقات الثلاث ؟ اجيب باني عملت لمدة 18 سنة في السفارة وكانت ايامنا حافلة بتوقيع عقود وعقد لقاءات وابرام اتفاقيات وانعقاد اجتماعات لجان مشتركة  وتهيئة محاضر لاجتماعات رسمية ، كانت احيانا تنقلب ايامنا فيها الى ليالي بيضاء. كيف لا وان التعامل مع فرنسا كان في عصره الذهبي .
ختاما اقول ، كان شيطان الشعر قد هجرني ، انتظرته طويلا ولم يأت لكي يضعني على سكة تقودني بين ازقة ودهاليز الخيال على الارض أو يرفعني على اجنحته في فضاءات عالية بين غيوم ملهمة في السماء ، فكان من الاسهل عليّ العودة الى الماضي لسرد أحداث لاتحتاج الى إبداع ،  قد تسرّ هذه الاحداث بعض من عاصروها ، وقد يضجر منها قرّاء شباب ،غرباء عن ظروفها وأزمنتها .
 



131
فقدان بعض مجاملاتنا لمعانيها ومنطيقيتها

شمعون كوسا

قد أكون مُبالغا فيما أذهب اليه احيانا ولكني لا استطيع الامتناع عن ملاحظة الامور والتوقف عندها وتحليلها حتى في أتفه جوانبها. اني أرى باننا قد اكتسبنا عادات فقدت معناها واصبحت مجرد عبارات للمجاملة لا تعبر عن الحقيقة . إنها كلمات وجمل تتكرر لملء فراغ يحتاجه الحديث ، او لسدّ نقص في مقاطع الكلمة ، او للمحافظة على القافية .
أبدأ بظاهرة بسيطة جدا وهي التحية العادية . بعد السلام يبادر الصديق صاحبَه بالسؤال ويقول له في كلام متواصل : كيف الحال وكيف صحتك وكيف صحة الاولاد ، إن شاء الله جميعكم بخير ؟ ودون انتظار الجواب يتحول مباشرة الى موضوع عن احداث الساعة أو الطقس او أيّ شأن يرغب في توضيحه او يطلب استيضاحه . ان هذا الصديق لا يبحث عن معرفة احوال صاحبه ، وسيّان عنده اذا كان صاحبه هذا متوجّها الى جبهة القتال ، او ممّن اختيرت رقبتهم لإختبار مقصلة أو حبل مشنقة  !!
في حالة ثانية يُحيّ الصديق صاحبَه قائلا : كيف صحتك ، فيردّ عليه هذا بنفس السؤال ويقول : انت كيف صحتك ، فيحصل أحدهم على الجواب ويبقى الثاني دون علم عن احوال صديقه. وفي نفس السياق تجد شخصا يردّ التحية على عجل بـِ (أهلا أهلا) وقبل ان يُسأل عن صحته يجيب قائلا  : نحن بصحة جيدة ، وانتم كيف حالكم ، هذا نموذج قد اعتاد على الديباجة كببغاء متهوّر.
وفي حالة ثالثة يسأل الصديق : كيف صحتك ، فيجيب صاحبه الحمد لله. يصمت الصديق قليلا ويعاود السؤال من جديد ويقول : لا ريب أنّ حمدَ الله واجب في كل وقت ، ولكني اسألك عن صحتك ، هل انت حقّا بخير ؟ يعيد الصديقُ السؤالَ مرتين وثلاث لانه شديد الاهتمام باحوال صاحبه لا سيما وانه كان قد سمع عنه مؤخرا أخبارا غير سارة  . عندما يرى هذا الاخير بانه لا مفرّ له من الاجابة بشكل صريح ، يقول : أعترفُ لك باني أمرّ بظروف صعبة ،  لم أكن ارغب البوح بها ، فاكتفيت بالاجابة المعتادة  الحمد لله .
وهناك من يبدأ بـ : كيف حالكم ؟  وبعد قليل يعود وكأنه  لم يسمع الجواب فيسأل بعد قليل : إيه ، كيف حالكم وما هي ظروفكم ؟ هنا ايضا لا يكترث للجواب كثيرا لانه قد اعتادعلى ترديد عدد معين  من فقرات المجاملة ، وفعلا اذا وجد فراغا في الحديث،  يعود ثالثة ويسأل : انك لم تقل لي كيف حالكم ؟ على شاكلة من كانوا قد اعتادوا سابقا على القول بالعاميّة  (شلونكم ، بعد شلونكم ، وبعد بعد شلونكم).
ببعض من الخيال غير البعيد عن السخرية نستطيع القول : بوسع الصديق عند لقاء صاحبه أن يسلمه ظرفا او ورقة تحتوي على خمسة اسئلة (شلونك ، شلون صحتك، بعد شلونك ، ما هي اخبارك ، ان شاء الله زين) مع ملاحظة في اسفل الورقة تقول : ان الاسئلة اعلاه اختيارية ، فاذا اجبتَ عليها تنال درجة كاملة وإن لم تجب عليها فلك نفس الدرجة لان صديقك سيأخذ بنظر الاعتبار بانه لم يُفسح لك المجال في الجواب !!

وبعض هؤلاء المجاملين ، لدى لقائهم صديقا لم يكونوا يتوقعون  قدومه ، يقولون : لماذا لم تبلغنا بوصولك ، لقد فاجأتنا ، لو كنا نعلم بمقدمك لكنّا قد اتينا لاستقبالك وتهيأنا لدعوتك لتناول العشاء معنا في البيت . والصديق الزائر يكتفي بالرّد : بالحقيقة لم أرغب في ازعاجكم . ونفس الاخ المجامل ، عالما علم اليقين بان صديقه سوف لن يستجيب لمجاملته ، يعود للاقتراح : بالله عليك لماذا لا تأتي للمبيت عندنا ؟

وقسم آخر من المجاملين غير الآبهين حقا بالصديق القادم ، يقولون له : عندما ترى الوقت مناسبا ، إتّصل بنا لكي نهيئ لك العشاء ، وهنا ايضا اصحاب المجاملة متأكدون بان الصديق المؤدب والخجول لن يتصل أبداً كي يقول لهم ارجوكم ادعوني للعشاء ، لان قواعد التصرف في هذا المجال تقضي بان يكون صاحب الدعوة هو الذي يحدّد اليوم والساعة ، وعلى المدعوّ القبول او الاعتذار أواختيار موعد آخر .
أمّا عمّن يزورونك في مدينتك وتقوم باستضافتهم وخدمتهم ، فان معظمهم يستحلفونك عند مغادرتهم ، قائلين : إذا سمعنا بانك قدمت الى مدينتنا ولم تقم بزيارتنا ، فاننا سوف نغضب منك كثيرا وقد يستمر غضبنا الى يوم القيامة !!. فيودّعهم المُضيف بابتسامة خفيفة . وبعد فترة متذكراً  قولهم عن غضبهم ليوم القيامة ، يفكر جديا برد زيارتهم . يُروى بهذا الخصوص عن احد هؤلاء المفكرين جدّيا بردّ الزيارة ، انه ذهب ثلاث مرات الى مدينتهم ولم يتمكن من رؤيتهم أو دخول بيتهم ، لانه في كل مرة كان يواجه إمّا هاتفا عاطلا ، أو عنوانا خاطئا ، او شخصا غائبا او منشغلا او مريضا.
وهناك نوع آخر من الناس الذين في ختام زيارتك لهم ، يقولون لك وبحماس شديد : انك لم تجلس لكي نستضيفك ونقدم لك فنجان قهوة وحتى انك لم تتناول لقمة صغيرة ، ان زيارتك هذه غير محسوبة ويجب ان تعيدها ، فيخرج الزائر وقد قطع عهدا وأقسم على ألاّ يدوس عتبة بابهم ثانية ، لانه اذا كان جوابهم بعد زيارة استغرقت ساعة ونصف بهذه الصورة ، فان الزيارة القادمة ستحتاج حتما الى خمس ساعات قبل الحصول على فنجان قهوة !!
وفي مجاملة اخرى يتخللها الكثير من النفاق ، يروى عن شخص كان قد مرّ بظروف صعبة جدا انتهىت بتبرئة ساحته من تهمة كبيرة كانت قد وُجِّهت له ظلما وشوهت سمعته . أتاه احد اصدقائه المجاملين وقال : انا لم ازرك خلال هذه الفترة حرصا على مصلحتك وسمعتك ، ولكني لم انساك ابدا !! فاكتفى الشخص البرئ بالقاء نظرة ازدراء على صديقه ، لان مجاملته كانت  قطعة تناقض اسود خيطت بخيط ابيض فاضح .
وهناك عبارات  تدعو للضحك لانها بديهيات لا تحتاج الى جواب. اتذكر في احدى المرات  كنت خارجا مع اصدقاء في رحلة وتأخرنا في العودة مِمّا ادخل بعض القلق في نفوس الاهل . عند وصولنا خرجت بعض النسوة للقائنا وبدأت إحداهن تعاتبنا قائلة : هل عدتم ؟ فاجبتها بصوت عال يهتزّ غضباً : كلاّ ، إننا لم نعد . ماذا كان عليّ القول ، وهل يحتاج هذا الى سؤال ؟
اما الان فلقد وصلتُ الى عبارة لا تفارق شفاهنا في كل حديث ، ولقد اصبحت جوابا مسبّق الصنع في اغلب محادثاتنا ، وهي عبارة (إن شاء الله) . فهي تستخدم في محلها وفي غير محلها . انها الجواب السهل لكل موقف لا نريد الالتزام به .اني ارى بان استخدامها في بعض المناسبات ينقلب كفرا .فمثلا اذا طـُلِب من أحد في حالة معينة ألاّ يهين فلانا  ، أو لا ينتقم منه ، وكان جوابه إن شاء الله ، وبعدها قام بالاهانة والانتقام ، فهل هذا يعني بان الله شاء الاهانة والانتقام ؟ هل يمكن لله ان يريد الشر ؟ 
ان الاجانب يبتسمون لدى سماعهم إيّانا نجيبهم بعبارة إن شاء الله لانها تعني لديهم بان قائلها غير واثق من نفسه او انه كاذب ، وفعلا عندما نجيب بإن شاء الله ، فاننا لا نريد الالتزام . إن شاء الله تعني باننا لسنا مسؤولين عن كلامنا وتصرفنا ، واذا حدث مكروه أو أيّ شئ آخر ، فالله هو الذي شاء ذلك . لعله من المفيد ان نؤكد أمرا يُفترض ان يكون جليّا للجميع  وهو أن الكون باكمله هو بأمر الله وارادته ، فالله هو الذي اوجد العالم والطبيعة بكل ما فيها وتوّج عمله بخلق الانسان. وضعَ للطبيعة قوانينَ تسير بموجبها ووهب الانسان عقلا وحرية للتمييز والاختيار. فالله يعرف مسبقا ماذا سيفعل الانسان ولكنه يتركه سيّد قراره . فارادة الله التي نتكلم عنها اذن هي ارادة شاملة ، لان الطبيعة تسير بقوانينها والانسان يتصرف بعقله وحريته. فالخير والشر هما خيار الانسان وليس تدخلا من الله ، وإلاّ لكان الانسان قد اكتفى بالجلوس في مكانه دون حراك منتظرا مشيئة الله ، انطلاقا من مبدأ أنّ لا شئ يتم بدون أمر الله ومشيئته . هذا صحيح بصورة عامة ولكنه غير صحيح في الحياة اليومية العادية ، فمثلا اذا طلب مني القاضي ان اعيد مبلغ المال الى صاحبه ، وقلت له إن شاء الله ولم اعد المبلغ ، هل سيكون الله الذي شاء ذلك ؟ وإذا طلب مني الوالد ان اصالح أخي وقلت له إن شاء الله ولم افعل ، هل سيكون الله قد شاء ذلك ؟ واذا طلب مني جدي مساعدة رجل محتاج وقلت أن شاء الله ولم افعل ، فهل يكون الله مسؤولا ؟ حاشا،   لان الله لا يريد الا الخير .
ما اجمل الجواب الذي يقتصر على كلمتي نعم و لا ، وفي حالة عدم الرغبة في الالتزام  يجيب  الشخص بانه غير متأكد او بانه سيرى الامر.
انا لم اذكر هنا سوى حالات بسيطة ، لان العبارة هذه فعلا ملازمة للحديث اليومي وقد يرددها المرء مئات المرات في اليوم . انها اصبحت جزءً مهما من الكلام . ليس المقصود استئصالها من كلامنا ، لانها تكون احيانا الجواب الانسب لا سيما عند تنفيذها ايجابيا ، ولكننا يجب أن ننتبه الى استخدامها أو نخفف منه  لكي نحافظ على قدسيتها .

هذا ما اردت ذكره عن بعض مجاملاتنا لان الموضوع واسع جدا ، فالكلام منذ القدم كان هكذا ،  يتكون من حفنة مجاملة وحفنتي نفاق وحفنة كبيرة تحوي مزيجا من التمليق والكذب والنميمة ، واذا غربلنا حديث الاربع حفنات لعلنا لا نحصل الا على جملتين او ثلاث من كلام يستجيب الى المنطق والصدق. الامثلة الغزيرة عن حالات المجاملة هذه كانت قد اصطفت في ذهني في طابور طويل  ، فاخترت نصف متر من الطابور وصرفت البقية ، لان القارئ في ايامنا اضحى يملّ من قراءة مقال بصفحتين ، فما بالك بمقال كان سيخرجه طابور الامثلة  بخمس عشرة صفحة ؟!!

132
المنبر الحر / هكذا قال الغراب
« في: 11:30 27/03/2012  »
هكذا قال الغراب
شمعون كوسا

إشتدّ بي الشوق للكتابة ولكني لم اجد شيئا أكتبه . راجعت مواضيعي السابقة فرأيت باني قد غطيت مجالات واسعة ، وما لم اتناوله كاملا وبعمق عرّجت عليه جزئياً ، وفي كثير من الاحيان ذهبت الى حدّ تكرار نفسي .
خاطبت نفسي مرة اخرى وقلت  كعادتي ، وما العيبُ في إعادة الاشياء ، أوليست الحياة كلها تكرارا، وهل يتّعظ الانسان مثلا من أول عِظة أو يرعوي بعد أول نصيحة ، ألا يعيد الناس نفس الكلام يوميا عن نفس المواضيع كي ينتهوا بنفس الاستنتاجات ويعيدوا الحديث عن نفس المبادئ ، وهل هناك جديد تحت الشمس ؟
بعد هذا الكلام الذي كنت احتاجه لقناعتي الشخصية ، وضعت القلم جانبا ودعوت نفسي الى نزهة بين احضان الطبيعة التي كانت وستبقى مصدرَ إلهامي والمعين الذي أنهلُ منه ما ينعش نفسي في اوقاتٍ تعجز فيها أرقى مراكز الانعاش القيام بهذه المهمة .
كان الموسم ربيعا وكل ما فيه بدأ يبتسم ، فالاشجار شرعت بارتداء قسم من ملابسها الداخلية الشفافة بانتظار بدلتها الرسمية الخضراء ، وبعض الزهور كانت قد اختارت الالوان التي سترتديها في هذا الموسم ، والعصافير خرجت بموسيقاها والحانها وتقليعتها لهذه السنة ، والنسيم اضحى يهبّ بهدوء لانه قيل له انه آخر عنقود الرياح ، والغيوم البيضاء كانت قد اكملت انسحابها الى الحدود لكي تكشف عن قبة زرقاء رائعة الجمال . أما النهر الذي لم تتوقف حركته يوما ، كان منشغلا جدا ومثقّلا بأحمال تركتها له الامطار والثلوج وانصرفت .
كنت انظر واتأمل واتوقف قليلا واناجي احيانا ، وهكذا لم اشعر بالوقت الى ان وصلت موقع المصطبة التي جمعتني ذات يوم برجل عجور إلتقيته دون ميعاد واصبح فيما بعد من أعزّ اصدقائي . اعادت المصطبة الى اذهاني صديقا لم يشبع أبداً من التحدث عن تجاربه في الحياة ، صديقا لم يبخل عليّ بنصائحه وخزين امثاله ، صديقا أطربني بما يشنف الاذان من اعذب الالحان التي تنفذ الى اعماق الروح ، الحان ترفع اسمى ما في الانسان الى الاعالي وتدعه معلقا في اجواء سعادة لا توصف . انها لحظات يتمناها الانسان ألاّ تغيب ، لحظات يضمحل فيها الانسان قليلا فقليلا ويتحول الى ذرات تتناقلها النسائم وتعيدها الى نفسها لتطيل سعادته . وهو العجوز نفسه الذي اسمعني أيضا الحان حزن لم يكن بوسع سامعها اخفاء دموع تبدأ غيضا وتنتهي فيضا ، الحان هي ضالّة ينشدها كل ذي قلب مكلوم أو من لم يروا من الدهر الا غدره . كان العجوز يُطرب حقا لان الله كان قد حباه بصوت جميل ينتقي ما يقوله من بين اعذب الالحان .
كان من الطبيعي ان اجلس قليلا لاستردّ بعض الذكريات واجترّ بعض لحظاتها السعيدة . نظرت حواليّ قبل ان اغمض عيوني فابصرت سربا من الطيور يحطّ على الارض قريبا من الشاطئ ، كان السرب يتكون من غراب ، وبلبلين ، وببغاء  وهدهد ، ودوريّ ، وزرزور ، وبوم وسنونو ، وانظم  الى السرب من جهة البرّ حمامتان وبطة .
كان السرب الذي يتقدمه الغراب يتقدم نحوي بخطى ثابتة وثقة تامة . أُصِبت بدهشة جعلتني انهض تلقائيا ، ولكني استدركت نفسي وقلت : اليست هذه فعلا سخرية القدر ، ان اترك مكاني هربا من الطيور فيما يُفترض أن يكون العكس ؟!! وبلغت دهشتي اشدها عندما سمعت الغراب يخاطبني ويقول :
لقد رأيناك كثيرا وانت تحجّ الى هذا المكان ولقد سمعتُ شخصيا الكثير من احاديثك مع العجوز واصغيت بانشراح لالحانكما ، لقد قصدناك اليوم انا وزملائي هنا لفتح حوار خاص معك .
أوقفتُ الغراب وقلت له : ومن اين اتيت بقابلية الكلام هذه ، فها إني ألتقط كلامك وكانك تنطق بعربية فصحى لا غبار عليها ؟ اجابني : ألم تسمع عن الغربان وذكائهم وبأنهم أحكم قوم بين الطيور ؟ الم تسمع عن معشر الغربان والاجتماعات التي يعقدونها فوق الاشجار لمناقشة بعض الامور بنعيقهم الخاص ؟ أمّا عن السمعة السيئة التي الصقت بالغراب بأنه نذير شؤم لانه لم يعد عندما أطلقه نوح من الفلك ايام الطوفان ، فان ذلك كان لظروف خاصة جدا لا تذكرها الكتب ، ولا سبيل لذكرها الان لئلا ندخل جميعا  دائرة التزوير والكفر !!
بعد هذه المقدمة ، دعا الغراب الهدهد للكلام ، فاصدر هذا بعض اصوات غريبة استغرقت دقيقة واحدة ، ترجمها الغراب على النحو التالي :
يقول زميلي الهدهد، انتم البشر قد عكّرتم علينا صفو عيشنا واحدثتم خللا في نمط حياتنا . لقد دأبتم على استخدام سموم ومبيدات حشرية على الزهور والاشجار وبعض الخضراوات والمزروعات الاخرى ، ان هذا يؤثر علينا جميعا ، وإن بعض انواع الطيور والحيوانات والحشرات هي في طريقها الى الانقراض . أن بعض المحلقين عالياً من بين زملائنا  الطيور يرون بان شبكات طيرانكم قد قلصت ممراتهم وكثيراً من المسارات اصبحت احادية الاتجاه ، لقد فقدت الاجواء نقاوتها ومياه البحار أيضا لم تتركوها على طبيعتها  وكأن بواخركم مكلفة  بعملية تلويث البحر ، فتقوم بتسريب كميات من الوقود مع التوصية بزيادة رقعتها .
قلت للغراب ان صديقك محق بكل ما قال وساكون كاذبا اذا عارضته .
بعد هذا تقدم البلبل بايعاز من الغراب ، وبدأ يغني بصوته الشجي ، فنوّع وأطال . قلتُ للغراب وماذا يقول زميلك البلبل ؟ اجابني : ان هذا البللبل ألثغ ويعيد كل جملة ثلاث مرات ولكننا نتحمله لانه يطربنا بصوته الشجي، ولكن مجمل ما اراد التعبير عنه هو :
بالاضافة الى التلوث الذي تحدثونه والذي وضحه صديقي الهدهد ، فان الاصوات والضجيج والتفجيرات التي تحدثها اسلحتكم وصواريخكم واجهزتكم الاخرى ضيّقت علينا رقعة سكينتنا واختصرت أوقات الهدوء التي نحتاجها ، ناهيك عن هواياتكم في الصيد والقتل العشوائي ، لانكم اذا لم تصطادونا وضعتمونا داخل اقفاص كالمجرمين وبعد فترة صغيرة تقودون بعض اصنافنا الى المجزرة .
ابتسمتُ للبلبل دون ان انبس ببنت شفة .  وهنا نادى الغرابُ العقعق الذي بدأ من مكانه باصدار اصوات قصيرة ومتقطعة لم تتوقف الا بأمر صارم من الغراب الذي التفت اليّ معتذرا وقال :
لا تؤاخذه انه مريض ، نصف كلامه كان محاولة لتصفية حنجرته ولكني أعرف ما كان يود قوله ، أرجو ألاّ تمتعض لانه ذهب بعيدا في كلامه ، فانه قال :
انكم لم تتركوا شيئا على طبيعته ، لقد اضررتم بنا كما اضررتم بنفوسكم ايضا . ان تقدمكم وتكنولوجيتكم بقدر منافعها الانية تحمل مساوئ جمة . هل بقي لديكم طعام صحي ؟ هل ابقيتم شيئا على حاله دون ان تتلاعبوا به ؟ ان الكثير من اكتشافاتكم التي ترونها صحيحة في البداية تنتهي بعد بضع سنوات بنتائج عكسية وهذا صحيح لكثير من ادويتكم التي يتضح بعد بضع سنوات من الاستعمال بانها تسبب السرطان ، فالدواء يتحول الى داء . ان جانبا لا يستهان به من تقدمكم بات يشكل خطراعليكم ، فاصبحت حياتكم من انبلاج الفجر الى ساعة الغروب لحظات توتّر وهمّ وخوف . اجهزتكم وحواسيبكم تقودكم الى الانزواء والتقليل من اوقات علاقاتكم .
قلت للغراب :    إنّ زميلك يتدخل فعلا في شؤوننا ، ولكني بالرغم من ذلك اقول بانه محق كزملائه الذين سبقوه . انا اوافقكم الرأي ولكن البشرية قد دخلت دوّامة تطور لا رجوع عنها ، فالحياة اصبحت مغامرة ، ينتفع منها البعض ويتضررمنها الكثيرون سيّؤو الحظ .
هنا اعطى الغراب الكلام الى الببغاء ، وقال لبقية أعضاء وفدِه بان هذه ستكون آخر مداخلة ، وطلب من الببغاء ألاّ يطيل الكلام لانه معتاد في كلامه على القفز من قصة الديك الى رواية الحمار!! 
تقدم الببغاء قليلا وقام بترديد بعض الاصوات والعبارات ، بين صفير ومفردات منفصلة وجمل نصف مفيدة وحتى شتائم . إبتسم الغراب وهزّ رأسه واسرع الى الترجمة فقال :
ان الببغاء لقربه من البشر ، ولكثرة ما سمعه وردّده طوال سنين فانه يتجاوز بعض الحدود ، ولا اعرف الان هل يجب عليّ تفسير حديثه كاملا أم لا ، لانه تكلم هنا مدّعيا بانه فيلسوف وقد تطرق الى مواضيع حساسة جدا ، فقد قال :
انكم مولعون بالمناقشة الشديدة والاختلاف والانقسام والخصام والقتال حتى الحرب . انكم توّاقون للانفراد برأيكم والتميّز بأنانيتكم في كل شئ . لقد عشتُ داخل بيوت وسمعت نقاشات دينية وطائفية ، وسمعت ايضا عن خصامات وحتى معارك بسبب اختلافات العقائد . السؤال الذي يحيرني فيكم هو ، ألا تقولون أن الهكم واحد ، أوليس الله خالقكم جميعا ، اليست بشريتكم تجمعكم ، لماذا تختلفون وتقتلون بعضكم البعض باسم إلهكم الواحد. كل جهة تصرّ بانها الأحق وغيرها على ضلال ، فهل يحتاج الله الى خصاماتكم وحروبكم لحماية نفسه ؟
ان إيمانكم هو مجرد تقليد لانكم لا تتصرفون بموجبه . كان يكفيكم البحث في كتبكم ، ليس عن فصل ، ولا عن صفحة ، ولا عن فقرة ، ولا عن سطر ، ولكن عن كلمة واحدة مكونة من اربعة احرف ، كلمة واحدة تجمعكم جميعا ، كلمة يكتفي بها الله لعبادته لانها تنظم امور البشر ، كلمة اسمها المحبة ، كلمة بسيطة جدا ولكنها باهظة الثمن !!!
كان يعتقد الغراب بان الببغاء انهي حديثه  ، ولكن هذا الاخير ، مندفعا بحماسه ، استأنف كلاما آخر ترجمه الغراب بامتعاض على النحو التالي :
أما عن موضوع الطوائف اريد ان اقول  : بالرغم من كونكم حفنة صغيرة ، لقد نجحتم في ايجاد تسميات مختلفة تفصل تجانسكم وتقسم وحدتكم . كان يكفيكم الانضواء تحت تسمية جميلة ومقدسة تجدون فيها دينكم ولغتكم ، تحت لواء من لم ينادِ يوما بالقومية لانه قال : اذهبو الى جميع الامم وبشروهم .. . وعوضا عن ذكر مفاخر اجدادكم الذين عاشوا قبل ثلاثة او اربعة الاف سنة ، الم يكن الاجدر بكم القيام انتم بما يجعلكم أهلاً لحمل اسم اجدادكم هؤلاء ، أوليست امثالكم التي تقول : ليس الفتى من قال كان أبي ، انما الفتى من قال ها أنذا ، أو المثل الاخر: لا تقل أصلي وفصلي ابدا ، انما اصل الفتى ما قد حصل .
قبل ان ينصرف وفد الطيور ، قلت للغراب انصحك بوضع حماية لبعض من تكلموا من بين اخوتك وخاصة الببغاء لانه حتى الانبياء في حينه لم يسلموا من يد البشر ، واني استغرب جدا ان يتراجع قسم من سامعيه عن تناول بعض الحجارة لابادته عن بكرة ابيه .
كنت في حيرة بين نشر حديث الطيور او الصمت ، لان بعضا منها فتح مواضيع حساسة دون اية مراعاة او كلمات اعتذار أو حتى عبارات مجاملة ، ولكني قلت ، إن الكلام ، وإن كان للطيور ، فانه ينطوي على كثير من المعاني والحقائق .
ختاما اقول هل كان الغراب فعلا يتكلم العربية ام انا الذي كنت افهم نعيقه بلغتي ؟ هل كان هذا خيالا ام حقيقة ، هل غدونا نستقي الحكمة من مناقير الطيور، أم إن هذه ليست إلاّ احدى علامات اقتراب نهاية الازمان ، هذا ما سنتأكد منه في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني عشر من السنة الثانية عشرة بعد الالفين .
 

133
ولقد ظهر واشٍ بيننا

شمعون كوسا

في غياب موضوع عميق اتناوله هذه المرّة ، عُدتُ بالذاكرة الى إحدى حقبات حياتي فقادتني سنوات النصف الثاني من ستينات القرن الماضي إلى قصة وشاية سطحية لم يكن لها عواقب وخيمة ولكني اعتبرها مثلا صغيرا عن الوشاية لانه توفرت فيها كافة المتطلبات من واشٍ ووشاية ومحسابة. إنها وشاية من النوع الخفيف جرت احداثها في معهد مار يوحنا الحبيبب . وللذين لم يسمعوا بمعهد مار يوحنا الحبيب من الجيل الجديد اقول بانه كان معهدا كهنوتيا يديره الاباء الدومنيكان الفرنسيون في الموصل.
ولعله من المفيد البدء بتعريف الوشاية قبل دخول القصة :
الوشاية عادة ذميمة ومخجلة تتمثل بالابلاغ عن شخص او فضحه دون علمه. انها تتناقض واصول الاداب والاخلاق ، وإن لم تكن ممنوعة قانونا.
في منتصف فصل الربيع ، أو بصورة أدقّ عند بدء موسم الحرّ في الموصل ، ومن جاور الموصل يعرف مدى حُبّ الحَرِّ لهذه المدينة ، كانت قد جرت العادة على أن ينتقل التلاميذ من قاعة النوم الشتوية الى السطوح . وكانت عملية الهجرة هذه تتم عادة في منتصف شهر نيسان، فترة قصيرة قبل العطلة الصيفية. كان التلاميذ ينتظرون النوم فوق السطح بفارغ الصبر لانه كان يحرّرهم من قاعة النوم الجماعية  وكأنهم خارجون من معتقل الى فضاء مفتوح لا تحدّه حدود ولا تغطيه سقوف .
كم يحلو لي شخصيا ان استعيد ذكريات النجوم في تلك الليالي وظهور الخطوط الاولى من الفجر حيث يستهل اليمام هديله ، ولحد الان كلّما سمعت هذا الصوت اتذكر ساعات النوم الصباحية اللذيذة فوق السطح .
في إحدى الليالي الحارة التي لا يسهل فيها النوم ، بقيَتْ بعض العيون مفتوحة وكأنّ الكرى كان قد جفاها أو أخطأها لدى مروره ، فظلت مترقبة عودته الى ساعات متأخرة من الليل علّه يوزع عليها فُتاتَ جفون كانت قد استسلمت لنوم ثقيل قبل وصوله ، أو حصةَ بعض السهارى الذين لم يحتاجوه لانهم كانوا قد حوّلوا الليل نهاراً . كان بعض الطلاب يتقلبون في فراشهم وينادون سلطان الكرى من خلال خراف يُحصونها مرة ومرتين وثلاث منتقلين من قطيع الى قطيع وموهمين انفسهم كل مرة بانهم اخطأوا الحساب ، ولكن دون جدوى.
بعض التلاميذ مِمّن يئسوا من محاولاتهم هذه ، او بالاحرى أثنان منهم ، فكرا بترك السرير والاتجاه كل واحد الى غرفته ، وكان هذان  التلميذان طالبَي لاهوت في سنتينهما الاخيرتين ، حيث كان لطلاب اللاهوت غرفهم الخشبية داخل قاعة النوم الشتوية . نهض الطالبان لمراجعة موضوع في اللاهوت كان عليهما اجراء امتحان فيه .
بعد ساعة او ساعتين  من القراءة ، بدأت العيون تكلّ وغلبهما النعاس فعاد كل واحد بدوره الى السطح حيث سريره ونام .
عند الصباح ، وبعد وجبة الفطور ، سمع التلاميذ رنينا خفيفا لناقوس المعهد ، وكان هذا عادةً إيعازاً من المدير للتجمع في  في الصالة المشتركة لمناقشة أمر هام .
كان التلاميذ مجتمعين يترقبون بصمت عميق وصول المدير ، وكل واحد يحاول الافتراض وتخمين ما يدور بخلد المدير ، واذا به يدخل الصالة مسرعا وبوجه صارم يحاول بصعوبة كظم غيضه ، وبدأ دون مقدمات قائلا : بلغني أنّ بعض التلاميذ قد نهضوا في الليل للدراسة في غرفهم ، لذا اطلب ممّن قام في الليل ان يتوجّه الى غرفتي للاعتذار او تبرير موقفه . قال هذا وغادر الصالة  تاركا التلاميذ في حيرة من امرهم لانهم لم يفهموا شيئا عن الموضوع لسبب بسيط وهو انهم لم يكن لديهم سابق علم بذلك . فبدأ الكثيرون منهم يشكّون في انفسهم قائلين ، لعلي كنت انا الذي قمت في الليل دون وعي لاني أتجول احيانا في منامي ، ويذهبون الى المدير لطلب العفو عن مخالفة لم يقوموا بها .غير ان المدير كان ينتظر بصورة رئيسية شخصا واحدا لان الوشاية كانت قد أبلِغتْ إليه بالاسم . مرّت ساعتان على اجتماع المدير ولم يتلقّ هذا الاخير توبة التلميذ الرئيسي الذي كان ينتظره. عندما نفذ صبره قام بمناداته عبر جرسه الكهربائي برنة طويلة ورنتين قصيرتين ، لانه هكذا كان يُنادى التلاميذ  حيث كان لكل تلميذ رنته ورقمه الخاص اللذين يحتفظ بهما لمدة اثنتي عشرة سنة .
ولكي يكون الكلام مباشرا،  أقول بان الطالب المُنادى كنتُ أنا . دخلتُ غرفة المدير بهدوء كامل ، فدعاني للجلوس وقال لي : كان بودّي ان تكون أول القادمين إليّ ودون الحاجة الى مناداة . فقلت له : انا لم افكر بالمجئ لاني لم أجد عيبا في كل ما ذكر حول الموضوع، ولم أرَ نفسي مقترفا ذنبا كي آتي واستغفر عنه . فقال لي : انا اعرفك واعرف رصانتك في كل شئ ولكنك تعرف بان هناك نفوسا ضعيفة تأوّل كل حركة،  فقلت له : حتى المنطق في هذه الحالات يمسك بيدي ويقودني الى غرفتي ويفتح لي الكتاب ويقول: أشغلْ نفسك،  وكم بالحري اذا كان الكتاب هذا سيساعدني في امتحان يجب ان اتهيأ له جيدا . وأضفتُ ايضا : أولستم انتم الذين كنتم تقولون لنا  (رأس البطّال دُكّان الشيطان) ، هل تريد ان يبقي الرأس فارغا لكي يبيع الشيطان بضاعته فيه بكل حرية ؟ عاد من جديد ليقول : بان الخوف ليس منك ولا عليك لاني مقتنع من رجاحة عقلك واستقامتك ولكن الخوف ممّن يرون عيبا في كل حركة. فاجبته : من المؤسف ان تدفعونا للتفكير في امور لم تخطر ابدا ببالنا ولا يمكن لها ان تخطر ، ولكنه اذا كان لا بد من الاعتذار فانا اعتذر عن مخالفة لا اعرف ماهيتها .
لقد كان قد قام واشٍ بيننا ، وبادر لعمله بكل دقّة منذ اللحظات الاولي من النهار لغاية في نفسه !!!
كما قلتُ إنّ هذه قصة وشاية بسيطة لم يكن لها عواقب وخيمة ولكنها نموذج مصغّر عمّا تعنيه الوشاية . كان الحدث بنفسه عديم القيمة اصلا ولكن الواشي الذي استطاع الوصول الى الاذن الصاغية افلح في تأزيم الموقف.
لو رجعنا الى  ماضٍ قريب نجد في بلدنا ، بلد الغرائب ، سلسلة أمثال عن حالات وشاية اسفرت بعض منها عن جرائم . وشايات نفّذها قوم تعهدوا بالاضرار بالاخرين من أجل مال او لنيل حضوة او الفوز بجائزة او وسام او بلوغ منصب او إحراز مكسب أوغيره . هؤلاء الوشاة تذرّعوا بقوانين جائرة او اتّكأوا على تعليمات اصدرها مسؤول اناني لحماية مكاسبه ، قوانين   تخدم مصالح شخص حديدي ، غير انها تتنافى وحقوق الانسان .

كم من هؤلاء الوشاة اللطفاء ابلغوا عن جنود ، بعد ان نجوا من الموت في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، رغبوا في قضاء بعض الوقت مع ذويهم بعد فترة اجازتهم ؟ إقتيد هؤلاء الى السجن ، والذين استطاعوا الافلات من الاعدام خرجوا باذن مبتورة لا يعرفون كيف يفسرونها للاجيال الجديدة إلا بالقول إنها نتيجة حادث أو خصام عنيف .
كم وشاية أدّت الى فسخ خطوبة او هدم زواج بسبب كلام او رؤية شخص ثالث أو حركة فسّرها واشٍ شريف على هواه وابلغها الى احد الطرفين؟ كم واشٍ ، هربا من حملات الجيش الشعبي ، وشى باصدقاءَ وزملاء كانت لهم ظروف خاصة ، فارادوا تجنب هذه السخرة ولو لحين ، فأتى الاخ الواشي وتقدّم مسؤولي الحملة ليُرشدهم الى حيث يقبع الزميل الذي سبق وان تشرف عدة مرات في إكمال العدد المطلوب لحملات سابقة ؟ وكم شخصا بريئا ، كانت اهدرت دمَه أطرافُ ظالمة دون ان يكون له اي ذنب ، انتهى على يد واشٍ باع ضميره . وكم سجين برئ فرّ من زنزانته فكان له احد المأجورين بالمرصاد .
وكيف انسى قصة مام يوسف دختور الذي ذهب ضحية وشاية صوّرته كأخطر مجرم لانه قام بتضميد جريح عراقي وانقاذ حياته ، كانت الجريمة تكمن في كون الجريح ينتمي الى حزب آخر. افلح الواشي بالنيل من الرجل الخيّر الذي مدّ يده لاسعاف مواطن عراقي محتضر،  فانتهى مام يوسف في غياهب السجون وبعد ستة اشهر ، سُلـِّم  جثة هامدة الى أهله وذويه .
كم واشيا من بين ضعاف النفوس هؤلاء ، إصطادوا في الماء العكر وابلغوا عن أبٍ أو أمٍّ سافر أحد ابنائهما الى الخارج ، وكانت التعليمات الجائرة المنافية لكل القوانين، تقضي آنذاك بان يُحجز الاب او الام لحين عودة الابن الذي قد خلقه الله حرّاً ولكنه بات مقيّدا بشرائع اخرى .
تكثر الحالات ، وكما اقول دوما ان الظروف التي مررنا بها وحتى التي نمرّ بها اليوم لانها لم تختلف كثيرا ، خلقت عشرات الالوف من قصص مماثلة لان كل شئ كان ممنوعا ، وكان قد تمّ تجنيد اعدادٍ هائلة من متطوعين يقتاتون على الوشاية.
لقد اصبحت الوشاية لدى البعض عادة والبعض الاخر مهنة ، ويقوم هؤلاء بهذا بدافع الغيرة او الحسد او الانتقام ، والبعض قد وُلدوا وشاة بفطرتهم وكأنهم ، كما يقال ، فروع شجرة خبيثة !!
كلمني احد اصدقائي في احدى قرى الشمال عن شخص اوصلته رغبة الانتقام الى الايقاع بأحد اصدقائه والوشاية به.  فدعا صديقه الى جلسة شرب في نادٍ معين ، وفتح معه مواضيع شائكة لا يتحدث او يتصارح بها إلاّ الاصدقاء ، كلام  يكشف الغطاء عمّا يفكر به كافة الناس دون القدرة على الافصاح . لان الحظر كان يشمل كل انواع الحديث لا سيما المتعلق بوكيل الله . عندما بدأت بنتُ الحان تلعب براس الصديق هذا ، شرع يقول ما لا يقال ويتطرق الى احاديث محفوفة من كافة جوانبها بالمخاطر. كان صاحب الدعوة قد اصطحب معه جهاز تسجيل صغير إلتقط حتى الفواصل والنقاط التي دارت كحديث في الجلسة ، وفي اليوم التالي خلع ثوب الصداقة وتوجه ببزّة الواشي الى جهات تهلل لاستلام مثل هذه الهدايا، والبقية معروفة !!
لا اريد ان انتقل الى اشكال اخرى من الوشايات لان الموضوع واسع جدا وقد يتشعب الى حالات التجسس والمراقبة التي لها ايضا ازلامها ، وقد تكون لي عودة حول هذا الموضوع الدسم .
أحبّ ان اقول في النهاية بأن الانسان ليس مضطرا لقول الحقيقة دائما وفي كل مكان لا سيما اذا كان ذلك لا يمس بالمصلحة العامة وحقوق الانسان . واذا كان لا بدّ لي ان اختتم المقال بسطرين ، فاني افعل ذلك بذكرالمثل الفرنسي القائل : إذا كانت عملية الفم الى الفم قد أسعدت عشاقا وانقذت أناسا من الموت ،  فان عملية الفم إلى الاذن قد هدمت بيوتا وأزهقت أرواحا !!

134
المنبر الحر / نكران الجميل
« في: 18:18 17/02/2012  »
نكران الجميل

شمعون كوسا

قبل ايام كنت في زيارة لاحد الاصدقاء أتصفح وإياه كتاب الدهرعن طبائع البشر واخلاقهم وأيضا عن موازين الاعتدال والتقصير والمبالغة في التصرف، ذهبنا من فصل الى فصل الى أن بلغنا الصفحة المائة والثمانين عن موضوع نكران الجميل . حال وقوع نظر صديقي على هذا العنوان ، طلب مني التوقف ليسرد لي قصة بهذا الخصوص كان قد تأثر بها  ، فقال :
كان هناك شخص يُدعى العم منصور قد حباه الله بكثير من المزايا والصفات الحميدة التي جعلت منه شخصا طيب المعشر ، جذّابا . مرونته في التعامل مع الغير سهلت عليه إقامة علاقات ودّ مع كثير من الناس ومن بينهم شخصيات رفيعة  تحتل مراتب عليا في المجتمع ، ممّا يسّر عليه تسيير الكثير من أموره  وأمور غيره من المحتاجين .
قصَدَه ذات يوم شابّان يحملان رسالة من احد معارفه يرجوه فيها استخدام علاقاته لايجاد عمل لهما . كان الشابان ، اللذان يحملان اسمي  قَـرَني وصبري ، حديثيَ العهد في تخرجهما ويبحثان منذ فترة عن عمل يُعينهما على إعالة اسرتيهما الكبيرتين ، ولكن دون جدوى . عند وصولهما الى بيت العم منصور ، إعتراهما مزيج من الخجل والتردد بحيث كان كلّ واحد يدعو الاخر للدخول قبله . لدى رؤيتهما من بعيد واقفَين عند عتبة الباب ، لان الباب كان مفتوحا، أشّر لهما العم منصور بالدخول وهدّأ من روعهما  ودعاهما للجلوس. بعد قراءة رسالة صديقه وسماع حديث كل واحد منهما ، طمأنهما بابتسامته الوديعة ودعاهما لتناول الغداء معه.
لدى مغادرتهما رَبَتَ على ظهرهما ووعدهما خيرا . وفعلاً  تمّ كل شئ كما تمناه إذ بعد اسبوع واحد فقط تمّ تعيين  قرَني  موظفا في وزارة الاتصالات وصبري في وزارة الاشغال.
دارت أيام ومرّت شهور غدت أعوامَ . خلال هذه الفترة كان قرَني ،موظف الاتصالات،  يقوم كل سنة بزيارة العم منصور الذي كان يعتبره وليّ نعمته. كلّما كان يدخل بيت العم منصور يُسرع منحنيا لتقبيل يده وكان هذا يسحبها مستغفرا الله ويحضنه مطولا وبقوة . لم يفوّت قرَني سنة واحدة دون القيام بهذا الواجب الذي كان بالنسبة له جزءً بسيطا جدا من ردّ الجميل .
أما عن صبري ، موظف الاشغال ، فانه لم يُجرِ أيّ اتصال خلال تلك الفترة ، غير ان العمّ منصور كان يتابع اخباره وتطوراته عن بُعد . بَعد اثنتي عشرة سنة من ابتداء قصتنا، وجد العم منصور نفسه ضحية تقلبات الدهر ، إذ اختفى اغلب معارفه المتنفذين واصبحوا خارج الساحة ولم يَعُد ليده نفس طولها السابق والكثير من اموره الاعتيادية واجهت عقبات لم تتعرض لها فيما قبل . بعض الاجراءات في احدى المعاملات ، اجبرت العم منصور على التوجه الى العاصمة ، فوجدها فرصة مؤاتية لزيارة صبري، لانه كان مشتاقا للقائه ، ومن جهة اخرى فكر بانه بزيارته سيمنحه شرف ردّ بسيط لجميل قديم ، لان صاحبنا كان قد تبوّأ منصبا مرموقا في وزارته .
عند وصوله امام مكتب صبري ، سأله الحاجب عن اسمه وسبب زيارته ، فاجابه العم منصور بان مجرد ذكر اسمه كافٍ لكي يترك المدير مكتبه ويتلقاه بالاحضان . ولكن كم كانت دهشته كبيرة عندما خرج الحاجب ليقول بان السيد صبري لا يستطيع مقابلته حاليا بسبب انشغاله وانه سيقابله بعد ساعتين . إندهش العم منصور ولكنه لم يشأ الذهاب بعيدا في التفكير أوتأويل الامر . عندما حان موعد مقابلته ، دخل المكتب بابتسامة عريضة وبيدين امتدتا من بعيد لمعانقته ،غير انه لم يلقَ من صبري غير ترحيب بارد هو اقرب الى الجفاء . جلس العم منصور والدهشة قد بدت على وجهه ، وقبل أن يبدأ بالكلام طلب منه صبري إيجاز حديثه لضيق وقته ولارتباطه بمواعيد اخرى . لم يتحمل العم منصور هذا التصرف ، واراد ان يذكّره بنفسه وبما جرى قبل اثنتي عشرة سنة ، فقاطعه صبري بعصبية وقال :
هل اتيت لكي تذكّرني بنفسك وبانك صاحب فضل عليّ ؟ يجب ان تعلم بانك لم تفعل شيئا من اجلي . هل كلفتْك مكالمتُك الهاتفية في حينها شيئا ؟ هل انفقت مالاً لاجل ذلك ، أم تعرضت أنت لجهد عضلي أنهك قواك وطرحك الفراش ؟ على أية حال أنا كنتُ سأعثر على العمل إن كان ذلك بواسطتك او بدونها . إن الدنيا قد تغيرت وانا ارتبط الان بعلاقات مهمة مع اصدقاء لهم وزنهم الثقيل .   لم يتحمل العم منصور هذه الصلافة فترك مكتب المدير مخذولا والحيرة قد خيّمت على زوايا فكره الاربع وأثقلت خطاه . كان يهزّ رأسه ويردد مع نفسه قائلا : أيُعقل ان يكون الانسان ناكرا للجميل بهذا القدر وبهذه الصورة السافرة والوقحة ؟ هل يمكن ان يكون الانسان بهذا الجحود وهذه العجرفة   ، أنه لم يشأ حتى الاطلاع على طلبي ، لقد اهانني انا الذي وضعته على سكة أفضت به الى هذا المستقبل وهذا المنصب الرفيع .
عندما انتهى صديقي من سرد رواية العم منصور ، قلتُ له بان الحديث هذا نموذج صغير لقصص تتكرّر وتتنوع كل يوم فالدنيا مليئة باحداث مماثلة ، بنكران جميل تقع احداثه بين الاولاد واقربائهم ، والاصدقاء فيما بينهم ، والزوجة مع الزوجة ، والرئيس مع مرؤوسيه ، أوالمعلم مع طلابه وهكذا .
إن ما يحدو بالانسان الى نكران الجميل هو أنانيته وتكبره واحيانا وجود خلل في احساسه .  فالجحود سمة من لا يرى أبعد من مصلحته الذاتية ، وعند حصوله عليها يتناسى كل شئ . لا يمكن لمثل هؤلاء مبادلة صاحب الفضل بنفس شعوره .
إن من يبادر عادة بتقديم خدمة للغير لا ينتظر ردّا أو مقابلا ، ولكن موضوع الاعتراف بالخدمة أوالتعبير عن الامتنان هو أمر طبيعي لا سيما اذا كان صاحب الفضل قد عرّض حياته للخطر او ضحى الكثير في هذا السبيل ، او صرف أموال طائلة او اقرض مبالغ او منحها  او قام بضمان وكفالة المحتاجين ، أو في حالات اخرى قام بالعفوعن اهانة كبيرة أو آوى أحدا في داره ، أو أية حالة صعبة اخرى تندرج ضمن  الخدمات الخارجة عن نطاق المألوف .
إن نكران الجميل هو من شيم اللئام . تحضرني هنا طرفة صغيرة لربما قد سمعها الكثيرون ولكنها تندرج ضمن هذا السياق :
كان هناك رجل اعمى . بعد سنتين من زواجه ، عطفتْ عليه زوجته وفكرت في التخلي له عن عينها اليسرى لكي ينفتح على العالم ويرى جمال الحياة . خضع الزوج لعملية نقل العين وبقي معصوب العين لمدة يومين . بعد رفع ضماداته في اليوم الثالث ، بدأ الزوج باجالة نظره في جميع الاتجهات وهو مندهش لما يري وعند الوصول الى زوجته قال لها : هل انت زوجتي ؟ فقالت له نعم وهي تبكي من الفرح . ولكنه هو قطّب جبينه وقال : انه من غير المعقول ان امضي حياتي مع امرأة عوراء ، وألقى عليها يمين الطلاق في الحال ، وهكذا دخل اسمه سجلّ من قيل عنهم : إتّق شرّ من احسنت اليهم . فالاعمى الذي ابصر النور ، وهذا شئ لا يحدث الا في الاعاجيب ، لم يكتفِ بانكار الجميل فحسب ولكنه قابله بالسوء .
ان الحياة مزروعة في كل شبر منها بمثل هذا النوع من الناس ، ولكن بمستويات متفاوتة . بعض هؤلاء يخشون الرجوع الى سنوات خلت لئلا يجدوا انفسهم امام دَين عليهم ان يعترفوا به. مصلحتهم الذاتية والانية تدفعهم الى بناء سور عال يحدد الزمن في ضمائرهم بحيث لا يترك المخيلة تذهب ابعد من عشر او خمس عشرة سنة لان عبور السور سيوقعهم في أرض ملغومة بجمائل لا سبيل لنكرانها ، جمائل قد تحرجهم لانهم لم يعودوا على استعداد للاقرار بها خوفا من ان تحط من قدرهم ، هم الذين غدوا كبارا بمقاييس الدنيا ومظاهرها وصاحب الفضل بقي صغيرا بمفاهيم الدنيا ومقاييسها غير انهم تناسوا شيئا وهو ان هذا الصغير كان دوما كبيرا بمعايير اخرى وبقي كذلك لان كرمه لم ينقطع وعطاءه لم ينضب .
أختتمُ الموضوع بالقول إنّ الاعتراف بالجميل  شعور لا يصغّر الكبير ولا يخجل منه الصغير لانه يرفع من  شأنهما .انه شعور نابع من أصالة الانسان واخلاقه وتربيته . فالاصيل ، لانه ذو جذور عميقة ، يعترف ويشكر ويردّ الجميل اذا سنحت له الفرصة ، اما غير الاصيل ، لانه سطحي ، فانه لا يضع اي اعتبار لغير نفسه ولهذا فانه على استعداد لنسيان اعظم الجمائل وانكارها .




135
عندما يتحول الثلج الى ذكرى مؤلمة

شمعون كوسا

أنا ابن ضيعة وعدتها السماء بأِكسائها كل شتاءٍ ثوباً أبيضَ ، ترتديه قِمَمُها وتتزين به كلـّما اشتد عليها البرد ، وإذا تمادى في قساوته تمتدّ مساحته الى تلالها وآكامها ، واذا طال اكثر يتحول الى خيمة تغطي التضاريس والوديان وما تحتويه .
ولقد ابصرتُ النور في كوخ كلـّما نهض صباحا تقع عيناه على هذه القمم ، وبحركة بسيطة تحتضن أنظارُه الضيعة بأكملها .
كان هذا في فترة صباي حيث كان الثلج أحد دواعي سعادتي . كانت تنشرح نفسي لدى تساقطه كندائف قطن ، ولدى رؤيته متراكما ، وعند استسلامه لايادي الكبار والصغارممّن كان يحلو لهم اللهو بتحويله الى تماثيل او كريات يتراشقون بها ، ومن مناظره البديعة أيضا تماسكمه على بعض الاشجار التي كانت باغصانها المحمّلة تبدو وكأنها  بائعات حلوى تحمل الاطباق على يديها .

لا بدّ ان ترتسم هنا علامات استفهام وتعجب على بعض الوجوه  لتقول : ما هي إذن مشكلته  ، فاذا كان قد وجد سعادته مع الثلج ، ما الذي دعاه لاختيار مثل هذا العنوان المتشائم ؟ إني ادعو هؤلاء لسماع الحديث التالي  :

استجابة لعجلة الزمن التي لم تتوقف يوما، خرجت كسائر الخلق من شرنقة الصبا . وبعدما رأيت نفسي صاحب جناحين ، أحسست بالرغبة في الطيران خارج منطقتي بحثا عن مستقبل يؤمّن لي لقمة العيش . حلـّقت بعيدا فوق ارض الله الواسعة الى أن قادتني أجنحتي الى العاصمة ، فهبطت واستقر بي المقام في بغداد .

في صبيحة احد الايام، وبالتحديد قبيل انتهاء الحرب مع ايران، في يوم كانت الشمس قد سمحت لنفسها الشروق بكامل اشعتها لكي تنير الانام إلى أبعد المسافات ،  إشتدّ بي الحنين الى موطني . كان شعورا قويا لم أقوَ على مقاومته، فبدأت بالتهيؤ للسفر مع اثنين من إخوتي . قمت بفحص دقيق للسيارة ، وهذه عملية كان لا بدّ منها في بلد كانت اغلبية عرباته من الاعمار المتقدمة ، بحيث اذا كان الفرد يمتلك عربة بعمر عشر سنوات يعتبر نفسه صاحب سيارة شبه حديثة !!

لم تكن السيارة قد قطعت ستين كيلومترا عندما لاحت علىالشمس علامات شحوب أدّت الى اختفائها بصورة مفاجئة وكأني بها تلقت صفعة قوية لشروقها في يوم لم يكن يومها . بدأت الرياح صولاتها وجولاتها ، ولا ادري كيف تمكنت من رصّ الصفوف كقائد مكلف  بتجنيد الغيوم واكمال ما ينقصه منها بقطع سحاب مرتزقة انقطعت بها السبل هنا وهناك ، لان الامر كان خطيرا والتقدّم كان وشيكا !!
لم تمضِ على تحضيرات الهجوم اكثر من خمس دقائق حين وجدنا انفسنا تحت وابل من الامطار هطلت كالحبال وبقساوة أدّت الى توقف الماسحات . خرجت لاستقصي الامر ، وبما اني لم اكن افقه شيئا بشؤون المحركات ، عدت الى المركبة لاتابع سيري . فتحت النافذة لكي أكنس بيدي اليسرى حيّزا صغيرا يتيح  لي ، على الاقل ، رؤية الخطوط البيضاء على الطريق .
عند وصولنا الى منطقة العظيم كان قد بدأ المطر بالتحول الى ثلج  ، وتحولت معه يدي اليسرى من المبللة الباردة الى الجامدة غير انها لم تتوقف ، الى ان بلغنا مدينة كركوك .

توجهنا الى أول ميكانيكي على الطريق ، وتمكن هذا بالفعل من اعادة الحياة الى الماسحات. بعد تناول الطعام في بيت أخي الثالث الذي كان من قاطني البلدة ، فرحت لاقتراحه في مبيتنا عندهم لاستئناف الرحلة في الصباح الباكر ، غير ان أحد ركابي ألحّ على مواصلة السفر قائلا : ما حاجتنا للمبيت هنا ، لقد استعادت الماسحات قواها ولا يفصلنا الان عن مدينة اربيل غير ساعة واحدة . كان قد غاب عن بال اخي بان الظلام يفرض نفسه في الشتاء في ساعات مبكرة وبوجه خاص في الايام الممطرة .

إستأنفتِ العربة مسيرتها مُكرَهة ، وبما ان الجو كان مُثلِجا ، لم ينتظر الليل كثيرا في بسط  سواده فاصبحت الحاجة ملحـّة لاشعال القناديل . كبستُ الزرّ المخصص للاضاءة فلم أتلقّ تجاوبا ، اعدت المحاولة مرتين وثلاث ولكن دون جدوى . يا إلهي ما الذي حدث وماذا دهى العربة ، هل أصيبت في نظرها ، وما هذا الحظ  ؟ كيف نستطيع متابعة سيرنا دون أضاءة في الليل ؟ بدأتُ اتابع السير ببطء شديد  لانه لم يعد في متناولي التراجع في طريق ضيق وذي إتجاهين .  وثالثة الاثافي اكتملت بتوقف الماسحات من جديد ، فتحولت حيرتنا الى كابوس يقضة في ليل مظلم وظالم . 

انقبضت صدورنا لاننا وجدنا نفسنا حقا في مهبّ الريح على شارع سيقود بنا الى التهلكة لا محالة . كان الثلج قد غطى الشارع  من الجانبين وكل انحراف ، ولو لشبر واحد ،كان سيؤدي الى الانزلاق في المنحدر الذي كان ينتهي به الشارع من كلا الجانبين .   كان القلق قد  اصطحب معه الخوف بكافة مرادفاته  لاحتلال اقصى نقطة في شعيرات شراييننا ، وكان القلق فعلا موفقا في اختيار رفقته لانه افقدنا كل امكانية او حتى رغبة في المقاومة  .  أمسكتُ بالمقود باعصاب مشدودة ، وكانت أنظاري مغروسة في الخط الذي كانت قد رسمته السيارات التي سبقتني ، ألى ان رأيت نفسي بعد مسافة قصيرة خلف مركبة غدت لنا سفينة إنقاذ  بفضل مصابيحها الخلفية الحمراء . لاني عن بلوغي مستواها رفعت نظري من خطوط الشارع لاتعلـّق ، أو بالاحرى ألتحم بنقطتيها الحمراوين . أعتقدُ جازما بأن سائق المركبة شعر بما نعانيه ، فبدأ يسير وكأنه مكلف بسحب عربتنا ، وفعلا اصبحتُ ارى نفسي مربوطا  بحبال تنتهي بمصابيح السيارة الخلفية .

كنا نتجنب الحديث داخل السيارة ، وكنت أنا حريصا جدا على كبح الدواسات في اوقاتها المناسبة لئلا ينطفئ المحرك وينقطع ما تبقي  لمحركنا  من رمق أخير. كانت الاقدار لنا بالمرصاد ، وفي خضم تخيلاتي احسست بالعربة التي كانت تقلنا وكأنها تجترّ بسكوت ما يدور في خلدها لتقول : لماذا لم ترحموني ، ألم تروا ما ألمَّ بي من عطب ، هل انتم ناوون على قصم ظهري ، لقد استمررتم في غيّكم الى ان  حرمتموني من نظري .

لم يتوقف الثلج ولم تتوقف العربة التي كانت تسحبنا بمصابيحها إلى ان وصلنا مدينة اربيل حيث الانارة كانت تغطي كافة الشوارع . لم يتوقف منقذنا ، وتركنا  دون ان نبصر وجهه،  وكأنه كان قد اقسم على ألا يحسّ احد بالمعروف الذي اسداه نحونا .
بدأنا ننظر الى بعضنا البعض وانفرجت اساريرنا وانفكت عقدة لساننا . بعد دخولنا بيت اخي في اربيل (لان والدنا لم يرزق بأكثر من ستة ذكور ) !! ، أنا الذي لست من هواة الصلوات التقليدية ، دعوت الجميع لتلاوة الوردية وقلت قبل الصلاة ، لا يهمني ما الذي سيلحق الان بالمركبة لاننا نجونا من كارثة كبيرة ، بل من موت محقق .

في اليوم التالي وعند زيارة الميكانيكي ، اتضح بان عطل الاضاءة كان ناجما من ارتخاء في حزام مولد الطاقة (الداينمو) . ومن جهة اخرى ، لم نستطع الوصول الى الضيعة التي كنا نقصدها وراء الجبال ، لان الثلج كان قد اغلق كافة المنافذ ذهابا وايابا .

خلق الثلج لديّ ، دون إرادتي ، ذكرى مؤلمة حتى أني في السنوات التي قضيتها في الاردن في اوقات لاحقة كنت أهابه ، وكلـّما كان يبدأ بالتساقط  كنت اعجّل بالرجوع الى البيت خشية انقطاع الطرق واختفاء سيارات الاجرة من الطرقات .

وبينما كنت أتهيأ لاختتام المقال ، أحسست بالثلج يناديني ليدلي بالتصريح التالي : لا تذهب قافلا الابواب قبل ان تسمع دفاعي . يا صاحبي لقد ظلمتني كثيرا . انا لست مسؤولا عن ذكراك المؤلمة ولا ذنب لي في ما جرى لك ولست شريرا كما تعتقد . يجب ان تعرف بان السماء ترسلني غيثا ، ولكن خارطة طريقي تجعلني أمرّ في مسالك وعرة ترعاها قوانين قاسية تؤدي الى انجماد عروقي . أثناء هبوطي احاول التخلص من قيودي ، فتنتهي جهودي بانكساري ووقوعي على الارض قطعا محطمة مهشمة ، وبما ان عروقي لا تحوي دما ، فاني افترش الارض  بياضاً . واذا تحلـّيتَ بقليل من الصبر وتابعتَ امري لبضعة ايام فقط  ، سترى باني لم أزرْ قممَكم ووديانكم وكافة أراضيكم  إلا نعمة وخيراً لاني أنتهي بالذوبان ومن ثمّ التسرب الى اعمق اعماقها لاشبعها ماء .
امام تصريحات الثلج هذه ، طأطأت رأسي غير قادر على اضافة ردّ كنت قد وضعته خاتمة  للمقال .

136
ملاحظات خجولة مع تمنيات جديدة

شمعون كوسا
 
إحدى جولاتي في هذه الايام الاخيرة قادتني الى واد سحيق . كان الوادي المحطة الاخيرة لجولتي.  بعد مسيرة استغرقت ساعة ونصف احسست بقليل من التعب،  فافترشت الارض مقعدا  وبصورة عفوية وجّهت انظاري الى فوق ، فرأيت نفسي تحت قدمَي جبل شاهق ، وبقليل من التركيز تيقـّنت بان الجبل هو ذات المرتفع الذي استضافني في أعلى قممه قبل سنة ، لاطلاق تمنياتي للعام الجديد .
قلت ، بما اني لا زلت في الايام الاولى من السنة الجديدة ، لماذا لا اصدر عددا جديدا لتمنيات هذا العام ، ولكني بعد تفكير بسيط استدركت نفسي وقلت : قبل ان اقوم بهذا الاصدار الجديد ، يستحسن  أن أراجع نتائج تمنياتي للسنة السابقة ، للاطلاع على ما تحقق منها وما لم يتحقق ، وما بقى منها يراوح في منتصف الطريق  وما استجدّ خلال هذه الفترة . بعد مراجعة سريعة توصلت الى بعض نتائج ارغب في سردها تباعا ، بموضوعية وباسلوب قد يبدو لاذعاً ولكنه نابع من القلب .  انها ملاحظاتي التي اسوقها بصراحة ، لاني رأيت وسمعت ما يلي :

رأيت بان الناس لا زالت تركز اكثر فاكثر ، على تكديس اموالها وزيادة املاكها ومساحات بناياتها  ورفع اسعار أراضيها  وزيادة عدد سياراتها حديثة الصنع. وهذا ما كررته سابقا ولا أملّ من قوله . باتت الناس لا تفتش في احاديثها الا عن مفردات ترتبط  باوثق الروابط  مع الدولار وما يلف حوله . بات اغلبية الناس ينتمون الى نادي هواة الاصفار ، اصفار يريدونها على يمين العدد  . يبحثون عن الصفر في الاعالي ، وعند العثور عليه ، يلقونه في منحدر علـّه يتعرف على اصفار اخرى ويغريها في طريق هبوطه ، تماما ككتلة الثلج التي يكبر حجمها في المنحدرات  الثلجية .

رأيت ورثة ينتظرون حلاّ لخلافات قائمة منذ أربعين سنة . توُفيّ المالكون الاوائل وعقبهم الاجداد والاباء ، والاحفاد ، الذين تزايدوا وتفرّعوا ، كادوا ينسون حقوقهم بسبب تعنت البعض وانفرادهم  بحثا عن أطماع آنية على غير وجه حق، وقد يكون للنساء دور البطولة في مثل هذه المسلسلات المأساوية .

رأيت روح الكبرياء والتعالي والحقد قد تأصلت في الكثير من القلوب . رأيت هنا وهناك اناسا مرّوا بظروف صعبة ولم يتـّعظوا من مصائبهم . أثناء محنتهم كانوا لا يكفون عن الترديد بقناعة بان الدُنيا  زائلة ويقطعون العهود بنبذ السوء من قلوبهم ، ولكنهم ما ان زالت اسباب ضيقهم ، حتى تنكروا كليا لعهودهم ومواثيقهم . فبدأو بمحو الاسطر التي تعهدوا بها ، وبعدها وجدوا بانه من الافضل إزالة الصفحة باكملها لان الدنيا لم تعد زائلة الان . انهم يتناسون بان الاستقامة الحقيقية تقاس على مدى الحياة ، إنها نتيجة عدد كبير من محاولات صادقة ، وليس استغاثة في آخر العمر حيث لا يفيد الندم . كما يجب ان نضع نصب اعيننا حكمة مهمة وهي بان الدنيا لا تستمر على وتيرة واحدة ، وتتربص بنا  المحن كاللص ، وان ما يصيب غيرنا قد يصيبنا ، لانه ليس هناك من هو في منأى عن الشدائد .

سمعت عن بعض المجتمعات بان مشاكل الاهل في البلد الام تنعكس على اولادهم الذين اختاروا المهجر مستقرا لهم . لقد سمعت آباء او امهات يؤنبون اولادهم لمعاشرتهم اولاد العائلة الفلانية ، او بالاحرى لعدم التصرف معهم كالاعداء لان اباءهم في البلاد المتروكة هم على خلاف مع هذه العائلة لاسباب قد يجهلها الطرف المهاجر. انهم ابتعدوا بحثا عن راحة البال ولكنهم اكتشفوا بانه عليهم الابقاء على العلاقات والالتزام بكافة تطوراتها حتى العدائية منها .

بما ان رجال الدين لا يحبون الملاحظات او الانتقادات ، فاني احتراما لمقامهم سأتـّبع اسلوب الرجاء والتمني واقول : اتمنى ان يفكر بعض رجال الدين بالخلود الى الراحة عند بلوغهم سن التقاعد ، فالبعض كانوا قد وعدوا ونسوا وعدهم.

حبذا لو فكر بعض رجال الدين بتقليل اهتمامهم بصليبهم الذهبي والسلسلة التي تحمله  والتخفيف من حرصهم على إُبرزاهما  بسُمك معين وبريق خاص ، أتمنّى لو أعادوا الى اذهانهم حقيقة بديهية  وهي ان سيدهم كان قد عُلـّق بوجه مشوّه على صليب من خشب . هل ان الذهب يزيد الصليبَ قيمة ؟ ولماذا لا يُصار الى وضع صليب خشبي يزين صدورهم ؟ انه مجرد اقتراح شخصي ولقد تأكدت بانه لا يتعارض مع الشرائع السماوية !!
   
وحبذا لو فكر قسم آخر من رجال الدين واقتنعوا بان مضاعفة الشهادات العليا والالقاب ، بعد دراستهم الاساسية ، ليست ضرورية لبلوغ مرتبة الكاهن الصالح .  إن المؤمنين بصورة عامة يجدون ضالتهم في رجل دين يعكس وجه سيده ، وهذه الصورة لا تحتاج الى اكثر من التشبع بتعاليمه السهلة والبسيطة وليس بالضرورة الى لقب الدكتور أو ما شابه. فكلّ ما يطلبه الرعايا من رؤسائهم ، الذين يفترض انهم كرسوا نفسهم لخدمتهم ، هو أن يفرحوا معهم إذا فرحوا ، وأن يبكوا معهم إذا بكوا .

سمعت حكايات عن اناس اضاعوا فرصاً ذهبية تهيّأت للتآلف والتآخي والتسامح . وعوضا عن اغتنامها ، فضـّلوا التغريد خارج السرب . هناك من أبوا التلاقي مع بعض الوجوه من بني جلدتهم  أوالتحديق في عيونهم، ومنهم من رأوا المجتمِعين غير جديرين باهتمامهم ، ومنهم من اختلقوا أعذارا واهية اخرى ، فقاموا بالتحليق في فضاءات اخرى وتجاهلوا الجمع واهدروا فرص التئام قد لا تتكرر كل يوم .

بعد تمحيص طويل ، رأيت بان التقدم في تحليلاتي سيقودني الى المزيد من التشاؤم لاسيّما وان خشبتي كانت عامرة بخبز ينتظر دوره في التنور، فتوقفت عن مراجعتي  وقلت : هل هناك جدوى من اطلاق تمنيات جديدة لهذه السنة ، خاصة واني الان جالس في واد سحيق بعيد عن تلك القمم التي كانت تلامس ارجل الملائكة ، حيث لم تكن تحتاج كلماتي آنذاك الى اكثر من بضع امتار لتبلغ هدفها ؟ هل هناك امل ازاء هذا التكالب على المادة ؟ هل هناك ما يُرجى من جيل لا يرى الا مصلحته ؟ هل هناك رجاء في غالبية قد جنحت للانانية وتنكرت للغير ؟ هل سيرضى الحقد باجلاء المساحات الشاسعة التي اشادها باسس راسخة داخل القلوب ؟ هل يعرف الناس بانهم اضحوا يرون القشور لبّا والمظاهر جوهرا ؟ هل سنتوصل جميعا الى رفع انظارنا الى العلى للارتفاع قليلا والانقطاع عمّا يربطنا بالارض لافراغ افكارنا وقلوبنا وفرشها بلون ابيض ووردي،  ولو لمدة صغيرة ، لكي تستقبل حبا طاهرا يجعلنا نعيش بفرح مع الجميع ونتيقن بجدّ بان كل ما تحت اقدامنا هو فانٍ ٍ، وبان الكل سيتلاشى ويتساوى في القبور ، العبد مع ربّ الصولجان .
 
وفي خضمّ شكوكي هذه تذكرت قول الشاعر حينما قال :

اعلـِّلُ النفسَ بالآمال ارقبها       ما اضيق العيش لولا فسحة الامل

فراجعت نفسي وقلت بخجل ، لماذا لا أتسلح بالامل وأحاول استئناف التمنيات من هذا الوادي  .اخرجت القلم  ووقعت ورقتي التي كانت قد صاغت الملاحظات على شكل تمنيات جديدة مع هامش يعبر عن الامل بان يتوصل الناس الى قراءة  ولو جزءً يسير ممّا لاحظته ورأيته وسمعته أورجوته . أودعتُ البرقية أذرع الرياح التي طارت بها الى فوق ، فتابعت  مسارها الى ان اختفت عن أنظاري .
للذين لا يستمرئون هذه الملاحظات اقول :اعتبروا هذه كلها مجرد اقوال ، ودعوني ان اراها تمنيات نابعة من أعماقي . 

137
القيل والقال في قصة
الطحان وابنه والحمار

شمعون كوسا

تروي الامثال والحكايات القديمة قصة طحان إحتاج الى بعض النقود ، فقرر بيع حماره في سوق البهائم . اختار اليوم الاول من الربيع لكي يخرج بصحبة ابنه والحمار باتجاه هذا السوق . كان قد قرر الطحان إعطاءَ الحمار قليلا من الحرية في ذلك اليوم ، فتركه يتقدم المسيرة ، وكان هو وابنه يسيران خلفه .  كانت هذه اول اجازة يتمتع بها الحمار، ولاجله كان يقوم بقفزات غريبة فرحاً ، ويتفنّن برفسات تنوب عن ابتسامة لا يقوى على إدائها ، غير انه كان حذرا ويلتفت الى الخلف بين الحين والحين للتأكد من حالة الإعتاق المؤقتة التي يعيشها .
لم يقطع الموكب مسافة طويلة حين صادفه رجل جثيث البنية وطويل القامة ، توقف على حين غرّة كي يوجّه للطحان وابنه الكلام الاتي : ماذا جرى لعقلكما ، لماذا تسيران مشيا على الاقدام ، أولم يُخلـَقِ الحمارُ من اجل حمل الاثقال ونقل البشر؟ من رأى حمارا يسير بهذه الحرية ودون أي حمل ؟ لدى سماع هذا الكلام، فكر الطحان قليلا ورأى بان كلام الرجل الجثيث كان صحيحا ، فقام بالغاء اجازة الحمار وامسك بابنه ووضعه على ظهر الدابّة .

إستأنف الطحان طريقه سائرا خلف الحمار ، وإذا بمجموعة رجال قد ركزوا  انظارهم من بعيد على ابنه ، وبدأوا ينادونه بصوت عال ويقولون : الا تخجل من نفسك ، كيف ترضى لنفسك الجلوس بارتياح على ظهر الحمار ووالدك المتقدم بالسن يسير خلفك ، انك لا زلت في نشاطك وحيويّتك ، كان يجب ان تفكر قليلا وتتركِ الحمار لابيك .

نظر الولد الى ابيه مستفهما ، وعندما تلقـّى اشارة النزول ، قفز من على ظهر الحمار . ظلتّ مجموعة الرجال واقفة تتابع الموقف ، ولكي يضع الطحان حدّا لمراقبتهم،  امتطى الحمار ، رفع يده  شاكرا ،  وأوعز لمطيّته بالتحرك . كان يشدّ بقوة على طرفي الحمار لحمله على الانتقال الى سرعة متقدمة ، وإذا بشلة من البنات مهرولة نحوه تؤشر إليه بازدراء ، وتُصدر قهقهات مدويّة قائلة : ايها العجوز ، هل رأيت منظر ابنك الفتيّ ، انك جالس على ظهر الحمار كملك على عرشه ، غير مكترث لحالة هذا الصغير الذي يسحب اقدامه خلفه بصعوبة ويلهث  محاولا اللحاق بك .
لدى سماع هذا الكلام النابي ، امسك الاب بابنه  ووضعه خلفه على ظهر الحمار . هنا قال الطحان مخاطبا نفسه : أحمد الله لانه لم يبقَ للناس شئ يقولونه . لم يكن قد انتهى من طمأنة نفسه بهذا الكلام حين رأى نفسه وجها لوجه امام جماعة جديدة بدأت بالتعليق قائلة : أيُعقل ان يتوصل الانسان الى هذه الحدّ من انعدام الرحمة ؟ ماذا فعلت هذه البهيمة لكي تعاقب هكذا ، الا يجدر بهذا الاب وابنه الحرص على راحة دابتهما ، على الاقل للتـّمكن من بيعها وهي في كامل صحتها ؟
 
هـّز الطحان رأسه ، ومن شدة غضبه قفز مع ابنه على الارض . توقف قليلا ووهب نفسه بعض دقائق تفكير ، ثمّ قال لابنه : لم يترك الناس لنا  سوى طريقة واحدة تجنِـِّبنا كلامَهم وتعليقاتِهم . هلمّ نربط رجلى الحمار من الامام ومن الخلف ، ونحمله بواسطة عصا طويلة ترتكز على كتفينا . لم يستغرقا في العملية اكثر من سبع دقائق وتابعا مسيرتهما حاملـَين الحمار على كتفيهما ، لا يتسع لي المجال هنا لوصف الفرح الذي خيّم على الحمار الذي كان يحلم منذ ولادته بالنوم داخل مرجوحة .

ظنّ الطحان بانه توصل الى وضع حدٍّ لكلام الناس وبانه سوف يَسلم أخيرا من نصال السنتهم ، ولكنه لم يعِ لخيبة ظنه إلا عندما رأى خلفه جمعا غفيرا يُطلق كلاما صاخبا صادرا من كافة الاتجاهات ، فالبعض كان يقول : لا نعرف من هو الحمار الحقيقي ، الاب أم ابنه أم المخلوق الممتدّ وكأنه داخل المرجوحة ؟ واخرون يقولون : ولماذا لا يضعونه داخل صندوق ذهبي ؟ أو لماذا لم يُحضروا له فراشا ومخدة ؟ واقوال كثيرة اخرى.

عند هذا  توقف الطحان عن مسيرته حانقاً ، وأنزل الحمارَ وقام بفك وثاقه،  وتوجه لابنه بصوت عالٍ اراد ان يسمعه الجمهور ،  وقال : لقد سمعتُ الناس جميعا واستجبت لرغباتهم المتناقضة ، وبالرغم من  هذا كلـّه لم اسلم من كلامهم ، لذا فاني قررت بان افعل ما يحلو لي وبما يمليه عليّ عقلي ، وليقولوا ما يحلو لهم ، لانهم سوف لن يكفـّوا عن القيل والقال .

إن هذه قصة إقتبستـُها من أمثال وقصص لافونتين الشبيهة بقصص الفيلسوف الهندي بيدبا. وللقصة دلالات كبيرة . لقد اعتاد الناس على الانتقاد والتعليق على كل شئ . يتفوّهون بأول جملة تصادف لسانهم ، دون التمهل والامعان والتفكير أوالتحليل ، المهمّ ان يتكلموا .  حتى في هذه القصة ، قبل أن يفتح فمه ويسيء الظنّ،  يحاول الانسان العاقل البحث عن تبريرات ، فيفترض مثلا ما يلي:
قد يكون الطحان مريضا ، قد يكون ابنه ضعيف البنية او حتى يكون الطبيب البيطري قد اوصى باخراج الحمار طليقا لبعض الوقت ، او يكون قد اوصى بحمله لمسافة قصيرة كي يتخلص من عقدة الشعور بالنقص !! او يكون قد طلب هذا كرياضة لمعالجة شرايينه عبر العدو السريع أو الهرولة اللتين تنشطان دورته الدموية مثلا !!

إن هذه الحكاية نموذج حَيّ عن ألاعيب اللسان في مختلف المحافل والمناسبات.
حضرتُ مرة مجلس عزاء لصديق كان قد فقد اباه . لدى خروجي من القاعة سمعتُ إحدى المعزّيات تقول لصديقتها : هل لاحظتِ ابنة المرحوم ، انها لم تذرف رُبع دمعة واحدة ولم تنطق بحرف واحد ولم نلحظ على وجهها أيّة علامة تأثر، لا شك انها لم تكن تحبّ والدها . قلتُ في نفسي ، ماذا يدعو الناس للتكلم هكذا ، وهل الاغراب غدوا يحبون المتوفى اكثر من اولاده ، وهل ارباع الدموع أوالحروف والاهات اصبحت العلامات الوحيدة للتعبير عن العواطف؟
وفي نفس المجلس ، ونزولا عند رغبة مُلِحـّة من صديقي ، مكثت لتناول الطعام مع لفيف من المعزين  . نادى صديقي ابنه ليقول له بصوت خافت : لا تنسَ السمك واللحوم المشوية ، فاجابه الابن بصورة عفوية : وما الحاجة الى ذلك يا ابي ، ولماذا هذا البذخ ؟ إن هذه مكلفة ، وهل من الضروري ان نحتفل في مناسبة حزينة من الاجدر بنا ان نزهد فيها بالاكل والشرب ؟ فردّ عليه الاب ناهراً : يا ابني ، هل تريد ان ينتقدنا الناس ، ماذا عساهم يقولون عنا ، نفـّذ ما اقوله لك مهما كان ثمنه .

أما عن الاعراس والاحتفالات ، فباب الكلام والقيل والقال مفتوح على مصراعيه ، ويدور الكلام حول طريقة اللبس والرقص واصناف الطعام وتصنيف فرقة الموسيقى والتصوير وغيره ، فلنسمع مثلا : ألا تخجل فلانة ، وهي صاحبة اموال طائلة ،من حضور الزفاف بثوب عادي ؟ وفلان الذي لا يملك قرشا ، من أين أتي بثمن هذا الطقم الجميل الجديد ؟ وهل رأيتم كيف كان يحرك يديه عند الرقص ؟ او لايخجلون باستقدام فرقة مشابهة لحفلة فلان ؟ أو لماذا لم يدعوا فلان وقاموا بدعوة فلان ؟  كلام يبدأ في ساعات متأخرة من الليل ، ويستأنف في اليوم التالي من حيث كان قد انتهى في ساعاته الاخيرة ، وهو مجرد انتقاد وتعليق ، كلام لا يرضى عن اي تصرف ، ينتقد شيئا وينتقد نقيضه ايضاً .

اذا قام احدهم بشراء سيارة ، سيجدون في نفسهم الامكانية للقول مثلا : ولِمَ هذا اللون وليس غيره ؟ وآخرون يقولون : إن جيوبه منتفخة لحد التمزق ، لماذا لم يبتع سيارة أفخم ؟ وآخرون يقولون في نفس المجال عن شخص آخر : انه كان يموت جوعا ، من اين اتى بهذه السيارة الثمينة ، لا بدّ انه قد استدان او التجأ الى وسائل اخرى !!

عن شاب وخطيبته ، فالكلام يكون : أين رآها ، وماذا جذبه فيها ؟ والتعليق يمكن ان يبتدأ من القبعة الى كعوب الاحذية . واذا انقـلب التعليق باتجاه الشاب ، فيكون الكلام : هل كانت تعاني من قصر النظر لكي لا تلاحظ آذانه التي تحاكي آذان الفيل؟ ، ولماذا لم تمعن النظرأيضا في العيب الفلاني والعيب الاخر الذي لا يخفى حتى على العين المجرّدة ؟ طبعا وتيرة التعليق كانت ستبقي هي حتى لو كان الشاب قد استبدل آذان الفيل بآذان أكثر اعتدالا !!

بعض الشباب يضطرون لتعلمّ الالفاظ الخشنة والسوقية البذيئة لكي لا يَبدُوا بين بعض اصحابهم معقدين او لا يواكبون العصر . وسمعت عن شباب يقولون لآبائهم في بعض المجتمعات : يجب ان أعثر على صديقة لان زملائي بدأوا يُسمعوني كلاما غريبا بسب اقتصار خروجي على اصدقائي من الشباب . كلام الناس لا يرحم ولا يتوقف .

وهناك من يخشون حتى القيام بعمل الخير الفلاني لئلا يُفسر عملهم خطأ ، او أن يُقال عنهم كذا وكذا . وللتقاليد والعادات القديمة أيضا دور  كبير في بعض هذا القيل والقال .انها تجعلنا نتردد عند تفكيرنا باجراء اصلاح او تحديث ما بلي من بعض هذه العادات أو تطويرها نحو الاحسن ، كلام الناس يكون العقبة الكبرى .

تقول بعض الامثال العامة أمام هذا القيل والقال :

تمر القافلة والكلاب تنبح ، أو
افعل ما تريد ودعهم ينهقون

باعتقادي ان القيل والقال وكلام الناس وتعليقاتهم أمر قديم بقدم البشرية ، بعضه متأتٍّ من الحسد والغيرة ، وبعضه نابع من الحقد والكراهية، والكثير منه يستجيب لحاجة ملحـّة في اللسان . هناك كلام معقول او ونقد بناء منصوح به ويجب سماعه ، ولكن الكلام لاجل الكلام يجب الابتعاد عنه وتجاهله . إني اتخيل اللسان في بعض أوقاته يردّ على نصائح العقل الذي يدعوه لمزيد من التفكير والتروّي ، قائلاً  له : لا تتعب نفسك ، انا اعرف ما ستقوله لي ، انك تريدني ان اسكت ، ولكني لو سمعتك لكنت قد اصبت بالشلل منذ زمن بعيد !!
 

 

138
المنبر الحر / وصايا الرجل العجوز
« في: 19:01 05/12/2011  »
وصايا الرجل العجوز

شمعون كوسا

قبل ايام إتصل بي أحد القرّاء قائلا : إن مقالك الاخير عن أوراق الخريف لم يرُق لي بقدر ما كانت تروق لي مقالاتك السابقة . عرفتُ بان المتصل هو من إقليم دأب قاطنوه على قطع الاشجار واستئصالها لفسح المجال أمام بناء منازل جديدة وبيع قطع اراضي وشراء عمارات وهدم بيوت وتشييد غيرها وتوسيع ما كان صغيرا منها،   كل ّ ذلك خدمة للمستأجرين  !!، فقلتُ له : لإستساغة هذا المقال والاستمتاع بمحتواه ، كان عليك إفراغ ورشة رأسك من المعدات والاموال التي تتطلبها هذه المشاريع لمدة اربع دقائق ونصف فقط  ، وتركّز على عرض خاص تؤدي أدوارَه  أوراقُ أشجار ، اوراق خلعت خضارها واصطبغت بالف لون ولون ، وبدأت تتطاير هنا وهناك مودعة الطبيعة بحركات بديعة قبل الهبوط لمعانقة الارض والعودة الى التراب الذي نبعت منه .
 لكي لا يفكر البعض باني في صدد كتابة ملحق للمقال السابق اكتفي بهذه المقدمة  وسادخل مكتبي .
لم يمهلني القلم أكثر من دقيقتين ليقفز بين اناملي . امسكت به دون ان اعرف ما ساكتب ، كان الفكر خاويا كأغلب ساعاته ، وبالرغم من ذلك كنت أرى نفسي متشوّقا  لكتابة شئ ، إشباعاً لرغبة في داخلي وايضا للحيلولة دون انقطاعي عن اصدقاء شعرت برغبتهم في مرافقتي أو التحليق بصحبتي . وضعتُ القلم في جيبي وحملت نفسي على ظهري وخرجت كعادتي لاستلهم بعض الافكار من بني الطبيعة وأحفادها من عصافير طائرة أو معشعشة ،  أواشجار  باسقة تتغازلُ قممُها مع أول نسمة ، أوازهار باسمة ، أوأنهر تجرّ مياهها بهدوء ، أوغيوم بيضاء أعطتها الرياح شكل قطيع اغنام افلت مؤقتا من سكاكين جزاريه ، أوسماء  في ازرقاق ايام الخريف الصافية ، أوآفاق بعيدة محمّلة بكثير من الآمال،  فقلت :عسى   بعض هذه او كلها مجتمعة تمكـّنني من إشباع نهم هذا القلم . إتجهت تلقائيا نحو نفس الطريق الذي أفضي بي قبل ذلك الى ضفاف نهر صغير كنت قد ألِفت التخطـّي على حافاته .
 النهر لا يتوقف عن جريانه ، ولكني  تخيّلته هذه المرة متوقفا في احدى زواياه ينتظرني ليستأنف تقدمه ، فمشيت معه ، أغـّذ  السير حينا وابطئ الخطى احيانا ، الى ان وصلنا منعطفا ابصرت فيه امرأة عجوز همّت بترك مقعدها وتوجهت نحوي بابتسامة عريضة وقالت :
انا لم ألقاك قبل الان وحتى أني اجهل اسمك ولكن زوجي المرحوم كان قد رسم لي صورة عنك لا يمكن ان اُخطِئَها .انا سعيدة بلقياك هنا عند هذه المصطبة التي طالما تقاسمتـَها والمرحومَ لتجاذبِ أطرافِ حديثٍ أوتبادل اشعار أوالتنقل بين الحان شجية  .  منذ شهرين كاملين وانا مواضبة على المجئ هنا كل يوم انتظر قدومك ،  قبل اسبوعين فقط فكرت بتقليص زياراتي الى مرتين في الاسبوع ، ويا ليتك تعلم مدى سروري بلقائك ، لاني اقوم الان بتنفيذ وصية كانت موضع اهتمام كبير لدى زوجي  .

تأملتُ المصطبة وتذكرت العجوز والساعات التي امضيتها الى جانبه ، تذكرت رواياته وحكمه وامثاله وانغامه ، وتذكرت طريقة حديثة ولحظات صمته ، فتأثرت ، وتقدمت لزوجته بتعازي ومواساتي واعتذرت لها عن غيابي عن هذا المكان الذي كان بالنسبة لصديقي العجوز شبه مزار.

بدأتِ الزوجة تكلمني عن العجوز وتتحدث عن ايامه الاخيرة  .ومن جملة ما ذكرته هو انه كان متشبثا بالحياة بصورة خاصة وبكافة جوارحه ، ويأبي التصديق بانه مقبل على مغادرة الحياة أوالقبول بان هذا القدر لا مفرّ منه . كان يعشق الحياة حتى لحظاته الاخيرة ، وكان كثيرا ما يردّد بهدوء وتأثر بيت شعر بهذا الخصوص يقول :

إذا كان الموت رقادا بعده صحو طويل ،
فلماذا لا يبقى صحونا هذا الجميل ؟

كنت اقول له : إن ما تقوله كفر وهو امر بعيد عن الواقع . فالرغبة في هذا الصحو الجميل يحتاج الى حالة شباب دائمة ، كما يجب إيجاد عالم خال من الامراض ، ناهيك عن أنّ الصحو الجميل هذا لا ينصف دوما المظلوم ، فهناك من لم تبشّ الحياة بوجههم أبداً، وهناك من خـُلقوا مشوهين ، وهناك من قضوا ايامهم بين المرض والالام ،  وهناك المعذبون من قبل اسيادهم . وهل تعتقد بان الناس كلهم يرون جميلا ما انت تراه جميلا ؟ إن إحساسك المرهف هو الذي يجعلك ان ترى كل شئ جميلا ، فبعض ما تراه جميلا لا يراه غيرك كذلك او حتى يراه قبيحا ، وهؤلاء كلهم بحاجة الى بلوغ سعادة حقيقية لا يوفرها لهم هذا الصحو الجميل .

واضافت قائلة : لا تؤاخذني  يا ابني لقد اخذني الكلام. كان زوجي يحبك  كثيرا ولا يشبع من إبراز صفاتك الحميدة ، لذا اوصاني ان اسلمك هذه الرسالة يدا بيد. بعد ان تسلمتُ الرسالة ،  قبلتني العمة العجوز وقالت : ها إني اغادر مرتاحة البال لان حملا ثقيلا قد ازيح عن صدري  .

جلستُ على المصطبة والتفتّ الى النهر واذا ببعض مياهه لا زالت في انتظاري وأبت المغادرة دون إيعازي ،  فابتسمت لها معتذرا وشاكرا وكان هذا إيذانا لاستئناف جريانها . بدأتُ بقراءة الرسالة ووجدت فيها خزينا من امثال وتجارب واقوال مأثورة  استخلصها العجوز من مسيرة حياته . كان يبدأ بفكرة ، يشرحها قليلا ثمّ يُلحِقها ببعض بيوت من الشعر ، فانه يقول مثلا :

إن الحياة قصيرة جدا ، ولكن يجب ان نعيشها بكاملها دون نهمل أية زاوية فيها ، والى آخر يوم فيها لانها وإن كانت قصيرة فهي جميلة جدا ، ولقد صدق الصوت المخملي الذي تغنّى بها بهذه الكلمات  :
 
ليس سرّاً يا رفيقي إن ايامي قليلة   
ليس سرا إنما الايام بسمات طويلة
إن اردت السر فاسأل عنه ازهار الخميلة
عمرها يوم ، وتحيا اليوم حتى منتهاه

 لاجل هذا، يا صديقي ، لا تترك مناسبة دون اغتنامها ، لان اليوم الذي انت فيه هو وحده مُلكك ، فهذا اليوم هو الذي سيمسي غدا ماضيا وهذا اليوم كان في الامس مستقبلا ، فتشبّتْ به واغنم منه سعادتك لانه لا البكاء على الماضي سيعيد لك عزّاً ولا الخوف من المستقبل سيمنع عنك النوائب.

لا تلمني يا صديقي فانا احب الشعر فاسمع هذه الابيات التي تؤكد ما قلته :

أحكََمُ الناسِِِ في الحياة أناسُ
علـّلوها فأحسنوا التعليلا
فتمتّعْ بالصبح ما دمتََ فيه
ولا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أظلّ رأسَك همّ
قصِّرْ البحث فيه كي لا يطولا
أدركتْ كنهَها طيورُ الروابي
فمِن العار ان تظلأ جهولا
تتغنّى والصقر قد مَلكَ الجوّ
عليها ، والصائدون السبيلا
تتغنى وقد رأت بعضها يُؤ
خـذ ُحيّا والبعض يقضي قتيلا
تتغنى وعمرها بعض عام
أفتبكي وقد تعيشُ طويلا ؟
وتعلـّمْ حبَّ الطبيعة منها
واترك القال للورى والقيلا
فالذي يتـّقي العواذل يلقى
كلّ حين في كل شخص عذولا

تغنّ إذن يا صديقي لاني اعرف بانك تعشق الغناء ، فالغناء هو انطراب يزيل عن النفس كربها . تغنّ بكل ما خلقة الله من جمال تراه في الزهر والشجر والسماء والطيور والانسان خـَلقا وخـُلقا . واذا لم تقوَ على الغناء فأنصت لما شجا من الالحان ، واختر منها ما يحرّك اعمق  الاوتار فيك. واعشق بما يشير لك قلبك وعاقر بنت الحان معتدلا ، أولم تقل المزامير إن بعض الخمر يفرّح قلب الانسان ؟
ومن جهة اخرى أودّ القول إن في الحياة لحظات سعادة يصعب وصفها ،  انها لحظات انشراح ترتبط  بالطفولة ، بلون معين   بموقع معين،  بظرف معين ، بمشهد معين ، بكلام معين ، بفكرة معينة ، بنغمة معينة أوفي زمن معين خلق شعورا  جميلا عميقا ، والف مواقف طفيفة اخرى، انها حالات نشوة لا تستغرق سوى لحظات ولكنها تبلغ ذروة تتفجر لها كافة الحواس ،  هي لحظات يحلو للانسان استعادتها لتلطيف النفس أيام تتعرض للقحط والجفاف  .

اوصيك بِأَلاّ  تدينَ الناس بسرعة ، لان كل انسان هو عالـَم خاص بذاته ولكل انسان سرّ يخفيه في داخله .وقد يكون من لا يستهويك منظره شخصا قيّما على كنز في ثنايا نفسه . لا يمكنك معرفة الظروف والدوافع كما هي ،  وإنّ نفس الحكم لا يصلح تنفيذه على نفس التصرف ومع كل انسان. واذا اضطررت الى اتخاذ موقف فافعله بعد سماع رنـّة الجرس من طرفيها  وبعد استقصاء طويل ، لان كثيرا من احكامنا تأتي مخطوءة لا سيما التي تقع على عجل او في سورة غضب . وبعض الندم في هذا الخصوص لا يطفؤُه الانتحاب ، وقد تستمر هذه المرارة بملاحقة صاحبها حتى القبر.

لربما ستهزأ مني اذا تحدثت عن موضوع يعتبره الناس من البديهيات  لانه يتردد كل يوم ومنذ آلاف السنين . كلامي هوعن حبّ الناس . انه بنظري يوازي حبّ الله ، بل بدونه يصعب حبّ الله .  نكون قد ادّينا الحب هذا بامانة عندما نخصّ به الناس جميعا . فبالاضافة الى المشاعر التي يُفيضها هذا الحب نحو الغير ، فانه يقود الانسان الى اكتشاف زاوية اخرى لجمال للحياة ، تزيد النفس سعادة ، وكم يحلو لي هنا ايضا أن أذكر بعض ابيات شعر تقول :

أيقظ شعورَك بالمحبة إن غفا
لولا الشعور ، الناس كانوا كالدمى
أحببْ ، فيغدو الكوخ كَونا نيّراً
وأبغضْ ، فيُمسي الكونُ سجنا مظلما
ما الكأس لولا الخمر غير زجاجة
والمرء لولا الحب إلاّ أعظما

قد يكون بين من  تحاول حبَّهم أناسُ لا يبادلونك نفس الشعور ، بل يقابلونه بمزيد من الاحتقار والاهانة ، ويقرأون في اقترابك منهم ضعفا . فهؤلاء لا تحقد عليهم ، اشفق عليهم لانهم عليلو النفس فاتركهم وشأنهم ، لانك إذا بالغت في محاولاتك، فستكون تقريبا كالذين طلب منهم في الكتب بألاّ يلقوا جواهِرَهم  قدّام الخنازير.

خلال متابعتي لوصية العجوز كنت أرى نفسي وانا جالس أنصت اليه بعمق ، يتغنى بهذه الكلمات والاشعار بصوته الجميل ، واتطلع الى انظاره التي كانت تختار هدفها في آفاق قد تذهب الى أبعد مما تراه العيون.
انني اتوقف هنا ، لان قائمة وصايا صديقي طويلة غير انـّها مليئة بالحكم.  كل ما قاله الشيخ الوقور معروف ولكن قيمته نابعة من كونها ثمرة تجربة حقيقية . انه رجل دنيوي ولكنه شديد الالتزام بالقيم والاخلاق . لقد لاحظتُ بان المرحوم كان متأثرا جدا بالشاعر إيليا ابو ماضي .
لقد انقذتنا بعض الوصايا هذه المرة ، فهل سنضطر للعودة اليها لاحقا ؟
 


139
محطة استراحة مع أوراق الخريف

شمعون كوسا

بينما كنت أسيرُ بمحاذاة حديقة كبيرة أمرّ عليها  من حينٍ لآخر ، سمعت صوتا يناديني من بعيد قائلا : ها إنك قد دنوتَ من موعد الإعداد لمقال جديد، لماذا لا تسمعني وتوفـّر على نفسك عناء التفكير ، فتخلـُد الى قليل من الراحة وتريح الناس أيضا ولو لحين ، تتركهم مع اهتماماتهم وممارسة عاداتهم ، لان ما تتناوله انت في مواضيعك كمعضلة أو تناقض أو تجاوز ، غدا اليوم جزءً من الحياة وبات لا يمثـّل أيّ عائق لدى الناس . أرِحِ الناس قليلا وانطلق مع الطبيعة واستجب لندائها لترى بانها في صمتها ستتحدث اليك باروع الكلام وأبلغِه . هلمّ واحضر عرضا راقصا لا دور فيه للبشر .

كان هذا في أحد ايام الخريف حيث الشمس في ساعاتها الاخيرة قبل الغروب . إقتادني النداء الى باب الحديقة ، فدخلتها وجلست على أول مقعد متروك . بعد ثلاث دقائق فقط  تيقـّنت من صحة الكلام الذي سمعته وأحسست باني كنت فعلا  في حاجة ماسة للعودة الى ما هو غذائي طوال حياتي ، ألا وهو التحليق في أجواء الطبيعة والتغزّل بجمالها .

بدأت اجيل النظر بهدوء وإمعان في ما حواليّ من اشجار مختلفة الاحجام والاصناف ، رأيت أوراقا تتناثر هنا وهناك بكثافة ودون توقف ، تهبط وهي على عجل من امرها وكأنها تريد اللحاق بموعد مهم قد اخطأتة . إلتفتّ الى يميني ، إلى اقرب الاشجار إليّ  ، وقلت في نفسي : أوليست هذه الشجرة ذاتها التي كنت ارقبها منذ اشهر وهي عارية تماما في فصل الشتاء ، ومع ابتداء الربيع تفتّقت براعمها من كافة الجوانب وتفتّحت بآلاف او ملايين الاوراق لتؤمّن لنفسها كسوة تستر فيها عورتها ، وها هي الان تتعرى من جديد .

وهكذا دخلت تلقائيا وبكافة حواسي جوّاً خريفيا ، ووجدت نفسي كما قال النداء ، وسط عرض راقص بدت الاوراق فيه بابهى حللها واجمل الوانها و أزهاها، فعدت الى نفسي ثانية وقلت : هل هناك أغرب من رؤية أشجار، بعدما التجأت الى كمّ هائل من الاوراق لتحمي نفسها ، تطلب منها  التهيؤ للرحيل باحتفال كبير، وتشترط على كل ورقة ان تتوشح قبل وداعها وهبوطها بابهى ما لديها من ثياب مزركشة .

وفي غمرة انتقالي من شجرة الى شجرة ، نهضت كي ألقيَ نظرة شاملة على اشجار بعيدة تبدو،  في تنوّع الوانها،  وكأنها متجهة الى عرس او قادمة منه .
بعد هذا ،  توقفتْ انظاري عند عدد من الاشجار المثمرة التي ، بالاضافة الى خضارها وضلالها ، تتحمل مسؤولية توفير الاثمار . اشجار معرضة لتقييم صاحبها الذي ، عند حلول الموسم ، يأتيها بخطى بطيئة وبنظرة استعلاء يستعرض انتاجها ، فيحاسبها دون إنصاف او رحمة ، إذ يعلن رضاه عن بعضها ويقطـّب الجبين امام من قلّ انتاجها ويحنق على من لم يحالفها الحظ في تلك السنة . وتبقى هذه الاشجار في اصطفاف وفي حالة استعداد تام أمامه ، غير قادرة على الردّ عليه بكلام وكّلتني  هذه الاشجار ، المغلوبة على امرها ،  للتعبيرعنه كالتالي : » يا صاحبنا ، لقد وهبناك كلّ ما لدينا ، واحترمنا توجيهات الطبيعة وخضعنا لتقلباتها . لقد وردتنا أوامر من الشمس ، وأوامر اخرى من الهواء وأخرى من المطر ، وغيرها من الماء ، وحتى الغيوم لعبت دورها في ما أنتجناه كمّاً ونوعاً ، فاذا اشتدت بعض هذه العناصر الحقت بنا اللعنة واذا خفـّت بعضها انزلت علينا النعمة . نحن لسنا سوى أوعية تحمل بذرة الانتاج وتخرجه على هوى هذه العناصر وعواملها الطبيعية ،  ويا حبـّذا لو استقرت هذه العناصر ولو لاسبوع واحد !!  «

تركتُ الاشجار المثمرة وشكواها وعُدت من جديد الى العرض الذي دُعيت اليه ، وقلت : إذا كانت هذه الاوراق جميلة عند ولادتها في الربيع ، فانها اجمل لدى تساقطها في الخريف . من أين اتت بهذه الالوان ،  الاحمر القاني ، والاصفر الساطع وذاك الازرق الهادئ وآلاف الالوان المتفرّعة منها والتي يصعب على أبرع رسام إيجاد خلطتها ؟ ترى على نفس غصن الشجرة صفـّاً بلون ، وصفاً آخر بلون أخف ، وترى على نفس الغصن ورقة بلونين واخرى بثلاثة او اربعة وتتجاور كلها بتناسق كامل يريح العين    **.  بعض هذه الاوراق تتساقط بمجاميع مسرعة مع أول هبة ريح ، وبعضها يقاوم اكثر أو ينفرد ، وقسم آخر يدخل في صراع مع الهواء ويصمد الى ان تأتي ريح عاصفة تلوي ذراعه.
رأيت بعض الاوراق في تساقطها  متزامنة وبعضها متفاوتة، كما لاحظت أوراقا تختار أقصر الطرق في مسارها واخرى تفضل الترنح ذاهبة ذات اليمين وذات الشمال قبل ان تتلقاها الاكوام المتراكمة. تخيلتها مرة اخرى وكأنها في سباق على فنون الهبوط ، وأيضا على رهان مع بعضها البعض على طول فترة المقاومة والصمود . وفي هذا السياق الخيالي ،  سمعت عددا من الاوراق ،التي استجابت لاول نداء اتاها من الرياح فهوت ، تتهامس بينها قائلة :   »ماذا جنته زميلاتنا الاوراق من مقاومتها وعنادها ، مهما فعلت وصمدت فانها في نهاية المطاف ستفترش الحضيض مثلنا وتتحول الى تراب . وهل هي افضل من كائن آخر يدعى بالحيوان الناطق ؟ فهذا أيضا ، بالرغم من مقامه السامي فانه في النهاية آيل للسقوط مثلنا . عزاؤنا نحن هو في العودة كل سنة لدورة جديدة . اما الاخ الناطق هذا فانه يصبو للخلود لانه يرى بأن متوسط عمره لا يكفيه ، غير انه ، حتى ولو عاش ألف سنة ، لايقبل بخريف عمره ، ويعتبر نفسه بانه لم يعش يوما واحدا.  في الحقيقة ، إن عقله ونفسه اللذين يميزانه عن سائر المخلوقات هي أثمن من أن تلقى نفس مصيرنا . اننا نحترم رأيه ونتمنى له التوفيق  . « !  ! أمّا لماذا أدلت الاوراق بهذا التعليق الطويل عن الانسان ؟ لا ادري !!

عند هذا الاقرار الصريح والمنطقي للاوراق التي سقطت في الخطوط الاولى ، وبعد ما رأيتـُه لمدة ساعتين في حفلة راقصة ، أحيتها أوراق إختفت وراء الكواليس ، واوراق استقرت في الهواء تتمايل راقصة مع حركة الريح ، وكأنها في انسجام مع انغام موسيقية تتكيف مع إيقاعها ،  أوراق لم تكن راغبة في مبارحة مكانها وتطلب المزيد لانها تعرف بانها في لحظاتها الاخيرة ، شعرتُ برغبة عارمة للمساهمة في هذا العرس لاطالة عمر الاوراق ولو لدقائق وأيضا للاستمتاع بعرض سوف لن اشاهد مثله كل يوم ، فأطلقت العنان لحنجرتي في موّال يتغني بالخريف واشجاره واوراقة وألوانه ، موال أفلح بدوره في إبقاء كثير من الاوراق تتطاير في الهواء راقصة بهدوء ، اوراق تكاثرت وظلت محتشدة الى آخر نغمة صدرت مني ، وبعد هذا أستأنفت هبوطها على مضض، وببطئ شديد عساها تصادف ريحا ترفعها او غناء يدعوها الى الرقص من جديد.

عند آخر خيط للغروب ، حملتُ نفسي المشبّعة باجواء هذا الحفل الراقص ، ودخلت مقهى قريبا من هناك كي اكتب بعض ما رأيته وسمعته قبل ان تهجرني احداثه . كان جوّا أتاح لي الابتعاد عن هموم الحياة ووفـّر لي فرصة كتابة هذه الاسطر التى لا أتوقع لها إقبالا شديدا  من القراء ، لان البعض سوف لن يرى فيها  أكثر من نشرة عن الانواء الجوية !!



 **لقد دعوت لهذا الهامش كي اروي قصة عن تركيبة الالوان ، لم أتمكن من التطرق اليها في سياق المقال لانها كانت ستبعدنا كثيرا عن موضوع الخريف وجماله :
إنها قصة حقيقية عن شركة فرنسية تصنع القبعات العسكرية (البيريات) . استلمتِ الشركة طلبية مهمة لِصناعة كمية كبيرة من القبعات  بلون معين . أثناء القيام بانتاج اللون ، إرتكب فنيّو الشركة غلطة في المقادير فخرجوا بلون غريب لا علاقة له باللون المطلوب . كانت الكمية كبيرة وإتلافها كان سيكلفهم خسارة كبيرة ،  فقرروا ان يجرّبوا حظهم وارسلوا الشحنة الى المشتري وهم على يقين بانها سترفض ، واذا بهم يتلقـّون رسالة  إعجاب من المشتري يطلب فيها مضاعفة الكمية وبنفس هذا اللون . كانت الرسالة مصدر سعادة للشركة من جهة ، ومن جهة اخرى ادخلتهم في حيرة كبيرة . إعتذرت الشركة لصاحب الطلبية واعلنت عن عدم امكانيتها تنفيذ الطلب لان هذه الخلطة جاءت تنتيجة خطأ لا يمكنها الاهتداء اليه !!!

 
 
Kossa_simon@hotmail.com

140
حيرة إنسان هذا العصر بين الاستقامة والأعوجاج
شمعون كوسا

في كل ما كتبته لحدّ الان ، كنت استوحي افكاري من مظاهرالحياة ، في جوانبها السلبية أوالايجابية وزواياها المتنافرة أوالمتقاربة . والمواضيع كانت مقتبسة من صلب الحياة اليومية ، حتى ان بعض اقوالي الصريحة اعتُبِرت أحيانا تجاوزا او جسارة او مبالغة ، ولكنّ ما كتبته لم يكن سوى سطور تكشف للعيان ما يفكر فيه الكثيرون .

تواصُلاً إذن ، مع هذا السياق ، فقد نويت اليوم التطرّقَ الى موضوع طالما راودني أيام كنت اعاني من شحّة الافكار ، موضوع كنت أُرجئ الخوض فيه لِما يثيره من حساسية لدى البعض ، غير أنّ تكراره في مئات الحالات أو آلافها ، أفقده صفته المُربكة هذه ، وحوّله الى شأن عاديّ .
فحيثيات المقال هنا مُبتكرة وتستقي فصولها من ألاف الروايات التي سمعناها، وتبدأ كما يلي :

يُروى عن صديقين عقدا العزم على الهجرة ، فتركا البلد في نفس اليوم . كان أول توجههما الى أقرب بلد مجاور ، حيث امضيا فترة شهر ونصف في غرفة صغيرة الى ان تعرّفا على شخص قال عن نفسه بانه لم يُفلح الا في مهنة التهريب . إتفق الصديقان معه على مبلغ معين من المال لقاء إيصالهما الى بلد اوربي . قام المهرب بتهيئة كل ما يلزم لسفر الصديقين من اوراق وجوازات ، وفي اليوم المحدّد للسفر ، قبض المبلغ المتفق عليه ورافقهما الى المطار الى ان إستقلاّ الطائرة واستقرا في مقعديهما ، فودّعهما مؤكّداً بان هناك معتمد من قبله بالاوصاف الفلانية سيستقبلهما لدى الوصول .
بعد هبوط الطائرة في المحطة الاولى من الرحلة ، أجال الصديقان بنظريهما فلم يعثرا على المعتمد المزعوم أو أي عنصر آخر مكلف بالمهمة ، فقرّرا التوجه الى بوابة الخروج . لاحظ شرطي الجوازات ارتباكهما ،  ففحص اوراقهما ، ولم يُطِل في التدقيق كثيرا كي يكشف الخلل في وضعهما ، فتمّ حجزهما ومن ثمّ اعادتهما الى البلد الذي قدِما منه .
غداة  رجوعهما ، هَمّا بالبحث عن المهرّب ،  ولكن محاولاتهما باءت بالفشل لان هذا الاخير كان مؤمنا بان الاختفاء  بعد كل عملية هو واجب تمليه عليه الفقرة (أ) من البند الخامس من قانون التهريب !!
بعد اسبوع من عودتهما ، عثرا على مهرّب آخر اسمه شريف ويرفض مناداته باسم المهرب .  ولكي أجنـّبكم مشقة الولوج في مسالك قصة طويلة أقول بان هذا الاخير نفـّذ العملية . أخفق في بعض مساعيه غير انه كان يعالج المشاكل عن بُعد ، وهكذا من محطة الى محطة ، الى ان استقرّ بهما المقام في البلد الخامس ، حيث كانت خاتمة رحلتهما .
حال وصولهما تقدّما بطلب اللجوء ، وبعد اربعة اشهر من الانتظار ، ظهرت النتيجة ، فكانت ايجابية للاول وسلبية للثاني . كان الاول قد اختلق قصة تتماشى وشروط قبول اللاجئين وهيّأ اجوبة تتلاءم مع اسئلة لا تحتمل الخطأ بغضّ النظر عن الحقيقة ، أمّا الثاني ، فانه معتمداً على قوة مساره الشاق ، سرد قصته كما هي دون اي تحوير ، ورَدّ على اسئلة المحققين بموجب القصة التي عاشها والطريق الذي سلكه .   صدّقت اللجنة كلام الاول وكذّبت الثاني . عند اكتشاف حظـّه العاثر ، تقدّم الصديق الثاني بقصة مشابهة لصديقه ، ولكنها رُفضت وقيل له بان هذه الحقيقة كان يجب الادلاء بها منذ البداية !!

وفي نفس السياق ، سمعتُ عن شخصين آخرين تقدما بطلب الى لجنة طبية لتثبيت عدم اهليتهما للعمل ومن ثمّ اكتساب درجة إعاقة أوالحصول على امتيازات اخرى كتقاعد مبكر أوغيره . كان الاول لا يعاني من عوق او مرض يذكر ، ولكنه بفضل تقارير صادرة من طبيب صديق ومعززة بردود فعل وحركات  تمثيلية تدرّب عليها لعدة ايام في دورة تعليمية عن فنون  إصدار آهات الوجع ونداءات الاستغاثة والاسترحام  والبكاء ، أولعب ادوار الكآبة وحتى الاغماء ، استطاع المتمارض إقناع اللجنة والحصول على ما يصبو اليه ، أما الشخص الثاني الذي كان يعاني من مرض حقيقى ، فانه معتمداً على حالته الصحية الموضوعية ، لم يبحث عن اية وسيلة أو حيلة ، فخرج بنتيجة سلبية ورفض طلبه . بدأ المريض يندب حظّه ويقول ، يا ليتني لجأت الى نفس اساليب الاخ الذي سبقني في التحايل والالتواء !!

والظاهرة الاخرى التي نسمع عنها يوميا في عالم القضاء والعدالة ، تتعلق بشخصين يُقبض عليهما في ساحة الجريمة ، الاول مجرم حقيقي والثاني برئ . يتمّ الحكم على البرئ ، ويتوصل المجرم الحقيقي الى الافلات عن الحكم . الاول أستند على براءته ونظافة يديه ، والثاني إتـّكأ على مدافعين ، خبراء في تحوير القانون وتفسيره وإيجاد ثغرات تضع الحاكم أمام حالة لا يمكنه إلاّ النطق بحكم بعيد عن الحقيقة ، وهكذا يخرج البرئ مكبّل اليدين والمجرم حرّا طليقا ، محاطا بهالة من النور فوق هامته !!

نبتدأ بالايضاح بان كلامنا هنا لا يشمل المجتمع باكمله ، لانه ليس كلّ المجتمع لاجئا ولا كلّ المجتمع خاضعا للجنة طبية ولا كلّ المجتمع ماثلا امام المحاكم ، وحتى من بين اللاجئين وطالبي اللجان الطبية والماثلين امام المحاكم ، لم يلجأوا كلهم الى هذه الاساليب ، غير انه وبصورة عامة قد شاعت هذه الاساليب في مثل هذه الحالات التي ذكرتها ، ونستطيع القول بانها قد شاعت حتى  في الحياة اليومية بمستويات ادنى وفي حالات اقل اهمية.
فالانسان ينقاد بسهولة الى كذب صغير او إنكار بسيط أو تحوير خفيف ، او صمت بليغ ، او تأكيد بواسطة هزة رأس أو غمزة عين لا يفقه معناها غير من يعنيه الامر أو وسائل اخرى تقود الى الفوز بمكسب سريع ، دون استحقاق، كالحصول مثلا على ارض او بيت او منصب او لقب او امتياز خاص، لانها فضلا عن سهولتها ، فانها تتمّ بعيدا عن الانظار حيث لا شاهد عليها غير الضمير.

لقد غدت اساليب التحايل والاعوجاج فعلاً ظاهرة عادية جدا ، بل يعتبرها بعض مشجعيها ضرورة لا بد منها للحياة في هذا العصر الذي لم يعد يُبصر الا مصلحته الذاتية . عصرٍ تنكّر للمبادئ ، عصر اصبحت المادة تتحكم في كل شئ، فأمسى كل ما لا يتماشى مع هذه المصلحة مرفوضا .
بات الكثيرون يعتبرون العقائد شأنا باليا لا يفيد الا العجائز وبسطاء العقل ، لان الشاطر عندهم هو من يدبّر امره ويحقق مكسبا مباشرا، ويعبّرون عن قناعتهم هذه قائلين : أين الضرر إذا كان ثمن هذا المكسب ، الذي لا يتكرر يوميا ، اكذوبة بيضاء ام صفراء ؟
إنه مجتمع يذهب فيه البعض حدّ توجيه اللوم لمن لم يجرأ على إتّباع هذه الاسلوب ، وقد نسمع ايضا نماذج من هؤلاء اللائمين يصرّحون قائلين : إن  فلانَاً رجل فاشل وساذج العقل ، هل كان يعلم احد بما سيقوله او لا يقوله ؟ لماذا اضاع من يده هذه الصفقة او تلك المبالغ ؟
وكم زوجة نسمعها تعاتب زوجها لانه لم يفعل كما فعل الشخص الفلاني قائلة : ستبقى طوال حياتك شحّاذا ، ومن كان سيعاتبك لو فعلت مثله ، وهل جميع من فعلوا ذلك اشرار ؟ اذهب وحوّل المبادئ التي تحملها  الى عصير تروي فيها عطشك !!
ونسمع ايضا أنفاراً ينعتون اصحابهم بالحمير لانهم خسروا الكثير بسبب امتناعهم عن كذب صغير كان سيتمّ بصمت، في منأى عن الانظار والاسماع !!

لم يبقَ الانسان كما كان في السابق ، حيث الحقيقة كانت مقياس التصرف في الحياة ، حقيقة مقدسة لا يحيد عنها أحد قيد انملة حتى ولو بقطع الرقاب . كانت كل ذرّة من الحقيقة آنذاك تعادل مثاقيل ذهب ، ولكن الان مثاقيل الحقيقة لا تعادل شيئا.

إني ارى البعض قد نفذ صبرهم وبودّهم القول : الى متي سيطوف بنا الاخ في جولات لا تنتهي من تكرار وحشو ، وهل يريدنا  أن نعيد عليه ما قيل لبولس الرسول في زمانه : ستكلمنا عن هذا الموضوع غدا أو في وقت لاحق؟
تأكدوا باني ارى نفسي متورطا في موضوع لا اهتدي الى كيفية إنهائه لان الظاهرة قد تأصلت في حياة الاغلبية من الناس. ولكني ، انطلاقا من المنطق ، اجزم بانه لابدّ أن يأتي اليوم الذي سيملّ فيه الانسان ويشمئزّ من العيش في مجتمع يفتقر الى الصدق والنزاهة ، مجتمع لا يأتمن الناس على بعضهم البعض ، مجتمع قد تحوّل الكثيرون فيه الى ذئاب مفترسة.
إني ألمح خيال بصيص بعيد جدا ، فاذا لم يكن سرابا ، أرى فيه بداية أمل للاجيال القادمة ، وبقليل من التفاؤل أتمناه نصيبا لاحفاد أحفادنا !!

 


141
حوار على الموبايل بين أمّ وابنتها
شمعون كوسا

عندما ظهر الهاتف النقال للوجود في مستهل التسعينات ، كان استخدامه مقصورا على أشخاص مكلفين بمهمات خاصة كالاطباء ورجال الاعمال والمقاولين والمدراء العامين ورجال الاطفاء والطوارئ ، ولكنه في ايامنا هذه ، وبعد التطور الذي شهده هذا الجهاز ، فقد شاع استخدامه بحيث اصبح اقلّ من عادي ، فهو في متناول الطفل والمراهق والشاب والكهل والعجوز ، حتى الابكم والاصم باتا يحملانه تيمّنا ببقية خلق الله . تراه  في الشارع وفي السيارة وفي البيت وفي المدرسة وفي المكتب وفي المزرعة وغيره ، خلاصة القول انه جهاز لا يفارق صاحبه ، فتارة تراه محمولاً باليد أو ملاصقا للاذن ، وطورا مثبتا على الحزام أو قابعا في الجيب بانتظار أول زبون ، واحيانا ترى نفس الشخص يستخدم جهازين في نفس الوقت بينما يكون الثالث يرنّ في جيبه ،  وأحيانا اخرى لا ترى من  الجهازغير سلكين رفيعين ينتهيان بلاقطة وسماعة ، فيخال للناظر بان المُهاتِف قد اصيب بمسّ من الجنون أو على الاقل بلغ درجة الهذيان،  لانه يكلم نفسه بصوت عالٍ يُسمع احيانا ، وبقليل من الجهد ،على بعد نصف كيلومتر!!

الحديث الذي ستتجاذب أطرافـَه أمّ مع ابنتها ، ينقله هاتف من الجيل قبل الاخير. فلنسمع إذن الى جزء بسيط جدا من هذا الحوار الذي رأيته سطحياً ومؤنسا في بعض جوانبه ، غير انه لا يخلو من جوانب اخرى بنـّاءة :

الام : صباح الخير يا ابنتي ، لماذا لم تتصلي بيّ ، هل تنتظرين دوما ان أكون انا المبادِِرة أم ماذا ؟
البنت: ألم نتفق يا أمي بانك انت ستتصلين في الفترة الصباحية ، وانا سأتولـّى أمر المكالمتين الاخريين للظهيرة والمساء ، هل نسيت ؟
الام: إنني لم التقِِِ بزوجكِ منذ فترة طويلة ، هل لا زال على نفس طبعه الكريه والذي لا يُطاق ؟
البنت : ما لكِ وزوجي ، ارجو ان تدعيه وشأنه ، انا على وفاق تامّ معه ولا أرى فيه اي عيب او تقصير .
الام: هذا غير صحيح ، إنه لا يحترمني ، وإذا كان لي أيّ اعتبار لديك يجب ألاّ تجامليه .
البنت: ارجوك ألاّ تتدخلي كثيرا في شؤوننا وان تـُخرِجي زوجي من رأسك ، واذا كان ولا بدّ أن تفعلي شيئا فغيّري اسلوبك معه ، وعندئذٍ سيستقيم كل شئ .
الام: ما هي مشاريعك للطبخ لهذا اليوم ؟ لاتقولي بأنك ستعيدين نفس طبخة يوم الاحد ،  طبخة لا اتحمل حتى رؤيتها .
البنت : كيف عرفتِِ ، أنني فعلا أقوم بإعداد نفس الطعام ، على أية حال ، انها وجبة تعجبنا نحن جميعا ولا يهمنا اذا كنت أنتِ لا تحبينها ، إلاّ اذا كنت قد قررت المجئ عندنا .
الام : وهل انا مطرودة لكي اطرق باب أناس لا يقدّروني .
أراكِ يا ابنتي قد تغيرت كثيرا ، لقد استطاع زوجك التأثير عليك بحيث لم يبقَ لي اية مكانة عندك.
البنت: وهل عُدنا إلى نفس الموّال ؟ أقفلي هذا الموضوع اتوسل اليك وكلـّميني عن أبي ، ما هي أحواله ؟
الام: ابوك هو نفسه ولم يتغير ، إنه غارق بين كتبه وقراءاته ، لا يحبّ الكلام . إني أتساءل احيانا كيف استطعتُ إمضاء حياتي كلها معه .
البنت: ألم تسمعي بان السكوت من ذهب ، فانت الان تعيشين مع ذهب حيّ يتجول في البيت . وانتِ ما أخبار طبخك لهذا اليوم ؟
الام: أنا  شخصيا كنت افضل ذهبا جامدا على ذهب يتحرك ولا ينفع . اما عن الطبخ ، ليس لي الوقت الكافي لأعِدّ  وجبة رسمية ، فوضعت قليلا من اللحم على نارهادئة ، سيقوم والدك  باعداد شطيرة لنفسه ، شطيرة ذهبية كما قلتِ !!
من جهة اخرى ، أتعرفين ماذا يدور من حديث في حارتنا عن إبنة الميكانيكي الساكن في نهاية الشارع ، يُقال بانها تعاشر شابا غريبا تعرفت عليه في الجامعة.
البنت: وما الذي يغيضك انتِ ، وما الذي يزعج الناس في هذه الامر ؟ اليست زميلته ، وهل هناك أيّ سوء في ان يتوصل زميلان الى التفاهم والتقارب وحتى الحب ؟
الام: إنك تجدين حلاّ وتفسيرا لكل شئ ، ولكن هل سمعتِ بالادوار التي سبق وان لعبتها مع العديد من شبابنا.
البنت: انها إشاعات مغرضة ، ومهما كانت قد فعلت ، يجب ان نتمنى لها الخير ، لعلها تفكر بوضع أساس جديد لحياتها . أحِبّي الناس يا أمّي ، ومهما سمعت عنهم وجّهي افكارك نحو الخير ، ولا تتوقفي عند الظنون السيئة .
الام: هل قام زوجك بشراء عقد الذهب الذي كان قد وعدك به ، يجب ان تلحّي عليه ، لان مثل هؤلاء لهم أقوال فقط .
البنت: لا تصدري احكامك قبل معرفة الحقيقة ، انا اعرفك لقد اعتدت على إصدار احكام مسبقة عن الذين لا تحبينهم ، وبالنسبة لهذا الموضوع يجب ان تعرفي بان زوجي قد دعاني الى مرافقته عند الصائغ ، غير اني رفضت لظروف خاصة . ولكن يجب ان تتأكدي يا امي باني سعيدة مع زوجي  ، إذا كان ذلك بشراء قلادة ام بدونها .
الام: هل رأيتِ ما يروّج اليه التلفاز هذه الايام عن زيت الطعام الجديد ؟
البنت: لقد ذكّرتيني بطنجرة الطعام ، إني اشمّ رائحة شئ يحترق ، انتظريني حتى اتفقد وضع المطبخ  ….
الام  ( بعد خمس دقائق وهي تضحك) :هل احترق كل ما كان على الموقد ؟
البنت: نعم ، لقد اخذنا الكلام ونسيت نفسي فاحترقت الطبخة باكملها . قمت بفتح الشبابيك لازيل الرائحة واطرد الدخان الذي انتشر في كل زاوية من البيت .
فيما يخصّ الاطفال ، سأقدم لهم اليوم معلبات باردة . انا على يقين بانهم سيحزرون سبب الحريق لانها ليست المرة الاولى،  وسيقولون أيضا  بان هذه ضريبة حديثي معكِ على الهاتف .
الام: إعتبارات اطفالك هي من أواخر همومي ، دعيهم يقولون ما يطيب لهم .
 لقد نسيتُ ان اسألك هل سمعت الكرازة يوم الاحد الماضي ؟
البنت: انا لم احضر القداس ولكن ابنتي نقلت لي جانبا مما قيل . أمّا اذا سألتيني رأيي الشخصي فانا اقول : إن هؤلاء يعيدون نفس الكلام في كل مناسبة ، بحيث قد تعوّدنا على طريقتهم في الوعظ ، مع اول كلمة يتفوهون بها نعرف كيف تنتهي الجملة او حتى الفقرة بأكملها ، انهم صاروا لا يؤثرون فينا كثيرا .
الام: لا يجب ان تتكلمي عن رجال الدين .
البنت: انت تعرفين باني لا احب التكلم عنهم بالسوء ، غير اني ارى نفسي مرغمة احيانا على التعبير عما أراه وألاحظه . تقول ابنتي بان رجال الدين يشبهون رجال السياسة ولغتهم تسمى بلغة الخشب ، خطاب يتكون من جمل وعبارات جاهزة وطنانة وان كثرة إعادتها وبنفس الاسلوب ، قد افقدها الكثير من فحواها .
الام: وماذا تريدينهم يفعلون ؟
البنت: انا لست مختصة او معنيّة بالموضوع ، ولكني ارى ان يحاول هؤلاء إخراج كلامهم عن المألوف الرتيب كي ينبع بقناعة من اعماقهم . يجب ان يعبّروا عمّا يحسون به بعد ان يكونوا قد فكروا واعادوا التفكير بالمبادئ السامية التي يفترض انهم يحملونها . انهم يحتاجون الى تكريس بضع دقائق في اليوم للقراءة والتفكير والتأمل والبقاء في حالة صمت ، وهكذا سيتشبّعون بما يفكرون فيه وسينطقون بما يمليه عليهم قلبهم وليس بما حفظه لسانهم .  
الام: دعينا من رجال الدين  لان قصصهم طويلة ، لا سيما وانا أراكِ انت التي في كلامك الطويل هذا ، قد تحوّلت الى واعظة.
إسمعيني ، لقد عشتُ هذه الليلة احداث حلم غريب . بعد مسيرة طويلة لا اعرف أين ، جلست لأنال قسطا من الراحة ، فوجدت نفسي على حافة وادٍ سحيق لا استطيع التراجع عنه ولو بشبر . مع أول حركة لا إرادية رأيت نفسي أهوي باتجاه الوادي فاحسست  بوجع شديد في بطني . اثناء تساقطي مررت بكافة مفردات الخوف من رعب وهلع وخشية ورهبة وذعر وفزع وروعة ورعدة وبدأت بالصراخ ، فاحسست بيد تهز رأسي بقوة ، واذا بأبيك يوقطني من النوم ، ما هو تفسيرك ؟
البنت: يا امي هذه الاحلام لا تحتاج الى تفسير ، لا بدّ انك قد تناولت وجبة ثقيلة في الليل.
الام: هل ان تناول صحن أرز وصحن بامية مع بعض قطع من الكعك ترافق الشاي يؤدي الى هذه الحالة ؟
البنت: ان نصف هذه الكمية في الاحلام مخوّلة بإلقائك من أعلى القمم .
الام: هل كنتِ مدعوة لحفلة عرس يوم الاربعاء ؟ يقال بان الفرقة لم تكن من الدرجة الاولى وان المشروبات لم تتوفر الا بست انواع .
البنت:انا لا اهتم لا بالفرقة ولا بالمشروبات ، ولكني لاحظت بان الاستقبال لم يكن نابعا من وجوه مرحّبة مبتسمة ولكن خارجا مباشرة من أنوف قد ادارت ظهرها .
الام: سمعت الكثيرين يقولون  بان العروسين غير متفاهمَين
البنت:استحلفك الله قولي لي يا أمّي من اين اتيت بهذا الكلام الجديد ، إذا لم يكونا على وفاق لماذا تزوجا ، وهل نحن في عصريقبل فيه الشباب بالإرغام والغصب والقوة  التي كان قد اعتاد بعض الاقارب ممارستها عليهم في أزمنة سابقة ؟
الام:  ما لك تؤنبيني لأتفه الاسباب ؟ بدأت اخشى مفاتحتك في أيّ موضوع . هل ستغضبين  اذا قلت لك بان فستان العروس كان محط انظار الجميع ، وبان مظهر عمتك لم يكن بالمستوى المطلوب، الا تلاحظين بعض الهبوط في ذوقها ؟
البنت: قولي صراحة إنها ليست جميلة . أن إيماءاتِك واضحة ولا حاجة للمرور عبر اسلوب غير مباشر . بالله عليك يا امي ماذا تجنين من هذا الكلام ؟  هناك من حباهم الله بجمال الوجه ، ولكن الأهمّ هو جمال النفس ، وهذا ما أنا  أراه فيها.
الام: هل تسمحي لي أن أسألكِ رأيك في ما يشاع هذه الايام عن مكافحة الفساد ؟
البنت: ما هذا الكلام الكبير ؟ ماذا عساي ان اقول ، هل هذه هي المرة الاولى التي نسمع فيها عن مثل هذه الحملات. إنها حملات تـُلهب حماس الناس ، ولكن حال بلوغها  مراحل متقدمة وحساسة ، يخفّ الكلام عنها أويتوقف كليّاً لانها تكون قد اقتربت كثيرا الى جهات لا يجب الدنوّ منها أو المساس  بمصالحها . حينذاك يُصار الى إيجاد كبش الفداء في شخصِ موظف صغير برئ،  يكون قد نفـّذ أمراً صدِر له من فوق ، فيتمّ ذبحه على مذبح حملة الفساد ، دون أمل في نزول  ثور او عجل من العلياء ليحل محله ويكفّر عنه . وبهذه الطريقة يكون المسؤولون قد أدوا واجبهم لانهم وضعوا اليد على مجرم كبير ، والفساد يستأنف مسيرته بنفس وتيرته الاولى.
ولكن يا أمي ، قولي لي ما لك والسياسة ، الا تخشين ان يسمعنا احد او يراقبنا ؟
الام:ماذا تقولين ، وهل يُعقل ان يكون هناك شخص ثالث يسمعنا ؟
البنت: ألم تسمعي بان للحيطان آذان ؟ هناك آذان متخصصة في الانصات، تتعامل مع ما يمرّ خلال الموجات والاسلاك او الذبذبات . ان هذه الاذان  المأجورة تركب الامواج وتتقلب معها  وتساير الاسلاك ذهابا وايابا كالمكوك ، لكي تنقل الكلام الى جهات مجهولة ، شفويا او مسجلا او مكتوبا !!
البنت: بعيدا عن هذه الاجواء الموبوءة ، قولي لي ، ماذا عن تشييد داركم الخامس ، ألم ينته بناؤه ؟
الام: لقد تعقـّد الامر، لان رئيس البلدية يرى باننا قد تجاوزنا حدود البناء ، انهم يحاسبوننا على مترين فقط  ولا يحاسبون نفسهم  ....
هنا توقفت الام عن الحديث ، وكأنها أحست هي الاخرى برائحة غريبة قد غزت البيت ، فانطلقت مسرعة وهي تدمدم وتتذمّر قائلة : الم يكن بوسع مخترع هذا الجهاز إضافة برنامج  غذائي يُنبئ  بقرب استواء الطعام ، أو اطفاء الموقد مباشرة قبل احتراق الطبيخ ؟

بعد سماع تمتمة العجوز الام، تخيلتُ الهاتف النقال ، أنا الذي لا احب الخيال ، سمعته يقول  في سرّ نفسه ممتعضاً : ألم يكن بمقدور العجوز توقيت مكالمتها ، أم كانت تتوقع مني الاسراع للتفاوض مع النار على سعر معين لقاء تخفيف حرارتها رأفة باللحم او أي مادة اخرى مكلفة بطبخها ، أم يجب ان اتوسل اليها  من الآن وصاعدا قائلا : أتـّقدي ايتها النار العظيمة والتهبي بهدوء وأستحلفك الله لا تحرقي ما فوقك وتمهلي لان حديث صاحبتي مع ابنتها سوف لن يستغرق أكثر من ثلاث ساعات ؟!!

142
راحة بال الأمس وهموم اليوم

شمعون كوسا

هناك مثل كردي يقول : سال به  سال خوزﮔـه م  به  ﭘار ، ومفاده : بعد مرور كل سنة نشتاق إلى التي سبقتها .

إن الحياة في تقدم مطـّرد والعلم لا تتوقف بحوثه ، والاكتشافات التي يتوصل اليها لا تهدف غير الوصول الى وسائل من شأنها تسهيل حياة الانسان . لقد كُرِّست كافة الانجازات الصناعية والزراعية والغذائية والصحية وغيرها وسخّرت لخدمة الانسان . ولقد أزاحت هذه الانجازات فعلاً الكثير من ثقل الماضي وخففت من ظروفه المضنية . فاذا تناولنا الطيران مثلا ، نقول بان الطائرة أحدثت ثورة في عالم النقل وقصرت المسافات بشكل لا يصدق ووفرت وقتا ثمينا على الانسان . واذا تكلمنا عن صناعة السيارات ، نقول عنها بانها ابتكار فريد من نوعه في مجال النقل البري ، وهذا صحيح على صعيد القاطرات والدراجات النارية وغيرها من وسائل النقل .
وهل لنا ان ننكر ما وفره المجال النووي المدني والسلمي من صناعات مهمة .
والهاتف المحمول او النقال ، أليس انجازاً يفتخر به هذا العصر  كونه وسيلة اتصال ترافق الانسان أينما ذهب . والحاسوب او الكومبيوتر ، ألم تحقق برامجه ولا سيما الانترنيت حلما لم يكن يدر في خلد أوسع خيال . وماذا نقول عن مكائن الاشغال العامة والاجهزة المنزلية بكافة انواعها ، والزراعة وتطورها في كافة مجالاتها ،  والحديث يطول لان القائمة لا زالت في ثلثها الاول .

نعم هذه الانجازات وغيرها ساهمت في تطوير حياة الانسان ، غير انها لم تفلح في معالجة موضوع سعادته وعيشه بهناء ولم تؤمّن له الطمأنينة وراحة البال، لانها بالرغم من ايجابياتها الكثيرة ، لا تخلو من السلبيات . لقد وفرت فعلا على الانسان جهودا مضنية ، ولكنها خلقت له لاحقاً متاعب جانبية كبيرة . ولأن الانسان لا يرى الا راحته الآنية ، فانه لم يأبه بما ستتركه هذه المكائن او الاجهزة من آثار على المدى المتوسط  والبعيد .

فاذا عدنا الى ما ذكرناه من صناعات ، نبدأ ونقول بان للطائرة أو بالاحرى الطيران متطلبات صارمة ، حيث على المسافر الحضور ساعتين او ثلاث قبل موعد سفره ، كما عليه   الخضوع لفحص طويل يثير الغيض احيانا ، واما عن الضجيج الذي يسبق إقلاع الطائرة ويلي هبوطها فحدّث  ولا حرج . بالاضافة الى ذلك  يبقى المسافر في حالة دعاء مع ربّه عند الاقلاع خوفا من تناقص اندفاعها وفي حالة ترقب عند الهبوط خشية تأخر إطاراتها في الخروج من مكانها في الوقت المناسب ، فضلا عن المفاجئات عند تأخر الرحلة او إلغائها كليا دون سابق انذار مع كل ما تترتب عليه من عواقب استخدام وقت المسافر ومواعيده والتزاماته، وهل لي أن امرّ هنا دون التطرق للخطورة المتمثلة بهوايات يمارسها بعض المهووسين داخل الطائرة ، مدفوعين بخفة دم غير مسبوقة،  لإلهاء  الركاب في لعبة التهديد والاحتجاز والابتزاز والترهيب !!

أما عن السيارات ، فان مسؤوليتها رئيسية في جريمة اسمها التلوث ، وللعيون كما للحناجر حكايات وقصص أبطالها الدخان بكافة الوانه. من جهة اخرى فان قيادتها تولـّد  توترا في نفس السائق خاصة عند توقف السير أوتقدّمه بخطى السلحفاة ، وإذا كان قائد العربة رجلا مسنّا أو شخصا مرهقا، فانه يتحول الى كتلة اعصاب افلتت من مواضعها لتلتفّ على بعضها البعض . وإذا حدث وان وقعت السيارة بين يدي الميكانيكي ، ولا نقول لا سمح الله لان هذا قدر السيارة مهما بالغت في حرصها ، فعلى صاحبها التهيؤ  للقاء المصلـّح عدة مرات لان كل تصليح يخلف تصليحا آخر ،  وعند كل فاتورة يختار الفقيه أعز الرؤوس واقدس الكتب في قسم ليخفي كذبه .  

وهنا كنت أرقب المناسبة لاتكلم  عن  وسيلة نقل صغيرة  وسريعة ، ألا وهي الدراجة النارية ، فان بعض الانواع منها اُشبّهها بامرأة باعت ماء وجهها وخرجت للشارع لتصيح باعلى صوتها  ، والصوت الذي يطلقه هذا المحرّك الصغير  في اندفاعه وسرعته الهائلة يعادل صياح عشرة نساء من هذا النوع !!، إنه فعلا جهاز لا يُحتمل ،  ومن يكون قد عبس الحظ بوجهه في ذلك اليوم وصادف هذه الدراجة ، فانه يتوقف ويبدأ تلقائيا باغلاق آذانه بصورة مُحكمة ، ونفس هذه التلقائية تدعوه لتحريك لسانه في اخراج شتائم خفيفة جاهزة الصنع ، لا تصيب سائق الدراجة لانها لا تتمكن من مجاراة سرعته، فتغيّر اتجاهها نحو أبيه ، لان رسالة اللسان الخفيفة هذه موجّهة أصلا لابيه،  كونها تستهلّ جملها بـِ (إبن الـ ..  ) !!!
والحديث عن الضجيج والضوضاء ينطبق على مكائن الاشغال العامة ايضا ، فمنها ما يهتزّ ومنها ما يحفر ومنها ما يدقّ الركائز ومنها ما يضغط الهواء وهناك ايضا بعض الاجهزة المنزلية . وهنا اودّ التركيز على جهاز الميكروويف الذي يُجمع كافة المختصين بان موجاته القصيرة تؤثر على صحة الانسان .
أما الهاتف النقال ، فالتقارير القديمة والجديدة تفيد بان ذبذباته تضرّ برأس الانسان  .إنه جهاز يستخدمه حتى الاطفال ، ولِبعض الشباب جهازين او ثلاث ، وكثير من العجائز يحملنه في جيبهن لمتابعة أمور الطبخ والتحرّي عن اخبار الجيران مع بناتهن او كنـّاتهن ، وقد يكون لهذا الموضوع مقال خاص .  كما ان استخدام الكومبيوتر او الحاسوب لفترات طويلة يؤثر على العيون والاعصاب والفقرات .
وفيما يخص المجال النووي ، ساترك استخداماته التدميرية جانبا ، لان ناغازاكي وهيروشيما والاسلحة التي استخدمت في بلدنا العزير ستبقى افضل شواهد لاجيال واجيال، غير أن استخدامه المدني ايضا بدأ يشكل خطرا على حياة الانسان ، وما حدث في اليابان مؤخرا ومن قبله تشيرنوبل هو افضل درس، ولقد بدأ القادة النوويون فعلا باعادة النظر في سياساتهم في هذا المجال .
 
وبالنسبة للتطور الزراعي ، فان المبيدات المستخدمة لتحسين الانتاج ومضاعفة كمياته تؤثر مباشرة على المياه الجوفيه وتهدد حياة الانسان والحيوان ، ومن بين الحشرات المهددة حاليا نذكر النحل الذي بدأ بالتناقص جراء استنشاقه زهور ونباتات قد تعطـّرت بمبيدات سامة.   والهرمونات المستخدمة  في الاسمدة  تجعل بعض اصناف الفواكه والخضرفي حالة نموّ وانتفاخ مستمرين حتى بعد قطفها . والغذاء لم يعد طبيعيا كالسابق ، لقد دخلت في صناعته كثير من المكونات الغريبة  كالملوّنات والمطيبات والمواد الحافظة والاضافات الاخرى، وقد لعب هذا دورا كبيرا في بروز امراض غير معهودة سابقا ، إن ما هو أكيد أن الكثير من اغذيتنا تضم بين جوانبها مواد مسرطنة.  
أصبح انساننا العصري قليل المقاومة وهشّ المناعة ، فعشعش الوسواس داخل نفسه ، وصار  شديد الحرص على صحته  ، بدليل ان الغالبية العظمى من الناس يحتفظون باجهزتهم الخاصة لقياس الضعط والسكر وغيره ويعيدون الفحص بعد كل وجبة طعام .

لكي نكون موضوعيين ، نقول باننا لا ننكر البتة التطور الذي حصل بعد هذه الاختراعات ولكننا لا نستطيع السكوت على التوتر واسباب القلق والترقب والخوف التي اوجدتها الصناعة الحديثة . اضحت الحياة العصرية حياة سرعة وهذا ما نلاحظه جليا في البلدان الصناعية  .مع تقدم الحياة ازدادت متطلباتها ، وانسان عصرنا الذي يريد اقتناء كل شئ ، ينهض مبكرا للعمل ويرجع الى البيت متأخرا ليضع رأسه وينام كي يستأنف نفس الدورة في اليوم التالي .  فيركض الانسان طوال اليوم ليكسب الحدّ الادنى الذي يبقيه على قيد الحياة . لاسيما وان طلبات الاولاد لا تقبل التأخير،  أولاد لا يريدون معرفة أي شئ عن ظروف والدهم ، لان ما يهمّم هو الحصول على آخر جيل من الهواتف مثلا ، أوسيارة تشبه سيارة زميلهم الفلاني .

انا الذي عايشت قليلا الزمن السابق ، لا انكر الفائدة الجمّة التي جناها الانسان من الابداعات الجديدة ، غير اني ، قابلا بالانتقادات والنعوت سيوجهها لي البعض كمتخلف أو رجعي ،  أقرّ باني أحنّ لتلك الايام الهادئة التي كان يعيش فيها الانسان بين اهله وذويه . كان يكدّ في الصيف بين مزروعاته وحيواناته وكرومه ، والقليل الذي كان يحصل عليه كان مصدر سعادته في فصل الشتاء لانه كان قنوعا . كان يبذل الناس جهودا كبيرة في اعمالهم  بهدف الخلود للراحة والعيش لفترة من الزمن بهدوء وفرح وراحة بال . أما الانسان الحالي فانه يربط الليل بالنهار بهدف البقاء على قيد الحياة ، فالقدامى كانوا يعملون  ليعيشوا ويتلذذوا بالحياة ، اما الانسان الحالي فانه يحافظ على حياته للعمل والعمل فقط .

هذا الانشغال الدائمي وحالة التوتر والضغط اليومي والقلق والتلوث الذي تشبّعت منه أجواء عصرنا الحالي يؤثر على تصرف الناس وحالتهم النفسية . من جهة اخرى ، كانت العائلة سابقا تحافظ على كيانها ويعيش اعضاؤها في حب ووفاق دائمين ، وكانت افراحهم واحزانهم يتقاسمونها مع اهالي القرية او المدينة ، واذا  نجم خلاف بينهم ، تكون كلمة الاقدمين الفيصل ودون نقاش . كان الجوّ نقيا لا تشوبه شائبة ، كان محيطهم صغيرا وكان الناس بسطاء وصادقين وليس كيومنا ، حيث انك تعرف الكاذب هذه الايام اذا قال لك صدّقني .

كان اهلنا متواضعين في حفلاتهم ، فايام العرس كانت اطول مما هي عليه الان ولكنها في غاية البساطة . كان اهل القرية كلهم مدعوين والكلّ يحظر مأدبة تكون موائدها وكراسيها الارض ومشروبها من الانتاج المحلي وطعامها من طبخ نساء الحارة . كانت تتخلل الحفلة فعاليات فولكلورية مسلية ، بعكس ما يجري الان حيث ينبغي حجز القاعة قبل سنة او سنتين ولعدد محدود من المدعوين ، وتكون الحفلة مناسبة لعرض ازياء النساء في فساتين خاصة وثمينة والمهم ما يقال عنها داخل القاعة او خارجها في البيت .  

إنّ ما سردته بكل موضوعية هو للانتهاء بالقول ان أهل السابق لم يعرفوا التوتر والقلق كما يحدث الان . صحة الانسان لم تغدُ كالسابق لان الناس كانوا يعيشون في جو صاف . لقد كثرت هموم الحياة،  وتعقدت ظروف العيش ، وازدادت متطلباتها . إنسان اليوم يفتقر الى العاطفة والخيال وبعض دقائق خلوة من شأنها اعادته الى مصادره النقية الهادئة وغير الملوثة. كان اهلنا يفوضوّن امرهم لخالقهم ويرددون دائما شعارات مثل : لا تفكر لها مدبّر ، أو يغلق الله بابا لكي يفتح ألف باب . هذه كانت قناعتهم وهذا كان اعتقادهم ، وبهذ الطريقة كانوا يحافظون على هدوئهم وبرودة اعصابهم ، لانه حتى اذا لم تنفتح لهم الابواب الالف الموعودة ، فانهم كانوا يعيشون فترة انتظارهم هذه بهدوء وراحة بال .




143
الاثـرياء الجـُدُد
شمعون كوسا

سابقا عندما كان المغترب يزور ذويه في المنطقة ، كان يُستقبل بحفاوة كبيرة ويُحاط بكل مظاهر الاحترام والتقدير ، وعندما يتجول في شوارع مدينته كان موضع التفات الناس ، وبعض معارفه كانوا يتهامسون بينهم لدى مروره قائلين : هنيئاً لوالديه لانه قادم إليهما حتما بجيوب مليئة بالدولارات ، وكانوا يقصدون بالمليئة مبلغاً ، إذا توزع على كافة جيوبه ، فانه لن يخرج عن حدود الالف دولار . كان القادم يحظى بكل هذا الاهتمام لانه كان يُسعف ذويه ويرسل لهم بانتظام مبلغا شهريا او موسميا لا يتجاوز المائة او المائتي دولار . كان ذلك قبيل نهوض العراق من سبات الحصار الظالم ، أيام كانت العملة تسمى بعملة القرود ، والناس يعانون من شحّة المواد الغذائية والادوية وكل ما هو ضروري للحياة ، واذا توفرت فانها كانت كميات قليلة في متناول اصحاب الدولارات فقط .

أمّا الان ، وبعد ان بدأت المنطقة بالانتعاش الاقتصادي ، واقصد بالمنطقة )البقعة الآمنة من بلد لا  أجدُ له تسمية اخرى غير اسم بلد الاشباح ) !!، فان نفس المغترب أو زائرَ الامس ، إذا عاد الى بلاده اليوم ، سوف لن يلقى نفس الاحترام . سوف لن يلتفت اليه احد والكثيرون سيتجاهلونه او ينظرون إليه من فوق باقصى طرف عينهم اليسرى لكي لا يبصروا إلا جزأ منه، والبعض الاخر يشفقون عليه وكأنهم أمام فقير لم يُعلـَن بعدُ متسوّلا رسمياً ، ويقولون : يا للمسكين انه قادم من الخارج ، انه جدير فعلا بالعطف ولربما تجدر الحسنة اليه . يكون الزائر المسكين قد ارتدى في يومه الاول بنطالا قصيرا  وقميصا مزركشا مع قبعة وعوينات شمسية عاكسة ليظهر للناس انه قادم من الخارج، وعند إخفاقه في جلب الانظار يعود في اليوم التالي بزيّ محلي ويخرج كالممثل المسرحي الطامح في تصفيق الجماهير، غير انه يقابل ببرود أشد ،  لان الناس لم يعودوا يرون فيه غير شخص عادي جدا، فيرجع مموّل الامس الى البيت وهو يجرّ وراءه أذيال الخيبة ويقبع في زاوية محاولا إمتصاص فشله .

الكلام هنا عن المغترب العادي او المتوسط في بلدان اوربا حيث الدخل محدود ومحتسب بجزيئات اليورو وحيث الضرائب تلتهم نصف ما يكسبه المواطن . بلاد تؤمّن حياة الانسان ولكنها تحاسبه على اصغر وحدة من مدخولاته او ارباحه . والمموّل الذي لم يلقَ احتراما في زيارته الثانية للمنطقة ، كان في حينه يقتطع من رزقه هذا ليرسل للمحتاجين من أهله . هناك طبعا من بين هؤلاء المغتربين شرائح اخرى يزاولون اعمالا مختلفة او خاصة ، هؤلاء لن يجدوا نفسهم غرباء حتى تحت هذه الظروف الجديدة لان لهم على الاقل اراضي وامتيازات حصلوا عليها بالرغم من تواجدهم خارج البلد ،انها ممتلكات يجب إدارتها ، وهذا يعزّز من مكانتهم وامكانيتهم فيسيرون الخيلاء دون الخوف من نظرات الناس أو احتمال ادراجهم في قائمة الفقراء !!

عودةً الى موضوعنا الذي لم نبدأه لحدّ الان ، نقول بان المنطقة الآمنة هذه قد تغيرت بسرعة البرق بحيث برزت فيها طبقات جديدة من الاثرياء لم يكن لهم ذكر قبل أقل من ثلاث سنوات . ظهر اثرياء لم يجمعوا ثروتهم بصورة طبيعية أي بتسلق تدريجي للسلّم، أو بمراحل زمنية معقولة كما كان حال اثرياء المنطقة القدامى المعروفين . إن هؤلاء ليسوا  ثمرة حمل طبيعي ولكنهم انتاج انابيب زرعت في ارحام  حاضنات عصرية غريبة. هناك من لم يكن لهم اسم في المجتمع ، وإذا ذكروا فانهم ، إن لم يكونوا ضمن من كانوا يتضورون جوعا ، فانهم كانوا ضمن من كان خبزهم كفاف يومهم ، تحوّل هؤلاء وبفترة لم تتجاوز السنتين او ثلاث إلى اصحاب ملايين ، يحتكمون على ثروة تتكون من اموال واملاك وبيوت وعمارات واراضي انهالت عليهم عقب تعاملهم مع المقاول الفلاني، او خدمتهم لدى المسؤول الفلاني ، او تعاونهم مع الشخصية البارزة او العشائرية الفلانية ، او عملهم في المكتب الفلاني ، في زمن كان يهطل المال كالمطر وكانت التسهيلات يتم اغداقها بكرم غير منتظم على بعض مستحقيه والكثير من غير مستحقيه ، فوجد بعض هؤلاء نفسهم وقد اصيبوا بالتخمة ، بصحبة ثروة باتت تشكل عليهم خطرا. إنّ ما كان يتعامل به ارباب اعمالهم اواسيادهم كان بهذا الكمّ الكبير بحيث اتاح لهم الاستثمار والتجارة وتوظيف الاموال هنا وهناك ،  وعندما لم يجدوا للفائض منه مكانا ، ألقوه كفـُتات أو فضلات لمساعديهم أو من قدموا لهم مختلف الخدمات المشروعة وغير المشروعة التي ساهمت في تسهيل اعمالهم وزيادة ارباحها .

وهناك من أثرَوا دون إرادتهم لان رصيدهم المتواضع من العقار ، بحكم حركة السوق ، بلغ عشرة او خمسة عشر ضعفا ، فمَن كان له بيت كبير باعه ليشتري قطعة ارض شيّد عليها دارين ، إحداهما لسكناه والثانية للايجار ، وعاد فقام بتوسيع الثانية لتأجيرها ببدلات ايجار اكثر سخاء ، وفي هذه الاثناء يكون قد اقتنى قطعة ارض اخرى إن لم يكن قد حالفه الحظـّ في قطعة او قطعتي أرض  مجانيتين ضمن سلسلة القوائم النوعية والمهنية التي غطت كافة الشرائح المألوفة وغير المألوفة  .ولقد كثر الكلام ايضا عن اساليب اخرى للثروة تمثلت باستحصال  اراضي لاستثمارها في مشروع خدمي أو عام ، بعض هؤلاء المستثمرين الجدد باعوا الارض حالا وقبضوا ولم يعد لهم أثر ، وآخرون استغلوا التسهيلات الممنوحة لهم في غير الاهداف المخصصة لها ، فحققوا أرباح سريعة مشكوكا في نزاهتها . وهكذا أضحى قاطنو المنطقة ملاّكين أثرياء ، وبحكم اكتسابهم هذه الصفة الجديدة ، اصبحوا اعضاء جمعية متخصصة  لم يبقَ لها حديث آخر سوى اسعار الاراضي والبيوت والرغبة الملحّة بالحصول على القطعة الفلانية أو البيت الفلاني المطل على الشارع باي ثمن كان . وتبدأ مشاريع البيع والشراء والهدم والتوسيع ، لا سيما وان المستأجرين واقفون في طابور طويل ، والكل يزايد على الاخر .
أمسى الناس دائمي الانشغال ولم يعد لهم الوقت الكافي لتبادل الزيارات ، وحتى التحية تخضع لتسعيرة لان الردّ عليها يستغرق وقتا قد يفيد في عقد صفقة سريعة . وعند البعض منهم انفصمت عُرى الابوّة والاخوّة والبنوّة وحتى الامومة . همّهم الاوحد اضحى السعي وراء مضاعفة ثروة لم يتوقف نموّها ، والفلس اصبح هدفا يجب البحث عنه قبل ان يستولي عليه الغير من جار او صديق او حتى الأخ لان هذا الاخير أيضا اصبح غريما ومنافسا . واذا تجرّأ شخص ممّن يحتفظ بضمير غير ملوث بتوجيه لوم او انتقاد لعدم شرعية بعض الاهداف او الوسائل ، فانه يُقابل بازدراء وبوابل من الردود القائلة :  قم وابتعد من هنا ، لا زال عقلك صغيرا ، ما هذا الهراء ؟ وهل هناك شخص يأبه الان لما يجب وما لايجب القيام به ؟ أو يعير اهتماما للاعتبارات التي تذكرها انت ؟ لقد تغيرت المفاهيم والازمان وحتى القيم ، واذا بقيت متشبثا بمبادئك وبنمط تفكيرك هذا ، ستبقى طوال حياتك بهذا المستوى المتواضع .

إن بعض هؤلاء حريصون على الاحتفاظ بعلاقات ودّية مع بعض رجال الدين ، معتقدين خطأ بان هؤلاء أقربُ الى الله وبأن وضعهم يمكّنهم بصرف ما لا ينصرف من حالات ممنوعة من الصرف دينياً ، كغضّ النظر مثلا عن اساليب  ملتوية أوارباح فاحشة . وقد يساير احدُ رجال الدين ثريّا جديدا من الطبقة الجديدة  هذه ويعِده خيرا ، ولكنه متظاهراً باسلوب المزح ، يطلب منه بكل جدّ قائلا :  وأنت بدورك يا استاذ لا تنسانا ، اذا وقعت بين ايديك قطقة ارض مجانية او بسعرمناسب ،  بلغني على الفور كي أشرع ببنائها مسكناً لي ، إني الان في بيت أخي ، لقد اضطررتُ لتأجير الدارين اللتين كانتا بحوزتي لعائلتين أجنبيتين كانتا بأمسّ الحاجة إليها !!

هؤلاء الملاّكون قد روّضوا ضمائرهم وفق برنامج خاص وضعوه بنفسهم ، برنامج مفتوح لا يتحمل اية خطوط ملونة ولا سيما  الحمراء منها، وكانوا شديدي الحرص قبل تصديق تصاميم خططهم الخاصة على حذف فقرة ( تبكيت الضمير) التي كانت تقضّ مضاجعهم لفترات طويلة .  

روى لي احدهم بان الجوّ هناك اصبح خانقا ، فالحديث عبارة عن جمل غير مفيدة ، فاعلها ومفعولها من مفردات عجينة الورق ، والارقام ذات الاصفار التي هي سيدة الموقف اتخذت لنفسها اسماء الورقة والدفتر والبلوك ، والارقام الكبيرة جدا التي اصبحت حاجة ملحّة نظراً لتضخم السوق ، قد تحمل قريبا اسماء القواميس أو الموسوعات أوحتى سجلات الطابو، لان الملايين ومشتقاتها على الابواب ، وبالنسبة للمليار ، أوليس ايضا  عبارة عن ألف مليون فقط  ؟ والحبل لا زال على الجرّار ، حبل يحتاج الى زيادة في الطول  وحتى الجرار نفسه الى قوة حصانية أشد !!

عن الجشع والحسد المتزايدين واللتين تتميّز بهما المنطقة ، روى لي احد سكان البقعة الآمنة فقال : كان هناك امرأة تمتلك اراضي واسعة ، قررت توزيعها على ابنتيها المتزوجتين ، فاعطت الاولى عددا لا بأس به من القطع ولزوجها قطعة واحدة لانه لم يكن يملك شيئا . واعطت لابنتها الثانية نفس عدد القطع ، غير انها لم تمنح شيئا لزوجها لانه كان يملك اصلا إثنتي عشرة قطعة ارض . يقول الراوي بان النسيب الثاني الملاّك قاطعَ حماته وجافاها لمدة سنة كاملة وبدأ بمضايقة زوجته وتقريعها كل يوم بكلمات نابية وكان على وشك الانفصال عنها لانه لم يحصل على ارض مثل عديله،   فاضطرت الحماة معالجة الموقف باعطائه قطعة الارض التي كان يعتقد واهما بانها ستشبع نهمه !!
قيل لي بان القصة حقيقية ، وباعتقادي ان اولاد المنطقة يعيشون يوميا حالات مماثلة وكلّ على مستواه وإمكانياته . بصورة عامة ، عندما يصل الموضوع الى الاملاك وكيفية توزيعها تهتزّ العلاقة بين الاقارب ويتغير كل شئ ، فتأتي محاولات حرمان او تلكؤ او إعاقة او تأخيرأو حتى اعتداء ، وغنيّ عن القول بان للنساء باعا طويلا في تعقيد الامور ولربما إيصالها الى طرق مسدودة .

الحبّ الذي كان حلاًّ لكافة مشاكل العالم ، اصبح اليوم مطلوباً في محاكم يقودها الجشع ومن ورائه الحسد والانانية والكراهية وأذيال اخرى كالكذب والتزوير والرشوة والمحسوبية والمنسوبية والعشائرية والقبيلية .
انه حديث لانهاية له ، و لقد سبق وان تطرقتُ اليه بصورة عابرة في فقرات كثيرة مما كتبته قبل الان . إنه موضوع أزلي ، يتكلم عنه الجميع ، نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا ونشتمّ منه الرائحة التي نريدها ،  ونحس به يوميا ونعاني منه .

ختاما أودّ القول دون ان أكون واعظا : إذا لم يقرّر الانسان رفع عينيه عن الارض وترابها وما هو قائم عليها من بيوت وعمارات وبساتين ، ويترفعّ عما هو فائض عن حاجته ، وما لم يفكر مطوّلاً وهو متطلـّع بانظاره الى الأعالي في اتجاه بعيد جدا ، سوف لن يفهم بان الدنيا لم تدم لاحد وان كل شئ زائل باستثناء الاخلاق والمبادئ التي ستكون ثروة الانسان للآخرة إذا كان مؤمنا، واذا لم يكن كذلك ، فانها على الاقل ستكون رصيده لدى الناس عندما سيذكرونه خيراً في مجالسهم .



Kossa_simon@hotmail.com

144
ثلاثة اشهر فقط من الخدمة الالزامية

شمعون كوسا

غالبا ما نسمع الكثيرين من الضالعين في اللغة العربية يتحدثون عن (بنات أفكارهم) ، فقلت إذا كان فكري أيضا أباً لبنات ، لماذا لم أتوقف يوما لتكليف احد هذه البنات  بتخفيف الحمل عني في البحث عن موضوع او إسعافي في اوقات أرى نفسي وقد ضاقت بي السبل ونضب معيني الداخلي كالارض التي تهجرها الامطار او تعاقبها الاقدار؟  قلت فلنحاول ، ولم يكـذبّ الفكرُ الخبرَ فقام باصدار أمره بهذا الاتجاه ، واذا بأربع كائنات طاعنات في السن يَمثـُلن امامي صفاً واحداً ، بشعركثيف غزاه الشيب فغدا مرتعا لخلايا قضت نحبها ولم تجد لها مقبرة أقرب من شعرهن.  فقلت يا إلهي ما هذا ؟ هبّت إحداهن بوجهي زاجرة : ما بالك مستغربا ، هل تعتقد بان كل ما فكرت به سابقا وما تكتبه الان هو ثمرة جهودك او وليد يراعك ؟ ما  الذي أوصلنا نحن الى هذه السن وهذا المنظر غير نشاطنا الذي لم يعرف السكينة ولو للحظة .  قلت لهن : وما العمل ، اليس لديكن أخوات فتيّات او صديقات او بنات أعمام يبحثن لي عن موضوع لهذا اليوم على الاقل ؟
 إختفت المتقاعدات الاربع لاخلاء مسرح الفكر لبنت فتية ظهرت وهي تحمل وريقة مطويّة باعتناء . قمتُ بفتح الوريقة ، واندهشت لدى رؤية تأريخها ، لانه بالرغم من قدمها ، كانت متماسكة تماما وحافظت على لونها وخطوطها .
كانت ورقة صغيرة اُستـُخرِجت من قاع صندوق منسيّ ، احتجزته بنت الفكر هذه لتقوم بلعب دورها  في يوم كهذا . كانت الورقة تحمل العنوان التالي : (سمعان في الجيش   -سنة 1970)   .  لجوئي الى بنت الفكر الفتية وفـّر عليّ وقتا طويلا كنت احتاجه لاستعادة الاحداث، لأنّي رأيت الواقعة امامي وكأنها وليدة بضعة أيام خلت . الموضوع يتعلق بقصة صديق قديم كانت قد تركت ظروفـُها وتطوراتـُها وقعا كبيرا في نفسي ، فقيـّدتُ خطوطها العريضة ، كما كنت قد اعتدت في كل حدث يثير اهتمامي .
فإلى من يهوى سماع القصص او الانصات الى أحاديث قديمة دون أن يهاب وجع الرأس ، الذي إذا بدأ بوخز صاحبه ، فانه يردد لمئات المرات جملته : ألم ينتهِ صاحبنا لحدّ الان ؟  
تبسيطاّ للامور ، أقترح ان يكون سمعان هو الذي يروي قصته مباشرة ، أي ان يكون الحديث بصيغة المتكلم عوضا عن إتّباع اسلوب الغائب المملّ الذي يزيد من فرص وجع الرأس في جمل تبدأ بـِ  :قال سمعان ، وتابع سمعان واضاف سمعان وأجاب سمعان !! فها هو سمعان في قصته :

تركتُ معهدا دينيا تابعتُ الدراسة فيه تقريبا الى النهاية ، أعني لاكثر من احدى عشرة سنة . خشية وجوب الانضواء تحت خدمة العلم ، اضطررت للعودة الى مقاعد الدراسة في الليل ، في صفوف يرتادها عادة من هُم في الثانية عشرة من عمرهم ، لان البلد الذي كان قد ولدني كان يتجاهل كليـّا  مستوى معهد ديني مسيحي يقتصر تعليمه على ست سنوات لغة فرنسية ، وثمان سنوات لغة آرامية وست سنوات لغة عربية نحواً وصرفاً ، وأربع سنوات لغة لاتينية فقط !!، ناهيك عن سنتي فلسفة واربع سنوات لاهوت . اريد الايضاح هنا بان هذه المواد كانت تلقى بعضها في نفس اليوم  أو نفس الاسبوع ، لاننا اذا تورطنا بجمعها متراكمة لتوصلنا الى ثلاثين سنة دراسة على الاقل !!!
 
ولكي لا اطيل عليكم الحديث اقول : صدر أمر يقضي بتوجّه كافة الطلاب المتجاوزة اعمارهم الى الخدمة العسكرية وكان القرار يشملني . بمؤازرةٍ من ضابط التجنيد ، تمكنت من تأجيل جنديتي لاربعة اشهر لاني كنت اعمل في شركة اجنبية في كركوك ، بعد ذلك نصحني الضابط ألاّ ألجأ الى تأجيل جديد ،  لان الفترة الالزامية لا بدّ من خدمتها ، ومن الافضل الابتداء مبكرا للخروج مبكرا . وتمّ سَوقي الى مركز تدريب كركوك .

أعرف بان البعض سيقول ، سيبدأ الاخ بإرهاقنا بسرد مجريات مراكز التدريب التي لا تخفى تفاصيلها على أحد . فعلا ، لا أرغب الدخول في التفاصيل ولكن بعدما امضيت خمسة عشر يوما هناك أوكد بان من يُقاد الى العسكرية ، يجب ان يعتبر نفسه نكرة ، لانه إن شاء أم أبى سيُعامل بطريقة فضّة لا تستخدم الا مع العبيد أو البهائم. يرى الجندي نفسه امام رئيسه كطفل يجب ان ينفذ اوامر صبيانية  وأن يخضع دون نقاش لعقوبات لا تليق بالرجل البالغ السويّ ، كالركض والهرولة والزحف والوقوف في الاستعداد والسجن وحرمان الرأس من شعره وغيره، وكل هذه الاحكام ، التي تفرض لأتفه الاسباب ، لا يرعاها قانون غير مزاج الضابط ، وإنّ خطأ جندي واحد احيانا يؤدي الى معاقبة الجميع .

عندما يُنادى الجندي ، يجب ان يتقدم بدق رجله اليسرى دقـّا قويا ، واداء التحية بيدٍ تهتز لقوتها ،  ويبدأ بتقديم نفسه كالتالي: أنا الرقم فلان !! ومن ثمّ  يذكر اسمه ، فيتقدم الضابط ، وإذا كان شخصا معقـّدا ، وقلـّما نجد عكس ذلك ، يدنو من الجندي في عملية تفتيش هدفها إيجاد ثغرة سخيفة ، كزرّ ناقص او غير مغلق بصورة جيدة ، او حذاء مغبرّ، او قبّعة معوجة والى آخره ، لاصدار أمر يعالج فيه عقدته النفسية أو يشفي غليلأ لم يقوَعلى اشباعه مع مستحقيه.

بهدف إراحة سمعان قليلا ، وتلطيفا للجو المنفعل هذا، اريد فتح قوسين في طرفة ، لعل البعض قد سمعها من قبلُ، ولكنها لا تخرج عن نطاق مركز التدريب . يُروى عن جندي في يومه العاشر في المركز . كان كلّما وصل ،  العريف المسؤول عن التعداد الصباحي الى اسمه،  يتجاوزه ويرفض قراءته . بدأ القلق يساور الجندي المستجدّ وخاف ألاّ يقيّده العريف غائبا . في أحد الايام ، وبعد التعداد مباشرة ، تجرّأ الجندي وتقدم بحالة استعداد نحو الضابط المشرف على التدريب وشرح له الموضوع .  ألتفت الضابط  للعريف مستفهما منه الامر، وهذا بدوره دنا من الضابط ليعترف له بصوت خافت قائلا : سيدي لا استطيع ذكر اسمه لانه سيحدث بلبلة وضحكا بين الجنود ، ووشوش له الاسم في أذنه . طلب الضابط من الجندي ذكرإسمه ، فاجابه الجندي : إسمي هو  مُضر  طه . كان العريف قد نسي ترك مسافة بين اسم الجندي واسم ابيه !!! ، واستأنف سمعان :

تمّ نقلي الى كتيبة مدفعية لمقاومة الطائرات ، وكنتُ قد حصلت على وعد من أحد الضباط لتنسيبي الى قلم الكتيبة للاستفادة من قابلياتي اللغوية وغيرها . في احد الايام تمّ تبليغي بالتوجه الى مديرية الاستخبارات العسكرية . اعتبرتُ الموضوع عاديا ولم أعِر له اهتماما خاصا . في قاعة الانتظار المديرية سألني احد الجنود عن تهمتي ، ولم ينتظر ردّي كي يقول بان الخضوع لتحقيق الاستخبارات ينتهي احيانا بعقوبات أقلها التعليق بالمراوح ، وعدّد لي عقوبات خفيفة مماثلة اخرى .  نودي إسمي ، فوجدت نفسي امام عدد من الضباط الذين فاجأوني بالسؤال : لماذا تتكلم بالانجليزية في التدريب؟ فاجبتهم : ومع من اتحدث بالانجليزية ولماذا ليس بالفرنسية مثلا، ولكن لماذا ؟ السؤال الثاني : لماذا تعمل في الشركة الاجنبية ؟ فعلا كنت اقوم ببعض اعمال الترجمة للشركة لاوفـّر على الاقل ثمن بدل ايجار غرفتي ، لان راتب الجندي آنذاك لم يكن يتعدّى الثلاثة دنانير وخمسمائة وسبعين فلسا . بعد تحقيق طويل عن الشركة الاجنبية وامور اخرى، انتهى المحقق بالقول : لا تتقرب من الشركة ، وعليك مراجعة ضابط استخبارات وحدتك .

انطلقت حالاً إلى الضابط الذي نسيت اسمه وقابلني هذا بعبوس ، زاد سحنته السوداء بشاعة وقال : هيّئ نفسك للتوجه الى جبهة القتال في الاردن ، لانه ، بعد نكسة 1967 ، كانت هناك قطعات عراقية لا زالت ترابط في الاردن .  
إذا شرعتَ بوصف حالتي النفسية سازيد من فرص وجع الرأس ، لذا انهي الفقرة بالقول : بفضل توسّط رئيس العرفاء الذي كان قد اعتاد على طلب مبالغ من المال لقاء وعد  يُطلق على نفسه اسم (كلام شرف) ، تمّ الغاء النقل .

في يوم آخر ، وعند التدريب الصباحي للوحدة ، ناداني الضابط المشرف ، وكان من فصيلة من يحملون على أكتافهم الحروف (ن  ض  ت  ح) أو كما كان يطلق عليهم عامة الناس لقب (ابو الموس)  !!! تقدمتُ اليه ودائما ياستعداد تام وقال لي : سمعان افندي ، عليك التخلص من النظارات الطبية لانها ممنوعة في التدريب ، واضاف أيضا  : ألم تلمحني يوم امس في السوق ، لماذا لم تؤدِّ التحية ؟ فاجبته يا سيدي لقد قيل لنا بان التحية تُؤَدّى للرتبة العسكرية وانت كنت البارحة بزيّ مدني . لم يعجبه ردّي وأمر حالا بحلاقة شعري كاملا . قبلتُ العقاب بقلب مكسور ونفس محبطة تماما  ولكن رئيس العرفاء الحريص على عدم فقد رزقه السهل المضمون بكلمة شرف ، تمكن من إقناع الضابط ، أبو الشفرة ، لانه كان من بني جلدته .
بعد هذا غدوت أخاف من كل شئ ، كنت دائم الاستعداد لأداء التحية بمناسبة او غير مناسبة . ذات مرة كنت ادفع عربة يدوية لنقل الرمل في احدى عمليات السخرة التي لا هدف لها غير اشغال الجندي وتعذيبه ، فوجئت بمرور احد الضباط ، فوقفت ورفعت يدي اليمنى لاداء التحية فانقلبت العربة بما فيها ، دون ان يهتم صاحب السيادة للموضوع أو حتى يلتفت .

مرة اخرى تم تبليغي بوجوب العمل في مطعم الضباط ، انا الذي لا اعرف عن الطبخ شيئا ، وقال لي احد الجنود المخضرمين في الجيش بانه اذا حدث وأن لم يرضَ الضابط عن الطعام ، يقوم باهانة الجندي او شتمه بكل سهولة، فرفضت العمل . طلب الضابط حضوري ، وقبل ان يسمعني أتاني بصفعة قوية جدا على وجهي وأمر بحلاقة شعري وإيقافي لمدة ساعة تحت شمس آب المحرقة . وفعلا قام الحلاق ، معتذرا ومتأسفا ، بازالة شعري الذي كان يزعج الضباط  وتم اقتيادي تحت الشمس ،  وبعد التأكد من خلوّي من القمل او حشرات اخرى !! ، اعادوني كالمجرم الذي ثبتت ادانته الى الضابط الذي واجهني بيد مرفوعة لصفعة ثانية في حالة رفضي العمل ، فقبلت العمل صاغرا شاكرا.

لسوء حظ صاحب الصفعات ،  لم اخدم في المطعم ، لاني خلعت الجيش يوم صدور قانون البدل النقدي ، وأكاد اكون اول جندي إشترى نفسه بدفع المائة دينار المنصوص عليها في القانون . خرجت للحياة بالضبط  كمن افرج عنه بعد سنوات طويلة من السجن او كمن الغي حكم اعدامه .

لقد انتهت الخطوط العريضة لقصة سمعان ، وانا متأكد بان الكثيرين سيوجّهون له انتقادا لاذعا قائلين بان القصة اقل من عادية مقارنة مع الايام السوداء لحروب لم يعشها سمعان . ولكني اقول بان كل حدث يُقاس بمدى تأثيره على الانسان ووقعه داخل نفس الشخص . صاحبنا عانى لانه كان مرهف الاحساس كان ينكسر وينجرح دون ارادته جرّاء تصرف او أمر قد لا يترك أيّ وقع في غيره ، ولذا كان قد قال لي في حينه بانه كان فعلا يفضل ان يكون حماراً بكل ما تعنيه الكلمة ، لكي لا يشعر بالاهانة ولكي ينقاد للاوامر صاغرا دون تفكير او تأسّف او مناقشة او حزن أو حتى بكاء .
وانا اضيف ، اشكر الله بان سمعان لم يتحول الى حمار ، لانه لولا قصته هذه لكانت بنات الافكار لحد الان في جولتها للبحث عن موضوع آخر للمقال !!

145
قصة رجل أُضطـُرّ للسفر جـّواً


شمعون كوسا


انها قصة رجل عجوز إسمه أليصافان . شخص بقي صافنا لفترة طويلة من مرحلة شبابه متسائلا بحيرة : من أين استنبط  لي والدي هذا الاسم الغريب ، الطويل والمعقد ؟ إلى أن عثر على الجواب أثناء تصفحه اسفار العهد القديم ، فوجده في سفر العدد ، مذكورا كالتالي : أليصافان بن فرناخ ، من سبط  بني زبولون !!

أمضى أليصافان حياته ، مزاولاً مهنة الفلاحة ، في قرية وضيعة لا يَرِد ذكرُها إلاّ في أطلس مخصص لصغريات القرى . كان أرملاً حديثَ العهد يعيش لوحده بعد أن يمّم أبناؤه شطرَ الاراضي البعيدة ، مقتفين آثار من سبقوهم أرتالا باحثين عن مستقبل جديد ، من شأنه أن يدرأ الخطرعن اولادهم ويساعدهم في العيش بعيدا عن هواجس الخوف والمطاردة والحروب وكثير من المآسي الاخرى .
بعد أربع سنوات من مغادرتهم ، إشتاق الابناء لابيهم ، فوجهوا له دعوة لزيارتهم  . نزولاً عند رغبة  أولاده وإشباعا لشوق عارم كان يلهب أحشاءه منذ يوم فراقهم ، تقدم أليصافان بطلب للحصول على جواز سفر . بعد مراجعات لا تحصى ، وتبليغات يومية او نصف اسبوعية تحمل اسماء التحقيق والاستجواب  والاستفسار والتعقيب والتأكد والتدقيق والاختبار وجلسات اخرى لم تجد لنفسها مسمّيات ، وبعد سيل أسئلة  ابتدأت من يوم كان اليصافان مشروعا في عالم المجهول،  حيث لم يكن قد قرر والدُه إخراجه الى عالم الوجود، وانتهت بآخر يوم المعاملة ، صدرجواز السفر أخيراً ، واستغرقت العملية خمسة اشهر فقط .

حال استلام جوازه ، توجّه أليصافان الى بيت اخته المجاور  ليعرض وثيقة سفره على ابنها ويتأكد من صحة معلوماتها . مع فتح الصفحة الاولى من الجواز ، وقعت انظار الشاب على خطأ في محل الولادة ، فطلب من خاله الاسراع فوراً الى مكتب الجوازات لتصحيح الخطأ .  عند مواجهة أليصافان لمسؤول المعاملة ، تناول هذا الاخير الجواز منه بخشونة وغضب ، وأمسك بالورق اللاصق الشفاف الذي يغطي الصورة لينزعه بنفس العصبية، فتمزقت الصورة من وسطها . لم يبالِ صاحبُنا بما فعل وشطب المعلومة  مستبدلا اياها بمحل الولادة الصحيح .  اعاد اللاصق الى مكانه بعصبية أخفّ ، ولكن خط التصدّع كان قد شطر الصورة الى شطرين .  حاول أليصافان لفت انتباه الموظف المسؤول الى تمزّق الصورة ، نقطة من شأنها إثارة كثيرمن الشكوك والشبهات في المطارات، فردّ عليه المسؤول بكل بساطة : لا تخف ، أنا مسؤول عن كل ما سيحدث لك .  إحتارأليصافان بين شعورين متناقضين ، هل ينفجر ضحكا أم يستشيط غضبا ؟ ما قيمة كلام هذا المسؤول غير المسؤول عند وقوع الحدث على بعد آلاف الكيلومترات ؟ !!
في اليوم التالي ، تقدم أليصافان بطلب تأشيرة استغرقت شهرا واحدا .  بعد التأكد من صحّة التأشيرة ، بدأ  باجراءات الحجز ، وابن اخته كان مُلازماً  له في كل خطوة يخطوها ، لأنّ أليصافان لم يكن يجيد من بين اللغات إلاّ الكلدانية  او الارامية التي اضحت الان في طابور اللغات التي تفتش عمّن يواريها الثرى ، لغة كان لها وزنها ودورها في غابر الازمان عندما كانت اللغـَةَ  الرسمية لرقعة جغرافية مترامية الاطراف ، متقدمة بذلك ، في فترة من الزمن ،على العبرية والفارسية وحتى اليونانية .

في الفترة التي كانت تفصله عن يوم سفره ، كان يسأل الناس عن إجراءات السفر ، وما يجب القيام به وما يجب تجنبه . وعند حلول اليوم المشهود ، أعني الاحد الاول من شهر آب ،  توجه أليصافان الى المطار . بعد اجتياز حاجز الشرطي الذي يتحقق من حصول المسافر على جواز السفر، توجّه الى الحزام النقـّال الذي يواكب الحقائب الى نفق الاشعة الفاحصة. توقف الموظف الفاحص عند كيس لم يستطع تشخيص محتواه . طلب من أليصافان فتح الحقيبة للتأكد من محتوى الكيس . كان هناك فعلا كيس يغلف علبتين مِن (مَنّ السما)  التي كان يحبها أولاده ، مادة تستنجد بكمية كبيرة من الطحين الابيض للمحافظة على صلابتها. وهل لي أن اوضّح ما يوحي به منظر الطحين الابيض لموظفين ، لربما في بداية خدمتهم ، مكلفين بتشخيص كلّ ما يشبه المخدرات ؟ !!

بعد هذا كان على مسافرنا المستجدّ الخضوع شخصيا للفحص من خلال عبور بوابة يجب ان يجتازها دون أن يرنّ الجرس . نزع أليصافان حزامه وساعته وأفرغ جيويه كاملا  كما طـُلِب منه، وشرع بالدخول بهدوء وصمت مكتوف اليدين خوفا من أن يمسّ احد اطرافه الباب ، ولكنه ما أن وطأت قدمه الطرف الثاني ، حتى انتفض الجرس ورَنّ بوقاحة  . طـُلِب منه الرجوع الى حيث ما كان والعودة دون أحذيته ، فنفّذ الامر ، ولكن هذا الاجراء الجديد لم يمنع الجرس من الرنين من جديد . ُطلب منه الرجوع ثالثة لنزع البنطال ، وجد أليصافان الطلب وقحا وفي غير محله ، ولم يشأ الانصياع له في البداية  ، ولكنه رأى بانه لا بدّ من ذلك . لم تمسّ قدمه كاملا أرضية الجهة الثانية إلا واستأنف الجرس رنـّته الغاضبة . إعترى أليصافانَ خوفُ شديد ، لانه تمثّل نفسه تماما وكأنه  بطل مسرحية مرعبة ، عليه اُرتجالَ دورٍ فاشل فيها ، دورلا يفقه معناه  . لماذا يُطلب منه كل هذا ، أيكون جسمه ملغوما دون علمه  أم ماذا ؟ توقف مسؤول البوابة محتارا وأحاط  به الفاحصون الاخرون ، وكأنهم مجموعة اطباء أمام حالة مرضية غريبة . وفعلا تصرفوا كأطباء ، فسألوه عن صحته وعن احتمالية تعرضه لعمليات استوجبت ادخال قطعة معدنية  داخل جسمه ، فأجابهم أليصافان والارتباك باد على وجهه بان المعدن الوحيد الذي يحتضنه جسمه هو بضع سنتمرات من البلاتين في ساقه اليسرى التي كانت قد تعرضت لكسر قبل سبع سنوات . زرع كلامه هذا ارتياحا ملحوظا في نفس الفاحصين الذين بَطـُل أخيراً عجبهم بعد ان عرفوا السبب، وهكذا تمّت عملية العبور الاخيرة برنة جرس مصحوبة بابتسامة عريضة.
 بالرغم من اجتيازه ، لم يتمكن أليصافان من التحكم في رعشة لازمت اوصاله وكأنّ جسمه موصول بتيار كهربائي  .  كان خوفه نابعا من إحساس حقيقي بانهم اشتبهوا به كمجرم خطير ، وبأنه كان على وشك الوقوع تحت عقابهم !!

استفسر مسافرنا من بعض المتواجدين هناك عن مرحلة عذابه المقبلة ، فأشاروا اليه بالتوجه الى قسم الشحن . فاجأته موظفة الشحن بان عليه دفع ثمن عشرة كيلوغرامات فائضة في حقائبه ، كان المبلغ مهمّا ولم يجد صاحبنا في جيبه ما يسدّ المبلغ ، فاضطرت الموظفة الى التنازل قليلا والاكتفاء بافراغ جيب اليصافان كاملا . بعد هذا ، سألته عن المحطة التي يرغب استلام حقائبه فيها ، لم يفقه العجوز معنى سؤالها وأجابها ، اريدها عند وصولي .

بعد استلام بطاقته وتحديد رقم مقعده ، توجه نحو نافذة ضابط الجوازات . لم يأبه الضابط بالقادم الجديد  ولم يلتفت إليه أصلا لانه كان منشغلا مع احد زملائه ، وفي هذه الاثناء رنّ هاتفه النقال  واشغله من جديد في مكالمة استغرقت ، بين ضحك وقهقهة ، لأكثر من عشر دقائق  .تفرغ له رجل الامن أخيرا ،غير أن صاحبنا لم يحصل منه على اكثر من نظرة ازدراء .  إستلم جوازه وبدأ يقـلب الصفحات واحدة تلو الاخرى حتى غير المستخدمة منها ، ورجع الى التأشيرة . طرح عليه عدة اسئلة لم يستطع أليصافان الاجابة إلا على قليل منها لانه لم يكن يفهمها او لا يسمعها احيانا ويخاف ان يطلب منه اعادتها . امضى رجل الامن ما يقارب عشر دقائق في عمل دؤوب بين نظر وتمحيص وتصفح وتدقيق كمن يصرّ على إيجاد ثغرة لا يراها ،  وانتهى بالقول بان هناك حرفا في الاسم المذكور على التأشيرة يختلف عمّا هو مذكور في الجواز . أجاب العجوز تلقائيا ، لربما كان الموظف المسؤول على عجلة من أمره فنسي الحرف ، معتقدا بان هذا الجواب الطبيعي كافٍ لاقناع الضابط ، فضحك رجل الامن من الردّ وقال ، ان هذه مسؤولية كبيرة تمنعني من ختم جوازك .  وتسهيلاً لامرك ،أقترح عليك العودة للسفارة لاجراء التصحيح المطلوب !!. كاد أليصافان يسقط ارضا ، لانه ، بعد مفاجأة جهاز الفحص ، والوزن الزائد لدى الشحن ، وجد نفسه امام حائط جديد من شأنه تقويض كل شئ  . حاول اقناعه من جديد متوسلا ومعتبرا نفسه دخيله ودخيل الله والاولياء وحتى القديسين ، ولكنه عندما لم يجد اذنا صاغية . اسرع في الرجوع الى موظفة الشحن لتبليـغها برغبة رجل الامن الودّية ، فهزّت هذه رأسها لانها كانت على علم بتصرفه ودماثة اخلاقه مع المسافرين  !! فطلبت من احد العمال سحب الحقائب بسرعة قبل دخولها عنبر الطائرة وتسفيرها الى جهات لن تعود منها بسهولة.

كانت السفارة قد اغلقت ابوابها ، فتوجّه اليها في اليوم التالي . اصيب موظف السفارة بدهشة كبيرة من طلب ضابط الجوازات الذي سمح لنفسه بالغاء رحلة أليصافان بهذه البساطة، وقال بانّ ما يعتبره رجل الامن اختلافا هو مجرّدُ جهل ،  كان يجب عليه ان يعلم بان هذا الحرف يكتب بطريقتين . أجرى الموظف التصحيح خشية تعطيل المسافر من جديد .

ألغى اليصافان حجزه الاول مع تحمل خسارة طفيفة ، وحصل على يوم مغادرة جديد . وكان ذلك في الاحد الذي يليه . مرّ الاسبوع وكأنه شهر من التفكير والهمّ والقلق ممّا سينتظره في المحاولة الثانية .
لا حاجة للقول بان موظفي المطار كانوا قد تغيروا  وكان على مسافرنا الخصوع من جديد لكافة المتطلبات من فتح الحقائب وافراغ الجيوب ،  غير أنه بيّن لهم مسبقا موضوع ساقه . تمّ الشحن دون ان يُفلح في استرجاع مبلغ الزيادة الذي طولب به في المرة الاولى ، ولكنه لم يهتم لذلك .  ورجل الامن أيضا كان قد تغير،  المسؤول الجديد الذي كان شخصا يتحلى باخلاق رفيعة ، استغرب بدوره لطلب زميله مؤكدا بان العملية لم تكن ضرورية اطلاقا .
بعد ختم جوازه ، استبشر صاحبنا لانه بلغ برّ الامان . وكان أليصافان في هذه الاثناء دائم الاستفهام والسؤال من المسافرين عن أرقام الرحلات وأرقام البوّابات والاتجاهات التي ليست بديهية احيانا حتى للمخضرمين في السفر.

ركب أليصافان الطائرة بالرغم من ارجاع بعض أمتعته البسيطة المتواجدة داخل حقيبته اليدوية كعصير الرمان وادوات الحلاقة والماء ، لم يكن المسافرعلى بيّنة من تعليمات الطيران الجديدة . لا اريد الدخول في تفاصيل حقيقية اخرى قد تبدو مملـّة ، كالوصول الى المقعد وربط حزام الامان ، وفي هذا الخصوص قال اليصافان : وما الحاجة لحزام الامان ، هل الطائرة معرضة للاصطدام كالسيارة ؟

 في ابتداء تحليقها ، شعر العمّ بهبوط  داخلي بسيط وطبيعي أقلقه وخَطـَفَ بعض الاحمرار من ألوان وجهه ، فأ مسك بيد جاره المباشر الذي طمأنه بابتسامة عريضة . استقرت الطائرة في ارتفاعها وفي سرعتها ، وكان أليصافان يتجنب النظر من الشباك خشية الاصابة بدوار . أتت الدقائق التي تدخل فيها الطائرة مجالا جويا تتخلله مطبّات هوائية قد تكون أحيانا قوية . كانت المطبات لذلك اليوم قوية فعلا . اعتبر العجوز بانه شخص منحوس يسافر في يوم مشؤوم وقال : لماذا يحدث كل هذا معي ؟  تعاقبت الهزات وافضت به الى قناعة كاملة بان الطائرة آيلة للسقوط لا محالة . فبدأ يبكي وأمسك بوسط جاره والقى بنفسه عليه ، وهذا بدوره احتضنه قائلا : لا تخف ، ان الهزات قوية فعلا هذا اليوم ، ولكن لا يجب الخوف اطلاقا ، لان هذا يحدث في كثير من الرحلات.

 لدى توجهه الى الطائرة الثانية ، لانه كان قد استقل ثلاث طائرات ، فوجئ باضراب لموظفي برج المطار ، مما تسبب في الغاء رحلته  وتاخـّـُرِ موعد وصوله الى الاتجاه النهائي بست ساعات دون امكانية ابلاغ اولاده .
 
وبما اني لا أنوي البتة إعطاء المقال نفس المدة التي استغرقتها الرحلة ، أقول :بعد هبوط الطائرة في المحطة النهائية ، إتجه أليصافان نحو الحزام الناقل  لحقائب القادمين . ترقـّب الحقائب طويلا ،  وفي كل مرة كان يعتقد بانه عثر على حقيبته ، يكتشف بانه وقع على شبيهتها . انتظر الى آخر حقيبة دارت مرتين  وعثرت على صاحبها ، واليصافان بقي ينتظر الى ان توقف الحزام بعد ثلات دورات اضافية  فارغة ، وكأني به يخاطب المسافر قائلا : باسف شديد وخجل كبير اقول باني لم اعثر على حقيبتك . كانت حقيبته محمّلة بالهدايا ، والأهم من ذلك كانت تحمل علاجه ، أدوية يجب تناولها يوميا دون خطأ.
إتـّجه أليصافان نحو باب الخروج بوجه خال من أي تعبير وبعيون دامعة قرأ فيها الاولاد فرحا كبيرا ، غيرانها كان فعلا قطرات حزن اراد حبسها لحين ولكن تراكمها اللامعقول ادى الى انفجارها .  فتح أليصافان ذراعيه بدموع همومه التي امتزجت بدموع فرح اولاده ، وبدأ على الفور بسرد معاناته لهم .

 انتهت القصة هنا ، ولكني علمت لاحقا بان أليصافان كان قد أقسم لاولاده بانه سوف لن يستقلّ الطائرة ابدا ، وبانه يفكر جديا في العودة الى البلاد سيراً على الاقدام !!!

Kossa_simon@hotmail.com

146
حوارجرِيء بين ديك ودجاجته

شمعون كوسا

دأب عدد من الكتـّاب القدامى على وضع كلام البشر وحِكَمِهم في أفواه الطيور والحيوانات ، كان ذلك محاولة منهم في استخدام اسلوب غريب وغير مألوف، لغرس الكلام في عقول الناس ، فكانوا يسمحون لانفسهم التطرق الى كافة مظاهر الحياة نصحاً ونقداً وحتى سخريةً واستهزاءً ، غير آبهين أو متهيّبين من ملاحقة او مقاضاة اية جهة كانت،  كَون الكلام صادرا من مخلوقات يصعب محاسبتها ،لا سيما وانها في اغلب الاحيان كانت تنتهي بحكم بليغة .
وبالنسبة لي ، منطلقا من رغبتي في التنويع وتغيير الاسلوب ، فكرت في تقليد طريقتهم هذه المرة في مادة تتناول ، وكالعادة ، نفس مشاكل الناس والتي لم تتغير منذ الازل ، إنها نفسها تعود للطاولة كل يوم ، فيسمعها الناس ويؤيدونها لدقيقة ، وببعض من الجهد لساعة أو بعناء شديد ليوم ثم يتناسونها ، وكانها لم تكن ، ممّا يجعل اعادتها الى الاذهان ضرورة يومية .

لقد اخترتُ لهذا الغرض ، أول ديك صافته مع دجاجته في الحارة ، فمن العبث البحث عن هوية الديك لاستنطاقه او استدراج الدجاجة لمعرفة ما لم يقله زميلها . لقد دار الحديث بين هذين الداجنين على النحو التالي :

الدجاجة :  ما لي أراك شارد الذهن على غير عادتك وكأنّ هموم الدنيا قد اختارت رأسك مقرا لها ؟

الديك : لا ادري ماذا اقول ، لقد لاحظتُ في هذه الايام الاخيرة أن سيد الدار يرمقني بنظرات مريبة ، اقرأ فيها عزمه على انهاء خدماتي كمرحلة اولى ، لابعادي عن معشر الدجاج ، ومن ثمّ التخلص مني باستضافتي في أمعائه .

الدجاجة :حفظك الله يا صديقي ، لا بدّ ان صاحب الدار لاحظ  ملاحقاتك الاخيرة لنا والتي تواصلت ليل نهار . لا قوّض الله بيتك ، كان عليك التخفيف من حيويتك والخلود لقليل من الاستكانة والهدوء ، الا تراجع نفسك احيانا بهذا الشأن ؟  كان عليك استخلاص بعض الدروس من البشر الذين ، حسب علمي، يتـّسمون بقدر كبير من الهدوء والتعقل .

الديك: ألا ترين بانك انتِ التي كان يجب ان تراجعي نفسك ، ولكنك ستبقين ساذجة الى الابد ، اتعرفين بانه لولاي وحركاتي التي تهزئين وتعيّرينني بها ، لكان قد  انتهى نسلك وتحوُل اولادك لقمة سائغة في فم هواة البيض المقلي أو بين يدي مقشّري البيض المسلوق . هل فاتك ما سبق وان قلته في اماكن اخرى ، بان داعيكِ هو الذي يمكُن اولادك بالاستمرار في الحياة والمساهمة في عدم انقطاع حبل ذريتك ؟
الدجاجة ، وهي مطأطئة رأسها خجلا : لا تؤاخذني يا ابن العم ، إنك محقّ ، كان عليّ التريّث قبل الكلام ، لا سيما وانا في حضرة شخص بمقامك ، لقد افحمتني حقا .

الديك: وفيما يخص الشطر الثاني من جوابك عن أخلاق البشر وما تسمينه هدوءهم ، أميلُ الى الاعتقاد بان فيك قليلا من التخلف العقلي، لاني لو سردت لك كل ما سمعته عن هؤلاء ، ستعضّين يدك او رجلك مرة اخرى ندما . إن ما يقوم به هؤلاء في الخفية يا سيدتي ، ليس إعتداءً  فحسب ولكنه الشرّ بعينه . انهم يتآمرون على بعضهم وهو صامتون ، ينوون الشرّ ويعتدون على بعضهم البعض وهم ساكنون ساكتون ويذهبون احيانا حدّ القتل وهم قابعون في بيوتهم .

الدجاجة :ومن أين لك هذه المعلومات ؟

الديك: لقد شاهدتُ تصرفاتِ بعضهم بأمّ عيني ، ولدى مروري أمام بيوتهم ، استرقّ السمع الى الابواب ، فاسمع أحاديث اخشى إفشاءَها كي لا اتسبب في وقوعك في الغيبوبة او اصابتك بدوار مزمن .
للحق وللتاريخ ، اعترف بان هناك بينهم من يسعى للخير ، وسمعت عنهم روايات حب وتفاهم وإخاء ، ولكن الاغلبية العظمى بينهم لا حديث لهم أو انشغال غير النفاق والكذب والخداع والحسد والكراهية والافتراء والنميمة . كثير من هؤلاء يتظاهرون بالفرح لخير أصاب جارهم ولكنهم في اعماقهم كانوا يتمنون له الموت ، او تراهم ينوحون في المآتم ومجالس التعازي وفي باطنهم يرتكضون فرحا للمكروه الذي لحق بتلك العائلة .

الدجاجة :ولماذا يتظاهر هؤلاء بعكس ما يفكرون ، فيبتسمون وهم يتمنون الشر ويبكون وهم فرحون للمصاب ؟

الديك:ان مصالحهم الشخصية وانانيتهم يقودانهما الى ذلك . يعادون في قلوبهم ويحقدون على مَن عارضوا مصالِحَهم او مَن وقفوا الى جانب حقيقةٍ لم تخدم منافعهم .  بالرغم من عدم شرعية مصالحهم وكون  مشاريعهم ملتوية وغير مقبولة من عامة الناس ، فانهم ، تمويهاً ، يتظاهرون بالاستقامة والنزاهة والصدق .

الدجاجة : إن كلامك قد زادني وعياً لكثير من الامور.  لاني أنا ايضا قد بلغني كلام غريب وطويل من هذا النوع  ، من خلال بعض زميلاتي اللواتي يمتهنّ  الفضولية مثلك . كان الحديث كله ينتهي بقصص عنوانها الغش والتحايل والالتفاف على الحق والايقاع بالغير .

الديك: اتعرفين ما هي آفتهم الكبرى ؟ إنها تكمن في جمع المال وتكديس المادة ، كافة رواياتهم اليومية زاخرة بحكايات تبدأ بموضوع عام وتنتهي بمشاكل ناجمة عن المال بكافة مشتقاته وحالات اعرابه .

الدجاجة :وما هو المال ، اليس لديهم كل مقوّمات الحياة ؟

الديك : المال هو وسيلة يقتنيها الانسان لضمان احتياجات عيشه من مأوى ومأكل ومشرب وبعض اسباب الترفيه .غير ان الانسان اصبح الان  يتوقف عند الوسيلة وكأنه بلغ الغاية ، فيتجاوز احتياجاته العادية بمئات المرات ، ويهمّ في مضاعفة ممتلكاته من بيوت وأراضي وعمارات وعربات حديثة ولربما طائرات عن قريب !! ، وينتهز أتفه المناسبات وحتى أقدسها احيانا ليزيد من من مظاهر بذخه . في المحافل وامام الناس .تسمعه ،  يؤيد بقوّة المبدأ القائل بان المادة وسيلة وليس هدفا ، ولكنه في الحقيقة مجرد كذاب ، لانه ، في قرارة نفسه ، جعل المال فعلا هدفه الوحيد ، ولاجل الحصول عليه لا يتورّع عن استخدام ما هو مشروع وغير مشروع ، ويلجأ لمختلف الطرق والاساليب لبلوغ وطره هذا.  الاطيان بكافة اشكالها  والنقود بشتى طرق جمعها وتوفيرها  ،اضحت الشئ الوحيد الذي يثير اهتمام  الناس، ناسين المجتمع باكمله وجاعلين واجباتهم نحو الغير من آخر اهتماماتهم.

الدجاجة :لقد تذكرتُ اقاويل تتقاطع مع ما ذكرته حظرتك . كانت تؤكد لي صاحبتي بان مثل هذه الامور تبلغ حالات ينكر فيها الاب ابنه والابن اباه والاخ اخاه والبنت والدتها والوالدة بعض أبنائها أو بناتها والاخ يغدر باخته، بحيث تغطي ، قصصُُ حقيقية ، كافة التخيلات في هذا المجال ،  وكلها واقعية ومكررة . إن بعض الامتار ، لدى تقسيم الاملاك ، كافية لخلق ضغائن لا تنتهي إلا في القبر .

الديك  :بهذا الخصوص ايضا، يُحكى عن شخص جشع كانت قد سحرته قطعة أرض موعودة قانونا لجاره الفقير . سعي هذا الشخص ، الذي كان يحتكم على عدة عمارات، لدى مسؤول المنطقة بهدف الاستيلاء على القطعة ، وهذا الاخير اتخذ قرار نزع الحق من صاحبه الاصلي وتسليمه للطامع الذي كان من هواة جمع الاراضي . غزارة هدايا المفتون  بالارض ألهمت صاحب القرار في صياغة أمر يقضي بتغيير الملكية ،  واتى كل شئ بموجب قانون ذي فجوات سهّل عملية الاحتيال والالتفاف  .

الدجاجة :ولماذا يتصرف هؤلاء بهذه الصورة ، قل لي بربك ، اليس لحياتهم نهاية ؟
الديك: كيف لا . انهم طويلو الاعمار ولكنهم كلهم مائتون ، منذ بداية الازمان ، لم يفلح لا الملوك ولا السلاطين ولا الاباطرة ولا الرؤساء والقياصرة أوالحكام في تجاوز الموت واكتساب الخلود على الارض ، كلهم زائلون مع مالهم وممتلكاتهم . وهناك شئ قد تجهلينه ، انهم يدينون مبدئيا بدين ينهيهم عن كل تصرف شائن ، لانهم موعودون بجنة تؤمّن لهم سعادة ابدية ، شرط أن يجنحوا للخير ويبتعدوا عن الشر الذي ينجم في اغلب الاحيان عن الجشع والولع المفرط بجمع المال .

الدجاجة :سمعت بان لهم فقهاء ، يحثونهم على اختيار السبل القويمة التي تبعدهم عن اقتراف الموبقات .

الديك : كل ما قلتيه صحيح . انهم واعون تماما لكل هذا ، غير ان انانيتهم تمنعهم من الامعان كثيرا في هذه المبادئ والقيم لانهم لا يرون ابعد من انوفهم . اما عن فقهائهم أو كما يسمونهم رؤوساءهم الروحانيين ، فان هؤلاء يتكلمون كثيراولا يملوّن من إلقاء المواعظ ولكنه ، للاسف الشديد، يتوقف عملهم وتصرفهم عند الكلام لانهم يرفضون القيام بحمل ما يهيئونه من احمال ثقيلة لرعاياهم . والانكي من ذلك ان أغلب هؤلاء ، ليسوا اقل جشعا ممّن وصفناهم .  يملأون فراغ حياتهم الروحية بالركض وراء المال ، وبعضهم يستجيب لاغراءات السياسة ، لربما ايضا بهدف الحصول على مزيد من المال ، كأحد الاخوان الكهنة ، الذي حدثني عنه احد الاصدقاء ، بانه بغية الترويج لاحد الاحزاب ، سأل الناس عن علم حزب معين او شعاره ، يحتاجه لرفعه في موضع مقدس يؤمّه مئات الالوف من الناس للزيارة والصلاة . لحسن الحظ ، لم يعثر صاحبنا الروحاني على علمه ، فالغى الزيارة الروحية !!!

الدجاجة : ألا تخاف ان يسمعنا أحد ؟

الديك: حتى لو سمعونا ، ماذا عساهم يفعلون بنا ، مصيرنا هو المجزرة لا محالة ، وتأكدي باننا فيما قلناه ، نردد علنا ما يفكر به الكثيرون منهم خفية ، خاصة  واننا لسنا مغرضين فيما نقول .

الدجاجة : لو كنا نحن بشرا وبهذا الوعي والمعرفة ، محاطين بقوانين وشرائع ووعود أزلية ، لكنا قد تصرفنا بشكل مغاير . نجتمع كل مساء ، فقراء  واغنياء ، لنتقاسم العيش ، نقيم الافراح ونشارك احزان وهموم بعضنا البعض،  ننفق ما نكسبه على احتياجاتنا اليومية مع توفير احتياطي بسيط ، لانه مهما قلنا وفعلنا ، فاننا سوف لن نحتاج الى اكثر مما تقتضيه حياتنا اليومية من ماكل ومشرب وسقف آمن .

الديك: انك تتحدثين عن مجتمع مثالي لم تتمكن اية جهة من تنفيذه ، وإن كان فعلا هو الحل لكافة مشاكل الناس ومعضلات الحياة . من جهة اخرى يسهل قول مثل هذا الكلام ، ولكني ما اخشاه هو اننا إذا تحولنا الى ما هم عليه ، أن نصاب بالغرور مثلهم والقيام بما هو اسوأ منهم !!

الدجاجة :وماذا تفيدهم نقودهم التي لا يشبعون من مضاعفتها وتكديسها ؟

الديك : المبالغ الطائلة هي عنوان تباهيهم في الحياة . فهدف أثريائهم هو إطلاع الجميع على وضعهم ، وبانهم يتربعون لوحدهم في مثل هذه البحبوحة . يتبارون في إقامة الحفلات ويكثرون منها وينوعونها على ان تكون دوما الافخم والابهى  قياسا مع فلان وفلان . اما عن العربات فحدّث ولا حرج ، اموالهم تمكّنهم من اقتناء آخر الصيحات في هذا المجال ، وبعض منهم يطالب بمواصفات خاصة جدا،  كأن تكون لأبوابها قبضات ذهبية مثلا .  يريدون منازلهم قصورا ، بواجهات مرمرية عاكسة تمكّن بعض المارّة الملتحين من قص لحاهم دون الحاجة الى مرآة !!. يختارون شريكة حياتهم من آل فلان وفلان أسما وثروة ، يريدون اولادهم في جامعات رنانة الاسم ، والبعض الاخرمنهم ينصرف للعب القمار ، مبالغ طائلة يتقرّرُمصيرها بورقة تنقلب بمحض الصدفة برقم يربح او يخسر الالاف ولربما احيانا الملايين ، اما البعض الاخر فانه مصاب بهوس جمع المال وتكديسه ، يزيد ماله كل يوم لاجل الزيادة دون القبول باستخدامه لئلا ينقص .
الدجاجة : ولكنك قلت لي انهم يموتون ، وهل يأخذون ثرواتهم معهم ؟

الديك : كلاّ ، في اغلب الاحيان تقع ثرواتهم في أيدي أبناء يبذرونها ، دون حرقة قلب ، وفي وقت قياسي . وبعض آخرون وضعوا اموالهم تحت الارض ونسوها وغادروا الحياة دون ان يفيدوا او يستفيدوا . بعض هؤلاء ماتوا دون ان يكون لهم ورثة ، كان بوسعهم إقامة عدة مشاريع خيرية تخلـّد اسمهم ولكن بخلهم الشديد منعهم من ذلك . ان الحديث طويل طويل ولكل فرد او عائلة او عشيرة قصتها بهذا الخصوص .
 واريد هنا اختتام الحديث معك ايتها الدجاجة العزيزة بسطرين عن شخص كان ينازع وهو في آخر لحظاته . طلب من زوجته ان تجلب له صندوق نقوده وجواهره ، فبدأ يحصيها ويعيد العملية ويلمس النقود   ويضمها الى صدره ويبكي . وبعد دقيقة او دقيقتين ، عندما وعى لاستحالة اصطحاب المال معه ، قام بحركة غريبة وبدأ يلتهم الاوراق النقدية التي عجّلت في خنقه وقطع انفاسه .

الدجاجة : اخشى ان يكون قد انصت احدهم الى حديثنا . اقول هذا لان لي صديقة حدثتني عن شخص يتكلم باسم السنابل ويتغنى بالجبال والغيوم والافاق والزهور، شخص يبحث عن طريقة جديدة للتعبير، أخشى اذ ما كشف أمر حوارنا هذا ، أن يصوغه من جديد ويضعه في فم الضفادع او الاسماك .

الكاتب : لقد رأيتُ بأن في الحوار من الحكم والدروس ما لا اقوى أنا على صياغتها ، لقد تركت الحوار كما هو وبفم الديك ودجاجته وارجو بانهما سوف لن يحاسبانني على حقوقهما في النشر.
طبعا سوف يسخر الكثيرون من هذا الديك ودجاجته ، من المواضيع وطريقة تقديمها وسيعتبرونها بدائية ومملة، وسيكتفي الاخرون بالقراءة مع ابتسامة خفيفة قائلين : إن الاخ   ومعه الدواجن يضيعون وقتهم ، لان كل ما قيل لن يغير شيئا في الواقع ، فالحالة قد تفاقمت والعادات قد تأصلت .

Kossa_simon@hotmail.com



 
 


147
رثاء الشماس ميخائيل كوسا ، اخر معمّري شقلاوة




من اين استهلّ اسطورة ابتدأت سنة 1914 وانتهت في هذا الاسبوع ، يا ابي ، لقد عاصرت الحربين العالميتين ومررت بكل تقلبات الدهروالمنطقة لمدة قرن كامل . هل اتكلم عن علمك وثقافتك . كنت تجيد اللغات ايام كان المثقفون يعدون على اصابع يد واحدة . القاعدة التي اسسها لك معهد مار يوحنا الحبيب بنيت عليها بتواصلك مع المطالعة بكل ما كان ينشرعربيا فرنسيا وانكليزيا وكلدانيا وكرديا . لقد نشرت حواليك كل ما كنت تعرفه وما كنت تتعلمه ، وكللت جهودك اخيرا في هذا المجال بتأليف كتاب قيّم عن تاريخ شقلاوة .

هل اتكلم عن قناعتك في الحياة . عندما رضيت الاستمرار في العيش بين ظهرانيك واهلك واهاليك . اكتفيت بالحد الادني الضروري للعيش في هذه الدنيا في وقت تلقيت عروضا اجنبية تبلغ عشرات اضعاف ما كنت تحصل عليه . كنت سعيدا باختيار مسكنك على سفح جبل سورك كي تبدأ نهارك  يوميا بالنظر الى جبل سفين الشاهق . جبل يتخذ في كل موسم شكلا عندما تكتنف قمته الضباب أوعندما تهجم عليه الغيوم لاخفاء قمته اوغسله بالامطار او تكليله بالثلوج او عندما تضيق به الحيل تدعه يكشف حلته الخضراء .

هل اتكلم عن ايمانك الراسخ ، فبالرغم من عدم تحقيق رغبتك في تقبل سر الكهنوت ، لم تنقطع عن خدمة الكنيسة وكنت في حياتك شبه كاهن ، كنت مرشدا ومعلما ومثلا أعلى لأولادك واهالي منطقتك . لم تهمل يوما صلواتك الصباحية  والمسائية . كانت الوردية صلاتك المفضلة ولم تهملها يوما حتى عندما كنت تحل ضيفا على الناس . حتى في ايامك الاخيرة عندما كان قد شلّ المرض لسانك ، لم تغب عن الصلاة وكانت شفاهك تتمتم الفاظ (شلمليخ مريم) ، ولقد قدرت عدد مسابح الوردية التي تلوتها في حياتك ، فبلغت اربعا وثلاثين الف وردية .

كنت تحب الحياة والمرح ولقد عشت سعيدا متواضعا.

ولقد آن الاوان ، يا ابي ،  كي اودعك واقول : يا ابي اذهب بسلام  ، اذهب بفرح واطمئنان لانك ستتفاجأ بمن سيستقبلك ،  سيستقبلك شخص انتظرك طويلا ، سيستقبلك عزيز اسمه اندراوس خرج من البيت قبل ثمان سنوات ولم يعد  لا نعرف لماذا. اندراوس ابنك الاصغر الذي كان عنوان حبكما انت وامي ، ابن بقي يعتبر نفسه يتيما حتى في السعادة هناك ، سيلقاك بفرح لانه يعرف بان شمل العائلة قد تمّ بابيه وامه . واول زيارة سيقودها اليها ،  ستكون باتجاه عزيزتنا فيونا التي لم ينصفها الدهر،  قيّد حظها التعيس اطرافها وغللها بالسلاسل دون ذنب.  من دهشتها الشديدة ظلت تنظر الى زوجها واطفالها بعيون دامعة مستعطفة تطلب نجدتهم ، ولكن مختطفها كان قد شل كافة حركاتهم ، اقتادها بسرعة وتواصلت الانظار طويلا بعبرات مشلولة يائسة  الى ان اختفت .وبعد ذلك يقودك من زيارة الى زيارة لاعزائك واهلنا المتوفين .

ابتي لقد قالت الكتب ان ذكر الصديّق يدوم الى الابد ، ستدوم في قلبنا ما حيينا ،  وكفاك ان ياتي الناس وكل من كان يعرفك على ذكراك قائلين : رحمه الله كان رجلا طيبا .


شمعون كوسا  

148
عندما يتحول بعض الطب الى تجارة

شمعون كوسا

في سياق متابعتي العامة  لظواهر مستقاة من صلب حياتنا اليومية ، كانت المراجعات الطبية تهيئ نفسها كل مرة للخروج من قوائم تفكيري، ولكني لا اعرف لماذا كنت أرجئ خروجها بالرغم  من المفارقات والتناقضات التي تنطوي عليها.
الان وقد تركت السنابل والجبال والاجواء والافاق البعيدة جانباً ، سأخفف من قائمة افكاري وأريح نفسي من ثقلها بسرد بعض حالات حقيقية  بدت لي غير منطقية . حالات أتوقع ان يكون قد مرّ بها كل فرد في مراجعاته الطبية ، ولعلّ ما يكون قد مرّ به غيري هو أغرب بكثير مما سأرويه.

 لا بدّ لي هنا من التأكيد على أنّ حديثي يتناول حالات خاصة دون تعميم ، وأنا لا اقصد طبيبا معينا ولا بلدا معينا وإن كانت هذه الظواهر  في حالة ازدياد .  بعض من هذه الملاحظات عشتها شخصيا ، وقسم آخر سمعته من الاقرباء والاصدقاء والجزء الاكبر كان حصاد مطالعات في المجلات والكتب والجرائد وبصورة خاصة الانترنيت .

أبدأ بالتكلم عن حالة شخص ذهب للطبيب وهو يعاني من ضغط دم شرياني مرتفع نسبيا ، درجتين فقط فوق المعدل . قرر الطبيب المعالج إرسال مريضه الى طبيب القلب الذي أجرى له كافة الفحوصات المطلوبة وغير المطلوبة وادخله في كاقة اجهزته الحديثة والتقليدية ، وعندما لم يكتشف شيئا أوصى المريض بمراجعة اخصائي الاوردة . بعد ان مرّ هذا الطبيب بجهازه على أوردة المريض ابتداء من الرقبة الى القدمين ، واستعان بشاشته للعثور على تطور جديد في الحالة التي كان يعرفها عن هذا المراجع،  لم يهتدِ الى تضيّق جديد في الاوردة.  بعد هذين الفحصين المهمين ، قرر الطبيب المعالج إرسال زبونه المعتلّ الى أخصائي أوردة الكلى ، طبيب تنتهي مهمته بانتهاء الاوردة عند  الكلى . وهذا بدوره لم يجد على شاشته شيئا يذكر ولكنه بحكم اقتراب قبضته الفاحصة من الكلى ، تجرأت شاشته بتصوير الكلى حيث لاحظ فيها أكياسا وصفها بالعادية ولكنه قال : هذا ليس من اختصاصي ،  لذا يفضل ان تستشير اخصائي الكلى .  استأنف المريض رحلته الى اخصائي الكلى ، وكأنه مكلف بتنفيذ  بروتوكول خاص لزيارة مبرمجة تشمل سلسلة طويلة من الاطباء . اجرى الاخصائي الجديد فحصا بالموجات فوق الصوتية وانتهى قائلا  : فعلا هناك اكياس عادية جدا ولا يوجد هناك اي سبب للقلق ، غير انه من الافضل ان يُختتم الفحص بصورة طبقية للاكياس،  لان زاوية احدى الاكياس تختلف عن البقية . كان الموعد بعد اسبوعين وتمّ التهيّؤ لذلك بتناول أدوية خاصة تحول دون حدوث مضاعفات جانبية ، لان مريضنا الرحالة كان يحمل أوزار عدد لا بأس به من الامراض ويتناول عنقودا كاملا من الادوية يوميا !! . أمضى المريض صاحبُ الضغط شبه العالي اسبوعين في قلق شديد مما ستكشفه الصورة الطبقية . جرى الفحص الكبير في اليوم المشهود ، وكان كل شئ طبيعيا ، وبقي أمر الضغط على حاله ، فسجلت الدعوى ضد مجهول !!!

من الجدير بالذكر ان هؤلاء الاخصائيين كانوا عبارة عن مجموعة اصدقاء ، وفي كل مرة كان يتم التأكيد بضرورة اجراء الفحص عند الطبيب الفلاني وليس غيره !!

وفي حالة اخرى ، استيقظ  المريض من النوم صباحا وأحسّ بترنح خفيف كان سبق له وان شعر به قبل ذلك . ذهب للطبيب المعالج لمجرد الاطمئنان وللحصول على وصفة العلاج المعروف للاذن الوسطى ، غير أن الطبيب إرتأى إرساله الى اخصائي للآذان . جرى استقبال المريض بابتسامة عريضة ،  وانتهت كافة الفحوصات وبوضعيات مختلفة ولم يجد الطبيب شيئا . إستهل الطبيب هنا ابتسامته الثانية وقال : هناك جهاز جديد في مجال الاذان ، لا شك أن فحصه مكلف شيئا ما ، غير أنيّ انصح  القيام به زيادةً في الإطمئنان  . تمّ تحديد الموعد بعد شهر من هذه النصيحة ، وفي يوم الفحص ، نفـّذ الطبيب مهمته بسرعة البرق .  طبعاً ، بعد أن ضمن اجرة الفحص ، أصبح الطبيب على عجل من امره ، وانتهى باصدار النتيجة التي أتت مع اخر ابتسامة ، ألا وهي  : ليس عندك شئ يذكر . هزّ المراجع  رأسه في قلبه وقال : كنت اعرف ذلك قبل ان أجيئ اليك  .
بلغ مسامع المريض فيما بعد بان طبيبنا هذا كان قد ابتاع لتوّه هذا الجهاز باهض الثمن ، وكان لا بدّ له من إطفاء دَيونه واسترداد قيمة  الجهاز باسرع طريقة ، ولاجله كان هذا الفحص إلزاميا لمن يحتاجه أو لا يحتاجه .
عندما رأى المريض بانه لم يتم البتّ في قضيته  ، لان الجولة توقفت عند آخر ابتسامات اخصائي الاذان ، توجّه لطبيبه المعالج وتجرّأ بطلب وصفة العلاج الذي كان يعرفه واعتاد عليه .

حالة اخرى تخصّ مريضة كانت تعاني من سعال شديد استمر لفترة معينة . قرر الطبيب معالجتها بدواء فعال قضى على السعال ، ولكنه فضّل ان تقوم المريضة باجراء صورة شعاعية للصدر . تم أخذ الصورة ولم يظهر شئ . فقرر الطبيب ارسالها لاخصائي في الصدرية والربو . بعد اخضاع المريضة لمختلف الفحوصات التي هي بعدد الاجهزة التي يملكها الطبيب ، وقبل ان تقرر الاجهزة بانه المريضة لا تشكو من شئ مخيف ، كان قد تهيّأ الطبيب لطلب صورة طبقية (سكانر) وحدّد بنفسه الموعد مع زميل له في نفس الطابق .  الموعد كان بعد ثلاثة اشهر . السؤال هنا هو : اذا لم يكن هناك شئ ، لماذا هذا الفحص ، واذا كان هناك شك او قلق ، لماذا الإرجاء الى ثلاثة اشهر وليس في نفس اليوم أو اليوم الذي يليه لمعالجة الداء في بدايته  اذا كان هناك داء ، لانه كان باستطاعة المريض الحصول على موعد مباشر مع طبيب آخر !!! ،من جهة اخرى ، ألا يقال بانه يجب معالجة الامراض حالا وفي بداياتها الاولى  ؟

سابقا كان الطبيب يعالج المريض من قمة رأسه الى أخمص قدميه ، والان اصبح لكل سنتيمتر من الجسم أن لم أقل لكل مليمتر وِلاية تحت وصاية طبيب خاص . اودّ ان اذكر هنا ما روته لي امرأة كانت تشكو من ظاهرة غير عادية على أحد اصابع قدميها . ذهبت الى اخصائي في الجلد عاين  لها الظفر ولكنه لم يقرر شيئا ، لانه لجأ  الى تقرير مختبر خاص يقوم بزرع جزء من الظفر للتعرف على الظاهرة ، والزرع هذا لا يأتي بثماره الا بعد مضيّ شهر . أرادت المريضة إنتهاز الفرصة لاستشارته في ألم تحُِسّ به بين اصابع قدميها ، فقال لها الاخصائي بان هذه الامر هو من اختصاص طبيب آخر. تقاضى الطبيب ، الذي لم يعالج شيئا، أجرا لا بأس به ، وبقي المريض تحت رحمة المختبر .
لقد شعرتُ بعض المرات أن بعض الاطباء يرون في المريض معينا للرزق يجب ألاّ ينضب ، ولاجله أحسست بان هناك من لا يحاولون معالجة المريض بصورة كاملة لكي يعود اليهم، ناهيك عن الحالات التي يطلبون فيها عودة المريض بعد اسبوع او اسبوعين او شهر . وبعض الاطباء لا يمنعونك عن طعام قد يضرك او الاكثار من مواد غذائية غير منصوح بها ، وفي المقابل تراهم  لاتفه الامور يضخـّمون الحالة ويطلبون منك قائمة طويلة من الفحوصات في المختبر الفلاني لانهم لا يثقون بمختبر غيره ، أو يبدأون معك درب صليب مراجعات لا ينتهي الاّ بالاخصائي الرابع عشر ، ولو ان مراحل درب الصليب اصبحت الان خمس عشرة مرحلة على ما اعتقد !!

كنتُ شخصيا اراجع الاطباء في بلد عربي غير العراق ، وكنت احدّث أحد أطبّائي عن عواصف التراب التي تضرّ كثيرا بمرضى الربو ، وبأن هذه التقلبات أتت جراء الحروب وتخلخل الارض ، فاجأني الطبيب بجوابه عندما قال : هذا شئ حسن لانه  لولا مثل هذه الحروب التي زلزلت الاتربة  وهؤلاء القادة التي اشعلوها ، لما تمكنّا نحن من الحصول على مصدر العيش  ؟
وهذا الطبيب نفسه كان يجري لي في كل زيارة فحصا في جهاز النفخ ، فكان الجهاز يخرج بنتيجة سلبية عندما كنت اعاني من ضيق في التنفس ، وكانت نتيجته إيجابية في الحالة المعاكسة ، وفي كل مرة كان يبتسم الطبيب للنتيجة الايجابية ويهنئني ، وكنت اقول له  :ايها الحكيم ، أنا شاعر مسبّقا بنفسي وبارتياحي ولم اكن بحاجة الى هذا الفحص المكلف لكي اكتشف ذلك !!

ومرّة اخرى كنت اكلم طبيبا عن والدي الذي بلغ السابعة والتسعين من العمر والذي قضى حياته رافضا تناول أي دواء ، فاجابني الدكتور بقوله : ان مثل هذا الشخص لا يفيدنا . وانا الذي كنت انتظر منه ان يُبديَ شيئا من الاعجاب أو الاستغراب أويستفسر عن الطرق التي يتبعها للمحافظة على صحته !!
 حتى مختبرات الادوية وجدت طرقاً كثيرة لمضاعفة أرباحها لانها تلعب دورا كبيرا في توجيه الاطباء نحو الدواء الفلاني .  بدأت بعض المختبرات في تقليص هامش الحدود المسموح بها لبعض التحليلات والامراض، فمثلا ما كان مسموح به بنسبة مائة  لمرض ما أصبح تسعين فقط ، وهذا يزيد احتمالية دخول التحليل ضمن الخط الاحمر ، ويدعو الى تكثيف استخدام الدواء الفلاني .

ان الحالات كثيرة وانا متأكد بان لكل شخص قصته مع الطبّ والاطباء ، ولم ارغب التطرق هنا الى حالات كثيرة اخرى ومهمة جدا في مجال العيون او الاسنان ولا الطب الجراحي ، ولم اتطرق الى الاخطاء التي يقع فيها بعض الاطباء ولو ان الوقوع في الخطأ هي من خواصّ الانسان لانه ليس كاملا . في بعض الاحيان يبدو لي المريضَ كالعربة التي ، ما أن تمتدّ يد المصلح اليها حتى يظهر فيها عطب آخر جراء التصليح الاولي .

انا اقول بان عددا كبيرا من الحالات البسيطة لا تحتاج الى إزعاج الطبيب ، لانها اصبحت حالات معروفة والناس حاليا مطـّلعون على كثير من الامور الصحية ، ومن جهة اخرى قد يكون قسم كبير من مراجعاتنا حصيلة تعب او قلق او وهم .

اخيرا اودّ الاختتام بالتأكيد والقول : نحمد الله على ان اغلبية الاطباء يحملون لواء العلم وهم اصحاب رسالة وهدفهم الاول هو راحة المريض وشفاءه . والذين يرون في المريض معين رزق او يضعون الربح قبل مصلحة المريض هم ضعاف النفوس وهؤلاء موجودون في كافة شرائح المجتمع .


149
سنبلتي الاخيرة عن الاتقياء المتزمّتين

شمعون كوسا

كنت على موعد مع ما تبقّى من سنابلي ، وبما أنه يقال إنّ وعدَ الحُرِّ دَينُ ، توجهت دون تردّد الى موعدي في اليوم والساعة المعيّنين ، الى حيث الكهف الصغيرالذي كنت قد اخترته مخبأ  لسنابلَ أسعفتني في مقال سابق . رفعتُ الحجر عن المخبأ ، وكم كانت دهشتي كبيرة حينما رأيت بانه لم يعد للسنابل وجود . وقفت حائرا وتحولت بانظاري الى جميع الاتجاهات ، فابصرت حبوبا متباعدة ملقاة في كافة الزوايا ، ادركت حالا بان يدا بشرية هي وراء هذا العبث ، يدا تأتمر بتوجيهات عقول آسنة خشيت أن تميط هذه الحبوب اللثام عمّا خفي في حياتها،  فقالت  :دعونا نفرك السنابل ونبعثر حبوبها ونلقيها بعيدا عن بعضها البعض فنقضي عليها ونغلق فاها الى الابد .

تناولتُ بعض الحبوب ، و بحركة عادية لمستها وتفحصتها ، وإذا بيّ أمام منظر اقشعرّ له بدني . شاهدت الحبوب تطير بسرعة البرق الى خلايا سنابلها الاصلية ، وكأني احضر مشهدا للفانوس السحري . وبما إني اتخيل كثيرا وأهوى المقارنه وتقريب بعض الحالات ، عملاً بالمبدء القائل : ان الشئ بالشئ يذكر ، شبّهتُ السنابل المبعثرة  وعَودَتها الى حالتها الاولية بالاشلاء البشرية عندما تستقيم لدى سماعها نداء يوم القيامة !!   يومَ يعود كل جسد الى لحمه ودمه ، فاذا كان قد تحول الى التراب في القبر أو فقد بعض اعضائه جراء حرب او مرض أو تبرّعٍ  إنقاذاً لمريض او مساهمةً في بحوث علمية ، أو اُحرِقت الجثة باكملها احتراماً لرغبة المتوفى او وقعت كليا أم جزئياً تحت انياب آكلة اللحوم البشرية ، سترجع كل ذرة من هذه الاجسام ، قريبة كانت أم وبعيدة، الى أصحابها  وبجاذبية لا تقاوم .
أمسكتُ بالسنابل وفرحت لعودتها ، وايقنت بانه مهما طالت يدُ الشر واشتدت لا يمكنها القضاء على الخير .
اخترتُ آخر سنبلة إلتأمَ شملـُها ، وقررت بان تكون هذه آخر سنابلي . قرأت عليها عنوانا غريبا لم يخطر ببالي من قبلُ . كانت حباتها باكملها مكرسة لنقل قصص اشخاص انصرفوا الى (التقوى المتزمتة او التعبد المبالغ فيه) .
تقول السنبلة عن التقوى المتزمتة بانها ممارسة ضيّقة للعبادة ، لانها تضع  مظاهرها الخارجية  في الصدارة . قصصها كانت عن اشخاص يُمضون جلّ اوقاتهم في دور العبادة . تلتقي بهم هناك اذا ذهبتَ فجرا أوعصرا أو حتى ليلا في بعض الاحيان .  يدخلون الكنيسة وهم يتمتمون صلوات نظامية ، ويتحولون  بعدها الى الفاظ اخرى لا تنتمي الى اية لغة ولكنها تخدم  استمرارية حركة الشفاه .   يتوجهون حالا الى الماء المقدس ويغمسون عدة اصابع يدهم في الجرن للحصول على أكبر كمّية من الرطوبة تضمن لهم الابتعاد لمدة أطول عن الشيطان ومغرياته .
يركعون في الجهة اليسرى من الكنيسة ويعيدون ركعة مطولة رسمية في الوسط مع انحناء عميق لتقبيل الارض عدة مرات ، ويعيدون هذه الانحناءات والركعات مع حركة قرع بسيطة على الصدر تتحول الى قبضات يد شديدة متتالية استغفاراً للذنوب، وبعدها يتوجهون الى التماثيل لتقبيل قدميها أو طرف ثيابها، ومن ثمّ تبدأ عملية اشعال الشموع هنا واطفائها هناك . وفي هذه الاثناء تكون الشفاه مستمرة في تمتمتها . يتمّ الانتقال من تمثال الى تمثال بمقتضى حاجات ذلك اليوم  او توصيات بعض الاصدقاء وطلباتهم الخاصة من القديس الفلاني ، واذا ضاقت بهم التماثيل أو رأوا بان عددها لا يشفي الغليل ، فانهم يهجمون على العواميد لانهم يعتبرونها كلها مقدسة .  يكلمون القديس الفلاني معاتبين إياه لاستجابته السريعة لجارهم  و لصمّ اذنيه أمام تضرعاتهم .  وحيال  تصرف الاتقياء المتزمتين هؤلاء ، يحافظ القديس ، المنحوت من الرخام أو الخارج قبل ايام من قالب الجبس ، يحافظ على صمته ، لانه لا يقوى على مواجهتهم بالكلام التالي  : يا ناس ، لستُ انا الذي استجيب أو لا استجيب لطلباتكم ، انا عبد انقل دعواتِكم الى الله وهو المستجيب ، وان تمثالي هنا ليس له دور سِوى تذكيركم بسيرتي واعمالي الصالحة لعلكم تقتدون بها.
مِن ضمن أنشطتهم الاخرى بهذا الخصوص بالذات ، يبدأون حملة جمع تبرعات او يدعون  الناس للمساهمة بصياغة تاج من ذهب للتمثال الفلاني مع وعود بنيل حضوى القديس المعني ، وكأنّ القديس بحاجة الى ذهب سيسعفه يوما عندما يعبس الدهر بوجهه ، فيصبح التاج الابيض خشبة نجاة له في الايام السوداء التي سيصادفها !!!

بعد الانتهاء من مراسيم تحية القديسين او بالاحرى تماثيل القديسين، يفتشون عن أقرب كرسي للاعتراف .  يُقدِمون على الاعتراف وجعبتهم خالية من الخطايا . يُضطرّون لاختلاق بعض خطايا بسيطة اقل من عرضية كالطياشة اثناء الصلاة أو الاهمال في الاعمال المنزلية او عدم إطعام الطيور والحيوانات بصورة جيدة أو في اوقاتها الصحيحة .  وشدة وسواسهم يدعوهم للعودة الى كرسي الاعتراف عدة مرات في الاسبوع ولاتفه الاسباب. واحيانا يغيرون الكنيسة او المُعرِّف لاسباب شخصية غامضة  .

اثناء القداس ، يرفعون اياديَهم مع الكاهن ،  ويتسابقون معه في ترديد صلواته ، فيستمرون في تمتمة خفيفة وغير مفهومة عندما لا يعرفون الصلاة ، واذا حدث وان وصلوا الى جملة او جملتين يعرفونها ، فانهم يرفعون صوتهم كي يوازي صوت الكاهن او يفوقه طبقة.
إذا كانوا يتجولون هائمين بين المذابح  وأبصروا الكاهن في قاع الكنيسة ، فانهم يسرعون اليه للقائه والتحدث معه عن أمر بديهي او لاستشارته في قضية لا تقبل الجدل .
أما عن الصيام ، فانهم يحرصون على القيام به على اكمل وجه وبدقة تثير الاعصاب . لا يقتربون من أيّ من الزفرين ، واذا حدث وأن تجرّأ الخبز مثلا الاقتراب من اللحم او مجرد الدخول في تماس بسيط معه ، فان ذلك الخبر يتعرض للنفى او الحجز لان التهامه سيكون وثيقة سفر من غير عودة الى جهنم .  يصومون اياما تم الغاؤها منذ قرون ويخلقون اياما خاصة بهم ، من اجل النية الفلانية او للتكقير عن تصرفات عادية صنفوها ذنوبا .
لا يتقربون من فلان لبعض ما اشيع عن سمعته ويتجنبون التسليات البريئة .لا يكفّون عن إعطاء الدروس للناس في الاخلاق والعبادة وانهم سريعو الانتقاد لاتفه الاسباب . انهم لا يجاملون حتى الاطفال ويوجهون لهم التأنيب بعد التأنيب عن كل شئ وعن لا شئ ، واذا رأوا مثلا طفلا متحمسا للعبة معينة يحبها كثيرا ، يبادرونه بالتوبيخ قائلين : كان الاجدر بك ان تبدي نفس الحماس في الصلاة والذهاب للكنيسة !!
لا تفوتهم تساعية او صلاة فرعية خاصة ، ويبحثون احيانا عن تسميات اخرى، ولا مانع لديهم لايجاد  ثلاثيات أو سباعيات ، وهي صلاة لثلاثة ايام او سبعة .

أنا لستُ ضدّ التقوى ولا العبادة الحقيقية ، ولكني سأكشف الخلل الذي يرافق هذه الممارسات . الخلل يكمن في تفرّغ هؤلاء كليا لممارساتهم هذه ، بمراسيمها واجراءاتها ومظاهرها ومواقيتها التي لا تقبل عندهم اي احتمال في التقصير.   انهم يهملون القريب وحاجاته وهمومه ، يمتنعون عن مساعدة الاخرين واسعاف المحتاجين لضيق وقتهم ،  فيعتذرون بالقول : لقد تاخرنا عن موعد الصلاة ، ولقد طلب منا الكاهن الشئ الفلاني او الحضور في الدقيقة الفلانية أو ان الصلاة المخصصة للقديس الفلاني يجب ان تتلي في الساعة الفلانية ولا سبيل للتأخر ، وحجج اخرى  تعتبر واهية أمام هموم الناس وكيفية اسعافهم في مصائبهم ومرافقتهم في مشاكلهم واوقاتهم الصعبة . أمثال هؤلاء يتظاهرون بالحياء أوالمساس بتواضعهم  اذا امتدحهم الناس ، ولكنهم يفرحون لو قال الناس عن  تزمتهم في التقوى،  مداعبين : إن الذي يتشبث بذيول ملابسكم واهدابها سيطير مباشرة معكم الى السماء !!

انهم ينسون او يتناسون قول المسيح في انجيل متى عندما يقول : (فان قدّمتَ قربانك الى المذبح وهناك تذكرتَ ان لاخيك شيئا عليك ، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب واصطلح لاخيك) ، وهناك العشرات من مثل هذه الايات تصب كلها في نفس الاتجاه .

مساعدة الغير تحتل المرتبة الاولى في ممارسة العبادة ، انها تتقدم على كافة العبادات غير الاساسية . محبة القريب تسمو بكثير على التعلق بقشورالدين ومظاهره ،وايجاد علاقات حب بين البشر هو اساس الدين، كما انه يعلو على كل الاعتبارات. لانه بنظري قد اوُجِِد الدين لتنظيم علاقات ودّ ووئام بين البشر، ومحبة الله هي من محبة القريب ،لان هذه الاخيرة تـُعتبَر التطبيق الفعليّ الصعب لمحبة الله .

هذه كانت سنبلتي الاخيرة التي حدثتني عن نماذج لا يخلو منها أي مجتمع . ان هؤلاء ليسوا سيئين ، ولكنهم ضعاف النفوس ومعدومو الشخصية ، لذا يحاولون جلب انتباه الناس والفوز باحترامهم ، ولحسن الحظ انهم لا يمثلون الاكثرية .
كانت بقية السنابل تنتظر دورها للتخلص ممّا حمّلته إيّاها الرياح ولكني اعتذرت وانصرفت لان هموم المجتمع ومصائبه وتناقضاته لا تنتهي ، وهي تتنوع بتنوع طبائع الناس وتقلـُّب اوضاعهم وتطور طموحاتهم أواطماعهم .
وختاما ، أرجو ألاّ أكونَ قد تسبّبتُ في انزعاح بعض اخوتي من رجال الدين  كوني حلـّقت في مجالهم الجوي وفي زوايا لا يجب الدنوّ منها كثيرا ، غير أن جوابي هو إني في دخولي عمق ممراتهم هذه لم اصادف مطبّات جوية خطيرة، ومن جهة اخرى لم أكن مزوّدا ، في ملاحتي ، بخريطة اخرى غير كلام المسيح .



Kossa_simon@hotmail.com

150
سنابل لم تَطـُلها يدُ المناجل

شمعون كوسا

يَخالُ لِمن يهوى الكتابة أحيانا بان شيطان الشعر قد هجره ، فيُمضي فترة جفاف لا تليق إلا بالصحارى القاحلة . إنها الفترة التي يتخلـّف فيها شيطان الشعرعن مواعيده وكأنه مصاب بعدوى حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها أجواؤنا هذه الايام ، حيث تقودُنا تقلباتها يوميا من مفاجأة الى مفاجأة.
  لم تعد مواعيد البرد على سابق عهدها ولا مواقيت الحرّ ضمن حدودها . هطول الامطار بغزارة بات يشكل خطرا والنار التي سَعُدَ الانسان باكتشافها أضحت تحرق ما لا يجب حرقه ، والهواء الذي ينعش الحياة اعتاد على الزمجرة وتدميركل ما يصادفه دون أية مراعاة او مجاملة ،  وخطوط الزلازل التي كانت تكتفي بهزّ الارض وما يعلوها انتقلت الان الى اعماق المحيطات لتفعل ما تفعل .
 وأمسىشيطان الشعر ، الذي تم تكليفه مؤخرا بمهمة شيطان النثر ايضا !!، أمسى خاضعا لتقلبات الجو هذه ، نراه يحضر ليلا محمّلا بإلهام كنا نحتاجه في النهار ، يهجرنا في طريق الذهاب حيث كان حضوره مُلحّا ، كي يظهر في منتصف طريق العودة بجيوب خاوية ، نرقب لقاءَه نسراً يحلـّق بجوار غيوم بيضاء ، ونقول ها هو يدنو منـّا لإحلال بعض ألسنةِ وحيه علينا  ولكنه لا يأبه بنا فيستدير مراوغاً ، نحوغيوم سوداء في الزاوية البعيدة ،  نتوهّمه راقصا فوق مياه النهر بينما يكون قد اتخذ الافاق البعيدة اتجاها ، وهكذا ، تغدو بعض لحظاته ملائمة وكثير منها غير مناسبة .

أمام مزاجية مُلهم الشعر ومُوحي النثر هذا ، قلتُ في نفسي لماذا لا اترك الجبال والروابي والآكام والانهر وأضعُ حدّا لحالة توتر اُمضِيها في ترقـّب شيطان يلعب معي لعبة الاختباء ، ولِماذا لا أتجّه نحو السهول والاراضي المنبسطة ، لماذا لا اقصد البيادر ، حيث عالم السنابل .
فكرت بالسنابل لانها مصدر عيش الانسان الاساسي  ولان المراحل الصعبة التي تمر بها تلقّننا عبراً ودروساً .  إنّها تـُبذر حبّة ، لتموت تحت الارض فتحيا . تشق طريقها تحت التراب وتخرج  نبتة ضعيفة ، تنمو تحت العواصف والرياح العاتية والبرد الشديد ، وتنتهي سنبلة  تضمّ عشرة او عشرين تَوأماً من حبات متناظرة تعلن نضوجهما عبر شاربٍَ طويل مائل للسواد .
شحّة أمطارها تعالجها قطرات ندى تتزامن مع نسمات هواء عليل ، قادم من الجهات الاربع . يهبّ عليها على مدارالدقائق والساعات مستأنسا برؤياها  وهي تنحني تارة ، وتتمايل اخرى ، وتتراقص ايضا ، قبل ان تعود شاخصة مشرئبّة الاعناق . وهكذا تبقى بين كرّ وفرّ على هوى رياح يحلولها الاطالة في مغازلتها .
وعِبرهذه الحركات التي تتكرر لمئات المرّات ، تقوم الرياح بأتِمان السنابلِ  أسرارَ البشر ، فتترك لها الكثير مما تسمعه وتراه : من أحاديث  وكلمات ، افراح واحزان ، حالات غضب وحلم ، مآسي وفضائح ، وحتى الهمسات والتنهدات ولحظات الصمت ، توشوشها في كلّ هَبّة لها في اذن كل  حبة قبل أن تتبخر في الجو أو تنتهي في الكهوف والمغاور البعيدة .

كان موسمُ مقالي هذا ،(والذي اعتقد وايّاكم بانه لم يكن بحاجة الى هذه المقدمة الطويلة !!) ، كان موسمَ حصاد . توجهت اذن الى البيدر كي ألتقط  بعض السنابل التي تكون قد أخطأتها يد المناجل أو لم تطلها شفرات الحاصدات ، فالتقطتُ كمية كبيرة منها ، وقبل ان أربطـَها باقة ، شرعت في إمعان النظر مطوّلا  في كل سنبلة ، فرأيت بانها قد اختزنت الكثير الكثير ، غير أنّ كثيرها هذا لم يكن جديدا بالنسبة لي . لمست بانها تعيد ما  سبق وأن تطرقت اليه ، ولكني واصلت التمحيص بدقة فوجدت في بعض السنابل أسطراًً تثير الاهتمام .

كان موضوع السنبلة الاولى عن رجال الدين وابتعادهم عن الروحانيات. سبّب لي هذا الموضوع نوعا من عدم الارتياح لاني وجدت نفسي وكأني مرغم على انتقادهم من جديد . ولكني سخرت من نفسي لاني  بتفكيري هذا شبهت نفسي بما يشاع عن قوم بسطاء ، كان قد قال أحدُ أفرادهم عند وقوع نظره من بعيد على قشرة موز :  }يا لحظـّي التعيس سوف تنزلق قدماي مرة اخرى}!! . وهو كان يكفيه تجنبها فقط  لكي لا ينزلق !!  . فقلتُ،  لقد سبق وان قمت بتوجيه كثير من النقد البنـّاء لهم ، ولو أنّي أجد هذا العنوان بالذات مغريا وواقعيا ،  وبوسعي الكتابة عنه ، لكني استدركت حالي وقلت : أخشى التعرض للرّجم مِن قِبل مَن سوف لا يحلو لهم كلامي ، وإذا صحّ ذلك ، فمِن أين لي ان أجد المسيح هنا ، جالسا القرفصاء وهو يرسم على الارض ليقول لهم } :من منكم يجد في نفسه قابلية دحض ما يقوله الاخ ، فليرمِه بحجر{ ، فنراهم يرجعون القهقرى على شكل رتل طويل دون كلام ، لانهم واثقون بان مؤنـّبهم المقرفص يقرأ في قلوبهم ويعرف بان ما قيل عنهم كان صحيحا .   هنا اعتذرتُ لسنبلتي ووضعتها جانبا .

تناولت سنبلة ثانية مثقلة بحبوب منتفخة، سنبلة حملت عدة عناوين عن الصداقة . وهنا ايضا قلت ماذا بوسعي ان اضيف الى موضوع مهمّ حللته وأعدت تحليله واضفت اليه الالوان والخيوط التي كانت تنقصه ، غير ان ما استوقفني هو بعض أسطر أتت على شكل عناوين لثلاث قصص ، فاخترتها من بين مئات القصص مثيلاتها .
قصتها الاولى تناولت امر بعض اشخاص تركوا اصدقاءهم لرؤيتهم بانهم لم يعودوا بحاجة  اليهم ، فانتهت صداقتهم  بانتهاء مصلحتهم .
السطور الثانية تناولت أمر رجال هجروا الصداقة بسبب تحسّنٍ طرأ على حالتهم،  وكأنّ تطورهم خفض تلقائيا من مستوى اصدقائهم وأفقدهم قيمتهم، فهجروهم. والحديث الثالث يخص اصدقاء نبذوا اصحابهم لانهم غيّروا اتجاههم في الحياة ، فلم يعودوا مؤمنين بالمبادئ التي قامت عليها صداقتهم ، ورأوا بانها لا تتماشى وقناعاتهم الجديدة فنهجوا طريقا آخر.
أما السنبلة الثالثة ، فانها كانت اشبهَ بسنبلة شعير بالرغم من حنطاوية انتمائها . قـلـّبتـُها كثيرا فلم أقرأ  فيها غير الحقد والكراهية . هنا ايضا قلت باني لم اُفوّت مناسبة  دون إيلاج هذه الفقرة في كثير من المواضيع  .
إنّ ما كانت قد اسرّت به الرياحُ الىهذه السنبلة كان غزيرا ، بحيث كانت كل حبة تنطق  لوحدها بمجموعة قصص عن اناس خـُلقوا لممارسة الحقد وجُبلوا لبثّ الكراهية . تراهم لا يبارحون دور العبادة ، وأناملهم لا تترك حبات المسبحة في صلاة دائمة ، ولكنهم دائمو النظر من حولهم لتشخيص ضحاياهم ، فان لم يجدوا المجال للاهانة وبث السموم علناً ، يطلقون عليها  دعوات شر صامتة تتناول الصحة والفشل والحوادث وحتى الموت . يقلـّد البعض منهم ابتسامة الملاك بحيث يتشجع أول كاهن يصادفهم على مناولتهم القربان دون اعتراف !!  يتظاهرون بالحب ولكن قلبهم لا ينبض  الا للكراهية ، يمثلون التسامح ولكن سموم الحقد التي تملأهم لا تتمنى الا الشر .

كانت هناك سنابل كثيرة وكل واحدة كان لها موضوعها ، عن الحب والنفاق والفقر والمادة والتدين والى آخره . رأيت  بان الحديث سيطول وسوف لن يسامحني الناس لاني قد ادخلتهم مسالك وعرة ، فوعدتُ السنابل بعودة قريبة  .

ذهابي الى البيادر لم يأتِ بجديد ولكنه اضاف لمسات طفيفة جدا الى ما قيل من قبلُ . يجب ان نقرّ مرة اخرى بانه  لاجديد تحت الشمس ، فكل ما يتردّد هو اعادة باسلوب جديد او عبارات تثير اهتمام كثير من الناس. فالمواضيع وما يقال عنها تشبه قطعة قماش يتبارى الكثيرون على تطريز نفس الفكرة عليها ، فيأتيك احدهم بعمل جميل للغاية وآخر بعمل متوسط وآخر بعمل مقبول وآخر بعمل متواضع ،   والفكرة هي ذاتها ولقد قام الجميع بالتعبيرعنها . أمّا انا فقد ابتدأت من المستوى المتواضع ومُنايَ أن اتدرج صاعدا قليلا فقليلا الى ما يليه .



Kossa_simon@hotmail.com

151
المنبر الحر / يقظة إنقلبت حُلماً
« في: 18:07 05/04/2011  »
يقظة إنقلبت حُلماً

شمعون كوسا

روى لي احدهم عن شخص  اسمه فلفل . كان قد قيّده والده في سجلّ العماذ باسم  فيليبوس ، غير انه اطلق عليه اسم فلفل ، إمّا دلعاً ورغبة في الاختصار ، أو لانه كان يتوسم فيه رجلا سيفلفل المستقبل. كان فلفل هذا  مولعا ، بالاشتراك في يانصيب شهري مهم تبلغ جائزته الاولى احيانا عدة ملايين . كان صاحبنا مدمنا على  اللعبة ويتابعها  منذ اكثر من سنتين ، غير انه كان يخرج كل مرة صفر اليدين ، ولكي يغطي نفقات بطاقاته كان يلجأ الى يانصيب اسبوعي يرأف بحاله ويجعل بعض بطاقاته تفوز ضمن الجوائز الدُنيا .
 كان يفضّل فلفل يقظة النهار وخيالاته على احلام الليل، فينطلق في سيناريوهات يعتبر نفسه فيها فائزا بالجائزة الاولى ، يجلس منتشيا ويُخرج قائمة مشاريعه  التي كان قد أعدّها منذ اشتراكه الاول . يقوم بقراءة  القائمة قبل يوم السحب ، ويعيد النظر فيها ، فيحذف بنودا ويضيف فقرات ، ويمحوها  ثانية ويعيدها  تناسبا مع حاجاته أوعلى هوى المنعطفات التي يسلكها مخطط خيالاته . كان يقرأ مشاريعه بصوت عال امام زوجته ويجعلها تحلم معه ، وقبل آخر سحب بيومين قال لها : اذا حالفني الحظ هذه المرة وفازت بطاقتي بخمسة وعشرين مليون دولارا ، ساقوم بما يلي :

 -سأبني منزلا فخما ، او بالاحرى قصرا يكون محطـّ الانظار ، بحيث يجعل كل شخص غريب يتوقف ليسأل الناسَ عن صاحب القصر ، فيأتيه الجواب حالا وبنبرة رصينة :كيف لا تعرف بان القصر للسيد فلفل؟
 -سابادر بتقديم مساعدة مالية مهمة لجارنا في الشارع الثاني لانه محتاج وهو شخص مؤدب ، امّا عن جارنا المباشر سامتنع عن مساعدته ، بل ساخذله كي لا ينسى مواقفه المشينة معي   .
 -ساقوم ببناء بيت واسع في العاصمة تحيط به حديقة مترامية الاطراف يتوسطها حوض سباحة اولمبي  . وهنا بادرته زوجته بالكلام قائلة :
لماذا لا تفكر بتشييد عمارة في بلدة اشتهرت قبل بضع سنوات وأضحت مدار حديث الجميع ، فبدأ  يؤمّها الناس من كل حدّ  وصوب حاملين معهم حقائب استثماراتهم.  انا انصح ببناء عمارة يتم تأجيرها الى شركات اجنبية كالفرنسية مثلا ، لان  هؤلاء قوم مسالمون ولم يضرّوا بالعراق . وهنا هبّ فلفل مقاطعا اياها وقال : لابل سأؤجرها للامريكان لانهم اصحاب اموال طائلة ويدفعون اكثر.
فاجابته زوجته ، صحيح ان الامريكان انقذونا من حكم جائر ، ولكنهم غزوا بلدنا ودمّروه ولم يحرّكوا ساكنا لاعادة بنيته التحتية ، اعادونا الى الخلف باسم الديمقراطية التي اوكلوها الى أنفارٍ غير مؤهلين لها ولا يفقهون شيئا منها .   في هذه الحالة ، اقترح ان تقوم ببناء عمارتين.   فوافقها فلفل ولكنه أردف على الفور بقوله : لاتفرحي كثيرا لاني حتى الثانية سأؤجرها للامريكان ، إنّ ما يهمني أنا هو المال وليس مكافأة أقوام او اشخاص احسنوا التصرف . ولكن هلمّي وقولي لي  :ماذا دعاك للاهتمام بما لا شأن لك فيه ، ما لك انت والسياسة ، ألم يكفنا ما عانيناه بسببها في عهود سابقة ؟
قالت له امرأته : وهل فكرت في كيفية دخول هذه البلدة وضمان الاقامة فيها خاصة وانك لست من أهل المنطقة ؟ فاجابها بابتسامة عريضة : هذا أمر هيّن جدا وفي غاية البساطة ، أوّلاً هذه المنطقة تستقبل الرساميل ، من جهة اخرى هل نسيت بأن الاموال تفتح الابواب الموصدة . أم غاب عن بالك بان المال بات إله هذا القرن ، ورابعا (على ما اعتقد) هل نسيتِ المثل القائل : أعطِ  المال وأخرِجْ حتى رجل الدين من معبده !!!.
كانت قائمة فلفل  مفتوحة لا تحدّها اية قيود، فكان يفكر مثلا ببناء قصر في الخارج ولا سيما في اسبانيا ، تيمّنا بالمثل الذي يصف الشخص الحالم  ، (بانه ينوي بناء قصور في اسبانيا) ، ولكن صاحبنا لم يكن يعرف آنذاك بان هذا المثل فرنسي !!
كانت تراوده نفسه ايضا بالارتباط بزوجة جديدة من الطراز الحديث ولكنه كان يبعد الفكرة من حروفها الاولي لحساسيتها الشديدة وبسبب عدم تسامح الكنيسة بذلك ، وإن كانت هذه الاخيرة قد فسخت بواسطة محاكمها الكنسية بعض عقود زواج كانت قد ابتدأت منذ سنوات واسفرت حتىعن انجاب اطفال .
كان في كثير من افكاره ومشاريعه لا يستهدف الا منافسة فلان أوإغاضة فلان والظهور امام فلان أواثارة حسد من كانوا يستصغرونه . وكانت المشاريع تتلاطم داخل رأسه وكل واحد يسابق الآخر الى ان يغلبه النعاس فيتفرّغ لمشاريع اخرى في قائمة احلام الليل .
اشترى فلفل بطاقته ووضعها في مغلـّف خاص أودعه احد جيوب سترته ، كما كان يفعل في كل مرة . كانت الجائزة الاولى قد بلغت هذه المرّة خمسة وعشرين مليون دينارا . كانت بطاقته تحمل رقم 353452 ، وكان قد اعتاد صاحبنا على نقل الرقم على قصاصة ورق يحملها معه .

اقبل يوم السحب ودقت الساعة ، فجلس فلفل أمام التلفاز يتابع الارقام . كان يجلس منفردا في الغرفة خشية تعكير صفو افكاره او تشتيتها لاسيما عند قراءة الارقام، وكان يعتبر هذا الوقت شبه مقدس فلا يكف عن الابتهال الى الثالوث باقانيمة الثلاثة ، ويلتفت الى تمثال العذراء متضرعا اليها وممسكا بكتفها لجلب انتباهها ، وفي انتظار اعلان شفيع للاعبي اليانصيب ، كان يتوجه بصلاته الى جميع القديسين آملا ان يكون أحدهم قد شارك في شبابه ببعض العاب الحظ أولعب الكونكان مثلا فيتفهم حالته ويساهم في انجاح بعض ارقامه !!
تمّ قراءة الرقم  3 ، وتلته الارقام الثلاثة الاخرى مطابقة فكانت 5 و 3  و 4 ، وهنا بدأ قلبه يتهيأ للنبض السريع . عندما جاء الرقم قبل الاخير مطابقا لِما في بطاقته ، اختفت الوان وجهه وأحسّ بدوار خفيف جعله  يمسك برأسه ويثبت قدميه ، إلى ان ظهر الرقم الاخير مكمّلا لارقام بطاقته ، فاغمي عليه وهوى .
 سمعت زوجته صوت سقوطه ، فاسرعت لاسعافه  ورشت قليلا من الماء على وجهه فافاق واستعاد الوعي  . لم يقوَ فلفل على إعلامها بالخبر وبقي جالسا دون حراك ، قالت له زوجته ، ماذا اصابك يا رجل ، وهل هذه اول مرة تخسر فيها بطاقتك ؟  الم تعتد على الخسارة ، ما لك هذه المرّة متأثرا بهذا القدر ؟ كفّ عن لعبتك لانك بهذه الطريقة ستخسر نفسك .
فنظر اليها فلفل وقال لها بصوت خافت : يا امرأة لقد فزت بالجائزة الاولى . لم تصدّق زوجته الكلام ودنت منه واضعة يدها على جبهته بغية فحص درجة حرارته لان ما قاله اعتبرته هذيانا . فاعاد عليها الكلام من جديد وقدّم لها قصاصته فرأت الزوجة بان ما في الورقة مطابق فعلا للرقم المثبت على شاشة التلفاز،   فأوشكت بدورها على السقوط  ولكنه امسك بها .

عاد الزوج الى حالته الطبيعية ووقف على رجليه وأحسّ بانه قد تحول ، دون ارادته ، الى شخص آخر ، فاصبح يتخيل الناس وكأنهم ينادونه من الان فلفل باشا او فلفل بيك .
انتشر الخبر بين الناس ، فتقاطرت الجموع حول منزله ، وكان يحاول الجميع الدخول لتهنئته  ولنيل رضاه . كان صاحبنا الفائز يستقبل بعضهم ، ويبتسم للبعض الاخر ، ويعبس بوجه البعض ، ويرفض مصافحة غيرهم ،  ولا يتورع عن طرد بعض الافراد . لدى قدوم كبار القوم من المهنّئين ، أصرّ على تبنّي مظهر خاص يبرزه كالشخصية الجديدة على الساحة ، فكان يوزع التفاتاته بتقتير ، قائلا في سرّ نفسه : هذا يومي ، انا في المقدمة ، انا الكبير والثري والمقتدر .
عند انصراف الزوار ، اقبلت زوجته مفاتحة اياه في امكانية تخصيص اعانة بسيطة لوالدتها ، فاستشاط فلفل غضبا  ، لانه كان معروفا  بكرهه الشديد لحماته وقال : انا مستعد لمساعدة اخواتك فقط ، أما والدتك فلا اريد سماع ايّ شئ عنها .
بعد هذا خطرت له فكرة جديدة دغدغت طموحاتِه واطماعَه ، فكّر في ترشيح نفسه للانتخابات النيابية المقبلة ، وقال : اليس المال الذي يوصل المرء الى اعلى المناصب في كافة بلدان العالم ؟
كان على فلفل التوجه الى المدينة المجاورة  لاستلام جائزته ، فقام بارتداء طقمه الرسمي المؤتمَن على حماية البطاقة الفائزة ، ولم يشأ إخراج مغلف البطاقة من جيبه خوفا من عيون المارّة . توقفت السيارة أمام باب المكتب المسؤول عن توزيع الجوائز. تقدّم فلفل  نحو مدير المكتب وسلمه البطاقة داخل المغلف. فتح البائع المغلف واخرج البطاقة وبدأ يقرأ  ويقارن أرقامها ، ويبدأ من جديد الى ان أعاد التدقيق لخمس مرات متتالية وقال لفلفل : يا صاحبي لا يمكنني أن اصرف لك الجائزة لان بطاقتك ناقصة . استغرب فلفل من كلام البائع وكأنه تلقـّى ضربة على رأسه ،   فتناول البطاقة ورأى فعلا بان الرقمين الاخيرين  5 و 2 قد إمّحيا تماماً . قام فلفل بالتأكيد والحلفان بالله وبحياة ابنه وبكل مقدساته بان ورقته هي الجائزة الرابحة وليس غيرها ، قائلا : صدقني هذه هي البطاقة الحقيقية والدليل على ذلك اني كنت قد سجلت أرقامها على هذه الورقة . فاجابه البائع : قد يكون كلامك صحيحا ، ولكني لا استطيع صرف المبلغ ، لانه قد يأتيني شخص آخر غيرك ويروي لي نفس روايتك ، بطاقتك ناقصة يا صاحبي وانا آسف جدا .

ادرك فلفل الكارثة التي أوقعته فيها زوجته ، لانه عرف حالا بان زوال الرقمين ناجم عن عمليه وضع الطقم في جهاز الغسيل دون افراغ جيوبه . فرجع الى البيت يجرّ وراءه أذيال الخيبة، وكان تفكيره منصبّاً على كيفية افراغ جام غضبه على زوجته ، لانه كان قد بلغ حدّا أفقده السيطرة على نفسه ولا سيما على يديه التي كان يخشي ان تقوده الى جريمة لانها كانت تنفتح وتنغلق وكانها تتدرب على الخنق . عند وصوله الى البيت ، ركض نحوها مسرعا وأمسك بشعرها ودار بها حول نفسه بسرعة لاربع او خمس مرات ثم القاها  نحو منحدر لتتدحرج بعيدا  .
يقول الراوي بان فلفل اصيب بكآبة شديدة وبقي معتكفا داخل المنزل هرباً من كلام الناس وسخريتهم . كآبته لم تكن تفارقه الا في الليل حيث  كان يُمضي اوقاتا جميلة في حلم يجعله كل ليلة فائزاً بالجائزة ، ولكنه كلـّما كان يفيق في الصباح ويجد نفسه خالي الوفاض ، تمتد يده عفويا نحو وجه زوجته في صفعة قوية ، الى أن نهض يوما ولم يجد زوجته .  يقول الراوي بانها لم تقوَ على تلقي الصفعات ، فهجرته .
 
والان ما هي العِبَر التي بوسعنا استخلاصها  من الرواية ، هل نقول بان وضع الجشع فوق جميع الاعتبارات يؤدي الى مثل هذه النتائج  ، أم نقو ل، لا يجدر بنا  بيع فرو  الدب قبل اصطياده او قتله ، ام ننتهي بكل بساطة بوجوب الحرص على افراغ الجيوب قبل تسليمها  الى الغسيل !!؟ لعلّ هذا الاجراء الاخير كان أنجع وسيلة تجعل فلفل  راجعا بسربال منفوخ بالدراهم وليس بالهواء والهباء !!

Kossa_simon@hotmail.com




152
ذكريات بسيطة عن المطران أفرام بدى

شمعون كوسا

إراحةً لخيالٍ ابتدأت مساحته  بالانتقاص وخصوبته بالانخفاض ، رأيت أن أستنجد  بالماضي وذكرياته ، ولكي اُجنـّب نفسي مشقّة تصفح سجلات تحمل وقائع عدة عقود من الزمن ، توجهت الى صندوق قديم  كانت طبقة اتربته السميكة قد التصقت به . إلتقطتُ  أول ورقة تجاوبت مع  يدي ، فاذا بيّ مُمسِكاً بصفحة يرقى تاريخها الى اكثر من خمسين سنة . صفحة من المجلدات الاولى للذاكرة تحمل عنوان "الخوري افرام بدى" . أعادتني الورقة الى ايام كنت اكليريكيا حديث العهد في معهد مار يوحنا الحبيب . كان أفرام بدى آنذاك خوريّا ، وكان  كسائر الكهنة المتخرجين من المعهد ، يعرّج على (السمنير) كلّما قصد العراق ، لانه كان قد تعيّن مدبّرا بطريركيا على الجالية الكلدانية في القاهرة .

قدِم الخوري أفرام بدى الى المعهد في فترةً كان شمال العراق يلتهب بنار الحركة الكردية التي طالت السنتها كافة مرافق الحياة ، فأرغمت أناسا على الالتحاق بالجبال ووضعت اناسا آخرين وراء القضبان ، وشرّدت عوائل وقلعتها من اراضيها ، ووضعت السلاح بين أيدي غالبية الشباب الذي دُعُوا للانضواء تحت خدمة العلم ، عَلـَم لم يفِدهم إلا في تسجية جثث من وقع من بينهم ضحية رصاصات اطلقها عليهم بنو جلدتهم . كانت حربا طاحنة دارت احيانا حتى بين الاباء والابناء والاخوة والاقارب ، وبصورة أعمّ بين مواطني البلد الواحد.

 لقد اوردتًُ هذه المقدمة عن الاوضاع لاني كنت من ابناء المنطقة الملتهبة واعاني من كثير من جوانبها ، فكان هناك ابي واخوتي واقاربي ، كانت الهموم لكثرتها لا تجد لها مكانا في النفس . عند لقائي بالخوري افرام بدى أو بالاحرى بصوته في قداس بسيط اقامة لتلامذة المعهد ، وكان ذلك في أواخر الخمسينات ، أحسستُ بشئ لم يسبق لي وان شعرت به من قبل . أتى صوته محرّكاً بصورة تلقائية لكل ما كان يعتمل في داخلي ممّا ذكرته عن مأساة الاهل والاقارب ، صوته المميز نقر كافة اوتار جسمي وما يرتبط بها . لانه بالنسبة لي كان اكتشافا  من اولى رنّاته الحزينة ،  قداس ذرفت فيه دموعاً ساخنة  صامتة ، ولكني خرجت منه بحالة نفسية جديدة مفعمة بهدوء وارتياح حقيقيّين .
 

أمضى الخوري افرام يومين او ثلاثة في السمنير . كنت أثناء ذلك اتقرب اليه ، لاسيّما في أوقات الفرصة ، لكي لا تفوتني دقيقة دون سماعه ، لانه كان قد اصطحب معه تسجيلات منوعة اخرى بصوته . كنت اقول لبعض زملائي بان اية ترتيلة ، حتى وان كانت دندنة بصوته يجب تسجيلها  كي لا تتبخر في الاجواء هباء ، لان كل ما كان يرتله كان في غاية الرخامة والجمال . وانا اعتقد  وهذا رأيي الخاص ، وكما يُقال لا جدال في الاذواق ، اقول بان الامة الكلدانية ، على حدّ المساحة التي تغطيها ذكرياتي ، لم تلد من بين رجال الدين من هُم أرخم صوتا من المطران أفرام بدى . وهذا لا يعني بان الامة افتقرت او تفتقر الى اصوات جميلة ولكن المرحوم افرام بدى تميّز من بين الجميع بجمال صوته وقابليته في الاداء  .
في زيارة اخرى له في البدايات المبكرة جدا من الستينات ، تمّ الاتفاق على تسجيل قداس تاريخي يخلّد صوته ، على الاقل ، لارشيف المعهد . كان قداسا احتفاليا قام بخدمته الاكليريكي جاك اسحق (وهو الان المطران جاك اسحق) ، وقرأ رسالة بولس الرسول الاكليريكي داود بفرو (وهو الان الاب داود بفرو) ، وقرأ القريانة الاكليريكي شمعون كوسا (وهو الان أنا) . كان قداسا بديعا بكل ما تعنيه الكلمة ، وحتى الخوري بدى نفسه اشترك في ترتيل بيت من لحن جميل اختير لاخراج القداس بابهى حلله . اعتبرتُ نفسي سعيدا بان اكون جزءً من هذا الانجاز الذي سيبقى ذكرى عزيزة وثمينة . غير اننا فوجئنا في اليوم التالي بان مدير السمنير (وهو الاب يوسف اومى) قد قام بمحو هذا القداس البديع والنموذجي دون أن يترك منه حتى كلمة آمين.    وكان تبريره ، كما سمعت لاحقا ، لاني كنت من الصغار ، بانه لاحظ  منـّا تعلقا شديد بهذا القداس ، وبانه من المنطلق الروحي ، حسب مفهومه ، يجب ان يتجرد التلامذة من كل شئ في الدنيا حتى من اعجابهم بالصوت الجميل .

إنها حجة واهية جدا ، أوليستِ التراتيل الروحية الجميلة التي ترفع النفس عاليا وتساعدها على الصلاة ونسيان الماديات ؟ ألا يقال عن الجوقة الفلانية بان الحانها الروحية او الدينية كانت اجمل وأصوات مرتليها ارخم من الجوقة الفلانية الاخرى ؟ غير أنه فعلا كانت هذه هي النظرة السائدة آنذاك في المعهد . وانا اتذكر باننا حُرِمنا  من سماع تراتيل الجمعة العظيمة لفيروز لاعجابنا الشديد بها .   تراتيل بديعة كانت مسجلة في اول صدورها على الاسطوانات ، انها حقا تراتيل جميلة جدا ولم يأتِ أحد لِحدّ الان باجمل منها .

ان ما اريد ان اذكره عن المرحوم افرام بدى لا يتعدّى ما ذكرته في هذه السطور، لان هدفي لم يكن،  لا سيرة حياته ولا تدوين تأريخه وإن كنت على دراية  ببعض فقرات من حياته ، بل كان رغبة قويّة للتحدثً عن صوته  واقول ، لحسن الحظ  فكـّر المرحوم بترك هذا الصوت لنا مستعيناً بأجهزة شركة المانية متخصصة  سجلت له صلوات (الحوذرا) كاملا ، والحوذرا هو الكتاب الشامل لصلوات الطقس الكلداني من فروض الصباح والمساء (صبرا ورمشا) وصلوات الآحاد والاعياد وصلوات الصوم الكبير وصوم الباعوث التي تتضمن اجمل المداريش . لقد دوّن تراثا مهمّا بصوت جميل ، يرنّ حينا مهللا مع افراح الاعياد ويأتي بنفس الرنّة أحيانا اخرى نائحا مع مداريش الصوم والباعوث والجمعة العظيمة .

يَأسف المرءُ لمغادرته المبكرة ولكن عزاءَنا كبير بصوت بقي يصدح من بعده ، صوت تنتقي منه كل نفس ما يناسب استعدادها النفسي والروحي . إنّ المرحوم الان في الاعالي ، وإنيّ لأراه قد انضمّ الى اجواق المرنمين من بين الملائكة ، وهل يمكن ألاّ يرنم هؤلاء تراتيل كلدانية ، الحانا تندرج ضمن اللغة الارامية التي نطق بها المسيح على هذه الارض لمدة ثلاث وثلاثين سنة ؟ !!

153
المنبر الحر / إقطعِ الشك باليقين
« في: 01:57 07/03/2011  »
إقطعِ الشك باليقين

شمعون كوسا

يقال عادة إن الشئ  بالشئ يذكر . فأنّ ما ذكّرني بما سأرويهِ في الفقرة التالية هو مشهد بطتين رأيتهما تسيران على الماء جنبا الى جنب ومحاولة إحداهما تفحّص جناح الاخرى ولعدة مرات متتالية ، هذا ذكّرني برواية قرأتها عن آدم وحواء ، رواية من نسج الخيال ، ولكنها غنية بدروسها وعبرها ، تقول الرواية :

في يوم من الايام خرج آدم لأمرٍ ما  دون ان يُبلغ حواء بذلك . بعد عودته التي استغرقت أكثر من ساعتين ، بادرته حواء قائلة : اين كنت يا آدم ؟ فاجابها : كنت في الحقل اقوم ببعض اعمال من شانها تحسين الغلّة ومضاعفتها لهذه السنة .  قالت حواء : هذا ليس صحيحاً ، وانا اشكّ بكلامك ، واجزم بانك كنت تعاشر امرأة غيري . ردّ عليها آدم قائلا : يا امرأة ، ضعي عقلك في رأسك وفكري قليلا ، هل يُعقل ان اعاشرَ امرأة خيالية ؟ ألا تعرفين بان الله لم يخلق امرأةً غيرك ؟ والدليل هو إنه حرمني من أحد ضلوعي لكي يوجدك انت زوجة لي.   قالت حواء : هذا صحيح ، ما أغباني ، لقد فاتني هذا الامر ، لقد ذهبت بعيدا بظنـّي ، اعذرني يا رجل لاني شككت واخطأت بحقك .

عند قدوم الليل ، وبعد خلود الزوجين الى مخدعهما ، اصيبت حواء بالأرق جراء التفكير بموضوع غياب زوجها اثناء النهار والتبرير الذي قدمه لها . عاودت تحليل كلمات زوجها واحدة واحدة  واطلقت العنان لشكوكها التي توسعت مساحتها . ركبتها الريبة  واطبقت على جميع منافذ عقلها ، ومحت الكلام الذي سمعته من زوجها وكأنّه لم ينبس ببنت شفة ولم يقدّم لها الدليل القاطع . فذهبت بخيالها في تشعبات كثيرة انفتحت على كافة التوقعات والافتراضات . وانتهت بالقناعة التالية : يجب ان اقطع شكوكي باليقين ،  يجب ان اتأكد من  الامر بلمس اليد . فقامت بهدوء وكشفت صدر زوجها بحذر شديد وبدأت تحصي ضلوعه . بدأت من الجهة اليسرى وأحصت الضلوع وتحولت الى الجهة اليمنى في نفس عملية الاحصاء واعادت هذا لخمس مرات متتالية ، وكانت تستعين باصابعها زيادةً في التوكيد. قبل ان تقفز إلى موضعها في نهاية عمليتها الاحصائية ، استيقظ آدم مذعورا ، فرأى صدره مكشوفا وزوجته واقفة بجانبه لا زالت تطوي اصابعها الواحدة تلو الاخرى ، فقال لها : قولي لي بربّكِ هل مسّك جنون أم ماذا ؟ الم ننتهِ من هذا الامر ؟ ماذا بوسعي ان افعل كي ابرهن لك الامر بوضوح اكثر ؟ فاجابته : لقد لعب الشيطان من جديد بعقلي ووشوش في اذني هذا الكلام : " وما ادراكِ يا حواء بان الله لم يستخدم ضلعا آخر من ضلوعه ، أو يكون آدم هو الذي قد تبرع بضلع ثانِ ليحصل على زوجة ثانية ، لا سيما  وانك تقولين عنه بانه  يفيض عاطفة  إزاء كل ما هو جميل ومُغرٍ " ، فاذعنتُ للشك وقمتُ باحصاء ضلوعك ، اما الان فقد زال شكي تماما . فابتسم آدم وعاد الى نومه الثقيل .
تقول الرواية بانه ، بعد ما لاقاه آدمُ من زوجته بهذا الخصوص ، كان  كُلـّما غاب لمدة تثير شكوكها، يأتي اليها كاشفا صدره ، داعيا اياها لإحصاء ضلوعه .
لم تملّ حواء يوما من العملية ، ولكن التكرار اوصل آدم الى حدّ الحنق ، فقرر وضع حدّ للمهزلة ، فأتاها باسلوب هزلي وقال : الا ترين يا امرأة بانك قد ساهمت في إطالة المقال وقلبتيه من مقال عن الشكّ الى مقال عن الضلوع ، وأنا اعلم بان الخوض في مجال الضلوع والمطاعم هو من آخر اهتمامات صاحب المقال ؟!!!
يقال بانه بعدما عرفت حواء بان شخصا ثالثا كان يسترقّ السمع ، لم تعد تزعج آدم ونبذت عادة الاحصاء  وقررت ألاّ ترى الضلوع إلاّ من خلال قفص صدري مكسوٍّ بكامل جلده ولحمه !!!

فالشك اذن هو الارتياب بصدق كلام الاخرين .انه حالة تساؤل نفسية عن وقوع امر ما او عدمه . لاجل ذلك لا يعتبر الشك بذاته نكرانا او تكذيبا  بل اعترافا بعدم المعرفة .
هناك شكوك عادية وضرورية في الحياة . فعدم التصديق من اول وهلة في كثير من الاحيان هو وسيلة لتجنب الكثير من المشاكل . يجب التيقـّن من كلام شخص لم يسبق لنا التعرف عليه . هناك شك عادي آخر لا بدّ منه عند التعامل مع اناس اعتادوا على الكذب ، والمشكلة مع هؤلاء تكمن في صعوبة تصديقهم حتى اذا تحدثوا بصدق عن موضوع مهم .
بصورة عامة  يجب ان يكون الشك مرحلة مؤقتة وليست حالة نهائية ، مرحلة تنقل الانسان الى الحقيقة او حالة اليقين .

هناك شك علمي لا بدّ منه للتوصل الى إثبات اكتشاف معين ، او تكذيب ما تم الترويج له من اختراع خاطئ . وهناك ايضا شك قضائي لا بدّ منه في عملية البحث عن ادلة تقود الى حكم صائب  ينقذ البرئ ويدين المجرم .

الشك يلازم الانسان في مسيرة حياته لانه في صلب تكوينه ، والشك قد ساور اعظم القديسن في بعض مراحل حياتهم ، شكوا في إيمانهم معتقدين ان الله قد تخلى عنهم . علما بان الايمان القوي الحقيقي لا يتحمل اي شك لانه الوثوق بحقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش .

هناك اناس يشكّون اكثر من غيرهم لانهم قد تعرضوا في حياتهم لحوادث تجعلهم يتخذون جانب الحذر من أتفه الامور .  وقد يتحول مثل هذا الشك الى مرض . نجد من بين هؤلاء من يبالغون في حذرهم لشكّهم  بان الاخرين يستغلونهم ، كما يشك هؤلاء باصدقائهم وينكرون ثقتهم، ويترددون في اطلاع الغير على آرائهم الحقيقية ، ويعتقدون بان الجميع ، دون استثناء ، يضمرون لهم الشر  . يجنح هؤلاء للاوهام ويعتقدون بان كافة من يحيطون بهم ينسجون المؤامؤاتِ ضدهم . ويصل  الشك ببعضهم الى عدم الصفح أبدا لأنهم يرون السوء في كل مكان . كما يذهب البعض الاخر حدّ الامتناع عن تذوق اي طعام أو تناوله اذا لم يكونوا هم الذين أعدّوه بأيديهم ، لاعتقادهم بان الجميع يحاولون تسميمهم . وهذا النوع من الشك هو من اصعب الحالات  .
وفي مجال الحالة الزوجية ، وعند استحالة قطع الشك بكشف الضلوع  كما فعل آدم !!، يلتجئ صاحب الشك الى المراقبة المباشرة او يكلف طرفا ثالثا بالمهمة . وتتنوع اساليب متابعة هذا الشك بمراجعة ارقام الهواتف أو اللجوء الى إنصات المكالمات وغيرها ، وفي مثل هذه الحالات الحساسة يكون لكل حركة تفسير ولكل كلمة معنى .

خلاصة القول ، بعض الشكوك طبيعية ، وبعضها ضروري، وكثير منها مبني على المظاهر ، مجملها حالا ت ناجمة من عدم الثقة بالنفس ، تقود الى التردد وعدم الاستقرار عند الحكم على الامور . لا يتمّ التخلص بسهولة من عادة الشك الخاطئ الا اذا اتخذ صاحب العادة  قرار ثابتا في التخفيف منه  بهدف نبذه نهائياً ، وهذا يتمّ عبر جلسات تحليل ذاتي للنفس ودراسة موضوعية للامور للخروج بالاستنتاج التالي : إن الانسان صالح بطبيعته ، حياته معرضة لكثير من التقلبات ، وما يبدو سيئا قابل للتغير والتطور نحو الاحسن . لا يجب الحكم على الناس من مظاهرهم ،  كما يجب ايضا التحلي بالصبر وبروح التسامح ، لان الانسان معرّض للشطط  ولا يوجد بيننا من هو معصوم من الخطأ .

يُقال بان التشكيك في كل شئ وتصديق كل شئ يقوداننا الى عدم التفكير .
ويقول ارسطو بهذا الخصوص : الجاهل يؤكد والعالم يشك والحكيم يفكر .
ويقال ايضا : صدق من يتحدث عن الحقيقة وشكك بمن يكتشفها ، فالشك هو تكريم للحقيقة .
 
Kossa_simon@hotmail.com 

154
حكاية فنان أخطأ دعوته

شمعون كوسا

لقد اعتدت على أن اقوم بجولة يومية ، في نزهة تقودني في مختلف الاتجاهات. وبما انه يستحيل عليّ إيجاد  ثلاثمائة وخمسة وستين مسارا مختلفا لكافة ايام السنة ، فاني اُضطرّ لاتخاذ نفس المسلك لعدة مرات في الشهر . ذكرت هذا لاقول بانّي اخترت من جديد شاطئ نهر صغير كنت قد طرقته عدة مرات قبل الان . هذه المرة  لم أكن حائراً  ولا هائما على وجهي ، بل كنتُ مرتاح البال اتوقف لأمعِن النظر في كل ما جاور الشاطئ من نبات وأحياء ، ومشيت هكذا الى ان بلغتُ مصطبة الرجل العجوز الذي كنت قد التقيته في قصته عن الحنين الى الشباب . 

حال وقوع نظر الشيخ عليّ إنفرجت اساريره ودعاني للجلوس ، وكأنه كان فعلا ينتظر قدومي .  بعد تبادل كلمات الترحيب واستقصاء كل واحد منا عن امور الاخر ، راعينا برهة صمت ، ومن بعدها فوجئت برفيقي الشيخ ينطلق في غناء خفيف . فوجئت ، بسعادة ، لسماع صوت جميل جدا. نغماته هزت أبعد الاوتار داخل نفسي . بعد خمس دقائق من الغناء البديع ، سكت رفيقي والتفتَ اليّ معتذرا لانفراده بالغناء دون استئذاني ، وقال :   كنت قد بدأت لحنا وضعني في حالة تأثر عميق لا سبيل لانهائها إلا بإنتهاء اللحن .
قلت له : ياصاحِ لقد اخذتني بعيدا بصوتك الشجي  وغنائك الرائع ، ولستُ مبالغا ان قلت لك  قلـّما سمعت مثل هذا الصوت ، وِلكن لماذا  اخفيتََ عني موهبتك هذه؟ فهزّ الشيخ رأسه قائلا : إن قصتي طويلة مع الصوت واللحن والغناء . لاني منذ صباي كنت احلم  بان اغدو مطربا ، غير ان سفينتي اقتيدت برياح غير رياحها ، وفقدتُ دعوتي .
وتابع قائلا : لقد اكتشفتُ صوتي منذ نعومة اظفاري من خلال مذياع (راديو) كنت اسمعه بانتظام لدى بثِـّهِ اغاني جميلة للمطربين الاوائل ، فكنت اردّد اغانيَهم ، كنت انطرب شخصيا  ، كما كنت الاحظ أيضا انطرابَ الاخرين من حولي .
 وبهذا الخصوص اتذكر يوما وانا جالس لوحدي أمام دارنا ، انطلقتُ في الغناء بطبقة عالية جدا ، مقلدا احد المطربين . فعلتُ ذلك وانا اعلم جيدا بان جمعا غفيرا ، من نزلاء الفندق الذي بجوارنا، كانوا جالسين في الحديقة  لتناول الطعام او احتساء مشروب . حال ابتدائي بالغناء ، خيّم صمت عميق على الطرف الاخر . واختفى الضجيج كاملا  أمام صوت فتِيّ لم يهتدوا الى مصدره .
 واضاف الشيخ قائلا : وفي السياق نفسه ، اتذكر حادثة اخرى قد تدعو للضحك. دعتني والدتي ، وانا صبيّ ، لتلاوة الوردية . لم يعجبني طلبها لانه  تزامن مع فترة كنت انتظر فيها اغنية عزيزة عليّ . قلت لها : لا بأس في ورديتك ولكني بعد عشر دقائق فقط سافتح المذياع ، فقالت لا تخف لان الصلاة لن تستغرق طويلا . أزفت الساعة المرتقبة ، فتركت كل شي وفتحت الجها ز  وكانت الاسرار في خـُمسها الرابع . أمام عيون امي التي توسعت لوماً ، قلت لها كنت قد حذرتك، وفي ذلك الزمان لم اكن على اطلاع بالمثل القائل : ولقد اُعذِِر من أنذر .

حاولتُ ان اخفف شيئا من احساس صاحبي بالاحباط جرّاء عدم تحقيق دعوته كمطرب، فقلت له : أمّا عن موضوع رغبتك في احتراف الطرب، اعتقد بانه ، بالرغم من امتلاكك الصوتَ الجميل ، وبالرغم من موهبتك ، لما كانوا قد منحوك فرصة لتحقيق هدفك ،  لان الفن ، كالمجالات الاخرى في بلادنا ، تتحكم فيه ايادٍ وقوىً لا تمتّ بصلة الى الفن ، فالمصالح ، والمحسوبية والمنسوبية لها الدور الاهم في النجاح او الفشل في هذه المجالات . فالمغنيّ الذي يفتقر الى ابسط المقومات ، وقد  يكون حتى قبيح الصوت ، له حظ  أوفر منك ، لانه يكون صاحب امكانيات لا تملكها انت . انت معك المهم وهو الصوت الجميل ، اما هو ، فمعه المادة التي اتخمت بطونا  واعمت عيونا. بوسع صاحب المال توفير الالات والملابس والديكور والراقصات ، فضلا عن اغداقه بكرم على من يتولى اخراج اغنيته ، بالصخب والايقاع الكفيلين باخفاء عيوبه .
بعد هذا قلت له : يا صديقي ، إنسَ الان وشنف آذاني اتوسل اليك ، لاني اتحرق شوقا لسماع المزيد من صوتك ، اريد ان ارتفع معك في اجواء تبعدني عن كل ما هو منظور .
استقام رفيقي في جلوسه وتوجه بانظاره الى حيث تدخل الارض في ابعد نقطة تماس مع القبة الزرقاء ، وانطلق في الحان تخيلتُ فيها نفسي سامعا عبد الوهاب وهو يتسلق السلم الموسيقي وينزل وهو مغمض العينين ، واسمهان التي لها في كل كلمة رنـّة ، وفيروز التي تسمو بالانسان عاليا بصوتها الرفيع الشفاف ، ووديع الصافي الذي يهلل فوق الروابي والجبال ، وليلى مراد التي تتغنى بالجو الرائق والصافي بصوتها المتميز ، وحتى فاضل عواد الذي يمسك بالليل و لا يفلته الا بعد جعل النجوم  تنقلب الى قلائد  والقمر شذرا .
واذا كان عليّ ان اصف غناءه  أو أرسمَه ، فاقول : إستهل رفيقي غناءَه بهدوء وبطبقة خافتة  ، وبدأ بصعود تدريجي أبطأته  قوة الرياح غير المستقرة التي كانت تميل بصوته يمينا ويسارا،  وبعدها انطلق كالسهم الى الاعالي في نغمة لم اسمعها مِن قبلُ ، كي يهبط بنفس الخفة الى حيث كان قد ابتدأ . اغمضتُ عيني لأتابع مسار صوته ، فرأيته ينطلق مرة اخرى من طبقة وسطى ، يغني ويصمت ، ويميل يمنة ويسكت ، ويتجه  بانحناءة واسعة تناطح بعض الغيوم ،  ويبرح الغيوم  كي يعود لمنعطف جميل يحرك اوتار مخفية داخل النفس . وفي تحرك غنائي جديد ،  تأهّبتُ مترقـّباً ما عساه يفعل في انتقاله السريع هذا  وكسراته وهل سيأتي بالعذوبة التي اتوقعها ، ففاجأني  بما هو ابدع منها . بعد هذا ، ختم هذا الجزء من فقرته بلحن انتهى بما يُشبه حبات شفافة تفتـّقت منتشرة كالاسهم النارية وتفجرت ثانية وثالثة ورابعة لترسم اشكالا بالوان خلابة ، لم ينتظر كثيرا في لملمة  حبّاته عبر لحن آخر تخيلته وكأنه يلقي بقلادته  في كافة الاتجاهات ، وهكذا بين كرّ وفرّ ، ورقص وتوقف ، وغناء وسكون ،  وانتقال بين مقامات النوى والصبا ، والسيكا والرست ، والحجازي والبيات ، وبعد ان حمل النفس من افتنان وانخطاف الى ارتياح وسعادة ، هبط بهدوء في نغمة اخيرة هادئة  ، لينثر حباته الشفافة الزاهية ، ويتمتع بمشاهدة اضمحلالها ببطئ  بين المياه والاشجار والورود .
 تمّ كل ذلك بخفة تامة ووجه لم تفارقه البسمة وحركة أيدٍ تتمايل مع الكلمات ، ورجفة مقصودة تستهدف غربلة سعادة يُخشى من انطفاء جذوتها !!!

في هذه الاثناء كان هناك بلبل على الشجرة ، لا ينقطع عن التغريد ولكن جوّ الافتنان الذي خلقه صوت الشيخ ، جعله يتوقف عن تغريده ، ويستغل فقط  لحظات صمت المغني أو تأمّله  لارسال تغريدة أو تغريدتين ، وحتى جاره الغراب ، اوقف نعيقه احتراما للموقف ،  (وليس كبعض ممّن لا يختلفون كثيرا عن الغراب بنعيقهم واصواتهم النكراء ، تراهم  يصرّون على القول والترتيل في كافة المناسبات وبصوت عال . وارجو هنا ألاّ  يُساءَ فهمي ،أويُفسَّر كلامي خطأ) !!!! 
بعد  هذا ، بدأ الشيخ يكلمني عن الطرب الاصيل الذي بدأ ينقرض، وعمّا آلت اليه الحال مع جيل جديد لا يؤمن الا بالصخب . كلمات طنانة ، لحن رتيب وصوت لا يحتاج الى عذوبة لان الالات كفيلة باخفاء عيوبه . والمطرب ، فكل ما مطلوب منه هو المظهر والاناقة ، وفرقة رقص مغرية . والناس يكونون قادمين للرؤية اكثر منه  للسماع . أما الالحان ، فان معظمها مزيج من اجزاء مقتطعة من هنا وهناك ومسروقة من الموسيقى الفلانية واللحن الفلاني . واضاف قائلا : انا افضل الغناء بصحبة شخص او شخصين يشعران بجمال ما يقال من جمهور قادم للتصفيق فقط .
 
قبل ان انهض لتوديعه ، قلت له : لقد اغرِِمت بصوتك ، ارجوك ان تختم لقاءنا بلحن بسيط . أطرق رفيقي رأسه ، وبعد برهة صمت قصيرة ، وضع يده تحت اذنه وتناول لحنا حزينا ، لحنا  يقطر دما ، لحنا تجدُ فيه نفسَها كلّ روح مكلومة او من تحتفظ في اعماقها باسرار أليمة . تهدّج صوته ولم يقوَ على انهائه وتوقف.  إلتفتّ اليه ورأيت دمعة كان قد حبسها ولكن دون جدوى ، لانها انسكبت حالا وعقبها سيلُ آخر من الدموع  ، فقمتُ وحضنته طويلا بدموع امتزجت بمجرى دموعه ، وقبّلته من رأسه وقلت له،  لا اجرأ الان على سؤالك ، لكني ساعود يوما لاقرأ  سرّ حزنك العميق ، فأشار إليّ  بيد  رافضة وقال : يا صديقي لا تعتمد على لقاءات كسابق الايام . لا شك ان الروح تعشق الغناء ، ولكنها مقيدة بجسد اصبح عرضة لكثير من التقـلبات ، فالامراض قد عشعشت فيه ، مِنها مَن تزوره  بعقود استئجار مؤقتة ، ومنها المستوطنة التي استملكت مساحات مهمة ، واسست قاعدة متينة تنسف ، باحزمتها  ، في ليلة واحدة ، كلّ ما تمّ ادامته  لشهر كامل  .
بعد هذا الكلام،  قفلت راجعا الى داري ،  وانا احاذي النهر من يميني واحاذي في خيالي سيل الترعة التي شقّها الشيخ بعبرات الحزن ودموع السعادة .

Kossa_simon@hotmail.com
 

155
ما أروع العفو إذا جاء مقتدراً

شمعون كوسا

يُحكى عن قائد سفينة ، مَخرَ بسفينته عُباب معظم البحار والمحيطات ،انه إشتهر بقساوته الشديدة مع طاقمه من البحّارة والعمال والمساعدين الآخرين . كان فضّا في كلامه العادي وفي طريقة إصداره للاوامر . لم يبشّ يوماً بوجه أحدٍ من اعضاء طاقمه ولم يُجهد نفسه حتى بتعلـّم اسمائهم لمناداتهم بها. وباعتقادي هذان السطران كافيان لاستنتاج كثير من صفاته الاخرى. ولانّي عازم على تعريته دون مراعاة ، اقول : انه كان شخصا متعالياً يتعامل مع بحارته الصغار كالحشرات وباختصار شديد كان شخصا ممقوتا يتجنبه الصغير والكبير ، لان أيّ تقرب منه في العمل او خارجه ، كان فرصة لتلقّي إهانة او توبيخ او محاسبة تذهب الى حدّ الضرب مع بعض الصغار . كان البعض يتحمله منذ اكثر من خمس سنوات ، ولولا لقمة العيش لكان معظمهم قد تركوه منذ البداية .
 
مرّت ايام وقدمت شهور وولـّت سنون ، وإذا بالربّان الخفيف الظلّ هذا يصاب بوكعة صحية بسيطة طرحته الفراش ، وكان الامل ان ينهض من كبوته بعد اربعة ايام ، ولكنه تبيّن وكأنّ السرير قد اعتاد على ضيفه ، فتشبّث به ولم يدعه يستقيم . ساءت حالته بسرعة واشتدت يوما بعد يوم ، ورأى الطبيب ، بعد اسبوعين فقط  ، بانه لا مناص من الاعلان بان قائد السفينة مصاب بمرض عضال . عند اعلانه الخبر ، خيّم الوجوم على وجه البحّارة . لم يكن صمتهم العميق حصيلة قلق او حزن ولكنه كان تعبيرا عن حالة انذهال اعترتهم لمفاجأتهم بنبأٍ لم يصدقوه ، لإنهم لم يكونوا يتوقعوه ولا يحلمون به أصلا . وبعضهم من شدة فرحهم ،  حاولوا التمثيل ولعب دور المتأثر امام الطبيب فقالوا بشئ من الحزن : يا للاسف ، أليس هناك امل في شفائه ؟!! والطبيت لكي لا يخدش مشاعرهم ويثير حزنهم ، إكتفي بهزة رأس افقية !!

تقدّمَ المرض بقفزات سريعة احرقت بعضا من مراحله إلى ان أوصل ضحيته الى الاسبوعين الاخيرين من العمر، حيث تبلغ المعاناة أوَجَها من خلال آلام لا يتصورها إلا عقل المريض . كان يمرّ البحّارة امام غرفته ويسمعون صراخه ولكنهم كانوا يتابعون سيرهم دون أيّ مبالاة ، والبعض منهم كان يذهب الى القول : انه يستحق ما جرى له ، دَعُوهُ يموت . بالحقيقة هذا كان رأي معظم البحارة ، باستثناء بحّار صغير  يدعى سعيد .  مرّ سعيد يوما امام غرفة المريض ولدى سماعه أنينَه وصيحاتِه الطويلة ، تأثر كثيرا ، فطرق الباب وحيّا قائده تحية بحرية رسمية وعرض عليه خدماته ، فهبّ عليه الربّان بغضب وامسك بقدح الماء في محاولة لرميها في وجهه ، وامره بمغادرة الغرفة حالا . خرج سعيد  الذي كان قد تعرّض منه ، قبل سنة ، لاهانة كبيرة وضرْبٍ مبرح ترك في رجله اليمنى إعاقة خفيفة ، وكان قد تمّ هذا المشهد امام الجميع .
كان سعيد مُرهف الشعور ورقيق القلب ، سورة غضبِِ القائدِِ لم تـُهبِط عزيمتَه الثابتة ، فعاود الكَرّة بعد يومين . فتحَ بابَ المريض ، ودون استئذانه ، شرع بغسل وجهه ، وأمسك بادوات الحلاقة وحلق له ذقنه ، وقام بتنضيف جسمه وتغيير ثيابه ، وفي هذه الاثناء كان ينظر قائد السفينة إليه مندهشا ، ويستغرب من طيبة قلب هذا البحار وكيف توصل إلى العفو عنه  وغضّ النظرعن كلّ ما قاساهُ منه فيما سبق من السنوات .  سطر أخير من هذا السرد  يقول بان تصرف سعيد ومثابرته على هذه الخدمة المجانية ، جعل القائد يشعر بندم شديد ،  أقرّ به  لاحقاً قبل ان يموت ، بحضور كافة مساعديه .

واذا قمت بتحليل بسيط  لهذا السرد  اقول : إن سعيد لم ينسَ تصرّف رئيسه معه ولم تغب عنه الاهانات التي تعرّض لها، وكان بمقدوره ألاّ يغفر له ، بل ينتقم منه أو يتصرف على الاقل كسائر زملائه ، أعني يدعه وشأنه ، يموت منبوذا وهو يتكبّد اشد الالام ، ولكن عجينة سعيد كانت غير عجينة القائد .  فبالرغم من كل ما جرى له ، كان سعيد يرى في شخص القائد كائنا بشريا ، ويرى ايضا بان الالام لها نفس الوقع في كل انسان ، لذا ، هبّ لنجدته وعفا عنه لانه أحسّ وكأنه هو المتألّم .

لم اشأ هنا سرد قصص العفو في حالات القتل والحروب والعداوات والمواقف الكبيرة ، فمسارالتاريخ ملئ بالالاف منها ، لان هذه القصة بالرغم من بساطتها ذات مغزى كبير لان الاهانة المعنوية في كثير من الحالات ،اشدّ ايذاءً من ايّ اعتداء آخر . وقد سمعت الكثيرين يقولون بان الاستهزاء ، بصورة خاصة ، يترك آثارا عميقة في النفس .

فالعفو إذن هو التخلص من دَيْن الانتقام والحقد والضغينة . قد يكون الدافع دينيا ولكنه في كثير من الاحيان نفسيّ لانه يساهم كثيرا في إعادة الهدوء والراحة داخل الانسان . فالحقد يسمّم الحياة والعفو يحرّرها ، كما سنرى في هذا المثل :

 قيل أنّ معلماً في مدرسة خاصة أراد ان يعطي طلابه درسا عن منافع الصفح عن الغير . فطلب من كل تلميذ إحضار كيس للبطاطس . وقال : اريد ان يكتب كل واحد منكم على كل حبة بطاطس تاريخ اليوم واسم الزميل الذي لا يرغب في العفو عنه . من ضمن الشروط ، كان على الطالب ان يحمل الكيس ويبقيه على ظهره أينما ذهب ولمدة شهر كامل ، لان هذا الصفّ كان قد تفرغ لانجاز هذه العملية التربوية . في البداية لم ينتبه الطلاب للموضوع ولتبعاته ، غير انهم بعد يومين فقط  بدأو يحسون بانهم متورطون ، فساوَرَهم القلق . اصبح الحملُ ثقيلا عليهم ، ناهيك عمّا اصاب حبات البطاطس من انحلال عضوي ادّى الى صدور روائح كريهة كانت تملأ الاجواء حيثما حلّوا ، في اليوم الخامس عشر كانت الروائح اصبحت لا تطاق ، والفقرة المهمة الاخرى  في الاتفاق كانت تقضي بان لا يتمّ التخلص من أية حبة دون العفو عن الشخص الذي تحمل اسمه . ادرك الطلاب معنى العملية ، وللتخلص من ثقل الحمل والرائحة الكريهة ، قاموا برمي كل حبة واصدار عفو عن الاسم الذي تحمله  ، الى أن تمّ إفراغ الاكياس كلها ، وهكذا تخلص الطلاب من أحمالهم التي ارهقت اكتافهم وايضا من الحمل الداخلى الذي كان يكبت على انفاسهم ، فشعروا فعلا بسعادة وسلام  .

فالحقد والرغبة في الانتقام يقيّدان نفس الانسان ويجعلانها في حالة توتّر دائم ، ولقد اتضح بان الكثير من الامراض يُقاس عمرها ببقاء الحقد ورغبة الانتقام داخل النفس . فالرجل الذي يعفو ، وهو قادر على الانتقام ، يشعر باعتزاز وسعادة ،  وبتصرفه هذا يسموعالياً  لانه لم يقاوم الشر بالشر ، كان بمقدوره الثأر ولكنه عفا ووضع خصمه في حالة انكماش وشعور بالندم الشديد .
ان قرار العفو عملية طويلة وصعبة لان  مراحل الوصول اليه ترغم المجروح على وضع نفسه على المحكّ ، ومحاسبة نفسه ، وتحميلها حصتها من المسؤولية .ثمّ يبدأ الانسان بالشعور بانه تعرض لاهانة ، فيتألم من ذلك ، حينئذ يخرج من طور كونه الضحية ليعبّر عن غضبه ، ومن ثمّ  يقرر لقاء غريمه للعفو عنه .
ما اصعب العيش لو اختفي فيه الغفران . حياتنا مليئة بالاخطاء ، بالاهانات ، بالشتائم ، بالجرائم والاعتداءات بشتي ألوانها . ماذا لو فكر الجميع بالانتقام من كافة ناكري الجميل على ظهر البسيطة، الا يؤدي ذلك الى انخفاض البشرية الى اقل من نصفها ؟
لا يُنكر بانّ هناك نوعاً من العفو من الصعب التوصل اليه بسرعة ، وهو الصفح عن اهانات ناجمة عن الاقرباء والاصدقاء .لان الطعنة في هذه الحالات عميقة جدا والشفاء منها يستغرق اضعاف ما تقتضيه نفس الطعنة من الغرباء او عامة الناس .
يجب ان نقول ايضا بان العفو في حالات الاقتدار هو نصر نفسي وقوة ، وليس تنازلا أو ضعفا . هناك مثل فرنسي يقول : إن من لا يستطيع الصفح عن الاخرين ، يقطع جسورا يجب عليه عبورها شخصيا ، لانه عاجلا ام آجلا ، سيحتاج يوماً الى ان يصفح عنه الاخرون .
 لا نستطيع اختتام الموضوع دون أن نقول ونردد بان قلب المحبّ يبقى الكنز الحقيقي للعفو، لأن ما يحدو بالمحبّ الى العفو هو تنافره التام مع عالم الحقد والضغينة ، فضلا عن ان تسامحه وعفوه يتدفّقان من منبع الحب نفسه ، وليس كالعفو العادي الذي قد يأتي أحيانا دون حب.  وهل يمكننا ان نغادر الحديث دون ذكرالأمّ التي قلبها  اشبه بالبحر الذي يحتفظ دوما في اعماقه بعفو يحتاجه اولادها ؟

Kossa_simon@hotmail.com



156
سفرة بَرّية الى العراق قبل عشر سنوات

شمعون كوسا

قبل أيام ، وضمن عملية ترتيب بعض الاوراق وتصفية القديمة منها ، عثرتُ على قصاصة كنت قد دوّنت فيها تفاصيلَ عن سفرة قمت بها ، سنة 2001،  من الاردن الى العراق . كنتُ قد قمت قبل ذلك بعدة سفرات من العرق الى الاردن وبالعكس ، وكنت قد حظيت آنذاك ببركات طريبيل والانتظار في الحدود أحيانا لاكثر من عشر ساعات ، ولكن هذه الزيارة ، التي  أتردّّد بسردها ، أتت في أزمنة كان قد أخذ الملل من نفوس العراقيين مأخذاً وبلغ حدّاً لا يطاق ، تعب متراكم سبّبته حروب لم تنتهِِ ابدا بشكل تامّ ، وحصار جائر جعل الناس لا يطيقون نفسهم ، أو ظروف قاسية حوّلت اغلب المسؤولين الى اشخاص مستهترين ، وقلّبت امور الاهالي ظهرا على عقب ،  فاصبح الغنيّ فقيرا والسيد خادما والشبعان جائعا والكريم شحاذا . كما سنرى فيما يلي .
إني في حديث اليوم بعيد كلّ البعد عن الخيال والغيوم والاجواء العالية والاشجار والعصافير والقمم العليا والفضاءات اللامتناهية والافاق البعيدة والالحان الشجية التي كانت وستبقى مصدر إلهامي الكبير . سأخوض المغامرة في أجواء جافة ،  وأنا شبه مقتنع بان بعض المتصفّحين سيتثاءَبون  من اول السطور ، والبعض سيجاملني ويواكبني الى منتصف الطريق ، ولربما القلة المتبقية ستصبر الى النهاية ، لاستعادة بعض ذكريات لها عن ظروف غريبة واحداث مضحكة ، مبكية .   
فلنبدأ  اذن :

بعد عبور الحدود الاردنية بهدوء نسبي ، وصلنا الى طريبيل  واستبشرنا لخلوّ الساحة ، إذ  لم يكن امامنا غير  سيارتين . حمدنا الله مسبقا وقلنا بان حِملنا سيكون اليوم خفيفا وسننطلق بسرعة . لكن أول خيبة أمل أتتنا من المسؤول الجمركي الذي لم يسمح لنا بالنزول من السيارة الا بعد ثلاثة ارباع الساعة . عند نزولنا من السيارة ، احاط  بنا على الفور اربعة اشخاص مكلفين بمساومتنا على اختصار التفتيش والتخفيف من بعض تعقيداته  . بعد أخذ وردّ بين السائق والمفاوضين ، تمّ الاتفاق على تنفيذ مشروع التفتيش بثمانية آلاف دينار عراقي . بعد التوقيع بالاحرف الاولى على الاتفاق الشفوي هذا، انتظرنا خمسا واربعين دقيقة اخرى خارج السيارة لاتاحة المجال لنفس المسؤول في القهقهة وانهاء حديث فكاهي كان قد بدأه مع زميله. انتظرنا بصمت خشية اثارة غضبه  والتعرض الى عقاب تأخيري آخر . عند تسديدنا للمبلغ المتفق عليه ، تمّ مطالبتنا بالفي دينار اضافية بحجة ان المفاوض الاول  لم يأخذ بالحسبان حصة المسؤول المقهقه الذي لم يخدمنا بشئ الا  في تأخيرنا . تخيّلوا بان كل هذا يجري علنا ودون خوف او خجل . تمّ تفتيش السيارة بالكامل ، كما تمّ قلب كل شئ داخلها، وحتى المقاعد رُفعت من مكانها . 
أمام قساوة مأمور الجمارك وحرارة الجو التي لا تطاق ، لم اتمكن من كبح خيالي ومنعه من الانطلاق لثانيتين فقط ،  ليقول :   إذا حدث وان تجرّأ (النسيم العليل)   واقترب من طريبيل في هذا اليوم الجهنمي لاسعافنا بقليل من رطوبته ، ألا يمسك  به هذا المسؤول الجمركي من اذنه ويعاقبه باشباعه حرارة وبتغيير اسمه واسم ابيه من نسيم عليل الى  (لهيب حارق) مثلا ؟ !!
 المرحلة الثانية المضحكة المبكية بدأت مع الفصل الخاص بعملية فحص الايدز . تبدأ سلسلة المراسيم هنا بمراجعة شخص كبير السن تقتصر مهمّته على تدوين الاسم ورقم جواز السفر على ورقة باربع نسخ . كان كاتبنا هذا ضعيفا باللغات الاجنبية ، فاضطررت الى إملائه المعلومات ، وتهجية الكلمات التي كان يحتاجها من الجواز الاجنبي ، وبالرغم من حرصي الشديد على اللفظ  بصورة سليمة ،  جاءت الكلمتان اللتان كتبهُما بأكثرَ من خطأينً . بعد تدوين معلوماته ، ناولني الشيخ  النسخة المقروءة ، لان النسخ الاخرى خرجت من تحت كربون اُستخدِم لخمسين مرة على الاقل ، وطلب مني مراجعة مصرف الرافدين في طريبيل لتسديد خمسين دولارا تمثل رسوم الدخول الوطن، ولكنه قبل انصرافي طالبني باول اكرامية . كنت على دراية بهذه العادات العشائرية الحميدة ، فدفعت أول دينار اردني . عند عودتي من مصرف الرافدين ، أعاد إليّ العمّ الجواز مع النسخ الاخرى غير المقروءة ، واشار لي  بمراجعة زميله لكي يعيد تسجيل نفس المعلومات في سجل خاص. ناولنا الموظف الثاني أنبوب المختبرلسحب الدم لقاء اكرامية ثانية دُفعت حسب الاصول . وهذا بدوره وجّهنا الى المسؤول عن سحب الدم الذي استقبلنا بابتسامة ذات مغزى وطالبنا مسبقا بمبلغ دينارين اردنيين قائلا : سوف لن اوجعكم وساستخدم لاجلكم ابرة جديدة . فقلت في نفسي ، هل هذا يعني بانه يستخدم نفس الابرة لعدة مرات ، أم لعلّ هذه ديباجة يرددها على مسامع كافة المسافرين !!؟   فاعطيناه المبلغ شاكرين . بعد سحب الدم ، بلغنا مرحلة  توقيع الطبيب ، كنـّا على بُعد خمسة وثمانين سنتمترا فقط من غرفة الطبيب عندما فاجأنا فراش وُضع خصيصا لمفاجأة المراجعين ، فانتزع منا الاوراق ليدخل بها الى الطبيب ، والهدف هنا ايضا ليس غير الرغبة في إضفاء صفة الشرعية على اكرامية لا بدّ له من الحصول عليها أسوة بزملائه .
وبهذا انتهينا من هذه العملية التي ، باعتقادي ، كانت مصدر ازعاج للناس غير انها كانت مصدر رزق للمسؤولين ، وإلاّ ،  فما هي الحكمة من سحب دمٍ لا يُفحص اصلا ولا يُتابَع امرُه ؟ وبعد كل هذا، يجب وضع ختم خاص على الجواز لتخليد الإجراء للاجيال القادمة !!.

بعد عملية سحب الدم ، طـُلِب مني مراجعة ما يسمى بقسم الكومبيوتر ، قسم يديره رجل أمن برتبة ضابط . طار المسؤول فرحا لرؤية الجواز الاجنبي وبادرني بابتسامة : ماذا جلبتَ لي معك من فرنسا ؟ فاجبته بانني قادم من الاردن ، وناولته دينارين ، فقال : ان المبلغ قليل  إرفعه الى خمسة دنانير ، فناولته المبلغ دون نقاش. بعد طرح بعض اسئلة عن موضع اقامتي ومدتها في العراق ، ختم الجواز وتنفست الصعداء لاني كنت قلقا لاسئلة محرجة قد تخطر بباله حول الجواز الاجنبي وكيفية الحصول عليه ومصير الجواز العراقي وغيره . انتهت معمعتنا الطريبيلية مع آخر شرطي لم يكن همّه التأكد من جوازنا بقدر ما كان حصوله على آخر دينار . انطلقت السيارة داخل العراق مسرعة كالغزال ، خشية ملاحقتها من مسؤول قد نسي حصته او ندِمَ لانه لم يطلب اكثر !! وصلنا بغداد بعد منتصف الليل .

في اليوم التالي ، وبغية كسب الوقت ، كان علينا استحصال تأشيرة خروج من العراق لزوجتي ، لان سفرتنا كانت محددة باسبوع . وطننا العزيز هو البلد الوحيد في العالم الذي يطالب مواطنيه بتأشيرة خروج من البلد لقاء مبلغ قدره  412 ألف دينار عراقي . المشكلة هنا تكمن في وجوب تقديم المبلغ  بصكين مصدّقين منفصلين . بعد ثلاث ساعات ، تمكنّا من التخلص من كيس الدنانير النقدية التي كنا نحملها وتحويل المبلغ الى الصكوك . كان هذا في يوم 15 تموز ، في احد فروع مصرف الرافدين في الشالجية . أغلب الظن ان هذا المصرف يُستخدم ايضا كـ (ساونا)  لانه كان خاليا تماما من اي نوع من وسائل التكييف او حتى التهوية . كان المراجعون يتصببون عرقا وكأنهم خارجون فعلا من مسبح حار جدا .  عند مناداة اسمي ، اقتربتُ من الموظفة في البنك وناولتها دينارين اردنيين دون ان تطلب مني ولكنها فرحت بها كثيرا . متشجعا بابتسامتها ، اردت ان اعبّر عن بعض امتعاضي فقلت لها : كان الله بعونكم ، هل يُعقل بان يعيش الانسان في وضع كهذا ، بعيدا عن التقدم الحاصل في العالم ؟ فالتفتت الموظفة يمنة ويسرى في محاولة لاغلاق آذان الحيطان القريبة منها ، واكتفت بالقول : وهل في اليد حيلة ؟
من بين المستندات العديدة التي لا بدّ من توفيرها للحصول على التأشيرة كانت بطاقة السكن،   وهذه مطلوبة حتى ان لم يكن الشخص من سكنة بغداد .  لجأنا في هذا الامر الى السائق الذي استحصلها بواسطة مختار محلته ، لقاء حفنة من الدنانير العراقية المطبوعة . انطلقنا بسرعة الى دائرة جوازات الزيونة ، استلم المسؤول المعاملة ، وعندما رآنا متلهفين لانجازها ، قررتأجيل كافة المعاملات الى يوم الغد ، بالرغم من بقاء ساعتين على انتهاء الدوام . انزعجتُ من قراره ، لان فقدان يوم واحد كان كثيرا بالنسبة لنا ، وبما انه لا يحقّ لي  الاعتراض ، توسّلت اليه مستخدما كافة المرادفات بما فيها التضرع والابتهال كي ينجز معاملتنا مُدّعيا بان على زوجتي العودة الى الاردن بعد يومين . فسألني بنبرة متعالية عن هويتي وكيف اسمح لنفسي بالتدخل في الامر ، فقلت له إني زوجها ، فقال : واين معاملتك انت ، فاجبته باني احمل جوازا اجنبيا ، فانفرجت اساريره  وقال :- لقد جنيت على نفسك- . خفتُ كثيرا من كلامه لان مثل هذه الكلمات تعني الكثير في بلد لم يرَ المواطن منه الا المضايقات والملاحقات ، ولكني فهمت من الموجودين بان صاحبنا اكتشف في شخصي بقرةً حلابة ، فخاطبت نفسي مرة اخرى قائلا  بانه حتى هنا ، لا يختلف المسؤولون عن زملائهم في طريبيل ؟. تمّ التلميح للضابط بان البقرة التي امامه مستعدة للتخلي عن كمية من حليبها . فعلا  تمّ حلب البقرة بالكمية التي اشبعت الضابط  ، ودُفِع الحليب ، العفو ، المبلغ المطلوب مع الحصول على وعد صريح  منه بتنفيذ التأشيرة . انتظرنا طويلا دون جدوى ، لانه في هذه الاثناء تغير الضابط الرضيع ، وزميله الذي حلّ محله أتى مُعلناً بصوت عال بأنّ صاحبة هذا الجواز هي من مواليد الشمال ، وكان من الخطأ استلام جوازها !!. لم اصدّق الامر ، لأن صاحبة هذا الجواز كانت قد حصلت أصلا على جوازها  من هذا المكتب ، ونفس هذا المكتب كان قد اصدر لها تأشيرتين قبل الان ، فما الذي تغيّر؟!! وقلت في نفسي مرة اخرى : اذا حدث وان انجبت عائلة امريكية متواجدة في شمال العراق طفلا ، فهل يُطلب منها الرجوع ، في معاملاتها ، الى البلدة التي ولد فيها جونسون الصغير ؟ بعد انقضاء ساعة فهمنا بان صاحبنا الجديد يبحث عما تبقى من الحليب ،فتمّ له ما يرغب ،  وهكذا اصبحت الكمية الشاملة المصروفة من منتج الالبان هذا يعادل ثلاثين الف دينار .
وهنا اكون قد انتهيت من سرد المرحلة الاولى من الرحلة ، و لا اعرف هل سأستمر في البقية ام لا ، لاني سابدو كالذي يقص حكايته لنفسه !!
ولكي لا اتسبب في ضجر ٍأراه قد بدأ يتغلغل داخل النفوس ، اختصرُ قائلا بان المسافة بين بغداد واربيل مروراً بكركوك لم تكن الا محطات لإغداق الاكراميات ، حيث كان الدينار المطبوع سيد الموقف . ولكي اوجز اكثر اقول بان العودة كانت نسخة من الذهاب ، باستثناء مسلسل الآيدز الذي أخلى مقعده لمشهد مع السلطات الجمركية  في طريبيل او بالاحرى مشادّة كادت توصلني الى المحاكم بسبب حملي لخمسمائة وخمسين دولاراً . كنت احمل اضعاف هذا المبلغ عند دخولي البلد ، غير ان القانون لا يسمح بالخروج باكثر من خمسين دولارا. لم يتجاوب المسؤول مع أيّ تبرير ، حتى عند اعلاني عن  حاجتي لتذكرة طيارة بعد يومين  ، فقرّر حجز نصف المبلغ على ان يقوم السائق بسحب المتبقي بعد اسبوع  !! هنا ايضا لم افهم حكمة الحجز هذه  والسماح للسائق بسحب المبلغ بعد اسبوع !!.

في الختام ، أكتفي بما يلي : كلّ مرة اقول ما الفائدة من ترديد موضوع قد كرّره الكثيرون من قبلي ، غير إني اضيف بانّ ما جرى كان طبيعيا جدا في بلد تخلـّف عن ركب الحضارة ومراحل التطور ، في بلد إنصرف مسؤولوه للتقوقع على ذاتهم  مع التركيز فقط  على ملء بطونهم وتدوير دخلهم الشهري او تكديس اكرامياتهم ، حتى اذا كان ثمنُ ذلك إهانةَ مواطنيهم وإذلالهم ، اشخاص أنانيون يخافون من تسهيل امور المواطنين ، خشية ارتكاب مخالفة لقوانين خاصة بهم ، أو تلقـّي العقاب ممّن يفوقونهم مرتبة أويرون الامور بشكل مغاير لهم .
Kossa_simon@hotmail.com

157
تمنيات من أعالي الجبال
شمعون كوسا

دخلت مرة اخرى عالمَ الخيال ، فتمثلت نفسي فوق جبل شاهق يطلّ على وادٍ سحيق ، وعُدت باذهاني الى اغنية لا أملّ ابدا من سماعها ً، أغنية قديمة لفيروز تقول : (لِمَ لا أحيا  وفي  قلبي  وفي عيني الحياة ؟ سوف أحيا ، سوف أحيا) ، لحن بديع لا أجد وصفا لعذوبته ، اغنية تبعث الحياة في روح المنازعين وتزرع الرجاء في قلوب اليائسين .

مندمجا مع اللحن ، دخلت تلقائيا في دندنة خفيفة تحولتْ الى صوتٍ عال ، ينتقل بين مقامَي السيـﮔا والرّست ، فاطلقتُ كلماتي بنفس التلقائية على شكل امنيات للعام الجديد ، فأتت كما يلي :

تمنيت لو عرف الناس بان الله يخصّ البشر جميعا بحبّه ، وسيّان عنده لونهم أو طائفتهم او دينهم   .
تمنيت لو عرف الناس بانهم حقا إخوة لانهم قد عُجنوا دون تمييزعلى صورة الله.
تمنيت لو عرف الناس بان الله ليس معوّقا ولا يحتاج الى حماية أحد ، لانه هو القادر على كل شئ .
تمنيت لو عرف الناس بان الله ليس رئيس عصابة  يستأجر خدمات اناس حاقدين ، أومهووسين ، او خارجين عن القانون من اجل انهاء حياة مخلوقات أوجدَها هو ، وهو الوحيد الوصيّ عليها.
تمنيت لو عرف الناس بان الاديان أتت لاجل البشر ، لتنظيم علاقاتهم للعيش في محبة ووئام وليس للاقتتال بينهم باسم الله .

بعد هذا نزلت قليلا لأتغلغل أكثر في حياة الناس وتفاصيل حياتهم ، فتابعت مُزمّراً :

تمنيت لو قام الناس بتنقية قلوبهم من حقد يتحول عند بعضهم الى سُمّ زعاف 
تمنيت لو أزال الناس من نفوسهم الحسد والغيرة ،
تمنيت لو نبذ الناس غرورهم وكبرياءَهم ، وما أكثر هؤلاء
تمنيت لو اخلص الناس لبعضهم البعض
تمنيت لو كفّ الناس عن الفرح  لمصائب غيرهم
تمنيت لو قطع الناس دابر انجرافهم السهل نحو الافتراء والنميمة
تمنيت لو بحثتِ العدالة عن الحق والحقيقة ، تاركة الطرق الملتوية للالتفاف عليها
تمنيت لو رأى الناس رذائل بعض الاغنياء وقدّروا فضائل الفقراء
تمنيت لو قررالبخلاء الانفتاح قليلا على الناس وعلى الحياة
تمنيت لو اصبح رجال الدين قدوة حقيقية لافراد  رعيتهم ، بعيدا عن المال والماديات وترهات الدنيا ، وان يعودوا بصدق كل يوم الى اعماق قلوبهم وضمائرهم لتمحيص درجة تجردهم وقربهم من الرسالة التي اوكلت اليهم .
تمنيت لو ابتعد اهل المنطقة عن الطمع والركض وراء الاملاك والاراضي والعمارات والبيوت من اجل تأجيرها بمبالغ فاحشة تفوق طاقة المغلوبين على امرهم .
تمنيت لو فكر الناس يوميا بان الحياة فانية وان كل شئ آئل الى الزوال ، جمالا كان أم مالا ام غيره ، وبأنّ  هذا القدر لا يستثنى أحدا من مراحم منجله !!
وتمنيت ، وتمنيت ولم أدَع مجالا او شريحة لم اتناولها، وكل  تمنياتي كانت تصبّ في حلم أرى فيه عالماً يعمّه السلام وتعيش فيه الناس بحب ووئام .
وانا في حالتي هذه ، لم اكن اعلم بان صوتي كان يصدح وتتناقله الجبال والوديان باصداء تتجدد لتصل الى أبعد المسافات. كنت احدّق بنظري الى منتصف القبة الزرقاء لكي اقصّر مسافة دعائي واُسرِعَ في وصوله الى السماء . غير اني عندما انتهيت رأيت نفسي في حالة انخطاف ،  مرفوعاً قليلا عن الارض ، فخفت وقلت في نفسي : ماذا سيقول الناس عني ، الا يعتبروني ساحرا ؟!!. إلتفتّ حولي للتأكد باني في معزل عن الانظار ، وإذا بِيّ أرى نفسي محاطا بجمهور غفير مكوّن من اغلب الشرائح التي تلقـّت اصداء تمنياتي والتي لم ترَ فيها الاّ انتقاداً ولوماً.
كانوايقتربون مني بعيون جاحظة وجباه مقطبة ووجوه عابسة واعصاب متشنجة، بعضهم كان يهدد بالعصيّ وبعضهم يلوّح بقبضته ، والبعض قد امسك بحجارة ، ورأيت البعض الاخر يهدد من بعيد بصلبان ذهبية وهم بكامل بدلاتهم السوداء ذات الاشرطة الحمراء أو الازرار البنفسجية ، هؤلاء عرفتهم وقلت : حتى انتم يا اخوتي ؟  بحثت عن ملاكي الحارس لمعرفة ردّة فعله فابصرته راكعا بعيدا ، مكبّل اليدين وقد جُرِّد حتى من أجنحته . فوطِئت الارض حالا و انحنيت طويلا امام حشد المناوئين لي ، قمت بدورة كاملة ، معتذرا في كافة الاتجاهات ونادماً بمرارة على سوء فهم لم يخطر قطّ ببالي .
بعد هذا ، توجهت الى ملاكي الحارس وقمت بفك قيوده وبتركيب جناحيه وقلت له : قد تحتاج من الان فصاعدا الى سلاح خفيف يحل محل جناحيك ، فرمقني الملاك بنظرة حادة وقال : أتريد ان يتحول الملاك الحارس الى ملاك غادِر ؟  وبِنفس النبرة تناولني في تأنيب حاد  ومباشر قائلا :
ماذا دهاك يا صاحبي ، لماذا تغني باعلى صوتك ، وما لك والناس وعاداتهم وتصرفاتهم . انا اعرف بانك تحبّ الغناء  ، لماذا لا تتخذ العصافير والزهور والهواء والجبال والوديان وجمال الدنيا مواضيع لغنائك ، واذا حدث وأن طفح بك الكيل ، أوضاقت بك جميع الحيل ، فهدِّئْ من روعك وابدأ دندنة خفيفة وسط محيط يتسع صدره لتقريعاتك وعتاباتك .
يجب ان تعلم بان الرسل والانبياء ، منذ آلاف السنين ، لم يفلحوا في اجتثاث الشر وفي إصلاح المجتمع . هناك عادات متأصلة ، هناك رذائل كما هناك فضائل ، وهذه كلها جزء من طبيعة البشر الضعيفة وانت واحد منهم .
وقال ايضاً : لحسن الحظ ، لم تخلُ الدنيا ابدا من رموز جسّدوا القيم والفضائل ، وهؤلاء سيبقون منارة لمن يريد اقتفاء آثارهم والاقتداء بهم . ولكنه وللاسف الشديد ، سيبقى المال ربّا ينافس الله لان عبادته مغرية وسهلة ، فاذا اتخذه الناس وسيلة فهو نعمة ، أمّا اذا اعتبروه غاية فهو نقمة .

 
Kossa_simon@hotmail.com

158
حكايتي مع الجيش الشعبي
   
            
شمعون كوسا

الغريب في حكايتي هذه ، إنني لم أنضوِ يوما تحت لواء الجيش الشعبي ولم أرتدِ ولو لِلحظة واحدة البزّة الزيتونية ، غير أني عشت بين خمس او ستّ سنوات كاملات تحت وطأة هذا الارهاب الفريد من نوعه ، فترة عشتها بايامها ولياليها في دوّامة حملات الجيش الشعبي التي لم تتوقف يوماً.
كانت الحمّى لا تفارق المعدة والتوترُ لا يُمهل الاعصاب والخوفُ كانت تكفيه صورة شبح بعيد كي يُدخِل الاطراف في رعشة تلقائية. كان يجب عليّ الذهاب الى العمل صباحا والرجوع الى البيت بعد الدوام ، كما كان يجب ان اخرج لتأمين حاجات البيت اليومية ، وبعد ذلك كان عليّ المبيت  في البيت والخلود للنوم ، وكل هذه التحركات كانت مناسبات تجعلني في حالة استنفار دائم . الطريق من البيت الى مقر العمل كان طويلا ومحفوفا بالمخاطر وكان في بعض محطاته شبه حقل مزروع بالالغام . عندما كنت ألمَحُهم من بعيد أحاول التعريج على اقرب شارع فرعي ، وان لم يكن ذلك في متناولي ، استمر في السير مُبتدِئاً تساعية صغيرة اوجهها في الابتهال الى القديسة ريتا  وإن كنت بعيدا عنها ، اتوجه بالدعاء الى الاولياء الاخرين علهم يُلهون صاحب المفرزة بمن يسبقني او يزرعوا بعض الرأفة في قلبه إن كنت انا طريدته المباشرة !!.
عند خلوّ الطريق من المفارز  كنت اخرج مطمئنا ، ولدى  دخول الشارع العام ، بعد بعض مئات من الامتار ، كنت ابصر من بعيد بعض المفارز ، فاستدير حالا واعود بسرعة الريح الى البيت واتصل بالدائرة كي تسعفني بسيارة تقلـّني الى العمل .
 
لم يقوَ المسؤولون يوما على إرغامي الخضوع لاوامرهم وقت الدوام ، لانني لم أنخرطِ في صفوف الحزب الحاكم ، ولم اكن موظفا حكوميا ، لكني كنت موظف سفارة اجنبية لا يمكن الدنوّ منها في شؤون كالتي تخص الجيش الشعبي ، ايّ تصرف من هذا النوع كان يندرج ضمن التجاوز على السفارة التي تعتبر قطعة من ارض البلد الذي تمثله .

كنا نسمع بحملة انتهت وحملة ستبدأ ، ومجرّد اسم الحملة ، كان يولجنا دوّامة الحمىّ والاعصاب والارتعاش ، فنقبع في البيت أو نختفي .
قبل الخروج صباحا ، كنت ادعو زوجتي لتفقد المفرق الذي كانت تطل عليه شقتنا والذي كان منعطفا اجباريا لكافة السيارات  نحو الشارع العام ، وكان قد اعتاد الاخوة على ان يخيّموا بمفارزهم هناك .  فاذا صحّ خبر تواجدهم ، أتاخر بالخروج أو لا اخرج نهائياً واقوم بالاتصال بصديق لي في الطرف الثاني من الحارة كي يحترس في خروجه للعمل ، لانه هو أيضا بدوره كان يقوم بـ (تبادل المصعد معي ) ، أي انه كان يُبلغني اذا كانت  المفارز تدقّ أوتاد خيامها في الطرف الاخر قرب منزله .
بسبب هذه الحملات المتكررة ترك صديقي الوطن وأنا معه ، وتحوّل من بلد الى آخر، ويقال بانه استقرالان واختار الصين مسكنا ، ولا اعرف هل تمّ إبلاغه بامرانتهاء هذه الحملات أم لا ، ولكن باعتقادي لا يحتاج الى معرفة ذلك ، لان ما يجري الان من تفجيرات وذبح وتهديد هو اكثر فضاعة وبشاعة ورعبا .
 
كانوا يقصدون البيت ليلا من اجل التبليغ ، وكانت زوجتي هي التي تفتح الباب دوما ، فيقولون لها : -هل ابو فلان في البيت ؟ فتجيبهم : كلا .  - متي سيعود ؟ تقول لهم : لا اعرف .  - أين هو ومتى سيعود ؟ تجيبهم  : لا علم لي بذلك .  -يقولون :إذا عاد بلّغيه بوجوب مراجعة الفرقة لبيان موقفه ، فتجيبهم :اهلا وسهلا.
 لم يحاولوا اقتحام البيت ،غير اني سمعت بانهم كانوا قد فعلوها مع بعض رفاقهم.
كانوا يُعيدون الكََرّة في اليوم التالي ، فيكون سؤالهم الاول- :  ألم يرجع الحجّي الى البيت ، فتجيبهم كلا، )   ولا اعرف لماذا كانوا ينادوني حجي انا الذي لم يحالفني الحظ  باداء مناسك الحجّ أو العمرة  ( !!
 -يبادرونها من جديد : بلـّغيه بمراجعتنا ، - فتقول لهم : ماذا تريدون منه بالضبط ؟          -فيجيبونها : انه مجرد توقيع وتثبيت موقف . وبعد ثلاثة ايام يعودون مهدّدين :-  هل انّكِ تسخرين منا ، اين هرب زوجك واين هو؟ - فتيجبهم انه  في مهمّة مع وفد اجنبي ،
فيقولون :  -وكيف لنا ان نصدقك ؟ فتسلمهم حالا كتابا مسبّق الصنع مُعَدٍّاً لهذا الغرض.
فاذا كانت المهمة المزعومة لمدة عشرة ايام مثلا ، احمل نفسي في اليوم التاسع للبحث عن معارف يرتبطون بصلات خاصة مع هؤلاء المبلغين او رؤسائهم ، فاذهب بصحبتهم لزيارة هؤلاء وانا حامل سوائل مغلقة داخل قناني جميلة ، بعضها روحي وبعضها جسدي فواح ، أو احياناً اقلاما تعانق ريشتـُها الورقـة َ ،دون كلل ، لعشر سنوات او اكثر  !!فيرحّب المسؤول كل مرة ويقول لي : لاخوف عليك ولكن احترس في المرة القادمة . وهكذا ، كلما سمعت عن حملة في حارتنا،  احاول  على قدر الامكان ، معالجتها بهذه الهدايا .
في احدى المرات ، وفي محاولة استدراجي باسلوب آخر ، قالوا : اننا نعلم بحالة الحاج  الصحية ، سوف لن نرسله الى الجبهة ولكنه سيدخل مجلس الشعب . ولم يكن هذا غير فخ آخر . الطامة الكبرى في هؤلاء الناس ، إنهم لم يَعُوا ابداً بان الذهاب الى الجيش الشعبي كان يعني فقد العمل واضاعة المستقبل لان السفارة ليست خاضعة اصلا الى أيّ قانون يتعارض مع مصالحها. فاذا كانت تقبل احيانا دعوة المواليد للجيش ، فانها لا يمكن لها تفهّم   الذهاب طوعا الى الجيش الشعبي ، لانه بالرغم من اساليبهم القمعيّة ،  كان يجب على الشخص المغلوب على امره الاقرار بانه قبِل بالجيش الشعبي بمحض ارادته ، مع ابتسامة عريضة ترتفع الى مستوى الاذان !!!. 
بعد فترة توصلتُ الى تغيير وضعي المثبت في دفتر الخدمة العسكرية فاكتسبتُ صفة (غير المسلح) بفضل عويناتي وضغط الدم الشرياني الذي كنت اعاني منه . ولكني لم اهنأ كثيرا بهذا الامتياز ، لان القيادة أمرت بالغاء كافة القرارات المتخذة بخصوص غير المسلحين ، فتشكلت هيئة باسم لجنة شرحبيل ، وحوّلت هذه اللجنة معظمَ غير المسلحين الى مسلحين ، ولكن الايجابي فيها كان انها اعطت مهلة سنة لاجراء الفحص ، وكان المشمول غير خاضع  للعسكرية طيلة هذه الفترة .

اتذكر مرة ، خرجت للعمل ، وحال انعطافي يميناً رأيت نفسي امام مفرزة للجيش الشعبي كانت قد اختبأت خلف احد البيوت . فقفز الشخص الزيتوني المكلف بالقفز وطلب مني هويتي ، فاخرجت له ورقة لجنة شرحبيل ، وهي مجرد قصاصة تحمل سطراَ واحداً كنت   احافظ عليه مثل  بؤبؤ العين . فقال لي : انت جندي اليس كذلك ؟ فاجبته ، انك ترى ذلك ،  ولم اشأ ان اجيب كما اجاب المسيح : انت قلت . فصرفني بسهولة ، وانا اعرف بان غيري من حَمَلة هذه القصاصة لم يستحقوا رأفة القافز في مفارز اخرى ، فشكرت الله وصليت كي لا يفاجئني قافز آخر مفتوح العينين في هذا الطريق الطويل .
انني اتكلم عن حالة عانى منها الجميع ، وعرف كل عراقي عنها مئات القصص التي اجهلها أنا . لم يُفلت احد من براثن هؤلاء ، فالكل كان مطلوبا ، الشاب والعجوز ، المريض والمعافى ، لان الحاجة الملحّة كانت لعدد معين لا بد من الحصول عليه  بايّ ثمن كان .  فكان شعب العراق باكمله مجموعة خدم او عبيدا مستأجرين او شعبا  من ملايين المجرمين الذين يجب الاقتصاص منهم . كان الجميع وُقودا صالحة للجيش الشعبي ، فالمهندس والمدرس والمعلم والطبيب والموظف والكاسب ، ولا يهم اذا كان المطلوب صاحب شهادات عليا لا يستغنى عنه في عمله . اقتيدوا كلهم كالنعاج  ، بعضهم لم يعودوا ، وبعضهم فُقِدوا،  وبعضهم وقعوا في الاسر وعادوا معوقين ، مثل أحد الفنيين المهمين في منشأة الصناعات الكهربائية ، بعد تميّزه في اختصاصه واشتراكه في دورات متخصصة في الخارج ، شعرَتِ القيادة بضرورة توجّه (يونان) الى الجبهة ، وارسلته الى معركة المحمرة . ذهب الى الجبهة ، وفي اليوم التالي من وصوله وقعت المحمرة ، ووقع يونان اسيراً ولم  يعد الا بعد اربع سنوات ، ضريرا من كثرة التعذيب. هذا نموذج من بين عشرات الالوف  .

بخصوص العدد الضروري للحملات ، اتذكر حادثة رواها لي احد اهالي اربيل وقال : في تقاطع الطريق باتجاه مدينة عينكاوة ، كانت شاحنة مليئة بالمدنيين واقفة تنتظر صيدها من بين المارّة . اوقفت المفرزة شخصا كان يسير الخيلاء  ودون مبالاة ، فطلب المسؤول هويته ، وعندما اكتشف بانه ضابط عسكري ، نادى آمِرَه من بعيد قائلا : سيدي هذا ضابط ، فاجابه الآمر (كمّل عشرين) ، فصاح المنادي مرة اخرى : انه ضابط عسكري، فاجابه آمر المفرزة بغضب : قلت لك (كمّل عشرين) . فامسك بالضابط من كتفه ودفعه داخل الشاحنة لينضمّ الى مجموعة التسعة عشر. لدى وصولهم مقر التجمع ، وبعد اطلاع الرئيس الاعلى على هوياتهم ، نادى الضابطـَ وقال له : ما اسمك يا ابني ؟ فاجابه (كمّل عشرين) ، فاعاد عليه السؤال وقال : قل لي ما اسمك هذا ليس وقت مزاح ، فاجابه الضابط : يا سيد انه الاسم الذي اطلقه عليّ قائد مفرزتكم . فاطلق المسؤول سراحه بسرعة قبل ان ينفضح ، لانه اذا كان قد دخل القاعة الكبيرة ، لكان امسى ضيفا في سجن لا يخرج منه بسهولة .

وهذه طرفة صغيرة اخرى اذكرها من باب التندّر. كنت في احد الايام ارافقُ السفير كمترجم لدي الرئيس الاعلى للجيش الشعبي ، رئيس لم يبقَ له وجود الان ، وكنت احدّث السفير في الطريق عن حملات الجيش الشعبي ووسائلهم السلمية !!، فقال لي ضاحكاً: انني اخشى ألاّ اُسوّق معك مباشرة من هنا الى الجبهة بسبب بشرتي الدكناء  التي تشبه المصريين ، لان الكثير من المصريين ايضا اقتيدوا الى الجبهة !!
كما يقال ، هذا غيض من فيض ، لقد افرغت قليلا من الذكريات المؤلمة التي يرى الكثيرون نفسهم فيها . انا لم اذكر الا اليسير اليسير ، لان الذي كان يذهب لاربعين يوما ، لا يرجع الا بعد ثلاثة اشهر ، او ستة اشهر، او سنة كاملة ، كما كان حال الجنود الذين استـُدعي بعض منهم لخدمة الاحتياط ،اعني لاربعين يوما ، ولكن خدمتهم لم تنتهِ الا بعد عشر او احدى عشرة سنة .
Kossa_simon@hotmail.com

159
هل إنّ كلّ قويٍّ شجاعُ   

               
شمعون كوسا

منذ فترة بعيدة كنت افكر في الكتابة عن الشجاعة ، وفي كل مرة اجلس لاجمع ما سمعته وما قرأته وما رأيته عن هذه الصفة النبيلة تتسابق حواس السمع والبصر في مشاهد وأصوات تتلاطم بحيث تمنع تدفق اي شرح وافٍ لوصف هذا الموضوع بالجاذبية التي تليق به ، فكنت انزلق الى مواضيع اكثر سلاسة. ولحدّ الان لم اهتدِ الى ما مِن شأنه اضفاء عنصر التشويق الى ما سأكتبه ، ولكني سأبدأ معتمدا على مبدأ تسلسل الافكار أو على المثل القائل الشئ بالشئ يذكر. فاذا بدوت سطحيا فستكون هذه ايضا محاولة اضافية لبعض مبادراتي الفاشلة.
لقد قيل الكثير ، وعلى مرّ العصور، عن الشجاعة وهناك قصص وحكايات لا تعدّ ولا تحصى عن الموضوع ، غير اننا احيانا تختلط علينا الامور ، لانه ليس كل انتصار شجاعة ولا كل قوة بسالة.
بهذا الخصوص ، اريد ان اذكر حديثا عاديا جدا سرده لي مديرُ مدرسةٍ إعداددية عن بعض طلابة فقال :
كان في عداد طلاب مدرستي تلميذ ينظر اليه الجميع باعجاب ممزوج بشئ من الرهبة. كان شابا طويل القامة ، شديد البأس. لا تمرّ واقعة الا وله يد فيها ، ولا ينشب خصام دون ان تكون له الكلمة الاخيرة. كان يتجنبه الخصوم واذا صادفوه يؤدّون له تحية مطولة بيدٍ لا تنزل عن الرأس الا بعد خمس امتار من تجاوزه . كان قد استحوذ على عقل اغلبية الطلاب بحيث كانوا يطلقون عليه لقب البطل الصنديد او الرجل الشجاع ومرادفات اخرى تدور في نفس محور أوزان المبالغة هذه . في يوم من الايام شبّ حريق مفاجئ في احد صفوف المدرسة وتحول بسرعة البرق الى نار هائلة التهمت الصف باكمله. استطاع الطلاب ان ينفذوا بجلدهم وخرج كل واحد على طريقته ، غير انه تبيّن بان هناك طالبا صغيرا ، هزيل البنية وبطئ الحركة لم يستطع ان يجاري الطلاب في اندفاعهم وتزاحمهم ، فبقي حبيس النار.
بات الجميع ينظرون الى بعضهم البعض خائفين. تصاعد اللهيب ولم يترك مجالا حتى لرؤية حيطان الصف . وهم في حالة الذعر هذه ، تذكروا بطلهم الصنديد وقالوا  :لقد حانت ساعة الجدّ ،  هذا يوم بطلنا لانه فعلا الشخص المناسب الذي بمقدوره إنقاذ الطالب . فإتجهوا نحوه واذا به قابع في زاوية وقد ادار ظهره للجميع . عند محاولة استفهامه ، اجاب مرتعشا : لا استطيع القيام باي شئ لاني اشعر بالم كبير في رأسي،  اتركوني . فتركه اصدقاؤه حائرين بين علامات لم تهدأ لا تعجباً ولا استفهاماً .
وفيما هم ينتظرون في حالة استسلام ويأس، انطلق من بين الصفوف الخلفية طالب لم يكن يَحسب له زملاؤه له أيّ حساب ، لانه لم يكن يشاركهم لهوهم وانشطتهم الصاخبة . هبّ من بين الجميع واخترق زحمة الطلاب متجها نحو الصف الذي كانت تلتهمه النيران . ناداه زملاؤه محذرين إياه من  المصير المحتوم الذي سيكون بانتظاره ، ولكنه لم يُعِر اهتماما لنداءاتهم .
كانت المدرسة برمتها تترقب بحزن مشوب بالخوف ، ويقينها التام بان الطالب الذي اقتحم الحريق سيكون الضحية الثانية للنار ، واذا بالمُنقذ يظهر وهو يحمل زميله الصغير شبهَ المغمي وقد اسودّ وجهه وتمزقت ثيابه ، أما هو فكانت قد اصابته حروق في كامل جسمه وكانت النار قد غربلت ثيابه بثقوب كبيرة غير منتظمة.  لدى خروجه خيّم صمت عميق علىالجميع وشلّت الدهشة حركتهم ، حتى انهم نسوا ان يصفقوا تحية لشجاعة زميلهم وابتهاجا بنجاة الطالب الصغير .
  وهنا انتهى المدير من سرد قصته وتوجه نحوي قائلا : إنني اخشى ان اسألك عن رأيك بهذين الطالبين لانك سترمقني بنظرة حادة تنطلق من اقصىالطرف الايسر لعينك اليمنى لتقو ل : ما لي وما هذه القصة المتواضعة جدا ، أين قصص الابطال  اواحاديث عن كسر شوكة الطغاة  أو روايات المقاومة في الحروب وغيرها من الاساطير والملاحم الاخرى ؟ هنا قاطعته وقلت له مباشرة : أراك اين تريد إيصالي ، اذا كان لا بد ان اتكلم عن قصتك فاني اقول بأنّ  طالبك الاول لا يملك ذرة من الشجاعة بل بالعكس انه نموذج للجبن . انه شخص لم تكن له غاية اخرىغير حبّ الظهور والاستعلاء، شجاعته كانت مزيفة ولم يكن يصبو الا  للسيطرة على الضعفاء الذين جعلهم يشعرون بالحاجة اليه. لم يكن لشجاعته المزعومة حافز او عمق داخلي ، ولانه كان أنانيا لم ينجح في التغلب على حاجز الخوف ولم يحاول تجاوز حدود نفسه  .
أمّا الشجاع الحقيقي فهو من اخترق حاجز الخوف وانطلق غير آبهٍ بالخطر . انه الطالب الكتوم الذي نبعت نخوته من داخله فحركت اعماقه وجعلته ينطلق باتجاه النار في تنفيذ عملية نبيلة. نسي نفسه وانطلق لانقاذ زميل مريض لولاه لكان قد اضحى وقودا مجانية لنار جائرة . لم يكن هذا المنقذ شابا قويا ولا حادّ النظر ولا شديد البأس ، ولم يكن يحب المراهنة والتحدي ولكن شجاعته احرقته من الداخل ، فانسته الخوف وقذفت به نحو الهدف النبيل اعني نجدة الغير .

فالشجاعة اذن ، وباختصار، هي صفة الانسان الذي يستطيع تجاوز حاجز الخوف في مواجهة خطرٍ ما لانجاز هدف نبيل ونافع   . من جهة اخرى ، تحتاج الشجاعة الى تحكيم العقل ، إذ لا بدّ من إشراف العقل لتجنب مجازفاتٍ قد تبدو بطولية ولكنها لا تخدم هدفا أوتكون عديمة الفائدة . تكون المجازفة  شجاعة اذا استهدفت الذود عن الضعفاء او اسعاف المحتاجين.
كما لا يجب الخلط بين الشجاعة وبين صفات أخرى قد تشترك معها بالشكل ، مثل الجسارة أوالتهور لان دوافع  هذه تكون في اغلب الاحيان الرغبة أوحب الظهور.
على الانسان اذن التعوّد على الصبر والثقة بالنفس والتغلب على الوسواس . أما عن الخوف ، فإنه احساس طبيعي جدا وهو يلازم الشجاعة لان الانسان الذي لا يخاف لا يمكنه ان يصبح شجاعا.
ومن المهم ان نعرف بان الشجاعة عنصر اساسي ومكمل لاغلب الفضائل والصفات الحميدة لانها تتداخل في كثير من ظواهر الحياة وممارساتها ، كما نراه في الخاتمة التالية التي تخيلتـُها ، والتي تشرح جانبا من هذا المجال الواسع :
 
 فكّرت في أن اجعل الشجاعة عصا سحرية ، فارسلتُها لكي تستقر على مَن يَدينُ بدِينها وكي تحصي في طريقها أعداد مَن يتـّصف بصفاتها من بين البشر ، فرأيتها بعد جولة طويلة قد عادت بصحبة عدد قليل جدا من الناس . لقد مرّت في جولتها على آلاف الناس او مئات الالوف من البشر والكلّ كان يوقفها ويقول لها أنا الشجاع ، أنا الشجاع ، فكانت تبادرالاول : هل لك الشجاعة الكافية للتخلي عن نفسك ومصلحتك الخاصة في القضية الفلانية ؟ فكان المدّعي ينسحب ،-  وتسأل الثاني : هل لك ما يكفي من الشجاعة لافساح المجال كي يبرز رفيقك في الساحة ؟ فكان يلتزم الصمت ، -  وتسأل الاخر : هل لك شجاعة الاعتراف بذنبك ؟ فيطأطئ رأسه ، -  وتسأل الاخر  :هل لك استعادة نخوتك لإنقاذ البرئ الذي يحل محلك في السجن ؟ فيهرب دون جواب ، -  وتسأل من يليه : هل لك شجاعة التضحية من أجل من  تحب ؟ فينظر اليها بوجه مصفر ، -   وتمرّ العصا هكذا وتسأل  الشخص الخامس عشر : لماذا خانتك شجاعتك بالوفاء والالتزام بالعهد الذي قطعته ؟ فيبقى فاغر الفاه ،  -  وتسأل الخامس والعشرين : هل لك الشجاعة الكافية لتصبر عليهم ؟ فيجيب كلاّ ، -  وتسال السابع والثمانين : هل لك شجاعة التبرع بمبلغ ينقذ جيرانك من مصيرهم المحتوم ؟ فيغضب قائلا وهل انا المسؤول عنهم . -   وآخر ايضا : هل لديك الشجاعة لتسامح فلان وتغفر له ؟ فيدير رأسه دون جواب ، -   والحالة الثامنة والتسعين كانت : هل يمكنك التحلي بالصبر ورباطة الجاش كما فعل فلان  في محنته وفلانة في آلامها الحادة ؟ فكان الجواب هذا صعب جدا . وأرادت العصا الاسترسال كي تفرغ ما في جعبتها من مئات الحالات الاخرى ، فاشـّرتُ إليها ، نا ظراً الى ساعتي،  بانه لا بدّ لي من إنهاء المقال ، فسكتت حالا وسقط  ما كان في جعبتها أرضا وانتهى سحرها   .
مدفوعاً بفضولي تقدمتُ للاطلاع وإحصاء ما كان قد تبقى لها من حالات ، ولكني تراجعتُ حالا امام الكمّ الهائل من حالات خذلان مهمة لم يتسع لها صدر هذا المقال .

160
المنبر الحر / ليت الشباب يعود
« في: 16:20 22/11/2010  »
ليت الشباب يعود
               
شمعون كوسا
 
في ذلك اليوم الذي انتابتني  الحيرة من نفسي وخيبة الامل ممّن حواليّ ، وبعد ان اغلقت نوافذ تفكيري . بدأت اهيم على وجهي ، تارة اغـّذ السير ، وطوراً امشي الهوينا على غير هدىً  . سرت طويلا  الى ان اعياني المسير فجلست على مصطبة كان قد سبقني اليها رجل اكبر مني سنـّاً. رحبّ بي الرجل ، جلست صامتا اتطلع معه الى المارّة . كانت جماهير غفيرة من كافة الاعمار وبمختلف الازياء . بعد مدة صغيرة  رأيت الشيخ الجالس من يميني يستقيم غفلة وانظاره مصوبة الى شاب وشابة  كانا ، كسائر المتنزهين ، يسيران على ضفاف النهر. كان الزوجان يتمايلان ببطئ  وقد تأبّطا ذراع بعضهما البعض ، لاحظتُ الشيخ يبتسم وهو يهزّ رأسه بهدوء أفقي وحسرة خفيفة .
بادرته قائلا : ماذا يا جاري ، هل بُتّ تحنّ الى ايام الشباب ؟ فاجابني : ومَن لا يحنّ الى تلك الايام يا ابني ، اليست هذه امنية كل شخص اشتعل رأسه شيباً وامتلأ جبينه خطوطا ووجهه تجاعيد ؟ ولكني لست لا باسماً ولا متحسرا لأمر يخصني أنا، ولكن رؤية هذين الزوجين الشابين  اعادت الى ذهني قصة شيقة وبليغة، بودّي ان اقصّها لك اذا كان لك قسط ُ كافٍ من الوقت  . فاجبته : حيرتي وضعتني في اتجاه لم اختره أنا ، والدرب هو الذي قادني اليك ، فافعل ، لعلك بهذا تملأ حيّزا من الفراغ الذي افقدني رُشدي .
وبدأ صاحبي يقول :

يُروى عن شخص بلغ من العمر عتيّا ، حنّ الى ايام الشباب ، فاصبح يدعو الله ليل نهار طالباً منه اعادته الى ايامه الجميلة ، وفي صلاته كان يقطع وعوداً لله ويحلف باسمه بانه لدى عودته الى الشباب سيمضى حياته الجديدة بعقل وحكمة، مستفيداً من كل ما علمته الحياة . وكان يجدد الوعد كل مرة بانه سوف لن يرجع الى اخطائه السابقة لانه سينظر الى الحياة بمنظار آخر، بعيون الرجل الوقور الحصيف . من الجدير بالذكر ان صاحبنا كان قد امضى فترة شباب طفحت اخطاؤها. إزدادت دعواته وتراكمت الى ان ازعجت  الملاك المكلف بترتيب اوراق الصادرة ، لان طلباته  لوحدها كانت قد عبّأت عشرة ملفات !! . بلغ إلحاحه درجة لا تطاق . امام غيظٍ  لم يقوَ الملاك المسؤول على كضمه ، قرر الله وضع حدّ لهذه اللازمة التي  تكررت يوميا لعشرات المرات ، وكانت ستكرر الى ما لانهاية لو لم يتخذ  بشأنها الحُكم التالي ، فقال :
ِلنعطِ  العجوز فرصة ونرى ماذا سيفعل . وتم فعلا ابلاغ هذا القرار بواسطة احد الموفدين  ، ولعله نفس الملاك الذي ملّ من تكديس الاضابير. قام  الملاك بابلاغ الخبر الى شيخنا المتصابي بانـّه  سيتحول غداة اليوم  الى شابّ في الثامنة عشرة من عمره .
  طار شيخنا فرحا ونام كي يُسرع في قدوم الصباح.

نهض في الساعة السادسة صباحا ، فوجد نفسه شابا في مقتبل العمر. اندهل للامر لانه رأي بان كل ما كان حوله  قد تغيّر ، وجد نفسه في نفس محيط  شبابه الاول ، ولم يعد يتذكر شيئا عن  شيخوخته التي تركها قبل ساعات ولا عن الوسط الذي كان يعيش فيه . رأى نفسه شابا مفتول العضلات ، قويا وسيما ، يسير بخيلاء وهو راضٍ تمام الرضى عن نفسه وواثق كل الثقة من قدراته . فبدأ يتخذ قرارات دون استشارة احد. إستهلّ دراسته الجامعية وفشل فيها لانه رفض الاستماع الى من يكبرونه سنا ويزيدونه خبرة في مجال الدراسة والتخصصات.  كان قد تبنـّى مبدأ عدم الاصغاء الى المسنين ، كما كان قد قرر معارضتهم في كل ما كانوا يرونه مصيبا . استطاع الحصول على منحة للدراسة خارج البلد واستبشر به ذووه ، ولكنه هناك ايضا ، إنساق للمغريات وتوجّه للّهو ، امضى اوقاته راكضا وراء اسباب الطيش والتسلية  ، سجّل حضورا في السهرات اكثر من تواجده في المحاضرات لان  ليله كان امسى نهارا و نهاره اصبح ليلا، فعاد الى بلده وذويه ، وهو لا يحمل في عقله ورجليه غير خفي حنين .

 نهاهُ ذووه ومحبّوه عن معاشرة شلة اشتهرت بسلوكها الشائن ، غير انه تعمّد مصاحبة هؤلاء الى أن ساءت اموره فتطورت وقادته ، وباختصار شديد ،  الى السجن . بعد الافراج عنه ، قام بقطع وعَدَ صريح بتقويم سلوكه ، وبعد فترة قصيرة قرر الزواج . استمع لاراء الاهل عن بنات الحارة وقال : نزولاً عند رغبتكم  ساقترن بمرشحتكم . تزوج فعلا تلك البنت ولكنه في الحقيقة كان قد نفر منها منذ البداية ، انتظر سنتين  وانجب منها توأما ومن ثـَمَّ لفظها كما تلفظ النواة ، كان يذيقها الامرّين ، ولأتفه الاسباب.

كان كثيرالوقوف أمام المرآة متباهيا بنفسه ، وكان يردد بصوت عال ليُسمع نفسه في الجهة الثانية من  المرآة بانـّه على الانسان ، في هذه المرحلة بالذات ، استغلال الحياة  الى ابعد الحدود . كان يردّ على من يحاول إعادته الى رشده في بعض الامور: اذهب يا هذا ، إني أكنّ لك كل الاحترام ، ولكنك لست شابا مثلي.  نحن الشباب امامنا الحياة كلها ولنا منظارنا الخاص في كافة امورها ولا نهاب اي شئ .
ولكي لا اوجع رؤوسكم ، (هكذا قال شيخ المصطبة) ، لم ينجح اخونا في ايّ مشروع كان قد خطـّط  له بسبب تهوره ، لم يحسن تربية اولاده لانه كان انانيا ورفض القيام باية تضحية لاجلهم . انصرف للشرب الى حدّ الادمان،  فانتهى متسكعا في شوارع المدينة. أدخله ذووه مصحّا لمعالجة الادمان ، ولكنه بالرغم من وعوده ومقاصده المحمودة ، بعد خروجه من المصح ، رجع الى سابق عهده . وهكذا كانت حياته ، حياة الشاب النّزق الطائش والاناني المتعالي . امضى حياة اكثر بؤسا من شبابه السابق ، قضى بقية سنواته هكذا يكرر اخطاءه منطلقا من غرور لا حدود له ولكنه،  بحكم تقدم سنّه ، كان يعود الى رشده شيئا فشيئا ، الى ان ازفت الساعة وانهى السنين التي كان قد استأجرها من الله !!

ارسل الله مبعوثا يتفقد امره ، وباعتقادي كان نفس المبعوث الذي كان قد أبلغه قرار رجوعه الى عالم الشباب . فبدأ المبعوث بممازحته قائلا : ألا تتمنى الرجوع ثالثة الى شبابك ؟ فبرقت عينا اخينا العائد من بعيد واتخذت حدقتا عينيه بالاتساع في نصف قطرغير طبيعي وقال : أعِدك بشرفي بانك اذا اعدتني هذه المرة فقط ، ساقوم بتصحيح كافة اخطائي . فردّ عليه الرسول  : لقد رأيناك شابّا مرتين ، كان بوسعك ان تكون شابا ناجحا وفاضلا ولكنك اسأت التصرف ، ومع هذا اننا لسنا الان في صدد محاسبتك ، هذا له حساب لاحق ، ولكنك يجب ان تعلم شيئا :
ان الانسان اذا عاد الى شبابه سيكون حتما بعقلية الشباب ، قد لا يكون كلّ الشباب سيّؤون مثلك ، ولكنهم يبقون شبابا بعقلية خاصة ،عقلية فـتِـية تحتاج الى خبرة كبيرة والى نصائح الاخرين، وهذه الخبرة يكتسبونها تدريجيا ، ولا تكتمل الا عند بلوغهم عمرك . لن يكون للشباب ابدا عقلية الرجل المسن الناضج الذي عركته الحياة عبر التجارب والمحن ، والاّ لكانوا شيّابا.
 لكلّ فترة عقليتها وتصرفها . ومن جهة اخرى يجب ان تعلم بان الشباب ليس مجرّد فترة من الزمن او مرحلة من العمر ، لان الشباب هي طريقة تفكير وقناعة ، بوسعك ان تكون شابا وانت شيخ هرم . أمّا انت ، وبعد ان نلت مرامك في اضاعة وقتك بقضاء حياة شاب تافه  ، إرضَ الان بشيخوختك وتجاربك ، واحتفظ بحكمتك وهدوئك لانك ستحتاجهما لاحقا في أيام باردة سوداء او ليالي بيضاء ،  واترك الشباب وحلاوته لاولادك ودعهم يعيشونه  على هواهم ، لانهم حتماً سوف لا يكونون بسوئك، واذا لم ينصتوا اليك احيانا ، إعلم بان نظرتهم وطريقة تحليلهم للامور تختلفان عنك .
ارشدهم  دون الحاح ، ولا تنهرهم بشدة ، قم بتوسيع مساحة صبرك لتمكنهم من اكتشاف الامور بانفسهم.

لعلّ البعض يقول ، وما هذا الحديث الذي لم يُضف شيئا الى معلوماتنا ؟
أنا ايضا مثلكم لم اجد المقال جديرا بالنشر ، غير اني سمعت بعض الناس يقولون بانّه ،  حتى الامرالبديهي يحتاج احيانا الى الاعادة  ، فضلاً عن أنّ رجل المصطبة  حلـّفني ان انشر قصته ، وانا وعدته بذلك ، وكما يقال إنّ وعدَ الحُرِّ دَين .
 Kossa_simon@hotmail.com

161
المنبر الحر / حيرة وخيبة أمل
« في: 17:31 07/11/2010  »
حيرة وخيبة أمل
                  
شمعون كوسا

ساسلك طريقا وعراً وكثير َالتشعبات ، لاني دخلت مرة اخرى في حيرةٍ كان بودي تجنبها ، حيرة لِما سيكون موضوعي الجديد لهذا اليوم  . ولكي لا اعيد نفسي ، رجعت الى ما سبق وان كتبته ، فرأيت باني قد غطيت مساحة كبرى من مواضيع وافكار. بعضها تخصصي والبعض الاخر يلتقي مع كثير من المجالات ويتشابك معها. فقلت لربّما هذه حدودي، أو قد نضب المعين الذي كنت اغرف منه. ولكني دعوت نفسي الي جولة اخرى من محاولات التفكير .

إلتفتّ الى السياسة ، ولكني ازحت الفكرة حالا بحركة يد سريعة ، لان السياسة وما لفّ حولها ، بالنسبة لي ، ولا سيما التي يمارسها قادتنا الجدد ، سياسة حِبالها الرئيسية مربوطة بقوى عظمى وخيوطها الداخلية خاضعة لشبكة يديرها جيرانها الذين قد اتفقوا على ادامة الفوضى في هذا البلد. ديمقراطية هشة ومصطنعة يدير دفـّتها اناس لا يعرفون استخدامها لانهم لا يرون فيها إلا وسيلة  لاشباع أهوائهم وفرصة يجب اغتنامها لانها سوف لن تتكرر. خطابهم يتمثل بمجموعة كلمات رتيبة جُلـّها كذب ونفاق ومصلحة خاصة ، وان لم تكن كذلك فهي عبارات طنانة قد فقدت فحواها. وهل من دليل اسطـع على ذلك من عجزهم في بناء البنى التحتية لبلد تهدّم منذ سبع سنوات ، أو تشكيل حكومة بالرغم من مرور ثمانية اشهر على الانتخابات الديمقراطية !!!، او فشلهم الكامل في تامين الامن والحماية للمسيحيين المهددين منذ البدء إلى ان اسفر تقاعسهم هذا عن اضطهاد رسمي أدّى الى ذبح المصلين في الكنائس  .ستبقى هذه نقطة سوداء يذكرها التاريخ عند ذكر اسم العراق .
توقفتُ بعد ذلك عند السجالات المتبادلة بين عدد لا بأس به من فرقاء يدّعون الكلدانية والاشورية والسريانية ، وكلهم يمثلون اقلية لايتعدى مجموعها حالياً الاربعمائة وخمسين الف نسمة . عوضاً عن محاولة التجمع والتماسك لحماية نفسها ، انقسمت هذه الاقلية على نفسها واوجدت كيانات صغيرة تحت تسميات مختلفة تربط نفسها باقوام ترقى بعيدا بعيدا الى غياهب التاريخ والكل يصف اجداده قبل اربعة الاف او خمسة الاف سنة وكانه منحدر مباشرة وبدم نقي من هؤلاء الاجداد. لا يغريني هذا المجال لاني ، بغضّ النظر عن كل شئ ، اعتبر بان الناس اخوة ، وان اهمّ شئ في الانسان هي بشريته وليس لونه أوقوميته أواصله.
انتقلتُ الى المجال الاقتصادي ، غير اني بسبب عدم تخصصي الكافي في هذا الموضوع استبعدت الفكرة ، خاصة عندما تذكرت الانهيار الذي تعرض له العالم قبل أكثر من سنة . كاد العالم يغرق  بكافة مؤسساته المالية وتختفي مذخرات المواطنين جراء فشل كُبرى النظريات الاقتصادية في ممارساتها .  ولا زال العالم لم يُفِق تماماً لحدّ الان من نكسة مضاربات المصارف والاعيبها وتداعيات تناقضاتها .

تحوّل فكري الى رجال الدين ، فقلت باني قد تحدثت عنهم كثيرا ، فلا ضير في اعطاء الموضوع مهلة قبل العودة اليه . ولكني  لا اقوى على تمالك نفسي امام خيبة الامل الحالية ، خيبة أمل بلغت  ذروتها أخيرا عند مشاهدة مقابلة غبطة البطريك ونيافة الكردينال دلي مع قناة الجزيرة. شاهدتُ المقابلة والمذيعة تترجى غبطة البطريرك حدّ التوسل كي يتكلم قليلا عن مجزرة سيدة أم النجاة ، ولكن نيافة الكردينال غضب منها ونهرها بصورة لا تليق به. اكتفي بكيل المديح لقناة الجزيرة !! وتكلم عن جمال العراق وتآخي الاديان وتعايشها دون اية مشكلة ، ولم ينبس ببنت شفة عن الاضطهاد ، رفض التحدث عن جريمة هزت العالم وأبكته ، جريمة وصف فضاعتها الاخ زهير مرزينا عرب مع ابنتيه لانهم كانوا شهود عيان . كلام  يقشعر له البدن ويوقف شعرالرأس لرهبته ، لم يبقَ احد لم يشاهده ويسمعه في العالم كله ، لانه يروي كيف قتلوا ابن  زهير وحفيده والشهداء الاخرين ، وينقل ايضا ما كان يتفوه به المختطفون من تجديف عن المسيح والمسيحيين ، وكانت ابنتاه من ضمن الرهائن . لقد اصرّت كنائس فرنسا باجمعها على ذكرهذه المذبحة وصلـّت من اجل الكنيسة والمسيحيين المضطهدين في العراق ، ونسوا ان يذكروا بان العراق بلد جميل وخالٍ من كل تفرقة او مشكلة كما قال نيافة الكردينال !!.
 
بعد هذا الموضوع لم اجهد نفسي كثيرا في البحثت عن زوايا اخرى، لاني عرفت باني سوف لن اهتديَ هذه الايام الى اي بصيص يسعفني في التخلص من نفق حيرتي.
فقررت الخروج ، مواكباً مسار نهر صغير جميل . كنت محاطا بالاشجار الباسقة والطيور بكافة الوانها واصنافها.
خفت ان اركّز على العصافير بالرغم من سحر الحديث عن كائنات تحوم وتحلـّق ، ترتفع وتهبط وتتخطـّى اجواء محظورة ، تغرّد مؤيدة أومحتجة دون ان يتعرض لها احد ، ولكني خشيت ان ينعتني الناس الجدد  بالعقل الصغير او بمن له عقل عصفور.

رفعت انظاري الى الاشجار واوراقها المتساقطة في الخريف ، اوراق اكتست ابهى حللها، وكأني بها قد اوصت بان تكفـّن باجمل ما كان لها من ثياب قبل ان تداس وتدخل في عملية تمثيل مع التراب ، فقلت في نفسي لقد عثرت على الضالة التي كنت انشدها ، ولكني سمعت صوتا عاليا ينادي من بعيد : ما بالك يا هذا ، مالك تبحث عن إيجاع رأسنا بافكارك الخيالية وصياغاتك ؟ تأكّد باني انا شخصيا لا اريد رؤية هذه الشجرة إلاّ عارية تماما من اوراقها لاخمّن ما سيدرّه عليّ خشبها من مال !!. واذا ألححتَ في الكتابة عنها ، فليكن عن شجرة تحتفظ بكافة اوراقها ، اوراق اريدها نقدية خضراء، لكي اتيقن من أني امام كنز يحمل الملايين !!.

عند هذا قلت ، لقد اتخذت الافكار اتجاها مشبوها ، فاغلقت نوافذ تفكيري ، واقتنعت بانه سوف لن يكون لي مقال لهذا اليوم.
 
Kossa_simon@hotmail.com

162
قصة عجوز تصلي الوردية في إحدى القرى

شمعون كوسا

لكي أكون بمنأىً عن كل اشتباه او التباس ، أطلقت على العجوز اسم (الخالة) ، لانّ أيّ اسم كنت ساختاره لها كان يجد له مُسمّىً بين مجموعة عجائزنا في القرى. والخالة هذه هي نموذج لكثير من النساء ، لا سيما اللواتي يمسكن مسبحة الوردية في حالة صلاة دائمية ، صلاة تتخللها بعض اوقات حوار هادئ أو دقائق ضحك أو لحظات غضب تنتهي أحيانا ببعض كلمات خشنة اوغليضة. تبدأ الصلاة بأول سلام ملائكي لا يكتمل ويعقبه الثاني ايضا دون اكتمال ، وتنشغل الخالة لمدة عشر دقائق أو ربع ساعة او حتى ساعة ، فتعود لاستئناف صلاتها وكأنّ فترة انقطاعها لم تكن خروجا عن الصلاة ، لان الشفاه لم تنقطع عن حركتها الرتيبة ، فلنتابع قليلا هذه الصلاة .

تمسك الخالة بمسبحة أهداها إيّاها احد اقاربها العائدين من روما. فتبدأ الوردية بـ :
(السلام لك يامريم يا ممتلئة نعمة..) وتتوقف بصورة مباغتة لانها ابصرت حفيدها الصغير يتوجه نحوها بسرعة البرق. تهرع الخالة لملاقاته خشية ان يتعثر بغصن كبير كان قد سقط البارحة وسط فناء المنزل، فتؤنبه قائلة : لماذا تركض ، ولماذا انت حافٍ يا ابن الـ (ك)!!، وتلتفت موجهة كلامها الى والدته وتقول لها بصوت عال : لماذا تدعيه يخرج هكذا يا عديمة التفكير، الم تخافي من الزجاج المتكسر قرب الباب  ؟ أمسكت بيد الطفل واعادته الى  والدته ، وبدأت من جديد بسلام ملائكي آخر وقبل ان تصل الى (…ساعة موتنا آمين) قامت منادية مرة اخرى وباعلى صوتها حفيدتها التي  لا تقلّ شقاوة عن اخيها، محذرة اياها من الكلب الذي كثر نباحه في هذه الايام .  
وحرّكت شفاهها في محاولة جديدة لتلاوة سلام ملائكي جديد ، فبدأت (السلام لك ، شلاملـّخ مريم..) وتسارعت وتيرة الصلاة في محاولة لانجاز اكبرِ عدد ممكن من السلام الملائكي . كانت التمتمة تلقائية ، الشفاه تتحرك ولكن الفكر يتبع ، كآلة تصوير، الامكنة التي كان يقع بصرها عليها . أنظارها كانت تنتقل من زاوية الى زاوية. أمعنت النظر مطولا في البقرة التي كانت تجترّ علفها الذي التهمته قبل ساعة ، بعد ذلك تحوّلت الى الحمار الذي كان يهزّ اذنيه دون توقف لابعاد الذباب عن رأسه ولكن دون جدوى . وما شغل انظارَها وأفكأرها كثيرا كان سباق ديكٍ لم يكفّ دقيقة واحدة عن مطاردة الدجاج ، وبقيت الخالة فترة لا بأس بها تتابع ملاحقاته في ذهاب وإياب سريعين ، ولا اعرف ماذا جعلها تتخيل بانها أمام ديك حريص على إنجاب ذرّية قوية تخرج من داخل البيض الذي ستضعه دجاجاته في ذلك اليوم ، فكان أمله ان يرى ، على الاقل ، الجيل الاول من اولاده ، لان رؤية أحفاده كان أمراً مستبعداً ، بل مستحيلاً ، لان صاحب الدار كان قد رصد هذا الديك ووضعه ضمن مشروع وجباته القادمة !!.  كان هذا الديك يحلم كثيرا ، وكأني بالخالة تتابع خيط افكاره ، بانه يريد إنجاب صيصان حيّة تتحرك وتترعرع امامه لترفع اسمه عاليا بين الدواجن ، حيث إنه كان يرفض ان يقتصر انتاجه على بيض ينتهي على الموائد مقليا او مسلوقا !!! ، لا اعرف هنا ، هل انا الوحيد الذي لعب الديك بعقله أم الخالة ايضا  ؟!!
على أيّة حال  ، لم تتوقف الخالة عن تمتمتها : فكان السلام يَلي السلام ، وبعض السلامات كانت تبدأ من البداية وأخرى من المنتصف والبعض الاخر من أول كلمة تعثر عليها الشفاه ،  وفيما هي في اعماق مشاريع الديك ، تأتيها كنّتها في استشارة عن كيفية طهي القرنبيط وعن كمية التوابل والزيت الواجب استخدامها ، فاجابتها بسرعة ، وبدأت دورة السلام الملائكي ، لكنها انقطعت حالا عند وقوع نظرها على البقرة ثانية ، فنادت الكنة مذكرةً إيّاها بوجوب حلبها دون تأخير .

بعد هذا ، قامت الخالة من مكانها وخرجت من البيت ، علـّها تجد خلوة في الهواء الطلق بعيدةً عن ضوضاء الاطفال وأصوات الحيوانات ونشاطات الديك الذي لم يألُ جهدا من اجل تحسين نسل تفتخر به الاجيال القادمة !! جلست الخالة عند عتبة الدار وانطلقت بتلاوة (السلام لك يا مريم ..) وفرحت لانها كانت قد وصلت الى (يا مريم القديسة..) لكن فرحتها لم تتم لان العمّ ابراهيم باغتها بحضوره ، منتصبا أمامها كشجرة باسقة ، وجلس مباشرة دون استئذان. قطعت الخالة صلاتها ورحبت به وسألته عن صحته واخباره ، فبدأ العم ابراهيم بحديث لم تتوقف سيل كلماته الا بعد نصف ساعة ، وفي  هذه الاثناء كانت الخالة تتمتم صلاتها وتُسمعه بين الفينة والفينة حرف السين الذي يتردد كثيرا في السلام الملائكي ، غير أن تمتماتها هذه لم تكن تذهب الى ابعد من كلمتين لان آذانها كانت منشغلة بحديث زائرها الذي تكلم عمّا يعانيه من الكنة التي لا تطيق رؤيته وعن الاطفال الذين لا ينقطعون عن الاستهزاء به وعن معاملة ابنه  له،  وعن انتظاره الطعام يوميا مطولا كالشحاذ وهو تحت رحمة من كساهم واطعهمهم لعشرات السنين دون أن يدع لهم رغبة لم يستجب لها أوحاجة لم يلبّها .
بعد هذا الحديث الذي كان فصلا من الحسرات والآهات والشكاوى ، قطعت الخالة صلاتها من جديد لكي تواسيه وتشجعه وتسدي له بعض النصائح ،  وقالت له : هذه حالنا نحن المتقدمين بالسن ،علينا ان نتحلى بالصبر.

حال نهوض العمّ ابراهيم بدأت الخالة جولتها الجديدة من السلام الملائكي ، ولكن لم يحالفها الحظ حتى في هذه المرة ، لان الزائرة الجديدة التي جلست  بجوارها على الطابوق الملقى امام الباب  ، لم تكن غير جارتها المباشرة . هذه الجارة مشهورة بحاجتها الى كلام يبدأ ولا ينقطع . فبدأت متناولة الجيران حسب التسلسل وقالت ان بعضهم  يُقلِقون راحة الناس بضجيجهم وصراخهم ،والبعض الاخر حالتهم مريبة لانهم صامتون ولا يصدرون اي صوت ، والبعض الاخر يطيلون التحديق في وجوه الناس ،  وبعد ذلك أتت على ذكر الخوري الجديد الذي لا يتمتع بصوت جميل ولا يزور العوائل ، ووشوشت لها بأذنها كلاما آخر جعلتها تنفجر من الضحك ، فقالت لها الخالة : اسكتي ولا تعيدي هذا الكلام في مكان آخر. الحق يقال ، لم استطع معرفة ما همست الجارة باذنيها !!.
 بعد هذا كان حديثها عن كل شئ وعن لا شئ ، وانتهت بالقول بانه من الصعب ردم الهوة السحيقة التي تفضل الجيلين القديم والجديد  .كان حواراً أحادي الجانب ، استغرق زهاء الساعة. وبينما كانت الجارة تهمّ بالمغادرة ، لاحظت بان خالتنا غارقة في تمتمة شبه دائمية ، فقالت لها : من المؤكد انك  كنت تصلـّين ، انا ايضا مثلك اجد نفسي احيانا في تمتمة مستمرة  للوردية ولكني لا أعرف ، هل تعتقدين بان العذراء تسمعنا ؟  لاني أنا شخصيا لا افكر فيما اقول ، وأصلاً ، لا أتلو كلمات الصلاة حسب ترتيبها. اعتقد بانك انتِ مثلي ، أما عن عدد المرات التي اضطر فيها الى قطع الصلاة ،فحدّثي ولا حرج ، والاسباب هي نفسها لنا جميعا.

بعد مغادرة الجارة ، أتى سلامها الملائكي الجديد بصوت عال ، وكانت فعلا على وشك إنهائه عندما ظهر شخص هبّت الخالة نحوه وحضنته بحرارة. كان القادم الجديد اكثر من صديق وقد طال غيابه كثيرا . سألته قائلة : أية ريح القت بك في ربوعنا ، وما الذي ذكّرك بنا ؟ فقال هو الحنين الى الأحبة وترابهم ، هو البعد القاتل في بلدان يبقى الانسان فيها غريبا مهما فعل وحاول . وبدأ بسرد  قصته كاملة . وكأنّ الطرفين كانا يحتفضان بكلام غزير،  فبدأ كل من جانبه يعاتب الاخر ، وكلّ طرف كان له اسبابه وتبريراته . بعد هذا قال الصديق : أتيت بحثا عن قطعة ارض ابنيها ، هل لك ان تساعيدني في ذلك ؟ كانت الخالة قد سمعت عن بلدة يحصل كل خلق الله فيها على عقارات بسهولة ، فارشدته اليها. وبعد ساعة كاملة من تجاذب اطراف الحديث بين عتاب  واشواق وكلمات رقيقة ، ودّعها صديقها واعداّ اياها بعودة سريعة .
لا حاجة لي ان اقول لكم بان الماكنة استأنفت دورانها تلقائيا ومن جديد بـ (شلاملخ مريم مليث طيبوثا ...)،  واذا اردتم ان اتكلم هذه المرة ايضا عن انقطاعات الماكنة ، ساكون بالضبط كمن يحاول التكلم عن قصة الكهرباء وعدم انقطاعها في جميع انحاء العراق !!!!.

باعتقادي ، قد تكون الخالة قد انهت مسبحة او عدة مسبحات من الوردية لهذا اليوم ، ولكنها لم تختم الا عددا قليلا جدا من سلا ماتها الملائكية. كانت تبدأ وتقف ، وتستأنف ، وتبدأ من المنتصف وتبدأ من النهاية ، فتتسارع الكلمات وبعض منها يتساقط لان انظارها كانت تجول وتدور ، وافكارها تتبع انظارها ،  وكثير مِمّا وقعت عليه انظارها ونطقت به شفاهها  دخل تلقائيا في صلب الصلاة دون ان تعرف، فلقد تم ّذكِر الخروف والحفيد  في السلام الملائكي دون ارادتها وحركة طرد الذباب وسباق الديك أيضا وجدت لها مكانا في كلمات الصلاة . ولم اتكلم هنا عن السياسة ورجالها الذين قالت عنهم الخالة بانهم اشخاص عاجزون قد ركبهم الغرور لانهم لا يقوون على القيام بشئ ايجابي ، وحديث السياسة هذا كان ردّا على سؤال احد المارّة الذي أحبّ ممازحتها ليس إلاّ ، ولم يكن يتوقع منها ردّاً .

مواصلة الخالة تمتماتِها كان هدفه عدم  اعطاء العذراء انطباعا بانها منقطعة عن تحيتها او إنها قد نسيتها ، بسبب انشغالها بالناس .  بعد ان بدأت الصلاة للمرة المائة أو الخمسمائة ، دخلت البيت منهية الجولة الاولى من صلاتها لذلك اليوم.
هل ان الخالة ، في تمتمتها التي لم تتوقف لحظة ، كانت قد وصلت الى نهاية صلاتها ؟ لااعرف. غير ان العذراء التي بقيت منذ الانطلاقة الاولى للسلام الملائكي واقفة تنتظر وهي تسمع بصبر تام الحديث الذي دار بينها وبين الناس، ظلّت هناك دون حراك لان السلام كان موجها لها .  
عند دخول الخالة الى البيت ، إنصرفت العذراء وهي تبتسم لكل ما رأته وسمعته. اخذت الغلـّة المتكونة من السلام المتكرر وساعات انشغالها بالدجاجة والبقرة والكنّة والاحفاد والمارة. قامت العذراء بغربلة مجمل الصلاة لكي تطرح جانبا انشغالاتها داخل المنزل ، غير انها احتفظت بما سمعته من هموم الناس أمام الباب ، واضافته الى الصلاة . فكانت الحصيلة بعد الغربلة عشر حبات فقط من سلام ملائكي كامل ، والباقي كان مجموعة كبيرة من كلمات تقطّعت وحروف تهشّمت. اكتفت العذراء بالحبات العشر واعتبرتها وردية كاملة لانها كانت صلاة من نمط خاص ، صلاة العجائز في غمرة المشاغل اليومية .

kossa_simon@hotmail.com




163
هل هناك حياة بعد الموت  ؟ !!
            
شمعون كوسا

لاتخافوا إنه مجرد عنوان !! ولكي أخفف من وطأة الموضوع الذي يتـّسم بالجدية ومن شأنه أن يكفهرّ في بعض نواحيه ، رأيت ان ابدأ بتلطيف الجو وسرد الطرفة التالية ، التي  تدور في فلـَك نفس الموضوع ، واعتذر لمن يكون قد سمعها :
يُقال بأنّ أحد سكان الجنة ، أصيبَ بالضجر بعد اسبوع واحد فقط من إقامته  وسط الهدوء والخشوع والصمت . كان المقيم الجديد في الجنة شخصا يهوى الصخب واللهو ولعله دخل الجنة صدفة بتوصية من ملاكه الحارس  !!توجّه صاحبنا الى مسؤول الجنة الاداري وسأله عن إمكانية إمضاء نهاية الاسبوع في الطابق السفلي . فوافق المسؤول ونزل الاخ الى جهنم ، فتمّ استقباله بكل حفاوة وتكريم وتطبيل وتزمير وتصفيق. أمضى هناك يومين وهو في ذروة السعادةٍ ، ممّا جعله يتخذ قراراً فورياً في تحويل عنوان إقامته. فأسرع في الصعود الى الجنة لتوديعها نهائيا . حذرّه المسؤول وقال له : خروجك من هنا سيكون دون عودة ، فضحك صاحبنا هازئا من القيّم على أمور الجنة وقال : انك لا تفقه شيئا في الامور ، عجّلْ في المعاملة رجاءً . بعد توقيع أوراقه ، نزل صاحبنا وهو يغني ويرقص في الطريق . بمجرد نقره باب جهنم ، رأى نفسه أمام شخص ذي قرنين ، ضخم الجثة ، جاحض العينين ، يغلب عليه لون الفحم . لم يردّ البواب على تحية صاحبنا ولكنه سحبه بقوّة الى الداخل وبدأ يدحرجه راكلا قفاه وضاربا رأسه بهراوة غليضة . إتقاءً لشر الضربات ، كان الزائر الخائب يضع يديه تارة على رأسه وطورا على قفاه وينادي مستنجدا بأعلى صوته ٍ: توقف يا هذا ، لربما قد اخطأتُ العنوان ، دَعني أخرج من هنا . فأجابه الشيطان مقهقها : انك لم تخطئ العنوان ،إنه نفس عنوان يوم أمس ، ولكن يجب ان تعلم بان هناك فرقا بين ان تدخل منطقتنا كسائح أوتستقر فيها باقامة دائمية !!!

عودة الى موضوعي الذي احتاج فيه الى شئ من الحرية ابتدأ بالقول : إني رجل مؤمن، غير انه من حقي ان افكر وأحلل واستنتج واتطرق الى كل شئ .  انني حرّ في تفكيري وهذا ما منحتني إياّه الطبيعة ،  وعلى الصعيد الديني ضمنته لي الكنيسة بقرار المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أقرّ حريّة الرأي والتفكير لكل فرد.  وفي نفس السياق، أودّ ان أذكربأنّ كبيرَ لاهوتيّي الكنيسة (ولست مقارنا نفسي به أبداً) ، وهو مار توما الاكويني ، كان في تناوله للمواضيع المهمة ، يتـّبع اسلوبا خاصا يعتقد بانه يصل بصورة افضل الى عقول طلابه. فمثلا في شرح وجود الله  ،  كان يبدأ بالافتراض بان الله غير موجود.
كما يجب ان أضيفَ مبدأ لاهوتيا آخر يوصي  بأن تتمّ مناقشة أعمق المعتقدات الايمانية وأعقدها ، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الثالوث الاقدس وسرّ التجسد ، أن يُناقش الموضوع بعمق ومن كافة جوانبه من اجل التوصل الى نتائج او قناعات نسبية تفيد بان العقيدة ، موضوع البحث،  ليست ضدّ العقل.

ذكرتُ هذا لكي أمنحَ نفسي حرية التطرق الى موضوع حساس جدّا لانه يرتبط بمصير الانسان ، امر يُعتبر اساسَ أغلب الاديان. انه موضوع العقاب والثواب بعد الموت ،   يُفترض ان يُمضي الانسان حياته باكملها حرصا على تصرفٍ من شأنه ان يُكسبه ثواب الجنة ويبعدَه عن عقاب جهنم ، نهايتين لكلّ دينٍٍ مفهومُه فيهما.

التساؤل الذي يراودنا تلقائيا حول هذا الافتراض هو : هل نعتقد فعلا  في قرارة انفسنا بان هناك حياة اخرى ، وهل اننا قانعون بها ؟ ردّة الفعل الاولية تكون : وكيف لا ، ماذا دهاك يا هذا ، هذا سؤال لا يُطرح ، هل انت كافر أم ماذا ؟ ولكني اعود فأسأل : اذا كنا منطقيين ونؤمن فعلا بوجود حياة اخرى ، حياة سعادة ابدية ، حياة نصبو اليها مبدئيا بكل جوارحنا ، لماذا نجزع عند الدنوّ منها ؟ لماذا لا نفكر باننا بعد الموت سنلتقي بأعزائنا ممّن بكيناهم كثيرا ، كأمّ رؤم وأب حنون وأخ وأخت عزيزين  وصديق حميم وكل من عزّ علينا فراقهم ؟
والنقطة الاهم والتي تُغضبنا لانها شائكة هي ، اذا كنا فعلا نؤمن بالآخرة ، لماذا لا نتصرف بالشكل الذي يضمن لنا الفوز بها ؟ الجواب الصادق والصريح هو ان قناعتنا بعالم الغيب ضعيفة جدا لانها مبنية على إيمان بالشفاه ، بموعد بعيدٍ عنا حاليا، ايمان لا يتعدى بضع كلمات حفظناها ونرددها في المناسبات ، دون التمحيص في معناها ، نعتبر ما نقوله لا يخصنا ، كلمات غريبة يكتنفها الغموض ويحيط بها ضباب يحجب الرؤية ، ونحن مرتاحون لهذا الغموض.
واذا أمعـنّا النظر أكثر وأجهدنا  تفكيرنا  ، نتساءل ايضا :  ما هي جهنم ، هل هي نار حقيقية ام انها ألم معنوي يجعل الانسان يشعر بالحرمان من السعادة ويتألم بندم قاتل يتجدد ويشتد ؟ وما هي الجنة ، هل هي التنعم بالطيبات التي اعتدنا عليها في الارض ، أم انها الاندماج مع السعادة الابدية والوقوف في حضرة الله والنهل من كماله المطلق الذي يملأ النفس حبورا ولا يدع فراغا فيها ؟ وهذا هو المفهوم المسيحي . وهل لهذين العالمين موقع جغرافي ثابت وملموس ،أم انها مواقع روحية غير مرتبطة بزمان ومكان ؟

هناك من يقول : كلّ ما نعرفه عن الاخرة هو ما قد ذكرته الكتب ، لانه لم نرَ لحدّ الان شخصا قادما من العالم الاخر يحدثنا عمّا يجري هناك . اتذكر بهذا الخصوص جملة كانت ترددها جدتي ، أمّ والدتي ، وهى امرأة مؤمنة . كنا نسألها عن وصف الجنة والحياة الاخرى ، فكانت تجيبنا : هل رأينا لحدّ الان أحد امواتنا ، يأتينا بشعلة مربوطة خلفه ، كي نفهم حقيقة الامر في العالم الاخر؟
أنا مِمّن يفكرون جدّيا بحاجة عالمنا الحالي الى علامة من هذا النوع ، واتمنى مثلا لو قدم احد المشاهير الافاضل من بين المتوفين ، كرئيس دولة مثلا ، أو فنان كبير ، او رجل دين ، أو احدى الشخصيات التي غادرت الدنيا قبل سنوات ، لتعزيز إيمان الناس بالاخرة وبحقيقة ما يجري هناك . ان الانسان ضعيف ،لقد ابتعد كثيرا عن هذه المفاهيم  ويحتاج الى علامات أوعجائب ليَثبُتَ في ايمانه ، ألم يجترح المسيح عجائب ليقنع الناس ؟ ان الايمان في موضوعنا هذا ، وكما قلنا،  لا يتعدى الكلام ، ونحن أصلاً لا نريد فيه اكثر من تمتمة شفاه تتم بسرعة البرق وديباجات تقال كالببغاء ، لان تبِعاتِها كثيرة وثمنها باهض ، لاننا اذا كنا فعلا نؤمن بقناعة تامة ، هل نرضى بحرمان نفسنا لاجل الغير،هل نحن مستعدون لنبذ الكذب والحقد والنميمة والحسد والايقاع بالغير ، وانيّ هنا لم اذكر سوى استعدادات نفسية داخلية وسهلة الارتكاب ، غير انها تمثل فروعا تصب في قناة تقود مباشرة الى العقاب الابدي،اليس كذلك ؟ اننا فعلا نرى في الابدية موعدا نائياً يخصّ الاموات الذين سوف لن نراهم ، نرسلهم اليها عند وفاتهم ببعض دعوات لا تكلفنا شيئا ، ونتمنى لنفسنا الابتعاد عنها ، لانها ستكون نهاية الدنيا !!!

هناك قول مأثور لاحدى الشخصيات حول الموضوع يقول ، من الافضل ان يؤمن الانسان من أن لا يؤمن ، لانه في إيمانه يضمن خمسين بالمائة من فرصته ، فاذا كان هناك أبدية فهو الفائز ، واذا لم يكن فانه لا يخسر شيئا !!

أمّا انا ، فبعد كل ما كتبته من افكار معقولة او غير معقولة أقول :
بِغَضّ النظر عن المعتقدات الدينية التي انا متمسك بها ، فان المنطق يقضي بان يكون هناك حياة اخرى ، على الاقل لأنصاف المظلوم  الذي قد يكون انسانا معاقا لا ذنب له في ما يعانيه ، أو بريئا حُكِم عليه بالسجن المؤبد او الاعدام ، أو رجلا صالحا داسته الاقدام ، او شابا قضى عمره مبكرا بسبب ظالم مغرور، أو مريضا تألم لسنوات عديدة جرّاء مرض عضال ، والحياة مليئة بملايين الحالات التي تحتاج الى من يُنصفها. عدالة الانسان في كثير من الاحيان أصبحت وسيلة للتحايل على القانون والحقيقة ، وقد تكون مقاليدها بيد اناس وضعوا ضمائرهم جانبا من اجل تجريم برئ وتبرئة مجرم . إن عنصر العدالة مهم جدا في الحاجة الى حياة يسود فيها العدل المطلق الذي ينصف المظلوم ويحاسب الظالم.
والعنصر الثاني الذي لا يقل اهمية هو عظمة الانسان وعقله. فهل يعقل ان يكون مصير هذا العقل العملاق ، المبدع والخلاق والذي بخياله الواسع يطور ويبدع ويحتوى الفضاء كله ، هل يمكن أن يكون مصيرُ هذا الكائن العظيم مصيرَ شجرة او حيوان. وهل يمكن ايضا ان ينطفئ كالدخان شوقُ الانسان العارم الى السعادة. إننا نكتفي في بعض الاحيان ببعض لحظات فرح نستعيدها بعد سنوات لننتشي بها . سعادة تولّدها احيانا نسمة هادئة أومنظر خلاب أو صوت عذب او لحن شجي أو حتى نغمة بسيطة  تصل الى الوتر الحساس في اعماق نفوسنا ، فتجعلنا نرقى ونرتفع ونحلّق بعيدا عن كل ما هو مادّي ، وننسي نفسنا في حالة انخطاف حقيقي وسعادة لا يجد الكلام مفردات لوصفهما . 
هل يعقل ان تكون هذه الاحاسيس الرفيعة كذبا وان تنتهي هذه الحاجة الملحة دون اشباع كامل ، أوليست السعادة هي الهدف النهائي لوجود الانسان ؟

وبما اني يجب ان اضع حدّا لانخطافي واختتم الموضوع ، انتهي بالقول : كنتُ محتاجا الى التحليق في الاعالي للتوسّع في بعض الافكار والاحاسيس التي تشغلني ، إرتفعتُ كثيرا ولكني خشية أن يصيبني الدوار هبطت لكي استخلص بان هذا نقاش عميق يحتاج الى مزيد من التفكير وأيضا الى كثير من الايمان .

 kossa_simon@hotmail.com
 

164
توماس ، سائق الباص

 
             
شمعون كوسا


انه توماس يوسف حنا ، اشتهر في المنطقة دون ان يكون من اهل المنطقة . امضى حياته بين اربيل وشقلاوة لارتباطه بفتاة شقلاوية ، وأيضا  وهذا هو الاهم ، لامتهانه قيادة السيارات ، اذ يُعتبرمن بين اوائل السواق في المنطقة إن لم يكن أولهم.  توماس هو من مسيحيّي كركوك المعروفين بالـ (القلعة ﮔاور) ، ولد سنة 1917 وتوفي سنة 1980.

كلّ من عرف توماس ، يتذكره بحافلته دانماركية الصنع ، أو الباص الخشبي . سيارة باص قادها توماس لفترة طويلة ، ينقل بها اهل المنطقة من شقلاوة الى حرير وديانا وايضا الى اربيل وعينكاوة والموصل.

شأنه شأن كافة السواق في ذلك الزمان ، كان يقوم توماس بتشغيل حافلته باستخدام مفتاح يسمى (الهندر) والأصح  )هاندل( لان اللفظة انجليزية. والمفتاح هذا كان عبارة عن قضيب حديدي مطوي باتجاه معاكس من كلا طرفيه لتمكين السائق من تدوير المحرك من فتحة خارج السيارة  . كان المحرك يحتاج عادة الى محاولتين او ثلاث ، أما في الشتاء فكان على السائق ان يتحلى بكمّ أكبر من الصبر بسبب البرد.
تعرض هذا الباص الى كثير من العطلات. ويذكر بانه في احدى حالات انفجار الدولاب ، لم يكن لتوماس إطار احتياطي ، وبما انه كان محكوما عليه بمواصلة السير ، إهتدى الى فكرة بدائية غريبة ومضحكة ، فقد عبّأ الاطار بمعطفه وبنطاله وحشاه ايضا بكميات من الخرق البالية التي كان قد استخدمها لتنظيف سيارته. وهكذا تمكن من إستئناف سيره ولكن ليس دون عناء .
كانت العربة قد اشتهرت بالاصوات التي تصدرها نتيجة عدم ترابط كثير من اجزائها الخشبية وتفكك بعضها من كثرة الاستعمال ، وكان ضجيجها مسموعا من اولى دقائق دخولها المجال البري للمنطقة . بهذا الخصوص قام احد شعراء المنطقة بنظم قصيدة جميلة يصف بها الباص وسائقه . ساورد القصيدة باللغة الكردية في نهاية المقال.

يقال بانه في احدى سفراته الى حرير او ديانا ، استضافه بعض الناس كما استضافوا سيارته معه ، فقدموا الطعام لضيفهم وخرجو ايضا ووضعوا الطعام والماءً أمام سيارته معتبرينها نوعا جديدا من الخيل ، لانهم لم يسبق لهم وان التقوا بمثلها قبل ذلك. لم يكذّب توماس الخبر فخرج وتناول الماء وسكبها في الراديتر وكانه يروي عطش مطيته ، واما عن الطعام فقال لهم توماس بان السيارة ليست جائعة ، قالها بابتسامة خفيفة كي لا يخدش كرم ضيافتهم  .

لقد قاد توماس في حياته اكثر من خمس وعشرين سيارة بين حافلة وشاحنة وسيارات أصغر حجما . قبل ان يتفرغ توماس الى مهنة السياقة ويتخصص بها ، عمل في شركة نفط العراق بكركوك ، وكان قد عمل ايضا في بغداد والبصرة. كما عمل خبازاً وبائع حلويات وصاحب بار . وخلال قيامه بالاعمال هذه تعرض للاعتداءات والضرب من قبل اهل المنطقة ، كونه غريبا يقوم بمنافسهم ،  ولكن بجدارة !!!
المعروف عن توماس كان رجلاً  لا تنقصه الشجاعة ، وقد طارد الكثير من اللصوص وقام بحماية كثير من الجيران والمعارف ، معتمدا على سلاح لم يفارقه لفترة طويلة من حياته.

وفي وصف لمظهر توماس الخارجي نقول ، بانه كان رجلا وسيما ، ازرق العينين ، أنيقا في ملبسه وحريصا شديد الحرص على استخدام العطور النفيسة وبرشّات مضاعفة ، كي تسبقه  بعشرات الامتار وتنبئ بوصوله حيثما يذهب ، لا سيما عند دخوله للكنيسة حيث كان العطر يُعلِمُ كافة المصلّين بحضوره دون الحاجة الى رؤيته  ، وهكذا كانوا يطمئنون على سلامة العربة وصحة السائق ويضمن بعض المسافرين منهم ،غداة اليوم، رحلتهم لليوم التالي وبالاخص اذا كانوا من بين من كان قد وصف لهم الطبيب الاهتزاز والخض ، لساعتين او ثلاث، علاجاً . رجوعا للعطور نقول بان التعطير المكثّف كان احدى صفاته المميزة الى حدّ أن الناس كانوا ينعتون المبالغين في استخدام العطور من بين اصدقائهم او ابنائهم ، بتوماس ، أو يقولون : هل تحوّلتم الى توماس أم ماذا ؟ وكان بعض الطلاب الشباب يقلدونه في تلميع شعرهم دون معرفة الزيوت التي كان يستخدمها ، فيقومون بالعملية عبر استخدامهم زيت الطعام ، وفي حينه كان زيت الطعام دهنا حيوانيا حرّاً  .

كان توماس رجلا أريحيا يحب الفكاهة ، وكان التحدث معه يكتسب صفة شيقة  جدا لغرابة كلامه باللغة الكلدانية التي كانت تحاكي طريقة الارمن عندما يتحدثون بالعربية ، فالمؤنت يصبح مذكرا والمذكّر مؤنثا والمفرد جمعا وهكذا  ،لان لغته الام كانت التركية وكان قد افلح في تلقينها الى زوجته وأطفاله .
يقال عن توماس بانه لم يُرزق بأول أطفاله الا بعد انقضاء أربع عشرة سنة من زواجه. ويُقال ايضا بانه كان رجلا مؤمنا ، لا يخلد للنوم قبل تلاوة مسبحة الوردية ، وكان قد فرض تلاوتها على اطفاله.  كان متعلقا بهذه العبادة  لحدّ استخدامها كعقاب لكل من سوّلت له نفسه من بين اطفاله عصيان أمره . فعندما كان يركب أحدهم رأسه ، يأمره الوالد بتلاوة عدد من السلام الملائكي ، ويزيد العدد اذا لم ينصع المتمرد لارادته . يقال ايضا بان احد اولاده رفض تلاوة الوردية ، كما طلب منه والده ، فسقطت صورة العذراء على رأسه ليلا وهو نائم   !!!
كان توماس يتساهل مع الناس ويسامح الكثيرين منهم في اجرته او يخفض قيمتها ، وفي بعض الاحيان كان يقبل مقايضة اجرته بالحنطة لا سيما مع بعض اهالي عينكااوة. وباعتقادي الشخصي ، لقد استفاد من سيارته بهذا الخصوص ، بعض من كانوا قد اعتادو على السفر على ظهور الخيل (الكروان) لمقايضة فاكهتهم  بالحنطة او الشعير في القرى المجاورة لاربيل والموصل،  فاستعانوا بباص توماس اختصاراً للوقت .

وبما انه لم يكن ممّن يكرهون معاقرة بنت الحان واحتساء قليل من الخمر او العرق ، فانه كان قد اعتاد على جلب كميات من هذا السائل اللطيف والمؤنس من ديانا. وفي احدى سفراته كان قد عبأ العرق في صفائح معدنية وطلب من بعض الركاب الجلوس فوقها بغية اخفائها. عند وصوله نقطة السيطرة ، تقدم المسؤول وتوجّه بسؤاله الى احدى السيدات المكلفات باخفاء الكحول ، وكانت هذه شقيقة توماس ، فاجابته وبكل صراحة بانه لا يوجد شئ يذكر باستثناء كميات من العرق. اضطر توماس للتدخل فورا ، وباسلوبه الشيق واللبق ، اقنع المسؤول بان اخته هذه قد اصيبت بالهذيان ، وهو أصلا في طريقه الى وضعها في احدى المصحات المتخصصة بعلاج مثل هذه الحالات، فاقتنع المسؤل وتأثر كثيرا لحالة المرأة الساذجة ودعا لها بالشفاء .
يُقال بانه كان يحلو له اضافة قليل من الشاي والسكر الى مشروبه ليُوهِم بعض البسطاء بانه قد غيّر مشروبه وبدأ بشرب الويسكي . ويُقال ايضا بانه كان يسقي القطط اوبعض الحيوانات الاليفة الاخرى جرعات من العرق ، لعله كان يفعل ذلك في الايام التي كان يخلو فيها مجلسه من السمّار والندامى.
أمضى توماس بعض فترات من عمره في عينكاوة وبالاضافة الى كونه سائقا ، عرفه من عرفه هناك بأناقته ، هو وزوجته ، لدى حضورهما الحفلات هناك .
كان يحلو لتوماس التدخل في كافة نواحي الحياة ، لا سيما الصحية منها ، فكان يصف بعض العلاجات ، ومن ضمن ما  كان يوصي به مثلا ، استخدام الرماد لمكافحة القمل في الرأس .
والان وكما وعدتُ ، اختتم مقالي بقصيدة الشاعر الكوردي (مدحت بى خه و) التي أهداني اياها السيد جميل توما مهندس .  في وصفه للباص وسائقه توماس ، يقول الشاعر باختصار :
اضطررت يوما لركوب الباص ، غير اني لم راكباً سيارة بل جليس مهدٍ يترنح ذات اليمين وذات الشمال ، شدة الزحام زادت من ضيق الركاب . كان يطلق الباص اصوات انفجارات ، وكنا نسمع من حين لاخر تساقط اخشابها ،  عند التخفيف او التوقف،  كان يضطر السائق للضغط ستا وسبع مرات على الكوابح . وبعدها ينادي بصوت عالٍ انتبهوا كي لا يقع احد منكم ، وكلنا كنا نصلي وندعو كي لا تنقلب السيارة . خرجنا من شقلاوة في الصباح الباكر ووصلنا اربيل عند الظهر.
ڕۆژێ به‌ره‌و ماڵ ئه‌گه‌ڕامه‌وه‌ ---------به‌ پاصی شکاو ئه‌له‌رامه‌وه‌
پاصی دراوزه‌و که‌ون و شڵقاو ---------ئۆتۆمبیل نه‌بوو به‌ڵام هه‌ر به‌ ناو
بۆدی به‌ چه‌شنی لانک ئه‌گه‌ڕا ---------ته‌قه‌و چه‌قه‌ی دار ئه‌بو به‌ هه‌را
نه‌فه‌ری ناوی له‌ پتر بیست که‌س ------لای گشت بڕا بوو له‌ ترسا نه‌فه‌س
که‌ ته‌قه‌ی ئه‌هات له‌ ڕێگا جار جار ------له‌ بۆدی ئه‌که‌وت ته‌خته‌و شه‌پکه‌ دار
که‌ لێخۆڕ قاچی ئه‌نا به‌ به‌نزین  --------ئه‌بو به‌ فشخ و هۆڕ و به‌ له‌رزی
یا کاتی بیری وه‌ستانی بوایه‌    ---------ئه‌با شه‌ش حه‌وت جار قاچی بوکتایه‌
له‌ ڕێگای نشێو وه‌ک گورگی هار بوو---چه‌شنی فڕۆکه‌ هه‌ر هاڕه‌ هاڕ بوو
کاتێ بۆلای ڕاست کاتێ بۆ لای چه‌پ ----به‌سه‌ر یه‌ک ئه‌که‌وتین ئه‌بوه‌ ته‌په‌ته‌پ
شوفێر فرته‌ بۆز سه‌رو مل قه‌وی  -----ئه‌ی گوت خۆ بگرن با که‌س نه‌که‌وی
گشتمان هاتبووینه‌ صه‌ڵه‌وات لێدان -----له‌به‌ر وه‌رگه‌ڕان له‌ ترسی گیان
به‌یانی ده‌رچووین له‌ شه‌قڵاوه‌ی جوان--به‌ هه‌ولێر شاد بووین له‌ کاتی نیوڕان
گه‌ر ده‌ردی لاتی وهه‌ژاری نه‌بێ  ------بۆ خه‌ڵقی تووشی ئه‌م به‌زمه‌ ده‌بێ


165
رأيت بامّ عيني في شقلاوة وما جاورها

شمعون كوسا

اضطررت للسفر الى مسقط رأسي في فترة تُمطر الشمس ألسنتها النارية ، ليس لنفخ العلم او زرع الحكمة داخل النفوس والعقول كما فعلت ألسنة الروح القدس ايام حلولها على الرسل ، ولكن أشعة الشمس هذه اذا اصابت ضحيتها فانها، ان لم تطرحها ارضاً ، فانها تحيلها ضيفا على اقرب دار شفاء. شاهدت بلدة آيلة للجفاف ، بلدة إشتدت فيها ازمة المياه ، ازمة تنبئ شحتها بزوال كثير من خضارها.  هذا ما قالته الاشجار والجداول وحتى الضلال التي فقدت طراوتها وملّت من دور لم تعد قادرة على أدائه .

رأيت شعبا لم يتوقف عن هجرته نحو بلدة مجاورة (وهي عينكاوة) . كانت قد بدأت الهجرة الجماعية في حينها بسبب ظروف غير آمنة واعمال عنف ذهبت احيانا حدّ الاضطهاد ، غير ان الحركة استمرت بوتيرة منتظمة يمكن احتسابها الان بمعدل عشر عوائل في السنة . فالمهاجر الجديد يسلك الطريق نفسه لانه يكون قد عثر على عمل هناك او يرغب اللحاق بابنائه بعد ان يكون قد استحصل هو ايضا قطعة ارض او اشترى منزلاً هناك . إنه وضع خطير قد يؤدي ،على المدى المتوسط ، الى أفراغ شقلاوة من سكانها الاصليين .  انها حالة تتربص بها اطراف نعرفها ، اطراف بدأت بفرك يديها فرحا من زمن بعيد لانها تتمثل منذ الان جوا سيخلو لها ولها وحدها. لا اعتقد بان السلطات الرسمية المحلية ستعير اي اهتمام لهذه الظاهرة ، ولكني أرى بان السلطات الروحية معنية كاملا بهذا الموضوع، يجب عليهم البحث عن سبل توقف هذا النزيف وتشجع المغادرين للعودة  ، الى ارض الاجداد ، حيث الديار ترقى بقدسيتها الى أوائل المسيحية ، الاّ اذا كان الرؤساء الروحانيون لم يعد لهم ايمان بموضوع ارض الاجداد وارض المسيحية .
ومن جهة اخرى اقول ، عجبي لهؤلاء الناس ، كيف فقدوا سعة مخيلتهم وحبّهم للطبيعة والجبال والخضار والمياه والبلابل والافاق البعيدة التي تحمل في ثناياها الف الهام والهام، نبذوا لحظات سعادة حقيقة سعياً وراء ارض منبسطة لا تقدم للعين سوى الاطيان والاتربة والغبار وللاذان صخبا لا ينتهي !!!!
لقد اضحت هذه البلدة المجاورة مركزا يستقطب المسيحيين وغير المسيحيين، وتحولت من بلدة متواضعة كانت تمضي ايامها بهدوء وبساطة ، الى أرض ميعاد، بحُكم استضافتها لمؤسسات اجنبية مهمة توجّه ، مبدئيا ، قادة البلد الجدد. . كان يمرّ الناس بها سابقا مرّ الكرام او يكادون لا يمرون ، ولست بهذا منتقصا من قيمتها، فامست البلدة مركز توزيع اراضي تخصص تقريبا لكل من هبّ ودبّ، فاصبحت الجهة المكلفة بالتوزيع تتفنّن في اختيار المنتفعين ، فقامت بتنظيم قوائم خاصة للمعلمين والمزارعين والصناعيين والشمامسة وافراد الشرطة ، كما نظمت قوائم لقصيري القامة والحلاقين والايتام والارامل ، ولحد الان ينتظر العميان والعرجان وجثيثي البنية دورهم في قائمة خاصة .اما رجال الدين ، فبالاضافة الى قطع الاراضي التي يحصلون عليها ، فان رؤساءهم مُنِحوا امتياز تشييد مقرات فخمة لبطريركياتهم او مطرانياتهم واديرتهم ومعاهدهم الدينية. وقد فاتني ان اذكر ايضا بان بعض الفنانين افلحوا في الحصول على قطع اراضي واسعة في وسط البدة ، لربما من خلال مديح ، لان الالحان باتت مملّة !!
وبهذا الخصوص ، يعجبني ان اتابع فاقول  بان بعض من استرخصوا  ماء وجههم وفقدوها ، يحصلون على ما ليس لهم الحق فيه ، وهكذا  يُحرم صاحب الحق من حقه لان تربيته تمنعه من التذلل .
خلاصة القول ، لم تبقَ هناك شريحة ولم يبق شخص ، له صفة رسمية او شبه رسمية او يفتقر اصلا الى صفة ، لم يفز بقطعة او قطعتين في عينكاوة. ولقد سمعت ، والعهدة على من وشوش في اذني بصوته الخافت ، بان حتى بعض غير المقيمين ، تمكنوا من شمل نفسهم بهذه الافضال !!

والان ، رجوعا الى موضوعنا اقول :
لقد شاهدت تغيّرا في اخلاق الناس كي لا اقول تدهورا . فابن الاخ غذا يناصب عمّه العداء ويصرح بصوت عال بانه مقبل على هدم منزل عمه المتواضع لانه يرغب في تشييد منزل جديد له ولزوجته ، علما بانه يمتلك منزلا او منزلين في مكان آخر. اصبح العقار الشغل الشاغل للناس. شاهدت ورثة ، شعروا بالحاجة لاثارة اقربائهم من خلال مطالبتهم ببعض امتار من منازل قد استقروا فيها منذ عشرات السنوات واكتسبت وضعيتهم في ارضهم صفة قطعية.
شاهدت والدة لا تتورع عن حرمان ابنائها من حقوقهم ، رأيت آباء ينحازون الى ابنهم الفلاني على حساب البقية . رأيت أخا يُسقط حقّ اخته ، سمعت عن ولد بعد حصوله على ارث من والدته ، اخرج والدته من بيته ورماها في الطرقات بعد ان اشبعها ضربا. وقد يطول الحديث عن هذا الموضوع ، لانه متأصل في اغلب العوائل. لا بدّ لنا من الاقرار بان للنساء دورا كبيرا في توجيه رجالهن في بعض من هذا الاتجاه، وقد يصبح الفاعل مفعولا به والمفعول فاعلا حسب الحالة.
 
لقد قلناها ، كما قالها غيرنا ورددها الكثيرون بان المادة أعمت عيون الناس ، والمادة اعمت عيون الناس ، والمادة اعمت عيون الناس، واني اقولها ثلاثاً  وهذا ليس تكرارا  ولا غلطة مطبعية ، وتمكنت المادة من ايصاد ابواب قلوبهم فمحت منها الحب وازالت منها الرحمة والحنان وافقدتهم صلة الرحم والقرابة.
لا تسمع حديثا غير البيوت وقطع الاراضي والاملاك والاوراق والدفاتر غير المدرسية.
ولقد رأيت ايضا رجال دين ، والحديث عن المنطقة عموما ، قد عزموا على اعادة النظر في اولوياتهم في الحياة ، فاصبح الاله الثاني (المال) ،الذي حذّر منه المسيح يحتل المرتبة الاولى في نظام حياتهم الروحية الجديد ، وعندما يصبح المال سلطانا فانه يفتتح فروعا  في ابنية مسبقة الصنع ، تسكنها الانانية والحسد والرغبة في الانتقام وتصفية الحسابات. ومن هذا المنطلق ، اصبح بعضهم يهدد رئيسه وبعضهم يستقيل والبعض الاخر ينتقد ويتـّهم او يهاجر ، والمتبقي منهم ، يسكت لقناعته التامة بان الامور قد تفاقمت ولا سبيل لاصلاحها.
لقد فقدت القمة هيبتها وباتت تتلقى انتقادات الاكليروس الذي يقذفها باهانات مباشرة تذهب حد إطلاق اسماء مختلف العصافير عليها ، دون مواربة او خجل. واذا سالتموني عن العلاج فانا اقول يجب البحث عنه في الداخل . فبعد ما سمعته عن التصرفات واسبابها ، أقول بان العلاج هو في العودة الى الاله الحقيقي ، العلاج هو في الابتعاد عن المادة ، العلاج هو في التجرد ، العلاج هو في الرجوع الى المسيح وتعاليمه التي لا تحتاج الى تأويل ، العلاج واضح ، فاذا تردد العلماني في اتباع هذا العلاج ، فان رجل الدين لا خيار له ، ومن دون ذلك يصبح انسانا عاديا يفقد قيمته التي وضع من اجلها .

رأيت ايضا كنيسة قديمة في شقلاوة تتحول الى متحف. كنيسة أمّها الناس لاكثر من خمسين سنة وارتبطت عبادتهم بها. كنيسة تقدست حيطانها بالقدايس والمراسيم الدينية لاكثر من 18250 يوما . لا اقوى على الصمت عندما اتذكر ، واذكـِّر ايضا من لا يعلم  ، بان الكنيسة الكاثوليكية في حينها ، كانت توجّه انتقادات لاذعة للاتحاد السوفيتي لمجرد قيامه بتحويل الكنائس الى متاحف. وكيف يتحول مبنى مقدس قديم الى متحف يعرض آلة تصوير او عكازة او صناعات حرفية او فولكلورية موجودة في أية قرية كانت . فالكنيسة القديمة تصبح عادة مزارا للمؤمنين. واذا تركنا كل هذا جانبا نقول ، الا يكفي وجود ضريح الشهيد يوحنا عبدالاحد كي يتقدس المبنى ويتخصص؟ القس يوحنا راقد في هذا المبنى وهو أحدث شهيد شقلاوي لانه ، مدفوعا بغيرته المسيحية ذهب الى حد الموت .

وشاهدت صرحا للشهيد المطران أدّي شير. نصب مهيب يطل على الشارع العام مباشرة (كنت افضله انا بعيدا عن العيان) . سمعت بانه اصبح محطة استراحة وطاولة للعلب الفارغة واعقاب السيجائر ، ويقال بانه غالبا ما يكون الفاعلون من بني قومه. هل نستطيع ، والحالة هذه ، منع بعض المارة الاخرين من اخذ قسطهم من الراحة والعبث بالموقع ، خاصة اذا كانوا لا يمتـّون باية صلة للشهيد  ولا يهمهم امره لا من قريب ولا من بعيد .

وشاهدت ايضا طريقا جبليا معبّدا بصورة شبه فنية يقود الى مزار ربان بويا في جبل سفين ، توجهت الى ناسك شقلاوة القديم بقِدم المسيحية ، وكأني سمعته يقول : بربّي الذي اعبده مثلك ، لم اكن بحاجة الى هذا الطريق. كنت قد هجرت الدنيا وضجيجها بحثا عن الخلوة والتفرغ للصلاة ، واخترت مسلكا وعراً وكهفا صعب المنال ، والان اصبح يقصدني الجميع للّهو وايضا لغاية في نفسهم . وعلى ذكر هذه الغاية ، اريد ان اقول بان الحجرالذي تتدحرج عليه النساء طلبا في الخلفة ، ان عملهن هذا لا يغير شيئا في ارادة الله الموكلة للطبيعة وقوانينها. فالمرأة اذا حبلت لا يرجع الفضل لهذه الصخرة ، لانه في هذا الامر ليس هناك الف احتمال ، إما ان تحبل المرأة او لا تحبل ، وهذا ما يجري في حياة البشر في كل مكان دون تدخل هذا الصخرة . وسكت ربان بويا قليلا وتابع قوله : سمعت من هنا وهناك بان مشروع هذا الطريق كلف الملايين بسبب اخطاء متكررة لمنفذيه غير الاكفاء . ألم يكن شباب شقلاوة أولى بهذه المصاريف ؟ هؤلاء الذين ، كما قيل لي ، كانوا قد تقدموا بطلب للحصول على شقق تمكنهم من الزواج ، لا سيما وان طلبهم لم يكن يحتاج الى مثل هذا المبلغ الباهض ؟ هذا ما قاله لي ربان بويا ، ولقد نقلته بامانة تامة.
غير اني رأيت شيئا ايجايبا ، ظاهرة بسيطة جدا ، قد تبدو تافهة للبعض ولكني اعتبرها ذات دلالة .
رأيت أمرا جلب انتباهي . رأيت كنـّة تحيط حماها باهتمام غريب. وحموها هذا شيخ طاعن في السن ، تعرّض قبل اكثر من سنة  لوكعة صحية شلت بعض اطرافه. قد لا يصدقني البعض في وصفي لهذه الكنة . انها قد تفرغت لحميها وكانها تربي طلفها الوحيد، منذ لحظة استيقاضه والى دقيقة خلوده للنوم . ترافقه في كل حركة يقوم بها وفي كافة حاجاته ، حلاقة ذقنه ، حمّامه ، إكسائه ، تنظيفه وإطعامه ، وتقوم بكل هذا مبتسمة ومردّدة عبارات لطف وتدليل ، وكانها تناغي طفلا. انه استعداد نفسي قلما يتواجد لدى الابن أو البنت وبعض مرات حتى لدى الزوجة. ظاهرة بسيطة متواضعة ولكني  اعتبرتها رمزا كبيرا يصلح   مثلا للاقتداء به

قد آن الاوان لكي اختتم كلامي لاني اطلته كثيرا . اقول ان كل ما كتبته هو رأيي الشخصي ولكل قارئ حرية قلب الصفحة او محوها ، وانا متأكد بان البعض سيقلبها حالا بعد قراءة الفقرات التي لا يرتاح لها. غير اني اؤكد بان هذا هو ما شاهدته وسمعته من عدة مصادر ، وان ما ذكرته ليس غير خطوط عريضة لخطوط تليها ، متبوعة بخطوط اخرى ، لان الدخول في شعيرات الواقع المرير سيقودنا الى رمال متحركة ، تهلكنا لا محالة.


166
يا صبرنا كم تمنيناك طويلاً   
         
شمعون كوسا

يُروى في إحدى المدن ، الشهيرة بعلومها وثقافتها ، عن شاب شديد الولع بالعلم والمعرفة ، ودائم الرغبة في الاستزادة منها بأي شكل كان وفي اي مجال كان. سمع الشاب يوما تاجراً متجولا ، حطّ في مدينتهم ، يتحدث عن رجل فاضل يمتلك من العلم والحكمة والخبرة ما لم يملكه أحد في التاريخ ، وبانه وبالرغم من غزارة علمه ، لم يشأ الشيخ الحكيم ترك مهنته المتواضعة ، ألا وهي الحدادة .
لدى سماعه هذا الكلام ، أحسّ الشاب داخل نفسه برغبة لا تقاوم في لقاء هذا الشيخ  وقال : وأخيراً ساتمكن من اشباع نهم فيّ  يدفعني دوما للبحث عن مزيد من العلم والخبرة . رغبته العارمة هذه تحولت تلقائيا الى قرار ، فقام بتوديع اهله واصدقائه  وشدّ حقوية وابتدأ الرحلة.
بعد مسيرة اربعين يوما وصل الى المدينة المقصودة واتجه مباشرة الى حدادة الشيخ الحكيم. حال دخوله الورشه وقع على قدمَي الرجل المُسنّ ليلثم طرف ثوبه. فاقامه الشيخ وسأله ، أيّة ريح أتت بك والقتك على برّنا  يا ابني ، ما هو مبتغاك ؟ فاجابه الشاب : جئت من بعيد كي أنهَلَ شيئا من غزارة علمك واقتني بعض الحكمة . كان ردّ الشيخ الوحيد على طلبه أن أسلمه طرف حبل قائلا : مُدّ هذا الحبل وأرخِهِ لابقاء جذوة النار متّقدة. فاطاع التلميذ الجديد وامضى يومه الاول في هذا العمل وعقبته أيام واسابيع واشهر الى أن اكمل السنة. عندما لم يجد اي ردّ فعل  من الشيخ ولم يسمع أي كلام منه ، استمر في عمله الرتيب لمدة خمس سنوات كاملة دون انقطاع. بعد انقضاء هذه المدة ، أخذ صبر الشاب ينفذ ، وفي صبيحة احد الايام تجرّأ على النطق ففتح فاه وتكلم ، فتوقف الجميع عن العمل لانهم لم يألفوا على كسر طوق الصمت في معملهم . التفت الشيخ الى  تلميذه مستفهما وقال : ماذا دهاك يا ابني ؟ فاجابه الشاب : أين العلم والحكمة التي وعدتني بهما ؟ فاجابه الشيخ : ارجع الى عملك واسحب الحبل. فرضخ الشاب لكلام معلمه واستمر على هذا المنوال لخمس سنوات اخرى. عند بلوغه السنة العاشرة في العمل ، دنا منه الشيخ لاول مرة وربت على كتفيه قائلا : إرمِ الحبل جانبا وبوسعك العودة من حيث أتيت. عُد الى مدينتك واهلك لانك اقتنيت علما وخبرة قلما يمتلكها الاخرون. ان العلم الذي انغرس وتجذر في نفسك اسمه الصبر . انك تمرست على علم سيبقيك سعيدا في حياتك، لان صبرك سيسعفك في كل دقيقة وكل لحظة .

لا اريد ان اعطي عن نفسي انطباع واعظ ينسج حول نصّ مقدس ، لان القصة واضحة تنطق بالصبر من كافة جوانبها. حركة رتيبة مملة استمر باعادتها ليل نهار لمدة عشر سنوات ودون امتعاض فانغرست فيه وتجذرّت ويُقال بانها ساهمت في تسهيل كافة أمورهِ في الحياة .

فالصبر قابلية السيطرة على النفس في وقت انتظار. الصبر مثابرة وتأنٍّ . الصبر احتفاظ بالهدوء امام المصاعب ، الصبر طول بال وصدر مفتوح وقلب واسع. الصبر بُعد رؤية .
الصبر استعداد نفسي لا يعيش الانسان بدونه. انه مطلوب في مختلف الحالات التي تواجهنا في الحياة. الصبر مطلوب في حالة الامراض ولا سيما المستعصية منها او التي يطول علاجها. الصبر لا بد منه لدى المُلِمّات. الصبر يجب ان نستخدمه سلاحا لدى تعرضنا للمشاكل ، ويتمثل الصبر هنا بهدوء اعصاب تساعدنا على ايجاد الحلول  . الصبر ضروري للسكوت على تصرفات اناس جهلاء . الصبر مطلوب مع الاولاد في فترات تربيتهم ، وكم سمعنا والدينا بهذا الخصوص يرددون عبارة : انكم فعلا تحتاجون الى قلب كبير يتحمّلكم !!
الصبر مطلوب في حالات التقشف او عند الاضطرار الى اتباع نمط خاص من الغذاء بسبب مرض او غيره. الصبر فضيلة يحتاجها رجال الدين والرهبان في نذورهم ، الصبر مطلوب للكتمان على سرّ او امر مهم. الصبر ضروري في حالات الوفاة ، قدر لا مفرّ منه. والصبر مطلوب ايضا في ساعات الغضب لتجنب تصرفات غير محمودة. خلاصة  القول ، الصبر هو كالتنفس يحتاجه الانسان في كل دقيقة ولكل شئ  .

ان عدم الصبر او التقصير فيه يجعلاننا نندم ولكن بعد فوات الاوان. نندم ونعضّ اصابعنا قائلين : واأسفاه ، لو كنا قد صبرنا اكثر لكنّا قد حققنا الفوز ، او حصلنا على الغرض الفلاني ، او حُزنا على الشهادة الفلانية او نفذنا العمل الفلاني ، لم نكن بحاجة لوقت طويل ولكننا لم نصبر.
باعتقادي ان الصبر اساس كل الفضائل والصفات الحميدة. وعندما نتكلم عن الصبر نعني بذلك الصبر الحقيقي ، الصبر طويل الامد ، قوة النفس التي توصل الى نهاية المطاف. وهنا يحلو لي ذكر كلام المسيح المملوء حكمة والذي يقول : من يصبر الى المنتهى فهو يخلص. فاذا لم يتجلّد الصبرويثبت ، بالرغم من ظروف غير مؤاتية وتقلبات غير متوقعة،  يكون صبراً فاشلاً لانه غير كامل ، والصبر الناقص لا يؤدي الى نتيجة . الصابر الحقيقي يحصل على ما يريد لا محالة ، لانه يعرف ان ينتظر، أمّا العصبي الذي ينفذ صبره، يبقي نادما طول الحياة. ومن أمثال هؤلاء عديمي الصبر، نفر تراهم يفقدون الاعصاب بسبب طنين ذبابة او زنّ بقّة لا يتراجعون عن  التفكير احيانا باطلاق النار عليها ، او بسبب دقات ساعة ،  او صوت بعض انواع العصافير ، او طعام لم يحضر في أوانه ، او مناخ تغير ، أو صديق تأخر ، او طابور لا يتحرك ، وكثير من هذه الامور الطفيفة.

بعض منا ورث قوة صبره وهدوءَه من والديه والبعض الاخر يحتاج الى جهود كبيرة في هذا المجال ، ولكننا كلنا نحتاج دوما للتمرس على الصبر الجميل والطويل . نحتاج الى القيام بشئ مما فعله ساحبُ الحبل. يجب تعويد النفس على الهدوء والسيطرة على النفس ، وهذا لا يتم الا من خلال فترات تأمل وصمت وتركيز تنتهي بقرارا ت يتم تنفيذها عند اول فرصة . يجب الاقتناع باننا بتوترنا لا نغير شيئا وبانه ليس هناك مشكلة تبقى دون حلّ . لم يفلح التبرم والغضب يوما الا في تعقيد الامور. تعددت القصص والروايات عن اشخاص صابرين في التاريخ وتنوعت الامثال والحكم عن الصبر في كل اللغات وفي كل البلدان ، ولكني اريد ان انتهي بجملة قرأتها في الادب الفرنسي تقول : الصبر شجرة جذورها مُرّة ، غير ان ثمرها شهيّ جدا .

Kossa_simon@hotmail.com




167
وماذا عن الانانية والانانيين   
                  
شمعون كوسا

كلما انتهيتُ من موضوع أقول في نفسي : لربّما تكون هذه آخر أحرفٍ ينثرها يراعي على الورق ، لاني في كل مرة أجدُ نفسي حائرا في ما سوف اكتبُه في مقال قادم. وبعض مرات انتهي بتوجيه اللوم لنفسي قائلا : لقد تكلمتَ كثيراً يا هذا عن الاخلاق والعادات ، ومن أقامكَ وصيّاً على المجتمع ، دَعِ الناس وشأنهم ، وهل انت مرشد روحي أم مصلح اجتماعي أم رجل دين ؟  غير أني في البَين الذي يفصلني بين مقالين ، تـُلفت نظري ، بالرغم عني ، أشياءُ اقرأها او أشاهدها او اسمع عنها. وفي أغلب الاحيان اجد في هذه الظواهر ، عيوبا تمسّني انا ايضا ، فاتناولها في مقال . وبهذا الخصوص اريد ان أقول عابراً ، بان لكل منا عيوبه ، وقـَدَرُ الانسان ان يكون خليقة ضعيفة لانها غير كاملة. فالعبرة في استخلاص الدروس.  لانه ليس هناك مجتمع منزّه ، فالانسان بالرغم من نواياه واستعداداته الحسنة ، يبقي معرّضا لاخطاء تتكرر يوميا . كم من توبة وتوبة عقبتها خطايا ، واذا كان قد افلح ، عرَضاً ، أوّلُ فعل ندامةٍ في إصلاح المجتمع جذريا واستئصال الشرّ من أصوله في العالم ، لكانت قد تحولت الارض الى جنة ، ولكان ساكنوها الراحلون منذ ألفٍ او مليون عام قد قرروا العودة اليها ، مدفوعين لذلك بحنينهم الى العيش في صحوها هذا الجميل !!!

أما اليوم ، فاني عثرت على ضالتي في قراءتي لقصة قصيرة مسليّة أرسلها لي صديق على النحو التالي :
وقع رجل ضحية صاعقة أودت بحياته وحياة كلب وحصان كانا يرافقانه. متوهّماً بانه لا زال على قيد الحياة ، قام الرجل بمتابعة سيره بمعية الحيوانين ، فوجد نفسه في طريق صحراوي ثراه رمل حارق وثريّاه شمس عمودية الاشعة. بعد مسيرة شاقة جداً، أبصر الرجل المائت ممرّا جميلا يقود الى قصر جميل فخم . فهرع اليه مسرعا وبادر الحارس بالسؤال : ما اسم هذا المكان ؟ فاجابه الحارس : انها الجنة. فانفرجت اسارير أخينا وقال : واخيراً نجونا ، واستأذن الحارسَ بالدخول لارواء عطشه مع حيواناته. أذِن له الحارس بالدخول وقال : إنهلْ ما طاب لك من الماء ، ولكن حيواناتك يُمنع دخولها. فتوقف الرجل على الفور وأدار ظهره لجنـّة تحرمُ المخلوقات من إرواء عطشها . واستأنف سيره باتجاه جديد ، وبعد ساعات طويلة ، لمح صاحبنا من بعيد واحة خضراء توهـّمها لاول وهلة سرابا ، ولكنه بعد فرك عينيه مطولا رأى الموقع ثابتاً في مكانه ، فغـذّ السير إليه .  قوبل الموكبُ اللاهث بحفاوة من قبل رجل يرتدي قبعة جميلة . لشدّة عطشه ، نسي صاحبنا ان يلقي التحية وخرّ على قدمي الرجل طالبا الماء . فاشار اليه الرجل بالدخول حالا واضاف : لا تنسَ الكلب والحصان ، وارجع الينا كلما احتجت الى ارواء ظمئك انت ورفيقيك . بعد انتهاء  صاحبنا من شرب الماء ، سأل القيّم على الواحة: بالله عليك ألا تقول لي ما اسم هذا المكان ؟ فاجابه :هذه هي الجنة. فاستغرب صاحبنا من جوابه وقال : وكيف كذب علينا رجل التقيناه قبلك بان السماء هناك عندهم ؟ فاجاب بواب الجنة مبتسما : انّ ما رايته هناك ليس غير جهنم. فاستطرد صاحبنا : ولماذا يستخدمون اسم الجنة ، وكيف لا تمنعونهم من ذلك ؟ فاجابه: اننا لن نقوم أبدا بذلك ، انّ هؤلاء يقدّمون لنا خدمة كبيرة لانهم يريحوننا من الانانيين ، مِمّن لا يفكرون الا بانفسهم ، ولهم استعداد التخلي عن اصدقائهم ، فهؤلاء لا مكان لهم عندنا.
عِبرة هذا الحديث الذي طال رغما عني ، نستخلصها في تصرف صاحب الكلب والحصان الذي لم يَنقَـَد للانانية ، وآثر الموت على أرواء ضمِئه دون رفيقـَي دربه ، بالرغم من كونهما حيواناتٍ كان يتخلّى غيرُه عنها بسهولة.
نبدأ بالقول بان الانانية هي حب النفس المبالغ به. حبّ ينغلق على نفسه ، حبّ يعتكف وينزوي وينسى الغير كليّاً، حبّ يريد كل شئ لنفسه.
ومن جهة اخرى نقول ، ليس كلّ حبّ للذات أنانية. لان حب الذات اساس للتوصل الى حب الغير. كيف نستطيع مثلا ان نحب الاخرين اذا لم نجرب حبّ نفسنا ونعيشه ، وأن نعي لذاتنا ومصلحتنا ولذوينا ؟ ألا تقول الوصايا أحبّ قريبك مثل نفسك؟ اعني يجب ان احبَّ نفسي لكي اعرف كيف احبّ قريبي.

فالانانية عيب في التصرف. انه الاكتفاء بالأنا دون ترك أيّ مجال للاخر. الاناني يهتم بشخصه فقط وبالامور التي تخصه. يريد امتلاك كل ما تقع عليه انظاره دون ترك اي شئ للاخرين وكأنه شمس قد كرست الارض دورانها له. شدة حبّه لنفسه يمنعه عن الانفتاح على الغير. انه لا يحب الاصدقاء واذا حدث وان عقد علاقة ما ، فيجب الاستنتاج بان من ورائها مكسب او مصلحة او متعة.
يقال بان الانانية تجد جذورها في حبّ ناقص في نشأة الطفل يمنعه عن اكتساب الثقة بالنفس. لم يشبع الطفل حبّا لكي يفيض به على الاخرين. إن الانسان بطبيعته يحب ذاته ، يرغب في الحصول على طعام لذيذ ، وسكن مريح ، واهتمام كاف من الذين يحيطون به ، وهذا طبيعي وهذه شريعة الحياة. فبعد حصول الطفل او المرء بصورة عامة على هذا الحدّ الكافي من الاهتمام ، يبلغ درجة الاستقلالية ، وهذا يتيح له الانفتاح شيئا فشيئا على محيط يتوسع تدريجيا.
أمّا الاناني هو من ليس لديه هذا الفائض وهذه الاستقلالية ، لذا تراه دوما يطلب ، يأخذ ولا يشبع. 

معالجة هذا العيب بالنسبة للاطفال هو تعويدهم على الاعطاء حتى اذا كانت البداية بحاجات بسيطة جدا. يجب ايضا ان يعاشر الطفل اصدقاء نشأوا على الكرم والانفتاح على الغير ، كما يجب حَملـُهُ وباستمرار على احترام الاخرين .

وبما اننا ننتهي دوما بالقاء نظرة على مجتمعنا الذي نحن من إحدى مكوناته ، نقول : أن نمط الانانية المتفشية فينا تختلف عن حالات نفسية سهلة ، لان الامور اكثر تعقيدا.  لقد اضحى الناس منغلقين على انفسهم والكل يقول انا وليس غيري. نريد الاموال والمساكن والسيارات والمناصب لنفسنا فقط ، وإن آخر همومنا هو التفكير في الغير ، جاراً كان ، قريباً أم غريباً .
هل هذا الاعوجاج متأتٍّ من تراجع القيم ؟ أم هل هذا التصرف نتيجـة لظروف حملتنا ، رغم انوفنا، على تقديم التضحية تلو التتضحية منذ انفتاح زهرة شبابنا الى يوم ذبولها ، وكل ذلك من اجل اهداف لم نتمكن يوما من التعاطف معها ولم يكن  لدينا أيّة ذرّة ايمان بها ؟ أم ان الامر راجع لحرمان كبير تعرض له الناس ، حيث افتقروا لفترات طويلة لابسط الحاجات الاساسية ، كأنْ يكون البلد النفطي ينقصه الغاز والوقود والاضاءة ، وان يغدو البد الغني أرضا قاحلة تشكو من شحة كبيرة في كافة السلع الاساسية ، فتعوّد الناس الوقوف في الطوابير حتى لحاجات يجهلونها !!!
اني اتكلم هنا عن ازمنة ولّت عشتها شخصيا، ولو إن الامر لا يختلف كثيرا الان في معظم جوانبه. قد تكون هذه الاسباب هي التي أدّت الى انطواء الناس على مصالحم والخلود الى انانيتهم. ولكن نقول دوما ، وبالرغم من كل شئ ، يجب الرجوع الى الذات في فحصٍ للضمير ، والتوجه بعد ذلك الى المنابع العليا لاستقاء الاصالة والصفاء ، لا سيما وان عناوين هذه المنابع ومواقعها لا تبعد كثيرا عن ضمائرنا !!


168
عن الوفاء والانسان الوفي   

شمعون كوسا


قبل فترة تلقيت مكالمة من شخص لم أكن على سابق عهد به ، فقدّم لي نفسه وقال : لقد اطّلعت على مجمل ما كتبته من مواضيع عن صفات حميدة وعادات ذميمة في المجتمع ، وانتظرت طويلا كي اراك يوما تكتب عن موضوع مهمّ يعنيني كثيرا وهو الوفاء. اثارت ملاحظته هذه انتباهي وخلقت لديّ فضولاً لمعرفة اسباب طلبه الذي أحسست به مُلِحّا وكأنّ وراءَهُ  قصة او حدث غير مالوف . لم يُمهلني مخاطبي كثيرا في إشباع فضولي وبدأ بسرد قصة حب عارم جدا ، قصة فريدة من نوعها ، بوسعنا اختصارها بجملتين : أخلّ احد الطرفين بوعده ، وبقى الطرف الاخر لثلاثة عقود ونيّف من الزمن وفيّا لعهدٍ حافظ عليه كذخيرة مقدسة ، وظلّ ملتزما  بهذا الوعد بالرغم من تقلبات الدهر وكثرة المغرَيات . كان قد بدأ صاحبي حديثة برباطة جأش محاولاً عدم الانزلاق الى وادي العاطفة ، غير انه لم يتمالك نفسه ، واحسستُ بذلك من محاولاته المستميتة لإيقافَ ما سال من دموعه داخل مسالك الخياشيم ، بالنخير والنـّشق والاستنشاق ولاكثر من مرّة . فتخيلت أول غيثه دمعتين ساخنتين أبتا السقوط  ، كمحاولةٍ مستميتة  لسيطرة اخرىعلى النفس ولكنها لم تستغرق طويلا ، فارتجف صوته واجهش بالبكاء . وبعد ان استعاد صوته قال : من المؤلم ان تحبّ بصدق ، وتقدم التضحية بصدق ، وتنصدم بنهاية تخيب الامل .
لم اعرف هل كان هذا تقريعَ ضمير او شعوراً بالندم ، أم مجرّد  رهبة  أمام حالة وفاء فاقت بسموّها كل الحدود ،  فلم يجد لها تعبيرا آخر غير العبرات !!!!

بعد هذا الحديث المأساوي ، أبتدأ بالقول  بان الوفاء من بين الصفات والمبادئ السامية جدا في حياة الانسان. انها من الخصائل التي تعتبر ركنا اساسيا لكثير من الفضائل. انها من المكونات الجوهرية للحب والاخلاص والصداقة والامانة والشجاعة والشرف. اقول ايضا بانها الهيكل الذي يدعم جدران اغلبية المبادئ السامية. فاذا اختفى الوفاء مثلا عن الصداقة ، سينقصم ظهرها وتنهار ، وماذا نقول عن حب يفتقر الى الوفاء ، هل هناك وجود للحب دون الوفاء ، أنا أصلاً اعتبر الوفاء مرادفا للحب. وماذا أيضا عن الامانة وماذا عن الشجاعة وماذا عن الشرف ، هل سيقاوم بنيانها دون الوفاء ، وهل يُعقل ان يُنعت انسان بالشريف دون ان يكون وفيـّاُ ،  وهكذا .
لقد نسيت نفسي ، ها إني في نهاية الصفحة دون التفكير بتعريف الوفاء ، مُعتبراً هذا التعريف تحصيل حاصل. في التحدث عن الوفاء يجب ان نبدأ بالقول بانها صفة مميزة تـُطلـَق على شخص يحترم وعده ويرعى عهده. إنها مزيّة الانسان الملتزم بكلامٍٍ قطعه على نفسه وراهن عليه بشرفه. الوفاءُ شيمة من ينفـّذ الوعد بالرغم من كافة الصعوبات التي تعترضه ودون الاكتراث بالتضحيات التي تترتب عليه. الوفاءُ كاليمين والوصية لا يتحمل الخيانة ولا الكذب. الوفاءُ يتداخل مع أغلب خصائل الانسان وصفاته الحميدة ، كم مرّة نسمع في النهار احاديث مدح ، في شتى المجالات ، عن فلان وفلان بالقول : الحقّ يقال إن فلاناً انسانُ وفيّ ،  وليس كفلان الذي ينكث بوعده ولا يلتزم بعهده .

الوفاء كالصداقة ، طريق محفوفة بالمخاطر ، والالتزام بها يضع الانسان أحيانا في مآزق لا منفذ منها الا بالتضحيات . ويسري على الوفاء ما قيل عن الصداقة : فاذا كان الصديق عند الضيق ، فيكون الوفاء في السرّاء والضرّاء.

أمّا عن انواع الوفاء فنقول . أسمى وفاء هو وفاء الحب والصداقة . هناك وفاء للوطن . هناك وفاء للوالدين ، عهد لا بدّ ان يقوم به الاولاد تجاه الوالدين ، وبالمقابل هناك وفاءالابوّة  تجاه الاولاد ، وهذا ايضا شعور تلقائي ، إذ تندرالحالات عن إخلال الوالدين بالوفاء تجاه اولادهم . هناك ايضا الوفاء للعمل واحترام متطلباته. هناك وفاء لاستحقاقات الديون ، قد تدخل بعض هذه الاستحقاقات في سياق عقود مبرمة يجب احترام بنودها ، ولكن بعضها الاخر مجرد وعد شفوي قد يستغله بعض المدينين لتأخير التسديد. هناك اشخاص يتباهون بمقدرتهم على تأخير الديون وعدم الالتزام بالوعود الشفوية. وفي مجال الاكليروس والراهبات ، هناك وفاء لنذور اعلنت او عهود قطعت لدى تقبّل بعض الدرجات الكهنوتية .
كما يعني الوفاء ايضا المحاقظة على اسرار الاصدقاء والاقربين ومَن تربطنا بهم صلات خاصة.  انا اقول ، مفهوم الوفاء ومتطلباته تكاد تدخل في كافة مجالات الحياة ، لان الوفاء استقامة واخلاص وحب وصدق ونزاهة وشرف وكل شئ.

من المؤسف جدا ان نلاحظ مجتمعنا الحالي وقد حفر هاوية بينه وبين هذه الصفة الاساسية في الاخلاق ، هاوية هي في اتساع مطّرد . لقد ابتعد الانسان عن الوفاء بسبب انانيته وتكالبه على المصلحة الخاصة التي لا تجد نعيمها الا برفقة  التحايل والكذب . يفقد الانسان وفاءه عندما تكون المادة على رأس اولوياته. يترك كل عهد وينسي كل وعد او كلمة شرف امام اول عرض أوفر او مبلغ مالٍ لا شرط له على الباحثين عنه  غير نسيان الوعد ونكران العهد. ينسى الانسان االوفاء اذا حصر اهتمامه بشخصه وبانانيته ،كما يحدث في حالات عدم الوفاء في الحب. فالانسان الاناني يُخل  ّبوعد  قطعه لشريكة حياته لدى اول لقاء مع فتاة اجمل ، او اصغر سنّا ، او اكثر ثراءً ، او اشهر نسباً. فالمصلحة والانانية لم تتركا مجالا للوفاء. لذا نقول بان الوفاء غدا في عصرنا مجرد لفظة نظرية يُجمع الناس على وصفها بالمبدأ السامي والقيمة الاخلاقية العالية ، ويتوقف الموضوع عند التعريف والاعجاب النظري ، لان التنفيذ غريب عن عالم الوفاء ومناقض له،  ولانّ الوفاء لا يقوى على السكوت ويصرخ عاليا ويفضح ، لا يرغب مناوؤه قراءته إلا في القواميس  .

اريد ان انهي الموضوع بسرد حديثين أو مثلين مقتضبين ، الاول عن عدم الوفاء والثاني عن الوفاء.
قد سمع الكثيرون عن عرقوب ووعوده. وعرقوب هو إعرابي من عمالقة بني شمس . يقال بانه قصده يوما اخوه في حاجة ، فوعده عرقوب قائلا : ساقوم بذلك عندما يُطلِع نخلي (اي عند موسم الطلع) . فلما اطلع النخل قال له : اذا ابلح ، وبعد البلح اتاه اخوه فقال له : سافعل عندما يُزهي النخل ، ولما ازهى النخل اعطاه وعدا آخر قائلا : عندما يُرطب النخل، وعندما أرطب قال له : اذا صار تمرا. وعندما صار تمرا وقبل ان يأتي اخوه حسب الموعد ، قام عرقوب بقطع التمر ، وتنصل من وعده ولم يعطِه شيئا. ولاجل هذا يُضرب المثل به عندما يقال : وعد عرقوب او هذه مواعيد عرقوب.
والمثل الثاني قرأته قبل فترة عن رجل عجوز كان جالسا مع اصدقائه . عندما هَمّ  بالخروج ومغادرة المجلس ، سأله اصحابه الى اين انت ذاهب ، فاجابهم : لي موعد مع زوجتي في دار المسنين ، وهي مصابة بداء الزهايمر (فقدان الذاكرة) . قالوا له ولماذا تعجّل في زيارتك ، هل ستتعرف عليك زوجتك عندما تراك ، قال لهم كلا ، فقالوا له وما الفائدة من زيارتك اذن وما معناها ؟  فاجابهم بهدوء ووقار : زوجتي المريضة لا تعرفني ولكني أنا اعرفها لانها زوجتي.  كلام بليع جدا ومحمّل  بمعاني قيّمة عن الوفاء.

kossa_simon@hotmail.com



169
واذا تكلمنا قليلا عن الشرّ   

شمعون كوسا

بعدما جلست محلّلاً ما أعرفه عن الشر وما تعلمته عنه ، وبعدما أمعَنت النظر بما استقيته من بعض المصادر عن هذا الموضوع ، موضوع كان في نيتي الكتابة عنه منذ زمن بعيد ولكني كنت اخشى التقرب منه ، وجدتُ نفسي فعلا في مأزق كبير ، رأيتُني وكأني مزروع داخل حقل الغام ، او أتخبط وسط ارض شائكة جدا ، لِما لهذا الموضوع من تناقضات وحساسيات وزوايا غامضة يفسرها كلّ على هواه . قد يقول البعض بان صاحبنا قد اعتاد على تأزيم الامور في كافة مقدماته ، ولكن دعونا نرى  ما سيقوله : 

حساسية الموضوع تبدأ بالسؤال المنطقي المشروع التالي، سؤال اذا لم يطرحه احد ، سيطرح نفسه على نفسه: إن الله خلق العالم والبشرية جمعاء ، ولقد خلق الانسان على صورته ومثاله ، الله هو الصلاح والخير بالذات ، هل يُعقل بان يكون الله هو الذي أوجد الشر ؟ او هل خلق الله داخل كلّ شخص عنصرًي الشر والخير ، كما كان يعتقد بعض المسيحيين المتطرفين في الاجيال الاولى ؟
جوابُ غالبية الاديان على هذا التساؤل تلقائي وواضح وهو أن الشرّ دخل الحياة منذ الدقيقة التي عصى فيها آدمُ أمرَ الله بتذوقه شجرة الحياة او شجرة الخير والشر التي كان قد نهاه الله عنها. ويُستشفّ من هذا بان تصرف الانسان بعصيانه امر الله هو الذي أوجد الشرّ ، ومن هنا كانت الانطلاقة الاولى للموت ،  والالم ، والمرض ، والاوبئة ، والحزن ، والمصائب ، والهموم ، والاضرار ، والرذائل ، والجرائم ، والاخطار والكوارث وغيرها .

أنا اقول بان الله قد خلق الانسان صالحا ، وعندما نقول بانه جَبَلهُ على صورته ومثاله ، نقصد بانه ميّزه من دون الخلائق كلّها، ومنحه روحا وعقلا . وَهَبهُ هذه المزيّة لكي يفكر ويبدع ، وينمّي بذرة الخيرالتي في داخله ، ويقوم بتوسيع دائرة تفكيره بهدف اكتشاف الطريق القويم المتجه مباشرة نحو الخير ونحو كل ما هو ايجابي ، لان الطريق الاخر ، اعني طريق الاعوجاج والشر ، فانه درب من لا يستخدمون عقولهم أو لا يجهدون نفوسهم فينتهون في الفراغ الذي هو أخصب مرتع لنموّ الشر  .اتذكر هنا بهذا الخصوص قولاً كنّا نسمعه كثيرا في الخمسينات  وكان مفاده : رأس البطّال دكّان الشيطان .
من جهة اخرى، بالرغم من امتلاكه عقلا ، يبقى الانسان محدوداً وغير كامل لانه لو كان كاملا غير ذي نقص لاصبح خالدا او حتّى إلهًا، لان الكمال المطلق هو لله.
يُقال بانه ليس للشرّ وجود ، وان الشرّ مجرد غياب الخير. ومَثـَله هنا كمَثل الظلام الذي يتبدد بظهور النور ، أي إن الظلام هو غياب النور وهكذا مع البرد الذي هو مجرّد غياب الحرارة ، والحقد هو غياب المحبة وهكذا . فعندما يقلّ الخير او يختفي ، يحلّ الشر محله. وبموجب هذا المعادلة ، بمقدور الانسان ان يتجنب الشرّ كليا بتطوير بذرة الخير التي في داخله وباختيار الاتجاه الصحيح المدروس من خلال العقل وعدم ترك اي فراغ للشر. طبعا هنا نحن بصدد الشر الناجم عن سوء السلوك.

لقد خـُلِق الانسان حرّا ، أعني وهبه الله إمكانية اختيار معسكره بمحض ارادته  دون اي تدخل مباشر في اموره او اختياراته ليتيح له نيل استحقاق في عمله . اذا كان الانسان مسيّرا لكان قد تحجّم واقتصر دوره على مجرد آلة لا تحتاج عقلا في حركاتها ، ولكان يغدو كائنا لا اجر له ولا فضل في أيّ من نشاطاته .
تتمّ الخيارات إذن من خلال العقل ، واذا استُخدِم العقل ومعه الضمير بشكل صحيح ، لا يبقى هناك احتمال للانزلاق نحو الشرّ .
من جهة اخرى،  مفهوم الشر يساعد في عملية المقارنة بينه وبين الخير وخصوصا في إبراز جمال  الخير وأحقـِّيتِه. كيف نفهم المملوء مثلا اذا لم نسمع عن الفراغ ، كيف نفهم الحب اذا لم نعرف البغض والضغينة ، كيف نفهم السعادة ان لم نتعرف على التعاسة ، كيف نعشق الصدق اذا لم نشمئز من الكذب ، وكيف نعجب بالوداعة والحلم اذا لم نتبرّم من الغضب ، واخيرا كيف نعرف الحياة اذا لم يكن هناك موت ، لان الموت هو الذي يعطي معنى للحياة.

هناك شرّ ناجم عن عناصر الطبيعة كالاوبئة وكوارث الطوفان والحريق والبراكين الهائجة وغيرها . إن ما نعتبره شرّا هنا ظاهرة تسير وفق نظام  عام خاضع لمعادلة العلـّة والمعلول . بمعنى آخر ، لا يحدث شئ بالصدفة. كل هذه العناصر لها قوانينها واسباب تحركها التي تتمّ وفق نظام الكون الشامل . واذا وقع مكروه من جرّاء تقلبات هذه العناصر الثائرة حسب قوانين الطبيعة ، والتي نعتبرها شرا ، لا يجب ان نفسرّ ذلك البتة بالعقاب ، لان الضحايا قد تكون من بين البشر او الحيوانات او غيرها . فالشرّ هنا لم يعقب تصرفا خاطئا ،  ولكن الاسباب السائدة في تلك اللحظة هي التي تتزاحم لخلق تلك الظاهرة. واذا ادخلنا الله في الموضوع نقول بان الله عالم منذ الازل بكل تطور ولكنه يَدَع الانسان يسير حسب اختياره ، والطبيعة بموجب قوانينها.
 
حتى الامراض التي نُصابُ بها تخضع لنفس المبدأ .هناك حالات موت مفاجئ تصيب بعضَ الشباب وهم في مقتبل العمر، ونقول عنهم  عادة : ان المرحوم لم يشكُ في حياته من أيّ مرض او حالة خاصة ، وإنّ المنيّة وافته دون مقدمات. انا اقول بانه لا شئ يحدث دون سبب ، قد يكون السبب وراثيا ، او ناجما عن تراكمات نجهلها نحن وكان يجهلها الشخص المعني نفسه ، ونحن نطلق على الحالة اسم الصدفة  لانه ليس لدينا تفسير آخرعنها .

نستطيع القول ايضا بان الله وهب الانسان عقلا لكي يكمّل ، بواسطة هذا العقل ، ما بدأهُ هوعند خلقه للطبيعة ، وليساهم في تحسينها وتطويرها نحو الخير . لقد سجّل الانسان عبر التاريخ ، وخاصة في الازمنة الاخيرة ، تقدما في كثير من المجالات وساهم في تقليص الشرّ في العالم . قام الانسان بتصنيع عقاقير لمختلف الامراض وعلاجات لتخفيف الالام. ساهم في إطالة عمر الانسان وأوجد اسبابا لراحته. اخترع اجهزة للوقاية من بعض الكوارث او مقاومتها  ، قلل المجاعات ، غير ان عقولا غير مستقيمة ، تأتمر بأوامر الانانية والمصلحة الخاصة ، ساهمت في قيام الحروب وزادت من اسباب نشوبها ووسائط ادامتها .

على الانسان اذن ان يواصل بحوثه ، فيستخدم عقله القويم في الاتجاه العلمي الايجابي الصحيح للحصول على نتائج جديدة في بحوثه عن الوسائل التي من شانها ردم الثغرات ومعالجة الجوانب الضعيفة في الانسان لابعاد الشر بكل وجوهه الظالمة . من جهة اخرى ،  يجب الحرص كل الحرص على ان ينموَ الطفل في اجواء صالحة وخيّرة ، اجواء تتبنّى المبادئ السامية وتمارس الفضائل وتؤمن ايمانا راسخا بكل ما من شأنه تبديد الظلام وطرد الضغينة ومحاربة الانانية ،اجواء تضمن تربية يسود فيها الخير التام .
واذا رجعنا الى بعض تعاليم الدين ، نقول ان القسم الاكبر من رسالة المسيح أتت لتعزيز مكانة الخير ضد الشر، فهو الذي يقول مثلا : لا تقاوموا الشر بالشر ، احبوا اعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، وكافة وصاياه تنصبّ بهذا الاتجاه وتُعتبرمن أنجع الوسائل لاجتثاث الشر. امّا عن الالم ، يجب ان نقول بان المسيح قد اعطى قيمة للالم . لقد حاول بعض فلاسفة اليونان في حينه معالجة الموضوع بدعوتهم للصمود ومحاولة الحفاظ على برودة الاعصاب والهدوء،  ولكن المسيح ، من خلال آلامه ، مكّن الانسان من قبول آلامه  وتقديمها من اجل خلاصه .
ارجو ان لا اكون في تطرقي لتعاليم المسيح وآلامه قد تجاوزت حدودي المدنية ، أو أخذت بعضاً ممّا يجب ان يقوله رجال الدين !!

ختاما اقول ، لقد تعمّدت ان أبقى في موضوعي هذا  في الطبقة الاقرب من سطح الماء خشية الغوص عميقا والتعرض للغرق ،لان التمحيص الزائد في هذا الموضوع هو شبه متاهة .  لم اتحدث الا عن بعض جوانب بسيطة ، لان الشرّ موضوع واسع ومعقّد يحتاج الى مكتبة باكملها . لقد ذكرت بعض المبادئ التي تبدو منطقية وكانها جواب للتساؤلات ، ولكننا في الواقع ، عند بعض الحالات الصعبة نبقى فاغري الافواه عاجزين عن  أيّ تفسير ، لاننا نتكلم عن شئ يملأ حياتنا اليومية ونحسّ به ونعاني منه كل دقيقة وبشتّى الوجوه ، مع هذا  نسمعهم يقولون بانه غير موجود !!
Kossa_simon@hotmail.com


170
أصحيح ان الانسان يولد كـّذابا   
            

شمعون كوسا
 

هل أمضينا يوماً دون ان نردّد نحن او نسمع لعشرات المرات العبارات التالية : - لا تكذب ، انه يكذب ، هل تعتقد بانه يقول الحق ؟، لقد كذب علينا ، انهم كذابون وسيكذبون عليهم ، يجب ان ان لا نصدقهن -. وهكذا يجد فعل (كذبَ) نفسه في معمعة تصريف في كافة اوقاته وصِيَغِه من ماض ومضارع وأمر ، تذكيراً وتأنيثا ، إفرادا وجمعا ، نفيا واثباتا. اننا فعلا في الامور المهمة في حياتنا نشكّ في كل شخص حتى من بين الذين نعرف بانه لا غبار على نزاهتهم .

انا أميلُ للقول بان الانسان مولود وهو يحمل في داخله نزعة للكذب ، اعني قابلية مخالفة الحقيقة او إخفائها ، وهذا يندرج في سياق طبيعة الانسان العامة الناقصة والضعيفة والتي هي أمّارة بالسوء. ولعلنا سمعنا جميعا باحاديث عن الكذب والبعض منها يرقى الى بدايات الانسان.
الكذب وسيلة سهلة جدا ، وسيلة تنقذ الانسان ، على الاقل مؤقتا ، من الخطر ، من موت محقق ، من حكم قاس ، من ضرر جسيم ، ومن جهة أخرى تحقق له بسرعة مكاسب كالمال والجاه والمنصب وغيره . الكذب وسيلة سهلة ، لانها  في اغلب الاحيان ، لا تحتاج  الى غيرنفيً او إثبات يُترجَمان بمجرد هزّة رأس عمودية او افقية ، او حركة يد واحدة ، او بسمة خفيفة او حتى مجرد صمت. واذا اضطر الكذاب لاخراج إيماءاته هذه بكلمات ، فانه لا يحتاج هنا ايضا لاكثر من كلمات مقتضبة مثل : نعم ، لا ، بلى ، كلا ، وهي كلمات تتكون من ثلاثة احرف فقط ، بخلاف الصدق الذي ، قد يعبّر عن نفسه بنفس الالفاظ والحركات ، ولكنه الخيار الصعب ، كونه يضع صاحبه امام مسؤوليات جسام ، حيث اقراره تعهُـّد امام الله والناس بالوفاء بالوعود المقطوعة وتحمل الواجبات المترتبة عليها .

اذا كان الانسان يولد صادقا منزّها أو تغلب فيه النزاهة على الكذب ، ماذا يدعو القضاة في كل انحاء العالم ، ومنذ أقدم العصور ، الى وضع المتهم والشاهد، مهما كانت نزاهتهما او سمعتهما ، تحت قسم قول الحقيقة ولا شئ غير الحقيقة ؟ الدعاوى المقدمة في المحاكم لا هدف لها غير اكتشاف الحقيقة أوالتمييز بين ما هو كاذب وما هوصادق. فتأتي بعض جهودها بالثمار المرجوة حيث يفضح الكذب ، ولكن في كثيرا من الاحيان ، لا يتم التوصل الى تمييز الحق عن الباطل او اكتشاف الكذب ، حالات شائعة جدا توصل اشخاصا أبرياء الى حبل المشنقة، بفضل بعض رجال قانون ، أو محامين قد كرسوا نفسهم وسخروا ضمائرهم لاستنباط أساليب بامكانها اخفاء الحقيقة والالتفاف على القانون.

وهناك ايضا اناس قد امتهنوا الكذب في تحقيق مكاسبهم ، واذا حدث وان اثيرت شكوك حولهم ، يكتفون بالاتصال  بمحامين يخرجونهم من ورطاتهم وكأنهم ملائكة أتّهِِموا زوراً ، ومنهم ايضا من اتـّخذوالكذب هواية في تعاملهم مع الناس. وهؤلاء يسهل اكتشافهم بسرعة ، ويكون سامعوهم عادة ، قد قرروا مسبقا قسمة مجمل ما يسمعونه منهم على خمسين  أو مائة  .
بهذا الخصوص بلغني عن شخص ذي شأن كُلِـِّف بالتوسط في موضوع طالب جامعي. بعد انتهاء العملية ، ذهب الطالب المعني الى المحسن اليه كي يشكره ، وكان يرافقه في زيارته احد زملائه الذين كانوا في نفس حالته. استفسر صاحب الشأن عن الطالب المرافق ، سأئلاً عن اسمه  وهويته ، والغريب في الامر انه اكّد حالاً بانه قد بذل مساعيَه لهذا الزميل ايضا . السؤال هنا : كيف استطاع المتوسِّط  ذو الشأن هذا شمل شخص بواسطته وهو لا يعرف لا هويته ولا حتى اسمه. هذا النوع من الكذب لا يضرّ كثيرا ويكفي مجابهته بابتسامة خفيفة عند تعذر مصارحة صاحبه بالحقيقة.

يقال ان حبل الكذب قصير . هذا صحيح لان الكذاب لا بد وان ينتهي بالشعور  بالذنب والتوجس لادنى تقلـّب في الامور ، ويستمر في حذره خائفا من بروز مفاجئ للحقيقة وانكشاف امره . انه سيكشف نفسه بنفسه لانه سيضطر الى مناقضة ذاته بكذب آخر في موقف آخر.

بعض انواع الكذب يطلق عليها اسم الكذب الابيض ، وهو كذب يستهدف المصلحة العامة او مصلحة الغير ، كالكذب في معالجة مريض ، والكذب كوسيلة للمصالحة بين طرفين متخاصمين ، او لتلافي مشكلة كبيرة او وقوع كارثة .  كما يدرج ايضا الكذب او المخادعة كاسلوب مشروع في قيادة الحروب .

هناك ايضا الكذب الهزلي . قد يُفهم استخدامُ مثل هذا الاسلوب او يُسمح به نوعا ما ، ولكن المبالغة فيه وتكراره الزائد سيؤدي الى انعدام الثقة واعتبار ما جدّ من الامور هزلا قد يؤدّي الى ما لا يحمد عقباه.
وبما اني قد اعتدت على تلطيف الجو الجدّي المخيم على المقالات ، ساورد هنا طرفة قد يكون البعض سمعها ، انها لا تدخل تماما ضمن ما اوردناه ، ولكنها تدخل في تماس بسيط معه .
يقال بان رجلا متقدما في السن كان يشكو من مرض قلب مزمن . فكر أهلُ المريض باناطة مهمة تبليغه بفوزه ، بمبلغ مهم في اليانصيب، بطبيبه الخاص  . التجأ الطبيب الى اسلوب المزح مع مريضه وبادره ضاحكاً : يا سيدي فلنمزح قليلا ونتسلّى، ولنفترض بانك حصلت يوما على مبلغ يقدّر بخمسين مليون دولار في ورقة يانصيب عام ، ماذا ستفعل بهذا المبلغ ؟ فاجابه المريض حالا وبنفس الاسلوب: ساقاسمك نصف المبلغ. عند سماع هذا الجواب ،  لم يتحمل الطبيب الصدمة ووقع مغشياً عليه،  وبعضهم قال انه توُفـّي . فالطبيب في مزحه كان يقصد الجدّ والمريض في جوابه الجدّي كان يمزح .

وهل بوسعنا ان نغضّ النظر عن موضوع كذبة نيسان. ظاهرة يقال عنها بانها ولدت في فرنسا قبل ان تنتشر في بقاع المعمورة . فاذا كانت هذه العادة محصورة سابقا في مجتمعات معينة فانها الان اصبحت المادة المفضلة لوسائل الاعلام ، لانها قادرة على بثُ الاكاذيب عن كافة المواضيع حتى الاشدّ منها حساسية . واذا لم يكن لوسائل الاعلام في حينه أعذار للكذب في الايام العادية، فانها تمارس هوايتها الان في نيسان بحرية تامة. لحسن الحظ  ّ بات العالم على بيّنة من هذا التاريخ وغرابته ولكن الخطر يبقى قائما في حالة التعامل مع بعض المسنين المرضى الذين يعانون من حالات صحية حساسة.

قد يطول بنا الحديث عن رذيلة رافقت الانسان منذ بداياته والتي تقوم بدور خطير في حياة كل فرد وفي شتّى المجالات لانها في متناول ايّ كان وهي اسهل وسيلة للوصول الى مرام فوري ومباشر. ولكننا ننتهي بالقول بان هذا النقص او العيب في الانسان يجد ارضا خصبة في بدايات نموه في مجتمعات يغلب فيها الجهل والتخلف والخوف والظلم ، بخلاف الصدق الذي يستمد قوته  في ترعرع مؤيديه في فضاءات  تسود فيها اجواء العلم والمعرفة ، بالاضافة الى فضائل اخرى كالمحبة والتواضع والبساطة، صفات تشكل شخصية الرجل النزيه الصادق.  فالكذب باب كل الشرور والصدق منجاة.



171
عن الحسد والحُسّاد   
               

شمعون كوسا

قلت في سرّ نفسي ماذا عساي أضيف الى موضوع ردّدته افواه الانبياء واجترّته عقول الفلاسفة والمفكرين وسطـّرته يراعات الكتّاب والمؤلفين، وحاول معالجته كثير من اطباء النفس ؟ ماذا اضيف الى موضوع قد استفاض به كثير من هؤلاء منذ القرون الاولى ؟ لعلـّني لا اضيف شيئا ، او بالاحرى ما اقوله سيكون اقلّ منهم بكثير ، ولكنّي متمنطقا بالشعار القائل : بالاعادة إفادة ، وكـّلتُ أمري لله.  فالمفاهيم والمبادئ لا تتغير ولكن اعادتها للاذهان لا تضرّ . لربّما قد سمع البعض أجمل الكلام  عن هذا الموضوع او غيره ، غير ان ما سمعوه لم يتعدََّ  تأثيرُه حدودَ الآذان ، ولقد سمع البعض الاخر نفس الكلام باسلوب قد يكون اقلّ جمالا ولكنه نفذ للقلب حالاً لأنّ النفس كانت مهيئة لسماعه .
إني بتبريراتي هذه كلها ، أرى نفسي كالداخل الى مجلس وهو يقوم بحركات غريبة ليجلب الانتباه !! ، غير اني بالحقيقة كنتُ بحاجة الى مقدمة صغيرة للدخول في الموضوع . فبعد هذه المقدمة ، اليكم القليل الذي حصلت عليه .

يُعَرَّف الحسد بصورة عامة بالاستعداد السلبي للنفس إزاء كل خير يصيب الغير، وبمعنىً مُباشِر آخر نستطيع القول : انه ليس للحسود امنية اخرى غيرَ زوال كل مكسب الغير وتحوّلـُها اليه ، سواءً كان هذا المكسب نتاج جهود شخصية  كالثروة والممتلكات الثابتة والنجاح بجميع أوجهه ،  أو هبـة ً من الله كالجمال والذكاء والحظ ّ ودماثة الاخلاق وخفة الدم وحتى الصحة الجيدة وغيرها من النعم والمواهب .
باعتقادي هناك داخل كلّ شخص بذرة صغيرة من الغـَيرة قد تنقلب حسدا ً، ولكن حجمها يتفاوت من شخص لاخر ، لاننا كلنا تشرئِِبّ أعناقنا احيانا داخل خصوصيات الغير ونودّ مراقبتها والاطلاع على أصغر تفاصيلها وأدقها ، ونتحسّر على بعض ما نراه . لحسن الحظ هذه الرغبة لا تخرج عن نطاق التمنّي. وهو تمنٍّ برِئ جدا كالقول للمقابل : اني احسدك على برودة اعصابك وهدوئك وصبرك ، يعني يتمنى المرء ان يكون مثله .  أما الطامة الكبرى تقع عند تطور هذه الغيرة لتصبح حسداً، حينذلك سنرى أنفسنا امام اشخاص لا يُحسَدون على ما يُضمرون من شرّ لجميع الناس دون استثناء .   

الحسود المحترف - أعني الذي يتفرغ لهذه المهنة بدوام كامل - !! هو من يفضّل العمى على عيون تقع أنظارها على ازدهارالاخرين ونجاحهم  . هؤلاء المحترفين لا يريدون هذه النعمة إلاّ لأنفسهم ، ممّا يجعلهم يمضون جلّ اوقاتهم في مراقبة الغير في كل خير يصيبهم في حياتهم. ويبلغ بهم الشرّ احيانا الى حدّ حسد الفقراء ومكسبهم الضئيل ، ويقولون : «  لماذا يحصل هؤلاء على هذا المبلغ ، انهم لا يستحقونه وإننا أولى به «  ، في الوقت الذي هم يمضون حياتهم داخل قصور فخمة دون ان يعوزهم شئ .  إن الذين يمضون عمرهم في مراقبة الناس ، يقودهم حقدهم المتنامي الى الهستيريا ، ولاجله نرى بعضهم وقد اصيبوا بامراض نفسية أو اعترتهم حالات جنون لا يضع حدّا لها الا الموت ، لان حقد هؤلاء لا يكلّ وانظارهم لا تملّ من ملاحقة  شأن الغير حسداً،  وكل هذا يضاعفهم كراهية ويزيدهم همّا، وباعتقادي لم يكذب ابدا من قال : من راقب الناس مات همّاً .
قد ينجم الحسد احيانا عن عداوة قائمة بين شخصين ، وفي هذه الحالة لا يُبصر الحسود الا السوءَ في تحركات غريمه مهما كانت اهدافها ، حتى اذا كانت تندرج ضمن نشاطات انسانية خيرية بحتة مثل اسعاف المرضى او مساعدة الفقراء والمعوزين أوغيرها . ولقد سمعتُ بعض هؤلاء الحاقدين يذهبون حدّ توجيه دعواتهم الشريرة  ضدّ ضحايا حسدهم ، ويوكلون الله بالانتقام لهم وتأتي بعض دعواتهم كالتالي: يالله اقتله ، يا الله عسى ان تسحقه سيارة ، يا ربّي يفشل في المهمة الفلانية، وبعض منهم اذا رأوا صدفةً بان احدى دعواتهم قد تحققت يفتخرون بفاعلية أدعيتهم ، فيتوجهون بانظارهم الى العلى شاكرين الله على تنفيذ دعواتهم وشرّهم ، وكأنّ لِلّه شعبة مخصصة لتلقي عرائض الحساد والحاقدين، ناسين بان مثل هذه الادعية لا طريق لها غير  -قائد الشرّ- الذي يضحك في سرّ نفسه ويقول :انتظروا ، لانه سيأتي دوركم من خلال دعوات سيوجهها ضدكم فيما بعد بعض زمالائكم الحسّاد  . 
أمّا الله الذي هو المحبة ، فحاشا أن يستجيب لغير دعوات الخير .
قد يتأتىّ الحسد ايضا من الترفـّع والاستعلاء على الغير، والحسود من هذا النوع لا يتحمل رؤية من يعيشون في محيطه بمستوى أعلى منه . فبودّ هذا الحسود المتعجرف  تجريد ضحيته من اسباب رفعتها ، واذا لم يتحقق مأربه  فانه يستشير  اقرب فقيه ليرشده الى القفز على سلمّ المستويات وليس التسلق التدريجي ، لان التسلق بطئ وسيبقيه مدة طويلة في غليانه !!

ومن بعض انواع الغيرة التي تنقلب حسدا ، اذكر حادثة صغيرة عن شخص كان قد حباه الله بصوت جميل جدا.  نزولاً عند رغبة الجمهور وإلحاحهم ، اضطرّ صاحب الصوت الجميل الى تأدية دور غنائي في حفل معين.  بعد ان أطرب المكلـَّفُ بالغناء جمهوره واعطى أجمل نبراته الصوتية فشنّف آذان الجميع دون استثناء ، قام شخص يَدّعي بامتلاكه موهبة مماثلة وقال : " لماذا لم يكن صوتك هذا اليوم على ما يرام ؟ لا شك انك تعاني من مشاكل في حنجرتك او في صدرك ، لانك للاسف الشديد لم تكن بالمستوى المطلوب " !! فابتسم له صاحب الصوت الرخيم  لانه كان قد تابع تطور غيرة هذا الرجل الذ ي كان قد قطع شوطا كبيرا في طريقه الى عالم الحسد .
هل يمكننا التكلم عن الحسد دون التطرق الى موضوع تأثير العين ، لا سيما واننا نسمع يوميا عن هذه الظاهرة من خلال عبارات يردّدها الناس لاتقاء هذا الشر ، وايضا عِبر ما نراه من تعاويذ توضع على الابواب أوتُعلق على الصدور لاتقاء شرّ العين الحاسدة.  يُقال إنّ بعض تأثير العين له تفسير علمي . وهل يكون التفسير غير انبعاث اشعة من هذه العيون باتجاه الشخص المقابل؟ أوَليست للعين قابلبة التنويم المغناطيسي مثلا ؟ أنا أدرِج هذه الظواهر ضمن حالات خاصة غير مألوفة ، او حالات نادرة تشـّذ عن القاعدة العامة . اشخاص لديهم قدرة خارقة ، كَمَن لديهم شحنات كهربائية فائقة قادرة على شفاء بعض الامراض .
 بهذا الخصوص أيضا، روى لي شخص جدير بالثقة عن حالة غريبة تتعلق بشخص دُعيَ الى دار أحد معارفه . عند مرور الضيف بين صفـّـي الورود التي تقود الى المنزل، اصابت عينـُه الجهة اليسرى من الورود فاذبلتها وعند خروجه من الدار ، اصابت نفس عينه الجهة اليمنى من الورود فذبلت . نقل الراوي هذه الحادثة وهو يهزّ رأسه ، وباعتقادي كان قد هزّه قبل ذلك لمئات المرات !!.
 
أمّا اذا أتينا لتمحيص الامور في ايامنا هذه وفي مجتمعاتنا ، فاننا نجد الحسد قد استشرى وعشعش في كل مكان والسبب يعود بصورة رئيسية الى ركض الناس وراء المادة وتفرغهم الكامل لمراقبة بعضهم البعض . فاذا كان همّ الانسان الوحيد جمعَ المال  وتشييد القصور، فان باب الحسد والسباق ينفتح على مصراعيه ويصبح آنذاك النظر إلى ما لِلغير الشغلََ الشاغل لهؤلاء . فيقول بعضهم مثلا : هل يُعقل ان يكون لفلان قصر وانا لا زلت تحت سقف منزل عادي ؟ وماذا ينقصني كي لا احتكم على ثروة كبيرة مثل فلان ، وألاّ اتزوج امرأة جميلة بجمال زوجة فلان ، وألآ يكون اولادي بالجامعة الفلانية وقِس عليه ؟
لا اريد ان اتجاوز حدودي في التطرق الى مجال الحفلات وخاصة المناسبات الدينية كالعماذ والتناول الاول التي ،  بالرغم من قدسيتها تحوّلت هي الاخرى الى مباريات حقيقة للتباهي والفخفخة والاسراف والحسد، يُوضع ربّ المناسبات هذه في الزاوية البعيدة للصالة، ويتمّ تحذيره بالقول:لاتتدخل بما تراه او تسمعه !! 
لا بدّ لنا من اختتام المقال لنقول ، ماذا بوسعنا عمله للحاسد؟ قد يكون الحسد أحيانا صفة موروثة ومحاولة اصلاحها حينذاك لا تكون بالامر الهيّن . أما اذا اصررنا على بعض هذه المحاولات ، فيجب ان نبدأ بمقابلة مقتِ الحسود بحبّنا ، تجهّمه بابتسامتنا ، ونواياه الخبيثة بنوايانا الصالحة ، كما يجب ان نشجعه على التردّد على اوساط خيرية  وإطلاعه على قصص وحوادث واقعية عن التسامح والمحبة والتفاني. كما يجب مدّ  يَد العون له ومساعدته في اوقات ضيقه وشدّته ، لان الحسود ، بحكم طبعه المقيت ، يتعرض لكثير من التقلبات ، وإ نه مدفوعا بحقده وخبثه ، يقتحم احيانا مجالات دون ان يعيَ جيدا لتعقيداتها وعواقبها الوخيمة .


Kossa_simon@hotmail.com



172
كُنْ قنوعاً ، تنمْ مطمئنا وتَصْحُ سعيداً
         

شمعون كوسا

سوف لن أقصّ هنا حكاية الغنيّ والفقير ، كما سيخطر ببال البعض ، خشية الاّ اسمعهم يقولون : حتماّ سيبدأ أخونا بالله بسرد قصة الغنيّ والفقير ويدوّخ رؤوسنا بها ، قصة لم يبقَ احد منّا لم يسمعها مراراً وتكراراً من الاجداد والاباء وحتى من الامهات .

سوف لن اقوم بسرد هذه القصة الآن لسبب بسيط وهو انه ، بخلاف القصة العادية ، ليس بالضرورة كلّ من كان فقيرا هو شخص قنوع ولا كلّ من كان غنيا هو شخص جشع .   
صحيح بان اغلبية الفقراء عادةً يحافظون على قناعتهم ، وكثير من الاغنياء لا يشبعون بسهولة ، هذا هو المفهوم العام ، ولكن هناك حالات معاكسة نجد فيها الفقير جشعا والغني قنوعا ، ولعلّ بعض ما نورده في النهاية سيوضح هذا الكلام .

القناعة ، في الظروف التي يعيشها عالمنا الحالي ، نستطيع تعريفها  بواقع يمكن ان يتفيّأ به المرء ويحتمي بعدما يحصل على الحدّ الأدنى من وسائل العيش ومتطلباته ، كالمكسب الشهري ، والمأوى وأيضا هامش من الكسور تؤمّن له من حين لاخر قسطاً من التنفيس والترفيه . وهنا يتفاوت مفهوم الاجر من بلد لآخر ، فما يكون حدّاً ادنى في بلد قد لا يكفي في بلد آخر ، وهذا يعتمد على مستوى المعيشة في الارض التي اختارها ابطالنا ، مقاماً لعيشهم أو موطنا لحياتهم المستقبلية .
فالانسان الذي لم يكن مالِكَ هذا الحدّ الادنى ، يجب ان يسعى اليه وهذا لا يعتبر خروجا عن حدود القناعة ، الا اذا وجد نفسه في دوّامة واقع مرير ، فرضته عليه ظروف قاهرة ، لا حول له فيها ولا قوة .

أما الغني غير القنوع، فهو من لا يرضى بالاموال الطائلة التي يحصل عليها ولكنه يضع نصب عينيه رقما لا بدّ من بلوغه باية وسيلة كانت. وبعض هؤلاء ، حتى اذا توصلوا للرقم فانهم يطمعون بأضافة صفر جديد على يمينه ، وقسم آخر لا يتوقف الا عند انجاز ما حقّقه فلان الفلاني ، فيغدون كالثقب الذي يبلع ولا يشبع ابدا .

ان امثال هؤلاء لا يستكين بالهُم ابداً . لا هم مرتاحون في النهار ولا في الليل . فكلّ عائق يعترض مصالحَهم يُكدّر صفوَهم ، وكل خسارة مهما كانت تهزّ بدنهم  وكل تقلـّب اقتصادي يقلقهم ، واسباب الكدر والقلق تكاد لا تحصى ، فهي مثلا : إنهيار الاسهم ، توقف البناء في المشروع الفلاني ، خسارة الصفقة الفلانية ، تأخر الديون ، وجوب دفع غرامات تأخيرية ، هموم كثيرة تأخذ صاحبها بعيداً جدا عن  الطمأنينة،  النابعة من القناعة .
 
اما الرجل القنوع ، غنيا كان أم فقيرا ، فانه ينام مطمئن البال لانه عمل وأكل
وشرب ونام ولا يخشي على مالٍ يفقده ، واذا كان مِمّن مَنّ اللهُ عليهم بالمال ، فانه قد يكون قد عقد العزم على إنفاق قسم كبير منه على الناس وعلى فعل الخير وتتسم روحه بالتجرد لانه واعٍ بان كلّ ما يملكه هو زائل ، ولا يخاف ان يغدر به احد لان  شيمته المساعدة ، ولا يخشى أية مفاجأة غير سارة في مشاريعه لانه يكون قد اعتمد اساليب آمنة ، من اولوياتها المصلحة العامة وليس الربح ، أمّا اذا داهمته قوة قاهرة، فانه قانع بها ، لانها تفوق طاقاته ، وهكذا يبقى بعيدا عن هموم ومخاوف الرجل الجشع .

ماذا يجني الرجل الذي لا يقنع بما آتاه الله من اموال وثروات. انه يقوم بكسب المزيد ويبقى هدفه الوحيد مضاعفة هذه الزيادة الى ما لا نهاية . سؤالنا هنا هو : هل يحتاج الجشع او الشخص غير القنوع الى اكثر من تناول طعام لكي يبقى على قيد الحياة ؟ وهل لا يفعل الفقير أو الشخص القنوع مثله ؟ وهل الخبز وبعض اللحم والخضراوات ليست من مكونات طعامه الاعتيادي ؟ اوليست هذه المكونات نفسها التي تملأ بطن الفقير ؟ الجواب بالتأكيد هو، بلى . ولكن الفرق هو ان القنوع ، بعد ان يملأ بطنه يخلد للنوم وحال وضع رأسه على المخدة ينام  مرتاح البال ، اما عدوّ القناعة ،أو الشخص الجشع ، فانه لربما لا يُنهي طعامه لان همومه وانشغال فكره يمنعانه عن ذلك . هل يمكن لهذا ان يطمئنّ ويخلد للنوم ؟ طبعا كلاّ.  لانه اذا انتهى من من حلّ المشكلة الاولى ستحل محلها الثانية وهكذا الى ان يصيبه أرقُ لا يهجره الا تحت مفعول عقار يشلّ حركة المخ ليفصلها عن اعصابه .

الاكتفاء بالحدّ الادنى للعيش ، كما قلنا ، لا يعني التوقف عن السعي الى تحسين مستوى المعيشة ، لان المرء يجب ان يستمر بالعمل وتطويره للوصول الى الافضل. فالحد الادنى ، ذكرناه كحالة متوسطة او دون المتوسطة ، وهي الحالة الشائعة في عالمنا الصعب حاليا . أمأ المبدأ فهو ان يحافط المرء على قناعته مهما كانت امكانيته وأن يستمر في تحسين امكانيته وزيادتها دون ان ينصرف الى البذخ ويلجأ الى الفخفخة تجنبا لانتقادات البعض وارضاء لفضول غيرهم ،  وأيضا دون ان يفسح المجال للجشع ، أعني أن يعتبر المال هدفاً في الحياة وليس وسيلة للعيش .
 ومبدأ القناعة هذا لايمكنه الاّ ان يقود الى واحتين تحملان اسم السعادة والطمأنينة وهما أهم حالتين في حياة الانسان لانهما سبب وجوده وهدفها، وكل شئ يجب ان يُسخّر لبلوغهما.
وهنا ، لا بد لي باختتام الحديث بقصة صغيرة بليغة المعاني ، وادعو من سبق وان سمعها ان يفسح المجال لمن لم يسمعها بعدُ :
يُقال بانه كان هناك انسان يطلب من الله ان يستجيب لدعائه الذي كان يرفعه يوميا بالصيغة التالية : يا الهي ، اريد ان تجعل كل شئ ألمَسُه ينقلب ذهبا . تكرّر دعاؤه الى حدّ الازعاج والاغاضة ، فاستجاب الله لطلبه .  طار صاحبُنا فرحاً  وأفاق مع انبلاج الخطوط الاولى للفجر كي يجمع اكبر كمية من الذهب. فاخذ يلمس الحجر فينقلب ذهبا ، يلمس الاخشاب فتنقلب ذهبا ، يلمس الورود فتنقلب ذهبا ، يلمس التراب فينقلب ذهبا. دخل البيت وبدأ يلمس الكرسي والمروحة والمكواة فانقلبت كلها ذهبا . الى ان حان وقت الطعام فجلس على المائدة. مدّ يده للملعقة فانقلبت ذهبا والشوكة كذلك ، ولحدّ الان كانت السعادة تنتشر بهدوء في جسمه لتطال حتى شعر رأسه . واراد ان يضع شيئا في فمه ، فمدّ يده للخبز فانقلب أيضاً ذهبا. استدرك نفسه قليلا ومدّ يده للارز وهو متردد فانقلب ذهبا وهكذا مع اللحم وكل الطعام الموجود على المائدة. اصيب صاحبنا الفقير ، الذي اصبح غنيا جدا ، بخوف شديد ، انقلب فزعاً  ومن ثمّ رعباً .  أحسّ بنفسه وكأنه يختنق لانه وعي بشكل تام  بانه قد حَكمَ على نفسه  وبانه سيموت جوعاً لا محالة ، فاصبح يبتهل الى الله منتحبا بدعاء عاجل يطلب حلـّه من دعائه الاول وتجريده من كل ذهبه ، علـّه يرجع الى قناعته في الحياة ً.
رجل لم يقنع بحالته وحصل على مال الدنيا غير انه اصبح سجين جشعه.
صاحب الربح الفاحش والارقام الاسطورية اين يذهب بها ؟ هل سيحملها معه الى القبر ؟ الم نسمع عن الثري التائب الذي كان قد اوصى حاملي نعشه قبل ان يموت ان يُخرجوا يده من النعش ممتدة ، لكي يراها الناس بانه ذاهب الى حتفه خاوي اليدين ، لا يحمل ذهبا ولا  مالاً ؟
ارجو ان لا يؤاخذني من كنتُ قد وعدتهم بعدم لجوئي الى القصص والاحاديث. أنا لم يبقَ لي ما اقوله ، لان اليد التي امتدّت لتجمع الذهب واليد التي امتدت خارج النعش خاوية من الذهب قالتا  كل شئ .

Kossa_simon@hotmail.com

173
عجلة الزمن لا تُجامل أحداً   
            
شمعون كوسا

في غمرة الاحاديث التي اسمعها هنا وهناك ، حدثني شخص عن موت قريب له .  تمرّ عادة أحداث الموت بمراسيم عزاء طبيعية لدى عامة الناس ، ولكنه هذه المرة أحدث خبرُ الموت دويّا كبيرا في المنطقة لِما كان يحضى به الفقيد من مكانة عزيزة في قلوب الناس . كان المرحوم محطّ انظار الجميع وقد ذاع صيتُ كَرمِه وطيبته بين القاصي والداني . كان يؤمّ الناسُ مجلسَه للتشرف برؤيته وسماع كلامه وايضا لتحقيق مآرب في أنفسهم . فالمعوز كان يفوز بمبتغاه من المال ، والجائع يملأ بطنه مع وعد لايام قادمة تـُنسيه لياليَ كاملة قضاها وهو يطوي على الطوى ، والمريض تتمّ مرافقته الى ان يخرج مُعافا تماما من مرضه  ، والمتخاصمون لم يكونوا يغادرون مجلسه متصالحين فحسب ولكن متعانقين .
 
كان لنعي هذا الرجل وقعُ صاعقة مدمّرة ، تـُحرق ما حولها بدوائر تتسع بصورة مُطـّردة . شلّ الخبر حركة الكثيرين ممّن كانوا يعتقدون بثبات بأنّ الفقيد كان موعوداً بالخلود على الارض ، ولاجله كان انطفاؤه شبه نهاية للعالم . وفعلا ًاصيب قسم منهم بالذهول ، وبُهِت قسم آخر ، وجميع هؤلاء كانوا يردّدون منكسرين : ولماذا هذه الحياة ، ولماذا تستمر الحياة ، لماذا لم تنكسف الشمس او على الاقل تنخسف امام هذا الحدث الجلل ، ولماذا لم يتوقف دوران الارض ، ولماذا لم تكفِّ العصافير عن زقزقتها وتغريدها ، ولماذا لا يكفهرّ الجو وتتلبد الغيوم ، وما طعم الحياة وفائدتها من بعده ؟

لقد تخّيلت ، أنا ناقلَ هذا الكلام ، تخيّلت ربّ العالمين يهمس قي اذن زاجري الطبيعة هؤلاء  بصمت عميق ويقول  : ردّ الطبيعة على تساؤلاتكم هذه سيَرِدكم في النهاية . اذهبوا الان الى أن يُنهي الاخ مقاله ، لانكم بأمسّ الحاجة الى الراحة والى قسط  كاف من الوقت يُعيدُ الهدوء إلى انفسكم .

باعتقادي كان لنا جميعا ، بعض حالات مماثلة. او كنّاعلى الاقل شهودا عليها ،  كنا نفكر بأن الزمن يدور لحسابنا ونستغرب كيف لا تتوقف عجلته ولو قليلا من خلال شمس تتأخرفي الشروق او سحب سوداء تتكدّس حزنا على شخص عزيز جدا علينا، ولربما  ذهب بعضنا الى حدّ القول : كيف تتجرّأ الطبيعة على الابتسام ونحن قلبنا يَقطرُ دماً ؟
اذا استعنـّا قليلا بفلسفة عادية دون ان نولج انفسنا عميقا في غياهب الميتافيزيقة ومتاهاتها، نرى ان تفكيرنا بهذه الصورة يعود لقناعتنا بان العالم مرهون بوجودنا . العالم موجود لاننا نفكر به . لا شكّ ان للحياة او للطبيعة وجوداً موضوعيا ، ولكن بالنسبة لنا او بالنسبة لكل شخص منفرد ، لا وجود للعالم الا داخل تفكيرنا . فالحياة كائنة لاني أراها ، لاني افكر بها وأستوعبها على طريقتي الخاصة ، فاذا انعدم وجودي ينعدم وجود الحياة التي كنت اعرفها انا . فالعالم في هذه الحالة مسخّر لانظاري ، لخيالي ، ولأرادتي . وقد يكون هذا الذي يجعلنا نستغرب من تصرف الطبيعة ونقول بكل بساطة : لماذا لا تجاملنا الحياة ، لماذا لم تتوقف حيث توقفت أمورنا . إنّ ما نبتغيه هو ان لا تقتصر الحالة التي نعيشها على مَن هم حولنا من الاهل ،  بل ان تمتدّ الى عناصر الطبيعة ايضا .
ولو إننا ما زلنا احياء ، غير ان اندماجنا مع الفقيد هو بالقوة التي تجعلنا نعتقد باننا نحن أيضا رحلنا معه ، ولذلك نسمح لنفسنا ان نطلب من الزمن  ان يتوقف لان العالم يكون قد انتهى بالنسبة لنا ايضا ، وهذا ما يدعونا ان نقول ، لماذا يستمرّ الزمن في الدوران ؟  
انها مجرد محاولة لشرح الحالة النفسية .

صحيح أن الانسان يعتبر نفسه سيد الكون بين الخلائق ، بمعنى انه هو الذي يفكر ويخطط وينفذ مشاريعه لبناء الارض واعمارالعالم  وتطويره ، ولكننا نعود هنا لكي نؤكد شيئا آخر :
لحسن الحظ ، لا حُكم للانسان على الطبيعة لان هذه الاخيرة مكلفة بمهمة الحركة والدوران بشكل مستمر ومنتظم . لا اعرف ماذا كنّا عسانا نفعل  لو تركت الطبيعة دورتها وتوقفت عجلة الزمن للتفرغ لمجاملة بطرس ومواساة بولس وانتظار ابن عمّهما الذي ينوي الابطاء في امر ما ، والاسراع في موكب ابن خالة صديقهما لانه على عجل  أوحضور عزاء جارهما السابع ، او الاستجابة لرغبة عاشق هزته مشاعر حب قديم يُمنيّ نفسه بالرجوع الى شبابه،  فتجيبه عجلة الزمن التي لم تتوقف عن دحرجته : كان يجب عليك التفكيرفي حينه ، والى آخره .

يجب ان تكمل الحياة دورتها وتستمر للاجيال القادمة . يغادر جيل ويعقبه آخر ، وكل واحد يأخذ نصيبه من دورة الحياة وعجلة الزمن . فمِن أجل ترعرع الاجيال واداء دورها في الحياة يجب ان تستمر الطبيعة كما هي ، ان لا يتأخر الليل عن النهار ، والاّ يخطئَ موسم عن فتراته الزمنية ولا المطر عن موعد هطوله، ولا الشمس عن شروقها ، ونحمد الله  بان هذه الاخيرة لا تحتاج الى وقود في بروزها واختفائها ، ولا تملّ عن اداء واجبها بالرغم من انقضاء مليارات السنوات على وجودها ، دون الحاجة الى اجازة اعتيادية او مرضية !!!

ولكي أضع حدّا لكلامٍ ستقولون بانه سيتكرر ولن ينتهي ، اذكر لكم ردّ الطبيعة الموعود به . انها تقول ما يلي لمن كانوا يطالبونها بالتوقف ، ( والكلام ليس من صياغتي ) !! :
* » أنا آسفة للمُصاب الذي ألمّ بكم دون ان تتوقعوه ، أرى أنّ اموركم لا يحكمها نظام ثابت مثلنا ، وبعض وقائعكم خاضعة للصدفة   .ردود افعالكم هي حزن عميق ودموع ساخنة لان الله قد خلقكم كائنات عاقلة سامية ، وحباكم بأحاسيس تجعلكم تبكون وتندبون ، وتفرحون ايضا لاحداث غريبة نحن لا نفقه شيئا ، لا عن اسبابها ولا عن نتائحها.  أمّا نحن ، فاننا لا نملك عقلاً او احاسيس ، غير اننا ننفذ خطة أزلية الامد لا تقبل التغيير . لا نستطيع مجاراتكم في مناسباتكم لاننا اذا جاملناكم وشاطرناكم أوقاتكم وتأخرنا عن دورتنا ولو لاقلّ من لحظة ، سنتسبّب في إحداث خلل في نظام الكون وفي مسيرة حياتكم انتم  أيضا .
قولوها انتم : ما فائدة الساعة مثلا اذا توقفت او تأخرت في دورانها ؟ اقبلوا اذن تقلبات الحياة واحكامها ، عيشوا يومكم وتمتعوا به ، واذا اصابكم مكروه فاصبروا ولكن لا تنسوا أن تستفيقوا بعد مصابكم ، لان دوران الفلك سيستمر ، وكما تقولون انتم فان الحياة للاحياء « * .


Kossa_simon@hotmail.com

174
كم إنخدعنا بالمظاهر !!

شمعون كوسا

بما ان الحديث لا يحلو إلا إذا  رافقته حادثة أو رواية ، فاني سأقوم هذه المرة بحكاية قصة صغيرة عادية ، وقائعُها في بغداد .

ذهب أحد اصدقائي الى السوق لشراء بعض حوائجه من الملابس في شارع الرشيد . فدخل مخزنا للالبسة ، وبعد ان أجال بنظره مليّاًً بما هو معروض حوله ، رفع انظاره الى الرفوف العليا علّه يعثر على ما كان يبحث عنه . وفعلاً وجد صديقي / الزبون ، ضالته ، وطلب من البائع ان يُنزل له بعض القمصان الموضوعة على الرفوف العليا ، قمصان مصنّفة ضمن الثياب الفاخرة والتي تحمل علامات تجارية اجنبية .
تظاهر البائع بانه لم يسمع صديقي جيدا ، وواضعا يده على اذنه ، قال له : بالله عليك أعِد لي كلامك من جديد . عند سماع الطلب للمرة الثانية ، طفق البائع يتفحّص زبونه من قمة الرأس الى اخمص القدمين ولعدة مرات .   بُغية تفهّم تصرف البائع هنا ، لا بدّ لي ان اوضح بين قوسين ، بانّ صديقي كان قد خرج في ذلك اليوم بشعر قد اتخذت بعض خصلاته اتجاها معاكسا لاوامر المشط ، وبعض شعرات اخرى وقفت ناشزة ، وكان ينتعل ايضا حذاء صيفيا خفيفا يعرض الجزء الاكبر من قدميه الى الهواء الطلق !!!
بعد هذا التفحص التصاعدي والتنازلي ، قال البائع للزبون باسلوب ساخر : أخي أنت لست بمستوى هذه البضاعة ، انك لا تقوى على دفع ثمها الباهض ، وعزُز كلامه باللغة العامية قائلا : ( روح بابه ،  روح ، هذا  مُو أكلك)   وأضاف : الافضل لك ان تختار حاجتك ممّا حولك من ملابس .
عندما حاول صديقي إفهامه بانه متوهم في هذا الامر ، اجابه البائع  بنبرة زاجرة : اخي لا تُطِل الحديث ، إن هذه القمصان ليست للبيع . فخرج صديقي وهو يُشفق على البائع ، ودخل حالا المخزن المجاور الذي كان يتاجر بنفس البضاعة .
بعد عشر دقائق فقط  خرج صديقي متأبطا صندوقا يحتوي على القمصان التي كان ينوي شراءَها والتي كلفته مبلغاً  يعادل مائة وخمسين دولارا .
عندما رأى بائعُنا خروج الزبون بهذه القمصان ، هرع اليه مناديا : يا استاذ ، ارجو ان تعذرني ، لقد اسأت اليك ، تعال وادخل واختر ما تريد وبالسعر الذي يناسبك . ولكنّ صديقي اكتفى بابتسامة صغيرة وانصرف .

صديقي هنا لم يَخدعِ البائع ولكن البائع هو الذي انخدع لانه حكم على المظاهر . صديقي لم يجد مناسبة او ضرورة لكي يكشف عن نفسه أويعرّف هويته ، هو الذي كان معروفا بمستواه الوظيفي والثقافي .

اني اوردت هذه القصة ، التي كنت اتخيلها قصيرة في ذهني ولكنها طالت !!، اوردتها لاستنتج معكم باننا نخطئ كثيرا عندما نبني رأينا ونصدر حكمنا اعتماداً على المظاهر .
وإذا كان البائع هنا قد انخدع دون ان يكون للشاري أيّة نيّة في خداعه ، فهناك اناس يمتهنون الخداع ويتعمدونه ، عِبرَ كلام معسول او عبارات يقتطعونها من نصوص أصول لبلاغة والفصاحة . وهناك ايضا آخرون يَتعمدون الخداع عند قَطعِهم وعوداً  لا يقوون على تنفيذها ولكنها تخدم مآربهم . كالوعود التي تصدر مثلا من بعض المرشحين المقبلين على الانتخابات ،  وهناك ايضا فصائل اخرى وكأنها متخرجة بامتياز من أرقى مدارس تلقّن ساليب الكذب ، هؤلاء أيضا يُجيدون دورهم المخادع بالشكل الذي يُصوّر الشيطانَ ملاكا .

هناك من يجيد الابتسامة وكأنها رسمت على وجهه حسب الطلب ، بحيث تبدو للناظر البرئ  وكأنها دليل قاطع على صراحته وسعة قلبه ، في الوقت الذي لا يعدو صاحبنا المبتسم هذا كونه ممثلاً مراوغاً  ليس إلاّ ، يتمتع بقابلية االظهور بالف وجه والف رداء ، وبهذا يستحق وبجدارة  قول الشاعر : يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ، ويروغ عنك كما يروغ الثعلب .

يقول المثل الفرنسي :   l’habit ne fait pas le moine  ، وهذا معناه ، الاسكيم الرهباني لا يصنع الراهب ، او بتعبير آخر ، ليس كل من ارتدى ثوب الراهب كان راهبا . قد يكون هناك من يرتدي اسكيم الراهب زيفاً ، وهناك من يلبسه وهو راهب حقيقي ، غير انه لا فقط لا يكترث بنذوره الرهبانية ، ولكنه يخونها.  والمغزى العام للمثل هو انه ليس بالضرورة أن يكون كلّ مظهر صورةً حقيقية لما تحت الثياب ، او تعبيرا صادقا  لما وراء الكلام أوالتصرف .
وهنا لا استطيع المرور دون ذكر قول المسيح المليئ بالدروس والمعاني بهذا الخصوص : (يأتونكم بثياب الحملان وهم في باطنهم ذئاب خاطفة) ، واتوقف مكتفيا بهذه الجملة كي لا استرسل اكثر في هذا الجانب واُتعرّض لاتّهام رجال الدين بأني تجاوزت حدودي ، وشرعت بالاصطياد في المياه الاقليمية المخصصة لهم !!!

ومن بين الاساليب الاخرى للخداع نذكر امثالا مستقاة من الحياة اليومية ، فالذي يقوم بتصليح عربته مثلا بصورة سطحية للتمكن من بيعها ، فيعرضها للناس وكأنها دون عيب ، وهو على يقين تام بان الاداة التي وضعها في المحرك مثلا،   مقاومتها محدّدة بخمسة عشر يوما فقط . فيكون الشاري قد انخدع بمظهر السيارة التي لا يجد فيها عيبا ، فيبتاعها وهو مخدوع تماما .

ولا اريد التطرق هنا الى موضوع ازياء الحفلات المبالغ بها ، لانها اصبحت جزءً من عادات لا نستطيع مناهضتها ، ولانه أيضا سوف لن يعير أحد إهتماما بما سيقال بهذا الشأن . ولكنه مع الاسف ، بعض المناسبات أمست عبئا على بعض الفقراء ، الذين سيضطرون للظهور بمظهر مكلف ، من شأنه خداع شخص غريب يتوهم بانهم من اثرياء القوم ، ولعلّ هذا يناسبهم ، لا ادري !!.
ولا اتجاسر طبعا التطرق الى كثير من الاساليب الاخرى التي تستهدف تغيير ملامح الانسان ، وباعتقادي ان هذه الاساليب والمظاهر لم تعد خافية على أحد ، وأنا شخصيا لا اجد نفسي مستعدا للانحصار في  زاوية سوف لن تُخطِئَها السهام التي ستنهال عليّ  كالمطر من كافة الجهات .

بعيدا عن كل ما ذكرناه من سلبيات ، يجب الاعتراف أيضا بالجانب الاخر المشرق للمعادلة ، وهو :  ليس كل مظهرٍٍ نراهُ خِداعاً ولا كل كلام نسمعه نفاقا ولا كل بسمة نلحطها مراوغة ، لانه ولحسن الحظّ ، هناك اناس يتكلمون من فضلات قلبهم ، يبتسمون لطيبتهم ويلبسون بموجب امكانياتهم للظهور بمظهر لائق وجذا ب دون مبالغة .

 فانا اقول ، لا يجب ان نحكم على الناس من اول نظرة او لقاء . اذا رغبنا في  معرفة الناس جيدا ، يجب ان نعاشرهم اكثر او نستفسر عنهم ممّن يعرفونهم ومن يُشهَد لهم بصدق كلامهم وامانتهم ، لان كثيرا من احكامنا على بعض المظاهر هي ظالمة عندما تصدر مثلا بحق انسان خجول ، حكمنا عليه بانه عديم الفائدة لانه لم يجرؤ على الكلام  وهو يحمل في داخله مؤهلات نادرة ، أو انسان شجاع جدا لم يشأ الرد على اهانة تلقاها ونحن اعتبرناه جبانا لاننا حكما على الظواهر .
واذا كان لا بد لنا ان نختم الموضوع بجملتين نقول : اذا اردنا اتقاء شر الانخداع بالمظاهر ، يجب ان نحرص على عدم التصديق بسرعة  وعدم إصدار الحكم قبل اختراق قناع المظاهر واكتشاف الحقيقة .

kossa_simon@hotmail.com

175
مَنجَمُ ذهبٍٍ  إسمُه الصمت
                                                             
شمعون كوسا    

رُبّ قارئ يقول ، قد حَمَلنا العم شمعون مرّةً قبل الان داخل قارب في احدى جولاته الخيالية ، فلنرَ على أيّ بساط ريح سيطير بنا لنحوم حول موضوعه الجديد ، وهل سيقوم باختلاق قصص جديدة ؟  اني استبق هذا التساؤل  الذي لم يسأله أحدكم ، كي اقول باني سوف لن أبحِر ولا اطير ولكني ساقص عليكم ما يلي :

في احدى سنوات السبعينات ، كنتُ جالسا في مكتبي مع زميل نتجاذب اطراف الحديث في بعض المواضيع . ساقنا خيط ُحديثنا الى ذكر اسم شخص لم يكن لزميلي معرفة كافية به ، ومحاولة منه في تذكّرِ هذا الشخص قبل ان اقوم بذلك ، قال لي : ألستَ تتكلم عن فلان الذي يقال بانه عضو في الحركة الفلانية ؟ كلام كان له وقع صاعقة على كامل جسمي ، كلمات هزّت بدني. فقمتُ كمن لدغته حية ووضعتُ يدي على فمي بغضب شديد مُشيراً اليه الكفّ حالا عن الكلام. وفي هذه الاثناء طرق الباب أحد المراجعين في استفسار بسيط  وخرج .
بعد خروج الزائر ، توجهت من جديد الى زميلي وسورة الغضب لا زالت على اشدّها داخل نفسي ، وقلت له : كيف تتكلم هكذا وبصوت عالٍ عن موضوع بهذه الحساسية  والخطورة ؟ الا تدري بان الانضمام الى هذه الحركة محظور ؟ ومِن أين لك هذه المعلومات؟ الا تخشى ان يكون قد سمعنا احد ؟ الم تسمع بان للحيطان آذاناً ؟

لكي لا اطيل عليكم ، أقول بانه فعلا في ذلك اليوم كان للحيطان آذانا ، والحائط كان يحمل آذاناً من لحم ودم ، يلتقط  حتى الهمس باذن تتكوّن من صيوان وغشاء وطبلة ،  حائط ينقل الكلام بأمانة ويشي دون وازع ضمير لقاء حفنة من الدراهم ، لأن الفلان الذي أتينا على ذكره في سياق حديثنا أنا وزميلي ، وجد نفسه بعد يوم واحد فقط  ضيفاً على اجهزة التحقيق ، كي يختفي ويقضي خمسة ايام خاضعا لاستجواب قاسٍ تخللته لحظات ترفيهية اشتركت فيها الايادي وبعض الآلات الكهربائية  والاجهزة الميكانيكية . بعد هذا ، أخلِي سبيله لان ما قيل عنه كان مجرد اشاعات .
كان هذا في زمن كنا نخشى التكلم حتى في بيوتنا ، وكنا نرى حتى في اطفالنا الابرياء حيطان صغيرة ، وبما ان اغلب الامور كانت مُحاطة بخط احمر ، كان بعض الكلام العادي يؤدي الى متاعب ، وانا متأكد بان الكثيرين منا مرّوا  أو سمعوا بمثل هذه الحالات .
هذه روايات حقيقية ، وكما اقول دوماً دون ان اتسبب بازعاجكم بتكراري هذا ، حياتنا مليئة بمثل هذه الحالات والوقائع . قد يحدث هذا مثلا في مجالات  اخرى من العلاقات بين الناس ، بين الشباب مثلا ، كَأنْ يورد احد من الذين لا سيطرة لهم على لسانهم ، بعضَ ملاحظات عن شابة دون أن يعرف وجود خطيبها بين مستمعيه ، فيؤدي كلامه ، بغضّ النظرعن صحته أوعدمه، الى تأزّم الحالة ولربما الى الفسخ والفراق. لاننا في كثير من كلامنا ، في هذا المجال ، لا نستطيع ان نحزر ردّ فعل الطرف المقابل او الشخص المعني .

لقد قال الحكماء : خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ . وهذا معناه ، يجب أن يأتي الكلام عند الحاجة وعلى قدر الحاجة . إنّ احتمالات الوقوع في الخطأ عند الرجل الكتوم قليلة جدا او شبه معدومة . أمذا مع مَن يطلق العنان للسانه او الذي يمتهن البلاغة الفارغة أو يتخذها شعاراً، فانه قلمّا يخرج من محفل أو يُنهي موضوعا دون أن يُصبح هدفاً لانتقادات سامعيه وتقريعاتهم ، لانه يكون ، في حديثه الطويل ، قد أخطأ في احكامه وأساء للناس من حيث لا يدري ، أو ربما نقل احاديث غير مؤكدة أو كاذبة .

عند الكلام أو لزوم ابداء الرأي ، يجب الاخذ بالحسبان ثلاثة اعتبارات وهي : المكان الذي نتحدث فيه ، الموضوع الذي نتناوله ، والشخص الذي نخاطبه . فبعض الكلام لا يناسب كلّ المحافل ، وبعض المواضيع تتّصف بحساسية دون غيرها ، وبعض الاشخاص يجب مراعاة شعورهم بنوع خاص ، لان ما يتقبله شخص لا يستمرؤه غيره .

لماذا نقول : لتكن شيمة الانسان السكوت على قدر الامكان ؟ لان الكلام في حالة الغضب محفوف بكثير من الاخطار ، والكلام الصادر عمّن لا يجهد نفسه بالتفكير أرض مزروعة بالالغام ، والكلام عند الحكم على مواضيع شائكة ، مغامرة تؤدي براكبها غير المتمرس الى فاجعة .

يقول المثل الكلداني : (شْمَعْ  سَـﮔـيّ  ومَلّلْ  قلِّلْ) ، أي اسمع كثيرا وتكلم قليلا . كان هذا المثل احد نصوص كتاب اللغة الكلدانية التي كان يتمّ تعليمها في الخمسينات . فهناك  القليل من الكلام يجب ان يُقال ، وهذا القليل لا يقاس بطوله لانه كلام مفيد  وبعيد عن اللغو والترهات . القليل من الكلام لا بدّ منه لاسداء نصيحة ، لكشف حقيقة نافعة ، لتوضيح امر غامض ، لانقاذ حالة معينة ، وفي بعض الاحيان لتلطيف حالة او ازالة توتر ، والى حدّ القيام بسرد طرفة .

ان الامثال كثيرة في هذا المجال ولا تخلو منها لغة او بلد . بعض منها  تقول : (لسانك حصانك ، إن خنته خانك وأن صنته صانك ) . فخير وسيلة لصون اللسان هي اراحته عن الكلام ، الصمت .
يقال ايضا : ( حرّك لسانك سبع مرات في فمك قبل ان تتكلم)  . قد يحتاج البعض، باعتقادي ، الى اكثر من سبع مرات ،لا سيما الذين  لم يُشركوا عقلهم في العملية .
في كثير من الاحيان ، عندما يخلد الانسان قبل النوم الى مراجعة الذات وفحص الضمير ، ينتهي الى لوم نفسه ويقول بمرارة : يا ليتني لم اتكلم ، يا ليتني لم اردّ على فلان ولم اتفوّه بالجملة الفلانية . يا ليتني اغلقت فمي في الوقت المناسب وكان لي فعلا فرصة للسكوت، لاني جرحتُ صديقاً ، غير ان الاناء يكون حينذاك قد انفطر وتكسر . ونحن نقول : يا ليت كان لِكلامِه ووندمه قدرة اعادة الامور الى نصابها ولكن هيهات ، فالكلام كان قد خرج من الفم واخذ مجراه بسرعة البرق وفعل ما فعل .  وبعض الكسور، حتى اذا افلحنا في لحامها ، فان اثر الشق يبقى ، وقد لا يراه الا النادم على فعله .

كثير من المشاكل في الحياة ، شبّت بسبب شرارة كلام بسيط  كان يجب ان لا يُقال ، قد يكون هذا النوع من الكلام احيانا إيماءة بسيطة ، اشارة عين ، هزة ّ رأس ، كلمة واحدة كتبت دون تفكير ، وهذه كلها تدخل في نطاق التعبير والكلام .
كم مرّة سمعنا آباءنا وامهاتنا يوجّهون لنا لوما شديدا بالقول : لسانكم هذا يستحق البتر ، لماذا قلتم كذا وكذا ، لماذا اطلتم لسانكم بكشف الموضوع الفلاني ؟
انّ من لا يُحسن ضبط  لسانه ، يقع في اخطاء كبيرة ، يندم عليها بعد فوات الاوان . لقد سمعنا في بعض فترات حياتنا عن حالاتٍ لعِب فيها كلام بسيط  دورا في تقرير مصير اناس ابرياء  ، كلام أودى بمستقبلهم ، وإنّ انقاذهم كان لا يحتاج الاّ الى صون اللسان والسكوت ، الى جهد لا يرهق ولا يكلف شيئا وهو الصمت .

يقال عن الانسان انه حيوان ناطق ، اعني حيوان متكلم . فالنطق هنا يرتبط بالمنطق ، اعني التعبير بتحكيم العقل وعملية التمييز، والعقل هو الذي يجب ان يقود تصرف الانسان قبل تسليم الامور الى اللسان وإدخاله الى الحلبة ، أعني يجب ان يُحدّدَ دورُه على ما قلّ ودلّ .

عطاشى الكلام وهواة اللغو هم أشحاص يحبّون الظهور . يقولون مثلا : كيف اسكت ، هل ترضون ان يعتبرني الناس غبيّا . ولكي يُبعد صاحبنا نفسه عن تهمة الغباء ، يتكلم  وبحماس شديد فيتورّط  في الكثير مما قاله ، ويبتدأ بعد ذلك بعضّ أصابعه ندماً .  وبالرغم من كل هذا ، لا يكفّ عن تقديم الاعذار والذرائع قائلا : الذنب ليس ذنبي ، لقد استفزّوني وكانوا يتحدوني ويكذّبوني  .
أما نحن فنقول : كان يكفيه السكوت او الاكتفاء ببعض كلمات يمليها عليه عقله وليس لسانه الجموح كالجواد والهائج كالثور ، لا سيما وان ما تفوّه به كان قد سمعه من غيره واتضح بعد ذلك بان نصفه كان  كذبا .

نقول في الختام بان الصمت والكتمان يدعواننا الى التأمل ، الى التفكير في الامور بهدوء ، الى التروّي والسيطرة على الذات . فالصمت يزين النفس ويزيدها غنى ، انه منجم ذهبٍ مدفون في اعماق النفس ، ذهب بعيد عمّا يلمع من قشور وظواهر تبهر عيون من كان معتمدا فقط على سرعة لسانه . فالذهب الحقيقي والذي يرتبط  بريقه بمنبع باطني خفي، هو الصمت الذي تكلمنا عنه ، هو معدن يصعب تقديره بثمن لانه يصون الذات من فقدان اعتبارها لدى الاخرين،  ويُكسِبها ثقة الناس واحترامهم  ، ويُؤمّن لها راحة الضمير ويُبعدها عن ندم قد يعذب الانسان طوال حياته .

176
بعدما رأى ، أصيبَ بالغرور   

شمعون كوسا

روى لي صديق بان الظروف قادته الى أن يصبح جاراً لرجل فقير كان يكدّ  ليلَ نهار لتوفير ما يُقيتُ به افراد عائلته . يقول عنه بانه كان إنساناً مؤمنا ، قنوعا ، متواضعا وطيب المعشر .
 مرّت الايام ودارت شهور الى ان اصبحت سنوات ، واذا به  ذات يوم يتلقىّ زيارة شخص غريب ، قال بانه تعب كثيرا للعثور على عنوان بيته . كان الزائر يحمل له خبراً ساهم في تغيير مجرى حياته تغييراً جذريا . كانت البشرى  التي يحملها الزائر تتعلق بميراث لم يكن لجاره أيّ علم سابق به ، ميراث لا يخطر بباله ، لا في تخيلاته في النهار ولا في أحلى سيناريوات احلامه في الليل .

بعد استلام الثروة التي آلت اليه من اقارب مجهولين ، ووضْعِ يده على كافة محتوياتها ، هَمّ بتنفيذ أول اجراء وهوالتحول من بيته المتواضع الدافئ الى منزل مترامي الاطراف  وكأنه قصر كامل ،  ناهيك عمّا الحق به من متطلبات اخرى تتماشى ووضعه الجديد ، منافع  وفرّتها له الثروة التي هطللت عليه من حيث لا يدري والتي بقي القسم الاكبر منها وديعة لدى المصارف .

روى لي صديقي هذه القصة ليصف خيبة امله الكبيرة بعد الزيارة التي قام بها لتهنئته بالمنزل الجديد . اصطدم صديقي بتصرف جاره السابق ، لانه لم يتمكن من مقابلته الا بعد اسبوع ، وعند اللقاء الذي لم يستغرق وقتا طويلا ، وجد نفسه في حظرة رجل بارد وجاف ، جُل ّ اهتمامه هو إبراز وضعه الجديد من خلال اصدار الاوامر في كل دقيقة للخدم وبصوت عال . يقول صديقي ، رجعتُ كالرجل الذي كان قد اخطأ العنوان ، لاني لم ألقَ من الجار المتواضع والمؤمن واللطيف سابقا ، غير وجه متغطرس مصاب بالغرور .

لقد اوردتُ هذه الرواية لاني قد اعتدت في كتاباتي الانطلاق من واقع الحياة . من مشاكل يصادفها جميع الناس . إنّ ما قصصته هنا يندرج ضمن ظواهر مألوفة جدا ، سمعنا بها وبأمثالها منذ نعومة اظفارنا واستمررنا بسماعها ولا زلنا  نشاهدها ، حالات لا يخلو منها أيّ مجتمع ولكنها موضوع انتقاد الجميع .

فالحديث بالمختصر المفيد يخصّ من يُقال عنهم باللغة العامية (ما كان شايف وشاف) . نتكلم عن اناس تغيّرَ تصرفهم كاملا بعد ان تحوّلوا بسرعة من الفقر الى الغنى ، من البؤس الى نوع من الارتياح ، من مرتبة دنيا الى منصب اعلى ، أناس ازدادوا قربا من أشخاص اقوياء أو ذوي نفوذ ، أو ناسبوا عوائل من اصحاب الذوات ،  وقِس عليه من حالات اخرى ترفع من شأن ضِعاف النفوس هؤلاء . هذا صحيح في كل بلد وكل مدينة وكل قرية . وقد يكون هذا صحيحا مع أفراد أتوا من شرائح مختلفة من المجتمع . قد يكون هذا صحيحاً مع ِمن تدرّجوا في السلم الكنسي في درجات كهنوتية او ألقاب فخرية ، او الموظف الذي ارتقى في السلم الاداري ، او الحزبى الذي صعد في مسؤولياته ، او السياسي الذي فاز بمرتبة كان يطمح فيها، او المرشح الذي فاز علي كرسي في البرلمان او حقيبة وزارية وحتى سدّة الحكم في البلد . اننا لا نعمّم ولكننا نقول بان امثال هؤلاء ، يمكن ان يأتوا من كافة شرائح المجتمع دون استثناء .

فالغرور من شأنه أن يصيب كافة هذه الطبقات لانه يتعلق بالشخص وليس بالشريحة . فالشخص يجب ان نعرف من أيّ محيط أتى، في أي بيئة ترعرع ، اية تربية تلقّى داخل العائلة وما هي ثقافته ، هل كان محيطه سطحيا  ويعير للمظاهر والمال والجاه والمناصب اهمية اكبر من العقل والضمير وبساطة النفس والقيم الاخرى ، اعني هل قد ترعرع أصيلا  أم لا .

ونجد بعض هؤلاء مِن بين مَن انتقلوا من محيطهم الى بلد اجنبي . هذا البعض يعتبر نفسه بأنه قد افلح في تحقيق ما لم يستطع غيره القيام به . هؤلاء يعلقون اوسمة على صدورهم ، ويستعرضون عضلاتهم منفوخي الصدور ، وكأنّ حالتهم الجديدة أضفت عليهم حلة جديدة وأكسبتهم  درجات رقيّ فريد من نوعه .

من المفيد ان اكرّر مرّةً اخرى بان الحديث ليس شاملا اطلاقا ، ولكنه يخص بعض ضعاف النفوس ، وهؤلاء كما قلنا لا يخلو منهم اي مجتمع . بديهي أن نقول بان الذي ينتقل الى البلدان الاجنبية أو الاوربية مثلاً ، يكتسب حقوقا تلقائية تساوي الحد الادنى الممنوح لكل مواطن عاطل . غير ان الحد الادنى هذا يعتبره هؤلاء كثيرا مقارنةً بما كانوا يحصلون عليه في بلدهم ، واذا حدث وان حصل اصحابنا هؤلاء على مورد اضافي باية وسيلة كانت ، فانهم يعتبرون نفسهم اسياد الكون ، وبعضهم تبلغ به الغشاوة الى ان يرى نفسه بحجم أكبر وقيمة اعلى ، إلى حدّ اعتبار ردّه على تحية الناس فضلا كبيرا أو تنازلا من قبله !!!!
انهم يتعالون حتى على من مثلهم في الغربة ، اناس ليسوا اقل منهم شأناً ، بل افضل منهم حالاً ، اناس لا يحتاجون اليهم في شئ ، اناس وهم الاكثرية الساحقة ، اضطروا لترك بلدهم تحت ظروف قاهرة وليس من اجل منفعة مادية او نفوذ او جاه.
ولكي نكمل حديثنا عن هؤلاء ، نقول ان بعضا منهم اذا رجع الى بلده في زيارة ، يكون هدفه الاولي إستعراض شخصيته الجديدة أمام الاصدقاء والمعارف . انه يحرص على الخروج من المنزل مُحاطا بشلة من المقرّبين للسير بخطوات بطيئة ، والالتفات في كل لحظة ذات اليمين وذات الشمال ، لتلقّي تحية الناس وإعجابهم.  بعض من  الذين لم يمضِ على اغترابهم اكثر من سنة ، يعودون في زيارة لبلدهم متصرفين وكأنهم ليسوا ابناء البلد . يحر صون على ان تتخلل احاديثهم  مفردات أو جمل مبهمة وغير مفيدة  باللغة الاجنبية ، فترى الفاعل اتى دون فعل والمبتدأ ينتظر خبره  وحرف الجرّ لم يعثر على ما سيكسره !! . من جهة اخرى ، وفي نفس السياق ، يتناسَون مثلا اسم الشارع الفلاني ويستفسرون عن الامور وكأنهم قد تركوا محيطهم منذ قرن ، واذا حدث وان أتى  احدُ  مرافقيهم على ذِكر اسم شخص يُفترض ان يعرفوه جيدا ، وهم فعلا يعرفونه جيداً ، فانهم يتظاهرون بالتفكير ويقولون ، قاصدين استصغاره :  اليس هذا القزم الاعرج ، او الشخص الذي كان قد ارتكب الخطأ الفلاني ؟

ان الذين يتصرفون بهذه الصورة  ، اقل ما نستطيع القول عنهم انّهم يفتقرون الى الاصالة . فالاصيل يبقى راسخاً مهما قست عليه الظروف أو ابتسمت له ، يحافظ على كيانه وبساطته مهما علت درجته لانه متجذّر في اصوله الطيبة هذه وثابت فيها ،انه يعرف نفسه وعمق شخصيته ، ويراهما بعقله وضميره وليس بمكتسبات اقتناها عرضا ، مكتسبات في طريقها الى الزوال لا محالة .  فهؤلاء الاصلاء البسطاء ، لا يمكن ان يتغيروا ولا يمكن ان يركبهم الغرور لان نفسهم العفيفة قد رأت ، وهي اعلى من هذه المتغيرات . 

بوسعنا الاسترسال في حديث يمكننا النسيج حوله  وتوسيع رقعته ، لانه ومع الاسف الشديد ، ابتدأ عدد هؤلاء النماذج يزداد أكثر فاكثر في ايامنا الاخيرة حتى بين ظهرانينا. فهناك اناس تحوّلوا ، بقدرة قادر وما بين ليلة وضحاها ، من فقر مدقع الى ثراء فاحش ، وكثير من بين هؤلاء ينطبق عليهم فعلا المثل القائل :  بعدما رأوا اصِيبوا بالغرور .
على اية حال  نستطيع القول :  بما ان الانسان المغرور والمتغطرس، يفتقر الى اساس حقيقي عميق وسنوات طويلة من العراقة والجذور الراكزة ، فانه يبقى انسانا هشّا وقيمته مرهونة بالظروف وتقلباتها . امّا الانسان البسيط ، الذي قد يكون في واقعه اكثر ثراء وارقى مرتبة واعلى جاها من صاحبنا ، سيحافظ على بساطته ويبقى موضوع تقدير الصغير والكبير .
ان قصّة هؤلاء الذين انتفخوا بعد أن رأوا ، هي كقصّة الضفدعة التي أرادت ان تضاهي الثور بضخامته ، فشرعت في نفخ جسمها ولم تتوقف الى ان توسعت كثيرا وانفجرت .

kossa_simon@hotmail.com



177
ما أصعب أن نُحِبّ ما لم يَعُد جميلاً
            

شمعون كوسا


موضوع يدور في خلدي ويشغل بالي منذ فترة . موضوع مهم يخصّ كل انسان وفي كل يوم .  موضوع اشتدت وطأته على صدري في هذه الايام الاخيرة.  قلت في نفسي إنّ انجع علاج لهذه الحالات هو اخراجها من مخبئها والتعبيرعنها من خلال مشاهد حقيقية رأيتها بام عيني أوحوادث رواها لي بعض اصدقائي . دعونا اذن نتفحص معاً بعضَاً  من هذه المشاهد .

اتذكر يوما كنت في مجلس تَؤُمّه شريحة كبيرة من الناس بمختلف أعمارها ومستوياتها . دخل علينا شخص لم أعرفه أنا ، ولكن بعض الجالسين من معارفه  قاموا لتحيته . كان رجلاً طويل القامة في منتصف عمره ، بدأ بالسلام على الحاضرين فرداً فرداً ولكنه عندما بلغ آخر شخص في المجلس ، أهمله ولم يصافح اليد التي امتدت اليه . اليد الممتدة هذه والتي حُجِبت عنها المصافحة كانت لرجل عجوز مصاب بداء الباركنسون اللعين الذي لم يترك فيه طرفا لا يهتزّ ، وكأنه موصول بزلزال غير قابل للتوقف .

مرة اخرى ، كنت متوجها الى السوق . توقفتُ في طريقي عند اشارات العبور،  ووجدت نفسي بجانب امرأة عجوز ، نحيفة جدا ، يخال للناظر عند رؤيتها وكأنّ جلدها الذي توسّع كثيرا ، لم يجد لحماّ يكسوه فالتفّ عدة مرات على العظام ، وعندما انتهى من فرش ثناياه على الجسم ، القى بفائضه الى فوق  كي يغزوَ الوجه والرقبة بتجاعيده الكثيرة . كانت المرأة تستند على عكازة لتأمين استقامتها . ونحن واقفون في انتظار مجال للعبور ، اذا بشلّة من الشباب الهائجين تقفز امام العجوز . بدأ بعض منهم يستهزئ بها ويُسمعها كلاما نابياً وذهب أحدهم الى حدّ دفعها فالقاها أرضاً.  نهضت المرأة بصعوبة بالغة مستعينة بالمحيطين بها . احتجاجها لم يكن كلاماً ولكن بكاءً مرّاً  ساخنَ  العبرات.
 
ومن بين الحالات الاخرى التي أقرأها في صفحات ذهني ، حالة صعبة لا انساها، يومَ وجدت نفسي امام امرأة مشوهة ، قبيحة الوجه بشكل شبه مخيف. رأيتها تقع امامي بعد ان اخطأت آخر موطئ قدمٍ من الدرج المؤدي الى الشارع العام . بعد وقوعها مدّت يدها مستنجدة بالمارّة ولكن الكل كان يهرب بمجرد النظر الى وجهها . فكنتُ انا احد الذين امسكوا بها لايقافها على قدميها .

اذكر أيضا ظاهرة اخرى تختلف نوعيتها عما ذكرته . حالة تتعلق برجل عُرِف عنه بانه كان موضع احترام الناس واِجلالهم لسنوات طويلة . التقيتُ هذا الشخص مؤخرا واستغربت كثيرا لرؤيته دون موكب الاصدقاء الذين كانوا يرافقونه ولا الخدم الذين كانوا يسيرون خلفه . استغربت لهذا الانقلاب والتغيير،  فسجلت الظاهرة مع بعض الشكوك ولكني لم احاول التعمق فيها .

يجب ان اذكر ايضا في هذا السياق حادثة رواها لي احد الاطباء . قال لي بانه اضطرلمعالجة رجل طاعن في السن ، رجل أصمّ ، مصاب بمرض مستعصٍ . اضطُرّ لمعالجته دون ان يعرف هويته ولا عنوانه . وجده صباح أحد الايام على قارعة الطريق امام باب مستشفاه . رأى نفسه ملزما في معالجته وتولّى امره فعلا دون تردد ، لانه كطبيب كان تحت قسَمٍ يقضي بانقاذ حياة الانسان ، بغِضّ النظر عن ظروفه .

وآخر حالة الحّ ذهني على اخراجها  لتأثّري الشديد بها في حينها ، هي حالة رجل كبير في السن ، هائم على وجهه ، خرج ليتشمّس . رأيته متّكِئاً على حائط ،  بوجه كئيب جدا وعينين تقطران دماً. لم اقاوم رؤية هذا المشهد الحزين فدنوت منه ، لكي اسمع قصته علّني استطيع اسعافه بعض الشئ . ردّ على تحيتي بامتنان وحياء كبيرين وكأنه يتلقّى صدقة . ألححت عليه بالكلام ، فشرع في وصف حالته ، وسَردَ لي قصته الى أن ابكاني .

ان مثيلات هذه الحالات كثيرة جدا ، ولكني اكتفي بهذا القدر منها ، لاني استقصيت أمرَ كلّ مشهد ذكرته هنا أو ظاهرة كنت شاهدا عليها . فالشيخ الاول الذي لم يرضََ الزائرُ الغريب السلام عليه ومصافحتَه ، كان في حينه مسؤولا كبيرا ، خاض مواقف صعبة بشجاعة ، واستحصل ما لم يستحصله غيره من مكاسب كان يحلم بها اهل المنطقة.

أما المرأة العجوز التي كانت موضع استهزاء الشباب ، فانني عرفت من بعض جيرانها ومعارفها بانها كانت اشهر مديرة مدرسة . كانت امرأة مثالية في تدبيرها وادارتها وخاصة اخلاقها. كانت تجابه امور الطلاب ومشاكلهم بحكمة وابتسامة جميلة لا تفارق وجهها وكأنها مرسومة بيد سحرية . قامت بخدمات جليلة لكثير من العوائل ، ولا سيما الفقيرة منها، وتعاملت مع حالات صعبة للطلاب فخرّجت جيلا ارتقّى عاليا في السلالم الوظيفية .

بخصوص المرأة المشوّهة ، لقد بذلتُ جهدا خاصا للوصول الى معرفة قصتها الحقيقية . فقد علمت بدهشة كبيرة بان هذه المرأة ، التي كان يتهرب منها الناس ، كانت في حينها امرأة رائعة ، يُضرب المثل بجمالها الخارق ، ولكنها انتهت على حالتها البشعة بفعل فاعل ، اذ قام احد المجرمين برشها بمادة كيماوية قلبت جمالها الساحر قبحا لا يطاق، وكانت قبل ذلك عارضة ازياء.

اما عن الرجل الذي حُرم من موكبه من الاصدقاء والخدم ، فاني كنت اشكّ في حينه بشئ ولكني توصلت الى معرفة  الحقيقة من بعض من كانوا يحيطون به . صاحبُنا كان انسانا ميسور الحال ، غدر به الزمن فافلس ، فتركه المنتفعون والمصلحيون وتخلوا عنه بعد ان نضب منبع ثرائه ، وكفّت يده عن اغداق المال عليهم بكرم لا متناهٍ .
اما الرجل المريض الاصمّ ، مجهول العنوان والهوية ، تبين بعد ذلك بانّ ابنَه ، هوَ الذي رماه امام باب المستشفى وولىّ هاربا . هاجر مع زوجته الى مدينة لم يعلن عنها ليبتعد عن ابيه ويتنصل من واجباته تجاهه .

اما عن الرجل المتكئ قبالة الشمس والذي ابكاني ، فانه لم يشبع طوال حديثه ، من توجيه لوم مرير الى ابنه واحفاده الذين أمضى حياته في تربيتهم وخاض الصعاب ليوصلهم الى لقمة عيش هنيئة ، بات هذا الاب الشيخ يعيش بينهم  كخادم ذليل ، يتعرض في كل دقيقة لأهانات تاتيه من الكنّة والاحفاد دون ان يقوم ابنه بتحريك ساكن .

كلّ ما ذكرته يندرج ضمن حالات سمعنا بها جميعا ، ومثل هذه الحالات لا تُعدّ ولا تحصى حتى في غرابتها ، وما ذكرته انا ليس الا غيضاً من فيض . كل هذا يوصلنا الى استنتاج بان ما فقد جماله لا يجذبنا ، الانسان في غروب حياته لا يشدّنا ، الطراوة عندما تتحول الى ترهّل نتجنب رؤيتها والدنو منها ، البريق عندما يخف لا يجلب نطرنا .  فالمرض ، والضعف ، والعوق ، والشيخوخة ، والتشوّه ، والتحول من الغنى الى الفقر ، كلها  ظواهر وحالات لا تستهوينا طبيعيا ، ونبتعد عنها على قدر الامكان .

من الطبيعي جدا ان ينجذب الانسان الى الجمال ، الى الالوان المزركشة والى الزهور او المناظر الطبيعية ، ومن الطبيعي ايضا ان يبتعد عنها عندما تفقد جمالها ، تذبل او تتلف او تتغيّر سلبا . هذا صحيح مع الظواهر الطبيعية ، مع النبات والجماد ، ولكن ردود الفعل هذه لا يجب ان تمتد اطلاقا الى البشر، على الانسان ، لا سيما عندما نتوقف للتأمل في هذا الموضوع على النحو التالي :

ان جميع هؤلاء المسنين الذين رأيناهم كانوا رجالا اشدّاء ، مرّوا في فترة إسمها ريعان الشباب ، كانوا في أوج جمالهم ونظارتهم وفي قمة همّتهم شجاعتهم . لقد قاموا باعمال جليلة وبعض منها بطولية . بذلوا نفسهم عبر تضحيات كبيرة في مجال مسؤولياتهم وأهمها تربية اولادهم. يجب ان نفكر ونصل الى قناعة بان هذا الشيخ الساقط وهذا الرجل المقعد وهذه المرأة العجوز الاخرى كان لهم جميعا دورهم في زمن شبابهم ، كانوا يعجّون صحة وحيوية وتهتز الارض تحت اقدامهم .كانوا يحملون من الصفات الحسنة ما يتمناه كل انسان على الارض . تقدموا في السن وهذا ليس ذنبهم لانه لا مفرّ من ذلك. انها سنّة الحياة . والتقدم في السن يؤدي حتما الى ضعف البنية والتجعد وترهل الجسم وفقدان الذاكرة وثقل السمع وفي اغلب الاحيان الى امراض تبدأ في عضو واحد وتنتهي بكافة اجزاء الجسم .
كما يجب ان ننتهي بتفكيرنا في نقطة اخرى اكثر أهمية ، ونصل الى نتيجة مفادها باننا نحن ايضا مٌقبلون على التقدم في السن وبلوغ هذه الحالات أو لربما اتعس منها ، ولا يفصلنا عن هذه المرحلة الا حفنة صغيرة من الاعوام . لذا يجب ان نرى نفسنا في صورة هؤلاء الذين انطفأ فيهم الجمال وهجرتهم الطراوة وخانتهم كثير من القوى الاخرى . فاذا اشمَئْزَزنا من رؤيتهم ، سيشمئِزّ اولادنا منا وسيعاملوننا كما نعاملهم .

ازاء كل هذه النهايات والتغييرات وتقلبات الوضع ، يجب ان نتسلّح بمبادئ وأن نرجعَ بتفكيرنا قليلا الى الوراء ، لرؤية الانسان الذي امامنا بعيون تنفذ الى الداخل ، الى الجوهر . فالانسان يبقى انسانا ، ومجرد وجوده في الحياة يؤمّن له كرامته . يجب ان نعرف بان الشيخ الهرم او العجوز الشمطاء كانا قبل سنوات اشخاصا يتمنى الكثير مصاحبتهما والاستمتاع بطيبة عشرتهما وصفاتهما الجذابة الاخرى . جمال الانسان الذي رسمه الله يكمن في وجوده وفي حياته،  وقيمة الانسان أثمن من ان تنتقص بتغيّر المظاهر أوتقلّب الاحوال .
كما يجب ان لا ننسى بانّ هؤلاء حتي في حالتهم هذه هم ثروة ثمينة في خزين تجاربهم في الحياة . لكل واحد منهم حِكمُ ودروسُ تعلموها من تقلبات الحياة .
بعد هذا فقط ، باعتقادي ، نتوصل الى رؤية الانسان جميلا مَهما خفّ بريقه وتضاءل جماله .
kossa_simon@hotmail.com

178
بين جدران معهد مار يوحنا الحبيب


شمعون كوسا


نحن في صدد الكلام عن أحد ايام الله في الفترة الواقعة بين سنوات 1957و1968، في معهد مار يوحنا الحبيب ، (السمنير) ، الذي كان يديره الاباء الدومنيكان الفرنسيون. معهد كهنوتي للسريان والكلدان . مدرسة داخلية، تستغرق الدراسة الكاملة فيها اثنتي عشرة سنة . معهد استمرّ لاكثر من مائة سنة ولم يفقد بريقه الا بعد خروج هؤلاء الآباء من العراق في بداية السبعينات .
اريد أن اذكر هنا برنامجَ يوم واحد ، أعني وقائع تكرّرت يوميا بصورة مماثلة طيلة هذه الفترة وما قبلها ايضا . انه سردُ موضوعي ، لواقعِ يَبانُ صارما وقاسيا احيانا ، ولكنه أعطى الكثير ، على صعيد الثقافة والعلوم واللغات ، وبصورة خاصة ، وهذا هو الاهم ، في طريقة التفكير والتصرف . انها ذكريات قد تعجب احداثها البعض أوتفيدهم ، وتساعد البعض الاخر في عملية مقارنة بين القديم والجديد، أو تقتصر على اغناء معلومات محبّي الاستطلاع والفضوليين .
اما اذا وجد بعض القراء هذا اليومَ طويلا ، فاني ادعوهم الى تناول قراءته عل شكل مسلل بحلقة ونصف .

انه قانون السمنير ، فلنعشه ليوم واحد

- كان النهوض في الساعة الخامسة والنصف صباحا على صوت الناقوس ، والموعد هذا كان ثابتا صيفا وشتاء.
- حال سماع الناقوس ، كان مراقب صالة النوم ينادي باعلى صوته باللغة اللاتينية (بينيدكاموس دومينو - Benedicamus Domino لنسبح الرب) وعلى الجميع الاجابة بحماس وبنفس اللغة اللاتينية (ديئو ﮔراسياس Deo Gratias ـ الشكر لله).
- يقوم كل تلميذ بترتيب سريره ويتوجه لصنبور الماء المخصص له ليغتسل بالماء البارد والصابون. والاغتسال هنا يشمل الرأس والرقبة ، وهذا كان الزاميا . كان الماء يسيل من خزانات منصوبة فوق أعلى السطوح ، وفي فصل الشتاء كانت هذه المياه شبه جامدة لان الموصل مدينة باردة .
- يتمّ هذا كله بسكوت تام. بعد الغسيل،الذي يستغرق ربع ساعة ، يهمّ الجميع بالاصطفاف متوجهين الى الكنيسة للقيام بنصف ساعة تأمل . كان موضوع التأمل يؤخذ من الانجيل او اي كتاب روحي آخر .

- بعد التأمل يبدأ القداس الذي كان يتمّ بالتناوب ، اسبوع مخصّص للسريان وآخر للكلدان. كان القس البير ابونا هو الذي يقدس للكلدان اما السريان فكان القس اسطيفان زكريا ، وذلك بحكم اقامة هذين الابوين في السمنير وكونهما معلمين فيه للحقبة التي نحن بصددها .
- بعد القداس يذهب التلاميذ للفطورالذي يستغرق ايضا ربع ساعة ، وتليه الفرصة أو الاستراحة الاولى التي تفك اول قيد للسانهم ، وكان الفطور ، الذي نتاوله بالصمت ، يقتصر على قدح كبير من الشاي ممزوج بحليب الجاموس مع خبز طازج يُغمس في صحن من لبن .

- بعد مضيّ عشرين دقيقة من اللعب والحركة ، يدقّ الناقوس من جديد ليُعلِن بداية الاربع ساعات الاولى للدروس ، يجري الصعود الى الصفوف بترتيب وبصمت ، ولكل طالب مكانه الخاص في غرفة الدرس العامة التي كانت تسمي بـ (الايتودEtude ) ، ومنها كنا نتوجه الى صفوفنا لتلقي الدروس المقررة في الجدول . كل درس يستغرق خمس وخمسين دقيقة ، مشغولة كاملا .
كانت تتوزع الدروس للسنوات الست الاولى بين لغات العربية والفرنسية واللاتينية والارامية والعلوم والرياضيات والدين ، أما السنوت الست الاخيرة ، فكانت تخصص لدراسة الفلسفة بكافة اقسامها : الميتافيزيقية والمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع، والدرس الاهم كان اللاهوت بشقيّه العقائدي والادبي ، وايضا درس تفسيرالكتاب المقدس ، وكل هذا كان يجري باللغة الفرنسية .

- كان أغلبُ مدرّسينا من الاباء الدومنيكان الفرنسيين ، وكان لنا ايضا بعض مدرسين من المحليين المختصين بالعربية والارامية والعلوم الانسانية.

- في فترة لاحقة ، تلقينا بعض الدروس عن الديانة الاسلامية والقرآن القاها علينا الاب جومييه الدومنيكي المختص في دراسة القرآن. كانت دروسا محدودة ولكنها مفيدة . وكان لنا ايضا في نفس الفترة بعض الدروس في اللغة العبرية .

- في الساعة الثانية عشرة والنصف كان موعد الغداء. ننزل ايضا باصطفاف منتظم وبسكوت عميق ، كل واحد يتجه الى مكانه المخصص له طوال السنة ، كان نفس الصمت العميق يخيم على قاعة الطعام ، لانه كان على متناولي الطعام الاصغاءَ الى احد الاخوة المكلفين بقراءة كتاب تاريخي او حياة قديس . كان يتناوب الطلاب يوميا على هذه القراءة ، بموجب جدول يعدّ لهذا الغرض . وبهذه الصورة كان يطلع الطلاب على كثير من الكتب التاريخية أوالقصص والروايات وغيرها .واذا ارتكب التلميذ القارئ خطأ نحويّا او لفظيّا اثناء القراءة ، يضغط المدير الفرنسي على الجرس الذي امامه ليصحح الخطأ ، واذا كان الكتاب باللغة العربية يقوم القس البيرابونا بالمهمة . كان طعامنا جيدا ، والمرقة اليومية كانت متنوعةً تتوزع بين : البطاطا ، اللفت ، الجزر ، السلق ، اللهانة ، البامية ، والباذنجان ، وفي اغلب الايام مطبوخة مع اللحم . كانت المرقة تسبق تقديم الرز او البرغل او الحبية .

- تتمّ وجبات الاكل في غرفة جماعية يُطلق عليها اسم الريفيكتوار ( (Réfectoireوالتي كانت تجمع كافة التلاميذ كبارا وصغارا ، يجلس التلاميذ على شكل فرق ، تتكون من اربعة اشخاص ولكل فرقة رئيس فريق ، وتستمر نفس التشكيلة هذه على مدار السنة . كان يتناوب على خدمة المائدة تلميذان بموجب قائمة خدمة المائدة .



- في السنوات الاولى ، كان اكل الصوم يرهقنا لانه كان انقطاعا كاملا عن اللّحم ، ولكن هذا الانقطاع كان يُعوّض أيام الآحاد بتقديم تمرمقلي مع البيض ، وفعلا هذا كان يغير شيئا من زهد طعام الايام العادية وتقشفيتها. اما اصناف ايام الجمع ، فانها كانت تندرج ضمن فولكلور خاص ، حيث كان يأتي المرق مجرّد خليط من القرع الاحمر المسلوق مع كثير من التمر .

- كان الصوت الذي يحدثه مضغ بعض انواع المأكولات احيانا اشدّ من صخب الكلام ، خاصة عند تقديم الخسُ كفاكهة في نهاية الاكل ، كانت حركات الفكين متزامنة في مضغ الخس ، حيث يخجل الصمت امام ضجيج الافواه، تخيّل صوت مائة شخص او اقل يلتهمون ورق الخس سوية،عبثا احاول هنا منع البعض عن محاولة اجراء تشبيه ؟ !!!! .

- بما اننا لا زلنا في غرفة الطعام ، يجب ان نذكر بانه عندما كان يزورالسمنير احد تلامذته القدامى من الكهنة او المطارنة ، ويتواجد معنا لتناول وجبة الغداء أو العشاء ، كان يأمر المدير بكسر طوق الصمت ويعلن ذلك بالقول : (ديئو ﮔراسياس Deo gratias ـ الشكر لله) فيأتي الجواب من الطلاب باعادة نفس العبارة ، وفعلا كنا نشكر الله ويبدأ الطلاب بالتسابق في الكلام.

- بعد الغداء كانت تبدأ فرصتنا الثانية لمدة نصف ساعة ، حيث كُنا نشغل نفسنا بلعب الورق ، والدومنة والطاولة وقراءة مغامرات تانتان ، وفي كثير من الاحيان كنا نلعب كرة الطائرة. بعد هذا ، واستجابة لنداء الناقوس نصعد رتلاً الى غرفة الدرس الجماعية ، اِمّا للقيام بالواجبات المطلوبة أو حضور دروس اخرى مقررة في الجدول اليومي .

- في الساعة الرابعة كان موعد العصرونية التي كنا نسميها (الـﮔوتيه Goûter ) وهي عبارة عن نصف قرصة خبز لكل شخص ، وهي بقايا خبز الصباح . كنا نأكل نصف القرصة هذه بنهم لاننا كنّا نشعر بالجوع فعلا ، لان دراستنا كان جدية ومتعبة ، ولانه طيلة هذه الفترة من الدروس لا يُضاف شئ الى رصيد معدتنا . بعد العصرونية كان الصعود الثالث الى قاعة الدرس الجماعية حيث التحضير لليوم الثاني .

- في السادسة كان موعد تلاوة الوردية وبعدها يأتي موعد العشاء الذي يتم دائما بالصمت ومواصلة قراءة كتاب الظهر.
عند بدء العشاء ، كان يتوجه احد الصغار الى الاب المدير حاملا بيده شيئا يسمى سينيال بالفرنسية Signal ّ ومعناه الاشارة او العلامة . يقرّ هذا التلميذ الصغير امام المدير بانه خالف القانون لانه تكلم بلغة غير الفرنسية ، فيفرض عليه الاب المدير عقابا يقضي عادة بحرمانه من الحلويات او الفاكهة التي كانت تقدم بعد العشاء ، وكانت في اغلب الاحيان ، تمرا او عنبا يابسا في الشتاء ، وعنبا او قطعة رقي او رأس خسّ في الصيف . كانت تطبّق عملية العقاب هذه تشجيعاً للتلاميذ الصغار وحملهم على التكلم بالفرنسية وتعلمها بسرعة .

- بعد فرصة العشاء الاخيرة ، يحين موعد آخر صلاة ليلية في الكنيسة ، ومن ثَمّ نتوجه بصمت الى قاعة النوم الجماعية ، حيث يغتسل كل واحد على هواه دون التزام ، وينام الجميع بعد نقر خفيف للناقوس ، فيأتي الاب المسؤول ليقول باللغة اللاتينية (ئين مانوس تواس دومينى In manus tuas Domineـ بين يديك يارب ) فيجيبه الجميع (كوميندو سبيريتوم ميئوم Commindo spiritum meumـ استودع روحي) . وهكذا ينتهي النهار في الساعة الثامنة والنصف .

- لكي يكون البرنامج كاملا ، يجب ان اذكر بانه في بداية كل سنة وعند العودة من العطلة الصيفية ، كان هناك رياضة روحية صامتة لمدة ثلاثة ايام لقسم الصغار وسبعة ايام للكبار، اعني طلاب الفلسفة واللاهوت.

- في كل اول اربعاء من الشهر كان لنا ساعة تأمل في الموت ، وهذا كان يجري في فترة بعد الظهر بعد الغذاء مباشرة. كان وقتا صعبا جدا لكون الدورة الدموية منشغلة في تلك الفترة بعملية الهضم وبعيدة عن التفكير في الموت .

- كان يحمل كل تلميذ رقما يرافقه طيلة حياته في المعهد ، رقم هو بمثابة هوية له لانه يوضع على كافة حوائجه ، كما كان له اسم بلغة المورس ، يناديه به المدير من غرفته عِبر ذبذبات جرس كهربائي ، (رنات طويلة وقصيرة) ، كأن يكون احد الاسماء مثلا : تا – تِت -تِت .

- كان هناك نزهة للطلاب خارج المعهد كلّ يومي الخميس والاحد بعد الظهر ، يتمّ الخروج هنا ايضا على شكل رتل عسكري ، برفقة أحد الاباء. في كثير من الاحيان يتعرّض الطلاب لاهانات الاطفال والمراهقين في الشارع . كانوا يلاحقون مسيرة الطلاب هاتفين دون توقف :/ هذا القس ما ينمسّ ، يزرع بصل يطلع خسّ /. لا اعلم لماذا استمر الاطفال يلاحقوننا بهذا الهتاف لسنوات عديدة ، بالرغم من اني لم اسمع يوما بكاهن قام بزرع البصل ليجني خسّا ، وحتى اذا كان الامر كذلك ، فكان يكفي ترديده لسنة واحدة مثلا كي يكفّ الكهنة المعنيون عن زراعة البصل أو ينصرفوا الى زراعة الخس في محاولة مستميتة للحصول على البصل !!!. هذه الحالة التي تطورت في سنوات لاحقة الى قذف حجارة واشياء اخرى لا سبيل لذكرها ، ارغمت ادارة المعهد لاخراج التلاميذ بالباصات .


في النهاية ، لا بدّ من ذكر موضوع مهم جدا :


هذا النهار الكامل داخل جدران السمنير ، والذي تكرّرَ طيلة هذه السنوات ، كان خاليا تماما من أيّ نوع من التدفئة . لم نعرف التدفئة حتي ايامَ كانت درجة الحرارة تنخفض كثيراً تحت الصفر في الموصل . اغلبية التلاميذ ، كانت تُصاب اصابيع أياديهم وأقدامهم بالقرافيص ، وهي حالة تجعل اصابع اليدين والرجلين شبه مشوية من البرد القارس ، والعذاب كان في الليل عندما تتسرب الحرارة الى الاصابع ويبدأ عذاب الحكّ غير المُجدي .



كما يجب ان اذكر بان زيّ قسم الصغار الشتوي كان يقتصر على بنطلون قصير ، او ما يسمى الان بالشورت مع قميص شتوي ، وان نزع المعطف في أوقات الفرص كان الزاميا . أما البنطلون العادي والقمصلة فكانا من نصيب أيام الاحاد والاعياد .


كان نظام العيش في معهد مار يوحنا الحبيب يضاهي حياة رهبانية خاصة او فترة تدريب عسكري قاس لا يجامل في طريقة انضباطه ، نظام شديد وصارم ، ولكنه كما قلت ، ساهم في تقديم تعليم عاليَ المستوى لمن اكملوا المشوار ، أوحتى بالنسبة لمن امضوا سنوات قليلة تحت ضلّه ، لقد اكسبهم آفاقا واسعة، واسلوب تفكير وطريقة عيش ترافقهم ،دون ادنى شك ، طيلة حياتهم.

 


179


التعصب كما يَراهُ فولتير


شمعون كوسا


يُعَرّف التعصب بغيرة عمياء ومتصلبة لعقيدة أو رأي ما .
هناك من تنتابه حالات انخطاف أو رُؤى ، او يَعتبر الاحلام حقائق ويضع التخيلاتِ مقام النبؤات ، فهذا ليس غير انسان متحمس أو مسكون بالحماس . ولكن من يسند جنونه هذا بالقتل ، فهو متعصب متزمت .

فالشخص الذي كان يُقال عنه ، في نورمبرغ ، بانه مقتنع أن البابا هو المسيح الدجال ، الذي يُرمََز اليه في كتاب رؤيا يوحنا بصورة حيوان ، هذا لم يكن سوى انسان مسكون بفورة حماس ، اما أخوه الذي كان يقطن روما ، والذي قدِم خصيصا لقتل أخيه المتحمس ، وقام فعلا بقتله وهو مؤمن بقدسية عمله وبان عمله يمجد الله ، فهذا يُعتبر من بين اشنع المتعصبين الذين اوجدتهم الخرافة والجهل والانحراف الديني .

من بين الامثال الفظيعة للتعصب الديني ، نذكر ما قام به بُرجوازيّو باريس سنة  1572  لدى قتلهم ثلاثة آلاف شخصا من مواطنيهم ، بسبب خلافات عقائدية . لقد ارتكبوا مجزرة سان بيرتوليمي الشنيعة ، فذبحوا الناس وقطعوهم اربا اربا ورموهم من الشبابيك .

هناك نوع آخر من المتعصبين ، وهم المتعصبون الذين يقومون باعمالهم بهدوء ودم بارد . انهم الحكام الذين يصدرون حكما بالموت على من لم يقترفوا ذنبا سوى التفكير بصورة مغايرة لهم . هؤلاء المتعصبون مذنبون ويستحقون مقت الجنس البشري ولعنته ، لانهم يتخذون حكمهم هذا بدم بارد ، اي لهم فرصة الاصغاء لصوت عقلهم ، اعني انهم عند اتخاذ قرارهم ليسوا تحت وطأة الغضب أو في حالة هيجان .

عندما يبلغ التعصب درجة المساس بعقل الانسان ، يتحول الى مرض لا يرجى منه الشفاء . لقد رأيت المختلجين (المتشنجون دينيا) ، عند حديثهم عن اعمال قديس معين أوعن اعاجيبه ، يهيجون قليلا فقليلا وتتّقد عيونهم وتعتريهم الرجفة ويرتسم الغضب على وجوههم بحيث يصبحون مستعدين لقتل كلّ من يعارضهم في الكلام .

ليس من علاج لهذا الوباء الا مقابلته بروح فلسفية حكيمة تتسلّلُ بهدوء داخل جيوب النفس لتخفيف حدة تصرفها  ووقايتها من سورة الغضب ونوبة الشر . عند الاحساس بتطورهذا الشر ، لا سبيل لمعالجته على الفور ، يجب توخّي الحذر منه والابتعاد عنه ، بانتظار هدوء العاصفة وعودة الجو الى شئ من الصفاء .
 .
والديانة في هذه الحالات ، عوضا عن ان تكون غذاءً صحيا ، تنقلب سُمّا لدى أصحاب العقول الملوثة . لان هؤلاء لا تحضرهم من الديانة والكتب المقدسة غير مشاهد القتل والذبح ، مشاهد كان لها ظروفها في حينه ، ولكنها بشعة في زماننا . انهم يستقون اندفاعهم الجنوني من نفس الديانة التي تدين اعمالهم .

حتى القوانين نفسها عاجزة حيال نوبات هيجانهم ، فهي كقرار حُكم يُتلى على مسامع شخص مسعور . هؤلاء الناس مقتنعون بانّ روحا مقدسة تسكن فيهم وهي فوق القوانين وبان اندفاعهم وحماسهم يمثلان القانون الوحيد الذي يجب الاصغاء اليه والانصياع له .
ماذا تقول عن انسان يصرّح علنا بانه لا يطيع البشر ولا يعترف بغير أوامر الله ، ويعتقد جازما بانه عن طريق ذبح جاره يفوز بالحياة الابدية .

فالاشرار والمحتالون هم الذين يقودون عادة هؤلاء الهائجين ويضعون الخنجر بين ايديهم، وهم بفعلهم هذا ، يشبهون (عجوز الجبال) الذي يُروى عنه بانه كان يقوم باذاقة افراح الجنة لبعض الحمقى والمعتوهين ، ويَعِدُهم باستمرارية هذه الملذات التي تذوّقوا طعمها ، شرط ان يذهبوا لقتل اشخاص معينين يرشدهم اليهم .

أغلبُ الاديان قد تعكّرت بهذا التعصب .  في علاج هذه الآفات ، يجب الاحتكام الى فلسفة او طريقة تتبنى شريعة الهدوء التام وبرودة الاعصاب ، فالهدوء هو كالثلج او الماء البارد الذي يسكب على النار .

يجب ان نقول ، اذا كانت الديانة قد تشوّهت احيانا بهذا الجنون الجهنمي ، فانه يجب توجيه اللوم الى جنون الانسان وليس للديانة .

وختاما لهذا الحديث نقول نحن : اِنّ المسيحية قد احتاجت الى عدة قرون لتتخلص من متعصبيها وهيجانهم ،  فهل يا ترى يحتاج اُصوليّو هذا الزمان ومتطرفوه ، الذين يزرعون الموت والدمار بصورة عشوائية في كل مكان لكي يفرضوا ما يسمّى حكم الله ، هل يحتاج هؤلاء لنفس المدة الطويلة لكي يركنوا ويتوصلوا الى الحقيقة البديهية : بانّ الله خلق الانسان حرّاً كي يعيش ويسعد ، وانّ الله يعرف بان خليقته هذه ضعيفة قد تخطئ احيانا ، ولكنه هو وحده المسؤول عن حياتها  ، وانه لا يحتاج الى مهووسين للدفاع عنه عِبرَ قتل خليقته التي صنعها على صورته ومثاله  لانه احبّها.


180
الخوري حنا يوسف بابكا


شمعون كوسا

كنت اخشى ان اكتب عن الخوري حنّا ، الذي كان يطلق عليه الناس اسم (قاشه حنا) ، لانه كان كبيراً وانا كنت صغيراً آنذاك ، ولكني كلّما كنت اعيد النظر بقائمة شخصيات شقلاوة الذين كتبت عنهم ، كانت تبرز امامي صورة قاشه حنا ، وهذا طبيعي جدا لانه لم يكن شخصا عاديا او بسيطا ، بل كان شخصية قوية فرضت نفسها في زمانها . كانت خشيتي تُعزى الى معرفتي الضئيلة به والتي لم تتعدَّ فترة صباي ، اذا انه توفّي سنة 1963 بعد ان عاش ثلاث وثمانين سنة . خشيتي كانت من معلوماتي القليلة عن شخص كان ذا شأن في ظروف اجتماعية لم تكن بالهيّنة أبداً .

ذِكرياتي عنه اذن هي بعض ما تبقّى من صور وخيالات الصِبا ، مع ذكريات سنواتي الاولى من معهد ما يوحنا الحبيب . وبما اني لم ادّعي يوما باني اكتب صفحاتِ من التاريخ  ولا أبحث عن شعيرات الاحداث وتواريخها الدقيقة ، سأتحدث عن ذكرياتي الهزيلة جدا ، ولكي يكون للمقال بعضُ الحجم ، أستعينُ ببضعة أسطرِ مما ذكره عنه الشماس ميخائيل في كتابه (تاريخ شقلاوا) .

منذ صغره ، عاشر حنّا  الكهنةَ وتعلم على أيديهم مبادئ الديانة واللغة الكلدانية ، واقتبل درجة القارئ (قارويه) على يد المطران أداي شير وهو في سن الخامسة والعشرين .
اختير كاهنا من قِبل جماعة شقلاوة . وكان النداء الذي وجّهه المطران اسطيفان جبري ، مطران كركوك ، لاهالي شقلاوة بهذا الشأن ، يقضي باختيار شمّاسَين يمكن تهيئتهما لدرجة الكهنوت وتعليمهما الواجبات الكهنوتية وايلاجهما في الطبقات الاولى من بحور اللاهوت . فوقع الاختيار على شماسَين هما حنا يوسف ، وجبرائيل القس بطرس ، وجبرائيل كان سبق  وأن امضي بعض سنوات لدى الاباء الدومينيكان .

انا شخصياً ،  لا اتذكر في صباي كاهنا غير قاشه حنا في شقلاوة . وذكريات صباي المبكّرة عنه تقتصر على حضور قداديسه في كنيسة شقلاوة الشتوية الشامخة على تل قاشه شمون ، المشرف على جانبي القرية على سفح جبل سفين ، وايضا في كنيسة شقلاوة الصيفية .

 أتذكر في بعض ايام الآحاد والاعياد الكبيرة في الشتاء ، ايامَ  كانت الاضاءة لا تنتقل بواسطة اسلاك كهربائية، ولكنها تتولد بواسطة عود ثقاب يقدح الشرارة الاولى فينقلها الى اقرب شمعة تتقاسم شعلتها مع الشموع الاحرى والقناديل الزيتية . اتذكره عندما كان يقوم بقراءة الانجيل . كانَ يَلحَظ عليه الناس صوتا يرتجّ احيانا ووجنة تنهمر عليها بهدوء بعض دموع ساخنة لا يقوى على اخفائها. سمعتُ بعضهم يقول بانه ، لدى قِراءَتِه بعض الاناجيل الحزينة ، كالالام او النصوص الخاصة بالمرضى والمنكوبين وما اكثرها في الاناجيل ، كان يتذكر بعض جروح في داخله كانت تغذّيها  الظروف القاسية التي كان يعيشها ابنه البكر القابع في غياهب سجن بعيد جدا ، فُرِض عليه مسكنا لعشر سنوات ، لأنه تجرّأ أن يسمّي الظلم ظلما وافصح بصوت عال عما كان يفكر به غيره  سرّا وبخوف وخفاء .

كانت له نبرته الخاصة في قراءة الانجيل ، وكان صوته رفيعا خافتا ، فيه مسحة من الحنوّ والحنان . أما صوته خارج القداس كان غيره  في الحياة اليومية العادية ، فقد كان يستخدم صوتا عاليا ، يأمر وينهى ويؤنب ، لانه كان بفطرته قوي الشخصية . 

اتذكر ايضا في سنواتي الاولى من معهد مار يوحنا الحبيب ، أعني بين 1957 و 1959 ، التقيتُ به وقمت بزيارته  في بيته في منطقة البساتين وكنت لم اتجاوز الثانية عشرة من عمري . كان يحدّثني بهدوء وابتسامة جميلة . ولا يبخل عليّ بنصائحه التي كانت ثمرة خبرته الطويلة في منطقة محفوفة بالخوف والمخاطر . كنت ارى فيه الشخص الحكيم الذي علمته الحياة فنّ الدبلوماسية ، وعندما اتكلم عن الدبلوماسية لا اقصد بها كيفية التصرف مع اهالي شقلاوة ، ولكن اسلوب مسايرة حكّام المنطقة ورؤساء عشائرها الذين لم تكن تكلّ مخيلتهم من اختلاق شتى الذرائع وتلفيق انواع الحجج للاعتداء على الناس وابتزازهم في اموالهم وماشيتهم وحتى المساس بمقدّساتهم .

لقد خدمتُ بعض قداديسه في كنيسة شقلاوة الصيفية او الكنيسة السفرية ، كنيسة كانت عبارة عن ثلاثة حيطان يتوسطها مذبح بسيط . اتذكره وهو يتمتم الصلوات عند ارتدائه حلة القداس ، كان يتمتم صلاة خاصة لكل قطعة يرتديها ، فللثوب الابيض الطويل صلاة  ، وللهرّار صلاة ، وللزنّار صلاة ، ولغطاء الرأس صلاة وهكذا .
كنت اراه وهو يؤدي فروضه الكنسية الشخصية والعامة . كان يصلي صلاة الصباح (الصبرا) ويؤدي صلاة العصر (الرمشا) مع الجماعة ، ولا ينسى فرض المساء ولا ايام الانقطاع او مواسم الصوم المختلفة ، وليس كما يفعل نفر من الجيل الجديد للكهنة ، حيث لا يرون حاجة في القيام بكل هذه الواجبات والصلوات ، ولا يقيمون القداس الا في ايام الآحاد او عند الحاجة ، وبعض منهم ينهض في الساعة الحادية عشرة صباحا والبعض الاخر لا يقيم وزنا لبعض ازمنة الصيام التي لا زال عامة الناس يحافظون عليها بكل خشوع واحترام . واني اقول هذا لاني سمعت مؤخرا عن كاهن حلّ ضيفا على عائلة فقيرة ، قدّمت له ، عند نهوضه وقت الظهر ، طعاما رفضَ ان يتناوله لانه كان طعام الصّوم ، فاضطّر اهلُ البيت الصائمون لتهيئة طعام خاص للكاهن  غير الصائم .  تُرى هل فكر الضّيف بانه اصبح حجر عثرة أو زرع الشك داخل نفوس هؤلاء المؤمنين ؟ لا اعتقد ، لانه كان قد منح اجازة لكل ما من شأنه ازعاجه في فترة استجمامه . ولا حاجة لِي ، بعد هذا ، ان اصف لكم خيبة  اهل الدار وحيرتهم  !!!!!

من نصائح مام قاشه حنا التي سوف لن انساها ، وذكرياتي عنها  ترقى الى اكثر من خمسين سنة ، هي نصيحته في كرسي الاعتراف . بعد ذكر الخطايا الروتينية، كان يقدّم الكاهن بعض النُصح للمعترف . كان يقول لي مام قاشه حنا : ان مَثَل الخطيئة واهمالها هي كمَثَل السياج الذي تحدث فيه فتحة صغيرة ولم تُعالج . فبدأت تمرّ من خلالها الفأرة ، ثم القطة ، ثم الكلب ، الى ان كبرت وكبرت فاصبحت معبرا سهلا  للثور والحمار والحيوانات الكبيرة ، كانت كلمات ذات مغزى كبير.

قبل انتهي ، يجب ان اذكر سطرا آخر مما ذكره عنه كتاب (تاريخ شقلاوا) ، وهو انه اهتم باستنساخ (أي الكتابة خطيا) بعض الرسائل الكنسية المهمة ، وقام ايضا بجمع معلومات عن رؤساء الاكراد ، وكتب عن عوائل شقلاوة وكهنتها .

ان الخوري حنا رجل عظيم . هذا بعض ما عرفته عنه واني أكتبه بكل فخر وحب وحماس . لو كانت لوحتي لهذه المرّة هرما ،  فاني اضعه عاليا على رأس الهرم .



181
المنبر الحر / عن الثرثار التافه
« في: 16:09 01/10/2009  »
عن الثرثار التافه


شمعون كوسا

هو الشخص الذي يتصف برغبة غير قابلة للاشباع في الكلام ولكن دون تفكير.


هذا النوع من الرجال ، وجد نفسه يوما بجانب شخص ، لا يعرفه اصلاً ولم يسبق له وان التقى به ، لم يتردد في فتح حديث طويل معه. فبدأ مثلا بالتكلم عن زوجته ممتدحاً خصائلها ، وعن حماته مركّزاً على رذائلها، وانتقل حالا الى الحديث عن حلم كان قد رآه قبل ثلاثة ايام ، حيث وجد نفسه على ظهر حصان بين ايدي عصابة وضعت كمامة على فمه ، وابقته على هذه الحال طوال الحلم .


ودون ان يفسح مجالاً حتي لوضع فاصلة بين جُمَلِه ، تناول موضوع وليمة دُعِي اليها قبل يومين ، واسترسل في وصف الاصناف التي تناولها والتي لم يستطب مذاقها ، لا يعرف لماذا !!


تنفس صاحبنا قليلا ، ودون ان ينظر الى جليسه المباشر ، خاض في كلام عن السياسة والاوضاع السائدة وذهب جازماً بان رجال هذا العصر لا يساوون شيئا وان الخيّر َ بينهم لا يصل الى ظفر ألاباء والاجداد .


بعد ان لاحظ صاحبُنا الثرثار بان جاره بقي على حاله و لم يرفع رأسه طوال حديثه ، ارتأى ان يتوقف قليلا ، غير أنّ سكوته لم يَدُم أكثر من ربع دقيقة خوفا من ان يصاب لسانه بالكسل ، فتناول اول موضوع مُدرج على جدول اعمال لسانه ، وتحدّث عن السوق وتطور الاسعار وغلاء الخضراوات وشحة الحنطة وهبوط نوعية الفاكهة ، وانتقل بعد هذا مباشرة الى موضوع ازدياد عدد الاغراب في البلد ، وعندما اجال بعينيه صوب البحر، خاض لسانه ، ومن دون علمه ، في موضوع البحار وظاهرة انخفاضها ، وبما ان الشئ بالشئ يذكر، وهو غائص وسط المياه ، عرّج علىموضوع تناقص الامطار الذي من شأنه التاثير على انخفاض مستوى المزروعات ، وانتهى بالقول وهو لا زال مبلّلاً ، بأنه سوف لن يقوم بحراثة حقله لهذه السنة !!!


وبما ان صاحبنا كان مجرّد ثرثار ولكنه تافه ، بدأ يتكلم عن بعضِ من يعرفهم ، فتحدث بكلام كله لغو وهراء ، فكان يردّد عن هؤلاء اول جملة تخطر بباله ، والحق يقال كان في كلامه عن الاخرين لا ينزلق الى النميمة. فقال مثلا عن ابن الخباز بانه فاز في هذه السنة في سباق تسلق الاشجار !!!، وبعد ذلك ذكر اسم فتاة تزور ابنته في البيت وقال عنها بانها لا زالت تنتعل نفس الحذاء منذ شهرين !!!. وبعد ذلك التفت الى جاره الذي لم ينبس حتى ذلك الوقت ببنت شفة ، وسأله عن عدد الاعمدة التي يستند عليها الجسر الجديد ، ودون انتظار جوابه ، سأله عن التاريخ الذي سيصادف الرابع من الشهر القادم !!!


وعاد ثرثارنا الى الحديث عن نفسه فقال ، بانه يحسّ اليوم بوجع رأس لم يتعرض له قبل الان ، (ولم يخطر بباله ابدا بانّ الوجع ناجم وبكل تأكيد من ثرثرته) .


ولمّا رأى بان جاره لم يوقفه ولو مرّة واحدة للتدخل أوالحديث ، استنتج بانه انسان عاقل يتحلى بصبر طويل ، لانه فعلا لم يصادف يوما وان صبر عليه أحدُ بهذه الصورة . فالتفت اليه وقال ، وكأنه يكشف له سرّاً ، بان عيد الميلاد في هذه السنة سيقع في نهاية شهر كانون الاول ولكنه لم يتوصل لحدّ الان الى معرفة التاريخ بالضبط . وبما انه ، في حديثه عن كانون الاول كان قريبا من موسم البرد ، انتهز الفرصة كي يضيف بان البوادر كلها تشير بان فصل الشتاء سيكون قاسيا وبانه لا بدّ من اتخاذ ما يقينا من شدّة برد الثلوج والامطار.


بعد ان افرغ صاحبُنا التافه بعضَ ما ثرثر به لسانه ، التفت من جديد الى جاره الذي لم يُبدِِ أيّ تجاوب ولم يَلح عليه ايّ ردّ فعل طِوال الحديث ، فسأله عن اسمه ، فلم يُجِبه الجار. فهزّه من كتفه معيدا عليه نفس السؤال قائلا : ارجو ان لا اكون قد ازعجتك ، فابتسم الجار واشار الى اذنيه ولسانه لكي يفهمه بانه أصم ّ وأبكم .


عند هذا ، اُصيب صاحبنا الثرثار الفضّ بخيبة امل كبرى واحسّ بان، كل ما ثرثر به ذهب هباءً ، فاخذ يلتقط الحروف والكلمات التي تناثرت من فمه كي يصوغها في حديث اكثر تفاهة يستودعه عنوة آذان ضحية اخرى ، ولو انه لم يكن بحاجة لالتقاط اية كلمة من شريطه ، فهومنبع لا ينضب للكلام الفارغ .


فترك مكانه وانتقل الى شخص آخر ، وقبل ان يعطي اِيعازا الى لسانه بالانطلاق ، تأكّدَ أولاً بان جليسه الجديد لا يشكو من نقص في اذنيه أو لسانه ، فبدأ بنفس ثرثرته وسلسلة ترهاته ، فاستغرب جاره الجديد من كلامه غير المترابط ، ودون أن يقول شيئا ترك مكانه حالا وانصرف ولكن ليس قبل ان ينظر اليه وهو يشير الى رأسه وكأنه يقول له : هل انت مجنون ؟


مع هؤلاء الثرثارين الذين يتكلمون كثيراً كي لا يقولوا شيئا ، والذين ينتقلون في حديثهم من الديك الى الحمار ، كما يقول المثل الفرنسي aller de coq à l'âne، لا سبيل مع هؤلاء الاّ الهرب من اول جملة ينطقون بها لتجنب وجع رأس قد يؤدي الى صداع مزمن . لا يجب الرّفق بهم أو الاستحياء منهم ، لانهم عديمو الشعور ولا يميزون بين ما يجب وما لا يجب ، فجميع المناسبات وكافة الاشخاص عندهم سواسية ، ولا فرق لديهم بين اوقات الفراغ واوقات العمل ، فكل مناسبة هي جيُدة لديهم وكل مستمع يصلح لسماع ثرثرتهم .


182
سفر رجال الدين الى الخارج


شمعون كوسا

لقد تطرقت بصورة عابرة ، في حديث سابق ، عن هذا الموضوع ولكني لكثرة ما رأيت وسمعت ، ساسمح لنفسي بتناول الموضوع بصورة أوفى . انا اعرف بان حديثي هذا سوف لن يسرّ الكثيرين من رجال الدين ، غير اني اعود  وأؤكد كالمعتاد  باني لا استهدف رجلا معينا ، ولستُ آتياً بقلم المهاجم او الناقد اللاذع ، لاني سأكون على قدر الامكان متسائلاً ، اعني سأستخدم صيغة الاستفهام .

ان سفر رجال الدين المُبالَغ به ظاهرة لاحظتُها ولاحظها غيري منذ زمن بعيد . يُسافر رجل الدين ، كاهنا كان ام اسقفا الى الخارج ، خلال فترات متباينة تتراوح بين  ستة اشهر، سنة او سنتين . فبمجرّد حلول موسم الصيف ، وبالتحديد عند المنتصف الثاني من شهر حزيران ، نراهم يخرجون افواجا متوجهين الى سفارات الدول الغربية . واني اتخيلهم وهم في طريقهم الى هذه السفارات يتبادلون بعض مثل هذه الاحاديث : اين تنوي الذهاب لهذ السنة ، ابونا او سيدنا ؟  فيجيبه  : تريد الحقيقة ، هذه السنة سوف اكتفي بفرنسا وايطاليا والمانيا وهولندا وقد اعرّج ايضا على السويد . فيعود ابونا اوسيدنا ليطرح بدوره  نفس السؤال على زميله ، فيأتيه الجواب : ساكرّس شهرَي اجازتي لهذه السنة ، لزيارة استراليا وامريكا وكندا فقط .

ان السفر الى الخارج بحدّ ذاته ليس خطأ او تجاوزا ، ولعلّ بعض السفرات مبررة ، ولكننا اذا وضعناها في السياق العام للاوضاع التي مرّ بها أهلونا  ولا زالوا يمرّون بها ، وأهلونا هم رعايا رجال الدين ، ارى شخصيا بان سفرهم المتكرر الى الخارج غير مناسب اطلاقا . كيف يستطيع ، او بالاحرى كيف يرتاح مسؤول الرعية في ابتعاده عن رعيته بحثا عن الاستجمام في الخارج لشهر او لشهرين ، بينما افراد رعيته يعانون الامرّين من شظف العيش والاضطهاد ؟ يعمل هؤلاء الرعايا ليل نهار ودون توقف ، لكسب لقمة عيش تسدّ رمق أفراد عوائلهم ولتأمين مبلغ كاف لدفع بدلات ايجارهم التي اخذت معدلاتها بالارتفاع  يوما بعد يوم .
أوليس النازحون من المدن والقرى المختلفة مسيحيين كغيرهم ، ويحتاجون الى كافة انواع الرعاية ؟ أوليس الكاهن مثلا أوّلََ مسؤول تجدر به متابعة امورهم عن كثب ؟
هل لان عملية الحصول على التأشيرة سهلة لرجل الدين ، يجب ان يستغلها ولا يَدَعِ الفرصة تفوته ؟ وهؤلاء ، هؤلاء المساكين الذين، بالاضافة الى كدّهم الجسدي يجترّون همومهم في كل ساعة ، اليسوا أحوج للراحة ؟ الى اين يذهبون ؟ ما هي امكانياتهم ؟ واذا فرضنا توفرت لديهم الامكانيات ، اين تسهيلات خروجهم ؟

بهذا الخصوص اتذكر يوما في الاردن ، التقيتُ ووالدي ، وبمحض الصدفة ، مطراناً كان على وشك السفر . فبادره والدي بسؤال مباشر : سيدنا الا ترى بانكم تسافرون كثيرا في وقت يعاني فيه الناس ما يعانون من الحصار وعواقبه ؟ فاجابه المطران : ولماذا لا يسافر الناس ، هل يمنعهم احد من ذلك ؟ فاجابه والدي : ومن اين يأتون بالمال ومن يمنحهم التأشيرة ؟ فسكت المطران ولكنه رمق والدي بنظرة ازدراء حادة اتت من أقصى طرف عينه اليسرى ، فخفض والدي نظره خوفا ، ومن شدة خوفه نسي ان يهزّ راسه امتعاضاً مرة او مرتين على الاقل !!   اندهشتُ شخصيا لجرأة والدي ، ولكنه كان في تلك الفترة ، لا يتراجع عن قول الحقيقة ويقولها كما يراها هو .
اما بخصوص المطران ، فعبثاً سيحاول البعض معرفة هويته ، لانه قد قضى نحبه منذ سنوات عديدة .

هل يجب  ان نفهم بان رجال الدين هم من طبقة راقية ، طبقة النبلاء مثلا ، وهؤلاء المغلوبين على امرهِم   من طبقة الخدم حتى لا نقول طبقة اخرى ؟

لماذا يصرّ رجال الدين على  السفر الى الخارج ، هل واجباتهم الدينية تضنيهم الى هذا الحدّ ام ماذا ؟ ام اصبحت هذه شبه عادة لديهم او تقليدا يجب الالتزام به؟

بعض  منهم يبرر سفره فيقول  : على الاقل ساقدس بعض قداديس للعوائل المتواجدة في ذلك البلد الاوربي ، وكأنّ المتواجدين في هذه البلدان مقطوعون عن الكنائس والقداديس ، أم انّ الكلدانية هي اقرب الى الله ؟!! مع كل احترامي للقداس الكلداني الذي احبّه ، اقول بان الناس قد اعتادوا على حضور القداديس في كنائس كاثوليكية من الطقس اللاتيني ، وهو طقس يتبعه البابا نفسه ، وان صلوات القداديس تُتلى بلغة البلد والمسيحي المهاجر قد تعلم تلك اللغة واعتاد على القداس .
اما عن الكلدانية فاني اتذكر مرة شخصا قال لي : هل تعرف مقدار حبّي لصلاة الشماس في القداس عندما يرتل صلاة (كُلاّن بذحلثاويق)  ، فقلت له ان الصلاة هي (كلان بذحلثا ويقارا) وليس  (كُلاّن بذحلثاويق)  ، ولكن هل تفقه معناها ؟ قال لي كلاّ .
فالذي اعتاد على القداس الكلداني ، يفتش عن اللحن والنبرة وبصورة رئيسية الصوت الجميل ، دون الانتباه الى المعنى .

يحدث احيانا أن يكون الناس قد حضروا قداس الاحد في الصباح ، ولكنهم يتبلّغون من قبل  احد الاخوان بان رجل الدين الفلاني سوف يقدس بالكلدانية بعد ظهر نفس اليوم لانه على عجل من امره ، فالكثير منهم يضطرون لتلبية الدعوة  بالرغم من سماعهم القداس .
 وهؤلاء المصطافون الذين هم على عجل من امرهم ، لهم اشخاصا معتمدين في البلدان التي يزورونها بانتظام ، يهيأون لهم مسبقا كافة  مواعيد زياراتهم وقداديسهم ودعواتهم ، فياتيهم كل شئ على طبق جاهز ، ناهيك عن اجور القداديس التي تُدفع بكرم فائض ،  بالاضافة الى التبرعات الضرورية لتغطية نفقات سفر رجل الدين !!!

بات بعضُ رجال الدين يؤمنون بأنّ السفر هو من ضمن واجباتهم . ولقد توصلتُ الى هذه النتيجة لاني كنت اعتقد بان بعض الكهنة المتزوجين أو الكهنة الجدد سوف يمتنعون عن هذه العادة ، لانهم قبل ان يصبحوا كهنة كانوا علمانيين عاديين ، يمارسون مهنة كغيرهم ويعيشون حياة عامة الناس ، وكنت اعتقد واثقا بانهم سيتعاطفون مع هؤلاء المغلوبين على امرهم ، ولكنهم ما ان رُسِِموا كهنة  حتى انتقلت  العدوى اليهم وبدأوا بالسفر الى الخارج اسوةً بزملائهم وكأنهم يؤدّون واجبا . اني اتساءل ، هل كان يفكر هؤلاء بالسفر الى الخارج لو لم يكونوا قد اصبحوا كهنة ؟  اعتقد بانهم نفسهم سيجيبون بِكلاّ.

اذا كانت السّنة الطقسية قد ارهقت رجل الدين الى حدّ صيّرته وكأنه خارج من فترة اشغال شاقة  ، هل هناك ما يمنع من ان يقضي اجازته في شمال العراق مثلاً ، فهي منطقة آمنة الآن ، تتوفر فيها مختلف وسائل الراحة ، فضلا عن عن انها تدعو الى الخلوة وراحة الاعصاب ، بعيدا عن صخب الحياة ، وبهذه الصورة سوف لن يبتعد رجل الدين عن رعيته التي يفترض انه يحرص عليها ويحبها . لعلّها فكرة مضحكة ولكنها تخطر ببال ايّ انسان يحتاج الى موضع يوفر له الراحة داخل بلده .

اني اتحدث كعلماني ، تدفعه غيرته على تعاليم المسيح . لستُ في وضع يتيح لي تذكير رجال الدين بالكمّ الكبير من الفقرات الطويلة من تعاليم المسيح التي ترسم صورة الراعي الصالح ، لانهم سوف يقولون : ومَن هذا الذي يعلمنا ما نحن مكلّفون بقوله وتفسيره ؟ ولكني لا استطيع الا ان اؤكد بان الراعي هو خادم رعيته ، ويسعى جاهدا في البحث عن اصغر خرافه . الراعي الصالح هو كالاب والام اللذين لا يسعدان الا بسعادة اولادهما ويضحيان لاجل راحتهم .
ومن ضمن كلام المسيح بهذا لخصوص ، اذكر ما ورد في انجيل يوحنا : (الراعي الصالح يضحي بحياته في سبيل الخراف ) ، وانجيل متى : ( جاء ابن الانسان لا ليخدمَه الناسُ ، بل ليخدِمَهم ) .

انا على يقين بان كل ما قلته هنا سيذهب هباءً ، لان العادة قد تأصلت ولا احد يجرأ على اثارتها مع رجال الدين ، فالمال متوفر والتأشيرات متيسرة ، فكيف السبيل الى التخلي عن هذه المغريات التي هي في متناول اليد ؟
اني لأتمثل بعض هؤلاء المتشبّثين بهذه الامتيازات والمكاسب ، بعد سماعهم فقرات مماثلة لكلام المسيح هذا ، اتمثلهم  بِالرجل الغنيّ الذي رجع حزينا الى البيت بعد ما قال له المسيح : بِع كلّ ما لديك واتبعني .

183
المنبر الحر / عن التعازي والمآتم
« في: 21:59 16/08/2009  »
عن التعازي والمآتم


شمعون كوسا

لقد خطر ببالي ان اكتب عن موضوع أعتبرُهُ شخصياً موضوعاً مهمّا جدا لتعلقه بنا جميعا ، لاننا كلنا لا بدّ لنا ان نموت يوما ، وكلنا لنا أموات من اقربائنا واصدقائنا ، وكلنا اقمنا ونقيم لهم مجالس تعازي .
اريد ان اتناول جوانب قد تبان حساسة لدى البعض ولكني اعود فاقول : حساسية هذا الموضوع تخص جميع الناس ، لانه لا مجال للافلات من القدر المحتوم الذي هو المسار الاجباري لكل من بدأ خطاه على درب الحياة .

من الطبيعي ان يحزن الانسان على فقدان أحد اعزائه ، وأن يأتي تعبيرُه ببكاء تلقائي قد يطول او يقصر ، يخف او يشتد ، يتوقف او يستمر تناسباً مع درجة القرابة او الدم ، مع عمر المتوفى او شخصيته . وطبيعي ايضا ان يُقام للمرحوم مجلسُ تعزية يَستقبِل فيه اهلُ الفقيد مواساةَ الناس . يستمر هذا المجلس في استقبال المعزين لثلاثة ايام ، وهذا ايضا أمرُ  لا يجرأ أحد المساس به ، لان المشاعر تكون في قمة جيشانها والنفوس لا تزال مكلومة ووطيس النار الداخلية تحتاج الى دموع ثلاثة ايام لتخفّ او تجفّ .

ملاحظتي الاولى موجّهة الى المآدب التي تُنصب خلال ايام العزاء وعن التفنّن في تنويع الاصناف وتوفير المأكولات الدسمة الشهيّة ، الى حدّ انه يخال لبعض الغرباء المعزين بانهم قد اخطأوا المكان ، لانهم عوضاً عن حضورهم مناسبة حزن ، يشارك فيها الجسم بشئ من التقشف والامساك ، يجدون نفسهم وسط دعوة فرح حقيقية تمتلئ فيها الموائد بكل ما لذّ وطاب من وجبات يسيل لها اللعاب .
ومن جهة اخرى اصبحت بعض هذه المآتم مناسبات يتبارى فيها المعنيّون ، للتفوّق على فلان وفلان ، واثارة غيرتهم بأكثار الاطعمة وتنويعها .
أنا اقول ، ليس من الضرورة اِطعام كافة المعزين ، واذا كان لا بد من القيام بهذا الواجب تجاه من قدموا من بعيد ، لماذا لا يكون ذلك بتقديم اطعمة بسيطة تّشبّع أكثر ممّا تشهّي .
ولماذا لا تخصص مبالغ مباراة التباهي والتنافس هذه ، القادمة احيانا من افخم المطاعم ، لتوزيعها على الفقراء ؟  قد يقول البعض بانه لم يعد هناك فقراء ،  لانه كما يظهر أنّ نسيم الرخاء قد هبّ على السواد الاعظم من الجماعة ، وعوضاً عن ان يملأ صدورهم بهواء عليل ، نفخ جيوبهم بما حُمِّل من اوراق متطايرة من المال . لماذا اذن والحالة هذه ، لا تعطى هذه المبالغ لمؤسسات خيرية او لبناء مدارس او حضانات او الف عمل خيري آخر؟

واذا اعتبرتُ باني قد استوفيتُ كلامي عن هذه النقطة الاولى ، بوسعي الانتقال الى موضوع اليوم السابع والاربعين . ما حاجتنا الى هذين التاريخين ، وهل يجب ان ننادي الناس وندعوهم للتجمع حولنا لكي يُشعِِرونا  باننا حزانى . اذا كنا حقا حزانى ، فلنحتفظ بذلك داخل انفسنا ، والا  فما  الذي يمنعنا من الاستمرار في تواريخ اخرى كاليوم الخامس والخمسين و اليوم السبعين او يو م المئة مثلا ، كلّها اعداد جميلة ومدورة .

ولكي احافظ على تسلسل مجريات الامور وتواريخها، انتقلُ الآن الى الذكرى السنوية أو يوم السنة. وكأننا ننتظر هذه المناسبة لكي نتحرّر من التزامنا ونرمي بثقلنا قائلين لمن فارقنا : لقد حملناك لمدة سنة كاملة ، فاننا نبرّئ ذمتنا حسب ما هو مطلوب من المجتمع . ولا حاجة لي ان اذكر شيئا لا يخفى على احد ، وهو ان السنة تُقطع عادة في الشهر الحادي عشر ، ولولا الخوف من التكرار لكنتُ قد قلتُ من جديد : ولماذا ليس الشهر العاشر او الخامس عشر مثلا ؟!!!!

وهنا وصلتُ الى الاهمّ ، وصلت الى نقطة  لم  ولن افهمها ابدا وبودّي مقاومتها ، الا وهي اقامة العزاء في العيدَين الأولين خلال السنة . يجب ان تتجدّد المآتم في عيد ميلاد المسيح وعيد قيامة المسيح . نكون قد نسينا المرحوم بعض الاحيان ، ونكون قد شاركنا جسماً وروحاً في مناسبات فرح ، في الشرب واللهو وحتى الرقص ، ولكن التقاليد توصي بانه عند دنوّ هذين العيدين اللذين يُعتبران مناسبتا فرح للبشرية جمعاء ، يجب ان ندعوَ افراد العائلة ونُملي عليهم التعليمات التالية : لا تقبلوا التهاني من احد لاننا في حداد ، يجب ارتداء الاسود والبكاء لاننا ملزمون بقلب فرح الناس في العيد غمّا وسعادتهم شقاءً . وهكذا نكون قد قمنا بآخر الواجبات نحو فقيدنا ، وكأنّ الفقيد بقي منتظرا هذه الجماهير الداخلة والخارجة وهي تتمتم بعض صلوات، اذا كان هناك صلوات ،او بعض عبارات مواساة لم يعودوا ينتبهوا الى معانيها .

حتماً سيقول قائل بان هذه عاداتنا وتقاليدنا ، واجيبه أنا بانه محقّ في ذلك ، ولكني سأضيف باننا الان في عصر يتطور بسرعة البرق . يجب ان نطوِّر عاداتِنا بعض الشئ ولكن ليس بسرعة البرق . يجب ان نعطي معنىً لكل حركاتنا وسكناتنا . ان التعبير عن المشاعر الحقيقية وليس الالزامية ، لا يأتي بتكثير المناسبات او ايام البكاء والحداد . المشاعر الحقيقة تسكن داخل القلوب وتعيش بخفاء .  لا ادعو هنا لتقليد الاجانب الذين يكتفون بكلمة مواساة عند القبر ، تأتيهم ممّن شاركوهم مراسيم التشييع في المقبرة . ولكني اقول  فليكن حدادنا الرسمي ثلاثة ايام فقط ، وهي مدة كافية .
 لقد لاحظتُ شخصيا بان التعب يكون قد اخذ مأخذه من كافة المعزين ، والكلّ ينتظر نهاية المجلس بما فيهم أهل الفقيد . لقد سمعنا البعض يقولون في اليوم الاول وامام الحاضرين بانهم سيبقون في حالة حزنهم وبكائهم لعشر سنوات مقبلة ، ولكنك تراهم بعد مرور شهر واحد فقط قد نسوا هذا الكلام وهذا الوعد ، وهذا ايضا امر طبيعي ، لانه لولا النسيان لما استمر الناس في العيش ، فالنسيان هنا نعمة من الله .

وبما اني قد تناولت هذه المواضيع ، يجب ان انتهي بنقطة عقائدية اثيرها من باب المنطق . ان فراق الاعزة مرّ وفقدان أيّ قريب او صديق يترك آثاره ويؤدي الى التأثر والبكاء . وارجو ان لا تملوا اذا قلت مرة اخرى بان هذا طبيعي ، ولكني ساضيف قائلا باننا لا يجب ان نسترسل في حالة القنوط هذه،  لسبب بسيط ووجيه جدا  وهو : اذا كنا حقا مؤمنين ، يُفترض بنا ان نعرف بان فقيدنا قد فارق هذه الحياة الى حياة السعادة الابدية ، قد ذهب الى حيث أعزاؤنا الذين سبقوه من : جدّ وجدة ، وأب وأم ، وأخ وأخت ، او عمّ وعمة ، خال وخالة …الخ . هل يحزن الانسان لان فقيده سيلتقي بهؤلاء في السماء ؟ والنقطة المهمة التي ستدعونا هنا للتفكير هي التساؤل التالي :   هل اننا نعني ما نقول عندما نرسل برقيات التعزية ونوجه كلمات المواساة كأنّ نقول مثلا : اسكنه الله فسيح جناته ، رحمه الله ، واعطاه الراحة الابدية ، غفر الله ذنوبه واسكنه الملكوت ؟ هل هذا كلام ذو معنى ام انه مجرد شعر وخيال وكلمات مجاملة نُظّمت لهذه المناسبات كبعض العبارات السياسية التى لا تعني شيئا والتي يطلق عليها الفرنسيون (لغة الخشب) .
ذكرتُ هذه النقطة لاننا في هذا الموضوع بالذات نتصرف احيانا كمن لا رجاء لهم . وهنا انتقد نفسي اولا : فامّا نحن مؤمنون وهذه عقيدتنا ، أو كل ما نتفوّه به بهذا الخصوص كلام يتناثر في الهواء ، عند ذلك يكون من حقنا الشروع بعويل لا نهاية له ، وضرب رأسنا في كل الاتجهات ، وكسر وتحطيم كل ما يقع تحت ايدينا ، لان فقيدنا قد فقدناه الى الابد دون اي امل او رجاء .

استميحكم عذرا ، انها مجرد خواطر ومقترحات شخصية اعرضها للتفكير . ان تغيير الامور لا يحتاج الى اكثر من ارادة أوّلِ البادئين ، لانه سيعقبه ثان وثالث  لِيساهموا في وضع اساس عادات جديدة .  ولا اكون متجاوزا حدودي لو قلت بان شرح هذه الامور من صلب واجب رجال الدين قبل ان يكون واجبنا ، لانهم هم المكلفون مبدئيا باصطحاب نفوس الاموات ومرافقتها ، عبر صلواتهم، الى مثواها الاخير .
وبخصوص المثوى الاخير ، اريد ان اوضح من الناحية الدينية وللمعلومات فقط  ، بأنّ الصلوات والقداديس المقامة للاموات ، لا تفيد الاّ النفوس المتوطنة في المطهر (وهذه عقيدة  كاثوليكية)،  لتقصير مدة انتظارها قبل التوجه الى السماء ، لان من كان مصيره الجنة لا يحتاج الى توسط او دعاء لانه نجح في الامتحان ، والذي حُكِم عليه بنار جهنم فسقوطه قطعي لايقبل النقاش ولا يفيده اي شئ . غير ان ما يدعو للاطمئنان بشأن جهنم ، هو انه ليس باستطاعة احد التأكيد لحد الان بان هناك اناسا في الجحيم ، وذلك انطلاقاً من المبدأ القائل ، بانّ  الله قادر ان يشمل برحمته أكبر الخطأة في آخر لحظات ندمهم ، وهم في سكرة الموت أو ينازعون .

184
حكاية امرأة في الاسواق   


 شمعون كوسا   


ما سأقصّه هنا هو عبارة عن فصول مررنا بها جميعا ، لقطات عن ولع النساء بالاسواق . هناك ملاحطات تثير الضحك ، وتفاصيل تدعو للاستغراب ، وظواهر تثير الاعصاب واخرى تدعو للاعجاب .
لا بدّ لي ان اقول ابتداءً بان ما سأقوله غير موجّه اطلاقا الى  أيّة امرأة أو أيّ رجل معيّن  .    قد يكون الكلام مُبالغاً فيه او تتخلله احيانا بعض عبارات مزح ساخر  ولكن الهدف هو التسلية اولا ، دون استبعاد بعض الانتقاد الخفيف .   طبيعي جدا ان نرى في مثل هذا الحديث بعض المُغالاةً ، لان هذا هو الاسلوب المتّبع عادة في معالجة ظواهر معينة او عادات متأصلة ، والامثال بهذا الخصوص  كثيرة  ، لكننا  ، ودون أي وجه تشبيه ، نكتفي بذكرالكاتب الفرنسي الشهير موليير ، الذي استخدم سخريته اللاذعة ، وانتقد بكل جدية الظواهر السلبية في المجتمع  ، بهدف اِصلاحها .

يُروى عن امرأة من بين النساء اللواتي خلقهُنّ الله ، أنها قررت التوجّه الى السوق.  ودون سابق تخطيط او نيّة مُبَيّتة ، دخلت اول محل في قلب المدينة ، وكان مخزنا لبيع الاقمشة  . بعد المرور على كافة الاقمشة المطويّة والملفوفة بانتظام وعناية ، وبعد فتحها وتقليبها ايّاها لاكثر من مرة ، قادتها عيناها نحو لون جميل انشرح له فؤادها  ،فأشّرت الى البائع مستفسرةً عن  السعر   .
عندما عرف البائع بان القماش سيُستخدم  لخياطة قطعة ثوب ، أثنى على ذوق المرأة قائلا : انكِ حقا صاحبة ذوق رفيع ،  وبعد لحظات تفكير ، تقدّم لها بسعرِ قال عنه أنّه سعر خاص جداً.   وهنا يعلق الراوي : ولماذا يعطيها سعرا خاصا جدا وهو لم يسبق له وان التقى بها !!!
طبعا لم ترضَ صاحبتنا بالسعر المرتفع جدا وهمّت بترك المحل .  فبدأ البائع يلاحقها لعلّه ، بتقديم خصم مهمّ ثان ، سينجح بعقد صفقته الاولى لذاك اليوم ، ولكن المتسوّقة لم تُعِر له أيّ اهتمام ، وخرجت باتجاه المخزن الثاني .
 وكان هذا المخزن متخصّصا ببيع الملابس الجاهزة .  تجوّلت بطلتنا في المخزن وتناولت بعضا من الفساتين والبناطيل واعادتها الى مكانها ، وانتقلت من قسم الى قسم كي تعود الى الرفوف الاولى  . اقترب منها البائع عارضا عليها المساعدة ولكنها رفضت ذلك .    بعد مرور خمس وثلاثين دقيقة ، عثرت المرأة على ثوب جلب انتباهَها بالوانه وطريقة تفصيله  ، فنادت البائع لمعرفة الاسعار . طلب منها البائع أولا  ارتداء الثوب في غرفة الملابس لكي تتأكد من مقاساته وملاءمته لجسمها ، واضاف : جرّبي الثوب اولا ، سنرى بعد ذلك موضوع السعر  ، على اية حال وباذن الله سوف لا نختلف .هنا ايضا يعلق الراوي بينه وبين نفسه قائلا :هل ينتظر البائع اذن الله لتنفيذ صفقته ، وهل الله متفرغ للتوفيق بين الاسعار؟ ! !!،
 خرجت مرتديةً الثوب الجديد  لسماع ملاحظات البائع ، فبدأ هذا الاخير بمديحه المعتاد الذي قد كرره لمئات المرات ،  كلمات نفاق لا تُطلق الاّ على عارضات الازياء ، وانتظرت لكي يعلن السعر ، فاجابها : لقد سمعتُ عنكِ كثيرا وعن سمعتك الطيبة ، لذا سأبيع لك الثوب بخمسين دولارا .
امام دهشة صاحبة السمعة الطيبة ، ابتسم البائع وقال ، لا تنزعجي لاني سأبذل جهدا خاصا آخر : ما رأيكِ بخصم عشرين بالمائة ؟   لم تُطِل المرأة المتسوّقة النقاش معه فعادت الى غرفة الملابس لتتخلص من الثوب وخرجت لعدم قدرتها على شرائه .
المخزن الثالث كان مخصّصا لملابس الاطفال . عثرت اختُنا على طلبها من حيث السعر والجودة والالوان ، ولكنها لم تشترِِ مدّعية بانها لا تعرف مقاساتِ الاطفال واذواقَهم  , واِذ عرض عليها البائع حجز القطع لليوم التالي ، اجابته سنرى الموضوع لاحقا .   وهنا ايضا، يتمتم الراوي  :  اذا لم يكن بمقدورها اتخاذ القرار ،   لماذا دخلت اصلا هذا المحل واستفسرت عن الاسعار ؟

ومن محل الى محل وباهتمام يتزايد او يتناقص تبعاً للمحلات واسعارها ، وجدت المرأة ، موضوع بحثنا ، نفسَها في المحلّ الخامس والعشرين ،  وهنا وقعت على ثوب سلب كا مل عقلِها ، وكأنه حاجة مفقودة ، كان البحث قائماً عنها منذ سنوات .  بعد انزال الثوب وتمحيصه من جميع النواحي ، وبعد التعرف على ثمنه ، دار الحديث التالي بين البائع والشارية :
 -المرأة : ان سعرك عال جدا
 -البائع : يشهد الله ، لم اطالبكِ باكثر من سعر الكلفة مضافا اليه اثنين بالمائة ، ولكني سأراعيكِ اكثر ، وهذا خصم لم امنحه لاحد قبلك ، خُذي الحاجة بسعر الكلفة
 -المرأة : للاسف الشديد لا زلتََ بعيدا عن المبلغ الذي كنتُ اتصوره.
 -البائع : وما هو المبلغ الذي يدور في ذهنك ؟
 - المرأة : ارجو ان لا تغضب مني ، ولكني لا استطيع تجاوز نصف ما عرضتَه انت
 -البائع : هذا مستحيل ولكني سأبذل جهدا اخر ، لاني لا اريد ان اخسرك كعميلة
 -المرأة : لاتُتعب نفسك ، لان أي خصم لا يوازي ما قلته لك سوف لن يفيدني، وتحركت باتجاه الباب.  
 -البائع : الى اين انت ذاهبة ، توقّفي كي نتفاهم ، وعرض عليها سعرا قريبا جدا الى ما كانت تريده ، ولكنها لم تلتفت اليه .
فبدأ البائع بالتهجّم عليها بكلام قاسِ جدا وبالفاظ نابية ، ومن ضمن ما ذكره الراوي عنه باللغة العامية البغدادية ، أتى على الوجه التالي : (عابت الخُلـﮔة ، وعاب هالبـﭼم ،ما ادري منين جَوّيلنا هالشكولات ، عُوذه ، قحط زبائن ، المـﮔادي هََم صار برأسهم  خير ويحسبون نفسهم أوادم( ، وتمتم بعض الفاظ غليضة اخرى لا سبيل لتخفيفها أوذكرها ، وقَطعَ على نفسه عهدا ألاّ يَدَعَها تدوسُ عتبة بابِه مرّة اخرى .
رجعت بطلة التسوق الى البيت وبالها منشغل بالثوب الذي مال اليه قلبُها ولكنها لم تقم بشرائه . جلست وهي تعضّ اصابعها من الندم ، وبعد ان أتّصلت بصديقاتِها لاطلاعهن على الموضوع  ، شَرَعنَ جميعُهنّ بتأنيبها لانها افلتت من يدها هذه الفرصة الثمينة  . فكّرت بالرجوع في نفس النهار ، ولكنها تراجعت خشية ردّة فعل قد تكون عنيفة .
في يوم جديد ، بدأت صاحبتنا بجولة اخرى ، وبعد دخول وخروج ، ورجوع متكرر، توقفت عند ثوب لا يقل جمالا عمّا سلب فؤادها يوم البارحة.   فتوجهت الى البائع مباشرة مستفسرةً عن قيمة الثوب ، فاعطاها صاحب المحل سعرا عاليا يفوق بكثير ما كان قد عُرِض عليها من قِبَلِ البائع الذي أمطر عليها وابلا من الالفاظ  باللعة العامية .    فطلبت خصما ، رفضه البائع . وعند عدم تجاوبه،  أخذت ترجو وتُلِحّ وتتوسل . ولكن البائع لم يتحرك قيد انملة.
 فقرّرت الرجوع الى بائع يوم امس ، وذهبت اليه . ولكن حال وقوع نظر صاحبنا عليها ، بدأ باغلاق محله مدّعيا بانه على عجلة من أمره واضاف بانه على اية حال لم يكن مستعدا لبيع اية حاجة لها ، اما عن الثوب الذي كانت تريده ، فقد بيع بسعره الاولي .
لم تتحمل صاحبتنا الرجوع الى البيت خالية الوفاض ، تجرّ  وراءَها اذيال الخيبة ، فدخلت محلا كان قد أعلن تخفيضات على بضاعته ، فاشترت كمية كبيرة من الحاجات وعادت الى البيت  .
عند رؤية اكياسها العامرة ، استفسر زوجها عمّا اذا كانت فعلاً بحاجة الى هذه المشتريات كلها ، فاجابته ، لقد وجدتُ اسعارَها مناسبة ، صحيح اننا لا نحتاجها ، ولكننا لربما سنحتاج الى قسم منها يوما ، أو سنقدمها هدايا للناس .   اكتفى الزوج بهزّ رأسه ، لان جيوبه كانت شبه خاوية،  وكان قد عزم على امضاء هذا الشهر دون الحاجة الى استدانة .
طريقة تعامل بطلة قصتنا كان لا يختلف كثيرا حتى في سوق الخضراوات ، حيث كانت تقلب المحاصيل ظهرا على عقب وتتلف قسما منها من اجل شراء رأس خس او كمية صغيرة من المحاصيل الزراعية الاخرى .
وعند شراء سِلَعِ  سبق وان ابتاعت منها ومن نفس المخزن ، فانها تتناول المادة وتعيدها الى موضعها لكي تنتقل الى نفس المادة وتشمّ رائحتها ، دون ان يكون لها رائحة،  فتضعها لكي تأخذ نفس الحاجة من مكا ن آخر .
ويضيف الراوي ، نقلا عن احد اصدقائه،  بان زوجة هذا الاخير أعادت الى محلّ للملبوسات ثوبا كانت قد اشترته قبل يومين  ، بعد فترة من الزمن عادت لشرائه من جديد ومن نفس المحل .  !! ولدى ظهور علامات دهشة غير ارادية على وجه الراوي ، وكأنه يشكّك بمصداقية الكلام ، اقسم له صديقه معززاً كلامه بما غلظ من الايمان .  
 وعند الوصول الى مرحلة دفع القائمة ،   غالباً ما ، تعيد المتسوقة على سامعها او سامعيها نفس اللحن ونفس الكلمات : هذا غير ممكن ، كيف توصل البائع الى هذا المبلغ الباهض ، لا بدّ ان هناك خطأ . فيضطر احد مرافقيها ، بالجمع والطرح ، ويخرج دوما بمجموع  مطابق للقائمة .
 يجب ان نعلم بان المبلغ الباهض هو مجموع حاجات قد تكون زهيدة السعر ولكنها كثيرة العدد.
في احد الايام فكّر زوج بطلة قصتنا مرافقتها للسوق  . وانا هنا احترم سلسلة افكار الراوي،  الذي يقول :
عقد الزوج العزمَ على تحصين نفسه بارادة صلبة وتعهّد مع ذاته البقاءَ هادئا  . ولكن العهود التي قطعها مع نفسه لم تُجدِ نفعا  لانه بعد ساعة واحدة فقط ، نفذ صبره تماما وفشل في الامتحان ، وعندما بدا عليه الانزعاج الشديد والتبرم ، بالرغم من الضغط الذي كان يمارسه على نفسه ،  أتاه الجواب من امرأته كالتالي  : انك لا تدعنا نتسوّق ولا تترك لنا الوقت الكافي لذلك ، يجب ان لا ترافقني مرة اخرى  .
على اية حال ، كان الزوج قد توصل الى هذا القرار ،مكررا كلمة التوبة من جميع جوارحه لعشر مرّات .
بصورة عامة ، تحبّ النساء التجول في الاسواق من اجل الاطلاع ومناقشة الاسعار وابداء الرأي والاعجاب ، ولقد اعتاد الباعة على ذلك  . وعلى ذكر الباعة ، فان بعضا منهم في جشعهم ، يتحوّلون الى سرّاق حقيقيين .  وبهذا الخصوص اريد ان اذكر باني حضرتُ شخصيّاً صفقة،  بدأها البائعُ بتسعين دولارا لكي يقبل في النهاية بعشرين دولارا فقط ، اعني كان البائع الجشع على وشك سرقة سبعين دولارا ، لو تمُ القبول بسعره الاولي  .كان هذا في بلد عربي يستقبلك ويودعك بعبارة : الله يعطيك العافية .

انها ملاحظات يومية ، تعرفها النساء ويعرفها الرجال ، وان ما ذكرته غيض من فيض ، وقد يقول قائل : لو كان يعرف شمعون بما حدث معنا بهذا الخصوص في التاريخ الفلاني ، لكان قد مَلآ صفحات اخرى  تشغل حنجرة الراوي ،لانه لم يذكر شيئا عن شارية الاحذية التي تلبس عشرة ازواج دون ان يكون لها رغبة في الشراء ، ولا عن الذهب الذي تبقى اغلب مصوغاته بعيدة المنال لِعامّة الناس لان اعين الناظرات اليه بصيرة ولكن ايدي الصارفين عليه قصيرة، ناهيك عن الحقائب النسائية التي اصبحت هواية تنافسُ هواية جمع الطوابع ، أومواد التجميل وغيرها .  
اما جواب النساء ، فانه يأتي عادة : انتم الرجال تفتقرون الى الصبر  ولا تجيدون غير الانتقاد ، اننا نتصرف هكذا لكي نوفر لكم وعليكم .
عند هذا الجواب  يسكت بعض الرجال ، والبعض الاخر يُمسك فمه لكي لا ينفجر ضحكا ، والبعض الاخر يقول قد يكون في كلامهن شئُ من الصحة .  
 باعتقادي يجب ان يكون للانسان في الحياة فلسفة او خطة للعيش.   يجب الجلوس مع النساء لتخصيص ميزانية لمناسبات ولمشتريات معينة وفي فترات معينة ، والاتفاق معهن على احترام هذه الضوابط  بكل ثبات، والاّ ستغدو الحياة فوضى لا تُطاق .
    

185
القلق والخوف في حياتنا اليومية



شمعون كوسا
كلامنا هنا عن اضطراب شديد ، يعترينا عند تعرّضنا  للخطر او التهديد او الحيرة والترقّب ، او عند التفكير بها . انها ظاهرة تحتل حيّزا كبيرا في حياتنا اليومية .

لا انوي هنا الخوض في دراسة تحليلية تبوّب هذه المشاعر بفصول واقسام ، ولكني ساتحدث عمّا مررتُ به من حالات ، عمّا سمعته من الغير ، عمّا رأيته ، عن بعض ملاحظاتي وحلولي الشخصية .

حياتنا مليئة بلحظات قلق وخوف ،  تتكرر على مدار الساعة ، ففي كل يوم  تبدأ الكثير من جملنا بِـ : اخشى ان لا امرض ، اخاف ان لا يأتي ، اخشى ألاّ يعجبهم كلامي او عملي ، اخشى ان يفصلوني ، اني قلق على نتائج اولادي ، اخاف من الجمهور ، اهابُ الشرطة وقس على ذلك من آلاف الحالات التي هي بعدد الاعمال والمبادرات التي نتناولها يوميا . فانّ الافعال أخاف وأقلق ينصرفان بكافة ازمانها وصيغها، خفت ، أخاف ، نخاف ، لماذا  يقلقون ، لا تقلق ، من حقهم ان يترددوا …

 وهذا شئ طبيعي ،  لسبب بسيط  وهو ان الانسان ضعيف ، ووجوده اليومي مرتبط  بظروف تخضع في كثير من جوانبها  لهوامش من الشك وتمرّ ببعض زوايا دائمة التغيير . بعض خصائص هذا النطام العام لا تسير دوما وفق المسار المرسوم لها وتدخل منطقة مبهمة ، منطقة الحيرة والتردّد والترقّب .
 
 حتىعناصر الطبيعة التي وُضعت لخدمة الانسان تتحول احيانا الى ظواهر مرعبة فتنقلب وبالاً  ، فالماء مخيفة عند ثورانها في البحار وطوفانها في الانهر ، والنار مخيفة عند انتشار مساحتها واحراقها للمادة والبشر ، والريح مخيفة عندما تصبح عاصفة فتكسر وتكنس كلّ ما  يعترض طريقها ، هذه ظواهر لا حيلة لنا فيها ولا حكم لنا عليها ، لانها تدحل في نطاق القوة القاهرة .

لا يوجد هناك انسان لا يخاف ، وحتى اشجع الشجعان لا يستطيع القول او الادّعاء بانه لا يخاف . ولكن الخوف نسبيّ ويختلف من شخص لآخر ، وفي كثير من الاحيان تكون للوراثة حصة في رباطة جأش الوريث ، وفي قوّه اعصابه او ضعفها .

الخوف الذي لا يُعتبر طبيعيا ، هو القلق مما سيحدث في الغد  أوالتاريخ الذي نجهله . الخوف من عواقب مخاطرة معينة او نتائج مبادرة ، الخوف من المشاكل والخوف من القدر . 
هناك بعض اسباب الخوف والقلق ناجمة من ترقّب قد يطول او يقصر ، حالة عدم استقرار يرافقها تفكير يقلب الامور ويثنيها ، ويتكرّر التفكير مراراً  كي  يطبع في الذهن صورة مخيفة غير حقيقية تراود صاحبهاعند اول تفكير وفي كلّ يقضة .  تتحول الى احساس مزعج  لا سبيل لمحوه  .
كم مرة امضينا اياما وليالي على هذه الحالة ، نفكر ونفكر بموضوع عويص او مشكلة معينة دون الاهتداء الى حل . نتململ على الفراش وتتململ معنا الافكار ونذهب من خوف الى خوف  ومن سيناريو الى سيناريو ، وعند وصولنا الى اليوم المشهود او اللحظة الحاسمة التي كنّا نخشاها ونتّـقـيها ، نرى ان الامور وجدت حلاّ لنفسها ، ونكتشف حينذاك بان الامر كان بسيطا جدا ، غير أنّ القلق لم يترك اي مجال للوصول اليه .

يقول مثل عام : لا يجب التفكير بعبور الجسر قبل الوصول اليه . على الاقل سنوفّر لنفسنا بعض لحظات ، ساعات ، او ايام قبل الوصول الى الجسر او الى المشكلة .
ويقول مثل آخر : لا يجب استباق  الموسيقى ، اي يجب السير حسب الايقاع وعدم استعجال الامور . علينا السير بتوءَدة ونظام ، وهذا يقينا شرّ كثيرِ من اسباب القلق .

من البديهي ان الامور ليست بالسهولة التي نتصورها او نتكلم عنها ، ولكن اعادة المبادئ الى الاذهان وتكرار الحقائق لا يمكن الا ان يكون مفيدا ، يساهم هذا  التكرار في تهدئة الامور على الاقل ،  اِن لم يكن حلا في بعض الاحيان .

باعتقادي الشخصي ، هناك بعض الحلول ، من شأنها  التخفيف من وطأة الخوف والقلق ونتائجهما التي تفضي بنا احيانا الى حالات مرضية .
الحلّ الاول ، بالنسبة لي ، هو الاحتكام الى كلام المسيح الذي قال : (يكفي كلَّ يوم شرُّه) . انه شعار ذهبي ، وضعتُه منذ سنوات على شاشة حاسوبي . يقول ، اكتفِ بمشاكل يومك الحاضر ولا تفكر بالغد ، لان المشاكل كثيرة ويومك مُحَمّل بما يكفيك او اكثر . حدّد تفكيرك في يومك ، اما عن الغد ، فهو مجهول لا تستطيع التحكّم فيه ، والغد ايضا سيصبح يوما جديدا وسوف يخضع لنفس الشعار ، ولكن فلننتظرولادته  لانه ليس موجودا .
هذا الكلام صحيح ، لان الحياة مكوّنة من مجموعة ايام ، غير أنّ  ما  أعرفه اليومَ هو اليومُ الذي اعيش فيه والذي امسكه بيدي ، اما الغد ، قد يأتي او لا يأتي ، مصيري اعرفة ليومي هذا ، فلماذا اخاف واقلق لزمن لم ابلغه بعد ؟ انها حكمة عميقة جدا ، والتوصُل الى وضعها موضع التنفيذ يمنح النفس راحة وطمأنينة .

الحلّ الثاني ، في نظري أنا دوما ، يكمن في التصرف على النحو التالي :
عند التعرض لمشكلة او عند الخشية من أمر من شأنه اِدخال القلق الى النفس  الى حدّ التخبط وفقد الاعصاب ، يجب الجلوس بهدوء لدراسة الموضوع واحتساب الحلول والاحتمالات بصورة منطقية . فاذا لم يناسبنا أيّ حل او احتمال ، نذهب الى آخر الاحتمالات وأسوئها، اعني نقبل باسوأ الاحتمالات ، وعند القبول بهذا الحلّ الاخير ، نبدأ الشعور بالهدوء والسكينة وهكذا نريح تفكيرنا من القلق والتخيلات ، لاننا قبلنا باسوأ الاحتمالات ، بما فيها الفشل ، وهو الشئ الذي  يخيفنا دائماً .
هذا حلّ نلجأ اليه في الحالات التي نقع في صراع ، فتجد أنفسنا عرضة لافكار تتلاطم دون انتظام ودون انقطاع . فاذا انتهت الامور بصورة سلبية ، لا نتفاجأ ولا نندهش لاننا كنا قد احتطنا للامر ، واذا انتهت الامور بنتائج ايجابية ، فسيكون هذا سببا آخر لمضاعفة  سعادتنا ، وتأكدوا بان الحل الثاني يكون في اغلب الاحيان من نصيب الانسان المتفائل .

اما الخوف من ركوب بعض المخاطر او الخشية من تولّي بعض المبادرات المفيدة ، باعتقادي يتوجب على الانسان  ،في هذه الحالات ،  ان ان يزرع  داخل قلبه  بعض الهمّة والثقة بالنفس  ، يجب تبنّي مثل هذه المبادرات بالرغم من الشكوك والمخاوف ، والا سنتقاعس عن القيام باي شئ ، فتكون حالتنا الطبيعية كسلا وجمودا .
 ان الفشل هو الذي يخيفنا هنا ، ولكن الفشل هو امر طبيعي في حياة الانسان ، الفشل يرافق الانسان   .وانا اقول دوما بان حياة الانسان الناجح مبينية على كثير من الفشل . والعبرة في من استطاع ان ينهض من كبوته وييد المحاولة من جديد دون كلل او ملل وبنفس الهمة  ، لان الفشل ليس نهاية العالم .

ان الخوف الشديد او الفزع يقودان احيانا الى كوارث . يُروى عن احدهم اعتراه خوف شديد  بات يعذبه ليل نهار ولا يفارقة ولو للحظة ، ففكر بالابتعاد عن بيئته والهجرة الى بلاد اخرى . وصل صاحبنا مكانه الجديد ولكنه بقي مجترّاً لفكره المشوش الذي لم يهدأ ابدا ، لا بل اشتد سوءً ، هل كان خوفه مبررا موضوعيا ام وهما ، لا نعرف . لم يطل صاحبنا الاقامة هناك لكي يجد نفسه ضحية حادث لم يمهل روحه الا بضع دقائق ، فاستمراره في القلق والخوف اوصلاه الى نهايته المحتومة .

في هذه الحالات ، لا يجب اطالة التفكير ، لان ذلك من شأنه تعقيد الامور . يجب التوصل الى قرار يضع حدّاً للتفكير وتصوراته . يجب الخروج من سجن افكارنا ، وترك مخدعنا نحو الهواء الطلق ، يجب ان نجول بافكارنا نحو الافق البعيد اللامتناهي ، واثناء سبر غور هذا البعد الذي ينتهي بتماس مع السماء الزرقاء ، نلتفت قليلا ذات اليمين وذات الشمال لنعبّئ عيوننا من الوان الزهور وجمال الطبيعة ونستجيب لرغبة انوفنا في شمّ الروائح الزكية ، ولا ننسى ان نفتح آذانا صاغية لتغريد البلابل وسماع صوتها الساحر، ونقف هكذا لفترة صغيرة اخرى لاستنشاق الهواء العليل ومداعبته لبشرتنا ، عند ذلك سنرى ان افكارنا القديمة المتوترة قد غادرت واضمحلت ، وامتلآ الحيّز الذي فرغ بكلّ ما هو جميل وتكوّن في داخله عش يضمّ فقط ما جمعته احاسيسنا الجديدة ، وبهذه الطريقة يكون قد ارتاح فكرنا .
لعلّ بعضكم يقول ان العمّ شمعون اصطحبنا بقاربه في جولة شعرية وخيالية ليُلهيَنا وكانّه يسخر من سذاجتنا ، ولكني انا اجيبكم بان هذا ليس صحيحا لان المبدأ الفيزياوي الطبيعي يقول بانه ليس هناك فراغ في الحياة الا واحتله الهواء ، وهذا ما يحدث مع الافكار ، حال تخلّص الانسان من الافكار السوداء، يستبدل تلك الافكار بما نهلنه احاسيسه من الطبيعة  .  يجب اذن رفع الانظار الى الاعلى ، نحو كل ما يريح العيون ويملا النفس فرحة وسعادة .

يجب ان نحتكم لتجارب من سبقونا والذين بعد وصولهم الى سنّ متقدمة ، مليئة بالتجارب ، يقولون لنا :
ماذا جنيننا من قلقنا وخوفنا ، لقد مررنا بالاف حالات مماثلة ، لم يفدنا القلق بشئ لان ما يجب ان يحدث سوف يحدث ، سيحدث ذلك وفق نظام العلة والمعلول وقد يفوق معرفتنا الحالية . . ألا يقول الشاعر ايليا ابو ماضي بهذا الخصوص في قصيدته ، كم تشتكي وتقول انك معدم ، الا يقول : ان كنت تُشفِق من حلول مصيبة ، هيهات يمنع ان تحلّ تجهم .
لم تنعدم الحياة يوما لاننا كنا نخشى امرا معينا او نتيجة مهمة جدا ، فبالرغم من خوفنا الشديد ، استمرت الدنيا وتعاقبت الفصول واشرقت الشمس واستمرت العصافير بالزقزقة ،  وبقينا  نحن الخائفين ، احياء نرزق بكامل عافيتنا

اذا اطلقنا العنان لقلمنا في هذا الموضوع سوف لن نعرف كيف نتوقف ، لان التجارب كثيرة وكلّ منّا له تجاربه والكلّ باعتقادي قد توصل الى النتيجة بان الكثير من خوفنا  وهمُ، والبعض احتمالات والقليل القليل حقيقة . يجب تسليم الامور الى الله والانتهاء بالقول : فلتكن مشيئتك ، وصاحب الايمان القوي يعرف بان الله لا يريد لنا الا الخير .

186


اسمعوا اقوالهم ولا تفعلوا بافعالهم
   


شمعون كوسا


لقد تطرقتُ قبل الان لهذا الموضوع ببضعة أسطرِ في سياق مقال بعنوان : لماذا ننتقد رجال الدين .
في مقالي هذا لا انوي البتّة توجيه أيّ لوم او انتقاد لايّ رجل دين كان ، ولكني على العكس اريد تصويب مفهومِ خاطئ لدى كثير من المؤمنين البسطاء بهذا الخصوص .

فعلاًً ، عند الحديث عن رجل الدين أوابداء رأي بشأن هفوة يكون قد ارتكبها احدهم او ملاحظات عن تصرف معين لا يليق به ، كثيرا ما نسمع بعضَهم ، محاولةً منهم وضعَ حدّ  للجدال أو ايجاد تبرير لتصرّفاتهم ، ينتهي بذكر قول المسيح : اسمعوا اقوالهم ولا تفعلوا بافعالهم ِ! وهذا خطأ فادح .

ابتداء نقول ان المسيح اتى لتكريس عهد جديد  يسمو عاليا فوق كل ما كان قبله.
 
اتى بعهد يبشر بالمحبة والتضحية والتجرد والطهارة والفقر ،
عهد يضع الروح قبل كلام الشريعة .
 فكلام المسيح هنا ، يجب ان يؤخذ بسياقه الكامل وليس مقتطعاًً فينتهي بمفهوم مغاير لِما اتى به.

جاء كلام المسيح انتقادا وليس نصيحة او قبولا بالامر الواقع .
جاء كلام المسيح لوماً عنيفا للكتبة والفريسيين المرائين ، قوم كانوا بالمرصاد لادنى تحركاته ، قوم لم يكن لهم هدف آخر سوى الايقاع به .

كان كلام المسيح رفضاً لسلوك نخبة شريرة من الرؤساء الدينيّين ، الذين كانوا يفسرون الشريعة ، بما يناسبهم ، لمؤمنين بسطاء لا حول لهم ولا قوة ،
اتى كلام المسيح ليضع المؤمنين في السبيل القويم والتصرف الصحيح ، فكأنه يقول لهم : اذا كان ولا بد من اللجوء اليهم ،  فاكتفوا بسماع كلمة الله واحترسوا من الاقتداء بهم لانهم اشرار والسير وراءهم سوف ينتهي بكم الى الهلاك.
واتخيّله يُضيف ايضا  : كان الاجدر بهم ان يكونوا قدوةً لكم ، وبما انهم قد انحرفوا ،  اسمعوهم فقط ،  لانهم هم القيّمون على القاء الكلمة وتفسير الشريعة ، ولكن ايّاكم الاقتداء بهم .

لم يكفِّ المسيح عن توجيه اللوم والتقريع لهم ، وقد حذّر منهم  في اكثر من مناسبة حيث قال :
ايّاكم والفريسيين والصدوقيين ،
 تجنبوا تعاليمهم ، هؤلاء ينالهم اشدّ عقاب ،
الويل لكم يا معلمي الشريعة والفرّيسيين المرائين  لانكم تأكلون بيوت الارامل ، وتلقون باحمال ثقيلة على الناس  ، تهملون العدل والرحمة ،
تصّفون البعوضة وتبلعون الجمل ،
ايتها الحيات كيف تهربون من نار جهنم ،
وكثير من كلام كله نبذ وادانة ولوم وتحذير .

فهل يُعقل ان يتوجّه  المسيح الى تلاميذه بالكرازة الجديدة وهو يفكر بانهم سيكونون كالكتبة والفرّيسيين ؟
هو الذي عندما اختار تلاميذه  وضع لهم شروطه الصعبة والواضحة جدا  وقال :
اتركوا كل شئ واتبعوني ،
ومن احبّ اباً او اخاً اوأماً  اكثر مني فلا يستحقني ،
ومن لم يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني ،
وانتم نور العالم وانتم ملح الارض
والشجرة التي لا تثمر ثمرا صالحا تقطع وتلقى في النار ،
احبوا بعضكم بعضا ،
واذا شككتك عينك فاقطعها والقها في النار
وليكن كلامكم نعم نعم ، لا لا
 ومئات من التعاليم الاخرى التي لا مجال فيها لاي دجل او مواربة ،
كلام سامِ موجّه لمن سوف يتبعونه وبالمقام الاول تلاميذه ، اعني من يمثلونه ، أي رجال الدين . كلام يدخل اعماق النفس، ومن شدة الاقتناع به يرتسم تلقائيا على المحيّا ويترك بصماته على كل عمل او تصرف في الحياة  .

 هل يُعقل ان يقول المسيح مثلا ، اني ارسل لكم اشخاصا يمثلوني ، انا ابن الله ، ارسل اليكم عناصرَ أشرارَ ومرائين ، اناس دجّالين حاقدين ويحبّون المال ، اناس لا يمتثلون لتعاليمي ، ولكن اسمعوا اقوالهم  (اكراماً لي) ؟!!! .
حين ذاك سيجيب بعض المؤمنين ، ولماذا يا ربّي اقمت علينا هؤلاء ، لماذا دعوتهم لتمثيلك ، وهل نحتاج الى عناصر لا يمتثلون لتعاليمك ، اناس عوضا ًعن ارشادنا الى الصواب يكونون لنا حجر عثرة ؟ وماذا سيقول الناس عنك يا ربّنا ، وماذا يكون انطباعهم عن تعاليمك اذا رأوهم بهذه الصورة  ؟

اني على يقين بان رجال ديننا بعيدون كل البعد عن المفهوم الخاطئ لهذه الآية ، لان هذا سيكون انتقاصا لشخضهم واهانة بحقهم . واذا كان بعضهم ، جدلاً ، قد فهمها بهذا المعنى او استغلها لتبرير بعض تصرفاته ، لقد اخطأ دعوته ، والأولى به ان يُخلي الطريق ، لكي يكمل المؤمنون مسيرتهم دون عائق .

المعادلة سهلة جدا ، اذا كنتَ تنصح الناس بالاستقامة يجب ان تكون مستقيماً والاّ ستكون كاذبا ،
الذي يكرز بالاستقامة او باية فضيلة اخرى يجب ان يكون قد جرّبها وعاشها جيدا ، هذا الكلام يتردد في الحياة الاجتماعية العادية ، فما بالنا اذا كان صاحبُ الخطاب وكيلََ المسيح نفسه ،  شخص كرّس نفسه للتبشير بأسمىَ تعاليم عرفتها البشرية ؟
كيف يقبل المؤمنون مثلا  بكلام الكاهن عن محبة القريب وهم يعرفون بانه يحتفظ بحقد دفين على فلان او فلان؟

اذا كان الشاعر العلماني العادي ، الذي لا يمتّ باية صلة الى المسيحية ، يقول الحكمة الذهبية التالية :
لا تنهَ عن خُلق وتأتي مثله ، عارُ عليك اذا فعلتَ عظيمُ ،
فما عسانا نقول عن الناهين ، اذا كانوا قدوة ، يسمعُ ويرى فيهم سامِعوهم ومشاهِدوهم شخصَََ المسيح ، رجال اقتبلوا درجة روحية لا تمحى ، رجال اختاروا الطريق الصعب و تعهدوا امام الله بان يكونوا أطهارَ ومخلصين في رسالتهم ومثلاً صالحا في قيادة رعاياهم ؟

ارجو ان لايُفهم حديثي خطأ ، لقد قصدتُ الشرح والتفسير الصحيح لانه فعلا بات الناس يرددون هذا القول بشكل لا يليق أبدا برجال ديننا .
قد يقع رجال الدين في الخطأ، وهم بشر ، وما اكثر من اخطأوا حتى من بين القديسين  قبل ان يهتدوا الى تعليم المسيح ، البعض منهم كان بعيدا جدا او يسير باتجاه معاكس ، ولكن العِبرةَ في الرجوع عن الغيّ وليس التمادي فيه ، وهذا كلام موجه لنا جميعا .
لسنا ناصحين ، معاذ الله ، ولكننا غيورون على نهج أتى صافياً طاهراً ونريد سماعًه ورؤيتَه بنفس نقاوتِه من خلال افعال من اقيموا قدوةً للناس .

187
المنبر الحر / عن التكبّر
« في: 00:09 06/05/2009  »

عن التكبّر




شمعون كوسا

اني استخدم هنا كلمة التكبر وليس الكبرياء لان هذه الاخيرة تُستخدَم في كثير من الاحيان كمرادف لعزة النفس أوالنخوة .
يمكن تحديد معنى التكبر برغبة عارمة داخل النفس في تقدير مبالغ للذات واعتبارها فوق كل شئ .

الرجل المتكبر او المفاخر يحبُ المديح والتمليق ، ولا يريد ان يرى من هو افضل منه او يسمع مديحاً يُكال لغيره . فانه مثلا لا يُعير اذنه لمن يفاتحه في الشارع في موضوع معين ، وغير مكترث به وبما يقوله ، لا يتوقف لسماعه ويجعله يسير وراءه لمسافة لا بأس بها ليقول له في النهاية : يمكنك ان تأتيني الى المنزل مساء هذا اليوم .

اذا حدث وان قام المتكبر بمعروف بسيط ، فانه لا يريد ان ينسى الناسُ عملَه هذا، ولاجله فانه لا يكفّ عن اعادته الى الاذهان في كل مناسبة ، وانه لا يتراجع عن توجيه اللوم علناً الى كلّ من تسوّل له نفسه انكار هذا الصنيع ، الذي هو عند عامة الناس شيء طبيعي لا يذكرأصلاً .

ايّ كان المكانُ الذي تصادفه فيه ، لا تتوقع منه ابدا ان يبادر هو بالاقتراب منك لالقاء التحية عليك او محادثتك ، لانه يعتبر نفسه الكبير والعظيم الذي يجب ان يُقبل اليه الناس لانهم بحاجة اليه ، وهو لا يفكر ولو للحظة بانه بحاجة اليهم أو سيكون بحاجة اليهم ، وسنرى هذا فيما بعد . !!!!
انك تراه يمشي في شوارع المدينة مطأطئ الرأس كي لا يتورط برؤية احد المعارف العاديين والاضطرارا لمخاطبتهم او مجاملتهم ، قد يكون هذا انتقاصاً من شخصيته المعتبرة .

اذا حدث وان اقام علاقة مع بعض الناس وقرر دعوتهم للغداء مثلا ، فانه يحرص على ان لا يكون متواجداً أويختلق الاعذار والحجج لكي لا يجلس الى المائدة معهم ومشاركتهم الطعام ، ويقوم بتكليف رئيس الخدم للقيام بخدمتهم والسهر على ان يأكلوا بصورة جيدة ، وبتصرفه هذا يريد ابلاغهَم بانه بالرغم من الالفة التي تجمع بينهم ، فهو يحتفظ بمستواه الذي يجب ان يبقى اعلى درجة منهم.

يتجنب زيارة الناس ، غير انه اذا اضطر لزيارة احد الاشخاص فانه يحرص على ارسال مبعوث رسمي يقوم بالاعلان عن زيارته.
انه غير معتاد على استخدام بعض عبارات المجاملة في رسائله وخطاباته ، كالقول مثلا : ارجو ان تتفضلوا بالقيام …، او قبول فائق الاحترام ، او اومل ان لا اكون قد ازعجتكم او اثقلت عليكم ، او التمس منكم العذر او السماح ، او اشكركم على قيامكم بما هو مستطاع ، وما شاكلها من عبارات الكياسة والاحترام الناجمة عن نفس وديعة ومتواضعة يرتاح اليها الناس . ولكنه بالمقابل يستخدم اسلوباً كله امر ونهي فيقول مثلا : اريد ان يتمّ الامر على الشكل الذي اوضحته لكم ، لا سبيل لتغيير الامر مطلقا ، عليكم تنفيذ الامر بسرعة ودون تأخير ، سوف لن اقبل باي عذر ، وكل تأخير سيعاقب شديدا ، وغيرها من عبارات تملا النفس غضبا وتبرما .

اذا حدث وان ارسل اليه احدُ معارفِه موفداًً عاديا يحمل اليه رسالة ما ، فانه يرفض مقابلته ويردّه لصديقه مع رسالة جوابية مفادها : هل انك اعتبرتني طفلا او شخصا قادما من الشارع لكى ترسل لمقابلتي شخصا دون المقام ، عليك ان تأخذ بنظر الاعتبار بان الكبير يجب ان يقابله من هو بمستواه او اعلى منه ، والشخص الذي ارسلته لم يكن بالمستوى المطلوب .
من جهة اخرى اذا التقى صدفة ومن غير ميعاد بشخص اعلى منه مرتبة او أغنى منه ، فانه يهبّ لمصافحته ودون ان يسأله عن احواله يبدأ حالاً بملاحظاته واعتباراته الخاصة منتقِصاً من قيمة الثياب التي يلبسها ومنتقدا ذوقه في اختيارها ، ويقول مثلا : اني امتلك في البيت زيّا شبيها بهذا او لعله اجمل منه ولكني لا ارتديه ، او يقول عند الحديث عن العربات : لولا بعض ظروفي لكنت قد اشتيرت سيارة افخم من تلك التي تستقلها حاليا ، وعند الوصول الى موضوع النساء والخطوبة والزواج ، يقول له : انّ مَن اخترتَها للزواج ،لان صديقه كان مقبلا على الزواج ، فتاةُ عادية جدا وقد عاشرتُ أنا العديدات مِمّن يفوقونها جمالا . وهنا يقف الصديق لكي يضع حدّا لهذا الكلام الذي لم يكف عن الانتفاخ والمبالغة والكذب ، فيقول له : يا صاحِ ، قبل كل شئ اود ان اعترف لك بشئ وهو انّ بعض ما املك قد اقتنيته بجهودي ولكن الكثير منه قد ورثته من ابي ولا فضل لي فيه وانا اشكر الله على ذلك ، غير اني اجد من واجبي ان اعيد عليك حقيقةً ، لربما قد فاتتك او نسيتها ، بان قيمة الانسان واصالته لا تُقاسان لا بالمال ولا بالجاه ولا بالجمال اولا باية مظاهر زائلة اخرى ، قيمة الانسان الحقيقية هي بجمال نفسه الداخلي ، ببساطته وتواضعه . عندما سمع صاحبُنا هاتين الكلمتين الاخيرتين اللتين كان قد اخرجهما من من معجمه ، شعر وكأنه قد هوجم في مبادئه وفي عقر داره فاطبق فمه وانعقد لسانه ، وبقي على هذه الحال الى موعد افتراقتهما ، وباعتقادي لم يردّ على كلمات صديقه الوداعية .
اريد ان انتهي بسرد حديث طريف آخرعن صاحبنا المتكبر الذي يحتقر الناس ولا يتنازل حتى لمحادثتهم او القاء التحية عليهم .

في يوم من الايام ، وقع صاحبُنا هذا في حفرة لم يستطع الخروج منها الا بمساعدة الاخرين . حاول بشتى الطرق ان يجد منفذا لمأزقه ولكن دون جدوى ، وعندما ضاقت به الحيل بدأ يفكر ويعصر رأسه، فاعتراه خوف شديد ،ادّى الى شحوب وجهه وظهور علامات القلق والتشنج عليه ، وبات يحترق من الداخل بسب آلامه الحقيقية وايضا لاضطراره الى طلب النجدة .مرّعليه الكثيرون دون الاكتراث به ، لانهم كانوا يعرفون بانه لا يأبه بهم ويرفض مساعدتهم .
بعد فترة من الزمن اقتنع صاحبنا بانه محكوم عليه بطلب النجدة ، فقام يطلب المساعدة ، واذ رأى بان احداًً لم يرأف بحاله ولم يأبه به ، بدأ بتعزيز طلبه ، مضيفا اليه عبارات التوسل الشديد.
توقف احد المارة الذين كانوا يعرفونه جيدا ، فنظر اليه مليّا وقد اعجبه نوعاًً ما ان يراه يتوسل ويكرر طلبه مرارا ، فقال له : ماذا دهاك ؟ هل يُعقل بانك انت بلحمك ودمك تتوسل اليّ ؟ هل يُعقل بانك بحاجة اليّ ؟ انت الذي كنتَ تعتبر الناس شبه حشرات ، انت الذي كنت تتعوذ او تقرف حتى من مصافحة الناس لئلا تتسخ يداك ؟ أرأيتَ كم ان الانسان ضعيف ولا بد ان يأتيَ اليوم الذي يحتاج فيه اكبر الناس واجملهم واغناهم الى الاصغر والادنى منهم مستوى . لستُ شامتاً ولا متشفياً ، لذا ساخرجك وانقذ حياتك شرط ان تعدني بانك ستعود انسانا سويّا يحترم جميع الناس و لا ينظر اليهم من عليائه .

بما ان جلّ اهتمام صاحبنا كان الخروج من المأزق ، قطع له الف وعد بذلك .
لم اتابع اذا كان اخانا المتغطرس الذليل قد وفى بوعده ، ولكني اقول ، على الارجح لم يُطِل صاحبنا كثيرا في نكث وعدِه ، لان المثل الشقلاوي ذو مغزى كبير بهذا الخصوص ويقول ما معناه : ما رضعه الانسان في صغره لا يتخلّى عنه في كبره (ئه وي بـﮔري به شيري به ر نادا به ﭘيري)


ان التكبر صفة في غاية القبح وهي تأتي على رأس الرذائل على الصعيد الديني ، وهي التي اخرجت آدم من الجنة . ان الذين يحملون هذه الصفة السمجة ويتباهون بها يملأون الارض في جميع بقاعها واهميتهم الكميّة هي بكميّة السماد وغزارته ، ونقول السماد لكي لا نذكر المرادف الحيواني الاخر .



188
فيكتو هيجو يصف المطران بيانفنيو

شمعون كوسا


(اسقف مدينة دينيي بفرنسا)

في سنة 1815 بلغ المطرانُ بيانفنيو الخامسةَ والسبعين من عمره . كان قد حباه الله بوجه جميل ، أو ما كان قد اعتاد الناس على تسميته (برأس جميل) ، ولكن وداعتَه ولطفَه بلغا حدّا أنسيا الناسََ وجهَه الجميل .

عندما كان يتحدث بمرحه الطفولي ، الذي كان احدى سمات شخصيته وسحرَها ، كان يَشعر الناس من حوله بارتياح شديد ، لان جسمَه كان يشعّ سعادة ، ومن جميع جوانبه يطفح انشراحا.  نظارةُ وجهه وبساطة نفسه كانتا  تجعلان الناس يرون امامهم شابا ببراءة الاطفال ويرون في الوقت ذاته شيخا في سعة قلبه وطيبته .  ولكن عند الدنوّ منه ، كان يبان الجانب الجدّي والعميق لمطراننا الجليل .

استغراقُه في التأمل كان يُضفي على وجهه هيبة ويبدو كأنه ملاك ممدود الجناحين  يأبى الا ان يخلّد الابتسامة المرسومة على وجهه . بالوقار الذي كانت تتشح به شخصيته ، كان يدخل الى النفس بهدوء ويتسرب بنفس الطريقة الى القلب بحيث يبدو للناظر اليه وكانه في حضرة نفس قوية ، عانت كثيرا في حياتها ولكنها سامحت كثيرا ، نفس لا يمكنها الا ان تكون ودية لانها لا تؤمن الا بالحب .

كانت الصلاة ، والفروض الدينية ، والصدقة ، ومواساة المنكوبين ، والتزهد في الاكل ، وحسن الضيافة ، والتجرد ، والامانة ، والدراسة والعمل ، كل هذه الواجبات ، كانت تملأ حياته بوجه عام وتندرج في منهاجه اليومي . غير ان نهاره لم يكن يكتمل الا بقضاء ساعة او ساعتين داخل حديقته قبل الخلود الى النوم .

كانت هاتان الساعتان شبهَ فرض ديني لديه ، ساعتان يقضيهما في النظر الى السماء . كانت تسمعه اخته العجوز التي كانت تعيش الى جانبه ، وهو يخطو خطواته بهدوء في وقت متأخر من الليل داخل اروقة البيت . كان وحيدا مع نفسه ، مختلياً ، متعبداً، مطمئنّ القلب  ، وهادئا هدوء نسيم عليل .

في ظلام الليل الدامس ، كان لشعاع النجوم تأثيرُ كبيرُ عليه ، عبرهذا الشعاع المنظور كان يرى بهاءَ الله غير المنظور و يتأثر به . وبقلب مفتوح للافكار التي كانت تنهال عليه من فوق ، كان يقدّم نفسه قربانا لخالقه ،  وكأنه يقلّد ورود حديقته في بثّ رائحتها الفواحة في ذلك الليل  كان مضيئا كالمصباح وسط ليلة لا ترضى بنور غير قناديل القبة السماوية .

وهو في حالة ذهول تام من شدة اعجابه بشعاع الخلق الكوني ، لم يكن بمقدوره وصف ما كان يجري في داخله ، ولكنه كان يحسّ وكأن شيئا يحوم حوله من الخارج ، ويشعر ايضا ان شيئا آخر كان يحلّ داخل نفسه . عملية تبادل عجيب بين اعماق النفس وثنايا الكون البعيدة . كان يفكر بعظمة الله وحضوره  وبالحياة الابدية المقبلة ، هذا السر الخفي العجيب ، ويفكر ايضا بالازلية الماضية التي ترقى الى ازمان بعيدة جدا ، هذا السر الخفي الاغرب .

كان يفكر بكافة اللامتناهيات التي كانت تغوص بعيدة في الاعماق امام عينيه ومن كافة الاتجاهات، ودون ان يحاول فهم ما هو غير قابل للادراك ، كان يكتفي باطالة النظر لهذه الذرّات الصغيرة التي تمنح الحياة ، هذه التلاحمات التي لا تكفّ عن الانعقاد والانحلال ، عن الوجود والاختفاء، في عملية مستديمة للحياة والموت .

هذا الحيّز الصغير الضيّق المحدود بسياج طبيعي ، لم يعرف غير السماء سقفاً  الم يكن هذا المكان المحدود كافيا لعبادة الله ورؤيته عبر مخلوقاته وجمالها؟  أوليس هذا كل شئ ؟ وما عسى المرء يتمنى اكثر من هذا : حديقة صغيرة للتنزه وهذا الفضاء الواسع  اللامتناهي للتأمل . تحت قدميه زهور تبعث البهجة في جسمه  وفوق رأسه فضاء لا محدود يتيح له الاسترسال في تأمل عميق يملا النفس سلاما . بعض ورود على الارض وكل النجوم في السماء .

أما عن بعض ما كان يؤمن به المطران بيانفنيو : فانه كان من النفوس التي تتخذ اقصر الطرق في مسيرتها وهي الانجيل . لم يكن مطراننا فيلسوفا ولا لاهوتيا عميقا ، كان نفسا متواضعة ، عقيدتها الاولى والاخيرة هي الحب.

كان يقول : يجب ان يقفَ رجلُ الكنيسة بجانب الفقراء . كيف يمكن للانسان ان يدخل في تماسّ مع الشدائد والنكبات والفاقة دون ان يبقى فيه شئ من هذا البؤس المقدس ؟ هل يمكن تصوّرُ انسان قريب من لهب النار دون ان تتسرب اليه الحرارة ؟ هل يمكن رؤية عامل يعمل في محرقة ويخرج دون ان يحترق بعض  شعره أوتسوَدّ اظافرُه او يعرق جبينه او يتّسخ وجهه ببقايا قليل من الرماد ؟ انّ أول دليل لوجود الحب داخل نفس رجل الدين ، كاهناً كان ام اسقفاً ، هو الفقر .

كان المطران بيانفنيو وظلّ في كل شئ : عادلا ، مستقيما ، منصفا ، عاقلا ، متواضعا ، وقورا ، خيّرا ، عطوفا . كان كاهنا حكيما مشبعا بروح انسانية .


بعض من هذه الصفات نعمة من الله والبعض الاخر يمكن اكتسابه بمزيد من التجرد وضبط النفس والتأمل ، وفي كل هذا يجب الرجوع الى المنبع ، الى تعاليم المسيح السامية . هذا كلام موجه الى عامة الناس ، واذا تجرّأنا قليلا نقول  لا بأس ان يقرأه اساقفتنا ايضا .

189

المطران عبدالاحد ربان

شمعون كوسا

انه من الشخصيات الشقلاوية البارزة التي احتلت مكانة مهمّة في الكنيسة الكلدانية .

لقد التقيتُ المطران عبدالاحد عدة مرات ولكني لا استطيع القول باني اعرفه جيدا ، لذا سأستعين من حين لاخر ببعض ما نشره عنه الشماس ميخائيل منصور .

ابتدأ المطران عبدالاحد حياتَه كراهب في دير السيدة لرهبان الكلدان بالقوش ، حيث انخرط في هذا السلك سنة 1932.
بعد قضاء ثماني سنوات هناك دخل المعهد الكهنوتي البطريركي الذي كان آنذاك في الموصل .

في الحادية والعشرين من عمره اصيب بمرض كاد يودي بحياته ، الى حدّ انه ، وبالرغم من صغر سنه ، مُسح المسحة الاخيرة التي تُوزّع عادة للمنازعين أو الموشكين على الموت ، ولكن سرّ مسحة المرضى هنا انقذه من الموت .

سيم كاهنا سنة 1950 مع مجموعة اخرى من الكهنة ، وهم القس جبرائيل باكوس الذي تعين في كنيسة مسكنتة بالموصل والقس روفائل كانونا الذي اصبح كاهنا في تلكيف والقس افرام رسام الذي اشتهر برعيته وكنيسته الجميلة في بغداد ، كنيسة القديسة ريتا .

كان قد اعتاد عبدالاحد ربان على اهلَ عقرة وضواحيها لقضائه اربع سنوات في خدمة رعايا القرى المحيطة بعقرة ، وبعدها ارسِل الى اهواز بايران . اتذكره وانا اكليريكي مبتدأ في معهد مار يوحنا الحبيب عندما كان يعود من هناك لقضاء عطلته الصيفية في شقلاوة ، كان يحدثنا عن ايران. كان يستخدم اللهجة الالقوشية في كلامه ، والشئ الذي كات يجلب الانتباه انه كان كثير التدخين ، وان السيجارة لم تكن تفارق فمه .

لقد عمل كثيرا مع البطريرك بولس شيخو او خدم في عهده ، فالبطريرك بولس شيخو كان مطرانا لابرشية عقرة عندما كانت عامرة باهاليها ، وكان قد ذاع صيته آ نذاك كمطران قوي الشخصية يخشى الحاكمون مواجهته ،الكلام هنا عن المطران بولس شيخو .

اتذكر المطران عبدالاحد عندما كان يرأس المعهد الكهنوتي البطريركي في الدورة وهو لازال كاهنا ، اتذكره عند ظهوره في التلفزيون وهو يستقبل احمد حسن البكر ، رئيس الجمهورية سنة 1975 . جاءت زيارة رئيس الجمهورية في تلك السنة على أثر خبر بثته وسائل الاعلام عن قيام عدد مهم من المسيحيين بطلب اللجوء الى اوربا.
كانت الزيارة مبادرةً من رئيس الدولة لابراز اهتمام المسؤولين بالمسيحيين العراقيين ، وكان الدير أفضل مؤسسة مسيحية للظهور فيها من اجل تكذيب الشائعات وتخفيف وطأة الخبرعن مضايقة المسيحيين او ممارسة سياسة التمييز بحقهم او ما شابه.
كان الرئيس يتجوّل في المطبخ ويرفع اغطية القدور للاطلاع على محتوياتها ، ويتحوّل الى مرافق الدير الاخرى، وكان قد أمر في حينه تخصيص مبالغ لا يستهان بها لتلبية احتياجات المعهد .

مُنح ابلحد ربان درجة الاسقفية سنة 1979 وعُيّن على ابرشية العقرة التي كان تعداد عوائلها المسيحية قليلا جدا ، حيث كان الجميع قد هاجروا بسبب الحرب الطاحنة التي كانت دائرة في الشمال مع الاكراد . قرى العقرة كانت من اوائل القرى التي اخلِيت وهاجر اهلها باتجاه الموصل .
بعد سنتين من اسقفيته على ابرشية العقرة ، ابرشية شبه خالية ، تعين وكيلا بطريركياً لكرسي ابرشية السليمانية ، لكي يجد نفسه في ابرشية اخرى لا تختلف كثيرا عن سابقتها من حيث الكمّ السكاني الكلداني أو حتى المسيحي .

باعتقادي الشخصي ، اختيار عبدالاحد ربان مطرانا يعود اولا لتمتّعه بالمؤهلات الضرورية لتبوّء هذا المنصب وايضا لعلاقته الوثيقة بالبطريرك بولس شيخو، حيث كان لهذا الاخير صلاحية اختيار مطارنته، و موافقة الفاتيكان كانت مضمونة آنذاك، بخلاف ما يحدث الان فالدور الاكبر هو للفاتيكان وللتقارير التي تردها عن المرشح للاسقفية من داخل البلد وايضا التأثيرات التي تمارسها بعض جهات كنسية قوية .
على اية حال الكلمة الاخيرة تبقى للفاتيكان، وهو الذي يحدد المؤهلات والشروط ، التي لا تنحصر بالضرورة بالعلم والتقوى مثلا ، كما نفترضها نحن.

لقد قضى المطران عبدالاحد حياة كهنوتية عامرة بالخبرة ، ابتداءً من الرهبنة والدراسة الاكليريكية والخدمة الكهنوتية في قرى ومدن وكنائس واديرة عديدة ، في مدينتي الموصل وبغداد وايضا في ايران، واخيرا كرئيس اساقفة على كرسيّي العقرة والسليمانية .

يُذكر أن المطران عبدالاحد ، لدى ترؤسه دير مار كوركيس قرب الموصل ، تعرّض للقتل مرتين . في المرة الاولى لدى اعتصام اكثر من ستّمائة يزيديا في الدير واقتتالهم مع اهالي القوش لمدة ثلاثة ايام ، والمرة الثانية كانت عند قيام اكثر من ثمانين قاطع طرق ولصّ بالهجوم على الدير بغية السلب والنهب والقتل ، وفعلا بعد سلب الدير، قام هؤلاء الخيّرون بقتل طباخ الدير ، بعد ان اشبعوا الرهبان ضربا وجرحوا بعضا منهم .

ان لم اكن مخطئا ، فان المطران عبدالاحد يُعتبر ثاني اسقف من شقلاوة في تاريخ كنيستنا ، فهو يأتي بعد المطران اداي شير وقبل المطران يعقوب شير . وانا اعرف بان عدد مطارنتنا كان على وشك الازدياد بمطران آخر لولا امتناع احد كهنتنا الاجلاء والاكفاء ، ورفضه لمنصب عرض عليه في حينه لكرسي البصرة .

اما عن شخصية المطران عبدالاحد ، فانه كان شخضا ذا هيبة ، اجتماعيا وطيب المعشر . كان يضحك بصوت عال ويتكلم بصوت ضخم، يخفت احيانا اذا طالت الجملة. كما قلت، كان كلامه القوشيا صافيا ولا يغامر ولو لبعض من الوقت في بعض جمل وعبارات شقلاوية اصيلة، لعل ذلك يعود لعدم اتقانه اللغة الكردية التي لا بد منها عندنا لاية جملة بالسورث ، بغضّ النظر عن كون فعلنا لازماً او متعدياً ، يستعني عن المفعول به او يحتاج اليه !!!!!

لم نسمع عن المطران عبدالاحد الا كلّ الخير . لم تتح له كراسي ابرشيتَيه القيام بانجازات خاصة او مشاريع كبيرة وهذا يعود لشبه خلو ابرشيتيه من الرعايا وايضا للظروف غير الطبيعية التي عاشتها المنطقة ، ان كان ذلك في العقرة او السليمانية ، ظروف الحرب في الشمال . غير ان نشاطاته التي سبقت اسقفيته كافية لاخلاد ذكراه الطيبة في تاريخ الكنيسة ومجتمع شقلاوة .


190
المنبر الحر / البلادة أو الغباء
« في: 12:01 13/03/2009  »
البلادة أو الغباء

شمعون كوسا

البلادة ثقل عقلي  يمكن ملاحظته كل يوم غلى تصرفات البليد عملاً وقولاً .

فالبليد مثلا هو الشخص الذي ، بعد ان يكون قد احصى باصابعه ولعدة مرات مبلغاً معينا من النقد ، يطلب من الحاضرين او الناظرين اليه احتساب المبلغ من جديد.

واذا كان عليه المثول امام المحكمة في موعد معيّن للدفاع عن نفسه في دعوى رُفعت ضدّه ، ينسى الموعد ويتوجه الى الريف .
عند حضوره مسرحية ما ، يغطّ في النوم ولا يستيقظ الا بعد انتهاء المسرحية  ومغادرة كافة المشاهدين .

يبحث قي كل مكان ، عن شئ سُلِم اليه باليد،  وخبّأه شخصياً في مكان لا يعرفه الا هو ،  ولكنه لا يعثر عليه  .

عند ابلاغه نبأ وفاة احد اصدقائه ، لكي يشارك في مراسيم التشييع والتعازي ، فانه يحزن ويبكي ولا يخفي يأسه ، ولكنه عند الكلام ، يتخبط  ويقول : هذا شئ جيد واخيراً مات ، أو يتفوه  بحماقات اخرى . 

في مأتم لاحد معارفه ، قال لاهل الفقيد : هنيئاً  لكم ، لقد تخلّصتم اخيرا من اعباء خدمته وازعاجاته .  والفقيد هنا كان شخصا وقورا جدا ، وعزيزا على اهله واقاربه ، كان قد غدا مشلولا منذ فترة وجيزة .

في سياق الاحتياطات والاجراءات الاحترازية التي يتخذها عامة الناس عند اقراضهم مبلغاً من المال لشخص معين ، يطالب  المُقرِضون عادةً حضور اشخاص موثوقين كشهود على العملية،  وذلك لضمان حقهم في حالة تراجع او انكار المقترض او امتناعه عن تسديد المبلغ .  أما صاحبنا فانه يتصرف بالعكس تماما ، لانه يستقدم شهودا عند استيفاء ديونَه من قبل المدينين اليه  .

نراه يتخاصم مع خادمه ويوجّه اليه اعنف اللّوم في منتصف فصل الشتاء لانه لم يتمكن من شراء كمية من الخيار ، لانه لكثرة غبائه ، لا يعرف بان المحصول هذا صيفي  (نحن في زمن لم يكن هناك وجود  للبيوت الزجاجية أوالزراعة المغطاة) .

اذا قرر يوما ارسال اولاده للتمرّن على الركض او ممارسة احدى الرياضات الاخرى التي تتطلب جهدا ، فانه لا يسمح لهم بايقاف تمارينهم الا بعد ان يكون التعب قد انهكهم والعرق قد اغرقهم من قمة رأسهم الى اخمص قدميهم .

يذهب بنفسه لقطف الباميا ويطبخها بيديه ، وناسياً انه قد قد استخدم الملح ، يضيف اليها الملح من جديد الى ان يحوّلها  الى وجبة غير قابلة للاستهلاك .

اذا حدث وان هطل المطر بغزارة ، في غير موسمه ، وكان هطوله  شبه نقمة للناس وضررا كبيرا لبعض المزروعات ، فانه ينسى نفسه والناس والظروف لكي يُفلت اقوالا مثل : ان الماء التي ترسلها لنا السماء منعشة جدا وهي نعمة كبيرة .

يُروى عن احد الاخوان  الاغبياء ما يلي :  في احد الايام ، توقف صاحبنا بعربته في مكان ممنوع . فأتاه رجل يرتدي زيّا رسميا ليُلفتَِ نظره ، بكل لطف ، لوقوفه الخاطئ وطلب منه ابعاد سيارته قليلا لكي لا يتعرض لغرامة  من قبل  رجل المرور. اجابه صاحبنا الغبي على الفور والابتسامة قد  زادت من مساحة سفتيه المتجهتين شمالا : لا عليك ولا تهتمّ ، انني اعرف الشرطي المسؤول عن هذه المنطقة ، انه صديقي ولا يتجرّأ التصرف معي بهذا الاسلوب . فقال له الرجل الرسمي : ومن اين تعرف الشرطي وكيف بلغت المودة بينكم هذا الشأن ؟ فاجابه البليد : لقد اقرضته مبالغ من المال ولم اطالبه بها لحدّ الان . عند هذا ، طلب الرجل الرسمي من صاحبنا النزول من السيارة وكشف له عن هويته لانه كان  مدير المرور ، ولا حاجة هنا لمتابعة البقية .

وفي مناسبة اخرى وعن بليد آخر انتقيتُه من يين الالوف وهو يحمل رقم 20544  ، يُقال :  قام صديق لهذا البليد ، على ائتمانه سرّاً  ، فأطلعه على موضع كان قد اخفى فيه شيئا ثميتا .  بعد ايام ، مرّ بعض الناس صدفةً في ذلك المكان ، فهمّ صاحبنا بالاسراع الى الموضع كي يقول لهم باعلى صوته ، ودون ان يسأله أحد : (لا يوجد شئ مخبأ هنا( . 
وبعد فترة ، سأله احدهم عن نفس الموضوع وطلب منه اذا كان يعرف من كان قد خبأ الشئ هناك ، فاجابه على الفور : )ان من خبأه ليس فلان ، وكان يقصد به صديقه( .

كثيرة هي الامثال من هذا النوع ، لان المجتمع ملئ بهذه النماذج ولكن بنسب متفاوتة .
بعض منها يدعو للشفقة والبعض الاخر يدعو للضحك ، وهنا لا بدّ لي ان اقول : لم يخطئ صاحب المثل عندما قال : شرّ البلية ما يضحك .





بعضُه مقتيس من الادب الفرنسي




191
عن الرياء والمرائين
                                         

 شمعون كوسا


ليس من السهل تعريف هذه العادة السيئة واذا اكتفينا ببعض الكلمات نقول : الرياء فن يصوغ كلمات جميلة ظاهرُها  سارّ وباطنها ضارّ.

والشخص المرائي يمكن وصفة كالتالي :

يلتقي المرائي اعداءَه ويقف ليحدّثهم بكلام في غاية اللطف موهما اياهم بانه لا يُضمر لهم ايّ سوء اولا يكنّ لهم أية ضغينة ، كما يقوم بكيل المديح أمامهم لاحد المتواجدين معهم ، وفي الواقع انه  يفكر داخل نفسه في ايذائه في نفس النهار او في اقرب فرصة ممكنة .

يتظاهر بالاسف والحزن مع جمع آخر من الناس لمصاب يكون قد المّ بهم ، وينتهز الفرصة للتظاهر امامهم بالصفح عن اهانات تعرّض لها هو شخصيا ، ولكي يستكمل رياءه ، يكشف امامهم وبكل برودة وبتفصيل مملّ ما قيل عنه وما الصِِق به من تهم من قبلهم  لتشويه سمعته .

يستخدم المرائي الطف الكلمات واجمل العبارات لاسترضاء من يشتكون منه شخصيا وللاعتذار مّمن كانوا عرضةً لبعض تصرفاته الشائنة .

في مجال آخر ، اذا بادره احد واستعجله في أمر هام ، فانه يتظاهر بالانشغال ، ويجيبه ببعض من التبرّم : عليك العودة نهار الغد .

يُخفي المرائي باتقان كل ما يقوم به . وعندما يتحدث ، فانه  يسعى للظهور بسيماء شخص ساهِِمِِ الفكر ومنشغلِ البال وكأنه في تأمل او مراجعة ذاتية غميقة.

لا يقول المرائي شيئا اعتباطا او جزافا . فعندما يقول مثلا : انه قادم لتوّه من المزرعة ، أو يقول : انه وصل المدينة في وقت متأخر جدا ، او احيانا : بانه مرهق جدا ،  كل هذه الجمل يحتفظ بها كاجوبة لاسئلة أو مواقف محرجة قد تجابهه .

ويقول لمن يقصده في طلب بعض المال او المساهمة في مشروع معيّن ، يقول : ان مبيعاته ليست على ما يرام ، وانه لم يجد نفسه أبداً خالي الوفاض مثل هذه الايام .
وفي الوقت ذاته يصرّح لآخرين وبهدف آخر : بان التجارة على احسن حالاتها بالرغم من ضعف المبيعات .

غالباً ما ، وبعد ان يكون قد اصغى جيدا وباهتمام بالغ للكلام ، يزعم بأنه لم ينتبه لما قيل .
كما يتظاهر بانّه لم يلاحظ جيدا الاشياء التي نظر اليها مليّاً .

وفي مجال آخر يقول : انه لم يعد يتذكر شيئا ممّا كان سبق وان وافق عليه شخصياً .

أما عن الذين يكلمونه عن العمل ، ليس له ردّ آخر غير : سأرى ذلك وافكر بالموضوع .

انه يعلم بعض الاشياء ويجهل غيرها ، يُعجَبُ ببعض الاشياء ولا يبالي بالبعض الاخر ، وذلك وفقاً لمصلحة تدعوه لتأييد بعضها  وانكار بعضها الاخر .

بعض اجوبته المعتادة الجاهزة هي : اني لا اصدّق شيئا من كل هذا ، أو : لا افهم كيف يمكن ان يحدث هذا ، أو : اني لا ارى محلّي من الاعراب في هذا الموضوع .

ويقول ايضا لمن يحدّثه عن موضوع معين او يحاول اعادة شئ الى اذهانه :

انه لم يقل لي هكذا !!
هذا شئ كبير يفوق كل تصديق !!
قل هذا الكلام لغيري ولا تستهزئ بي !!!
هل تريدني ان اصدقك ؟
هل تريد اقناعي بانه قال الحقيقة ؟
وهل انا بهذه البساطة أم تحسبني طفلا صغيراً ؟
لا شك ان صاحبك مخبول لا محال !!
وعبارات اخرى لا تعدّ ولا تحصي ، كلها تندرج في سياق التنصل من الواجب والهروب من الالتزامات وانكار الحقيقة والظهور بثياب الحمَل الوديع .

كلام مزدوج ومصطنع ، كذب ونفاق لا يمتّان بشئ الى التلقائية والحقيقة ، تصرفات ابعد ما تكون عن نفس بسيطة ، مستقيمة وشفافة .  لذا ، نقول يجب الابتعاد عن المرائين وتجنبهم  كالابتعاد عن وباء خطير .

المرائي يخدع بسطاء القلب الذين يصدقون كلامه ويتعاطفون معه لانه لا يمكنهم التصور بانه باستطاعة الانسان الاساءة الى الغير عبر كلام معسول ووجه مبتسم .
لقد صدق حقا ما ذهب اليه المثل العربي أو بيت القصيد الذي قال :

يعطيك من طرف اللسان حلاوةً           ويروغ عنك كما يروغ الثعلب


اقتباس من الادب الفرنسي 



192
حكاية عن شهادة مطلق الحال
شمعون كوسا

روى لي صديق عن أحد مؤمني الله عقد العزم على الزواج ، بعد وفاة زوجته، من فتاة تقطن بلداً غير بلده . وبما انه كان لمراسيم زواجه الكنسي أن تتمّ في هذا البلد الاخر ، طولِبَ صديقنا المؤمن باستحصال شهادة مطلق الحال من البلد الذي يقيم فيه ، وهذا امر طبيعي لا نقاش فيه .
تقدم المؤمن المذكور بطلب الى الجهة الكنسية المختصّة ، وتسهيلا لسير المعاملة أرفق طلبه هذا بشهادة وفاة زوجته . بعد يومين او ثلاثة ، راجع سكرتيرة المسؤول الكنسي لاستلام الشهادة ، فاعلمته هذه الاخيرة بان اصدار الوثيقة الكنسية مشروط بحصول مسبّق لشهادةِ مطلقِ حالِِ حكومية .

فأخذ صاحبنا عصاه وغادر الى الجهة الحكومية المختصة التي أنهت معاملته في أقلّ من ساعة واحدة . فرجع حالا الى الجهة الكنسية آملا ان تُصدَر له الوثيقة المطلوبة على الفور.
غير ان السكرتيرة ذاتها طالبته بكتاب آخر لا يخلو من الغرابة ، وهو تاييد خطيّ من الكنيسة التي كانت قد قامت بمراسيم الصلاة ودفن زوجته ، فقال المؤمن البسيط : وما حاجتكم لهذا الكتاب وبحوزتكم شهادة وفاة زوجتي الرسمية ؟ ولماذا لا تطلبون هذه الاوراق من البداية ؟
ولكن أمام اصرار السكرتيرة التي كانت مجرد رسول مكلف بالتبليغ ، وجد صديقنا نفسه أمام أمر لا مفرّ منه ، فيمّم شطر الكنيسة المعنية .
لم يُخفِ راعي تلك الكنيسة دهشته من الطلب الغريب ولكنه اصدر له التأييد برحابة صدر .

راجع المؤمن بعد بضعة ايام ، متوهّما مرة اخرى بانه سوف تُسَلّم له الشهادة حالا ، ولكنه وجد نفسه امام طلب جديد يُفيد بان المسؤول الكنسي ، راغب في رؤيته . فسأل المؤمن احد الحاضرين المطلعين على مثل هذه الامور عمّا يجول في خاطر هذا المسؤول ، فاجابه ، لربما يتعلق الموضوع بدفع الرسوم المترتبة على اصدارالشهادة . فذهب اخونا المؤمن وسدّد المبلغ ولكنّ هذا لم يُلغ رغبة المسؤول الكبير العارمة في لقاء هذا المسكين .
وأثناء انشغاله بالكلام هناك ، ظهر رجل الدين على حين غرّة ، فاسرع اليه صديقنا وقبّل يده مقدّما نفسه ، قائلا : ها أنذا ياسيدي تحت خدمتك ، قيل لي انك راغب في رؤيتي ، فاجابه المسؤول بشئ من الامتعاض : ما بالك يا هذا ، ان الامور عندنا لا تسير بهذه الصورة وهذه الفوضى ، على رسلك ، هناك سكرتيرة يجب ان تراجعها لكي تحصل على موعد لمقابلتي .
كان صاحبنا المسكين قد اعتاد على هزّ رأسه حيرةً وغضباً وغيضاً لدى كل عرقلة او طلب جديد ، ولكنه في هذه المرّة لم يحتَج الى امر جديد من الدماغ لهزّ رأسه ، لانه الرأس تأرجح تلقائيا وأطال في ذلك .

حصل على الموعد ، وكان ذلك في اليوم الفلاني وتحديداً في الساعة الرابعة والربع . هيّأ المؤمن نفسه للّقاء الكبير ، اذ رجع من عمله مبكّرا وحرص على ان يتواجد هناك في الموعد المحدد . وهو في طريقه الى المقر الكنسي كان يضرب اخماسا باسداس ويفكر فيما اذا كان هذا اللقاء سيأتي بشرط تعجيزي آخر ، لانه اذا ثبت هذا الظنّ وتحقق ، فانه سيترك نهائيا هذا الموضوع الذي كان قد استغرق لحدّ ذلك اليوم خمسة عشر يوما .

وصل صاحبنا الى موعده حسب الاصول ، ولكنه رأى المسؤول الراغب في رؤيته خارجاً من غرفته ، فاسرع اليه بنيّة تقبيل يده ، ولكنه لم يَتَلقَّ من يده الاّ اصبعين صغيرين لان البقية كانت تمسك بمفاتيح السيارة .
وعندما ذكّره بالموعد ، اجابه صاحب السيادة على الفور : لقد انتظرتك لغاية الساعة الرابعة والربع فلم تحضر حسب الموعد . فضحك صديقنا المراجع قائلا : وكم الساعة عندك الان يا صاحب السيادة ؟ فاجابه : انها الساعة الرابعة وستّ عشرة دقيقة ، انك قد تجاوزت الموعد بدقيقة واحدة .
فوقف المؤمن الخائب وهو يغلي كمرجل طال انتظاره على النار وقال : وماذا عساي ان افعل الان ، وما هي اوامركم ؟ فاجابه بكل بساطة : انتظر لدى السكرتيرة ريثما اعود . فاطرق صاحبنا برأسه محاولا السيطرة على اهتزاز رأسه وضبط اعصابه ، احتراماً لمقام مخاطبه ، ودخل غرفة السكرتيرة بتأثر عميق لشعور اعتراه وكأنه شحّاذ ينتظر الصدقة .

بعد انتظار طويل رجع صاحب السيادة ودخل الى غرفته دون الالتفات الى الزائر. بعد ذلك نادى السكرتيرة للدخول بالاوراق، ومن ثَمّ طلب حضور المؤمن الذي تنفس الصعداء لدى سماع اسمه ورفع ناظريه الى السماء امتناناً لأنعامها .
استقبله المسؤول دون ترحيب وبوجه جامد ، وبادره بالسؤال : ما اسمك ؟ توقّف المؤمن قليلا قبل ان يجيبه لان اسمه كان يتصدر كافة اوراق المعاملة ، ولكنه تعوّذ من الشيطان واجاب على السؤال .
وكانت الاسئلة الاخرى ، ما اسم والدك ، ووالدتك ، وجدك ، وجدتك ؟ تاريخ ميلادك ؟ ماهو مسقط رأسك ؟ ، ما اسم الفتاة ونفس الاسئلة بالنسبة لها واسئلة مطولة اخرى ، وكان يدرج الاجوبة على قصاصة ورق صغيرة ، ما الهدف من هذه القصاصة الصغيرة والمعلومات هذه كلها كانت مدرجة لديه ، وماذا سيفعل بهذه القصاصة ؟ من الأجدى ان نقول بان الله اعلم بالنيات .

لدى انتهائه من هذا الاستجواب الذي لا يضاهيه الا تحقيق أمني ، أشار صاحبُ الدعوةِ الى زائرِه بترك الغرفة وأمره بالانتظار لدى السكرتيرة ، فبدأ الشكّ يراود الاخ المؤمن لان المسؤول لم يسلّمه الورقة . ولكنه انسحب بهدوء لانتظار النتيجة ، لانه كان قد قرر بان هذه ستكون آخر مراجعاته .
بعد انتظار لم يدم كثيرا، قرر صاحب السيادة ان يسلم الاوراق الى رفيقنا المؤمن عن طريق السكرتيرة وليس بنفسه . لم يستطع اخونا المؤمن ترك غرفة السكرتيرة قبل افراغ ما في جعبته من امتعاض وغضب للمعاملة القاسية والمضنية التي لقيها والتي كلفته خمسة عشر يوما ما بين انتظار، وكرّ وفرّ ا ، واِقبال واِدبار .

الان وقد انتهت الحكاية ، جاء دورنا لكي نتساءل ونتكلم ، لاننا مسيحيون ، مؤمنون بكل جوارحنا بالمسيح وبتعاليمه السامية التي يُفترض ان يكون المسؤول الكنسي ممثلا لها ومشبّعاً بمفاهيمها.
ألم يقل المسيح أنا الراعي الصالح والراعي الصالح يبحث عن خرافه ؟
ألم يقل المسيح من كان فيكم كبيرا فليكن لكم خادما ؟
ألم يقم المسيح بغسل أرجل تلاميذه وتقبيلها ؟
الم يقل المسيح كونوا رحماء كما انّ اباكم السماوي هو رحيم ؟
الم يقل المسيح مجّانا اخذتم مجانا اعطوا ؟
الم يقل المسيح تعالوا اليّ يا جميع المتعبين والمثقلي الاحمال وانا اريحكم ؟
ولست بحاجة للاسترسال في التطويبات الغنية بأجمل معاني الرحمة والمحبة والتواضع والفقر .

هل لاح على محيّا الاخ المسؤول شئ من هذه المبادئ ، التي يجب ان لا نشك ولو للحظة ، بانها مغروسة لا محال في اعمق اعماقه ؟ !!!
هل هناك مقطع في الانجيل يبيح للمسؤول الكنسي النظر من عليائه الى رعاياه ، واصدار اوامره اليهم كسيد يتعامل مع خَدَمِهِ ؟
هل ان تعاليم المسيح موجّهة للناس البسطاء فقط دون الزام المسؤولين الكنسيين بتطبيقها، هُم، المؤتمَنين عليها ؟
هل لأن العالم قد تطور ، يجب ان نفهم بان هذه التعاليم قد تطورت وفقدت شيئا من قوتها ، او لربما يجب ان نفسرها بنوع آخر ؟

اذا رغب الانسان في ان يعلوَ شأنه ويكبر بعيون الناس فان ذلك يتحقّق عبر تواضعه وبساطته . فاذا اكتفينا بمطالبة المسؤول الكنسي بحدّ ادنى من طريقة التعامل العام وليس الانجيلي ، يجب ان نقول بانه عليه تسهيل امور رعاياه وتبسيطها بصدر مفتوح ووجه بشوش ، وليس تعقيدها وايصالها الى طرق شبه مسدودة .

لستُ واعظاً ، ولكن لا بدّ لي ان انتهي بالقول : ان رصيد رجل الدين هو ثقة الناس ، فاذا ابتعد الناس عنه ، وهذا ليس مستبعدا جراء مثل هذه التصرفات ، واذا انعدمت هذه الثقة ، فحينذاك يكون الملح قد فقد طعمه والنور قد خبا . فأين سيجد مسؤول الرعية عندئذِ نفسه من كلام المسيح الذي قال : انتم نور العالم ، وانتم ملح الارض ؟

193
عن الافتراء والمُفترين


شمعون كوسا

نستطيع تعريف الافتراء كما يلي : انحطاط خفي في النفس يقود للظنّ بالسوء بجميع الناس ، ظنّ يُعلن عن نفسه عبر لسان طويل جدا لا يهدأ له البال الا بالكذب والتلفيق علناً امام الناس .

للعلم فقط اريد ان اوضح : بان الافتراء غير النميمة ، لأنّ هذه الاخيرة تقتصر على الحديث عن الناس وكشف اسرارهم للاخرين .

اما عن الشخص الذي يمارس هذه الرذيلة، وهو المفتري ، فهذه هي صفاته :

اذا صادف وأن سُئل المفتري يوماً عن شخص غريب ، أو اذا طُلِب منه ان كان يعرف هذا الشخص ، ينهض صاحبنا بابتسامة عريضة ويقول في سرّ نفسه : انكم قد عثرتم ، بشخصي ،على من يستطيع استئصال جذور هذا الرجل . ودون ان يعرف الشخص موضوع البحث ، يشرع بالقول :

كان يطلق الناس على والد هذا الشخص اسمَ الطرطور وقد عمل لفترة من الزمن في بداية حياته سارقا مع مجموعة من قُطّاع الطرق ، وبعد ذلك رآه بعضهم يعمل خادما ذليلا لدى عائلة نصف افرادها معوّقو العقل والجسم . ،كان يقوم ، لدى هذه العائلة ـ بكافة الخدمات ، من جمع الحطب وتنظيف البيت وغسل الملابس والاهتمام بالدجاج والابقار والخيل وتنظيف اسطبلاتها . ترك العمل في سنّ متقدمة وانزوى في قرية نائية ، بعيداً عن عيون الناس وتقريعاتهم . أمّا عن والدته ، فحدّث ولا حرج . ان مسقطَ راسها قرية اشتهرت بجمع مخلفات الحيوانات ورجالها يمتهنون مهنة تنظيف المجاري . هي سليلة عشيرة عرفت الشرف بمعناه المعكوس ، عشيرة سيّئة الصيت ، والانكى من ذلك كله ، فان اهلها يتباهون بهذا دون خوف او وجل .

فالشخص الذي سألتموني عنه ثمرة هذين الوالدين النزيهين ، ذوي الحسب والنسب . انه باعتقادي وباختصار شديد يستحق ان يُحرق حيّا ، لا اعرف لماذا . وعودةً الى والدته ، لقد فاتني ان اقول لكم بانه ليس هناك رجل لا يعرفها ، وما من احد لا يبتسم عند ذكر اسمها ، حيث انها ، كانت تُكنّى بخاطفة الرجال ، لانه لم يسلم اي رجل من حبائلها .

في سياق آخر وفي مناسبة اخرى ، سمع صاحبنا المفتري احدَ الحاضرين يتكلم عن شخص معيّن بنوع من عدم الارتياح وببعض الامتعاض ، فيقوم صاحبنا على الفور لكي لا تفوتَه هذه الفرصة الثمينة ، فيتدخل في الحديث مباشرة ودون استئذان ، وهنا ايضا دون ان يعرف اصلا المتحدّث ولا شيئا عن الغائب موضوع الحديث ، يتجرأ بالقول : انا متّفق معك كل الاتفاق يا صديقي ، انّ مَن تتكلمُ عنه ، شخص مكروه جدا ولا اطيقهُ أنا شخصيا ، حتى ان منظره الخارجي مريب و لا يدعو للارتياح ، انه انسان ثقيل الظلّ ، واني لأستغرب جدا كيف تقوى زوجته على العيش معه ، لا شك انها من نفس خامته .

ويتابع حديثه عنه قائلا : هل هناك أخبث واحقر من رجل هذه هي تصرفاته ؟ هل تعرفون ما هو المبلغ الذي يتركه لزوجته يوميا كمصروف للطعام وغيره ؟ دينارين فقط لا غير. ولعلّكم لا تصدقوني اذا قلتُ لكم بانه في منتصف فصل الشتاء ورغم شدّة البرد القارس ، يُلزم امرأتَه بالاغتسال بالماء البارد . انه انسان عديم التربية والاخلاق ، وبهذا، لست بحاجة لاكلمكم عن اطفاله الذين ترعرعوا تحت كنفه لانهم نسخة مطابقة لوالدهم في تعاملهم مع اقرانهم في المدرسة ، ناهيك عن عاداتهم السيئة في الشتم والبصق على الارض واستخدام اطراف ثيابهم لمسح انوفهم ، وفي كل ما قلته لكم الان ، بقيتُ في حدود الاداب خشية خدش الاذان وايقاف شعر الرأس لامور لا يليق الكشف عنها .

وهنا يسكت المفتري قليلا . ويجول بناظريه علّه يعثر على فرصة اخرى للكلام ، فيرى احد الحاضرين يترك المجلس عائدا الى بيته ، فيفتح فمه ويبادر الحاضرين قائلا : هل تعرفون من هو هذا الذي ترك المجلس ، انه شخص غير وفيّ لزوجته وغارق في الديون جرّاء تورّطه في لعب القمار والانصراف الىالملاهي الليلية ومعاشرة الراقصات . وهكذا يستمر صاحبنا بكلام مستطيل ويسترسل في اطلاق ألقاب لا تُطلق عادة الا على المجرمين واصحاب السوابق .

وفي يوم من الايام ، اتى احدهم على ذكر احد الاموات ، فما أن سمع صاحبنا حتى هبّ من مكانه وبدأ بالكلام عن هذا الشخص المتوفّى باقسى العبارات وافرغ كلّ ما في جعبته من سواد. استغرب المتحدث الاول الذي كان ينوي التّحدّث عن فضائل المرحوم ، واعترته سورة غضب شديدة ، فبادره مؤنّباً : هل انك تعرف المرحوم ؟ فاجابه صاحبنا : كلاّ ، ولكني سمعت عنه الكثير . فقال له : وممّن سمعتَ عنه ؟ اجابه : من الناس . فلم يتمالك المتحدث نفسَه وصرخ بأعلى صوته قائلا : الا تخجل من نفسك يا ايها المفتري ، الا يكفيك تقريع الاحياء حتى تنتقل الى الاموات الذين لا ياتي الناس على ذكرهم الا بكل احترام وبطلب الرحمة على ارواحهم ؟ حتى هؤلاء لم يجدوا ملاذا يتّقون فيه شرّ لسانك القذر ؟

وفي مجلس هادئ آخر ، أراد المفتيري كسر طوق الصمت المخيم على المجلس ، فبدأ يتكلم عن احد اصدقائه الشخصيين . ومن دون أية مقدّمة ، بدأ بوصفه بما ذلّ من النعوت وما وطئ من الرذائل ، فلم يتحمل الحاضرون ، لان السيل كان قد بلغ الزّبى و الكيل طفح ، وبدأوا بسحب انفسهم وتركوا المجلس تباعاً وبصمت . فبقي صاحبنا لوحده مواصلا هذيانه ، وكأنّ لسانه أبى الاّ ان يُكمل ما كان قد سُجّل عليه . وعندما رأى نفسه معزولا لوحده قال : لا يهمني حضور الناس ، ألا يُقال : ان للحيطان آذانا ؟

المفترون قوم لا يستعينون بعقولهم أوضمائرهم ، لسانهم الذي اعتاد على الكذب والتلفيق ورؤية الشر ، هو قائدهم ، فقد كبَتَ هذا اللسان على صدورهم وشلّ عواطفهم الانسانية التي لولا هبوطه وانحرافه ، لعادت لفطرتها من جديد في الكلام والتفكير وتمنّي الخير والمحبة لكافة الناس .

بعض خطوط المقدمة مستوحاة من كاتب فرنسي
kossa_simon@hotmail.com

194
يوسف صليوا كورا/ يوسـﭗ دوختَر- اعدم بجرم انقاذ انسان من الموت!


شمعون كوسا

وهناك من كان يناديه في سنوات لاحقة ياسم (يَوسـﭗ موكانا) ...
كل ما سوف أقوله عن هذا الرجل هو شئ عادي لا يخرج عن نطاق المألوف، لاني بعد سرد حياته المهنية اريد الوصول الى ما ميّزه بين الناس واضفى على نفسه مسحة شبه مقدسة رفعته الى منزلة سامية .
لا شك ان يَوسـﭗ دوختر خدم في كثير من القرى المجاورة البعيدة والقريبة، غير أنّ القسم الاكبر من حياته امضاها في مسقط رأسه واستمر في نشاطه. ان المضمّد أو العامل في سلك الصحة هو كرجل الدين، يستمر بتقديم خدماته في بلدته حتى بعد الوصول الى سن التقاعد .
وما ميزه عن الكثيرين من اقرانه هو انه كان رجلا شجاعا، ولعلّ هذا كان سرّ اعجاب الناس به وما جعله يرتبط  بعلاقات وثيقة مع مسلمي المنطقة الذين كان يعالجهم بمثل ما كان يفعله للمسيحيين .
انتهى يَوسـﭗ دوختر شهيدا بكل ما تحتويه هذه الكلمة من معنىً . بالرغم من مرض السكري المتقدم الذي كان يعاني منه، ومنذ سنوات عديدة ، تمّ القبض عليه من قِبَل الحاكمين آنذاك ، أي سنة 1987 بتهمة معالجة شخص كردي  كان قد سقط جريحا امام بيته واستغاث به .
قُبض عليه لانه لم يتوانَ عن تأدية واجبه المقدس ، عطف على رجل من أهل المنطقة ورفق به فضمّد جراحه وحاول انقاذه من الموت .
قُبض عليه واختفت آثاره وأخباره لمدة ستة أشهر لكي تبدأ هذه الاخبار بالظهور على حين غرّة وتنتهي حالاً وبنفس الطريقة بموكب وقح توقف امام بيته حاملا جثة هامدة . سُلّمت الجنازة  الى اهل الفقيد مع سلسلة من الاوامر  :   - يُمنع عليكم  البكاء او الانتحاب ولا يجب ان تعقدوا مجلس تعزية ، كما عليكم ان تُسدّدوا ثمن الرصاصات التي اطلِقت علي أبيكم - .  ألا يتوقف العقل هنا أو ينفجر؟  يُقبض على انسان لانه عالج جريحا عراقيا ، وُيعدم بتهمة الخيانة العظمى ، والانكى من كل هذا ، بعد هذا الظلم والكفر يطالبون بكل وقاحة اهله بثمن الرصاصات التي اعدموا بها حياته . هو انقذ انسانا وهم قتلوه ويطلبون مكافأة لعملهم هذا . 
ولا بد ان نذكر هنا شهيدا آخر انتهي بنفس الطريقة وهو جهاد توما بيا ، ابن ﭘيره  وحانوكى، أما هنا ، فقالوا لاهله وبكل بساطة وبكل صلف : تعذرونا لان اعدامه كان سهوا .
 شَمَلت أيضا نفس الرحمة كوكبة أخرى من أبناء شقلاوا الأبرياء الذين انتهوا نفس النهاية، من ضمنهم اربعة اخوة من عائلة مام اسو، الساكنة عند السوق السفلي، وذنبهم كان أنهم وقفوا امام دارهم ينظرون الى مظاهرة كانت تمرّ امام بيتهم، مظاهرة سلمية لم ترضَ الحكومة عنها آنذاك. كانوا حتما سينجون من الاعدام لو لم تكن لهم دار ليقفوا امامها أو عيون لينظروا من خلالها !!!!!!
لا نعرف كم تعذب يوسـﭗ دوختر في هذه الفترة  وكم مرة عُذِّب في النهار وما كانت فنون تعذيبهم  قبل ان يتكرّموا عليه بنعمة الشنق ويطالبوا بثمن الاطلاقات ، وهل وفروا  له  العلاج لانه كان بحاجة ملحّة الى علاج مكثّف يتكرر عدة مرات في اليوم الواحد .
قد يقول قائل، وعلى الارجح الغريب، ان ما تقولونه يدخل في نطاق القصص الخيالية والخرافات، ولكننا نجيبه : مع الاسف الشديد ليس ما نقوله الا تعبيرا هزيلا عن الحقيقة، لان هذا الشخص ومن ذكرناهم  معه هم أهلنا .

ابتداءً ، كان الواجب الانساني يُملي على الشهيد معالجة هذا الجريح ، وفق كافة المعاهدات والمواثيق الدولية ، هذا ،  قبل ان نتكلم عن واجبه المسيحي الذي يذكره المسيح في انجيل متى بوضوح عن اسعاف المريض ، ويأتي بعد ذلك واجبُه تجاه بني القوم واهل المنطقة . كل هذه الواجبات المقدسة اعتُبرت جريمة استحقّ مرتكبها ابشع عقاب لم  يشهد التاريخ مثيلاً  له . هذه الحالة والعشرات والمئات والالوف ، لا بل عشرات الالوف منها ـ ارتُكِبت بحق هذا الشعب المغلوب على امره . وهل تتصورون بان هذه كلها كانت اكثر من الدخان الذي كان ينفثه القائد من سيكاره كل يوم ، فيتصاعد لكي تتقاذفه الرياح فيضمحل ويختفي .

كنت قد آليتُ على نفسي أن لا اتقرّب الى السياسة ولكنها هي التي اقتربت منا كثيرا ولاحقتنا واتخذتنا رهائن  واجتاحت جسمنا بكافة شرايينه والى ابعد شعيراته . تغلغلت الى اضلاعنا وتسربت الى ثنايا صدورنا وطيات أحشائنا والتصقت بنا الى حدّ اننا في ابسط حركاتنا كنّا نمسَسها ولا نعرف كيف نتجنّبها ، فاصبح كلامنا يزعجها ، انفاسنا تزعجها ، فصارت تهددنا وتحاسبنا على بسماتنا وتنهداتنا وافكارنا  واحاسيس محبتنا ومشاعرنا نحو اخوتنا ،  اعتبرتِ السياسة كلّ حركة تصدر منا مساساً بحقوقها ، فغدونا  نتمنّى ان تُعدَم حواسّنا كاملة وتُشلّ لكي لا نتسبّبَ في ازعاج السياسة العراقية ونبقى في الوجود فقط بعيون مفتوحة ، هذا ما كانت تريده منا السياسة الفلجاء ، ولكنها لم تكتفِ بهذا للمرحوم يَوسـﭗ دوختر ،فدفعت السدّاد الى نهايته ،  وشلّت حركاته وازهقت روحه ، لانه كان قد ازعجها باسعافه جريحا .

اننا صببنا جام غضبنا على السياسة ، في حين أنّ السياسةَ لم تكن يوماً بهذا القدر من البشاعة الاّ في بلاد الرافدين ، في زمن  قاد هذه البلاد سياسيّون من نمط  خاص .

 


195
المنبر الحر / منصور طوبيا
« في: 22:52 20/11/2008  »
منصور طوبيا


شمعون كوسا

انّ لمنصور طوبيا دَيناً في اعناق أغلب اهالي شقلاوة ، ومن أبسط الواجبات التي يفرضها هذا الدّين هو ان نذكره بكل خير ونُثني على ما قام به من اعمال ونُشيدَ بما نفذ من انجازات . دخل منصور طوبيا ، بأخلاقه أوّلاً ، قلوبَ مسيحيّي شقلاوة وعقولَ الذين عاصروه ، لقد خدم شقلاوة أو ساهم في عمرانها لثلاثة عقود ونيّف ، ابتداءً من الخمسينات والى نهاية الثمانينات . انه رجل ترك بصماتِه على لوحة شقلاوة السكنية ، و قام كالفنان برسم جزء كبير من هذه اللوحة ومَهَرها بتوقيعه ، لاسيما الجزء السفلي منها ، اي منطقة البساتين.

بدأ منصور طوبيا ، او اوسطه منصور كما كان يسميه عامة الناس من اهل شقلاوة ، أو ايضا خالَ منصور كما يسميه اهل عينكاوه ، بدأ ببناء كنيسة شقلاوة الاولى في الستينات ، واستمرّ من بعدها بتشييد البيوت والمدارس والمشاريع الصغيرة الاخرى . مُعظم مَساكِن أهل شقلاوة بُنِيت على يده .
لقد ساهم ، نوعاً ما وبصورة غير مباشرة ، بانهاءِِ تدريجيّ للهجرة الموسمية التي كانت قد اعتادت عليها العوائل ، اذ انها كانت تتّجه في الشتاء الى القرية القديمة للاقامة في بيوت طينية مبنية عند سفح جبل سفين ، قرب الكنيسة القديمة التي يرقى تاريخها الى قديم الازمان . وفي الصيف ، وعند مستهلّ الربيع ، كان يبدأ انتقالهم للبساتين لقضاء موسم الصيف ، من شهر ايار ولغاية شهر ايلول . كانت بيوتهم الصيفية عبارة عن أسيجة عالية مستديرة او مربعة الشكل مثبّتة على مساحات صغيرة تستخدم للافتراش ارضا . كانت هذه المآوى المؤقتة مصنوعة من اغصان البلوط واوراقه .
وهذه الصروح الخضراء كانت تلتحف السماء سقفا ، وكونُها مصنوعةً من الاغصان ، فانها لم تكن تصدّ الرياح او الهواء ، كما لا تعترض مرور الحشرات من كافة الانواع حتى القارصة منها أوالسامّة التي كانت تكتضّ بها البساتين ، واني كنت أخال هذه المخلوقات وكأنها تفرك يديها وتقول في سرّ نفسها : واخيراً اهتدينا للمدينة الفاضلة التي روّج لها افلاطون لاننا نرى في هذه (الكـﭘرات) شبه المفتوحة رمزا للديمقراطية والحرية ، غير انها كانت تجهل بان دخولها فيها كان الوقوع في شباك منصوبة تقود ها نحو حتفها والى مثواها الاخير، لاني لم أسمع عن أحد يوماً يداعب عقربا او يبتسم لحيّة قبل قتلها ، عدا التي مرّت مرور الكرام بخفية وبنيّة سليمة ، وهذا ليس من شيم العقارب والحيّات !!!

ساهم اوسطه منصور في بناء الكثير من المساكن الجديدة ، كما قام بمعالجة ما كان مبنيّا قبل ذلك ، اذ حوّل السقوف الخشبية المغطاة بالتراب الى سقوف خرسانية صلبة وثابتة . ومع تقدّم البناء الخرساني الثابت ، ترك الناس وبسرعة عادة انتقالهم الموسمي الى القرية لانتفاء الحاجة اليها ، وبات الجميع يقطنون بيوتهم المريحة والقريبة ايضا الى كنيسة جديدة ، كانت تعتبر عصرية لذلك الزمان .
امّا بيوت القرية القديمة ، والتي كانت أصلاً آيلةً للسقوط ، فان اهمالها لسنة واحدة فقط كان كفيلا بانهيارها كاملا ، لأن الامتناع عن صيانة السقوف الطينية وعدم استخدام الحادلة الحجرية اليدوية (الباﮔوردان) في كل ليلة ممطرة او مُثلجة ، يؤدي الى سقوط البيت لا محالة .

كان اوسطه منصور بنّاءً ومهندساً ايضا دون ان يكون قد درس الهندسة . لقد اكسبته خبرتُه العديدَ من التقنيات والفنون المعمارية . كان يبني ويصمم ويُبدي ملاحظاتِه في الخرائط ، وكان شبهَ مرجع في المنطقة في هذا الاختصاص . ان بمثابة مدرسةِ تَدَرّبَ فيها كثير من شباب شقلاوة وتعلموا فيها مهنة البناء ، وانّي لَعلى يقين بأن بنّائي منطقتنا الحاليين قد مرّوا جميعُهم في مدرسة اوسطه منصور لانه ، بالاضافة الى اخوته ، كان يُشرِك معه في العمل كلّ من يهوى المهنة ، ومن المعروف أنّ مجال البناء طريق يوصل العامل فيه ، تدريجياً ، الى اقتناء مهارة كبيرة ترفعه الى درجة المعلم او الاستاذ ، ألا يقول المثل الشعبي بهذا الخصوص : )صانع الاستاذ ، استاذ ونُص(؟

واذا تركنا مجال البناء جانبا لنعود الى شخصيته وكفاءاته الاخرى نقول :
كان لاوسطه منصور حضور قويّ جدا بين الناس ، في افراحهم كما في احزانهم . كان اوسطه منصور سبّاقا في التوجه الى المقبرة للمساهمة في ترتيب القبر وتسهيل مهمة انزال الجنازة فيه ، سواء كان ذلك في شقلاوة أم في عينكاوة. اشتهر منصور طوبيا في رثائه والحانه الحزينة في المآتم . عند حضوره جلسة تعزية وحال دخوله القاعة ، كانت ترسل النساءُ في طلبه . كان يتغنّى بمراثيه مستخدماً كلمات مِلؤها الشجن وبصوت يقطر دماً .
كان يضع يده تحت اذنيه فيناجي اعماق النفوس بالفاظ تنفذ مباشرة الى قلوب منكسرة لا تحتاج الا صوتاً رخيما وكلمات رقيقة كي تصدر الآهات وتفتحَ مآقيَ العيون لتتفجّرَ بكاءً وحناجر تملا الدنيا عويلا وانتحابا . فكانت الرؤوس تبدأ بالتمايل والأيادي تطرق الصدور بايقاع رتيب ووتيرة تنسجم مع تضاريس اللحن وذبذبات الكلام ، وكان لا يهدأ بال المنتحبات من بين النساء الاّ بالاستزادة ، وكان اوسطه منصور يستجيب لطلبهن ويزيد . أما الرجال ، فانهم كانوا يكتفون بالاصغاء ، مطأطئي الرأس ، والوجوم مرتسم على وجوههم . ان هذا تعبير طبيعي ومتنفّس لا بدّ منه لاطفاء النار المتأججة داخل الصدور ، ولكن يجب ان يبقىهيجان العواطف هذا تحت السيطرة على قدر الامكان ، وأن تظلّ الحالة فى حكم المعقول .
غالباً ما ، كان اوسطه منصور يستخدم اللغة الكردية ، يتغنى بنصوص ، بعضها مرتجل والبعض الاخرمقتبس من قصص لمشاهير ثُكِلوا باولادهم او احد اعزائهم . كان مَعيناً لا ينضب ويقوم بهذا الدور بانسجام وجرأة وتأثر حقيقي .
وفي مجال شجاعته هذه ، اذكر يوما في مجلس تعزية احد اولاده الشهداء في عينكاوة ، طلب مني اوسطه منصور قولَ لحن حزين بصوتي ، ولكني لم اتمكن من ذلك لانحباس صوتي وتأثري ، فقام هو برثاء ابنه بلحن وكلمات ابكت جميع الحاضرين .

واذا استمررنا في نفس السياق نقول عنه :
ألم يُصَب منصور طوبيا ، هو شخصيا ، بأكبر المصائب ؟ ألم يكن الوحيد او من بين القلائل أو النادرين الذين فقدوا ثلاثة من اولادهم ؟ ألم يوارِ اولاده الثلاثة وهم في مقتبل العمر ، شباباً كانوا على موعد مع المستقبل وعلى عتبة حياة سعيدة وهانئة ؟ لقد ذهبوا ضحية غرور المجرمين . أليس موتهم هو الذي قطّع ، في كل مرة ، اوصال والدهم ؟
انّ أرسخ الابنية وامتنها ينهار بعد تعرّضه لهزّة ارضية قوية ، الاّ ان ما هبّ على منصور طوبيا لم يكن هزة خاضعة لمقياس ريختر ولكنه مجموعة سيوف قطّعت الشرايين وانصالِ تراكمت لتصيب القلب في الصميم . أو ليس هذا سرّ اختفائه في سنّ مبكرة جدا ؟ هل يُعقل ان يموت بهذه السهولة رجل قوي ، شجاع وراكز ، لم تكن تهزّه أعتى الرياح ؟

كان لمنصور طوبيا شخصية قوية ويتمتع بخبرة كبيرة في الحياة . كان رجلا ذكيّا وحكيما ، كان يحتكم اليه الكثير من الناس ويسمعون رأيه . كان رخيم الصوت ويعرف مختلف ألوان الغناء الدنيوي والديني . أنا شخصيا ، على سبيل المثال ، تعلمت منه قصة الراهب الفقير ، لحنا وكلمات : )حُكيثة دربّن فقيره( .

كل هذا ، والكثير الذي لا اعرفه او لم يحضرني ، يعطي لاوسطه منصور مساحةً واسعة في لوحة رجالات شقلاوة . انها صورة رجل عزيز وذكرى شخص دخل حياة كثير من الناس، هزّ جوارحهم وعاد ليكفكف دموعهم وساهم في ضمان مأواهم ، او ليس السكن ، أوّلَ ما يسعي اليه كلّ من ينوي بناء نفسه ومستقبله ؟ غمرك الله برحمته يا - اوستا منصُر - .

kossa_simon@hotmail.com


196
لماذا ننتقد رجال الدين -------

شمعون كوسا

في معرض الحديث عن رجال الدين ، كثيرا ما نسمع بعضهم يقول : رجال الدين هم بشر مثلنا وبحكم ذلك فانهم معرّضون للخطأ .
اريد ان اعلق قليلا على هذا الموضوع :
ابتداء اقول نعم ان رجال الدين هم بشر ولكنهم بشر من نوع خاص ويختلفون عنا بما يلي .

ـ يتقبل الكاهن سر الكهنوت )وهي اعلى درجة لاهوتية في المسيحية) ، بعد سنوات طويلة من الدراسة المعمقة والتعبد والتأمل . خلال هذه الفترة ، يبلغ طالب الكهنوت درجة الوعي التام ويصبح على دراية واضحة بما له وما عليه .
ـ بمجرد رسامته ، او وضع يد المطران عليه في هذه المراسيم ، تحل على الكاهن قوة عظيمة تمكنه من تقديم الذبيحة الالهية وتحويل الخبز الى جسد المسيح والخمر الى دمه ، وهذه المعجزة الكبيرة لا يقوى على اجتراحها لا شمعون ولا يعقوب ولا حتى يوحنا من عامة الناس .
ـ في نفس هذه الرسامة يكتسب الكاهن سلطة اخرى وهي منح الحلة الى المعترف والصفح عن اكبر خطاياه اذا كان اقراره هذا مقرونا بتوبة نصوح .
ولا اريد هنا احصاء الصلاحيات الاخرى التي كلها تجعل من الكاهن انسانا غير عادي .

ان رجل الدين (كاهنا كان ام اسقفا ام غيره) هو رجل مقدس رغما عنه ، وهذه هي نظرة الناس الحقيقية اليه ، يرون فيه شخص المسيح ولا يتوقعون منه غير حياة الانجيل وتطبيق تعاليم المسيح ، ولهذا فان اية زلة تصدر منه ، مهما كانت صغيرة ، تبدو لهم كبيرة لانها تلوث صورة المسيح التي يرونها فيه .

لمَن يرى من الكهنة الجدد وحتى القدامى منهم بان الزمن قد تغيّر وان الامور لم تعد كالسابق ، نقول بان الاغراءات فقط هي التي قد كثرت وتنوعت ولكن المسيح لم يتغير والانجيل هو نفسه وتعاليمه ثابتة ولا تتحمل اي تأويل او تفسير مخفف .

على الذي يصبو الى اقتبال هذا السر وحمل هذه الرسلة الثقيلة ان يتأكد من دعوته لاننا نلاحظ ، ولسوء الحظ ، ان بعضا من رجال الدين وكأنهم قد اخطأوا دعوتهم .

اننا لسنا هنا بصدد اسداء النصيحة الى رجال الدين لاننا نعرف باتهم لا يرتاحون الى ذلك و لا يقبلون بها اساسا ، ولكننا نقول بانه يجب على الكاهن ان يحترم مكانته االمقدسة وكيانه المميز جسدا وروحا وان لا يستغل ايمان الناس وثقتهم به . قد يغفر الناس مرة او مرتين ولكن يجب الاقتناع بان الناس قد بلغوا في هذه الازمنة درجة من النضج والوعي تجعلهم غير قادرين على الصفح عمن يخونون المسيح .

نسمع كثيرا ممن يردّدون في هذا المجال قول المسيح : اسمعوا اقوالهم ولا تفعلوا افعالهم . ان حديث المسيح هذا كان موجّها الى الكتبة والفريسيين المرائين ولا يمكن التفكير ولو للحظة بانه كان يقصد به ممثليه على الارض .
فمن اجل الكاهن ورعيته ، نقول باننا يجب ان نلجأ الى انتقاد رجال الدين انتقادا بنّاءً، اما السائرين في غيّهم مع سبق الاصرار فيجب التحذير منهم لكي لا يتوهم فيهم البسطاء ويحذوا حذوهم كأنهم سائرون في طريق قويم .
لا حاجة لنا هنا لسرد ما يُبعد الكاهن عن رسالته ولا المجالات الحساسة التي يلاحظها الناس فيه لانها معروفة وهي تتلخص عامة بمبدأين : حرص الكاهن المخلص على التجرد والحفاظ على نقاوة النفس وهذان يعنيان الكثير ويبعدان عنه كل الشكوك لان المسيح قال : الويل لمن تأتي على يده الشكوك .

وللحديث بقية[/b] [/size] [/font]

197
زيارة مفيدة الى كوماني
شمعون كوسا

اثناء تواجدي في شقلاوة ، وبدعوة من صديقي المطران ربان القس ، توجهت مع العائلة الى كوماني ،مسقط رأس المطران ربان الذي يتولى حاليا ادارة ابرشيتي العمادية واربيل.

ذهابا ، سلكنا الطريق المتوجّه من خليفان مرورا بميركه سور وبله وبارزان وكلي بالنده حيث المناظر الطبيعية الزاهية بجمالها ومساحاتها الخضراء المترامية الاطراف والمرتفعات ذات الاتربة المائلة للاحمرار والقرى العامرة بالسكان .
استغرق السفر زهاء ثلاث ساعات . حللنا ضيوفا على المطران ربان الذي استقبلنا بالحفاوة التي الفناها منه ، حفاوة لا يتكلف فيها لان الله حباه بوجه بشوش وطلعة بهية يعكسان سعة قلبه .
قبل ان نصل الى غرفته ، ابصرناه فوق سطح الكنيسة وتحت اشعة الشمس الحارة ، يقوم بالاشراف على هدم الكنيسة من اجل اعادة بنائها بمساحة اوسع وطراز جديد .

كان قد اعدّ لنا برنامج زيارة ابتدأ في الساعة الخامسة بعد الظهر . كان اول تحركنا صوب مزار مار عوديشو المتكون من كنيسة قديمة جدا تقع شمال كوماني مباشرة . يؤمّ  المزارً هذا مسيحيون ومسلمون ، من محليين ومغتربين قادمين من كل حدب وصوب .
 
كان المطران ربان يتوجه بالكلام الى الحاضرين من الذين يعرفهم ويتعرف ايضا على الوجوه الجديدة والبعض منهم كانوا ينادونه ابونا لانه لم يكن في زيّه الاسقفي الرسمي ، مكتفيا بزي الكاهن البسيط. كان يخاطب الجميع باسلوبه الجذاب  .

محطتنا الثانية كانت بلدة ارادن التي توجهنا اليها عير انيشكي  .  كنت قد قمت شخصيا بزيارة ارادن قبل حوالي عشرين سنة ولكن حينذاك لم أطأ الا ارضا مقفرة خالية تماما من السكان ، اما الان فانك تدخل مدينة تعج بسكانها حيث قد عادت عوائل كثيرة الى اراضيها في بيوتها القديمة او في بيوت جديدة شيدت لهذا الغرض . كان الهدف من توجهنا الى ارادن زيارة الكنيسة القديمة التي شيدت تخليدا لذكرى الشهيدة سلطان مادوخت ،  شفيعة القرية .
بجهود المطران ربان ، أُخرجت هذه الكنيسة ، التي يرقى تاريخها الى الجيل السادس أوالسابع ، من تحت الانقاض والاتربة الكثيفة التي تراكمت عليها بمرور الاجيال . كانت هذه الاتربة تغطي ثلث المبنى من الاسفل ، اعني الجزء الاصلي باحجاره الاثرية التي تروي لنا الكثير عن غابر الازمان .
بعد ابراز اسفل المبنى من طبقات التراب المتراكم ، تم تعزيز البناء بسقف من الاسمنت المسلح فوق السقف الاصلي المشيد اصلا بطريقة (العقادة) ، ومن الداخل تم تعزيز العقادة بعدة جسور، مساند تعطي للمبنى زخما كبيرا ومتانة تساعدانه على مقاومة الاعاصير والتقلبات الجوية .
 
بمعية المطران دخلنا الى بعض البيوت هناك ، وكان ربان في زياراته هذه لا يستثني المسلمين الذين يلقاهم هناك ، حيث كان الجميع يهبّ لتحينه .

 في صباح اليوم الثالي بدأنا المرحلة المهمة في سفرتنا ، اذ يمّمنا شطر دهوك لزيارة صرح كبير   وانجاز يدعو للفخر والاعتزاز قام بتنفيذه المطران ربان بمؤازرة بعض الجهات الخيرية والرسمية . انها المدرسة الدولية The International School  . اعدادية مختلطة تضم  ما يقارب 200 طالبا من كافة المدن والقرى ومن مختلف الاديان والاجناس . بالاضافة الى المنهاج الحكومي الذي يتم تدريسه باللغة الانكليزية ، هناك تدريس للغة الفرنسية واللغة الارامية .  من طرائف الامور بهذا الخصوص ، علمنا بان الطالبة التي حازت على المرتبة الاولى باللغة الكلدانية لهذه السنة كانت ابنة الملاّ (رجل دين مسلم) ، وهذا شئ يدعو للاعجاب والتقدير .
التقينا الطلاب وتحدثنا اليهم وكان المطران ربان ، مؤسس المدرسة ، لا يهمل طالبا او طالبة الا ويبادرهم بالكلام ويحضنهم ويقبلهم ويستفسر عن بعض مشاكلهم وتطور امورهم الاخرى . كنا نلحظ باعجاب كبير الحبًّ الذي كان يغمرهم به وايضا تعلق الطلاب الشديد بشخصه .
قبل ان نترك المدرسة التقينا السيد وحيد (مدير المدرسة) وهو شخص يتكلم الفرنسية بطلاقة . كلمنا الاستاد وحيد عن اهداف المدرسة وركز على التربية التي يحصل عليها الطالب اذ ينصب اهتمام المدرسة على خلق روح المحبة والانسانية والتسامح في قلب كل طالب . قال : اننا نهتم بالانسان بغضّ النظر عن معتقده او قوميته . كان يتكلم باسلوب يدخل مباشرة الى القلب ، كيف لا وهو يمشي على خطى ربان ، الرجل المشبّع بكافة هذه الصفات .اطّّلعنا ايضا على القسم الداخلي الذي كان قيد الانشاء وفي مراحله النهائية ، انه بناء سيحتضن خمسين طالبا .

لقدرأيتُ المطران ربان فخورا جدا بهذا الانجاز الذي يحتل مكانة خاصة في قلبه . والحق يقال ، انه عمل فريد من نوعه في المنطقة ومن شأنه ان يلعب دورا مهما في تطوير العقليات وانشاء جيل جديد مؤمن بالقيم الانسانية التي تؤدي في النهاية الى خلق جو من التسامح والتعايش والمحبة بين الناس وهذا ما نحن بأمس" الحاجة اليه الان . او ليست هذه الاهداف من اهم الشعائر المسيحية ،  او ليس هذا ما يدعو اليه المسيح في الدرجة الاولى ؟ لذا فاني اقول جازما بان مثل هذه الاعمال تدخل في صلب مسؤوليات رجال الدين ، يجب ان يبادروا ، ان يبتكروا ، ان يجددوا ، لانه من السهل جدا السير على خطى الماضي واتباع وتيرته دون الحاجة الىابداع او بذل جهد اضافي لاكتشاف طرق جديدة للتقريب بين الناس  ، الخوف من التجديد يؤدي الى الجمود لا محالة والجمود يعني الاندثار والموت .

في طريق العودة ، قادنا المطران ربان في سيارته بمسار جديد لم استطرقه شخصيا قبل ذلك  وهو طريق شيخان ، قنديل وبخمة وحرير للانتهاء فى شقلاوة . قبل الوصول الى قنديل توقف المطران لتفقد احوال عائلة كردية بسيطة ساكنة على قارعة الطريق ، كانت قد اسعفته قبل فترة لدى تعطل سيارته . عند ما طرق ربان الباب هبّ الجميع لتقبيله . قال لي بعد ذلك بانه في كل مرة يتوقف عند هذا البيت ليطلع على اوضاع العائلة ويرى احتباجاتها. انه موقف لا يستدعي التعليق لانه يتكلم عن نفسه ، مطران يتابع بانتظام شؤون عائلة كردية غير مسيحية تائهة على قارعة الطريق !

في النهاية ، اريد ان اقول باني التقيت في زيارتي هذه زميل دراسة قديم ورجل دين غيور يفيض حيوية ونشاطا . كانت هذه طبيعته وهو صبي في معهد مار يوحنا الحبيب واستمرت الطبيعة هذه لا بل تأصلت . اني اتوسم خيرا بهذا المطران الفتي ، رجل دين يقوم بخدمة ابرشيتين بكل جد واخلاص، مستخدما سيارته الشخصية  بين العمادية واربيل ، دون الحاجة الى سائق .  قلت له : الا تمل من هذا الطريق الطويل حيث عليك سلوكه مرتين في الاسبوع ، اجابني انا مستعد للرجوع في الحال  اذا اقتضى الامر في نفس الطريق ودون اي انزعاج .
انني اتوسم في ريان خيرا لانه حيثما امتدت يده شهدت المنطقة تطورا ، ويكفيه ان يكون شخصا يحب العمل ويترفع عن هوى المال الا ما توجب منه لانجاز اعماله وخدمة رعاياه ، ما بين الربّين المذكورين من قبل المسيح في الانجيل ، اعني الله والمال ، قد اختار مطراننا الرب الصحيح وهو الله .[/b][/size][/font]

صفحات: [1]