مقدمة
من موقع الدكتور انس نعنوع الطبي
لا شك أن الموسيقى هي أقدر الفنون على خدمة الإنسان، وهي أرقى أنواع منشطات الحياة والصحة النفسية والعضوية، فالصحة النفسية والعضوية هي تناسق الشيء مع كل شيء الخلية مع الخلايا، والروح مع الأرواح، والإنسان مع الكون، كما تتناسق النغمة مع النغمات، والآلة مع الآلات .
إن قضايا الموسيقى تستمد أهميتها من أهمية الموسيقى ذاتها، كفن يعتبره أفلاطون أرفع الفنون وأرقاها، لأن الإيقاع والتوافق في يقينه يؤثران في النفس الباطنة، والحياة الانفعالية للإنسان ، بما ينعكس أثره على أعضاء الجسم وأجهزته.
وإذا عادت بنا عجلة التاريخ إلى الوراء، فيجب أن نذكر – ولا ننسى أبداً - الطبيب الحاذق والفنان البارع، المصري القديم " أمحتب" الذي كان أول من استخدم الموسيقى في العلاج والذي انشأ أول معهد طبي في التاريخ للعلاج بالذبذبات الموسيقية .
لقد أثبت العلم الحديث أن ذبذبات الموسيقى تؤثر تأثيراً مباشراً على الجهاز العصبي، إذ يمكن لكل ذبذبة أو أكثر أن تؤثر على جزء ما بالمخ ، خاص بعصب ما ، فتخدره بالقدر الذي يتيح له فرصة الاسترخاء، واستجماع الإرادة، للتغلب على مسببات الألم ، فيبدأ الجسم في تنشيط المضادات الطبيعية والإفرازات الداخلية التي تساعد الجهاز المناعي وغيره على التغلب على مصدر الداء ومكانه .
ماذا تعني الموسيقى؟ هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع على كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة، ثم تؤلف تلك النغمة بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب. وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات، وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب فيكون صوت نصف صوت وربع آخر وخمس آخر وجزء من أحد عشر من آخر. واختلاف في هذه النسب عند تأديتها إلى السمع يخرجها من البساطة إلى التركيب ، وليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع بل تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلموا عليها
من هو واضع هذا الفن العظيم؟اتفق الجمهور على أن واضع هذا الفن أولاً هو فيثاغورس وكان قد رأى في المنام ثلاثة أيام متوالية أن شخصاً يقول له قم واذهب إلى ساحل البحر الفلاني ، وحصّل هناك علماً غريباً. فذهب من غد كل ليلة من الليالي إليه فلم ير أحداً فيه ، وعلم أنها رؤيا ليست مما يؤخذ جداً فانعكس، وكان هناك جمع من الحدادين يضربون المطارق على التناسب فتأمل ثم رجع وقصد أنواع مناسبات بين الأصوات، ولما حصل له ما قصده بتفكر كثير وفيض إلهامي ، صنع آلة وشد عليها إبرسيماً وأنشد شعراً في التوحيد وترغيب الخلق في أمور الآخرة فأعرض بذلك كثير من الخلائق عن الدنيا، وصارت تلك الآلة معززة بين الحكماء .
وبعد مدة قليلة صار حكيماً محققاً بالغاً في الرياضة بصفاء جوهره، واصلاً إلى مأوى الأرواح وسعة السموات .
وكان يقول : " إني أسمع نغمات شهية وألحان بهية من الحركات الفلكية وتمكنت تلك النغمات في خيالي وضميري ". فوضع قواعد هذا العلم ، وأضاف بعده الحكماء مخترعا تهم إلى ما وضعه إلى أن انتهت النوبة إلى أرسطوطاليس ، ففكر أرسطو فوضع الارغنون وهو آلة لليونانيين تعمل من ثلاثة زقاق كبار من جلود الجواميس يضم بعضها إلى بعض ، ويركب على رأس الزق الأوسط زق كبير آخر، ثم يركب على هذه الزقاق أنابيب لها ثقب على نسب معلومة تخرج منها أصوات طيبة مطربة على حسب استعمال المستعمل .
وكان غرضهم من استخراج قواعد هذا الفن تأنيس الأرواح والنفوس الناطقة إلى عالم القدس ، لا مجرد اللهو والطرب ، فإن النفس قد يظهر فيها باستماع واسطة حُسن التأليف وتناسب النغمات بسط ، فتذكر مصاحبة النفوس العالية ومجاورة العالم العلوي ، وتسمع هذا النداء وهو : ( ارجعي أيتها النفس الغريقة في الأجسام المدلهمة في فجور الطبع إلى العقول الروحانية والذخائر النورانية والأماكن الفلسية في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) .
الهنود والإغريق والرومانيؤكد حكيم الهند القديم كونفوشيوس على مدى أهمية الموسيقى فيقول :
" إذا أرت أن تتعرف في بلد ما على إرادته ومبلغ حظه من الحضارة والمدنية، فاستمع إلى موسيقاه" .
وما نعرفه اليوم عن علم الموسيقى يعود بنا إلى أيام الإغريق في أرض اليونان القديمة ، عندما نصبوا للألحان والغناء إلهاً اسمه (أزوريس) كعهدهم في تنصيب آلهتهم في كل أمر من أمور حياتهم ، وأزوريس الإله هذا كانت له فرقة من سبع بنات أطلقوا عليهن اسم الآلهات السبع للفنون الجميلة ، وسموا كل واحدة منهن باسم (ميوز) . ومن هنا جاءت كلمة (ميوزيك) التي شاعت وتسللت لكل لغة لتغني اللحن والنغم بينه وبين الموسيقى لما بين الفنين من ترابط.
وهبت على نظرية " تأثير الموسيقى " نسمة منعشة من الحياة باتصاله بآراء الإغريق عن التأثير .
ويقول إخوان الصفا عن مذهب " موسيقى الأفلاك " : " تبين إذاً أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحاناً " ووجدت في هذا المذهب " العلة الأولى" للموسيقى جميعها في عالم الكون والفساد وظنوا أن أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع ولكل مزاج ولكل طبيعة، نغمة تشاكلها ولحن يلائمها . ولذلك استعملت الموسيقى في المستشفيات لأنها تخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض .
العلاج بالموسيقى قديماً لقد قسم (إخوان الصفا) الألحان إلى : " ألحان روحية مؤثرة ، وألحان حربية وحماسية ، وألحان جنائزية ، وألحان داعية للعمل ، مثل أغاني صيادي الأسماك ، والحمالين، والبنائين ، أو ألحان المناسبات مثل الأفراح وغيرها، وهناك الألحان الحدائية التي تستعمل في توجيه الحيوانات ، مثل غناء الحداء في قافلة الجمال " .
وفي موقع آخر يقول (إخوان الصفا) : " … أمزجة الأبدان كثيرة الفنون ، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج ، ولكل طبيعة نغمة تشاكلها ، ولحن يلائمها ، كل ذلك بحسب تغييرات أمزجة الأخلاق واختلاف طباع وتركيب الأبدان في الأماكن والأزمان ….
والشيخ الرئيس ( ابن سينا ) يوضح أن بعض النغمات يجب أن تخصص لفترات معينة من النهار والليل . وهذا ما كان يرمي إليه ابن سينا من خلال تقسيمه الزمني لاستعمال النغمات الموسيقية ، لأن الإنسان يمر بحالات نفسية مختلفة . بل ومتناقضة أحياناً في اليوم الواحد تبعاً لظروف حياته ونمط معيشته من الاستيقاظ حتى النوم . كما نقرأ في العقد الفريد عن علاقة الموسيقى بالطب قول ابن عبد ربه : " زعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق ، فيصفو الدم ويرتاح له القلب ، وتهش له النفس ، وتهتز الجوارح وتخف الحركات " .
الموسيقى والطب النفسيإن شخصية الإنسان وسماتها والمؤثرات التي تشكلها لها تركيباتها العصابية والنفسية والسيكوباتية ونماذج الشخصيات التي تتفرع منها ، كالشخصية العاجزة الواهنة ، والشخصية العصابية الأنطوائية ، والشخصية الدورية ، والشخصية غير المتزنة انفعالياً ، والشخصية البارانوية ، والشخصية السلبية العدوانية ، والشخصية النفاسية الفردية والهيستريائية والشخصية السيكوباتية .
وهناك أهمية للصوت والغناء و الموسيقى في بناء روح الإنسان منذ الطفولة عبر الحوار المفهوم وغير المفهوم ، بالمشاهر بين الطفل ووالدته مؤكداً أن الخيط الرفيع الذي يربط الطفل بالأم يتجلى بالموسيقى الموجودة في صوت الأم .
ولذلك فالأطفال الذين يترعرعون في أحضان المربيات ، ويدخلون إلى دور الحضانة باكراً جداً قبل البلوغ إلى حد الإشباع من حنان الأم ، و الموسيقى الموجودة في حواراتها ونبرات صوتها يتعرضون للإصابة بأمراض نفسية في المستقبل ، وكذلك بالنسبة للمراهق الذي يحاول البحث عن نفسه من خلال حوارات مفتوحة مع ذويه وأصدقائه ، مما يجعله بحاجة إلى الموسيقى الداخلية من جهة أحلام اليقظة ، والى الموسيقى الموجودة في حوارات الإنسانية من جهة ثانية ، وهنا تظهرحاجة المراهق إلى الموسيقى وحسب تكوين شخصيته يتحدد نوعها .
احتياجات الشخصيات للموسيقا بحسب طبائعها …
إن الشخصيات العصابية بحاجة أكثر للموسيقى من الشخصيات النفاسية ، فالشخص العصابي قلق وكئيب ومضطرب ، ولذلك فهو بحاجة إلى الموسيقى كوسيلة لتخفيف قلقه والتخلص من خوفه ومسح حزنه عن طريق الدخول إلى عالم البكاء .
أما الشخصيات النفاسية فهي تحتاج في بعض الأحيان إلى الموسيقى الهادئة جداً والكلاسيكية، لكي تستطيع التعايش مع الموسيقى الداخلية النابعة من الحوار الذاتي والتفكير الإنطوائي .
والمريض الكئيب الإرتكاسي يفضل دوماً الموسيقى الحزينة للتخلص من العذاب الروحي عبر التفكير بالانتحار .
والكلام عن المريض لايمنعنا من التفكير بالإنسان السوي ، فعلم النفس يقول بصراحة : إن الإنسان اليوم وأكثر من الأمس القريب بحاجة إلى الموسيقى على أن تكون مدروسة ، تمر من قنوات رقابية اختصاصية لكي لاتحول الموسيقى الإنسان المعاصر إلى وحش مفترس بلباس الحضارة الاستهلاكية المصطنعة .
فعن طريق الموسيقى يشعر الإنسان بوجوده ، حيث يمكن اعتبار الموسيقى طريقاً إلى الحوار مع الذات وإعطاء قيمه من خلال " الأنا " إلى " الأنا الأعلى " ، ومن ثم إلى عالم العقل الباطن "اللاوعي " ، "الهوى" . فالكلام يمكن تسجيله في الذاكرة ، بينما الموسيقى تخترق حاجز الذاكرة الفردية لتصل إلى مناطق تسجيله في الذاكرة الجماعية .
إن الإنسان البدائي ما زال موجوداً في العقل الباطن ، وفي اللاوعي الجماعي ، وما زال يعيش بوحشيته . هذه الوحشية ما زالت قابعة في داخلنا ، ويمكن عن طريق الموسيقى التخفيف منها وتحويلها إلى طاقة إبداعية مفيدة .
ولا ننسى أن للموسيقى أيضاً تأثيراً مغايراً ، فيمكن أن تقلق الإنسان وتنقله إلى عالم الاضطرابات السلوكية ، ويمكن أن تشعل فيه قنديل النشوة والكآبة الإبداعية ويتحول نور القنديل إلى إنتاج إبداعي يحرك فينا كل المشاعر الإنسانية .
إن المدارس النفسية تتحدث اليوم عن توظيف الموسيقى في عملية تثقيف السيكوباتي ، وذلك لتخفيف العدوانية الداخلية وتحويلها إلى طاقة خلاقة في مجالات مختلفة ، مثل : الرياضة والسباحة وتسلق الجبال والدخول في حياة المغامرات الهادفة لخير البشرية .
كما أن للموسيقى عاملاً من عوامل تخلخل الخجل والانطواء وتخفيف الانفعالات والرفع من قدرة الإنسان الواهن وزيادة طاقته .
كيف تعمل الموسيقى ؟ سؤال بدأ الفيزيولوجيون الآن بالإجابة عليه ، أو بالأحرى العمل على إجابته . التأثيرات الفيزيولوجية والفيزيائية التي نحصل عليها من مجموعة التغيرات الكيميائية في الدماغ ليس فقط في قسم التفكير ، بل في الجهة المسؤولة عن التنفس والعاطفة والإحساس ، والقسم المسؤول عن السيطرة على دقات القلب .
هناك نظرية تقول : أن الموسيقى تجعل الدماغ ينتج مواد كيميائية تسمى Endrophines تفرز من الجهاز البصري في الدماغ Hypothalamus . وهذه تخفض الكثافة في الدماغ التي تشعر بالألم ، وهناك شيء واحد يجمع عليه كل المعالجين ، هو أن المجال يحتاج إلى دراسات وأبحاث كثيرة. أما الحقيقة التي أعلنها فريق من علماء جامعة" أوهايو الأمريكية " هي أن العدائين يبذلون جهداً أقل أثناء العدو إذا مارسوا تلك الرياضة على أنغام الموسيقى… تجربة هامة أكدت هذه الحقيقة، حيث وضع العلماء "سماعات" تنقل الموسيقى لآذان عدد من أجريت عليهم التجارب، بينما مارس البعض الآخر الرياضة بدون موسيقى.
وكانت النتائج واضحة، وتشير إلى أن الغدد النخامية للعدائين أثناء سماع الموسيقى، كانت تفرز كمية أكبر من مادة اسمها "الاندورفين" Endorphine. وهي مادة تفرزها مراكز معينة في المخ عند بذل جهد كبير، أو الشعور بألم، الأمر الذي يشير إلى أن إحساسهم بالتعب أثناء الجري، كان أقل من الفريق الثاني الذي لم يستمع إلى الموسيقى أثناء ممارسته للجري، بل أكثر من هذا فقد أكد فريق من المزارعين أن إنتاج أبقارهم من الحليب، يزيد بشكل واضح، إذا تمت عملية الحلب على أنغام الموسيقى !!
التفسير العلمي للعلاجلقد أحرز العلاج بالموسيقا نجاحاً باهراً، لم يكن في الإمكان تحقيقه بإستعمال الأدوية الأخرى، التي تستعمل في مثل هذه الحالات.
وكانت أولى النتائج التي حققتها التجارب التي أجراها الباحثون على الإنسان لاكتشاف فعالية الموسيقى وأثرها في تنشيط إفراز مجموعة من المواد الطبيعية، التي تتشابه في تركيببها مع المورفين، وهي ماتسمى بالاندورفينات.
ويعتقد هؤلاء الباحثون وهم أشهر العلماء في الولايات المتحدة، أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق وتعميم هذا الاكتشاف الخطير، الذي سيحدث تغييراً جذرياً في الآراء المعروفة عن "كيمياء الألم" بفضل الاندورفينات التي هي أحد أنواع البيتبيد Peptid، أي الهرمونات التي تفرزها الغدة النخامية، وأبرز مراكز تجمعها في اللوزتين، وفي الجهاز اللمفاوي، حيث يحتويان على مجموعة كبيرة من الخلايا التي تفرز الاندورفينات.
ولم يعد شك في أن الألم والمتعة والانفعال، وكثيراً من الأمراض لها اتصال بعمل الأندورفينات، التي اكتشفت عام 1972، والتي اتضح أن الموسيقى تساعد مساعدة جبارة على زيادة إفرازها، وبالتالي على علاج الجسم وشفائه من الأمراض.
وبصفة عامة فإن التجارب أثبتت حتى الآن أن زيادة تلك المواد لاتمثل أية خطورة على المريض، فضلاً عما لتلك الأندورفينات من ميزة يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وهي أنها وبمقارنة مع الأدوية الأخرى، عبارة عن مادة طبيعية يفرزها الجسم، ومن المأمول ألا تكون لها أية آثار جانبية، كما هو الحال بالنسبة للأدوية الأخرى التي يتعاطاها المريض.
إذاً فالعلاج بالموسيقا علاج يسير، رخيص، سهل، ليس له أي مضاعفات على الإطلاق يمارس في كل زمان وكل مكان، سواء كانت الشمس ساطعة مشرقة أم المطر ساقطاً، صيفاً أو شتاءً، يستخدمون أدوات وآلات موسيقية في الهواء الطلق، وعلى اختلاف أنواعها.
ومنذ أن بدأ هذا العلاج الجديد والذي سيشعل في سنوات قادمة ثورة عارمة في عالم الطب. اتضح أن الذين استخدموا هذا الأسلوب أصبحوا الآن يشعرون بأنهم في وضع صحي وحياة أفضل، لايكادون يستخدمون أي دواء وكثيراً منهم أقلع عن مادة التدخين، كل ذلك بفضل الموسيقى.
الموسيقى تبني الإنسانإن الموسيقى بعموميتها تبدأ حيث تنتهي الكلمة، إنها عنصر جوهري في البناء الروحي للإنسان، توقظ فيه الشعور بالمعاني الكبيرة. المعاني السامية، كالحق، والخير، والجمال. وتحرك وجدانه وترهف شعوره وتساعد على تحقيق الوئام مع نفسه، والتوافق مع الحياة من حوله، وبالتالي فالموسيقا أقدر الفنون على خدمة الإنسان،
إن شوستا كوفيتش عندما يطرح مقولته الخالدة:
" يجب أن يتساءل المؤلف الموسيقى دائماً… كيف أخدم بفني قضايا البشرية والسلام والتقدم؟". يضيء الريق أمام كل مؤلف موسيقى، حتى لاينحرف أو يتعثر، لأن المؤلف الموسيقي فنان يسخر أدواته الموسيقية وصنعته الفنية للتعبير عن نفسه ومجتمعه، على أن يكون هذا التعبير تعبيراً غير مباشر.. وكلما كان التعبير غير مباشر كان أقدر على البقاء.
الموسيقى والمعالجة الطبية عامةولأقصر ابن سينا نصحه بالغناء والموسيقى (وقد كان القدامى يسمون هذا السماع) على المصابين بآفات عقلية أو نفسية. وإنما يوصي بهما أيضاً في تسكين الأوجاع. إذ هما يساعدان على النوم: "من مسكنات الأوجاع المشي الدقيق، الطويل الزمان لما فيه من الإرخاء… والغناء الطيب خصوصاً إذا نوم به، والتشاغل بما يفرح، مسكن قوي للوجع" .
كما يدرج الموسيقى والغناء في عداد الأدوية التي يعالج بها الحميات. يقول مثلاً، في باب "حميات اليوم (أي العرضية)، في علاج الحمى الغضبة: "المعالجات هو تسكينهم (المصابين بها) وشغلهم بالمفرجات من الحكايات والسماع الطيب، واللعب، والمناظر العجيبة…"
وجدير بنا أن نستذكر أن الرازي مصنفاً في الموسيقى ذكره ابن أبي أصيبعة: كتاب في جمل الموسيقى". ولابن سينا أيضاً غير تأليف في الموسيقى.
ولم يغب عنه هذا الحس وهو يرى أن في النبض طبيعة موسيقية، وأنه ذو نسبة إيقاعية في السرعة والتواتر. فهو الذي حدد لكل وقت من أوقات الليل والنهار نغمته الخاصة به.
ويورد "فارمز" أن مما بلغ الحضارة الأوربية، ترجمة ، قدرة الموسيقى على الشفاء وهو ما أتثبته ابن سينا بمقالته التي كادت تذهب مثلا في اللغة اللاتينية .
“ Inter Omni excercitia Sanitatis cantare Melius est “
أي : خير تمارين العافية الغناء. وهذا قريب من قول "إخوان الصفا" : "أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج، ولكل طبيعة، نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها".
وقبل هؤلاء جميعاً، قسم " الكندي" الألحان أقساماً في "كتاب المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار" ("المقالة الثانية": في تأليف اللحون"). وقال: إن منها مايكون للطرب، أو إثارة الحماسة، أو يكون " للبكاء والحزن والنوح والرقاد ويسمى الشجوي" .
ويتناول النغمات والأوتار والإيقاعات، فيورد تأثيرها على أعضاء الجسم:
فحركات الزير، مثلاً، تورث "أفعال النفس: الفرحية ، والعزية ، الغلبية ، "وقساوة القلب والجرأة والإقدام والزهو والنخوة والتجبر والتكبر ،. ويحصل من فعل هذا الوتر (وهذا) الإيقاع: أن يكونا مقويين للمرة الصفراء محركين لها، مع اجتماع الزمان الشتوي والنومي، وسن الموسيقا أي وطباعه
ومما يلزم المثلث من تلك الأفعال: الجنية والمراسي والحزن ومايشجي، وذكر الغابر، وأشباه التضرع…
ومما يلزم ألم من تلك الأفعال: الفرحية تارة، السرورية تارة والتحبب والزهو… ويحصل من هذا الوتر وهذه الإيقاعات: أن تكون مقوية للسوداء زائدة في حركاتها مطفية للدم، ولها من الأغاني: النوح والشكوى وذكر حنين الإلف والطير والإبل، وبكاء الرسوم والآثار والدمن…
ومن طبع البم الحلم والزكانة والرصانة، ومن طباعه أيضاً السرور تارة، والحلم تارة، مع الأفكار الرديئة والكمد وانقطاع الطبع وانخذال النفس"
ويجمع داود الإنطاكي (1008هـ/1600 م) في “ تذكرته” تفاريق أقوال الأطباء في هذا المجال. يورد، مثلاً، في كلامه على الهمك ".. ومما يعين على ذلك (سلو الهم…) النظر في الحساب والتصاوير والهندسة، وإن ضاق نطاق التفكير عن ذلك، فسماع الأصوات، والآلات الحسنة، إذ لاعلاج لمن استغرق غيرهما… فهذا تلخيص التقطناه من مفرق كرمهم إذ لم نظفر بمن جمع هذا الباب"
وكذلك أشار الأنطاكي إلى استخدام الموسيقى في علاج الجنون والحميات الحارة ،وفي الاختلاج والارتعاش. ويعين هنا نغمةً خاصة على العود (المنشاري).
الموسيقى وماأثبتته الإختبارات حديثاً
يقول الفيلسوف الألماني نيتشه (1844 – 1900 م) - :" لولا الموسيقى لكانت الحياة ضرباً من الخطأ"…
لذلك احتلت الموسيقى في عصرنا الراهن موقعاً فعالاً ومؤثراً في العلاج، لدرجة أن بعض الدول أنشئت فيها جمعيات متخصصة لهذا الغرض، مثل الجمعية الوطنية للعلاج بالموسيقى التي تأسست منذ عام 1950 في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الوطن العربي بدأت تجربة لإدخال المعالجة بالموسيقى في المعهد الوطني لحماية الطفولة بتونس.
بعد أن ثبت بما لايدع مجالاً للشك مدى تأثير الموسيقى في كثير من الميادين، أنها تلهب حماسة المقاتلين في الحروب وتزيد الناس ابتهاجاً في الأعياد والمناسبات، علاوة على أنها تشفي العديد من الأمراض النفسية، وتساعد على إجراء بعض العمليات الجراحية عوضاً عن استعمال المخدر، وخاصة في ميدان طب الأسنان.
وعلماء عصرنا يؤكدون ما قاله الأقدمون عن تأثير الإنسان والحيوان، وحتى بعض النباتات بالموسيقى، فالتجارب التي أجريت في بعض البلدان الأوربية أثبتت بأن الأبقار إذا ما استمعت إلى أنماط معينة من الموسيقى أثناء حلبها، فإنها تدر الحليب بنسبة أكبر ، وتصير هادئة الطبع، وإن أنواعاً من النباتات إذا مانقلت إلى مكان يشتد فيه الصخب والضجيج فإن نموها يتوقف وربما تذبل وتموت.
وفيما يخص بتأثير الموسيقى على حياة الزوجين، فقد أكد أحد الأخصائيين في العلاج النفسي أن الأزواج يجب عليهم الراحة ثلاثة أيام أسبوعياً من مشاهدة برامج التلفزيون بكل أنواعها ونصح بالاستماع إلى الموسيقى الهادئة ولو ساعة في اليوم.
أما الطبيب النمساوي البروفيسور (برامز) فقد توصل إلى طريقة حديثة لإنقاص الوزن بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية لمدة ثلاث ساعات يومياً، للعلاج بشكل ملحوظ ونقص وزنهن إلى الحد المطلوب.
كما أن هناك عادة قديمة – حديثة – تمارسها الأمهات، وهي تهليل الأم لطفلها باللحن العذب والصوت الرقيق لكي تحمله على الهدوء والنوم.
والدراسات الأخيرة التي أجريت لتحديد علاقة الإنسان بالمتعة الموسيقية تثبت أن أساس المتعة الموسيقية هو مراكز المخ، حيث وصلت الدراسات إلى عدة ملاحظات منها:
1 – سلوك المستمع وتفاعله يحددان مدى تمتعه بالموسيقى، فالإنسان المهيأ لسماع الموسيقى يتأثر بها أكثر من الإنسان المشغول عنها.
2 – تأثير الموسيقى على أجهزة الجسم يعتمد إلى حد كبير على طبيعة الموسيقى، فبعض ألوان الموسيقى مثلاً يؤثر على الجهاز الدوري (القلب والأوعية) للإنسان، كما أن بعض ألوان الموسيقى الأخرى يؤثر على الجهاز العصبي ، لهذا يختلف الناس فيما بينهم بتأثرهم وتمتهم بالموسيقى.
3 – وعلى النقيض ، فإن ذات الموسيقى أو نفس النغمة قد تؤثر على الجهاز الهضمي لشخص ما، بينما هي تؤثر على الجهاز الدوري لشخص آخر، أو قد تؤثر على المخ والجهاز العصبي لشخص ثالث.
وقد أمكن قياس هذه التأثيرات والتغيرات الفيزيولوجية بأجهزة الطب الحديثة، مثل رسام القلب، ورسام المخ ، ورسام التنفس، وجهاز ضغط الدم، أو تقدير مستوى احتراق السكر في الدم.
كما ثبت أن هناك توافقاً بين الأحوال النفسية والأمراض الجسدية، وأي اختلاف في أحدهما، تنعكس صورته على الأخرى، لهذا صار من المألوف أن نسمع مثلاً عن قرحة المعدة، وارتفاع ضغط الدم، ونوبات القلب، ومرضى البول السكري أنها ترتكز على جذور نفسية وعصبية بنسبة كبيرة، ينبغي مراعاتها عند العلاج.
من عجائب تأثير الموسيقىلقد كان الفارابي موسيقياً بارعاً بتأثير الموسيقى على النفس البشرية، حيث يروي لنا (ابن خلكان) في كتابه (وفيات الأعيان) أن الآلة المسماة بالقانون هي من وضع الفارابي، وأنه أول من ركبها هذا التركيب.
ويحكي لنا هذه الحادثة الطريفة العجيبة، وهي أن الفارابي كان ذات يوم في مجلس سيف الدولة الحمداني وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو بزي الأتراك. وكان ذلك زيه دائماً، فقال له سيف الدولة: "هل لك في أن تأكل؟ فقال: لا، فقال: فهل تشرب؟ فقال: لا، فقال: فهل تسمع؟ فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر ( الفارابي ) وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئاً؟ فقال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها واخرج منها عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج.
الموسيقى وتأثيرها على الإنتاجدرست التأثيرات الموسيقية على وظائف الجسم وأجهزته المختلفة، وقام ببحث التجربة رجال عديدون مثل (دوجل ووندت وغيرهما) إذ قام برسم وتخطيط كفاءة العضلات. وقد أثبت تخطيط رسم العضلات أن سماع الموسيقى المناسبة يزيد من نشاط العضلات ويرفع كفاءتها ، مما يرفع بالتالي كفاءة مجموعة النشاطات لدى الفرد، وهذا ينعكس بالطبع إيجابياً على مردود الإنتاج.
لقد أدخلت الموسيقى إلى أحد المصانع خلال تجربة جرت نهاراً، وأخرى جرت ليلاً، وانتهت إلى أن الإنتاج وصل إلى الذروة عندما أدخلت الموسيقى بنسبة 12% من وقت العمل فقط، أما في تجربة الليل فقد وصل الإنتاج إلى الذروة عندما أدخلت الموسيقى بنسبة 50% من وقت العمل.
خاتمةلو أن في كل أسرة فرداً واحداً يعزف على آلة، لاستطاعت كل أسرة أن تحل مشاكلها وتنطلق؛ لأن الموسيقى تحل لنا مشاكلنا النفسية، وبالتالي مشاكلنا الصحية العضوية. بل لقد اقتحمت الموسيقى المجال الاقتصادي وساعدت على زيادة الإنتاج.
إن الموسيقى الرفيعة من عالمية وعربية تشكل كالكتاب والفن والمسرح، الغذاء الروحي للشعوب، وبالتالي فهي ليست ترفاً بل "ضرورة" تكاد تكون مادية يتعين أن توفرها كل دولة لكل فرد، وأن تبدأ في تقديمها له منذ الطفولة وطوال حياته حتى نهاية مرحلة العمر.[/size]