1
المنبر الحر / أرمينيا: الإحتواء والإقصاء في ظل الهيمنة العثمانية ⁕
« في: 13:26 01/05/2021 »أرمينيا: الإحتواء والإقصاء في ظل الهيمنة العثمانية ⁕
بقلم: المؤرخ تانير آكـﭽامعرَّبه: ﮔبرئيـل ﮔورﮔـيس
ثمة مقولة غالباً ما يسمعها المرءُ في تركيا مفادها:
"إن الأرمن كانوا في الماضي شعباً مخلصاً، غير أنهم غدوا شعباً من الخونة".
المقولة مثيرة للقلق، لأنها تُشيرُ إلى طبيعة مزدوجة، ذات إشكالية ـ أن يكون الشعب الأرمني، صادق العهد وخائن في عين الوقت. غير أن المغزى الدقيق يُحدِّدُ بدقة بالغة حقيقة، ما كان يجري أصلاً في المرحلة العثمانية، بخصوص ما عُرِف "بالمسألة الأرمنية". المقولة تبعثُ برسالةً مباشرة: فما دام الأرمنُ أوفياء خانعين للمسلمين، فالأخيرون بدورهم سيسمحون لهم، أن يكونوا أعضاءً في مجتمعهم، أما إذا أحجموا في وقت ما عن الرضوخ، فسيتم إقصاءهم وسيُدمَغون بالخيانة. بهذا المفهوم تستعرض المقولة، كيف أن الدولة العثمانية خلال أربعة قرون (من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين) استخدمت تاكتيك الإحتواء / الإقصاء كأسلوب لتأمين هيمنة المجتمع العثماني وفرض سلطانه على بلاد الأرمن والشعب الأرمني.
الأرمن، الذين يُعدّون من بين أقدم الأقوام التي أستوطنت أرض الأناضول، تعرضوا بعد قرون من الخضوع لهيمنة دولٍ وشعوبٍ إسلاميةٍ مختلفة، منذ عام 1915 ـ 1918 لمذابح جماعية، قضى خلالها نحو 60% من الشعب الأرمني ضمن حدود الدولة العثمانية ـ قُدِّرَ تعداد الأرمن في عام 1914 بنحو مليوني نسمة ـ تمت إبادتهم. والناجون منهم إما تم إجبارهم على النزوح إلى القفقاس أو كان عليهم خوض صراع من أجل البقاء في المناطق الصحراوية في سوريا والعراق، تلك المناطق التي تم قسرهم على النزوح إليها. لا تقلُّ عواقب مجمل الأحداث عن الإبادة الشاملة لواحدة من أكبر حضارات الشرق الأوسط.
يصعب على الدوام الإتيان بجوابٍ شافٍ حول سبب وقوع المذابح الواسعة النطاق، وما كان يمكن فعله لدرء وقوع تلك المذابح، إذا ما كان ثمة شئ على الاطلاق، ولكن إذا كان يتوجب علينا الإجابة بـ"لماذا؟" ـ على التساؤل، فينبغي علينا على الأقل النظر أولاً أبعد من ذلك، إلى الماضي، وعمل ما يمكن أن نُطلِق عليه قراءة غائية للتاريخ⁕⁕. حيث أن الإبادات الجماعية لا تحدث مطلقاً على نحو عفوي ومفاجئ ـ أي أنها لا تهبط بغتةً من السماء ـ فلا بد من أن ثمة جذور تاريخية وأسباب لحدوثها.
إذاً لماذا بات الأرمن ضحية لسياسة إبادة ممنهجة منذ عام 1915 ـ 1918؟
لو كان بوسع المرء التنبؤ، بأن كارثة كهذه كانت مقبلة؟ وأي نُذرٍ كان بمقدور المرء إدراكها؟ ولو أمكن التكهن بالأهوال الوشيكة الوقوع، فلماذا لم تُتَّخَذ أي اجراءات لدرئها؟ هذه تساؤلاتٌ هامَّة وجدِّية، لما نبتلي به على الدوام، والتي ربّما لها تأويلات متباينة تماماً، تبعاً للسياق العام والمنطلق الذي ينطلق منه أولئك الذين يسعون للإجابة عليها.
الجواب الأول على لماذا وقعت الإبادة خلال الأعوام ما بين 1915 ـ 1918، هو أنها لم تحدث في فراغ تاريخي. أجَل، يمكن في الواقع فهم الأحداث ما بين 1915 ـ 1918 إلى حدٍّ ما كذروة لسلسلة من المذابح السابقة والمماثلة، التي شغلت نطاقاً أضيَّق إلى حدٍّ ما. من الصعوبة بمكان تحديد تاريخ دقيق لبداية هذه الأحداث التاريخية، لكن إذا اعتبرنا كونفرانس برلين لعام 1878 كنقطة البداية، وقد تعرَّض الأرمن قبل إبادة 1915 ـ 1918 سابقاً للمذابح خلال الأعوام (1894 ـ 1896) وعام 1904 وعام 1909. وبعد الإبادة الجماعية تعرضوا أيضاً خلال السنوات (1921 ـ 1922) للمزيد من المذابح، التي تولَّدت مثل موجات الصدمة بعد زلزال الحدث الرئيسي. وعندما نتحدث عن القتل الجماعي أو الإبادة الجماعية بالنسبة لأرمن الأناضول، فأننا نتحدث في الحقيقة عن مرحلة تمتد من عام 1878 إلى عام 1923. فمن الضرورة بمكان دمج مجمل هذا السياق الأكثر شمولية في الخطاب عن الأرمن وليس بإستثناء التركيز على الإبادة خلال عامي 1915 ـ 1918.
في جواب آخر على ـ التساؤل ـ "لماذا"، ينبغي التأكيد على أن تلك الأعمال الوحشية لم تُرتَكَب بحق الأرمن لوحدهم فحسب، بل أنها طالت كل الأقليات المسيحية التي كانت في تلك المرحلة مرشَّحة كهدف للإضطهاد. فخلال المرحلة المعنية تعرض الآشوريون واليونان العثمانيون وسائر الأقليات المسيحية أيضاً للمذابح المتعمِّدة, فضلاً عن ذلك تعرَّض اليونانيون أيضاً للتطهير العرقي، الذي تجلّى في التهجير القسري ما بين عامي 1923 ـ 1924.
لذلك سيكون أكثر دقَّةً تمييز الفترة ما بين 1878 ـ 1923 على إنها إتَّسمت بأرتكاب السلطات العثمانية لعمليات إبادة واسعة النطاق ضد رعاياها المسيحيين. وهكذا ينبغي أن يكون كل نقاش حول طريقة عمل آليات الإحتواء والإقصاء [التضمين والنبذ] للمجتمع العثماني، لا يقتصر على الأرمن فحسب، بل يشمل أيضاً سائر الجماعات المسيحية لهذا المجتمع.
إن قبول المسيحيين في الحياة الاجتماعية والثقافية والإقتصادية للمجتمع العثماني، يعتمد تنظيم علاقتهم بالأكثرية المسلمة بالدرجة الاولى على القانون الاسلامي [الشريعة]. وهذا يقوم على أن الدين الاسلامي وقوانينه لا تقتصر على الجوانب الإيمانية والعبادات الدينية. فالقوانين الاسلامية أَمْلَت أيضاً التشريعات والنُظم والقوانين الاجتماعية والسياسية، التي تتناول كل جوانب الحياة الاجتماعية للبلاد.
يُفتَرَض مقدماً أن على المسيحيين الإذعان لسلطة الاسلام وسيادته، وبالمقابل سيضمن لهم القانون الاسلامي حرية العقيدة والضمير (الفكر). ومقابل ضمانات الأمان التي يُقدِّمها الدين الإسلامي للمسيحيين [الذميِّين]، ينتظر منهم المسلمون الإذعان وإبداء الطاعة والولاء للإدارة الإسلامية. وبناءً على ذلك فُرِضَت على المسيحيين ضريبة رأس إضافية، تُعرَف "بالجِزية".
في ظل الحكم العثماني تم تصنيف المسيحيين إلى مِلَلٍ منفصلة تبعاً لإنتماءاتهم الطائفية ـ الكاثوليك والبروتستانت والأرثذوكس وغيرهم. هذه المجموعات، التي أطلق عليها العثمانيون تسمية (المِلَّة:وجمعها المِلَل)، نالت كلٌ منها إدارةً ذاتية خاصة بها، وبناءً على هذه السيادة المحدودة لم تحصل كل جماعة (ملَّة) على حقوقٍ لإدارة شؤونها الدينية الخاصة فحسب، بل حصلت أيضاً على الاعتراف [بمنحها] صلاحيات التنظيم الذاتي لمسائل التعليم والزواج والطلاق والوصاية وقوانين الميراث. فقط القضايا والجرائم الجنائية كان ينبغي إحالتها الى محاكم القضاء العثماني. وتمتَّعت كل ملَّة علاوة على ذلك بسلطة مستقلة لرفع الدعاوى واصدار الأحكام وجباية الضرائب من أبناء الطائفة.
هذه الحريات والفرص للإدارة الذاتية المستقلة لا تعني مطلقاً، أن المسيحيين في ظل السلطان العثماني كانوا يُعاملون على قدم المساواة مع المواطنين المسلمين. بل على العكس فقد كانت ثمة سلسلة من القيود السياسية والقانونية للحدِّ من الإدارة الذاتية. فعلى سبيل المثال لم يكن مسموحاً للرجال المسيحيين الاقتران بالنساء المسلمات. كما مُنع المسيحيون منعاً باتاً من الادلاء بشهادتهم ضد مُتَّهَم مسلم أمام المحاكم الشرعية ـ وحتى في الحالات الإستثنائية، التي سُمِح لهم فيها بذلك، فإن شهادة رجلين مسيحيين كانت تعادل شهادة رجل مسلم واحد. ومبدأ اللامساواة كان أيضاً سائداً في أحكام قانون العقوبات العثماني. فعلى سبيل المثال، لا تنطوي فعلة المسلم بقتل مسيحي على مخاطرة بمواجهة حكم الاعدام، إلاّ في حالات استثنائية نادرة.
علاوة على الأمثلة الآنفة الذكر حول التمييز في المعاملة، كان المسيحيون يتعرضون أيضاً للكثير من الممارسات في الحياة الاجتماعية، التي تُعبِّر عن الاستهانة والاستخفاف بهم. فمثلاً يتوجب على المسيحيين الامتناع عن ممارسة شعائر العبادات الدينية الخاصة بهم بطريقة تؤدي إلى إزعاج الجماهير المسلمة. فلا يحق لهم قرع أجراس الكنائس أو تشييد دور عبادة جديدة. كما لا يجوز لهم ركوب الخيل أو حمل السلاح، ولا يحق لهم السير على ذات الرصيف المخصص لمرور المسلمين. لذلك تم فرض سلسلة من القيود والممنوعات فيما يتعلق بطريقة أزيائهم، ووضعية سكنهم وما شابه ذلك.
لتلخيص النموذج التعددي، الذي تبناه الاسلام العثماني، الذي كان قائماً على أساس قانوني وثقافي غايته الحطّ من قدر وكرامة كل شعوب السلطنة غير المسلمين وإذلالهم.
وبالمقابل يُرتَقَب من المسيحيين الرضا التام بالمكانة الممنوحة لهم، التي طالما استكان المسيحيون لها، والتي يمكن تسميتها بالتعبير الحديث "بصفة مواطنين من الدرجة الثانية"، فسوف لن تخلق أية مشاكل. فأية مساعي ترمي لإلغاء المرتبة الأدنى المرسومة لهم، كانت ستُعَدُّ خرقاً للإتفاق [للعقد الاجتماعي]، الذي أبرموه مع مجتمع الأكثرية المسلمة. وفي الحقيقة فقد تم تأويل مطالب المسيحيين بالمساواة السياسية والقانونية في القرن التاسع عشر على هذا الأساس، وإستنكرت الشعوب المسلمة تماماً تقديم أي تنازلات.
والمسيحيون، الذين لم يَرُقْ لهم هذا الوضع، باتوا يمثلون تهديداً بتقويض آلية الإحتواء. "أن تعرف منزلتك" كان تصنيفاً ثقافياً أساسياً لا غنى عنه في المجتمع التركي (والكردي) المسلم. واليوم تُفَسَّر الفظائع التي طالت الأقليات المسيحية، عموماً على أن مردّها عدم إمتثالهم للقواعد الثقافية السائدة.
تبعاً للمنظور الإسلامي (تركي، كردي، شركسي وغيرهم) كان الإستياء المتزايد لدى الشعوب المسيحية إزاء الحريات التي كفلها لهم المسلمون، ومن ثم مطالباتهم اللاحقة بالمزيد من الإمتيازات تعبيراً عن تجاوز الحدود المرسومة لهم، وبعبارة أخرى: فأنهم لا يريدون إدراك المنزلة المخصصة لهم. وعلى هذا النحو أعتُبِرَت كل الأعمال الوحشية والشناعات، التي تعرضوا لها، نتيجة حتمية لتجاوزهم الخطوط الاجتماعية والسياسية الحمراء.
هنا يأتي بُعدٌ جوهري إضافي لا غنى عنه لهذه الخلفية القانونية ـ الاجتماعية ـ الثقافية، التي حكمت على المسيحيين بمرتبة مواطنين من الدرجة الثانية، والتي نجم عنها تمثيلهم غير المتساوي في كل جانب من جوانب حياة المجتمع: المسألة الأرمنية كانت أصلاً خلافاً على الأرض. فالغالبية العظمى من الشعب الأرمني كانت تقطن الأقاليم الشرقية لتركيا الحالية، التي كانت تُعرَف أيضاً بأرمينيا الغربية (ﭬـان، بتليس، موش، ديار بكر، إلازيغ [معمورة العزيز] وغيرها)، حيث كانوا يعيشون جنباً إلى جنب الأكراد. والأرمن الذين كانوا فلاحين مستقرين، كانوا يزرعون الأرض ويربّون الماشية. أما الذين كانوا يسكنون المدن، حيث يتعرضون بإستمرار لغارات القبائل الكردية البدوية المتنقلة، التي تقوم بسلب حصادهم ومحاصيلهم ومصادرة حيواناتهم وممتلكاتهم، واجتياح قراهم المقترن بالنهب والسرقة وخطف النساء الأرمنيات وبناتهم، باتت أحداثاً مألوفة. وبغية حماية أنفسهم إزاء هجمات كهذه، كان على الأرمن غالباً دفع ضريبة إضافية لزعماء القبائل الكردية.
بوحي من آيديولوجيات الثورة الفرنسية شَعَرَ الأرمنُ في النصف الأخير من القرن الثامن عشر بحاجة متزايدة للتحرر والإنعتاق من كونهم مواطنين من الدرجة الثانية، فشرعوا يطالبون الحكومة بالمساواة والحرية التامة إسوة بسائر المواطنين. والحقيقة تُقال بأن الحكومة العثمانية كانت قد أقرَّت قبل حين بأنهم يخاطرون بتعريض دولتهم للتفكك والإنحلال، في حال استمرارهم في معارضة مطالب الشعوب المسيحية في نيل المساواة الأجتماعية والسياسية والقانونية. لا سيّما بعد الثورة الصربية عام 1804، والثورة اليونانية عام 1820، ومن ثم استقلال اليونان في عام 1830 ، كانت دلائل قوية تُشير في هذا الإتجاه. لهذه الأسباب شرعت الدولة العثمانية بمرحلة اصلاحات جديدة في عام 1830، عُرِفَت (بالتنظيمات) أي الاصلاحات في عام 1839، واصلاحات عام 1856 ، وتضمَّنَ الدستور منذ عام 1876، أكثر الاجراءات أهمية لضمان درجة أعلى من المساواة بين مسيحيي ومسلمي الدولة العثمانية.
يحظى عام 1863 بأهمية خاصة ضمن موجة المبادرات، التي إتُخذَت لخلق المساواة بين الأرمن (المسيحيين عامة) والمسلمين. ضمن أُطُر اصلاحات عام 1856 حيث تمت إعادة صياغة نظام الملَّة الأرمني، وفي العام 1863 تمت الموافقة على النظام الداخلي للملَّة الأرمنية. وتبعاً لذلك أجرى الأرمن إنتخاباتهم ثم شكلوا (البرلمان القومي الأرمني) في استنبول. وطفق هذا البرلمان يجمع الشكاوى من الأرمن في مختلف انحاء البلاد ليعرضها أمام السلطان بهيئة تقارير رسمية. فضلاً عن ذلك قام أعضاء البرلمان الأرمني (النواب الأرمن) أيضاً بحملات ضغط فعّالة بغية تنفيذ المزيد من الاصلاحات السياسية والإدارية.
مع معاهدة برلين لعام 1878 دخلت مطالب الأرمن بالاصلاحات مرحلة جديدة، فلم تَعُد مسالة الأرمن شأناً داخلياً، إنما غدت المشكلة الأساسية للدبلوماسية الدولية المعاصرة. ففي المادة الحادية والستين من المعاهدة، تعهدت الحكومة العثمانية بإتخاذ المزيد من الاجراءات لحماية الأرمن من هجمات الأكراد والشركس، وتنفيذ الاصلاحات المُلِحَّة. غير أنه مع ذلك لا وعود الاصلاحات ولا الأجراءات التنظيمية، التي كانت ستضمن المساواة الواسعة النطاق، تم تنفيذها عن طيب خاطر من قبل القادة العثمانيين. فأخذ تدريجياً يشيع التصوّر، بأن مطالب الاصلاحات أولاً وأخيراً قد فُرِضَت على الامبراطورية العثمانية من قبل القوى الخارجية، وربما كان ذلك الأمر الأكثر أهمية، لجعل الغالبية المسلمة مستاءة للغاية من كل أنواع الاصلاحات، التي ستَمنَح للمسيحيين مرتبة المساواة في المواطنة. المحاولة الأخيرة لمبادرات المسيحيين من أجل تحسين وضعهم الخاص وبلوغ المساواة ـ وبعبارة أخرى: مسعاهم لكسر جمود الوضع الراهن والإتفاق الضمني، الذي كان نافذاً حتى ذلك الحين ـ بداية مرحلة، قوبِلَت بإستياء شديد ومتزايد. الجهود المبذولة لضمان مساواة إسلامية ـ مسيحية شكَّلَت الأساس للتوترات الاسلامية ـ المسيحية المتفاقمة. الخبرة من تدخلات الحكومات الأجنبية خاصة بالنيابة عن الأرمن لم تخدم سوى لتصعيد شدة إستياء الجماهير المسلمة. وقد تجلَّت العلاقة العكسية المباشرة ما بين مطالبة الأرمن بالمساواة والاصلاحات وما تبعها من تعرضهم للعزل والإقصاء. فثمة مفارقة في الترابط، حيث كلَّما دنا الأرمن من تحقيق مطالبهم باصلاحات القبول والإحتواء، كلَّما تفاقمت مخاطر تعرضهم للإقصاء، أَجَل، حتى تعرضهم لعقوبات المجازر. ليست هذه محض صدفة، أن يتعرض الأرمن للمذابح بالتحديد في الفترات، التي تزامنت مع علو أصوات مطالبتهم بالاصلاحات. فالمذابح بين عامي 1894 ـ 1896، في عهد عبد الحميد الثاني، كانت بلا ريب ردّ فعل على كونفرانس الاصلاحات، الذي بدأ في عام 1895 ، وردّاً على إعلان اصلاح الأراضي لشهر تشرين الأول (أكتوبر) 1895.
في عام 1894 إمتنع سكان القرى الأرمنية في سوسان دفع الضرائب الإضافية للعشائر الكردية. فكانت العاقبة، تعرضهم لمجزرة شاملة، وأسفر ذلك عن شروع القوى الكبرى بممارسة ضغوط أشد على الدولة العثمانية، بغية إنجاز الاصلاحات لتوفير حماية حقيقية للأرمن. وأُصدِر انذارٌ حول إشكالية الاصلاحات، ومضى صيف ذلك العام بالمناقشات، حول أي من الاصلاحات يتوجب تنفيذه وكيف.
سلسلة من التقارير القنصلية (الإستشارية)، التي جاءت من الولايات خلال هذه الفترة، والتي تُسلِّطُ ضوءً جديراً بالإهتمام على مدى تأثير نقاشات الاصلاح على الدبلوماسية الدولية والرأي العام، تُشير إلى تصاعد المخاطر ضد الأرمن، بالذات عقب هذه المداولات.
كان سفراء الدول الكبرى على دراية تامة بأن الضغوط التي مارسوها على الحكومة العثمانية بالنيابة عن الأرمن، ستتمخض في نهاية المطاف بتولّد ردّ فعل اسلامي ضد الأرمن، بضمنه تأجيج نيران المذابح المحلية. لكنهم رغم ذلك لم يُقْـدِموا على إتخاذ أي خطوات احترازية، التي كان من شأنها ردع عواقب تدخلاتهم. ومن ثم تُشكِّل مذابح عامي 1894 ـ 1896 مثالاً ساطعاً على أن الاجراءات التي تُتَّخذ لصالح مجموعة من الضحايا، تؤدي بالنهاية الى نتائج تناقضُ تماماً أهدافها الأساسية. وفيما يتعلق بتاريخ مذبحة أضنة عام 1909 فالأمر لا يختلف كثيراً. ففي شهر تموز (يوليو) 1908 قامت جمعية الإتحاد والترقي ـ (Committee of Union and Progress)، الحزب السياسي، الذي سيصبح مهندس الإبادة الجماعية للأرمن ـ بإنقلابٍ أجبر السلطان عبد الحميد الثاني على اعادة اعلان نظام برلماني ديمقراطي للبلاد. وأخيراً إنهار النظام الاستبدادي، الذي ساد خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، واجتاحت البلاد موجةٌ من المطالب بالحرية والمساواة. كل الشعوب المسيحية عموماً والشعب الأرمني على وجه الخصوص طغت عليها الآمال بالاصلاحات المقبلة. وبدل أن يطرأ أدنى تحسن على أوضاعهم، شهدوا مذبحة أخرى طالت (20.000) أرمنياً في مدينة أضنة. العمليات التي استهدفت الأرمن في عام 1909 كانت شبيهة بمذابح 1894 ـ 1896. وبدا الأرمن وكأنهم يمثلون الدستور الجديد واصلاحاته وحرياته السياسية. ومرَّة أخرى لم تكن محض صدفة، أن يلجأ المسلمون، غير الراغبين بمعاملة المسيحيين على قدم المساواة معهم، إلى شن هجوم على الجماعة، التي أعتبروها تجسيداً للاصلاحات الأخيرة من أجل الحرية والمساواة.
معضلة العزلة الاصلاحية ذاتها يمكن استخدامها لتفسير الإبادة الجماعية للأرمن بين عامي 1915 ـ 1918. حيث لحقت هزيمة نكراء بالدولة العثمانية في حرب البلقان 1912 ـ 1913 ، فقدت السلطنة من جرّاءِها قسماً كبيراً من أراضيها الأوروبية. ووضعت الاصلاحات الأرمنية نفسها مجدداً في مرمى النيران، لا سيما من خلال التشجيع والدعم الروسي. وجدَّدَت القوى الكبرى تماماً كما فعلت في الفترة ما بين عامي 1894 ـ 1896 ضغوطها على الدولة العثمانية بغية تبني الاصلاحات. وأُجرِيَت المناقشات أيضاً حول الاصلاحات الجديدة بناءً على المبادئ الرئيسية في خطة الاصلاح لعام 1895. هذه المناقشات، التي كان ينبغي أن تضع حدّاً لمظالم الأرمن وتحلَّ مشاكلهم مع التمييز السياسي والاجتماعي والقانوني، لم تعمل سوى على تسريع عملية نبذ الأرمن.
إستغلَّ قادة الإتحاد والترقي (CUP)، دعم القوى الخارجية للأرمن كمبرر، فهدَّدوا علانية ممثلي المنظمة الأرمنية بالقتل الجماعي. حيث كان ضغط القوى الخارجية يمثِّلُ برأيهم تهديداً للسلامة الوطنية للدولة، وإن مداولات الاصلاحات لم تكن في الواقع سوى واجهة لمؤامرة ترمي إلى تقسيم الدولة العثمانية. وبناء على ذلك وجدت البلاد نفسها إزاء تهديد أمني خطير، سببه الرئيسي الأرمن.
في العام 1914 وقَّعَت روسيا والدولة العثمانية على معاهدة اصلاحات، شملت الولايات الشرقية (أرمينيا الغربية). وبحسب الإتفاقية سيتم إنشاء ولايتين تتمتعان بحكم ذاتي في المناطق، التي يقطنها الأرمن. وسيشارك الأرمن مباشرة في إدارة تلك الولايات، بما فيه المشاركة في قوى الأمن، وسيتم تعيين متصرفين (ولّاة) أجانب. فتمَّ تأويل المعاهدة من قبل القادة العثمانيين على أنها اجراء يرمي إلى وضع نواة إقامة دولة أرمنية حقيقية مستقلة، فشرعوا في وضع الستراتيجيات لتقويض ما أعتبروه تهديداً خطيراً لمصالحهم. فثمة صلة مباشرة ما بين الطموح الأرمني كتهديد مباشر والإبادة الجماعية للأرمن. فبالنسبة للقادة العثمانيين كان الأمر عقلانياً بسيطاً: القوى الكبرى تستغل الأرمن كمبرر للتدخل في شؤون الدولة العثمانية الداخلية، وتُغلِّفُ دوافعها الحقيقية الرامية إلى تقطيع أوصال البلاد بغلاف الاصلاحات. وخَلُص القادة العثمانيون إلى نتيجة مفادها، أنه بغية إعاقة مساعي القوى الخارجية في بلوغ مآربها المنشودة ينبغي على الدولة العثمانية التخلص بنفسها من مشكلة الأرمن. وهكذا أخذت التهديدات والهجمات ضد أرمن الأناضول تتفاقم على نحو كبير. وكانت الصحف الأرمنية تتناول يومياً مخاطر المذابح المحدقة بهم. وقام بعض المسؤولين الأتراك الرسميين، ممن كانوا على صلاتٍ حسنة بالأرمن، بتحذير، ربما سرّاً، أصدقائهم المسيحيين من المصائب الوشيكة الوقوع. وفي آب (أغسطس) 1914 تم إبرام إتفاقية سرِّية بين ألمانيا والدولة العثمانية، تعهد فيها العثمانيون بالوفاء للألمان أثناء الحرب العالمية الاولى. وتزامناً مع التوقيع على الإتفاقية المذكورة شرع العثمانيون في إتخاذ بعض الاجراءات التمهيدية لإلحاق الأذى بالأرمن.
عندما دخل العثمانيون رسمياً الحرب في تشرين الثاني (نوفمبر) 1914، كان أول عمل قاموا به هو إلغاء معاهدة الاصلاح لشهر شباط (فبراير) 1914، وإعتقال زعماء الأرمن ومحاصرة ونهب قراهم بوتيرة متسارعة. وبعبارة أخرى كان القادة العثمانيون يتحيَّنون الفرصة المناسبة لتنفيذ مذبحة واسعة النطاق.
في كانون الثاني (يناير) 1915 حققت القوات الروسية نصراً حاسماً في ساريكاميش وباتت كل الولايات الأرمنية، التي كان قد تم إدراجها ضمن قائمة إتفاقية الاصلاح لعام 1914، على وشك الوقوع تحت السيطرة الروسية. فتوقع العثمانيون، أنه لو أفلح الروس في بسط نفوذهم على تلك المناطق، فأنهم سيضعون بنود إتفاقية الاصلاح موضع التنفيذ، ومن ثم سيتم ترحيل مسلمي المنطقة. وهذا لا يعني أقل من خسارة الدولة للولايات الشرقية. وفي ذلك الشهر عينه كانت قوات البحرية البريطانية والفرنسية قد باشرت التهديد بدخول استنبول عبر مضيق غاليبولي. فباتت الدولة العثمانية على عتبة الإنهيار، وفسَّرَ قادتُها ذلك التهديد بمثابة صراع من أجل البقاء، والسبيل الوحيد لكبح الاصلاحات الأرمنية وإنقاذ الولايات الشرقية، يكمن في تنفيذ التدمير الشامل للأرمن. وهو ما حصل بالضبط لاحقاً.
فكانت الإبادة الجماعية للأرمن ردّ القادة العثمانيين على مطالب الأرمن بالمساواة والحرية. وكانت طموحاتهم الأصلاحية قد مهّدت السبيل لإبادتهم الجماعية. علاوة على ذلك لم تحقق القوى الخارجية شيئاً آخر من جراء ضغوطها، التي مارستها على الدولة العثمانية، سوى العمل كمُحفِّز للدينامية ما بين الاصلاحات والمذابح، الذي عجَّلَ العملية، تلك العلاقة، بأن مبادرات الأرمن الاصلاحية ستواجه بالمذابح، إلاّ إذا كان التدخل الخارجي المباشر قادراً على صدِّها، تتضح من خلال الأمثلة من الفترة الممتدة ما بين 1894 ـ 1896 والفترة بعد 1914. فكل من تقارير الصحافة الأرمنية والتقارير القنصلية كانت تغص بإشارات ونُذُر مبكرة عن السماء الملبَّدة بالكارثة. حيث ليس للأرمن كضحية أي قدرة على تجنُّب الأهوال المحدقة، وإكتفت القوى الخارجية، التي كانت على دراية بالمأساة الوشيكة الوقوع، وإقتنعت بمراقبة تطورات الأحداث فحسب.
الإبادة الجماعية للأرمن تحمل بين طيّاتها درساً بليغاً بهذا المعنى، فهي تصلح لتكون نموذجاً مدرسياً يكشف عن كيف أن جهود القوى الخارجية لصالح إحد الشعوب، في هذه الحالة الشعب الأرمني، تؤدي تماماً إلى نتائج عكسية للأهداف التي تبتغيها. وهذه تُشكِّلُ دليلاً راسخاً على صواب المبدأ القائل، أنه من الحكمة الإحجام عن التدخل، حينما لا يكون المرء على أهبة الإستعداد لإتخاذ الاجراءات الرادعة ضد الآثار [العواقب] غير المقصودة، لكنها آثارٌ سلبية معقولة لتدخلاتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
⁕ إحتواء، تضمين: Inclusion: implication
⁕⁕ [الغائية: كون الشئ موجهاً نحو غاية ـ الإعتقاد بأن كل شئ في الطبيعة مقصود به تحقيق غاية معينة: teleology]
[المصدر: Advarsler før folkedrab, Anders Jerichow & Cecilie Felicia Stokholm: ص 21 ـ 29]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ