عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - كبرئيل كوركيس

صفحات: [1]
1
أرمينيا: الإحتواء والإقصاء في ظل الهيمنة العثمانية ⁕
                بقلم: المؤرخ تانير آكـﭽام
                عرَّبه: ﮔبرئيـل ﮔورﮔـيس

ثمة مقولة غالباً ما يسمعها المرءُ في تركيا مفادها:
"إن الأرمن كانوا في الماضي شعباً مخلصاً، غير أنهم غدوا شعباً من الخونة".
المقولة مثيرة للقلق، لأنها تُشيرُ إلى طبيعة مزدوجة، ذات إشكالية ـ أن يكون الشعب الأرمني، صادق العهد وخائن في عين الوقت. غير أن المغزى الدقيق يُحدِّدُ بدقة بالغة حقيقة، ما كان يجري أصلاً في المرحلة العثمانية، بخصوص ما عُرِف "بالمسألة الأرمنية". المقولة تبعثُ برسالةً مباشرة: فما دام الأرمنُ أوفياء خانعين للمسلمين، فالأخيرون بدورهم سيسمحون لهم، أن يكونوا أعضاءً في مجتمعهم، أما إذا أحجموا في وقت ما عن الرضوخ، فسيتم إقصاءهم وسيُدمَغون بالخيانة. بهذا المفهوم تستعرض المقولة، كيف أن الدولة العثمانية خلال أربعة قرون (من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين) استخدمت تاكتيك الإحتواء / الإقصاء كأسلوب لتأمين هيمنة المجتمع العثماني وفرض سلطانه على بلاد الأرمن والشعب الأرمني.
الأرمن، الذين يُعدّون من بين أقدم الأقوام التي أستوطنت أرض الأناضول، تعرضوا بعد قرون من الخضوع لهيمنة دولٍ وشعوبٍ إسلاميةٍ مختلفة، منذ عام 1915 ـ 1918 لمذابح جماعية، قضى خلالها نحو 60% من الشعب الأرمني ضمن حدود الدولة العثمانية ـ قُدِّرَ تعداد الأرمن في عام 1914 بنحو مليوني نسمة ـ تمت إبادتهم. والناجون منهم إما تم إجبارهم على النزوح إلى القفقاس أو كان عليهم خوض صراع من أجل البقاء في المناطق الصحراوية في سوريا والعراق، تلك المناطق التي تم قسرهم على النزوح إليها. لا تقلُّ عواقب مجمل الأحداث عن الإبادة الشاملة لواحدة من أكبر حضارات الشرق الأوسط.
يصعب على الدوام الإتيان بجوابٍ شافٍ حول سبب وقوع المذابح الواسعة النطاق، وما كان يمكن فعله لدرء وقوع تلك المذابح، إذا ما كان ثمة شئ على الاطلاق، ولكن إذا كان يتوجب علينا الإجابة بـ"لماذا؟" ـ على التساؤل، فينبغي علينا على الأقل النظر أولاً أبعد من ذلك، إلى الماضي، وعمل ما يمكن أن نُطلِق عليه قراءة غائية للتاريخ⁕⁕. حيث أن الإبادات الجماعية لا تحدث مطلقاً على نحو عفوي ومفاجئ ـ أي أنها لا تهبط بغتةً من السماء ـ فلا بد من أن ثمة جذور تاريخية وأسباب لحدوثها.
إذاً لماذا بات الأرمن ضحية لسياسة إبادة ممنهجة منذ عام 1915 ـ 1918؟
لو كان بوسع المرء التنبؤ، بأن كارثة كهذه كانت مقبلة؟ وأي نُذرٍ كان بمقدور المرء إدراكها؟ ولو أمكن التكهن بالأهوال الوشيكة الوقوع، فلماذا لم تُتَّخَذ أي اجراءات لدرئها؟ هذه تساؤلاتٌ هامَّة وجدِّية، لما نبتلي به على الدوام، والتي ربّما لها تأويلات متباينة تماماً، تبعاً للسياق العام والمنطلق الذي ينطلق منه أولئك الذين يسعون للإجابة عليها.
الجواب الأول على لماذا وقعت الإبادة خلال الأعوام ما بين 1915 ـ 1918، هو أنها لم تحدث في فراغ تاريخي. أجَل، يمكن في الواقع فهم الأحداث ما بين 1915 ـ 1918 إلى حدٍّ ما كذروة لسلسلة من المذابح السابقة والمماثلة، التي شغلت نطاقاً أضيَّق إلى حدٍّ ما. من الصعوبة بمكان تحديد تاريخ دقيق لبداية هذه الأحداث التاريخية، لكن إذا اعتبرنا كونفرانس برلين لعام 1878 كنقطة البداية، وقد تعرَّض الأرمن قبل إبادة 1915 ـ 1918 سابقاً للمذابح خلال الأعوام (1894 ـ 1896) وعام 1904 وعام 1909. وبعد الإبادة الجماعية تعرضوا أيضاً خلال السنوات (1921 ـ 1922) للمزيد من المذابح، التي تولَّدت مثل موجات الصدمة بعد زلزال الحدث الرئيسي. وعندما نتحدث عن القتل الجماعي أو الإبادة الجماعية بالنسبة لأرمن الأناضول، فأننا نتحدث في الحقيقة عن مرحلة تمتد من عام 1878 إلى عام 1923. فمن الضرورة بمكان دمج مجمل هذا السياق الأكثر شمولية في الخطاب عن الأرمن وليس بإستثناء التركيز على الإبادة خلال عامي 1915 ـ 1918.
في جواب آخر على ـ التساؤل ـ "لماذا"، ينبغي التأكيد على أن تلك الأعمال الوحشية لم تُرتَكَب بحق الأرمن لوحدهم فحسب، بل أنها طالت كل الأقليات المسيحية التي كانت في تلك المرحلة مرشَّحة كهدف للإضطهاد. فخلال المرحلة المعنية تعرض الآشوريون واليونان العثمانيون وسائر الأقليات المسيحية أيضاً للمذابح المتعمِّدة, فضلاً عن ذلك تعرَّض اليونانيون أيضاً للتطهير العرقي، الذي تجلّى في التهجير القسري ما بين عامي 1923 ـ 1924.
لذلك سيكون أكثر دقَّةً تمييز الفترة ما بين 1878 ـ 1923 على إنها إتَّسمت بأرتكاب السلطات العثمانية لعمليات إبادة واسعة النطاق ضد رعاياها المسيحيين. وهكذا ينبغي أن يكون كل نقاش حول طريقة عمل آليات الإحتواء والإقصاء [التضمين والنبذ] للمجتمع العثماني، لا يقتصر على الأرمن فحسب، بل يشمل أيضاً سائر الجماعات المسيحية لهذا المجتمع.
إن قبول المسيحيين في الحياة الاجتماعية والثقافية والإقتصادية للمجتمع العثماني، يعتمد تنظيم علاقتهم بالأكثرية المسلمة بالدرجة الاولى على القانون الاسلامي [الشريعة]. وهذا يقوم على أن الدين الاسلامي وقوانينه لا تقتصر على الجوانب الإيمانية والعبادات الدينية. فالقوانين الاسلامية أَمْلَت أيضاً التشريعات والنُظم والقوانين الاجتماعية والسياسية، التي تتناول كل جوانب الحياة الاجتماعية للبلاد.
يُفتَرَض مقدماً أن على المسيحيين الإذعان لسلطة الاسلام وسيادته، وبالمقابل سيضمن لهم القانون الاسلامي حرية العقيدة والضمير (الفكر). ومقابل ضمانات الأمان التي يُقدِّمها الدين الإسلامي للمسيحيين [الذميِّين]، ينتظر منهم المسلمون الإذعان وإبداء الطاعة والولاء للإدارة الإسلامية. وبناءً على ذلك فُرِضَت على المسيحيين ضريبة رأس إضافية، تُعرَف "بالجِزية".
في ظل الحكم العثماني تم تصنيف المسيحيين إلى مِلَلٍ منفصلة تبعاً لإنتماءاتهم الطائفية ـ الكاثوليك والبروتستانت والأرثذوكس وغيرهم. هذه المجموعات، التي أطلق عليها العثمانيون تسمية (المِلَّة:وجمعها المِلَل)، نالت كلٌ منها إدارةً ذاتية خاصة بها، وبناءً على هذه السيادة المحدودة لم تحصل كل جماعة (ملَّة) على حقوقٍ لإدارة شؤونها الدينية الخاصة فحسب، بل حصلت أيضاً على الاعتراف [بمنحها] صلاحيات التنظيم الذاتي لمسائل التعليم والزواج والطلاق والوصاية وقوانين الميراث. فقط القضايا والجرائم الجنائية كان ينبغي إحالتها الى محاكم القضاء العثماني. وتمتَّعت كل ملَّة علاوة على ذلك بسلطة مستقلة لرفع الدعاوى واصدار الأحكام وجباية الضرائب من أبناء الطائفة.
هذه الحريات والفرص للإدارة الذاتية المستقلة لا تعني مطلقاً، أن المسيحيين في ظل السلطان العثماني كانوا يُعاملون على قدم المساواة مع المواطنين المسلمين. بل على العكس فقد كانت ثمة سلسلة من القيود السياسية والقانونية للحدِّ من الإدارة الذاتية. فعلى سبيل المثال لم يكن مسموحاً للرجال المسيحيين الاقتران بالنساء المسلمات. كما مُنع المسيحيون منعاً باتاً من الادلاء بشهادتهم ضد مُتَّهَم مسلم أمام المحاكم الشرعية ـ وحتى في الحالات الإستثنائية، التي سُمِح لهم فيها بذلك، فإن شهادة رجلين مسيحيين كانت تعادل شهادة رجل مسلم واحد. ومبدأ اللامساواة كان أيضاً سائداً في أحكام قانون العقوبات العثماني. فعلى سبيل المثال، لا تنطوي فعلة المسلم بقتل مسيحي على مخاطرة بمواجهة حكم الاعدام، إلاّ في حالات استثنائية نادرة.
علاوة على الأمثلة الآنفة الذكر حول التمييز في المعاملة، كان المسيحيون يتعرضون أيضاً للكثير من الممارسات في الحياة الاجتماعية، التي تُعبِّر عن الاستهانة والاستخفاف بهم. فمثلاً يتوجب على المسيحيين الامتناع عن ممارسة شعائر العبادات الدينية الخاصة بهم بطريقة تؤدي إلى إزعاج الجماهير المسلمة. فلا يحق لهم قرع أجراس الكنائس أو تشييد دور عبادة جديدة. كما لا يجوز لهم ركوب الخيل أو حمل السلاح، ولا يحق لهم السير على ذات الرصيف المخصص لمرور المسلمين. لذلك تم فرض سلسلة من القيود والممنوعات فيما يتعلق بطريقة أزيائهم، ووضعية سكنهم وما شابه ذلك.
لتلخيص النموذج التعددي، الذي تبناه الاسلام العثماني، الذي كان قائماً على أساس قانوني وثقافي غايته الحطّ من قدر وكرامة كل شعوب السلطنة غير المسلمين وإذلالهم.
وبالمقابل يُرتَقَب من المسيحيين الرضا التام بالمكانة الممنوحة لهم، التي طالما استكان المسيحيون لها، والتي يمكن تسميتها بالتعبير الحديث "بصفة مواطنين من الدرجة الثانية"، فسوف لن تخلق أية مشاكل. فأية مساعي ترمي لإلغاء المرتبة الأدنى المرسومة لهم، كانت ستُعَدُّ خرقاً للإتفاق [للعقد الاجتماعي]، الذي أبرموه مع مجتمع الأكثرية المسلمة. وفي الحقيقة فقد تم تأويل مطالب المسيحيين بالمساواة السياسية والقانونية في القرن التاسع عشر على هذا الأساس، وإستنكرت الشعوب المسلمة تماماً تقديم أي تنازلات.
والمسيحيون، الذين لم يَرُقْ لهم هذا الوضع، باتوا يمثلون تهديداً بتقويض آلية الإحتواء. "أن تعرف منزلتك" كان تصنيفاً ثقافياً أساسياً لا غنى عنه في المجتمع التركي (والكردي) المسلم. واليوم تُفَسَّر الفظائع التي طالت الأقليات المسيحية، عموماً على أن مردّها عدم إمتثالهم للقواعد الثقافية السائدة.
تبعاً للمنظور الإسلامي (تركي، كردي، شركسي وغيرهم) كان الإستياء المتزايد لدى الشعوب المسيحية إزاء الحريات التي كفلها لهم المسلمون، ومن ثم مطالباتهم اللاحقة بالمزيد من الإمتيازات تعبيراً عن تجاوز الحدود المرسومة لهم، وبعبارة أخرى: فأنهم لا يريدون إدراك المنزلة المخصصة لهم. وعلى هذا النحو أعتُبِرَت كل الأعمال الوحشية والشناعات، التي تعرضوا لها، نتيجة حتمية لتجاوزهم الخطوط الاجتماعية والسياسية الحمراء.
هنا يأتي بُعدٌ جوهري إضافي لا غنى عنه لهذه الخلفية القانونية ـ الاجتماعية ـ الثقافية، التي حكمت على المسيحيين بمرتبة مواطنين من الدرجة الثانية، والتي نجم عنها تمثيلهم غير المتساوي في كل جانب من جوانب حياة المجتمع: المسألة الأرمنية كانت أصلاً خلافاً على الأرض. فالغالبية العظمى من الشعب الأرمني كانت تقطن الأقاليم الشرقية لتركيا الحالية، التي كانت تُعرَف أيضاً بأرمينيا الغربية (ﭬـان، بتليس، موش، ديار بكر، إلازيغ [معمورة العزيز] وغيرها)، حيث كانوا يعيشون جنباً إلى جنب الأكراد. والأرمن الذين كانوا فلاحين مستقرين، كانوا يزرعون الأرض ويربّون الماشية. أما الذين كانوا يسكنون المدن، حيث يتعرضون بإستمرار لغارات القبائل الكردية البدوية المتنقلة، التي تقوم بسلب حصادهم ومحاصيلهم ومصادرة حيواناتهم وممتلكاتهم، واجتياح قراهم المقترن بالنهب والسرقة وخطف النساء الأرمنيات وبناتهم، باتت أحداثاً مألوفة. وبغية حماية أنفسهم إزاء هجمات كهذه، كان على الأرمن غالباً دفع ضريبة إضافية لزعماء القبائل الكردية.
بوحي من آيديولوجيات الثورة الفرنسية شَعَرَ الأرمنُ في النصف الأخير من القرن الثامن عشر بحاجة متزايدة للتحرر والإنعتاق من كونهم مواطنين من الدرجة الثانية، فشرعوا يطالبون الحكومة بالمساواة والحرية التامة إسوة بسائر المواطنين. والحقيقة تُقال بأن الحكومة العثمانية كانت قد أقرَّت قبل حين بأنهم يخاطرون بتعريض دولتهم للتفكك والإنحلال، في حال استمرارهم في معارضة مطالب الشعوب المسيحية في نيل المساواة الأجتماعية والسياسية والقانونية. لا سيّما بعد الثورة الصربية عام 1804، والثورة اليونانية عام 1820، ومن ثم استقلال اليونان في عام 1830 ، كانت دلائل قوية تُشير في هذا الإتجاه. لهذه الأسباب شرعت الدولة العثمانية بمرحلة اصلاحات جديدة في عام 1830، عُرِفَت (بالتنظيمات) أي الاصلاحات في عام 1839، واصلاحات عام 1856 ، وتضمَّنَ الدستور منذ عام 1876، أكثر الاجراءات أهمية لضمان درجة أعلى من المساواة بين مسيحيي ومسلمي الدولة العثمانية.
يحظى عام 1863 بأهمية خاصة ضمن موجة المبادرات، التي إتُخذَت لخلق المساواة بين الأرمن (المسيحيين عامة) والمسلمين. ضمن أُطُر اصلاحات عام 1856 حيث تمت إعادة صياغة نظام الملَّة الأرمني، وفي العام 1863 تمت الموافقة على النظام الداخلي للملَّة الأرمنية. وتبعاً لذلك أجرى الأرمن إنتخاباتهم ثم شكلوا (البرلمان القومي الأرمني) في استنبول. وطفق هذا البرلمان يجمع الشكاوى من الأرمن في مختلف انحاء البلاد ليعرضها أمام السلطان بهيئة تقارير رسمية. فضلاً عن ذلك قام أعضاء البرلمان الأرمني (النواب الأرمن) أيضاً بحملات ضغط فعّالة بغية تنفيذ المزيد من الاصلاحات السياسية والإدارية.
مع معاهدة برلين لعام 1878 دخلت مطالب الأرمن بالاصلاحات مرحلة جديدة، فلم تَعُد مسالة الأرمن شأناً داخلياً، إنما غدت المشكلة الأساسية للدبلوماسية الدولية المعاصرة. ففي المادة الحادية والستين من المعاهدة، تعهدت الحكومة العثمانية بإتخاذ المزيد من الاجراءات لحماية الأرمن من هجمات الأكراد والشركس، وتنفيذ الاصلاحات المُلِحَّة. غير أنه مع ذلك لا وعود الاصلاحات ولا الأجراءات التنظيمية، التي كانت ستضمن المساواة الواسعة النطاق، تم تنفيذها عن طيب خاطر من قبل القادة العثمانيين. فأخذ تدريجياً يشيع التصوّر، بأن مطالب الاصلاحات أولاً وأخيراً قد فُرِضَت على الامبراطورية العثمانية من قبل القوى الخارجية، وربما كان ذلك الأمر الأكثر أهمية، لجعل الغالبية المسلمة مستاءة للغاية من كل أنواع الاصلاحات، التي ستَمنَح للمسيحيين مرتبة المساواة في المواطنة. المحاولة الأخيرة لمبادرات المسيحيين من أجل تحسين وضعهم الخاص وبلوغ المساواة ـ وبعبارة أخرى: مسعاهم لكسر جمود الوضع الراهن والإتفاق الضمني، الذي كان نافذاً حتى ذلك الحين ـ بداية مرحلة، قوبِلَت بإستياء شديد ومتزايد. الجهود المبذولة لضمان مساواة إسلامية ـ مسيحية شكَّلَت الأساس للتوترات الاسلامية ـ المسيحية المتفاقمة. الخبرة من تدخلات الحكومات الأجنبية خاصة بالنيابة عن الأرمن لم تخدم سوى لتصعيد شدة إستياء الجماهير المسلمة. وقد تجلَّت العلاقة العكسية المباشرة ما بين مطالبة الأرمن بالمساواة والاصلاحات وما تبعها من تعرضهم للعزل والإقصاء. فثمة مفارقة في الترابط، حيث كلَّما دنا الأرمن من تحقيق مطالبهم باصلاحات القبول والإحتواء، كلَّما تفاقمت مخاطر تعرضهم للإقصاء، أَجَل، حتى تعرضهم لعقوبات المجازر. ليست هذه محض صدفة، أن يتعرض الأرمن للمذابح بالتحديد في الفترات، التي تزامنت مع علو أصوات مطالبتهم بالاصلاحات. فالمذابح بين عامي 1894 ـ 1896، في عهد عبد الحميد الثاني، كانت بلا ريب ردّ فعل على كونفرانس الاصلاحات، الذي بدأ في عام 1895 ، وردّاً على إعلان اصلاح الأراضي لشهر تشرين الأول (أكتوبر) 1895.
في عام 1894 إمتنع سكان القرى الأرمنية في سوسان دفع الضرائب الإضافية للعشائر الكردية. فكانت العاقبة، تعرضهم لمجزرة شاملة، وأسفر ذلك عن شروع القوى الكبرى بممارسة ضغوط أشد على الدولة العثمانية، بغية إنجاز الاصلاحات لتوفير حماية حقيقية للأرمن. وأُصدِر انذارٌ حول إشكالية الاصلاحات، ومضى صيف ذلك العام بالمناقشات، حول أي من الاصلاحات يتوجب تنفيذه وكيف.
سلسلة من التقارير القنصلية (الإستشارية)، التي جاءت من الولايات خلال هذه الفترة، والتي تُسلِّطُ ضوءً جديراً بالإهتمام على مدى تأثير نقاشات الاصلاح على الدبلوماسية الدولية والرأي العام، تُشير إلى تصاعد المخاطر ضد الأرمن، بالذات عقب هذه المداولات.
كان سفراء الدول الكبرى على دراية تامة بأن الضغوط التي مارسوها على الحكومة العثمانية بالنيابة عن الأرمن، ستتمخض في نهاية المطاف بتولّد ردّ فعل اسلامي ضد الأرمن، بضمنه تأجيج نيران المذابح المحلية. لكنهم رغم ذلك لم يُقْـدِموا على إتخاذ أي خطوات احترازية، التي كان من شأنها ردع عواقب تدخلاتهم. ومن ثم تُشكِّل مذابح عامي 1894 ـ 1896 مثالاً ساطعاً على أن الاجراءات التي تُتَّخذ لصالح مجموعة من الضحايا، تؤدي بالنهاية الى نتائج تناقضُ تماماً أهدافها الأساسية. وفيما يتعلق بتاريخ مذبحة أضنة عام 1909 فالأمر لا يختلف كثيراً. ففي شهر تموز (يوليو) 1908 قامت جمعية الإتحاد والترقي ـ (Committee of Union and Progress)، الحزب السياسي، الذي سيصبح مهندس الإبادة الجماعية للأرمن ـ بإنقلابٍ أجبر السلطان عبد الحميد الثاني على اعادة اعلان نظام برلماني ديمقراطي للبلاد. وأخيراً إنهار النظام الاستبدادي، الذي ساد خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، واجتاحت البلاد موجةٌ من المطالب بالحرية والمساواة. كل الشعوب المسيحية عموماً والشعب الأرمني على وجه الخصوص طغت عليها الآمال بالاصلاحات المقبلة. وبدل أن يطرأ أدنى تحسن على أوضاعهم، شهدوا مذبحة أخرى طالت (20.000) أرمنياً في مدينة أضنة. العمليات التي استهدفت الأرمن في عام 1909 كانت شبيهة بمذابح 1894 ـ 1896. وبدا الأرمن وكأنهم يمثلون الدستور الجديد واصلاحاته وحرياته السياسية. ومرَّة أخرى لم تكن محض صدفة، أن يلجأ المسلمون، غير الراغبين بمعاملة المسيحيين على قدم المساواة معهم، إلى شن هجوم على الجماعة، التي أعتبروها تجسيداً للاصلاحات الأخيرة من أجل الحرية والمساواة.
معضلة العزلة الاصلاحية ذاتها يمكن استخدامها  لتفسير الإبادة الجماعية للأرمن بين عامي 1915 ـ 1918. حيث لحقت هزيمة نكراء بالدولة العثمانية في حرب البلقان 1912 ـ 1913 ، فقدت السلطنة من جرّاءِها قسماً كبيراً من أراضيها الأوروبية. ووضعت الاصلاحات الأرمنية نفسها مجدداً في مرمى النيران، لا سيما من خلال التشجيع والدعم الروسي. وجدَّدَت القوى الكبرى تماماً كما فعلت في الفترة ما بين عامي 1894 ـ 1896 ضغوطها على الدولة العثمانية بغية تبني الاصلاحات. وأُجرِيَت المناقشات أيضاً حول الاصلاحات الجديدة بناءً على المبادئ الرئيسية في خطة الاصلاح لعام 1895. هذه المناقشات، التي كان ينبغي أن تضع حدّاً لمظالم الأرمن وتحلَّ مشاكلهم مع التمييز السياسي والاجتماعي والقانوني، لم تعمل سوى على تسريع عملية نبذ الأرمن.
إستغلَّ قادة الإتحاد والترقي (CUP)، دعم القوى الخارجية للأرمن كمبرر، فهدَّدوا علانية ممثلي المنظمة الأرمنية بالقتل الجماعي. حيث كان ضغط القوى الخارجية يمثِّلُ برأيهم تهديداً للسلامة الوطنية للدولة، وإن مداولات الاصلاحات لم تكن في الواقع سوى واجهة لمؤامرة ترمي إلى تقسيم الدولة العثمانية. وبناء على ذلك وجدت البلاد نفسها إزاء تهديد أمني خطير، سببه الرئيسي الأرمن.
في العام 1914 وقَّعَت روسيا والدولة العثمانية على معاهدة اصلاحات، شملت الولايات الشرقية (أرمينيا الغربية). وبحسب الإتفاقية سيتم إنشاء ولايتين تتمتعان بحكم ذاتي في المناطق، التي يقطنها الأرمن. وسيشارك الأرمن مباشرة في إدارة تلك الولايات، بما فيه المشاركة في قوى الأمن، وسيتم تعيين متصرفين (ولّاة) أجانب. فتمَّ تأويل المعاهدة من قبل القادة العثمانيين على أنها اجراء يرمي إلى وضع نواة إقامة دولة أرمنية حقيقية مستقلة، فشرعوا في وضع الستراتيجيات لتقويض ما أعتبروه تهديداً خطيراً لمصالحهم. فثمة صلة مباشرة ما بين الطموح الأرمني كتهديد مباشر والإبادة الجماعية للأرمن. فبالنسبة للقادة العثمانيين كان الأمر عقلانياً بسيطاً: القوى الكبرى تستغل الأرمن كمبرر للتدخل في شؤون الدولة العثمانية الداخلية، وتُغلِّفُ دوافعها الحقيقية الرامية إلى تقطيع أوصال البلاد بغلاف الاصلاحات. وخَلُص القادة العثمانيون إلى نتيجة مفادها، أنه بغية إعاقة مساعي القوى الخارجية في بلوغ مآربها المنشودة ينبغي على الدولة العثمانية التخلص بنفسها من مشكلة الأرمن. وهكذا أخذت التهديدات والهجمات ضد أرمن الأناضول تتفاقم على نحو كبير. وكانت الصحف الأرمنية تتناول يومياً مخاطر المذابح المحدقة بهم. وقام بعض المسؤولين الأتراك الرسميين، ممن كانوا على صلاتٍ حسنة بالأرمن، بتحذير، ربما سرّاً، أصدقائهم المسيحيين من المصائب الوشيكة الوقوع. وفي آب (أغسطس) 1914 تم إبرام إتفاقية سرِّية بين ألمانيا والدولة العثمانية، تعهد فيها العثمانيون بالوفاء للألمان أثناء الحرب العالمية الاولى. وتزامناً مع التوقيع على الإتفاقية المذكورة شرع العثمانيون في إتخاذ بعض الاجراءات التمهيدية لإلحاق الأذى بالأرمن.
عندما دخل العثمانيون رسمياً الحرب في تشرين الثاني (نوفمبر) 1914، كان أول عمل قاموا به هو إلغاء معاهدة الاصلاح لشهر شباط (فبراير) 1914، وإعتقال زعماء الأرمن ومحاصرة ونهب قراهم بوتيرة متسارعة. وبعبارة أخرى كان القادة العثمانيون يتحيَّنون الفرصة المناسبة لتنفيذ مذبحة واسعة النطاق.
في كانون الثاني (يناير) 1915 حققت القوات الروسية نصراً حاسماً في ساريكاميش وباتت كل الولايات الأرمنية، التي كان قد تم إدراجها ضمن قائمة إتفاقية الاصلاح لعام 1914، على وشك الوقوع تحت السيطرة الروسية. فتوقع العثمانيون، أنه لو أفلح الروس في بسط نفوذهم على تلك المناطق، فأنهم سيضعون بنود إتفاقية الاصلاح موضع التنفيذ، ومن ثم سيتم ترحيل مسلمي المنطقة. وهذا لا يعني أقل من خسارة الدولة للولايات الشرقية. وفي ذلك الشهر عينه كانت قوات البحرية البريطانية والفرنسية قد باشرت التهديد بدخول استنبول عبر مضيق غاليبولي. فباتت الدولة العثمانية على عتبة الإنهيار، وفسَّرَ قادتُها ذلك التهديد بمثابة صراع من أجل البقاء، والسبيل الوحيد لكبح الاصلاحات الأرمنية وإنقاذ الولايات الشرقية، يكمن في تنفيذ التدمير الشامل للأرمن. وهو ما حصل بالضبط لاحقاً.
فكانت الإبادة الجماعية للأرمن ردّ القادة العثمانيين على مطالب الأرمن بالمساواة والحرية. وكانت طموحاتهم الأصلاحية قد مهّدت السبيل لإبادتهم الجماعية. علاوة على ذلك لم تحقق القوى الخارجية شيئاً آخر من جراء ضغوطها، التي مارستها على الدولة العثمانية، سوى العمل كمُحفِّز للدينامية ما بين الاصلاحات والمذابح، الذي عجَّلَ العملية، تلك العلاقة، بأن مبادرات الأرمن الاصلاحية ستواجه بالمذابح، إلاّ إذا كان التدخل الخارجي المباشر قادراً على صدِّها، تتضح من خلال الأمثلة من الفترة الممتدة ما بين 1894 ـ 1896 والفترة بعد 1914. فكل من تقارير الصحافة الأرمنية والتقارير القنصلية كانت تغص بإشارات ونُذُر مبكرة عن السماء الملبَّدة بالكارثة. حيث ليس للأرمن كضحية أي قدرة على تجنُّب الأهوال المحدقة، وإكتفت القوى الخارجية، التي كانت على دراية بالمأساة الوشيكة الوقوع، وإقتنعت بمراقبة تطورات الأحداث فحسب.
الإبادة الجماعية للأرمن تحمل بين طيّاتها درساً بليغاً بهذا المعنى، فهي تصلح لتكون نموذجاً مدرسياً يكشف عن كيف أن جهود القوى الخارجية لصالح إحد الشعوب، في هذه الحالة الشعب الأرمني، تؤدي تماماً إلى نتائج عكسية للأهداف التي تبتغيها. وهذه تُشكِّلُ دليلاً راسخاً على صواب المبدأ القائل، أنه من الحكمة الإحجام عن التدخل، حينما لا يكون المرء على أهبة الإستعداد لإتخاذ الاجراءات الرادعة ضد الآثار [العواقب] غير المقصودة، لكنها آثارٌ سلبية معقولة لتدخلاتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
⁕ إحتواء، تضمين:  Inclusion: implication
⁕⁕ [الغائية: كون الشئ موجهاً نحو غاية ـ الإعتقاد بأن كل شئ في الطبيعة مقصود به تحقيق غاية معينة: teleology]
[المصدر:  Advarsler før folkedrab, Anders Jerichow & Cecilie Felicia Stokholm: ص 21 ـ 29]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




 

3



رحلةُ الدُموعِ على دَربِ الدَّمِ

 
بقلم شليمون إيشو سلماس (1884 ـ 1951)
نقلها الى العربية : كبرييل كوركيس ـ الدانمارك


بين تلك الجبال الموحشة المهجورة،
المُطلّة على وادٍ يتدفقُ فيه ينبوع ماءٍ نَميرٍ سَلسَبيل،
سقَطَ وحيداً ذلك الشاب النبيل،
شفتاه ذابلتان متشققتان من الظمأ .
بِيَدِ عدوٍ عاتٍ ،
أُصيب بثلاث إصاباتٍ .
دماؤه تَنزُّ قطرة فقطرة ،
وفي ريعان الشباب تذبلُ الزهرة .
آه !
أنه مثل طائر مهيوض الجناح،
تخلَّفَ عن سربهِ فظلَّ وحيداً ،
يرتقب الردى بمرارة .
الرصاصاتُ الغادرة للعدو الغاشم ،
قد أصابت أحشاءَه .
إصابَتُهُ نجلاءُ ،
لا ينجعُ فيها دواءُ .
وها هو يلفظُ أنفاسه بحسرات حارَّة !
ذكرياته الغالية لأهله الأعزاء،
لأصحابه وأحبابه مصونة في فؤاده!
النارُ تَستَعِرُ في كَبدهِ ورئتيه .
ما مِن أحد يأتي لنجدته،
يائسٌ ! عيناه تُذرِفان دموع المرارة،
دموع اليأس، فهو شابُ فتيّ!
على مقربةٍ منه في شِعْبٍ ضَيّقٍ،
على درب وعرٍ يغصُ بالحجارة،
ها هي تمضي قوافلُ مُضنيةُ لبَشَرٍ تُعساء،
بأصنافٍ باهتةٍ،
صَوَّرَتْها الرُهبةِ،
قهرتها مظالمُ الأقدار القاسية .
منبوذون من الوطن،
بلا راعٍ مُشرَّدون في الجبال والبراري والفيافي،
يلعنون الحياة، يكفرون بيومهم،
يتمنون الموت، ختاماً لعذاباتهم .
على الطريق المبهم والمستقبل الأدهم،
ها هي تَمضي الصفوفُ الأخيرةُ ،
لأناسٍ مُنهَكين، أطفالٌ صغارٌ وشيوخُ وعجائزٌ،
أحنَت ظهورَهم المصائبُ ،
سحقتهم النوائبُ ،
يسيرون بين الحجارة والصخور بأقدامٍ حافيةٍ مُضرَّجة بالدماءِ،
بألسنةٍ متيبسة وعيون غشيت أبصارُها من شدَّةِ العطشِ والسغبِ،
من قساوة القيظ.
آه! أيتها الأُمة البائسة!.
أُناسُ منهَكون،
بالشقاء مجبولة أيامهم.
هوذا يرنو بعينين دامعتين،
بعينين يائستين،
أوَ ليس له فيهم أمل؟
فلَرُبّما خِدْنٌ أو صديقٌ صَدوق ، في هذه الساعة،
ساعته الأخيرة،
وهو يتلوى ويعاني سَكرات الموت،
أَليس ثمة مَن يُغمضُ له عَينَيه ويحفرُ لهُ لحداً،
لئلا يغدو طعاماً للغربان الكاسرة أو فريسة للوحوش الضارية ،
كيلا تظلُ عظامُه تائقة للمواراة ولحفنة من الثرى! .
أغمَضَ عينيه بُرهةً وفتحهُما ثانيةً .
ها هو الطريقُ قد خلا! ولم تَعُد فيه ثمة نسمة حياة .
الويل ! مسكين! مسكين ! تنهَّد الشابُ !.
" آه " تأوَّه بآهة كبيرة .
نظر إلى ما حواليه،
فوجد عند رأسه على العشبِ الأخضرِ،
جوادَه واقفاً في ظل صخرة،
مطأطئ الرأس لا يَرعى .
بعينين تُدركان العزاء والهمّ،
وهو يُحدِّقُ إلى صاحبه الغالي،
ذلك الشاب الكريم .
وكأني بتلك البهيمة الأصيلة،
تسأل سَيّدَها بلسان قائلةً:
" لِمَ نحن الإثنان وحدنا كُتِبَ علينا البقاء وحيدَين؟
في هذه الجبال ،
في هذه الوهاد ،
في الظمأ والرمضاء والجوع والشقاء؟" .
لبثَ صاحبُه صامتاً،
مغمض العينين،
فأرتسمت على محيّاه المُتعَب للمرّة الأخيرة إبتسامةُ الموت الشاحبة .
وأرتعشت شفتاه مفارقتان الهمس والأمل والجذل!
وللمرة الأخيرة ثابَ الى وعيهِ،
وأيقن أنهُ ليس وحيداً .
فها هو معه صديقه الودود،
صديقه الدائم،
في أيام الفرج وأوقات الحرج في المآزق والمذابح في القُرِّ والقَيظ .
في سُوحِ الوغى وفي الزوابع والأعاصير،
بذكريات الأفراح وذكريات الأتراح .
ها هو عند رأسه،
فهو إذَاً ليس وحيداً! .
صَعَّدَ زفرةً وقال بمرارة :
"وداعاً يا رفيقي،
إذهب رعاك الله، أبحث لنفسك عن صاحب،
لا تُمسي أنت أيضاً مثلي مشرداً.
هيّا تقدَّم إنطلِق ،
بجناحَيّ الريح أَدرِك بني قومي ،
أَخبِرهُم بموتي، بلّغ أحبتي، أمي وأختي!
حدّثهم كيف أصبحتُ وحيداً بلا رفيق،
متروكاً بلا مُواراة ".
إنهملت من عينيه عَبرةٌ،
وجفَّت على خدِّه!
أسلم الروح،
إنقطعت أنفاسُه،
وغابت ذكراه .
فأندثر هو الآخر في الفراغ،
في الأعماق الظالمة، بعجلة الهمجية .
كثيرون هم مَن سقطوا صَرعى في تلك الجبال،
وتُرِكوا بلا أجداث،
في ليالي الشتاء الداجية،
أو في البرودة المتوشحة بنور القمر.
فوق كل صخرة، وفي كل فج،
موجودة أطياف، شهدائنا الصامتين،
بعيون راجية، بعيون باكية، منتظرين،
هل يا تُرى، سيأتي يومٌ، لا يضنون فيه عليهم بقبضة من الثرى،
لتستريح عظامهم من نوازل ورَزايا، هذا العالم الظالم،
وتستقر في أعماق القبر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

4
أستاذنا الكاتب البارع والأديب اللامع ميخائيل ممو، لك مني جزيل الشكر والامتنان على مروركم اللطيف على مقالنا هذا لتعطروه بأريج كلماتكم الطيبة وتنيروه بألق أفكاركم القيّمة.

أتمنى أن تكون لكتاب الأستاذ فليمون درمو طبعة ثانية وثالثة ورابعة بإذن الله، كما أتمنى أن تأخذ مؤسساتنا الثقافية على عاتقها أمر إعادة طبع كل كنوزنا الأدبية التي نفدت منذ عقود، لتكون في متناول الباحثين والدارسين والقراء.

تحياتي القلبية
كبرييل كوركيس

5
ترجمة الشاعر أشعيا خنّو لرباعيات الخيّام في كتاب جديد



       
                                                                                          كبرييل كوركيس ـ الدانمارك

يقع كتاب "رباعيات عمر الخيّام" في 160 صفحة بقياس (14,5 x 21 سم ) ويضم بين دفتيه (مقدمة وسيرة المؤلف وتعريف بالرباعيات وترجماتها السريانية/ الآشورية  ونص ترجمة الشاعر أشعيا خنو في 111 رباعية وبعضاَ من مقالاته التي دونها في مناسبات مختلفة) ولا أريد هنا الخوض في تفاصيل محتويات الكتاب كيلا أكرر ما سبقني إليه مشكورين كل من الأديب عادل دنو بتعريفه المسهب عن الكتاب ومحتوياته وسيرة كاتبه، وصديقنا الأديب ميخائيل ممو بدعوته لمن بحوزتهم مخطوطات اسلافهم الطيبين للمبادرة بإيجاد السبل الكفيلة بنشرها، فضلاً عن دعوته المخلصة الصادقة للقراء بغية دعم واسناد هذا الجهد بأقتناء نسخة من الكتاب الجديد الذي ينفح الروح في لغة أجدادهم ويُعيد إليها الحياة.
ـ الأستاذ فليمون درمو
تعود أول معرفتي بالكاتب فليمون درمو الى ما قراته من كتاباته في المجلة الأكاديمية الآشورية، كما عرفني هو الآخر ـ على ما أظن ـ من خلال كتاباتي في المجلة ذاتها. وكان أول أتصال بيننا في مطلع عام 2010 ، يوم كتب إليّ مستفسراً عن ترجمات رباعيات الخيّام السريانية/ الآشورية، فأشرتُ إليه بمراجعة كتاب مراد فؤاد جقي الموسوم "نعوم فائق، ذكرى وتخليد الأديب السرياني الكبير"، الذي ضمَّنه كاتبه عشر رباعيات من ترجمة الملفان نعوم فائق، كما عرضتُ عليه نسخة من رباعيات الخيّام، نقلها الى العربية الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، وهي واحدة من أدق النسخ المترجمة وأقربها الى الأصل الفارسي بشهادة العلماء، كنتُ قد أحتفظت بنسخة ألكترونية منها، ليس لشغفي برباعيات الخيام إنما لاهتمامي بنتاجات الصافي النجفي الذي قرأت عنه مذ كنت تلميذاً في المرحلة المتوسطة، ولا تزال ذاكرتي تحتفظ ببيت أنشده يوم وصل بغداد عائداً من بيروت، وقد كفّ بصره يقول فيه واصفاً حاله:    يا عودة للدار ما اقساها                اسمع بغداد ولا اراها
ظننتُ في حينه أن السيد فليمون يُعدّ بحثاً أو مقالاً عن رباعيات الخيام، وأنتظرت بفارغ الصبر نشره في المجلة الأكاديمية الآشورية، فمضت سنتان ولم أسمع عن الموضوع شيئاً، غير أنه وقبل فترة وجيزة كتب إليّ الأستاذ فليمون طالباً عنواني البريدي بغية تزويدي بنسخة من كتاب جديد أصدره بعنوان "رباعيات الخيام"، فأدركتُ أن جهوده قد أتت ثمارها، وما أن وصلني الكتاب وطالعته حتى تبين لي أن ثمار عمل الأستاذ فليمون جاءت يانعة شهية. فعقدتُ العزم على كتابة كلمة تليق بجهده الصادق وعزمه المتوثب الذي لولاه لما رأت مخطوطة ترجمة الشاعر المرحوم أشعيا خنو لرباعيات الخيّام النور ولظلت حبيسة الرفوف يلفها غبار النسيان شأنها في ذلك شأن العديد من مخطوطات كتابنا المنسيين. 
وتثميناً لما بذله الأستاذ فليمون من جهد وما تكبده من عناء في تحقيق المخطوطة ودراستها وترتيبها واعدادها للطبع، أرتأيت عرض سيرته ليتسنى للقارئ الكريم التعرف عن كثب على الرجل واهتماماته:[1]
أبصر فليمون درمو النور سنة 1938 في بلدة حرير بمحافظة أربيل، وحصل على شهادة المحاسبة في كركوك، ومن ثم من لندن. وهو عضو جمعية المحاسبين في بريطانيا واستراليا.
أسس المدرسة الآشورية لتعليم اللغة الأم في سدني، أستراليا في عام 1974 . وأصبح مديراً ومدرساً في المدرسة المذكورة طوال أثنتي عشرة سنة. ومنذ عام 1976 عمل كعضو فعال في الإذاعة الآشورية بسدني. وخلال تلك الفترة كتب مسرحيتين للإذاعة.
أما أعماله الأدبية المطبوعة فهي:
ـ هو أحد المؤلفين الثلاثة لكتاب "نظرة على الحياة " طبعة كركوك.
ـ كتاب "اللغة الآشورية للمبتدئين " نشره النادي الآشوري الأسترالي في سدني عام 1986. 
ـ أرشادات لمعلمي اللغة الآشورية للمبتدئين
ـ "ذكريات سيمونية" بالأشتراك مع جاكوب ميرعزيز، لمناسبة زيارة رابي نمرود سيمونو الى أستراليا سنة 1985، نشر في سدني 1986.
ـ أحد مؤلفي "الكنارة"، وهو كتاب باللغتين: الآشورية والأنكليزية، صُدر بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لتأسيس النادي الآشوري الأسترالي (1969 ـ 1989) .
ـ العديد من المقالات والبحوث المنشورة في المجلة الأكاديمية الآشورية.
     
ـ أهمية الترجمة:
لعبت الترجمة الأدبية على مدى التاريخ الثقافي للإنسانية الدور الأهم في بناء وترسيخ العلاقات بين الأمم والشعوب. وبفضل الترجمة تعرفت الشعوب على آداب وثقافات بعضها. وبذلك كان للترجمة دوراً جوهرياً في التجديد الأدبي والثقافي والفكري، لأن الشعب الذي يستقبل ترجمة آداب الشعوب الأخرى ويستوعبها ويهضمها ويتأثر بها لا بد أن يرنو نحو تجديد أدبه. أما الشعب الذي تُصاب عنده الترجمة بالركود والجمود وينزوي متقوقعاً منعزلاً عن آداب وثقافات الشعوب الأخرى بما تحمله من فكر ورقي حضاري، يحرم نفسه من فرص التجديد الفني والفكري ويتأخر عن اللحاق بركب التطور الحضاري للإنسانية.
فالترجمة كنشاط ثقافي إنساني لا غنى عنه وكوسيلة من وسائل التواصل والحوار بين الحضارات تُعدّ القناة الرئيسية للتواصل والتبادل الثقافي بين الشعوب في عالم تسوده التعددية اللغوية والثقافية، هذه التعددية التي لا ينبغي أعتبارها عائقاً للتواصل، لأنه مع خصوصية كل أمة وما يقابلها من أختلاف اللغات وتنوع الآداب وتباين مظاهر الحياة الحضارية والثقافية، هناك سعي نحو التعارف والتقارب والتفاهم ضمن وحدة التنوع البشري. وازاء هذه التعددية اللغوية الثقافية يتحتم ظهور نشاطات ترجمية بين اللغات المختلفة.
لقد مرت لغتنا السريانية بفترات أزدهار وانحدار عبر مسيرتها التاريخية أختلف خلالها الدور الذي تبوأته كلغة مرسلة (لغة مصدر) أو لغة مستقبلة (لغة هدف) في مجال الترجمة من وإلى آداب ولغات الأمم الأخرى، فقد كانت السريانية لغة مستقبلة بالنسبة لما تُرجم إليها من ثقافة وعلوم وآداب اليونانيين، بينما تحولت الى لغة مُرسِلة عندما نقلت معارفها الى العربية، وكذلك كان شأن العربية في الاستقبال من السريانية والأرسال الى أوربا في القرون الوسطى. وحال لغتنا الآشورية المعاصرة في عصرنا هو الأستقبال نتيجة لما مر به شعبنا من ظروف القهر والتشرد والتشتت والعزلة الثقافية، لذلك فلا بد لنا من بذل الجهود الجادة المخلصة في ترجمة آداب الشعوب الى لغتنا للنهوض بها ودفعها للحاق بركب الحضارة الانسانية، وعدم بخس قيمة وأهمية ما يُترجم على أنه مجرد نقل وليس عمل ابداعي، فالثقافة التي لا تستطيع التفاعل مع الثقافات الأخرى والإستفادة من تجاربها وخبراتها مصيرها الانعزال ومن ثم الزوال.

ـ الأدب الفارسي ومكانته بين الآداب العالمية:
يتبوأ الأدب الفارسي مكانة مرموقة بين آداب الحضارات القديمة الراقية، لما يتميز به من آثار شعرية غنية. ونظراً لمكانته هذه فقد حظي بأهتمام وعناية الدارسين من مختلف اللغات، فدرسوا وترجموا جانباً كبيراً من آثاره الشعرية الى لغاتهم.
وما يهمنا هنا من الشعر الفارسي هو "الرباعي"، وهو ضرب من فنون الشعر الفارسي الأصيل، وهو من حيث الشكل عبارة عن بيتين شعريين يتألفان من أربعة مصاريع تجري على وزن واحد وقافية واحدة، خلا المصراع الثالث الذي يتفق في القافية مع سائر المصاريع حيناً ويختلف عنها حيناً آخر. ظل الرباعي منذ اختراعه ضرباً شعرياً ينظم فيه الشعراء الايرانيون أشعارهم. وعُرِف به أربعة من الشعراء الايرانيين في القرن السادس عشر للميلاد، لكون نتاجهم الشعري في معظمه مقتصراً على هذا الضرب من النظم، وهؤلاء الشعراء الأربعة هم: أبو سعيد بن أبي الخير (967 ـ 1049م)، وبابا طاهر الهمداني/ اللوري ، والشيخ عبدالله الأنصاري (1004 ـ 1088م)، وعمر الخيام (1048 ـ 1123 م). وسيقتصر حديثنا هنا على شاعر الرباعيات عمر الخيام.
ـ عمر الخيام:
ولد غياث الدين عمر أبو الفتح بن ابراهيم الخيّام في مدينة نيسابور الإيرانية حوالي سنة 1048م  وتوفي حوالي سنة 1123م.  كان شاعراً مبدعاً وعالماً بارزاً في الرياضيات والفلك. له في الشعر "الرباعيات" وقد بدا فيها شاعر القلق والتشاؤم النفساني والأبيقورية الداعية الى ملء الكأس من الملذات قدر المستطاع في الحاضر.
لقيتْ رباعيات الخيّام اقبالاً على دراستها ونقلها الى لغات العالم المتمدن في أوربا وأمريكا. وسرّ الفوز الذي كُتب لرباعيات الخيام وما نالته من شهرة واسعة، منبعث عن فهم الخيّام لمعنى الحياة وفق عقيدة المدنية الحاضرة وذوقها، وتقديم رباعياته بأسلوب شعري بديع، فضلاً عن تناولها مسائل فلسفية يقف أمامها الانسان حائراً في كل زمان ومكان، كالتساؤل عن اسرار الخلق والروح والوجود والعدم والميلاد والحياة والموت ومصير الجسد بعد الموت فضلاً عما تتضمنه من نقد لاذع لعيوب المجتمع وجرأة في التعبير تجاوزت حدود الدين والآداب.
ورباعيات الخيام تحفة فنية وكنز أدبي جدير بالخلود وبالعالمية لمضمونها الإنساني. وهي ترنيمة حزينة تنعى إلينا زوال الانسان والموجودات وانقلاب لحظات الرخاء شقاء، ليغدو عمر الانسان مجرد ذكرى شأنه شأن جذوة نار تبعث دفءً ونوراً ثم تخبو لتحول رماداً بارداً، وعجز الانسان ازاء هذا القهر الكوني المتمثل في الموت والفناء الذي تطال يده الانسان ثمرة الوجود ومكمن العبقرية وسر الحياة ومستودع المشاعر. فما الذي ينقذ الإنسان من هذا المأزق الوجودي؟ لا شيء غير طلب النشوة التي تهبها الخمرة، والبهجة التي ينشرها مجلس أنس وطرب، فهو عزاء الانسان ووسيلته الوحيدة إلى تناسي هول الموت الذي لا سبيل للفرار من قبضته .
ومثلما يختلف نقاد الأدب ودارسو حياة الخيام في صحة نسبة الرباعيات إليه أو بعضها، فمن قائل أنها ليست لعمر الخيام الرياضي، وإنما لشاعر آخر بهذا الاسم، إلى ناقد يزعم أن بعضها تصح نسبتها إليه، وبعضها الآخر مدسوس عليه خصوصا ما تعلق بالغيب والقدر والإيمان والبعث. كذلك تتضارب آراؤهم فيما يتعلق بتحديد عدد رباعيات الخيام، وتتراوح تقديراتهم ما بين (66 ـ 178) رباعية، بينما بلغ عددها عند البعض الآخر عدة مئات أو أكثر بكثير. وينفرد عمر الخيام بين شعراء الرباعيات بما ناله من شهرة واهتمام لدى الدارسين من شرقيين وغربيين، وقد طبعت رباعياته طبعات عديدة مع مقدمات لكبار الأساتذة الايرانيين. وتعددت ترجماتها الى اللغات الاوربية ، كما ترجمت الى العربية أكثر من مرة. ومن أهم الترجمات الترجمة الأنكليزية المنظومة للشاعر الأنكليزي فيتزجيرالد المنشورة عام 1859.

ـ رباعيات عمر الخيّام في اللغات الأجنبية:
لقد وقف المتـأخرون على رباعيات الخيام فوجدوا فيها الحلاوة والطلاوة وبُعد التفكير ما أثار في نفوسهم الاعجاب الشديد وتهافتوا على ترجمتها الى اللغات نثراً ونظماً. وأبرز الذين تولوا الإشادة بذكر عمر الخيام ورباعياته وإذاعة صيته هم بعض المستشرقين الذين يعود إليهم الفضل في بعث إسمه واعلاء شأنه. وأول مَن عرف الخيّام من الغربيين العلاّمة "توماس هيد" أستاذ اللغتين العبرية والعربية في جامعة أكسفورد ، الذي بحث في شعر الخيام وترجمه سنة 1700م. ثم جاء بعده فيتزجيرالد، وهو أول من أشاد بذكر الخيّام ورفع منزلته ونظم فلسفته بالانكليزية رباعياتٍ ضمّنها روح الرباعيات الفارسية، فخلّد اسمه بتلك الرباعيات التي جاءت آية في السلاسة والرقة والاعجاز فلاقت قبولاً واستحساناً لدى الانكليز والأمريكان.
وفي سنة 1857 ترجم له المستشرق (غورسن دو تاسي) عشر رباعيات. وفي القرن التاسع عشر ترجم المستشرق (السير غور أُزيلي) رباعيتين. وفي سنة 1898 نقلها المستشرق (أدوارد هيرن) الى الانكليزية نثراً معتمداً عين النسخة التي اعتمدها فيتزجيرالد. كما نقلها نثراً أيضاً (مسيو نيكولاس) الى الفرنسية معتمداً على نسختها المطبوعة في بُمبي. وتوالت الترجمات الأنكليزية والفرنسية والروسية للرباعيات لكنها جميعاً لم تبلغ الشأو الذي بلغته ترجمة فيتزجيرالد.
وبعد اكتشاف فيتزجرالد للخيّام وترجمته لرباعياته تنبّه العرب إلى قيمة الرباعيات ومضمونها الانساني وقيمها الفنية والجمالية وتحمسوا لنقلها إلى لغتهم، وأول من نقلها الى العربية وديع البستاني مترجماً أربعين رباعياً من نسخة الشاعر فيتزجيرالد. تلاه الأديب المصري السيد محمد السباعي الذي ترجم مائة رباعية ورباعية نقلاً عن الأنكليزية، وأعقبه الشاعر أحمد رامي الذي سافر إلى باريس لدراسة اللغة الفارسية لمدة عامين منقبا وباحثا في الأدب الفارسي ورباعيات الخيام تحديداً، وعقب عودته الى مصر أسقط الكثير من الرباعيات وعرَّب ما وثق من صحة نسبته إلى الخيام وقد شاعت هذه الترجمة بعد أن غنّت أم كلثوم بعضاً منها. وأول مَن عرّبها في العراق نظماً مباشرة عن نصها الفارسي الشاعر أحمد الصافي النجفي فجاءت ترجمته مطابقة للأصل، ثم أعقبه الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي فترجم الرباعيات من الأصل الفارسي نثراً ونظماً مختاراً منها 130 رباعياً .
وقد ترجمها الى التركية المعلم فيضي، مترجماً نحو مائة رباعي، ثم تلاه الأديب التركي مستجابي زادة عصمت ومن ثم عبد الله جودت الأديب التركي الكبير وقد ذاع صيت ترجمته أكثر من غيرها.
وأول من نقل رباعيات الخيّام من الفارسية الى اللغة العبرية نظماً المحامي الشاعر سليم أفندي أسحق.
أما ترجمتها السريانية فقد أنجزها الملفان نعوم فائق (1868 ـ 1930) الذي يُعَدّ أول من نقلها الى السريانية. وقد ترجم عبد المسيح حنا نعمان القره باشي (1903 ـ 1983) 351 بيتاً منها. كما نقلها من الفارسية الى الآشورية المعاصرة  نسطورس (ميرزا مسروف خان) ابن القس كارم (1862 ـ 1943) في 396 رباعياً ونشرها سنة 1933 في تبريز بإيران. وحذا حذوه شموئيل بيت يعقوب (1904 ـ 1980) فترجم 192 رباعياً. أما أشعيا ايليشع خنو (1909 ـ 1994) فقد ترجم 111 رباعياً معتمداً في ترجمته نسخة باللغة الانكليزية. والشاعر أشعيا إيلشع خنو مترجم رباعيات الخيّام التي تشكل قوام الكتاب الذي نحن بصدده ، يُعَدّ موهبة شقت طريقها بثقة، وأثبتت وجودها بقوة، متمتعاً بشاعرية سخية، وقدرة على الإبداع الفني، مستخدماً صوره الشعرية في إطار من العبارات والألفاظ السلسة، أحسن سبكها وأجاد نظمها، ليطلع على قرائه بلوحة فنية رائعة الصور زاهية الألوان. ولا يؤخذ عليه سوى أستخدامه الدخيل من المفردات والالفاظ أحياناً، وهذا أمر شاع في كتابات معظم أدبائنا منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.
ولا نجد بداً من إيراد ما قاله عنه الكاتب الكبير رابي دانيال داود بيث بنيامين، في كتابه "مقالات وقصائد دانيال داود بيث بنيامين: ص 106 ـ 110" ومفاده:" شاعر الحزن والدموع، المرحوم اشعيا اليشع خنو، هو احد القلائل الذين وهبتهم الطبيعية روحاً ثرية بالأحاسيس العميقة والمرهفة التي بها كان لتصوراته الرحبة تأثيراً على مسامع القراء.
مَن يتأمل قصائده سيجدها قد صيغت بلغة بليغة وسهلة، رغم عثوره فيها على بعض الألفاظ الدخيلة، إلا أن الهدف الرئيسي للشاعر كان بلوغ اعماق ضمير القارئ."
ويمضي رابي دانيال الى القول: " ... ذكرنا في مستهل هذا المقال أن قصائد اشعيا تعكس ذكرياته الشخصية والقومية المريرة ونجده قد حافظ بمهارة بالغة في قصيدته "أرض مولدي" التي تضم خمسين بيتاً من البحر الوسطي على قوانين القصيدة السريانية، وهي بهذا تشهد على طول باعه في هذا المضمار.
لقد نَظَم الشاعر هذه القصيدة بلغة سهلة وأستطاع من خلالها الوصول الى أعماق قلوب القراء العاديين وأن يدغدغ مشاعرهم ويُرجع ذكريات  أقرانه الى مسقط رأسهم في موطنهم القديم."

أما الشاعر المبدع آدم دانيال هومه فيقول في دراسته الموسومة " إطلالة على الشعر الآشوري المعاصر: ص 34"، يقول عن أشعيا ايليشع خنو ما نصه:" فهو واحد من الأصوات التي ساهمت في إغناء الثقافة الآشورية في القرن المنصرم٬ وشعره يميل إلى الغنائية دون أن ينأى كثيراً عن تثمير لغة الواقع الحي ٬ وتصوير الآلام التي تعرضت لها أمته ٬ وحفرت أخاديد في وجدانه ٬ باستخدام الأسلوب الواقعي المباشر بأسلوبه المتميز. فالقصيدة لديه صورة غنائية رومانسية تمتزج فيها روعة التخيل بصدق الواقع ٬ ويمدّها صدق الشعور٬ وبساطة الكلمات بنبض الحياة. وتمتزج فيها صور الطبيعة لتشكل عناصرها عناصر الشعب الآشوري الآمن المسالم الذي تعيش أمواهه وترابه وأطفاله وأزهاره في وحدة عضوية لا انفصام فيها ٬ وتولف بينها عاطفة فطرية مباشرة . فالذكريات الأليمة لديه ليست رمادا وٕانما هي حياة ناطقة لا تنفصل فيها الكلمة عما تحدده ٬ وبهذه الصورة يحلّق إلى آفاق الإلهام الإنساني الذي فجّرته شرارة مذابح الآشوريين في تركيا والعراق باحثًا عن صورة الفردوس الذي هشّمته أقدام المجرمين وأحالته قاعا صفصفا فلم يعد له وجود إلا في أعماق ذاته الداخلية."
وختاماً علينا أن ندرك قيمة العمل المُضني الذي أقدم عليه الشاعر أشعيا إيلشع خنو ونثمّن جهوده بترجمة رباعيات الخيّام ونحن نعلم أن ترجمة الشعر بالشعر أمرٌ شاق، ونقل المعنى نظماً من لغة الى أخرى مع الأحتفاظ  بمعاني النص الأصلي ليس بالأمر الهيّن. فقد أجاد شاعرنا في ترجمة رباعياته نظماً وأضاف بعمله سمطاً ثميناً من اللآلئ النادرة الى كنز آدابنا، وسجّل اسمه في سفر الخالدين لتظل ذكراه تنبض بالحياة في قلوب محبي هذه اللغة العزيزة وآدابها، طبقاً للقول المأثور:
مَن يعمل لأجل أمته وإن رقد في اللَحدِ، سيبقى إسمه مخلداً الى الأبدِ.




16


ܦܲܪܕܲܝܣܝܼ ܛܠܝܼܩܵܐ

           ܒܝܕ: ܓܒܪܝܠ ܓܝܘܪܓܝܣ ـ ܕܵܢܝܼܡܵܪܟ

                1
ܡܼܢ ܐܲܬܼܪܵܐ ܠܐܲܬܼܪܵܐ ܫܢܹ̈ܐ ܒܵܬܪ ܫܢܹ̈ܐ:
ܠܦܲܪܕܲܝܣܝܼ ܛܠܝܼܩܵܐ ܚܕܝܼܪܠܝܼ ܕܚܵܙܝܼܢܠܹܗ
ܚܕܝܼܪܝܼ ܒܕܲܫ̈ܝܵܬܼܵܐ ܥܒܼܪܝܼ ܝܵܡܵܬܼܵܐ:
ܦܪܕܲܣܝܼ ܛܠܝܼܩܵܐ ܒܥܹܐܠܝܼ ܕܡܲܫ̄ܟܚܝܼܢܠܹܗ ݊

             2   
ܠܦܲܪܕܲܝܣ ܚܘܼܠܡܵܢܝܼ ܪܗܝܼܛܠܝܼ ܕܡܵܛܝܼܢܠܹܗ:
ܪܫܝܼܡܠܝܼ ܨܘܼܪ̈ܝܵܬܼܵܐ ܡܼܢ ܘܲܪ̈ܕܹܐ ܘܐܘܿܪ̈ܝܵܬܼܵܐ
ܡܝܼܵܐ ܕܥܲܝ̈ܢܵܬܼܵܐ ܘܗܸܠܩܹ̈ܐ ܘܛܥܘܼܢ̈ܝܵܬܼܵܐ:
ܒܣܸܩܠܵܐ ܕܦܲܪܕܲܝܣܵܐ ܠܸܒܝܼ ܡܲܚܕܝܼܢܠܹܗ ݊

           3
ܗܘܹܐܠܝܼ ܒܚܕܵܪܵܐ ܐܲܝܟܼ ܚܲܕ ܐܵܘܵܪܵܐ:
ܫܢܹ̈ܐ ܕܥܠܲܝܡܘܼܬܼܝܼ ܛܠܵܩܵܐ ܘܒܥܒܼܵܪܵܐ
ܩܕܡ ܥܲܝܢ̈ܝ ܓܢܵܝܵܐ ܘܚܲܫܟܘܿܢܹܐ ܫܪܵܪܵܐ:
ܘܦܲܪܕܲܝܣܝܼ ܚܕܵܪܵܐ ܠܙܹܐܦܵܐ ܘܗܲܪܗܵܪܵܐ  ݊




            4
ܚܫܝܼܒܼܠܝܼ ܒܪܚܵܩܬܵܐ ܡܼܢ ܐܲܬܼܪܝܼ ܐܲܨܠܵܝܵܐ:
ܠܦܲܪܕܲܣܝܼ ܛܠܝܼܩܵܐ ܩܲܪܒܘܿܢܹܐ ܝܘ̄ܢ ܘܡܛܵܝܵܐ
ܫܒܼܵܩܵܐ ܠܦܲܪܕܲܝܣܵܐ ܬܗܵܝܵܐ ܘܒܛܥܵܝܵܐ:
ܐܲܬܼܪܝܼ ܦܲܪܕܲܝܣܵܐ ܘܐܵܢܵܐ ܠܵܐ ܝ̄ܕܥܵܝܵܐ ݊

            5
ܒܠܸܠܝܹ̈ܐ ܚܸܫܟܵܢܹ̈ܐ ܠܲܝܬ ܗܘܵܐ ܚܲܕ ܒܲܗܪܵܐ:
ܡܗܲܕܝܵܢܵܐ ܠܫܒܼܝܼܠܝܼ ܫܒܼܘܿܩ ܡܼܢ̄ ܟܵܘܟܼܒܹ̈ܐ ܘܣܲܗܪܵܐ
ܨܒܼܝܵܢܝܼ ܢܘܵܠܵܐ ܘܚܹܝܠܝܼ ܒܸܬܒܼܵܪܵܐ:
ܗܲܠ ܕܫܡܝܼܥܠܝܼ ܩܵܠܵܐ ܒܢܗܵܡܵܐ ܘܐ̄ܡܵܪܵܐ ݊

           6
ܠܡܵܢܵܐ ܒܸܚܕܵܪܵܐ ܒܐܲܬܼܪܵܐ ܢܘܼܚܪܵܝܵܐ؟:
ܘܫܒܼܵܩܵܐ ܠܦܲܪܕܲܝܣܵܐ ܗܿܘ ܢܲܗܪܹܝܢܵܝܵܐ
ܠܲܝܬ ܠܘܿܟܼ ܦܲܪܕܲܝܣܵܐ ܐܘܿ ܐܵܬܼܘܿܪܵܝܵܐ:
ܫܒܼܘܿܩ ܡܼܢ ܦܲܪܕܲܝܣܵܐ ܩܸܪܝܵܐ ܥܕܹܢܵܝܵܐ  ݊

 **************

18
طقوس أحتفالات أكيتو في بابل وآشور


صفحات: [1]