عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - المطران مار يوسف توما

صفحات: [1]
1
رسالة في الصلاة
المطران برونو فورتي
رئيس أساقفة كييتي فاستو - ايطاليا

تسألني: لماذا الصلاة؟ أجيبك: لكي تعيش.
نعم: لكي تحيا حقًا، عليك أن تصلي. لماذا؟ لأن الحياة هي الحب: الحياة بدون حب ليست حياة. إنها عزلة فارغة، إنها سجن وحزن. فقط من يحب حقًا يعيش: ولا يحب إلا من يشعر بالحب، وينضم الحب إليه ويحوّله. وكما أن النبات لا يمكن أن يُزهر ثمره إذا لم تنضم إليه أشعة الشمس، كذلك لا يمكن لقلب الإنسان أن ينفتح على الحياة الحقيقية والكاملة إلا إذا لمسه الحب. والحب يولد من اللقاء ويعيش من اللقاء مع محبة الله، أعظم وأصدق كل أشكال المحبة الممكنة، علاوة على ذلك، الحب الذي يتجاوز كل تعريفاتنا، وكل إمكانياتنا. ولهذا فإن من يصلي يحيا في الزمان وللأبدية. ولكن الذي لا يصلي؟ من لا يصلي يخاطر بالموت في داخله، لأنه يومًا ما سيفتقر إلى الهواء الذي يتنفس، والدفء الضروري لكي يعيش، والنور لكي يرى، والطعام لكي ينمو، والفرح لكي يعطي معنى للحياة.

تقول لي: لكني لا أعرف كيف أصلي! وتسألني: كيف أصلي؟ أجيبك: ابدأ بإعطاء القليل من وقتك لله. في البداية، ليس مهمًا أن يكون الوقت طويلاً، بل أن تمنحه بإخلاص. حدد لنفسك وقتًا كل يوم لتعطيه للرب، وأعطه إياه بأمانة كل يوم، عندما تشعر بالرغبة وعندما لا ترغب بذلك أيضًا. ابحث عن مكان هادئ، حيث يوجد، إن أمكن، علامة ما تذكّر بحضور الرب (صليب، أيقونة، كتاب مقدس، بيت القربان مع الحضور الإفخارستي، إلخ). اختلِ بصمت: استحضر الروح القدس، الذي سيأتي لكي يصرخ فيك: "يا أبتاه، أيها الآب!".

قدّم قلبك لله، حتى لو كان في دوّامة: لا تخف أن تخبره بكل شيء، ليس فقط صعوباتك وآلامك وخطاياك وقلة إيمانك، بل حتى تمرّدك واعتراضاتك، إذا ما شعرت بكل هذا في داخلك.

ضع كل هذا في يد الله: تذكر أن الله أب وأمّ في المحبة، وهو يستقبل كل شيء، ويغفر كل شيء، وينير كل شيء، ويخلّص كل شيء. استمع إلى صمته: لا تتظاهر بأنك ستحصل على الإجابة على الفور. كن مثابرًا مثل إيليا النبي، سر في البرية نحو جبل الله: ومتى اقتربتَ منه، لا تطلبه في الريح أو في الزلزلة أو في النار، لا تطلبه في علامات القوة أو العظمة، بل في صوت الصمت الخفي (راجع 1 مل 19، 12). لا تدّعي بأنك تمسك بالله، بل دعه يمرّ عبر حياتك وفي قلبك، ليلمس روحك، وتتأمله، حتى ولو من الخلف فقط. استمع إلى صوت صمته. استمع إلى كلمته الحيّة: افتح الكتاب المقدس، تأملها بمحبة، دع كلمة يسوع تتحدث إليك من القلب إلى القلب؛ اقرأ المزامير، حيث ستجد التعبير عن كل ما تودّ أن تقوله لله؛ استمع للرسل والأنبياء. قَع في حب تاريخ الآباء والشعب المختار والكنيسة الأولى الناشئة، حيث ستلتقي بخبرة الحياة التي عاشوها في أفق العهد مع الله. وعندما تكون قد استمعت إلى كلمة الله، سر لفترة طويلة في مسالك الصمت، ودع الروح القدس يوحدك مع المسيح، كلمة الآب الأبدية. كي يشكلك الله الآب بيديه: مع الكلمة والروح القدس.

في البداية، قد يبدو لك الوقت الذي تقضيه في كل هذا طويلًا للغاية، ولا ينتهي أبدًا: لكن ثابر بتواضع، وأعطِ لله كل الوقت الذي نجحت في إعطائه له، ولكن لا أقل من الوقت الذي قررت أن تكون قادرًا على أن تعطيه إياه كل يوم. سترى أنك من لقاء إلى لقاء ستكافأ على إخلاصك، وستدرك أن طعم الصلاة سينمو فيك شيئًا فشيئًا، وما بدا لك في البداية بعيد المنال، سيصبح أسهل وأكثر جمالًا. عندها ستفهم أن المهم ليس الحصول على إجابات، بل أن تضع نفسك تحت تصرف الله: وسوف ترى أن ما تقدمه في الصلاة سيتجلى متغيرًا شيئًا فشيئًا.
هكذا، عندما تأتي للصلاة وقلبك في عاصفة، إذا ثابرت، ستدرك أنك بعد أن تصلي طويلاً لن تجد إجابات لطلباتك، بل ستذوب هذه الطلبات نفسها كالثلج في الشمس. وسيكون سلام عظيم في قلبك: سلام بأنك بين يدي الله وستترك نفسك ليقودك بطواعية إلى الأماكن التي أعدّها لك. عندها، سيتمكن قلبك المتجدّد أن ينشد الترنيمة الجديدة، وستخرج تسبحة مريم "تعظم نفسي الرب" تلقائيًا من شفتيك وستترتّل ببلاغة أعمالك.

ولكن اعلم أن الصعوبات في كل هذا لن تفوتك: ففي بعض الأحيان، لن تنجح في إسكات الضجيج الذي حولك وفي داخلك؛ وفي بعض الأحيان ستشعر بالتعب أو حتى بالقرف لدى البدء بالصلاة؛ ستنفجر حساسيتك، وسيبدو لك أي فعل آخر أفضل من البقاء في الصلاة أمام الله، "تضييعًا" للوقت. وأخيرًا، ستشعر بإغراءات الشرير الذي سيسعى بكل الوسائل إلى فصلك عن الرب، وإبعادك عن الصلاة. لا تخف: نفس التجارب التي تمر بها، قد اختبرها القديسون قبلك، وغالبًا ما كانت أثقل من تجاربك. أنت إستمر فقط في الإيمان. ثابر وقاوم وتذكر أن الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نقدمه لله حقًا هو دليل على أمانتنا. بالمثابرة ستحفظ صلاتك وحياتك.

ستأتي ساعة "الليلة المظلمة"، حيث يبدو لك كل شيء جافًا وحتى سخيفًا في أمور الله: لا تخف. هذه هي الساعة التي فيها الله نفسه يصارع معك: يرفع عنك كل خطيئة، من خلال اعترافك المتواضع والصادق بخطاياك ومن خلال سر التوبة والاعتراف؛ أعط الله المزيد من الوقت، ولتصبح لك ساعة ليل الحواس والروح ساعة مشاركة في آلام الرب. في هذه المرحلة، سيكون يسوع نفسه هو الذي سيحمل صليبك ويقودك معه إلى فرح القيامة. فلا عجب إذًا أن تذهب إلى حد اعتبار هذه الليلة محبوبة، لأنك ستراها تتحول لك إلى ليلة حب، مغمورة بحضور الحبيب، مملوءة برائحة المسيح، مستنيرة بنور الفصح.

لذلك لا تخف من المحن والصعوبات في الصلاة: تذكر فقط أن الله أمين وأنه لن يرسل لك تجربة دون أن يعطيك مخرجًا منها، وهو لن يعرض نفسك أبدًا للتجربة دون أن يمنحك القوة لتحملها والتغلب عليها. دع الله يحبك: مثل قطرة الماء التي تتبخر تحت أشعة الشمس، وترتفع إلى الأعلى، وتعود إلى الأرض كمطر مخصِب أو ندى معزي، هكذا دع كيانك كله يعمل الله فيه، يعجنه الحب. حب الثالوث الأقدس، فعندما تذوب فيه ستعود راجعا إلى التاريخ كهدية مثمرة. دع الصلاة فيك تضاعف التحرّر من كل خوف، وتمنحك الشجاعة وجرأة المحبة، والإخلاص للأشخاص الذين ائتمنك الله عليهم والمواقف التي وضعك فيها، دون محاولة البحث عن هرب أو تعزيات رخيصة. تعلم، من خلال الصلاة، أن تعيش صبر انتظار أوقات الله، التي ليست أوقاتنا، وأن تتبع طرق الله، التي في كثير من الأحيان ليست طرقنا.

إن العطية الخاصة التي ستقدمها لك الأمانة للصلاة هي محبة الآخرين والشعور بالكنيسة: كلما صليت أكثر، كلما شعرت بالرحمة تجاه الجميع، وكلما زادت رغبتك في مساعدة أولئك الذين يتألمون، كلما زاد جوعك وعطشك إلى العدالة للجميع، وخاصة الفقراء والضعفاء، وكلما قبلت أن تحمل خطايا الآخرين لكي تكمل في ذاتك ما ينقص في آلام المسيح لكل جسده الذي هو الكنيسة. بالصلاة، ستشعر كم هو جميل أن تكون في سفينة بطرس، متضامنًا مع الجميع، مطيعًا لسلوك الرعاة، مدعومًا بصلاة الجميع، مستعدًا لخدمة الآخرين بمجانية، دون طلب أي شيء في المقابل. عندما تصلي، ستشعر بالشغف ينمو في داخلك من أجل وحدة جسد المسيح والعائلة البشرية بأكملها. فالصلاة هي مدرسة المحبة، لأنه فيها يمكنك أن تتعرف على نفسك محبوبًا بلا حدود وأن تولد دائمًا من جديد في السخاء الذي يأخذ مبادرة الغفران والعطاء دون حساب، بما يتجاوز أي قدر من التعب.

بالصلاة نتعلم الصلاة، ونتذوق ثمار الروح التي تجعل الحياة حقيقية وجميلة: "المحبة، الفرح، السلام، الصبر، اللطف، الصلاح، الأمانة، الوداعة والعفاف" (غل 5، 22). بالصلاة نصبح محبة، وتكتسب الحياة المعنى والجمال اللذين أرادهما الله لها. من خلال الصلاة، ندرك بشكل متزايد الحاجة الملحة لإيصال الإنجيل إلى الجميع، إلى أبعد نقطة في الأرض. من خلال الصلاة، نكتشف عطايا الرب المحبوب اللامتناهية ونتعلم أكثر من أي وقت مضى تقديم الشكر له في كل شيء. بالصلاة نحيا. بالصلاة نحب. بالصلاة نسبّح. والتسبيح هو الفرح والسلام الأعظم من قلوبنا المضطربة، في هذا الزمان وإلى الأبد.

وإذا ما كنت أتمنى لك أجمل هدية، إذا ما أردت أن أطلبها لك من الله، فلن أتردد أن أطلب منه هدية الصلاة. أسأله: وأنت لا تتردد في أن تطلب من الله لمن أجلي. ومن أجلك: سلام ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس تكون معك دائمًا. وأنت تكون معه أيضًا: لأنك بالصلاة تدخل إلى قلب الله، المختبئ مع المسيح فيه، محاطًا بمحبته الأبدية الأمينة والمتجددة على الدوام. من الآن أنت تعلم هذا: من يصلي مع يسوع وفيه، من يصلي ليسوع أو لأبيه أو يستدعي روحه القدوس، لا يصلي إلى إله عام وبعيد، بل يصلي في الله، في الروح، من خلال الابن إلى الآب. ومن الآب، من خلال يسوع، في نفحة الروح الإلهية، سوف تنال كل عطية كاملة، متناغمة معه، أعدها هو منذ الأزل وأرادها. إنها الهدية التي تنتظرنا. وتنتظرك.

ترجمة المطران يوسف توما
كركوك 13 تشرين الأول 2023

2
عندما تغضب الكنيسة كأم ومعلمة، من عدوّ يأتي من الداخل

تابعت منذ يوم السبت الماضي 6 أيار المؤتمر الصحفي لنيافة الكردينال لويس ساكو حول أسباب الهجمة التي شنت عليه وعلى الكنيسة الكلدانية، والاتهامات التي وجهها إليه الأمين العام لحركة بابليون ريان الكلداني بلا أي دلائل كونه خاض معارك انتخابية وباع واشترى بالسياسة على حساب القرار والأمن ومستقبل المسيحيين في العراق، فضلاً عن اتهامه ببيع ممتلكات كنسية.
شعرت بالحزن الشديد أن أبناء شعبنا المسيحي يأخذون أسلوب التنمر، التخويف والتهديد واستعمال العنف الذي يكشف أنه ليس من المسيحية بشيء ولا لم تربى على ركبتي ام مسيحية تقية.
النظام الكنسي عريق ويقضي بحرم من لا يتوب عن أكاذيب يحاول فيها كسر سمعة أكبر سلطة كنسيّة في بلادنا والعالم. وكأني به يتواطأ مع من يهيل التراب على قبر يحفره بنفسه للمستقبل.
لعل حركة بابليون لا تعي أن الخطر، كل الخطر هو في تسييس الدين ويجهل أن كثيرين دفعوا ثمن غاليا لذلك في زماننا وفي الماضي، هذا التسييس للمسيحية في المرحلة الراهنة هو أخطر لأنه يحاول الهيمنة ووضع اليد على ما تبقى من مؤسسات مسيحية، لذا كان يجب أن يقف غبطته بوجه هؤلاء أيا كانوا أو حتى ممن اشتري صمتهم، فهذا التيار مزمع أن يدفن المسيحية والديمقراطية في العراق سواء بسواء، أي إن على جميع مؤسسات الدولة وحقوق الانسان أن تنتفض وتعي الحريق الذي سرعان ما سيصل إليهم جميعا، عملا بقول المثل: إذا احترق بيت جارك، سارع إلى إطفائه قبل أن تصل النار لبيتك. 
نحن هنا أمام فاشية مسيحية جديدة، تستقوي بالخصوم وتستعدي الأهل والأقارب وتهدم كل ما بني في العقود الماضية في كنيستنا على اختلاف طوائفها منذ خمسة عقود أي منذ المجمع الفاتيكاني الثاني.
حتى الأنظمة السابقة لم تنجح في تقسيم الكنيسة مثلما يحدث اليوم. هناك كانت بالتأكيد آيديولوجية عنيفة، أما اليوم فلا نرى أي فكر أو تحليل بل عدوانية وكراهية واضحة وعودة إلى العشائرية والمشيخة لا تقوى ولا شهادات ولا كفاءة أكاديمية بحيث يشعر كل من يحاول التحليل أنه عاجز، يرى نفسه أمام مجرد تنمّر كالغابة من أوطأ دوافعه وغرائزه. لذلك لا ننصح بأي مناظرة ولا مقابلة ولا حتى دفاع عن موقف الكنيسة، ما قاله غبطته كان واضحا فالمقابل يريد وضع اليد فقط، ولا يقبل أن يحاسبه أحد، في حين لدينا نحن مرجعية وسلطة ومحاسبة على كل المستويات.
خوفي من الآراء التي لا تزيد الطين إلا بلة وهي لن توصِل سوى إلى التعاميم التافهة، من يعطيها يكشف عن جهل او تجاهل، لذا لا يحق لأحد أن يتغاضى أو يستصغر صرخة البطريرك لويس ساكو، فهي جاءت بعد أن طفح الكيل وهي نتيجة تراكمات ووضوح رؤيا، منذ البداية، لم يسمعها أحد وليس من حق أحد أن يستصغرها بنصائح من نوع: "ننسى الماضي، لنتصالح... عفا الله عما سلف"... كلا، الماء جرى تحتنا ولم يبق لدينا ما نخسره.
أقول لكل من يحاول أن يدلي بدلوه إن النخر الذي أحدثته بابليون لا يمكن أن يساء فهمه فهو يهدف إلى تقسيم المسيحيين ويصطاد في الماء العكر لاستغلال تنوعهم وإبعادهم عن التجانس وعواقب هذا التوجه وخيمة. لولا صرخة البطريرك الكردينال ساكو يوم السبت 6 أيار.
لذا أدعو الجميع إلى التروّي قبل إطلاق الأحكام وعدم اعتبار أن هذا المرض سيشفى بحبة "باراسيتول"، وهذا يذكرني بما تعرّض له تلاميذ المسيح عندما حاولوا طرد الشيطان من صبي وعجزوا وسألوا الرب لماذا؟ فقال لهم: "هذا النوع لا يخرج إلا بالصوم والصلاة" (متى 17: 21).
المطران الدكتور يوسف توما
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية
كركوك 8 أيار 2023



4
     
نص الموعظة التي القاها سيادة المطران يوسف توما بمناسبةمنح الرسامة الانجيليية في كاتدرائية القلب الأقدس، كركوك الجمعة 29 نيسان 2022

نكرّر في كلّ قداس تحية القديس بولس الرسول الذي كان يختتم رسائله بهذه الجملة: "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشِركة الروح القدس معكم جميعًا" (2 قور 13/13)، حياة الإنسان ليست معزولة بل هي شِركة، أو مشاركة. كل منا مدعوّ إلى التبادل على كل الأصعدة، والديانة على مر العصور، إعتمدت عناصر الشراكة. أي الأخذ والعطاء، فأصبحت "الشِركة"، أفضل كلمة لتعريف الله الروح القدس أي هذه الحياة والحياة الأبدية.
يعتمد نجاح العلاقات على هذه الشِركة والأولوية التي نعطيها لخدمة إخوتنا، لكن الفرق يأتي من أسلوب هذه الخدمة، لذا رسم يسوع بحياته خارطة طريق لجماعة تلاميذه وهي حققت نجاح الكنيسة فوق الأرض، وأعطت للمجتمعات ديناميكية كانت تفتقر إليها، وبها يمكن أن نقيس المجتمعات من حيث نجاحها وفشلها.
لولا هذه المشاركة لبقي الانجيل حرفا ميتا إذا لم يتحول إلى أفعال وبشارة فرح.
إيماننا إذن حياة مع الله الآب والإبن والروح القدس عامل فيه ومعنا. إنّ ما يشكل علاقة الآب بالإبن من جهة، وبين ما يمنحه المسيح بعد قيامته لتلاميذه من جهة أخرى هو الروح (النَفَس)، الروح القدس أقنوم العلاقة بامتياز، ومن خلاله نعطي معنى وتفسيرا لأشكال الشِركة الأخرى.
هؤلاء الشباب أمامنا قرروا (قسم مع زوجاتهم) معرفة الله، كما قال يسوع: "والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق ويعرفوا يسوع المسيح" (يو 17/3)، بهذه المعرفة أولا ندخل الصلاة لنتمكن من ترجمة الوصية الوحيدة والأساسية التي في الإنجيل، وصيّة المحبة، بحركة مكوكية بين العمل والصلاة التي ليست تكرارًا مملا وشفهية فقط، بل حركة مستمرة واعية بحضور الله الدائم فينا.
إن كل رسامة هي توكيل للخدمة تحمل أسماء محددة لا تقتصر على أي نوع من الشماسية، هذا يعني أن المرسوم عليه واجب تشجيع الناس على قراءة الكتاب المقدس والصلاة، ويعلم بمثله بفاعلية تتحول إلى أوقات نقضيها مع الإخوة المؤمنين أو المراجعين أي الذين نخدمهم بأعمال راعوية أو رسولية، بحسب مهمة وموهبة كل واحد وواحدة. فتصبح علاقاتنا كالأواني المستطرقة: شِركة خدمة كي يزداد الفرح مع الله ومع الآخرين.
إضافة إلى ذلك، يحاول الشماس أن يعطي معنى آخر لحياته، من حيث القدرة على التنظيم واختيار الأولويات، فيقدّم أو يؤخر بالإصغاء للروح القدس الذي يهديه فتبقى الخدمة مركز ثقل كيانه.
كل جماعة محلية هي كنيسة وعليها حقوق وواجبات، كالعائلة هي مجتمع مصغّر وكنيسة صغيرة، تعيش الخدمة، في سر الكنيسة كطابع مستقبلي، الصغار يكبرون والكبار يشيخون أبي كان يحملني صغيرا، يأتي يوم أنا أحمله عجوزا. كل واحد يشارك بهذا المستقبل عن طريق خدمته. الجماعة لا يمكن أن تنغلق على نفسها، بل تنفتح لتخدم الكنيسة الشاملة لئلا يضيع شعب الله في أشكال التقوقع التعبان والمتعب.
المستقبل صعب التكهن له، لكن الرب يسوع تكلم عنه ووضع للكنيسة منهجا لتمارسه، بالشماسية الخدمة، وضع اليد (سياميذا) يشبه السلسلة، ميراث خلافة، منذ البداية "وضعوا أيديهم عليهم وأرسلوهم" في كل مكان مع أوراق ثبوتية "هوية" خدمة، جغرافية وروحانية وعمق، وضع اليد (الرسامة) هي مرآة العهد: أنا جاهز، الحركة بسيطة (مثل ماء العماذ بسيط) لكنها غنية بالمعنى والمحبة. في اعمال الرسل ذكرت ولادة الشمامسة لخدمة الموائد ولكي يتفرغ الرسل للكلمة، هذا يضحكني، اسطيفان أقيم ليخدم الموائد لكنه شماس شهيد بكلمته وقبل استشهاده يلقي أطول خطاب في العهد الجديد إنه خادم أيضا بالكلمة بشر حتى موته مثل يسوع، ترجم خدمته بالاتصال، غذى بها من أقيم لخدمتهم وصار سبب اهتداء لشاول (بولس).     
على كل خدمة إذن أن تكون ذات بعدَين: روحي ومادي، لكي نجابه التحديات، الصعوبات والفشل، ضد القلق، الهموم والكسل. وضد مجتمع ما بعد كورونا الاستهلاكي، لتصير حياتنا أكثر بساطة بعيدا عن التعقيد.
"من كان فيكم كبيرا - أي مسؤولا وواعيا وبالغا - فليكن خادما" شماسا (لو 22/26)، عندئذ سيعرف الناس أنكم تلاميذي، إذا أحبّ بعضكم بعضا" (يو 13/24)، كل يوم نفتح مكانا في قلبنا وحياتنا للآخرين أكثر فأكثر.
مبروك لشمامستنا خدمتهم، اذهبوا في كل مكان واخدموا بسخاء لا تخافوا، لا تهتموا الرب سيكون معكم...

+ المطران يوسف توما

5
في أجواء عيد القيامة 2022
"أبناء القيامة"، لقبٌ أحبّه آباؤنا
المطران د يوسف توما
كانت مسألة قيامة الأموات في قلب جدالات اليهود في زمن المسيح، وكان لجماعة الصدوقيين צְדוּקִים (وهم حزب سياسي وديني) رؤيتهم الخاصة، قبلوا التوراة فقط (الأسفار الخمسة الأولى)، وأنكروا قيامة الأموات والحياة الأبدية بعد الموت ورفضوا الاعتراف بالملائكة والشياطين. ورد ذكرهم في الإنجيل وأعمال الرسل 14 مرة، وكان قيافا عظيم الكهنة الذي حكم على يسوع صدوقيًا.

إنكارهم لقيامة الأجساد جاء على اعتبار أن الحياة الجنسيّة جزء من حاجة الجسد، لذلك أرادوا معرفة رأي يسوع في القيامة، فسألوه، ليس سؤالًا لاهوتيًا، بل ليضعوا له فخا يخص مسألة العلاقة بين الزوجين في قصة المرأة التي أخذت تباعا سبعة إخوة: "لمن ستكون يوم القيامة؟" (متى 22: 23-33). وكان مقابل الصدوقيين مجموعة أخرى قويّة من اليهود في ذلك الوقت، الفريسيون، هؤلاء كانوا يقبلون بالقيامة، أعجبهم جواب يسوع بشأن علاقة الإنسان بشريعة الله، هؤلاء أيضا طرحوا على يسوع سؤالًا يتعلق بالزوجين: "هل يمكن للمرء أن يطلق زوجته لأي علة؟ (متى 19، 3-12). الجميع يفهمون أن مسألة العلاقة الزوجية مسألة عهد إلهي لا يقبل التلاعب أو المزاج إذ عليها سيعتمد الثواب والعقاب وطريقة تعامل الله معنا والدينونة... هذا الموضوع إذن يكشف من أنت وما هو تصورك للدين. كقول الأب فيليب لفيفر Lefebvre (عالم الكتاب المقدس السويسري): "أخبِرني كيف تتصوّر العلاقة بين الرجل والمرأة، وسأخبرك ما هو مفهومك عن العالم، عن الحياة، عن الله". ("ماذا يقول الكتاب المقدس عن العائلة" 2014).
منذ ما قبل العصر المسيحي، طوّرت التيارات اليهودية - خاصة الفريسيون - على أساس معطيات الكتاب المقدس، فكرة قيامة للأموات: لأن الله الذي يعطي الحياة لا يمكنه أن ينتزعها. فالله في الكتاب المقدس شخص حي ويمنح الحياة. لكن رفض الصدوقيين القيامة. بحجة أن ذكرها لم يأت صريحا في كتب التوراة الخمسة، وبالتالي يبدو لديهم أنها بدعة تناقض التقليد. لهذا، اخترعوا قصة زواج المرأة من سبعة إخوة وقدموها مع ابتسامة ساخرة. فالقصة وإن كانت خرقاء إلى حد ما، لكنها تتطابق مع شريعة موسى قدموها باستخفاف بالقيامة على أنها مجرد استمرار للحياة وللوجود كما نعرفه على الأرض الآن. ماذا سيصنع الله للمرأة المتزوجة سبع مرات؟ لمن ستُنسب إلى الأبد إذا ما عاد القائمون من القبر إلى الحياة كالسابق، لمن سوف تكون زوجة؟ إنهم متأكدون من عدم قدرة يسوع على الإجابة على هذا السؤال بطريقة معقولة وإثبات قيامة الإنسان.
إن الحالة التي قدموها تقول شيئًا عنهم، بالذات. فهم مجموعة "متعصّبة" – تتلاعب بالنص- يستحضرون حالة امرأة تنتقل من رجل إلى آخر، حالة غريبة، في غير محلها. لكنهم يشيرون إلى قانون فرضته التوراة وهو إجبار زواج الأخ بأرملة أخيه (تثنية 25: 5) la loi du lévirat، الزواج لديهم مجرد عقد له نتائج تلقائية، بلا حياة أو عشرة حقيقية؛ مثالهم يستحضر كائنات نظرية، نكرة تظل مجهولة وتبيّن عقليتهم عن المرأة، مجرد سلعة لا قيمة لها، فلا يطرحون أي أسئلة على أنفسهم. والحال إن القيامة تفترض عكس كل هذا بالتأكيد: ماذا يريد الله؟
يقول يسوع للصدوقيين: "أنتم في ضلال لأنكم لا تعرفون الكتب ولا قدرة الله، ففي القيامة لا الرجال يتزوجون ولا النساء يزوّجنَ، بل يكونون مثل الملائكة في السماء. (ثم يأتي جوابه من التوراة) وأما قيامة الأموات، أما قرأتم ما قال الله لكم: "أنا إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب، وما كان إله أموات بل إله أحياء" (متى 22: 29-33).
القيامة إذن، بالنسبة إلى يسوع هي وقت الاكتمال، عندما يصبح الانسان "مثل الملائكة": أي لا يعود حائرا، يتلمس طرقًا معقدة كما هو حال الوجود الأرضي، بل يبلغ ملء كيانه الذي خلق من أجله. حيث لن تعود الحاجة إلى الاستمرار في الوجود عبر التناسل والذرية، فهذه لن يعود لها ضرورة ولا مكان: المرء هو نفسه يصبح "ابن القيامة". وسيتمتع باكتمال شخصه ويعرف الله باسمه نهائيًا معرفة إيمان مثل: إبراهيم وإسحق ويعقوب، الأحياء مع بقية الأحياء. أما الصدوقي الذي يتحدث هنا فهو يعيش كما في عالم من الحيوانات المستنسخة (المستنسلة clonage): حيث المرأة ليست سوى جسد يجب تلقيحه يستخدمه الرجل قبل الموت – وهذا تكرره المعتقدات الشعبية بلا ملل "الخَلّف ما مات"!
خاتمة
هكذا، منذ بداية المسيحية فَهِمَ المؤمنون أنهم أبناء وبنات القيامة (بنَيْ قيًمًا) أبناء وبنات الله الحنون المحب الخالق والمخلص، ويعني ذلك شعورهم بالكرامة والبنوّة التي أعطاها المسيح عندما دعاهم أن يصلوا: "أبانا الذي في السماوات..."، فالإنسان ليس من بين الأشياء والحاجات، إنما هو شخص يختلف، "مُنعَمٌ عليه" بالحرية والعقل والإرادة وهذه ستبقى إلى الأبد. موضوع القيامة ليس لتقسيم الناس إلى معتقدات وآراء، سواء كنتَ صدوقيًا أو فريسيًا أو تلميذًا للمسيح، أنت تُعاد قبل كل شيء إلى طريقة عيشكَ، بالترحيب بحياة الآخرين أو بعدم قبولها، بتقويتها أو القضاء عليها. في صباح قيامة المسيح، فهمت النسوة عند القبر ما حدث من خلال تذكّرهن كلمات يسوع. وسوف يعلنّ ذلك للتلاميذ الذين اعتبروا كلامهن باستخفاف (لوقا 24: 1-10). وهي للأسف طريقة رجال كثيرين في معاملة النساء وطريقتهم في الحياة تجعلهم قريبين من الصدوقيين، حتى لو كانوا لا يشاركونهم عقيدتهم. بالمقابل، هناك أناس بعيدين عن لقب مسيحي، مثل قائد المئة، الكنعانية والسامري "الصالح" في المَثَل... هؤلاء مستعدون لفهم القيامة، لأن حياتهم وحياة الآخرين مرتبطة في القلب وهؤلاء يعرفون كيف يجتمعون سوية ويتحدثون، كلهم لاهوتيون وأبناء القيامة الحقيقية.
 كركوك 6 نيسان 2022

6
خبرتي مع النحل، تضحية الفرد وفاعلية المجموع
المطران د. يوسف توما
بين النحل والبشر علاقة قديمة تعود إلى عصور سحيقة، والنحلة من حيث الوجود أقدم من الإنسان، ولفترة طويلة كان العسل أهم مصدر للسكر مع الفاكهة، وبعد أن صار يراقبها أعجب بها، بل أخذ يفكر بها كانعكاس له ولحياته الاجتماعية، تعلم منها الكثير وأخذها رمزًا للسلطة الملكية ثم الجمهورية، وهكذا يمكننا قراءة تصوراته للنحلة واقتدائه بها ليجعلها نموذجا، وحدث هذا خصوصا في عصر الأيديولوجيات (قرن 18 - 20) حيث كانت مادة لتصوراته وخيالاته وكيف عليه أن يعيش في المجتمع.
اكتتشف الآثاريون في جنوب تركيا الحالية قرب قرية (جطل هويوك) أقدم تجمع بشري زراعي مستقر، فقبلها كان الانسان في حالة بداوة يصيد ويجني، غير مستقر. يعود استقراره إلى 12 ألف سنة وما لاحظه العلماء أن بيوت تلك القرية أشبه بخلية النحل مساكن مدورة مطبوقة ببعضها، بابها من فوق. مثل هذه الأفكار راودت أفلاطون (428 -348 ق.م) حين دعا إلى بناء مدن كخلايا النحل، لكن معماريي زمانه لم يقتنعوا على ما يبدو بتحقيق رغبته، فبقيت أفكاره مجرد أفكار و"مثاليات" غير قابلة للتطبيق.
هكذا بقيت العلاقة بين النحل والبشر حبًا من طرف واحد، إذ لم يفهم البشر النحلة بل كانت انعكاسا لتصوراتهم، فالإنسان منذ القديم لم يفهم النحلة بل عدّها مجرد حشرة كالخنافس، التي عبدها المصريون القدماء لكونها تدفع كرة الروث التي تشبه الشمس! أو مثل الصرصور الطنّان، الذي عدّه لافونتين نموذج الإنسان الكسول، عدم دقة القدماء جعلتهم لا يفرقون بين النحلة والذبابة. ما يكشف حقيقة الانسان أنه ذاتي في كل شيء ضعيف بالموضوعية، وهذا تكشفه لي كل يوم دراستي للأساطير والتصوّرات وأقوال القدماء. ما يهم الانسان هو أن يستفيد من النحلة لذا تأخر حتى أواسط القرن العشرين كي يدرسها بجدية، حين قام النمساوي كارل فون فريتش (1886 - 1982) بمراقبة الخلية وتفكيك أسرارها، فحاز على جائزة نوبل عام 1973، مع مواطنه كونراد لورنتز Lorentz الذي فكك غريزة الأمومة لدى طيور الوز، منهما تعلمنا الموضوعية.
مسألة الذاتية والموضوعية مقياس لزماننا يشفينا من كل تعصب الذي يجعل القناعات ضعيفة ومهزوزة، فالذين جعلوا النحلة شعارا لأفكارهم ووضعوها على الأعلام إلى جانب النسر والصقر والعقاب خدمة لأفكارهم السياسية، منذ نابليون بونابارت الذي لبس يوم تتويجه امبراطورا عام 1804 معطفا من مخمل أرجواني عليه أشكال مذهّبة من النحل. وجاء بعده نابليون الثالث ليحضر حفلة اوبرا عام 1858، قدمها أوفنباخ، مثّل فيها الإمبراطور بالنحلة لكن شكلها كان أقرب إلى الذبابة مما أزعج الملك، وضحك ساخرا ومستنكرا...
لكن النحلة، بقيت تتجاهل البشر وحدودهم واستطاعت أن تتكيف مع أشكال المناخ وانتشرت في أنحاء العالم، حتى تمكنت أن تعيش في صخب المدن، كما فعلتُ في ثمانينات القرن الماضي، حين لجأتُ إلى تربيتها في ديرنا ببغداد، ليس لعسلها فقط بل لأتعلم منها ولكي تخرجني من كتبي ونظرياتي و"تقرصني" كلما خالفت القواعد معها! فعلمتني أن أتجاوز خوفي وجهلي بها، بحيث يوم زار بغداد الكردينال اتشيغاراي (شباط عام 2003) كان وجهي منتفخا، لأني تعاملت مع النحل باستعجال، من دون لبس قناع واستعمال منفاخ الدخان، وعلى مدى 14 سنة علمتني النحلة الانضباط والعمل الجاد مع العقل الجمعي. قرأت عنها الكثير وقد ملأت الحكايات وقصص الأطفال وأفلام الكرتون وصارت بشكل لا شعوري واحدة منا، فقال أينشتاين عنها: "لو انقرض النحل سيلحقه البشر لا محالة بعد جيل، كونها هي المسؤولة عن تلقيح كل النباتات والأشجار".
من يتصفح الأدبيات السياسية يرى أن دعاة الملكية استغلوا النحلة لإبقاء النظام الملكي. لكن كل الثوار رفضوا ذلك، فلم يقبلها توماس جيفرسون، واضع الدستور الأمريكي، وقال "ليست للنحلة موطن في قارتنا"، وذلك في عام 1782، مسلطًا الضوء على ضرورة الإبقاء على الطبيعة الجمهورية للولايات المتحدة الفتية وعدم الانسياق وراء الأوهام الأوربية. فالقارة العجوز، بقيت تعاني من غليان أفكار أيديولوجية استعمارية وقمعية، واستعانوا بمجتمع النحل ليعيدوا الإنسان إلى وضعية أقرب إلى "حشرة" سياسية يعمل بخبز بطنه فقط. بحيث نتعجب من جميع القصص والملاحم الدينية السائرة في هذا المنظور، نظريات لخدمة أطراف وأحزاب، تبنتها دون أن تدقق آراءها. فتأرجح المفكرون بين الملكية والجمهورية، وأمسك البعض العصا من الوسط فقيل على الملك أن يطيع الشعب حتى لو بقي في القمة، فالجماعة تعطيه الشرعية، وهو يملك بلا سلطة، إنها الملكية الدستورية، لا تحكم إلا إذا قرّرت العاملات. وهكذا بين السلطة والحياد استطاعت بعض النظم الملكية مثل بريطانيا أن يبقى بعض ملكاتها سبعة عقود: فكتوريا، اليزابيت الأولى واليزابيت الثانية، المالكة السعيدة وقد تجاوزت بالديمومة جميع أسلافها وعاصرت تقلبات ازمنة وحروب.
في الطرف الآخر من اللوحة، أعجب المفكر السياسي برودون Proudhon 1809 -1865، بهذه "الغريزة العمياء المتقاربة والمتناسقة القادرة على توزيع المهام بين العاملات"! إنه مجتمع مثالي، فيه يتخلى الفرد عن كل فكرة تملك "فيستطيع الجميع العمل من دون البحث عن مبرر لعمله، بلا قلق إذا كان يقوم بمهمته لا أكثر ولا أقل (...) فيحضر نتاجه، ويتقاضى أجرته، ويستريح بضع ساعات، كل هذا من دون حساب، ولا غيرة من أحد". لذا قيل "إن النحلة "شيوعية" بمعنى الكلمة، لأنها تميل إلى مصلحة الجماعة قبل الفرد!
خلية النحل مجتمع متساوي
إن وجهة نظر مفكرين مثل برودون، تفيد أن النحل يشجع على تحدّي كل سلطة، وهذا ما أثار استياء كارل ماركس (1818 - 1883). فقال عنها: بالتأكيد لا يوجد أي مهندس مهما كان ماهرًا أن ينشئ بيتا سداسيا دقيقا كما في خلية النحل، لكن ما يميز أسوأ مهندس معماري عن النحلة، أنه من البداية يبني الفكرة في دماغه قبل أن يحقّقها. فتفوّق الإنسان يكمن في وعيه المسبق بأفعاله، بينما النحلة لا تفكر بالشكل السداسي المثالي للشمع الذي تنفّذه. في هذا العصر انقسم الناس مع النظريات الاشتراكية وضدّها، لكن اغراء مجتمع النحل المتساوي بقي يروق بشدّة لمفكري الحركة العمّالية، بينما قال خصومهم إنه لإحباط تام، بل مرادف لإنسانية واقعة في "عبودية الغريزة" من المحرومين من هذه "الحرية التي تتمثل بالقدرة على ارتكاب الأخطاء، والقدرة على المعاناة". إنّه صراع الليبراليين والماركسيين الذي دوّخ البشرية في مجمل القرن العشرين وشكل حروبا باردة وحارة وتحالفات كان للنحلة دور الحَكَم في نظريّاتهم السياسية.
مررنا إذن في أزمنة طويلة أسهمت النحلة بتغذية الأيديولوجيات، في ظل إرث الاقتصاد التعاوني والاشتراكي، فاستهلكوا رموزًا نسبوها إلى النحل. حتى قام رجل الأعمال جان بابتيست أندريه غودان (Godin)، بإنشاء "رابطة تعاونية لرأس المال والعمل"، مجمّعات سكنيّة كالخلايا تهدف إلى تقديم الرفاهية للعمال في السباكة، انموذج "يلعب التضامن فيه دور ملكة النحل". في حين استمر عدد من مؤسسات الادّخار والتأمين بالاعتماد على فكرة خلية النحل، حتى تبنّتها الجماعات الماسونية، يتجمعون في منازل يسمّونها "خلايا النحل" ويتبنون في أدبياتهم تعابير نحليّة.
مع ذلك، لا تحتاج النحلة إلى البشر كي يقحموها في نظرياتهم بشأن السلطة، فطبيعتها سياسية "حيوانية" بشكل واضح، يكفي رؤيتها وهي تعمل في الخلية، تختار العاملات الملكة، بإطعام عدد من اليرقات غذاءً ملكيًا. المولودة الأولى من اليرقات تمارس اغتيالًا سياسيًا بالقضاء على منافساتها، ثم تحرص على انقلاب لإجبار الملكة المنتهية ولايتها على الانفصال (التطريد) عن الخلية مع قسم بقي مواليا لها. وبمجرد الخروج، يتعيّن على الطرد الجديد اختيار مكان آخر. فتقرر عاملات كشّافات يحصلن على موافقة جماعية بقرار اجتماع عام. ويتم كل شيء بالرقص لدعوة الآخرين للانضمام إليهن وإظهار دعمهن. فيصلن أخيرًا إلى الموطن الجديد من دون أن ينشق أحد من الأعضاء. إنه سر كبير وزخم حيويّ مؤطر بمركزية ديمقراطية، ولا يزال بعض من هذا السر محيّرًا، لذا قارن الشاعر الألماني الكبير راينر ماريا ريلكه Rilke (1875 - 1926) البشر بالنحل فقال: "البشر مثل نحل في الكون، يبحثون بشغف عن عسل مرئي ليكدّسوه في جرّة ذهب غير مرئية هائلة".   
كركوك 28 آب 2021

8
اتخاذ القرار مهم نعم، لكن باتجاه "أوبونتو"!

المطران د. يوسف توما
قمتُ بتدريس علم المنهجية الفكرية بأشكالها على مدى سنوات، وكان موضوع اتخاذ القرار ضمن مواضيعها الأساسية، فالقرار صعب إذ إنه يطرح على الإنسان كل مسار حياته، لذا نرى تقلّب الثقافات والحضارات واختلافها دائما في تعريف القرار، فقسم منها رفع القرار عن الفرد ووضعه في يد الجماعة، كانوا يتزوّجون ويشتغلون اعتمادا على قرار العائلة والشيوخ، ثم تركوه للفرد ضمن هامش صغير، لكنهم سرعان ما خافوا فنصحوا الفرد على ألا يتسرع باتخاذ القرار، بل عليه أن يعتمد على خبرة وتجربة من سبقوه ممّن "ابيضّ شعر لحيته" (الشيوخ والقسيسين = قشيشي).
مع ذلك، بقي اتخاذ القرار أمرا محيرا لا تستطيع الجماعة الإحاطة به، وهذا كان سبب تخلف الكثيرين، خصوصا تلك الجماعات التي احتكرت كل القرارات. أما التي تركت هامشا لبعض القرارات فقد تقدّمت بل صارت الأقلية هي السائدة التي لم تعد تقيس الأمور بالأكثرية والأقلية، أو بحسب الولادة واللغة والمذهب والدين بل صاروا ينتظرون من يجرؤ ويقرر فيغزو ويرحل ويستكشف فاستنتجوا وقالوا: "ما فاز باللذات إلا من كان جسورًا".
على يد الجسور من المستكشفين جاءت الاختراعات والعلوم والفلك وتكللت باختراع المطبعة عام 1440م، فعملت على انتشار الكتب بشكل مذهل ونقلت خبرة العلماء وتوسّعت الدائرة وخرجت السيطرة من هيمنة الأسرة والعشيرة والمنطقة والقومية والدين، وأصبح الفرد يشعر بالتحدي أينما كان، تقع عليه وحده اتخاذ القرار بلا تردد، فيتعلم قابلية القرار، بالرغم مما يمكن أن يحدث من أخطاء (كالذهاب للهند من غرب أوربا)، وتعلم الجميع من فشل السابقين، كما نقول بالعامية "انكسر مشط برأسه" بل أمشاط، لكن الفشل كان دروسا، وتعلموا من الفشل أكثر مما تعلموه من النجاح، بل يمكن القول كل تاريخنا الحديث هو عبارة عن قصة جميع حالات الفشل المتراكمة، كي تأتي القرارات اللاحقة متقنة وموفقة، وما الصندوق الأسود في الطائرات سوى قرار مؤجَل سيتعلم منه آخرون ممن بقي حيا بعدنا. لكن السؤال هو: هل هناك إمكانية للقرار خارج عن المسارات التقليدية التي تخلفنا بسببها أو أوقعتنا في اشكال الدكتاتوريات؟ فالدكتاتور هو من يدعي أن القرار من حقه فقط.
تعلموا فقالوا "ما خاب من استشار"، وقالوا أيضا: "اسأل الأكبر منك ثم الأصغر منك، وبالتالي اعمل بعقلك". لكن كيف يمكن أن أستمع لعقلي، أليست أهوائي هي في الغالب تسيّرني، أي ما يسمى الغريزة، كم منهم تزوج عملا بحسب أمثال رائجة مثل: "خذ الأصيل واقعد على الحصير". أي ابقَ فقيرا، المهم هي الأصالة. لكن النتيجة ستبين أن حريّتنا في الاختيار والقرار كانت ضعيفة، تبعية لم تنبع من داخلنا، ما كان يعينني كان خارجيًا والمجتمع قلما يقدر أن يساعدني. أين المفر؟
فتاة بلغت سن الزواج، تقدم إليها شابان لخطوبتها، احتارت بينهما فراجعت طبيبا نفسيا ثم راجعت فتاح الفأل، وكان لكل منهما آراء مختلفة حول الموضوع، فوقعت الفتاة في التناقض تماما. لا يمكننا أن نعيش حياتنا من دون اتخاذ قرار. لكن كيف نتخذه من دون أن نندم عليه؟ كيف أوازن بين الإيجابي والسلبي، وهل التفكير العقلاني هو الأفضل؟ قد يقول بعضهم إن من هم الأكثر قدرة على اتخاذ القرار هم الذين يقعون تحت الضغط أو يتبعون الحدس أو حتى غرائزهم. لكن كيف يمكن التأكد أن القرار يأتي من أعماق الذات وليس من تأثير خارجي؟ هكذا قامت تلك الفتاة باعتماد الطبيب النفساني (الذي يتفحص دوافعها الداخلية) وفتّاح فأل (الذي يقرأ مصيرها في الكواكب والنجوم)، لكي تكتشف في النهاية أن لكل منهما أفكارا خاصة متباينة. المتردّد والخائف يعرف أن بعض الخيارات ستؤثر على حياته اللاحقة وستغيّرها وتتطلب تغييرًا جذريًا فيما سيتبقى له من حياة!
كان أحد علماء الأجناس البشرية يدرس على قبائل بدائية جدا في الغابات الأفريقية. أراد أن يفهم كيفية اتخاذ القرار لدى تلك القبائل، وماذا يقف وراء ثقافتهم... جمع حوله جميع أطفال القرية واقترح عليهم لعبة... حكى هو القصة بنفسه قال:
"وضعتُ سلة مليئة بالحلويات بالقرب من شجرة، وجعلتُ الأطفال يقفون على بعد 100 متر منها. ثم أعلنتُ إن من يصل الأوّل إلى الشجرة سيحصل على الحلويات التي في السلة. ثم قلتُ: هل أنتم على استعداد؟ ثابت... إنطلقوا!" ...
هل تعرفون ماذا فعل هؤلاء الأطفال؟ جميعهم عقدوا الأيدي بعضهم مع البعض، وركضوا سوية نحو الشجرة، وتقاسموا الحلويات بالتساوي فيما بينهم، وصاروا يأكلونها ويتمتّعون بها فرحين.
يقول العالم الأنثروبولوجي، تعجبتُ من سلوكهم وسألتُهم: لماذا فعلتم ذلك؟
أجابوا كلهم بصوت واحد: "أوبونتو". ولمّا تقصّيت عن معنى كلمة "أوبونتو" في لغتهم قالوا لي: "إنها تعني أنا (موجود) لأننا (موجودون)!".
يقول هذا العالِم: لقد علّمني هؤلاء البدائيون درسًا لن أنساه قط: هل يمكن للمرء أن يكون سعيدا عندما يكون البعض الآخر حزينا؟
إنه القرار الموجّه نحو الآخرين، إنها الإثرة أو الغيرية وهذه رسالة قوية لجميع الأجيال. أن يترك كل واحد منّا ما لديه دائما ويتّخذ الموقف الذي ينشر السعادة أينما ذهب.
يا ليت لو أصبح بلدنا أوبونتو Ubuntu أي "أنا" موجود لأننا "نحن" موجودون. "ولأن أخطر نظرة يلقيها أحدهم على العالم هي تلك التي يلقيها من لم يسبق له أن شاهد العالَم" (الكسندر فون هومبولت 1769 – 1859 عالم ألماني ومستكشف). هذه النظرة تلتقي بالمَثَل الذي حكاه المسيح عندما حَشَرَ الغنيَ في جهنم، لمجرد أنه لم يفهم معنى "أوبونتو" التي فهمها أطفال أفربقيا، الغني لم يرَ لعازر الفقير والمريض الذي كان ينام عند بابه وكانت الكلاب تأتي فتلحس قروحه (لوقا 16: 19 - 31).
السليمانية 16 أيار 2021

9
البابا فرنسيس في العراق، "يا محبّي الله اتّحدوا!"...
المطران د. يوسف توما
يحكى أن الزعيم الشيوعي جوزف ستالين (1878 - 1953) خلال حكمه لأكبر مساحة عرفتها البشرية أراد أن يحقق الالحاد المطلق، فقضى على 95% من مظاهر الدين وفكر مثلا بتدمير كاتدرائية القديس باسيليوس في ساحة الكرملين، لكنه تراجع لجمال فنّها وهندستها وهي رمز لروسيا، وقد سبقه في هذا الجنون الثوار الفرنسيون (1789)، ودول كثيرة كرّرت ذلك حتى شاهدنا أخيرا ما تركته الدولة الإسلامية حيثما حلت، إذ فجّرت في الموصل مرقد النبي يونس والجامع الكبير والكنائس التي وقعت تحت سيطرتها التي لم تدم سوى ثلاث سنوات. مع ذلك، بالرغم من هذا الجانب العنيف المدمّر في كل مكان، تقابل لدى البشر محاولات عميقة لقراءة معنى وجودنا على الأرض وفهم تعدّد الإجابات على سر وجودنا في كل منطقة وعصر.
التاريخ إذن يتكرر عبر محاولات البعض لربط النتف التي لدينا من المعنى فيأتي بعضهم بالقوّة والبعض الآخر بالتبشير والاقناع، صراع الأديان لم يختلف كثيرا عن الإيديولوجيات التي سادت القرن 19 الذي قرأ الدنيا من منظور اقتصادي فقط فقال كارل ماركس (1818 - 1883): "يا عمّال العالم اتّحدوا"، ولبى النداء عدد هائل وسادوا حوالي قرنين لكنّهم تجمّدوا وتحاربوا  وانهارت أنظمتهم أو تركَت، فلم يعد أحد يسمع النداء أو يتحرّك له.
في الربع الأخير من القرن العشرين حدث تجمّع فريد لم يسبق له مثيل، كان ذلك يوم 27 تشرين الأول من عام 1986 في مدينة أسيزي في إيطاليا، حيث اجتمع ممثلو جميع الأديان، صغيرة وكبيرة، بدعوة من البابا يوحنا بولس الثاني (1920 - 2005) لينعش ذاكرتهم إزاء جذورهم، كان تجمّعًا غريبًا لم يسبقه مثيل، لكنه سيتكرر مرات عديدة (1993، 2002، 2011 و 2016)، قال كل المؤمنين الحاضرين بدون تمييز: "يا مؤمني العالم اتحدوا" من أجل السلام، كانت بداية توجّه غير مسبوق إذ رأت الأديان أن عليها أن تخرج من قوقعتها المذهبيّة والمحلية وتعطي شهادة للجوهر الذي فيها والذي تسعى إليه، فالله اسمه "سلام"!
إن زيارة البابا فرنسيس لأور الكلدانيين، هي بالأحرى حجّ إلى بيت إبراهيم "أبي المؤمنين"، يدخل ضمن استلهام روح أب مشترك لأديان سادت الكرة الأرضية، وهي مسؤولة عن بشاعات كثيرة وتعرض كل منها لهزات هائلة صارت تهدّد وجودها: في الغرب ترك واضح للإيمان وتراجع للتديّن إما باللامبالاة أو بالإلحاد المكشوف الذي ضرب بقوة أسس تديّنهم، وفي الشرق خُطِف الدين وحُرّف على يد المذاهب والإرهاب فاختفى وجهه تحت غطاء مشوّه بحيث نسيت الناس أن قلبَ الدين هو بحث عن وجهه الكريم.
البابا فرنسيس إذن لا يسعى إلى التقارب مع بعضنا البعض كأولوية وإنما إلى التقرّب من نبع أصيل حركه شخص واحد، حين أعطى لكلمة "إيمان" معنى آخر، وهذه الكلمة أصابها التشوّه والنسيان، فالتقاليد التي تناقلها الناس عن إبراهيم تشدّد على أنه غيّر التدين إلى إيمان. أي إنه لم يكتفِ بالعبادة والصلاة عن مصلحة كما يفعل الجميع، ولكنه وضع رمزية شديدة العمق لدينا في الشرق خصوصا، قال لربه: "لو خيّرتُ بين طفلي ومستقبلي وبينك لاخترتك أنتَ"، إنه سيد محبّي الله، وجميع المتصوّفين والقديسين والأولياء وكل من بذل وضحّى ومات من أجل "الآخر"، الذي ليس مجرد فكرة بل "شخصا" يحاول أن يعرفه كما عرفه ابراهيم.
يذكرنا البابا فرنسيس بأن استلهام إبراهيم يضعنا أمام مسؤولية للتخلص من تشوهات طرأت علينا جميعا عبر الزمن فنسينا الجوهر. لذا يكرر: "يا محبي الله اتحدوا"، وهي من جديد خارطة طريق للقرن الحالي الذي اتسم بالعنف والكراهية. إنها محاولة استعادة للجوهر ووضع النقاط على أحرف نسيناها وهي الأجمل في تراث الايمان. بلا مقارنة مع بعضنا ولا تفضيل، فالجميع أخطأ وأساء وخان الأمانة، لكن يبقى إبراهيم "أبا للمؤمنين"، لأنه وضع الله في موقف تحدّ لكل المحبّين الأصلاء فسمّي ذلك "عهدا" وأصبح هو "خليلا". إذ لم يعد الرب الإله سوى "خليل" وصديق لإبراهيم ونسله، اشتراهم بسخاء الايمان وجعل الله يقسم بعهده مع صديقه: أنا إله إبراهيم واسحق ويعقوب... لقد فهم كتّاب الأسفار المقدسة الأوائل أن مسار الإيمان سيظل موازيا لمسار التديّن وأشكاله المتنوّعة. وسيقوم دائما، في كل عصر من يصفي الدين ليستخرج منه (شذرات pépites) الإيمان هذا الذهب الذي، ولو بكميات قليلة يكفي لكل جيل من الأجيال الصاعدة ولهذا يتحدّى المسيح المستقبَل عندما يقول: "عندما يأتي ابن الانسان هل يا ترى سيجد إيمانا على الأرض؟" (لوقا 18: 8) لم يقل "ديانة"، إنما "إيمانا" وهذا لعمري أكبر تحدٍ لنا جميعا: هل عندي إيمان؟ أم أنا استخدم الله لمصلحتي فقط؟
سيقف البابا فرنسيس في أور مع ممثلي الأديان (من جميع المكوّنات) على أرض قدّسها إيمان إبراهيم وسيقولون: يا رب زدنا إيمانا بك مثلما كان لإبراهيم فننسى مشاكلنا وتقلباتنا وصراعتنا وكراهيتنا، ساعدنا أن نكون أولادا أصلاء لأبي المؤمنين. آمين.
كركوك 4 آذار 2021   

10
صمت الله، لماذا أنت صامت يا رب؟
المطران د. يوسف توما
عندما تحدث كارثة أو حرب أو ينتشر وباء وتشتد معاناة الإنسان وينظر إلى الفظائع العديدة أمامه، يرفع رأسه إلى السماء ويطرح السؤال: "لماذا؟". هذا سؤال قديم قِدَم الانسان، وغالبا ما يزعجه صمت الله ويدفعه للتساؤل عمّا إذا كان الله تخلى عن البشر. صمت الله مزعج. وهو موضوع يتكرر بحسب الأزمنة ويأتي في الكثير من الأعمال الفكرية والأدبية، بل جاء في الكتب المقدسة. وأذكر، أني بعد زيارتي معتقل أوشفيتز، حيث قضى مئات الآلاف على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية قرأت أن البابا بنديكتس السادس عشر كان قد زاره أيضا في نيسان 2010، وهتف أمام البشاعة: "لماذا، يا رب، هل كنت التزمتَ الصمت؟ كيف يمكنك السماح بهذا؟ أين كنتَ في ذلك الوقت؟".
بقيت هذه الصرخة ترنّ فيّ وتذكرتُ كل الذين تناولوا صمت الله في عصرنا من مختلف الناس، لعل أشهرهم هو الفيلسوف الوجودي ألبير كامو Camus (1913 - 1960) الذي ربط إلحاده بهذه المسألة، قال: "إن كان الله كليّ القدرة ويقبل بالشر فهو سيئ، أو أنه صالح لكنّه عاجز!". هذا الموضوع محيّر للكثيرين، ويجعل كل واحد يجيب بطريقته الخاصة، ليس بحدّية ألبير كامو وبقية فلاسفة الشك، لكن واقعيًا، يشكل صمت الله، ثقلا حتى لدى المؤمن الذي يشعر أن الرب حرم البشرية من ميراثه عندما لم يتحرك أمام البشاعات التي حدثت وتحدث. فما عدا معتقلات أوشفيتز هناك ضحايا القنبلتين في هيروشيما ونكازاكي (قرأت في شبابي كتاب "أجراس ناغازاكي" للطبيب الياباني المسيحي بول ناغاي الذي فقد فيها زوجته)؛ وأنواع الابادات الجماعية للسكان الأصليين في كل مكان، وما أحدثته عصابات داعش في سوريا والعراق خصوصا مع الايزيديين المسالمين؛ والآن جاء استخدام طائرات الدرون بدون طيار التي تسبّب الدمار والموت في الشرق الأوسط حتى في مستشفيات المنظمات الإنسانية. وماذا نقول عن جحافل المهاجرين وغرق الآلاف منهم في البحار سعيًا لحياة أفضل نحو أوهام الدول المتقدّمة التي تغلق حدودها وقلوبها فنسأل: "أين أنت يا رب؟".
هل الله صامت في عالمنا منذ أكثر من سنة مع جائحة كورونا؟ حيث تعرضت حياة الملايين للخطر والرعب في أنحاء العالم، الفيروس لم يفرق بين مؤمن وغير مؤمن، غني وفقير قوي وضعيف (راهبة فرنسية عمرها 114 سنة شفيت ورياضيون أبطال قضوا بالمرض!). أليست هذه الأسئلة هي التي دفعت الألماني نيتشه (1844 - 1900) أن يدعو الجميع أن يتجاهلوا الله باعتباره وهمًا يحاول في حياة ما بعد الموت، تعويضهم عن المعاناة التي لا يمكن لأحد في هذا الوجود أن يفسّرها؟
كيف يمكن لله أن يكون موجودا حين يرى هذا العدد من الأطفال يحكم عليهم بالجوع، أو الأمراض المستعصية، أو يكونون ضحايا قسوة الكبار وشرورهم. المفكرون منذ القدم يسألون هذه الأسئلة، بل قال بعضهم: هل الذين يؤمنون بالله أكثر أخلاقًا وعدلاً من الملحدين؟ كم ارتكب من يدّعون الإيمان من فظائع عبر التاريخ، وفي أيامنا بالأخص من جميع الأديان، لا يمكن أن نستثني أحدا منذ محاكم التفتيش والعبودية (ق 16) والاستعمار (ق 18-19) والنازية والحرب العالمية الثانية (1933 - 1945)، كلها تمّت على يد دول اعتبرت نفسها ذات أغلبية مسيحية. على الجميع إذن أن يكنس أمام بيته ويقرأ تاريخه بتمعن ولا يلقي الحجارة على الآخرين، الكل بيته من زجاج أمام هذا التساؤل!
الجميع إذن سواسية، في الماضي والحاضر، كم من "مؤمن" يحلف يوميا باسم الله ويذكره بلا توقف لكنه يملأ بفضله جيوبه، ما عدا امتلاء قلبه بالكراهية والانتقام والتحيّز ضد الآخرين وحتى ضد أبناء جلدته بسبب اختلافات طفيفة! كم منهم يستغل ثقة القطيع المخلص ويبتزّ ويفسد ويضاعف مكاسبه مقرّرا الجحيم وبئس المصير لمن ينكره أو يختلف عنه!
لعل أشهر من اختبر صمت الله هو يسوع المسيح نفسه، ألم يصلّ قائلا: "أبي، أبي، لماذا تتخلى عني؟" (مرقس 34:15). مثله مثل أي واحد منا مرّة ومرّتين أو ثلاثًا في حياتنا، خصوصا عندما ندخل تحت "حادلات" الزمان والبشر في سجون الديكتاتوريات المدنيّة والعسكرية وحتى الدينية منها، من حقنا أيضًا أن نتساءل: "أين كنتَ يا الله، لماذا تصمت؟".
إن الاعتقاد بوجود الله لم يكن المسألة التي تهمّ المسيح. فالإيمان عطيّة يتلقاها البعض ولا يعرفها آخرون كثيرون. لا يهم، لكن المهم لدى المسيح هو: على الرغم من عدم الإيمان عند البعض، إلا أنه يكفي لأن يحيا قيمًا إنسانية تتوافق مع إنجيله، مثل: محبة القريب، العدل للمظلوم، التضامن، التسامح والرحمة. ومن يسلك هكذا فهو يفعل ما يتوقع الله من كل واحد منا!
لقد أوضح المسيح، بالكفاية أن كثيرين قد لا يؤمنون بالله ظاهريا لأنهم قد لا يعرفونه، لكنّهم يتبنّون القيم العليا، من هو مثلهم سيتفاجأ يوم القيامة عندما يُسأل في الجانب الآخر من جدار الحياة: "متى رأيناك جائعًا وأطعمناك؟ ...". وسيجيبهم: "كلما فعلتم هذا بأحد إخوتي الصغار فبي فعلتموه". (متى 25: 37-40).
الحقيقة هي: أن علينا قبول أمر صعب على من هو فقط "متديّن"، إذ لم يأت المسيح كي يؤسس مجرد ديانة بديلة عن اليهودية أو مؤسّسة فقط. جاء ليقترح خارطة طريق جديدة لقيام حضارة مبنيّة على المحبة والعدل، فهو اوّل من فكّر بعولمة التضامن البشري بلا تفاوت أو تفرقة تبعا للجنس واللون والعرق والمذهب. البابا فرنسيس منذ قدومه في 2013 يكرّر هذا في كل مداخلة، لأنه بالضبط ما حدث في عهد قيصر، حين دفع المسيح حياته ثمنًا لإعلان ملكوت آخر، "عالم يختلف عن مملكة قيصر وأمثاله"، عالم الله، ليس حتى كما اعتقد كثيرون حتى من أتباع المسيح، بل عالم لا يكون على الجانب الآخر البعيد من الحياة، بعد الموت بل هنا، والآن يمكن تحقيقه. فأعطى يسوع المسيح النموذج الأوّل حين بذل جسده ودمه وحتى روحه الذي نفخه في تلاميذه وعلمهم أن يقولوا: "ليأتِ ملكوتك، كما في السماء كذلك على الأرض".
الإيمان إذن ليس في وجود الله بمثابة "فكرة" بل في كيفية فهمنا إياه ضمن الحياة والتعامل مع ما عندنا، هذا واضح منذ العهد القديم بشكل رائع في قصّة أيوب، الذي لم يكن منتميًا إلى اليهود أو إسرائيل، بل كان إيدوميًا (مملكة  Edomفي البتراء وخليج العقبة، حاليًا جنوب الأردن)، حاربوا شعب إسرائيل، لكن سفر أيوب عميق يشبه اهتداء أهل نينوى على يد يونان الذي لم يفهم شيئا عن حنان الله لنينوى! كان أيوب حائرا بأصدقائه "المتفلسفين" عبّاد التكرار الفكري الجاف، لكن أيوب لم يرضخ لضغطهم عليه، بل بقي مصرا على إيمانه الذي لم يفهموه، هو رفض أن يحمّل الله سبب المعاناة، برّأ الله، فسمّي "أيوب البار"!
    خلال دراستي في فرنسا، كان في ديرنا أب دومنيكي معروف، برنار برو  Bro(1925 - 2018) واعظ الصوم الكبير في كنيسة نوتردام بباريس، حكى قصة لرجل كان غاضبًا من صمت الله أمام الظلم والشرور، دخل كنيسة فارغة، واقترب من المذبح وصرخ: "هناك الكثير من الخبث في العالم وأنتَ لا تفعل شيئًا حيال ذلك؟ ألا يهمّك كل هذا العنف والعوَز ومعاناة شعبك؟". قال الراوي: "في هذه المرّة كسر الله الصمت وقال: "طبعا يهمّني الأمر، ولهذا فعلتُ...". صاح الرجل بغضب: "ماذا تعني، ماذا فعلتَ؟". قال الله: "خَلقتُكَ أنتَ"!
السليمانية 21 شباط 2021

11
ما خفي في الصوم الكبير
المطران د. يوسف توما
في هذا الأسبوع يدخل المسيحيون في مسيرة الصوم الكبير. وتتأرجح مدّته بين 40 و50 يوما، فالمهم أن يتوزّع على سبعة أسابيع، يطرح منها أيام الآحاد "لا يصومون فيها لأن العريس معهم" (متى 9: 15)، وينتهي "سابوع الصوم" بالأسبوع المقدس، أسبوع الاستعداد لعيد القيامة. المهم أن هذه الفترة تستمل على الرقم 40، نصوم تشبهًا بالمسيح قبل بدء رسالته العلنية، لذا سمي أيضا: الصوم الأربعيني. ونظرا لقدم الكنيسة تراكمت المعاني والرموز وجاء كل جيل ليضيف خبرته وقراءته، لكن ما يجمع الكل هو الوصول والاستعداد للثلاثية الفصحيّة: آلام وموت وقيامة يسوع المسيح.
إنه إذن "صوم كبير"، كبير لكونه مسار يحمل الضوء لينير حياة الكنيسة كلها ويشتمل على عناصر ثلاثة أساسية: الصلاة والتوبة والاقتسام. وهذه العناصر تخفي شيئا مهما لذا تتطلب شرحًا.
إنها قبل كل شيء خبرة فردية (أي تجربة)، على كل جيل أن يجرّبها، التجربة مهمة ومعروضة في الصوم الكبير وهي أكبر وأجمل مما يعتقد المرء في الظاهر. أي إنها تتطلب إعطاء وقت أكثر للصلاة والاقتسام مع الآخرين، واختبار معاني "التخلي" عن أشكال الإدمان والرفاهية بالصيام وبالتوبة (تغيير العادات) والتكفير عن الذنوب، وهذا قد يؤدي عند بعضهم إلى الوقوع إما في الحزن أو في التقوى الكاذبة الفريسيّة.
منذ بداية إنجيل متى، يتطرق يسوع إلى الصيام، والغريب أنه يدعو من يصوم إلى الابتسامة ووضع العطر، كي لا يشتم أحد حزنه، ولا يظهر وجهًا غاضبًا وعابسًا، بل على العكس أن يعمل دعاية مضادّة فيثير إعجاب الناس، كما لو فاز بجائزة، إنها جهود ومظاهر الحياة الروحية الإيجابية! فالمسيح يستنكر ما يفعله النفاق الاجتماعي لدينا وفينا عندما يهدّد ما نفعل خصوصا أمام الناس وفي الأماكن العامة كالصلاة وممارسة الصيام المفضوح بالطبل والزمارة وكذلك إعطاء الصدقة أمام الجميع "كي يراك الناس". الصوم والصلاة والاقتسام بالنسبة إلى المسيح هي أولا دخول في مثل حوار للمسيح مع الله الآب.
غاية الصوم إذن هي الغوص في أعماق الروح، حيث يكون حضور الله "في الخفية" بلا ضجيج ولا حدود. فيتمكن المؤمن أن يصير "حاجًا إلى قلبه"، وينتقل من السطحية العادية التافهة إلى نبع كيانه. وفي زمن جائحة كورونا هذا الذي قلل السفر، لم يعد لدى المؤمن سوى أن "يختبر" هذه الرحلة العظيمة نحو الله الحاضر في روحه. وقد أسماها المعلم إيكارت (+1328) "قاع الروح الذي بلا قاع". أي عندما ينزل إلى أعماق الروح، لن يصطدم المؤمن بالجدار، بل سيكتشف النبع الحي للنعمة التي حصل عليه يوم عماذه وبقي النبع هناك بلا استكشاف.
كما أن الصلاة أكثر بكثير من مجرد طلب أو "تلاوة قليلة"، فهي تظل أسمى وأهم وأروع عمل إنساني. يمكن أن تكون الصلاة قصيرة، لكنها ليست صغيرة. "الصلاة الملفلفة" تبقى معاملة مؤسفة مع هدفها. المسيح الابن الذي صار إنسانًا، يصلي إلى أبيه ويدعوه "أبّا"، وتعني "بابا" بلغته الأم، الآرامية. لم يخاطب أي مؤمن من العهد القديم الله بهذه العبارة قط. أما يسوع فيتحاور مع أبيه بثقة وحنان. لذا فالصلاة لا تعني "تلاوة"، بل أن ندع الروح القدس يصلي فينا "أيها الآب، يا بابا!". "نحن لا نصلي، بل هو يصلي فينا"، هذا ما كان المعلم إيكارت يقوله معتمدًا على القديس بولس (في روم 8، 15؛ وغلاطية 4، 6).
القديس سيرافيم ساروف (+1883)، وهو من أشهر القديسين الروس، كان معاصرًا لكارل ماركس وتوفي في نفس السنة 1883)، يشاركنا بخبرته مع الله بشكل مدهش حقًا، فيقول: إن "هدف الصلاة ليس سوى الحصول على الروح القدس"!
هكذا بالنسبة إلى تلميذ المسيح الصلاة، هي صلاة بالروح القدس. به يصل المصلي إلى "حالة الصلاة" وليس بكلماتها. لذا بدل أن تكون الصلاة جهدًا وعملا، ستصبح حالة اتحاد مع الله. وأولئك الذين يحبّون الله المحبّ، سيحبّونه طول الوقت، حتى دون تفكير في ذلك.
بالروح القدس إذن يلتفت المؤمن إلى الآب، وكل وقت مناسب للارتفاع إلى الله، كما نقول في القداس الكلداني: "ارفعوا أفكاركم إلى العلى، إليك يا إله إبراهيم واسحق ويعقوب، أيها الملك المجيد". إنها صلاة ترتبط بالصوم والتكفير عن الذنب وهما: دخول في جهاد المسيح يسوع ضد الشر والشرير. لكن لا يمكن اختزال قطاعة الصوم الكبير بمجرد تكفير وسيطرة على الغرائز والميول والادمانات، أو لإحياء ذكرى عادية لصوم مارسه يسوع في البرية مدة أربعين يومًا في بداية حياته العلنية. إنما صوم الرب هو تواضع ابن الله الذي تجسّد وصار إنسانًا ليخلص البشر، ويواجه الشيطان.
أما عمليًا فعندما تطلب الكنيسة صيام أول يوم من الصوم والجمعة العظيمة، وفي باقي الوقت، تترك الخيار لكل مسيحي لما يراه مناسبا أن يتخلى عما يعجبه ويتنازل ويكفر عن ذنوبه بشكل يتلاءم مع سنّه وحالته وصحته. لكن عموما بالنسبة للإيمان المسيحي إن الصوم والتكفير عن الذنب، مثل الصلاة والاقتسام، يعيشها المسيح مع المؤمن وفيه. وهذه خطوات أكبر وأجمل مما تبدو في الظاهر. فالأمر يتعلق بمفهوم نعمة الله العاملة في الإنسان. أما الكبرياء والرياء فهما قطبان بعيدان عن سر الصوم الكبير، حيث تقود خبرة الله إلى التواضع والشكر. لنقرأ مرّة أخرى مَثَلَ "صلاة العشار والفريسي" (لوقا 18: 9 وما بعدها)، حيث كشف يسوع بوضوح دامغ الانحرافات الروحية لدى الإنسان "المتديّن" الذي يمدح ويمجّد نفسه ولا يبحث عن رحمة الله التي يعلنها أشعيا النبي: "كل أعمالنا أنت فعلتها لنا" (26، 12). الأعجب في يسوع أنه يقول يمكن للصلاة والصوم والاقتسام أن تصبح مناسبة لخطيئة الكبرياء واحتقار الآخرين!
الاقتسام: دخول في فصح المسيح يسوع
لقد أصابت جائحة كورونا الملايين من الناس وقتلت عددا لا يستهان به منهم، لكن الجوع لا يزال يقتل المزيد. فالذين يموتون من سوء التغذية ونقص الطعام من البالغين والأطفال من نقص الحليب وسوء التغذية كل عام هم أكثر بكثير من ضحايا كورونا. لذا المؤمن الحقيقي يدعى – في زمن الصوم خصوصا - إلى اقتسام ما لديه مع المحتاجين والفقراء. وهذا عمل تضامن ومحبة، يرتبط بالمشاركة في محبة الله الثالوث، كمشاركة الأقانيم الإلهية، حيث الآب والابن والروح القدس إله واحد بالمحبة.
الصلاة والصوم والاقتسام إذن ثلاثة عندنا كالمرآة تعكس ثالوث الله، عليها أن تكون مترابطة يقوّي أحدها الآخر. صلاة تؤدي إلى توبة ومشاركة. وزكاة (أو صدقة) تنقي القلب وتنشط الصلاة وضرورة التكفير عن الذنب.
ولد الصوم الكبير وترعرع لدى المسيحيين الأولين، بسبب حاجتهم إلى وقت لتحضير معموذيتهم كموعوظين سيولدون من جديد ليلة عيد القيامة من الماء والروح القدس، فاستقر الصوم الكبير في البيوت والعائلات كزمان تجديد في علاقاتها وعقلياتها وغسل النفس البشرية: "توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات" (متى 3: 2).
إن التوبة (أو التحوّل) تعني "الالتفاف" حول الصخرة التي سنصطدم بها لو استمرّينا في طريقنا المعتاد، هكذا هو الابتعاد عن الشر واللجوء إلى الله. وبذلك سيختبر من يطلب الرب فرح الله في أعماق قلبه.
هكذا يعزز الصوم الكبير التقدّم في المعرفة ويقرّب من حقيقة الله. وفوق كل شيء، يحمل الصوم بشارة دعوة لكل إنسان إلى المشاركة في حياة الله من خلال المسيح المنتصر على الموت، فيؤول كل ذلك للاحتفال بعيد قيامة المسيح المنتصر على الموت، الذي سيجعل كل يوم أحد، فصحًا أمام صليب مزهِر في فرحة من يقولون بلا كلل: "قام المسيح، حقا صحيح".
كركوك 16 شباط 2021

12
مرحبا بك يا بابا فرنسيس في العراق
المطران د. يوسف توما
مرحبًا بك في قلوبنا قبل أن تطأ قدمُك أرض العراق المقدّسة حيث كتبت نصف أسفار العهد القديم ونصوص أخرى يقدّسها الملايين، وقبل أن تأتي إلينا نقشتَ ابتسامتك الآسرة وبساطتك النادرة في أولئك الذين، ينتظرون بركاتك ودعواتك.
مرحبًا بك لشجاعتك الإنجيلية بدخول العراق، كما فعل المسيح عندما دخل أورشليم: لم يدخلها على حصان أبيض كالأباطرة، ولا كما يدخل اليوم العظماء بسيارات الليموزين المصفّحة، هو دخلها على "حمار"، يشبه اليوم سيارتك "اللادا"، سيارة الطبقة المتوسطة كما في ذلك الزمان. إنك ستدخل بلدنا من دون أن تخاف الوباء المتفشّي (كوفيد19). لذا سيرحّب بك شعبنا ترحيبًا حارًا، لأنك حققتَ أحلاما قديمة عمرها، على الأقل 20 عاما، مذ أراد سلفك البابا القديس يوحنا بولس الثاني أن يحجّ إلى بيت إبراهيم أبي المؤمنين في محافظة الناصرية (أور القديمة) مع حلول الألفية الثانية.
مرحبًا بك يا فرنسيس، الاسم الذي اخترته عمدًا، وأنت أوّل من يحمل هذا الاسم بين البابوات، القديس فرنسيس الفقير قديس أسيزي، عاشق التجرّد، الذي حاول أن يذكّرنا قبل ثمانية قرون أن الثروة الحقيقية ليست بالمال ولا بالإقصاء الاجتماعي، في حين كان والده "برناردوني" غنيًا، تاجر أقمشة، الوالد حيره ابنه الشاب فرنسيس، ولاحقه حتى دار المطران، الذي احتضنه بعد أن خلع فرنسيس ملابسه وأعطاها لأبيه، فلفه المطران بمعطفه، بحلة الكنيسة الأم!
مرحبًا بك يا قداسة البابا في اختيارك الفقراء، وشجبك الفساد داخل الكنيسة وخارجها، وتنديدك بـ"عولمة اللامبالاة" تجاه موجات الهجرة التي أثارها ويثيرها الفقر الذي زرعه الاستعمار الأوروبي والأمريكي في جميع القارات في إفريقيا وآسيا وبلادنا ومنطقتنا المدمرة خصوصا.
مرحبًا بك يا من وضعتَ بعض المذاق الطيب في حياتنا الإيمانية الواسعة، بغض النظر عن أدياننا ومذاهبنا وطقوسنا وذكرتنا "أننا جميعا إخوة" لأن الله أب للجميع، وأن "الأرض بيتنا المشترك" لأنها هدية من خالقنا، أعطيَت لنا كي نشكر ونسبّح، كما لم تتوانَ عن تذكير كل الذين "يلتزمون بالعدالة الاجتماعية"، أن من "يعمل من أجل عالم أكثر عدلاً وتضامنًا" لا يتعب.
مرحبًا بك يا فرنسيس في منطقتنا، كي تشجع أولئك الذين يناضلون ضد "ثقافة السرعة والعجالة"، فنحن مثلك نعتقد أن "مقياس عظمة المجتمع يظهر من خلال الطريقة التي يتمّ فيها التعامل مع الأشخاص الأكثر احتياجًا، ومن ليس لديهم سوى فقرهم"!
مرحبًا بك في كنيسة العراق المتألمة التي فقدت بالهجرة ثلثَي أبنائها فانطلقوا على طرقات العالم، جئتَ لتدعونا "إلى تبنّي العدل والدفاع عن الفقراء ضد أشكال التفرقة والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي، التي أصبحت لا تطاق وجعلت صراخ شبابنا يصل عنان السماء، لم تعد الكنيسة تتذرّع بحجة "عدم التدخل في السياسة"، كي تعيش في ظل الأغنياء والأقوياء، ولم تعد تسكت صوت أنبيائِها، بل صارت تكرز بألم المسيح الحي اليوم أيضا، وهي لا ترفض حمل الألم خوفا أو لاعتبار المقبول سياسيا (politically correct) فالتشهير والاضطهاد لم يعودا لعنة بل نعمة.
مرحبًا بك أنت الذي أردتَ إصلاح الكنيسة، وبدأت بالتغيير الذي أدخلتَه على "مَهمّة" البابوية. فتخلصتَ من القصور والذهب والحذاء الأحمر. قلتَ يوما لقد "انتهى الكرنفال"! لمن أراد أن يلبسك مثل الأمراء. لم تعد تريد مزيدًا من الألقاب "قداستك"، "الحبر الأعظم"، "الأب الأقدس"، ولكن بكل بساطة: "البابا"، أسقف روما، خادم خدام الله.
مرحباً بك يا فرنسيس في الكنيسة التي تحتاج إلى أشكال الدعوات لخدمة المذبح من كهنة متزوجين وغير متزوجين ورهبان وراهبات، ولمَ لا من النساء الشماسات اللواتي لديهن دعوة للخدمة والأسرار!
مرحبًا بك في شعب متألم، وأنت تقدّر معنى الألم منذ أول يوم تنصيبك عام 2013، فالألم يحدث كثيرًا بسبب السكوت وعدم الكلام أو النقاش حول موضوعات جانبية وما أكثر من يضيع بسببها. لسنا بحاجة إلى فتاوى، وإنما إلى رحمة الرب، وهذه قلتها في الطائرة لدى عودتك من البرازيل، للصحفيين عام 2013: "ومن أنا لكي أحكم عليهم؟..."، أنت تريد شعبا مؤمنا ناضجا يفهم ويقرّر ما يخصّه كعائلة وكأفراد من منطلق احترام الآخر واحترام جسده وروحه.
مرحبًا بك في خطواتك الحثيثة لإصلاح المؤسسة الكنسية ومبادرتك للتخفيف عن كاهلها فتدعوها لتتجذر في جميع القارات، كي تقدّم المشورة للجميع "فتكون لهم الحياة أوفر" (يو 10/10). يا حبذا لو أعطيتَ الكنائس المحلية فسحة أكبر لاتخاذ القرارات التي تخصها، السينودس (مثل مجالس الأساقفة)، هو الذي يمكنه أن يقدّر بروح جماعية كما دعانا إليه المجمع الفاتيكاني الثاني.
مرحبًا بك يا فرنسيس في هذا الجزء من العالم "المعولَم"، لكنه مستعمَر بهذه العولمة، ويحتاج بشدة إلى كلمتك التي تذكرنا بعولمة أخرى جاء بها يسوع المسيح بأبوة الرحمة الإلهية، وطبّقها فرنسيس الأسيزي، عولمة: تسامح، حب الفقراء، رحمة، فرح، خدمة العدالة، تأسيس على احترام الاختلافات الدينية وتعزيز العلاقة بين الأديان واستنكار صريح لأشكال الانغلاق القومي والمذهبي والديني التي تسبّبت بمآسينا في هذه المجتمعات وظلمت الجميع.
باركك الله يا فرنسيس، وليمنحك سميّكَ القديس فرنسيس الأسيزي مزيدا من الشجاعة! وهذه هي صلاتي من أجلك، كما كنتَ طلبت مني لدى آخر زيارة لي في الفاتيكان مع أساقفة الكلدان بتأريخ (6 تشرين الأول 2017) قلتَ لي عندما حيّيتُكَ: "أنا بحاجة إلى صلاتِكَ!" فدَمعتُ، وتذكرتُ ما كتبَت عنكَ صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، كان عنوان مقالها: "وأخيرا صار لنا بابا" “finally we got a Pope” (عدد 25/12/2014).
كركوك 7 شباط 2021

13
من الطبيعة تعلمتُ مبادئ لسعادة أكبر
المطران د. يوسف توما
1 – علمتني أن أبحث عن قيمتي في المكان الذي أشغله ...
لجميع الحيوانات والنباتات غرض في الوجود، إضافة إلى مكان خاص تقيم فيه. وسرعان ما يتشكل بينها كلها نظام بيئي متوازن (ecosystem) صار ينكشف للباحثين، كل الأحياء تعمل معا بوئام وانسجام. لكن عندما يفقد التوازن ينهار النظام كله. وعندما تصاب السلسلة الغذائية بالضرر تنقرض الأحياء وتتدهور الأراضي بشكل متسارع فتحلّ الصحراء. فالنظام البيئي للنبات والحيوان يكشف وجود هدف لكل منها هنا في المكان. وجودها ضروري يشبه بعض المهن في المجتمع، إذا فقدت ستفقد البقية توازنها. اليوم فهمَت الدول ذلك، وفي وسائل الإعلام نرى ما يحدث عندما يعلن معلمو المدارس أو سائقو الحافلات أو القطارات الإضراب، ماذا يحدث؟ تسود الفوضى!
قبل سنوات كنت في إحدى البلاد الاسكندنافية والتقيت بشخص يتدرّب ليصبح مندوبَ مبيعات في نادٍ للياقة البدنيّة. ذكر حديثه مع مدرّبه عن شخص أنه "مجرد كنّاس في الشارع". فردّ المدرب وقال: لا تقل "كنّاس" وإنما "عامل نظافة". شارحًا له أن التنظيف مهم، وليس مجرّد إبعاد القمامة، فمعرفة النظافة يمنع الأطفال من التعرّض لأي سوء، أو الموت من الأمراض بسبب تراكم القمامة، لذا يقع على ذلك العامل مسؤولية لا تقل عن أي مهنة أخرى. فلا ينبغي لأحد أن يقلل من أهمية أي وظيفة، جميعها جدير بالاهتمام والتدريب والثقافة، إذن ذلك الإنسان "ليس مجرّد كنّاس..."، فلا تضع نفسك أعلى ولا تعطِ أهمية لوظيفة ما بالمقارنة السخيفة!". للأسف في المجتمع المتأخر، كثيرا ما يقدَر المرء تبعا لأمور ثانوية تتعلق بولادته في هذه الطبقة او تلك أو ثروته، وهكذا يسود التعالي بين الناس ولا يتمّ التركيز على الكفاءة أو اللطف أو الرحمة أو السخاء وغيرها من الصفات الإيجابية. في حين علينا أن نفتخر بالمواهب والمهارات التي نتقنها وننمّيها، إلى جانب أهمية التواضع والامتنان نحو الآخرين، فلولاهم لما كنتُ ما أنا عليه. حاجتنا إلى بعضنا هي مثل التي بين النباتات والحيوانات في الغابة.
 
2 – علمتني الطبيعة أن أتبع النور 
جميع النباتات تتبع النور. فهي لا تنمو إلا في نور الشمس. ومن دون النور تموت. هكذا الأمر في الحياة الروحية، يمكن أن نعتبر بأن "النور" هو الحب والوئام والسلام وعناصر إيجابية أخرى من دونها لا معنى للحياة. وهي تساعد وترفع القابليات والقدرات الحقيقية، وتعطي خصوصا معنى للحياة وسعادة إضافية. أما الحقد والضغينة والغيرة والمشاعر السلبية كالمرارة، فهي بمثابة النفايات والتلوّث الذي يدمّر كل إبداع ويعيق الصحة والنجاح، لذا علينا أن نبحث أكثر عن مصادر "النور" في حياتنا. "وأفضل علاج للذين يخافون، أو الوحيدين والتعساء هو الخروج خارج حياتهم، والجلوس في مكان هادئ، والتأمل بالسماء، بالطبيعة وبالله" (آن فرانك Frank 1929 – 1945 صبيّة قتلت في معتقلات الألمان، كتبت مذكرات ألهمت الملايين).
3 – علمتني الطبيعة قابليّة التكيّف
تتغير الطبيعة باستمرار، بالفصول والمناخ. ونحن أيضا نتغير وننتقل بين الطفولة والبلوغ والشيخوخة. مع ذلك، لدى بعض الناس اعتقاد أنهم لا يتغيّرون ولا يحتاجون إلى التكيّف مع المحيط وما لا مفر منه في الحياة. فترى هذا (أو تلك) يلوم أقاربه أو طفولته عن تعاسة أو صحة أو فشل، ويستخدم حججًا كي لا يتغيّر. فتقول فلانة: "أنا حزينة لأن والدتي كانت حزينة دائما! إنها وراثة عندنا، المسؤولية لا تقع عليّ"! لكن، عندما نقبل بالتغيير كأمر لا مفرّ منه، ولا فائدة من مقاومته. بل ذلك تضييع للوقت وإهدار للطاقة وتعاسة. وبدل التفكير في مساوئ التغيير، لننظر إلى فائدته، فقد يكون وسيلة لتوسيع حياتنا ونموّها. السؤال إذن: ماذا نعمل لاكتساب قابلية التكيّف؟ نحتاج إلى تدريب والتغلب على عادات مدمّرة واستبدالها بأخرى مفيدة؛ كدخول دورات متخصّصة. ومهما كانت المتغيرات، المهم أن التكيّف لها أمر حيويّ للنجاح وللصحة الجيّدة ولاكتساب شعور بالسعادة المتجدّدة.

4 – الطبيعة علّمتني الصبر
عندما نزرع البذور يستغرق نموّها وقتا، وهي تمرّ عبر مراحل عدّة، وقبل أن تبدأ الأوراق بالظهور لا يبدو شيئا ما يحدث لبعض الوقت، لكن الأمور تسير على ما يرام تحت سطح التربة. كن أنت أيضا كالبذور، عندما "تزرع" الأفكار فيك وتهدف إلى أن تكون أكثر سعادة، قد يستغرق ذلك وقتا طويلا قبل رؤية النتائج. فعلا هنا الصبر مفتاح رائع!

5 – علمتني الطبيعة أن الهدف هو تحقيق التوازن في حياتي
تزدهر الطبيعة عندما يكون هنالك توازن. النباتات والحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء وأشعة الشمس. لكن "الزائد أخو الناقص"، كلاهما ينتج المرض والموت. الشيء نفسه يصح في أجسادنا، الافراط كالنقص، والسعادة ليست بإضافة أشياء، وإنما بالتوازن بين ما نأكل ووزن أجسامنا ومستوى التوتر... وهلم جرا. ارتفاع ضغط الدم والكوليسترول والدهون في الدم مؤشرات جدّية بأن أجسادنا غير متوازنة. وعدم التوازن يدخلنا في الفوضى. فيما يأتي بعض النصائح للمساعدة على التوازن:
- تعلم من الناجح، وهو سعيد ويتمتع بالصحة. إطرح عليه أسئلة. إقرأ سير حياة الناجحين. فلسفتهم بالحياة؟ ما هي آليات تكيّفهم؟ كيف يفكرون ويعملون ويعتقدون وماذا يجعلهم سعداء؟
- ابحث عن مساحة في حياتك ترغب بالحصول فيها عن مزيد من التوازن. حدّد طريقة أو طرقا لتوازن أكبر. إختَر طريقة واحدة على الأقل، وضعها موضع التنفيذ. ولاحقا قم بتقييم مدى نجاحك. إذا لزم الأمر، قم بذلك مع الأفكار الأكثر خصوصية لديك.

6 – علمتني الطبيعة أن آكُل ما يتلاءم مع صحتي 
كنت أستمع إلى الأخبار على الراديو ذكر طبيب بيطري أن المزيد من الكلاب الأليفة أصبحت سمينة لأن أصحابها تطعمها وجبات سريعة، وهذه غير مناسبة لا للكلاب فقط بل حتى لأصحابها، وصاروا يسمّون تلك الوجبات junk food. نوع التغذية مهم، وأعجبني رأي ذلك الطبيب البيطري، وتمنيت أن يسمع كل الأهل ذلك ممن يسيئون تغذية أطفالهم، إنها مأساة، فإن كانت وجبات الأكل السريع غير مناسبة للكلاب، كيف يطعمها الأهل لأطفالهم!". إن الجسم مخلوق لأكل الفواكه والخضروات خصوصا والأطعمة الطبيعية. لكن ساد تناول الأطعمة غير الصحيّة والاصطناعية. وقد ناقش عالم التغذية البريطاني باتريك هولفورد Holford العلاقة بين الطعام والمزاج في كتابه "التغذية المثلى للعقل" Optimum Nutrition for the Mind. شرح فيه أن عادات الأكل الصحيّة يمكن أن تزيد معدّل الذكاء، وتعزّز السعادة، وتحدّ من العدوانية، وتساعد في علاج ومنع مشاكل الصحة العقلية. المقالات كثيرة عن العلاقة بين السعادة والتغذية.

7 – علمتني الطبيعة أن استمرّ في النمو
اوفر ما في الحياة هو النموّ. النباتات والحيوانات تنمو وتتكاثر. نحن ننمو ونتكاثر جسديًا وعقليًا وروحيا... من أجل البقاء. ليس إذن للركود مجال. لذا أستمرّ على التعلم والاستزادة وتحسين ما أعمل. ينبغي أن نسعى للحفاظ على النموّ بغض النظر عن عمرنا. على مقاعد الجامعة في فرنسا كانت عجوز قد تجاوزت السبعين تجلس بقربي، توفيَت بعد تخرجها بقليل، بحيث لم يكن لديها الوقت لاستخدام ما تعلمت، لكن المهم أنها فعلت ما أرادت قبل وفاتها، لذا كانت أكثر سعادة بسبب ذلك!

8 – علمتني الطبيعة أن آخذ متسعا من الراحة
أعرف أناسًا مشغولين دائمًا، نادرا ما يأخذوا مهلة للاسترخاء. يقولون إن حياتهم مرهقة! يعملون ساعات طويلة. أنا قلق عليهم من الاستمرار على هذا الإيقاع. جميعنا بحاجة إلى راحة، إلى تأمل، إلى أحلام اليقظة لأنها أمورٌ حيوية لاستعادة الطاقة. إضافة إلى ضرورة إيقاف منبه الساعة بنحو منتظم. جميع حيوانات البرية ترتاح، إنها لا تعمل بالكامل، بل تتوقف وتبقى مستيقظة. لنتعلم منها. يقول الحكيم الصيني لاو تسو: "لقد لاحظت أن الطبيعة ليست قط على عجل، مع ذلك يمكنها أن تنجز كل شيء"!

9 – علمتني الطبيعة أن أخصّص وقتا للاستمتاع
 هل انتبهنا كم تحب الحيوانات اللعب والمرح؟ إنها تضيف السعادة إلى حياتها. لنتذكر أهمية أن نضع جانبا: "يجب، وعليّ، ولازم..." لكي نستمتع بالرياضة والترفيه والضحك وأوقات للمرح مع الأهل والأصدقاء، فهذه تضيف سنوات إلى حياتنا وتضيف حياة إلى سنوات عمرنا!

10 – علمتني الطبيعة قبول الخسارة كجزء من الحياة
الخسارة جزء طبيعيّ من الحياة. وبعد الخسارة، المهم التطلع إلى المستقبل. وفي الوقت المناسب نتقدم، في هذه الخطوة، فائدة قصوى لحياتنا. فعندما نفقد شيئا ما يمكن أن يفتح ذلك بابًا أمام فرص جديدة. لننظر إلى الفرص بدل التركيز على ما فقدنا. قال آن مورو ليندبيرغ: "يحتاج المرء إلى أمان كي يكون سعيدا، لكن الفرح قد يتكاثر كالزهور حتى على منحدرات اليأس!" (كاتب أمريكي ورائد طيران).
ألم يكن المسيح قد سبق وحذّرنا عندما قال: "لا تهتموا، لا تقلقوا، أنظروا زنابق الحقل وطيور السماء"؟ (لوقا 12: 26 - 28).

السليمانية 31 كانون الثاني 2021

14
المنبر الحر / بائع كعكة السميد
« في: 23:33 13/01/2021  »
بائع كعكة السميد
المطران د. يوسف توما
صعد بائع كعكة السميد ومعه صينية فارغة إلى سيارة النقل العام (التي كانوا يسمّونها "صواريخ" في ستينيات القرن الماضي) وجلس في جواري. ولما كانت السيارة شبه فارغة، وعادة ما أنزل في نهاية الخط، في الكراج العام لأمشي إلى دائرتي، دخلت في محادثة معه:
قلت له: "يبدو أنك قد بعتَ كل ما كان لديك من كعك "السميد" مبكرا في صباح اليوم".
ابتسم البائع وقال: "الحمد لله تعالى مبيعات اليوم كانت جيدة".
أنا: "حقا أشعر بالأسف بالنسبة لكم أنتم أبناء الشعب، لأنكم تتعبون في الحصول على الرزق، أليست هذه المهمّة متعبة لك؟".
البائع: "ما العمل، يا سيدي؟ عن طريق بيع السميد مثل هذا، لدي كل يوم نسبة 10% مما أبيع خلال بضع ساعات".
أنا: "أوه، هكذا؟ كم عدد قطع السميد التي تبيع بالمعدل كل يوم؟".
البائع: "في أيام ذروة الأسبوع، أبيع 4000 إلى 5000 قطعة في اليوم الواحد. لكن في المتوسط، لا أبيع سوى حوالي ثلاثة آلاف قطعة يوميا".
كاد نفسي ينقطع للحظة، فالرجل يقول إنه يبيع بين ثلاثة إلى خمسة آلاف قطعة سميد يوميا؛ وليس لديه سوى 10% من الربح على كل قطعة، أي يكسب حوالي مئة ألف دينار يوميا، أي ثلاثة ملايين دينار بالشهر. هذا راتب جيد جدا شهريا. يا إلهي!
كثفتُ استجوابي، وهذه المرة لم يكن فقط لقضاء الوقت!
أنا: "هل تصنع السميد بنفسك؟"،
البائع: "كلا يا سيدي، نحصل على السميد من خلال المعمل ونحن مجرّد نبيعه. بعد البيع نعطي المال لصاحبه ويعطينا هو أجورنا على كل قطعة، أنا أبيع فقط!
 لم أكن قادرا على التلفظ بأي كلمة أكثر، لكن البائع تابع يقول: "ولكن أقول لك شيئا واحدا ... إنفاقنا هو على المعيشة. ومع ما يتبقى من المال يمكننا رعاية أعمال أخرى".
أنا: "أعمال أخرى؟ ما قصدك؟"
البائع: "اشتريتُ أرضا لإقامة شركة تجارية قبل عشرة أعوام في منطقة نائية مساحتها 1.500 م2 بسعر 10 ملايين دينار وبعتها بعد بضع سنوات بسعر 80 مليون. الآن اشتريت أرضا أخرى بسعر 40 مليون، أتعرف أنتَ، إن المدينة تمتد والأراضي ترتفع وليس أحسن من شراء الأراضي!
أنا: "ماذا فعلت بالمبلغ المتبقي؟".
البائع: "بالمبلغ المتبقي؟ وضعت جانبا 20 مليون لحفل زواج ابني. وأودعت 20 مليون أخرى في البنك، ووضعت في التأمين (وديعة ثابتة)"، بفائدة 15% واشتريتُ ذهبا واشتريتُ نقدا، عملة صعبة.
أنا: "كم كانت مدّة دراستك؟".
البائع: "درستُ حتى الثالث الابتدائي. توقفتُ عن دراستي عندما كنتُ في الرابع الابتدائي. ولكنّي أدبّر أموري في القراءة والكتابة. لكن سيدي، هنالك الكثير من الناس مثلك، الذين يلبسون لباس جيد، قاط وربطة عنق، وأحذية لامعة، ويتحدّثون الإنجليزية ويعملون في غرف مكيّفة. مع ذلك، لا أعتقد أن مثل هؤلاء يكسبون الكثير، لأن عينهم على الراتب، وليس كما نفعل نحن الذين نرتدي ملابس قذرة ونبيع السميد"!
عند هذه النقطة، ماذا كان بإمكاني أن أردّ؟ لقد كنتُ بعد كل هذا، أتحدّث إلى رجل أعمال حقيقي، مليونير!
عندئذ وصلت السيارة إلى الكراج، ونهضتُ ونهض بائع السميد. وقال: "سيدي... أتمنى لك نهارًا سعيدا".
مرحبا بكم في عالم التجارة والأعمال اليوم ومثله كثيرون ممّن لا ينتظر الراتب في رأس الشهر، هو انتهى دوامه عندما بدأ دوامي أنا!

(ملاحظة: عناصر هذه القصة جمعت من بائع للكبّة في بغداد أمام المحاكم، وقصّة مشابهة حُكيَت لي في جنوب الهند عام 2018).

كركوك 12 كانون الثاني 2021

15
الإيمان: خبرة ماضٍ، التزام حاضِر وشهادة مستقبل
المطران د. يوسف توما
في هذه الأيام، أيام أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، نحتاج إلى مراجعات كثيرة لحياتنا، وهذا تمليه علينا السنة العجيبة المحيرة 2020 مع وباء كورونا، وما جرّته من متغيّرات سيكون لها شأن في السنوات المقبلة. الدول التجارية خصوصا، ترى كل شيء من منظار اقتصادي ومالي بحت، تقلق من الكساد وتراجع مواردها. والأرقام التي ترد إلينا من كل الجوانب تدوّخهم فيغرقون في التفاصيل. الأعجب من كورونا: يقولون إن 70% من "كماليات عيد الميلاد" مثلا، التي تباع في العالم مصنوعة في الصين، بل في مدينة واحدة تقع في وسط شرق الصين، هي ييفوو (Yiwu) متخصصة في "الميلاديات" تسوّقها لأنحاء العالم. ونصف ما يصدَر يتم بوسائل النقل الجديد أي الإنترنت والأرقام هائلة، ألمانيا لوحدها في عام 2019 أنفقت في أعياد الميلاد 7ر543 مليار يورو، وهذا لن يتراجع في الأعوام المقبلة بل سيزداد بنسبة 16%.
في أيام الميلاد هذه ومع انتقالنا إلى سنة جديدة، لا ينبغي البقاء على إيمان حنين وذكريات الطفولة، ولا نتعزَى بأمور كالتجارة والطعام الزائد والفولكلور الذي غزا العالم من باب حضارة التسلية وهي مجرد تعويض، ففي كل ذلك تحدث مبالغات بحيث طالت البيئة، لنأخذ مثلا: حتى أشجار الصنوبر التي في جورجيا في منطقة القفقاس لم تسلم من هذه "الإبادة البيئية"، في حين لا يربح العمال الجيورجيون الذين يعرضون حياتهم للخطر بتسلق أعالي الأشجار، هؤلاء لا يربحون سوى الفتات بحيث تباع الشجرة في أوربا 40 ضعف سعر شرائها من البلد الأصلي.
أين عيد ميلاد يسوع المسيح من كل هذا؟ المؤمن يطرح السؤال، ألم يفرغ هذا العيد من رمزيّته المسيحية، من يستفيد من هذا الخيال المفرَغ من معانيه الإيمانية والروحية غير التجار؟ لكن المسألة أبعد من ذلك عندما يتعوّد الجميع أن هناك أشخاصًا يذهبون إلى الكنيسة كتقليد لكن عادي أن يتصرّفوا عكس قيم الإنجيل: تعامل الرؤساء مع المرؤوسين بعدم الاحترام، عدم دفع مستحقات العمال، والتمييز ضد الآخرين بطرق عرقية أو جنسية ... الخ.
إنه زمن كورونا، ومراجعة للذات بخصوص ما تسلمنا من الماضي، ما أكثر الذين يتحدثون عن الله، بل يُقسِمون باسمه تعالى على كل شاردة وواردة، لكن قلوبهم ممتلئة غضبًا وحسدًا وغطرسة ولا مبالاة بحقوق الفقراء، متجاهلين وبعيدين في مواقفهم بشكل خطير مما يتطلب التضامن. نحن محاطون أيضًا بدائرة أناس يقولون إنهم ابتعدوا عن الإيمان أو إنهم "لا إدريين" agnostics، أو لا أبالين، هؤلاء من خلال مواقفهم، يمارسون كل ما ينتقده الإنجيل ممّا يرتكب ضد القيم السامية، لا يبالون بمحبّة القريب، ولا بالعدل للمستبعَدين والمستضعَفين، ولا بالتضامن مع المحتاجين أو المشاركة في الخيرات التي منحنا إياها الرب...
التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، يعرّف الإيمان أنه "فضيلة إلهية، حيث يسلم الإنسان أمره كله لله"، "لذلك يسعى المؤمن إلى معرفة إرادة الله وإلى فعلها، والإيمان الحي يعمل بالمحبة" (فقرة 1814). إي إنه التزام شخصي بين الله والإنسان.
لكن ما قد حدثت لدى الكثيرين هو فصل بين كلمات الإيمان والحياة الواقعية. وقد أظهر استطلاع في فرنسا سعى لكشف الفرق بين رجل أعمال غير متديّن ورجل أعمال متديّن، معظم الذين تم استفتاؤهم أشاروا إلى جزيئة واحدة فقط قالوا: المتدين يذهب إلى القداس بين الحين والآخر فقط. وإلا فهما لا يختلفان عن بعضهما في أمور أخرى... هذا يكشف تحجيما وتضييقا للإيمان ويختلف عمّا أراده يسوع المسيح.
من لديه إيمان إذن بحسب يسوع المسيح؟ الجواب ليس سهلا. في إنجيل متى، يقول يسوع إن الذي قابله وكان الأكثر إيمانا هو غريب، مسؤول روماني، قائد مئة (متى 8: 10). والحال، كيف يمكن ليسوع أن يمتدح إيمان مسؤول وثني بين شعب متدين بقوة؟ تُظهر هذه الحادثة أن الإيمان، بالنسبة إلى يسوع، لا يقوم أساسًا على ما يعتقد المرء أو يتصوّر عن الله، ولكن كل شيء كامن في توجّهه وسلوكه، ذلك الوثني كان إنسانا حساسًا ومتضامنًا يهتمّ ويتألم من معاناة خادمه!
يتكرّر موقف يسوع مع حالة المرأة الكنعانية، كانت وثنية هي أيضًا. طلبت من يسوع أن يعالج ابنتَها. وعندما نظر إليها يسوع قال: "يا امرأة، عظيم إيمانُك" (متى 15: 28). عظيم، ليس لأنها تتصوّر الله، لكن بسبب عملها المحبّ تجاه ابنتها. هذا عينه حدث مع الأبرص السامري الذي شُفي مع تسعة يهود آخرين (لوقا 17: 11-19). اليهود، بحسب معتقداتهم "الدينية" عليهم أن يعرضوا أنفسهم على الكهنة كما اقترح يسوع عليهم. لكن السامري لا يستطيع أن يتبع تلك التعليمات اليهودية (كونه خارج الجماعة)، هو وحده عاد ليشكر يسوع الذي امتدح إيمانه وقال: "إيمانُك خلصك" (لوقا 17: 19). بالنسبة ليسوع إذن، الإيمان، وليس مجموعة المعتقدات، مرتبط بأسلوب حياة وطريقة تصرف. لذلك يشكك يسوع أحيانًا كثيرة بإيمان أقرب الناس إليه (مرقس 4: 40). بل اعتبر تلاميذه ورسله "قليلي الإيمان" (متى 8: 26). والأقوى، عندما قال مؤكدا بشكل مقلق بأن العشارين والبغايا ستكون لهم أسبقية في ملكوت الله، وليس "للمثاليين" في تصوّرهم لأنفسهم (متى 21: 31).
تظهر هذه المواقف بوضوح من هم الذين يعرّفهم يسوع أنهم مؤمنين. لم يكونوا أولئك الذين قبلوا بالدين أو بشّروا به، بل كانوا أولئك الذين تصرّفوا بمحبّة وتضامن وعدل، مثل السامري الحنون الطيّب (لوقا 10: 29-37). فلئن يكون لديك إيمان، قبل كل شيء، هو أن تعيش وفقًا للقيم التي عاش يسوع المسيح نفسه بحسبها. من هذا المنظور يمكن أن نفهم ونحلل الأزمة التي في عالم اليوم، وفي الكنائس عمومًا. السلطات فيها قد تلقي باللوم على التيارات العلمانية والنسبوية relativism وأتباع مذهب المتعة hedonism. لكن إذا ما عدنا إلى روح الإنجيل سنرى: أن مسؤولية جميع السلطات الدينية، أيا كانت أن تنزل في الإيمان حتى اللبّ، فالدين بمثابة ثمرة فيها قشرة وفيها بذرة تحمل طاقة الخصوبة للمستقبل، ما يغلفها من الظاهر كالحقائق المعلنة التي تبلورت على شكل معتقدات تناقلتها الناس وحفظتها وكرّرتها وردّدتها كالمحفوظات أو كأجوبة جاهزة وأحيانا مثل الشعارات الحزبيّة المملة أيام زمان، لكن إن لم يتمّ التعبير عن الإيمان في قلب تساؤلات الحياة اليومية، ولم تجرِ نحو محاسبة الذات في ضوء التساؤل الحياتي كل يوم، عندئذ سيفقد الملح ملوحته، وإن حدث ذلك يتساءل يسوع ويحيّرنا كعادته فيقول: "فإذا فسد الملح بماذا نملح الملح"!؟ (متى 5: 13). 
السليمانية 27 كانون الأول 2020

16
الطبع أم التطبّع؟ ومسألة النماذج
المطران د. يوسف توما
أتذكر من بين القصص التي أعجبتني في القراءة في طفولتي وأثرت بي أنّ أحد الملوك سأل وزيره: أيهما الأهم الطبع أم التطبّع، وكان جالسا معه على المائدة، حيث تقف قطط تمسك شمعدانات لتنير العشاء. ولكي يثبت الوزير أن الطبع أقوى من التطبّع، أطلق فأرة كان يخفيها في كمّه، فتركت القطط الشمعدانات وركضت لتمسك بالفأرة ... وكاد البيت يحترق. فقيل المثل: "غلب الطبع التطبّع"، وهو أنموذج لأمثال يتناقلها الناس ويعتبرونها حقائق ثابتة، ويتمّ تداولها حتى وقتنا الحالي، خصوصا في المواقف الذي يظهر فيها أي شخص مخادعًا ثم ينكشف على حقيقته.

لكن، ما هو الطبع؟ يقولون إنه الغريزة، إلا أنّ هذه الكلمة مستهلكة وقاصرة وقديمة، فالغريزة ليست نفسها لدى الجميع، كل حيوان يقوم والداه بتربيته ويعلموه الحيلة والصيد، هنا يستعمل القوة أو السرعة أو المراوغة أو حتى التمويه والخداعcamouflage  أو المباغتة. جيوش البشر تأخروا كثيرا في تعلم فن التمويه، كانت جيوش نابليون مثلا تلبس الأحمر فتصير أهدافا سهلة للقنّاصين، فيموت منهم الآلاف قبل بدء المعركة، في حين الحيوانات كانت أذكى وأكثر حذرا منذ زمان بعيد، مقارنة بها نحن في منتهى الغباء! اليوم صرنا نتعلم التمويه من الحيوان! لهذا نال النمساوي كونراد لورنز 1903 – 1989 (جائزة نوبل 1973) حين فكك الأمومة عند طيور الأوز مكتشفا تعقيد العلاقة بين الأم والفراخ، واقتسم جائزته مع الألماني كارل فون فريتش (1886 - 1982) الذي فهم لغة النحل... فلم تعد كلمة الغريزة إذن مجدية...
لكن، هل هذا يعني أن كل محاولة لتغيير الطبع غير مفيدة؟ كانت جدتي تقول عن بعض الناس: "حتى لو يصير ذهب لا تضعه في جيبك، سوف يثقبه ويخرج". الشكوك دوّخت الحضارات: هل يمكن تغيير الإنسان وتوجيهه نحو مسار معيّن، منذ محاولات مدينة أوروك بتغيير أنكيدو المتوحش. فتقلبوا بين مجموعة نماذج ووضعوا شرائع وقوانين وحذروا من شرور النماذج السلبية، فقامت الكتب والقصص والحكايات والملاحم والروايات، ثم جاءت السينما والتلفاز فغرقنا بأشكال منتجاتها ومسلسلاتها، كلها "نموذجية" بحيث يمكن أن نفهم كل شعب ونلخص مساره وتاريخه بما يسيّره وبنظرته إلى الحياة.
في الأسابيع الأخيرة سمعنا في إعلام كل من فرنسا والنمسا عن صعوبة اندماج جماعات مهاجرة إلى الغرب، هؤلاء هربوا من بلادهم حيث حرموا أبسط مقوّمات العيش، بعد أن استقروا ونعموا بمكتسبات "العلمانية" والمساواة، قام جيل أولادهم وأحفادهم يطالب بالعودة إلى نماذج البلاد التي جاؤوا منها، وهذا هو أكثر ما يحيّر الباحثين والنفسانيين وعلماء الاجتماع ويعطي فرصة للسياسيين "الشعبويين" للقفز على كرسيّ السلطة!
باعتقادي إن السبب يكمن، في مسار اتخذه الغربيون ببناء الفرد والفردانية، ذلك منذ القرن 18 على يد فلاسفة كسروا قيود "الجماعوية" وأمراض الهوية، فتحدث فريديريك نيتشة عن موت الله وقال فرانسيس فوكوياما بموت التاريخ، ولم يعد لديهم مهم سوى التقدّم نحو المستقبل، فيعدّون العدّة للسفر إليه بقابلياتهم واختراعاتهم ولكسب الزمن أحدثوا تغييرات هائلة وقفت إزاءها بقية الشعوب حائرة تلهث لا تستطيع اللحاق بهم، فقررت بعض تلك الشعوب العودة إلى الوراء بالسلفية والرجعية إلى نماذج اعتبروها ناجحة فيما مضى. هكذا أضاع المهاجر إلى الغرب "المشيتَين"، لا يمكنه اللحاق بالغربي ولا أن يعود أدراجه بحثا عن هوية ما، أيا كانت، ليجعلها هي الأهم. صار بين عالمين كلاهما ينتمي إلى القصص والأساطير والأوهام: للبعض أوهام المستقبل وللآخر أوهام الماضي، هكذا استتب الجهل والتجاهل بين الجماعتين وتضاعف التعصّب والتطرّف، ولا أحد يريد أن يتأكد إن كانت قصصه صحيحة أو لا. تاريخ الغرب ميت فعلا لأنه مليء بالحروب والعنف، حروب عالمية، منها حارة ومنها باردة، لم يعد يهمّ الفرد سوى الحاضر ليعدّ العدة للراحة في المستقبل enjoy your self، شعوب ذهبت بعيدا جدا في الحداثة وما بعد الحداثة، وبالمقابل بقيت شعوب تبكي على الأطلال وتنوح أمام آلاف من "حيطان المبكى"، أو تدقق فيما كان فلان يأكل أو يلبس أو ماذا قال...
إنها مسألة النماذج التي سيّرت الشعوب وهي مهمّة، لا تقتصر على تربية الأطفال، وإنما تسيّر المجتمع كل دقيقة من وقته. طبيعة النماذج تختلف في عالمنا لأنها مبادئ Paradigms شائعة، عملية وذائبة في المهن والحرف والطعام والشراب. كانت الخيّاطة تسمّيه باترون" patron أي رب العمل" (بالفرنسية)، الكل يتبعه مثالا، كالنحات أو كقواعد اللغة أو المصارف، لها "نماذج". حتى دوائر الحكومة عليّ أن أشتري النموذج من كاتب العرائض الأمّي، أنا الذي أحمل عدّة شهادات جامعية... النموذج سيّد البلاد مستعمل منذ القديم. الطفل يلعب به بسعادة، نماذج مصغّرة من عالم الكبار، بها تتقوى الملاحظة لديه. يلجأ إليها المعلم في التدريس. نماذج وضعت لقواعد الصرف والنحو لكل لغة، أساسيات مملوءة بالحالات الشاذة التي تدوّخ الأجنبي الذي يدرس لغتنا، فيقال له: "هكذا قالت العرب"!.
لقد أثبتت النموذجية أننا، وإن كنا كائنات عاقلة، إلا أن ما يتحكم بنا ليست الأمور الواعية، علم النفس منذ قرن يقول لنا: حذار، إن فينا كمّ هائل من "اللاوعي"، أشبه بجبل جليديّ خفيّ هو يسيّرنا جميعا: في الغرب درسوه لدى الفرد وفي الشرق يسيّر الجماعات. وفي كليهما لا شكل له ولا مادّة، ولم يتوصّل بعد أحد إلى تحديده. اللاوعي (الفردي أو الجماعي) يزاحم الواقع ويتجاهله ويخضعه لأبعاد غير معقولة ويظهر بشكل تصرفات عجيبة غريبة بلا قواعد ولا منطق، ما جعل المفكر باسكال يقول: "للقلب أسبابٌ يجهلها العقل!". أين صارت الغريزة إذن؟
أحدث جان جاك روسو (1712 - 1778) ثورة كبيرة في الغرب حين أعطى الأهمية للطفل كفرد، فلا حاجة لنا أن نربّيه، في حين بقينا حتى اليوم في بلادنا نتأرجح بين قبول العنف التربوي أو تخفيفه، وهذا امتد حتى وصل الدين والسياسة، بل جميع المجالات. إنها نظريات العواطف المهزوزة بقيت "نماذج" للأغاني والشعر والأفلام "الهندية"، لكنها لم تغيّر القسوة كنموذج "بقيت العصا لمن عصا" عندنا! هناك، في الغرب صار الطفل سيّد البيت: سلوكه وميله واحساسه مقاييس، فأزيحت النماذج القديمة، وهذه أمور تحيّر المهاجرين. هناك صاروا يخضعون كل شيء للدرس والتمحيص، فتعدّدت المدارس وقبلوا بالفوضى الخلاقة. في نماذجهم صارت المساحة واسعة جدا، وجاء السَفَر والعولمة فخاف الكثيرون عندنا وانكفأوا على أنفسهم وما لديهم، وللخوف وحده عندنا قصص لا تحصى، لكن المهاجر انطوى على نفسه وما حمله معه من الوطن... قصص حكاها له أهله فصدّقها وقبلها كمسلَمات أكيدة. صارت مثلنا اليوم، لا زلنا نؤمن بالأبراج الاثني عشر، التي وضعها الكلدانيون القدامى. هم نظروا إلى السماء وقسّموها بما تخيلوا: عقرب، جوزاء، سرطان، جدي...، ثم طبّقوها على واقعهم، قرأوه بنماذج "سماوية" كأحلام جماعية تمتصّ التوتر، لكننا نحن لا زلنا نكررها ونسأل: ما هو برجك؟
نحن جميعا في الغرب والشرق لم يعد في امكاننا النظر مثلهم إلى السماء لسببين: أولا ليالينا ملوثة بالكهرباء بأضواء ساطعة، فصار الليل نهارا والنهار للنوم، ولا علاقة لعلماء الفلك بأبراج بابل. ثانيا لأن الشاشات سحرتنا جميعا، لم نعد نرى الكون، بل غرقنا في أساطير جديدة مسخت تفكيرنا، لم يعد يهمّنا سوى مشاعرنا، وليس لدينا وقت للدرس والمراجعة. وعلى مستوى أعمق ننسب الفهم إلى أنفسنا فقط، بلا دليل علميّ، في حين للكون المحيط بنا وعي آخر يتجاوزنا، لذا سقطنا في سوء التفاهم مع العالم ومع أنفسنا ومع الآخرين: الفرداني يموت في العزلة وأصحاب الجماعة يبحثون عن الهوية!...
الخاتمة:
إذا ما عدتُ إلى قصة القطط التي أمسكت شمعدانات، أقول في نفسي لعلها أعجبتني لأنها لعبة لمخيلة الأطفال ومنطق اللعب لذيذ، لكن القطط لم تخلق لتسلية ملك "غاشم" تسلى بترويضها على مزاجه! في حين أتذكر أن المصريين قبل ستة آلاف سنة عبدوا القطط لأنها أنقذت أهراء الحنطة من القوارض. وفي أيامنا أتذكر الصين، بعد أن حكم ماو تسي تونغ (1893 - 1976)، المثالي جدًا، جاء زعيم عمليّ جدًا هو دينغ هسياو بنغ (1904 - 1997) فقال: "لا يهمّ أن تكون القطة سوداء أو بيضاء، المهم أنها تصطاد الفأر". لنتذكر، لم يتقدم شعب إلا عندما عرف "الطبيعة" وليس التطبّع، في النبات والحيوان والطير والنحل والأسماك والبكتيريا، واليوم فايروس كورونا... الجهل كارثة تفاجئنا كل يوم ونستيقظ على "الحريق" ولا نعرف كيف نطفئه. الماضي مليء برعب الأساطير والأوهام والكوابيس التي كانت تقظّ مضجع أجدادنا. والمستقبل يخيفنا أيضا، لأنه يخفي ما يهدّدنا، أين المفر؟ برأيي علينا أن نسمع نصيحة المسيح: "إن لم تتوبوا، ستهلكون جميعا" (لو 13: 5)، أن "نتوب" يعني أن نتخلى عن أوهام الماضي وأوهام المستقبل ومحاولة السيطرة على المحيط الحيوي بأكمله، فنراجع حساباتنا مع الأرض ومع مَا عليها من زرع وضرع، عندئذ فقط وبالحوار سوف نتعلم...
كركوك 30 تشرين الثاني 2020

17
من اللعب إلى التشكيك وصولا إلى الإدمان
المطران د. يوسف توما
لديّ صديق ممتاز لكنه يكرر دائما إزاء كل ما يسمع: "ومن يقول إن هذا صحيح؟"، يقول ذلك مثلا إذا قيل له إن الأطباء فعلوا كذا... مثل هذا القول جيد، إذ لا ينبغي أن نصدق كل شيء، لكنه ليس عنده مجرد سؤال، فهو لا يبحث عن صدق المعلومة وإنما يدخل ضمن مسار "التشكيك": "ومن يقول؟"، فالتشكيك من أجل التشكيك فقط، مجرد لعبة فكرية سهلة، قد يكون ناتجا عن كسل أو كي لا يتعب نفسه، أو لا يتخذ قرارا بترك عادة سيئة مستحكمة، كالتدخين مثلا.
كان التشكيك عبر التاريخ سلاحَ كل الخصوم، يذكرني بسؤال معاصري يسوع: "أأنت الآتي، أم ننتظر واحدا آخر؟"، بالرغم أنهم رأوا الأعاجيب والمعجزات وأكلوا الخبز في البرية. مثل هؤلاء كثيرون بيننا. كتلك الفتاة التي كلما خطبها أحد تقول: "ومن يقول إن هذا هو الأفضل؟"، لعل واحدا آخر أفضل منه سيأتيني... هكذا ستبقى هذه البنت تراوح في مكانها، كانت جدتي تقول عن أمثالها: "لما خطبوها تعزعزت، ولما تركوها ندمَت". ما أكثر من يفوتهم قطار العمر، فقط لأنهم تعوّدوا التردّد والتشكيك وانتظار من لا ينتظرهم، لم يعرفوا أن يمسكوا الوقت من قرنيه، بل أمسكوه برخاوة من ذيله، لكن دائما بعد فوات الأوان. لذا ترى مثل هؤلاء يصبحون بالتدريج تبعيّين في الحياة، شكاكين مترددين إلى حد الوسواس القهري، ولن يقوم من بينهم قياديون للمجتمع بل يبقون تابعين للقيل والقال حتى العظم.
للأسف مثل هذه الحالة في زماننا تتزايد، فوسائل التواصل الاجتماعي تخلق أمراضا جديدة لم نعرفها من قبل: بسبب التعامل مع تلك الوسائل والركض وراء كل جديد، بلا تفكير ولا تحليل إنما الاستهلاك فقط، ناهيك عن الصرعات وتيارات تسيّر الأغلبية، والانبهار بما هو غير متوقع، خصوصا من جانب البرامجيات Applications التي تخلق في الشباب تبعيّة وحيرة، ما يضع علماء النفس في قلق حقيقي، وشخّصوا الكثير من الأمراض المستعصية تضرب الجهاز العصبي. من ضمنها اضطرابات الشخصية والسلوك، فلا يشبع المدمن من النوم، أو ينام "نوم الحارس" بعين واحدة، ينام مذعورا لئلا يغيب عنه شيء ما، ويقفز حالما يسمع رنينًا معيّنا أو رسالة SMS.
أمراض جديدة تظهر في زماننا واحد منها يسمّونه بالانكليزية "نوموفوبيا" (no-mo-phobia أي No-mobile-phobia، أي الخوف من فقدان الهاتف النقال، والرعب من الابتعاد عن العالم الرقمي وانقطاع الانترنت، فيصل ذلك إلى اللاوعي لدى صاحبه المنتمي إلى جماعة (أو عائلة) رقمية وليست واقعية، فيغوص بالتدريج كما في نوم مغناطيسي خاضع للشاشة، ويتعوّد على عادات غريبة، إلى جانب الانزلاق إلى حالة التعوّد القهري. أمام شخص كهذا يرى الباحثون ثلاث حالات نزول تدريجية تبدأ: بالتساهل (مع الادمان) ثم الوقوع في الاكراه وأخيرا الإصابة فعليًا بالإدمان. لنشرح ذلك قليلا:
-   التساهل (la tolérance) يكون في البداية
: مثلا سأدخن سيجارة واحدة هذا لن يؤثر... ثم يصبح التدخين حاجة مرتبطة بموعد أو جلسة أصدقاء، إلى حين تصبح الحاجة إلى زيادة الجرعة ضرورة للحصول على الارتياح والرضا ذاته.
-   الإكراه (la compulsion) وهو الحالة التي فيها تتجلى لدى الفرد عدم القدرة على مقاومة رغبته بشيء ما: يجب عليّ...
-   الإدمان (l’assuétude) أو الوقوع في التبعيّة والعبودية، وهي تحدث بأشكال فكرية كما فعلية، تأتي الرغبة ملحة فينتهي الأمر بصاحبها أنها تأخذ كل حيّز ومكان في حياته فيقول: لم أعد أستطيع... للأسف هذا يحدث في السجاير والقمار والكحول ومختلف العادات خصوصا الألعاب ومنها الالكترونية لدى الشباب اليوم.
في أغلب هذه الحالات يحس المرء أنه قد وقع كما في قبضة حديدية. يشعر أن الضعف العقلي يسوده بأشكال لم يعرفها من قبل. وقد قام مختبر أمريكي اسمه (Near Future Laboratory) أي "مختبر المستقبل القريب"، مكوّن من أطباء ونفسانيين، رصدوا أربع حالات:
•   القلق المتزايد.
•   ما يشبه الفصام في الملف الشخصي (La schizophrénie de profile).
•   رهاب الأتاساغورا Athazagora phobia، وهو خوف مفرط أن ينساني أحد الأقران أو يتجاهلني. ويبدو أنه يكثر في المدن. أعرف سيدة كانت تقيم في مدينة أمريكية في الشمال، توفي والدها في الوطن ولم "يأخذ كل من تعرفهم بخاطرها"! فغضبت واكتأبت وانتقلت إلى الجنوب، لمدينة مقطوعة في صحراء أريزونا كي لا ترى أحدا ولا يراها أحد ممن تعرفهم، هذه مصابة بـ"الأتساغورا" بحق!
•   في الأخير تأتي السوداوية المزاجية أو الحموضة، التي أسمت أمهاتُنا صاحبها: "نفسو جيفي"! (أي نفسُه نتنَة) وما أكثرهم، حيث لا يتذكر أقرباؤه متى ضحك أو حتى متى ابتسم!
كشفت العلوم النفسية أنه لا يمكن أن نثق بأنفسنا بشكل مطلق، لأن الانفعالات قد تلوّث شخصيتنا كلها، عندما يبدو لي أن ما أشعر به هو المقياس وليس الحقيقة. ولأني لا أستطيع التخلص من الانفعالات تماما، أستخدم وسائل أخرى كبدائل، عندما أميل لأن أريح نفسي من القلق بأشكال الهرب والتسلية، وهذا يحدث عادة بعد أزمة منتصف العمر. ما عدا ذلك، جاءت العولمة بتراكم المعلومات وكثرة المراجع فأصبح جميع الفلاسفة والمفكرين والأدباء في متناول يدي. لكن الكثرة تقتل شهيّة التعلم فتراجعت القراءة بشكل مخيف، هذه الشهية أسماها الإنجيل "الإيمان"، فقال المسيح: "لو كان لكم إيمان بقدر حبة خردل لقلتم لهذا الجبل انتقل من هنا فينتقل" (متى 17: 20). إنها شهية معرفة "معنى الحياة" ولماذا نحن هنا، بلا تبعية أو تكرار أو ادمان، فلا نعود نخاف من المتغيرات والتقلبات والمطبّات، والإيمان لن يعود مجرّد اعتقاد أو تصديق لما قال فلان عن فلان رحمه الله، ولن يسيطر على صاحبه الملل أو اللامبالاة أو التشكيك، وهذه كلها هي سبب انتشار نوع جديد من الالحاد "الشعبي"، لكنه أقرب إلى التبعية الكسولة التي تكتفي بتكرار ما تسمع هنا وهناك من فتات حديث أو تعليقات...
قام في الماضي مصلحون أيقظوا شهية الناس وأعطوهم البراهين، كعلامات للفهم ولهضم التقاليد والأعراف... وحتى زمن قريب كان على الرئيس أو الشيخ أو رجل الدين أن يكشف عن إيمانه بحسن السلوك والأفعال. لأن الله بالأساس يربط القول بالفعل، والفهم بالعمل. لكن انحراف التديّن جعل الله "شعبيا" متاحًا دائمًا، فيأتي اسمه تعالى في استعمالات مبالغ بها اقتحمت لغتنا اليومية الدارجة، بأشكال القَسَم وغيرها. فأصبح التدين مبتذلا أو نوعا من المقايضة، أضيف إليه شعور قبليّ، وصار الدين هو الهوية، كأواصر الجماعة، أو القرابة، أو مجرد طيبة بيننا فقط، هكذا ضاع نَسَغ الدين واختفت قيمُه الأساسية: العدل والرحمة للكل، ولم يعد مكانا للأفكار الصحيحة، ولا ضمانا لسلامة الفرد والمجتمع. في مثل هذا التديّن يموت الفرد ولا يعود يبحث عن الإبداع والإنجاز. وعندما يُهمَّش الفرد، يفسِد ويقع في مطبّات الإدمان التي ذكرنا أعلاه.
قبل مدة قصيرة قرأت عن حياة هيلاري هآن Hilary Hahn (مواليد 1979)، أفضل عازفة كمان من جيلها معروفة بالموسيقى الكلاسيكية، تعزف منذ سن الخامسة وبقيت مصرّة على التفوّق والابداع. أعجبني إصرارها، لكنها تقول: "كل مرّة أصعد خشبة المسرح أشعر بالقلق والتردّد والخوف": أي من يقول إني أمينة تجاه مؤلف هذه القطعة الموسيقية؟ شعرتُ أني مثلها، كلاهوتي ومحاضر منذ 40 عاما، عندما أعطي شيئا من خبرتي الإيمانية أو الثقافية، أسمع في أذني: "ومن يقول إن ما تقوله صحيح؟". لذا أحاول أن أكون أمينا في التعبير عن "مقطوعة" كتبها واحد آخر غيري! أعرف أن عليّ أن أبقى أنا نفسي، وأن يخرج كلامي من أعماقي، لكن عليّ ألا أخونه هو، وهذا التوازن صعب لكنه مطلوب من كل عازف، بل من كل إنسان لديه رسالة ومهمّة يحبّها، وعليه أن ينقلها بصدق. التوازن صعب لكن المسيح يعطيه الجواب والاطمئنان إذ يقول: "كل من صار تلميذا في ملكوت السماوات يشبه ربّ بيت يخرج من كنزه كلّ جديد وقديم" (متى 13: 52). 
كركوك 23 تشرين الثاني 2020

18
الوهم، "يوتوبيا utopia" قصة عمرها 500 سنة
المطران د. يوسف توما
    تميزت نهاية القرن 15م وبداية القرن 16 بمتغيرات كثيرة غيّرت وجه العالم، بتوسع العالم المعروف (اكتشاف الأميركتين 1492)، احتلال العثمانيين للقسطنطينية لتصبح عاصمة لهم، تصاعد الصين في عهد سلالة مينغ، لتشهد أوج عظمتها الهند في زمن الملك أكبر (1542 - 1605) المغولي تصل أيضا إلى أوج عظمتها.
كانت للبوصلة الدور الأكبر في هذه التحولات، فهي اختراع صيني نقلها العرب وكيّفوها. ليحسبوا خط العرض (موقع الشمال أو جنوب خط الاستواء)، عن طريق قياس ارتفاع النجوم بالنسبة إلى الأفق. كما تغيرت صناعة السفن فقام علم الأشرعة في سفن "كارافيل"، في حوالي عام 1440، بإضافة ثلاثة أشكال من الشراع، مما جعلهم يتمكنون من الإبحار حتى لو كانت الريح معاكسة، فقاموا برحلات طويلة في أعالي البحار، في حين كانوا يكتفون في السابق بالملاحة الساحلية. استطاعوا هكذا عبور بحر الظلمات (المحيط الأطلسي). كل هذه المتغيرات مهمة، ولكن!
لكن الأهم في تلك الفترة والمحرك الأساس للمنافسة هو حمى الاستكشاف لأنهم حلموا بطرق جديدة للوصول إلى الهند ونقل البهارات متجنبين العالم الإسلامي والعثماني. فقام البرتغاليون باستكشاف أفريقيا على طول الساحل الغربي. بحثوا عن الربح السريع، من خلال تجارة الذهب، ثم التوابل، المرغوبة جدا في أوروبا، كان العثمانيون يتاجرون بها عبر التجار الإيطاليين، خصوصا مدينة البندقية، التي سيطرت على السوق. لكن البرتغاليين خطفوه منها.
دعم البرتغاليين ملوكهم ثم لحقهم الاسبان، لإيجاد طرق جديدة للوصول إلى آسيا. إما بتجاوز إفريقيا جنوبا، أو، ولم لا، الإبحار غربا إلى آسيا؟ أليست الأرض كروية كما قال منذ إراتوستينس Eratosthène  (276 – 194ق.م) الذي توصّل إلى قياس محيط الأرض بدقة مذهلة: 39375 كيلومترًا مقابل حوالي 40 ألف كيلومتر في التقديرات الحالية.
طريقان من أوربا إلى آسيا
وصل البرتغاليون إلى الهند. واستعمروا مناطق عدة وجزرا منذ بداية القرن 15: وطوروا زراعة قصب السكر، ومارسوا تجارة العبيد وذهبوا أبعد وأبعد فوصل بارتيليمي دياز إلى أقصى جنوب أفريقيا إلى "رأس الأعاصير" لكن ملك البرتغال لم يعجبه الاسم فأسماه "رأس الرجاء الصالح" كان ذلك عام 1488. ثم تجاوزه فاسكو دا جاما ووصل إلى الهند عام 1498؛ ليعود بعد سنة بسفن محملة بالفلفل، وكان لدى البرتغاليين مكاتب comptoirs في كل مكان وفي الهند "جوا" Gpa وملقا وماكاو في الصين 1557 عواصم لهم، منذ 1513. لكن بحارا إيطاليا كريستوف كولومبوس كان لديه رأي آخر فعرض على ملك إسبانيا أن يصل إلى الهند واليابان بالذهاب مباشرة غربا. ولولا هذا الوهم لما اكتشف أمريكا، وبقي متوهما يسمي سكانها "الهنود الحمر". كان ذلك في عام 1492.
البرتغال وإسبانيا كانتا سباقتين، لحقتهما بريطانيا وفرنسا وهولندا ليستقطع كل منهم جزءا من العالم الجديد ومعه سار الطمع والقتل ومحو حضارات. غزا هرنان كورتيس الاسباني، المكسيك عام 1519 وبيرو حيث إمبراطورية الإنكا (1524-1534) مع فرانسيسكو بيزارو. في أمريكا الشمالية، اكتشف الإيطالي جان كابوت كندا نيابة عن ملك إنجلترا عام 1497. وأستطاع ماجلان أن يدور حول العالم، في 1522 فصار كل شيء أفقا للأوروبيين خلال عقود قليلة.
في هذه الأثناء، عام 1516، صدر للكاتب الإنجليزي توماس مور (1478-1535) رواية "يوتوبيا"، (الوهم) مشتق من اليونانية "utopos" أي "اللا مكان" يحكي فيه عن "مجتمع لا يمكن لأحد أن يصل إليه، لأنه يتجاوز الواقع". فيوتوبيا جزيرة مثالية وجمهورية مثالية. لا أحد فيها يعمل أكثر من 6 ساعات باليوم، لا مال فيها ولا ملكية خاصة ولا حسد وسكانها يتشاركون في إنتاج المحاصيل الزراعية، وليس فيها عبيد بالطبع. 
كان توماس مور قاضيا وعضوًا في البرلمان ومستشارا وصديقا للملك الإنجليزي هنري الثامن الذي وقع في عام 1533 في حب آن بولين وقرر الانفصال عن زوجته كاثرين والزواج من حبه الجديد في الكنيسة، كان هذا مخالفًا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية. وإزاء معارضة البابا، انفصل هنري الثامن عن روما وأسس الكنيسة الأنجليكانية التي هو رئيسها، أما توماس مور، وهو كاثوليكي تقي فقد عارض الملك وشجبه فقام هذا باعتقاله. وحكم عليه بقطع الرأس. (في عام 1935 أعلنته الكنيسة الكاثوليكية قديسا وهو شفيع السياسيين، وفي عام 1966 قام فريد زينمان بإنتاج فيلم عن توماس مور: "رجل لجميع الفصول"، والذي فاز بست جوائز أوسكار). ما بقي من هذه الحقبة جدير بالاهتمام إذ أن رواية "يوتوبيا" أصبحت من أشهر وأهم القصص الرمزية للقرن 16 إذ فيها نقد مور المشهد السياسي في عصره وإنجلترا، حيث ساد الفساد والطمع بالسلطة وعدم الكفاءة. في حين يسود جزيرة يوتوبيا العدل والإدارة الجيدة، وكل سكانها سعداء على أرض مستدامة بيئيًا.
كل عصر يحلم بالآتي
يقول المؤرخ الفرنسي جول ميشليهMichelt  1798 - 1874، "كل عصر يحلم بالآتي". أي منذ أفلاطون حلموا بجمهورية مثالية. وحلم جوناثان سويفت "في رحلات جوليفر" بعالم يحكمه الأقزام (قصار القامة) ثم رأى ديفو أن العزلة هي مصير الكل في قصة "روبنسون كروزو". وحتى في زماننا حلم ألدوس هكسلي بـ “عالم جديد شجاع"، ورأى جورج أورويل الحكم المستبدّ في رواية "1984"، والمأساة المقبلة في "فهرنهايت 451" للكاتب ربادبري. ثم جاء القرن 19 ليترجم ردود فعل ما سبقه إلى تيارات آيديولوجية سرعان ما قلبت الأحلام على كوابيس، وبالرغم من اعجاب كارل ماركس بأن توماس مور هو شيوعي من القرن 16 لأنه ألغى الملكية الخاصة في جزيرته الخيالية يوتوبيا، إلا أن الواقع شيء آخر.
هكذا إذن تقلب العالم عبر خمسة قرون بين وهم الاستكشاف وحلم الاستقرار وهذا يتأرجح بين حب السفر او البقاء وتغيير المجتمع بالقوّة والسلطة والهيمنة باعتماد الدين والقومية من خلال التطرف. بالمقابل قامت أشكال معارضة في كل المجتمعات تندد وتقترح البديل فكانت حركات الإصلاح مثل: يان هوس (تشيكيا) ومارتن لوثر (ألمانيا)، لكن الكتاب والأدباء أيضا تعاقبوا بعد توماس مور ليندّدوا بجنون السلطة مثل سرفنتس (أسبانيا)، وكل من سخر من وهم "الطوبائية" في بلدان صار الجشع فيها يسمى "الليبرالية". التي تحوي مرضا خطيرا، كما قال "كورتيس" مستكشف المكسيك ومدمّر حضارتها للملك مونتيزوما: "لدينا نحن الأوربيون مرض في القلب لا يشفيه سوى الذهب!"، مرض سبّب الحروب والغزوات ودمّر الطبيعة. فكل الغزاة جاؤوا بأشكال التصحّر، فكري وروحي وفعلي (كما قال ابن خلدون أيضا)، وكما قيل عن أتيلا المغولي إن "العشب لم يكن ينبت خلف حوافر حصانه"!
يوتوبيا (الوهم) قصة صدقت عبر القرون، ولم تعالجها الانقلابات والثورات وشعارات التقدّم والأوهام، لأن القسوة كان أسلوبها بحيث تحوّلت الجماهير إلى قطعان لا حول لها ولا قوة. ثورات وانتفاضات أفقدتها الشعور بالزمن وجعل "كل جيل يحلم بالآتي"، أو يقيم على خبرة آبائه لأن ليس لديه خطة بديلة ولا رؤية للمستقبل.
بسبب متطلبات الحاضر وحاجاته، تسبب حبّ السلطة في عصرنا بعمق في فقد الشعوب لأي رؤية مستقبلية، أي إنها أصيبت بقصر النظر. فتجمّدت الأمور وبقي القوي يمسك زمام السلطة، بحيث رأينا "ملكيات دستورية" وجمهوريات وراثية... المهم أن يبقى يحكم ويرث أولاده وأحفاده، حتى لو كان النظام شيوعيا، من هنا جاءت "الشعبوية" populisme، التي تقول المهم "خذ السلطة"، واحصل على المال واللذة، واختزل الزمن والتاريخ واحصره في شخصك (أو جماعتك)، أحكم بأنك كل شيء ونهاية كل شيء، وقل لهم "بدوني سيأتي الخراب" وسيوجد دائما من يصدقك، دون أن يفهم أن السلطة مجرد وسيلة تحتاج إلى تفويض شعبي...
الخاتمة
إن حقيقة هذه القرون الخمسة، ترينا أشباحا وشخصيّات سخيفة كانت مخيفة لأنها مارست القتل كي تبقى في السلطة، ليس فيها من نفتخر به صاحب سيرة شريفة، إنهم مجرد صور كاريكاتورية لطموحات مفرطة، مريضة، محبة للهيمنة على العقول والشعوب. وكما يقول المثل الروماني القديم: "أفضّل أن أكون الأوّل في قريتي على أن أكون الثاني في روما"! ألهذا الحد حبّ السلطة والانفراد بها إدمان يسيطر على صاحبه؟ ألا يشعر يوما بأنه محدود، وأن الحياة ستجبره على الخضوع والقبول بالتخلي؟ هذا يذكرني بصلاة يسوع إلى الآب: "لتكن مشيئتك"، فالطاعة للظروف محدِّدة للكل، لكنها هي التي تفتح باب المستقبل. يبقى السؤال: أين نجد السياسي الذي يستطيع أن يتصوّر في إمكانه المساعدة بإقامة "مدينة فاضلة"؟ رحم الله من اعترف بخطئه وعجزه وانسحب قبل أن يُطرَد أو يموت!
ذهب كثيرون وهم لا يعرفون أن هناك نظرة أخرى يمكن أن نلقيها على العالم، وهي ليست بالضرورة نظرة سلطوية.

كركوك 4 تشرين الثاني 2020

19
زمن الآن، بين دكتاتورية الصور وحرية الفن

+ المطران الدكتور يوسف توما
    إننا نعيش في عصر الصور منذ ما يقارب القرنين، مذ اخترع الفرنسي نيسيفور نييبسNicéphore Niépce التصوير الفوتوغرافي عام 1825، لكن الصور مكروهة في مخيلة الأديان التوحيدية، إذ كان الخوف من التوقف عندها ما جعل بعضهم يحرمها وآخر يتغاضى عنها أو يخاف منها، فحدثت حرب الأيقونات بين عامي 726 و787، فكسروا التماثيل ومزقوا كتبا ثمينة فيها صور، لكنها عادت وصارت مقدّسة بالأيقونة. وأخيرا دخلت الصور كل حيّز بفضل التكنولوجيا والحاسوب والنقال. وكقول المثل: "الزائد أخو الناقص"، أي كثرة الأشياء تفقدها القيمة، والوفرة أخت الحرمان. تدفق الصور سبّب في تعبنا بحيث ضعفت أعيننا وأدمنت ونامت مغناطيسيًا فاندمجت اللحظة الحاضرة وذاب الماضي والتصق الحاضر بالمستقبل. هكذا ضاع عند الكثيرين إدراك الطبيعة والتاريخ والوقت. بحكم الصور يبدو أن كل شيء هنا، يحدث الآن أمامنا!
كان القرن العشرين بامتياز قرن فن التصوير السينمائي، وخلاله أنتج العالم آلاف الأفلام بالمقدمة تأتي الهند، ثم نيجيريا، وبعدهما الولايات المتحدة. وأسهمت السينما في تغيير مفهوم الوقت لدى البشر. فلم نعد نفهمه كزمن خطي أو تاريخي، ولا ننظر إلى موروث القرون الغابرة نفس النظرة، فتغيرت نظرتنا إلى ثلاثة أمور مهمة: إلى الدين (الكتاب المقدس) والسياسة (كارل ماركس) وعلم النفس (سيجموند فرويد). إذ أخذت حصة الأسد في الأفلام بحيث سادت عليها. مثلا: صورة النبي موسى في مخيلتنا هي وجه الممثل "شارلتون هيستون" Charlton Heston (1956) وهو يلقي لوحي الوصايا، فقام حاجز بين عصر موسى ومكانه وبيننا. سألني صبي ذكي في العاشرة يوما: لماذا ذهب موسى إلى البحر الأحمر ولم يعبر من الأرض، فقناة السويس لم تكن آنذاك محفورة؟ عموما صار الوقت يتخذ طبيعة مكانية ويحتل زمنًا جامدا في مخيلتنا. فتتحرك عيننا كعدسة كاميرا وينتقل المتفرج وراءها من الحاضر إلى الماضي ثم يقفز إلى المستقبل. إنها استمرارية غير منقطعة.
بين اختراع السينما والتلفاز يوجد 30 سنة تقريبا، في ثلاثينيات القرن العشرين، وأزاد في هذا التوجه، وزعزع القناعات، بل أحدث لدى جيل السينما الأول حالة نوبة وحيرة، تشبه التي حدثت عندما تحوّلت السينما من صامتة إلى ناطقة، كم من أبطال ظهروا ثم اختفوا مع كل حقبة، خصوصا من لم يتمكن من مجابهة التحوّل. كذلك لم يكن التغيير بسيطا بين السينما والتلفاز، كان يعتمد على مواجهة الفرق بين زمن واحد وتزامن أوقات مختلفة، بقيت المرساة الوحيدة بيد المشاهد الذي تغيّر لديه مفهوم الوقت "هنا والآن". أسموه "صندوق العجائب" أو المرآة التي تنقلك آلاف الكيلومترات وأنت في بيتك. لم يعد من داع أن تسافر بالمكان ولا بالزمان ابق حيث أنت هو يأتيك. وسرعان ما لمسنا أنه لا يوجد شيء نمسك به، لا هو صلب ولا اتجاه. فخاف بعضهم. أعرف رب أسرة عراقية حرم أولاده من التلفاز فخلق عندهم شعورا بالحرمان جرجروه طوال حياتهم.
كانت جدتي تقول: "أطفال القصة يكبرون بسرعة"، وهذا صار بالفعل أمامنا مضاعفا، فلم يبق حد أدنى للتاريخ بل اختلط مثل كوكتيل من الأحداث، فيه كل الأزمنة والأوقات. يظهر "فريد أستير" Fred Astaire ميتًا، في تابوت لكنه سرعان ما يقفز ويعود ليرقص، فنحن في فيلم موسيقي. أين المنطق؟ لست أدري. إنها الحكاية والمخيلة تعمل بنا ما تشاء! وهكذا، بالتدريج تلاشى التاريخ، وخفت كأضواء المسرح بعد العرض. واختفت مثاليات وأوهام أجيال سبقتنا، فلم يعد الصراع اليوم بين الأديان والمذاهب، إنما داخل كل دين بل في كل بيت وجيل، ما دفع الكاتب الأمريكي الياباني الأصل فرنسيس فوكوياما أن يتنبأ بموت التاريخ. في حين كنا نعتقد أن كل شيء مرتب كقول كاتب سفر الجامعة: "هناك وقت للبناء ووقت للتدمير؛ وقت للحب ووقت للكراهية، وقت لشن الحرب ووقت لإقامة السلام" (جا 3). اليوم لم نعد نعرف سوى وقت واحد: "الآن"، فيه يتداخل البناء بالدمار والحب بالبغضاء والحرب بالسلام، نرى مشاهد الطبيعة وصور من المعركة، ثم نعبر إلى طلبات المستمعين والمشاهدين.
حتى كلمة "السعادة" مثلا، لم تعد في حدّ ذاتها سوى مشروع مؤقت، تقلصت لمجرد متعة فورية يفضل استخراجها حالا من الأشياء والممتلكات، وخصوصا مع تضخم "الأنا" بتوفير: القوّة، الثروة، والإسقاطات الشخصية، إلخ. صارت السعادة ضحية "لمسات" حسّاسة بصرية، على البَشَرَة، وعلى الذوق.... ذهب زمن الأوهام بقيام "المدينة الفاضلة" (أوغسطين)، انخفض كل شيء إلى مستوى نجاح الفرد فحسب. لم تعد الأفكار تحرّك الحياة ولا نبل المبررات المفترضة. يكفي أن تكون قادرا على "الاستهلاك" الذي يوفر رفاهيّة كافية.
بسبب تأثير السينما والتلفاز وبعدهما جاء الإنترنت، فأصبح الوقت الآن محصورًا في الذاتية لهذا الأنا. ولتحقيق أي خبرة يكفي أن تكون واعيا بالحاضر موضعيًا. فحينما كانوا في الماضي يتأثرون بكل ما هو خارق للطبيعة، الكل يتنفسه كالهواء، كان دعاة الاستنارة يأملون بمجيء مستقبل الوعي فجاءت الأيديولوجيات! لكن هذه لم تدم، فاليوم لا يهم سوى الحاضر فنقول: "أطعمني اليوم وجوّعني غدا، عصفور في اليد.... صرنا في عصر يجعل الحاضر مستمرًا بفعل عمليات التجميل ومستحضراته التي نصرف عليها الملايين. مايكل جاكسون وبرنس، بقيا شابين أبديين لم يتغيرا، وبعض الفنانين الذين عرفناهم بقوا في مخيلتنا لم يشيخوا... تتبعهم الجماهير وتقلد تسريحاتهم، لديهم إكسير الشباب الأبدي. المهم أننا نموت بصحة جيدة ورشاقة ...
لعل تفشي اللامبالاة في كل مكان بين الناس مرتبط بما يصيب ضمير الإنسان من خدر وانكفاء على الأنا. نفس الشخص يمكنه أن يعيش خبرات مختلفة دون أن يراجع المبادئ الأخلاقية أو الدينية أو السياسية، كأن يصلي ويصوم من جهة ويقبل دفع أو أخذ الرشوة مثلا! الفساد يقابله شعور بالعجز ومثاليات وشعارات ومبادئ أدّت إلى الظلم والقتل. كهذا السياسي ناجح في البداية ثم تحوّل إلى الاهتمام فقط بمصالحه وتجارته! أين يكمن الحدّ بين الخير والشر، الصواب والخطأ، الماضي والمستقبل؟ لماذا لا نتعلم مما يحدث لنا؟
هذه الحالات لا نراها بوضوح سوى عندما يسود التشدّد والتطرف ويصبح الهواء مسموما. وكما يحدث في السينما من تقطيع ولصق هكذا يصير الواقع، الصور عبارة عن لقطات مقرّبة واسترجاع لا ينتهي flashbacks، وحنين زائف إلى الماضي ولا يبقى سوى قشرة من "يوتوبيا" المدينة الفاضلة.
مع ذلك، في التزامن الحالي بين الماضي والمستقبل يوجد شيء إيجابي: إنه خلق لحاجة متزايدة إلى الروحانية والبحث عن شيء ما فينا. وتخصيص وقت للتصوّف المجاني. صرنا نحلم: كيف نتمكن من توليف جميع الأوقات بحيث يتوقف الزمن وينتفي الوقت. إنه الحاجة إلى "كايروس"، الزمن المناسب، حيث الخلود، واستراحة المحارب والشعور بالانتماء إلى الأبدية، حيث الثمار خالصة والحياة بسيطة لا تحتاج التعقيد.
المتشدّدون لا يحبون الفن، لا الموسيقى أو الشعر فهذه "تعطل الساعة" وتجعل الوقت يتبخر. في الموسيقى، تلتقط الأذن صياغة بعض النغمات وهذا هو الطرب، إنه ذكرى لما حدث من قبل ولا يزال عالقا بعاطفتنا المشتركة، لأن كل شعب لا يطرب لما يطرب له غيره. على هذا النحو، اللحن لا يلمسنا تمامًا كالقصيدة، فكلاهما عبارة عن تعاقب إيقاع للمقاطع والنغمة بدقة. ما هو موجود مجرد صدى للنغمة وللكلمة في ذاتيتنا التي تنساق للطرب. ثم يبدأ التسلسل: سنفهم أنه الحاضر الذي لا ينتهي. وقت اللانهاية، كما الحال في الحب، حيث يصبح كل يوم من الأيام مجرد إيقاع عادي لإلهام غير عادي ولعله هذا كان قصد المسيح عندما علمنا أن نذكر في الصلاة "هذا اليوم" فنقول: "أعطنا خبزنا كفافنا اليوم..."، به يخاطبنا الرب ويحررنا بالنعمة والحق.
كركوك 28 تشرين الأول 2020

20
"الشخص المناسب للمكان المناسب!" نعم، لكن كيف؟
المطران د. يوسف توما
في عام 1973 صدر للوزير والأكاديمي الفرنسي ألان بيرفيت Peyrefitte كتاب غريب: "عندما تستيقظ الصين، العالم سيرتجف"، بيع منه نحو مليون نسخة، كانت الصين آنذاك غارقة في مشاكل "الثورة الثقافية" على يد ماو تسي تونغ، وراح ضحيّتها بحسب بعضهم 20 مليون نسمة. لم تكن الصين آنذاك دولة قوية، لكن في عام 1979 أمسك زمام الحكم فيها دينغ هسياو بنغ فأحدث منعطفا جعل توقعات الوزير الفرنسي تصدق، وبدأ صعود لا يصدّق لتحتل الصين الموقع الأول في العالم في كثير من الأمور، ومنها بناء خياليّ لطريق الحرير برًا وبحرا في حين تراجعت دول عديدة قوية وغنية. ذكّرتنا الصين أنه لا يمكن تجاهلها، فهي في الماضي من أقوى حضارات العالم اتحفته باختراعات غيّرت مساره، أهمها أربعة: الورق، الطباعة، البوصلة والديناميت.
قبل أيام أنهيتُ قراءة كتاب عنوانه "تاريخ العالم الكبير" لفرانسوا رينارت Reynaert نشره عام 2016، خصّص فيه فصولا عن الصين استغربتُ أنه لم يعوّل على تلك الاختراعات الصينية التقليدية ولا على الحرير أو الخزف، لكنه يقول إن الأساسي في حضارتها حدث قبل ألف عام عندما وضعت أسلوبا إداريا فريدا لاختيار "الشخص المناسب للمكان المناسب" ووضعت آلية امتحان، منافسة أو اختبار لتسليم الإدارة لمن يستحق. ولولا ذلك لما قامت الصين، أصل فكرة "الامتحان" إذن صينية.
يمكن العودة بفكرة الاختبار أو الامتحان أو المنافسة إلى الحكيم الصيني كونفوشيوس (551 – 479 ق.م)، الذي قال: "إن العالِم الحكيم هو الوحيد القادر على مساعدة الأمير على ضمان العدل في البلاد". وطبقت سلالة تانغ Tang (618م –907م) فكرة الانتقاء عن طريق المنافسة، بالأخص في عهد وو شتيان وهي المرأة الوحيدة في تاريخ الصين التي حملت لقب "امبراطورة"، ولعبت دورا حاسما في تعميم نظام امتحان "الجدارة المطلقة" لجميع المهن، لكن هدفها الحقيقي كان التخلص من تأثير العائلات الارستقراطية التي عارضت شرعيّتها كإمرأة. وكانت فكرة ممارسة "الامتحان المبتكر" جديدة إذا ما قورنت بما كان يحدث ذلك الزمان في أنحاء أخرى من العالم بل وحتى اليوم. الملوك يختارون مساعديهم ليس على مبدأ الكفاءة بل انطلاقا من النيّة الحسنة أو وفقًا لمصالح عشائرية ووساطات وقرابة وفساد. وبعد الصين بألف سنة توصّلت الدول المتقدمة اليوم لكي تختار أن تجعل الجدارة تسود على الولادة!
تبنّت السلالات اللاحقة في الصين نظام الاختبار والمنافسة فصار يتمّ ذاك في القصر الملكي كأعلى مستوى امتحان لتعيين موظفي الخدمة المدنية، ليصبح ساريا خلال العهود اللاحقة بحيث يتم إعداد الاختبار بإشراف الإمبراطور نفسه. وتتضمن قوائم ذهبية لأسماء المرشحين الناجحين كما تشهد الوثائق على نظام امتحان تطوّر ليمتد عبر القرون، قيل إن أصوله تعود إلى عهد سلالة "سوي" (581 ق. م). لكن سلالة تشينغ جعلت اختبار موظفي الخدمة المدنية يعقد على فترات منتظمة كفرصة للمثقف أن يحصل على منصب رسمي. وكانت الاختبارات متفاوتة وخصوصية تشمل امتحانًا للمقاطعة وآخر للإقليم وثالثا للعاصمة ورابعًا للقصر الامبراطوري. فيحصل الفائز على لقب "جين شي"، ويكتب أسمه على لافتة صفراء تسمى القائمة الذهبية يتم عرضها خارج بوابة "تيين آن مين" (ميدان السماء) الشهير. المخطوطة تكتب بالحبر الهندي باللغتين الصينية والمانشو وتحمل ختم الإمبراطور الذي كان بذلك يحدِد مَن يصلح للخدمة. وقد بقي هذا النظام جاري المفعول بشكل مستمر على مدى 1300 عام، منذ 605م حتى إلغائه مع نهاية عهد سلالة تشينغ في عام 1905.
تسمح تلك الاختبارات والامتحانات على فهم بيروقراطية الدولة فالهدف الأساس هو استبدال شكل انتقال السلطة من الأرستقراطية إلى الجدارة والكفاءة. كما تم إضفاء طابع مؤسسي على نظام الامتحان في عام 605م، في حين قيل إنه بدأ من سلالة هان (206 ق. م. – 220م)، أي منذ توحيد الصين الأول. وقد وصل إلينا مسار الاختبارات من أوائل سلالة مينغ Ming (1368 – 1644م)، إذ كانت تستمر ما بين 24 إلى 72 ساعة، يتم إجراؤها في غرف منفصلة ومعزولة. تضمّنت الغرف الصغيرة مكتبين إما متصلين لإنشاء منصة أو يتم وضعهما على مستويات مختلفة ليكونا بمثابة مكتب وكرسي. وللحفاظ الشديد على موضوعية التسجيل، يتم تحديد المرشحين بالأرقام بدلاً من الأسماء (لتجنّب أي تدخل ووساطة)، ويقوم شخص ثالث بنسخ أوراق الامتحان قبل تسجيل الدرجات لمنع التعرّف على خط المرشح. وما إن ينجح المتسابق، كان من حقه أن يرتدي ثوبًا رسميًا وغطاء رأس بلون معيّن وفقًا لرتبته الجديدة. لكن لدى تعيينه كان يمنع من الزواج أو تملك الأرض في المنطقة المخصصة له ولا يحق له إدارتها لأكثر من ثلاث سنوات. وكان عليه أن يتحدث اللغة الماندرينية الفصحى بلهجة مميّزة، وهي التي سادت على مدى طويل وانتشرت فأصبحت لغة رسمية توحد البلاد، لكنهم لاحقا بسّطوا اللغة والكتابة بشكل كبير.
لكي نفهم الصين يجب أن نعود إلى فلسفة كونفوشيوس الذي أثّر على السياسة والمجتمع الصيني لأكثر من 2500 عام. وكانت نظرياته تطبَق حتى قبل توحيد الصين أي في فترة الممالك المتحاربة (قبل 206 ق.م.). كونفوشيوس يعدّ سيد المثقفين والأهم لديه أكثر من أي شيء آخر هو التعليم والتنشئة، كي يصبح الإنسان صالحا (junzi) مقتدرا على خدمة الدولة. والسياسة تنبع من الأخلاق: وعندما يقوم الحاكم بالسيطرة على نفسه من خلال الفضيلة، سيجعله ذلك قادرا أن يسود نفسه ويحكم بشكل جيد. وكذلك الوزير سيدير جيدا وزارته وسيسود النظام في نواحي المملكة؛ "فيكثر الأرز والسعادة في المنازل المتواضعة".
إن توحيد الصين يعود إلى عام 221 ق. م، على يد تشين شي هوانغديQin Shi Huangdi  (مؤسس سلالة تشين التي منها كلمة صين) لكنه حقق ذلك بالقوة والإكراه، مبتعدا عن الفضائل الإنسانية التي لكونفوشيوس رفضها بل منع تعليمه وأمر بحرق كتبه. كذلك الزعيم ماو تسي تونغ (1893 - 1976)، لم يكن يحب كونفوشيوس، إلا أن الصين تعود وتعيد إلى كونفوشيوس وتستلهمه.
بقيت ممارسة الإختبار والمنافسة في عهود لاحقة مثل الإمبراطور شينزونغ Shenzong (سلالة  سونغ 960-1279)، فاعيدت صياغة أوراق الامتحان، ولم يبق من النظام القديم، سوى الاختبار الخاص بلقب جينشي [دكتور]. ووضعت قواعد جديدة وفقًا لسجلات رسمية فقط؛ أي أصبحت شكلية بعيدة عن روح كونفوشيوس القديمة وبقيت كذلك حتى القرن التاسع عشر.
بالرغم من كل التقلبات التي جرت، كان لنظام المنافسة والامتحان في الصين تأثيرًا على دول عديدة مثل كوريا وفيتنام حيث طبّق منذ عام 1075 إلى 1919، كذلك اليابان في فترة هييان Heian (794 - 1185)، بعد ذلك تخلت عنها لتعود إلى النظام الوراثي. كما تأثرت أوربا عبر فرنسا بهذا النظام وأعجب به فولتير واستوحوا نظام التوظيف التنافسي في الخدمة العامة وفي المدارس الكبرى وطبق نظام الامتحانات الإمبراطورية كما في الصين القديمة، ويعود الفضل إلى الآباء اليسوعيين الذين بشّروا الصين منذ القرن 16 واشتهر منهم الأب ماتيو ريتشي (1552 - 1610)، كما قاموا بالترويج لنظام الامتحان التنافسي في جميع مدارسهم في أنحاء العالم، بحيث أعجب به نابليون بونابرت (1769 - 1821) وأمر بتعميمه على جميع البلاد التي سيطر عليها ونقل إليها النظام الفرنسي لخلق نخب جديدة مختلفة تحل محل الأنظمة القديمة.
الخاتمة
اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب حيّر الحضارات، وتقلبت في اتخاذ القرار وتنوّعت المقاييس المعتمدة، بين الحدس أو العرف العشائري (أو الانقلابات). ويبدو ان صراع الحضارات، في تقدّمها أو تراجعها ينبع من القيم التي تنادي بها، فكم من شخص مناسب جاء في الوقت المناسب فأنقذ البلاد والعباد ونقل الجميع من حالة إلى أخرى مختلفة تماما، والعكس صحيح، ما أكثر الحالات حيث شخص واحد غير مناسب عطل ودمّر بلادا متقدمة وغنية لأنه أقحمها في العبث والدمار والمخيّلة المريضة.
لذا يمكن القول إن عمل نظام المنافسة والامتحان أسهم عبر التاريخ في الحفاظ على وحدة بلاد عديدة ثقافيًا وسياسيا لأنه قرّبها من القيم الأساسية والأخلاقية. وإن كان المتقدمون إلى المنافسة كثيرين وأن جزءًا صغيرًا 5٪ فقط ينجح ويحصل على المنصب المرجوّ، لكن العبرة بالتالي ليست في فوز الجميع بل في تأثير الدراسة والتشبّث بالتعلم والمتابعة الذاتية والأمل بالنجاح. وفي نهاية المطاف قد يشارك في امتحان آخر في المستقبل، لأن الطموح لدى من يحلم بالفوز أفضل من اجتيازه. اما الذين يفشلون – وهم الأغلبية – فلديهم شرف المشاركة، ويُعد ابراهام لينكولن (1809 - 1865) خير مثال، فشل خمس مرات في الترشّح للرئاسة الأمريكية وفاز في السادسة وهو يُعَدُ بعد جورج واشنطن، من أفضل رؤساء هذا البلد، لأنه أنقذه من الانقسام ومن استمرار العبودية. أفكار كونفوشيوس، وحّدت الصين ورفعتها وأقامت منها: معلمين، فنانين، وشعبا ماهرا ذكيا يتقن كل شيء بحيث بقي على مدى قرون محط اعجاب جيرانه ولم يزل!
إن النتيجة العامة لنظام الامتحان والاختبار وكل ما يرتبط بهما من دراسات كانت عاملا أساسيا في توحيد العالم والثقافات: وأسهمت في شحذ عزيمة الجماهير لتقبل قيم جديدة وسعي للوحدة في الانتماء إقليميا ومحليا. لا يزال الشعور بالانتماء بهوية وطنية ومواطنة يشكل مسألة تقسّم الناس وتبعثرهم، خصوصا في القرنين 19 و20، لكن منذ بداية هذا القرن الحالي يبدو أن نبوءة "ألان بيرفيت" بدأت تتحقق: فقد استيقظت الصين، وصار العالم يرتجف، أي يعمل لها مئة حساب، ويتساءل: كيف ستتصرف الصين ذات المليار والنصف، بقوّتها وأموالها وسرعة التنفيذ لديها في التقنية والصناعة والتجارة؟ هل ستتمكن من الإبقاء على القيم التي نادى بها كونفوشيوس قبل 2500 سنة؟ سيبقى السؤال مفتوحا للعقود المقبلة، ومن سيعيش منّا سوف يرى!
كركوك 16 تشرين الأول 2020

21
في البدء كان الاتصال
المطران د. يوسف توما
ميشيل سيرSerres  (توفي 2019) فيلسوف فرنسي موسوعي (touche à tout) يعنيه كل شيء ويندهش كالأطفال. تعلمتُ منه حكمة "أن في كل جسم ثلاثة: مادة، طاقة ومعلومة"، أي كل شيء اتصال وعلاقة تناديك وتقول: "إقرأني وتفاعل معي". وهذا ما علمتني الكتب والعلاقات. فلا يمكن فهم معنى الحياة إلا ضمن الاتصال بالوجود، هذه المنظومة هائلة وناطقة، والاتصال منذ البداية تفاعل وتأثّر، لكن من "يحرّك ساكنا يلزمه"، فالاتصال أحيانا ورطة، لأنه مسؤولية مستمرة، تكشف طبقات المعنى، والاكتشاف أمر جوهري لفهم ما حولنا، فوقنا، تحتنا وفي داخلنا أيضا، بل في أكثر الأماكن البعيدة والعميقة حيث نزل الانسان ليعود سعيدا، حتى السجين والمحجور في شقة صغيرة بسبب كورونا إذا فهم وعاش سيقول: "كانت أيامًا رائعة، تعلمتُ منها الكثير". في سنوات داعش 1014 – 2017 استضافت أبرشيتنا مئات طلاب وطالبات جامعة الموصل من كل الأديان وساعدناهم، كانت أياما صعبة لكن أغلبهم اليوم يقول: "كانت أجمل سنوات حياتنا!"، لا لأنهم نجحوا كلهم، بل لأنهم تعلموا الاتصال بالحياة وببعضهم.
قيل: "ما فاز باللذات إلا من كان جسورًا"، أي الشجاع، فالاتصال شجاعة كالرحالة القدامى والمستكشفين والتجار والعلماء. ومنذ أن اخترع غاليلو (1564 - 1642) مرقابه (التلسكوب)، ببضع عدسات صخرية ليرى أخاديد القمر، بدأت رحلة هائلة ولم تتوقف. يوم الثلاثاء 6/10/2020 منحت جائزة نوبل في الفيزياء للبريطاني روجر بنروز لاكتشافه "عن تكوين الثقب الأسود"، كما مُنحت لكل من الألماني رينهارد جينزل والأمريكية أندريا غيز "لاكتشافهما جسمًا" مدمجًا فائق الكتلة في وسط مجرّتنا. في حين قبل نصف قرن فقط، كان وجود الثقوب السوداء بحد ذاته مثيرًا للجدل. وقد عُرضت أجسام ضخمة غير مرئية للوهلة الأولى على صور مدهشة، علامة على التقدم بالاتصال لكشف أسرار الكون.
ثم اخترعوا المكروسكوب فاتصلوا بالأقرب والأصغر ليصلوا للبكتريا والفايروسات والذرة المشعة وفي نفس يوم 6/10/2020 مُنحت جائزة نوبل في الطب لكل من البريطاني مايكل هوتون والأمريكيين هارفي ألتر وتشارلز رايس "لاكتشافهم فيروس التهاب الكبد C". مما سيسهم "مساهمة حاسمة" في مكافحة مرض يُعَدُ "مشكلة صحية عالمية، تسبب تليّف وسرطان الكبد"، وتسبّب كل عام وفاة 400 ألف شخص في أنحاء العالم، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، ويُقدَر عدد الذين يحملون هذا الفيروس 71 مليون شخص بشكل مزمن. العلم إذن هو قابلية اتصال وتواصل مع الأكبر ومع الأصغر وهو رغبة بالتفاعل، تنادي كل إنسان وتقول لها: "تعال نتفاهم!".
يقول الكتاب المقدس منذ البداية اتصل الله بالكون من خلال "كلمة" (لوغوس) فخلقه، وهذا محتوى الأسفار كلها فسّرها يسوع وقال: "من له أذنان سامعتان فليسمع" (متى 11: 15). ماذا يسمع؟ كلمة هي فيك وفي قلبك... لكن للأسف، قد ينقطع الاتصال فيتوقّف بعضهم أو يبقى يكرّر ما سمع من الماضي فلا يعود يسمع الجديد، وكأنما الله سكت، أو تكلم مرّة واحدة فقط، والتكرار مصيبة الأديان يقتل الكلمة ويغرق في تفاصيل حروفها، إنه كالإعجاب لا ينتمي إلى الحب، لأنه يبقى خارجا في ساحة الوهم، عندها سيشعر الحبيب أنه أصبح غريبا، أو ضحية للملل والسهولة، لهذا يكاد الكل ينسى "شهر العسل"، ويفكر ماذا يأكل أو يشرب أو بالتفاهات اليومية...
العلم والدين إذن يتشابهان عندما يدخلان في امتحان حبّ الاتصال، إما نُتقِنُه أو يموتان، فتأتي الخيبة والحسرة والشعور بالحرمان، وتسود القسوة والحنين والبكاء على الأطلال والزمن الجميل، زمن عهد "الولدنِة" (فيروز). منذ طفولتي أحبّ الأغاني وأحلل كلماتها وأضحك، ففيها ما يضحك بحق، لأن كاتب تلك الكلمات نفسه قد لا يصدّق، خصوصا عندما سيدة مسنّة تقول: "خذني بحنانك خذني...". ونحن نتمايل طربا! هل هي رغبة بالاتصال أم وقوف وجمود وتأمل في خرائب الذاكرة والعمر؟   
لم يحدث في زمان كزماننا مثل هذا الكم الهائل بالاتصال، الكل يتكلم ولا أحد يسمع، النشاز في النغمات والأصوات Cacophonie وفي عددها، حذرنا منه القدماء كأحيقار (ق 5 ق.م): "اسمع يا بنيّ..."، وتناولته التقاليد بأمثالها عن الكلام والصمت اللذَين نتدرّب عليهما، فنسمع بالرغم من الضجيج السائد... كما نلاحظ أن الطفل يشعر بأهمية الاتصال بمن حوله فيصرّ على جذب انتباه أمّه وهو يلعب، ثم يكبر فيستعطي جزءًا من "أذُن" سامعيه، بعدها يتوسّل، على شبكات الاتصال الاجتماعي، للحصول على "لايك" أو "لايكات"، ويزعل "من كل عقله" إن لم يهتم به أحد. كقول الاغنية: "قول بحبّك قول كرهتك... قول أي حاجة...". ويقصد أن اللامبالاة هي أسوأ ما يصيبنا في الحياة، عندما يموت الاتصال بين الأشخاص والأشياء. لذا قامت الثقافات بوضع "قوانين" للاتصال وهي مقياس لها.
لدى قبائل أفريقيا شجرة تقف وسط القرية يسمّونها "شجرة الكلام الذي لا ينتهي" palabre، في ظلها مناقشات، أخذ وعطاء، وهذا يربي الأجيال الصاعدة. منذ زمن العباسيين كثرت في بغداد "مجالس" كانت بمثابة "كليّات" تعليم تُنقَل عبرَها الخبرة من جيل إلى جيل، وحتى زمن قصير، قبل أقل من قرن كان عدد المجالس البغدادية يتجاوز 250 مجلسًا. إنه الديوان، واسمه يعني الكثير: مكان الكلام، ديوان الشعر، سجل الكتب، الرسميات، القاعة، مكان الملك والمحاسبة واللغة... كلها محاولات لترتيب الاتصال، لمجرد أن نقول أو نسمع شيئا فيه خير...
من أجمل اللوحات الفنية لوحة الخلق لمايكل أنجيلو (1475 - 1564) يخلق الله آدم مشيرا إليه بإصبعه: "أنت!" وآدم نصف نائم يبحث عن تلك اليد... تقول فرانسواز دولتو (1908 - 1988) عالمة نفس الأطفال: "بلا كلام الطفل يموت!" وهذا ما حدث في رومانيا وروسيا إبان الشيوعية كانت وفيات أطفال المياتم عالية جدا بسبب نقص الكلام والاتصال معهم، لهذا يأتي الحكم بالسجن الانفرادي، أقسى من عقوبة الاعدام، لأنه يحرم من الاتصال فيغرق المرء في الشقاء كما حدث لنيلسون منديلا 9 سنوات.
لكن الاتصال ليس كلمات فقط، فالطبيعة من حولنا تعلمنا الكثير: الاتصال بالشكل واللون والرائحة والحركة، لغة الجسد، كلها قد تتعرض لسوء الفهم أو التلوّث أو المرض: فيصبح الاتصال يتمركز على الذات (الجريحة) أو ينحصر باللغة، فيزداد سوء التفاهم. وفساد الكلمات يقتل الاتصال، أو يجعله محنطا. لأن التواصل الحقيقي مغروس فينا يفترش مساحة كبيرة في اللاوعي لدينا، يشعّ باستمرار من أرواحنا وأجسامنا وهفواتنا وزلات لساننا، وحتى الآن بالكاد تمكّن علماء النفس من اكتشاف اللاوعي واستخراج الكثير من الكمّ الهائل من الصراخ الذي في كل جسم حيّ!
ألم نلاحظ أن البيئة كلها تتصل: النبات والحيوان والجبال والأنهار والشلالات، تتواصل وتتفاعل تشعّ بما لا يوصَف، فتشعر أنك قريب من الخالق، بعضهم إزاءَها يصبح شاعرا، هذا ما يجعل الناس حتى الآن معجبين بالقديس فرنسيس الأسيزي (1182 - 1226) الذي كان يخاطب الماء والنور والشمس والذئب ويسميهم "إخوتي". لكن إذا كنتَ غريبا عن نفسك (تكاد تخرج من جلدك)، ستقل نسبة الاتصال لديك إلى حد كبير ولن تتحدث الطبيعة معك ومن خلالك. فالجزء الرئيس أو الفوري من الطبيعة العملاقة هو فيك ومن أجلك، الطبيعة تلبس جسمك وتتقمّصه، وهذا يحدّد الكلمات التي أنت تختارها للاتصال، لذا قال المسيح: "سوف تدانون على كل كلمة بطالة..." (متى 12: 36).
من الملاحظ في بلدنا والعالم هو التحوّل الكاسح من الريف إلى المدينة، فخلق ظاهرة تصحّر وتعب أثقل كاهل الناس وأتعبهم على مدى أجيال، إذ انحسر الاتصال مقتصرا على الاقتصاد (من ليس له فلس لا يساوي فلس). المدن هائلة تعيش مآسي وتضيع الوقت بالتنقل، فيختل توازن البشر فيها. أتذكر أن قسما من عائلاتنا في طفولتي بقي في القرية في الشمال حيث لم تصل السيارة، كانت الناس على الفطرة والقناعة وحبّ الحياة، بحيث كل مناسبة مدعاة "للدبكة"، وعندما أجبروا على ترك القرية إلى المدن، بقوا في السنوات الأولى على عادات جميلة يستغلون كل فرصة ليرقصوا ويغنّوا ويدردشوا. المدينة حزينة مهمومة ومحمومة، حيث الناس في عجلة، عصبيّون، متعبون، هواؤهم مسموم، يتصارعون، يهربون، يشتغلون بضجر، ويمرّون خلسة على كل شيء، ويحاول كل منهم مجرّد الحفاظ على سلامة عقله، وخصوصا نومه قليل بسبب الضجيج والقلق. لقد ذهب زمن البساطة والقناعة والضحكة والنكتة البريئة التي تتكرّر في القرية في كل جلسة ولا أحد يملّ منها.
للاتصال إذن تاريخ طويل، كان شفهيًا ثم حملته الكتابة، التي بعضها مقدّس يخاطب الحاضر والمستقبل، مسألة شخصية وجماعية، أصبح عبر الزمن يحتاج إلى قراءة و"تفسير"، اختلف المقدَس في المدينة وفي القرية وفي الشتات، فالتوازن صعب، لذا زحفت الأديان وقامت حركات إصلاح عديدة هي بالحقيقة إعادة دوزان لأوتار الدين، فحيثما تسيطر ديانة يقوم بالمقابل من هو ضدها كي يخلق التوازن. لذا كان يسوع شديدا مع الكتبة والفريسيين الذين أقحموا الدين في كل شيء "في النعنع والشبّث" (متى 23/23) وينسون الأهم، أي المحبّة. وعندما سألوه: "أأنت الآتي أم ننتظر واحدا آخر؟" (متى 11: 3)، لم يقل أنا أو آخر، بل أجاب بمفهوم عميق للاتصال، كعادته: "...العميان يبصرون، والعرج يمشون،... وختم بالقول: وطوبى لمن لا يشك فيّ"! لأن اختلال التوازن يكمن في التبعيّة، دينية كانت علمية أو اجتماعية، كتبعيّة الطفل الذي يرفض الفطام ويتعوّد الرضاعة ويبقى على مفاهيم والديه ولا يرفع عينيه لينظر إلى "السماوات التي تنطق بمجد الله، وإلى الأرض التي تخبر بعمل يديه" (مز 19/1).
كركوك 12 تشرين الأول 2020

22
هل صحيح: إن لم تكن ذئبا تأكلك الذئاب؟
المطران د. يوسف توما
منذ طفولتي علّمني أهلي ألا أكون "غشيم" أي ساذج يُضحَك عليّ، ويؤخذ مني ما هو لي، فتربّينا على الخوف والحذر من الآخر والتوجّس الشديد لئلا يغلبنا أحد، كل واحد عليه أن يخرج "بساطه" (جلايته بالمصلاوي) من الماء، مهما كان ثقيلا، ولأن السوق والشارع عبارة عن ساحة حرب تكثر فيها الوحوش المتربصة بين آكل ومأكول، غالب ومغلوب قيل هذا المثل: "إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، ثم يسردون عليك ما حدث لفلان أو فلانة! هذه العقلية قديمة جدا في شرقنا، بحيث جعلت كاتب الأسفار الأولى من الكتاب المقدس يدرجها منذ البداية، حين جعل أبوينا الأولين يظنان أن الله يريد "خدعهما"، ففقدا صداقته وسقطا، أليس بعض الظن إثمًا؟

كانت القصص "الكتابية" تشوقّني منذ الصغر وفي سن 15 سنة قرّرت قراءة الكتاب المقدس كله، في العطلة الصيفية، كي أربط بين قصص العهدين القديم والجديد، ولاحظت عكس ما قلت في الديباجة حيث يعطي يسوع تلاميذه درسا آخر فيقول لهم: "ها أنا أرسلكم مثل الخراف بين الذئاب، فكونوا حذرين..." (متى 10: 16)، مسألة أخلاق المؤمنين تأتي عكس العقلية السائدة، وهذا يستحق التفكير والتحليل. فشجرة الخير والشر في وسط جنة عدن كانت رمزًا واضحًا تقول بأن كل تنظيم لحياة الإنسان يعتمد التخطيط حول مبادئ سليمة أساسية. وإن كنا قد ولدنا لنكون أحرارا - وهذا تتمناه كل ثقافات العالم، لكن يوما ما ستدخل حريتنا في امتحان مثل أبوينا: إما أن أكون ذئبا للآخر أو أختار وداعة الخروف، وهذا الاختيار محيّر: لماذا اختار يسوع أن يكون "حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم"؟ ولم يعمل كالبقية جيوشا من الذئاب بالقسوة والصراع ليأخذوا حقهم؟ لعل هذا الاختيار أصعب امتحان في الكتاب المقدس وهو يشكك الكثير من المؤمنين.
منذ البدء تضع شجرة معرفة الخير والشر كل إنسان، فردا كان أو جماعة، أمام اختيار صعب، كيف أعيش بوداعة بين الذئاب؟ هل عليّ أن أرضيهم وأداهنهم وأتنازل لهم دائما؟ ماذا إن أرادوا أن يأكلوني! خيار يقع في إطار يتصل بجذور قديمة أعطت لها المجتمعات مكانة في أدبياتها بدأت بوضع الشرائع منذ أورنمّو (2030 ق.م) ثم حمورابي (1772 ق.م) الذي يقول في مطلع قوانينه أنها "لتحقيق الخير لشعب بلاده وليهلك الفاسد والشرير حتى لا يطغى القويّ على الضعيف"، أي لا على الحذر والخوف بل للسعادة كقول القديس توما الاكويني (1225 - 1274): "يبحث الجميع بلا استثناء، عن تحقيق الخير العام، حتى عندما يقترفون الشر. والخير العام هو ما يجلب السعادة". لكن أين الخير العام إن كانت العلاقات بين غالب ومغلوب وآكل ومأكول؟ هل سعادة البعض على حساب تعاسة الآخرين؟ وهل السعي لسعادة الجميع حلم ووهم؟
هذا هو الفرق بين الحضارة والمجتمعات البدائية التي في مخيلتها "شريعة الغاب"، لذا كان تطور المجتمعات باتجاه السلام والتنمية بعد فترة الثورات، فجاءت نظريات مثل قبل 170 عاما كارل ماركس حاولوا تطبيقها وفق الاحتياجات الحقيقية للغالبية لكن الفشل كان في التطبيق. بالرغم من كل الجهود في شق الطرق واستصلاح الأراضي غير المستغلة، وبناء عمارات ومساكن فاخرة، لكن سرعان ما عجزت تلك النظريات أمام تزايد سكان المدن وتراكمهم على الأطراف فقامت الضواحي الفقيرة تتراكم عليها النفايات وبلا خدمات.
هكذا تأرجح الناس بين منطق الاشتراكية والليبرالية الرأسمالية فغلبت الأخيرة، وأصابها أيضا أشكال الغرور بدأ كما أذكر في عام 1969 حين قررت الولايات المتحدة أن يمشي أمريكي على القمر، بتكلفة 6 مليارات دولار أمريكي (لمجرد كسر أنف الاتحاد السوفييتي الذي سبقهم إلى الفضاء). لكن كلتا الدولتين العظمَيَين لم تفكرا بملء بطون الملايين من أطفال أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا بالطعام الضروري والتعليم والصحة. أين الأهم: غزو الفضاء أم إطعام البشر؟
في ليلة 29 تموز 1969 سهرت لأتابع على الراديو نزول نيل ارمسترونغ ومشيه على القمر، كنت في العشرين من عمري، عقبها سفرات أخرى إلى القمر والفضاء كلفت الكثير، فأصبح سوق القصص يعطى الأهمية للأحلام والأوهام "تقدمية" لدى بعضهم في الشرق وعملية (براغماتية) في الغرب، ووقفت بقية العالم حائرة لمن تميل فصرنا بعيدين جدا عن قيم الأخلاق التي تمناها أجدادنا أو انحسر التضخم فصار كل شيء يقاس بالخدمات الصحية والكهرباء وكأننا نستعطي حقنا. هكذا تعقدت الأمور عالميا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1989 وسيطرة الليبرالية. الأخلاق حاولوا وضعها في "شرعة حقوق الإنسان" (1948) لكنها بقيت كمجرد شعارات للسذج، تعمل تماما مثل "البطاقات الخضراء green labels" في المحلات التجارية لتسويق منتجات خاصة مشبوهة، فالدعاية تأتي من قبل الشركات الكبرى هي التي تدمر البيئة في العالم الفقير خصوصا. كما هو حال شركات الطاقة والكيمائيات التي تلوث المياه والهواء، ما أدخلنا في أضرار هائلة، يقول بعض علماء البيئة بأنها تضع مصير البشر والأرض على المحك فنصير مثل كوكب المريخ تصحّر في كل مكان...
منذ بداية عام 2020 واجه العالم فايروس كورونا (كوفيد19) زاد في كشف هشاشة الكل وخصوصا العمليين البراغماتيين من يريدون حصة الأسد في هذه الحياة. هذه السنة 2020 سارعت في كشف خطورة "الذئب" على الجميع فهو يريد أن يأكل فقط ويقال إنه لا يكتفي بالأكل بل عندما يدخل الحضيرة يقتل عشرة أغنام ليأكل واحدة فقط، هذا ما تفعله العولمة الليبرالية والتجارية بدل تحسين حياة الناس والتفكير بمستقبلهم وأولادهم. كل الأزمات نتيجة مضاربات المال والعقارات ورأينا العجب منذ 1929. في حين يبقى ثلث سكان المدن الكبرى في الدول النامية يعيش في مدن الصفيح وفي أحياء تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة، أي هناك ملايين العائلات تعيش في أقل من 25 م2 في حين عائلات غنية لديها منازل وشقق مغلقة أغلب أشهر السنة لا يتم فتحها، أصحابها يأتون خلال العطل فقط.
لقد كشفت أزمة جائحة كورونا وكل ما دار في هذه الأشهر العشرة منذ نهاية 2019، الكم الهائل من اشاعات ودعايات وتصاعد الغضب بأشكاله ما يحتاج إلى جيش من العلماء والمحللين لفهم ما تفعله الأوهام فينا، جماعات وأفراد، وأن الخطر الحقيقي لم يكن الفايروس بل فساد أخلاقي متراكم بني على أخلاق "الذئاب". القلق في كل مكان لا على الفقراء بل على نظام أخرق اعتدنا عليه، صار للأسف، يدفع البعض للحنين والعودة إلى الوراء إلى قيم فاشلة لم تنجح قط، وهذا ما يلوث السياسة ويجعل استغلال الشركات الهائلة أكبر. كل يوم نكتشف الوجه قبيح للذئاب: العنصرية لدى الشرطة في قتلهم جورج فقط لأنه أسود في أمريكا، انفجار ميناء بيروت يوم 4 آب 2020 وأشياء أخرى دفعت الشباب في كل مكان إلى النزول للشارع: كفاية...
هل يكفي أن أقرأ على منتوج الشوكولاتة أو الشاي بأن صناعته "لم تستغل الأطفال في أفريقيا وآسيا"؟ الفرق سيأتي من قدرتنا على تشخيص أمراض صارت عالمية، بيد منظمات غير حكومية لحقوق الانسان وليس بيد السلطات السياسية ولا الحكومات التي تبدو عاجزة كما في العراق، فالذين ينادون بالشفافية وكشف المستور عن الفساد والسرقات يكشف عجز الدول في توفير مقومات الحياة للمواطن. إن أكبر خطيئة هي السلبية في التفكير وترك الأمور لمن يجرّ الخيوط، كذلك من يضع يده على كل شيء، وغريب أن الأمور متشابهة في كل مكان تقريبا، وهذا ككل يسمونه "الإرهاب"، إنها بدأت بقصة المافيات كانت في بعض الدول ثم أصبحت دولية معولمة.
يبدو أن توجّه العالم (في بلادنا ومنطقتنا خصوصا) في مسار غير منطقي حيث نلاحظ سهولة الانصياع للتفكير القومي أو الديني أو المذهبي، لا حبًا بها كآيديولوجية أو قيم وإنما يتبنونها "حيلة رزق"، كسبٌ سهل لعيش أفضل من البقية، كمَثَل الوكيل الخائن في الانجيل الذي قال نفسه: "ماذا أعمل؟ فإن سيدي يستردّ الوكالة مني، وأنا لا أقوى على الفلاحة وأستحي أن أستعطي..." (لو 16: 1-8)، مارس الفساد ليضمن مستقبله، إنها التوفيقية (amalgam & syncretism)، نمارسها في كل مكان بمثابة زواج شرعي بين الفساد والانفلات من العقاب. لكن لحسن الحظ، في أعماق البشر – الشباب خصوصا – يوجد إحساس بأن الله لا يقبل والوطن يستحق الأفضل، وقد حان الوقت لقيام نظام عادل ينبذ بوضوح الفساد والانفلات من العقاب، ولا ننتظر يوم القيامة والدينونة العظمى لمحاسبة المسيئين، فالحساب هو اليوم على يد جيل جديد لم يعد يريد الانقلابات والثورات الدموية ولا يقبل باستغلال الذئاب، الكل سيحاسب: من أين لك هذا؟ ليتأسس عالم على الشفافية والمصداقية، ولا يعود أحد يقول لي: "أنت غشيم، إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، على كل من يعتدي أن يأخذ عقابه، وسينقرض جيل الذئاب وكل آكل لحم أخيه وسيغلب المسالمون محبو اللاعنف. لعل هذه تبدو أحلاما بعيدة المنال اليوم لكني أرى بوادر كثيرة في مناطق كثيرة من العالم تحققت وهي عندنا أيضا تلوح في الأفق عندما نرضى بأن تجمعنا إنسانية مشتركة وأرض وطن واحد وهذا يكفي!
كركوك 7 تشرن الأول 2020
 

23
البدع: تشويه للدين وعلامة أمراض خطيرة...
المطران الدكتور يوسف توما

تتفشى ظاهرة البدع في فترات التذبذب والقلاقل والخوف والحروب، وهي اجتماعيا ظاهرة في كل الأزمنة والأمكنة، تصدى لها، في بداية المسيحية، الرسل وآباء الكنيسة وكتبوا عنها الكثير. لكن البدع يمكن أن نعدها كالمرض الاجتماعي، لأنها جزء من حالة كبيرة تظهر في السياسة أيضا وتتكيف للسيطرة على الناس الضعفاء والجهلة. كما تظهر البدع وتختفي تبعا للضغوط والممارسات والعنف تجاهها. إلا أن لكل البدع خيط بيانيّ يجمعها، بأساليب تتكرر وتعود كالإيقاع، حتى يمكن أن نقرأ في ظاهرة "داعش" في زماننا، تبنيها جميع أساليب البدع، استعملتها لأنها مجرَبة فاجتذبت آلاف الشباب إلى صفوفها وجنّدتهم وأرسلتهم ليموتوا في سوريا والعراق. في هذه الأسطر أحاول أن أشخّص تلك الأساليب التي اعتمدتها أغلب البدع، دينية كانت أو سياسية أو اقتصادية، كلها "حيلة رزق" وكسب سهل، يقع في فخ الأمراض الثلاثة التي ندّد بها المسيح في بداية رسالته، في قصة تجاربه: السلطة والمال واللذة.

في كل البدع شخص المهم هو "غورو" guru، أي قائد أو مرشد أو معلم، فيه صفات معيّنة يطالب بالخضوع المطلق له ولتعاليمه وأسلوبه، يتدخل في كل تفاصيل حياة مريديه، وقد يلجأ إلى كل الأساليب لتحقيق ذلك. لدينا في العقود الأخيرة أمثلة كثيرة جدا، خصوصا في السياسة لكن من البدع الدينية نذكر:
-    الطبيب لوك جوري Jouret (1947 - 1994) سويسري أسّس بدعة "المعبد الشمسي" (OTS)، أقنع أتباعه بنهاية العالم ودفعهم للإنتحار معه.
-   بدعة واكو Waco (1993): 80 قتيلاً في حريق بمزرعة تمتلكها البدعة أسسها ديفيد كوريش Koresh.
-   في اليابان بدعة "أوم Aum"، لغورو ضرير اسمه شنركيو Shinrikyō ، استطاع كسب ثلاثة ملايين تابع في اليابان وروسيا، نشر الرعب في مترو طوكيو عام 1995، وقتل المئات بغاز السارين.
-   والأبشع كانت بدعة "معبد الشعب" في الولايات المتحدة الأمريكية أسسها جيم جونس Jim Jones (عام 1955): لاحقته السلطات فهرب وأتباعه إلى غويانا ليقتلهم جميعا (923 شخصا) مسمومين عام 1978.

البدع إذن ظاهرة في كل زمان ومكان، والغريب أنها تكثر في أزمنة التحلل والانفلات أو الاضطراب والتحوّل.
لذا يمكن القول إنها ظاهرة طبيعية ترافق كل ثقافة، وقد عانت منها المسيحية خصوصا منذ البداية، بل نفسهم أتباع يسوع عدّوهم بدعة قامت داخل اليهودية، وهذا ما نقرأ في سفر أعمال الرسل أمام فيلكس، حاكم قيصرية، حيث اتهم اليهود بولس بأنه زعيم بدعة الناصريين: "لقد وجدنا هذا الرجل، مفسدا يثير الفتن بين اليهود في العالم كله، زعيم لبدعة الناصريين، وحتى حاول تدنيس الهيكل"، (أع 24: 1-27).

ما هو تعريف البدعة بالضبط؟
ليس الغرض من هذا المقال سردًا مسهبا عن البدع فهي تحتاج إلى كتب كثيرة. والكثير من وسائل الإعلام يفعل ذلك، من حين لآخر، وهي محقة في ذلك لأن البدع أشبه بمرض التديّن. وحتى في اسمها باللغة الدينية التقليدية، "بدعة" صدى ازدرائي واضح. والبدعة على عكس الكنيسة، تشير إلى مجموعة "انفصالية" صغيرة تجمع مجموعة من التلاميذ حول معلم (غورو) عادة ما يكون هرطوقيا (أي يفصّل مذهبا على مزاجه). من الناحية اللغوية، ستأتي كلمة البدعة باللغات الغربية sects من أصل فعل لاتينيsecare ، أي اقتطع أو من الفعل sequire، أي تبع أو إتّبَعَ أو لحق بـ. لكن، بالرغم من تغير الأزمنة وأن البدع تشبه زمانها ومكانها، وتتكيف لهما بسهولة، إلا أن التبعيّة هي نفسها!

إن المتغيرات الثقافية العميقة التي نشهدها من جهة، وتراجع الكنائس المؤسساتية والتقليدية من جهة أخرى، عامل مساعد على انتشار البدع. ووفقًا للاتحاد الوطني لجمعيات الدفاع عن العائلات والأفراد (UNADFI) في فرنسا، هنالك أكثر من 250 بدعة تمارس نشاطها في فرنسا وحدها. هذا إلى جانب تنامي بدع من نوع جديد كالإلحاد الجماعي، الذي يؤثر على مجموعات بشرية بأكملها، أذكر قبل ربع قرن كان اهتمام أكبر بالبدع مع صدور موسوعات كاملة عنها.

قال الكاتب الفرنسي أندريه مالرو (1901 - 1976): "هناك الكثير من المؤمنين على الأرض، لكن الحضارة الحديثة ليست حضارة دينية ولا تقوم على حدث ديني معيّن. والحضارة المسيحية كانت تتطور داخل إطار مسيحي وقيم مسيحية. لكن الحضارة اليوم (على الأقل في الغرب) تتطوّر نوعا ما حول الفراغ". قال ذلك في عام 1968، أي قبل نصف قرن وكلامه اتخذ أبعادًا واسعة جدا مع العولمة لتنتشر أساليب البدع خارج الأديان والمذاهب وحتى السياسات.
نحن إذن أمام زعزعة ثقافية هائلة هزّت الحضارة الغربية، التي أصبحت حضارة "ما بعد المسيحية" أو ما بعد الحداثة، ولم يسلم من هذه الزعزعة أي من العناصر والمؤسسات: الأسرة، المدرسة، الجيش، وخصوصا الكنائس. لا أحد منها محصَن ضد "فيروس" ظهر في كل مكان على شكل تعصّب أعمى ولم تتمكن مجتمعاتنا من تقوية المناعة لدى الناس فتفاجأنا بالضبط كما تفاجأنا في مطلع عام 2020 مع فايروس كورونا (الكوفيد19) المستجد، فالبدع أيضا تعرف كيف تستجد وتغيّر ألوانها وتتكيف مع وسائل التواصل الاجتماعي.

سر نجاح البدع 
في كل زمان ومكان كان هنالك لدى البشر جوع إلى معرفة الله في جميع أنحاء العالم. وهذا الجوع تغذيه أولاً وقبل كل شيء حاجة إلى الإيمان بوجود عالم آخر غير هذا العالم وغير التكنولوجيا والمادة. لذلك عادة ما تستغل جميع البدع هذا الجوع، فتقدّم نفسها بكل جرأة على أنها هي الحقيقة وأنها قادرة على تحقيق العودة إلى الأصالة وحل المشاكل كلها...
لكن ما يميّز جميع البدع، في زماننا خصوصا، أنها مناهضة لكل المؤسسات، تميل إلى خلق وتطوير جماعات صغيرة دافئة، لتقوّي الشعور بالانتماء إلى "نحن" جديد تكون كالمرآة لحاجاتنا. فتتأسس كل البدع، قبل كل شيء، على روابط شخصية قويّة تتمثل كحاجة لازمة وحقيقة لا بدّ منها، ما يسمح لكل عضو في البدعة أن يجد استجابة لتساؤلاته وحاجاته المحدّدة، لديه ولدى الآخرين فينصهر في تبعيّة يمنع فيها كل اعتراض أو سؤال!
نلاحظ دائما أن لدى البدع رقة قوية وكثير من المجاملات والترحيب (بالغريب خصوصًا). ففي عالم حيث يشعر الجميع بالخيبة من التجزئة والغربة والانقسام – على كل الأصعدة - طيّب أن تجد مكانا يبشّون لك فيه وتشعر بأنكم متحدين متراصّين. وعلى الرغم من كثرة وسائل الاتصال، بل بسبب كثرتها، يصل الأمر ببعضهم أن يزهق من هذه الكثرة والتنوّع، فيتولد لديه شكل من أشكال القرف والشعور بالضياع ويتمنى أن يسلّم حياته ويرتاح فيقودونه ويقولون له كيف يأكل ويشرب، إذ ليس أعنف من الشعور بالمسؤولية والذنب والتقصير، في البدع يشعر الإنسان بالاقتراب من الآخرين واقتراب الآخرين منه بلا أحكام أو محاسبة أو دينونة.

البدع إذن مسألة نفسية مبنيّة على أساليب خاصة
قال تشارلز مانسون  Manson(1934 - 2017) وهو من أشهر مجرمي سبعينيات القرن العشرين: "يمكنني إقناع أي شخص بأي شيء إذا ما كرّرته كثيرًا بما فيه الكفاية وخصوصا إن لم يكن لدى ذلك الشخص أي مصدر آخر للمقارنة"! فالبدع تعتمد التلقين بجلسات عقائدية مطوّلة ومستمرّة وعلى التكرار، بحيث تتغيّر شخصية وسلوك الأتباع والمجنّدين من دون السماح لهم بالمناقشة والمعارضة فيصبحون ضحايا التلقين. أي يتم التعدّي على خصوصيتهم ونفسيتهم بعدّة طرق: سيطرة دائمة على التفكير وعمليات ذهنية وعقلية تتغلغل فيهم بأساليب متنوعة، إلى جانب خلق القلق الذي يثار لدى الشباب المتحوّلين إلى تلك البدعة، مصحوبًا أحيانًا بقسوة نفسيّة واقتحام وعنف.
هناك انتقادان آخران يوجَهان في الغالب إلى البدع وهما خلق أشكال من الحرمان لزيادة التبعية: حرمان من النوم والطعام لدى الأتباع ما ينتج عنه نقص في البروتينات - وهما عاملان ضروريان للغاية لخلق توازن عقلي وجسدي لدى الفرد -  النقص يخلق التبعية. يحكى أن نيكولاي تشاوتشيسكو (1918 - 1989) كان يمنع شعب رومانيا أن يأكل الخبز الطازج الحار... فيباع في اليوم التالي كي يأكلوا أقل...).
ومن صفات البدع أنها تتكيف مع الأديان، بل تستولي عليها وتحوّرها. معظم البدع المسيحية تشدّد على تفسيرها للكتاب المقدس بطريقتها الخاصة، وغالبًا ما تضيف نصوصًا "مقدسة" من عند مؤسّسها ومن وحيه الشخصي. لكن...

... لكن الكتاب المقدس يتنبأ على قيام كبير للبدع والانقسامات: "أجاب يسوع تلاميذه: احذروا لئلا يضللكم أحد. سيجيئ كثير من الناس منتحلين اسمي فيقولون: أنا هو المسيح. ويخدعون كثيرا من الناس" (متى 24، 4-5).

كيف نتعرف على البدعة؟
جميع البدع تقع في أخطاء هي الأكثر شيوعًا وموجودة فيها، وهي:
-   في البداية مبادئهم الأساسية مطابقة لمبادئ الدين والإيمان، لكن حقيقتها تظهر فيما بعد عندما البدعة تهيمن وتسيطر.
-   دائما في البدع تشويه سافر للدين وحقيقته. أي إن البدع تتناول التعاليم والكتب المقدسة وتزيحها وتشوّهها كما يحلو لها.
-   تتميز البدع بالسلبية وتمارس النقد المنهجي للديانات الأخرى.
-   يلعب المال والاستغلال المالي لأتباعها دورا كبيرا.

البدع، خلط في المفاهيم وتركيبة جديدة للحقائق!
مع ذلك، يمكن القول إن هناك العديد من الجماعات الدينية التي بدأت كبدع ثم تطوّرت وتحولت ليأتي من يساعدها كي تتأسس وتصبح جماعات كنسية وحركات ناضجة، هذا التغيير نلمسه في زماننا بما سمّي بالحركة المسكونية، أي محاولة مؤسساتية صادقة للحوار السليم والصادق وهذه الحركة أخذت تشمل الحوار بين الأديان، وهي تحمل رسالة إيجابيّة مخلصة للإنجيل وروح الإيمان. هذه الجماعات لا تعود تسمى "بدعة" لأنها أصبحت تعترف بالآخرين وصار لديها قوانين وحقوق "إنسانية" وتتحمّل المسؤولية. لدينا مؤسسات لحقوق الإنسان تراقب تحركات البدع وتصدر قوائم ودلائل تنُشَر كل سنة وتستحدَث تحت رعاية الاتحادات العالمية وهي تحدّد مَن منها يُعَدُ كنيسة أو بدعة. مثال على ذلك الكتاب السنوي الصادر عن الاتحاد البروتستانتي الفرنسي، طبعة برناباس. ومنظمة خيرية تسمى "جيش الخلاص" l'Armée du Salut، هي أيضا تصدر دليلا سنويا.

السبيل إلى التخلص من البدع ...
هذا السؤال يطرحه عادة الأهل الذي يشعرون أن أحد أولادهم وقع في براثن البدع، وقد يمرّ هؤلاء في فترات صعبة من الحيرة أو التهديد واللجوء إلى العنف والقسوة، لكن يجب أن نسأل أنفسنا بوضوح، ونحاول إعطاء إجابة واضحة إذا رأينا أن أشكال البدع تستمر في كسب المزيد من الأتباع خاصة بين الشباب. إن الطريقة الوحيدة لوقف تصاعد البدع هي العودة إلى القيم الروحية الحقيقية، من خلال إنشاء جماعات أكثر ترحيبًا وأخوّة ودفئًا وأكثر نقدا وثقافة وتسامحا وقبولا للآخرين في اختلافاتهم.

... بالعودة إلى روح الإيمان
فالإيمان هو بشارة سارة بأن الله خالق جميع الناس، وهو يحبّهم، كما قال يسوع: "هكذا أحبّ الله العالم حتى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية". (يو 3: 16).
يريد الله لكل الناس أن يخلصوا ويدعوهم جميعًا للتوبة، أي تغيير العقلية وتقبل الحرية تجاه كل أشكال الخوف من الله وعقابِه أو الوقوع في طمع الثواب. كما يقول الرسول يعقوب: "وأما الذي ينظر في الشريعة الكاملة، شريعة الحرية، ويداوم عليها، ليس بالاستماع إليها فقط سينساها، بل عاملا بها، فهنيئا له فيما يعمل" (يع 1: 25).
إن إنجيل المسيح هو خبر سار محرّر يستجيب لأعمق تطلعات البشر في سعيهم إلى السعادة، أولاً على هذه الأرض وأخيراً في السماء: على الأرض هنا، يقف مع كل صراعاتنا وصعوباتنا وتجاربنا، واسمه "عمانوئيل" يعني الله معنا يعزينا في كل ضيقاتنا (2 تسالونيقي 2، 16 - 17).
أما في السماء، فلأن يسوع يمنحنا تأكيدًا راسخًا، أنه في اليوم الذي يدعونا فيه الله مرّة أخرى من هذا العالم، سيمسح كل دمعة من أعيننا، وسنعيش معه إلى الأبد في نعيم كامل (رؤ 4: 21).
إن البيت الذي بني على الرمل ينطبق على البدع، أما المؤمن فهو من يبني على أساس حرية لا تتزعزع، حرية فاعلة كلها إيمان ورجاء ومحبة. لذا قال الرب: "فمن سمع كلامي هذا وعمل به يكون مثل رجل عاقل بنى بيته على الصخر" (متى 7: 24 - 29).

للمزيد في هذا الموضوع راجع: راجع ج. ويتلر، الهرطقة في المسيحية، تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية. تعريب جمال سالم، 2007 بيروت.

كركوك 1 تشرين الأول 2020

24
نحن بين عالمَين: حقيقي وافتراضي
+ المطران د. يوسف توما
كان عمري 12 سنة عندما رأيت التلفاز للمرة الأولى، وأتذكر السحر الذي أحدثته في الصور المنقولة من بعيد، فهي تختلف عن السينما التي أخذوني إليها وعمري 6 سنوات في إحدى قاعات الموصل، وكان فيلم حرب سبارتاكوس (أنتج عام 1953)، سيوف وقعقعة، لكن السينما قبل الفيلم كانت تبدأ بأغاني لفنان شاب اسمه عبد الحليم حافظ لا تزال ترنّ في أذني: "صافيني مرّة، وجافيني مرّة...". كان ذلك في عام 1955.
خلال 60 عاما تحوّل عالمنا من عالم "حديث" إلى عالم "ما بعد الحداثة"، أي أصبح مقطّعا منقسما إلى أجزاء. أحد مظاهر هذه التجزئة الأكثر وضوحا هي "الفيديو كليب" video-clip، وابلٌ من ومضات وذبذبات صوتية مشوّهة، بل إن حربا جديدة كادت تندلع اليوم بين الصين والولايات المتحدة بسبب تطبيق اسمه Tik Toc للفيديوهات الصغيرة. لقد راح زمن الانسيابية حين كنّا نتمايل ونتأرجح على أنغام الإيقاع، إنكسر الخط البياني واختلط الماضي بالحاضر، وحتى بالمستقبل. كل شيء يسهل تناوله ومحاكاته هنا والآن أمامك في لحظات!
ليكن الله في عون الأجيال الحاليّة التي لم تعد تستطيع أن تأخذ نَفَسًا أمام المتغيّرات التي تخلط كل شيء: الدين والأدب، الواقع والافتراضي، ودخل مارد "المخيّلة" في قمقم وأعطينا به وسيلة للتعامل بالرقمية المحمومة. لكنه لا يسمح لنا أن نختار ولا أن نقرّر. فنحن في عالم يفتقر إلى الحسّ بالمعنى. بعيدون كل البعد عن المحتوى الموضوعي. فأداء الفنان اليوم يتجاوز الفن الذي ينتجه، وأصبح اسمه أهمّ مما يوصله إلينا وهو يستحق الاحترام أكثر من فحوى ما يقول. تقديرنا للفنان يعطيه وسيلة للولوج إلينا وكسب ودّنا وفلوسنا فقط. لاحظ كثرة الجمل التي يتم تناقلها منسوبة إلى شخصيات مشهورة، في حين ليس لأحد أي وسيلة للتأكد من صدق القول، فأغلبهم مات، كقول أحد زملائي في المتوسطة: "إن لم تصدقني إسأل المرحوم عمّي!".
آينشتاين، الذي كشف النقاب عن سرّ الكون بمعادلاته، خلفه ستيف جوبز (1955 - 2011)، الذي قدّم لنا روائع التكنولوجية ملفوفة في لوح واحد (أيباد) في منتهى الجمال والفاعلية العمليّة، صار هو مصباح علاء الدين، عندما أفركه يخرج منه أكثر من مارد، وينقلني بسرعة الضوء إلى كل مكان بما يتحدّى العقل البشري.
في الوقت الحاضر لم يعد الاستلاب alienation، الذي تناوله كل سادة الشك: فرويد، نيتشه وماركس، لم يعد ذلك العوق نتيجة أيديولوجيات تشوّه الواقع، زماننا هذا يغرس فينا أشكال الكذب (الرقمي) بشكل لا نشك فيه كما لو كان حقيقة. نحن فقط بحاجة لأن نفكّها من معقلها الرقمي لتصبح أمامنا. صرنا كائنات تسافر في آن واحد بين عالمين: عالم احتياجاتنا الآنية وعالم افتراضي ينتمي إلى أحلامنا ورغباتنا الدفينة منذ آدم وحواء.
لأن مشكلة أبوينا الأولين، يقول الكتاب المقدس، كانت في سجن غرورهما، في الأنا المتعجرف المعادي للمؤانسة الاجتماعية. أما نحن فصرنا نسافر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تستغني عن النص والسياق. صرنا قانعين باللغة كما تأتي، فلم نعد نهتمّ بالقواعد والحركات وحروف العلة والجزم، صارت الاختصارات والثرثرة أشبه بالكتابة الهيروغليفية ورموز مصر الصورية التي تربطنا بجماهير معَولمَة ترتاح على شاطئ العالم، منفصلة عن الواقع، نصف نائمة، لكنها تُبقي عينًا تراقب الفراغات الممكن ملؤها...
في ستينيات القرن الماضي بدأتُ أقرأ أشكال الأدب العالمي ولم تكن تفزعني ضخامة كتب: فيكتور هوغو، هيمنجواي، تولستوي، دوستويفسكي وغيرهم، لكن سرعان ما ظهرت مجلات تختصر القصص وتقدّمها لك ببضع صفحات لمجرّد أن تعطيك فكرة، هذا كنتُ استغربه، لأن المختصرات تحرمُك لذّة التحليق مع الكاتب الأصلي والسفر برفقته بخطوات وإيقاع، كانت تلك بداية النهاية، اليوم بعضهم يستثقل حتى عشر صفحات...
هكذا تم استبعاد الروايات العظيمة لمجرّد لحظات تقفز وتخلو من الذاكرة واليوتوبيا (الوهم الأدبي). لقد رحل الماضي، وأصبح المستقبل هو الوهم... أما الحاضر فبقي مضجِرا سجينا يدور حول نفسه بشكل دائري بلا نهاية.
كان للبيوت في الماضي حُرمة، فلا يدخل أحد منزلا من دون موعد، يأتي ويقرع الباب ويطلب رخصة، أو يُدعَى إلى الدخول ويطلب المشورة بوجَل وخجل في كيفية التعامل مع أهل الدار، يلتزم بالموعد في الوقت المحدَّد، ويحدِّد هو نفسَه بقيافة ملائمة ويكون شديد الانتباه والتوجّس بالانتظار والاهتمام اللائق. (هذا ما عدا الغزاة من حين لآخر الذين يحتلون بلاد غيرهم ...).
أما اليوم فقد تغيّرت الأمور، مئات الملايين من الناس صاروا يمارسون الغزو الرقمي، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، يغزون حيّزنا الخاص، المناطق التي فيها جروحنا وحساسيّتنا، ويسمح بعضهم لنفسه أن يغرز السكين في الجرح، نكاية، ويسمح لنفسه خصوصا بإهانتنا (من خلف حاسوبه)، يتحدّانا حتى في القيم التي لا زلنا نؤمن بها، يحاول دفنَنا في قبور جماعية افتراضية، كما فعل الدواعش فعليًا، لا يعبأ بالعواطف. كل شيء صار يشبه لعبة كرة الطاولة (بينج بونغ)، يوجد طاولة لكن من دون شبكة في الوسط تميّز بين ما لنا ولهم. الدواعش أولاد خُلَصْ للزمن الافتراضي القبيح، بغسل الأدمغة، إذ لم يرَ العالم عددَ شباب يفجّرون أنفسهم بقدر ما حدث في السنوات القليلة التي حكموا فيها.
إن الإدمان على استخدام التكنولوجيا الرقمية، جعل الكثيرين سجناء وعبيدًا لهذه التكنولوجيا بالذات، التي تضمن العودة الفورية إلى رأس المال (كل شيء يرجع إلى المال لو تمعنّا جيدا!)، نحن نضيع ساعات من حياتنا، نلقي أنفسنا في حلبة مصارعة غير متكافئة بالضبط مثل شارلي شابلن (في فيلم "أضواء المدينة") ندخل، والله كريم، وليحدث ما يحدث... نحن كمن في بحر متلاطم لا نسافر وإنما نغرق. نسمح لأنفسنا أن نكون مساجين من قبل شبكات تؤيّد فقدان الخصوصية الشخصية وحقِنا بالسريّة.
لا يحتاج أحد من الآن وصاعدا أن يفكر في غزونا وغزو خصوصيّتنا، كما كان في الزمن الماضي. لقد صرنا نحن أنفسنا معرّضين له مكشوفين ومفضوحين على الشبكة العالمية، تمزّقت الأقنعة والملابس وتعرّينا وانكشف عَوَزُنا الثقافي وفقرُنا الروحي، وويل لمن يصير كما قال المغني العراقي: "حكاية بالديوان"، اليوم حتى "جو بايدن" المرشح الأمريكي للرئاسة عملوا له فيلما قصيرا يظهره نائمًا خلال إحدى المقابلات كي يحجّموه فلا يصوّت له الشعب، لكن ذلك الفيلم ظهر أنه مفبرَك وكاذب.
لديّ شعور يزداد كل يوم أن هذه التكنولوجية الرقمية، لم نعد فيها سوى مجرد نماذج فقط. كائنات عشوائية في بحر هائج يسود من يسافر فيه ويملأه بالشعور بالتفاهة وعدم الأهمية.
لقد أصبحنا بالفعل عبيدًا للعالم الرقمي وابتعدنا عن الواقع، نحن مثل سجناء مربوطين إلى قضبان الشبّاك، لم نعد قادرين على إيقاف هواتفنا النقّالة أو تحويل نظرنا عنها. وهي التي تسمح لنا - أو لا تسمح - أن ننظر إلى العالم، إنها مجرّد شاشة صغيرة، نافذة سجن قفلنا نحن أنفسنا فيه، ورمينا المفتاح في المياه التي تحيط بالجزيرة، جزيرة الأنا التي عزلنا أنفسنا فيها، هذه الجزيرة صارت على وجه الخصوص تخلو من الإثرة والغيريّة والمعنى.

كركوك الأحد 20 أيلول 2020

25
بمناسبة عيد حلول الروح القدس 2020
حَجر كورونا وشعاع الروح فينا
المطران د. يوسف توما
لم يعرف العالم حالة مشابهة من الحبس والحجر الالزامي مثلما عرفه في هذه الأشهر الثلاثة الماضية. وتردّدت أنباء عن حالات عديدة ومشاكل في البيوت، ما عنى بالتالي أن العيش معًا ليس بالأمر السهل، هذه الحالة تدعو إلى التفكير وعودة تقييم الأمور العادية بطرق ذكية وبارعة.
لكن، ما هي الأشياء التي يمكن وعلينا القيام بها بمزيد من الذكاء؟
كل شيء وأي شيء يستحق التفكير! لا ننسى أننا جئنا إلى العالم جاهلين تمامًا وكان علينا أن نتعلم استخدام أمور كثيرة من الصفر. بدأنا بتعلم الوقوف على قدمينا، ثم خطونا أولى الخطوات نحو المساحات الفارغة المتاحة لنا. بعضنا كان موهوبا، ومنّا من تأخر في الكلام أو المشي، المهم كانت لدينا مواقف وطرق في الوجود، سقطنا وقمنا وتقلبنا بين التردّد والاقتحام؛ ثم جاءت الشجاعة لنتمكن من السيطرة على إيقاع غير مرئي هو الذي يحرك هذا الكون الحي. وتعلمنا أننا سنبقى متدرّبين دوما، هواة دائمين. وسيبقى أمامنا كل يوم مجال لتحسين نهجنا في الحياة، بمزيد من الوضوح والثقة.
زمن الحجر الإلزامي كان فرصة ثمينة
قبل كل شيء، لنراجع علاقتنا بالأشياء من حولنا، ففي الأزمنة القديمة كانت الإنسانية أكثر تواضعا وأكثر صبرًا، كانت تقيّم الأشياء التي في خدمتها، تعرف قدرَها وتشعر بالامتنان تجاهها. كان لديها معها رابط من التعاطف، بل حتى تواطؤ بين البشر والأشياء. كنّا نحتفظ بالحاجات أطول فترة ممكنة أطلقوا على بعضها اسم "الأجهزة المعمّرة" (ثلاجة ديرنا عملت بلا توقف 50 عامًا)، كانت مدللة حتى عندما تصبح مهترئة. وقاموا بتصليح كل شيء: الملابس حتى الجوارب وهو "الرفو" (في بغداد شارع الروّاف). بل أصلحوا الخزف، كان يخيطه في الموصل "خياط فغيّغ" (فرفوري)، يعتنون بالأثاث الموروثة من الأجداد. وبهذا التعامل كل شيء يأخذ طابعا شخصيا، ويتّشح بالدفء الحميم.
لكن منذ جيل أو جيلين، شهدنا غزو الاستهلاك. ونتيجة لهذا لم تعد العلاقة نفسها مع الأشياء. نتعامل معها بتعالٍ، ليس لنا معها أي ارتباط أو عاطفة. نهملها بلا مبالاة. ثم يأتي وقت تبدو بلا نفع، فندفعها باحتقار إلى القمامة. نتخلص منها لمصير بائس! لا أحد يتحسّر على القديم المستهلك. هذه التصرفات لم تسهم في تثقيفنا عن معنى الأشياء واحترامها، ولا بضرورة الحرص على قيمتها. وغالبًا ما يحدث ذلك بلا وعي منّا، في ساعات الخمول عندما نشعر بالانزعاج من وجود الأشياء بالذات، لأنها تعكس صورة المحنة العميقة التي نمرّ فيها!
لكن الحجر الصحي الذي فرضه فايروس كورونا هو فرصة لإعادة معرفة قيمة الأشياء التي حولنا، فهي ولو نسينا لديها روح، كقطعة شريط لَفوا به الهدايا التي أعطونا، بل حتى الدبّوس إكتسب روحًا، لأنه شاهد على ما عشنا. إنها ذكريات ثمينة كنّا دفعناها في خانة النسيان. هذا الوعي يمكن أن يدعم معنوياتنا إذا وافقنا على الحوار الجدّي مع الأشياء الموجودة هنا وهي تذكّرنا بأن كل شيء في هذه الحياة ليس بالضرورة ضائعًا تمامًا بل هو دعوة إلى إعادة النظر بمعنى الأمانة والإخلاص.
بعد العلاقة بالأشياء المادية، نصل إلى الأكثر تعقيدًا: العلاقة مع الأشخاص!
لقد أجبرنا الحجر الصحي أن نعيش بصحبة من نحبّهم ليلًا ونهارًا، لا ننفصل عنهم لثانية. وبدل أن يفرح بعضهم بذلك، دخل حالة من الذعر، فحتى زمن ما قبل الحجر لم يكن يتصوّر أن يحيا مثل ذلك؛ كان للكل وظيفة، وإمكانية هرب، ثم اكتشفَ أن المواجهة الدائمة مع الآخر تسبّب الصداع، والاختلاط الزائد قد يقضي على الحميمية. فصار يحاول وضع مسافة معيّنة. لكن المفارقة، وبالتحديد هنا، من ضمن متطلبات الحجر طلبَ منا الحفاظ على "مسافة اجتماعية"، بل عدم لمس بعضنا البعض. هذا الوضع المتناقض دفعنا لإلقاء نظرة تأمّل فاحصة: مجتمعاتنا الشرقية خصوصا، تعبّر عن مشاعر المودّة من خلال مجاملات وكلمات واضحة للغاية، تتدفّق العواطف لدينا بلا حواجز. نحبّ ونقبّل ونَسبَح على الدوام وبلا انقطاع في مجموعة من الانفعالات. لعلها بالتأكيد أمورًا إيجابية، لكنها تصير مملة عندما تدور في حلقة مفرغة: عمّك، خالك...، ما عدا عندما تعترض عواطفنا عقبة ما، أو انزعاج بسيط، عندئذ تصبح الكلمات والانفعالات التلقائية مقلوبة، مزعجة، بل تتحوّل إلى هجوم واقتحام. ولأدنى شرارة تنطلق لتصبح مشاحنة وجدلا وعتابا لا ينتهي، وأحيانا عنفًا مؤسفًا بين الأحباب والأصدقاء.
في شرقنا حكمة قديمة متراكمة وأمثال تناولت موضوع العلاقات الإنسانية، تناقلتها الأجيال عبر "طقوس الاحترام المتبادَل"، طقوس قامت على مبدأ وضع مسافة معيّنة وحبس للعاطفة الجيّاشة. فوِفقا للحكمة كان المبدأ أن نتعلق بالآخر لكن بلا مبالغة أو إسفاف. وعلى هذا الأساس كان الزواج يركز على شكل آخر من الحب الخجول بحيث يتعامل كل منهما مع الآخر كأنه ضيف شرف. الكثير من العائلات الحالية، تعاني من مشاحنات قد تصل حدّ الافتراق أو الطلاق، وهنا أتخيل الجيل السابق يتندّر على الحالي الخائف السطحي الذي يغرق في "فنجان" من المشاكل!
بعد العلاقة مع الأشياء والأشخاص، أصلُ أخيرًا إلى العلاقة مع الذات
في زمن الحجر الفايروسي، ساد شعور بالخوف لدى البعض أن يبقى وحيدًا مع نفسه. لا شك، هذا يذكرني بمقولة الفيلسوف بليز باسكال (1623 - 1662): "كل مصائب الناس تأتي من عدم معرفتهم كيفية البقاء مرتاحين في غرفة". لأنهم يدمنون الترفيه والهرب من الذات لئلا يواجهون مصيرهم. ترعبهم الجدران الأربعة حيث لا شيء سوى الملل القاتل! مع ذلك، تلك الغرفة، غرفة نومك، هي للأحلام، تحوي غنى وثراء أكثر مما تتصوّر. هناك ذكريات الماضي المثقَل بالعواصف والندم، لكن فيها لحظات النعيم أيضا، هناك الحاضر جاهز للتأمّل والتحوّل، وإمكانية اكتشاف، اليوم أبطالا من صنف جديد في كلّ من يعمل في الرعاية الصحية من أطباء ومساعديهم؛ هؤلاء يمكن تشجيعَهم من خلال رسائل قصيرة SMS، والمشاركة معهم في الحدث؛ وتعقّب مسارات مستقبل يجري بناؤه وإعداده الآن على أيديهم، إنه المستقبل المفتوح الذي لن يكون كما كنا نتصوّره قبلا.
أخيرا، عند هذه النقطة، استحضر حدثا من حياة جاكوب بوم (Böhme) 1575 – 1624م، المتصوّف الاسكافي، كان في دكانه المظلم، يجلس وحيدا في فترة ما بعد الظهر، رأى شعاع الشمس يدخل من النافذة وينعكس في إناء من صفيح. شيء عادي تافه لكنّه اتخذ انعكاسا لألوان قوس قزح. وفجأة تأثر جاكوب بحيث غمرته الدموع، وامتلأ قلبه بالشكر، فسقط على ركبتيه ساجدًا. الإنسان العادي المادي يشرح ذلك الشعاع علميًا بقانون الفيزياء، لكن "جاكوب بوم" رأى شيئًا آخر: رأى أنّه في حضن الأبدية، في تلك الزاوية الضائعة من الكون الهائل الذي يبدو كالأخرس وغير مبال، شعاعٌ أحدث لحظة معجزة، جاء يغمر بالألوان إنسانا مجهولا على هذه الأرض، نُطفة غبار بين الغبار، استطاع أن يلتقط المشهد، بعينين مفتوحتين وقلب نابض، فغمره الامتنان. من يستطيع تفسير هذا اللغز؟ قد لا يكون هناك ما يمكن شرحه. هنا فقط حياة تتفاعل، لكنها هي الأعجوبة بحدّ ذاتها، يتم استقبالها كهديّة هائلة لا تصدَق. لذا يمكن لكل إنسان جالس لوحده في غرفة، بطريقة فريدة، أن يستعدّ للترحيب ولو بشعاع الله الموهوب له، مثل تلك الفتاة العذراء مريم، التي استقبلته مثل ضيف شرف من فوق، واستقبلته مع الرسل يوم العنصرة...
كركوك، 29 أيار 2020

26
المنبر الحر / الفرد أم الجماعة؟
« في: 22:10 17/04/2020  »
الفرد أم الجماعة؟
المطران د. يوسف توما

نسمع كثيرا من المفكرين يدعون إلى "تحرير المبادرات الفردية"، أو إلى التخلص من "السلطة المركزية" والبيروقراطية، وشلل المؤسسات الثقيلة، فقد قيل إنهم في الصين قبل النهضة الحالية كان من يريد فتح محل بسيط يحتاج إلى 114 توقيعا... وهذا ما لمسناه نحن أيضا، في كل العهود الماضية التي مرت علينا من نظم دكتاتورية أو مذهبية أو دينية حصرت نفسها في محاصصة وابتعدت عن التطورات التي حصلت في بلدان قريبة وقطعت شوطا كبيرا فيها.
في هذه الأيام النقاش – في كل مكان - يدور حول تحديث السياسة، ولم يعد اليسار ولا اليمين يعنيان شيئا في الكثير من البلدان، وحتى الوسطية والاعتدال، لم يعد لهما تأثير لأنهما كانا لفترة معينة لتهدئة المخاوف من تيارات التطرف بأشكاله، الذي أراد فرض نفسه بأساليب الرعب والارهاب. أما اليوم فنحن مضطرون إلى ملاحظة صعود الفردية، منذ ثمانينيات القرن الماضي (عام 1979 مفصليّ)، وفي نفس وقت ساد أنموذج آيديولوجي جديد: بأن إرادة المجتمعات المحلية عليها أن تحكم نفسها بنفسها، ليس في الدول فقط وإنما المدن والأحياء وحتى القرى. صار المواطن أكثر تعليما وقدرة من أي وقت مضى. ولم يعد يقبل فرض أي نماذج عليه، لا من بعيد ولا حتى من قريب، حتى لو كان قريبه أباه في البيت، نزلت جموع الشباب إلى الشوارع ضد الجيل السابق الذي عشق السلطة، لكنه لم يفهم أن السلطة خدمة فكدّس الفساد على حساب أمور أخرى تجاوزها جيراننا حتى ممن كانوا أفقر منا يستعطون الفتات من موائدنا قبل خمسين عاما.
علاوة على ذلك، في سياق العولمة الزاحفة (قبل عولمة فايروس كورونا)، أصبحت التعددية في دائرة الضوء، ولم يعد الجيل المتحكم بالسلطة يستطيع أن يسد أذنيه وعينيه كالأنظمة السابقة مع الرقابة، بحيث كدتُ أنا شخصيا أذهب إلى السجن في عام 2002 بسبب امتلاكي لصحن فضائي على السطح.
هل يمكننا قراءة الزمن المعاصر من منظور الفردانية؟
إن أول ملاحظة تبرز هي وجود طريقين متباعدين لتولي مسؤولية هذه الرغبة بالاستقلال والمشاركة وحق الاختلاف. فالمرء نشأ يرى ويسمع بشكل يومي عن "الربيع العربي"، لكن هذا الربيع لم يأت من فراغ بل هو بالحقيقة استلهم ما حدث في أنحاء كثيرة من العالم، لذا يجدر بنا أن نسميه "الربيع الفردي" ليس إلا. إذ إننا عندما نسمع "نريد وطن" إنما يشيرون إلى أهمية الحفاظ على التماسك الاجتماعي والتضامن والدولة الوطنية التي تظل وظائفها وخدماتها ضرورية غير منقوصة.
كان الجميع، قبل سنوات قليلة، خائفا من تقسيم العراق سياسيا، بعد أن بدا بسبب الانحطاط مقسَما جغرافيًا واجتماعيًا. وقوة هذا الاتجاه معاكس تماما للعولمة ولتيارات التجارة وزوال الحدود وفتح طرق "الحرير" برًا وجوًا وبحرًا، ما أثر بقوة على التفكير السياسي لدى الأجيال الشابة، وبقيت الأجيال الأخرى حائرة تكرّر شعارات فارغة المضمون. إذ بعد ما يقرب من عقدين من سقوط النظام السابق الكل شعر أننا راوحنا في مكاننا لمجرد أننا لم نعهد إلى الشخص المناسب بالسلطة (التي يعشقها بعضهم بجنون وفراغ)، ولكن الفكرة المنقذة هي: كيف نجعل الجميع يشعر بمسؤوليته من أجل ذاته ومنطقته؟ بأن يتحرك ويعمل من دون أن تشله الجماعة والمركزية والموظف الفاسد. إلى أن جاء فايروس كورونا ليخلق حالة طوارئ أظهرت حقيقة من يهتم بالكل، فقبل بالحجر المنزلي، ومن لم يقبل دفع الثمن، خصوصا من كابَرَ واختلط وتسبّب بانتشار العدوى. هنالك تشابه بين فايروس كورونا والأفكار السامّة التي انتشرت وتفشت بالتطرف، وغسلت الأدمغة بحيث لم يحدث قط في التاريخ كهذا العدد الهائل من الانتحاريين، وأغلبهم شباب، ممّن لم يحذروا من نتائج الأفكار الخبيثة، إلا بعد فوات الأوان. أيعقل أننا كنا نحتاج إلى سنوات لنكتشف بشاعة الإرهاب؟ والأقبح من (داعش) وكورونا أن بعضهم لا يزال يكرَّر الكلام نفسه حتى اليوم!
لقد تغيرت المجتمعات عموما (والعراق خصوصا) إلى حد كبير. فإذا كنا خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي نسلّم "لحيتَنا" بيد الدولة على أنها المحرك الرئيسي للتنمية، لكن مسلسل المصائب أثبت أنه كان خطأ فادحا. اليوم فصاعدا، يجب أن يتشكل تحالف بين الفرد والمجتمع المدني، أي كل المواطنين العاديين (كالحجر المنزلي: أكرمنا ببقائك في المنزل). فالخلاص من انتشار الفايروس يتم بالابتعاد، والانتظار والتفكير بالمرحلة التالية لتطوير مجتمعنا من مركزية المسؤوليات والموارد للمجتمعات المحلية. أي نراهن على الذكاء الفردي، وعلى قدرة النساء والرجال الذين يعيشون في المناطق التي يعرفونها أفضل من أي موظف يأتي من العاصمة لا يعرف شيئا، أليس "أهل مكة أدرى بشعابها"، وتقرير ما هو جيد لهم؟
مقياس لا يخطئ: مسؤولية الفرد
إن حيرة البلاد اليوم في اختيار السياسي الكفوء والشلل الذي أصاب البرلمانات كشف أن الأكثر أهمية الذي ظهر في العراق (والشرق الأوسط عموما) في السنوات الأخيرة، هو قيام "الفردية" المقرِرة. وبهذا لا يختلف مجتمعنا عن المجتمعات الغربية التي مرّت بتقلبات كثيرة في هذا المجال، خصوصا حين حاول كل من القومية والدين أو الشعوبية فرض نفسه لإسكات الأفراد الذين عدّوهم نشازا، لكنهم – بعد حروب طاحنة - أثبتوا أنهم كانوا على حق، وهنا لا يصدق القول الروماني القديم القائل: "صوت الجماعة هو صوت الله"، بالعكس واحد يكون ضد الكل والكل ضد واحد، وهذا أثبته كل المخترعين الحالمين المضطَهَدين في الغالب. هذه الفردية ليست مرادفة للأنانية أو الانسحاب أو الكسل أو عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، بالعكس! فأغلبية الناس البسطاء، والشباب خصوصا اليوم هم أكثر فهما وتعلما واطلاعا من كل من يريد اسكاتهم، خصوصا عندما تنعدم الكفاءة لدى من في يده السلطة، هنالك وسيلة لتقييم شخصية الفرد وهي: الحزم والرؤية المستقبلية (وهذا مقياس لكل فكر). الأفراد، من ذوي الكفاءة، يلتحقون اليوم بطواعية بأشكال جديدة من الانتماء وهم مستعدون أن يموتوا على أن يرضخوا خانعين ومشلولين لمن يريد أن يشوّه شخصيتهم بشعارات عفا عليها الزمن قادمة من معالم عتيقة جماعوية أو عشائرية أو تعاليم تقليدية أثبتت فشلها، إن الشباب يريدون هواء نقيا صاروا يعرفون قيمته، والدليل أنهم لم ولن يكرروا خطأ آبائهم بتبني وقبول العنف والانقلابات والثورات التي كانت كناعور تصعد مملوءة وتنزل فارغة بعد أن تجفّ منابع فكرها المحدود.
في جميع المجالات، يتوقف الفرد عن كونه مجرد مستهلك تابع سلبي للسياسة والدين (نفِذ ثم ناقِش!). اليوم، نحن كمن أمام مائدة طعام متنوّع "بوفيه مفتوح"، نواجه عددًا لا يحصى من الخيارات، ونستمتع بحرية الاختيار بينها، مع مراعاة الجودة والديمومة. سيكون لهذه المتغيرات تأثير واضح على الحكومات والبرلمانات المستقبلية. فالمتظاهرون يريدون نهاية: النموذج الواحد والحزب الواحد والمذهب الواحد والأسلوب الواحد. وهذا فهمته شعوب الغرب منذ الثورة الأمريكية عام 1776، والفرنسية 1789، التي أصدرت إعلان حقوق الإنسان والمواطن أي انتصار الفردانية على الجماعوية. وشيئا فشيئا رفعت الدولة يدها عن محاولة تكييف الفرد وترويضه لدين أو مذهب أو تربية مدرسية معينة، القوالب تفشل بأساليبها الأحادية خصوصا في التعليم والخدمة. السبيل الوحيد للتكيّف هو اللامركزية بالمسؤولية وتنشيط وسائل لدعم مبادرات الأفراد.
كثيرون، منذ الأزمنة القديمة يخافون على "التماسك الاجتماعي" ويدافعون عنه، لكن انزلاق هذه الجماعات يأتي سريعا فيصبحون أكثر الناس اهمالا وأنانية وخوفا على مصالحهم، فلا يعيروا أهمية للتنمية العامة والشاملة، ويتم خداع الناس بالكلام عن منجزات "وهمية" وهي أساطير الزمن الحاضر، لها التخدير نفسخ الذي كان لأساطير الماضي، بحسب ما جاء في كتاب "أساطير" للمفكر الفرنسي رولان بارت R. Barthes (الصادر عام 1957). لكن حذار من الاعتقاد بأن اللامركزية تتحقق في التنمية بلا مبادئ توجيهية لسياسة شاملة تضع في حسابها ما يحدث في بقية العالم.
نريد وطن
"نريد وطن"، كان نداء المتظاهرين منذ تشرين أول 2019 في ساحات العراق، لكن السؤال هو: كيف سيتحقق ذلك في أرض الواقع؟  هل يمكن أن نجعل الآخر يقبل المختلف عنه في وطن واحد؟ أليست التفرقة هي التي دفعت الملايين من أبنائه إلى الهجرة إلى بلاد بعيدة؟ سؤالي لهؤلاء هل هجرتكم أفادت في تقوية روابط التآزر بين وطنكم القديم والبلد الذي تبناكم؟ إضافة إلى ذلك، تكمن اليوم منابع الفاعلية في كل مكان في تبني نظرة جديدة واسعة عابرة للحدود والقارات، كي لا نبقى نخاف الغريب كما في كل مكان، في حين حيثما الفرد مثقف يمكنه أن يجد قدرة على التأثير، وبهذا خرجت دول عدّة من عنق الزجاجة، لأنهم غيّروا نظرتهم وتعاملهم مع المواطنين.
المواطن هو فرد يثق بالسلطات المحلية التي يكلفها مؤقتا بوسائل إبراز المبادرات لخدمة الجماعة كلها من منظور الديمقراطية الاجتماعية التي تعيد الفرد إلى نفسه، وتدفعه لأن يصبح جزءًا من شبكات ومجموعات المجتمع المدني. وبهذا يسلك كل فرد في "طريق المواطنة" معتمدا التشاور بين الجهات الفاعلة حتى لو كانت بعيدة عن انتماءاته المحلية والعشائرية والمذهبية، على مستوى الوطن والعالم. الفاعلية لم تعد للتجمعات فقط للأماكن التي فيها أوكسجين وحياة للمواطن ليمارس حقه بجدارة، لا بأنانية ورؤية جزئية.
إن من مزايا هذا التفكير في الفرق بين الفردانية والجماعوية هي أن يتوضح للجميع أهمية المتغيّرات، التي تقدمها وتنادي بها أحزاب سياسية على أنها جديدة، لكنها في أماكن كثيرة من العالم جرّبَت، قسم منها نجح وآخر لم ينجح، منذ قرن على الأقل، لم ننتبه إليها لانغلاقنا وجهلنا. بقينا نستورد ما يصنع لكننا لم نتساءل عمّا جعلهم ينجحون أو يفشلون فيه. فالمجتمع المدني ليس كتلة مقفولة، بل هو في تطوّر مع كل جيل، ولا ينبغي استيراد نسخة قديمة منه كما اعتاد الكثيرون لقيام به في بلادنا (كما فعلوا مع أيديولوجيات القرن الماضي)، يا رب، كم يبدو تاريخنا المعاصر تاريخ "ترقيع" وليس فكرا ينمو ويترعرع بيننا، يسلم إلى أشخاص أكفاء كل في مجاله بلا تبعية لأحد!
كركوك 17 نيسان 2020

27

من وحي عيد نوروز 2020
لا أحد يمكنه أن يحبس الربيع
المطران يوسف توما
توقّف كل شيء في أنحاء كثيرة من العالم، كل شيء: المدارس، المسارح، العروض، الرياضة، الأسفار، التنزّه، المؤتمرات، كل المشاريع. تم إلغاء كل شيء لأنه ضرورة. تم إلغاء كل شيء ما عدا الربيع...
جاء الربيع هذه السنة ولم يغيّر عاداته. بل وصل كما هو مخطَط له. الربيع لا يحتاج إلى طائرة أو إلى سيارة باص. يحدث من تلقاء نفسه. يهبط دائما في الوقت المحدّد له، إنه الربيع الذي أطرب الشعراء والمغنين والراقصين. لكن الربيع هذه السنة لاحظ أنه لا يوجد أحد لتحيّتِه، ما عدا بعض شعلات النار على أسطح قليلة فقط. وجدها مسألة غريبة بعض الشيء. وقال في نفسه: يجب أن يكون هنالك شيء خطير، لعلهم زعلانين مني، هل لأني وصلتُ متأخراً؟ لا بد أنهم يكذبون. لا بد أن الشتاء حاول اقناعهم بذلك. أو أنهم متعبون. لعلهم نائمين إلى ساعة متأخرة...
يوم 21 آذار هو عيد الربيع منذ آلاف السنين. موعد يتم أمام خطوات أرجلنا، بل تحت أقدامنا على أرض تخضرّ وتتلوّن في أصغر الزهور والشقائق، حيثما نكون يطل من الشباك عادة، على استعداد ليأخذنا بين ذراعيه. لكن لا أحد يريد ذلك خوفا من "فايروس كورونا". بدأ القلق عليه، قال في نفسه: يجب أن يكون السبب المطر! الناس لا يحبّون المطر. هذا هو السبب بأن صديقي الخريف أقل شعبيّة مني لأنه يمطر ويعصِف. حلق الربيع عاليا ليتنزّه في السماء. وفكر: غدا سأجعلها مشمسة. سأجعله ربيعا جميلا لن يتمكنوا من مقاومته، وسيخرجون جميعًا!
في اليوم التالي كان الطقس جيدا. مرّ الربيع عبرَ المدينة وسأل: "لكن أين هم؟ أين هم؟ عادة، يكونون مزدحمين للغاية، سعداء برؤيتي يرقصون على أنغام الطبل والمزمار، حتى لو كان الجو لا يزال باردًا، آه لعله "برد العجوز"؟ يا ويلها مني، سوف أجبرها هي أيضا على الخروج في أول شعاع من شمس الصباح، سيخلع الجميع معاطفهم الثقيلة، ويخرجون في قمصان وتنانير لملء الطرقات. لكن ماذا يحدث؟ لا أحد في أي مكان بالرغم من الشمس؟ هذا مخيف. وبدأ الربيع يقلق بجدّ.
أخيرًا، رأى الربيع سيدة عجوز تخرج في شرفتها. ملفوفة بملابس ثقيلة. اقترب منها. تراجعت العجوز صائحة:
"لا تقترب مني، أيها الأحمق! ألا تعرف التعليمات؟".
- أي تعليمات؟
- يجب أن تكون بعيدا عني لمتر واحد على الأقل!
- لماذا؟ أأنت مريضة؟
- لا أعرف.
- هل تشعرين بشيء ما؟
- نعم.
- إذن دعيني أقبّلك!
- أبدًا! ومن أنتَ أولاً يا ...؟
- أنا الربيع! "
وهنا تمايل الربيع كالطفل الساذج. ثم أضاف:
"أنت تعرفيني بالتأكيد!".
- نعم اعرفك هذا أمر مؤكَد. لكن بصرف النظر عن ذلك، كنت أعرفك لفترة طويلة! فأنا عمري 80 ربيعًا، يا سيدي!
- إذن التقيتِ بي 80 مرة، ألم أوحِشَك؟ لماذا لا نتعانق!
- أنت حقاً عجيب، ألم تسمع الأخبار! هل أنت غريب عن عالمنا هل سقطتَ من السماء؟
- يمكنك قول ذلك، نعم هكذا الأمرُ.
- أليس لديك فيس بوك، أو انستغرام أو تويتر؟ ألا تعرف الانترنت؟
- كلا، لكن لدي الكثير من الطيور.
- ألم تخبرك الطيور أنه في جميع أنحاء العالم، هناك وباءٌ منتشر مخيف: "فايروس كورونا"؟ إنه خطير جدا. لذلك، كي لا نتناقله، ألغينا كل أشكال التجمّع. طلبوا منا البقاء في البيت كالحبس، وخاصة كبار السن مثلي.
- آه! لهذا السبب تبدو المدينة ميتة. ولم يستقبلني أحد عندما وصلت إلى هنا.
- نحن ما زلنا نحبُك، لكن يجب أن نبقى معزولين. لا شيء يجب أن ينتشر ولا شيء يجب أن يمسَك باليَد.
- الآن فهمتُ. أنا عادة عندما آتي إلى هنا، يخرج الجميع للقائي. إنها تشبه حمى المسلسلات، أيام زمان، حين كان الجميع يجلسون أمام أجهزة التلفاز ناسين الخروج والتمتع بقدومي.
- حمّى المسلسلات، انتهت منذ زمن طويل. أتذكرها كنا نعشقها فيحترق حتى الطبيخ، أما الآن لقد أصبحنا مُلقَحين جيدًا منها.
- آه! حسنًا... ولكنني، أتذكر منذ وقت ما، كان الكثير من الناس يحرقون الشعلة، النار الجديدة، نوروز، اليوم الجديد، ويتفاءلون بها.
- كان ذلك في الأعوام الماضية، كان الربيع بحق ربيعًا. يفرشون "الجودلية" وينصبون السماور، ويأكلون "العروق"... أما الآن فنحن في عام 2020، يا له من ربيع بائس!". وأخذت السيدة العجوز بالبكاء. أراد الربيع الاقتراب منها، لكنها أجفلت وابتعدت عنه، فسحب يده، وأضاف:
"لا تبكي سيدتي. انتِ بخير، لكن أليس لديك الحق على الأقل في الخروج قليلاً، والتجوّل؟"
- نعم نستطيع. لكن كلّ لوحده.
- أعدِك بأنك لن تكوني لوحدِك، سأكون أنا معك عندما تمشين. لن ترينَني ولن يراني أحد مَعك. لكنني سأكون هناك. في كل ورقة شجر، في كل عشب، في كل شعاع شمس، في كل سحابة بيضاء، في كل طائر يغنّي، في كل زهرة تتفتح. وعندما أغادر، سأقول لصديقي الصيف أن يرافقَكِ أيضًا. إنه دافئ جدا. سيكون كلُ شيء على ما يرام معه. يمكن لكلّ شيء أن يتوقَف باستثناء الحياة. الحياة لا تتوقّف. الحياة تستمر دائما. وعليكِ أن تفعلي كل جهدِك للتواصل مع الحياة. لذا أنصحك أن تفعلي ما أقوله لك، وسترين في العام المقبل سأكون هنا بالطبع على الموعد، وأنتِ أيضا ستكونين هنا وسوف نتمكنُ أن نتعانق ونلفَ الذراعين حول بعضنا.
ابتسمت السيدة ابتسامة خفيفة، وتركت شرفتها. ودخلت إلى غرفتها.
جلس الربيع في الحديقة لوحده. وهذا لم يحدث له من قبلُ قط، منذ انشاء العالم، ومنذ ظهر الانسان على وجه الأرض!
ستكون الأزمنة صعبة للكثيرين. لكن الربيع سيبقى.
ستكون الأوقات صعبة للعالم كله. لكن الربيع سيعود بالتأكيد وسيمسح كل الآثار السلبية...
كركوك 21 آذار 2020

28
الاحتفال بالقديس يوسف في عزلة كورونا
+ المطران يوسف توما
كل سنة بصورة عامة يحتفل العالم الكاثوليكي بعيد مار يوسف بشكل رسمي مع محبة خاصة تجاه من سمي أبا المسيح بالتبني، إنه "الصامت العظيم", الذي لم إلينا الإنجيل أي كلمة له؛ لكن افعاله تظهر بكل وضوح ايمانه بالرب واحساسه بالمسؤولية في الشدائد.
في هذه العام تمر ذكرى مار يوسف بدون قداس عام او تجمع شعبي للصلاة ولكن بمشاركة روحية حقيقية.
تكمن عظمة القديس يوسف في حمل مهمة تلقاها من الرب: السهر على زوجته مريم، وعلى الطفل يسوع. وبهذا يمثل مار يوسف نموذجا لكل واحد منا يدعى الى تبني حياة قد لا تتطابق بالضرورة مع ما خطط من مشاريع وآمال.
في ضوء قداسة مار يوسف، علينا ان نعتمد احتواء ما نعيشه والقيام به لخدمة الخير العام مع حيز من التخلي الضروري. هذا التخلي لا يعني الاستسلام او الخضوع. ولا يعني أيضا أن تقع في الاحباط، او الغضب أو الدخول في جدال. الحياة المشتركة صعبة والاحتواء والإحاطة بالمشكلة غير ممكن دائما (خصوصا إزاء اللغط الكثير المحيط بنا).
عيد مار يوسف يقع في زمن الصوم الذي يطلب من المسيحيين مواجهة الشر وهذا يتطلب ذكاء بقوة يسوع المسيح. مار يوسف خاض معركة الايمان دون ان يتذمر.
بقاءنا في البيت يشبه من هم في السجن، وهذا يدفع إلى التفكير بالاشخاص المحتجزين الذين يعيشون ايمانهم المسيحي: " السجن، شر لخير أكبر"، فقدان الحرية التي ليست جيدة في حد ذاتها يمكن ان يصبح فرصة لنموّ في الانسانية والروحية وكثيرا ما تتحسن في سجون البيوت الروابط الاسرية.
وضع البابا فرنسيس رقعة على باب غرفته في الفاتيكان: " ممنوع التذمر". راهبة قالت إنها وضعت على حائط غرفتها: "احب البيت الذي اسكنه، الاشخاص الذين اعيش معهم، والعمل الذي اقوم به". هذا هو تبني حياتي، تقليد مار يوسف والاحتفال بعيده في ايام الحجر الصحي هذه التي شملت أغلب دول العالم. هذا الحجر يمكن ان يعزز تضامن العائلات والحب بين أعضائها. كما أن هذا يذكرنا بأولئك الذين يحرمون عادة من الحرية.
كاتب الرسالة إلى العبرانيين، في العهد الجديد، لا يتردد في حث المسيحيين على تذكر السجناء كما لو كانوا أنفسهم في السجن (عبر 13: 3). في مواجهة الفردانية السائدة اليوم، المؤمن يعرف نفسه عضوا في جسم اجتماعي كبير، جماعة الكنيسة. كان الشاعر الإنكليزي الروحاني جون دون Jonh Donne 1572 – 1632 يقول: "إن موت كل إنسان يقلل مني، لأنني أنتمي الى الجنس البشري".
عندما كنت طفلا أتذكر صلاة أمي: استدعي مار يوسف وتقول: "يا يسوع ومريم ومار يوسف كونوا معي في ساعة موتي"، في تاريخ الكنيسة يوسف شفيع المرضى والمدنفين ولهذا أذكره اليوم من أجل كل الذين يموتون بسبب الكورونا في أنحاء العالم.
شعبية مار يوسف تتطابق مع نعم عديدة لأن شفاعته مبنية على من خلص المخلص، هو سيساعدنا على تعلم ماذا نخلص من ايماننا عندما يبدو كل شيء مفقودا في هذه الأيام الداكنة اللون، وليكن عيد مار يوسف مبارك، بالرغم من عزلة المنازل والشقق وخلو الطرقات.           19 آذار 2020

29
بصراحة... أمام انفعالاتي!
المطران د. يوسف توما

نقول عادة في سياق كلامنا "لنكن صادقين، أو "سأكون صادقا معك" "بكل صراحة"... هذه عبارات نسمعها مرات عديدة كل يوم، وكأننا في قرارة أنفسنا نعترف بأننا غالبا ما نتلاعب بالحقيقة، فلا نقول الصدق دائما، برغم معرفتنا أن قول الحقيقة هو الصحيح. وكم نلف وندور حولها إما لنرى ردة الفعل الآخر أو خوفا من مأزق فنلجأ إلى الكذب أو إلى "كذب أبيض!"، بحيث أدمن البعض عليه ووضعوا له يومًا عالميًا، واحد نيسان، لكن بعض السياسيين اعتمدوه طوال السنة كلعبة، ينسون ما قالوا من وعود انتخابية!
إن كان الكذب تغلغل هكذا بيننا وحتى أعماقنا يبدو لي اليوم أنه أخطر مما نتصوّر إذ صار يهدّد علاقتنا لا مع الآخرين بل مع الله أيضا في صلاتنا. فالسؤال: كيف أكون صادقا وصريحا عندما أتوجّه إليه سبحانه وتعالى، كي يقبل صلاتي، وإلا لماذا أصلي؟

عندما كنت في سنّ المراهقة، وبدأتُ في تطوير علاقة شخصيّة وعميقة مع الله في المعهد الكهنوتي في الموصل قبل أكثر من نصف قرن، كثيرا ما كانت صلواتي تمتلئ بكلمات المخاطب: "أنت" إزاء "أنا". وإن كان التوجّه هكذا إلى الرب بهذه الطريقة غير معيب؛ لأنه شخص حي وقريب، بل "أقرب إليّ من حبل الوريد". لكنني، لاحقا، بعد البلوغ اكتشفت أن طريقة "الأنت" و"الأنا" اللتَين ملأتا صلاتي كانت عقبة تمنعني من صبّ قلبي بصدق أمام الرب، إذ كنت أعكس عليه صورة والدي البشري الذي أحتال عليه. فأكثر اهتمامي بالتقوى الشكلية على صدقي مع الرب. السبب على الأرجح لأن في قلبي وحياتي أشياء كثيرة أريد أن أخفيها عنه ناسيا أنه يعرف كل شيء!
إن حقيقة الرب هي أنه "فاحص الكلى والقلوب"، يدرك أعماق قلوبنا بل "هو أكبر من قلبنا" (1 يو 3/20). يعلم أفكارنا قبل التحدث إليه. وحتى إذا فشلنا أن نكون صادقين معه في الصلاة، فنحن لا نخدع سوى أنفسنا. المهم إذن أن نعرف أن الصدق مع الله في الصلاة يحررنا ولا شيء آخر غير الصدق.
بعد تقدمي في السن ومنذ ممارستي الكهنوت (ثم الأسقفية) مرّت أمامي حالات أناس يسترشدون من الذين – في إبان الأزمات - يشعرون بالغضب تجاه الرب لسبب ما. ثم يسألوني نادمين: "هل من الخطأ أن أغضب على الله؟". فأجيب: قبل كل شيء، عليك أن تتذكر أن الغضب عاطفة وانفعال، وهو ليس صحيحا أو خطأ بحد ذاته (فحتى الرضيع يغضب): لكن المهم أن نعرف فقط أنه موجود فينا، وما يجتاحنا من عواطف وانفعال ليس سوى موضوع منفصل ومسألة لا علاقة لها بالمسائل التي تشغلنا أو نتعرض إليها كل يوم.
عادة ما يتفاجأ الناس أمام جوابي: إذا كنتَ تشعر بالغضب تجاه الله قل له ذلك بصراحة! هل هذا ممكن؟ نعم، ألم يغضب أيوب البار على الرب؟ ... وقد خصّص الكتاب المقدس لهذا الغضب 42 فصلا في العهد القديم، يمكن أن نسميه سفر "محاسبة الرب"، فإلهنا يقبل التحدي ويتعامل مع غضب الإنسان بأبوّة لأنه يريد المؤمن صريحا صادقا في صلاته تتدفق من أعماقه بلا تصنّع ولا تقليد ولا تكرار "كالوثنيين"، إنما أن يقف كما هو أمام الرب! هذا عناه يسوع عندما قال بوجوب المداومة على الصلاة "من غير ملل" (لو 18/1) كي يخرج ما في أعماقنا فنشفى. ألم يسكب هو قلبه أمام أبيه في بستان الزيتون وعلى الصليب، فعبّر عن مشاعره لأبيه؟ ثم كان يختتم صلاته قائلا: "لتكن، لا مشيئتي بل مشيئتك!" (متى 26/39).
يمكن أن نتعلم الشيء نفسه: فلا نترك قضية إلا و"نغمسها" في الصلاة، "لأنها بعد ذلك ستخرج مختلفة" (بحسب قول المفكر الفرنسي جورج برنانوس)، فنخبر الرب بما فينا، بالكم الهائل من مشاعرنا السلبية ضد فلان وعلان... فلا نصبّ على أحد "جام غضبنا" بل نتحرّر من الغضب المدمر ونتمكن من الدخول في حضرة الرب بالمحبة التي يكنّها لنا وللآخرين لأنه أب حقيقي للجميع لا مثيل له.
هذه الأفكار راودتني منذ شهر وأنا أشاهد الشباب المتظاهرين في بغداد ومحافظات جنوب العراق وحاولت أن أفهم لماذا لم يحتوِ "الكبار" غضب الشباب الذي له ما يبرره، هل الخوف على كراسيهم منعهم من الاصغاء أو هل هي تقاليد البلد الذي لم يعرف سوى العنف؟
إن كان الرب لا يريدنا عالقين في حبال الغضب أو المشاعر السلبية فأوجد طريقا إلى قلب أيوب بالحوار، الذي قال بحرقة: "سمعتُ عنكَ سمعَ الأذُن، والآن رأتك عيني. لذلك أستردّ كلامي وأندم..." (أي 42/5). غضب الإنسان لا يمكن قمعه بالعنف بل يحتاج إلى معالجة بالإصغاء والدخول إلى أسبابه العميقة، فالعنف فشل وسيفشل ولن ينتج سوى الخيبة والندم.
في زماننا، يتم تناقل الانفعالات بالتصوّرات السلبية عن الآخرين، بين الإخوة والأزواج وهلم جرا إضافة إلى نظريات المؤامرة البائسة في كل مكان فتمتلئ القلوب بالضغينة لتصبح كالبراكين تغلي، والتاريخ مملوء بالحروب التي انطلقت من شرارة غضب صغيرة، لأنهم خلطوا الانفعال بالواقع وهما لا يتفقان أبدا.
هناك بيت شعر راود ذهني هذه الأيام لأبي تمّام: "السيف أصدق إنباءً من الكتب، في حدِّه الحد بين الجِدّ واللعب"، فهذا كان أسلوب الماضي البائس، لكن الحكمة علمتني أن هناك ما هو أصدق من السيف: إنه الكلام الصادق مع الآخر الذي يجنّب المصائب والقتل. كيف السبيل أن نفهم كلنا بموضوعية ما يحدث؟ حتى لو كانت بيدي مقاليد السلطة. فمظاهرات العراق كانت سلمية، وهذا جديد على تاريخنا، لكن ردّ الفعل المقابل لم يكن كذلك، فسقط مئات القتلى وآلاف الجرحى، ولم يحكّم حوار الحكمة بل تصوّرات العنف بالمقابل فدخلنا في نفق مسدود.
عمري 70 عاما أتذكر سحل الخصوم في الشوارع وتوالي الثورات والانقلابات والغزو والحصار، وكل مرة كنتُ أصلي: "يا رب السلام أعط العراق سلام!". لكنني اليوم أحلم أن يسمع شباب وطني صلاتي فيبقون مخلصين لسلميّة مظاهراتهم فلا ينجرّوا وراء العنف المضادّ خصوصا أن غضبَهم مشروع، ونزولهم إلى الشارع ليس سوى للمطالبة بحقهم في وطن، وطن يكون للفرد فيه قيمة، مهما كان دينه أو مذهبه أو قوميّته.

كركوك 23 تشرين الثاني 2019

30
بين 10 – 12 تشرين أول 2019 عقدت جمعية الكتاب المقدس في لبنان، سوريا، العراق وبريطانيا مؤتمرا حواريا في بيروت، بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأوسط، بعنوان: "في الأزمنة العصيبة... مسيحيون معا بالإصغاء إلى كلمة الله". كانت للمطران د. يوسف توما كلمة أولى فيه ننشرها للفائدة.

نظرة عامة على الضغوط التي تتعرض لها المجتمعات المسيحية، والفرص المتاحة
+ المطران الدكتور يوسف توما

هل أصبحنا جميعا أبناء وبنات الحرب؟

نحتاج اليوم إلى تحليل معمّق للحالة النفسية التي تمر بها شعوبنا عامة وشرقنا خاصة كما نحتاج إلى الاعتراف بالواقع، حتى نفهم أنفسنا وليس فقط كما تروج له وسائل الإعلام التي تبقى عموما خارج الموضوع. كذاك نحتاج إلى وسائل جاءت بها العلوم الإنسانية النفسية منها والاجتماعية وحتى السياسية، لكي ندرك ما فعلته "غواية الموت" (la pulsion de la mort) بل كأنها "تجربة الموت" لدى بعض معاصرينا في هذه البلاد خصوصا بحيث وإن قارنوها مع (الكاميكاز) الانتحاريين إبان الحرب العالمية الثانية في اليابان، إلا أنها بعيدة جدا عما حدث ويحدث لدينا. وهذا الجو أعتبره كأساس للتفكير والعمل إزاء الضغوط التي تتعرض لها مجتمعات المسيحيين، واستبعادهم من القدرية على التأثير حولهم بسبب تناقص أعدادهم وضعف فاعليتهم وعدم إعطائهم فرص العمل ضد التيار السائد والجو المشحون بأيديولوجيات "'طائفية وبدعوية" (sectarian) تغلغلت في المجتمعات الإسلامية بشكل لم يسبق له مثيل، لأن البدع – أو "الملل والنحل" التي حللها (أبو الفتح الشهرستاني 1086م – 1153م) – ظواهر تتعاقب في كل زمان ومكان، وتتفشى بحسب ضعف السياسات أو استغلالها للدين.
إنها إذن حاجة لازمة إلى هذا النوع من التحليل لإيجاد طريق للخروج من دوامة الحلقات السلبية التي نحن فيها منذ عقود وهي التي تدغدغ كل جيل بالرغبة في الحرب للتخلص من هذا "التهيّج" المتكرر، وكأن العالم بأسره يرتاح إلى تسليح هؤلاء المرضى محبّي القتال، ثم يعود ليعاقبهم بالحصار والتجويع وموت الأطفال بلا دواء.
منذ عقود، وخصوصا منذ عام 2003، في عموم الشرق الأوسط، نشهد قيام أجيال لا تعرف سوى الحرب أو قرع طبولها باستعداء قوم على آخر. لقد أصبحت الحرب داخل الناس كمسألة عادية. أصبحت في نفوسهم، في أجسادهم، في قلوبهم، وفي أذهانهم. وصار الله يستعمل في هذا المنطق الأعوج، فبدل أن يكون إله السلام صار هو أيضا يدعو إلى الحرب، والناس العاديون من غير المثقفين يتبعون هذا الشكل من قادة المجتمع. كلهم يصابون بالعدوى. وكأن هذا ما يوحّدهم فقط، وكأن مسألة الهرب نحو الموت هي السبيل الوحيد المتبقي للمجتمع بأكمله: فالحرب بداخلهم جميعًا، وهذا ما شعر به أهل الموصل عندما زرتهم في نيسان 2017، قالوا لي: "لقد جُنِنا، نحن أخرجناكم وأنتم تأتون لنا بالطعام والدواء، لقد دفعنا ثمن هذا الجنون بما فيه الكفاية! ...".
بهذا الصدد أتذكر شخصا كان يضرب زوجته. قال لي عنها: „لا يمكنها أن تفهمني، لأنها لم تكن في الحرب. لقد انتقلت الحرب إلى منزلنا، وصارت تنام معنا في السرير!"، إنها ضغوط ثقيلة تثقل بكاهلها على أبناء جيل صار كله ضحية.

علينا إذن أن نكتشف أن المسألة التي نعاني منها في بالضغوط التي تتعرض لها المجتمعات المسيحية، تدور في دوامة العنف الذي يفلت من أيدينا فالكل من حولنا يعاني مما يختلج في نفسه أو لدى الآخرين. وليس هناك من يساعده أو يتحدث معه عن هذا الأمر، لعله يشعر بالعار، قد لا يكون لديه أصدقاء أو لا يشعر أن أحدا يريد مصلحته، بالنسبة إليه يصبح الاختلاف مشكلة بين مسلمين ومسيحيين أو مسيحيين ومسيحيين أو مسلمين ومسلمين أيضا ثم تصغر الحلقة بحيث تصل إلى الفرق بين الرجال والنساء فيعاني الكل من هذا أيضا، يكفي أن نتصفح عبر الإنترنت لكي نفهم أن كلمة "الموت" أكثر انتشارا من "الحياة"، أو المشاكل والمرارة أكثر من الإيجابيات والفرح وحلاوة العيش.
ما أكثر من يعاني من اضطرابات متوارثة مثل "اضطراب الوسواس القهري" (obsessive compulsive disorder)، الذي تتناقله بعض الجماعات في جيناتها. وقد سألت أطباء نفسيين فأخبروني أنه ناتج عن بقايا الحروب، وما أكثرها بالنسبة لأجيالنا في الشرق منذ الأعوام 1948، 1967، 1973، 1980-1988، 1991، 2013 وهلم جرا، حيث كان الرعب في كل مكان والنتيجة تنطبع على الأطفال الذين يتعاملون مع أب عنيف أو أم عنيفة. المشاكلة الكبرى تبدأ في ضغوط منذ الأسرة والشارع ومشاكل الاقتصاد ونقص الخدمات ومآسي صعوبات المعيشة...
ينتقد النبي إرميا في كتابه المثل السائد في زمانه: "يأكل الآباء الحصرم (العنب الحامض) وأسنان أبنائهم تضرس" (ارميا 31/29) ويبشر بقيام جيل جديد لن يعود مجبرا على أن يرث كل مساوئ الأجيال السابقة. وفي هذا الاتجاه بدأ الكثيرون في زماننا يتحررون من ضغوط مجتمعاتهم فوصلوا أولا إلى "شرعة حقوق الفرد" ابان الثورة الفرنسية (1789)، ثم إلى شرعة حقوق الانسان (1948)، وهذا كان قبلا يعد أمرا مستحيلا.
صار الانسان أكبر من أن يكون تابعا لكل التقلبات والخوف والخجل. صار يجرؤ أن يقول بصوت عالٍ موقفه من ذكريات تمجد الحزن والمرارة والموت، وإن لم يستمعوا إليه، لكن في نهاية النفق ضوء. لا يحتاج بعد إلى أن يهرب من ذلك المجتمع، ويهاجر إلى مجتمعات أخرى، لكنه مدعو أن يقاوم بالثقافة والمعرفة فقط ألا يعود إلى الوراء ولا يندمج مع أفكار مفروضة بل بالعكس يحق له أن يحلم لأبنائه بمجتمع سليم، بالسلام لا بالحرب، وليس مثل كل انتحاريي زماننا الذين قالوا مع شمشون: "علي وعلى أعدائي"، هو "الذي قتل في موته أكثر مما قتل في حياته (قضاة 16/30) لأنه كان أعمى وفاقد الأمل!
مرض "اضطراب الوسواس القهري" الجماعي الذي تعاني منه بعض مجتمعاتنا. يدفعنا أن نفهمه ونشخصه لدى الجميع. لنساعد على قيام شكل جديد من المجتمعات، يسمع كلمة "التوبة" (ميتانويا = تغيير العقلية) في الانجيل. بها يخاطبنا "الله"، ليقول لنا من هو، تحت ملامح صورته الموجودة في الآخرين كأشخاص مختلفين، وإن لم نفهم ذلك سندفع الثمن باهظا وهذا ما عناه يسوع حين قال: "إن لم تتوبوا تهلكوا جميعا" (لو 13/3). الفرد إذن أولا ثم الجماعة.
العلوم النفسية تمكنت من تشخيص مرض "اضطراب الوسواس القهري" لدى الفرد منذ قرن من الزمان، لكن أفلت زمامه في عصرنا عندما صار مرض "اضطراب الوسواس القهري" جماعيًا، وأصيب به قادة السياسة والدين والأدب والإعلام...  فأعطوا عن الله صورة تشبههم: مخيفًا ديّانًا حاكمًا جبارًا ... في الشرق خصوصا تعوّدنا على الخلط بين أفكارنا وأفكار الله فجاءت الصدمات التي يتعرّض إليها الناس، مما جعلهم فترة طويلة تحت ثقل المعاناة والتعبان يُتعِب، وينشر العدوى. فرصة الحلّ ستأتي بالاعتراف بميراث التاريخ الثقيل وعدم اعتباره قَدَرًا محتومًا. هذا التاريخ هو مجرّد درس لا ينبغي أن ننساه، إذ لا يمكن استعادة أجواء الثقة المفقودة في أحيان كثيرة، إلا بالحقيقة. اليوم صار لدينا وسائل التعامل بجدّية مع الذكريات المؤلمة. والشفاء ممكن بالرغم مما تعرض له الإيزيديون والمسيحيون وبقية اللاجئين من أهوال الحرب، إنها المرونة والقدرة على التجاوز (resilience) التي صار لها مختصون كبار مثل بوريس سيرولنك (المولود في عام 1937) الذي فقد في سن ست سنوات على يد النازيين، والديه، ثم أصبح من أشهر النفسانيين في فرنسا ممن تناولوا هذا الموضوع.
الخاتمة: إذا لم تكن شعوب هذه المنطقة قادرة على إدراك معنى ما حدث لها من موت مشترك لم يسلم منه أحد لن تستطيع (هذه الشعوب) أن تقف كرجل واحد للعمل معًا، لبناء المستقبل وقبول التصدّي بالصراع ضد الأفكار التي تسببت بكل هذه المآسي منذ عقود. لقد خضنا أشكال الحروب من أهلية ومع الجيران، وكادت في بعض الأحيان تقضي علينا. لكن الحكمة لدى جماعات محلية جنّبتنا ذلك. وهذا يجب أن يؤخذ الآن كذاكرة مشتركة، وكأساس تاريخي مشترك، للعمل الآن معًا للتغلب على نزعة الموت واسكات كل من يدق طبول أشكال الحروب. صحيح، أصبحنا جميعا بنات وأبناء لأشكال الحروب، لكن لدينا طريق واحد فقط للمستقبل: التوجه معًا لتحرير أنفسنا منها ومسبّباتها وذاكرتها في أجسادِنا وجروحِنا. وأفضل ما قد نفعله كخطوات أولى بين المسلمين والمسيحيين والإيزيديين هو أن نصلي معًا، ومن أجل بعضنا البعض، فرديا وجماعيا، ونقول كما في القداس الكلداني حين نصلي: "فرّق يا رب الشعوب المنقسمة التي تحبّ الحرب!".

بيروت 11 تشرين الأول 2019

31
القيمة الحقيقية للإنسان
المطران الدكتور يوسف توما
محاضر معروف جدا في إحدى المدن بدأ كلامه قبالة جمهور كبير في قاعة امتلأت بأكثر من 200 شخصا. أخرج من جيبه ورقة 100 دولار، وسألهم: "من منكم يريد أن يحصل على هذه الورقة ذات 100 دولار؟".
بدأت الأيادي ترتفع تباعا من دون أن يفهموا قصد المحاضر. ثم قال: "انا سأعطي هذه الورقة النقدية لواحد منكم - ولكن أولا، اسمحوا لي أن أفعل هذا...".
وبدأ يُجَعّد المائة دولار جاعلا منها بمثابة كرة ورقية صغيرة. ثم سأل: "هل يزال بينكم من يريدها؟"، بقي الكثير من الأيادي مرتفعا في الهواء.
قال الرجل: "حسنا، ماذا لو فعلتُ هذا؟"، ثم ألقى الورقة على الأرض وبدأ يدوسها ويسحقها بحذائه. ولما رفعها كانت مشوّهة وقذرة، فقال: "الآن، هل ما يزال من يريدها؟".
بقيت جميع الأيادي مرتفعة في الهواء.
قال لهم: "أعزائي، لقد تعلمتم اليوم كلكم درسا ثمينا للغاية: بغضّ النظر عما فعلتُه أنا بورقة النقد هذه، لكنكم بقيتم ولا تزالون تريدونَها لأن قيمتها لم تنخفض. فهي بقيت 100 دولار.

مرات عديدة في حياتنا، نسقط ونتكوّم على الأرض ونتمرّغ في التراب والأوساخ بسبب القرارات التي نتخذ والظروف التي تعترض طريقنا. وقد نشعر أننا فقدنا قيمتنا. ولكن بغض النظر عمّا يحدث أو ما سيحدث لنا، قيمتنا هي هي، في عين الرب ولا يجب أن نفقدها في عيننا بالذات.
مهما كانت الظروف والتصرفات يبقى هنالك شيء لا تمسه الخطيئة أو الأحوال، "فالرب أكبر من قلبنا" (1 يوحنا 3/20) ومن مشاعرنا بل إنه يحب الأضعف والأسوأ بيننا (لوقا 15) لأنه وحده يعرفنا على حقيقتنا. فإن كانت الحياة قد جعّدتك، أو بالعكس، قد وفّرت لك حياة ناعمة نظيفة، فكلاهما لا يهم، أنت تبقى لا تقدَر بثمن في عين من يحبّك وخصوصا في عين خالقك ومخلصك. قيمة حياتك لا تأتي، ممّا تعمل أو ما تقوم به أو ما تعرفه، قيمتك من جوهر كيانك في الأساس ما أنت فقط.
أنت شيء خاص جدا، وهذا يجب عليك ألا تنساه قط في أي زمان أو مكان.
كركوك 1 آب 2019

32
الكنيسة في خدمة القضايا الإنسانية

المطران د. يوسف توما
عرضت إحدى القنوات الفرنسية يوم 18 تموز الماضي فيلما عن مدينة الموصل "سنتان بعد داعش"، للصحفيّة الفرنسية آن بواريه، تم تصويره في شتاء 2019، يخرج المرء بعد مشاهدته بشعور بالعجز أمام هول الكارثة، ويطرح على نفسه أسئلة عديدة منها: لماذا حدث كل هذا؟ ألم يكن بالإمكان تجنب كل هذه المصائب المروّعة على المساكين والأطفال والمسنّين والمرضى؟ وهل من سبيل لإعادة بناء هذه المدينة العريقة ولأم جروح الأجساد والأرواح؟
كارثة الموصل واحدة من كوارث حدثت وتحدث في تاريخ البشرية، إنها قصص طويلة وعريضة، شجون ودموع، تسبّبها الخطيئة الساكنة فينا وتقرّرها غرائز العنف والانتقام والجشع، إنها بمثابة أمراض عميقة ومزمنة بحيث يتجاوز علاجها طاقات الخير لدى البشر، لذا نؤمن نحن أن الله أرسل ابنه المسيح ومن بعده الرسل والتلاميذ منذ البداية، لا ليبحثوا عن أجوبة على تلك الأسئلة فقط - التي يستحيل أحيانا الجواب عليها – لكن وبكل تواضع كي يعملوا ما يمكنهم في المساعدة الإيجابية والتخفيف عن الآلام التي تسبّبها الكوارث والحروب. 
لهذا السبب ومنذ بداية الكنيسة اتجه الرسل إلى أشكال الخدمة وأعطوها بُعدًا لاهوتيا وطوّروها وأبدعوا فيها بحيث اكتشفوا أنها أقرب إلى "دعوة إلهية" تتطلب تضحية وإصغاءً إلى الروح القدس، أطلقوا عليها اسم المواهب (أو الكارزما باليونانية). ثم جاء القديس بولس مع بداية ظهور المؤسسة الكنسيّة ليعطيها مقوّماتها، فشدّد على تنوّع تلك المواهب لدى كل من يريد أن يعمل في الكنيسة. شمل هذا التنوّع خصوصًا حاجات بدأت تظهر لدى تزايد المنتمين إلى الكنيسة في امتدادها الجغرافي وتغلغلها بين الثقافات والشعوب، ولجميع الأعمار. ومن الملفت للنظر أن هذا الموضوع صار يشغل كل مراحل التاريخ المسيحي عِبر ألفَي عام، فتوزّعت الخدمة وانتشرت حيثما حلت "الجماعة المؤمنة" واندمجت في شعوب متنّوعة وعقليات غالبًا ما لم تقبلها بل رفضتها واضطهدتها وهجّرتها!
يقرن الباحثون في تاريخ المسيحية قيام الكنيسة في كل مكان ببذل جهود هائلة من أجل أشكال الخدمات التي قدّمها أبناؤها لسد الحاجات، فهي في الظاهر تبدو غير دينية، فظهرت هنالك خدمات علاجية لشفاء الأمراض وتقديم الخدمات الطبّية، فقامت رهبانيات نسائية ورجالية بعد الحروب، أو أخرى لجمع التبرعات لامتصاص الفقر والفاقة، وهذا في أصل كل الجمعيات الخيرية، والإنسانية...، كما قامت خدمات التعزية، مثل العناية بذوي الاحتياجات الخاصة، زيارات السجون، أو إقامة دور العجزة...، هناك أيضا تركيز على موهبة النبوءة، أي ما من شأنه كشف ما يجب إصلاحه في المجتمع والإنسان، أو الاهتمام بموهبة التعليم كخدمة المدارس ومحو الأمية وإعطاء أشكال الدراسات اللاهوتية وفتح مراكز التعليم المسيحي وغيره، وأخيرًا موهبة خدمة الوحدة، أي هؤلاء الذين يجمعون الجماعة ويشجّعونها ويثبتونها في الإيمان: إنها موهبة القيادة، موهبة الرعاة، وهذا كان شأن الأساقفة والكهنة والشمامسة الإنجيليين. من هذا المنظور لا يمكن القول إن الكنيسة بحثت عن السلطة، إذ تذكرت دائما قول مؤسسها: "من كان فيكم كبيرا فليكن خادما" (متى 20/26)، الأمور مع المسيح معكوسة ففي السلطوية تسري الأوامر من فوق إلى تحت، وحيث الناس "أعلى وأوطأ". أما في الجماعة الخادمة فالأمور من تحت إلى فوق.
مواهب (أو كارزما) الخدمة
في كل زمان ومكان يوقظ الرب المواهب في الكنائس والمناطق وقد شعر يسوع بذلك كضرورة قصوى حين قال "الحصاد كثير والفعلة قليلون، اطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده" (متى 9/38) العالم هو حقل الرب لو تركناه على حالته "الطبيعية" يهلك ويتلف، لذلك لم يترك الرب كنيسته بلا خدّام.
لكن، إن كانت المواهب ضرورية، إلا أن الكفاءة مع الموهبة (الكارزما) ضرورية أيضا، فعطية اللـه يقابلها عندنا استعداد عميق من جهة ورغبة في التطوير والتمكن من العمل من جهة أخرى. في العطية اتجاه وتفرّغ لخدمة الجميع، وقد يأتي بعدها التخصّص. وهنا للروح القدس دور أساسي: فهو الذي يعطي النعمة والأمانة والديمومة كي تصبح الموهبة خدمة تتجاوز حدودَنا وضعفنا ولا تجعلنا نغرق أمام عظم الحاجات.
عندما كانت "هيلاري كلينتون"، السيدة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية زارت الهند والتقت بالأم تريزا سألتها: "أمي، يقال إنك ساعدتِ سبعة ملايين شخصا"، فأجابت الأم تريزا: "بالنسبة لي، الطفل الذي بين يديّ أو العجوز هما الأهم، لا أفكر بشيء آخر!".
المواهب إذن تعمل فرديًا وجماعيا أيضا، تتكامل من خلال الإمكانيات والقابليات والمهارات والحنكة الإدارية والدراية التنظيمية واللباقة والبلاغة والفصاحة... وهنا تختلط التعابير: لتصير "المواهب" خدمات والخدمات بالعكس تصير مواهب. لكن لو نظرنا من علو لرأينا الأمور أوسع وأشمل من الخدمة، تجتمع مثل باقة زهور جميلة تحتاج إلى شيء من التنظير واللاهوت. أي بالابتعاد عن الصورة يمكن رؤيتها اوضح. فالخطر هو أن نغرق في التفاصيل، ومن لا يبتغي الشمولية يضيع ويشعر بتفاهة ما يعمل بسبب وقوعه في الروتين أو يصبح كالموظف يرضي صاحب العمل، لكنه لا يتخذ المبادرات ولا يهمّه تحسين العمل ولا نظرة لديه عن المستقبل.
ولكيلا نقع في التعميم والخلط، يجب أن نوضح أن كل خدمة تقدَم في الكنيسة ليست رتبة "كنسيّة". فهناك الخدمات متباينة وظيفية وعائلية، يمكنها أن تدخل ضمن البعد الشامل للكنيسة: كشهادة الحياة في العمل والتضحية وبذل الذات... الخ. وزيادة في الوضوح نقول، إن الرتب الكنسية تعني بخاصّة بعض الخدمات الخاصة مقسّمة كما يأتي:
أ) الرتبة الكنسية خدمة معيّنة هدفها محدد: كالتعليم المسيحي في المدارس.
ب) الرتبة الكنسية ذات أهمية حياتية، أي ضرورية لاستمرار الكنيسة: كالليتورجيا وخدمة الفقراء والكرازة بالإنجيل.
ج) الرتبة الكنسيّة خدمة تتحلى بالمسؤولية، تتعلق مباشرة بمسؤول كنسي (كالكاهن أو الأسقف) ولكنها تترك لصاحبها حرية حقيقية واستعدادا ليتكلم أمام اللـه وأمام الكنيسة.
د) الرتبة الكنسية خدمة تحتاج إلى فترة زمنية ما، قد لا تمتد إلى كل الحياة لكنها تتطلب بعض الديمومة والاستقرار.
هذه الرتب (أو الخدمات) يمكن القيام بها فرديًا أو جماعيًا، تتولد من بادرة تصدر عن الأفراد أو الجماعة. أو قد تكون مطلوبة هنا أو هناك أو على أثر دعوة من الكاهن أو الأسقف. أو تكون مقترحات تحتاج إلى دراسة ميدانية وترجمة واقعية.
خاتمة
عندما قمت بزيارة الساحل الأيمن للموصل، وداعش لا يزال يحارب فيه، في نيسان 2017 واطلعتُ على الخراب الذي حدث، لم أصدّق ما رأيتُ تذكرت فقط مدينتَي هيروشيما وناغازاكي اليابانيّتين، بعد القاء قنبلتين نوويّتين عليهما في عام 1945، وقلتُ لنفسي، هذه مدينتي العزيزة التي ولدتُ فيها، هل ستنهض من جديد؟ وتذكرتُ أيضا حالة تينِك المدينتين اليوم، فالتمعَ فيّ الأمل أن الموصل سوف تنهض أيضا وتداوي جراحها لو تسنى لها بين أبنائها من يضطلع بالخدمة والكفاءة، وأن ندعو المنظمات الإنسانية كُلا بحسب اختصاصه، لا لمعالجة الأبنية والجسور والبنى التحتية فحسب، وإنما لتقوم بمعالجة أشكال الأذى التي أحدثتها أزمة النزوح والهجرة وهدر كرامة الانسان وحقوقه المسلوبة، مع الاهتمام بالنفس مع الجسد. عندئذ سوف تصبح الموصل منارة في سماء العراق وعنوان نهضته من جديد وشفائه من مصائبه. وكانت صلاتي تتكرر في ذهني كلمات أرسلتها مرتا ومريم أختا لعازر تقولان ليسوع عن أخيهما المدنف: "يا رب، إن الذي تحبّه مريض"، قلت معهما: يا رب، الموصل التي تحب وتبارك، مريضة، بل العراق كله مريض، تعال وضع يدك عليه سيشفى بل سيقوم حتى لو بدا أنه ميت.
كركوك 19 تموز 2019   
بخصوص الخدمات في الكنيسة إقرأ في العهد الجديد: روم12/6-8، 1قور12/8-10، و28-30، وأفسس4/11-12)...

33
الكنيسة في خدمة القضايا الإنسانية
الخدمة في المسيحية أساسيّة في التعليم والعمل
المطران د. يوسف توما

عرضت إحدى القنوات الفرنسية يوم 18 تموز الماضي فيلما عن مدينة الموصل "سنتان بعد داعش"، للصحفيّة الفرنسية آن بواريه، تم تصويره في شتاء 2019، يخرج المرء بعد مشاهدته بشعور بالعجز أمام هول الكارثة، ويطرح على نفسه أسئلة عديدة منها: لماذا حدث كل هذا؟ ألم يكن بالإمكان تجنب كل هذه المصائب المروّعة على المساكين والأطفال والمسنّين والمرضى؟ وهل من سبيل لإعادة بناء هذه المدينة العريقة ولأم جروح الأجساد والأرواح؟
كارثة الموصل واحدة من كوارث حدثت وتحدث في تاريخ البشرية، إنها قصص طويلة وعريضة، شجون ودموع، تسبّبها الخطيئة الساكنة فينا وتقرّرها غرائز العنف والانتقام والجشع، إنها بمثابة أمراض عميقة ومزمنة بحيث يتجاوز علاجها طاقات الخير لدى البشر، لذا نؤمن نحن أن الله أرسل ابنه المسيح ومن بعده الرسل والتلاميذ منذ البداية، لا ليبحثوا عن أجوبة على تلك الأسئلة فقط - التي يستحيل أحيانا الجواب عليها – لكن وبكل تواضع كي يعملوا ما يمكنهم في المساعدة الإيجابية والتخفيف عن الآلام التي تسبّبها الكوارث والحروب. 
لهذا السبب ومنذ بداية الكنيسة اتجه الرسل إلى أشكال الخدمة وأعطوها بُعدًا لاهوتيا وطوّروها وأبدعوا فيها بحيث اكتشفوا أنها أقرب إلى "دعوة إلهية" تتطلب تضحية وإصغاءً إلى الروح القدس، أطلقوا عليها اسم المواهب (أو الكارزما باليونانية). ثم جاء القديس بولس مع بداية ظهور المؤسسة الكنسيّة ليعطيها مقوّماتها، فشدّد على تنوّع تلك المواهب لدى كل من يريد أن يعمل في الكنيسة. شمل هذا التنوّع خصوصًا حاجات بدأت تظهر لدى تزايد المنتمين إلى الكنيسة في امتدادها الجغرافي وتغلغلها بين الثقافات والشعوب، ولجميع الأعمار. ومن الملفت للنظر أن هذا الموضوع صار يشغل كل مراحل التاريخ المسيحي عِبر ألفَي عام، فتوزّعت الخدمة وانتشرت حيثما حلت "الجماعة المؤمنة" واندمجت في شعوب متنّوعة وعقليات غالبًا ما لم تقبلها بل رفضتها واضطهدتها وهجّرتها!
يقرن الباحثون في تاريخ المسيحية قيام الكنيسة في كل مكان ببذل جهود هائلة من أجل أشكال الخدمات التي قدّمها أبناؤها لسد الحاجات، فهي في الظاهر تبدو غير دينية، فظهرت هنالك خدمات علاجية لشفاء الأمراض وتقديم الخدمات الطبّية، فقامت رهبانيات نسائية ورجالية بعد الحروب، أو أخرى لجمع التبرعات لامتصاص الفقر والفاقة، وهذا في أصل كل الجمعيات الخيرية، والإنسانية...، كما قامت خدمات التعزية، مثل العناية بذوي الاحتياجات الخاصة، زيارات السجون، أو إقامة دور العجزة...، هناك أيضا تركيز على موهبة النبوءة، أي ما من شأنه كشف ما يجب إصلاحه في المجتمع والإنسان، أو الاهتمام بموهبة التعليم كخدمة المدارس ومحو الأمية وإعطاء أشكال الدراسات اللاهوتية وفتح مراكز التعليم المسيحي وغيره، وأخيرًا موهبة خدمة الوحدة، أي هؤلاء الذين يجمعون الجماعة ويشجّعونها ويثبتونها في الإيمان: إنها موهبة القيادة، موهبة الرعاة، وهذا كان شأن الأساقفة والكهنة والشمامسة الإنجيليين. من هذا المنظور لا يمكن القول إن الكنيسة بحثت عن السلطة، إذ تذكرت دائما قول مؤسسها: "من كان فيكم كبيرا فليكن خادما" (متى 20/26)، الأمور مع المسيح معكوسة ففي السلطوية تسري الأوامر من فوق إلى تحت، وحيث الناس "أعلى وأوطأ". أما في الجماعة الخادمة فالأمور من تحت إلى فوق.
مواهب (أو كارزما) الخدمة
في كل زمان ومكان يوقظ الرب المواهب في الكنائس والمناطق وقد شعر يسوع بذلك كضرورة قصوى حين قال "الحصاد كثير والفعلة قليلون، اطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده" (متى 9/38) العالم هو حقل الرب لو تركناه على حالته "الطبيعية" يهلك ويتلف، لذلك لم يترك الرب كنيسته بلا خدّام.
لكن، إن كانت المواهب ضرورية، إلا أن الكفاءة مع الموهبة (الكارزما) ضرورية أيضا، فعطية اللـه يقابلها عندنا استعداد عميق من جهة ورغبة في التطوير والتمكن من العمل من جهة أخرى. في العطية اتجاه وتفرّغ لخدمة الجميع، وقد يأتي بعدها التخصّص. وهنا للروح القدس دور أساسي: فهو الذي يعطي النعمة والأمانة والديمومة كي تصبح الموهبة خدمة تتجاوز حدودَنا وضعفنا ولا تجعلنا نغرق أمام عظم الحاجات.
عندما كانت "هيلاري كلينتون"، السيدة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية زارت الهند والتقت بالأم تريزا سألتها: "أمي، يقال إنك ساعدتِ سبعة ملايين شخصا"، فأجابت الأم تريزا: "بالنسبة لي، الطفل الذي بين يديّ أو العجوز هما الأهم، لا أفكر بشيء آخر!".
المواهب إذن تعمل فرديًا وجماعيا أيضا، تتكامل من خلال الإمكانيات والقابليات والمهارات والحنكة الإدارية والدراية التنظيمية واللباقة والبلاغة والفصاحة... وهنا تختلط التعابير: لتصير "المواهب" خدمات والخدمات بالعكس تصير مواهب. لكن لو نظرنا من علو لرأينا الأمور أوسع وأشمل من الخدمة، تجتمع مثل باقة زهور جميلة تحتاج إلى شيء من التنظير واللاهوت. أي بالابتعاد عن الصورة يمكن رؤيتها اوضح. فالخطر هو أن نغرق في التفاصيل، ومن لا يبتغي الشمولية يضيع ويشعر بتفاهة ما يعمل بسبب وقوعه في الروتين أو يصبح كالموظف يرضي صاحب العمل، لكنه لا يتخذ المبادرات ولا يهمّه تحسين العمل ولا نظرة لديه عن المستقبل.
ولكيلا نقع في التعميم والخلط، يجب أن نوضح أن كل خدمة تقدَم في الكنيسة ليست رتبة "كنسيّة". فهناك الخدمات متباينة وظيفية وعائلية، يمكنها أن تدخل ضمن البعد الشامل للكنيسة: كشهادة الحياة في العمل والتضحية وبذل الذات... الخ. وزيادة في الوضوح نقول، إن الرتب الكنسية تعني بخاصّة بعض الخدمات الخاصة مقسّمة كما يأتي:
أ) الرتبة الكنسية خدمة معيّنة هدفها محدد: كالتعليم المسيحي في المدارس.
ب) الرتبة الكنسية ذات أهمية حياتية، أي ضرورية لاستمرار الكنيسة: كالليتورجيا وخدمة الفقراء والكرازة بالإنجيل.
ج) الرتبة الكنسيّة خدمة تتحلى بالمسؤولية، تتعلق مباشرة بمسؤول كنسي (كالكاهن أو الأسقف) ولكنها تترك لصاحبها حرية حقيقية واستعدادا ليتكلم أمام اللـه وأمام الكنيسة.
د) الرتبة الكنسية خدمة تحتاج إلى فترة زمنية ما، قد لا تمتد إلى كل الحياة لكنها تتطلب بعض الديمومة والاستقرار.
هذه الرتب (أو الخدمات) يمكن القيام بها فرديًا أو جماعيًا، تتولد من بادرة تصدر عن الأفراد أو الجماعة. أو قد تكون مطلوبة هنا أو هناك أو على أثر دعوة من الكاهن أو الأسقف. أو تكون مقترحات تحتاج إلى دراسة ميدانية وترجمة واقعية.
خاتمة
عندما قمت بزيارة الساحل الأيمن للموصل، وداعش لا يزال يحارب فيه، في نيسان 2017 واطلعتُ على الخراب الذي حدث، لم أصدّق ما رأيتُ تذكرت فقط مدينتَي هيروشيما وناغازاكي اليابانيّتين، بعد القاء قنبلتين نوويّتين عليهما في عام 1945، وقلتُ لنفسي، هذه مدينتي العزيزة التي ولدتُ فيها، هل ستنهض من جديد؟ وتذكرتُ أيضا حالة تينِك المدينتين اليوم، فالتمعَ فيّ الأمل أن الموصل سوف تنهض أيضا وتداوي جراحها لو تسنى لها بين أبنائها من يضطلع بالخدمة والكفاءة، وأن ندعو المنظمات الإنسانية كُلا بحسب اختصاصه، لا لمعالجة الأبنية والجسور والبنى التحتية فحسب، وإنما لتقوم بمعالجة أشكال الأذى التي أحدثتها أزمة النزوح والهجرة وهدر كرامة الانسان وحقوقه المسلوبة، مع الاهتمام بالنفس مع الجسد. عندئذ سوف تصبح الموصل منارة في سماء العراق وعنوان نهضته من جديد وشفائه من مصائبه. وكانت صلاتي تتكرر في ذهني كلمات أرسلتها مرتا ومريم أختا لعازر تقولان ليسوع عن أخيهما المدنف: "يا رب، إن الذي تحبّه مريض"، قلت معهما: يا رب، الموصل التي تحب وتبارك، مريضة، بل العراق كله مريض، تعال وضع يدك عليه سيشفى بل سيقوم حتى لو بدا أنه ميت.
كركوك 19 تموز 2019   

بخصوص الخدمات في الكنيسة إقرأ في العهد الجديد: روم12/6-8، 1قور12/8-10، و28-30، وأفسس4/11-12)...

34

المطران د. يوسف توما

منذ طفولتي كنت أحبّ المطرب محمد عبد الوهاب، وكنت أضع أذني على الراديو القديم في بيتنا وأصغي إليه وأحاول أن أقلده، لكني عندما بدأت أكبر صرتُ أفكر بالكلمات التي يقولها، وأكثر أغنية حيّرتني كانت أغنية "الجندول"، من كلمات على محمود طه، حيث يقول هذه الجملة الغريبة: "أنا من ضيّع في الأوهام عمره، نسيَ التاريخ أو أنسيَ ذكرَه...". وبقيَت هذه الكلمات تتردّدُ في ذهني وأنا أنمو وأدرس وأتعلم علومَ الله والإنسان، فاكتشفتُ فعلا أنه يمكنني أن أقرأ التاريخ من منظور الأوهام الفردية والجماعية. ولما اقتربتُ من علم النفس رأيتُ أن الإصابات كافة تأتي في هذا المجال، من التخيّلات والتصوّرات، وإذا ما استطاع أحدُهم أن يعبّرها إلى الآخرين، ويشيطنُهم حضّر نفسه إلى الحروب والنزاعات التي لا تنتهي. وبعد أن يهدأ كل شيء يتساءل المرء: لماذا حدث كل هذا؟ وماذا دفعني لمثل هذه الأفكار؟ وما سبب حروبنا ونزاعاتِنا سوى تخيّلاتنا المريضة؟
لا يوجد إذن شيء في هذا العالم يمكن أن يزعجنا أكثر من أفكارنا الخاصّة، عندما تنفصل عن الواقع وتصبح ضائعة على هواها كرؤية وتخيّلات بل تدخل في الصلاة ذاتها (كصلاة الفريسي المغرور، لوقا 18)، وعندما أقول: "نجّنا من الشرير"، أقصدُ كل فكرة شريرة تتخيّل لي وتجرّبني وتدفعُني دفعًا نحو المحذور. ألم تكن خطيئة "المجرّب" لآدم وحوّاء مجرّد خيالات قضت على صداقتهما مع الرب؟ والنتيجة فقدا الفرح وحلّ الحزن والاكتئاب وخصوصا حلّ الشعور بالذنب. 
وبالعكس يمكن أن نتساءَل: من يستطيع أن يخلق الفرح حيث الحزن والأمل في حالة اليأس والراحة حيث عدم الارتياح؟
هل وفرةُ المقتنيات هي التي تخلق كل هذا؟ هل كثرةُ الأشياء المادّية هي التي تعطي السعادة؟ هل القناعة تأتي عندما لا يزعِجني أحد؟ هل الوحدة تأتي تلقائيا حيث يوجد الانقسام والانفصال؟ أم هي النظرة التي ألقيها على الأشياء والأشخاص والعلاقات، التي تتحكم بي وبك وبنا؟
في حين، علمتني القناعة وحرمان الحصار والحروب أني قادر على رؤية الوفرة حيث النقص؛ وأقرأ علامات الحب حتى حيث يوجد بعض النفور؛ وقد يكون الابتعاد استعدادا للوحدة بين بعض الأحبّة حتى لو انفصلوا إلى حين...
نقرأ في الانجيل آية تبدو للوهلة الأولى غريبة، قالها يسوع: "سراج الجسد العين، فإن كانت عينك سليمة يكون جسدك كله نيرا، وإن كانت عينك مظلمة يكون جسدك كله مظلما، وأن كان النور الذي فيك ظلاما، فظلامك كيف يكون؟" (متى 6/22). كان الأقدمون بأسلوبِهم الصوَري يعنون بأنّ في العين يوجد نورٌ نسلّطه على الأشياء من خلال مجرّد النظر إليها، أي يمكن أن تكون نظرتك منارة تضيء الظلام أينما حلت لأنك أنت من يخلق (مع الله) كل ما هو موجود، أي إنك تخرج الأشياء إلى حيّز النور وتعيد خلقها بمجرد تسليطِك نظرة "مفسِرة" وشارحة لها، لأن الله بعث بك إليها من أعماق الزمن وعملها في وقت مضى لك ومن أجلك وأنت عليك أن تعمل الآن، وبهذا تُكمِل عمل الخالق، ولولا مشاركتك الخلقَ معه لن يكتمل المعنى الذي أنت مدعوّ لإعطائه الأشياء والأشخاص من أي وقت ومكان. يمكنك إذن أن تحتضن الحياة بمعرفة كاملة وبذا تقترب من الكمال، كمال الحب الذي به تتجاوز نقص الطبيعة ونقصَ الآخرين: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل: لأنه يشرق شمسه وينزل مطره على الأخيار والأشرار..." (متى 5/48)، وهذا لا تستطيع تحقيقَه إلا إذا تزودتَ بالطاقة من مصدرها، طاقة الحب الساكن فيك. لكن متى ستفعل هذا؟ أراك منشغلا بأوهامك وتنسى هذه الحقيقة، تنسى أن النعمة الإلهية تتدفق فيك مثل نهرٍ أبديّ محصور بداخلك لأنك لم تسمع ما قاله المعلم: "من يسمع هذا الكلام ستجري من بطنه أنهارُ ماء الحياة..." (يو 7/38)، حذار إذن فأنت قادر أن تنفصل إلى الأبد، عن الخالق وحبّه غير المشروط، عندما تنسى أنك عطيّة وهديّة يتوق هو إلى تحقيقها بمَلئِك بنعمته فتصبحَ واحدًا معه. لقد قالها الله منذ البداية، بعد المعصية: "ها قد أصبح آدم كواحد منا، يعرف الخير والشر والآن لعله يَمدّ يدَه إلى شجرة الحياة أيضا فيأخذ منها ويأكل..." (تك 3/22). أكثر من أي شيء آخر إذن يجب أن يشغل هذا الأمر ذهنَك وليس الأوهام، عليك أن تعرف أنك لم تتوقف قط عن كونك خليقة الإله من أجل هدف آخر يختلف عن كل ما تتصوّر وتتوهّم لأن حتى الواقع سيختلف: "ما لم تره عين وتسمع به اذنٌ ما أعدّه الله للذين يحبّونه ..." (1 قور 2/9). اقبَل فقط أنّ ما أنت عليه الآن هو حالة نقصٍ كالشجرة التي لم تثمر بعدُ، أنتَ في طور النموّ، أمامَك ثمارٌ أبديّة، تذكر أنكَ كنتَ دائمًا وستظل في كل لحظة عابرًا نحو الأبدية... وهو كذلك!
وليكن الحب والسلام معك على الدوام.                      كركوك 20 تموز 2019

35
تعقيبًا على دعوة غبطة البطريرك/الكردينال لويس ساكو: من أجل لاهوت و"فقه" المصالحة السياسية والمجتمعية (https://saint-adday.com/?p=33458)، أتناول هذا الموضوع من منظور آخر...

المستقبل بين المتفائل والمتشائم
المطران الدكتور يوسف توما
ما يمكننا رؤيته من الواقع هو أقل من 1ر0 % فقط ( 00.0037 ٪) أي قليل جدا. وحتى هذا القليل لا يراه المصاب بالتشاؤم، والفرق هو أن المتفائل يعمل على تسخير ما يراه ويحاول أن يتصل بغير المرئي عن طريق حثّ الطبيعة كشريك له في هذا الجهد. فالإنسان يستطيع أيا كانت حالته أن يسخّر ما لديه حتى الأيونات، عن طريق الإيجابي في التنفس والشم والإحساس والفهم. والأهم من كل ذلك، يقبل المتفائل مساعدة الآخرين ويندمج في نجاحهم ويفرح لهم. أذكر عندما استقبلت في نهاية عام 2014 (بعد احتلال داعش لنينوى) أوّل الطلاب اللاجئين إلى كركوك شجّعتهم على الاستمرار في الدراسة آملا أنني سأتمكن من توفير حاجاتهم، أغلبهم كان يعاني من التشاؤم والخيبة، لكن بعد أشهر قليلة أصابتهم عدوى تفاؤلي وصار عدد الذين يرون إمكانية تحسّن الوضع يزداد...
بعض المتفائلين قد يرون في المشاكل دافعا لهم ليدخلوا حلبة التنافس على أمل أن يُحكم عليهم بأنهم الأفضل، لكن حذار فمثل هؤلاء قد يقع في الاحباط، فاللاوعي لديه يضعه في التحدي مع الآخرين أو مع أشكال ظروف الحياة والطبيعة الأخرى (كالمرض والحوادث والشيخوخة...)، هذا التحدي ليس في مكانه. النجاح في الحياة يقوم بالأساس على نوعية ذكاء للتعايش مع الظروف والمصاعب وليس على المنافسة والتحدّي وصكّ الأسنان، لأن مبدأ "البقاء للأقوى"، الذي ساد عبر التاريخ أغلب المفكرين، لم يعد صالحا، صراع الحياة لم يوفر البقاء إلا لمن كان أكثر مرونة وحيلة وتكيّفا. المتفائل لا يطلب الكمال مثل المتشائم، ولا يدخل مجال التحدّي والمنافسة الانفعالية وإنما يتميّز بالهدوء والقناعة والتأمل والصبر وخصوصا يعطي لممارسة التدريب حيّزا في حياته.
إن كنا جميعا معاصرين لبعضنا البعض، نتنفس الهواء ذاته، لكننا نختلف بالعواطف والانفعالات تمامًا. فطريقتي باستنشاق الهواء تختلف عن الآخر، هل أفعل ذلك بعصبية أم بسلام مع ما يحيط بي؟ شهيقي وزفيري يكشفان تفاعلا عاطفيا مع ما يحيط بي. هذا الأمر قد نراه بأنفسنا لدى بعض الناس وفي تصرفاتهم العادية.
إذا ما كنتَ تشعر بأنك سعيد، يمكنك أن تنقل السعادة إلى كل من تلتقي به. أي إذا كنت متفائلاً، واثقًا بتفاؤلك، سوف تضخّ شيئا إيجابيا للآخرين. لكن بالعكس، إذا كنتَ مكتئبًا، حزينًا وغير سعيد، فإن المشاعر السلبية مثل البكتيريا ستُضخّ في الآخرين بنفس قوّة العدوى المرضيّة، فنحن كائنات اجتماعية تعمل فينا المحاكاة بشكل غريب. كما تعمل مشاعر التفاؤل والتشاؤم بمثابة دفقات تدخل فينا وتخرج منا باستمرار تاركة أثرا ليس في البشر من حولنا فقط بل حتى في الحيوانات وبقية الكائنات الحيّة من حشرات وقيل أيضا على النباتات. لعدة سنوات مارست هواية تربية النحل في بغداد، وتعلمت منها الكثير، فكانت هذه الحشرات تحسّ بخوفي فأتعرّض إلى اللسع، وبعد تدرّبي لم أعد أحتاج حتى إلى لبس القناع. هذه الملاحظات يمكن أن نطبقها بين الجماعات البشرية، بعضهم يسوده روح الفريق الإيجابية والسعيدة وبعضهم الآخر يعمل فيهم الاكتئاب الجماعي الخانق الذي يتميز به الفريق كله، للأسف لم يقم بعد في علم النفس من يمكنه أن يساعدنا فيما يمكن أن أسميه "الكآبة الجماعية"، الكل يشخصها لكن لم يعط أحد لها أي علاج!
تشدد البحوث الحديثة والمعاصرة في العالم كله على ظاهرة التكامل والتفاعل بين الكائنات الحية وليس بين البشر فقط، بل حتى مع الجماد، فكل موجود عبارة عن "معلومة وتفاعل"، "جذب ونفور". كل موجود يتفاعل بشكل أو بآخر. وإذا ما كنا نحن البشر قد اعتبرنا أنفسنا في أعلى سلم الموجودات، لكن سوء تصرفاتنا جعلنا السبب الرئيسي في تدمير الغابات والأنهار والهواء والمياه والتصحر بشكل مستمر. منذ مدة نزل طلاب المدارس الثانوية إلى الشارع بالملايين في أوربا ليتظاهروا من أجل البيئة وما فعلنا بها، وهذا لأول مرة، إذ لا يزال الكثير من قادة العالم لا يصدقون أن البيئة في خطر بسببنا، بدءا بانقراض الكثير من الأحياء وهذا شيء خطير يهم الجميع ويخلّ بتوازن الطبيعة فالكائنات كلها تعاني ويظهر عليها الاكتئاب، ولعل ما رأينا من أشكال انتحار جماعي للدواعش والسلفيين والإرهابيين ليس سوى علامات لهذه العدوى الشاملة، فقوى الموت تبدو قوية اليوم أكثر من أي زمن مضى.
تبقى الأديان بمثابة مقاييس عميقة لبشريتنا، ووصول العنف إلى الأديان لهو علامة على تلك الكآبة المتفشية، فعوض أن تكون الأديان عناصر سلام، صارت فعالة في الموت والدمار، وهذا حدث في المسيحية في الماضي في أيام سوداء، وهو يحدث للمسلمين اليوم، كمؤشر إلى عدم ارتياح سائد وزائد وعابر للحدود.
لا ننسى أن الجنود الألمان في زمن النازية (1933 - 1945)، الذين كانوا يقتلون الناس بالملايين كانوا يحملون على حزامهم العسكري جملة "الله معنا" Gott mit uns، كذلك ارهابيو اليوم عندما يذبحون يصيحون "الله أكبر"!
لا نتصوّر أن المصابين بالكآبة أغبياء، بل بالعكس إنهم أذكياء ويستعملون المنطق، بل خصوصا يتعكزون على نصوص مقدسة، ألم نقرأ في تجارب يسوع كيف أن المجرّب يستعمل آيات الكتاب المقدس: "لأنه مكتوب..."، مثل كل الإرهابيين اليوم... العنف فينا، لا يحتاج سوى إلى "نقرة بسيطة"، دفعة لينطلق من عِقاله، مثل كل قصص المارد المحبوس في قمقم "يفركه علاء الدين فيخرج...". لكن التخلص منه وإدخاله من جديد وحبسه صعب جدا، إذ سيبدأ مسلسل الانتقام ولا يتوقف. وهذا يضعنا جميعا أمام مسألة المستقبل في العراق والمنطقة، ويطرح موضوع المصالحة التي ستكون صعبة جدا، لعلها تحتاج إلى معجزة أو تدخل إلهي...
لدى لقاء المسيح القائم من الموت مع تلميذي عماوس (إنجيل لوقا 24)، يعطيهم المفتاح، يقول "إنه انطلقَ من موسى والانبياء وشرح لهما ما يخصّه، ... أما كان يجب على ابن الإنسان أن يتألم؟ ..." (آية 27)، كل عنف متفشي يمكن قراءته في ضوء ما حدث للمسيح، ويحلل في ظل كلامه وسلامه ففي كل ظهور له لتلاميذه يقول: "سلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم..." (يو 14/27). لكن ما العمل إذا ما كانت الكآبة متفشية؟ إذا ما جرجرتنا إلى قراءة أخرى بدائية، أو أيقظت النائم في القمقم من عنف ساكن فينا منذ بدء العالم، فنبرّر فرض إرادتِنا على الآخرين وتظهر على شكل حبّ السلطة والهيمنة، لذا يبقى المسيح مع كل الذين يسبحون عكس التيار، حتى عكس تيار قلوبهم، لذا يقول لكل من يدعي الإصلاح بالعنف: "أخرج الخشبة من عينك، لكي ترى ما في عين أخيك..." (متى 7/5). 
إن معنى "الخشبة في عيني" هو الشيء الغامض العميق الذي يمكن أن أسمّيه: "حبّي للموت"، طاقة الهدم، سحر التدمير، نشوة الذبح، وأذية الآخرين، إنه المسلسل الذي لم يتوقف ولا يبدو أنه يقبل أن يتوقف، موجود فينا متأصل عميق لا (ولم) يسلم منه أحد، وهذا ما نسمّيه بالمسيحية "الخطيئة الأصلية"، وهي أقوى مما نتصوّر، إذ يكفي أن نستعرض ما يحدث في شوارعنا كل يوم، وكيف عندما يتعارك اثنان ينبهر الباقون، ويتوقفون لكي "يتطلعون"، إغراء العنف رهيب وهو سبب عشق الناس لأفلام العنف بحيث منعت دول عديدة عرض أفلام العنف إذ تزداد بعدها نسب الجريمة بشكل مطرد.
نحن بحاجة إلى من يطرد شياطيننا، تلك التي تقودنا لنعيش في المقابر (مرقس 5/5)، فشيء منها هو من بقايا الليل الساكن فينا، إنه "الانسان القديم"، المتوحش، عاشق الموت، العدواني، المتعصب، الذي لا يتحمل الاختلاف، الذي يلقي الذنب دائما على الآخرين، لو استطعت أن تزيحه من طريقك لتحسّنت حياتك...، وهذا ما علمنا إياه المسيح كيف نجابه عنفنا وكآبتنا وما فينا من مخزن قد يلوّث كل شيء نمسكه أو نتعامل معه، بحيث يصبح الله نفسه – من هذا المنظور – عنيفا على صورة الكئيب الذي يتبعه.
زرت في هولندا قبل سنوات بيتا في مدينة ديفنتر عاشت فيه فتاة اسمها إتي هليسوم (Etty Hillesum) 1914 – 1943، يهودية هولندية، قضت في معسكر اوشفيتز، عشقت المسيح، لتأثرها بمقولته: "أحبّوا أعداءكم"، فأحبّت حتى النهاية لأنها فهمت أن كل البشر "مصنوعون من لحم مثل لحمنا ودم مثل دمنا!". وهذا قاله قبلها المتصوف البغدادي الحسين بن منصور الحلاج: "بكى بعضي على بعضي معي..." (كتاب الطواسين).
أب فلسطيني اتصلت به القوات الإسرائيلية لتعلن له أن ابنه الشاب قتل على يد الجنود الإسرائيليين، وأن جثته في المشفى، تجاسر المتصل وطلب منه: هل تقبل أن نستعمل أعضاء ابنك ليعالج بها مرضى إسرائيليون؟ أجاب الرجل المنكوب: "نعم"، فقال المتصل: "حتى لو كانوا جنودا اسرائيليين؟" قال الرجل "نعم" أيضا وبلا تردد. من يستطيع ذلك إلا بقوة من فوق؟ لكن هي الحقيقة الوحيدة التي ستنقذ عالمنا وإلا غرقنا جميعا...
إنه المرض الواحد الوحيد الذي لا يمكن للطب أن يعالجه، ولا يهم من هو المصاب به، فالعدوى قريبة جدا، تعبر حدود الأديان والمذاهب والشعوب، لا تميّز بين "هم" و"نحن"، وكل من حاول أو فكر أن يقتلعها يفعل ذلك بالآخرين فقط ولا يرى نفسه، في حين يجب أن نقلب المسألة: اقرأ وحاول رؤيتها في قلبك، كي يتوقف مسلسل الشر، هذا هو الطريق الأسلم. فالعالم لن يتغيّر ولن تختفي حروبه إلا إذا قرّرنا أن نعمل السلام فينا. "نقِ قلبك سترى العالمَ مختلفا تمامًا" (المهاتما غاندي). 
العنف إذن هو مثل مرض الغنغرين gangrene موجود فينا جميعا بشكل أكثر أو أقل، كل يأتي دوره بحسب توقيته، لكن هذا المرض قد يتحوّل عركة صغيرة في أحد البيوت أو حربا كبيرة بين الشعوب والدول، وهو المبدأ الذي يعمل منذ شمشون الجبار: "عليّ وعلى أعدائي، فقتل بموته أكثر مما قتل خلال حياته" (قضاة 16/29- 30). هكذا كل من يشعل حربا كأنه يقول: وإن متُ، لكنني سأقتل معي أكبر عدد ممكن! إنه الشيطان، يصرخ فيّ من أجل تدميري من الداخل، لنتذكر صورة الدواعش في متحف الموصل يدمّرون التماثيل، ثم فجروا مرقد ودير (يونان) النبي يونس ثم الكنائس ثم الجوامع ومنارة الحدباء، ثم قتلوا 350 من أئمة الجوامع الذين لم يبايعوهم... "عليك أن تسجد لي" (متى 4/9) وإلا...، الكآبة تعمل بشكل تصاعدي كالنار لا تشبع، كل موجود يجب أن يزول. كان الإرهابي الزرقاوي يقول: إني بقتل الأبرياء أعجّل في ذهابهم إلى الجنة! هكذا تعمل كل خطط البدع الشيطانية، جيم جونس الأمريكي صاحب بدعة (هيكل الشعب في جونستاون) أجبر في يوم واحد 909 من أتباعه على الانتحار بسمّ السيانيد في 18/11/1978، إنها "لذة سكان جهنم: اللامبالاة بالآخر"، وأن لا شيء بعدهم مهمّ، فيقول لسان حاله: "إذا متُ ضمانا فلا هطل الطل!"، بينما صفات المتفائل اربعة: اهتمام بالأشياء، معرفة قيمتها، البحث عن معناها وتفكير يحللها بموضوعية.
أما المتشائم فلا يهتم، لا يدرس، لا يقرأ، يريد كسر كل شيء، باسم العدم والعدمية وخلق الفوضى.
هكذا أولادنا في المستقبل سيحملون حملا ثقيلا إذا ما أعطيناهم كآبتنا ونظرتنا السوداوية على الحياة، أليس علينا أن نخفف عنهم، فقد لا يكون زمانهم مثل زماننا ولا هم مثلنا. لا ينبغي إذن أن نثقل ذاكرتهم بالماضي المتعب.
نقرأ في سفر التكوين أن يعقوب أبو الأسباط تصارع مع الملاك، فتبدّل اسمه، من يعقوب إلى إسرائيل (32/29)، لأن الرب يحبّ الذين يتصارعون، والنتيجة كانت البركة، وأثار آلام المسيح في يديه وجنبه أيضا بركة ونعمة. وأصبح موته علامة التفاؤل والقيامة. فأعادنا إلى الحياة والشباب والفرح، والحب والنقاء. هذا هو معنى "العهد الجديد"، المتجدّد، المتجه نحو المستقبل، الذي لا يشيخ بالرغم من قصصنا وجروحنا، بل سيتحوّل إلى علامات على طريق حياتنا نتذكرها، وننقلها بشرى سارة متفائلة بالرغم من كل ما يمكن أن يحدث في المستقبل.
   كركوك 15 تموز 2019   


36
بمناسبة الذكرى 61 على ثورة 14 تموز 1958
اكتشاف جديد لحقيقة الصبر
+ المطران د. يوسف توما
بعد يومين سيتذكر كثيرون منّا ما حدث قبل 61 عاما (14 تموز 1958) حين اندلعت الثورة وقُلب النظام الملكي في العراق وبدأ سيل الدماء في بلدنا ولم يتوقف، وأذكر أني كنت صبيا صغيرا أقرأ في عيون الكبار هياجا واستعجالا بأهمية ما يحدث وأن ذلك سيجلب على بلادنا الرخاء والغنى والتقدم...
لكن بعد سنوات قليلة ظهر أن أولئك الذين أرادوا نتيجة فورية لكل شيء، كانوا في الواقع ضحايا الهروب الدائم، مثل كل الذين لا يستطيعون مواجهة متطلبات العمل الجاد والموضوعي. وهم بهياجهم يتقلبون كالفراشة من مهمّة إلى أخرى، لأنهم لا يهتمّون بالعمل نفسه، ولا يكتشفون أن العمل والسعادة قد يصبحان أمرا واحدا، فالمرء لا يقدر أن يتمتع بثمرة أي عمل إذا ما تركه في منتصف الطريق أو خرّبه وتراجع عنه. اليوم تسود لدى الناس خيبة من كل شعارات الثورات لأنا لم تحقق ما قالته بالاهتمام بالإنسان، لقد كان حبلُ "الثورة" مثل حبل الكذب قصيرا بسبب الاستعجال الانفعالي الذي جاء بها.
عندما يضطلع أحدنا بمهمّة ما، قد يواجه جدارا كبيرا من اللامبالاة ممّن هم حوله، بل قد يتعرض إلى قسط لا بأس به من السخرية والإحباط. هنا ضروري أن يكون لديه قدر كبير من الشجاعة والإيمان بنفسه وبالمهمّة التي قرّرها له وللآخرين، فلا يتخلى عن تلك المهمة، بل عليه أن يسكت لديه العجالة التي أصبحت كالطبع وكجزء من حياة الكثيرين في زماننا، لأنك إذا تهرّبت من مواجهة الحقائق ستقضي بقية عمرك تلوم الزمن والأوضاع والظروف... أو تعود إلى الوراء تتحسر على "العهد البائد" ويمكن أن تطلق عليه اسم "الزمن الجميل" أو "زمن الطيّبين" كما يحدث اليوم بعد أن رأينا النتائج! ...
إن كل نجاح لا يتحقق إلا إذا أدركنا أن لا شيء يحدث على الفور، بل يحتاج إلى نضوج وإضافات بطيئة جدا، كما إلى جهد وانتباه كبيرَين حتى في أصغر التفاصيل. واقعيا، كل نجاح يتطلب عدم الاستسلام للفشل وعدم التهرّب من القرار. أي على الشخص أن يُصِر على موقفه فلا يتخلى عمّا يقرره، أو يعزم عليه، يعرف كيف يقرن الصبر العميق بما يبذله من جهد في الإصلاح، ألا ترون غريبا أن أغلب الثورات جاءت على يد شباب وليس شيوخ الذين عركتهم عملية الصبر فيعرفون قيمة الحياة والصحة والقناعة وأن أثمن ما يأتي به العمر هو فرح العيش الذي يساعد على اكتساب الخبرات وتسخير الطبيعة بأكملها، الصبر يعني الحدس والاستشعار والإدراك وتصوّر أساليب جديدة للتعامل، لذلك أصبحت بلدان فقيرة غنية وأخرى كانت غنية افتقرت وصارت تشحذ...، التشخيص سهل يكمن في عامل الصبر كجزء من ثقافة مترسخة لا كعبء ثقيل.
في عالم متسارع أكثر ما يعاني منه الأفراد والجماعات هو عدم وجود هدف، أو يكون الهدف قصيرا أو تافها وغريبا، كالعجوز التي شرحت لجارتها: "الديمقراطية؟ يعني فرهود كل أربع سنين!". وهذا ما عرفناه حين دخلنا دوّامة الثورات وضياع الوقت والأجيال، كل مرّة أردنا أن نحصل على نتائج فورية، بمجرد الضغط على زر أو على زنّاد سلاح للتخلص من خصم، فقامت الحروب وأشكال النزاعات وتعدّدت الميليشيات وكثر الخوف والحذر في كل مكان. حينها اختفى أسلوب العيش الرغيد الهادئ القديم الذي كنا نعرفه وكان يعتمد تقاليد عريقة تشدّد على الجهد والتأني وطول الأناة. صار الكل يريد أن يصعد ويتمنى الأحدث والأسرع لما يصنّعه آخرون بصبر وعلى مدى سنين كالاختراعات، هذه اشتريناها لكننا لم نهتم بالتقنية التي صنعتها فهذا لا نستطيع عمله لأننا فقدنا صبر التعلم وتراكم الخبرة. لقد أصبحنا كالمتفرجين للرياضة، يراقبون المنافسة جالسين يأكلون المكسّرات لكنهم لا يلعبون، أو يرون أفلام العنف والقتال بين الناس والآلات، مجرد مستهلكين ضحايا لا يصنعون ولا يسيطرون على شيء...
لسوء الحظ، في سباق عالمنا، بين الاختراعات والتجارة صرنا نركض وراء وليس في المقدمة بحيث انقطع نَفَسُنا، فوقفنا حائرين لا نعرف ماذا علينا أن نعمل، كما لم نعد نفهم الأمور البسيطة التي تميزت بها مسيرة الحياة على أرضنا، من تناسق عجيب سبق ظهور الانسان بملايين السنين، وتزامن مع مسيرة الحياة بشكل عجيب فوق هذه الأرض أمّنا وأمّ بقية الأحياء، فقدنا الاتصال بضرورة التناسق، فاختفت أنواع كثيرة بسببنا (أو رغما عنا)، جاء التصحّر وانقرضت النباتات والحيوانات. وصار الوعي بالمشاكل الحقيقية ضعيفا جدا وغرقنا نحن بمشاكل لا وجود لها (خصوصا سياسية ودينية). صرنا في العالم غرباء كالأطرش في حفلة زفاف: يتساءل عن معنى حركات الناس لكنه لا يتذوّق الطرب. لم يعد دماغنا يرتبط بالأمور التي حولنا، في حين كل خلية في دماغنا أشبه بكون مُصَغّر، تتكوّن مع ملايين الأجزاء مهمتها أن تتفاعل مع ما حولها من مكوّنات فهذا هو سبب وعلة وجودها، نحن أيضا لسنا هنا من أجل أنفسنا فقط.
إن الوعي والجهد لتحقيق أي نجاح في مهامنا، يحتاج إلى دراسة عِلمية، كالمناخ والبيئة وتقلباتها، وهذا يستدعي قيام علوم أخرى كالعلوم الإنسانية التي صحّحت مسار الكثير من الثقافات كعلم النفس والاجتماع بتشجيع ممارسة الصبر لدى كل فرد وهذا طبّقته اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية فانقلبتا من خاسرتين إلى ناجحتين.
لقد حان الوقت أن ننكبّ ونحلل سبب التخلف والتراجع والانقسام والفساد والكسل وتفشّي الكذب وتراجع التعلم والدراسة وانتشار الشهادات المزوّرة، إنها آثار عقلية لا تحبّ الحياة ولا تنتبه إليها مما جعلنا نتخلى عن النهوض ومعرفة طعم العيش البسيط بحد ذاته. لقد أضعنا وقتنا في البحث عن هويّة أصولنا ومن أين جئنا، ففقدنا الحاضر وصرنا بلا هدف في المستقبل. حان الوقت أن يكون تعاملنا مع كل شيء بصبر وتأمّل وتأني، بلا خوف إزاء العمل الهائل الذي ينتظرنا في كل شيء من حولِنا. من هذا المنطلق سنفهم أن العواطف والأفكار أمرٌ واحد لا ينبغي الفصل بينهما. وعلى عقلنا أن يدخل في "دبكة" الحياة الهائلة، بصبر ورقّة وانسجام، عندئذ سيصبح حتى التنفّس عملا أساسيا بحد ذاته وإسهاما في توضيح معنى الحياة والدخول في سرّها، فلا نعود نستعجل في أي شيء – مهما كان بسيطا – بل، بالتأمل والتذوّق والتمتّع البسيط سنشفى من مرض "الثورات"، هذه الكلمة الفارغة التي تكررت على مدى عقود طويلة، كانت أشبه بالفيضان المدمّر المتكرّر، جعلتنا نتحسّر، كل مرّة على فترة ما قبلها، ونسينا أن تكرار الخطأ لا يعالجه ولا يقدّم أي بديل شافٍ، أليس هذا ما حاول يسوع أن يقنعنا به حين قال: "بصبركم تقتنون أنفسكم"؟ (لو 21/19)...

كركوك 12 تموز 2019

37
المنبر الحر / التلوّث والفساد
« في: 11:02 09/07/2019  »
التلوّث والفساد
+ المطران د. يوسف توما
يبدو لي أن هناك علاقة قوية بين التلوّث والفساد وكلاهما ينخر في جسم الدول والمؤسسات ليس في بلادنا فحسب ولكن في العالم أجمع، بنسب متفاوتة كما سنرى في هذه الأسطر.
إن أروع ما تتميز به الطبيعة هو الخصوبة والحرية، فحياة كل كائن حي هي مشاركة في سمفونية كبرى وشاملة، وتشبيهها بالسمفونية ليس جزافا، لأن التناغم هو ما يميّز الطبيعة كما في الموسيقى، يتم بين أعضائها بتضامن وتضمين في تواصل هرموني داخلي واتصال خارجي وتفاعل لكل كائن حي. الهرمونات نشطة تتزامن وتتكافل مع احتياجات متفاعلة مع كل كائن حي آخر. كل هذا يجعل من كوكب الأرض قطعة واحدة مدهشة، أسموها "غايا" (Gaia)، أي الأرض الأولى الحيّة والنشطة التي عمرها 4 مليار سنة، ثم انقسمت فيما بعد وصارت قارات تفترش المحيطات. منذ البداية مرّت (غايا) بمراحل نشطة مع الرياح التي أعطتها الطاقة والنشوة وقابلية الاتصال. إن للرياح دورا هائلا في منح الطاقة للكل بشكل مستمر، إنها الروح- الريح الذي يهبّ حيث يشاء (يو 3/8)، فالريح دخلت حتى الأعماق لتجعلنا نتنفس فيتحوّل كل نفَس إلى مصدر إلهام وتعبير حتى يتم التواصل لدى الجميع، يفهمه الإنسان عندما يربط بين النَفَس والريح والروح، ليصل في نهاية المطاف إلى الروح القدس، روح الله. لقد بيّنت اكتشافات أعماق الأرض والبحار والصخور هذه القصة الفريدة بتكوّن أرضنا وهي أشبه برقصة الفتاة الأولى "غايا" التي استقبلت أشعة الشمس بين مدار السرطان ومدار برج الجدي، عندما تغيّرت زاوية أشعة الشمس بما يكفي لتخلق الفصول وما نشهده من آثار في طبقات الطين المتحجّر، بيّنَ لنا التنوّع الرائع بأشكال الحياة البدائية التي نمت ببطء وصبر، قيل إن بعضها كان ينمو مليمترا واحدا بالسنة فقط، مع ذلك يمكن أن نعرف الآن هذا اللحن كما في نشوة طرب وموسيقى. كل حيّ مدعوّ أن يشعر بالحاجة إلى البقية، وحاجة البقية إليه، إنه مهمّ ومحبوب وعليه أن يحبّ وإلا مات.
منذ أن ساد الإنسان العاقل (homo sapiens) قبل حوالي 200 ألف سنة على الأرض بدأ الفساد واختل التوازن إذ صار يصيب بالضرر بقية الأحياء وقد امتد ليمسّ بالصميم هذا الانسجام ويجرحه. منذ عصور ظهرت تيارات الانغلاق على النفس، من مذاهب وقوميات وأفكار، فلم يعد أحد يفتح عينيه على ما حوله، ولا يفهم اللغة الشاملة الكلية الأولى، وهذا سبّب اضطرابا في الاتصال مع الشمولي والكلي. هو انقطع وهي ابتعدت عنه ففقد ذلك التدفق بالذكاء العاطفي المنبثق من الأم الأرض (غايا)، وهذا ما قاله الهندي الأحمر الأباتشي جيرونيمو (1829 - 1909) عندما قبض عليه الجيش الأمريكي: "أنتم تعاملون الأرض كأنها زوجة الأب أما نحن فهي أمّنا". وجاء التصنيع ومعه التلوّث غير المحدود ليخلق فسادا لا ينتهي بل توسّع على الأرض كلها. وعندما قام في القرن 19 تشارلز داروين وروّج لنظرياته تلميذه رتشارد دوكينز Dawkins، عن الطبيعة العدائية الأساسية للكائنات الحية، أفرط الأتباع بتلك النظريات وقراؤها أنها تنافر وفساد وتحوّلت إلى مبادئ فقيل "البقاء للأقوى"! التي كانت مبادئ كل الغزاة الذين سادوا ثم بادوا، لكن "من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك" (متى 26/52)، مبدأ سيجعلهم يزولون وينقرضون. إذ بعد حربين عالميتين وحروب باردة وحارة أخرى فهموا وصحّحوه قالوا: "البقاء للأكثر مرونة"، فإن انقرضت الدينوصورات القوية والضخمة لكن الانقراض لم يأتِ على بقية الأحياء الضعيفة والصغيرة بل بالعكس أعدّ لظهور الأضعف بينها: الانسان! إلا أن هذا – بالرغم من ضعفه المفزع – صار كالدينوصور عندما اكتشف أن قوّته تكمن في تضامنه كجماعة وتعاونها، صار يحبّ السيادة والسيطرة والقمع، ولم يفهم أن قطع الصلة ببقية الأحياء يسبّب دماره، لذا وبلا فطنة، صار يدمّر الطبيعة ويسمي ذلك اقتصادًا، يدمّر الآخرين بالغزو والحروب، وهو لا يدري أن كل من يتلف الحياة يحفر قبرا لنفسه.
لو نظرنا من فوق إلى أرضنا وقارنّاها بما كانت قبل مئات السنين لرأينا التصحّر يتقدم بخطوات مرعبة، ولو أخذنا عيّنة من الهواء المحبوس في فقاعات العنبر أو الماء تحت طبقات الجليد القديمة لرأينا نظافتهما ونقاءهما مقارنة بما نتنفس ونشرب اليوم، حين لم يكن هناك تلوّث مستمر وتسمّم للأرض والماء والهواء، عندما لم تُقتَل كل تربة وأرض ولم تمتلئ بأشكال النفايات الخرسانية أو الصناعية، سنفهم إذ ذاك أن الفساد بيننا ليس سوى انعكاس وجزء من عملية قتل الطبيعة ونسينا أن الأهم في حياتنا ليس النجاح الاقتصادي وإنما التمتع بدهشة بتلك الموسيقى الكونية، موسيقى الحياة!
حان الوقت اليوم إلى بناء فهم عميق لما يجري على مستوى شامل وعلى الضرر الذي أصاب النظام البيئي، وإنهاء قُصر النظر في الحسابات الضيقة التي تتمحور حول الأنانية الفردية والجماعية بالتجارة والمصالح والمحاصصة والمنافسة. يجب أن نُدخل في حساباتنا تأثير ما نفعله على الآخرين من بيئة، محيط حيوي، غلاف جوي، حتى طبقة الأوزون... علينا الاعتماد على الواعين في المجتمع والمنظمات المعنية التي لا تصغي إليها الدول والحكومات والأحزاب. يا ليت لو قامت في كل مكان "محاسبة شاملة" على مستوى الأرض، بمثابة "ضمير كوني"، فنصحّح ما أسيء فهمه، أو تمّ تجاهله حتى الآن، قبل فوات الأوان...
 كركوك 7/7/2019

38


الأب منصور ليكونت، أو ابونا منصور كما عرفته الأوساط الكهنوتية والرهبانية وعامة الشعب في العراق (1925 - 2019).

توفي الأب منصورليكونت  Vincent Lecompte نهار الثلاثاء ٢ تموز 2019 في مدينة سان ديي في مقاطعة اللورين شرق فرنسا عن عمر ناهز ٩٤ عاما، وجرت مراسيم الدفن في دير للآباء الدومنيكان في نانسي يوم 5 تموز بحضور الرئيس الإقليمي والآباء الدومنيكان وثلاثة من أشقائه.

ولد الفقيد في مدينة روبي الفرنسية وهو الابن البكر لعائلة من عشرة إخوة وأخوات. ينتمي الى أسرة ميسورة اختصت بمصانع النسيج.
دخل الرهبنة الدومنيكية عام ١٩٤٤ مع حب خاص لروحانية القديس فرنسيي الآسيزي.
تقبل الرسامة الكهنوتية عام ١٩٥١ ثم سافر سنة ١٩٥٣، الى العراق ليقيم في دير الساعة في الموصل، وأخذ منذ البداية يدرّس في معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي. اضطلع بمواد عدة كتدريس اللغة الفرنسية والكيمياء وعلم الاجتماع وتاريخ الخلاص...
في عام ١٩٧٠، ولدى عودة الأب عبد السلام حلوة من الدراسة، غادر الاب منصور الموصل ليتعيّن في دير الآباء الدومنيكان في بغداد.
في العاصمة تميّز بنشاطه الراعوي في خدمة الرعايا الكلدانية مقيما القداس حسب الطقس الكلداني ليساعد الكهنة وكذلك خدم راهبات التقدمة الدومنيكيات.
غادر بغداد في عام ١٩٨٠ على أثر توجيهات الرئيس الإقليمي جان رني بوشيه لتعهد الرسالة الدومنيكية إلى الآباء العراقيين ونظرا أيضا إلى مضايقات تجديد الإقامة آنذاك.
بعد عودته من العراق تعيّن في دير ستراسبورغ ثم دير ناسي الى حين قضائه عدة سنوات في دار الكهنة المسنين.
عرف الاب منصور رجلا مؤمنا بدعوته الرهبانية وحبّه للخدمة. كان إيمانه عميقا يعبر عنه ببساطته المعهودة وحركات اعتدنا عليها وكأنها رقصة فرح بعفوية امام الله وامام أصدقائه.
كان يكن للعراق وللعراقيين، ولا سيما للكنيسة حبا جما لا يضاهيه فيه أحد. وفي سنوات شيخوخته كان يظهر احيانا مرارة بسبب مغادرته للعراق. حن على العراق وتألم وجرح في صميم لما أصاب هذا البلد من ويلات.
إلى الرهبنة الدومنيكية وأسرته وأصدقائه الكثيرين الموزعين في أنحاء العالم نقدّم التعازي وليتفقده الرب برحمته ويسكنه الملكوت.

+ المطران يوسف توما

39
تقلبات العائلة، بين الأمس واليوم...
المطران الدكتور يوسف توما
كلمات مثل "الأمة، الدين، العشيرة، القبيلة"، لا يمكننا أن نفهمها إذا لم نحدد معنى "العائلة"، كلها تشير إلى ما يعنيه الحنين لدى كل شخص، والعائلة لا تقتصر على حالة تعريف ضيّق لذات الشخص وإنما تجعله يمتدّ إلى أوسع منها فيصعد ليصل إلى أبعاد شاسعة قد يحتضن الكون كله، أو قد يشعر بذلك جيدا إذا ما أصبح فنانا أو شاعرا (كقصيدة "الناي" لجبران خليل جبران حيث يقول: "وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود"). العائلة تجعل الفرد لا ينسى أنه جزء من هذا الكون، شاء أو تجاهل عن كسل. هناك قانون جاذبية آخر – لا ينزل إلى تحت بل هي جاذبية نحو الأعلى، عملية سحب إلى فوق يعرفها كل محب ومفكر وصاحب هدف، من يعمل بقانون التجاوز الموجود في كل شيء وصولا إلى التسامي الذي يعبّر عنه المسيح حين يقول: "وأنا إذا ارتفعت رفعت إليّ الناس أجمعين" (يو 12: 32).
هذا المؤشر الصاعد يوجد في الحب والصداقة والمودة والتقديس والدهشة، أي في أمور تجتاحنا وتخترقنا في مختلف مراحل حياتنا. إنها حركة في كل كائن وديناميكية الأحياء: النمو والعبور، فكل شيء يعج بالحركة، في أدق التفاصيل، من اللامتناهي في الصغر وحتى اللامتناهي في الكبر. وعندما نتوقف ونتأمل ما حولنا سنشعر كما لو كان لدينا معها قرابة دم وارتباطا عائليا، مثل القديس فرنسيس (1182 - 1226) حين ينادى العناصر بأسماء تحبّب: أخي الماء، أختي النار...، نحن أقارب دم وحياة معها. وهل يمكن لأحد أن يتخيّل الحياة من دون هذه القرابة والانتماء؟ لذا فواجب كل عائلة أن تدفع الفرد كي يصعد نحو تلك الشمولية ليصبح قريب الجسم الكبير، فيمتد إلى أبعد من العشيرة، والقبيلة، والدين، والأمّة، وإلا بقي في سجن...
لا بد أن أعترف أن بعض مكونات العائلة تعتمد على المنطقة. فعائلات الغابات الاستوائية، ذات الغطاء النباتي الكثيف مع هطول الأمطار الموسمية يوميًا، والتي تنبعث منها روائح من أشكال الحياة المختلفة، كلها تتواصل مع بعضها البعض، وتخلق لدى من يعيش بينها مشاعر مكثفة وقوية، مما يخلق عائلات وقبائل تكافلية ذات شحنة عاطفية محملة بقيم خاصة وعريقة. الغابة الكثيفة تستوعب كائنات حية تتعايش بنظام وتعلم الفراسة فتعرف الرياح والفصول والأمطار... وهذا يختلف بالتأكيد عن العائلة التي تعيش في شقة ضيقة في إحدى المدن الهائلة، لكن ظاهرة مثل هذه المدن جديدة جدا في تاريخنا البشري.
كان أجدادنا، خلال ملايين السنين (قبل عصر الزراعة حوالي 12 ألف سنة، وقبل فجر الحضارات والدويلات أي خمسة آلاف سنة، عاش الإنسان قرب الطبيعة يصيد ويقتات مما تعطيه إياه، النموذج هو انكيدو "المتوحش البريء" بعكس صديقه كلكامش "المتحضر القاسي المجنون". كانوا يعرفون قيمة الطبيعة ويسمعون ما تقوله ويترجمونه بتصورات وحكايات وملاحم وأساطير، لم نعد نحن نفهم منها إلا القليل. قبل انتشار المدن لم يكن هناك معابد، فالطبيعة كلها كانت معبدا واسعا تخلق قدرا كبيرا من الخشوع، وكانت الكهوف بمثابة شاشات للتعبير، لدينا منها في العالم أكثر من خمسة آلاف كهف تحوي رسوما محيّرة فائقة الدقّة أقدمها يعود إلى 36 ألف سنة. هكذا عاش الانسان لمئات الأجيال على الطبيعة وهي المعلّم الوحيد له (لا مدارس ولا جامعات)، لكن بالكلام تناقل الخبرة والحكمة، واحترمها وخاف أذيتها فلا يقطع ولا يدمّر، ولعل ما نراه عندنا، حتى وقت قصير من يعدّ قطع شجرة نخلة أو نبقة خطيئة، وإن اضطر، يستدعي تقديم قربان وأضحيّة عنها.
أما نحن، فمنذ عصر النهضة أصابنا قصر النظر تجاه جيراننا الأحياء واختزلنا الطبيعة وكل ما فيها من كائنات وحيوانات ونباتات لمجرد مصلحتنا وأدخلناها في الحسابات والأرقام لا أكثر، وأقدم الكتابات المسمارية هي مجرد حساب قطعان ماشية أو محاصيل، فأحلّ تعذيُبها وذبحُها وتدميرُها، حتى وصلنا إلى هؤلاء الذين يحرقون المحاصيل الزراعية في هذه الأيام في العراق وسوريا، لمجرد الانتقام، أو لأغراض أخرى كالتي كان الإنكليز يفعلونها في أمريكا قبل ثورة 1773 حين كانوا يلقون مئات الأطنان من الشاي في البحر كي لا تنزل الأسعار، أو في زماننا، إبان ثورة الكرد في ستينيات القرن الماضي كان النظام السابق يحرق المحاصيل ويلقي السموم على أشجار التفاح في قرانا... كل هذا يحدث عندما يدخل الفكر في زاوية الأيديولوجيات التي ابتلينا بها في عصر القوميات والمذاهب بشكل صار يتكرّر ليصبح الانتماء أضيق، حتى وصل العائلة الصغيرة، التي أصبح سوء التفاهم فيها مزمنًا، وامتلأت بمشاكل توتر العلاقات وصار الشباب يخافون من الزواج ويُعزفون عنه!
تظهر الدراسات النفسية أن نسبة المجرمين بين سكان المدن أكثر منهم بين سكان القرى والأرياف، كما أن للجغرافيا تأثيرا على النظام الهرموني فينا. وإلا كيف نفسّر نزعة التدمير المجنون الحالي للبيئة وهستيريا الربح التي تدفع الناس إلى اقتصاد محدود النظر؟ إلى جانب التجارة الاستهلاكية الجماعية التي تسعى وراء الأرباح فقط، لا يعنيها سوى الأرقام والمنجزات التي تذكرنا بأرقام كاذبة للدول الاشتراكية أيام زمان. الاحصائيات الاقتصادية يتباهى بها المحللون، لكن التعقل والإحساس غير وارد في هذه الأرقام!
منذ طفولتي أحببتُ الجغرافية، ولما كبرتُ جمعتُ بينها وبين الناس في مختلف أصقاع العالم، فاكتشفتُ الجغرافية البشرية، وكم هو رائع أن أتعرف على من يعيش في مناطق استوائية أو قرب البحر أو الأنهار العملاقة، بحيث أرادت جامعتي الفرنسية، لدى تخرّجي، أن ترسلني لأبحث عن كيفية عيش قبائل غابات الأمازون أو الكونغو كثيفة الخضرة. إن هذا التنوّع في العيش والخبرة يُعدُ إرثا بشريًا مهدّد بالضياع قام العلماء بدرسه، أشهرهم كلود ليفي شتراوس (1908 - 2009)، مشيرا إلى خصوصية مهمة لدى من يحيا في تلك المناطق المنقطعة كالأراضي العشبية المدارية، أو المراعي المعتدلة، أو الصحارى المدارية الساخنة، أو الصحارى المعتدلة الباردة، أو غابات التايغا taiga أو التندرا  tundraفي روسيا...، حتى وقت قريب كان هؤلاء يعيشون كأجدادهم قبل آلاف السنين، حتى وصلت إليهم الحداثة بمتغيّراتها، كما كنا نحن أيضا في بلادنا، قبل نصف قرن، قبل أن تجرفنا الأفكار السياسية والمذهبية التي قسّمتنا وهجّرتنا وزعزعت توازن عوائلنا، وجاءت الهجرة المحيرة المفاجئة التي لم تترك مجالا للتأقلم إزاء أنظمة متباينة ومختلفة، فصرتَ ترى في البيت نفسه قسم يعيش في القرن 21 وقسم عقليته من بقايا ما تربّى عليه، أما أخوه أو أخته فأصبحا على بعد آلاف الكيلومترات، يتابع أخبارهم لكنه يخاف أن يكلّمهم بالهاتف بسبب اختلاف التوقيت بينهم، عوائل ترزح تحت ثقل تحتاج إلى الكثير من البحث والدراسة لمساعدتها في العبور إلى برّ الأمان.
كان في كل الأزمنة للعائلة أهمية في تقدّم الإنسان ونموّه وتكوين اللغة لديه، هذا إلى جانب توفير الأمان وتسهيل قبوله كعضو مختلف عن إخوته وأخواته. ففي العائلة يتسلح الفرد لمجابهة الحياة، ويقتني الخبرة التي ينقلها شخصيا بالعلاقة لأولاده، ومن علامات ذلك حبّه للقصص الخيالية والمسلسلات، من شأنها أن تعطيه حلولا لألغاز الحياة فيصبح ذكيا من خلال حلها، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقات والحب والزواج. هكذا أحببنا التاريخ وأغرمنا بما عاشه الآخرون قبلنا أو بماذا نختلف مع من يعيشون في زماننا في مناطق أخرى، فيصير حب الاستطلاع لدينا صفة إيجابية ولا نخجل من السؤال، على حد قول الحكيم الصيني كونفوشيوس (551 – 479 ق.م): "من يسأل جاهل فقط للحظة، لكن من لا يسأل يبقى جاهلا مدى الحياة". لعل هذا هو الفرق بين العائلات، إن كانت في الوطن أو في الشتات، أي ستنقذها قابلية التساؤل التي تشحذ ذكاء كل فرد وتعدّه لمجابهة المستقبل.
كركوك 18 حزيران 2019

40
معاني الأحلام بين الأمس واليوم
المطران الدكتور يوسف توما
يعطي الانسان في جميع أطواره أهمية كبرى للأحلام، منذ القديم وحتى علماء عصرنا الحديث على السواء، والأسباب مختلفة، القدماء (ومنهم الشامان في أواسط آسيا والتيارات الإحيائية في أفريقيا) كانوا يرون في الأحلام وسيلة اتصال الانسان بالعالم الآخر، أما علماء عصرنا فيرون فيها مظهرا يكشف أعماق الشخصية الفردية. وليس هناك تناقض بين هذين الاعتبارين.
الحلم النبوي معروف في العديد من مجتمعات العصور القديمة، بما في ذلك السامية، كما يتضح من العهد القديم. كانوا في سومر يهتمون بالأحلام قبل 5000 سنة، وفي مصر القديمة قبل 4500 سنة. تشير النتائج الأثرية إلى أن المصريين في السلالة العاشرة اعتقدوا أن الحلم يمكن أن يكشف المستقبل ولجأوا إلى "مفاتيح الأحلام"، واعتُبروا أن الأحلام لا يمكن فهمها على الفور فاستخدموا فنا خاصا لتفسيرها. أما الإغريق فرأوا في الحلم رسالة إلهية، يرسلها الإله زيوس أو رؤى يمنحها أبولو لدلفي. بنيت على الأحلام أيضا ديانة أورفيا Orphism أو مدرسة فيثاغور، حيث يتم التواصل مع الجنة أثناء النوم فقط، أي حين تستيقظ الروح.
كما ارتبطت الأحلام بالديانات كوحي إلهي، فكان لدى سكان بلاد ما بين النهرين وملوك مصر متخصصون في تفسير الأحلام (تك 41: 8، ارميا 27: 9)، ويشير العهد القديم إلى أن بعض الإعلانات الالهية تمّت في بني إسرائيل عن طريق الأحلام فكشف الله وحيه لأشخاص معينين (أيوب 4: 12-21، ابن سيراخ 34: 6) أو حتى للوثنيين (تك 40 إلى 41، دانيال 4)، وإن تفهّم الأنبياء معاني الأحلام، إلا أنهم عدوها ثانوية للوحي، لذا لا يذكر العهد القديم شيئا منها منذ زمن سليمان الملك وحتى النبي زكريا، أي طوال العهد النبوي الكبير. وقد أحصى المفكر الفرنسي جاك ليغوف Le Goff (1924 - 2014) 43 حلما في العهد القديم و9 أحلام فقط في العهد الجديد الذي لم يذكر عن يسوع أي حلم، بل أشار إنجيل متى إلى أن يوسف زوج مريم رأى أحلاما مقارنة وإعلانا نموذجيًا يشبه فيها يوسف الآخر، ابن يعقوب في العهد القديم الذي خلص شعبه، هكذا يخلص يوسف كلا من مريم ويسوع أي يخلص العهد الجديد. كما هناك في أعمال الرسل ذكر لأحلام قليلة لدى بطرس أو بولس (أع 16: 9-10، 18: 9، 23: 11، 27: 23). أحلام يستعملها الله لتعزية رسوله وتشجيعه. 
الأحلام في العصور الحديثة
تعد الأحلام اليوم مجموعة ظواهر نفسية تواجه أثناء النوم. وعند الاستيقاظ، غالبًا ما تكون ذاكرة الحلم غير مكتملة، وأحيانًا غير موجودة. مع ذلك، من الممكن استحضار ذكريات من بقايا الأحلام. ويلاحظ أن الأحلام الأكثر تفصيلاً تظهر خلال مراحل النوم المتأخرة، أي قبل الاستيقاظ بثواني، سميت تلك المرحلة بالنوم المتناقض le sommeil paradoxal، إلا أن علماء من الأكاديمية الأمريكية للطب والرابطة الدولية لدراسة الأحلام في عام 1999 عدّوا النوم المتناقض غير معادل للأحلام. لذا يختلف التعريف الدقيق للحلم بين من يحلم وبين ما تقوله العلماء أو الثقافات. لذا تم الاتفاق على عدم استخدام مصطلح الحلم، والاستعاضة عنه بـ "النشاط العقلي المرتبط بالنوم". إنه فعلا نشاط عقلي واعي وواضح بمثابة تحفيز ذاتي للدماغ المنفصل عن العالم الخارجي أثناء النوم العميق.
الأحلام إذن حالة غريبة تلعب فيها العواطف أهمية كذلك رؤية الصور.
هكذا تغيرت النظرة على أحلامنا في العصر الحديث فصارت تعني أمورا أخرى غير دينية، إذ ربطت باللاوعي لدينا كأفراد. وبعد اكتشاف الأجهزة التي سمحت بقراءة ما يحدث في أدمغتنا، تبيّن أن الكل يحلم، سواء تذكرنا أم لم نتذكر، فالأحلام تحدث خصوصا في مرحلة من النوم لدى الجميع عند الدخول في حالة تسمى "رقصة البؤبؤ" أو "حركة العين السريعة" REM. وحدوث ذلك طبيعي جدا، وهو غير واع، قد يصل إلى ست مرات في الليلة الواحدة لدى البالغين. مع ذلك، وعلى الرغم من انتشار الأحلام، فإن قلة قليلة من الناس تعرف ماذا تعني أحلامهم. بالرغم من كون تفسير الأحلام يقع في اهتمام جميع الشعوب وعد بمثابة فن قائم بذاته. لكن، الأمور اختلفت بفضل الباحثين الجدد من ذوي الخبرة الجيدة الذين دخلوا هذا المضمار، ظهر اليوم علم جديد هدفه خلق فهم جماعي لما نراه جميعًا كل ليلة.
يمكننا أن نسرد بضع أمثلة على ما حصلنا عليه من هذا العلم وما تعنيه بعض الأحلام الشائعة:
- شيء ما مفقود من الماضي:
عندما نبحث عن أشخاص في أحلامنا، فذلك يعني أننا نحاول إعادة الاتصال بجوانب مفقودة من هويتنا الخاصة ونشعر أننا فقدنا الاتصال بتلك الهوية.
- التوجس والتخوف من الجديد: إذا ما رأيت شخصا غريبا في منامك، فذلك يعني وجود جزء غير معروف أو غامض لديك من شخصيتك. وإذا ما واجهتك مثل تلك المواقف اليومية، سيظهر ذلك التوجس في أحلامك، وكلما ازداد شعورك بالخوف في الحلم، سيعني ذلك زيادة مخاوفك من حدوث أي تغيير في حياتك العادية.
- عندما تتشبث بمسألة ما: من المحتمل أننا شعرنا جميعًا بإحساس بالسقوط في أحلامنا (في فترة المراهقة خصوصا). هذا يكشف أن لدينا حاجة إلى إحكام قبضتنا والتشبث على أمر ما، إلا أن العكس قد يكون هو الصحيح، فبدلاً من ذلك، قد يشير هذا النوع من الأحلام إلى كوننا متعلقين بشدة بموقف معين في حياة اليقظة، فيقوم العقل الباطن بإخبارنا بضرورة الاسترخاء وترك الأمور وعدم العناد والإصرار بما لا فائدة منه، إن عقلنا منطقي حقا!
- تشعر بأنك منقوص أو عاجز عن الوصول إلى ما هو آخر ومختلف: على الرغم من غرابة الأمر، إلا أن الحلم ببتر الأعضاء أو الأطراف قد يكون أمرا عاديا وشائعا، وقد يشير إلى الشعور بالضعف وعدم القدرة على الحركة. فإذا فقدت قدميك في الحلم، فذلك يشير إلى عدم قدرتك على الاستمرار بالسير في طريقك. وإذا فقدت ساقا بأكمله أو كلا الساقين، فلذلك علاقة بالتوقف التام في مسارك وانسداد الطريق بوجهك.
- عندما تحلم أنك فقدت هويتك أو جوازك: في المنام، قد يكشف الحلم لك بالفعل أنك تفقد عقلك. ووفقا للباحثين، إن هذا علامة على الإرهاق والتعب والرغبة بالقضاء على تفكير معيّن أو الشعور بفقد جزء من شخصيتك.
- الاستعداد للتنازل أو التخلي عن شيء ما: لا بد أن سبق لك وواجهت فكرة الموت في منامك وشعرت بنوع من الراحة والسلام مع تلك الفكرة. هذا يدل على أنك "تربط" في مشاعرك بين أمور قديمة وأحداث جديدة. ويمكن أن يكون لديك أمر ما أنت على استعداد للتخلي عنه بالرغم من كونك تعتبره ضرورة قصوى إلا أن نداء التخلي يكون أكثر الحاحا.
- قد لا تكون مستعدا للتخلي عن شيء ما: بعكس ما جاء في الفقرة السابقة، إذا كنت تشعر بألم شديد أو فزع من فكرة الموت في حلمك، هذا يعني أنك حتى الآن لم تحسب أن عليك قبول فكرة التجرد والتخلي عن كل شيء ولم تتذوّق راحة الترك بعدُ.
- قد تحتاج إلى التدرب على ترك شيء ما: إضافة إلى ما قلنا أعلاه من مساومة مع التعلق والترك، إذا كنت تحلم بالحاجة إلى استخدام الحمام في أحلامك، فقد يدل ذلك على أنك تريد حقا أن تتخلص من كل ما يقرفك كي يخرج من حياتك. إن الحمام يرمز أساسا إلى ضرورة التحرّر والتخلص من شيء ما، وقد يشير أيضا إلى الرغبة بالإفصاح عن شيء ما تجاه شخص يقيّدك.
- قد تحتاج بكل بساطة إلى التبوّل: عندما تحتاج فعلاً إلى القيام للمرحاض، ستنبهك أحلامك إلى ذلك من خلال رؤية صور الماء، أو ستجد نفسك تبحث عن حمام من دون جدوى.
- أنت على استعداد للعمل من أجل تحقيق هدف أو إنجاز معين: إذا كنت تحلم بأنك تتسلق جبلا أو مرتفعا ما، وتشعر بالتعب وتبذل جهدًا مع كل خطوة، قد يكون هذا إشارة إلى أنك شخص يحب التحدّي وتجاوز الذات، فهي فرصة للقيام برحلة ما، وإن كانت صعبة، لكنها ستعدك بالمكافأة في نهاية المطاف.
هكذا تكشف لنا دراسة الأحلام منذ العصور القديمة، أي مذ وجدت لها آثار على الألواح الحجرية في سومر ومصر كأقدم حضارات عرفتها البشرية، ومنذ اعتقدت بعض الشعوب القديمة كالإغريق أن الأحلام هبة من الآلهة لكشف معلومات للبشر وزرع رسالة معينة في عقل الشخص النائم، إلا أن الاكتشافات الحديثة قالت إن الأحلام إنما تكشف ما فينا لنا، وهذا لا يزال عالما خفيا وسريا، يحتاج إلى من يساعدنا على فهمه، إذ به بدأت كل فلسفة منذ قرأ سقراط ما كتب على رتاج معبد "دلف" في اليونان، فسقراط، الرجل الحر، فهم ما مفاده: لا أحد يستطيع التفكير في مكانك، لا أحد يستطيع أن يتفلسف عوضا عنك، لا أحد يستطيع أن يقرّر ماذا يكون مفهومك عن الوجود في مكانك، لا تسأل فقط عن معارف البشر لكن ماذا تعرف أنت، ضميرك، وعيك، تساؤلاتك، واليوم بفضل ما تم اكتشافه في عالم الأحلام يمكنك حتى أن تستشير أحلامك لتعرف ماذا يسكن في اللاوعي لديك...
كركوك 14 حزيران 2019

41
الوعي، بين الأمس واليوم
المطران الدكتور يوسف توما
يمكنني القول إن الوعي هو أجمل هدية تمنحنا إياها هذه الحياة أو بالأحرى نمنحها نحن للحياة عندما نعي معنى وجودنا ودورنا فيها. لكن الصعوبة تكمن بأن الوعي ليس له شكل ولا يمكن تحفيزه طالما لم يكن مرتبطا بحدث ما. فغالبا أمر بسيط قد يحرك الوعي لدينا، مثل قصة تفاحة نيوتن (1643 - 1727) التي حرّكت كل تساؤلات العصر الحديث واختراعاته. قبل الوعي، كنا كأنما نعيش في فراغ كوني هائل وحقل عملاق لا نهاية له بإمكانية وعي محتمل فقط. وطالما لا يوجد حدث ما، لا يمكن أن يكون هناك أي وعي. الحدث يجعل الوعي يتحرّك، إنه كالقدحة في السيارة "السِلف". عندما يستيقظ الوعي يصبح كل شيء واضحا في مكانه حتى الفراغ نفسه، من هنا درسوا ما هو غير ملموس كالموجات والاشعاعات الفائقة.
الحدث يجعل الوعي حقيقيًا، ثم يولد التساؤل حول زمن الحدث ومكانه بالتحديد في الفضاء. وهذا أطلقوا عليه اسم الزمكان (الزمان والمكان)، وبعده يأتي سؤال آخر يقول: "ثم، ماذا بعد ذلك؟" الغاية!
قضى العلم وقتا طويلا ليجيب على تساؤل قديم بقدم الإنسان: "كيف صارت الأمور؟"، كانت أولا الأساطير محاولات لأجوبة مريحة، ثم جاءت العلوم فسيطرت على كل حيّز. إلا أنها لم تستطع أن تجيب على الغاية، فبقي الإنسان حائرا، إذ لا يكفي أن نعرف "كيف صارت الأمور؟"، بل: "لماذا صارت؟ ما هو الهدف منها؟"، بل أصبحت حيرتنا أكبر من حيرة أجدادنا. حتى لو تهربنا نحن أيضا واخترعنا أساطير كثيرة استخرجناها من العلوم، لكنها لم تشبعنا بل بقي الكل جائعا. 
ماذا نلاحظ؟
نلاحظ أن الوعي تضاعف من خلال قراءة المزيد من الأحداث، وإطلاق العنان لدراسات شاملة لكل زمان ومكان، التاريخ والجغرافية، والتدقيق بملاحظة كائنات أخرى تعيش معنا، تعلمنا أنها أشكال حياة ذكية أقدم منا تكيّفت، بل صارت أذكى من البشر في بعض الأمور. قرأت منذ أشهر ثلاثة كتب، إثنان لبيتر فوليبن Wohlleben (حياة الحيوانات الخفية وحياة الأشجار الخفية)، وآخر لإيفا ماير Eva Meijer الهولندية، عن وجود لغات تفاهم بين الحيوانات. فوعينا أن أشكال الحياة من حولنا أعقد بكثير مما كنا نتصوّر، إنها في كل مكان: على الجبال وفي البحار وفي الجوّ وتحت الأرض.
إن كل شكل من أشكال الحياة التي من حولنا يمكن اعتباره أيضا شكلا من الوعي، تمكن من احتلال موقع في الفراغ الهائل المحيط، فــ "الطبيعة تكره الفراغ" أو تحبه وتحتله بكفاءة وذكاء. وإذا ما أردنا التعمّق نقول: في كل مكان وزمان كأنما الفراغ نفسه يعي ويحفز بشكل أو بآخر من يسكن فيه. لأن من الخطأ اعتبار أن هويتنا تكمن في أجسادنا، أو بما حولنا من أشياء فقط، علينا أن ندرك أننا لسنا مجرد هيئات، ولكننا نتفاعل مع الفراغ أيضا. فالمهندس المعماري مثلا لا يصنع البيت فحسب، إنما يخلق الفراغ الذي سنعيش فيه وهو الأهم! كذلك النجار لا يصنع الدولاب إلا من أجل الفراغات التي فيه وغير ذلك من أمثلة...
هكذا لن نتجنب السؤال الملح لمعنى الحياة: "ثم، ماذا؟" أو "ماذا بعد كل ذلك؟"، سقراءة الأحداث تدفعنا دفعا إلى هذا السؤال الذي نحتاج إليه: ما معنى الأحداث بالنسبة إلينا ككيانات واعية؟ هل هي قصة لا تنتهي، أم أن "الفلك دوّار"، والأمور مجرد تكرار... كما قالت بعض الحضارات الآسيوية؟
اكتشف علم الفلك أنه قبل 13 مليار سنة، حدث ما سمّي بالدويّ الأعظم Big Bang، وبدأت القصة بترتيب مدهش ومسار يتّجه نحو "الوعي"، هل هذا يعني أن في الكون شكل من أشكال الوعي يتجاوزنا؟ المؤمنون يطلقون عليه اسم "الله الخالق"، لكنهم ينسون أن كلمة (الخلق) تختلف عن (الصناعة)، فالله لم يصنعنا بل وضع في مسار وجودنا إمكانية "صيرورة"، نحن لسنا أبناء الماضي، لكننا مدعوين لولادات عديدة في المستقبل! وهذه الفكرة ستصالحنا حتى مع نظرية التطوّر، أو ما يسميه البعض "التصميم الذكي"، وتشفينا من أشكال السلفيّة والرجعيّة والبكاء على الأطلال...
الزمان والمكان إذن مرتبطان بقوة في استمرارية يبيّنها تطور الوعي، الذي يظهر أينما حدث شيء ما في الكون، لكنه يحتاج إلى من يشعر به ويعيهِ. وهذا أيضا يسميه المتصوفون "التسبيح"، لأن "السماوات تنطق بمجد الله، والفَلَكُ يخبِرُ بعَمَل يديه" (مز 19/1).
قال أحد العلماء: "نحن نجهد أنفسنا لنتسلق تلة العلم، وعندما نصل إلى القمة نجد الروحانيين جالسين فوقها قبلنا".
هذا يعني إذن أننا على هذه الأرض جميعنا كائنات كونية، لنتناقش الأحداث التي "مضت"، ونقرأ التي تحدث "الآن"، لكن الأهم هو أن نتوقع التي "سوف تأتي" في المستقبل، وهذا ما اتجه نحوه الكتاب المقدس في عهديه، ففي القديم نقرأ في سفر دنيال أن الملاك يقول له: "إنك رجل الرغبة، جئت لأخبرك... فتأمَل وافهم!" (9/23). (اختلف المترجمون حول كلمة "من يرغب" Homme de désir هل هي رغبة الله أم رغبة الانسان؟ لكن باعتقادي الرغبة في كليهما)، أي عليك أن تعي ما ينقص، الآن وهنا، من معنى، وبذلك يولد الكلام، لذا قيل: "في البدء كان الكلمة، وبه كان كل شيء..." (يو 1/1). وفي ختام العهد الجديد نقرأ: "من كان عطشانا فليأت ومن كان لديه رغبة فليأخذ ماء الحياة" (رؤ 22: 17).
بدأتُ حياتي العملية في العراق، بعد عودتي من فرنسا، انتقلت عام 1983 إلى بغداد وقررت أن أتتلمذ للنحل، فاشتريت خليتين من بساتين الراشدية قرب بغداد، واكتشفت أن النحل ظهر قبل 200 مليون سنة، في حين نحن البشر نكاد نرجع إلى ثمانية ملايين سنة فقط، للنحل إذن خبرة متراكمة في هذا العالم أكثر من البشر، بالتكيّف والوعي لهذا العالم. هذا علمني التواضع، خصوصا بعد قراءتي كتاب كارل فون فريتش Karl von Frisch (1886 - 1982) العالم النمساوي الذي فكك طلاسم لغة النحل وحصل على جائزة نوبل عام 1973. منذئذ، وبفضل علماء مثله أخذنا حجمنا الحقيقي، أننا لسنا آلهة، ولا حيوانات، إنما كائنات مدعوّة لأن تعيَ وتفهم موقعها في هذا الكون، وهذا مشروع يتجاوز كل معتقداتنا الدينية وآيديولوجياتنا السياسية، وحكاياتنا الخرافية من الأمس واليوم.
كركوك 30 أيار 2019
"Nous nous efforçons de gravir la colline de la science et, lorsque nous atteignons le sommet, nous trouvons les spiritualistes assis au-dessus de nous."

Lorsque le savant atteint le sommet de la colline, il trouve le spirituel assis dessus

42
المنبر الحر / فيضان الكراهية...
« في: 22:48 21/05/2019  »
فيضان الكراهية...
المطران الدكتور يوسف توما
حضرت قبل أيام دورة أقامتها اليونيسيف بخصوص التعامل مع الأطفال والشباب الذين تربوا تحت حكم "داعش" في سوريا والعراق منذ 2014، وألهمتني النقاشات الكثيرة التي دارت بين الحاضرين أن أكتب هذه السطور.
في مراحل تطور الإنسان يبدو أن الإيمان بالله يشكل عاطفة أساسية عميقة، تجعل المرء يشعر بشيء يتجاوزه ويأخذه إلى خارج ذاته، ليرى ويختبر وجود الله في كل شيء وفي كل مكان. إنها مسألة تحدّد نضوج الذات عاطفيا وبشكل نهائي بحيث يرتبط المرء بالطبيعة أو بمحيطه الحيوي مباشرة وبأبعاد الكون في نهاية المطاف: "أنا أحبّ الله فإذن أنا موجود". وهذا الشعور يعني العيش مثل الطبيعة ومعها، من خلال شعور عميق بها. إنها مشاركة بالكون الحي وشعور بقدرة تعمل "كما في السماء كذلك تعمل في كل تفاصيل الأرض".
لكن، من أهم ما تتميّز به الكائنات الحية، هو لغة التواصل التي أوجدتها الطبيعة، وهي لغة عواطف متدفقة قائمة على التنفس من قبل جميع الكائنات الحية في المحيط الحيوي في كوكبنا. إنها لغة عالمية، لديها مفردات وموجات وجاذبية، تشبه الأمواج الكهرومغناطيسية، إنها قوية حتى في أبسط عناصرها، يمكن أن نقرأها في جميع مظاهر الوعي.
الوعي! ما أجمل هذه الكلمة، لأنها تعطيني قيمتي وقيمتك أنت، والوعي ليس له شكل على الإطلاق. ليس صلبا أو سائلا أو غازيًا أو بلازما. لا يمكن لآلة تصوير التقاطه أو تخزين موجاته كوعي. بل الوعي مسألة تراكم معقد هو نتيجة للخروج من ضبابية الطفولة وعجزها، إنه العين الثالثة التي يرسمها الهنود على جبينهم، هذه العين تشعر وتقرأ بحدسها الحقيقة والواقع، ولا تقع فريسة تضليل الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والارتفاع، الوعي يفهم أن هنالك بعد آخر.
لذلك كان الوعي بوجود الله ينتمي إلى الإيمان الشخصي، وليس الجماعي ويتجاوز كل ما تقوله الأديان، إذ يتصل المرء به بشكل سرّي وغامض عبر كل الكائنات صغيرة أو كبيرة، تلك التي تعمل ليل نهار. الوعي يجعلك تشعر مثل شعور الله، برحمة!
لكنك قد تسألني وتقول: "كل هذا جميل، لكن أين وضعت العِلم؟". أقول: دعنا نأتي إلى العلم. العلم يدافع عن كيفية "عمل الطبيعة واستخدامها"، وقلما يُعجبه الجانب العاطفي والمشاعر النفسية. العلم مشغول باستخدام الآلات فلا يمكنه أن يشعر ولا أن يرتبط عاطفيا بالطبيعة. لهذا السبب قد تباطأ العلم ببساطة وأهمل الاهتمام بالوعي وبما يتجاوزه – كعلم - من حوله.
لقد قطعنا شوطا كبيرا منذ الفيلسوف رنيه ديكارت (1596 - 1650)، عاشق الرياضيات، عندما قال إن الحيوانات عبارة عن مكائن لا شعور لديها، لذا يمكن أن نعاملها كما يحلو لنا. يبدو لي أن هذا الرجل لم يربِّ قط أي حيوان في بيته، ولم يكتشف كم لدى الحيوانات ألفة وعواطف تغمر صاحبها بالفرح، لأنها تقابلنا بجميع أنواع المشاعر الجياشة. ومنذ عصر النهضة لم يعد العلم قادرا على الإجابة على بعض الأسئلة. لأنه توقف عند الأشياء ثلاثية الأبعاد فقط واستبعد من مساحة رؤيته المشاعر التي لم يتمكن من قياسها وتبويبِها، وبسبب خشونة أساليبه لم يعد يحسّ بها، إنه برأيي نوع من "الإلحاد" تجاه ما زرعه الله على طريقنا!
لقد أصبحنا أمام فيضان متلاطم من الأجهزة، جاءت بها التكنولوجيا لتضخّم أكاذيب الأبعاد الثلاثة فقط. ولم نهتم بما نشعر، وصرنا نكتفي بسهولة باستخدام الأشياء، دون اهتمام بأي شعور تجاهها. وهكذا يصل الأمر بالبعض إلى كراهية نهائية، أي إلى عدم الاكتراث بمشاعر الآخرين، حتى البشر منهم.
قالوا: "اسأل مجرب ولا تسأل حكيم"، وبهذا حجّموا قليلا من اعتمادنا على العلم والتكنولوجيا، وفتحوا فجوة تدعو إلى استخدام آخر للطبيعة، عوض الاستمرار في تدميرها، بهذا المثل يضيف "المجرب" خبرة إلى الثقافة. إنها خبرة الغريب الذي تغرّب وعاش خارج "السبل" المسلوكة، مقارنة بالذين لم يخرجوا قط من قوقعتهم، من قريتهم وعشيرتهم ومدينتهم، هؤلاء صاروا منتجين وسبب إطلاق "فيضان الكراهية" نحو كل غريب ومختلف، بل نحو كل ما في الطبيعة، فوقعوا في العجز في التعبير، يكتفون بتكرار ما تعلموه "من السلف"، وصاروا يفرضونه على أبنائهم – بلا تمحيص – واعتبروا ذلك علما أو عبادة، فقتلوا الطبيعة والناس وكل من تحدى مقاييسهم الجنونية. فعششت الكراهية في صفوفهم بشكل واضح وصار، ما يفعلون يبدو وكأنه هو المقياس الطبيعي ولا غيره، إذ لا عالم آخر خارج تصوراتهم.
الأغرب أن كل هؤلاء ومن مثلهم تصوّر أنه وصل إلى الكمال فلم يعد يريد التقدّم بل توقف عند ما سمع وعرف. والحال إن التقدم البطيء أفضل من عدم التقدم، ومن لا يتقدم يموت في كل شيء حتى في دوافعه، يفقد الثقة للاستمرار. ومن هو مثل هؤلاء لن يعرف طعم السعادة أبدًا لأنه سيفشل دائما في تقدير النعمة التي لديه بالفعل.
كركوك 21 أيار 2019

43
لكي لا يصير "الأنا" سجنًا!

+ المطران يوسف توما

يتميز الكائن البشري بالتركيز على نفسه بشكل أساسي وذلك منذ نعومة أظفاره، فتلعب الغيرة دورها في صقل شخصيته. أنا، أنت، هو، هي، هم، هنّ ونحن... ولا يمكننا تحديد المسافة التي تفصل بين هذه المسمّيات بدقة ولا أن نعطيها عناوين واضحة، إنها كالماء أحيانا صلب أو سائل أو غازي. وقد يتساءل المرء ما معنى هذا التمايز بيننا وهل هو أمر أساسي في هذا الكون، ماذا سيبقى من أشكال التمايز هذه لدى تقدّمنا في السن؟ ولماذا يأخذ تمايز الهويّات كل هذه الأهمية؟ وهل ضروري أن يكون لكل واحد هوية؟ ماذا سيستفيد الكون من صراعات هوياتنا؟ وإذا ما ركزتُ على هوية الأنا ألست أدور في حلقة مفرغة، كالكلب الذي يحاول مسك ذيله. حتى يأتي الموت ليحرّرني من الأنا الحالي الذي كان بمثابة سجن لي طوال حياتي.
في الواقع، عندما ننظر إلى الطبيعة الخصبة والحرة، حيث جميع الكائنات الحية تتنفس، تشم، تفهم، تتفهم، وتضبط حركاتها على إيقاع معين، تتفاعل، تنسجم، تتناغم، تنشط، تغني وترقص (بعض الطيور رائعة في رقصاتها)، هنا يبدو البشر في مسار الأنا لديهم بعيدين عن مسار الطبيعة بل في تناقض معها. إذ لا يتمكن الأنا من الاندماج ضمن الذات الشاملة للكل، أو مع هوية المجال الحيوي بمجمله. لكن ما هو المجال الحيوي؟ هذا موضوع آخر!
ما يمكن ملاحظته هو أنه يحدث في مرحلة ما – في مسار نمو الشخصية - تحوّل من الهوية الكلية الشاملة إلى (الأنا)، حيث تحدث عملية ابتعاد عن المحيط الحيوي بأكمله وعن الطبيعة مما يضع كل فرد لوحده كما لو كان الأنا لديه جزيرة في وسط البحر (اقرأ قصة روبنصون كروزو)، فلا يعود يحسّ بالآخر ولا يستطيع حتى إدراك ما يفكر فيه الآخر أو ما يدركه، إنه مسلسل مرعب ونزول إلى الأسفل، إلى الهاوية.
إلى جانب الشعور بالعزلة هذه، غيرت التكنولوجيا الحديثة حياتنا تماما، فجعلت بعضا من أعضائنا زائدة عن الحاجة، فصارت الآلات تقوم بعمل أعضائنا. واحتلت الأجهزة الحيز، وتركتنا أكثر عزلة، لأن الأجزاء الميكانيكية صارت بمكان الأعضاء البيولوجية. حتى الهواء والماء تعرضا للتسمم والتلوث. وبدأ العديد من ملحقات الميكانيكيات يدخل في هوية (الأنا)، وبدأوا يطلقون عليها اسم الهوية السايبورغية (cyborg). هنا شكلُ السجن للأنا صار مختلفا.
أمام هذا الواقع ومع تزايد حالات الانتحار وكثرة نزلاء السجون وازدياد الأدوية ضد الكآبة، حدث نوع من الثورة في أماكن عدة، يمكن أن نسميها "ثورة القلب"، ومن أشهر من تميز بهذه الثورة هو الكندي جان فانييه (Jean Vanier)، الذي توفي يوم 7 أيار الماضي، ابن حاكم كندا العام أمضى حياته يهتم بالمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، مؤسس منظمة عالمية لارش ) L’Archسفينة نوح)، لعله قصد أن ينقذ الأنا من الغرق المحدق من خلال العناية بالآخرين، وخصوصا الأضعف بيننا، بعكس ما شاهدناه قبل 70 سنة حين كان النازيون في ألمانيا يقتلون كل المعاقين بلا تردد.
جان فانييه وكثيرون غيره في أنحاء العالم، مثل العزيزة (ألحان نهاب) مؤسسة دار بيت عنيا في بغداد عام 2000، لرعاية المرضى والمهمشين من النساء خصوصا، توفيت يوم 13 نيسان الماضي. مثل هؤلاء صاروا ظاهرة انكب عليها علماء الاجتماع وأطلقوا عليها اسم "علم اجتماع القلب"، قامت بدراسته ببحوث رائدة العالمة النفسانية كارول غيليغان (Carol Gilligan) (ولدت عام 1936)، كاتجاه يأتي على عكس مسار العنف الذي تصوّرناه قدرًا محتوما، خصوصا بعد أفكار مفكري سبعينيات القرن الماضي مثل النفساني الفرنسي جان بياجيه (Jean Piaget) (1896 - 1980)، حين ساد تيار الهبيز Hippies الذين شددوا على "استقلالية" الفرد، لكن ذلك قادهم إلى الموت ولم تعد تلك النظريات تقنع أبناءهم من الجيل اللاحق، بل صار هؤلاء يفضلون "أنموذج القلب"، بشكل عملي يعتمد على تقوية أواصر العلاقات بالمساعدة والاهتمام بالضعفاء، عوض الركض وراء إشباع الأنا لدى الفرد الأناني.
إن تجارب وخبرات القرن الماضي جعلتنا نطرح السؤال: ما هو الضعف البشري؟ ولماذا نحتاج إلى الآخرين ويحتاج الآخرون إلينا؟
كل إنسان في مرحلة ما من حياته ضعيف وتابع مطلق لعناية الآخرين وإلا يموت، في الطفولة والشيخوخة والمرض، الضعف لدينا أمر جوهري، وهو يمهد الطريق لمواجهة الموت، مما يدفعنا أن نقتنع – في سنوات العز والرخاء – بالتصرف الجدي للتخفيف عن ضعف الضعفاء، ألا يقال: "يوم لك ويوم عليك"؟
من جهة أخرى: قد يشتمل الضعف مجالات واسعة أي جماعية كجماهير المرضى والمعاقين والمسنين.
الضعف إذن إما فردي أو جماعي.
وفي مسار نضوجنا نعيش هذا التوتر، بين حاجتنا إلى المساعدة أو ضرورة إبدائها لمن يحتاج إليها. هكذا كثر التركيز في الأديان من الناحية الاجتماعية على تربية تقديم هذا النوع من المساعدة. وتأتي المرأة في الصدارة بالقدرة على ذلك، بفعل الأمومة لديها، فهي طبيعيا أكثر قابلية من الرجل الذي تهمه الاستقلالية.
هنا علينا أن نلاحظ أن مفكر الفردانية جان بياجيه، كان رجلا. أما صاحبة نظرية "علم اجتماع القلب"، كارول غيلليغان، فهي امرأة، وعليهما ينطبق المثل القائل: الرجل يصنع المكائن لكن المرأة هي التي تصنع الرجل!
"نظرية القلب" إذن توضح أهمية إقناع الجميع، رجالا ونساء بإلغاء الفروقات في العناية، فالمجتمعات الواعية تجاوزت "العنترية الذكورية" machism التي نسمعها كل يوم لدى القادة الخاسرين والمنهزمين، أما تساؤلات المستقبل حول مصير الضعفاء بيننا، فصار يوقظ الكثيرين، كما فعلت جاسينتا أرديرن Jacinda   Ardern  رئيسة وزراء نيوزيلندا لدى الاعتداء على جامع كرايست تشرش (15 آذار 2019)، ابهرت الجميع بتعاطفها وحنانها على ذوي الضحايا، اكتشفنا أن التمييز بين الرجال والنساء ليس بالقوّة، لأن في كل رجل جزء أنثوي يجب أن يبرز في طيبته وحنانه، وفي كل امرأة أيضا جزء ذكري نحتاج إليه في حزمها وصلابة عودها ومقاومتها لأصحاب العنتريات الذين يدوخونا.
مهم جدا أن يضع كل واحد حدًا في داخله لهذا الصراع العقيم وهذا التمييز المفرط بين الذكور والاناث على أساس سخيف، فأنت لا محالة ضعيف في تصوراتك تلك التي تكشف خوفا أسطوريا، منذ آدم وحواء. اليوم كلنا نحتاج إلى بعضنا بأن يكون (الأنا) سليما لدى الجميع، فيتحرّر من سجنه، رجلا كان أو امرأة، لا فرق إلا بقوة التراحم نحو الأضعف بيننا. وبذلك سنكتب تاريخ المستقبل، عندما يصير التعاطف هو الأهم!
كركوك 14 أيار 2019

44
ماذا تعني وحدة الكنيسة في اللاهوت المسيحي؟
+ المطران الدكتور يوسف توما
كلما تقترب الأعياد يتساءل المسيحيون لماذا لا يحتفل بها في نفس المواعيد والتوقيتات. وينبري كثيرون يتحسرون على الأيام الخوالي حين كنا واحدا، وتأتي التعليقات والتنديد والنصائح وأحيانا الاتهامات. لكن، هل الوحدة هي بالعودة الى ما كنا عليه في القرن الخامس والسادس أو ما بعد ذلك؟ ألا ينبغي أن نبحث عن صيغة جديدة وملائمة للوحدة، فهي ليست وراءنا وإنما أمامنا. هذا ما أحاول تقديمه في هذه الصفحات...   
يشكل الانقسام هاجسا في كل المؤسسات والتنظيمات البشرية منذ فجر التاريخ، وحاول كل منها أن يتوقع ذلك، فوضعوا له معالجات منها يستبق ومنها يعالج. مع ذلك، قلما سلم أحدها من الانقسام، بل كان الفشل نصيب أغلبها عبر التاريخ، فدخل التشنج بين الأطراف، وجرحت الذاكرة، ولم يعد للوحدة أي جاذبية أو إغراء. وما أكثر الذين لجأوا إلى الأسهل عن طريق فرض الوحدة بالقوة، أو بتذويب شخصية الآخر ومسح ثقافته وتاريخه وخصوصياته اللغوية. بعضهم مارس القطيعة بمسح السبورة وكتابة شيء جديد، وعدّوا الزمان الأول، حين كانوا واحدا، هو الوحيد المهم، أما زمن التباعد فهو بلا قيمة، فتولدت الشعارات وتكرّرت الأمنيات والحنين إلى الماضي بانفعال واعتبرت الأزمنة الغابرة حين كنّا واحدا أزمنة مثالية. وشيئا فشيئا ساد التغافل عن الأسباب التي قسّمتنا، فقامت لغة آيديولوجية "خشبية" وتسميات فضفاضة وفارغة ودخلت "السياسة" أو "المصالح الشخصية". لكن كل شيء كان يعوم في سلبية التشخيص ويبتعد عن الموضوعية في إعطاء الحلول، هذا إلى جانب التسرّع في توزيع الاتهامات والأحكام المسبقة بنفس الضعف السلبي الذي سار قبله عليه كل الذين حاولوا من قبل، وتمر السنوات والكل يراوح في مكانه.
ما جاء أعلاه إذن يصح مع كل المجتمعات البشرية، ويصح أيضا في الكنيسة، فهي أيضا مكوّنة من بشر، أي نحن أمام جسم حي، وكل حي يمرض ويشيخ ويموت. لا نستسهل إذن إمكانية علاجه وشفائه وخلاصه. الخبرة الطبية والدوائية علمتنا التواضع والاصغاء والاعتراف بأن ما وصلنا إليه حتى اليوم ليس كاملا، وأن معلوماتنا ناقصة وتشخيصنا جزئي، وذلك لافتقارنا إلى الوسائل حتى الآن. بهذا التواضع صار العلماء نماذج يتميّزون بها على رجال الدين والسياسة بأن يتعلموا ولا يتسرعوا في أحكامهم، فأخطاء الذين سبقوهم لا داعي أن يكرّروها، أما الأحكام المسبقة والقاطعة فليحمنا الرب منها لأنها لم تقدّم بل أخّرتنا، وقد يصاب بسببها جسم المجتمع والكنيسة بما هو أسوأ!
فكرة الجسم الحي قديمة، طبّقها القديس بولس على الكنيسة على مرحلتين، في الأولى عندما اعتبر أننا جميعُنا إخوة، أعضاء في جسم واحد: "أنتم جسد المسيح وكل واحد عضو فيه" (1قور12/27)، "إذا تألم عضو تألمت معه سائر الأعضاء، وإذا أكرم عضو سرّت معه سائر الأعضاء" (1قور12/26). لكن بولس يكتشف أن وحدة المسيحيين تختلف عن أي مجتمع آخر فحدث تغيير في فهمه لهذه الحقيقة، عاد إلى يوم اهتدائه على طريق دمشق عندما ناداه المسيح: "شاول، شاول لماذا تضطهدني؟"، أي تضطهد أعضاء جسدي. فأصبحت الوحدة المسيحية أكثر من مجرد كتلة اجتماعية متماسكة، الأعضاء هم للمسيح متّحدون به من الأحياء والأموات، ونراه يقول عندما يتألم هو نفسه يقول: "يسرّني الآن ما أعاني لأجلكم فأتمّ في جسدي ما نقُص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (قور1/24).
من هذه الحقيقة تطوّر لاهوت خاص سمّي "شركة القديسين"، حيث الروح القدس هو الذي يقود الكنيسة وهو صحّتها وشبابها يشدّها نحو المستقبل، فلا تعود السنوات الماضية سوى قطرة في بحر غناها وقوّتها بعكس ما يحدث للأجسام من تقادم وضعف، فضيلة الرجاء بحدّ ذاتها معجزة تجعل الكنيسة تقاوم ولا تستسلم لعوادي الزمن، لأن المسيح معها إلى انقضاء العالم.
 هكذا كان التلاميذ الأولون في بدايتهم تسود تصوّراتهم "أفكار البشر"، كانوا منقسمين، ضعفاء محبّين لأنفسهم "من هو الأكبر!" (لو 22/24)، وعلى مدى ثلاث سنوات رافقوا يسوع ولم يفهموا مشروع "الملكوت" الذي أراده، بحيث قبل صعوده إلى السماء واختفائه عن أنظارهم سألوه: "يا رب الآن ستعيد المُلكَ لإسرائيل؟" (أع 1/6) لم يفهموا معنى كرازته. سوف يأتي شاؤول - بولس ليكون أحد الأسس المهمة لبناء مفهوم الكنيسة، وفي رسائله كمّ كبير من النصوص القاسية على الذين يقسّمون الكنيسة، فيقول هذا: "أنا مع بولس، أو أنا مع بطرس" (1 قور 1/12).
مع الحرية التي جاءت مع بيان ميلانو في عام 313 م على يد الامبراطور الروماني قسطنطين دخل أتباع المسيح في تحدّ أكبر من زمن الرسل بالانتشار الأفقي بين الحضارات والشعوب، فاختلط معنى الوحدة على الكثيرين، لكن أتباع يسوع رأوا أن الوحدة هي مع المسيح بجهاد شخصي وانتماء إلى المسيح يحميهم من خطر "روح العالم".
كلمة "الانتماء" إذن، تبقى هي المفتاح لفهم الوحدة المسيحية، فالانتماء يختلف عن الهوية الاجتماعية، التي فيها يخلطون الماضي وأحداثه، بمولدهم وتبعيّاتهم، وعشائرهم... الفرق كبير بين الهوية المقفلة والانتماء المفتوح، الذي من دونه لا يرتفع مستوى خطاب الوحدة عن المجاملات. الهوية عادة تبنى على "منجزات الماضي" التي ورثتها مع حليب أمي، أما الانتماء فيسألني منذ اليوم: ماذا فعلتَ بالوزنات التي تسلمتَها مع ذلك الحليب؟ كثرة الوزنات أو قِلّتها غير مهمة (متى 25/14-30) الخطر يكمن في دفنها في أوهام القومية والأمة والشعارات التي أتعبَتنا وأصبحت ثقلا على أولادنا لأنها "ألغاز" مقفلة بلا مفتاح ولا تفسير ولا تأوين أو شرح.
مسار الوحدة لدى يسوع هو انتماء جدّي يبدأ بإخراج الخشبة من عيني لكي أرى القذى في عين أخي (متى 7/5)، الخشبة قلما أفطن إليها، لأنها تدينُني، تدين نظرتي المعوَجّة والأحادية على الآخر: من هو؟ كيف أراه؟ من أي زاوية؟ ما هو مستقبله؟ هل أعرفه حقا وأعرف ماذا يريد الله لحياته؟ هل أنا حر من مفعول تلك الخشبة؟ لأنها تعني اكتفائي ورضايَ عن نفسي، وما أعتبره وأنتقيه من الماضي، فأغطي هنا وأمسح هناك، وأسلط النور على جزء أو أسترسل في مونولوج (أحكي مع حالي)، والآخر لا يعنيني بشيء...
كان يسوع يعرف خطر الانقسام هذا، لذلك - في كل الفصل 17 من إنجيل يوحنا - يصلي من أجل وحدة تلاميذه، حين لم يكونوا بعدُ كنيسة، بل مجرّد شلة صغيرة مبعثرة، حتى إن واحدا منهم سيخونه بعد قليل. صلى الرب من أجل البعيدين الذين سيتتلمذون على يد هؤلاء المساكين الواجمين أمامه، الذين سيهربون في ذلك المساء، وبطرس زعيمهم سينكره. لكن صلاة يسوع ستبقى علامة تضيء المستقبل، للوحدة في الانتماء نحو هدف أوسع من ضعفنا وخطايانا وماضينا. وحدتُنا في المسيح هي قبول للتطوّر والتغيير الممكن بالروح القدس، بمثابة ولادات متتالية، بدأت مع التغيير الذي حدث للتلاميذ الأوائل عندما انفصلوا عن اليهودية، ثم انقسموا إلى تيارات مختلفة، منها من عاش ومنها من انقرض، وخير دليل هو ما قاله أحد كبارهم، غملائيل أمام أعضاء المجلس عن الرسل حين عزموا على قتلهم مثل يسوع: "أتركوهم وشأنهم، لئلا تصيروا أعداء الله" (أع 5/17-39).
ما نراه من انقسامات في زماننا ليس سوى ظواهر طبيعية، بعض منها يبقى وبعض يقاوم ومنها ما سينقرض من نفسه، وآخر جديد سيظهر، كل هذا تِبعًا لجوّ الحرية التي تتمتع بها الشعوب، والضغوط التي تمارس عليهم وغير ذلك من عوامل تتجاوز تحليلنا. إنها مسيرة بيولوجية واجتماعية، كل جيل يقوم هو ابن الحياة، ومن حقه ان يكون مختلفا، لماذا نريد أن نلبسه ونطعمه على مزاجنا؟ من يقول إننا الأفضل؟ لا يمكن أن نبقى على أفكارنا في قراءتنا لنصوصنا والتشبّه ببعضنا، فالتغيير ليس سيئا إنما هو سُنَة الحياة، وهذا ما دعا إليه يسوع منذ بدء الإنجيل: "إن لم تتوبوا (أي "تغيّروا عقليتكم" ميتانويا باليونانية) تهلكوا جميعا" (لو 13/5). أما الذي "آمن بي سيعمل الأعمال التي أعمَلها، بل أعظم منها" (يو 14/12). هناك إذن فرق بين الوحدة الظاهرية التي يراها البعض في العادات وشكل الأصوام والأعياد والطقوس، وبين عمق الانتماء إلى المسيح، الذي يدفعنا لنراجع الموروث ونفحصه ونصفّيه ونجدّده ونقلمه كالشجرة التي تصبح على يد الخبير مليئة بالثمار، "من ثمارهم تعرفونهم" (متى 7/16) إذن، وليس من شعاراتهم!
     كركوك 8 نيسان 2019

45
الإدمان، وراء اللذة بناء شاهق من الألم
+ المطران د. يوسف توما
الإدمان، بمعناه السلبي، نوع من البرمجة النفسية والجسدية والعاطفية، ما يسيطر علينا، فندخل في دورة مغلقة يصعب كسرها والخروج منها إلى أسلوب حياة أكثر توازنا وحرية. فالمدمن يقوم بأمور كثيرة لمجرد كونه يعتقد أنه أمر عادي وأن الجميع يفعل ذلك. بالحقيقة وإن كان المصابون بمشاكل الإدمان أقلية في المجتمع إلا أن وجود مدمن في مكان ما يسمم حياة من هم حوله. فالمدمن يبرّر نفسه وينكر أنه يسيء التصرف بل يشعر بالراحة مع هذا "الانكار"، فيهرب من التصرفات السوية والاتجاهات الصحيحة والصحيّة. من الواضح أن التعاطي المدمن قد يظهر بكل أشكال ما يسيطر عليه، سواء أكان الإدمان واضحا كالمخدرات أو الكحول أو التدخين، أو كان معنويا خفيا كالإدمان على القمار والألعاب وكل ما يجعله تابعا لتصرف متكرر لا يعود قادرا أن يتخلص منه.
وإذا ما حاولت إعطاء تعريف أكثر دقة للإدمان، أقول إنه بمثابة "مرض" قد يواجه – بشكل ما أي شخص لدى تعرضه وخضوعه للتصورات والأوهام. يحكى عن الملا نصر الدين (المسمى شعبيا جحا)، أنه كان يقف على ضفة نهر، فلاحظ كلبا اقترب يريد أن يشرب. وعندما رأى الكلب صورته في الماء بدأ ينبح. وصار ينبح طوال الوقت منذ الصباح وحتى الظهر، بحيث صار يرغو من فمه، وأخيرًا، إذ كاد يموت من العطش، وقع في النهر، وهكذا روى عطشه، فخرج سعيدا. قال جحا: "أدركت أنني مثله طوال حياتي أقع بنفسي ضحية أوهامي وتصوراتي".
المدمن في الواقع هو من تسوقه الأوهام، يعتقد أنه بإدمانه سيصل إلى نتيجة، فلا يشبع مثل عشاق المسلسلات والأفلام يقضون أمامها الساعات، أو مثل لاعب القمار، ينزل إلى الهاوية ولا يعرف أن يقول لنفسه "كفى"، والنتيجة هي نفسها، ضعف إرادة وخضوع لما يسيره، فلا يستطيع أن يجد مخرجا ولا أن يبتعد عن حالته، ولا يراجع نفسه ليرى مأساته وعقم ما يعمل ويركض وراءه، بحيث يضيع عمره وشبابه في بحث عن مال غير موجود أو معنى في النهاية. لهذا السبب أقترح أن يكون التأمل بالعواقب خير علاج.
التأمل، علينا الانتباه أن هناك فرقا بين تأمل وآخر، إذ لدى العراقيين نوع من التأمل يسمونه "دالغة" (ولها عندهم معاني عديدة) أو "صفنَة"، وهما بعيدتان عن التأمل المقصود. فالشخص الذي يقع في "دالغة" أو "صفنَة"، تكون خلال ساعات يقظته، بلا هدف لديه ولا يصل بهما إلى شيء، بل يدور في حلقة مفرغة من الأفكار. لكن التأمل الحقيقي يختلف، لأنه يساعد المرء على الخروج من قوقعته فليصبح أكثر حنانا ومحبة، مسالما، قنوعا، سخيا بماله ووقته وخصوصا قادرا على التجاوز والغفران، هذا يمكن أن نطلق عليه إسم "المحب الواعي" وليس المدمِن المتطلِب التابع والخانع لميوله.
تقوم اليوم في كثير من الدول مراكز "تخلص من سموم الإدمان" (désintoxication-Detoxification)، كضرورة علاجية، لكن الخوف هو أن يعقب العلاج انتكاس، كمن يقلع فترة عن التدخين ثم يعود، ذلك لأنه لم يحصّن نفسه باكتساب عادات جديدة وتجنب ما سبّب الإدمان لديه. هذا يعني أن كل إدمان قادر أن يخفي أشكالا أخرى من التبعية عميقة قد تكون أخطر من مجرد ضعف أمام كأس أو سيكارة! فالشخص القوي هو من يستطيع أن "يتجاوز" نفسه بلا مقارنة مع أحد، والسوي هو من يعدّ الأنانية النرجسية عدوّه الأكبر، فلا ينخدع بمن يظهر كشخص لبق وساحر لكنه أناني بطرق مختلفة. مثل هذا يمارس الإدمان كشكل من أشكال الحياة أو "أسلوبا للحياة"، فقط لجذب انتباه الآخرين، وهو بالحقيقة تابع لآرائهم ونظرتهم وإعجابهم، يخاف جدا من انتقادهم أو مقاطعتهم، لا يسير إلا بالدفع ولا يدرس إلا بالتشجيع والمديح، هذه التبعيّة قد تجعله يبدو أفضل من كثيرين فتراه "مدمنا" على الكمال في المواعيد أو في إبراز محاسن نفسه، قد لا يؤجل عمل اليوم إلى الغد، لكنه بتبعيته يؤخر تطوّره الشخصي أو الوظيفي، فلا يتقدّم وهو بلا هدف. إن مثل هذا الشخص واقع في السهولة مع نفسه عندما يستسهل تغلغل "إدمان نمط الحياة كالآخرين" ومحاكاتهم والكلام مثلهم، ويعتبر "الحشر مع الناس عيد" حتى لو كانوا ذاهبين إلى جهنم، فيتعاطى مثلهم ويتكلم مثلهم وينفعل مثلهم بأشكال الانفعالات المزاجية والسلبية في الرؤية، أو يدمن على وعود الشفاه والكذب والافتقار إلى العطف، والبخل في التشجيع والحنان، هذا إلى جانب ممارسته "السفاهة" الدفاعية وهي لديه قوية لأنه يكره أي شكل من النقد، المهم أن تتوجه الأنظار إليه فهو لا يتحمل ذلك...
لا بد لكل كائن بشري أن يتعلم التخلي (منذ يوم فطامه) وهذا يعني بداية رحلة النضوج الجسدية والروحية، إنها مسيرة رحلة الانفصال، وقد أثنت عليها الأديان، في جانبها الصوفي، كعملية تعلّم لا بد منها، فقيل "لا تجلّي بلا تخلّي". لأن جميع مشاكلنا وبؤسنا ناجمة عن التشبّث بالانغلاق على الأشياء وعدم القدرة على إطلاق سراحها. أولاً، يجب أن نقتنع بأن لا جدوى من التشبّث لا بالأشياء المادية ولا بغيرها. هذا لا يعني بالضرورة التخلي عن جميع الممتلكات المادية، لكن المقصود هو هل ننظر إلى الأشياء المادية كتحقيق لسعادة دائمة؟ في العادة، يُنظر إلى مكانتنا في الحياة، عائلتنا، ومكانتنا في المجتمع، على أنها هي مصدر السعادة. من الأفضل عكس هذا المنظور، باتباع جميع الروحانيات في التخلي عن القلق بالقناعة والاكتفاء بالقليل والعبور. من يتدرب على التخلص من هذا التشبث يصير حراً، لأنه كلما ترك شيئاً، تحرر منه وقويت مرونته، قبل أن تجبره الحياة والآخرون على ذلك رغما عنه. سيتذوق معنى تجاوز الحدود فلا يبقى سجينا لها، عنيدا بسخافة فارغة، مدمنا على التكرار وتابعا لشيء آخر غير نفسه.
أخيرا، كل شخص، مع التقدم في العمر، لا بد أن يقوم يوميا بضبط أوتار تصرفاته – كما يعمل عازف العود - وتعديل سلوكه العام من خلال رؤية واضحة لسلبياته، واستبدالها بإيجابيات. هذا لا يعني أن يقوم بمجرد "الالتفاف" عليها واستبدالها بإدمان آخر. لأنه كي يكون حرا عليه أن يتخلى عن السلبي ويفتح قلبه للإيجابي فيكتسب عادات جيدة هي "الفضائل". إنها مثل الطعام، فالنظام الغذائي خاص به لا علاقة له بما يأكل الآخرون، ليس بالأكل فقط، ولكن ما يشاهد ويستمع ويقرأ، ومن يعاشر من أشخاص ويدور في فلكهم. يضع في اعتباره أهمية الأشياء التي يدخلها في جسمه وعاطفته وروحه. فالحرية ستأتي مع فحص الذات وعندما يعي الأنا لديه نفسه بفطنة وتمييز أنه محدود وسريع العطب أكثر مما كان يتصور أيام زمان في الماضي.
كركوك 23 كانون الأول 2018

46
المنبر الحر / قصة الضفادع
« في: 23:44 12/12/2018  »
قصة الضفادع

كانت مجموعة من الضفادع تسافر عبر الغابة، سقط اثنان منهم في حفرة عميقة. فتجمّعت بقية الضفادع الأخرى حول الحفرة ورأى الجميع أنها حفرة عميقة جدا، فأخبروا الضفدعين بأنه لم يعد هناك أي أمل من خروجهما.
مع ذلك، قرّر الضفدعان تجاهل ما قاله الآخرون وشرعوا في محاولة القفز من الحفرة.
لكن، على الرغم من جهودهما، بقيت مجموعة الضفادع الواقفين فوق أعلى الحفرة يقولون للضفدعين بأن عليهما التخلي عن المحاولة. لأنهما لن يتمكنا من الخروج من الحفرة أبدًا.
في نهاية المطاف، أخذ واحد من الضفدعَين يستجيب لما كان يقوله الآخرون واستسلم، وسقط إلى الأعماق ولقي حتفه ومات.
واصل الضفدع الآخر القفز بقوّة بقدر ما يستطيع. ومرة أخرى، صاحت به مجموعة الضفادع بأن عليه أن يتوقف وأن يجنّب نفسه الإرهاق والألم ويستسلم للموت مثل رفيقه الذي مات للتوّ.
جمع الضفدع كل قوّته وقفز بكل ما لديه من طاقة، وكانت القفزة قوية بحيث أوصلته إلى حافة الحفرة فوجد نفسه حرا طليقا.
عندما خرج الضفدع اجتمعت الضفادع الأخرى حوله، وقالوا له: "ألم تسمعنا؟"
فأوضح الضفدع لهم بأنه أصم أطرش، وقد كان يعتقد أنهم يشجّعونه طوال الوقت!

+ المطران يوسف توما
12-12-2018

47
المنبر الحر / زوجتي، ثروتي
« في: 23:52 05/12/2018  »
قرأت لك من الأدب الهندي المعاصر:
زوجتي، ثروتي
هناك جماعة هندية اسمها (أوشوال Oshwal) أصلها من ولاية راجستان، وينتمون إلى الديانة الجائينية (وهي فرع من الهندوسية) يحمل بعض منهم لقب "شاه"، كثيرون منهم هاجروا إلى كينيا في افريقيا وأصبحوا من أغنى سكان هذا البلد الأفريقي.
عدد كبير من أبناء هذه الأسرة يتربعون اليوم على أعلى المناصب، بينهم من يمتلك محلات السوبر ماركت ومراكز التسوّق والمصانع في هذا البلد الأفريقي.
قام مؤخرا صحفي بمحاولة معرفة سر نجاحهم وغناهم، فاقترب منهم ليتفاعل مع بعض كبار الشخصيات في هذه الأسرة فكانت له تلك خبرة فتحت عينيه على حقيقة كان يجهلها. كتب يقول:
"عندما سألت أحد الكبار المسنين العقلاء في تلك الأسرة: "لماذا تبدو أسرتكم الكبيرة مزدهرة أكثر بكثير من بقيّة الآخرين؟".
أعطاني إجابة مثيرة جدا بالاهتمام، قال: "لأننا نؤمن بمبدأ "زوجتي، هي ثروتي"!
وأخذ يوضح لي بأنهم تعلموا جميعا، منذ صغرهم بأن للتعامل مع الزوجة بشكل جيد له فوائد ملموسة للغاية.
ووفقا له (ولهم)، المرأة هي كالطبيعة، لأنها تضاعف كل ما تقدّمه أنت لها، وهي تعيده إليك. فأبناء هذه الأسرة يتم تعليمهم جميعا وبشكل مبكر جدا منذ نعومة أظفارهم، بأن للمرأة حق عليهم وأنها تستحق احتراما خاصا ومعاملة متميزة:
وبدأ يقول بطريقة شاعرية: "إذا أعطيت المرأة بذرة صغيرة، بعد تسعة أشهر، ستعطيك طفلاً "...
ثم استمر قائلا:
إذا أعطيت المرأة الحب، فسوف تعشقك،
إذا أعطيت المرأة الاحترام والتقدير، فسوف تعبدك،
إذا أعطيت المرأة الوقت، فستمنحك وقت الحياة كله،
إذا أعطيت امرأة المال، فستعطيك استثمارًا طوال عمرك.
لكن على العكس تماما،
إذا أعطيت المرأة صفعات، فإن الحياة ذاتها ستنتقم منك وستعيدك إلى الوراء. وإذا قمت بقمع المرأة واضطهادها، سيضطهدك المجتمع كله.
ثم استرسل صاحبي يمضي مقدما أمثلة عديدة استقاها من المجتمعات والجماعات، من الذين يسيئون معاملة نسائهم. فأشار بشكل خاص إلى جماعات من جيرانهم ممن يظلمون النساء، وأظهر لي كيف أن هؤلاء يعيشون في حرب دائمة لا تنقطع مع الكل وفي كل مكان وزمان في جميع أنحاء العالم!
ثم أوضح بشكل أكبر كي أفتح عينيّ، وأدقق الملاحظة وأراقب بشكل صريح تام كل شخص يعامل زوجته مثل القمامة، وكيف ينتهي به المطاف. أو بالعكس أن أراقب أي شخص يعامل زوجته مثل الملكة وسترى أيضا أين ينتهي به المطاف!
وذهب صاحبي أبعد من كل ذلك ليؤكد مجددا: عليكم أيها الرجال جميعا أن تجرّبوا ذلك، بعد أن تعيشوا، كل منكم على طريقته الخاصة لسنوات وعقود، وأنصحكم أن تحاولوا مجرد محاولة بسيطة تطبيق هذا المبدأ بضع سنوات فقط، عندئذ سوف تندهشون برؤية الرخاء الذي ستحصلون عليه. وهكذا سوف تتحققون بأن هذه المقولة صحيحة مائة بالمائة: "زوجتي، هي ثروتي"، وعندئذ ستصبح المقولة مبدأ لازدهار البلاد بأجمعها.
إعداد المطران يوسف توما
كركوك 5-12-2018

48

الطبيعة سجينة تصوّراتنا...
+ المطران يوسف توما

أساسا، لدينا جميعا نفوس تحتاج إلى الحرية للقدرة على مشاركة الطبيعة والعيش في كنفها والتمتّع بكل مظاهرها. والحرية لدى الفرد تعني خصوصا حرية روحه كي يتمكن من الامتزاج والتفاعل مع الطبيعة. وألاحظ اليوم أن نفوسنا تتوق أكثر من أي وقت مضى إلى ما للطبيعة من روعة، بسبب وسائل الاتصال التي تنقل الطبيعة إلينا ووسائل النقل يمكن أن تنقلنا إليها. إلا أن عقولنا باتت تحذّرنا من مختلف المخاطر الممكنة، فقمنا ببناء العديد من الموانع لحماية أنفسنا، لكن هذه المحاولات سرعان ما تحوّلت إلى سجن لنا. فلم يعد بإمكاننا العيش في الطبيعة الخام، وإذا ما قام أي شخص بالعودة إلى الطبيعة، انتقدوه وقالوا عنه إنه مجنون. حتى اللغة ذاتها تبدو لي مقيّدة جدا، لأنها بكل بساطة غير قادرة على استنباط كلمات وعبارات لتغطية التنوّع الهائل المحيط بنا. معظم ما هو حولنا يفلت من قدرتنا على خلق مفاهيم تلوق به. لذا نبدو فقراء وتبقى نفوسنا بحاجة إلى قَدَر من الشجاعة والجرأة، لنتمكن من رفع هذا التحدي إزاء ما يحيط بنا من طبيعة. سبب فقرنا أننا بقينا على ما تعلمناه من الكتب والتعاليم القديمة الموروثة، كما حدث لأول مرة لدى من حاولوا تشريح الجثث في القرن 18، اكتشفوا الدورة الدموية، التي لم يعرفها الحكيم أبقراط (460-370 ق.م.) فقالوا: "كذبت الجثة وصدق الحكيم اليوناني أبو الطب!".   
نشر الملحق الأسبوعي لجريدة ليموند الفرنسية، عدد 3 أيلول الماضي، عن خبرة دانماركية بفتح حضانات للأطفال في الطبيعة، بلا كراسي ولا طاولات، تسعى لدمج الطفل مع الطبيعة فقط على يد مربّين أكفاء. من شأنها أن تساعد الطفل على تطوير قدراته على الحركة والتركيز والتعلم المباشر. وقيل إن هذه الخبرة بدأت تشق طريقها في دول أخرى.
حصيلة هذه الخبرات هي أن الفهم المباشر وحده قادر على إعطاء ثمار ما، عندما تصبح الخبرة شعورا، فتتطابق وتتناغم مع ما في جسدنا وروحنا كما يحدث في حالة الطرب في الموسيقى. فالطبيعة قادرة على إعطائنا نشوة خاصة (كمنظر مغيب الشمس)، خالية من تناقضات التفكيك المنطقي. حتى أعينُنا، ليست معنيّة فقط بجمع فوتونات الضياء ووضعها في متناول عقلنا، ولكنها أيضا تتناغم مع أعضاء أخرى بالاستقبال والإدراك والإحساس ...، لأننها مخلوقة لكي تنسجم مع الطبيعة في تدفق عملاق وقدرة على التأثير والتغيير على الأذنين والأنف والجلد وبقية الأعضاء كالدماغ والقلب والكبد والكلى، نزولا حتى أجزاء الجسم الصغرى التي هي أيضا تتفاعل مع الطبيعة. لكن المشكلة الحقيقية الآن أصبحت: كيف يمكن إدراك وفهم هذا الامتزاج الضروري مع الطبيعة؟
إن متابعي القنوات التلفازية التي تعنى بالطبيعة يقرّون كلهم بأنهم تعلموا الكثير من الحيوانات والحشرات والنباتات وحتى الجماد، من منطقها وحتى "ذكائها" فهي ليست مقيّدة مثلنا، وليس لديها أوهام وتصوّرات، منها ما نسميه "العلوم" التي ترخي بثقلها علينا ولا بالتكنولوجيا. الاسود والنمور والكلاب والقطط والطيور... كلها أعضاء في هذا المحيط الحيوي حولنا، منسجمة باستثناء الإنسان المتمرّد (منذ آدم وحواء). الحيوانات تعيش كأعضاء في المحيط الحيوي تخضع لقوانينه بشكل مذهل وهذا يذكرني بما حدث قبل أيام لوزير البيئة الفرنسي، نيكولا هيلو، "صفع الباب" وترك منصبه كي يجلب الانتباه إلى عدم جدية الحكومات إزاء الضرر المحدق بالطبيعة، عقب ذلك بيومين توقيع 200 شخصية من علماء وفنانين وسياسيين يؤيدونه ويدعون إلى إنقاذ كوكبنا من الأخطار البيئية المحدقة.
يعتقد بعضهم أن الكلام عن الطبيعة – في ظروفنا الحالية – أمر زائد فيقولون: "دعنا نحلّ مشاكلنا السياسية ولنلتفت بعدها إلى ما هو ثانوي"، وأقول لهؤلاء باعتقادي إنكم على خطأ، هل ننتظر موت أرواحنا قبل الوعي بالآتي إلينا؟ أليست الحياة هي الأساس؟ أم أنتم مع منطق الذي قال: "إذا مُتّ ظمأنا فلا هطل الطل!". أو كما يقال بالفرنسية: "ليأتِ الطوفان من بعدي". أليس العجز هو سبب يدفع الكثيرين إلى عدم الاهتمام بهذه الحياة، بل يهتمّون بالحياة بعد الموت فقط، وليس قبل الموت! يبدو أننا نقيّم حياتنا من حيث الدرجات والنقاط فقط، كالطالب الكسول الذي يغشّ في دروسه، لا يهمّه التعلم بل الدرجات فقط! في حين المحبة التي نعطي ونستلم هي التي تقيّمنا وتخلصنا. وأعتقد أن كل مسار نحو المستقبل لا بد له أن يذكرنا بما لا مفر منه: شمولية كافة جوانب حياتنا على هذه الأرض وعدم إهمال أي جانب إطلاقا فذلك يجعلنا ندفع الثمن الغالي، كعدم الاهتمام بالتصحر الذي يحدث في منطقتنا ترك الزراعة والأشجار وغير ذلك.
تابعت مرات عديدة على موقع اليوتيوب سيدة عجيبة اسمها جين كودال (Jane Goodall)، قضت حياتها تحاول خصوصا انقاذ قرود الشمبانزي في العالم، وقد صدر لها كتاب "سبب للأمل، سفرة روحية" (Reason for Hope) 1999. إنه كتاب رائع، مليء بالمشاعر، والروحانية إزاء الطبيعة مع "رفاقنا الآخرين في الوجود" الذين، بيننا وبينهم، لدينا نسبة كبيرة من العوامل المشتركة. إنه ليس مجرد كتاب ونصوص بل أكثر من ذلك، إنه أفكار عميقة تطرحها هذه السيدة التي تمكنت من ترويض ما كنا نخاف منه بحيث كاد ينقرض.
إن مثل هذه الكتب والأفلام والخبرات المدرسيّة الجديدة، بدءًا بالأطفال، تتوجّه نحو الطبيعة التي تمتلك قابلية تحريرنا من الخوف الذي يسكن فينا فيصبح التساؤل الذي يطرحه كل فرد من زاويته: "ما هو مصيري، وماذا سيحدث لي أنا؟"، تساؤلا ضيقا وقصير النظر أمام ضرورة التفكير بالطبيعة، فنقتنع أن المسألة مختلفة تماما، إذ على كل واحد منا أن يسأل: "ماذا يمكنني أن أفعل لخلق السعادة من حولي، ليس للبشر فقط، بل لجميع رفاقنا في هذا الوجود من أحياء وحتى الجماد؟"، وهذا يذكرني بالتحذير الذي وجّهه المسيح عندما قال: "إن لم تتوبوا، تهلكوا جميعا" (لوقا 13: 3). 
4 أيلول 2018

49
المنبر الحر / الوقت أثمن ما نملك
« في: 22:41 27/08/2018  »
الوقت أثمن ما نملك
+ المطران يوسف توما
كان لدى من عادة الرومان مقولة "انتهز الفرصة" باللاتينية (carpe diem). أو اغتنم هذا اليوم، وهي مقطع من قصيدة للشاعر هوراس (65 ق.م – 8 ق.م). أي اغتنم هذا اليوم ولا تهتم كثيرًا بالمستقبل، فالمستقبل غير معروف، وعلى المرء أن يخفض توقعاته وينشغل بأحواله. التركيز هنا إذن على تجنب الهموم والاستفادة من الوقت المتاح فهو سريع الزوال.
مع ذلك، يبقى الوقت في حد ذاته غير واضح المعالم، وقد احتار المفكرون والعلماء في جميع الأزمنة بتعريفه. فنحن فقط من يعطيه معنى من خلال تخيلاتنا ومشاعرنا. وإن كان الإنسان قد حاول أن ينظمه ويقيسه، لكنه اعتمد فقط على عناصر الفلك واقتبس منها قياس الأوقات والأزمنة وصنع ساعات شمسية ورملية ومائية ثم جاءت الآلات الميكانيكية التي صنعت في القرن 14م. على أي حال كان الاعتماد منذ القدم على دوران الأرض حول الشمس (للسنين والفصول والأشهر) وعلى دوران القمر حول الأرض (نشكر الله أن ليس لدينا خمسين قمرا كما هو حال كوكب المشتري - جوبيتر) للأشهر القمرية، وأخيرا على دوران الأرض حول نفسها لقياس ساعات النهار والليل، كل هذا منتظم جدا ومريح بحيث عبرنا منه إلى قياس الأحداث الأخرى.
ما أريد تبيانه في هذه الأسطر ليست المؤشرات الميكانيكية للوقت وإنما محتوى شعورنا بالوقت بالذات.
لنفترض أنك تستطيع أن تحتوي كل شيء بنظرة واحدة، وصولا الى وضع يجعلك تشعر وتعي الوقت من خلال نبض قلبك أو إيقاع تنفّسك أو حتى الجسيمات التي تكوّن الموجات الفائقة في الكون. فإذا ما استغنيتَ عن الأسلوب التقليدي أعني: اعتماد الشمس والقمر والأرض فقط، ستختبر أن الوقت مجرد أحاسيس حيث يصير هو نفسُه تحت سيطرتك فتصبح قادرا على التحكم فيه وفي معانيه الخفية.
إن كان كل من الشمس والقمر والأرض هي مجرد أحداث، عبدها آباؤنا ثم هجروها، وفي هذا تقدّم ساعدنا على التخلص من التبعية لها، إذ كان كهنة الفراعنة مرعوبين كل ليلة خوفا من عدم عودة شروق الشمس في اليوم التالي، إلى جانب أمور أخرى كثيرة تكمن على مستوى الطاقة كالخوف من انطفاء النار لدى بعض الأديان، أو نهاية عصر البترول في أيامنا. لكن المهم هي مشاعر الوعي والمعرفة لدينا إزاء الأحداث الروتينية المتكررة، إذ يمكننا خلق ميكانيكية أخرى جديدة لو أردنا!
لنأخذ مثلا: إن كان أسلافنا لآلاف السنين معتمدين على الشمس والقمر ودوران الأرض، حتى جاء اختراع الكهرباء فتحرّرنا من تبعية الشمس والقمر ودوران الأرض وتغير الوقت واختلط النهار بالليل وتغيّرت سرعة سفرنا وأمور أخرى كثيرة اختزلنا بها الوقت في الاتصال والمعلومة. والآن لنفترض أن أحدنا يستطيع الامساك بتدفق وعيه الفردي الخاص، حينئذ سيجد أن الوقت يصبح تحت سيطرته، فيمكنه أن يدرك أن معنى كلمة "الخلق" ليس تبعية للمادة (وروتينها)، وإنما عبارة عن شعور ووعي يتجاوز المادة. سيمكنه من اختراع مسائل وتفاعلات جديدة لم يعرفها أحد من قبل. الخلق ليس مجرد صناعة تتكرر إنما قدرة يمنحها الخالق لنا للتجاوز، قال المسيح: "من آمن بي يعمل هو أيضا الأعمال التي أعملها أنا بل يعمل أعمالا أعظم منها" (يو 14: 12).
تأمل الإنسان فاخترع دينيا وعلميا أشياء جديدة كي يصل إلى سر تلك القوّة التي من حولنا فأصبحت طبيعية وبديهية اليوم، لكن الإنسان أخذ وقتا طويلا قبل أن يصل إليها. الآن أيضا لا يزال أمامنا الكثير، نحتاج التوصّل إلى الدخول في الفكر الشامل الذي فيه كل روعة، فنحتضن بفكرنا جميع الكائنات الحية من بشر وحيوانات ونباتات بل حتى أصغر تفاصيلها كإيقاع التنفس والشمّ والاستشعار والتفاعل ضمن هذه المجموعة الهائلة العجيبة. أن نفهم أننا هنا كي نكمل عمل الخلق بفكر ووعي، عقلنا بمثابة زناد أعطانا إياه الخالق فنتمكن من أن نبدع، أخذناه مجانا لنعطيه مجانا (متى 10: 8). وإذا ما استطعنا مثلا قراءة تأثير الفراشة على عملية الخلق كلها سنفهم (مثلما فهم القديس فرنسيس الأسيزي في نشيده تجاه عناصر الطبيعة). المشكلة أن الكثيرين اليوم يجهلون هذه القدرة التي أعطيت لنا، لا لكي ندمر المحيط الحيوي ونطلق عليه اسم "التقدّم". في حين، هذا المحيط الحيوي هو أساسي لقوانا العقلية والشخصية، لكي يصير فكرا وشعورا مليئا بالعواطف والشكر تجاه كل كائن حيّ يتنفس.
منذ اختراع الآلات المقرّبة كالمكروسكوب استكشفنا عوالم أصغر وأصغر كأنما هبطنا في كوكب آخر كنا نجهله تماما، ووقفنا بين اللامتناهي في الصغر حائرين كما كنا قد وقفنا قبلها أمام اللامتناهي في الكبر، فازدادت حيرتنا وقمنا بتطوير الالكترونيات والآلات الهائلة، وبسبب تراكم المعارف، تاه البعض منا، كمن يقف أمام مائدة "البوفيه" المفتوح يحتار ماذا يأكل، فتراجع مجال الإيمان القديم لديه، أو صارت التكنولوجيا هي الإيمان، يأخذ بالانتشار، مع سقوط تلقائي للإيمان بالقوى العقلية الشخصية. هؤلاء لا يريدون أن يشعروا بالآخرين وبالكون بل بأنفسهم فقط. يريدون أن يكونوا جامعي معلومات دون أي شعور شمولي يحتضن ما قدّمه الخالق لنا جميعا!
إن هذا الفصل بين المعرفة والشعور يقود إلى حالة خوف جبان لدى من لم يعد يثق في نفسه. يريد من الآخرين أن يحاربوا من أجله ويحلوا مشاكله. بل صرنا اليوم بشرية تريد من الآلات (والروبوتات) القيام بكل شيء مكانها، صارت هي المهمة وضُحي بالبشرية التي فقدت إيمانَها بحقوقها وقواها وأهميتها. كانوا في الماضي يضعون التعاويذ على الأطفال ثم صاروا يعلقونها على الثلاجة والسيارة، أي تحولوا من الخوف على البشر إلى الخوف على المال والآلة.
سار حكيم شاب في طريق طويل يقصد معلما عجوزا يسكن الجبال كي يتلقى منه بعض كلمات الحكمة. عبر الغابات والأنهار والبحيرات والجبال وصادف الآلاف من الأحياء في طريقه...، وكان مدفوعا بعواطف ومشاعر الشكر للهواء الذي يتنفس فأحسّ بقيمة روحه. شعر بأن الوقت بالنسبة إليه كان يعني "الروح" وتذكر قول المسيح: "فالريح (الروح) تهبّ حيث تشاء" (يو 3: 8). وكلما ملأ رئتيه بالهواء ازداد حماسًا وامتزجت لديه العواطف الملهِمة، وتشجّع في توجّهه إلى فهم شامل لمسار الطبيعة. وهناك توقف ولم يكمِل بحثه عن معلمه، لقد صار هو نفسه المعلم في مسار شعور هائل بالكون، عن طريق تنفسّه للروح الحيّ. فأصبح الوقت لديه شعورا وجدانيا عميقا بالخروج من ذاته والاتصال بالكل.
25 آب 2018

50
المنبر الحر / كم وزن قدح الماء؟
« في: 16:45 17/08/2018  »
كم وزن قدح الماء؟
+ المطران يوسف توما
سارت أستاذة الطب النفساني في غرفة الصف في إحدى الجامعات أثناء تدريسها لمادة "التعامل مع التوتر" الذي أصبح أكثر الأمراض تفشيا في كثير من الدول ويسبب العديد من المشاكل والمآسي. وبينما هي تتكلم رفعت قدحًا من الماء إلى الأعلى، فتوقع الجميع، كالعادة، أنها ستطرح عليهم السؤال التقليدي حول التفاؤل والتشاؤم أيهما أصح: "نصف القدح الفارغ أم النصف المملوء؟". وبدلا من ذلك، وبابتسامة على وجهها، سألت: "كم هو ثقل قدح الماء هذا برأيكم؟". تراوحت الإجابات لتقول من ربع إلى ثلث إلى نصف لتر.
أجابت الأستاذة: "إن دقة الوزن المطلق للقدح ليست مهمة، لكنها تعتمد على المدّة التي بها نمسك القدح بيدنا. فإذا ما كنتُ أمسِك به لمدة دقيقة، فهي ليست مشكلة، وإذا ما كنتُ أمسِك به لمدة ساعة، فإن ذراعي سوف يشعر بالخدر، ولكن إذا ما حملتُه طوال النهار فإن ذراعي سوف يصاب بالشلل. في كل الحالات، وزن قدح الماء لم يتغير بل بقي كما هو. أي، كلما طال وقت حملي للقدح، كلما أصبح يشكل ثقلا بل قد يصير لا يطاق".

هكذا الأمر مع الضغوط وأشكال القلق في الحياة، إنها بالضبط مثل قدح الماء هذا، إذا ما فكرتُ بهمومي لحظة لن يحدث شيء يُذكَر، ولكنّي إذا فكرتُ بها لفترة أطول، ستبدأ بإيذائي، وإذا ما فكرتُ بها طوال النهار، سوف أشعر بالشلل ولن أكون قادرا على فعل أي شيء. وهذا ما يسمّيه بعضنا "الهموم" أو "المشاكل". بل تراهم يعيشون حياتَهم في كآبة وتفكير "يأكلون الهمّ والغم"، ويعلكونه مثل العلكة، إما يكون ذلك في فكرهم مع أنفسهم، فيستهلكهم من الداخل، أو يدوّخون به أهلهم ومن هم من حولهم فيسمّمون عيشهم، ويسود السأم والتوتر في ذلك البيت، بحيث يتحوّل إلى جهنم، وأحيانا يصير كالقنبلة الموقوتة لا تدري متى ستنفجر.
السبب، الآن عرفناه. إذن أنصحك أن تكنس بيت أفكارك من جميع بقايا التوتر والقلق والمخاوف والشدّ التي تحدث في أحسن العائلات، أعطِ نفسَك فسحات راحة وابتسامة وتأمّل ودهشة أمام كل ما هو حولك وسترى أن الحياة أجمل بكثير مما يصوّره لك قلقك. 
أخيرا:
من المهم أن نتذكر أن الضغوط التي تتراكم في حياتنا هي كالنفايات والسموم التي على جسمنا أن يتخلص منها، فتراكمها ضارٌ وخطير. وعندما يأتي المساء حذار من كآبة المغيب (كثيرون مصابون بها من دون أن يدركوا السبب!). ألقِ عن ظهرك كلَ أحمال النهار التي تراكمت عليكَ. لا تبقِها في المساء ولا تدَعْها تنام معك في الفراش، فهي أحدُ أسباب الأرق لدى الكثيرين، ألم يقل يسوع: "ولكل يوم من المتاعب ما يكفيه"؟ (متى 6: 34)، وقال القديس بولس: "لا تغرب الشمسُ على غضبكم، لا تعطوا إبليسَ مكانا" (أفس 4: 26، 27)، وغيرها كثير من حكمة الإنجيل ولدى الشعوب الأخرى أقوال مشابهة بالتأكيد. المهم تذكر أن عليك أن تضع قدح الماء أرضًا!
كركوك 16 آب 2018

51
الحقيقة التي قالتها الحمامة
+ المطران يوسف توما
شكّلت المعابد والهياكل والكنائس والجوامع في كل العصور المكان المفضل لسَكَن الحَمام. وفي معبد قديم، عاشت مجموعة من الحَمام بسعادة على سطحه. وبنت هناك أعشاشَها ووضعت بيضَها وذلك لعدة أجيال بسلام وأمان وفرح. كان ذلك في مدينة من مدننا العريقة.
لكن الزمن لا يرحم، فجاءت الحروب، وكان من اللازم أن يبدأ تجديدُ الهيكل وأن يتمّ ذلك استعدادا للاحتفال بتدشينه في عيد رأس السنة. فاضطرت الحمامات إلى الانتقال إلى سطح كنيسة كانت في مكان قريب من هناك سلمت بعض الشيء من أهوال الحرب.
كان سطح تلك الكنيسة يعجّ بمجموعة أخرى من الحمام الذي اتخذ من ذلك المكان مسكنا له منذ عدة أجيال، فاستقبلت حمامات الكنيسة المجموعة القادمة بفرح وعملوا لهم مكانا في أعشاشها لاستيعاب القادمين الجدد بضيافة جيّدة للغاية.
كان عيد الميلاد على الأبواب، وجرت العادة في تلك الكنيسة أن يقوموا بحملة تجميل وتنظيف وتلميع لها، فاضطرّت اسراب جميع الحمام أن تطير بحثا عن مكان آخر...
شعر الجميع بأنهم محظوظون لأنهم عثروا على مكان قريب، كان مسجدا، حيث رحّب حمام المسجد بجميع القادمين بسعادة غامرة.
كان شهر رمضان قريبا، فقرّر القائمون على المسجد، أن يعيدوا صبغه من جديد، فاضطر كل الحمام إلى العودة إلى الهيكل القديم الذي احتواهم جميعا.

في أحد الأيام لاحظ الحمام، الذي كان متجمعا بكثرة على سطح الهيكل، أن البشر في الشارع قد دخلوا في اشتباكات طائفية وتحوّلت ساحة السوق إلى أرض معركة.
سأل طفل الحمامة أمَّه: "من هؤلاء؟". فردّت الأم: إنهم "البشر".
سأل الطفل: "ولكن لماذا يقاتل بعضُهم بعضا؟"، فقالت الأم: "هؤلاء البشر الذين يذهبون إلى الهيكل اسمهم "يهود"، والذين يذهبون إلى الكنيسة اسمهم "مسيحيون"، وأما الذين يذهبون إلى المسجد فيسمّون "مسلمون".
سأل طفل الحمامة أمه مرّة أخرى بإلحاح واستغراب: "لماذا الأمور هي هكذا؟ عندما كنا في الهيكل القديم كنا نسمّى "حمام"، وعندما تحوّلنا إلى الكنيسة كانوا يطلقون علينا اسم "الحمام" أيضا، وعندما صرنا في المسجد، كنا لا نزال نسمّى "حمام"، أليس من المفروض أن ينطبق هذا أيضا على البشر؟ أليسوا "بشرًا" أينما ذهبوا؟".
قالت الحمامة بنبرة حزينة لولدها الصغير: "أنتَ وأنا وأصدقاؤنا من بقيّة الحمام عشنا خبرة الله الحقيقي، ولهذا السبب استطعنا أن نعيش هنا في هذا المكان المرتفع للغاية، بسلام واتفاق. لكن هؤلاء البشر لم يعرفوا بعد من هو الله. وبالتالي تراهم يعيشون دائما في الأسفل، وسوف يبقون هكذا يتحاربون ويقتل بعضهم البعض، حتى يصل اليوم الذي فيه يعرفون أن اسم الله الحقيقي هو "السلام".
"أسمَعُ الربّ الإله حين يتكلمُ بالسلام لشعبه والذين يتقونَه، فلا يرجِعون إلى الحماقة" (مزمور 85: 9).

كركوك 14 آب 2018

52
صديقي الثريّ والنملة
+ المطران يوسف توما
في صباح أحد الأيام، جلس رجل ثري في شرفة منزله يتمتع بأشعة الشمس وقهوة الصباح، عندما جلبت انتباهه نملة كانت تذهب من جانب الشرفة إلى الجانب الآخر، وهي تحمل ورقة شجرة أكبر من حجمها عدة مرات. ظل الرجل يراقب النملة لأكثر من ساعة. فرأى أن النملة تواجه العديد من العقبات أثناء رحلتها، تتوقف، تدور حول العقبات، ثم تواصل نحو وجهتها.
وصلت النملة، هذا المخلوق الصغير، في مسارها عند نقطة معيّنة كانت عبارة عن صدع في الأرض. فتوقفت لبعض الوقت، وقادها تحليلها بأن تضع الورقة الكبيرة على الشقّ، وتسير على الورقة، ثم من الجانب الآخر التقطت الورقة وواصلت رحلتَها.
إنبهر الرجل بذكاء النملة، وهي واحدة من أصغر مخلوقات الله. وهذه الحادثة أدخلته في رهبة ودهشة، وأجبرته على التفكير أكثر في معجزة الخلق. إذ بانت له عظمة الرب الخالق. فهنا أمام عينيه كان هذا المخلوق الصغير، الذي يفتقر إلى الحجم، مزوّدا ومجهّزا بدماغ يحلل ويفكر ويتأمل بعقل ويستكشف ويكتشف ويتغلب على الصعاب، فتذكر ما قرأه مرّة أن لدى النمل من الذكاء ما يفوق كل الحواسيب والروبوتات التي يصنعها البشر!
بينما الرجل يتأمل مندهشا، لاحق بنظره تلك النملة، التي كانت قد وصلت إلى وجهتها، أي إلى ثقب صغير في الأرضية، الذي كان مدخلا لمسكنها تحت الأرض. وهنا، عند هذه النقطة إنكشف قصور تفكير النملة، فلم تفكر منذ البداية كيف سيمكنها أن تُدخِل كل تلك الورقة الكبيرة داخل الثقب الصغير، في حين كانت قد كلفتها كل ذلك التعب وعانت بجلبها إلى هناك بعناية حتى مدخل مسكنها؟ المسألة مستحيلة: لن يمكنها ذلك قط!
هكذا، أصيبت تلك المخلوقة الصغيرة بالخيبة، بعد كل الأتعاب المضنية والعمل الجاد وممارسة مهارات كبيرة، والتغلب على صعوبات الطريق، اضطرت النملة، في النهاية، أن تترك الورقة الكبيرة وراءها وتذهب إلى بيتها خالية الوفاض.
إن النملة لم تفكر في النهاية، قبل أن تبدأ رحلتها الصعبة، ففي النهاية أصبحت تلك الورقة الكبيرة مجرد عبء عليها لا شيء آخر، ولم تستفد منها. لم يكن أمام هذه المخلوقة أيُ خيار، سوى أن تترك وراءها غِناها أمام الهدف بالذات.
هكذا تعلم صاحبي الثري في ذلك اليوم من النملة درسًا عظيما، يختصر حقائق جوهرية حول حياتنا الأرضية.
يقلق الإنسان بشأن عائلته، وبشأن عمله ووظيفته، ويقلق حول كيفية كسب المزيد من المال، كما يقلق حول أين يجب أن يختار العيش، ما هو نوع السيارة التي عليه أن يشتري، وأي نوع من الثياب يرتدي، وما هي الوسائل والتقنيات الحديثة التي عليه أن يقتني ليرفع مستواه... إلخ.
كل هذا سوف يجب عليه أن يتخلى عنه عندما يصل إلى وجهته الأخيرة – إلى القبر!
لا يدرك الإنسان، أن مسألة التخطيط مهمة، وأن عليه أن يُدرك، في رحلة حياته، أن كثيرا من الأمور ليست سوى أعباء يحملها بأقصى قدر من الرعاية والخوف من فقده إياها، فقط لكي يجد بأنها، في نهاية المطاف مستحيلة، وأنه لم يفكر في كيفية جعلها مجدية، ولن يستطيع أخذها معه...
المغزى:
كم نحن بحاجة إلى منهجية قويّة بعواقب الأمور! وهذا بالضبط ما يدعونا إليه الانجيل في كل صفحة من صفحاته، من دون أن يغرس فينا الخوف والكآبة، بل الفرح. لأن تلك المنهجية تجعل من الحاضر فرصة للتفكير السليم وأننا على موعد مع صديق وحبيب، كثير من المؤمنين يعتقدون أن مشكلة الدين في عقائده، لكن الحقيقة الجوهرية تقول إنها في نوعية الصداقة التي تشدّنا إلى الرب كصديق، والصديق لا يقلقني لأني واثق بأنه ينتظرني على أحرّ من الجمر.

بغداد 9 آب 2018

53
المنبر الحر / قصة سلة الفحم
« في: 23:19 03/08/2018  »
قصة سلة الفحم
+ المطران يوسف توما
بعض القراء علق على مقالتي عن الصمت لمجرد أن قرأ العنوان، وبعضهم الآخر فهم أهمية ما إذا كان الصمت تأملا وتمعّنا في معاني الحياة، وتساءل: "لماذا طريق التأمل صعب وممارسته قد تكون مؤلمة والترقي إلى تعاليم الحكمة بانتظام شاقٌ مثل دخول باب ضيق، بل قد نشعر أحيانا كأننا لا نتقدّم فيصيبنا اليأس والخيبة والضجر فنتراخى ونتراجع؟".
إذا كنتَ مصابا بمثل هذه الأعراض أنتَ أيضا، أدعوكَ إلى قراءة هذه القصة الجميلة ...

كان مزارع عجوز يعيش في قرية جبلية مع حفيده الصغير. في كل صباح يستيقظ الجد باكرا ليتأمل ويقرأ ويفكر بتعاليم الحكمة. وكان الحفيد يحبّ جده كثيرا ويحترمه ويريد أن يكون مثله، ويحاول أن يقلده بكل طريقة ممكنة.
في أحد الأيام سأل الحفيد جدّه: "يا جدّي! أنا أيضا أحاول أن أتأمّل وأقرأ تعاليم الحكمة مثلك، ولكن ذهني يطيش دائما، ولا أفهم كثيرا ما أقرأ، وكل ما أنا أفهمه، سرعان ما أنساه بعد فترة وجيزة. ما الفائدة من التأمّل والقراءة والتفكير إذن؟".
إبتسم الجد، ونظر إليه بمحبة – وكان الصبي يضع الفحم في المنقَل – وأجابه: "يا بُني لكي تفهم هذا، أودّ منك أن تأخذ سلة الفحم الخالية هذه، وتذهب إلى الجدول الذي في أسفل هذه التلة، ثم ارجع بها مليئة بالماء".
قام الولد بعمل ما طلبه منه جدّه، لكنها كانت سلة من الخوص المنسوج، وكل الماء يتسرب منها قبل ان يصل عائدا الى المنزل. ضحك الجد وقال: "عليك ان تكون أسرع قليلا في العودة في المرة المقبلة"، وأرسله إلى الجدول مع السلة ليحاول مرة أخرى.
في هذه المرة ركض الصبي بشكل أسرع، مع ذلك، مرة أخرى كانت السلة تفرَغ من محتواها قبل أن يصل إلى المنزل. فقال لجده وهو يلهث مقطوع الأنفاس: "إنه يستحيل حمل الماء في سلة كهذه، وأن عليه استخدام سطلٍ بدلا من سلة الخوص تلك!".
قال الرجل العجوز: "أنا لا أريد سطل ماء؛ أريد سلة من الماء، يبدو أنك لم تحاول بالكفاية"، وفي هذه المرة تقدّم إلى الباب ليشاهد الصبي يحاول مرة أخرى. ومع هذه المرة الأخيرة، أدرك الصبي أنه من غير الممكن نقل الماء بالسلة، لكنه أراد أن يثبت لجده ذلك، بأنه حتى ولو ركض بأسرع ما يستطيع، فإن الماء سيتسرب من السلة قبل ان يصل الى المنزل.
مرة أخرى أغطس الصبي السلة في الجدول، وركض بسرعة وبجهد كبيرين، لكن عندما وصل إلى جدّه كانت السلة فارغة مرة أخرى. فقال وهو منقطع الأنفاس: "انظر يا جدّي ... إنها محاولة ميؤوس منها وعديمة الفائدة!". فقال الجَدّ: "هل تعتقد أنها مسألة غير مجدية؟". هنا ابتسم الرجل العجوز وبريق من الحكمة في عينيه، وقال: "تعال نلق نظرة على السلة".
نظر الصبي إلى السلة، وللمرة الأولى لاحظ أنها كانت مختلفة تمامًا. لقد تحوّلت من سلة قذرة، قديمة، لا لون لها سوى لون الفحم الوسخ، أما الآن فقد صارت براقة ونظيفة من الداخل والخارج. كانت تبدو وكأنها جديدة مرّة أخرى.
قال الجد لحفيده: "يا بُني، هذا ما يحدث عندما يتأمّل الإنسان بانتظام، ويقرأ ويفكر بتعاليم الحكمة. قد يبدو لك أنك لا تحقق أي تقدّم، أو قد يعتقد عقلك أنك لا تفهم ولا تتذكر الكثير، ولكن، مع ذلك، إذا ما استمرّيت وأصررتَ أن تفعل ذلك، سوف ترى أن جدول الحكمة والثقافة والحب سيسيل من خلالك ويغيّرك، من الداخل والخارج، وهذه نعمة تعطى لمن يمارس بصدق، من دون ملل أو قلق أو حسابات ضيقة وآنيّة".
فهم الصبي وبدَت عليه علامات الارتياح من خلال هذا المثال الرائع والشرح الواضح الذي قدّمه إليه جدّه. وهنا تبخّرت كل شكوكه وعدم يقينه، وحل محلها ثقة دافئة ومُشمسة. لقد أصبح يشعر أنه مثل تلك السلة، مشرق وجديد ومتجدّد.
 كركوك 2 آب 2018

54
الصور بين الماضي والمستقبل
+ المطران يوسف توما
منذ اختراع الصورة الفوتوغرافية (أي الرسم بالضوء) في عام 1826 على يد جوزيف نييبس Joseph Nicéphore Niépce وحتى اليوم تغيّر العالم بشكل جذري بسببها، ولو جمعنا كل الصور التي تم تصويرها منذ ذلك الحين، أي قبل حوالي قرنين، فإن مجموعها كلها لا يعادل ما يسحب اليوم من صور خلال دقيقة واحدة فقط! السبب في الكمّ الهائل من آلات التصوير التي في الهواتف النقالة، هذا ماعدا آلات التصوير العادية والمعقدة التي في كل مكان مما جعل من الصور أمرا عاديا نسحبها ونخزنها وقلما لدينا وقت لاستعراضها، إنها مخزون هائل كالتسونامي يقلقني، إذ يتجاوز عدد الهواتف التي فيها كاميرات عدد البشر على الأرض!
عندما أزور الأصدقاء في المهجر وتقوم ربّة البيت بإعداد ما لذّ وطاب من الأكلات العراقية، ألاحظ أبناء الجيل الثاني، من الشباب، قبل الأكل، يهرعون إلى هواتفهم ليخلّدوا صورة مائدة الطعام! ...
وأتساءل: لماذا؟ ماذا يدفعهم إلى تخليد مثل هذه الأمور؟ هل يحسّون بأهمية هذه اللحظات لمستقبلهم؟ أم إنه الخوف بالذات من المستقبل ما يجعلهم يتذوّقون طعم حاضر لا يريدون مغادرته؟
أنا أيضا مثلهم أحبّ الصور، خصوصا القديمة منها، فأفضل شيء فيها هو بقاء الأشخاص كما هم لا يتغيّرون، خصوصا الذين غادرونا إلى العالم الآخر، الصور تبقيهم هنا، في حين الواقع يتغيّر بسرعة هائلة ولا أحد يستطيع الوقوف في طريقه، ولعل هذا أحد أسباب كل أشكال الرجعية وعبّاد الماضي إلى حد الجنون إنها برأيي شكل من الوثنية الجديدة.
لنستعرض بعض الصور القديمة، ماذا نرى؟
عندما يتقدم العمر ونرتقي درجات الحياة، سوف نلاحظ أن أصدقاء كثيرين بعثرتهم الحياة في جميع أنحاء العالم، فتختلط فينا العواطف بين الحنين والحزن!
إذا كان عمر الصور 20 عامًا، قد تشعر بالخيبة بسبب أنك لم تفعل أكثر مما فعلتَه حتى الآن، في حين بعضهم وصل إلى ما كان يصبو إليه وترقّى وحقق أهدافه.
بعضهم كان يؤجل عمل اليوم إلى الغد، وبقي يؤجل حتى فاته القطار. آخر فعل في كل يوم من حياته ما لم يفعله غيره بجدّية، بحيث يُشعرك أنه حصل على الأشياء (ماديا ومعنويا) التي لم تتمكن أنت من امتلاكها، إنه داء المقارنة!
علمني استعراض ألبومات الصور القديمة أن أحُدّ من أحكامي فلا يحق لأحد أن يستهلك السعادة من دون أن يُسهم في إنتاجها، فالتعب السابق يعطي طعما للراحة اللاحقة وتعزية!
وهكذا الحياة تستمر وتتحرّك وتتغير، بعض الناس، بقوا هنا معنا، - لكن لوقت ما فقط – لكن بعضهم يذهب بعيدا، كيف أبقيه معي؟ بأخذ الصور بلا توقف، وبنوع من الشراهة، بحيث لاحظت أن قدّاس التناول الأول، في إحدى بلداتنا، استغرق ساعة ونصف أما صور "السيلفي" فأخذت ضعف ذلك الوقت!
إن الذين يجدونك مميزًا، هؤلاء يرون دائما المبرّر للبقاء معك... بتصويرك أو الاتصال بك، وإدخالك في عالم صورهم الجديد، عالم يسمّونه "كتاب الوجه" (Facebook)، وهو يختلف جدا عن ألبومات أيام زمان! هذا الكتاب العجيب لا يزال جديدا، قد يحتاج إلى قرنين آخرين لكي نفهم إلى أين سيقودنا، لكنه بالتأكيد سيغيّر الكثير فينا وفي الأجيال المقبلة خصوصا، لأن "الفيس بوك" يختلف عن الصور القديمة بالأسود والأبيض، التي، بالرغم من كل شيء، لا تزال تغمرنا بالحنين.

كركوك 31 تموز 2018

55
الصمت، هذا الدواء الناجع الرائع...
+ المطران يوسف توما
قبل عشرين عاما، دعيتُ لقضاء أسبوع في فنلندا من أجل طباعة الكتاب المقدس، وبقي لديّ من ذلك البلد ذكريات كثيرة ورائعة، لكن أشدّ ما بقي في ذاكرتي عن هذا الشعب المتميّز (والذي لا ينتمي إلى الشعوب الاسكندنافية) هو حبّهم للصمت والهدوء. وقد سمعتُ أن هيئَة السياحة الفنلندية تفتخر بحبّ الهدوء الذي يتميّز به شعبهم، وتقوم بحملات تسويق للصمت. فيحاولون إغراء الناس كيف كانت فنلندا 'صامتة' وكيف يمكن للصمت ان يساعدهم على اكتشاف أنفسهم. وقد حققت هذه الحملة ثمارا كثيرة، بحيث عبرت هذه الهواية إلى جيرانهم السويديين!
لكن الفنلنديين ليسوا لوحدهم عشاق الصمت، فلدى جيرانهم إلى الشرق، الروس أيضا عادةٌ جميلة وهي أنّهم قبل القيام بسفر، يجلسون بضع لحظات في صمت، لاستعادة أنفاسِهم وتجديد طاقتهم. هذا إلى جانب التقاليد الرهبانية والنسكية التي طوّروها عبر القرون وهم ينضّمون رياضات روحية تتميّز بتعلم فن الصمت والتأمل.
قد لا نستطيع السفر إلى فنلندا، ولكن يمكننا ممارسة "الصمت" والتمرّن عليه بالبدء في إبقاء أفواهنا مغلقة على الأقل لمدة دقيقتين كل يوم. وهذا ما توصلت إليه أيضا البحوث النفسية والعلمية ونتج عنها أمور عجيبة إخترت منها:
1 – تقول إحدى الدراسات الرصينة إن دقيقتين من الصمت يمكنها أن تساعد المرء على الاسترخاء، وجاء في دراسة في مجال طب القلب أن للصمت تأثيرا أكبر عليك من الاستماع إلى الموسيقى. وخلصت الدراسة إلى أن للصمت فاعلية تغيير على ضغط الدم والدورة الدموية في الدماغ. ولذلك تقترح الدراسة أن يبقى المرء صامتا لبضع دقائق حتى يصل الى حالة الهدوء المطلوبة، وأعتقد أن هذا مفيد لكل من يعاني من العصبية والتوتر.
2 – بفضل الصمت يتم إعادة تجديد خلايا الدماغ.
نشرت مجلة مختصة بالدماغ وهيكليته ووظيفته (Brain, Structure and Function ) في عام 2013 دراسة عن أثر الصمت على أدمغة الفئران (في المختبرات)، كشفت أنه عندما يتم تعرّض الفئران لمدة ساعتين للصمت التام باليوم، كانت أدمغتها تنتج خلايا جديدة في منطقة دماغية تسمى الحُصين أو قرن آمون (hippocampus)، وهي منطقة بالدماغ ترتبط بالذاكرة والانفعال والتعلم لدى البشر وبقية الفقاريات. وخلصت الدراسة إلى أن الصمت يساعد الخلايا الجديدة على التمايز والتحوّل إلى خلايا عصبية، والاندماج مع النظام الكلي، ما يعني ببساطة أن الصمت يساعد دماغنا على النمو والتجدد.
3 – يساعد الصمت على تطوير المهارات المعرفية واللغوية.
لقد ثبت، على نطاق واسع تأثير التلوّث الضوضائي على المهارات الإدراكية للدماغ البشري. وسجلت إحدى تلك الدراسات أن الأطفال الذين تعرّضوا للأسر (الحبس) أو درسوا في مدارس تقع بالقرب من سكك الحديد أو الطرق السريعة أو المطارات يكون لديهم مستوى منخفض في درجات القراءة وتكون مهاراتهم المعرفية واللغوية أبطأ من غيرهم.
4 - "جميع الأمور العميقة والعاطفية والمشاعر إزاء الأشياء تنبع وتصبح حاضرة بفضل الصمت".
هذه كلمات كتبها الشاعر والروائي الأمريكي هيرمان ميلفيل (Herman Melville) (1819 - 1891) وقد سبق بها دراسة عام 2013 التي أثبتت فاعلية الصمت على الوضع الافتراضي للدماغ. لأنه قد "لوحظت بشكل مؤكد منافع التأمل والصمت على نفسية المتأمل المتمرّس، في نطاق دراسة "حدود علم الأعصاب لدى الإنسان" (جوزيف موران Moran وآخرون). من حيث التأثير على الشخصية وخصائصها بالتأمل الانعكاسي، أكثر بكثير من مجرد الاعتراف بالذات، أو التفكير بمفهوم الأنا، أو في احترام الذات، على سبيل المثال.
5- الصمت يخفف من الإجهاد والتوتر
عندما يكون الانسان متوترا هذا يعني أنه ليس في حالة صمت، فالصمت واقعيا يقلل من مستوى هرمونات التوتر ويجعل المرء أكثر هدوءًا ومستعدا بأن يأخذ بزمام الحالة التي جعلته في وضع الإجهاد والتعب الفكري.
6- إن الذين يحافظون على الصمت في المواقف العصيبة هم من بين المفكرين الكبار.
 جاء في دراسة في مجلة  Talentsmart أن لدى جميع المبدعين الكبار قابلية واحدة مشتركة وهي الالتزام بالهدوء وقدرة سيطرة على المواقف الصعبة. فهم يستطيعون أن "يدخلوا في الصمت" بالرغم من الفوضى السائدة حولهم وهم يستخدمونه لصالحهم، والأمثلة على هؤلاء كثيرة.
7- في عموم آسيا وفي الهند القديمة خصوصا، يُعَد التأمل الصامت من التقاليد العريقة ويسمى فيباسانا Vipassana، وهذا ما أقرّت به اليوم الحضارة الغربية أيضا لما فيه فوائد صحية كبيرة. ويقال أيضا أن انتشار هذا النوع من التأمل (فيباسانا) استطاع أن يغيّر حياة أناس كثيرين ممن لم يكونوا راضين عن حياتهم بسبب الإجهاد والتوتر والتعب والعصبية.
عندما كنا صغارا في المعهد الكهنوتي في الموصل (في ستينيات القرن الماضي) كان التقليد أن نبدأ النهار بنصف ساعة تأمل صامت، وكان ذلك صعبا عليّ وتطلب الأمر سنوات كي أتعوّد عليه، وغالبا كنتُ أتشكى من الشرود والطياشات أثناء ذلك التأمل. لكني مع التقدّم في السن وتوسّع ثقافتي إكتشفت فوائد تلك الممارسة الصباحية والطاقة الهائلة التي تمنحني إياها لطيلة النهار. ففهمتُ أن تلك الخبرة ناتجة عن أجيال سبقتنا جعلت كثيرين يتمكنون من التقدّم إذا ما قرّروا ذلك. لذا أنصح القارئ أن يجد لنفسه (كلّ شهر أو كل سنة) فرصة لبضعة أيام كي يمارس الصمت، ويركز على موضوع إيجابي يتأمله في فكره. أقول له: جرّب وسترى أنك في البداية قد تواجه نوعا من الجمود والعطل الذهني، ولكنك بمجرد أن تتقن تقنية التأمل، سوف ترى أن له فوائد صحية، نفسية وروحية ملحوظة.
قال المهاتما غاندي محرّر الهند: إن الشعوب التي تتأمل لا يمكن الانتصار عليها.
افعل أنت أيضًا كذلك. أخرج كل صباح إلى طارمة غرفتك أو الحديقة، "إجلس وفكر في أمورك. إنزل إلى أعماق قلبك وإلى أعماق جسدك، فالرحلة طويلة، والبحث عن الحقيقة مغامرة يجب أن تبدأ باستراحة، وهناك استراحة أخرى في نهاية المطاف، لكن لا تهتم بها الآن. عليك اليوم الكفّ عن الدوران حول نفسِك. تحمّل نفسَك بعض الشيء، تحمّل أن تبقى ساكنًا، لِتُرهِفَ السمع والفؤاد. ستُسبّب لك هذه العملية بعض التعب، ولكن كن رحبَ الصدر. فأنت لستَ ذاهبًا إلى نزهة صيد، بل تنتظر لقاء الرب. إخلع عنك كل همٍّ بتؤَدة، كما لو كنت تخلع ملابسك في يوم صيف قائظ. لا تتعجل". (من كتاب: إن كنت تبحث عن الله، تأليف جان رنيه بوشيه، ترجمة الأب يوسف توما 1983 ص 8).
كركوك 29 تموز 2018

56
مأدبة عشاء لا تشبه غيرها!
+ المطران يوسف توما
استضاف زوجان مجموعة من الأصدقاء إلى حفل عشاء، وقفت الخادمة قرب ربة المنزل ودعتها إلى المطبخ.
"سيدتي، لقد قفزت القطة على طاولة المطبخ وأكلت الكثير من سمك السلمون الطازج المعدّ للضيوف".
نظرت السيدة إلى قدميها، وأضافت وهي تهمس قالت: "افتحي علبة من السلمون المعلب، وعالجي السمكة بقطع منها... تصرفي!". ثم عادت لضيوفها. مرت الأمور على ما يرام وتمتع الجميع بالسمك، شكروا ربة البيت وغادر كل منهم إلى منزله.
بعد قليل نادت الخادمة صاحبة المنزل إلى المطبخ مرة أخرى. وقالت لها: "سيدتي، لقد ماتت القطة!".
شعرت السيدة بالخوف وقرّرت أن تتصل بضيوفها وتخبرهم بالحقيقة وأن عليهم كلهم الذهاب إلى المستشفى لإجراء غسل لمعدتهم حالا...
ويمكننا تصوّر الهرج والمرج الذي حدث في جميع المنازل...
أخيرا عاد الجميع سالما إلى بيته بعد تلك المحنة الطويلة والمكلفة، ويمكننا أيضا تصوّر الحرج للسيدة التي بعد أن وصلت إلى المنزل مرهقة، سألت الخادمة: "أين وضعتم جثة القطة؟".
فأجابت الخادمة "سيدتي. تركنا القطة في مكانِها وهي لا تزال في الشارع حيث دهستها السيارة!".
المغزى:
لا تستعجل ولا تتسرّع أمام الأحداث المفاجئة، ولا تحلل بسرعة نحو الأسوأ، سيطر على انفعالاتك وتأكد قبل اتخاذ القرار فقد يكون متهوّرا، ستندم عليه...

 كركوك 24 تموز 2018

57
الروحانية في زمن الأزمات
+ المطران يوسف توما
 الشاعر التشيلي بابلو نيرودا 1904 – 1973 (جائزة نوبل للآداب لعام 1971) كان قد نفي في عام 1950 إلى جزيرة إيطالية صغيرة في البحر الأبيض المتوسط. تقول قصة حياته إن ماريو، وهو شاب أميّ، يعمل في خدمة نيرودا، يسلمه كل يوم البريد. قامت بين الشاعر وماريو صداقة بحيث أخذ الشاب يحكي للشاعر همومه عن الظروف وتعدّي الجيران عليهم، فسأله الشاعر: ألم يفعل والدك شيئا لرفع الغبن عنكم؟ أجاب ماريو: "بلى، فَعَلَ، لقد كان يشتُمُهم كلَ يوم"!   
في هذه الأيام التي تعصف فيها تظاهرات في مدن جنوب العراق وبغداد حيث يطالب جيل الشباب بخدمات وفرص عمل، بحيث احتلت مساحة الأخبار في مواقع التواصل السمعي والبصري والشبكة العنكبوتية، وبقدر ما تيسّر لي أن أتابع ما يكتب لاحظتُ أن ردود فِعل الناس تتميّز بالتأثر الآني والانفعالي، بل إن بعضه ينزل إلى الابتذال والشتائم، مثل "أبو ماريو" كوسيلة وحيدة لحل المشاكل بالنسبة إليهم.
وإن كان ماريو ابن جزيرة نائية، لكننا اليوم لم نعد في عزلة قرية أو حي صغير بل مسرَحُنا العالم. إلا أن الجهل السائد يبقى يَستعمل أدوات قديمة لا نفع ولا فائدة فيها كالسلبية والشتائم.
في بداية تدربي على العمل الصحافي – الذي جئت إليه متأخرا نسبيًا، 44 عاما – اكتشفتُ أن الكلب الذي صدَمتْه سيارةٌ أمام بيتي يستحوذ على اهتمامي أكثر من آلاف المساكين الذين يُقتلون بسبب الحروب او الكوارث الأخرى. وأصير تحت وقع الحدث من دون قُدرة على التحليل والكلام كما يجب عن كيفية العبور والتجاوز أو المعالجة، والسبب أني بقيتُ على عزلتي الانفعالية المتشائمة، فالناس لا يعرفون أن عواطفهم تقيّدُهم عندما تتهيّج بدل اعتماد هداية العقل وخبرة الآخرين الناجحة.
    الانفعالات تسيءُ إلى كل شيء، حتى الدين الذي تربّينا بالقرب منه، ولكن ليس في داخله، فلم يصبح تجربة تفيد حياتَنا، ما عدا طغيان طابع المؤسسة عليه، مثل السياسة، ففَشَلَ كلاهما في استنفار المخيّلة والعقل للخروج من الأزمات التي تجابهنا كل يوم. ولم تعد ممارسات الدين - ولا السياسة - ملهِمة للدروس والسلوك العملي، بل صارت بعيدة حتى عن الأخلاقية وأقرب ما تكون إلى أيديولوجية قومية أو مذهبية عمياء، لأنها فارغة من الروحانية.
الروحانية، دينية كانت أو سياسية، هي عبارة عن قوّة داخلية تتطوّر من خلال الصلاة (في الدين) والتأمل والفكر (في السياسة)، إنها قوّة ترافقنا ما دمنا على قيد الحياة وتغذّينا. والروحانية بدورها تتغذّى عادة بالأخلاق وأعمال الاقتسام والمحبّة، تبدأ بالأسرة فتشدّ أعضاءّها إلى بعضهم، ثم تكبر لتعبُر إلى الجيران والمجتمع أكثر فأكثر. أي إن كل ما نقوم به من أعمال فيه مهنيّة واحترام وثقة بالذات، ثم – مع الوقت - تصير الروحانية قِيَما وتقاليد تحكمُ سلوك المجتمع وترسُم آماله وأحلامَه ومشاريعَه... فيتمكن من التخطيط للمستقبل، في حين نلاحظ أن من ليس لديه روحانية - فردًا كان أو مجتمعًا- لا يتكلم قط عن المستقبل ولا يخطط له بصورة صحيحة!
 مع ذلك، أوقات الأزمات يمكن أن نستفيد منها، لأنها تكشِفنا وتبيّن النماذج التي في عقليّتنا، ويُساعدنا ذلك على التشخيص ومعرفة أسباب البطالة والفقر والجهل التي تنخرنا بعمق، كما تَظهَر الأزماتُ السياسة على حقيقتها، وتفتَحُ عينَي كل فرد فيرَى أفقا آخر إيجابيا، فلا يُصبح ضحيّة الشعارات والتكرار ويبني على قيَم جديدة. عندئذ لا يعود المواطنون يُشبهون ركاب طائرة تتعرّض لمطبّات هواء مخيفة: هم جالسون مربوطون بأحزمة السلامة، لكن ليس لديهم أي سيطرة على الموقف، ولا يعرفون متى ستنتهي الأزمة، وأينما نظروا لا يرون سوى فراغ هائل تحتَهم!
في الكتاب المقدس حالات مماثلة كثيرة عن أناس مرّت حياتُهم عبر الأزمة. أكتفي بإثنين كمثال يوضّح كيفية تكوّن الروحانية في أوقات الأزمات: إنهما سِفرَي الجامعة وأيوب.
     يدعونا سفر الجامعة إلى عدم الإفراط في اعتبار كل الأمور بنفس الجدّية. فيبدأ بجملته الشهيرة: "باطل الأباطيل، وكل شيء باطل". أي كل شيء زائل، متغيّر ومتحوّل. مثل الكثير من المؤلفات والقصص تنتهي بهذه الحقيقة، كاللازمة التي تكرّرها بطلة "ألف ليلة وليلة" في نهاية كل قصة: "حتى أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات"، أي الموت، أي علينا أن نتذكر أنه لا بد من العبور، ولا أحد يتوقّف، بينما الكل يريد أن يرتاح ويبني ويستقر ويقول مع الرسول بطرس يوم التجلي: "يا رب حَسَنٌ لنا أن نبقى هنا" (مر 9/5). إنها حكمة التخلي ليتحقق التجلي بإطلاق سراح الحياة وقبول التغيير، فتقلّ المعاناة، وهذا درس نتعلمه مع التقدّم في السن من جميع العقلاء والحكماء عبر التاريخ.
    السِفرُ الآخر هو "أيوب" يتناول المعاناة الفردية، حيث عاش أيوب "البار"، أزمة أطاحت بذريّته وأمواله وصحّته. لكنها لم تتمكن من نَسفِ الرجاءِ لديه. وهو كل ما تبقّى عنده، أي الثقة بالله. وإذ كان يرى فقط الجانب السفلي من لوحة الحياة، مع ذلك بقي يعتقد أن هنالك أجزاء أخرى عُليا تتجاوزُه، وهي تشكّل تصميما جميلا وإن خفي عن عينيه. وبذلك الموقف الشجاع استطاع أيوب أن يواجِه الواقع من منظور آخر خَفِي على أصدقائه. وتأتي نهاية سفر أيوب عجيبة، يتحوّل فيها أيوب من داخله، فيخاطب الرب بهذه الكلمات المدهشة: "سمِعتُ عنكَ سَمْعَ الأُذُنِ، والآنَ رأتْكَ عَيني" (42/5)، أي بدأت الروحانية تعمل فيه.
ليست الأزمات إذن حدثا حادثا على طريق الحياة، بل هي الطريق. كقول بولس الرسول: "فإننا نعلم أن كلَّ الخليقة تئِنُ وتعاني من آلام المخاض" (رو 8/22). لذلك من أجل مواجهة أي أزمة لدينا، نحتاج إلى قَيَم روحية تُعطي من هم حولنا الدعم والشجاعة والتفاؤل، ويمكن أن نستخلصها من دروس التاريخ، كما فعل يسوع مع تلميذَي عماوس كان "يسير معهما ويشرح لهما الكتب" (لو 24).
عندما أنظر إلى ما حولنا وأرى ما يحيط بنا من بؤس وفقر وإرهاب واغتيالات وتفجير وسيارات مفخخة بذكاء شيطاني، أتذكر قصة حدثت عام 1944 في أحد معسكرات الاعتقال التي أقامها النازيون في "أوشفيتز" في جنوب بولندا، دفعت المأساة أحد الساخطين أن يرفع قبضتَه نحو السماء ويصيح: "يا رب، أين أنت؟ لماذا تبقى صامتا ولا تفعل شيئا؟"، فجاء صوتٌ من أحد المساجين كان واقفا خلفه قال له: "نعم فعلتُ شيئا، خلقتُكَ أنتَ!". لو فهمنا هذا لاتضح معنى وجودنا وأن شيئًا إيجابيا لن يتحقق إلا إذا وضعنا يدنا في عجينة الحياة.
كركوك 22 تموز 2018
 


58
الخير خير في جميع الأعمار!
+ المطران يوسف توما
يسألني بعض الناس: لماذا عليّ أن أفعل الخير، في حين كل ما نتلقاه هو الأذى والشر؟ ... إليكم الجواب في هذه القصة:
في أحد "المولات" (المتاجر) الجديدة، كان صبي في السادسة من عمره يتمشّى مع أخته البالغة أربع سنوات... فجأة لاحظ الصبي أن شقيقته ليست معه.
توقف ونظر إلى الوراء. فرأى أخته واقفة أمام رفوف اللعب تراقب شيئا باهتمام كبير.
ذهب الصبي عائدا إليها، وسألها: "هل تريدين شيئا؟" فأشارت شقيقته إلى دمية (لعّابة).
أمسك الصبي يد أخته بطريقة تبيّن أنه الأخ الأكبر المسؤول، وأعطاها تلك الدمية لها، فكانت الشقيقة سعيدة جدا ...
من بعيد كان صاحب المتجر يراقب كل شيء، ويبتسم بارتياح لرؤية سلوك ذلك الصبي الناضج قبل أوانه ...
تقدّم الصبي الى الكاشير، وكان صاحب المتجر يقف بالقرب منه، فسأله الصبي: "كم هو سعر هذه الدمية، يا سيدي!".
كان صاحب المحل رجلا بارد الأعصاب ولديه خبرة في تقلبات الحياة. فسأل الصبي مع كثير من الحب والمودة: "حسنا، ما الذي يمكنك أن تدفع؟". فكر الصبي ودسّ يده في جيبه الذي كان مليئا بالدعابل، فأخذها كلها واعطاها لصاحب المحل. أخذ صاحب المتجر الدعابل وبدأ يعدّها كما لو كان يعدّ العملة. ثم نظر إلى الصبي، فسأله هذا بقلق: "هل هي قليلة يا سيدي؟"، فقال صاحب المتجر: "كلا، كلا ... إنها أكثر من سعر الدمية. ولذا فإنني أرجع إليك الباقي". قال هذا، واحتفظ بأربعة دعابل فقط وأعاد البقية للصبي.
كان الصبي سعيدا جدا باسترجاع بقية دعابله فوضعها مرة أخرى في جيبه وأمسك بيد شقيقته وخرجا من المحل...
بقي موظف الكاشير مشدوها لتصرّف صاحب المتجر فهو شاهد كل الحادثة. فسأله، "يا سيدي! أنت وهبتَ مثل تلك الدمية المكلفة فقط بأربعة دعابل؟".
أجابه صاحب المتجر بابتسامة: "حسنا، بالنسبة إلينا إنها مجرد دعابل لا قيمة لها، ولكن بالنسبة إلى هذا الصبي، هذه الدعابل ثمينة جدا. وفي هذا العمر لا يفهم قيمة المال، ولكنه عندما سيكبر، سوف يفهم بالتأكيد، وعندها سوف يتذكر انه اشترى دمية بأربعة دعابل بدلا من المال، سوف يتذكرني وأعتقد سيقول في نفسه إن العالم مليء بالناس الخيّرين. وهذا سيساعده على بلورة موقف إيجابي وهو بدوره سيشعر بدافع أن يكون جيدا مع الآخرين!".
تذكر ما قاله المسيح عن فعل الخير وأن عليك أن تبثّ مشاعر الطيبة في العالم، وبهذا سوف تزيد من انتشارها. إذا كنتَ تفعل الخير، ستسهم بانتشار الخير، أما إذا كنت تفعل الشر سوف ينتشر الشر. إنها مسألة طاقة، وعليك أن تدرك بأنك أنت مصدر قوي جدا للطاقة. فيك يوجد طاقة سلبية وإيجابية (كمَثَل الحنطة والزؤان متى 13/24-30)، لكن السؤال يبقى: أي منهما أنت ستسقي وبأي منهما ستعتني؟ الطاقة الجيدة أم السيئة؟
إن الأسلوب الذي تمارسه في حياتك وتتعمق فيه سوف يرجع إليك. لكن في كل الأحوال سيعود الناتج مضاعفا بشكل أو بآخر، خيرا كان أو شرا.
كركوك 16 تموز 2018

59
تغيرتُ عندما قاربتُ السبعين...

"نعم أنا أتغيّر ..."، هذا ما قاله لي صديق شارف على السبعين، فسألتُه: "ما الذي تغير لديك؟"، فأرسل لي هذه الأسطر يقول:

نعم، أنا أتغيّر.
فبعد أن كنتُ أحبّ والديّ وأشقائي وزوجتي وأولادي وأصدقائي، بدأت الآن أحب نفسي !
نعم، أنا أتغيّر.
فقد أدركت للتوّ أنني لست مثل "أطلس" في أساطير اليونان، والعالم لا يقف على ظهري !
نعم، أنا أتغيّر.
لقد توقفتُ منذ مدّة عن مساومة بائع الفواكه والخضار، فبالنهاية، لن تزيدني بعض الدنانير غنىً، لكنها قد تساعد ذلك البائع المسكين على توفير مستلزمات المدرسة لأبنائه !
نعم، أنا أتغيّر.
صرتُ أدفع لسائق سيارة الأجرة من دون انتظار الباقي. فقد تضع المبالغ الإضافية ابتسامة على وجهه. على أيّ حال إنه يكدّ من أجل لقمة العيش أكثر مما أفعل أنا اليوم !
نعم، أنا أتغيّر.
لقد توقفتُ عن القول لكبار السن بأنهم قد رَوَوا ذات القصة عدّة مرات. فبالتالي، لعل تلك القصة تجعلهم يستعيدون الماضي بالمرور في رواق الذاكرة الضرورية لديهم !
نعم، أنا أتغيّر.
لقد تعلمتُ عدم انتقاد الناس حتى عندما أدرك أنهم على خطأ. فبالتالي إن لم يعد يهمّني إصلاح الناس وجعل الجميع مثاليين. إن السلام مع الكل أفضل من الكمال الوهمي !
نعم، أنا أتغير.
صرتُ أمارس فن المجاملات بسخاء وحرية. إذ تعلمت بالخبرة أن ذلك يُحسّن المزاجَ ليس فقط لمن يتلقى المجاملة، ولكن خصوصا بالنسبة لي أيضا !

نعم، أنا أتغير.
تعلمتُ ألا أنزعج عن تجعّد يحدث على قميصي أو اتساخ فيه. فبالتالي إن قوة الشخصية أهم بكثير من المظاهر !
نعم، أنا أتغير.
صرتُ أبتعد بهدوء من الناس الذين لا يقدروني. فبالتالي قد لا يعرفون قيمتي، لكنني أنا أعرف من أنا  !
نعم، أنا أتغيّر.
لقد صرت باردا كالثلج عندما أواجه أحدهم يستفزني بعدوانية كي يدخلني في جدل عقيم. على أي حال، في النهاية، لن يبقى من كل الجدالات شيء، وأنا لم أعد أتحمل أيّ منافسة !
نعم، أنا أتغيّر.
فقد تعلمت ألا أتحرّج من مشاعري كما هي. فبالتالي إن المشاعر هي التي تجعل مني إنسانا !
نعم، أنا أتغيّر.
لقد تعلمت أنه من الأفضل التخلي عن الأنا لديّ عوض قطع العلاقة مع الآخرين. فبالتالي، إنني مع ذاتي سأبقى معزولا، بينما ضمن أشكال العلاقة لن أكون لوحدي !
نعم، أنا أتغيّر.
إذ تعلمتُ أن أعيش كل يوم كما لو كان الأخير من حياتي. وبالتالي فعلا قد يكون هو اليوم الأخير!
نعم، لقد تغيرتُ.
إنني أعمل كل ما يجعلني أشعر بالسعادة. وبالتالي فهمتُ بأني أنا المسؤول عن سعادتي، وأنا مدين لي بذلك لنفسي !


إعداد المطران يوسف توما
كركوك الجمعة 6/7/2018


60
التعليم الديني فكر إيجابي وصراع ضد الفتنة

الدكتور يوسف توما،
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان
أيها الإخوة الأعزاء،
أنقل إليكم تحيات الدكتور لويس ساكو بطريرك بابل على الكلدان، الذي أمضى عشر سنوات قبلي في رئاسة أبرشية كركوك.
بالرغم من أن الدعوة وصلتني متأخرة، لكنني سارعت بطرح بعض الأفكار علها تغني النقاشات في هذا الموضوع الشديد الأهمية.
موضوع التعليم الديني واسع وعميق، ويشتمل على جوانب عديدة من الحياة وهو يعني الجميع وليس المتخصصين بل ولا حتى المسلمين فقط.
إن ما حدث لنا في هذه السنوات الأخيرة شديد الأهمية، لا ينبغي أن ننساه ولا أن نطرده بسذاجة للتخلص من مشاعر الذنب والنقص، ولا أن نزيد الطين بلة، بعلاجات لا جدوى فيها، كعواطف الانتقام والتشفي، ولا أن نلجأ كما يفعل الكثيرون إلى نظرية المؤامرة والأعداء الخارجيين ...إن ما حدث أشبه بالمرض وكل الأحياء تتمرض (حتى الأديان)، لذلك تلجأ إلى العلاج وتشخيص عمق المرض وخطورته، وما حدث في بلادنا وشرقنا الأوسط يدعونا إلى استنفار كل طاقاتنا والبحث عن مراحل الشفاء والنقاهة كي ننهض سوية من جديد للعمل والبناء.
أما تكرار أسباب الفشل فهي الأخطر وتكاد تكون مزمنة والمسكنات بلا فائدة، نحتاج إلى توقف وتفحص وتفكير وتحليل واعتماد خبرات شعوب أخرى مرت في هذه المطبات، في وادي الألم والخراب، علينا قبل كل شيء أن نشخص المرض بتأسيس مركز معلومات وأرشيف كي لا ننسى ولكي تأتي الأجيال من بعدنا وتتعلم من مصائبنا ولا تكرر نفس الأخطاء.
إن ما يجعل زماننا متميزا ومختلفا عما سبق، هو أننا نعيش في زمن العولمة، حيث كثرة وسائل الاتصال، فتجعل كل ما يقال على المنابر أو في الكتب أو في أي وسيلة أخرى مشاعا ينتشر بسرعة كالنار في الهشيم، ويصبح في متناول الجميع، لذا صار من اللازم جدا توخي الحذر والقلق على ما تجرفه هذه الوسائل من كل غث وسمين أو من الماضي والحاضر، ما يقال على المنابر أو في البرامج يأتي من ينقله ويضخمه ويجعله مقياسا فيكبر الشق ...

بما أن الموضوع أوسع من إمكانية احتوائه في هذه العجالة، لكني أكتفي بنقطتين فقط أدلو بهما بدلوي علهما تساعدان في مناقشات ملتقاكم الموقر:
-   النقطة الأولى أسميها: أسباب الفتنة وكما يقال "الفتنة أشد من القتل"، أقصد بها أن من يزرع الفتنة كمن يشعل الحرائق، يبدأ في نقطة معينة صغيرة لكن الأمور تفلت من يده ولا يعود بالإمكان إصلاح الضرر، ويطلق علماء النفس على هذا إسم مرض (Pyromania) أي "نزعة المصابين بهوس إشعال الحرائق". مثل هؤلاء يُرصَدون في دول الغرب كأناس خطرين لكنهم ليسوا مجرمين، لأنهم مجرد مرضى. لذا أسترعي عنايتكم إلى كل الخطابات التي تفرّق وتشوّه صورة الآخر المختلف، ولعلها هي السبب في الكثير من مصائبنا في هذه العقود الأخيرة.

-   النقطة الثانية، أسميها "الفرق بين الخطاب الإيجابي والخطاب السلبي". وهذا يعتمد على أن الإيجابي أوفر حضا بالبناء والبقاء والديمومة، فمثلا إذا ما احتويت الآخر بكلام مشجّع حيث أرى فيه حسناته خصوصا، وليس سيئاته فقط، بهذا يمكن أن أقترب منه كي أسمعه ويسمعني فأكتشف أن نظرتي إليه تحتاج إلى تصحيح، فهي دائما ناقصة إذا ما كانت نظرة سلبية. الخطاب الإيجابي هو الذي سيوفر أرضية للحوار والثقافة، وسأتعلم به الاصغاء، فلا أبقى على تكرار ما تعلمته، ولا أستسلم يائسا قانطا من إمكانية كسب ثقته وهنا أفكر خصوصا بالشباب الذين يشكلون 60% من مجتمعنا ولم يعودوا يهتموا بمشاكل الأجيال السابقة بل لم يعودوا يصغون إليهم.
 
في الختام أذكر أني بين عامي 1994 – 1997 وبدعوة من وزارة التربية العراقية، قمتُ بوضع 12 منهجا للتربية المسيحية في المدارس الحكومية، لقد كانت لي خبرة وتحديا، لذا سعدت أن أقاسمكم وأشارككم اليوم بهذا الكلمات من أعماق القلب متمنيا لكم التوفيق والنجاح...



61
بمناسبة مرور خمس سنوات على انتخاب البابا فرنسيس
البابا، كم فيلق عسكري لديه؟
+ المطران د. يوسف توما
يوم 13 آذار 2013 أنتخب البابا فرنسيس كأول بابا يأتي من القارة الامريكية (الشمالية والجنوبية) ومنذ ذلك الحين دفع في الكنيسة طاقة ونفسًا جديدَين. كما أن كلمة "أول" تنطبق على هذا البابا لعدّة أمور: أول أمريكي وأوّل راهب يسوعي وأول بابا يحمل لقب فرنسيس وفي هذه الثلاثة معانيَ عديدة تحتاج إلى وقفة وتأمل. 
في شباط عام 2013، فاجأ البابا بنديكتس السادس عشر (المولود في عام 1927) العالم بتنازله عن كرسي البابوية، وهذا حدث نادر قلما حدث خلال تاريخ المسيحية الطويل. وتذرّع البابا المستقيل بمشاكل صحته الجسمية والذهنية اللتين يراهما في تنازل. إجتمع الكرادلة بعدها لينتخبوا رئيس أساقفة بونس إيرس، الكاردينال الأرجنتيني خورخي بيرغوليو Bergoglio المولود في عام 1936 كي يصبح البابا رقم 266 كان ذلك يوم 13 آذار 2013 وأخذه اسم فرنسيس وهو اكرام للقديس فرنسيس الأسيزي (القديس الذي عشق الفقر الانجيلي) وسرعان ما اشتهر البابا الجديد بتواضعه وأعطى نبرة جديدة للبابوية واختار أن يحيا في مكان متواضع مثل بقية الأساقفة (بيت القديسة مرتا)، وترك كل الأبُهة التي كان الفاتيكان قد اعتاد عليها.
بفضل البابا فرنسيس تزايد الاعجاب والاهتمام بمنصب البابوية، فسلطة رئيس الكنيسة هي روحية فقط لكنها تحتضن أكثر من مليار ومئتي مليون نسمة من كاثوليك العالم موزعين في كل الدول. لكن، من الناحية التاريخية تقلبت البابوية في مختلف أشكال السلطة بحيث كانت في بعض العصور أقرب الى الملكية أو الاقطاع في تملكها للأراضي، وكانت أحيانا كثيرة تلعب دورًا سياسيًا كبيرا خصوصا على مدى أجيال وقرون في القارة الاوربية. ولكن الأزمات بدأت مع عصر النهضة ثم جاءت حركات الإصلاح في القرن الخامس عشر، عقبها عصر الأنوار (ق 18) والثورة الفرنسية 1789 أحدثت شرخا كبيرا في عموم أوربا حتى جاء القرن 19 حين توحدت الدويلات الإيطالية على يد القائد غاريبلدي (1807 - 1882)، عندئذ فقدت البابوية أغلب ممتلكاتها من الأراضي وفقدت أيضا تأثيرها على العالم فدخل الباباوات في سجن اختياري من 1870 وحتى عام 1929 حين عقدت معاهدة اللاتران وولدت دولة الفاتيكان لتصبح أصغر دولة مستقلة في العالم.
بالرغم من ان البابا فرنسيس الذي هو أوّل قادم من القارة الامريكية لم يجر أي إعادة نظر على مواقف الكنيسة فيما يخص الإجهاض او زواج المثليين، لكنه فتح قلبه ليستقبل العالم كله. ففي تموز 2014 أعلن ان الكنيسة لن تتساهل أبدا مع التجاوزات التي يرتكبها أو ارتكبها أعضاؤها ووضع جميع الاساقفة الكاثوليك أمام مسؤولياتهم إزاء حماية الأطفال ضد التعديات الجنسية، كما دفع إلى المقدمة جماعات كاثوليكية غير أوربية محوّلا بذلك الكرسي الرسولي إلى حقيقة شاملة لتستحق الكنيسة الكاثوليكية اسمها.
يجدر بالذكر ان البابا الأول هو القديس بطرس الرسول وقد استمرت البابوية حتى بداية القرن الرابع مع مجيء الامبراطور قسطنطين الذي حكم بين 306 – 337 م في القرون الاولى كانت البابوية مجرد حالة دينية لم لديها أي سلطة زمنية، لكن مع الإمبراطور قسطنطين واهتدائه إلى المسيحية تغيرت الأمور تغيرًا كبيرا.
عادت الحلقة مع البابا فرنسيس لتعود البابوية كما كانت في القرون الأولى قوّة روحية وثقلا عالميا، يُحسب له حساب آخر مختلف، وليس كما كان في زمان الحروب، في القرن الماضي، إذ يحكى أن جوزيف ستالين، زعيم الاتحاد السوفييتي، استقبل في عام 1935 بيير لافال رئيس وزراء فرنسا آنذاك، الذي طلب منه احترام الحريات الدينية في روسيا، سأله ستالين: "البابا؟ كم فيلق عسكري لديه؟".
أما اليوم فالبابا فرنسيس بأسلوب حياته يجيب على السؤال بآخر هو: هل الوحدات العسكرية هي مقياس القوة الوحيد؟
كركوك 13 آذار 2018

62

بين أنبياء الشؤم وتفاؤل العارفين

المطران د. يوسف توما
 
لقد أصبحت وسائل الاتصال في العالم تشبه ما كانت عليه سوق عكاظ في الماضي أو سوق مريدي في بغداد اليوم، الكل يشارك ويتكلم أو يكتب أو يقدّم ما لديه ويدلو بدلوه من دون العودة الى المصادر الموثوقة واعتماد الدقة.... ولا يذكر التاريخ سوى بعض ما نجح وبرز وحفظ (كالمعلقات)، لأن الورق ومواد الحفظ كانت غالية ونادرة، فضاع أغلبها.
أما اليوم وبسبب كثرة المساحة القادرة على حفظ المعطيات، لم تعد الناس تخاف لا على ورق أو على حبر أو على شرائط أفلام، أو أجهزة خزن معلومات، فنزلت الأخبار الملفقة والتقليعات والأدبيات التي لا تتجاوز الانفعالات. الكل يريد أن يوصل صوته وتحليله وأفكاره! فهجم علينا كمّ هائل من الإذاعات والقنوات الفضائية وامتلأت الشبكة العنكبوتية بمواقع لا تعدّ من المحللين والمفكرين الذين لا يختلفون عن شخصية ذكرها باسيل عكولا في كتابه "يوميات غجري لا يجيد الرقص"، من أهل قريته برطلة، كان ذلك الرجل المسن يتحدث عن السياسة مع زميله في يوم حر قائض سمعه يقول: "يا أخي، أنا لا أفهم إذا كانت بريطانيا وإنكلترا قد دخلتا في حرب مع بعضهما، لكن ما شأن الإنكليز بينهما؟!".
لقد ذهب زمن الاختصاص وجاء آخر نسمع فيه العجب العجاب من مقالات تنزل بلا مصادر ولا تتحقق من الأرقام التي تنزلها والتأكيدات التي تفترضها، وكلما كانت مقولته مهزوزة جاء التأكيد قويا، كأنه صراخ من يريد فرض رأيه عليك. هكذا أصبحت المعرفة نسبيّة وصارت الحقائق والأكاذيب مختلطة، فتسمم الكل وضاعت المعرفة الحقيقية.
من وقت لآخر يطالعنا هذا وذاك من المتحذلقين الذين يريدون خيرنا ويحللون ما يحدث في بلادنا، خصوصا من الصحفيين الغربيين المستعجلين الذين يأتون ليقضوا بضع ساعات هنا وهناك، يسجلون كل ما يقال وما لا يقال، ويعودون إلى بلادهم ليدبّجوا صفحات على وسائل إعلامهم الورقية أو الرقمية. ونأتي نحن لنترجمها ونقدّمها من دون تمحيص لقرائنا، فهذا يقول إنه لم يبق في العراق سوى بضع آلاف من المسيحيين: 80000 أو 100000 او 400000 الخ، من دون ان تكون له إحصائية دقيقة! وآخر بأن المخطط هو كذا، وأن الذنب يقع على الغربيين عندما لا يقبلون بالهجرة الجماعية المطلوبة، وثالث يدعي أن الكنيسة هي التي تمنع هذه الهجرة لأسباب مصالح وغيرها...
إن أسلوب أمثال هؤلاء يذكرني بالأب توما كوسماو، أحد الآباء الدومنيكان الفرنسيين الذي عاش في الموصل نصف قرن، وكان يقول ضاحكا خبرته مع الصحفيين الغربيين: "عندما يأتي صحفي من الغرب لثلاثة أيام يقضيها بيننا ويعود إلى بلده يكتب 30 صفحة عن سفرته وعن أحوالنا". وإذا ما بقي ذلك الصحفي شهرا عندنا، سوف لا يتمكن سوى من كتابة ثلاث صفحات. أما إذا عاش في هذا البلد ورأى أن الأمور أعقد بكثير مما كان يتصوّر، أوكد لك إنه لن يجرؤ على الكتابة قط، بل سيفضل الصمت!".
لقد قمت بإدارة عدد من الدراسات الجامعية في الغرب، ولاحظتُ أن أول شيء تضعه الجامعة أمام الباحث هو منعه من الاعتماد على الانترنت في كتابة أطروحته، لعدم جدية المصادر التي تطوف على سطح هذه الشبكة. بل بعض الجامعات تجعل الطالب يؤدي القسم بأنه لم يلجأ إلى تلك الشبكة بل اعتمد على الموثوق من الكتب فقط، وهذا ضرورة لازمة بأن يكون هنالك مكان غير ملوّث بالأكاذيب، وبما يجول من معلومات وأقاويل خاطئة ومحبطة مما يقدمه الكثير أنبياء الشؤم والمهددين بالويل والثبور وعظائم الأمور.
قبل مدة قرأت ما يأتي: "إذا كنت تشعر بعدم الأمان وانتابك فجأة شعور بأن البلاد أصبحت غير آمنة، خصوصا وأنك وأجدادك تعيشون فيها لآلاف السنين. إذا انتابك الإحساس بالإهانة في كل لحظة من الحياة. إذا كنتَ فجأة تخاف من حروب جديدة ومتغيّرات في الحدود والخريطة الجغرافية... إذا كنت فجأة بدأت تتلمس بأن التقوى لدى الآخرين هي خطر عليك... إذا كنتَ تعتقد أن الشباب في خطر محدق بسبب العنف وتعاطي المخدرات... ما عليك سوى فعل شيء واحد ... ابتعد عن وسائل الاعلام الاجتماعية ... لبضعة أيام. لا تشاهد الأخبار ... مارس الصوم عنها. ابتعد عن النقاشات حول الدين ... أخرج، وبمجرد إلقاء نظرة حولك على أصدقائك الذين ينتمون إلى طوائف وجماعات وأديان مختلفة ... سوف تجد أنك تعيش في واحد من أفضل البلدان في العالم!
   كركوك 4-3-2018


63

متلازمة العم البخيل في أفلام والت ديزني الكرتونية

ترجمة وإعداد المطران د. يوسف توما

في صيف 2013 شاركت في الأيام العالمية للشباب في البرازيل والتقيت بالأب فراي بيتو الدومنيكي (Frei Betto مواليد 1944)، وهو كاتب معروف، مؤلف كتاب "باراديسو برديدو “Paraíso perdido – viagens ao mundo socialista”  (الفردوس المفقود - رحلات إلى العالم الاشتراكي) (دار روكو)، وغيره من الكتب. وقد أرسلت إليّ سكرتيرته هذه الصفحة قمت بترجمتها لأنها تسلط الضوء على بعض ما يحدث في عالمنا من تقلبات وانهيارات بسبب المال.
كتب الباحث الاقتصادي توماس بيكتي (Thomas Picketty) في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، بأن تركيز الثروة في العالم يقع في أيدي عدد قليل من العائلات (84 شخصا بالتحديد الذين تبلغ ثروتهم ما يعادل كل ما يملكه 3.5 مليار شخص – أي نصف البشرية -، وهذا أيضا ما تؤكده منظمة أوكسفام (OXFAM)، ويرجع ذلك إلى زيادة في المضاربات المالية التي تفاقمت من جراء نظام ظالم من الميراث والتوريث في العالم الغربي الذي يحتكر كل هذه الأموال.
أما فرانسوا بورغينيون (F. Bourguignon)، من جهته فهو يؤيد فرضية بيكتي في كتابه "عولمة عدم المساواة". شارحا أن عصرنا يتميز بزيادة في هشاشة وضعف فرص العمل، واللجوء إلى الاستعانة بمصادر خارجية (أي انتقال الشركات إلى البلاد الفقيرة)، وخفض الرواتب، وانعدام الضمانات التي توجد في الغرب. يضاف إلى حقيقة أن الاقتصاد اليوم هو أقرب إلى شكل آخر من أشكال الاستعباد المعولم (globocolonised) ، الذي لا يطيع المعايير المتعارف عليها دوليا، من هنا كثرت الملاذات الاقتصادية التي تفلت من أي ملاحقة قانونية، إنها بالحقيقة أشبه بكهوف علي بابا والأربعين حرامي! مما يسبب قيام ثروات تتجاوز ما يمكننا تخيله، حتى ممن يكتبون قصص الخيال العلمي مثل والت ديزني الذي صور شخصية الملياردير النهم وأسماه العم "ذهب" البخيل (Uncle Scrooge).
بالحقيقة ليس الكاتب فرانسوا بورغينيون يساريا، بل بالعكس كان كبير الاقتصاديين في البنك الدولي بين عامي 2003 و 2007. لكن من المؤسف انه كتب كتابه بعد أن ترك ذلك البنك، في حين عندما كان في السلطة، لم يكن يجرؤ على التحدث خوفا على جيبه ...
قبل 20 عاما (أي قبل عام 2000)، كان مستوى المعيشة في دول مثل فرنسا والمانيا 20 مرة أكبر مما هو في الصين أو الهند. أما اليوم فهو 10 مرات فقط. لعل القارئ يتساءل: "هذا أمر جيد! فعدم المساواة أصبح أقل من الماضي! "، لكن ذلك ليس سوى في الظاهر. فالنمو في الهند والصين صار يتبع نفس المقاييس كما هو الأمر في فرنسا وألمانيا – إنها الليبرالية الجشعة والهرمية والتفاوت في هذين البلدين صارخ أيضا مما يؤدي إلى أن هناك ثلاثة مليارات شخص أن يعيشوا على أقل من 2.5 دولار باليوم (أي ثلاثة آلاف دينار عراقي) فقط!
إن الدول التي كانت تسمى في السابق العالم الثالث أو اليوم بالدول النامية لم تعد تعرف كيف تتعامل مع هذا الوضع الحالي فتلجأ مثلا إلى الخصخصة أو إلى تخفيض النفقات الاجتماعية الحكومية (التي تضطر إلى رفع الضرائب على مواطنيها أو إجراء استقطاعات على الرواتب)، فيصل الكاتب إلى النتيجة بأن: "الكثير من تلك الإصلاحات كان ستؤول بالتأكيد إلى خلق عدم المساواة. وهي السبب في الفساد المستشري في الكثير من البلدان الأكثر تضررا من مثل تلك البرامج.
إن مثل هذه الإجراءات التي تعتمد الخصخصة، هي التي تدفع إلى الاضطرابات والتظاهرات في كثير من الدول والحكومات وتقسّم الأحزاب وتؤدي إلى صعود اليمين المتطرف الشعبوي من الذين يروجون لأفكار ووعود يستحيل عليهم الالتزام بها. لكن هناك من يقول: "إن التحوّل من الاحتكارات العامة إلى الخاصة، مع عدم كفاءة في التنظيم، سوف يسمح بظهور مضاربات في سوق الأسهم الجديدة وتراكم ثروات أخرى هائلة في تلك المناطق كما يحدث في الصين اليوم (بالمناسبة أضخم شركة تسويق في هذه البلد تحمل اسم "علي بابا"!) لقد تعلموا الطريقة وهذا ما صار يقلق حتى الدول الغنية التي تربعت على عرش الغنى حتى الآن.
في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث من المفترض أن الديمقراطية السياسية ليس لديها ما تفعله أمام الانعدام التام للديمقراطية الاقتصادية، فالانخفاض الحقيقي في الحد الأدنى للأجور ما بين عامي 1980 و1990 جنبا إلى جنب مع وجود نقابات ضعيفة، تسبب شيئا فشيئا في تفاقم عدم المساواة الاجتماعية وزيادة بنسبة تتراوح بين 20 و30٪. حيث أن ثروات 10 % من بين الناس الأغنى في أمريكا ارتفعت من 64٪ إلى 71٪ بين عامي 1970 و2010.
بالمختصر: نحن إما نركز على الصراع السياسي من أجل الحد من عدم المساواة الاجتماعية، أو نفقد كل شيء، مما يتسبب بالجوع، والهجرة، والإجرام والإرهاب والحروب، في حين يقوم أبناء النخبة الغنية بالسيطرة على كل شيء، ويذهبون ليحتفلوا في جزيرة معزولة بالامتيازات والأرباح التي حصلوا عليها.

64
الثروة، الازدهار والحب
شاهدت امرأة ثلاثة شيوخ يقفون أمام باب منزلها. قالت لهم المرأة: "تفضلوا إلى الداخل وسأقدم لكم شيئا من الطعام". سألها أحدهم: "هل زوجك في المنزل؟". فأجابت المرأة: "كلا، لقد خرج". فقالوا لها: "سوف نأتي داخل المنزل فقط عندما يعود". في المساء، عندما جاء زوج المرأة إلى المنزل، حكت له قصة الشيوخ الثلاثة. فقال لها زوجها: "اذهبي وقولي لهم لقد عدت إلى البيت وادعيهم إلى الدخول".
خرجت المرأة ودعت الشيوخ داخل المنزل. فقال أحدهم: "كلنا لا ندخل داخل المنزل سوية". فتعجبت المرأة وسألته: "ولكن لماذا؟". أجاب ذلك الشيخ: "أنا اسمي الثروة". ثم أشار إلى الشيخين الآخرين وقال: "هذين الشيخين هما: الازدهار والحب". "واحد فقط منا يمكنه أن يأتي داخل منزلك!". "إذهبي وناقشي عائلتك وقرري أيّ منا تريدين أن يدعى إلى الدخول".
ذهبت المرأة في الداخل وأخبرت كل هذا لزوجها. أصبح زوجها متحمسا جدا وقال: "إذا كان الأمر هكذا، فلندع الثروة! وهو سيملأ منزلنا بالسعادة". لكن زوجته قالت: "أشعر أن علينا أن ندعو الازدهار".
كانت ابنتهما، في الغرفة التالية، تستمع إلى ما يدور بين أبيها وأمها. اقتربت منها وقالت: "باعتقادي أن علينا أن ندعو الحب. لا شيء أهم من الحب". وافق والداها حالا وقالا: "أنت على حق، يجب أن ندعو الحب فقط".
خرجت المرأة وسألت الشيوخ: "أرجو من الحب أن يأتي داخل المنزل". بدأ الحب يسير نحو المنزل ... ثم بدأ الشيخان الآخران يسيران وراءه!
سألت المرأة مندهشة الشيوخ: "أنا دعوت الحب فقط... لماذا أنتما الاثنان تريدان دخول المنزل؟".
أجاب أحد الشيوخ: "إذا ما كنتِ قد دعوت الازدهار أو الثروة، فإن ذلك الشيخ هو الذي دخل منزلك.
ولكن بما أنك دعوت الحب! لذا فالحب لا يمشي وحده، إذ حيثما يكون الحب، فهناك دائما الازدهار والثروة. كلهم يسيرون جنبا إلى جنب.
***
المغزى واضح، لكنني أدعوك إلى إعادة قراءة هذه القصة مرة ومرتين وثلاث مرات...
إذا ما كنت ترغب في البقاء مع الحب ... انشر الحب من حولك، فالحب هو السر الوحيد للنجاح !!
المطران يوسف توما
25 حزيران 2017

65



+ المطران د. يوسف توما
للأسف ليس لدينا بعدُ في العراق فكرة تأسيس حزب سياسي يدافع عن البيئة كما هو الأمر في الدول المتقدمة، بل الأنكى أن بعض هذه الدول أدار ظهره لهذه المسألة كما فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مؤخرا.
البيئة في عالمنا عموما وفي بلدنا ومنطقتنا مهدّدة بشكل خطير، من زحف الصحارى، والتقاء صحراء أفريقيا بالشرق الأوسط، وما تزايد عواصف رياح الغبار المتكرّرة - لم نكن نعرفها فيما سبق - سوى علامات تنذر بأخطار أكبر في المستقبل. الاحصائيات دقيقة لدى حماة البيئة على تناقص الكائنات الحيّة وانقراضها، وتجفيف الأهوار في جنوب العراق أحدث اختلالا في العالم، مما أثر على ملايين الطيور التي كانت تقضي الشتاء عندنا، هذا إلى جانب زوال أنواع كثيرة من الكائنات النهرية والمائية، وتخلخل الأراضي التي قطعت منها الأشجار، وزوال أكثر من 20 مليون نخلة من مجموع 28 مليون خلال أقل من ثلاثة عقود فقط من نخل العراق!   
بالرغم من كل التحذير والانذار بشأن تردي البيئة اليوم، هنالك بكل بساطة من لا يصدّق، بل حتى أصبح الدفاع عن هذه الفكرة بحد ذاته مدعاة لسخرية الكثيرين، وصار الذين يدعون إلى الإصلاح البيئي عرضة للانتقاد فيُتهمون بأنهم يضيعون وقتنا ويؤخرون التقدّم ولا صحة لما يقال. فأصبحت حتى فكرة الاهتمام بالبيئة مجرد أوهام أو من باب التمني الفارغ والمستحيل.
إني أشبه غالبية الناس اليوم مثل معاصري أبينا نوح، الذين قال عنهم يسوع: "كان الناس يأكلون ويشربون ويتزاوجون، إلى يوم دخل نوح السفينة فجاء الطوفان وأهلكهم كلهم" (لو 17/27). أي عندما تموت لدى الناس قابلية قراءة العلامات لا يعودون يدركون ما يحدث، وحتى زمان قريب كان لدى الناس قوّة تفاعل وحدس مع البيئة، لكنهم فقدوا هذه القدرة بسبب التدمير المستمر للطبيعة وانقراض الأحياء. والحدس في الواقع مسألة مهمة جدا، لأنه يُحكم التفكير السليم والعقل الصافي. إلا أن الحدس يتجاوز العقل لأنه أقرب إلى حاسة الشم وكان القدامى يسمونه "النَفَسْ"، أي ما لا يمكن تعلمه من كل مهنة، لأنه من باب الإحساس المرهف. فتدمير الطبيعة يسبّبه فقدان الحدس بها، فالطبيعة كتاب والأميّة السائدة جعلتنا نعتبر كل من يقرأها من أصحاب الخرافات أو كمن يتكلم لغة لا نفقهها.
إن هذا التصعيد مع تدمير الطبيعة، يتزامن مع تناقص قوّة الحدس لدينا وازدياد سيطرة الخرافات الغيبية والماورائية. لأن اعتمادنا أصبح على التكنولوجيا أكثر فأكثر، في حين تقلصت قدراتنا الطبيعية الفطرية باطراد جنبا إلى جنب مع تردّي الطبيعة. وليس من الخطأ القول إن حقائق اليوم هي خرافات الغد!
لنلاحظ بكل بساطة غزو التقنيات في كل مكان وازدياد التهالك على وسائل الاتصال والتواصل وكثرة القنوات الفضائية والهجوم الكاسح للهواتف النقالة والانترنت يقابلها اختفاء المساحات الخضراء وجفاف الأنهر والينابيع وتلوثها وعدم اهتمام الناس بالزرع والضرع، والتهالك على الكسب المادي السريع. بحيث صار الناس يعرفون عما هو رقمي ووهمي أكثر من معرفتهم واهتمامهم بالطبيعة من حولنا.
كان للعديد من الناس، فيما مضى، قدرات طبيعية موروثة تتناقلها الأجيال، إلا أن تلك القدرات كانت تقوم على أساس التفاعل مع جانب من جوانب الطبيعة ومع العاملين معها. كل نبات تزرعه وتعتني به، أو شجرة تكبر في جوارك، أو حيوان أليف تكتشفه عن كثب، أو الطير الذي تربيه ويدهشك بتصرفاته أو صفيره أو مزاجه، أو حشرة دؤوبة تثير تساؤلك ...الخ. كل هذه الكائنات عاصرتنا وعايشتنا وعلمتنا بل حتى أسهمت في تربيتنا، هذه اختفت من حياتنا، ولم يبق سوانا نحن البشر، متكدسين في مدن وبنايات حزينة، هل نتعجب أننا لم نعد نتحمل بعضنا البعض؟
كل يوم يشهد العالم انقراض أنواع من أشكال التنوع البيئي في الحياة، وعندما ينقرض نوع تختفي معه حلقة من حلقات السلسلة التي كان يشكلها هذا النوع وتنقرض معه حتى الرائحة المعينة لذلك النوع، ولن يعود لها من وجود. وبالرغم من بقاء بعض المحميات القليلة في الأرض بقيت طبيعية، إلا أن القاعدة مع قدراتنا الطبيعية هي: "استخدمني أو ستفقدني". أي إذا أهملنا العناية بطاقة ما أو بقدرة أو بلغة معينة ولم نحفظها ولم نستخدمها ستكون النتيجة فقدنا التام لتلك الطاقة، أي ضمورا لتلك القابلية والقدرة. وسيأتي يوم سيقول من هم حولك إن الكلام عن مثل تلك القدرات هو خرافة!
بالرغم من حياتنا القصيرة، سيصبح مثل هذا الاستنتاج عن المستقبل القريب حاضرا للكثيرين، وسيصبح المقياس هو أن الانسان العملي الواقعي الذي لا يفكر بالمستقبل بمثابة الملحد الذي يرفض ويقاوم عملا بمبدأ: "اليوم خمرٌ وغدا أمر"، معتبرا أن التفكير بالمستقبل خرافة، وأن العالم ثابت سيبقى كما هو ولن يتغيّر، وأن المدى واسع أمامنا و "لا جديد تحت الشمس"، حتى يأتي الطوفان... فيصرخ مثل معاصري نوح بأن الهواء النقي، والمياه النظيفة والأرض النظيفة لم تكن موجودة قط. بل قد يصرخ أنه لم تكن هنالك أي أشجار ولا غابات. وفي نهاية المطاف لن يجد من حوله سوى مقابر خردة معادن وآلات عاطلة غير قابلة للتصليح، عندئذ لن يختفي الحدس فقط بل جميع الأمور الأخرى.
أصدر البابا فرنسيس يوم في 24 أيار 2015 أول رسالة حبرية عن البيئة جاء في ختامها صلاة أقتطف منها: "يا إله المحبة، أرنا مكاننا في هذا العالم، كأداة لمحبتك تجاه كل كائنات هذه الأرض، أنر أصحاب السلطة والمال كي لا يسقطوا في خطيئة عدم الاكتراث، ويعتنوا بهذا العالم الذي نقطنه. إن الفقراء والأرض يصيحون: يا رب: إكتنِفنا بقوتك وبنورك، كي نحمي كل حياة ولنعدَ لمستقبل أفضل، ليأتي ملكوتك، ملكوت العدل والمحبة والجمال. كن مسبَّحا. آمين".
كركوك 15 حزيران 2017

66
بمناسبة إعلان 2017 سنة "مخافة الرب".
حكم الدول بين ديانة الخوف والحكومة المدنيّة
 
المطران د. يوسف توما *
يسود على الكثير من المتدينين عقلية ان الديانة هي قبل كل شيء هي لإخافة الناس: يخيفونهم مما بعد الموت، من الجحيم، من النيران الأبدية، من حيل الشيطان... وهذا نوع من التكتيك، "فعندما يسود الخوف – كما يقول العالم النفساني سيجموند فرويد (1856 – 1939) – تتحول الحياة رعبًا". هذا الخوف قد يعود إلى سنوات الطفولة حيث يلجأ كثير من الأهل، في سياق تربيتهم، إلى تخويف الطفل كنوع من السهولة: كأن يقال له بأن الله سينتقم منا، أو يعاقبنا. أو عندما يتأذى الطفل أو يجرح، يقال له: أترى؟ كان ذلك عقابا من الله، لأنك لم تسمع الكلام...". وقد يمتد هذا الأسلوب إلى جميع المؤسسات الاستبدادية التي تميل إلى فرض العقائد على كونها أبدية منقوشة في الحجر، وبالتالي سيحفز الناس على قبول الظلم والاستبداد لمجرد الحصول على الراحة والأمان.
بهذا الأسلوب يضحّي الإنسان بالحرية ويتنازل عنها، وهو بذلك ينبذ الضمير الناقد، ويغوص في الاستسلام للقوة وتصبح كل سلطة غاشمة عليه، ويلبس الجبناء ثوب الدين الكاذب ويدّعون القدرة في التأثير على تحصيل حماية متعالية ومتجبرة. وهذا ما حدث في كل زمان ومكان، حتى في القرون الوسطى في زمن محاكم التفتيش، وإبان جميع الأزمنة التي سادت فيها الدكتاتورية. وفي البلاد المغرورة التي تربّى فيها الناس على كراهية الأجانب والمختلفين عنهم، فيصعد البعض على أكتاف الخوف من الإرهاب، وتتشكل الهويات انطلاقا من شرائح مذهبية ودينية التي توزّع الأحكام القطعية على الهوية وتقيّم من هو شرير بحيث يضع هؤلاء أنفسهم في موضع الله، وتتشدق مثل هذه الأنظمة بالوعود بقدرتها على تحرير أتباعها من الشرور، من خلال ممارسة القسوة وجعل العنف أمرا عاديا بطرد كل من يختلف عنهم، كما لو كانت فيه أرواح شريرة، ويدّعي أولئك القدرة على إجراء علاج مجتمعاتهم، وشفاء الأمراض، في حين هم بكل بساطة دجالون يضَلِلون البسطاء والسذّج من الناس ليتحكموا بهم.
 ما أكثر الذين باسم التصفية العرقية أو الدينية تمّت على يدهم إبادة الملايين من الشعوب الأصلية لدى استعمارهم للدول. وباسم نقاء العرق أو الاعتقاد بأن مجرد انتمائهم إلى الشعب الفلاني يكفي ليكونوا فوق الناس. هكذا بنى النازيون معسكرات الموت إبان الحرب العالمية الثانية وألقى الشيوعيون في معتقلات الكولاك (gulags) مئات الآلاف من المرحلين إلى سيبيريا. وباسم الاشتراكية قضى ستالين على 20 مليون من الفلاحين. وباسم الدفاع عن الديمقراطية انتشرت على يد الولايات المتحدة الحروب في الماضي البعيد والقريب، وزرعت الديكتاتوريات الدموية في كل مكان!
اليوم باسم العلم والمنجزات الطبية يقتنع الناس بتنازلات خطيرة، ثقة بأنها من مصادر علمية وطبية، ويضحّون بجزء كبير من دخل الأسرة لأمور لا فائدة فيها من أمور كاذبة (بلاسيبو placebo)، فيتم استغلال الكثيرين، وهي بلا نتائج، لأنها لا تعالج ولا تشفي. بهذا تبقى المجتمعات فقيرة ومتخلفة، ويكثر فيها البحث عن المعجزة، عوض المطالبة بخدمات تعليمية وصحية جيدة، فتكاثر المعتقدات الوسواسية لا يمت إلى الديانة بصلة، بل هي أقرب إلى الشعوذة المتنكرة في زي الدين!
 
ديانة الخوف هي تلك التي تعلن أنها وحدها حقيقية وأن جميع البقية أديان ومذاهب محرفة، اثيمة، وثنية أو شيطانية. وبالتالي مثل هذه المواقف، من حيثما صدرت هي ما يعزز الأصولية، ويقود إلى العدوانية ويدعو إلى الاقتتال، ويعتبر أعداءً كل من لا يخضع للنص المقدس لتلك الديانة، بل حتى يُعَدّ كل تصرّف يقوم به أتباع الديانات والمذاهب الأخرى (أو حتى غير المتدينين) مخالفة تستحق العقاب، أو يأتي وقت يشكل الاختلاف عن هذا النهج جريمة، فيلاحق الجميع وينقلب التطرّف على أصحابه، حين يقوم من يغالي في التطرّف، فينقلب الأخيرون على الأولين ويشيطنونهم، فيصبح أولئك أكثر من يدفع الثمن من غيرهم، كما حدث في الجماعات التي بقيت تحت حكم داعش.
بسبب هذه المسارات ونتائجها الخطيرة من مشاكل اتجهت الدول الحديثة نحو الحكم المدني أو العلمانية، وقبل الجميع بفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية. وبالرغم من بقاء بعض القوى السياسية هناك بالمرصاد من تلك التي عادت لتتنكر في زي السلطة الدينية "بثياب الحملان وهم في الداخل ذئاب خاطفة" (متى 7/15)، في مناطق عديدة من العالم عادت بأشكال جديدة من العقيدانية (الدوغمائية)، لتستغل المشاعر الدينية، ولكي تنزل بها لاحتلال الساحات السياسية، مما عاد إلى الأديان والمذاهب بضرر كبير قبل غيرها، لأنه يحمّلها من العيوب أكثر مما يأتي إليها بالفوائد.
حتى السوق والتجارة وضعا نفسيهما في مصف الدين لكونهما مشربين بالصنمية الدينية، عندما يحاول كل منهما أن يقنعنا بأن تكون لدينا مصداقية "دينية" لما يباع لنا في محاول "اليد الخفية" وعبادة المال. كما أكد البابا فرنسيس: "إذا كان هناك أطفال ليس لهم ما يأكلون (...) وآخرون ليس لديهم سقف يقيهم البرد فيموتون في الشوارع، وهذا الأمر يكاد لا يستحق أن يكون مجرد خبر من بين الأخبار، لكن من ناحية أخرى، إذا ما انحدر سوق الأسهم التجارية عشر نقاط، فإن الجميع سوف يعتبر ذلك مأساة حقيقية"! (خطابه في أسيزي 5 حزيران 2013).
إن الدين الذي لا يمارس التسامح ولا يحترم التنوّع الديني ويرفض أن يحبّ أولئك الذين لا يلتزمون بعقيدته، ينبغي استبعاده والتنكر له. فالدين الذي لا يدافع عن حقوق الفقراء والمهمّشين ينطبق عليه ما قاله المسيح عن الفريسيين بأنهم يشبهون "القبور المطلية بالكلس" (متى 23/27). فحين تملأ مسامع أتباع الدين كلمات جميلة، في حين تكون جيوبهم مملوءة من المال الحرام، ألا يغشّون أنفسهم ويصبحون عبارة عن "مغارة لصوص" (لو 19/46)؟
إن المقياس الحقيقي للحكم على أي دين أو مذهب ليس ما يقوله هو عن نفسه، بل هو الدين الذي يحاول كل مؤمن به أن يفعل ما في وسعه لكي يكون مثمرا ويظهر أمام الجميع "مليئا بالحياة، والحياة بوفرة" (يو 10:10)، عندئذ سيتحقق العدل ويصير مصدرا للسلام.
إن الله الحي الحقيقي بالتأكد لم يخلقنا ولم يكشف نفسه لنا لكي نخدمه ونحبه لمجرد معرفتنا بنصوص وكتب مقدسة ولا بكثرة معابدنا، ولا بعقائدنا أو مبادئنا، ولكن الله يهمه كل أنسان "خلق على صورته ومثاله": كل إنسان، وخصوصا الطفل والمتألم والمريض والذين يعانون من الجوع والعطش والمرض، والمتروكين والمضطهدين" (متى 25: 36-41)، حقا كل دين ومذهب ينطبق عليه مقولة: "من ثمارهم تعرفونهم" (متى 7/20).
•   رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان (العراق)

67
السلطة في الكنيسة والتوازن بين الفكر والعمل
المطران د. يوسف توما
قرّر وينستون تشرشل (1874 – 1965) رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية، في نهاية حياته أن يتعلم فن رسم اللوحات الزيتية، فقال: "إن رسم لوحة ما يتطلب نفس الجهد المطلوب من القائد في المعركة، أي: تفكيرا مسبقا ومحكَما بالضربات التي سيوجّهها في لحظة ما، ونظرة شاملة عامة على جميع نواحي الأبعاد، الاستفادة من الصدفة والفرص السانحة وتحويل الخسائر إلى انتصارات أو محاولة تغطيتها... كل شيء في الحياة معركة: أي فكر وعمل".
كنت أفكر بمقولة هذا القائد الذي اختبر أقسى امتحان في القرن العشرين لكنه جعل بلاده تنتصر على النازية، إلا أنه عانى الكثير من أبناء بلده ومن خصومه السياسيين، ففي الأوقات الحرجة يكثر موزعو النصائح وأصحاب الأمنيات والتمنيات، لكن كما يقول المثل الشعبي: "الذي يده في النار ليس مثل الذي يده في الماء"!
لقد أصبحت ممارسة أي سلطة في زماننا مثيرة للتساؤل والقلق، ولعل السبب هو التعقيد، أو المطالبة بأن يكون صاحب السلطة كاملا من جميع النواحي، في حين إننا في كل قداس نصلي من أجل رؤسائنا الروحيين والزمنيين (ضع السلام بين الكهنة والملوك)، لعلها أفضل طريقة نساعد كليهما، بالصلاة، وكما قال القديس أوغسطينس: "أنا أسقف عليكم ومسيحي معكم، تلك للدينونة وهذه للرحمة". لكن الانتقادات التي تتوزع من هنا وهناك – وقد تكون بحسن نية – تعتمد التذكير بأقوال مقدسة واستشهادات كتابية، لكن الدافع هو الثقة بأن صاحب الانتقاد يعرف ويفهم ولهذا يستطيع أن يتكلم، وأقول له هل الكلام يكفي؟ وإن كان الكلام جميلا. فالأمور واقعيا أحيانا كثيرة معقدة بحيث يبدو أمامها كل كلام مضيعة للوقت، هذا إن لم يكن شللا نابعا من كآبة أو عجالة أو رغبة في أذية من يحاول أن يعمل، أو تشكيكا في نياته وكفاءته في العمل!
الواقعية والجانب العملي وقصر الوقت هي التي جعلت أحد أصحاب المشاريع الخيرية يقول: حتى لو كان صاحب الصدقة والتبرع يعطي من أجل غاية أو مصلحة أو لكي يراه الناس... لكن في نهاية المطاف هذا الشخص يعطي، وهو أفضل ممن ينتقده ولا يساعد، فالأول يشبع الجياع على الأقل. إنها مسألة فاعلية وهي إذا ما كانت إيجابية سوف تقدم وهذا هو الفرق بين المؤسسات الفاعلة أو المعطلة أو التي هي مجرد واجهة ثقيلة مشلولة. كل واحد يقف أمام مسؤولياته بنفسه: ماذا كنت سأفعل في هذه الظروف القاسية التي يمر بها شعبنا؟ وهل يحق لي أن أنتقد غيري الذي يعمل ويعطي ما في وسعه؟
إن أثمن ما لدينا هو الوقت وبعضهم ينتظر كي يعمل أن تكون الأوقات مواتية، لكن الركب يسير وقطار الحياة لا ينتظر أحدا. ولدي شعور أن بعضهم يتعوّد على الدوران في حلقة الجدل العقيم (حلقة مفرغة) ويضع الاعتبارات التي لم يعد تحتها أي طائل، وليس أثقل على المؤسسات سوى الهرب في اللجان، خصوصا إذا ما سلمت إلى أناس غير أكفاء.
تنقسم خبرة الشعوب إلى قسمين: الذين ينتظرون الشخص المناسب أو الذين يخلقون المؤسسة المناسبة التي لا تزول بزوال الأشخاص أو تبديلهم، والأفضل هو أن تقوم بعض المؤسسات بتربية قادتها متطلعة إلى المستقبل فتسلم الراية بيد أناس أكفاء أعدوا إعدادا جيدا. المهم إذن الجمع بين القيادة - الكفاءة والحنكة والرؤية المستقبلية، أما الأحكام التي تطلق على من يتخذ القرار فليست مهمة ولا منصفة، فالمسيح لم يتردد من إعطاء السلطة بيد بطرس، الناكر معتمدا  على محبته وقال: "من ثمارهم تعرفونهم"، هذا هو المقياس لا غيره، إذا زرعت حنطة ستظهر النتيجة بعد بضعة أسابيع، أما إذا زرعت شجرة فعليك أن تنتظر سنوات، هكذا قرارات القيادات البشرية، إنها تتعامل مع الإنسان وهو أعقد من الشجر في نتائج الثمر، الأجيال الصاعدة هي التي ستحكم وليس نحن.
صاحب الكفاءة إذن ليس فقط القادر على الحكم الآني، وليس المتسرع لإرضاء المنتقدين أو الشامتين، بل هو الذي يحب ويفكر بالمستقبل ويوزع اهتمامه على الجميع ويتأنى، وهذا يذكرني بأحد أبنائنا في الشتات اتصل بي وهو ينتقد بعض ما ينشر في وسائل الاتصال، قلت له: "رجاء، لقد شبعنا من هذا الكلام، أنصحك مدّ يدك إلى جيبك وأخرج 10 دولارات وأرسلها إلينا لنشتري علبتي حليب نطعم بها طفلا مهجرًا لبضعة أيام، وهذا أفضل من كل كلام"، استفزه هذا وأخذ يجمع التبرعات لأطفالنا بدون طبل ولا تزمير...
هنالك نقطة مهمّة يجدر عدم نسيانها: وهو أن السلطة الكنسية تختلف بحسب الأزمان والأمكنة، فهنا تعتني بالمرضى، وهنالك بالمدارس ولدينا أخذت على عاتقها أعمال الخير والمساعدات، حتى إن لم يكن هذا أصلا من شأنها وأولوياتها، بل من شأن المؤسسات الخيرية والحكومية، ناهيك عما تطالب به الكنيسة من أن يكون لها دور  في الشأن العام  وكلمة في السياسة وتدخلات أخرى إعلامية. المشكلة ليست في الكنيسة ولا في رجالها، بل في المجتمع ككل، وبأمور تتجاوزنا جميعا من تيارات ودوامات تجرفنا مثل تراكيب الانتماءات والهويات في مجتمعاتنا الشرقية التي لم تتمكن بعد من بناء مؤسسات حقيقية، لكننا بقينا نرقع على مستوى الأشخاص ونزاعاتهم وبشريّتهم، هذه إن لم يقحموا أنفسهم في مواقف ليس لهم أن يكونوا فيها، خصوصا المسائل المتنازع عليها وغير الناضجة، حتى لو على حساب فقد حريتها كأن تتكئ على هذا أو ذاك من التيارات والأحزاب!
إن هذا الموضوع هو السبب في معاناة مجتمعات عدة توصلت بعد قرون أو عقود إلى رؤيته بوضوح، لكننا في الشرق لم يتسنَ لنا قط هذه الفسحة أو قابلية الركون، فأصبحت السلطة بمثابة شوكة في خاصرة كل المؤسسات: من يأمر من؟ وكأنما الكل يريد لنفسه حق الفيتو، على حساب الفاعلية والنجاح وسرعة تنفيذ وتحقيق المطلوب.
كم من المشاريع تموت بسبب المماطلة، خاصة إذا ما وضعت بيد بيروقراطيين غير أكفاء، ما عدا ما يثقل الماكنة من أحمال وعدم اكتمال النصاب في الاجتماعات، والدمدمة ضد فلان وعلان... مما يجعل الكيل يطفح. ويجعل بعض الأجيال تتحسر على "أيام الخير" و"الزمن السعيد" و"أيام زمان"، في حين كان أولئك أيضا يصادفون ما نصادفه اليوم من انتقاد وثورات وهياج، وعندما تنجلي الحقيقة يظهر أن الانفعال كان وراء كل شيء وليس الحقيقة، كما حدث إبان الثورة الفرنسية في عام 1789، ثار الناس على الملك لويس السادس عشر وقطعوا رأسه وساروا ليحرّروا من كانوا يقبعون في سجن الباستيل المخيف، ماذا وجدوا؟ خمسة أفراد فقط! سيبقى الإنسان ضعيفا بسبب ذاكرته ولا يتعلم من دروس الماضي، فكيف يمكنه أن يخطط للمستقبل أو يستعد له؟
 
كركوك 21 نيسان 2017





68
قرأت لك من الأدب الهندي المعاصر
بين الأزواج والزوجات
كنت أتجوّل في أحد الأسواق الكبيرة الحديثة في مدينتنا فسمعتُ زوجين شابين يتجادلان بحدّة. كان الزوج الشاب غاضبا، فقال لزوجته أن تذهب وحدها لتتسوّق وتتركه هو يجلس على أحد الكراسي التي وضعت خارج السوبر ماركت.
كان يبدو عليه الاستياء عندما اقتربت منه، وسألته: "اسمح لي أن أسألك عن سبب تصرفك معها، هذا بالتأكيد ليس حشرية مني وإذا كان لا مانع لديك أن تقاسم المشكلة مع رجل تجاوز الستين عاما (أي أنا نفسي). فأجابني: "كلا، بالعكس يا عمي"، ثم استمر يتابع: "إن زوجتي تريد مني أن أتسوّق معها، ولكني متعب مرهق ميت بعد يوم عمل ثقيل. كنت مستاءً جدا عندما أصرّت على أن آتي معها إلى هذه الأسواق".
ابتسمتُ لهذا الشاب وقلتُ له، بأنني كنت دائما أخرج مع زوجتي كلما سنحت الفرصة، حتى غادرتني قبل خمسة أشهر. لأن زوجتي وافتها المنية وتركتني وحدي الآن في هذا العالم. كنا كلانا من نفس العمر. كنا مدرّسين من حيث المهنة، وحصلنا على التقاعد سوية فذهبنا في جميع أنحاء الهند لزيارة المعابد القديمة والأماكن المقدسة المفيدة.
كان لدينا ثلاثة أولاد، وكلهم حاليا متزوجون ويعيش كل منهم في بيته مع أسرته الخاصة.
للأسف، كانت صحة زوجتي ضعيفة وكانت مصابة بداء السكري وارتفاع ضغط الدم، لذلك كان عليّ الاهتمام بها وتذكيرها بتناول الأدوية في الوقت المحدد.
أما الآن، فهي لم تعد موجودة معي، وإني أشعر بالوحدة جدا. أيامي تبدو لي طويلة، والليالي فارغة. عندما أرى أمتعتها، كل شيء يذكرني بها. الأدوية التي لم تستهلكها باقية على الطاولة الآن كذكريات منها تجعلني أشعر بالأسى الشديد والاكتئاب.
إني لا أزال أحتفظ برقم هاتفها الجوال، وإذا ما دعوتُها فهي لن ترد عليّ كما كانت تفعل في السابق، ولن تقرأ رسائل الواتس اب منّي إليها كما من قبلُ. كلانا على حد سواء كنا نتشارك في السرير نفسه، كل منا يأخذ جانبا منه. ولكني، الآن، أتمدد لوحدي في منتصف السرير. إني أعدّ طعامي بنفسي ولا يمكن أن أسمّيه طعاما. في حين عندما كانت زوجتي معي كانت تتفنن بطهي اطعمة لذيذة متنوعة لكلينا. لم تعد هي هنا معي لترافقني في زيارات المواقع الأثرية والأضرحة والمعابد.
فجأة، بدأتُ أرى الدموع في عيني الشاب وهو يصغي إليّ. فقلتُ له إن عليه أن يحبّ زوجته طالما هما معا الآن. قلت له أيضا: "شجعها وامدحها طالما لديك الفرصة على ذلك الآن"، ثم قمت على قدمي وقلت: "إني ذاهب إلى المقبرة، لأزور زوجتي، أزورها لأنها سبقتني إلى مكان تعدّه لي وستستقبلني فيه بعد مدّة قليلة، إني أعدّ الأيام التي تفصلني عنها، كي أتمكن من مشاركتها الحياة الأبدية!".
قلتُ ذلك وأنا أودع الشاب الذي بدا لي مذهولا ومصدوما تماما من جراء العواطف التي اجتاحته. وسرعان ما عاد إلى رشده، وقام مسرعا ودخل السوبر ماركت...
***
نعم، على الرجال أن يبدأوا بتقبّل زوجاتهم كما هنّ، وعلى النساء التغاضي عن بعض الكلمات القاسية من أزواجهن في بعض الأحيان، وذلك من أجل إحداث تحسّن شامل وتقوية الوفاء في الحياة الزوجية بينهما.
وسؤالي هو: لماذا نحن مهذّبون جدا مع الغرباء، ونحيّيهم ببشاشة جيدة عندما نكون قد تعرفنا عليهم قليلا. ونعتذر بلطف منهم عندما نسعل أو نتثاءب أمامهم أو تأتينا مكالمة هاتفية لتقاطع محادثتنا معهم، لكن هل نفعل الشيء نفسه مع زوجتنا؟ هل حقا نحن نحترمها؟ إن 90٪ من الأسر يغيب عنها بالتالي عيش مثل هذه الأوقات السعيدة الممكنة يوميًا.
إن الإهمال المتبادَل بين الأزواج هو سبب عدم الشعور بالسعادة معا. يعود الزوج إلى البيت من العمل فلا تسأله الزوجة ولا تستفسر منه كيف كان يومه. وبالمقابل، لا يقول الزوج لزوجته إنها وحشته جدا خلال ذلك اليوم. يجب أن نبدأ بتقاسم مشاعرنا مع القرين الآخر وحتى مع الأشقاء ومن يعيش معنا، كي نتمكن من عيش حياة حلوة ونتذوق بسعادة طعم الوقت طالما لا نزال معا.
ترجمة وإعداد المطران الدكتور يوسف توما
كركوك 7/1/2017

69
مسيحيو العراق بين المخاوف والآمال

الدكتور المطران يوسف توما
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان


كان من المهم في هذا المؤتمر، أن يُسمح للسياسيّين وممثلي الكنائس والزعماء الدينيين وغيرهم من الضيوف، مناقشة التحديات الرئيسية التي تواجه زماننا ومنطقتنا في الشرق الأوسط. ولعل ذلك سيوفر فرصة رسم خطوط التعاون بين مؤسساتنا، وهذا ضروري جدا للمجتمع. لكن التساؤلات هائلة وواسعة ولا يمكن أن تحتويها بضع ساعات لقائنا.

يمكن أن نبدأ باستعراض سريع للماضي، وقراءة سريعة أيضا لظاهرة "داعش". ثم ننكب على الحاضر، لكن، ما يهمّ هو كيف نعدّ للمستقبل على أصعدة عديدة ومختلفة؟

لا بد لكل واحد أن يطرح على نفسه ثلاثة أسئلة:

1-   من أين جاءت داعش؟
2-   لماذا بقيت كل هذه الفترة بالرغم من جرائمها؟
3-   ماذا بعد تراجع داعش وطردها من الموصل ومنطقة سهل نينوى؟ هل هنالك أمل بعودة المسيحيين والمكونات الأخرى إلى ديارهم بعد أن انتهك السلام مع جيرانهم وتأذت ذاكرتهم ببشاعات وآلام لا تحصى؟ ثم ما هي الضمانات للمكونات غير المسلمة (أو غير السنية) في منطقتنا؟

1 – من أين جاءت داعش؟
   جاءت داعش من حاضنات الكراهية وعدم تقبل الآخر والسير حثيثا باتجاه يعاكس شرعة حقوق الانسان، في العالمين الإسلامي والعربي، يقسمون العالم ويستعدون كل من لا يشبههم، يرفضون تلك الشرعة، القوميون - في الماضي القريب – والمتدينون اليوم، المرأة – نصف المجتمع – تعتني منهم، وهذا أيضا جزء من رفضهم للشرعة. إن كان العالم يجرّم من يشعل الحرائق، لماذا لا نلاحق من يشعل نار الفتنة والطائفية، وهو طليق في بعض الدول، يتكلم بمرأى ومشهد من الجميع: قنوات فضائية، دور عبادة، مؤسسات إعلامية، فتاوى: هذه مقتطفات مما نسمع في بعض الفتاوى أو الخطب الدينية:

– كل دين غير دين الإسلام كفر وضلال، وكل مكان للعبادة على غير دين الإسلام هو بيت كفر وضلال…
– من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يعبد فيها، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله فهو كافر.
– تحريم التهنئة بالعيد لغير المسلمين والدعاء بترميل نسائهم وتيتم أولادهم. وغيرها كثير...

إذن، مواقف وخطب كهذه أنتجت بدون شك أشخاصاً لقتل "هؤلاء الكفار والمرتدين" بذات البغضاء التي تحملها هذه العبارات نفسها! لماذا نتعجب؟ هل يجري جديّا بحث عن حاضنات الإرهاب لتجفيف مصادره؟

2 - لماذا بقيت داعش كل هذه الفترة الطويلة بالرغم من جرائمها؟   
للأسف حتى الآن لم يجر أي علاج جدّي لهذه الظاهرة، ولم يتم فتح ملف جرائم داعش ولم يتعرض من يلقى القبض عليهم لمحاكمات علنية، بل هنالك بعض البلدان لا تزال في قوانينها تعتبر الانتماء إلى داعش "جنحة délit" وليس جريمة crime. هل يمكن أن نرى إجراء محاكمات تفترش العالم كله، ولا يبقى مكان يحتمي المجرمون فيه؟ أين محكمة العدل الدولية؟

3 - ما بعد داعش؟
الكل يعترف بالعجز أمام هذه الظاهرة، ويتساءل: لماذا جاءت داعش في هذه الفترة من التاريخ بالذات؟

كذلك يقر الجميع بأن التهديد يطال الكل وفي أي مكان أو بقعة من العالم، بل إن سلام العالم مهدّد بالفكر المتطرّف والمنظمات الخفية الهائلة التي تقف وراءه. إن محاولات تجفيف مصادر التمويل الإرهابي مضحكة، وإجراءات الحكومات ضعيفة أكثر فأكثر أمام ضعفها وإغراء الأموال.

هناك كذلك ضعف في التشريع والقوانين الدولية وعجز المؤسسات مثل الأمم المتحدة في إعطاء الأولوية لـ "شرعة حقوق الانسان" (1948)، نرى ذلك في عدم وجود رقابة على المناهج التربوية في العديد من البلدان الاسلامية، على المؤسسات الإعلامية أو الشبكة العنكبوتية.


لعل الأكثر إثارة للغضب هو الضعف السائد العام، وقلة الشجاعة وغياب التخطيط على المدى البعيد. هنالك جهود بالتأكيد مشكورة مثل تعيين الأمم المتحدة مؤخرا نادية مراد اليزيدية العراقية، وهي إحدى ضحايا داعش، سفيرة الأمم المتحدة، لكن ما مصير البقية؟

إن الكنائس والمنظمات غير الحكومية قد انكبت على موضوع "الأقليات" في الشرق وهو ما سمّاه بطريرك الكلدان لويس ساكو، بـ "الدمار الفكري"، حيث يحذر "من يعتقدون ان الارهابيين لا يمتون الى الاسلام بصلة، ولكنهم يمضون في تجاهل الفكر الذي يتغلغل بين الأجيال الصاعدة، والذي يعلن ان الجنة تُضمَن بقتل الابرياء، وهذا في القرن الحادي والعشرين، ومن يعنيه هذا التحذير باستمرار وهو يرى التقهقر بين طبقات شعوب حشرت في زوايا العجز والجهل؟".

ألسنا نضيع الوقت في معارك جانبية؟ أليس السياسيون يدورون في حلقات مفرغة من صراعات المصالح والمحاصصة، أليس المفكرون غارقين في مسائل الهوية غير آبهين بالهدف وهو إسقاط داعش فكريا قبل أن يكون عسكريا؟ إن داعش كالسرطان، وقد عرف العالم أشكالا منه في القرن الماضي خصوصا، شأنه شأن النازية والشيوعية والفاشية، هل نحتاج إلى قرن كامل لنفهم النتيجة الحتمية؟ ألم يكن في الماضي أيضا أشكال تلكؤ وتردد؟ يقول البعض: لعل الحوار سينتج شيئا إيجابيا؟ وهل يمكن الحوار مع داعش؟ لماذا تتكرر الأخطاء ولا تعالج الأمور فتبقى بالرغم من ملايين الضحايا. أما آن الأوان لكي يتبادر المسلمون في العالم والغالبية منهم معتدلون ويريدون الخير، وغير المسلمين من ذوي الإرادة الطيبة للخروج بموقف واضح ومحدّد للتعامل بجديّة وليس بسطحية، مع موضوع التطرف والإرهاب الذي يشكل خطراً على البشرية كلها، وأن يشكلوا جبهة موحدة لمواجهة الانغلاق والتطرف والكراهية ووقف هذا السرطان الرافض للعيش المشترك والمواطنة والحداثة؟ ان جهاديّي داعش واشباهها يعتقدون ان الجنة تُضْمَن بقتل الأبرياء بحزام ناسف أو عربة مفخخة، أو عبوة، أو حتى بسكين!

وإذا ما عنّ لي أن أحلم، أقول: أمام هكذا حالة ما هو مستقبل المكوّنات في العراق؟ ومن يستطيع مساعدتها؟ وبماذا نبدأ؟

جئتكم هنا لأقول ما ينتظره المسيحيون (والمكونات الأخرى) في بلادنا ولعله يختلف عما ترونه وتسمعونه:

كفانا تكرارا لما يحدث، فقبل قرن بالتمام تعرّض عدة ملايين منا، في هذه المنطقة، لمأساة إبادة مروعة، وجاءت داعش الآن لتكررها، وهي لا تختلف عن متطرفي العثمانيين. على الدول والمرجعيات الدينية اليوم أن تقف معاً بمواجهة هذه الايدولوجية وتفكيكها من خلال نشر ثقافة الحرية، والعمل بالعقل، والانفتاح والتسامح والمحبة والإخاء والتعايش واحترام حقوق الانسان والاختلاف والتعددية. وهذا لا يمكن إلا عبر عملية تنشئة وتثقيف وتطوير للمناهج الدراسية التي باتت مصدرا للتشدد الديني بشكل كبير، وتهيئة أسس السلام والاستقرار والتعاون والعدالة واعتماد الحوار الحضاري والهادئ والشجاع في حل الازمات التي طالت كل البلاد وأنهكت العباد، والسعي لبناء دولة مدنية، دولة قانون ومؤسسات تبني على المواطنة لا غير.

أما الهجرة فليست حلا، إنما هي هرب. لأن المهاجر سيبقى يحلم بوطنه ويجرجر خيبات لا حدّ لها، ويبذل جهودا ويصرف طاقات هائلة كي يندمج في بلاد جاءها مجروحا وعاش فيها غريبا. بينما كانت عندنا "الأقليات"، دائما تتميز بالديناميكية فقط لو توفر لديها بعض الحرية، هي التي جاءت بالمطابع وفتحت المدارس والمستشفيات ونشرت الثقافة والفنون والآداب، وصارت جسورا مع الشعوب الأخرى وتعلمت اللغات الأجنبية وترجمت الكتب وأضاءت بالمعرفة وكانت صدا منيعا لكل تخلف وتراجع (من يستطيع أن ينكر دور المسيحيين في النهضة العربية في الشرق الأوسط منذ 150 عاما؟).
 
إن الأغلبية الساحقة لدينا اليوم تمر بأخطر أزمة في تاريخنا، أشخّصها كونها كآبة جماعية، وعجز في اتخاذ القرار، إنها كتل صامتة مشلولة، وهي بذلك تصير مرتعا للعنف وبالتالي تصبح أولى ضحاياه.
 
ماذا يمكن لدول الاتحاد الأوربي أن تعمل؟

هل على دول الاتحاد الأوربي أن تقبل بالهجرة؟ إنه الحل الأسهل، لكن بدأ هذا يصبح عبئا وأحيانا خطرا، وإذا ما تكلمنا عن المساعدات الأوربية، أقول إنها سيف ذو حدين، فمن منظورنا ما ينتظرنا هو أزمة تلو الأخرى والأخيرة أسوأ من التي قبلها! كالأزمة الإنسانية بعد تحرير الموصل. من المهم إذن اليوم هو تحديد الفخاخ التي تختفي وراء المساعدات كيف نسير في الاتجاه الصحيح.

هل يمكن أن نفكر ببرنامج "مارشال" جديد لبلادنا، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية من أمريكا لأوربا؟ بعض المسألة اقتصادي حقا، لكن لا يمكن أن تطبق إلا إذا شخّصنا الجوانب السلبية، على المدى القريب الذي أختصره ببضع نقاط:

-   دور الأديان: شدّد الأمريكان لدى احتلالهم العراق عام 2003 على الطائفية، ربحوا المعركة وخسرنا السلام، وقسّم الشعب ولم يتم احتواء كل العراقيين في فكرة الديمقراطية لإعادة البناء، ولم يشعروا بضرورة العمل المشترك، الكل شعر بالتهميش خصوصا السُنّة.
 
-     تحديد المصالح الاستراتيجية، ووضع خطط محكمة بإمكانية الخروج من مأزق الهوية، هل الميليشيات ضرورية؟ كيف التخلص من أشكال التبعية المسؤولة عن الاقتتال والانتقام وكل ما يدفع الأقليات إلى اليأس من إمكانية تحقيق السلام؟ كيف نوسّع من اندماج كل المكوّنات في كتل تمنح الهوية الوطنية مصداقية عوض العودة إلى حضن العشائرية والطائفية؟

-   بإمكان الاتحاد الأوربي أن يعمل سياسيا بشكل أكثر وضوحا. إن طريق المساعدة الأوربية برأينا، يمرّ عبر دبلوماسية اقتصادية تعالج الفساد المستشري عندنا الذي ينخر كل المؤسسات، هل يمكن لأوربا، عندما تساعدنا، أن يكون لديها حق التدخل في وضع ضوابط الصرف؟ فلا تذهب تلك المساعدات كالماء في الرمال، كتوزيع الديون مثلا ودفع مستحقات المقاولين من أجل بناء اقتصاد سليم وتجنّب انتظار تبعِيّ للمساعدة التي لا تحل شيئا بل تزيد من الخلل اقتصاديا واجتماعيا.

-   وضع خطة عمل طويلة الأمد، وتقسيم المهمة على دول الاتحاد الأوربي، الاستفادة من خبرة كل منها، خصوصا الدول الأوربية الجديدة التي خرجت للتوّ من فترات المعاناة. لنتعلم الاعتماد على أنفسنا وعلى طاقاتنا، ونشدّ الحزام للنموّ والنهوض بمسؤولية. إذ لم نعد نعرف الزراعة ولا الصناعة ولا الإنتاج، لقد صارت شعوبنا أكثر استهلاكية وبذخا ولا أبالية من أي شعوب العالم الأخرى!

-   الديمقراطية تحتاج إلى نَفَس وخبرة طويلين، علينا أن نتعلم من خبرات الفشل، كما تعلمت الدول الديمقراطية العريقة، وآل بها الأمر إلى إقامة هذا الاتحاد الأوربي الذي يسحر مهاجرينا، وننتهي من المذابح بين الإخوة.

ساعدونا من خلال مراقبيكم، ومستشاريكم، لنقتنع ألاّ نتراجع إلى الوراء ونكرّر الأخطاء نفسها. عندكم ممارسات ودساتير لم تثبت سوى بعد آلام كثيرة وزمن طويل، هذا ما أتمنى أن نستورده منكم وليس فقط الأسلحة ووسائل الترفيه!





ألقيت هذه الكلمة في: اللقاء 19 لتجمّع الأحزاب الشعبية الأوربية (EPP) السنوي،
المنعقد مع الكنائس والمؤسسات الدينية في مدينة البندقية (فينسيا) – إيطاليا 20 – 21 تشرين الأول 2016 

70
مسيحيو القرن الأول ومسيحيو الشرق الأوسط اليوم
المطران يوسف توما *
هناك نقاط تشابه كثيرة تجمع بين المسيحيين الأوائل ومسيحيي الشرق الأوسط اليوم، فإخوتنا الأوائل اضطروا، منذ السنوات الأولى أن يهاجروا ويتبعثروا في أنحاء العالم الروماني الذي كان يحتل – في زمن المسيح – مناطق شاسعة تحتضن البحر الأبيض المتوسط خصوصا. ولم تمر بضعة عقود حتى وجد التلاميذ الأوائل أنفسهم في كل مكان، بسبب الحروب وخراب أورشليم- القدس عام 70م، لكن كان القديس بولس قد شعر منذ عام 41 بضرورة اللحاق بهم. ويحكي سفر أعمال الرسل كيف أنه في آسيا الوسطى (أفسس) رأى رؤيا، شخصا يقول له "إعبر البحر وأعنّا" (أع 16/9). وأول شخص من أوربا آمن بالمسيح كانت امرأة من مكدونيا، وأصبح بولس رسول الأمم، يتبع تلك الكنائس التي زرعها في المدن الرومانية الكبرى، حيث تفرق المؤمنون، ورسائله الثمينة بقيت تذكرنا بمعاناة أولئك المسيحيين إزاء تعدد الثقافات والأديان والجنسيات والشعوب واللغات واللهجات.
المسيحية إذن منذ البدء تعرضت لامتحان التعددية والهوية. واليوم، أي بعد ألفي سنة، لديها خبرة متراكمة تساعدنا على تجنب الأخطاء، إذ يتعرض مسيحيو الشرق الأوسط إلى خضات متكررة أجبرت الكثيرين منهم على أخذ طريق الهجرة، إنها الغربلة نفسها التي تنبأ بها يسوع لبطرس ليلة تسليمه حين قال: "يا سمعان لقد طلب الشيطان أن يغربلكم مثلما يغربل الزارع القمح، ولكني صليت من أجلك كي لا تفقد إيمانك، وأنت متى رجعت ثبّت إخوتك" (لو 22/31-32).
تذكرت هذه المقارنة وأنا أقرأ ما نشره غبطة البطريرك مار لويس ساكو قبل أيام تحت عنوان: "آن الأوان لكي يوقف سرطان داعش وأشباهها"، وهو مثل القديس بولس يحذّر إخوتنا – مسلمين ومسيحيين – بما يمكن أن يحدث إذا ما تقاعسنا في مسك زمام الأمور. ولمست في مقالته القصيرة نبرة حزن وقلق على المستقبل: ما بعد داعش... هل سيفيد الدرس يا ترى وهل سوف نتعظ؟ لقد كان بولس يشعر أن معاصريه لم يتعظوا من جريمة قتل المسيح وملاحقة المسيحيين وتهجيرهم. اليوم أيضا يبدو أن الأغلبية صامتة على الأمور الجوهرية، بل إنها مشلولة، والشلل سببه عدم الشعور بأن البراءة مصابة في الصميم عندما يظلم كل هؤلاء الأبرياء، فالمسيح يبقى يتألم في كل الضحايا والأرامل الأيتام والمهجرين، وهذا لا يفهمه الجميع، خصوصا عندما نقرأ ما يكتب من تحاليل على الشبكة العنكبوتية، تحت أقلام مهجرية مسيحية بالذات، فأتذكر قسوة بولس تجاه أولئك المسيحيين في كنائس كورنتوس وأفسس وغلاطية "وسط دموع كثيرة" إذ فرض بولس عليهم تكفيرا من الجماعة وخضوعا لسلطته (2 كور 2/9). هل كان بولس قاسيا؟ بالتأكيد لا، فهذا ما قاله دائما السفسطائيون، وهم اليوم كثر، عندما تراهم جالسين وراء حواسيبهم في بلاد الشتات، لهؤلاء أقول: ارحمونا وارحموا شعبنا...، أو تعالوا اسكنوا معنا واعملوا في العجنة إن كنتم تريدون فعلا أن تدعموا مستقبلا لوجودنا في هذه المنطقة التي عرفت قيام أعرق وأروع الكنائس، والروحانيات والقديسين والشهداء والمعترفين وآباء الكنيسة العظام. إرحمونا على الأقل أو اكرمونا بالسكوت، وكما يقول المثل الشعبي: "الذي يده في الماء ليس مثل الذي يده في النار...".
إن لم يكن في استطاعتكم أن تساعدونا – والحاجات كثيرة – ألا يمكن أن تحاولوا ولو بفلس الأرملة، أو بحملة تعبوية تجلب الانتباه إلى ما يعيشه شعبنا كله وليس المسيحيون فقط؟ إنكم لا تتصورون كم يؤذينا ما تقولون بتسرّع، وبلا مسؤولية، وهل دوركم هو في خلق الإحباط لدى من بقي أو قرّر أن يبقى مهما كانت الظروف، وهذا ليس وهما، بل إنها قضية لاهوتية نابعة من أعماق سر التجسد، لأننا نريد أن نكون "عمانوئيل" (الله معنا)  في مجتمعنا، نؤمن بأن للعراق مستقبلا. لا داعي أن تدلوا علينا من عليائكم المرتاحة بالنصائح، ولا يهمّنا أنكم تنظرون إلى المتفائلين بيننا نظرة تعالٍ، أو تعدّون التفاؤل جهلا أو ضعفا. بالعكس، إننا نريد أن نكون "في الهوى سواء" مع شعبنا بكل أطيافه، نعيش معهم ونشاركهم خبز المعاناة وماء الحرمان، نصوم معهم ونضع أنفسنا مكانهم، نفهم مشكلتهم، فهم في حيرة كبرى لأن التطرف والبدعة اختطفا أديانهم ومذاهبهم أو ادعى ذلك. السؤال هو: كيف يمكن أن نساعدهم للخروج من هذا المطبّ الخطير؟ إن لم يكن لديكم جواب واضح وقوي على هذا السؤال، فرجاء أصمتوا، ودعوا الزمان يثبت لكم أن لعن الظلام بلا فائدة، بل الأفضل من يشعل شمعة!
إن كنتم تريدون أن تدعموا وجودنا في هذه المنطقة، وتتفهموا صراعاتنا ومشاريعنا، أهلا وسهلا بكم، تعالوا "زورونا ولو بالسنة مرة"...، انه خير من الجلوس وتوزيع الأحكام من وراء حواسيبكم.
قد يقول بعضكم: ليس لدينا إمكانيات مالية، فنحن نعاني من نتائج الهجرة. أقول: هذا لا يهم، نحن لا نعاتبكم على قصور ذات اليد، الحمد لله إننا نتدبر أمورنا - بقدر الإمكان - من كثيرين يحرمون أنفسهم ويصومون ليبعثوا ما يوفرونه لمساعدة اخوتهم، ولكن، كنا نأمل أنكم قادرون على التأثير حيث تسكنون، وتحريك مؤسسات بلادكم الجديدة ومنظماتها، وإن عجزتم في ذلك، واعترفتم به فهذا نفهمه، ونعذركم ولا يهمّنا، لأننا في هذه المحنة أثبتنا أن الكنيسة فعلا "كاثوليكية" جامعة، ففي كل مكان لدينا إخوة هبّوا ليساعدوا بلا تطبيل ولا تزمير، يا ليتكم تقتدون بهم، خصوصا عندما نرى ونسمع عن حفلاتكم وزواجاتكم ومناسباتكم، بل وحتى عن تعازيكم، التي تختتم مآدبها بالبقلاوة!
إن المؤلم لدينا عندما نقرأ لكم أن بعضكم يتصّور نفسه سيّد العارفين، أكثر فهمًا من البابا والبطريرك والاسقف والكاهن، حتى يصل الأمر به أنه يوزع علينا دروسا في اللاهوت والروحانية، خصوصا عندما يستقطع من هنا وهناك بعض آيات من الكتاب المقدس، ليذكرنا بواجباتنا! يا للأسف، هذه خدعة، إنها إخراج النص من سياقه، لا يعجبني أن أعطي لمثل هذا الشخص أهمية، لكن ولو لمرة واحدة أقول له (ولأمثاله) إننا عندما نسكت فالسبب هو الحياء والخجل من ضحالة فكرك وانعدام الروحانية لديك، فأنت تذكرني بمقولة للكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو (1932 - 2016) حول المتحذلقين في البارات والحانات، قال: "في الماضي إذا ما أحدهم قال في حانة ما لا يليق، كان ينبري دائما شخص من الحانة ليسكته، للأسف اليوم على شبكة الانترنت يمكنك أن تقول كل شيء، ولا يوجد من يسكتك"!
أخيرا: ماذا ننتظر منك يا أخي المهاجر في بلاد الشتات؟
ننتظر قبل كل شيء صلاتك، لأنك لا تدري ماذا يحدث هنا، وقد تكون ضحية ما تسمع وترى على الشاشة وتقرأ في وسائل الاعلام، وهذه قاصرة وقصيرة النظر في الأغلب، لأنها تعكس نظرة مصوّر أو صحفي غريب، أو مستعجل أو لديه غرض ما ...
ننتظر منك أيضا جديّة في التحليل، فلا تتصوّر نفسك تعرف كل شيء بل اترك خط رجعة بأن ما قد تقوله قد يجرح أو هو بعيد عن الحقيقة. وخصوصا أرجوك لا تتبجح بأن لديك الحرية، فهي كلمة فضفاضة أسالت الكثير من الدموع والدماء ولم يحصد بعدها سوى الخيبة. المهم هو الحقيقة، أما إذا كان لديك حسابات تصفيها مع أحد، فأقول ليس الوقت حاليا، ونحن في سنة الرحمة، إرحمنا، هناك أولويات أخرى كمساعدة الأطفال، والطلاب والمسنين الذين ينتظرون العون...
مع ذلك، لئلا نبقى على طعم مرّ، أقول: إن كان تبعثر المسيحيين الأوائل قد قرّر مستقبل المسيحية اللاحق، وأنها بالرغم من الاضطهادات والمشاكل الداخلية والبدع، استطاعت أن تصمد، فإن ذلك كان بفضل إصرار وتصميم كل الرسل والشهداء والمعترفين والآباء والمفكرين، أي كل من أعطى وقته وحياته لإنقاذ الكنيسة من أشكال التلّوث التي في العالم، فانتصرتْ الكنيسة ونالت حريتها في أنحاء كثيرة من العالم. هل ستتمكن كنيستنا في الشرق الأوسط عبور هذه المرحلة؟ الله أعلم، المهم أن يتمكن مسيحيو الشتات من الشرق الأوسط أن يصمدوا إزاء مخاطر وتحديات تبعثرهم بالاستفادة والمقارنة مع ما عاشوه في الوطن وناله الكثيرون من كنيستنا النشيطة ومن الدورات اللاهوتية ومعاهد التثقيف المسيحي والأخويات، الآن يعرفون أن أولادهم قد لا يحصلون على نفس النصيب في الشتات، فأقول: "أعطوهم أنتم ليأكلوا" (لو 9/13) بعضا مما أخذتموه من هنا، من مهد المسيحية ما يفيد ويبني، أما الباقي فأتمنى أن نقول مع بولس الرسول: "لقد حسبتُ كل شيء نفاية لأربح المسيح" (فيلبي 3/8)...
 
* رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان
الأول من أيلول 2016
 

71

المطران يوسف توما

في إحدى الليالي كان صاحب محل للبقالة على وشك أن يغلق محله، لكنه فوجئ بكلب يقف أمام المحل. كان في فم الكلب حقيبة فيها قائمة أغراض يمكن شراؤها ومعها النقود. تأمل صاحب المحل به ثم أخذ المال ووضع الأغراض في الحقيبة.

أخذ الكلب الحقيبة والأغراض حالا وغادر المحل. وكان صاحب المتجر مدهوشا، فقرر أن يتبع الكلب لمعرفة من كان ماله.

انتظر الكلب في محطة للحافلات. وبعد بعض الوقت، جاءت الحافلة فصعد الكلب إليها. واقترب من محصل البطاقات يتحرك إلى الأمام ليظهر له أن في طوق عنقه المال والعنوان كذلك. فأخذ الجابي المال وأعاد التذكرة إلى طوق الرقبة مرة أخرى.

عندما وصلت الحافلة إلى المكان المقصود، تقدّم الكلب إلى الأمام وهو يهزّ ذيله مشيرا إلى أنه يريد النزول. توقفت الحافلة، ونزل الكلب. وكان صاحب محل البقالة لا يزال يتبعه فنزل وراءه.

طرق الكلب باب منزل بقدميه الأماميتين. فخرج صاحبه من الداخل وأخذ يضربه بالعصا ويشتمه. ثارت ثائرة صاحب محل البقالة فسأل صاحب الكلب: "لماذا تضرب الكلب؟"، فأجاب الرجل: "أضربه لأنه أزعجني في نومي. كان بإمكانه أن يأخذ المفاتيح معه".
***
هذه هي حقيقة الحياة. لا يمكنك أن ترضي بعض الناس، ولا أن تلبي كل ما يتوقعونه منك. ومجرد أنك كنت على غير ما يرام، فإنهم يبدَؤون باستعراض أخطائك. وينسون كل الخير الذي فعلته في الماضي. بل إنهم يضخمون أي خطأ صغير ارتكبته بعد ذلك. أليست هذه من صفات هذا العالم المادي واناسه الماديين الذين فقدوا قابلية الدهشة والقناعة؟!
باريس 28 تموز 2016

72

الروحانية في زمن الأزمات
المطران يوسف توما
 
"لا جديد تحت الشمس" يقول مؤلف سفر الجامعة. إنها لحقيقة أن كل ما يسبب لنا القلق والسخط أمام الفساد والعنف وعدم احترام حقوق الإنسان، وما إلى ذلك... كان قد وجد دائما. لكن الفرق هو أننا كنا نعيش قبلا في عزلة، في قرية صغيرة. ولم يكن هناك في الماضي أي وسائل للإعلام التي تحولت إلى عولمة المعلومات.
في بداية تدربي على العمل الصحافي – الذي جئت إليه متأخرا نسبيا – تعلمت أن الكلب الذي صدمته سيارة على الطريق أمام البيت الذي أسكنه يستحوذ على اهتمامي أكثر من آلاف المساكين الذين قتلوا في الزلزال الذي وقع في هايتي. وبالتالي صرت أرى بأن الأزمات التي تعصف ببلدي ومدينتي تعني لي أكثر بكثير، وأن هذه الأزمات قد تؤثر على حياتي الروحية أيضا. فأصير أكثر انفعالا وعدوانية وتشاؤما. وأسمح للعواطف أن تتهيج عندي بدلا من الاعتماد على هداية العقل.
    لدينا جميعا روحانية تربينا عليها، حتى لو لم يكن عندنا إيمان ديني عميق. إذ لا ينبغي الخلط بين الروحانية والديانة. فالروحانية هي التجربة التي نحصل عليها من الحياة؛ أما الدين فهو المؤسسة. وهناك ممارسات دينية ليست مصدرا للروحانية، كما بالمقابل هنالك روحانيات لا تنتمي إلى الأديان، كالبوذية على سبيل المثال أو الشعوب التي تعتمد الأخلاقية أكثر من الأيديولوجية الدينية.
    وإذا أردنا تعريف الروحانية نقول: إنها القوة الداخلية التي تتطور من خلال الصلاة أو التأمل، هذه القوة تبقى معنا ما دمنا على قيد الحياة وهي التي تغذينا. كما أنها تتغذى ممّا نقدمه من أعمال المحبة التي تشدّنا نحو أعضاء الأسرة، أو ما نقوم به من أعمال فيها مهنية واحترام للذات، ثم – مع الوقت -يمكن للروحانية أن تصير قيما تحكم سلوكنا وترسم آمالنا وأحلامنا ومشاريعنا... الخ، وهكذا تدفع بنا للتحرك بخطى حثيثة نحو المستقبل.
 مع ذلك، يبدو أن الأمور تختلف في أوقات الأزمات، وأن كل النماذج التي لدينا تبدو مهددة بالانهيار. فالبطالة والفقر يهدداننا بعمق، وتبدو لنا السياسة كخدعة واستغلال، ونرى الأفق البعيد بسوداوية وحزن وتفقد القيم مصداقيتها. عندئذ سنكون مثل ركاب طائرة تتعرّض لمطبّات هواء مخيفة: نحن جالسون مربوطون بأحزمة السلامة لكن ليس لدينا أي سيطرة على الموقف، ولا نعرف متى ستنتهي وأينما نظرنا لا نرى سوى فراغ هائل ...
يحكي لنا الكتاب المقدس الكثير من حالات مماثلة لما يحدث اليوم لبلدنا وعالمنا. وقد كتب اثنان من الأسفار يصفان بوضوح كيف تكون الروحانية في أوقات الأزمات: سفر الجامعة وسفر أيوب.
     يدعونا مؤلف سفر الجامعة إلى عدم أخذ أي شيء على محمل الجد. فيبدأ بجملته الشهيرة: "باطل الأباطيل، وكل شيء باطل". كل شيء زائل، متغير ومتحوّل. والكثير من المؤلفات والقصص تنتهي بهذه الحقيقة، مثل اللازمة التي تكررها بطلة ألف ليلة وليلة في نهاية كل قصة: "حتى أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات" -أي الموت-”الممر"، العبور الذي لا يسمح لأحد بالتوقف، في حين كنا نريد أن نقول مع الرسل يوم التجلي: "حسن لنا أن نبقى هنا" (مر 9/5). أي، كلما قبلنا بالخسارة وإطلاق سراح الأمور أن تذهب، كلما قلّت معاناتنا، وهذا أبسط درس نتعلمه مع التقدم في السن ومن كل الحكماء والعقلاء عبر التاريخ.
    أما السفر الآخر من الكتاب المقدس الذي يتناول المعاناة الأعمق، فهو أيوب، الذي كان ضحية لأزمة حادة أطاحت بذريته، وأصدقائه، وأمواله وصحته. ولكنها لم تتمكن من نسف الأمل لديه. كل ما بقي عنده هو الثقة بالله. فكان يرى الجانب السفلي من لوحة الحياة، لكنه بقي يعتقد أن هنالك أجزاء أخرى تتجاوزه، وهي تشكل تصميما جميلا خفي عن عينيه. وبذلك الموقف الشجاع استطاع أيوب أن يواجه الواقع من زاوية أخرى خفيت على زملائه. وأصبح الله، الذي كان مجرد سماع عنه وعن وجوده فقط، تحوّل الله إلى موضوع حبّ حاضر في حياته، فيختم السفر بهذه الكلمات المدهشة: "سمِعتُ عنكَ سَمْعَ الأُذُنِ، والآنَ رأتْكَ عَيني" (42/5).
ما ينبغي معرفته هو أن الأزمة ليست حدثا حادثا على الطريق. بل إنها جوهر الطريق. كما يقول بولس الرسول "فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتعاني من آلام المخاض" (رو 8/22). لذلك من أجل مواجهة الأزمة، نحتاج إلى قيم روحية تعطي الدعم والشجاعة، ونستخلصها من دروس التاريخ، كما فعل يسوع مع تلميذي عماوس وهو يسير معهم ويشرح لهم الكتب (لو 24).
عندما أنظر إلى ما حولنا وأرى ما يحيط بنا من بؤس وفقر وإرهاب واغتيالات وتفجير وسيارات مفخخة بذكاء شيطاني، أتذكر قصة حدثت عام 1944 في معسكر الاعتقال في أوشفيتز في بولندا، عندما دفعت المأساة أحد الساخطين أن يرفع قبضته نحو السماء ويصرخ: "يا رب، أين أنت؟ لماذا تبقى صامتا ولا تفعل شيئا؟"، فجاء صوت من خلفه، من أحد المسجونين يقول له: "نعم فعلتُ، لقد خلقتُكَ أنتَ!". لو فهمنا هذا لاتضحت صورة المسيح على الصليب ولماذا نؤمن بأنه الصليب هو خلاصنا.
باريس 25 تموز 20

73



سائق التاكسي في باريس

    في الصيف الماضي كنت في باريس، وأردت أن أزور أحد أصدقائي الخارج توا من المشفى، أعطيت العنوان لسائق سيارة أجرة، ليأخذني إلى عنوان الصديق في إحدى الضواحي. كان هنالك أشغال في المنطقة المحيطة بالمبنى. لما وصلنا كان يقرأ 11 يورو، لكنه السائق أخذ 10 فقط. قلت له، المقياس يقرأ 11 يورو ماذا تأخذ 10 فقط.

قال السائق: "سيدي، أنا سائق سيارة أجرة، ومن المفترض أن آتي بك مباشرة إلى المكان المطلوب. وبما أنني لم أكن أعرف، اضطررت الى الدوران حول المبنى. لو كنت جلبتك مباشرة هنا، كان المقياس قد قرأ 10 يورو. لماذا يجب عليك أن تدفع أنت عن جهلي؟".

ثم أضاف: "يا سيدي، من الناحية القانونية، أنا يمكنني أن أطالب بـ 11 يورو ولكن بصراحة وأخلاقيا لا يحق لي سوى 10 فقط". وقال إن باريس وجهة سياحية، وكثير من الناس يأتون إلى هنا لقضاء ثلاثة أو أربعة أيام. ولعل التجربة الأولى هي دائما مع سائق سيارة الأجرة، وإذا لم يكن التعامل جيدا ولطيفا مع السيّاح، سوف يختل التوازن على المدى البعيد وهذا سيؤثر في رزقنا. يا سيدي، على الرغم من أنني سائق سيارة أجرة، لكنني أعد نفسي سفيرا لفرنسا من دون جواز سفر دبلوماسي!".

"ربما لم أذهب إلى المدرسة بعد المتوسطة، ولكني أحترف هذه المهنة منذ سنوات. وكل مهنة تعكس سلوكا يحمل الفخر في الأداء والحرفية".

في ذلك اليوم تعلمت من سائق التاكسي أن المرء يحتاج إلى أكثر من التأهيل المهني ليكون مهنيا. بقطعة نقد ليورو واحد أعطاني ذلك الرجل بأن "اللمسة الفنية تأتي مع القيم الإنسانية"، وهذا اليورو البسيط جعل الفرق أكبر. هنالك المعرفة والمهارة، ويأتي بعدهما المال والتعليم، كل شيء في وقته جميل. لكن الأولوية هي للقيم الإنسانية، بالصدق والنزاهة. لا يوجد أي مهنة في العالم لا تحتاج إلى الاحتراف، ولا يهم أي وظيفة أنت تقوم بها، لكن هذا الشعور بالافتخار يمكنه أن يجعل منك جديرا بالاحترام.
في الأخير، وأنا أترجل من السيارة، قلت لسائق الأجرة كما يقول الفرنسيون: "شابووو ميسيو" أي إني أرفع لك قبّعتي يا سيدي....

المطران يوسف توما
باريس 23 تموز 2016

74
اللقاء الأول لكهنة العراق (20 – 22 حزيران 2016)
الكاهن في ضوء كتابات وأحاديث البابا فرنسيس
جمعها المطران يوسف توما

الرحمة ثم الرحمة!

يمكن القول إن البابا فرنسيس منذ تسنمه السدّة الحبرية (يوم 13 آذار 2013) وضع نصب عينيه أن يصلح العلاقة بين الكاهن والشعب المسيحي. ويبدو ذلك من اختياره لهذه السنة كسنة مقدّسة للرحمة، إذ قرر أن يغيّر مسار عقلية متفشية منذ عقود يشتم منها نقصا في الرحمة وضعفا في ممارسة سر الاعتراف والنعمة الموكلة للكنيسة (والكاهن خصوصا) بغفران الخطايا، هذا إلى جانب تيارات القسوة والتصلّب التي غالبًا ما يتباها الاكليروس مع الشعب في أسلوب مواعظهم. لذا ليدنا الكثير الذي يمكن استعراضه عن البابا بهذا الشأن، أكتفي ببعض الخطوط العريضة في توجيهه للكهنة نحو ممارسة الرحمة:

بتأريخ: 30 /10/ 2015 خلال قداس في سانتا مارتا يقول البابا فرنسيس:
الكاهن الجيد يعرف كيف "يتأثر" و"ينخرط في حياة الناس." ليكشف حقيقة أن الله "يغفر لنا كأب، وليس كموظف في محكمة"... "إن الله رحوم. أي لديه رحمة لكل منا، لديه رحمة للبشرية، وقد أرسل ابنه للشفاء، لإعادة البناء والترميم. ومن المثير للاهتمام في مَثَل الابن الضال، الأب (أي الله)، عندما يرى ابنه يصل، يصير عنده شفقة. فرحمة الله ليست مجرد تعاطف". ويستطرد البابا قائلا: "إني أشفق على الكلب الذي يموت"، لكن رحمة الله شيء آخر: انها "وضع الذات في موقف الطرف الآخر، مع قلب أبوي". لهذا السبب: "أرسل الله ابنه".
"لقد كان يسوع يعتني بالناس، لكنه لم يكن معالجا، كلا! كان يعالج الناس باعتبار أن المعالجة هي علامة، علامة رحمة الله، لإنقاذهم، لجلب الخروف الضال. الله يعطينا قلبه الأبوي، يعطي قلبه لكل واحد منا. وعندما الله يغفر، فهو يفعل ذلك كأب وليس كموظف في المحكمة، الذي يقرأ قرار الحكم ويقول "الغفران لعدم كفاية الأدلة". الرب يغفر لنا من داخلنا. يغفر لأنه يضعه في قلب ذلك الشخص".

ولدى لقاء البابا كهنة أبرشيّة روما في بداية الصوم الماضي (شباط 2016)؛
وبعد أن منح سرّ الاعتراف لبعض الكهنة، جاء في كلمته: "نحن كهنة ولسنا أمراء، وبالتالي نحن خدام للناس..". ثم قال: "الله يسامح على الدوام ويسامح كل شيء". وحثّ الكهنة على تفهم الناس ومنح المغفرة، مؤكّدا أن هناك العديد من الأشخاص الذين يتألّمون بسبب المشاكل العائليّة وغياب العمل، وأن العديد من الأشخاص غير قادرين على التحرّر من الخطيئة، وبالتالي ينبغي أن يجدوا على الدوام أبًا في كل واحد منا، حتى وإن كنا في بعض الأحيان غير قادرين على منحهم الحلّة على خطاياهم، لكن علينا أن نُشعِرهم بحضور أبوي، فنقول لهم لا يمكنني أن أمنحك السرّ ولكني أمنحك البركة لأن الله يُحبّك فلا تيأس وسِرّ قُدُمًا! هكذا يكون الأب الذي لا يسمح بأن يبتعد ابنه عنه".
ثم أضاف: "علينا أن نكون رحماء كالآب، بلا أن نوبّخ الناس بل نمنحهم لمسة حنان الله. علينا أن نضمّد جراحهم تمامًا كما يفعل الأطباء والممرضات في المستشفى، إذ يمكن للكهنة أن يخففوا من آلام الأشخاص، إن كلمة حنونة من الكاهن تساعد التائب كثيرًا وتصنع المعجزات!".

وغالبا ما يقارن البابا فرنسيس بين الخطيئة والمرض (بعكس السائد لدينا بأن الخطيئة سوء وشرور فقط) فالبابا يعيد المسألة إلينا ككهنة، مشدّدا أن علينا أن نعالج الأمراض التي نتعرّض لها نحن رجال الدين، إذ جميعنا قد نصاب بها، وبالتالي ينبغي علينا أن نفهم أننا لسنا أمراء ولسنا أسيادا وإنما نحن خدّام للناس. لأن يسوع هو الرحمة وأن الآب أرسله، ويقول: "إن كنت لا تؤمن أن الله قد تجسّد فأنت "المسيح الدجال" (وهذا ليس قول البابا فقط وإنما هو من القديس يوحنا الرسول 1 يو 5/10).
"لقد أوكل الرب هذه الرسالة للكهنة ليذهبوا ويساعدوا الناس بتواضع ورحمة. الرحمة هي الله المتجسّد، إنها الحب وعناق الله الآب، إنها الحنان والقدرة على فهم الآخر في وضعه وظروفه؛ لذلك ينبغي علينا أن نكون أسخياء في منح المغفرة وأن نفهم أيضًا اللغات التي يعبّر الناس من خلالها، وكما نعلم هناك لغة الكلام ولغة التصرّف. فعندما يأتي شخص إلى كرسي الاعتراف فهذا الأمر يعني أن هناك شيء يزعجه وأنه يريد أن يغيّر حياته أو أن يطلب المغفرة ولكنه لا يعرف كيف يعبّر أو ماذا يقول، ولذلك غالبًا ما يبقى صامتًا. لا يجوز أن نقول له: "إن لم تتكلّم فلا يمكنني أن أعطيك الحلّة"، لا! فقد تكلّم من خلال تصرّفه أي من خلال قدومه إلى كرسي الاعتراف لأنه لا يريد أن يكرّر ما فعله".

وينصح البابا الكهنة بالقول: "كونوا رحماء كالآب، واغفروا كثيرًا! أشكركم على العمل الذي تقومون به لأنني أعتقد أنكم خلال هذه السنة ستعملون لساعات إضافيّة بدون أن تتلقوا أجرًا، لكن ليمنحكم الرب الفرح خلال ساعات العمل الإضافية هذه لتكونوا رحماء كالآب".

وما يتميز به البابا فرنسيس هي مواقف لم نألف مثلها من قبل، فقد طلب بركة الناس الواقفين في ساحة القديس بطرس يوم انتخابه قبل إعطائهم بركته. كذلك طلب البركة الاولى من كاهن جديد (يوم 17/4/2015)، سلفاتوري المصاب بسرطان فاجأه المرض مهدّداً حلمه بالكهنوت بالضياع، فوصل الى شفير الموت. لكن سلفاتوري لم يتخل عن حلمه آملاً ان يحظى أن يكون كاهناً ولو ليوم واحد. فأمر البابا بإتمام التحضيرات المستوجبة لرسامته كاهناً قبل إنهائه دروسه. وفعلاً تمت رسامته في بيت والديه لتعذّره عن السفر لسوء حالته الصحية. وقد بشره البابا فرنسيس هاتفياً بقرب رسامته وأنه يصلي من أجله وطلب منه ان يمنحه أولى بركاته الكهنوتية. وقد قال الكاهن الجديد: "اليوم أشعر بأني محمول على كتفي المسيح. وإن احتفلت بقداس واحد فقط، فذلك بالنسبة اليّ مشاركة حقيقية في كهنوت المسيح".

قبل عام في الرياضة الروحية العالمية الثالثة للكهنة (يوم 13 حزيران 2015) توجّه البابا فرنسيس إلى الكهنة متمنيا أن يسمحوا للحب الثالوثي أن يحوّلهم، ودعاهم للتأمل بمحبة الآب الرحيمة واللامتناهية ... "حتى وإن تخاصمتم مع الرب أو خنتم الأمانة فلا تخافوا! اقتربوا من الرب في بيت القربان وافتحوا قلوبكم واغتسلوا بدموع اليقين بأن الله قد غفر لكم من خلال سرّ الاعتراف".
ثم أضاف: "إن شعب الله يعرف كيف يميّز بين الكاهن الذي يحب يسوع والكاهن الذي يعيش كمجرّد أجير يعمل لدوام معيّن أو كشخص يطبّق الشريعة بحرفيّتها. ... أسألكم ألا يكون هناك ازدواجية في قلوبكم وألا يسكن فيها الرياء وإنما الحب والحنان والرحمة (...). على كل كاهن أن يشعر في قلبه أن الرب يضعه في خدمة شعبه، بالرغم من نواقصه وعدم أمانته، وهذا أمر رائع".
"وكما الأمر في الحب الزوجي هكذا أيضًا في حياة الكاهن الذي يسير قدمًا في محبّته للرب سيشعر شيئًا فشيئًا بلمسة معلّمه بطريقة متجددة يوميًّا فيبحث عنه بدوره ويبادله الحب، وإن لم يكن ذلك بالأمر السهل"،
"عندما تكون في حضرة الرب في سرّ القربان المقدس، لا تقلق إن غفوت، بل اسمح له بأن يحبّك وينظر إليك! اذهب إليه إلى بيت القربان ولا تتركه أبدًا... تأمل به فهناك تجد الحب، وإن لم تعرف ما يجب عليك أن تقوله له لا تقلق، فإن كنت تعبًا أخبره عن تعبك وإن شعرتَ بالنعاس يمكنك أن تنام واسمح له بأن ينظر إليك واترك الروح القدس أن يصلّي من أجلك... سيكون حديثك معه في تلك اللحظات حديث حبٍّ، حديث صامت بدون كلام"....

* ومن أهم المواضيع التي يسترعي بها البابا انتباه الكهنة مواقفه من:

الموعظة:
يحثَّ البابا الكهنة بشأن مواعِظهم على أن تُخاطب قلوب المؤمنين مؤكّدًا أنه بإمكان العظة أن تكون فكرة أو صورة أو حتى شعورا، ويقول: " لا تنسوا أن العظة ليست محاضرة ولا درس تعليم مسيحي بل هي شيء مقدّس وبالتالي فلا تُفزعوا شعب الله الأمين بعظاتكم ولا تجعلونهم يهربون، ولا تطيلوا الكلام مضيعين الوقت بل حدِّثوهم عن يسوع وعن فرح الإيمان الراسخ والمبني على يسوع المسيح".

الحرفية في تطبيق القانون:
"أشعر بأسى كبير عندما أعرف أن كاهنًا ما لم يمنح سرّ العماد لطفل أمٍّ وحيدة أو لأب قد تزوّج مرة أخرى. أقول لكم: لا يحق له أن يمنع عنه العماذ! وعندما يحصل هذا الأمر يكون قلب هذا الكاهن قلبًا بيروقراطيًّا متعلِّقًا بالتطبيق الحرفي للقانون وبتصرّفه هذا يحوّل الكنيسة من أمٍّ إلى "زوجة أب"! وبالتالي أسألكم أن تُظهروا على الدوام أمومة الكنيسة".


المسكونية وانقسام الكنيسة:
بالنسبة إلى البابا ليست المسكونيّة مهمة إضافيّة يجب أن نقوم بها، "بل هي وصيّة يسوع لنا وبالتالي علينا أن نسعى لنوحّد جسد المسيح الذي انقسم بسبب خطايانا. علينا أن نطلب المغفرة لأننا جرحنا الكنيسة الأم المقدّسة".
والجديد لدى البابا فرنسيس أنه يعتبر أن الشهداء المسيحيين (من كل الطوائف) هم دربنا نحو الوحدة، فدم هؤلاء الرجال والنساء الذين يموتون اليوم من أجل يسوع المسيح يمنحوننا "مسكونيّة الدم"، التي نعيشها في يومنا هذا.

النعمة وعمل النعمة:
يحثّ البابا الكهنة على الاهتمام بالنعمة وعمل النعمة في حياة المؤمنين، من خلال تجدّد المواهب. فغالبًا ما نتعرض لتجربة أن نعتقد أنفسنا "أسياد النعمة" وننسى أننا قد مُسحنا لنوزّعها، فالنعمة لا تُشترى، بل هي مجانيّة ولذلك تُدعى نعمة.
 
دور أكبر للعلمانيين:
يشجّع البابا فرنسيس الكهنة على إعطاء دور أكبر للعلمانيين في الكنيسة ويدعوهم إلى الاهتمام بالفقراء وإعلان الإنجيل والشهادة له في الأماكن الأشدّ فقرًا.

المال وشيطان الجيب:
يدعو البابا الكهنة إلى عدم التعلق بالمال والغنى، فيذكّر بالتطويبات وإعلان الإنجيل وسط الفقراء، ويقول بأن شعب الله الأمين لا يسامح أبدًا كاهنًا متعلِّقًا بالمال ويعامل الناس بطريقة سيئّة، ولذلك لا ينبغي علينا أن ننسى قط أن "الشيطان يدخل من الجَيب وما إن يدخل يحملنا مباشرة إلى الكبرياء والغرور". "ان روحية الفقر ليست روحية البؤس. باستطاعة الكاهن ادّخار المال لكن لا يجوز له ان يكون جشعاً، هائماً بالمال"، ويضيف: “عندما تدخل الكنيسة عالم التفاوض يصبح الأمر بشعاً، اعرف راهبة مهمة جداً كانت تخدم أفضل خدمة وأسست عددا كبيرا من المدارس إلا ان همّها الأول كان المال والمراكز فكان فقرها فقراً في الرأس فقط".
وتابع قصته حول راهبة في السبعين أغمي مرة عليها وحاولت معلمات مدرستها إعادة انعاشها فسمعت إحدى الحاضرات تقول: “فلنضع ورقة ١٠٠ بيزو في محفظتها لنرى ما اذا كانت ستستفيق". كانت للأسف هذه آخر الكلمات التي سمعتها الراهبة المريضة!

الثرثرة ارهاب بحد ذاته
طلب البابا من الكهنة ألا يسمحوا للدنيوية وحب المال السيطرة عليهم  فيبقى يسوع هو المحور. وتأسف على وجود "ارهاب الثرثرة" في صفوف المكرسين والكهنة مشيراً الى ان حياة الجماعة ليست بالسهلة. وقال: "إن الشيطان يجربنا كي لا نعيش الأخوّة وسط الجماعة" واعتبر (القيل والقال) ارهاباً إذ إن: "من يتحدث بالسوء عن الآخرين هو ارهابي... يدمر الكنيسة".
أما بشأن “الخلافات بين الأشخاص”، فقد كان لدى البابا ملاحظات دقيقة وتحدث انطلاقاً من خبرته ومن كل قلبه عن هذا الموضوع أمام الكهنة والشمامسة في كنيسة نابولي يوم السبت ٢١ آذار. موكدا على امكانية وجود مثل هذا الخلافات إلا انه من الواجب التحدث عنها وجهاً الى وجه، فالقال والقيل عملٌ ارهابي يضر بالأخوة الكهنوتية في الجماعات الدينية.


للشفاء من مثل هذه الحالات المرضية يقدم البابا فرنسيس ثلاثة دروس تسمح بوضع يسوع في صلب الحياة:

- الصلاة والسجود، والابتهال إلى الله.
- محبة الكنيسة: إذ لا يمكن محبة المسيح من دون محبة عروسه الكنيسة، ومحبة الكنيسة لا تخيب آمالنا.
- الغيرة الرسولية والروح التبشيرية. فمحبة الكنيسة تعني الخروج من ذواتنا، فالكنيسة ليست منظمة غير حكومية، بل مهمتها هي الارتقاء نحو يسوع.

الخاتمة
هكذا نرى بأن البابا فرنسيس إنسان واقعي جداً يعطي أمثلة عما يمكن أن يعترض طريق الكاهن. فيتذكر: “قال لي أحد الكهنة إننا لا نتلقى معاشا تقاعديا، مع ذلك نستمر بالعمل، لأن يسوع هو محور حياتنا". ثم يسأل طالب الكهنوت: "هل أخترت الكهنوت محبةً بيسوع أم لضمان مهنة؟". “ان كنت غير واثق من أن يسوع هو محور حياتك، أنصحك أن تتريث”!
ويسأل الناس: "هل نحن نفتقر الى الدعوات؟، المثال الصالح مهم، بالرغم من كون الحياة في زماننا لا تشجع الشباب على الدعوة". ثم يضيف: "إن شهادة الحياة تنطوي على تنوع الدعوات لأن حياة العالم لا تساعدنا". البعض يكتفي بالقول: “أريد ان اصبح مثل هذا الكاهن”. فاكتشاف الرحمة يظهر في الأشخاص المتواضعين، حتى لدى تعليم الأطفال ولو رسم اشارة الصليب: “أعمال الرحمة ترافق تعليم الناس ما لا يعرفونه؟”، ولتحقيق ذلك ينصح البابا الكهنة والمكرسين الحزانى والذين يشعرون بالملل والكرب على زيارة مرشد روحي، فغياب الفرح لا يجعل أحدا ينجذب الى المسيح، فيقول: "يأتيني الفرح لكون حياتي مليئة بيسوع، وانا أتأكد يوماً بعد يوم ان اللّه مخلص لي. لا أقول انني الأفضل - وهنا تكمن الحاجة إلى سر الغفران - إلا انني أطلب دائماً عدم خسارة الفرح".
وقبل بضعة أيام، من الآن، توجه البابا إلى الكهنة في يوبيل الرحمة قائلا: "فلتتسخ أيديكم"، "لأن يدي الرحمة تتسخ". "فالرحمة تتجاوز العدالة، وتجلب المعرفة والعاطفة، وترفع لأعلى وتجعل الذي يظهر الرحمة والشخص الآخر يتساويان". "وعندما نتأمل قلب الرب الجريح، نرى انعكاس أنفسنا به. فقلبه وقلبنا متشابهان حيث أن كلاهما جرحى وقد نهضا. كما أننا ندرك أن قلبه كان حباً نقياً وأنه أصيب بالجروح لأنه أرادها أن تكون كذلك. من ناحية أخرى، كانت قلوبنا جرحاً نقياً تم شفاؤه لأنه سمح لنفسه أن يكون محبوباً".

عشر وصايا ذهبية يقدّمها البابا فرنسيس لكل كاهن، وخصوصا للكهنة الشباب (خطابه يوم 29/4/2015):

١-  فكر أنك ستقوم بهذه الخدمة وستشارك في رسالة المسيح، المعلم الأوحد،
٢-  قدم للجميع هذه الكلمة التي نلتها بفرح.
٣-  اقرأ كلمة الرب وتأمل بها كي تُعلّم ما اختبرته في الإيمان وتعيش ما تُعلِّمه وليكن هذا كلّه غذاء لشعب الله.
٤-  لا يجب أن تكون عظتك مملّة وإنما ينبغي أن تصل إلى قلوب الناس لأنها تخرج من قلبك، لأن ما تقوله لهم هو ما تحمله في قلوبك؛ هكذا فقط تُعطى كلمة الله وهكذا يصبح تعليمك فرحًا وعضدًا لمؤمني المسيح وتصبح حياتك شهادة تبني. لأنك من خلال خدمتك تتابع عمل المسيح المُقدِّس.
٥-  جسّد ما تقوم به لأنك هكذا تشارك بموت الرب وقيامته وتحمل موت المسيح في أعضائك وتسير معه في حياة جديدة.
٦-  من خلال سر العماذ أنت تُضيف مؤمنين جددًا إلى شعب الله وبواسطة سر الاعتراف تغفر الخطايا باسم المسيح والكنيسة.
٧-  وأود أن أطلب منك باسم يسوع المسيح الرب وباسم عروسته الكنيسة، ألا تكل أبدا من أن تكون رحيما. وعندما تجلس في كرسي الاعتراف أنت هناك لتغفر، لا لتدين، تشبّه بالآب الذي لا يكلّ أبدًا من منح المغفرة.
٨-  من خلال مسحة المرضى ستقدّم العزاء للمرضى، ومن خلال الاحتفال بالأسرار والصلوات ستكون صوت الله والبشرية كلها.
٩- ومع اليقين أنه تم اختيارك للاعتناء بالأمور المتعلقة بالله، عش خدمتك الكهنوتية في المسيح بفرح ومحبّة صادقة.
١٠-  وإذ تشارك في رسالة المسيح الرأس والراعي التزم في شركة بنوية مع أسقفك في توحيد المؤمنين ليصيروا عائلة واحدة فتقودهم إلى الله من خلال المسيح والروح القدس. وضع نصب عينيك على الدوام مثال الراعي الصالح، الذي لم يأت ليُخدَم بل ليخدُم، لا ليبحث عن رفاهيّته وإنما ليخرج ويبحث عن الضائع ويخلّصه.
 

75
نزول المسيح إلى الجحيم
وموعظة القديس إبيفانس *
المطران يوسف توما
مقدمة
   قبل أن يضع آباء مجمع نيقية (325م) قانون الإيمان الذي تعودنا على تلاوته خلال القداس، كان المسيحيون يتلون أشكالا عديدة من قوانين الإيمان، ولعل أشهرها ما يسمى "قانون إيمان الرسل" ويعود إلى ما قبل عام 150م، وهذه صيغته:
قانون إيمان الرسل
   "أؤمن بالله الآب، ضابط الكل خالق السماء والأرض؛ وبيسوع المسيح، ابنه الوحيد، ربنا، الذي حُبل به بواسطة الروح القدس، وُلد من العذراء؛ تألم في عهد بيلاطس البنطي، صلب ومات ودفن؛ (ونزل إلى الجحيم)، وفي اليوم الثالث قام من الأموات؛ صعد إلى السموات، وجلس عن يمين الله الآب، ضابط الكل؛ ومن ثم يأتي ليدين الأحياء والأموات. وأؤمن بالروح القدس؛ والكنيسة المقدسة الجامعة وشركة القديسين؛ وغفران الخطايا؛ وقيامة الجسد؛ والحياة الأبدية".

   نلاحظ في نص هذا القانون ذكر "نزول المسيح إلى الجحيم"، ليخلص الأموات قبل الأحياء، وذلك في يوم السبت، الذي نسميه في الشرق "سبت النور"، أي نور المسيح الذي أشرق على "الجالسين في الظلمة وظلال الموت"، وعلى هذا إشارة في إنجيل متى حيث يقول أنه بعد موت يسوع على الصليب: "تزلزلت الأرض وتشققت الصخور، وانفتحت القبور فقامت أجساد كثير من القديسين الراقدين ..." (27/52 - 53)،  فيما يأتي ترجمة موعظة تنسب للقديس إبيفانس (315-403) اسقف سالاميس، كانت تقرأ عشية عيد القيامة، وهي تختصر قانون إيمان الرسل بخصوص عقيدة قديمة وهي نزول المسيح إلى مقر الموتى الجحيم (أو يمبس أو شيول)، ولعل قانون إيمان نيقية (325م) رفعها من نصه لأن هذه العقيدة ليست "تاريخية" وإنما مجرد تعبير عن معنى الخلاص الشامل الذي حققه المسيح لكل البشر منذ الإنسان الأول وحتى آخر كائن بشري. أي خلاص جميع الذين ولدوا قبله وسيولدون بعده وكل من كان محبوسا بأشكال المعاناة، كما يقول القديس بطرس في رسالته: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مَات فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ الله أحياه فِي الرُّوحِ، فانطلق بهذا الروح يبشر الأَرْوَاح السجينة..." (1 بط 3/ 18-19). وهذا هو دور "سبت النور" الذي ركزت عليه كنيسة المشرق وسمته "سبت السبوت"، لكن لهذا النزول معنى أعمق ينطلق من أهمية "نزول الله بالمسيح"، لا فقط بتجسده من مريم العذراء، وإنما بعماذه وتواضعه، مما حدا بالطوباوي شارك دي فوكو (+ 1916)، أن يقول: "لقد أخذ المسيح المكان الأخير بحيث لا يستطيع أحد أن ينتزعه منه". وهناك أيضا علاقة وتشابه بين هذا النص ونص "المسرحية" التي نعملها في جميع كنائسنا يوم السبت، عشية عيد القيامة، عن اللص التائب (كياسا) الذي يريد دخول الفردوس ويمنعه الملاك حتى يبرز اللص مفتاح السماء وهو علامة الصليب.   

نص الموعظة
   اليوم يخيّم على الأرض صمتٌ عظيم، سكونٌ هائلٌ وعزلةٌ عظيمة . . سكوتٌ! لأن الملك نائم. وقد ارتعدت الأرض، ثم هدأ روعُها لأن الله نامَ بالجسد وذهبَ ليوقِظ الذين رقدوا منذ أجيال بعيدة. ماتَ الله بالجسد فاضطربت الجحيم (مقر الموتى). نام الله لفترة من الوقت فأيقظ الذين كانوا يسكنون أعماق الجحيم....

   ذهبَ ليبحثَ عن آدم أبينا الأوّل، الخروفَ الضائع، أرادَ المسيحُ أن يبحث عن الجالسين في الظلمة وظلال الموت. إنطلق كي يعتق آدم من الألم الذي يقيّده وحواء السجينة معه، إن المسيح هو في الوقت عينه إلههم وابنهم. لننزلً إذن معه كي نرى العهد المعقود بين الله والبشر. . .

•   هناك يقيم آدم الأبُ الأول، والمخلوق الأول، المدفون عميقا كأبعد المحكوم عليهم.
•   هناك يقيم هابيل المقتول الأول، إنه الراعي البار الأول، أنموذج ضحية الظلم، كما صار بحق المسيح الراعي الصالح.
•   هناك يقيم نوح، صورة المسيح، الذي بنى، سفينة الله العظيمة، الكنيسة . . .
•   هناك يقيم إبراهيم أبُ المسيح، مقرّبُ الذبيحة، هو الذي قرّب لله ذبيحة بالسكين، لكن بدون سكين، قرّب قربانه الذي لم يمُت.
•   هناك يقيم موسى في الظلمات العميقة، هو الذي فيما مضى أقام في الظلمات التي أحاطت بتابوت العهد.
•   هناك يقيم دانيال في جُبّ الجحيم، هو الذي كان قد أقام على الأرض في جبّ الأسود.
•   هناك يقيم إرميا في حفرة الطين، في أعماق الجحيم، في فساد الموت.
•   هناك يقيم يونان في الوحش الذي يستطيع أن يبتلع العالم أعني الجحيم، إن يونان علامة على المسيح الأزلي.

   ومن بين الأنبياء هناك من يصرخ: "من أعماق الجحيم اسمع يا رب دعائي، أَصغِ إلى صراخي"، أو يقول: "من الأعماق صرختُ إليك يا رب، يا رب اسمع تضرعي" (مز 130، 1)، أو: "أنر بوجهك علينا وخلص حياتنا برحمتك" (مز 31، 7).
   وبما أن الرب أراد بمجيئه أن ينزل إلى أعمق الأعماق السحيقة، سمع آدم قبل الكل، لكونه الأب الأول وأول مخلوق بين البشر، وهو المائت الأول، وكان محبوسا في الأعماق السحيقة أبعد من الباقين، سمع آدم وقع أقدام الرب الآتي نحو المأسورين. أصاخ السمع بعناية، فكان أول من سمع وقع خطوات الرب، القادم نحو المأسورين، فعرف صوت الآتي إلى السجن، فالتفت إلى المكبلين بالقيود معه منذ بداية العالم وقال لهم: "إني أسمع صوت أقدام آتية نحونا". وفيما هو يتكلم دخل الرب حاملاً لواء النصر  أي علامة الصليب. وعندما رآه آدم أبونا الأول، أصيب بالفزع وقرع صدره وصاح بالآخرين: "الرب معكم".
   فأجاب المسيح لآدم: "معك ومع روحك". وأمسكه بيده وقال له: "استيقظ أيها النائم وقم من بين الأموات والمسيح يضيء عليك". "أنا إلهك ومن أجلك صرت إبناً لك". "استيقظ أيها النائم، لأني لم أخلقك لتقيم هنا، مكبلاً بالقيود في الجحيم، قم من بين الأموات. أنا حياة الأموات. قم يا خليقة يديّ، يا صورتي التي صورَت على مثالي . . قم لنذهب من هنا، لأنكَ فيَّ ولأني فيك . . . من أجلك أنا إلهك صرت إبناً لك. من أجلك أنا ربك اتخذت صورة العبد، من أجلك أنا الساكن فوق السماوات نزلتُ على الأرض بل حتى إلى تحت الأرض. من أجلك يا إنسان صرت إنساناً بلا حماية، وأطلقت بين الأموات. من أجلك أنت الذي خرج من بستان عدن، ألقي القبض عليَّ في بستان الزيتون وفي بستان صلبوني.
   انظر إلى وجهي البصاق الذي تقبلته من أجلك، لكي أعيدك إلى الفردوس القديم، أنظر إلى خديّ إلى آثار الصفعات التي تحملتها لكي أسترجع من خلال صورتي جمالك المشوّه،
أنظر إلى ظهري إلى علامات الجلد التي تحملتها لكي أرفع عن ظهرك حمل خطاياك . . أنظر يداي التي سمرت بقوة على الخشبة بسببك، أنت الذي مددت يديك نحو الخشبة، ... ولقد نمتُ على الصليب واخترق الرمحُ جنبي من أجلك أنت الذي نام في الفردوس فخرجت حواء من جنبك، إن جنبي شفى آلام جنبك، ونومي يقيمك ويخرجك الآن من نوم الجحيم.
   قم لننطلق من هنا، من الموت إلى الحياة، من الفساد إلى النور الأزلي، ومن الظلمة إلى النور الأزلي. قوموا ولننطلق من هنا، ولنذهب من الألم إلى الفرح، ومن السجن إلى أورشليم السماوية، من القيود إلى الحرية، ومن الحبس إلى أفراح الفردوس ومن الأرض إلى السماء.
   إن أبي السماوي ينتظر الخروف الضائع، وقد أعدّ عرشٌ تحمله أجواق الكروبيم، إنهم مستعدّون واقفين. وصالة العرس مُعدة والمضارب الأبدية مزينةٌ وكنوزُ الطيبات المختلفة مفتوحة، وملكوت السماوات المعَد منذ إنشاء العالم ينتظركم.

(الموعظة مترجمة عن النص الفرنسي)

* القديس إبيفانس (315-403 م) أحد آباء الكنيسة، ولد في فلسطين، أصبح أسقف سلاميس في قبرص في نهاية القرن الرابع الميلادي، اشتهر بدفاعه عن الإيمان، وضع كتاب البناريون Panarion (اي صندوق الأدوية) قدّم فيه شروحًا عن هرطقات زمانه وكيفيه دحضها.

76
السياسة تحشر نفسها في كل مكان!

المطران يوسف توما
 
يعتقد كثير من الناس أننا حتى لو ابتعدنا عن السياسة لكنها هي لا تبتعد عنا بل تحشر نفسها في كل شيء. ومع أن السياسة ليست كل شيء، لكنك تجدها في كل شيء وفي كل مكان. على سبيل المثال، زوجان في شهر العسل هذه ليست بالضرورة مسألة سياسية. ولكن نوعية الفندق حيث سيبقيان تبيّن أن المسألة سياسية تماما. جارتي العجوز عمرها 90 سنة تحبّ القهوة صباحا لكنها لا تدرك أن نوعية القهوة وجودتها لها علاقة كبيرة بالسياسة وبأسواق العالم وتقلباتها.
 
السياسة إذن "سلاح ذو حدين" - كما يقال - وهي بحر متلاطم متقلب. يمكنها أن تصير عامل قهر وظلم أو تكون مسألة تحرير ورفاهية. شأنها شأن كل ما يخص الانسان بالضبط كالدين الذي قد يؤدي استعماله إما للقمع أو للتحرير.
في القرن التاسع عشر كان يسود اعتقاد خاطئ لدى الماركسيين أن بالإمكان تغيير البشر والغاء الدين الذي هو في أساس التبعية والقمع بل قيل عنه "إن الدين أفيون الشعوب"، لكن بعد أقل من قرن على ذلك اكتشف الجميع أن الدين يمكن أن يكون هو أيضا عاملا من أجل التحرر. وكان فريدريك إنجلز (1820 - 1895) زميل كارل ماركس (الذي كتب كتاب رأس المال) قد وضع كتابا صغيرا يقول فيه إن المسيحية في بداياتها كانت في أساس الفكر الاشتراكي لكن هذا الكتاب لم يحض بالرواج الذي نالته كتب زميله، وباعتقادي نسي أمرا مهما وهو أن "النفس أمّارة بالسوء"، وأن الفرق بين المسيحية والاشتراكية هو أن الأولى تعالج النفس البشرية من الشر والخطيئة وهذا لم ولن تستطيع أي سياسة أن تعمله لعجزها في دخول الضمير!
 
عندما زار البابا فرنسيس دولة كوبا في أيلول 2015 قدّم له الرئيس السابق فيدل كاسترو نسخة من كتاب "فيدل والدين" حيث يتحدّث رئيس دولة شيوعية بإيجابية عن الدين. لكنه لا يختلف عن كل السياسيين الذين حشروا أنفسهم في الدين وهم غالبا ما يميلون إلى استغلال الدين وتسييسه عوض الاصغاء إلى دعوته العميقة بضرورة التخلي والتجرد والترقي، ناسين مبدأ قاله يسوع: "أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله" (متى 22/21)، فالجمع بينهما وارضاؤهما يكاد يكون مستحيلا. 
ومما يشير إلى هذه الصعوبة من أمثلة تثبت أن السياسة تحشر نفسها في كل شيء، مسألة من الأكثر إثارة للاهتمام تتعلق بأسماء أشهر السنة التي نستعملها كل يوم في عدد أشهر السنة، التي تقلبت وتغيرت بحسب أهواء "السياسيين"! فقد كانت السنة في زمن الرومان عشرة أشهر. لكن الإمبراطور يوليوس قيصر (100 ق.م – 44 ق.م) طلب من علماء الفلك في زمانه وقال لهم: "اخترعوا شهرا يكون فيه اسمي على شرفي". فوضعوا شهر تموز وأسموه يوليو. وعندما مات يوليوس قيصر خلفه الإمبراطور أوغسطس قيصر الذي غار من سلفه فطلب من علماء الفلك نفس الطلب وقال "إذا كان لدى يوليوس شهر مع اسمه، أستحق أنا أيضا واحدا مثله".
 
ولأن أوامر الإمبراطور  هي إمبراطورية ولا أحد يريد أن يقطع رأسه. لذلك، أنشأوا شهر آب - أوغسطس. مع ذلك، ظهرت مشكلة زمنية في عدد الأيام في كل شهر، فهي في المتناوب منذ كانون الثاني يناير 31 يوما ويعقبه 30 يوما وإن كان لتموز - يوليو 31 يوما ليس من المعقول أن يكون آب - أغسطس أقل منه، لذا وضعوا 31 يوما لكل منهما. كيف حلوا هذه المسألة؟ مع طلب إمبراطوري. قام علماء الفلك بإزالة يوم من شهر شباط - فبراير.
 
قد لا يدرك الكثيرون أن السياسة هي في كل شيء، لكن ما يخص البشر لتنظيم الحياة في المجتمع لا يخلو من المفاجآت التي وراءها أمور السياسة.
 
في هذه الأيام لدى لقائي بكثير من الناس، خاصة الشباب منهم، أشعر باشمئزازهم من السياسة لأنك تسمعها وتراها مع جميع نشرات الأخبار السلبية منها خصوصا، التي تتحدث عن الفساد والسرقة والمجون والمحسوبية، فيقولون تفضل! ماذا نأمل من هؤلاء ألا يشعرك هذا بالتقزز من السياسة والسياسيين؟ وما يثير الانتباه هو التسارع، أي باتوا يصعدون بسرعة وينزلون بسرعة أكبر، مثل آنيه الناعور، تصعد مملوءة وتنزل فارغة، هذا إذا أبقت السياسة رأسهم على كتفهم! وهذه الخبرة لا تجعل الناس يتعظون، والحال ليس كل السياسيين سيئين، لكن الأغلبية لا يتعلمون من الماضي وهذا يجعل العاقل يشعر أكثر من أي شيء بالاشمئزاز جدا، ومن يمسك بمقاليد الأمور - ولو لفترة قصيرة - يتصور أنه يمكن أن يفعل ما يحلو له!
 
لدى انتخاب البابا يجتمع حوله الكرادلة ويأتون بإناء فيه أوراق التصويت له ويحرقونها أمامه ويقول له المتقدّم بين الكرادلة: "تذكر! هكذا يتبخر مجد العالم". فالذين صوتوا لك لم يعطوك صكا على بياض، لتسود، بل هنالك من سيحاسبك في اليوم الأخير.
 
لذلك ليس من حياد في السياسة. ما هو موجود هو فكرة خاطئة عن الحياد. لكن بطريقة ما، صوابا أو خطأ، والجميع يتدخل في السياسة منهم من لديه خبرة ويتعظ من الماضي ومنهم من يكرر الأخطاء. 
بعد كل شيء، فإن أيا من السادة والسيدات الذين يشغلون مقاعد البرلمانات والوزارات جميعهم جاءوا من خلال أصوات المنتخبين الذين رفعوا الأصبع القرمزي بفخر ثم بعد مدة صرخوا ندمهم، والسبب هو في السياسة. لأننا نعيش في عالم حيث يتم التحكم في السياسة من قبل أقلية. والعراق ليس استثناء. وهذه قصة أخرى، تدعو إلى الإصلاح السياسي، وأن يحيط كل سياسي نفسه بمستشارين متجردين ينصحونه بصدق وليس بأصدقاء متزلفين يريدون اقتسام الكعكة، هذا إن بقي هنالك كعكة، بعد الافلاس ونزول أسعار النفط، والله يستر مما سيأتي!

كركوك 2016


77
إختبار المصافي الثلاثة
(filters 3)
المطران د. يوسف توما
كركوك  13 تشرين الأول 2015
إشتهر سقراط (470 – 399 ق.م) في اليونان القديمة بإعطائه أهمية قصوى لحب الحكمة (الفلسفة) معتبرا إياها كأعلى قيمة في الحياة. لهذا السبب كان له تأثير عميق على شباب المدينة، إذ كان يسحرهم بفكره، بحيث خاف سكان أثينا على أبنائهم من سقراط، فشكوه عند سلطات المدينة، فحكموا عليه بالموت، وكان سقراط رجلا مستقيما إلى درجة قَبِل الحكم الصادر بحقه، فلم يهرب بل شرب السم ومات مطيعا للقوانين، هكذا لم يكن يحابي أحدا أو يراوغ على حساب الحقيقة كما كان يفعل خصومه السفسطائيون.

في أحد الأيام جاء إلى زيارة سقراط أحد معارفه فقال له: "أتعرف يا سقراط ماذا سمعتُ الناس يقولون عن أحد أصدقائك؟". هنا أوقفه سقراط وقال: "لحظة من فضلك، قبل أن تقول لي أي شيء، أودّ أن أخضعك لاختبار صغير. ولنسمّه اختبار (المصافي) الثلاثة. فقال الرجل: "وما هي هذه المصافي الثلاثة؟". تابع سقراط وقال: "قبل أن تحدّثني عما قيل عن صديقي (فلان)، من الأفضل أن تتوقف لحظة كي تصفّي ما كنتَ ستنقله إليّ عنه، وهذا ما أسمّيه "اختبار المصافي الثلاثة".
المصفى الأول هو مصفى الحقيقة: فأسألك: هل تأكدْتَ تماما أن ما كنتَ ستقوله لي عن صديقي هو صحيح؟". أجاب الرجل: "كلا لستُ متأكدا أنه صحيح، في الواقع سمعتُ الكلام فقط".
أجاب سقراط: "حسنًا، أنت إذن لا تعرف حقيقة إن كان ذلك الكلام صحيحا أم لا!
والآن دعني أتحوّل إلى المصفى الثاني، مصفى الطيبة: هل ما كنت ستخبرني به عن صديقي هو شيء صالح في حقه؟". أجاب الرجل: "كلا، بل على العكس"...
فتابع سقراط: "كنتَ إذن تريد أن تقول لي شيئا سيئا عن صديقي، بالرغم من كونك غير متأكد أنه صحيح! والآن عليك اجتياز ما تبقى من الاختبار، لأن هنالك مصفى آخر باق، هو مصفى "الفائدة": هل ما تريد قوله لي عن صديقي سيكون مفيدًا لي؟". أجاب الرجل: "لا، ليس بالضرورة!".
وهنا استنتج سقراط وقال: "إذن ما كنتَ تريد قوله لي ليس صحيحًا ولا صالحا ولا حتى مفيدًا، لماذا بالأساس تريد قول ذلك؟".

هكذا نفهم استقامة سقراط باعتماده في التعامل مع الناس على: الحقيقة والطيبة والفائدة، وهذا ما لا يعجب الناس دائمًا، فحكموا عليه بالموت، لأن كثيرين لا يحبّون الحقيقة وإنما يلجَؤون إلى المجاملات والكلام المنمق الجميل لكنه قد يكون مسمومًا. ولهذا السبب يمكن القول إن سقراط كان فيلسوفا كبيرًا، إذ لم يعتمد في تحليله على ما يسمع من كلام أو ما ينقل إليه عن الآخرين، وإنما يلجأ إلى التحليل معتمدا تصفية كل شيء بعيدا عن العاطفة والانفعال.

78
الطاعة في الكنيسة لمن؟
المطران يوسف توما
مقدمة
تردد في بعض الأوساط الرقمية مقالات تنوّه عن ان انتمائنا نحن الكلدان الى الكنيسة الكاثوليكية يجعلنا في تبعية إلى الفاتيكان أو البابا. ويبدو أن المسألة هي في: منْ يتبَع منْ؟ أو هل أنا حر في إيماني؟ أو على أن آخذ بإيمان آخر بعيد عن تقاليدي وهويتي؟
يجدر بنا أن نتناول الموضوع من منظور قادر أن يكشف معنى الطاعة في الكنيسة فما نقوله هنا قد ينطبق على كل جماعة أخرى سواء بسواء، لأن كل الجماعات لا بد أن تعمل في تركيبة تحتاج الى ممارسة نوع من السلطة، فالذين يقومون بأي عمل يخصّ حياة الجماعة سيفهمون أن النصوص المقدسة والقوانين والأعراف والتقاليد كلها تشير إلى السلطة ومقاليدها ومفاتيحها، والكنيسة أيضا تخضع لمثل هذه المسارات. كيف يمكن إذن أن نحدد سلوك المؤمن وحريته تجاه تلك القوانين ومن الذي يصدرها ويتحكم بها؟
اتفاق واختلافات
منذ البداية كان لدى المسيحيين الاولين حاجة الى تحديد السلطة في الكنيسة ويظهر ذلك جليا في سفر اعمال الرسل حيث نقرأ: "وكان المؤمنون كلهم متحدين، يجعلون كل ما عندهم مشتركا بينهم" (2 : 44)، والآية التالية دقيقة الوصف: "كانوا يلتقون كل يوم في الهيكل بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب، ويسبّحون الله، (2: 46). هذه النظرة المثالية فهمت وكأنها تصوّر مجتمعًا من دون سلطة، وقد أصبح هذا الوصف هو النموذج الذي سار عليه كل المؤسّسين والمصلحين عبر التاريخ والقرون، أرادوا تحقيقه ليستعيدوا النقاوة الأصلية والبساطة التي تمتعت بها الجماعة المسيحية الأولى.
مع ذلك، بالرغم من هذه الصورة الطوباوية، يذكر سفر اعمال الرسل أيضا بعض الإشكالات التي حدثت وما أصاب تلك الوحدة من مشاكل وصراعات: بين بطرس وبولس ويعقوب خصوصا لدى اجتماعهم الأول في اورشليم، ليبتّوا في مسألة فرض الختان على العابرين من الوثنية إلى المسيحية، فتساءلوا: هل نطبّق شريعة موسى على هؤلاء المؤمنين الجدد أم لا؟ هذا السؤال لم يكن سهلا أبدا واللغط والتجاذب بين الآراء أخذ يوحي بانقسامات خطيرة وقد حدثت فعلا. فالكنيسة لم تكن موحّدة في العمق، لذا احتاج الرسل والتلاميذ الاولون إلى شخصية واندفاع بولس الرسول الجديد وحكمة يعقوب وسلطة بطرس لكي يصلوا إلى اتفاق مشترك حول هذا الموضوع الشائك وسوف يصبح هذا مسارا ونموذجا لحل المشاكل في الأزمنة اللاحقة.
على ماذا تقف السلطة في المسيحية؟
كل مجتمع – أيا كان -يحتاج إلى ممارسة السلطة وذلك للتنظيم تركيبته، وإلا برزت الانقسامات على الدوام. لذا حاول الرسل حل هذه المسألة بالاعتماد على ما تركه يسوع من مفهوم جديد للسلطة في العشاء الأخير قبل موته على الصليب، ترك ثلاثة مقوّمات للسلطة: الإختيار، فكل عضو في الجماعة هو اختاره بنفسه (لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم)، ثم بعد ذلك غذاه بكلامه تحت سلطة بطرس الذي اختاره الأول، وهذا الكلام على التلميذ أن يحفظه ويتذكر ما عمله يسوع وعلمه وأن يخبر بموته وقيامته، الاختيار والكلمة والتذكر هي إذن ثلاثة لا تنفصل عن لدى أي ممارسة للسلطة في الكنيسة، وهنا يأتي الروح القدس، الذي يناله التلاميذ وهو الذي سيذكرهم دائما لكي لا ينسوا ويضيعوا.
من لديه السلطة في الكنيسة؟
تسلمت الكنيسة من يسوع كلامه كعطية فتأملت به وأسست عليه كمصدر لكل سلطة، معتمدة على ما جاء في الكتاب المقدس وتعليم الرسل وخلفائهم من بعدهم أي الأساقفة، ملتفين حول القديس بطرس وخليفته أي البابا، "خادم خدام الله"، الذي يرأس الجسم الكامل لشعب المؤمنين الذين يعمل الروح القدس فيهم.
أما من ناحية الكتب المقدسة فلها سلطة الله نفسه إذ إنه هو الذي يتكلم من خلال الاسفار التي نسمّيها العهد القديم والعهد الجديد ومن خلالها يعلمنا ويذكرنا ويقودنا إلى معرفة سرّه.
مهمة الأساقفة تجاه المؤمنين
أكدت الكنيسة دائما، عبر التاريخ، أن على الأساقفة أن يلتفوا متحدين فيما بينهم ومع البابا يساعدهم ويسندهم الروح القدس لكي يقودوا بالأمانة إلى الكتب المقدسة ويعلنوا ويبشروا بحقائق الايمان. وقد تناول المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) بشكل معمق مهمة الأساقفة لكن من دون تجاهل أن كل مسيحي لكونه نال الروح القدس لديه القابلية على التمييز الروحي ومعرفة أساسيات الايمان.
سلطة البابا أسقف روما
كثير من المؤمنين يرون البابا كمصدر وحيد للسلطة، متذكرين ما قال يسوع لبطرس: "انت الصخرة وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي" (مت 16: 17-19). لكن ما يعلنه يسوع لبطرس يقوله أيضا لكل الجماعة عندما ينفخ فيهم ويقول: "تقبلوا الروح القدس، من غفرتم لهم خطاياهم تغفر لهم ومن امسكتم علهم الغفران يمسك عليهم" (يو 9: 19-23). بطرس إذن لم يعلن قائدا ورئيسًا أوحد يتسلم مهمة الحفاظ على وحدة جسم الكنيسة، من دون هذه الشركة تفقد خدمة البابا معناها إذا ما مورست في العزلة كسلطة مفصولة عن شعب الله وعن الأساقفة.
الحرية المسيحية تحت هداية الروح القدس
عندما نتكلم عن السلطة لا ينبغي أن ننسى البشرى السارة التي اعلنها يسوع. فالقديس بولس يقول لأهل غلاطية: "لقد دُعيتم الى الحرية"، ثم يتكلم عن حرية المسيحي بمثابة حياة تحت هداية الروح القدس: "إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ". (غلا 5: 15، 25). وهذا يذكرنا بمقومات السلطة الثلاثة التي ذكرناها أعلاه، أي الاختيار والكلمة والتذكر، والروح نفسه يعمل فينا ويساعدنا على قراءة الكتاب المقدس الذي أوحى به، فنفهم المعنى العميق للإيمان الذي أعطي للشعب المسيحي أي المعنى المستقبلي: "وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ" (يو 16: 13)، هذا الروح نفسه يقود البابا في اعلاناته الإيمانية الرسمية حين يتطرق إلى الايمان لمجمل الكنيسة، كذلك نحن اذا ما استسلمنا لهذا الروح القدس سنعي ونفهم حريتنا كاملة وهذه الحرية تقودنا نحو ممارسات وتصرفات صائبة.
هل يمكن للمؤمنين أن يؤثروا على قوانين الكنيسة؟
لنتذكر، على سبيل المثال، المكانة التي استعادها المؤمنون للكتاب المقدس في حياتهم منذ حوالي القرن، وكيف صاروا يتذوّقون قراءة أسفار الكتاب المقدس والمشاركة الفعلية في الطقوس الليتورجية، وكذلك صاروا يعرفون قيمة صلاتهم وأدعيتهم ولقاءاتهم في الجمعيات والأخويات وعملهم الدؤوب في تقوية الحركة المسكونية مع بقية الكنائس... كل هذه الأمور الجديدة تطورت عبر سنوات قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، وكان لها تأثير كبير على كتابة نصوص المجمع، ويمكن للقارئ أن يرجع إلى تلك النصوص.
مسألة السلطة في الكنيسة إذن ليست إدارية فقط – فهذا جانب منها – لكن السلطة فكرية وروحية أيضًا، وعندما تجتمع هذه الثلاثة أي الفكر والروحانية والإدارة الحكيمة، سوف تتطابق مع الاختيار والكلمة والتذكر أي سنتمكن من تأويل الماضي والإصغاء إلى الحاضر والتطلع إلى المستقبل برجاء وفرح.
سلطة الكنيسة سلطة معنوية وليست سياسية ولا عسكرية من يطيع لا بأس ومن يعصى فلن ترسل الكنيسة الشرطة لتكبيله واجباره.

كركوك 2 أيلول 2015
 



79
كنيسة المشرق ومقترح الوحدة
المطران يوسف توما
إن مقياس قوة كل كنيسة هو إيمان المنتمين إليها وتجذرهم في الإنجيل وتطلعهم إلى المستقبل وانتظارهم الآتي إليهم. ألم يقل يسوع "لن ترونني حتى تقولون : تبارك الآتي باسم الرب" ؟ (متى 23/39). وهذا ما نقوله في كل قداس كلداني قبل الكلام الجوهري. كما يدعونا الرب يسوع إلى قراءة معمقة لعلامات الأزمنة واستجلاء ذلك كما يستجلي المزارع مجيء الربيع من خلال ليونة أغصان شجرة التين.
وقد تمخضت هذه الأيام بعلامات كثيرة منها دعوة غبطة البطريرك مار لويس ساكو لشطري كنيسة المشرق إلى الوحدة التامة واكتساب ما تراكم لدى كل واحد من خبرة عبر كل هذه القرون التي سادها الانقسام والتبعثر، ولا داعي للانتظار أكثر، فأبناء كنيستنا كلهم شوق وحنين إلى العصر الذي فيه كنا بحق كنيسة: واحدة، جامعة، مقدسة ورسولية، وهذا المقترح يفتح صفحة جديدة فنخرج من ثقل الماضي وتعقيده ونشمّر عنى السواعد لاستعادة وحدة وأصالة ومجد كنيستنا التي حملت الإيمان إلى أصقاع العالم في الألفية الأولى، في حين بقينا منذ ألف سنة نراوح في مكاننا أغلب الأحيان، ناهيك عما آلت إليه الأمور بنا من تبعثر مما يكشف عن تحديات أخرى جديدة لا يمكن لواحدنا أن يجابهها بمفرده، هذا إلى جانب ما فقدنا في الوطن الأم من مناطق في الموصل وسهل نينوى في العراق والحسكة والخابور وغيرها في سوريا.
وجاءت ولادة الرابطة الكلدانية (1-3 تموز الماضي) من جهة أخرى لتسهم في تقوية أواصر البيت الكلداني وتسلط الضوء على أن ما يحاوله كل طرف من جهته لتقوية توجهه وتجذره إنما يسهم كالأواني المستطرقة في جعل هذه الشجرة الباسقة – شجرة كنيسة المشرق – زاهية وغنية بثمارها. إذ لا مستقبل لنا من دون وحدة كل طرف مع نفسه لكي يتمكن من النزوع إلى الاتحاد مع الآخرين، وخوفي أن من لا يقبل هذه الوحدة إنما يعرض نفسه إلى خسارة كل شيء.
فالعالم اليوم مقسوم بين كتلتين: كتلة فهمت أنه أصبح قرية صغيرة واحدة، وكتلة لا تزال تراوح في عطلات متراكمة لا جدوى فيها. والتحدي الأكبر هو إذن أن نختار إما الوحدة أو الانقراض. والزمن مناسب جدا والوسائل متاحة والدراسات كثيرة وكفيلة بمساعدتنا على فهم وتحديد ما يلزم لتوحيد الأطراف الثلاثة من كنيسة المشرق لا سيما وأن المختصين بالإيمان والمسؤولين قد قطعوا شوطا كبيرا (راجع الوثيقة الكرستولوجية بين مثلث الرحمة مار دنخا الرابع والبابا القديس يوحنا بولس الثاني في عام 1994)، كما قطعت لجنة مشتركة مكونة من المجلس الحبري للحركة المسكونية ووفد من الأساقفة الكلدان شوطا في الحوار مع وفد عال من كنيسة المشرق الآشورية في خريف 2014، أعطت نتائج إيجابية جعلتنا نتساءل لماذا هذه الجهود من دون أن تؤول إلى تحقيق الوحدة؟ فنفسح المجال لاستعادة وحدتنا القديمة، فإيماننا واحد واختلافاتنا ليست سوى لفظية ولا يحق لنا أن نبقى مصرين على تسليمها للأجيال اللاحقة. خصوصا وأن سينودس كنيسة المشرق الآشورية قد أجل في مطلع حزيران الماضي موضوع انتخاب خلف لمار دنخا حتى أيلول 2015 داعيا إلى فتح باب الحوار مع الأشقاء وانتخاب بطريرك واحد لكليهما، وقد عد هذا القرار في منتهى الشجاعة والتفاؤل، خصوصا وأن هذه التطلعات تجري في مرحلة حرجة جدا من تاريخ كنيستنا وشعبنا. 
وإذا ما نظرنا إلى القرون الأولى رأينا أن لدينا فيه خبرة عميقة متراكمة ستساعدنا في وضع أسس مسار الوحدة في الإيمان والشركة واحترام صلاحيات البطريرك والسينودس كما هو متبع. فالمسألة ليست مجرد إداريات وإنما هي فكر وروحانية أيضا. أي إن وحدة كنيستنا لا تقف إلا على هذه المحاور الثلاثة (إدارة، فكر وروح)، وهذا سينسحب على شعبنا الذي في الغالب تجاوز الانقسامات وهو مقتنع بعمق أننا شعب واحد بتسميات مختلف قد تكون مجرد أسماء جغرافية أو تدور حول أحداث عفا عليها الزمن، إننا حقا شعب واحد لا ينبغي أن نحتار في تسميته.
فلا مبرر للخوف من ابتلاع أحدهم الآخر، إذ كما قلت في البداية العبرة هي بثقل الإرث الذي يحمله كل طرف، والقوي لا يخاف من الذوبان ولا يتوجس منه، إنما يضع الأمور في نصابها كما كانت قبل التقسيم. كل شيء يمكن أن يتم الاتفاق عليه : كأن يكون هناك طقسان: كلداني متجدد ومشرقي محافظ (كما هو الحال عند اللاتين بين دعاة القداس القديم للقديس بيوس الخامس وقداس البابا بولس السادس، بعد المجمع الفاتيكاني الثاني). ومع الزمن سوف يتذوق شعبنا مختلف مجالات ما نقدمه له من غنى، وسيقوم جيل سيعشق اللغة والتراث، فلا يزال الكل يصلي بالسريانية أو السورث، لكن هذه اللغة امتدت اليوم إلى أصقاع العالم وهي بالذات تحتاج إلى وحدتنا لتأخذ مكانتها بين اللغات الحية المتفائلة غير المهددة بالانقراض.
ختاما
أرفع دعائي إلى الرب أن يلهم الجميع هذا الشعور بالمسؤولية فلا تقف العوائق البسيطة أو العقد في سبيل الوحدة ويرفع من أمام ناظره كل ما يحجب أو يشوّه الآخر في عينيه، وبهذا سنحقق صلاة يسوع من أجلنا ونصير أنموذجا لإخوة آخرين هم أيضا "سريان" ويتكلمون السورث، فتكبر الحلقة التي تجمعنا..
هل يا ترى نحن نحلم؟ حتى وإن كان حلما لا يهم، فالرب قال إذا اتفق إثنان أو ثلاثة بطلب شيء ما كان لهم!
اربيل 3 تموز عيد مار توما رسول كنيسة المشرق     

80
الحرْفيّة تميت والروح يحيي
المطران د. يوسف توما
كركوك 1 حزيران 2015
هناك مسألة حساسة في كيفية التعامل مع الكتاب المقدس، بحيث نتحرر ولا نقع في التعقيد الذي يتعرض له البعض بسبب قراءة حرفية لنصوصه، وقد سبق للقديس بولس أن قال: "الحرف يميت والروح يحيي" (2 قو 3/6)، أي إن النص قاتل بلا روح والروح بلا نص لا صوت له. والسؤال كيف يحتوي نص الكتاب المقدس على الروح؟
حركة مكوكية بين الحرف (المادة) والروح
قبل كل شيء يجب أن نعترف بأن الكتاب المقدس حقيقة ذات قطبيين: قطب إلهي وقطب بشري، ولنأخذ مثلا: لا يمكن ان نعرف ما هو إلهي في الكنيسة إلا إذا عرفنا ما هو انساني، ولا يمكن ان نكتشف ما هو إلهي في المسيح إلا اذا عبرنا من خلال انسانيته الواقعية. في الأزمنة القديمة من الكنيسة خاصة، حدثت انقسامات حول هذا الموضوع (القرن 4 و5 م.) فلم ينتبهوا إلى توازن هذين القطبين فوقعوا في انحرافين يصيبان الإيمان" انحراف "الشبهوية"، أي جعلوا جسد المسيح خاليًا من كل ما هو بشري، وقالوا إنه "شبيه" بالبشر فقط، ففقدوا حقيقته العميقة وعوض أن يؤمنوا بأن الله من خلاله صار انسانا شوهوا صورة الله نفسه. وما ينطبق على المسيح يمكن تطبيقه على الكتاب المقدس إذ لا يمكننا أن نقرا الكتاب المقدس بمعزل عن الروح القدس، فحرف الكتاب هو بشري، وهو كلام الله في كل الأسفار التي قبلتها الكنيسة ونؤمن أن الروح أوحى بها. ولا يمكن ان نكتشف المعنى الإلهي الموجود في النصوص إلا اذا انطلقنا من المعنى البشري، ذاك الذي أراده الكاتب البشري مثل أشعيا، إرميا، لوقا بولس وغيرهم... ويأتي هنا الجهد الهائل الذي يقوم به الباحثون ليجد توضيحا وتبريرًا ضروريين.
من يقرأ الكتاب المقدس يجب أن يوازن بين الجانب البشري لدى المسيح وفي الكتاب المقدس والجانب الإلهي ولا يتوقف على بعد واحد فقط. "الشبهوية" كانت تتوقف عند الجانب الإلهي فقط، لكن جاءت جماعة أخرى توقفت عند الجانب البشري، مهملة البعد الإلهي في يسوع، وهؤلاء أطلق عليهم اسم "الإبيونيين". الذين كانوا من اليهود الذين قبلوا المسيح لكن عدّوه فقط نبيًا عظيمًا - بل أعظم الانبياء - لكن ليس أكثر. و"إبيوني" باليونانية تعني "الفقير". اطلقه آباء الكنيسة على كل من كان يفقّر الايمان بذلك. وإذا ما سرنا وراء الابيونية لقرأنا الكتاب المقدس من جانبه الحرفي فقط، واعتبرناه كتابًا جميلا رائعًا - بل أحسن الكتب - ولكنّه مجرد كتاب بشري. للأسف الكل مهدد بهذه الرؤية الأحادية وجعل قطيعة مع الجانب الإلهي وإزاحته تماما.
هذا الخطر قد يقع فيه حتى عدد من المختصين الذين يشرحون الكتاب المقدس باستعمالهم للمنهج التاريخي او نقدي لا فقط من غير المؤمنين، ولكن حتى ممّن يعلن نفسه مؤمنًا، خصوصا الذي وقع في تيارات العلمنة أو من يدّعي فهم الكتاب المقدس كليا ويدرسه في ضوء التحليل التاريخي واللغوي، فيشبه مثلا حضور المسيح في القربان الأقدس مجرد ذكرى فقط، فلا يفهم أن الرب أراد أن يعبر بنا إلى تحوّل أعمق كما جرى في عرس قانا يتحول الماء إلى خمر وفي تكثير الخبز يشبع الآلاف من بضع قطع إنها إذن إرادة تغيير ونمو وغزارة بفاعلية ربانية. قد يكون التحليل التاريخي والنقدي قد وصل درجات من الابداع، لكنه يبقى في أسفل درجات معرفة الكتاب المقدس إذا لم ينفتح على هبوب الروح القدس متجاوزا الحرفيّة.
أمثلة من صميم الكتاب نفسه
عندما يعلن يسوع مثلا: "أبوكم إبراهيم رأى يومي وابتهج" (يو 8/56) أو أن موسى كتب عنه (يو 5/46) وإشعيا تحدث عنه ورأى مجده (يو 12/41) والانبياء والمزامير في كل الكتاب تكلموا عنه (لو 24/27 – 44 ويو 5/39). لكن هناك بعض المحللين الذين يتكلمون عن المسيح كما لو لم يكن أي نص في العهد القديم قد ذكره او يخافون من ذلك فيقولون: علميا لا يوجد شيء أكيد، إن المانع والحاجز لهذا التفسير هو الطابع "العلمي" الذي يغير العلاقة بين المفسِّر وكلمة الله، فيصبح الكتاب مجرد "معلومة" باردة محايدة، ومحاولة للسيطرة على المادة لكن لا مكان للروح القدس لديه.
إن نتيجة هذا التعامل ع المسيح ومع الكتاب المقدس تحدث انطواء وانغلاقًا وديانة كئيبة، بل يصير الكتاب المقدس مقفلًا، محجّبًا. ألم يقل القديس بولس: "لا يزال هذا القناع على قلوبهم عند قراءة شريعة موسى، ولا ينزع هذا القناع إلا الاهتداء إلى الرب" (2 قور 3/15 – 17)، وبذلك سنرى المسيح في كل صفحة من صفحات الكتاب المقدس بعهديه. ويمكن أن نشبّه الكتاب المقدس بصدفة تنغلق لتحمي اللؤلؤة التي فيها، هكذا يحوي الكتاب المقدس المسيح الذي هو فيه اللؤلؤة!
يمر بعض المؤمنين اليوم في ازمات إيمانية، وأعراضها هي التحوّل إلى إنسان عادي، فقير روحيا، جاف وقاس في علاقاته مع الآخرين. وهذا نراه لدى كل مؤمني الأديان، لذا تدعو الكنيسة المؤمنين إلى شكل جديد خاص من قراءة الكتاب المقدس، إنها القراءة الإلهية (lectio Divina)، أي التي تغذيها قراءة متواصلة وصلاة وغَيرة، وعندما تفقد هذه الثلاثة يبدو كل شيء جافا بلا طعم ولا يعود للطقوس الليتورجية من مذاق، بل تصبح مملة، مفككة، منفصلة عن بعضها ولا علاقة لها بحياتنا. إنها تصبح كالمواد التي درسناها في طفولتنا فنكرّر جملا فارغة مثل: "إلى متى يبقى البعير على التل"؟
الروح يحيي
"القراءة الإلهية" للكتاب المقدس هي قراءة في نور الروح والإيمان، كما فعل آباء الكنيسة الذين أنعشوها بكتاباتهم وأشعارهم وصلواتهم. لذا لمّا عادت الكنيسة منذ الفاتيكان الثاني (1962 - 1965) إلى مدرستهم، ساعدنا أسلوبهم في تقوية اساساتنا وخصوبة معرفتنا. فأسلوب الآباء لم يختلف عما مارسه العهد الجديد تجاه العهد القديم، إنه تقليد يسوع ومن بعده بطرس ويوحنا وبولس... فيسوع هو المركز ومبرّر القراءة، لأنه هو الذي يعطي الروح فيهب حيثما يشاء. قراءة الكتاب المقدس إذن لا تعني فقط قراءة تعليمية او صوفية او ذاتية او خيالية يقابها القراءة العلمية المحايدة الموضوعية. بالعكس أحسن قراءة موضوعية هي التي يلهمنا إياها روح الله الذي يستجيب لأنين البشرية وتساؤلاتها العميقة (رو 8/22). هذا النوع من القراءة لا يمنع التفكير، بل بالعكس إنها قراءة دقيقة وموضوعية تحتوي الشوق الذي في رسالة من حبيب إلى حبيبته حبيبة لا تمل من قراءة رسالة حبيبها. لأنها تعتمد على حدث تاريخي، أي اللقاء بالمسيح المخلص الذي أكمل ما جاء قبله من صور ونبوءات وأسرار خفية منذ إنشاء العالم. إنه الحمل المذبوح الذي يأخذ الكتاب بيده ويكسر أختامه السبعة (رؤ 5/15). ومن يتبع هذا الحمل يتعلم فك الاختام بأسلوب الروح الذي هو المفتاح، وبدونه يبقى الكتاب غلقا.
إن هذا التضاد بين القراءة الحرفية والقراءة بالروح لا يعني بين العهد القديم والجديد، فالقديم ليس فقط حرفا والجديد ليس فقط روحًا بل كلاهما حرف وروح. لكن المسألة تكمن في الطريقة التي نرى المسيح وكيف نراه في حياتنا لأن كلا العهدين يتكلمان على المسيح، ويقع على الكنيسة ان تعطي الأهمية من خلالهما لما "يقوله الروح للكنائس" (رؤ 2/11).
خاتمة
في جنوب العراق عاش حزقيال النبي 30 سنة بين المنفيين الذين عدّوا أنفسهم ميتين كالعظام اليابسة، سمع الرب صوتهم فسأل الرب النبي قائلا: "هل يمكن لهذه العظام أن تعيش؟" (فصل 37). اليوم أيضًا نطرح هذا السؤال على حياتنا في الظروف التي نجتاز، أين نجد الجواب؟ إن الجفاف الذي حولنا هو الذي يؤدي إلى الموت والانتحار، وهذا حدث عبر التاريخ في كل الحروب الدينية. لكن لا مخرج لنا اليوم إلا بإيمان واندفاع وشعور بالوحدة والشجاعة التي كانت لدى آبائنا. والباب ليس مسدودًا، هناك أمل بأن تستعيد بلادنا بفضل الكنيسة انتعاشها كما حدث قبل نصف قرن إبان المجمع الفاتيكاني الثاني كانت قفزة نوعية لرجال ونساء اتبعوا هبوب الروح عليهم فتحولوا من عظام يابسة الى شعب حيّ فظهرت المواهب وانتشرت الجماعات الرهبانية وامتلأت الأديرة بالدعوات وافترشت نشاطات العلمانيين الساحة وتعدّدت فرق قراءة الكتاب المقدس والصلاة والتأمل، وكثر الطلب على كتب الآباء مثل مار افرام ونرساي ويعقوب السروجي ويوحنا الدلياثي، بلغة بسيطة ولذيذة، والكل يتذكر الدورات اللاهوتية ومعاهد التثقيف. كلها صبت في اللقاء بيسوع والعمل مع إخوته المعاقين والمحتاجين والمهجرين.
عندما صعد ايليا إلى السماء في عربة من نار سأله تلميذه أليشاع أن يكون له "جزأين من روحه" (2 ملوك 2/9)، لكن يسوع فتح كنوز الآب ولم يوزع الروح القدس على شكل أجزاء إنما غمرنا بفيض روحه القدوس ولم يكن لديه تلميذ واحد – مثل إيليا - وانما ملايين ومليارات من رسل وتلاميذ وأتباع في أنحاء العالم كل منهم يأخذ الروح ويعطيه، ولولا هذا الروح لكانت البشرية من زمان بعيد قد زالت وتحوّلت الى عظام جافة ميته لا خير فيها!

81
المنبر الحر / التجسّد والتطرف
« في: 12:02 18/12/2014  »
التجسّد والتطرف
المطران د. يوسف توما الدومنيكي
الميلاد عيد النور :
يقال إن بدعة الغنوصيين كانوا أول من ربط في القرن الثاني الميلادي بين عيد الشمس وميلاد يسوع، والحال يختلف, فإن كانت الشمس معبودة في اديان عديدة كالمصريين والآشوريين والبلاد الاسكندنافية وإيران (عيد نوروز)، التي احتفلت بالشمس الجديدة، لكن الغنوصيين حولوه إلى ميلاد المسيح، كعيد للنور فنسيت الشمس.
هذا يقودنا الى دراسة منظور النور، إذ لدينا قطبين للمسيحية أثّرا فيها:
القطب الاوّل جاءها من اليهودية، على يد القديس بولس الذي أضطهد المسيحية في البداية، بسبب تطرّفه، لاعتقاده أن الشريعة مساوية للرب الإله، وهذا التطرف سينقلب تمامًا، ويمكن قراءة الفصل 8 من الرسالة الى أهل روما، كي نفهم معنى هذا الانقلاب الذي حدث لديه، بحيث جعله يقول: "كنا عبيدًا لشريعة الخطيئة والموت، لأن الجسد أضعفها، لكن ما عجزت عنه (الشريعة) حققه الله حين أرسل ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطئ" (رو 8/ 3)، وهذا ما سيقوله القديس يوحنا الرسول أيضًا: "لأن الله بموسى أعطانا الشريعة، وأما بيسوع المسيح فوهبنا النعمة والحق" (1/17). اي إن اهتداء بولس اعتمد على، ما حاول يسوع زرعه في تلاميذه: بأن الاصلاح لا يأتي من الخارج، ولا حتى من الله (إذا اعتبرنا الله خارجًا عنا) وإنما يأتي من الله فقط إذا كان الله فينا، أي داخلاً في أعماقنا، حينئذ يشرق الله كالشمس في عقولنا وقلوبنا وأعمالنا.
أما القطب الثاني فهو نابع من فهم للقطب الأول، وأعطى المسيحية دفعة توازي الدفعة التي كان القديس بولس قد أعطاها، فهو من القديس أوغسطينوس، وهو أيضًا كان متطرفا في شبابه يشبه تطرّف بولس قبل اهتدائه. فأوغسطينوس كان مانويًا من عمر 19 – 28 سنة، وكان يحب الفلسفة، انتمى الى الديانة المانوية التي كانت تعتمد مبدأين: مبدأ الخير ومبدأ الشر (النور والظلمة)، وتعتقد بوجود عالمين متضادّين وثلاثة أزمنة: - الاصل، في البداية الزمن الأول، ففي البداية، كان الخير والشر مفصولين (كل في مكانه)، - وفي الزمن الثاني، حدث حادث سيء جعل الخير والشر يختلطان، أي دخل الشر إلى العالم، فاختلطا في كل شيء من حولنا وفي داخلنا. إختلط النور بالظلام، - وسيأتي زمن ثالث، حيث سيعود كل إلى مكانه، بع أن يأتي مخلصٌ ليفصل الشر عن الخير.
لكن المؤمن العارف (الغنوصي) من الآن يمكنه أن يفصل بين الخير والشر، ومن يستطيع ذلك فهو قديس. هذه الفكرة موجودة في كل مكان، ولعل في مثل اختلاط الحنطة والزؤان (متى 13) إشارة إلى وجود هذه الفكرة حتى في الانجيل. كذلك نجدها في الهند في فكرة (سانخيا Sankia)  التي تعني التحرر من الألم، كما نجدها في نص سرياني قديم يُعَدّ من أقدم النصوص، قمت بنشره في كتابي "الغنوصية"، ويمكن أيضًا قراءة نصوص مشابهة لدى كل الديانات الشرقية: الهندية والايرانية. وهناك اكتشاف حدث في بداية القرن العشرين، في غرب الصين في مدينة (طورفان) نصوص مهمة ورسوم مانوية شديدة الأهمية. ويمكن أيضًا قراءة النص الذي يبدأ بهذه الجملة "تبارك من يحررني".
إن ما جذب أوغسطينوس الى ديانة ماني ( )، الذي كان من مدينة بابل، أنها ديانة تنوير، وديانة عقلانية، تعطيك ما يخصّك من حقيقة وما تحتاج إليه أنت بالذات وتعتمد على خبرتك أنت. وكان أوغسطينوس مثل الكثير من زملائه، يضحك على المسيحية ديانة أمّه (القديسة مونيكا)، ويعدّها ديانة شعبية بمعتقدات وتقوى فقط، ولا يرى فيها ما ينعش الشخص، وقد كان للمانوية جاذبية خاصة، فكانت أكثر من بدعة، بل ديانة منظمة، فهي تقسّم الناس الى خمسة طبقات من البشر:
الاول والثاني هما السامع والمنتخَب (أي المؤمن العادي والمختار).
اما الطبقات الثلاث الباقية، فهما درجات المسؤولين، ولها رموز قريبة من المسيحية:
- طبقة الكهنة
- طبقة الاساقفة (وعددهم 72).
- وطبقة الرسل (وعددهم 12).
ويعتقد ان ماني الذي تربى بين جماعة يهود-مسيحيين، كان قد تأثر بالأناجيل المنحولة خصوصًا بإنجيل توما الذي يتكلم عن "القرين"، أي التوأم، وهذا التوأم، هو الذي يشبه من ناحية ما الملاك الحارس لدى المسيحيين، فهو يؤدي دورًا كبيرًا في ديانة المانويين. وقد صدر قبل سنوات في فرنسا كتاب لفرانسوا فافر (Favre) عنوانه (ماني، مسيح الغرب وبوذا الشرق). فالمسيحيون كانوا يرون في المانوية ديانة قريبة منهم، بل كان ماني يسمّي نفسه "ماني رسول يسوع المسيح"، بالضبط كما كان بولس يسمي نفسه. إلا أنه سرعان ما اكتشف آباء الكنيسة أن لدى ماني شيء خطير جدًا، ويُعتقد أنهم عندما صاغوا "قانون الايمان" في عام 325 في مجمع نيقية، كانوا في الأغلب يفكّرون بدحض المانوية، خصوصًا في الجملة الاولى (نؤمن بإله واحد خالق السماء والارض). أما المانويين فكانوا يقولون (خالق السماء فقط) وليس الارض! أي لم يكن الله هو خالق المادة، إذ بالنسبة إليهم المادة شريرة وسيئة ويجب التخلص منها؛ فروح الإنسان هي النور، لكنها سجينة في مادة الجسد.
إن ما يثير الاهتمام والانتباه هو هذا الصراع القديم والجديد (على الدوام) بين الشرق والغرب، فنرى عند بولس بقايا من هذا الصراع، لكنه اتخذ قرارًا جذريًا فأختار بولس الحرية مع المسيح. أما ماني فاختار العكس، وحاول أن يوفق بين الشرق والغرب فجمع بين البوذية واليهودية، ورفض تعاليم بولس (كالمسلمين).
من المثير للاهتمام أيضا أن نرى كيف كان المانويون ينظرون إلى يسوع، فهم يصلون إلى يسوع وليس إلى ماني، فالمسيح هو النور ويعتقدون أن المسيح انتصر على الشر والمأساة إلا أنهم لم يعرفوا الروح القدس، شأنهم شأن ما جاء في سفر أعمال الرسل بأن كثيرين كانوا يتقبّلون المسيح، لكن لم يكونوا قد نالوا الروح القدس (أع 19/2).
من المفارق أن يكون ماني في النهاية قد تشبّه بالمسيح، فتعرّض هو أيضا إلى عذابات كثيرة، فقد انقلب عليه ملوك الفرس، فغضب عليه الملك شابور الأول بن اردشير (226 – 279م) ثم سجنه ولما تسمّم شابور على يد المجوس، أتهم ماني وأتباعه المانويين، فبدأت حملة اضطهادات مروّعة، ومات ماني في ظروف أسطورية: سجن، تألم، وكانوا يحتفلون بعيد البيما في شهر آذار، وقيل إنه تألم أكثر من المسيح، وشيئًا فشيئًا كأن ماني هو الذي أصبح المسيح بالنسبة إلى أتباعه. وفي سفر أعمال يوحنا المنحول، قيل "يسوع وجد ولم يوجد"، لكن ماني موجود.
وكانوا يأتون الى بيت لافاط (كونديشابور) قرب الأهواز، ليقيموا احتفالات بآلام ماني، وهو ما يشبه عاشوراء في أيامنا، وكان جسد ماني يمثَّل مقسومًا الى قسمين، صورة لقصّة موته، التي أصبحت هي تجسدًا للثنائية التي آمن بها ماني. وأنه كان ينقل تعليمه عن طريق الطقس والرقص، مما يشبه الأساليب التي كانت تستعملها الغنوصية الفالنتينية الشرقية.
مفيد أيضًا عندما نقرأ في سفر "أعمال يوحنا المنحول" بأن جسد المسيح لم يكن جسدًا ماديًا، وإنما جسد روحي مخلّص (شُبّه به). مفيد أيضًا ان نقرأ في هذا السفر المنحول (الفصول من 94 – 102)، وهي الأكثر قربًا من الفكر الغنوصي، (من المحتمل أن يعود تأليف هذا الكتاب الى القرن الثاني للميلاد)، كتب بين 150 – 175م، على يد تلاميذ ليوحنا الإنجيلي إنشقوا عن المسيحية منشقين وكانوا قريبين من الغنوصية.
الخاتمة:
من المثير للاهتمام ان اشكال التطرف التي تميّز بها كل من بولس واوغسطينوس، وكلاهما جاء من تركيبة مشابهة: بولس من تركيبة الشريعة وأوغسطينوس من تركيبة المانوية، وصارا كلاهما مؤسّسين للمسيحية الشاملة المعتمِدة ليس على النظام (كالشريعة اليهودية) ولا على مجموعة أساطير (كالمانوية)، إنما على حرية حققها يسوع المسيح التي فهمها كل منهما (بولس واوغسطينوس). ولهذا، بالنسبة إلينا سر التجسد ليس دخولَ نظام أو شريعة إلى عالمنا، إنما دخول خلاص وحرية، وهذان يصعبان على الناس ويتعرض كل من يمارسهما إلى الاضطهاد في كل زمان ومكان، إن الخطر يكمن في تحول كل ديانة إلى أيديولوجية وتقوى، التي سرعان ما تفسد وتتحول إلى تطرّف او إلى عدم مبالاة أو اهتمام بأي شيء آخر، مما يفقد تلك الديانة روحها وحيويتها، لأن ما يجعل المسيح حيًا بيننا، ليس سوى هذا الروح القدس الساكن والعامل فينا وهو الذي يهبّ حيث يشاء.
إن دور روح القدس في ميلاد يسوع واضح، إذ يقول الملاك لمريم العذراء: "الروح القدس يحل عليكِ وقدرة العلي تضلكِ" (لو 1/ 35)، وفي هذا إشارة واضحة الى تكريس هيكل سليمان، فأصبحت مريم منذ تلك اللحظة فصاعدًا هي الهيكل وهي قدس الاقداس.
نحن أيضًا مثلها يصبح جسدنا هيكلا للروح القدس، لذا لا نهتدي إلى المسيحية (كنظام) و(كأيديولوجية) بل إلى سر المسيح (رازا دهيمانوثا) (كجسد حرّ) الذي بدوره يتجسّد في الخبز المقتسم طعاما وفي خمرة الفرح والعيد شرابا، أي في مأدبة عرس تبدأ من الآن ولا تنتظر نهاية العالم، فالرب عجول، يفاجئنا ويأتي في ساعة لا ننتظرها فيغيّر ماء هذه الحياة الرتيبة والتافهة (بلا طعم ولا رائحة) يحولها كما في عرس قانا إلى خمرة لذيذة مدهشة، وهذا هو سبب عدم احتفال بعض المسيحيين (كالأرمن) بعيد الميلاد إنما بعيد الظهور (الدنح) فالمسيح لا يولد مرة واحدة فقط وحضور مريم يشير إلى تعدد ولاداته، مرة في بيت الخبز (بيت لحما)ومرة تجده في الهيكل ثم في قانا، وأخيرا تحت الصليب وفي النهاية في العنصرة مع حلول الروح القدس.

محاضرة للقاء كهنة كركوك والسليمانية في مطرانية كركوك – 17/12/2014

82




في إطار مشاركته في مؤتمر
مسيحيو الشرق الأوسط وربيع العرب 2
المطران يوسف توما
من أجل وضع خريطة طريق للمستقبل: يجب الحفاظ على الفسيفساء الديني في الشرق الأوسط.
أسماء كثيرة تتردد اليوم: مسيحيون، كاثوليك، أرثوذكس، شيعة، سنة، حوثيون، علويون، يزيديون، لكن عندما نسأل الناس ماذا تمثل حقا سنرى أن الواقع يختلف تماما. وسنكتشف أننا لا نعرف الكثير. صحيح، على مستوى البحث الأكاديمي، يجري اكتشاف هذا العالم وهذه البقايا "الأحفورية" التي بقيت نائمة. لكن قبل أن يتم أي اكتشاف مفيد عنها، سقط عليهم "الربيع العربي" كضربة قاضية.
من هم مسيحيو الشرق الأوسط؟
ما هي مؤسساتهم "الكنسيّة"؟
أي علاقة لهم مع النقد التاريخي، وهل هم "نصارى" القرآن الكريم؟ أسئلة كثيرة!
إن كثيرا من الجماعات المسيحية من العصور القديمة في الشرق الأوسط، بقيت على الهامش لا يكاد يربطها أي علاقات مع جيرانها، المسلمين خصوصا، بل حتى في ما بين المسيحيين أنفسهم، عن تجاهل أو ترهل، حتى جاء الإعصار، إعصار الربيع العربي.
مع ذلك المسيحية ولدت هنا. لكن المسيحيين الشرقيين ضلوا يعانون، خلال تاريخهم، منذ تركة الحروب الصليبية أو الإمبريالية الغربية والاستعمار.
مع ذلك أيضا، المسيحيون في الشرق جزء من هوية المنطقة، يشاركون في تعريفها.
كان المفكرون المسيحيون معنيون جدا في إحياء اللغة العربية منذ القرن 18، وكانت اللغة العربية لغة مسيحية قبل أن تصبح لغة الإسلام. ولدت خلافات بين مجامع القرون الأولى، بعدد الخصوصيات الثقافية بينهم، فخلقت انشقاقات بين الطوائف المسيحية: بين النساطرة، الملكيين، الموارنة والأقباط ... وكلها لديها أماكن منفصلة للعبادة وتقاليد ولغات ولهجات مختلفة وفروق دقيقة دارت حول مفهومين أساسيين: الله والإنسان، والتقائهم أو تباعدهم في كريستولوجيات (نظريات عن المسيح)، لم تبق حكرا على المتخصصين بل نزلت إلى الشارع ودخلت البيوت وقسّمتها وأضعفتها.
عبر القرون اللاحقة كان كل من هذه الكنائس يحاول أن يتميّز عن الآخر كي يثبت هويته، فالهوية مشكلتنا الأزلية، ثم تنقسم هذه الكنائس مرة بعد أخرى، بين أولئك الذين يريدون الحفاظ على استقلاليتها وبين التي تسعى نحو الاتصال مع روما والغرب، فالكلدان هم في الواقع نساطرة، والنساطرة يُعرَفون أيضا باسم الآشوريين، والسريان الشرقيون هم اليعاقبة أو السريان الأرثوذكس... وصار الاعتراف بالبابا تقليعة أو نزعة أكثر مما هو لاهوتا، أو لمجرد طلب الحماية من دول الغرب التي صار لها عصا السبق منذ اكتشاف العالم الجديد، ومنذ عصر النهضة. ومن الصعب أن نتصوّر أن يكون هناك شيء آخر سوى كنائس وكاتدرائيات من هذه المجتمعات الشرقية، فهذه فقط كتبت التاريخ والتاريخ لا يرى سواها متناسين الطب والصيدلة والعلوم والشؤون الأخرى.
جميع الذين زاروا الشرق الأوسط، تعجبوا من التديّن العميق دائما لدى هذه المجتمعات الهشّة، لكن هذا التدين لم يحمِها لا من التقسيم ولا من البقاء متخلفة عن الركب، ولا من التهميش، بحيث لم تواجه




الأغلبية الساحقة من الإسلام، الذي لم يسلم هو الآخر من أضغاث الأحلام وأوهام الهويات المريضة. الصورة الأولى التي تأتينا اليوم بأن في الكنيسة الشرقية يوجد كثير من الجمال! جمال فنون وشعر ولغة وطقوس، وأبنية عبادة صار التمسك بها آخر ما تبقى لهم إزاء حاضر مرّ ومستقبل مقلقل غامض.
كان لفترة طويلة، لمسيحيي الشرق مشاركة مع المسلمين وكوّنوا تراثا مشتركا. هذا هو سر التداخل بين الهويات واللغات وتعبير عن الإيمان بالإله الواحد الأحد. كثير من العادات الشعبية توارثتها الأجيال حتى بلا أن تعرف لماذا، لكنها تستشف في مناطق عديدة، حين تضع العجانة إشارة مربعة + تذكر بالصليب على العجين كي يختمر، وأمور أخرى أصبحت تراثا مشتركا. أما وضع الذمي فلم يفرض دائما على كل مناطق المسيحيين ولم يتم حشرهم في معازل. ولم تكن الكنائس دائما مخفية، أو بلا أجراس، وقام العديد من المدارس والكنائس في المنطقة. 
إن ما حدث من تدمير لمراقد وقعت تحت حكم الدولة الاسلامية في الصيف الماضي يعكس رغبة بإلغاء هذه الحساسية الدينية المشتركة التي تجمع الكل وهي لدى الجميع بغض النظر عن فروقات المعتقدات.
هكذا، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل هوية هذه المنطقة التي شكلتها جميع هذه الثقافات، والأديان، واللغات، ونحن الذين نبحث، في هذه اللحظة، على هذه الثروة، نراها بالهجرة تنساب كالرمل بين أيدينا، ولا يمكننا سوى أن نبكي على مدى المعاناة التي عانى ويعاني منها مسيحيو الشرق منذ 1914 – 2014 إلى جانب باقي الأقليات الدينية الأخرى. اليوم في الشرق الأوسط كل هؤلاء الذين صاروا ضحايا السياسات وغُيّب تاريخهم ودورهم في أوهام جاءتنا من بعيد في الزمان والمكان.
هذا ما يحدث اليوم، من أشكال التهديد الخطير على قيمة وكرامة الشخص البشري في مجتمعاتنا.
أما المستقبل!!!
للمستقبل، نقترح العمل على غرس عميق لقيم شركتنا على أساس القانون الطبيعي والإنساني المشترك. سواء في الإطار الاجتماعي والاقتصادي أو في إطار السياسة، والسعي لتعزيز الفكر الإنساني عن طريق نشر الدراسات، وضمان تشكيلات الشركة على احترام الإنسان وإطلاق حملات توعية والدفاع عن حقوق الانسان، بالشراكة مع جمعيات ومنظمات أخرى تعنى بهذا الشأن.
أملا أن تؤثر هذه العوامل أيضا على مواقف واضعي السياسات، والإكثار  من المؤتمرات ووضع العديد من الشخصيات وصنّاع السياسة العامة أمام بعضهم البعض. والتأثير في وسائل الإعلام ومناهج المدارس خصوصا وتنقيتها من كل تحريض أو ازدراء أو انتقاص من الآخر.
هذا إلى جانب ضرورة تأسيس لجنة علمية من مساهمين في الموارد والخبرات بهدف إضفاء طابع رسمي على الالتزام بكرامة الشخص البشري.

الدكتور المطران يوسف توما
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان - العراق
دكتوراه في اللاهوت من جامعة ستراسبورغ – فرنسا
ماستر في علم الأجناس البشرية من جامعة نانتير – باريس، فرنسا
عمان الأردن 22 -  23 نوفمبر 2014

84

البيرو - قراطية والحاسوب - قراطية

قرأت قبل سنوات مقالا مترجما من الأدب الروسي المعاصر، جاء فيه أن شابا أراد أن يعرف معنى كلمة "بيروقراطية Bureaucracy"، فذهب إلى المكتبة العامة وطلب أن يستعير القاموس، وبدأ يقلب صفحاته، حتى وصل إلى الحرف "ب" ثم "ب ي"، وكم كان استغرابه أن لاحظ أن كلمة "بيروقراطية" غير موجودة، فالتفت إلى الموظف ليسأله عن السبب، فلاحظ الموظف أن تلك الورقة مشقوقة من القاموس، فاتهم الشاب أنه هو الذي مزقها، فأنكر هذا فألقي القبض عليه، وأودع في السجن. وهناك سأله أحد النزلاء عن سبب سجنه فحكى له الحادثة، وقال: "كنت أريد فقط أن أعرف معنى كلمة (بيروقراطية)، فقال له زميله السجين ضاحكا: "ها قد عشتَ البيروقراطية واختبرتها، إنها بالضبط ما حدث لك!".
تذكرت هذه الحادثة وأنا أستعرض كل ما يتم تداوله على شبكة الانترنت من كتابات وتعليقات وكلام فيه الغث وفيه السمين. لكن للأسف كمية الغث فيه أكثر. وأغلب المشاركين في "سوق عكاظ" الرقمية هذه ليسوا من المقيمين في البلد، أي من الذين يعانون من التهجير والنزوح وتلقي الهاونات على رؤوسهم (الذين لا وقت لديهم للترهات)، بل من الذين هاجروا إلى البلدان البعيدة، القاعدين تحت اجهزة التكييف أمام شاشات حواسيبهم، هؤلاء الهائجين المائجين على ما يحدث في بلادنا، الذين يشتمون ويلعنون بلا تردّد من في البلد من سياسيين ورجال دين، هؤلاء يمكن أن أطلق عليهم: "حاسوب - قراطيين"، أي الذين يشعرون بأن الحاسوب يعطيهم سلاحا وقوة تسمح لهم بتجاوز كل الحدود، فهم في الغالب يكتبون تحت أسماء مستعارة، ليختفوا كالملثمين الارهابيين، فيشعرون أن لا أحد يمكنه أن يصل إليهم ليعاتبهم أو يوبخهم بلطف على ما يجرؤون على قوله ضد من لا تحلو لهم تصريحاته، كما كتب عني أحدهم بعد تصريحي بأن خلق منطقة آمنة للمسيحيين أو لأي جماعة هو خطر فالمشكلة يجب أن تحل للجميع وأن المواطنة هي العلاج الأول والأخير لنا، وليس في تقسيم البلاد وتشريد العباد. فقال أحدهم من جماعة "الحاسوب- قراطيين" عني: "المطران يوسف لا يعرف التاريخ" (كذا)، ليسامحك الرب يا صاحبي، لأنك لا تدري ما تقول. لكن بعد التقصي وجدت صاحبنا يكتب من إحدى مدن كندا، ويعيش على مساعدات الدولة... ووقت فراغه كثير يسمح له أن يوزع من وراء شاشته دروسا لمن هم في معمعة الحدث وعلى خطوط النار ويحاولون رؤية الأمور من منظور شامل ويفكرون في أناة وصبر ويبنون بالحوار للمساعدة في إنقاذ هذا البلد من كل هذه الفوضى التي عمّت والتي لم يعد أحد يفهم منها شيئًا.
أقول لمثل صاحبنا هذا: عزيزي إن الاتهام رخيص وسهل جدا، خصوصا من موقعك واختفائك، أما العمل فدرجات، يبدأ بالسكوت أو كما قال المسيح: "إن هذا النوع من الشرور لا يخرج إلا بالصوم والصلاة" (متى 17/21)، كما يمكن أيضًأ إخراجها بالمقاسمة، أعني إذا تبرعت بكسرة خبز أو بكأس ماء فقد وفرت عونا لو توفر البارحة لأطفال جبل سنجار لما مات منهم خلال 3 أيام 40 طفلا.
أقول لكل من تسوّل له نفسه أن يعطي الدروس للآخرين ما قاله يسوع: "لا تحكم، لا تدين، فبالكيل الذي به تكيل يكال لك ويزاد" (مرقس 4/24)، أعط، - ولو القليل – وسيصير عالمنا أقرب إلى السلام وأجمل. لكن القسوة التي أراها في قلوب الارهابيين والذين يريدون استئصالنا من هذا البلد هي نفسها قريبة منك، بل موجودة فيك، وهي التي تخرج منك اليوم على شكل شتائم وانتقادات غير مسؤولة توزعها بلا رادع يمينا وشمالا، وإن لم تسكتها أنت فيك، ستتحول إلى عنف أكبر من الكلمات إلى اللكمات، ومن يدري إلى قتل حقيقي. وهذا ما رأينا ونرى في وسائل الإعلام، كل يوم, زعيق غير مسؤول وتهديد واتهامات تطلق جزافا. ألم يحذرنا المسيح من الكلام الذي في مقدوره أن يقتل؟ ألم يقل: "كل كلمة فارغة يقولها الناس يحاسبون عليها يوم الدين" (متى 12/36)؟ الجميع إذن يقف من الحقيقة على نفس المسافة، والحساب سيكون قاسيا على جميعنا، في اليوم الأخير، لا بالمقارنة مع ما يرتكب الارهابيون من بشاعات نراها ونسمعها كل يوم فقط، لكن بالمقارنة مع "الرحمة" التي في قلب ربنا وإلهنا، والتي قلّ من يفكر فيها حتى عندما يقولونها ويسمّونه: "الرحمن الرحيم"، على كل من يقولها أن يعكس هذه الرحمة على إخوته في حياته هو أولا!
لذا أقول لكل الساكتين الصامتين، عكس ما يقوله المثل الشائع: "إذا تكلمتَ لا تخف، وإذا خفتَ فلا تتكلم"، فالسكوت – كالكلام – في مكانه أمر جيد، أحيانا قد يصبح خطرا إذا سكتنا ولم نتكلم، وأحيانا يصبح الكلام أيضًا خطرًا، لكن لا بدّ من الشجاعة لكليهما شجاعة السكوت في محله وشجاعة القول. إذ ليس كل كلام مفيدًا، ولا كل سكوت نافعًا، وما وصلنا إليه من أحوال يقع في عين الوقت على الساكتين والمتكلمين. وأقول لأصحاب الكلام الفارغ: "أكرمونا بسكوتكم"، كما أقول للصامتين طوال الوقت: "لا تخافوا، قولوا ما عندكم"، فخوفكم هو الذي يجعل الأشرار يتمادون في غيّهم، ولو وجدوا من يقول لهم بحزم: "صَه، أصمت" (مرقس 4/39) لتوقفوا. هذه النتيجة تجعلنا نفهم أن كلا من الكلام والسكوت معا، يحتاجان إلى تدريب وتأمل، وبالرغم من وسائل الاتصال الحديثة، التي للأسف، وضعت أمام كل الناس بسهولة ويسر أن يعكروا حياة الآخرين بلا أن يكلفهم ذلك سوى الجلوس أمام الشاشة وإطلاق الأحكام "الحاسوب - قراطية".
المطران يوسف توما
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان
6 آب 2014   

85

رأي في موضوع: "هجرة المسيحيين: قرع أجراس الخطر"!

المطران يوسف توما
كان موقف الكنيسة في العراق من هجرة مسيحيي العراق إلى الخارج يتأرجح بين التذبذب والازدواجية، فيشعر أبسط الناس أن هناك فرقا بين ما يُقال وما يُعمل، وبقيت أسئلة كثيرة عالقة، تعود اليوم بشكل أقوى لعل أهمّها: "لماذا لا يقوم البابا بتسفير المسيحيين إلى خارج العراق، ألا يستطيع ذلك؟". كيف يمكننا أن نتعامل مع هذه التساؤلات في ظل الوضع الراهن في بلادنا؟ خصوصا وأن هنالك الجديد الذي يظهر مع تحوّلات عميقة في الكنيسة: على رأسها جاء البابا فرنسيس مختلفا منحازا إلى جانب الفقراء، وعلى رأس الكنيسة الكلدانية جاء بطريرك، أقل ما يقال عنه إنه يختلف عن أسلافه، وهذا الاختلاف يضعه في موضع تساؤل في مواقفه، خصوصا ما يخص الهجرة، فأغلب أتباع كنيسته أمسوا خارج الرقعة الجغرافية التي كانت في الماضي، من هنا جاءت رسالته الأخيرة (يوم 26 نيسان 2014) مثيرة للشجون والحيرة والتساؤل. أحاول في هذه الأسطر أن أنقل الموضوع من مجال الانفعال الذي سببته صرخة غبطته (خصوصا جملته: "نحن كنيسة منكوبة"!) إلى مجال آخر بتنا في أمس الحاجة إليه الآن، ونحن على أبواب منعطف كبير في تاريخ العراق المعاصر، بعد الانتخابات البرلمانية ليوم 30 نيسان الأخيرة.
 
الهجرة موضوع عالمي واسع وقديم تعرّضت وتتعرّض إليه شعوب عديدة، تعدّدت أسبابه ونتائجه، لذا قامت منظمات محلية وأجنبية تعنى بالهجرة، كالتي في الأمم المتحدة واستحدثت بلادنا وزارات الهجرة والمهجّرين، وارتبط الموضوع بحقوق الإنسان وبالمشاكل الاقتصادية والمالية في العالم. لكنّه اتخذ في كل زمان ومكان أشكالا جديدة وأبعادًا عكست مشاكل زمكانيّة كبيرة. فالهجرة ترتبط بما يحدث من تقلبات وتحوّلات وويلات، وعلينا أيضًا أن نقول: إن هجرة مسيحيي العراق والشرق الأوسط عمومًا اليوم ليست سوى جزء من مشكلة أكبر تعصف بهذه البلاد، وقد طالت الهجرة شرائح أخرى من مجتمعنا (قيل إن مجموع من هاجر من العراق في العقود الأخيرة يتجاوز 12% من السكان، وتجاوز عدد المهاجرين منذ عام 2003 المليونين). هاجر كل من تعرّض للاضطهاد والتنغيص ووقع في صراعات دينية أو قومية أو ذهب ضحية العصابات والإرهاب المتفشي الذي يعدّ علامة مميّزة لعصرنا، ويشبّه امتداد الإرهاب بالعولمة فلم تسلم منه دولة ولا مجتمع وننتظر ممن يكتبون التاريخ المعاصر، أن يلملموا الخيوط والملابسات الحقيقية فيطلعونا على ما يفيد ويوضح الصورة.
 
عمليا ينبغي أن نلاحظ أن الهجرة نوعان: واحدة إلى خارج البلاد، وهي التي تشكل الزعزعة الكبرى، والتحوّل الجذري للعائلة والمجتمع وتحدث التغيير العميق في بنية المجتمع. وهناك هجرة أخرى داخل البلاد نفسها (أو إلى دول مجاورة لديها نفس اللغة والعادات)، لكن هذه الهجرة لا تقل أهمية عن الأولى بل يقول الباحثون إنها تشكل 90% من مجموع الهجرات. وإن كان ممكنا إحصاء أرقام الهجرة إلى الخارج البعيد، إلا أن أرقام الهجرة الداخلية (والقريبة) أصعب تحديدًا.  
لا يمكن في تحليلنا أن نركز على هجرة المسيحيين العراقيين فقط، لنعطي صورة واضحة عن المشكلة، بالرغم من كون قلة عددهم في العراق يثير القلق والشعور بأننا كنيسة منكوبة كما قال البطريرك ساكو: "أقرع أجراس الخطر، وأعلن   اننا كنيسة منكوبة. وإن استمر الوضع على هذا المنوال فسوف لن يكون عددنا بعد عشر سنوات سوى بضعة آلاف!"، أي إنهم بالتالي الأكثر تضررًا في العراق من الهجرة، هذا إلى جانب كونهم عنصرًا فاعلا وعريقا في قوة انتمائهم إلى هذا الوطن وتجذرهم العميق والقديم.
 
مع ذلك، تبقى كل هجرة أيا كانت خطيرة، لأنها تشبه نقل نبتة من مكان إلى آخر، قد تحيا النبتة أو تموت، قد يكون ذلك مفيدًا وقد لا يكون، فتجذّر المهاجر في أرض جديدة ليس مضمونًا ولا ناجحًا على الدوام. وإن كانت الهجرة تبدو للوهلة الأولى حلا سهلا، وهذا ما تشجعه بعض الجمعيات والدول (لأسباب عديدة منها حاجتها إلى دماء جديدة أو خداما نشيطين أو حملة شهادات لا تتعب بهم...)، لكن إذا فكرنا أبعد من الحل السهل والحصول على تأشيرة واكتشاف بلد جديد (وللجديد لذة!)، سوف نرى أن المسالة أكثر تعقيدًا، إذ سرعان ما يكتشف المهاجر أنه قلّ من يُعنى باستقراره في بلده الجديد! وأن تلك المنظمات والمؤسسات التي ساعدته لا تعود تهتم به! وأن الضمانات التي يعطونها له لا تتجاوز المعيشة، أما نجاحه كمهاجر في تلك البلاد فليس مضمونًا، هذا إن لم يجد نفسه في أسفل السلم الاجتماعي، يصارع ليتعلم كل شيء من الصفر في ثقافة قد تكون بالغة التعقيد وبعيدة كل البعد عما عرفه في بلاده.
 
من جهة أخرى، هناك مسألة قد تغيب عن ذهن أغلب المهاجرين، بأن قرار الهجرة يجب أن يرافقه "وعي"، فمسألة الوعي جوهرية، وهذا يعدّ من أكبر منجزات القرن العشرين (خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية)، فقد وعت الدول التي عانت من الموت بالجملة، ليس أن الفرد "هش" وسريع العطب وقابل للموت فقط، وإنما الجنس البشري كله. لكن ما يميز الأجيال الأولى من المهاجرين هو فقد التوازن والوعي لأنهم يضيعون سنوات طويلة من حياتهم في تعلم اللغة والتكيّف للبلد الجديد، وبذلك يصبحون مستهلكين وغير فاعلين، في حين كانوا في بلادهم في المقدمة الأولى قادرين على أن يغيّروها لو بذلوا الجهد نفسه الذي يبذله المهاجر في تكيّفه واستقراره.  
 
المسألة إذن تكمن في الوعي، لكن الوعي أشكال: هناك وعي ضيق جدًا، أي اهتمام بالأنا وانغلاق على مسائل صغيرة لا فائدة منها ولا خير للآخرين فيها، وهذا سبب مآسي أغلب الناس، وخراب البلاد والعباد. من هنا نفهم أن الكل ينتقد الآخرين، لكنه لا يرى نفسه، فيبقى يراوح أجيالا في مكانه، والكل ينادي بالتغيير (كما في شعارات الانتخابات الأخيرة)، لكنه يقصد أن يتغير الآخرون وهو لا يفكر في تغيير نفسه.
 
من جهة أخرى، التاريخ أيضًا يحتاج إلى وعي خاص، وتجاهله يعيدنا إلى ارتكاب الأخطاء نفسها. ماذا نقرأ في التأريخ القريب منا؟ لقد عبرنا من فرض آيديولوجيات شتى فلسفية أو قومية أو اشتراكية، إلى الأسلوب نفسه بفرض آيديولوجيات دينية ومذهبية، هذا الفرض يستسهله بعض المنظرين السياسيين (ومسيسي الدين) باعتبار أن المسألة سهلة تكمن في مجرد التطبيق: أي إنها مثاليات فوقية (إلهية) أو أفقية (قانونية) أو نموذجية (مستوردة جملة وتفصيلا)، وهنا يقع الجميع في اعتبار أن هنالك أنموذجًا كاملا مكملا يجب فقط تطبيقه! مثل هذه الأفكار سادت العالم وأدت إلى قيام نظم قاتلة ومذابح جماعية، وإزاحة أناس "على الهوية" واعتبار أن لا مكان لمن لا يفكر مثلنا ولا يدين بديننا ومذهبنا ورؤيتنا. أفكار كهذه لم ولا يسلم منها شعب، وأقول لجميع مهاجرينا: أنظروا حواليكم جيدا وسترون أن كثيرين من جيرانكم يحملونها ضدّكم حيثما حللتم، وإنكم إن لم تكتشفوا ذلك بعد فاعلموا أنكم نيام!  
 
 يقول بعضهم عن إمكانيّة تدخل البابا في "تسفير المسيحيين العراقيين إلى الخارج"، لكن سؤالي هو: هل البابا معني بهذا، أو ليس الأحرى به بصفته أبًا للكل أن يعنى بعلاج أسباب الهجرة، لا هجرة المسيحيين فقط؟ والحال نرى في تصريح كل البابَوات الأخيرين وخصوصًا البابا الحالي فرنسيس، اهتمامًا بكل المتضررين والمتألمين والفقراء والمساكين. فالمسألة لديهم ليست في إنقاذ شريحة من المجتمع - وإن كانوا مسيحيين - ولكن إنقاذ الكل، لأن المسيح ليس مخلص المسيحيين فقط، بل كل البشر! وإن كنا اليوم نشهد ظاهرة انكفاء طائفية ومذهبية ومحاصصة قوميّة لدى الكثيرين، إن هذا ما يؤسف عيله، ولا أحد يريد أن يقع فيه البابا أو البطريرك. وإن كانت السياسات قد أصيبت بهذا الداء، إلا أن الصحيح هو إذكاء الشعور بأن على المسيحيين أن يبقوا أمينين لوطنهم ومخلصين لوحدة ترابه وإرثه، وأنهم يتمنون، برغم قلة عددهم، إنقاذ هذا البلد [1]. فالمسيحيون بفضل ثقافتهم وأصالتهم يمكنهم أن يقوموا بهذا الدور في بلادنا ويساعدوا إخوتهم بقية المواطنين، فمن يتألم ليس فقط شريحة ولا جماعة بل الكل يعاني ويحتاج إلينا كجسر مع الحضارات والثقافات الأخرى.
 
يستطيع المسيحي العراقي في تأصله وتجذّره في هذا البلد أن يُفهم الآخرين بأن بلادنا، كانت ولم تزل، نبعًا للحياة الروحية والفكرية، وإن كان العراق في ما مضى يعيش - كما قال الأب جان فييه الدومنيكي (1914 - 1995) (اختصاصي تاريخ المسيحية في العراق) كان المسيحيون في العراق (بين القرنين 5 – 12 م) يشكلون غالبية سكانه، وثلثهم يعيش حياة صوفية وروحية أو رهبانية، ودليل ذلك آلاف القلايات والأديرة والكنائس من شمال بلادنا وحتى الجنوب. لذا عظام أولئك الإخوة الأبكار وآثارهم وكتبهم تنادينا وتقول لنا: "أنقذوا بلادنا من التصحّر الذي تحدثه الهجرة، أنقذوها من الضياع والتشتت، ومن البكاء على الأطلال، وتطلعوا إلى مستقبل أفضل لكم ولأبنائكم بإسهامكم في بنائه".
 
لو استطعنا إذن إلقاء نظرة صحيحة على الماضي، لاستطعنا إعدادًا أفضل للمستقبل وذلك بقوة إرادة تجذّر حقيقية، وتمكنا من فهم ما يجري في عراق اليوم. أليس هذا ما دعا إليه يونان النبي أهل نينوى؟ فالدرس لم يكن لأهل نينوى بقدر ما كان درسًا للنبي يونان نفسه، فتعلم هو عن حقيقة الله الذي قال: "أشفقتَ أنت على الخروعة ... أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من إثنتي عشرة ربوة (الربوة: عشرة آلاف) من أناس لا يعرفون يمينهم من شِمالهم، ما عدا بهائم كثيرة" (يونان 4/10). هؤلاء هم "شعب الأطفال" الذين علينا أن نفكر بهم قبل كل شيء، لا أطفال جماعتنا فقط، بل أطفال العراق قاطبة.
 
إن المرء لا يولد مسيحيا، بل يصبح ذلك، عندما يعي أنه أخ لكل إنسان وخصوصا الفقير والمتألم، والمسيحي لا يهتم من بعد بالانتماءات الأخرى، وهذا صعب، لذا يتدرب عليه كل يوم عندما يصلي: "أبانا الذي في السماوات...". فإذا توسّع مدى النظر لديه أغنى بلادنا بهذه العودة إلى الحب ولاستطاع رؤية أمور أخرى وقراءة مختلفة عن السائد والمعروف، أي عليه أن يسير عكس تيار التخاذل والتعصب والخوف من الآخر والمجافاة والعنف والهرب. ويتذكر حيث ما ذهب أنه في حاجة إلى هذا الصراع. ألم يقل يسوع: "أرسلكم كالخراف بين الذئاب" (متى10/16)، ولا أخفي أن الصورة مرعبة، لكن يسوع يدرك تمامًا ما يقول، ويدعونا إليه ليس تخديرًا لمخاوفنا بل بالعكس شهادة على أن الذئب الذي يجب مقاومته هو في داخلنا، وعندما ننتصر عليه سيتغير العالم فنبقى معه في الحظيرة نفسها.
هل هذا ممكن؟ يبدو أن يسوع قد طلب المستحيل، وأعطى بموته عربونًا وثمنًا لهذه الحقيقة، أي إن لديه أمل بتحويل الذئب إلى خروف، ولولا ذلك لما كان من معنى في سرّ التجسد. لكنّه بقوة هذه الصورة يُفهم المسيحي رسالته الحقيقية، ولهذا يرسله ليتجسّد بين الذئاب، لا كي تصيبه العدوى منهم أو ليهرب منهم أو ليصير مثلهم، بل ليشفى ويشفيهم.
 
إن دعوة البطريرك لويس ساكو إذن هي دعوة إلى الشجاعة والرجاء وعدم اليأس، وهذا قد يعدّه البعض ضربًا من الجنون، لكن لا يهمّ، ففي هذا فقط تكمن عظمة المسيحيّة وروعة قديسيها، باتباع يسوع، وبهذا فقط سيشهدون له بحياة فاعلة متفائلة إيجابية سعيدة معطاءة، فالهرب ليس "نصف المرجلة"، بل بالوقوف في الصف الأمامي في المجتمع لنكون خميرًا ونورا وملحًا، ونعطي صحراءنا القاحلة خصوبة ونحذف من قاموس بلدنا مفردات الهدم والدمار، ونكتب من جديد عن الحب والخير والعطاء والبقاء.
 
المطران يوسف توما
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان
كركوك 1 أيار 2014

 

________________________________________
[1] في يوم 30 نيسان، يوم الانتخابات، ظهرت على القناة الشرقية  مقابلة للخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون المقيم في بغداد، وعندما وصل إلى ما آل إليه العراق، لم يتمالك نفسه فبكى أمام الكامرة’ فكان لدمعاته تلك تأثير أبلغ من كل خطابات المرشحين المتنافسين الذين بلغوا أكثر من عشرة آلاف، في حين هو لم يرشح نفسه بل بحكمة وقوة أعطى مقترحات عملية يمكن أن تخرج بلدنا من عنق الزجاجة.
 


86
أسقف ودومنيكي في آن معا!

المطران د. يوسف توما الدومنيكي
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان


في الرسالة إلى العبرانيين فصول مهمة عن الكهنوت يتطرق كاتبها إلى المسيح ككاهن أعظم ويشدد على تضحيته وقربانه ويضع كل مسيحي في علاقة كهنوتية مع الله. ولدى الأسقف ملء الكهنوت، وهو لم يعد رجل عبادة فقط، كما كان الكاهن في العهد القديم، وإنما إضيفت إليه صفة الراعي التي في العهد الجديد مثل المسيح الراعي الصالح. فإذا أردنا تعريف كهنوت الأسقف اليوم أقول: إنه حمل مشروع كبير فيه جوانب عدة من الكهنوت تحتاج إلى تفعيل وتخصّ تنوّع الخدمات وتعتمد على مصادر ثلاثة وهي: الكتاب المقدس، تقليد الكنيسة والحركة المسكونية. وهذا التنوّع يحمينا من إعطاء صورة أحادية ضيّقة عن هذه الخدمة الكهنوتية، فهي تفترش الحياة المسيحية بشمولية.

تناول المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 -1965) أهمية التسلسل الرسولي كدعوة إلى التعاون من أجل رسالة الكنيسة الشاملة فالأسقف مع كهنته يرعى باسم المسيح "الجماعة الكهنوتية"، كجسم أي بمثابة "سر" لوحدة الله والإنسانية معًا، والكنيسة تعمل ذلك على ثلاثة محاور:
-   إعلان قرب مجيء ملكوت الله،
-   خدمة البشرية،
-   إفساح المجال لله بالصلاة.

لذا في كل أسقف (وكل كاهن أيضًا) نجد ثلاث مهام كانت قبلا موزعة في العهد القديم على كل من: النبي والملك والكاهن، وتتمثل لدينا في الشهادة (نبوية) والخدمة (ملكية) والطقوس (كهنوتية)، ولا يقتصر ذلك على الكلام لكنة يتطلب أيضا أن نزرع ونفعّل العمل واقعيًا. فالملكوت الذي بدأه يسوع المسيح كان كبذرة صغيرة ذقنا بها طعم الحياة الجديدة مع الله، بين الإخوة، ومقياسها الشركة (أو التناول) بالروح القدس. ومنذ البداية طلب يسوع من البعض أن يعلنوا ويحتفلوا ويخدموا، وعبر التاريخ ظهر مؤسسات عدة لكل منها إحدى هذه الثلاثة: فهذه تعلن وتلك تحتفل وأخرى تخدم. وهذا ما اتضح تمامًا منذ القرن الثاني للقديس أغناطيوس الأنطاكي (+ 107 م) الذي قال عن الأسقف: "إتبعوا الأسقف كما اتبع يسوع المسيح الآب" (أزمير 8) فهو الذي يجمع القطيع في جماعة واحدة محلية.

تقول الكنيسة الكاثوليكية إن الخدمة الأسقفية تعود إلى بدايات العهد الجديد، ولكنها لم تبرز بوضوح إلا في القرن الثاني فالبذرة كانت في الإنجيل. والأسقف كلمة يونانية (إبيسكوبوس) موجودة في الرسائل الراعوية تعني "حارس" أو "مراقب عمل"، ويعود ذلك ما أراده المسيح نفسه أن يضع تركيبة للخدمات تزامنت مع تأسيس العهد الجديد، إنطلقت من الخبرة الفصحية ومع ما جرى من تحوّل على جماعة الرسل الإثني عشر، الذين كانوا يمثلون أسباط إسرائيل وانطلقوا إلى العالم كله. لكننا نعلم أن بعض الجماعات المسيحية الأخرى قد تعطي تفاسير مختلفة أكثر عملية، أو أكثر مهنية أو وظيفية، ... لا يهم، فالتعاقب الرسولي بالنسبة إلى الكاثوليك مهم جدا وكذلك بالنسبة إلى الإخوة الأرثوذكس والنساطرة.

الأدوار الأخرى مع الأسقف
نحن في خضم تقلبات كبيرة في تاريخ المسيحية في العراق وما يحدث يجبرنا على أن نستنبط طرقا جديدة للخدمة والاستفادة من العلمانيين الشجعان الأسخياء وبالرغم من تشوّش المشهد أحيانًا، إلا أنه يجب أن لا نخاف، وذلك بالاعتماد على الجانب النظري والاستفادة من ممارسات الأبرشيات الأخرى في العالم، خصوصا في بلاد عانت من قلة الكهنة فأسست جماعات جديدة وتوسّع مداها وقبلت بنوع من الشدّ بين تقليد عقائدي وتلبية حاجات طارئة كالقداديس والأعياد وخدمات الرعاية. وقد لجأت الكنيسة في السنوات الأخيرة إلى رسامة متزوجين (في أبرشيتي 6 كهنة 3 منهم متزوجون)، ففي كنيستنا ليست العزوبية قطعية وإنما هي من أجل الحرية، التي هي جزء مهم من الكهنوت، فإن كانت العزوبية تجيب على أمانة للمسيح، لكن أمانة الكاهن المتزوج في اعتقادي هي امتحان مثل الأمانة في الزواج، وهذا يبعث على التفكير، فالحالات الخاصة ليست سهلة وخبرات الكنائس يمكن أن نستفيد منها لكن قد يكون هناك أهمية لإعادة النظر في الفصل الذي قد يحدث للكاهن عن المجتمع، فكما أن المتزوج ينفصل عن كل الروابط الأخرى، لكن يمكن للعزوبية الكهنوتية أن تكون منبعًا لحرية أكبر تخلعه من الرابط العائلي وتضعه في خدمة أشمل، فيخرج من سلسلة الأنساب والواجبات الاجتماعية نحو الخلف وهذا يمكن أن يجعله أخا لجميع البشر.

تمرّ الكنيسة اليوم في مرحلة صعبة وعليها أن تحل هذه المشاكل بمخيلة أوسع وطرق عديدة مبنية على أسس لاهوتية. والفترة التي نحن فيها حساسة ويجب أن نصغي إلى ما يقوله الشعب، والحاجات قد تستدعي لا كهنة متزوجين فقط، لكن رسامة شمامسة إنجيليين أكثر، إلى جانب إعطاء المرأة مكانة أكبر في خدمة الكنيسة. فيكون لهن مهمة استنباط لمشاركة أكبر كشماسات وإعطائهن قدرا أكبر من القرار في حياة الكنيسة، وبهذا سأسير على خطى سلفي في أبرشية كركوك غبطة مار لويس روفائيل الأول ساكو.       

بعد 33 سنة من الكهنوت في الرهبنة الدومنيكية
كانت خدمتي الكهنوتية في الرهبنة الدومنيكية تختلف عن خدمة كاهن الرعايا، فهذه محدّدة على قطعة جغرافية معينة وتدخل ضمن إطار التعاون والطاعة للأسقف، لكن الخدمة الرهبانية الدومنيكية تندرج في اختلافها بعيشها في رهبنة تأسست عام 1215 كجماعة لخدمة الوعظ في الكنيسة، والرهبنة ككل تطيع البابا وهي رهن اشارته، لكن الأخ مرتبط بالجماعة الرهبانية بنذوره، إنها خدمات خاصة، تحاول سدّ فراغات معينة متخصصة، من هنا جاء تعدد الرهبنات وخدماتها ووحدة الخدمة الاكليريكية. لأن عالمنا يمشي نحو التعقيد والتباين، لذا توجب التكيف للحاجات الجديدة التي تظهر. وقد تعلمت من الحياة الرهبانية أن وازن بين الجانب العملي والنظري، فكلاهما ضروري. وقد أحببت حقًا دعوتي الرهبانية، لأنها ساعدتني في خدمة التعليم والكرازة، فأسهمت خصوصًا في الثقافة وفي تنشئة عدد كبير من الكهنة والراهبات والعلمانيين (في الدورة اللاهوتية) على مدى هذه العقود الثلاثة، وحاولت أن أعطي أسسا لاهوتية للأجيال اللاحقة، لقيام معلمين ومبشرين يهمهم إعلان بشرى الإنجيل والحياة بالأسرار، لذا يسعدني اليوم بأسقفيتي الجديدة أن أقارب بين هذين النوعين من الخدمة، رهبانية كانت أو أسقفية، وإني بالرغم من تقبلي الأسقفية، وتركي السلك الرهباني، إلا أني لا أزال أحمل مع إسمي صفة "الدومنيكي".

كركوك 21 شباط 2014
نشرت في نشرة أبرشية كركوك
نشرة دينية ثقافية فصلية
السنة العاشرة العدد 37 آذار 2014

صفحات: [1]