بين بغداد ونيويورك .... مليون تمثال للحرية !!
فالح حسون الدراجي
falehaldaragi@yahoo.com
فالح الدراجي يكتب من نيويورك :-[/color]
في الطائرة العملاقة التي أقلتني من مطار ساندياكو في كالفورنيا، الى مطار ( لكَوارديا )في نيويورك، جلسَت بجانبي صبيتان أمريكيتان جميلتان، لم تصلا الثامنة عشر من العمر بعد، وفي الوقت الذي كنت منشغلاً فيه، تارة بقراءة الجزء الأول من كتاب يروي قصة تأسيس العراق، وأحتلاله ، ثم أستقلاله، وأنقلاباته العسكرية ، ونكساته ، وقصة النفط في العراق ، وأطماع الدول الأجنبية فيه، والذي حمل عنوان (العراق، دراسة في علاقاته الخارجية ، وتطوراته الداخلية ) للمؤلفين البريطانيين أديث ، وأيف بينروز، وبالأستماع الى رائعة جايكوفسكي الذي تتسلل موسيقاه الى القلب، قبل الأذن تارة أخرى ، كانت الصبيتان في ذات الوقت منشغلتين بالحديث ، والمزاح تارة ، وبمشاهدة الفيلم المعروض على شاشات الطائرة تارة أخرى ، وفي لحظة أستمتاع مذهل ، كنت أغمض عيني فيها، لأمضي محلقاً مع الموسيقى الباهرة ، صرخت أحدى الصبيتين بأعجاب شائع : - ..... نيويورك ... واو (!! my God )
ألتفتُ الى الصبيتين لأستطلع الأمر، فوجدتهما واقفتين تنظران بدهشة الى ماوراء النافذة ،أرسلت بصري معهما الى ذات الأتجاه ، فوجدت منظراً خرافياً تحت النافذة ، منظراً قد لاتجد له مثيلاً حتى في الأحلام المستحيلة ، أنها نيويورك ، نيويورك في الليل !!
ولكي تصدق سريالية تلك اللوحة ، عليك أن تطل ليلاً على نيويورك من الطائرة بأرتفاع ألفي قدم، أوأكثر بقليل، لترى بأم عينيك كيف يكون الجمال الساحرالخلاب، وكيف تكون القدرة الألهية المذهلة، حين تجد لها على الأرض عقولاً مبدعة، ترسمها بحب، و! تنفذها بأخلاص ، ولكي تتأكد بنفسك،عليك أن ترى كيف يمتزج الطبيعي بالصناعي،أوكيف تمتزج الفنون ببعضها، فتنتج لنا لوحة، او قصيدة ، أوسمفونية أسمها نيويورك ، أو باريس، أو فينا !!
حمدت الله وأنا أسحب بصري من فوق تلك الخرافة المضيئة، شاكراً له هذا الحب للأنسان والحياة والجمال، ملوِّحاً بيدي للسماء، مباركاً للطبيعة والأنسان ذائقتهما الفريدة، لحظتها أغمضت عيني على تلك الصورة الباهرة ، وكأني أريد لها أن تظل في عيني الى الأبد!!
وبينما كناجميعاً مبهورين بجمال نيويورك، ومنشغلين بسحرألوانها المضيئة من فوق أكثر من ألفي قدم ، همست بأذني أحدى الفتاتين قائلة بأغراء لا يخطأه الرجال قطعاً :-
أتقيم في مدينة نيويورك سيدي ، أم في مدينة أخرى ؟!
قلت لها :- كلا ، أنا أقيم في كالفورنيا ، ولكن أين تقيمان أنتما ؟
قالت الفتاة نفسها :- نحن نسكن في كالفورنيا أيضاً ، وتحديداً في مدينة لوس أنجلس !!
قلت لهما :- وهل أنتما شقيقتان ؟
قالت الفتاة الأخرى :- كلا ، نحن صديقتان ، وندرس معاً في الصف الأخير من الدراسة الثانوية ( الهاي سكول ) ، وقد جئنا الى نيويورك لقضاء عطلة الأسبوع ؟
قلت : - وهل أستطيع أن اقدم لكما خدمة ما ؟
قالت الفتاة المجاورة لي :- سنكون شاكرين لك، لوسمحت لنا في المبيت معك الليلة فقط!!
أعتذرت لهما بلطف ، ولياقة ، وقد بررت لهما ذلك ، بالقول بأني أزور نيويورك بدعوة رسمية ضمن وفد متخصص بحقوق الأنسان ، وأظن بأن الأمرسيكون مخي! باً لآمال الجهة التي دعتني ، لوعلمت ( هذه الجهة ) بأني أستضيف معي في الغرفة صبيتين تحت السن القانونية،لكني أعترف بأني فرحت في سرِّي لطلب الفتاتين، وقلت:(أخذ فالها من اطفالها)!
أسد بغداد في المطار
[/color]
ما ان حطت الطائرة، وقبل أن تفتح الأبواب، حتى رن هاتفي الجوال : -
ألو أبو حسون ... الحمد لله على السلامة ، نحن بأنتظارك في الصالة !!
كان المتحدث الصديق العزيز الأستاذ حميد مراد رئيس الجمعية العراقية لحقوق الأنسان في الولايات المتحدة الأمريكية ، أذ كان قد وصل قبلي الى نيويورك بساعات قليلة قادماً من محل أقامته في ديترويت ، تسلمت حقيبتي، وقبل أن أتجه الى الصالة ، لمحت الأستاذ حميد مسرعاً نحوي ، وما أن تعانقنا ، حتى أطل علينا الفريق أحمد كاظم أبراهيم ، وكيل وزارة الداخلية السابق ، والوزير المفوض الحالي في ممثلية العراق لدى الأمم المتحدة ، وبمحبة عراقية خالصة، ومودة صادقة أحتضنني أبوعبد الله، وعانقني عناقاً أخوياً حاراً .
كان الأتفاق أن لانحرج أحداً في أقامتنا ، ولا نكلف صديقاً عزيزاً في تنقلنا ، لذلك قررنا مسبقاً أن نقيم في أحد الفنادق القريبة من مقرالأمم المتحدة ، مهما كانت تكاليف الفندق ، فجمعيتنا التي تحملَّ أعضاؤها على مدى السنوات السبع من عمرها بأباء ورأس مرفوع ، كل المصاريف والتكاليف والأيجارات المكلفة ، سواء لمقرها في ديترويت ، او لنشاطاتها الواسعة والكثيرة في كل الولايات المتحدة ، و في خارج الولايات المتحدة أيضاً ، دون أن تقبل من غيرأعضائها دولاراً واحداً، ودون أن تمد يدها و تطلب من أحد درهماً واحداً، سواء كان هذا ( الأحد ) حكومة ، أو كياناً سياسباً ، أومؤسسة أقتصادية ، أو شخصاً عادياً ، أو( شخصة)عادية !!
ويقيناً أن هكذا جمعية، وبهكذا عفة، وأباء،لايمكن حتماً أن تحرج صديقاً ، أو مسؤولاً حكومياً في مثل هذه الأحوال !! ألا أن الفريق أحمد كاظم رفض ذلك بشدة ، وأصرَّ على أن نقيم في شقته الواسعة ، والقريبة من الأمم المتحدة ، بخاصة وأن زميلنا العزيز داود يلدا ، مسؤول العلاقات في الجمعية العراقية لحقوق الأنسان ، قد سبقنا الى شقة أبي عبد الله منذ ساعات ، وحين لاحظ الفريق أحمد ترددنا ، سحب الحقيبة من يدي بلطف، ودفعها الى السائق الذي كان ينتظرنا في الباب الرئيسي للمطار،وهو يقول له : (أطلع أخويه ما عليك بالجماعة ) !!
وأزاء أصرار الفريق أحمد على ذلك، وافقنا على طلبه الكريم ، وتوجهنا الى شقته ، وللحق فأن لسان أبي عبد الله ، لم يتوقف عن الترحيب والسلام طيلة الطريق الممتد بين المطار والشقة ، سائلاً عن أحوالنا ، وأمورنا ، وزملائنا واحداً واحداً . كانت شقة أبي عبد الله في واحدة من أهم وأرقى مناطق نيويورك، كما أن المجمع الذي يضم الشقة، هومجمع فاخر، بخاصة وأن أغلب سكانه هم من الدبلوماسيين المرموقين، والكفاءات العلمية ، والشخصيات الأكاديمية. وحين غادرنا المصعد ، وسرنا خطوتين في ممرات الطابق الذي فيه الشقة ، كانت رائحة المقليات والمشاوي العراقية ، (تعطِّر) أرجاء الطابق، فتتسلل الى الشقق الأخرى من النوافذ والأبواب، ألتفت لي الزميل حميد مراد مبتسماً، وهويقول:- (ها أبوحسون، يبين أخوك أبوسرمد علكَها خوش علكَه)!!
وعند باب الشقة ، كان العناق ( حاراً ) مع داود أبي سرمد، الذي أستقبلنا ورائحة البصل والبهارات ( تفوح ) من بين أكمامه !!
وللحق فأن لقاءي مع أخي أبي سرمد كان لقاءً ذا شجون ، فمشاعري تجاه هذا الصديق، مفعمة دائمة بالحب والمودة ، فهذا الأنسان النبيل،الذي - لفرط نقائه وطيبته - تكاد لا تجد له! عدواً واحداً في كل الدنيا ، رغم كرهه وعداءه الشديدين للصداميين ، والعفالقة ، ذلك الكره الذي أكل بأنياب السجون والمعتقلات أحلى سنوات الشباب من عمره،كما أن مساحة الفراق التي أتسعت بيني وبينه بعد أنتقالي الى كالفورنيا ، زادتنا أشتياقاً ومحبة لبعضنا !!
تناولنا العشاء الفاخرواللذيذ ،الذي أعده زميلنا أبوسرمد بمفرده ، ثم بدأت قصص الأحزان والسوالف تتوالى ( وسالفة تجر سالفة ) حتى الساعة السابعة صباحا ، ولم يكن غيرأسم العراق الجميل، أسماً على شفاهنا تلك الليلة، أذ يشهد الله ، بأننا لم نتحدث ليلتها بغيرجرح العراق، ووجع العراقيين، ولم نأت على موضوع يخلو من حب العراق الحبيب قط ، وأذا كنت والزميلان الأستاذ حميد مراد، وداود أبو سرمد، مهمومين بهمِّ العراق ، وموجوعين بوجع العراقيين، فأن أبا عبد الله (الموجوع أبداً) بأسى العراق، والمدمى بجراح العراقيين، كان أكثرنا ألماً وهماً ووجعاً. وحين أهديته نسخة من سمفونية المقابرالجماعية ، لم ينتظر الرجل لحظة واحدة ، فقد نهض في الحال ووضع الشريط في ( المسَّجل) ليسمعها بصمت وخشوع مؤثرين ، ثم راحت دموعه تتساقط بغزارة ، يا ألهي ، كم هومُرُّ ومؤلم ، ومهيب أيضاً ، مشهد الر! جال وهم يبكون على رحيل صديق ، أوغياب عزيز، أوأستشهاد وطن ؟!
على كرسي كوفي عنان
[/color]
لم ننم تلك الليلة أكثر من ثلاث ساعات، لنسيقظ مرتبكين ، فاليوم هوالجمعة ، وغداً تأتي عطلة الأسبوع (الويك أيند) وبرنامج زيارتنا مزدحم بالأعمال، واللقاءات، والزيارات! ، أذ يتوجب علينا أن ننجز اليوم ، الكثيرمن الفقرات والنقاط المدرجة على أجندة الزميل رئيس الجمعية، لذا كان علينا أن ننفذ(أوامره) مهما كانت قاسية، بما فيها (نومة الصبح العزيزة) ، والا فأن ثمة الكثير من المواعيد والمشاريع ستمضي هباء، وثمة الكثيرأيضاً من الفقرات ستمضي دون تحقيق.
وهكذا وجدنا أنفسنا بعد دقائق معدودة في مقرهيئة الأمم المتحدة ونحن نلهث، وبفضل وجود الوزير المفوض أحمد كاظم ، ومرافقته لنا ، تمكنا من الدخول بيسرالى مقرالأمم المتحدة - رغم صعوبة الظروف - ذلك المقرالكبيروالمهيب جداً ، وقد أستطعنا في الوقت الضائع، من تحقيق عدد من اللقاءات مع بعض موظفي الأمم المتحدة ، سوف اترك مهمة الحديث عنها الى فرصة أخرى.
وقبل أن ننهي زيارتنا، ونغادر مقر الأمم المتحدة ، طرحت على الفريق أحمد رغبتي الشخصية في زيارة مقر مجلس الأمن، وتحديداً لتلك القاعة التي أتخذ فيها قرارأسقاط صدام قبل ثلاث سنوات، وكم كانت فرحتي كبيرة ، حين سمعت أبا عبد الله يقول لي وأبتسامته تضيء وجهه :- (بسيطة وأتدلل أبوحسون)!!
، لحظات قصيرة ، وأذا بي مع الزملاء في القاعة الرهيبة، قاعة مجلس الأمن الدولي. أستقبلنا مسؤول ( السيكيورتي ) مبتسماً ومرحباً بنا، وهويسلم بحرارة على الفريق أحمد، وعلينا واحداً واحداً ، ثم لنلتقط معاً صورة تذكارية جميلة ، وحين دخلنا القاعة (المباركة) ، وقفت مشدوهاً وسطها ، وأنا أقول بصوت خفيض: يا ألهي أفي هذه القاعة أسقط صدام المجرم، وهنا تم الأجماع الدولي والأنساني ( بكنِس ) أكبر نظام معاد للمجتمع الدولي، وللأنسانية، هل كنت سأصدق، لوحلمت يوماً بأني أدخل مع زملائي بصحبة احد كبار البعثة العراقية في نيويورك، قاعة مجلس الأمن الدولي،أقصد نحن الذين كنا نهرب الى الرصيف الآخر(رعباً) حين نمربأحدى سفارات النظام الصدامي في عمان،أوبيروت،أو الواق واق؟!
وقفت وسط القاعة وأنا انظر أليها بلهفة وفرح عجيبين، حتى أردت- من فرط لهفتي - تقبيل أبوابها، ولثم خشبها، كما تمنيت أيضاً أن أحنِّي بكفي جدران وأبواب تلك القاعة بالحنَّاء!!
فلولا هذه القاعة المحصنة بهذه الجدران وهذه الأبواب، لما فتحَت للعراقيين أبواب الحرية على مصراعيها ، ولما شرعت لهم نوافذ الديمقراطية بهذه السعة ، وهذا الأنفتاح !!
في تلك اللحظة خطر ببالي أمر في غاية الجنون، حين جاءتني فكرة ! الجلوس على كرسي المستر كوفي عنان، لأعيد من خلف طاولته ذلك الأعلان العتيد، اقصد أعلان قرار أسقاط صدام ، كما فعلها (العم عنان) قبل ثلاث سنوات .
وما ان قدحت الفكرة ، وأستقرت في رأسي، حتى مضيت مسرعاً نحو كرسي كوفي (ابو سمرة) وسط دهشة وأستغراب الجميع، لأجلس(براحتي) على ذلك الكرسي، وأنا أعيد دور السيد كوفي عنان ، وبجدية واضحة ، أخفضت الماكرفون الخاص بالرئيس نحوي، وأقتربت منه جيداً، ثم صحت بصوت عال :- "Saddam's Regime Must Go" ومعناها بالعربية : يجب أن يرحل نظام صدام !!
ولتوثيق تلك الذكرى ، ألتقطنا صوراً ( تأريخية ) عديدة ، بعدها غادرنا القاعة ، لنتوجه نحومسؤول الأمن في القاعة ولساننا يلهج بالشكر والتقدير لتلبيته جميع رغباتنا !!
بعدها ألتقطنا مع الفريق أحمد ، وبعض العاملين والموظفين في مكاتب الأمم المتحدة صوراً تذكارية أيضاً، وللحق فقد لفتت أنتباهي الطريقة الودية والكيسة جداً، في تعامل الموظفين في مكاتب الأمم المتحدة، وخاصة رجال الأمن منهم مع وفدنا، بل ومع الموظفين العراقيين عموماً، خاصة وهم يفتحون لنا أبواب قاعة أجتماعات مندوبي مجلس الأمن الدولي خارج الدوام الرسمي.
وحين سألت عن السبب في ذلك، اخبرني الفريق أحمد، بأن السلوك الرائع ، والأخلاق العالية والرفيعة، لأفراد البعثة العراقية في الأمم المتحدة، وألتزام جميع العاملين العراقيين بالتعليمات المتبعة ، والقوانين المعمول بها ، بدءاً من الأستاذ السفير سمير الصميدعي ، وأنتهاءاً بأصغر موظف في الممثلية.
قد جعل كل العاملين في المكاتب الرسمية الدولية، وخاصة رجال الأمن، ينظرون لموظفينا نظرة أحترام وتقدير خاصتين، ناهيك عن السمعة الوطنية العالية التي يتمتع بها الشعب العراقي في جميع أنحاء العالم ، ضف لذلك صمود العراقيين اليوم بوجه الأرهاب والتدمير، مما جعل صورة العراقي كبيرة ، وزاهية في المحافل الدولية . وللحق - والكلام للفريق أحمد - فأن شخصية السيد وزير الخارجية هوشيار زيباري ، وتهذيبه العالي، وعراقيته التي لايفرق من خلالها بين دين ودين، او بين مذهب ومذهب، او بين قومية وأخرى، فضلاً عن متابعته الحثيثة للبعثة بشكل خاص ، قد أنعكس أيجاباً على حضور ونشاط وسلوك أفراد الممثلية جميعاً .
مخلمة جريذيه ، ومخ واوي !!
[/color]
تركنا قاعة مجلس الأمن ، نحو صالة مطعم ( الأمم المتحدة ) وهو أكبر مطعم أراه في حياتي! ، أذ تتوفر فيه كل ، أو ربما اغلب الأطعمة في قارات العالم السبع ، وقد شدَّ أنتباهي أن سعر الأطعمة فيه يحسب بالوزن ( أي توضع الصينية بكل مافيها في الميزان ) وعلى ضوء وزن (الصنية) يقرر السعر، وهذا لعمري أمرليس له مثيل في كل المطاعم الأخرى في العالم، أذ عادة ما يكون الحساب على قياس نوع الأطعمة ، وأسعارها التي تختلف فيما بينها ، وليس على وزن الصينية !!
أضافة الى أني وجدت من الغرابة بمكان ، أن بعض الأكلات التي وفرها مطعم الأمم المتحدة لبعض مندوبي وموظفي الشعوب (العجيبة) ما لا يصدقه العقل أبداً، فهناك الدجاج والسمك ولحم الخروف والبقروالخنزير، وهذه أكلات طبيعية ومعقولة يتناولها أغلب البلوماسيين والعاملين في مقر الأمم المتحدة، بل وقد وجدنا هناك لحم ( حلال ) أيضاً .
لكن المصيبة أن هناك أكلات لايرضى بها الله ولا رسوله ، بخاصة وهي الاكلات المفضلة لبعض الشعوب الأفريقية ، والآسيوية ، والسنسكريتية ، ومن بين هذه الأكلات ( مخلمة جريذيه ) وكذلك ( مشكَّل مخ ولحمة راس الواوي) وهناك أيضاً (جلفراي عكَاريكَ) ثم( كلاوي حصان) ولا أعرف هل للحصان ( الفطير) كلاوي؟!
ولاحظت ضمن أطعمة الشعوب الأخرى أيضاً ( أضلوع القرد ) وكذلك كباب ، ومعلاكَ وتكة لحم ( النمر)!! وهناك( مرق الأفعى) وهلم جرا ! (لحد لعبان النفس)!! لكن هذا لايمنع القول ، بان في هذا المطعم الكثير من الأكلات والفواكه والعصائر والمرطبات والحلويات التي ( تشَّهي العليل ) وتسر العين والقلب، ولكن يبدو أن لكل شعب طعامه الخاص ، وأكلاته الخاصة.
خرجنا من المطعم بعد أن شبعنا (بفلسين ونص) ، وفي ممر مقر الأمم المتحدة الرئيسي، مررنا بأعلام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهي أعلام كبيرة وفخمة ، موضوعة بترتيب ، ومنظمة تنظيماً مدروساً ، وما أن لمحنا بينها علم العراق الحبيب، رغم(عبارة الله وأكبر الصدامية) ولا أقصد طبعاً عبارة (الله وأكبر المحبة والأذان والأيمان)! حتى هرعنا اليه راكضين مثل العطاشى التائهين ، وهم يرون الماء السلسبيل أمامهم ،أحتضنا العلم بصدق ومحبة خالصة ، وكأننا نحضن فلذات أكبادنا ، حتى أن دموع بعضنا بللت ألوانه الزاهية !!
وللحق فقد كان المشهد تراجيدياً ، مؤثراً ، لفت أنتباه العشرات من المارين في ذلك الممر!! كفكفنا دموعنا بصمت، وخرجنا من مقرالأمم المتحدة مسرعين نحومقرالممثلية العراقية لدى الأمم المتحدة، حيث ينتظرنا السفيرالأستاذ سميرالصميدعي.
السفير شاعراً !!
[/color]
حين تدخل مقر البعثة العراقية في نيويورك، تشعر و كأنك تد! خل بيتك ، وربما اكثرمن بيتك أماناً، وألفة، ومودة،حيث يستقبلك عند الباب عدد من الشبان الأنيقين (الحلوين) والمتعلمين تعليماً ممتازاً، فهم يتحدثون الأنكليزية بطلاقة، والعربية ، والكردية ، وفيهم من يتحدث الكلدانية أيضاً ، فضلاً عن البشاشة والأبتسامة المزروعتين في وجوههم زرعاً.
يا الهي: أين هؤلاء الفتية الرائعين،من أولئك القساة،الغلاظ، من (ذوي الشوارب) الكثة الذين كانوا يستقبلونك من الباب الى الرصيف ، بوجوههم الكريهة ، وألسنتهم (المعوجَّة) وأخلاقهم المخابراتية؟ وما أن ندخل الى مكتب السفيرسميرالصميدعي ، حتى نجد الرجل واقفاً في أنتظارنا ، وبعد التحية والسلام ( وشلونكم وشلونكم بعد ) ، قدمنا أنفسنا الى السفير واحداً واحداً، حسب خصوصيتنا الأدارية في الجمعية ، وحين وصلني (الِسرَه) قلت له وأنا أقدم نفسي :- فالح حسون الدراجي مسؤول فرع الجمعية في كالفورنيا ، فأجابني السفير باسماً (ياميَّة هله بيك وبكل كلفورنيا) !!
في البدء تحدث الزميل حميد مراد ، حيث طرح عدداً من الملاحظات والنقاط الهامة جداً، مثل الموقف من اللاجئين في رفحاء، وعلاقة حكومات بلدان اللجوء باللاجئين العراقين بخاصة بعد سقوط نظام صدام، وأرتفاع بعض الأصوات التي تطالب بأعادة اللاجئين العراقيين في بعض بلدان اللجوء الى بلدهم العراق ، مثل الدانمارك والسويد وهولندا وألمانيا وغيرها .
، وقد أبدى الأستاذ السفير تفهماً كبيراً لهذه القضايا ، وقد وعد بالتدخل حسب قدر المسؤولية لحل المشكلات الممكن حلها .
وقبل أن نختتم هذا الزيارة ، وبعد أن علم بأن الوفد يضم شاعراً، قال الأستاذ الصميدعي ضاحكاً:(يابه أخوان ، ترى أحنه هم شعراء، موبس انتوا) ثم أخرج من درج مكتبه قصيدة مكتوبة بالفصحى، كان قد كتبها السفير الصميدعي عندما عاد الى العراق قادماً من باريس، وتحديداً عندما وصل منطقة خان بني سعد، حيث البؤس يغلف حياة الناس، والوساخة والنفايات، والأوحال تحيط بالبيوت الفقيرة، والشوارع الرثة من كل مكان ، وقد قارن الصميدعي بين الصورتين ، صورة باريس وشوارعها الأنيقة ، وبيوتها المترفة، وصورة خان بني سعد المعاكسة لها تماماً، حيث يقول السفير الصميدعي في قصيدته هذه ، وهو يحذو حذو أمرؤ القيس في معلقته الشهيرة :-
قفا نبكِ من ذكرى زقاق ومنزل .... بحي بني سعد ... فقير مهلهلِ
تحاصره الأوحال والبؤس ظاهر .... على كل وجه فيه أصفر ناحل
تهوم أشباح من الناس حوله .... وأنظارهم حيرى لطول التحمل
كلهم موتى تأجل دفنهم .... يسيرون ، أو هُم في أحتظار مطوّل
تذكرته والسين يجري بقربنا .... وباريس خدرُ من حرير ومخمل
فمن كل صوب تشرح! الصدر صورة .... وفي كل مبنى آية الفن تنجلي
رفاه وأمن وأنفتاح ومربع .... بلاد تزكَّت من فقير وعائل
وكان عليهم قبل صدام فضلنا .... ومن بعده صرنا محط التفضل
ويستمر الصميدعي في قصيدته حتى البيت التاسع عشر، حيث يختتم القصيدة ، فنختتم لقاءنا به ، لنمضي جميعاً الى السيد محمد المحيميد ، وهو واحد من اركان الممثلية البارزين ، بل يقال بأنه الداينمو المحرك لعمل الممثلية ، غادرنا مقر الممثلية بعد أن شبعنا من المحبة العراقية ، والدفء العراقي ، والصور التذكارية أيضاً !!
يطبيب صواب دلالي كلف في نيويورك !!
[/color]
في اليوم الثاني ( أي يوم السبت ) خرجنا الى شوارع نيويورك في جولة نهارية حرَّة ، ورغم البرد الشديد، فقد كانت الشوارع مزدحمة تماماً ، مما تعذرعلينا أستخدام السيارة ، لذلك كانت جولتنا (مشياً على الأقدام) ونتيجة لذلك الزحام، ظننت بأن جميع أهل نيويورك قد خرجوا اليوم الى الشوارع والمحلات، لقد كانت أغلب الأعلانات على اللوحات تشير، ألى أن المحلات التجارية الكبيرة، قد أجرت اليوم تنزيلات هائلة على أسعار بضاعتها.
وهكذا بدأنا مسيرنا نحو المحلات التجارية قبل كل شيء ، ولأني ( قروي وأبن فلاح ) فقد ( تهت ) من زملائي في تلك الجولة ثلاث مرات ، تماماً كما ( تاه ) والدي في شوارع بغداد قبل نصف قرن حين زارها أول مرة مع أخويه، قادماً من ناحية كميت، ولكن بفضل الله وفضل(التلفون الموبايل) فقد تجاوزت المشاكل الثلاث،اذ ما أن ينتبه الزملاء لضياعي حتى يبادر أخي حميد مراد بالأتصال وهو يقول ضاحكاً : ( ها خويه أبو حسون تهت ) ؟!
مرة ( وأنا تائه ) في واحدة من هذه التيهات الثلاث، حيث دخلت أحد الأسواق الفخمة ، أخذتني أقدامي الى احد المحلات التجارية ، وحين سألت صاحب المحل عن قميص ذي قياس غيرمتوفر في واجهة المحل، اشارالرجل بيده الى سلَّم خشبي ، ثم قال لي : ستجد في (البيسمنت) قياسات متعددة، وستجد حتماً فيها القياس الذي تريده ، وحين وصلت السلَّم الخشبي، سمعت غناءَ عراقياً (وبحَّة) عراقية أموت فيها ، اقتربت أكثر من السلَّم الخشبي، لأسمع ذلك الصوت الخفيض والحنين جيداً، وأذا به صوت ( أبو كاظم ) ! يصدح بأغنية : (يطبيب صواب دلالي كلف ، لا تلجمه بحطة السماعة )!!
يا ألهي، ايعقل ان اسمع صوت ابي كاظم في أكبر شارع من شوارع نيويورك ، فأي قدر جميل هذا، وأية مصادفة رائعة ، وماذا سيقول الراحل داخل حسن ، لو علم بأن صوته يصدح في نيويورك ، مثل ذلك الذي أنشد يقول : ( يكَح بلنده وحِسَّه أهنا)!!
لذلك وبدون شعور، وجدت نفسي أصعد السلم الخشبي الصغيرالى الأعلى حيث مصدرالصوت الغنائي ، بدلاً من أن أنزل الى المخزن الأرضي ، للحصول على القميص ذي القياس العجيب الذي (يرهم على مقاس ولدي الضخم علاوي)!!
وما أن وضعت قدمي على خشبة السقف ، حتى أصطدمت عيني بعين شاب في الثلاثين من عمره ، قلت له بالعربية وكأني أعرفه من سنين :- السلام عليكم !!
قال :- عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قلت له بأستحياء : العفو الأخ عربي ؟!
قال ضاحكاً :- لا والله بنغلادشي !!
ضحكت وقلت له :- أذاً أنت عراقي حتماً ؟!
قال : وأبشرك من الشطرة !!
ولم أجد نفسي ، الا وقد أحتضنته ، وعانقته بحرارة ، ( فالدم يشمر على الدم ) !! على الرغم من اني لست من الناصرية !! وما كان من ذلك الشاب الأسمر، الا وأن يعانقني بمودة وأخوة فائقة ، وهو يقول بلهجة جنوبية صافية :
( يابه وعلي أبن أبي طالب، أنت جنوبي، وأذا مو من الجنوب أكَص أيدي من العكس)!!
قلت له :- كيف عرفت ذلك ؟
قال :- ( لأن محد يسويها ويصعد كل هالدرج ، على مود حِس داخل حسن غير العراقي ، وخاصة الجنوبي المسودن مثلك ومثلي )!! قدم لي علبة (ببسي كولا ) وهو يقول ضاحكاً:- أشرب خويه أشرب بصحة أبو كويظم !!
وقبل أن أأتي على ( قوطية الببسي ) ، تذكرت الجماعة ، وتذكرت ايضاً ان ثمة أشغالاً كثيرة لدينا اليوم ، لذلك أعتذرت له، مودعاً صاحبي الشطراوي ( قاسم علوان ) ... ذلك الشاب الذي جاء الى أمريكا قبل عشرسنوات ، وهو محمَّل برائحة الطليع، والعنبر، وأنين داخل حسن ، وأوجاع حضيري أبوعزيز، غادرته مختنقاً بدمعي وأشواقي، دون أن أجلب القميص ذا القياس الكبيرلولدي، بل ودون ان أشتري أي شيء من ذلك المحل الكبير!!
وكم تمثال للحرية تحتاج بغداد الحرَّة ؟!
[/color]
بعد أن انهينا تبضعنا، حملنا حاجياتنا الى الشقة، لنغادرها بعد لحظات نحو تمثال الحرية، ولمن لايعرف تمثال الحرية أقول ، بأن هذا التمثال الذي يرمز الى تحرر أمريكا ، والذي قدمته فرنسا هدية لها قبل مائة وخمسين عاماً تقريباً، أصبح - وخاصة بعد أحداث سبتمبر- رمز التوحيد للأمريكيين، وقاسمهم المشترك، اذ تحول هذا التمثال الفخم، والموضوع على قاعدة رخامية فخمة ، تحول الى شيء خارج حدود المعنى الخاص به ، فهو اليوم لا يخضع لتفسيرالشروط الجغرافية ، أوالتاريخية ، أوالسياسية ، أوحتى الأقتصادية ، بقدرما يخضع للتفسير الوجداني البحت.
فهو بأختصار اليوم الملاذ النفسي ، والخلاص المستحيل لكل الأشكالات النفسية والصحية والسياسية والعسكرية والأمنية لعموم الشعب الأمريكي ، أذ ما ان يتعرض المجتمع الأمريكي لهزة وطنية معيَّنة ، الا وتجد الأمريكيين ( يزورون) هذا التمثال - الضريح - وهم يتضرعون الى بعضهم، والى (حريتهم) لمساعدتهم بالخلاص من المحنة، أو الورطة، تماماً مثل تلك القروية التي نذرت ديكاً هراتياً للزعيم عبد الكريم قاسم، اذا ما أنجبت بنتها ولداً، بعد البنات الخمس !!
وهكذا يصبح التمثال ملاذاً ورجاءاً ومسنداً للأمريكيين ، كما أصبحت مدينتهم ( نيويورك ) جزءاً من حياتهم ، أو فرداً من أفراد عوائلهم ، فهم يحبونها بصدق ، وحقيقية تامة ، لذا فمن المهم القول ، بأن جملة : ( I love new york )أصبحت ماركة مسجلة لأهالي نيويورك.
اذ ستجد هذه الجملة على كل اللوحات والجدران والأعمدة، وواجهات المحلات، والشركات، وكذلك على الحقائب ، والأكياس ، والصحون وأوراق الكلينكس ، وعلى جميع التيشيرتات والشورتات والملابس الداخلية ، وبأختصار شديد فأن ثمة مشكلة نفسية يعيشها اليوم أهل نيويورك أسمها ( انا احب نيويورك ) !!
لذلك فقد وقفت مقابل تمثال الحرية ، ذلك التمثال الكبيرالذي يزوره سنوياً عشرة ملايين زائروسائح أمريكي، وغ! ير أمريكي يدفعون لبلدية نيويرك عشرة ملايين دولارسنوياً، نعم لقد وقفت مقابل ذلك التمثال وأنا أقول ، اذا كان لنيويورك، الجزيرة الصغيرة والحديثة، والتي لايصل عمرها الى الثلثمائة عام.
هذا التمثال الفخم ، الذي يرمز الى عشقها للحرية ، وحبها للتحرر، فكم من تمائيل الحرية ستحتاج مدينة مثل بغداد العظيمة ، بغداد التي عمرها أكثر من الف عام ، وتأريخها الذي هو أكبر من تأريخ عشرات المدن المشابهة لنيويورك وغيرها ، تأريخ مكتنز بالأمجاد ، والمواقف التحررية ا! لشجاعة ، والأنتفاضات والثورات العظيمة من اجل الأستقلال والسيادة ؟!
وأذا كان الأمريكيون قد أعطوا ألفين أو ثلاثة آلاف ضحية في احداث سبتمبر، حتى اصبح برجا مركز التجارة العالمي في نيويورك ، حيث موقع الأعتداء الأرعن ، محجاً للامريكيين ولمحبي الحرية في العالم ، فكم محجاً يستحق العراق الفادي ، والمضحي من البشرية ، وهو الذي أعطى ملايين الشهداء ، والضحايا على مذبح الحرية ، والأستقلال ، بدءاً من أول الحضارة في التأريخ ، وأنتهاءاً بآخر ظلمات التخلف ، في قصف أسواق مدينة الثورة والصدر قبل أيام قليلة.
وأذا يحمل الحق على محمل الجد ، فكم لنا في عنق الطوائف والملل الأخرى في العالم من ديون( وزيارات ) بخاصة وللعراقيين في كل يوم من روزنامة الحياة ( 11سبتمبر جديد) وفي كل موقع عراقي ألف نكبة مكانية ، هي حتماً اعظم من نكبة برج التجارة العالمي؟!
وهنا أود أن اطرح سؤالاً على العراقيين :- لِمَ كل هذا الحب الجنوني من قبل أهالي نيويورك لمدينتهم التي هي (سواية أمس فقط ) فيتبرعون لها بكل شيء ، ويدافعون عنها بكل شيء، ويضحون لها بكل شيء ، حتى راح أولادهم يقاتلون أعداء أمريكا ، وأعداء نيويورك في جزر الواق واق، أذا تطلب الأمر ذلك، كي لا يأتي أعداء مدينتهم الى حدودها، فيهدمون حجراً واحداً من بنائها .
أقول لماذا يقوم الأمريكيون ، وهم بلا تأريخ عميق ، ولا حضارة معروفة، ولا جغرافية متكاملة ، وخصوصاً أهل نيويورك منهم ، بكل هذا الجهد، وبكل هذا الحب دفاعاً عن مدينتهم ، بينما لايكلف البغداديون أنفسهم ، فيخبرون عن القتلة - مجرد أخبار لا غير - أولئك القتلة الذين يتكالبون اليوم من كل حدب وصوب على تدمير مدينتهم العظيمة ، ولماذا لا يرفعون ولو ليوم واحد شعاراً مثل شعار أهل نيويورك ( أنا أحب بغداد ) مثلاً ؟! !
فمتى نحب بغدادنا التي هي أهل للمحبة ، كما يحب ( النيويوركيون ) مدينتهم ... متى ؟!
برج الأمام علي الهادي !!
[/color]
لقد كانت رحلتنا الى نيويورك رحلة عمل رسمية، خاصة بقضايا حقوق الأنسان ، ولكن ومن ! زاوية أخرى يمكن اعتبارها ، رحلة محبة ، وأكتشاف ، ومتعة أيضاً ، فمن الجانب الخصوصي والرسمي في الزيارة ، أظن أنها حققت أغراضها كاملة ، وبأعتقادي ان تقدير ذلك يعود لرئيس الجمعية، والزملاء أعضاء الهيئة الأدارية للجمعية ، سواء من كان معنا في الرحلة المذكورة ، أو من ظل في ديترويت يؤدي مهامه الرسمية ، فهم يقيناً أكثر مني قدرة على تعيين ذلك.
لكنني اجزم بأن الرحلة حققت كامل أهدافها الوجدانية والوطنية والأنسانية، فقد تعرف أعضاء الوفد في هذه الرحلة القصيرة ، وعن قرب على العراقي النبيل الفريق احمد كاظم ، أذ أكتشفنا جميعاً ، وبدون واسطة ، بأن حقيقة هذا الرجل هي فوق كل وصف، وتشبيه، فأي نبل وسمو، ومحبة وأخلاص ووطنية ، وضمير ابيض، يملك هذا الرجل المدجج بالهموم ، والمتخم بالدموع ، والشجون ، والعواطف النبيلة.
كما اكتشفنا في هذه الرحلة القصيرة ، مفردات الرسالة الطيبة التي يتكاتف الشباب العراقيون اليوم على نقلها في بعثة العراق الدبلوماسية في نيويورك ، ولا شك أن أروع تلك الأكتشافات هي تلك التي أستفزتنا بالحب، والغيرة الشريفة على بغدادنا، ونحن نرى أهل نيويورك يتسابقون على حراسة مدينتهم ، ويتبارون على حمايتها بحدقات عيونهم، ونبضات قلوبهم ، بينما يتسابق البغداديون اليوم - وللأسف الشديد - على تدمير مدينتهم الحلوة ، بقصدية ، وبغير قصدية ؟
ختاماً وفي اليوم الأخير من الزيارة ، ونحن في مطار ( لكَوارديا ) حيث نستعد للعودة ، أذ سيعود الزميلان حميد مراد، وداود أبو سرمد الى ديترويت، بينما سأعود أنا الى ولاية ك! الفورنيا ، أضعت تذكرة العودة بعد الأنتهاء من التفتيش في بوابة ( السكيورتي ) في المطار.
وكم كان الأمر محرجاً لي وللجماعة، أذ لم يتبق لنا من الوقت غير دقائق معدودة ،حتى أن الزميلين أرادا ألغاء رحلة عودتهما من أجلي، لكنني وفي اللحظة الأخيرة عثرت على التذكرة أمام البوابة الأمنية، فحلَّت المشكلة ، وبعدها ودعت الزميلين العزيزين حميد وداود ، بعد أن كنا جميعاً قد ودعنا الفريق احمد كاظم ، وشكرنا له كرمه ،وجهده النبيل في تسهيل الكثير من الصعاب أمامنا.
وما أن غادرت طائرة ديترويت وهي تحمل الأستاذ رئيس الجمعية ورفيقه، حيث بقيت شابح العين، مكسور القلب خلفهما، حتى اقتربت مني امرأة عربية طاعنة في السن، ثم قالت لي بعربية ركيكة :- من أي بلد انت ؟
قلت لها وأنا أكاد أختنق بالدمع :- من العراق سيدتي!!
قالت : انا مسيحية من لبنان ، أتسمح لي ان أسألك بعض الأسئلة ؟ّ
قلت لها :- تفضلي سيدتي !!
قالت :- لقد رأيت قبل فترة عبر شاشات التلفزيون ، رجالاً عراقيين يبكون ويلطمون على رؤوسهم وصدورهم ، حزناً على مبنى هام تم تفجيره ، فما هوهذا الشيء الذي يبكونه ، ويلطمونه ، وماهي اهميته الأقتصادية ، أو السياسية ؟!
قلت لها:- أنه مرقد مهم للمسلمين ، ومركز حضاري وتأريخي بارز، وقد فجره الأعداء !!
قالت :- هل هو يا ترى ، أهم من مركز التجارة العالمي في نيويورك ؟!
قلت لها :- طبعاً طبعاً ، أنه أكبر وأهم ، وأقدس بكثير!!
أبتسمت العجوز ثم قالت بجدية :- ولكن هذا الذي تقول عنه أهم ، وأكبر من مركز التجارة ، لا يضم غير برج واحد ، فكيف يكون ذو البرج الواحد، أهم من ذي البرجين!!
ضحكت، ونهضت ، حين نادت الموظفة على ركاب الطائرة المغادرة الى كالفورنيا ، وأنا أقول لها : حجية عرب وين طنبورة وين !! أذ ظنت هذه العجوز( المسكينة ) بأن مئذنة الأمام علي الهادي عليه السلام ، هي برج ، مثل ابراج مركز التجارة العالمي ، والأنكى من ذلك، ان الأمريكيين ، بما فيهم المنحدرين من اصول عربية ، صاروا يزنون الأمور بميزان 11 سبتمبر، ويقيسون المقدسات على مقاسات برجي التجارة العالمي !![/b][/size][/font]