عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - Ibrahim Golan

صفحات: [1]
1
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة (21)
أم عباوي
في منتصف نوبتي منتصف الليل، اخرج سيكارة فامسكها بين أصابعي وكفي عليها، لئلا يبان وميضها، اقتل الوقت بالحديث مع الليل، ليقتلني بالهواجس والأفكار....
أتوحد مع نفسي في هذا العراء فأسبح في صمت هذا الليل البهيم، وكما الإنسان القديم، أبحلق في السماء، أرصد مواطن الأبراج، واعين مساقط الأيام، وأحول مناجاة النجوم الى تقاويم وروزنامات الحياة، وأصوغ من تداور الأقمار منازل الطقس والسحر و والغموض…
في ليلة بلا قمر، يرصع الظلام فيها عددا لا حد له من نجوم تتلألأ، اقسّم صفحة السماء الى أربعة، واقسم الرابع الى أرباع، حتى أصل الى جزء صغير يمكن عدّ نجومه، لكنها محاولات فاشلة، فالأعداد الهائلة من النجوم الصغيرة تضيع كل حساباتي، ثمة نجمة تمر، أتابعها حتى تتلاشى، وتأتي أخرى،  وبينما انا في عزلتي القصوى، فإذا بصوت رفيع يقتلعني مع جذوري فأصحو على لا شيء، ثم يعود الصوت مرة أخرى، كأنه صوت رضيع او وليد يبكي، او ربما هو صوت يهبط تواً الى هذه الأرض، أتمالك نفسي، ثم أتخلص من أوهامي، وابحث عن صباح جديد....
ويترادف الليل ثانية وثالثة ورابعة... أناديهم!....
-   يا هالربع!.... من يقف مكاني في المناوبة لأورد عين الماء؟!....
فاصطحب معي سميري البغل احمّله جليكانات الماء وننزل السفح سوية، يحلو لي الخروج مع البغل والاختلاء مع العراء في هذا الليل، ليخلصني من أوامر الجند، فاطيب لي ان أكون مع البغل سيدا، من ان أكون مع الجند بغلا.... في النهار أسير أمامه، اما في منعطفات هذا الليل ومنزلقات أحجاره، فيسير هو أمامي ليكون دليلي، لا اعرف هل هو والليل صنوان؟ ام ان غريزته النهارية تعينه عليه... كلانا نقف في خشوع امام رهبة الوادي المظلم، وصراخ هدير الماء لنشرب كلانا من العين، بقدر ما تحمل همسات الليل من نجوى شاعرية، تحمل من الخوف المزجج بحركة وحشي شارد او عدو يتنصت، فاسمع صوت قطة وحشية تقفز نافرة من السفح فوق رؤوسنا الى الوادي كالبرق، فأهيئ بندقيتي تحت كتفي واسحب الأقسام لأضغط على الزناد ان هي مست صاحبي او أنا، نملا الجليكانات ثم نأخذ طريقنا الى الأعلى، أسير خلفه مطمئن البال حتى أجد نفسي عند حافات الملاجئ....
تنثال في الليل بيني وبين البندقية أصوات أمي والجيران، تحمل حكايا الجند وحكايات الأمهات المسفوحين أولادهم في الجبهات، ام مهدي تحكي لأمي، وام نشمي تحكي لأمهات الحارة....
-   مهدي مع ابراهيم اخوان من أبوين، الفصيل والسرية، يتقاسمان الزمزمية والرصاصة.
-   امس شاهدت طوابير التوابيت وهي تخرج من نقطة الشهداء!..
-   يا ما رأيت الجند يتزاحمون عند دخولهم مقبرة الجندي المجهول...
-   نشمي بالقوات الخاصة احتفل ببتر قدمه، اذ لم يسمح لدخول الحفل الا طلقات المغاوير.
-   ارى عند الجيران قلق الهاربين وقلق اهلهم يتنامى مع ترنح الحبال وهي تحمل أسماءهم واحدا واحدا....
-   مطر في الجبهة لا يقف في الطابور الطويل الممل، بل يقدمونه الى الأمام في كل مرة يبدأ فيها الهجوم....
-   من أين يأتون بكل هذه الأعلام وهي تلتف حول أجساد الجنود؟!...
-   في منتصف أسبوع العسل قطع ابني إجازته ليلتحق بالذين قبله...
ويحكون عن مراكز تسليم الشهداء.... وعن التسفيرات والانضباط وفرق الإعدام، وعن الشقوق، والخنادق، والملاجئ والخوذة وحقيبة الظهر وقناع الوقاية... وعن معاول تجرح الأرض، ومطارق تهدم البنيان...
فتصرخ ام علاوي!..
-   الى متى؟!
فيجيبها مضفر النواب
الدنيا غرشه وصم تتن
وندور بيها ونلتف
ايام المزبن كضن
دكضن يأيام اللف
 بغداد تستعد لاحتفالات الميلاد، في نيسان تتسابق الدوائر على صناعة اكبر كيكة  لميلاد الضرورة، والرفاق يطرقون الأبواب للتبرع، وأحباب القائد ينشرون تهانيهم للقائد على صفحات الجرائد، وتنتشر في الشوارع والحارات والأزقة أناشيد..... العزيز انت..... عشرات الآلاف من الطلبة والموظفين اجبروا على السير قطيعا واحدا لسماع خطاب الضرورة، وهو يرسم طريق المستقبل المشرق، والمحامون وأساتذة الجامعات سيقوا الى الجيش الشعبي لتحرير شيب ابهاتهم....
الثلج على ارتفاع ثلاثة أمتار يغطي السفح، لا شجر ولا حجر ولا طريق، لا تعرف أين مواقع أقدامك، ربما ستنزلق في واد لا تعرف نهايته، حاملا صناديق المعلبات على كتفي، وبسطالي يغوص بالثلج، خطوة الى أعلى وخطوة الى أسفل، صاعدا سفح الجبل الى القمة الثلجية، تراءى لي عند القمة القريبة مقر الفوج فخرج آمر الفوج مع حمايته، لكم اكره التقرب من الضباط، فانتبذت جانبا نحو القمة البعيدة حيث سريتي، حين راني الآمر وحيدا كالعصفور المهيض الجناح، أتمايل من التعب والخوف من العاصفة الثلجية الآتية، أوعز الى حمايته لمناداتي...
-   ابو خليل!!!.... ابو خليل!!!...
-   .........
-   ولا يدير بال سيدي! هذا واحد اثول ومتيّه صول جعابة!.
-   جيبولياه بسرعة!.
-   ليش من نصيحك متجي؟
-   سيدي من لبست البسطال لليوم، ما شفت خير من ضابط...
-   ترتاح قليلا على هذه المدفاة، ثم تذهب الى امر سريتك تخبره بأنك معاقب عشرة ايام سجن لهذا الكلام، مفهوم؟!
-   الم اقل لك سيدي بأننا العبيد وانتم السادة؟!
-   يوووووول؟! من أين أنت حتى تتكلم معي بهذه الطريقة؟!...
-   موظف من شركة التامين!
-   ها! شركة تامين؟!.... هل تعرف تماضر؟
-   تماضر عبدالله، نعم سيدي إنها معي في قسم الحسابات!
-   سوّوله كتاب نقل الى الحانوت يرتاح جم شهر......
وهكذا مكثت في حانوت الفوج سنة كاملة بالتمام والكمال.......
ملجأ الحانوت يهجع على سفح الجبل مبتعدا عن الملاجئ الأخرى مسافة ليست بالقصيرة، لذا تكثر احتمالات تسلل عدو ما، حين يدخل الليل ربعه الثاني، يبقى سميري الوحيد صوت قذيفة أتتبع فحيحها في أية حفرة ستنام, ومن يا ترى سيكون رفيقها الأزلي, وفي الجنبات حيث الجنود المسفوحين على السفوح تحت رحمة المجهول, ترتج الأرض على مقربة منك أو مبعدة، بقذيفة راجمة يهتز فيها الوجود, تحسب المسافة الزمكانية لتعرف أية كعكة تختار القذيفة سكينها, فتنهض تجول بينهم أي صديق قد هجرك إلى الأبد, وأية أنفاس قد هجعت, اشعر بزمجرة الهواء والبرد القارص في الخارج، كان الله في عون الحراس هذه الليلة، لا اعرف كم بلغت درجة البرودة، لكني ارتجف بين القمصلة والبطانيات والجولة وأنا في الداخل، انتصف الليل، أغلقت الباب بإحكام، أطفأت آخر ذبالات (الجولة) وأذللت ضوء الفانوس، أطفأت آخر سيكارة أدخنها قبل النوم، جمعت البطانيات الثلاث فوق رأسي وكورت جسدي كطفل وليد، من بين صرخات العاصفة، اسمع صوتا او نداء لا اعرف كنهه، هل جاء سميري الخنزير على رائحة الصمون المتعفن ليأخذ حريته في تقليب الزبالة, وتصفح الأوراق المرمية من أغلفة البسكويت، او يسقط الجلكان ويقلب إبريق الماء، أم جاء احدهم بعد حراسة طويلة ليطفئ جوعه، أرهفت السمع، اسمع طرقا على الباب، صرخت:
-   ممنوع البيع بعد العاشرة ليلا بأمر الآمر الناهي!.
-   لا أريد أن اشتري، فقط اسمعني أرجوك!..
أيكون عدوا متسللا؟! فالمسافات بين الملاجئ بعيدة، حملت بندقيتي وفتحت الباب وأخرجت راسي..
-   قل لي من أنت وإلا سأرميك!
-   انا عباوي، التحقت الآن من الإجازة، ولا استطيع الصعود  إلى السرية الأولى فوق القمة.
كان رث البدلة متعبا من الطريق، فعلا الطريق يطول لأكثر من ساعتين إلى قمة الجبل، وربما سيتيه بين النياسيم الكثيرة في هذا الليل المظلم، أشار أمامي على حفرة صغيرة محفورة لزمن القصف...
-   اسمح لي ان انام هنا.
-   لكنها رطبة وستموت من هذا البرد القارص، ستنام معي في الداخل، تعال ادخل...
-   لن أنام معك فأنت تملك مواد وحاجيات وفلوس....
-   كيف تنام في الحفرة الرطبة في هذه الليلة الثلجية؟ ثم هنالك الذئاب والخنازير تحوم حولنا...
-   لدي بندقية.
-   سوف لن يعرف الذئب أن تحت راسك بندقية وأنت نائم...
بعد إصراره أعطيته بطانية وقدمت له سيكارة وأشعلتها له، تناول السيكارة وقال:
-   تخاف علي من البرد إذن؟!
ثم سحب نفسيا عميقا وأردف...
-   أمي العجوز استدانت من الجيران خمسة دنانير أجرة الطريق لآتي إلى هنا، فلم احصل على عمل خلال هذه الإجازة!!.. امي ليس لها غيري معيل، ان مت تموت وان عشت تعيش، ام عباوي تتفاخر عند الجيران ببدلتي العسكرية وقرص الهوية، ام عباوي تودع ابنها عند مدخل الكراج ولا تغادره بنظراتها الا حين يعود، تخرج نهارا لتشم رائحة بدلات الجنود العائدين من الجبهة تسألهم عن أحوالهم وأحوال الوطن وجبهات القتال، ام عباوي ككل الأمهات تصلي لعودة الجنود، تنذر راحتها لسلامتهم وتبكي لآلامهم، تأكل من صحتها لتشبعهم، تشرب دمعها لتروي الماء للجنود العائدين.. ام عباوي تغيب نفسها، حين تحضر بيانات القيادة العامة....
-   ستجازيها إنشاء الله!
-   أجازيها غدا في –سمنان-!!....
فقهقه طويلا حتى أحسست بان دمعة انحدرت من عينه....
حين نهضت مع الخيوط الأولى للفجر، كان قد غادر الحفرة وقد ترك بطانيتي مطوية, حمدت الله انه لم يتجمد، عجيب أمر هذا الإنسان! أي قدرة له في تحمل شباك الضيق والقسوة والمهانة حين تتجمع كلها حوله، نظرت إلى قمة الجبل، لأسمع أزيز طائرات الاستطلاع التي بدأت تحوم فوق القمة... وَيْ! لا هلا!!... طائران من الكواسر تحوم في الأعالي تعلن ان الهجوم قريب.... لك الله يا ام عباوي..... ولا نامت أحزان من أحزنك...

................................................



2
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (20)
ليلة انتهاء الحرب
تسربت أخبار وإشاعات هنا وهناك من التحليلات والتصريحات الإيرانية عن وقف الحرب، لكن ظل العالم غير مصدق ان تنتهي هذه الحرب بهذه البساطة، لأنه لم تكن هناك دلالات او إشارات تمهد لمثل هذا الحدث الخيالي الأسطوري البعيد المنال، بل كانت كل المؤشرات تقول بأنها لن تنته، فالوساطات الدولية ولجان المساعي الحميدة، وكل المحاولات لم تجد نفعا معها لسنوات طوال...
الا ان هاشمي رفسنجاني رئيس الجمهورية الإيرانية أعلن في السابع عشر من تموز1988 استعداد إيران للانسحاب من مناطق شمال العراق التي احتلتها عام 1986، وإمعانا في الضغط على السير بالقرار الى النهاية، ودفعه إلى الإمام وتطويره.... بادر الرئيس صدام حسين في اليوم التالي، عن استعداده لعقد اتفاق سلام شامل مع إيران...
في اليوم التالي 18 تموز عام 1988  تناقلت الأخبار عن قبول إيران لوقف إطلاق النار، لكن ظل الناس غير مصدقين، كذلك  السلطات العراقية ظلت  نفسها غير مصدقة، أولا لكونه مفاجئا بكل القياسات السابقة، وثانيا ربما قد يكون فخا يؤدي الى تراخي الجنود العراقيين في جبهات القتال وعدم الاستعداد للمعركة، أملا بان الحرب ستنتهي فما جدوى القتال...  عليه ارتأى وزير الثقافة والإعلام لطيف نصيف جاسم ان يوجه أوامره الى وكالة الأنباء العراقية والصحف العراقية، بعدم نشر الخبر انتظارا لما ستحبل به الأيام القادمة من أخبار...  وبالضد قام العراق بشن هجمات على المفاعل النووي الإيراني في بوشهر، فشنت إيران بدورها هجومين في الفاو ردا على ذلك....
في هذه الفترة احتدمت التساؤلات والمناقشات والتحركات في ايران بشان مستقبل الحرب وما ستؤول عليه الأمور، وتدارس المعنيون مختلف الجوانب حول قوة الطرفين المتحاربين وحقيقة الوصول الى نصر حاسم، والبحث عن أية بادرة أمل في كسب الحرب وانتصار إيران عسكريا فيها، وعقدت جلسات للتداول في الطريقة التي تحقق فيها إيران نصرا حاسما، وتوجهت الجهود لاتخاذ القرار النهائي.... فاجتمع الامام الخميني مع القادة العسكريين الايرانيين بشان ذلك، ولكن بعد ان استمع إليهم ظهر له ان هذا الحلم بعيد المنال، وليست الصورة واضحة جدا كما تصورها، ولا الطريق سهلا لكسب الحرب، لقد اخبره القادة العسكريون بأنه اذا ما أرادت إيران ان تكسب الحرب، فيجب عليها ان تزيد قواتها العسكرية ضعفين، وتحتاج الى اطالة فترة الحرب خمس سنوات أخرى لكسب الحرب، فكان هذا أملا بائسا محبطا، وحقيقة مرة، عليه وبعد يومين، اي في 20 تموز أعلن الإمام الخميني قبوله بوقف إطلاق النار، وقد اصدر رسالة الى الإيرانيين جاء فيها:
(لقد أقر مسؤولونا العسكريون وقادة الجيوش والحرس الثوري وخبراؤنا العسكريون، بان جيش الإسلام لن يكون بمقدوره تحقيق النصر السريع، وبناء على رأي المسؤولين العسكريين والسياسيين لجمهورية إيران الإسلامية، فإنه من الآن فصاعدًا لن تجري بأي حال هذه الحرب لصالح دولتنا، خاصة أن جبهة الاستكبار في الشرق والغرب تمول صدام بالسلاح اللازم، وعلى ضوء رسالة قائد قوات الحرس الثوري -اللواء محسن رضائي- والتي هي واحدة من عشرات التقارير العسكرية والسياسية المبعوثة إليّ، فقد اتخذنا قرارنا بوقف إطلاق النار، هذا القرار الذي أعتبره تجرع كأس السم، ولإرضاء الله تعالى وصيانة دينه، والمحافظة على الجمهورية الإسلامية وكرامتها أقدمنا على هذا الأمر. إننا قد ثرنا من أجل دينكم، وكذلك حاربنا، والآن ومن أجل هذا الدين قبلنا وقف هذه الحرب) ..
في مركز تأهيل الجرحى في معسكر الغزلاني، كنا ردهات من المصابين والمعوقين نقضي فترة النقاهة من إصاباتنا حتى اذا شفي احدنا يعاد الى الجبهة مرة أخرى، وكان الكثير منا يطيل فترة بقائه في المركز، بتعميق جرحه وزيادة تلوثه، او إيذاء اصابته، لئلا يشفى بسرعة ويلتحق من جديد الى الوحدات القتالية، وكان الخروج من المعسكر او التمتع بالإجازة محرم علينا، فكنا نقضي جل أوقاتنا أمام شاشة التلفزيون في البهو، ذاك بسريره يسحبه مقابل التلفزيون، وآخر يقترب بعربته او عكازاته اليه، جالسين طوال المساء، في الليل وعلى غير العادة وبشكل أسطوري، اخذ التلفزيون يبث مقاطع من كلمات الإمام الخميني، يشبّه موافقته على إطلاق النار كمن يتجرع السم، دون التعليق عليها من قبل المعنيين العراقيين، ونحن نقرا ونرى غير مصدقين، حتى منتصف الليل، ليذهب كل الى سريره، منتظرين آمال الصباح، فينهض احد المرضى في الثانية بعد منتصف الليل، يوقظني:
-   هل صحيح ما سمعته ام كنت احلم؟
-   لا لم يكن حلما!
-   ماذا يعني هذا الكلام؟
-   يعني انتهاء الحرب!
ثم ينهض ليرقص قليلا وينام.... ويستيقظ اخر في الرابعة فجرا:
-   هل صحيح ما سمعناه؟
-   يا جماعة خلونا نام هسا بعد ساعتين للصبح! والله كريم......
لم يكن احد يتصور بنهاية الحرب الا بسقوط احد الطرفين وقد كان الناس يمنون أنفسهم، فليسقط احد الطرفين، ولكن هيهات!.....
في يوم 8 /8 /88  قرأ مقداد مراد من على شاشة التلفزيون بيان البيانات الذي كتبه صدام حسين بيده وهذا بعض ما جاء فيه.....
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان البيانات
وفيما يلي نص البيان العسكري الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة في 8/8/1988 والمسمى ببيان البيانات :
أيها الشعب العراقي العظيم
يا أبناء أمتنا العربية المجيدة
أيها الرجال النشامى في قواتنا المسلحة ...
إنّه يومكم، أنّه يوم الأيام، وهو في ذات الوقت بيان كل البيانات، في هذا اليوم، صدر إعلان وقف إطلاق النار وقد حدد يوم الوقف الرسمي لإطلاق النار وساعته في العشرين من آب/أغسطس 1988 وقد جاءت موافقة إيران على هذا بعد قتال استمر ثماني سنوات قاوم فيها شعب العراق وقواته المسلحة الباسلة قوى البغي والعدوان بكل ما تجمع لديها من إمكانات فنية ومن خبرة الدجل والشعوذة في إطار تعبئة الشر واستنفار الحقد في أعمق مكامنه حتى ظن الأشرار وظن معهم كثيرون أنّ احتلال العراق والإطلالة منه ومن ركام الاحتلال على كل الوطن العربي قد يكون مجرد زمن......
إنّه الانتصار العظيم الذي يسجله العراق اليوم باسم كل العرب، وباسم كل الإنسانية إنّه انتصار للحاضر والماضي والمستقبل، لذلك فإنّنا ندعوكم لتحتفلوا به كانتصار عظيم وبغض النظر عما ستكون عليه نتائج ما ينتظرنا من تطبيق للفقرات الأخرى من قرار مجلس الأمن رقم 598 والتي سوف لا تنفصل نتائجها عن هذه الحقائق وعن يقظة شعبنا واقتداره المتنامي ودعم العرب لهم بتفاعل أخوي عظيم من المحيط إلى الخليج، احتفلوا أيها العراقيون الأماجد... احتفلوا الآن بانتصاركم... احتفلوا بيوم الأيام... ويعبر كل عن الفرحة ويحتفل بطريقته... احتفلوا أيها العرب أنّه يومكم... يوم الدعاء النقي ويوم الأصوات الشريفة... ويوم الأيدي البيضاء التي امتدت بالعون الأخوي إلى حيث البطولة والجهاد الملحمي.... ويوم كل طلقة وقذيفة وسلاح وذراع، أيتها النساء وأيها الرجال... أيها الأطفال يا زينة الحياة... وأنتم أيها الشهداء يا أسياد النصر وساريته وعنوانه... أيها الأكرمون إنّكم يقينا ستحتفلون على طريقتكم الخاصة، لأنّ أرواحكم الطاهرة حفظت العراق ومنعت المعتدين من أنْ يدوسوا أرض العرب بعد أنْ أرضكم ومقدساتكم...
والله أكبر... الله أكبر والحمد لله على نصره المبين.... وليخسأ الخاسئون...... .
بعد قراءة البيان لم يعد هناك مكان للجم الفرح، وانطلقت العواطف الجياشة تنفس عن نفسها لهول ما حملت من الكبت والحزن سنوات طوال، لتنفثها فرحا غامرا تنثره في الشوارع والحارات والساحات، أصيب الشعب العراقي بهستيريا الفرح المستحيل، فصدرت عنه أفعال وأعمال غريبة كغرابة الحدث الذي حصل، فذاك يقدم نذره بتعرية جسده أمام الناس كما نذر، وشيخ يرقص في الشارع يؤدي نذره، وهناك من يقف حائرا لا يعرف كيف يداري فرحه، وآخر يتصرف كمجنون لا يعرف كيف يفرح بهذا الخبر المستحيل، ومنهم من أصيب بالذهول، ومنهم من انهار عصبيا واخذ يبكي بهستيريا، وآخرون استذكروا كل بواطن حزنهم ومآسيهم ممن فقدوا في هذه الحرب او اسروا او تركوا أرامل وأيتام، الا ان السواد الأعظم تفجر فرحا حتى المذيع مقداد مراد كان يتفجر فرحا بنهاية الحرب، كما كان يتفجر فرحا بقراءة بيانات المعارك الطاحنة الجريحة بالعز والشرف والكرامة والآمال البائسة....
 انتشرت في السماء رشقات الطلقات النارية الحقيقية، وازدحمت الشوارع والطرقات والساحات بالجموع البشرية التي تتداخل مع بعضها، ويهنئ بعضها البعض او يرشون الماء على بعضهم، ووصل الأمر الى حد تصادم السيارات بالشوارع من دون ان يؤدي ذلك الى شجار وخصام، ويمضى المتضرر باسما ضاحكا سائرا في نهر الزحام العجيب الغريب .
واسحب قلمي من سريره المنسي واكتب.....
 ها هو كل شيء قد انتهى..... فرح غامر يملا المدينة...... والشوارع والبيوت الحزينة..... فرح يتخلل اصابع الطرقات والمداخل..... ويرفرف فوق الساحات..... الامال تنتصب والحلم المستحيل بين يديك..... التفاؤل يسد عليك الطرقات..... تطل الأوجه على بعضها.... تظهر على حقيقتها بلا رتوش..... تنزع أقنعة التمثيل وتلبس أقنعة الحقيقة..... يطل وجه الحياة الجاد بلا مقدمات..... سعيدة هي الساعة التي يتحقق فيها آمل إنسان......
شيء خارق لا يصدق، حلم مستحيل ان تنتهي الحرب بهذه الطريقة الدراماتيكية، وتنجو من الموت المحتم لك في الخندق، فمرحبا بالحياة....
ولكن ما الذي صنعته هذه الحرب وما هي نتائجها القريبة والبعيدة، تلك أشياء لم نفقهها لهول الصدمة الا انها بانت بعد هدوء العاصفة.....
لقد غيرت هذه المناسبة كل من كان يحسب حسابه بان السلطة ستنهار او تضعف، او يأمل بآمال معارضة السلطة او البقاء محايدا، الا انه بعد هذا البيان آمن بان السلطة أبدية، فأصبح خانعا لطغمة لا تقهر، وظهر بالمقابل قسوة السلطة وبطشها يزيد ويتسع ويمعن بالقسوة، وأصبح كل من كان مترددا بموقفه منها ان يرتضى بعدها ان يكون كلبا للسلطة ويعيش بكنفها في أمان، أفضل من ان يكون أسدا تطارده وتحاول قتله بأساليب ليست بالحسبان، ومهما طالت المسافات....*
تعتبر هذه الحرب من أطول الحروب التقليدية في القرن العشرين، لقد التهمت نيران هذه الحرب زهاء مليون شخص من الضحايا وخسائر مالية تزيد عن ترليون دولار، ولم يتوقف خرابها على موت البشر وتدمير البنى التحية وإنما تغلغل هذا الشر الى النفوس والأخلاق والكثير من مفاصل حياتنا اليومية، لقد خسرنا الأمان والطمأنينة والطيبة التي كنا نتحلى بها، وسرت بيننا عادات غريبة جديدة قاسية بقسوة العواطف التي تلاطمت على البشر، فأصبح من يمتلك السلطة يستبدل موته بإرسال شخص آخر مكانه الى الموت، ويضع اسمه بالمكافأة والتكريم بدلا عن المضحي الحقيقي... تبدلت أحوال الكثيرين، فاحتقر العزيز واعز الذليل، ومرغت أنوفا شماء بالتراب ورفعت رؤوس من الوحل الى السماء، وبين هذا وذاك ضاع الكثير من خصال الشهامة والإيثار والطيبة والخير....
لقد غيرت الحرب المعادلات السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، ولم تظهر نتائج الحرب لجميع الناس الا بعد وقت طويل! وكل ما سنراه بعدها هو نتاج تلك الحرب، وكل التغييرات الهائلة في المستقبل القريب.....
.................................................................
*المصادر
راضي المترفي

3
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (19)
جرح وحشي
1988
أنت في الحجاب محكوم عليك بالإعدام لذنب لم تقترفه.... انت مسجون بين البسطال والخوذة... الخندق والحرمان يأكلان سنوات عمرك، بلا سبب او خلة فعلتها.... بينك وبين الموت لعبة صدفة، تسرق اللحظات لتشرب الماء، تتحسر على لقمة تشتهيها..
أخلينا آمر فصيلنا الذي اصيب بقذيفة انا ومراسله حبتور الى الطبابة بمسير ثلاث ساعات ذهابا وايابا وحين عدت الى السرية، ابلغوني بان اسمي ورد ضمن قائمة الفدائيين المتطوعين للهجوم على قمة جبل شميران، وقد اختاروا من كل سرية جندي، يظهر اننا مقصرون حتى في طريقة موتنا، لنصبح فدائيين أيضا، فمن لا يطاله الموت في الخندق، عليه ان يموت طوعا...
كنا قوة مكونة من خمسة عشر جنديا، تسلقنا الجبل منتصف الليل، وجلسنا وسط أخدود على سفحه، ما ان انبلج الفجر نريد الصولة، حتى اكتشفنا ان بيننا وبين القمة صخرة هائلة تمتد مساحة خمسين مترا مستوية ملساء كصفحة زجاج، اذا جلس عصفور عليها ينزلق، فلا نستطيع التقدم شبرا واحدا فوق هذه الصخرة اللعينة، والايرانيون اعلى القمة في شقوق محكمة، رمينا رشقات الرصاص دون طائل، فاخذوا ينادوننا بسخرية.... تفضلوا حرس صدام... تفضلوا.... اهلا وسهلا... ويرموننا بالرمانات وحتى بالأحجار تندرا، ومن يرفع رأسه يصيبه القناص، جاءت رمانة يدوية واستقرت تحت عجيزة آمر القوة واخلي الى الأسفل، وأصابت رمانة أخرى خاصرة معاونه، فاخلي أيضا، وثالثة ورابعة، وتوالت علينا الرمانات، حتى أخليت ثلثي القوة، معركة غير متكافئة.... الى ان جاءتنا الأوامر بالانسحاب، وابلغونا بالعودة الى سرايانا، وحين استفسرنا عن جدوى إرسالنا الى مثل هذا المكان، قيل لنا بأنها كانت مجرد مشاغلة للعدو من هذا الطرف، اما الهجوم فكان من الطرف الآخر....
استدرت حول الجبل للعودة، فسريتنا التي تنبسط أمامه تكمن مطوقة تحته، فالإيرانيون خلفها على القمة وامامها في الحجابات، نزلت السفح المؤدي الى الوادي وقد تجاوزت الساعة الثامنة صباحا، وكان بصحبتي جنود من سرايا أخرى، وحين وصلنا على مقربة مائة متر من السرية، فجأة وبلا سابق إنذار هجم العدو على السرية وموجها قاذفاته الـ ار بي جي7 نحونا، أخذنا نتراشق بالرصاص بلا ساتر يسترنا، ركضت للاحتماء بصخرة قريبة فسمعت وشيش قاذفة، في اللحظة التي أردت فيها الانبطاح، انفجر الصاروخ على مقربة، شعرت بانحراف جسدي الى اليسار، وخدر في رجلي اليسرى، فقلت مع نفسي، سأرى شظية غارزة في رجلي، وهكذا سأتخلص من الحرب بإصابة بسيطة! لكن ما ان نظرت الى فخذي حتى هالني ما رأيت! قد طار نصف فخذي الأيسر كأن ذئبا قد نهشه، قطع قدر كيلوغرام او أكثر من اللحم والعضل، وانسكب الدم غزيرا في البسطال والجواريب، فرفعت راسي الى السماء!...
-   يا الهي! صليت ونذرت حتى أصاب! ولكن ما هكذا تصيبني بهذه الإصابة القاتلة!!.
هرب الجميع من حولي ووقفت اصرخ أناديهم ان يساعدوني في الوصول، لكن من يعيرك التفاتة في جحيم القذائف هذا، وقد أصيب من أصيب، والكل محتار بنفسه، اتكأت على رجلي وسرت خطوة لأجربها، تأكدت بعدم وجود كسر في العظم، او قطع في الأعصاب، فركضت بسرعة عائدا نحو السرية الثالثة أعلى السفح مستغلا الوقت، ما دام الجرح حارا لا يؤلمني، جلست الهث بنهاية الشق، راسي يدور من مقدار الدم الذي فقدته، سأموت من النزيف لا محالة، فاقرب طبابة للفوج تبعد كيلومترين خلف الجبل، ولا تمر أي سيارة خلال النهار، وما من إخلاء وسط هذه القذائف، أخرجت كل الضماد الذي في جيوبي (كنت قد جمعته قبل ثلاثة أيام من القتلى الإيرانيين في وادي سرحين، حين كلفنا بالتفتيش عن أجهزة المخابرة والوثائق وقطع السلاح التي تركوها بعد المعركة، فالضماد الإيراني على انواع، ويستخدم لكافة أجزاء الجسم، للبطن والقدم والرأس، اما ضماد الميدان العراقي الذي نزود به عادة، فهو لتضميد الأصبع فقط) لففت بعضها فخذي، وأخرى احصر الدم من أعلى...
اقترب نحوي احد جنود السرية فهاله الجرح، وكوني لا اعرفه، طلبت منه ان ينادي لي اصدقائي القدامى من السرية ليخلوني..
-   أريد نجم سكران!... 
-   ذهب الى العين!
-   حرب ثاني لفتة؟
-   في مقر الفوج!
-   مطر اسود ثلاج؟
-   ذهب لجلب الأرزاق!
سكت على مضض اندب حالي، فما من شخص آخر اعرفه حتى يخليني.. ما ان تركني هذا الجندي حتى جاءني شاب طويل اسمر من المنقولين الجدد، نظر الى جرحي البليغ وقال...
-   اصعد!
-   على ماذا؟
-   على ظهري!
حملني على ظهره فتلطخ بالدم، وما ان سار بي خطوات حتى سمعنا صوت قذيفة آتية فرماني وانبطح، ثم حملني وأكملنا المسير، ومرة أخرى سمعنا وشيش صاروخ آخر فرماني واحتمى، هكذا في كل مرة، الى ان وصلنا حفرة في الطريق وجلسنا للراحة، قلت له
-   دعني هنا في هذه الحفرة وعد الى سريتك، انا مصاب فلا تصيب نفسك أيضا!
-   لن أتركك حتى نصل الدبابة بداية الطريق...
ثم حملني مرة أخرى وأخرى، حتى وصلنا مسافة خمسون مترا عن الدبابة، وجلسنا خلف صخرة للراحة.
-   يجب ان تعود الى الشق لئلا تصاب..
-   مستحيل! يجب ان اوصلك..
-   لن ادعك تحملني بعد! سأجلس خلف هذه الصخرة، انا جريح فلا اقبل ان تصاب أنت مثلي!...
فطاوعني وعاد الى سريته..
ايها الشخص الذي لم أتعرف حتى على اسمه ولم اره بعدها، انني مدين لك بحياتي!.. هكذا لا تخلو الدنيا من اخيارها مهما قست!... هذا الشاب لم تتجذر فيه الأنا والأنانية بعد، من  قسوة ظروف الحرب، فما تزال عواطفه صفحة خام بريئة، هذا البشر! انه يمتد ما بين الرفعة والحضيض مسافات شاسعة!....
زاحفا نحو الدبابة، أشار الي طاقمها ان ادخل تحتها بين السرفتين، تجمع جنود مصابون كثيرون معي، استلقيت على ظهري ورفعت رجلي الى الأعلى، اشعر بألم خفيف يتزايد مع مرور الوقت وبان الوهن في جسدي، في اللحظة صرخ هاون اخرس قرب الدبابة، فمن كان يتألم من يده أصيب برجله، ومن كان برجله أصيب ببطنه... انظر الى جرحي، النزيف لا يتوقف، اخذ شريط خط النهاية يمر أمام عيني، أنا سأموت لا محالة.. فماذا عن الزوجة... عن الأطفال.. ماذا عن امي .... البيت... ماذا عن...
لكن حين لا يكون بوسعك ما تفعله، وما من خيار أخر في متناول يدك، ترضخ  هادئا منصاعا للأقدار...
مر احد الجنود سالكا الطريق نحو مقر الفوج ونظر أسفل الدبابة...
-   من؟! ابراهيم جريح؟!!
-   نوري! استحلفك بالله ان تسرع الى المقر، فان جرحي خطير، وهناك جرحى آخرون معي!
-   سأرسل الإسعاف المدرعة فور وصولي....
فأسرع راكضا نحو المقر في أعلى السفح.... انتظرنا وانتظرنا، وبعد نصف ساعة نزل راكضا احد الجنود..
-   الإسعاف المدرعة التي كانت في الطريق إليكم عطلت.....
حين تحبك المصائب حولك تحبكها بالتمام والكمال، جلسنا منتظرين حظوظنا، وما أقسى الانتظار في مثل هذه اللحظات... بعد حين سمعت صوت محرك سيارة آتيا من أعلى السفح فقلت لهم...
-   انا مصاب برجلي فمن هو مصاب في يده، وله القدرة فليخرج يوقف السيارة وإلا سنبقى هنا، ولن تمر سيارة أخرى حتى المغيب، لا حركة على الطريق هنا  الا في الليل!!... 
يخرج الجنود رؤوسهم من تحت الدبابة ثم يخفونها خوف القذائف، لكنني ميت لا محالة، فخرجت من تحت الدبابة  وأخذت ازحف على مؤخرتي، عشرون مترا حتى وصلت الطريق، فتشجع الجميع وخرجوا خلفي، بانت سيارة الواز آتية بسرعة حاملة جليكانات الماء لتملؤها من العين الى الضباط في المقر، فقطعنا الطريق عليها، ترجل الجالس بجنب السائق وحملني أولا ووضعني مكانه، وصعد الآخرون خلفي، اخذ يطير مسرعا والقذائف تتراقص حولنا، وصلنا الى طبابة الفوج فوصلت القذائف معنا، فالعدو المتواجد فوق القمة مطل علينا ويرصد كل حركة...
في الطبابة شعرت بأنني واهن جدا وليس باستطاعتي حتى الجلوس، كان احد الضباط مع الطبيب يعزل الجرحى، فمن أصيب في المعركة يذهب الى الإسعاف، ومن يثبت عليه حالة من حالات ايذاء النفس فسيشكل مجلس تحقيقي بحقه، قلت له..
-   ان جرحي من جراء صاروخ قاذفة اربي جي..
فدفع يدي بقوة ومزق الضماد، وحين تاكد له ذلك، أمر بحملي الى الإسعاف، حملتنا الإسعاف الى وحدة جمع الخسائر في اللواء، عرفني مساعد الطبيب، حيث كنت يوما ما استخدام في قلم اللواء، فدس في الوريد آخر جرعة  من المغذي الذي تبقى عنده، وقص قطعة من البلاستر العريض والصقها على جبيني وكتب عليها عنواني العسكري والمدني...
-   ما هذا؟
-   هذه إشارة بان الجريح في حالة خطر!
-   وهل انا في خطر؟!
-   لا طبعا، جرحك سطحي ولا خوف عليه، ولكن هذه إشارة للأطباء حتى يخلونك بسرعة الى المستشفى...
وما ان أوصلتنا الإسعاف الى وحدة ميدان طبية/22 في مدينة دربنديخان حتى قصفت مدينة دربنديخان، بعد ابدال الضمادات، كتب الطبيب في تقرير الإصابة الفورية (جرح متهتك وحشي) ثم حملتنا الإسعاف الى مستشفى السليمانية العسكري، وحين دخلنا السليمانية قصفت أيضا بالمدفعية.....
في ذلك اليوم 16 نيسان، توافدت آلاف الإصابات الى مستشفيات السليمانية وأربيل حتى فاق استيعابها، فنقل الباقي بالمنشآت الى مستشفيات الموصل وتكريت، ازدحم المصابون على الأرضيات، وبين الممرات، في المستشفى، الجميع في حركة سريعة وفوضى، الأطباء ملطخة صدرياتهم البيضاء وأيديهم وأوجههم بالدماء، الأعضاء المبتورة مرمية هنا وهناك، حين رأيت إصابات الآخرين هانت مصيبتي...
من أطرف المآسي، حين كنا داخل غرفة الطبيب، دخل احد الجنود الى الطبيب وقد قطعت كفه اليسرى حتى رسغها، نظر اليه الطبيب فمد الجندي يده اليمنى السالمة واخرج من جيبه كفه المقطوعة، تناولها الطبيب وامسك بها ورفعها الى الأعلى مستفسرا..
-   أسالك فاجبني بصدق!.
-   نعم دكتور!.
-    في اية ساعة أصبت؟
-   الساعة الرابعة فجرا!
ما ان سمع الطبيب جوابه حتى دار نصف دورة ورمى كف الجندي في سلة المهملات، الجندي ينظر الى كفه وقد رميت في سلة المهملات، انحدرت دموع من عينيه، وكأن جزءا من جسده يدفن أمامه... لحظة مضحكة مبكية...
تحت كابوس ثقيل بين وعي وفقدانه، أرى أشباحا تتحرك! لا اعرف اين انا وماذا يحل بي، بالكاد ترى عيني شبحا رماديا له شعر طويل، لا استطيع الكلام فأشرت اليه بيدي ان يقترب..
-   اين انا؟
-   في المستشفى بعد العملية!
بعد العملية قدموا لي صينية من الطعام، وانا الذي ما رأيت طعاما بصينية كل سنوات الحرب، اوووه!... هناك الأرز بصحن نظيف.. ومرق.. طبيخ.. وصمون طري، ياه! غير معقول! هناك ملعقة تلمع!.. عظيم! هنا الناس تأكل بالملاعق! سآكل اليوم بالملعقة لأول مرة! لم احلم ان آكل بهدوء وبلا خوف او تحسب من المعركة وحتى الشبع وبالملعقة أيضا، كل سنوات حياتي الجبهة....
اين كنا اذن!... أكنا في الجحيم ولا ندري!... وأين نحن من الدنيا! ألهذا لا يهمهم ان تطول الحرب ما داموا لم يعرفوا الخندق... والله لو رأى أولي الأمر مكاننا، او نزلوا به يوما واحدا فقط، ما كان للحرب ان تطول كل هذه السنين!... ليس هذه الحرب فقط، بل كل الحروب!!.....

..............................................................

4
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (18)
(تصير سوالف)
1988
شميران جبل على حافة بحيرة دربنديخان الى الشرق منها، غابة من أشجار البلوط، تكثر على سفوحه الغزلان وتسيح في وديانه الخنازير -بالرغم من انها تناقصت في ظل المعارك لكنها لم تنقرض- جرت على سفوحه وقممه، معارك شرسة طوال العام، حين كنا مسفوحين على سفوحه، وكامنين بين صخوره..
ضاقت بنا الأشهر الأخيرة من الحرب واستحكمت اغلاقها... قاطع الفيلق الأول قد اخترق في أماكن عدة، من أقصاه الى أقصاه! من الميدان الى دربنديخان الى حلبجة الى بنجوين، وليست بقية الجبهات أفضل حالا... الوضع لم يتغير منذ ليلة هجوم  العدو على حلبجة في 11-12 آذار 1988 واحتلالها، وقد طالنا طرف هذا الهجوم، حيث انه في كل هجوم يتعرض العدو على الأجنحة منعا للتطويق، وقبل ثلاثة أيام هجم العدو وتراجع بعد ليلة رهيبة، تناقص فيها عدد أفراد السرية فيها إلى النصف.... نتعرض لهجوم بين ليلة وأخرى، وبين الكر والفر، تراجعنا بعض الربايا...
 استمر هذا الحال أكثر من شهر، ندخل معركة ونخرج من معركة بلا فسحة راحة، مهما صعبت، او طالت، فلا تراجع ولا انسحاب ولا إعادة تنظيم، على غير سياق المعارك السابقة، حيث كان يجري إعادة تنظيم للوحدات التي تدخل معركة، وتعاد الى الخلفيات فترة راحة، لإعادة تنظيمها، وتعويض الخسائر، وتشكيلها من جديد... الا هذه المرة، فقط يجري تعويضنا بخسائر الجنود المصابين والشهداء، وتساءلنا لم كل هذا وما الذي يجري....
على مدى شهر بساعاته ودقائقه، واقفين بالخندق من الغروب الى الشروق، أعيننا تثقب الظلام والظلام يثقبها، كل حركة نسمعها نرمي رشقة، نسمع خرخشة في الأسلاك فنرمي رمانة، نسمع مواء قطة نخاله اشارة للعدو، وإذا أراد احدنا شرب سيكارة ياتي بجندي اخر مكانه، ويذهب لمدة ثلث ساعة الى ملجأ قريب لئلا يبان وميضها،–نعلس- بالصمون اليابس وحفنة التمن المعجونة بالرمل التي تأتينا منتصف الليل–هذا اذا سلم البغل من القصف-، ننام ببساطيلنا، حاضنين البندقية بين أفخاذنا، نذهب –في الليل فقط- لقضاء حاجتنا، وأصابعنا على الزناد، والرمانات اليدوية تنحشر في خاصرتنا، طوال الليل يدور الضابط آمر الحجاب بيننا مفتشا سائلا...
-   اين عتاد الخط الاول والثاني.... كم رمانة لديك.... اين القاذفات.... هل تحتاج شيئا؟ – طبعا من العتاد فقط-
وحين شروق الشمس نريد النوم قليلا بعد ان نضع راصدا للمراقبة، وما هي إلا ساعة حتى تبدأ المدفعية بدك خنادقنا، فمن أين يأتيك النوم، وشبح الموت يدور حولك....
اول مرة أؤمن بالمثل الشعبي الذي يقول-الخوف يز..... بمعنى –الخوف يصيب بالإسهال- لأنني اكتشفت بأنه بعد كل معركة ليلية، تصاب السرية كلها بالإسهال صباحا....
تداولت الأخبار بان وزير الدفاع عدنان خيرالله قد اتخذ مدينة دربنديخان مقرا له، فعرفنا حراجة الوضع، بعد ان سرت الأوامر للقطعات بما يلي...
-   لا قوات احتياطية من الاحتياطي العام (القيادة والفيلق) للإسناد، بل كل فرقة تعوض نفسها بنفسها... ولا إعادة تنظيم للقطعات التي تدخل المعارك...
-   ان تكون المسافة بين جنودنا وجنود العدو خمسون مترا فقط، لمنعه من التقدم خطوة واحدة.... اي اننا في تلاحم مستمر....
-   الأمر الثالث الأكثر دراماتيكية، هو ان يزج من تبقى من الأحياء بعد المعركة، للمعركة التي بعدها، والمتبقي من الأحياء منهم، الى التي بعدها ..
-   اعتبر الجبل من الأماكن التي تسمى حد إيقاف الخرق لانه مطل على مدينة..
لم نكن نعرف ما الذي يدور وما السبب ولماذا هذه الأوامر القاسية، هل هي عقوبة للقطعات، ام ان هنالك امرا ما؟ حتى السادس عشر من شهر نيسان، عرفنا بانه قد اعد 98 لواءا للهجوم على الفاو! وبقدر نصف هذا العدد من الألوية وضع خلفها كقوات احتياطية... هكذا كلفت الفاو كل الاحتياطي العام، وليحترق الجميع بعدها....
في تلك الفترة سجلت في قواطع الفيلق الأول فقط، 12 ألف حالة انتحار، او حالة ايذاء النفس، اما بالدخول الى حقل الألغام، او برمانة هجومية –اقل قوة من الدفاعية- يرميها بطريقة ما ليصوب قدمه، او باطلاقة على رجله او يده، او كسر احد أطرافه بحجرة كبيرة، او إسقاط نفسه من عل فيتكسر شيء ما من جسده، وبعضها حصلت أمامنا وبمساعدة أصدقاء للفاعل..
فلا بصيص أمل، ولا خلاص من الموت المحتم إذن، الا بالإصابة او التعويق أو الأسر، ولكن حتى الأسر أصبح غير مضمون النتائج في الفترات الأخيرة، بعد ان كان الإيرانيون يتوسلون بالعراقيين لإيقاعهم في الأسر، لكنهم الآن ليسوا بحاجة إلى أسرى، فلهم منهم الكثير...
ونحن في الشق سمعنا هلاهل على مقربة، آتية من ملجأ قريب، إصابتنا الحيرة والدهشة، عما يكون عليه الأمر،من أن أحدا قد إصابته نوبة جنونية، فهرعنا الى حيث الصوت، وإذا  بـ جدوع قد بترت قدمه اليمنى جراء القصف، يهلهل فرحا، فأتينا بحمالة لحمله، استلقى بظهره على  الحمالة، وصاح بنا منتشيا....
-   شيلو! هسا خلصت!
كان في منتهى الفرح لأنه تخلص من الحرب، بثمن بخس هو بتر قدمه اليمنى فقط!!...
يذهب تفكيري خارج نفسي، فإذا كبروا أبنائي أيكون هذا مصيرهم، ويا ترى في أية قادسية يكون نصيبهم، فمن المستحيل ان تتغير الأحوال، طبيعة النظام باقية لألف سنة أخرى، ولا فسحة لانشراح الوضع ولا نهاية للنفق، لا بل لا نفق ولا هم يحزنون، وبعد ان نتعب ونشقى من اجلهم سيذهبون حتما الى جبهات أحفاد القادسية... صليت ونذرت ان لا يكون لي ولدا ذكرا، لئلا يؤخذ من أحضاننا بعد التربية والدراسة والنضج، الى هذه الساحات، ويرى ما رأينا، وصليت ونذرت لأصاب واخرج من المعركة، اذ ما من قوة في الأرض تستطيع حرف مسيرة هذا البلد!، لا في المستقبل القريب ولا البعيد.... فلبى الرب ندائي في الحالتين....
لأول مرة أفكر بالهروب من العسكرية كمنجاة، اقلب الأمور على بعضها، ولكن كيف والى أين؟! فالسيطرات وفرق الإعدام منتشرة على كل شبر من ارض الوطن! طرق الهروب الى الشمال مطوقة، حتى التفكير بالعبور الى مناطق جبلية نائية، او الالتحاق بالبيشمركة محفوف بالمخاطر، ومن يقبض عليه مفقود مفقود! السفر خارج العراق ممنوع منذ سنوات، اما داخل المدينة فكل ذرة من التراب والهواء يتخفى تحتها رجل الأمن يراقبك، في الفنادق تكمن الاستخبارات تحت الأسرّة، التجوال في الشوارع والسفر بين المحطات والقطارات، يرصدها الانضباطية، ومنتشرون في كل زاوية بين البيوت والأزقة، الخال وابن العم والأب والأخ والابن وكل العشيرة، استخبارات ترصد حركاتك، تتحذر ان تقول كلمة في السر لطفلك، لئلا تتسرب الى المدرسة ويتم التحقيق معك، تحس وكان هناك كامرة مخفية بين غرف النوم، او تحت الفراش، حتى وان هربت بطريقة سحرية او مع بساط الريح، او الطيران بصحبة عباس بن فرناس، سيطالون عائلتك التي تصبح رهينة بأيديهم، وسيحصل لها ما لا تتصوره، فالعائلة التي فيها هارب، تتمنى ان تطمر نفسها تحت التراب فلا تستطيع، وسيكتبون على الباب، متخاذلون... سيطالون أقرباؤك القريبين والبعيدين، ويتعقبونهم حتى القمر، عليه أثرت أن أقول لنفسي، لقد قضيت سبع سنوات ونصف في الحرب، وكتب لي الله السلامة، فلا يعقل ان تستمر الحرب سبع سنوات اخرى، والبقاء –اهون الشرين- وقررت البقاء مهما تكن النتيجة....
سقط بيننا في الخندق شابان كانا من بين التعويضات، هما وليد وماجد، أما وليد وهو شاب طري العود، تفاجأ بمكانه الجديد في الخندق، ما اعتاد ان يرى هذه الأجواء من الهلع، والسكن في أحضان الموت؟! فظل لأيام طوال منشدها، يرتجف خوفا، لا يأكل ولا يشرب، فقط يدخن السكاير، تتلصص عيناه، وينظر ملتاعا حواليه، ويترجى مساعدة منا في فهم كل ما يجري حوله...
أما ماجد فكانت معه قصة عائلية طريفة محزنة، ماجد خريج معهد جاءنا (بالباكيت) نقلا من باحة المعهد الى حارة الشقوق والرمانات والصواريخ، طريفا بشوشا، قضى بضعة ايام في التدريب، وزج معنا في هذه اللعبة المخيفة القذرة، ما تزال نظارته المدرسية على عينية، وشبابه يتألق في محيا بريئة وعفوية، مطيع ووسيم، وأنا أطيل النظر اليه آسفا على شبابه المتفتح الى الحياة، فكيف حال أمه المسكينة اذا رأته بيننا والموت يتراقص حواليه، فأخذت أرشده، كيف يتمسك بالشق ولا يخرج منه، وان لا يدخل الملجأ الا لماما، وعرفته باصوات القاذفات وأنواعها وكيفية الاحتماء منها، وكيف يتصرف في لحظات الهجوم، وهو مصغ الي بكل جوارحه... لكن الطريف في الأمر، انه بعد بضعة أيام، سقط بيننا أخوه الطالب الجامعي أيضا، بعد ان عبر الحدود والسدود والخلفيات والمطبات بملابس عسكرية استدانها، لتبعده عن الشكوك، حتى وصل الى الشق ليرى أخوه، ويطمئن على سلامته، لامه الجميع على فعلته هذه....
-   كيف تاتي الى الموت بقدميك؟
-   هل تضيف حزنا جديدا للعائلة؟
-   هل مجيئك يحميه؟
اجابهم محرجا خجلا....
-   جئت فقط لأطمئن على أخي ثم أعود، لان أمي حلمت بان ابنها مصاب....
ومكث يوما كاملا بليلته بيننا، وبعد ان اطمان على سلامة أخيه، ومنذ الصباح الباكر، شد رحاله للعودة، لكن ما ان ودع اخيه ماجد وخرج من الشق، سالكا الطريق الى الوادي، حتى هرعت خلفه شظية هاون اخرس وأعمى وحاقد! فأصابت رجله اليمنى إصابة بليغة، فحمله أخوه وآخرون ليخلونه الى اقرب طبابة....
مساء، وتحت صخرة كبيرة جدا وقد حفر ملجأ تحتها، كمن نصف الفصيل محتميا من القذائف، مصفري الوجوه نتندر على بعضنا، عن ياقات التي أصبحت كالشمع من القذارة، بدلاتنا الخاكي من كثرة الاوساخ التي غطتها بلون الطين، الخوف والجوع والعطش احالنا الى اشباح خرجت لتوها من القبور....
معنا جلس وليد وهو يدخن كعادته، ويردد جملته الوحيدة..
-   ماذا نفعل، سنموت!.....
أردت ان اخفف عنه فقلت له...
-   لا تخف، لقد خفت آلاف المرات من أشياء كثيرة، لم يحصل ايا منها، الشيء الذي حصل هو ما لم اكن أفكر به قطعا، قد تحتمل آلاف الاحتمالات، لكن قد يفاجئك ما لم تحتمله....
التفت اليه محسن وهو سائق تكسي من مدينة الحلة، شخص هادئ متفائل، يتمتع بتفكير منطقي سليم، ونحن على هذا الحال التي تشير كل المؤشرات الى الموت، ولا منجاة منها، يقول له كلمة نبوئية ليختم الكلام كله!....
-   تصير سوالف!....
في تلك اللحظات، لم أكن اصدق حتى في الأحلام... بان كل ذلك العهد سيصبح (سوالف) وحكايا تحكى، وان تتقلب معادلات الأزمنة المتوالية بعدها تقلبات سريالية، لا ترقى اليها، حتى شطحات الخيال.....


.............................................


5
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (17)
ضحك كالبكاء
1984
كانت زقزقات السنونو التي تسكن معنا في بيتنا القديم توقظني صباحا مبهجا... شاعرا بالنشوة حين استيقظ على صوت فيروز الدافئ، في الصباحات المشعة بنداءات امي وهي تدعونا الى الفطور....
هذا الصباح، فتحت عيني لحظة انبلاج الفجر، وأنا مستلق في الشق بين الخوذة والبسطال، بأحضان الرمانات والصواريخ، لأرى جريحا مشدودا على ظهر البغل، لا يقوى الجلوس، وهو يتقيأ حد الموت من شدة الإصابة، وقد شدت جثة شهيد تحت قدميه على خاصرة البغل، وانين جريحين يحتضنان بعضيهما يقاومان السقوط، فوق ظهر البغل الثاني... وجريحا آخر على الأرض يتلوى بنزيفه، وجنود حولهم يستنجدون بنا لنمن اليهم بسدية لحمله.....
حين تفتح عينيك مع الفجر، وترى حولك الدماء تنزف، وجرحى يتقيئون وآخرون يشهقون شهقات الموت، ماذا يتبقى من حطام نفسك؟ واي شعور يصيبك وانت ترى وكأن الخليقة كلها تصرخ؟ بأي منظار سترى الإنسانية، بل الوجود كله؟.... الا تؤمن لحظتها بان الحياة في نهاياتها، وان دورك أنت أيضا آت بهذه الطريقة؟...
كانوا هؤلاء على ربيئة متقدمة، تبعد عن ربيئتنا مسافة خمسمائة متر، وقد أصيبوا إصابات بالغة، وكنا نحن طوال الليل نرتجف، ورؤوسنا مدفونة بين الحفر، وصواريخ الراجمات ترج الربايا وتهز الجبل من خلفنا، ومع كل صاروخ يرتج قلبك، يريد ان يخرج من قفصه....
تركَنا الجرحى ومن معهم، وساروا حاملين دماءهم ودموعهم لأقرب طبابة حيث تبعد ساعتين سيرا على الأقدام او صحبة البغال، واختفوا في الطريق النيسمي خلف الربايا والقذائف تلاحقهم، وجوهنا معفرة بالتراب فلا نستطيع تبذير قطرة ماء لغسلها، كنا بالكاد نتسلل الى العين ليلا، نسرق الماء بالأباريق والزمزميات.....
تتلاحم الروابي بيننا وبين العدو مخترقة بعضها، مختلطة فيما بينها، منها متقدمة ومنها متأخرة، فترى عراقيين بالعمق، وترى إيرانيين في المؤخرة، وربايا إيرانية وأخرى عراقية متداخلة فيما بينها، فتختلط الأمور عليك أيهم لنا وأيهم للعدو، والغفوة بالثواني والدقائق، لئلا يسقط احد الإيرانيين في حفرتنا بالخطأ، حين يعود من قضاء حاجته في الليل....
ظهراً، تقدمت طائرتان سمتيتان من خلفنا، فاختبأنا لئلا تخطيء صواريخها الهدف، ونكون نحن الهدف، دارت إحداهما دورة ثم غادرت، والأخرى ارتفعت ثم انخفضت فوقنا، وبدل ان تطلق صواريخها، بدأت تذيع عبر ميكرفونات هائلة باللغتين العربية والفارسية، تدعو الإيرانيين للاستسلام وتعلن ترحيبها بالأسرى، وتعطي لهم التعليمات والطرق في كيفية الاستسلام والوصول الى قطعاتنا... لكن يظهر بان الإيرانيين لم ترق لهم هذه الطريقة الفجة في استمالتهم، فاستقبلوها برمي هائل للقاذفات، لكن لا تطالها لبعد المسافة، فتسقط بين الربايا وبيننا... وتتمايل السمتية ثم تتقدم بارتفاع أعلى، تختمها بأنشودة... يا سيف الإسلام سيفك أمانة..... بيدين صدام سيف بمكانة..... ثم تميل لجانبها الايمن نحو الأسفل، وتعود أدراجها هاربة...
بعد ساعة سمعنا أصواتا من الجهة المقابلة، حيث نصبت الاستخبارات الإيرانية ميكرفونات أرضية مضادة، وبالسلاح المضاد نفسه، ثم تلتها الاستخبارات العراقية والتوجيه السياسي، فتبودلت الكلمات والخطابات... الايرانيون يصرخون باللغتين العربية والفارسية بالحرب المفروضة عليهم (جنگ تحميلی) وبأنهم الطرف المعتدى عليه، والمناداة بأهداف الثورة الإيرانية، والعراقيون يصرخون بقادسية صدام، وبالحق، والتاريخ، والعزة، والكرامة، والشرف.... ثم تبدلت الموجة الى ان أصبح كل طرف يريد الحط من شأن الطرف الآخر، فالإيرانيون يعيروننا بكوننا مجرد -قوم مي أكرم- لا أكثر!، ونحن نعيرهم بكونهم مجرد -قوم كوكوش- لا أكثر!.....
وحين استمر هذا السجال، وما من مستطاع احد إقناع الآخر، تلتها موسيقى ناعمة من آلاف القذائف من الجهتين على كل الربايا الإيرانية والعراقية بسواء، تعزف أناشيدها، فيرتج الجبل ويتناغم صراخ الإنسانية مع قلب العارض فتهتز الأفئدة وكل منازل السماء, تصطدم الشظايا بالأجساد وتتراكم على بعضها، ونحن محشورين على بعضنا نهتز مع اهتزازات الخندق حين ترجه صواريخ الراجمات, وتهتز الارض من تحتنا، فيتراءى وجه الموت على كل الوجوه، بين قلوب تطرق طرقات النهاية, فمن ذا الذي يستطيع ان يرمي نظرة على الدنيا حوله!....
بعد ان أشبعت وطرها الراجمات، اختلطت رشقات الرصاص بيننا وبينهم، مركزين نيراننا على الربايا والملاجي المتداخلة، بحذر، لئلا تطال ربايانا، بعدها اشتد القصف بكثافة جنونية..... احد الجنود امسك الخوف بتلابيبه، -فلاجت روحه المخروعة-! لم يعد يعرف ماذا يفعل، وقد امسك الهلع بخناقه، اخذ يدور حول نفسه، ولا يعرف أين يذهب، قفز من الحفرة بجنون نازلا السفح، يريد ان يفتش عن مكمن آخر أكثر أمانا، فصرخنا به...
-    لا مكمن أكثر أمانا من الخندق!.... تمسك بالخندق!
-   ستتعرض للرصاص!..... عد الى الشق يحميك!...
لم يسمعنا، او ربما فقد حاسة السمع، ونحن ننظر اليه ينزل السفح راكضا نحو ملجأ على مقربة منه، بخطوات سريعة وطويلة كطوله! فجأة تغيرت شكل خطواته المتوازنة فإذا ركضه كالرقص، شيء  ما عطل تناسق خطواته، فاذا هو يرمي واحدة على اليمين وأخرى على اليسار, خطوة قصيرة وأخرى طويلة ركضة فنطازية, ثم تلتها خطوة طويلة جدا تعثر بها، فجاءت الخطوة التالية قصيرة عرجاء، اما يديه فتسقطان شمالا وجنوبا كأنه في حلم سريالي.. مال جذعه بصورة مأساوية، وسقط سقطة درامية مضحكة، لا نعرف هل نضحك ام نبكي، لقد أصابت رصاصة رأسه وهو يركض، فضحكنا ضحكا أشبه بالبكاء، ليستمر في الركض وهو ميت، ثم يسقط على الأرض، بكوميديا مأساوية...
تتقاذفك في الخندق مشاهد تُبكي وتُضحك، تبعا لحال هذا البشر الممتد بين الحياة والموت، بين الألم والأمل، بين الخير والشر..... سمعنا صراخا...
-   اخ انجرحت!
اخرج علاوي رأسه من مكمنه:
-   هداوي انجرح!..
ظل هداوي يعدد أسماء جنود الفصيل لإخلائه....
-   عباس! احمد! نجم! خالد!.... اخوتي, يمعودين!..
رد احمد...
-   لو أبويه يطلع من الكبر، ما اطلع هسه!
وأردف عباس...
-   بس لو يهدأ القصف!.
تتلون الأوجه بحسب قرب القذيفة او بعدها، او بحسب رفعة النفس او ضعتها.. خالد بعينيه الثعلبيتين، ووجه عباس الرعديد، واحمد المنافق...
-   كلشي ما بيه!... جذاب! يكدر يمشي!.....
 صرخ هداوي في النهاية حين تذكر أخيرا اسما معجونا بالشهامة...
-   لك اخوي اسماعيل! تعال شيلني!..
انتفض اسماعيل كمن كان ينتظر النداء!..
-   لك آني الما اشيلك!!..
وخرج كالقذيفة الى ساحة الموت, فخرجت قذيفة خلفه, ليصاب إسماعيل بجرح ابلغ من جرح هداوي! لكن يظل اسماعيل وهداوي احدهما يسحب الآخر، بصعوبة بالغة الى ان وصلا الينا! سقط الاثنان بيننا, هداوي كان جرحه خفيفا في يده وقدمه، والدم يسير خلف إسماعيل بغزارة! فاذا جرح اسماعيل جرح مميت، وبالكاد ينطق كلماته...
-   اريد مي!...
امام هذا الموقف الشهم من اسماعيل، كان هنالك موقفا مضادّا، وفي منطقة تسمى (القاعدة الأمينة)، حيث لا يطالها القصف، وهي منطقة تزويد الارزاق، أتوا بجرحى في سيارة تعطلت، ليخلونهم الى سيارة أخرى، كان الجرحى ينزفون وكل ثانية ودقيقة تنقذ حياة احدهم، والوقت يمر سراعا، لكن بعض الجنود اختبأوا هربا من حملهم، لا لشيء الا لجفاف ضمائرهم... انه الإنسان، قمة في التضحية، وقمة في النذالة، وبين النذالة والرفعة درجات....
ننظر الي اسماعيل لإصابته الخطرة، انه ينزف، متمدد على الأرض يتأوه، اخذنا نفتش عن ضمادات ميدان.... اما هداوي فاسرع الى زمزميته يفتحها ليبلل شفاه اسماعيل، وقد شحب لونه...
-   اعطني ماء!
-   لا استطيع ان أعطيك الماء، فقط بلل لسانك...
-   انا ميت لا محالة فلا تحرمني من الماء، سأموت هداوي! اسقني الماء واترك الأمور تسير كيفما يشاء ربنا!...
-   (كول يا الله) لن تموت وستشفى بإذن الله...
عرف إسماعيل من شدة ضعفه، بأنه مشرف على الموت، مد يده الى جيبه، كل ظننا انه يخرج ضمادة ميدان، لكنه اخرج محفظته، تأمل المحفظة، ثم اخرج صورة العائلة فإذا هي صورة زوجته وابنه الصغير، ينظر اليهما وتسيل دموعه مختلطة بالدماء النازفة!.... قدر ما يكون الإنسان جبارا، الا  ان جبروت الموت الذي يبان على مقربة منه، يكسر شوكته!....
-   أرجوكم إيصال الأمانة الى أهلي، ووصيتي لزوجتى ان تعتني بالطفل، وبلغوهم اعتذاري لأنني لم أوصلهم الى ما كنت اريد....
-   لا تقل هذا، ستعيش!
-   ووصيتي ان لا يبكوا كثيرا، حتى لا يشعر الطفل باليتم بعدي، هذا امر الله..... اما أمي....
جين قالها شهق بالبكاء، واختنقنا نحن بالعبرات.... دارت هواجس الذكريات بيننا جميعا، ترى هل سنلاقي نفس المصير، ويكتب على ختام حياتنا هذا الختام؟!...
هكذا كتب علينا ان نُقتل او نَقتل جنودا من الطرف الآخر، لا نعرفهم ولا يعرفوننا، أناس ليس بيننا وبينهم عداوة او ضغينة، ولا أي رغبة او هدف من مقاتلتهم، عدا رغبة وهدف المتسلطين بقتل كلا الطرفين بطرق بشعة، ليمتد مداها لما سبقها وما يليها، ممن اشتركوا بهذه الحروب اللعينة في مثل هذه الساحات، منذ عشرات السنين، ولفظ اغلب هؤلاء أنفاسهم الأخيرة بهذه الطريقة او بأقسى منها، في سواتر ومعارك توزعت على الأردن والجولان وحركات الشمال وحرب تشرين ولبنان وسواتر القادسية، ومنهم من اسروا وفقدوا، وتحطمت معها العائلات، والتقاليد، والمبادئ، والأعراف...
شعر هداوي بوخز نظراتنا اليه كأنها تتهمه، فاخذ يبكي، دخل الملجأ واخرج السدية (الحمالة) بيده السالمة وهو بالكاد يمشي...
-   من ياتي معي؟
-   انا ميت فاتركوني، ولا تعرضوا أنفسكم للموت....
-   والعباس متموت! يالله يا جماعة!
-   ونهض عبد وجليل لإخلائه....
فمن له القدرة على التفكير في مثل هذه الساعات، ليصف معي صفات من ابتلينا بهم من أراذل الناس أن يهيئوا لنا، مثل هذه الساحات، في كل زمان مضى وفات... وكل ما هو آت آت....

...........................................................

6
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (16)
دفتر التجنيد
عند مراجعة التجنيد لأجل السوق الى الخدمة، تقف أمام الضابط، لا كمواطن يريد أداء خدمة لوطنه، بل كمجرم أمام ديّانه، وكلمة سيدي تتراجف بين شفاهك بين كلمة وأخرى، زحام مذل على توقيع دفترك حتى حين تريد الدفاع عن الوطن، بعد بعض المهانة، كتبوا في دفتر خدمتي، أزيلت أعذاره وبلغ بالحضور للسوق الى خدمة الاحتياط يوم 1/11 /1981....
في السابق كان الناس يستمرون في المدرسة، لا لشيء الا هربا من الخدمة الإلزامية، لما لها من سمعة سيئة، ولم اختبرها الا حين لبست الخاكي أول مرة عام 72، حيث لم تكن تشمل الخريجين بادئ الامر، لكن سنة تخرجي من الجامعة، كانت هي السنة الأولى التي تم سوق الخريجين فيها لأول مرة....
حين نظرت الى المدة التي سأخدم فيها احتياط، لمدة ستة شهر هالني الأمر، فكيف سأنهي كل هذه الفترة الطويلة في الخدمة في زمن الحرب، وكل ظني اننا سنخدم 45 يوما، كما كانت مقررة لمن يساق الى خدمة الاحتياط قبل القادسية، وكانت الفترة بين الخدمتين الإلزامية والاحتياط، مسافة عقدا من السنين، لكن رأيت بان حالة الجندي بقيت على حالها، وظل يحمل نفس التعريف... الجندي هو ذلك الشيء الذي يشغل المسافة ما بين البسطال والبيرية....
في اليوم المحدد، استلمنا الكتاب الى مركز التدريب، حملتنا الباصات الى مركز تدريب مشاة بغداد في معسكر التاجي، وجلسنا في ظلال القاعات، حتى اكتمل الموجود، صرخت صافرة العريف ساجت بالتجمع، جمعونا بالملابس المدنية، وقد جاء احدنا يتهادى في مشيته الجامعية المعتاد عليها، ووصل متأخرا، حينها صرخ العريف المذكور:
-   صرت عسكر، هي قشمر! منا وهيج، اذا متمشي مثل الميل، أفيّن حظك...
وحين عبر آخر الحديقة من الجهة اليسرى صرخ أيضا.....
-   حمار! منين دتعبر...
هذه أولى كلمات الترحيب التي استقبلنا بها في المعسكر، فوضعنا كرامتنا في جيوبنا، وسرنا..
-   والآن شكلوا تلاثات الى مستودع الإعاشة...
وكان عريف الإعاشة يكمن في غرفة بزاوية المعسكر، حين وصلنا اليه، اطل علينا كالشمبانزي مهاجما بشواربه الكثة التي تحمل رقم (8) خشن الذوق والطبع والشكل والرائحة، وكانت له طريقة روتينية في التعامل معنا بالألفاظ التي يعيدها لكل وجبة من وجبات المساقين، بتلك الجمل التي تبدو جديدة على الأسماع، اذ كل ما وصل الدور لأحدنا باستلام الملابس تتكرر اللازمة التي لا يعرف غيرها في حياته...
-   اخي زمال بساع.... ليكدام يوول.... ناموس سز تقدم.... ابني قشمر الزم بيدك...
وزعوا علينا التجهيزات من السروال الداخلي الى البدلة والبيرية الى كيس التجهيزات، فحملنا كيس التجهيزات وما فيه، وتحركنا الى إحدى القاعات كغنم يساق للجّز، بعدها جاء احد جنود القلم يحمل قوائم بالأسماء، وتعاون معه العريف، لتقسيمنا الى ارهاط وحضائر وفصائل، وبعدها أعطي لكل واحد رقم فصيله وسريته، لنستدل بها في الايام التالية على أماكننا ولا ننساها، وفي كل مرة تعلن الصافرة نداء التجمع، لعشر مرات او اكثر في ذلك اليوم، كانت آخرها محاضرة علمونا فيها كيف نلبس السروال، والقميص والبسطال، والجواريب، بعدها ألقيت علينا محاضرة طويلة عريضة عن كيفية تقشير البرتقال، وعبور الشارع والسير في السوق وكيفية استلام القصعة.... ثم ختمها بجملة بلاغية رائعة... اليوم تحلقون رؤوسكم، وغدا صباحا أراكم في ساحة العرضات و(اطيح حظه اليتاخر)....
رايت حينها بان المهانة ثلاثة انواع... حين تكون مذنبا أمام القاضي.... وصاحب معاملة يقف بالدور أمام موظف عراقي.... والثالثة هي الخدمة الإلزامية... واكتشفنا مبكرا الحقيقة المعروفة التي تقول.... اذا أردت ان تكون ملكا، فكن ضابطا في الجيش العراقي...
تشعر بان كل حياتك السابقة كانت هباء، وكل ما تعلمته في المدارس وما قرأته في الكتب من علم وفكر ومعارف وأخلاق وفنون، يجب ان يوضع في سلة المهملات، وكل الأحلام والآمال والمبادئ السامية التي تنشدها، ترميها خلفك، وتتمسك فقط بكلمة -نعم سيدي- لا غيرها!.....
تحرك قسم منا الى الخياط وقسم للاسكافي، وتجمع بباب الحلاق الكثير، لكن أكثرنا قرر بالنهاية ان ننزل الى  المدينة، ونكمل كل النواقص من حلاقة الى تقريم الملابس، الى شراء لوازم صبغ الحذاء، وأدوات حلاقة، وفرشة، وجفية، تنظيف السلاح...
هذا ما كان في اليوم الأول، وكان لكل واحد منهم طريقة وأسلوب مختلف بالتعامل معنا، لكنهم جميعا اتفقوا على اهانتنا واذلالنا ومسبتنا ونعتنا بالقشامر والأغبياء...
في اليوم التالي استلمنا ضابط التوجيه السياسي ليلقي علينا محاضرة عصماء جاء فيها:
يا لكم من سعيدي الحظ لأنكم خدمتم في زمن القائد، زمن الحزب والثورة والمبادئ وتحرير فلسطين وكل الأراضي السليبة، والدفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي الكبير، اذ أتاح لكم القائد هذه الفرصة التي لا تأتي الا مرة واحدة بالعمر، لنيل الفخر والعزة والكرامة بقادسيته الثانية، وقد منّ عليكم القائد بنيل شرف المشاركة فيها والدفاع عن التراب العربي، فلا تفوتكم فرصة التباهي بالانتصارات، ومبروك على كل ام حين تنظم الى اشرف الأمهات، ويكون ابنها من -الأكرم منا جميعا- ويزف لها ملفوفا بعلم العراق العظيم، ولتفتخر به  العشيرة وتتفاخر به الأجيال...
تتقادم الأيام مع النهوض المبكر كل يوم مع الصبغ والتلميع والحلاقة، والعودة الى القاعة منهكا، لتبدأ رحلة كنس الساحات والتنظيف والتدريب المسائي والتعداد بين ساعة وأخرى، لتعيد وتكرر نفس الاسطوانة المشروخة كل يوم، وتتقاذفك شعارات الثورة والنصر والأمة والتاريخ، وشعار-التدريب يقلل من دماء المعركة- أينما تولي وجهك... وقتك لم يعد لك، وقد فقدت حرية اختيار هواياتك واهتماماتك ومقتنياتك، من الأفكار والسلوك والآراء، فحولك أناس شبه آليون ليس لهم غير تنفيذ الأوامر بالقيام والجلوس والنهوض والهرولة، ثم الكمون في قاعة أشبه بقاعات السجن، ويا ويلك لو شاهدك العريف او الضابط تقرا في القاعة، في وقت الاستراحة او في غيرها، فسينعتك بشتى النعوت وان جادلته في الأمر سيكون السجن مآلك، ولو ألصقت تهمة الثقافة بك ستصبح عدو الجميع.. وتندم على يوم ميلادك حين تصطف مع المصطفين وبيدك القصعة وكأنك تستجدي اجباريا تحت سياط الصرخات...
-   ارفع القصع، اخفض القصع، الى اليمين در، عادة سر.... يوولو بالسرة حواوين!!
الأوامر مقاسة على الشخص الذي لا يفقه شيئا من الحياة ولم يعرف المدنية، ولا عرف المدرسة ولا التربية البيتية، والتعليمات العسكرية مفصلة لمستوى وعي طفل في الخامسة من عمره، والتدريب يليق لعبد في القرون الأولى..... لتقف الدموع في ماقيك حزنا لهذا المآل الذي آلت إليه أمورك..
في ساحة العرضات الّم بسعود وهو مدرس من الرفاعي صداع في رأسه، فشكى  للنائب عريف حاله، فما كان بيد العريف شيئا غير الأوامر...
-   هرول للسياج، وتعال بسرعة وراح تطيب....
وهرول صاغرا فلما عاد ....
-   كيف الحال؟
-   ما يزال الصداع في راسي...
-   هرول حول الساحة كلها وراح يطيب راسك، وبسرعة!
وهرول وبالكاد يجر خطواته ولما عاد لاهثا....
-   هسا شونك؟
-   لا لا طبت...
-   اذا مطبت، راح ازحفك بالطين وتطيب! خوش؟!
-   لا لا كلش زين صرت!
 هذا النائب عريف لو رايته خارج المعسكر لرايته أهبلا لا يصلح لان يكون حمالا، انه الان يهيننا وبيننا المثقف والفنان والمحامي والأستاذ، وعليك ان تنصاع صاغرا لهؤلاء الجهلة التي وضعتنا الأقدار تحت رحمتهم، وجعلتهم يتلاعبون بمصائرنا، تصور ان ضابط التوجيه السياسي الذي خطب بنا بمحاضرة عصماء، كل مؤهلاته انه راعي من ناحية من نواحي الرمادي...
سالت جاري عن أحوال العسكرية، فقال لي مقولته.....
-   حين يدخل انسان الى العسكرية يتخرج بغلا... وحين يدخلها بغلا يتخرج انسانا....
معادلة لا اعرف كيف وزنها....
يختلط الجاهل بالمتعلم والمستقيم بالمعوج، لكن الأوامر بيد الجاهل، هل نظام العسكر هذا قد توارثناه من سناجق العثمانيين في القرون السحيقة الماضية؟ ام ان الانكليز صاغوه حين أسسوا الجيش العراقي لأول مرة في عام 1920 قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، ام فصل مؤخرا على أذواق الحكومات الوطنية جدا!.... ام ان هذا ما يجب عليه ان يكون لتربية الرعاع؟.... ذلك ما لم أتوصل الى معرفته....
حين تشرف فترة التدريب على النهاية، وكالمستجير من الرمضاء بالنار، وخلاصا من هذا القرف أخذنا ننتظر نقلنا الى الوحدات الفعالة كما قيل لنا، الى الجبهة او الى المعسكرات الثابتة والمستقرة، وتتقاذفنا الاراء...
-   الجبهة افضل من هذا الاهانات!
-   البقاء في مراكز التدريب إطالة في امد حياتنا..
-   قد ننقل الى أماكن جيدة تلائم اختصاصاتنا....
وتتوالى النقلات الى الوحدات، والحظ والصدفة هما الفاصل في الاختيار، مرة قدم ضباط من رتب عالية، اختفينا حين رأيناهم ببدلات القوات الخاصة، وبدأنا نتراكض ونتقافز هنا وهناك خلاصا من نقلنا الى صنف القوات الخاصة، الى ان جمعونا ووقفنا رتلا واحدا، جمدت أجسادنا ونبضت قلوبنا، فتقدم الضابط واخذ يعد الجنود من اليمين الى اليسار، وكان يؤشر بالاختيار بين جندي وآخر،  أي ان كل من يحمل رقم زوجي أركنه الى جانبه، وتبين بعد ذلك انهم نقلوا الى المخافر الحدودية العراقية السعودية، ينامون على ريش النعام للهدايا التي قدمها لهم الرعاة السعوديين، فندمنا على اختبائنا....
كل يوم يأتي احد الضباط يتفرس فينا ويدفع بعصاه على بطوننا، كمن يبحث عن ذبيحة سمينة لشرائها، ثم يسأله عن اسمه الثلاثي كان يلوك كلمات محددة لا يعرف غيرها....
-   يوول شسمك.... منين انت.....منو من الموصل.... وول ارجع للخلف انت.... منو من الرمادي...
وما بين فترة وأخرى تتكاثر الأسئلة والمزايدات على الجنود الواقفين ويطرحوا الكثير من الأسئلة
-   منو يعرف يسوق؟.... منو عندا اجازة سوق؟
-   منو ابوه رفيق؟... شنو درجتك الحزبية؟
-   منو فيتر... من وايرمن.... شنو شغلك؟
-   منو يصير مراسل ويبقى هنا، وابد ما ينقل؟!
زاد التحسب من النقل الى الجبهات، حين كنا نرى حركة الرفاق في الحارات، واغلب الطلاب في المدارس يرتدون ازياء الطلائع والفتوة، واللافتات والأعلام والصور تفرض وجودها على الواجهات والشوارع والأزقة ومكبرات الصوت يتعالى زعيقها وصراخها..... ميلادك شحلاتة.... شمس وكمر غلاتة..... و....العزيز انت... انت.... ونعوش الشهداء من الجبهات تسير على قدم وساق، وقد لا يخلو زقاق من مأتم عزاء في كثير من مناطق الفقراء السكنية، واصطبغت ملابس النساء على الأعم بالسواد...
في اليوم المشهود، خرجت من القلم قوائم بأسماء المنقولين الى مختلف الجهات، ونحن نتساءل في كل مرة عن جهة المنقولين، فيتحايلون في الصراحة حسب الجهة، اذا كان المكان جيدا، يدلونا عليه بسرعة ويصيحون بأعلى صوتهم، وان كانت الى الجبهة، يخففون من لهجتهم ويتصنعون الصمم، وحين سألناهم عن لواء 602 الذي نقلنا اليه، تصنع الجندي الغفلة ودخل مسرعا القلم هربا من الأسئلة....
عليه عرفنا الوجهة، بعدها استدلينا عليه من آخرين، حين قالوا لنا، انه خلفياته عند برج التلفزيون شمال العمارة، واتفقنا نحن العشرة المنقولين على الذهاب سوية الى كراج العلاوي بعد أيام.....
.........................................................

7
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (15)
مقاتلون عرب
شباط   1983
في البدايات كانوا يزجون معنا سرايا من المهمات الخاصة والجيش الشعبي، فتحشد مع الجيش النظامي لرفد الجبهة بقوات إضافية، لكن ثبت بعد ذلك انها كانت تضعف الجيش او القاطع المتواجدة فيه، حيث كان يحصل الخرق دائما منها، كما كان يحدث الأمر نفسه عند الإيرانيين، فكل المعارك التي خاضها الجيش الإيراني النظامي، كانت تحتل أراضي عراقية وتستولي على مناطق مهمة، كما في هجوم المحمرة، والمجنون، والطاهري، ونهر جاسم، وبنجوين، اما المعارك التي اشتركت فيها القوات الغير النظامية كحرس خميني، فكانوا يقدمون فيها ضحايا هائلة، ولا تؤتى ثمارها...
وهكذا قبل فترة من هجوم الشيب استقدم الينا قاطعين من الجيش الشعبي للإسناد، احدهما قاطع مصري من المتطوعين المصريين، والآخر قاطع سوداني من المتطوعين السودانيين، سرية المصريين على يمين سريتنا وسرية السودانيين على يسار سريتنا، منتشرون على الخندق القتالي، وبإمرة آمر اللواء، وكان كل من القاطعين عالما مختلفا عن الآخر، اتصف قاطع السودانيين بالهدوء والتعقل والضبط والأخلاق، عكس قاطع المصريين الذين كانوا مشاكسين، متعصبين، متخاصمين مع بعضهم او معنا طوال الفترة، قليلو الضبط، يسهرون طوال الليل على آلات التسجيل، فيرفعون الصوت ويغنون بهستيريا حتى الفجر، خوفهم من الهجوم، ولا يدعوننا ننام، ومنهم سمعنا المقولة التي تقول (ألف مرة جبان، ولا الله يرحمو) وكانوا في القاطع كأنهم في مجاعة، يتخاصمون معنا على الماء والأرزاق على مدى الساعات...
شاءت الصدف السيئة التي تمازحني أحيانا، ان يكون مزاحها هذه المرة قاسيا، فقد تخاصمت مع احد أفراد القاطع المصري، لأنه منعني من التزود بالماء من (التانكر) -الذي كان ياتي ويذهب بسرعة كبيرة، خوفا من القصف المتزامن مع أوقات التزود بالماء والأرزاق- وقدم عرضة شكوى الى آمر اللواء، يتهمني فيها، بأنني لعنتهم ولعنت من جلبهم! ويا لها من لعنة! ولا مثلها لعنة الفراعنة! فقد أولت المسالة الى التطاول على شخص القائد الضرورة، مصيبة ما بعدها مصيبة، فجاءت سيارة (واز) واستلمتني أودعتني سجن اللواء، وبدأوا التحقيق معي:
-   انا بريء، والذنب كان ذنبه.
-   لا يهمنا ذنب من كان، لكن الا تعرف من الذي أتى بهم؟
-   تهمة خطيرة!
-   وله اثنان من الشهود المصريين...
وحتى يمعنوا في (الخباثة)، اخبروا آمر اللواء بأنه اذا لم يرفع القضية الى الأعلى سيرفعونها هم!....
يا لسخرية الأقدار! جندي في الخط الأمامي يقدم حياته هدية مجانية للوطن، ينتزع من مكانه، لكلمة قالها في حالة غضب، ليتلقى عقابا اقل ما يكون هو السجن المؤبد، ولا تشفع له حتى التضحية بنفسه!...
ولما كان آمر اللواء –العقيد الركن محمد القاسم- شهما وذكيا وأصيلا، استخدم طريقة فطنة معهم، فقد منع الاتصال بي، ومنعت من الاتصال بأحد من أفراد سريتي، وسجنني في سجن لا يعرفه الا الحرس، وقد منعوني حتى من الخروج الى الشمس، مع المساجين كل صباح، لئلا يراني أحدا، ولم افهم القصد في البداية، فاخبرهم آمر اللواء بتسفيري الى الاستخبارات في بغداد، فسكن المصريون عن السؤال! الى ان نقلهم خارج القاطع، حينها أطلق سراحي وبعد أسبوعين تقريبا! حين عدت الى سريتي في الخط الأول، لأدافع عن وطنهم! اندهشوا من سلامتي، حيث سرت إشاعة تسفيري الى بغداد فعلا، هكذا ذهب القاطع المصري، وأصبح القاطع السوداني فقط معنا، وتوزع بعضه في الخط الأول أيضا....
ليلة الهجوم، جاءتنا طائرة تحلق عاليا، وألقت تنويرا عنقوديا فوقنا –حيث يظل لفترة طويلة نسبيا، قياسا بتنوير المدفعية- وحين ينطفئ، تأتي أخرى لترمي عنقوديا آخر، هكذا أصبحت تنار، تنويرا بعد آخر، لكشف الساحة المترامية أمامنا، فعرفنا ان الهجوم قد بدأ، وفعلا كان الهجوم قد شن على يميننا عشرة كيلومترات، حيث اللواء 72 واخترقوا دفاعاته الثلاثة، وفي الثالثة فجرا شنوا هجوما آخر على قاطعنا...
احتل الإيرانيون الخط الأول أمامنا، وكان السبب جنود الحجاب الذين تركوا الحجاب هاربين ليلوذوا بالقطعات، راكضين خلفهم الإيرانيون ليختلطوا بهم، ويدخلوا سوية فتحة الألغام، ثم قفزوا في الخندق الأمامي، ولما لم تكن للسودانيين خبرة في المعارك كالعراقيين، فكانوا أول الضحايا، فهم لا يعرفون المناورة والمراوغة كما العراقيون الذين خبروا المعارك، وكيفية التحاور مع الرصاصة، او الهروب الى أماكن آمنة، حين تحين الفرصة، فحصلت معركة بالسلاح الأبيض، واستشهد اغلب السودانيين، واستطاع بعضهم الهروب نحو مقر اللواء...
والهروب الى مقر اللواء سذاجة لا تغتفر، وما دامت كلمة الانسحاب قد أزيلت من قاموس الجبهة، فكل تراجع يعتبر هروب من ساحة المعركة، وهكذا فقد استلمهم -رائد ندا- ضابط استخبارات اللواء، الذي اعدم (15) فردا منهم في اللحظة بتهمة التخاذل والخيانة، ولكن ارتأت القيادة العليا، وبعد هدوء المعارك، وتلافيا للدخول في مطبات مع الدبلوماسية السودانية، ان تعتبرهم شهداء، ونقلت جثامينهم الى دولتهم، وعوملوا بالحقوق، كحقوق الشهداء العراقيين...
حين استقر الإيرانيون في الخط الأول، حولوا أسلحة الفوج الأول المستولى عليها  نحونا، وأصبحنا نحن خط المواجهة، والمسافة بيننا ثلاثمائة متر من الأرض المنبسطة، فانطلقت من الرباعية بعض الرصاصات العشوائية نحونا، حين شاهدها السودانيون الذين معنا صاح احدهم...
-   رفيك في تسلل!... اي (رفيق هنالك تسلل) -لخوفهم من اية كلمة تؤوّل الى الدعايات المغرضة-
فصرخ به احد الجنود...
-   ولك يا تسلل؟ من اشتعلوا.....!
اخذنا نرمي غريزيا بكثافة وقوة وتركيز، فحسب الإيرانيون انهم يتعرضون الى هجوم كبير، فاستمكنوا في مكانهم، ولم يتقدموا أكثر، كنت استرق النظر الى الجهة اليمنى من نهاية السرية، واذا من خلال تلاحق الظلام والتنوير، يتراءى لي عشرات الجنود الايرانيين يأتون من جهة اللواء 72 ويستمكنون في جهة اليمين، ربما للالتفاف حول السرية،  فأخذت اتجه نحو الجانب الأيسر من الخندق...
نظرت الساعة انها الخامسة، ووقت انبلاج الفجر هو السادسة والثلث، ساعة وثلث الساعة حتى انبلاج الفجر، بطول سنة وثلثها، فحياتنا متعلقة بانبلاج الفجر لنرى ما حولنا، ويبتعد الموت عنا، تبادلت مع صديقي يعسوب حول ما سنعمله، واذا بالعريف فاضل صائحا..
-   انصبوا الهاونات على مدى 300 متر، ولا تنسوا رمي قنابر التنوير كل فترة (القنابر، ما يرمى من سبطانة لها فتحة واحدة، والقنابل ما يرمى من سبطانة مفتوحة الجهتين، اي ذات الهبّة الخلفية)....
ولما كنت انا ويعسوب عددا الهاون، نصبنا الهاون وحركناه على المدى، ذهبت الى مخزن العتاد وجلبت بعض القنابر... آمر السرية يدير التلفون الأسود ذي العتلة الصغيرة السوداء ليتصل باللواء......
-   نريد اسناد سيدي!
-   اصمد حتى الصباح، وستأتيك كتيبة دبابات المهلب..
-   انها فترة طويلة حتى الصباح...
-   نفذ ثم ناقش!
-   انفذ هسا، وراح أناقشك من الثلاجة، بعون الله!
نظرت الساعة، وكل ظني انه قد مرت نصف ساعة او أكثر، فإذا هي الخامسة وعشر دقائق!... لقد مرت عشر دقائق فقط، ياه!!... كم يمر الوقت بطيئا، في اللحظات الصعبة، والمخيفة، والمترعة بالموت...
وانت تنظر حواليك بهلع، فترى الموت يتجول في هذه السواتر، ويتقافز في هذا الظلام مع الرصاصات التي تاتي لتقبض على أرواح من تختار، وهذا العنيد الجبار الأصم، يتجول بيننا ويختار من يشاء، لا يهمه من تكون، فهو لا يأبه لانتظار زوجة، او توسلات أب، او حرقة دموع أم، أو بكاء طفل يتيم، يتجول الموت بحرية يخطف الأرواح يمينا وشمالا، وتهجم عليك ذكريات الأهل والأصحاب والأحباب، وتستحضر ما سوف يكون بعدك، فتحاصرك الاحتمالات، من ذكرى من ماتوا او تعوقوا او اسروا.....
أخذنا نتراشق مع الموت، ما الذي يرتسم في مخيلتك حين تتلاوى مع الموت، يغلبك ام تغلبه، ويكون الأمر أكثر دراماتيكية، حين يعتمد على ورقة يانصيب، تطير فتتبعها نظراتك، لترى اين ستستقر في خندقنا، ام في الخندق المقابل....
جاءني حمادة من اهل بغداد، سمين، ضخم، لا يكاد يجر نفسه من ثقلها، بيده الجعبة النسيجية وسالني:
-   هل تخرق الرصاصة الجعبة؟
-   من اي بعد؟
-   على بعد شبر!
-   تخرقها وتخرق أبوها...
لم اعرف ما كان يقصده الا صباحا، حين قيل لنا ان حمادة أصيب بيده باطلاقة واخلي مع الجرحى، لقد وضع الجعبة بين فوهة البندقية ويده واطلق الرصاص، لئلا يظهر اثر البارود على يده، فتعتبر من حالات إيذاء النفس، ويعاقب عليها....
نسمع صوت دبابات بعيدة، ونأمل وصولها بعد قليل، ويأتي بعد قليل ولا تصل، ننتظر، وننتظر ولا تصل، ونتساءل....
جاءتنا الأوامر بالهجوم لاستعادة الخط الأول، فجمعنا آمر السرية في مكان واحد، ولكن كيف التحرك للأمام في هذا الظلام، وعلى ارض منبسطة، سيحصدوننا على مدى بنادقهم، وهم مستمكنون في الخندق، سرية تهجم على خط دفاعي يحوي مئات الجنود، وبلا خطة وبلا استحضارات، كان أمرا اعتباطيا بلا روية، عريف فاضل معروف برصانته، قال للضابط:
-   كيف تجمعنا في مكان واحد، وقاذفة واحدة تمسح الجميع؟!
قرر آمر السرية إرسال جنديين لاستكشاف المنطقة، وإخبار اللواء بذلك، وهربا من اتهامه من عدم تنفيذ الأوامر، اخذ يتلكأ ويسوف الأمر، لتمضية الوقت، وهكذا عدنا الى أماكننا في الخندق وتوزعنا لنستمر بالرمي...
المعنويات تتردى، فيمسك الخوف بتلابيب قلبك، وتنشل يديك، وتهدا حركات جسدك، وتتلفت عينيك، وليس من مهرب، ماذا تفعل والموت يقترب منك، واللحظات قاسية مخيفة... وأنت بانتظار الفجر البعيد، وكتيبة الدبابات التي ستأتي ولا تأتي، لنسمع أصوات محركاتها ولا تصل....
وبين تحسب الهجوم علينا بين لحظة وأخرى، واستمرار المناوشات مع الرصاص، ومناورة الخوف والأشباح والظلام والموت..... أخيراً، لاح الفجر مبتسماً، وإذا بالدبابات واقفة خلفنا بالضبط، هكذا إذن، كانوا خلفنا من فترة طويلة ولا يتقدمون، نزل احدهم من الدبابة، وتقدم نحونا، فتساءلنا:
-   أين كنتم، ونحن نسمع صوت المحركات منذ فترة طويلة؟
-   من حسن حظكم لم نستعجل الأمر، وإلا كنتم انتم الهدف، اخبرونا بسقوط الخط الدفاعي، وكل ظننا انتم ايرانيون، فتهيأنا لاكتساحكم، ولكن آمر الكتيبة قرر الانتظار، ريثما ينبلج الفجر ونتأكد....
-   حمدا لله على تأخيركم إذن!.....
-   نحن الآن بانتظار الأوامر بالتقدم بين دقيقة وأخرى، نريد فقط ان تهيئوا لنا شاي الصباح في هذه الدقائق!...
-   لكم ماء عيوننا!...
شربوا الشاي، واكتسحوا الخط الأول، وتقدموا في عمق الجبهة.....
رمينا بنادقنا، وتنفسنا الصعداء! لقد نجونا هذه الليلة!........

.............................................


8
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة (14)
قاطع الشيب
شباط   1983
يقال ان -للخوف عيون واسعة- كان في سريتنا نائب ضابط كبير السن، يستيقظ على حفيف أقدام القطة وهي تسير على بعد مئة متر حين يكون نائما، حذر الى أقصى حدود الحذر، يخاف حتى من همسة لكثرة ما خاض من معارك وتراكمت على رأسه مصائب العسكرية والحروب، متحسب لكل شيء، تحشدنا على قاطع الشيب، منطقة العمارة، ولمدة ليست بالقصيرة لم نسمع بقذيفة واحدة تسقط، ولا راينا ما يشير الى ان العدو قد حشد قواته أمامنا، حتى بعمق الجبهة، وكنا ننظر في عمق الأراضي الإيرانية فلا نرى شيئا، لكن النائب الضابط، حين كان ينظر بعيدا يقول لنا....
-   انني ارى سيارات تنقل الجنود، وشفلات تعمل، وسيارات تفرغ الحمولات!....
-   هل انت زرقاء اليمامة؟  
-   الا ترونهم؟ انظروا إنهم هناك!
لكن بعد ايام، جاءتنا الأخبار بالتحشد في نفس الجهة والمكان الذي كان يشير اليه...
في اول يوم امسكنا الخط الأمامي للقاطع، طلب من الفوج اختيار جنودا للحجاب، تم اختيار فصيل، وكنت انا من بينهم، رزمنا بطانياتنا وحاجياتنا وذهبنا الى الحجاب الذي يكمن في العمق، بعيدا في الأرض الحرام، مسافة اكثر من كيلومترين في العمق أمام القطعات، وهذه حالة نادرة بهذا البعد، ومن المستحيل ان ينجو احدا مع اي تعرض للعدو، اضافة الى انه لن يكون مجسا جيدا لتحذير القطعات، فاتصل الضابط -آمر الحجاب- بآمر الفوج تلفونيا:
-   سيدي، الحجاب بعيد جدا عن القطعات، ولا يؤدي المهمة الموكلة اليه!
-   نفذ ثم ناقش!
-   انفذ سيدي هسا، بس وين اناقشك ب(تبريز)؟
بعد ايام، قربوا الحجاب قليلا، ولكن ما زال بعده مخيف، ثم قلصوا من عدد أفراده حين تأكدوا من ان الهجوم سيقع لا محالة، للاستخبارات الواردة، حيث جاء الضابط ليقلص عدد الجنود المختارين، فاركن البعض على جانب، والباقي في سيارة الايفا، حين كان يسجل الأسماء، قفزت بالسيارة من دون ان يلحظ، وسجل الباقي جنودا للحجاب، وعدت مع الباقين، وهكذا تخلصت من الحجاب صدفة! فكل شيء يجري بالصدفة هنا....
عدت الى سريتي في الخط الثاني الذي يلي الخط الأول حيث يمسكه الفوج الأول، بانتظار ما ننتظر!.
منطقة الشيب ارض صحراوية عصية على تقدم القطعات، نغوص في رمالها ونحن مشاة، فكيف تتقدم الدبابات والعجلات؟ وكيف سيكون وجه الهجوم هنا؟ لا اعرف! جبهة (الشيب) في الوسط، على اليسار جبهة الفكة، وعلى اليمين جبهة الطيب، خندق واحد يوصل الوحدات المتجحفلة يمينا ويسارا، ويظل الخندق متصلا متواصلا على طول الجبهة، وكنا نقول للجنود المجازين تندرا، من لا يعرف الطريق من البصرة الى زاخو فليسلك هذا الخندق...
عانينا في قاطع الشيب، من الرمل ونحن تحت الجنكوات في الظهيرات الحارة، والرمل يذر في (التمن) الذي يوزع لنا بالقزانات المفتوحة بدل الملح، والجرذان تلتف في فراشنا، وتنام العقارب تحت وسائدنا، والحيات تتخاتل بين اقدامنا، ونحن في الحراسة الليلية في المصدات...
في يوم ما، فجاة وعلى غير العادة، جاءتنا أرزاق من الدرجة الأولى! وحضر ضابط الميرة الى الخط الاول ليوزع علينا القماصل الشتوية! وزارنا المسؤولون يستفسرون عن احتياجاتنا ومقترحاتنا! فهل هناك أكثر من هذا الدلال! والدليل! على ان الهجوم سيقع على رؤوسنا؟! ولكن متى؟ لا احد يعرف! لكني من خبرتي كنت ألاحظ انها تحصل في المناسبات الوطنية...
اليوم هو الرابع من شباط، اعرف بان الهجوم بعد ايام لكني لست متاكدا من اليوم والساعة والتفاصيل، لكنه سيكون قاسيا بقسوة المناسبة الوطنية عليهم، وعليه يجب التحضير لكل الاحتمالات....
صديقي يعسوب من بغداد –الأعظمية، هو العدد الأول للهاون وأنا العدد الثاني، متفاهمين في كل شيء، خرجنا عصرا قبل الغروب معا نتداول بما علينا فعله..... الهجوم قد يكون بين الثامن والعاشر من شباط.... هل ستكون مقمرة ليلة الهجوم..... هل ستغيم الدنيا.... هل ستمطر..... هل سيكون القمر مستديرا ام لا.... في اية ساعة ينبلج الفجر.... في اية ساعة ستشرق الشمس.... وكل المعلومات التي تساعدنا على ترتيب امرنا يوم الهجوم.... وبدأنا بمسح الارض، نستكشف ما أمامنا...
-   هذا الطريق يؤدي الى مقر اللواء، فإياك منه!...
-   وذاك يؤدي الى الشارع العام حيث مخافر الحدود، قد يفيدنا...
-   مقر الفوج يكمن الى الشرق ثلاثمائة متر!
-   من اليسار جماعة الرباعية واس بي جي 9 !
-   في اللحظة العسيرة أنت تحمل السبطانة وأنا احمل القاعدة!
-   هذا الطريق النيسمي سيكون طريق الهروب الى الشارع العام!
-   مفهوم؟!!...
صدق حدسي! فبعد يومين، في السادس من الشهر، جاءتنا الأوامر، راحة إجبارية، وعلى الجميع النوم من المساء بلا واجبات، او واجبات مقتصرة جدا...
سريتنا ممسكة بالخط الثاني اما الخط الأول فقد تجحفل على طوله الفوج الاول...
في اليوم التالي، السابع من شباط جاءنا الليل بالأوامر المنذرة! تنام نصف القوة بكامل تجهيزاتها، والنصف الثاني في الخندق، ويقظة وحذر من الدرجة (ج) الدرجة القصوى!....  
كنت من بين أفراد القوة التي تنام، أوصيت صديقي صالح الصابئي وهو من أهالي البصرة، الذي يقف في الحراسة بان يوقظنا في حال التباس الأمور، فكل شيء محتمل، ربما هجوم مباغت ويهرب الجميع ويتركوننا نائمين، وتوسدت الوسادة وأغمضت عيني، حين وضعت راسي على الوسادة، وألصقت أذني بها، فاذا بي اسمع قصفا كثيفا بعيدا جدا، لكن من يصدق اذا قلت لهم ذلك، على اية حال انه بعيد عنا، انتصف الليل تقريبا، لكن كيف يأتيني النوم؟! واذا بصالح يدخل الملجأ بهدوء حذر لئلا يفاجئني، وأنا ارقبه بنصف عين، ويقف فوق راسي، يمد يده الى قدمي ويهزها بلطف، وحتى لا أجفل، قال بهدوء...
-   اكعد.... اكعد!!
-   ها شكو؟
-   ماكو شي!....
-   ..........
-   انلاصت!
-    اعرفها مليوصة من زمان!!!
نهضت بسرعة وخرجت من الملجأ الى الخندق القتالي، نظرت الى اليمين فاذا بي أرى على بعد عشرة كيلومترات تقريبا، وقد اشتعلت الجبهة بالرصاص المذنب، وقاذفات ار بي جي7، المتبادلة بين الجانبين تتصادم ببعضها، تظهر هناك معركة طاحنة قاسية على اللواء72 الذي على جوارنا.....
كنا قد استطلعنا المنطقة مسبقا، وشاهدنا دفاعات لواء 72 المحصنة جدا!.... ثلاثة خطوط متتالية من الدفاعات خلف بعضها البعض، الخط الاول يتكون من حقل ألغام في الأمام وخلفه شرك، وخلفه خندق قتالي يتخندق فيه الجنود بأسلحتهم للدفاع داخل مصداتهم، وبعد مائتي متر الى الخلف، يليه الخط الثاني، ايضا حقل الغام ثم شرك ثم خندق قتالي، ثم الخط الثالث وبنفس الطريقة...
بعد نصف ساعة رأيت المعركة المحتدمة تتقدم بسرعة نحو الشارع العام الذي يعتبر الشارع الحدودي الذي تتوزع على جانبيه المخافر الحدودية، هذا يعني انهم اخترقوا الخطوط الثلاثة! ثم امتدت النيران حتى أصبحت وكأنها تريد أن تطوق القاطع كله من خلفنا، ما حيرني، كيف استطاعوا خرق الخطوط الثلاثة، شيء مخيف!....
قلت للضابط
-   ما الذي يحصل؟
-   لم اعد افهم!...
-   سنطوق من الخلف!
-   ولكن علينا ان نصد الهجوم الذي سيقع أمامنا بين لحظة وأخرى، علينا نحن من جبهتنا....
بعد ساعة تقريبا حصل شيئا لم يكن بالحسبان! فقد اختل الرمي امامنا في الخط الاول على الفوج الاول وكانه يرمي بعضه! لكن الذي حصل كان اشد غرابة...
ما ان شعر جنود الحجاب بالهجوم الكبير المباغت عليهم، ولا يستطيعون مقاومته، حتى تركوا الحجاب وانسحبوا هاربين نحو الخط الاول للقطعات، فاستغل الايرانيون هذه المكيدة، ان لا يرموهم بل يركضون خلفهم، حتى اختلطوا بهم في ذلك الظلام المخضب بالخوف والهلع، فدخل جنود الحجاب ممر الالغام ومعبر الشرك ودخل معهم الايرانيون خلسة، وتعالى صراخ جنود الحجاب على جنود السرية المتخندقة في الخندق الاول لئلا يرموهم....
-   اخوانكم السرية الاولى جماعة الحجاب!
فقلدهم الايرانيون وبلهجة أعجمية...
-   ايخاونيكم.. سرية.. اولى.. حيجاب!...
ارتبك المتخندقون لئلا يرمون اخوانهم –وايخوانيهم-  فقد اختلط الامر عليهم، ليقفز الفريقان في الخندق الأمامي ويحتله الايرانيون!........

..........................................................

9
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (13)
بارا سيكولوجيا
الرقم (13) رقم يتشاءم البعض منه، ويتطير منه آخرون، خرافة توارثتها الأجيال تاريخيا وما تزال، ويذكر التاريخ انه في العصور القديمة، كان هذا الرقم يرمز للقوى الخفية والقدر، وحتى في البلدان الغربية اليوم يتجنبون هذا الرقم، كان يكون رقم منزل، او غرفة، او سرير في مستشفى، او رقم تذكرة سفر في طائرة، او تاريخ ما... بعض أطباء النفس يعالجون مرضى مصابون بفوبيا هذا الرقم، حيث يقوم هؤلاء المرضى بطقوس لصد تأثيراته، لكن ليس هناك من إثبات حقيقة هذه الخرافة، وكل ظاهرة لم تثبت علميتها، تبقى مجرد خرافة، فمن شروط الحقيقة العلمية، ان تكون متاحة للجميع، وتستحضرها متى ما تشاء، كذلك إمكانية خضوعها الى التجارب، او إتيانها بالوقت المطلوب وإثباتها عمليا في مختبر مثلا، لذا تبقى محض تأويلات، يؤولها الأشخاص حين تسيطر عليهم الشكوك....
بعد ان تحط الشمس رحالها في أقصى الغرب، وتهجع للنوم خلف التلال، عقب العشاء، بعد تعب النهار، يذهب من يذهب لواجب الحراسة الليلية، ونتجمع نحن الجنود في جلسات السمر في الملاجئ، نجلس معا حول القوري الموضوع على جمر الموقد او الجولة، وصينية الشاي التي هي عبارة عن قطعة من النايلون، او الجرائد التي قد تقع بين أيدينا بين الحين والآخر، فنفرشها تحت أقداح الشاي والحكايات، وتمتد الحكايا بين الخنادق الممتدة على رصيف أيامنا، نحاول ان نسرب بين أناملها الخاوية، نسمات من الحياة، فنزركشها نحن أيضا بحكاياتنا اليومية، وتستمر -التعليلة- متنقلة ما بين الحكايات التراثية، وقصص الجدود والعجائز، ولا تخلو جلسة من هذه الجلسات، من الكلام حول العرافة، والسحر، والقصص الغريبة، وعن الأشباح والأحلام، والعين التي تصيب.....
انها جلسات حميمية ليس لكوننا أصدقاء فقط، لا بل كأفراد عائلة واحدة، او أخوة تربطهم وشائج أقوى من الأخوة، أفراد لهم مصير واحد، وحياة مشتركة واحدة، علاقات بين أناس ينصهرون واحدا، في الهم والحزن والفرح، فمصائرنا مشتركة مع بعض، ومن غيرهم يحملني في ساحة المعركة حين أصاب! او يتفقد حاجتي حين المرض، او عند الشدائد، اصطبغت العلاقة مع بعضنا، بمصير الموت والحياة معا، إضافة الى اننا نتواجد معا أكثر من تواجدنا مع أهلنا..... وكم تتوق نفسي الى لقاء أولئك الأصدقاء الذين جمعتنا الصدفة وحدها، لنعيد سخونة الذكريات....
وتدور بنا وبيننا تلك الحكايات، ثمة حكايات خرافية كثيرة، عن أشباح ظهروا في مقبرة، او عمود نور يتراقص، او شمعة مشتعلة تتراقص على نورها الجنيات، وعن عين تصيب...
وقد يكون هناك بيننا من الجنود من دخلت هذه الحكايات الى حياتهم...
ويبدأ إسماعيل حكايته....
عند الغروب ذهبت لزيارة ابن خالتي في البستان لكن الطريق طال الى ان حل الظلام، وحين أسرعت، ركض خلفي شبحا يصيح باسمي، فأخذت اركض بأقصى سرعة الى ان وصلت البستان، ورأيت ابن خالتي أمامي، واذا قدميه قدما حصان! فسقطت مغشيا، ولم افق من غيبوبتي الا في البيت بعد ثلاثة ايام، الا ان ابن خالتي لم نجد له اثرا بعد ذلك.....
ويليه آخرون في أمثال هذه الحكايات.........
سعدون الجندي الذي يعيش معنا، مات أبوه وبقي مع أمه وأخته، وشعرا بالوحدة وفقدان الأب الراعي لهما، وحين يذهب في الإجازة، ما ان يحل الليل ويذهبون الى النوم حتى يزورهم -ملك صالح- على شكل شبح يلبس حلة بيضاء ناصعة، ولا يدعهم ينامون طوال الليل، سعدون الآن يشكو لنا حائرا في أمره.....
الحادثة التالية حدثت حين كنا في قاطع الشيب –العمارة- والهجوم على الأبواب....
في منتصف الليل، خرج علي ناجي من الملجأ صارخا وقد أفاق من كابوس رهيب كالمجنون، بالكاد امسكنا به فأدخلناه الى الملجأ، وقدمنا له الشاي والحليب ليهدأ، وغطيناه بالبطانيات، الى ان هدأت نفسه، وبدا يحكي لنا تفاصيل الكابوس الذي حلم به..... حين وصل البيت أخبرته أمه بان أبيه مريض وراقد في المستشفى وبالتحديد في غرفة رقم 17.... وحين ذهب الى المستشفى، راى أخته الى جانب أبيه، وهو يقول لها... املي ان ارى ابني علي وأموت، وحين وصل السرير رآه أبوه، وشكر ربه، واسلم الروح....
عند الصباح رجونا من الضابط منحه إجازة لأنه متعب نفسيا، فاستجاب الضابط  ومنح إجازة.... ولكن حين عاد من الإجازة قص علينا ما حدث بالتفاصيل، لقد حدث له ان مر بنفس تفاصيل الحلم، وحتى نفس رقم الغرفة، جالبا معه شهادة الوفاة!!......
قصص عشناها مع الجندي الاحتياط قاسم المعروف ب (قاسم البنا) يعمل بناء في مقر الفوج، المعروف عنه ان له عين تصيب في مكانها ولا تخطئ.... هو معروف عند الجميع، ذات يوم خرج امر الفوج من الحمام قائلا... من المؤكد ان حامد البنا هنا، لقد انزلقت قدمي وانا في الحمام!.....
قال قاسم البنا للسائق وهو ينظر الى إطارات سيارته الايفا التي ابدل إطاراتها بإطارات جديدة.... يا لها من اطارات جديدة ونظيفة!..... حين وصلت السيارة الى المتقدم، انفجرت واحدة من الاطارات، في اللحظة انفجرنا نحن ايضا مقهقهين، كانت تلك سابقة عرفت قاسم لجميع افراد الفوج!.....
وثمة حادثة اخرى...
حين كان حلاق الفوج حامد الكردي ملتحقا من الاجازة، ويريد ان يقدم على اجازة اخرى وهو يتبجح بان الآمر صديقه ولا يعصي له طلبا، قال له قاسم:
-   يومية اجازة! عمي ليش مثل حظي!!؟؟
-   اليوم اخذ اجازة أخرى -على عنادك-!
-   لن يعطيك هذه المرة!
-   اتحداك!
لكن الجنود نصحوا الحلاق بان لا يتحداه، فقال لهم:
-   حامد الكردي لا يعترف بالخرافات، وسأقدم الإجازة وسترون!!
فقدم الإجازة للآمر، فهمش عليها الأمر....
-    لا أوافق، وينقل الى فصيل الحجاب!!...
اما حكايتي مع قاسم فكانت كالتالي، أسردها كما حدثت فعلا، بلا اية إضافات....
حاولت الذهاب لعين الماء أسفل الوادي، لكن في منتصف الطريق  بدا القصف فجأة، حوصرت من شدة القصف، ولا مكان التجئ اليه، الا الملجأ الكبير الوحيد على الطريق، وما من مكان آخر ألوذ إليه، وهو مجرد مخزن للعتاد، نظرا لكونه على الطريق قريبا من مقر الفوج، وقد كدس به عتاد من مختلف الأشكال والألوان، وقد رصفت الصناديق حتى التصقت بالسقف الا قليلا، دخلت الملجأ وتسلقت الصناديق الى أعلى، وكمنت تحت السقف تماما، ومكثت الى ان هدأ القصف، فحاولت النزول، نهضت من مكمني المظلم، لكني سمعت أصوات جنود قرب باب الملجأ يتحدثون، وقد عرفت من بينهم صوت قاسم البنا، -وي لا هلا- فمكثت في مكاني لئلا يراني قاسم، انها ايام عصيبة، قصف ومعارك مستمرة،  أحسست بتلك اللحظة بصحة المقولة التي تقول -حين تضعف نفس الإنسان تنقطع الى البخت، وحين تقوى تنقطع الى العقل- في تلك اللحظة من لحظات الخوف، أصابتني حالة من الضعف والشك، فمتى ما دخل الشك نفس الإنسان، أضعفها.... لكنني اسمع حامد يقول للجنود:
-   لنرى من في الملجأ!
تراجعت الى مكاني المظلم فوق الصناديق لئلا يراني، اعرف ما سيقوله لي قاسم، بعد المعارك التي خضناها مؤخرا، انه يحسد الآخرين لمجرد الحسد، حين دخل دقق النظر الى العمق صرخ!
-   لك هذا ابراهيم!... ها لك شلونك.... بعدك عدل؟! بعدك ما متت بكل هاي المعارك؟! – الحمد الله على سلامتك! تعال تعال، دنشوفك، نسلم عليك!!!....
في اللحظة تيقنت ان عين قاسم لن تمر بسلام....
في اليوم التالي صباحا، كلفت سريتنا بالتقدم مع سفح الجبل لاحتلال الراقم المقابل، ونحن نتقدم في الارض الحرام، ابتدات -رحمة الله- والتحمت ببعضها قذائف الهاون وقاذفات ار بي جي 7 ومن ورائها الراجمات، فانفجر صاروخ قاذفة ار بي جي على مقربة، فأصبت مع من أصيب، وكانت إصابتي بليغة، وخطيرة، وفي مكان يصعب فيه إخلاء الجرحى......
فصرخت:
خلف الله عليك قاسم البنا، وين ما جنت!!!......

.........................................


10
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (12)
والشعراء والصور
كانت الإجازات الدورية فرصة للتخلص من الهجومات والدوريات القتالية، وكانت أيضا فرصة لتأجيل الموت عدة أيام، ونافذة للخلاص من الواجبات الليلية والحفر والقصف المستمر ليلا ونهارا، وفي الوقت نفسه للتطلع الى الجانب الآخر من الحياة، الحياة المدنية، شوارع بغداد وحاناتها، كأننا نخالها عالما جديدا، كوة حرية صغيرة تبعدنا عن سجن ووحشة الجبهات، والاستراحة من عصر ما قبل مرحلة الإنسانية الذي نعيشه هناك، كذلك كونها وسيلة، لننظف أجسادنا من غبار المعارك والخنادق والنوم (الجفي)، ونصفي عقولنا من قرف الأوامر السارية بين الأسياد والعبيد، ونحن نمايز بحسرة بين الاثنين، اذ كيف تنتقل بين ليلة وضحاها من الموت الى الحياة، ومن الحياة الى الموت!....
لكنني حبن أجيء الى المدينة ارى عالما غرائبيا آخر، خليطا بين الحلم والخيال....
 اذ ان هذه الانتقالات المفاجئة كانت لا تخلو من مفارقات، ففي الجبهة تعودنا غريزيا ان نأخذ وضع الانبطاح من سماع صوت انفجار، وحين نشرب السيكارة نخفيها بين أصابعنا حتى لا يبان جمرها في الليل ويراها العدو، فتنتقل هذه البصمات الى حياتك المدنية في البيت، فتنبطح أرضا من سقوط قدر او صحن في المطبخ، ويهزا بك من في البيت حين تخفي السيكارة بين أصابعك بنفس الطريقة وأنت فوق السطح ليلا، عند الذهاب الى النوم....
أترجل من الكوستر عند ساحة الأمين الثانية –بغداد- عائدا من الجبهة، متوجها بفرح نحو محلتنا خلف الساحة، في الشارع المؤدي الى بيتنا، تصادفني امرأة بعباءتها السوداء.....
-   خالة شلونكم؟
-   نحمد الله!
-   خالة بيا قاطع؟
-   بقاطع البصرة!
-   ابني هم بقاطع البصرة! ما شفت ابني؟
-   بلي خالة، شفته... بخير، ويسلم عليكم!!
أحاول ان أستدير وأقول لها، بان في القاطع ألف فوج، فكيف يتسنى لي ان أرى ولدها، ولكنها كانت قد دلفت الى الفرع المقابل، راضية فرحة بالجواب....
وتترادف الغرائبيات في اجازتي الدورية...
انهم يحاولون ان يظهروا كل شيء هادئ والأمور بخير والناس في أفضل حال، والبلد على ما يرام!.... لا حرب ولا هم يحزنون، التلفزيون يعرض أفلاما هادئة، والرياضة تطغي على البرامج على مدى الأسبوع، والناس لاهية بالمباريات التي تدار على مدى الأسبوع، اما ما يحصل من أزمات، فتبرر كل الأشياء وكأننا لسنا في حالة حرب...
فتبقى المفارقة، بأنني حين أكون في الإجازة، لا اشعر اننا في حرب، وحين أكون في الجبهة أفقد كل أمل في الحياة....
الغرابة الأخرى، انه حين انفجرت عبوة صوتية صغيرة في شارع السعدون لم تصب أحدا، لتتكهرب بغداد امنيا وتنتشر عناصر الأمن والاستخبارات، ويستفز الحزب بكل قواطعه، وتعلن حالة الاستنفار الامني! كل هذا من اجل قنبلة صوتية واحدة لم تصب أحدا، وكأن كل المطحنة التي تجري في الجبهة تجري في كوكب آخر...
الشعارات التي تمجد الحرب والحزب، تملا الفضاء والسماء والأرض وكل والأماكن، في موقف الباص ومدخل الدائرة وواجهات الاماكن العامة والساحات وجدران المدارس والبيوت مع كل قطعة ملصقة يوضع شعار، مع كل عنوان دائرة، ومكبرات الصوت تتغنى بالمبادئ والانتصارات!... كل ذرة تراب تتغنى بالحرب والعزة والشرف والكرامة!.... كل ذرة هواء قد دخلت الإنذار دفاعا عن المبادئ، ويا ويل تلك الذرة التي لا تؤمن بها!!... عالما مهووسا بضجيج الميكرفونات التي تلاحقك من المحلة الى الشارع الى الدائرة الى السوق، تعيد الخطابات والصراخات وأناشيد الحرب كأننا لم نسمعها آلاف المرات....
احنا مشينا مشينا للحرب... عاشك يدافع من اجل محبوبته، واحنا مشينا للحرب....
وكأن الحرب هي مجرد اغنية يستمتعون بها، وما عرفوها بانها صورة اخرى من صور التدجين البشري!!....
اريد ان اصرخ ولكن لا احد يسمع! الكل يجرفه تيار التدجين والتغني بالحرب.... اريد ان اقول لهم هل عشتم يوما واحدا في الخندق الأمامي، هل تعرفون ما هي الحرب التي تتغنون بها، الا ترون وقد أضحى الأسود طاغيا على ملابس نسائكم!!.. لكن ما ارى امامي الا مخلوقات تقهقه ساخرة بي، وهي تمضي لا تلوي على شيء....
الخواء يلف الحياة اليومية، في الشارع لبست أوجه الناس سمات اللصوص والمحتالين، نظرات متلصصة غير آمنة في المحلة، أعين ترصد كل شيء في الليل والنهار، وأوجه تخالها تراقب كل شيء على امتداد الأزقة والحارات، حتى حين تحضر حفل في قاعة ما، لا تجد في أوجه الناس ذلك الهدوء المعهود بل صراخ وزعيق وهستيريا لإظهار الفرح بطريقة مصطنعة!!..
انكمشت الحدائق العامة الى مأوى المتسولين والمشردين... وانسحبت الحياة من الثقافة والفن والمسرح والسينما والدراسة واماكن الترفيه، وطغت فلسفة -البندقية والقلم فوهة واحدة- على المشهد، تشعر بحزن جارف وانت ترى انسحابك من الحضارة الإنسانية واتجاهك نحو شريعة الغاب...
أفتش عن أصدقائي فلا أجد أحدا، ويتكرر جواب اهليهم حين السؤال.... انهم في الجبهة..... هربوا الى بلدات اخرى، اخفوا انفسهم هربا من فدائيي المهمات الخاصة، وقواطع الجيش الشعبي....
في واحدة من الغرائبيات الطاغية على هذا الزمن، ان يذاع بيانا مجتزئا... بانسحاب العراق من المحمرة!!!.... اما الذي جرى في الواقع كان اكثر غرابة، اذ ان ما حصل في المحمرة كان صورة اخرى من مهازل الحرب، بالطريقة الغرائبية التالية التي حدثت فيها:
بعد محاصرة المحمرة لمدة عشرين يوما من القتال، فرضت القوات الإيرانية سيطرتها على شمال المدينة، ومنطقة الشلامجه والمقبرة القديمة، حتى المكان المقابل لجزيرتي الفياضية وام الرصاص، وأغلقت كل المنافذ المؤدية للمدينة عدا منفذ شط العرب، وحين حوصرت القطعات العراقية، اخذ الجنود بعبور الشط سباحة، فكانت قذائف الايرانيين تسقط بغزارة لمنع العابرين، وغرق بالشط المئات ممن لا يجيدون السباحة، او تعرضوا لإصابات أثناء عبورهم، لقد خسر العراق في المحمرة وحدها قرابة اربعين الف عسكري او اكثر، بين جندي وضابط وشرطي –شرطة حدود- واستسلم اغلبهم من دون قتال بعد ان اعدوا اعلاما بيضاء من شراشفهم او ملابسهم الداخلية، وكان من بينهم كثير من أمراء الأفواج والألوية، فاستولى الإيرانيون على الكثير من مواقع الوحدات العراقية بكامل معداتها صالحة للعمل....
وكان من ضمن ما حصلوا عليه سيارة إسعاف، استغلتها عناصر الاستخبارات الإيرانية، ممن يتكلمون العربية، حيث نصب فيها جهز تسجيل يصدح بأغنية سعدون جابر......
ابو حسين علي..... يكرار علي...... يا سيف الاسلام... سيفك امانة ......
وانطلت الحيلة على العراقيين، وساروا مخترقين القوات العراقية، ولكي تنجح المهمة قاموا بنقل بعض الجرحى العراقيين من السواتر الى المواقع الطبية، حيث كانت هذه فرصة لهم لدخول البصرة والاطلاع على الأحوال فيها، حتى وصلت سيارة الإسعاف الى مستشفى الموانئ... وتم بواسطتها إعطاء الإحداثيات لقوات مدفعيتهم لقصف القطعات العراقية، فتم قصف السيارات المحملة بالعتاد والمؤن وأصبح الطريق الرئيسي البصرة – المحمرة، معرضا للقصف...
أمام هذه الفوضى سيطر على شوارع البصرة الخوف، وقلت الحركة الا من سيارات الجيش والجنود، وقليل من المارة، والجنود المنسحبين بفوضى، ينقلون صورة مخيفة عن أعداد الجيش الإيراني المتدفقة على الجبهة، وينسجون روايات مفادها، ان القوات المهاجمة لن تتوقف حتى تدخل البصرة....
بعد كل هذا الذي جرى وبعد -خراب البصرة-، يعلن العراق ببيان مدبج صغير، قراره بالانسحاب من المحمرة لرغبته بإنهاء الحرب، وتسهيل مهمة لجنة الوساطة الدولية....
حملت نفسي واتجهت الى الدائرة لاستلام راتبي، لتستقبلني أوجه متغيرة جافة، وتستفزني أسئلتهم الغريبة.....
-   ها انتو يم الشط؟ الله ربكم، بعد شتردون؟!
-   بيتج على الشط منين ما ملت غرفت!
-   عمي انتو طالعين سفرة!
-   ليش ما تجيبونا سمج؟!
ان لا يشعر احدا بالذي يحصل في الجبهة، وماذا يدور هناك شيء مخيف! تشعر معه بعدم الانتماء الى هؤلاء البشر، او ان هذا المجتمع يسير الى حتفه...
وتستقبلني أمل الموظفة التي تستلم راتبي لحين عودتي...
-   الا تريد ان تحصل على دفتر الأسواق المركزية؟
-   أسواق مركزية؟
-   شبيك... حتى تحصل على طبقة بيض ودجاجة!...
اهي غرابة أخرى اسمعها أي بيض واي دجاج! وانا لا اصدق ان أعود بالإجازة القادمة! فأجيبها، يا أملا انني بدون اي أمل في استلام دجاجة، وما انا بحاجة الى اية بيضة....
لكنني حاولت المشاكسة بعفوية لم اكن ادرك مآلها، امن المعقول بعد كل الذي حدث ويحدث، يفكرون بالبيض والدجاج فقذفت الكلمات في وجههم...
-   بعد ان سقطت المحمرة بيد الإيرانيين تريدون بيضة ودجاجة؟!
-   ما الذي تقوله؟
-   اما سمعتم؟
-   لا تقل هذا!!
هل انهم فعلا لم يطلعوا على الحقيقة، ام انهم لا يستطيعون ان يجهروا بها؟! هل اصبح الناس جزءا من اللعبة او الوجه الاخر للعبة؟!.. في اللحظة سقط فوق رأسنا فجأة -علي عبد- ضابط امن الدائرة، وهو المسؤول الحزبي والأمني في الدائرة، ولكي تزيد الطين بلة أردفت إحدى الموظفات الساذجات:
-   يكول سقطت المحمرة!!!
لم يرد علي عبد وظل مطرقا يحدق في وجهي بطريقة غريبة ثم أشار لي:
-   اجيت من الجبهة ومشفناك، تعال وياي للغرفة دنشوفك! من رخصتكم!....
فهمت المخزى وتبعته، جلسنا متقابلين في غرفته المؤثثة، نظر طويلا ثم قال:
-   ساعة بيش بالضبط؟
-   ساعة عشرة ودقيقتين!
-   لا، ساعة عشرة بالضبط، بتوقيت بغداد!
-   بس اني موقتها على بيك بين –لندن-!
-   هو هذا الغلط! احنا العلينا بتوقيت بغداد، وكل التوقيتات غلط ومتفيدنا....
-   شنو قصدك؟
-   المحمرة مسقطت، احنا انسحبنا منها...
-   هذا اللي كالوه بالتلفزيون!
-   وهذا اللي لازم نكوله كلنا ونؤمن بيه! حتى لو العالم كلة يكول غير شكل!... بغداد كالت انسحبنا، يعني انسحبنا! هذا الي تكوله انت، يبقى إشاعات مغرضة!...
-   آسف جدا!
-   اني من حرصي عليك هالمرة! تره مرة لخ ما اكون موجود حتى اكدر اساعدك!!...
يظهر بانه لا قوة على الأرض تستطيع ان تجهر بالحقيقة حتى ولو بالسر....
تركت الدائرة وانا مصمم على ان ازن كل كلمة تخرج من فمي، لئلا ابث إشاعات مغرضة!!....
أيـــــــــــــــــــه!..... اين  انا... واين انت.... وكيف اصبحت يا بغداد!... واين انت يا بغداد من الشعراء والصور.... فوداعا اذن لصباحات فيروز الى الابد!!!....

............................................



11
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة (11)
أولى المعارك
كيف يتقابل الفريقان في الحرب؟ كيف يجري القتال في ساحة المعركة؟ ما الذي يجري في حالة الاشتباك؟ كيف يكون الالتحام بالسلاح الأبيض؟ وهل هناك ناجون؟ ومن ينجو يا ترى؟ كيف سأتصرف لو قدر لي ان أكون في معركة؟! وهل ستكون الرصاصة الأولى من نصيبي؟ هذه الأفكار هجمت الى راسي، وأنا مرمي بين قرقعات رتل سيارات الايفا التي ترج بأجسادنا، مع كامل تجهيزاتنا متجهين الى  لواء المشاة 602  الرابض على الساتر الأمامي، فالوحدات القتالية تنتظرنا على أحر من الجمر، ونار الحرب هناك لا تزال بحاجة الى حطب، والوحدات القتالية معناها قتالية، وليست (لعب عيال) لتحط بنا الرحال أخيرا عند تخوم الفوج الثالث.....
في السنين الأولى من الحرب كان يجري أسلوبا مناسبا متدرجا وعلى مراحل، حين ينقل احد الجنود من مراكز التدريب الى الخط الأمامي، حيث كان يتم نقله أولا إلى الخلفيات على مرمى المدفعية، ويمكث هناك أيام، لسماع أصوات المدفعية بالنغمة الطبيعية، والتعود على القصف الحقيقي المستمر أيام وليالي ثقال، ثم التقرب أكثر للسير بحذر مع السواتر، واحناء القامة والانبطاح مع كل صوت، بعدها يوضع في الخطوط الثانية والثالثة، لمعايشة خنادق المعركة المتتالية، فيعتاد على النظرات الحائرة والخائفة، مع وشيش قاذفات الــ آر بي جي7، والــ أس بي جي 9، وهدير الرباعية، والثنائية، وقد يصادف ان يتفرج على معركة أمامه في الخط الأول، أو ربما ليأخذ نصيبه منها، شظية مشاكسة أو زائدة عن الحاجة، فتستقر في رجله او يده، لتحقق حلمه الأخير الذي طالما حلمنا جميعا –مشاة الخنادق الأمامية- به، في ان يصبح معاقا، فيرتقي بواسطتها رتبة أعلى، تؤهله للعودة الى الخلفيات....
لكن مع امتداد الحرب، وللنقص الحاد مقارنة بتضخم الجيش المقابل، كان الجندي يؤخذ من حضن أمه إلى المعركة بلا مجاملات، حيث جاءونا بجنود (بالباكيت) فتيانا مراهقين، فطريين كصفحة بيضاء خام، قضوا عشرة أيام بالتدريب ورموهم في الخندق الأمامي بيننا، يدورون مذهولين مخروعين لا يعرفون ما الذي يجري حولهم، فتنسحق عفويتهم، ونفوسهم، وفرحهم، ومبادئهم، وشخصياتهم، وتربيتهم، وروحهم، وشجاعتهم، ورجولتهم، وآمالهم، وأحلامهم، ومستقبلهم، تحت (البساطيل) بأقسى قوانين صنعتها البشرية، ألا وهي قوانين الحرب.....
بعد ان استلمت الواجب على الخندق الأمامي لأول مرة في حياتي، كان بالقرب مني ذلك المساء في الواجب من الفصيل المجاور، ج م ح سوادي حسن جندي قديم متمرس و(منعول سلفا سلفاه بالخنادق) وقد خاض من المعارك ما يكفي  لإرواء ظمأي من أسئلة لا تنتهي عن هذا العالم الجديد المخيف!....
-   الا يهجمون علينا في الليل ونحن نائمون؟!
-   لا طبعا! فهناك الدوريات القتالية التي تحذرنا، هنالك الحجابات، والالغام، والأسلاك الشائكة!
-   وان فاجأونا؟
-   لن يفاجئوننا، فهنالك الرازيت الذي يكشف الأرض الحرام، وهناك الاستخبارات والطائرات، ودلائل تعرفنا بما سيحصل مسبقا.....
-   والقصف؟
-   لا  أفضل من هذا الخندق للحماية، وهناك المصدات أيضا....
-   والمعيشة؟
-   تلك ملاجي الراحة للجنود، وتستطيع ان تشتري من الحانوت اي شيء تريد، او ترسل طلبا من النازلين الى المدينة، لتجلب الأكل او الحاجة الذي تريدها...
-   والهجوم؟
-   كول يا الله عمي! المكتوب مكتوب!...
في البداية لم أكن أتصور ان من يدخل المعركة سوف تكتب له الحياة مرة ثانية، لكن ظهر لي بعد خوضها، ان ساحة الحرب كساحة الحياة، لها موجباتها في الحياة والموت، واحتمالاتهما على السواء، في خضوعها للصدفة والقضاء والقدر، ولها أسلوبها في اختيار الضحية او العفو عنه، وتستطيع ان تخطط فيها للنجاة وليس للموت، وتظهر لك فرص الاحتيال على الرصاصة في أحيان كثيرة، كما ان هناك دلائل تستطيع ان تناور فيها أسباب الموت، او تحتال عليها....
وجاء ذلك اليوم، الذي كان بانتظاري! فصدرت الأوامر إلينا بالهجوم لاحتلال الراقم المقابل.... هالني الامر! كنت أخاف في حالة الدفاع فكيف الآن مع الهجوم! وجاء الأمر مباشرا حاسما!...
-   ساعة الشروع الساعة السادسة، مع خيوط الفجر الأولى!.....
الجميع كأنه يستمع الى نشرة أخبار دولة أخرى، وليس الأمر موجه إليهم بالتقدم الى الموت! وهكذا ضج الجنود وعلت النداءات.....
-    شد يطغك زين..... اترس الزمزمية..... خلي خاشوكة بحقيبة الظهر...... ناوشني مخزن الطلقات.... منو ما عنده ضماد ميدان؟..... وين صار قرص الهوية؟..... ضم الجولة هنا على ما نرجع!....
على ما نرجع؟؟!!....
وأنا استمع الى هذه الغرابة، وانظر الى قرص الهوية الذي في معصمي والآخر الذي يتدلى من رقبتي، يحملان عنواني المدني والعسكري، نذير شؤم، ليذكراني بالنهاية في كل خطوة!
-   نرجع؟!!
يقهقه الجنود حولي....
-   دكول يا الله! 
-   حقه اول مرة يجي ويانا..
-   راح تتعود عليها اخوي...
-   خلي عينك بعين الله وامشي!
-   الحي ماله جتال!
عقارب الساعة تقترب من آخر الدقائق عند الساعة الخامسة والنصف، والعيون تبحلق بالظلام على هذا الراقم الملعون، وما بعده يخبئه من المجهول، وهمسات الجنود تتحسب للذي سوف يكون، القلق يداهم النفوس بشتى الوساوس فيتصارع بداخلها الخوف من القادم...
من خلال ستار الظلام قاد كل آمر فصيل فصيله في اتجاه، الأول على اليمين والثاني في الوسط والثالث على اليسار، كنت انا ضمن رتل اليمين، مع كل قذيفة تنوير نقف ساكنين كالأحجار لئلا نبان هدفا متحركا ويكشفنا العدو، وصلنا الوادي أسفل الراقم، لنكون اقرب ما نكون الى مثابة الصولة، ومكثنا ساكنين، هنالك سفح حجري صلد من اليمين، والى اليسار حفرة، وهناك مجرى الماء، تحته خسف في الطريق، وأنا أتفاضل الى أيهما التجئ....
وابتدأت مدفعيتنا تدك الراقم في السادسة الا ربعا، وبدأنا نحن نعد الدقائق والثواني للتقدم، فتهجم في هذه اللحظات على راسك ذكريات الأهل والعائلة والأولاد، وتتراقص أمامك كل الاحتمالات، وتبسط وجودها لتسيطر على كل الحواس........
انطلقت اشارة الهجوم، وانفجرت قنابل الدخان الأبيض على الهدف المقابل، أرسل العريف إشارته بالتقدم، تقدمت في مكان غير مرصود متباطئا ليسبقني الجنود، وتظاهرت بالتعثر، وأحاول التحايل ليتقدم الجنود أمامي، لكنهم لم ينتظروني، وتقدم الجنود بلا مجاملات او حيل، ومن مثابة الهجوم، تعالت الصرخات والنداءات والهوسات، أثناء الصولة على الهدف!!...
-   الله الله الله!!!!!..... الله الله الله!!!!!.....
انتشر في الفضاء والأرض والسماء، أزيز الرصاص، والـ بي كي سي، والقاذفات، من كل الاتجاهات، هدرت الرباعية من السفح، وهي تنشر الرعد والموت لمن يظهر....
لكن الجنود تقدموا كما الشجعان يتقدمون، لا كما أشاهدهم بالأفلام ولكن كما هم في الحقيقة، فلا تستطيع المقارنة بين الواقع والإيهام! يرمون خلفهم الخوف والتحسب، ويضعون أمامهم وطنا بحجم شجاعتهم... يذهبون الى الموت مباشرة بلا حسابات!.... من اين تأتيهم كل هذه الشجاعة؟ ما الذي يحرك هؤلاء الى الموت؟ أهي الغريزة، ام دفاعا عن ارض؟ ام عن تراب؟ ام  دفاعا عن وطن لا استطيع تخيله؟!...
ما الشجاعة اذن؟ أهي كما يقال -معرفة بسير الاحتمالات-؟! وكل هؤلاء لا يفقهون معنى الاحتمالات!
غير ان كل الاحتمالات تراءت لي في النهاية، بان -الشجعان يموتون أولا-....
وانا انظر الى هؤلاء الجنود كيف يتقدمون! أقول أيها الوطن! لم لا تشعل أحاسيسي بنار أبوتك، لأركض الى الموت مثلهم؟ أيها الوطن لم لا تهيج قدسيتك جوارحي، لأموت دفاعا عنك؟! لم لا تأسرني بحبك لأتقدم من غير حسابات مثلهم فداء لك؟ لكن الوطن يظل صامتا جامدا ساكنا لا يجيب! اقول أيها التراب، الذي بين أصابعي لم لا تسحرني، لأقدم نفسي أضحية لذراتك؟! لكن التراب في يدي يظل ترابا، ذلك لان الوطن ليس ترابا وأرضا فقط!.... لكنه إنسان ينبض بالحياة، والحب، والمعانى، والآمال، والمستقبل، ووو......!!...
بعد احتلال الراقم مباشرة، جاءتنا الأوامر ان نستغل الفوز، ونتقدم الى الأمام في التفاف حول قطعات العدو، لنفصل قطعاته عن بعضها، تركنا الراقم للسرية الثانية تشغله، وتقدمنا أمام الراقم في ارض خالية، وتقدمت معنا السرية الثالثة، وتقدم معنا آمر الفوج وحمايته في النهاية، فسرنا اكثر من ساعة في مناطق خالية....
تقدمنا في العمق، لا نعرف الى أين، وتضاربت الأوامر حول المكان الذي نقصده، الى ان وصلنا الى وادي عريض ومكثنا فيه، انتشرنا في مكان يسترنا من رصد العدو وقذائفه، ننتظر الأوامر، مرت الظهيرة بلا أوامر ولا أرزاق كما وعدنا، فقضى الجنود على  كل ما كانوا يحملونه من معلبات او صمون يابس، غابت الشمس ولم تصلنا الأرزاق، فهجعنا ليلنا جوعى، بلا حراك ولا نامة صوت، نتصنت فقط، ربما نكون قريبين من مرمى نيران العدو، في الصباح شربنا من جدول صغير، ولم نجد ما نأكله الا بعض النباتات،  طال القصف العشوائي الأماكن من حولنا، هل داهمت الأرزاق رشقات القصف؟ هل تهنا؟ هل تاهت الأرزاق؟ هل ذهبنا الى المكان الخطأ؟ يظهر باننا فقدنا الاتصال بالإداريات!....
اليوم الثاني وحتى العصر أكلنا الجوع، ونحن على هذه الحال، حتى الآمر الذي انتهى كل ما كان يحمله المراسل من احتياط، اخذ يقتات على البرسيم والحشيش....
بين الأشجار المتشابكة كالعوسج على سفح الوادي، أشار احد الجنود بان الأشجار الكثيفة تتمايل بحركة في داخلها، وتأهبت أصابعنا على الزناد، هل هناك متسللون من العدو بين الأشجار؟ وفي اللحظة خرج هاربا خنزير بحجم بقرة من بين الأشجار، فاصطاده الجنود... مسكين جاء يتصيد فصدناه...
وفي خضم الجوع، داهمت الجنود دوامة الحلال والحرام! مع ذلك تكفل به بعض الجنود في الذبح والسلخ والشوي، وما وبين الحلال والحرام اختفت بين أسناننا آخر قضمة منه!.....
في صباح اليوم الثالث تامن الاتصال، فجاءتنا الأوامر بالانسحاب، لقد دخلنا الى العمق أكثر مما خطط لنا...
ومن سخرية أقدار الزمان هذه الأيام، ان استدعي آمر الفوج الى قيادة الفرقة بعد استقرار الأمور، لا لشكره على تقدمه وبلاء الجنود بلاء حسنا، وإكمال الواجب على أفضل ما يكون، ولكن لتجري محاسبته من قبل قائد الفرقة!....
-   كيف تأكل الحشيش؟
-   لم أجد ما آكله!
-   اذا كان الأمراء يأكلون الحشيش، فما الذي سيأكله الجنود؟
-   وهل وفرتم لي الأرزاق حتى لا أكل الحشيش؟
-   وشنكول للقيادة، اذا كلولنا آمركم ياكل حشيش؟
-   كولولهم، مو زين أكلنا..... حشيش، وما استسلمنا؟!

.................................................


12
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة العاشرة
عبد جولة
1984
لا معنى للقول، بأنني فرحت كثيرا حين نقلت من الحجاب الى قلم الفوج، فكلمة فرح لا تكفي لوصف حالة شراء حياتك من براثن الحجابات مهما كان الثمن، إضافة الى انني اعترف، بان شجاعتي في ساحات الأقلام، أكثر منها في ساحات القتال، وشكرت الله إنني جئت الى هذا المكان بالصدفة، التي هي اللاعب الوحيد الذي يقرر مصائرنا في الشرق، وفي كل مجتمع لا تنطبق عليه المواصفات الحضارية، ولا يخضع أناسه للنظام والقانون، فتبقى مصائر أفراده لعبة بيد القدر، في السلم كما في الحرب، وهذه الصدفة –صدفة نقلي- حصلت أيضا صدفة....
 في يوم شتائي مطير، كنت في الحجاب المصدة الأولى لأي هجوم، الطين يلف (بساطيلنا) ويثقل خطواتنا، ومياه الأمطار ضيف مقرف يجلس على فراشنا، ويتنقط سقف الجنكو فوق رؤوسنا، والدخان والضياء والنار، حرام في الليل والنهار، فنأكل طعامنا باردا اغلب الأحيان، اللهم الا الدبس والصمون اليابس، إضافة إلى إننا في (حلك الذيب) فأي تعرض حتى ولو بالمزاح من العدو، سنكون أول الفائزين بلقب الأكرم منا جميعا....
صباحا بعد ان غسلت وجهي، ببقية ماء المطر المتبقي في إبريق متهرئ، خرج مراسل الضابط من ملجئه ليخبرني.....
-   نداء تلفون لك من ملجأ الضابط آمر الحجاب!
مسالة غريبة ومخيفة في نفس الوقت! فمن يتجرا على ان يستغل التلفون من اجل شيء تافه، كجندي في الحجاب! اللهم  الا اذا كان فيه سببا للإيذاء، او دعوة مزاح من الاستخبارات! لما بيننا من مماحكاة!...
-   منين التلفون؟
-   من قلم الفوج!
-   الحمد الله!
وإذا بصوت صديقي نوري من أهل بغداد –الاعظمية- الذي سوقنا معا الى مركز تدريب في معسكر الرشيد، وأصبحنا أصدقاء هناك، وفي النهاية استقر هو في قلم الفوج وأنا في الحجاب، وبالصدفة أيضا...
-   ابراهيم تعرف تطبع؟
-   انكليزي وعربي، وبكلتا اليدين، وبالسرعة القصوى!
-   تريد تجي للقلم؟
-   فدوة اروحلك نوري، هاي يحتاجلها سؤال؟
-   حضر يطغك لعد!...
بعد نصف ساعة ابلغني آمر الفصيل ان احمل (يطغي) واصعد الى آمر الفوج.....
بسرعة البرق صعدت الى مقر الفوج، واتجهت مباشرة الى قلم الفوج، فاستقبلني نوري بالترحاب، وبعد السلام الحار، سلمني الى النائب الضابط مسؤول القلم.....
-   سيدي هذا كاتب طابعة اللي كتلك عليه...
فسألني النائب الضابط عبد الرزاق...
-   الأصل منين؟
-   من الموصل سيدي!...
-   مسيحي؟
-   نعم سيدي!
-   تعرف تطبع؟
-   نعم سيدي!
-   تعال وياي للآمر!
دخلنا الى الملجأ الثلاثي الدافئ، وادينا التحية وقدمني إلى الآمر...
-   سيدي هذا كاتب طابعة، نريده بالقلم، ما عدنا بالفوج غيره....
-   اي، اختبره! اذا عرف يطبع أخذه، واذا ما عرف، رجعه لسريته!...
-   سيدي يعرف يطبع!
-   غير تختبره يا رزاق!
-   سيدي هو يكول اعرف أطبع! مو هذا مسيحي ميجذب!
-   والله صحيح! مو مثل جماعتنة، خلوه وياكم بالقلم....
 وهكذا مكثت سنة كاملة بالتمام والكمال بالقلم، كاتبا مجدا، مطواعا، نشيطا، مخلصا، وبقيت أحافظ على مكاني هذا بكل ما أوتيت من الصبر وتحمل الملام وسهر الليالي ومجارات أولي الأمر...
ولكن مع نفسي، كنت اعرف يقينا، بأنني لن أبقى نهائيا في القلم لأسباب غير فنية، فلا بد لكل من يعمل بالقلم ان يجلب قسيمته الحزبية، وسيأتي اليوم الذي يطلبون فيه القسيمة من المنطقة! ولن تأتيهم طبعا!.... فالقسيمة جواز السفر الى الأقلام، ومقرات الأفواج والألوية والفرق، وطاقية الإخفاء عن كل رقابة ومراقبة، وهي ضمان (الختلة) في أقسام التوجيه السياسي والاستخبارات على الإطلاق، كما هي المعبر الوحيد الى النقلات الجيدة الى مقرات الفيالق، غطاء يستر كل العيوب، وممحاة تمحو كل الذنوب، والسير مرفوع الرأس، حين تفتح لك الأبواب لتطل عليهم وأنت ترفل ببدلتك الزيتوني، وعلى صدرك تلمع شارة الشرف التي ما بعدها شرف....
شاءت الصدف ان يكون معي في القلم عبد (جولة) اسمه عبد ناجي لم يحصل على المتوسطة! يكنى كذلك لأنه (يحرك الأخضر واليابس) لا يتقن اي عمل غير كتابة التقارير عن الجنود القادمين والرائحين، متملقا بها عند التوجيه السياسي في اللواء، وكذلك عند أولي الأمر، فكانت هذه فرصته الوحيدة في إظهار بطولاته، ووطنيته... فهي الصنعة الوحيدة التي يتقنها في حياته ولا يجيد غيرها، ليبدع فيها وتمتد جذوره في اي وحدة يسكن فيها، ويحصل بواسطتها على ما يريد، وسمى أيضا في فترة من الفترات (عبد تلكس)، حين ازدادت خبرته في سرعة رفعه التقارير، ثم تطورت مؤهلاته حتى لم يعد يفلت من قلمه أحدا، فاستحق أخيرا لقب (عبد اواكس) عن جدارة، تيمنا بطائرة الاواكس التي ظهرت مؤخرا فلا يفلت من قبضتها هدف مهما بعد او تحايل!....
وجاء ذلك اليوم الذي تخاصمت معه، فهو الكاتب الكسول، والوحيد الذي لا يشاركنا بتنظيف القلم، يزور أوراق عدم التعرض وينزل الى المدينة، ويزور نماذج الإجازات ويبيعها، ويسرق الختم من جرارة النائب الضابط، كما يسرق سجاجيد الصلاة من الجنود ويصلي عليها، وليس له عمل طوال النهار سوى شرب الشاي مائة مرة في اليوم، هربا من العمل، حين يكون متواجدا، لا يغسل ولا يكنس ولا ينظف القلم معنا، إضافة الى قذارته، وشفيعه في كل مرة هذه التقارير، التي يتوسل المسؤولون به ان يرفعها، حتى يترفعوا بها مراتبا جديدة جاهزة!....
وفي مرة طفح الكيل بي وخرجت عن طوري، فعنفته!
-   عبد! اليوم دورك في تنظيف القلم!
-   انا مشغول، نظفه أنت!
-   ولكني نظفته أمس وأول أمس.
-   وعليك اليوم أيضا.
-   هذا ليس عدلا! القلم لنا وهو ملاذنا ويجب التعاون لتنظيفه.
-   كفى ثرثرة (ولتلغي زايد)!.
-   بل يجب تنظيف القلم حتى لا يكون متسخا مثلك!
حينها انفجر بوجهي!
-   بل يجب تنظيف القلم  من غير البعثيين أمثالك!!
-   بل يجب  تنظيفه من الحرامية أمثالك!!
لكنني ندمت على تسرعي بالرد! لأنني اكتشفت بعدها ان الثمن كان باهظا، وباهظا جدا، وكان ندمي في مكانه، حين قال لي نائب الضابط الشايب عبدالرزاق وهو من اهل الصويرة المسؤول في القلم والذي اعدم ابن أخيه القاصر، قبل أشهر لاتهامه بتهمة سياسية، ومهددين اياه بالتبرؤ منه، قال لي آسفا وبالحرف الواحد!...
-   مو كتلك! كومة حرامية!  اذا تمنعهم يأذوك!!....
حاولت أن أتصالح مع عبد ناجي درءا لغضبه لئلا يعملها ويشتكي عند التوجيه السياسي، فانا في موقف (مكروهة وجابت بنت) فأعود من حيث أتيت، اعتذرت منه، تظاهر بالتصالح معي لكنه كان يكبت شيئا آخر....
مرت أيام ونسيت الحادثة....
حان موعد إجازتي الدورية، ولم تنس أمي حينما عدت من الإجازة كيلو الكباب الذي شوته لي، وقالت لي خذ هذا -لجماعتك- فقد اعتدنا ان نجلب من البيت طعاما، لا نستطيع الحصول عليه في الجبهة، وحين وصلت القلم، وبفرح، وضعت الحقيبة جانبا وفرشت الكباب على منضدة في القلم، وقلت للجميع ان يتفضلوا، كانت دهشتي كبيرة، فلم يتقرب أحدا منهم، مع علمي بأنهم يحبون كباب البيت، وتذرع كل منهم بعذر ما، مع كل توسلاتي، فقط عبد جولة جلس متلهفا لأكل الكباب بلذة لا تقاوم، غصت اللقمة في حلقي، هنالك أمر ما! الجميع هذه المرة غير ودودين، وصامتين مطرقين، هل يكبتون سرا ما؟ أقرا في وجوههم الجفاء، انهم على غير طبيعتهم التي اعرفها، ابتسم كاظم معتمد القلم وهو أيضا من مدينة الصويرة، وسمعته يهمس للنائب الضابط:
-   وجمالة ياكل وياه الكباب!
-   اذا لم تستح افعل ما شئت!
بعد ان نهضت من الأكل جمعت ما تبقى للوجبة التالية، وأنا في أسوأ مزاج، أشم رائحة شواء لشيء ما في السر......
انتحى كاظم بي جانبا وهمس لي معتذرا وآسفا أيضا، واخبرني بنقلي الى الحجابات! وسلمني كتاب النقل!....

..............................

13
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة التاسعة
صدق كولن ولسن
1986
منتصف الليل! والظلمة مرقطة بومضات القصف وقنابل التنوير، وصل زحفا احد المصابين آتيا من الحجاب الذي أمامنا صاعدا السفح وهو يصرخ:
-    خذوا حذركم! احتل الإيرانيون الحجاب إنهم يتقدمون خلفي!!...
ما ان عبرنا الى الخلف قاصدا الوصول الى اقرب طبابة، حتى بدأت مدفعية العدو تدك السرية وتزرع في كل شبر قذيفة، ليس لنا من ملاذ من هذا القصف الكثيف الا هذا الشق المترامي من أقصى يسار السفح بداية الفصيل الأول حتى نهاية الفصيل الثالث في نهاية السفح على اليمين، نتبادل الإيضاحات بيننا، فصولة العدو لن تبدأ الا بعد ربع ساعة من إيقاف القصف لئلا تطال جنوده..
أنهكت السرية بالخسائر وتفجير العتاد من شدة القصف، فأخذنا نقتصد بالرمي، وهذا ما أصاب المعنويات.....
شيئان يعينان الجندي على الصمود في المعركة.... الأول هو (المعنوية) التي تأتي من خوض الجندي معركة سابقة وتصبح له خبرة في القتال، والثاني هو (العتاد) فلا تستطيع القتال بلا عتاد طبعا....
قبيل الفجر بدا العدو صولته على السرية، فقاتلت السرية قتالا شرسا ما قاتلت مثله قتالا حتى الصباح!...
 في مثل هذه اللحظات لا تستطيع ان تفكر بالخيارات، هل انت تدافع عن بلد ام حكومة ام عن نظام، هل انت تقاتل صديقا ام عدوا، لم تحارب ولماذا وما الجدوى؟! لم يعد هذا هو السؤال المطروح في تلك اللحظات، بل تصبح المعادلة هي الدفاع عن النفس فقط، ففي أتون المعركة ليس لك الخيار الا ان تقاتل! فاما ان تقتُل او تُقتًََل! ستدافع عن نفسك بصورة غريزية! فالمقابل لا يعرفك الا هدفا للقتل..
على مشارف الصباح هدأت نيران العدو، فاستبشرنا بالصباح ليكشف لنا المستور، لكن غفلنا عن وعورة الجبل التي تخفي ما تخفيه، فقد كمن خلف الصخور الهائلة، بعض جنود العدو، وغش بعض جنودنا بالأمان، فذهبوا يقلون البيض ويحضرون الفطور لبعضهم، وكانت المصيبة من تلك الفتحة التي أهملت على يسار الخندق، تسلل اثنان من جنود العدو وضربا رمانتين في المرصد واستشهد جنديين فيها، وهكذا احتلت المصدة الأولى، ثم الثانية ثم نصف الخندق....
وانتشر جنود العدو بين والملاجئ والمصدات، وأهالوا علينا بالرمانات في كل مكان، تمكن العدو مسك المخارج والمداخل والرصاص، سدت علينا طرق الهروب، اختبأت في الخندق الجانبي على اليمين، كجرذ أحاطت به الفخاخ من كل جانب، رأيت ملجأ قريبا ترددت بدخوله، فمن يقول بان جنود العدو ليسوا بداخله؟ وحتى وان كان خاليا سيطالونه بعد قليل، أتلصص متهيئا وأصبعي على الزناد لأية حركة، فجأة انفجرت رمانة يدوية قربي، فهرعت مسرعا الى الملجأ لائذا بالموت المؤجل، من الموت المحقق، دخلت الملجأ فتفاجأت بوجود أمر الفصيل، وسعدون أبو البدالة مختبئين داخله، أصابهم الهلع بدخولي ولم تلحق أصابعهم بالضغط على الزناد، لم ينبس احد منا بالكلام، ثلاثة أشباح وعيون خائفة ووجوه مصفرة محاصرين بين فكي الموت، تتساءل عيوننا، نقلب الحلول والاحتمالات بين أنصاف الكلمات وزوغان النظرات وتشنج الحركات، كل الحلول تشير الى الموت المحقق...
سقطت قلوبنا حين تناهى الى سمعنا وقع خطوات جنود العدو فوق صفيح جنكوات سقف الملجأ، يا الهي لقد انتهى كل شيء، الموت او الأسر في أفضل الأحوال، بطلت لغة الكلام، فقط عيون خائفة تدور في محاجرها بانتظار النهاية، قد تخرج من أفواهنا نتف من أنصاف الكلمات انا وسعدون، لكن آمر الفصيل خرس لسانه، لم يعد يطيق الكلام، فقط عينان مسمرتان أشبه بعيون الموتى، عرفت الآن بان الخوف يخرس الإنسان، صرنا انا وسعدون نقلب الامور بشفاه مرتجفة وحلق جاف وريق ناشف!....
-   لنخرج ثم نرمي رشقات سريعة ونهرب!
-   لكننا ثلاثة وهم بالعشرات
-   بل نسلم انفسنا! 
-   لا الأفضل ان نبقى هنا..
-   سيرمون رمانة في الملجأ ثم يدخلون كعادتهم..
تفتش نظراتنا في الملجأ علنا نستعين بشيء، هل نحفر حفرة داخل الملجا (ونطم) انفسنا فيها؟! او نسحب بعض اكياس التراب من الحائط ليسقط علينا الملجأ، ونتخلص من لحظات الفزع والهلع هذه، جمد الدم في عروقي، انظر الى يدي، انها ليست يدي، اقرصها لاحس بها، وجسدي ليس جسدي، احسبه جسدا بلا روح، قد يكون جسدا لشخص آخر، وليس لي انا، في حالة الرعب لن تستطيع ان تشعر بشيء....
أحسست إحساسا غريبا بالهدوء والسكينة، أهي لحظات الاستسلام للموت لا اعرف، سرى في الجو صمتا غير معروف، ولم اعد اسمع صوت الرصاص، أهي حالة غيبوبة لست اعرف، استسلمت لما تأتي به الأمور، لا اعرف بوعي او بغيبوبة سمعت في اللحظة، صوت سلسلة حديدية، فصرخت!
-   لقد نجونا!!!...
فانتبه سعدون مروعا ومنصعقا! 
-   لك.... خ..ر .بعر!.... تخبّل ابراهيم!
فعلا كان صراخا مجنونا، ولكن كان لجنوني مبرراته، بعد ان دار داينمو الاحتمالات في راسي منطقيا متسارعا، فعرفت في اللحظة بأنه صوت ارتطام السلسلة الحديدية (التي يقاد بها البغل) بالجليكان المحمول على ظهره، فانا لا اخطيء الأصوات التي عشت معها سنوات بلحظاتها، انها الموسيقى التي أنام وأصحو عليها، وهذه الحركة لا تحصل الا حين تضع الجليكان على ظهر البغل لتجلب الماء من العين، وهذه العادة لا تتوفر عند جنود العدو مطلقا، بل عند جنودنا، فالعدو تصله الأرزاق والماء الى حضنه بالسيارة او التراكتور او الدراجات البخارية، او تكون القناني المعبئة بالشربت معلقة في خصره أثناء الهجوم، هذا يعني ان سرية من المغاوير قامت بهجوم معاكس ناجح لاسترجاع السرية المحتلة، كالعادة في كل مرة يحتل العدو مكانا متقدما، هكذا هو تسلسل منطق الأمور... قلت لسعدون وما زال ينظر الي نظرات شك...
-   لم نعد نسمع صوت الرصاص!
-   صحيح!
-   المغاوير احتلوا المكان، اول شيء يعمله المغاوير، هو جلب الماء من العين التي في الأسفل  لعطشهم وتعبهم في طريق الصعود والهجوم...
-   فعلا
-   انه صوت سلسلة لجام البغل تضرب جليكانات الماء الفارغة!
فاحتضنني بفرح لا يوصف!
-   ظننت انك جننت بحق!
-   لنخرج اليهم
-   سيرموننا
وهنا فتحت أسار آمر الفصيل بالكلام
-   شنو؟!!
فتحت باب الملجأ وخرجت منحنيا في الشق، كل شيء هادئ، نزعت الخوذة ووضعتها فوق البندقية ورفعتها الى الأعلى، فجاءت صلية فوق رؤوسنا، تحقق ظني! كل ظنهم اننا من بقايا جنود العدو مختبئين، فصرنا نصرخ فيهم....
-   لك عراقيين!!!! لا ترمون!!!....
وجاءنا الصوت
-   لياتي أحدا منكم بلا سلاح!
تداولنا في الامر، فليذهب آمر الفصيل! وخرج كآلة تحركها أسلاك عن بعد!...
ومن بعيد رأينا آمر الفصيل يقترب اليهم ويرفع يديه الى الأعلى، ويرفع الرجل اليمنى ويستند على اليسرى، تقدم احدهم اليه يفتش جيوبه بعد ان تأكدوا بأنه ضابط عراقي، اخذوا ينادوننا... ليستقبلوننا بالشاي والبيض المقلي....
-   آآآآآآه!!!!!.... الحمد لله!!!!!
وصدق كولن ولسون حين قال (اذا كانت كل المؤشرات تشير الى الموت المحقق، فستبقى هناك ضربة الحظ في النهاية)...



..............................


14
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة الثامنة
دوريات قتالية مسالمة
1987
ابراهيم كولان
نقل إلينا قائد فرقة جديد، فلما استلم الفرقة كانت له طريقة مختلفة لإدارة الفرقة، أحسسنا بتغييرات جديدة تلوح في القاطع، حيث اخترع القائد الجديد، نافذة جديدة لنا نحن الجنود، هي ان ينزل جندي من كل فصيل يوميا الى مقر الفرقة الكائن في مدينة دربنديخان، ويلقي علينا القائد بنفسه محاضرات في  الأمور العسكرية والحربية، وكانت هذه فرصتنا الوحيدة للنزول الى المدينة، ولا يعرف طعم رؤية المدينة الا من عاش في الخندق الأمامي بصورة مستمرة، محروما من كل شيء، كعبد موبق، تسيره الأوامر المقرفة، والظروف التعيسة...
كان البقاء في خط النار لفترة طويلة، ينسينا الحياة المدنية، ويشعرنا بأننا في حكم المنفيين الى عصور سحيقة في القدم والتخلف، وبعيدين عن العصر، فأنت لا ترى غير الوحشة على مدى أيامك، لا ترى غير الخاكي وملحقاته، والتعب والخوف، والأوامر التي تصدر من جهلة او قساة، والتعامل الغير الإنساني، تتمنى ان ترى شيئا يشعرك بإنسانيتك، فلا تجد!... لا شارع، لا بيت، لا خيمة، لا كلب، لا دجاجة، لا زي مدني، لا سيارة، لا تلفزيون، لا إنارة، لا كهرباء، لا سوق، لا طفل، لا لعبة، لا امرأة، لا راحة، لا تحقيق رغبة، لا أمل، لا أمان، لا كلمة إنسانية، لا مشاعر، لا روح، لا.... لا....
فكانت نافذتنا في هذا المكان الموحش هو النزول الى المدينة، للدخول الى مطعم او التجوال في السوق، لنعتقد بأننا ما زلنا قيد الحياة!....
الشيء الآخر والمهم الذي أوعز به القائد، هو ان تستمر الإجازات حتى أثناء الهجوم، مما زاد هذا في معنويات الجنود، كذلك أمر بوضع صندوق للشكاوي والمقترحات، في مقر كل فوج، وكان يأتي مرارا الى القاطع يزور المقرات ويسمع المقترحات من الجميع، فدب فينا بعض الشعور بالحياة....
وكان مني ان استغل فرصة صندوق المقترحات هذا، لأفرغ ما في جوفي من قهر وكبت فيه، فكتبت عن أرزاقنا التي يأكلها النائمون (خدة وخدر) في الخلفيات، وعن القماصل الشتوية، التي تذهب الى أقربائهم المدنيين، والبدلات الجبلية التي لا تصل الى الخط الأمامي وتأخذها الخلفيات، وعن حصتنا من اللحم التي تذهب الى الضباط، وعن الرز الذي لا يصل الا ملفوفا بشعيرات البغل وأكياس الجنفاص، وعن المرق الذي (يتلطلط) على ظهر البغل في القزانات المفتوحة ولا يصل إلا  ربعه، وعن استيلاء السماسرة ما بين الخلفيات والمتقدم وحصولهم على حصة الأسد من البيض والجبن والمعلبات، والإجازات الغير عادلة التي يتلاعب بها واسطات آمر الفوج، وعن آمر سريتنا الذي يسبح كل يوم هو وأعوانه، وليس لنا حتى ماء للشرب، ونظل نحن الجنود ننقل إليه الماء من العين التي في الوادي على ظهور البغال او ظهورنا، لا فرق، وأحيانا يستغرق طريق الذهاب والعودة ساعتين، لأجل جلب جلكان الماء الى القمة، إضافة الى الواجبات والحفر في الخنادق الذي كلت به أكتافنا...
وصلت هذه الشكاوي الى القائد، فاستبدلت القزانات بأخرى مغلقة، وتحسنت حال الأرزاق، وضخت المعلبات، وانتعشت بعض الإداريات، وزاد الاهتمام بالجنود من حيث التعامل والأوامر....
جن جنون آمر الفوج لاتهامه بالتقصير، وعوقب آمر السرية من قبل القائد، وتذمر كل من ليس في الخط الأمامي من هذه الإجراءات، فجرى التحقيق بما كتب، واخذوا يفتشون عن كاتبها... منهم من قال انه احد الرفاق الكبار الذي زار الموقع، ومنهم من شك بأحد الأعداء الجواسيس المارقين الخونة المعادين للحكومة، يتخفى بين أفراد السرية، فاخذوا يراقبون الأمر ويحققون في القضية سرا......
هذا التساهل من قائد الفرقة مع الجنود أمر شاذ ولا يخدم الحال والأحوال، ويصعب معه ترويض الخراف، اضافة الى الحقيقة التي تقول ان التغيير نحو الأفضل يتصدى له الجميع، ولا يخدم الآخرين!....
لذا كان هناك من (حفر) تحت أقدام القائد، وكتبت التقارير، فسحب البساط من تحته، ونقل على أثرها واستبدل بقائد فرقة آخر، والهجوم على الأبواب!...
يظهر بان الهجوم ليس مهما، بقدر تطاول جندي بالشكوى من الوضع!....
وبدأ طاقم وأقرباء ومعارف وحماية القائد القديم، يتهيئون للتشرذم بين السرايا، وبدا بالمقابل معارف وأقرباء وحماية القائد الجديد، بالتحضير لتسلم المناصب الجديدة عند القائد الجديد......
عمل القائد الجديد بهمة ونشاط على ازالة آثار العدوان التي خلفها القائد السابق، فشدد من الأوامر العسكرية، وبشر بالضبط والربط، واتعب الجنود بالحفر والتنقل من مكان الى آخر، (وشدوا روسكم يا كرعان) لننسى ذلك الهامش من الفضاء الذي شعرنا به، وأكثر من الدوريات القتالية كأنه يريد الانتقام منا، حتى أصبحنا نذهب مرتين في الأسبوع الواحد، وأصبحت الأمور أكثر سوءا، وهكذا تم بعد حين إزالة آثار العدوان.... وهكذا صدر الأمر في النهاية.......
-   تهيأ الليلة دورك في الدورية القتالية!..
-   نعم سيدي!
-   تتجمعون جندي من كل فصيل عند ملجأ مطل على فتحة الألغام، خلف الأسلاك الشائكة، ينتظركم هناك نائب ضابط  صالح، آمر الدورية.....
-   نعم سيدي!
-   الطريق الذي يوصلك الى مثابة الانطلاق، يستغرق نصف ساعة نزولا على سفح الجبل، وليس هناك من احد تجده في طريق العودة الممتد ساعة ونصف صعودا، غير الظلام والذئاب والخنازير، وربما متسللين، هذا ان عدت سالما من الدورية!....
-   نعم سيدي!
الدورية القتالية اسم مثير للخوف، ومعناه ان تتجول في الأرض الحرام، لتتلقى غضب الطبيعة والمدفعية بلا مصدة او ملجأ، وانت تحت رحمة ومدى السلاح الخفيف لقطعات العدو الأمامية، إضافة الى احتمال تعرضك الى التصادم مع الدوريات القتالية المعادية التي حولك وعلى مقربة منك، وهي تدور في نفس المنطقة لنفس الغرض اعلاه!... في السابق، وحين يكون امر الدورية (سبورت) كنا نحتال على الأوامر، فلا نذهب بعيدا، نبقى في ملاذ قريب لقطعاتنا، ونمكث هناك حتى اذا حل الفجر، ننسحب قبل انسحاب الظلام، لكن هذه المرة أصبح التشدد والتركيز على قيام الدوريات القتالية بمهامها بصورة دقيقة...
تقدمنا بدورية قتالية في الأرض الحرام، تسعة جنود، ونائب ضابط، ومخابر، ودليل، في ارض وعرة تنتشر فيها حقول الألغام، وطريق ضيق لا يبان حتى في وضح النهار، حلكة الظلام تقبض على عيوننا فلا نستطيع رؤية اكفنا حين نمدها أمامنا، وان ابتعد احدنا عن الآخرين سيتيه او سيسقط في الوادي، فامسك احدنا بالمعطف المطري للآخر الذي أمامه، والجميع سائرون خلف الدليل، في عبور حقل الالعام، وعلينا ان نكون طوال الليل يقظين وأصابعنا على الزناد، لئلا نتفاجأ بدورية قتالية للعدو على حين غرة، و نظل صامتين بلا كلام، نتنصت حتى نَسمع ولا نُسمع، ليس هذا فقط، هذه المرة أصبحت الطبيعة أيضا ضدنا، فالمطر بدأ بعد منتصف الليل يهطل مدرارا ليعيق خطواتنا ويلسع وجوهنا، ويمنعنا من سماع او رؤية اي شي، وليفسد الإطلاقات ويبلل السبطانة، حتى اذا صدئت، سنحال الى مجلس تحقيقي يؤدي بنا الى السجن، ان عدنا سالمين......
يشذ تفكيري وانا على هذه الحال والاحوال، فاضحك على نفسي! لم أنا هنا؟! كيف ترتبت الأمور لتصل بي الى هذه المعادلة الخرافية، هل انا في حلم سريالي؟! مرمي على ارض لا اعرفها، وفي مهمة لا تعني شيئا بالنسبة لي، مجبرا أن أموت بلا هدف ولا أي طائل، بل مجرد رقم يسقط في ارض غريبة، وأي ذنب جنيته في حياتي ليحصدني الموت المجاني في أية لحظة، هل درسنا وتعلمنا وتخرجنا وسعوا أهلنا في تربيتنا ليزج بنا الى الموت المجاني، او نظل نعيش في مكان كل ما فيه، خوف في الليل وذل في النهار، ولم يصبح الموت لعبة يتلهون بها؟!... لكن هذه الأفكار تجعل الليل ابرد، وتعيد ذكرى الأهل والأيام والإحباطات التي ما عاد يتسع لها قاموس، فرميت من راسي هذه الأفكار وبدأت المسير......
متسلقين ودائرين حول سفح اسود, في طريق نيسمي بعرض حذائنا، ومن يحيد عنه فمآله الانزلاق الى الوادي، وقف آمر الدورية وهو من النواب الضباط الرفاق -ملكي اكثر من الملك- عند احد التلال:
-    ومن يدري ان فوق هذا التل لا تكمن دورية قتالية للعدو؟
تسمر الجميع ثم أردف:
-   نحن خرجنا لنؤّمن الأرض الحرام، أريد أحدا منكم ان يصعد الى قمة التلة!
القمة غير بعيدة، ولكن خاف الجميع وصدقوا كلامه، بوجود دورية معادية فوق القمة، الا  انني استسخفت الأمر، فما الداعي ليصعد جنود العدو هذا السفح المقفر؟ وليراقبوا من؟! ولم يتعرضون لهذا الجو القارص في الأعلى بلا مبرر؟ وليقاتلوا من؟ فقلت:
-   أنا!!
نظر الجميع مستغربين من شجاعتي، او سذاجتي!...
تسلقت السفح، لكن ما أن وصلت قريبا الى القمة حتى اعتدل السفح وأصبح عموديا تقريبا، (إنبطحت) وأمسكت بالأرض وأخذت ازحف صعودا إلى أن وصلت القمة، ثم ونزلت بنفس الطريقة، جماعتي الملاعين جلسوا وارتاحوا بفترة صعودي ونزولي وأنا الهث، وما ان وصلت اليهم حتى شرعوا بالمسير ثانية.....
بعد عناء مسير طويل وتجوال في ليلة ممطرة، وقفنا لنأخذ نفسا... شيء أومض عن قرب أو عن بعد، لا ادري, فليس في الأرض الحرام احد غيرنا، وقفت أتنصت وأتلفت وانتظر، همست لصاحبي:
-   هل رأيت شيئا؟
-   لا!
-   لكن شيئا ما أومض عن قرب!
-   إنها تخيلات الظلام الملطخ بالخوف...
تناهى الى سمعنا صوت انطلاق قذيفة من جانب قطعاتنا، بعدها سمعنا قرقعة فوقنا, وفجأة انفجرت قذيفة التنوير فوق رؤوسنا تماما لتنير ما حولنا, فكثير من الأحيان ترسل المدفعية قذيفة تنوير فوق الأرض الحرام  للاستكشاف، غمر المكان ضوء اخضر, فنجيل نظرنا على ما حولنا من أحجار وأشجار وظلال ووديان, لكن في اللحظة انصعقنا مما رأيناه! فعلى مبعدة أمتار انتصبت أشباح بيض على ضوء التنوير، انها دورية قتالية معادية، مدججة بالسلاح والموت يطفح منها... امتدت الأصابع بصورة غريزية على الزناد، لكنها تسمرت من هول المفاجأة، ولم نعد نعرف ماذا نفعل، لا ستار، لا حائل يحول بيننا, وكل حركة تصدر منا ستكون النهاية، امتدت لحظات الهلع, العيون ترصد العيون, والقامات تواجه القامات، والدوريتان مسمرتان الى بعضيهما... قلوبنا تخفق هلعا، بانتظار صافرة الموت, تمر اللحظات ونحن منصتون لدقات عقارب الموت, ذبالات علبة التنوير تتضاءل, والضياء يخفت تدريجيا, استطالت ظلال الأشجار والأشباح البيض، وعتمت الوديان, تساقطت آخر ذبالات علبة التنوير، وهي تنثال مبتعدة, غشى الظلام الضياء من جديد, لم نعد نرى شيئا، أفقنا الى أنفسنا، لا زلنا أحياء!! فتنفسنا الصعداء، شاكرين حسن سلوك الدورية المعادية.... شرعت الدوريتان بالمسير ثانية كل في طريقها....
ابرق آمر الدورية بجهاز الراكال الذي يحمله المخابر على ظهره....
-   اصطدمنا بدورية قتالية معادية!.... لا خسائر من جانبنا!....
قبيل الفجر ونحن عائدون من الأرض الحرام، وما زال الظلام ممسكا بعيوننا، وقبل ان نصل الشرك ونعبر الى قطعاتنا صرخ الدليل!
-    قفوا مكانكم، لقد سقطنا في حقل الألغام!!!...
فانتظرنا واقفين في مكاننا حتى بزوغ الفجر ونحن نرتجف من البرد، وأية حركة غير مقصودة، لنلتحق قبل الشروق بسرايانا.....
لقد نجونا هذه الليلة اذن! لكن علينا ان ننتظر حظنا في الدورية القادمة..... 

 
.......................................

15
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة السابعة
سعيد

طويلة  شباط  1986

 (طْويلة) القرية العراقية الصغيرة الآمنة، تنام على صدر الجبل على خط الحدود تماما، بينها وبين (نوسود) المدينة الإيرانية الحدودية المقابلة لها كيلومترا واحدا فقط، فهاتان القريتان مجرد بستان واحد، للجوز والتفاح والفاكهة الأخرى، ساقية واحدة مشتركة تسقي هذا البستان وتجمع كلتا القريتين، تربط أهليهما وشائج القربى والزيجات المشتركة، مر خط النار بينهما يوما، وفرقهما....
جرت معارك قاسية حولهما مؤخرا، فبعد ان انسحب الجيش العراقي من نوسود  سلمها الى منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، أما طويلة العراقية، فقد هجرها أهلها وأصبحت بيوتها معسكرا لمقر فوجنا، وسفحها مقرا لبغال السرية النقلية الجبلية الرابعة، ولم يبق في المدينة غير شيخ كبير السن يسكن جامعها الوحيد، أبى ان يفارقها برغم القصف الشديد.....
ننزل نحن الجنود المجازين من سرايانا التي فوق الجبل الى طويلة، وننام في الجامع الذي يديره هذا الشيخ، لنكون قريبين من الشارع العام والسيارات التي تنقلنا فجرا، في ذلك الشتاء القارس، كان لهذا الشيخ الكردي المسن، برميلا كبيرا يستخدمه كمدفأة، وضعه في وسط صحن الجامع، ويظل يسهر عليه طوال الليل يوقد النار، لننام مستدفئين حوله بلا غطاء حتى الصباح، فهو الذي يجمع له الحطب ويغذي النار، ولا يدع أحدا من الجنود يتدخل بعمله، بحجة أنهم لا يعرفون كيف يقتصدون بالحطب لتبقى النار حتى الصباح....
يظهر بان جذور هذا الشيخ المسن، قد رسخت مع الزمن بأصول وجذور قريته وبساتينها حتى الموت! وكم من المرات أبكاني هذا الشيخ! فعندما كان القصف يطال القرية ويمزق الأجساد والأفئدة، نحتمي بخوف وهلع بين الصخور والبيوت المهجورة، كان هذا الشيخ يخرج الى البستان! ويظل ينظر الى الأشجار، صامتا حزينا متأهبا، حتى اذا ما أصابت شظية شجرة منها، او قطعت غصنا من أغصان شجرة، يهرع وسط القصف مسرعا إليها، ليحتضنها بكلتا يديه ويبكي! بين الشظايا يحتضن الغصن المقطوع او الشجرة المجروحة، وعيونه دامعة كأنها ولد من أولاده، يريد ان يضمده او يسعفه!!!....
اقول له:
-   يا شيخ! لم تعرض نفسك للموت، وأنت تجول بين هذه القذائف؟!
فيجيبني...
-   كل شجرة من هذه الأشجار كانت مورد رزق لعائلة كبيرة طوال السنة، من هذه الأشجار عشنا بهناء وكرامة أجيالا، جيلا بعد جيل، انهم يذبحونها الآن! انهم يذبحون أشجار الجوز! أذهب فداء لكل شجرة منها، ثم يجهش بالبكاء!!.....
شتاءات (طويلة) ليست شتاءات عادية، والأوامر المعروفة هناك، لا يجب ان يبقى نفس الفوج فوق جبلها أكثر من موسم شتاء واحد، لئلا يجن جنوده! فالحياة هناك لا تطاق كأنها القطب الشمالي! ففي أوقات الحراسة الليلية، وبعد ان تنتهي نوبتك وتذهب الى الملجأ لتنام، لا تستطيع ان تنزع (بسطالك) الا بعد ان تدفئه على الجولة! لانه قد تجمد، وأصبح قطعة من حديد، وكذلك حين تنهض من النوم لا تستطيع لبسه لأنه صار عظما قاسيا او قطعة جليد صلدة، لذا كنا نحتال عليه ونضعه تحت رؤوسنا طوال لليل ليبقى دافئا، لا تذوب الثلوج من قممه الا في شهر آب، وفي عز الصيف لا تستطيع النوم فوق القمة الا تحت أغطية كثيفة، وفي ملجأ مغلق!.. اما من يمرض هناك، فلا تتصور عذاباته مع الأوامر العسكرية، والحرمان من كل شيء....
طوال الشتاء، ونحن فوق الجبل ننظر الى أسفل، لنرى الغيمة التي تحتنا، تهطل مطرا فوق طويلة، اما الغيمة التي فوقنا، فليس بها غير نتف الثلج تتساقط علينا.... في القرية، مطر، وطين وماء، اما عندنا فليس هناك غير ثلج وثلج، ثلج يغطي السفوح والقمم، والأشجار والصخور والملاجئ، ثلج يجلس فوق فراشنا ويتغلغل بين ثيابنا، وليس بيننا وبين طويلة القرية، غير ثلاثمائة متر فقط......
كل قواطع الجبهة التي مكثنا فيها، وحين لا تستطيع السيارة إيصال الأرزاق والتجهيزات ومواد التكديس للموسم الى القمم والسفوح، نستعيض عنها بالبغال، الا مكاننا هذا بالذات، فكنا فيه نحن البغال!..
انتصف الليل، ستنتهي نوبتي بعد نصف ساعة، وأنا اذهب وأجيء بحراستي الليلية فوق الثلج على قمة الجبل، تتجمد أنفاسي فوق القمصلة الشتوية لتحيلها الى قطعة قاسية، ليلة صافية مقمرة بعد عاصفة ثلجية امتدت سبعة أيام، ينعكس ضوء القمر على السفوح ، ليحيلها الى صفحة فضية ناصعة على مدى البصر، ويحتار الرائي لهذا المنظر، أهو ليل أم نهار، وأمام صفحة الثلج الناصحة البياض هذه، أرى قصص الموت في الوجه الآخر من هذا البياض، فقبل ثلاثة أيام دفنت العاصفة الثلجية رهطا من الجنود في الوادي المواجه، بعد أن تاهوا في العاصفة.... وحقيقة واحدة يعرفها الجميع هنا، من يمكث لعشر دقائق في الثلج دون حركة فنصيبه الموت، ويمنع على احد الخروج بمفرده في الليل، قانون يعرفه من خدم في حركات الشمال منذ الستينيات....
اسمع أنينا او صوت استنجاد، قريبا او بعيدا، من اليسار ام  من اليمين، لا اعرف، هل ان أحدا من جنودنا قد خرج لأمر ما فأصابه مصاب، ام هو من جنود العدو قد تاه والتجأ إلينا؟! سرت بضع خطوات حتى تأكد لي، بان الصوت يأتي من اليسار، لكنه ليس ببعيد، تقدمت نحو اليسار خطوات فتوضح الأنين..
-   إخواني ... السرية الأولى.... إخوتي!...
تقدمت بنفس الاتجاه، بعد بضعة أمتار، أصبحت خلف الملاجئ، عند بداية الطريق الآتي من المعسكر الخلفي في طويلة.. وعلى بعد مائة متر تقريبا، لاح لي شبح إنسان على الطريق النيسمي الذي لا يزيد عرضه على موضع القدم، والممتد على طول السفح..
-   من هناك؟
-   انا سعيد!..... إبراهيم أرجوك! .... أنقذني، سأموت من البرد لا استطيع الحركة!...
-   أووه! سعيد؟!
سعيد ينام معي في نفس الملجأ، تأخر عن وجبة المجازين التي وصلت قبل ساعات، لأنه كان يحمل إضافة الى حقيبته علبة كارتون كبيرة ملآى بالمعلبات، بالإضافة إلى حاجياته، وقد تركها بالطريق مع البندقية حين  داهمه الإحساس بالخوف من خطورة التأخير، والبقاء لوحده لمدة أطول في الطريق، بعد ان أنهكه التعب، وأحس بصعوبة الوصول!....
وقفت قبالة سعيد فإذا هو واقف منتصب متصلب بلا حراك، رجله اليمنى على الطريق النيسمى، ورجله اليسرى غائصة في الثلج، وجسده كله أسفل الطريق، نصفه غارق في الثلج يقاوم السقوط في الوادي السحيق، صرخت!.
-   تحرك إلى الأعلى!
-   لا استطيع!
-   ارفع قدمك الأخرى إلى الطريق!
-   إذا سحبت واحدة ستنزل الأخرى، إني على هذه الحال منذ مدة طويلة، أنقذني أرجوك! تجمدت رجلاي، سأموت من البرد!..
سعيد له جسد يزن ثلاثة من أمثالي، فان أمسكت يده، أو حاولت سحبه، فسيسحبني بضخامته، لنسقط كلانا في الوادي المميت، ولا احد يعلم بنا....
لأمر ما خطر في ذهني استدرت للعودة، فاخذ يصرخ!
-   دخيل عيسى الحي، لا تتركني أرجوك! ليس من اجلي، بل من اجل أطفالي!!
-   لن أتركك، سأعود في الحال...
عدت بعصا خيزران طويلة، أتوكأ عليها في المنحدرات الثلجية الحادة، تقدمت إليه، وقفت قبالته، حفرت في الثلج حفرة صغيرة بالعصا، وثبت بها قدمي بقوة، أمسكت بالعصا، وثقت من قدرتي على سحبه، وقلت له....
-   سعيد سأمد لك العصا، وحين تمسك من نهايتها لا تسحبها بقوة، وان سحبتها بقوة سأدعها لك، مفهوم؟..
- كما تريد!
وامسك سعيد بالعصا، وأمسكت أنا بقوة من نهايتها الأخرى.
-   كول يا الله!!
-   يا الله!!
واسحبه بقوة إلى الأعلى، وإذا بسعيد غير مصدق بخروجه إلى الحياة، واخذ يتلعثم بكل كلمات الشكر لكل الكائنات، ويدعو لي بكل مقدس وعزيز....
-   شكرا يا الله! شكرا يا مسيح! شكرا يا عيسى! شكرا يا محمد!
أشعلت له النار في الملجأ وسخنت له الماء ليدفئ أطرافه، وغطيته بكل البطانيات التي لدينا، وحذرته قبل ان اخرج من الملجأ....
-   سعيد، سأعود الى المرصد، ولكن إياك ان تمد يدك الى النار لتتدفأ، لأنها ستتورم ويصيبها الالتهاب، فقط ضعها في الماء الساخن!...
ولكن قبل ان اخرج سقط على رأسنا، رئيس عرفاء السرية يرغي ويزبد!
-   كيف تركت واجبك ونحن على خط النار؟! أنت تعرض حياة السرية بأكملها إلى الخطر، من اجل شخص واحد!!...
بعد أيام جاءنا أمر تبديل المكان، لم نصدق ذلك! وبسرعة البرق تحركنا الى العمل غير مصدقين ان نخلص من هذا الجحيم الثلجي! ونحن نشجع بعضنا للإسراع، وحثنا آمر الفوج الى سرعة النزول قبل أن تأتيه برقية (التريث) كالعادة، جمعنا تجهيزاتنا، وللسرعة لم نحمل يطغاتنا على ظهورنا، بل دحرجناها ومعها الأواني لتصل الى الوادي بسرعة قبلنا، وأسرعنا في النزول بقاماتنا الى الأسفل، وإذا بسعيد يفقد بعض بطانياته حين دحرجها!!.....
بعد يومين فقط تخاصم معي سعيد! مدعيا بأن البطانية التي غطيته بها بطانيته..... والعصا التي أخرجته بها عصاه!!!...
هذا هو حال الناس حين تسحقهم الظروف، ويتعرضون للمحنة، فيفقدوا مبادئهم، وينسوا المثل والجذور! أهي قساوة الظروف ام ضعف الأنسان؟....
ام هي الحرب تقتل الأنفس قبل الأجساد!.. ليسقط الإنسان في متطلبات الغريزة دفاعا عن ذات مسخها الممسوخون، الذين كانوا.........  والذين سيكونون......



..................................


16
مذكرات..
أوراق من دفتر الحرب..

الورقة السادسة
ساحة النهضة
1983
جلسنا على مائدة مترعة بالشراب، لنجلو بعض حزن الوداع، انه آخر يوم من الإجازة الدورية، وقد  جاء خالي وعمي وأبناء العمومة، ليودعوني، فغدا التحق بالجبهة وقد أعود أو.... قد.... لا أعود......
الإجازة الدورية سبعة أيام، يومين نقضيها في الطريق ذهابا وإيابا، ويومين نمكث بين أهلينا وأصدقائنا، نرتق ما تمزق من فرحنا، ونحقق بعض أحلامنا القصيرة، وننسى الجبهة، ولكن ما ان يأتي اليوم الثالث حتى تصعد الكآبة!... ونفكر بالالتحاق، ونستعد للسفر، نتصل ببعضنا لنهيئ مواعيد الرحلة سوية الى المجهول....
هل لي ان أحقق حلما واحدا في حياتي؟ انه حلم صغير! وددت تحقيقه ولو آخر أيام حياتي، ان أذهب صباحا الى الدوام  في دائرتي، ثم أعود بعد انتهاء الدوام الى البيت ظهرا، لتناول الغداء مع عائلتي، وتبادل حديث يخلو من دخان الحرب، وفي المساء اقضي بقية اليوم مع الأصدقاء، لأنام نوما خاليا من كوابيس التفكير بالالتحاق يوم غد الى الجبهة، ولكن يظهر انه من المستحيل تحقيق مثل هذا الحلم! فهذه أحلام أناس المريخ وليست أحلام هذا الزمن الخرافي!....
وأية لوحة غرائبية قاسية هذه، ان تترك هذه السهرات بين الأحبة، وتلتحق بالموت صاغرا، طائعا، راضيا مرضيا!... وأية قوة استطاعت ان تروضنا ترويض أليف مستكين، يذهب الى حتفه بقدميه!....
قطع أفكاري صوت عمي!
-   والى متى ستبقى عازبا؟!
-   وهل نسيت اننا في الحرب؟
-   وهل نسيت انه مر على خطبتكم سنة كاملة؟ فإلى متى تبقى الخطيبة تنتظر؟
وانبرى خالي:
-   شكو مستعجل؟ تريد ترمل بنت الاوادم؟
-   هذا أمر الله!
فقلت منفعلا:
-   واني مو ابن اوادم؟! على الأقل أموت متزوجا، ولا أريد ان أموت محروما، واذا كان نصيبي الموت، فسيكون نصيبها هي، برازيلي وقطعة ارض، تبنيها، وراتب تقاعدي تعيش به...
هنا تململ ابن عمي:
-   ثم الى متى الانتظار؟ الحرب لن تنتهي! وقد أصبحت قضية إيقاف الحرب قضية مستحيلة! ولم يعد يصدق أحدا بأنها ستنتهي يوما ما،  وها هي المساعي الحميدة أصبحت غير حميدة النتائج، ولم تنجح، وكل محاولات إيقاف الحرب باءت بالفشل! تعب سيكتوري من لقاء الجانبين، ودار رأس ضياء الحق بجولاته المكوكية، وعلى مدى الأيام لم تفرز أية نتائج، الا فاسمعوا!!......
تعالى بالتلفزيون ذي الصوت الواحد، والصورة الواحدة! صراخ أديب ناصر ذلك الشاعر الفلسطيني الذي وجد عوضا عن التغني بفلسطين، تعداد مآثر الحرب..... وهو يصرخ.....
-   يا سائق السمتية..... يا ليتني كنت معك...... لأنال بعضا من شرف وعزة أفعالك.......
وتلاه صوت رشدي عبد الصاحب  وهو يصرخ كأنه في الخندق الامامي:
-   .... انها ستالين غراد...... (بعد ان أطلق على المحمرة لقب -خميني غراد-)..... مرحى لحرائر العراق! وهنيئا لنا، حين ولدتنا أمهاتنا أحرارا في هذا الزمن! هذا زمن الشموخ والعزة والكرامة!.....
قال عمي
-   هذا المذيع، مو كالو سفروه لإيران، ويا المسفرين تبعية؟!
-   بلي سفروه!  بس شفعتله هاي الصياحات!
نهاية السهرة ودعنا الضيوف، وأوصلني خالي بسيارته الى ساحة النهضة، الكراج الذي يوصلني الى الجبهة، حيث كان الأصدقاء معي على موعد... وصلنا الكراج في منتصف الليل، قال قبل ان يودعني:
-   هاي الدنيا نهار عدكم!
-   هي هالشكل يومية من نص الليل للصبح!.....
-   ولويش مو بالنهار تروحون؟
-   منحصل سيارات؟ شيوصلها كل هاي العالم للجبهة؟
في الليل، بعد ان ينام قلب بغداد ساحة التحرير، تنهض ساحة النهضة لتصبح هي قلب بغداد النابض بالحياة مع توأمها كراج العلاوي، ساحة النهضة، تراها في الثالثة صباحا تغص بالجنود حتى الفجر، لا تستطيع السير من الزحام، مزدحمة بالمنشآت والباصات والسيارات الصغيرة والكبيرة، والعربات من مختلف الأشكال، والباعة المتجولين تتعالى نداءاتهم.....
-   باكلا بالدهن...قلية.... مخلمة.... شوربة..... بيض بالدهن..... دولمة........
وبائعات اللبن والقيمر والشاي، جالسات وحولهن الجنود جالسون يشربون الشاي، والمطاعم التي حولها تغص بالحركة، ونداءات أصحاب التكسيات، حتى ان بعض الجنود ينام في الجزرة الوسطية، وينام السواق على أسطح الكوسترات في ليالي الصيف، حتى الصباح...
نتناول العشاء او الفطور، لا فرق! فأضواء الليل تمتد من الضياء الى الضياء! نتجول  حتى ساعة رحيلنا، لنستطيع الوصول إلى الوحدة بالوقت المقرر، إنها ساعات التمتع، وإلقاء نظرة الوداع على الحياة والحرية، التي تسبق ساعات الالتحاق بحبال المقصلات  المعلقة على طول رصيف حياتنا! مكثنا نتجول في ساحة النهضة الى الثالثة صباحا، لنصعد المنشاة بعدها، حتى نصل في الوقت المتفق عليه....
كعادتي كل مرة، في طريق الالتحاق، وحين اجلس على المقعد داخل المنشاة، وامدد قدمي، تتحرك المنشاة، فأغمض عيني لأنام، حتى لا أرى الطريق الذي يوصلني الى الجبهة، ولا أفكر بطريق الذهاب، ولا أريد ان أراه أمامي..
فتحت عيني، انها السابعة صباحا، ها قد وصلنا منطقة الميدان، ولم يبق غير نصف ساعة للوصول الى المقر الخلفي للفوج، وإذا برتل طويل من الدبابات والمدفعية والسيارات الناقلة للجنود ذوات الخوذ الفولاذية، وكامل تجهيزات المعركة، وهم ينطلقون مسرعين نحو قاطع من قواطع الجبهة، حيث تنهض المعارك هناك الآن على قدم وساق! لا شك انها بحاجة الى مزيد من الحطب!... قال صاحبي:
-   شوف شوف! ذولة كلهم للمطحنة!....
-   على اساس احنا رايحين للخارج! باجر عكبة ويجون عدنا، لتستعجل!....
لكن بعد ربع ساعة وصلنا المفترق، فانحرفنا نحو خلفياتنا، واذا بالرتل ينحرف معنا الى وجهتنا...
-   يوول! الظاهر احنا المطحنة، ومندري بنفسنا!
-   منلتحق اليوم للمتقدم، نبقى بالخلفي، شراح يسوون؟
-   كلشي ميسوون! راح يكتبونا، متخاذلين وهاربين من المعركة! وبس!!!!!.....
وصلنا المقر الخلفي للفوج واذا بسحنة أصدقائنا الجنود على غير ما يرام، وجوه متعبة حزينة..
-   خير؟!
-   هو منين يجي الخير؟! والمعركة بعدها فوك! شوف الدخان، واسمع الردم!....
-   حسبالنا نخلص منها بالإجازة....
-    اخوك الصبّي استشهد!
-   كريم الصبّي؟!... لا!!!!.....
-   سأل الضابط منو وياه بالملجأ...... كنالا انت...
-   لويش؟
-   حتى تروح بيه مأمورية، تاخذ إجازة تودي الجثة لأهلها!....
فجاة رسمت في ذهني لحظة اقابل عائلتة كريم، تلك الصورة التي ضمتني مع كريم واقفين معا، فارى سكين تفصل الاثنين من الصورة، امام اهله، مات كريم وظل الصديق، وصرخت....
-   مستحيل! شكول لأهل كريم؟!
-   لك دروح! يدوروها دوارا، جتلك إجازة بهيج يوم!....
فعلا انها فرصة للخلاص من المعركة الجارية الآن! فرتل الهجوم المضاد يدخل المحرقة، وبعد ساعات سنكون الحفنة الأولى من الحطب، ولكن!!!.....
معادلة صعبة!..... ان توصل صديقك جثة الى أهله.... او ان تكون أنت الجثة.....
اية قوة تستطيع الانفلات من هذا الصراع؟!.... وأي اختبار هذا الذي أتعرض له... موت الجسد، ام موت الروح؟!!!
هكذا في الحرب تتواجه المبادئ مع الغرائز!... حين فتحت عيني لأواجه اللحظة الصعبة، رأيت وجها، كلما شاهدته، احسب ان حياته اشتراها بثمن حياة الآخرين... جبار أبو التوجيه السياسي... وهو يقول لي:
-   إجازة من بلاش! بعد شتريد؟!
فصرخت!
-   ولكم يا بلاش؟ ماكل وشارب بيتهم، بيا وجه اوديلهم كريم جثة؟! لا ما أسويها، ما أروح!
وكأنه كان يتحين الفرصة!!...
-   آني أروح!
-   دهاك العنوان وخلصني..... بغداد/ مشتل/ شارع الكهرباء....

.................................

17
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة الخامسة
البدوي
1988
جبل شميران

من المراسيم المفرحة، ايام مطحنة الزمان، حين كانت أمنياتنا صغيرة تحت مواسم الحرمان، وعلى صغر مقاسات أحلام تلك الأيام، في المساء قبل الغروب، والشمس تنحدر خلف الجبل، على فسحة من السفح، نجلس فوق البطانيات، ونفرش الجرائد أمامنا لنشرب شاي المساء ونتجاذب (السوالف) بعد تعب النهار في حفر الشقوق وترميم الملاجئ، كانت تلك اسعد الأوقات.....
 هادئ هذا اليوم، سفح الجبل لا يئن من القصف، وهو من الأيام النادرة التي نستطيع ان نمشي باستقامة كبشر معتدلي القامة.....
سقط فوق رأسنا ظل رجل متعب من الطريق، بعد ان ألقى تحية المساء، رمى بفراشه العسكري (اليطغ) أمامنا وجلس على الفراش، وتنهد تنهيدة بغل، حين يرمي بأحماله الثقيلة من على ظهره، أخذت عيناه تدوران، تستطلعان السفوح والوديان، فرائحة البارود لم تغادر المكان، والطيور تمرق خائفة من تجدد القصف بين ساعة وأخرى، كمسافر حط في ارض مرعبة لا تعرف الأمان، وبهدوء استل سيكارة واخذ أنفاسا عميقة، ينفذ حسراته مع الدخان، على ذراعه اليمنى شارة نائب عريف، اسمر ضامر الوجه ونحيل الجسد، ولا تنم قسمات وجهه عن بوادر ما، غير تنهيدة صامته مكبوتة تخفي ما تخفيه، ظل صامتا طوال المساء واليوم التالي، الا من إجابات قصيرة لأسئلة طويلة...
-   من انت؟... من اين اتيت؟... لماذا جئت؟....
فعرفنا عنه انه نقل من احدى دوائر المرور في المدينة شهر معايشة كما صدر القرار، فالجميع يجب ان يشارك في الحرب أينما كان.. عدا... من عدا....
لهجة بدوية صافية، وطباع هادئة، تنضح حكمة البدوي الأصيل... عينه امر السرية عريف فصيلنا، أكثر الصفات المحببة لديه، يستمع كثيرا ويتكلم قليلا، ومن النوادر التي رايتها فيه أنه لم يتأثر بالعسكرية وأوامرها التي خربت وعي كل من قضى خدمة طويلة فيها، خلاف كل المطوعين الذين أصابتهم لعنة العسكرية بالتغيير والتعقيد والتوتر والعصبية، ليتحول آلة عسكرية حتى بين أقرانه وأفراد عائلته.... يظهر بان أخلاقه البدوية كانت عصية على التغيير... مختلفا عن باقي العرفاء بصراخهم وتملقهم للضباط وتنفيذهم ألأوامر بطاعة عمياء......
لكن الجميع لا يفهم طبيعته النقية الصافية، انه قانوننا الشرقي، وآفتنا الأزلية! نحترم القوة ونجل القسوة، ونحتقر اللين والتعقل، فالجنود لا ينظرون اليه نظرة احترام لأنهم لا يهابونه، ولا يحبونه لأنه لا يقسو عليهم، ولا يتعامل مع الآخرين بالويل والثبور –اذبح واصلخ- كما العادة في العسكرية، الضباط غير راضون عنه، لأنه لا يعاقب الجنود! والعرفاء يتضايقون منه لأنه لا يتملق مثلهم الى الضباط! لهذا الجميع يستهزئون به ولا يودونه....
المعروف عنه انه إنسان خامل، منزوي، منبوذ، حتى قال عنه الآمر ذات مرة، نشمي فزاعة مرمية، لا يضر ولا ينفع! وجوده او عدم وجوده سواء! حتى وصمه بعضهم بالبهل، لأنه يقف زاهدا منزويا عن جلسات النفاق والاغتياب، وحين كان الجميع يتبجحون ببطولاتهم الفارغة، كان هو يسكت وينظر نظرة محيرة، لا يستطيع النطق بها... لكنني كنت ارى جمرة النار، تحت هذا الهدوء الكامن في نفسه.....
جلسنا مرة نتسامر، لكن احد الجنود لم يحضر، لأنه تخاصم مع صديق آخر في الفصيل، فأصر نشمي ان لا يشرب الشاي الا  بحضور الآخر، وحين حضر استطاع نشمي ان يصالحهم، بحكاية دينية قديمة، أدهشتنا كثيرا لطرافتها، واستطاع ان يجبر احدهما ان يقبل الآخر، وهكذا كان دوما، موجبا في كل معادلة......
ويوما.... لم يكن كباقي الأيام..... يوما انبلج فيه فجر مخيف بارد، يحمل رائحة البارود والدم.... مع شروق الشمس احتل العدو المصدات الأمامية العليا، بعد معركة شرسة صمدنا فيها نقاتل طوال الليل حتى ساعات الصباح، فزج العدو سرية أخرى لتطوير هجومه، واحتل بعض جنوده الجانب الأيسر من الخندق، وتخندقوا فيها....
 في هكذا أحوال وحين يحتل العدو جزءا من الخندق، تهبط المعنويات الى درجة الصفر، لأنه ما من جدوى بعد من البقاء، ولم يعد بمستطاعنا الرمي، فالعدو بيننا، والمعركة حسمت لصالح العدو، تجمدت حركاتنا على الساتر، شل الخوف أيادينا، ننتظر أحدا منا ان يرمي فنتشجع، ولكن لن تجد من يخرج رأسه في هذه اللحظات العصيبة، ترجو ربما، بادرة، نأمة، حركة، كلمة، طلقة تثار، لتثير شجاعتك، فلا تجد، الكل قد هيا نفسه للهرب في اقرب فرصة سانحة، ولكن حتى الهرب في مثل هذه اللحظات يصبح خطرا ان لم يكن مستحيلا، بهلع قلت لصاحبي....
-    انظر! بدا العدو يحاول الالتفاف نحو اليمين ليحاصرنا.... لنهرب من الجانب الأيمن قبل ان يصل....
 حين خرست البنادق وخرست الشفاه من الخوف، وتجمدت أصابعنا على الزناد وتهيأنا للهرب.... عندها رأينا البدوي ينهض من الشق في اللحظة الحاسمة، ويطلق ضحكة جنونية ويرفع بندقية ال (بي كي سي) وشريطها الطويل، الذي لفه حول كتفيه وظهره، وخاصرته، وهو يرقص ويغني بأهازيج بدوية جميلة مشجعة، صارخا بصولات الكر البدوية، ويشد بيده الشريط ليرمي برشقات متواصلة، وكأنه يغني في عرس، رفعنا رؤوسنا، اندهشنا من غرابة أفعاله الباسلة، فسرنا هذا تشجعنا ووضعنا أيادينا على البنادق مرة أخرى.....
تفاجأ جنود العدو وانذهلوا لهذه الغرابة، ولم يصدقوا أعينهم بالذي يجري، ظن العدو ان فصيلا من الجنود او سرية كاملة، او هجوم معاكس، قد شن عليه، فاخذوا يتراجعون في طول الخندق حيث تجمعوا في نهايته، تراجعوا وهم يرمون بطلقات خفيفة متفرقة، ليغطوا انسحابهم، واختفى بعضهم لينزووا في ما وراء الخندق، فشجعنا هذا الى التقرب والقفز في بعض الشقوق التي انسحبوا منها، للتحكم في الأماكن الجيدة التي غادرناها....
اخيرا تشجع امر السرية وخرج من مكمنه......
-   انا اخو فاطمة!
-   عفيا نشمي البطل!
وابتدأ يصيح بالجنود للتقدم.....
قفزنا في الخندق الذي تركناه وتشجعنا على الرمي من جديد، وزخت البنادق كلها زخة واحدة، وكأن الفرج جاءها أخيرا....
وبضحكات سخرية مريعة يصول نشمي للمرة الاخيرة.... ونتقدم نحن الى الامام.... ليسقط  البدوي مضرجا بدمائه أمامنا في المقدمة....
فتقدمنا وانسحب العدو.....
 وبكينا يومها ندما وحسرة على نشمي، وبكيناه كلما ذكرناه.....
لم يتسنى لي ان أحفظ ما كان يهزج به بالضبط..... لكنني اذكر بعض ما قاله......
نحبك يالشامت.... كل مطلاع نشوفك بيه.......
 تعرفنا بهذا اليوم...... ونعرفك بيه......
ابنج عايف روحة يمة..... لليوم التفرج بيه الغمة.....
حنا ولاد العرفان.... حنا ولاد الشجعان.... للبيرغ ثورة وبركان....
وللي يحبنا نصير له.... ورد البستان
واللي يشدنا..... نخضب بالدم عرسان

..............................

18
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة الرابعة
محمد كازولي
1983
سيد صادق
بعد معارك بنجوين، تجمعنا إعادة تنظيم، بين تلال منطقة سيد صادق، فنصبنا الخيام، والتقطنا أنفاسنا من ضجيج المعركة، وهدأت رؤوسنا من صخب طبول المدفعية التي تدق ليل نهار، بعيدين عن السواتر والدوريات، هذا الصباح هو يوم الخميس، ويعتبر في الأحوال الاعتيادية، وفي المقرات الدائمية والخلفية، إدامة على الأسلحة وتنظيفها، بزغت شمس مشرقة وسط يوم هادئ، ذقنا خلاله طعم الراحة والاستلقاء بحرية بين الحشائش والأشجار والأحجار، على حافة الخيمة بمواجهة أشعة الشمس الخريفية، فرشنا بطانياتنا وفككنا بنادقنا، ورصفناها على البطانيات القديمة، وقطع من مزق الخيم، اخرج مهدي وهو جندي احتياط من قرية عين التمر في محافظة كربلاء، رأسه من الخيمة متوسلا....
-   رحمة لوالديكم، خلوني خفر اليوم، حتى اسويلكم فسنجون!
-   اوهو! كام يتبطر الاخ! احنا شبعانين صمون يابس حتى تسويلنا فسنجون؟!
على (كليم) قديم ممزق رصف محمد كازولي أجزاء بندقيته وهو يزيتها وينظفها، الشمس المشرقة والحرية في التجول في المعسكر، وتناول الفسنجون (باذنجان مشوي)، بعيدا عن الرصاص والقصف، تفتحت شهيته، وصدحت قريحته بالغناء...
-   عالساتر كلنا تعنينا.... صرنا زواج وما فرينا................ كل طلقة تثور.... زوج اليبقى..
فتقدم اليه النائب عريف صاحب....
-   كازولي، مو وكت غنا هسا، والله اذا ما تسويها مراية بندقيتك، راح اعاقبك! خوش؟!
-   جا تهددني بوية؟! والعباس ابو فاضل، لا أخاف منك ولا من الأكبر منك! خوش؟!
واذا بآمر السرية الملازم اول جبار، يظهر من خلف الخيمة وقد سمع كلام كازولي، فوقف موجها نظرات متطايرة، وشوارب مفتولة...
-   يعني شنو متخاف من اكبر منه؟ يعني منو تقصد الاكبر منه؟
-   سيدي قصدي رئيس عرفاء...
-   لا لا قصدك المافوق، يعني منو المافوق؟ كلي!......
-   لا والله سيدي..
-   قشمر!! تتطاول على السيد الرئيس؟!!
فتلون وجه كازولي ووقف متصدعا! ثم أردف أمر السرية صارخا....
-   طايح الحظ! لسانك اكصه!.... الكل ينهض!..... اوكفو صف واحد!...
فتركنا ما بأيدينا، ونهضنا جميعا، ووقفنا صفا واحدا، كنت انا الثاني من اليمين...
فتقدم الى أول الجنود الواقفين في الصف...
-   شكال هذا القشمر كازولي؟
-   سيدي.......
-   ترى اخلي اشارة حمرة عليك اذا ما تشهد!
-   سيدي اعفي عنه هاي المرة، صاحب جهال وعائلة جبيرة، سيدي هذا ما يعرف شديحجي، هو مو قصده.....
-   انجب ولك!! آني الاقرر! كلمة وحدة تكول! اي لو لا؟!
-   بلي سيدي كال..
-   شكال؟!
-   كال، ما أخاف منك ولا من الاكبر منك!
وأنا أفكر فيما سأقوله حين يأتيني الدور، فإذا شهدنا اثنين او ثلاثة، سيذهب كازولي المسكين ما بين المؤبد والإعدام ولا ثالث لهما، ولكن من الخطورة أن أجازف لدرء التهمة عنه، ثم ماذا عن بقية أفراد الفصيل؟ حللت الأمور وكل الاحتمات، ثم عزمت على ما رأيته مناسبا ايا تكون النتيجة....
بعدها توجه نحوي مباشرة بالسؤال:
-   شكال هذا القشمر؟
-   ما سمعت سيدي!...
-   شنو؟! ترى اخلي اشارة حمرة عليك اذا ما تشهد!..
-   ما سمعت سيدي!
-   شنو ما سمعت؟
-   ما سمعت سيدي!
-   ليش مسمعت؟
-   جنت اسولف ويا صاحبي، وما سمعت شكال.
وهكذا تشجع الثالث وأجاب بنفس الجواب، والرابع أيضا، ثم الجميع، فاسقط بيد آمر السرية، بقي له شاهد واحد فقط، حينها تراجع الى الوراء ثم خفف لهجته...
-   هالمرة لخاطر الجماعة عفيت عنك..
-   شكرا سيدي!.... الله يخليك!.... كثر الله من أمثالك سيدي!.... رحم الله والديك سيدي!...
اعرف محمد كازولي حق المعرفة، انه يتجول في أسواق مدينته، العمارة، من اجل ان يحصل على لقمة العيش لعائلته في أوقات الإجازة، وباقي الأيام فهو مصلوب في الجبهة بانتظار رصاصات المعارك التي يخوضها، وحين يكتب الله له السلامة من معركة! يأتون بين مداخل أحلامه، ليطلقوا طلقات الإذلال والخوف والمهانة عليه....
ابكي حسرة على عمر قضاه أمثال كازولي بسنوات الشقاء والخوف والذل، أفنى شبابه وملاعبه وترك أحلامه وأحلام أولاده وزوجته وأهله، من اجل هذه الحروب المسفوحة على ضفاف العمر، التي تسلبه حتى كرامته، كازولي لا يريد من الدنيا غير ان يقتني قطرة ماء، وحبات قوت لأطفاله، فلا يدعونه.... وكأني به الحطيئة وهو يقول......
ماذا تقول لافراخ بذي مرخ........... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في بئر مظلمة........... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ما ان سمع الناس من التلفزيون ذي القناة الواحدة، والبرنامج الواحد، وأغنية واحدة، جامعة، مقدسة....... يا كاع ترابيج كافوري.... عالساتر هلهل شاجوري.... ما ان سمعوا عن معارك بنجوين الطاحنة، حتى هرع كل من له احد في هذا القاطع، يفتشون عن لواء 602 أين ألقت به الأقدار هو وجنوده....  وأين صفى الدهر بأولادهم! فجالوا المستشفيات، وثلاجات حفظ الشهداء، والسيطرات، وبريد الوحدات، ومقرات الانضباط، يسالون ويفتشون...
عند الظهيرة في فترة الراحة سمح للأهالي بالدخول الى المعسكر، منهم من جاء من البصرة ومن الحلة، والعمارة، وبغداد، للاطمئنان على ابنائهم، كان من بينهم أهلي، وأهل كازولي، حيث ودعونا وودعناهم، وما سلبنا فرحتهم بأننا بانتظار لقاءات أخرى مثلها، أو من كلمة مارقة قد تودي بكازولي وأمثاله الى مصير، لم تستطع كل المعارك التي خاضها ان تنال منه....
عصرا كنت جالسا على صخرة كبيرة، أمام مدخل المعسكر، شاهدت رجلا كبير السن وفتاة كردية، يقتربون الى احد الجنود ويسألونه، حيث وقف هو الآخر حائرا، مفكرا، ثم قادهم الى حيث انا جالس..
-   كاكا هذا جان بسريته..... هذولة يدورون على ابنهم بالسرية الثالثة...
فتوجهت اليهم بالسؤال...
-   شسمه كاكه؟
-   بكر... بكر على....
-   بكر؟!! ليش ما اجاكم بكر؟
-   لا كاكه!... اني وزوجته هاي خطية، ما خلينا مكان...
ياه!!.... احلى زوجة لاحلى بكر!! تنعم بفتوة كردية جذابة، ونظرات عصية على الوصف، بكر زوجها عشت معه كأخ، بل كأخلص، وأصفى، وأنقى صديق صادقته.... أحس بمشاعرها الصادقة التي لا يتسع لها صدر.... أيقظني من أفكاري صوت الأب...
-   كلي كاكه، اذا اكو شي كلي...
حين انتحيت بهما جانبا، انكمشت عينا الفتاة، وتضاعفت سنوات عمر الأب، منتظران الخبر!
-   كاكه، بكر كلشي ما بيه، يومين تلاثة ويجيكم!
-   ليش وينه؟
قلت له همسا...
-   التحق بالبيشمركة!
-   غير نشوفه؟!
-   كاكه اسمعني زين! بكر مسجليه بالقلم مفقود، الكل حسبالهم راح بالهجوم، فميريد يشوف نفسه لاحد هسه، حتى يبقى مفقود، بس اني بعيني شفته من هرب، وهو كلي راح يلتحق...
-   منو يكول؟ كاكه اكيد؟ شون اصدك؟
-   بعد جم يوم اذا مو اكيد، تعال عاتبني كاكه، بس لتكول لأحد!...
 وانا انظر الى عينيها حيث تتسعان وتنقبضان بحجم الكلمات التي انطقها.... آه!!....... كم كشفت عيناها، عمق الحب الذي تكنه له.... آه!!........ قتل الله من أراد قتل حبكما!!.... كلي أمل بأنكما ستلتقيان يوما!!.....


........................................

   


19

مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..


الورقة الثالثة
محمد القاسم
1983

ابراهيم كولان
ما ان احتل (العدو) مقر الفوج وانسحبنا منه، حتى أصبح جحيما من النيران التي صبت عليه، هدرت الرباعية المساندة التي الى الخلف، بصليات ثقيلة وكثيفة على سياجه، وبدات مدفعيتنا ترمي تباعا على ملاجئه ومصداته، بلا انقطاع، فاخذ يتصاعد منها الدخان الأسود وتتطاير أكياس الرمل..
ودرءا لكل الأقاويل بشان الانسحاب، ولئلا تؤول الأمور إلى المساءلة، توجهت الى مقر اللواء المتقدم، الذي يبعد ثلاثمائة متر عن هذا الجحيم، لاكون على مقربة لسماع ما يحصل من اخبار الجنود، لم أر أحداً من فصيلنا، يظهر بأنهم نزلوا الى الوديان وصولا الى الشارع العام، ولم ينسحبوا الى مقر اللواء، لخوفهم من محاسبة مقر اللواء لهم، او ظنهم بان العدو سيحتله أيضاً، لكن كان هناك جنودا من سرايا أخرى ملتجئين إليه، مكثنا بقية اليوم والليل مقلين من الحركة، نقتات من فتات وأمكنة ومنام جنود مقر اللواء....
ظهر اليوم التالي هجمت قوة من مغاوير اللواء لاستعادة الراقم، فباءت بالفشل وانتثروا في الوديان، عصرا شاهدت صالح قادما، وهو من جنود الفصيل، صاعدا السفح من الوادي، استقبلته ويده على بطنه:
-   ماذا بك؟
-   بطني تؤلمني من الجوع،
-   لماذا؟
-   حقا يقال بان الجوع كافر! لم أكن اصدق بانه هكذا..
-   ماذا جرى لك؟
-   سأقول لك...
جلسنا على حافة الساتر، واخذ يسرد لي ما حصل...
عند انسحابنا انا وبعض جنود الفصيل، نزلنا الوادي وسرنا مع مجرى جدول الماء في عمق الوادي لمسافة طويلة حتى الظهر، فاخذ الجوع منا مأخذاً، فصادفت حقل مزروع طماطة لكنها ما تزال خضراء وصفراء وصغيرة، قيل لي لا تأكل منها فهي غير ناضجة، لكني من شدة الجوع أكلت منها حبتين او ثلاث، بعد قليل بدأت بطني تؤلمني ألماً مبرحا، وصلنا الشارع العام وعند الجسر شاهدت جنودا كثيرين من وحدات أخرى وبينهم ايضا بعض الضباط الهاربين من المعركة، يظهر ان الفرقة الذهبية في خلال هجومها على الفوج كانت قد اكتسحت بطريقها، السفوح التي أمامنا وعلى جانبي الجبل، وتجمعنا جنودا كثيرين فوق الجسر، مكثنا هناك حتى الليل، لا نعرف ماذا نحن فاعلون، أضرمنا نارا ونمنا حولها حتى الصباح، نهضنا جوعى نفتش عن شيء نأكله فلم نجد شيئا، الا الحشيش وبعض البرسيم، أخذنا نقلب الأمور وكيف نتصرف، هل نهرب نهائيا؟ ام نلتجئ الى وحدات أخرى من لوائنا؟ هل نعود؟ هل ننتظر ما سيحصل؟ فجاء احدهم راكضا بهلع:
-   فرقة الإعدامات سوت نقطة سيطرة ورا الجسر!!
وجم الجميع، الهجوم أمامنا وفرقة الإعدامات خلفنا، وتلونت الأوجه بكل الألوان، أخذنا نجيل النظر هنا وهناك ونحن نضرب أخماسا في أسداس، وما هي الا لحظات حتى انتشرت قوة من انضباط الحرس الجمهوري حولنا وطوقت الجميع، من كانوا على الجسر وفي الشارع العام، وحول المكان كله، فقفزت قلوبنا، لقد تحقق المحظور! وقادونا كأسرى، أدخلونا عنوة الى قاعة فسيحة، وهم يتوعدوننا بالويل والثبور، بدا الخوف يدب في أوصالنا ها قد  حصل ما كنا نخافه، ومن ذهب في حساباته ابعد من هذا الى الإعدام! ومن يدري، كل شيء جائز في هذا الزمن! لكني واسيت نفسي، بأنه من غير المعقول إرسال مثل هذا العدد الكبير الى هذا المصير! مكثنا في القاعة صامتين، كامدي الوجوه، وإذا بقائد الفرقة يدخل الى القاعة غاضبا صارخا مهددا متوعدا، واخذ يهيننا، الضباط أولاً ثم الجنود، بعدها ادخل إلينا احد الأسرى من العدو، وهو قصير، نحيف، فحمله قائد الفرقة من ياخته ورماه امامنا قائلا:
-   اهذا يخيفكم؟!!!.. جبناء!
وانبرى صوت من نهاية القاعة!
-   عد عيناك سيدي!
-   اسكت جبان، لو بيك خير ما انهزمت!
وأردف متوعدا....
-   لقد اتصلت بالقيادة لإعدامكم جميعا، لكن القيادة رأفت بحالكم وسامحتكم هذه المرة، ستلتحقون بوحداتكم الآن فورا! وان تخلف أحدا منكم او صادفناه خارجا، او جيء به، قسما بالله العلي العظيم سأعدمه بيدي هاتين....
وختم المحاضرة برميه العصى بيننا...
-   يلا بسرعة (حواوين!)....
ونفضنا بسرعة غير مصدقين باننا تخلصنا من الإعدام بكلمة لطيفة جدا.....
ومن يوم أمس لم أذق شيئا، فقط أدخن السكائر بشراهة لأتحايل على بطني، ودرءاً للجوع، لأنهم هكذا يقولون، من يدخن لا يشتهي الأكل، لكن اكتشفت بان الجوع لا يفهم بالسياسة......
أعطيت صالح بعض الأرزاق الجافة التي خزنتها في قناع الوقاية، ومكثنا بانتظار بقية أفراد الفصيل.....
عصرا ونحن نحوم حول سيارة الأرزاق التي جاءت متأخرة، وإذا بآمر اللواء –العقيد محمد القاسم- يخرج من ملجئه، واجما مطرقا في غير هيئة، وجم الجميع حتى الحماية، انفض الجميع عن السيارة وتراكضوا هنا وهناك، كان وجهه شاحبا منصدما، وظل ساكنا لفترة، وهو يخط بعصاه على الأرض، مفكرا بقلق ظاهر..... تقدم إليه ضابط الاستخبارات، مندهشا من مرآه، همس له.......
-   اتصل بي السيد الرئيس!
-   معقولة؟ مرة وحدة؟
وسرد له تفاصيل المكالمة التي جرت.....
-   ابو جاسم شلونك؟
-   عد عيناك سيدي!
-   معنوياتكم شلونها؟
-   تنتظر اوامرك سيدي!
-   اخوي اخوي ابو جاسم، اريد الراقم من شاربك!
-   عد عيناك سيدي!
-   واليوم!..... ما اوصيك!..... اخوي اخوي!
-   اعتبر الراقم اليوم بيدك سيدي!....
قد يرسل فصيلا او سرية لتحرير القمة، ولكن ماذا لو لم تفلح؟ بعد ان فشلت قوة المغاوير......
اخذ نفسا عميقا ورفع رأسه وقد قرر أخيرا أمرا ما، استدعى الحماية ومقر اللواء، واخذ ينظر بالناظور ويرصد المكان، حين تجمعوا رمى الناظور وتكلم معهم بلهجة منكسرة....
-   الموت على هذه القمة أفضل من الموت في مكان آخر!!.....
-   وياك سيدي!
-   سأهجم على القمة بنفسي! من يريد ان يأتي معي؟!  
-   انا سيدي، جميعنا سيدي!
-   لا ليس جميعكم، أريد خمسة عشر جنديا فقط.
-   نعم سيدي!
كان من بين المتطوعين اثنان من الإخوة..
-   بس واحد منكم يجي.
استدعى رامي الدبابة ليوجز له المهمة، وعاد الرامي الى الدبابة متهيئا للرمي، اخذ آمر اللواء خمسة عشر جنديا من الحماية وساروا في الطريق الى القمة....
كان تفكيرا منطقيا، فإذا أرسل قوة وفشلت سيستدعى غدا الى القيادة ولن يعود، لكن حين يقود جنوده بنفسه، فليس هناك من أخطاء ترتكب، وان فشل الهجوم فللأمر مبرراته.....
المسافة بيننا وبين القمة لا تتعدى ثلاثمائة متر، ونحن نراقب المشهد بكل التفاصيل، ما ان سار آمر اللواء مع جنوده حتى بدأت الدبابة ترمي بكثافة على القمة زخاتا من القذائف، ليتعالى دخان اسود مع كل قذيفة، آمر اللواء وحوله الجنود على الطريق يسيرون، يقتربون لمسافة مائتي متر، ثم مائة متر، بعد ان أصبحوا على مقربة خمسون مترا، انتشروا حول السفح واخذوا يتهيئون لتسلق القمة، وحين أصبحت شظايا قذائف الدبابة تطالهم، أعطيت الإشارة لرامي الدبابة، فانطلقت من الدبابة قنابل الدخان الأبيض، فاختفت القمة ومن معها ومن حولها، في دخان ابيض كثيف، انعدمت الرؤيا فيه تماما، وتعالت صيحات الهجوم.... الله واكبر.... مترادفة مع زخات الرصاص والرمانات....
نجحت الصولة واحتل آمر اللواء مع حمايته الراقم، ثم سلمها الى سرية من فوج المغاوير للامساك بها، وعاد آمر اللواء ليتصل بالقيادة، مبشراً....
-ويا فرحة الـ ما تمت-، في منتصف الليل هجم (العدو) واحتل القمة ثانية.....
في اليوم التالي قدمت سرية قوات خاصة، استعادتها عصرا وسلمتها الى المغاوير، لكن العدو عاد وأخذها فجرا...
قدم فوج من لواء الحرس الجمهوري (المدينة المنورة) من السليمانية، فاسترجعها ظهرا، وسلمها الى سرية من القوات الخاصة.....
احتلها (العدو) في الثانية بعد منتصف ليل اليوم التالي....
لخمسة أيام متوالية بلياليها، النهار لنا والليل لهم.... وهي تنضح بالبارود والدخان والدم....
و كما قالها شنشل، أصبحت نقطة إيقاف الخرق.....
وعلاج ايقاف الخرق معروف عند قاموس القنابل الكيمياوية، لتستعاد القمة بعد أسبوع ونهائيا......

........................................





20
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة الثانية
عبد الجبار شنشل
1983

بعد معركة الشيب شرق العمارة بأيام، جاءتنا الأوامر بالاستعداد للحركة، إلى أين؟ لا نعرف! جمعنا أمتعتنا ورزمنا بطانياتنا وجلسنا فوقها بانتظار ساعة الشروع بالحركة، كان معي في الحضيرة نجم عبدالله من أهالي سلمان باك –بغداد- مواليد 1957 مربوع القامة، بسيط، متزوج وله ستة أطفال، ونحن جالسين على اليطغات قال لي نجم:
-   النقلة ستكون الى مكان مريح هذه المرة!
-   من اين تعرف؟
-   رفت وجنتي اليسرى!
-   الله يسمع منك...
وكانت نقلتنا الى منطقة فوق خانقين عشنا بضعة أشهر مريحة جدا، الماء والأرزاق تصل إلينا بالسيارات حد الملجأ، والمنطقة لم تسقط عليها قذيفة واحدة، لذا كنا نسير كالبشر معتدلي القامة، وكانت الملاجئ  عريضة، فلا نحبو داخلها كالزواحف...
بعد هذه الأشهر القليلة تكرر المشهد، جاءتنا الأوامر بالحركة، ولا نعرف وجهتنا، لكن هذه المرة، قال نجم:
-   نقلتنا هذه المرة ليست جيدة!
-   لماذا؟!
-   رفت وجنتي اليمنى!
-   فال الله ولا فالك!...
استقدمنا لنكون خطا دفاعيا فوق جبل هرزلة، وجبل هرزلة يطل على بنجوين يسند ظهرها، وأنت على قمة الجبل ترى بنجوين المدينة في أسفل الجبل، ونهرها الذي يتلوى كأفعى أمامها، وسهلها المزركش بالتلال الذي شهد اكبر معركتين في شهر تشرين الثاني عام 83....
حين صعدنا الجبل شعرنا شعورا غريبا، بأننا نذهب الى مكان موحش، وكأننا ابتعدنا الى مكان قصي بعيد عن الأرض، قال لي بكر وهو كردي من أهل السليمانية، بان هذا الجبل لم تطأه قدم بشر منذ زمن أهل الكهف، لذلك فهو جبل عفن، وبالفعل كانت ظاهرة غريبة، فهو المكان الوحيد الذي اخذ جميع الجنود يشكون من وجود القمل في ملابسهم، بالرغم من توفر الماء والنظافة، كما انك تشعر شعورا كئيبا في هذا المكان، في غضون أسبوعين من العمل الشاق المضني، ليل نهار أصبح الجبل الاجرد، مدينة عامرة، مطابخ، وملاجئ، وبدالة، وأسلاك، وطرق، وخنادق، وشقوق، ومراصد، ومخازن عتاد تحت الارض وحركة دائبة....
تتبين الأخبار بان أمامنا الفرقة الذهبية (للعدو) التي نتحسب لها اينما حلت، متحشدة للهجوم.....
سقط فوق رأسنا فجأة رئيس أركان الجيش، عبد الجبار شنشل بمعطفه الستاليني، وقامته الفارعة -وبالمناسبة حين كانت تتبدل الحكومات كلها، يبقى شنشل رئيس اركان الجيش، وحده لا يتبدل، كأنه خارج التغطية- نلتف حوله ونهمس فيما بيننا، لا بد ان المعركة ستكون شرسة، ما دام قد زارنا أعلى قائد في القوات المسلحة، في البداية تكلم كلاما أبوياً....
-   إخوانكم في الخطوط الأمامية على جبل حديد وما وراءه، سيقاتلون شهر الى أن يصلكم (العدو)....
نظرنا الى جبل حديد، فعلا المسافة شاسعة جدا، الى ان تصل الينا المعركة...
 لكن حين تكلم مع آمر الفوج، وكعادة حوار العسكر بين المافوق والمادون، كانت بشكل آخر، أشار إلى مكان ما في الوادي، مفترق ما بين القمتين....
-   سيهجم (العدو) من هناك!
-   نعم سيدي!
-   شكد مخلي قوة؟
-   فصيل واحد سيدي.
-   هي (اثول) مخلي فصيل واحد في مثابة الهجوم؟!
-   ما عندي قوة سيدي.
-   انت كلت واحنا ما انطيناك؟!
-   نعم سيدي.
-   يعني تظلون (زمايل)؟!
-   نعم سيدي!
-   خليلك سرية كاملة بالوادي!.
-   نعم سيدي.
-   هنا نقطة إيقاف الخرق! وأشار الى مكان بين قدميه، لا يجب ان يتعداها (العدو)، هل تعرف ماذا تعني؟
-   نعم سيدي!
وسكت وهو يجيل النظر في المرتفعات القريبة، وأشار الى ثلاث قمم فوق الجبل...
-   دتشوف الحلمات الثلاث ذيج؟
-   نعم سيدي.
-   هذه اهداف (العدو) الثانوية...
كنت اعرف ماذا تعني نقطة إيقاف الخرق، فحين يحتل (العدو) مكانا استراتيجيا يستطيع من وراءه قصف مدينة عراقية، او ان يكون منطقة مشرفة على مساحة شاسعة تتوزع فيها القرى العراقية، يسمى مكان ايقاف الخرق، ومتى تعداه، يضرب بالسلاح الكيمياوي حتما، وهذا ما شاهدته في دربنديخان وشميران وبنجوين، لكن بعد ان جرى ما جرى، تيقنت ان تنبؤاته كانت صادرة عن دقة استخبارية لا نمتلكها، هل كانت وراءها قوى أجنبية؟ لا اعرف!..
 حين غادر شنشل أصبح القاطع مكهربا، يعمل كخلايا النحل بلا راحة، عملنا بجهد خارق لا يعمله إنسان الا بالخلاص من الموت، طوال أيام وليال نحفر ونحفر، نحمل الأرزاق ونخزن الاحتياط من النفط الابيض، وأكوام العتاد الثقيل من كل نوع هدت ظهورنا وظهور البغال، صديقي المحامي حسين جعفر من أهالي الكاظمية وهو الهادئ المطواع لا تخرج كلمة غضب منه، حين عاد من الإجازة الدورية وهو حامل حقيبته والعرق يتصبب منه، اخذ يسب ويلعن يوم ميلاده، وكأنه يعلم مصيره، ويعسوب صاحب متجر في الاعظمية، حين جاء بالبغل محملا بأكياس من صواريخ عتاد الهاون 60 ملم، ما أن انزل الكيس المعبأ بالصواريخ من البغل، حتى رماه بكل قوته على الأرض، تراجعت خائفا:
-    ألا تخف من ان ينفجر؟
-   فلينفجر! أريد ان أموت! كفانا من هذا العذاب، ليس لنا من خلاص الا الموت!
مرت طائرة من طائراتنا المقاتلة من فوق رؤوسنا، عابرة الحدود الى أهدافها، وتكلّم الراصد مع الطيار مودعاً إياه بالتوفيق والسلامة، فراح ولم يعد، في المساء سمعنا بيان القيادة، بانكباب الطائرة وتحميل الجانب الآخر مسؤولية سلامة الطيار......
تبين بعد أيام بان الشهر الذي وعده لنا شنشل، لم يكن شهرا، فلم يصمد إخواننا غير عدة أيام، وإذا بالفرقة الذهبية تسكن الغابة المقابلة لنا بعد أسبوع....
أصبحنا الخط الأمامي، أرى إننا بانتظار معركة قاسية ومعقدة، بان ذلك من خلال الارتباك الواضح في القطعات، وأصبحت هناك حالات فوضى لا اعرف مصدرها، لأول مرة أرى سمتية (للعدو) تحوم فوقنا، وأخذت مدفعيتنا تضرب بعض الأحيان سرايانا، فيتصل آمر اللواء بالمدفعية أن لا تسندنا أبداً، وتتوقف عن الرمي، وحين جاءت سمتياتنا لتقصف قطعات ودبابات (العدو) قصفت جنود المغاوير وهم يتقدمون الى القمة، فطلب من طيران الجيش أيضا عدم الإسناد.....
على القمة يكمن مقر الفوج الأول، في فسحة محاطة بسياج (ساتر) من أكياس الرمل والحجر، لتصبح دائرة محصنة نصف قطرها عشرة أمتار....
في ليلة ظلماء وعند منتصفها ابتدأ (العدو) بالهجوم على القمة -مقر الفوج- وفصيلنا يبعد عنها الى  الخلف مائتي متر فقط، ونحن نرى تبادل الرمي من كلا الجانبين، جن جنون الرصاص المذنب والرباعية وقاذفات ال (آر بي جي7 ) بين الجهتين، حتى أخذت تصطدم ببعضها، وانا جالس في الشق، أرقب ما ستجلو عنه الأمور، سمعت آمر الفصيل يجيب على التلفون:
-   نعم سيدي! نعم، نعم سيدي!.....
خرج بعدها ليجمعنا ويقول لنا، تزودوا بعتاد الخط الأول والثاني والرمانات اليدوية وأي عتاد تستطيعون حمله حتى بالجواريب، خلال دقيقة واحدة فقط، لنلتحق بمقر الفوج، قوة إسناد، رد عريف الفصيل:
-   لكن كيف نلتحق بهم والمعركة محتدمة هناك الآن!
-   هذه هي الأوامر لا تناقش!
-   بل هو الموت المحقق سيدي بلا مبرر!...
-   الاستشهاد أفضل من الإعدام!.....
سرنا تحت ستار الظلام من خلال خسف محفور في السفح لنحتمي من القذائف، نفذنا الى الجهة الشرقية للمقر حيث لا يطالها الرصاص، الى ان وصلنا قريبا من السياج، وهرولنا مسرعين لنلتحق بالمطحنة، وقفزنا داخل المقر من خلال فتحة في السياج، استقبلنا احد من حماية آمر الفوج:
-   لتخافون ماكو شي همّ جم واحد!
-   اذا جم واحد ليش طلبتو اسناد؟
ننقل خطواتنا في الظلام ما بين جثث أصدقائنا الجنود الذين استشهدوا، وهي ملقاة على الأرض، ولا وقت لإخلائها، انتشرنا بين المصدات، وأخذنا أماكننا لنتبادل الرمي مع (العدو) طوال الليل.....
في الصباح وإذا بحسين أرْيَلْ الواقف بجانبي –اسمه حسين حامد، نسميه حسين أريل لطوله الفارع- يصرخ بان جنود العدو تتقدم، نظرت باتجاهه، فإذا بأحد جنود العدو على مقربة عشرة أمتار فقط، يتقدم بقامته المديدة، وهو يسير مائلا (جانبيا) ليكون انحف، وكيس الرمانات في جنبه وكأنه يتمشى في الشارع العام، سدد إليه حسين أريل البندقية وافرغ مخزنا كاملا عليه، فلم يصبه، ثم ناولناه مخزنا آخر، وأفرغه أيضا، والعجيب انه لم يصبه، وظل يتقدم! وإذا بحسين أريل يرخي البندقية، ويضع الحمالة على كتفه، ويقول للجندي:
-    مع السلامة أخي!
وينزل بعدها هاربا من القمة، استطاع هذا الجندي ان يعبر الساتر، ويقفز في احد المراصد القريبة إليه، ويرمي الرمانات بيننا، تراجعنا إلى المرصد الآخر، وأخذنا بدورنا نرمي الرمانات خارج الساتر، فصرخ بكر، جندي آخر من العدو احتل المرصد الثاني، وإذا برمانة أخرى بيننا، من خلال الدخان الأسود الكثيف رأيت احدنا يستلقي بلا حراك، وصرخ الآخر مصابا، وتراجعنا مرصدا آخر، عندها شاهدت آمر الفوج يخرج من ملجئه متسائلاً، ليخبره جندي من الحماية بان المعركة أصبحت بالرمانات، فتناول بندقيته ونزل هو والحماية من الفتحة هاربين، وقف احد الحماية في الفتحة، لا يدع أحداً يخرج، وهو يهدد بالإعدام لكل من ينسحب، انفجرت رمانة أخرى قربنا فولى هاربا، وما زال يهددنا وهو يهرب! مكثت عند فتحة السياج، متحسبا من وجود حماية آخر، حينها نزل جماعة الرباعية الذين كانوا أمام المقر وخرجوا منسحبين، ونزلت معهم، ثم نزل الجميع خلفنا، شاهدت صديقي بكر يتجه نحو الوادي ملوحا لي بالوداع – حيث هرب ومن يومها التحق بالبيشمركة- وانا في الطريق متجها الى مقر اللواء، رأيت صديقي نجم ما يزال مع حضيرة القاذفات اربي جي7  التي تسند ظهر المقر، والتي ما زالت ترمي، همست لنجم....
-   لك نجم انسحب ويانا! 
-   أخاف عمي ما انسحب، سأظل مع الجماعة.
-   لك لتخاف كلهم انسحبوا، بعد شويّة راح يحتلون المكان، وهي تنلاص!
-   عمي صاحب ست جهال، يْعدْمونا والله، عوفني، روحو، الله وياكم...
سرت وانا انظر خلفي وأشير الى نجم ليلتحق معنا، قبل أن ابتعد كثيرا، شاهدت نجم يقف خلف احد رماة القاذفة، الذي رمى القذيفة دون ان ينظر خلفه، فأصابت الهبة النارية وجه نجم، فاخذ يدور مختنقا حد الموت، وهو يصرخ... الله اكبر... الله اكبر...
وسقط نجم، واخلي الى المستشفى، ورحمه الله بعد ثمانية عشر يوما في المشفى....


..............................


21
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..

الورقة الأولى
عباس كآبة
1985
من خبرتي في الجبهة، ولكثرة ما خضت من الهجومات، أصبحت اعرف تقاليد (العدو) وتحضيراته لما قبل الهجوم، وكانت لي دلائل أربعة ليكون الهجوم كبيرا وأكيدا.....
اولا-  قبل ايام من الهجوم تظهر طوال الليل أضواء السيارات، من عمق أراضي (العدو) ولكن خارج مدى المدفعية، متجهة الى الجبهة لتحشيد قطعاتهم، وقد تكون كذلك للتمويه بالانسحاب.
ثانيا- بعد يومين او ثلاثة، يسكن كل شيء من جانبهم، يفرض الصمت اللاسلكي وصمت المدفعية، وتوقف الرمي وأية حركة، حتى وان أمطرناهم بالقنابل والمدفعية، لا تخرج منهم أية نأمة، لئلا تكتشف أماكن تحشداتهم او نوع اسلحتهم وتواجدها.
ثالثا- مجيء طائرات الاستطلاع العائدة لنا في الصباح التالي، تحوم حول المرتفعات المطلة لتستكشف الجبهة، هذه كلها تحققت واستكملت هذا الأسبوع، واليوم صباحا ودعنا أزيز الطائرات قبل ساعات.
يبقى الدليل الرابع- وهو مجيء قوات الهجوم المعاكس لتعسكر خلفنا، وتكون من خيرة قطعاتنا للصولة على (العدو) بعد ان يحتل القاطع، قبل ان يتمركز ويثبت أقدامه، وهذا يكون الدليل الأخير والأكيد بان المعركة، الأسبوع القادم، وهذا الدليل (الرابع) لم أتأكد منه بعد حتى الآن! وكوني في الخندق الامامي واجازتي الدورية تستحق بعد اسبوعين، وعليه يجب ان أمر الى القطعات الخلفية لاستقصي الأمر، لذا أخبرت رئيس عرفاء السرية، باني سأذهب اليوم لجلب النفط الأبيض للتكديس، من مقر الأرزاق الخلفي فوافق.....
في منطقة آمنة خلف قاطعنا تأتي أرزاق السرية، الى مقر الأرزاق في أسفل الجبل، سرجت البغل، وعلقت جليكانات الكاز الابيض الفارغة في السرج، ثم ركبت سمير الطريق، نازلا الى مقر أرزاق السرية، الذي يشرف عليه عباس كآبة، وقصة عباس كآبة في الحصول على هذا المنصب الخلفي، فهي كما يلي:
عباس احمد صديق جندي احتياط من مواليد1960 من أهالي كركوك، أصبح معروفا بكنيته عباس كآبة في كل الفوج، فحين استقدموه للمرة الأولى الى المتقدم، وهم لا يعرفون بأنه مصاب بكآبة انفعالية حادة، أعطي أزميلا ومجرفة كالعادة ليحفر الخندق مع الجنود، فكان كلما يغضب وتأتيه الحالة، يرمي بالأزميل والمجرفة بوجه أي كان من الجنود، وحتى على آمر السرية اذا تواجد في اللحظة، ويظل يصرخ ويصيح ويعربد، فخاف آمر السرية ان يصيب احدا من الجنود او يقترف جريمة ما، فوضعه على الأرزاق تخلصا منه، واخذ وعدا منه بان لا يرمي الأدوات على البغال حين تأتيه بالأرزاق صباحا... ولكن ظلت البغال والجنود تتحسب له، كلما نزلوا الى الأرزاق....
وصلت عباس كآبة، والشمس نزلت خلف الجبل..
-   ها عباس شنو الأخبار؟
-   اليوم  صباحا عسكر خلفنا وراء البحيرة لواء 68 قوات خاصة!
صرخت في سري، ها قد تحقق الشرط الرابع للهجوم الأسبوع القادم، وإجازتي الدورية بعيدة..
رميت الجليكانات أمامه بغضب، وقلت له أعطني النفط الأبيض بسرعة قبل ان  يحل الظلام، فنظر الي عباس وهو شخص ودود، صافي السريرة في الأحوال الاعتيادية، افهم طيبته من الداخل، واعرف خفاياه، وهو في المقابل يعرفني حق المعرفة، ويكن لي احتراما كبيرا دون غيري من الجنود، قال لي:
-   أريدك ان تبقى معي الليلة نسهر معاً..
-   وأنا بودي كذلك، ولكن سيعاقبني امر السرية ان تأخرت..
-   انا سأتكفل بآمر السرية، فهو صديقي ويسمع كلامي، ونبقى هنا ندردش ونشرب الشاي، وأنت ترتاح من الواجب في المتقدم، ومن الدوريات القتالية..
-   فليكن اذا استطعت!
فأدار عتلة التلفون الأسود، ليتصل بآمر السرية، وتبدأ -الكلاوات-
-   سيدي أعطيت النفط الأبيض لإبراهيم، لكن البغل النحس رمى الجليكانات في الوادي!
-   في الوادي؟ كيف؟! هل ضيعتم الجليكانات في الوادي؟
-   لا سيدي! ابراهيم المسكين، نزل الوادي وحملها واعادها الى مقر الارزاق.
-   والبغل؟ اهم شيء هو البغل، اين هو؟
-   البغل بخير ومعافى، وبصحة جيدة، فلا تقلق عليه، لقد ركضت خلفه وأمسكته وربطته..
-   عفيا عباس كآبة!
-   سيدي قد حل الظلام وسيبقى ابراهيم عندي الليلة!
-   لكننا نريد البغل من الصباح الباكر لجلب الأرزاق!
-   وهو كذلك، سيجلب ابراهيم معه الجليكانات والأرزاق أيضا، من الصباح  الباكر الى السرية..
-   على مسؤوليتك!
-   نعم سيدي!
جلسنا في الملجأ الدافئ، والقوري فوق الجولة، واخرج عباس مجلات الأسبوع العربي والدستور وألف باء، وشغل المسجل وهو يقول...
-   كلما انزعج او يصيبني الملل اقرأ المجلات، واسمع المسجل فتذهب الكآبة عني، وحتى ان تطلب الأمر وأصابني الضجر بمنتصف الليل، اخرج احفر او اعمل أي شيء لألهي نفسي، ولا ادع التوتر ينال مني.......
-   وهكذا انت طبيب نفسك أيضا، المريض الذكي هو طبيب نفسه....
-   وقد استطعت ان اخفف الحالة بهذه الطريقة.
-   انت ذكي وشهم أيضا يا عباس!
اخرج عباس حبوبا صغيرة بيضاء وقال، هذه الحبوب للانشراح، وهذه للفرح، وهذه للضحك، خذ منها حبتين، وسترى نفسك تضحك وتضحك كثيرا، فأخذتها نزولا عند رغبته، اعرف انها لا تضر وهي للتهدئة، لكني تناولت واحدة ورميت الأخرى، لأنني لست معتادا مثله على تناول حبتين، فأخذنا نضحك على أنفسنا طوال الليل، فاجأني عباس....
-   هل تريد ان تذهب بإجازة هذا الأسبوع؟
-   لكن إجازتي تصادف الأسبوع الذي يليه!
-   سأخبر آمر السرية ان يقدم إجازتك أسبوعا!
قفزت من الفرح!  واحتضنت عباس كآبة وقلت له:
-   يجب ان نكون أنا وأنت هذا الأسبوع مجازين، وإلا.....
-   على شرط ان نلتقي بكراج كركوك، وتجلب اجازتي معك، لأنني سوف اذهب بعد غد بدون نموذج...
صباحا تسلق الجبل معي عباس كآبة ودخل الى امر السرية ...
-   سيدي! ابراهيم ابن ولايتك من الموصل، وما متقدم اجازة ابد!...
-   صحيح؟! ولا يكلي آني من الموصل،  حتى أدز وياه رسالة للبيت، صيحلياه....
وعملها عباس كآبة.... وخلصني من اعتى هجوم هذه المرة..........
..............................

22
تبجيل القوي شيمتنا
والعنف بعض سجايانا
                                                                                                                                ابراهيم كولان

نحن المروضون على الخنوع للقوة فعلا وإنكاره قولا، نحن قوم يجل القوي ويحترم العنيف، وفي نفوسنا تقبع القسوة، حين نقتدر على قتل المختلف عنا نقتله، وان اقتدرنا على مسامحته لا نفعلها، نحيد عن العقل والمنطق في كل فعل يخص وجودنا كجمع، دون وعي منا، حتى وان كانت تضر بمستقبلنا، وكل ما نقوله ونتبجح به عن المبادئ يذوب أمام أية تجربة تمس أنّاتنا، (عدا نسبة العشرة في المائة)*، وكجماعة غير مؤهلين للقيادة الناجحة بل للانقياد، وكافراد، لا نحترم المتواضع والمطيع ومن يسدي إلينا الجميل، ننسى بسرعة من يساعدنا ونتذكر بسرعة البرق من نخاف منه....
 هل تريدون برهانا لكل هذا؟! السنا نشّبه الرجل الذي نعجب به بالأسد، وحين نستخف ونستهزئ به، نشبهه بالحمار؟ أليس كلاهما من الحيوانات؟ هذا لأننا لا ننتج الوعي، بل فقط نستهلك ما يأتينا مما سبق، ولا نصنع القرار بل نتلقاه من غيرنا، لأننا نسخ كاربون تستنسخ، والة تسجيل تعيد المكرر...
وإلا فقل لي لماذا لا نتمحص ما يصلنا من الآخرين، ومن العرف، ومن الأقدمين، وما كتب وما يكتب، وما الذي وصل لنا من كلام حول من هو الأفضل في كل مناحي الحياة عبر التاريخ، الحمار ام الأسد؟! وما خصال الأسد غير القوة والقسوة وبقر البطون وقطع الرقاب وتمزيق الأشلاء! وما خصال الحمار ألا الطاعة والهدوء والمساعدة والعون والركوب والحمل والسحب! فلماذا نتشرف بان نتشبه بالأسد ولا نتشرف بالتشبه بالحمير؟ وماذا فعلت الأسود عبر تاريخ البشرية من فعل حسن لنتفاخر بالتشبه بها؟ وكم من الناس كانوا ضحايا الأسود؟ أما الحمار فكان الصاحب والسمير والنديم والعون والساهر معنا في الليالي المظلمة، وفي كل الأعمال وحمل الأثقال؟! ومن ساعدنا في بناء الحضارة الإنسانية إذن؟! اليس على ظهور الحمير بنيت الحضارات؟! وعلى ظهور الحمير نقلت أحجار الأهرامات وحمل تراب الجنائن المعلقة، والحمار عوننا في بناء البيوت وأعمال الزراعة، ونقل البيادر وأعمال الحرف، والسير لمسافات، ومن كان لنا سمير التنقل والترحال، والسحب والجر والمواصلات، في كل زمان ومكان؟!  هل تريدون برهانا على اننا لا  نحترم شخصا الا خوفا من غضبه، ولا نقدر صديقا الا لنفع منه، وكل ما ندعيه من اخلاق مجرد ادعاء ومغالطة وخلاف الحقيقة، وكل ما نعلنه من تسامح ورحمة، هراء يفتضح أمام اقل تجربة تتعرض لها الانا التي نملكها، لم ينصف الناس من أعانهم في حياتهم وانكروا جميل أفعاله، وكالوا بالعز والفخر للذي قتل أبناءهم، وخرب طمأنينتهم، وادخل الخوف إلى قلوبهم، كل هذا بسبب أن الناس تحترم وتجل القوة والقسوة والقتل، وها هي تماثيل الأسود الكاسرة مصاصة الدماء، قاتلة الأنبياء (كما في دانيال النبي في الجب) ترفع في كل الميادين والساحات، ترسم صورته على الرايات والأعلام والإعلانات والشعارات وواجهات البنايات، ولم نصنع تمثالا واحدا، للمجد والعامل والمساعد والخدوم والمطواع والمسكين والذكي والمتواضع، والمتأمل  والصبور والعفيف وآكل الحشيش، البطل، الزاهد، الحمار، أليس هذا برهانا على أننا نجل القوي ومن نخاف منه، ونتنكر للمتواضع ولمن يسدي لنا الجميل! وفوق كل هذا وذاك ندعي العكس تماما، وإلا فماذا تقولون؟؟!!....
..................
*باحث في علم الباراسيكولوجيا يقسم المجتمع الى 80% اناس سلبيين يسميهم وليم فالكير (خراف البشرية) و10% الحثالة من المجانين والشحاذين والمرضى، و10% هم القدوة او المتقدمين او الطليعة!! وقد جرت استفتاءات في جنوب شرق اسيا لنسبة العشرة في المائة هذه وخرجت بنتائج متطابقة.... كتاب قدرة الفكر في الحياة العلمية-تاليف وليم فالكير-....


23


الديك الفصيح من البيضة يصيح...
 فاكهة.. وألغام..

ابراهيم كولان



(أبو سمرة هي كنية عباس عاشور، سمي كذلك لان بشرته داكنة وهو من أهالي البصرة، عرف بشيمته ومزاحه المستمر مع الجميع، وقفت على مرتفع انظر إليه وهو يفتش في هوية الجثث، كان يبتعد عني بضع عشرات من الأمتار، ناداني، تعال لطيف! وهو يقرا قرص الهوية المعلق على رقبة إحدى الجثث.. لك هذا من جماعتك)........
هكذا يستهل لطيف نعمان قصته الموسومة - زيا من قوم عيسى - ضمن الإصدار الذي ننبش فيه الآن، (فاكهة... وألغام)  -مجموعة مقالات مختارة – وبأسلوب سلس بسيط يستمر بسرد قصص الحرب.....
(بعد أسبوع من إيصال جثة زيا إلى أهله، وفي أول إجازة، قصدت الموصل لأشارك أهل زيا بمصابهم الأليم، وعندما دخلت الزقاق لمحت من بعيد قطعتين سوداوتين، اقتربت منهما، عرفت ان احداهما للمرحوم زيا، والأخرى لوالدته وردية ابراهيم، التي توقف قلبها حال مشاهدتها جنازة ملفوفة بالعلم العراقي فوق سيارة أجرة تقف أمام بيتها).....
في قصصه تسجيل وتوثيق لشخوص حية تتجول حوله، وأماكن ينتشلها من الذاكرة لتتشظى لحظات وجدان، تلك العواطف التي لا يجب ان تنسى، تتنازع في نفسه هذه الخلجات نحو الإعلان عنها بأسلوب سردي سلس، لطيف نعمان، درامي بالدرجة الأولى، كاتب ومخرج مسرحي، عرفته بغداد سنوات السبعينيات، عضوا نشطا وممثلا في فرقة المسرح الشعبي، ومخرجا ومؤلفا في ما يقدم من مسرحيات في النوادي الثقافية السريانية، التقيت به أول مرة وهو يخرج مسرحية للأطفال في نادي أور العائلي، مذ رايته توسمت فيه الطيبة والالتزام بالقضايا الإنسانية، في تلك الأيام العاصفة بالخوف والهلع من حبل الرقيب، كان لطيف، الديك الفصيح، أيام قل فيها من يصيح، ومنذ البداية كان يصيح، وما زال إلى الآن، الكلمة عنده موقف والتزام، وروح ويصونها، الكلمة عنده، لؤلؤة ثمينة يرعاها يصوغها، يهذبها، ويغلفها بشغاف قلبه، ثم يرميها بذرة في ارض خصبة.
اما أبطال قصصه، فهي شخصيات حية تسير معه في الزقاق، تناجيه ويناجيها، يشم رائحتها أينما تكون، يعرف أماكنها، وتستدل أماكنه، وهو يسير هائما مع نجواه، تحضر أمامه وتقاسمه الغصة وحشرجة الدموع....
(ذهب رحيم بابان إلى الطبيب ليقلع ضرسه وسنه، قال له الطبيب لكن أسنانك سليمة يا بابان، فرد عليه، أنا عازف على الآلات الهوائية، ولما كان العزف على الناي باللحن الفارسي، يتطلب إخراج الهواء من بين الأسنان، وتثبيت الآلة الموسيقية، سأضحي بالسنين من اجل ذلك، لأني أحب العزف على اللحن الفارسي)....
لا يغفل جمرة المشاعر حيثما تكون، يفتش عنها إلى ان يلقاها ويبلورها ويلقيها نبضا حيا...
اما ذاكرته فتختزل كل اللحظات النابضة التي عاشها في الحرب والحصار والملمات، انه يبوئر الحالة الوجدانية، بكلمات تنزف مشاعر جياشة بالحب والحميمية ....
وعن أيام الحصار حين كان رغيف الخبز يشترى بالدموع، يسوق حكايته ....
(نسوة ادعين بأنهن حوامل، وقمن بالحصول على كمية من بول النسوة الحوامل، لإغراض التحليلات، لإثبات ذلك، ولغرض الحصول على الأرزاق، وقد وصل الأمر إلى حد بان بعض النسوة الحوامل، قمن بوضع بولهن في قناني صغيرة، لبيعها أمام بوابات الحكاية التي كادت ان ترمي بخجل وحياء الإنسان جانبا، بفضل الجوع الرهيب)....
انها فنطازيا ولوحة سريالية بلا تزويق أو زخرفة لفظية بل روحها فقط هي جواز سفرها....
يقتنص اللحظة الدرامية ويضعها امام عدسته، يكثف موشور العاطفة التي تعصف بقلمه إلى موانئ تنبض بالحياة، الإحساس السامي يحيله إلى لوحة تشع مرايا لصقل الوعي، فالكتابة عنده طقس مقدس لا يجب ان تحيد عن واجبها المقدس، وكأن الكون ينفلت إذا لم توضع الكلمة في مقامها، الكتابة عنده قوة روحيه تنتشله من غربة نفسه امام العالم، الالتزام ينتشله من اللامنتمي الموجود في داخله من العالم المتشح بالغربة....
(فاكهة وألغام.... قصة القرية السريانية، التي تغفو على ثغاء الماعز، وحكايات الشيوخ، وتنويمات الأمهات للصغار، وتصحو على صوت الديكة..... تصحو القرية ذات يوم على رصاص الأنفال، وشروق الدم بين بساتين الكروم، وصراخ الأطفال والصبايا، في فجر احمر مخضب بفاكهة الرمانات اليدوية...)....
انها ذاكرة لا تغفو الا على حافات آلام الإنسان...
تمتد اشتغالات لطيف في إصداره هذا الى ان يطرق الأبواب تاك....  تاك.... ليبث حيرته، عل أحدا يشاطره همومه، وعل أحدا يشد بيده ليزيل هموم الأوطان، والسياسة، والذكريات، والواوات تحاصره من كل جنب، وعندما تبتلع السياسة الثقافة والفن يهيم بالتساؤلات التي لا تنتهي ولا يمتلك إجاباتها، وربما لا يمتلك غيره الإجابة عنها، وتظل طلاسما تطرق أبوابنا من الصباح حتى المساء...
تقديسه المسرح والمسرحيين يبان من خلال كل حركة يؤديها على خشبة المسرح تمثيلا او اخراجا، ويبكي بحرقة وألم في مراثيه المفجعة، أصدقائه الراحلين عادل كوركيس، بهنام ميخائيل، عوني كرومي، ويسحبنا إلى ذكرياته معهم  ويسحب دموعنا قسرا من مآقيها على رحيلهم مبكرا ...
من مؤلفاته المنشورة أيضا، في هذا الاصدار، مسرحية للأطفال -مسرحية الشجرة والشمس-خاصة بمسرح الدمى، من ثلاثة مشاهد، مسرحية توجيهية للأطفال، وفيها صراع الخير والشر، بين الشجرة والريح والتشبث بالجذور من اجل ان تبقى الشجرة وتذهب الريح بعيدا...
ومرة أخرى يحيلنا إلى المعضلة القديمة الجديدة، الغائبة الحاضرة، أزمة النص المسرحي، محليا وعالميا، ويحاول ان يبسط أمامنا  شكلها وماهيتها...
انه يلملم أطراف نفسه ويسير بها بين ثنايا الأزقة والحارات، يحاول ان يغزل ويحوك ويرتق ما بلي من ثوب نسيج هذا المجتمع الذي يحيا فيه، عن منظمات المجتمع المدني، عن السياسة، وعن الهفوات والمطبات هنا وهناك، في اطراف الجهل والوحشية التي تقبع في ثنايا الرؤوس....
يبقى لطيف يحكي حكاياته بعيدا قريبا عن تقنيات السرد وأدواته، لغة وعمقا واسلوبا، لكنه يحكم مغاليق الوجدان والتشويق، والحبك....
أخيرا نقول، قليلة هي الأقلام التي تذيب نفسها من اجل الكلمة، ولا تذوب مثل قطعة ثلج في حفنة تملق... ولا تقف امام تقادم الزمن إلا تلك الأقلام التي تنبض بالمشاعر الإنسانية، اما الأقلام التي لا تتشظى بلحظات الألم والوحشية، وربما لا تمتلك مجسات ومحسسات لها، أو تزخرف نفسها بالتزويق اللفظي، أو تلك التي تدخل سوق الأنا، فلن تقف امام تقادم الزمن وان كبرت وتعاظمت  أسماؤها.......
ويظل كما رايته لأول مرة، لطيف نعمان، المؤلف، والممثل، والمخرج المسرحي، والكاتب، والصحفي، والمثقف، والإنسان....
 

24
المنبر الحر / شكرا لنادلة بغداد
« في: 19:11 13/05/2012  »
شكرا لنادلة بغداد

ابراهيم كولان

كنت متحذرا وخائفا حين سافرت إلى بغداد قبل ايام، من أحداث العنف الجارية بين فترة وأخرى، سرت في شوارع بغداد وعرجت على شارع المتنبي كالعادة، وتصاعدت في نفسي الذكريات، وأنا أمر بين أكوام الكتب والمكتبات، والحنين يقودني من كتاب الى كتاب، إلى ان كلت قدماي، وخفت من ان لا أجد مكانا في هذه الظهيرة ألوذ به، وأروي روحي الظمأى، اتصلت بأحد أصدقائي القدامى، الذي طالما تجاذبنا السجالات، أيام زمان في بارات أبي نواس، ففرح كثيرا وجاء برفقة صديقنا الآخر، وهو أيضا صديق التسكع بين حانات شارع السعدون في نهاية السبعينيات، فشكيت لهم حالي، لكنهم طمأنوني هذه المرة، بان هناك بار، في منطقة شارع السفارة –سابقا- مدخل الكرادة، نروي ظمأ روحنا من مثل هذه الجلسات فيه، فتنفست الصعداء، لا من اجل الشرب وحده، ولكن هذا أول إشارة إلى حصول بعض الأمان في بغداد، ودخلنا ثلاثتنا إلى البار، هناك عدد من الرواد الجالسين، منهم من يلبس العقال ومنهم الأفندية، أخذنا مائدة وجلسنا منتظرين، فأقبلت علينا نادلة تتهادى في مشيتها، لم اصدق عيني انني في العراق، وقفت قبالتنا وببسمة عرضت علينا ما عندهم ليقدمونه، وأنا أتأملها فرحا، لا لأنها أنثى جميلة، ولكن شعرت بان نسمة من حضارة مرت من هنا -دعوني من الإجابة على سؤال عن تزامن الحضارة مع وجود النادلات- مع علمي بأنه، لا وجود لبلد متحضر يخلو من نادلة، ولا وجود لنادلة في بلد متخلف...
وتأييدا لكلامي، رأيت بان الرواد الجالسين كانوا في غاية الأدب، فقد تعلموا وتعودوا لمثل هذا الاحترام الذي تقابلهم به النادلة في طلباتهم، بعد أن فرغ الكأس الأول ناديتها من جديد لتسقيني كأسا آخر، قلت لها شكرا، فابتسمت وكأني بها تقول لي، لقد تعودنا على مجاراة الثملين أمثالك، عرفت ما يجول بخاطرها، فبادرتها بالقول، أنا لا أغازلك، ولا أشكرك على جمالك، ولكنني شاعر بالفرح هذه اللحظة، فلو اني شاهدت كتيبة من الجيش هنا، ما شعرت بالأمان، كما شعرت به حين رايتك، انك دليل على فراغ المكان من التعصب والإرهاب والتكفير، إضافة إلى انك الآن تمثلين رمز حرية الآخر، ورمز الحرية الشخصية، وحرية العمل، فإنهم حين يريدون كبت الحريات يقولون قولة حق يراد بها باطل، فيبدأون بتقويم الاخلاق حسب زعمهم، باكوام من الممنوعات التي يتراكم معها الفساد، ولكنهم لا يدرون بان الكهرباء أيضا (تنتل)، فكل شيء يحتمل المنافع والمضار، بحسب استخدامه، يبدأون بقتل حرية الفرد أولا لينتهوا بقتل حرية المجتمع في النهاية، لتبدأ الدكتاتوريات والنكوص الحضاري.....
وحين ودعت الحانة لم انس ان اشكر النادلة للمرة الأخيرة بقولي، انك الآن وفي نقطة التحول الصعبة هذه، تناضلين أكثر من أي واحد منا، من اجل ان لا يقترب من هنا غول القرون الوسطى...



صفحات: [1]