1
المنبر الحر / مذكرات- أوراق من دفتر الحرب- الورقة 21 - ام عباوي
« في: 13:26 19/05/2013 »
مذكرات..
اوراق من دفتر الحرب..
أتوحد مع نفسي في هذا العراء فأسبح في صمت هذا الليل البهيم، وكما الإنسان القديم، أبحلق في السماء، أرصد مواطن الأبراج، واعين مساقط الأيام، وأحول مناجاة النجوم الى تقاويم وروزنامات الحياة، وأصوغ من تداور الأقمار منازل الطقس والسحر و والغموض…
في ليلة بلا قمر، يرصع الظلام فيها عددا لا حد له من نجوم تتلألأ، اقسّم صفحة السماء الى أربعة، واقسم الرابع الى أرباع، حتى أصل الى جزء صغير يمكن عدّ نجومه، لكنها محاولات فاشلة، فالأعداد الهائلة من النجوم الصغيرة تضيع كل حساباتي، ثمة نجمة تمر، أتابعها حتى تتلاشى، وتأتي أخرى، وبينما انا في عزلتي القصوى، فإذا بصوت رفيع يقتلعني مع جذوري فأصحو على لا شيء، ثم يعود الصوت مرة أخرى، كأنه صوت رضيع او وليد يبكي، او ربما هو صوت يهبط تواً الى هذه الأرض، أتمالك نفسي، ثم أتخلص من أوهامي، وابحث عن صباح جديد....
ويترادف الليل ثانية وثالثة ورابعة... أناديهم!....
- يا هالربع!.... من يقف مكاني في المناوبة لأورد عين الماء؟!....
فاصطحب معي سميري البغل احمّله جليكانات الماء وننزل السفح سوية، يحلو لي الخروج مع البغل والاختلاء مع العراء في هذا الليل، ليخلصني من أوامر الجند، فاطيب لي ان أكون مع البغل سيدا، من ان أكون مع الجند بغلا.... في النهار أسير أمامه، اما في منعطفات هذا الليل ومنزلقات أحجاره، فيسير هو أمامي ليكون دليلي، لا اعرف هل هو والليل صنوان؟ ام ان غريزته النهارية تعينه عليه... كلانا نقف في خشوع امام رهبة الوادي المظلم، وصراخ هدير الماء لنشرب كلانا من العين، بقدر ما تحمل همسات الليل من نجوى شاعرية، تحمل من الخوف المزجج بحركة وحشي شارد او عدو يتنصت، فاسمع صوت قطة وحشية تقفز نافرة من السفح فوق رؤوسنا الى الوادي كالبرق، فأهيئ بندقيتي تحت كتفي واسحب الأقسام لأضغط على الزناد ان هي مست صاحبي او أنا، نملا الجليكانات ثم نأخذ طريقنا الى الأعلى، أسير خلفه مطمئن البال حتى أجد نفسي عند حافات الملاجئ....
تنثال في الليل بيني وبين البندقية أصوات أمي والجيران، تحمل حكايا الجند وحكايات الأمهات المسفوحين أولادهم في الجبهات، ام مهدي تحكي لأمي، وام نشمي تحكي لأمهات الحارة....
- مهدي مع ابراهيم اخوان من أبوين، الفصيل والسرية، يتقاسمان الزمزمية والرصاصة.
- امس شاهدت طوابير التوابيت وهي تخرج من نقطة الشهداء!..
- يا ما رأيت الجند يتزاحمون عند دخولهم مقبرة الجندي المجهول...
- نشمي بالقوات الخاصة احتفل ببتر قدمه، اذ لم يسمح لدخول الحفل الا طلقات المغاوير.
- ارى عند الجيران قلق الهاربين وقلق اهلهم يتنامى مع ترنح الحبال وهي تحمل أسماءهم واحدا واحدا....
- مطر في الجبهة لا يقف في الطابور الطويل الممل، بل يقدمونه الى الأمام في كل مرة يبدأ فيها الهجوم....
- من أين يأتون بكل هذه الأعلام وهي تلتف حول أجساد الجنود؟!...
- في منتصف أسبوع العسل قطع ابني إجازته ليلتحق بالذين قبله...
ويحكون عن مراكز تسليم الشهداء.... وعن التسفيرات والانضباط وفرق الإعدام، وعن الشقوق، والخنادق، والملاجئ والخوذة وحقيبة الظهر وقناع الوقاية... وعن معاول تجرح الأرض، ومطارق تهدم البنيان...
فتصرخ ام علاوي!..
- الى متى؟!
فيجيبها مضفر النواب
الدنيا غرشه وصم تتن
وندور بيها ونلتف
ايام المزبن كضن
دكضن يأيام اللف
بغداد تستعد لاحتفالات الميلاد، في نيسان تتسابق الدوائر على صناعة اكبر كيكة لميلاد الضرورة، والرفاق يطرقون الأبواب للتبرع، وأحباب القائد ينشرون تهانيهم للقائد على صفحات الجرائد، وتنتشر في الشوارع والحارات والأزقة أناشيد..... العزيز انت..... عشرات الآلاف من الطلبة والموظفين اجبروا على السير قطيعا واحدا لسماع خطاب الضرورة، وهو يرسم طريق المستقبل المشرق، والمحامون وأساتذة الجامعات سيقوا الى الجيش الشعبي لتحرير شيب ابهاتهم....
الثلج على ارتفاع ثلاثة أمتار يغطي السفح، لا شجر ولا حجر ولا طريق، لا تعرف أين مواقع أقدامك، ربما ستنزلق في واد لا تعرف نهايته، حاملا صناديق المعلبات على كتفي، وبسطالي يغوص بالثلج، خطوة الى أعلى وخطوة الى أسفل، صاعدا سفح الجبل الى القمة الثلجية، تراءى لي عند القمة القريبة مقر الفوج فخرج آمر الفوج مع حمايته، لكم اكره التقرب من الضباط، فانتبذت جانبا نحو القمة البعيدة حيث سريتي، حين راني الآمر وحيدا كالعصفور المهيض الجناح، أتمايل من التعب والخوف من العاصفة الثلجية الآتية، أوعز الى حمايته لمناداتي...
- ابو خليل!!!.... ابو خليل!!!...
- .........
- ولا يدير بال سيدي! هذا واحد اثول ومتيّه صول جعابة!.
- جيبولياه بسرعة!.
- ليش من نصيحك متجي؟
- سيدي من لبست البسطال لليوم، ما شفت خير من ضابط...
- ترتاح قليلا على هذه المدفاة، ثم تذهب الى امر سريتك تخبره بأنك معاقب عشرة ايام سجن لهذا الكلام، مفهوم؟!
- الم اقل لك سيدي بأننا العبيد وانتم السادة؟!
- يوووووول؟! من أين أنت حتى تتكلم معي بهذه الطريقة؟!...
- موظف من شركة التامين!
- ها! شركة تامين؟!.... هل تعرف تماضر؟
- تماضر عبدالله، نعم سيدي إنها معي في قسم الحسابات!
- سوّوله كتاب نقل الى الحانوت يرتاح جم شهر......
وهكذا مكثت في حانوت الفوج سنة كاملة بالتمام والكمال.......
ملجأ الحانوت يهجع على سفح الجبل مبتعدا عن الملاجئ الأخرى مسافة ليست بالقصيرة، لذا تكثر احتمالات تسلل عدو ما، حين يدخل الليل ربعه الثاني، يبقى سميري الوحيد صوت قذيفة أتتبع فحيحها في أية حفرة ستنام, ومن يا ترى سيكون رفيقها الأزلي, وفي الجنبات حيث الجنود المسفوحين على السفوح تحت رحمة المجهول, ترتج الأرض على مقربة منك أو مبعدة، بقذيفة راجمة يهتز فيها الوجود, تحسب المسافة الزمكانية لتعرف أية كعكة تختار القذيفة سكينها, فتنهض تجول بينهم أي صديق قد هجرك إلى الأبد, وأية أنفاس قد هجعت, اشعر بزمجرة الهواء والبرد القارص في الخارج، كان الله في عون الحراس هذه الليلة، لا اعرف كم بلغت درجة البرودة، لكني ارتجف بين القمصلة والبطانيات والجولة وأنا في الداخل، انتصف الليل، أغلقت الباب بإحكام، أطفأت آخر ذبالات (الجولة) وأذللت ضوء الفانوس، أطفأت آخر سيكارة أدخنها قبل النوم، جمعت البطانيات الثلاث فوق رأسي وكورت جسدي كطفل وليد، من بين صرخات العاصفة، اسمع صوتا او نداء لا اعرف كنهه، هل جاء سميري الخنزير على رائحة الصمون المتعفن ليأخذ حريته في تقليب الزبالة, وتصفح الأوراق المرمية من أغلفة البسكويت، او يسقط الجلكان ويقلب إبريق الماء، أم جاء احدهم بعد حراسة طويلة ليطفئ جوعه، أرهفت السمع، اسمع طرقا على الباب، صرخت:
- ممنوع البيع بعد العاشرة ليلا بأمر الآمر الناهي!.
- لا أريد أن اشتري، فقط اسمعني أرجوك!..
أيكون عدوا متسللا؟! فالمسافات بين الملاجئ بعيدة، حملت بندقيتي وفتحت الباب وأخرجت راسي..
- قل لي من أنت وإلا سأرميك!
- انا عباوي، التحقت الآن من الإجازة، ولا استطيع الصعود إلى السرية الأولى فوق القمة.
كان رث البدلة متعبا من الطريق، فعلا الطريق يطول لأكثر من ساعتين إلى قمة الجبل، وربما سيتيه بين النياسيم الكثيرة في هذا الليل المظلم، أشار أمامي على حفرة صغيرة محفورة لزمن القصف...
- اسمح لي ان انام هنا.
- لكنها رطبة وستموت من هذا البرد القارص، ستنام معي في الداخل، تعال ادخل...
- لن أنام معك فأنت تملك مواد وحاجيات وفلوس....
- كيف تنام في الحفرة الرطبة في هذه الليلة الثلجية؟ ثم هنالك الذئاب والخنازير تحوم حولنا...
- لدي بندقية.
- سوف لن يعرف الذئب أن تحت راسك بندقية وأنت نائم...
بعد إصراره أعطيته بطانية وقدمت له سيكارة وأشعلتها له، تناول السيكارة وقال:
- تخاف علي من البرد إذن؟!
ثم سحب نفسيا عميقا وأردف...
- أمي العجوز استدانت من الجيران خمسة دنانير أجرة الطريق لآتي إلى هنا، فلم احصل على عمل خلال هذه الإجازة!!.. امي ليس لها غيري معيل، ان مت تموت وان عشت تعيش، ام عباوي تتفاخر عند الجيران ببدلتي العسكرية وقرص الهوية، ام عباوي تودع ابنها عند مدخل الكراج ولا تغادره بنظراتها الا حين يعود، تخرج نهارا لتشم رائحة بدلات الجنود العائدين من الجبهة تسألهم عن أحوالهم وأحوال الوطن وجبهات القتال، ام عباوي ككل الأمهات تصلي لعودة الجنود، تنذر راحتها لسلامتهم وتبكي لآلامهم، تأكل من صحتها لتشبعهم، تشرب دمعها لتروي الماء للجنود العائدين.. ام عباوي تغيب نفسها، حين تحضر بيانات القيادة العامة....
- ستجازيها إنشاء الله!
- أجازيها غدا في –سمنان-!!....
فقهقه طويلا حتى أحسست بان دمعة انحدرت من عينه....
حين نهضت مع الخيوط الأولى للفجر، كان قد غادر الحفرة وقد ترك بطانيتي مطوية, حمدت الله انه لم يتجمد، عجيب أمر هذا الإنسان! أي قدرة له في تحمل شباك الضيق والقسوة والمهانة حين تتجمع كلها حوله، نظرت إلى قمة الجبل، لأسمع أزيز طائرات الاستطلاع التي بدأت تحوم فوق القمة... وَيْ! لا هلا!!... طائران من الكواسر تحوم في الأعالي تعلن ان الهجوم قريب.... لك الله يا ام عباوي..... ولا نامت أحزان من أحزنك...
................................................
اوراق من دفتر الحرب..
الورقة (21)
أم عباوي
في منتصف نوبتي منتصف الليل، اخرج سيكارة فامسكها بين أصابعي وكفي عليها، لئلا يبان وميضها، اقتل الوقت بالحديث مع الليل، ليقتلني بالهواجس والأفكار....أم عباوي
أتوحد مع نفسي في هذا العراء فأسبح في صمت هذا الليل البهيم، وكما الإنسان القديم، أبحلق في السماء، أرصد مواطن الأبراج، واعين مساقط الأيام، وأحول مناجاة النجوم الى تقاويم وروزنامات الحياة، وأصوغ من تداور الأقمار منازل الطقس والسحر و والغموض…
في ليلة بلا قمر، يرصع الظلام فيها عددا لا حد له من نجوم تتلألأ، اقسّم صفحة السماء الى أربعة، واقسم الرابع الى أرباع، حتى أصل الى جزء صغير يمكن عدّ نجومه، لكنها محاولات فاشلة، فالأعداد الهائلة من النجوم الصغيرة تضيع كل حساباتي، ثمة نجمة تمر، أتابعها حتى تتلاشى، وتأتي أخرى، وبينما انا في عزلتي القصوى، فإذا بصوت رفيع يقتلعني مع جذوري فأصحو على لا شيء، ثم يعود الصوت مرة أخرى، كأنه صوت رضيع او وليد يبكي، او ربما هو صوت يهبط تواً الى هذه الأرض، أتمالك نفسي، ثم أتخلص من أوهامي، وابحث عن صباح جديد....
ويترادف الليل ثانية وثالثة ورابعة... أناديهم!....
- يا هالربع!.... من يقف مكاني في المناوبة لأورد عين الماء؟!....
فاصطحب معي سميري البغل احمّله جليكانات الماء وننزل السفح سوية، يحلو لي الخروج مع البغل والاختلاء مع العراء في هذا الليل، ليخلصني من أوامر الجند، فاطيب لي ان أكون مع البغل سيدا، من ان أكون مع الجند بغلا.... في النهار أسير أمامه، اما في منعطفات هذا الليل ومنزلقات أحجاره، فيسير هو أمامي ليكون دليلي، لا اعرف هل هو والليل صنوان؟ ام ان غريزته النهارية تعينه عليه... كلانا نقف في خشوع امام رهبة الوادي المظلم، وصراخ هدير الماء لنشرب كلانا من العين، بقدر ما تحمل همسات الليل من نجوى شاعرية، تحمل من الخوف المزجج بحركة وحشي شارد او عدو يتنصت، فاسمع صوت قطة وحشية تقفز نافرة من السفح فوق رؤوسنا الى الوادي كالبرق، فأهيئ بندقيتي تحت كتفي واسحب الأقسام لأضغط على الزناد ان هي مست صاحبي او أنا، نملا الجليكانات ثم نأخذ طريقنا الى الأعلى، أسير خلفه مطمئن البال حتى أجد نفسي عند حافات الملاجئ....
تنثال في الليل بيني وبين البندقية أصوات أمي والجيران، تحمل حكايا الجند وحكايات الأمهات المسفوحين أولادهم في الجبهات، ام مهدي تحكي لأمي، وام نشمي تحكي لأمهات الحارة....
- مهدي مع ابراهيم اخوان من أبوين، الفصيل والسرية، يتقاسمان الزمزمية والرصاصة.
- امس شاهدت طوابير التوابيت وهي تخرج من نقطة الشهداء!..
- يا ما رأيت الجند يتزاحمون عند دخولهم مقبرة الجندي المجهول...
- نشمي بالقوات الخاصة احتفل ببتر قدمه، اذ لم يسمح لدخول الحفل الا طلقات المغاوير.
- ارى عند الجيران قلق الهاربين وقلق اهلهم يتنامى مع ترنح الحبال وهي تحمل أسماءهم واحدا واحدا....
- مطر في الجبهة لا يقف في الطابور الطويل الممل، بل يقدمونه الى الأمام في كل مرة يبدأ فيها الهجوم....
- من أين يأتون بكل هذه الأعلام وهي تلتف حول أجساد الجنود؟!...
- في منتصف أسبوع العسل قطع ابني إجازته ليلتحق بالذين قبله...
ويحكون عن مراكز تسليم الشهداء.... وعن التسفيرات والانضباط وفرق الإعدام، وعن الشقوق، والخنادق، والملاجئ والخوذة وحقيبة الظهر وقناع الوقاية... وعن معاول تجرح الأرض، ومطارق تهدم البنيان...
فتصرخ ام علاوي!..
- الى متى؟!
فيجيبها مضفر النواب
الدنيا غرشه وصم تتن
وندور بيها ونلتف
ايام المزبن كضن
دكضن يأيام اللف
بغداد تستعد لاحتفالات الميلاد، في نيسان تتسابق الدوائر على صناعة اكبر كيكة لميلاد الضرورة، والرفاق يطرقون الأبواب للتبرع، وأحباب القائد ينشرون تهانيهم للقائد على صفحات الجرائد، وتنتشر في الشوارع والحارات والأزقة أناشيد..... العزيز انت..... عشرات الآلاف من الطلبة والموظفين اجبروا على السير قطيعا واحدا لسماع خطاب الضرورة، وهو يرسم طريق المستقبل المشرق، والمحامون وأساتذة الجامعات سيقوا الى الجيش الشعبي لتحرير شيب ابهاتهم....
الثلج على ارتفاع ثلاثة أمتار يغطي السفح، لا شجر ولا حجر ولا طريق، لا تعرف أين مواقع أقدامك، ربما ستنزلق في واد لا تعرف نهايته، حاملا صناديق المعلبات على كتفي، وبسطالي يغوص بالثلج، خطوة الى أعلى وخطوة الى أسفل، صاعدا سفح الجبل الى القمة الثلجية، تراءى لي عند القمة القريبة مقر الفوج فخرج آمر الفوج مع حمايته، لكم اكره التقرب من الضباط، فانتبذت جانبا نحو القمة البعيدة حيث سريتي، حين راني الآمر وحيدا كالعصفور المهيض الجناح، أتمايل من التعب والخوف من العاصفة الثلجية الآتية، أوعز الى حمايته لمناداتي...
- ابو خليل!!!.... ابو خليل!!!...
- .........
- ولا يدير بال سيدي! هذا واحد اثول ومتيّه صول جعابة!.
- جيبولياه بسرعة!.
- ليش من نصيحك متجي؟
- سيدي من لبست البسطال لليوم، ما شفت خير من ضابط...
- ترتاح قليلا على هذه المدفاة، ثم تذهب الى امر سريتك تخبره بأنك معاقب عشرة ايام سجن لهذا الكلام، مفهوم؟!
- الم اقل لك سيدي بأننا العبيد وانتم السادة؟!
- يوووووول؟! من أين أنت حتى تتكلم معي بهذه الطريقة؟!...
- موظف من شركة التامين!
- ها! شركة تامين؟!.... هل تعرف تماضر؟
- تماضر عبدالله، نعم سيدي إنها معي في قسم الحسابات!
- سوّوله كتاب نقل الى الحانوت يرتاح جم شهر......
وهكذا مكثت في حانوت الفوج سنة كاملة بالتمام والكمال.......
ملجأ الحانوت يهجع على سفح الجبل مبتعدا عن الملاجئ الأخرى مسافة ليست بالقصيرة، لذا تكثر احتمالات تسلل عدو ما، حين يدخل الليل ربعه الثاني، يبقى سميري الوحيد صوت قذيفة أتتبع فحيحها في أية حفرة ستنام, ومن يا ترى سيكون رفيقها الأزلي, وفي الجنبات حيث الجنود المسفوحين على السفوح تحت رحمة المجهول, ترتج الأرض على مقربة منك أو مبعدة، بقذيفة راجمة يهتز فيها الوجود, تحسب المسافة الزمكانية لتعرف أية كعكة تختار القذيفة سكينها, فتنهض تجول بينهم أي صديق قد هجرك إلى الأبد, وأية أنفاس قد هجعت, اشعر بزمجرة الهواء والبرد القارص في الخارج، كان الله في عون الحراس هذه الليلة، لا اعرف كم بلغت درجة البرودة، لكني ارتجف بين القمصلة والبطانيات والجولة وأنا في الداخل، انتصف الليل، أغلقت الباب بإحكام، أطفأت آخر ذبالات (الجولة) وأذللت ضوء الفانوس، أطفأت آخر سيكارة أدخنها قبل النوم، جمعت البطانيات الثلاث فوق رأسي وكورت جسدي كطفل وليد، من بين صرخات العاصفة، اسمع صوتا او نداء لا اعرف كنهه، هل جاء سميري الخنزير على رائحة الصمون المتعفن ليأخذ حريته في تقليب الزبالة, وتصفح الأوراق المرمية من أغلفة البسكويت، او يسقط الجلكان ويقلب إبريق الماء، أم جاء احدهم بعد حراسة طويلة ليطفئ جوعه، أرهفت السمع، اسمع طرقا على الباب، صرخت:
- ممنوع البيع بعد العاشرة ليلا بأمر الآمر الناهي!.
- لا أريد أن اشتري، فقط اسمعني أرجوك!..
أيكون عدوا متسللا؟! فالمسافات بين الملاجئ بعيدة، حملت بندقيتي وفتحت الباب وأخرجت راسي..
- قل لي من أنت وإلا سأرميك!
- انا عباوي، التحقت الآن من الإجازة، ولا استطيع الصعود إلى السرية الأولى فوق القمة.
كان رث البدلة متعبا من الطريق، فعلا الطريق يطول لأكثر من ساعتين إلى قمة الجبل، وربما سيتيه بين النياسيم الكثيرة في هذا الليل المظلم، أشار أمامي على حفرة صغيرة محفورة لزمن القصف...
- اسمح لي ان انام هنا.
- لكنها رطبة وستموت من هذا البرد القارص، ستنام معي في الداخل، تعال ادخل...
- لن أنام معك فأنت تملك مواد وحاجيات وفلوس....
- كيف تنام في الحفرة الرطبة في هذه الليلة الثلجية؟ ثم هنالك الذئاب والخنازير تحوم حولنا...
- لدي بندقية.
- سوف لن يعرف الذئب أن تحت راسك بندقية وأنت نائم...
بعد إصراره أعطيته بطانية وقدمت له سيكارة وأشعلتها له، تناول السيكارة وقال:
- تخاف علي من البرد إذن؟!
ثم سحب نفسيا عميقا وأردف...
- أمي العجوز استدانت من الجيران خمسة دنانير أجرة الطريق لآتي إلى هنا، فلم احصل على عمل خلال هذه الإجازة!!.. امي ليس لها غيري معيل، ان مت تموت وان عشت تعيش، ام عباوي تتفاخر عند الجيران ببدلتي العسكرية وقرص الهوية، ام عباوي تودع ابنها عند مدخل الكراج ولا تغادره بنظراتها الا حين يعود، تخرج نهارا لتشم رائحة بدلات الجنود العائدين من الجبهة تسألهم عن أحوالهم وأحوال الوطن وجبهات القتال، ام عباوي ككل الأمهات تصلي لعودة الجنود، تنذر راحتها لسلامتهم وتبكي لآلامهم، تأكل من صحتها لتشبعهم، تشرب دمعها لتروي الماء للجنود العائدين.. ام عباوي تغيب نفسها، حين تحضر بيانات القيادة العامة....
- ستجازيها إنشاء الله!
- أجازيها غدا في –سمنان-!!....
فقهقه طويلا حتى أحسست بان دمعة انحدرت من عينه....
حين نهضت مع الخيوط الأولى للفجر، كان قد غادر الحفرة وقد ترك بطانيتي مطوية, حمدت الله انه لم يتجمد، عجيب أمر هذا الإنسان! أي قدرة له في تحمل شباك الضيق والقسوة والمهانة حين تتجمع كلها حوله، نظرت إلى قمة الجبل، لأسمع أزيز طائرات الاستطلاع التي بدأت تحوم فوق القمة... وَيْ! لا هلا!!... طائران من الكواسر تحوم في الأعالي تعلن ان الهجوم قريب.... لك الله يا ام عباوي..... ولا نامت أحزان من أحزنك...
................................................